Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 22

‫‪OPEN ACCESS‬‬

‫‪2022‬‬ ‫سبتمرب‬ ‫‪27‬‬ ‫تاريخ اإلرسال‪:‬‬


‫‪2022‬‬ ‫أكتوبر‬ ‫‪13‬‬ ‫تاريخ التحكيم‪:‬‬
‫‪2022‬‬ ‫نوفمرب‬ ‫‪07‬‬ ‫تاريخ القبــول‪:‬‬

‫السميائيات التأويلية‪ :‬بحث في مستويات اإلدراك والتأويل‬


‫عبد السالم إسماعيلي علوي‬
‫أستاذ‪ ،‬قسم اللغة العربية‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬جامعة قطر‬
‫‪ismaili1203@gmail.com‬‬

‫عبد الرحيم دودي‬


‫باحث بمختبر السميولسانيات التطبيقية‪ ،‬جامعة موالي إسماعيل‪ ،‬المغرب‬
‫‪abderrahim151615@gmail.com‬‬

‫ملخص‬
‫يعرُب من العامل الطبيعي املادي إىل العامل الثقايف الرمزي‪ ،‬لقد استطاع أن ُينتِج فكره‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان بالعالمات ومن خالهلَا أن ُ‬ ‫استطاع‬
‫َ‬ ‫لقد‬
‫مسار طبيعي‬ ‫ٍ‬ ‫فكر وال مرجع وال ذاكرة‪ ،‬تعيش وفق‬ ‫كل الكائنات بال ٍ‬ ‫اخلاص‪ ،‬وأن يبني ذاكرته اجلامعية الوضعية‪ ،‬تارك وراء ُه َّ‬
‫هي الوسيلة التي من خالهلا تأنسن اإلنسان‪ ،‬وخ َّلص نفسه‬ ‫ال يتغري‪ ،‬أي وفق مسار نمطي يتكرر؛ ولكنه ال يتطور‪ .‬إِ َّن العالم َة َّ‬
‫وضمنها عاداته وتقاليده‪ .‬لقد‬ ‫أودع فيها ق َيم ُه وآما َل ُه وأحال َمه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫من إكراهات الطبيعة‪ ،‬إىل رحابة الثقافة التي منحت ُه أدوات رمزية َ‬
‫يرست له َم ْف َه َمة‬
‫ْ‬ ‫املادي لألشياء‪ ،‬لقد‬ ‫ِ‬
‫واحلضور‬ ‫الوجود خارج إكراهات التجسيد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صياغة‬ ‫ِ‬
‫إعادة‬ ‫َ‬
‫اإلنسان من‬ ‫مكنت العالمات‬
‫ّ‬
‫وس ْم َي َأ َت ُه‪ ،‬يرست له تقطيعه وتصنيفه داخل عوامل جتريدية رمزية خمصوصة‪ .‬وبذلك متكَّن من امتالك هذا الكون ذهن ًيا‬ ‫الكون َ‬
‫متحكاًم فيه بتجريداته الذهنية واستبداالته الرمزية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واإلمساك بدالالته معرف ًيا‪ ،‬حتى غدا‬
‫تلكم هي الدعوى أو الفرضية األساس التي ُحُياجج ألجلها كل سميائي‪ .‬وهي نفسها الدعوة التي نسوق ألجلها هذا البحث‪،‬‬
‫خلفية معرفية نظرية‪ ،‬منطلقها السميائيات التأويلية‪ ،‬وموضوعها العالمة وسريورة التدليل الالمتناهية‪ .‬هيدف هذا‬ ‫ٍ‬ ‫عىل هدي‬
‫البحث إذن‪ ،‬إىل رصد مكونات العالمات وآليات اشتغاهلا من منظور سميولساين‪ ،‬وذلك من خالل ثالثة حماور‪ُ :‬خ ِّصص‬
‫املحور األول لبيان اخللفية املعرفية التي استندت إليها السميائيات التأويلية يف بلورة التصور العام للعالمة‪ُ .‬‬
‫وخ ِّصص املحوران‬
‫الثاين والثالث للوقوف عند تفاصيل هذا التصور‪.‬‬
‫الكلمات المفتاحية‪ :‬السميائيات‪ ،‬العالمة‪ ،‬اإلدراك‪ ،‬التأويل‪ ،‬السميوزيس‬

‫لالقتبــاس‪ :‬إســماعيلي علــوي‪ ،‬عبــد الســام‪ ،‬ودودي‪ ،‬عبــد الرحيــم‪« .‬الســميائيات التأويليــة‪ :‬بحــث في مســتويات‬
‫اإلدراك والتأويل»‪ ،‬مجلة أنساق‪ ،‬المجلد السادس‪ ،‬العدد الثاني‪2022 ،‬‬

‫‪https://doi.org/10.29117/Ansaq.2022.0166‬‬

‫© ‪ ،2022‬إسامعييل علوي‪ ،‬ودودي‪ ،‬اجلهة املرخص هلا‪ :‬دار نرش جامعة قطر‪ .‬تم نرش هذه املقالة البحثية وف ًقا لرشوط ‪Creative Commons‬‬
‫)‪ .Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0‬تسمح هذه الرخصة باالستخدام غري التجاري‪ ،‬وينبغي نسبة‬
‫العمل إىل صاحبه‪ ،‬مع بيان أي تعديالت عليه‪ .‬كام تتيح حرية نسخ‪ ،‬وتوزيع‪ ،‬ونقل العمل بأي شكل من األشكال‪ ،‬أو بأية وسيلة‪،‬‬
‫ومزجه وحتويله والبناء عليه‪ ،‬طاملا ُينسب العمل األصيل إىل املؤلف‪.‬‬

‫‪105‬‬ ‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬
OPEN ACCESS
Received: 27 September 2022
Reviewed: 13 October 2022
Accepted: 07 November 2022

Interpretive Semiotics: Research in the levels of perception and interpretation


Abdeslam Ismaili Alaoui
Professor, Department of Arabic Language, College of Arts and Sciences, Qatar University
ismaili1203@gmail.com

Abderrahim Doudi
Researcher, Applied Semiotics Laboratory, Moulay Ismail University, Morocco
abderrahim151615@gmail.com

Abstract
Through the signs, Man was able to pass from the physical, natural world to the symbolic cultural
world. He was able to produce his own thought and build his positive collective memory, leaving
behind all beings without thought, reference or memory, living according to a natural path that does
not change, i.e., according to a path which is always repeated, but does not evolve. The sign is the
means by which man becomes human, and frees himself from the constraints of nature, to the
spaciousness of the culture that gave him symbolic tools in which he deposited his values, hopes and
dreams, and included his customs and traditions. Signs have enabled man to reformulate existence
outside the constraints of embodiment and the physical presence of things. Thus, he was able to
possess this universe mentally and grasp its semantics epistemologically, until he became in control
of it with his mental abstractions and symbolic substitutions.
That is the basic claim or hypothesis for my research. It is, also, the same call for which we are
driving this research, on the guidance of a theoretical knowledge background, its starting point is
interpretive semiotics, and its theme is the sign and the endless process of evidence. This research
aims, then, to monitor the components of signs and the mechanisms of their functioning from a
semiotic perspective, through three axes. The first axis was devoted to explaining the cognitive
background on which interpretative semiotics were based in crystallizing the general perception of
the sign. The second and third axis were devoted to examining the details of this perception.

Keywords: Semiotics; Sign; Perception; Interpretation; Semiosis

Cite this article as: Ismaili Alaoui, A., & Doudi, A., “Interpretive Semiotics: Research in the levels of perception and
interpretation” Ansaq Journal, Vol. 6, Issue 2, 2022

https://doi.org/10.29117/Ansaq.2022.0166

© 2022, Ismaili Alaoui, A., & Doudi, A., licensee QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons
Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate
credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or
format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited.

‫ وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬،‫ تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‬،2022 ،2 ‫ العدد‬،6 ‫ املجلد‬،‫جملة أنساق‬ 106
‫مقدمة‬

‫ويعرّب‪ ،‬كائن يستطيع‬ ‫ٍ‬


‫كائن رمزي يفكِّر‬ ‫ٍ‬
‫كائن بيولوجي حييا ويفنى إىل‬ ‫اإلنسان من ِ‬
‫جمرد‬ ‫َ‬ ‫حولت الثقافة‬
‫ّ‬ ‫لقد َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫انتزاع العاملِ اخلارجي من ماديته الصلبة‪ ،‬ل ُيود َع ُه يف «أشكال رمزية» بالغة التنوع والتعقيد‪َ .‬وهبذا االعتبار‪ ،‬امتلك‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫اإلنسان العوامل اخلارجية املحيطة به ذهن ًيا‪ ،‬فاستغنى بالرموز والعالمات للتعبري عن األشياء يف غياهبا وعن الوقائع‬
‫واألحداث دون إحضارها‪.‬‬
‫يعرُب من العامل الطبيعي املادي إىل العامل الثقايف الرمزي‪ ،‬لقد‬ ‫استطاع اإلنسان بالعالمات ومن خالهلَا‪ ،‬أن ُ‬‫َ‬ ‫لقد‬
‫كل الكائنات بال فكر وال مرجع وال‬ ‫استطاع أن ينتج فكره اخلاص‪ ،‬وأن يبني ذاكرته اجلامعية الوضعية‪ ،‬تاركًا وراء ُه َّ‬
‫مسار طبيعي ال يتغري‪ ،‬أي وفق مسار نمطي يتكرر؛ ولكنه ال يتطور‪ .‬إِ َّن العالم َة هي الوسيلة التي‬ ‫ٍ‬ ‫ذاكرة‪ ،‬تعيش وفق‬
‫أودع فيها‬ ‫أدوات رمزية‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الثقافة التي منحت ُه‬ ‫من خالهلا تأنسن اإلنسان‪ ،‬وخ َّلص نفسه من إكراه الطبيعة‪ ،‬إىل رحابة‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫صياغة‬ ‫ِ‬
‫إعادة‬ ‫اإلنسان من‬‫َ‬ ‫وضمنها عاداته وتقاليده‪ .‬لقد مكنت العالمات‬ ‫ق َيمه وآما َل ُه وأحال َمه‪( ،‬إيكو‪ ،‬العالمة ‪.)9‬‬
‫ّ‬
‫وس ْم َي َأ َت ُه‪ ،‬هونت عليه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هونت عليه َم ْف َه َمة الكون َ‬‫املادي لألشياء؛ لقد َّ‬
‫ّ‬ ‫واحلضور‬ ‫الوجود خارج إكراهات التجسيد‬
‫تقطيعه وتصنيفه داخل عواملٍ جتريدية رمزية خمصوصة؛ وبذلك متكَّن من امتالك الكون ذهن ًيا واإلمساك بدالالته‬
‫متحكاًم يف هذا الكون بتجريداته الذهنية واستبداالته الرمزية‪.‬‬
‫ً‬ ‫معرف ًيا‪ ،‬حتى غدا‬
‫تلكم هي الدعوى أو الفرضية األساس التي حياجج ألجلها كل سميائي‪ ،‬وهي نفسها الدعوة التي نسوق‬
‫ألجلها هذا البحث‪ ،‬عىل هدي خلفية معرفية نظرية‪ُ ،‬منط َلقها السميائيات التأويلية‪ ،‬وموضوعها العالمة وسريورة‬
‫التدليل الال متناهية‪.‬‬
‫البحث إذن‪ ،‬إىل رصد مكونات العالمات وآليات اشتغاهلا من منظور سميولساين‪ ،‬وذلك من‬ ‫ُ‬ ‫هيدف هذا‬
‫خالل ثالثة حماور‪ُ .‬خُي َّصص املحور األول لبيان اخللفية املعرفية التي استندت إليها السميائيات التأويلية يف بلورة‬
‫وخُي َّصص املحوران الثاين والثالث للوقوف عىل تفاصيل هذا التصور‪.‬‬ ‫التصور العام للعالمة‪ُ ،‬‬

‫‪1.‬من الفلسفة إلى السميائيات‪ :‬جهات الوجود ومستويات اإلدراك‬

‫َصورات «ش‪ .‬س‪.‬‬‫ُ‬ ‫األساس املعريف الذي قامت عليه ت‬ ‫َ‬ ‫املقوالت الفلسفية الفينومينولوج ّية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ل َقدْ شكَّلت‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بورس» للعالمة‪َ ،‬فالعالم ُة من هذا املنطلق ليست سوى جتسيد لرؤية إدراك ّية‪ ،‬ت ََرى أن املوجودات بشتى أنواعها‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫وأصنافها‪ ،‬متثل كيانات منظمة من خالل مقوالت كربى‪ .‬إِ َّن هذه املقوالت الفلسفية ُمُت َ ِّث ُل مقرتحات إجرائ ّية ت ُ‬
‫َسمح‬
‫ِ‬
‫الكون‬ ‫َلنَا بفهم سبل انتقال العامل اخلارجي ِم ْن عاملٍ طبيعي عيني‪ ،‬إىل عامل ذهني جتريدي ُيم ِّثل البعد الرمزي يف‬
‫اإلنساين‪ .‬إن األمر يتعلق بإجابات عن أسئلة من قبيل‪ :‬كيف ينتقل العامل اخلارجي من طبيعته املاد ّية امللموسة إىل‬
‫ُيرِّس لإلنسان امتداده يف حميطه اخلارجي؟ ماهي احلدود الفينومينولوجية هلذا االمتداد‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫وبدائل رمز ّية ت ِّ ُ‬ ‫أشكال جتريدية‬
‫الرمزي؟ كيف يتحول الكون إىل عالمات؟ وكيف تشتغل العالمات يف سياق هذا التحول املعقد؟‬
‫ِ‬ ‫اك َّي ٍة‪ ،‬تَرى يف‬
‫سريورة إِدر ِ‬
‫ٍ‬
‫الوجود كيانًا ُحُمدّ ًدا‬ ‫َ‬ ‫كاَم حدَّ د ُه «بورس» – إال حصيل َة‬
‫اإلنســاين – َ‬
‫ُّ‬ ‫يس الوجو ُد‬ ‫َل َ‬
‫تضبط وحداتِه وحتدد معامله وحدوده‪ .‬إن «ما جيربه اإلنسان وما ينتجه ينبغي‬ ‫ُ‬ ‫مقوالت فلسفية ثالث‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫خالل‬ ‫من‬

‫‪107‬‬ ‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬
‫فهم باعتباره حصيلة تفاعل دقيـق بني ثالثة مستويـات؛ األولـية والثـانوية والثـالثية» (حنون ‪ .)52‬إن الكون‬ ‫أن ُي َ‬
‫وش ْك َلنَته يف املستوى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رْب مصفاة ثالثية الرتكيب‪َ ،‬ت ْع َم ُل عىل جتريده يف املستوى األول‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫يتم استيعاب ُه َع ْ َ‬ ‫اإلنســاين‪ُّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫الفعيل عرب قانون الفكر الذي يعمل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الثاين‪ ،‬ثم ن َْم َذ َجته يف املستوى الثالث‪ .‬يتم نقله من عوامل اإلمكان إىل ح ِّيز التحقق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬
‫استمرارها وتداوهلَا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وضامن‬ ‫ِ‬
‫اإلحــالة‬ ‫عىل تأبيد‬
‫َ‬
‫نتاج‬‫ودها املادي؛ بل باعتبارها َ‬ ‫وج َ‬ ‫ِ‬
‫باعتبار ُ‬ ‫ِ‬
‫الذهـن‪ ،‬ال‬ ‫تترسب إىل‬
‫ُ‬ ‫اخلارجي‬
‫ِّ‬ ‫َو ِم ْن ُهنا‪ ،‬فإن موجودات العاملِ‬
‫األشياء‪ ،‬ال األشياء‬ ‫ِ‬ ‫معارف‪ُ ،‬جُيسدُ َمَت ُّث ِ‬
‫الته عن‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان من‬ ‫إن ما يتداول ُه‬ ‫عمليات جتريدية بالغة الكثافة والتعقـيد‪َّ .‬‬ ‫ٍ‬
‫َ َ ِّ َ‬
‫ومُت ِّك ُن اإلنسان من االستغناء ببدائله الرمزية عن‬ ‫وهذه التمثالت‪ ،‬ليست سوى صي ٍغ رمز ّية‪ ،‬تستوط ُن الذهن‪ُ ،‬‬ ‫ذاهتا‪ِ .‬‬
‫األشياء املادية‪ ،‬متكنه من االستغناء بعامله الذهني عن العوامل اخلارجية‪.‬‬
‫ِ‬
‫اإلنســان‬ ‫إِ َّن فكرة االمتالك الرمزي للكون‪ ،‬قد دفعت «بورس» إىل وضع تصور للكيفية التي يتجاوز هبا‬
‫رمزية وتقطيعات مفهومية ذات طبيعة جتريدية‪ .‬إن صياغتـ ُه‬ ‫ٍ‬ ‫معطيات الوجود اخلارجي بطبيعته املادية‪ ،‬إىل َ‬
‫بدائل‬ ‫ِ‬
‫خمصوصة‪ :‬عامل اإلمكان‪ ،‬وعامل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلنساين‪ ،‬يف عوامل َ‬
‫ِّ‬ ‫اإلدراك‬ ‫حلدود الربوتُوكول الرياضـي مكنته من تأطري إواليات‬
‫الواقع‪ ،‬وعامل الفكر؛ ذلك أن سريورة اإلدراك عنده تنطلق من اإلمكان النوعي‪ ،‬لتحيل عىل الواقعة الفعلية عرب‬
‫القانون والفكر‪.‬‬
‫يمثل أمامنَا يف‬ ‫فالواقع ُ‬ ‫املعريف عند اإلنسان يف سياق حمدد‪ ،‬مرتبط بالتقطيع املقويل الثالثي‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اإلمكان‬ ‫إن حتقيق‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫يتحنَّي يف مرحلة ثانية داخل وقائع خمصوصة‪ ،‬بيد‬ ‫مرحلة أوىل بصفته نوعيات وأحاسيس حمتملة التحقق‪ ،‬بعد ذلك َّ ُ‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫للواقعة داللتها‪،‬‬ ‫يتم إال بموجب الفكر كقانون أو وسيط إلزامي خيول‬ ‫أن هذا االنتقال من النوعي إىل الواقعي‪ ،‬ال ُّ‬
‫متصاًل من األشياء والوقائع‬ ‫ً‬ ‫فإن العامل اخلارجي – باعتباره ك ًُّاًّل‬ ‫صيغة ُأخرى‪َّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ويضمن لالنتقال قوته وثباته‪َ .‬وبِ‬
‫أن «عالقتنا‬ ‫واألحداث – ال َيم ُث ُل يف الذهن بام هو عليه من جتسيد‪ ،‬بل بام يصري عليه بفعل التجريد الرمزي؛ ذلك َّ‬
‫هبذا العامل [‪ ]...‬ليست عالقة مبارشة‪ ،‬وال يمكن أن تكون جمرد رابط آيل جيمع ذاتًا بموضوع‪ ،‬فام يفصل اإلنسان عن‬
‫عامله ليس حواجز مادية تتشكل من األشياء واملوضوعات‪ ،‬بل هو الطريقة التي تتم هبا صياغة الواقع صياغة ثقافية‬
‫تنزع عنه أبعاده املادية لتكسوه بطبقة من الرموز» (بنكَراد‪ ،‬مسالك املعنى ‪.)161‬‬
‫إن «الربوتوكول الريايض» أو ما أطلق عليه «بورس» نظرية املقوالت عبارة عن تكثيف ملقوالت فلسف ّي ٍة‬
‫هي مقولة اإلمكان‬ ‫ثالث‪ ،‬ملستويات إدراكية ثالثة‪ ،‬يرتبط كل حدٍّ من هذا التثليث بنمط وجودي خاص‪ .‬فاألوالنية َّ‬
‫فهي مقول ُة اهلُنا واآلن‪ ،‬يف حني أن الثالثانية هي مقولة الفكر وااللتزام‪ .‬إِ َّهَّنَا مقولة التوسط‬ ‫واالحتامل‪ ،‬أما الثانيانية َّ‬
‫ٍ‬
‫اإللزامي الذي جيعل األوالنية حتيل عىل الثانيانية وفق قانون مسبق‪.‬‬
‫ُ‬
‫تشتغـل‬ ‫كيانات مستقل ًة بوجودها وأدوارها عن بعضها‪ .‬إِ َّهَّنَا‬ ‫ٍ‬ ‫أن هذه املقوالت ليست‬ ‫َّإاَّل َأ َّن ُه ينبغي أن نشري إىل َّ‬
‫التعامل معها باعتبارها وحدات منفصلة‪ ،‬إال إجراء‬ ‫ُ‬ ‫كاًل أو وحد ًة غري قابلة للعزل أو التقطيع‪ ،‬وما‬ ‫باعتبارها ً‬
‫ِ‬
‫منهجي تقتضيه طبيعة التحليل العلمي‪ .‬فمن املستحيل أن ن ْفص َل بني اإلمكان املفرتض (األوالنية) والتحقق الفعيل‬
‫هذه املقوالت «هو ما حيدد – يف هناية املطاف – االشتغال‬ ‫التداخل بني ِ‬‫ُ‬ ‫(الثانيانية) والقانون املنظم (الثالثانية)‪ .‬إن‬
‫النهائي مليكانيزمات اإلدراك اإلنســاين» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات‪ :‬النشأة واملوضوع ‪ .)32‬إن العامل ينفذ إلينا إذن‪ ،‬عرب‬
‫ثالثة مستويات متضافرة لإلدراك‪ :‬مستوى اإلمكان ومستوى التحقق ومستوى التجريد‪.‬‬

‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬ ‫‪108‬‬
‫‪1.1.‬اإلدراك في حدود اإلمكان‬

‫رتضة التي تنتمي إىل عوامل اإلمكان واالحتامل‪ ،‬ترتبط بالوجود البدئي املنفلت‪،‬‬ ‫ترتبط هذه املقولة بالبدايات ا ُملف َ‬
‫كل الكيانات الوجود َّية – سواء‬ ‫كل حتديد‪ ،‬مناطها الدهشة‪ ،‬ومفادها جتربة التعرف األولية‪ .‬إِ َّن َّ‬ ‫الصايف والعاري من ّ‬
‫موجـودات‬ ‫هي إال موجودات ُهالم ّيـة صافية‪ .‬إنّـها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬ ‫تتجسد يف واقع ُمدْ َرك‪ ،‬ما َّ‬
‫َّ‬ ‫كانت واقع ّية أو متخ ّيلة – قبل أن‬
‫«كامنة»‪« ،‬جمردة»‪ ،‬و»متصلة»‪ ،‬وسبيلها الوحيد لكي تظهر إىل الوجود‪ ،‬هو أن ُحُتدَّ د داخل وقائع فعلية‪َ ،‬مَتْن َُح َها‪،‬‬
‫ِ‬
‫الوجود الواقعي أو التحقق الفعيل‪.‬‬ ‫شكاًل أو صيغ ًة يف‬
‫تقطي ًعا أو ً‬
‫فكل‬‫هيئة‪ُّ .‬‬ ‫جسد وال ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شكل وال‬ ‫املوجودات بال‬
‫ُ‬ ‫تسبح فيه‬ ‫إِ َّن األوالنية تعني الوجود بالقوة‪ ،‬أي الوجود الذي‬
‫ُ‬
‫وكيفيات كامنة‪ .‬واإلحساس كام وضحه بورس «هو صنف من‬ ‫ٍ‬ ‫املوجودات يف هذا الوجود‪ ،‬ليست إال أحاسيس‬
‫إحساسا عن آخر‬
‫ً‬ ‫كاًّل أو جز ًءا مع فعل يم ّيز‬ ‫الوعي ال يستلزم أي حتليل أو مقارنة وال أي سريورة‪ ،‬كام أ َّن ُه ال ُ‬
‫يتامثل ًّ‬
‫(بورس ‪.)80‬‬
‫وجودي يتحدّ د يف كون يشء‪ ،‬هو كام هو‪ ،‬إجيا ًبا دون التوجه إىل يشء آخر‪ .‬وهذا اليشء‬ ‫ّ‬ ‫إن األوالنية «قطاع‬
‫املقولة‪ ،‬متثل معطيـات غري موصـوفة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫احتاماًل» (بورس ‪ .)70‬وعليه‪ ،‬إن املعطيات التي تصدق عليها هذه‬ ‫ً‬ ‫ليس إال‬
‫ً‬
‫احتاماًل أبد ًيا‬ ‫تظل‬ ‫ٍ‬
‫نَّي يف واقع ُمدْ َرك‪ ،‬وبالتايل يصري الال موصوف موصو ًفا‪ ،‬وإما أن َّ‬
‫تتأرجح بني احتاملني‪ :‬إما أن َتت ََح َّ َ‬
‫التحسب‪ ،‬فتنفلت بذلك من سلطة الضبط واملراقبة‪ ،‬وتغرق داخل املخيال اإلنساين الشاسع‪ .‬إن األوالنية‬ ‫ّ‬ ‫يف عواملِ‬
‫سديمي صاف‪ ،‬أو الال شكل اهلارب من قيود التحديد والوصف‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫هي مقول ُة املتصل العائم يف كون‬
‫ٍّ‬
‫تتجسد يف «اهلُنا» و»اآلن»‪ ،‬ما‬‫ّ‬ ‫اإلنساين‪ ،‬قبل أن‬
‫َّ‬ ‫إن ك َُّل األحاسيس والنوعيات والكيفيات التي تُغطِي الكون‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫هي إال كيانات جوفاء عارية‪ .‬وإال ماذا يعني اللون األسود خارج فعل اإلبصار ا ُملدْ ِرك له؟ وماذا يعني احلزن قبل أن‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬
‫يشعر اإلنســان به؟ إن هذه ومثلها جمرد كيانات حتتمل التحقق‪ ،‬وهذا كل ما يف األمر‪.‬‬
‫كل حلظة‬ ‫َو ِمن ثم َة‪ ،‬فإِ َّن الوجو َد األوالين‪ ،‬وجو ٌد يتسم باهلشاشة والضعف‪ .‬إِ َّن ُه وجود معرض لالنتفاء يف ِّ‬
‫ينسل من مضاجع «الوعي‬ ‫وحني‪ ،‬فامدام قاب ًعا يف الصفاء الال موصوف والالحمدود‪ ،‬فوجوده كعدمه؛ لذلك فإنه ُّ‬
‫هرواًل نحو الواقعية الفعل ّية (الثانيانية) ليغطي عريه‪ ،‬ويتجىل بمظهر يضمن له االستمرار يف الوجود ولو‬ ‫النائم»‪ُ ،‬م ً‬
‫ِ‬
‫ينتقل الوجو ُد من حالة النوعـي املجرد إىل حالة التحقق الفعيل‬ ‫وسامهُتا؟ وكيف ُ‬ ‫حدودها‬ ‫مؤقتًا‪ ،‬فام الثانيانية إ ًذا؟ وما‬
‫َُ‬ ‫َ‬
‫يف وقائع الثانيانية؟‬

‫‪1.2.‬اإلدراك في مستوى التحقق الفعلي‬

‫الفعيل لألحاسيس والنوعيات يف وقائع فعلية‪ ،‬فام كان‬ ‫ُّ‬ ‫التحقق‬


‫ُ‬ ‫متثل الـثانيانية مقولة للوجود بالفعل‪ّ .‬إهّنا‬
‫ويتحنَّي ويتجسد يف الثـانيانية؛ ليتخذ لنفسه موق ًعا داخل اإلدراك‬
‫َّ‬ ‫يف األوالنية جمر ًدا ال موصو ًفا وال عين ًيا‪ ،‬يتح َّيز‬
‫اإلنساين‪ .‬إِ ِّن االنتقال إىل الوجود الفعيل «معناه دخول الفضاء ودخول الزمان‪ ،‬ومعناه ً‬
‫أيضا االنتقال من املتصل إىل‬
‫الاَّل متصل‪ .‬فمن الغموض وال َّلبس واإلهبام ننتقل إىل الوجود الفعيل‪ ،‬أي ننتقل إىل وجود تكون فيه األحاسيس‬ ‫َّ‬
‫ُدرك إال متحيزة يف املكان ومتعاقبة يف الزمان» (بنكَراد‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وقائع حمددة [‪ ]...‬فاألشيا ُء ال ت َ‬ ‫َ‬ ‫والنوعيات جمسدة يف‬
‫السميائيات والتأويل ‪.)63-62‬‬

‫‪109‬‬ ‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬
‫َو َهك ََذا‪ ،‬فإذا كانت معطيات األوالنية‪ ،‬كامنة يف الداخل املجرد‪ ،‬فإن الثانيــانية تفرغها يف وقائع عينية‬
‫خارجية‪ ،‬إال أهنا تبقيها خارج حدود التصنيفات والتحيزات الثقافيـة‪ ،‬والدينية‪ ،‬واالجتامعية وغريها‪ .‬بمعنى أهنا‪،‬‬
‫جتسدُ الوجو َد الصافـي الربيء والعاري من كل التهــم‪ .‬وكأن األمر متعلق بـ «الطبيعـة خارج إكـراهات الثقافة‪،‬‬
‫والتعيــني خارج إكــراهات الفــهم والتجــريد» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات‪ :‬النشأة واملوضوع ‪.)32‬‬
‫استنا ًدا إىل ذلك‪ ،‬فالثانيانية تعمل عىل نقل الكيفيات والنوعيات‪ ،‬من حالتها املتصلة واملنفلتة لتضعها يف‬
‫وقائع وعينيات‪ ،‬بموجب التقطيع واملفصلة‬ ‫الواقعي‪ .‬إِ َّهَّنا تعمل عىل حتيني األحاسيس والنوعيات يف‬ ‫ِ‬
‫الوجود‬ ‫خانات‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫واحلرص والتقييد والوصف والتحديد يف حاالت فردية قابلة للتجريب‪ .‬متا ًما كام يف التحقق الفعلـي ل َّلون األسـود‬
‫يف «اهلُنا» و»اآلن» دون اعتبار ألي مضـاف ثقايف هلذا اللون‪ ،‬أي دون استدعاءاته الثقافية كاحلداد واحلزن والظالم‬
‫وغريه مما يف الذاكرة الثقافية ل َّلون األسود‪.‬‬
‫َوإِ َذا ظ ّلت الوقائع معزولة ومستقلة يف هذا النمط من الوجود‪ ،‬دون الدخول يف عالقة مع عنرص ثالث‪َّ ،‬‬
‫فإهَّنا‬
‫ُمهدَّ د ٌة باالنتفاء أو النسيان‪ .‬وبعبـارة ُأخرى‪َ ،‬فإِ َّن اجلوهر القابل للتعميـم سيتالشى‪ ،‬ولن نحتفظ من الوقائع سوى‬
‫بصور استهامية غامضة وعرض ّية‪ ،‬ستزول بزوال الوقائع الفعلية‪ .‬والسبيل الكفيل لضامن تواصل تفاعيل‪ ،‬ومنح‬
‫العالقة بني األول والثاين أبعا ًدا فكرية قانونية‪ ،‬هو وجود الثالثـانية‪.‬‬

‫‪1.3.‬اإلدراك عبر الوسيط‪ :‬وساطة الفكر بين اإلمكان والتحقق‬

‫فعل مركب يتضمن ثالث مستويات وجود ّية‪ ،‬أوالنية (اإلمكان النوعي‬ ‫إن السريورة اإلدراكية عند بورس‪ٌ ،‬‬
‫املوضوعي) حتيل عىل ثانيانية (الوقائع الفعلية) عرب ثالثانية (القانون والفكر)‪ .‬إن الوجود َيم ُث ُل أمامنا يف مرحلة أوىل‬
‫بوصفه نوعيات وكيفيات‪ ،‬ثم يمثل يف مرحلة ثانية بصفته وقائع صافية‪ ،‬ليمثل أمامنا يف مرحلة ثالثة باعتباره نامذج‬
‫تشتغل كقاعدة أو وسيط نسقي حيدد العالقة بني األول والثاين‪ ،‬ويضمن‬ ‫ُ‬ ‫ُمصنَّفة ثقاف ًيا و ُمؤ َّطرة نسق ًيا‪ .‬إن الثالثانية‬
‫االنتقال منه ِ‬
‫إليه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ُمُت ِّثل الثالثانية مقولة «التوسط اإللزامي»‪ ،‬الذي حيول العامل املادي والطبيعي‪ ،‬إىل عامل ثقايف بقيم رمزية وداللية‪.‬‬
‫جرسه للعبور من الطبيعة إىل الثقافة‪ .‬إن‬ ‫َ‬ ‫إهنا ُجُت ِّسد سعي اإلنسان إىل فهم الكون وامتالكه ذهن ًيا وثقاف ًيا‪ُ ،‬‬
‫ومُت ِّثل‬
‫السنـَن كتكثيف ملجموع التجـارب‬ ‫الثـالثـانية هي الوسيط الذي خت َّلص به اإلنسان «من التجـربة الفردية وإسقـاط ُ‬
‫يتم إال من خالل الثـالث‪ .‬إننـا نعيش األحاسيس ونعيش الوجود‬ ‫الفـردية؛ ذلك أن اإلمسـاك باألول والثـاين ال ُّ‬
‫من خالل هذه املقولة» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات والتأويل ‪.)68‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وس ْم َيأته‪ ،‬أي مكنته من‬ ‫األساس‪ ،‬فمقول ُة الثالثانية‪ ،‬هي التي مكنت اإلنسان من َم ْف َه َمة الكون َ‬ ‫َو َع َىَل هذا‬
‫تقطيعه وتصنيفه داخل عوامل رمزية مفهومية‪ .‬لقد منحته القدرة عىل تغليف الطبيعة بالثقافة والفكر‪ ،‬والقدرة عىل‬
‫إن الثالثانية ُمُت ِّث ُل «وسي ًطا مجع ًيا لتحويل الطبيعي إىل ثقايف؛‬
‫جتريد النامذج من احلاالت‪ ،‬والقوانني من التجارب‪َّ .‬‬
‫سمى ساب ًقا انطبـا ًعا‬
‫ليندرج يف صيغة ُسننية قابلـة للتعمـيم والتجريـد – أي القـانون – وتغدو الواقعـة أو ما كان ُي َّ‬ ‫َ‬
‫أول ًيا‪ ،‬عالمة قابلة للحياة واالستمرار والتداول‪ ،‬وبصيغة شبه هنائية‪ ،‬فإن الثالثانية هي مقولة الفكر واملفهمة‬
‫والتدجني والسريورة التدليلية» (عودة ‪.)7‬‬

‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬ ‫‪110‬‬
‫ٍ‬
‫بنموذج عام نعمل عىل جتريده‬ ‫بموجب الثالثـانية نستطيع جتاوز حمدودية التجربة الفردية واحلالة األحادية‬
‫ثم تعميمه‪ .‬ويشكل هذا النموذج التجريدي العام تكثي ًفا لعدد من احلاالت وعدد من التجارب السابقة‪ ،‬ويمثل‬
‫اخللفية املعرفية أو اإلطار القانوين الذي تُؤتَى يف ضوئه احلاالت والتجارب الالحقة‪ .‬إن استيعاب العامل الواقعي‬
‫كتصورات فكر ّية‪ ،‬ال يتأتَّى إال من خـالل «خطـاطات ثقـافية» معقدة حترض يف الذهـن‪ ،‬وتشكل «أسننا للتعـرف»‬‫ٍ‬

‫ينظر إىل الواقع يف حرفيته‪ ،‬بل إِنَّــ ُه ينظر‬


‫عىل العالـم اخلارجي بكـل عنارصه وتأليفاته‪ .‬وهـذا يعني‪ ،‬أن اإلنسـان ال ُ‬
‫إليه وبالرضورة‪ ،‬انطالقـًا من وسائط الذاكرة الثقـافية‪ .‬فالعيـن التي تنظـر ً‬
‫مثاًل‪ ،‬ليست عينًا مشدود ًة إىل وظيفتـها‬
‫فهي ال تنظر إىل األشيـاء باعتبار وجودها‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫البيولوج ّية البسيطة‪ .‬بل إِ َّهَّنَا ٌ‬
‫عني ذات خلفية معرفية وذاكرة ثقافية‪َّ ،‬‬
‫املوضـوعي‪ ،‬وإنام تنظر إليها انطال ًقا من منافذ االنفعال والتفاعل‪.‬‬

‫وهكذا‪َ ،‬فإِ َّن حضور الثالثـانية داخل السريورة اإلدراكية يعني القبض عىل الوجود املنفلت‪ .‬يعني نو ًعا من‬
‫التثبيت والتنميط والنمذجة؛ ألن أية حمـاولة لتحـديد اإلدراك من خالل ما توفره األوالنية والثانيانية فقط‪ ،‬لن تقود‬
‫كائن حلظـي ساذج‪ ،‬أفعاله وانفعاالته‬‫إال إىل العبث‪ ،‬أي إىل تصور كائن برشي بال ذاكرة وال ماض وال مستقبل‪ٍ ،‬‬
‫جمرد استجابات ملثيـرات حلظـية بسيطة مؤقتة وآنية‪ .‬عىل هذا قامت احلاجة إىل الثالثانية؛ لتغطي املايض واحلارض‬
‫ٍ‬
‫إعامل للذاكرة بام فيها من‬ ‫ً‬
‫مستحياًل من غري‬ ‫ولتستوعب املمكن ً‬
‫فضاًل عن الواقع‪ .‬ولعل هذا سيكون‬ ‫َ‬ ‫واملستقبل؛‬
‫القانون والفكر‪ .‬وهبذا سيتحول اللون األسود واحلزن واحلرب واملوت ً‬
‫مثاًل‪ ،‬إىل وحدات رمزية يف مستودع ثقايف‬
‫ما‪ ،‬داخل حقل داليل واحد‪ ،‬يتم حتيينها وتستدعي بعضها هبذا االعتبار‪.‬‬

‫السياق‬ ‫طبيعة املدركات‬ ‫طبيعة الوجود‬ ‫املستوى‬ ‫املقولة‬


‫خارج الزمن واملكان‬ ‫أحاسيس ونوعيات‬ ‫الوجود بالقوة‬ ‫املمكن‬ ‫األوالنية‬
‫األشياء واألشخاص والوقائع‬
‫داخل الزمن واملكان‬ ‫الوجود بالفعل‬ ‫الواقع‬ ‫الثانيانية‬
‫واألحداث وكل املوجودات العينية‬
‫فوق الزمن واملكان‬ ‫األفكار واملفاهيم والقوانني‬ ‫الوجود يف الذهن‬ ‫الفكر‬ ‫الثالثانية‬
‫الشكل رقم‪)1( :‬‬

‫مثال (‪)2‬‬ ‫مثال (‪)1‬‬ ‫املقولة‬


‫أسمع عن يشء ال أعرفه‬ ‫إمكانية الفعل‬ ‫األوالنية‬
‫هو ذا أمامي اآلن‬ ‫أنا أفعل‬ ‫الثانيانية‬
‫أنا أعرفه يف غيابه‬ ‫كيف فعلت؟ وكيف ستفعل؟‬ ‫الثالثانية‬
‫الشكل رقم‪)2( :‬‬

‫‪111‬‬ ‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬
‫‪2.‬العال َم ِة السميائية‪ :‬اإلحالة والتوسط اإللزامي‬

‫تصورات بورس للعالمة‪ ،‬فاحلدُ و ُد التي‬


‫ُ‬ ‫تشكل نظر َّية املقوالت الفينومينولوجية‪ ،‬األساس الذي ستقوم عليه‬ ‫ُ‬
‫تستوعب الوجود عرب ثالثة مستويات لإلدراك‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ملقوالت‬ ‫ٍ‬
‫جتسيد‬ ‫ِ‬
‫حقيقة األمر – سوى‬ ‫رسمها هلا‪ ،‬ال تشك ُِّل – يف‬
‫ُ‬
‫إن التعريف الذي يقدمه بورس للعالمة ال ُيشكِّل «سوى الوجه املرئي اإلجرائي لرؤية فلسفية‪ ،‬ترى يف التجربة‬
‫اإلنسانية كلها كيانًا ُمن َّظ ًاًم من خالل املقوالت الثالث‪ ،‬التي تشري إىل سريورة إدراكية غري مرئية‪ ،‬وهي مقوالت تُعدُّ‬
‫أصل ومنطلق إدراك الكون وإدراك الذات وإنتاج املعرفة وتداوهلا» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات‪ :‬مفاهيمها وتطبيقاهتا ‪.)59‬‬
‫ثالث‪ ،‬وهذه السريورة السميائية‬ ‫ثان عرب ٍ‬‫تنطلق من أو َل إىل ٍ‬
‫ُ‬ ‫إن العالمة عند بورس عبارة عن سريورة تدليلية‪،‬‬
‫َّ‬
‫هي ما ُيطلق عليه «سميوزيس»‪ ،‬والسميوزيس هو السريورة التي يشتغل من خالهلا يش ٌء ما كعالمة‪ .‬فلكي تصبح‬
‫واقع ٌة ما أو يش ٌء ما عالم ًة منتجة لدالالت معينة‪ ،‬ينبغي توفر ثالثة عنارص أساسية‪( :‬ماثول حييل عىل موضوع‬
‫بتوسط مؤول)‪ .‬إن العالمة هنا كيان ثالثي األبعاد‪ .‬وإذا كانت العالمة عند سوسري عبارة عن كيان ثنائي قوامه ّ‬
‫الدال‬
‫واملدلول؛ فإن عملية التدليل عند بورس‪ ،‬ال تستقيم إال من خالل سريورة تدليلية ثالثية‪ ،‬قوامها اإلحالة والتوسط‪،‬‬
‫تقود إىل إنتاج الدالالت وتداوهلا بعـيدً ا عن الربط املبارش أو اإلحالة املبارشة‪ .‬إن العالمة بالفهم السميائي عبارة‬
‫ٍ‬
‫ُوجه إىل الشخص‬ ‫عن يشء ما بالنسبة لشخص ما‪َ ،‬حَت ُّل حمل يشء ما يف إطار عالقة ما‪ ،‬أو يف إطار قانون ما‪ ،‬إهنا ت َّ‬
‫يشء ما – أي‬ ‫وختلق يف ذهنه عالمة معادلة أو ربام جد مبسطة وتسمى مؤوال داخل العالمة األوىل‪ .‬وهي حتل حمل ٍ‬
‫ِّ‬
‫حمل موضوعها – إهنا حتل حمل هذا املوضوع ال حسب كل العالقات‪ ،‬بل باإلحالة عىل نوع من األفكار التي يمكن‬
‫أن متثل عامد التمثيل‪( .‬علوي‪ ،‬السميولسانيات ‪)228‬‬
‫إن الكون اإلنساين – بشتى مكوناته وجزئياته – ال َّ‬
‫يتجىَّل إال عرب هذه السريورة التدليلية‪ ،‬وال يمكن إدراكه‬
‫إال من خالهلا؛ ذلك أنه «ال يشء يوجد خارج العالمات أو بدوهنا‪ ،‬وال يشء يمكن أن يدل اعتام ًدا عىل نفسه دون‬
‫االستناد إىل ما توفره العالمات كقوة للتمثيل‪( ».‬بنكراد‪ ،‬السامئيات والتأويل ‪ .)72‬إننا يف كل حلظة وعي أو إدراك‬
‫ارَصين بوابل من العالمات‪ ،‬يف كل األماكن واألوقات‪ ،‬ومن كل املنافذ واجلهات‪ .‬حتى إننا «رصنا‬ ‫نجد أنفسنا ُحُم َ‬
‫سجناء الكون العالمي‪ ،‬بل رصنا – من دون أن ندري – عالمات وسط عالمات أخرى» (إيكو‪ ،‬السميائيات‬
‫وفلسفة اللغة ‪.)13‬‬
‫ال وجود إذن‪ ،‬لألشياء خارج العالمات‪ .‬لكن ليست هناك عالمة أصلية إال يف إطار البعد الثالثي للتدليل‪،‬‬
‫تصورا دقي ًقا‪،‬‬
‫ً‬ ‫أي يف إطار السميوزيس أو السريورة السميائية (دولودال‪ ،‬تنبيه لقراء بورس ‪ .)113‬وقد قدم بورس‬
‫لتفسري طريقة اشتغال هذه العالمة‪ ،‬فهي ماثول (ما يقوم بالتمثيل) حييل عىل موضوع (اليشء املمثل) عرب مؤول‬
‫(التوسط اإللزامي)‪ .‬ولكي يتحقق اإلمكان املعريف عند اإلنسان‪ ،‬ينبغي أن تتضافر هذه العنارص الثالثة؛ ألن‬
‫تضافرها هو السبيل الوحيد إلنتاج املعرفة واستهالكها وهو السبيل أيضا لتخزينها وتذكرها‪.‬‬
‫ينبغي أن نشـري إىل أن بنية العـالمة الثالثية مثلها مثل املقـوالت الفينومينولوجية‪ ،‬تشتغل باعتبارها ك ًُاًل أو‬
‫حد ًة ال تتجزأ‪ ،‬وليس الفصل بني عنارصها إال ً‬
‫فصاًل إجرائ ًيا‪ ،‬يستقيم يف التنظري وال يستقيم يف املامرسة‪.‬‬

‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬ ‫‪112‬‬
‫‪2.1.‬منطلق اإلحالة‬

‫يشكل املاثول ُمنطل ًقا للسريورة التدليلية‪ .‬إنه أداة التمثيل باألساس‪ ،‬ودوره ال يقترص إال عىل التمثيل؛ فهو ال‬
‫يعرف شي ًئا وال يساعد عىل تعميق املعرفة بيشء‪( .‬دولودال‪ .)81 ،1979 ،‬إن املاثول هو «األداة التي‬ ‫يعني شي ًئا وال ِّ‬
‫ٍ‬
‫نستعملها للتمثيـل لشـيء آخر‪ ،‬أو هو يشء حيل حمل يشء آخر» (إيكو‪ ،‬التأويل بني السميائيات والتفكيكية ‪.)140‬‬
‫رتض أو «كحاجز عريض ننتقل من خالله إىل يشء آخر استنا ًدا إىل قــاعدة عامة سابقة‪( .‬بنكراد‪،‬‬ ‫يشتغل كمنطلق ُمف َ‬
‫السميائيات‪ :‬النشأة واملوضوع ‪َ .)36‬و َقدْ حدّ ده بورس بقوله‪« :‬العالمة أو املاثول هو يشء حيل حمل يشء آخر‪ ،‬بالنسبة‬
‫نموا‪ .‬إن هذه العالمة التي يولدها‬
‫لشخص ما بأي صفة وبأي طريقة‪ .‬إنه ّيولد عنده عالمة مواكبة أو عالمة أكثر ً‬
‫ؤوال للعالمة األوىل‪ ،‬وهذه العالمة حتل حمل يشء ما هو موضوعها» (داسميث ‪ .)120‬وهبذا االعتبار‪ ،‬فإن‬ ‫أسميها ُم ِّ‬
‫املاثول هو ما يطابق البداية املفرتضة أو احلد األوالين يف نظرية املقوالت‪ ،‬فهو لن يتحقق إطال ًقا إال من خالل ّ‬
‫حتينّي‬
‫طاقاته التمثيلية داخل موضوع معني‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬ونشري إىل أن املاثول يمكن أن يشتغل داخل عوامل التمثيل عىل اتساعها وتنوع أنساقها‪ ،‬إنه ال يقترص عىل‬
‫الدال السوسريي‪ .‬بل‪ ،‬إنّه يغطي كل جماالت الوجود اإلنساين وكل أنواع‬ ‫الوقائع اللسانية فحسب‪ ،‬كام هي احلال مع ّ‬
‫التمثيل الثقايف بام فيها من أنساق لسانية وغري لسانية‪ .‬كام ينبغي أن نشري إىل أن املاثول ليس ردي ًفا نظر ًيا مطاب ًقا ّ‬
‫للدال‬
‫الدال يف سياق احلديث عن املاثول عىل سبيل املقارنة فقط؛ ولكن إذا تعلق األمر‬ ‫عند سوسري‪ .‬يمكن أن نستحرض ّ‬
‫الدال العتبارات متعددة‪ ،‬ومنها أن إحالة املاثول عىل موضوعه «ال تلغي إمكان‬ ‫باحلد الدقيق‪ ،‬فأكيد أن املاثول يباين ّ‬
‫قاباًل للتجزيء وفق مبدأ املقوالت العامة نفسه‪ :‬أوالنية املاثول وثانيانية‬ ‫استمراره يف احلياة ككيان مستقل باعتباره ً‬
‫املاثول وثالثانية املاثول» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات والتأويـل ‪ .)80‬بمعنى أنه يمكن أن ننظر إليه باعتباره عالمة قائمة‬
‫بذاهتا‪ ،‬بعدما كان جمرد عنرص داخل عالمة‪.‬‬

‫‪2.2.‬موضوع اإلحالة‬

‫يتعلق األمر هنا بموضوع اإلحالة يف سياق تواصيل معني‪ .‬فاملوضوع هو موطن حت ّيني الطاقات التمثيلية للامثول‬
‫تخياًل أو ً‬
‫قاباًل‬ ‫ٍ‬
‫وبشكل أوضح «ما يقوم املاثول بتمثيله‪ ،‬سواء كان هذا اليشء ا ُملم َّثل واقع ًيا أو ُم ً‬ ‫يف «اهلُنا» و»اآلن»‪ .‬إنه‬
‫للتخيل‪ ،‬أو ال يمكن ختيله عىل اإلطالق» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات‪ :‬مفاهيمها وتطبيقاهتا ‪.)65‬‬
‫طلق عليها بورس العامد‬ ‫ثم إن إحالة املاثول عىل املوضوع ال تتم من غري ناظم‪ ،‬بل تتم بموجب فكرة مسبقة ي ِ‬
‫ُ‬
‫أو أساس التمثيل‪ .‬والعامد «هو الزاوية التي يتم من خالهلا انتقاء موضوع العالمة‪ ،‬فالتمثيل الواحد ال يمكن أن‬
‫يستوعب جممل معطيات املوضوع من خالل إحالة واحدة» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات النشأة واملوضوع ‪ .)35‬وهكذا‪،‬‬
‫فإن العامد عبارة عن «انتقاء خاص يتم وفق وجهة نظر معينة‪ ]...[ .‬إن العامد عىل هذا األساس‪ ،‬حيدد من جهة (أوىل)‬
‫ما هو متحقق داخل العالمة؛ وذلك بطريقة مبارشة‪ ،‬كانتقاء خاص يرتك بالرضورة سلسلة أخرى من املعارف‬
‫رتض وقابل للتحقق ضمن سياق حمدد‪»...‬‬ ‫جان ًبا‪ .‬وحيدد من جهة ثانية‪ ،‬بطريقة غري مبارشة هذه املرة‪ ،‬ما هو ُمف َ‬
‫(بنكَراد‪ ،‬السميائيات والتـأويل ‪.)84‬‬

‫‪113‬‬ ‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬
‫بامثول ما‪ ،‬فهو ال حييل عىل ما يريد متثيله فقط‪ ،‬بل إنَّه مع عملية التمثيل هذه‪ ،‬تترسب‬ ‫ٍ‬ ‫َفإِ َذا َما مثل أحدهم‬
‫تم ًاًل وجـودها عىل كل حال‪.‬‬ ‫معطيات تتجاوز حدود التمثيل املبارش؛ عن قصد أو من غري قصد‪ ،‬ويظل التمثيل ُحُم ِ‬
‫قياًم داللي ًة إضافي ًة ومواكب ًة تتجاوز حدود التمثيل البسيط إىل مستوياته‬
‫وبالتايل فهذه األشياء الكامنة يف التمثيل تشكل ً‬
‫الكثيفة واملعقدة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مبارش إىل ما ختتزنه‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫ينطوي املوضوع إذن‪ ،‬عىل معرفتني خمتلفتني‪ :‬أوهلام معرفة داخلية‪ ،‬وهي معرفة ُ ِ‬
‫حُتيل‬ ‫ّ‬
‫العالمة‪ ،‬دونام استحضار للتجربة اإلنسانية‪ .‬إهنا معرفة ال تتجاوز حدود املشرتك املوضوعي يف العالمة‪ .‬وثانيهام‪،‬‬
‫فرتضة‪ ،‬ترتبط بام يسميه بورس بالتجربة الضمن ّية‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬يمكن التمييز يف‬ ‫معرفة خارج ّية‪ ،‬وهي معرفة ُم َ‬
‫املوضوع بني موضوعني‪ :‬موضوع مبارش وهو ما ُيشكِّل ا ُملع َطى املبارشة يف العالمة‪ ،‬وهو حاصل التمثيل البسيط‪،‬‬
‫وموضوع ديناميكي يم ِّثل كل املعطيات الضمنية الكامنة يف العالمة وا ُمل ِ‬
‫واكبة للتمثيل‪ .‬وإذا أخذنا املتوالية الصوتية‬ ‫ُ‬
‫مثاًل‪ ،‬فإننا سنكون أمام موضوعني خمتلفني‪ :‬األول ُمع َطى من خالل ما تقوله العالمة بشكل مبارش‪ :‬البحر‬ ‫«البحر» ً‬
‫باعتباره امتدا ًدا جغراف ًيا ًا ُمق َّع ًرا ًا‪ ،‬يغمره املاء املالح‪ ،‬ويضم يف أغواره شتى أنواع األسامك والكائنات‪ .‬أما الثاين‪ ،‬فهو‬
‫بحث يف الذاكرة اإلنسانية عام يعنيه البحر‪ :‬إِ َّن ُه اجلامل واحلب والصفاء والعزلة‪ ،‬واملوت‪ ،‬واخلوف والغواية‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫وعليه‪ ،‬فإن املوضوع باعتباره ثاين ثالثية التدليل‪ ،‬كيان يتسم بالكثافة وبالغنى‪ ،‬وال يمكن لفعل التمثيل يف‬
‫حركيته املبارشة نحو املوضوع أن يستوعب كل عنارص هذا املوضوع‪ .‬إن عملية التمثيل تظل حمدودة إذا بقيت يف‬
‫فو ُت الكثري‪ .‬إن التمييز بني املوضوع املبارش واملوضوع‬
‫املستوى املبارش‪ .‬فاملاثول يف طريق إحالته عىل املوضوع ُي ِّ‬
‫واضحا عىل أن «الواقع يتجاوز العالمة‪ ،‬وأن العالمة من خالل إمكاناهتا الذاتية غري قادرة‬
‫ً‬ ‫الديناميكي يمثل ً‬
‫دلياًل‬
‫عىل إعطاء متثيل ك ُِّيِّل وتا ٍّم للعامل اخلارجي‪ .‬فعملية التمثيل بحكم هذا القصور‪ ،‬ال يمكن أن تكون إال جزئية‪ .‬إهنا‬
‫ترتك جان ًبا سلسلة من املظاهر ال تستقيم داخل هذا التمثيل؛ ذلك أن هذا التمثيل يتم داخل سياق خاص» (بنكَراد‪،‬‬
‫السميائيات والتأويل ‪.)86‬‬

‫‪2.3.‬المؤ ِّول أو الوسيط اإللزامي‬

‫املؤول العنرص الثالث يف نسيج السميوزيس أو العالمة؛ حيث ُحُييل املاثول عىل املوضوع عرب املؤول‪،‬‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يشكل‬
‫وهذا يعنى أن املؤول عنرص توسطي‪ ،‬يقوم بالربط بني املاثول واملوضوع‪ .‬إن عملية التدليل لن تتأتَّى أبدً ا إال بوجود‬
‫املؤول كوسيط يضمن الربط بني األول والثاين‪ ،‬ويعمل عىل تنظيم اإلحالة بينهام؛ لرييس الدعائم األولية التي سيقوم‬
‫عليها التدليل واالستدالل‪.‬‬
‫ينبغي أن نؤكد أن املؤول هنا ليس هو الذات املؤولة‪ ،‬إنام هو التأشرية أو الوسيلة التي ستضع التدليل عىل مسار‬
‫ً‬
‫ماثواًل‬ ‫الالتوقف والالتناهي؛ حيث تتواىل اإلحاالت وترتاكم العالمات؛ وحيث ال يكون املؤول شي ًئا آخر غري كونه‬
‫جديدً ا‪ ،‬يكون له بدوره مؤوله اجلديد‪( .‬علوي‪ ،‬حدود الفهم ‪ )33‬إِ َّن املؤول إذن ليس ذاتًا فاعل ًة؛ إنام هو الوسيط‬
‫املؤدي إىل التأويـل‪ ،‬والوسيلة التي تتيح للسريورة التدليلية انطالقها واستمرارها‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن السريورة التدليلية‪ ،‬ليست حركية ثنائية مبارشة من أول إىل ثان‪ .‬إهنا سريورة غري مبارشة‪ ،‬من أول‬

‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬ ‫‪114‬‬
‫إىل ثان عرب ثالث رضوري‪َ .‬وإِ َذا افرتضنا‪ ،‬أن عملية التدليل عملية ثنائية التكوين‪ ،‬فإننا سنكون بإزاء معارف سطحية‬
‫بسيطة وساذجة‪ .‬إن حضور املؤول كعنرص ثالث داخل السميوزيس‪ ،‬معناه القبض عىل ذاكرة األشياء والوقائع‪،‬‬
‫بموجب ما حيدث يف الفكر من تقليص وجتريد وتعميم؛ لتغدو رصيدً ا ثقاف ًيا ورمز ًّيا ً‬
‫قاباًل لالستحضار والتذكر‪،‬‬
‫وطاق ًة فكري ًة قادر ًة عىل االستمرار يف الوجود‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن املؤول يشكل انفالتًا من رصامة وضيق الوجود العيني‪ ،‬إِ َّن ُه يقوم بتحرير الواقع من قيوده املادية؛‬
‫عامَلٍ‬ ‫ٍ‬
‫رمزية‪ ،‬متثل بدائله الثقافية‪ .‬ذلك؛ أل َّن ُه «ال يوجد سوى َ‬ ‫ٍ‬
‫أشكال‬ ‫ليعيدَ بناءه رمز ًّيا‪ ،‬عن طريق تقطيعه وختزينه يف‬
‫واحد واإلنسان جزء منه وال يتميز عنه إال بالتجريد‪( »...‬دولودال‪ ،‬تنيبه لقراء بورس ‪.)112‬‬ ‫ٍ‬

‫يستوعب َّ‬
‫كل معطيات املوضوع يف حركة واحدة؛ ذاك‬ ‫َ‬ ‫إِال َأ َّن ُه ينبغي َأن نُشري أيضا إىل َأ َّن املؤول ال يمكن أن‬
‫أن الكائن اإلنساين متعدد األبعاد‪ ،‬وال يمكن بأي حال من األحوال‪ ،‬أن نضعه يف خانة بعينها‪ .‬وهو ما يعني انفتاح‬
‫اإلنسان عىل إمكانات داللية تدليلية ال حرص هلا‪ ،‬فاإلنســان يف كثري من األحيان يمكن أن يكرس أنساقه‪ ،‬ويمكن‬
‫أن يتجاوز مواضعاته‪ ،‬كأن يعرض ما ال يقصد‪ ،‬أو يعني خالف ما يقول‪ .‬وهو – باإلضافة إىل ذلك – كائن تأويل‬
‫وآفاقه يف ذلك شاسعة وال متناهية‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬ليس هناك من ٍ‬
‫فعل تأوييل قادر عىل احتواء كل معطيات املوضوع دفعة واحدة ومن غري إقصاء‪َّ .‬‬
‫إن‬
‫تدخ َل املؤول كعنرص وسيط يف اإلحالة‪ ،‬يسمح من جهة‪ ،‬بإحالة املاثول عىل موضوعه‪ ،‬ولكنه من جهة ثانية‪ ،‬يعمل‬
‫ُّ‬
‫عىل «إبراز اهلوة الدائمة الفاصلة بني املاثول وموضوعه» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات والتـأويل ‪ .)94-93‬ولعل هذا ما دفع‬
‫بورس إىل التمييز بني ثالثة أنواع من املؤوالت‪ :‬املؤول املبارش‪ ،‬واملؤول الديناميكي‪ ،‬واملؤول النهائي؛ ولكن هذا ال‬
‫يعني أن هذه املؤوالت تشتغـل يف استقالل عن بعضهـا‪ ،‬إهنا مستويات ثالثة يف سريورة واحدة‪ُ ،‬ين َظر إليها باعتبارها‬
‫ً‬
‫كاًل ال يتحدد إال يف كليته‪.‬‬

‫‪2.3.1.‬المستوى المباشر‬

‫يتعلق األمر هنا باملؤول املبارش كعنرص تعرضه العالمة يف ظاهرها‪ ،‬إنه ما يوجد يف العالمة بشكل تقريري‪،‬‬
‫دونام البحث يف ذاكرة العالمة‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬إن املؤول املبارش ال يتجاوز حدود املشرتك املوضوعي أو ا ُملع َطى‬
‫الظاهر من فعل التمثيل‪ ،‬إنه «يعني املستوى املعنوي الذي تقرتحه العالمة نفسها‪ ،‬وهو ما نسميه عاد ًة بمعنى العالمة‬
‫[املبارش]‪( .‬بنكَراد‪ ،‬السميائيات‪ :‬مفاهيمها وتطبيقاهتا ‪.)69‬‬
‫َو َتك ُْم ُن وظيفة هذا املؤول إذن‪ ،‬يف إرساء نقطة االرتكاز التي ستستند إليها السريورة؛ من أجل االنطالق إىل‬
‫ِ‬
‫عوامل التأويل املتعدد والالمتناهي‪َ .‬ولنفرتض أننا أمام اجلملة التالية‪« :‬الزمن ُموح ٌش» فإن ِّ‬
‫املؤول املبارش لن يتخطى‬
‫حدود اإلقرار بأنه قد تم إسناد الصفة «موحش» إىل «الزمن»‪ ،‬إن هذا املؤول لن يسعف يف البحث عاَّم ي ِ‬
‫ضم ُره هذا‬ ‫َّ ُ‬
‫ضمرة‪.‬‬‫امللفوظ أو يوجد خارجه‪ ،‬بل سيوقفنا فقط عند طبقاته الداللية السطحية دون الغوص يف التفاصيل ا ُمل َ‬

‫‪115‬‬ ‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬
‫‪2.3.2.‬المستوى ال ِدين َ ِ‬
‫اميكي‬
‫ٍ‬ ‫ٍّ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫إِ َّن السريور َة التدليل ّية ال تكتفي بام هو موجو ٌد داخل العالمة‬
‫تقريري‪ .‬إ َّهَّنَا قابل ٌة لالمتداد إىل آفاق وعوامل َ‬ ‫بشكل‬
‫دالل ّي ٍة بالغة التعقيد والكثافة‪ .‬إن رغبة اإلنسان يف املعرفة واملزيد من املعرفة ُحُت ِّفزه للسعي وراء ما يكمن أو يضمر يف‬
‫العالمات‪ .‬وسيعمل من أجل ذلك عىل تسخري ذاكرته الثقافية‪ ،‬أي سيعمل عىل تسخري سابق املعرفة من أجل جديد‬
‫املعرفة‪ .‬فعوض أن تقف عند معنى واحد وهنائي‪ ،‬نجدها متتد إىل غريه من ممكنات التدليل ودون توقف‪.‬‬
‫ٍ‬
‫داللية بالغة الغنى والكثافة والتعقيد‪ .‬إهنا تتجاوز حدودها‬ ‫إِ َّن العالم َة بمجرد ما ت َ‬
‫ُعرض للتداول‪ ،‬تُل َقى يف عوامل َ‬
‫الداخلية ومعطياهتا النسقية والوضعية‪ ،‬تتجاوز ذلك إىل مالبسات التداول وسياقات التفاعل الثقايف‪ ،‬بام فيها من‬
‫االجتامعي والديني‪ ،‬والسيايس‪ ،‬واألخالقي وغريه‪ .‬إن العالمة عىل مستوى املؤول الديناميكي تتجاوز املعطيات‬
‫املبارشة املشرتكة والثابتة‪ ،‬إىل ما يكمن وراءها من التعدد واالختالف والالمتناهي‪.‬‬
‫وهبذا االعتبار‪ ،‬فإنه ال يمك ُن تصور عالمة مكتفية بذاهتا‪« ،‬فموضوع العالمة ال يمكن أن يكون إال عالمة‬
‫أخرى‪ .‬والسبب يف ذلك أن العالمـة ال يمكـن أن تكون موضو ًعـا لنفسها‪ ،‬إهنا عالمة ملوضوعها من خالل بعض‬
‫مظاهره» (بنكراد‪ ،‬مسالك املعنى‪ .)180-179 ،‬وهكذا‪ ،‬فإن العالمة تنمو وتتطور بشكل لولبي‪ ،‬وال يمكن أن‬
‫تفسريا لسعي اإلنسان املحموم وراء احلقيقة‪ ،‬وتعقبه آثارها من عالمة‬ ‫ً‬ ‫تتوقف‪ ،‬نظر ًيا‪ ،‬عند حد بعينه‪ .‬ولعل يف هذا‬
‫آخر‪ ،‬بدل االستقرار عىل داللة بعينها ال تُغني‪َّ ،‬إاَّل إىل حني‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫إىل عالمة أخرى ومن حد إىل حد َ‬
‫كمع َطى ٍ‬
‫سابق يتحقق يف‬ ‫إن فعل التأويل كحركية دائبة أهم من الفهم كنتيجة ثابتة‪ .‬إن الذي هيمنا ليس املعنى ُ‬
‫ٍ‬
‫كحاصل الحق يتحقق يف سياقه‪ .‬إن الذي هيمنا هنا هو السعي وراء املعنى‪ ،‬أو اإلجراء املؤدي إليه‪،‬‬ ‫ذاته‪ ،‬وال املعنى‬
‫طار ًدا‪.‬‬
‫أوصل أم مل يوصل‪ .‬إن التأويل هو األهم‪ ،‬أما املعنى فإنه سيظل هار ًبا وسيظل ُم َ‬
‫إن املؤول الديناميكي‪ ،‬يفتح باب التـأويل عىل مرصاعيه‪ ،‬ويستوجب البحث يف الذاكرة الثقافية‪ ،‬يستدعي‬
‫ضمر يف العالمة‪ ،‬يستحرض عوامل داللية ممكنة شاسعة‪ .‬إنّه يفجر العالمة لتغطي مساحات داللية‬ ‫الكامن وا ُمل َ‬
‫أوسع وتصل إىل حدود تأويلية أبعد‪ .‬فامدام «العامل الذي تشري إليه العالمات يتكون ويتفسخ داخل تضـاعيف‬
‫السميـوزيس»(فريون ‪ ،)71‬فإن منطـق اإلحالة قابل لالتساع حدَّ الالهنائي‪ ،‬والالهنائي بتعبري إيكو «هو الذي ال‬
‫يملك حدو ًدا‪ ،‬إنه ينزاح عن القاعدة» (إيكو‪ ،‬التأويل بني السميائيات والتفكيكية ‪ .)28‬وبدل أن ننظر إىل هذه‬
‫دلياًل عىل غنى‬‫غوصا يف متاهات الفهم‪ ،‬أو هرو ًبا من رقابة التدليل‪ .‬ينبغي النظر إليها باعتبارها ً‬
‫الالهنائية بوصفها ً‬
‫صارخا ًا عىل أصالة املنهج السميائي‪ ،‬الذي ال يقبل التثبيت وال التنميط َّإاَّل عىل‬
‫ً‬ ‫الفعل التأوييل‪ .‬ومن ثمة‪ً ،‬‬
‫دلياًل ًا‬
‫سبيل املواضعة‪.‬‬

‫‪2.3.3.‬المستوى النهائي‬

‫ُي َش ُ‬
‫كل املؤول النهائي نقطة مهمة يف حركية السميوزيس الال هنائية؛ فإذا كان املؤول الديناميكي يفتح السريورة‬
‫عىل آفاق تأويلية ممتدة وشاسعة‪ ،‬فإن املؤول النهائي يعمل عىل إيقاف السريورة‪ ،‬وحيد من امتدادها اجلامح؛ وذلك‬
‫خمصوص‪ ،‬لغايات تواصلية خمصوصة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بتقليص الكم الداليل اهلائل‪ ،‬وحرصه يف ٍ‬
‫سياق تواصيل‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬
‫إن «السميوزيس ال متناهية يف املطلق‪ ،‬إال أن غاياتنا املعرفية تقوم بتأطري وتنظيم وتكثيف هذه السلسلة غري‬

‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬ ‫‪116‬‬
‫ٍ‬
‫خطـايب‬ ‫داخل ٍ‬
‫كون‬ ‫َ‬ ‫ينصب اهتاممنا عىل معرفة ما هو أساس‬ ‫ا ُملحدَّ دة من اإلمكانات‪ .‬فمع السريورة السميوزيسية‬
‫ُّ‬
‫حمـدد» (إيكو‪ ،‬التأويل بني السميائيات والتفكيكية ‪ .)121‬إن احلاجة اىل االستقرار واألمان تدفع اإلنســان إىل‬
‫البحث عن ثوابت يمكن االطمئنان إليها‪ ،‬ولو إىل حني‪ .‬إن حاجته تلك تدفعه إىل البحث عن سبل للتفاهم‪ .‬ومادام‬
‫التأويل يف بعده الديناميكي ال يبعث إال عىل االختالف والتدافع؛ فإنه ينبغي البحث عن حل لتدبري هذا االختالف‬
‫وهذا التدافع‪ ،‬ينبغي أن نتدخل إليقاف سريورة التأويل الالمتناهية‪ .‬وأكيد أن هذا ال يتسنى إىل بعامل خارجي عن‬
‫السريورة ذاهتا‪ ،‬وعليه يقوم املؤول النهائي؛ ذلك ألن إيقاف السريورة ال يكون إال من خارجها‪ .‬إننا نوقف التأويل‬
‫ٍ‬
‫غايات تواصلية من أجل فه ٍم ما‪ ،‬وهذه غاية ذاتية سياقية وإسقاطية‪( .‬علوي‪ ،‬السميولسانيات ‪)223‬‬ ‫ألجل‬
‫إِال َأ َّن ُه ينبغي أن نشري‪ ،‬إىل َأ َّن املؤول النهائي هنا‪ ،‬ال يعني النهائية املطلقة‪ ،‬أو التوقف التام‪ ،‬إنام هو هناية أو‬
‫توقف إىل حني‪ .‬وكأن السريورة عىل طريق رسيع‪ ،‬بدايته مفرتضة‪ ،‬ولكن ليس من نقطة بعينها‪ ،‬وهنايته حمتملة؛ ولكن‬
‫ليست إىل نقطة حمددة‪ ،‬ورغم ذلك جتد عىل طوله حمطات اسرتاحة للتوقف إىل حني‪ .‬ولعلنا هبذا نشبه وقوف املؤول‬
‫بوقوف املسرتيح ال وقوف ا ُمل ِ‬
‫نتهي‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫سياق ما‬ ‫قياًم ًا دالل ّي ًة خاصة‪ ،‬فام ُي َّ‬
‫ؤول يف‬ ‫إن املعاين تتعدّ د باختالف السياقات التأويل ّية‪ ،‬وكل سياق يضفي ً‬
‫ؤول بالطريقة نفسها يف سياقات أخرى؛ فلكل ٍ‬
‫سياق دالالته ومعانيه‪ .‬إن ما ُيعترب هنائ ًيا عند أحدهم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة ما‪ ،‬ال ُي َّ‬
‫قد ال يكون كذلك عند اجلميع‪ .‬وما ُيعترب هنائ ًيا اآلن‪ ،‬قد ال يكون كذلك يف كل حال‪ .‬إن املؤول النهائي يتدخل يف كل‬
‫سياق بإيقاف السريورة عند فه ٍم بعينه‪ .‬إن «السميوزيس يف هرهبا من عالمة إىل عالمة أخرى‪ ،‬ومن توسط إىل توسط‬
‫عالمة ما‪ .‬حلظتها تبدأ احلياة ويبدأ الفعل‪( ».‬إيكو‪ ،‬العالمة‬‫ٍ‬ ‫َ‬
‫داخل‬ ‫آخر‪ ،‬تتوقف يف اللحظة التي ُّ‬
‫تنحل فيها العادة‬
‫‪ .)272‬وبتعبري آخر‪ ،‬إن «العادة جتمد مؤقتًا اإلحالة الالمتناهية من عالمة إىل عالمة أخرى؛ لكي يتسنى للمتكلمني‬
‫تشل السريورة السميائية» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات والتأويل ‪)153‬‬ ‫عنَّي‪ ،‬إن العادة ُّ‬
‫االتفاق عىل واقع سياق إبالغي ُم َّ‬
‫أمرا طارئًا تستوجبه احلاجة التواصلية والتفاعل‬
‫يبقى أن نشري‪ ،‬إىل أن إيقاف السريورة التأويلية ليست إال ً‬
‫ِ‬
‫اإلنســان يف الفهم والتفاهم؛ من أجل تنميطات وأنساق تضمن انتامءه وأمنه واستقراره‪،‬‬ ‫اإلنساين‪ ،‬تستوجبه رغبة‬
‫وبشكل أدق‪ ،‬إن اإلقرار بإمكانية إيقاف السريورة التأويلية عند ٍ‬
‫حد بعينه‪ ،‬ال ينفي التعدد واالختالف‬ ‫ٍ‬ ‫ولو إىل حني‪.‬‬
‫ُمط َل ًقا‪ ،‬وإنام ُيم ِّثل دعو ًة رصحي ًة لتدبري التعدد واالختالف‪.‬‬

‫األوالنية‬

‫املؤول‬

‫الثالثانية‬
‫الثانيانية‬
‫املوضوع‬
‫املاثول‬

‫الشكل رقم‪)3( :‬‬

‫‪117‬‬ ‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬
‫‪3.‬امتداد العالمة‪ :‬سيرورة التعدد واللَّاتناهي‬

‫َ‬
‫تكون‬ ‫ِ‬
‫للعالمة أن‬ ‫عنارص أساس ّي ٍة‪ ،‬ماثول وموضوع ومؤول‪ .‬وال ُي ْم ِك ُن‬ ‫ِ‬
‫ثالثة‬ ‫كل العالم ُة السميائية من‬ ‫َتت ََش ُ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫باإلحالة‬ ‫فضاًل عن ذلك – ال ِ‬
‫تكتفي‬ ‫هذه العنارص الثالثة‪ .‬إال أن السريورة التدليلية – ً‬ ‫تضافر ِ‬ ‫ِ‬ ‫كذلِ َك‪ ،‬إال من ِخ ِ‬
‫الل‬
‫إمكانات دالل ّية إضافية‪ .‬يمك ُن لكل‬ ‫ٍ‬ ‫كون دال ٍّيل ُأحادي البعد‪ .‬بل إِ ّهّنَا متتد لتَس ُقط خارج إسقاطاهتا البسيطة؛ لتتيح‬ ‫إىل ٍ‬
‫عنرص من عنارص العالمة الثالثية أن يشتغل هو نفسه كعالمة ثالثية‪ ،‬ويكون له أوله وثانيه وثالثه‪( .‬علوي‪ ،‬حدود‬
‫ود الفينومينولوجية الثالثة‬ ‫وبعبارة ُأخرى‪ ،‬يمكن أن ننظر إىل املاثول واملوضوع واملؤول‪ ،‬انطال ًقا ًا من احلدُ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الفهم ‪)32‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫عندئذ َأ َما َم ثالث زوايا للنظر من جديد‪« :‬زاوية املعطيات النوعية‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫سنكون‬ ‫ِ‬
‫اإلدراك‪ ،‬وبالتايل‬ ‫ِ‬
‫عمليات‬ ‫التي ت َُؤ ِّط ُر‬
‫الشعورية (األوالنية) وزاوية التحقق املفرد (الثانيانية) وزاوية القانون العام (الثالثانية)» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات‬
‫والتأويل ‪ .)108‬وهكذا‪ ،‬سيكون لكل ماثول ماثوله وموضوعه ومؤوله‪ ،‬وكذلك لكل موضوع وكل مؤول‪.‬‬
‫يتمثل يف عالقة العالمة بذا َهتا‪ ،‬واملستوى الثاين‬ ‫ُ‬ ‫ثالثة مستويات‪ :‬املستوى األول‬ ‫ِ‬ ‫رْب‬ ‫ِ‬ ‫إِ َّن‬
‫النظر إىل العالمة َيت ُّم َع ْ َ‬
‫َ‬
‫يتحدّ د يف عالقة العالمة بموضوعها‪ ،‬أما املستوى الثالث فيتحدد يف عالقتها بمؤوهلا‪ .‬وإن كل مستوى من هذه‬
‫يتألف منها‪ ،‬ففي عالقة العالمة‬ ‫ُ‬ ‫املستويات‪َ ،‬خَي َْض ُع لتوزي ٍع ثالثي آخر‪ ،‬تتحدّ د عىل إثره‪ ،‬أقسام ُه الفرع ّية الثالثة التي‬
‫بذاهتا‪ ،‬يمكن أن نم ّيز بني‪َ :‬عال َمة نوع ّية (أوالنية األوالنية)‪ ،‬و َعال َمة عينية (ثانيانية األوالنية)‪ ،‬و َعال َمة معيار ّية‬
‫(ثالثانية األوالنية)‪ .‬ويف عالقة العالمة بموضوعها‪ ،‬فيمكن أن نميز بني ثالثي آخر‪ :‬األيقون (أوالنية الثانيانية)‪،‬‬
‫واألمارة (ثانيانية الثانيانية) والرمز (ثالثانية الثانيانية)‪ ،‬أما يف عالقة العالمة بمؤوهلا فنميز بني‪ :‬الدعوى (أوالنية‬
‫الثالثانية)‪ ،‬التصديق (ثانيانية الثالثانية)‪ ،‬واحلجة (ثالثانية الثالثانية)‪ .‬إِال َأ َّن ُه من الرضوري أن نؤكد أن هذه العالمات‬
‫ليست منفصل ًة عن بعضها متا ًما‪ ،‬إِ َّهَّنَا قد تتداخل فيام بينها لتخلق أنام ًطا ًا جديدة من العالمات‪.‬‬

‫‪3.1.‬الثالثية األولى‬
‫ٍ‬
‫فرعية هي‪ :‬ال َعال َمة النوع ّية‪ ،‬والعالمة العينية‪ ،‬والعالمة املعيارية‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫عالمات‬ ‫يتعلق األمر هنا بثالث‬
‫أما العالمة النوع ّية فهي عبار ٌة عن «نوعية تشتغل كعالمة‪( »،‬إيكو‪ ،‬العالمة ‪ .)89‬من خالل النظر إل ّيها ِم ْن‬
‫تشتغل ضمن حــدود أوالنيتها‪ ،‬خارج السياق‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫املتحقق‪ ،‬بل‬ ‫تشتغل ال باعتبار وج ِ‬
‫ود َها الفعيل‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫زاوية أوالنيتها‪ .‬إهنا‬
‫ُ ُ‬
‫تفسريا‪ .‬إن‬
‫ً‬ ‫وقبل التحقق‪ .‬مثال ذلك‪ :‬األمل الذي يمكن أن نشعر به ألول مرة‪ ،‬دون أن نعرف له سب ًبا أو نجد له‬
‫ود اشتغاهلا ضمن نطاق أوالنيتها املفرتضة فقط‪ .‬إهنا ترتبط باألحاسيس األولية‬ ‫العالم ُة ال تكون نوعية إال يف حدُ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫كل جديد سياقي أو نسقي‪.‬‬ ‫ار َج إكراهات احلضور والتحقق الفعيل وقبل ِّ‬ ‫العامة واملجردة‪ ،‬وتشتغل َخ ِ‬

‫اخ َل حدود مرئ ّية عينية؛ لسبب بسيط‪ ،‬هو‬ ‫يشتغل يشء ما كعالمة نوعية‪ ،‬ال ينبغي أبدً ا أن يتحيز د ِ‬‫َ‬ ‫وعليه‪ ،‬كي‬
‫ّ َ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫الوجود األوالين الغامض واملجرد‪ .‬ثم إن «اإلحساس الغامض الذي يستحوذ‬ ‫ِ‬ ‫أن العالم َة النوع ّية تتشكل داخل‬‫َّ‬
‫فمثاًل ذلك األعمى قد أدرك جيدً ا بريق‬ ‫علينا وال نستطيع حتديد مصدره ُيشكِّل يف ُعرف بورس عالمة نوعية‪ً .‬‬
‫تداخاًل بني أشياء ال تنتمي إىل نفس النوع‪ ،‬ويتعلق األمر بجوهر‬ ‫ً‬ ‫اللون القرمزي عندما ش َّب َه ُه بصوت البوق‪ ،‬فخلق‬
‫عام موغل يف التجريد قد ال نتوصل أبدً ا إىل حتديد كنهه‪ .‬إن هذا اخللط هو الذي يولد العالمات النوعية»(بنكَراد‪،‬‬

‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬ ‫‪118‬‬
‫السميائيات والتأويل ‪.)111‬‬
‫مفرتض‪ ،‬بعيدً ا ًا عن إرغامات التحديد والوصف والتقييد‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حمتمل أو‬ ‫ٍ‬
‫كإمكان‬ ‫ُ‬
‫تشتغل‬ ‫بعاَلمة‬ ‫يتعلق االمر هنا َ‬
‫إحالتها تظل غامضة‪ ،‬وجوهرها يظل مستعص ًيا‪ ،‬كلام اقرتبنا‬ ‫َ‬ ‫ختتزن داخلها القدرة عىل اإلحالة‪ ،‬بيد َّ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫فهي عالمة‬
‫ؤجاًل؛ ذلك حال البدايات املفرتضة يمكن متثلها ويستحيل اإلمساك هبا أو عيشها؛‬ ‫منه ابتعد‪ ،‬ليظل اإلمساك به ُم ً‬
‫ذلك فقط ألهنا مفرتضة‪ .‬تلكم العالمة النوعية‪ ،‬ولعل توصيف السميائيني هلا بـ»أوالنية األوالنية»‪ ،‬ينطوي عىل ٍ‬
‫قدر‬
‫كبري من احلكمة والنباهة‪.‬‬
‫حتقق‬‫حمتمل‪ ،‬ب ّينام الثانية ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أما العالم ُة العينية فإهنا َخَتتلف عن ال َعال َم ِة النوع ّية اختال ًفا ًا كُل ًّيا ًا‪ ،‬فاألُوىل إِ ْمك ٌ‬
‫َان‬
‫وجُم َّس ٍد‪ .‬ومن َث َّمة‪ ،‬فالعالم ُة العينية‪،‬‬ ‫فعيل‪ ،‬إِ َّن األُوىل تتم ّيز بطاب ٍع عا ٍم وجمرد‪ ،‬يف حني تتميز الثـانية بطـاب ٍع خـاص ُ‬ ‫ٌّ‬
‫عالم ٌة حتقق فعيل سياقي‪ ،‬عكس العالمة النوعية‪ .‬إن العـالمة العينية هي «يش ٌء أو حدث يتمتع بوجود حقيـقي‪،‬‬
‫ويشتغـل كعـالمة‪ ».‬إهنا نسخة داخل نموذج جمرد [‪ ]...‬إن األمر يتعلق بتحقق ملموس» (إيكو‪ ،‬العالمة ‪ .)89‬إن‬
‫اخ َل أوع ّي ٍة متنحها وجو ًدا ًا فعل ًيا ًا ُمتح ِّق ًقا‬
‫باستدعاء النوعيات العامة والنامذج املجردة لتصبها د ِ‬ ‫ِ‬ ‫هذه العالمة تقو ُم‬
‫َّ َ‬ ‫ّ‬
‫العالمات‬
‫ُ‬ ‫تتجسد فيها‬ ‫ٍ‬
‫خلارطة‬ ‫ورسم‬ ‫ًا يف نسخ مفردة أو حاالت عينية خاصة‪ .‬إِ َّهَّنا حتديد للواقعة يف «اهلُنا واآلن»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫خمصوص‪.‬‬ ‫فعيل‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫داخل كون ٍّ‬
‫والتحديد السياقي‪ ،‬فالعالم ُة العينية ليست كذلك إِال ِيِف حدُ ِ‬
‫ود‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الضبط‬ ‫العالمة النوع ّية املنفلتة ِم َن‬ ‫ِ‬ ‫َو َع َىَل َعك ِ‬
‫ْس‬
‫ُ‬
‫سياق ُيتيح حضورها ويضمن عينيتها‪ ،‬وتستمدُّ منه ُو ُجو َدها و َفاعل ّيتها‪َ .‬ف َاَم معنى أن َي ُفو َه القايض بحك ٍم ما خارج‬ ‫ٍ‬
‫املقهى؟ إِ َّن ُحكم القايض ودفاع املحامي ال يستمدّ ان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قاعة املحكمة؟ َو َما معنى أن ُيدافع حما ٍم ما عن مته ٍم ما يف َ‬
‫يمنح العالم َة القدر َة عىل أن «تشتغل كامثول‬ ‫السياق ُه َّو َما ُ‬ ‫َ‬ ‫خمصوص وداخل ُه‪ .‬إِ َّن َه َذا‬
‫ٍ‬ ‫خالل ٍ‬
‫سياق‬ ‫ِ‬ ‫رشع ّيتهام إال من‬
‫ال من خالل العالمات النوعية‪ ،‬بل من خالل الفردنة اخلاصة وامللموسة التي ُمُتنح هلذه العالمات» (بنكَراد‪،‬‬
‫السميائيات والتأويل ‪.)114‬‬
‫طبيعة قانون ّي ٍة‪ .‬إِ َّهَّنَا تتجاوز النوع ّية‬
‫ٍ‬ ‫ختتلف عن العالمتني السابقتني‪ ،‬بكوهنا ذات‬ ‫ُ‬ ‫وأما العالمة املعيارية فإهنا‬
‫كل‬ ‫ِ‬
‫الفعيل‪ .‬إِ َّهَّنَا ت ََض ُعنَا َأ َما َم القانون أو النموذج العام الذي يصدق أو ينسحب عىل َّ‬ ‫ِ‬
‫التحقق‬ ‫والكيفية كام تتجاوز‬
‫ِّ‬
‫النسخ‪ .‬إِ َّن «سند العالمة املعيارية هو القانون والقاعدة ال الشعور والنوعية‪ ،‬وال النسخة العينية‪ .‬إن العالمة املعيارية‬ ‫ِ‬
‫هي قانون يشتغل كعالمة‪ .‬وهذا القانون هو يف األصل نتاج اإلنسان [‪ .]...‬إن العالمة املعيارية ليست موضو ًعا‬
‫نوع عام‪ ،‬نوع يدل من خالل ما تم التعارف عليه‪ ،‬وكل عالمة معيارية تدل من خالل جتسدها يف‬ ‫خاصا؛ ولكنها ٌ‬ ‫ً‬
‫حالة خاصة أطلق عليها نسخة» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات والتأويل ‪.)115‬‬
‫إن كل ما ينطوي عليه الفكر أو الكون الثقايف بأنساقه وقواعده الوضعية املودعة يف الذاكرة اجلامعية‪ ،‬يمكن أن‬
‫الطابع ال َعام واملجرد ليس‬ ‫هذا‬ ‫ٍ‬
‫كعالمات معيار ّية‪ .‬وعليه‪ ،‬فإِ َّن العالم َة املعيار َّية تتم ّيز بطابع عا ٍم وجمرد‪ ،‬إال َّ‬
‫أن َ‬ ‫يشتغل‬
‫َ‬
‫إن التجريد والتعميم هنا حيصالن عن جتربة مقصودة‬ ‫من طبيعة شعورية احتامل ّية‪ ،‬كام هي احلال يف العالمة النوع ّية‪َّ .‬‬ ‫ٍ‬
‫وموجهة من أجل بناء النامذج واألنساق‪ ،‬من أجل بناء الفكر والقانون‪ .‬إن التعميم والتجريد هنا ليس عىل حدِّ‬
‫االفرتاض واالحتامل واإلمكان‪ ،‬وإنام عىل حدِّ التثبيت والتقنني وااللتزام‪.‬‬

‫‪119‬‬ ‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬
‫ِ‬
‫خالل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫بأي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نسق‬ ‫األحوال‪ ،‬إال من‬ ‫حال من‬ ‫وعليه‪ ،‬فإن ال َعال َمة العينية ال ُي ْمك ُن أن َت ْكتَس َ‬
‫ب قيمت ََها وداللتها‪ِّ ،‬‬
‫قيم ُعرف ّي ٌة واعتباط ّي ٌة‪ .‬فالورق ُة البنك ّية‪ ،‬كام َو َّض َح ذلك‬
‫هي – يف الغالب األعم– ٌ‬ ‫قياًم دالل ّيـ ًة‪ّ ،‬‬
‫وضعي يثمنها ويمنحها ً‬
‫ٍ‬
‫عالمة‬ ‫«أمربتو إيكو»‪ ،‬عالم ٌة عينية وتنطوي عىل عالمة معيار ّية‪ .‬بمعنى‪« ،‬أن الورقة البنكية ال قيمة هلا إال من خالل‬
‫معيارا ًا ُعرف ًيا ًا َهَلَا‪.‬‬
‫ً‬ ‫اعدَ ِة الذهب يف الرصف‬‫تتخذ من َق ِ‬
‫ُ‬ ‫معيارية اعتباطية» (إيكو‪ ،‬العالمة ‪،)90‬‬

‫‪3.2.‬الثالثية الثانية‪ :‬األيقون واألمارة والرمز‬

‫العالمة األيقونية‪ :‬يرتبط املاثول باملوضوع يف العالمة األيقونية بموجب ما بينهام من تشابه؛ ذلك أن األيقون‬
‫«عالمة ُحُتيل عىل موضوعها وفق تشابه يستند إىل تطابق خصائصها مع بعض خصائص هذا املوضوع‪( .‬إيكو‪،‬‬
‫العالمة ‪ )91‬إن العالمة متتلك خاصيتها األيقونية بفعل التشابه املمكِّن بني ماثوهلا وموضوعها‪ .‬ومثال ذلك الصور‬
‫الفوتوغرافية والرسوم البيانية وكذا اخلطاطات التوضيحية‪ .‬هذا‪ ،‬ويمكن أن نميز يف التشابه األيقوين بني ثالثة‬
‫لنميز بذلك بني ثالث عالمات أيقونية‪:‬‬
‫مستويات‪ :‬تشابه التطابق وتشابه التناظر املحسوس وتشابه التناظر املجرد؛ َ‬
‫األيقون الفوتوغرايف‪ ،‬واأليقون التشكييل‪ ،‬ثم األيقون االستعاري‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬إذا أخذنا العالمة األيقونية هبذه البساطة‪ ،‬فربام هذا يوقعنا يف نوع من التناقض املنهجي‪ .‬فإذا كانت‬
‫رب ٍر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫غري ُم َّ‬
‫السميائيات تُق ُّر وتؤكد اعتباطية كل األنساق الوضعية‪ ،‬وترى أن الربط بني طريف العالمة ربط اعتباطي ُ‬
‫فكيف يصدق هذا التصور مع العالمة األيقونية؟!‬
‫أن العالقة بني ماثول األيقون وموضوعه جمرد عالقة مبارشة يتم االنتقال منه إليه بحكم ما بينهام من‬ ‫يبدو َّ‬
‫لشخص بالشخص ذاته‪ ،‬دون وسيط معريف سابق ودون مؤثرات تدليلية‬ ‫ٍ‬ ‫تشابه فقط‪ ،‬كأن ترتبط صورة فتوغرافية‬
‫حتمل معناها يف ذاهتا بعيدً ا عن ًا مالبسات التدليل‪ .‬إن‬ ‫أو تأويلية‪ .‬هذا ما يبدو يف ظاهر األمر‪ ،‬لكن الصور َة ال ُ‬
‫صور ًة شخصي ًة ألحدهم عىل جدار ال تدل عليه ألهنا تشبهه فحسب‪ .‬إهنا ال تبقينا يف حدود التعرف عليه فقط‪ ،‬أو‬
‫باألحرى‪ ،‬إهنا ال تدل عليه كام هو‪ ،‬خارج تصنيفاتنا وأحكامنا وإسقاطاتنا‪ .‬إن وجهة التدليل يف الصورة ليست بينها‬
‫كتصور ذهني‪ .‬وما تصوراتنا إال جتريدات متغرية باستمرار‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وبني الشخص كذات عينية‪ ،‬بل بينها وبني الشخص‬
‫ُخُمت َلف حوهلا باطراد‪ .‬إن مبدأ التشابه الذي حيكم العالمة األيقون ّية‪َ ،‬ليس إال مبد ًأ ظاهر ًيا ًا‪ .‬فقد نكون أمام الصورة‬
‫نفسها‪ ،‬وقد تستدعي عندنا ما ال تستدعيه عند غرينا‪ ،‬وقد تستدعي عند بعضنا ما ال تستدعيه عند كلنا‪ ،‬وقد تستدعي‬
‫اآلن ماال تستدعيه يف كل آن‪ .‬فأين موقع كل هذه االستدعاءات من حمدودية الداللة املحكومة بالتشابه؟ (علوي‪،‬‬
‫حدود الفهم ‪.)33-32‬‬
‫خاِل ِل إحالتها القائمة عىل التشا ُب ِه‪ُ ،‬ت َق ِد ُم‬
‫القول بأن العالمة األيقونية من ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ال ُي ْم ِك ُن بأي حال من األحوال‪،‬‬
‫وحُمايدً ا ًا وم ِ‬
‫ستق ًّاًّل ًا‪ .‬إِ َّن رغب َة اإلنسان يف املعرفة واالستزادة منها‪ ،‬جعلته يمتد يف‬ ‫الواقع باعتباره وجو ًدا ًا َموضوع ًّيا ًا ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫هن باعتبار حرفيته‬ ‫الذ ِ‬
‫يترسب إىل ِّ‬
‫ُ‬ ‫حميطه بسابق املعرفة من أجل جديد املعرفة‪ .‬وبالتايل فإن الكون بأشيائه ووقائعه ال‬
‫مثاًل باعتبارها كيانًا‬ ‫املبارشة‪ ،‬بل باعتبار ما حيدثه فعل التجريد من تعديل‪ .‬وهذا معناه‪َ ،‬أ َّن العني ال ُ‬
‫تنظر إىل الصورة ً‬
‫ثقايف‪ .‬بل إِ َّن العني «تروض وتضفي طابع األلفة عىل كل ما حييط هبا‪ .‬إهنا تلتقط كيانًا‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬
‫ومستقاًل عن أي ُمضاف ٍّ‬ ‫واقع ًيا‬
‫ً‬
‫استقبااًل إىل نسخه‪( ».‬غوتيي ‪.)11‬‬ ‫يف خصوصيته وحتوله إىل خطاطة‪ ،‬استنا ًدا إليها تتعرف‬

‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬ ‫‪120‬‬
‫ِ‬
‫يتم فقط استنا ًدا ًا إىل مبدأ التشابه‪.‬‬‫إِ َّن الولوج إىل َع َوامِلِ العالمة األيقونية‪ ،‬والقبض عىل منافذ التدليل داخلها‪ ،‬ال ُّ‬
‫ٍ‬
‫خطاطات ثقافية‪،‬‬ ‫يدرك ما يمثل أمام ُه بشكل مبارش‪ ،‬بل إِ َّن «أسنن التعرف» أو املعارف السابقة‪ ،‬متثل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فاإلنسان ال‬
‫يطل اإلنسان من خالهلا عىل العامل األيقوين‪ .‬وبالتايل فاملعنى يف األيقون ليس وليد التشابه‪ ،‬بقدر ما هو وليد «تسنني‬ ‫ُّ‬
‫قياًم ًا داللي ًة ورمزي ًة نابع ًة من‬ ‫ِ‬ ‫ثقايف سابق» ومعرفة قبل ّية ُ‬
‫تعمل عىل إخراج األيقون من َماد َّيته الساذجة؛ لتضفي عليه ً‬
‫اإلنساين‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الوجود‬ ‫ِ‬
‫مظاهر‬ ‫الكون الثقايف الذي يترسب دون توقف إىل ِّ‬
‫كل‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬
‫األمارة‪ :‬إذا كانت اإلحالة األيقونية تبدو مستندة ظاهر ًيا إىل ما بني املاثول واملوضوع من تشابه‪ ،‬فإهنا يف األمارة‬
‫تبدو مستند ًة إىل عالقة أخرى هي عالقة التجاور‪ .‬إن األمارة «عالمة هلا رابط فيزيقي مع املوضوع الذي حتيل عليه‪،‬‬
‫وهي حالة األصبع الذي يشري إىل موضو ٍع ما‪ ،‬وحالة دوارة اهلواء ا ُملحدِّ دة الجتاه الريح‪ ،‬أو الدخان كدليل عىل‬
‫ٍ‬
‫وبصيغة ُأخرى‪ ،‬فاملاثول يف األمارة يرتبط ارتبا ًطا ًا وجود ًيا بموضوعه‪ ،‬فالدخان‬ ‫وجود النار» (إيكو‪ ،‬العالمة ‪.)91‬‬
‫املتصاعد يف اهلواء‪ ،‬ليس إال عالمة فيزيقية عىل وجود نار يف مكان ما‪.‬‬
‫إِ َّن «املعرفة التي تأتينا عرب األمارة تستند إىل إجراء استداليل يتخذ من التجاور ُمن َطل ًقا له» (بنكَراد‪ ،‬مسالك‬
‫ترتكز عىل عالقة التجاور الوجودي بني املاثول‬‫ُ‬ ‫املعنى ‪ .)163‬وعليه‪ ،‬فاإلحالة يف األمارة عبارة عن إحالة مرجع ّية‪،‬‬
‫واملوضوع‪ .‬فالدُ خان عالم ٌة عىل النار؛ ال بحكم التشابه مع النار‪ ،‬وإنام بحكم عالقة الوجودية أو عالقة التجاور التي‬
‫ِ‬
‫غياب املوضوع الذي‬ ‫تشتغل باعتبارها أمارة‪ ،‬إال يف حدُ ِ‬
‫ود‬ ‫ُ‬ ‫أيضا إىل أن العالمة ال‬
‫نشري هنا ً‬
‫ُ‬ ‫تربطه بالنار‪ .‬ينبغي أن َ‬
‫حتيل عليه‪ .‬فـ«الدخان ال يمكن أن يكون عالمة إال إذا كانت النار غري مرئية [إذا كانت النار أمامنا فلسنا يف حاجةٍ‬
‫إىل استنتاج وجودها انطال ًقا من الدخان]‪ ،‬وحينها فإن «الدخان‪/‬عالمة» ال وجود له إال يف غياب النار‪( ».‬إيكو‪،‬‬
‫وض ِ‬
‫وع َها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫غياب َم ُ‬ ‫العالمة ‪ .)92‬ويمك ُن أن نسحب هذه القاعدة عىل باقي األمارات؛ فهي ال تشتغل كعالمات إال يف‬
‫ربر بعالقة التجاور‪ ،‬بالطريقة نفسها‬ ‫يبقى فقط أن نستبعد ما قد يبدو من تناقض منهجي بخصوص الربط ا ُمل َّ‬
‫التي استبعدناه هبا بخصوص الربط املربر بعالقة التشابه‪ .‬فمهام يبدو من تشابه أو جتاور بني املاثول واملوضوع‪ ،‬فإن‬
‫دائاًم هو أسنن التعرف أو البنيات اإلدراكية املعرفية السابقة‪.‬‬ ‫مرتكز التدليل ً‬
‫حُي ُيل املاثول الرمزي عىل موضوعه استنا ًدا ًا إىل قاعدة عرف ّية‪ .‬إِ َّن ُه َي ْستَنِدُ يف اإلحالة إىل ما تضفيه الذاكر ُة‬
‫الرمز‪ِ ُ :‬‬
‫ود ُعفي أشياء هذا العامل‬‫اإلنسانية عىل األشياء والوقائع‪ .‬فرغبة اإلنسان يف االمتداد إىل العامل اخلارجي جعلته ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ضمنُه اإلنسان‬ ‫بعض أفكاره ومهومه ومعتقداته؛ فصارت األشياء يف العامل اخلارجي ُمستو َد ًعا ًا ً‬
‫هائاًل ًا من الرموز‪ُ ،‬ي ِّ‬ ‫َ‬
‫هواجسه وخماوفه‪ ،‬ومآسيه‪ ،‬وأحالمه وقيمه‪« .‬فاليأس واألمل واحلب والتشاؤم والشجاعة والنُّ ْبل كلها مفاهيـم‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫وأشكااًل ًا وألوانًا وسلوكات» (بنكَراد‪ ،‬مسالك املعنى ‪.)161‬‬ ‫ً‬ ‫انتقلت من مواقعـها املجـردة لكي تسكـن أشيا ًء‬
‫رمزا للشؤم‪.‬‬ ‫رمزا للحب‪ ،‬والبومة ً‬ ‫رمزا للسالم‪ ،‬وغدت الوردة ً‬ ‫فأصبح اللون األبيض ً‬
‫ضمنُها جتريداته وتصوراته‬‫اإلنسان بالرموز ومن خالهلا‪ ،‬أن ُي َم ْف ِه َم موجودات العامل العيني و ُي ِّ‬
‫ُ‬ ‫استطاع‬
‫ً‬ ‫لقد‬
‫بعد تعطيل إحاالهتا املبارشة‪ ،‬أو تأجيل هذه اإلحاالت ألجل اإلحالة الرمزية‪ .‬يتعلق األمر هنا باإلحالة املضاعفة‪،‬‬
‫مؤجلة‪ ،‬وإحالة رمزية مف َّعلة‪ .‬وهبذه الطريقة استطاع اإلنسان «أن ينظم جتربته يف انفصال عن‬ ‫إحالة مبارشة مع َّطلة أو َّ‬
‫العامل املادي‪ ،‬وهذا ما جنَّ َب ُه التي َه يف اللحظة‪ ،‬ومحاه من االنغامس يف مبارشية لـ «اهلُنا» و»اآلن» داخل عاملٍ بال أفق وال‬

‫‪121‬‬ ‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬
‫ُ‬
‫يشكل األداة التي من خالهلا تنترش التجربة‬ ‫الرمز‬
‫َ‬ ‫ماض وال مستقبل» (بنكَراد‪ ،‬مسالك املعنى ‪َ .)162‬ومن ُهنَا‪َ ،‬فإِ َّن‬
‫ٌ‬
‫فواصل‪.‬‬ ‫ضفاف وال‬‫ٌ‬ ‫اإلنسانية لتصبح كوني ًة ال حتدُّ ها حدو ٌد وال حترصها‬
‫التجربة اإلنسان ّية‬ ‫تتشكل العالمة الرمزية بتعطيل إحالة وتفعيل أخرى‪ ،‬بموجب عالقة عرفية‪ ،‬إِ ّهّنُا ُ‬
‫نتاج لتداخل َ‬
‫ٍ‬
‫ٍكعالمة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫كيشء باليشء‬ ‫مع العامل اخلارجي‪ ،‬نتاج النصهار األشياء يف العالمات‪ ،‬إىل احلد الذي صار يلتبس فيه اليش ٌء‬

‫‪3.3.‬الثالثية الثالثة‪ :‬الدعوى والتصديق والحجة‬


‫ٍ‬
‫إلمكان نوعي‪،‬‬ ‫الدعوى أو اخلرب‪ُ :‬يمكن تعريف الدعوى بأهنا «عالمة تشكل يف عالقتها بموضوعها عالمة‬
‫إننا ندركها باعتبارها متثل هذا اليشء املمكن أو ذاك فقط‪ .‬وبإمكان الدعوى أن توفر معلومات؛ ولكنها ال تؤول‬
‫هو ُمعطى‬
‫تتجاوز ُحدُ و َد ما َّ‬
‫ُ‬ ‫إن الدعوى عالم ٌة ال‬
‫باعتبارها توفر معلومات» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات والتأويل ‪َّ .)123‬‬
‫خمصوص‪ ،‬بل تكتفي بام هو معروض داخلها للتداول‪ ،‬دون الولوج يف عوالـم التأويل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫سياق تواصيل‬ ‫داخل‬
‫واالستدالل‪.‬‬
‫شخص جيهل ما قيل‪ ،‬فإن حدود الدعوى لن تتجاوز ربط‬ ‫ٍ‬ ‫َولنَ ْف َ ِرَتض أن أحدهم َن َط َق بكلمة «حصان» أمام‬
‫تتجاوز ربط هذا بذاك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الشكل الصويت للمتوالية «حصان» بالصـورة «حصان»‪ .‬إن الدعوى أو العالمة اخلربية ال‬
‫يف حدود التعيني دون احلاجة إىل البحث يف حيثيات كلمة «حصان»‪ .‬ولعل «هذا ما دفع دولودال إىل اعتبار املدلول‬
‫السوسريي حدً ا مطاب ًقـا للمؤول اخلربي‪ .‬فاملدلول كام صاغه سوسري ال يتجاوز حدود تعيني مفهوم ذهني عام‬
‫مرتبط أشد االرتباط بام تدل عليه الكلمة استنا ًدا إىل إمكاناهتا الذاتية األوىل» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات والتأويل ‪.)124‬‬
‫خيتلف األَ ْم ُر هنا عن الدعوى‪ ،‬فالتصديق «عالمة تشكل يف عالقتها بمؤوهلا عالمة لوجود فعيل‬ ‫ُ‬ ‫التصديق‪:‬‬
‫كجزء منها لتُؤول باعتبارها تشري إىل ٍ‬
‫يشء ما» (بنكَراد‪ ،‬السميائيات‬ ‫ٍ‬ ‫ربا‬
‫َّ‬ ‫[‪ ]...‬إهنا تستدعي بالرضورة دعوى أو خ ً‬
‫والتأويل ‪ .)124‬وعليه‪ ،‬فإِ َّن العالم َة التصديقية معناها حتيني الطاقات التمثيلية للامثول يف وج ٍ‬
‫ود فعيل‪ ،‬أي إفراغ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫اخ َل ٍ‬
‫سياق تواصيل حمدد‪.‬‬ ‫العنارص اإلخبارية د ِ‬
‫ّ َ‬
‫لشخص جيهل ما نقول‪ ،‬سنقوم‬‫ٍ‬ ‫وض أن نقو َم برسم «احلصان» قصد توضيح كلمة «حصان»‬ ‫وع َ‬ ‫وعليه‪ِ ،‬‬
‫ٍ‬
‫مكان يوجد فيه «احلصان» وجو ًدا عين ًيا‪ ،‬ونقول له‪ ،‬إِ َّن كلمة «حصان»‪ ،‬حتيل عىل هذا‬ ‫باإلمساك بيده‪ ،‬ون ََأ ُخ َذ ُه إىل‬
‫ِ‬
‫املاثل أمامنا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫احليوان‬
‫الف الدعوى والتصديق‪ ،‬فإن احلجة عالمة تشكل يف عالقتها بمؤوهلا عالمة قانونية‪ .‬وبعبارة‬ ‫خ ِ‬
‫احلجة‪ :‬بِ ِ‬
‫متثياًل ملوضوعها من خالل طابعه النوعي املبارش‪ ،‬والتصديق هو عالمة‬ ‫ُدرك باعتبارها ً‬‫أخرى‪ ،‬فإن الدعوى عالمة ت َ‬
‫تدرك كتمثيل للموضوع من خالل وجوده العيني‪ ،‬واحلجة عالمة تدرك كتمثيل للموضوع من خالل طابعه القانوين‬
‫قضية ما‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أو الفكري‪ .‬إن احلجة هي ذلك الفعل الذهني الذي حياول من خالله الشخص الذي حيكم أن يقتنع بصحة‬
‫ٍ‬
‫وجود عيني‪ .‬إِ َّهَّنَا‪،‬‬ ‫احلج ُة ال تكتفي بحدود التعيني‪ ،‬وال تكتفي كذلك بصب الطاقات التمثيلية يف‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإن َّ‬
‫متتد إىل حتريك النمـوذج التجريدي‪ ،‬الذي ينطوي يف ثنـاياه عىل النسخ‪ ،‬للوصول إىل البن ّية املجردة والذهن ّية التي‬
‫الواقع يف أذهاننا باعتباره‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫نمتلك‬ ‫نمتلكها عن كل عنرص من عنارص العامل اخلارجي‪ .‬فامدامت املعرفة بنا ًء رمز ًيا؛ فإننا ال‬

‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬ ‫‪122‬‬
‫وجو ًدا ًا فيزيق ًيا ًا‪ ،‬بل ما نمتلكه هو نامذج جمردة وعامة عن أشياء العامل اخلارجي‪ ،‬وليس أشياء العامل اخلارجي عينها‪.‬‬

‫وبنا ًء عليه‪ ،‬فعوض أن نربط كلمة «حصان» بصورهتا‪ ،‬أو نربطها باملاصدق (املرجع اخلارجي بتعبري سوسري)‪،‬‬

‫املجرد الذي نمتلكه عن كلمة «حصان»‪ ،‬ونحاول إيصاله إىل الشخص‬ ‫ِ‬
‫فإننا سنقوم بالبحث يف الذاكرة عن التصور ّ‬

‫الذي جيهل لغتنا بلغته التي َي ْف َه ُم َها‪.‬‬

‫تلكم كانت حدود العالمة الثالثية بتفريعاهتا الثالثية‪ ،‬ويمكن أن ن ِ‬


‫ُجم َل تفاصيل ما عرضناه يف شأهنا يف‬

‫اخلطاطات اآلتية‪:‬‬

‫ماثول املاثول‬ ‫عالمة نوعية‬ ‫أوالنية األوالنية‬


‫ماثول‬ ‫موضوع املاثول‬ ‫عالمة عينية‬ ‫ثانيانية األوالنية‬ ‫األوالنية‬
‫مؤول املاثول‬ ‫عالمة معيارية‬ ‫ثالثانية األوالنية‬

‫الشكل رقم‪)4( :‬‬

‫ماثول املوضوع‬ ‫أيقون‬ ‫أوالنية الثانيانية‬


‫موضوع‬ ‫موضوع املوضوع‬ ‫أمارة‬ ‫ثانيانية الثانيانية‬ ‫الثانيانية‬
‫مؤول املوضوع‬ ‫رمز‬ ‫ثالثانية الثانيانية‬

‫الشكل رقم‪)5( :‬‬

‫ماثول املؤول‬ ‫دعوى‬ ‫أوالنية الثالثانية‬


‫مؤول‬ ‫موضوع املؤول‬ ‫حجة‬ ‫ثانيانية الثالثانية‬ ‫الثالثانية‬
‫مؤول املؤول‬ ‫تصديق‬ ‫ثالثانية الثالثانية‬

‫الشكل رقم‪)6( :‬‬

‫‪123‬‬ ‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬
‫خاتمة‬

‫ٌ‬
‫رشط إنساين‪ .‬فاستنا ًدا إىل ما تم‬ ‫ختا ًما‪ ،‬يمكن أن نثبت الدعوى التي انطلقنا منها‪ ،‬و\التي مفادها أن العالمة‬
‫عرضه يف فقرات هذا البحث‪ ،‬نستطيع أن نجزم يف سياقنا هذا عىل األقل‪ ،‬بأن اإلنسان عالم ٌة حتيا بالعالمة وداخل‬
‫العالمة‪ .‬ففي العامل اإلنساين ليس هناك إال العالمات‪ ،‬وإن العالمات هي كل ما هنالك‪ .‬فالكون كله عالمة‪ ،‬وكل ما‬
‫فيه عالمات‪ُ ،‬حُييل بعضها عىل بعضها بتوسط بعضها‪ .‬إن الكون أو العامل الوحيد الذي يمكن أن نعيش فيه بوعي‪،‬‬
‫هو العامل الثقايف‪ ،‬بام هو بديل رمزي لكل العوامل‪ ،‬بام فيها الواقعية واملمكنة وحتى ا ُملتخ َّيلة‪ .‬إن الكون الذي نعيه أو‬
‫ٍ‬ ‫دركًا ً‬
‫عالمات‪ .‬حينها وحينها فقط‪ ،‬يمكن‬ ‫أصاًل إال إذا استحال‬ ‫ندركه ح ًقا ال يتجاوز حدودنا اإلدراكية‪ ،‬وال يصري ُم َ‬
‫ٍ‬
‫كحاصل إدراكي‪.‬‬ ‫درك أو‬
‫كم َ‬
‫أن نتحدث عنه ُ‬
‫ال يتحقق اإلدراك إذن إال بالعالمات؛ فالعالمات وحدها سبيلنا إىل املعرفة ودليلنا إىل املزيد من املعرفة‪ .‬متثل‬
‫حاصاًل لإلدراك من جهة ثانية‪ ،‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بل متثل – ً‬
‫فضاًل عن‬ ‫ً‬ ‫العالمات ُمن َطل ًقا لإلدراك من جهة‪ ،‬ومتثل‬
‫وبتعبري آخر‪ ،‬إن السبيل الوحيد من أجل جديد‬ ‫ٍ‬ ‫ذلك – وسي ًطا يضمن العبور من ذلك ا ُملنط َل ِق إىل ذلك احلاصل‪.‬‬
‫املعرفة هو ما سبق من املعرفة‪ .‬يتم تسخري هذه املعرفة السابقة مرة كمعطيات أو مقدمات‪ ،‬ومرة كوسائط أو حدود‬
‫إن عىل سبيل العرض والتدليل أو عىل سبيل االستدالل والتأويل‪.‬‬ ‫ُوس َطى‪ْ ،‬‬
‫هذا عن التصور أو احلكم الذي وصلنا إليه‪ ،‬أما العلم املعتمد لتثبيته‪ ،‬والكفيل بذلك ح ًقا‪ ،‬فإنه العلم الذي‬
‫هيتم بدراسة الظاهرة اإلنسانية‪ ،‬ال عىل أساس شبهها أو مطابقتها للظاهرة الطبيعة؛ بل عىل أساس اشتباهها هبا‪ ،‬رغم‬
‫مفارقتها هلا‪ .‬العلم الذي يعالج الظاهرة اإلنسانية باعتبارها ظاهرة ثقافية‪ُ ،‬منط َلقه إليها سؤال يف الكيف ال سؤال‬
‫دال يتجاوز السلوك الطبيعي وخيتلف عنه‪ .‬العلم الذي‬ ‫يف املاهية‪ .‬العلم الذي يدرس السلوك الثقايف بام هو سلوك ّ‬
‫تستحيل معه الطبيع ُة ثقاف ًة واألشياء عىل اختالفها عالمات تسكنها املواقف واخللفيات واإليديولوجيات‪ ،‬وتغيب‬
‫عنها السطحية والبساطة والرباءة‪ .‬ذلكم العلم هو السميائيات أو الصيغة اجلديدة للمنطق‪.‬‬

‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬ ‫‪124‬‬
‫المراجع‬
‫ً‬
‫أواًل‪ :‬العربية‬
‫إيكو‪ ،‬أمربتو‪ .‬التأويل بني السميائيات والتفكيكية‪ .‬ترمجة بنگراد سعيد‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪.2000 ،‬‬
‫____‪ .‬السميائية وفلسفة اللغة‪ .‬ترمجة أمحد الصمعي‪ ،‬املنظمة العربية للرتمجة‪.2005 ،‬‬
‫____‪ .‬العالمة‪ ،‬حتليل املفهوم وتارخيه‪ .‬ترمجة سعيد بنكَراد‪ .‬املركز الثقايف العريب‪.2007 ،‬‬
‫بنگراد‪ ،‬سعيد‪ .‬السميائيات مفاهيمها وتطبيقاهتا‪ .‬منشورات الزمن‪ ،‬الرباط‪.2003 ،‬‬
‫____‪ .‬السميائيات والتأويل‪ ،‬مدخل لسميائيات ش‪ .‬س‪ .‬بورس‪ .‬منشورات املركز الثقايف العريب‪.2005 ،‬‬
‫____‪« .‬السميائيات‪ :‬النشأة واملوضوع»‪ .‬جملة عامل الفكر‪ ،‬مج‪ ،35‬ع‪.46-7 .)2007( 3‬‬
‫____‪ .‬مسالك املعنى‪ ،‬دراسة يف بعض أنساق الثقافة العربية‪ .‬دار احلوار للنرش والتوزيع‪ ،‬سورية‪ ،‬ط‪.2006 ،1‬‬
‫حنون‪ ،‬مبارك‪ .‬دروس يف السيميائيات‪ .‬دار توبقال للنرش‪ ،‬املغرب‪ ،‬ط‪.1987 ،1‬‬
‫دولودال‪ ،‬جريار‪« .‬تنبيه لقراء بورس»‪ .‬ترمجة عبد العيل اليزمي‪ .‬جملة عالمات‪ ،‬ع‪.114-111 .)1997 ( 8‬‬
‫علوي‪ ،‬عبد السالم إسامعييل‪ .‬حدود الفهم‪ ،‬دراسات سميولسانية يف تدبري االختالف‪ ،‬الدار التونسية للكتاب‪،‬‬
‫تونس‪.2018 ،‬‬
‫____‪ .‬السميولسانيات وفلسفة اللغة بحث يف تداوليات املعنى والتجاوز الداليل‪ .‬دار كنوز املعرفة‪ ،‬األردن‪.2017 ،‬‬
‫عودة‪ ،‬أمني يوسف‪« .‬فلسفة العالمة وتأويلها‪ ».‬جملة عالمات ع ‪27-5 :)2008( 30‬‬

‫غوتيي‪ ،‬غي‪ .‬الصورة املكونات والتأويل‪ .‬ترمجة سعيد بنكَراد‪ .‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪.2012 ،‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬األجنبية‬
‫‪References:‬‬
‫‪Alaoui ,Abdeslām Ismaili .Al-simyulisāniyāt wa falsafatu al-lurhah. (in Arabic). Dār kunūz Jordan, 2017.‬‬
‫‪–––. Hudūd al-fahm. (in Arabic). Al-dār tūnusiya, Tunisie, 2018.‬‬
‫‪Bengrad, Said. «Al-simyā’iyāt alnashʼah wa al-tatawwur». (in Arabic). Majallah ālamu al-fikr, 2007, 3-35.‬‬
‫‪–––. Al-simyā’iyāt mafāhīmuha wa taţbīqatyha. (in Arabic). Al-zaman, 2003.‬‬
‫‪–––. Al-simyā’iyāt wa al-t’wīl. (in Arabic). Al-mrkaz al-thqāfi al-ʻArabī, 2005.‬‬
‫‪–––. Masāliku al-ma,nā. (in Arabic). Dār al-hiwār, 2006.‬‬
‫‪De Saussure, Ferdinand. Cours de linguistique générale, Préparée par Tullio de Mauro. Éd Payot, Paris 1978.‬‬
‫‪De Saussure, Ferdinand, and Wade Baskin. Course in General Linguistics: Translated by Wade Baskin.‬‬
‫‪Edited by Perry Meisel and Haun Saussy. Edited by Perry Meisel and Haun Saussy, Columbia Uni-‬‬
‫‪versity Press, 2011.‬‬

‫‪125‬‬ ‫جملة أنساق‪ ،‬املجلد ‪ ،6‬العدد ‪ ،2022 ،2‬تصدر عن كلية اآلداب والعلوم‪ ،‬وتنرشها دار نرش جامعة قطر‬
Deledalle, Gerard. Tanbīh li qurraʼ Peirce. (in Arabic). tarjamah Abde Ali El-Yazami, majallatu, alāmāt,
8, 1997.
–––. Théorie et Pratique des signes, Introduction à La Sémiotique de Charles Sandres Peirce. Éd Payot,
Paris, 1979.
Eco, Umberto. Al-’alāmah, tahlīlu al-mafhūm wa tārīkhuh. (in Arabic). Tarjamah Bengrad, Said. Al-
mrkaz al-thqāfi al-ʻArabī, 2007.
–––. Al-simyā’iyāt wa falsafatu al-lurhah. (in Arabic). tarjamah Ahmed Samai, almunaᶎamah al-,ara-
biyah lal- tqrjamah, 2005.
–––. Al-t’wīl bayna al-simyā’iyāt wa al-tafkīkiah. (in Arabic). Tarjamah Bengrad, Said. Al-mrkaz
al-thqāfi al-ʻArabī, 2000.
–––. Semiotics and Philosophy of Language. Indiana University Press, Blomington, 1986.
–––. Sémiotique et philosophie du langage. Traduit par M. Bozaher, Presses universitaires de France,
Paris, 2ème éd, 1993.
Everaert Desmedt, Nicole. Le processus interprétatif, introduction à la sémiotique de Charles Sanders
Peirce. Pierre Mardaga, Liège, 1990.
Gauthier, Guy. Al sūrah almukawwinātu wa al-tʼwīl. (in Arabic). Tarjamah Said Benkard, al-mrkaz
al-thqāfi al-ʻArabī, Beyrouth, 2012.
Hanūn, Mubārak. Durūs fī al-simyā’iyāt. (in Arabic). Dār tubqāl, 1987.
Peirce, Charles S. Ecrits sur le signe, Rassemblés, traduit et commentés par Deledalle Gerard. Seuil,
Paris, 1978.
Veron ,Eliseo« .La Sémiosis et son monde”. in Langages, N°58, Larousse, Paris, 1980.

You might also like