Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 22

‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد (دراسة مقارنة )‬

‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد‬


‫(دراسة مقارنة )‬

‫العيساوي حسين‬
‫( أستاذ محاضر – ب ‪ -‬جامعة املسيلة )‬

‫مقدمة‬
‫متى كان التحكيم وسيلة عصرية تتسم باملرونة في حل املنازعات ال سيما التجارية‬
‫منها على يد أشخاص يسمون باملحكمين ‪ .‬فمن مزاياها توفير الوقت والجهد وحفظ‬
‫األسرارالتجارية ال سيما ملا يتعلق األمربالشركات العمالقة‪.‬‬
‫وقد اهتم املجتمع الدولي بتنظيم التحكيم في العالقات االقتصادية الدولية منذ‬
‫نهاية الحرب العاملية األولى في ‪ ، 1918‬حيث أسفرت جهود عصبة األمم عن وثيقتين هما‬
‫‪ :‬برتوكول جنيف لسنة ‪ 1923‬الذي تناول بالتنصيص شروط التحكيم واتفاقية جنيف‬
‫لسنة ‪ 1927‬املتعلقة بتنفيذ أحكام التحكيم‪.‬‬
‫ونظرا التساع مساحة العالقات التجارية بين األفراد واملؤسسات وحتى الدول ‪،‬‬
‫فال يكاد يخلو عقد من العقود التجارية من النص على كيفية حل املنازعة التي تنشأ‬
‫بين املتعاقدين الحقا ‪ ،‬بل وصل بهما اإلصرارعلى تضمين ذلك الشرط التحكيمي ضمن‬
‫عقودهما خاصة تلك التي تبرمها مع الدول ال سيما دول العالم الثالث منها بحجة عدم‬
‫الثقة في قضائها الذي تصفه في كثير من الحاالت بعدم االستقاللية ‪ ،‬األمر الذي يدفع‬
‫بها إلى االحترازخوفا من املغامرة في االستثماربتلك الدول ‪ ،‬وكثيرا ما كانت عقود االمتياز‬
‫النفطية مكانا خصبا لهذا الشرط التحكيمي‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫املجلة الجزائرية للعلوم القانونية واالقتصادية والسياسية‬

‫ومن نتائج ذلك الشرط التحكيمي إسناد الفصل في النزاع إلى هيئة للتحكيم‬
‫يعينها األطراف أو عن طريق إحدى مؤسسات التحكيم التجاري الدولي التابعة لبعض‬
‫الهيئات مثل غرفة التجارية الدولية بباريس‪.‬‬
‫وكما هو معلوم فإن املحكم يفصل في النزاع بحكم يمهر الحقا بصيغة التنفيذ‬
‫فيصبح سندا تنفيذيا وهو بهذه املثابة يكون قد قام بعمل يشبه عمل القضاة التابعين‬
‫للنظام القضائي للدولة الحالة التي تنتج عنها مشكلة مدى قابلية هذا املحكم للمساءلة‬
‫القضائية عندما يرتكب خطأ بمناسبة وظيفته القضائية ( مع التحفظ على التسمية‬
‫لوجود اختالف فقهي حول تكييف عمل املحكم ) أم أنه محصن في مواجهة أية مالحقة‬
‫قضائية تماما كما هو الشأن بالنسبة للقضاة ؟ خاصة إذا علمنا أن االتجاه املعاصر‬
‫بالنسبة ملسؤولية القضاة يميل إلى تحميلها للدولة ‪ ،‬فمن يتحمل مسؤولية املحكم هل‬
‫هو نفسه ( في التحكيم الحر ) وعندما يكون التحكيم مؤسساتيا هل يتحملها عنه املركز‬
‫التحكيمي الذي ينتمي إليه املحكم ؟ وإذا كان املركز التحكيمي موجودا على أرض دولة‬
‫ما وبموافقتها فهل تتحمل عنه املسؤولية ؟ تلكم هي أهم املحاور التي أتناولها بالدراسة‬
‫والتحليل ‪.‬‬
‫أهداف الدراسة ‪:‬‬
‫تهدف هذه الدراسة إلى بيان مدى ونطاق وأساس مسؤولية املدنية للمحكم في ظل‬
‫قانون التحكيم الجزائري مقارنا بغيره من األنظمة القانونية ؟‬
‫هل أن االعتراف بمسؤولية املحكم تدعم التحكيم وتشجع عليه أم على العكس‬
‫من ذلك تقوضه وتحد من اللجوء إليه ؟‬
‫اإلطارالنظري للدراسة ‪:‬‬
‫تنقسم هذه الدراسة إلى مقدمة تحتوي على إشكالية وتساؤالت وأهداف ‪ ،‬ومبحثين‬
‫األول يتناول طبيعة عمل املحكم وبعبارة أوضح املحكم قاض ‪ .‬ويتناول املبحث الثاني‬
‫كيفية حماية املحكم أو حصانة املحكم وحدود هذه الحصانة وأساس مسؤوليته‬
‫املدنية مقارنة بمسؤولية القا�ضي وتنتهي الدراسة بخاتمة وتوصيات ‪.‬‬
‫‪118‬‬
‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد (دراسة مقارنة )‬

‫أما منهج الدراسة فيعتمد على املقارنة والتحليل ‪.‬وقبل الخوض في املوضوع يجدر‬
‫بنا أن نتساءل عن مهمة املحكم هل هو قاض أم مؤدي خدمات‬
‫) ? ‪(L’arbitre est un juge ou prestataire de service‬‬
‫املبحث األول ‪:‬املحكم قاض‬
‫مما ال شك فيه أن املحكم وهو يقوم بوظيفته التي وجد من أجلها وهي الفصل في‬
‫املنازعات التي يخولها القانون إياه بناء على رغبة أطراف الخصومة بإسناد حلها إلى‬
‫محكم بدال من قضائها الطبيعي وهو قضاء الدولة ‪ ،‬لذا وجب تعريف املحكم في (مطلب‬
‫أول) بوصفه محور هذه الدراسة ثم بيان مهمته في ( املطلب الثاني ‪.‬‬
‫املطلب األول ‪ :‬تعريف املحكم‬
‫تعريف املحكم ال يمكن أن يكون بمعزل عن تعريف املهمة ذاتها وهي التحكيم‪.‬إذ‬
‫لم تعرف جل القوانين املنظمة ملادة التحكيم ‪ ،‬املقصود به تاركة ذلك للفقه ‪ .‬ومع‬
‫هذا فإن بعضا من التشريعات ومنها التشريع املصري رقم ‪ 27‬لسنة ‪1994‬عرفه باآلتي ‪:‬‬
‫«ينصرف لفظ التحكيم في حكم هذا القانون إلى التحكيم الذي يتفق عليه طرفا نزاع‬
‫بإرادتهما الحرة سواء كانت الجهة التي تتولى إجراءات التحكيم بمقت�ضى اتفاق الطرفين‬
‫‪1‬‬
‫منظمة أو مركزا دائما للتحكيم أو لم يكن كذلك ‪».‬‬
‫أما الفقه فقد أسهب في التعريف ‪ ،‬ففي فرنسا عرفه األستاذ ‪ Motulsky‬بأنه ‪:‬‬
‫«الحكم في منازعة بواسطة أشخاص يتم اختيارهم ‪ ،‬كأصل عام ‪ ،‬بواسطة أشخاص‬
‫آخرين ‪ ،‬وذلك بموجب اتفاق‪».‬كما عرفه األستاذ ‪ Jean Robert‬بقوله ‪ « :‬يقصد‬
‫بالتحكيم تحقيق العدالة الخاصة وهي إليه وفقا لها يتم سلب املنازعات من الخضوع‬
‫لوالية القضاء العام لكي يتم الفصل فيها بواسطة أفراد عهد إليهم بهذه املهمة في واقعة‬
‫الحال ‪».‬وبدوره عرفه األستاذ ‪ René David‬بأنه ‪« :‬آلية تهدف إلى الفصل في مسألة‬

‫‪ -1‬حفيظة السيد الحداد ‪ ،‬املوجزفي النظرية العامة في التحكيم التجاري الدولي ‪ ،‬منشورات الحلبي‬
‫الحقوقية ‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2004 ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪119‬‬
‫املجلة الجزائرية للعلوم القانونية واالقتصادية والسياسية‬

‫تتعلق بالعالقات القائمة بين طرفين أو عدة أطراف بواسطة شخص أو عدة أشخاص‬
‫– املحكم أو املحكمين – والذين يستمدون سلطتهم من اتفاق خاص ويفصلون في‬
‫‪1‬‬
‫املنازعة بناء على هذا االتفاق ‪ ،‬دون أن يكونوا مخولين بهذه املهمة من قبل الدولة‪».‬‬
‫كما عرفه األستاذ ‪ Charles Jarrosson‬بقوله ‪ « :‬التحكيم هو مؤسسة بواسطتها يحل‬
‫‪2‬‬
‫أحد من الغيرخالفا بين شخصين أو أكثر ‪ ،‬ممارسا ملهمة قضائية يعهدون بها إليه ‪».‬‬
‫وعرفه الدكتور أبو الوفا بأنه من خالل املحكم نفسه بقوله ‪ « :‬بأنه شخص يتمتع‬
‫بثقة الخصوم ‪ ،‬أولوه عناية الفصل في خصومة قائمة بينهم ‪ ،‬وقد يتم تعيينه من جانب‬
‫املحكمة إذا كان التشريع يجيزذلك للقيام بذات املهمة املتقدمة ‪ 3».‬أما املشرع الجزائري‬
‫فلم يعرف التحكيم سواء في املرسوم التشريعي ‪ /93‬أو في قانون اإلجراءات املدنية‬
‫واإلدارية ‪ 09/ 08‬تاركا ذلك للفقه والقضاء‪،‬كما لم يعرف املحكم ( ‪ . )l’arbitre‬ال�شيء‬
‫نفسه في تشريعات عربية مقارنة رغم حداثتها ومنها تشريع التحكيم األردني رقم ‪31‬‬
‫لسنة ‪ 2011‬والكويتي رقم ‪ 11‬لسنة ‪ 1995‬وقبله في قانون املرافعات املدنية والتجارية‬
‫رقم ‪ 38‬لسنة ‪.1980‬وقد عرف بعض الفقه املحكم بأنه من يعهد إليه بالفصل في‬
‫النزاع املعروض على التحكيم أو هو قاض بكل معنى الكلمة ويخضع حتما لكل ما ينص‬
‫عليه القانون من مبادئ وقواعد‪ ،‬فاملحكم كالقا�ضي يباشرمهمته بحرية تامة ولحكمه‬
‫خصائص األحكام القضائية الصادرة عن القضاء العادي للدولة‪.‬كما عرفه جانب آخر‬
‫بأنه الشخص الذي ينيط به املتخاصمان مهمة الفصل في نزاع حال أو محتمل بينهما‬
‫أو من تعينه املحكمة استنادا إلرادة األطراف ذات املهمة بحدود صالحياتها املنصوص‬
‫‪4‬‬
‫عليها في قانون التحكيم ويتمتع بالصفات الواجبة قانونا‪.‬‬
‫‪Philippe Fouchard , Emmanuel Gaillard , Berthold Goldman, traité de l’arbitrage -1‬‬
‫‪.commercial international , Delta 1996, p11‬‬
‫‪ -2‬حفيظة الحداد ‪ ،‬نفس املرجع ‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪ -3‬أبو الوفا أحمد ‪ ،‬التحكيم االختياري واإلجباري ‪ ،‬منشأة املعارف ( اإلسكندرية ) دون سنة نشر‪،‬‬
‫ص ‪.153‬‬
‫‪ -4‬حمد حمود الصانع ‪،‬املسؤولية املدنية للمحكم ‪ ،‬رسالة ماجستير ‪ ،‬كلية الحقوق ‪ ،‬جامعة‬
‫الشرق األوسط ‪ ، 2012‬ص‪16‬‬
‫‪120‬‬
‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد (دراسة مقارنة )‬

‫من خالل التعريفات السابقة يمكنني أن أعرف املحكم بأنه شخص طبيعي تسند‬
‫له مهمة قضائية بناء على اتفاقية بين الخصوم للفصل في خصومة قائمة بينهما على‬
‫أن يرتضيا بما يصدرعنه من أحكام ويمكن أن يكون ذلك ضمن مؤسسة تحكيم دائمة‬
‫أو لحاالت خاصة فقط (‪.)Arbitrage institutionnel ou Ad hoc‬‬
‫املطلب الثاني ‪ :‬وظي ـ ــفة املحكم‬
‫يستمد املحكم مهمته للفصل في الخالف القائم بين طرفيه من خالل اتفاقية‬
‫يعقدونها ويسندون بموجبها حل نزاعهم إلى شخص من الخواص يتفقان عليه بحرية‬
‫تامة ‪ ،‬على أن تتوفر فيه شروط يضعها املشرع حسب مكان التحكيم ‪ ،‬وكذلك نصت‬
‫عليها بعض االتفاقيات الدولية ذات الصلة منها مثال القانون النموذجي للتحكيم‬
‫التجاري الدولي لألمم املتحدة (‪)CNUDCI‬أو من خالل لوائح التحكيم املؤسساتي‪.1‬‬
‫ومع أن املحكم يستمد سلطاته من اتفاق األطراف ‪ ،‬األمر الذي يضفي عليه الطابع‬
‫التعاقدي‪ ،‬إال أنه فوق ذلك فهو يتسم بالطابع القضائي كونه يفصل في خصام بين‬
‫األطراف بموجب حكم تحكيمي له حجية ال�شيء املق�ضي فيه ويصبح قابال للتنفيذ بعد‬
‫إمهاره بالصيغة التنفيذية بعد إتباع إجراءات محددة رسمتها قوانين املرافعات الداخلية‬
‫في كل دولة باعتباره سندا تنفيذيا ومنه التشريع الجزائري ‪ ( 2‬املواد ‪1036- 600-1035-‬‬
‫‪ 1051-1054‬ق ا م إ)‪.‬‬
‫ال أريد الخوض في تكييف التحكيم ألنها مسألة أسالت كثيرا من الحبروال تفيدني في‬
‫هذا البحث ‪ .‬وعلى هذا نمر إلى بيان الشروط الواجب توفرها في شخص املحكم في فرع‬
‫أول ‪ ،‬وأسباب رده في فرع ثان على النحو اآلتي ‪.‬‬

‫‪ -1‬انظر على سبيل املثال نص املادة ‪ 13‬من قواعد التحكيم ملركز املصالحة و الوساطة والتحكيم‬
‫للغرفة الجزائرية للتجارة والصناعة ‪ 2016‬املنشورة بموقع املركز ‪caci. dz.www‬‬
‫‪ -2‬القانون ‪ 09/ 08‬املتضمن قانون اإلجراءات املدنية واإلدارية الجزائري ‪ ،‬الصادر بتاريخ ‪02 / 25‬‬
‫‪ 2008/‬املنشور بالجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية في‪ 23/04/2008‬عدد ‪21‬‬
‫‪121‬‬
‫املجلة الجزائرية للعلوم القانونية واالقتصادية والسياسية‬

‫الفرع األول‪ :‬الشروط الواجب توفرها للممارسة القضائية‬


‫إذا اتفقنا مسبقا على أن املحكم كالقا�ضي يفصل بدوره في خصومات حصلت‬
‫بين أطرافها بناء على تفويض تشريعي يسمح بذلك ‪-‬علما وأن بعض النظم القانونية‬
‫تنفر من التحكيم‪ -‬فضال عن وجود عقد التحكيم في شكل شرط تحكيمي أو مشارطة‬
‫تحكيم ‪ ،‬فإن مهمته نبيلة وشاقة وخطيرة ‪ ،‬لذلك وجب أن تتوفرفيه الشروط الواجب‬
‫توفرها في القا�ضي وأهمها االستقاللية والحياد‪.‬‬
‫أوال‪ :‬استقاللية املحكم وحياده‬
‫االستقاللية معناها أن ال توجد للمحكم صلة أو مصلحة بموضوع النزاع أو‬
‫ارتباطه بأحد األطراف أو من يمثلهم ‪ 1.‬إذ من املقرر أن حياد املحكم ضرورة لنجاح‬
‫التحكيم الداخلي والدولي على حد سواء فال يصح للمحكم اتخاذ صورة « املحكم –‬
‫‪2‬‬
‫املحامي»وال صورة املحكم – الخصم»‪.‬‬
‫هذا و تجمع كل القوانين و أنظمة التحكيم (‪)Les règlements d’arbitrage‬‬
‫واالتفاقيات الدولية على أن املحكم يجب أن يكون مستقال عن الخصوم ‪ ،‬وإذا ما بدا‬
‫له خالف ذلك وجب عليه أن يرفض املهمة املسندة إليه‪.‬ويعد استقالل املحكم من‬
‫املبادئ العامة لتولي املهمة القضائية شأنه شأن القا�ضي ‪ ،‬إذ بها يستقيم أداء الوظيفة‬
‫على أكمل وجه وتلك الغاية التي من أجلها وجد القضاء ‪3‬وهو إقامة العدل بين الناس‬
‫ولن يحصل له ذلك إال بالنزاهة و االستقالل عن الخصوم ولعل ذلك ما قصده املشرع‬
‫الجزائري في املادة ‪ 241‬ق ا م ا بمناسبة تعداده لحاالت رد القضاة والتي باستقرائها‬
‫وتحليلها نصل إلى أن من توفرت فيه إحدى الحاالت عجز عن التجرد واالستقاللية‬
‫وحق للخصوم رده عن الفصل في ملف قضيتهم ‪.‬‬
‫‪ -1‬ناصرمحمد الشرمان ‪،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪158‬‬
‫‪ -2‬منيرعبد املجيد ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪175‬‬
‫‪ -3‬أنظراملادة ‪ 7‬من القانون العضوي ‪ 11/ 04‬املتضمن القانون األسا�سي للقضاء الصادرفي ‪09/ 06‬‬
‫‪ 2004/‬املنشور بالجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية في ‪ 2004/ 09/ 08‬عدد رقم ‪ 57‬ص ‪.13‬والتي‬
‫جاء فيها « على القا�ضي أن يلتزم في كل الظروف بواجب التحفظ واتقاء الشبهات والسلوكات املاسة‬
‫بحياده واستقالليته‪».‬‬
‫‪122‬‬
‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد (دراسة مقارنة )‬

‫هذا وقد نصت املادة ‪ 1016‬ق ا م ا الجزائري عن حاالت رد املحكم ومنها قول النص‬
‫« ‪...‬عندما يتبين من الظروف شبهة مشروعة في استقالليته ‪ »...‬وهذا تأكيد وحرص من‬
‫املشرع على وجوب توفراالستقاللية في شخص املحكم تحت طائلة رده ‪.‬‬
‫من جهتها قضت محكمة النقض الفرنسية في قرارمبدئي لها بهذا الخصوص قائلة‬
‫بأن استقاللية الضمير�شيء ال مناص منه ملمارسة الوظيفة القضائية مهما كان مصدرها‬
‫‪ ،‬فهي إحدى الصفات الجوهرية في املحكمين‪ 1.‬وتبعتها في ذلك محكمة استئناف باريس‬
‫بقراره الصادر في ‪ 1972/ 06/ 08‬ومحكمة املنازعات الكبرى لنفس املدينة في ‪03/ 22‬‬
‫‪.1983/‬‬
‫وبدوره نص القانون النموذجي الصادرعن لجنة األمم املتحدة للقانون الدولي على‬
‫ضرورة استقالل املحكم في املادة ‪ 2/ 12‬وكذلك اتجه املشرع الهولندي في املادة ‪،1033‬‬
‫وقانون التحكيم التون�سي في املادة ‪.57‬‬
‫نفس التوجهات أخذت بها لوائح التحكيم الصادرة عن بعض الهيئات التحكيمية‬
‫مثل نظام غرفة التجارة الدولية ( م‪ ) 7/ 2‬واتفاقية واشنطن املؤرخة في ‪03/ 18‬‬
‫‪ 1965/‬التي أنشأت مركزا للتحكيم يضم قائمة بأسماء املحكمين شريطة أن يتصفوا‬
‫باالستقالل في ممارسة وظائفهم ( م ‪.)1/ 14‬‬
‫ومن جهته وضع االتحاد الدولي للمحامين نظاما عام ‪ 1987‬حول قواعد وسلوك‬
‫املحكمين الدوليين وق�ضى بأن املحكم يجب أن يتحلى باالستقالل عن األطراف في أي‬
‫‪2‬‬
‫عالقة تربطه بهم أو بشخص آخرله عالقة باألطراف‪.‬‬
‫أخيرا يمكننا االستشهاد بنص املادة ‪ 6‬من االتفاقية األوروبية لحقوق اإلنسان‬
‫التي أوصت بحق الفرد في أن تنظر قضيته من طرف محكمة محايدة ومستقلة‪.‬غير أن‬
‫املشكل املطروح يتعلق بتقدير تلك االستقاللية وذلك الحياد ‪ ،‬إذ أن املسألة نفسية‬
‫‪1- Affaire Ury c/ Galerie Lafayette , in le traité de l’arbitrage…op.cit., p 580‬‬
‫‪ -2‬ناصر محمد الشرمان ‪ ،‬املركز القانوني للمحكم في التحكيم التجاري الدولي‪ ،‬مركز الدراسات‬
‫العربية للنشروالتوزيع ‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ، 2015‬ص ‪. . 163‬‬
‫‪123‬‬
‫املجلة الجزائرية للعلوم القانونية واالقتصادية والسياسية‬

‫بحتة ‪ ،‬فقد يتسرب الشك إلى نفسية أحد الخصوم أو ربما كليهما للقدح في استقاللية‬
‫املحكم دون ان يكون شكهما في محله ؛ وهي املسألة التي عالجتها املحكمة الفدرالية‬
‫السويسرية في ‪ ، 1990/ 05/ 11‬فالشك يجب أن يكون له ما يبرره ‪ .‬وهذا موقف املشرع‬
‫املصري في املادة ‪ 1/ 18‬من قانون التحكيم ‪ 1 ،‬وكذلك منحى املشرع التون�سي في املادة ‪57‬‬
‫‪.1/‬ومن القرائن الدالة على غياب الحياد واالستقاللية أن يكون أحد الخصوم يحمل‬
‫جنسية املحكم‪ ،‬ومع ذلك يمكن اإلبقاء عليه باتفاق الطرفين ‪ .‬أما إذا تمسك أحدهما‬
‫برده‪ ،‬فإن لطلب الرد ما يبرره وهو الخوف من عدم استقاللية املحكم وحيدته‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬شروط أخرى يجب توفرها في شخص املحكم وجزاء تخلفها‬
‫‪ - 1‬ملمارسة مهمة املحكم وضعت التشريعات املختلفة شروطا يجب أن تتوفر في‬
‫شخص كل من يترشح ملمارسة هذه املهمة القضائية النبيلة؛ ومن بينها املادة ‪1014‬‬
‫من التشريع الجزائري التي اشترطت في تولي وظيفة املحكم ‪،‬أن يكون الشخص متمتعا‬
‫بحقوقه املدنية‪ .‬بينما اشترطت املادة ‪ 10‬من مجلة التحكيم التونسية «أن يكون املحكم‬
‫بالغا سن الرشد ‪،‬وأن يكون كفؤا ومتمتعا بكامل حقوقه املدنية» فضال عن االستقاللية‬
‫والحياد إزاء األطراف؛مع انتفاء املصلحة تجاههم‪ 2.‬أما املشرع املصري فقد حرص من‬
‫جهته على أال يكون املحكم قاصرا وال محجورا عليه أو محروما من حقوقه املدنية‬
‫بسبب الحكم عليه في جناية أو جنحة مخلة بالشرف أو بسبب شهرإفالسه ولم يرد إليه‬
‫اعتباره ( م ‪ .) 1/ 16‬ويقصد باألهلية هنا تلك الصفة التي تلحق بالشخص ويتحدد على‬
‫أساسها قدرته الكتساب الحقوق والتحمل بااللتزامات وممارسة التصرفات القانونية‪.‬‬
‫والشروط التي ورد النص عليها باملادة ‪ 1/ 16‬من قانون التحكيم املصري يمكن أن‬
‫‪3‬‬
‫تترجم إلى شرط وحيد وهو ضرورة تمتع املحكم باألهلية املدنية الكاملة‪.‬‬
‫‪ -1‬منير عبد املجيد ‪ ،‬األسس العامة للتحكيم التجاري الدولي ‪ ،‬منشأة املعارف ( االسكندرية ) ‪،‬‬
‫‪ ، 2000‬ص ‪169‬‬
‫‪ -2‬مصطفى الجمال وعكاشة عبد العال ‪ ،‬التحكيم في العالقات الخاصة الدولية والداخلية ‪،‬‬
‫الحلبي الحقوقية ‪ ،‬ط ‪ 1998 ،1‬ص‪207‬‬
‫‪ -3‬ناصرمحمد الشرمان ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪ 149‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد (دراسة مقارنة )‬

‫وقد يتبادرإلى الذهن سؤال مهم يتعلق بمدى قابلية قا�ضي الدولة ألن يختارمحكما؟‬
‫وجوابا على ذلك نقول أن القانون التون�سي مثال أجاز للقا�ضي والعون العمومي‪ ،‬أن‬
‫يكونا محكمين شريطة عدم اإلخالل بالوظائف األصلية‪ ،‬والحصول على ترخيص‬
‫مسبق من السلطة املختصة قبل القيام بأية مهمة في التحكيم ‪.‬ولألسف ال نجد نصا‬
‫مماثال في التشريع الجزائري ‪ ،‬وكنا نحبذ أن يزيل الغموض عن هذه املسألة ألن القا�ضي‬
‫عندما يتصف بالكفاءة العلمية املشهود له بها وبالنزاهة والخلق الرفيع يمكن االستعانة‬
‫به كمحكم يقدم إضافة إلى العملية التحكيمية؛ لكنه بهذا الغموض قد يساءل بتهمة‬
‫اإلخالل بواجب التحفظ ؟ وهنا يمكن األخذ بموقف املشرع األردني في املادة ‪ 17‬من‬
‫قانون استقاللية القضاء‪ 1.‬ومن الشروط الواجب توفرها في بعض التشريعات ‪ ،‬شرط‬
‫الجنسية إذ ال يمكن لألجنبي أن يمارس مهمة املحكم على أراضيها كالتشريع الكولومبي‬
‫مثال ‪ .‬ويشترط البعض اآلخر شرط اإلسالم في املحكم‪ ،‬فال يجوز لغير املسلم أن يمارس‬
‫تحكيما على أرض السعودية ‪،‬وفي هذا السياق يقول الدكتور عبد الحميد األحدب بأن‬
‫االتجاه الغالب في الفقه في اعتبارأن املحكم يقت�ضي أن يتمتع باملزايا نفسها التي يقت�ضي‬
‫أن تكون للقا�ضي وأن يداوم على التحلي بها طيلة الدعوى التحكيمية ‪.‬‬
‫ويقت�ضي أن يكون القا�ضي‪،‬وفقا ألحكام املجلة ( يقصد هنا مجلة األحكام العدلية‬
‫لقدري باشا التي كانت مطبقة إبان الحكم العثماني ) ذكرا بالغا ‪،‬حكيما حرا ‪ ،‬مسلما‬
‫وعادال ‪ .‬كما يقت�ضي أن تكون له الصفات التي تخوله الشهادة‪ ،‬وبالتالي ال يمكن أن‬
‫يعين حكما كل من املرأة والقاصر والعبد وامل�سيء والفاسق‪ .‬ووفقا للنظرية السائدة‬
‫فإنه ليس باإلمكان تعيين غير املسلمين حكاما وهذا التوجه مستوحى من اآلية القرآنية‬
‫الكريمة التي تقول « ولن يجعل هللا للكافرين على املؤمنين سبيال» األمر الذي يدل على‬
‫أن غيراملسلم ال يمكنه أن يكون وصيا على مسلم ‪ .‬ويدخل في نطاق ذلك وصاية املحكم‬
‫على الفرقاء ‪ ،‬ووصاية الزوج على زوجته ‪ ،‬وهذا التوجه الغالب يعتبرأن هذا هو السبب‬

‫‪ -1‬حمد حمود الصانع ‪،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.22‬‬


‫‪125‬‬
‫املجلة الجزائرية للعلوم القانونية واالقتصادية والسياسية‬

‫الذي سمح اإلسالم به بزواج مسلم من كتابية دون أن يسمح بزواج مسلمة من كتابي‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫هذا الرأي بخالف بعض التشريعات كالفرن�سي واملعاهدات الدولية كاتفاقية جنيف‬
‫للتحكيم‪.2‬‬
‫‪ - 2‬ال يكفي في املحكم أن يكون متمتعا بحقوقه املدنية أو من جنسية معينة أو‬
‫على دين معين حتى يتمكن من أداء مهمته القضائية ‪ ،‬بل يجب أيضا أن تتوفر فيه‬
‫مؤهالت القا�ضي ‪ .‬فاملحكم على الرأي الراجح في الفقه يقوم بمهمة قضائية حتى وإن‬
‫كانت له أيضا – أي التحكيم ‪ -‬الصفة التعاقدية بالنظر إلى الدور الذي تلعبه إرادة‬
‫الفرقاء في اختيار املحكم والقانون الواجب التطبيق على مسائل املوضوع واإلجراءات‬
‫ولغة التحكيم وما إلى ذلك ‪ .‬إال أن الغاية من وراء ذلك العقد التحكيمي هي بال شك‬
‫الفصل بإسناد في النزاع إلى محكم بدال من القا�ضي الطبيعي ( قا�ضي الدولة ) وعلى‬
‫هذا‪ ،‬عادة ما يتفق الفرقاء على أن تكون في شخص املحكم مؤهالت معينة‪ ،‬ومن ذلك‬
‫ما نصت عليه اتفاقية واشنطن ( ‪ )1965/ 03/ 18‬في مادتها ‪ 14‬حيث اشترطت فيمن‬
‫يترشح للتحكيم أن يتمتع بأخالق عالية‪ ،‬وأن تكون لديه دراية معترف بها في املسائل‬
‫القانونية‪ ،‬التجارية ‪ ،‬الصناعية أو املالية‪.‬‬
‫وفي تحكيم الطوائف (‪ ) Arbitrage corporatif‬عادة ما تنص لوائح التحكيم‬
‫على أن يكون املحكمون من املهنيين في الفرع املراد عرضه على التحكيم وليس لهذا‬
‫االختيارتأثيرعلى القاعدة القائلة بعدم جوازقضاء القا�ضي بمعلوماته الشخصية ‪ ،‬ألن‬
‫‪3‬‬
‫األطراف يتوقعون من املحكم تطبيق عادات التجارة الدولية ‪.‬‬
‫وعلى العموم يجوز للفرقاء أن يشترطوا في املحكم صفات معينة ومحددة كالخبرة‬
‫املهنية في القطاع االقتصادي أو الدراية الكافية بنظام قانوني معين أو فرع من فروع‬
‫القانون بالتحديد( العلم الكافي بالقانون البحري أو الجوي‪.) ...‬‬
‫‪ -1‬عبد الحميد األحدب التحكيم بالصلح في الشرع اإلسالمي مقال منشور في مجلة صادرة عن‬
‫معهد طرابلس الجامعي للدراسات اإلسالمية طرابلس لبنان ‪ 2000‬ص ‪ 195‬وما يليها ‪.‬‬
‫‪2- Ph. Fouchard et autres , op. cit ., p473‬‬
‫‪ -3‬منيرعبد املجيد ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪175‬‬
‫‪126‬‬
‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد (دراسة مقارنة )‬

‫الفرع الثاني ‪ :‬إعمال الشروط الواجب توفرها في املحكم‬


‫ملا كانت املهمة الرئيسية للمحكم هي الفصل في الخصومات باتفاق أطرافها ‪،‬‬
‫فيكون من الالزم العمل بتلك الشروط وتجسيدها ميدانيا ‪ .‬ويكون البعض منها وقائيا‬
‫يلتزم بها املحكم قبل أن يقع في دائرة املسؤولية املدنية ‪ ،‬والبعض اآلخرهو توقيع الجزاء‬
‫عليه عند إخالله بالتزاماته ؛ ذلك ما نتعرف عليه في النقطتين املواليتين ‪.‬‬
‫أوال ‪ :‬الوسائل الوقائيـ ــة ( ‪)Les moyens préventifs‬‬
‫عندما يستشعر املحكم بأنه ال يستوفي الشروط املطلوبة لتولي مهمته كقاض‪،‬‬
‫فإن الوسائل الوقائية هي األجدى و األنفع‪ .‬ومن بينها نجد االلتزام بإعالم الخصوم أو‬
‫املركز التحكيمي املختص بجميع الوقائع أو الظروف التي من شأنها أن تمس بحياد‬
‫املحكم واستقالله كما قد يتبادر إلى أذهان الخصوم وتبعا لذلك إما أن يبقي عليه أو‬
‫يقيله على ما سنراه في النقطتين املواليتين ‪.‬‬
‫‪ - 1‬اإللتــزام بالكشف (‪) l’obligation de révélation‬‬
‫كل محكم ملزم بالكشف عن الوضعيات التي من شأنها املساس بحياده واستقالله‬
‫إزاء الخصوم وهو ما يعرف بااللتزام باإلعالم‪ .‬ويشكل هذا االلتزام مبدأ عاما تكاد تجمع‬
‫عليه معظم تشريعات التحكيم في العالم ومن بينها التشريع الجزائري حيث نصت‬
‫املادة ‪ 2/ 1015‬ق ا م إ على هذا االلتزام بقولها ‪ « :‬إذا علم املحكم أنه قابل للرد‪ ،‬يخبر‬
‫األطراف بذلك ‪ ،‬وال يجوز له القيام باملهمة إال بعد موافقتهم ‪ ».‬وبدوره نص املشرع‬
‫التون�سي في املادة في املادة ‪ 57‬من مجلة التحكيم على املبدأ ذاته بقوله ‪ « :‬على الشخص‬
‫حين يعرض عليه احتمال تعيينه محكما أن يصرح بكل األسب ــاب التي من شأنها أن تثير‬
‫شكوكا لها ما يبررها حول حياده أواستقالليته ‪ .‬وعليه أال يتأخرعن إعالم أطراف النزاع‬
‫بوجود أي سبب من هذا القبيل إال إذا سبق له أن أحاطهم علما بها ‪ ».‬واملالحظ على هذا‬
‫‪1‬‬
‫النص تطابقه مع املادة ‪ 1/ 12‬من القانون النموذجي للتحكيم الصادرعن اليونسترال‪.‬‬

‫‪ -1‬منيرعبد املجيد ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪169‬‬


‫‪127‬‬
‫املجلة الجزائرية للعلوم القانونية واالقتصادية والسياسية‬

‫ومن جهته نص املشرع الفرن�سي على هذا االلتزام في املادة ‪ 1452‬من قانون اإلجراءات‬
‫املدنية الجديد‪ ،‬وهو مذهب املشرع الهولندي ( م ‪ )1034‬وقانون واليتي كاليفورنيا( م‬
‫‪ )83‬وتكساس ( م ‪.)84‬كما تضمنت لوائح التحكيم الدولي نصوصا مماثلة ومنها على‬
‫سبيل املثال املادة ‪ 9‬من نظام غرفة التجارة الدولية واملادة ‪ 7/ 2‬من الئحة تحكيم مركز‬
‫‪1‬‬
‫‪ ،CIRDI‬واملادة ‪ 10‬من الئحة الجمعية اإليطالية للتحكيم ‪.‬‬
‫‪ - 2‬الصالحيات املخولة لسلطة تعيين املحكم‬
‫تملك كل من مراكز التحكيم والقضاء سلطة لتعيين املحكم تسمح لهما كذلك‬
‫باستبعاده عندما ال تتوفر فيه صفات االستقاللية والحياد املطلوبة في كل قاض من‬
‫قضاة النظام القضائي‪ .‬وبناء عليه ‪ ،‬عندما نكون أمام تحكيم مؤسساتي أو مؤس�سي‬
‫(‪ ) Arbitrage institutionnel‬يكفي الرجوع إلى اللوائح التي تحكم هذا املركز والتي‬
‫غالبا ما تحتوي على نصوص تبين كيفية تعيين املحكم وكيفية استبعاده من العملية‬
‫التحكيمية بتخلف إحدى الشروط املطلوبة ‪ .‬أما التحكيم الحر (‪)Arbitrage Adoc‬‬
‫ففيه يملك املحكم املختار صالحية واسعة لتعيين املحكمين اآلخرين للجلوس بجانبه‬
‫في املهمة التحكيمية ويمارس هذه الصالحية قبليا (‪ ، ) à priori‬إذ عادة ما يفتقر‬
‫الشرط التحكيمي لبند يتناول هذه املسألة بالنص عليها ‪ ،‬أو حتى ضمن اللوائح املحتمل‬
‫تطبيقها‪ ،‬مثل نظام اليونسترال ‪ .‬ومع ذلك فإن االلتزام بالكشف يعد من املبادئ العامة‬
‫املطبقة على كل تحكيم دولي‪.‬‬
‫أما القا�ضي فعندما يكون مدعوا لتعيين املحكم بناء على إرادة الطرفين أو إعماال‬
‫للقانون الواجب التطبيق ‪ ،‬فإنه يملك وبكل تأكيد هذه الصالحية ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬العقوبات الالحقة على تعيين املحكم‬
‫بعد أن يتم تعيين املحكم يجوز لكل طرف إثارة مسألة عدم استقالليته أو الحياده‬
‫أوحتى الطعن في كفاءته الخاصة التي تؤهله للقيام بمهمته ‪ .‬ولحل هذه املشكالت أجازت‬

‫‪Fouchard et autres , op. cit., p 596 -1‬‬


‫‪128‬‬
‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد (دراسة مقارنة )‬

‫التشريعات الوطنية واملعاهدات الدولية ذات الصلة ألطراف الخصومة التحكيمية‬


‫أن يمارسوا حقهم في رد املحكم أو الطعن في قراره بعد صدوره وهو ما نتعرف عليه في‬
‫النقطتين املواليتين ‪.‬‬
‫‪ - 1‬رد املحكم‬
‫تعتبرإمكانية رد املحكم إحدى الضمانات املخولة ألطراف النزاع في مواجهة املحكم‪،‬‬
‫فللخصم رد املحكم في حالة توافر ظرف أو أكثر قد يؤثر على صالحيته في نظر النزاع‪.‬‬
‫ويقصد بالرد أن يعبر احد طرفي النزاع في خصومة التحكيم عن إرادته في عدم االمتثال‬
‫أمام محكم معين في قضية معينة لتوافرواحد أو أكثرمن األسباب التي حددها القانون‬
‫وطبقا للشروط أو اإلجراءات التي يحددها‪ .‬و ال يكون الرد إال في حالة عدم استيفاء‬
‫‪1‬‬
‫املحكم الشروط املطلوبة فيه كقاض‪.‬‬
‫وفي عبارة أخرى ‪ ،‬الرد من الجزاءات العادية وذات الخصوصية في الوقت نفسه‪.‬‬
‫فالطرف الذي يكتشف بعد تعيينه للمحكم أن هذا األخير ال تتوفر فيه الشروط‬
‫القانونية أن يمارس حقه في رده‪ .‬وتتزامن أسباب الرد مع الصفات املنتظر توفرها في‬
‫شخص املحكم كما تضمنتها االتفاقية التحكيمية ‪ 2.‬ولعل أهم هذه األسباب الحياد‬
‫واالستقاللية الواجب توفرهما في كل محكم وعلى الطرف الذي يريد رد املحكم أن يثبت‬
‫تخلف هذه الشروط ‪ .‬وال يجوز طلب الرد من الطرف الذي عينه أو شارك في تعيينه إال‬
‫لسبب علم به بعد التعيين عمال باملادة ‪ 1016‬ق ا م ا ‪ ،‬واملادة ‪ 57‬من مجلة التحكيم‬
‫التونسية‪.‬‬
‫يتم الرد وفقا إلجراءات رسمها مشرع كل دولة ‪ ،‬ففي التشريع الجزائري يرفع األمر‬
‫إما إلى محكمة التحكيم وإما إلى القا�ضي املختص للفصل في إجراءات الرد بأمرال يقبل‬
‫الطعن وهو موقف املشرع التون�سي من قبل في املادة ‪ 57‬واملشرع الفرن�سي في املادة‬
‫‪ 1452‬ق ا م ‪ ،‬أما املشرع املصري فلم يبين حاالت الرد حصريا في املادة ‪ 18‬من قانون‬
‫‪ -1‬ناصرالشرمان ‪ ،‬نفس املرجع ‪ ،‬ص ‪ 503‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪2- Fouchard et autres , op. cit., p601 et s.‬‬
‫‪129‬‬
‫املجلة الجزائرية للعلوم القانونية واالقتصادية والسياسية‬

‫التحكيم املصري ولم يحل إلى األسباب التي يرد بها القا�ضي بل أسسه على قيام ظروف‬
‫تثير شكوكا جدية حول حيدة املحكم أو استقالله‪1.‬أما الجزاء الثاني فيتمثل في رفض‬
‫تنفيذ الحكم التحكيمي ‪.‬‬
‫‪ - 2‬رفض تنفيذ القرارالتحكيمي أو إبطاله‬
‫عندما يتبين سبب الرد بعد النطق بالحكم التحكيمي أو عندما يرفض املركز‬
‫التحكيمي االستجابة لطلب الرد ‪ ،‬فإن الطرف الذي خسر دعواه يمكنه أن يحتج بهذه‬
‫الدفوع أثناء دعوى التنفيذ ‪.‬‬
‫لقد أصدرت محكمة النقض الفرنسية قرارا ـ ـ ـ ـ وإن كان يخص التحكيم الداخلي‬
‫لكنه قابل للتطبيق على التحكيم التجاري الدولي ـ ـ ـ ـ في ‪ 13/04/1972‬بين ‪Ury c /‬‬
‫‪ ، Galeries Lafayette‬مفاده أن الطرف الذي يجهل الروابط املوجودة بين املحكم‬
‫وخصمه في النزاع التحكيمي ‪ ،‬يمكنه الطعن ببطالن االتفاقية التحكيمية على أساس‬
‫الغلط ( ‪ )L’erreur‬في الصفات الجوهرية للمحكم وبالنتيجة بطالن حكمه لوجود عيب‬
‫في الرضا‪ .‬ومن جهتها قضت محكمة استئناف باريس في القضية املعروفة بـ ‪Société :‬‬
‫‪Raoul Duval‬بإبطال حكم تحكيمي تأسيسا على مقتضيات املادة ‪ 1502‬من قانون‬
‫اإلجراءات املدنية الفرن�سي الجديد بدعوى تعيين محكم ال تتوفر فيه الضمانات‬
‫‪2‬‬
‫األساسية ومنها استقالليته عن األطراف ‪.‬‬
‫أخيرا نشيرإلى أن الحكم التحكيمي الذي يخرق مبدأ الوجاهية بين أطرافه يمثل‬
‫مساسا بالنظام العام الدولي بعنوان املادة ‪ 1056‬ق ا م ا والتي تقابلها املادة ‪ 1502‬ق ا‬
‫م فرن�سي‪ .‬وبعبارة أخرى فإن عدم احترام مبدأ الوجاهية يمثل كذلك خرقا للنظام العام‬
‫اإلجرائي ويعتبركذلك من مشموالت النظام العام اإلجرائي خرق حقوق الدفاع ملا تثبت‬
‫عالقة املحكم بأحد الخصوم ‪.‬‬

‫‪ -1‬الشرمان ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪504‬‬


‫‪. Fouchard et autres , op. cit., p604 -2‬‬
‫‪130‬‬
‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد (دراسة مقارنة )‬

‫بعد هذه اإلطاللة على العمل املحكم وشروط توليه مهمة التحكيم القضائية على‬
‫الراجح فقها ‪ ،‬نمر إلى املحور الثاني الخاص بضرورة حماية املحكم في مواجهة دعوى‬
‫املحتكم أو ما يعرف بالحصانة القضائية للمحكم ‪.‬‬
‫املبحث الثاني ‪ :‬حماية املحكم‬
‫ملا كان املحكم يقوم بمهمة قضائية للفصل في خصومات أنيطت به بموجب عقد‬
‫التحكيم شأنه في ذلك شأن القا�ضي ‪ ،‬فقد كان من الواجب حمايته كما يحمى القا�ضي‬
‫التابع للنظام القضائي للدولة سواء أثناء سير الخصومة التحكيمية أو بعدها‪ .1‬ولعل‬
‫أول حماية للمحكم هي صرامة الشروط املطلوبة لرده ‪ ،‬حتى ال يكون عرضة للتالعبات‬
‫واستبعاده ملجرد الشك ‪ ،‬بل أن ممارسة حق الرد يتم في كنف االحترام الصارم للقانون‬
‫واألكثر من ذلك أن املركز التحكيمي الذي يقوم بتعيين املحكم ال يملك رده بسهولة‬
‫وتلك إحدى مظاهرحماية املحكم‪.‬‬
‫ومع هذا فإن املحكم بعد أن يصدر حكمه قد يكون عرضة ملالحقات يقوم بها‬
‫عادة الطرف الذي خسر دعواه ؛ لذلك كان من الالزم توفير حماية قانونية له ضد‬
‫هذه املمارسات حفاظا على سمعة التحكيم ودعمه وانتشاره‪ 2.‬وبعبارة أخرى يجب توفير‬
‫حماية قانونية للمحكم بعد إصداره لحكمه كما توفرالدولة حماية للقا�ضي عند قيامه‬
‫بنفس العمل ‪ ،‬لكي يشعراالثنان بالراحة والطمأنينة الالزمين لكل من يقوم بهذه املهمة‬
‫الشريفة وهي الفصل في الخصومات بين الناس‪ .‬وتفريعا على ذلك تم تكريس مبدأ‬
‫يق�ضي بحصانة املحكم لكن في إطارحدود واستثناءات ‪.‬‬

‫‪1- …Mais voila le principe de protection de l’arbitre contre les mises en causes person-‬‬
‫‪nelles auxquelles ils pourrait être confronté est unanimement reconnu .Cette protec-‬‬
‫‪tion confère à l’arbitre une véritable immunité qui lui permet de mener à bien sa mission‬‬
‫‪juridictionnelle. Voir la responsabilité de l’arbitre au regard du droit comparé , article sur‬‬
‫‪internet , le journal d’une doctorante.‬‬
‫‪ -2‬في نفس املعنى انظر ‪ :‬ناصرالشرمان ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪463‬‬
‫‪131‬‬
‫املجلة الجزائرية للعلوم القانونية واالقتصادية والسياسية‬

‫املطلب األول ‪:‬الحصانة كمبدأ قانوني ( النظام األنجلوسكسوني )‬


‫تنادي املحاكم األنجلوسكسونية ومعها شراح القانون هناك‪ ،‬بضرورة تمتع‬
‫املحكم بالحصانة القضائية في مواجهة أية مالحقات ملطالبته بالتعويضات نتيجة‬
‫قيامه بمهمته القضائية ‪ .‬هذا املبدأ معمول به في األنظمة األنجلوسكسونية التي تعطي‬
‫القا�ضي حصانة مطلقة‪ ،‬وتسقطها كذلك على املحكم الذي يقوم بنفس املهمة أيضا‬
‫؛فالفقه األمريكي بصفة عامة يؤكد أن املقصود من هذه الحصانة والحماية ليس‬
‫لشخص املحكم بل وظيفته‪ . 1‬وإقرارهذه الحصانة للمحكم من شأنها ضمان مصداقية‬
‫العدالة التحكيمية ؛ وبناء عليه وفي غياب اتفاقية دولية حول املوضوع تتولى القوانين‬
‫‪2‬‬
‫الداخلية مهمة النص على منح املحكم تلك الحصانة القضائية ‪.‬‬
‫أما مراكز التحكيم الدائمة فتضع لوائحها التي تتضمن نصوصا تخص حصانة‬
‫املحكمين سواء بإطالقها أو بتقييدها إال أنها مع ذلك لم تستعمل مصطلح الحصانة ‪.‬‬
‫أما األنظمة القانونية التي يمكن أن نعرج عليها ملعرفة موقفها من حصانة املحكم‬
‫فنجد في املقام األول النظام القانوني الفرن�سي ‪.‬‬
‫املطلب الثاني ‪:‬النظام القانوني الفرن�سي( النظام الالتيني‪ -‬الجرماني )‬
‫أصدرت محكمة استئناف باريس في ‪1992/ 05/ 29‬قرارا ‪ 3‬قضت فيه برفض طلب‬
‫أحد األطراف الرامي إلى استحضار محكمين بصفتهم شهودا في القضية التي كانوا قد‬
‫أصدروا فيها حكما تحكيميا ‪ ،‬مؤسسة حكمها على أن املحكم ليس طرفا أجنبيا في‬
‫النزاع الذي فصل فيه ‪ ،‬وإنه بمجرد قبوله باملهمة املسندة إليه كمحكم يحمل نفس‬
‫صفات القا�ضي وتكون له نفس حقوقه ونفس التزاماته ‪ ،‬ومن ثم فإن سماعه شخصيا‬
‫في خصومة ليس طرفا فيها غيرجائزقانونا ‪.‬‬

‫‪ -1‬نفس املرجع ‪ ،‬ص ‪465‬‬


‫‪2- Fouchard et autres , op. cit., p605 et s.‬‬
‫‪3- Affaire époux Ronny / Sté Holding RTD com in le traité de l’arbitrage …op. cit ; p606‬‬
‫‪132‬‬
‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد (دراسة مقارنة )‬

‫لإلشارة وما دام هذا القرار قد ساوى بين املحكم والقا�ضي في الحقوق والواجبات‬
‫فإن الدولة تحل محل القا�ضي في تحمل التعويضات على أساس الخطأ املرفقي ملرفق‬
‫العدالة والتي ال تقوم إال إذا تعلق األمر بخطأ جسيم أو عند إنكار العدالة ( م ‪127‬‬
‫من قانون التنظيم القضائي الفرن�سي )‪.‬إال أن هذا الطرح ال يصلح عندما يتعلق األمر‬
‫باملحكم ألنه ال ينتمي إلى النظام القضائي للدولة على اعتباره قضاء خاصا وهذا موقف‬
‫األستاذ (هنري موتولسكي ) والذي ساندته فيه محكمة النقض الفرنسية بقولها أن‬
‫املحكمين ال يمارسون أية وظائف عامة وبالنتيجة فإنه ال يمكن إقحام مسؤولية الدولة‬
‫بعنوان املادة ‪ 505‬ق ا م فرن�سي قديم ضمن ما يعرف بمخاصمة القضاة ‪ ،‬وأن مسؤولية‬
‫‪1‬‬
‫املحكمين أساسها الشروط الواردة في القانون العام ‪.‬‬
‫وبدورها أصدرت محكمة املخاصمات الكبرى في ريمس ( فرنسا) حكما في‬
‫‪ 27/09/1978‬أين رفعت دعوى قضائية ضد محكين ملطالبتهم بتعويض الضرر نتيجة‬
‫حكم أصدروه‪ ،‬فقضت برفض الدعوى مؤسسة إياه على أن مسؤولية املحكمين‬
‫ال يمكن أن تقوم إال على خطأ جسيم ارتكبوه مثل التدليس والغش وامليل نحو أحد‬
‫الخصوم ‪ .‬وفي غياب هذه األخطاء التي تؤسس للتعويض تم رفض الدعوى‪ ،‬وباملقابل‬
‫اعتبرت تلك املحكمة أن الدعوى تعسفية وكيدية وحكمت للمحكمين بالتعويض بعد‬
‫‪2‬‬
‫أن فبلت طلباتهم املقابلة‪.‬‬
‫من جهتها قضت محكمة استئناف باريس في دعوى رفعها محتكمون ضد محكمين‬
‫بدعوى جهلهم لقاعدة قانونية إجرائية ‪ ،‬أين تصدت لها بالرفض معتبرة إياها بمثابة‬
‫مساس باعتبار املحكمين املطالبين فقط بالفصل في النزاع وفقا للقواعد القانونية‬
‫‪3‬‬
‫اإلجرائية ‪.‬‬

‫‪1- Voir ph. Fouchard et autres , op. cit., p 607‬‬


‫‪2- Affaire Floronge c/ Brissart et Corgié in le traité de l’arbitrage…op. cit., p607‬‬
‫‪3-02/10/1985 in la Rev . arb., 1987‬‬
‫‪133‬‬
‫املجلة الجزائرية للعلوم القانونية واالقتصادية والسياسية‬

‫حتى وإن كانت هذه األحكام تخص محكمين في التحكيم الداخلي إال أن هذا ال يمنع‬
‫من إسقاطها على التحكيم التجاري الدولي بالنظرلوحدة الهدف من توفيرتلك الحصانة‬
‫أال وهوحماية املحكم أثناء ممارسة وظيفته القضائية بمنع املحتكمين من إضافة طريق‬
‫آخر للطعن ‪ ،‬باإلضافة إلى طرق الطعن املرسومة قانونا وهي الطعن في شخص مصدر‬
‫الحكم نفسه مما سيؤدي إلى زعزعة الثقة في التحكيم إذا لم يلعب القضاء دوره في‬
‫الحد من الخصومات املوجهة للمحكمين ‪ ،‬أو ما يعرف بالحصانة القضائية للمحكم ‪.‬‬
‫املطلب الثالث ‪ :‬الحصانة في القانون املقارن‬
‫أثناء إعداد القانون النموذجي لألمم املتحدة للتحكيم التجاري الدولي ‪ ،‬لم يتم‬
‫االتفاق على فكرة حصانة املحكم وحدث بشأنها اختالف كبير‪ .‬أما القوانين الداخلية‬
‫فعلى رأسها القانون األمريكي الذي خص املحكم بحصانة مطلقة ‪ ،‬في حين تراوحت‬
‫بعض التشريعات بين إقرارها حصانة مقيدة كالتشريع األملاني والنمساوي والبريطاني‬
‫والنرويجي‪ .‬أما التشريع االسباني الصادر في ‪1988/ 12/ 5‬فقد استبعد بموجب مادته‬
‫‪ 16‬كل حصانة للمحكم وأجاز مقاضاته على أساس املسؤولية املدنية املبنية على‬
‫التدليس أو الخطأ ؛ بينما أجازها التشريع النمساوي في حالتي الرفض أو التأخير غير‬
‫املبرر( حصانة نسبية )‪.1‬أما القانون الكندي فقد أقر الحصانة للمحكم قياسا على‬
‫القا�ضي العمومي‪.‬‬
‫وعلى أية حال فإنه من غيراملتصور حتى في تلك الدول التي أقرت حصانة مطلقة‬
‫للمحكم أن تعفيه من املسؤولية في حالة إخالله الواضح بالتزاماته التي تفرضها عليه‬
‫مهمته كقاض يفصل في الخصومات حتى وإن كانت مهمته قضائية خاصة ‪.‬‬
‫في الجزائر لم ينص قانون التحكيم سواء ذلك الصادر في ‪ 1993‬أو في ‪ 2009‬على‬
‫حصانة املحكم بل حتى مخاصمة القضاة لم يعد لها وجود في هذا القانون على األقل‬
‫من باب القياس عليها ‪ ،‬كما لم ينص التشريع الفرن�سي وعموما التشريعات العربية على‬
‫تناول موضوع حصانة املحكم ومدى قابليته للمساءلة املدنية تاركا ذلك للفقه والقضاء‪.‬‬
‫‪ -1‬ناصرالشرمان ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪465‬‬
‫‪134‬‬
‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد (دراسة مقارنة )‬

‫املطلب الرابع ‪:‬حدود الحصانة القضائية للمحكم‬


‫تكاد تتفق معظم األنظمة القانونية على وضع حاالت ال يمكن فيها للمحكم أن‬
‫يتذرع بحصانته القضائية لإلفالت من املسؤولية املدنية وهي على العموم تدور حول‬
‫معيارين‪ ،‬األول هو عدم تنفيذه اللتزامه بواجب الكشف عن عدم استقالليته أو حياده‬
‫ومكاشفة األطراف بذلك لتمكينهم من أخذ موقف منه ‪ ،‬والثاني في حالة إخالله بالتزامه‬
‫كقاض وذلك على التفصيل اآلتي ‪:‬‬
‫الفرع األول ‪:‬مسؤولية املحكم في حالة عدم تنفيذ التزامه بالكشف‬
‫سبق أن رأينا التزامات املحكم ومنها االلتزام بالكشف عن وضعية تتعارض مع‬
‫مهمته كمحكم يستقيم معها أداؤه في الفصل في الخصومة املوكولة إليه بنزاهة وفي‬
‫كنف الحياد التام ‪ .‬ومتى تبين له أنه لن يستطيع ضمان حياده واستقالله وجب عليه‬
‫الكشف عن ذلك لألطراف التي عينته ‪ .‬وفي حالة امتناعه عن هذا االلتزام واستمراره‬
‫في الجلوس للقضاء بين الخصوم مع علمه باملانع ترتبت مسؤوليته املدنية ووجب عليه‬
‫الضمان والتعويض للمتضرر من الخصوم‪ ،‬فضال عن قابلية حكمه لإللغاء ومع ذلك‬
‫فإن أحد الخصوم بال شك يكون قد ضيع وقته وماله فيستحق التعويض عن الضرر‬
‫تطبيقا للقواعد العامة للمسؤولية املدنية ‪ ،1‬ويفقد املحكم بذلك حصانته أو بعبارة‬
‫أخرى تتحول الحصانة من مطلقة إلى مقيدة أو نسبية‪.‬‬
‫في فرنسا كانت هنالك مناسبتان للنظر في وضعيات كهذه ‪ ،‬األولى تخص شركة‬
‫(‪ ) Société Annahold B .V‬حيث تبين أن املحكم الوحيد املعين كان مستشارا ماليا‬
‫للخصم وكان يتلقى منه مكافآت مالية كل ثالثي بقيمة ‪ 125000‬فرنك فرن�سي نظير‬
‫مهمته‪ ،‬وملا تبين لها ذلك رفعت ضده دعوى استعجالية من ساعة ألخرى يوم ‪/ 26‬‬
‫‪ 1990/ 06‬لرده إال أنه مع ذلك أصدر قراره التحكيمي في اليوم املوالي بتاريخ ‪06/ 27‬‬
‫‪. 1990/‬وعندها قامت الشركة املذكورة برفع دعوى إللغاء ذلك القرار التحكيمي أما‬

‫‪ -1‬في هذا املعنى ‪ ،‬أنظراحمد أبو الوفا ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪217‬‬
‫‪135‬‬
‫املجلة الجزائرية للعلوم القانونية واالقتصادية والسياسية‬

‫محكمة استئناف باريس التي ألغته فعال مؤسسة قرارها على وجود عيب في الرضا‬
‫شاب االتفاقية التحكيمية ‪.‬وبناء عليه رفعت الشركة دعوى للمطالبة بالتعويض ضد‬
‫خصمها واملحكم فصدر حكم ق�ضى لها بالتعويض بني على أحكام املادة ‪ 1382‬من‬
‫القانون املدني الفرن�سي وألزم املحكم برده للشركة املدعية مبلغ ‪ 600.000‬فرنك التي‬
‫قبضها كأتعاب مع فائدة في حدود النسبة القانونية املعمول بها تسري من يوم قبضه‬
‫‪1‬‬
‫لألتعاب‪.‬‬
‫وفي قضية أخرى تدعى «‪ 2« Société Raoul Duval/Merkoria Sucden‬أين قام‬
‫خصمها في اليوم املوالي من صدور الحكم التحكيمي بتوظيف رئيس هيئة التحكيم‬
‫الفاصلة في النزاع لديها ولدى عرضها لدعواها أمام محكمة استئناف باريس قضت‬
‫هذه األخيرة بإبطال القرار التحكيمي تأسيسا على غياب استقاللية املحكم (‪défaut‬‬
‫‪ ) d’indépendance‬ومنه التشكيل غير القانوني للمحكمة التحكيمية ‪.‬وقد رفعت‬
‫الشركة املذكورة دعوى للمطالبة بالتعويض ‪ ،‬وفعال تم الحكم لها بالتعويض تأسيسا‬
‫على خرق املحكم لواجب الكشف للخصوم عن عدم استقالله وحياده إعماال للمادة‬
‫‪ 1452‬من قانون اإلجراءات املدنية الفرن�سي مستبعدة في الوقت ذاته أحكام املادة ‪505‬‬
‫إجراءات قديم بدعوى أن املحكم ال يمارس وظيفة عامة ‪.‬واستطردت املحكمة تقول‬
‫بان أساس هذه املسؤولية يوجد في القانون املشترك (‪ )le droit commun‬وتحديدا‬
‫في املادة ‪ 1142‬من القانون املدني الفرن�سي‪.‬ومع هذا فقد علق الفقه على الحكمين هل‬
‫يقومان على مسؤولية املحكم التقصيرية أم على مسؤوليته العقدية ؟‬
‫الفرع الثاني ‪ :‬مسؤولية املحكم في حالة الخطأ املتعمد‬
‫بصرف النظر عن النظام القانوني املعتمد ‪ ،‬فإن قضاء الدول األنجلوسكسونية‬
‫وتشريعاتها التي تأخذ بحصانة كاملة للمحكم ( ‪ ،)immunité totale de l’arbitre‬ومع‬
‫ذلك تميل إلى ترتيب مسؤولية املحكم في حاالت الغش والخطأ الجسيم وإنكار العدالة‬
‫بوصفها أخطاء ال يمكن التسامح فيها وتجاوزها لكي ال يجد بعض املحكمين من الحصانة‬
‫‪Voir Ph. Fouchard et autres , op. cit., p 611 et s -1‬‬
‫‪Paris 1ére . ch.,12/10/1995 , in la revue de l’arbitrage. 1999p .324 -2‬‬
‫‪136‬‬
‫الحصانة القضائية للمحكم بين اإلطالق و التقييد (دراسة مقارنة )‬

‫املطلقة مطية للتالعب بتلك املهمة النبيلة التي أسند فيها الخصوم حل نزاعهم ملحكم‬
‫كبديل لقا�ضي الدولة أمال في البحث عن عدالة أكثرعدال ‪.‬‬
‫ففي الواليات املتحدة األمريكية التي تمنح املحكم حصانة مطلقة وكاملة ‪،‬تستثني‬
‫حالتي الغش ونية اإلضرار ‪ ،‬وكذلك الحال في تشريع دولة ماريالند(‪ . )Maryland‬وفي‬
‫بريطانيا وبمناسبة إعداد قانون التحكيم من طرف دائرة التجارة والصناعة (‪) D.T. I‬‬
‫نص هذا القانون على عدم إمكانية مساءلة املحكم بفعل أو ترك ما عدا في حالة ثبوت‬
‫أنه قام بذلك بسوء نية ‪.‬وبدوره نص قانون استراليا على عدم مسؤولية املحكم حتى‬
‫في حالة اإلهمال باستثناء حالة الغش‪..‬أما قضاء فرنسا فقد كان حذرا غير أنه يأخذ‬
‫‪1‬‬
‫بمسؤولية املحكم في حاالت الغش والتدليس والخطأ الجسيم ‪.‬‬
‫إن محكما خان مهمته وثقة األطراف ليس جديرا بأية حماية قانونية ومن حق‬
‫املتضرر أن يطالبه بالتعويض تطبيقا لقواعد املسؤولية املدنية بنوعيها فضال عن‬
‫حرمانه من تقا�ضي أتعابه ومن تولي املهنة مرة أخرى كجزاء تأديبي‪ ،‬وقد يصل الخطأ‬
‫إلى درجة التجريم كتقا�ضي رشوة من أحد الطرفين‪ 2‬أو سرقة وثائق أو تزويرها أو إنشاء‬
‫مراكزتحكيم وهمية ال وجود لها في الواقع ‪ ،‬أو أن املحكمة التحكيمية مكونة من محكم‬
‫واحد فقط ساعده محكمان ال عالقة لهما بالتحكيم وأن املحاضر املنجزة مزوة وهي‬
‫وقائع حصلت فعال وتمت معاقبة مرتكبيها ‪ ...3‬وكلها جرائم يعاقب عليها القانون في‬
‫كل مجتمع متحضر ويكون االختصاص الجزائي فيها ملحكمة مكان وقوع الفعل املجرم‬
‫تطبيقا ملبدأ إقليمية النص الجزائي كأصل عام ‪.‬‬

‫ما يلفت االنتباه أن مراكز التحكيم ومع ارتفاع تكاليفه لديها فإنها تحمي محكميها‬

‫‪1- Ph. Fouchard et autres , Op. cit., p 613 et s.‬‬


‫‪ -2‬ال يعتبر املحكم موظفا ومع ذلك فهو يأخذ حكمه عندما يتعلق اآلمر بتقاضيه رشوة من احد‬
‫الخصوم ‪ .‬انظرفي هذا املعنى الوجيز في القانون الجزائي الخاص‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬دارهومة ( الجزائر)‬
‫ط ‪ ، 2015/ 2014 ، 15‬ص ‪18‬‬
‫‪3- Thomas Clay « l’arbitre»  , thèse , Paris2, Dalloz 2000 p708 .‬‬
‫‪137‬‬
‫املجلة الجزائرية للعلوم القانونية واالقتصادية والسياسية‬

‫من خالل نص لوائحها على إعفائهم مسبقا من املسؤولية وهو ما يطرح أكثر من سؤال‬
‫حول إمكانية مالحقة املركزتطبيقا ملسؤولية املتبوع عن فعل تابعه باعتباره هو من قام‬
‫باعتمادهم للعمل لديه واملثال الحي على ذلك نص املادة ‪ 34‬من نظام غرفة التجارة‬
‫الدولية التي تبنت املذهب االنجلوسكسوني في إقرارالحصانة املطلقة ملحكمة التحكيم‬
‫‪1‬؟‬
‫خاتمة‬
‫التحكيم أداة فعالة في حل النزاعات التجارية الدولية على الخصوص وقد لقي‬
‫عناية فائقة في املجتمع الدولي من خالل القوانين النموذجية للتحكيم أو من خالل‬
‫التشريعات الوطنية لكل دولة على حدة ‪ .‬ويجد أساسه في إرادة الخصوم بمنح تلك‬
‫املهمة النبيلة والشريفة لشخص أو أشخاص أو مؤسسات تحكيمية تكون محال لثقتهم‬
‫رغم تكاليفه الباهظة‪ .‬ومع هذا قد يحيد املحكم ‪ -‬وهو بشر يصيب ويخطئ عمدا أو‬
‫تقصيرا فقط – عن أداء تلك الوظيفة القضائية بنزاهة وحياد فيكون مصيره املالحقة‬
‫القضائية ملطالبته بالتعويض متى كانت الدولة التي يجري على أرضها التحكيم تقر‬
‫بمسؤولية املحكم وال تمنحه تلك الحصانة القضائية‪ .‬أما ملا يكون املحكم على تراب‬
‫دولة مثل بريطانيا أو أمريكا أو غيرهما من الدول األنجلوسكسونية فإن املحكم يتحصن‬
‫من املالحقة ويفلت من التعويض ‪ ،‬وهنا يجد الطرف املضرورمن سلوك املحكم نفسه‬
‫في مواجهة الواقع الحتمي ؟ فإلى أين يتجه حينذاك ‪.‬‬
‫إنه ال إفراط وال تفريط ‪ ،‬وخير األمور أوسطها لذلك في تقديري واعتقادي‬
‫يتعين ضبط هذه املسألة الحساسة‪ ،‬من جهة نحمي فيها املحكم ونشجع فيها اللجوء‬
‫للتحكيم؛ومن جهة أخرى نحمي الطرف املضرور نتيجة ممارسة غير أخالقية قد يقوم‬
‫بها املحكم ال سيما عندما يتعمد ذلك وينحاز ألحد الخصوم انحيازا بينا ‪ ،‬فنصل بذلك‬
‫إلى إقرار حصانة نسبية فقط يتمتع بها املحكم ضمانا لحسن أداء وظيفته وليس منة‬
‫له لشخصه بوصفه محكما ‪.‬‬
‫‪1- Ni les arbitres , ni la cour ou ses membres , ni la chambre de commerce internationale‬‬
‫‪ou son personnel, ni les comités nationaux de la chambre de commerce internationale,‬‬
‫‪ne sont responsables envers quiconque de tout fait , acte ou omission en relation avec‬‬
‫‪un arbitrage.‬‬
‫‪138‬‬

You might also like