Professional Documents
Culture Documents
مكتبة الكتب - السيد بلا مؤاخذة
مكتبة الكتب - السيد بلا مؤاخذة
مكتبة الكتب - السيد بلا مؤاخذة
السـيد
بال مؤاخذة
الكاتب :شاهر جوهر
01009823984
السـيد
بال مؤاخذة
مجموعة قصصية
شاهر جوهر
إهداء
5
حكم الله
7
في الزنزانة سجين متأنق في منتصف العقد الثالث ،يلف سا ًقا
ً
واقفا يفر
ويحدث نفسه طوال الوقت ،وبين فينة واألخرى ُّ
ِّ فوق ساق
أخماسا بأسداس ويستغرق
ً ليدور في زاوية الغرفة ،وتحسبه يضرب
تفكير عميق.
ٍ في
جلس عوشر بالقرب من الباب كلي ًلا ،يلتفت حوله ويفكر
بنفسه ببسور“ :ما الذي فعلته بنفسي؟ يا لي من غبي! ليتني لم أسمع
كالمها”.
نظر إليه السجين وأشار إليه بيده:
-هيه أنت.
رمقه عوشر بنزق:
-هل تحدثني؟
ق َّلب السجين ناظريه في المكان باستهجان:
-وهل يوجد مجرمان غيري وغيرك في هذا القصر
المنيف؟
مجرما؟! أنا األبله
ً قال عوشر في نفسه“ :يا إلهي! هل أصبحت
الذي سمعت كالمها” ،ثم وجه حديثه إلى السجين بنبرة غاضبة:
-هناك أصدقاؤك العفاريت ،من تكلمهم منذ دخلت
“قصرك” اللعين هذا.
ضحك السجين بطريقة تشبه إقالع محرك زراعي ،وهي طريقة
جيدا:
ً يعرفها عوشر
8
ِ
واحك لي حكايتك. َ
تعال َ
تعال، -هئ ،هئ ،هئ!
مكث عوشر في مكانه دون أن يراعي دعوته .تململ الرجل،
ومد يده ليصافحه:
ثم اقترب منه َّ
-السالم عليكم ،اسمي “أدهم” ،من ريف العاصمة،
وأعمل محام ًيا ،أسكن في هذه البلدة الخارجة عن
سيطرة الحكومة منذ سنتين وثالثة أشهر وأحد عشر
يوما ،أي منذ قرر اإلسالميون قتال الحكومة .وأنت؟
ً
استوى عوشر في جلسته ،وصافحه بتثاقل:
-وأنا عوشر ،من سكان هذه البلدة.
-ممم ،يبدو أن جنايتك كبيرة حتى إنك ال تقوى على
جيدا
ً محام يا هذا ،وأعرف
ٍ الكالم أو النهوض .أنا
قوانين هؤالء الرجال ،تكلم وسأساعدك .هل هي المرة
ُسج ُن فيها؟
األولى التي ت َ
-نعم.
-عرفت ذلك ،نحن – الحقوقيين – لدينا معرفة ببواطن
الرجال ،حتى وإن لم يقولوا ذاك جهارة .وماذا فعلت؟
هل قتلت ،انتهكت األعراض ،اعتديت على أحدهم؟
ممم ،أم إنك اقتلعت عين أحدهم؟ إن كنت فعلت
ذلك فاألمر سهل ،قد يقتلعون عينك وتنتهي القصة.
-بل سرقت.
9
-أوه ،هذا فعل سيئ يا رجل .شاب مثلك يسرق؟ المؤمن
ال يسرق يا هذا .ال عليك ،يحدث أن ينزغ الشيطان
رأس المرء .على ٍّ
كل ،حدثني بالتفصيل حتى أساعدك،
محام في
ٍ هيا ،ال تفرغ صبري أنا “أدهم جاد الله” أكبر
العاصمة قبل الحرب بأعوام ،كما أ ِّني كاتب وأديب،
هل سرقت دكانًا؟ أم مجوهرات جارتك؟ هيا تكلم.
كوَّر عوشر جسده من البرد ،ثم أخذ ينفث أنفاسه الدافئة في
َق ْع ِر راحتيه:
-لم أكن أريد فعل ذلك صدقني ،زوجتي هي السبب.
-ال تحدثني عن النساء يا أخي ،أنا ضعيف حيالهن،
أعرف أنهن ماكرات في كل شيء ،حتى إني ألعتقد
جازما أن هذه الحرب هن من أشعلنها.
ً
سكت أدهم قلي ًلا ثم أخذ يتأوه:
-آ ٍه! ما أجمل النساء! أكمل يا رجل ،أكمل .وما عالقة
زوجتك بوجودك هنا؟
-هي طلبت مني أن أسرق كيسين من الحصى المتناثر
على طرفي الشارع حتى أفترشه لبقرتنا في الزريبة؛ فهذا
قاس وزريبتنا تكاد تغص بالطين.
الشتاء ٍ
ً
مدهوشا: حصر أدهم رأسه بكلتا راحتيه
-أوه! هل تقصد أنك سرقت من األمالك العامة؟ يا
إلهي!
10
-جمعت كيسين فقط من الحصى المتناثر على طرفي
الشارع ،فهو زائد عن حاجته ،ولم يقل المجلس
المحلي إن ذلك مال عام .كما أن رئيس المجلس قام
ببناء بيته الجديد من المواد المخصصة لتعبيد الشارع،
زوجته أخبرت زوجتي بذلك ،والكل في القرية يعلم
ذلك ،لكن ال أحد يستطيع ذكر األمر عل ًنا؛ ألن لدى
عائلة رئيس المجلس فصي ًلا عسكر ًّيا كبي ًرا يحميه.
ً
واقفا ،وعاد يتجول في الزنزانة: دمدم أدهم ،ثم ف َّر
-اعذرني يا هذا ،ال أستطيع مساعدتك ،فهذا ال يبرر
لك السرقة.
قال ذلك وعاد إلى مكانه في زاوية الزنزانة .زحف عوشر
بالقرب من أدهم ،ترفس ركبتاه قاع السجن:
محام وتعرف
ٍ -وهل جنايتي عويصة إلى هذا الحد؟ أنت
في القانون.
عاد أدهم للتأوه من جديد:
-آه! ماذا أقول لك أيها الشاب المسكين؟! قانونهم غير
قانوننا الذي درسناه في الجامعة.
سأل عوشر وفي لهجته تسخيف لكالمه:
-سأسجن؟ ليكن ،سأدفع لهم ثمن الكيسين وتنتهي
القضية.
11
-هئ ،هئ! أنت تسرق المال العام ،هل تعي ما أقول؟
وستحاكم وفق قانون ديني ال لعب فيه ،أتعتقد أنك ما
محكوما بقوانين الحزب الحاكم؟ سلطة الحزب
ً زلت
انتهت في هذه القرية منذ سيطرة المعارضة عليها ،أنت
تعيش تحت حكم الله وسلطة الثورة ،وهي سلطة ال
مراء بها .أم إنك تعترض على سلطة الثورة؟
تبدلت حال عوشر ،وتغير حبره وسبره:
-ال ،أعوذ بالله ..لكن ..هل تقصد أنه من الممكن أن
يتم قتلي؟ أألجل كيسين من الحصى ُأقتل؟ إنك تهذي
أحدا لمثل هذا الفعل.
يا هذا .لم أسمع أنهم قتلوا ً
-هئ ،هئ! ال تزال ِغ ًّرا يا ولد ،أعرف أحدهم ُق ْ
طعت
يده ألنه قطع شجرة ،وقبل شهر قاموا بجلد شاب مئة
جلدة ،وقاموا بتغريمه مئة ألف ليرة.
-وماذا فعل حتى صنعوا به ذلك؟
-ال أدري .أتعتقد أن رأسي كمبيوتر ألحفظ كل شيء؟!
دخل عوشر في شرود عميق ،حاول أدهم مواساته بطريقته:
-توكل على الله يا ولد .ال أعرف ما أقوله لك ،أنت تنشل
المال العام ،وهذان الكيسان من مال المسلمين ،انتهينا
إذا ،قد صدر حكم الله فيك ،بعد قليل سيستدعونك ً
للتحقيق ولن يصدقوا روايتك ،وس ُتسأل عن جماعتك:
كم عددكم؟ ألي جهة عسكرية أو سياسية تنتمون؟
12
هل لديك ارتباط بالحكومة؟ وما هي األماكن التي
قمتم بسرقتها طوال هذه المدة؟
تأفف عوشر:
-جماعتي؟! بماذا تهذي يا رجل؟ أقول لك إني أخذت
كيسين من الحصى الفائض عن حاجة الشارع
محام
ٍ ألفترش زريبتي ،وتسألني عن جماعتي! هل أنت
أم محقق؟!
-هئ ،هئ! اهدأ ،سأحاول إرشادك ،أخبرني ،من هو
صاحب الدعوة؟
تنهد عوشر الصعداء بتوتر:
َّ
اختل -رئيس المجلس المحلي ،لقد قال إن الشارع
تقويمه بسببي.
ً
ضاحكا: سكت أدهم ،ثم نام على بطنه وقد انفجر
-لن تنجو يا رجل ،لن تنجو.
َّ
يتفكر في كالمه ،محاو ًلا إقناع تركه عوشر وعاد إلى مكانه
نفسه بتفنيد ما دار من حديث .في ذات الوقت عاد أدهم واستقام
في جلوسه ،ثم تربع في جلسته وقال بجد َّية:
-إن العرب إن َعفوا عن لصهم ضربوا بسيوفهم ناصيته،
كنت أتمنى مساعدتك ،فلتسامحني على ذلك ،سأبقى
أتذكرك ما حييت .يا للنساء! كم هن خسيسات!
13
زم شفتيه ورفع يديه دليل عجزه ،ولم يق َو على كبح فمه عن
ثم َّ
الضحك بهستيرية.
بعد لحظات ُفتح باب الزنزانة ،وتم استدعاء عوشر للتحقيق
معه ،بقي قرابة الساعة في التحقيق ،وعندما عاد كانت قد جمدت
مستلق على
ٍ الدماء في عروقه ،جلس ولم يتفوه بحرف .وبينما أدهم
ظهره وقد رفع ساقيه إلى الجدار ،ودون أن يلتفت إليه ،قال:
-ها ،لم تصدقني .ما قلته لك لم يكن تلفيق كاتب وال
محام.
ٍ محام..
ٍ اختالق شاعر ،قلت لك أنا
يحدث نفسه ،طأطأ عوشر رأسه:
ِّ وكمن
-لم يصدقوا أنها المرة األولى التي سرقت بها ،وقد سألوا
إن كنا عصبة نمتهن اللصوصية واالحتيال ،لكنهم لم
يضربوني .وعندما سألتهم إن كنت س ُأعدم ،ضحكوا
من أنوفهم ،حتى إن رئيس المخفر كاد أن ينقلب
على ظهره خلف كرسيه من شدة الضحك ،وقال رفيقه
ببرودة“ :سنقتلك فقط؟! بل سيتم تقطيعك وربما
حرقك”.
قال عوشر ذلك ثم اندفع يبكي حتى ابتل شعر وجهه ،التفت
بحدة:
َّ إليه أدهم
بدوي؟! لقد َص ُع َب ْت
ٌّ -أتبكي مثل النساء وأنت رجل
علي؛ لذا سأساعدك ،هناك مخرج وحيد كي
حالتك َّ
تنجو.
14
-وما هو؟
اقترب منه أدهم وراح يوشوشه:
-بعد ثالثة أيام سيتم نقلك إلى المحكمة الشرعية
ليصدر بحقك الحكم ،وفور خروجك من باب هذا
المخفر سيكون بإمكانك الهرب؛ اركض ،اركض وال
تلتفت خلفك.
علي.
-لكنهم سيطلقون النار َّ
-لن يفعلوا ،صدقني هذه فرصتك الوحيدة ،وأنا أعي ما
َّ
فسينفذ أقول ،كما أنه ليس أمامك أي خيار آخر ،وإال
فيك حكم الله.
قال ذلك وراح يضحك كعادته ويعوي كالذئاب.
في صباح اليوم الثالث فتح “إيوان” باب الزنزانة ،وهو يرتدي
بنطاله الصحراوي القصير ،يترنح ويتثاءب من النعاس ،ثم صاح:
-عوشر ،جهز نفسك ،سوف تخرج.
رد عوشر ،والذي لم ينم ليلته تلك وهو يتفكر بكيفية الهرب:
-إلى أين؟
-إلى أين يا أبله؟! لإلعدام ،هيا أيها األبله ،لقد خنقتنا
برائحة الزبل المنبعثة من لباسك.
نظر إليه أدهم:
-كما أوصيتك ،اركض وال تلتفت خلفك.
15
خرج عوشر ،وما إن وصل باب المخفر حتى أطلق ساقيه
للريح وركض حتى انقطعت أنفاسه ،وخلفه يقف “إيوان” على باب
ً
ضاحكا: واضعا يديه في جيبيه ويصرخ
ً المخفر
-توقف يا مجرم.
سمع عوشر صراخه ،ودون أن يلتفت َع َبر الشارع وهو يتمتم:
“صدر حكم الله ..صدر حكم الله” .فجأة تصدمه سيارة من نوع
متضعضعا مهشم الوجه على األرض ،هرع
ً تايغر مسرعة ،ليسقط
الجميع نحوه ،أسرع “إيوان” وقد احتضنه بكلتا ذراعيه:
-لماذا هربت يا مجنون؟! كنا نريد إيصالك لبيتك
وزوجتك.
تسايل الدم من أنف عوشر ،وراح ينشج بلوعة:
-كنت ..كنت أريد أن أهرب من حكم الله ..لكن أين
المفر؟ نحن – الجناة الضعفاء – لن نقدر على الهرب
من حكمه ..ليتني لم أسمع كالمها وأسرق ،كيف
سألقى الله بهاتين اليدين اآلثمتين؟!
كثر الهرج حوله ،وارتفع صوت إيوان:
ً
مسعفا ..إسعاف ..أين اإلسعاف؟ -أحضروا
َّ
وتخضبت سترته بدماء عوشر الذي سرعان دمعت عينا إيوان،
ما جفأت عيناه.
16
ذاهب إلى الجبهة
17
إذ تحدث مط َّو ًلا وبلباقة عن قدرات هذا الرجل في حل رموز
وطالسم اإلشارات الحجرية ،وعن الحالة السيئة التي وصلت إليها
البالد بعد الحرب ،وفي نهاية الحديث أفصح عن نيته إخراج كنز
مدفون في أرضي.
موسوسا؛
ً ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﻻﺡ ﺍﻟﺘﺮﺩﺩ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻬﻲ لكالمه ،زحف بقربي
ألنَّه ال يقدر إ َّلا أن يعود ألصوله النزقة:
-هل أنت غبي؟ أقول لك أنت تنام على كنز وما زلت
تتبرم بوجهك الناشف أمام هذا الخبير! سوف نصبح
أثرياء يا أهبل..
قطع الخبير كلمات مهدي ،ودأب يتحدث هو اآلخر باتزان:
-البحث عن الذهب في الصخور هو إحدى مواهبي
المتعددة ،لربما إنك تعاملت مع خبراء كثر قبلي ولم
تحصل على نتيجة؛ لذا أنا ال ألوم عدم ثقتك بي،
فمن ال يعرفني يجهلني ،لكن ما ال تعرفه أني أخذت
هذه الموهبة عن أجدادي بالفطرة ،وصقلتها بالجد
والتعب ،وجنيت من ذلك األرباح.
قال ذلك ،ثم تناوبا يجاهدان في إقناعي عبر الحديث
تجار
المستفيض عن األحالم؛ إذ تر َّبعا حولي وأخذا يقنعانني مثل َّ
العجول في قريتي ،أحدهما يشد والثاني ُيرخي رأفة بشعرة معاوية
التي تربطهما بي.
18
ﻭﺑﻔﻢ ﻓﺎﻏﺮ ﻳﺘﺴﺎﻳﻞ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻠﻌﺎﺏ ﺃﺧﺬﻧﻲ كالمهما عن األحالم
بعيدا ،إلى بالد ال تشبه هذه البالد .وفي غمرة انشغالي بأحالمي
ً
تلك ،وبحماسة منقطعة سألت:
-متى سنبدأ البحث؟
سمع الخبير ذلك فتهلل وجهه باالرتياح ثم أجاب:
-الليلة.
ﺍﺗﻔﻘﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻤﻞ ،وﻛﻨﺎ ستة رجال ،ﻭﻫﺬﺍ الخبير ﻳﺘﺤﺪﺙ ﻣﻦ
ﻳﻄن ﻭﻻ ﻳﻬﺪﺃ ،ﻣﺜﻞ ﻋﺶ ﺍﻟﺪﺑﺎﺑﻴﺮ ،ﻭﻗﺒﻞ ﺍﻟﺒﺪﺀ أﺧﺬ ينط
ُّ ﻓﻢ ﻭﺳﻴﻊ
ﺣﻮﻟﻨﺎ ﻓﻮﻕ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﻣﺜﻞ قرود العالم القديم .وﻓﻲ ﻭﻟﻴﺠﺔ ﻧﻔﺴﻲ ﺳوَّ ل
لي خطمه الطويل ،وﻟﺤﻴﺘﻪ الصدئة المنزلقة بشعر كثيف حتى الرقبة،
وحاجباه العريضان الناتئان فوق صدغين منتفخين ﻛﻤﻮﻣﻴﺎﺀ فرعونية
من األسرة الثامنة عشرة ،ﺃﻥ ﺃﺅﻣﻦ بمبادئ االنتخاب الطبيعي ﻟﺪﻯ
ﺩﺍﺭﻭﻳﻦ ،ﻭﺑﺄﻥ ﺃﺻﻞ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺳﻌﺪﺍﻥ.
ﻓﺒﻌﺪ ﻛﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻂ ،ﺍﺳﺘﻘﺮ ﺣﺎﻟﻪ ﻓﻮﻕ َﺭﺟﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ
القاسية .ﻭﻗﻒ ،وبعينين سيئتي ﺍﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺭﺍﺡ ﻳﻤﺨﺮ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ
يعطي إشارة البدء:
-ﺑﺎﺷﺮﻭﺍ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ.
أن
ﻳﺮ َّ
أن ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ لم َ مشي ًرا ﺑﺈﺻﺒﻌﻪ إﻟﻰ ﻣﻜﺎﻥ ﻭﻗﻮﻓﻪ ،ﻳﺒﺪﻭ َّ
أﻗﻞ ﺻﺨﺮة كانت ﺗﺰﻥ ضعفينا ﻧﺤﻦ الستة؛ لذا خ َّيم التردد والقلق على
وجوهنا .وعندما رأى فتور عزيمتنا ،أخذ – على ما يبدو كعادة اتبعها
طريقا مكل ًلا ﺑﺎألحالم،
ً مزو ًقا ﺃﻣﺎﻣﻨﺎ
– في الضغط على نقاط ضعفناِّ ،
19
ِّ
مذك ًرا كل واحد منا بحلمه .ﻭﻋﻠﻴﻪ ﺳﺤﺒﻨﺎ ﺍﻟﺮﻓﻮﺵ ﻭﺍﻟﻔﺆﻭﺱ ﻭﺷﺮﻋﻨﺎ
ﻧﻨﻘﺐ .ﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﻨﻘﺐ ﻋﻦ ﺣﻠﻤﻪ؛ ﻟﺬﺍ ﻛنَّا ﻧﺤﻔﺮ ﻣﻦ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ ﻓﻲ
يوما ﺑﺤﻠﻢ.
ﺑﻠﺪ ال يؤمن إال بالكوابيس ،وﻟﻢ ﻳﺆﻣﻦ ً
ﺃﻣﻀﻴﻨﺎ ﻟﻴﻠتين ﻧﺰﻓﺮ ﺍﻟﺘﻌﺐ ﻣﻦ ﺧﻴﺎﺷﻴﻤﻨﺎ ومؤخراتنا .وفي يومنا
الثالث ،وعلى ُبعد ثالثة أمتار ويزيد – هو عمق الحفرة – ،وقف
خبيرنا كما في اليومين السالفين مك ِّو ًرا ساقيه ومرددً ا فكاهاته التي
ِّ
ويصفر بنشاز لح ًنا ألغنية أحدا ،ينفث الدخان من أنفه ً لم تُضحك
قديمة (بالد العرب أوطاني) ،ثم يكمل حديثه الممل عن حبه
األفالطوني لفتاة أحبها منذ عام ولم تحبه.
جهدا فوق جهد؛
ً أما أنا فيزيدني شوق أوروبا وفتاة أحببتها
َّ
لع ِّلي – إن وجدت ذاك الكنز – أستطيع أن أضع يدي بيدها وأتجه
يعج بالهدوء حيث
معها إلى مجتمع الوفرة الغربي ،أو إلى أي مكان ُّ
يهدأ هذا القلب ،وال أستيقظ فيه على صوت مدفع أو أسمع أحدهم
أن رفاقي يشاركونني تلك
يتحدث في السياسة أو الحرب .ويبدو َّ
نعد كل حبة تراب تخرج ،ونقيس كل مليمتر.
األحالم؛ إذ كنا ُّ
لكن فجأة يخرج أحدنا من الحفرة وقد تغ َّبر رأسه من التراب،
ً
ممسكا بعلبة صدئة من التونة الفارغة وشظية يبدو ثم يرفع يده عال ًيا
أنها من تركات الحرب العربية -اإلسرائيلية الثالثة أو الرابعة ،أو
لحرب نعيشها ،ثم يصرخ بوجع:
ٍ لربما
-هذا هو الكنز.
20
في غمرة خيبتنا تلك ،خ َّيم الصمت على الجميع ،وقفوا وقد
لوَّحت سنو الحرب السبعة وأيام الحفر الثالثة وجوههم المتعبة.
أحدهم يلوِّح برفشه قاذ ًفا به إلى البعيد ،وآخر يلقي بجثته على حجر
ً
خطوطا على التراب؛ ممسكا بيده علبة التونة الصدئة ويرسم بها ً
لربما ألنه ال يريد ألحد منا أن يرى كم يقاسي جراء خيبته ،وثالث
يجلس بقربه ،يضع يده على ركبته مواس ًيا ،ثم يصمت قلي ًلا ،يق ِّلب
وغ ًّلا:
وجهه في السماء ،يصيح بعصبية فوق أنف يرشح عر ًقا ِ
-أريد أن أتزوج وأنجب أوالدً ا مثل سائر البشر يا ألله ،ال
أريد أن أحمل السالح ،أريد أن أحيا كإنسان طبيعي،
أريد أن أعمل أي عمل يا ربي.
ثم َّ
نكس رأسه كمن يواري عينيه العابرتين ،فأثارت كلماته
الجميع؛ ألنها كلمات الجميع ،كلمات من تنغَّ صت حياته وكره كل
ما في هذه الحرب.
استقام على قوائمه ،رمق الخبير بوجع وصاح بوجهه البارد:
-أين الكنز يا سيادة الخبير؟
يدا بيد ،ثم أجاب بقلق:
وبخوف صفق الخبير ً
-يبدو أ ِّني أخطأت أيها الرفاق ..علينا أن ..أن نحفر
مجددً ا ..هناك ،نعم هناك..
21
ثم أومأ برأسه في حركة بطيئة ،تنم عن حيرة ،إلى تلة صغيرة
بالقرب من حفرتنا .سمع منه الجميع ذلك ،ثم التفوا حوله بغيض
وج َّرروه إلى قلب الحفرة ،فتأ َّبط أحدهم عنقه تحت إبطه المتعرقة،
وعال بعد ذلك صراخه.
أستطيع أن أسمي هذا الزمن الضئيل من حياتي بالخيبة؛ إذ
ُ
تسايلت بالقرب منهم كقطرة محكوم عليها بالسقوط ،وقبل أن
أنصرف لم أسمع منه سوى التوسالت المرددة:
-يا شباب ،أنا أكبر منكم ..الوجه فيه ماء يا شباب ..قل
لم تضربونني؟! اتقوا
كلمة يا مهدي أنت ورفيقكَ ..
الله يا شباب ..آي ..آه!
كتفي المهزومتين رأسي
َّ ُ
وحملت فوق ُ
تداركت خيبتي، بعدها
المتعب ،ومضيت .خلفي يتبعني صوت مهدي متسائ ًلا عن وجهتي،
عدت إليه ،أمسكت راحة يده ،وضعت بها الشظية ،ومضيت .وطوال
الطريق كنت أدندن مغن ًيا“ :سوريا يا حبيبتي”.
22
الناصحون
23
لك َّنها انحدرت عن الطريق واقتربت أكثر ،وبعصبية زعقت بوجهي
تتساءل عن سبب تجاهلي لها ،فهذا الشعب ال يحبذ التجاهل .لهذا
تقض الحرب
ِ يوما في هذه البالد ولم
– عزيزي القارئ – إن مررت ً
أحدا؛ ألني أكاد أن أحلف مئة يمين
على بقايانا ،فإياك أن تتجاهل ً
أن ذلك هو السبب الوحيد الشتعال هذه الحرب التي يبدو أنها لن
يوما.
تنطفي ً
عبثًا كانت محاوالتي لتبرير موقفي؛ إذ لم يقنعها قولي أني كنت
منشغ ًلا بفأسي .لكنني امتصصت غضبها عندما حو ُ
َّلت الحديث
إليها وسألتها عن عائلتها ،فكانت سيدة الحديث بال منازع ،ففي
هذه األيام العلقم العائلة هي أهم ما نملك؛ إذ تحدثت مطو ًلا عن
حالتها في النزوح ،وعن زوجها العاطل عن العمل ،وعن حال ابنها
بعد إغالق المدارس جراء الحرب ،كما تحدثت بوجع عن كيف
خاب سعيهم خالل السنوات التي سبقت الحرب ،وجعلتهم الحرب
صفر اليدين.
هدأت كلماتها ،تنفست قلي ًلا ،ثم قامت بدس خصلة شعر
انسدلت من غ َّرة رأسها في حجابها ،ثم سألت بفضول:
-ماذا تريد أن تصنع بهذه الحفرة؟ أتريد أن تزرع شي ًئا؟
عرفت اآلن ِل َم السنة ممحلة ،و ِل َم تأخر نزول المطر هذا
العام؛ ألنَّك قررت أن تصبح مزارعً ا يا وجه النحس.
وماذا تريد أن تزرع؟
24
يعد سكان هذه القرية من أكثر المؤمنين بأن العمل عبادة،
لكن ال أدري ِل َم بنصائحهم ُيخرجون المرء عن دينه حين يرونه
يزاول أحد أعماله.
أجبتها باقتضاب لمزاحها الثقيل بابتسامة زائفة:
-توتًا.
-توتًا! يبدو أن الحرب أ َّثرت بك فع ًلا ،مذ عرفتك –
منذ الصف األول – وأنت غبي ،انظر ألرضك ،إنها
منخفضة ورطبة في الصيف ،إنها تصلح للرمان ال
للتوت ،نصيحة أختك مريم.
هي دقائق وقبل أن أزفر مللي من حديثها نط أمامي (عبد الرازق)
ممازحا ،فبانت قامته المربوعةكمسمار
ً بحركة مفاجئة وباهتة ليخيفني
أما زوجته وبالقرب منه فضحكت
صدئ فدفعت معدتي للدوارَّ ،
ضحكا خرج من أنفها ،ولفرط ضحكها أمسكت ً لحركته تلك
خاصرتها بيدها؛ لذا ال أقدر إ َّلا أن أجاريهما في الضحك؛ إذ هما
مدرسان وزوجان شعبيتهما في قريتي صفر .جلسا بالقرب من غرستي،
أحدا في القرية إ َّلا وتناواله بسوء:
بأذني ولم ُيبقيا ً
َّ ثم غرسا أنفيهما
-هذا الديوث سرق ثالثين س َّلة غذائية وحرمني من
حصتي .بسيطة ،سأفضحه على الفيسبوك( .قال عبد
الرازق بغضب ،وكأنه يكمل حديثًا بدأه مع زوجته قبل
أن يصل إلينا) ،وكأننا نعرف ما دار من حديث سابق
ردت زوجته:
25
دائما“ :كن
ً -ألنك ضعيف في نيل حقوقك .قلت لك
صدام ًّيا في التغيير” .رئيس المجلس المحلي وأعضاؤه
ال يلينون معك بسوى الصراخ ،الطفل يبقى يبكي حتى
تُطعمه أمه ،وإن لم تصرخ فمن سيلبي طلباتك؟ ها،
من سيلبي طلباته يا جماعة؟
-ألم تري ماذا فعلت؟ لقد صرخت .أقسم بعينيك يا حبيبتي
إلي ،حتى
إني صرخت ونحت يا حبيبتي ،الكلكان ينظر َّ
إن زوج زبيدة الخرف قال للجنة“ :أبعدوا هذه النائحة
عنا وسدوا فمها بسلة” .أخ لو لم يمسكني أحد عناصر
الفصيل الذي كان يحمي عملية توزيع المساعدات
الغذائية ،لكنت حرمته أوالده لألبد ،لكن الله يحبه.
-آه يا حبيبي ،أنا أعرف أن دمك الحار هو نقطة ضعفك.
-معك حق ،دمي حار وال أقبل الزائغة في الفعل .وهذه
هي مشكلتي ،لكن تعلمين أن يدي ليست ميزانًا ،وإن
ضربت أحدهم بال حسبان فقد أقتله؛ لهذا لقد أفرغ
علي صب ًرا وانسحبت بكرامتي اليوم ،وإال كنت قد
الله َّ
أقمت مجزرة بأوالد الديوث…
-أعرف يا حبيبي.
حليما ،لكانت
ً ..-لو انجررت خلف غضبي ولم أكن
تناقلتها وسائل اإلعالم المغرضة ،واستغلتها وتقاذفت
أخبارها المعارضة والحكومة باتهام بعضهما البعض..
26
نظرت مريم إليهما َّ
ومططت طرف فمها بسخرية وغمغمت:
در ووجدت غطاءها.
ِ -ق ٌ
جعل عبد الرازق نفسه لم يسمع ما قالت مريم ،ولرغبته تغيير
عما أنوي زراعته في
الحديث ،وعندما لم يجد ما يشركني به ،سألني َّ
هذه الحفرة.
وعندما أخبرته“ :توت ورمان” ،انتفض أمامي قائ ًلا:
-فليسامحك الله يا رجل ،اسمع مني وازرع تي ًنا ،إنه
يحتمل العطش ،والطلب عليه يزداد كل يوم.
ثم أخذ يشرح لي بعشوائية ضرورة مرونة الموارد االقتصادية
وقدرتها على التكيف ،باإلضافة إلى قوانين السوق وآلياته في العرض
والطلب .ولو لم أكن أعرفه وأيقن أنه ُيمضي وقته في صف الكالم
واالعتياش على اإلعانات األممية ،لقلت إنَّه أحد ُمنظري الليبرالية
االقتصادية.
أما زوجته فكان لها رأي آخر؛ وقفت ورددت مقاطعة بعد أن
َّ
أسندت خاصرتها بيدها:
-تي ًنا؟! أيزرعه للدبابير والغربان؟! ازرع جو ًزا ،سعر الكيلو
ال يقل عن ألفي ليرة ،صدقني ستكسب ،ال تستمع إلى
كالم زوجي الحبيب ،إنه ال يميز بين الطيط والعيصالن،
فكيف له أن يعرف األنسب لزراعة هذه األرض؟!
27
-أنا ال أميز بين الطيط والعيصالن؟! أنا ..ال أميز..
بين ..الطيط ..والعيصالن؟! (رد عبد الرازق على
مصدوما).
ً زوجته
ردت مريم بمزاح على عصبية عبد الرازق:
-ليس ذلك فقط ،بل وال تعرف من تزوج خالتك.
ضحكت مريم هي وزوجته إلى أن هدر دوجان بالقرب منهم
وكأن جدالنا وجلستنا تلك كان ينقصها هذا العجوز،َّ بكل هدوء،
فهو رجل سبعيني هرم ،لك َّنه ما زال يحتفظ بقوته وسالطة لسانه،
منحن .جلس وأخذ يحدثنا
ٍ ظهر
قدم إلينا فجأة وقد كوَّر يديه خلف ٍ
بكسل وبتفاصيل مملة ،كيف ذهب إلى بيته في هضبة الجوالن،
وزرع مئة غرسة زيتون وسقاها في غضون نصف ساعة ،ورجع دون
أن يالحظه مسلحو تلك المنطقة أو يقتلوه .كل واحد م َّنا يعلم في س ِّره
أن هذا العجوز يبالغ في ثرثرته ،لك َّننا أضعف من أ َّلا ننبهر بإنجازاته،
َّ
وإ َّلا ك َّنا وجبة سهلة لفمه الذي ال يستسيغ سوى طعم الشتيمة.
-مريم :يا ألله يا عم! ليت كل الرجال بشجاعتك.
-زوجة عبد الرازق :بالفعل ،ليت زوجي بنصف
شجاعتك.
-عبد الرازق :لو امتلكت نصف شجاعته ،لكنت
اتخذت زوجة ثانية يا حبيبتي.
قطع دوجان إطراءهم ،ثم أكمل يومياته خالل ساعة ويزيد من
الحديث المتواصل .وحين شعر أنه أفرغ كل ما لديه من يوميات،
إلي وسألني:
أدار رأسه َّ
28
ِ -ل َم هذا الفأس يا بني؟ أتريد أن تزرع شي ًئا؟
أجبت بتململ:
-إن شاء الله.
-و ِل َم ال يشاء الله؟! فالله بارك بالزراعة.
-أقصد إن لم يقصف الله عمري فسأزرع.
-و ِل َم يقصف عمرك الله؟! فأنا أعرف أنَّك ممن لم
يحملوا السالح.
-أقصد إن لم يصبني احتشاء في القلب أو يتخثر دمي أو
لم تسقط على رأسي قذيفة هاون طائشة فجأة ،فسأزرع.
-طيب ،وإن لم يصبك احتشاء في القلب أو يتخثر دمك
أو لم تسقط على رأسك هذا قذيفة هاون طائشة فجأة،
فماذا تريد أن تزرع؟
قلت بحنق:
-توتًا ورمانًا وتي ًنا وجو ًزا.
زم شفتيه باستغراب ،ثم صاح:
تهدل وجهه وقد َّ
إليَّ ،
نظر َّ
-اسمعوا أيها الناس! اسمعوا أيها الكفار! اسمعي يا أمة
الله! يا ولد ،هل خ َّبلتك مصائب الحرب؟ هل أنت
أدرى من ربنا؟! جاوبني.
-أعوذ بالله.
ألن ربنا أقسم بالزيتون. ً -
إذا أطبق فمك وازرع زيتونًا؛ َّ
29
جميعا فوائد الزيتون بطريقة مملة .وبحركة
ً ثم أخذ يعدد لنا
مفاجئة حدث جدال حاد بين األطراف األربعة ،وكل طرف تحوَّل
ُ
أسندت حنكي بجمع كفي إلى ُمدافع صلب عن نظريته .أمام ذلك،
ورحت أنظر إلى أشداقهم المتطاير منها ال ّت ْفل ،إلى أن جاءت أمي
تترنح من بعيد شامخة كشجرة سنديان ،وما إن تر َّبعت بيننا وأرخت
ظلها الوارف حتى سألت:
ِ -ل َم لم تزرع شجيرات المشمش حتى اآلن؟
اعتصمت بالصمت ،ثم زحفت بالقرب منهم وردمت حفرتي
مبتعدا.
ً بيدي ،أسدلت فأسي على كتفي ومضيت
َّ
اتسعت فرجتا عينيها ثم سألت أمي باستغراب:
-ما به؟ هل أغضبتموه بأمر؟
سأل دوجان مستغر ًبا مثل حالها:
-هل أغضبتموه يا جماعة قبل أن آتي؟
فه َّز الحاضرون رؤوسهم دليل النفي ،ثم أكمل دوجان:
-كل ما في األمر أنَّنا أسدينا إليه بعض النصائح.
انبسطت عينا أمي باستطالة صغيرة تنم عن اعتذار ،ثم قالت
بأدب:
-آسفة يا جماعة ،أنا أعرف ابني ،فهو ال يحب النصائح.
30
مذكرات نباتي
مهما
ًّ مهما ،بل األفضل أن أقول إنه لم يكن
ًّ اسمي ليس
تماما كانعدام أهميتي ومذلتي في هذا البيت وهذا الحي ،فأنا
ً يوما،
ً
ابن حي مليء بالعنف في وطن كبير تشظى من العنف ،أعزب ،ال
أدخن ،وأحب الملوخية ،وعمر الخامسة والعشرين في هذا البلد
هو عمر مناسب لكل شيء ،للدراسة ،للعمل ،للهجرة غير الشرعية،
لتعاطي الممنوعات ،ولالنخراط في إحدى المجموعات المتمردة
غصت بها البالد ،واألهم أنه عمر مالئم الحتالل قلب رحاب
التي َّ
المدرسة الصهباء الجميلة ،من تزاول معي نفس المهنة ،لكن قصر
ُ
قامتي وضآلة جثتي في هذه القرية وفي هذا البيت بالتحديد يغريان
اآلخرين إلشعاري بالدونية ،ما يدفع لتكون رقبتي غرفة استراحة
لأليادي الثخينة.
فأخي يشاطرني المهنة ،مدرس ،وكل يوم يتناوب على ارتداء
بعض ثيابي .واليوم ،في هذا الصباح الريفي البارد ،وقبل أن يقطع
تأملي أمام المرآة بحشر جثته مكاني ليتفرس طوله الفارع ،جعل
31
كعادته يرمقني بين اللحظة واألخرى بمؤخرة عينه وكأنه يغيظني
في سره قائ ًلا:
-يا قصير ..يا قصير.
ثم بلفتة يمضي إلى دوامه حتى أحاول اللحاق به متسائ ًلا خلفه
بلباقة:
-يا حلو ..يا أسمر.
إلي بصعوبة:
وبوجهه العابس والمغلق على الدوام يلتفت َّ
-نعم؟
-يحدث أن يخطئ المرء في هذا البيت ،عادي ،لكن
وجوربي.
َّ يبدو أنك تلبس سترتي
-عسكر ّية د ّبر راسك.
تماما معه؛ ألني
ً مبد ًلا مجرى حديثي
كرد اعتبار أرفع صوتي ِّ
اعتدت امتهان حقوقي من قبل الغير:
حلما ..أتسمعني؟ أعرف أنك ممن
ً -حلمت البارحة
يجيدون التأويل ..يا حلو ..أتسمعني؟
لكن كلماتي أبطأ من أن تبلغ خطواته المهطعة في عدوها
عائدا إلى أمي ،هي األخرى في
ً جيبي
َّ يدي في
َّ إلى عمله .أدس
المطبخ تدندن أغنية محل َّية مملة ،تضع الفطور ،تتربع ببطء مثل
جدارية لمورغان ويسلنغ أو جيفري الرسون ،ثم تنبري مكملة
حديث البارحة ،حيث البارحة ً
أيضا أكملت حديث أول البارحة،
32
وأول البارحة أكملت حديث اليوم الذي قبله ،حديثها البيزنطي الال
منتهي:
جيدا بحفيظة؟
ً -ها ..هل فكرت
علي سوى أن ألوذ بالصمت؛ ألنها تعي أن سكوتي يعني
هنا ما َّ
شدة كرهي لهذه اآللة التي تسمى حفيظة ،وعدم رغبتي في أن تكون
زوجة .مجرد ذكر اسمها هو مناخ مالئم ليخلق في رأسي الصداع.
لكن بما أني ال أريد أن يبلغ صياحنا للسمان في آخر الحارة في هذا
الصباح المبارك ،قلت بأدب:
-إنه زواج يا أمي الحبيبة ،ليس حذا ًء نشتريه فنرده
لصاحبه في حال كان ض ِّي ًقا.
-إنها تالئم مقاسك ،صدقني.
معمق،
-إنه زواج ،ليس كيلو بطاطا نشتريه بال تفكير َّ
حتى كيلو البطاطا حين تشترينه ِ
أنت من الشيخ
الخضرجي تجادلينه في السعر ،وتتفحصين جودته
لنصف ساعة ليصل به حد اإللحاد.
ْ
أكملت حديثها معي بفتنة ميلودية صافية ولغة هارمونية عذبة
على غير العادة:
-يا ولد ،وجهها لحيم.
-ال يعنيني ذلك ،فأنا نباتي.
-أقول لك شعرها أملس وجسمها ل ِّين وجميل.
33
-خصرها معجون مثل خبز الفالحين.
-يا ولد..
-ال أريدها يعني ال أريدها.
وألني أعلم أن أمي من جيل المدافعين عن التقاليد العائلية
والطبقية في هذه القرية ،لم تدهشني بردها؛ ألني على يقين من أن
ً
بغيضا ،تورمت أوداجها أجوبتي ستثير عصبيتها تلك ،إذ عال صوتها
وهي تضغط على مخارج الحروف في توبيخي:
-و ِل َم ال تريدها يا مؤخرة الدجاجة؟ هل ذلك من
أجل رحاب ،تلك النحيفة ذات الوجه البالستيكي
الممكيج؟ كل القرية تعرف أن والدها يريد تزويجها
البن عمها ،وهي تحبه؛ إذ يكفي أنه طويل ووسيم
وليس قصي ًرا.
أعلم أن رأسي المدور فوق كتفين هزيلتين هما سمة تمتاز بها
األبراج النارية وفق ما يقوله عالم الفلك والمنجم نوستراداموس،
لكن الذي يجهله نوستراداموس وال تعلمه أمي أن أضعف الكلمات
نعومة قد تؤذيني أنا الحساس والحالم في هذا البيت .لكن منذ أن
حمل الجميع السالح في البالد ،استحالت رومانسيتي إلى عصبية،
شأني بذلك شأن الجميع.
معتصما بالصمت،
ً مع كل ذاك اإلحباط في هذا البيت ،أعود
أمي هي األخرى تسكت هنيهة ثم ترتسم على محياها المليح جد َّية
زائفة:
34
-ال غداء لليوم ،أنا ذاهبة زيارة ،د ِّبر رأسك.
يبدو أني فع ًلا أعيش في ثكنة عسكرية ،لكن قبل أن أنصرف
ٍ
بصوت إلى عملي ال مانع من محاولة أخيرة ،أقترب منها أكثر وأقول
وجل:
حلما.
ً -حلمت البارحة
مر فراغ شفيف بعد حديثي معها ،وكأنها لم تسمع كلماتي.
قلت في نفسي ال أريد أن أظلمها ،لعلها لم تسمع ما قلت ،فأنا مؤمن
أن الجنة تحت أقدام األمهات ،لكن ال أدري أي جحيم ساق أبي
إليها؛ لهذا عاودت الحديث معها من زاوية أخرى:
-هل تعلمين يا حلوة أني البارحة – خي ًرا بالصالة على
حلما؟
ً النبي – حلمت
هي – وربما من منطق كومنتي سلطوي – غرزت عينيها في
أحمضت أمومتها وبفلسفة أوتوقراطية محض ردت:
وجهيَ ،
-ألم تتأخر على دوامك؟
علي هذا الصباح
ال أدري أي معرفة جعلتها تمارس سلطتها َّ
بالذات؛ لهذا أرتدي حذائي وأودع وجهي الرائع على المرآة متج ًها
إلى المدرسة.
35
وتغص أردافه
ُّ مديري في المدرسة رجل براغماتي ،ثخين
باللحم ،محترم ويكره فكرة أن المدير الناجح هو من ُيطاع دون
علي ،ربما ألني أقصر
َّ إصدار األوامر؛ لهذا أجده ال يبخل بأوامره
يقدر أن عظمة
مدرس في شركته ،لكنه ال يقرأ لفكتور هوغو ألنه ال ِّ
الشعوب ال يحددها عدد أفرادها ،وعظمة الفرد ال تصنعها قامته.
وأكثر شيء ال يعيه ًّ
حقا هو أن أثقل الحديث هو الكالم المعاد،
فكل صباح يردد الحديث ذاته؛ إذ يحدثني ببضع كلمات يجزئها
بالحديث مناصفة بين مشاكل الطالب وبشكل مقتضب وعجول
عن الحال الذي آلت إليه البالد بعد الحرب.
مهتما:
ًّ دنوت بكرسيي منه أكثر ،وقاطعته
حلما ،لم
ً -أتعرف يا مديري المثقف؟ البارحة حلمت
أحدا به ،لكنك الوحيد الذي سأبوح به لك.
أخبر ً
-خير بالصالة على النبي؟
-استيقظت الساعة الثالثة فج ًرا ،وقد أيقظني ذاك
فظيعا ..ثمِ ..ل َم تنظر إلى الساعة
ً الحلم ..كان رهي ًبا..
يا مديري المحترم؟ أال تعرف أن العين ِمغْ َرفة الكالم؟
-إنها تدق الثامنة؛ لنوزع الطالب على صفوفهم ،ثم
تكمل حلمك.
الطالب في الباحة بكافة األشكال الهندسية ،الطويلة والمربعة
المعوجة والمخرشة والتي ال أجد شك ًلا
َّ والمدورة وبعض الوجوه
إلي ويبتسم ،إنهم يحبونني ،أعرف
هندس ًّيا يالئمها ،والكل ينظر َّ
36
خصوصا نصائح مديري
ً جيدا،
ً ذلك لكنني رجل يحفظ النصائح
تلك التي يكررها في االجتماع األسبوعي ،والتي تقول“ :ال تعطوا
الطالب كامل حريتهم؛ ما زالوا صغا ًرا على الديمقراطية”؛ لهذا ال
أرد ابتساماتهم ،ليس ألني ال أريد أن أورثهم “بالهة ابتسامتي” كما
تقول أمي.
في هذه األثناء يزحف المدرسون وراء بعضهم البعض كسالى
تماما كأغنام بانورج ،بعضهم
ً ومتثاقلين إلى صفوفهم وبال أي وجهة
مغتاظا ،وآخر ارتسمت على وجهه خطوط ناشفةً يدحل بطنه أمامه
من الدمع جراء ركوبه دراجته النارية في هذا الصباح البارد ،وثالث
يهرش بطنه ثم يدخن آخر سيجارة نكد وهو يردد عبارته المكررة كل
صباح“ :ليقطع الله عمر هذه الحرب”.
لكن وحدهن المدرسات – مثل سائر كل النساء في هذه البالد
– لم تلوثهن هذه الحرب ،يتمايلن إلى الصفوف بكامل األناقة
والرشاقة .في حين ال يقوى قلبي إال وأنا أوزِّع ابتساماتي لهن هنا
وهناك.
وما إن تأتي رحاب حتى ينشرح وجهي لجميلة الهندام تلك،
علي التحية حتى ،لكنني أبرر تجاهلها لي؛
لكنها تمر دون أن تُلقي َّ
فنحن مجتمع محافظ يلوك سمعة الفتاة كالعلكة ،ثم يرمي بها تحت
قدميه.
37
بعيدا عنها وعن المدير يسحبني ذاك المدرس النكد .بالمناسبة،
ً
وسمي جده س َّيار على اسم اسمه س َّيارُ ،سمي على اسم جده س َّيارُ ،
وسمي والد جده س َّيار ألن والده اسمه س َّيار ،وهي متوالية
أبيه س َّيارُ ،
وراثية تحدث بتكرار في هذه البلدة ،وتُعيد نفسها في تتابعات
عشوائية غير مفهومة ،قد يعجز آليك جيفريز نفسه عن فهمها.
يسحب على سيجارته بملل ،ثم يبدأ شكواه بهدوء:
-أجدك رجل َفهم ،ولديك نظرة مقبولة للحياة ،كما أنك
إنسان محترم ،أنت تعجبني ،وأنت تعرف ذلك.
-أصبت ،أنا كل ما قلت.
-أنا أقرأ قصصك السخيفة على الموقع اإللكتروني،
ماذا كان اسمه؟ ال داعي له .المهم عندي سؤال لم
ُيجبني عنه أحد ،ال في هذه المدرسة المقيتة ،وال في
الجريدة المملة ،وال في التلفاز الكئيب ،وال حتى في
هذه الوجوه المتعبة للمتمردين؛ برأيك المتواضع هل
سيطول هذا القرف وهذه الحرب أكثر من ذلك؟
أفرك بملل حنكي بكعب يدي:
-هل لديك معرفه بتفسير األحالم؟
-أال تعرف أن من يجيب السؤال بسؤال أحمق؟
-بلى ،لكن أال تعرف أن من ينتظر نهاية هذه الحرب
ستقصف عمره قبل ذلك؟
38
وبم حلمت؟
-قصف الله عمرك على هذا النكد ..طيبَ .
هل بستة مدرسين عجاف مملين مثلك ومديرهم
سمينهم سابعهم؟ كل الناس تحلم ،عادي ،زوجتي
تحلم ،أبي العجوز في حضن أمي يحلم ،حتى بقرتي
كل يوم تجأر آخر الليل ،وعندما أتفقدها أجدها تغط
في نوم عميق .عادي أيها الممل ،كل قصار القامة
الحالمين في هذا البلد يتواسون باألحالم.
فجأة تحجز “رجاء” بين حديثنا ،فهذه المعلمة تدس أنفها
بين كل أذنين؛ إذ لم أكد أبدأ سرد حلمي حتى قفزت بقربنا بأطرافها
ُ
نظرت إلى حجابها األسود في هذه الطويلة وجلبابها األسود .فكلما
معقوصا
ً إلي أنها قامت بلف شعرها تحته
القرية المحافظة ،يخيل َّ
كذيل دجاجة سومطرة ،وهي موضة دأبت النسوة على اتباعها لغواية
الرجال في هذه القرية في الفترة األخيرة ،مع االحتفاظ بظالل
ْ
سمت حول العينين .ولو أعلم أن الحكومة خضراء من المكياج ُر
تبيح حلبات الفايت للدجاج والديوك ،لكنت جزمت لك – عزيزي
القارئ – أن هذه الدجاجة في هذه المدرسة ستكون بطلة الموسم.
دائما تجدها في حالة تذمر ،سمعتها ذات مرة تندب حظهاً
الميؤوس منه لرفيقتها في حصة الفراغ ،قالت بأسى:
-نعم ،آه ،نعم ،إني مسحورة يا صديقتي ،قالت لي أم
علي المخاوية أن العرسان في هذه القرية ال يالحظون
جمالي ألن أحدهم كتب لي حجا ًبا.
39
-حجا ًبا!
ردت زميلتها مواسية باستغراب.
عانسا ،أعرف من فعلت ذلك ،إنها
ً -نعم ،حجا ًبا؛ ألبقى
تلك الشلقة جارتي ،من تلعب بعقول الرجال ،إنها تغار
مني.
-هل عادت أم علي لعملها في فك السحر؟
ُ
حلفت لها على المصحف -حذارِ أن تخبري ً
أحدا .لقد
أحدا لكشف طالعي وفك السحرِ ،
أنت أول إني لن أخبر ً
الح ِلف ،تعلمين ما واحدة أخبرها بذلكِ ،
أنت خارج َ
يعني إن وصل األمر لهيئة األمر بالمعروف التي يديرها
الفصيل اإلسالمي في هذه القرية ،سيقطع رأسها على
أقل تقدير.
ِ
عليك في ذلك ،فأنا أدري بهذا الحال أكثر منك. -ال
لكن يا ِ
لك من مسكينة!
-آه ،الحاسدون كثر يا صديقتي.
كلما رأيت هذه المد ِّرسة أتذكر ذاك الحديث ،مسحورة! على
جمالها أم مالها؟! ليتني أستطيع أن أقول لها إن كل بنت معتوهة تُولد
في القرية يلقبها األطفال في الحي بـ “رجاء” ،فكيف لها أن تكون
مسحورة!
40
اليوم – وكالعادة – وقفت خلسة على مرمى نفس مني ومن
س َّيار ،ضحكت دون مبرر للضحك ،ثم أقفلت ضحكها مسرعة ،فهي
دائما تلوِّح بإصبعها في وجوه الطالب مرددة“ :البيوت أسرار يا
ً
معلما مثلها
ً طالب” ،لكن ليتها تعلم أن على كل شباك وباب هناك
يسترق السمع:
-القانون قانون أيها األستاذان .أال يكفي تغيبكما
المتكرر وتأخركما عن الدوام؟ لو سمحتما ليتجه
كالكما إلى صفه وطالبه ،وإال..
أنا – ومثل إنسان ستشوان الطيب – أحترم القانون ،وأكره الـ
دوما ،بل التي يرددها الجميع بعد الحرب
(وإال) تلك التي ترددها ً
ً
زائفا، في وجهي؛ لهذا أجدني أستمع لكالمها بكبرياء حتى لو كان
أجر نفسي متج ًها إلى طالبي لعل أحدهم يستمع لحلمي .وبيني ثم ُّ
يوما“ :إن الطيبة طبيعية في اإلنسان،
وبين نفسي أردد ما قاله بريخت ً
أما القسوة فإنها تتطلب جهودً ا كبيرة .غير أن ثمن الطيبة في عالم
مرتفعا”.
ً كعالمنا ،غال ًبا ما يكون
41
دخل الله
42
من هنا لم يعد يحبه سكان البلدة ،ربما ألن الكره والحسد هما
المهنة الوحيدة التي باتت تشغلهم في هذه السنوات الم َّرة ،أو لربما
ألنه من المستحيل أن ينقرض بفعل ثورة أو حرب أهلية أو حتى
نزاع عشائري طويل ،فهو مدرك أن أي عشيرة لكي تبقى ألكثر من
ربع قرن يجب أن يكون معدل إنجاب األطفال في كل عائلة منها
بمقدار اثنين فاصلة أحد عشر كل عام ،ومعدل أقل من هذا سيؤدي
إلى اندثار هذه العائلة وهذه العشيرة.
وال أعتقد أن “دخل الله” ،وبعشيرته الممتدة بأذرع أخطبوطية
ألكثر من ستين جي ًلا ،يخشى انقراض ثقافته وعشيرته ،فهو قادر على
الصمود ألكثر من عشرة قرون بأريحية ،فهذه الحرب لم تقطع نسله
كغيره من السوريين ،وقادر على اإلنجاب ،وقادر أن يذكر لك اسم
ٍ
كاف ليخلق له األعداء. سبب
ٌ ثوان .وكل هذا
جده التاسع في تسع ٍ
وأهم هؤالء األعداء – باعتقادي – كان “زوبا” ،وهو االسم
المحلي لـ “منصور” ب َّياع الديوك في البلدة ،ففي ذاك النهار ،وحين
بلغ الفقر مبلغه به – شأنه بذلك شأن كل سكان البلدة – وتفشت
المجاعة في البلدة ،عصب رأسه بمنديله إلى وراء كذيل حصان
ً
كاشفا عن صلعته المغمورة بالعرق والمسفوعة بتأثير الشمس ،فبدا
مثل ديك بلدي أصيل يبحث عن أحدهم ليبوح له بما يعصف بصدره
من حقد وحسد ،فج َّرته ساقاه إلى صبحي ،شاعر البلدة الوحيد،
الحساس والرقيق ،وهو شاب نحيف وخط قليل من الشيب جانبي
رأسه ،كان في بستانه ِّ
يشذب زروعه الذابلة ويتفقدها.
43
وعلى الفور أخذ زوبا يطحن فكيه في الكالم ،قبل أن يلقي
عليه التحية حتى ،فكانت تبرز أثناء حديثه المستعجل بين حين
يجمع رجليه
ِّ وآخر لحيته المتوسطة تحت أسنان مهترئة قبل أن
ً
وبعضا من الثوم، تحته ،ثم أخد يرمق فأس صبحي وهو يزرع البصل
متحد ًثا بإعجاب عن عبقرية دخل الله:
-يمتلك تسعة حمير ،ويحبها كحب أبنائه ،ويومية كل
حمار عنده ألف ليرة في الوادي ،ألف ليرة! يعني تسعة
مضروبة بألف يساوي ،ممم يساوي تسعة آالف ليرة،
إنها أكثر من يومية أستاذ جامعي في العاصمة يا رجل..
سكت قلي ًلا بنزعة قلق ،ثم أخذ يجيل بناظريه مساكب البصل
التي زرعها صبحي وكأنه يتمنى في سره أن يكون حمار دخل الله
العاشر .وبين حين وآخر يمط طرف فمه بابتسامة مواربة ،يغمزه ويومئ
برأسه إليه كمن يطلب منه أن يكمل عمله وأال يعطي با ًلا لحديثه،
لكنه يكمل بغيض وال يقدر إال أن ينط بقربه ويمضي في حديثه:
-لعل كالمك في مح ِّله يا صديقي.
-أي كالم تقصد؟ لم تسمح لي بأن أتفوه بحرف منذ
مجيئك! (أجابه صبحي مستغر ًبا).
-أقصد كالمك السابق عن العباقرة ،إنهم فع ًلا أشخاص
غير أسوياء ،انظر إلى وجهي ،إلى قامتي ،إلى وسامتي،
دائما غير
ً فإلى متى سأبقى أبيع الديوك؟ آه ،الجميلون
محظوظين ،ربما لو أني مثل هذا اآللي البشع دخل الله
لكنت عبقر ًّيا وكانت حالتي أفضل.
44
انزوى زوبا قلي ًلا ،ثم أكمل يسأله ببالهة:
-هل تعرف في التاريخ عباقرة تشبهني؟
لم يفهم صبحي ما يقصده ،وحاول أن يستذكر بصعوبة هل
نظرية (كل عبقري غير سوي – دخل الله عبقري – ً
إذا دخل الله غير
سوي) هي له أم ال ،لكنه سكت وأخذ يفكر بجواب ال يجرحه فيه؛
ألن ما يعرفه – ومن دون مراء – أن النميمة في هذه البلدة هي غذاء
الروح ،وبما أنه ال يقدر إال أن يكون الرجل الواعي الوحيد هنا ،ما
كان منه إال أن جعل يواسيه ،ألقى بالشوكة والفأس وتربع فوق جزمته
الغارقة في الطين ،وطفق يشرح له وجهة نظره بنميمة خانقة ومملة،
وكيف أن غالب العباقرة عبر التاريخ إما مجانين وإما مخت ُّلون عقل ًّيا،
أو أن والدتهم كانت غير سو َّية ،وكيف أن فولتير مث ًلا ُولد نصف
ميت ،ونيوتن ُولد قبل أوانه ،وكينز وهوغو وتشرشل وديكارت كانوا
بصحة سريعة العطب ،كما كان فيثاغورس وتشارلز السادس ونيتشه،
وغيرهم كثر ،يعانون من نوبات جنون وصرع رهيبة .في حين امتلك
كثيرون عاهات مختلفة مثل الطرش لدى بيتهوفن ،والعمى لدى طه
حسين ،والتوحد لدى بيل غيتس ،ووجه بائس مثل غوريال شمطاء
لـ”تلستوي” ،ورأس ضخم لـ”ميرابو”.
-لكنهم ليسوا محتالينكدخل الله .نعم ،إنه حربوق ،لكنه
محتال .أنت شاعر ،لديك معرفة ببواطن الناس،كما أنك
ً
منصفا في حديثك. تعرفه أكثر مني وعليك أن تكون
45
مقاطعا يتم َّلكه الحقد ،ومراعاة لمشاعر زوبا
ً رد عليه زوبا
أجابه صبحي:
-دخل الله ابن هذا المكان وابن هذه الطبيعة ،أفكارنا
جميعا أسيرة هذه الوديان ،فاالقتصادي يفكر وفقً
جغرافيته ،والروائي كذلك ،والفالح واألمي وب َّياع
الديوك والسياسي وراعي األغنام ،جميعنا نفكر
انطال ًقا من مكان عيشنا ،ودخل الله دفعته الطبيعة
كي يلجأ إلى التهريب وأن يسرق أفكار الفالحين في
القرى المجاورة ،فهم يمتهنون التهريب وكلنا يعرف
ذلك؛ لهذا حذا حذوهم فقط ،وأطلق حميره في هذه
تماما كما الشعراء والمفكرون ً الوديان والجبال،
يسرقون أفكار غيرهم؛ خذ مث ًلا حين كتب بابلو نيرودا
قصيدته (األرض تسمى “خوان”) ،أعجبت محمود
درويش كلمات نيرودا القائلة (قطعوا يديه ،وهو اليوم
يضرب بهما) ،وبعد عقود كتب درويش (سقطت
ذراعك فالتقطها – واضرب عدوك بي) ،أال يوحي
جميعا نعتاش على أفكار اآلخرين؟
ً لك ذلك أننا
سكت زوبا مجددً ا وتق َّلب وجهه وهو يفكر ،ثم استند قائ ًلا:
-ما الرابط بين هذا وذاك؟ ما لي ولدرويش ولنيرودا؟
وما أهمني أنا بالشعر والشعراء؟ ما لي أنا لحسين
وبيتهوفن؟ أنا لي دخل الله ،إنه رجل محتال ،وعليك
أن تقتنع بذلك حتى يرتاح ضميري.
46
-نحن الشعراء ال نخادع في انحيازاتنا؛ لذا ال أسمي ما
يقوم به احتيا ًلا ،بل أسميه الذكاء العملي .هذا رأيي،
ولن يجبرني أحد على تغييره.
أكثر زوبا في حديثه من استدراكاته واستثناءاته ،وكان يصغي
إلى صبحي باهتمام ،لكنهما تعارضا حد العصبية حين قال صبحي
إن دخل الله شخص عادي لكنه غ َّير أصوله اإلنتاجية عندما تبدلت
قوانين العرض والطلب في البالد ،ولهذا وبدل أن يعتمد على أوالده
أخذ يتاجر بحميره.
ولمعرفة صبحي بفرط عصبية زوبا ،ومعرفة زوبا بحساسية
شد وجذب أن دخل الله مثل سائر أبناء
صبحي ،اتفقا في النهاية بعد ٍّ
سوريا بعد الحرب ،مخلوق حساس وبريء لوَّثته الحرب ببندقية
وبلحية مستعارة.
47
السيد “بال مؤاخذة”
كل الرجال في هذه القرية يهرمون ويموتون بفعل زوجة سيئة أو
حاكم شمولي ليس في دستوره كلمة (ال) .أما هو فأسطورة ،لغز ،بل
فوق العادة ،في حين ال أجد ما يالئمه أكثر من اسم الرجل األخير.
أناسا
ً فقصارى القول أن المرء هنا في هذه القرية قد يرى
محترمين من كل األنواع ،فيما عدا رجال الدين والجيل الرابع لشبيبة
هذه الحرب ممن خلقتهم أجهزة المخابرات الوطنية واألجنبية طوال
سني االقتتال.
فمن الجميل أن ترتجي في قرية سور َّية صغيرة غرقت في الدم
لسنوات حتى ذابت فيها القيم واألخالق أن تجد شا ًّبا ال يشعر
بسن اليأس؛ لذا فغاية القول أ ِّني أنا الثالثيني لم أو َّفق حتى اآلن
بأكثر من هذا الصديق ،فهو رجل في األربعين ،ذو وجه مدور أسمر
جميل ،وال ُيذكرني بسوى رفاق المسيح األوائل؛ إذ يعرف متى يلوذ
عالم كافر،
ٍ قديس حقيقي في
بالصمت ومتى ينبري لإلجابة مثل ِّ
قاطعا مئات األميال على ساقيه
ً لكنه ليس مثلهم يطوف بالبالد
باحثًا عن وص َّية.
48
زرته وكان الجو ضاح ًيا جمي ًلا ،والوقت غداء والمائدة على
جد لطيفة؛ حيث َع َلت رائحة اللحم المطبوخ التالل
ازدحامها لكنها ُّ
المحيطة ببيته ،وإن اليد التي عنيت في صنع هذا الطعام أضفت
عليه قيمة تفوق كل تقدير بين البساطة وطيب النفس ،لكن ازدحام
ملزما
ً األنفاس ولهاثها فوق المائدة لم يقف حائ ًلا أن يكون كرمه
مشاركتي لهم هذا اللهاث.
استقبلني وكان ما لم أرد ،حيث ردد عبارة قريتي المعتادة:
“بال مؤاخذة حماتك تحبك أستاذ ،بال مؤاخذة إياك أن تفكر في
الرفض ،فعيار الشبعان عند البدوي أربعون لقمة”.
دوما بعبارة “بال مؤاخذة” ،والتي
ً حكمته تلك ،والمسبغة
دوما وال
يكررها في اليوم مئات المرات ،تخبرني ِل َم نحن جوعى ً
نشبع .فالكل هنا تغ َّير ،وإن كان هناك عبارة لها معنى أدق من تلك
“توحش” ،لكن هذا الكرم
َّ إن الكل هنا
الكلمة ،أستطع أن أقول َّ
المتوحش في أوداج هذا الصديق والبادية بخطوط غليظة على جبينه
وصدغيه ،تُثبت أن القيم الحقيقية ال تتبدل أو تتحول.
انتهينا وكان حديثه غار ًقا باالنفعال على توحش الواقع،
والذي لم أ َر من مسلك انفعاالته سوى جانبه الطيب ،فقد تحدث
بال ملل أمام الجميع عن تجربته القاسية في المعتقل ،ووجدته متأث ًرا
فظيعا،
ً طابعا
ً في سجنه أشد التأثر ،فلقد تركت الزنزانة في نفسه
ولما كنت الشخص الوحيد الذي يتعاطف أشد التعاطف آلالمه، َّ
نام ًة عن احترام .ثم بين الفينة واألخرى التفت
التصقت نظراته لي َّ
إلي وقال بصوت منخفض:
َّ
49
ترتج أن
ِ -لقد وهن جسمي وهان صبري هناك ،فال
رفاقك ممن ُفقدوا في هذه الحرب منذ أكثر من عامين
سيكونون أحياء .لقد تفننوا في تعذيبي ،ال أنسى كيف
أن أحدهم كان يجلدني بحقد بخرطوم بالستيكي
سميك ،وكان يصرخ مع كل جلدة ويقول“ :الله أكبر”.
هل يرضى الله على ذلك؟! كان يلسع ظهري كخيوط
لثاما
النار ،لكنني لم أتمكن من معرفته ،كان يرتدي ً
أسود ،وحين تعب من تعذيبي اقترب مني وقال بلؤم:
“نحن أحن عليك من أمك” .بال مؤاخذة جميعهم
ملثمون وملتحون ،ومنظمون غاية في التنظيم ،حتى
لو عرفت اسم أحدهم فلن أفتح فمي في ذلك حتى
أموت ،لكنني بال مؤاخذة سأقدم شكايتي منهم ومن
زوجتي إلى الله ،هو وحده من سيأخذ حقي؛ ألنني
َّ
بريء ،أقسم بربي إني كنت بري ًئا من شكايتهما لي إلى
هؤالء المجرمين ،من سرقوا السلطة ونهبوا حريتنا.
بعد ساعة من الحديث المتواصل ،توقف ثم تطاول على قدميه
أمام الجميعَّ ،
حط يده على كتفي وقال كتذكرة:
-بال مؤاخذة يا شباب ،أع ِّرفكم على جاري وصديقي.
وبال مؤاخذة ،فهو صديق عزيز وابن عشيرتي العزيزة،
ودعوتكم اليوم ودعوته لتكونوا شهودً ا على زواجي
الثالث.
50
الفاجعة كبيرة
51
ً
ممتعضا ً
واقفا ثم اقترب من المريضة ،غمغم في سره نهض
بكلمات غير مفهومة ،ثم سوَّر حدود عينيه بعدستين طبيتين
بتمهل حالي الحزينة
ُّ أخرجهما من جيب سترته المتسخ ،وراح يراقب
والمكسورة على بقرتي ،ثم انفجر قائ ًلا:
عاما،
-من يتكلم معك طبيب بيطري خبرة سبعة عشر ً
ستكون بقرتك جيدة ،فال تمخر رأسي بقلقك.
وبعد معاينة وتشخيص ألكثر من ربع ساعة ،استوى على قدميه
وتنهد:
-آه ..بقرتك تعاني من تسمم حاد ،أو التواء مصران .أو
إنها ابتلعت قطعة حديد .أو لربما لديها حمى؛ فحرارتها
مرتفعة .ال تقلق ،سنضع لها (سيروم) ،وستنط بعد
قليل مثل القردة.
مرت ساعة وما زالت البقرة تعتصر معدتها ،وتتلوى على
وجعها مثل عروق البطيخ حتى دعكت األرض تحتها لشدة األلم،
في حين جعلتني أتنقل حوله بقلق مستفس ًرا عن عدم جدوى معاينته،
َّ
المعفر عبس في وجهي ،فأظهرت حبات العرق النافرة على أنفه
بالتراب كم جاهد إلنقاذها؛ لهذا صاح في وجهي قائ ًلا“ :ال تجادل
قديما”.
ً طبي ًبا
دس إصبعه في أنفها دون أن يتعب وهو سكتت فورته ،ثم َّ
ً
مستعيضا به عن ميزان الحرارة ،عاد ِّ
ينقل إصبعه بين أنفها ومؤخرتها
بتمهل لحقيبته ،أخرج سكينه ومسك مقبضها المكسور والملفوف
52
تفحص حدتها على
بقطعة من دوالب داخلي قديم لدراجته الناريةَّ ،
أشعة الشمس الالمعة ،ثم ببساطة نحرها.
أنهى جريمته بتؤدة ،مسح سكينه بجلدها ،اقترب مني وقد
ً
مأخوذا بالصدمة ،وضع يده على كتفي وقال“ :في وقفت مشدوهً ا
هذه الحرب قد خسرنا رجا ًلا كث ًرا ،وعائالت بأكملها تم ط ُّيها
للنسيان ،بقرة تموت لن تكون نهاية العالم”.
أقفل نصيحته وحقيبته وركب دراجته ورحل ،ومن يدري؟
لربما الرتكاب جريمة أخرى.
كان المشـهد كئي ًبـا ،ال ينقصـه سـوى موسـيقا حزينـة
عينـي الدامعتيـن كـي ال أرى دمها المتسـرب
َّ لـ«موتسـارت» .أواري
قدمـي ،لـون العشـب األخضـر صار أحمـر ،الحياة لـم يعد لها
َّ تحـت
طعـم ،وبلا لـون أو رائحـة.
تسير الطبيعة من حولي ببطء وملل ،وعيناها الجامدتان
مزروعتان على وجهي المتشنج .تأخذني العبرة فأغطي وجهي بكلتا
بغصة بالغة بطانية أغطي جثتها الممددة،
أجر َّ
راحتي المتشققتينُّ ،
َّ
أجثو فوق رأسها على ركبة ونصف أداري وجعي ،أق ِّبلها على أنفها
البارد بلوعة ،فتجرني الذكريات ،أنتحب كطفل فقد أمه.
آ ٍه يا بقرتي الحنونة والطيبة! كيف لي بعد اليوم أن أترنم على
خوارك الذي رحل؟! كل شيء حولي في المراعي والمروج قد عراه
الذبول ،الحياة من حولي خلت من كل شيء ،ورائحة زبلك ما زالت
تمأل الخان والمكان.
53
بقيت على تلك الحالة مطو ًّيا على ألمي ،مق َّي ًدا بحزني ،مبالغً ا
إلي ثم واساني قائ ًلا:
في حدادي ،إلى أن زارني صديق قديم ،نظر َّ
-رحم الله بقرتكم ،صحيح أن الفاجعة كبيرة ،لكن
األمل في المعزاة.
54
الحرب أسقطت َ
شاربي جدي
55
وتقدس الشوارب ،فكيف ال ترث عائلتي
ِّ فأنا من قرية تعشق
جدي
جيدا كيف أن شار َبي ِّ
ً هذه القداسة ً
إذا؟! فالكل هنا يعرف
لم تستطع أقوى الزوابع أن تحركهما – هذا ما كانت تردده جدتي
بتكرار – .فهما في صورة له على الحائط مدعاة فخر العائلة.
ُ
كبرت ،وكبر معي هذان الشاربان ،أعتقد أنهما الشيء لهذا
الوحيد الذي ورثه أبي عنه – أقصد سمعة شاربيه – مع بعض ديونه.
فهذا النمط السردي التاريخي اعتادت كل العوائل هنا أن
تحتذيه ،بأن تضع صو ًرا من القطع الكبير والمتوسط لرب العائلة
وهو مفتول الشاربين في صدر البيت ،صو ًرا تعود لحقب أكل عليها
األجداد ،وبصق بسمعتها س ًّرا األحفاد.
لكن مع نهاية العقد األول من األلفية الجديدة ،وارتفاع
مستويات التعليم في الريف ،وغزو اإلنترنت والمسلسالت المدبلجة،
كل ذلك خلق ثورة جديدة يحملها جيل جديد يؤمن بالتغيير في
طريقة ونمط تفكيره وحياته وحتى هندامه .أمام هذا المنعطف
خصوصا
ً جدي التقليدي،
وجدت صعوبة بالغة في العيش أسير نمط ِّ
ُ
بلغت الخامسة والعشرين وقررت الزواج. حين
تماما ،ويبدو أنني بهذين
ً فلهذا الجيل نمط حياة مختلف
الشاربين ال قدرة لي على مجاراته ،فأذكر أني عرفت مد ِّرسة والدها
تماما كأي شاب
ً محام ولم يكن إلرث عائلتها شاربان ،أحببتها س ًّرا،
ٍ
في هذه القرية يلعن خفي ًة روح التقاليد.
56
واألهم من كل ذلك أني بسببها حلقت شار َب َّي .نعم – عزيزي
القارئ – فعلتها حين وشت لي إحداهن أن تلك السمينة تقول إن
شكل شار َب َّي بدائي ومتخلف.
عيني بوجع وشددت
َّ أبدا ،حين أغمضت
ال أنسى ذاك اليوم ً
قبضتي على آلة الحالقة وأكملت جريمتي ،إنه تمرد واضح ،فالصدمة
خصوصا حين تبدأ بنمط
ً األولى لجمهورك قد تكون قاسية أحيانًا،
عاما.
جديد لحياتك ،تتمرد فيه على إرث عمره خمسون ً
أمي ،أخي الكبير ،عمي ،مديري في المدرسة ،الكل وقف فاغر
جميعا وبوقت واحد في إهانتي بعناية ،استوقفوني
ً الفم ،ثم انبروا
كالما يفضل عدم سماعه لمن هم دون
ً جميعا وبنظرة حزن قالوا لي
ً
الثالثين.
بعدها بعام استيقظت الفتنة في بالدنا ،وأكلت الحرب كل
شيء جميل حولنا ،وتم َّلشت قرانا بفصائل تنادي بفكر جديد،
جدي ،حطموا صورته بوجوههم المكررة ،وأذاعوا في
أهانوا تاريخ ِّ
مكبرات الصوت في المسجد والمدرسة والمآتم أن حلق الشارب
جدي من منسياتهم إن لم يكن من
س َّنة .ومنذ ذاك الحين أصبح ِّ
لعناتهم ،فرحم الله شار َبي جدي.
57
ٌ
يوم آخر ممل..
مجعد.
َّ صباح آخر
ٌ
ماء عكر في البركة.
قسما من البركة.
ً شجرة الكينا الضخمة تحجب بظاللها
يجعد
ِّ نط ً
اطا وهو وفي القسم اآلخر ،تراقب عيناي ضفدعً ا َّ
بساقيه المقوستين وجه الشمس الرابض في قشرة الماء الغنية
بالطحالب.
يسبح ثم يغوص في األعماق،
ثم يختفي.
وحين أنتظر آخر،
يقترب خارج البركة جاري حمد .بدا بيديه المقشرتين بفعل
العمل باألرض ،وقميصه األخضر المق َّلم ،كتمساح جذفه النهر
خارج ضفتيه.
فوقنا شمس صفراء باهتة كما في السنوات الثماني السابقة.
58
ماء ضحل وشمس،
شمس وماء،
المغمس بالخذالن.
َّ وبينهما يسقط وجه حمد
بشفتين قشيبتين أتعبهما رمضان وهذا العمر المقيت ،يقترب
جاري فوق رأسي مغاض ًبا:
-ماذا تتأمل؟
-ال شيء ،أقضي ساعة أخرى من هذا العمر.
تأوه ثم رد بملل:
-قبلك تأملت الال شيء ،تأملت كثي ًرا ،انظر لهذا الرأس،
لم يكن كذلك قبل عام ،كان هنا شعرة واحدة بيضاء،
وهنا اثنتان وقرابة أربع في ُق َّص ِة رأسي ،أما اآلن فيكاد
يندر الشعر األسود في رأسي.
إلي نظرة خاوية: َص ُّ
مت ،ثم نظر َّ
-ما بال وجهك وقد سفعته الشمس؟! ازدادت سمرتك
عن آخر مرة رأيتك بها يا حلو.
-إنها الزراعة ،قطيعة تقطعها.
أقترب من وجه البركة ألكتشف كم غ َّيرت الشمس
ُ شي ًئا فشي ًئا
من جمال وجهي.
آه يا وجهي الحلو!
كم أنت فارغ،
59
يا وجه الهموركتس البائس،
يا أول خطوة لإلنسان،
وآخر سالالت الخطيئة!
آه يا وجعي!
ممازحا:
ً وكأنه سمع مرثياتي التي رددتها بسري ،فقال
-ال تقلق ،في القسم اآلخر من عالمنا يدفعون ما ًلا
ليحصلوا على هذه البشرة السمراء ،إنها موضة.
ُّ
سكت ،ثم وبقصد شوَّه مرآة وجهي بحجر صغير قذفه في وجه
البركة ،ثم أكمل حديثه متسائ ًلا:
-ما المبهج في هذا العالم يا جاري؟
شيء ما في كلماته األخيرة ح َّرك ماء قلبي الراكد .حو ُ
َّلت
رأسي إليه ،ألقيت نظرة فارغة إلى مراغم وجهه .آه! كم غيرته السنون!
شاربان حليقان! أين هما الشاربان العربيان الغليظان؟! يا قلب أمي
غضنت األيام وجهك يا جاري: الحنون والموجوع! كم َّ
-هل أفهم أنَّك ُطردت من وظيفتك؟
هز رأسه باإليجاب ،ثم رمى حج ًرا آخر.
-وماذا اآلن؟
-ال شيء ،أصبحت عاط ًلا عن العمل.
قال ذلك ،تأفف ثم غرق تفكيره في البركة ،عيناه الفارغتان
تغوصان في تفكير عميق:
60
-بماذا تفكر؟
-بال شيء.
مدرسا ولي طالب ،ثم
ً ُ
ضحكت ملء قلبي ،تذكرت أني كنت
مازحا:
ً كررت
-قبلك تأملت الال شيء ،تأملت كثي ًرا ،انظر لهذا الرأس،
ولهذا الوجه األسمر الحلو..
ابتسم ولكزني بكوع يده ،تمطى ثم صاح حتى فزعت لصوته
غربان فوق شجرة الكينا:
-صباح آخر مملِ .ل َم جمعتني بهذا الكئيب يا إلهي؟!
61
سبب مقنع للجوء
َغ َس ْ
لت عيناي على عجل هيئته وهندامه ،ربما هي آخر مرة
غصت بشعر صدره المعقوف كذيول
أرى فيها فتحة قميصه التي َّ
العقارب ،شعره المصفوف إلى وراء بال مثبتات شعر في نمط
تسعيني للموضة ،بنطاله القماش وقميصه الفضفاض وقد أخفى
مشده القطني الذي قرر التأقلم معه على مضض.
ِّ كرشه في
فبعد أن باع كل شيء ،بيته ،غرفة نومه ،حتى صحون المطبخ،
جاءني مودعً ا وقد أراح كتفه من كيس خيش فيه كتبه .وقف أمام
بيتي بوجه أسمر جميل مثل سمرة سكان حوض النيل ،وقد تورمت
أوداجه من التعب.
ألقى راحة يده الناحلة على كتفي ،أقفل عينيه وهوَّم رأسه الهثًا:
-هل أخبرك بسر؟
-قل.
-آه! ما أبشعك وأبشع الطريق إلى بيتك يا رجل!
دائما في القمة؛ لهذا بنى بيته في
ً -أبي يحب أن يكون
الهضبة.
62
-تقصد لهذا السبب انقرضت عائلتك.
أخذ يجمع أنفاسه:
غدا أنا ذاهب إلى ألمانيا ،وراحل عن كل هذا العفن
ً -
من حولنا ،وعن ماعز جاري “أبو صالح” ،وعن كل
يشترها أحد؛ لذا
ِ من تاجر بنا .وفي هذا الكيس كتب لم
اعتن بها ،وإن عدت أخذتها ،أكرر إن عدت أخذتها
ِ
منك ،وإال أسترد ثمنها منك باليورو.
رددت مستغر ًبا:
-إلى ألمانيا؟
تنهد ورد بإصرار:
-آه ..نعم ..إلى الجميلة ميركل.
-و ِل َم اآلن؟
-ألني أريد أن أشرب ما ًء مث َّل ًجا؛ أربع سنوات لم ِ
تأت
الكهرباء ولم أشرب ما ًء باردً ا يا رجل! افهمني ،ال أحد
يفهمني هنا .لم تس ِقني هذه الحرب سوى الذل.
مقتنعا بروايته ،أخرج هاتفه ثم أكمل
ً وحين وجد أني لم أكن
بجد َّية:
جيدا
-انظر ،هذه صورة صديقي وعائلته في برلين ،انظر ً
إلى الكوال المثلجة والماء البارد ،انظر كيف تتعرق
وتتندى من البرودة.
63
ثم أخذ يق ِّلب صور صديقه هناك وهو ِّ
يلمظ شفتيه القشيبتين
ببعضهما البعض .ثم قلت برجعية محضة ومكررة:
-لن تجد أطيب من هواء هذه البالد.
-اسمع يا رومانسي ،خمس سنين وأنا آكل الهواء؛ لهذا
شبعت من هواء بالدي.
أقفل حديثه ،احتضنني بقوة ،ق َّبلني بتكرار ،وغرقت عيناه
بالدمع ،بدمعة واحدة فقط اختنقت فوق كتلتين من اللحم األسمر
في وجهه ،وضع كتبه على األرض وقال لي بوجع:
-انتبه لنفسك ،قد ال نرى بعضنا البعض بعد اليوم ،فبعد
أن عبث الشيطان في بالدنا قد نموت في أي لحظة.
أنت الوحيد الذي أقوم بتوديعه ،أتعرف لماذا؟
-ألني أحلى واحد في هذه القرية مث ًلا؟
(قلت ذلك لع ِّلي أغ ِّير جو الكآبة الذي خلقه وداعه لي).
-بل ألنك أغبى شخص عرفته في هذه البلدة ،ألنك مثلي
ضحية حرب لم تكن طر ًفا فيها ،وفوق كل ذلك خسرنا
كل شيء ،وهم ربحوا كل شيء .انظر كيف قتلوا شبابنا
ودمروا منازلنا وحوَّلونا إلى نازحين في بالدنا ،وفوق
الحاجة
َّ كل هذا تريدني أن أبقى! لن أبقى ،سأذهب إلى
ميركل ،هناك يوجد قانون يحميني ،ويقال إن عندها
مثلجا ال يشبع منه أحد.
ً ما ًء
ودمرت أيدينا هذه البالد.
خمنت كيف ش َّردت َّ
رحل ،وفي إثره َّ
64
ال تثق باألرصاد الجوية
65
تأوه ثم أخبرني حكاية طريفة ال أدري من أين ابتدعها أو
سمعها .تقول الحكاية:
«في مكان ما في البادية السورية ،كان شتاء أحد األعوام قاس ًيا
جدا ،فقد غرقت خيم البدو ،والتهمت السيول الجائعة خرافهم.
ًّ
وفي العام التالي ،ومع بداية الشتاء؛ وقف أهالي إحدى القبائل أمام
زعيمهم في خوف وحيرة ،سألوه برجاء عن حالهم هذا الشتاء ،وهل
سيكون قاس ًيا كما في العام الفائت أم ال.
فكر زعيم القبيلة بحيرة ،ثم قال لهم بعد دقائق“ :اجمعوا
قاس هذا العام”.
الحطب؛ فالشتاء ٍ
سمع أفراد القبيلة نصيحة كبيرهم ،لكن حين انفرد بنفسه
راودته وساوس حول نبوءاته ،فإن أخطأ رأيه فلن يثق به أحد ،فقام
باالتصال باألرصاد الجوية في العاصمة يسألهم عن حال هذا العام،
فأجابه الراصد:
قاس يا عزيزي.
-إنه شتاء ٍ
حينها عاد الزعيم لقبيلته مرتاح البال .إال أن سكان القبيلة
عادوا في اليوم التالي مرة أخرى يكررون سؤالهم:
-هل شتاء هذا العام كقسوة العام المنصرم؟
فقال الزعيم:
-نعم ،هو كذلك.
66
فانتشر سكان القبيلة يجمعون الحطب أكثر من قبل ،ومرة
أخرى انزوى كبيرهم وعاود االتصال باألرصاد الجوية ،فأجابه
الراصد بثقة:
جدا!
جدا ًّ
قاس ًّ
-إنه ٍ
هنا أثير فضول الزعيم وسأل الراصد بدهشة:
-كيف تعرفون كل هذه المعلومات؟
أجابه الراصد:
-لقد رأينا البدو في البادية يقومون بجمع الحطب بكثرة
هذا العام».
انتهى قريبي من سرد حكايته ،ثم قام بربط وزرتي على خصري
متوجسا .وعلى
ً ومألها بالشعير ،شرعت بعدها في بذر الحبوب
يدا بيد:
مسافة قريبة لحقني يندب وهو يصفق ً
-هل تسمي هذا َب ْذ ًرا؟
-الكل يبذر بهذه الطريقة ،موظفو الزراعة كانوا يبذرون
مشتلهم الحكومي بهذه الطريقة.
-ألنهم أغبياء ،كلكم أغبياء ،سأع ِّلمك طريقة مميزة.
موسما مميزًا ،أضاف في بهنسة:
ً ثم وعدني أن يكون
-لن تجد َّ
بذا ًرا في الجنوب كله يفوقني في ال َب ْذر ،ال
موظفيك الحكوميين ،وال تلسكوباتك الصناعية.
67
هصر كتفه إلى كتفي ،ثم طلب مني أن أق ِّلده ،مسك في شماله
خطاف وقبض قبضة من الحبوب ،رفع يده وزرته ،ثم ثنى يمينه مثل َّ
وأدارها نصف دورة وقذف بالحبوب ،فبدا كشخص يرقص “رقصة
الرجل اآللي”.
ثم طلب مني أن أكرر فعله ،سألته:
-هل من الممكن أن تعيد؟
عاود الحركة مرة ثانية ،حاولت فعل ذلك لكنه صاح في وجهي:
-القاعدة األولى :اجعل كوع يدك زاوية قائمة ،أنت
متعلم وال تعرف الزاوية القائمة؟! اجعلها 90درجة.
-هكذا؟
-نعم .القاعدة الثانية :اخطف بيدك قبضة من الشعير.
-هكذا؟
ٌ
صدق أنك جيدا .هل
ً -بل هكذا ..اضغط على الحبوب
درست في الجامعة؟ كيف تخرجت؟! ..اتبعني.
-تبعتك.
-القاعدة الثالثة :سر خطوة باليسار.
-سرت.
-ثم يمين ،واقذف الحبوب على مسافة مترين ونصف.
قلت ِّ
ملط ًفا الجو:
-وهل أقيسها بالمتر أم بالديكا؟
68
قدر المسافة بنظرك .القاعدة الرابعة :واحدة ضم
ِّ -
وواحدة فتح.
في تلك األثناء صاح صاحب الجرار يرجونا أال نؤخره ،وعلى
أثره طلب مني أن أباشر ال َب ْذر ،وبالفعل انطلقت:
-زاوية قائمة ..يسار يمين ..واحدة فتح وأخرى ضم..
واحدة فتح وأخرى ضم ..زاوية قائمة…
يوما متع ًبا .بعد ساعة انتهيت وقد ُش َّلت يدي.
يووه! كان ً
بحثت عن قريبي فوجدته قد استوقف صاحب المحراث يحدثه،
ناصحا:
ً تحدثا قلي ًلا ثم طلب مني اإلذن بالمغادرة ،وقبل ذلك قال
تنس ،واحدة فتح وأخرى ضم” .اقتربت نحو صاحب المحراث
“ال َ
عما أراده منه قريبي ،قال
وقد راودني هاجس الحشرية ،فسألته َّ
بحسن نية:
-ال شيء مهم ،كان يسألني عن األرصاد الجوية إن كانت
ذكرت أن هناك فرصة لتساقط األمطار قري ًبا أم ال.
-وبماذا أجبته؟
-أخبرته أن األرصاد الجوية قالت إنها لن تمطر ألسبوع
على أقل تقدير؛ لهذا طلب مني تأجيل زراعة وحراثة
أشخاصا لديهم خبرة
ً أرضه ،كما سألني إن كنت أعرف
في َب ْذر الشعير حتى يقوموا ب َب ْذر أرضه بعد أسبوع.
69
ديالكتيك حوراني
70
ِ
رغبت في السؤال عن عمري ،فقد دخلت -الموك .وإن
مرحلة النبوة منذ ست سنوات.
لنبدأ من جديد:
االسم“ :الموك”.
عاما.
العمر :ستة وأربعون ً
المهنة :أحد أشهر تجار العجول في حوران.
ُسمي بذلك ألن بيته تحول إلى غرفة عمليات جمعت غالبية
تجار العجول في حوران ،يتدارسون معه أسعار األبقار ويستفتونه
في أمور تلك التجارة ،حتى اع ُتبر رقم واحد في البيع والشراء .هو
ال يحبذ هذا االسم؛ لهذا حين يسأله البعض عن توجهاته السياسية
يجيب بالقول“ :أنا ناشط حيواني”.
وكأي جنوبي ،ثمة حقيقة حورانية لديه تقول“ :حتى السماء
قابلة للبيع” ،فمذ بدأت الحرب والكل يعرف أنه العلماني الوحيد
في بلدته؛ لذا كان الناس يعاملونه بمزاجية ،فما إن يراه أحدهم حتى
يرمي له كسرة خبز أو يطلق عليه النار .لكن بعد الحرب ،ترك أفكاره
تذبل لتنمو مواهبه ويتحول إلى أحد أشهر تجار العجول في البلدة،
ولربما في حوران ككل.
ما إن سأله أحدهم في غرفة انتظار الطبيب عن أسعار األبقار
ورغبته في شراء بقرة ،حتى استدار نحوه نصف دورة ،اتكأ بيده
على مسند المقعد الخلفي ،تململ بتعب ثم اقتلع عينيه القديمتين
71
ببطء ليحدثه .من دون نظارتيه كان أحلى ،ومن دونهما بانت لحيته
الطويلة الكثَّة مثل لحية ماركسي من الجيل التروتسكي القديم.
سأل بخبرة:
-هل تريدها للتجارة أم للتربية؟
قال الشاب:
-للتربية.
-هل تريدها بك ًرا أم عوانًا؟
-يفضل عوانًا ورخيصة.
-بندوق أم فريز أصلي؟
-بندوق.
-وطنية أم مستوردة؟
-وطنية.
-عندي بقرة بندوق محلية معشَّ رة ،ما إن تراها حتى
تق ِّبلها على أنفها ،ورخيصة ،بواحد وربع فقط.
-تقصد مليونًا ومئتين وخمسين ألف ليرة؟!
-نعم.
صاح الشاب:
-يا رب السماء! وحدها أم معها هدية؟!
72
أجابه بمزاح:
لدي عجل عمره
-يأتي معها سطل حليب هدية .لكن َّ
شهران ،إن كان لديك مصلحة فسيكون لك بسعر
رخيص؛ فقط ألجل هذه الدكتورة الحلوة.
ثم نظر إلى الممرضة وأرسل إليها ابتسامة كبيرة.
قال الشاب:
-أليس من األفضل أن يكون هذا العجل مع أمه في هذه
السن؟
-توفيت المسكينة بذبحة صدرية يوم السبت ،لقد
عاملتها كابنتي البكر ،كانت تنام في غرفتي طوال
بيدي هاتين ،وشققت بطنها
َّ فترة حملها ،لقد ذبحتها
بيدي هاتين.
َّ وأخرجت هذا العجل المسكين
قال الشاب:
-كم أنت حنون!
زعق التاجر بوجهه:
-خسارتي بموتها أكثر من مليون ليرة وتريدني أال أهتم
بوليدها؟
انتبهت الممرضة لحديثهما ،ولفرط مللها سألت “الموك”
بتروٍّ :
-إن أسعارك غالية!
73
حوَّل عينيه نحوها ،ب َّلل شفتيه ببعضهما البعض ،ثم أجابها
بلطف:
-إنه الدوالر يا ليرة ،لكن “إلك ببالش”.
نظر الشاب إليه وقاطعهما:
وإلي؟
َّ -
أجابه بنزق:
-بواحد وربع.
تدخلت الممرضة مجددً ا:
-هل هي بقرة حلوة؟
أجابها بلهجة حورانية:
-مش أحلى من عيونك.
شي ًئا فشي ًئا أدرك الشاب أنه تم إقصاؤه من الصفقة ،وأخذ –
مثلي – يراقب حديثهما.
سأل الموك الممرضة وقد اقترب نحوها بكرسي:
-أتعرفين ما هو أجمل من األبقار والعجول يا دكتورة؟
أجابته بغنج:
-ما هو؟
-األبقار والعجول.
ضحكت ثم قالت بإطراء:
-يبدو أنك مثقف طريف.
74
أعجبه ذاك الوصف؛ لذا استرسل في حديثه معها:
-أنا أحب مهنتي ،الحياة ع َّلمتني ذلك ،فأنا رجل
عصامي ،لقد سرق المسلحون كل ما أملك ،ومع ذلك
لم أستسلم ،قلت لهم بالفم المآلن“ :أنتم على خطأ”،
أن تجارة العجول في دمي ،لم أرثها من أحد،
كما َّ
لدي سؤال ِ
لك :ماذا لو وضع أحدهم لكنني أحببتهاَّ .
أمامك بقرة وعج ًلا؟ ماذا ستختارين؟
أجابت في تفكير:
-ممم ،بقرة؛ إنَّها ألطف من العجل.
ابتسم لها وقال:
-هذا يعني ِ
أنك تحبين البقرة ال العجل.
دخال في جدال حي ورومانسي لقرابة الساعة ،لع َّنا خاللها
أميركا والدوالر وحلف الناتو واالتحاد األوروبي والحرب وبائع
الدخان في الحارة .وحين طال انتظاري الطبيب غادرت العيادة،
محاو ًلا في سري معرفة سبب كل هذا الحب لمهنته؛ لذا أخرجت
من جيبي دفتر مالحظات صغي ًرا ،دونت فيه عبارته التي قد ال يعي
معناها سوى تاجر عجول آخر“ :ما هو أجمل من األبقار والعجول؟
األبقار والعجول”.
75
حديث ما بعد ليلة عاصفة
76
ولمثل هذه الظروف أستعين به؛ إذ ال أجدني مضط ًّرا ألفتح
التلفاز أو أبحث عن أخبار القرية عبر اإلنترنت في حال تعطلت
شبكتي؛ فصوته يمأل األرجاء أثناء الحديث ،يكفيني الجلوس أمام
منزلي ألفهم تفاصيل اليوم كام ًلا َ
(من تزوج ..من ط َّلق ..من ُقتل..
ومن هاجر) ،حتى إنه يعرف جميع النسوة الحوامل هنا ،وعدد شهور
لحملهن ،هو ثورة إعالمية بحد ذاته .ال أعرف كيف أستثمر
َّ وضعهن
َّ
مواهبه اإلعالمية واالجتماعية.
أما “هندية” – وقد سميت بذلك لوجود دائرة وحم َّية حمراء
بين عينيها حين والدتها مثل نسوة نجوم بوليوود ،لكنها اختفت مع
استمرار بشرتها بالسمرة جراء تعب السنين السالفة – ،فهي األخرى
مشهورة بكثرة أحالمها؛ لطالما حلمت بأعراس في ح ِّينا لتتوالى
األتراح والمآتم بعد ذلك؛ لهذا كل من يحلم بها يلتزم الصمت وال
أحدا ،من ثم يرتدي قميصه أو ثوبه بالمقلوب لمدة ثالثة أيام،
يخبر ً
وهي عادة لطرد النحس تم اتباعها في قريتي منذ القديم .وحين
يفعل الشخص ذلك في ح ِّينا ،نعرف أنه رأى “هندية” في منامه.
َّ
دكت ساقيها في جزمتها ،وقد ربطت طرف ثوبها بخصرها
تجر على الطريق جذع شجرة قصفته الريح َّ
المعفر بالوحل والطينُّ ،
العاصفة ليلة أمس ،ع َّلها به تصنع شي ًئا من الطعام ألطفالها .ما إن
تراني حتى تلوِّح بيدها لي من بعيد لتصرخ بعدها:
-مرحبا جار ،زمان هالقمر ما بان.
77
عما
أرد عليها تحيتها بتواضع ،ثم تكمل صباحها لتسألني َّ
جرى ليلة أمس ،دون أن تفصح أكثر؛ حيث تسألني ثم تومئ برأسها
بحركة خفيفة لجهة الجنوب ،فأفهم أنها تقصد بسؤالها رغبتها في
معرفة هل ُقتل أو تأذى أحد بآخر المعارك التي جرت على أطراف
أزم فمي وأرفع
القرية بين كتائب المعارضة المسلحة وداعش؛ لهذا ُّ
ِّ
ألوضح لها عدم علمي بشيء .تصمت ولسان حالها: يدي في الهواء
َّ
“يلعن الحرب ألف مرة”.
يسمع “عقلة” كل ذلك ،تنتفخ عيناه لتجاهلنا له في الحديث،
ومن ثم ينبري في حديث طويل يسرد خالله تفاصيل القرية كاملة،
وما جرى ليلة أمس.
في هذه األثناء يمر أبو أدهم ،خمسيني أسمر نحيف ،بعنق
قصير ال يورث سوى حركة سريعة لرأس في وجهه خمسة ثقوب
وحفرة ،يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق على الدوام ،على خالف
السراويل العريضة والجزمات التي يحبذ ف َّلاحو قريتي ارتداءها
دائما.
ً
ُيسر كثي ًرا حين يقول له أحدهم إنه المحامي الوحيد في قريتنا،
كما أنه يتفاخر في جميع المناسبات بأنه الوحيد الذي زاول مهنته
في المحاماة هنا.
أقترب منه ،يمسك بيدي ويجرني إلى مكان بعيد عن الجميع،
وكعادته التي حفظتها عن ظهر قلب ،يبدأ حديثه ببادئته المعتادة:
“نحن – المثقفين – نفهم بعضنا البعض ،ال تشغل وقتك بالحديث
78
مع الرعاع ،هه هه هه ،هل فهمت؟ اجعل حديثك موزونًا وبحكمة،
وال تناقش هؤالء المتخلفين« ،ومن ُي َ
ؤت الحكمة فقد أوتي خي ًرا
كثي ًرا» .كرر ذلك”.
أردد خلفه:
-ومن ُي َ
ؤت الحكمة فقد أوتي خي ًرا كثي ًرا.
-كررها ً
أيضا.
-ومن ُي َ
ؤت الحكمة فقد أوتي خي ًرا كثي ًرا.
دائما.
ً -تمام .تذكر هذه اآلية
ثم – وكما العادة ً
أيضا – يكمل:
-ما هي آخر كتاباتك؟ اكتب شي ًئا عن الرعاع ،اسمع
كالمي ولن تندم ،اكتب كيف دمروا مستقبلنا وأوصلونا
لهذا الحال ،اكتب عن المتخلفين وال تأخذك بالحق
لومة الئم هه ..هه .لومة ماذا؟
-لومة الئم.
-لومة ماذا؟
-لومة الئم.
-كم تعطيني من 10على هذه النصائح؟
11-من .10
79
جديدا .لهذا
ً -أنت خطير ،وكل يوم أكتشف فيك شي ًئا
َ
تعال لنتناقش في منزلك ونشرب شا ًيا لربع ساعة السبب
فقط ،فأنا مستعجل؛ ألني أعرف أنك تحب حديثي.
جيدا ،وأعرف حديثه وأن الربع ساعة ستجر
ً وبما أني أعرفه
معها ساعات وربما نها ًرا كام ًلا ،قلت له بجد َّية:
-سأزعل منك ،اليوم الجمعة« ،الصالة يا عباد الله»
(قلتها بلهجة قرشية) ،الصالة ماذا؟
ثم ردد خلفي:
-يا عباد الله.
-الصالة ماذا؟
-يا عباد الله.
-كم تعطيني من 10؟
10-من 10هه هه هه.
80
صديقي هاري بوتر
81
أقترب أكثر .ال ،إنه “هاري بوتر” ،أما من تخيلته فهو صديقي
القديم ،والذي يستحق أن أسميه “هاري نعمتي” طوال س ِني الجامعة.
أقصر من “بوتر” بقليل ،ويلبس نظارة طبية سميكة ،وحين تركته
بعد التخرج كان يربي ً
كرشا صغي ًرا.
أنا على يقين أنه لو كان معي اآلن وأخبرته أني لكم أشتاق
له وأليام خلت ،فسيقول لي بفطنة شمالية“ :من الطبيعي أن يفكر
الجنوبيون بالطعام” .نعم ،إنه طعام ،شهي مثل معروك أمي.
دائما يقول لي نصائح لطيفة بطريقة عنيفة ،ما جعل
ً كان
زمالتي له في السكن الجامعي في منطقة مقطوعة على أطراف دمشق
كمن يجاور خلية نحل ،مفيدة للصحة لكنها الذعة.
من فوائده أنه قدم لي ذات مرة نصيحته من أجل ترفيع مادة
ً
رفيقا يمن ًّيا “العالقات الدولية” بمعدل جيد ،أخبرني بسرية تامة أن
في الكتلة (أ) جلب معه كمية جيدة من القات ،Catha edulis
وأنه تمكن من ترفيع مواده بشكل جيد بفعل تلك النبتة.
بقي على االمتحان أقل من 12ساعة ،ارتديت قميصي العنابي
الذي يجلب الحظ ،ثم قمت بزيارة ذاك الرفيق الحضرمي.
(السكن الجامعي – الكتلة (أ) – الطابق ( – )2الغرفة
( ،))17أذكر العنوان بتفاصيله الدقيقة ،لربما هو الشيء الوحيد
الذي أذكره من تلك الليلة.
82
استقبلني “فؤاد” بكرم طائي ،وقد انتفخ أحد شدقيه ،حنطي
قميصا داخل ًّيا أبيض ،ويلف قسمه السفلي بمعوز
ً مربوع ،يرتدي
حضرمي .كانت غرفته تعج بالضيوف ،نوافذ الغرفة مغلقة ،وتطفو
فوق الرؤوس كتل من دخان السجائر واألرجيلة .سألته بصوت
منخفض وسريع:
-هل يوجد لديك..؟
ثم جررت أنفي على قفا راحة يدي وغمزته بطرف عيني،
مرح ًبا“ :يا أه ًلا بالديوان” .الديوان في اليمن
ِّ ضحك وصاح
مصطلح يطلق على المكان الذي يجتمع به الشبان لمضغ القات،
هذا ما علمته بعد تلك الليلة.
مضت ساعة وهو يع ِّرفني على رفاقه ،وساعة أخرى لتناول
المندي والهفيت معهم ،وساعة ثالثة لشرب الشاي ولعب ورق
الشدة .بعدها عاودت جر أنفي من جديد وغمزته ،فصاح مرة أخرى:
“يا أه ًلا بالديوان” ،ثم سألني بحب:
-قات؟
-قات ،نعم يا ملعون.
كان فؤاد ساح ًرا في حديثه معي ،كان يدخل الرأس كالنعاس؛
لذا سألته بإدمان إن كان من الجيد تناول كمية جيدة قبل االمتحان،
أخبرني بحنو أني حين (أخزِّن) – أي أبدأ بالمضغ – سيتضاعف
الذكاء وسأتمكن من الحفظ ألضعاف ،وما يتم حفظه في ساعة
لدي في دقيقة.
فسيصبح َّ
83
علي هذا الصديق؟
يا رب السماء! من أي سماء مباركة سقط َّ
عيني نصف مغمضتين ،ثم فكرت بسوء َّ فقد جعلت كلماته تلك
حين قررت أن أمضغ كمية أكبر؛ لع ِّلي أحصل على نتيجة أفضل من
شريكي في السكن ،وبذلك أتخايل عليه.
فغدا
وبحماسة استعرت طاولة فؤاد وسريره للتخزين والدراسةً ،
صباحا سيكون امتحاني ولن أنام .قمت بمضغ كمية قليلة
ً عند الثامنة
من ورق القات المجروش مثل النعنع اليابس .مرت دقائق لكن ال
نتيجة ،قمت بشرب بعض الماء فتم ابتالع تلك الكمية ،فأخذت
ً
عوضا عنها كمية أكبر.
فقط هذا ما أذكره من تلك الليلة المباركة ،وما أذكره – خير
اللهم اجعله خي ًرا – أن أحدهم أخذ يطبطب برفق على خدي:
-أخ جوهر ..أخي ،أتسمعني؟
بدأ مفعول الكاثينون يتحرر في رأسي ،يتجمع ثم ينفلت كتعب
عيني ،فسألته بكسل:
َّ على
-من أنت؟ وكم الساعة؟
صباحا.
ً -أنا فؤاد .إنها الحادية عشرة
صاحت روحي المحبوسة داخل هذا الجسد المخدر:
-يا أه ًلا بالديوان!
84
ُّ
كله من ترامب
85
قمت مسحو ًرا بحديثها بشراء إوزتين من فصيلة اإلوز الثرثار ،لهما
منقاران ُمفلطحان ،ورقبتان طويلتان ،وريش طارد للماء ،ما جعلني
ومرتفعا ،سقفته بأعواد
ً واسعا
ً أصنع لهما بركة ماء صغيرة ُ
وخ ًّما
القصب ،وفرشت أرضيته بالتبن كي تفقسا بيوضهما في موعدها –
كما ع َّلمتني جارتي – .في اليوم التالي حين استيقظت ،كان الثعلب
قد لوى عنق إحداهما وهرب ،في حين سرق صبيان الحي اإلوزة
اليتيمة األخرى.
المزعج في القضية أنه في هذا الصباح باعت لي هذه الجارة
الحنونة البيضة الواحدة بـ 75ليرة ،وبال أي مراعاة أو تعويض
لمشاعري عن خسارتي لإلوزتين .وحين سألتها عن سبب احتيالها
علي بهذا السعر ،ردَّ ت بتظ ُّلم“ :إنه الدوالر”! لعن الله الحصار ،حتى
َّ
مؤخرة الدجاجة لم تفلت منه.
لقد كان نها ًرا سي ًئا من طالعه ،هي دقائق حتى اتصل بي
صهري؛ إذ تقول القاعدة إنه يحق للصهر االتصال في أي وقت؛
لهذا يسمى الصهر صه ًرا ،ألنه ينصهر ويذوب كالحديد في عائلة
الزوجة .آه ،ليتني أنصهر وأتبخر حين يطلبني هذا الصهر في هذا
الوقت المتأخر.
أخبرني أن لديه مصلحة معي ،وسيزورني لنتدارسها ،ثم أغلق
هاتفه قائ ًلا بلهجة األمر“ :ال تخرج من البيت” .صحيح أنه رجل
رغما
ً علي –
َّ صما ،أنا متأكد أنه سيعرض
طيب ،إال أنني أحفظه ًّ
عني – أن أكون شريكه في أحد مشاريعه االستثنائية كما العادة.
86
معا،
لربما لديه إشارة أو طلسم من حقب قديمة ويبغي أن نحفرها ً
واحدا .ومن يدري؟
ً فلسا
يوما ً
فهي مصلحة تستهويه رغم أنه لم يجد ً
لربما يريدني أن أشاركه في زراعة الفستق أو الفراولة أو أي محصول
ال تقبله أرض الجنوب أو لم يسبقه أحد في زراعته من قبل ،فاألصالة
في أعماله قد ال تجدها عند شخص آخر.
انتظرته لساعات بعد الموعد المحدد؛ إذ تقول القاعدة
األخرى“ :يحق للصهر ما ال يحق لغيره ،فإن تأخر أو حتى لم ِ
يأت
لموعده فهو معذور” .لكنه جاء متأخ ًرا ،وقد أجاب عن كل تكهناتي
السابقة حين قال بنشاط:
-ال شيء مهم ،كل شيء تمام ،كل شيء روعة ،كل ما في
األمر أني أريد أن أشتري بقرة.
-بقرة يا صهر؟!
-نعم ،بقرة.
-بقرة يا صهر؟!
-نعم ،بقرة .هل أنا أصغر من أن أشتري بقرة؟!
-هل وجدت كنزًا؟
-أقول لك بقرة ،وليس سيارة.
-لع َّلك أخذت ً
قرضا ً
إذا.
طبعا ال. ً -
قرضا؟! إن الحكومة تحتاج من ُيقرضهاً ،
أحدا؟ ً -
إذا ،سرقت ً
87
-وهل تريدني أن أسرق بنطال “كر ِّيم” الوردي مث ًلا؟
(للتوضيح“ ،كر ِّيم” هو شاب في البلدة يشتهر ببناطيله
الوردية).
-إن لم يكن كذلك ،فمن أين لك ثمن البقرة؟ فأنا
جيدا؛ إن دخلت الفأرة منزلك خرجت
ً أعرف حالك
مصابة بسوء تغذية.
تخش شي ًئا .معي ما يكفي لشراء بقرة ووليدها ً
أيضا. َ -ال
أتعتقد أني رجل سهل؟
ابتسم حتى وصلت ابتسامته ألذنيه .ثم انطلقنا ألحد األشخاص
في البلدة ،قيل إنه عرض بقرته للبيع بسعر زهيد .كان رج ًلا مغرو ًرا
جدا ،أخبرناه نيتنا في الشراء ،ولشدة غروره كنا نسحب الكلمات
ًّ
منه سح ًبا:
لدي اقتراح أيها التاجرِ ،ل َم ال ننام قلي ًلا وحين نستيقظ
َّ -
تكون قد أجبت عن سؤالنا؟
نكزت صهري بكوع يدي كي ال يتمادى أكثر في السخرية من
صاحب البقرة .نظر إلينا ثم بصق من فرجتي أسنانه على األرض،
وساقنا لزريبته دون أن يقول حر ًفا ،كانت الزريبة خالية إال من بقرة
واحدة ،ناحلة ومدعوكة بالزبل والطين حتى برزت عظام قفصها
الصدري .قال صهري ساخ ًرا:
-إننا نرغب في شراء بقرة ،وليس حمار دونكيشوت،
سيدي.
88
-هذا الموجود ،لن تجد بقرة رخيصة مثل هذه البقرة في
السوق كله ،لقد سامها عشرة تجار ولم أبعها.
-أخي ًرا نطق ،أقسم بالله الذي خلق هذه البقرة الميتة لقد
ظننتك أخرس ..يبدو أنها بقرة مسلمة؛ هل هي صائمة
حتى جف جلدها هكذا؟
قال صاحب البقرة:
-ارتفع سعر كيلو العلف أضعا ًفا ،لو عندي قدرة لشراء
علفها فما كنت عرضتها للبيع.
أخذني صهري على جنب:
-أفكر أن أشتريها .صحيح أنها قد تموت لمجرد أن
تعطس ،وأنني إن قررت ذبحها فقد ال تكفي أختك
على الفطور ،لكني أرى يا أبا النسب أنه بفرق السعر
بإمكاني أن أشتري معها بقرة صغيرة.
استدار نحوه صهري سائ ًلا:
-وكم ثمن هذه الميتة يا معلم؟
-كما طلبت من التاجر الذي قبلكما.
-وكم طلبت من التاجر الذي قبلنا؟
-كما طلبت من التاجر الذي قبله.
-ال حول وال قوة .وكم طلبت من التاجر الذي قبل قبله؟
-كما طلبت…
89
قاطعه صهري بانفعال:
لدي
َّ -يووه! خ ِّلصني وأخبرني ،كم ثمنها يا رجل؟
أعمال.
ضحك الرجل بال رغبة:
-هذا أسلوب التجارة ،ال عليك يا كدر ،لقد دفعوا لي
بها مليونًا ومئتي ألف ،ولم أ ِبع.
أصيب صهري بكل أنواع الصدمات النفسية ،فتح فمه ثم
صاح بصوته مخنو ًقا:
-يا ربي! ماذا يقول هذا الرجل؟! هل هذا الحمار الميت
بهذا السعر؟!
ثم اقترب نحو البقرة واحتضنها ،وحاول حملها بعصبية حتى
امتأل قميصه بالطين:
-إنك تمازحني ،أليس كذلك؟
رفع البائع حاجبيه:
-هأ!
-بربك هل تستحق هذه الجثة مليون ليرة؟!
صوَّب البائع كلماته بهدوء:
-ومئتي ألف.
سحبت صهري ثم وشوشته:
-بكم كنت تتوقع أن تشتري بقرة؟
90
قال وقد رشح أنفه من هول الصدمة:
-مئتي ألف يا نسيبي.
-يا لمصيبتي!
قلت للبائع:
-إنه مبلغ كبير.
-أنا قلت إن التجار دفعوا لي مليونًا ومئتي ألف ولم أ ِبع،
ثمنها مليون ونصف ليرة سورية ال غير.
اقترب صهري نحوي كمن يريد البكاء:
-هل عيناي دامعتان؟
-نعم.
-هل تؤلمانني؟
قلت:
-بشدة.
ثم عاد في حديثه للتاجر:
ِ -
اتق الله يا رجل بهذه البهيمة وحررها.
ً
ونصفا وحررها ،هل كنت تعيش في كهف -هات مليونًا
قبل أن تفكر في الشراء؟! الدوالر اليوم يزيد على
واشتر دجاجتين وقم بحلبهما ً
إذا. ِ األلف ،اذهب
غادرنا المكان .في الطريق دأب صهري يندب حظه:
-سأخبرك بسر.
91
-تفضل.
-إن عدت للمنزل من دون بقرة ،فستحلبني أختك من
دون شك .أريد أن تتصل بها وتخبرها أن الدوالر هو
دمر حياتي..
السبب ،أخبرها أن “ترامب” َّ
سكت ثم حوَّل عينيه نحوي:
هل عيناي دامعتان؟
-يعني.
-هل لونهما أحمر؟
-يعني.
-هل تؤلمانني؟
-يبدو ذلك.
-كله من ترامب ،كله من ترامب.
في ابني من بعيد:
قبل الوصول إلى المنزل صرخ َّ
-هل أحضرت لي مو ًزا أحمر؟
توقفت عن المسير ،وقفت أمام صهري ،سألته:
-هل عيناي حمراوان؟
-يعني.
-هل تؤلمانني؟
-يبدو كذلك.
معا كنسوة آيسهن الحيض“ :كله من ترامب”.
ثم صرخنا ً
92
رحلة
ِ
يكتف باالتصال بي ،إنما جاء لمنزلي كي ُيفصح عن نيته لم
جمع األصدقاء مرة أخرى في رحلة ،جلس على الكرسي وقد شبك
يدي “مايك فغالي” الخشبيتين في ليلة رأس السنة،
يديه أمامه مثل َ
قاطعا الطريق أمام أي اعتراض قد َّ
أتلفظ به: ً ثم أسرع في حديثه
-سأرتب كل شيء ،سنأخذ سيارة مكشوفة ،أو نذهب
على الدراجات النارية ،فال داعي للقلق.
وكشخص يعاني من متالزمة سوبايت ،Sopite syndrome
تماما أن كلماته تلك لم ِ
تأت عبثًا ،ففي المشوار األخير كانت ً ُأدرِ ُك
َّ
معط ًلا ،وكانت السيارة التي أق َّلتنا مغلقة ،وكان المك ِّيف فيها
ُ
حملت حينها مدمرة لنفسيتي؛ لهذا جاء جوابه ذاك جاهزًا .إذ
الرحلة ِّ
الشدة بخسارة ،وتجادلنا في تاريخية المكان
َّ ُ
ولعبت ورق األغراض
الذي نزلنا به ،وعن معركة اليرموك أشهر المعارك اإلسالمية التي
قادها القائد اإلسالمي خالد بن الوليد في تلك المنطقة سنة 636
ميالدية ،بعدها طلبوا مني أن أحدثهم عن أول رحلة في حياتي ،ففي
93
كل مشوار يطلبون مني أن أقص تلك الحكاية رغم أن كل شيء بها
مؤلما وال يدعو للضحك.
ً كان
لهذا سأحدثكم عنها للمرة األخيرة:
حدث ذلك في النصف الثاني من التسعينيات ،كنت حينها
في مرحلتي االبتدائية .وفي ذاك اليوم ،وبما أني أقصر طالب في
الصف ،وقفت في مقدمة الطابور في باحة المدرسة .وحين انتهينا
من ترديد النشيد الوطني ،ذرع أمين السر الباحة أمامنا جيئ ًة وذها ًبا،
غصت أذناه وأنفه بالشعر النافر ،قال
واضعا يديه في جيبيه وقد َّ
ً
بصوت جهوري:
غدا سنذهب رحلة ،سنرى مدينة بصرى األثرية
ً -
وشالالت تل شهاب الرائعة ،وسندخل حديقة الحيوان،
وسنرى هناك الغزال .من يرغب في رؤية الغزال يا
طالب؟
صاح الجميع:
-نحن.
غدا 75ليرة. ً -
إذا فليجلب كل واحد منكم معه ً
الغزال ،كم أحلم برؤيته! طوال الطريق للمنزل وأنا أتخ َّيل
شكله ،عينيه ،قرنيه ،أذنيه .يا إلهي! كم سيكون جمي ًلا! أسرعت
راكضا للمنزل ،رميت حقيبتي على األرض ورحت أبحث عن أمي ً
بفرحة عارمة ،كانت أختي في المطبخ ،قلت لها وفي نيتي اإلغاظة:
94
غدا سأذهب رحلة ..ننناه ..وسأرى الغزال يا مسكينة،
ً -
ننناه ،لكني أريد 75ليرة.
لكنها ال تصغي لما أقول ،فسكوتها ذاك يغيظني ،ذهبت إلى
أخي األكبر ،يشاهد هو اآلخر بانسجام مباراة لكرة القدم:
غدا سأرى الغزال ،سوف تذهب المدرسة رحلة ،فقط
ً -
بـ 75ليرة ،يا بالش..
كان حذاؤه أسرع في إجابتي .في تلك اللحظات تدخل نبع
الحنان ،متعبة من مشوار في الحي:
-أمي ،أريد 75ليرة ،أريد أن أرى الغزال ،وسنذهب
غدا.
رحلة ً
يا إلهي! هل اختفيت حتى ال يسمعني أحد؟! م َّرت أمامي نحو
المطبخ دون أن تلقي با ًلا لحديثي ،عندها صرخت ملء فمي وسط
المنزل“ :أريد ..أن ..أرى ..الغزال”.
اقتربت أمي نحوي ،فمذ عرفتها ولديها فلسفة خاصة في هذه
الحياة ،طلبت مني بحنو أن أذهب للزريبة وأن أراقب بقراتنا حتى
فهن يشبهن الغزال ،لكنه أنحف قلي ًلا وله قرون
أشبع من رؤيتهنَّ ،
ولونه بني ،ثم ختمت حديثها بالقول“ :ليش البعزقة؟”.
دائما يجبرونني على فعل ذلك –،
ً هنا عدت ألسلوبي القديم –
انبطحت على باب المنزل ورحت أتل َّبط األرض مرددً ا طوال النهار:
-أريد أن أرى الغزال… الغزال أريد أن أراه… أرى
الغزال أريد..
95
وهكذا حتى َّ
حل المساء ،خالل ذلك كانت الحياة تجري
طبيعية في المكان ،أخي يعبر الباب من فوقي مكم ًلا طريقه بال أي
تجرني عن الباب لتمسح المكان ثم تعيدني لمكاني
ُّ اعتبار ،أختي
وتكمل هي تنظيفها للمنزل ،أمي تأكل حبات فول أخضر وترمي
بقشورها في السلة الواقعة بجانب رأسي ..ومع ذلك واصلت نضالي؛
فالقضية تستحق مني التضحية.
عند المساء تم منحي الـ 75ليرة بإكراه .لهذا خذ هذه النصيحة
– عزيزي القارئ – ،غال ًبا المعنيون بأمرك ال يلتفتون لمطالبك إن
نائحا ،واألهم أن عليك أن َّ
تنق في مطالبك لم تتل َّبط وتصرخ أمامهم ً
بإزعاج ،فالذين ال ُّ
ينقون يموتون ،فاعلم أن البعض منهم في المطبخ
يطبخ شي ًئا ما وغير مهتم لمطالبك ،وهناك آخرون الهون في رهان
رياضي ما وال تعنيهم روحك الرياضية .لكن في كل إدارة هناك
شخص جيد ودبلوماسي ،وسيحاول في البدء أن يكون مثلهم ويوجه
مطالبك لمكان آخر ،لكنه سيلبي مطالبك في النهاية ألنه يرغب في
أن يتوقف صراخك كي يتمكن من النوم .فإن التزم أحدهم الصمت
فاعلم أنه مغتاظ منك ،وإن ضربك بحذائه فاحمله بلطف وأعده إليه
بلطف ،وعاود الك َّرة بأدب .من هنا يمكن الجزم أن ذلك هو غاية
اإلعالم الوطني اليوم.
يوم الرحلة
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة باك ًرا ،كنت أول
الواصلين وأول من يسجل اسمه في الرحلة.كانت المدرسة قد تعاقدت
96
في تلك الرحلة مع ميكروباص “أبو عنتر” األخضر ،وهو ميكرو
قديما ،يدلف سقفه وقت الشتاء ،ويعمي عينيك
ً القرية الوحيد ،كان
َّ
المحطمة في الصيف .ومن مجموع نوافذه الغبار المندفع من نوافذه
قد تجد نافذتين أو ثالثة فقط صالحة لالستعمال ،كما أنه ال يملك
با ًبا ،في حين خلع صاحبه عن قصد باب السائق ليتمكن من الولوج
إليه ،فما ال تعرفه أن “أبو عنتر” يحتاج إلى شخصين ليقوما بدفعه
لتتمكن مؤخرته من الوصول خلف المقود ،وذلك لضخامة جثته.
ُ
أسرعت ألحجز مكاني في المقعد األخير ألجلس قرب
النافذة ،لكنني لم أصل ،فجميع الطالب حجزوا الكراسي القريبة
من النوافذ ،ولم َ
يبق سوى الكرسي الواقع خلف السائق ،وهو كرسي
ابتدعه أبو عنتر في هذا المكان ليكسب راك ًبا إضاف ًّيا ،فهو مكان
مخصص كغطاء لمحرك هذه الخردة التي نركبها؛ لهذا أجدني طوال
الطريق وأنا ُّ
أنط فوقه كالنابض.
والتعرق،
ُّ وما إن مضت نصف ساعة ،حتى الزمتني الدوخة،
فالغثيان وعدم الراحة ،وشي ًئا فشي ًئا أخذت عصارة حلقي تسلك
أشرت بتك ُّلف وبعينين محم َّرتين إلى السائق
ُ طريقها نحو فمي.
ثوان حتى
يع ما أردته .ما هي إال ٍ
للتوقف لرغبتي في التقيؤ ،لكنه لم ِ
كانت الفاجعة ،تقيأت على قميص السائق ،وعلى بنطال أمين السر،
وعلى مدرس الصف السادس ،وعلى تنورة اآلنسة الجميلة “نعمة”،
المدرسة األنيقة “رجاء” ،وعلى الوردة الحمراء التي
وعلى كندرة ُ
كان يحملها المدرس الرومانسي “شيحان” ،وعلى الكراسي وعلى
97
النوافذ ،وعلى الطالبات والطالب فردً ا فردً ا ،لكنني لم أتقيأ على
نفسي ،فأنا أسمع نصائح أمي بعدم إهمال مالبسي.
أعاني منذ الصغر وحتى اآلن من دوار الحركة Motion
sickness؛ لهذا ما إن انتهيت من الجميع حتى ُأصبت باإلرهاق
والتعب كأحد أعراض متالزمة سوبايت ،Sopite syndrome
علي.
مغمى َّ
المدرس الرومانسي ً
فسقطت بال وعي في حضن ُ
ما هي إال دقائق –أو هذا ما خ ِّيل ل – حتى اقترب مني المدرس
الرومانسي ،نهض غ َّرته خلف أذنه ،ثم قال لي بهدوئه المعتاد:
-حبيبي ،لقد وصلنا ،هيا انزل.
نائما على الكرسي األخير ،وكان الميكرو خال ًيا إال مني
كنت ً
أترجل منهُ ،صدمت
َّ ومن السائق وهذا المد ِّرس اللطيف .وقبل أن
عيناي من كل هذا الخراب الذي صنعته معدتي بالمكان .قلت في
ترجلت من
نفسي“ :عادي ،يحصل أن يتقيأ المرء في الرحلة”؛ لهذا َّ
باب الحافلة ألرى الغزال ،لكن سرعان ما تركني السائق والمدرس
وهربا بالميكرو ،فجأة جالت عيناي في المكان ،وإذ بي أمام المنزل.
أحدث أمي عن آثار مدينة بصرى
ِّ طوال أسبوع كامل وأنا
الرائعة ،وكم هي جميلة شالالت تل شهاب ،وطوال شهر وأنا أغيظ
أختي في حديثي عن شكل الغزال الذي كان مدهشً ا ،لكن إلى اليوم
ال تعلم أختي أني لم أ َر الغزال إال في “ناشيونال جيوغرافيك”.
98
(((
زكزكة
((( زكزكة :كلمة محلية في بالد الشام ،تُستعمل في السياسة للسخرية من التصريحات
99
ُ
تركت القلم منذ مدة حتى بلغ تقصيري ولربما لهذا السبب ً
أيضا
في العمل مبلغه ،فإدارة التحرير على لطافتها معي لربما ال تدرك أن
اللطافة أحيانًا تكون أسوأ عقاب ،وهذا ما تعلمته خالل مزاولة مهنة
الصحافة.
لهذا استيقظت اليوم باك ًرا ،أديت صالة الفجر ،ثم أكملت
رياضتي بالهرولة حول البيت؛ لعل برنارد شو يكون صاد ًقا هذه المرة
معي في رؤيته حول أجمل األفكار التي تأتينا ونحن نمشي.
لهذا سأروي لكم حكاية ،حكاية يومي هذا ،ولمرة واحدة
فقط.
ابن أخي يعاني من متالزمة نفسية تحوَّلت من عادة إلى وسواس
َّ
تحول عيناه. قهري ،فهو ال يبرح يومه وهو يراقب أنفه حتى كادت أن
وحين أسأله عن سبب مراقبته ألنفه طوال النهار ،يجيب ببالهة:
-أخاف أن يضيع.
مصطنعا الصبر:
ً أسأله مرة أخرى
-ما الذي سيضيع يا حبيبي؟
-أنفي ،أنفي يا عمي.
متنهدا ،ثم أسأله من جديد:
ً أغمغم
-وهل ضاع قبل ذلك؟
-يووه ،حوالي أربع مرات ،آخر مرة وجدته وحلفت أال
يضيع بعد اليوم.
100
أطبطب على كتفيه ولي رغبة بقضم أنفه ،ثم وبعجز ال يجد
لساني سوى الدعاء له ولوالده بالشفاء.
كالعادة أوصله إلى مدرسته متأخ ًرا ،ليس لرغبتي أن ألقي
التحية على رحاب ُمد ِّرسته الجميلة لتبتسم لي وتقدم لي شكايتها
منه“ :ال أريد أن يسيس كالمي” ،وإنما ألني فقط أح ِّبذ أن أختبر
مقولة أندريه بريفو عن أفواه النساء في بلدتي حين يقول“ :الفم:
تارة برعم وردة ،وطو ًرا بوز مرشة” ،لكن لن أخبركم كم كان برعمها
الشيطاني جمي ًلا.
اليوم كانت شكايتها مختلفة ،حيث قالت لي بوجع“ :ابن
أخيك لديه حقد على أقالم رفاقه ،فهو يقوم بكسر أقالمهم بال سبب،
وحين تسأله يقول“ :ألعب .وهل اللعب ممنوع؟!” ،أرجو أن تجدوا
له ح ًّلا؛ فقد نفد صبري”.
قالت ذلك ثم أطبقت الباب بوجهي بشيء من عصبية ،ثم وقبل
بحدة
َّ أن أدور برأسي للمغادرة أط َّلت من الباب مجددً ا ثم صرخت
أكبر“ :إن هاجرت وتركت لكم هذه البالد ،فلن يكون بفعل الحرب،
بل بفعل ابن أخيك” ،ثم أطبقت الباب بقوة أكبر من سابقتها .ال
أعرف حين يكون الحديث عن ابن أخي ِل َم يتحول فمها المبرعم
إلى بوز مرشة بسرعة هكذا.
وكمراسل لطيف يتبع نصائح مديره ،أقول في سري“ :لربما
هذه موهبة جديدة تضاف إلى مواهب ابن أخي”.
101
لهذا اتجهت إلى ناظر المدرسة وأخبرته حكايتي ،وسألته عن
ً
لطيفا، سبب عدم وجود مد ِّرس إرشاد نفسي بالمدرسة ،كان جوابه
ً
ضحكا من روحه ،وكل ما قاله“ :إلى أن ترسل لنا الحكومة ضحك
مد ِّرس لغة إنكليزية ومد ِّر ًسا للصف األول والخامس والسادس،
بعدها نفكر في رفع كتاب لمد ِّرس دعم نفسي البن أخيك”.
ُ
ابتسمت ببالهة؛ ألني ال أقوى على أكثر من ذلك حين يتعلق
األمر برغبات الحكومة والقيادة ،فالقيادة أوسع نظ ًرا يا أخي؛ لذا
وضعت يدي في يده وغادرته .وطوال الطريق وأنا أفكر في حل
مع ابن أخي ،ليس لرابطة العمومة والدم التي تجمعني به فقط،
جيدا القواعد
ً جيدا ،فأنا أحفظ
ً وإنما ألني مراسل يحفظ النصائح
العامة لمهنتي ،وكذلك نصائح مديري حين يلوِّح بإصبعه من خلف
مجموعة العمل عبر الفيسبوك ليقول لمجموعة مراسلين من مختلف
المحافظات“ :لتكونوا صحفيين حقيقيين؛ ال تنقلوا فقط أوجاع
ومشاكل الناس ،بل حاولوا أن تكونوا جز ًءا من ح ِّلها”.
لربما لهذا السبب رغبت في كتابة هذه الكلمات اليوم ،وألقول
إن الصحافة هي أن تروي األشياء كما هي ،ال كما ينبغي أن تكون.
أقول ذلك ولي رغبة في تحوير ما قاله بول فاليري ذات مرة؛ ألن
الذين يخشون ذلك ،ويخشون القلم الساخر« ،ال ثقة لهم بقوتهم،
إنهم جبابرة كهرقل ،يخشون “الزكزكة”».
102
الزوج طيب القلب
103
-والزوجة؟
-إيمان سالمة.
-ما هو عمرها؟
-تسعة وخمسون ،وهي صاحبة المجلة التي أعمل بها.
-آها ،جميل .أعرفها ،إنها مجلة نسوية ،أنا ً
أيضا أكتب
في مجلة “الجندي العربي” ومجلة “جيش الشعب”،
اللتين تصدرهما وزارة الدفاع .بالتأكيد أنت تعرفهما،
فليس لشاب سوري انخرط في الجيش أال يكون قد
قرأهما .نحن زمالء ً
إذا ،مع اختالف في الرأي .هل
يغضبك إن قلت إني ال أحبذ ما تطرحونه في مجلتكم؟
ال أعرف ِل َم تبالغون في مديحكم للنساء ،ما تسمونه
تحري ًرا هو بطبيعته تثوير لها لنسف العالقة الطيبة التي
تربطها بالرجل ،إنكم تمنحونها قيمة تدفعها للتمرد
على زوجها وأخيها وأبيها ،أنتم – النسويين – لستم
منصفين .لست ضد المرأة ،وال أفكر في ذلك حتى،
أحدا له قدرة أو رغبة في فعل ذلك .لربما
وال أعتقد أن ً
أنا فهمتكم بطريقة مغايرة ،فما تكتبونه وتروجون له
يقول لي إنه لترتقي المرأة لمرتبتنا ،عليها التوقف عن
طلي وجهها بالمساحيق ،وأن تتأقلم مع صلعة صغيرة
وشاربين عريضين وكرش ذي هيبة .أليس هو ذلك؟
104
لكن أال ترى أنه لو مشى المجتمع خلف أفكاركم
فسينقرض العنصر العربي بالتأكيد؟
وضع المحقق تقريره فوق سا َقي الزوجة الممددة على السرير،
بحدة:
َّ ثم أكمل
-هناك حقيقة تتغاضون عنها وتؤكد صدق حديثي ،إن
عليهن في مجلتكم اسم “النساء الكبار”
َّ من تطلقون
لن
في تاريخ بالدنا تَعايشن مع تلك الحقيقة حتى ِن َ
دائما أقول لزوجتي ذلك ،فهيً المجد والسمعة .أنا
ليست عنص ًرا دون ًّيا ً
نافقا بال قيمة ،بل عليها أن تعترف
أننا نحن المتفوقون بيولوج ًّيا ،وهذا وحده ٍ
كاف لنزع
حدا لهذا
هكذا اعتراف ،ليس لشيء ،وإنما كي نضع ًّ
النزاع غير ذي القيمة ،أظن أن اعترا ًفا كهذا هو ما جعل
عالقتي بزوجتي مميزة ،ونلت معها سعادة مطلقة.
أحس المحقق أنه بالغ في ثرثرته وحديثه خارج سياق القضية،
َّ
توقف قلي ًلا ثم أكمل بإطراء:
-أنت رجل طيب يا هذا لتسمع كالمي وأنت في هذه
الحالة العصيبة ،وأعتقد أنكما عشتما ثالثة أشهر
جميلة مع بعضكما البعض رغم فارق السن .لكن
لدي سؤال أخير :أليست زوجتك من تعرضت لثالث
َّ
محاوالت اغتيال في بيتها خالل الشهرين الماضيين
دون معرفة الجاني؟
105
-نعم ،سيدي.
-أين كنت حين وقعت تلك الحوادث؟
الحمام ،سيدي.
َّ -في
بانت على وجه المحقق مالمح التأسف ،اقترب نحو الزوج،
طبطب على كتفه:
-إن القدر منح أعداء زوجتك مطلبهم ،فقدرك أن تكون
أرم ًلا ،وقدر زوجتك أن تموت من الضحك؛ لهذا
سيتحتم عليك مسؤولية كبيرة في الدفاع عن قضيتها،
وفي إدارة مجلتها وأموالها.
106
كيف يحتال الرجال على رمضان؟
في رمضان ،إن أنواع الرجال كأنواع الفطر ،ال ندري إن كانت
سامة أم جيدة إال بعد األكل .فنحن – الرجال – نصوم ست عشرة
ُّ
يحل اإلفطار حتى نتخم ساعة غارقة بالحرارة والجفاف ،وما إن
مج السجائر .يبدو أن لألمر
من أول ست دقائق ،لنتسابق بعدها في ِّ
عالقة بالسياسة.
ففي العموم ،إن الج َّو هنا منذ أول يوم رمضاني وحتى اليوم
الثالثين في هذه القرية بالذات مشحون بالعصبية ،مكهرب ويكاد
ينفجر ،فالجميع هنا ينظر إليك بنزق ،وبعقدة فوق الجبين يمر دون
أن يلقي التحية حتى.
فلهذا الشهر روحانيات جميلة ،أنا أشعر بذلك؛ إذ تجد الجميع
قبل؛ إنها الحرب يا أخي ،هي سبب كل ذلك.
دب ًرا غير ُم ِ
من حولك ُم ِ
ومع هذا الجو القشيب لهذا العام ،تتفتح حيل ومكائد الجميع.
أما عائلتي فهي ليست استثنا ًء ،فاألبواب كل حين تُط َبق
بعصبية ،الصحون في المغسلة تكاد تتكسر ،األكتاف تتخبط
ُّ
الكل سكارى وما هم بسكارى. باألكتاف،
107
أعب
ُّ َّ
وأتمطى بإيمان، فأنا – مث ًلا – أستيقظ ،أفتح الباب
الهواء ملء معاطسي ،وأردد في كسل“ :أه ًلا رمضان” .أنا مطمئن
لذلك ،فالتحايل على رمضان بات سه ًلا في هذا الجو اليابس.
ففي عائلتي تصرفات وأفعال إيمانية كثيرة ،مث ًلا أجدني أفتقد
أخي في هذه األيام ،فقبل هذا الشهر كان كل دقيقتين ينط أمامي
إحداهن ،أما في هذه
َّ ليرتدي قميصي أو يستعير هاتفي للحديث مع
األيام المباركة فشغله الشاغل هو الوضوء ،وحين أسأله عن السبب
نكس أحد حاجبيه ورفع اآلخر بامتعاض“ :بلل المضمضةيرد وقد َّ
ال ُيفطر يا شيخ” ،مع العلم أني لم أسأله عن بلل المضمضة ،لكن
يبدو أن ال جريمة كاملة؛ لهذا أنسحب بهدوء.
ً
أيضا ابن أخي لديه سياسات رمضانية خبيثة ،أجده كل بضع
َّ
يتمطق مسرعً ا ،ثم يغلق على نفسه دقائق يتسلل من المطبخ وهو
باب غرفته ،وأنا – بحشرية رمضانية – أدفع عيني لتنزلق من ثقب
الباب ألرى كيف يفرك شفتيه في الجدار حتى تتشققا ليبدو للجميع
أنهما تشققتا من الجوع والعطش ،ثم يخرج وهو يتأرجح في مشهد
تمثيلي احترافي .وحين يشك أني كشفت خديعته ،يسألني بخبث كم
بقي حتى تغرب الشمس.
هذا الولد يذكرني بطفولتي ،ففي طفولتي لطالما كنت أنسى
أني صائم ،فآ كل وأشرب ،وحين يسألني أحدهم ِل َم أفطرت ،أجيب
بمكر“ :أطعمني وسقاني الله” ،لكنني أعلم في سري أن من أطعمني
وسقاني هو الشيطان الذي في داخلي ،ال غير.
108
ومن بين كل أولئك أعتقد أن عائلتي أكثر صب ًرا من جارنا –
َّ
يفضل عدم ذكر اسمه كي ال أكون مشروع إفطار جديد لديه – ،هذا
الرجل لديه نهفات رمضانية جميلة ،فكل عام من هذا الشهر الكريم
يحدث استنفار عام في منزله ،بل في الحي كله ،وذلك إلدمانه
الشديد للسجائر.
فقد جاءني ظهر هذا اليوم وقد تو َّرمت عيناه ،جلسنا بمفردنا،
مجا،
يمج دخانها ًّ
وكمن يسرق شي ًئا ،سحب سيجارته من ع ِّبه وراح ُّ
قاطعا الطريق أمام أي تأنيب أو كلمات توقع أن أقولها:
ً ثم قال
“زوجتي ال تفهم أني ال أستطيع الصيام عن التدخين؛ لهذا كسرت
بعض الصحون ،وأهنتها أمام أوالدي .يا ألله! ليتني لم أفعل ..لكنها
دائما تجبرني على فعل ذلك .هل لك في مساعدتي؟ لقد
ً ال تفهم،
كتبت إليها رسالة وضعتها فوق الثالجة؛ لعلنا نجد ح ًّلا لنكمل
حياتنا كزوجين طبيعيين طوال هذا الشهر”.
ً
وسيطا وما إن انتهى من حديثه حتى دفعني راج ًيا أن أكون
إلصالح ذات بينهما؛ لهذا زرت زوجته ووجدتها تقرأ رسالته وقد
كتب فيها:
زوجتي العزيزة،
أسلمي تسلمي يؤتيك الله أجرك مرتين ،إما أن تمضي هذا
الشهر الفضيل على خير ،وإما أن هناك خطة (ب) تجبرك أن تأخذي
أغراضك وتسافري إلى أمك ليخلص هذا الشهر الكريم ،وكفى الله
المؤمنين شر القتال .أعرف كم غلطت بحقك ،وأن اإلفطار غير
109
مقبول أمام األوالد ،لكن كل شخص على دينه وربه يعينه ،وبالنسبة
للتدخين في رمضان فهو غير مفطر؛ سألت الشيخ في ذلك وأخبرني
أن التدخين ال يُعتبر سببًا لإلفطار لكنه يفسد الصيام ،وأن رب
العالمين يقول في سورة البقرة /آية “ :184وعلى الذين يطيقونه
فدية طعام مسكين” ،وأنا رجل ال أطيقه .وخطيب الجامع الشيخ
عامر – ما زال حيًّا فاسأليه – قال يوم الجمعة الماضية“ :أي أحد ال
طاقة له على الصيام ،فليُطعم 60مسكينًا” ،وأعتقد ِ
أنك زوجة مؤمنة
وستفهمين كالمي.
وشك ًرا
زوجك المحب
110
عودة الرجل البخاخ
ما أعرفه أن الطبيب الجيد يجب أن يكون لديه عينا نسر ويد
لحام كهذا الطبيب الخشن الذي ما يميزه
امرأة ،ال عينا بومة ويد َّ
عمن هم سواه هو أسلوبه في عالج الناس ،فطريقته في كشف العلل
َّ
هي في أفضل حاالتها ُّ
عل المريض ،وهذا أفضل طب لمسته في هذه
المنطقة الموبوءة في جنوب البالد منذ وقعت الحرب.
كيف ذلك؟ ال أدري .ما أدريه ًّ
حقا أن بنيتي الهزيلة تغري
األطباء على الدوام لالنتفاع منها ،فبسببها كسبت الكثير من األصدقاء
من هذا النوع .وهذا الطبيب هو أحدهم ،فحبذا لو تتعرفون عليه
بوعكة إنفلونزا ،أو حتى لكع سيجارة صغير أسفل القدم ،فترون
كيف يشتري حياتكم بمرح.
فدائما – وبعد كل غارة أو اشتباك – يقتلنا هؤالء الذين تعلموا
ً
كيف يحيون ويعتاشون من حياة الناس ،أولئك الذين يسرقون على
الدوام قوت يومهم من صحتنا ،وفوق كل ذلك ال يالئمهم أقل من
وصف (صاحب مهنة إنسانية).
111
لكن في المقابل ،هناك ح َّراس كثر نذروا فراغهم وبطالتهم
وتذمرهم لمحاربة التسيب واالنحراف الذي خلقته الحرب؛ إذ يبدو
أن الرجل البخاخ قد عاد من جديد.
فاليوم كان التذمر واالستياء باد ًيا على صلعة هذا الطبيب
المتعرقة ،حتى إنه لم يسمع تحيتي ،وحين اقتربت أكثر لم يرغب في
معاينتي .وحين سألته عن سبب غضبه ،زفر الهواء من أنفه بغضب
وأجابني:
-تسألني! ألم تقرأ ماذا كتبوا عني عديمو األخالق في
فيسبوك؟
تنهد بصعوبة ،سكت قلي ًلا ،ثم انفجر شاك ًيا:
-ال ،ولم يكتفوا بذلك فقط ،بل تطاولوا على حائط
عيادتي ،انظر بعينيك لترى ما أقل حياء أبناء بلدتك،
أنا غريب عنكم ،استحيوا يا أخي ،احترموا حقوق
الجيرة ..ح ُّلوا عني يا أخي..
ُيطلق أبناء قريتي على هذا الطبيب اسم (الشامل في الطب)،
منمق (الطبيب
وذلك بعد أن كتب فوق باب عيادته بخط عريض َّ
(ن) ،أخصائي في أمراض األطفال ،األعصاب ،األورام السريرية،
هضمية ،جلدية ،تناسلية ،صدرية ،نسائية ،أمراض الحساسية
والمناعة ،أمراض الدم واألورام ،أمراض القلب ،أمراض الكلى،
أمراض وجراحة العيون ،أشعة الفم والوجه والفكين ،األذن واألنف
والحنجرة ،أمراض الغدد الصماء والسكري).
112
قرأت كل ذلك بتعب ثم قلت:
-أين الجديد باألمر؟
-اقرأ هنا ..هنا يا أعمى.
وقد أشار بإصبعه أسفل الالفتة ،حيث كتب أحد العابرين بضع
كلمات( :ويحيي العظام وهي رميم ،التوقيع “الرجل البخاخ”).
ضحكت ثم أقفلت مواس ًيا:
دائما.
ً -عادي ،الناجح يرمى بالحجارة
-إنهم يستهزئون بقدراتي يا رجل ،يريدون تشويه
سمعتي ،لكنني أقسم بجمالي إن عرفته فسأقتله.
-ال كرامة لنبي في وطنه ،هدئ من غضبك.
كرر ما قلته:
“-ال كرامة لنبي في وطنه” .من قائلها؟
-ال أدري ،لكني ربما قرأتها في مذكرات لهتلر.
-آه يا حبيبي يا هتلر! ليت الله يخلق ألف هتلر في هذه
القرية حتى يحولوا سكانها إلى صابون ،هذه القذارة ال
تصلح لتكون صابونًا أص ًلا.
في طريق عودتي إلى البيت ،تجمهر أعضاء المجلس المحلي
للبلدة أمام حائط المدرسة ،وقد دأبوا مسرعين على مسح عبارة كتبها
أحدهم س ًّرا (المجلس المحلي سرق الطحين).
113
وفي طريق فرعي أسفل القريةُ ،ك ْ
تبت عبارة أخرى على َع َجل
(الفصيل اإلسالمي حرامي ،بدنا الجيش النظامي).
تحدث أعداء الرجل البخاخ عن وقاحته كثي ًرا ،أما الناس
فكانوا نصراء عودته ونصراء وقاحته .فهو رجل جمع شجاعته في
بخاخه ،وعليه جمعت شجاعتي لنفسي وقلت في سري وسط كل
هذه الفوضى“ :أه ًلا بعودة الرجل البخاخ”.
114
دافع حب الكارثة
115
به زوجة .فجأة عبرت أمامه فتاة بشفتين رائقتين وساقين جميلتين
يخفيهما بنطال جينز قصير بخصر ضيق .نظرت إليه ثم قالت بغنج:
-بونجور يا شيخ( .قهقهت هي ورفيقتها ثم مضت).
لم يتمالك فنخور فرحته ،توازن على قائمتيه وهو يتلفت حوله
ببسور ،ثم صاح بوجه رفيقه:
-أسمعت؟ هل سمعت؟ أقسم بالله إنها تعرفني ،من بين
كل هؤالء القذرين قالت اسمي ،يا إلهي! أخي ًرا!
قاطعه رفيقه بعينين شبه نائمتين:
-أي نعم يا عمي ،خصتك بالسالم وحدك وقالت:
“مرح ًبا ،شيخ فنخور” ،أنا شاهد على ذلك.
ما هي ساعات حتى شاعت في صفوف العمال رواية أن
“فنخور” ذا األنف الواسع يقيم عالقة مع صبية حسناء .في اليوم
الثاني قال أحدهم له:
-حين كنت تتركنا وتختفي لساعات ،كنت تذهب
لمواعدتها يا ملعون.
أتبعه آخر:
-آه يا ملعون.
وكمن ال يريد أن يتذكر أنه كان يتركهم لجمع علب البالستيك
من مكبات النفاية لبيعها ،كان يكتفي أمامهم باالبتسام ،كمن أعجبه
ذاك الحلم.
116
في اليوم الثالث روى آخر:
-هناك من رأى فنخور على الساحل يق ِّبل فتاة جميلة.
عال: ٍ
بصوت ٍ وفي اليوم الرابع تحادث شخصان آخران
قال األول:
-كيف لهذه الحلوة أن تق ِّبل هذا الوجه المرعب؟!
الحب أعمى ،هيك قالوا في المسلسالت .يقولون إنها
ال تد ِّلعه إال بقول“ :حبيبي شيخ فنخور”.
تساءل الثاني بغيرة:
ِ -ل َم ال يذهب ليمارس المشيخة ويتركنا بحالنا ً
إذا؟ إن
سمعت البلدة بعالقته تلك فستتقاتل النسوة على هذا
البشع.
صدق بطوالته
سمع “فنخور” حديثهما ،ومثل حاكم عربي َّ
وشعاراته ،حمل سراويله المدعوكة بالطين واألسمنت ،ترك سطله
الذي كان زوجته طوال تلك السنوات ،وعاد إلى سوريا .وفي
الجنوب ،وفي قريته ،قرر أن يمارس المشيخة.
باع أرضه ،وبئر ماء ينضخ ،واشترى بي ًتا من شعر نصبه أمام
منزله ،ربط حصانًا واستأجر عام ًلا يرعى خمسين خرو ًفا اقتناها
للذبائح والمكارم .وهي مس َّلمات ألي رجل راغب في المشيخة التي
يتبعها بعض وجهاء تلك البلدة بعد الحرب؛ حيث ح َّلت المشيخة
بدل القانون في إصالح ذات البين وحل المنازعات والخصومات.
ولهذا األمر ذاع صيت الشيخ “فنخور” في البلدة؛ إذ لم يدع مناسبة
117
مأتما ،صراعً ا عشائر ًّيا،
ً (زواجا ،طال ًقا،
ً إال وكان الرجل األول بها
قتل أحدهم ،وغيرها من مشاكل هذا البلد التي ال تنتهي).
لكن لم يعلم هذا الشيخ أن ثمن المشيخة مكلف؛ إذ وجد
مفلسا ،بال عمل ،ويركض خلف الرزق وهو
ً نفسه بعد مدة قصيرة
ٌ
مشرق ،وال يملك سوى أنف واسع ال تحبذه الفتيات ،وقد حصل
عليه بعد عملية جراحية جراء شظية عبرت من خالله.
وحيدا ،وبال أمل .وفي لحظة يأس،
ً ً
منبوذا، بقي على ذاك الحال،
تأقلم متأخ ًرا مع وجهة نظر “غاستون دو كافييه” بأن “الزواج أتعس
طريقة للنوم في السرير” .إلى أن أراحته من عذابه ذاك قذيفة مجهولة
المصدر ،لينتهي عذابه في قبر صغير وسط البلدة .مات “فنخور”،
لكن لم يمت ذكره ،فمنذ ذاك الحين والناس تقول عن كل شخص
لم تقبل به فتاة وعانى األم َّرين لنيل زوجة“ :أعنس من فنخور”.
118
دين قراطية
119
فهو رجل متوسط ومبروم مثل كيس تبن ،يعرف متى يشلح شاربيه
حين يرتدي لحيته.
ً
شامخا برأسه، فحين ينشر عظاته في المسجد في كل جمعة
ومجاد ًلا بصوابية الحرب وببطولة كل من حمل السالحُ ،أ َصاب
بالدونية والعجز ،وأشعر وكأنه يقول لي ولجيلي“ :أنتم الجيل الذي
تم وضعه على الرف” ،عندها لساني يتحول إلى قطعة لحم مشلولة،
ينبغ أن يكون معه حجر حتى يطحن
فأكاد أجزم أن المسيح إن عاد ِ
هذه الرؤوس الشامخة بالنبيذ والتعصب.
وهنا سأذكر له حادثة واحدة فقط ،فحين جاء في ذاك اليوم
جدا ،صعد على المنبر ،جدل بيديه الهواء كعادة
كانت روحه رقيقة ًّ
يحبذها رجال دين الجيل الرابع من حروب الشرق األوسط في
الوعظ ،وراح يتحدث كيف أزاغت البدع هذا الدين ،وكان يقصد
في حديثه (مخاطر تعظيم القبور)؛ ألن ظاهرة وضع قطع الرخام على
القبور التي شهدتها قريتي في سنوات الحرب قد “استثقلها باعتبارها
بالهداية للناس والدعاء لهم ،مسح
من عظائم البدع” ،أقفل خطبته ِ
دموعه وحمل فأسه واتجه إلى مقبرة القرية ،مستغ ًّلا سلطته ونفوذه
في الفصيل العسكري الذي ينتمي إليه في “دين قراطية” واضحة.
وبما أن الحي أبقى من الميت ،وأن المبذرين إخوان الشياطين،
جيدا له في مثل هذه الظروف أن يعيش حياته وبال تبذير من
ً كان
خالل (إعادة تدوير القبور).
120
أعجبت جميع النسوة في القرية – بغيرة – بمطبخ زوجته
المزين بقطع الرخام النفيسة .أما عن الرجال ،فما زالوا يتحدثون
عن استقباله – والدمع يكاد يخرج من مآقي عيونهم – حين أو َل َم
لهم شيخهم بمناسبة دخوله بيته الجديد كما تجري العادة في القرية،
استقبلهم وكل من زاره ما زال يتحدث إلى اليوم عن كرمه وعن واجهة
بيته المل َّبسة بأحجار الرخام ،حيث عال مدخل البيت قوس كبيرة
مرخمة ،وقد نقشت واجهته بعناية وبعبارة (هذا من فضل ربي).َّ
وبعد سنين قالئل ووفق هذا النهج ،جنى ثروة كبيرة ،ولم يكن
لينقصه في الحياة سوى الحب ،فتفتحت عواطفه حين أعجبته
مدرسة رقيقة وناعمة .ومنذ رآها وهو يعاني ذاك اإلحساس المعروف
جيدا لمن هم بوضع العبودية ،ذاك اإلحساس الذي ال يعيه سوى
ً
من سقطوا في الحب ،فشكله حين رمقها خلسة أثناء زيارته البنه في
الصف جعلت روحه ترقص.
وحين اتهمه فصيله باالختالس ،ترك لحيته في مقر الفصيل،
للعشرة ،وحمل نفسه مع من أحبها، وعاف زوجته القديمة في ُّ
تنكر ِ
واتجه إلى (بالد الكفار) ،كما كان يصف بالد شمال المتوسط في
خطبه.
هو اآلن في برلين ،متفرغ بشكل كامل لألعمال األدبية
عمن خانوا ديننا وبالدنا والقضية.
والتغريد المستمر على تويتر َّ
121
فردة حذاء واحدة
122
المضمد بالشاش ،وفي عينيه
َّ الحائط واحتوى بكفيه رأسه الصغير
عبرات حزينة لجثة ممددة قربه.
وجوه الممرضين واألطباء البائسة بذهولها البادي بالحيرة
والعجز ،ومرايلهم البيضاء الملطخة بالدماء تخبر الجميع عن هول
ما حدث ،يذرعون المكان جيئة وذها ًبا ،أحدهم يتطاول بقامته على
عال“ :زمرة دم Aإيجابي ..زمرة دم A ٍ
بصوت ٍ أحد األس َّرة يصرخ
إيجابي ..نحتاج إلى متبرع يا شباب” ،ثم يقاطعه آخر“ :زمرة دم O
سلبي O ..سلبي على وجه السرعة يا شباب” .مسح أبي باقي دموعه
التي ظننت أنها نفدت ،ثم صرخ مشي ًرا بيده للممرض“ :أنا زمرتي
Aإيجابي ،أخي الممرض” ،وقبل أن يذهب طبع على جبيني بشفتيه
شمر عن وريده وهرول إلى غرفة الطبيب.
الناشفتين قبلة جميلةَّ ،
بقربي وضعوا شا ًّبا يبدو في الثالثينَّ ،
شقت قذيفة بطنه حتى
إلي حين أخذ الممرضون يطببون له
لطخت لحيته بالدماء ،أدار وجهه َّ
ُّ
يعض على شفتيه ويئن من الوجع، جرحه ،وبين الحين واآلخر كان
ينادي زمي ًلا له يمسك له السيروم“ :اذهب واعرف ما حل بعائلتي”.
الكل هناك يحاول أن يعرف أخبار عائلته بعد سقوط قذيفة
في حارتنا ،فقد اختلط اللحم ببقايا البيوت ،وما عدنا نستطيع أن
أحدا ،ومن نجا من الشظايا ها هو يئن في هذا القبو ،أو ما
ً نميز
يسميه الجميع باسم (المشفى الميداني).
123
في الخارج أخذ صوت الرصاص يعلو ،وتقترب القذائف
العمياء والمبصرة من المكان ،تزدحم األنفاس وتصمت لوهلة ،وال
يرتفع سوى صوت الدعاء وبكاء الصغار .أنا لم ِ
أبك ،ربما ألن
الرجال ال يبكون ،وربما ألني مذهول من هول ما يجري .أبي،
ووسط هذا االزدحام ،يحاول أن يشق طريقه إلى سريري ،يجلس
بقربي بحيل فاتر وبوجه بهتت مالمحه.
ساقي ،كشف
َّ في تلك األثناء أخبرته أني أشعر بحرارة تحت
الغطاء عن ساقي المهشمة ،ليعلو صوته المرتجف نحو الطبيب.
علي ،ألستيقظ بعد يوم كامل مستلق ًيا على
َّ بعدها بدقائق أغمي
إسفنجة للهالل األحمر في خيمة على أطراف البلدة.
كان ذلك أسوأ واقع عشته في حياتي ،ألعيش بعدها مع أطول
إلـي بعينيهـا المتورمتين من
كابـوس فـي عمـري؛ عمتـي بقربي تنظر َّ
الدمـع ،أبـي هـو اآلخـر يمسـح جبينـي بوجـع ،ثـم يقـول لـي بصوت
مهـزوز“ :نشـكر اللـه أنـك مـا زلـت ح ًّيـا ،فنصـف السـوريين ماتـوا،
والنصـف اآلخـر بلا أطـراف ،هي أيـام وسـتعتاد – مثلهـم – العيش
مع فـردة حـذاء واحدة”.
124
21 الناصحون
91 رحلة
97 زكزكة