Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 72

‫مصيدة ‪67‬‬

‫الخالفات الفكرية التي تقف خلف االنقسام السياسي‬


‫يف "إسرائيل"‬

‫املؤلف‪ /‬ميخا جودمان‬

‫ترجمة‪:‬‬

‫الهدهد‬

‫إصدارات‪ /‬دار النشر دافير‬

‫‪2017‬‬

‫‪1‬‬
‫فهرس المحتويات‬

‫معرفة‪.‬‬
‫كلمة المترجم‪ ...........................................‬خطأ! اإلشارة المرجعية غير ّ‬
‫ُمقدمة ‪6 ..................................................................................‬‬
‫عالقاتنا العاطفية مع قناعاتنا السياسية‪7 ...................................................‬‬
‫المصيدة العاطفية‪8 .......................................................................‬‬
‫الخالصة‪ ..‬يمكن القول ‪9 .................................................................‬‬
‫االنتقال من قالب التفكير الثنائي إلى قالب التفكير الكمي ‪11 ................................‬‬

‫الجزء األول‪ :‬األيدولوجيات السياسية في أزمة‪13............................................‬‬


‫ُمقدمة ‪14 .................................................................................‬‬
‫اليمين واليسار قصة التحوالت ‪14 ..........................................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬التحول الفكري لليمين اإلسرائيلي ‪16 .........................................‬‬
‫حدود األرض الموعودة‪18 ............................................................. :‬‬
‫تطبيق أفكار جابوتينسكي ‪18 ............................................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬التحول الفكري اليساري‪21 ..................................................‬‬
‫أيديولوجية اليسار اإلسرائيلي قبل التحول‪21 ............................................ :‬‬
‫صعود وانهيار االشتراكية الصهيونية‪22 ................................................ :‬‬
‫من االشتراكية إلى السالم – التحول األكبر باليسار اإلسرائيلي‪22 ........................:‬‬
‫المبادئ تتغير في ميزان الواقع‪24 ...................................................... :‬‬
‫االنتفاضات التي قضت على مبادئ اليسار واليمين‪25 ..................................:‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الصهيونية الدينية المسيحياتية ‪26 ..........................................‬‬
‫التغيير في الصهيونية الدينية – التحول نحو الفكر الخالصي‪26 ........................ :‬‬
‫االنسحاب من سيناء وغزة واألزمة الدينية‪27 ............................................ :‬‬
‫الصهيونية الدينية الخالصية‪ ،‬واألزمة الفكرية في "إسرائيل"‪28 ........................... :‬‬

‫الجزء الثاني‪ :‬االدعاءات السياسية في أزمة ‪29.............................................‬‬


‫ُمقدمة ‪30 .................................................................................‬‬
‫هؤالء صادقون وهؤالء صادقون‪30 ........................................................:‬‬
‫الفصل األول‪ :‬تناقض ُمحرج ‪31 ...........................................................‬‬

‫‪2‬‬
‫المشكلة الديموغرافية‪31 ................................................................:‬‬
‫الخالصة‪33 ...........................................................................:‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬ربما ال يوجد معضلة أمنية ‪34 .............................................‬‬
‫نظرية المقاومة‪34 ..................................................................... :‬‬
‫النكبة‪35 .............................................................................. :‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬ربما ال يوجد مشكلة ديموغرافية‪37 .........................................‬‬
‫ضعف االدعاءات اليمينية بالنسبة للمعضلة الديموغرافية‪38 ............................. :‬‬
‫هل يوجد فصل عنصري (ابرتهايد) بالمناطق الفلسطينية‪38 ............................. :‬‬
‫المزدوج‪39 ......................................................................:‬‬
‫العمى ُ‬
‫المعضلة األخالقية ‪41 .....................................................‬‬
‫الفصل الرابع‪ُ :‬‬
‫االحتالل يولد الفساد‪41 ................................................................:‬‬
‫دولة ديمقراطية تحتل شعب آخر‪42 .................................................... :‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬المعضلة اليهودية ‪44 ....................................................‬‬
‫االدعاء التوراتي‪44 .................................................................... :‬‬
‫االدعاء القومي‪45 .....................................................................:‬‬
‫تناقض ديني داخلي‪46 ................................................................ :‬‬
‫نحن في مصيدة‪47 ....................................................................:‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬الحرج السياسي األكبر‪48 ................................................‬‬
‫االنقسام المترتب على الحرج السياسي‪48 ...............................................:‬‬
‫من سياسة األيدولوجيات إلى سياسة الجماعات‪49 ...................................... :‬‬
‫الحوار اليهودي الفلسطيني الجريح‪50 ...................................................:‬‬

‫الجزء الثالث‪ :‬هامش نقاش برغماتي‪52.....................................................‬‬


‫المقدمة ‪53 ................................................................................‬‬
‫ُ‬
‫الدولة وأحالمها ‪53 ........................................................................‬‬
‫إعادة صياغة المشكلة‪54 .................................................................:‬‬
‫الكتاب لم ينتهي‪55 ...................................................................... :‬‬
‫الفصل األول‪ :‬التسوية الجزئية‪57 .........................................................‬‬
‫التحول البرغماتي‪58 ...................................................................:‬‬
‫المصيدة الفلسطينية‪59 .................................................................:‬‬

‫‪3‬‬
‫شرق أوسط جديد‪59 ................................................................... :‬‬
‫الصراع سوف يستمر‪60 ............................................................... :‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬مبدأ االنفصال ‪61 .........................................................‬‬
‫شبه دولة‪61 ...........................................................................:‬‬
‫شبه مواطنين‪62 .......................................................................:‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬البرغماتية السياسية كجسر (إسرائيلي) ‪64 ..................................‬‬
‫البرامج السياسية أمام مصيدة ‪64 ................................................:1967‬‬
‫كلتا الخطتين كمادة للتفكير‪65 ......................................................... :‬‬
‫الهامش البرغماتي وتحسين االستماع بالحوار اإلسرائيلي الداخلي‪66 ..................... :‬‬
‫الحرب والسالم‪66 ..................................................................... :‬‬

‫الخاتمة ‪68..................................................................................‬‬
‫والء ُمطلق وإيمان كامل‪68 ...............................................................:‬‬
‫اإلنسان يبحث عن معنى‪70 ..............................................................:‬‬
‫تقاليد االستماع‪71 ........................................................................:‬‬

‫‪4‬‬
‫تقديم‬
‫بسم هللا والصالة والسالم على رسول هللا‪ ،‬ثم أما بعد‪:‬‬

‫يصور كيف َّ‬


‫تمكن الفلسطينيون من الصمود أمام االحتالل العسكري اإلسرائيلي منذ‬ ‫ِّ‬ ‫فهذا الكتاب‬
‫العام ‪1967‬؛ األمر الذي أدى إلى انهيار كل النظريات واأليديولوجيات لليمين ولليسار في‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬والقضاء على األحالم اليهودية في فلسطين‪.‬‬

‫حسب المؤلف‪ ،‬فإن الصمود الفلسطيني لم يؤدي –فقط‪ -‬إلى انهيار النظريات الفكرية‪ ،‬وتفنيد‬
‫مزاعم اليهود بأننا مجرد مجموعة من السكان‪ ،‬ومن أنه يمكن أن يتم حل قضيتنا من خالل حكم‬
‫ذاتي ضيق النطاق واآلفاق ووفقاً للمصالح األمنية ل ـ"إسرائيل"‪ ،‬وإنما أدى إلى انقسام داخلي‬
‫بالمجتمع اإلسرائيلي‪ ،‬فأصحاب فكر اليمين وفكر اليسار تخلوا عن نظرياتهم التقليدية؛ ألنها لم‬
‫تقدم أي حلول للصراع الفلسطيني اإلسرائيلي‪ ،‬وفشلت حتى في تقديم إجابات واضحة لهذا‬
‫الصراع‪.‬‬

‫في هذا الكتاب يستعرض الكاتب فشل أيدولوجيات اليمين واليسار في التوصل إلى حلول للصراع‬
‫مع الفلسطينيين‪ ،‬ثم يقدم طرق –برامج وخطط– جديدة‪ ،‬تهدف إلى إخراج "إسرائيل" من المأزق‬
‫الفلسطيني‪ ،‬أو ما يصفه بالمصيدة‪ ،‬والتفكير في طرق جديدة برغماتية وليست أيدولوجية للتعامل‬
‫مع الص ارع‪ ،‬وليس إلدارة الصراع‪ ،‬وهذه الطرق ليست لحل الصراع بشكل نهائي‪ ،‬إنما إلعادة‬
‫ترتيب المشاكل الرئيسية له‪ ،‬وتقديم حلول مناسبة‪.‬‬

‫وهللا ولي التوفيق‬

‫يوليو – ‪2021‬‬

‫غزة – فلسطين‬

‫‪5‬‬
‫مقدمة‬
‫عشية حرب األيام الستة (حرب عام ‪ ،)1967‬أقيمت في "إسرائيل" ألول مرة في تاريخها حكومة‬
‫وحدة وطنية‪ ،‬وعلى ضوء التهديدات الخارجية؛ توحد المجتمع اإلسرائيلي من الداخل‪ ،‬الوحدة التي‬
‫عاشت في ظل االنتصار األكبر في تاريخ الدولة‪.‬‬

‫خالل ستة أيام َّ‬


‫تمكن الجيش اإلسرائيلي من هزيمة ثالثة جيوش عربية‪ ،‬وضاعفت دولة "إسرائيل"‬
‫مساحتها لثالثة أضعاف‪ ،‬ولكن احتالل المناطق الكبيرة أشعل خالفاً كبي اًر في "إسرائيل"‪ ،‬هل‬
‫يجب توطين هذه المناطق المحتلة بالسكان اليهود؟ أم يجب إعادة هذه المناطق للعرب مقابل‬
‫اتفاقيات سالم؟‬

‫الراغبون في الحفاظ على كل البالد –أرض "إسرائيل" الكبرى– اختلفوا مع الذين يرغبون في‬
‫الحفاظ على السالم‪ ،‬وهذا الخالف أدى لخلق انقسام في المجتمع اإلسرائيلي‪ ،‬فانقسم الشعب‬
‫لمعسكرين‪ ،‬وحالة الوحدة التي حصلت خالل الحرب تبخرت بسبب أحداث ما بعد الحرب‪.‬‬

‫منذ انتهاء حرب األيام الستة‪ ،‬وقعت الكثير من األحداث بين "إسرائيل" والسكان العرب في‬
‫المناطق الجديدة المحتلة‪ ،‬فقد اندلعت االنتفاضة األولى والثانية‪ ،‬وقامت ثالث جوالت حروب مع‬
‫قطاع غزة خالل سنوات اتفاقية أوسلو‪ ،‬وسنوات االنفصال عن القطاع‪ ،‬ولم ِّ‬
‫تنته أي جولة من‬
‫جوالت القتال باالنتصار العسكري‪ ،‬كما أن كل محاوالت التفاوض لم ِّ‬
‫تنته بالتوصل للسالم‪.‬‬

‫وعلى خلفية المحاوالت الفاشلة إلظهار االنتصار في الحرب أو التوصل للسالم‪ ،‬دار في‬
‫"إسرائيل" جدال كبير وغير متوقف حول حدود دولة "إسرائيل"‪ ،‬فالمناطق التي تم احتاللها في‬
‫العام ‪ 1967‬أشعلت خالفاً استمر لمدة ‪ 50‬سنة‪ ،‬وحسب التقويم التوراتي فإن السنة رقم ‪ 50‬هي‬
‫(سنة اليوبيل)‪ ،‬وبهذه السنة ‪-‬حسب التقويم التوراتي‪ -‬كل العبيد يتحررون من أسيادهم‪ ،‬وكل‬
‫األراضي تعود ألصحابها‪ ،‬وفي هذه السنة يعود التقويم للعد من جديد‪ ،‬الخالفات والفجوات‬
‫االقتصادية تتقلص حتى الصفر‪ ،‬والفجوات الطبقية بين العبيد واألسياد تختفي‪ ،‬وبعد انقضاء ‪50‬‬
‫سنة يبدو العالم كأنه يتم والدته من جديد‪ ،‬ومن هنا فإن سنة اليوبيل هي فرصة إلنهاء الخالفات‬
‫حول نتائج حرب األيام الستة‪ ،‬وفتح الحوار من جديد‪.‬‬

‫كما أن األحداث المختلِّفة التي حدثت على مدار الخمسين سنة الماضية‪ ،‬أوصلت المجتمعين‬
‫المسلمات والقناعات في‬
‫الفلسطيني واإلسرائيلي إلى طريق مسدود‪ ،‬وأن الفرصة إلعادة دراسة ُ‬

‫‪6‬‬
‫الفكر السياسي اإلسرائيلي‪ ،‬ولكن بشرط حدوث تغيير أساسي في عالقتنا العاطفية مع هذه‬
‫القناعات السياسية‪.‬‬

‫عالقاتنا العاطفية مع قناعاتنا السياسية‬


‫الناس بشكل عام تميل إلى ُحب ما لديها من أشياء‪ ،‬وتقوم بتطوير عالقات حساسة وعاطفية مع‬
‫األمور التي تحت ملكيتهم‪ ،‬ويتم تجسيد ذلك عندما تصبح األشياء والمقتنيات التي مع الشخص‬
‫جزء منه‪ ،‬وليست مجرد أشياء تابعة له‪.‬‬

‫بهذه الحالة يتحول الشخص إلى مثالي –نموذجي–‪ ،‬ويصبح هو مجرد انعكاس لقناعاته وألفكاره‬
‫والمبادئ التي يؤمن بها‪ ،‬ومثل هؤالء األشخاص ال يكونون منفتحون على تقبل االنتقاد‪ ،‬أو‬
‫معارضة آرائهم‪ ،‬ألنه يعتِّبر أي معارضة ألفكاره هي اعتراض على وجوده‪.‬‬

‫في المناخ الفكري اإلسرائيلي‪ ،‬تتصارع الكثير من األفكار في عدة مجاالت ومواضيع‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫االقتصاد والمجتمع‪ ،‬الدين والدولة‪ ،‬وهناك تنوع واسع من اآلراء يخلق حوارات عاصفة‪ ،‬لكن وفي‬
‫مجال واحد فقط‪ ،‬يتم استيعاب المواقف واآلراء بحذر شديد‪ ،‬وهو مجال الصراع الفلسطيني‬
‫اإلسرائيلي‪.‬‬

‫مواقف اإلسرائيليين حول تلوث البيئة‪ ،‬أو نسبة الربا‪ ،‬هي مواقف تجسد وتعكس وعيهم‪ ،‬لكن‬
‫مواقفهم حول حدود القدس الشرقية تعكس وتجسد هويتهم وانتمائهم‪ ،‬وجزء من فكرهم السياسي‬
‫والقومي‪ ،‬فالشخص الذي يؤمن أنه يجب االنسحاب إلى حدود العام ‪ُ ،67‬يعرف أنه يساري‪ ،‬أما‬
‫الشخص الذي يؤمن أنه يجب توطين المناطق المختلف عليها‪ ،‬يتم اعتباره أنه يميني‪ ،‬بمعنى أنه‬
‫على عكس كل المواقف اإلسرائيلية في المجاالت كافة‪ ،‬ال تعتبر هذه المواقف جزء من الوعي‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬بل هي جزء من الهوية اإلسرائيلية‪ ،‬ومن يعترض على هذه المواقف‪ ،‬يعترض على‬
‫هويتنا ووجودنا‪ ،‬لذلك ال يوجد هنا تناقض‪ ،‬فهم غير مستعدين لالستماع‪ ،‬وبالذات في أكثر‬
‫المواضيع أهمية بالنسبة لهم‪.‬‬

‫اليمين اإلسرائيلي يعتقد أن أفكار اليسار ليست خاطئة فقط‪ ،‬وإنما خطيئة خطيرة‪ ،‬واالنسحاب من‬
‫الضفة سوف يقلص دولة "إسرائيل" إلى دويلة صغيرة الحجم‪ ،‬وبالتالي سوف يحولها ذلك إلى‬
‫دولة ضعيفة وقابلة لالنهيار‪ ،‬أما اليسار اإلسرائيلي ال يعتقد أن أفكار اليمين خاطئة فقط‪ ،‬بل‬
‫خطيرة‪ ،‬واستمرار وجودهم العسكري في المناطق المحتلة تحديداً سيؤدي إلى انهيار الدولة‬
‫ديموغرافياً‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫اليمين يرى اليسار‪ ،‬كما اليسار يرى اليمين‪ ،‬اليسار يعتبر أن تحقق مبادئ اليمين سيؤدي إلى‬
‫انهيار الدولة‪ ،‬واليمين يرى أن تحقق مبادئ اليسار سوف يؤدي إلى انهيار الدولة‪ ،‬كيف يمكن‬
‫أن نستمع ألشخاص طموحهم هو دمارنا؟‬

‫هذه بعض المميزات الخاصة للحوار السياسي حول حدود الدولة في "إسرائيل"‪ ،‬وهذه المواقف‬
‫والقناعات هي جزء منا‪ ،‬من هويتنا‪ ،‬وكل موقف من هذه المواقف تُعتبر كخطر على وجودنا‪،‬‬
‫والربط بين هذه المميزات أدى إلى انهيار الحوار السياسي اإلسرائيلي‪ ،‬الحوار السياسي في‬
‫"إسرائيل" ال يعتبر كحالة عصف ذهني يشجع على التفكير في التحديات التي تعرض وجودنا‬
‫للخطر‪ ،‬والتوصل ألفكار جديدة وخالقة لهذه التحديات‪ ،‬إنما يعتبر كحالة التعبير عن الهوايا‪،‬‬
‫والمحتوى القومي الداخلي والقناعات‪ ،‬فهذا الحوار هو تجسيد لألفكار األيديولوجية وانعكاس‬
‫لألفكار الثابتة‪ ،‬وهذا بالطبع أمر ُمقلق‪.‬‬

‫الصراع العربي اإلسرائيلي موضوع معقد‪ ،‬لكن الحوار ليس عملية تفكير ُمعقدة‪ ،‬وهنا تولدت حالة‬
‫من عدم التماثل بين مستوى تعقد المشكلة‪ ،‬ومستوى تعقد التفكير بالمشكلة‪ ،‬السنة الخمسين‬
‫للحوار قادرة على أن تكون فرصة لتجديد الحوار‪ ،‬وسنة لتغيير طريقة الحوار‪ ،‬هذا فقط إذا‬
‫استطعنا فصل قناعاتنا عن هويتنا‪.‬‬

‫المصيدة العاطفية‬
‫االنقسام بين اإلسرائيليين وبين الفلسطينيين يتعاظم بواسطة ديناميكية نفسية ُمدمرة‪ ،‬والصراع بين‬
‫بالمحصلة األخيرة‪ -‬صراع بين العواطف والمشاعر‪.‬‬
‫الشعبين هو ‪ُ -‬‬
‫الشعور بالخوف هو الشعور السائد لدى اليهود‪ ،‬اإلسرائيليين يخافون من الفلسطينيين‪ ،‬وهذا‬
‫الخوف هو خوف عميق‪ ،‬عتيق‪ ،‬ومشترك للجميع‪ ،‬لليسار ولليمين معاً‪ ،‬ومع وجود السكان‬
‫العرب في البالد يتزايد الشعور بالخوف لدى السكان اإلسرائيليين أتباع تيار اليمين‪ ،‬وكذلك أتباع‬
‫تيار اليسار‪.‬‬

‫أما الشعور السائد لدى الفلسطينيين ليس الخوف‪ ،‬إنما اإلهانة‪ ،‬الدونية‪ ،‬فهم ال يخافون من‬
‫اإلسرائيليين‪ ،‬لكنهم يشعرون أنه يتم احتقارهم بواسطة اليهود اإلسرائيليين‪ ،‬كذلك الصراع بين‬
‫الشعبين هو صدام عاطفي بين المشاعر‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫هذه المشاعر تُغذي بعضها بعضاً‪ ،‬وبالتالي تُسهم في زيادة الحالة الحسية والعاطفية بالصراع‪،‬‬
‫فالخوف اإلسرائيلي من الفلسطينيين يدفعهم لالنتقام منهم‪ ،‬مثل‪ :‬معارضة رغباتهم‪ ،‬تقييد حركتهم‪،‬‬
‫وضع الحواجز "المحاسيم"‪ ،‬وتوقيفهم والتحقيق معهم عند الدخول إلى األماكن العامة‪.‬‬

‫ونتيجة لهذه األحداث يشعر الفلسطينيون باإلهانة وحالة احتقار متزايدة‪ ،‬لكن الديناميكا ُ‬
‫المدمرة ال‬
‫تتوقف إلى هنا‪ ،‬فهذه المشاعر من اإلهانة واالحتقار تزيد من الكراهية لإلسرائيليين‪ ،‬وتخلق مناخ‬
‫غاضب ُينمي العنف‪ ،‬وهذا العنف هو الذي يزيد من شعور الخوف لدى اإلسرائيليين‪.‬‬

‫الخالصة‪ ..‬يمكن القول‬


‫الخوف عند اإلسرائيليين يجعلهم يقومون بأعمال تُِّزيد من شعور اإلهانة لدى السكان‬
‫الفلسطينيين‪ ،‬وشعور اإلهانة لدى الفلسطينيين يدفعهم للقيام بردود وتصرفات من شعور الخوف‬
‫لدى اإلسرائيليين‪ ،‬وعندما يصطدم شعور الخوف بشعور اإلهانة فإن المشكلة تتعاظم‪.‬‬

‫هذه الديناميكية ال تنحصر على العالقات المتبادلة بين الشعوب على المستوى النفسي‬

‫واالجتماعي فقط‪ ،‬بل على المستوى السياسي والقومي‪ ،‬أحد األمور ُ‬


‫المهمة لدى الفلسطينيين هو‬
‫التوصل التفاق ال يكون فيه إهانة لهم‪ ،‬بالمقابل الطلب األهم لإلس ارئيليين هو التوصل التفاق ال‬
‫يعرضهم للخطر‪ ،‬وهنا تكمن المشكلة‪ ،‬حيث إن االحتياجات األمنية اإلسرائيلية قد تمس بكرامة‬
‫الفلسطينيين‪ ،‬مثل‪ :‬التواجد العسكري للجيش اإلسرائيلي بالمناطق الفلسطينية يخلق شعور‬
‫االحتالل واإلهانة الوطنية‪ ،‬بالمقابل هو ضرورة لألمن اإلسرائيلي‪ ،‬والمشكلة هي أن مطالب‬
‫الطرفين ُمبررة‪ ،‬التواجد العسكري اإلسرائيلي في منطقة غور األردن هي ضرورة أمنية ال يمكن‬
‫لإلسرائيليين التنازل عنها‪ ،‬لكن هذا التواجد هو نفسه إهانة للكرامة القومية الفلسطينية‪ ،‬لذلك ال‬
‫يوافق الفلسطينيون عليها‪.‬‬

‫مرة أخرى كال الطرفان صادقان‪ ،‬األعمال اإلسرائيلية الهادفة إلى إنهاء شعور الخوف من‬
‫الفلسطينيين تُزيد شعور اإلهانة لدى الفلسطينيين‪ ،‬وهنا توجد لعبة بين الكرامة القومية واألمن‬
‫القومي نتيجتها صفر‪ ،‬لذلك كل اتفاق يسعى لتوفير االحتياجات األمنية اإلسرائيلية سيتم اعتباره‬
‫تخليد لإلهانة اإلسرائيلية للفلسطينيين‪ ،‬بالمقابل أي اتفاق سيكون مقبوالً للفلسطينيين‪ ،‬سيتم اعتباره‬
‫أنه يضعف دولة "إسرائيل"‪ ،‬ويعرضها لمخاطر كبيرة‪ ،‬وعندما يصطدم شعور اإلهانة مع شعور‬
‫الخوف فإن االتفاقيات السياسية تتالشى‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الرعب اإلسرائيلي من الفلسطينيين هو نتاج عشرات السنوات من الصراع‪ ،‬تعرض خاللها ثالثة‬
‫أجيال من اإلسرائيليين للنشاطات اإلرهابية‪ ،‬وعملياً اإلرهاب الفلسطيني نجح في إخافة‬
‫اإلسرائيليين‪ ،‬لكن الخوف اإلسرائيلي ليس بسبب اإلرهاب الفلسطيني فقط‪ ،‬فالتاريخ اليهودي مليء‬
‫بالمالحقات‪ ،‬لذلك فإن الخوف من الفلسطينيين ُيشعل الخوف التاريخي الموجود في أعماق الوعي‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬بالمقابل شعور اإلهانة القومية لدى الفلسطينيين‪ ،‬تبلور على مدار عشرات السنوات‬
‫من االحتالل العسكري اإلسرائيلي للمناطق الفلسطينية‪ ،‬لكن اإلهانة لم تبدأ مع العام ‪،1967‬‬
‫ومثلما يوجد تاريخ للخوف اإلسرائيلي‪ ،‬فإنه يوجد خلفية تاريخية لإلهانة الفلسطينية‪ ،‬حيث عاش‬
‫السكان الفلسطينيون المسلمون لفترات طويلة تحت حكم المسيحيين في البالد‪ ،‬وكذلك شعورهم‬
‫باندثار الدولة اإلسالمية‪ ،‬بعد مرحلة النهضة المسيحية في دول أوروبا‪ ،‬وإعادة احتالل دول العالم‬
‫العظمى‪ ،‬ومنها منطقة الشرق األوسط‪ ،‬ودول أفريقيا التي‬
‫اإلسالمي على يد الدول األوروبية ُ‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫كانت تحت حكم ُ‬
‫المسلمين‬
‫هذا التحول المؤلم في التاريخ اإلسالمي‪ُ ،‬يشكل حالة من اإلهانة في مشاعر الكثير من ُ‬
‫بالعالم‪ ،‬واالنتقال من حالة السيطرة على العالم إلى حالة دول ُمحتلة‪ ،‬أدى إلى خلق حالة من‬
‫الشعور بالضعف واإلهانة الكبيرة لدى كل مسلم‪.‬‬

‫هذه الشحنة من الوعي الجماعي‪ ،‬تنعكس جلياً في النظر للصراع الفلسطيني اإلسرائيلي‪ ،‬حيث‬
‫يتم اعتبار اإلسرائيليين على أنهم الغريبون الذين ُيهينون السكان المسلمين المحليون بالمنطقة‪،‬‬
‫من خالل احتاللهم لبالدهم‪.‬‬

‫وفي هذا السياق‪ ،‬تم اعتبار الحركة الصهيونية على أنها جهة استعمارية غربية‪ ،‬وأنها قد أشعلت‬
‫الذاكرة بشأن إهانة الغرب للمسلمين في بالدهم‪ ،‬وقيام الحضارة المسيحية الغربية باحتالل بالدهم‬
‫وإهانة السكان المسلمين في ديارهم‪.‬‬

‫بشكل عام مثلما يؤدي اإلرهاب إلى إشعال الذاكرة الجماعية اليهودية حول الخوف القديم‪ ،‬تؤدي‬
‫األعمال اإلسرائيلية إلى إشعال الذاكرة الجماعية لدى السكان المسلمين الفلسطينيين حول اإلهانة‬
‫الغربية لهم‪.‬‬

‫بالخالصة يمكن القول أن ارتباطنا العاطفي بالمواقف المتعلقة بالصراع مع الفلسطينيين هي التي‬
‫تؤدي إلى فشل الحوار حول هذا الصراع‪ ،‬لكن ليس الحوار هو تضحية مشاعرنا العاطفية فقط‪،‬‬
‫إنما هو الصراع نفسه‪ ،‬فالمشاعر العاطفية القديمة لدى اليهود‪ ،‬تصطدم مع المشاعر العاطفية‬

‫‪10‬‬
‫القديمة لدى السكان المسلمين‪ ،‬وبالتالي تعيق حل الصراع‪ ،‬وتقضي على أية إمكانية إلنهاء‬
‫الصراع‪ ،‬فلهذا الصراع ُعمق نفسي‪ ،‬ولهذا العمق النفسي يوجد ُعمق تاريخي‪.‬‬

‫كل التاريخ اليهودي‪ ،‬وكل التاريخ اإلسالمي‪ ،‬يتواجدون بقوة في الصراع الفلسطيني اإلسرائيلي‪،‬‬
‫وكالهما يتصادم مع اآلخر‪ ،‬سنة اليوبيل لحرب األيام الستة ‪ ،1967‬هي فرصة لتجديد أفكارنا‪،‬‬
‫وطريقة تفكيرنا حول الصراع‪ ،‬وأهم شيء مطلوب منا هو االنتقال من قالب (نموذج) التفكير‬
‫الثنائي إلى قالب التفكير الكمي‪.‬‬

‫االنتقال من قالب التفكير الثنائي إلى قالب التفكير الكمي‬


‫في اآلونة األخيرة مر التفكير الديني اليهودي بعدة مراحل من التغيير‪ ،‬يوجد في األعراف‬
‫اليهودية تسلسل هرمي للتعليمات واألوامر الدينية‪ ،‬هناك أوامر دينية مستوى عقوبتها عالي‪،‬‬
‫وأوامر دينية مستوى عقابها منخفض‪ ،‬وهناك أوامر دينية مصدرها التوراة‪ ،‬وأوامر دينية مصدرها‬
‫الحاخامات‪ ،‬لكن خالل القرن التاسع عشر‪ ،‬وفي أوساط الحريديم األرثدوكس‪ ،‬حدثت عملية‬
‫إلزالة الفروق بين التعليمات الدينية‪ ،‬وفجأة تحولت كافة التعليمات الدينية إلى متساوية الخطورة‬
‫والعقوبة‪ ،‬حتى أن الحاخامات بدأوا بالحرص على تطبيق العادات كأنها أوامر دينية‪ ،‬والتعامل‬
‫مع كافة أنواع التعليمات المتنوعة على أنها نفس الشيء‪.‬‬

‫ليس فقط التفكير الديني أصبح ثنائي‪ ،‬إنما التفكير السياسي‪ ،‬ومثلما تم إزالة وإذابة الفوارق بين‬
‫كل األوامر الدينية‪ ،‬كذلك تم إذابة الفوارق بين األفكار السياسية‪ ،‬اليمين يؤمن أن فكر اليسار‬
‫خطير على أمن الدولة‪ ،‬واليسار يؤمن أن فكر اليمين خطير على مصير الدولة‪ ،‬اليسار واليمين‬
‫تبنوا الطريقة الدينية في التفكير‪ ،‬إما أنا أو ال أحد‪ ،‬إما أن تكون متدين بشكل كامل أو ال تكون‪.‬‬

‫على مدار الخمسين سنة الماضية‪ ،‬تحولت طريقة التفكير السياسي في "إسرائيل" إلى طريقة‬
‫ثنائية‪ :‬هل "إسرائيل" هي احتاللية‪ ،‬أم دولة أخالقية؟ هل تعيش الدولة حالة صراع أم سالم مع‬
‫العرب؟ والسؤال المهم هنا هو‪ :‬ما الذي سيحدث لو تم تغيير طريقة التفكير هذه؟‪ ،‬ماذا سيحدث‬
‫لو توقفنا عن التفكير بالسياسة بقوالب نظرية ثابتة‪ ،‬والبدء بالتفكير بالسياسة بقوالب كمية قياسية‪،‬‬
‫وفي هذه الحالة ممكن أن نطرح أسئلة جديدة‪ ،‬وبدالً من أن نسأل كيف سيتم حل الصراع‪ ،‬نسأل‬
‫كيف سوف ُنقلصه‪ ،‬وبدالً من أن نسأل كيف ننهي االحتالل‪ ،‬نسأل كيف يمكن تقليله – تخفيفه‪.‬‬

‫نغير رؤيتنا للسالم‪ ،‬وال نعتبر أن حدوثه سهل وسريع‪ ،‬ومن أجل أن يحدث السالم‪ ،‬يجب أن‬
‫يتغير الواقع الذي نعيشه‪ ،‬ويجب أن نفكر بالسالم وفق القالب الكمي بالمستويات‪ ،‬وليس إما أن‬

‫‪11‬‬
‫يحدث السالم أو ال يحدث‪ ،‬وبدالً من أن نسأل كيف سيتحقق السالم‪ ،‬نسأل ما الذي علينا فعله‬
‫من أجل زيادة فرص حدوث السالم؟‪.‬‬

‫األفكار والمبادئ لها قصص وروايات‪ ،‬وفي هذا الكتاب سوف نحاول أن نقصص المبادئ‬
‫السياسية اإلسرائيلية‪ ،‬ومنها المبادئ الموجودة بعمق الفكر الصهيوني‪ ،‬والتي تحولت مع األيام‬
‫إلى أيدولوجيات سياسية مختلفة‪ ،‬تتعارض مع بعضها‪.‬‬

‫الصدام بين المبادئ واأليدولوجيات‪ ،‬هز المجتمع اإلسرائيلي بشكل دراماتيكي‪ ،‬لذلك سيتم وصف‬
‫هذه المبادئ بشكل حاد ودراماتيكي‪ ،‬وسيتم عرض النظرية وإخفاقاتها‪.‬‬

‫وهنا يجب القول أن الخالفات التي تقسم المجتمع اإلسرائيلي‪ ،‬ال تقتصر أسبابها على المبادئ‬
‫األيدلوجية السياسية فحسب‪ ،‬بل هناك مجموعة من األسباب التي تعمق الخالف واالنقسام‪ ،‬منها‪:‬‬
‫خالفات دينية‪ ،‬فوارق طبقية‪ ،‬وحتى مصالح سياسية متناقضة‪ ،‬كل هذه األسباب ال تحظى‬
‫بالتركيز واالهتمام‪ ،‬وهنا نود أن ِّ‬
‫نذكر أن منهج الكتاب سيكون فكري بحت‪ ،‬وسيركز على‬
‫المبادئ واأليدولوجيات السياسية‪ ،‬مثل أفكار جابوتينسكي‪ ،‬الحاخام كوك‪ ،‬ماركس‪ ،‬بن جريون‪،‬‬
‫ومفكرين آخرين من الذين أسهموا في تنمية الفروقات السياسية من خالل تمسك اآلخرين بأفكارهم‬
‫ومبادئهم األيدولوجية‪.‬‬

‫في الجزء األول تم شرح الفلسفة التي تقف خلف الفكر السياسي اإلسرائيلي‪ ،‬وفي الجزء الثاني‬
‫عرضنا مظاهر تجسيد األفكار األيدولوجية عملياً على أرض الواقع‪ ،‬وبحث الحوار السياسي‬
‫اإلسرائيلي من خالل االستماع لكل اآلراء لليمين واليسار‪.‬‬

‫في هذه األقسام سيتم فهم وتوضيح األفكار‪ ،‬واالدعاءات‪ ،‬والخالفات الفكرية والسياسية الدائرة في‬
‫"إسرائيل" منذ حرب األيام الستة حرب العام ‪.1967‬‬

‫أما الجزأين الثالث والرابع فتم تخصيصهم لرسم مميزات طريقة التفكير العقالنية المطلوبة التي‬
‫تسهم في تقبل اآلخر في "إسرائيل"‪ ،‬واالستماع آلرائه – البرغماتية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫الجزء األول‪:‬‬
‫األيدولوجيات السياسية في أزمة‬

‫‪13‬‬
‫مقدمة‬

‫اليمين واليسار قصة التحوالت‬


‫طالما أن الناس في "إسرائيل" يمينيون في مواقفهم‪ ،‬فهم أناس متدينون‪ ،‬وطالما هم متدينون فهم‬
‫أناس من اليمين‪ ،‬هذه قاعدة عامة ولكنها ليست دوماً صحيحة‪ ،‬ومع ذلك يوجد اليوم في‬
‫"إسرائيل" ربط مباشر بين الدين والمواقف اليمينية‪ ،‬لكن األمور لم تكن كذلك بالماضي‪ ،‬مؤسسي‬
‫الصهيونية لم يقدسوا مبدأ السيادة على أرض "إسرائيل" الكبرى‪ ،‬حتى أن الحاخام يعكوف رينيس‬
‫الذي أسس تيار الصهيونية الدينية أيد خطة أوغندة‪ ،‬بمعنى أن مؤسس التيار الديني الذي يرفض‬
‫تسليم أي جزء من أرض "إسرائيل" للعرب‪ ،‬كان يؤيد خطة أوغندا‪ ،‬وإنشاء وطن لليهود خارج‬
‫أرض "إسرائيل"‪.‬‬

‫غير هذا‪ ،‬فخالل حرب األيام الستة‪ ،‬عارض ُممثل الحزب الديني القومي داخل الحكومة‪ ،‬الوزير‬
‫موشيه شبيرا‪ ،‬التوجه للحرب‪ ،‬الحرب التي أعادت إلى اليهود أجزاء كبيرة من أرض "إسرائيل"‬
‫ومن القدس‪.‬‬

‫كل من ينظر اليوم على تيار الصهيونية الدينية‪ ،‬قد يتفاجأ من أن الحاخام رينيس كام ُمستعد‬
‫للتنازل عن أجزاء من أرض "إسرائيل"‪ ،‬وأن شبي ار كان ُمعارض للحرب التي حررت المدينة‬
‫المقدسة‪ ،‬فالحركة الصهيونية الدينية في بداية طريقها لم تكن ضمن اليمين‪ ،‬وكذلك التيار‬
‫الصهيوني الديني لم يكن بأغلبيته من المتدينين‪ ،‬لقد كان بين قادة معسكر الصهيونية الدينية‬
‫زئيف جابوتينسكي األب المؤسس لليمين اإلسرائيلي‪ ،‬اليمين البعيد عن الدين‪ ،‬وجابوتينسكي لم‬
‫يكن رجل متدين‪ ،‬فقد كان رجل علماني‪ ،‬ولم يكن مثل بقية قادة اليسار صاحب خلفية دينية أو‬
‫أفكار روحية دينية‪.‬‬

‫خالل السنوات ما بعد حرب األيام الستة‪ ،‬تغير تيار الحركة الصهيونية الدينية‪ ،‬وكذلك اليمين‬
‫العلماني‪ ،‬فخالل سنوات السبعينيات أصبحت الصهيونية الدينية أكثر يميني ًة‪ ،‬بالمقابل بدأ اليمين‬
‫بالضعف‪ ،‬حتى أنه بالنهاية انضم لتيار الصهيونية الدينية‪ ،‬وبهذا تم والدة أحد القوى‬
‫العلماني َّ‬
‫السياسية األيدولوجية‪ ،‬صاحبة أكبر تأثير في تاريخ "إسرائيل"‪ ،‬وهي قوة اليمين الديني‪.‬‬

‫كذلك اليسار مر بمرحلة تغيرات عميقة‪ ،‬فاليسار اإلسرائيلي لم ُيؤمن بالسالم بالماضي‪ ،‬فقد كان‬
‫البعد االجتماعي وليس السياسي‪ ،‬وهدف اليساريون كان إنشاء دولة‬ ‫ُيركز طوال فترة وجوده على ُ‬
‫فيها مساواة بين العرب واليهود معاً‪ ،‬وليس التوصل للسالم‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫قادة الحركة العمالية اليسارية أمثال‪ :‬بن جريون‪ ،‬وموشيه ديان‪ ،‬وجولدا مئير عبروا طوال فترة‬
‫طويلة عن شكهم في احتمالية التوصل للسالم مع العرب‪ ،‬وهم من ابتعد بشكل ممنهج عن أي‬
‫اتفاقيات سياسية قد تؤدي للسالم مع العرب‪ ،‬لكن في المرحلة ما بعد حرب األيام الستة‪ ،‬مر‬
‫اليسار بمرحلة تحول‪ ،‬ولقد استبدل الشعارات االجتماعية (المساواة) بشعارات سياسية (السالم)‪،‬‬
‫هذه اإلجراءات حدثت بشمل متوازي‪ ،‬ففي الوقت الذي تغير فيه اليمين وأصبح أقل علمانية‬
‫وأكثر دينية‪ ،‬تحول اليسار من حركة اجتماعية إلى حركة سياسية‪ ،‬واليمين الجديد واليسار الجديد‬
‫اصطدموا ببعض بقوة‪ ،‬وأشعلوا خالفاً أيدلوجياً بعد حرب األيام الستة‪.‬‬

‫في الفصل التالي سوف نتحدث عن هذا الموضوع بالتفصيل‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫الفصل األول‪:‬‬
‫التحول الفكري لليمين اإلسرائيلي‬
‫"زئيف جابوتينسكي" كان يتمتع ببعد النظر‪ ،‬لقد استطاع رؤية مخاطر‬
‫كثيرة قادمة للشعب اليهودي‪ ،‬وكان يحذر من خيانة البريطانيين لليهود‪،‬‬
‫ومن الهجوم العربي على اليهود‪ ،‬وحذر من الكوارث التي ستحدث ليهود‬
‫أوروبا‪ ،‬التاريخ أثبت لألسف أن كل توقعاته حدثت‪ ،‬زئيف جابوتينسكي‬
‫كان رجالً ‪-‬تقريباً طوال الوقت‪ -‬صادق‪.‬‬
‫زئيف جابوتينسكي‬
‫خالل الحرب العالمية األولى تعهد البريطانيون بمساعدة اليهود إلقامة‬
‫وطن قومي لهم في فلسطين‪ ،‬هذا التعهد الذي جاء في وعد بلفور‪ ،‬كان‬
‫أساس كتاب تفويض بريطانيا لالنتداب على فلسطين‪ ،‬والذي تعهدت فيه بريطانيا لتنفيذ التزامها‬
‫تجاه اليهود‪ ،‬لكن جابوتينسكي لم يكن متفائالً‪ ،‬واعتقد أن البريطانيون سوف يخرقون التعهد‪ ،‬وآمن‬
‫أنه بدون خطوات فعالة من جانب الحركة الصهيونية‪ ،‬فإن بريطانيا سوف تتجاهل اليهود وتخدم‬
‫العرب‪ ،‬وفعالً لقد تراجع البريطانيون عن التزامهم للشعب اليهودي‪ ،‬وذلك مع اإلعالن عن الكتاب‬
‫األبيض سنة ‪.1939‬‬

‫البريطانيون تخلوا عن وعدهم –بلفور–‪ ،‬وتخلوا عن الشعب اليهودي قبل الحرب العالمية‪،‬‬
‫جابوتينسكي حذر من خراب ينتظر اليهود في أوروبا بسبب الحزب القومي األلماني النازي‪،‬‬
‫وحاول أن يؤثر على الحركة الصهيونية‪ ،‬واقترح بضرورة إجالء اليهود فو اًر من أوروبا إلى‬
‫فلسطين‪ ،‬الرجل الذي صدق في توقعاته بالنسبة لبريطانيا‪ ،‬صدق أيضاً في توقعاته بالنسبة‬
‫أللمانيا‪ ،‬بشأن الكارثة التي ستحل على الشعب اليهودي في أوروبا بسبب ألمانيا‪.‬‬

‫وكذلك صدقت توقعاته بخصوص العرب‪ ،‬لقد توقع أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين سوف تؤدي‬
‫إلى ثورة العرب المحليين‪ ،‬وكتب عدة مقاالت تشير إلى حدوث ثورة عربية ضد اليهود في‬
‫فلسطين بسبب الهجرة‪ ،‬وتوقع حدوث صراع عنيف مع العرب على خلفية قومية – مع الحركة‬
‫القومية العربية‪ ،‬وهذا ما كتبه عن عرب فلسطين‪" :‬من السذاجة أن نعتقد أن العرب لن يثوروا‬
‫ضدنا على خلفية قومية‪ ،‬ومن السذاجة أن نؤمن أنه يمكن ِّإرشاء كل السكان العرب المحليين‪،‬‬
‫ممكن فعل ذلك مع بعض األفراد‪ ،‬لكن ال يمكن أن نفهم من ذلك أن كل السكان العرب في‬

‫‪16‬‬
‫فلسطين ال يريدون التخلي عن مشاعرهم القومية‪ ،‬وهم سوف يحاربوننا‪ ،‬حتى يحاولون التخلص‬
‫من مخاطر االستيطان اليهودي هنا‪ ،‬وهذا ما سوف يفعلونه‪.‬‬

‫أي انسان وطني صهيوني يجب أن يدرك أن العرب المحليين وطنيين‪ ،‬وهم لن يتخلوا عن‬
‫قوميتهم مقابل تحسين ظروف حياتهم المعيشية‪ ،‬وعلينا نحن بالذات االستعداد لحرب كبيرة مع‬
‫العرب في البالد‪."...‬‬

‫جابوتينسكي مفكر سياسي ليبرالي معادي للعرب‪ ،‬لديه شك وتشاؤم تجاه العرب‪ ،‬وكان دوماً‬
‫معارضاً ألي اتفاقيات سياسية معهم‪ ،‬بالنسبة له االتفاقيات السياسية لن تغير الطبيعة البشرية‬
‫للعرب‪ ،‬ومن السذاجة اإليمان أن االتفاقيات السياسية سوف تؤدي إلى تغيير الطابع البشري‬
‫لديهم‪.‬‬

‫اتضح أن شكوك جابوتينسكي تجاه البريطانيين‪ ،‬والعرب‪ ،‬واأللمان‪ ،‬لم تكن بالصدفة‪ ،‬لقد كانت‬
‫نابعة من أحاسيس الشك في كل إنسان‪ ،‬لقد كان يؤمن أن بداخل اإلنسان صفات سيئة‪ ،‬ودوافع‬
‫عنيفة‪ ،‬قد تؤدي إلى الحروب‪ ،‬هذا اإليمان انعكس على فكره السياسي الذي توقع خيانة‬
‫البريطانيين‪ ،‬وتمرد العرب‪ ،‬والمذابح في ألمانيا‪.‬‬

‫بالنسبة لجابوتينسكي كان يؤمن بقوة اإلنسان الفرد الواحد داخل المجتمع‪ ،‬كان يؤمن أن هذا‬
‫اإلنسان ‪-‬الفرد الواحد‪ -‬لديه قوة وطاقة كامنة‪ ،‬لذلك يجب تحريره من أجل أن يعبر عن طاقاته‬
‫وقدراته‪ ،‬وطالب بمنع قهر الفرد والوقوف أمام رغباته وحرياته‪ ،‬وقال إن اإلنسان الفرد ممنوع أن‬
‫يكون خاضع لحكم الملك‪ ،‬ألن اإلنسان الفرد الوحيد هو الملك بنفسه‪.‬‬

‫جابوتينسكي عبر عن فكر ليبرالي‪ ،‬يؤمن أن اإلنسان الوحيد يجب أن ال يكون ِّملك للدولة‪ ،‬وليس‬
‫خادماً لها‪ ،‬إنما الدولة هي التي تخدمه ألن الدولة ِّملك له‪ ،‬لذلك ممكن القول أن عالم األفكار‬
‫النموذجية لجابوتينسكي هو عالم فوضوي‪ ،‬ال يوجد به نظام حكم‪ ،‬ألن نظام الحكم بشكل عام‬
‫يميل إلى تقييد حريات الفرد‪ ،‬وال يمكن تحرير الفرد إال عن طريق إلغاء أنظمة الحكم‪ ،‬وخلق‬
‫حالة من الفوضى‪ ،‬يكون اإلنسان هو الحاكم فيها‪ ،‬ومن خالل هذه األفكار الليبرالية الداعمة‬
‫لحريات الفرد وتحرره‪ ،‬طالب جابوتينسكي بفرض قيود على الحاكم‪ ،‬أو حتى على سلطة‬
‫األغلبية‪.‬‬

‫من هنا طالب جابوتينسكي أن تكون دولة اليهود فيها أغلبية يهودية حاكمة‪ ،‬لكن بالتعاون مع‬
‫السكان المسلمين والنصارى بالبالد‪ ،‬وإشراكهم في الحكم والسياسة‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫جابوتينسكي جمع ما بين الفكر السياسي المتشكك‪ ،‬وما بين الفكر الليبرالي‪ ،‬لقد كان متشكك جداً‬
‫في الخصوم واألعداء –أعداء الشعب اليهودي– لكنه طالب أن يكون لألقليات حقوق في‬
‫المشاركة بالحكم‪ ،‬هذا النوع من الدمج نادر جداً وغير موجود تقريباً في أيامنا هذه‪ ،‬السؤال هو ما‬
‫الذي حدث لليمين الليبرالي‪ ،‬وأين اختفى هذا الدمج بين الشكوك والليبرالية في السياسة‬
‫اإلسرائيلية؟‬

‫حدود األرض الموعودة‪:‬‬

‫جابوتينسكي يرى أن الحركة الصهيونية سلبية وغير فعالة‪ ،‬ومهادنة بشكل كبير تجاه الخصوم‬
‫واألعداء‪ ،‬ولقد طالب الصهيونية ِّفعاله‪ ،‬أيضاً هناك ناشطة تطالب من المجتمع الدولي أن تكون‬
‫األغلبية في البالد يهودية‪ ،‬البالد الموجودة ما بين ضفتي نهر األردن‪ ،‬ومن هنا عبر‬
‫جابوتينسكي عن موقفه السياسي تجاه حدود الدولة الواسعة –األرض الموعودة لليهود حسب‬
‫المصادر الدينية اليهودية‪ ،-‬لكن بالنسبة لجابوتينسكي حدود الدولة التي يجب اإلصرار على‬
‫المطالبة بها‪ ،‬لم تتحدد في التوراة؛ إنما في االتفاقيات الدولية‪ ،‬وتحديداً اتفاقية سان ريمو‪ ،‬فعندما‬
‫صدر كتاب االنتداب لبريطانيا على فلسطين‪ ،‬والتي كانت حينها تضم ضفتي نهر األردن‪ ،‬وكان‬
‫عليها أن تلتزم بإقامة وطن قومي لليهود بهذه المنطقة‪ ،‬بالنسبة لجابوتينسكي نحن اليهود حصلنا‬
‫على حدود الدولة وفق مؤتمر سان ريمو‪ ،‬وليس حسب المصادر اليهودية أو التوراة‪ ،‬وحدود‬
‫أرض "إسرائيل" الكبرى حددها المجتمع الدولي وليس هللا‪ ،‬وبالنسبة لنا قد يبدو هذا غريباً‪ ،‬لكن‬
‫هذه هي الحقيقة‪ ،‬حدود األرض الموعودة بالنسبة لمفكري اليمين اإلسرائيلي آنذاك تحددت وفق‬
‫االتفاقيات الدولية‪ ،‬وليس وفق المصادر الدينية اليهودية‪ ،‬وليس وفق تعاليم ونصوص التوراة أو‬
‫التناخ‪.‬‬

‫اليوم‪ ،‬كل من ينادي بمبدأ أرض "إسرائيل" الكبرى‪ ،‬ال يفكر أصالً باالتفاقيات الدولية‪ ،‬على‬
‫عكس مواقف جابوتينسكي الذي كان مهتماً باالتفاقيات الدولية وضرورة تطبيقها‪.‬‬

‫تطبيق أفكار جابوتينسكي‬

‫مناحيم بيغن وريث جابوتينسكي‪ ،‬عبر عن أفكاره األيدولوجية في الحركة الصهيونية التصحيحية‪،‬‬
‫بيغن صرح عدة مرات أن أرض "إسرائيل" الكبرى تمتد على كلتا ضفتي نهر األردن‪ ،‬وكذلك عبر‬
‫بيغن عن أفكار جابوتينسكي الليبرالية بشأن التعامل مع األقليات العربية في البالد (المسلمين‬
‫والنصارى – تقسيم على أساس ديني)‪ ،‬وهو الذي ألغى الحكم العسكري الذي فرضه حكم حزب‬

‫‪18‬‬
‫"مباي" اليساري على عرب "إسرائيل" في سنوات الخمسينيات‬
‫والستينيات‪ ،‬وهو الذي طالب بدستور لتنظيم حقوق الفرد‪.‬‬

‫اليسار فرض حكم عسكري يهدد حريات األفراد‪ ،‬وبيغن الزعيم‬


‫اليميني ألغى الحكم العسكري‪ ،‬وطالب بدستور لضمان حقوق‬
‫الفرد‪ ،‬نفس الزعيم اليميني الذي نادى تياره بمبدأ أرض "إسرائيل"‬
‫الكبرى‪ ،‬هو الذي يطالب منح األفراد حرياتهم‪ ،‬هذا الدمج ما بين‬
‫التشدد القومي والليبرالية هو فكر جابوتينسكي الذي طبقه بيغن‪،‬‬
‫بيغن‬
‫لكنه انهار مع الجيل الثالث للحركة التصحيحية – لليمين‬
‫اإلسرائيلي‪.‬‬

‫الجيل الثالث لليمين اإلسرائيلي من أمثال دان مريدور‪ ،‬وتسيفي ليفني‪ ،‬وتساحي هنيجفي‪ ،‬وجيؤاله‬
‫كوهين‪ ،‬ويائير شامير ابن إسحاق شامير‪ ،‬وليمور ليفنات‪ ،‬وعوزي الندو‪ ،‬ورؤوفين ريفلين‪ ،‬وايهود‬
‫أولمرت‪ ،‬وبنيامين نتنياهو هم أبناء المحاربين من الجيل الثاني لليمين اإلسرائيلي‪ ،‬وهؤالء أبناء‬
‫الجيل الثالث‪ ،‬العبون بارزون في الدولة اآلن‪ ،‬وهذه المجموعة حملت لقب "األمراء" بمعنى أبناء‬
‫جيل المؤسس من اليمين‪ ،‬ولكن رغم ذلك فإن هؤالء األمراء الورثة لم يحافظوا على األيدولوجية‪،‬‬
‫وكثير من هؤالء األمراء مثل‪ :‬تسيفي ليفني‪ ،‬دان مريدور‪ ،‬ايهود أولمرت وكذلك بنيامين نتنياهو‪،‬‬
‫تراجعوا عن مبدأ فرض السيادة اإلسرائيلية على أرض "إسرائيل" الكبرى‪ ،‬وأيدوا حل تقسيم البالد‬
‫لدولتين‪.‬‬

‫التحول األيديولوجي كان نتيجة ظروف سياسية جديدة‪ ،‬فحلم أرض "إسرائيل" الكبرى تعرض‬
‫لضربة كبيرة بعد اندالع االنتفاضة األولى في المناطق الفلسطينية‪ ،‬عندما خرج آالف الشبان‬
‫الفلسطينيين للشوارع‪ ،‬إللقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على جنود الجيش اإلسرائيلي‬
‫والمستوطنين اليهود‪ ،‬فالجنود الذين تم استدعائهم للخدمة فترة االنتفاضة‪ ،‬لم يستلموا السالح‬
‫للدفاع عن حدود الدولة‪ ،‬إنما استلموا اله اروات‪ ،‬وخرجوا للتعامل مع سكان مدنيون وليس مع‬
‫أرتال الدبابات لجيوش العدو‪ ،‬ووجدوا أنفسهم يالحقون أطفاالً ألنهم يرسمون الرسومات على‬
‫الجدران‪ ،‬أو يرفعون على فلسطين‪ ،‬جنود االحتياط عادوا إلى المنازل بجروح نفسية وجسدية‪ ،‬لقد‬
‫تجندوا من أجل القتال‪ ،‬وليس من أجل حكم شعب آخر‪ ،‬ومع مرور الوقت زاد وعيهم لقضية‬
‫الحكم العسكري على شعب آخر‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪19‬‬
‫هذه القضية – ُحكم سكان مدنيون بالحكم العسكري– انتشرت في وعى الجماهير اإلسرائيلية في‬
‫سنوات الثمانينات‪ ،‬إضافة إلى قضية الخوف من المشكلة الديموغرافية‪ ،‬االنتفاضة األولى زادت‬
‫من وعى المجتمع اإلسرائيلي حول السكان الفلسطينيين‪ ،‬وكذلك للخطر الذي ُيشكله السكان‬
‫الفلسطينيين على األغلبية اليهودية في البالد‪.‬‬

‫وتيرة الزيادة الديموغرافية الفلسطينية أسرع وأعلى من وتيرة الزيادة الديموغرافية اإلسرائيلية‪،‬‬
‫وبالتالي بعد فترة زمنية سيؤدي هذا إلى أن يصبح اليهود أقلية وليس أغلبية في وطنهم‪ ،‬فالخطر‬
‫الديموغرافي أثر كثي اًر على تيار اليمين اإلسرائيلي‪ ،‬وحسب ادعاءات بعض قادة اليمين فإن‬
‫الخوف من المشكلة الديموغرافية هو الذي رفع أرئيل شارون لالنسحاب من قطاع غزة‪ ،‬وحسب‬
‫نفس االدعاءات فإن نفس الخوف هو الذي دفع ايهود أولمرت وتسيفي لفيني للتفاوض مع‬
‫الفلسطينيين حول أجزاء من أرض "إسرائيل"‪ ،‬وحسب تفسيرات قادة اليمين فإن الخوف من فقدان‬
‫األغلبية اليهودية في أرض "إسرائيل" هو الذي دفع نتنياهو للحديث عن إقامة دولة فلسطينية‬
‫منزوعة السالح إلى جانب دولة "إسرائيل"‪.‬‬

‫الجيل الثالث لليمين الذي تربى على فكر جابوتينسكي ابتعد قليالً عن األفكار والمبادئ التي‬
‫نادى بها جابوتينسكي‪ ،‬ولم يستطع الدمج بين الليبرالية والفعالية السياسية‪ ،‬وفي مرحلة الجيل‬
‫الثالث تولدت ظروف جديدة وهي التنازل عن مبدأ الليبرالية‪ ،‬والتمسك فقط بمبدأ الفعالية‬
‫خصوصاً تجاه العدو‪.‬‬

‫أبناء الجيل الثالث من تيار اليمين الذي تربى على أفكار جابوتينسكي تخلوا عن الليبرالية‬
‫وتمسكوا بالفعالية –القوة القصوى مع العدو– وذلك بسبب تخوفهم من المشكلة الديموغرافية‬
‫وفقدان األغلبية اليهودية في أرض "إسرائيل"‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫التحول الفكري اليساري‬

‫على مدار سنوات‪ ،‬لم يؤمن التيار المركزي باليسار اإلسرائيلي بالسالم‪ ،‬فمنذ سنوات العشرينيات‬
‫وحتى سنوات السبعينيات من القرن الماضي لم تضع الحركة العمالية في "إسرائيل" عملية‬
‫التسوية السلمية كهدف رئيس لها‪ ،‬ألن الشكوك تجاه العالم العربي قضت على أمل التوصل‬
‫للسالم مع العرب‪ ،‬وحتى بعد حرب العام ‪– 1967‬حرب األيام الستة– كان قادة اليسار متخوفون‬
‫من التوصل التفاق سالم مع الدول العربية‪ ،‬وعلى أرسهم شمعون بيرس ‪-‬الذي تحول فيما بعد‬
‫لنبي سالم‪ ،-‬كان متحفظاً جداً من إمكانية التوصل إلى اتفاقيات سالم مع الدول العربية‬
‫المجاورة‪.‬‬

‫أما بالنسبة لليسار فالسالم كان مجرد وهم‪ ،‬ففي عام ‪ 1971‬رفضت حكومة "إسرائيل" برئاسة‬
‫جولدا مئير مقترحاً مصيرياً لتسوية الخالفات دبلوماسياً بين الدولتين‪ ،‬إذا لم يؤمن اليسار‬
‫بالسالم‪ ،‬ولم يكن يسعى التفاق سالم مع العرب‪ ،‬فماذا كانت أيدولوجية اليسار؟ حتى وصل إلى‬
‫مرحلة التحول الكبير‪ ،‬وبدأ يركز على السالم؟‬

‫أيديولوجية اليسار اإلسرائيلي قبل التحول‪:‬‬

‫حسب فكر كارل ماركس‪ ،‬فإن اليسار اإلسرائيلي كان يركز على حرب الطبقات من أجل إقامة‬
‫مجتمع اشتراكي متساوي‪ ،‬وكانت هذه األيديولوجيات ‪-‬التي يقوم عليها الفكر اليساري بشكل عام‬
‫والفكر اليساري اإلسرائيلي طبقة العمال‪ -‬يجب أن تحكم كل الطبقات من أجل مستقبل اشتراكي‪،‬‬
‫ومساواة بين كافة أبناء طبقات المجتمع‪ ،‬تحت حكم طبقة العمال‪.‬‬

‫اليسار الصهيوني يؤمن بوجوب تخليص الشعب اليهودي من المعاناة‪ ،‬ونقله إلى مرحلة المساواة‬
‫مع بقية الشعوب‪ ،‬بدأ التحول الكبير لدى اليسار الصهيوني‪ ،‬وتحديداً الحركة العمالية اإلسرائيلية‬
‫في سنوات السبعينيات‪ ،‬حيث تخلوا عن حلم إقامة مجتمع اشتراكي‪ ،‬وتبنوا حلم تحقيق السالم‪،‬‬
‫وبدالً من المساواة بين الطبقات طالبوا بالمساواة بين الشعوب‪.‬‬

‫بحسب موقف تيار اليسار فإن دولة "إسرائيل" بعد حرب العام ‪ 1967‬صارت مختلفة عن ما قبل‬
‫الحرب‪ ،‬فقد تحولت من دولة ديمقراطية تسعى إلنشاء مجتمع متساوي‪ ،‬إلى دولة ُمحتلة تحتل‬

‫‪21‬‬
‫الشعوب األخرى‪ ،‬ولذلك يجب أن تسعى لتغيير المستقبل‪ ،‬وتعمل على التوصل إلى اتفاق سالم‬
‫مع الدول العربية المجاورة لها‪.‬‬

‫صعود وانهيار االشتراكية الصهيونية‪:‬‬

‫غالبية مؤسسي الفكر االشتراكي الصهيوني هم من المهاجرين من روسيا المتأثرين بروح الثورة‬
‫االشتراكية‪ ،‬عملوا على إنشاء مجتمع اشتراكي في أرض "إسرائيل" (أرض إسرائيل = فلسطين)‪،‬‬
‫ليس كل الصهاينة كانوا يساريون‪ ،‬لكن القوة االشتراكية اليسارية كانت ُمسيطرة على الحركة‬
‫الصهيونية‪ ،‬وسعت لتحقيق أهدافها فترة تأسيس الدولة‪.‬‬

‫الصهيونية االشتراكية (الصهاينة االشتراكيون) هم من قاد الكيان اليهود قبل قيام الدولة‪ ،‬وهم من‬
‫قاد دولة "إسرائيل" في عقودها األولى واستمروا كذلك في قيادة الحركة الصهيونية‪ ،‬فقد حاولوا‬
‫إنشاء نموذج اشتراكي خاص في "إسرائيل"‪ ،‬ولكن مع الزمن اتضح لهم أن الحلم االشتراكي‬
‫ينهار‪ ،‬واالشتراكية الصهيونية تعرضت لصدمات كبيرة خالل الحرب الباردة‪ ،‬وهذه الحرب كانت‬
‫حرباً فكرية بين االشتراكية والرأسمالية‪ ،‬و"إسرائيل" كانت ضمن القطب الرأسمالي‪ ،‬رغم أن روسيا‬
‫دعمت قيام دولة "إسرائيل" باألمم المتحدة ودعمتها بالسالح خالل سنواتها األولى‪.‬‬

‫مع الزمن اتضح أن النظام الشيوعي معادي ل ـ"إسرائيل"‪ ،‬والنظام الرأسمالي ُمحب ل ـ"إسرائيل"‪،‬‬
‫لذلك تراجعت قوة االشتراكية الصهيونية في ظل التحول السياسي الذي حصل في "إسرائيل"‬
‫خالل فترة حكم ستالين‪ ،‬وحدث التحول نحو الغرب الرأسمالي بقيادة الواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬

‫أمريكا أصبحت الدولة العظمى الوحيدة التي تقود الغرب الرأسمالي الداعم ل ـ"إسرائيل"‪ ،‬واليهودية‬
‫في أمريكا ازدهرت على عكس االتحاد السوفيتي الذي قمع اليهود‪ ،‬والرأسمالية بدأت تنتشر في‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬واالقتصاد اإلسرائيلي تحول إلى نظام الرأسمال الفردي‪ ،‬ومع انهيار االتحاد السوفيتي‬
‫انتهى ُحلم اليسار اإلسرائيلي‪ ،‬وبدأت الدولة تتجه نحو أمريكا الرأسمالية سياسياً وثقافياً‪.‬‬

‫من االشتراكية إلى السالم – التحول األكبر باليسار اإلسرائيلي‪:‬‬

‫بعد انتهاء حرب األيام الستة توسعت حدود الدولة‪ ،‬ضمت شبه جزيرة سيناء‪ ،‬وكذلك الضفة‬
‫الغربية‪ ،‬والجوالن‪ ،‬وقطاع غزة‪ ،‬فقد سيطرت الدولة اإلسرائيلية على مناطق كانت تحت سيطرة‬
‫مصر‪ ،‬األردن‪ ،‬وسوريا‪ ،‬وألول مرة أصبحت لدى "إسرائيل" أوراق ُمساومة قوية أمام الدول‬
‫العربية‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫في يونيو ‪ 1967‬اتخذت الحكومة اإلسرائيلية قرار‪ ،‬حيث عرضت على الدول العربية أن تعيد لها‬
‫هذه المناطق مقابل تسوية سليمة‪ ،‬وقالت األمم المتحدة بذلك الوقت أن هذا المقترح هو القادر‬
‫على خلق االستقرار بالشرق األوسط‪ ،‬لذلك أصدرت األمم المتحدة في حينه القرار رقم ‪ 242‬الذ‬
‫خلق معادلة األرض مقابل السالم‪ ،‬لكن الدول العربية رفضت المقترح اإلسرائيلي‪ ،‬وجامعة الدول‬
‫العربية عقدت اجتماعاً في سبتمبر ‪ 1967‬في العاصمة السودانية الخرطوم‪ ،‬ورفعت شعار‪ :‬ال‬
‫للسالم مع "إسرائيل"‪ ،‬وال لالعتراف ل ـ"إسرائيل"‪ ،‬وال للمفاوضات مع "إسرائيل" (الالءات الثالثة)‪.‬‬

‫العرب توحدوا حول هذه الالءات الثالثة‪ :‬رفض السالم‪ ،‬واالعتراف لــ"إسرائيل"‪ ،‬والتفاوض معها‪،‬‬
‫وبعد ذلك توحدوا لمحاربة "إسرائيل" في يوم الغفران‪.‬‬

‫بعد حرب الغفران التي فاجأت فيها مصر وسوريا "إسرائيل" بضربات جوية وبرية مفاجئة‪ ،‬بادر‬
‫الرئيس المصري لزيارة "إسرائيل"‪ ،‬وأعلن أنه ُمستعد اتفاق سالم مع "إسرائيل"‪ ،‬كان الرد اإلسرائيلي‬
‫لمبادرة السادات للسالم رداً ُمستهجناً‪ ،‬اإلسرائيليون لم ُيصدقوا ما سمعوا‪ ،‬حتى أنهم لم ُيصدقوا أن‬
‫السادات حضر للكنيست‪ ،‬ومبادرة السالم المصرية التي قادها اليمين اإلسرائيلي مع مصر أدت‬
‫إلى انهيار موقف اليسار االشتراكي اإلسرائيلي‪ ،‬وانهيار أيمان أقسام كبيرة من الشعب به‬
‫وبمبادئه‪.‬‬

‫مفاوضات السالم مع مصر قادها الزعيم اليميني بيغن‪ ،‬بينما كان اليسار يعيش حالة الشك‬
‫بالسالم مع العرب‪.‬‬

‫الخالفات بالمفاوضات مع مصر حول القضية الفلسطينية‪ ،‬والرفض اإلسرائيلي لمطالب السادات‬
‫بقيام دولة فلسطينية‪ ،‬والرفض اإلسرائيلي للتخلي عن الضفة أدى لقيام حركة السالم اإلسرائيلية‪،‬‬
‫الحركة التي قامت حتى تشجع اليمين اإلسرائيلي لالستمرار بالسالم مع مصر‪ ،‬ومحاولة التغلب‬
‫على المصاعب المتعلقة بالقضية الفلسطينية‪ ،‬حركة "السالم اآلن" كانت حركة سالم (إسرائيلية)‬
‫ُمختلفة عن بقية حركات السالم بالعالم‪ ،‬فهي قامت من أجل إنهاء الحرب بين "إسرائيل" والدول‬
‫العربية‪ ،‬وللتغلب على أي عوائق أمام التوصل للسالم‪.‬‬

‫اتفاق السالم الذي تم توقيعه بالنهاية بين "إسرائيل" ومصر‪ ،‬أعطى أمالً جديداً لقيام يسار جديد‬
‫في "إسرائيل"‪ ،‬وهذا التيار اليساري اإلسرائيلي الجديد طالب بانسحاب "إسرائيل" من المناطق التي‬
‫احتلتها عام ‪ ،1967‬والتوصل التفاق سالم مع الفلسطينيين‪ ،‬من أجل شق الطريق للسالم مع‬
‫بقية العرب‪ ،‬وفي سنوات التسعينيات بدأت هذه المطالب تترجم على أرض الواقع‪ ،‬حيث جرت‬

‫‪23‬‬
‫أول محادثة علنية في مؤتمر مدريد وبعدها في أوسلو‪ ،‬ثم بدأ االتفاق مع الفلسطينيين يتبلور‬
‫حتى تم توقيع اتفاقية أوسلو‪.‬‬

‫بالعام ‪ ،1993‬نشر شمعون بيرس كتابه الجديد بعنوان "شرق أوسط جديد"‪ ،‬والذي قال فيه إن‬
‫السالم مع الفلسطينيين هو البداية‪ ،‬وسيؤدي إلى سلسلة اتفاقيات سالم مع العرب‪ ،‬وتعاون‬
‫اقتصادي بين "إسرائيل" والدول العربية‪.‬‬

‫السالم مع الفلسطينيين في اتفاقية أوسلو‪ ،‬هي قصة التحول في اليسار اإلسرائيلي من االشتراكية‬
‫إلى السالم‪ ،‬وفي نفس الوقت تحول اليمين من الليبرالية إلى المسيحية (اإليمان بالخالص)‪،‬‬
‫هذان التحوالن حدثا معاً بالتوازي‪ ،‬وفي نفس المرحلة اليسار بدأ يؤمن بالسالم‪ ،‬واليمين بدأ يؤمن‬
‫بالخالص (النهاية)‪.‬‬

‫سنوات الثمانينيات والتسعينيات كانت السنوات الكبرى للصدام بين اليمين واليسار في "إسرائيل"‪،‬‬
‫اليمين الجديد الذي يؤمن باالستيطان في أرض "إسرائيل"‪ ،‬واليسار الجديد الذي يؤمن بالسالم مع‬
‫الفلسطينيين‪ ،‬واالنسحاب من أجزاء من أرض "إسرائيل"‪.‬‬

‫المبادئ تتغير في ميزان الواقع‪:‬‬

‫مبادئ اليمين اإلسرائيلي حول أرض "إسرائيل" كاملة‪ ،‬ومبادئ اليسار اإلسرائيلي حول السالم مع‬
‫العرب مرت بعدة مراحل من التغيير؛ وفقاً لألحداث والوقائع التي أثرت على الميدان السياسي‪،‬‬
‫التغيير كان فترة االنتفاضة األولى والثانية‪.‬‬

‫خالل فترة االنتفاضة األولى التي اندلعت عام ‪ ،1987‬كان ‪ %21‬فقط من اإلسرائيليين يؤيدون‬
‫قيام دولة فلسطينية‪ ،‬مقابل ذلك خالل فترة االنتفاضة الثانية عام ‪ 2001‬أصبح ‪ %57‬من‬
‫اإلسرائيليين يؤيدون قيام دولة فلسطينية‪.‬‬

‫التمرد القومي الفلسطيني أدى إلى تغيير موقف اإلسرائيليين حول االحتالل واالستمرار في‬
‫كم ِّه‪ ،‬االنتفاضة األولى أدت إلى إضعاف أهم مبادئ اليمين‪،‬‬
‫السيطرة على شعب آخر وح ِّ‬
‫ُ‬
‫واالنتفاضة الثانية أدت إلى إضعاف أهم مبادئ اليسار‪ ،‬ألن االنتفاضة الثانية كانت أعنف من‬
‫األولى‪ ،‬وقالت لإلسرائيليين ال يوجد أرض "إسرائيل" الكبرى‪ ،‬وال يوجد سالم معكم‪ ،‬فقد هدمت‬
‫انتفاضات الفلسطينيين أهم مبادئ اليمين واليسار في "إسرائيل"‪ ،‬األمر الذي خلق حالة إحباط‬
‫لدى اليمين واليسار في "إسرائيل"‪ ،‬من إمكانية تحقيق مبادئهم مع الفلسطينيين‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫عاش اليسار حالة احباط بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد في يوليو ‪ ،2000‬فقد رفض عرفات‬
‫لمقترح رئيس الوزراء باراك االنسحاب من غالبية مناطق الضفة‪ ،‬عندها بدأ اليسار اإلسرائيلي‬
‫ُيدرك أن الصراع ليس إلنهاء االحتالل‪ ،‬وإنما لعدم وجود بدائل سياسية إلنهاء الصراع‪.‬‬

‫االنتفاضة الثانية كسرت اليسار اإلسرائيلي‪ ،‬وقضت على آمال السالم‪ ،‬الذي أصبح يبدو أبعد‬
‫من أي وقت مضى‪ ،‬وحتى حركة "السالم اآلن" التي قامت خالل فترة السالم مع مصر انهارت‪،‬‬
‫ومع انهيار آمال السالم حدثت أزمة في اليسار اإلسرائيلي‪ ،‬أزمة ممكن أن نسميها أزمة انهيار‬
‫المبادئ‪.‬‬

‫االنتفاضات التي قضت على مبادئ اليسار واليمين‪:‬‬

‫االنتفاضة األولى كسرت اليمين الليبرالي‪ ،‬وقضت على ُحلم أرض "إسرائيل" الكبرى‪ ،‬بينما‬
‫االنتفاضة الثانية كسرت اليسار اإلسرائيلي وقضت على ُحلم السالم مع الفلسطينيين‪ ،‬واآلن كيف‬
‫المعطيات السياسية في "إسرائيل" بعد انهيار المبادئ األساسية لليسار واليمين؟‬
‫تبدو ُ‬
‫‪ %70‬من اإلسرائيليين يقولون إنهم ليسوا معنيون بحكم شعب آخر والسيطرة عليه‪ ،‬بنفس الوقت‬
‫رقم مشابه ‪ %67‬يؤمنون أنه ال يمكن التوصل إلى سالم مع الفلسطينيين‪ ،‬وهذا هو الفخ أو‬
‫المصيدة التي سوف نتحدث عنها مع بقية الكتاب‪ ،‬المجتمع اإلسرائيلي الذي عاش مرحلة‬
‫االنتفاضتين ال يريد أن يحكم الشعب الفلسطيني‪ ،‬وال يؤمن بإمكانية التوصل للسالم معه‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫الصهيونية الدينية المسيحياتية‬
‫التغيير في الصهيونية الدينية – التحول نحو الفكر الخالصي‪:‬‬

‫الصهيونية الدينية لم تكن دوماً يمينية‪ ،‬التحول الكبير في الصهيونية الدينية حدث خالل سنوات‬
‫السبعينيات‪ ،‬لكن السبب يعود إلى حرب العام ‪ ،1967‬فخالل حرب األيام الستة تم إعادة خلق‬
‫وبلورة مبادئ الحركة الصهيونية الدينية‪ ،‬حيث اعتبروا أن الحرب هي حدث ديني منصوص عليه‬
‫بالتوراة‪ ،‬وذلك بسبب االنتصار الكبير الذي حققته "إسرائيل" على العرب‪ ،‬وأعادت إلى اليهود‬
‫أجزاء من األرض الموعودة لهم بالتوراة‪ ،‬فبالنسبة لهم الرب عاد لدعم اليهود ُمجدداً‪ ،‬وحالة‬
‫االنفعال الديني والعاطفي التي عاشها أبناء الحركة الصهيونية الدينية بعد حرب األيام الستة‬
‫أثرت عليهم للعودة إلى المسيحياتية – الخالصية – والعودة إلى اإليمان بمعتقدات الحاخام كوك‪،‬‬
‫والتفاسير التي وضعها ابنه الحاخام تسفي يهودا كوك لهذه المعتقدات واآلراء‪ ،‬والتي تحولت إلى‬
‫أساس الفكر األيديولوجي للحركة الصهيونية الدينية‪.‬‬

‫الحاخام تسفي يهودا كوك فسر األحداث على أنها تحقيق للوعودات الربانية بخالص اليهود‪،‬‬
‫بالنسبة له عودة فرض السيادة اليهودية على أجزاء من أرض الميعاد‪ ،‬يعني أننا نعيش م ارحل‬
‫متقدمة من مراحل الخالص والتحرر‪ ،‬ومن هنا أي انسحاب من هذه المناطق‪ ،‬يعنى التشويش‬
‫المخلص الذي سيحرر اليهود‪ ،‬وبالتالي تأخير تحررهم‪.‬‬
‫على عملية الخالص‪ ،‬وتأخير قدوم ُ‬
‫التحول الفكري الذي حصل في الحركة الصهيونية الدينية‪ ،‬جاء بالتوازي مع أزمة اليمين‪ ،‬لذلك‬
‫تحولت الحركة الصهيونية الدينية ألهم وأقوى مجموعة داخل تيار اليمين‪ ،‬وذلك ألنها مرتبطة‬
‫بالمسار الديني‪.‬‬

‫هذا هو التحول لدى اليمين حول األرض الموعودة –أرض الميعاد–‪ ،‬وقبل قيام الدولة آمن‬
‫اليمين أن أرض الميعاد موعودة لهم بواسطة المجتمع الدولي ومؤسساته الدولية‪ ،‬وبعد حرب‬
‫األيام الستة آمنوا أن أرض الميعاد موعودة لهم بواسطة الرب‪ ،‬والسيطرة عليها هي بداية عملية‬
‫التحرر والخالص‪ ،‬وأن التنازل عن أجزاء منها سوف ُيعيق ويؤخر عملية التحرر والخالص‬
‫المخلص‪ ،‬لذلك يجب منع التنازل عنها‪ ،‬وخوض صراعات من أجل الحفاظ على كمالها‬
‫وقدوم ُ‬
‫وسالمتها‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫بالنسبة للحاخام تسفي يهودا كوك‪" :‬يوجد بالتوراة والتناخ نبوءات حول مصير شعب "إسرائيل" في‬
‫األرض الموعودة‪ ،‬وأن قيام الدولة‪ ،‬وهجرة اليهود لها‪ ،‬وحرب األيام الستة التي أعادت السيطرة‬
‫على أجزاء من أرض الميعاد‪ ،‬وهي مراحل تحقق هذه النبوءات التي سيكون نهايتها الخالص‬
‫"تحرر شعب "إسرائيل" واقتراب النهاية"‪.‬‬

‫أيضاً يوجد تشابه كبير ‪-‬بالنسبة له‪ -‬بين نبوءة خالص شعب "إسرائيل" النهائي في األرض‬
‫الموعودة‪ ،‬وبين األحداث التاريخية في دولة اليهود –دولة "إسرائيل"– وأن هذا التشابه يعني‬
‫لمخلِّص)‪ ،‬ولهذا السبب تهتم الحركة الصهيونية‬
‫اقتراب التحرر والخالص النهائي (على يد ا ُ‬
‫الدينية في توطين كل األجزاء من أرض الميعاد بالمستوطنين اليهود‪ ،‬فالتوطين بالنسبة لهم ليس‬
‫فقط عالقة التحرر‪ ،‬إنما سبب التحرر‪ ،‬وحسب آراء الحاخام تسفي يهودا كوك فإن عملية التحرر‬
‫ليست حدث يجب انتظاره‪ ،‬إنما حدث يجب التسريع به من خالل توطين اليهود في البالد‬
‫–بمعنى بناء المستوطنات وتسكين المستوطنين فيها‪ ،-‬وبالنسبة لهم اليهود العلمانيون الذين بنوا‬
‫المستوطنات‪ ،‬وأحضروا المهاجرين وشاركوا في الحروب هم متدينون بدون أن يعلموا ذلك‪،‬‬
‫ويطبقون تعاليم الدين‪ ،‬وينفذون مراحل التحرر رغماً عنهم‪ ،‬ودون علم منهم بذلك‪.‬‬

‫االنسحاب من سيناء وغزة واألزمة الدينية‪:‬‬

‫الحاخام تسفي يهودا كوك آمن أن بداية عملية التحرر هي في إقامة الدولة‪ ،‬وفي عملية هجرة‬
‫اليهود إلى األرض الموعودة واالستيطان فيها‪ ،‬وأن حرب األيام الستة هي ذروة المرحلة‪ ،‬حيث‬
‫أعادت سيطرة اليهود على أجزاء كبيرة من أرض الميعاد – أرض "إسرائيل" التوراتية‪.‬‬

‫بالنسبة لهم أي تنازل عن هذه األجزاء سوف يؤخر عملية التحرر وخالص اليهود‪ ،‬وسيؤدي إلى‬
‫خلق أزمة دينية في الحركة الصهيونية الدينية‪ ،‬الحاخام تسفي يهودا كوك مات قبل االنسحاب‬
‫من سيناء بفترة قصيرة‪ ،‬ولم يشهد عملية االنسحاب من مستوطنات غوش قطيف بقطاع غزة في‬
‫‪ ،2005‬في هذه المرحلة لم تحدث أزمة فكرية داخل الحركة الصهيونية التي كانت كبيرة بهذه‬
‫المرحلة‪ ،‬ولم يفعلوا أي شيء لمنع االنسحاب من مستوطنات القطاع‪ ،‬ولم يخرج اتباع الحاخام‬
‫تسفي يهودا كوك لوقف عملية تعويق وتأخير الخالص – بمعنى وقف عملية اإلخالء‪.‬‬

‫عندما قامت دولة "إسرائيل" بإخالء مستوطنات قطاع غزة‪ ،‬هي عملياً هدمت الفكر الخالصي‬
‫للحركة الصهيونية القائم على االستيطان وتوطين اليهود بالبالد‪ ،‬لكن ليس الجميع َّ‬
‫سلم بهذه‬
‫العملية‪ ،‬هناك من تمسك ومازال يتمسك بتفاسير الحاخام تسفي يهودا كوك‪ ،‬حول تحقق نبوءة‬

‫‪27‬‬
‫الخالص التوراتية لليهود في أرض الميعاد‪ ،‬ومازال يؤمن أن فرض السيادة اليهودية على كافة‬
‫مناطق –أجزاء– أرض "إسرائيل" الكبرى هو تحقيق لنبوءة التحرر والخالص‪.‬‬

‫لكن وكما تم إضعاف فكر جابوتينسكي‪ ،‬فإن األحداث السياسية سوف تُ ِّ‬
‫ضعف أفكار الحاخام‬
‫تسفي يهودا كوك‪ ،‬ويبدو أن األيدولوجية الصهيونية الدينية القائمة على مبدأ الخالص سوف‬
‫تنهار مع الوقت واألحداث السياسية‪ ،‬واألمل الذي بدأ بحرب األيام الستة تحطم في عملية‬
‫االنفصال واالنسحاب من غزة‪.‬‬

‫الصهيونية الدينية الخالصية‪ ،‬واألزمة الفكرية في "إسرائيل"‪:‬‬

‫بفضل االنسحاب اإلسرائيلي من مستوطنات قطاع غزة‪ ،‬تعرضت الحركة الصهيونية الدينية‬
‫ألزمة سياسية فكرية‪ ،‬لكن ضعف الفكر الخالصي لم ُيضعف اليمين في "إسرائيل"‪ ،‬بالعكس‬
‫اليمين اإلسرائيلي زاد قوة بعد االنسحاب بسبب تركيزه على ُبعد جديد قديم وهو األمن‪.‬‬

‫التفسير الجديد للخالص باليمين هو الحفاظ على أمن اليهود في أرض "إسرائيل"‪ ،‬وأن االنسحاب‬
‫سيخلصها من الخطر‪ ،‬وأن ما حدث في غزة من سيطرة المسلمين‬ ‫لن يعرض الدولة للخطر‪ ،‬بل ُ‬
‫على القطاع بعد االنسحاب يقوي االدعاءات األمنية لليمين‪ ،‬كذلك اليسار غير مواقفه السياسية‬
‫وآرائه الفكرية مثل اليمين‪ ،‬فاليسار تخلى عن ُحلم تحقيق السالم مع الفلسطينيين‪ ،‬وركز على‬
‫جرائم االحتالل اإلسرائيلي بالمناطق الفلسطينية‪ ،‬اليوم في اليسار ال يتحدثون عن السالم‪ ،‬إنما‬
‫عن حقوق اإلنسان الفلسطيني‪ ،‬وجرائم االحتالل العسكري اإلسرائيلي للمناطق الفلسطينية‪.‬‬

‫اليسار اليوم ال يقول إن االنسحاب من المناطق الفلسطينية سيؤدي إلى تحقيق السالم‪ ،‬لكنه يقول‬
‫إن استمرار االحتالل اإلسرائيلي للمناطق الفلسطينية سيؤدي إلى حدوث كوراث‪ ،‬حتى اليمين‬
‫اإلسرائيلي ال يقول اليوم إن البقاء في المناطق الفلسطينية سوف يؤدي إلى التحرير –الخالص–‬
‫إنما االنسحاب من هذه المناطق سيؤدي إلى الكوارث‪ ،‬اليسار وكذلك اليمين بدلوا آمالهم‬
‫بالمخاوف بسبب الفلسطينيين‪.‬‬

‫هذه باختصار قصة التحول من الوضوح األيديولوجي‪ ،‬إلى التشتت السياسي لليسار واليمين في‬
‫"إسرائيل"‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫الجزء الثاني‪:‬‬
‫االدعاءات السياسية في أزمة‬

‫‪29‬‬
‫مقدمة‬

‫هؤالء صادقون وهؤالء صادقون‪:‬‬


‫في الجزء السابق تحدثنا عن تاريخ األيديولوجيات السياسية لليسار ولليمين في "إسرائيل"‪ ،‬وبهذا‬
‫الجزء سوف نتحدث عن المنطق في االدعاءات السياسية لكل من اليمين واليسار‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫أن هناك ربط بين األيديولوجيات واالدعاءات إال أن هناك فرقاً كبي اًر بينهما‪.‬‬

‫في هذا الجزء سوف نرى االدعاءات ‪-‬مثل األيديولوجيات‪ -‬كيف تعرضت لعدة أزمات‪ ،‬ولكنها‬
‫تختلف عن األزمات التي مرت بها األيديولوجيات‪ ،‬أزمة األيديولوجيا كانت تنبع من عدم مطابقة‬
‫األفكار للواقع‪ ،‬وبالتالي انهيار الفكرة –األيديولوجيا–‪ ،‬أما أزمة االدعاءات هي أن االدعاءات ال‬
‫تنهار وال تنكسر‪ ،‬ألنها جاءت لتبرير الواقع وفقاً للرؤية األيديولوجية‪.‬‬

‫مع الوقت اتضح أن كافة ادعاءات اإلسرائيليين صحيحة‪ ،‬اتضح أن اليمين كان صادقاً في‬
‫ادعاءاته السياسية‪ ،‬كذلك اليسار كان صادقاً‪ ،‬واألزمة نبعت من ذلك السبب‪ ،‬وأن كافة‬
‫االدعاءات اليسارية لليسار واليمين كانت صحيحة ومالئمة للواقع‪ ،‬واآلن سوف نعرض هذه‬
‫االدعاءات‪ ،‬في المرحلة األولى سوف ندرس االدعاء األمني لليمين‪ ،‬وكذلك االدعاء الديموغرافي‬
‫لليسار‪ ،‬أما في المرحلة الثانية سيتم التركيز على المشاكل األخالقية لالحتالل التي يشير لها‬
‫اليسار‪ ،‬وسندرس ادعاءات اليمين حول المشكلة نفسها‪ ،‬بينما في المرحلة الثالثة سنستمع‬
‫لالدعاءات حول االنسحاب من الضفة الغربية‪ ،‬وبالمقابل سنفحص هل استمرار الحكم العسكري‬
‫للسكان المدنيين في المناطق الفلسطينية مناقض للنبوءات التوراتية‪ ،‬أما بالمرحلة األخيرة سنرى‬
‫للحكم الصهيوني‪ ،‬وهذا الجزء سيكون ُمخصص للتعرف‬ ‫استمرار السيطرة على المناطق مناقض ُ‬
‫على االدعاءات التالية‪ :‬األمنية‪ ،‬األخالقية‪ ،‬اليهودية‪ ،‬والصهيونية‪ ،‬هذه المركبات األربعة هي‬
‫التي تشكل حالة الفشل السياسي الجديد في الحياة السياسية اإلسرائيلية‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫الفصل األول‪:‬‬
‫تناقض محرج‬
‫مكان الدولة "إسرائيل" يعرض مصيرها للخطر ويهدد وجودها‪" ،‬إسرائيل" دولة ديمقراطية محاطة‬
‫بدول عربية غير ديمقراطية‪ ،‬وهناك من يعتبر أن "إسرائيل" هي غزو غربي لمنطقة الشرق‬
‫األوسط‪.‬‬

‫"إسرائيل" دولة يهودية ُمحاطة بقوى معادية لليهود‪ ،‬قوي إسالمية تعتبر أن وجود "إسرائيل" هو‬
‫تدنيس للمناطق اإلسالمية المقدسة‪ ،‬وهذه القوى العربية واإلسالمية ترغب في طرد هذا الغزو‬
‫الغربي المعادي لإلسالم في المنطقة‪ ،‬باإلضافة إلى مشكلة المكان‪ ،‬فهناك مشكلة الحجم لدولة‬
‫"إسرائيل" الصغيرة‪ ،‬فال يوجد هامش مناورة يمكنه أن يساعدها على صد الهجمات والتهديدات‪،‬‬
‫وهذه العوامل‪ :‬المكان والمحيط والحجم‪ ،‬هي عوامل سيئة تهدد قدرة "إسرائيل" على البقاء‪ ،‬والدمج‬
‫بين المكان والحجم والمحيط يجعل "إسرائيل" غير قادرة على حماية نفسها من األعداء المحيطين‬
‫بها‪ ،‬وهذا يزيد من أهمية المناطق الجبلية بالضفة الغربية من الناحية األمنية‪ ،‬وهي لن تستطيع‬
‫البقاء بدون هذه المناطق الجبلية؛ بسبب الوضع الطوبوغرافي والديموغرافي لدولة "إسرائيل"‪.‬‬

‫هذه المنطقة الجبلية تحيط بمركز دولة "إسرائيل" من الشرق‪ ،‬وتفصلها عن العالم العربي الواسع‪،‬‬
‫وهذه السلسلة الجبلية ترتفع بحوالي ألف متر عن منطقة الساحل التي تحتوي على ‪ %70‬من‬
‫سكان الدولة‪ ،‬ولهذه المنطقة الجبلية أهمية أمنية عالية‪ ،‬والسؤال هنا‪ :‬من الذي يجب أن يسيطر‬
‫على هذه المنطقة الجبلية المرتفعة؟ هذه المنطقة التي قد تشكل قاعدة هجومية ضد مركز دولة‬
‫"إسرائيل" –أكبر تجمع يهودي بالعالم– وعندما يبقى الجيش اإلسرائيلي ُمسيط اًر على هذه المنطقة‬
‫ال يمنع فقط الهجمات ضد الدولة‪ ،‬بل يؤمن الدفاع عن الدولة‪ ،‬بمعنى أن السيطرة األمنية‬
‫اإلسرائيلية على هذه المنطقة هي حماية للدولة اليهودية‪ ،‬والحفاظ على فاصل طبوغرافي بين‬
‫الدولة اليهودية والعالم العربي اإلسالمي‪ ،‬وتخلي الجيش اإلسرائيلي عن هذه المناطق الجبلية‬
‫سوف يعرض دولة اليهود للخطر‪ ،‬وبدون هذا الحاجز الطبيعي بين الدولة اليهودية الديمقراطية‬
‫والعالم اإلسالمي ستصبح الحياة في دولة "إسرائيل" غير آمنة‪.‬‬

‫المشكلة الديموغرافية‪:‬‬

‫‪31‬‬
‫هناك فرق كبير في وتيرة الزيادة السكانية بين الدول المتطورة والدول النامية‪ ،‬وهذا بسبب مستوى‬
‫الثقافة والتعليم والحياة االقتصادية‪ ،‬وفي حدود دولة "إسرائيل" يوجد شعبين‪ ،‬شعب "إسرائيل" الذي‬
‫يعيش وفق معايير الدول المتطورة‪ ،‬والشعب الفلسطيني الذي يعيش وفق ظروف الدول النامية‪،‬‬
‫فنسبة الزيادة السكانية لدى الشعب الفلسطيني أعلى من نسبة الزيادة السكانية لدى الشعب‬
‫اليهودي‪ ،‬وهذه الفجوة الكبيرة في الزيادة السكانية تُظهر "المشكلة الديموغرافية"‪ ،‬وهذه هي‬
‫المشكلة‪ ،‬وألن الفلسطينيين يتزايدون اكثر من اليهود‪ ،‬فهم قد يصبحوا أكثر منهم في المستقبل‪،‬‬
‫واألغلبية اليهودية سوف تنتهي‪ ،‬وقد يأتي اليوم الذي يصبح فيه اليهود ليسوا أغلبية في الدولة‪،‬‬
‫وحسب هذه التوقعات فإن مستقبل دولة اليهود في خطر‪ ،‬فالمشكلة الديموغرافية تهدد الدولة‬
‫القومية لليهود‪ ،‬وتشكل خطر على وجودها وبقائها‪.‬‬

‫اليوم السكان اليهود ُيعتبرون أقلية بمنطقة الشرق األوسط‪ ،‬لكنهم ُيعتبرون أغلبية داخل حدود دولة‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬وخالل سنوات قيامها نجحت "إسرائيل" في صد هجمات العرب المسلمين الذين‬

‫يحيطون بها‪ ،‬ولكنها لن تستطيع الصمود أمام المعضلة الديموغرافية –األغلبية العربية ُ‬
‫المسلمة‬
‫بداخل الدولة– نهاية الصهيونية لن تكون بسبب احتالل خارجي لدولة "إسرائيل"‪ ،‬إنما بسبب‬
‫التغيير الديموغرافي بداخلها‪ ،‬وحسب ما قال الخبير الديموغرافي اإلسرائيلي "أرنون سوفير" من‬
‫جامعة حيفا‪" :‬نحن أمام نهاية دولة "إسرائيل" بسبب المشكلة الديموغرافية"‪ ،‬وحسب السيناريوهات‬
‫المتوقعة سوف يتحول اليهود ألقلية داخل دولتهم‪ ،‬وقد يستطيعون البقاء بالحكم بالقوة‪ ،‬لكن في‬
‫هذه الحالة لن تبقى "إسرائيل" دولة يهودية ديمقراطية‪ ،‬وهذه هي أهم نتائج المشكلة الديموغرافية‪،‬‬
‫يتقرب اليوم الذي تتحول فيه دولة "إسرائيل" لدولة غير ديمقراطية‪ ،‬واألغلبية فيها للسكان غير‬
‫اليهود‪ ،‬وسيترتب عليها أن تعيد تعريف نفسها‪ ،‬هل هي دولة ديمقراطية يهودية‪ ،‬أم دولة‬
‫ديمقراطية غير يهودية‪ ،‬وعلى كلتا الحالتين ستكون نهاية دولة "إسرائيل" التي نعرفها‪.‬‬

‫بن جريون رفض احتالل المناطق الجبلية بالضفة الغربية بالعام ‪ 1948‬بعد االنتصار على‬
‫الجيوش العربية‪ ،‬وكتب في مذكراته‪" :‬الجيش اإلسرائيلي كان قاد اًر على احتالل الضفة خالل‬
‫حرب االستقالل‪ ،‬لكن ما هي الدولة التي ستكون لنا حينها‪ ،‬دولة يهودية بأغلبية سكانية عربية‬
‫ُمسلمة‪ ،‬وما بين السعي لتحرير كل الوطن وما بين الرغبة في إقامة دولة بأغلبية يهودية‪ ،‬اخترنا‬
‫إقامة دولة يهودية"‪ ،‬لكن الذي لم يحدث خالل حرب العام ‪ ،1948‬حدث خالل حرب العام‬
‫‪ ،1967‬والنصر الساحق انتهى باحتالل مناطق كبيرة‪ ،‬وتم إعادة طرح معضلة الدولة اليهودية‬

‫‪32‬‬
‫واألغلبية العربية بداخلها‪ ،‬ومنذ حرب األيام الستة هناك جدال سياسي في "إسرائيل" حول مسألة‬
‫هل علينا االنسحاب من المناطق التي تم احتاللها بالعام ‪ 1967‬أم ال؟‬

‫المعضلة تطورت‪ ،‬وبدأنا نفكر كيف سنحافظ على وجودنا كأقلية يهودية‪ ،‬دولة "إسرائيل" الكبرى‬
‫يعيش فيها أغلبية ليست يهودية‪ ،‬سكان فلسطينيين‪ ،‬وسوريين‪ ،‬ومصريين (سيناء والجوالن والضفة‬
‫وغزة)‪ ،‬قرار بين جريون التنازل عن احتالل جبال الضفة أنقذ الدولة اليهودية‪ ،‬وحافظ على سيادة‬
‫اليهود فيها‪ ،‬وربما قرار االنسحاب من المناطق التي تم احتاللها بالعام ‪ ،1967‬سوف ينقذ الدولة‬
‫اآلن‪ ،‬وينقذ السيادة اليهودية فيها‪.‬‬

‫في أوساط الديموغرافيين –خبراء الديموغرافيا– يوجد موقف سياسي واضح‪ ،‬وسيتم عرض هذا‬
‫الموقف في الصفحات القادمة من الكتاب‪ ،‬لكن نستطيع القول أن رأي خبراء الديموغرافيا هو أن‬
‫المشكلة الديموغرافية تُشكل خط اًر على دولة "إسرائيل"‪ ،‬والسيادة اليهودية فيها‪ ،‬وإذا لم يتم‬
‫التوصل لحل الدولتين ستبقى هنا دولة واحدة‪ ،‬وعندها قد نصبح أقلية فيها‪.‬‬

‫الخالصة‪:‬‬

‫‪ -‬على المستوى األمني‪ :‬ممنوع على "إسرائيل" االنسحاب من الضفة الغربية‪.‬‬


‫‪ -‬وعلى المستوى الديموغرافي‪ :‬ممنوع على "إسرائيل" البقاء بالضفة الغربية‪ ،‬فإذا انسحبت‬
‫ستصبح حدود دولتها ُمقلصة وغير ُمؤمنة‪ ،‬وإذا بقيت سوف تصبح األغلبية اليهودية في‬
‫خطر‪ ،‬والنتيجة هي تناقض ُمحرج‪.‬‬
‫‪ -‬وممنوع على "إسرائيل" االنسحاب من الضفة‪ ،‬لكن المفروض أن تنسحب من هناك‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫ربما ال يوجد معضلة أمنية‬
‫هناك باليسار اإلسرائيلي من يعتقدون أننا ال نعيش في حالة تناقض ُمحرج‪ ،‬بالنسبة لهم هناك‬
‫ُمشكلة ديموغرافية قائمة‪ ،‬وخطيرة‪ ،‬ولكن المشكلة األمنية ُمفتعلة وخيالية‪ ،‬بالنسبة لهم ال يوجد‬
‫معضلة أمنية‪ ،‬ولو أدى االنسحاب اإلسرائيلي من المناطق الجبلية بالضفة إلى تحقيق السالم‪،‬‬
‫فإن ذلك سيضمن توفير األمن ل ـ"إسرائيل"‪.‬‬

‫ووفقاً لرؤيتهم فإن اتفاق السالم يشمل كل الترتيبات األمنية ل ـ"إسرائيل" برعاية دولية‪ ،‬وهذا السالم‬
‫العزلة الدولية التي تعيشها‪ ،‬واالتفاق مع الفلسطينيين سيغير مكانة‬
‫سيخرج "إسرائيل" من حالة ُ‬
‫"إسرائيل" المحلية والدولية‪.‬‬

‫من الممكن إعادة صياغة الرؤية األمنية لليسار كالتالي‪ :‬المناطق الفلسطينية بمثابة ُذخر أمني‪،‬‬
‫واتفاق السالم هو ُذخر أمني أيضاً‪ ،‬واألهمية األمنية في االتفاق أعلى من األهمية الدبلوماسية‪،‬‬
‫لذلك االنسحاب مقابل السالم‪ ،‬أو استبدال المناطق ال يعتبر تنازل أمني‪ ،‬إنما تحسين لألوضاع‬
‫األمنية‪ ،‬صحيح أن االنسحاب سيضع أمام "إسرائيل" صعوبات للدفاع عن نفسها‪ ،‬لكن اتفاق‬
‫السالم سوف يضمن إنهاء الصراع ووقف الحرب‪.‬‬

‫هذه الرؤية تعتمد على افتراضات خاطئة‪ ،‬أوالً‪ :‬التقليل من قوة الصراع التاريخي بين الشعبين‪،‬‬
‫وثانياً‪ :‬التعظيم من قوة االتفاقيات السياسية‪.‬‬

‫نظرية المقاومة‪:‬‬

‫جزء من كراهية الفلسطينيين لإلسرائيليين مصدرها الكراهية العربية اإلسالمية العامة للغرب‬
‫اإلمبريالي‪ ،‬ومن شعور اإلهانة بالوعي العربي واإلسالمي‪ ،‬مقاومة االستعمار اإلمبريالي الغربي‬
‫خلدت هذه الكراهية‪ ،‬التي انتقلت مع الزمن من مقاومة بريطانيا إلى مقاومة اليهود‪ ،‬وهكذا تولد‬
‫الصراع الفلسطيني اإلسرائيلي‪ ،‬لشعب يتعامل مع اليهود على أنهم جزء من المستعمرين الغربيين‬
‫الذين يحتلون موطنهم‪ ،‬وهذه الشحنة القومية بالصراع الفلسطيني اإلسرائيلي قوية جداً‪ ،‬وال يمكن‬
‫التقليل من قوتها‪ ،‬ألن هذا صراع على خلفية قومية‪ ،‬ولذلك لن يكون من السهل التوصل التفاق‬
‫سياسي لحل هذا الصراع‪ ،‬ألن الذاكرة القومية الفلسطينية ال تبدأ من العام ‪ ،1967‬إنما من العام‬
‫‪ 1948‬عام النكبة‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫النكبة‪:‬‬

‫حرب العام ‪ 1948‬التي أدت إلى قيام دولة "إسرائيل"‪ ،‬تعتبر بداية تهجير السكان الفلسطينيين‬
‫من مناطق سكناهم‪ ،‬مئات ألوف السكان الفلسطينيين تهجروا من أماكن سكناهم خالل حرب‬
‫االستقالل‪ ،‬وحوالي ‪ 700‬ألف فلسطيني هاجروا خالل الحرب من أصل ‪ 950‬ألف كانوا يسكنون‬
‫في البالد قبل الحرب‪ ،‬وبعد انتهاء الحرب تعرض الالجئين الفلسطينيين إلى سياسة (إسرائيلية)‬
‫واضحة‪ ،‬رفضت إعادتهم إلى مناطق ُسكناهم التي غادروا منها خالل الحرب‪.‬‬

‫هذه الحادثة أدت إلى تهجير حوالي ‪ %80‬من الفلسطينيين من موطنهم‪ ،‬وأدت إلى تفكيك‬
‫المجتمع الفلسطيني الذين يبلغ تعدادهم اليوم أكثر من ستة مليون نسمة‪ ،‬غالبيتهم في مخيمات‬
‫الضفة وغزة واألردن ولبنان وسوريا‪.‬‬

‫الباحثون الذين زاروا مخيمات الالجئين‪ ،‬وجدوا أن السكان الزالوا يحتفظون بالذكريات حول‬
‫طردوا منها‪ ،‬ولديهم أمل بالعودة إليها‪ ،‬كما أن أوالد وأحفاد هؤالء المهاجرين‬
‫منازلهم القديمة التي ُ‬
‫الذين يعتبرون الجئين‪ ،‬لديهم نفس الذكريات واآلمال‪ ،‬وبعضهم لديه نسخة من المفاتيح األصلية‬
‫للمنازل التي هاجروا منها‪.‬‬

‫بعبارة أخرى‪ ،‬الحدث أدى لتفكيك المجتمع الفلسطيني ألج ازء‪ ،‬وطبع الذاكرة القومية الجماعية لهم‬
‫وهو النكبة‪ ،‬النكبة تخلدت في الذاكرة الجماعية الفلسطينية‪ ،‬وتحولت إلى حالة تضامن عامة‪،‬‬
‫للتأكيد على حق العودة‪.‬‬

‫غالبية الفلسطينيين يؤمنون أن لكل واحد منهم حق في العودة إلى فلسطين‪ ،‬إلى المدينة أو القرية‬
‫طرد أجداده منها خالل النكبة بالعام ‪ ،1948‬وهم يحملون بداخلهم آمال للعودة إلى أرضهم‬
‫التي ُ‬
‫ووطنهم‪.‬‬

‫وألن حق العودة هو جزء من الهوية الفلسطينية‪ ،‬ال يمكن التنازل عن هذا الحق بدون تغيير‬
‫جوهري للهوية القومية الفلسطينية‪.‬‬

‫تطبيق الطموحات القومية الفلسطينية المتمثلة في حق العودة سيؤدي للقضاء على المشروع‬
‫الصهيوني‪ ،‬ف إذا عاد آالف الفلسطينيين إلى منازلهم‪ ،‬سوف ينهار الوطن القومي لليهود‪ ،‬لذلك‬
‫حل الدولتين يجب أن يضمن تنازل الفلسطينيين عن حق العودة إلى دولة "إسرائيل"‪ ،‬مقابل أن‬

‫‪35‬‬
‫تُعيد "إسرائيل" للفلسطينيين جزء من المناطق التي تم احتاللها بالعام ‪ ،1967‬هذا ما يجب العمل‬
‫عليه‪ ،‬إنهاء االحتالل في مقابل التنازل عن النكبة‪ ،‬ودولة مقابل التنازل عن حق العودة‪.‬‬

‫والسؤال هو‪ - :‬هل يمكن أن ُيوافق الفلسطينيين على هذا الحل أو على هذا االتفاق؟‬

‫(اإلسرائيليون) ال ُيدركون أن ُمطالبة الفلسطينيين بالتنازل عن حق العودة‪ ،‬هو بمثابة مطالبتهم‬


‫سيعتبر‬
‫بغير هويتهم القومية‪ ،‬ألن أي اتفاق مع الفلسطينيين يشمل التنازل عن حق العودة‪ُ ،‬‬
‫خيانة آلالف الالجئين بالخارج‪ ،‬وحتى لو كان هذا االتفاق يضمن إقامة دولة فلسطينية‪ ،‬كل هذه‬
‫الحقائق ال يستوعبها وال يتفهمها عدد كبير من اليسار اإلسرائيلي‪.‬‬

‫حل الدولتين ي ِّ‬


‫عالج فقط مسألة إنهاء االحتالل اإلسرائيلي للمناطق التي تم احتاللها بالعام‬‫ُ‬
‫المخلدة في الذاكرة القومية الجماعية‬
‫‪ ،1967‬وال ُيقدم حلول للعودة والالجئين –النكبة ُ‬
‫للفلسطينيين‪ ،-‬حل الدولتين ال يمكنه إنهاء الصراع أو تقديم حلول للقضايا القومية الفلسطينية‪،‬‬
‫الحل السياسي ضعيف‪ ،‬ودولة "إسرائيل" ال يمكنها محو سنوات طويلة من اإلهانة القومية‬
‫للشعب الفلسطيني‪ ،‬أو آثار النكبة‪ ،‬أو حتى الموافقة على عودة الالجئين إلى حدودها‪ ،‬األمر‬
‫الذي سوف يقضى على المشروع الصهيوني ودولة اليهود القومية‪.‬‬

‫الحقيقة أن احتالل المناطق بالعام ‪ 1967‬ال يعتبر السبب الحقيقي للصراع الفلسطيني‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬إنما قيام الجيش اإلسرائيلي باحتالل المناطق بعد حرب األيام الستة‪ ،‬وهذا االحتالل‬
‫أصبح أحد مصادر الصراع ولكنه ليس السبب الرئيسي‪ ،‬لذلك إنهاء االحتالل لن يؤدي إلى إنهاء‬
‫الصراع‪ ،‬بمعنى أن االتفاق السياسي ال يستطيع حل الصراع القومي بين "إسرائيل" والفلسطينيين‪،‬‬
‫وبنفس الوقت ال يمكن لهذا االتفاق أن يعوض "إسرائيل" عن مخاطر التنازل واالنسحاب من‬
‫المناطق الجبلية بالضفة الغربية‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫ربما ال يوجد مشكلة ديموغرافية‬
‫المستخلصة من الفصل السابق واضحة وهي‪ :‬ممنوع على "إسرائيل" أن تنسحب من الضفة‬ ‫العبرة ُ‬
‫الغربية والمناطق الجبلية التي تم احتاللها خالل حرب األيام الستة بالعام ‪ ،1967‬لكن على‬
‫"إسرائيل" عدم البقاء بهذه المناطق‪ ،‬ألن البقاء المتواصل بهذه المناطق سوف ُيسهم في زيادة‬
‫العزلة الدبلوماسية‪ ،‬وتحديداً من جهة أوروبا‪ ،‬وسيؤدي إلى زيادة المعضلة الديموغرافية‪.‬‬
‫ُ‬
‫كل سنة تمر بدون انسحاب "إسرائيل" من الضفة الغربية‪ ،‬تزيد احتماالت التوجه نحو دولة ثنائية‬
‫القومية‪ ،‬سيكون فيها اليهود أغلبية ُمهددة باالنتهاء‪ ،‬وتحول العرب إلى أغلبية بهذه الدولة‪ ،‬وعندما‬
‫المسلمة‪ ،‬لن تصبح دولة "إسرائيل" دولة‬ ‫تبقى األقلية اليهودية هي الحاكمة لألكثرية العربية ُ‬
‫ديموقراطية‪ ،‬وربما لن تُعد جزء من المجتمع الدولي الديمقراطي الغربي‪.‬‬

‫قادة اليمين اإلسرائيليين يتفهمون هذه المعضلة‪ ،‬ويقترحون حل سياسي وهو ضم الضفة الغربية‬
‫للسيادة اإلسرائيلية‪ ،‬وبهذه الحالة لن يبقى السكان الفلسطينيون الجئون تحت الحكم اإلسرائيلي‪،‬‬
‫وسيتحولون إلى مواطني الدولة‪ ،‬وبهذا سيتم ‪-‬بالنسبة لليمين‪ -‬حل ُمشكلة ُعزلة "إسرائيل" الدولية‪،‬‬
‫وعدم تحول "إسرائيل" لدولة غير ديموقراطية‪ ،‬هذا الحل لن ُيعالج المعضلة الديموغرافية‪،‬‬
‫وسيزعزع تعريف "إسرائيل" لنفسها كدولة الشعب اليهودي‪ ،‬لكن باليمين يرفضون هذه االدعاءات‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ويقولون إن ضم الضفة بسكانها لن ُيشكل خط اًر على "إسرائيل" كدولة ديمقراطية‪ ،‬والدولة القومية‬
‫للشعب اليهودي‪.‬‬

‫أما بالنسبة ألصحاب هذه الرؤية من تيار اليمين فال يوجد مشكلة ديموغرافية‪ ،‬والمعضلة‬
‫الديموغرافية غير قائمة‪ ،‬وهي مجرد اختراع من بعض الباحثين اليساريين‪ ،‬وتقوم على أساس‬
‫ُمعطيات مصادرها فلسطينية‪.‬‬

‫ويدعي أصحاب هذه الرؤية من اليمين أن عدد السكان الفلسطينيين بالضفة ليس كثير‪ ،‬وهو أقل‬
‫مما يعرضه اليساريون في أبحاثهم‪ ،‬ويزعمون أنه في العقدين األخيرين انخفضت نسبة الزيادة‬
‫السكانية الطبيعية للفلسطينيين‪ ،‬بسبب انخفاض نسبة الوالدة‪ ،‬وبالمقابل زادت نسبة الوالدة لدى‬
‫اليهود‪ ،‬لذلك لن يصبح العرب أكثر من اليهود بل العكس‪ ،‬وبالتالي فإن المعضلة الديموغرافية‬

‫‪37‬‬
‫غير موجودة‪ ،‬ويمكن ضم الضفة ل ـ"إسرائيل"‪ ،‬وهذا لن يشكل أي خط اًر أو تهديداً على يهودية‬
‫الدولة‪.‬‬

‫ضعف االدعاءات اليمينية بالنسبة للمعضلة الديموغرافية‪:‬‬

‫يدعى بعض الباحثين الديموغرافيين من تيار اليمين‪ ،‬أن عدد سكان الضفة الغربية حتى عام‬
‫‪ 2003‬بلغ ‪ 1.65‬مليون نسمة‪ ،‬بينما هم في الحقيقة أكثر من ذلك‪ ،‬وبلغ تعدادهم السكاني‬
‫حوالي ‪ 2.3‬مليون نسمة‪ ،‬الفرق بين ادعاء اليمين وبين الرقم الحقيقي حوالي مليون نسمة‪ ،‬وهذا‬
‫فرق كبير جداً هذا أوالً‪ ،‬أما ثانياً فلو افترضنا أن مزاعم اليمين صحيحة‪ ،‬فكيف ستتعامل دولة‬
‫"إسرائيل" مع هذا العدد من السكان بعد أن تضمهم إليها؟‬

‫إن ضم هذه الكمية من الفلسطينيين لن يؤثر على تعريف دولة "إسرائيل" كدولة يهودية قومية‬
‫للشعب اليهودي‪ ،‬أضف إلى ذلك أن ضم هذا العدد من السكان العرب الفلسطينيين من الضفة‬
‫إلى دولة "إسرائيل"؛ سوف ُيضاعف إجمالي عدد السكان العرب في "إسرائيل"‪ ،‬وقد يصبحون معاً‬
‫حوالي نصف سكان الدولة‪ ،‬وبالتالي سوف تتحول الدولة من دولة الشعب اليهودي إلى دولة‬
‫ثنائية القومية‪.‬‬

‫والسؤال المهم‪ :‬هل اليمين الذي ال يعتمد على الفلسطينيين لمنحهم دولة خاصة بم سيوافق على‬
‫منحهم جنسية الدولة اإلسرائيلية؟ وهل سيثق في والئهم لها؟‬

‫إذاً أنتم تعتبرونهم ال يستحقون دولة خاصة بهم‪ ،‬فكيف ستجعلونهم مواطني "إسرائيل"؟‬

‫هل يوجد فصل عنصري (ابرتهايد) بالمناطق الفلسطينية‪:‬‬

‫مناطق الضفة الغربية موجودة تحت الحكم العسكري اإلسرائيلي‪ ،‬لكن السكان الذين يعيشون‬
‫هناك ليسوا (إسرائيليين)‪ ،‬هذا الواقع يزعزع الطابع الديمقراطي لدولة "إسرائيل"‪.‬‬

‫الباحث بيتر بنزات صاغ الحقيقة بهذه الكلمات‪" :‬دولة "إسرائيل" ُمقسمة لقسمين‪ ،‬القسم األول‬
‫داخل الخط األخضر وهو "إسرائيل" الديمقراطية‪ ،‬والقسم الثاني خارج الخط األخضر وهو‬
‫"إسرائيل" غير الديمقراطية"‪.‬‬

‫المستوطنات تُزيد العملية تعقيداً‪ ،‬فهناك يعيش مواطنو دولة "إسرائيل"‪ ،‬الذين تحل عليهم قوانينها‬
‫لكن خارج حدود الدولة‪ ،‬حتى أن المستوطنون يتمتعون بحقوق أكثر من السكان الفلسطينيين‬
‫حولهم‪ ،‬وهذا يجعل دولة "إسرائيل" غير قادرة على إنكار وجود حالة من الفصل العنصري‪ ،‬مثل‬

‫‪38‬‬
‫ذلك الذي ساد في جنوب أفريقيا‪ ،‬وهل يوجد حقاً فصل عنصري بالضفة‪ ،‬وهل "إسرائيل" فعالً‬
‫ليست ديمقراطية؟‬

‫الوضع ُمعقد ومتناقض‪ ،‬وحسب الموقف الرسمي اإلسرائيلي المكانة القانونية لمناطق الضفة‬
‫مؤقتة؛ بسبب عدم قيام دولة فلسطينية‪ ،‬وحسب نفس الموقف فإن عدم قيام دولة هو ليس بسبب‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬وإنما بسبب رفض الفلسطينيين لذلك‪.‬‬

‫النتيجة المترتبة على هذا التحليل هي أن الفلسطينيون يناضلون ألجل استقالل قومي‪ ،‬وليس‬
‫للمساواة بالحقوق‪ ،‬لذلك ال يوجد ابرتهايد‪ ،‬لكن طالما أن اليهود أغلبية في وطنهم فهم قادرون‬
‫على تقسيم وطنهم ومنح الفلسطينيين دولة بدالً من ضمهم إلى "إسرائيل"‪ ،‬كي ال يصبحوا أغلبية‬
‫ويهددوا األغلبية اليهودية في "إسرائيل"‪ ،‬عندها سيتحول نضال الفلسطينيين من قومي إلى‬
‫ديموغرافي‪ ،‬وسيهددون مصير الدولة اليهودية‪ ،‬وصدق من قال‪" :‬الدولة الفلسطينية هي إنقاذ‬
‫للدولة اليهودية"‪.‬‬

‫العمى المزدوج‪:‬‬

‫مثلما يوجد انتقادات على رؤية اليمين حول ضم الضفة وسكانها لدولة "إسرائيل"‪ ،‬يوجد كذلك‬
‫انتقادات على رؤية اليسار من أن االتفاق السياسي سوف ينهي حالة الصراع اإلسرائيلي‬
‫الفلسطيني‪ ،‬وأن االتفاق سوف يضمن لهم حماية أمنية أفضل من جهة الضفة الغربية‪ ،‬مثل دولة‬
‫منزوعة السالح‪ ،‬ومراقبين دوليين‪ ،‬حتى هذه الرؤية خاطئة‪ ،‬بها ُمخاطرة أمنية كبيرة لو حدثت‪،‬‬
‫وممكن القول إنه مثلما يراهن اليمين على األغلبية اليهودية في دولة "إسرائيل"‪ ،‬فإن اليسار يراهن‬
‫على األمن القومي لدولة "إسرائيل"‪ ،‬وهذا ما يمكن وصفه بالعمى المزدوج للتيارين‪.‬‬

‫البعد الجغرافي‪ ،‬اليمين يعتبر أن‬


‫البعد الديموغرافي‪ ،‬واليسار يراهن على ُ‬
‫اليمين يراهن على ُ‬
‫مخاطر االنسحاب أكبر من مخاطر الضم‪ ،‬واليسار يعتبر أن مخاطر البقاء بالضفة أكبر من‬
‫مخاطر االنسحاب‪ ،‬والفرق بين الرؤيتين هي أن اليسار صاحب توجهات ديمقراطية غربية‬
‫عالمية‪ ،‬واليمين صاحب توجهات قومية يهودية دينية‪.‬‬

‫المستخلصة بالنسبة ألصحاب الرؤية الديمقراطية الغربية العالمية‪ ،‬هي أن كل محاوالت‬


‫العبرة ُ‬
‫احتالل الدول لشعوب أخرى انتهت بالفشل‪ ،‬والعبرة ُ‬
‫المستخلصة بالنسبة ألصحاب الرؤية القومية‬
‫اليهودية الدينية‪ ،‬هي أن مصير اليهود وحكمهم ينتهي بالكوارث الفظيعة عندما يكون األمر بيد‬
‫غيرهم‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫المستخلصة لليسار‪ :‬أن كل احتالل سينتهي بالفشل‪ ،‬وممنوع على دولة ديمقراطية‬‫العبر التاريخية ُ‬
‫المستخلصة لليمين‪ :‬أنه ممنوع ترك أمن اليهود بيد غيرهم‬
‫احتالل شعب آخر‪ ،‬والعبرة التاريخية ُ‬
‫من غير اليهود‪ ،‬بمعنى ممنوع االنسحاب من الضفة وترك األمن القومي بيد غيرهم‪.‬‬

‫المستخلصة بالنسبة‬
‫ومن هنا يوجد تناقض بين رؤية اليمين ورؤية اليسار‪ ،‬وبين العبر التاريخية ُ‬
‫لكل تيار‪.‬‬

‫إذا أرادت دولة "إسرائيل" حماية نفسها من أغلبية ُمسلمة تحيط بها‪ ،‬ممنوع عليها االنسحاب من‬
‫الضفة‪ ،‬وإذا أرادت حماية نفسها من أغلبية مسلمة بداخلها عليها االنسحاب من الضفة‪ ،‬هذا‬
‫الصدام والتناقض نابع من حقيقة أن كال الطرفين صادقين‪ ،‬اليمين صادق عندما يعتبر أن‬
‫االنسحاب يعرض "إسرائيل" للخطر‪ ،‬واليسار صادق عندما يعتبر أن البقاء هناك وضم‬
‫الفلسطينيين للدولة سيعرض مستقبل الدولة اليهودية الديمقراطية للخطر‪ ،‬وألن كالهما صادق؛‬
‫فالحقيقة أن دولة "إسرائيل" موجودة في مصيدة‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫المعضلة األخالقية‬

‫الجدال حول مستقبل دولة "إسرائيل"‪ ،‬ليس جدال حول البقاء فحسب‪ ،‬إنما جدال على القيم‪،‬‬
‫فاالنسحاب من الضفة بالنسبة لليمين ال يشكل خطورة أمنية فقط‪ ،‬بل يعتبر بمثابة إفالس‬
‫يهودي‪ ،‬والبقاء في المناطق الفلسطينية بالنسبة لليسار ليس فقط يشكل خط اًر ديموغرافياً على‬
‫الدولة‪ ،‬إنما يعتبر بمثابة إفالس أخالقي للدولة الديمقراطية‪.‬‬

‫في الفصول الماضية عرجنا على معضلة البقاء‪ ،‬وفي هذا الفصل سنستعرض المعضلة‬
‫األخالقية‪ ،‬لن نتحدث في هذا الفصل عن الوضع القانوني للمناطق الفلسطينية‪ ،‬بل سيتم التركيز‬
‫على المسائل اإلنسانية واألخالقية فقط‪ ،‬وسنبدأ بموقف اليسار الذي ينتقد فيه البقاء في المناطق‬
‫الفلسطينية من الناحية األخالقية‪.‬‬

‫االحتالل يولد الفساد‪:‬‬

‫الديمقراطية ليست فقط حكم األغلبية‪ ،‬الديمقراطية هي احترام اآلخر ورغباته الخاصة الفردية‬
‫والجماعية القومية‪ ،‬وال يمكن اعتبار بقاء شعب تحت احتالل شعب آخر كنوع من الديمقراطية‪،‬‬
‫إنما نوع من الديكتاتورية الخاصة التي يقوم خاللها شعب باستعباد شعب آخر‪.‬‬

‫خالل فترة تراجع أوروبا عن احتالل واستعمار دول وشعوب العالم‪ ،‬اندلعت حرب األيام الستة‪،‬‬
‫ومنذ هذه الحرب ودولة "إسرائيل" الديمقراطية تعيش حالة احتالل شعب آخر‪ ،‬وتفرض الحكم‬
‫العسكري على سكان مدنيين في مناطق خارج حدودها‪ ،‬وبنفس الوقت تقول أنها دولة ديمقراطية‪.‬‬

‫حتى توقيع اتفاقية أوسلو كانت "إسرائيل" تفرض الحكم العسكري على كافة المناطق الفلسطينية‬
‫بالضفة الغربية وقطاع غزة‪ ،‬الجيش اإلسرائيلي يتعامل مع السكان كأنه شرطة‪ ،‬ومحاكم‪ ،‬وهيئات‬
‫خدماتية‪ ،‬وأحد أهم ُمهمات الجيش اإلسرائيلي بالمناطق كانت منع السكان الفلسطينيين من‬
‫تحقيق طموحاتهم القومية‪ ،‬فقد طلب الجيش من جنوده اعتقال من يرفع العلم الفلسطيني‪ ،‬ومن‬
‫يرسم الرسومات القومية على الجدران‪.‬‬

‫اإلدارة المدنية كانت تقدم الخدمات المدنية للسكان في مجاالت المياه والكهرباء‪ ،‬الكثير من‬
‫اإلسرائيليين اعتقدوا أن الفلسطينيين سوق يتأقلمون مع وضع االحتالل والحكم العسكري‬
‫سيساهم في تحسين ظروف حياتهم االقتصادية‪ ،‬وبالتالي لن‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬وأن هذا االحتالل ُ‬

‫‪41‬‬
‫ُيقاوموا االحتالل بعد أن تتحسن ظروف حياتهم‪ ،‬لكن اندالع االنتفاضة األولى قضى على هذا‬
‫االدعاء‪ ،‬فالفلسطينيون أرادوا الحرية القومية والتخلص من الحكم العسكري اإلسرائيلي أكثر من‬
‫االزدهار االقتصادي‪.‬‬

‫االنتفاضة زعزعت المجتمع اإلسرائيلي‪ ،‬وأدخلته في مسار مؤلم‪ ،‬نهايته اتفاقية أوسلو‪ ،‬وحسب‬
‫هذه االتفاقية سيتم إقامة حكم ذاتي في المناطق الفلسطينية‪ ،‬تسمح لهم بحكم أنفسهم بأنفسهم‪،‬‬
‫وحسب االتفاق ستكون مدة المرحلة األولى خمس سنوات فقط‪ ،‬وبعدها يتم التوقيع على اتفاقيات‬
‫المرحلة النهائية‪ ،‬وخالل هذه المرحلة توقع الفلسطينيون االنتقال إلى مرحلة الدولة‪ ،‬لكنهم لم‬
‫يحصلوا على ما أرادوا‪ ،‬وعاشوا بحكم ذاتي جزئي على بعض مناطق الضفة فقط‪ ،‬واالحتالل‬
‫العسكري اإلسرائيلي تبقى‪.‬‬

‫دولة "إسرائيل" تسيطر على كافة المناطق المحلية بمناطق السلطة بالضفة‪ ،‬وهذه المناطق التي‬
‫ومجزئة‪ ،‬وكل شيء بهذه المناطق مرتبط ل ـ"إسرائيل"‪ ،‬حركة‬‫تسيطر عليها السلطة محدودة ُ‬
‫السكان بين المدن مرتبطة بموافقة (إسرائيلية)‪ ،‬الجيش اإلسرائيلي هو الذي يحدد متى يخرجون‬
‫ومتى يدخلون وعلى أي طريق يسافرون‪ ،‬وأحياناً يتم إغالق طرق الضفة فترات األعياد‪ ،‬وعند‬
‫التوتر األمني يتم فرض الطوق على الضفة وعدم الحركة بين المدن الفلسطينية‪ ،‬وكذلك بين‬
‫الضفة و"إسرائيل"‪.‬‬

‫حتى بعد موافقة "إسرائيل" على حكم ذاتي بالمناطق الفلسطينية زاد الجيش اإلسرائيلي ارتباطه‬
‫وتعلق السكان به‪ ،‬ليس كل سكان الضفة يعيشون داخل المدن‪ ،‬فهناك جزء كبير من السكان‬
‫يعيشون في مناطق ‪ B‬و‪ ،C‬بمعنى أنهم يعيشون تحت الحكم العسكري اإلسرائيلي المباشر‪ ،‬على‬
‫عكس سكان المناطق ‪ A‬الذين يعيشون تحت الحكم العسكري اإلسرائيلي بشكل غير مباشر‪.‬‬

‫أضف إلى ذلك كله أن دولة "إسرائيل" سمحت ببناء عشرات المستوطنات‪ ،‬وتوطينها بمئات‬
‫المستوطنين في المناطق التي احتلتها بالعام ‪ 1967‬بعد حرب األيام الستة‪.‬‬

‫هذه المستوطنات لها حاجات أمنية‪ ،‬وتمون في غالبية األحيان على حساب السكان المحليين‪،‬‬
‫مثل مصادرة األراضي المجاورة للمستوطنات‪ ،‬وإغالق الطرق المجاورة للمستوطنات‪ ،‬ومنع العرب‬
‫من التحرك عليها‪ ،‬فالحكم العسكري اإلسرائيلي ليس فقط يحتل سكان مدنيين لشعب آخر‪ ،‬إنما‬
‫يقوم بحماية سكان مدنيين يهود وسط الضفة‪.‬‬

‫دولة ديمقراطية تحتل شعب آخر‪:‬‬

‫‪42‬‬
‫دولة "إسرائيل" دولة ديمقراطية‪ ،‬ولكنها دولة تحتل شعب آخر حتى يومنا هذا‪ ،‬وهذه القضية تزيد‬
‫من المعضلة األخالقية‪ ،‬كل مواطن في دولة "إسرائيل" ُمشارك في االحتالل‪ ،‬والحكم العسكري‬
‫على الفلسطينيين‪ ،‬وذلك ألنه يختار بنفسه الحكومة‪ ،‬ويشارك في العملية االنتخابية‪ ،‬إذاً هو‬
‫مشارك بما تقوم به الدولة‪.‬‬

‫االحتالل يحول المجتمع اإلسرائيلي إلى مجتمع فاسد‪ ،‬ومؤيد للجرائم التي يقوم بها الجنود‬
‫بالمناطق الفلسطينية‪ ،‬والحقيقة هي أن ليس االحتالل يؤدي إلى الفساد‪ ،‬إنما االحتالل بحد ذاته‬
‫فاسد‪ ،‬فاالحتالل هو مصادرة حرية شعب آخر‪ ،‬شعب ديمقراطي يسيطر على شعب غير‬
‫ديمقراطي وهذا يخلق حالة من الفساد‪ ،‬وانعدام األخالق لدى الطرفين‪.‬‬

‫"لكنهم يريدون قتلنا" هذا مجرد ادعاء أمني‪ ،‬وتم مناقشته في الفصول السابقة‪ ،‬لكن هل يوجد رد‬
‫واضح على الطرح األخالقي‪ ،‬لماذا دولة ديمقراطية تواصل احتالل شعب آخر وتحكمه بالحكم‬
‫العسكري؟‬

‫‪43‬‬
‫الفصل الخامس‪:‬‬
‫المعضلة اليهودية‬

‫االدعاء التوراتي‪:‬‬

‫حسب نظرية اليمين اإلسرائيلي فإن توطين أرض "إسرائيل" بالمستوطنين اليهود هو أمر ديني‪،‬‬
‫وتعاليم توراتية‪ ،‬واالنسحاب من أرض "إسرائيل" هو مخالفة دينية‪ ،‬فاالدعاء الديني يضاف إلى‬
‫االدعاء األمني‪ ،‬الذي يؤكد أن االنسحاب من الضفة يعرض "إسرائيل" للخطر‪ ،‬وهو بمثابة‬
‫مخالفة للتوراة‪ ،‬االدعاء التوراتي الديني ُيضيف ُبعداً قوياً لالدعاء األمني‪ ،‬ويحول االنسحاب من‬
‫الضفة إلى خطيئة دينية‪.‬‬

‫من أين جاء أن توطين البالد باليهود هو تعليمات دينية؟ المصدر الرئيسي لهذه المقولة هو‬
‫جملة ألحد كبار حاخامات "إسرائيل" منذ فترة العصور الوسطى‪ ،‬وكذلك الرمبام –الحاخام موشيه‬
‫بن ميمون– قال إنه يوجد بالتوراة تعليمات متشابهة لتوطين البالد‪ ،‬وحسب تفسيره يعتبر الرمبام‬
‫أن من ال يريد تطبيق هذه التعليمات فهو ليس متمرد على التوراة‪ ،‬وإذا كان هناك خطورة على‬
‫الحياة في تطبيق تعليمات التوراة‪ ،‬فيجب عدم تطبيق هذ التعليمات‪ ،‬وعلى اليهود عدم تعريض‬
‫نفسه للخطر‪ ،‬حتى لو كان هذا لتطبيق تعاليم أوامر التوراة‪.‬‬

‫من هنا يتضح أن تطبيق تعليمات الدين مثل توطين البالد لليهود‪ ،‬لو كان يعرض حياة اليهود‬
‫للخطر فإن التخلي عن هذه التعليمات ال يعتبر خرق للدين والتوراة‪ ،‬وهكذا أفتى الحاخام عوفاديا‬
‫يوسف أنه إذا كان االنسحاب من الضفة سوف ينقذ حياة اليهود وستؤدي إلى تحقيق األمن فإن‬
‫هذا االنسحاب ليس فقط مسموح‪ ،‬بل هو واجب من الناحية الشرعية الدينية‪.‬‬

‫واضخ أنه مسموح إعادة مناطق من أرض "إسرائيل" تحقيق هذا الهدف‪ ،‬وهو الحفاظ على النفس‪،‬‬
‫وحماية حياة اإلنسان‪ ،‬وعدم تعريض اليهود للخطر حسب موقف الحاخام عوفاديا يوسف‪.‬‬

‫مقابل موقف الحاخام عوفاديا يوسف‪ ،‬يوجد موقف الحاخامات "يشع" مجالس مستوطنات الضفة‬
‫الغربية‪ ،‬الذين اعتبروا أن االنسحاب من أجزاء من أرض "إسرائيل" مخالف للتوراة‪ ،‬وممنوع تسليم‬
‫أي أجزاء من أرض "إسرائيل" للعرب‪ ،‬واعتبروا أن االتفاق مع الفلسطينيين هو اتفاق مع‬
‫المخربين‪ ،‬وتسليم المناطق لهم‪ ،‬مناقض لتعليمات الشريعة اليهودية‪ ،‬وأن خروج الجيش من المدن‬
‫الكبرى بالضفة سوف يعرض حياة اليهود للخطر – تحديداً المستوطنين‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫وطالما هذه األمور فيها خطورة‪ ،‬ممنوع المخاطرة وتعريض النفس والحياة للخطر‪ ،‬فالتعليمات‬
‫الدينية حسب التوراة هي االمتناع عن تسليم أراضي من أرض "إسرائيل" للعرب‪ ،‬وتوطين أرض‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬وبنفس الوقت عدم المخاطرة بحياة اليهود‪ ،‬وتعريض النفس للخطر من أجل تطبيق‬
‫تعليمات التوراة‪ ،‬لكن هناك من يقدم تفسير مختلف للخطر‪ ،‬وهو أن االنسحاب من الضفة سوف‬
‫يعرض حياة اليهود للخطر‪ ،‬ولذلك يجب االبتعاد عن هذا الخطر‪ ،‬حسب أوامر التوراة‪.‬‬

‫في الفصول السابقة ناقشنا هذه االدعاءات التي تقول أن االنسحاب من الضفة سيؤدي إلى‬
‫كارثة‪ ،‬واالدعاء المناقض له الذي يقول إن البقاء في الضفة سيؤدي إلى كارثة‪ ،‬ناقشنا المزاعم‬
‫األمنية القومية‪ ،‬وكذلك المزاعم الديمقراطية الديموغرافية‪ ،‬وهنا نرى أنه يوجد ادعاءات تقول إن‬
‫االنسحاب قد ُيشكل خط اًر على حياة اليهود‪ ،‬مقابل ادعاءات تقول أن البقاء قد ُيشكل خط اًر على‬
‫حياة اليهود‪ ،‬وفي الحالتين ُيطالِّب الفريقين باالبتعاد عن الخطر‪ ،‬وفقاً لحسابات وتعليمات دينية‬
‫توراتية‪ ،‬وكذلك أمنية‪.‬‬

‫بمعنى أن االدعاء أمني‪ ،‬وكل طرف يقول إذا كان الوضع األمني جيد‪ ،‬فإن التعليمات الدينية‬
‫صحيحة‪ ،‬وإذا كان الوضع األمني مناسب للبقاء بالضفة‪ ،‬فالتعليمات الدينية حسب البقاء بالضفة‬
‫صحيحة‪ ،‬وإذا كان الوضع األمني مناسب لالنسحاب من مناطق الضفة الغربية فإن التعليمات‬
‫بالبعد األمني‪ ،‬لذلك‬
‫الدينية صحيحة‪ ،‬إذاً فاالدعاء الديني التوراتي ليس ُمستقالً بذاته‪ ،‬وهو مرتبط ُ‬
‫ال يمكن حسم مصير مناطق الضفة الغربية وفق فتاوى دينية من الشريعة اليهودية‪ ،‬ألن‬
‫الحسابات الدينية لن تكون أقوى من الحسابات األمنية بالعكس تماماً‪.‬‬

‫أخي اًر‪ ،‬يمكن القول أن الجملة التي تنص على أن االنسحاب من مناطق أرض "إسرائيل" بمثابة‬
‫مخالفة للتوراة‪ ،‬هي جملة غير صحيحة من الناحية الدينية‪.‬‬

‫االدعاء القومي‪:‬‬

‫اليهودية هي الدين وهي العرق بنفس الوقت‪ ،‬يوجد باليهودية ُكتب ُمقدسة وتعليمات شرعية‬
‫خاصة‪ ،‬ولغة مشتركة‪ ،‬وذاكرة جماعية واحدة‪ ،‬ووطن تاريخي واحد‪ ،‬لذلك تُعتبر اليهودية الديانة‬
‫و ِّ‬
‫العرق القومي معاً‪.‬‬

‫البعد القومي‪ ،‬على عكس االدعاء الضعيف‬‫بالنسبة لتيار اليمين يوجد ادعاء قوي على صعيد ُ‬
‫البعد القومي؛ يدعي اليمين أن األمة اليهودية كعرق‬
‫على الصعيد الديني‪ ،‬أما على صعيد ُ‬

‫‪45‬‬
‫خاص‪ ،‬نابعة من كون اليهودية جماعة خاصة‪ ،‬لديهم مركبات قومية فريدة‪ ،‬أصولها في الدين‬
‫اليهودي –التناخ‪ ،‬التلمود‪ ،‬والتوراة‪.-‬‬

‫بالنسبة لليمين يوجد لليهودية كعرق تاريخ مشترك ودين مشترك ولغة مشتركة‪ ،‬وكذلك وطن‬
‫مشترك في أرض "إسرائيل"‪ ،‬والوطن بالنسبة لهم جزء من الهوية القومية‪ ،‬ومن لديه وعي قومي‬
‫ليس بحاجة ألن يثبت ملكيته على وطنه وأرضه‪.‬‬

‫ومن هنا التنازل عن األرض هو تنازل عن الهوية القومية‪ ،‬والتنازل عن أجزاء من الوطن‬
‫التاريخي لليهودي هو بمثابة التنازل عن أجزاء من القومية اليهودية‪.‬‬

‫الهوية اليهودية موجودة في حالة توتر متناقض‪ ،‬فهي تعبير عن الدين وعن القومية بنفس الوقت‪،‬‬
‫في المنفى كانت الهوية اليهودية تجسيد للتعبير عن الدين فقط‪ ،‬وبعد إحياء الحركة الصهيونية‬
‫لألُسس القومية اليهودية‪ ،‬أصبحت الهوية اليهودية تجسيد للتعبير عن القومية‪ ،‬ومن هنا بدأ‬
‫اليمين يعتبر أن االنسحاب من أجزاء من الوطن القومي التاريخي لليهود‪ ،‬هو تنازل عن أجزاء‬
‫من الهوية القومية اليهودية‪ ،‬واعتراف ضمني أن اليهودية ليست عرق قومي خالص‪ ،‬إنما مجرد‬
‫دين‪.‬‬

‫بالنهاية‪ ،‬يمكن القول أن المشكلة اليهودية بخصوص االنسحاب من الضفة الغربية ليست مشكلة‬
‫دينية شرعية‪ ،‬إنما هي مشكلة هوية قومية‪.‬‬

‫تناقض ديني داخلي‪:‬‬

‫"سفر التكوين" بالتوراة يتحدث عن قصة النبي إبراهيم كيف حضر من الصحراء للسكن في أرض‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬و"سفر األسماء" يتحدث عن قصة خروج بني "إسرائيل" من أرضهم بسبب خطأ لهم‪،‬‬
‫الطموح التوراتي هو الحضور إلى أرض "إسرائيل" واالستيطان فيها‪ ،‬وعكس ذلك هو الخوف من‬
‫فقدان أرض "إسرائيل" بسبب خطأ يرتكبه اليهود‪ ،‬ويعودون للمنفى‪ ،‬وهذه هي المبادئ المركزية‬
‫للتوراة‪ ،‬ولو تم التقليل من أهمية أرض "إسرائيل" فهذا سيؤدي إلى التقليل من أهمية التوراة والتناخ‪.‬‬

‫مناطق الضفة الغربية هي قلب أرض "إسرائيل" التوراتية‪ ،‬وتوجد بها الذكريات التاريخية الجماعية‬
‫القديمة لألمة اليهودية‪ ،‬لكن بهذه المناطق يعيش سكان غير يهود تحت الحكم العسكري لدولة‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬وما بين الحفاظ على الهوية القومية وما بين ضرورة الحفاظ على المصالح األمنية‪،‬‬
‫هناك صعوبة لدى اإلسرائيليين في االلتزام باالنسحاب من هذه المناطق – لدى اليمين واليسار‬
‫معاً‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫المعقد‪ ،‬يخلق تناقض حول‬
‫التاريخ القديم ألرض "إسرائيل"‪ ،‬وتجسيد المسار الديني أمام الحاضر ُ‬
‫أي حلول متعلقة باالنسحاب من الضفة‪ ،‬وتجعلنا نعيش في مصيدة أمام تحقيق أي ُحلم أو‬
‫طموح ديني توراتي نريد تحقيقه في أرض "إسرائيل"‪.‬‬

‫هذه المصيدة اليهودية هي مصيدة صهيونية أيضاً‪ ،‬فالحركة الصهيونية التي قامت كحركة تحرر‬
‫قومي وطالبت بتحرير اليهود‪ ،‬نادت كذلك بتحرير كل الشعوب من االستعمار‪ ،‬وقالت أن لكل‬
‫شعب يجب أن تكون له دولة قومية خاصة به‪ ،‬فهل الحركة الصهيونية كحركة تحرر قومي‬
‫تناقض نفسها عندما تستعبد شعب آخر‪ ،‬وتحتله بالقوة العسكرية؟‬

‫لكن ممكن أن نسأل السؤال بشكل آخر‪ ،‬هل الحركة الصهيونية كحركة تحرر قومي‪ ،‬حررت‬
‫اليهود وأعادتهم إلى وطنهم التاريخي‪ ،‬وال تُ ِّ‬
‫ناقض نفسها عندما توافق على االنسحاب من أجزاء‬
‫من الوطن القومي التاريخي لليهود؟ وهي أرض "إسرائيل"؟‬

‫اتضح بعد حرب األيام الستة‪ ،‬أن هناك حالة من التناقض بين المركبات األساسية لليهودية‪،‬‬
‫المركب الديني والمركب القومي‪.‬‬

‫نحن في مصيدة‪:‬‬
‫بعد المصيدة األخالقية‪ ،‬وحالة التناقض بين الم َّ‬
‫ركبات الديمقراطية للدولة‪ ،‬ومصالحها األمنية‪،‬‬ ‫ُ‬
‫اتضح أن هناك تناقض بين المركبات القومية والدينية لليهودية‪ ،‬هذا التناقض يجعلنا في مصيدة‬
‫بالنسبة للتعامل مع مناطق الضفة الغربية‪ ،‬فالتناقض القومي يعزز التناقض الديني‪ ،‬والتناقض‬
‫الديني يعزز التناقض األخالقي‪ ،‬كالتالي‪ - :‬االنسحاب من مناطق الضفة يتعارض مع تجسيد‬
‫الهوية القومية‪ ،‬ويعرض أمن الشعب اليهودي للخطر‪ ،‬لكن البقاء فيها يتعارض مع القيم‬
‫الديمقراطية‪ ،‬ويتعارض مع تعريف دولة "إسرائيل" على أنها الدولة القومية لليهود‪ ،‬وكذلك‬
‫يضاعف المخاطر الديموغرافية على الدولة‪.‬‬

‫يتضح بالنهاية أن الجميع صادق‪ ،‬وألن الجميع صادق كلنا نعيش في المصيدة‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫الفصل السادس‪:‬‬
‫الحرج السياسي األكبر‬

‫الجميع صادقين‪ ،‬اليمين اإلسرائيلي يعتقد ‪-‬حسب وجهة نظرهم‪ -‬أن السيطرة على المناطق‬‫ُ‬ ‫ليس‬
‫المتعلقة بالبقاء في الضفة الغربية‪ ،‬ال‬
‫ال تعرض "إسرائيل" للخطر‪ ،‬ألن التهديدات الديموغرافية ُ‬
‫تُعرض مستقبل الدولة للخطر واألمور ستصبح على ما يرام‪ ،‬وأن حالة الثقة العالية بالنفس‬
‫لليمين لها جذور دينية لعدة أسباب منها‪ :‬أنهم يعتقدون أن الرب هو من وهبهم هذه البالد‪ ،‬وهو‬
‫من سيساعدهم للحفاظ عليها‪ ،‬من خالل حفاظه عليهم كيهود‪.‬‬

‫في اليسار اإلسرائيلي هناك من يعتقدون أن االنسحاب من مناطق الضفة الغربية ال ُيهدد‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬وحالة الفوضى العارمة التي تجتاح الشرق األوسط ‪-‬بالنسبة لهم‪ -‬لن تصل إلى‬
‫المناطق التي ُيسيطر عليها الجيش اإلسرائيلي بالضفة‪ ،‬ولن تصل إلى داخل دولة "إسرائيل"‬
‫وستكون األمور على ما يرام‪ ،‬حالة الثقة العالية بالنفس لليسار لها جذور سياسية دولية ويرجع‬
‫لسبب‪ :‬أن الثقة بالمجتمع الدولي للتوصل التفاق سياسي‪ ،‬يمنح دولة "إسرائيل" ضمانات أمنية‪،‬‬
‫برعاية دولية‪ ،‬لحماية "إسرائيل" بعد أي انسحاب من الضفة‪.‬‬

‫لكن اليهود ال يريدون ترك مفاتيح األمن بأيدي غيرهم‪ ،‬ال للرب وال للمجتمع الدولي‪ ،‬فخالل‬
‫تواجدهم بالمنفى‪ ،‬سلموا أمورهم األمنية للدول التي كانوا يعيشون بها (لغير اليهود) وذلك من‬
‫أجل التعبير عن ثقتهم بالرب‪ ،‬ولكن النتائج كانت كارثية‪ ،‬الحركة الصهيونية استخلصت العبر‬
‫من تاريخ اليهود بالمنفى‪ ،‬وتعلمت أنه ال يوجد ثقة أمنية بغير اليهود‪ ،‬وال حتى بالرب‪ ،‬وآمنت أن‬
‫اليهود يجب أن يعتمدوا على أنفسهم فقط في مجال األمن‪.‬‬

‫المستخلصة من تاريخ اليهود يدرك أن الحركة الصهيونية في اليمين واليسار‬


‫من يدرك هذه العبرة ُ‬
‫لن تخاطر بأي انسحاب من مناطق الضفة الغربية‪ ،‬حتى لو كان ذلك بضمانة دولية‪ ،‬وكذلك ال‬
‫يمكن المخاطرة والبقاء بالمناطق‪ ،‬اعتماداً على الثقة بالرب‪ ،‬كي يحمي اليهود وأمنهم‪ ،‬وبهذا تولد‬
‫الحرج السياسي األكبر في "إسرائيل"‪.‬‬

‫االنقسام المترتب على الحرج السياسي‪:‬‬

‫في اليسار هناك جزء كبير يأس من إمكانية التوصل للسالم‪ ،‬مجموعة كبيرة بمعسكر السالم‬
‫توصلت إلى حالة يأس من احتماالت تحقق السالم‪ ،‬وتوقفت عن اإليمان بالسالم‪ ،‬اليأس أدى‬
‫إلى تخلي عدد كبير من اإلسرائيليين عن الصهيونية اليسارية‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫المتدين حدثت عملية مشابهة‪ ،‬اليمين المتدين خرج لمقاومة االنسحاب من‬ ‫في اليمين اإلسرائيلي ُ‬
‫مستوطنات قطاع غزة‪ ،‬لكنه وجد نفسه وحيداً بالصراع‪ ،‬غالبية اإلسرائيليين أيدوا خطة االنسحاب‬
‫من القطاع‪ ،‬وأدى هذا إلى خلق عملية يأس في قطاعات واسعة من جماهير اليمين في‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬وشعروا أن اإلسرائيليين ليسوا معنيين بهم أو بالواقع السياسي اإلسرائيلي‪ ،‬الذي تُسيطر‬
‫عليه القضايا المتعلقة بالفلسطينيين‪.‬‬

‫الجماهير في "إسرائيل" عبرت عن مسار جديد بالسياسة الداخلية‪ ،‬في صيف ‪ 2011‬خرجت‬
‫الجماهير من منازلها للمطالبة بالمساواة االجتماعية‪ ،‬ورفضت التمسك بالقضايا القديمة التي‬
‫كانت سائدة في الجدال السياسي اإلسرائيلي منذ عشرات السنوات‪ ،‬الجماهير أرادت الخروج‬
‫المتعلقة بالصراع‬
‫لصراعات اجتماعية واقتصادية داخلية‪ ،‬ألنها يئست من الصراعات والنقاشات ُ‬
‫مع العرب‪ ،‬الطاقة الجماهيرية بالمجتمع اإلسرائيلي تحولت نحو مسائل داخلية‪ ،‬ذات طابع‬
‫اجتماعي‪ ،‬وتخلت عن المسائل القديمة التي سيطرت على الوعي االجتماعي في "إسرائيل" منذ‬
‫عقود مثل الصراع من أجل السالم‪ ،‬والصراع ضد االنسحاب من الضفة‪ ،‬واتفاقيات سياسية‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫من سياسة األيدولوجيات إلى سياسة الجماعات‪:‬‬

‫انهيار حلم أرض "إسرائيل" الكبرى باليمين‪ ،‬وانهيار حلم تحقيق السالم باليسار‪ ،‬كانا يجب أن‬
‫يولدا حالة من اإلجماع اإلسرائيلي حول حلول جديدة‪ ،‬لكن حدث العكس‪ ،‬االنقسام السياسي في‬
‫"إسرائيل" أظهر خالفات جديدة‪ ،‬فالخالفات السياسية أصبحت قبيحة جداً‪ ،‬وتمحورت حول‬
‫الشخصيات وليس حول األيديولوجيات‪ ،‬وركزت على األخطاء وليس على الحلول‪ ،‬وعكست حالة‬
‫االنقسام داخل المجتمع اإلسرائيلي الذي يقوم على أساس االنتماء للجماعات‪ ،‬وليس على أساس‬
‫اإليمان باأليديولوجيات‪.‬‬

‫الحلبة السياسية لم تعد بالمكان الذي نعبر فيه عن مواقفنا‪ ،‬بل الذي نعبر فيه عن هويتنا‬
‫الحزبية‪ ،‬وانتمائنا للجماعات وليس للدولة‪ ،‬حتى السياسة لم تعد تعتمد على المبررات الفكرية‪ ،‬بل‬
‫على الهوية الحزبية‪ ،‬انهيار األيديولوجيات لليمين ولليسار أدى إلى انهيار معسكرات اليمين‬
‫واليسار‪ ،‬وظهرت جماعات صغيرة من اإلسرائيليين الذين فقدوا الثقة باليمين وباليسار‪ ،‬هذا‬
‫اء‬
‫االستقطاب الجديد ُيشكل تهديداً على حالة االستماع واالنصات في الحوارات السياسية سو ً‬
‫الداخلية أو الخارجية‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫الحوار اليهودي الفلسطيني الجريح‪:‬‬

‫ناقشنا آنفاً الحوارات السياسية الداخلية بين اليهود‪ ،‬والتي هي بحالة أفضل من الحوارات السياسية‬
‫الخارجية بين اليهود والفلسطينيين‪ ،‬فمنذ بداية طريقها‪ ،‬اعتبر عدد كبير من الفلسطينيين أن‬
‫الحركة الصهيونية حركة استعمارية‪ ،‬وأنها أحد أذرع االستعمار الغربي في الشرق األوسط‪ ،‬وأنها‬
‫ذراع هدامة وليست بناءة‪ ،‬وهي جزء من اإلمبريالية الغربية التي تسعى لتدمير أحالم األمة‬
‫العربية في التحرر والتقدم‪ ،‬وبالنسبة لهم الصمود أمام الصهيونية هو صمود أمام قوى عالمية‬
‫أكبر من "إسرائيل"‪ ،‬لكنها تقف خلف "إسرائيل" وتدعمها مثل أمريكا‪.‬‬

‫بالمقابل الكثير من اإلسرائيليين يتعاملون مع الفلسطينيين على أنهم قوة تاريخية عظيمة وليس‬
‫مجرد شعب قليل العدد‪ ،‬وأن العنف المنعكس منهم هو بمثابة تجسيد لحالة الالسامية تجاه اليهود‬
‫منذ القدم‪ ،‬فالطاقة السلبية القديمة في تاريخ اليهود في أوروبا تحولت تجاه الفلسطينيين‪ ،‬وتزايدت‬
‫هذه الحالة بسبب كثافة العمليات التي حدثت بالعقد الماضي‪.‬‬

‫الفلسطينيون يعتبرون أن اليهود سيطروا بأموالهم على وسائل اإلعالم الدولية‪ ،‬ووكاالت األنباء‪،‬‬
‫الصحف‪ ،‬ودور النشر‪ ،‬ومحطات الراديو والتلفاز‪ ،‬وأحدثوا الكثير من الثورات بالعالم بأموالهم‪،‬‬
‫و ُ‬
‫وهم من يقف خلف الثورة الفرنسية‪ ،‬والثورة الشيوعية في روسيا‪ ،‬وهم الذين عملوا للحصول على‬
‫وعد بلفور‪ ،‬وهم من أقام عصبة األمم‪ ،‬ومن خاللها حكموا العالم‪ ،‬وهم سبب الحرب العالمية‬
‫الثانية‪ ،‬وهم من طالب بتأسيس األمم المتحدة‪ ،‬ومجلس األمن من أجل أن يسيطروا على العالم‬
‫بواسطة هذه المؤسسات‪.‬‬

‫بالنسبة للفلسطينيين‪ :‬المؤامرات بالعالم سببها اليهود‪ ،‬وبالنسبة لليهود‪ :‬الالسامية هي نفس‬
‫اء في أوروبا أو في الشرق األوسط‪.‬‬
‫الالسامية سو ً‬
‫أيضاً‪ ،‬بالنسبة للفلسطينيين‪ :‬اليهود هم استعمار أوروبي‪ ،‬وبالنسبة لليهود‪ :‬الفلسطينيون هم تجسيد‬
‫الالسامية الحديثة‪ ،‬كل واحد يعتبر اآلخر التهديد األسوأ على مصيره‪ ،‬كل طرف يعتبر اآلخر‬
‫خطة أكبر من حجمه‪ ،‬بحسب الفلسطينيين فهم يعتبرون أنفسهم ضحية لإلسرائيليين اليهود‪،‬‬
‫و(اإلسرائيليون) يعتبرون أنفسهم ضحايا الصراع مع الفلسطينيين‪.‬‬

‫جريح ومصاب نازف‪ :‬أهم أسباب فشل الحوار بين اإلسرائيليين والفلسطينيين‪ ،‬ليس فقط على‬
‫الصعيد السياسي إنما على الصعيد النفسي‪ ،‬والسؤال هو‪ :‬هل يمكن عالج هذا الحوار اليهودي‬
‫الفلسطيني؟‬

‫‪50‬‬
‫الحوار اليهودي اليهودي الداخلي جريح‪ ،‬وكذلك الحوار اليهودي الفلسطيني الخارجي جريح‪ ،‬وال‬
‫يمكن تخيل عمق الجرح في كال الحالتين‪ ،‬يوجد هناك الكثير من العوائق التي تضع صعوبة في‬
‫معالجة هذا الجراح‪ ،‬عوائق دينية‪ ،‬عرقية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬أمنية‪ ،‬وهذه العوائق ال تسمح بتحسين حالة‬
‫االستماع واالنصات‪ ،‬وتقبل اآلخر في الحوار اليهودي الفلسطيني‪ ،‬مقابل ذلك يمكن العمل على‬
‫معالجة جراح الحوار الداخلي اليهودي اليهودي‪ ،‬من خالل ثقافتهم المشتركة‪ ،‬والقواسم المشتركة‬
‫التي توحدهم‪ ،‬وأولها العامل الديني‪.‬‬

‫ليس فقط الحوار اليهودي الفلسطيني جريح‪ ،‬وليس فقط الصراع الفلسطيني اإلسرائيلي هو الذي‬
‫يؤلمنا‪ ،‬إن عملية الجدال والنقاش حول هذا الصراع‪ ،‬تؤلمنا‪ ،‬يجرحنا‪ ،‬الصراع يضع حالة انقسام‬
‫داخل المجتمع اليهودي هنا وفي العالم‪ ،‬وبين العرب واإلسرائيليين بالدولة‪ ،‬وبين "إسرائيل"‬
‫وجيرانها العرب‪ ،‬لكن الشكل الذي نتحدث به نحن عن الصراع‪ ،‬بيننا وبين أنفسنا‪ ،‬هو الذي‬
‫يؤلمنا ويجرحنا ويجعلنا مقسومين‪ ،‬لذلك علينا تحسين القدرة على االستماع لآلخر‪ ،‬وتحسين حالة‬
‫الحوار الداخلي من خالل العادات والقيم الدينية القديمة المشتركة لنا كيهود‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫الجزء الثالث‪:‬‬
‫هامش نقاش برغماتي‬

‫‪52‬‬
‫المقدمة‬

‫الدولة وأحالمها‬
‫على مدار األجيال كان اليهود يحلمون بحلم مزدوج‪ ،‬وهو التخلص من حكم غير اليهود‪ ،‬والعيش‬
‫في أرض "إسرائيل"‪ ،‬الحركة الصهيونية حققت هذه األحالم‪ ،‬واليهود اليوم يعيشون في "إسرائيل"‬
‫بشكل حر بدون حكم غير اليهود‪ ،‬لكن دولة "إسرائيل" دمرت بعض األحالم‪ ،‬وبدالً من النهضة‬
‫القومية هناك ثالث تنازالت أيديولوجية في أساس قيام دولة‪ ،‬بن جريون تنازل عن الطابع‬
‫العلماني‪ ،‬وأسهم بفرض الطابع الديني للدولة‪ ،‬وهو كذلك وافق على تقسيم أرض "إسرائيل"‬
‫الحلم االشتراكي‪.‬‬
‫لدولتين‪ ،‬وتنازل عن ُ‬
‫مؤسسي الدولة كانوا يساريين مالحدة‪ ،‬لكن بن جريون عقد تحالف مع الحريديم‪ ،‬وأسهم في‬
‫ظهور حالة تناقض عجيبة‪ ،‬فالدولة التي أسسها العلمانيون الرافضون للدين‪ ،‬فيها قوانين‬
‫وتشريعات دينية‪ ،‬والدولة العلمانية فيها قوانين لفرض الدين‪ ،‬ومن أجل ضمان والء الحريديم له‬
‫بالكنيست‪ ،‬تنازل بن جريون عن العلمانية‪.‬‬

‫بن جريون تساهل مع المبادئ األساسية للحزب االشتراكي العلماني الذي كان يقوده‪ ،‬وكان يسعى‬
‫إلقامة مجتمع اشتراكي قائم على المساواة بين الطبقات‪ ،‬وهو ُحلم حزب عمال أرض "إسرائيل"‬
‫منذ سنوات العشرينيات فتأسس مجتمع متساو‪ ،‬لكن اتضح لهم أن هذا الحلم ال يتناسب مع‬
‫المشروع االستيطاني‪ ،‬لذلك تنازل بن جريون عن هذا الحلم‪ ،‬وفضل تحقيق مصالح اليهود في‬
‫إقامة دولة يهودية قومية‪ ،‬وليست دولة اشتراكية تحكمها طبقة العمال‪ ،‬وبعد قيام الدولة فضل بن‬
‫جريون التحالف مع الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬بدالً من التحالف مع االتحاد السوفيتي الشيوعي‪.‬‬

‫رغم الشعارات اليسارية ورغم مبادئ األيديولوجيات االشتراكية‪ ،‬أسهم بن جريون في تقوية مكانة‬
‫المتدينين‪ ،‬وتوجه للتحالف مع رأس الرأسمالية العالمية‪ ،‬وآمن أن "إسرائيل" ستكون أقوى مع‬
‫الغرب الرأسمالي‪ ،‬وليس مع االشتراكيين‪.‬‬

‫بن جريون وحد التعليم بالدولة‪ ،‬وألغى المدارس اليسارية‪ ،‬وفضل االستيطان اليهودي على حساب‬
‫المساواة العمالية‪ ،‬وأراد الحصول على االستقرار في الدولة الجديدة‪ ،‬فاعتبر أن ذلك أفضل من‬
‫كل األحالم‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫وافق بن جريون كذلك على خطة تقسيم البالد‪ ،‬التي قدمتها األمم المتحدة إلى دولتين‪ ،‬دولة‬
‫العرب ودولة اليهود‪ ،‬لقد قال إنه يفضل التنازل عن أجزاء من البالد‪ ،‬من أجل ضمان قيام دولة‬
‫في البالد‪.‬‬

‫قيادة بن جريون للدولة حولت بعض أحالم اليهود إلى واقع‪ ،‬لكن بالمقابل التنازل عن الكثير من‬

‫المبادئ‪ ،‬لقد تنازل بن جريون عن الطابع العلماني للدولة‪ ،‬وتنازل عن ُ‬


‫الحلم االشتراكي للحزب‪،‬‬
‫وتنازل عن أجزاء من الوطن ووافق على خطة التقسيم‪.‬‬

‫لكن يمكن القول أنه بدون هذه التنازالت لم تكن الدولة أن تكون‪ ،‬ولم يكن المؤسسين قادرين على‬
‫تحقيق هذه اإلنجازات السياسية‪ ،‬إذا تمسكوا بالنظريات واألحالم األيديولوجية‪.‬‬

‫إعادة صياغة المشكلة‪:‬‬


‫في طريقة تفكيرنا حول الصراع مع الفلسطينيين نعرف أننا محاصرون‪ ،‬وأننا في مصيدة‪ ،‬وفي‬
‫فخ‪ ،‬وأي عملية تُحررنا من هذه المشكلة‪ ،‬سوف تعمقها‪ ،‬ولن تحلها‪ ،‬وستجعلنا محاصرين أكثر‬
‫من السابق عند التفكير بالمشكلة‪.‬‬

‫أي انسحاب من المناطق سوف ُيبدل المشكلة الديموغرافية بالمشكلة األمنية الجغرافية‪ ،‬والبقاء‬
‫في المناطق سيحل المشكلة األمنية‪ ،‬لكنه سيترك المشكلة الديموغرافية‪ ،‬فأي عملية قد تكون حالً‬
‫لتهديد أساس من جهة‪ ،‬بينما قد ال تكون حالً لتهديد أساسي آخر‪ ،‬ومن جهة أخرى هذه هي‬
‫مصيدة عام ‪.1967‬‬

‫تفكيرنا سوف يكون أكثر نجاعة لو تخلصنا من كلمة "مشكلة" وتوقفنا عن اعتبار الصراع مشكلة‪،‬‬
‫أو التعامل معه على أنه مصيدة‪ ،‬ألنه ال يوجد حل لهذه المشكلة‪ ،‬لكن من المصيدة يمكن‬
‫محاولة التخلص والهروب‪ ،‬وعلينا أن نتذكر أنه لو عثرنا على لطريق للهروب من المصيدة‪،‬‬
‫فالمشكلة ستبقى قائمة ولن يتم حلها‪ ،‬المشكلة قد تتغير‪ ،‬وقد يقل مستوى تهديدها على دولة‬
‫بالمسكنات‪ ،‬لكنها لن تختفي‪ ،‬وكل ما علينا اآلن هو‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬وقد يتم معالجة أجزاء منها ُ‬
‫التفكير بالهروب من المصيدة‪.‬‬

‫الهروب من المصيدة معناه الهروب من حالة التخيير ما بين دولة يهودية بأغلبية يهودية‪ ،‬أو‬
‫دولة ثنائية القومية بأغلبية غير يهودية‪ ،‬ويوجد عدة خطط وبرامج وأفكار ممكن أن تشكل‬
‫مسارات للهروب من هذه المصيدة‪ ،‬لكن لكل خطة من هذه الخطط يوجد ثمن كبير‪ ،‬ومن أجل‬

‫‪54‬‬
‫تطبيق هذه البرامج سيترتب علينا أن نتنازل عن بعض أحالمنا اإلسرائيلية الخاصة‪ ،‬علينا التنازل‬
‫عن ُحلم التوصل التفاق سياسي ُينهي الصراع ويحقق األمن‪ ،‬من خالله ضمانة المجتمع الدولي‪.‬‬

‫ستوجب علينا التسليم بحقيقة إيقاف االستيطان بالضفة الغربية‪ ،‬والتوقف عن البناء في‬
‫مستوطنات الضفة‪ ،‬والتنازل عن أجزاء من أرض "إسرائيل" التوراتية؛ من أجل ضمان بقاء دولة‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬وعلينا أن نضحي ببعض األحالم واآلمال‪ ،‬أو باألحرى عندما نقف أمام مصيدة عام‬
‫‪ ،1967‬ونسأل كيف سنهرب منها‪ ،‬علينا العودة إلى البرغماتية التي تحدث بها بن جريون خالل‬
‫مراحل تأسيس الدولة‪.‬‬

‫الكتاب لم ينتهي‪:‬‬
‫الكتاب الذي تقرؤونه لم ينتهي‪ ،‬وكان من الممكن أن ينتهي بالجزء السابق‪ ،‬فبعد أن ناقشنا‬
‫األيديولوجيات الكبرى لليمين واليسار‪ ،‬وكيف فشلت في تقديم حلول للصراع‪ ،‬وكذلك ناقشنا‬
‫الحوار اليهودي الداخلي حول الصراع‪ ،‬والهدف الرئيسي بهذا الكتاب‪ ،‬وهو خلق حلول لتحسين‬
‫الحوار السياسي الداخلي والخارجي‪ ،‬وليس تقديم حلول للمشاكل اإلسرائيلية‪.‬‬

‫وبعد أن أوضحت أنه يمكن التوصل لحلول خارج اإلطار المغلق لأليديولوجيات التقليدية لليمين‬
‫واليسار في "إسرائيل"‪ ،‬سوف أحاول أن أوضح اآلن ما الذي أريده وأهدف له بهذا الكتاب‪ ،‬فال‬
‫يكفي الحديث عن طريقة تفكير جديدة وغير تقليدية‪ ،‬يجب أن يتم تجسيد الطريقة وتقديم نماذج‬
‫عملية لها‪.‬‬

‫في القسم العملي للكتاب سوف أقدم برنامجين (خطتين) لمحاولة الخروج من المصيدة فيما يتعلق‬
‫بالصراع اإلسرائيلي الفلسطيني‪ ،‬األولى‪" :‬خطة التسوية الجزئية" والثانية‪" :‬خطة مبدأ االنفصال"‪،‬‬
‫جزء منكم قد يعتبر أن الخطة األولى يسارية‪ ،‬والثانية على أنها يمينية‪ ،‬لكن أتمنى منكم عدم‬
‫القيام بذلك‪ ،‬فهدفي ليس التفريق بين اليسار واليمين‪ ،‬إنما بين البرغماتية والمبادئ األيديولوجية‪.‬‬

‫وحسب تقديري‪ ،‬كلتا الخطتين تجسد طريقة االنتقال من التفكير األيديولوجي إلى التفكير‬
‫البرغماتي الواقعي‪ ،‬كلتا البرامج تحتوي على أفكار عملية ليست من طرحي‪ ،‬إنما أفكار موجودة‬
‫في برامج وخطط سابقة قدمها خبراء‪ ،‬ضباط‪ ،‬مستشرقون‪ ،‬سياسيون‪ ،‬لقد قمت بتجميع عدد من‬
‫األفكار‪ ،‬وكت بت منهم خطتين عمليتين‪ ،‬ومختلفتين عن كافة البرامج السابقة‪ ،‬لكن يوجد بداخلهم‬
‫متسع للمزيد من األفكار‪ ،‬هذا هو هامش التفكير البرغماتي‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫في الفصول القادمة لن أتطرق للقضايا المعقدة مثل مكانة عرب "إسرائيل"‪ ،‬ومكانة دولة‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬ولكنني سأتحدث عن برامج انسحاب من الضفة تنقذ "إسرائيل" من خطر وجودي‬
‫ُمحدق بها‪ ،‬فهدف البرامج التالية ليس اإلقناع‪ ،‬إنما تجسيد طريقة التفكير الجديدة‪ ،‬وتجسيد لحالة‬
‫التقليل من توقعاتنا بشأن إنهاء الصراع‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫الفصل األول‪:‬‬
‫التسوية الجزئية‬
‫منذ حرب األيام الستة سادت في المنظومة األمنية اإلسرائيلية نظرية يتم وفقها تقسيم مناطق‬
‫الضفة الغربية إلى قسمين كالتالي‪ :‬المناطق التي ال يوجد بها عدد كبير من السكان مهمة‬
‫وحيوية ألمن دولة "إسرائيل"‪ ،‬والمناطق التي ال يوجد فيها عدد كبير من السكان غير حيوية ألمن‬
‫"إسرائيل"‪ ،‬ووفقاً لهذه التقسيمة فإن "إسرائيل" سوف تعطي المناطق المأهولة بعدد كبير من‬
‫السكان للفلسطينيين‪ ،‬وتبقى المناطق ذات الطابع األمني قليلة السكان‪ ،‬وبهذا يتم إنهاء االحتالل‬
‫بدون تعريض "إسرائيل" للخطر‪.‬‬

‫هذا المبدأ له عدة أطروحات‪ ،‬وأول من طرحه هو يجئيل ألون في خطة ألون المشهورة‪ ،‬وبحسب‬
‫هذه الخطة فإن "إسرائيل" لن تنسحب من منطقة غور األردن‪ ،‬ويجب أن تكون المناطق التي ال‬
‫يتواجد فيها الجيش اإلسرائيلي منزوعة السالح‪ ،‬هذه المنطقة التي سوف تنسحب "إسرائيل" منها‬
‫–ما بين غور األردن شرقاً إلى الخط األخضر غرباً–‪ ،‬وستكون تحت سيادة فلسطينية‪ ،‬ولكن‬
‫منزوعة السالح‪ ،‬وقوات (إسرائيلية) تشرف على ضمان عدم تسليح هذه المنطقة‪.‬‬

‫هذه الخطة وضعت على طاولة الحكومة‪ ،‬وخضعت للنقاش الجماهيري العام‪ ،‬فور االنتهاء من‬
‫حرب األيام الستة‪ ،‬لكن مع مرور الوقت لم تتحول هذه الخطة للواقع‪ ،‬بالعكس بعد ثورات الربيع‬
‫العربي زادت األهمية األمنية لمنطقة غور األردن‪ ،‬بسبب حالة الفوضى العارمة المندلعة بالشرق‬
‫األوسط‪ ،‬وانهيار أنظمة الحكم قد يؤدي إلى انهيار اتفاقيات السالم‪ ،‬وهذا يخلق حاجة للتواجد‬
‫العسكري اإلسرائيلي في منطقة غور األردن‪.‬‬

‫انهيار األنظمة والدول الكبرى بالمنطقة قد يسبب حالة هجرات جماعية كبرى‪ ،‬وجزء كبير من‬
‫هؤالء الالجئين المهاجرين سيكونون فلسطينيين من سوريا واألردن‪ ،‬وفي حال قامت دولة‬
‫فلسطينية‪ ،‬فإن جزء كبير من الالجئين الفلسطينيين قد يحاولون عبور نهر األردن والعودة إلى‬
‫الدولة الفلسطينية‪ ،‬وبهذا قد يؤثرون على الدولة الجديدة‪ ،‬وهجرة هؤالء إلى فلسطين قد تعمل على‬
‫نقل الثورات إلى الدولة الجديدة‪ ،‬خصوصاً وأن دول كبيرة لم تصمد أمام هذه الثورات‪ ،‬وتواجد هذا‬
‫العدد الهائل من الالجئين داخل الدولة الجديدة قد يؤدي إلى انهيارها فو اًر‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫بكلمات أخرى‪ - :‬المنطق في تواجد القوات اإلسرائيلية في منطقة غور األردن يعتمد على أن‬
‫هذه القوات سوف تمنع دخول أعداد كبيرة من الناس‪ ،‬أو دخول أسلحة أو قوات من األردن إلى‬
‫فلسطين‪ ،‬لذلك فإن السيطرة على غور األردن لها أهمية مزدوجة‪ ،‬فهي تمنع تسليح الدولة‬
‫الجديدة‪ ،‬وفي نفس الوقت تمنع انهيارها‪ ،‬وكذلك فإن التواجد العسكري بغور األردن سوف ي ِّ‬
‫مكن‬ ‫ُ‬
‫"إسرائيل" من حماية حدودها من أي تهديد أمني داخلي ينبع من دولة فلسطين نفسها‪ ،‬ومن أي‬
‫تهديد أمني خارجي من أي دولة بالشرق األوسط المشتعل والعاصف‪ ،‬والبقاء بهذه المنطقة هو‬
‫الذي دفع "إسرائيل" للتنازل عن بقية المناطق واالنسحاب منها بدون أن تقامر بوجودها أو‬
‫بأمنها‪.‬‬

‫التحول البرغماتي‪:‬‬

‫إذا كانت هذه الخطة بسيطة إلى هذا الحد‪ ،‬فلماذا لم يتم استيعابها وتطبيقها؟ أم أنه ال يوجد أي‬
‫زعيم عربي مستعد الموافقة عليها‪ ،‬وال يوجد زعيم فلسطيني يريد الموافقة عليها‪ ،‬ويفعل ذلك مقابل‬
‫دولة على حدود الضفة‪ ،‬وليس على حدود أجزاء من الضفة‪ ،‬مقابل التنازل عن حق العودة‪ ،‬لكن‬
‫السيناريو الذي نتوقع فيه وجود زعيم فلسطيني يوافق على التنازل عن حق العودة لالجئين هو‬
‫توقع ضعيف‪.‬‬

‫خطة ألون حسب صيغتها المختلفة‪ ،‬كانت خطة (اإلسرائيليون) أنفسهم‪ ،‬مستعدون للموافقة عليها‬
‫بين بعضهم البعض‪ ،‬ولكنها ليست أساس ألي اتفاق مع الفلسطينيين‪.‬‬

‫لذلك عندما تم االكتشاف أن خطة ألون ضعيفة وال يمكنها أن تشكل قاعدة ألي اتفاق سياسي‬
‫مع الفلسطينيين تم التنازل عنها‪ ،‬فالضعف في هذه الخطة هو ادعائها أنها ستقدم حل للصراع‪،‬‬
‫لكن هل هذه الخطة بداية للخروج من المأزق؟‪ ..‬من مصيدة العام ‪ ،1967‬لو فهمنا التحول‬
‫البرغماتي بدالً من البحث عن حلول لحل الصراع‪ ،‬سوف نكون قادرين على البحث عن ُسبل‬
‫للخروج من المأزق‪ ،‬وهذه الخطة حسب التعديالت المطلوبة قد يمكن إعادة دراستها من جديد‪،‬‬
‫بدالً من االنسحاب الكامل من المناطق مقابل السالم‪ ،‬ويمكن ل ـ"إسرائيل" االنسحاب الجزئي مقابل‬
‫تنازل العرب عن حق العودة والالجئين‪ ،‬والسيادة اإلسرائيلية على األماكن المقدسة بالقدس‪،‬‬
‫الكتل االستيطانية في الضفة الغربية‪ ،‬مع مناطق أمنية لكل‬
‫وبنفس الوقت "إسرائيل" تحافظ على ُ‬
‫مستوطنة‪ ،‬هذه تسوية وليس اتفاق سالم‪ ،‬قد تؤدي إلى إنهاء حالة الحرب‪ ،‬وليس إنهاء الصراع‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫الرغبة في تطبيق تجربة السالم مع مصر بالمناطق الفلسطينية‪ ،‬أدت منذ فترة طويلة إلى فشل‬
‫الدولة للتوصل لحلول جزئية‪ ،‬وما على "إسرائيل" السعي له هو التوصل إلى تسوية جزئية‪ ،‬مقابل‬
‫انسحاب جزئي من مناطق الضفة‪ ،‬وهذا االنسحاب الجزئي سيؤدي إلى قيام دولة فلسطينية‪ ،‬مع‬
‫بقاء غور األردن والمستوطنات بيد "إسرائيل"‪ ،‬وخروج "إسرائيل" من المصيدة‪ ،‬فهي تنهي السيطرة‬
‫العسكرية المباشرة على السكان المدنيين من جهة‪ ،‬وتحافظ على حدودها ُمؤمنة ومحمية من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬كذلك فإن هذه الخطة تُخرج الفلسطينيين من المصيدة‪ ،‬وتساعدهم في الخروج من‬
‫المصيدة‪.‬‬

‫المصيدة الفلسطينية‪:‬‬

‫الصراع وأحداث العام ‪ 1967‬لم تضع اإلسرائيليين في المصيدة فقط‪ ،‬كذلك الفلسطينيين في‬
‫مصيدة‪ ،‬فهم ال يستطيعون الخروج منها‪ ،‬ألنهم غير قادرون على التنازل عن حق العودة‪ ،‬أو‬
‫السيطرة على األرض التي كانت دوماً تحت حكم إسالمي‪ ،‬وأي إعالن فلسطيني للتوصل إلى‬
‫اتفاق دائم مع "إسرائيل" بدون هذه األمور‪ ،‬سيتم اعتباره خيانة قومية ومخالفة دينية‪ ،‬والخطة التي‬
‫ناقشناها آنفاً قد تكون بمثابة خروج من المصيدة بالنسبة لهم هم‪.‬‬

‫الطريق الوحيدة لهم للخروج من المصيدة هو ارتكاب أخطاء قومية ودينية‪ ،‬وإذا ال يريدون ذلك‪،‬‬
‫فعليهم التوصل لتسوية جزئية‪ ،‬تكون مبررة من الناحية الدينية‪ ،‬وفي نفس الوقت ال يوجد فيها‬
‫تنازالت قومية مثل اإلعالن عن التوصل التفاق ال يوجد به اعتراف متبادل بين الطرفين – هدنة‬
‫طويلة المدى – اتفاق فارغ من أي محتوى يفرض عليهم التنازل عن أي شيء‪ ،‬وكلما كان هذا‬
‫االتفاق بالنسبة لهم جزئي ومؤقت‪ ،‬سوف يكون آمن وثابت جداً‪.‬‬

‫وهنا فاالتفاق الجزئي سيعمل على تحرير ليس فقط الفلسطينيين من المصيدة‪ ،‬بل واإلسرائيليين‬
‫أيضاً‪ ،‬ومقابل اتفاق وقف إطالق نار طويل المدى سوف يحصل الفلسطينيون على دولة‪،‬‬
‫وانسحاب جزئي ل ـ"إسرائيل" من مناطق الضفة‪ ،‬وبدون االعتراف ل ـ"إسرائيل"‪ ،‬أو التنازل عن حق‬
‫العودة‪ ،‬بالمقابل "إسرائيل" سوف تتحرر من المصيدة‪ ،‬وتبقى بغور األردن بدون أن تُعرض أمن‬
‫الدولة للخطر‪ ،‬وبدون أن تبقى تحكم السكان الفلسطينيين عسكرياً "احتالل"‪.‬‬

‫شرق أوسط جديد‪:‬‬

‫على مدار سنوات طويلة حاول المجتمع الدولي أن يتوصل إلى اتفاق بين الفلسطينيين‬
‫واإلسرائيليين يؤدي إلى إنهاء الصراع‪ ،‬لكن كل المحاوالت وصلت إلى طريق مسدود‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫الحلول التي تقوم على األرض مقابل السالم أو المطالب األمنية كانت تخلد االحتالل بالمناطق‬
‫الفلسطينية‪ ،‬وبالتالي تصعب على "إسرائيل" التوصل إلى سالم مع بقية الدول العربية‪ ،‬التي كانت‬
‫تعتبر القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لها‪ ،‬لذلك التوصل إلى تسوية جزئية‪ ،‬تضمن‬
‫انسحاب من غالبية مناطق الضفة‪ ،‬وإنهاء االحتالل والسيطرة العسكرية على السكان المدنيين‬
‫هناك‪ ،‬هو مصلحة (إسرائيلية)‪ ،‬ومصلحة لمصر والسعودية ودول الخليج‪ ،‬الدول العربية من‬
‫السنية المعتدلة قادرة على توفير مناخ يسمح للفلسطينيين بتقبل التسوية الجزئية‪ ،‬اتفاق‬
‫الدول ُ‬
‫ُينهي سيطرة "إسرائيل" على السكان شرق الخط األخضر‪ ،‬ويعترف بالسيادة اليهودية على‬
‫المناطق غرب الخط األخضر‪.‬‬

‫الصراع سوف يستمر‪:‬‬

‫حتى بعد تطبيق كل هذه الخطوات‪ ،‬والتوقيع على اتفاق هدنة طويل المدى لوقف القتال‪ ،‬وتحقيق‬
‫التسوية الجزئية‪ ،‬يمكن لنا أن نتوقع انهيار االتفاق‪ ،‬واستمرار الصراع‪ ،‬ألن االتفاق أو التسوية‬
‫الجزئية لن تؤدي إلى إنهاء الصراع‪ ،‬وقد يتجدد العنف والقتال في كل لحظة‪ ،‬لكن البرغماتية في‬
‫التسوية الجزئية أنها قادرة على إعادة ترتيب الصراع من جديد بدالً من إنهائه‪ ،‬وتغيير شكل‬
‫الصراع بدالً من إدارته‪.‬‬

‫الهدف من إعادة ترتيب الصراع هو تغيير الوضع القائم‪ ،‬ليس فقط بين الجهات المتصارعة‪ ،‬إنما‬
‫بداخل "إسرائيل"‪ ،‬ألن هذه التسوية الجزئية سوف تضمن األمن القومي‪ ،‬والحفاظ عليه‪ ،‬وتُنهي‬
‫االحتالل العسكري‪ ،‬بمعنى أنها ستقدم إجابات لمطالب ومخاوف لليمين ولليسار معاً‪ ،‬لذلك يوجد‬
‫بها أساس للتوصل إلى اتفاق (إسرائيلي) داخلي واسع – إجماع‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫مبدأ االنفصال‬

‫البرغماتي اإلسرائيلي هو الذي ال يجعل مواقفه جزء من هويته‪ ،‬وهو الذي يتعامل مع التحديات‬
‫التي تهدد وجود دولته‪ ،‬لذلك يمكنه تقبل تسوية جزئية دراماتيكية‪ ،‬حتى لو كان فيها تغيير لحدود‬
‫الدولة‪ ،‬أو ترك بعض المستوطنات خارج حدود الدولة وخارج سيطرتها‪.‬‬

‫المخضرم هنري كيسنجر عبر بالعام ‪ 2016‬عن شكه من احتمالية إقامة‬ ‫السياسي األمريكي ُ‬
‫دولة فلسطينية بالضفة الغريبة‪ ،‬وبالمقابل قال‪ :‬إن على "إسرائيل" توسيع صالحيات السلطة‬
‫الفلسطينية‪ ،‬وتقوية رموزها القومية‪ ،‬وتوسيع سيادتها إلى حالة "شبه دولة " وذلك بدون أن تطالبها‬
‫بأي حل نهائي إلنهاء الصراع‪.‬‬

‫في نفس السنة طالب الفيلسوف والكاتب اإلسرائيلي أ – ب يهشوع بأن تقوم "إسرائيل" لتحسين‬
‫حياة الفلسطينيين الذين يعيشون بالضفة‪ ،‬وتوسيع حقوقهم‪ ،‬والسماح للعشرات منهم أن يصبحوا‬
‫مواطني دولة "إسرائيل"‪ ،‬كيسنجر طالب بتوسيع الحكم الذاتي‪ ،‬ويهشوع طالب بتوسيع الحقوق‪،‬‬
‫الدمج بين هذه المطالب قد يكون إيحاء لحظة سياسية برغماتية جديدة‪ ،‬وتخلص "إسرائيل" من‬
‫مصيدة العام ‪.1967‬‬

‫شبه دولة‪:‬‬

‫المركب (العنصر) األول لالنفصال حسب رؤية كيسنجر يمكن تحقيقه بسهولة من خالل وسائل‬
‫دبلوماسية ووسائل إقليمية أرضية‪ ،‬بالشق الدبلوماسي سيترتب على "إسرائيل" زيادة قوة السلطة‬
‫ورموزها الوطنية‪ ،‬وبالشق األرضي سيترتب عليها توسيع دائرة نفوذ السلطة على بعض أراضي‬
‫الضفة‪ ،‬وزيادة صالحيتها بهذه األراضي – مناطق ‪ C‬مثالً‪.‬‬

‫كالهما قد يؤديان إلى زيادة نسبة االنفصال عن الفلسطينيين بدون زيادة المخاطر األمنية‪،‬‬
‫المجهود الدبلوماسي يكون عن طريق االعتراف بالسلطة الفلسطينية كدولة‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫االعتراف بالجهود واإلج ارءات الدولية بها كدولة (كاألمم المتحدة مثالً) دون الحاجة لوجود اتفاق‬
‫حل نهائي إلنهاء الصراع‪ ،‬وإذا أرادت "إسرائيل" إعادة تنظيم الصراع (وليس إدارته) عليها فعل‬
‫ذلك‪ ،‬بمعنى عدم معارضة الجهود الدبلوماسية للسلطة الفلسطينية للحصول على االعتراف‬
‫الدولي بها كدولة‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫أما المجهود اإلقليمي فيكون عن طريق تقوية السلطة وصالحيتها‪ ،‬وزيادة حرية الحركة للسكان‬
‫الفلسطينيين بين مدن الضفة‪ ،‬أو بين المدن التي تسيطر عليها السلطة ومناطق ‪ C‬التي تحت‬
‫سيطرة "إسرائيل" العسكرية واألمنية‪.‬‬

‫"إسرائيل" قادرة على البقاء في كافة الحواجز ونقاط االحتكاك مع السكان المدنيين الفلسطينيين‬
‫بالضفة‪ ،‬والسماح بزيادة حركة السكان الفلسطينيين هناك‪ ،‬وألجل هذا يجب عليها توسيع مناطق‬
‫السلطة‪ ،‬وتقديم عدد من المناطق ‪ C‬للسلطة للسيطرة عليها‪ ،‬وتوفير حلول بديلة للتحرك بين‬
‫المدن‪ ،‬مثل‪ :‬االنفاق‪ ،‬الجسور‪ ،‬طرق التفافية تسمح للفلسطينيين بحرية الحركة‪ ،‬والتنقل بين مدن‬
‫الضفة‪ ،‬وبين الضفة و"إسرائيل" أيضاً‪ ،‬فهذا مشروع ضخم ومعقد‪ ،‬ولكنه مشروع استراتيجي‬
‫ضروري ل ـ"إسرائيل"‪ ،‬وهو ال يقدم ترابط إقليمي بين مدن الضفة‪ ،‬لكنه يسمح بحرية التنقل بين‬
‫هذه المدن‪.‬‬

‫الدمج بين المجهود الدبلوماسي والمجهود اإلقليمي‪ ،‬سوف يزيد من شعور الفلسطينيين بقوة‬
‫السيادة على المستوى الرمزي الشكلي‪ ،‬ويقلل من السيطرة عليهم من خالل الحكم العسكري‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬وبنفس الوقت "إسرائيل" لن تتخلى عن المستوطنات‪ ،‬فمجال السيطرة الفلسطينية‬
‫سيكون فقط في الربط بين المناطق واألقاليم بالضفة‪ ،‬ترابط جزئي فقط‪ ،‬يسمح لهم بحرية الحركة‪،‬‬
‫مع عاصمة في مدينة القدس‪.‬‬

‫شبه مواطنين‪:‬‬

‫رغم أن غالبية السكان الفلسطينيين بالضفة يعيشون في المناطق التي تعرف بالمناطق ‪ A‬و‪،B‬‬
‫إال أن هناك عدد منهم يعيش في المناطق التي تعرف أنها ‪ C‬وهي تحت السيطرة اإلسرائيلية‪،‬‬
‫وهم ال يتمتعون بحق الحصول على الجنسية اإلسرائيلية‪ ،‬وال يشاركون في الحكم بالسلطة‬
‫الفلسطينية مثل سكان ‪ A‬و‪ ،B‬ألنهم تحت الحكم المباشر للجيش اإلسرائيلي‪ ،‬وحقوقهم ُمقلصة‪،‬‬
‫وحركتهم كذلك‪ ،‬وهم يتعرضون لمخاطر أمنية‪ ،‬ألن مناطق ‪ C‬هي مناطق تحرك المستوطنين‬
‫وفيها يتم االحتكاك اليومي بين السكان الفلسطينيين والمستوطنين اليهود‪.‬‬

‫لذلك وضمن خطة توسيع صالحية السلطة‪ ،‬يجب إعطاء أجزاء من مناطق ‪ C‬للسلطة للسيطرة‬
‫عليها‪ ،‬أو منح العشرات من هؤالء الفلسطينيين بالمناطق ‪ C‬الجنسية اإلسرائيلية‪ ،‬والتمتع بنفس‬
‫الحقوق التي يحصل عليها السكان العرب في "إسرائيل"‪ ،‬مثل التأمين الوطني والصحي وبدل‬
‫البطالة ومعاشات الشيخوخة وغيرها‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫هنا ال يدور الحديث عن ضم مناطق ‪ ،C‬إنما عن إرسال جزء منها للسلطة‪ ،‬أو منح جزء من‬
‫سكانها الحقوق المدنية والجنسية اإلسرائيلية‪ ،‬هذا اإلجراء سيؤدي لخلق واقع يتم فيه تقليص‬
‫الفوارق بينهم وبين المستوطنين‪ ،‬وبالتالي إنهاء التمييز العنصري وتحسين ظروفهم المعيشية‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫البرغماتية السياسية كجسر (إسرائيلي)‬

‫البرامج السياسية أمام مصيدة ‪:1967‬‬

‫يدور الحديث عن صفقة (إسرائيلية) جديدة‪ ،‬يتم فيها التنازل عن اثنين من األحالم الكبرى‪ ،‬مقابل‬
‫الحصول على اثنين من األهداف الرئيسية المركزية‪ ،‬التنازل عن اتفاق سياسي يؤدي للسالم‪،‬‬
‫والتنازل عن التوطين الجماعي الكبير لكل أجزاء أرض "إسرائيل" الكبرى‪ ،‬الذي سيؤدي للتحرر‬
‫والخالص‪ ،‬مقابل تأمين وجود دولة يهودية آمنة‪ ،‬كال البرنامجين (الخطتين) التي تم عرضهما‬
‫ُمسبقاً تُجسد محاولة لتنفيذ هذه الصفقة‪.‬‬

‫رغم أن هذه الخطط جديدة ومختلفة عن الخطط والبرامج السابقة‪ ،‬إال أن هناك من سوف يعتبر‬
‫أن خطة "التسوية الجزئية" محسوبة على اليسار المعتدل‪ ،‬وخطة "مبدأ االنفصال" محسوبة على‬
‫اليمين المعتدل‪ ،‬الخطة األولى‪ :‬سيتم من خاللها التنازل عن حلم اتفاق سياسي يؤدي إلى السالم‬
‫وإنهاء الصراع‪ ،‬والخطة الثانية‪ :‬سيتم من خاللها التنازل عن حلم االستيطان في أرض "إسرائيل"‬
‫الكبرى يؤدي إلى الخالص‪.‬‬

‫الخطة األولى تقوم على تدخل سياسي خارجي‪ ،‬بينما تقوم الثانية على زيادة ظواهر موجودة على‬
‫أرض الواقع‪ ،‬خطة التسوية الجزئية تعتمد على تقليص االحتالل‪ ،‬بينما خطة مبدأ االنفصال تقوم‬
‫على تقليص المخاطر األمنية بالضفة‪.‬‬

‫رغم االختالف‪ ،‬كلتا الخطتين تجسد نفس المبادئ‪ ،‬بكلتا الخطتين ال يوجد أساس إلنهاء الصراع‪،‬‬
‫إنما محاولة للخروج من المصيدة‪ ،‬وإعادة تنظيم المشكلة للتعامل معها‪ ،‬والجميع يدرك ذلك‪،‬‬
‫باليمين واليسار قالوا إن هذه البرامج – الخطط – ال تحل المشكلة‪ ،‬اليمين عبر عن شكوكه بأن‬
‫هذه البرامج لن تحل مشكلة المخاطر والتهديدات األمنية‪ ،‬واليسار عبر عن شكوكه أن هذه‬
‫الخطط والبرامج ستترك الجيش اإلسرائيلي متواجداً ببعض مناطق الضفة‪ ،‬ومرة أخرى أقول أن‬
‫هذه البرامج ليست لحل وإنهاء الصراع‪ ،‬وال تهدف إلى التوصل إلى حالة األمن المطلق‪ ،‬إنما‬
‫األمن الوجودي‪ ،‬هذه الخطط هي لتجسيد فكرة الخروج من المصيدة‪ ،‬وليس لحل وإنهاء الصراع‪،‬‬
‫ولكن من خالل ردة األفعال على هذه الخطط‪ ،‬أدركت إلى أي حد طريقة تفكيرنا حول الصراع‬
‫الفلسطيني اإلسرائيلي ثابتة وقوية‪ ،‬وأنه يوجد صعوبة لالنتقال من طريقة التفكير الثنائي إلى‬
‫طريقة التفكير الكمي‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫التفكير األيديولوجي يميل إلى طريقة التفكير الثنائي‪ :‬إما َّ‬
‫أن "إسرائيل" هي دولة ُمحتلة لشعب‬
‫آخر‪ ،‬أو أنها دولة أخالقية ديمقراطية‪ .‬إما أن "إسرائيل" تعيش حالة صراع مع العدو‪ ،‬أو أنها‬
‫تعيش حالة سالم‪ .‬إما أنها تعمل على توطين أرض "إسرائيل" باليهود‪ ،‬أو أنها تخون المبادئ‬
‫والقيم القومية والدينية اليهودية‪.‬‬

‫بالمقابل‪ ،‬التفكير البرغماتي يميل ألن يكون كمي‪ :‬رئيس بلدية ينجح في تخفيض نسبة القتل في‬
‫مدينته إلى ‪ %40‬ال يعتبر رئيس فاشل أو ناجح‪ ،‬القتل ما زال موجوداً‪ ،‬لكنه أسهم في تخفيض‬
‫النسبة‪ ،‬وزعيم يستطيع التقليل من حوادث المرور ال يعتبر ناجحاً وال فاشالً‪ ،‬ألن حوادث المرور‬
‫لم تنتهي‪ ،‬والموت مازال مستم اًر على الطرقات‪ ،‬هنا نحن نفكر بشكل كمي‪ ،‬لكن بالنسبة للصراع‬
‫الفلسطيني اإلسرائيلي نحن نفكر بشكل ثنائي‪ ،‬وال نسأل أنفسنا عن النسبة التي سيتم فيها خفض‬
‫اإلرهاب‪ ،‬والتقليل من قتلى العمليات األمنية‪ ،‬بل نسأل كيف سنقضي على اإلرهاب‪ ،‬وال نسأل‬
‫كيف سنخفض قوة الصراع‪ ،‬بل كيف سوف ننهيه‪ ،‬وال نسأل كيف سنقلص االحتالل اإلسرائيلي‬
‫بالضفة الغربية‪ ،‬بل نسأل كيف سوف نلغي االحتالل‪.‬‬

‫كلتا الخطتين كمادة للتفكير‪:‬‬

‫حسب ما اعتقد ليست كل مناطق الضفة الغربية محتلة‪ ،‬إنما الشعب الفلسطيني هو المحتل‪،‬‬
‫ومن يوافق على هذه الفرضية سوف يوافق على النتائج المترتبة عليها‪ ،‬كلما قمنا بتخفيض حجم‬
‫السيطرة على الفلسطينيين بهذا نقوم بتقليص االحتالل‪.‬‬

‫االنسحاب اإلسرائيلي المباشر من الحياة اليومية للسكان الفلسطينيين‪ ،‬ورفع القيود عن الهوية‪،‬‬
‫وعن الحركة‪ ،‬سوف يقلص حجم السيطرة واالحتالل اإلسرائيلي للسكان الفلسطينيين‪ ،‬حتى لو‬
‫بقيت "إسرائيل" (الجيش اإلسرائيلي) موجودة على جزء من الضفة‪ ،‬بمعنى أن الخطة البرغماتية‬
‫سوف تنقذ "إسرائيل" من المصيدة الوجودية‪.‬‬

‫هذه البرامج سوف تُخلِّص "إسرائيل" من الضغط الدولي واإلحراج اإلقليمي‪ ،‬وسوف تُسهم في‬
‫تحسين عالقاتها مع أوروبا والعالم العربي‪ ،‬وبنفس الوقت سوف تقلل من االحتكاك بالفلسطينيين‪،‬‬
‫وبالتالي من التوتر بين "إسرائيل" ودول العالم‪ ،‬واألهم أنها قد تحسن صورة "إسرائيل"‪ ،‬ليس فقط‬
‫في عيون المجتمع الدولي‪ ،‬إنما في عيون الشبان اليهود بالعالم وأمريكا‪ ،‬ألن هذه البرامج تقلل‬
‫من المشكلة األخالقية التي تصور دولة "إسرائيل" الديمقراطية‪ ،‬أنها تحتل شعباً آخر‪ ،‬وتُ ِّ‬
‫بعد‬
‫"إسرائيل" عن الحرج في أنها تتنازل عن أماكن هامة من أرض "إسرائيل" التوراتية‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫لذلك من يفكر بالصراع الفلسطيني اإلسرائيلي بطريقة ثنائية وليست كمية لن يتقبل هذه الخطط‬
‫والبرامج‪ ،‬ألن هذه البرامج ليست مخصصة إلنهاء الصراع‪ ،‬ولم توضع باألساس إلنهاء المشكلة‪،‬‬
‫بل إلعادة ترتيب المشكلة‪ ،‬واإلسهام في خروج "إسرائيل" من المصيدة‪ ،‬هذه الخطط ال تُنهي‬
‫االحتالل إنما تُسهم في تقليصه‪ ،‬وتقليص السيطرة على السكان المدنيين‪ ،‬وال تُسهم في التوصل‬
‫لحل نهائي‪ ،‬إنما لتحقيق األمن الوجودي‪.‬‬

‫ومن يفكر بالصراع بطريقة كمية سيجد بهذه البرامج مادة مفيدة للتفكير‪.‬‬

‫الهامش البرغماتي وتحسين االستماع بالحوار اإلسرائيلي الداخلي‪:‬‬

‫السياسة التي تجسد (توصل) بين اليمين واليسار قد تنمو داخل حلبة فكرية برغماتية‪ ،‬األمر يقوم‬
‫على أساس تقديم إجابات سياسية لقضايا قديمة مختلف عليها بين اليمين واليسار حول‪ :‬الحدود‪،‬‬
‫األمن‪ ،‬حل مشكلة الالجئين‪ ،‬القدس‪ ،‬ومكانة دولة "إسرائيل" كدولة يهودية ديمقراطية‪ ،‬لكن علينا‬
‫أن ندرك أنه بدون صفقة تبادل‪ ،‬والتنازل عن بعض أحالمنا‪ ،‬لن نتوصل إلى أهم حاجاتنا‬
‫ومصالحنا المركزية األساسية‪.‬‬

‫األزمة الفكرية األيديولوجية أدت إلى يأس تيار اليمين اإلسرائيلي من الشعب‪ ،‬ألن الشعب يأس‬
‫من مبادئ اليمين‪ ،‬وخصوصاً مبدأ أرض "إسرائيل" الكبرى‪ ،‬وكذلك أدى إلى يأس تيار اليسار‬
‫اإلسرائيلي من الشعب‪ ،‬ألن الشعب يأس من مبادئ اليسار‪ ،‬خصوصاً مبدأ تحقيق السالم مع‬
‫الفلسطينيين‪ ،‬الغالبية العظمى بالشعب تغيروا بعد اليأس‪ ،‬حتى التيارات تغيرت‪ ،‬باليمين استبدلوا‬
‫مبدأ تحرير أرض "إسرائيل" بمبدأ األمن‪ ،‬وجعلوه القلق المركزي لهم‪ ،‬وباليسار استبدلوا مبدأ‬
‫تحرير "إسرائيل" بمبدأ إنهاء االحتالل‪ ،‬وجعلوه القلق المركزي لهم‪ ،‬اليمين الجديد واليسار الجديد‬
‫قادرون على التفاهم والحوار‪ ،‬ألن مبادئهم الجديدة واقعية‪ ،‬ومن الممكن تحقيقها‪ ،‬ومن جهة‬
‫أخرى يمكن اعتبار األزمة الفكرية األيديولوجية فرصة للحوار والتفاهم في "إسرائيل"‪.‬‬

‫الحرب والسالم‪:‬‬

‫خطة "التسوية الجزئية" وخطة "مبدأ االنفصال" هي خطط برغماتية لتجسيد العمل السياسي‬
‫المتواضع‪ ،‬الهادف إلى إعادة تنظيم مشاكل الصراع من جديد‪ ،‬وليس حل الصراع بشكل نهائي‪،‬‬
‫هذا التقليل من حجم التوقعات السياسية المترتبة على تنفيذ هذه الخطط‪ ،‬يؤدي إلى التفكير‬
‫ببرغماتية حول توقعاتنا من السالم ومن الحرب‪ ،‬ماذا نتوقع من السالم؟ وماذا نتوقع من الحرب؟‬
‫تجربة السالم لم تؤدي إلى إنهاء الصراع‪ ،‬والحرب لم تؤدي إلى االنتصار‪ ،‬بالحرب غير‬

‫‪66‬‬
‫المتكافئة ال يوجد انتصارات‪ ،‬القوة العسكرية اإلسرائيلية لم تنتصر في لبنان‪ ،‬والجيش اإلسرائيلي‬
‫لم يتوصل إلى انتصار واضح وحاسم في المعارك المتكررة مع قطاع غزة‪ ،‬بكل معركة عسكرية‬
‫يتوقع الشعب من الجيش االنتصار‪ ،‬فعدم االنتصار يولد اإلحباط‪ ،‬ويبقى الواقع ضبابياً ُمبهماً‪.‬‬

‫ومثلما ال يوجد انتصار بالحرب‪ ،‬ال يوجد اتفاق سالم‪ ،‬ومثلما ال يوجد حسم عسكري بميدان‬
‫المعركة‪ ،‬ال يوجد حسم سياسي في الحلبة السياسية‪ ،‬ألن اتفاق السالم يكون بين دول قوية‬
‫ومستقرة‪ ،‬واالنتصارات تكون بين جيوش نظامية‪ ،‬وتفكك بعض الدول إلى أجزاء صغيرة أدى إلى‬
‫إنشاء جيوش صغيرة‪ ،‬وهذا ولد وضع ال يمكن تحقيق االنتصار والحسم العسكري‪ ،‬وال يمكن فيه‬
‫كذلك التوصل إلى اتفاقيات سياسية آمنة ومستقرة‪.‬‬

‫الجملة المشهورة لدى اليمين "اجعلوا الجيش ينتصر" هي جملة سخيفة‪ ،‬مثل الجملة المشهورة عند‬
‫اليسار "السالم اآلن"‪ ،‬اليسار يذكرنا دوماً أننا ال يمكن أن ننتصر بالمعركة‪ ،‬واليمين يذكرنا دوماً‬
‫ومخطئين بنفس الوقت‪ ،‬بالعالم الحديث‬
‫أننا لن نتوصل إلى اتفاق سالم – وكالهما صادقين‪ُ ،‬‬
‫يجب تقليل حجم التوقعات من الحرب ومن السالم‪ ،‬واالنتقال من سياسة تحاول تغيير الواقع إلى‬

‫سياسة تكون مالئمة للواقع‪ُ ،‬‬


‫ومندمجة به‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫الخاتمة‬
‫ثيودور هرتسل عارض إحياء اللغة العبرية‪ ،‬واعتقد أن اللغة العبرية ماتت وال أمل في إحيائها من‬
‫جديد‪ ،‬الشك لدى هرتسل كان مبني على أسباب مقنعة‪ ،‬وهو أنه ال أمل في إعادة إحياء لغة‬
‫قديمة ماتت منذ آالف السنين‪ ،‬وجعلها لغة حديث يومية‪ ،‬ألنه ال يوجد سابقة لهذه الحالة‬
‫بالتاريخ‪.‬‬

‫المفكر اليهودي آحاد هعام‪ ،‬عارض محاولة تجميع الشعب اليهودي في أرض "إسرائيل"‪ ،‬لقد‬
‫اعتقد أن األرض خراب ومهجورة‪ ،‬وال يمكن تجميع وتوطين اليهود فيها بشكل كبير‪ ،‬وال يوجد‬
‫سابقة لجمع شعب متفرق بكل أنحاء العالم‪ ،‬وإعادة توطينه في وطنه التاريخي‪.‬‬

‫من وجهة نظرهم بتلك المراحل والفترات‪ ،‬كالهما كانا صادقين‪ ،‬من الناحية العقالنية العملية ال‬
‫يمكن تجميع شعب وإعادة إحياء لغته‪ ،‬لكن من وجهة نظرنا نحن‪ ،‬حسب وقتنا هذا نعلم أنهم‬
‫كانوا مخطئين‪ ،‬وأن األمور تحققت‪ ،‬والحركة الصهيونية نجحت في تحويل هذه األمور شبه‬
‫المستحيلة إلى حقائق واقعية‪ ،‬طالئعيو اللغة العبرية آمنوا بالهدف شبه المستحيل‪ ،‬وأعادوا إحياء‬
‫اللغة العبرية وجعلوها لغة حديث يومي‪ ،‬طالئعيو المهاجرين اليهود آمنوا بالهدف شبه المستحيل‪،‬‬
‫وبدأوا بالهجرة إلى أرض "إسرائيل"‪ ،‬وطالئعيو المحاربين اليهود آمنوا بالهدف شبه المستحيل‪،‬‬
‫وأقاموا جيش يهودي أسهم في إقامة الدولة‪.‬‬

‫المطلق بالمبادئ المطلقة‪ ،‬لما تمسكوا‬


‫كلهم آمنوا بأفكارهم األيديولوجية التحررية‪ ،‬ولوال اإليمان ُ‬
‫باألهداف شبه المستحيلة وحولوها إلى أهداف على أرض الواقع‪ ،‬وغيروا التاريخ اليهودي‪.‬‬

‫المطلقة‪ ،‬التي لم تعد تالئم زماننا الحديث‪،‬‬


‫هذا الكتاب يقدم انتقادات لأليديولوجيات ولألهداف ُ‬
‫المطلقة لم تنجح في تحقيق أهداف مستحيلة‬ ‫ولقد أثبتت مصيدة العام ‪ 1967‬أن األيديولوجيات ُ‬
‫أو شبه مستحيلة على أرض الواقع‪ ،‬واألمل في الخروج من المصيدة‪ ،‬متعلق بالتخلص من‬
‫المطلقة‪ ،‬التي كانت حتى يومنا هذا لدى اليمين واليسار‪.‬‬
‫المسلمات لهذه األيديولوجيات ُ‬
‫ُ‬

‫والء مطلق وإيمان كامل‪:‬‬


‫التنازل عن األيدي ولوجيات‪ ،‬والتوقف عن اإليمان بها يتم من خالل الصدام بين هذه‬
‫األيديولوجيات وبين الواقع‪ ،‬إذا لم يتم تطبيق األهداف التي تسعى هذه األيديولوجيات إلى‬

‫‪68‬‬
‫تحقيقها‪ ،‬والحلول الوسط أو التراجع عن التمسك باأليديولوجيات‪ ،‬ليس بالضروري أن يكون تنازل‬
‫أخالقي وبالعكس‪ ،‬أعتقد أن البرغماتية قد تكون أكثر أخالقية من اإلصرار على التمسك‬
‫باأليديولوجيات واإليمان الكامل بها‪ ،‬البرغماتية هي حلول وسط‪ ،‬وحلول أخالقية‪ ،‬ألزمة‬
‫األيديولوجيات‪ ،‬وحل اليأس المترتب على أزمة األيديولوجيات‪ ،‬وحل مشكلة الوالء المطلق لهذه‬
‫األيديولوجيات‪.‬‬

‫عندما كان الشعب اليهودي في مصر‪ ،‬كانت القوات المصرية تهدد الشعب‪ ،‬وعندما أصبح‬
‫الشعب اليهودي في وطنه‪ ،‬أصبحت القوة الداخلية تهدد الشعب‪ ،‬الخوف من الفساد الداخلي‬
‫يؤدي إلى الخوف من ارتكاب خطيئة تجعل الشعب يخسر وطنه مرة أخرى‪ ،‬النبي موسى حذر‬
‫في خطابه األخير من هذا‪ ،‬وحتى التناخ يخلد هذه المخاوف‪ ،‬ويريد أن يعيش الشعب معها‪،‬‬
‫حتى ال تؤدي قواه الداخلية للشعب اليهودي إلى حدوث خطيئة وخسران الوطن مرة أخرى‪ ،‬العيش‬
‫مع هذه المخاوف ُيشكل تحدياً لليهود الذين يعيشون حالياً في "إسرائيل"‪.‬‬

‫اآلن دولة "إسرائيل" دولة قوية جداً‪ ،‬وبنفس الوقت هي دولة ضعيفة جداً‪" ،‬إسرائيل" كانت قوية‬
‫ألنها قامت بالقرن العشرين‪ ،‬انتصرت بعدة حروب‪ ،‬أصبح اقتصادها خالل فترة صغيرة من‬
‫األقوى في العالم‪ ،‬اإلنتاج القومي ل ـ"إسرائيل" اليوم أكبر من كل جاراتها –مصر واألردن وسوريا‬
‫ولبنان معاً– يوجد في "إسرائيل" شركات تكنولوجية أكثر من بعض دول أوروبا‪" ،‬إسرائيل" هي‬
‫أصغر دولة بالعالم‪ ،‬لديها قمر صناعي بالفضاء‪ ،‬وقوة نووية عسكرية ومدنية (حسب األخبار‬
‫األجنبية)‪ ،‬لكن "إسرائيل" دولة قابلة لالنهيار‪ ،‬ألنها تعيش وسط الفوضى الشرق أوسطية‪،‬‬
‫ومحاطة بالعديد من المنظمات اإلرهابية العنيفة‪ ،‬وتوجد عدة دول قوية تريد أن تدمرها‪ ،‬وجزء من‬
‫هذه الدول والمنظمات قائمة على هذا الهدف بالذات‪ ،‬هذا الدمج ما بين الخوف من العزلة‪،‬‬
‫والخوف من العنف‪ِّ ،‬‬
‫يوجد حالة من الضعف بالوعي اإلسرائيلي‪ ،‬عدد كبير من اإلسرائيليين‬
‫يشعرون أننا مجرد أقلية يهودية تعيش في عالم عربي غالبيته ُمسلمة‪ ،‬أو أقلية داخل الدولة‬
‫نفسها‪ ،‬وألننا دولة قابلة لالنهيار‪ ،‬فكل من يحذر من وجود تهديدات خارجية فهو صادق‪ ،‬وألننا‬
‫دولة قوية‪ ،‬فكل من يحذر من الفساد الداخلي فهو صادق‪ ،‬لكن لألسف الشديد ال أحد يتحدث‬
‫المحدقة بنا‬
‫عن األمور التي تُشكل مخاوف وتُنذر بوقوع االنهيار‪ ،‬جميعنا يتحدث عن المخاطر ُ‬
‫في الشرق األوسط‪ ،‬وال أحد يتحدث عن تجاهلنا لحقوق الفلسطينيين‪ ،‬ونطالِّب بإزالة المخاطر‬
‫والتهديدات الوجودية فقط‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫كل تيار ُمتمسك بأحد المخاوف فقط‪ ،‬تيار واحد ُمتخوف من الفساد الداخلي‪ ،‬وفقدان العودة إلى‬
‫مصر‪ ،‬وتيار آخر متخوف من العدو ومن التهديدات الخارجية‪.‬‬

‫السياسة البرغماتية تسعى لكسر مخاوف اليسار من قوة فسادنا الداخلي‪ ،‬وكسر مخاوف اليمين‬
‫من تهديدات األعداء من الخارج‪ ،‬وكالهما حافظ على هذه المخاوف‪ ،‬وعلى حركة صهيونية‬

‫عاشت بهذه المخاوف لعدة سنوات‪ ،‬دون التخلص من هذه األفكار ُ‬


‫المطلقة‪ ،‬أو محاولة التخلي‬
‫عن هذا اإليمان الكامل بهذه األفكار األيديولوجية‪.‬‬

‫السياسة البرغماتية ليست فقط واقعية‪ ،‬بل أخالقية‪ ،‬وبدون التمسك بهذه المخاوف‪ ،‬بمعنى أن‬
‫نعيش بأمان داخل الوطن‪ ،‬وال نعيش بخوف من خسارة الوطن‪.‬‬

‫اإلنسان يبحث عن معنى‪:‬‬


‫ألن اإلنسان يبحث عن معنى لحياته؛ فهو يبحث عن انتماء‪ ،‬انتماء لطائفة‪ ،‬لفريق‪ ،‬لجماعة‪،‬‬
‫لحركة‪ ،‬لحزب‪ ،‬أو تيار لديه مبدأ عام بالحياة‪ ،‬األيديولوجيات السياسية الكبرى لعبت دو اًر في‬
‫بحث اإلنسان اإلسرائيلي عن معنى لحياته‪ ،‬وربطت اإلنسان بالحياة‪ ،‬أيديولوجية تؤمن بأن‬
‫التاريخ اليهودي يخطو نحو السالم مع العرب بالشرق األوسط‪ ،‬ف ُولِّدت حركة السالم اإلسرائيلية‪،‬‬
‫وهذا إيمان عاطفي‪ ،‬ووضعت قيمة بين اإلنسان والحياة‪ ،‬وقدمت لهم معنى الحياة‪.‬‬

‫األيديولوجية التي تؤمن أن االستيطان في كل أنحاء أرض "إسرائيل" التوراتية سيؤدي إلى اقتراب‬
‫التحرر والخالص‪ ،‬ف ُوِّلدت حركة االستيطان‪ ،‬وهذا إيمان عاطفي‪ ،‬ولعبت دو اًر في ربط بعض‬
‫المؤمنين بهذه األفكار بالحياة‪ ،‬وقدمت لهم معنى الحياة‪.‬‬

‫هنا يوجد الفرق بين السياسة األيديولوجية‪ ،‬وبين السياسة البرغماتية‪ ،‬السياسة األيديولوجية تهتم‬
‫بالمعنى واألهمية‪ ،‬أما السياسة البرغماتية تهتم بالبقاء والنجاح‪ ،‬وحتى أن السياسة التي ال تقوم‬
‫على أيدي ولوجية ال تعتبر بمثابة ضعف‪ ،‬وال تعبر عن عدم الوالء واالنتماء‪ ،‬والسياسة البرغماتية‬
‫لها جذور في أعماق التقاليد اليهودية القديمة‪.‬‬

‫في العصر الحديث ظهرت في دول أوروبا أيديولوجيات كبرى قائمة على قوة اإليمان بالمبدأ‬
‫المطلق‪ ،‬البعض آمن بشكل أعمى باالشتراكية‪ ،‬والبعض آمن بشكل أعمى بالفاشية‪ ،‬والبعض آمن‬
‫بالليبرالية‪ ،‬لقد آمنوا أن هذه المبادئ كاملة‪ ،‬وقادرة على حل كل شيء‪ ،‬ولو استطاع اإلنسان‬
‫تطبيق هذه المبادئ سوف يصبح العالم أفضل‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫في العصور القديمة كان البشر يعبدون األصنام‪ ،‬وفي العصور الحديثة يعبدون المبادئ واألفكار‬
‫السياسية‪ ،‬وإ ذا كان هدف الديانات بالماضي محاربة عبادة األصنام‪ ،‬فإن مهمتها في الحاضر‪،‬‬
‫محاربة عبادة األيديولوجيات السياسية‪ ،‬فال توجد أفكار كاملة‪ ،‬كما ال يوجد إنسان كامل‪ ،‬وال‬
‫توجد حلول كاملة‪ ،‬وبالتالي ال توجد فكرة قادرة على تخليص الشرق األوسط من مركباته العنيفة‪،‬‬
‫وال توجد أيديولوجية قادرة على تحقيق المحبة‪ ،‬وإنهاء الكراهية‪ ،‬بين اليهود وبين بقية شعوب‬
‫العالم‪.‬‬

‫ال يوجد مبدأ سياسي قادر على تحرير الواقع‪ ،‬وال توجد أيديولوجية سياسية ُمقدسة‪ ،‬ويتضح أن‬
‫السياسة البسيطة الخالية من أي محتوى فكري لها جذور قديمة بالعالم‪ ،‬تكمن في األع ارف‬
‫والتقاليد السياسية اليهودية القديمة‪.‬‬

‫تقاليد االستماع‪:‬‬
‫المطلق باألفكار واأليديولوجيات المطلقة‪ ،‬وهو عدم القدرة على‬
‫أحد أهم المشاكل الصعبة لإليمان ُ‬
‫المنافسة والبديلة‪ ،‬إضافة إلى اإليمان بأن تطبيق أفكار هذه‬
‫االستماع لآلخر‪ ،‬ورفض األفكار ُ‬
‫األيديولوجية دون غيرها سوف يؤدي إلى خلق واقع متكامل‪ ،‬ولو تم تطبيق أفكار الخصم‬
‫(المنافسة البديلة) سيكون الواقع كارثي‪ ،‬الحل الذي تقدمه هذه األيديولوجية سوف ينقذ العالم‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المنافسة سوف تدمر العالم‪.‬‬ ‫بينما حلول األيديولوجية‬

‫الخطاب األيديولوجي يقول إن موقف الخصم خطير‪ ،‬وحلوله الفكرية هدامة‪ ،‬لهذا يمكن القول أن‬
‫المجال الذي ال يوجد به حلول محاولة‪ ،‬هو نفس المجال الذي ال يوجد به تقاليد االستماع‪،‬‬
‫وحسب التقاليد اليهودية القديمة القائمة على الجدال‪ ،‬يوجد مكان لالستماع لآلخر‪ ،‬ولذلك هي‬
‫تقاليد استماع‪ ،‬ونفس هذا المستمع هو القادر على تجديد وتحسين ثقافة االختالف في "إسرائيل"‪.‬‬

‫‪71‬‬

You might also like