Professional Documents
Culture Documents
كتاب مصيدة 67 باللغة العربية
كتاب مصيدة 67 باللغة العربية
ترجمة:
الهدهد
2017
1
فهرس المحتويات
معرفة.
كلمة المترجم ...........................................خطأ! اإلشارة المرجعية غير ّ
ُمقدمة 6 ..................................................................................
عالقاتنا العاطفية مع قناعاتنا السياسية7 ...................................................
المصيدة العاطفية8 .......................................................................
الخالصة ..يمكن القول 9 .................................................................
االنتقال من قالب التفكير الثنائي إلى قالب التفكير الكمي 11 ................................
2
المشكلة الديموغرافية31 ................................................................:
الخالصة33 ...........................................................................:
الفصل الثاني :ربما ال يوجد معضلة أمنية 34 .............................................
نظرية المقاومة34 ..................................................................... :
النكبة35 .............................................................................. :
الفصل الثالث :ربما ال يوجد مشكلة ديموغرافية37 .........................................
ضعف االدعاءات اليمينية بالنسبة للمعضلة الديموغرافية38 ............................. :
هل يوجد فصل عنصري (ابرتهايد) بالمناطق الفلسطينية38 ............................. :
المزدوج39 ......................................................................:
العمى ُ
المعضلة األخالقية 41 .....................................................
الفصل الرابعُ :
االحتالل يولد الفساد41 ................................................................:
دولة ديمقراطية تحتل شعب آخر42 .................................................... :
الفصل الخامس :المعضلة اليهودية 44 ....................................................
االدعاء التوراتي44 .................................................................... :
االدعاء القومي45 .....................................................................:
تناقض ديني داخلي46 ................................................................ :
نحن في مصيدة47 ....................................................................:
الفصل السادس :الحرج السياسي األكبر48 ................................................
االنقسام المترتب على الحرج السياسي48 ...............................................:
من سياسة األيدولوجيات إلى سياسة الجماعات49 ...................................... :
الحوار اليهودي الفلسطيني الجريح50 ...................................................:
3
شرق أوسط جديد59 ................................................................... :
الصراع سوف يستمر60 ............................................................... :
الفصل الثاني :مبدأ االنفصال 61 .........................................................
شبه دولة61 ...........................................................................:
شبه مواطنين62 .......................................................................:
الفصل الثالث :البرغماتية السياسية كجسر (إسرائيلي) 64 ..................................
البرامج السياسية أمام مصيدة 64 ................................................:1967
كلتا الخطتين كمادة للتفكير65 ......................................................... :
الهامش البرغماتي وتحسين االستماع بالحوار اإلسرائيلي الداخلي66 ..................... :
الحرب والسالم66 ..................................................................... :
الخاتمة 68..................................................................................
والء ُمطلق وإيمان كامل68 ...............................................................:
اإلنسان يبحث عن معنى70 ..............................................................:
تقاليد االستماع71 ........................................................................:
4
تقديم
بسم هللا والصالة والسالم على رسول هللا ،ثم أما بعد:
حسب المؤلف ،فإن الصمود الفلسطيني لم يؤدي –فقط -إلى انهيار النظريات الفكرية ،وتفنيد
مزاعم اليهود بأننا مجرد مجموعة من السكان ،ومن أنه يمكن أن يتم حل قضيتنا من خالل حكم
ذاتي ضيق النطاق واآلفاق ووفقاً للمصالح األمنية ل ـ"إسرائيل" ،وإنما أدى إلى انقسام داخلي
بالمجتمع اإلسرائيلي ،فأصحاب فكر اليمين وفكر اليسار تخلوا عن نظرياتهم التقليدية؛ ألنها لم
تقدم أي حلول للصراع الفلسطيني اإلسرائيلي ،وفشلت حتى في تقديم إجابات واضحة لهذا
الصراع.
في هذا الكتاب يستعرض الكاتب فشل أيدولوجيات اليمين واليسار في التوصل إلى حلول للصراع
مع الفلسطينيين ،ثم يقدم طرق –برامج وخطط– جديدة ،تهدف إلى إخراج "إسرائيل" من المأزق
الفلسطيني ،أو ما يصفه بالمصيدة ،والتفكير في طرق جديدة برغماتية وليست أيدولوجية للتعامل
مع الص ارع ،وليس إلدارة الصراع ،وهذه الطرق ليست لحل الصراع بشكل نهائي ،إنما إلعادة
ترتيب المشاكل الرئيسية له ،وتقديم حلول مناسبة.
يوليو – 2021
غزة – فلسطين
5
مقدمة
عشية حرب األيام الستة (حرب عام ،)1967أقيمت في "إسرائيل" ألول مرة في تاريخها حكومة
وحدة وطنية ،وعلى ضوء التهديدات الخارجية؛ توحد المجتمع اإلسرائيلي من الداخل ،الوحدة التي
عاشت في ظل االنتصار األكبر في تاريخ الدولة.
الراغبون في الحفاظ على كل البالد –أرض "إسرائيل" الكبرى– اختلفوا مع الذين يرغبون في
الحفاظ على السالم ،وهذا الخالف أدى لخلق انقسام في المجتمع اإلسرائيلي ،فانقسم الشعب
لمعسكرين ،وحالة الوحدة التي حصلت خالل الحرب تبخرت بسبب أحداث ما بعد الحرب.
منذ انتهاء حرب األيام الستة ،وقعت الكثير من األحداث بين "إسرائيل" والسكان العرب في
المناطق الجديدة المحتلة ،فقد اندلعت االنتفاضة األولى والثانية ،وقامت ثالث جوالت حروب مع
قطاع غزة خالل سنوات اتفاقية أوسلو ،وسنوات االنفصال عن القطاع ،ولم ِّ
تنته أي جولة من
جوالت القتال باالنتصار العسكري ،كما أن كل محاوالت التفاوض لم ِّ
تنته بالتوصل للسالم.
وعلى خلفية المحاوالت الفاشلة إلظهار االنتصار في الحرب أو التوصل للسالم ،دار في
"إسرائيل" جدال كبير وغير متوقف حول حدود دولة "إسرائيل" ،فالمناطق التي تم احتاللها في
العام 1967أشعلت خالفاً استمر لمدة 50سنة ،وحسب التقويم التوراتي فإن السنة رقم 50هي
(سنة اليوبيل) ،وبهذه السنة -حسب التقويم التوراتي -كل العبيد يتحررون من أسيادهم ،وكل
األراضي تعود ألصحابها ،وفي هذه السنة يعود التقويم للعد من جديد ،الخالفات والفجوات
االقتصادية تتقلص حتى الصفر ،والفجوات الطبقية بين العبيد واألسياد تختفي ،وبعد انقضاء 50
سنة يبدو العالم كأنه يتم والدته من جديد ،ومن هنا فإن سنة اليوبيل هي فرصة إلنهاء الخالفات
حول نتائج حرب األيام الستة ،وفتح الحوار من جديد.
كما أن األحداث المختلِّفة التي حدثت على مدار الخمسين سنة الماضية ،أوصلت المجتمعين
المسلمات والقناعات في
الفلسطيني واإلسرائيلي إلى طريق مسدود ،وأن الفرصة إلعادة دراسة ُ
6
الفكر السياسي اإلسرائيلي ،ولكن بشرط حدوث تغيير أساسي في عالقتنا العاطفية مع هذه
القناعات السياسية.
بهذه الحالة يتحول الشخص إلى مثالي –نموذجي– ،ويصبح هو مجرد انعكاس لقناعاته وألفكاره
والمبادئ التي يؤمن بها ،ومثل هؤالء األشخاص ال يكونون منفتحون على تقبل االنتقاد ،أو
معارضة آرائهم ،ألنه يعتِّبر أي معارضة ألفكاره هي اعتراض على وجوده.
في المناخ الفكري اإلسرائيلي ،تتصارع الكثير من األفكار في عدة مجاالت ومواضيع ،مثل:
االقتصاد والمجتمع ،الدين والدولة ،وهناك تنوع واسع من اآلراء يخلق حوارات عاصفة ،لكن وفي
مجال واحد فقط ،يتم استيعاب المواقف واآلراء بحذر شديد ،وهو مجال الصراع الفلسطيني
اإلسرائيلي.
مواقف اإلسرائيليين حول تلوث البيئة ،أو نسبة الربا ،هي مواقف تجسد وتعكس وعيهم ،لكن
مواقفهم حول حدود القدس الشرقية تعكس وتجسد هويتهم وانتمائهم ،وجزء من فكرهم السياسي
والقومي ،فالشخص الذي يؤمن أنه يجب االنسحاب إلى حدود العام ُ ،67يعرف أنه يساري ،أما
الشخص الذي يؤمن أنه يجب توطين المناطق المختلف عليها ،يتم اعتباره أنه يميني ،بمعنى أنه
على عكس كل المواقف اإلسرائيلية في المجاالت كافة ،ال تعتبر هذه المواقف جزء من الوعي
اإلسرائيلي ،بل هي جزء من الهوية اإلسرائيلية ،ومن يعترض على هذه المواقف ،يعترض على
هويتنا ووجودنا ،لذلك ال يوجد هنا تناقض ،فهم غير مستعدين لالستماع ،وبالذات في أكثر
المواضيع أهمية بالنسبة لهم.
اليمين اإلسرائيلي يعتقد أن أفكار اليسار ليست خاطئة فقط ،وإنما خطيئة خطيرة ،واالنسحاب من
الضفة سوف يقلص دولة "إسرائيل" إلى دويلة صغيرة الحجم ،وبالتالي سوف يحولها ذلك إلى
دولة ضعيفة وقابلة لالنهيار ،أما اليسار اإلسرائيلي ال يعتقد أن أفكار اليمين خاطئة فقط ،بل
خطيرة ،واستمرار وجودهم العسكري في المناطق المحتلة تحديداً سيؤدي إلى انهيار الدولة
ديموغرافياً.
7
اليمين يرى اليسار ،كما اليسار يرى اليمين ،اليسار يعتبر أن تحقق مبادئ اليمين سيؤدي إلى
انهيار الدولة ،واليمين يرى أن تحقق مبادئ اليسار سوف يؤدي إلى انهيار الدولة ،كيف يمكن
أن نستمع ألشخاص طموحهم هو دمارنا؟
هذه بعض المميزات الخاصة للحوار السياسي حول حدود الدولة في "إسرائيل" ،وهذه المواقف
والقناعات هي جزء منا ،من هويتنا ،وكل موقف من هذه المواقف تُعتبر كخطر على وجودنا،
والربط بين هذه المميزات أدى إلى انهيار الحوار السياسي اإلسرائيلي ،الحوار السياسي في
"إسرائيل" ال يعتبر كحالة عصف ذهني يشجع على التفكير في التحديات التي تعرض وجودنا
للخطر ،والتوصل ألفكار جديدة وخالقة لهذه التحديات ،إنما يعتبر كحالة التعبير عن الهوايا،
والمحتوى القومي الداخلي والقناعات ،فهذا الحوار هو تجسيد لألفكار األيديولوجية وانعكاس
لألفكار الثابتة ،وهذا بالطبع أمر ُمقلق.
الصراع العربي اإلسرائيلي موضوع معقد ،لكن الحوار ليس عملية تفكير ُمعقدة ،وهنا تولدت حالة
من عدم التماثل بين مستوى تعقد المشكلة ،ومستوى تعقد التفكير بالمشكلة ،السنة الخمسين
للحوار قادرة على أن تكون فرصة لتجديد الحوار ،وسنة لتغيير طريقة الحوار ،هذا فقط إذا
استطعنا فصل قناعاتنا عن هويتنا.
المصيدة العاطفية
االنقسام بين اإلسرائيليين وبين الفلسطينيين يتعاظم بواسطة ديناميكية نفسية ُمدمرة ،والصراع بين
بالمحصلة األخيرة -صراع بين العواطف والمشاعر.
الشعبين هو ُ -
الشعور بالخوف هو الشعور السائد لدى اليهود ،اإلسرائيليين يخافون من الفلسطينيين ،وهذا
الخوف هو خوف عميق ،عتيق ،ومشترك للجميع ،لليسار ولليمين معاً ،ومع وجود السكان
العرب في البالد يتزايد الشعور بالخوف لدى السكان اإلسرائيليين أتباع تيار اليمين ،وكذلك أتباع
تيار اليسار.
أما الشعور السائد لدى الفلسطينيين ليس الخوف ،إنما اإلهانة ،الدونية ،فهم ال يخافون من
اإلسرائيليين ،لكنهم يشعرون أنه يتم احتقارهم بواسطة اليهود اإلسرائيليين ،كذلك الصراع بين
الشعبين هو صدام عاطفي بين المشاعر.
8
هذه المشاعر تُغذي بعضها بعضاً ،وبالتالي تُسهم في زيادة الحالة الحسية والعاطفية بالصراع،
فالخوف اإلسرائيلي من الفلسطينيين يدفعهم لالنتقام منهم ،مثل :معارضة رغباتهم ،تقييد حركتهم،
وضع الحواجز "المحاسيم" ،وتوقيفهم والتحقيق معهم عند الدخول إلى األماكن العامة.
ونتيجة لهذه األحداث يشعر الفلسطينيون باإلهانة وحالة احتقار متزايدة ،لكن الديناميكا ُ
المدمرة ال
تتوقف إلى هنا ،فهذه المشاعر من اإلهانة واالحتقار تزيد من الكراهية لإلسرائيليين ،وتخلق مناخ
غاضب ُينمي العنف ،وهذا العنف هو الذي يزيد من شعور الخوف لدى اإلسرائيليين.
هذه الديناميكية ال تنحصر على العالقات المتبادلة بين الشعوب على المستوى النفسي
مرة أخرى كال الطرفان صادقان ،األعمال اإلسرائيلية الهادفة إلى إنهاء شعور الخوف من
الفلسطينيين تُزيد شعور اإلهانة لدى الفلسطينيين ،وهنا توجد لعبة بين الكرامة القومية واألمن
القومي نتيجتها صفر ،لذلك كل اتفاق يسعى لتوفير االحتياجات األمنية اإلسرائيلية سيتم اعتباره
تخليد لإلهانة اإلسرائيلية للفلسطينيين ،بالمقابل أي اتفاق سيكون مقبوالً للفلسطينيين ،سيتم اعتباره
أنه يضعف دولة "إسرائيل" ،ويعرضها لمخاطر كبيرة ،وعندما يصطدم شعور اإلهانة مع شعور
الخوف فإن االتفاقيات السياسية تتالشى.
9
الرعب اإلسرائيلي من الفلسطينيين هو نتاج عشرات السنوات من الصراع ،تعرض خاللها ثالثة
أجيال من اإلسرائيليين للنشاطات اإلرهابية ،وعملياً اإلرهاب الفلسطيني نجح في إخافة
اإلسرائيليين ،لكن الخوف اإلسرائيلي ليس بسبب اإلرهاب الفلسطيني فقط ،فالتاريخ اليهودي مليء
بالمالحقات ،لذلك فإن الخوف من الفلسطينيين ُيشعل الخوف التاريخي الموجود في أعماق الوعي
اإلسرائيلي ،بالمقابل شعور اإلهانة القومية لدى الفلسطينيين ،تبلور على مدار عشرات السنوات
من االحتالل العسكري اإلسرائيلي للمناطق الفلسطينية ،لكن اإلهانة لم تبدأ مع العام ،1967
ومثلما يوجد تاريخ للخوف اإلسرائيلي ،فإنه يوجد خلفية تاريخية لإلهانة الفلسطينية ،حيث عاش
السكان الفلسطينيون المسلمون لفترات طويلة تحت حكم المسيحيين في البالد ،وكذلك شعورهم
باندثار الدولة اإلسالمية ،بعد مرحلة النهضة المسيحية في دول أوروبا ،وإعادة احتالل دول العالم
العظمى ،ومنها منطقة الشرق األوسط ،ودول أفريقيا التي
اإلسالمي على يد الدول األوروبية ُ
المسلمين.
كانت تحت حكم ُ
المسلمين
هذا التحول المؤلم في التاريخ اإلسالميُ ،يشكل حالة من اإلهانة في مشاعر الكثير من ُ
بالعالم ،واالنتقال من حالة السيطرة على العالم إلى حالة دول ُمحتلة ،أدى إلى خلق حالة من
الشعور بالضعف واإلهانة الكبيرة لدى كل مسلم.
هذه الشحنة من الوعي الجماعي ،تنعكس جلياً في النظر للصراع الفلسطيني اإلسرائيلي ،حيث
يتم اعتبار اإلسرائيليين على أنهم الغريبون الذين ُيهينون السكان المسلمين المحليون بالمنطقة،
من خالل احتاللهم لبالدهم.
وفي هذا السياق ،تم اعتبار الحركة الصهيونية على أنها جهة استعمارية غربية ،وأنها قد أشعلت
الذاكرة بشأن إهانة الغرب للمسلمين في بالدهم ،وقيام الحضارة المسيحية الغربية باحتالل بالدهم
وإهانة السكان المسلمين في ديارهم.
بشكل عام مثلما يؤدي اإلرهاب إلى إشعال الذاكرة الجماعية اليهودية حول الخوف القديم ،تؤدي
األعمال اإلسرائيلية إلى إشعال الذاكرة الجماعية لدى السكان المسلمين الفلسطينيين حول اإلهانة
الغربية لهم.
بالخالصة يمكن القول أن ارتباطنا العاطفي بالمواقف المتعلقة بالصراع مع الفلسطينيين هي التي
تؤدي إلى فشل الحوار حول هذا الصراع ،لكن ليس الحوار هو تضحية مشاعرنا العاطفية فقط،
إنما هو الصراع نفسه ،فالمشاعر العاطفية القديمة لدى اليهود ،تصطدم مع المشاعر العاطفية
10
القديمة لدى السكان المسلمين ،وبالتالي تعيق حل الصراع ،وتقضي على أية إمكانية إلنهاء
الصراع ،فلهذا الصراع ُعمق نفسي ،ولهذا العمق النفسي يوجد ُعمق تاريخي.
كل التاريخ اليهودي ،وكل التاريخ اإلسالمي ،يتواجدون بقوة في الصراع الفلسطيني اإلسرائيلي،
وكالهما يتصادم مع اآلخر ،سنة اليوبيل لحرب األيام الستة ،1967هي فرصة لتجديد أفكارنا،
وطريقة تفكيرنا حول الصراع ،وأهم شيء مطلوب منا هو االنتقال من قالب (نموذج) التفكير
الثنائي إلى قالب التفكير الكمي.
ليس فقط التفكير الديني أصبح ثنائي ،إنما التفكير السياسي ،ومثلما تم إزالة وإذابة الفوارق بين
كل األوامر الدينية ،كذلك تم إذابة الفوارق بين األفكار السياسية ،اليمين يؤمن أن فكر اليسار
خطير على أمن الدولة ،واليسار يؤمن أن فكر اليمين خطير على مصير الدولة ،اليسار واليمين
تبنوا الطريقة الدينية في التفكير ،إما أنا أو ال أحد ،إما أن تكون متدين بشكل كامل أو ال تكون.
على مدار الخمسين سنة الماضية ،تحولت طريقة التفكير السياسي في "إسرائيل" إلى طريقة
ثنائية :هل "إسرائيل" هي احتاللية ،أم دولة أخالقية؟ هل تعيش الدولة حالة صراع أم سالم مع
العرب؟ والسؤال المهم هنا هو :ما الذي سيحدث لو تم تغيير طريقة التفكير هذه؟ ،ماذا سيحدث
لو توقفنا عن التفكير بالسياسة بقوالب نظرية ثابتة ،والبدء بالتفكير بالسياسة بقوالب كمية قياسية،
وفي هذه الحالة ممكن أن نطرح أسئلة جديدة ،وبدالً من أن نسأل كيف سيتم حل الصراع ،نسأل
كيف سوف ُنقلصه ،وبدالً من أن نسأل كيف ننهي االحتالل ،نسأل كيف يمكن تقليله – تخفيفه.
نغير رؤيتنا للسالم ،وال نعتبر أن حدوثه سهل وسريع ،ومن أجل أن يحدث السالم ،يجب أن
يتغير الواقع الذي نعيشه ،ويجب أن نفكر بالسالم وفق القالب الكمي بالمستويات ،وليس إما أن
11
يحدث السالم أو ال يحدث ،وبدالً من أن نسأل كيف سيتحقق السالم ،نسأل ما الذي علينا فعله
من أجل زيادة فرص حدوث السالم؟.
األفكار والمبادئ لها قصص وروايات ،وفي هذا الكتاب سوف نحاول أن نقصص المبادئ
السياسية اإلسرائيلية ،ومنها المبادئ الموجودة بعمق الفكر الصهيوني ،والتي تحولت مع األيام
إلى أيدولوجيات سياسية مختلفة ،تتعارض مع بعضها.
الصدام بين المبادئ واأليدولوجيات ،هز المجتمع اإلسرائيلي بشكل دراماتيكي ،لذلك سيتم وصف
هذه المبادئ بشكل حاد ودراماتيكي ،وسيتم عرض النظرية وإخفاقاتها.
وهنا يجب القول أن الخالفات التي تقسم المجتمع اإلسرائيلي ،ال تقتصر أسبابها على المبادئ
األيدلوجية السياسية فحسب ،بل هناك مجموعة من األسباب التي تعمق الخالف واالنقسام ،منها:
خالفات دينية ،فوارق طبقية ،وحتى مصالح سياسية متناقضة ،كل هذه األسباب ال تحظى
بالتركيز واالهتمام ،وهنا نود أن ِّ
نذكر أن منهج الكتاب سيكون فكري بحت ،وسيركز على
المبادئ واأليدولوجيات السياسية ،مثل أفكار جابوتينسكي ،الحاخام كوك ،ماركس ،بن جريون،
ومفكرين آخرين من الذين أسهموا في تنمية الفروقات السياسية من خالل تمسك اآلخرين بأفكارهم
ومبادئهم األيدولوجية.
في الجزء األول تم شرح الفلسفة التي تقف خلف الفكر السياسي اإلسرائيلي ،وفي الجزء الثاني
عرضنا مظاهر تجسيد األفكار األيدولوجية عملياً على أرض الواقع ،وبحث الحوار السياسي
اإلسرائيلي من خالل االستماع لكل اآلراء لليمين واليسار.
في هذه األقسام سيتم فهم وتوضيح األفكار ،واالدعاءات ،والخالفات الفكرية والسياسية الدائرة في
"إسرائيل" منذ حرب األيام الستة حرب العام .1967
أما الجزأين الثالث والرابع فتم تخصيصهم لرسم مميزات طريقة التفكير العقالنية المطلوبة التي
تسهم في تقبل اآلخر في "إسرائيل" ،واالستماع آلرائه – البرغماتية.
12
الجزء األول:
األيدولوجيات السياسية في أزمة
13
مقدمة
غير هذا ،فخالل حرب األيام الستة ،عارض ُممثل الحزب الديني القومي داخل الحكومة ،الوزير
موشيه شبيرا ،التوجه للحرب ،الحرب التي أعادت إلى اليهود أجزاء كبيرة من أرض "إسرائيل"
ومن القدس.
كل من ينظر اليوم على تيار الصهيونية الدينية ،قد يتفاجأ من أن الحاخام رينيس كام ُمستعد
للتنازل عن أجزاء من أرض "إسرائيل" ،وأن شبي ار كان ُمعارض للحرب التي حررت المدينة
المقدسة ،فالحركة الصهيونية الدينية في بداية طريقها لم تكن ضمن اليمين ،وكذلك التيار
الصهيوني الديني لم يكن بأغلبيته من المتدينين ،لقد كان بين قادة معسكر الصهيونية الدينية
زئيف جابوتينسكي األب المؤسس لليمين اإلسرائيلي ،اليمين البعيد عن الدين ،وجابوتينسكي لم
يكن رجل متدين ،فقد كان رجل علماني ،ولم يكن مثل بقية قادة اليسار صاحب خلفية دينية أو
أفكار روحية دينية.
خالل السنوات ما بعد حرب األيام الستة ،تغير تيار الحركة الصهيونية الدينية ،وكذلك اليمين
العلماني ،فخالل سنوات السبعينيات أصبحت الصهيونية الدينية أكثر يميني ًة ،بالمقابل بدأ اليمين
بالضعف ،حتى أنه بالنهاية انضم لتيار الصهيونية الدينية ،وبهذا تم والدة أحد القوى
العلماني َّ
السياسية األيدولوجية ،صاحبة أكبر تأثير في تاريخ "إسرائيل" ،وهي قوة اليمين الديني.
كذلك اليسار مر بمرحلة تغيرات عميقة ،فاليسار اإلسرائيلي لم ُيؤمن بالسالم بالماضي ،فقد كان
البعد االجتماعي وليس السياسي ،وهدف اليساريون كان إنشاء دولة ُيركز طوال فترة وجوده على ُ
فيها مساواة بين العرب واليهود معاً ،وليس التوصل للسالم.
14
قادة الحركة العمالية اليسارية أمثال :بن جريون ،وموشيه ديان ،وجولدا مئير عبروا طوال فترة
طويلة عن شكهم في احتمالية التوصل للسالم مع العرب ،وهم من ابتعد بشكل ممنهج عن أي
اتفاقيات سياسية قد تؤدي للسالم مع العرب ،لكن في المرحلة ما بعد حرب األيام الستة ،مر
اليسار بمرحلة تحول ،ولقد استبدل الشعارات االجتماعية (المساواة) بشعارات سياسية (السالم)،
هذه اإلجراءات حدثت بشمل متوازي ،ففي الوقت الذي تغير فيه اليمين وأصبح أقل علمانية
وأكثر دينية ،تحول اليسار من حركة اجتماعية إلى حركة سياسية ،واليمين الجديد واليسار الجديد
اصطدموا ببعض بقوة ،وأشعلوا خالفاً أيدلوجياً بعد حرب األيام الستة.
15
الفصل األول:
التحول الفكري لليمين اإلسرائيلي
"زئيف جابوتينسكي" كان يتمتع ببعد النظر ،لقد استطاع رؤية مخاطر
كثيرة قادمة للشعب اليهودي ،وكان يحذر من خيانة البريطانيين لليهود،
ومن الهجوم العربي على اليهود ،وحذر من الكوارث التي ستحدث ليهود
أوروبا ،التاريخ أثبت لألسف أن كل توقعاته حدثت ،زئيف جابوتينسكي
كان رجالً -تقريباً طوال الوقت -صادق.
زئيف جابوتينسكي
خالل الحرب العالمية األولى تعهد البريطانيون بمساعدة اليهود إلقامة
وطن قومي لهم في فلسطين ،هذا التعهد الذي جاء في وعد بلفور ،كان
أساس كتاب تفويض بريطانيا لالنتداب على فلسطين ،والذي تعهدت فيه بريطانيا لتنفيذ التزامها
تجاه اليهود ،لكن جابوتينسكي لم يكن متفائالً ،واعتقد أن البريطانيون سوف يخرقون التعهد ،وآمن
أنه بدون خطوات فعالة من جانب الحركة الصهيونية ،فإن بريطانيا سوف تتجاهل اليهود وتخدم
العرب ،وفعالً لقد تراجع البريطانيون عن التزامهم للشعب اليهودي ،وذلك مع اإلعالن عن الكتاب
األبيض سنة .1939
البريطانيون تخلوا عن وعدهم –بلفور– ،وتخلوا عن الشعب اليهودي قبل الحرب العالمية،
جابوتينسكي حذر من خراب ينتظر اليهود في أوروبا بسبب الحزب القومي األلماني النازي،
وحاول أن يؤثر على الحركة الصهيونية ،واقترح بضرورة إجالء اليهود فو اًر من أوروبا إلى
فلسطين ،الرجل الذي صدق في توقعاته بالنسبة لبريطانيا ،صدق أيضاً في توقعاته بالنسبة
أللمانيا ،بشأن الكارثة التي ستحل على الشعب اليهودي في أوروبا بسبب ألمانيا.
وكذلك صدقت توقعاته بخصوص العرب ،لقد توقع أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين سوف تؤدي
إلى ثورة العرب المحليين ،وكتب عدة مقاالت تشير إلى حدوث ثورة عربية ضد اليهود في
فلسطين بسبب الهجرة ،وتوقع حدوث صراع عنيف مع العرب على خلفية قومية – مع الحركة
القومية العربية ،وهذا ما كتبه عن عرب فلسطين" :من السذاجة أن نعتقد أن العرب لن يثوروا
ضدنا على خلفية قومية ،ومن السذاجة أن نؤمن أنه يمكن ِّإرشاء كل السكان العرب المحليين،
ممكن فعل ذلك مع بعض األفراد ،لكن ال يمكن أن نفهم من ذلك أن كل السكان العرب في
16
فلسطين ال يريدون التخلي عن مشاعرهم القومية ،وهم سوف يحاربوننا ،حتى يحاولون التخلص
من مخاطر االستيطان اليهودي هنا ،وهذا ما سوف يفعلونه.
أي انسان وطني صهيوني يجب أن يدرك أن العرب المحليين وطنيين ،وهم لن يتخلوا عن
قوميتهم مقابل تحسين ظروف حياتهم المعيشية ،وعلينا نحن بالذات االستعداد لحرب كبيرة مع
العرب في البالد."...
جابوتينسكي مفكر سياسي ليبرالي معادي للعرب ،لديه شك وتشاؤم تجاه العرب ،وكان دوماً
معارضاً ألي اتفاقيات سياسية معهم ،بالنسبة له االتفاقيات السياسية لن تغير الطبيعة البشرية
للعرب ،ومن السذاجة اإليمان أن االتفاقيات السياسية سوف تؤدي إلى تغيير الطابع البشري
لديهم.
اتضح أن شكوك جابوتينسكي تجاه البريطانيين ،والعرب ،واأللمان ،لم تكن بالصدفة ،لقد كانت
نابعة من أحاسيس الشك في كل إنسان ،لقد كان يؤمن أن بداخل اإلنسان صفات سيئة ،ودوافع
عنيفة ،قد تؤدي إلى الحروب ،هذا اإليمان انعكس على فكره السياسي الذي توقع خيانة
البريطانيين ،وتمرد العرب ،والمذابح في ألمانيا.
بالنسبة لجابوتينسكي كان يؤمن بقوة اإلنسان الفرد الواحد داخل المجتمع ،كان يؤمن أن هذا
اإلنسان -الفرد الواحد -لديه قوة وطاقة كامنة ،لذلك يجب تحريره من أجل أن يعبر عن طاقاته
وقدراته ،وطالب بمنع قهر الفرد والوقوف أمام رغباته وحرياته ،وقال إن اإلنسان الفرد ممنوع أن
يكون خاضع لحكم الملك ،ألن اإلنسان الفرد الوحيد هو الملك بنفسه.
جابوتينسكي عبر عن فكر ليبرالي ،يؤمن أن اإلنسان الوحيد يجب أن ال يكون ِّملك للدولة ،وليس
خادماً لها ،إنما الدولة هي التي تخدمه ألن الدولة ِّملك له ،لذلك ممكن القول أن عالم األفكار
النموذجية لجابوتينسكي هو عالم فوضوي ،ال يوجد به نظام حكم ،ألن نظام الحكم بشكل عام
يميل إلى تقييد حريات الفرد ،وال يمكن تحرير الفرد إال عن طريق إلغاء أنظمة الحكم ،وخلق
حالة من الفوضى ،يكون اإلنسان هو الحاكم فيها ،ومن خالل هذه األفكار الليبرالية الداعمة
لحريات الفرد وتحرره ،طالب جابوتينسكي بفرض قيود على الحاكم ،أو حتى على سلطة
األغلبية.
من هنا طالب جابوتينسكي أن تكون دولة اليهود فيها أغلبية يهودية حاكمة ،لكن بالتعاون مع
السكان المسلمين والنصارى بالبالد ،وإشراكهم في الحكم والسياسة.
17
جابوتينسكي جمع ما بين الفكر السياسي المتشكك ،وما بين الفكر الليبرالي ،لقد كان متشكك جداً
في الخصوم واألعداء –أعداء الشعب اليهودي– لكنه طالب أن يكون لألقليات حقوق في
المشاركة بالحكم ،هذا النوع من الدمج نادر جداً وغير موجود تقريباً في أيامنا هذه ،السؤال هو ما
الذي حدث لليمين الليبرالي ،وأين اختفى هذا الدمج بين الشكوك والليبرالية في السياسة
اإلسرائيلية؟
جابوتينسكي يرى أن الحركة الصهيونية سلبية وغير فعالة ،ومهادنة بشكل كبير تجاه الخصوم
واألعداء ،ولقد طالب الصهيونية ِّفعاله ،أيضاً هناك ناشطة تطالب من المجتمع الدولي أن تكون
األغلبية في البالد يهودية ،البالد الموجودة ما بين ضفتي نهر األردن ،ومن هنا عبر
جابوتينسكي عن موقفه السياسي تجاه حدود الدولة الواسعة –األرض الموعودة لليهود حسب
المصادر الدينية اليهودية ،-لكن بالنسبة لجابوتينسكي حدود الدولة التي يجب اإلصرار على
المطالبة بها ،لم تتحدد في التوراة؛ إنما في االتفاقيات الدولية ،وتحديداً اتفاقية سان ريمو ،فعندما
صدر كتاب االنتداب لبريطانيا على فلسطين ،والتي كانت حينها تضم ضفتي نهر األردن ،وكان
عليها أن تلتزم بإقامة وطن قومي لليهود بهذه المنطقة ،بالنسبة لجابوتينسكي نحن اليهود حصلنا
على حدود الدولة وفق مؤتمر سان ريمو ،وليس حسب المصادر اليهودية أو التوراة ،وحدود
أرض "إسرائيل" الكبرى حددها المجتمع الدولي وليس هللا ،وبالنسبة لنا قد يبدو هذا غريباً ،لكن
هذه هي الحقيقة ،حدود األرض الموعودة بالنسبة لمفكري اليمين اإلسرائيلي آنذاك تحددت وفق
االتفاقيات الدولية ،وليس وفق المصادر الدينية اليهودية ،وليس وفق تعاليم ونصوص التوراة أو
التناخ.
اليوم ،كل من ينادي بمبدأ أرض "إسرائيل" الكبرى ،ال يفكر أصالً باالتفاقيات الدولية ،على
عكس مواقف جابوتينسكي الذي كان مهتماً باالتفاقيات الدولية وضرورة تطبيقها.
مناحيم بيغن وريث جابوتينسكي ،عبر عن أفكاره األيدولوجية في الحركة الصهيونية التصحيحية،
بيغن صرح عدة مرات أن أرض "إسرائيل" الكبرى تمتد على كلتا ضفتي نهر األردن ،وكذلك عبر
بيغن عن أفكار جابوتينسكي الليبرالية بشأن التعامل مع األقليات العربية في البالد (المسلمين
والنصارى – تقسيم على أساس ديني) ،وهو الذي ألغى الحكم العسكري الذي فرضه حكم حزب
18
"مباي" اليساري على عرب "إسرائيل" في سنوات الخمسينيات
والستينيات ،وهو الذي طالب بدستور لتنظيم حقوق الفرد.
الجيل الثالث لليمين اإلسرائيلي من أمثال دان مريدور ،وتسيفي ليفني ،وتساحي هنيجفي ،وجيؤاله
كوهين ،ويائير شامير ابن إسحاق شامير ،وليمور ليفنات ،وعوزي الندو ،ورؤوفين ريفلين ،وايهود
أولمرت ،وبنيامين نتنياهو هم أبناء المحاربين من الجيل الثاني لليمين اإلسرائيلي ،وهؤالء أبناء
الجيل الثالث ،العبون بارزون في الدولة اآلن ،وهذه المجموعة حملت لقب "األمراء" بمعنى أبناء
جيل المؤسس من اليمين ،ولكن رغم ذلك فإن هؤالء األمراء الورثة لم يحافظوا على األيدولوجية،
وكثير من هؤالء األمراء مثل :تسيفي ليفني ،دان مريدور ،ايهود أولمرت وكذلك بنيامين نتنياهو،
تراجعوا عن مبدأ فرض السيادة اإلسرائيلية على أرض "إسرائيل" الكبرى ،وأيدوا حل تقسيم البالد
لدولتين.
التحول األيديولوجي كان نتيجة ظروف سياسية جديدة ،فحلم أرض "إسرائيل" الكبرى تعرض
لضربة كبيرة بعد اندالع االنتفاضة األولى في المناطق الفلسطينية ،عندما خرج آالف الشبان
الفلسطينيين للشوارع ،إللقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على جنود الجيش اإلسرائيلي
والمستوطنين اليهود ،فالجنود الذين تم استدعائهم للخدمة فترة االنتفاضة ،لم يستلموا السالح
للدفاع عن حدود الدولة ،إنما استلموا اله اروات ،وخرجوا للتعامل مع سكان مدنيون وليس مع
أرتال الدبابات لجيوش العدو ،ووجدوا أنفسهم يالحقون أطفاالً ألنهم يرسمون الرسومات على
الجدران ،أو يرفعون على فلسطين ،جنود االحتياط عادوا إلى المنازل بجروح نفسية وجسدية ،لقد
تجندوا من أجل القتال ،وليس من أجل حكم شعب آخر ،ومع مرور الوقت زاد وعيهم لقضية
الحكم العسكري على شعب آخر.
ُ
19
هذه القضية – ُحكم سكان مدنيون بالحكم العسكري– انتشرت في وعى الجماهير اإلسرائيلية في
سنوات الثمانينات ،إضافة إلى قضية الخوف من المشكلة الديموغرافية ،االنتفاضة األولى زادت
من وعى المجتمع اإلسرائيلي حول السكان الفلسطينيين ،وكذلك للخطر الذي ُيشكله السكان
الفلسطينيين على األغلبية اليهودية في البالد.
وتيرة الزيادة الديموغرافية الفلسطينية أسرع وأعلى من وتيرة الزيادة الديموغرافية اإلسرائيلية،
وبالتالي بعد فترة زمنية سيؤدي هذا إلى أن يصبح اليهود أقلية وليس أغلبية في وطنهم ،فالخطر
الديموغرافي أثر كثي اًر على تيار اليمين اإلسرائيلي ،وحسب ادعاءات بعض قادة اليمين فإن
الخوف من المشكلة الديموغرافية هو الذي رفع أرئيل شارون لالنسحاب من قطاع غزة ،وحسب
نفس االدعاءات فإن نفس الخوف هو الذي دفع ايهود أولمرت وتسيفي لفيني للتفاوض مع
الفلسطينيين حول أجزاء من أرض "إسرائيل" ،وحسب تفسيرات قادة اليمين فإن الخوف من فقدان
األغلبية اليهودية في أرض "إسرائيل" هو الذي دفع نتنياهو للحديث عن إقامة دولة فلسطينية
منزوعة السالح إلى جانب دولة "إسرائيل".
الجيل الثالث لليمين الذي تربى على فكر جابوتينسكي ابتعد قليالً عن األفكار والمبادئ التي
نادى بها جابوتينسكي ،ولم يستطع الدمج بين الليبرالية والفعالية السياسية ،وفي مرحلة الجيل
الثالث تولدت ظروف جديدة وهي التنازل عن مبدأ الليبرالية ،والتمسك فقط بمبدأ الفعالية
خصوصاً تجاه العدو.
أبناء الجيل الثالث من تيار اليمين الذي تربى على أفكار جابوتينسكي تخلوا عن الليبرالية
وتمسكوا بالفعالية –القوة القصوى مع العدو– وذلك بسبب تخوفهم من المشكلة الديموغرافية
وفقدان األغلبية اليهودية في أرض "إسرائيل".
20
الفصل الثاني:
التحول الفكري اليساري
على مدار سنوات ،لم يؤمن التيار المركزي باليسار اإلسرائيلي بالسالم ،فمنذ سنوات العشرينيات
وحتى سنوات السبعينيات من القرن الماضي لم تضع الحركة العمالية في "إسرائيل" عملية
التسوية السلمية كهدف رئيس لها ،ألن الشكوك تجاه العالم العربي قضت على أمل التوصل
للسالم مع العرب ،وحتى بعد حرب العام – 1967حرب األيام الستة– كان قادة اليسار متخوفون
من التوصل التفاق سالم مع الدول العربية ،وعلى أرسهم شمعون بيرس -الذي تحول فيما بعد
لنبي سالم ،-كان متحفظاً جداً من إمكانية التوصل إلى اتفاقيات سالم مع الدول العربية
المجاورة.
أما بالنسبة لليسار فالسالم كان مجرد وهم ،ففي عام 1971رفضت حكومة "إسرائيل" برئاسة
جولدا مئير مقترحاً مصيرياً لتسوية الخالفات دبلوماسياً بين الدولتين ،إذا لم يؤمن اليسار
بالسالم ،ولم يكن يسعى التفاق سالم مع العرب ،فماذا كانت أيدولوجية اليسار؟ حتى وصل إلى
مرحلة التحول الكبير ،وبدأ يركز على السالم؟
حسب فكر كارل ماركس ،فإن اليسار اإلسرائيلي كان يركز على حرب الطبقات من أجل إقامة
مجتمع اشتراكي متساوي ،وكانت هذه األيديولوجيات -التي يقوم عليها الفكر اليساري بشكل عام
والفكر اليساري اإلسرائيلي طبقة العمال -يجب أن تحكم كل الطبقات من أجل مستقبل اشتراكي،
ومساواة بين كافة أبناء طبقات المجتمع ،تحت حكم طبقة العمال.
اليسار الصهيوني يؤمن بوجوب تخليص الشعب اليهودي من المعاناة ،ونقله إلى مرحلة المساواة
مع بقية الشعوب ،بدأ التحول الكبير لدى اليسار الصهيوني ،وتحديداً الحركة العمالية اإلسرائيلية
في سنوات السبعينيات ،حيث تخلوا عن حلم إقامة مجتمع اشتراكي ،وتبنوا حلم تحقيق السالم،
وبدالً من المساواة بين الطبقات طالبوا بالمساواة بين الشعوب.
بحسب موقف تيار اليسار فإن دولة "إسرائيل" بعد حرب العام 1967صارت مختلفة عن ما قبل
الحرب ،فقد تحولت من دولة ديمقراطية تسعى إلنشاء مجتمع متساوي ،إلى دولة ُمحتلة تحتل
21
الشعوب األخرى ،ولذلك يجب أن تسعى لتغيير المستقبل ،وتعمل على التوصل إلى اتفاق سالم
مع الدول العربية المجاورة لها.
غالبية مؤسسي الفكر االشتراكي الصهيوني هم من المهاجرين من روسيا المتأثرين بروح الثورة
االشتراكية ،عملوا على إنشاء مجتمع اشتراكي في أرض "إسرائيل" (أرض إسرائيل = فلسطين)،
ليس كل الصهاينة كانوا يساريون ،لكن القوة االشتراكية اليسارية كانت ُمسيطرة على الحركة
الصهيونية ،وسعت لتحقيق أهدافها فترة تأسيس الدولة.
الصهيونية االشتراكية (الصهاينة االشتراكيون) هم من قاد الكيان اليهود قبل قيام الدولة ،وهم من
قاد دولة "إسرائيل" في عقودها األولى واستمروا كذلك في قيادة الحركة الصهيونية ،فقد حاولوا
إنشاء نموذج اشتراكي خاص في "إسرائيل" ،ولكن مع الزمن اتضح لهم أن الحلم االشتراكي
ينهار ،واالشتراكية الصهيونية تعرضت لصدمات كبيرة خالل الحرب الباردة ،وهذه الحرب كانت
حرباً فكرية بين االشتراكية والرأسمالية ،و"إسرائيل" كانت ضمن القطب الرأسمالي ،رغم أن روسيا
دعمت قيام دولة "إسرائيل" باألمم المتحدة ودعمتها بالسالح خالل سنواتها األولى.
مع الزمن اتضح أن النظام الشيوعي معادي ل ـ"إسرائيل" ،والنظام الرأسمالي ُمحب ل ـ"إسرائيل"،
لذلك تراجعت قوة االشتراكية الصهيونية في ظل التحول السياسي الذي حصل في "إسرائيل"
خالل فترة حكم ستالين ،وحدث التحول نحو الغرب الرأسمالي بقيادة الواليات المتحدة األمريكية.
أمريكا أصبحت الدولة العظمى الوحيدة التي تقود الغرب الرأسمالي الداعم ل ـ"إسرائيل" ،واليهودية
في أمريكا ازدهرت على عكس االتحاد السوفيتي الذي قمع اليهود ،والرأسمالية بدأت تنتشر في
"إسرائيل" ،واالقتصاد اإلسرائيلي تحول إلى نظام الرأسمال الفردي ،ومع انهيار االتحاد السوفيتي
انتهى ُحلم اليسار اإلسرائيلي ،وبدأت الدولة تتجه نحو أمريكا الرأسمالية سياسياً وثقافياً.
بعد انتهاء حرب األيام الستة توسعت حدود الدولة ،ضمت شبه جزيرة سيناء ،وكذلك الضفة
الغربية ،والجوالن ،وقطاع غزة ،فقد سيطرت الدولة اإلسرائيلية على مناطق كانت تحت سيطرة
مصر ،األردن ،وسوريا ،وألول مرة أصبحت لدى "إسرائيل" أوراق ُمساومة قوية أمام الدول
العربية.
22
في يونيو 1967اتخذت الحكومة اإلسرائيلية قرار ،حيث عرضت على الدول العربية أن تعيد لها
هذه المناطق مقابل تسوية سليمة ،وقالت األمم المتحدة بذلك الوقت أن هذا المقترح هو القادر
على خلق االستقرار بالشرق األوسط ،لذلك أصدرت األمم المتحدة في حينه القرار رقم 242الذ
خلق معادلة األرض مقابل السالم ،لكن الدول العربية رفضت المقترح اإلسرائيلي ،وجامعة الدول
العربية عقدت اجتماعاً في سبتمبر 1967في العاصمة السودانية الخرطوم ،ورفعت شعار :ال
للسالم مع "إسرائيل" ،وال لالعتراف ل ـ"إسرائيل" ،وال للمفاوضات مع "إسرائيل" (الالءات الثالثة).
العرب توحدوا حول هذه الالءات الثالثة :رفض السالم ،واالعتراف لــ"إسرائيل" ،والتفاوض معها،
وبعد ذلك توحدوا لمحاربة "إسرائيل" في يوم الغفران.
بعد حرب الغفران التي فاجأت فيها مصر وسوريا "إسرائيل" بضربات جوية وبرية مفاجئة ،بادر
الرئيس المصري لزيارة "إسرائيل" ،وأعلن أنه ُمستعد اتفاق سالم مع "إسرائيل" ،كان الرد اإلسرائيلي
لمبادرة السادات للسالم رداً ُمستهجناً ،اإلسرائيليون لم ُيصدقوا ما سمعوا ،حتى أنهم لم ُيصدقوا أن
السادات حضر للكنيست ،ومبادرة السالم المصرية التي قادها اليمين اإلسرائيلي مع مصر أدت
إلى انهيار موقف اليسار االشتراكي اإلسرائيلي ،وانهيار أيمان أقسام كبيرة من الشعب به
وبمبادئه.
مفاوضات السالم مع مصر قادها الزعيم اليميني بيغن ،بينما كان اليسار يعيش حالة الشك
بالسالم مع العرب.
الخالفات بالمفاوضات مع مصر حول القضية الفلسطينية ،والرفض اإلسرائيلي لمطالب السادات
بقيام دولة فلسطينية ،والرفض اإلسرائيلي للتخلي عن الضفة أدى لقيام حركة السالم اإلسرائيلية،
الحركة التي قامت حتى تشجع اليمين اإلسرائيلي لالستمرار بالسالم مع مصر ،ومحاولة التغلب
على المصاعب المتعلقة بالقضية الفلسطينية ،حركة "السالم اآلن" كانت حركة سالم (إسرائيلية)
ُمختلفة عن بقية حركات السالم بالعالم ،فهي قامت من أجل إنهاء الحرب بين "إسرائيل" والدول
العربية ،وللتغلب على أي عوائق أمام التوصل للسالم.
اتفاق السالم الذي تم توقيعه بالنهاية بين "إسرائيل" ومصر ،أعطى أمالً جديداً لقيام يسار جديد
في "إسرائيل" ،وهذا التيار اليساري اإلسرائيلي الجديد طالب بانسحاب "إسرائيل" من المناطق التي
احتلتها عام ،1967والتوصل التفاق سالم مع الفلسطينيين ،من أجل شق الطريق للسالم مع
بقية العرب ،وفي سنوات التسعينيات بدأت هذه المطالب تترجم على أرض الواقع ،حيث جرت
23
أول محادثة علنية في مؤتمر مدريد وبعدها في أوسلو ،ثم بدأ االتفاق مع الفلسطينيين يتبلور
حتى تم توقيع اتفاقية أوسلو.
بالعام ،1993نشر شمعون بيرس كتابه الجديد بعنوان "شرق أوسط جديد" ،والذي قال فيه إن
السالم مع الفلسطينيين هو البداية ،وسيؤدي إلى سلسلة اتفاقيات سالم مع العرب ،وتعاون
اقتصادي بين "إسرائيل" والدول العربية.
السالم مع الفلسطينيين في اتفاقية أوسلو ،هي قصة التحول في اليسار اإلسرائيلي من االشتراكية
إلى السالم ،وفي نفس الوقت تحول اليمين من الليبرالية إلى المسيحية (اإليمان بالخالص)،
هذان التحوالن حدثا معاً بالتوازي ،وفي نفس المرحلة اليسار بدأ يؤمن بالسالم ،واليمين بدأ يؤمن
بالخالص (النهاية).
سنوات الثمانينيات والتسعينيات كانت السنوات الكبرى للصدام بين اليمين واليسار في "إسرائيل"،
اليمين الجديد الذي يؤمن باالستيطان في أرض "إسرائيل" ،واليسار الجديد الذي يؤمن بالسالم مع
الفلسطينيين ،واالنسحاب من أجزاء من أرض "إسرائيل".
مبادئ اليمين اإلسرائيلي حول أرض "إسرائيل" كاملة ،ومبادئ اليسار اإلسرائيلي حول السالم مع
العرب مرت بعدة مراحل من التغيير؛ وفقاً لألحداث والوقائع التي أثرت على الميدان السياسي،
التغيير كان فترة االنتفاضة األولى والثانية.
خالل فترة االنتفاضة األولى التي اندلعت عام ،1987كان %21فقط من اإلسرائيليين يؤيدون
قيام دولة فلسطينية ،مقابل ذلك خالل فترة االنتفاضة الثانية عام 2001أصبح %57من
اإلسرائيليين يؤيدون قيام دولة فلسطينية.
التمرد القومي الفلسطيني أدى إلى تغيير موقف اإلسرائيليين حول االحتالل واالستمرار في
كم ِّه ،االنتفاضة األولى أدت إلى إضعاف أهم مبادئ اليمين،
السيطرة على شعب آخر وح ِّ
ُ
واالنتفاضة الثانية أدت إلى إضعاف أهم مبادئ اليسار ،ألن االنتفاضة الثانية كانت أعنف من
األولى ،وقالت لإلسرائيليين ال يوجد أرض "إسرائيل" الكبرى ،وال يوجد سالم معكم ،فقد هدمت
انتفاضات الفلسطينيين أهم مبادئ اليمين واليسار في "إسرائيل" ،األمر الذي خلق حالة إحباط
لدى اليمين واليسار في "إسرائيل" ،من إمكانية تحقيق مبادئهم مع الفلسطينيين.
24
عاش اليسار حالة احباط بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد في يوليو ،2000فقد رفض عرفات
لمقترح رئيس الوزراء باراك االنسحاب من غالبية مناطق الضفة ،عندها بدأ اليسار اإلسرائيلي
ُيدرك أن الصراع ليس إلنهاء االحتالل ،وإنما لعدم وجود بدائل سياسية إلنهاء الصراع.
االنتفاضة الثانية كسرت اليسار اإلسرائيلي ،وقضت على آمال السالم ،الذي أصبح يبدو أبعد
من أي وقت مضى ،وحتى حركة "السالم اآلن" التي قامت خالل فترة السالم مع مصر انهارت،
ومع انهيار آمال السالم حدثت أزمة في اليسار اإلسرائيلي ،أزمة ممكن أن نسميها أزمة انهيار
المبادئ.
االنتفاضة األولى كسرت اليمين الليبرالي ،وقضت على ُحلم أرض "إسرائيل" الكبرى ،بينما
االنتفاضة الثانية كسرت اليسار اإلسرائيلي وقضت على ُحلم السالم مع الفلسطينيين ،واآلن كيف
المعطيات السياسية في "إسرائيل" بعد انهيار المبادئ األساسية لليسار واليمين؟
تبدو ُ
%70من اإلسرائيليين يقولون إنهم ليسوا معنيون بحكم شعب آخر والسيطرة عليه ،بنفس الوقت
رقم مشابه %67يؤمنون أنه ال يمكن التوصل إلى سالم مع الفلسطينيين ،وهذا هو الفخ أو
المصيدة التي سوف نتحدث عنها مع بقية الكتاب ،المجتمع اإلسرائيلي الذي عاش مرحلة
االنتفاضتين ال يريد أن يحكم الشعب الفلسطيني ،وال يؤمن بإمكانية التوصل للسالم معه.
25
الفصل الثالث:
الصهيونية الدينية المسيحياتية
التغيير في الصهيونية الدينية – التحول نحو الفكر الخالصي:
الصهيونية الدينية لم تكن دوماً يمينية ،التحول الكبير في الصهيونية الدينية حدث خالل سنوات
السبعينيات ،لكن السبب يعود إلى حرب العام ،1967فخالل حرب األيام الستة تم إعادة خلق
وبلورة مبادئ الحركة الصهيونية الدينية ،حيث اعتبروا أن الحرب هي حدث ديني منصوص عليه
بالتوراة ،وذلك بسبب االنتصار الكبير الذي حققته "إسرائيل" على العرب ،وأعادت إلى اليهود
أجزاء من األرض الموعودة لهم بالتوراة ،فبالنسبة لهم الرب عاد لدعم اليهود ُمجدداً ،وحالة
االنفعال الديني والعاطفي التي عاشها أبناء الحركة الصهيونية الدينية بعد حرب األيام الستة
أثرت عليهم للعودة إلى المسيحياتية – الخالصية – والعودة إلى اإليمان بمعتقدات الحاخام كوك،
والتفاسير التي وضعها ابنه الحاخام تسفي يهودا كوك لهذه المعتقدات واآلراء ،والتي تحولت إلى
أساس الفكر األيديولوجي للحركة الصهيونية الدينية.
الحاخام تسفي يهودا كوك فسر األحداث على أنها تحقيق للوعودات الربانية بخالص اليهود،
بالنسبة له عودة فرض السيادة اليهودية على أجزاء من أرض الميعاد ،يعني أننا نعيش م ارحل
متقدمة من مراحل الخالص والتحرر ،ومن هنا أي انسحاب من هذه المناطق ،يعنى التشويش
المخلص الذي سيحرر اليهود ،وبالتالي تأخير تحررهم.
على عملية الخالص ،وتأخير قدوم ُ
التحول الفكري الذي حصل في الحركة الصهيونية الدينية ،جاء بالتوازي مع أزمة اليمين ،لذلك
تحولت الحركة الصهيونية الدينية ألهم وأقوى مجموعة داخل تيار اليمين ،وذلك ألنها مرتبطة
بالمسار الديني.
هذا هو التحول لدى اليمين حول األرض الموعودة –أرض الميعاد– ،وقبل قيام الدولة آمن
اليمين أن أرض الميعاد موعودة لهم بواسطة المجتمع الدولي ومؤسساته الدولية ،وبعد حرب
األيام الستة آمنوا أن أرض الميعاد موعودة لهم بواسطة الرب ،والسيطرة عليها هي بداية عملية
التحرر والخالص ،وأن التنازل عن أجزاء منها سوف ُيعيق ويؤخر عملية التحرر والخالص
المخلص ،لذلك يجب منع التنازل عنها ،وخوض صراعات من أجل الحفاظ على كمالها
وقدوم ُ
وسالمتها.
26
بالنسبة للحاخام تسفي يهودا كوك" :يوجد بالتوراة والتناخ نبوءات حول مصير شعب "إسرائيل" في
األرض الموعودة ،وأن قيام الدولة ،وهجرة اليهود لها ،وحرب األيام الستة التي أعادت السيطرة
على أجزاء من أرض الميعاد ،وهي مراحل تحقق هذه النبوءات التي سيكون نهايتها الخالص
"تحرر شعب "إسرائيل" واقتراب النهاية".
أيضاً يوجد تشابه كبير -بالنسبة له -بين نبوءة خالص شعب "إسرائيل" النهائي في األرض
الموعودة ،وبين األحداث التاريخية في دولة اليهود –دولة "إسرائيل"– وأن هذا التشابه يعني
لمخلِّص) ،ولهذا السبب تهتم الحركة الصهيونية
اقتراب التحرر والخالص النهائي (على يد ا ُ
الدينية في توطين كل األجزاء من أرض الميعاد بالمستوطنين اليهود ،فالتوطين بالنسبة لهم ليس
فقط عالقة التحرر ،إنما سبب التحرر ،وحسب آراء الحاخام تسفي يهودا كوك فإن عملية التحرر
ليست حدث يجب انتظاره ،إنما حدث يجب التسريع به من خالل توطين اليهود في البالد
–بمعنى بناء المستوطنات وتسكين المستوطنين فيها ،-وبالنسبة لهم اليهود العلمانيون الذين بنوا
المستوطنات ،وأحضروا المهاجرين وشاركوا في الحروب هم متدينون بدون أن يعلموا ذلك،
ويطبقون تعاليم الدين ،وينفذون مراحل التحرر رغماً عنهم ،ودون علم منهم بذلك.
الحاخام تسفي يهودا كوك آمن أن بداية عملية التحرر هي في إقامة الدولة ،وفي عملية هجرة
اليهود إلى األرض الموعودة واالستيطان فيها ،وأن حرب األيام الستة هي ذروة المرحلة ،حيث
أعادت سيطرة اليهود على أجزاء كبيرة من أرض الميعاد – أرض "إسرائيل" التوراتية.
بالنسبة لهم أي تنازل عن هذه األجزاء سوف يؤخر عملية التحرر وخالص اليهود ،وسيؤدي إلى
خلق أزمة دينية في الحركة الصهيونية الدينية ،الحاخام تسفي يهودا كوك مات قبل االنسحاب
من سيناء بفترة قصيرة ،ولم يشهد عملية االنسحاب من مستوطنات غوش قطيف بقطاع غزة في
،2005في هذه المرحلة لم تحدث أزمة فكرية داخل الحركة الصهيونية التي كانت كبيرة بهذه
المرحلة ،ولم يفعلوا أي شيء لمنع االنسحاب من مستوطنات القطاع ،ولم يخرج اتباع الحاخام
تسفي يهودا كوك لوقف عملية تعويق وتأخير الخالص – بمعنى وقف عملية اإلخالء.
عندما قامت دولة "إسرائيل" بإخالء مستوطنات قطاع غزة ،هي عملياً هدمت الفكر الخالصي
للحركة الصهيونية القائم على االستيطان وتوطين اليهود بالبالد ،لكن ليس الجميع َّ
سلم بهذه
العملية ،هناك من تمسك ومازال يتمسك بتفاسير الحاخام تسفي يهودا كوك ،حول تحقق نبوءة
27
الخالص التوراتية لليهود في أرض الميعاد ،ومازال يؤمن أن فرض السيادة اليهودية على كافة
مناطق –أجزاء– أرض "إسرائيل" الكبرى هو تحقيق لنبوءة التحرر والخالص.
لكن وكما تم إضعاف فكر جابوتينسكي ،فإن األحداث السياسية سوف تُ ِّ
ضعف أفكار الحاخام
تسفي يهودا كوك ،ويبدو أن األيدولوجية الصهيونية الدينية القائمة على مبدأ الخالص سوف
تنهار مع الوقت واألحداث السياسية ،واألمل الذي بدأ بحرب األيام الستة تحطم في عملية
االنفصال واالنسحاب من غزة.
بفضل االنسحاب اإلسرائيلي من مستوطنات قطاع غزة ،تعرضت الحركة الصهيونية الدينية
ألزمة سياسية فكرية ،لكن ضعف الفكر الخالصي لم ُيضعف اليمين في "إسرائيل" ،بالعكس
اليمين اإلسرائيلي زاد قوة بعد االنسحاب بسبب تركيزه على ُبعد جديد قديم وهو األمن.
التفسير الجديد للخالص باليمين هو الحفاظ على أمن اليهود في أرض "إسرائيل" ،وأن االنسحاب
سيخلصها من الخطر ،وأن ما حدث في غزة من سيطرة المسلمين لن يعرض الدولة للخطر ،بل ُ
على القطاع بعد االنسحاب يقوي االدعاءات األمنية لليمين ،كذلك اليسار غير مواقفه السياسية
وآرائه الفكرية مثل اليمين ،فاليسار تخلى عن ُحلم تحقيق السالم مع الفلسطينيين ،وركز على
جرائم االحتالل اإلسرائيلي بالمناطق الفلسطينية ،اليوم في اليسار ال يتحدثون عن السالم ،إنما
عن حقوق اإلنسان الفلسطيني ،وجرائم االحتالل العسكري اإلسرائيلي للمناطق الفلسطينية.
اليسار اليوم ال يقول إن االنسحاب من المناطق الفلسطينية سيؤدي إلى تحقيق السالم ،لكنه يقول
إن استمرار االحتالل اإلسرائيلي للمناطق الفلسطينية سيؤدي إلى حدوث كوراث ،حتى اليمين
اإلسرائيلي ال يقول اليوم إن البقاء في المناطق الفلسطينية سوف يؤدي إلى التحرير –الخالص–
إنما االنسحاب من هذه المناطق سيؤدي إلى الكوارث ،اليسار وكذلك اليمين بدلوا آمالهم
بالمخاوف بسبب الفلسطينيين.
هذه باختصار قصة التحول من الوضوح األيديولوجي ،إلى التشتت السياسي لليسار واليمين في
"إسرائيل".
28
الجزء الثاني:
االدعاءات السياسية في أزمة
29
مقدمة
في هذا الجزء سوف نرى االدعاءات -مثل األيديولوجيات -كيف تعرضت لعدة أزمات ،ولكنها
تختلف عن األزمات التي مرت بها األيديولوجيات ،أزمة األيديولوجيا كانت تنبع من عدم مطابقة
األفكار للواقع ،وبالتالي انهيار الفكرة –األيديولوجيا– ،أما أزمة االدعاءات هي أن االدعاءات ال
تنهار وال تنكسر ،ألنها جاءت لتبرير الواقع وفقاً للرؤية األيديولوجية.
مع الوقت اتضح أن كافة ادعاءات اإلسرائيليين صحيحة ،اتضح أن اليمين كان صادقاً في
ادعاءاته السياسية ،كذلك اليسار كان صادقاً ،واألزمة نبعت من ذلك السبب ،وأن كافة
االدعاءات اليسارية لليسار واليمين كانت صحيحة ومالئمة للواقع ،واآلن سوف نعرض هذه
االدعاءات ،في المرحلة األولى سوف ندرس االدعاء األمني لليمين ،وكذلك االدعاء الديموغرافي
لليسار ،أما في المرحلة الثانية سيتم التركيز على المشاكل األخالقية لالحتالل التي يشير لها
اليسار ،وسندرس ادعاءات اليمين حول المشكلة نفسها ،بينما في المرحلة الثالثة سنستمع
لالدعاءات حول االنسحاب من الضفة الغربية ،وبالمقابل سنفحص هل استمرار الحكم العسكري
للسكان المدنيين في المناطق الفلسطينية مناقض للنبوءات التوراتية ،أما بالمرحلة األخيرة سنرى
للحكم الصهيوني ،وهذا الجزء سيكون ُمخصص للتعرف استمرار السيطرة على المناطق مناقض ُ
على االدعاءات التالية :األمنية ،األخالقية ،اليهودية ،والصهيونية ،هذه المركبات األربعة هي
التي تشكل حالة الفشل السياسي الجديد في الحياة السياسية اإلسرائيلية.
30
الفصل األول:
تناقض محرج
مكان الدولة "إسرائيل" يعرض مصيرها للخطر ويهدد وجودها" ،إسرائيل" دولة ديمقراطية محاطة
بدول عربية غير ديمقراطية ،وهناك من يعتبر أن "إسرائيل" هي غزو غربي لمنطقة الشرق
األوسط.
"إسرائيل" دولة يهودية ُمحاطة بقوى معادية لليهود ،قوي إسالمية تعتبر أن وجود "إسرائيل" هو
تدنيس للمناطق اإلسالمية المقدسة ،وهذه القوى العربية واإلسالمية ترغب في طرد هذا الغزو
الغربي المعادي لإلسالم في المنطقة ،باإلضافة إلى مشكلة المكان ،فهناك مشكلة الحجم لدولة
"إسرائيل" الصغيرة ،فال يوجد هامش مناورة يمكنه أن يساعدها على صد الهجمات والتهديدات،
وهذه العوامل :المكان والمحيط والحجم ،هي عوامل سيئة تهدد قدرة "إسرائيل" على البقاء ،والدمج
بين المكان والحجم والمحيط يجعل "إسرائيل" غير قادرة على حماية نفسها من األعداء المحيطين
بها ،وهذا يزيد من أهمية المناطق الجبلية بالضفة الغربية من الناحية األمنية ،وهي لن تستطيع
البقاء بدون هذه المناطق الجبلية؛ بسبب الوضع الطوبوغرافي والديموغرافي لدولة "إسرائيل".
هذه المنطقة الجبلية تحيط بمركز دولة "إسرائيل" من الشرق ،وتفصلها عن العالم العربي الواسع،
وهذه السلسلة الجبلية ترتفع بحوالي ألف متر عن منطقة الساحل التي تحتوي على %70من
سكان الدولة ،ولهذه المنطقة الجبلية أهمية أمنية عالية ،والسؤال هنا :من الذي يجب أن يسيطر
على هذه المنطقة الجبلية المرتفعة؟ هذه المنطقة التي قد تشكل قاعدة هجومية ضد مركز دولة
"إسرائيل" –أكبر تجمع يهودي بالعالم– وعندما يبقى الجيش اإلسرائيلي ُمسيط اًر على هذه المنطقة
ال يمنع فقط الهجمات ضد الدولة ،بل يؤمن الدفاع عن الدولة ،بمعنى أن السيطرة األمنية
اإلسرائيلية على هذه المنطقة هي حماية للدولة اليهودية ،والحفاظ على فاصل طبوغرافي بين
الدولة اليهودية والعالم العربي اإلسالمي ،وتخلي الجيش اإلسرائيلي عن هذه المناطق الجبلية
سوف يعرض دولة اليهود للخطر ،وبدون هذا الحاجز الطبيعي بين الدولة اليهودية الديمقراطية
والعالم اإلسالمي ستصبح الحياة في دولة "إسرائيل" غير آمنة.
المشكلة الديموغرافية:
31
هناك فرق كبير في وتيرة الزيادة السكانية بين الدول المتطورة والدول النامية ،وهذا بسبب مستوى
الثقافة والتعليم والحياة االقتصادية ،وفي حدود دولة "إسرائيل" يوجد شعبين ،شعب "إسرائيل" الذي
يعيش وفق معايير الدول المتطورة ،والشعب الفلسطيني الذي يعيش وفق ظروف الدول النامية،
فنسبة الزيادة السكانية لدى الشعب الفلسطيني أعلى من نسبة الزيادة السكانية لدى الشعب
اليهودي ،وهذه الفجوة الكبيرة في الزيادة السكانية تُظهر "المشكلة الديموغرافية" ،وهذه هي
المشكلة ،وألن الفلسطينيين يتزايدون اكثر من اليهود ،فهم قد يصبحوا أكثر منهم في المستقبل،
واألغلبية اليهودية سوف تنتهي ،وقد يأتي اليوم الذي يصبح فيه اليهود ليسوا أغلبية في الدولة،
وحسب هذه التوقعات فإن مستقبل دولة اليهود في خطر ،فالمشكلة الديموغرافية تهدد الدولة
القومية لليهود ،وتشكل خطر على وجودها وبقائها.
اليوم السكان اليهود ُيعتبرون أقلية بمنطقة الشرق األوسط ،لكنهم ُيعتبرون أغلبية داخل حدود دولة
"إسرائيل" ،وخالل سنوات قيامها نجحت "إسرائيل" في صد هجمات العرب المسلمين الذين
يحيطون بها ،ولكنها لن تستطيع الصمود أمام المعضلة الديموغرافية –األغلبية العربية ُ
المسلمة
بداخل الدولة– نهاية الصهيونية لن تكون بسبب احتالل خارجي لدولة "إسرائيل" ،إنما بسبب
التغيير الديموغرافي بداخلها ،وحسب ما قال الخبير الديموغرافي اإلسرائيلي "أرنون سوفير" من
جامعة حيفا" :نحن أمام نهاية دولة "إسرائيل" بسبب المشكلة الديموغرافية" ،وحسب السيناريوهات
المتوقعة سوف يتحول اليهود ألقلية داخل دولتهم ،وقد يستطيعون البقاء بالحكم بالقوة ،لكن في
هذه الحالة لن تبقى "إسرائيل" دولة يهودية ديمقراطية ،وهذه هي أهم نتائج المشكلة الديموغرافية،
يتقرب اليوم الذي تتحول فيه دولة "إسرائيل" لدولة غير ديمقراطية ،واألغلبية فيها للسكان غير
اليهود ،وسيترتب عليها أن تعيد تعريف نفسها ،هل هي دولة ديمقراطية يهودية ،أم دولة
ديمقراطية غير يهودية ،وعلى كلتا الحالتين ستكون نهاية دولة "إسرائيل" التي نعرفها.
بن جريون رفض احتالل المناطق الجبلية بالضفة الغربية بالعام 1948بعد االنتصار على
الجيوش العربية ،وكتب في مذكراته" :الجيش اإلسرائيلي كان قاد اًر على احتالل الضفة خالل
حرب االستقالل ،لكن ما هي الدولة التي ستكون لنا حينها ،دولة يهودية بأغلبية سكانية عربية
ُمسلمة ،وما بين السعي لتحرير كل الوطن وما بين الرغبة في إقامة دولة بأغلبية يهودية ،اخترنا
إقامة دولة يهودية" ،لكن الذي لم يحدث خالل حرب العام ،1948حدث خالل حرب العام
،1967والنصر الساحق انتهى باحتالل مناطق كبيرة ،وتم إعادة طرح معضلة الدولة اليهودية
32
واألغلبية العربية بداخلها ،ومنذ حرب األيام الستة هناك جدال سياسي في "إسرائيل" حول مسألة
هل علينا االنسحاب من المناطق التي تم احتاللها بالعام 1967أم ال؟
المعضلة تطورت ،وبدأنا نفكر كيف سنحافظ على وجودنا كأقلية يهودية ،دولة "إسرائيل" الكبرى
يعيش فيها أغلبية ليست يهودية ،سكان فلسطينيين ،وسوريين ،ومصريين (سيناء والجوالن والضفة
وغزة) ،قرار بين جريون التنازل عن احتالل جبال الضفة أنقذ الدولة اليهودية ،وحافظ على سيادة
اليهود فيها ،وربما قرار االنسحاب من المناطق التي تم احتاللها بالعام ،1967سوف ينقذ الدولة
اآلن ،وينقذ السيادة اليهودية فيها.
في أوساط الديموغرافيين –خبراء الديموغرافيا– يوجد موقف سياسي واضح ،وسيتم عرض هذا
الموقف في الصفحات القادمة من الكتاب ،لكن نستطيع القول أن رأي خبراء الديموغرافيا هو أن
المشكلة الديموغرافية تُشكل خط اًر على دولة "إسرائيل" ،والسيادة اليهودية فيها ،وإذا لم يتم
التوصل لحل الدولتين ستبقى هنا دولة واحدة ،وعندها قد نصبح أقلية فيها.
الخالصة:
33
الفصل الثاني:
ربما ال يوجد معضلة أمنية
هناك باليسار اإلسرائيلي من يعتقدون أننا ال نعيش في حالة تناقض ُمحرج ،بالنسبة لهم هناك
ُمشكلة ديموغرافية قائمة ،وخطيرة ،ولكن المشكلة األمنية ُمفتعلة وخيالية ،بالنسبة لهم ال يوجد
معضلة أمنية ،ولو أدى االنسحاب اإلسرائيلي من المناطق الجبلية بالضفة إلى تحقيق السالم،
فإن ذلك سيضمن توفير األمن ل ـ"إسرائيل".
ووفقاً لرؤيتهم فإن اتفاق السالم يشمل كل الترتيبات األمنية ل ـ"إسرائيل" برعاية دولية ،وهذا السالم
العزلة الدولية التي تعيشها ،واالتفاق مع الفلسطينيين سيغير مكانة
سيخرج "إسرائيل" من حالة ُ
"إسرائيل" المحلية والدولية.
من الممكن إعادة صياغة الرؤية األمنية لليسار كالتالي :المناطق الفلسطينية بمثابة ُذخر أمني،
واتفاق السالم هو ُذخر أمني أيضاً ،واألهمية األمنية في االتفاق أعلى من األهمية الدبلوماسية،
لذلك االنسحاب مقابل السالم ،أو استبدال المناطق ال يعتبر تنازل أمني ،إنما تحسين لألوضاع
األمنية ،صحيح أن االنسحاب سيضع أمام "إسرائيل" صعوبات للدفاع عن نفسها ،لكن اتفاق
السالم سوف يضمن إنهاء الصراع ووقف الحرب.
هذه الرؤية تعتمد على افتراضات خاطئة ،أوالً :التقليل من قوة الصراع التاريخي بين الشعبين،
وثانياً :التعظيم من قوة االتفاقيات السياسية.
نظرية المقاومة:
جزء من كراهية الفلسطينيين لإلسرائيليين مصدرها الكراهية العربية اإلسالمية العامة للغرب
اإلمبريالي ،ومن شعور اإلهانة بالوعي العربي واإلسالمي ،مقاومة االستعمار اإلمبريالي الغربي
خلدت هذه الكراهية ،التي انتقلت مع الزمن من مقاومة بريطانيا إلى مقاومة اليهود ،وهكذا تولد
الصراع الفلسطيني اإلسرائيلي ،لشعب يتعامل مع اليهود على أنهم جزء من المستعمرين الغربيين
الذين يحتلون موطنهم ،وهذه الشحنة القومية بالصراع الفلسطيني اإلسرائيلي قوية جداً ،وال يمكن
التقليل من قوتها ،ألن هذا صراع على خلفية قومية ،ولذلك لن يكون من السهل التوصل التفاق
سياسي لحل هذا الصراع ،ألن الذاكرة القومية الفلسطينية ال تبدأ من العام ،1967إنما من العام
1948عام النكبة.
34
النكبة:
حرب العام 1948التي أدت إلى قيام دولة "إسرائيل" ،تعتبر بداية تهجير السكان الفلسطينيين
من مناطق سكناهم ،مئات ألوف السكان الفلسطينيين تهجروا من أماكن سكناهم خالل حرب
االستقالل ،وحوالي 700ألف فلسطيني هاجروا خالل الحرب من أصل 950ألف كانوا يسكنون
في البالد قبل الحرب ،وبعد انتهاء الحرب تعرض الالجئين الفلسطينيين إلى سياسة (إسرائيلية)
واضحة ،رفضت إعادتهم إلى مناطق ُسكناهم التي غادروا منها خالل الحرب.
هذه الحادثة أدت إلى تهجير حوالي %80من الفلسطينيين من موطنهم ،وأدت إلى تفكيك
المجتمع الفلسطيني الذين يبلغ تعدادهم اليوم أكثر من ستة مليون نسمة ،غالبيتهم في مخيمات
الضفة وغزة واألردن ولبنان وسوريا.
الباحثون الذين زاروا مخيمات الالجئين ،وجدوا أن السكان الزالوا يحتفظون بالذكريات حول
طردوا منها ،ولديهم أمل بالعودة إليها ،كما أن أوالد وأحفاد هؤالء المهاجرين
منازلهم القديمة التي ُ
الذين يعتبرون الجئين ،لديهم نفس الذكريات واآلمال ،وبعضهم لديه نسخة من المفاتيح األصلية
للمنازل التي هاجروا منها.
بعبارة أخرى ،الحدث أدى لتفكيك المجتمع الفلسطيني ألج ازء ،وطبع الذاكرة القومية الجماعية لهم
وهو النكبة ،النكبة تخلدت في الذاكرة الجماعية الفلسطينية ،وتحولت إلى حالة تضامن عامة،
للتأكيد على حق العودة.
غالبية الفلسطينيين يؤمنون أن لكل واحد منهم حق في العودة إلى فلسطين ،إلى المدينة أو القرية
طرد أجداده منها خالل النكبة بالعام ،1948وهم يحملون بداخلهم آمال للعودة إلى أرضهم
التي ُ
ووطنهم.
وألن حق العودة هو جزء من الهوية الفلسطينية ،ال يمكن التنازل عن هذا الحق بدون تغيير
جوهري للهوية القومية الفلسطينية.
تطبيق الطموحات القومية الفلسطينية المتمثلة في حق العودة سيؤدي للقضاء على المشروع
الصهيوني ،ف إذا عاد آالف الفلسطينيين إلى منازلهم ،سوف ينهار الوطن القومي لليهود ،لذلك
حل الدولتين يجب أن يضمن تنازل الفلسطينيين عن حق العودة إلى دولة "إسرائيل" ،مقابل أن
35
تُعيد "إسرائيل" للفلسطينيين جزء من المناطق التي تم احتاللها بالعام ،1967هذا ما يجب العمل
عليه ،إنهاء االحتالل في مقابل التنازل عن النكبة ،ودولة مقابل التنازل عن حق العودة.
والسؤال هو - :هل يمكن أن ُيوافق الفلسطينيين على هذا الحل أو على هذا االتفاق؟
الحقيقة أن احتالل المناطق بالعام 1967ال يعتبر السبب الحقيقي للصراع الفلسطيني
اإلسرائيلي ،إنما قيام الجيش اإلسرائيلي باحتالل المناطق بعد حرب األيام الستة ،وهذا االحتالل
أصبح أحد مصادر الصراع ولكنه ليس السبب الرئيسي ،لذلك إنهاء االحتالل لن يؤدي إلى إنهاء
الصراع ،بمعنى أن االتفاق السياسي ال يستطيع حل الصراع القومي بين "إسرائيل" والفلسطينيين،
وبنفس الوقت ال يمكن لهذا االتفاق أن يعوض "إسرائيل" عن مخاطر التنازل واالنسحاب من
المناطق الجبلية بالضفة الغربية.
36
الفصل الثالث:
ربما ال يوجد مشكلة ديموغرافية
المستخلصة من الفصل السابق واضحة وهي :ممنوع على "إسرائيل" أن تنسحب من الضفة العبرة ُ
الغربية والمناطق الجبلية التي تم احتاللها خالل حرب األيام الستة بالعام ،1967لكن على
"إسرائيل" عدم البقاء بهذه المناطق ،ألن البقاء المتواصل بهذه المناطق سوف ُيسهم في زيادة
العزلة الدبلوماسية ،وتحديداً من جهة أوروبا ،وسيؤدي إلى زيادة المعضلة الديموغرافية.
ُ
كل سنة تمر بدون انسحاب "إسرائيل" من الضفة الغربية ،تزيد احتماالت التوجه نحو دولة ثنائية
القومية ،سيكون فيها اليهود أغلبية ُمهددة باالنتهاء ،وتحول العرب إلى أغلبية بهذه الدولة ،وعندما
المسلمة ،لن تصبح دولة "إسرائيل" دولة تبقى األقلية اليهودية هي الحاكمة لألكثرية العربية ُ
ديموقراطية ،وربما لن تُعد جزء من المجتمع الدولي الديمقراطي الغربي.
قادة اليمين اإلسرائيليين يتفهمون هذه المعضلة ،ويقترحون حل سياسي وهو ضم الضفة الغربية
للسيادة اإلسرائيلية ،وبهذه الحالة لن يبقى السكان الفلسطينيون الجئون تحت الحكم اإلسرائيلي،
وسيتحولون إلى مواطني الدولة ،وبهذا سيتم -بالنسبة لليمين -حل ُمشكلة ُعزلة "إسرائيل" الدولية،
وعدم تحول "إسرائيل" لدولة غير ديموقراطية ،هذا الحل لن ُيعالج المعضلة الديموغرافية،
وسيزعزع تعريف "إسرائيل" لنفسها كدولة الشعب اليهودي ،لكن باليمين يرفضون هذه االدعاءات، ُ
ويقولون إن ضم الضفة بسكانها لن ُيشكل خط اًر على "إسرائيل" كدولة ديمقراطية ،والدولة القومية
للشعب اليهودي.
أما بالنسبة ألصحاب هذه الرؤية من تيار اليمين فال يوجد مشكلة ديموغرافية ،والمعضلة
الديموغرافية غير قائمة ،وهي مجرد اختراع من بعض الباحثين اليساريين ،وتقوم على أساس
ُمعطيات مصادرها فلسطينية.
ويدعي أصحاب هذه الرؤية من اليمين أن عدد السكان الفلسطينيين بالضفة ليس كثير ،وهو أقل
مما يعرضه اليساريون في أبحاثهم ،ويزعمون أنه في العقدين األخيرين انخفضت نسبة الزيادة
السكانية الطبيعية للفلسطينيين ،بسبب انخفاض نسبة الوالدة ،وبالمقابل زادت نسبة الوالدة لدى
اليهود ،لذلك لن يصبح العرب أكثر من اليهود بل العكس ،وبالتالي فإن المعضلة الديموغرافية
37
غير موجودة ،ويمكن ضم الضفة ل ـ"إسرائيل" ،وهذا لن يشكل أي خط اًر أو تهديداً على يهودية
الدولة.
يدعى بعض الباحثين الديموغرافيين من تيار اليمين ،أن عدد سكان الضفة الغربية حتى عام
2003بلغ 1.65مليون نسمة ،بينما هم في الحقيقة أكثر من ذلك ،وبلغ تعدادهم السكاني
حوالي 2.3مليون نسمة ،الفرق بين ادعاء اليمين وبين الرقم الحقيقي حوالي مليون نسمة ،وهذا
فرق كبير جداً هذا أوالً ،أما ثانياً فلو افترضنا أن مزاعم اليمين صحيحة ،فكيف ستتعامل دولة
"إسرائيل" مع هذا العدد من السكان بعد أن تضمهم إليها؟
إن ضم هذه الكمية من الفلسطينيين لن يؤثر على تعريف دولة "إسرائيل" كدولة يهودية قومية
للشعب اليهودي ،أضف إلى ذلك أن ضم هذا العدد من السكان العرب الفلسطينيين من الضفة
إلى دولة "إسرائيل"؛ سوف ُيضاعف إجمالي عدد السكان العرب في "إسرائيل" ،وقد يصبحون معاً
حوالي نصف سكان الدولة ،وبالتالي سوف تتحول الدولة من دولة الشعب اليهودي إلى دولة
ثنائية القومية.
والسؤال المهم :هل اليمين الذي ال يعتمد على الفلسطينيين لمنحهم دولة خاصة بم سيوافق على
منحهم جنسية الدولة اإلسرائيلية؟ وهل سيثق في والئهم لها؟
إذاً أنتم تعتبرونهم ال يستحقون دولة خاصة بهم ،فكيف ستجعلونهم مواطني "إسرائيل"؟
مناطق الضفة الغربية موجودة تحت الحكم العسكري اإلسرائيلي ،لكن السكان الذين يعيشون
هناك ليسوا (إسرائيليين) ،هذا الواقع يزعزع الطابع الديمقراطي لدولة "إسرائيل".
الباحث بيتر بنزات صاغ الحقيقة بهذه الكلمات" :دولة "إسرائيل" ُمقسمة لقسمين ،القسم األول
داخل الخط األخضر وهو "إسرائيل" الديمقراطية ،والقسم الثاني خارج الخط األخضر وهو
"إسرائيل" غير الديمقراطية".
المستوطنات تُزيد العملية تعقيداً ،فهناك يعيش مواطنو دولة "إسرائيل" ،الذين تحل عليهم قوانينها
لكن خارج حدود الدولة ،حتى أن المستوطنون يتمتعون بحقوق أكثر من السكان الفلسطينيين
حولهم ،وهذا يجعل دولة "إسرائيل" غير قادرة على إنكار وجود حالة من الفصل العنصري ،مثل
38
ذلك الذي ساد في جنوب أفريقيا ،وهل يوجد حقاً فصل عنصري بالضفة ،وهل "إسرائيل" فعالً
ليست ديمقراطية؟
الوضع ُمعقد ومتناقض ،وحسب الموقف الرسمي اإلسرائيلي المكانة القانونية لمناطق الضفة
مؤقتة؛ بسبب عدم قيام دولة فلسطينية ،وحسب نفس الموقف فإن عدم قيام دولة هو ليس بسبب
"إسرائيل" ،وإنما بسبب رفض الفلسطينيين لذلك.
النتيجة المترتبة على هذا التحليل هي أن الفلسطينيون يناضلون ألجل استقالل قومي ،وليس
للمساواة بالحقوق ،لذلك ال يوجد ابرتهايد ،لكن طالما أن اليهود أغلبية في وطنهم فهم قادرون
على تقسيم وطنهم ومنح الفلسطينيين دولة بدالً من ضمهم إلى "إسرائيل" ،كي ال يصبحوا أغلبية
ويهددوا األغلبية اليهودية في "إسرائيل" ،عندها سيتحول نضال الفلسطينيين من قومي إلى
ديموغرافي ،وسيهددون مصير الدولة اليهودية ،وصدق من قال" :الدولة الفلسطينية هي إنقاذ
للدولة اليهودية".
العمى المزدوج:
مثلما يوجد انتقادات على رؤية اليمين حول ضم الضفة وسكانها لدولة "إسرائيل" ،يوجد كذلك
انتقادات على رؤية اليسار من أن االتفاق السياسي سوف ينهي حالة الصراع اإلسرائيلي
الفلسطيني ،وأن االتفاق سوف يضمن لهم حماية أمنية أفضل من جهة الضفة الغربية ،مثل دولة
منزوعة السالح ،ومراقبين دوليين ،حتى هذه الرؤية خاطئة ،بها ُمخاطرة أمنية كبيرة لو حدثت،
وممكن القول إنه مثلما يراهن اليمين على األغلبية اليهودية في دولة "إسرائيل" ،فإن اليسار يراهن
على األمن القومي لدولة "إسرائيل" ،وهذا ما يمكن وصفه بالعمى المزدوج للتيارين.
39
المستخلصة لليسار :أن كل احتالل سينتهي بالفشل ،وممنوع على دولة ديمقراطيةالعبر التاريخية ُ
المستخلصة لليمين :أنه ممنوع ترك أمن اليهود بيد غيرهم
احتالل شعب آخر ،والعبرة التاريخية ُ
من غير اليهود ،بمعنى ممنوع االنسحاب من الضفة وترك األمن القومي بيد غيرهم.
المستخلصة بالنسبة
ومن هنا يوجد تناقض بين رؤية اليمين ورؤية اليسار ،وبين العبر التاريخية ُ
لكل تيار.
إذا أرادت دولة "إسرائيل" حماية نفسها من أغلبية ُمسلمة تحيط بها ،ممنوع عليها االنسحاب من
الضفة ،وإذا أرادت حماية نفسها من أغلبية مسلمة بداخلها عليها االنسحاب من الضفة ،هذا
الصدام والتناقض نابع من حقيقة أن كال الطرفين صادقين ،اليمين صادق عندما يعتبر أن
االنسحاب يعرض "إسرائيل" للخطر ،واليسار صادق عندما يعتبر أن البقاء هناك وضم
الفلسطينيين للدولة سيعرض مستقبل الدولة اليهودية الديمقراطية للخطر ،وألن كالهما صادق؛
فالحقيقة أن دولة "إسرائيل" موجودة في مصيدة.
40
الفصل الرابع:
المعضلة األخالقية
الجدال حول مستقبل دولة "إسرائيل" ،ليس جدال حول البقاء فحسب ،إنما جدال على القيم،
فاالنسحاب من الضفة بالنسبة لليمين ال يشكل خطورة أمنية فقط ،بل يعتبر بمثابة إفالس
يهودي ،والبقاء في المناطق الفلسطينية بالنسبة لليسار ليس فقط يشكل خط اًر ديموغرافياً على
الدولة ،إنما يعتبر بمثابة إفالس أخالقي للدولة الديمقراطية.
في الفصول الماضية عرجنا على معضلة البقاء ،وفي هذا الفصل سنستعرض المعضلة
األخالقية ،لن نتحدث في هذا الفصل عن الوضع القانوني للمناطق الفلسطينية ،بل سيتم التركيز
على المسائل اإلنسانية واألخالقية فقط ،وسنبدأ بموقف اليسار الذي ينتقد فيه البقاء في المناطق
الفلسطينية من الناحية األخالقية.
الديمقراطية ليست فقط حكم األغلبية ،الديمقراطية هي احترام اآلخر ورغباته الخاصة الفردية
والجماعية القومية ،وال يمكن اعتبار بقاء شعب تحت احتالل شعب آخر كنوع من الديمقراطية،
إنما نوع من الديكتاتورية الخاصة التي يقوم خاللها شعب باستعباد شعب آخر.
خالل فترة تراجع أوروبا عن احتالل واستعمار دول وشعوب العالم ،اندلعت حرب األيام الستة،
ومنذ هذه الحرب ودولة "إسرائيل" الديمقراطية تعيش حالة احتالل شعب آخر ،وتفرض الحكم
العسكري على سكان مدنيين في مناطق خارج حدودها ،وبنفس الوقت تقول أنها دولة ديمقراطية.
حتى توقيع اتفاقية أوسلو كانت "إسرائيل" تفرض الحكم العسكري على كافة المناطق الفلسطينية
بالضفة الغربية وقطاع غزة ،الجيش اإلسرائيلي يتعامل مع السكان كأنه شرطة ،ومحاكم ،وهيئات
خدماتية ،وأحد أهم ُمهمات الجيش اإلسرائيلي بالمناطق كانت منع السكان الفلسطينيين من
تحقيق طموحاتهم القومية ،فقد طلب الجيش من جنوده اعتقال من يرفع العلم الفلسطيني ،ومن
يرسم الرسومات القومية على الجدران.
اإلدارة المدنية كانت تقدم الخدمات المدنية للسكان في مجاالت المياه والكهرباء ،الكثير من
اإلسرائيليين اعتقدوا أن الفلسطينيين سوق يتأقلمون مع وضع االحتالل والحكم العسكري
سيساهم في تحسين ظروف حياتهم االقتصادية ،وبالتالي لن
اإلسرائيلي ،وأن هذا االحتالل ُ
41
ُيقاوموا االحتالل بعد أن تتحسن ظروف حياتهم ،لكن اندالع االنتفاضة األولى قضى على هذا
االدعاء ،فالفلسطينيون أرادوا الحرية القومية والتخلص من الحكم العسكري اإلسرائيلي أكثر من
االزدهار االقتصادي.
االنتفاضة زعزعت المجتمع اإلسرائيلي ،وأدخلته في مسار مؤلم ،نهايته اتفاقية أوسلو ،وحسب
هذه االتفاقية سيتم إقامة حكم ذاتي في المناطق الفلسطينية ،تسمح لهم بحكم أنفسهم بأنفسهم،
وحسب االتفاق ستكون مدة المرحلة األولى خمس سنوات فقط ،وبعدها يتم التوقيع على اتفاقيات
المرحلة النهائية ،وخالل هذه المرحلة توقع الفلسطينيون االنتقال إلى مرحلة الدولة ،لكنهم لم
يحصلوا على ما أرادوا ،وعاشوا بحكم ذاتي جزئي على بعض مناطق الضفة فقط ،واالحتالل
العسكري اإلسرائيلي تبقى.
دولة "إسرائيل" تسيطر على كافة المناطق المحلية بمناطق السلطة بالضفة ،وهذه المناطق التي
ومجزئة ،وكل شيء بهذه المناطق مرتبط ل ـ"إسرائيل" ،حركةتسيطر عليها السلطة محدودة ُ
السكان بين المدن مرتبطة بموافقة (إسرائيلية) ،الجيش اإلسرائيلي هو الذي يحدد متى يخرجون
ومتى يدخلون وعلى أي طريق يسافرون ،وأحياناً يتم إغالق طرق الضفة فترات األعياد ،وعند
التوتر األمني يتم فرض الطوق على الضفة وعدم الحركة بين المدن الفلسطينية ،وكذلك بين
الضفة و"إسرائيل".
حتى بعد موافقة "إسرائيل" على حكم ذاتي بالمناطق الفلسطينية زاد الجيش اإلسرائيلي ارتباطه
وتعلق السكان به ،ليس كل سكان الضفة يعيشون داخل المدن ،فهناك جزء كبير من السكان
يعيشون في مناطق Bو ،Cبمعنى أنهم يعيشون تحت الحكم العسكري اإلسرائيلي المباشر ،على
عكس سكان المناطق Aالذين يعيشون تحت الحكم العسكري اإلسرائيلي بشكل غير مباشر.
أضف إلى ذلك كله أن دولة "إسرائيل" سمحت ببناء عشرات المستوطنات ،وتوطينها بمئات
المستوطنين في المناطق التي احتلتها بالعام 1967بعد حرب األيام الستة.
هذه المستوطنات لها حاجات أمنية ،وتمون في غالبية األحيان على حساب السكان المحليين،
مثل مصادرة األراضي المجاورة للمستوطنات ،وإغالق الطرق المجاورة للمستوطنات ،ومنع العرب
من التحرك عليها ،فالحكم العسكري اإلسرائيلي ليس فقط يحتل سكان مدنيين لشعب آخر ،إنما
يقوم بحماية سكان مدنيين يهود وسط الضفة.
42
دولة "إسرائيل" دولة ديمقراطية ،ولكنها دولة تحتل شعب آخر حتى يومنا هذا ،وهذه القضية تزيد
من المعضلة األخالقية ،كل مواطن في دولة "إسرائيل" ُمشارك في االحتالل ،والحكم العسكري
على الفلسطينيين ،وذلك ألنه يختار بنفسه الحكومة ،ويشارك في العملية االنتخابية ،إذاً هو
مشارك بما تقوم به الدولة.
االحتالل يحول المجتمع اإلسرائيلي إلى مجتمع فاسد ،ومؤيد للجرائم التي يقوم بها الجنود
بالمناطق الفلسطينية ،والحقيقة هي أن ليس االحتالل يؤدي إلى الفساد ،إنما االحتالل بحد ذاته
فاسد ،فاالحتالل هو مصادرة حرية شعب آخر ،شعب ديمقراطي يسيطر على شعب غير
ديمقراطي وهذا يخلق حالة من الفساد ،وانعدام األخالق لدى الطرفين.
"لكنهم يريدون قتلنا" هذا مجرد ادعاء أمني ،وتم مناقشته في الفصول السابقة ،لكن هل يوجد رد
واضح على الطرح األخالقي ،لماذا دولة ديمقراطية تواصل احتالل شعب آخر وتحكمه بالحكم
العسكري؟
43
الفصل الخامس:
المعضلة اليهودية
االدعاء التوراتي:
حسب نظرية اليمين اإلسرائيلي فإن توطين أرض "إسرائيل" بالمستوطنين اليهود هو أمر ديني،
وتعاليم توراتية ،واالنسحاب من أرض "إسرائيل" هو مخالفة دينية ،فاالدعاء الديني يضاف إلى
االدعاء األمني ،الذي يؤكد أن االنسحاب من الضفة يعرض "إسرائيل" للخطر ،وهو بمثابة
مخالفة للتوراة ،االدعاء التوراتي الديني ُيضيف ُبعداً قوياً لالدعاء األمني ،ويحول االنسحاب من
الضفة إلى خطيئة دينية.
من أين جاء أن توطين البالد باليهود هو تعليمات دينية؟ المصدر الرئيسي لهذه المقولة هو
جملة ألحد كبار حاخامات "إسرائيل" منذ فترة العصور الوسطى ،وكذلك الرمبام –الحاخام موشيه
بن ميمون– قال إنه يوجد بالتوراة تعليمات متشابهة لتوطين البالد ،وحسب تفسيره يعتبر الرمبام
أن من ال يريد تطبيق هذه التعليمات فهو ليس متمرد على التوراة ،وإذا كان هناك خطورة على
الحياة في تطبيق تعليمات التوراة ،فيجب عدم تطبيق هذ التعليمات ،وعلى اليهود عدم تعريض
نفسه للخطر ،حتى لو كان هذا لتطبيق تعاليم أوامر التوراة.
من هنا يتضح أن تطبيق تعليمات الدين مثل توطين البالد لليهود ،لو كان يعرض حياة اليهود
للخطر فإن التخلي عن هذه التعليمات ال يعتبر خرق للدين والتوراة ،وهكذا أفتى الحاخام عوفاديا
يوسف أنه إذا كان االنسحاب من الضفة سوف ينقذ حياة اليهود وستؤدي إلى تحقيق األمن فإن
هذا االنسحاب ليس فقط مسموح ،بل هو واجب من الناحية الشرعية الدينية.
واضخ أنه مسموح إعادة مناطق من أرض "إسرائيل" تحقيق هذا الهدف ،وهو الحفاظ على النفس،
وحماية حياة اإلنسان ،وعدم تعريض اليهود للخطر حسب موقف الحاخام عوفاديا يوسف.
مقابل موقف الحاخام عوفاديا يوسف ،يوجد موقف الحاخامات "يشع" مجالس مستوطنات الضفة
الغربية ،الذين اعتبروا أن االنسحاب من أجزاء من أرض "إسرائيل" مخالف للتوراة ،وممنوع تسليم
أي أجزاء من أرض "إسرائيل" للعرب ،واعتبروا أن االتفاق مع الفلسطينيين هو اتفاق مع
المخربين ،وتسليم المناطق لهم ،مناقض لتعليمات الشريعة اليهودية ،وأن خروج الجيش من المدن
الكبرى بالضفة سوف يعرض حياة اليهود للخطر – تحديداً المستوطنين.
44
وطالما هذه األمور فيها خطورة ،ممنوع المخاطرة وتعريض النفس والحياة للخطر ،فالتعليمات
الدينية حسب التوراة هي االمتناع عن تسليم أراضي من أرض "إسرائيل" للعرب ،وتوطين أرض
"إسرائيل" ،وبنفس الوقت عدم المخاطرة بحياة اليهود ،وتعريض النفس للخطر من أجل تطبيق
تعليمات التوراة ،لكن هناك من يقدم تفسير مختلف للخطر ،وهو أن االنسحاب من الضفة سوف
يعرض حياة اليهود للخطر ،ولذلك يجب االبتعاد عن هذا الخطر ،حسب أوامر التوراة.
في الفصول السابقة ناقشنا هذه االدعاءات التي تقول أن االنسحاب من الضفة سيؤدي إلى
كارثة ،واالدعاء المناقض له الذي يقول إن البقاء في الضفة سيؤدي إلى كارثة ،ناقشنا المزاعم
األمنية القومية ،وكذلك المزاعم الديمقراطية الديموغرافية ،وهنا نرى أنه يوجد ادعاءات تقول إن
االنسحاب قد ُيشكل خط اًر على حياة اليهود ،مقابل ادعاءات تقول أن البقاء قد ُيشكل خط اًر على
حياة اليهود ،وفي الحالتين ُيطالِّب الفريقين باالبتعاد عن الخطر ،وفقاً لحسابات وتعليمات دينية
توراتية ،وكذلك أمنية.
بمعنى أن االدعاء أمني ،وكل طرف يقول إذا كان الوضع األمني جيد ،فإن التعليمات الدينية
صحيحة ،وإذا كان الوضع األمني مناسب للبقاء بالضفة ،فالتعليمات الدينية حسب البقاء بالضفة
صحيحة ،وإذا كان الوضع األمني مناسب لالنسحاب من مناطق الضفة الغربية فإن التعليمات
بالبعد األمني ،لذلك
الدينية صحيحة ،إذاً فاالدعاء الديني التوراتي ليس ُمستقالً بذاته ،وهو مرتبط ُ
ال يمكن حسم مصير مناطق الضفة الغربية وفق فتاوى دينية من الشريعة اليهودية ،ألن
الحسابات الدينية لن تكون أقوى من الحسابات األمنية بالعكس تماماً.
أخي اًر ،يمكن القول أن الجملة التي تنص على أن االنسحاب من مناطق أرض "إسرائيل" بمثابة
مخالفة للتوراة ،هي جملة غير صحيحة من الناحية الدينية.
االدعاء القومي:
اليهودية هي الدين وهي العرق بنفس الوقت ،يوجد باليهودية ُكتب ُمقدسة وتعليمات شرعية
خاصة ،ولغة مشتركة ،وذاكرة جماعية واحدة ،ووطن تاريخي واحد ،لذلك تُعتبر اليهودية الديانة
و ِّ
العرق القومي معاً.
البعد القومي ،على عكس االدعاء الضعيفبالنسبة لتيار اليمين يوجد ادعاء قوي على صعيد ُ
البعد القومي؛ يدعي اليمين أن األمة اليهودية كعرق
على الصعيد الديني ،أما على صعيد ُ
45
خاص ،نابعة من كون اليهودية جماعة خاصة ،لديهم مركبات قومية فريدة ،أصولها في الدين
اليهودي –التناخ ،التلمود ،والتوراة.-
بالنسبة لليمين يوجد لليهودية كعرق تاريخ مشترك ودين مشترك ولغة مشتركة ،وكذلك وطن
مشترك في أرض "إسرائيل" ،والوطن بالنسبة لهم جزء من الهوية القومية ،ومن لديه وعي قومي
ليس بحاجة ألن يثبت ملكيته على وطنه وأرضه.
ومن هنا التنازل عن األرض هو تنازل عن الهوية القومية ،والتنازل عن أجزاء من الوطن
التاريخي لليهودي هو بمثابة التنازل عن أجزاء من القومية اليهودية.
الهوية اليهودية موجودة في حالة توتر متناقض ،فهي تعبير عن الدين وعن القومية بنفس الوقت،
في المنفى كانت الهوية اليهودية تجسيد للتعبير عن الدين فقط ،وبعد إحياء الحركة الصهيونية
لألُسس القومية اليهودية ،أصبحت الهوية اليهودية تجسيد للتعبير عن القومية ،ومن هنا بدأ
اليمين يعتبر أن االنسحاب من أجزاء من الوطن القومي التاريخي لليهود ،هو تنازل عن أجزاء
من الهوية القومية اليهودية ،واعتراف ضمني أن اليهودية ليست عرق قومي خالص ،إنما مجرد
دين.
بالنهاية ،يمكن القول أن المشكلة اليهودية بخصوص االنسحاب من الضفة الغربية ليست مشكلة
دينية شرعية ،إنما هي مشكلة هوية قومية.
"سفر التكوين" بالتوراة يتحدث عن قصة النبي إبراهيم كيف حضر من الصحراء للسكن في أرض
"إسرائيل" ،و"سفر األسماء" يتحدث عن قصة خروج بني "إسرائيل" من أرضهم بسبب خطأ لهم،
الطموح التوراتي هو الحضور إلى أرض "إسرائيل" واالستيطان فيها ،وعكس ذلك هو الخوف من
فقدان أرض "إسرائيل" بسبب خطأ يرتكبه اليهود ،ويعودون للمنفى ،وهذه هي المبادئ المركزية
للتوراة ،ولو تم التقليل من أهمية أرض "إسرائيل" فهذا سيؤدي إلى التقليل من أهمية التوراة والتناخ.
مناطق الضفة الغربية هي قلب أرض "إسرائيل" التوراتية ،وتوجد بها الذكريات التاريخية الجماعية
القديمة لألمة اليهودية ،لكن بهذه المناطق يعيش سكان غير يهود تحت الحكم العسكري لدولة
"إسرائيل" ،وما بين الحفاظ على الهوية القومية وما بين ضرورة الحفاظ على المصالح األمنية،
هناك صعوبة لدى اإلسرائيليين في االلتزام باالنسحاب من هذه المناطق – لدى اليمين واليسار
معاً.
46
المعقد ،يخلق تناقض حول
التاريخ القديم ألرض "إسرائيل" ،وتجسيد المسار الديني أمام الحاضر ُ
أي حلول متعلقة باالنسحاب من الضفة ،وتجعلنا نعيش في مصيدة أمام تحقيق أي ُحلم أو
طموح ديني توراتي نريد تحقيقه في أرض "إسرائيل".
هذه المصيدة اليهودية هي مصيدة صهيونية أيضاً ،فالحركة الصهيونية التي قامت كحركة تحرر
قومي وطالبت بتحرير اليهود ،نادت كذلك بتحرير كل الشعوب من االستعمار ،وقالت أن لكل
شعب يجب أن تكون له دولة قومية خاصة به ،فهل الحركة الصهيونية كحركة تحرر قومي
تناقض نفسها عندما تستعبد شعب آخر ،وتحتله بالقوة العسكرية؟
لكن ممكن أن نسأل السؤال بشكل آخر ،هل الحركة الصهيونية كحركة تحرر قومي ،حررت
اليهود وأعادتهم إلى وطنهم التاريخي ،وال تُ ِّ
ناقض نفسها عندما توافق على االنسحاب من أجزاء
من الوطن القومي التاريخي لليهود؟ وهي أرض "إسرائيل"؟
اتضح بعد حرب األيام الستة ،أن هناك حالة من التناقض بين المركبات األساسية لليهودية،
المركب الديني والمركب القومي.
نحن في مصيدة:
بعد المصيدة األخالقية ،وحالة التناقض بين الم َّ
ركبات الديمقراطية للدولة ،ومصالحها األمنية، ُ
اتضح أن هناك تناقض بين المركبات القومية والدينية لليهودية ،هذا التناقض يجعلنا في مصيدة
بالنسبة للتعامل مع مناطق الضفة الغربية ،فالتناقض القومي يعزز التناقض الديني ،والتناقض
الديني يعزز التناقض األخالقي ،كالتالي - :االنسحاب من مناطق الضفة يتعارض مع تجسيد
الهوية القومية ،ويعرض أمن الشعب اليهودي للخطر ،لكن البقاء فيها يتعارض مع القيم
الديمقراطية ،ويتعارض مع تعريف دولة "إسرائيل" على أنها الدولة القومية لليهود ،وكذلك
يضاعف المخاطر الديموغرافية على الدولة.
يتضح بالنهاية أن الجميع صادق ،وألن الجميع صادق كلنا نعيش في المصيدة.
47
الفصل السادس:
الحرج السياسي األكبر
الجميع صادقين ،اليمين اإلسرائيلي يعتقد -حسب وجهة نظرهم -أن السيطرة على المناطقُ ليس
المتعلقة بالبقاء في الضفة الغربية ،ال
ال تعرض "إسرائيل" للخطر ،ألن التهديدات الديموغرافية ُ
تُعرض مستقبل الدولة للخطر واألمور ستصبح على ما يرام ،وأن حالة الثقة العالية بالنفس
لليمين لها جذور دينية لعدة أسباب منها :أنهم يعتقدون أن الرب هو من وهبهم هذه البالد ،وهو
من سيساعدهم للحفاظ عليها ،من خالل حفاظه عليهم كيهود.
في اليسار اإلسرائيلي هناك من يعتقدون أن االنسحاب من مناطق الضفة الغربية ال ُيهدد
"إسرائيل" ،وحالة الفوضى العارمة التي تجتاح الشرق األوسط -بالنسبة لهم -لن تصل إلى
المناطق التي ُيسيطر عليها الجيش اإلسرائيلي بالضفة ،ولن تصل إلى داخل دولة "إسرائيل"
وستكون األمور على ما يرام ،حالة الثقة العالية بالنفس لليسار لها جذور سياسية دولية ويرجع
لسبب :أن الثقة بالمجتمع الدولي للتوصل التفاق سياسي ،يمنح دولة "إسرائيل" ضمانات أمنية،
برعاية دولية ،لحماية "إسرائيل" بعد أي انسحاب من الضفة.
لكن اليهود ال يريدون ترك مفاتيح األمن بأيدي غيرهم ،ال للرب وال للمجتمع الدولي ،فخالل
تواجدهم بالمنفى ،سلموا أمورهم األمنية للدول التي كانوا يعيشون بها (لغير اليهود) وذلك من
أجل التعبير عن ثقتهم بالرب ،ولكن النتائج كانت كارثية ،الحركة الصهيونية استخلصت العبر
من تاريخ اليهود بالمنفى ،وتعلمت أنه ال يوجد ثقة أمنية بغير اليهود ،وال حتى بالرب ،وآمنت أن
اليهود يجب أن يعتمدوا على أنفسهم فقط في مجال األمن.
في اليسار هناك جزء كبير يأس من إمكانية التوصل للسالم ،مجموعة كبيرة بمعسكر السالم
توصلت إلى حالة يأس من احتماالت تحقق السالم ،وتوقفت عن اإليمان بالسالم ،اليأس أدى
إلى تخلي عدد كبير من اإلسرائيليين عن الصهيونية اليسارية.
48
المتدين حدثت عملية مشابهة ،اليمين المتدين خرج لمقاومة االنسحاب من في اليمين اإلسرائيلي ُ
مستوطنات قطاع غزة ،لكنه وجد نفسه وحيداً بالصراع ،غالبية اإلسرائيليين أيدوا خطة االنسحاب
من القطاع ،وأدى هذا إلى خلق عملية يأس في قطاعات واسعة من جماهير اليمين في
"إسرائيل" ،وشعروا أن اإلسرائيليين ليسوا معنيين بهم أو بالواقع السياسي اإلسرائيلي ،الذي تُسيطر
عليه القضايا المتعلقة بالفلسطينيين.
الجماهير في "إسرائيل" عبرت عن مسار جديد بالسياسة الداخلية ،في صيف 2011خرجت
الجماهير من منازلها للمطالبة بالمساواة االجتماعية ،ورفضت التمسك بالقضايا القديمة التي
كانت سائدة في الجدال السياسي اإلسرائيلي منذ عشرات السنوات ،الجماهير أرادت الخروج
المتعلقة بالصراع
لصراعات اجتماعية واقتصادية داخلية ،ألنها يئست من الصراعات والنقاشات ُ
مع العرب ،الطاقة الجماهيرية بالمجتمع اإلسرائيلي تحولت نحو مسائل داخلية ،ذات طابع
اجتماعي ،وتخلت عن المسائل القديمة التي سيطرت على الوعي االجتماعي في "إسرائيل" منذ
عقود مثل الصراع من أجل السالم ،والصراع ضد االنسحاب من الضفة ،واتفاقيات سياسية
وغيرها.
انهيار حلم أرض "إسرائيل" الكبرى باليمين ،وانهيار حلم تحقيق السالم باليسار ،كانا يجب أن
يولدا حالة من اإلجماع اإلسرائيلي حول حلول جديدة ،لكن حدث العكس ،االنقسام السياسي في
"إسرائيل" أظهر خالفات جديدة ،فالخالفات السياسية أصبحت قبيحة جداً ،وتمحورت حول
الشخصيات وليس حول األيديولوجيات ،وركزت على األخطاء وليس على الحلول ،وعكست حالة
االنقسام داخل المجتمع اإلسرائيلي الذي يقوم على أساس االنتماء للجماعات ،وليس على أساس
اإليمان باأليديولوجيات.
الحلبة السياسية لم تعد بالمكان الذي نعبر فيه عن مواقفنا ،بل الذي نعبر فيه عن هويتنا
الحزبية ،وانتمائنا للجماعات وليس للدولة ،حتى السياسة لم تعد تعتمد على المبررات الفكرية ،بل
على الهوية الحزبية ،انهيار األيديولوجيات لليمين ولليسار أدى إلى انهيار معسكرات اليمين
واليسار ،وظهرت جماعات صغيرة من اإلسرائيليين الذين فقدوا الثقة باليمين وباليسار ،هذا
اء
االستقطاب الجديد ُيشكل تهديداً على حالة االستماع واالنصات في الحوارات السياسية سو ً
الداخلية أو الخارجية.
49
الحوار اليهودي الفلسطيني الجريح:
ناقشنا آنفاً الحوارات السياسية الداخلية بين اليهود ،والتي هي بحالة أفضل من الحوارات السياسية
الخارجية بين اليهود والفلسطينيين ،فمنذ بداية طريقها ،اعتبر عدد كبير من الفلسطينيين أن
الحركة الصهيونية حركة استعمارية ،وأنها أحد أذرع االستعمار الغربي في الشرق األوسط ،وأنها
ذراع هدامة وليست بناءة ،وهي جزء من اإلمبريالية الغربية التي تسعى لتدمير أحالم األمة
العربية في التحرر والتقدم ،وبالنسبة لهم الصمود أمام الصهيونية هو صمود أمام قوى عالمية
أكبر من "إسرائيل" ،لكنها تقف خلف "إسرائيل" وتدعمها مثل أمريكا.
بالمقابل الكثير من اإلسرائيليين يتعاملون مع الفلسطينيين على أنهم قوة تاريخية عظيمة وليس
مجرد شعب قليل العدد ،وأن العنف المنعكس منهم هو بمثابة تجسيد لحالة الالسامية تجاه اليهود
منذ القدم ،فالطاقة السلبية القديمة في تاريخ اليهود في أوروبا تحولت تجاه الفلسطينيين ،وتزايدت
هذه الحالة بسبب كثافة العمليات التي حدثت بالعقد الماضي.
الفلسطينيون يعتبرون أن اليهود سيطروا بأموالهم على وسائل اإلعالم الدولية ،ووكاالت األنباء،
الصحف ،ودور النشر ،ومحطات الراديو والتلفاز ،وأحدثوا الكثير من الثورات بالعالم بأموالهم،
و ُ
وهم من يقف خلف الثورة الفرنسية ،والثورة الشيوعية في روسيا ،وهم الذين عملوا للحصول على
وعد بلفور ،وهم من أقام عصبة األمم ،ومن خاللها حكموا العالم ،وهم سبب الحرب العالمية
الثانية ،وهم من طالب بتأسيس األمم المتحدة ،ومجلس األمن من أجل أن يسيطروا على العالم
بواسطة هذه المؤسسات.
بالنسبة للفلسطينيين :المؤامرات بالعالم سببها اليهود ،وبالنسبة لليهود :الالسامية هي نفس
اء في أوروبا أو في الشرق األوسط.
الالسامية سو ً
أيضاً ،بالنسبة للفلسطينيين :اليهود هم استعمار أوروبي ،وبالنسبة لليهود :الفلسطينيون هم تجسيد
الالسامية الحديثة ،كل واحد يعتبر اآلخر التهديد األسوأ على مصيره ،كل طرف يعتبر اآلخر
خطة أكبر من حجمه ،بحسب الفلسطينيين فهم يعتبرون أنفسهم ضحية لإلسرائيليين اليهود،
و(اإلسرائيليون) يعتبرون أنفسهم ضحايا الصراع مع الفلسطينيين.
جريح ومصاب نازف :أهم أسباب فشل الحوار بين اإلسرائيليين والفلسطينيين ،ليس فقط على
الصعيد السياسي إنما على الصعيد النفسي ،والسؤال هو :هل يمكن عالج هذا الحوار اليهودي
الفلسطيني؟
50
الحوار اليهودي اليهودي الداخلي جريح ،وكذلك الحوار اليهودي الفلسطيني الخارجي جريح ،وال
يمكن تخيل عمق الجرح في كال الحالتين ،يوجد هناك الكثير من العوائق التي تضع صعوبة في
معالجة هذا الجراح ،عوائق دينية ،عرقية ،ثقافية ،أمنية ،وهذه العوائق ال تسمح بتحسين حالة
االستماع واالنصات ،وتقبل اآلخر في الحوار اليهودي الفلسطيني ،مقابل ذلك يمكن العمل على
معالجة جراح الحوار الداخلي اليهودي اليهودي ،من خالل ثقافتهم المشتركة ،والقواسم المشتركة
التي توحدهم ،وأولها العامل الديني.
ليس فقط الحوار اليهودي الفلسطيني جريح ،وليس فقط الصراع الفلسطيني اإلسرائيلي هو الذي
يؤلمنا ،إن عملية الجدال والنقاش حول هذا الصراع ،تؤلمنا ،يجرحنا ،الصراع يضع حالة انقسام
داخل المجتمع اليهودي هنا وفي العالم ،وبين العرب واإلسرائيليين بالدولة ،وبين "إسرائيل"
وجيرانها العرب ،لكن الشكل الذي نتحدث به نحن عن الصراع ،بيننا وبين أنفسنا ،هو الذي
يؤلمنا ويجرحنا ويجعلنا مقسومين ،لذلك علينا تحسين القدرة على االستماع لآلخر ،وتحسين حالة
الحوار الداخلي من خالل العادات والقيم الدينية القديمة المشتركة لنا كيهود.
51
الجزء الثالث:
هامش نقاش برغماتي
52
المقدمة
الدولة وأحالمها
على مدار األجيال كان اليهود يحلمون بحلم مزدوج ،وهو التخلص من حكم غير اليهود ،والعيش
في أرض "إسرائيل" ،الحركة الصهيونية حققت هذه األحالم ،واليهود اليوم يعيشون في "إسرائيل"
بشكل حر بدون حكم غير اليهود ،لكن دولة "إسرائيل" دمرت بعض األحالم ،وبدالً من النهضة
القومية هناك ثالث تنازالت أيديولوجية في أساس قيام دولة ،بن جريون تنازل عن الطابع
العلماني ،وأسهم بفرض الطابع الديني للدولة ،وهو كذلك وافق على تقسيم أرض "إسرائيل"
الحلم االشتراكي.
لدولتين ،وتنازل عن ُ
مؤسسي الدولة كانوا يساريين مالحدة ،لكن بن جريون عقد تحالف مع الحريديم ،وأسهم في
ظهور حالة تناقض عجيبة ،فالدولة التي أسسها العلمانيون الرافضون للدين ،فيها قوانين
وتشريعات دينية ،والدولة العلمانية فيها قوانين لفرض الدين ،ومن أجل ضمان والء الحريديم له
بالكنيست ،تنازل بن جريون عن العلمانية.
بن جريون تساهل مع المبادئ األساسية للحزب االشتراكي العلماني الذي كان يقوده ،وكان يسعى
إلقامة مجتمع اشتراكي قائم على المساواة بين الطبقات ،وهو ُحلم حزب عمال أرض "إسرائيل"
منذ سنوات العشرينيات فتأسس مجتمع متساو ،لكن اتضح لهم أن هذا الحلم ال يتناسب مع
المشروع االستيطاني ،لذلك تنازل بن جريون عن هذا الحلم ،وفضل تحقيق مصالح اليهود في
إقامة دولة يهودية قومية ،وليست دولة اشتراكية تحكمها طبقة العمال ،وبعد قيام الدولة فضل بن
جريون التحالف مع الواليات المتحدة األمريكية ،بدالً من التحالف مع االتحاد السوفيتي الشيوعي.
رغم الشعارات اليسارية ورغم مبادئ األيديولوجيات االشتراكية ،أسهم بن جريون في تقوية مكانة
المتدينين ،وتوجه للتحالف مع رأس الرأسمالية العالمية ،وآمن أن "إسرائيل" ستكون أقوى مع
الغرب الرأسمالي ،وليس مع االشتراكيين.
بن جريون وحد التعليم بالدولة ،وألغى المدارس اليسارية ،وفضل االستيطان اليهودي على حساب
المساواة العمالية ،وأراد الحصول على االستقرار في الدولة الجديدة ،فاعتبر أن ذلك أفضل من
كل األحالم.
53
وافق بن جريون كذلك على خطة تقسيم البالد ،التي قدمتها األمم المتحدة إلى دولتين ،دولة
العرب ودولة اليهود ،لقد قال إنه يفضل التنازل عن أجزاء من البالد ،من أجل ضمان قيام دولة
في البالد.
قيادة بن جريون للدولة حولت بعض أحالم اليهود إلى واقع ،لكن بالمقابل التنازل عن الكثير من
لكن يمكن القول أنه بدون هذه التنازالت لم تكن الدولة أن تكون ،ولم يكن المؤسسين قادرين على
تحقيق هذه اإلنجازات السياسية ،إذا تمسكوا بالنظريات واألحالم األيديولوجية.
أي انسحاب من المناطق سوف ُيبدل المشكلة الديموغرافية بالمشكلة األمنية الجغرافية ،والبقاء
في المناطق سيحل المشكلة األمنية ،لكنه سيترك المشكلة الديموغرافية ،فأي عملية قد تكون حالً
لتهديد أساس من جهة ،بينما قد ال تكون حالً لتهديد أساسي آخر ،ومن جهة أخرى هذه هي
مصيدة عام .1967
تفكيرنا سوف يكون أكثر نجاعة لو تخلصنا من كلمة "مشكلة" وتوقفنا عن اعتبار الصراع مشكلة،
أو التعامل معه على أنه مصيدة ،ألنه ال يوجد حل لهذه المشكلة ،لكن من المصيدة يمكن
محاولة التخلص والهروب ،وعلينا أن نتذكر أنه لو عثرنا على لطريق للهروب من المصيدة،
فالمشكلة ستبقى قائمة ولن يتم حلها ،المشكلة قد تتغير ،وقد يقل مستوى تهديدها على دولة
بالمسكنات ،لكنها لن تختفي ،وكل ما علينا اآلن هو
"إسرائيل" ،وقد يتم معالجة أجزاء منها ُ
التفكير بالهروب من المصيدة.
الهروب من المصيدة معناه الهروب من حالة التخيير ما بين دولة يهودية بأغلبية يهودية ،أو
دولة ثنائية القومية بأغلبية غير يهودية ،ويوجد عدة خطط وبرامج وأفكار ممكن أن تشكل
مسارات للهروب من هذه المصيدة ،لكن لكل خطة من هذه الخطط يوجد ثمن كبير ،ومن أجل
54
تطبيق هذه البرامج سيترتب علينا أن نتنازل عن بعض أحالمنا اإلسرائيلية الخاصة ،علينا التنازل
عن ُحلم التوصل التفاق سياسي ُينهي الصراع ويحقق األمن ،من خالله ضمانة المجتمع الدولي.
ستوجب علينا التسليم بحقيقة إيقاف االستيطان بالضفة الغربية ،والتوقف عن البناء في
مستوطنات الضفة ،والتنازل عن أجزاء من أرض "إسرائيل" التوراتية؛ من أجل ضمان بقاء دولة
"إسرائيل" ،وعلينا أن نضحي ببعض األحالم واآلمال ،أو باألحرى عندما نقف أمام مصيدة عام
،1967ونسأل كيف سنهرب منها ،علينا العودة إلى البرغماتية التي تحدث بها بن جريون خالل
مراحل تأسيس الدولة.
الكتاب لم ينتهي:
الكتاب الذي تقرؤونه لم ينتهي ،وكان من الممكن أن ينتهي بالجزء السابق ،فبعد أن ناقشنا
األيديولوجيات الكبرى لليمين واليسار ،وكيف فشلت في تقديم حلول للصراع ،وكذلك ناقشنا
الحوار اليهودي الداخلي حول الصراع ،والهدف الرئيسي بهذا الكتاب ،وهو خلق حلول لتحسين
الحوار السياسي الداخلي والخارجي ،وليس تقديم حلول للمشاكل اإلسرائيلية.
وبعد أن أوضحت أنه يمكن التوصل لحلول خارج اإلطار المغلق لأليديولوجيات التقليدية لليمين
واليسار في "إسرائيل" ،سوف أحاول أن أوضح اآلن ما الذي أريده وأهدف له بهذا الكتاب ،فال
يكفي الحديث عن طريقة تفكير جديدة وغير تقليدية ،يجب أن يتم تجسيد الطريقة وتقديم نماذج
عملية لها.
في القسم العملي للكتاب سوف أقدم برنامجين (خطتين) لمحاولة الخروج من المصيدة فيما يتعلق
بالصراع اإلسرائيلي الفلسطيني ،األولى" :خطة التسوية الجزئية" والثانية" :خطة مبدأ االنفصال"،
جزء منكم قد يعتبر أن الخطة األولى يسارية ،والثانية على أنها يمينية ،لكن أتمنى منكم عدم
القيام بذلك ،فهدفي ليس التفريق بين اليسار واليمين ،إنما بين البرغماتية والمبادئ األيديولوجية.
وحسب تقديري ،كلتا الخطتين تجسد طريقة االنتقال من التفكير األيديولوجي إلى التفكير
البرغماتي الواقعي ،كلتا البرامج تحتوي على أفكار عملية ليست من طرحي ،إنما أفكار موجودة
في برامج وخطط سابقة قدمها خبراء ،ضباط ،مستشرقون ،سياسيون ،لقد قمت بتجميع عدد من
األفكار ،وكت بت منهم خطتين عمليتين ،ومختلفتين عن كافة البرامج السابقة ،لكن يوجد بداخلهم
متسع للمزيد من األفكار ،هذا هو هامش التفكير البرغماتي.
55
في الفصول القادمة لن أتطرق للقضايا المعقدة مثل مكانة عرب "إسرائيل" ،ومكانة دولة
"إسرائيل" ،ولكنني سأتحدث عن برامج انسحاب من الضفة تنقذ "إسرائيل" من خطر وجودي
ُمحدق بها ،فهدف البرامج التالية ليس اإلقناع ،إنما تجسيد طريقة التفكير الجديدة ،وتجسيد لحالة
التقليل من توقعاتنا بشأن إنهاء الصراع.
56
الفصل األول:
التسوية الجزئية
منذ حرب األيام الستة سادت في المنظومة األمنية اإلسرائيلية نظرية يتم وفقها تقسيم مناطق
الضفة الغربية إلى قسمين كالتالي :المناطق التي ال يوجد بها عدد كبير من السكان مهمة
وحيوية ألمن دولة "إسرائيل" ،والمناطق التي ال يوجد فيها عدد كبير من السكان غير حيوية ألمن
"إسرائيل" ،ووفقاً لهذه التقسيمة فإن "إسرائيل" سوف تعطي المناطق المأهولة بعدد كبير من
السكان للفلسطينيين ،وتبقى المناطق ذات الطابع األمني قليلة السكان ،وبهذا يتم إنهاء االحتالل
بدون تعريض "إسرائيل" للخطر.
هذا المبدأ له عدة أطروحات ،وأول من طرحه هو يجئيل ألون في خطة ألون المشهورة ،وبحسب
هذه الخطة فإن "إسرائيل" لن تنسحب من منطقة غور األردن ،ويجب أن تكون المناطق التي ال
يتواجد فيها الجيش اإلسرائيلي منزوعة السالح ،هذه المنطقة التي سوف تنسحب "إسرائيل" منها
–ما بين غور األردن شرقاً إلى الخط األخضر غرباً– ،وستكون تحت سيادة فلسطينية ،ولكن
منزوعة السالح ،وقوات (إسرائيلية) تشرف على ضمان عدم تسليح هذه المنطقة.
هذه الخطة وضعت على طاولة الحكومة ،وخضعت للنقاش الجماهيري العام ،فور االنتهاء من
حرب األيام الستة ،لكن مع مرور الوقت لم تتحول هذه الخطة للواقع ،بالعكس بعد ثورات الربيع
العربي زادت األهمية األمنية لمنطقة غور األردن ،بسبب حالة الفوضى العارمة المندلعة بالشرق
األوسط ،وانهيار أنظمة الحكم قد يؤدي إلى انهيار اتفاقيات السالم ،وهذا يخلق حاجة للتواجد
العسكري اإلسرائيلي في منطقة غور األردن.
انهيار األنظمة والدول الكبرى بالمنطقة قد يسبب حالة هجرات جماعية كبرى ،وجزء كبير من
هؤالء الالجئين المهاجرين سيكونون فلسطينيين من سوريا واألردن ،وفي حال قامت دولة
فلسطينية ،فإن جزء كبير من الالجئين الفلسطينيين قد يحاولون عبور نهر األردن والعودة إلى
الدولة الفلسطينية ،وبهذا قد يؤثرون على الدولة الجديدة ،وهجرة هؤالء إلى فلسطين قد تعمل على
نقل الثورات إلى الدولة الجديدة ،خصوصاً وأن دول كبيرة لم تصمد أمام هذه الثورات ،وتواجد هذا
العدد الهائل من الالجئين داخل الدولة الجديدة قد يؤدي إلى انهيارها فو اًر.
57
بكلمات أخرى - :المنطق في تواجد القوات اإلسرائيلية في منطقة غور األردن يعتمد على أن
هذه القوات سوف تمنع دخول أعداد كبيرة من الناس ،أو دخول أسلحة أو قوات من األردن إلى
فلسطين ،لذلك فإن السيطرة على غور األردن لها أهمية مزدوجة ،فهي تمنع تسليح الدولة
الجديدة ،وفي نفس الوقت تمنع انهيارها ،وكذلك فإن التواجد العسكري بغور األردن سوف ي ِّ
مكن ُ
"إسرائيل" من حماية حدودها من أي تهديد أمني داخلي ينبع من دولة فلسطين نفسها ،ومن أي
تهديد أمني خارجي من أي دولة بالشرق األوسط المشتعل والعاصف ،والبقاء بهذه المنطقة هو
الذي دفع "إسرائيل" للتنازل عن بقية المناطق واالنسحاب منها بدون أن تقامر بوجودها أو
بأمنها.
التحول البرغماتي:
إذا كانت هذه الخطة بسيطة إلى هذا الحد ،فلماذا لم يتم استيعابها وتطبيقها؟ أم أنه ال يوجد أي
زعيم عربي مستعد الموافقة عليها ،وال يوجد زعيم فلسطيني يريد الموافقة عليها ،ويفعل ذلك مقابل
دولة على حدود الضفة ،وليس على حدود أجزاء من الضفة ،مقابل التنازل عن حق العودة ،لكن
السيناريو الذي نتوقع فيه وجود زعيم فلسطيني يوافق على التنازل عن حق العودة لالجئين هو
توقع ضعيف.
خطة ألون حسب صيغتها المختلفة ،كانت خطة (اإلسرائيليون) أنفسهم ،مستعدون للموافقة عليها
بين بعضهم البعض ،ولكنها ليست أساس ألي اتفاق مع الفلسطينيين.
لذلك عندما تم االكتشاف أن خطة ألون ضعيفة وال يمكنها أن تشكل قاعدة ألي اتفاق سياسي
مع الفلسطينيين تم التنازل عنها ،فالضعف في هذه الخطة هو ادعائها أنها ستقدم حل للصراع،
لكن هل هذه الخطة بداية للخروج من المأزق؟ ..من مصيدة العام ،1967لو فهمنا التحول
البرغماتي بدالً من البحث عن حلول لحل الصراع ،سوف نكون قادرين على البحث عن ُسبل
للخروج من المأزق ،وهذه الخطة حسب التعديالت المطلوبة قد يمكن إعادة دراستها من جديد،
بدالً من االنسحاب الكامل من المناطق مقابل السالم ،ويمكن ل ـ"إسرائيل" االنسحاب الجزئي مقابل
تنازل العرب عن حق العودة والالجئين ،والسيادة اإلسرائيلية على األماكن المقدسة بالقدس،
الكتل االستيطانية في الضفة الغربية ،مع مناطق أمنية لكل
وبنفس الوقت "إسرائيل" تحافظ على ُ
مستوطنة ،هذه تسوية وليس اتفاق سالم ،قد تؤدي إلى إنهاء حالة الحرب ،وليس إنهاء الصراع.
58
الرغبة في تطبيق تجربة السالم مع مصر بالمناطق الفلسطينية ،أدت منذ فترة طويلة إلى فشل
الدولة للتوصل لحلول جزئية ،وما على "إسرائيل" السعي له هو التوصل إلى تسوية جزئية ،مقابل
انسحاب جزئي من مناطق الضفة ،وهذا االنسحاب الجزئي سيؤدي إلى قيام دولة فلسطينية ،مع
بقاء غور األردن والمستوطنات بيد "إسرائيل" ،وخروج "إسرائيل" من المصيدة ،فهي تنهي السيطرة
العسكرية المباشرة على السكان المدنيين من جهة ،وتحافظ على حدودها ُمؤمنة ومحمية من جهة
أخرى ،كذلك فإن هذه الخطة تُخرج الفلسطينيين من المصيدة ،وتساعدهم في الخروج من
المصيدة.
المصيدة الفلسطينية:
الصراع وأحداث العام 1967لم تضع اإلسرائيليين في المصيدة فقط ،كذلك الفلسطينيين في
مصيدة ،فهم ال يستطيعون الخروج منها ،ألنهم غير قادرون على التنازل عن حق العودة ،أو
السيطرة على األرض التي كانت دوماً تحت حكم إسالمي ،وأي إعالن فلسطيني للتوصل إلى
اتفاق دائم مع "إسرائيل" بدون هذه األمور ،سيتم اعتباره خيانة قومية ومخالفة دينية ،والخطة التي
ناقشناها آنفاً قد تكون بمثابة خروج من المصيدة بالنسبة لهم هم.
الطريق الوحيدة لهم للخروج من المصيدة هو ارتكاب أخطاء قومية ودينية ،وإذا ال يريدون ذلك،
فعليهم التوصل لتسوية جزئية ،تكون مبررة من الناحية الدينية ،وفي نفس الوقت ال يوجد فيها
تنازالت قومية مثل اإلعالن عن التوصل التفاق ال يوجد به اعتراف متبادل بين الطرفين – هدنة
طويلة المدى – اتفاق فارغ من أي محتوى يفرض عليهم التنازل عن أي شيء ،وكلما كان هذا
االتفاق بالنسبة لهم جزئي ومؤقت ،سوف يكون آمن وثابت جداً.
وهنا فاالتفاق الجزئي سيعمل على تحرير ليس فقط الفلسطينيين من المصيدة ،بل واإلسرائيليين
أيضاً ،ومقابل اتفاق وقف إطالق نار طويل المدى سوف يحصل الفلسطينيون على دولة،
وانسحاب جزئي ل ـ"إسرائيل" من مناطق الضفة ،وبدون االعتراف ل ـ"إسرائيل" ،أو التنازل عن حق
العودة ،بالمقابل "إسرائيل" سوف تتحرر من المصيدة ،وتبقى بغور األردن بدون أن تُعرض أمن
الدولة للخطر ،وبدون أن تبقى تحكم السكان الفلسطينيين عسكرياً "احتالل".
على مدار سنوات طويلة حاول المجتمع الدولي أن يتوصل إلى اتفاق بين الفلسطينيين
واإلسرائيليين يؤدي إلى إنهاء الصراع ،لكن كل المحاوالت وصلت إلى طريق مسدود.
59
الحلول التي تقوم على األرض مقابل السالم أو المطالب األمنية كانت تخلد االحتالل بالمناطق
الفلسطينية ،وبالتالي تصعب على "إسرائيل" التوصل إلى سالم مع بقية الدول العربية ،التي كانت
تعتبر القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لها ،لذلك التوصل إلى تسوية جزئية ،تضمن
انسحاب من غالبية مناطق الضفة ،وإنهاء االحتالل والسيطرة العسكرية على السكان المدنيين
هناك ،هو مصلحة (إسرائيلية) ،ومصلحة لمصر والسعودية ودول الخليج ،الدول العربية من
السنية المعتدلة قادرة على توفير مناخ يسمح للفلسطينيين بتقبل التسوية الجزئية ،اتفاق
الدول ُ
ُينهي سيطرة "إسرائيل" على السكان شرق الخط األخضر ،ويعترف بالسيادة اليهودية على
المناطق غرب الخط األخضر.
حتى بعد تطبيق كل هذه الخطوات ،والتوقيع على اتفاق هدنة طويل المدى لوقف القتال ،وتحقيق
التسوية الجزئية ،يمكن لنا أن نتوقع انهيار االتفاق ،واستمرار الصراع ،ألن االتفاق أو التسوية
الجزئية لن تؤدي إلى إنهاء الصراع ،وقد يتجدد العنف والقتال في كل لحظة ،لكن البرغماتية في
التسوية الجزئية أنها قادرة على إعادة ترتيب الصراع من جديد بدالً من إنهائه ،وتغيير شكل
الصراع بدالً من إدارته.
الهدف من إعادة ترتيب الصراع هو تغيير الوضع القائم ،ليس فقط بين الجهات المتصارعة ،إنما
بداخل "إسرائيل" ،ألن هذه التسوية الجزئية سوف تضمن األمن القومي ،والحفاظ عليه ،وتُنهي
االحتالل العسكري ،بمعنى أنها ستقدم إجابات لمطالب ومخاوف لليمين ولليسار معاً ،لذلك يوجد
بها أساس للتوصل إلى اتفاق (إسرائيلي) داخلي واسع – إجماع.
60
الفصل الثاني:
مبدأ االنفصال
البرغماتي اإلسرائيلي هو الذي ال يجعل مواقفه جزء من هويته ،وهو الذي يتعامل مع التحديات
التي تهدد وجود دولته ،لذلك يمكنه تقبل تسوية جزئية دراماتيكية ،حتى لو كان فيها تغيير لحدود
الدولة ،أو ترك بعض المستوطنات خارج حدود الدولة وخارج سيطرتها.
المخضرم هنري كيسنجر عبر بالعام 2016عن شكه من احتمالية إقامة السياسي األمريكي ُ
دولة فلسطينية بالضفة الغريبة ،وبالمقابل قال :إن على "إسرائيل" توسيع صالحيات السلطة
الفلسطينية ،وتقوية رموزها القومية ،وتوسيع سيادتها إلى حالة "شبه دولة " وذلك بدون أن تطالبها
بأي حل نهائي إلنهاء الصراع.
في نفس السنة طالب الفيلسوف والكاتب اإلسرائيلي أ – ب يهشوع بأن تقوم "إسرائيل" لتحسين
حياة الفلسطينيين الذين يعيشون بالضفة ،وتوسيع حقوقهم ،والسماح للعشرات منهم أن يصبحوا
مواطني دولة "إسرائيل" ،كيسنجر طالب بتوسيع الحكم الذاتي ،ويهشوع طالب بتوسيع الحقوق،
الدمج بين هذه المطالب قد يكون إيحاء لحظة سياسية برغماتية جديدة ،وتخلص "إسرائيل" من
مصيدة العام .1967
شبه دولة:
المركب (العنصر) األول لالنفصال حسب رؤية كيسنجر يمكن تحقيقه بسهولة من خالل وسائل
دبلوماسية ووسائل إقليمية أرضية ،بالشق الدبلوماسي سيترتب على "إسرائيل" زيادة قوة السلطة
ورموزها الوطنية ،وبالشق األرضي سيترتب عليها توسيع دائرة نفوذ السلطة على بعض أراضي
الضفة ،وزيادة صالحيتها بهذه األراضي – مناطق Cمثالً.
كالهما قد يؤديان إلى زيادة نسبة االنفصال عن الفلسطينيين بدون زيادة المخاطر األمنية،
المجهود الدبلوماسي يكون عن طريق االعتراف بالسلطة الفلسطينية كدولة ،وذلك من خالل
االعتراف بالجهود واإلج ارءات الدولية بها كدولة (كاألمم المتحدة مثالً) دون الحاجة لوجود اتفاق
حل نهائي إلنهاء الصراع ،وإذا أرادت "إسرائيل" إعادة تنظيم الصراع (وليس إدارته) عليها فعل
ذلك ،بمعنى عدم معارضة الجهود الدبلوماسية للسلطة الفلسطينية للحصول على االعتراف
الدولي بها كدولة.
61
أما المجهود اإلقليمي فيكون عن طريق تقوية السلطة وصالحيتها ،وزيادة حرية الحركة للسكان
الفلسطينيين بين مدن الضفة ،أو بين المدن التي تسيطر عليها السلطة ومناطق Cالتي تحت
سيطرة "إسرائيل" العسكرية واألمنية.
"إسرائيل" قادرة على البقاء في كافة الحواجز ونقاط االحتكاك مع السكان المدنيين الفلسطينيين
بالضفة ،والسماح بزيادة حركة السكان الفلسطينيين هناك ،وألجل هذا يجب عليها توسيع مناطق
السلطة ،وتقديم عدد من المناطق Cللسلطة للسيطرة عليها ،وتوفير حلول بديلة للتحرك بين
المدن ،مثل :االنفاق ،الجسور ،طرق التفافية تسمح للفلسطينيين بحرية الحركة ،والتنقل بين مدن
الضفة ،وبين الضفة و"إسرائيل" أيضاً ،فهذا مشروع ضخم ومعقد ،ولكنه مشروع استراتيجي
ضروري ل ـ"إسرائيل" ،وهو ال يقدم ترابط إقليمي بين مدن الضفة ،لكنه يسمح بحرية التنقل بين
هذه المدن.
الدمج بين المجهود الدبلوماسي والمجهود اإلقليمي ،سوف يزيد من شعور الفلسطينيين بقوة
السيادة على المستوى الرمزي الشكلي ،ويقلل من السيطرة عليهم من خالل الحكم العسكري
اإلسرائيلي ،وبنفس الوقت "إسرائيل" لن تتخلى عن المستوطنات ،فمجال السيطرة الفلسطينية
سيكون فقط في الربط بين المناطق واألقاليم بالضفة ،ترابط جزئي فقط ،يسمح لهم بحرية الحركة،
مع عاصمة في مدينة القدس.
شبه مواطنين:
رغم أن غالبية السكان الفلسطينيين بالضفة يعيشون في المناطق التي تعرف بالمناطق Aو،B
إال أن هناك عدد منهم يعيش في المناطق التي تعرف أنها Cوهي تحت السيطرة اإلسرائيلية،
وهم ال يتمتعون بحق الحصول على الجنسية اإلسرائيلية ،وال يشاركون في الحكم بالسلطة
الفلسطينية مثل سكان Aو ،Bألنهم تحت الحكم المباشر للجيش اإلسرائيلي ،وحقوقهم ُمقلصة،
وحركتهم كذلك ،وهم يتعرضون لمخاطر أمنية ،ألن مناطق Cهي مناطق تحرك المستوطنين
وفيها يتم االحتكاك اليومي بين السكان الفلسطينيين والمستوطنين اليهود.
لذلك وضمن خطة توسيع صالحية السلطة ،يجب إعطاء أجزاء من مناطق Cللسلطة للسيطرة
عليها ،أو منح العشرات من هؤالء الفلسطينيين بالمناطق Cالجنسية اإلسرائيلية ،والتمتع بنفس
الحقوق التي يحصل عليها السكان العرب في "إسرائيل" ،مثل التأمين الوطني والصحي وبدل
البطالة ومعاشات الشيخوخة وغيرها.
62
هنا ال يدور الحديث عن ضم مناطق ،Cإنما عن إرسال جزء منها للسلطة ،أو منح جزء من
سكانها الحقوق المدنية والجنسية اإلسرائيلية ،هذا اإلجراء سيؤدي لخلق واقع يتم فيه تقليص
الفوارق بينهم وبين المستوطنين ،وبالتالي إنهاء التمييز العنصري وتحسين ظروفهم المعيشية.
63
الفصل الثالث:
البرغماتية السياسية كجسر (إسرائيلي)
يدور الحديث عن صفقة (إسرائيلية) جديدة ،يتم فيها التنازل عن اثنين من األحالم الكبرى ،مقابل
الحصول على اثنين من األهداف الرئيسية المركزية ،التنازل عن اتفاق سياسي يؤدي للسالم،
والتنازل عن التوطين الجماعي الكبير لكل أجزاء أرض "إسرائيل" الكبرى ،الذي سيؤدي للتحرر
والخالص ،مقابل تأمين وجود دولة يهودية آمنة ،كال البرنامجين (الخطتين) التي تم عرضهما
ُمسبقاً تُجسد محاولة لتنفيذ هذه الصفقة.
رغم أن هذه الخطط جديدة ومختلفة عن الخطط والبرامج السابقة ،إال أن هناك من سوف يعتبر
أن خطة "التسوية الجزئية" محسوبة على اليسار المعتدل ،وخطة "مبدأ االنفصال" محسوبة على
اليمين المعتدل ،الخطة األولى :سيتم من خاللها التنازل عن حلم اتفاق سياسي يؤدي إلى السالم
وإنهاء الصراع ،والخطة الثانية :سيتم من خاللها التنازل عن حلم االستيطان في أرض "إسرائيل"
الكبرى يؤدي إلى الخالص.
الخطة األولى تقوم على تدخل سياسي خارجي ،بينما تقوم الثانية على زيادة ظواهر موجودة على
أرض الواقع ،خطة التسوية الجزئية تعتمد على تقليص االحتالل ،بينما خطة مبدأ االنفصال تقوم
على تقليص المخاطر األمنية بالضفة.
رغم االختالف ،كلتا الخطتين تجسد نفس المبادئ ،بكلتا الخطتين ال يوجد أساس إلنهاء الصراع،
إنما محاولة للخروج من المصيدة ،وإعادة تنظيم المشكلة للتعامل معها ،والجميع يدرك ذلك،
باليمين واليسار قالوا إن هذه البرامج – الخطط – ال تحل المشكلة ،اليمين عبر عن شكوكه بأن
هذه البرامج لن تحل مشكلة المخاطر والتهديدات األمنية ،واليسار عبر عن شكوكه أن هذه
الخطط والبرامج ستترك الجيش اإلسرائيلي متواجداً ببعض مناطق الضفة ،ومرة أخرى أقول أن
هذه البرامج ليست لحل وإنهاء الصراع ،وال تهدف إلى التوصل إلى حالة األمن المطلق ،إنما
األمن الوجودي ،هذه الخطط هي لتجسيد فكرة الخروج من المصيدة ،وليس لحل وإنهاء الصراع،
ولكن من خالل ردة األفعال على هذه الخطط ،أدركت إلى أي حد طريقة تفكيرنا حول الصراع
الفلسطيني اإلسرائيلي ثابتة وقوية ،وأنه يوجد صعوبة لالنتقال من طريقة التفكير الثنائي إلى
طريقة التفكير الكمي.
64
التفكير األيديولوجي يميل إلى طريقة التفكير الثنائي :إما َّ
أن "إسرائيل" هي دولة ُمحتلة لشعب
آخر ،أو أنها دولة أخالقية ديمقراطية .إما أن "إسرائيل" تعيش حالة صراع مع العدو ،أو أنها
تعيش حالة سالم .إما أنها تعمل على توطين أرض "إسرائيل" باليهود ،أو أنها تخون المبادئ
والقيم القومية والدينية اليهودية.
بالمقابل ،التفكير البرغماتي يميل ألن يكون كمي :رئيس بلدية ينجح في تخفيض نسبة القتل في
مدينته إلى %40ال يعتبر رئيس فاشل أو ناجح ،القتل ما زال موجوداً ،لكنه أسهم في تخفيض
النسبة ،وزعيم يستطيع التقليل من حوادث المرور ال يعتبر ناجحاً وال فاشالً ،ألن حوادث المرور
لم تنتهي ،والموت مازال مستم اًر على الطرقات ،هنا نحن نفكر بشكل كمي ،لكن بالنسبة للصراع
الفلسطيني اإلسرائيلي نحن نفكر بشكل ثنائي ،وال نسأل أنفسنا عن النسبة التي سيتم فيها خفض
اإلرهاب ،والتقليل من قتلى العمليات األمنية ،بل نسأل كيف سنقضي على اإلرهاب ،وال نسأل
كيف سنخفض قوة الصراع ،بل كيف سوف ننهيه ،وال نسأل كيف سنقلص االحتالل اإلسرائيلي
بالضفة الغربية ،بل نسأل كيف سوف نلغي االحتالل.
حسب ما اعتقد ليست كل مناطق الضفة الغربية محتلة ،إنما الشعب الفلسطيني هو المحتل،
ومن يوافق على هذه الفرضية سوف يوافق على النتائج المترتبة عليها ،كلما قمنا بتخفيض حجم
السيطرة على الفلسطينيين بهذا نقوم بتقليص االحتالل.
االنسحاب اإلسرائيلي المباشر من الحياة اليومية للسكان الفلسطينيين ،ورفع القيود عن الهوية،
وعن الحركة ،سوف يقلص حجم السيطرة واالحتالل اإلسرائيلي للسكان الفلسطينيين ،حتى لو
بقيت "إسرائيل" (الجيش اإلسرائيلي) موجودة على جزء من الضفة ،بمعنى أن الخطة البرغماتية
سوف تنقذ "إسرائيل" من المصيدة الوجودية.
هذه البرامج سوف تُخلِّص "إسرائيل" من الضغط الدولي واإلحراج اإلقليمي ،وسوف تُسهم في
تحسين عالقاتها مع أوروبا والعالم العربي ،وبنفس الوقت سوف تقلل من االحتكاك بالفلسطينيين،
وبالتالي من التوتر بين "إسرائيل" ودول العالم ،واألهم أنها قد تحسن صورة "إسرائيل" ،ليس فقط
في عيون المجتمع الدولي ،إنما في عيون الشبان اليهود بالعالم وأمريكا ،ألن هذه البرامج تقلل
من المشكلة األخالقية التي تصور دولة "إسرائيل" الديمقراطية ،أنها تحتل شعباً آخر ،وتُ ِّ
بعد
"إسرائيل" عن الحرج في أنها تتنازل عن أماكن هامة من أرض "إسرائيل" التوراتية.
65
لذلك من يفكر بالصراع الفلسطيني اإلسرائيلي بطريقة ثنائية وليست كمية لن يتقبل هذه الخطط
والبرامج ،ألن هذه البرامج ليست مخصصة إلنهاء الصراع ،ولم توضع باألساس إلنهاء المشكلة،
بل إلعادة ترتيب المشكلة ،واإلسهام في خروج "إسرائيل" من المصيدة ،هذه الخطط ال تُنهي
االحتالل إنما تُسهم في تقليصه ،وتقليص السيطرة على السكان المدنيين ،وال تُسهم في التوصل
لحل نهائي ،إنما لتحقيق األمن الوجودي.
ومن يفكر بالصراع بطريقة كمية سيجد بهذه البرامج مادة مفيدة للتفكير.
السياسة التي تجسد (توصل) بين اليمين واليسار قد تنمو داخل حلبة فكرية برغماتية ،األمر يقوم
على أساس تقديم إجابات سياسية لقضايا قديمة مختلف عليها بين اليمين واليسار حول :الحدود،
األمن ،حل مشكلة الالجئين ،القدس ،ومكانة دولة "إسرائيل" كدولة يهودية ديمقراطية ،لكن علينا
أن ندرك أنه بدون صفقة تبادل ،والتنازل عن بعض أحالمنا ،لن نتوصل إلى أهم حاجاتنا
ومصالحنا المركزية األساسية.
األزمة الفكرية األيديولوجية أدت إلى يأس تيار اليمين اإلسرائيلي من الشعب ،ألن الشعب يأس
من مبادئ اليمين ،وخصوصاً مبدأ أرض "إسرائيل" الكبرى ،وكذلك أدى إلى يأس تيار اليسار
اإلسرائيلي من الشعب ،ألن الشعب يأس من مبادئ اليسار ،خصوصاً مبدأ تحقيق السالم مع
الفلسطينيين ،الغالبية العظمى بالشعب تغيروا بعد اليأس ،حتى التيارات تغيرت ،باليمين استبدلوا
مبدأ تحرير أرض "إسرائيل" بمبدأ األمن ،وجعلوه القلق المركزي لهم ،وباليسار استبدلوا مبدأ
تحرير "إسرائيل" بمبدأ إنهاء االحتالل ،وجعلوه القلق المركزي لهم ،اليمين الجديد واليسار الجديد
قادرون على التفاهم والحوار ،ألن مبادئهم الجديدة واقعية ،ومن الممكن تحقيقها ،ومن جهة
أخرى يمكن اعتبار األزمة الفكرية األيديولوجية فرصة للحوار والتفاهم في "إسرائيل".
الحرب والسالم:
خطة "التسوية الجزئية" وخطة "مبدأ االنفصال" هي خطط برغماتية لتجسيد العمل السياسي
المتواضع ،الهادف إلى إعادة تنظيم مشاكل الصراع من جديد ،وليس حل الصراع بشكل نهائي،
هذا التقليل من حجم التوقعات السياسية المترتبة على تنفيذ هذه الخطط ،يؤدي إلى التفكير
ببرغماتية حول توقعاتنا من السالم ومن الحرب ،ماذا نتوقع من السالم؟ وماذا نتوقع من الحرب؟
تجربة السالم لم تؤدي إلى إنهاء الصراع ،والحرب لم تؤدي إلى االنتصار ،بالحرب غير
66
المتكافئة ال يوجد انتصارات ،القوة العسكرية اإلسرائيلية لم تنتصر في لبنان ،والجيش اإلسرائيلي
لم يتوصل إلى انتصار واضح وحاسم في المعارك المتكررة مع قطاع غزة ،بكل معركة عسكرية
يتوقع الشعب من الجيش االنتصار ،فعدم االنتصار يولد اإلحباط ،ويبقى الواقع ضبابياً ُمبهماً.
ومثلما ال يوجد انتصار بالحرب ،ال يوجد اتفاق سالم ،ومثلما ال يوجد حسم عسكري بميدان
المعركة ،ال يوجد حسم سياسي في الحلبة السياسية ،ألن اتفاق السالم يكون بين دول قوية
ومستقرة ،واالنتصارات تكون بين جيوش نظامية ،وتفكك بعض الدول إلى أجزاء صغيرة أدى إلى
إنشاء جيوش صغيرة ،وهذا ولد وضع ال يمكن تحقيق االنتصار والحسم العسكري ،وال يمكن فيه
كذلك التوصل إلى اتفاقيات سياسية آمنة ومستقرة.
الجملة المشهورة لدى اليمين "اجعلوا الجيش ينتصر" هي جملة سخيفة ،مثل الجملة المشهورة عند
اليسار "السالم اآلن" ،اليسار يذكرنا دوماً أننا ال يمكن أن ننتصر بالمعركة ،واليمين يذكرنا دوماً
ومخطئين بنفس الوقت ،بالعالم الحديث
أننا لن نتوصل إلى اتفاق سالم – وكالهما صادقينُ ،
يجب تقليل حجم التوقعات من الحرب ومن السالم ،واالنتقال من سياسة تحاول تغيير الواقع إلى
67
الخاتمة
ثيودور هرتسل عارض إحياء اللغة العبرية ،واعتقد أن اللغة العبرية ماتت وال أمل في إحيائها من
جديد ،الشك لدى هرتسل كان مبني على أسباب مقنعة ،وهو أنه ال أمل في إعادة إحياء لغة
قديمة ماتت منذ آالف السنين ،وجعلها لغة حديث يومية ،ألنه ال يوجد سابقة لهذه الحالة
بالتاريخ.
المفكر اليهودي آحاد هعام ،عارض محاولة تجميع الشعب اليهودي في أرض "إسرائيل" ،لقد
اعتقد أن األرض خراب ومهجورة ،وال يمكن تجميع وتوطين اليهود فيها بشكل كبير ،وال يوجد
سابقة لجمع شعب متفرق بكل أنحاء العالم ،وإعادة توطينه في وطنه التاريخي.
من وجهة نظرهم بتلك المراحل والفترات ،كالهما كانا صادقين ،من الناحية العقالنية العملية ال
يمكن تجميع شعب وإعادة إحياء لغته ،لكن من وجهة نظرنا نحن ،حسب وقتنا هذا نعلم أنهم
كانوا مخطئين ،وأن األمور تحققت ،والحركة الصهيونية نجحت في تحويل هذه األمور شبه
المستحيلة إلى حقائق واقعية ،طالئعيو اللغة العبرية آمنوا بالهدف شبه المستحيل ،وأعادوا إحياء
اللغة العبرية وجعلوها لغة حديث يومي ،طالئعيو المهاجرين اليهود آمنوا بالهدف شبه المستحيل،
وبدأوا بالهجرة إلى أرض "إسرائيل" ،وطالئعيو المحاربين اليهود آمنوا بالهدف شبه المستحيل،
وأقاموا جيش يهودي أسهم في إقامة الدولة.
68
تحقيقها ،والحلول الوسط أو التراجع عن التمسك باأليديولوجيات ،ليس بالضروري أن يكون تنازل
أخالقي وبالعكس ،أعتقد أن البرغماتية قد تكون أكثر أخالقية من اإلصرار على التمسك
باأليديولوجيات واإليمان الكامل بها ،البرغماتية هي حلول وسط ،وحلول أخالقية ،ألزمة
األيديولوجيات ،وحل اليأس المترتب على أزمة األيديولوجيات ،وحل مشكلة الوالء المطلق لهذه
األيديولوجيات.
عندما كان الشعب اليهودي في مصر ،كانت القوات المصرية تهدد الشعب ،وعندما أصبح
الشعب اليهودي في وطنه ،أصبحت القوة الداخلية تهدد الشعب ،الخوف من الفساد الداخلي
يؤدي إلى الخوف من ارتكاب خطيئة تجعل الشعب يخسر وطنه مرة أخرى ،النبي موسى حذر
في خطابه األخير من هذا ،وحتى التناخ يخلد هذه المخاوف ،ويريد أن يعيش الشعب معها،
حتى ال تؤدي قواه الداخلية للشعب اليهودي إلى حدوث خطيئة وخسران الوطن مرة أخرى ،العيش
مع هذه المخاوف ُيشكل تحدياً لليهود الذين يعيشون حالياً في "إسرائيل".
اآلن دولة "إسرائيل" دولة قوية جداً ،وبنفس الوقت هي دولة ضعيفة جداً" ،إسرائيل" كانت قوية
ألنها قامت بالقرن العشرين ،انتصرت بعدة حروب ،أصبح اقتصادها خالل فترة صغيرة من
األقوى في العالم ،اإلنتاج القومي ل ـ"إسرائيل" اليوم أكبر من كل جاراتها –مصر واألردن وسوريا
ولبنان معاً– يوجد في "إسرائيل" شركات تكنولوجية أكثر من بعض دول أوروبا" ،إسرائيل" هي
أصغر دولة بالعالم ،لديها قمر صناعي بالفضاء ،وقوة نووية عسكرية ومدنية (حسب األخبار
األجنبية) ،لكن "إسرائيل" دولة قابلة لالنهيار ،ألنها تعيش وسط الفوضى الشرق أوسطية،
ومحاطة بالعديد من المنظمات اإلرهابية العنيفة ،وتوجد عدة دول قوية تريد أن تدمرها ،وجزء من
هذه الدول والمنظمات قائمة على هذا الهدف بالذات ،هذا الدمج ما بين الخوف من العزلة،
والخوف من العنفِّ ،
يوجد حالة من الضعف بالوعي اإلسرائيلي ،عدد كبير من اإلسرائيليين
يشعرون أننا مجرد أقلية يهودية تعيش في عالم عربي غالبيته ُمسلمة ،أو أقلية داخل الدولة
نفسها ،وألننا دولة قابلة لالنهيار ،فكل من يحذر من وجود تهديدات خارجية فهو صادق ،وألننا
دولة قوية ،فكل من يحذر من الفساد الداخلي فهو صادق ،لكن لألسف الشديد ال أحد يتحدث
المحدقة بنا
عن األمور التي تُشكل مخاوف وتُنذر بوقوع االنهيار ،جميعنا يتحدث عن المخاطر ُ
في الشرق األوسط ،وال أحد يتحدث عن تجاهلنا لحقوق الفلسطينيين ،ونطالِّب بإزالة المخاطر
والتهديدات الوجودية فقط.
69
كل تيار ُمتمسك بأحد المخاوف فقط ،تيار واحد ُمتخوف من الفساد الداخلي ،وفقدان العودة إلى
مصر ،وتيار آخر متخوف من العدو ومن التهديدات الخارجية.
السياسة البرغماتية تسعى لكسر مخاوف اليسار من قوة فسادنا الداخلي ،وكسر مخاوف اليمين
من تهديدات األعداء من الخارج ،وكالهما حافظ على هذه المخاوف ،وعلى حركة صهيونية
السياسة البرغماتية ليست فقط واقعية ،بل أخالقية ،وبدون التمسك بهذه المخاوف ،بمعنى أن
نعيش بأمان داخل الوطن ،وال نعيش بخوف من خسارة الوطن.
األيديولوجية التي تؤمن أن االستيطان في كل أنحاء أرض "إسرائيل" التوراتية سيؤدي إلى اقتراب
التحرر والخالص ،ف ُوِّلدت حركة االستيطان ،وهذا إيمان عاطفي ،ولعبت دو اًر في ربط بعض
المؤمنين بهذه األفكار بالحياة ،وقدمت لهم معنى الحياة.
هنا يوجد الفرق بين السياسة األيديولوجية ،وبين السياسة البرغماتية ،السياسة األيديولوجية تهتم
بالمعنى واألهمية ،أما السياسة البرغماتية تهتم بالبقاء والنجاح ،وحتى أن السياسة التي ال تقوم
على أيدي ولوجية ال تعتبر بمثابة ضعف ،وال تعبر عن عدم الوالء واالنتماء ،والسياسة البرغماتية
لها جذور في أعماق التقاليد اليهودية القديمة.
في العصر الحديث ظهرت في دول أوروبا أيديولوجيات كبرى قائمة على قوة اإليمان بالمبدأ
المطلق ،البعض آمن بشكل أعمى باالشتراكية ،والبعض آمن بشكل أعمى بالفاشية ،والبعض آمن
بالليبرالية ،لقد آمنوا أن هذه المبادئ كاملة ،وقادرة على حل كل شيء ،ولو استطاع اإلنسان
تطبيق هذه المبادئ سوف يصبح العالم أفضل.
70
في العصور القديمة كان البشر يعبدون األصنام ،وفي العصور الحديثة يعبدون المبادئ واألفكار
السياسية ،وإ ذا كان هدف الديانات بالماضي محاربة عبادة األصنام ،فإن مهمتها في الحاضر،
محاربة عبادة األيديولوجيات السياسية ،فال توجد أفكار كاملة ،كما ال يوجد إنسان كامل ،وال
توجد حلول كاملة ،وبالتالي ال توجد فكرة قادرة على تخليص الشرق األوسط من مركباته العنيفة،
وال توجد أيديولوجية قادرة على تحقيق المحبة ،وإنهاء الكراهية ،بين اليهود وبين بقية شعوب
العالم.
ال يوجد مبدأ سياسي قادر على تحرير الواقع ،وال توجد أيديولوجية سياسية ُمقدسة ،ويتضح أن
السياسة البسيطة الخالية من أي محتوى فكري لها جذور قديمة بالعالم ،تكمن في األع ارف
والتقاليد السياسية اليهودية القديمة.
تقاليد االستماع:
المطلق باألفكار واأليديولوجيات المطلقة ،وهو عدم القدرة على
أحد أهم المشاكل الصعبة لإليمان ُ
المنافسة والبديلة ،إضافة إلى اإليمان بأن تطبيق أفكار هذه
االستماع لآلخر ،ورفض األفكار ُ
األيديولوجية دون غيرها سوف يؤدي إلى خلق واقع متكامل ،ولو تم تطبيق أفكار الخصم
(المنافسة البديلة) سيكون الواقع كارثي ،الحل الذي تقدمه هذه األيديولوجية سوف ينقذ العالم،
ِّ
المنافسة سوف تدمر العالم. بينما حلول األيديولوجية
الخطاب األيديولوجي يقول إن موقف الخصم خطير ،وحلوله الفكرية هدامة ،لهذا يمكن القول أن
المجال الذي ال يوجد به حلول محاولة ،هو نفس المجال الذي ال يوجد به تقاليد االستماع،
وحسب التقاليد اليهودية القديمة القائمة على الجدال ،يوجد مكان لالستماع لآلخر ،ولذلك هي
تقاليد استماع ،ونفس هذا المستمع هو القادر على تجديد وتحسين ثقافة االختالف في "إسرائيل".
71