مكتبة الكتب - السيد بلا مؤاخذة

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 128

‫مجموعة قصصية‬

‫السـيد‬
‫بال مؤاخذة‬
‫الكاتب‪ :‬شاهر جوهر‬

‫تدقيق لغوي‪ :‬أحمد فؤاد‬

‫اإلخراج الفني‪ :‬ضياء فريد‬

‫تصميم غالف‪ :‬محمد مجاهد‬

‫لوحة الغالف للفنان التشكيلي‪ :‬علي جوهر‬

‫رقم اإليداع‪2020/14308 :‬‬

‫الترقيم الدولي‪978-977-6689-46-6 :‬‬

‫‪ 9‬شارع مسجد المغفرة المتفرع من شارع العشرين‬


‫بجوارمدارس حسام الدين الخاصة فيصل الجيزة‪.‬‬
‫موبايل ‪01061813345 01126026691 :‬‬

‫‪01009823984‬‬
‫السـيد‬
‫بال مؤاخذة‬

‫مجموعة قصصية‬

‫شاهر جوهر‬
‫إهداء‬

‫إىل رفاقي يف اجلنوب‪..‬‬


‫أهدي هذا العمل‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫حكم الله‬

‫نُدف الثلج الكبيرة تتساقط بغزارة حول مخفر الشرطة‪ ،‬ترسم‬


‫طبقات رقيقة فوق سطح المخفر والبيوت واألشجار المحيطة‪.‬‬
‫يترجل منها الشرطي‬
‫َّ‬ ‫بعد لحظات تركن سيارة الشرطة في المكان‪،‬‬
‫“إيوان” وس ِّيده “معروف”‪ ،‬قبل أن ُيخرجا شا ًّبا مذلو ًلا من الباب‬
‫الخلفي للسيارة‪ .‬غرس “إيوان” بيده الثخينة نطاق سروال الشاب‬
‫من الخلف وأمسكه بعزم‪ ،‬في حين سحبه “معروف” من ياقة قميصه‬
‫بقرف‪ ،‬وقذفاه في زنزانته‪.‬‬
‫ً‬
‫بسيطا عشرين ًّيا ناح ًلا‪ ،‬ليس بالطويل وال‬ ‫فالحا‬
‫ً‬ ‫كان “عوشر”‬
‫بالقصير‪ ،‬نمى الشعر بتعب على وجهه المرعب‪ ،‬وانسدلت من تحت‬
‫منديله الم َّتسخ الذي يغطي رأسه كعمامة‪ ،‬خصلة شعر طويلة متل ِّبدة‬
‫يبدو أنها لم تمشَّ ط منذ زمن بعيد‪ ،‬في حين َد َّك نهايات سرواله‬
‫المر َّقع في جزمته الطويلة التي فاخت منها رائحة زبل البقر الزَّنخة‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫في الزنزانة سجين متأنق في منتصف العقد الثالث‪ ،‬يلف سا ًقا‬
‫ً‬
‫واقفا‬ ‫يفر‬
‫ويحدث نفسه طوال الوقت‪ ،‬وبين فينة واألخرى ُّ‬
‫ِّ‬ ‫فوق ساق‬
‫أخماسا بأسداس ويستغرق‬
‫ً‬ ‫ليدور في زاوية الغرفة‪ ،‬وتحسبه يضرب‬
‫تفكير عميق‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫في‬
‫جلس عوشر بالقرب من الباب كلي ًلا‪ ،‬يلتفت حوله ويفكر‬
‫بنفسه ببسور‪“ :‬ما الذي فعلته بنفسي؟ يا لي من غبي! ليتني لم أسمع‬
‫كالمها”‪.‬‬
‫نظر إليه السجين وأشار إليه بيده‪:‬‬
‫ ‪-‬هيه أنت‪.‬‬
‫رمقه عوشر بنزق‪:‬‬
‫ ‪-‬هل تحدثني؟‬
‫ق َّلب السجين ناظريه في المكان باستهجان‪:‬‬
‫ ‪-‬وهل يوجد مجرمان غيري وغيرك في هذا القصر‬
‫المنيف؟‬
‫مجرما؟! أنا األبله‬
‫ً‬ ‫قال عوشر في نفسه‪“ :‬يا إلهي! هل أصبحت‬
‫الذي سمعت كالمها”‪ ،‬ثم وجه حديثه إلى السجين بنبرة غاضبة‪:‬‬
‫ ‪-‬هناك أصدقاؤك العفاريت‪ ،‬من تكلمهم منذ دخلت‬
‫“قصرك” اللعين هذا‪.‬‬
‫ضحك السجين بطريقة تشبه إقالع محرك زراعي‪ ،‬وهي طريقة‬
‫جيدا‪:‬‬
‫ً‬ ‫يعرفها عوشر‬

‫‪8‬‬
‫ِ‬
‫واحك لي حكايتك‪.‬‬ ‫َ‬
‫تعال‬ ‫َ‬
‫تعال‪،‬‬ ‫ ‪-‬هئ‪ ،‬هئ‪ ،‬هئ!‬
‫مكث عوشر في مكانه دون أن يراعي دعوته‪ .‬تململ الرجل‪،‬‬
‫ومد يده ليصافحه‪:‬‬
‫ثم اقترب منه َّ‬
‫ ‪-‬السالم عليكم‪ ،‬اسمي “أدهم”‪ ،‬من ريف العاصمة‪،‬‬
‫وأعمل محام ًيا‪ ،‬أسكن في هذه البلدة الخارجة عن‬
‫سيطرة الحكومة منذ سنتين وثالثة أشهر وأحد عشر‬
‫يوما‪ ،‬أي منذ قرر اإلسالميون قتال الحكومة‪ .‬وأنت؟‬
‫ً‬
‫استوى عوشر في جلسته‪ ،‬وصافحه بتثاقل‪:‬‬
‫ ‪-‬وأنا عوشر‪ ،‬من سكان هذه البلدة‪.‬‬
‫ ‪-‬ممم‪ ،‬يبدو أن جنايتك كبيرة حتى إنك ال تقوى على‬
‫جيدا‬
‫ً‬ ‫محام يا هذا‪ ،‬وأعرف‬
‫ٍ‬ ‫الكالم أو النهوض‪ .‬أنا‬
‫قوانين هؤالء الرجال‪ ،‬تكلم وسأساعدك‪ .‬هل هي المرة‬
‫ُسج ُن فيها؟‬
‫األولى التي ت َ‬
‫ ‪-‬نعم‪.‬‬
‫ ‪-‬عرفت ذلك‪ ،‬نحن – الحقوقيين – لدينا معرفة ببواطن‬
‫الرجال‪ ،‬حتى وإن لم يقولوا ذاك جهارة‪ .‬وماذا فعلت؟‬
‫هل قتلت‪ ،‬انتهكت األعراض‪ ،‬اعتديت على أحدهم؟‬
‫ممم‪ ،‬أم إنك اقتلعت عين أحدهم؟ إن كنت فعلت‬
‫ذلك فاألمر سهل‪ ،‬قد يقتلعون عينك وتنتهي القصة‪.‬‬
‫ ‪-‬بل سرقت‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫ ‪-‬أوه‪ ،‬هذا فعل سيئ يا رجل‪ .‬شاب مثلك يسرق؟ المؤمن‬
‫ال يسرق يا هذا‪ .‬ال عليك‪ ،‬يحدث أن ينزغ الشيطان‬
‫رأس المرء‪ .‬على ٍّ‬
‫كل‪ ،‬حدثني بالتفصيل حتى أساعدك‪،‬‬
‫محام في‬
‫ٍ‬ ‫هيا‪ ،‬ال تفرغ صبري أنا “أدهم جاد الله” أكبر‬
‫العاصمة قبل الحرب بأعوام‪ ،‬كما أ ِّني كاتب وأديب‪،‬‬
‫هل سرقت دكانًا؟ أم مجوهرات جارتك؟ هيا تكلم‪.‬‬
‫كوَّر عوشر جسده من البرد‪ ،‬ثم أخذ ينفث أنفاسه الدافئة في‬
‫َق ْع ِر راحتيه‪:‬‬
‫ ‪-‬لم أكن أريد فعل ذلك صدقني‪ ،‬زوجتي هي السبب‪.‬‬
‫ ‪-‬ال تحدثني عن النساء يا أخي‪ ،‬أنا ضعيف حيالهن‪،‬‬
‫أعرف أنهن ماكرات في كل شيء‪ ،‬حتى إني ألعتقد‬
‫جازما أن هذه الحرب هن من أشعلنها‪.‬‬
‫ً‬
‫سكت أدهم قلي ًلا ثم أخذ يتأوه‪:‬‬
‫ ‪-‬آ ٍه! ما أجمل النساء! أكمل يا رجل‪ ،‬أكمل‪ .‬وما عالقة‬
‫زوجتك بوجودك هنا؟‬
‫ ‪-‬هي طلبت مني أن أسرق كيسين من الحصى المتناثر‬
‫على طرفي الشارع حتى أفترشه لبقرتنا في الزريبة؛ فهذا‬
‫قاس وزريبتنا تكاد تغص بالطين‪.‬‬
‫الشتاء ٍ‬
‫ً‬
‫مدهوشا‪:‬‬ ‫حصر أدهم رأسه بكلتا راحتيه‬
‫ ‪-‬أوه! هل تقصد أنك سرقت من األمالك العامة؟ يا‬
‫إلهي!‬

‫‪10‬‬
‫ ‪-‬جمعت كيسين فقط من الحصى المتناثر على طرفي‬
‫الشارع‪ ،‬فهو زائد عن حاجته‪ ،‬ولم يقل المجلس‬
‫المحلي إن ذلك مال عام‪ .‬كما أن رئيس المجلس قام‬
‫ببناء بيته الجديد من المواد المخصصة لتعبيد الشارع‪،‬‬
‫زوجته أخبرت زوجتي بذلك‪ ،‬والكل في القرية يعلم‬
‫ذلك‪ ،‬لكن ال أحد يستطيع ذكر األمر عل ًنا؛ ألن لدى‬
‫عائلة رئيس المجلس فصي ًلا عسكر ًّيا كبي ًرا يحميه‪.‬‬
‫ً‬
‫واقفا‪ ،‬وعاد يتجول في الزنزانة‪:‬‬ ‫دمدم أدهم‪ ،‬ثم ف َّر‬
‫ ‪-‬اعذرني يا هذا‪ ،‬ال أستطيع مساعدتك‪ ،‬فهذا ال يبرر‬
‫لك السرقة‪.‬‬
‫قال ذلك وعاد إلى مكانه في زاوية الزنزانة‪ .‬زحف عوشر‬
‫بالقرب من أدهم‪ ،‬ترفس ركبتاه قاع السجن‪:‬‬
‫محام وتعرف‬
‫ٍ‬ ‫ ‪-‬وهل جنايتي عويصة إلى هذا الحد؟ أنت‬
‫في القانون‪.‬‬
‫عاد أدهم للتأوه من جديد‪:‬‬
‫ ‪-‬آه! ماذا أقول لك أيها الشاب المسكين؟! قانونهم غير‬
‫قانوننا الذي درسناه في الجامعة‪.‬‬
‫سأل عوشر وفي لهجته تسخيف لكالمه‪:‬‬
‫ ‪-‬سأسجن؟ ليكن‪ ،‬سأدفع لهم ثمن الكيسين وتنتهي‬
‫القضية‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ ‪-‬هئ‪ ،‬هئ! أنت تسرق المال العام‪ ،‬هل تعي ما أقول؟‬
‫وستحاكم وفق قانون ديني ال لعب فيه‪ ،‬أتعتقد أنك ما‬
‫محكوما بقوانين الحزب الحاكم؟ سلطة الحزب‬
‫ً‬ ‫زلت‬
‫انتهت في هذه القرية منذ سيطرة المعارضة عليها‪ ،‬أنت‬
‫تعيش تحت حكم الله وسلطة الثورة‪ ،‬وهي سلطة ال‬
‫مراء بها‪ .‬أم إنك تعترض على سلطة الثورة؟‬
‫تبدلت حال عوشر‪ ،‬وتغير حبره وسبره‪:‬‬
‫ ‪-‬ال‪ ،‬أعوذ بالله‪ ..‬لكن‪ ..‬هل تقصد أنه من الممكن أن‬
‫يتم قتلي؟ أألجل كيسين من الحصى ُأقتل؟ إنك تهذي‬
‫أحدا لمثل هذا الفعل‪.‬‬
‫يا هذا‪ .‬لم أسمع أنهم قتلوا ً‬
‫ ‪-‬هئ‪ ،‬هئ! ال تزال ِغ ًّرا يا ولد‪ ،‬أعرف أحدهم ُق ْ‬
‫طعت‬
‫يده ألنه قطع شجرة‪ ،‬وقبل شهر قاموا بجلد شاب مئة‬
‫جلدة‪ ،‬وقاموا بتغريمه مئة ألف ليرة‪.‬‬
‫ ‪-‬وماذا فعل حتى صنعوا به ذلك؟‬
‫ ‪-‬ال أدري‪ .‬أتعتقد أن رأسي كمبيوتر ألحفظ كل شيء؟!‬
‫دخل عوشر في شرود عميق‪ ،‬حاول أدهم مواساته بطريقته‪:‬‬
‫ ‪-‬توكل على الله يا ولد‪ .‬ال أعرف ما أقوله لك‪ ،‬أنت تنشل‬
‫المال العام‪ ،‬وهذان الكيسان من مال المسلمين‪ ،‬انتهينا‬
‫إذا‪ ،‬قد صدر حكم الله فيك‪ ،‬بعد قليل سيستدعونك‬ ‫ً‬
‫للتحقيق ولن يصدقوا روايتك‪ ،‬وس ُتسأل عن جماعتك‪:‬‬
‫كم عددكم؟ ألي جهة عسكرية أو سياسية تنتمون؟‬

‫‪12‬‬
‫هل لديك ارتباط بالحكومة؟ وما هي األماكن التي‬
‫قمتم بسرقتها طوال هذه المدة؟‬
‫تأفف عوشر‪:‬‬
‫ ‪-‬جماعتي؟! بماذا تهذي يا رجل؟ أقول لك إني أخذت‬
‫كيسين من الحصى الفائض عن حاجة الشارع‬
‫محام‬
‫ٍ‬ ‫ألفترش زريبتي‪ ،‬وتسألني عن جماعتي! هل أنت‬
‫أم محقق؟!‬
‫ ‪-‬هئ‪ ،‬هئ! اهدأ‪ ،‬سأحاول إرشادك‪ ،‬أخبرني‪ ،‬من هو‬
‫صاحب الدعوة؟‬
‫تنهد عوشر الصعداء بتوتر‪:‬‬
‫َّ‬
‫اختل‬ ‫ ‪-‬رئيس المجلس المحلي‪ ،‬لقد قال إن الشارع‬
‫تقويمه بسببي‪.‬‬
‫ً‬
‫ضاحكا‪:‬‬ ‫سكت أدهم‪ ،‬ثم نام على بطنه وقد انفجر‬
‫ ‪-‬لن تنجو يا رجل‪ ،‬لن تنجو‪.‬‬
‫َّ‬
‫يتفكر في كالمه‪ ،‬محاو ًلا إقناع‬ ‫تركه عوشر وعاد إلى مكانه‬
‫نفسه بتفنيد ما دار من حديث‪ .‬في ذات الوقت عاد أدهم واستقام‬
‫في جلوسه‪ ،‬ثم تربع في جلسته وقال بجد َّية‪:‬‬
‫ ‪-‬إن العرب إن َعفوا عن لصهم ضربوا بسيوفهم ناصيته‪،‬‬
‫كنت أتمنى مساعدتك‪ ،‬فلتسامحني على ذلك‪ ،‬سأبقى‬
‫أتذكرك ما حييت‪ .‬يا للنساء! كم هن خسيسات!‬

‫‪13‬‬
‫زم شفتيه ورفع يديه دليل عجزه‪ ،‬ولم يق َو على كبح فمه عن‬
‫ثم َّ‬
‫الضحك بهستيرية‪.‬‬
‫بعد لحظات ُفتح باب الزنزانة‪ ،‬وتم استدعاء عوشر للتحقيق‬
‫معه‪ ،‬بقي قرابة الساعة في التحقيق‪ ،‬وعندما عاد كانت قد جمدت‬
‫مستلق على‬
‫ٍ‬ ‫الدماء في عروقه‪ ،‬جلس ولم يتفوه بحرف‪ .‬وبينما أدهم‬
‫ظهره وقد رفع ساقيه إلى الجدار‪ ،‬ودون أن يلتفت إليه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ ‪-‬ها‪ ،‬لم تصدقني‪ .‬ما قلته لك لم يكن تلفيق كاتب وال‬
‫محام‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫محام‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫اختالق شاعر‪ ،‬قلت لك أنا‬
‫يحدث نفسه‪ ،‬طأطأ عوشر رأسه‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫وكمن‬
‫ ‪-‬لم يصدقوا أنها المرة األولى التي سرقت بها‪ ،‬وقد سألوا‬
‫إن كنا عصبة نمتهن اللصوصية واالحتيال‪ ،‬لكنهم لم‬
‫يضربوني‪ .‬وعندما سألتهم إن كنت س ُأعدم‪ ،‬ضحكوا‬
‫من أنوفهم‪ ،‬حتى إن رئيس المخفر كاد أن ينقلب‬
‫على ظهره خلف كرسيه من شدة الضحك‪ ،‬وقال رفيقه‬
‫ببرودة‪“ :‬سنقتلك فقط؟! بل سيتم تقطيعك وربما‬
‫حرقك”‪.‬‬
‫قال عوشر ذلك ثم اندفع يبكي حتى ابتل شعر وجهه‪ ،‬التفت‬
‫بحدة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫إليه أدهم‬
‫بدوي؟! لقد َص ُع َب ْت‬
‫ٌّ‬ ‫ ‪-‬أتبكي مثل النساء وأنت رجل‬
‫علي؛ لذا سأساعدك‪ ،‬هناك مخرج وحيد كي‬
‫حالتك َّ‬
‫تنجو‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ ‪-‬وما هو؟‬
‫اقترب منه أدهم وراح يوشوشه‪:‬‬
‫ ‪-‬بعد ثالثة أيام سيتم نقلك إلى المحكمة الشرعية‬
‫ليصدر بحقك الحكم‪ ،‬وفور خروجك من باب هذا‬
‫المخفر سيكون بإمكانك الهرب؛ اركض‪ ،‬اركض وال‬
‫تلتفت خلفك‪.‬‬
‫علي‪.‬‬
‫ ‪-‬لكنهم سيطلقون النار َّ‬
‫ ‪-‬لن يفعلوا‪ ،‬صدقني هذه فرصتك الوحيدة‪ ،‬وأنا أعي ما‬
‫َّ‬
‫فسينفذ‬ ‫أقول‪ ،‬كما أنه ليس أمامك أي خيار آخر‪ ،‬وإال‬
‫فيك حكم الله‪.‬‬
‫قال ذلك وراح يضحك كعادته ويعوي كالذئاب‪.‬‬
‫في صباح اليوم الثالث فتح “إيوان” باب الزنزانة‪ ،‬وهو يرتدي‬
‫بنطاله الصحراوي القصير‪ ،‬يترنح ويتثاءب من النعاس‪ ،‬ثم صاح‪:‬‬
‫ ‪-‬عوشر‪ ،‬جهز نفسك‪ ،‬سوف تخرج‪.‬‬
‫رد عوشر‪ ،‬والذي لم ينم ليلته تلك وهو يتفكر بكيفية الهرب‪:‬‬
‫ ‪-‬إلى أين؟‬
‫ ‪-‬إلى أين يا أبله؟! لإلعدام‪ ،‬هيا أيها األبله‪ ،‬لقد خنقتنا‬
‫برائحة الزبل المنبعثة من لباسك‪.‬‬
‫نظر إليه أدهم‪:‬‬
‫ ‪-‬كما أوصيتك‪ ،‬اركض وال تلتفت خلفك‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫خرج عوشر‪ ،‬وما إن وصل باب المخفر حتى أطلق ساقيه‬
‫للريح وركض حتى انقطعت أنفاسه‪ ،‬وخلفه يقف “إيوان” على باب‬
‫ً‬
‫ضاحكا‪:‬‬ ‫واضعا يديه في جيبيه ويصرخ‬
‫ً‬ ‫المخفر‬
‫ ‪-‬توقف يا مجرم‪.‬‬
‫سمع عوشر صراخه‪ ،‬ودون أن يلتفت َع َبر الشارع وهو يتمتم‪:‬‬
‫“صدر حكم الله‪ ..‬صدر حكم الله”‪ .‬فجأة تصدمه سيارة من نوع‬
‫متضعضعا مهشم الوجه على األرض‪ ،‬هرع‬
‫ً‬ ‫تايغر مسرعة‪ ،‬ليسقط‬
‫الجميع نحوه‪ ،‬أسرع “إيوان” وقد احتضنه بكلتا ذراعيه‪:‬‬
‫ ‪-‬لماذا هربت يا مجنون؟! كنا نريد إيصالك لبيتك‬
‫وزوجتك‪.‬‬
‫تسايل الدم من أنف عوشر‪ ،‬وراح ينشج بلوعة‪:‬‬
‫ ‪-‬كنت‪ ..‬كنت أريد أن أهرب من حكم الله‪ ..‬لكن أين‬
‫المفر؟ نحن – الجناة الضعفاء – لن نقدر على الهرب‬
‫من حكمه‪ ..‬ليتني لم أسمع كالمها وأسرق‪ ،‬كيف‬
‫سألقى الله بهاتين اليدين اآلثمتين؟!‬
‫كثر الهرج حوله‪ ،‬وارتفع صوت إيوان‪:‬‬
‫ً‬
‫مسعفا‪ ..‬إسعاف‪ ..‬أين اإلسعاف؟‬ ‫ ‪-‬أحضروا‬
‫َّ‬
‫وتخضبت سترته بدماء عوشر الذي سرعان‬ ‫دمعت عينا إيوان‪،‬‬
‫ما جفأت عيناه‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ذاهب إلى الجبهة‬

‫هذا ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺫﻭ التقاسيم الفرعونية الهشة‪ ،‬ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻮﺟﻪ الطويل‬


‫والمسمى “خبي ًرا”‪ُ ،‬ﺧﻠﻖ ﻭﺑﺪﻣﻪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻮهبة‪ ،‬ﺃﻗﺼﺪ ﻣﻮﻫﺒﺔ التنقيب‬
‫مدة‪ ،‬ﻭﻳﺒﺪﻭ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﻮﺿﻰ‬
‫عن الذهب‪ .‬ﺟﺎﺀ ﺑﻪ صديقي “مهدي” قبل َّ‬
‫الدائرة في البالد ﺃﺛﺮﺕ به فع ًلا؛ إذ شلح شار َبيه وارتدى لحية طويلة‬
‫كثَّة‪ ،‬كما ﺃﺣﺎﻁ ﺧﺼﺮﻩ ﺑﻤﺴﺪﺱ ﺗﺸﻴﻜﻲ ﻃﻮﻳﻞ‪.‬‬
‫ﻭﺑﺎﻟﻘﺮﺏ ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻲ في الريف الجنوبي من الهضبة في الجوالن‪،‬‬
‫قطعة أرض بور قد ورثتها عن أبي‪ ،‬وبها ﺑﻌﺾ اإلﺷﺎﺭﺍﺕ والرموز‬
‫المطلسمة ﻣﻦ ﺣﻘﺐ زمنية سحيقة ﺟدًّ ا‪.‬‬
‫جلسنا ثالثتنا‪ ،‬ثم ابتدر مهدي حديثه بهدوء لم أعتد عليه‪ ،‬فأنا‬
‫وأن الكل في قريتي يصفه‬
‫أن تلك السكينة ليست من طباعه‪َّ ،‬‬
‫أعرف َّ‬
‫بـ “راديو بشري متحرك”‪ ،‬لك َّنه اليوم على خالف ذلك‪ ،‬هادئ‬
‫حتى النهاية الم َّرة‪ ،‬وعباراته تستند إلى لغة كنائسية رفيعة الروحانية‪،‬‬
‫وبين اللحظة واألخرى كان يطبع على وجهه ابتسامة مطمئنة في‬
‫االسترسال مثل لوحة زيتية لـ “ماري مينيفييه”‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫إذ تحدث مط َّو ًلا وبلباقة عن قدرات هذا الرجل في حل رموز‬
‫وطالسم اإلشارات الحجرية‪ ،‬وعن الحالة السيئة التي وصلت إليها‬
‫البالد بعد الحرب‪ ،‬وفي نهاية الحديث أفصح عن نيته إخراج كنز‬
‫مدفون في أرضي‪.‬‬
‫موسوسا؛‬
‫ً‬ ‫ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﻻﺡ ﺍﻟﺘﺮﺩﺩ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻬﻲ لكالمه‪ ،‬زحف بقربي‬
‫ألنَّه ال يقدر إ َّلا أن يعود ألصوله النزقة‪:‬‬
‫ ‪-‬هل أنت غبي؟ أقول لك أنت تنام على كنز وما زلت‬
‫تتبرم بوجهك الناشف أمام هذا الخبير! سوف نصبح‬
‫أثرياء يا أهبل‪..‬‬
‫قطع الخبير كلمات مهدي‪ ،‬ودأب يتحدث هو اآلخر باتزان‪:‬‬
‫ ‪-‬البحث عن الذهب في الصخور هو إحدى مواهبي‬
‫المتعددة‪ ،‬لربما إنك تعاملت مع خبراء كثر قبلي ولم‬
‫تحصل على نتيجة؛ لذا أنا ال ألوم عدم ثقتك بي‪،‬‬
‫فمن ال يعرفني يجهلني‪ ،‬لكن ما ال تعرفه أني أخذت‬
‫هذه الموهبة عن أجدادي بالفطرة‪ ،‬وصقلتها بالجد‬
‫والتعب‪ ،‬وجنيت من ذلك األرباح‪.‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬ثم تناوبا يجاهدان في إقناعي عبر الحديث‬
‫تجار‬
‫المستفيض عن األحالم؛ إذ تر َّبعا حولي وأخذا يقنعانني مثل َّ‬
‫العجول في قريتي‪ ،‬أحدهما يشد والثاني ُيرخي رأفة بشعرة معاوية‬
‫التي تربطهما بي‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ﻭﺑﻔﻢ ﻓﺎﻏﺮ ﻳﺘﺴﺎﻳﻞ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻠﻌﺎﺏ ﺃﺧﺬﻧﻲ كالمهما عن األحالم‬
‫بعيدا‪ ،‬إلى بالد ال تشبه هذه البالد‪ .‬وفي غمرة انشغالي بأحالمي‬
‫ً‬
‫تلك‪ ،‬وبحماسة منقطعة سألت‪:‬‬
‫ ‪-‬متى سنبدأ البحث؟‬
‫سمع الخبير ذلك فتهلل وجهه باالرتياح ثم أجاب‪:‬‬
‫ ‪-‬الليلة‪.‬‬
‫ﺍﺗﻔﻘﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻤﻞ‪ ،‬وﻛﻨﺎ ستة رجال‪ ،‬ﻭﻫﺬﺍ الخبير ﻳﺘﺤﺪﺙ ﻣﻦ‬
‫ﻳﻄن ﻭﻻ ﻳﻬﺪﺃ‪ ،‬ﻣﺜﻞ ﻋﺶ ﺍﻟﺪﺑﺎﺑﻴﺮ‪ ،‬ﻭﻗﺒﻞ ﺍﻟﺒﺪﺀ أﺧﺬ ينط‬
‫ُّ‬ ‫ﻓﻢ ﻭﺳﻴﻊ‬
‫ﺣﻮﻟﻨﺎ ﻓﻮﻕ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﻣﺜﻞ قرود العالم القديم‪ .‬وﻓﻲ ﻭﻟﻴﺠﺔ ﻧﻔﺴﻲ ﺳوَّ ل‬
‫لي خطمه الطويل‪ ،‬وﻟﺤﻴﺘﻪ الصدئة المنزلقة بشعر كثيف حتى الرقبة‪،‬‬
‫وحاجباه العريضان الناتئان فوق صدغين منتفخين ﻛﻤﻮﻣﻴﺎﺀ فرعونية‬
‫من األسرة الثامنة عشرة‪ ،‬ﺃﻥ ﺃﺅﻣﻦ بمبادئ االنتخاب الطبيعي ﻟﺪﻯ‬
‫ﺩﺍﺭﻭﻳﻦ‪ ،‬ﻭﺑﺄﻥ ﺃﺻﻞ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺳﻌﺪﺍﻥ‪.‬‬
‫ﻓﺒﻌﺪ ﻛﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻂ‪ ،‬ﺍﺳﺘﻘﺮ ﺣﺎﻟﻪ ﻓﻮﻕ َﺭﺟﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ‬
‫القاسية‪ .‬ﻭﻗﻒ‪ ،‬وبعينين سيئتي ﺍﻟﺘﻜﻮﻳﻦ ﺭﺍﺡ ﻳﻤﺨﺮ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ‬
‫يعطي إشارة البدء‪:‬‬
‫ ‪-‬ﺑﺎﺷﺮﻭﺍ ﻣﻦ ﻫﻨﺎ‪.‬‬
‫أن‬
‫ﻳﺮ َّ‬
‫أن ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ لم َ‬ ‫مشي ًرا ﺑﺈﺻﺒﻌﻪ إﻟﻰ ﻣﻜﺎﻥ ﻭﻗﻮﻓﻪ‪ ،‬ﻳﺒﺪﻭ َّ‬
‫أﻗﻞ ﺻﺨﺮة كانت ﺗﺰﻥ ضعفينا ﻧﺤﻦ الستة؛ لذا خ َّيم التردد والقلق على‬
‫وجوهنا‪ .‬وعندما رأى فتور عزيمتنا‪ ،‬أخذ – على ما يبدو كعادة اتبعها‬
‫طريقا مكل ًلا ﺑﺎألحالم‪،‬‬
‫ً‬ ‫مزو ًقا ﺃﻣﺎﻣﻨﺎ‬
‫– في الضغط على نقاط ضعفنا‪ِّ ،‬‬

‫‪19‬‬
‫ِّ‬
‫مذك ًرا كل واحد منا بحلمه‪ .‬ﻭﻋﻠﻴﻪ ﺳﺤﺒﻨﺎ ﺍﻟﺮﻓﻮﺵ ﻭﺍﻟﻔﺆﻭﺱ ﻭﺷﺮﻋﻨﺎ‬
‫ﻧﻨﻘﺐ‪ .‬ﻛﻞ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻨﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﻨﻘﺐ ﻋﻦ ﺣﻠﻤﻪ؛ ﻟﺬﺍ ﻛنَّا ﻧﺤﻔﺮ ﻣﻦ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ ﻓﻲ‬
‫يوما ﺑﺤﻠﻢ‪.‬‬
‫ﺑﻠﺪ ال يؤمن إال بالكوابيس‪ ،‬وﻟﻢ ﻳﺆﻣﻦ ً‬
‫ﺃﻣﻀﻴﻨﺎ ﻟﻴﻠتين ﻧﺰﻓﺮ ﺍﻟﺘﻌﺐ ﻣﻦ ﺧﻴﺎﺷﻴﻤﻨﺎ ومؤخراتنا‪ .‬وفي يومنا‬
‫الثالث‪ ،‬وعلى ُبعد ثالثة أمتار ويزيد – هو عمق الحفرة –‪ ،‬وقف‬
‫خبيرنا كما في اليومين السالفين مك ِّو ًرا ساقيه ومرددً ا فكاهاته التي‬
‫ِّ‬
‫ويصفر بنشاز لح ًنا ألغنية‬ ‫أحدا‪ ،‬ينفث الدخان من أنفه‬ ‫ً‬ ‫لم تُضحك‬
‫قديمة (بالد العرب أوطاني)‪ ،‬ثم يكمل حديثه الممل عن حبه‬
‫األفالطوني لفتاة أحبها منذ عام ولم تحبه‪.‬‬
‫جهدا فوق جهد؛‬
‫ً‬ ‫أما أنا فيزيدني شوق أوروبا وفتاة أحببتها‬
‫َّ‬
‫لع ِّلي – إن وجدت ذاك الكنز – أستطيع أن أضع يدي بيدها وأتجه‬
‫يعج بالهدوء حيث‬
‫معها إلى مجتمع الوفرة الغربي‪ ،‬أو إلى أي مكان ُّ‬
‫يهدأ هذا القلب‪ ،‬وال أستيقظ فيه على صوت مدفع أو أسمع أحدهم‬
‫أن رفاقي يشاركونني تلك‬
‫يتحدث في السياسة أو الحرب‪ .‬ويبدو َّ‬
‫نعد كل حبة تراب تخرج‪ ،‬ونقيس كل مليمتر‪.‬‬
‫األحالم؛ إذ كنا ُّ‬
‫لكن فجأة يخرج أحدنا من الحفرة وقد تغ َّبر رأسه من التراب‪،‬‬
‫ً‬
‫ممسكا بعلبة صدئة من التونة الفارغة وشظية يبدو‬ ‫ثم يرفع يده عال ًيا‬
‫أنها من تركات الحرب العربية ‪ -‬اإلسرائيلية الثالثة أو الرابعة‪ ،‬أو‬
‫لحرب نعيشها‪ ،‬ثم يصرخ بوجع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫لربما‬
‫ ‪-‬هذا هو الكنز‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫في غمرة خيبتنا تلك‪ ،‬خ َّيم الصمت على الجميع‪ ،‬وقفوا وقد‬
‫لوَّحت سنو الحرب السبعة وأيام الحفر الثالثة وجوههم المتعبة‪.‬‬
‫أحدهم يلوِّح برفشه قاذ ًفا به إلى البعيد‪ ،‬وآخر يلقي بجثته على حجر‬
‫ً‬
‫خطوطا على التراب؛‬ ‫ممسكا بيده علبة التونة الصدئة ويرسم بها‬ ‫ً‬
‫لربما ألنه ال يريد ألحد منا أن يرى كم يقاسي جراء خيبته‪ ،‬وثالث‬
‫يجلس بقربه‪ ،‬يضع يده على ركبته مواس ًيا‪ ،‬ثم يصمت قلي ًلا‪ ،‬يق ِّلب‬
‫وغ ًّلا‪:‬‬
‫وجهه في السماء‪ ،‬يصيح بعصبية فوق أنف يرشح عر ًقا ِ‬
‫ ‪-‬أريد أن أتزوج وأنجب أوالدً ا مثل سائر البشر يا ألله‪ ،‬ال‬
‫أريد أن أحمل السالح‪ ،‬أريد أن أحيا كإنسان طبيعي‪،‬‬
‫أريد أن أعمل أي عمل يا ربي‪.‬‬
‫ثم َّ‬
‫نكس رأسه كمن يواري عينيه العابرتين‪ ،‬فأثارت كلماته‬
‫الجميع؛ ألنها كلمات الجميع‪ ،‬كلمات من تنغَّ صت حياته وكره كل‬
‫ما في هذه الحرب‪.‬‬
‫استقام على قوائمه‪ ،‬رمق الخبير بوجع وصاح بوجهه البارد‪:‬‬
‫ ‪-‬أين الكنز يا سيادة الخبير؟‬
‫يدا بيد‪ ،‬ثم أجاب بقلق‪:‬‬
‫وبخوف صفق الخبير ً‬
‫ ‪-‬يبدو أ ِّني أخطأت أيها الرفاق‪ ..‬علينا أن‪ ..‬أن نحفر‬
‫مجددً ا‪ ..‬هناك‪ ،‬نعم هناك‪..‬‬

‫‪21‬‬
‫ثم أومأ برأسه في حركة بطيئة‪ ،‬تنم عن حيرة‪ ،‬إلى تلة صغيرة‬
‫بالقرب من حفرتنا‪ .‬سمع منه الجميع ذلك‪ ،‬ثم التفوا حوله بغيض‬
‫وج َّرروه إلى قلب الحفرة‪ ،‬فتأ َّبط أحدهم عنقه تحت إبطه المتعرقة‪،‬‬
‫وعال بعد ذلك صراخه‪.‬‬
‫أستطيع أن أسمي هذا الزمن الضئيل من حياتي بالخيبة؛ إذ‬
‫ُ‬
‫تسايلت بالقرب منهم كقطرة محكوم عليها بالسقوط‪ ،‬وقبل أن‬
‫أنصرف لم أسمع منه سوى التوسالت المرددة‪:‬‬
‫ ‪-‬يا شباب‪ ،‬أنا أكبر منكم‪ ..‬الوجه فيه ماء يا شباب‪ ..‬قل‬
‫لم تضربونني؟! اتقوا‬
‫كلمة يا مهدي أنت ورفيقك‪َ ..‬‬
‫الله يا شباب‪ ..‬آي‪ ..‬آه!‬
‫كتفي المهزومتين رأسي‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫وحملت فوق‬ ‫ُ‬
‫تداركت خيبتي‪،‬‬ ‫بعدها‬
‫المتعب‪ ،‬ومضيت‪ .‬خلفي يتبعني صوت مهدي متسائ ًلا عن وجهتي‪،‬‬
‫عدت إليه‪ ،‬أمسكت راحة يده‪ ،‬وضعت بها الشظية‪ ،‬ومضيت‪ .‬وطوال‬
‫الطريق كنت أدندن مغن ًيا‪“ :‬سوريا يا حبيبتي”‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫الناصحون‬

‫كل ما في هذا اليوم محبط‪ ،‬مقيت ويثير االكتئاب‪ ،‬فالجو‬


‫قائظ واألرض على غير العادة من كل عام‪ ،‬قاسية‪ ،‬ناشفة‪ ،‬وكل‬
‫شيء بها قد أينعه الذبول‪ .‬ولو لم تكن قذائف الهاون تسقط كل حين‬
‫على أطراف القرية‪ ،‬لقلت إني في صحراء لوط‪ ،‬ال في سوريا‪ .‬لكن‬
‫ما زاد حالي سو ًءا في هذا اليوم ليس ذلك فقط‪ ،‬بل هم الناصحون‬
‫العابرون‪.‬‬
‫يقال إن فالنًا َّ‬
‫تنفس في وجه زوجته‪ ،‬أي أورثها طباعه وملوحة‬
‫دمه‪ ،‬وهنا في هذه القرية الصغيرة جنوب البالد يبدو أن الحرب‬
‫تنشقتها‪ ،‬فأورثت سكانها العصبية والكدر وشهوة طرح النصائح‪.‬‬
‫فعلى جانب الطريق األيمن الواصل بين السوق والقرية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫خال إال من العابرين‪ ،‬انزلقت قطعة أرض صغيرة‬ ‫وهو مكان شبه‬
‫هي كل ما ورثته عن أجدادي‪ ،‬خاوية‪ ،‬جرداء ومقشَّ رة لشدة الح ِّر‪.‬‬
‫كانت مريم أول السالكين له في هذا اليوم‪ ،‬لحظة تواجدي هناك‪.‬‬
‫صرخت باسمي من بعيد‪ ،‬فأشحت بوجهي متظاه ًرا بعدم االنتباه‬
‫لها؛ أل ِّني أعرف أنها ممن ال يترك نهايات سائبة في أي حديث‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫لك َّنها انحدرت عن الطريق واقتربت أكثر‪ ،‬وبعصبية زعقت بوجهي‬
‫تتساءل عن سبب تجاهلي لها‪ ،‬فهذا الشعب ال يحبذ التجاهل‪ .‬لهذا‬
‫تقض الحرب‬
‫ِ‬ ‫يوما في هذه البالد ولم‬
‫– عزيزي القارئ – إن مررت ً‬
‫أحدا؛ ألني أكاد أن أحلف مئة يمين‬
‫على بقايانا‪ ،‬فإياك أن تتجاهل ً‬
‫أن ذلك هو السبب الوحيد الشتعال هذه الحرب التي يبدو أنها لن‬
‫يوما‪.‬‬
‫تنطفي ً‬
‫عبثًا كانت محاوالتي لتبرير موقفي؛ إذ لم يقنعها قولي أني كنت‬
‫منشغ ًلا بفأسي‪ .‬لكنني امتصصت غضبها عندما حو ُ‬
‫َّلت الحديث‬
‫إليها وسألتها عن عائلتها‪ ،‬فكانت سيدة الحديث بال منازع‪ ،‬ففي‬
‫هذه األيام العلقم العائلة هي أهم ما نملك؛ إذ تحدثت مطو ًلا عن‬
‫حالتها في النزوح‪ ،‬وعن زوجها العاطل عن العمل‪ ،‬وعن حال ابنها‬
‫بعد إغالق المدارس جراء الحرب‪ ،‬كما تحدثت بوجع عن كيف‬
‫خاب سعيهم خالل السنوات التي سبقت الحرب‪ ،‬وجعلتهم الحرب‬
‫صفر اليدين‪.‬‬
‫هدأت كلماتها‪ ،‬تنفست قلي ًلا‪ ،‬ثم قامت بدس خصلة شعر‬
‫انسدلت من غ َّرة رأسها في حجابها‪ ،‬ثم سألت بفضول‪:‬‬
‫ ‪-‬ماذا تريد أن تصنع بهذه الحفرة؟ أتريد أن تزرع شي ًئا؟‬
‫عرفت اآلن ِل َم السنة ممحلة‪ ،‬و ِل َم تأخر نزول المطر هذا‬
‫العام؛ ألنَّك قررت أن تصبح مزارعً ا يا وجه النحس‪.‬‬
‫وماذا تريد أن تزرع؟‬

‫‪24‬‬
‫يعد سكان هذه القرية من أكثر المؤمنين بأن العمل عبادة‪،‬‬
‫لكن ال أدري ِل َم بنصائحهم ُيخرجون المرء عن دينه حين يرونه‬
‫يزاول أحد أعماله‪.‬‬
‫أجبتها باقتضاب لمزاحها الثقيل بابتسامة زائفة‪:‬‬
‫ ‪-‬توتًا‪.‬‬
‫ ‪-‬توتًا! يبدو أن الحرب أ َّثرت بك فع ًلا‪ ،‬مذ عرفتك –‬
‫منذ الصف األول – وأنت غبي‪ ،‬انظر ألرضك‪ ،‬إنها‬
‫منخفضة ورطبة في الصيف‪ ،‬إنها تصلح للرمان ال‬
‫للتوت‪ ،‬نصيحة أختك مريم‪.‬‬
‫هي دقائق وقبل أن أزفر مللي من حديثها نط أمامي (عبد الرازق)‬
‫ممازحا‪ ،‬فبانت قامته المربوعةكمسمار‬
‫ً‬ ‫بحركة مفاجئة وباهتة ليخيفني‬
‫أما زوجته وبالقرب منه فضحكت‬
‫صدئ فدفعت معدتي للدوار‪َّ ،‬‬
‫ضحكا خرج من أنفها‪ ،‬ولفرط ضحكها أمسكت‬ ‫ً‬ ‫لحركته تلك‬
‫خاصرتها بيدها؛ لذا ال أقدر إ َّلا أن أجاريهما في الضحك؛ إذ هما‬
‫مدرسان وزوجان شعبيتهما في قريتي صفر‪ .‬جلسا بالقرب من غرستي‪،‬‬
‫أحدا في القرية إ َّلا وتناواله بسوء‪:‬‬
‫بأذني ولم ُيبقيا ً‬
‫َّ‬ ‫ثم غرسا أنفيهما‬
‫ ‪-‬هذا الديوث سرق ثالثين س َّلة غذائية وحرمني من‬
‫حصتي‪ .‬بسيطة‪ ،‬سأفضحه على الفيسبوك‪( .‬قال عبد‬
‫الرازق بغضب‪ ،‬وكأنه يكمل حديثًا بدأه مع زوجته قبل‬
‫أن يصل إلينا)‪ ،‬وكأننا نعرف ما دار من حديث سابق‬
‫ردت زوجته‪:‬‬

‫‪25‬‬
‫دائما‪“ :‬كن‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬ألنك ضعيف في نيل حقوقك‪ .‬قلت لك‬
‫صدام ًّيا في التغيير”‪ .‬رئيس المجلس المحلي وأعضاؤه‬
‫ال يلينون معك بسوى الصراخ‪ ،‬الطفل يبقى يبكي حتى‬
‫تُطعمه أمه‪ ،‬وإن لم تصرخ فمن سيلبي طلباتك؟ ها‪،‬‬
‫من سيلبي طلباته يا جماعة؟‬
‫ ‪-‬ألم تري ماذا فعلت؟ لقد صرخت‪ .‬أقسم بعينيك يا حبيبتي‬
‫إلي‪ ،‬حتى‬
‫إني صرخت ونحت يا حبيبتي‪ ،‬الكلكان ينظر َّ‬
‫إن زوج زبيدة الخرف قال للجنة‪“ :‬أبعدوا هذه النائحة‬
‫عنا وسدوا فمها بسلة”‪ .‬أخ لو لم يمسكني أحد عناصر‬
‫الفصيل الذي كان يحمي عملية توزيع المساعدات‬
‫الغذائية‪ ،‬لكنت حرمته أوالده لألبد‪ ،‬لكن الله يحبه‪.‬‬
‫ ‪-‬آه يا حبيبي‪ ،‬أنا أعرف أن دمك الحار هو نقطة ضعفك‪.‬‬
‫ ‪-‬معك حق‪ ،‬دمي حار وال أقبل الزائغة في الفعل‪ .‬وهذه‬
‫هي مشكلتي‪ ،‬لكن تعلمين أن يدي ليست ميزانًا‪ ،‬وإن‬
‫ضربت أحدهم بال حسبان فقد أقتله؛ لهذا لقد أفرغ‬
‫علي صب ًرا وانسحبت بكرامتي اليوم‪ ،‬وإال كنت قد‬
‫الله َّ‬
‫أقمت مجزرة بأوالد الديوث…‬
‫ ‪-‬أعرف يا حبيبي‪.‬‬
‫حليما‪ ،‬لكانت‬
‫ً‬ ‫ ‪ ..-‬لو انجررت خلف غضبي ولم أكن‬
‫تناقلتها وسائل اإلعالم المغرضة‪ ،‬واستغلتها وتقاذفت‬
‫أخبارها المعارضة والحكومة باتهام بعضهما البعض‪..‬‬

‫‪26‬‬
‫نظرت مريم إليهما َّ‬
‫ومططت طرف فمها بسخرية وغمغمت‪:‬‬
‫در ووجدت غطاءها‪.‬‬
‫ ‪ِ -‬ق ٌ‬
‫جعل عبد الرازق نفسه لم يسمع ما قالت مريم‪ ،‬ولرغبته تغيير‬
‫عما أنوي زراعته في‬
‫الحديث‪ ،‬وعندما لم يجد ما يشركني به‪ ،‬سألني َّ‬
‫هذه الحفرة‪.‬‬
‫وعندما أخبرته‪“ :‬توت ورمان”‪ ،‬انتفض أمامي قائ ًلا‪:‬‬
‫ ‪-‬فليسامحك الله يا رجل‪ ،‬اسمع مني وازرع تي ًنا‪ ،‬إنه‬
‫يحتمل العطش‪ ،‬والطلب عليه يزداد كل يوم‪.‬‬
‫ثم أخذ يشرح لي بعشوائية ضرورة مرونة الموارد االقتصادية‬
‫وقدرتها على التكيف‪ ،‬باإلضافة إلى قوانين السوق وآلياته في العرض‬
‫والطلب‪ .‬ولو لم أكن أعرفه وأيقن أنه ُيمضي وقته في صف الكالم‬
‫واالعتياش على اإلعانات األممية‪ ،‬لقلت إنَّه أحد ُمنظري الليبرالية‬
‫االقتصادية‪.‬‬
‫أما زوجته فكان لها رأي آخر؛ وقفت ورددت مقاطعة بعد أن‬
‫َّ‬
‫أسندت خاصرتها بيدها‪:‬‬
‫ ‪-‬تي ًنا؟! أيزرعه للدبابير والغربان؟! ازرع جو ًزا‪ ،‬سعر الكيلو‬
‫ال يقل عن ألفي ليرة‪ ،‬صدقني ستكسب‪ ،‬ال تستمع إلى‬
‫كالم زوجي الحبيب‪ ،‬إنه ال يميز بين الطيط والعيصالن‪،‬‬
‫فكيف له أن يعرف األنسب لزراعة هذه األرض؟!‬

‫‪27‬‬
‫ ‪-‬أنا ال أميز بين الطيط والعيصالن؟! أنا‪ ..‬ال أميز‪..‬‬
‫بين‪ ..‬الطيط‪ ..‬والعيصالن؟! (رد عبد الرازق على‬
‫مصدوما)‪.‬‬
‫ً‬ ‫زوجته‬
‫ردت مريم بمزاح على عصبية عبد الرازق‪:‬‬
‫ ‪-‬ليس ذلك فقط‪ ،‬بل وال تعرف من تزوج خالتك‪.‬‬
‫ضحكت مريم هي وزوجته إلى أن هدر دوجان بالقرب منهم‬
‫وكأن جدالنا وجلستنا تلك كان ينقصها هذا العجوز‪،‬‬‫َّ‬ ‫بكل هدوء‪،‬‬
‫فهو رجل سبعيني هرم‪ ،‬لك َّنه ما زال يحتفظ بقوته وسالطة لسانه‪،‬‬
‫منحن‪ .‬جلس وأخذ يحدثنا‬
‫ٍ‬ ‫ظهر‬
‫قدم إلينا فجأة وقد كوَّر يديه خلف ٍ‬
‫بكسل وبتفاصيل مملة‪ ،‬كيف ذهب إلى بيته في هضبة الجوالن‪،‬‬
‫وزرع مئة غرسة زيتون وسقاها في غضون نصف ساعة‪ ،‬ورجع دون‬
‫أن يالحظه مسلحو تلك المنطقة أو يقتلوه‪ .‬كل واحد م َّنا يعلم في س ِّره‬
‫أن هذا العجوز يبالغ في ثرثرته‪ ،‬لك َّننا أضعف من أ َّلا ننبهر بإنجازاته‪،‬‬
‫َّ‬
‫وإ َّلا ك َّنا وجبة سهلة لفمه الذي ال يستسيغ سوى طعم الشتيمة‪.‬‬
‫ ‪-‬مريم‪ :‬يا ألله يا عم! ليت كل الرجال بشجاعتك‪.‬‬
‫ ‪-‬زوجة عبد الرازق‪ :‬بالفعل‪ ،‬ليت زوجي بنصف‬
‫شجاعتك‪.‬‬
‫ ‪-‬عبد الرازق‪ :‬لو امتلكت نصف شجاعته‪ ،‬لكنت‬
‫اتخذت زوجة ثانية يا حبيبتي‪.‬‬
‫قطع دوجان إطراءهم‪ ،‬ثم أكمل يومياته خالل ساعة ويزيد من‬
‫الحديث المتواصل‪ .‬وحين شعر أنه أفرغ كل ما لديه من يوميات‪،‬‬
‫إلي وسألني‪:‬‬
‫أدار رأسه َّ‬

‫‪28‬‬
‫ ‪ِ -‬ل َم هذا الفأس يا بني؟ أتريد أن تزرع شي ًئا؟‬
‫أجبت بتململ‪:‬‬
‫ ‪-‬إن شاء الله‪.‬‬
‫ ‪-‬و ِل َم ال يشاء الله؟! فالله بارك بالزراعة‪.‬‬
‫ ‪-‬أقصد إن لم يقصف الله عمري فسأزرع‪.‬‬
‫ ‪-‬و ِل َم يقصف عمرك الله؟! فأنا أعرف أنَّك ممن لم‬
‫يحملوا السالح‪.‬‬
‫ ‪-‬أقصد إن لم يصبني احتشاء في القلب أو يتخثر دمي أو‬
‫لم تسقط على رأسي قذيفة هاون طائشة فجأة‪ ،‬فسأزرع‪.‬‬
‫ ‪-‬طيب‪ ،‬وإن لم يصبك احتشاء في القلب أو يتخثر دمك‬
‫أو لم تسقط على رأسك هذا قذيفة هاون طائشة فجأة‪،‬‬
‫فماذا تريد أن تزرع؟‬
‫قلت بحنق‪:‬‬
‫ ‪-‬توتًا ورمانًا وتي ًنا وجو ًزا‪.‬‬
‫زم شفتيه باستغراب‪ ،‬ثم صاح‪:‬‬
‫تهدل وجهه وقد َّ‬
‫إلي‪َّ ،‬‬
‫نظر َّ‬
‫ ‪-‬اسمعوا أيها الناس! اسمعوا أيها الكفار! اسمعي يا أمة‬
‫الله! يا ولد‪ ،‬هل خ َّبلتك مصائب الحرب؟ هل أنت‬
‫أدرى من ربنا؟! جاوبني‪.‬‬
‫ ‪-‬أعوذ بالله‪.‬‬
‫ألن ربنا أقسم بالزيتون‪.‬‬ ‫ ‪ً -‬‬
‫إذا أطبق فمك وازرع زيتونًا؛ َّ‬

‫‪29‬‬
‫جميعا فوائد الزيتون بطريقة مملة‪ .‬وبحركة‬
‫ً‬ ‫ثم أخذ يعدد لنا‬
‫مفاجئة حدث جدال حاد بين األطراف األربعة‪ ،‬وكل طرف تحوَّل‬
‫ُ‬
‫أسندت حنكي بجمع كفي‬ ‫إلى ُمدافع صلب عن نظريته‪ .‬أمام ذلك‪،‬‬
‫ورحت أنظر إلى أشداقهم المتطاير منها ال ّت ْفل‪ ،‬إلى أن جاءت أمي‬
‫تترنح من بعيد شامخة كشجرة سنديان‪ ،‬وما إن تر َّبعت بيننا وأرخت‬
‫ظلها الوارف حتى سألت‪:‬‬
‫ ‪ِ -‬ل َم لم تزرع شجيرات المشمش حتى اآلن؟‬
‫اعتصمت بالصمت‪ ،‬ثم زحفت بالقرب منهم وردمت حفرتي‬
‫مبتعدا‪.‬‬
‫ً‬ ‫بيدي‪ ،‬أسدلت فأسي على كتفي ومضيت‬
‫َّ‬
‫اتسعت فرجتا عينيها ثم سألت أمي باستغراب‪:‬‬
‫ ‪-‬ما به؟ هل أغضبتموه بأمر؟‬
‫سأل دوجان مستغر ًبا مثل حالها‪:‬‬
‫ ‪-‬هل أغضبتموه يا جماعة قبل أن آتي؟‬
‫فه َّز الحاضرون رؤوسهم دليل النفي‪ ،‬ثم أكمل دوجان‪:‬‬
‫ ‪-‬كل ما في األمر أنَّنا أسدينا إليه بعض النصائح‪.‬‬
‫انبسطت عينا أمي باستطالة صغيرة تنم عن اعتذار‪ ،‬ثم قالت‬
‫بأدب‪:‬‬
‫ ‪-‬آسفة يا جماعة‪ ،‬أنا أعرف ابني‪ ،‬فهو ال يحب النصائح‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫مذكرات نباتي‬

‫مهما‬
‫ًّ‬ ‫مهما‪ ،‬بل األفضل أن أقول إنه لم يكن‬
‫ًّ‬ ‫اسمي ليس‬
‫تماما كانعدام أهميتي ومذلتي في هذا البيت وهذا الحي‪ ،‬فأنا‬
‫ً‬ ‫يوما‪،‬‬
‫ً‬
‫ابن حي مليء بالعنف في وطن كبير تشظى من العنف‪ ،‬أعزب‪ ،‬ال‬
‫أدخن‪ ،‬وأحب الملوخية‪ ،‬وعمر الخامسة والعشرين في هذا البلد‬
‫هو عمر مناسب لكل شيء‪ ،‬للدراسة‪ ،‬للعمل‪ ،‬للهجرة غير الشرعية‪،‬‬
‫لتعاطي الممنوعات‪ ،‬ولالنخراط في إحدى المجموعات المتمردة‬
‫غصت بها البالد‪ ،‬واألهم أنه عمر مالئم الحتالل قلب رحاب‬
‫التي َّ‬
‫المدرسة الصهباء الجميلة‪ ،‬من تزاول معي نفس المهنة‪ ،‬لكن قصر‬
‫ُ‬
‫قامتي وضآلة جثتي في هذه القرية وفي هذا البيت بالتحديد يغريان‬
‫اآلخرين إلشعاري بالدونية‪ ،‬ما يدفع لتكون رقبتي غرفة استراحة‬
‫لأليادي الثخينة‪.‬‬
‫فأخي يشاطرني المهنة‪ ،‬مدرس‪ ،‬وكل يوم يتناوب على ارتداء‬
‫بعض ثيابي‪ .‬واليوم‪ ،‬في هذا الصباح الريفي البارد‪ ،‬وقبل أن يقطع‬
‫تأملي أمام المرآة بحشر جثته مكاني ليتفرس طوله الفارع‪ ،‬جعل‬

‫‪31‬‬
‫كعادته يرمقني بين اللحظة واألخرى بمؤخرة عينه وكأنه يغيظني‬
‫في سره قائ ًلا‪:‬‬
‫ ‪-‬يا قصير‪ ..‬يا قصير‪.‬‬
‫ثم بلفتة يمضي إلى دوامه حتى أحاول اللحاق به متسائ ًلا خلفه‬
‫بلباقة‪:‬‬
‫ ‪-‬يا حلو‪ ..‬يا أسمر‪.‬‬
‫إلي بصعوبة‪:‬‬
‫وبوجهه العابس والمغلق على الدوام يلتفت َّ‬
‫ ‪-‬نعم؟‬
‫ ‪-‬يحدث أن يخطئ المرء في هذا البيت‪ ،‬عادي‪ ،‬لكن‬
‫وجوربي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يبدو أنك تلبس سترتي‬
‫ ‪-‬عسكر ّية د ّبر راسك‪.‬‬
‫تماما معه؛ ألني‬
‫ً‬ ‫مبد ًلا مجرى حديثي‬
‫كرد اعتبار أرفع صوتي ِّ‬
‫اعتدت امتهان حقوقي من قبل الغير‪:‬‬
‫حلما‪ ..‬أتسمعني؟ أعرف أنك ممن‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬حلمت البارحة‬
‫يجيدون التأويل‪ ..‬يا حلو‪ ..‬أتسمعني؟‬
‫لكن كلماتي أبطأ من أن تبلغ خطواته المهطعة في عدوها‬
‫عائدا إلى أمي‪ ،‬هي األخرى في‬
‫ً‬ ‫جيبي‬
‫َّ‬ ‫يدي في‬
‫َّ‬ ‫إلى عمله‪ .‬أدس‬
‫المطبخ تدندن أغنية محل َّية مملة‪ ،‬تضع الفطور‪ ،‬تتربع ببطء مثل‬
‫جدارية لمورغان ويسلنغ أو جيفري الرسون‪ ،‬ثم تنبري مكملة‬
‫حديث البارحة‪ ،‬حيث البارحة ً‬
‫أيضا أكملت حديث أول البارحة‪،‬‬

‫‪32‬‬
‫وأول البارحة أكملت حديث اليوم الذي قبله‪ ،‬حديثها البيزنطي الال‬
‫منتهي‪:‬‬
‫جيدا بحفيظة؟‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬ها‪ ..‬هل فكرت‬
‫علي سوى أن ألوذ بالصمت؛ ألنها تعي أن سكوتي يعني‬
‫هنا ما َّ‬
‫شدة كرهي لهذه اآللة التي تسمى حفيظة‪ ،‬وعدم رغبتي في أن تكون‬
‫زوجة‪ .‬مجرد ذكر اسمها هو مناخ مالئم ليخلق في رأسي الصداع‪.‬‬
‫لكن بما أني ال أريد أن يبلغ صياحنا للسمان في آخر الحارة في هذا‬
‫الصباح المبارك‪ ،‬قلت بأدب‪:‬‬
‫ ‪-‬إنه زواج يا أمي الحبيبة‪ ،‬ليس حذا ًء نشتريه فنرده‬
‫لصاحبه في حال كان ض ِّي ًقا‪.‬‬
‫ ‪-‬إنها تالئم مقاسك‪ ،‬صدقني‪.‬‬
‫معمق‪،‬‬
‫ ‪-‬إنه زواج‪ ،‬ليس كيلو بطاطا نشتريه بال تفكير َّ‬
‫حتى كيلو البطاطا حين تشترينه ِ‬
‫أنت من الشيخ‬
‫الخضرجي تجادلينه في السعر‪ ،‬وتتفحصين جودته‬
‫لنصف ساعة ليصل به حد اإللحاد‪.‬‬
‫ْ‬
‫أكملت حديثها معي بفتنة ميلودية صافية ولغة هارمونية عذبة‬
‫على غير العادة‪:‬‬
‫ ‪-‬يا ولد‪ ،‬وجهها لحيم‪.‬‬
‫ ‪-‬ال يعنيني ذلك‪ ،‬فأنا نباتي‪.‬‬
‫ ‪-‬أقول لك شعرها أملس وجسمها ل ِّين وجميل‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫ ‪-‬خصرها معجون مثل خبز الفالحين‪.‬‬
‫ ‪-‬يا ولد‪..‬‬
‫ ‪-‬ال أريدها يعني ال أريدها‪.‬‬
‫وألني أعلم أن أمي من جيل المدافعين عن التقاليد العائلية‬
‫والطبقية في هذه القرية‪ ،‬لم تدهشني بردها؛ ألني على يقين من أن‬
‫ً‬
‫بغيضا‪ ،‬تورمت أوداجها‬ ‫أجوبتي ستثير عصبيتها تلك‪ ،‬إذ عال صوتها‬
‫وهي تضغط على مخارج الحروف في توبيخي‪:‬‬
‫ ‪-‬و ِل َم ال تريدها يا مؤخرة الدجاجة؟ هل ذلك من‬
‫أجل رحاب‪ ،‬تلك النحيفة ذات الوجه البالستيكي‬
‫الممكيج؟ كل القرية تعرف أن والدها يريد تزويجها‬
‫البن عمها‪ ،‬وهي تحبه؛ إذ يكفي أنه طويل ووسيم‬
‫وليس قصي ًرا‪.‬‬
‫أعلم أن رأسي المدور فوق كتفين هزيلتين هما سمة تمتاز بها‬
‫األبراج النارية وفق ما يقوله عالم الفلك والمنجم نوستراداموس‪،‬‬
‫لكن الذي يجهله نوستراداموس وال تعلمه أمي أن أضعف الكلمات‬
‫نعومة قد تؤذيني أنا الحساس والحالم في هذا البيت‪ .‬لكن منذ أن‬
‫حمل الجميع السالح في البالد‪ ،‬استحالت رومانسيتي إلى عصبية‪،‬‬
‫شأني بذلك شأن الجميع‪.‬‬
‫معتصما بالصمت‪،‬‬
‫ً‬ ‫مع كل ذاك اإلحباط في هذا البيت‪ ،‬أعود‬
‫أمي هي األخرى تسكت هنيهة ثم ترتسم على محياها المليح جد َّية‬
‫زائفة‪:‬‬

‫‪34‬‬
‫ ‪-‬ال غداء لليوم‪ ،‬أنا ذاهبة زيارة‪ ،‬د ِّبر رأسك‪.‬‬
‫يبدو أني فع ًلا أعيش في ثكنة عسكرية‪ ،‬لكن قبل أن أنصرف‬
‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫إلى عملي ال مانع من محاولة أخيرة‪ ،‬أقترب منها أكثر وأقول‬
‫وجل‪:‬‬
‫حلما‪.‬‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬حلمت البارحة‬
‫مر فراغ شفيف بعد حديثي معها‪ ،‬وكأنها لم تسمع كلماتي‪.‬‬
‫قلت في نفسي ال أريد أن أظلمها‪ ،‬لعلها لم تسمع ما قلت‪ ،‬فأنا مؤمن‬
‫أن الجنة تحت أقدام األمهات‪ ،‬لكن ال أدري أي جحيم ساق أبي‬
‫إليها؛ لهذا عاودت الحديث معها من زاوية أخرى‪:‬‬
‫ ‪-‬هل تعلمين يا حلوة أني البارحة – خي ًرا بالصالة على‬
‫حلما؟‬
‫ً‬ ‫النبي – حلمت‬
‫هي – وربما من منطق كومنتي سلطوي – غرزت عينيها في‬
‫أحمضت أمومتها وبفلسفة أوتوقراطية محض ردت‪:‬‬
‫وجهي‪َ ،‬‬
‫ ‪-‬ألم تتأخر على دوامك؟‬
‫علي هذا الصباح‬
‫ال أدري أي معرفة جعلتها تمارس سلطتها َّ‬
‫بالذات؛ لهذا أرتدي حذائي وأودع وجهي الرائع على المرآة متج ًها‬
‫إلى المدرسة‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫وتغص أردافه‬
‫ُّ‬ ‫مديري في المدرسة رجل براغماتي‪ ،‬ثخين‬
‫باللحم‪ ،‬محترم ويكره فكرة أن المدير الناجح هو من ُيطاع دون‬
‫علي‪ ،‬ربما ألني أقصر‬
‫َّ‬ ‫إصدار األوامر؛ لهذا أجده ال يبخل بأوامره‬
‫يقدر أن عظمة‬
‫مدرس في شركته‪ ،‬لكنه ال يقرأ لفكتور هوغو ألنه ال ِّ‬
‫الشعوب ال يحددها عدد أفرادها‪ ،‬وعظمة الفرد ال تصنعها قامته‪.‬‬
‫وأكثر شيء ال يعيه ًّ‬
‫حقا هو أن أثقل الحديث هو الكالم المعاد‪،‬‬
‫فكل صباح يردد الحديث ذاته؛ إذ يحدثني ببضع كلمات يجزئها‬
‫بالحديث مناصفة بين مشاكل الطالب وبشكل مقتضب وعجول‬
‫عن الحال الذي آلت إليه البالد بعد الحرب‪.‬‬
‫مهتما‪:‬‬
‫ًّ‬ ‫دنوت بكرسيي منه أكثر‪ ،‬وقاطعته‬
‫حلما‪ ،‬لم‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬أتعرف يا مديري المثقف؟ البارحة حلمت‬
‫أحدا به‪ ،‬لكنك الوحيد الذي سأبوح به لك‪.‬‬
‫أخبر ً‬
‫ ‪-‬خير بالصالة على النبي؟‬
‫ ‪-‬استيقظت الساعة الثالثة فج ًرا‪ ،‬وقد أيقظني ذاك‬
‫فظيعا‪ ..‬ثم‪ِ ..‬ل َم تنظر إلى الساعة‬
‫ً‬ ‫الحلم‪ ..‬كان رهي ًبا‪..‬‬
‫يا مديري المحترم؟ أال تعرف أن العين ِمغْ َرفة الكالم؟‬
‫ ‪-‬إنها تدق الثامنة؛ لنوزع الطالب على صفوفهم‪ ،‬ثم‬
‫تكمل حلمك‪.‬‬
‫الطالب في الباحة بكافة األشكال الهندسية‪ ،‬الطويلة والمربعة‬
‫المعوجة والمخرشة والتي ال أجد شك ًلا‬
‫َّ‬ ‫والمدورة وبعض الوجوه‬
‫إلي ويبتسم‪ ،‬إنهم يحبونني‪ ،‬أعرف‬
‫هندس ًّيا يالئمها‪ ،‬والكل ينظر َّ‬

‫‪36‬‬
‫خصوصا نصائح مديري‬
‫ً‬ ‫جيدا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ذلك لكنني رجل يحفظ النصائح‬
‫تلك التي يكررها في االجتماع األسبوعي‪ ،‬والتي تقول‪“ :‬ال تعطوا‬
‫الطالب كامل حريتهم؛ ما زالوا صغا ًرا على الديمقراطية”؛ لهذا ال‬
‫أرد ابتساماتهم‪ ،‬ليس ألني ال أريد أن أورثهم “بالهة ابتسامتي” كما‬
‫تقول أمي‪.‬‬
‫في هذه األثناء يزحف المدرسون وراء بعضهم البعض كسالى‬
‫تماما كأغنام بانورج‪ ،‬بعضهم‬
‫ً‬ ‫ومتثاقلين إلى صفوفهم وبال أي وجهة‬
‫مغتاظا‪ ،‬وآخر ارتسمت على وجهه خطوط ناشفة‬‫ً‬ ‫يدحل بطنه أمامه‬
‫من الدمع جراء ركوبه دراجته النارية في هذا الصباح البارد‪ ،‬وثالث‬
‫يهرش بطنه ثم يدخن آخر سيجارة نكد وهو يردد عبارته المكررة كل‬
‫صباح‪“ :‬ليقطع الله عمر هذه الحرب”‪.‬‬
‫لكن وحدهن المدرسات – مثل سائر كل النساء في هذه البالد‬
‫– لم تلوثهن هذه الحرب‪ ،‬يتمايلن إلى الصفوف بكامل األناقة‬
‫والرشاقة‪ .‬في حين ال يقوى قلبي إال وأنا أوزِّع ابتساماتي لهن هنا‬
‫وهناك‪.‬‬
‫وما إن تأتي رحاب حتى ينشرح وجهي لجميلة الهندام تلك‪،‬‬
‫علي التحية حتى‪ ،‬لكنني أبرر تجاهلها لي؛‬
‫لكنها تمر دون أن تُلقي َّ‬
‫فنحن مجتمع محافظ يلوك سمعة الفتاة كالعلكة‪ ،‬ثم يرمي بها تحت‬
‫قدميه‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫بعيدا عنها وعن المدير يسحبني ذاك المدرس النكد‪ .‬بالمناسبة‪،‬‬
‫ً‬
‫وسمي جده س َّيار على اسم‬ ‫اسمه س َّيار‪ُ ،‬سمي على اسم جده س َّيار‪ُ ،‬‬
‫وسمي والد جده س َّيار ألن والده اسمه س َّيار‪ ،‬وهي متوالية‬
‫أبيه س َّيار‪ُ ،‬‬
‫وراثية تحدث بتكرار في هذه البلدة‪ ،‬وتُعيد نفسها في تتابعات‬
‫عشوائية غير مفهومة‪ ،‬قد يعجز آليك جيفريز نفسه عن فهمها‪.‬‬
‫يسحب على سيجارته بملل‪ ،‬ثم يبدأ شكواه بهدوء‪:‬‬
‫ ‪-‬أجدك رجل َفهم‪ ،‬ولديك نظرة مقبولة للحياة‪ ،‬كما أنك‬
‫إنسان محترم‪ ،‬أنت تعجبني‪ ،‬وأنت تعرف ذلك‪.‬‬
‫ ‪-‬أصبت‪ ،‬أنا كل ما قلت‪.‬‬
‫ ‪-‬أنا أقرأ قصصك السخيفة على الموقع اإللكتروني‪،‬‬
‫ماذا كان اسمه؟ ال داعي له‪ .‬المهم عندي سؤال لم‬
‫ُيجبني عنه أحد‪ ،‬ال في هذه المدرسة المقيتة‪ ،‬وال في‬
‫الجريدة المملة‪ ،‬وال في التلفاز الكئيب‪ ،‬وال حتى في‬
‫هذه الوجوه المتعبة للمتمردين؛ برأيك المتواضع هل‬
‫سيطول هذا القرف وهذه الحرب أكثر من ذلك؟‬
‫أفرك بملل حنكي بكعب يدي‪:‬‬
‫ ‪-‬هل لديك معرفه بتفسير األحالم؟‬
‫ ‪-‬أال تعرف أن من يجيب السؤال بسؤال أحمق؟‬
‫ ‪-‬بلى‪ ،‬لكن أال تعرف أن من ينتظر نهاية هذه الحرب‬
‫ستقصف عمره قبل ذلك؟‬

‫‪38‬‬
‫وبم حلمت؟‬
‫ ‪-‬قصف الله عمرك على هذا النكد‪ ..‬طيب‪َ .‬‬
‫هل بستة مدرسين عجاف مملين مثلك ومديرهم‬
‫سمينهم سابعهم؟ كل الناس تحلم‪ ،‬عادي‪ ،‬زوجتي‬
‫تحلم‪ ،‬أبي العجوز في حضن أمي يحلم‪ ،‬حتى بقرتي‬
‫كل يوم تجأر آخر الليل‪ ،‬وعندما أتفقدها أجدها تغط‬
‫في نوم عميق‪ .‬عادي أيها الممل‪ ،‬كل قصار القامة‬
‫الحالمين في هذا البلد يتواسون باألحالم‪.‬‬
‫فجأة تحجز “رجاء” بين حديثنا‪ ،‬فهذه المعلمة تدس أنفها‬
‫بين كل أذنين؛ إذ لم أكد أبدأ سرد حلمي حتى قفزت بقربنا بأطرافها‬
‫ُ‬
‫نظرت إلى حجابها األسود في هذه‬ ‫الطويلة وجلبابها األسود‪ .‬فكلما‬
‫معقوصا‬
‫ً‬ ‫إلي أنها قامت بلف شعرها تحته‬
‫القرية المحافظة‪ ،‬يخيل َّ‬
‫كذيل دجاجة سومطرة‪ ،‬وهي موضة دأبت النسوة على اتباعها لغواية‬
‫الرجال في هذه القرية في الفترة األخيرة‪ ،‬مع االحتفاظ بظالل‬
‫ْ‬
‫سمت حول العينين‪ .‬ولو أعلم أن الحكومة‬ ‫خضراء من المكياج ُر‬
‫تبيح حلبات الفايت للدجاج والديوك‪ ،‬لكنت جزمت لك – عزيزي‬
‫القارئ – أن هذه الدجاجة في هذه المدرسة ستكون بطلة الموسم‪.‬‬
‫دائما تجدها في حالة تذمر‪ ،‬سمعتها ذات مرة تندب حظها‬‫ً‬
‫الميؤوس منه لرفيقتها في حصة الفراغ‪ ،‬قالت بأسى‪:‬‬
‫ ‪-‬نعم‪ ،‬آه‪ ،‬نعم‪ ،‬إني مسحورة يا صديقتي‪ ،‬قالت لي أم‬
‫علي المخاوية أن العرسان في هذه القرية ال يالحظون‬
‫جمالي ألن أحدهم كتب لي حجا ًبا‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ ‪-‬حجا ًبا!‬
‫ردت زميلتها مواسية باستغراب‪.‬‬
‫عانسا‪ ،‬أعرف من فعلت ذلك‪ ،‬إنها‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬نعم‪ ،‬حجا ًبا؛ ألبقى‬
‫تلك الشلقة جارتي‪ ،‬من تلعب بعقول الرجال‪ ،‬إنها تغار‬
‫مني‪.‬‬
‫ ‪-‬هل عادت أم علي لعملها في فك السحر؟‬
‫ُ‬
‫حلفت لها على المصحف‬ ‫ ‪-‬حذارِ أن تخبري ً‬
‫أحدا‪ .‬لقد‬
‫أحدا لكشف طالعي وفك السحر‪ِ ،‬‬
‫أنت أول‬ ‫إني لن أخبر ً‬
‫الح ِلف‪ ،‬تعلمين ما‬ ‫واحدة أخبرها بذلك‪ِ ،‬‬
‫أنت خارج َ‬
‫يعني إن وصل األمر لهيئة األمر بالمعروف التي يديرها‬
‫الفصيل اإلسالمي في هذه القرية‪ ،‬سيقطع رأسها على‬
‫أقل تقدير‪.‬‬
‫ِ‬
‫عليك في ذلك‪ ،‬فأنا أدري بهذا الحال أكثر منك‪.‬‬ ‫ ‪-‬ال‬
‫لكن يا ِ‬
‫لك من مسكينة!‬
‫ ‪-‬آه‪ ،‬الحاسدون كثر يا صديقتي‪.‬‬
‫كلما رأيت هذه المد ِّرسة أتذكر ذاك الحديث‪ ،‬مسحورة! على‬
‫جمالها أم مالها؟! ليتني أستطيع أن أقول لها إن كل بنت معتوهة تُولد‬
‫في القرية يلقبها األطفال في الحي بـ “رجاء”‪ ،‬فكيف لها أن تكون‬
‫مسحورة!‬

‫‪40‬‬
‫اليوم – وكالعادة – وقفت خلسة على مرمى نفس مني ومن‬
‫س َّيار‪ ،‬ضحكت دون مبرر للضحك‪ ،‬ثم أقفلت ضحكها مسرعة‪ ،‬فهي‬
‫دائما تلوِّح بإصبعها في وجوه الطالب مرددة‪“ :‬البيوت أسرار يا‬
‫ً‬
‫معلما مثلها‬
‫ً‬ ‫طالب”‪ ،‬لكن ليتها تعلم أن على كل شباك وباب هناك‬
‫يسترق السمع‪:‬‬
‫ ‪-‬القانون قانون أيها األستاذان‪ .‬أال يكفي تغيبكما‬
‫المتكرر وتأخركما عن الدوام؟ لو سمحتما ليتجه‬
‫كالكما إلى صفه وطالبه‪ ،‬وإال‪..‬‬
‫أنا – ومثل إنسان ستشوان الطيب – أحترم القانون‪ ،‬وأكره الـ‬
‫دوما‪ ،‬بل التي يرددها الجميع بعد الحرب‬
‫(وإال) تلك التي ترددها ً‬
‫ً‬
‫زائفا‪،‬‬ ‫في وجهي؛ لهذا أجدني أستمع لكالمها بكبرياء حتى لو كان‬
‫أجر نفسي متج ًها إلى طالبي لعل أحدهم يستمع لحلمي‪ .‬وبيني‬ ‫ثم ُّ‬
‫يوما‪“ :‬إن الطيبة طبيعية في اإلنسان‪،‬‬
‫وبين نفسي أردد ما قاله بريخت ً‬
‫أما القسوة فإنها تتطلب جهودً ا كبيرة‪ .‬غير أن ثمن الطيبة في عالم‬
‫مرتفعا”‪.‬‬
‫ً‬ ‫كعالمنا‪ ،‬غال ًبا ما يكون‬

‫‪41‬‬
‫دخل الله‬

‫هو يعرفكيف يأكل الكتف‪ ،‬وكيف يوظف الحرب لصالحه‪،‬‬


‫مثقف وينتمي إلى عشيرة‪ .‬فمنذ أن وجد نفسه مطرودً ا من وظيفته‬
‫ونازحا بال مأوى أو عمل‪ ،‬تفتحت عبقريته وبحثه‬
‫ً‬ ‫لدى الحكومة‪،‬‬
‫الدؤوب عن ثقافة مضادة‪ ،‬فهو ال يتعب من توصيف المجتمع بحثًا‬
‫عن حركة ثقافية معارضة للقيم الجمالية واألخالقية السائدة في‬
‫مجتمعه‪ ،‬لكن منذ انهيار سعر الصرف وقفز الدوالر ومعه السلع‬
‫ألسعار جنونية‪ ،‬الذ بالصمت هو وحركته تلك‪ ،‬وأخذ يبحث بشهية‬
‫المعيلين في سوريا بعد الحرب‪،‬‬
‫مفرطة عن عمل مثله مثل سائر ُ‬
‫وعليه تمكن من دحر البطالة له ولعائلته الكبيرة‪ .‬وأمام عبقريته‪،‬‬
‫شاع بين الناس قانونه الشهير‪ ،‬والذي بات يردده الصغير قبل الكبير‪.‬‬
‫فلتشتر بكل مالك‪ ،‬وإن‬
‫ِ‬ ‫يقول القانون‪“ :‬إن رغبت في شراء أرض‬
‫رغبت في التجارة فلتتاجر بنصف مالك‪ ،‬وإن رغبت بشراء بيت‬
‫فلتشتر بفائض مالك‪ ،‬وإن رغبت في كل ذلك فتاجر في حميرك”‪.‬‬
‫ِ‬

‫‪42‬‬
‫من هنا لم يعد يحبه سكان البلدة‪ ،‬ربما ألن الكره والحسد هما‬
‫المهنة الوحيدة التي باتت تشغلهم في هذه السنوات الم َّرة‪ ،‬أو لربما‬
‫ألنه من المستحيل أن ينقرض بفعل ثورة أو حرب أهلية أو حتى‬
‫نزاع عشائري طويل‪ ،‬فهو مدرك أن أي عشيرة لكي تبقى ألكثر من‬
‫ربع قرن يجب أن يكون معدل إنجاب األطفال في كل عائلة منها‬
‫بمقدار اثنين فاصلة أحد عشر كل عام‪ ،‬ومعدل أقل من هذا سيؤدي‬
‫إلى اندثار هذه العائلة وهذه العشيرة‪.‬‬
‫وال أعتقد أن “دخل الله”‪ ،‬وبعشيرته الممتدة بأذرع أخطبوطية‬
‫ألكثر من ستين جي ًلا‪ ،‬يخشى انقراض ثقافته وعشيرته‪ ،‬فهو قادر على‬
‫الصمود ألكثر من عشرة قرون بأريحية‪ ،‬فهذه الحرب لم تقطع نسله‬
‫كغيره من السوريين‪ ،‬وقادر على اإلنجاب‪ ،‬وقادر أن يذكر لك اسم‬
‫ٍ‬
‫كاف ليخلق له األعداء‪.‬‬ ‫سبب‬
‫ٌ‬ ‫ثوان‪ .‬وكل هذا‬
‫جده التاسع في تسع ٍ‬
‫وأهم هؤالء األعداء – باعتقادي – كان “زوبا”‪ ،‬وهو االسم‬
‫المحلي لـ “منصور” ب َّياع الديوك في البلدة‪ ،‬ففي ذاك النهار‪ ،‬وحين‬
‫بلغ الفقر مبلغه به – شأنه بذلك شأن كل سكان البلدة – وتفشت‬
‫المجاعة في البلدة‪ ،‬عصب رأسه بمنديله إلى وراء كذيل حصان‬
‫ً‬
‫كاشفا عن صلعته المغمورة بالعرق والمسفوعة بتأثير الشمس‪ ،‬فبدا‬
‫مثل ديك بلدي أصيل يبحث عن أحدهم ليبوح له بما يعصف بصدره‬
‫من حقد وحسد‪ ،‬فج َّرته ساقاه إلى صبحي‪ ،‬شاعر البلدة الوحيد‪،‬‬
‫الحساس والرقيق‪ ،‬وهو شاب نحيف وخط قليل من الشيب جانبي‬
‫رأسه‪ ،‬كان في بستانه ِّ‬
‫يشذب زروعه الذابلة ويتفقدها‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫وعلى الفور أخذ زوبا يطحن فكيه في الكالم‪ ،‬قبل أن يلقي‬
‫عليه التحية حتى‪ ،‬فكانت تبرز أثناء حديثه المستعجل بين حين‬
‫يجمع رجليه‬
‫ِّ‬ ‫وآخر لحيته المتوسطة تحت أسنان مهترئة قبل أن‬
‫ً‬
‫وبعضا من الثوم‪،‬‬ ‫تحته‪ ،‬ثم أخد يرمق فأس صبحي وهو يزرع البصل‬
‫متحد ًثا بإعجاب عن عبقرية دخل الله‪:‬‬
‫ ‪-‬يمتلك تسعة حمير‪ ،‬ويحبها كحب أبنائه‪ ،‬ويومية كل‬
‫حمار عنده ألف ليرة في الوادي‪ ،‬ألف ليرة! يعني تسعة‬
‫مضروبة بألف يساوي‪ ،‬ممم يساوي تسعة آالف ليرة‪،‬‬
‫إنها أكثر من يومية أستاذ جامعي في العاصمة يا رجل‪..‬‬
‫سكت قلي ًلا بنزعة قلق‪ ،‬ثم أخذ يجيل بناظريه مساكب البصل‬
‫التي زرعها صبحي وكأنه يتمنى في سره أن يكون حمار دخل الله‬
‫العاشر‪ .‬وبين حين وآخر يمط طرف فمه بابتسامة مواربة‪ ،‬يغمزه ويومئ‬
‫برأسه إليه كمن يطلب منه أن يكمل عمله وأال يعطي با ًلا لحديثه‪،‬‬
‫لكنه يكمل بغيض وال يقدر إال أن ينط بقربه ويمضي في حديثه‪:‬‬
‫ ‪-‬لعل كالمك في مح ِّله يا صديقي‪.‬‬
‫ ‪-‬أي كالم تقصد؟ لم تسمح لي بأن أتفوه بحرف منذ‬
‫مجيئك! (أجابه صبحي مستغر ًبا)‪.‬‬
‫ ‪-‬أقصد كالمك السابق عن العباقرة‪ ،‬إنهم فع ًلا أشخاص‬
‫غير أسوياء‪ ،‬انظر إلى وجهي‪ ،‬إلى قامتي‪ ،‬إلى وسامتي‪،‬‬
‫دائما غير‬
‫ً‬ ‫فإلى متى سأبقى أبيع الديوك؟ آه‪ ،‬الجميلون‬
‫محظوظين‪ ،‬ربما لو أني مثل هذا اآللي البشع دخل الله‬
‫لكنت عبقر ًّيا وكانت حالتي أفضل‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫انزوى زوبا قلي ًلا‪ ،‬ثم أكمل يسأله ببالهة‪:‬‬
‫ ‪-‬هل تعرف في التاريخ عباقرة تشبهني؟‬
‫لم يفهم صبحي ما يقصده‪ ،‬وحاول أن يستذكر بصعوبة هل‬
‫نظرية (كل عبقري غير سوي – دخل الله عبقري – ً‬
‫إذا دخل الله غير‬
‫سوي) هي له أم ال‪ ،‬لكنه سكت وأخذ يفكر بجواب ال يجرحه فيه؛‬
‫ألن ما يعرفه – ومن دون مراء – أن النميمة في هذه البلدة هي غذاء‬
‫الروح‪ ،‬وبما أنه ال يقدر إال أن يكون الرجل الواعي الوحيد هنا‪ ،‬ما‬
‫كان منه إال أن جعل يواسيه‪ ،‬ألقى بالشوكة والفأس وتربع فوق جزمته‬
‫الغارقة في الطين‪ ،‬وطفق يشرح له وجهة نظره بنميمة خانقة ومملة‪،‬‬
‫وكيف أن غالب العباقرة عبر التاريخ إما مجانين وإما مخت ُّلون عقل ًّيا‪،‬‬
‫أو أن والدتهم كانت غير سو َّية‪ ،‬وكيف أن فولتير مث ًلا ُولد نصف‬
‫ميت‪ ،‬ونيوتن ُولد قبل أوانه‪ ،‬وكينز وهوغو وتشرشل وديكارت كانوا‬
‫بصحة سريعة العطب‪ ،‬كما كان فيثاغورس وتشارلز السادس ونيتشه‪،‬‬
‫وغيرهم كثر‪ ،‬يعانون من نوبات جنون وصرع رهيبة‪ .‬في حين امتلك‬
‫كثيرون عاهات مختلفة مثل الطرش لدى بيتهوفن‪ ،‬والعمى لدى طه‬
‫حسين‪ ،‬والتوحد لدى بيل غيتس‪ ،‬ووجه بائس مثل غوريال شمطاء‬
‫لـ”تلستوي”‪ ،‬ورأس ضخم لـ”ميرابو”‪.‬‬
‫ ‪-‬لكنهم ليسوا محتالينكدخل الله‪ .‬نعم‪ ،‬إنه حربوق‪ ،‬لكنه‬
‫محتال‪ .‬أنت شاعر‪ ،‬لديك معرفة ببواطن الناس‪،‬كما أنك‬
‫ً‬
‫منصفا في حديثك‪.‬‬ ‫تعرفه أكثر مني وعليك أن تكون‬

‫‪45‬‬
‫مقاطعا يتم َّلكه الحقد‪ ،‬ومراعاة لمشاعر زوبا‬
‫ً‬ ‫رد عليه زوبا‬
‫أجابه صبحي‪:‬‬
‫ ‪-‬دخل الله ابن هذا المكان وابن هذه الطبيعة‪ ،‬أفكارنا‬
‫جميعا أسيرة هذه الوديان‪ ،‬فاالقتصادي يفكر وفق‬‫ً‬
‫جغرافيته‪ ،‬والروائي كذلك‪ ،‬والفالح واألمي وب َّياع‬
‫الديوك والسياسي وراعي األغنام‪ ،‬جميعنا نفكر‬
‫انطال ًقا من مكان عيشنا‪ ،‬ودخل الله دفعته الطبيعة‬
‫كي يلجأ إلى التهريب وأن يسرق أفكار الفالحين في‬
‫القرى المجاورة‪ ،‬فهم يمتهنون التهريب وكلنا يعرف‬
‫ذلك؛ لهذا حذا حذوهم فقط‪ ،‬وأطلق حميره في هذه‬
‫تماما كما الشعراء والمفكرون‬ ‫ً‬ ‫الوديان والجبال‪،‬‬
‫يسرقون أفكار غيرهم؛ خذ مث ًلا حين كتب بابلو نيرودا‬
‫قصيدته (األرض تسمى “خوان”)‪ ،‬أعجبت محمود‬
‫درويش كلمات نيرودا القائلة (قطعوا يديه‪ ،‬وهو اليوم‬
‫يضرب بهما)‪ ،‬وبعد عقود كتب درويش (سقطت‬
‫ذراعك فالتقطها – واضرب عدوك بي)‪ ،‬أال يوحي‬
‫جميعا نعتاش على أفكار اآلخرين؟‬
‫ً‬ ‫لك ذلك أننا‬
‫سكت زوبا مجددً ا وتق َّلب وجهه وهو يفكر‪ ،‬ثم استند قائ ًلا‪:‬‬
‫ ‪-‬ما الرابط بين هذا وذاك؟ ما لي ولدرويش ولنيرودا؟‬
‫وما أهمني أنا بالشعر والشعراء؟ ما لي أنا لحسين‬
‫وبيتهوفن؟ أنا لي دخل الله‪ ،‬إنه رجل محتال‪ ،‬وعليك‬
‫أن تقتنع بذلك حتى يرتاح ضميري‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫ ‪-‬نحن الشعراء ال نخادع في انحيازاتنا؛ لذا ال أسمي ما‬
‫يقوم به احتيا ًلا‪ ،‬بل أسميه الذكاء العملي‪ .‬هذا رأيي‪،‬‬
‫ولن يجبرني أحد على تغييره‪.‬‬
‫أكثر زوبا في حديثه من استدراكاته واستثناءاته‪ ،‬وكان يصغي‬
‫إلى صبحي باهتمام‪ ،‬لكنهما تعارضا حد العصبية حين قال صبحي‬
‫إن دخل الله شخص عادي لكنه غ َّير أصوله اإلنتاجية عندما تبدلت‬
‫قوانين العرض والطلب في البالد‪ ،‬ولهذا وبدل أن يعتمد على أوالده‬
‫أخذ يتاجر بحميره‪.‬‬
‫ولمعرفة صبحي بفرط عصبية زوبا‪ ،‬ومعرفة زوبا بحساسية‬
‫شد وجذب أن دخل الله مثل سائر أبناء‬
‫صبحي‪ ،‬اتفقا في النهاية بعد ٍّ‬
‫سوريا بعد الحرب‪ ،‬مخلوق حساس وبريء لوَّثته الحرب ببندقية‬
‫وبلحية مستعارة‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫السيد “بال مؤاخذة”‬

‫كل الرجال في هذه القرية يهرمون ويموتون بفعل زوجة سيئة أو‬
‫حاكم شمولي ليس في دستوره كلمة (ال)‪ .‬أما هو فأسطورة‪ ،‬لغز‪ ،‬بل‬
‫فوق العادة‪ ،‬في حين ال أجد ما يالئمه أكثر من اسم الرجل األخير‪.‬‬
‫أناسا‬
‫ً‬ ‫فقصارى القول أن المرء هنا في هذه القرية قد يرى‬
‫محترمين من كل األنواع‪ ،‬فيما عدا رجال الدين والجيل الرابع لشبيبة‬
‫هذه الحرب ممن خلقتهم أجهزة المخابرات الوطنية واألجنبية طوال‬
‫سني االقتتال‪.‬‬
‫فمن الجميل أن ترتجي في قرية سور َّية صغيرة غرقت في الدم‬
‫لسنوات حتى ذابت فيها القيم واألخالق أن تجد شا ًّبا ال يشعر‬
‫بسن اليأس؛ لذا فغاية القول أ ِّني أنا الثالثيني لم أو َّفق حتى اآلن‬
‫بأكثر من هذا الصديق‪ ،‬فهو رجل في األربعين‪ ،‬ذو وجه مدور أسمر‬
‫جميل‪ ،‬وال ُيذكرني بسوى رفاق المسيح األوائل؛ إذ يعرف متى يلوذ‬
‫عالم كافر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫قديس حقيقي في‬
‫بالصمت ومتى ينبري لإلجابة مثل ِّ‬
‫قاطعا مئات األميال على ساقيه‬
‫ً‬ ‫لكنه ليس مثلهم يطوف بالبالد‬
‫باحثًا عن وص َّية‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫زرته وكان الجو ضاح ًيا جمي ًلا‪ ،‬والوقت غداء والمائدة على‬
‫جد لطيفة؛ حيث َع َلت رائحة اللحم المطبوخ التالل‬
‫ازدحامها لكنها ُّ‬
‫المحيطة ببيته‪ ،‬وإن اليد التي عنيت في صنع هذا الطعام أضفت‬
‫عليه قيمة تفوق كل تقدير بين البساطة وطيب النفس‪ ،‬لكن ازدحام‬
‫ملزما‬
‫ً‬ ‫األنفاس ولهاثها فوق المائدة لم يقف حائ ًلا أن يكون كرمه‬
‫مشاركتي لهم هذا اللهاث‪.‬‬
‫استقبلني وكان ما لم أرد‪ ،‬حيث ردد عبارة قريتي المعتادة‪:‬‬
‫“بال مؤاخذة حماتك تحبك أستاذ‪ ،‬بال مؤاخذة إياك أن تفكر في‬
‫الرفض‪ ،‬فعيار الشبعان عند البدوي أربعون لقمة”‪.‬‬
‫دوما بعبارة “بال مؤاخذة”‪ ،‬والتي‬
‫ً‬ ‫حكمته تلك‪ ،‬والمسبغة‬
‫دوما وال‬
‫يكررها في اليوم مئات المرات‪ ،‬تخبرني ِل َم نحن جوعى ً‬
‫نشبع‪ .‬فالكل هنا تغ َّير‪ ،‬وإن كان هناك عبارة لها معنى أدق من تلك‬
‫“توحش”‪ ،‬لكن هذا الكرم‬
‫َّ‬ ‫إن الكل هنا‬
‫الكلمة‪ ،‬أستطع أن أقول َّ‬
‫المتوحش في أوداج هذا الصديق والبادية بخطوط غليظة على جبينه‬
‫وصدغيه‪ ،‬تُثبت أن القيم الحقيقية ال تتبدل أو تتحول‪.‬‬
‫انتهينا وكان حديثه غار ًقا باالنفعال على توحش الواقع‪،‬‬
‫والذي لم أ َر من مسلك انفعاالته سوى جانبه الطيب‪ ،‬فقد تحدث‬
‫بال ملل أمام الجميع عن تجربته القاسية في المعتقل‪ ،‬ووجدته متأث ًرا‬
‫فظيعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫طابعا‬
‫ً‬ ‫في سجنه أشد التأثر‪ ،‬فلقد تركت الزنزانة في نفسه‬
‫ولما كنت الشخص الوحيد الذي يتعاطف أشد التعاطف آلالمه‪،‬‬ ‫َّ‬
‫نام ًة عن احترام‪ .‬ثم بين الفينة واألخرى التفت‬
‫التصقت نظراته لي َّ‬
‫إلي وقال بصوت منخفض‪:‬‬
‫َّ‬

‫‪49‬‬
‫ترتج أن‬
‫ِ‬ ‫ ‪-‬لقد وهن جسمي وهان صبري هناك‪ ،‬فال‬
‫رفاقك ممن ُفقدوا في هذه الحرب منذ أكثر من عامين‬
‫سيكونون أحياء‪ .‬لقد تفننوا في تعذيبي‪ ،‬ال أنسى كيف‬
‫أن أحدهم كان يجلدني بحقد بخرطوم بالستيكي‬
‫سميك‪ ،‬وكان يصرخ مع كل جلدة ويقول‪“ :‬الله أكبر”‪.‬‬
‫هل يرضى الله على ذلك؟! كان يلسع ظهري كخيوط‬
‫لثاما‬
‫النار‪ ،‬لكنني لم أتمكن من معرفته‪ ،‬كان يرتدي ً‬
‫أسود‪ ،‬وحين تعب من تعذيبي اقترب مني وقال بلؤم‪:‬‬
‫“نحن أحن عليك من أمك”‪ .‬بال مؤاخذة جميعهم‬
‫ملثمون وملتحون‪ ،‬ومنظمون غاية في التنظيم‪ ،‬حتى‬
‫لو عرفت اسم أحدهم فلن أفتح فمي في ذلك حتى‬
‫أموت‪ ،‬لكنني بال مؤاخذة سأقدم شكايتي منهم ومن‬
‫زوجتي إلى الله‪ ،‬هو وحده من سيأخذ حقي؛ ألنني‬
‫َّ‬
‫بريء‪ ،‬أقسم بربي إني كنت بري ًئا من شكايتهما لي إلى‬
‫هؤالء المجرمين‪ ،‬من سرقوا السلطة ونهبوا حريتنا‪.‬‬
‫بعد ساعة من الحديث المتواصل‪ ،‬توقف ثم تطاول على قدميه‬
‫أمام الجميع‪َّ ،‬‬
‫حط يده على كتفي وقال كتذكرة‪:‬‬
‫ ‪-‬بال مؤاخذة يا شباب‪ ،‬أع ِّرفكم على جاري وصديقي‪.‬‬
‫وبال مؤاخذة‪ ،‬فهو صديق عزيز وابن عشيرتي العزيزة‪،‬‬
‫ودعوتكم اليوم ودعوته لتكونوا شهودً ا على زواجي‬
‫الثالث‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫الفاجعة كبيرة‬

‫ترجل الطبيب عن دراجته الهندية‪ ،‬خلع خوذة رأسه‪ ،‬تمطى‬


‫َّ‬
‫خرمي عينيه‬
‫َ‬ ‫من التعب وتنهد بصوت ٍ‬
‫عال‪ .‬وقف ثم حملق من‬
‫الضيقتين إلى السماء‪ ،‬حيث أشعة الشمس الالذعة في هذا اليوم‬
‫الحار والمتق ِّلب من شباط دفعته إلى التذمر بإيمان‪:‬‬
‫ ‪-‬كان الله في عوننا على نار جهنم‪.‬‬
‫دائما أسمع تلك الجملة‪ ،‬يبدو أننا شعب واثق أن مصيره جهنم‪،‬‬
‫ً‬
‫أعتقد أنه لهذا السبب نزاول أعمالنا بال ذمة أو ضمير‪.‬‬
‫المتهدل‬
‫ِّ‬ ‫أراح مؤخرته على حجر قبل أن يبدأ‪ ،‬كان طرف فمه‬
‫مشدودين بعصب َّية إلى جانب وجهه األيسر؛‬
‫َ‬ ‫وعينه اليسرى المرتخية‬
‫إذ يبدوان للناظر أول مرة كأنهما مربوطان بخيط بأذنه اليسرى‪.‬‬
‫أبيض نحيف‪ ،‬ويلف شا ًلا فلسطين ًّيا حول عنقه‪ ،‬وقد ارتدى‬
‫جاكيت جلد أسود‪ ،‬وبنطال جينز أزرق بحر ًّيا‪ ،‬فوق حذائه الرياضي‬
‫المصنوع محل ًّيا‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ً‬
‫ممتعضا‬ ‫ً‬
‫واقفا ثم اقترب من المريضة‪ ،‬غمغم في سره‬ ‫نهض‬
‫بكلمات غير مفهومة‪ ،‬ثم سوَّر حدود عينيه بعدستين طبيتين‬
‫بتمهل حالي الحزينة‬
‫ُّ‬ ‫أخرجهما من جيب سترته المتسخ‪ ،‬وراح يراقب‬
‫والمكسورة على بقرتي‪ ،‬ثم انفجر قائ ًلا‪:‬‬
‫عاما‪،‬‬
‫ ‪-‬من يتكلم معك طبيب بيطري خبرة سبعة عشر ً‬
‫ستكون بقرتك جيدة‪ ،‬فال تمخر رأسي بقلقك‪.‬‬
‫وبعد معاينة وتشخيص ألكثر من ربع ساعة‪ ،‬استوى على قدميه‬
‫وتنهد‪:‬‬
‫ ‪-‬آه‪ ..‬بقرتك تعاني من تسمم حاد‪ ،‬أو التواء مصران‪ .‬أو‬
‫إنها ابتلعت قطعة حديد‪ .‬أو لربما لديها حمى؛ فحرارتها‬
‫مرتفعة‪ .‬ال تقلق‪ ،‬سنضع لها (سيروم)‪ ،‬وستنط بعد‬
‫قليل مثل القردة‪.‬‬
‫مرت ساعة وما زالت البقرة تعتصر معدتها‪ ،‬وتتلوى على‬
‫وجعها مثل عروق البطيخ حتى دعكت األرض تحتها لشدة األلم‪،‬‬
‫في حين جعلتني أتنقل حوله بقلق مستفس ًرا عن عدم جدوى معاينته‪،‬‬
‫َّ‬
‫المعفر‬ ‫عبس في وجهي‪ ،‬فأظهرت حبات العرق النافرة على أنفه‬
‫بالتراب كم جاهد إلنقاذها؛ لهذا صاح في وجهي قائ ًلا‪“ :‬ال تجادل‬
‫قديما”‪.‬‬
‫ً‬ ‫طبي ًبا‬
‫دس إصبعه في أنفها دون أن يتعب وهو‬ ‫سكتت فورته‪ ،‬ثم َّ‬
‫ً‬
‫مستعيضا به عن ميزان الحرارة‪ ،‬عاد‬ ‫ِّ‬
‫ينقل إصبعه بين أنفها ومؤخرتها‬
‫بتمهل لحقيبته‪ ،‬أخرج سكينه ومسك مقبضها المكسور والملفوف‬

‫‪52‬‬
‫تفحص حدتها على‬
‫بقطعة من دوالب داخلي قديم لدراجته النارية‪َّ ،‬‬
‫أشعة الشمس الالمعة‪ ،‬ثم ببساطة نحرها‪.‬‬
‫أنهى جريمته بتؤدة‪ ،‬مسح سكينه بجلدها‪ ،‬اقترب مني وقد‬
‫ً‬
‫مأخوذا بالصدمة‪ ،‬وضع يده على كتفي وقال‪“ :‬في‬ ‫وقفت مشدوهً ا‬
‫هذه الحرب قد خسرنا رجا ًلا كث ًرا‪ ،‬وعائالت بأكملها تم ط ُّيها‬
‫للنسيان‪ ،‬بقرة تموت لن تكون نهاية العالم”‪.‬‬
‫أقفل نصيحته وحقيبته وركب دراجته ورحل‪ ،‬ومن يدري؟‬
‫لربما الرتكاب جريمة أخرى‪.‬‬
‫كان المشـهد كئي ًبـا‪ ،‬ال ينقصـه سـوى موسـيقا حزينـة‬
‫عينـي الدامعتيـن كـي ال أرى دمها المتسـرب‬
‫َّ‬ ‫لـ«موتسـارت»‪ .‬أواري‬
‫قدمـي‪ ،‬لـون العشـب األخضـر صار أحمـر‪ ،‬الحياة لـم يعد لها‬
‫َّ‬ ‫تحـت‬
‫طعـم‪ ،‬وبلا لـون أو رائحـة‪.‬‬
‫تسير الطبيعة من حولي ببطء وملل‪ ،‬وعيناها الجامدتان‬
‫مزروعتان على وجهي المتشنج‪ .‬تأخذني العبرة فأغطي وجهي بكلتا‬
‫بغصة بالغة بطانية أغطي جثتها الممددة‪،‬‬
‫أجر َّ‬
‫راحتي المتشققتين‪ُّ ،‬‬
‫َّ‬
‫أجثو فوق رأسها على ركبة ونصف أداري وجعي‪ ،‬أق ِّبلها على أنفها‬
‫البارد بلوعة‪ ،‬فتجرني الذكريات‪ ،‬أنتحب كطفل فقد أمه‪.‬‬
‫آ ٍه يا بقرتي الحنونة والطيبة! كيف لي بعد اليوم أن أترنم على‬
‫خوارك الذي رحل؟! كل شيء حولي في المراعي والمروج قد عراه‬
‫الذبول‪ ،‬الحياة من حولي خلت من كل شيء‪ ،‬ورائحة زبلك ما زالت‬
‫تمأل الخان والمكان‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫بقيت على تلك الحالة مطو ًّيا على ألمي‪ ،‬مق َّي ًدا بحزني‪ ،‬مبالغً ا‬
‫إلي ثم واساني قائ ًلا‪:‬‬
‫في حدادي‪ ،‬إلى أن زارني صديق قديم‪ ،‬نظر َّ‬
‫ ‪-‬رحم الله بقرتكم‪ ،‬صحيح أن الفاجعة كبيرة‪ ،‬لكن‬
‫األمل في المعزاة‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫الحرب أسقطت َ‬
‫شاربي جدي‬

‫جدي دمعت عيناه‪ ،‬وقف وقال‬ ‫في صغري‪ ،‬كل من َّ‬


‫تذكر ِّ‬
‫لي بحرقة وشوق راعف لإلرث العتيد‪“ :‬الله يرحم شوارب جدك‬
‫ُ‬
‫كبرت ونما الشعر على وجهي المرعب وامتهنت‬ ‫يا عم”‪ .‬وحين‬
‫يتبدل‪ ،‬لكن ما تغير‬
‫التدريس‪ ،‬بقي الحنين وذاك الشوق كما هو ولم َّ‬
‫هو كلمة واحدة فقط‪“ :‬الله يرحم شوارب جدك يا أستاذ”؛ فالذي‬
‫تغير هو مرحلتي العمرية فقط‪ ،‬بينما بقي المديح والوالء لشار َبي‬
‫جدي ثاب ًتا بمرور العصور‪.‬‬
‫ِّ‬
‫لجدي‪ ،‬رغم‬
‫المثير في الموضوع أن ال أحد يذكر أبي كذكرهم ِّ‬
‫أن أبي كان ضمن صفوف الفدائيين بشار َبين جميلين ومعتدلين في‬
‫فترة سالفة من سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم في الجوالن‪،‬‬
‫حين كانت العروبة على طهارتها وبراءتها األولى‪ .‬ربما لهذا السبب‬
‫جاء عدائي للعروبة‪ ،‬وكنت أجيد العناية بالحفاظ على هذا اإلرث‬
‫جدي‪ ،‬ال أقصد المقاومة والممانعة‪ ،‬بل العناية بشار َب َّي‪.‬‬
‫الذي عني به ِّ‬

‫‪55‬‬
‫وتقدس الشوارب‪ ،‬فكيف ال ترث عائلتي‬
‫ِّ‬ ‫فأنا من قرية تعشق‬
‫جدي‬
‫جيدا كيف أن شار َبي ِّ‬
‫ً‬ ‫هذه القداسة ً‬
‫إذا؟! فالكل هنا يعرف‬
‫لم تستطع أقوى الزوابع أن تحركهما – هذا ما كانت تردده جدتي‬
‫بتكرار –‪ .‬فهما في صورة له على الحائط مدعاة فخر العائلة‪.‬‬
‫ُ‬
‫كبرت‪ ،‬وكبر معي هذان الشاربان‪ ،‬أعتقد أنهما الشيء‬ ‫لهذا‬
‫الوحيد الذي ورثه أبي عنه – أقصد سمعة شاربيه – مع بعض ديونه‪.‬‬
‫فهذا النمط السردي التاريخي اعتادت كل العوائل هنا أن‬
‫تحتذيه‪ ،‬بأن تضع صو ًرا من القطع الكبير والمتوسط لرب العائلة‬
‫وهو مفتول الشاربين في صدر البيت‪ ،‬صو ًرا تعود لحقب أكل عليها‬
‫األجداد‪ ،‬وبصق بسمعتها س ًّرا األحفاد‪.‬‬
‫لكن مع نهاية العقد األول من األلفية الجديدة‪ ،‬وارتفاع‬
‫مستويات التعليم في الريف‪ ،‬وغزو اإلنترنت والمسلسالت المدبلجة‪،‬‬
‫كل ذلك خلق ثورة جديدة يحملها جيل جديد يؤمن بالتغيير في‬
‫طريقة ونمط تفكيره وحياته وحتى هندامه‪ .‬أمام هذا المنعطف‬
‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫جدي التقليدي‪،‬‬
‫وجدت صعوبة بالغة في العيش أسير نمط ِّ‬
‫ُ‬
‫بلغت الخامسة والعشرين وقررت الزواج‪.‬‬ ‫حين‬
‫تماما‪ ،‬ويبدو أنني بهذين‬
‫ً‬ ‫فلهذا الجيل نمط حياة مختلف‬
‫الشاربين ال قدرة لي على مجاراته‪ ،‬فأذكر أني عرفت مد ِّرسة والدها‬
‫تماما كأي شاب‬
‫ً‬ ‫محام ولم يكن إلرث عائلتها شاربان‪ ،‬أحببتها س ًّرا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫في هذه القرية يلعن خفي ًة روح التقاليد‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫واألهم من كل ذلك أني بسببها حلقت شار َب َّي‪ .‬نعم – عزيزي‬
‫القارئ – فعلتها حين وشت لي إحداهن أن تلك السمينة تقول إن‬
‫شكل شار َب َّي بدائي ومتخلف‪.‬‬
‫عيني بوجع وشددت‬
‫َّ‬ ‫أبدا‪ ،‬حين أغمضت‬
‫ال أنسى ذاك اليوم ً‬
‫قبضتي على آلة الحالقة وأكملت جريمتي‪ ،‬إنه تمرد واضح‪ ،‬فالصدمة‬
‫خصوصا حين تبدأ بنمط‬
‫ً‬ ‫األولى لجمهورك قد تكون قاسية أحيانًا‪،‬‬
‫عاما‪.‬‬
‫جديد لحياتك‪ ،‬تتمرد فيه على إرث عمره خمسون ً‬
‫أمي‪ ،‬أخي الكبير‪ ،‬عمي‪ ،‬مديري في المدرسة‪ ،‬الكل وقف فاغر‬
‫جميعا وبوقت واحد في إهانتي بعناية‪ ،‬استوقفوني‬
‫ً‬ ‫الفم‪ ،‬ثم انبروا‬
‫كالما يفضل عدم سماعه لمن هم دون‬
‫ً‬ ‫جميعا وبنظرة حزن قالوا لي‬
‫ً‬
‫الثالثين‪.‬‬
‫بعدها بعام استيقظت الفتنة في بالدنا‪ ،‬وأكلت الحرب كل‬
‫شيء جميل حولنا‪ ،‬وتم َّلشت قرانا بفصائل تنادي بفكر جديد‪،‬‬
‫جدي‪ ،‬حطموا صورته بوجوههم المكررة‪ ،‬وأذاعوا في‬
‫أهانوا تاريخ ِّ‬
‫مكبرات الصوت في المسجد والمدرسة والمآتم أن حلق الشارب‬
‫جدي من منسياتهم إن لم يكن من‬
‫س َّنة‪ .‬ومنذ ذاك الحين أصبح ِّ‬
‫لعناتهم‪ ،‬فرحم الله شار َبي جدي‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫ٌ‬
‫يوم آخر ممل‪..‬‬

‫مجعد‪.‬‬
‫َّ‬ ‫صباح آخر‬
‫ٌ‬
‫ماء عكر في البركة‪.‬‬
‫قسما من البركة‪.‬‬
‫ً‬ ‫شجرة الكينا الضخمة تحجب بظاللها‬
‫يجعد‬
‫ِّ‬ ‫نط ً‬
‫اطا وهو‬ ‫وفي القسم اآلخر‪ ،‬تراقب عيناي ضفدعً ا َّ‬
‫بساقيه المقوستين وجه الشمس الرابض في قشرة الماء الغنية‬
‫بالطحالب‪.‬‬
‫يسبح ثم يغوص في األعماق‪،‬‬
‫ثم يختفي‪.‬‬
‫وحين أنتظر آخر‪،‬‬
‫يقترب خارج البركة جاري حمد‪ .‬بدا بيديه المقشرتين بفعل‬
‫العمل باألرض‪ ،‬وقميصه األخضر المق َّلم‪ ،‬كتمساح جذفه النهر‬
‫خارج ضفتيه‪.‬‬
‫فوقنا شمس صفراء باهتة كما في السنوات الثماني السابقة‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫ماء ضحل وشمس‪،‬‬
‫شمس وماء‪،‬‬
‫المغمس بالخذالن‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وبينهما يسقط وجه حمد‬
‫بشفتين قشيبتين أتعبهما رمضان وهذا العمر المقيت‪ ،‬يقترب‬
‫جاري فوق رأسي مغاض ًبا‪:‬‬
‫ ‪-‬ماذا تتأمل؟‬
‫ ‪-‬ال شيء‪ ،‬أقضي ساعة أخرى من هذا العمر‪.‬‬
‫تأوه ثم رد بملل‪:‬‬
‫ ‪-‬قبلك تأملت الال شيء‪ ،‬تأملت كثي ًرا‪ ،‬انظر لهذا الرأس‪،‬‬
‫لم يكن كذلك قبل عام‪ ،‬كان هنا شعرة واحدة بيضاء‪،‬‬
‫وهنا اثنتان وقرابة أربع في ُق َّص ِة رأسي‪ ،‬أما اآلن فيكاد‬
‫يندر الشعر األسود في رأسي‪.‬‬
‫إلي نظرة خاوية‪:‬‬ ‫َص ُّ‬
‫مت‪ ،‬ثم نظر َّ‬
‫ ‪-‬ما بال وجهك وقد سفعته الشمس؟! ازدادت سمرتك‬
‫عن آخر مرة رأيتك بها يا حلو‪.‬‬
‫ ‪-‬إنها الزراعة‪ ،‬قطيعة تقطعها‪.‬‬
‫أقترب من وجه البركة ألكتشف كم غ َّيرت الشمس‬
‫ُ‬ ‫شي ًئا فشي ًئا‬
‫من جمال وجهي‪.‬‬
‫آه يا وجهي الحلو!‬
‫كم أنت فارغ‪،‬‬

‫‪59‬‬
‫يا وجه الهموركتس البائس‪،‬‬
‫يا أول خطوة لإلنسان‪،‬‬
‫وآخر سالالت الخطيئة!‬
‫آه يا وجعي!‬
‫ممازحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫وكأنه سمع مرثياتي التي رددتها بسري‪ ،‬فقال‬
‫ ‪-‬ال تقلق‪ ،‬في القسم اآلخر من عالمنا يدفعون ما ًلا‬
‫ليحصلوا على هذه البشرة السمراء‪ ،‬إنها موضة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫سكت‪ ،‬ثم وبقصد شوَّه مرآة وجهي بحجر صغير قذفه في وجه‬
‫البركة‪ ،‬ثم أكمل حديثه متسائ ًلا‪:‬‬
‫ ‪-‬ما المبهج في هذا العالم يا جاري؟‬
‫شيء ما في كلماته األخيرة ح َّرك ماء قلبي الراكد‪ .‬حو ُ‬
‫َّلت‬
‫رأسي إليه‪ ،‬ألقيت نظرة فارغة إلى مراغم وجهه‪ .‬آه! كم غيرته السنون!‬
‫شاربان حليقان! أين هما الشاربان العربيان الغليظان؟! يا قلب أمي‬
‫غضنت األيام وجهك يا جاري‪:‬‬ ‫الحنون والموجوع! كم َّ‬
‫ ‪-‬هل أفهم أنَّك ُطردت من وظيفتك؟‬
‫هز رأسه باإليجاب‪ ،‬ثم رمى حج ًرا آخر‪.‬‬
‫ ‪-‬وماذا اآلن؟‬
‫ ‪-‬ال شيء‪ ،‬أصبحت عاط ًلا عن العمل‪.‬‬
‫قال ذلك‪ ،‬تأفف ثم غرق تفكيره في البركة‪ ،‬عيناه الفارغتان‬
‫تغوصان في تفكير عميق‪:‬‬

‫‪60‬‬
‫ ‪-‬بماذا تفكر؟‬
‫ ‪-‬بال شيء‪.‬‬
‫مدرسا ولي طالب‪ ،‬ثم‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ضحكت ملء قلبي‪ ،‬تذكرت أني كنت‬
‫مازحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫كررت‬
‫ ‪-‬قبلك تأملت الال شيء‪ ،‬تأملت كثي ًرا‪ ،‬انظر لهذا الرأس‪،‬‬
‫ولهذا الوجه األسمر الحلو‪..‬‬
‫ابتسم ولكزني بكوع يده‪ ،‬تمطى ثم صاح حتى فزعت لصوته‬
‫غربان فوق شجرة الكينا‪:‬‬
‫ ‪-‬صباح آخر ممل‪ِ .‬ل َم جمعتني بهذا الكئيب يا إلهي؟!‬

‫‪61‬‬
‫سبب مقنع للجوء‬

‫َغ َس ْ‬
‫لت عيناي على عجل هيئته وهندامه‪ ،‬ربما هي آخر مرة‬
‫غصت بشعر صدره المعقوف كذيول‬
‫أرى فيها فتحة قميصه التي َّ‬
‫العقارب‪ ،‬شعره المصفوف إلى وراء بال مثبتات شعر في نمط‬
‫تسعيني للموضة‪ ،‬بنطاله القماش وقميصه الفضفاض وقد أخفى‬
‫مشده القطني الذي قرر التأقلم معه على مضض‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫كرشه في‬
‫فبعد أن باع كل شيء‪ ،‬بيته‪ ،‬غرفة نومه‪ ،‬حتى صحون المطبخ‪،‬‬
‫جاءني مودعً ا وقد أراح كتفه من كيس خيش فيه كتبه‪ .‬وقف أمام‬
‫بيتي بوجه أسمر جميل مثل سمرة سكان حوض النيل‪ ،‬وقد تورمت‬
‫أوداجه من التعب‪.‬‬
‫ألقى راحة يده الناحلة على كتفي‪ ،‬أقفل عينيه وهوَّم رأسه الهثًا‪:‬‬
‫ ‪-‬هل أخبرك بسر؟‬
‫ ‪-‬قل‪.‬‬
‫ ‪-‬آه! ما أبشعك وأبشع الطريق إلى بيتك يا رجل!‬
‫دائما في القمة؛ لهذا بنى بيته في‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬أبي يحب أن يكون‬
‫الهضبة‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫ ‪-‬تقصد لهذا السبب انقرضت عائلتك‪.‬‬
‫أخذ يجمع أنفاسه‪:‬‬
‫غدا أنا ذاهب إلى ألمانيا‪ ،‬وراحل عن كل هذا العفن‬
‫ ‪ً -‬‬
‫من حولنا‪ ،‬وعن ماعز جاري “أبو صالح”‪ ،‬وعن كل‬
‫يشترها أحد؛ لذا‬
‫ِ‬ ‫من تاجر بنا‪ .‬وفي هذا الكيس كتب لم‬
‫اعتن بها‪ ،‬وإن عدت أخذتها‪ ،‬أكرر إن عدت أخذتها‬
‫ِ‬
‫منك‪ ،‬وإال أسترد ثمنها منك باليورو‪.‬‬
‫رددت مستغر ًبا‪:‬‬
‫ ‪-‬إلى ألمانيا؟‬
‫تنهد ورد بإصرار‪:‬‬
‫ ‪-‬آه‪ ..‬نعم‪ ..‬إلى الجميلة ميركل‪.‬‬
‫ ‪-‬و ِل َم اآلن؟‬
‫ ‪-‬ألني أريد أن أشرب ما ًء مث َّل ًجا؛ أربع سنوات لم ِ‬
‫تأت‬
‫الكهرباء ولم أشرب ما ًء باردً ا يا رجل! افهمني‪ ،‬ال أحد‬
‫يفهمني هنا‪ .‬لم تس ِقني هذه الحرب سوى الذل‪.‬‬
‫مقتنعا بروايته‪ ،‬أخرج هاتفه ثم أكمل‬
‫ً‬ ‫وحين وجد أني لم أكن‬
‫بجد َّية‪:‬‬
‫جيدا‬
‫ ‪-‬انظر‪ ،‬هذه صورة صديقي وعائلته في برلين‪ ،‬انظر ً‬
‫إلى الكوال المثلجة والماء البارد‪ ،‬انظر كيف تتعرق‬
‫وتتندى من البرودة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ثم أخذ يق ِّلب صور صديقه هناك وهو ِّ‬
‫يلمظ شفتيه القشيبتين‬
‫ببعضهما البعض‪ .‬ثم قلت برجعية محضة ومكررة‪:‬‬
‫ ‪-‬لن تجد أطيب من هواء هذه البالد‪.‬‬
‫ ‪-‬اسمع يا رومانسي‪ ،‬خمس سنين وأنا آكل الهواء؛ لهذا‬
‫شبعت من هواء بالدي‪.‬‬
‫أقفل حديثه‪ ،‬احتضنني بقوة‪ ،‬ق َّبلني بتكرار‪ ،‬وغرقت عيناه‬
‫بالدمع‪ ،‬بدمعة واحدة فقط اختنقت فوق كتلتين من اللحم األسمر‬
‫في وجهه‪ ،‬وضع كتبه على األرض وقال لي بوجع‪:‬‬
‫ ‪-‬انتبه لنفسك‪ ،‬قد ال نرى بعضنا البعض بعد اليوم‪ ،‬فبعد‬
‫أن عبث الشيطان في بالدنا قد نموت في أي لحظة‪.‬‬
‫أنت الوحيد الذي أقوم بتوديعه‪ ،‬أتعرف لماذا؟‬
‫ ‪-‬ألني أحلى واحد في هذه القرية مث ًلا؟‬
‫(قلت ذلك لع ِّلي أغ ِّير جو الكآبة الذي خلقه وداعه لي)‪.‬‬
‫ ‪-‬بل ألنك أغبى شخص عرفته في هذه البلدة‪ ،‬ألنك مثلي‬
‫ضحية حرب لم تكن طر ًفا فيها‪ ،‬وفوق كل ذلك خسرنا‬
‫كل شيء‪ ،‬وهم ربحوا كل شيء‪ .‬انظر كيف قتلوا شبابنا‬
‫ودمروا منازلنا وحوَّلونا إلى نازحين في بالدنا‪ ،‬وفوق‬
‫الحاجة‬
‫َّ‬ ‫كل هذا تريدني أن أبقى! لن أبقى‪ ،‬سأذهب إلى‬
‫ميركل‪ ،‬هناك يوجد قانون يحميني‪ ،‬ويقال إن عندها‬
‫مثلجا ال يشبع منه أحد‪.‬‬
‫ً‬ ‫ما ًء‬
‫ودمرت أيدينا هذه البالد‪.‬‬
‫خمنت كيف ش َّردت َّ‬
‫رحل‪ ،‬وفي إثره َّ‬

‫‪64‬‬
‫ال تثق باألرصاد الجوية‬

‫لدي قريب ال يخلو من اللطافة والخبرة‪ ،‬خمسيني وبصحة‬


‫َّ‬
‫دائما يقول إن الحياة “دعكته” حتى أصبح صاح ًيا للطماتها‪.‬‬
‫ً‬ ‫جيدة‪،‬‬
‫أص َّر في ذاك اليوم أن أزرع أرضي في موعدها كما في كل عام‪،‬‬
‫وحملني أكياس البذار‪ ،‬وقمت‬
‫َّ‬ ‫طبعا –‪،‬‬
‫استأجر جرا ًرا – على حسابي ً‬
‫مجهدا‪.‬‬
‫ً‬ ‫بنقلها لألرض‬
‫أخبرته أن األرصاد الجوية تو َّقعت عدم سقوط األمطار خالل‬
‫يعط حديثي أهمية‪ ،‬نظر إلى السماء‬
‫ِ‬ ‫األيام القليلة القادمة‪ ،‬لكنه لم‬
‫غطس إصبعه في جوف‬ ‫حيث نامت فوقنا غيمة كبيرة كأفعوان صيني‪َّ ،‬‬
‫فمه ثم تركه ح ًّرا للهواء‪َّ ،‬‬
‫نفضه كمن ينفض ميزان حرارة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ ‪-‬أرصادك الجوية تكذب‪.‬‬
‫ ‪-‬قد يكذب الموظفون‪ ،‬لكن األقمار االصطناعية‬
‫والتلسكوبات ال تكذب‪.‬‬
‫ ‪-‬ومن أخبرك يا حنون أن لدينا تلسكوبات وأقما ًرا‪ ،‬إنهم‬
‫يكذبون عليك‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫تأوه ثم أخبرني حكاية طريفة ال أدري من أين ابتدعها أو‬
‫سمعها‪ .‬تقول الحكاية‪:‬‬
‫«في مكان ما في البادية السورية‪ ،‬كان شتاء أحد األعوام قاس ًيا‬
‫جدا‪ ،‬فقد غرقت خيم البدو‪ ،‬والتهمت السيول الجائعة خرافهم‪.‬‬
‫ًّ‬
‫وفي العام التالي‪ ،‬ومع بداية الشتاء؛ وقف أهالي إحدى القبائل أمام‬
‫زعيمهم في خوف وحيرة‪ ،‬سألوه برجاء عن حالهم هذا الشتاء‪ ،‬وهل‬
‫سيكون قاس ًيا كما في العام الفائت أم ال‪.‬‬
‫فكر زعيم القبيلة بحيرة‪ ،‬ثم قال لهم بعد دقائق‪“ :‬اجمعوا‬
‫قاس هذا العام”‪.‬‬
‫الحطب؛ فالشتاء ٍ‬
‫سمع أفراد القبيلة نصيحة كبيرهم‪ ،‬لكن حين انفرد بنفسه‬
‫راودته وساوس حول نبوءاته‪ ،‬فإن أخطأ رأيه فلن يثق به أحد‪ ،‬فقام‬
‫باالتصال باألرصاد الجوية في العاصمة يسألهم عن حال هذا العام‪،‬‬
‫فأجابه الراصد‪:‬‬
‫قاس يا عزيزي‪.‬‬
‫ ‪-‬إنه شتاء ٍ‬
‫حينها عاد الزعيم لقبيلته مرتاح البال‪ .‬إال أن سكان القبيلة‬
‫عادوا في اليوم التالي مرة أخرى يكررون سؤالهم‪:‬‬
‫ ‪-‬هل شتاء هذا العام كقسوة العام المنصرم؟‬
‫فقال الزعيم‪:‬‬
‫ ‪-‬نعم‪ ،‬هو كذلك‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫فانتشر سكان القبيلة يجمعون الحطب أكثر من قبل‪ ،‬ومرة‬
‫أخرى انزوى كبيرهم وعاود االتصال باألرصاد الجوية‪ ،‬فأجابه‬
‫الراصد بثقة‪:‬‬
‫جدا!‬
‫جدا ًّ‬
‫قاس ًّ‬
‫ ‪-‬إنه ٍ‬
‫هنا أثير فضول الزعيم وسأل الراصد بدهشة‪:‬‬
‫ ‪-‬كيف تعرفون كل هذه المعلومات؟‬
‫أجابه الراصد‪:‬‬
‫ ‪-‬لقد رأينا البدو في البادية يقومون بجمع الحطب بكثرة‬
‫هذا العام»‪.‬‬
‫انتهى قريبي من سرد حكايته‪ ،‬ثم قام بربط وزرتي على خصري‬
‫متوجسا‪ .‬وعلى‬
‫ً‬ ‫ومألها بالشعير‪ ،‬شرعت بعدها في بذر الحبوب‬
‫يدا بيد‪:‬‬
‫مسافة قريبة لحقني يندب وهو يصفق ً‬
‫ ‪-‬هل تسمي هذا َب ْذ ًرا؟‬
‫ ‪-‬الكل يبذر بهذه الطريقة‪ ،‬موظفو الزراعة كانوا يبذرون‬
‫مشتلهم الحكومي بهذه الطريقة‪.‬‬
‫ ‪-‬ألنهم أغبياء‪ ،‬كلكم أغبياء‪ ،‬سأع ِّلمك طريقة مميزة‪.‬‬
‫موسما مميزًا‪ ،‬أضاف في بهنسة‪:‬‬
‫ً‬ ‫ثم وعدني أن يكون‬
‫ ‪-‬لن تجد َّ‬
‫بذا ًرا في الجنوب كله يفوقني في ال َب ْذر‪ ،‬ال‬
‫موظفيك الحكوميين‪ ،‬وال تلسكوباتك الصناعية‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫هصر كتفه إلى كتفي‪ ،‬ثم طلب مني أن أق ِّلده‪ ،‬مسك في شماله‬
‫خطاف وقبض قبضة من الحبوب‪ ،‬رفع يده‬ ‫وزرته‪ ،‬ثم ثنى يمينه مثل َّ‬
‫وأدارها نصف دورة وقذف بالحبوب‪ ،‬فبدا كشخص يرقص “رقصة‬
‫الرجل اآللي”‪.‬‬
‫ثم طلب مني أن أكرر فعله‪ ،‬سألته‪:‬‬
‫ ‪-‬هل من الممكن أن تعيد؟‬
‫عاود الحركة مرة ثانية‪ ،‬حاولت فعل ذلك لكنه صاح في وجهي‪:‬‬
‫ ‪-‬القاعدة األولى‪ :‬اجعل كوع يدك زاوية قائمة‪ ،‬أنت‬
‫متعلم وال تعرف الزاوية القائمة؟! اجعلها ‪ 90‬درجة‪.‬‬
‫ ‪-‬هكذا؟‬
‫ ‪-‬نعم‪ .‬القاعدة الثانية‪ :‬اخطف بيدك قبضة من الشعير‪.‬‬
‫ ‪-‬هكذا؟‬
‫ٌ‬
‫صدق أنك‬ ‫جيدا‪ .‬هل‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬بل هكذا‪ ..‬اضغط على الحبوب‬
‫درست في الجامعة؟ كيف تخرجت؟!‪ ..‬اتبعني‪.‬‬
‫ ‪-‬تبعتك‪.‬‬
‫ ‪-‬القاعدة الثالثة‪ :‬سر خطوة باليسار‪.‬‬
‫ ‪-‬سرت‪.‬‬
‫ ‪-‬ثم يمين‪ ،‬واقذف الحبوب على مسافة مترين ونصف‪.‬‬
‫قلت ِّ‬
‫ملط ًفا الجو‪:‬‬
‫ ‪-‬وهل أقيسها بالمتر أم بالديكا؟‬

‫‪68‬‬
‫قدر المسافة بنظرك‪ .‬القاعدة الرابعة‪ :‬واحدة ضم‬
‫ ‪ِّ -‬‬
‫وواحدة فتح‪.‬‬
‫في تلك األثناء صاح صاحب الجرار يرجونا أال نؤخره‪ ،‬وعلى‬
‫أثره طلب مني أن أباشر ال َب ْذر‪ ،‬وبالفعل انطلقت‪:‬‬
‫ ‪-‬زاوية قائمة‪ ..‬يسار يمين‪ ..‬واحدة فتح وأخرى ضم‪..‬‬
‫واحدة فتح وأخرى ضم‪ ..‬زاوية قائمة…‬
‫يوما متع ًبا‪ .‬بعد ساعة انتهيت وقد ُش َّلت يدي‪.‬‬
‫يووه! كان ً‬
‫بحثت عن قريبي فوجدته قد استوقف صاحب المحراث يحدثه‪،‬‬
‫ناصحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫تحدثا قلي ًلا ثم طلب مني اإلذن بالمغادرة‪ ،‬وقبل ذلك قال‬
‫تنس‪ ،‬واحدة فتح وأخرى ضم”‪ .‬اقتربت نحو صاحب المحراث‬
‫“ال َ‬
‫عما أراده منه قريبي‪ ،‬قال‬
‫وقد راودني هاجس الحشرية‪ ،‬فسألته َّ‬
‫بحسن نية‪:‬‬
‫ ‪-‬ال شيء مهم‪ ،‬كان يسألني عن األرصاد الجوية إن كانت‬
‫ذكرت أن هناك فرصة لتساقط األمطار قري ًبا أم ال‪.‬‬
‫ ‪-‬وبماذا أجبته؟‬
‫ ‪-‬أخبرته أن األرصاد الجوية قالت إنها لن تمطر ألسبوع‬
‫على أقل تقدير؛ لهذا طلب مني تأجيل زراعة وحراثة‬
‫أشخاصا لديهم خبرة‬
‫ً‬ ‫أرضه‪ ،‬كما سألني إن كنت أعرف‬
‫في َب ْذر الشعير حتى يقوموا ب َب ْذر أرضه بعد أسبوع‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ديالكتيك حوراني‬

‫نحن – الجنوبيين – نحبذ أن نسمي األشياء بمسمياتها؛ لهذا‬


‫حين دخل العيادة جلس قربي ثم سأل بأدب‪“ :‬هل جاء طبيب‬
‫المؤخرات؟”‪ ،‬يقصد طبيب التناسلية‪.‬‬
‫لم يمنعه ألمه المتحصل من تحرك بعض الحصيات العالقة‬
‫في كليتيه من أن يأخذ األمور بمرح‪ ،‬وأن ينتظر مجيء الطبيب‪ ،‬أو‬
‫جدا في حديثه معنا‪ .‬كما لم يمنعه ذلك من‬‫أن يكون مهذ ًبا وآس ًرا ًّ‬
‫أن يسرق بين الفينة واألخرى نظرة ح َّية للممرضة شبه الميتة وقد‬
‫حشرت مؤخرتها في كرسي ضيق خلف طاولة االستقبال‪ ،‬أو هذا‬
‫ما حاولت إيصاله لنا من خالل شتمها المتكرر للشركة المصنعة‬
‫“للكراسي الضيقة”‪ ،‬ل ُتبعد الشبهة عن مؤخرتها البالستيكية الكبيرة‪.‬‬
‫ً‬
‫نابضا‬ ‫لكنها – ولألمانة – حين تسير تقفز برشاقة كما لو أنها تضع‬
‫أسفل قدميها؛ ما يجعلها مثيرة‪.‬‬
‫سألته الممرضة لتحجز له دو ًرا‪:‬‬
‫ ‪-‬ما اسمك‪ ،‬سيدي؟‬

‫‪70‬‬
‫ِ‬
‫رغبت في السؤال عن عمري‪ ،‬فقد دخلت‬ ‫ ‪-‬الموك‪ .‬وإن‬
‫مرحلة النبوة منذ ست سنوات‪.‬‬
‫لنبدأ من جديد‪:‬‬
‫االسم‪“ :‬الموك”‪.‬‬
‫عاما‪.‬‬
‫العمر‪ :‬ستة وأربعون ً‬
‫المهنة‪ :‬أحد أشهر تجار العجول في حوران‪.‬‬
‫ُسمي بذلك ألن بيته تحول إلى غرفة عمليات جمعت غالبية‬
‫تجار العجول في حوران‪ ،‬يتدارسون معه أسعار األبقار ويستفتونه‬
‫في أمور تلك التجارة‪ ،‬حتى اع ُتبر رقم واحد في البيع والشراء‪ .‬هو‬
‫ال يحبذ هذا االسم؛ لهذا حين يسأله البعض عن توجهاته السياسية‬
‫يجيب بالقول‪“ :‬أنا ناشط حيواني”‪.‬‬
‫وكأي جنوبي‪ ،‬ثمة حقيقة حورانية لديه تقول‪“ :‬حتى السماء‬
‫قابلة للبيع”‪ ،‬فمذ بدأت الحرب والكل يعرف أنه العلماني الوحيد‬
‫في بلدته؛ لذا كان الناس يعاملونه بمزاجية‪ ،‬فما إن يراه أحدهم حتى‬
‫يرمي له كسرة خبز أو يطلق عليه النار‪ .‬لكن بعد الحرب‪ ،‬ترك أفكاره‬
‫تذبل لتنمو مواهبه ويتحول إلى أحد أشهر تجار العجول في البلدة‪،‬‬
‫ولربما في حوران ككل‪.‬‬
‫ما إن سأله أحدهم في غرفة انتظار الطبيب عن أسعار األبقار‬
‫ورغبته في شراء بقرة‪ ،‬حتى استدار نحوه نصف دورة‪ ،‬اتكأ بيده‬
‫على مسند المقعد الخلفي‪ ،‬تململ بتعب ثم اقتلع عينيه القديمتين‬

‫‪71‬‬
‫ببطء ليحدثه‪ .‬من دون نظارتيه كان أحلى‪ ،‬ومن دونهما بانت لحيته‬
‫الطويلة الكثَّة مثل لحية ماركسي من الجيل التروتسكي القديم‪.‬‬
‫سأل بخبرة‪:‬‬
‫ ‪-‬هل تريدها للتجارة أم للتربية؟‬
‫قال الشاب‪:‬‬
‫ ‪-‬للتربية‪.‬‬
‫ ‪-‬هل تريدها بك ًرا أم عوانًا؟‬
‫ ‪-‬يفضل عوانًا ورخيصة‪.‬‬
‫ ‪-‬بندوق أم فريز أصلي؟‬
‫ ‪-‬بندوق‪.‬‬
‫ ‪-‬وطنية أم مستوردة؟‬
‫ ‪-‬وطنية‪.‬‬
‫ ‪-‬عندي بقرة بندوق محلية معشَّ رة‪ ،‬ما إن تراها حتى‬
‫تق ِّبلها على أنفها‪ ،‬ورخيصة‪ ،‬بواحد وربع فقط‪.‬‬
‫ ‪-‬تقصد مليونًا ومئتين وخمسين ألف ليرة؟!‬
‫ ‪-‬نعم‪.‬‬
‫صاح الشاب‪:‬‬
‫ ‪-‬يا رب السماء! وحدها أم معها هدية؟!‬

‫‪72‬‬
‫أجابه بمزاح‪:‬‬
‫لدي عجل عمره‬
‫ ‪-‬يأتي معها سطل حليب هدية‪ .‬لكن َّ‬
‫شهران‪ ،‬إن كان لديك مصلحة فسيكون لك بسعر‬
‫رخيص؛ فقط ألجل هذه الدكتورة الحلوة‪.‬‬
‫ثم نظر إلى الممرضة وأرسل إليها ابتسامة كبيرة‪.‬‬
‫قال الشاب‪:‬‬
‫ ‪-‬أليس من األفضل أن يكون هذا العجل مع أمه في هذه‬
‫السن؟‬
‫ ‪-‬توفيت المسكينة بذبحة صدرية يوم السبت‪ ،‬لقد‬
‫عاملتها كابنتي البكر‪ ،‬كانت تنام في غرفتي طوال‬
‫بيدي هاتين‪ ،‬وشققت بطنها‬
‫َّ‬ ‫فترة حملها‪ ،‬لقد ذبحتها‬
‫بيدي هاتين‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وأخرجت هذا العجل المسكين‬
‫قال الشاب‪:‬‬
‫ ‪-‬كم أنت حنون!‬
‫زعق التاجر بوجهه‪:‬‬
‫ ‪-‬خسارتي بموتها أكثر من مليون ليرة وتريدني أال أهتم‬
‫بوليدها؟‬
‫انتبهت الممرضة لحديثهما‪ ،‬ولفرط مللها سألت “الموك”‬
‫بتروٍّ ‪:‬‬
‫ ‪-‬إن أسعارك غالية!‬

‫‪73‬‬
‫حوَّل عينيه نحوها‪ ،‬ب َّلل شفتيه ببعضهما البعض‪ ،‬ثم أجابها‬
‫بلطف‪:‬‬
‫ ‪-‬إنه الدوالر يا ليرة‪ ،‬لكن “إلك ببالش”‪.‬‬
‫نظر الشاب إليه وقاطعهما‪:‬‬
‫وإلي؟‬
‫ ‪َّ -‬‬
‫أجابه بنزق‪:‬‬
‫ ‪-‬بواحد وربع‪.‬‬
‫تدخلت الممرضة مجددً ا‪:‬‬
‫ ‪-‬هل هي بقرة حلوة؟‬
‫أجابها بلهجة حورانية‪:‬‬
‫ ‪-‬مش أحلى من عيونك‪.‬‬
‫شي ًئا فشي ًئا أدرك الشاب أنه تم إقصاؤه من الصفقة‪ ،‬وأخذ –‬
‫مثلي – يراقب حديثهما‪.‬‬
‫سأل الموك الممرضة وقد اقترب نحوها بكرسي‪:‬‬
‫ ‪-‬أتعرفين ما هو أجمل من األبقار والعجول يا دكتورة؟‬
‫أجابته بغنج‪:‬‬
‫ ‪-‬ما هو؟‬
‫ ‪-‬األبقار والعجول‪.‬‬
‫ضحكت ثم قالت بإطراء‪:‬‬
‫ ‪-‬يبدو أنك مثقف طريف‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫أعجبه ذاك الوصف؛ لذا استرسل في حديثه معها‪:‬‬
‫ ‪-‬أنا أحب مهنتي‪ ،‬الحياة ع َّلمتني ذلك‪ ،‬فأنا رجل‬
‫عصامي‪ ،‬لقد سرق المسلحون كل ما أملك‪ ،‬ومع ذلك‬
‫لم أستسلم‪ ،‬قلت لهم بالفم المآلن‪“ :‬أنتم على خطأ”‪،‬‬
‫أن تجارة العجول في دمي‪ ،‬لم أرثها من أحد‪،‬‬
‫كما َّ‬
‫لدي سؤال ِ‬
‫لك‪ :‬ماذا لو وضع أحدهم‬ ‫لكنني أحببتها‪َّ .‬‬
‫أمامك بقرة وعج ًلا؟ ماذا ستختارين؟‬
‫أجابت في تفكير‪:‬‬
‫ ‪-‬ممم‪ ،‬بقرة؛ إنَّها ألطف من العجل‪.‬‬
‫ابتسم لها وقال‪:‬‬
‫ ‪-‬هذا يعني ِ‬
‫أنك تحبين البقرة ال العجل‪.‬‬
‫دخال في جدال حي ورومانسي لقرابة الساعة‪ ،‬لع َّنا خاللها‬
‫أميركا والدوالر وحلف الناتو واالتحاد األوروبي والحرب وبائع‬
‫الدخان في الحارة‪ .‬وحين طال انتظاري الطبيب غادرت العيادة‪،‬‬
‫محاو ًلا في سري معرفة سبب كل هذا الحب لمهنته؛ لذا أخرجت‬
‫من جيبي دفتر مالحظات صغي ًرا‪ ،‬دونت فيه عبارته التي قد ال يعي‬
‫معناها سوى تاجر عجول آخر‪“ :‬ما هو أجمل من األبقار والعجول؟‬
‫األبقار والعجول”‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫حديث ما بعد ليلة عاصفة‬

‫ليس صباح األمس بالجيد كفاية‪ ،‬حبات الصقيع الباردة‬


‫تتكسر على الوجوه تاركة خلفها جوًّا مشحونًا بالعصبية‪ ،‬الوجوه هي‬
‫هي كل يوم‪ ،‬ال تتغير‪ ،‬مخرشة‪ ،‬ومنذ بدأت الحرب تمارس التغابي‬
‫واليتم عن سابق إصرار‪.‬‬
‫الكل حول بيتي خرج يرتدي جزمته‪ ،‬يتفقد ما خ َّلفته العاصفة‬
‫من دمار وخراب‪ ،‬وأنا مثلهم تسلقت سطح منزلي حتى أعيد إصالح‬
‫ما دمرته الريح لشبكة النت الخاصة بي‪.‬‬
‫“عقلة” صاحب الدكان الوحيد في ح ِّينا‪ ،‬يرفع غلق محله‬
‫أحدا يكلمه‬ ‫ويكشط أرضيته وهو َّ‬
‫يتلفت حوله كالملسوع لعله يلتقط ً‬
‫كما هي العادة كل يوم‪ ،‬فأصحاب المحال التجارية في قريتي – مثل‬
‫سفسطائيي القرون الوسطى – يمتهنون الكالم بحذق‪ ،‬ودكانه أشبه‬
‫ما يكون بمركز إعالمي يجتمع فيه كل أنواع البشر لتناقل األخبار‬
‫أثناء تبضعهم‪ ،‬من طالب المدارس‪ ،‬وأعضاء المجالس المحلية‪،‬‬
‫وموظفي المنظمات اإلنسانية‪ ،‬ونازحين‪ ،‬ونسوة‪ ،‬ورجال الدين‪،‬‬
‫وحتى موظفي الحكومة ومن لف لفيفهم‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ولمثل هذه الظروف أستعين به؛ إذ ال أجدني مضط ًّرا ألفتح‬
‫التلفاز أو أبحث عن أخبار القرية عبر اإلنترنت في حال تعطلت‬
‫شبكتي؛ فصوته يمأل األرجاء أثناء الحديث‪ ،‬يكفيني الجلوس أمام‬
‫منزلي ألفهم تفاصيل اليوم كام ًلا َ‬
‫(من تزوج‪ ..‬من ط َّلق‪ ..‬من ُقتل‪..‬‬
‫ومن هاجر)‪ ،‬حتى إنه يعرف جميع النسوة الحوامل هنا‪ ،‬وعدد شهور‬
‫لحملهن‪ ،‬هو ثورة إعالمية بحد ذاته‪ .‬ال أعرف كيف أستثمر‬
‫َّ‬ ‫وضعهن‬
‫َّ‬
‫مواهبه اإلعالمية واالجتماعية‪.‬‬
‫أما “هندية” – وقد سميت بذلك لوجود دائرة وحم َّية حمراء‬
‫بين عينيها حين والدتها مثل نسوة نجوم بوليوود‪ ،‬لكنها اختفت مع‬
‫استمرار بشرتها بالسمرة جراء تعب السنين السالفة –‪ ،‬فهي األخرى‬
‫مشهورة بكثرة أحالمها؛ لطالما حلمت بأعراس في ح ِّينا لتتوالى‬
‫األتراح والمآتم بعد ذلك؛ لهذا كل من يحلم بها يلتزم الصمت وال‬
‫أحدا‪ ،‬من ثم يرتدي قميصه أو ثوبه بالمقلوب لمدة ثالثة أيام‪،‬‬
‫يخبر ً‬
‫وهي عادة لطرد النحس تم اتباعها في قريتي منذ القديم‪ .‬وحين‬
‫يفعل الشخص ذلك في ح ِّينا‪ ،‬نعرف أنه رأى “هندية” في منامه‪.‬‬
‫َّ‬
‫دكت ساقيها في جزمتها‪ ،‬وقد ربطت طرف ثوبها بخصرها‬
‫تجر على الطريق جذع شجرة قصفته الريح‬ ‫َّ‬
‫المعفر بالوحل والطين‪ُّ ،‬‬
‫العاصفة ليلة أمس‪ ،‬ع َّلها به تصنع شي ًئا من الطعام ألطفالها‪ .‬ما إن‬
‫تراني حتى تلوِّح بيدها لي من بعيد لتصرخ بعدها‪:‬‬
‫ ‪-‬مرحبا جار‪ ،‬زمان هالقمر ما بان‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫عما‬
‫أرد عليها تحيتها بتواضع‪ ،‬ثم تكمل صباحها لتسألني َّ‬
‫جرى ليلة أمس‪ ،‬دون أن تفصح أكثر؛ حيث تسألني ثم تومئ برأسها‬
‫بحركة خفيفة لجهة الجنوب‪ ،‬فأفهم أنها تقصد بسؤالها رغبتها في‬
‫معرفة هل ُقتل أو تأذى أحد بآخر المعارك التي جرت على أطراف‬
‫أزم فمي وأرفع‬
‫القرية بين كتائب المعارضة المسلحة وداعش؛ لهذا ُّ‬
‫ِّ‬
‫ألوضح لها عدم علمي بشيء‪ .‬تصمت ولسان حالها‪:‬‬ ‫يدي في الهواء‬
‫َّ‬
‫“يلعن الحرب ألف مرة”‪.‬‬
‫يسمع “عقلة” كل ذلك‪ ،‬تنتفخ عيناه لتجاهلنا له في الحديث‪،‬‬
‫ومن ثم ينبري في حديث طويل يسرد خالله تفاصيل القرية كاملة‪،‬‬
‫وما جرى ليلة أمس‪.‬‬
‫في هذه األثناء يمر أبو أدهم‪ ،‬خمسيني أسمر نحيف‪ ،‬بعنق‬
‫قصير ال يورث سوى حركة سريعة لرأس في وجهه خمسة ثقوب‬
‫وحفرة‪ ،‬يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق على الدوام‪ ،‬على خالف‬
‫السراويل العريضة والجزمات التي يحبذ ف َّلاحو قريتي ارتداءها‬
‫دائما‪.‬‬
‫ً‬
‫ُيسر كثي ًرا حين يقول له أحدهم إنه المحامي الوحيد في قريتنا‪،‬‬
‫كما أنه يتفاخر في جميع المناسبات بأنه الوحيد الذي زاول مهنته‬
‫في المحاماة هنا‪.‬‬
‫أقترب منه‪ ،‬يمسك بيدي ويجرني إلى مكان بعيد عن الجميع‪،‬‬
‫وكعادته التي حفظتها عن ظهر قلب‪ ،‬يبدأ حديثه ببادئته المعتادة‪:‬‬
‫“نحن – المثقفين – نفهم بعضنا البعض‪ ،‬ال تشغل وقتك بالحديث‬

‫‪78‬‬
‫مع الرعاع‪ ،‬هه هه هه‪ ،‬هل فهمت؟ اجعل حديثك موزونًا وبحكمة‪،‬‬
‫وال تناقش هؤالء المتخلفين‪« ،‬ومن ُي َ‬
‫ؤت الحكمة فقد أوتي خي ًرا‬
‫كثي ًرا»‪ .‬كرر ذلك”‪.‬‬
‫أردد خلفه‪:‬‬
‫ ‪-‬ومن ُي َ‬
‫ؤت الحكمة فقد أوتي خي ًرا كثي ًرا‪.‬‬
‫ ‪-‬كررها ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ ‪-‬ومن ُي َ‬
‫ؤت الحكمة فقد أوتي خي ًرا كثي ًرا‪.‬‬
‫دائما‪.‬‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬تمام‪ .‬تذكر هذه اآلية‬
‫ثم – وكما العادة ً‬
‫أيضا – يكمل‪:‬‬
‫ ‪-‬ما هي آخر كتاباتك؟ اكتب شي ًئا عن الرعاع‪ ،‬اسمع‬
‫كالمي ولن تندم‪ ،‬اكتب كيف دمروا مستقبلنا وأوصلونا‬
‫لهذا الحال‪ ،‬اكتب عن المتخلفين وال تأخذك بالحق‬
‫لومة الئم هه‪ ..‬هه‪ .‬لومة ماذا؟‬
‫ ‪-‬لومة الئم‪.‬‬
‫ ‪-‬لومة ماذا؟‬
‫ ‪-‬لومة الئم‪.‬‬
‫ ‪-‬كم تعطيني من ‪ 10‬على هذه النصائح؟‬
‫ ‪ 11-‬من ‪.10‬‬

‫‪79‬‬
‫جديدا‪ .‬لهذا‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬أنت خطير‪ ،‬وكل يوم أكتشف فيك شي ًئا‬
‫َ‬
‫تعال لنتناقش في منزلك ونشرب شا ًيا لربع ساعة‬ ‫السبب‬
‫فقط‪ ،‬فأنا مستعجل؛ ألني أعرف أنك تحب حديثي‪.‬‬
‫جيدا‪ ،‬وأعرف حديثه وأن الربع ساعة ستجر‬
‫ً‬ ‫وبما أني أعرفه‬
‫معها ساعات وربما نها ًرا كام ًلا‪ ،‬قلت له بجد َّية‪:‬‬
‫ ‪-‬سأزعل منك‪ ،‬اليوم الجمعة‪« ،‬الصالة يا عباد الله»‬
‫(قلتها بلهجة قرشية)‪ ،‬الصالة ماذا؟‬
‫ثم ردد خلفي‪:‬‬
‫ ‪-‬يا عباد الله‪.‬‬
‫ ‪-‬الصالة ماذا؟‬
‫ ‪-‬يا عباد الله‪.‬‬
‫ ‪-‬كم تعطيني من ‪10‬؟‬
‫ ‪ 10-‬من ‪ 10‬هه هه هه‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫صديقي هاري بوتر‬

‫أذيع ذاك المساء في محطة عربية فيلم “هاري بوتر واألمير‬


‫الهجين” للمخرج ديفيد ياتس (الصادر عام ‪ .)2009‬كان الجو‬
‫لدي مهي ًئا لحضور فيلم؛ زوجة تتجهز لالمتحان‪ ،‬وطفل مشاغب ينام‬
‫َّ‬
‫مع جدته‪ ،‬وتيار كهربائي مستمر في العطاء منذ يومين دون تقنين‬
‫حكومي؛ فماذا يرغب زوج مثلي أكثر من هذا الهدوء لالستمتاع‬
‫بإحدى روائع “ج‪ .‬ك‪ .‬رولينج” في جزئها السادس؟!‬
‫ركبتي إلى التلفاز؛‬
‫َّ‬ ‫ما إن ظهر بطل الفيلم حتى زحفت على‬
‫ألتأكد عن قرب هل عيناي الجميلتان تكذبان كما العادة أم إنه هو‪.‬‬
‫هل يعقل أن يكون هو؟!‬
‫ال أعتقد؛ فهذا رشيق‪.‬‬
‫لربما هو‪.‬‬
‫لعيني التعبتين!‬
‫َّ‬ ‫يا‬

‫‪81‬‬
‫أقترب أكثر‪ .‬ال‪ ،‬إنه “هاري بوتر”‪ ،‬أما من تخيلته فهو صديقي‬
‫القديم‪ ،‬والذي يستحق أن أسميه “هاري نعمتي” طوال س ِني الجامعة‪.‬‬
‫أقصر من “بوتر” بقليل‪ ،‬ويلبس نظارة طبية سميكة‪ ،‬وحين تركته‬
‫بعد التخرج كان يربي ً‬
‫كرشا صغي ًرا‪.‬‬
‫أنا على يقين أنه لو كان معي اآلن وأخبرته أني لكم أشتاق‬
‫له وأليام خلت‪ ،‬فسيقول لي بفطنة شمالية‪“ :‬من الطبيعي أن يفكر‬
‫الجنوبيون بالطعام”‪ .‬نعم‪ ،‬إنه طعام‪ ،‬شهي مثل معروك أمي‪.‬‬
‫دائما يقول لي نصائح لطيفة بطريقة عنيفة‪ ،‬ما جعل‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫زمالتي له في السكن الجامعي في منطقة مقطوعة على أطراف دمشق‬
‫كمن يجاور خلية نحل‪ ،‬مفيدة للصحة لكنها الذعة‪.‬‬
‫من فوائده أنه قدم لي ذات مرة نصيحته من أجل ترفيع مادة‬
‫ً‬
‫رفيقا يمن ًّيا‬ ‫“العالقات الدولية” بمعدل جيد‪ ،‬أخبرني بسرية تامة أن‬
‫في الكتلة (أ) جلب معه كمية جيدة من القات ‪،Catha edulis‬‬
‫وأنه تمكن من ترفيع مواده بشكل جيد بفعل تلك النبتة‪.‬‬
‫بقي على االمتحان أقل من ‪ 12‬ساعة‪ ،‬ارتديت قميصي العنابي‬
‫الذي يجلب الحظ‪ ،‬ثم قمت بزيارة ذاك الرفيق الحضرمي‪.‬‬
‫(السكن الجامعي – الكتلة (أ) – الطابق (‪ – )2‬الغرفة‬
‫(‪ ،))17‬أذكر العنوان بتفاصيله الدقيقة‪ ،‬لربما هو الشيء الوحيد‬
‫الذي أذكره من تلك الليلة‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫استقبلني “فؤاد” بكرم طائي‪ ،‬وقد انتفخ أحد شدقيه‪ ،‬حنطي‬
‫قميصا داخل ًّيا أبيض‪ ،‬ويلف قسمه السفلي بمعوز‬
‫ً‬ ‫مربوع‪ ،‬يرتدي‬
‫حضرمي‪ .‬كانت غرفته تعج بالضيوف‪ ،‬نوافذ الغرفة مغلقة‪ ،‬وتطفو‬
‫فوق الرؤوس كتل من دخان السجائر واألرجيلة‪ .‬سألته بصوت‬
‫منخفض وسريع‪:‬‬
‫ ‪-‬هل يوجد لديك‪..‬؟‬
‫ثم جررت أنفي على قفا راحة يدي وغمزته بطرف عيني‪،‬‬
‫مرح ًبا‪“ :‬يا أه ًلا بالديوان”‪ .‬الديوان في اليمن‬
‫ِّ‬ ‫ضحك وصاح‬
‫مصطلح يطلق على المكان الذي يجتمع به الشبان لمضغ القات‪،‬‬
‫هذا ما علمته بعد تلك الليلة‪.‬‬
‫مضت ساعة وهو يع ِّرفني على رفاقه‪ ،‬وساعة أخرى لتناول‬
‫المندي والهفيت معهم‪ ،‬وساعة ثالثة لشرب الشاي ولعب ورق‬
‫الشدة‪ .‬بعدها عاودت جر أنفي من جديد وغمزته‪ ،‬فصاح مرة أخرى‪:‬‬
‫“يا أه ًلا بالديوان”‪ ،‬ثم سألني بحب‪:‬‬
‫ ‪-‬قات؟‬
‫ ‪-‬قات‪ ،‬نعم يا ملعون‪.‬‬
‫كان فؤاد ساح ًرا في حديثه معي‪ ،‬كان يدخل الرأس كالنعاس؛‬
‫لذا سألته بإدمان إن كان من الجيد تناول كمية جيدة قبل االمتحان‪،‬‬
‫أخبرني بحنو أني حين (أخزِّن) – أي أبدأ بالمضغ – سيتضاعف‬
‫الذكاء وسأتمكن من الحفظ ألضعاف‪ ،‬وما يتم حفظه في ساعة‬
‫لدي في دقيقة‪.‬‬
‫فسيصبح َّ‬

‫‪83‬‬
‫علي هذا الصديق؟‬
‫يا رب السماء! من أي سماء مباركة سقط َّ‬
‫عيني نصف مغمضتين‪ ،‬ثم فكرت بسوء‬ ‫َّ‬ ‫فقد جعلت كلماته تلك‬
‫حين قررت أن أمضغ كمية أكبر؛ لع ِّلي أحصل على نتيجة أفضل من‬
‫شريكي في السكن‪ ،‬وبذلك أتخايل عليه‪.‬‬
‫فغدا‬
‫وبحماسة استعرت طاولة فؤاد وسريره للتخزين والدراسة‪ً ،‬‬
‫صباحا سيكون امتحاني ولن أنام‪ .‬قمت بمضغ كمية قليلة‬
‫ً‬ ‫عند الثامنة‬
‫من ورق القات المجروش مثل النعنع اليابس‪ .‬مرت دقائق لكن ال‬
‫نتيجة‪ ،‬قمت بشرب بعض الماء فتم ابتالع تلك الكمية‪ ،‬فأخذت‬
‫ً‬
‫عوضا عنها كمية أكبر‪.‬‬
‫فقط هذا ما أذكره من تلك الليلة المباركة‪ ،‬وما أذكره – خير‬
‫اللهم اجعله خي ًرا – أن أحدهم أخذ يطبطب برفق على خدي‪:‬‬
‫ ‪-‬أخ جوهر‪ ..‬أخي‪ ،‬أتسمعني؟‬
‫بدأ مفعول الكاثينون يتحرر في رأسي‪ ،‬يتجمع ثم ينفلت كتعب‬
‫عيني‪ ،‬فسألته بكسل‪:‬‬
‫َّ‬ ‫على‬
‫ ‪-‬من أنت؟ وكم الساعة؟‬
‫صباحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬أنا فؤاد‪ .‬إنها الحادية عشرة‬
‫صاحت روحي المحبوسة داخل هذا الجسد المخدر‪:‬‬
‫ ‪-‬يا أه ًلا بالديوان!‬

‫‪84‬‬
‫ُّ‬
‫كله من ترامب‬

‫قد يكذب المرء بسهولة على زوجته في ساعة حميمية‪ ،‬ولربما‬


‫يستطيع فعل األمر عينه أمام العدو‪ ،‬أو حتى على موظفي اإلحصاءات‬
‫الحكومية‪ ،‬لكن من الصعب أن يمرر طفل في الثالثة أيمانك المغ َّلظة‬
‫حين تحلف له أن ال بيض لديك في هذه الساعة المتأخرة‪.‬‬
‫فعند صالة الفجر أيقظني ولدي باك ًيا يريد ً‬
‫بيضا‪ ،‬الحمد لله‬
‫ً‬
‫بطيخا في هذا الجو الكانوني البارد كما في الليالي‬ ‫أنه لم يطلب‬
‫الفائتة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فهو ليس بالمطلب اله ِّين‪ ،‬فلسوء الطالع إن‬
‫الثالجة فارغة‪ ،‬وصاحب الدكان الوحيد في الحي لن يفتح دكانه‬
‫حتى العاشرة‪ ،‬ودجاجاتي مذ تم تطبيق العقوبات األمريكية على‬
‫بيوضهن في ُ‬
‫الخ ِّم بسالسة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫يلقين‬
‫َ‬ ‫عدن‬
‫َ‬ ‫البالد ما‬
‫لهذا – وأمام عناده في هذا الوقت – سريت كخفافيش‬
‫لسن حساسات مثل‬
‫َ‬ ‫الظالم إلى جارتي “هندية”‪ ،‬فلديها دجاجات‬
‫دجاجاتي‪ ،‬وال يتأثرن بالوضع السياسي للبالد‪ .‬لربما لهذا السبب‬
‫يكثر الطلب على شراء دجاجها‪ .‬فقبل شهر نصحتني أن أشتري‬
‫منها فرختين‪ ،‬قالت لي إن َّ‬
‫حظها جيد في تدجين الطيور‪ .‬بالفعل‬

‫‪85‬‬
‫قمت مسحو ًرا بحديثها بشراء إوزتين من فصيلة اإلوز الثرثار‪ ،‬لهما‬
‫منقاران ُمفلطحان‪ ،‬ورقبتان طويلتان‪ ،‬وريش طارد للماء‪ ،‬ما جعلني‬
‫ومرتفعا‪ ،‬سقفته بأعواد‬
‫ً‬ ‫واسعا‬
‫ً‬ ‫أصنع لهما بركة ماء صغيرة ُ‬
‫وخ ًّما‬
‫القصب‪ ،‬وفرشت أرضيته بالتبن كي تفقسا بيوضهما في موعدها –‬
‫كما ع َّلمتني جارتي –‪ .‬في اليوم التالي حين استيقظت‪ ،‬كان الثعلب‬
‫قد لوى عنق إحداهما وهرب‪ ،‬في حين سرق صبيان الحي اإلوزة‬
‫اليتيمة األخرى‪.‬‬
‫المزعج في القضية أنه في هذا الصباح باعت لي هذه الجارة‬
‫الحنونة البيضة الواحدة بـ ‪ 75‬ليرة‪ ،‬وبال أي مراعاة أو تعويض‬
‫لمشاعري عن خسارتي لإلوزتين‪ .‬وحين سألتها عن سبب احتيالها‬
‫علي بهذا السعر‪ ،‬ردَّ ت بتظ ُّلم‪“ :‬إنه الدوالر”! لعن الله الحصار‪ ،‬حتى‬
‫َّ‬
‫مؤخرة الدجاجة لم تفلت منه‪.‬‬
‫لقد كان نها ًرا سي ًئا من طالعه‪ ،‬هي دقائق حتى اتصل بي‬
‫صهري؛ إذ تقول القاعدة إنه يحق للصهر االتصال في أي وقت؛‬
‫لهذا يسمى الصهر صه ًرا‪ ،‬ألنه ينصهر ويذوب كالحديد في عائلة‬
‫الزوجة‪ .‬آه‪ ،‬ليتني أنصهر وأتبخر حين يطلبني هذا الصهر في هذا‬
‫الوقت المتأخر‪.‬‬
‫أخبرني أن لديه مصلحة معي‪ ،‬وسيزورني لنتدارسها‪ ،‬ثم أغلق‬
‫هاتفه قائ ًلا بلهجة األمر‪“ :‬ال تخرج من البيت”‪ .‬صحيح أنه رجل‬
‫رغما‬
‫ً‬ ‫علي –‬
‫َّ‬ ‫صما‪ ،‬أنا متأكد أنه سيعرض‬
‫طيب‪ ،‬إال أنني أحفظه ًّ‬
‫عني – أن أكون شريكه في أحد مشاريعه االستثنائية كما العادة‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫معا‪،‬‬
‫لربما لديه إشارة أو طلسم من حقب قديمة ويبغي أن نحفرها ً‬
‫واحدا‪ .‬ومن يدري؟‬
‫ً‬ ‫فلسا‬
‫يوما ً‬
‫فهي مصلحة تستهويه رغم أنه لم يجد ً‬
‫لربما يريدني أن أشاركه في زراعة الفستق أو الفراولة أو أي محصول‬
‫ال تقبله أرض الجنوب أو لم يسبقه أحد في زراعته من قبل‪ ،‬فاألصالة‬
‫في أعماله قد ال تجدها عند شخص آخر‪.‬‬
‫انتظرته لساعات بعد الموعد المحدد؛ إذ تقول القاعدة‬
‫األخرى‪“ :‬يحق للصهر ما ال يحق لغيره‪ ،‬فإن تأخر أو حتى لم ِ‬
‫يأت‬
‫لموعده فهو معذور”‪ .‬لكنه جاء متأخ ًرا‪ ،‬وقد أجاب عن كل تكهناتي‬
‫السابقة حين قال بنشاط‪:‬‬
‫ ‪-‬ال شيء مهم‪ ،‬كل شيء تمام‪ ،‬كل شيء روعة‪ ،‬كل ما في‬
‫األمر أني أريد أن أشتري بقرة‪.‬‬
‫ ‪-‬بقرة يا صهر؟!‬
‫ ‪-‬نعم‪ ،‬بقرة‪.‬‬
‫ ‪-‬بقرة يا صهر؟!‬
‫ ‪-‬نعم‪ ،‬بقرة‪ .‬هل أنا أصغر من أن أشتري بقرة؟!‬
‫ ‪-‬هل وجدت كنزًا؟‬
‫ ‪-‬أقول لك بقرة‪ ،‬وليس سيارة‪.‬‬
‫ ‪-‬لع َّلك أخذت ً‬
‫قرضا ً‬
‫إذا‪.‬‬
‫طبعا ال‪.‬‬ ‫ ‪ً -‬‬
‫قرضا؟! إن الحكومة تحتاج من ُيقرضها‪ً ،‬‬
‫أحدا؟‬ ‫ ‪ً -‬‬
‫إذا‪ ،‬سرقت ً‬

‫‪87‬‬
‫ ‪-‬وهل تريدني أن أسرق بنطال “كر ِّيم” الوردي مث ًلا؟‬
‫(للتوضيح‪“ ،‬كر ِّيم” هو شاب في البلدة يشتهر ببناطيله‬
‫الوردية)‪.‬‬
‫ ‪-‬إن لم يكن كذلك‪ ،‬فمن أين لك ثمن البقرة؟ فأنا‬
‫جيدا؛ إن دخلت الفأرة منزلك خرجت‬
‫ً‬ ‫أعرف حالك‬
‫مصابة بسوء تغذية‪.‬‬
‫تخش شي ًئا‪ .‬معي ما يكفي لشراء بقرة ووليدها ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ ‪-‬ال‬
‫أتعتقد أني رجل سهل؟‬
‫ابتسم حتى وصلت ابتسامته ألذنيه‪ .‬ثم انطلقنا ألحد األشخاص‬
‫في البلدة‪ ،‬قيل إنه عرض بقرته للبيع بسعر زهيد‪ .‬كان رج ًلا مغرو ًرا‬
‫جدا‪ ،‬أخبرناه نيتنا في الشراء‪ ،‬ولشدة غروره كنا نسحب الكلمات‬
‫ًّ‬
‫منه سح ًبا‪:‬‬
‫لدي اقتراح أيها التاجر‪ِ ،‬ل َم ال ننام قلي ًلا وحين نستيقظ‬
‫ ‪َّ -‬‬
‫تكون قد أجبت عن سؤالنا؟‬
‫نكزت صهري بكوع يدي كي ال يتمادى أكثر في السخرية من‬
‫صاحب البقرة‪ .‬نظر إلينا ثم بصق من فرجتي أسنانه على األرض‪،‬‬
‫وساقنا لزريبته دون أن يقول حر ًفا‪ ،‬كانت الزريبة خالية إال من بقرة‬
‫واحدة‪ ،‬ناحلة ومدعوكة بالزبل والطين حتى برزت عظام قفصها‬
‫الصدري‪ .‬قال صهري ساخ ًرا‪:‬‬
‫ ‪-‬إننا نرغب في شراء بقرة‪ ،‬وليس حمار دونكيشوت‪،‬‬
‫سيدي‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫ ‪-‬هذا الموجود‪ ،‬لن تجد بقرة رخيصة مثل هذه البقرة في‬
‫السوق كله‪ ،‬لقد سامها عشرة تجار ولم أبعها‪.‬‬
‫ ‪-‬أخي ًرا نطق‪ ،‬أقسم بالله الذي خلق هذه البقرة الميتة لقد‬
‫ظننتك أخرس‪ ..‬يبدو أنها بقرة مسلمة؛ هل هي صائمة‬
‫حتى جف جلدها هكذا؟‬
‫قال صاحب البقرة‪:‬‬
‫ ‪-‬ارتفع سعر كيلو العلف أضعا ًفا‪ ،‬لو عندي قدرة لشراء‬
‫علفها فما كنت عرضتها للبيع‪.‬‬
‫أخذني صهري على جنب‪:‬‬
‫ ‪-‬أفكر أن أشتريها‪ .‬صحيح أنها قد تموت لمجرد أن‬
‫تعطس‪ ،‬وأنني إن قررت ذبحها فقد ال تكفي أختك‬
‫على الفطور‪ ،‬لكني أرى يا أبا النسب أنه بفرق السعر‬
‫بإمكاني أن أشتري معها بقرة صغيرة‪.‬‬
‫استدار نحوه صهري سائ ًلا‪:‬‬
‫ ‪-‬وكم ثمن هذه الميتة يا معلم؟‬
‫ ‪-‬كما طلبت من التاجر الذي قبلكما‪.‬‬
‫ ‪-‬وكم طلبت من التاجر الذي قبلنا؟‬
‫ ‪-‬كما طلبت من التاجر الذي قبله‪.‬‬
‫ ‪-‬ال حول وال قوة‪ .‬وكم طلبت من التاجر الذي قبل قبله؟‬
‫ ‪-‬كما طلبت…‬

‫‪89‬‬
‫قاطعه صهري بانفعال‪:‬‬
‫لدي‬
‫َّ‬ ‫ ‪-‬يووه! خ ِّلصني وأخبرني‪ ،‬كم ثمنها يا رجل؟‬
‫أعمال‪.‬‬
‫ضحك الرجل بال رغبة‪:‬‬
‫ ‪-‬هذا أسلوب التجارة‪ ،‬ال عليك يا كدر‪ ،‬لقد دفعوا لي‬
‫بها مليونًا ومئتي ألف‪ ،‬ولم أ ِبع‪.‬‬
‫أصيب صهري بكل أنواع الصدمات النفسية‪ ،‬فتح فمه ثم‬
‫صاح بصوته مخنو ًقا‪:‬‬
‫ ‪-‬يا ربي! ماذا يقول هذا الرجل؟! هل هذا الحمار الميت‬
‫بهذا السعر؟!‬
‫ثم اقترب نحو البقرة واحتضنها‪ ،‬وحاول حملها بعصبية حتى‬
‫امتأل قميصه بالطين‪:‬‬
‫ ‪-‬إنك تمازحني‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫رفع البائع حاجبيه‪:‬‬
‫ ‪-‬هأ!‬
‫ ‪-‬بربك هل تستحق هذه الجثة مليون ليرة؟!‬
‫صوَّب البائع كلماته بهدوء‪:‬‬
‫ ‪-‬ومئتي ألف‪.‬‬
‫سحبت صهري ثم وشوشته‪:‬‬
‫ ‪-‬بكم كنت تتوقع أن تشتري بقرة؟‬

‫‪90‬‬
‫قال وقد رشح أنفه من هول الصدمة‪:‬‬
‫ ‪-‬مئتي ألف يا نسيبي‪.‬‬
‫ ‪-‬يا لمصيبتي!‬
‫قلت للبائع‪:‬‬
‫ ‪-‬إنه مبلغ كبير‪.‬‬
‫ ‪-‬أنا قلت إن التجار دفعوا لي مليونًا ومئتي ألف ولم أ ِبع‪،‬‬
‫ثمنها مليون ونصف ليرة سورية ال غير‪.‬‬
‫اقترب صهري نحوي كمن يريد البكاء‪:‬‬
‫ ‪-‬هل عيناي دامعتان؟‬
‫ ‪-‬نعم‪.‬‬
‫ ‪-‬هل تؤلمانني؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ ‪-‬بشدة‪.‬‬
‫ثم عاد في حديثه للتاجر‪:‬‬
‫ ‪ِ -‬‬
‫اتق الله يا رجل بهذه البهيمة وحررها‪.‬‬
‫ً‬
‫ونصفا وحررها‪ ،‬هل كنت تعيش في كهف‬ ‫ ‪-‬هات مليونًا‬
‫قبل أن تفكر في الشراء؟! الدوالر اليوم يزيد على‬
‫واشتر دجاجتين وقم بحلبهما ً‬
‫إذا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫األلف‪ ،‬اذهب‬
‫غادرنا المكان‪ .‬في الطريق دأب صهري يندب حظه‪:‬‬
‫ ‪-‬سأخبرك بسر‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫ ‪-‬تفضل‪.‬‬
‫ ‪-‬إن عدت للمنزل من دون بقرة‪ ،‬فستحلبني أختك من‬
‫دون شك‪ .‬أريد أن تتصل بها وتخبرها أن الدوالر هو‬
‫دمر حياتي‪..‬‬
‫السبب‪ ،‬أخبرها أن “ترامب” َّ‬
‫سكت ثم حوَّل عينيه نحوي‪:‬‬
‫هل عيناي دامعتان؟‬
‫ ‪-‬يعني‪.‬‬
‫ ‪-‬هل لونهما أحمر؟‬
‫ ‪-‬يعني‪.‬‬
‫ ‪-‬هل تؤلمانني؟‬
‫ ‪-‬يبدو ذلك‪.‬‬
‫ ‪-‬كله من ترامب‪ ،‬كله من ترامب‪.‬‬
‫في ابني من بعيد‪:‬‬
‫قبل الوصول إلى المنزل صرخ َّ‬
‫ ‪-‬هل أحضرت لي مو ًزا أحمر؟‬
‫توقفت عن المسير‪ ،‬وقفت أمام صهري‪ ،‬سألته‪:‬‬
‫ ‪-‬هل عيناي حمراوان؟‬
‫ ‪-‬يعني‪.‬‬
‫ ‪-‬هل تؤلمانني؟‬
‫ ‪-‬يبدو كذلك‪.‬‬
‫معا كنسوة آيسهن الحيض‪“ :‬كله من ترامب”‪.‬‬
‫ثم صرخنا ً‬

‫‪92‬‬
‫رحلة‬

‫ِ‬
‫يكتف باالتصال بي‪ ،‬إنما جاء لمنزلي كي ُيفصح عن نيته‬ ‫لم‬
‫جمع األصدقاء مرة أخرى في رحلة‪ ،‬جلس على الكرسي وقد شبك‬
‫يدي “مايك فغالي” الخشبيتين في ليلة رأس السنة‪،‬‬
‫يديه أمامه مثل َ‬
‫قاطعا الطريق أمام أي اعتراض قد َّ‬
‫أتلفظ به‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ثم أسرع في حديثه‬
‫ ‪-‬سأرتب كل شيء‪ ،‬سنأخذ سيارة مكشوفة‪ ،‬أو نذهب‬
‫على الدراجات النارية‪ ،‬فال داعي للقلق‪.‬‬
‫وكشخص يعاني من متالزمة سوبايت ‪،Sopite syndrome‬‬
‫تماما أن كلماته تلك لم ِ‬
‫تأت عبثًا‪ ،‬ففي المشوار األخير كانت‬ ‫ً‬ ‫ُأدرِ ُك‬
‫َّ‬
‫معط ًلا‪ ،‬وكانت‬ ‫السيارة التي أق َّلتنا مغلقة‪ ،‬وكان المك ِّيف فيها‬
‫ُ‬
‫حملت حينها‬ ‫مدمرة لنفسيتي؛ لهذا جاء جوابه ذاك جاهزًا‪ .‬إذ‬
‫الرحلة ِّ‬
‫الشدة بخسارة‪ ،‬وتجادلنا في تاريخية المكان‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ولعبت ورق‬ ‫األغراض‬
‫الذي نزلنا به‪ ،‬وعن معركة اليرموك أشهر المعارك اإلسالمية التي‬
‫قادها القائد اإلسالمي خالد بن الوليد في تلك المنطقة سنة ‪636‬‬
‫ميالدية‪ ،‬بعدها طلبوا مني أن أحدثهم عن أول رحلة في حياتي‪ ،‬ففي‬

‫‪93‬‬
‫كل مشوار يطلبون مني أن أقص تلك الحكاية رغم أن كل شيء بها‬
‫مؤلما وال يدعو للضحك‪.‬‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫لهذا سأحدثكم عنها للمرة األخيرة‪:‬‬
‫حدث ذلك في النصف الثاني من التسعينيات‪ ،‬كنت حينها‬
‫في مرحلتي االبتدائية‪ .‬وفي ذاك اليوم‪ ،‬وبما أني أقصر طالب في‬
‫الصف‪ ،‬وقفت في مقدمة الطابور في باحة المدرسة‪ .‬وحين انتهينا‬
‫من ترديد النشيد الوطني‪ ،‬ذرع أمين السر الباحة أمامنا جيئ ًة وذها ًبا‪،‬‬
‫غصت أذناه وأنفه بالشعر النافر‪ ،‬قال‬
‫واضعا يديه في جيبيه وقد َّ‬
‫ً‬
‫بصوت جهوري‪:‬‬
‫غدا سنذهب رحلة‪ ،‬سنرى مدينة بصرى األثرية‬
‫ ‪ً -‬‬
‫وشالالت تل شهاب الرائعة‪ ،‬وسندخل حديقة الحيوان‪،‬‬
‫وسنرى هناك الغزال‪ .‬من يرغب في رؤية الغزال يا‬
‫طالب؟‬
‫صاح الجميع‪:‬‬
‫ ‪-‬نحن‪.‬‬
‫غدا ‪ 75‬ليرة‪.‬‬ ‫ ‪ً -‬‬
‫إذا فليجلب كل واحد منكم معه ً‬
‫الغزال‪ ،‬كم أحلم برؤيته! طوال الطريق للمنزل وأنا أتخ َّيل‬
‫شكله‪ ،‬عينيه‪ ،‬قرنيه‪ ،‬أذنيه‪ .‬يا إلهي! كم سيكون جمي ًلا! أسرعت‬
‫راكضا للمنزل‪ ،‬رميت حقيبتي على األرض ورحت أبحث عن أمي‬ ‫ً‬
‫بفرحة عارمة‪ ،‬كانت أختي في المطبخ‪ ،‬قلت لها وفي نيتي اإلغاظة‪:‬‬

‫‪94‬‬
‫غدا سأذهب رحلة‪ ..‬ننناه‪ ..‬وسأرى الغزال يا مسكينة‪،‬‬
‫ ‪ً -‬‬
‫ننناه‪ ،‬لكني أريد ‪ 75‬ليرة‪.‬‬
‫لكنها ال تصغي لما أقول‪ ،‬فسكوتها ذاك يغيظني‪ ،‬ذهبت إلى‬
‫أخي األكبر‪ ،‬يشاهد هو اآلخر بانسجام مباراة لكرة القدم‪:‬‬
‫غدا سأرى الغزال‪ ،‬سوف تذهب المدرسة رحلة‪ ،‬فقط‬
‫ ‪ً -‬‬
‫بـ ‪ 75‬ليرة‪ ،‬يا بالش‪..‬‬
‫كان حذاؤه أسرع في إجابتي‪ .‬في تلك اللحظات تدخل نبع‬
‫الحنان‪ ،‬متعبة من مشوار في الحي‪:‬‬
‫ ‪-‬أمي‪ ،‬أريد ‪ 75‬ليرة‪ ،‬أريد أن أرى الغزال‪ ،‬وسنذهب‬
‫غدا‪.‬‬
‫رحلة ً‬
‫يا إلهي! هل اختفيت حتى ال يسمعني أحد؟! م َّرت أمامي نحو‬
‫المطبخ دون أن تلقي با ًلا لحديثي‪ ،‬عندها صرخت ملء فمي وسط‬
‫المنزل‪“ :‬أريد‪ ..‬أن‪ ..‬أرى‪ ..‬الغزال”‪.‬‬
‫اقتربت أمي نحوي‪ ،‬فمذ عرفتها ولديها فلسفة خاصة في هذه‬
‫الحياة‪ ،‬طلبت مني بحنو أن أذهب للزريبة وأن أراقب بقراتنا حتى‬
‫فهن يشبهن الغزال‪ ،‬لكنه أنحف قلي ًلا وله قرون‬
‫أشبع من رؤيتهن‪َّ ،‬‬
‫ولونه بني‪ ،‬ثم ختمت حديثها بالقول‪“ :‬ليش البعزقة؟”‪.‬‬
‫دائما يجبرونني على فعل ذلك –‪،‬‬
‫ً‬ ‫هنا عدت ألسلوبي القديم –‬
‫انبطحت على باب المنزل ورحت أتل َّبط األرض مرددً ا طوال النهار‪:‬‬
‫ ‪-‬أريد أن أرى الغزال… الغزال أريد أن أراه… أرى‬
‫الغزال أريد‪..‬‬

‫‪95‬‬
‫وهكذا حتى َّ‬
‫حل المساء‪ ،‬خالل ذلك كانت الحياة تجري‬
‫طبيعية في المكان‪ ،‬أخي يعبر الباب من فوقي مكم ًلا طريقه بال أي‬
‫تجرني عن الباب لتمسح المكان ثم تعيدني لمكاني‬
‫ُّ‬ ‫اعتبار‪ ،‬أختي‬
‫وتكمل هي تنظيفها للمنزل‪ ،‬أمي تأكل حبات فول أخضر وترمي‬
‫بقشورها في السلة الواقعة بجانب رأسي‪ ..‬ومع ذلك واصلت نضالي؛‬
‫فالقضية تستحق مني التضحية‪.‬‬
‫عند المساء تم منحي الـ ‪ 75‬ليرة بإكراه‪ .‬لهذا خذ هذه النصيحة‬
‫– عزيزي القارئ –‪ ،‬غال ًبا المعنيون بأمرك ال يلتفتون لمطالبك إن‬
‫نائحا‪ ،‬واألهم أن عليك أن َّ‬
‫تنق في مطالبك‬ ‫لم تتل َّبط وتصرخ أمامهم ً‬
‫بإزعاج‪ ،‬فالذين ال ُّ‬
‫ينقون يموتون‪ ،‬فاعلم أن البعض منهم في المطبخ‬
‫يطبخ شي ًئا ما وغير مهتم لمطالبك‪ ،‬وهناك آخرون الهون في رهان‬
‫رياضي ما وال تعنيهم روحك الرياضية‪ .‬لكن في كل إدارة هناك‬
‫شخص جيد ودبلوماسي‪ ،‬وسيحاول في البدء أن يكون مثلهم ويوجه‬
‫مطالبك لمكان آخر‪ ،‬لكنه سيلبي مطالبك في النهاية ألنه يرغب في‬
‫أن يتوقف صراخك كي يتمكن من النوم‪ .‬فإن التزم أحدهم الصمت‬
‫فاعلم أنه مغتاظ منك‪ ،‬وإن ضربك بحذائه فاحمله بلطف وأعده إليه‬
‫بلطف‪ ،‬وعاود الك َّرة بأدب‪ .‬من هنا يمكن الجزم أن ذلك هو غاية‬
‫اإلعالم الوطني اليوم‪.‬‬
‫يوم الرحلة‬
‫في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة باك ًرا‪ ،‬كنت أول‬
‫الواصلين وأول من يسجل اسمه في الرحلة‪.‬كانت المدرسة قد تعاقدت‬

‫‪96‬‬
‫في تلك الرحلة مع ميكروباص “أبو عنتر” األخضر‪ ،‬وهو ميكرو‬
‫قديما‪ ،‬يدلف سقفه وقت الشتاء‪ ،‬ويعمي عينيك‬
‫ً‬ ‫القرية الوحيد‪ ،‬كان‬
‫َّ‬
‫المحطمة في الصيف‪ .‬ومن مجموع نوافذه‬ ‫الغبار المندفع من نوافذه‬
‫قد تجد نافذتين أو ثالثة فقط صالحة لالستعمال‪ ،‬كما أنه ال يملك‬
‫با ًبا‪ ،‬في حين خلع صاحبه عن قصد باب السائق ليتمكن من الولوج‬
‫إليه‪ ،‬فما ال تعرفه أن “أبو عنتر” يحتاج إلى شخصين ليقوما بدفعه‬
‫لتتمكن مؤخرته من الوصول خلف المقود‪ ،‬وذلك لضخامة جثته‪.‬‬
‫ُ‬
‫أسرعت ألحجز مكاني في المقعد األخير ألجلس قرب‬
‫النافذة‪ ،‬لكنني لم أصل‪ ،‬فجميع الطالب حجزوا الكراسي القريبة‬
‫من النوافذ‪ ،‬ولم َ‬
‫يبق سوى الكرسي الواقع خلف السائق‪ ،‬وهو كرسي‬
‫ابتدعه أبو عنتر في هذا المكان ليكسب راك ًبا إضاف ًّيا‪ ،‬فهو مكان‬
‫مخصص كغطاء لمحرك هذه الخردة التي نركبها؛ لهذا أجدني طوال‬
‫الطريق وأنا ُّ‬
‫أنط فوقه كالنابض‪.‬‬
‫والتعرق‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫وما إن مضت نصف ساعة‪ ،‬حتى الزمتني الدوخة‪،‬‬
‫فالغثيان وعدم الراحة‪ ،‬وشي ًئا فشي ًئا أخذت عصارة حلقي تسلك‬
‫أشرت بتك ُّلف وبعينين محم َّرتين إلى السائق‬
‫ُ‬ ‫طريقها نحو فمي‪.‬‬
‫ثوان حتى‬
‫يع ما أردته‪ .‬ما هي إال ٍ‬
‫للتوقف لرغبتي في التقيؤ‪ ،‬لكنه لم ِ‬
‫كانت الفاجعة‪ ،‬تقيأت على قميص السائق‪ ،‬وعلى بنطال أمين السر‪،‬‬
‫وعلى مدرس الصف السادس‪ ،‬وعلى تنورة اآلنسة الجميلة “نعمة”‪،‬‬
‫المدرسة األنيقة “رجاء”‪ ،‬وعلى الوردة الحمراء التي‬
‫وعلى كندرة ُ‬
‫كان يحملها المدرس الرومانسي “شيحان”‪ ،‬وعلى الكراسي وعلى‬

‫‪97‬‬
‫النوافذ‪ ،‬وعلى الطالبات والطالب فردً ا فردً ا‪ ،‬لكنني لم أتقيأ على‬
‫نفسي‪ ،‬فأنا أسمع نصائح أمي بعدم إهمال مالبسي‪.‬‬
‫أعاني منذ الصغر وحتى اآلن من دوار الحركة ‪Motion‬‬
‫‪sickness‬؛ لهذا ما إن انتهيت من الجميع حتى ُأصبت باإلرهاق‬
‫والتعب كأحد أعراض متالزمة سوبايت ‪،Sopite syndrome‬‬
‫علي‪.‬‬
‫مغمى َّ‬
‫المدرس الرومانسي ً‬
‫فسقطت بال وعي في حضن ُ‬
‫ما هي إال دقائق –أو هذا ما خ ِّيل ل – حتى اقترب مني المدرس‬
‫الرومانسي‪ ،‬نهض غ َّرته خلف أذنه‪ ،‬ثم قال لي بهدوئه المعتاد‪:‬‬
‫ ‪-‬حبيبي‪ ،‬لقد وصلنا‪ ،‬هيا انزل‪.‬‬
‫نائما على الكرسي األخير‪ ،‬وكان الميكرو خال ًيا إال مني‬
‫كنت ً‬
‫أترجل منه‪ُ ،‬صدمت‬
‫َّ‬ ‫ومن السائق وهذا المد ِّرس اللطيف‪ .‬وقبل أن‬
‫عيناي من كل هذا الخراب الذي صنعته معدتي بالمكان‪ .‬قلت في‬
‫ترجلت من‬
‫نفسي‪“ :‬عادي‪ ،‬يحصل أن يتقيأ المرء في الرحلة”؛ لهذا َّ‬
‫باب الحافلة ألرى الغزال‪ ،‬لكن سرعان ما تركني السائق والمدرس‬
‫وهربا بالميكرو‪ ،‬فجأة جالت عيناي في المكان‪ ،‬وإذ بي أمام المنزل‪.‬‬
‫أحدث أمي عن آثار مدينة بصرى‬
‫ِّ‬ ‫طوال أسبوع كامل وأنا‬
‫الرائعة‪ ،‬وكم هي جميلة شالالت تل شهاب‪ ،‬وطوال شهر وأنا أغيظ‬
‫أختي في حديثي عن شكل الغزال الذي كان مدهشً ا‪ ،‬لكن إلى اليوم‬
‫ال تعلم أختي أني لم أ َر الغزال إال في “ناشيونال جيوغرافيك”‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫(((‬
‫زكزكة‬

‫ال أعلم – عزيزي القارئ – إن كان عن إقرار أو غير إقرار أن‬


‫يقول الشامي عن القلم‪“ :‬ألم”‪ ،‬أو أن يطلق أبناء المدن المتوسطة –‬
‫القد والقوام‪.‬‬
‫ما دون المجتمع المفيد – كلمة قلم لكل فتاة ممشوقة ِّ‬
‫لكنني أكاد أجزم أنه ألمر مدروس بعناية أن يلفظ القلم في‬
‫بلدتي بلهجة محلية ثقيلة‪ ،‬حيث حرف القاف يلفظ كما تلفظ الجيم‬
‫تخرش معناها وتجعله أقرب ما‬
‫ّ‬ ‫المصرية مع بعض اإلضافات التي‬
‫يكون لمخ َّلفات ألغام أو مفخخة لداعش‪ .‬فما إن يقولها أحدهم‬
‫حتى تفعل نهايات األعصاب في وجهه فعلها‪ ،‬فتتكشف األنياب‪،‬‬
‫فيبدو القائل مثل انغماسي ضغط على الزناد ليريك ما في أمعائه من‬
‫مخلفات‪ .‬ولربما لهذا السبب خرجت داعش من رحم البادية‪ ،‬حيث‬
‫الصحراء ال تعرف المجاملة‪.‬‬

‫((( زكزكة‪ :‬كلمة محلية في بالد الشام‪ ،‬تُستعمل في السياسة للسخرية من التصريحات‬

‫والوعود السياسية المتناقضة لتبقى مجرد كلمات فارغة ال معنى لها‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫ُ‬
‫تركت القلم منذ مدة حتى بلغ تقصيري‬ ‫ولربما لهذا السبب ً‬
‫أيضا‬
‫في العمل مبلغه‪ ،‬فإدارة التحرير على لطافتها معي لربما ال تدرك أن‬
‫اللطافة أحيانًا تكون أسوأ عقاب‪ ،‬وهذا ما تعلمته خالل مزاولة مهنة‬
‫الصحافة‪.‬‬
‫لهذا استيقظت اليوم باك ًرا‪ ،‬أديت صالة الفجر‪ ،‬ثم أكملت‬
‫رياضتي بالهرولة حول البيت؛ لعل برنارد شو يكون صاد ًقا هذه المرة‬
‫معي في رؤيته حول أجمل األفكار التي تأتينا ونحن نمشي‪.‬‬
‫لهذا سأروي لكم حكاية‪ ،‬حكاية يومي هذا‪ ،‬ولمرة واحدة‬
‫فقط‪.‬‬
‫ابن أخي يعاني من متالزمة نفسية تحوَّلت من عادة إلى وسواس‬
‫َّ‬
‫تحول عيناه‪.‬‬ ‫قهري‪ ،‬فهو ال يبرح يومه وهو يراقب أنفه حتى كادت أن‬
‫وحين أسأله عن سبب مراقبته ألنفه طوال النهار‪ ،‬يجيب ببالهة‪:‬‬
‫ ‪-‬أخاف أن يضيع‪.‬‬
‫مصطنعا الصبر‪:‬‬
‫ً‬ ‫أسأله مرة أخرى‬
‫ ‪-‬ما الذي سيضيع يا حبيبي؟‬
‫ ‪-‬أنفي‪ ،‬أنفي يا عمي‪.‬‬
‫متنهدا‪ ،‬ثم أسأله من جديد‪:‬‬
‫ً‬ ‫أغمغم‬
‫ ‪-‬وهل ضاع قبل ذلك؟‬
‫ ‪-‬يووه‪ ،‬حوالي أربع مرات‪ ،‬آخر مرة وجدته وحلفت أال‬
‫يضيع بعد اليوم‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫أطبطب على كتفيه ولي رغبة بقضم أنفه‪ ،‬ثم وبعجز ال يجد‬
‫لساني سوى الدعاء له ولوالده بالشفاء‪.‬‬
‫كالعادة أوصله إلى مدرسته متأخ ًرا‪ ،‬ليس لرغبتي أن ألقي‬
‫التحية على رحاب ُمد ِّرسته الجميلة لتبتسم لي وتقدم لي شكايتها‬
‫منه‪“ :‬ال أريد أن يسيس كالمي”‪ ،‬وإنما ألني فقط أح ِّبذ أن أختبر‬
‫مقولة أندريه بريفو عن أفواه النساء في بلدتي حين يقول‪“ :‬الفم‪:‬‬
‫تارة برعم وردة‪ ،‬وطو ًرا بوز مرشة”‪ ،‬لكن لن أخبركم كم كان برعمها‬
‫الشيطاني جمي ًلا‪.‬‬
‫اليوم كانت شكايتها مختلفة‪ ،‬حيث قالت لي بوجع‪“ :‬ابن‬
‫أخيك لديه حقد على أقالم رفاقه‪ ،‬فهو يقوم بكسر أقالمهم بال سبب‪،‬‬
‫وحين تسأله يقول‪“ :‬ألعب‪ .‬وهل اللعب ممنوع؟!”‪ ،‬أرجو أن تجدوا‬
‫له ح ًّلا؛ فقد نفد صبري”‪.‬‬
‫قالت ذلك ثم أطبقت الباب بوجهي بشيء من عصبية‪ ،‬ثم وقبل‬
‫بحدة‬
‫َّ‬ ‫أن أدور برأسي للمغادرة أط َّلت من الباب مجددً ا ثم صرخت‬
‫أكبر‪“ :‬إن هاجرت وتركت لكم هذه البالد‪ ،‬فلن يكون بفعل الحرب‪،‬‬
‫بل بفعل ابن أخيك”‪ ،‬ثم أطبقت الباب بقوة أكبر من سابقتها‪ .‬ال‬
‫أعرف حين يكون الحديث عن ابن أخي ِل َم يتحول فمها المبرعم‬
‫إلى بوز مرشة بسرعة هكذا‪.‬‬
‫وكمراسل لطيف يتبع نصائح مديره‪ ،‬أقول في سري‪“ :‬لربما‬
‫هذه موهبة جديدة تضاف إلى مواهب ابن أخي”‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫لهذا اتجهت إلى ناظر المدرسة وأخبرته حكايتي‪ ،‬وسألته عن‬
‫ً‬
‫لطيفا‪،‬‬ ‫سبب عدم وجود مد ِّرس إرشاد نفسي بالمدرسة‪ ،‬كان جوابه‬
‫ً‬
‫ضحكا من روحه‪ ،‬وكل ما قاله‪“ :‬إلى أن ترسل لنا الحكومة‬ ‫ضحك‬
‫مد ِّرس لغة إنكليزية ومد ِّر ًسا للصف األول والخامس والسادس‪،‬‬
‫بعدها نفكر في رفع كتاب لمد ِّرس دعم نفسي البن أخيك”‪.‬‬
‫ُ‬
‫ابتسمت ببالهة؛ ألني ال أقوى على أكثر من ذلك حين يتعلق‬
‫األمر برغبات الحكومة والقيادة‪ ،‬فالقيادة أوسع نظ ًرا يا أخي؛ لذا‬
‫وضعت يدي في يده وغادرته‪ .‬وطوال الطريق وأنا أفكر في حل‬
‫مع ابن أخي‪ ،‬ليس لرابطة العمومة والدم التي تجمعني به فقط‪،‬‬
‫جيدا القواعد‬
‫ً‬ ‫جيدا‪ ،‬فأنا أحفظ‬
‫ً‬ ‫وإنما ألني مراسل يحفظ النصائح‬
‫العامة لمهنتي‪ ،‬وكذلك نصائح مديري حين يلوِّح بإصبعه من خلف‬
‫مجموعة العمل عبر الفيسبوك ليقول لمجموعة مراسلين من مختلف‬
‫المحافظات‪“ :‬لتكونوا صحفيين حقيقيين؛ ال تنقلوا فقط أوجاع‬
‫ومشاكل الناس‪ ،‬بل حاولوا أن تكونوا جز ًءا من ح ِّلها”‪.‬‬
‫لربما لهذا السبب رغبت في كتابة هذه الكلمات اليوم‪ ،‬وألقول‬
‫إن الصحافة هي أن تروي األشياء كما هي‪ ،‬ال كما ينبغي أن تكون‪.‬‬
‫أقول ذلك ولي رغبة في تحوير ما قاله بول فاليري ذات مرة؛ ألن‬
‫الذين يخشون ذلك‪ ،‬ويخشون القلم الساخر‪« ،‬ال ثقة لهم بقوتهم‪،‬‬
‫إنهم جبابرة كهرقل‪ ،‬يخشون “الزكزكة”»‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫الزوج طيب القلب‬

‫بعد ليلة كاملة الدسم والرومانسية‪ ،‬اقترب أكثر من زوجته‬


‫وقد أغرق في دغدغتها وإضحاكها‪ .‬في المشفى تهامس الطبيب مع‬
‫المحقق بصوت خافت‪ ،‬ثم وقف المحقق فوق رأسها يقرأ التقرير‬
‫تسمر الزوج الطيب‬‫َّ‬ ‫الطبي وهو يق ِّلب وريقاته برو َّية‪ .‬بالقرب منه‬
‫ً‬
‫خطوطا ناشفة على‬ ‫واضعا يديه في جيبيه وما زالت آثار الدموع ترسم‬
‫ً‬
‫خديه المتوردين‪.‬‬
‫اقترب منه المحقق‪ ،‬وقد بانت على وجهه األبيض البض‬
‫ابتسامة مواساة‪:‬‬
‫ ‪-‬ما اسمك؟‬
‫ ‪-‬إبراهيم الخليل‪ ،‬سيدي‪.‬‬
‫ ‪-‬عمرك؟‬
‫ ‪-‬في الثانية والثالثين‪.‬‬
‫ ‪-‬بماذا تقضي وقتك؟‬
‫ ‪-‬أعمل كات ًبا صحف ًّيا في مجلة “الوجه اآلخر”‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫ ‪-‬والزوجة؟‬
‫ ‪-‬إيمان سالمة‪.‬‬
‫ ‪-‬ما هو عمرها؟‬
‫ ‪-‬تسعة وخمسون‪ ،‬وهي صاحبة المجلة التي أعمل بها‪.‬‬
‫ ‪-‬آها‪ ،‬جميل‪ .‬أعرفها‪ ،‬إنها مجلة نسوية‪ ،‬أنا ً‬
‫أيضا أكتب‬
‫في مجلة “الجندي العربي” ومجلة “جيش الشعب”‪،‬‬
‫اللتين تصدرهما وزارة الدفاع‪ .‬بالتأكيد أنت تعرفهما‪،‬‬
‫فليس لشاب سوري انخرط في الجيش أال يكون قد‬
‫قرأهما‪ .‬نحن زمالء ً‬
‫إذا‪ ،‬مع اختالف في الرأي‪ .‬هل‬
‫يغضبك إن قلت إني ال أحبذ ما تطرحونه في مجلتكم؟‬
‫ال أعرف ِل َم تبالغون في مديحكم للنساء‪ ،‬ما تسمونه‬
‫تحري ًرا هو بطبيعته تثوير لها لنسف العالقة الطيبة التي‬
‫تربطها بالرجل‪ ،‬إنكم تمنحونها قيمة تدفعها للتمرد‬
‫على زوجها وأخيها وأبيها‪ ،‬أنتم – النسويين – لستم‬
‫منصفين‪ .‬لست ضد المرأة‪ ،‬وال أفكر في ذلك حتى‪،‬‬
‫أحدا له قدرة أو رغبة في فعل ذلك‪ .‬لربما‬
‫وال أعتقد أن ً‬
‫أنا فهمتكم بطريقة مغايرة‪ ،‬فما تكتبونه وتروجون له‬
‫يقول لي إنه لترتقي المرأة لمرتبتنا‪ ،‬عليها التوقف عن‬
‫طلي وجهها بالمساحيق‪ ،‬وأن تتأقلم مع صلعة صغيرة‬
‫وشاربين عريضين وكرش ذي هيبة‪ .‬أليس هو ذلك؟‬

‫‪104‬‬
‫لكن أال ترى أنه لو مشى المجتمع خلف أفكاركم‬
‫فسينقرض العنصر العربي بالتأكيد؟‬
‫وضع المحقق تقريره فوق سا َقي الزوجة الممددة على السرير‪،‬‬
‫بحدة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ثم أكمل‬
‫ ‪-‬هناك حقيقة تتغاضون عنها وتؤكد صدق حديثي‪ ،‬إن‬
‫عليهن في مجلتكم اسم “النساء الكبار”‬
‫َّ‬ ‫من تطلقون‬
‫لن‬
‫في تاريخ بالدنا تَعايشن مع تلك الحقيقة حتى ِن َ‬
‫دائما أقول لزوجتي ذلك‪ ،‬فهي‬‫ً‬ ‫المجد والسمعة‪ .‬أنا‬
‫ليست عنص ًرا دون ًّيا ً‬
‫نافقا بال قيمة‪ ،‬بل عليها أن تعترف‬
‫أننا نحن المتفوقون بيولوج ًّيا‪ ،‬وهذا وحده ٍ‬
‫كاف لنزع‬
‫حدا لهذا‬
‫هكذا اعتراف‪ ،‬ليس لشيء‪ ،‬وإنما كي نضع ًّ‬
‫النزاع غير ذي القيمة‪ ،‬أظن أن اعترا ًفا كهذا هو ما جعل‬
‫عالقتي بزوجتي مميزة‪ ،‬ونلت معها سعادة مطلقة‪.‬‬
‫أحس المحقق أنه بالغ في ثرثرته وحديثه خارج سياق القضية‪،‬‬
‫َّ‬
‫توقف قلي ًلا ثم أكمل بإطراء‪:‬‬
‫ ‪-‬أنت رجل طيب يا هذا لتسمع كالمي وأنت في هذه‬
‫الحالة العصيبة‪ ،‬وأعتقد أنكما عشتما ثالثة أشهر‬
‫جميلة مع بعضكما البعض رغم فارق السن‪ .‬لكن‬
‫لدي سؤال أخير‪ :‬أليست زوجتك من تعرضت لثالث‬
‫َّ‬
‫محاوالت اغتيال في بيتها خالل الشهرين الماضيين‬
‫دون معرفة الجاني؟‬

‫‪105‬‬
‫ ‪-‬نعم‪ ،‬سيدي‪.‬‬
‫ ‪-‬أين كنت حين وقعت تلك الحوادث؟‬
‫الحمام‪ ،‬سيدي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ ‪-‬في‬
‫بانت على وجه المحقق مالمح التأسف‪ ،‬اقترب نحو الزوج‪،‬‬
‫طبطب على كتفه‪:‬‬
‫ ‪-‬إن القدر منح أعداء زوجتك مطلبهم‪ ،‬فقدرك أن تكون‬
‫أرم ًلا‪ ،‬وقدر زوجتك أن تموت من الضحك؛ لهذا‬
‫سيتحتم عليك مسؤولية كبيرة في الدفاع عن قضيتها‪،‬‬
‫وفي إدارة مجلتها وأموالها‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫كيف يحتال الرجال على رمضان؟‬

‫في رمضان‪ ،‬إن أنواع الرجال كأنواع الفطر‪ ،‬ال ندري إن كانت‬
‫سامة أم جيدة إال بعد األكل‪ .‬فنحن – الرجال – نصوم ست عشرة‬
‫ُّ‬
‫يحل اإلفطار حتى نتخم‬ ‫ساعة غارقة بالحرارة والجفاف‪ ،‬وما إن‬
‫مج السجائر‪ .‬يبدو أن لألمر‬
‫من أول ست دقائق‪ ،‬لنتسابق بعدها في ِّ‬
‫عالقة بالسياسة‪.‬‬
‫ففي العموم‪ ،‬إن الج َّو هنا منذ أول يوم رمضاني وحتى اليوم‬
‫الثالثين في هذه القرية بالذات مشحون بالعصبية‪ ،‬مكهرب ويكاد‬
‫ينفجر‪ ،‬فالجميع هنا ينظر إليك بنزق‪ ،‬وبعقدة فوق الجبين يمر دون‬
‫أن يلقي التحية حتى‪.‬‬
‫فلهذا الشهر روحانيات جميلة‪ ،‬أنا أشعر بذلك؛ إذ تجد الجميع‬
‫قبل؛ إنها الحرب يا أخي‪ ،‬هي سبب كل ذلك‪.‬‬
‫دب ًرا غير ُم ِ‬
‫من حولك ُم ِ‬
‫ومع هذا الجو القشيب لهذا العام‪ ،‬تتفتح حيل ومكائد الجميع‪.‬‬
‫أما عائلتي فهي ليست استثنا ًء‪ ،‬فاألبواب كل حين تُط َبق‬
‫بعصبية‪ ،‬الصحون في المغسلة تكاد تتكسر‪ ،‬األكتاف تتخبط‬
‫ُّ‬
‫الكل سكارى وما هم بسكارى‪.‬‬ ‫باألكتاف‪،‬‬

‫‪107‬‬
‫أعب‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫وأتمطى بإيمان‪،‬‬ ‫فأنا – مث ًلا – أستيقظ‪ ،‬أفتح الباب‬
‫الهواء ملء معاطسي‪ ،‬وأردد في كسل‪“ :‬أه ًلا رمضان”‪ .‬أنا مطمئن‬
‫لذلك‪ ،‬فالتحايل على رمضان بات سه ًلا في هذا الجو اليابس‪.‬‬
‫ففي عائلتي تصرفات وأفعال إيمانية كثيرة‪ ،‬مث ًلا أجدني أفتقد‬
‫أخي في هذه األيام‪ ،‬فقبل هذا الشهر كان كل دقيقتين ينط أمامي‬
‫إحداهن‪ ،‬أما في هذه‬
‫َّ‬ ‫ليرتدي قميصي أو يستعير هاتفي للحديث مع‬
‫األيام المباركة فشغله الشاغل هو الوضوء‪ ،‬وحين أسأله عن السبب‬
‫نكس أحد حاجبيه ورفع اآلخر بامتعاض‪“ :‬بلل المضمضة‬‫يرد وقد َّ‬
‫ال ُيفطر يا شيخ”‪ ،‬مع العلم أني لم أسأله عن بلل المضمضة‪ ،‬لكن‬
‫يبدو أن ال جريمة كاملة؛ لهذا أنسحب بهدوء‪.‬‬
‫ً‬
‫أيضا ابن أخي لديه سياسات رمضانية خبيثة‪ ،‬أجده كل بضع‬
‫َّ‬
‫يتمطق مسرعً ا‪ ،‬ثم يغلق على نفسه‬ ‫دقائق يتسلل من المطبخ وهو‬
‫باب غرفته‪ ،‬وأنا – بحشرية رمضانية – أدفع عيني لتنزلق من ثقب‬
‫الباب ألرى كيف يفرك شفتيه في الجدار حتى تتشققا ليبدو للجميع‬
‫أنهما تشققتا من الجوع والعطش‪ ،‬ثم يخرج وهو يتأرجح في مشهد‬
‫تمثيلي احترافي‪ .‬وحين يشك أني كشفت خديعته‪ ،‬يسألني بخبث كم‬
‫بقي حتى تغرب الشمس‪.‬‬
‫هذا الولد يذكرني بطفولتي‪ ،‬ففي طفولتي لطالما كنت أنسى‬
‫أني صائم‪ ،‬فآ كل وأشرب‪ ،‬وحين يسألني أحدهم ِل َم أفطرت‪ ،‬أجيب‬
‫بمكر‪“ :‬أطعمني وسقاني الله”‪ ،‬لكنني أعلم في سري أن من أطعمني‬
‫وسقاني هو الشيطان الذي في داخلي‪ ،‬ال غير‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫ومن بين كل أولئك أعتقد أن عائلتي أكثر صب ًرا من جارنا –‬
‫َّ‬
‫يفضل عدم ذكر اسمه كي ال أكون مشروع إفطار جديد لديه –‪ ،‬هذا‬
‫الرجل لديه نهفات رمضانية جميلة‪ ،‬فكل عام من هذا الشهر الكريم‬
‫يحدث استنفار عام في منزله‪ ،‬بل في الحي كله‪ ،‬وذلك إلدمانه‬
‫الشديد للسجائر‪.‬‬
‫فقد جاءني ظهر هذا اليوم وقد تو َّرمت عيناه‪ ،‬جلسنا بمفردنا‪،‬‬
‫مجا‪،‬‬
‫يمج دخانها ًّ‬
‫وكمن يسرق شي ًئا‪ ،‬سحب سيجارته من ع ِّبه وراح ُّ‬
‫قاطعا الطريق أمام أي تأنيب أو كلمات توقع أن أقولها‪:‬‬
‫ً‬ ‫ثم قال‬
‫“زوجتي ال تفهم أني ال أستطيع الصيام عن التدخين؛ لهذا كسرت‬
‫بعض الصحون‪ ،‬وأهنتها أمام أوالدي‪ .‬يا ألله! ليتني لم أفعل‪ ..‬لكنها‬
‫دائما تجبرني على فعل ذلك‪ .‬هل لك في مساعدتي؟ لقد‬
‫ً‬ ‫ال تفهم‪،‬‬
‫كتبت إليها رسالة وضعتها فوق الثالجة؛ لعلنا نجد ح ًّلا لنكمل‬
‫حياتنا كزوجين طبيعيين طوال هذا الشهر”‪.‬‬
‫ً‬
‫وسيطا‬ ‫وما إن انتهى من حديثه حتى دفعني راج ًيا أن أكون‬
‫إلصالح ذات بينهما؛ لهذا زرت زوجته ووجدتها تقرأ رسالته وقد‬
‫كتب فيها‪:‬‬
‫زوجتي العزيزة‪،‬‬
‫أسلمي تسلمي يؤتيك الله أجرك مرتين‪ ،‬إما أن تمضي هذا‬
‫الشهر الفضيل على خير‪ ،‬وإما أن هناك خطة (ب) تجبرك أن تأخذي‬
‫أغراضك وتسافري إلى أمك ليخلص هذا الشهر الكريم‪ ،‬وكفى الله‬
‫المؤمنين شر القتال‪ .‬أعرف كم غلطت بحقك‪ ،‬وأن اإلفطار غير‬

‫‪109‬‬
‫مقبول أمام األوالد‪ ،‬لكن كل شخص على دينه وربه يعينه‪ ،‬وبالنسبة‬
‫للتدخين في رمضان فهو غير مفطر؛ سألت الشيخ في ذلك وأخبرني‬
‫أن التدخين ال يُعتبر سببًا لإلفطار لكنه يفسد الصيام‪ ،‬وأن رب‬
‫العالمين يقول في سورة البقرة ‪ /‬آية ‪“ :184‬وعلى الذين يطيقونه‬
‫فدية طعام مسكين”‪ ،‬وأنا رجل ال أطيقه‪ .‬وخطيب الجامع الشيخ‬
‫عامر – ما زال حيًّا فاسأليه – قال يوم الجمعة الماضية‪“ :‬أي أحد ال‬
‫طاقة له على الصيام‪ ،‬فليُطعم ‪ 60‬مسكينًا”‪ ،‬وأعتقد ِ‬
‫أنك زوجة مؤمنة‬
‫وستفهمين كالمي‪.‬‬
‫وشك ًرا‬
‫زوجك المحب‬

‫حين عدت إليه سألني بصبر‪:‬‬


‫ ‪-‬ها‪ ،‬ماذا قالت لك؟ هل وافقت على الصلح؟ أعرفها‪،‬‬
‫إنها حنونة‪.‬‬
‫ ‪-‬تقول لك‪“ :‬اذهب للعمل وقم بإطعام أطفالك الستة‪،‬‬
‫ثم فكر كيف س ُتطعم ستين مسكي ًنا يا كافر”‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫عودة الرجل البخاخ‬

‫ما أعرفه أن الطبيب الجيد يجب أن يكون لديه عينا نسر ويد‬
‫لحام كهذا الطبيب الخشن الذي ما يميزه‬
‫امرأة‪ ،‬ال عينا بومة ويد َّ‬
‫عمن هم سواه هو أسلوبه في عالج الناس‪ ،‬فطريقته في كشف العلل‬
‫َّ‬
‫هي في أفضل حاالتها ُّ‬
‫عل المريض‪ ،‬وهذا أفضل طب لمسته في هذه‬
‫المنطقة الموبوءة في جنوب البالد منذ وقعت الحرب‪.‬‬
‫كيف ذلك؟ ال أدري‪ .‬ما أدريه ًّ‬
‫حقا أن بنيتي الهزيلة تغري‬
‫األطباء على الدوام لالنتفاع منها‪ ،‬فبسببها كسبت الكثير من األصدقاء‬
‫من هذا النوع‪ .‬وهذا الطبيب هو أحدهم‪ ،‬فحبذا لو تتعرفون عليه‬
‫بوعكة إنفلونزا‪ ،‬أو حتى لكع سيجارة صغير أسفل القدم‪ ،‬فترون‬
‫كيف يشتري حياتكم بمرح‪.‬‬
‫فدائما – وبعد كل غارة أو اشتباك – يقتلنا هؤالء الذين تعلموا‬
‫ً‬
‫كيف يحيون ويعتاشون من حياة الناس‪ ،‬أولئك الذين يسرقون على‬
‫الدوام قوت يومهم من صحتنا‪ ،‬وفوق كل ذلك ال يالئمهم أقل من‬
‫وصف (صاحب مهنة إنسانية)‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫لكن في المقابل‪ ،‬هناك ح َّراس كثر نذروا فراغهم وبطالتهم‬
‫وتذمرهم لمحاربة التسيب واالنحراف الذي خلقته الحرب؛ إذ يبدو‬
‫أن الرجل البخاخ قد عاد من جديد‪.‬‬
‫فاليوم كان التذمر واالستياء باد ًيا على صلعة هذا الطبيب‬
‫المتعرقة‪ ،‬حتى إنه لم يسمع تحيتي‪ ،‬وحين اقتربت أكثر لم يرغب في‬
‫معاينتي‪ .‬وحين سألته عن سبب غضبه‪ ،‬زفر الهواء من أنفه بغضب‬
‫وأجابني‪:‬‬
‫ ‪-‬تسألني! ألم تقرأ ماذا كتبوا عني عديمو األخالق في‬
‫فيسبوك؟‬
‫تنهد بصعوبة‪ ،‬سكت قلي ًلا‪ ،‬ثم انفجر شاك ًيا‪:‬‬
‫ ‪-‬ال‪ ،‬ولم يكتفوا بذلك فقط‪ ،‬بل تطاولوا على حائط‬
‫عيادتي‪ ،‬انظر بعينيك لترى ما أقل حياء أبناء بلدتك‪،‬‬
‫أنا غريب عنكم‪ ،‬استحيوا يا أخي‪ ،‬احترموا حقوق‬
‫الجيرة‪ ..‬ح ُّلوا عني يا أخي‪..‬‬
‫ُيطلق أبناء قريتي على هذا الطبيب اسم (الشامل في الطب)‪،‬‬
‫منمق (الطبيب‬
‫وذلك بعد أن كتب فوق باب عيادته بخط عريض َّ‬
‫(ن)‪ ،‬أخصائي في أمراض األطفال‪ ،‬األعصاب‪ ،‬األورام السريرية‪،‬‬
‫هضمية‪ ،‬جلدية‪ ،‬تناسلية‪ ،‬صدرية‪ ،‬نسائية‪ ،‬أمراض الحساسية‬
‫والمناعة‪ ،‬أمراض الدم واألورام‪ ،‬أمراض القلب‪ ،‬أمراض الكلى‪،‬‬
‫أمراض وجراحة العيون‪ ،‬أشعة الفم والوجه والفكين‪ ،‬األذن واألنف‬
‫والحنجرة‪ ،‬أمراض الغدد الصماء والسكري)‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫قرأت كل ذلك بتعب ثم قلت‪:‬‬
‫ ‪-‬أين الجديد باألمر؟‬
‫ ‪-‬اقرأ هنا‪ ..‬هنا يا أعمى‪.‬‬
‫وقد أشار بإصبعه أسفل الالفتة‪ ،‬حيث كتب أحد العابرين بضع‬
‫كلمات‪( :‬ويحيي العظام وهي رميم‪ ،‬التوقيع “الرجل البخاخ”)‪.‬‬
‫ضحكت ثم أقفلت مواس ًيا‪:‬‬
‫دائما‪.‬‬
‫ً‬ ‫ ‪-‬عادي‪ ،‬الناجح يرمى بالحجارة‬
‫ ‪-‬إنهم يستهزئون بقدراتي يا رجل‪ ،‬يريدون تشويه‬
‫سمعتي‪ ،‬لكنني أقسم بجمالي إن عرفته فسأقتله‪.‬‬
‫ ‪-‬ال كرامة لنبي في وطنه‪ ،‬هدئ من غضبك‪.‬‬
‫كرر ما قلته‪:‬‬
‫ ‪“-‬ال كرامة لنبي في وطنه”‪ .‬من قائلها؟‬
‫ ‪-‬ال أدري‪ ،‬لكني ربما قرأتها في مذكرات لهتلر‪.‬‬
‫ ‪-‬آه يا حبيبي يا هتلر! ليت الله يخلق ألف هتلر في هذه‬
‫القرية حتى يحولوا سكانها إلى صابون‪ ،‬هذه القذارة ال‬
‫تصلح لتكون صابونًا أص ًلا‪.‬‬
‫في طريق عودتي إلى البيت‪ ،‬تجمهر أعضاء المجلس المحلي‬
‫للبلدة أمام حائط المدرسة‪ ،‬وقد دأبوا مسرعين على مسح عبارة كتبها‬
‫أحدهم س ًّرا (المجلس المحلي سرق الطحين)‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫وفي طريق فرعي أسفل القرية‪ُ ،‬ك ْ‬
‫تبت عبارة أخرى على َع َجل‬
‫(الفصيل اإلسالمي حرامي‪ ،‬بدنا الجيش النظامي)‪.‬‬
‫تحدث أعداء الرجل البخاخ عن وقاحته كثي ًرا‪ ،‬أما الناس‬
‫فكانوا نصراء عودته ونصراء وقاحته‪ .‬فهو رجل جمع شجاعته في‬
‫بخاخه‪ ،‬وعليه جمعت شجاعتي لنفسي وقلت في سري وسط كل‬
‫هذه الفوضى‪“ :‬أه ًلا بعودة الرجل البخاخ”‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫دافع حب الكارثة‬

‫يوما األب “مونييه”‪“ :‬ولكن‬


‫سأل “هنري دو مونترالن” ً‬
‫لماذا يتزوج الرجال؟”‪ ،‬فأجابه‪“ :‬بدافع حب الكارثة”‪ .‬لهذا الدافع‪،‬‬
‫سأروي لك – عزيزي القارئ – قصة الشيخ “فنخور”‪.‬‬
‫في يوم هادئ من أيام العام ‪ ،٢٠١٤‬في إحدى ضواحي بيروت‬
‫التي تأوي آالف السوريين المعدمين الفارين من الحرب‪ ،‬اندفع تيار‬
‫عريض من شباك غرفة العمال‪ ،‬تكوَّرت الستائر الممتلئة بالهواء‬
‫بطن حبلى في الشهر التاسع‪ ،‬أو هذا ما خ ِّيل لـ‬
‫واألسمنت‪ ،‬فرسمت َ‬
‫جدا‪ ،‬وهو‬
‫“فنخور”‪ ،‬العامل األربعيني العانس‪ ،‬الجميل‪ ،‬والحساس ًّ‬
‫جالس يفكر كيف له أن يقنع إحداهن في بلدته المتعجرفة بالقبول‬
‫به ليخلق عائلة وينجب أوالدً ا كسائر البشر‪.‬‬
‫وكواحد من آالف السوريين (العايفين التنكة) في هذا البلد‪،‬‬
‫كان فنخور يعمل كـ (معلم تنكة)‪ ،‬اصطف في ذاك الصباح مع‬
‫طوابير العمال يحمل سطله ورفشه منتظ ًرا رزقه‪ .‬عصب رأسه بشال‬
‫فلسطيني‪ ،‬وأسند وجهه بجمع كفه وهو يفكر كيف يجد من تقبل‬

‫‪115‬‬
‫به زوجة‪ .‬فجأة عبرت أمامه فتاة بشفتين رائقتين وساقين جميلتين‬
‫يخفيهما بنطال جينز قصير بخصر ضيق‪ .‬نظرت إليه ثم قالت بغنج‪:‬‬
‫ ‪-‬بونجور يا شيخ‪( .‬قهقهت هي ورفيقتها ثم مضت)‪.‬‬
‫لم يتمالك فنخور فرحته‪ ،‬توازن على قائمتيه وهو يتلفت حوله‬
‫ببسور‪ ،‬ثم صاح بوجه رفيقه‪:‬‬
‫ ‪-‬أسمعت؟ هل سمعت؟ أقسم بالله إنها تعرفني‪ ،‬من بين‬
‫كل هؤالء القذرين قالت اسمي‪ ،‬يا إلهي! أخي ًرا!‬
‫قاطعه رفيقه بعينين شبه نائمتين‪:‬‬
‫ ‪-‬أي نعم يا عمي‪ ،‬خصتك بالسالم وحدك وقالت‪:‬‬
‫“مرح ًبا‪ ،‬شيخ فنخور”‪ ،‬أنا شاهد على ذلك‪.‬‬
‫ما هي ساعات حتى شاعت في صفوف العمال رواية أن‬
‫“فنخور” ذا األنف الواسع يقيم عالقة مع صبية حسناء‪ .‬في اليوم‬
‫الثاني قال أحدهم له‪:‬‬
‫ ‪-‬حين كنت تتركنا وتختفي لساعات‪ ،‬كنت تذهب‬
‫لمواعدتها يا ملعون‪.‬‬
‫أتبعه آخر‪:‬‬
‫ ‪-‬آه يا ملعون‪.‬‬
‫وكمن ال يريد أن يتذكر أنه كان يتركهم لجمع علب البالستيك‬
‫من مكبات النفاية لبيعها‪ ،‬كان يكتفي أمامهم باالبتسام‪ ،‬كمن أعجبه‬
‫ذاك الحلم‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫في اليوم الثالث روى آخر‪:‬‬
‫ ‪-‬هناك من رأى فنخور على الساحل يق ِّبل فتاة جميلة‪.‬‬
‫عال‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫وفي اليوم الرابع تحادث شخصان آخران‬
‫قال األول‪:‬‬
‫ ‪-‬كيف لهذه الحلوة أن تق ِّبل هذا الوجه المرعب؟!‬
‫الحب أعمى‪ ،‬هيك قالوا في المسلسالت‪ .‬يقولون إنها‬
‫ال تد ِّلعه إال بقول‪“ :‬حبيبي شيخ فنخور”‪.‬‬
‫تساءل الثاني بغيرة‪:‬‬
‫ ‪ِ -‬ل َم ال يذهب ليمارس المشيخة ويتركنا بحالنا ً‬
‫إذا؟ إن‬
‫سمعت البلدة بعالقته تلك فستتقاتل النسوة على هذا‬
‫البشع‪.‬‬
‫صدق بطوالته‬
‫سمع “فنخور” حديثهما‪ ،‬ومثل حاكم عربي َّ‬
‫وشعاراته‪ ،‬حمل سراويله المدعوكة بالطين واألسمنت‪ ،‬ترك سطله‬
‫الذي كان زوجته طوال تلك السنوات‪ ،‬وعاد إلى سوريا‪ .‬وفي‬
‫الجنوب‪ ،‬وفي قريته‪ ،‬قرر أن يمارس المشيخة‪.‬‬
‫باع أرضه‪ ،‬وبئر ماء ينضخ‪ ،‬واشترى بي ًتا من شعر نصبه أمام‬
‫منزله‪ ،‬ربط حصانًا واستأجر عام ًلا يرعى خمسين خرو ًفا اقتناها‬
‫للذبائح والمكارم‪ .‬وهي مس َّلمات ألي رجل راغب في المشيخة التي‬
‫يتبعها بعض وجهاء تلك البلدة بعد الحرب؛ حيث ح َّلت المشيخة‬
‫بدل القانون في إصالح ذات البين وحل المنازعات والخصومات‪.‬‬
‫ولهذا األمر ذاع صيت الشيخ “فنخور” في البلدة؛ إذ لم يدع مناسبة‬

‫‪117‬‬
‫مأتما‪ ،‬صراعً ا عشائر ًّيا‪،‬‬
‫ً‬ ‫(زواجا‪ ،‬طال ًقا‪،‬‬
‫ً‬ ‫إال وكان الرجل األول بها‬
‫قتل أحدهم‪ ،‬وغيرها من مشاكل هذا البلد التي ال تنتهي)‪.‬‬
‫لكن لم يعلم هذا الشيخ أن ثمن المشيخة مكلف؛ إذ وجد‬
‫مفلسا‪ ،‬بال عمل‪ ،‬ويركض خلف الرزق وهو‬
‫ً‬ ‫نفسه بعد مدة قصيرة‬
‫ٌ‬
‫مشرق‪ ،‬وال يملك سوى أنف واسع ال تحبذه الفتيات‪ ،‬وقد حصل‬
‫عليه بعد عملية جراحية جراء شظية عبرت من خالله‪.‬‬
‫وحيدا‪ ،‬وبال أمل‪ .‬وفي لحظة يأس‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منبوذا‪،‬‬ ‫بقي على ذاك الحال‪،‬‬
‫تأقلم متأخ ًرا مع وجهة نظر “غاستون دو كافييه” بأن “الزواج أتعس‬
‫طريقة للنوم في السرير”‪ .‬إلى أن أراحته من عذابه ذاك قذيفة مجهولة‬
‫المصدر‪ ،‬لينتهي عذابه في قبر صغير وسط البلدة‪ .‬مات “فنخور”‪،‬‬
‫لكن لم يمت ذكره‪ ،‬فمنذ ذاك الحين والناس تقول عن كل شخص‬
‫لم تقبل به فتاة وعانى األم َّرين لنيل زوجة‪“ :‬أعنس من فنخور”‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫دين قراطية‬

‫صحيح أن جثة إضافية قد ال تقرر مصير الحرب في بالدنا‪،‬‬


‫لكن نفي هكذا رجل قد ُيحدث فر ًقا‪ .‬ولو معي كل هذا المال الذي‬
‫أستطيع به شراء كل ضمائر رجال الدين الذين خلقتهم هذه الحرب‪،‬‬
‫لكان ذلك تجارة رابحة‪.‬‬
‫ومن هذا االلتزام غير المرضي عرفت الشيخ “أبو حذيفة”‪،‬‬
‫رجل دين طيب وحنون‪ ،‬حبذا لو تعرفون كيف يأخذ األمور‬
‫ببراغماتية ومرح‪ ،‬إنه ثورة كيفما يتحرك‪ ،‬وهذا المكان بالنسبة له‬
‫مثل ضميره‪ ،‬خريطة طبوغرافية تتغير كيفما كان‪.‬‬
‫عرفته كأحد أبناء القرية‪ ،‬ولن أكذب بالقول إنه وافد أجنبي‬
‫حتى أزيح اللثام عن السوء المحلي‪ ،‬كان أحد أبرز قيادات الصف‬
‫األول إلحدى فصائل المعارضة المسلحة في جنوب بالدنا بين‬
‫عامي ‪ 2014‬و‪ ،2015‬وطوال وجوده في قريتي أصبح خطيبها‬
‫لدي سوى تلك اللحظات القصار‬
‫الذي ال يخطئ‪ .‬ورغم أنه ليس َّ‬
‫التي جالسته فيها‪ ،‬فإن االغتياب عندي هو ثمن الضيافة لهذه الفئة‬
‫ممن يسمون بش ًرا‪ ،‬فقد أدهشتني فتاويه الجاهزة لكل فعل يقوم به‪،‬‬

‫‪119‬‬
‫فهو رجل متوسط ومبروم مثل كيس تبن‪ ،‬يعرف متى يشلح شاربيه‬
‫حين يرتدي لحيته‪.‬‬
‫ً‬
‫شامخا برأسه‪،‬‬ ‫فحين ينشر عظاته في المسجد في كل جمعة‬
‫ومجاد ًلا بصوابية الحرب وببطولة كل من حمل السالح‪ُ ،‬أ َصاب‬
‫بالدونية والعجز‪ ،‬وأشعر وكأنه يقول لي ولجيلي‪“ :‬أنتم الجيل الذي‬
‫تم وضعه على الرف”‪ ،‬عندها لساني يتحول إلى قطعة لحم مشلولة‪،‬‬
‫ينبغ أن يكون معه حجر حتى يطحن‬
‫فأكاد أجزم أن المسيح إن عاد ِ‬
‫هذه الرؤوس الشامخة بالنبيذ والتعصب‪.‬‬
‫وهنا سأذكر له حادثة واحدة فقط‪ ،‬فحين جاء في ذاك اليوم‬
‫جدا‪ ،‬صعد على المنبر‪ ،‬جدل بيديه الهواء كعادة‬
‫كانت روحه رقيقة ًّ‬
‫يحبذها رجال دين الجيل الرابع من حروب الشرق األوسط في‬
‫الوعظ‪ ،‬وراح يتحدث كيف أزاغت البدع هذا الدين‪ ،‬وكان يقصد‬
‫في حديثه (مخاطر تعظيم القبور)؛ ألن ظاهرة وضع قطع الرخام على‬
‫القبور التي شهدتها قريتي في سنوات الحرب قد “استثقلها باعتبارها‬
‫بالهداية للناس والدعاء لهم‪ ،‬مسح‬
‫من عظائم البدع”‪ ،‬أقفل خطبته ِ‬
‫دموعه وحمل فأسه واتجه إلى مقبرة القرية‪ ،‬مستغ ًّلا سلطته ونفوذه‬
‫في الفصيل العسكري الذي ينتمي إليه في “دين قراطية” واضحة‪.‬‬
‫وبما أن الحي أبقى من الميت‪ ،‬وأن المبذرين إخوان الشياطين‪،‬‬
‫جيدا له في مثل هذه الظروف أن يعيش حياته وبال تبذير من‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫خالل (إعادة تدوير القبور)‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫أعجبت جميع النسوة في القرية – بغيرة – بمطبخ زوجته‬
‫المزين بقطع الرخام النفيسة‪ .‬أما عن الرجال‪ ،‬فما زالوا يتحدثون‬
‫عن استقباله – والدمع يكاد يخرج من مآقي عيونهم – حين أو َل َم‬
‫لهم شيخهم بمناسبة دخوله بيته الجديد كما تجري العادة في القرية‪،‬‬
‫استقبلهم وكل من زاره ما زال يتحدث إلى اليوم عن كرمه وعن واجهة‬
‫بيته المل َّبسة بأحجار الرخام‪ ،‬حيث عال مدخل البيت قوس كبيرة‬
‫مرخمة‪ ،‬وقد نقشت واجهته بعناية وبعبارة (هذا من فضل ربي)‪.‬‬‫َّ‬
‫وبعد سنين قالئل ووفق هذا النهج‪ ،‬جنى ثروة كبيرة‪ ،‬ولم يكن‬
‫لينقصه في الحياة سوى الحب‪ ،‬فتفتحت عواطفه حين أعجبته‬
‫مدرسة رقيقة وناعمة‪ .‬ومنذ رآها وهو يعاني ذاك اإلحساس المعروف‬
‫جيدا لمن هم بوضع العبودية‪ ،‬ذاك اإلحساس الذي ال يعيه سوى‬
‫ً‬
‫من سقطوا في الحب‪ ،‬فشكله حين رمقها خلسة أثناء زيارته البنه في‬
‫الصف جعلت روحه ترقص‪.‬‬
‫وحين اتهمه فصيله باالختالس‪ ،‬ترك لحيته في مقر الفصيل‪،‬‬
‫للعشرة‪ ،‬وحمل نفسه مع من أحبها‪،‬‬ ‫وعاف زوجته القديمة في ُّ‬
‫تنكر ِ‬
‫واتجه إلى (بالد الكفار)‪ ،‬كما كان يصف بالد شمال المتوسط في‬
‫خطبه‪.‬‬
‫هو اآلن في برلين‪ ،‬متفرغ بشكل كامل لألعمال األدبية‬
‫عمن خانوا ديننا وبالدنا والقضية‪.‬‬
‫والتغريد المستمر على تويتر َّ‬

‫‪121‬‬
‫فردة حذاء واحدة‬

‫لطالما كان يحتضنني حين يراني أذرف دموعي لعدم قدرته‬


‫على شراء ما أرغب به‪ ،‬ثم يقول لي كعادته‪ ،‬وبطعم األبوَّة العاجزة‪:‬‬
‫“الرجال ما يبكون”‪ .‬كم كنت أحتقر تلك الكلمة! فكل الرجال هنا‬
‫يتمنون لو يكون الفقر رج ًلا‪ ،‬أما أنا فال أريد أن أكون رج ًلا‪.‬‬
‫لم أدرِ للوهلة األولى في ذاك اليوم العصيب لماذا أجهش‬
‫بالبكاء‪ ،‬عندما رآني مستلق ًيا على سرير أسود معصوب الرأس وبعينين‬
‫شبه مفتوحتين‪ ،‬وكأنه يقول لي‪“ :‬ليس أمام األبوة رجولة‪ ،‬وإنه أمام‬
‫جراحي ليس برجل”‪.‬‬
‫مسح دمعته المالحة فوق سريري بكفيه الحلوتين والمتسختين‬
‫بالغبار‪ .‬أما أنا‪ ،‬وبعين مغمضة وأخرى نصف مفتوحة‪ ،‬فجاهدت‬
‫ألرى ِل َم هذا الضجيج في هذا المكان الغريب والمزدحم‪.‬‬
‫ففي البعيد امرأة تنوح وتلطم على وجهها‪ ،‬وأب آخر يحمل‬
‫كومة لحم بين ذراعيه‪ ،‬يركض ويصرخ‪“ :‬يا مسعف‪ ،‬يا مضمد‪،‬‬
‫كرمى لله عالجوه لولدي”‪ .‬وفي الزاوية رجل مسن أسند ظهره إلى‬

‫‪122‬‬
‫المضمد بالشاش‪ ،‬وفي عينيه‬
‫َّ‬ ‫الحائط واحتوى بكفيه رأسه الصغير‬
‫عبرات حزينة لجثة ممددة قربه‪.‬‬
‫وجوه الممرضين واألطباء البائسة بذهولها البادي بالحيرة‬
‫والعجز‪ ،‬ومرايلهم البيضاء الملطخة بالدماء تخبر الجميع عن هول‬
‫ما حدث‪ ،‬يذرعون المكان جيئة وذها ًبا‪ ،‬أحدهم يتطاول بقامته على‬
‫عال‪“ :‬زمرة دم ‪ A‬إيجابي‪ ..‬زمرة دم ‪A‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫أحد األس َّرة يصرخ‬
‫إيجابي‪ ..‬نحتاج إلى متبرع يا شباب”‪ ،‬ثم يقاطعه آخر‪“ :‬زمرة دم ‪O‬‬
‫سلبي‪ O ..‬سلبي على وجه السرعة يا شباب”‪ .‬مسح أبي باقي دموعه‬
‫التي ظننت أنها نفدت‪ ،‬ثم صرخ مشي ًرا بيده للممرض‪“ :‬أنا زمرتي‬
‫‪ A‬إيجابي‪ ،‬أخي الممرض”‪ ،‬وقبل أن يذهب طبع على جبيني بشفتيه‬
‫شمر عن وريده وهرول إلى غرفة الطبيب‪.‬‬
‫الناشفتين قبلة جميلة‪َّ ،‬‬
‫بقربي وضعوا شا ًّبا يبدو في الثالثين‪َّ ،‬‬
‫شقت قذيفة بطنه حتى‬
‫إلي حين أخذ الممرضون يطببون له‬
‫لطخت لحيته بالدماء‪ ،‬أدار وجهه َّ‬
‫ُّ‬
‫يعض على شفتيه ويئن من الوجع‪،‬‬ ‫جرحه‪ ،‬وبين الحين واآلخر كان‬
‫ينادي زمي ًلا له يمسك له السيروم‪“ :‬اذهب واعرف ما حل بعائلتي”‪.‬‬
‫الكل هناك يحاول أن يعرف أخبار عائلته بعد سقوط قذيفة‬
‫في حارتنا‪ ،‬فقد اختلط اللحم ببقايا البيوت‪ ،‬وما عدنا نستطيع أن‬
‫أحدا‪ ،‬ومن نجا من الشظايا ها هو يئن في هذا القبو‪ ،‬أو ما‬
‫ً‬ ‫نميز‬
‫يسميه الجميع باسم (المشفى الميداني)‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫في الخارج أخذ صوت الرصاص يعلو‪ ،‬وتقترب القذائف‬
‫العمياء والمبصرة من المكان‪ ،‬تزدحم األنفاس وتصمت لوهلة‪ ،‬وال‬
‫يرتفع سوى صوت الدعاء وبكاء الصغار‪ .‬أنا لم ِ‬
‫أبك‪ ،‬ربما ألن‬
‫الرجال ال يبكون‪ ،‬وربما ألني مذهول من هول ما يجري‪ .‬أبي‪،‬‬
‫ووسط هذا االزدحام‪ ،‬يحاول أن يشق طريقه إلى سريري‪ ،‬يجلس‬
‫بقربي بحيل فاتر وبوجه بهتت مالمحه‪.‬‬
‫ساقي‪ ،‬كشف‬
‫َّ‬ ‫في تلك األثناء أخبرته أني أشعر بحرارة تحت‬
‫الغطاء عن ساقي المهشمة‪ ،‬ليعلو صوته المرتجف نحو الطبيب‪.‬‬
‫علي‪ ،‬ألستيقظ بعد يوم كامل مستلق ًيا على‬
‫َّ‬ ‫بعدها بدقائق أغمي‬
‫إسفنجة للهالل األحمر في خيمة على أطراف البلدة‪.‬‬
‫كان ذلك أسوأ واقع عشته في حياتي‪ ،‬ألعيش بعدها مع أطول‬
‫إلـي بعينيهـا المتورمتين من‬
‫كابـوس فـي عمـري؛ عمتـي بقربي تنظر َّ‬
‫الدمـع‪ ،‬أبـي هـو اآلخـر يمسـح جبينـي بوجـع‪ ،‬ثـم يقـول لـي بصوت‬
‫مهـزوز‪“ :‬نشـكر اللـه أنـك مـا زلـت ح ًّيـا‪ ،‬فنصـف السـوريين ماتـوا‪،‬‬
‫والنصـف اآلخـر بلا أطـراف‪ ،‬هي أيـام وسـتعتاد – مثلهـم – العيش‬
‫مع فـردة حـذاء واحدة”‪.‬‬

‫‪‬‬
‫‪124‬‬
‫‪‬‬

‫‪5‬‬ ‫حكم الله‬

‫‪15‬‬ ‫ذاهب إلى الجبهة‬

‫‪21‬‬ ‫الناصحون‬

‫‪29‬‬ ‫مذكرات نباتي‬

‫‪40‬‬ ‫دخل الله‬

‫‪46‬‬ ‫السيد “بال مؤاخذة”‬

‫‪49‬‬ ‫الفاجعة كبيرة‬

‫‪53‬‬ ‫الحرب أسقطت شار َبي جدي‬

‫‪56‬‬ ‫يوم آخر ممل‪..‬‬


‫ٌ‬
‫‪60‬‬ ‫سبب مقنع للجوء‬

‫‪63‬‬ ‫ال تثق باألرصاد الجوية‬

‫‪68‬‬ ‫ديالكتيك حوراني‬

‫‪74‬‬ ‫حديث ما بعد ليلة عاصفة‬


‫‪79‬‬ ‫صديقي هاري بوتر‬

‫‪83‬‬ ‫ك ُّله من ترامب‬

‫‪91‬‬ ‫رحلة‬

‫‪97‬‬ ‫زكزكة‬

‫‪101‬‬ ‫الزوج طيب القلب‬

‫‪105‬‬ ‫كيف يحتال الرجال على رمضان؟‬

‫‪109‬‬ ‫عودة الرجل البخاخ‬

‫‪113‬‬ ‫دافع حب الكارثة‬

‫‪117‬‬ ‫دين قراطية‬

‫‪120‬‬ ‫فردة حذاء واحدة‬

You might also like