Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 22

‫وزارة التعليم العايل والبحث العايل‬

‫كلية العلوم اإلسالمية‪ -‬جامعة خروبة‪-‬‬

‫ختصص تفسري وعلوم قرآن‬

‫الفوج ‪2‬‬

‫حبث حول‬

‫تفسري التحليلي سورة املائدة من اآلية ‪110‬حىت‪ 115‬معجزات‬


‫عيسى عليه السالم‬
‫من اعداد الطالب‪:‬‬

‫أسامة قينع‬
‫حتت اشراف األستاذ‪ :‬ساردي حممد‬

‫السنة اجلامعية ‪2024/2023‬‬


‫هاس ِِف ال َْم ْه ِد‬ ‫وح الْ ُق ُد ِ ِ‬ ‫ك بِ ُر ِ‬‫ك إِ ْذ أَيهدتُّ َ‬‫ك َو َعلَ ٰى َوالِ َدتِ َ‬
‫يسى ابْ َن َم ْرََيَ اذْ ُك ْر نِ ْع َم ِِت َعلَْي َ‬ ‫ال ه ِ‬ ‫"إِ ْذ قَ َ‬
‫س تُ َكل ُم الن َ‬ ‫اَّللُ ََي ع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اإل ِجنيل ۖ وإِ ْذ َختْلُ ُق ِمن ِ‬ ‫ِ‬ ‫وَك ْه اال ۖ وإِ ْذ َعلهمتُ َ ِ‬
‫يها‬‫ني َك َه ْي ئَة الطه ِْري ِبِِ ْذِِن فَتَن ُف ُخ ف َ‬
‫الط ِ‬ ‫َ‬ ‫ْمةَ َوالت ْهوَراةَ َو ِْ َ َ‬ ‫اب َوا ْْلك َ‬ ‫ك الْكتَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫نك إِ ْذ‬ ‫ئ ْاألَ ْكمهَ و ْاألَبْ رص ِبِِ ْذِِن ۖ وإِ ْذ ُختْرِج الْموتَ ٰى ِبِِ ْذِِن ۖ وإِ ْذ َك َف ْف ُ ِ ِ‬ ‫ريا ِبِِ ْذِِن ۖ َوتُ ِْْب ُ‬
‫يل َع َ‬ ‫ت بَِِن إ ْس َرائ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫فَتَ ُكو ُن طَ ْ ا‬
‫ِ‬
‫ني)‪" (110‬‬ ‫ين َك َف ُروا منْ ُه ْم إِ ْن َٰه َذا إِهَّل ِس ْح ٌر ُّمبِ ٌ‬ ‫ات فَ َق َ ه ِ‬
‫ال الذ َ‬
‫ِج ْئ تَ ُهم ِِبلْب يِنَ ِ‬
‫َ‬
‫حسب ما جاء من تفسري السعدي‪:‬‬
‫ِ‬
‫ك َو َعلى َوال َدتِ َ‬
‫ك }أي‪ :‬اذكرها بقلبك ولسانك‪ ،‬وقم بواجبها‬ ‫يسى ابْ َن َم ْرََيَ اذْ ُك ْر نِ ْع َم ِِت َعلَْي َ‬ ‫ال ه ِ‬
‫اَّللُ ََي ع َ‬ ‫إِ ْذ قَ َ‬
‫وح الْ ُق ُد ِس }أي‪ :‬إذ قويتك ابلروح‬ ‫ك بُِر ِ‬
‫شكرا لربك‪ ،‬حيث أنعم عليك نعما ما أنعم هبا على غريك{ ‪.‬إِ ْذ أَيه ْدتُ َ‬
‫والوحي‪ ،‬الذي طهرك وزكاك‪ ،‬وصار لك قوة على القيام أبمر هللا والدعوة إىل سبيله‪ .‬وقيل‪ :‬إن املراد "بروح‬
‫هاس ِيف الْ َم ْه ِد‬ ‫ِ‬
‫القدس " جربيل عليه السالم‪ ،‬وأن هللا أعانه به ومبالزمته له‪ ،‬وتثبيته يف املواطن املشقة{ ‪.‬تُ َكل ُم الن َ‬
‫َوَك ْه ًال }املراد ابلتكليم هنا‪ ،‬غري التكليم املعهود الذي هو جمرد الكالم‪ ،‬وإمنا املراد بذلك التكليم الذي ينتفع به‬
‫املتكلم واملخاطب‪ ،‬وهو الدعوة إىل هللا‪ .‬ولعيسى عليه السالم من ذلك‪ ،‬ما إلخوانه من أويل العزم من املرسلني‪ ،‬من‬
‫التكليم يف حال الكهولة‪ ،‬ابلرسالة والدعوة إىل اخلري‪ ،‬والنهي عن الشر‪ ،‬وامتاز عنهم أبنه كلم الناس يف املهد‪،‬‬
‫ِ‬ ‫آَتِن الْكِتاب وجعلَِِن نَبِيًّا وجعلَِِن مبارًكا أَين ما ُكْنت وأَوص ِان ِابل ه ِ‬ ‫فقال{ ‪:‬إِِن عب ُد هِ‬
‫ص َالة َوالهزَكاة َما ُد ْم ُ‬
‫ت َحيًّا‬ ‫َ َ َ َُ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ‬ ‫اَّلل َ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َْ‬
‫ْمةَ }فالكتاب يشمل الكتب السابقة‪ ،‬وخصوصا التوراة‪ ،‬فإنه من أعلم أنبياء‬ ‫ِ‬ ‫}اآلية{ ‪.‬وإِ ْذ علهمتُ َ ِ‬
‫اب َوا ْْلك َ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫َ َْ‬
‫بِن إسرائيل ‪-‬بعد موسى‪ -‬هبا‪ .‬ويشمل اإلجنيل الذي أنزله هللا عليه‪ .‬واْلكمة هي‪ :‬معرفة أسرار الشرع وفوائده‬
‫ني َك َهْي ئَ ِة الطهِْري‬ ‫وحكمه‪ ،‬وحسن الدعوة والتعليم‪ ،‬ومراعاة ما ينبغي‪ ،‬على الوجه الذي ينبغي { ‪.‬وإِ ْذ ََتْلُق ِمن ِ‬
‫الط ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫} أي‪ :‬طريا مصورا ال روح فيه‪ .‬فتنفخ فيه فيكون طريا إبذن هللا‪ ،‬وتربئ األكمه الذي ال بصر له وال عني { ‪.‬‬
‫ِج الْ َم ْوتَى إبِِ ْذِن } فهذه آَيت بيِنَات‪ ،‬ومعجزات ابهرات‪ ،‬يعجز عنها األطباء وغريهم‪ ،‬أيد‬ ‫و ْاألَبْر ِِ ِ‬
‫ص إب ْذِن َوإ ْذ َُتْر ُ‬
‫َ َ َ‬
‫ين َك َف ُروا ِمْن ُه ْم } ملا‬ ‫ات فَ َق َ ه ِ‬
‫ك إِ ْذ ِجْئ تَ هم ِابلْب يِنَ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ال الذ َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫يل َعْن َ‬ ‫هللا هبا عيسى وقوى هبا دعوته{ ‪َ .‬وإِ ْذ َك َف ْف ُ‬
‫ت بَِِن إ ْسَرائ َ‬
‫ِ‬
‫ني } ومهوا بعيسى أن يقتلوه‪ ،‬وسعوا يف‬ ‫جاءهم اْلق مؤيدا ابلبينات املوجبة لإلميان به { ‪.‬إِ ْن َه َذا إِهال س ْحٌر ُمبِ ٌ‬
‫امَت هللا هبا على عبده ورسوله عيسى ابن مرَي‪،‬‬ ‫فكف هللا أيديهم عنه‪ ،‬وحفظه منهم وعصمه‪ .‬فهذه ِمنَ ٌن َ ه‬ ‫ذلك‪ ،‬ه‬
‫ودعاه إىل شكرها والقيام هبا‪ ،‬فقام هبا عليه السالم أمت القيام‪ ،‬وصرب كما صرب إخوانه من أويل العزم‪.1‬‬

‫تفسري ابن كثري‪:‬‬

‫‪ 1‬عبد الرحمن بن ناصر السعدي‪ ،‬تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان‪ ، -‬دار السالم للنشر و التوزيع ‪ ،‬تفسير سورة المائدة ‪ -‬اآلية ‪110‬‬
‫يذكر تعاىل ما امَت به على عبده ورسوله عيسى ابن مرَي ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬مما أجراه على يديه من املعجزات‬
‫وخوارق العادات ‪ ،‬فقال تعاىل ( ‪ :‬إذ قال هللا َي عيسى ابن مرَي اذكر نعمِت عليك ) أي ‪ :‬يف خلقي إَيك من أم‬
‫بال ذكر ‪ ،‬وجعلي إَيك آية وداللة قاطعة على كمال قدريت على األشياء (وعلى والدتك ) حيث جعلتك هلا برهاان‬
‫على براءهتا مما نسبه الظاملون اجلاهلون إليها من الفاحشة (إذ أيدتك بروح القدس ) وهو جربيل ‪ - ،‬عليه السالم‬
‫‪ ، -‬وجعلتك نبيا داعيا إىل هللا يف صغرك وكربك ‪ ،‬فأنطقتك يف املهد صغريا ‪ ،‬فشهدت برباءة أمك من كل عيب‬
‫‪ ،‬واعرتفت يل ابلعبودية ‪ ،‬وأخربت عن رسالِت إَيك ودعوتك إىل عباديت ; وهلذا قال تعاىل( ‪ :‬تكلم الناس يف املهد‬
‫وكهال ) أي ‪ :‬تدعو إىل هللا الناس يف صغرك وكربك ‪ .‬وضمن "تكلم " تدعو ; ألن كالمه الناس يف كهولته ليس‬
‫أبمر عجيب‪.‬‬

‫وقوله ‪ :‬وإذ علمتك الكتاب واْلكمة ) أي ‪ :‬اخلط والفهم ) والتوراة وهي املنزلة على موسى بن عمران الكليم ‪،‬‬
‫ذلك‪.‬‬ ‫من‬ ‫أعم‬ ‫هو‬ ‫ما‬ ‫به‬ ‫ويراد‬ ‫اْلديث‬ ‫يف‬ ‫التوراة‬ ‫لفظ‬ ‫يرد‬ ‫وقد‬
‫وقوله ( ‪ :‬وإذ َتلق من الطني كهيئة الطري إبذن ) أي ‪ :‬تصوره وتشكله على هيئة الطائر إبذن لك يف ذلك فيكون‬
‫طائرا إبذن ‪ ،‬أي ‪ :‬فتنفخ يف تلك الصورة الِت شكلتها إبذن لك يف ذلك ‪ ،‬فتكون طريا ذا روح إبذن هللا وخلقه‪.‬‬
‫وقوله ( ‪ :‬وتربئ األكمه واألبرص إبذن ) قد تقدم الكالم على ذلك يف سورة آل عمران مبا أغىن عن إعادته‪.‬‬
‫وقوله ( ‪ :‬وإذ َترج املوتى إبذن ) أي ‪ :‬تدعوهم فيقومون من قبورهم إبذن هللا وقدرته ‪ ،‬وإرادته ومشيئته‪.‬‬
‫وقد قال ابن أيب حامت ‪ :‬حدثنا أيب ‪ ،‬حدثنا مالك بن إمساعيل ‪ ،‬حدثنا حممد بن طلحة ‪ -‬يعِن ابن مصرف ‪ -‬عن‬
‫أيب بشر ‪ ،‬عن أيب اهلذيل قال ‪ :‬كان عيسى ابن مرَي ‪ - ،‬عليه السالم ‪ ، -‬إذا أراد أن حييي املوتى صلى ركعتني ‪،‬‬
‫يقرأ يف األوىل ‪( :‬تبارك الذي بيده امللك ) ) سورة امللك ‪ ،‬ويف الثانية( ‪ :‬امل ‪ .‬تنزيل الكتاب ))سورة السجدة ‪.‬‬
‫فإذا فرغ منهما مدح هللا وأثىن عليه‪ ،‬مث دعا بسبعة أمساء‪َ :‬ي قدَي‪َ ،‬ي خفي‪َ ،‬ي دائم‪َ ،‬ي فرد‪َ ،‬ي وتر‪َ ،‬ي أحد‪َ ،‬ي‬
‫صمد ‪ -‬وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر‪َ :‬ي حي‪َ ،‬ي قيوم‪َ ،‬ي هللا‪َ ،‬ي رمحن‪َ ،‬ي ذا اجلالل واإلكرام‪َ ،‬ي نور‬
‫السماوات واألرض‪ ،‬وما بينهما ورب العرش العظيم‪َ ،‬ي رب‪ .‬وهذا أثر عجيب جدا‬

‫‪ .‬وقوله ‪ (:‬وإذ كففت بِن إسرائيل عنك إذ جئتهم ابلبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إال سحر مبني )أي ‪:‬‬
‫واذكر نعمِت عليك يف كفي إَيهم عنك حني جئتهم ابلرباهني واْلجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من هللا إليهم‬
‫‪ ،‬فكذبوك واهتموك أبنك ساحر ‪ ،‬وسعوا يف قتلك وصلبك ‪ ،‬فنجيتك منهم ‪ ،‬ورفعتك إيل ‪ ،‬وطهرتك من دنسهم‬
‫‪ ،‬وكفيتك شرهم ‪ .‬وهذا يدل على أن هذا االمتنان كان من هللا إليه بعد رفعه إىل السماء الدنيا‪ ،‬أو يكون هذا‬
‫االمتنان واقعا يوم القيامة‪ ،‬وعرب عنه بصيغة املاضي داللة على وقوعه ال حمالة‪ .‬وهذا من أسرار الغيوب الِت أطلع‬
‫هللا عليها رسوله حممدا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪.2‬‬

‫تفسري القرطيب‪:‬‬

‫قوله تعاىل‪ :‬إذ قال هللا َيعيسى ابن مرَي اذكر نعمِت عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس يف‬
‫املهد وكهال وإذ علمتك الكتاب واْلكمة والتوراة واإلجنيل وإذ َتلق من الطني كهيئة الطري إبذن فتنفخ فيها فتكون‬
‫طريا إبذن وتربئ األكمه واألبرص إبذن وإذ َترج املوتى إبذن وإذ كففت بِن إسرائيل عنك إذ جئتهم ابلبينات‬
‫فقال الذين كفروا منهم إن هذا إال سحر مبني‬

‫قوله تعاىل‪ :‬إذ قال هللا َي عيسى ابن مرَي اذكر نعمِت عليك هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال‪ :‬اذكر يوم جيمع هللا‬
‫الرسل وإذ يقول هللا لعيسى كذا ; قاله املهدوي‪ .‬و (عيسى ) جيوز أن يكون يف موضع رفع على أن يكون ابن مرَي‬
‫نداء اثنيا ‪ ،‬وجيوز أن يكون يف موضع نصب ; ألنه نداء منصوب كما قال‪:‬‬
‫َي حكم بن املنذر بن اجلارود وال جيوز الرفع يف الثان إذا كان مضافا إال عند الطوال‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪ :‬اذكر نعمِت عليك إمنا ذكر هللا تعاىل عيسى نعمته عليه وعلى والدته وإن كان هلما ذاكرا ألمرين ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬ليتلو على األمم ما خصهما به من الكرامة ‪ ،‬وميزمها به من علو املنزلة ‪.‬‬

‫الثان‪ :‬ليؤكد به حجته‪ ،‬ويرد به جاحده‪ .‬مث أخذ يف تعديد نعمه فقال‪ :‬إذ أيدتك يعِن قويتك ; مأخوذ من األيد‬
‫وهو القوة‪ ،‬وقد تقدم‪ .‬ويف روح القدس وجهان‪ :‬أحدمها‪ :‬أهنا الروح الطاهرة الِت خصه هللا هبا كما تقدم يف قوله‬
‫وروح منه‪.‬‬

‫الثان‪ :‬أنه جربيل عليه السالم وهو األصح‪ ،‬كما تقدم يف "البقرة ‪ “.‬تكلم الناس يعِن وتكلم الناس يف املهد صبيا‪،‬‬
‫ويف الكهولة نبيا‪ ،‬وقد تقدم ما يف هذا يف (آل عمران) فال معىن إلعادته‪ .‬كففت معناه دفعت وصرفت بِن إسرائيل‬
‫عنك حني مهوا بقتلك إذ جئتهم ابلبينات أي الدالالت واملعجزات‪ ،‬وهي املذكورة يف اآلية‪ .‬فقال الذين كفروا يعِن‬
‫الذين مل يؤمنوا بك وجحدوا نبوتك‪ .‬إن هذا أي املعجزات إال سحر مبني وقرأ محزة والكسائي "ساحر " أي‪ :‬إن‬
‫هذا الرجل إال ساحر قوي على السحر‪.3‬‬

‫‪ 2‬أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي‪ ،‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬الطبعة االولى‪ ،‬دار ابن حزم‪،‬بيروت ‪ ،2000‬سورة المائدة‬
‫‪ 3‬أبي عبد هللا محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬الجزء السابع‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة االولى ‪ ،2006‬سورة المائدة ‪-‬‬
‫آمنها َوا ْش َه ْد ِِبَنهنَا ُم ْسلِ ُمو َن)‪(111‬‬ ‫ِ‬
‫ني أَ ْن آمنُوا ِِب َوبَِر ُس ِويل قَالُوا َ‬
‫ت إِ ََل ا ْْلََوا ِريِ َ‬
‫َوإِ ْذ أ َْو َح ْي ُ‬

‫تفسري السعدي‪:‬‬

‫واذكر نعمِت عليك إذ يسرت لك أتباعا وأعواان‪ .‬فأوحيت إىل اْلواريني أي‪ :‬أهلمتهم‪ ،‬وأوزعت قلوهبم اإلميان يب‬
‫وبرسويل‪ ،‬أو أوحيت إليهم على لسانك‪ ،‬أي‪ :‬أمرهتم ابلوحي الذي جاءك من عند هللا‪ ،‬فأجابوا لذلك وانقادوا‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬آمنا ابهلل‪ ،‬واشهد أبننا مسلمون‪ ،‬فجمعوا بني اإلسالم الظاهر‪ ،‬واالنقياد ابألعمال الصاْلة‪ ،‬واإلميان الباطن‬
‫‪4‬‬
‫املخرج لصاحبه من النفاق ومن ضعف اإلميان‪.‬‬

‫تفسري ابن كثري‪:‬‬

‫وقوله ‪(:‬وإذ أوحيت إىل اْلواريني أن آمنوا يب وبرسويل )وهذا أيضا من االمتنان عليه ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬أبن جعل‬
‫له أصحااب وأنصارا ‪ .‬مث قيل‪ :‬املراد هبذا الوحي وحي إهلام‪ ،‬كما قال( ‪:‬وأوحينا إىل أم موسى أن أرضعيه) اآلية‬
‫القصص‪ ،7 :‬وهذا وحي إهلام بال خوف‪ ،‬وكما قال تعاىل( ‪:‬وأوحى ربك إىل النحل أن اَتذي من اجلبال بيوَت‬
‫ومن الشجر ومما يعرشون ‪ .‬مث كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلال) اآلية النحل‪. 69 ،68 :‬وهكذا قال‬
‫بعض السلف يف هذه اآلية ‪( :‬وإذ أوحيت إىل اْلواريني أن آمنوا يب وبرسويل قالوا آمنا ) أي ‪ :‬ابهلل وبرسول هللا‬
‫أهلموا‪.‬‬ ‫ما‬ ‫فامتثلوا‬ ‫ذلك‬ ‫أهلموا‬ ‫‪:‬‬ ‫) أي‬ ‫مسلمون‬ ‫أبننا‬ ‫واشهد‬ ‫(‬
‫قال اْلسن البصري ‪ :‬أهلمهم هللا ‪ .‬عز وجل ذلك‪ ،‬وقال السدي ‪ :‬قذف يف قلوهبم ذلك‪.‬‬
‫وحيتمل أن يكون املراد ‪ :‬وإذ أوحيت إليهم بواسطتك ‪ ،‬فدعوهتم إىل اإلميان ابهلل وبرسوله ‪ ،‬واستجابوا لك وانقادوا‬
‫‪5‬‬
‫وَتبعوك ‪ ،‬فقالوا ‪( :‬آمنا واشهد أبننا مسلمون )‬

‫تفسري القرطيب‪:‬‬

‫قوله تعاىل ‪ :‬وإذ أوحيت إىل اْلواريني أن آمنوا يب وبرسويل قالوا آمنا واشهد أبننا مسلمون‬
‫قوله تعاىل ‪ :‬وإذ أوحيت إىل اْلواريني أن آمنوا يب وبرسويل قد تقدم القول يف معان هذه اآلية ‪ ،‬والوحي يف كالم‬
‫العرب معناه اإلهلام ويكون على أقسام ‪ :‬وحي مبعىن إرسال جربيل إىل الرسل عليهم السالم ‪ ،‬ووحي مبعىن اإلهلام‬
‫كما يف هذه اآلية ; أي أهلمتهم وقذفت يف قلوهبم ; ومنه قوله تعاىل ‪ :‬وأوحى ربك إىل النحل وأوحينا إىل أم موسى‬
‫ووحي مبعىن اإلعالم يف اليقظة واملنام قال أبو عبيدة ‪ :‬أوحيت مبعىن أمرت ‪ ،‬وإىل صلة يقال ‪ :‬وحى وأوحى مبعىن‬
‫العجاج‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫هلا‬ ‫أوحى‬ ‫ربك‬ ‫أبن‬ ‫‪:‬‬ ‫تعاىل‬ ‫هللا‬ ‫قال‬ ‫;‬

‫‪ 4‬عبد الرحمن بن ناصر السعدي‪ ،‬تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان‪ ، -‬دار السالم للنشر و التوزيع ‪ ،‬تفسير سورة المائدة – اآلية‪111‬‬
‫‪ 5‬أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي‪ ،‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬الطبعة االولى‪ ،‬دار ابن حزم‪،‬بيروت ‪ ،2000‬سورة المائدة‬
‫تعتت‬ ‫وما‬ ‫األرض‬ ‫إبذنه‬ ‫فاستقرت‬ ‫القرار‬ ‫هلا‬ ‫وحى‬
‫أي ‪ :‬أمرها ابلقرار فاستقرت ‪ ،‬وقيل ‪ :‬أوحيت هنا مبعىن أمرهتم وقيل ‪ :‬بينت هلم ‪ .‬واشهد أبننا مسلمون على‬
‫األصل ; ومن العرب من حيذف إحدى النونني ; أي‪ :‬واشهد َي رب‪ ،‬وقيل‪َ :‬ي عيسى أبننا مسلمون هلل‪.6‬‬

‫اَّللَ إِن‬ ‫س َم ِاء ۖ قَ َ‬


‫ال اته ُقوا ه‬ ‫ك أَن يُنَ ِز َل َعلَْي نَا َمائِ َدةا ِم َن ال ه‬
‫يع َربُّ َ‬ ‫ِ‬
‫يسى ابْ َن َم ْرََيَ َه ْل يَ ْستَط ُ‬
‫ِ‬ ‫"إِ ْذ قَ َ‬
‫ال ا ْْلََوا ِريُّو َن ََي ع َ‬
‫ِ‬
‫ني)‪(112‬‬ ‫ُكنتُم ُّم ْؤمنِ َ‬
‫تفسري السعدي‪:‬‬

‫اَّللِ قَ َ‬
‫ال ا ْْلََوا ِريُّو َن‬ ‫صا ِري إِ َىل ه‬
‫واْلواريون هم‪ :‬األنصار‪ ،‬كما قال تعاىل كما قال عيسى ابن مرَي للحواريني ‪َ (:‬م ْن أَنْ َ‬
‫ك أَ ْن يُنَ ِزَل َعلَْي نَا َمائِ َدةً ِم َن ال هس َم ِاء ) أي‪:‬‬
‫يع َربُّ َ‬ ‫ِ‬
‫يسى ابْ َن َم ْرََيَ َه ْل يَ ْستَط ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَّللِ ) ( إِ ْذ قَ َ‬
‫ال ا ْْلََواريُّو َن ََي ع َ‬ ‫ص ُار ه‬
‫ََْن ُن أَنْ َ‬
‫مائدة فيها طعام‪ ،‬وهذا ليس منهم عن شك يف قدرة هللا‪ ،‬واستطاعته على ذلك‪ .‬وإمنا ذلك من ابب العرض واألدب‬
‫منهم‪ .‬وملا كان سؤال آَيت االقرتاح منافيا لالنقياد للحق‪ ،‬وكان هذا الكالم الصادر من اْلواريني رمبا أوهم ذلك‪،‬‬
‫ِِ‬
‫اَّللَ إِ ْن ُكنْ تُ ْم ُم ْؤمن َ‬
‫ني ) فإن املؤمن حيمله ما معه من اإلميان على مالزمة‬ ‫وعظهم عيسى عليه السالم فقال( ‪:‬اته ُقوا ه‬
‫التقوى‪ ،‬وأن ينقاد ألمر هللا‪ ،‬وال يطلب من آَيت االقرتاح الِت ال يدري ما يكون بعدها شيئا‪.7‬‬

‫تفسري ابن كثري‪:‬‬

‫هذه قصة املائدة‪ ،‬وإليها تنسب السورة فيقال " ‪:‬سورة املائدة ‪ “.‬وهي مما امَت هللا به على عبده ورسوله عيسى‪،‬‬
‫‪ -‬عليه السالم ‪ ، -‬ملا أجاب دعاءه بنزوهلا ‪ ،‬فأنزهلا هللا آية وداللة معجزة ابهرة وحجة قاطعة‪.‬‬
‫وقد ذكر بعض األئمة أن قصة املائدة ليست مذكورة يف اإلجنيل ‪ ،‬وال يعرفها النصارى إال من املسلمني ‪ ،‬فاهلل أعلم‬
‫‪ .‬فقوله تعاىل ( ‪ :‬إذ قال اْلواريون ) وهم أتباع عيسى ‪ -‬عليه السالم ( ‪َ - :‬ي عيسى ابن مرَي هل يستطيع ربك‬
‫)هذه قراءة كثريين ‪ ،‬وقرأ آخرون " ‪ :‬هل تستطيع ربك " أي ‪ :‬هل تستطيع أن تسأل ربك (أن ينزل علينا مائدة‬
‫من السماء‪.‬‬

‫واملائدة هي‪ :‬اخلوان عليه طعام‪ .‬وذكر بعضهم أهنم إمنا سألوا ذلك ْلاجتهم وفقرهم فسألوا أن ينزل عليهم مائدة‬
‫كل يوم يقتاتون منها‪ ،‬ويتقوون هبا على العبادة قال ‪( :‬اتقوا هللا إن كنتم مؤمنني ) أي ‪ :‬فأجاهبم املسيح ‪- ،‬‬

‫‪ 6‬أبي عبد هللا محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬الجزء السابع‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة االولى ‪ ،2006‬سورة المائدة ‪-‬‬
‫‪ 7‬عبد الرحمن بن ناصر السعدي‪ ،‬تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان‪ ، -‬دار السالم للنشر و التوزيع ‪ ،‬تفسير سورة المائدة ‪ -‬اآلية ‪-‬‬
‫اآلية ‪112‬‬
‫عليه السالم ‪ ، -‬قائال هلم ‪ :‬اتقوا هللا ‪ ،‬وال تسألوا هذا ‪ ،‬فعساه أن يكون فتنة لكم ‪ ،‬وتوكلوا على هللا يف طلب‬
‫الرزق إن كنتم مؤمنني‪.8‬‬

‫تفسري القرطيب‪:‬‬

‫قوله تعاىل‪ :‬إذ قال اْلواريون َيعيسى ابن مرَي هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا هللا إن‬
‫كنتم مؤمنني‪.‬‬

‫قوله تعاىل‪ :‬إذ قال اْلواريون َي عيسى ابن مرَي على ما تقدم من اإلعراب‪ .‬هل يستطيع ربك‪ .‬قراءة الكسائي وعلي‬
‫وابن عباس وسعيد بن جبري وجماهد "هل تستطيع " ابلتاء "ربك " ابلنصب ‪ ،‬وأدغم الكسائي الالم من هل يف‬
‫التاء ‪ ،‬وقرأ الباقون ابلياء ‪" ،‬ربك " ابلرفع ‪ ،‬وهذه القراءة أشكل من األوىل ; فقال السدي ‪ :‬املعىن هل يطيعك‬
‫ربك إن سألته أن ينزل فيستطيع مبعىن يطيع ; كما قالوا ‪ :‬استجاب مبعىن أجاب ‪ ،‬وكذلك استطاع مبعىن أطاع ‪،‬‬
‫وقيل املعىن ‪ :‬هل يقدر ربك وكان هذا السؤال يف ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم ابهلل عز وجل ; وهلذا قال‬
‫عيسى يف اجلواب عند غلطهم وجتويزهم على هللا ما ال جيوز ‪ :‬اتقوا هللا إن كنتم مؤمنني أي ‪ :‬ال تشكوا يف قدرة هللا‬
‫تعاىل‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وهذا فيه نظر ; ألن اْلواريني خلصان األنبياء ودخالؤهم وأنصارهم كما قال ‪ :‬من أنصاري إىل هللا قال‬
‫اْلواريون َنن أنصار هللا ‪ ،‬وقال عليه السالم ‪ :‬لكل نيب حواري وحواري الزبري ومعلوم أن األنبياء صلوات هللا‬
‫وسالمه عليهم جاءوا مبعرفة هللا تعاىل وما جيب له وما جيوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم ; فكيف خيفى‬
‫ذلك على من ابطنهم واختص هبم حىت جيهلوا قدرة هللا تعاىل ؟ إال أنه جيوز أن يقال‪ :‬إن ذلك صدر ممن كان‬
‫معهم‪ ،‬كما قال بعض جهال األعراب للنيب صلى هللا عليه وسلم‪ :‬اجعل لنا ذات أنواط كما هلم ذات أنواط‪ ،‬وكما‬
‫قال من قال من قوم موسى‪ :‬اجعل لنا إهلا كما هلم آهلة على ما أييت بيانه يف "األعراف " إن شاء هللا تعاىل‪ ،‬وقيل‬
‫‪ :‬إن القوم مل يشكوا يف استطاعة الباري سبحانه ألهنم كانوا مؤمنني عارفني عاملني ‪ ،‬وإمنا هو كقولك للرجل ‪ :‬هل‬
‫يستطيع فالن أن أييت وقد علمت أنه يستطيع ; فاملعىن ‪ :‬هل يفعل ذلك ؟ وهل جييبِن إىل ذلك أم ال؟ وقد كانوا‬
‫عاملني ابستطاعة هللا تعاىل لذلك ولغريه علم داللة وخرب ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك ; كما قال إبراهيم صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ :‬رب أرن كيف حتي املوتى على ما تقدم‪ ،‬وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خرب ونظر ‪ ،‬ولكن أراد‬
‫املعاينة الِت ال يدخلها ريب وال شبهة ; ألن علم النظر واخلرب قد تدخله الشبهة واالعرتاضات ‪ ،‬وعلم املعاينة ال‬
‫يدخله شيء من ذلك ‪ ،‬ولذلك قال اْلواريون ‪ :‬وتطمئن قلوبنا كما قال إبراهيم ‪ :‬ولكن ليطمئن قليب‪.‬‬

‫‪ 8‬أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي‪ ،‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬الطبعة االولى‪ ،‬دار ابن حزم‪،‬بيروت ‪ ،2000‬سورة المائدة‬
‫قلت ‪ :‬وهذا أتويل حسن ; وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع اْلواريني ; على ما أييت بيانه وقد أدخل‬
‫ابن العريب املستطيع يف أمساء هللا تعاىل ‪ ،‬وقال ‪ :‬مل يرد به كتاب وال سنة امسا وقد ورد فعال ‪ ،‬وذكر قول اْلواريني ‪:‬‬
‫هل يستطيع ربك ورده عليه ابن اْلصار يف كتاب شرح السنة له وغريه ; قال ابن اْلصار ‪ :‬وقوله سبحانه خمربا عن‬
‫اْلواريني لعيسى ‪ :‬هل يستطيع ربك ليس بشك يف االستطاعة ‪ ،‬وإمنا هو تلطف يف السؤال ‪ ،‬وأدب مع هللا تعاىل‬
‫; إذ ليس كل ممكن سبق يف علمه وقوعه وال لكل أحد ‪ ،‬واْلواريون هم كانوا خرية من آمن بعيسى ‪ ،‬فكيف يظن‬
‫هبم اجلهل ابقتدار هللا تعاىل على كل شيء ممكن ؟ ! وأما قراءة "التاء " فقيل املعىن هل تستطيع أن تسأل ربك ‪،‬‬
‫هذا قول عائشة وجماهد ‪ -‬رضي هللا عنهما ; قالت عائشة رضي هللا عنها ‪ :‬كان القوم أعلم ابهلل عز وجل من أن‬
‫يقولوا هل يستطيع ربك قالت ‪ :‬ولكن "هل تستطيع ربك " ‪ ،‬وروي عنها أيضا أهنا قالت ‪ :‬كان اْلواريون ال‬
‫يشكون أن هللا يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا " ‪ :‬هل تستطيع ربك " وعن معاذ بن جبل قال ‪ :‬أقرأان النيب‬
‫صلى هللا عليه وسلم "هل تستطيع ربك " قال معاذ ‪ :‬ومسعت النيب صلى هللا عليه وسلم مرارا يقرأ ابلتاء "هل‬
‫تسطيع ربك " وقال الزجاج ‪ :‬املعىن هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هل تستطيع أن تدعو ربك أو‬
‫تسأله ; واملعىن متقارب ‪ ،‬وال بد من حمذوف ‪ ،‬كما قال ‪ :‬واسأل القرية وعلى قراءة الياء ال حيتاج إىل حذف ‪ .‬قال‬
‫اتقوا هللا أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال ; فإنكم ال تدرون ما حيل بكم عند اقرتاح اآلَيت ; إذ كان هللا عز وجل‬
‫إمنا يفعل األصلح لعباده ‪ .‬إن كنتم مؤمنني أي ‪ :‬إن كنتم مؤمنني به ومبا جئت به فقد جاءكم من اآلَيت ما فيه‬
‫غىن‪.9‬‬

‫ين)‪(113‬‬ ‫"قَالُوا نُ ِري ُد أَن َّنهْ ُكل ِم ْن ها وتَطْمئِ هن قُ لُوب نَا ونَ ْعلَم أَن قَ ْد ص َدقْتَ نَا ونَ ُكو َن َعلَي ها ِمن ال ه ِ ِ‬
‫شاهد َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫تفسري السعدي‪:‬‬

‫فأخرب اْلواريون أهنم ليس مقصودهم هذا املعىن‪ ،‬وإمنا هلم مقاصد صاْلة‪ ،‬وألجل اْلاجة إىل ذلك ف {قَالُوا نُِر ُ‬
‫يد‬
‫أَ ْن ََنْ ُك َل ِمنْ َها } وهذا دليل على أهنم حمتاجون هلا‪َ { ،‬وتَطْ َمئِ هن قُلُوبُنَا } ابإلميان حني نرى اآلَيت العيانية‪ ،‬فيكون‬
‫اإلميان عني اليقني‪ ،‬كما كان قبل ذلك علم اليقني‪ .‬كما سأل اخلليل عليه الصالة والسالم ربه أن يريه كيف حييي‬
‫ال بَلَى َولَكِ ْن لِيَطْ َمئِ هن قَ ْلِيب ) فالعبد حمتاج إىل زَيدة العلم واليقني واإلميان كل وقت‪ ،‬وهلذا‬
‫ال أ ََوَملْ تُ ْؤِم ْن قَ َ‬
‫املوتى (قَ َ‬

‫‪ 9‬أبي عبد هللا محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬الجزء السابع‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة االولى ‪ ،2006‬سورة المائدة ‪-‬‬
‫ين‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ص َدقْ تَ نَا } أي‪ :‬نعلم صدق ما جئت به‪ ،‬أنه حق وصدق‪َ { ،‬ونَ ُكو َن َعلَْي َها م َن الشهاهد َ‬
‫قال { ‪َ :‬ونَ ْعلَ َم أَ ْن قَ ْد َ‬
‫} فتكون مصلحة ملن بعدان‪ ،‬نشهدها لك‪ ،‬فتقوم اْلجة‪ ،‬وحيصل زَيدة الربهان بذلك‪.10‬‬

‫تفسري ابن كثري‪:‬‬

‫(قالوا نريد أن َنكل منها ) أي ‪َ :‬نن حمتاجون إىل األكل منها (وتطمئن قلوبنا ) إذا شاهدان نزوهلا رزقا لنا‬
‫من السماء (ونعلم أن قد صدقتنا ) أي ‪ :‬ونزداد إمياان بك وعلما برسالتك (ونكون عليها من الشاهدين ) أي ‪:‬‬
‫‪11‬‬
‫ونشهد أهنا آية من عند هللا ‪ ،‬وداللة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به‪.‬‬

‫تفسري القرطيب‪:‬‬

‫قوله تعاىل ‪ :‬قالوا نريد أن َنكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين‬
‫قوله تعاىل ‪ :‬قالوا نريد أن َنكل منها نصب أبن ‪ .‬وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين‬
‫عطف كله بينوا به سبب سؤاهلم حني هنوا عنه ‪ ،‬ويف قوهلم ‪َ :‬نكل منها وجهان ‪ :‬أحدمها ‪ :‬أهنم أرادوا األكل منها‬
‫للحاجة الداعية إليها ; وذلك أن عيسى عليه السالم كان إذا خرج اتبعه مخسة آالف أو أكثر ‪ ،‬بعضهم كانوا‬
‫أصحابه ‪ ،‬وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو هلم ملرض كان هبم أو علة ‪ ،‬إذ كانوا زمىن أو عمياان ‪ ،‬وبعضهم كانوا‬
‫ينظرون ويستهزئون ‪ ،‬فخرج يوما إىل موضع فوقعوا يف مفازة ‪ ،‬ومل يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريني ‪ :‬قولوا‬
‫لعيسى حىت يدعو أبن تنزل علينا مائدة من السماء ; فجاءه مشعون رأس اْلواريني وأخربه أن الناس يطلبون أبن‬
‫تدعو أبن تنزل عليهم مائدة من السماء ‪ ،‬فقال عيسى لشمعون " ‪ :‬قل هلم اتقوا هللا إن كنتم مؤمنني " فأخرب بذلك‬
‫مشعون القوم فقالوا له ‪ :‬قل له ‪ :‬نريد أن َنكل منها اآلية ‪ .‬الثان ‪َ :‬نكل منها لننال بركتها ال ْلاجة دعتهم إليها‬
‫‪ ،‬قال املاوردي ‪ :‬وهذا أشبه ; ألهنم لو احتاجوا مل ينهوا عن السؤال وقوهلم ‪ :‬وتطمئن قلوبنا حيتمل ثالثة أوجه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬تطمئن إىل أن هللا ت عاىل بعثك إلينا نبيا ‪ .‬الثان ‪ :‬تطمئن إىل أن هللا تعاىل قد اختاران لدعوتنا ‪ .‬الثالث ‪:‬‬
‫تطمئن إىل أن هللا تعاىل قد أجابنا إىل ما سألنا ; ذكرها املاوردي وقال املهدوي ‪ :‬أي ‪ :‬تطمئن أبن هللا قد قبل‬
‫صومنا وعملنا ‪ .‬قال الثعليب ‪ :‬نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا ‪ .‬ونعلم أن قد صدقتنا أبنك رسول هللا ونكون عليها‬
‫من الشاهدين هلل ابلوحدانية ‪ ،‬ولك ابلرسالة والنبوة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ونكون عليها من الشاهدين لك عند من مل يرها إذا‬
‫‪12‬‬
‫رجعنا إليهم‬

‫‪ 10‬عبد الرحمن بن ناصر السعدي‪ ،‬تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان‪ ، -‬دار السالم للنشر و التوزيع ‪ ،‬تفسير سورة المائدة ‪ -‬اآلية ‪-‬‬
‫‪113‬‬
‫‪ 11‬أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي‪ ،‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬الطبعة االولى‪ ،‬دار ابن حزم‪،‬بيروت ‪ ،2000‬سورة المائدة‬
‫‪ 12‬أبي عبد هللا محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬الجزء السابع‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة االولى ‪ ،2006‬سورة المائدة ‪-‬‬
‫سم ِاء تَ ُكو ُن لَنا ِعي ادا ِألَ هولِنا و ِ‬
‫آخ ِرََن َوآيَةا ِم َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫قَ َ ِ‬
‫نك ۖ َو ْار ُزقْنَا‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫يسى ابْ ُن َم ْرََيَ الله ُه هم َربهنَا أَن ِز ْل َعلَْي نَا َمائ َدةا م َن ال ه َ‬ ‫ال ع َ‬
‫ِ‬
‫ني)‪(114‬‬ ‫َنت َخ ْريُ ال هرا ِزق َ‬
‫َوأ َ‬
‫تفسري السعدي‪:‬‬

‫فلما مسع عيسى عليه الصالة والسالم ذلك‪ ،‬وعلم مقصودهم‪ ،‬أجاهبم إىل طلبهم يف ذلك‪ ،‬فقال { ‪:‬الله ُه هم َربهنَا أَنْ ِزْل‬
‫ك } أي‪ :‬يكون وقت نزوهلا عيدا ومومسا‪ ،‬يتذكر به‬ ‫يدا ِأل هَولِنَا و ِ‬
‫آخ ِرَان َوآيَةً ِمْن َ‬
‫ِ‬
‫َعلَْي نَا َمائِ َدةً ِم َن ال هس َماء تَ ُكو ُن لَنَا عِ ً‬
‫َ‬
‫هذه اآلية العظيمة‪ ،‬فتحفظ وال تنسى على مرور األوقات وتكرر السنني‪ .‬كما جعل هللا تعاىل أعياد املسلمني‬

‫ت َخريُ‬
‫ومناسكهم مذكرا آلَيته‪ ،‬ومنبها على سنن املرسلني وطرقهم القومية‪ ،‬وفضله وإحسانه عليهم{ ‪َ .‬و ْارُزقْ نَا َوأَنْ َ‬
‫ِ‬
‫ني } أي‪ :‬اجعلها لنا رزقا‪ ،‬فسأل عيسى عليه السالم نزوهلا وأن تكون هلاتني املصلحتني‪ ،‬مصلحة الدين أبن‬ ‫الهرا ِزق َ‬
‫تكون آية ابقية‪ ،‬ومصلحة الدنيا‪ ،‬وهي أن تكون رزقا‪.13‬‬

‫تفسري ابن كثري‪:‬‬

‫(قال عيسى ابن مرَي اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا ألولنا وآخران )قال السدي ‪ :‬أي نتخذ‬
‫ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه َنن ومن بعدان ‪ ،‬وقال سفيان الثوري ‪ :‬يعِن يوما نصلي فيه ‪ ،‬وقال قتادة‬
‫‪ :‬أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم ‪ ،‬وعن سلمان الفارسي ‪ :‬عظة لنا وملن بعدان ‪ .‬وقيل ‪ :‬كافية ألولنا وآخران‪.‬‬
‫(وآية منك ) أي ‪ :‬دليال تنصبه على قدرتك على األشياء ‪ ،‬وعلى إجابتك دعويت ‪ ،‬فيصدقون فيما أبلغه عنك )‬
‫وارزقنا ) أي ‪ :‬من عندك رزقا هنيئا بال كلفة وال تعب (وأنت خري الرازقني‪)14‬‬

‫تفسري القرطيب‪:‬‬

‫قوله تعاىل ‪ :‬قال عيسى ابن مرَي اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا ألولنا وآخران وآية منك‬
‫الرازقني‬ ‫خري‬ ‫وأنت‬ ‫وارزقنا‬
‫قوله تعاىل ‪ :‬قال عيسى ابن مرَي اللهم ربنا األصل عند سيبويه َي هللا ‪ ،‬وامليمان بدل من "َي ‪ " .‬ربنا نداء اثن ال‬
‫جييز سيبويه غريه وال جيوز أن يكون نعتا ; ألنه قد أشبه األصوات من أجل ما ْلقه‪ .‬أنزل علينا مائدة املائدة اخلوان‬
‫الذي عليه الطعام ; قال قطرب ‪ :‬ال تكون املائدة مائدة حىت يكون عليها طعام ‪ ،‬فإن مل يكن قيل ‪ :‬خوان وهي‬

‫‪ 13‬عبد الرحمن بن ناصر السعدي‪ ،‬تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان‪ ، -‬دار السالم للنشر و التوزيع ‪ ،‬تفسير سورة المائدة ‪ -‬اآلية ‪-‬‬
‫اآلية ‪114‬‬
‫‪ 14‬أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي‪ ،‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬الطبعة االولى‪ ،‬دار ابن حزم‪،‬بيروت ‪ ،2000‬سورة المائدة‬
‫فاعلة من ماد عبده إذا أطعمه وأعطاه ; فاملائدة متيد ما عليها أي ‪ :‬تعطي ‪ ،‬ومنه قول رؤبة ‪ -‬أنشده األخفش‪:‬‬
‫هتدي رءوس املرتفني األنداد إىل أمري املؤمنني املمتاد أي املستعطى املسئول ; فاملائدة هي املطعمة واملعطية اآلكلني‬
‫الطعام ‪ ،‬ويسمى الطعام أيضا مائدة جتوزا ; ألنه يؤكل على املائدة ; كقوهلم للمطر مساء ‪ ،‬وقال أهل الكوفة ‪:‬‬
‫مسيت مائدة ْلركتها مبا عليها ; من قوهلم ‪ :‬ماد الشيء إذا مال وحترك قال الشاعر‪:‬‬
‫مائل‬ ‫األيك‬ ‫من‬ ‫غصن‬ ‫هبا‬ ‫مييد‬ ‫محامة‬ ‫تغنت‬ ‫إن‬ ‫ابك‬ ‫لعلك‬
‫آخر‪:‬‬ ‫وقال‬
‫متيد‬ ‫الفضاء‬ ‫األرض‬ ‫يب‬ ‫فكادت‬ ‫بعده‬ ‫الكنان‬ ‫قتل‬ ‫وأقلقِن‬
‫وم نه قوله تعاىل ‪ :‬وألقى يف األرض رواسي أن متيد بكم ‪ ،‬وقال أبو عبيدة ‪ :‬مائدة فاعلة مبعىن مفعولة ‪ ،‬مثله عيشة‬
‫راضية مبعىن مرضية و ماء دافق الطارق ‪ :‬أي ‪ :‬مدفوق ‪ .‬قوله تعاىل ‪ :‬تكون لنا عيدا (تكون ) نعت ملائدة وليس‬
‫جبواب‪.‬‬
‫وقرأ األعمش "تكن " على اجلواب ; واملعىن ‪ :‬يكون يوم نزوهلا عيدا ألولنا أي ‪ :‬ألول أمتنا وآخرها ; فقيل ‪ :‬إن‬
‫املائدة نزلت عليهم يوم األحد غدوة وعشية ; فلذلك جعلوا األحد عيدا ‪ ،‬والعيد واحد األعياد ; وإمنا مجع ابلياء‬
‫وأصله الواو للزومها يف الواحد ; ويقال ‪ :‬للفرق بينه وبني أعواد اخلشب وقد عيدوا أي ‪ :‬شهدوا العيد ; قاله‬
‫اجلوهري ‪ ،‬وقيل ‪ :‬أصله من عاد يعود أي ‪ :‬رجع فهو عود ابلواو ‪ ،‬فقلبت َيء النكسار ما قبلها مثل امليزان‬
‫وامليقات وامليعاد فقيل ليوم الفطر واألضحى ‪ :‬عيدا ألهنما يعودان كل سنة ‪ .‬وقال اخلليل ‪ :‬العيد كل يوم جيمع‬
‫كأهنم عادوا إليه ‪ ،‬وقال ابن األنباري ‪ :‬مسي عيدا للعود يف املرح والفرح ; فهو يوم سرور اخللق كلهم ; أال ترى أن‬
‫املسجونني يف ذلك اليوم ال يطالبون وال يعاقبون ; وال يصاد الوحش وال الطيور ; وال تنفذ الصبيان إىل املكاتب ‪،‬‬
‫وقيل ‪ :‬مسي عيدا ألن كل إنسان يعود إىل قدر منزلته ; أال ترى إىل اختالف مالبسهم وهيئاهتم ومآكلهم فمنهم‬
‫من يضيف ومنهم من يضاف ‪ ،‬ومنهم من يرحم ومنهم من يرحم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬مسي بذلك ألنه يوم شريف تشبيها‬
‫ابلعيد ‪ :‬وهو فحل كرَي مشهور عند العرب وينسبون إليه ‪ ،‬فيقال ‪ :‬إبل عيدية ; قال (رذاذ الكليب‪) :‬‬
‫الداننري‬ ‫فيها‬ ‫أرهنت‬ ‫عيدية‬ ‫انجية‬ ‫البلدان‬ ‫هبا‬ ‫جتوب‬ ‫ظلت‬
‫وقد تقدم ‪ ،‬وقرأ زيد بن اثبت "ألوالان وأخراان " على اجلمع ‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬أيكل منها آخر الناس كما أيكل‬
‫منها أوهلم ‪ .‬وآية منك يعِن داللة وحجة وارزقنا أي ‪ :‬أعطنا ‪ .‬وأنت خري الرازقني أي ‪ :‬خري من أعطى ورزق ;‬
‫ألنك الغِن اْلميد‪.15‬‬

‫‪ 15‬أبي عبد هللا محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬الجزء السابع‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة االولى ‪ ،2006‬سورة المائدة ‪-‬‬
‫اَّلل إِِِن من ِزُُلا علَي ُكم ۖ فَمن ي ْك ُفر ب ع ُد ِمن ُكم فَِإِِن أُع ِذبه ع َذاِب هَّل أُع ِذبه أ ِ‬
‫َح ادا م َن ال َْعال َِم َ‬
‫ني)‪(115‬‬ ‫َ ُُ َ ا َ ُُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ال هُ ُ َ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ‬ ‫قَ َ‬

‫تفسري السعدي‪:‬‬

‫ني } ألنه شاهد اآلية‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اَّلل إِِن من ِزُهلا علَي ُكم فَمن ي ْك ُفر ب ع ُد ِمْن ُكم فَإِِن أُع ِذبه ع َذااب َال أ ِ‬
‫ُعذبُهُ أَ َح ًدا م َن الْ َعالَم َ‬
‫َ ُُ َ ً َ‬ ‫ْ‬ ‫ال هُ ُ َ َ َ ْ ْ َ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫قَ َ‬
‫الباهرة وكفر عنادا وظلما‪ ،‬فاستحق العذاب األليم والعقاب الشديد‪ .‬واعلم أن هللا تعاىل وعد أنه سينزهلا‪ ،‬وتوعدهم‬
‫‪-‬إن كفروا‪ -‬هبذا الوعيد‪ ،‬ومل يذكر أنه أنزهلا‪ ،‬فيحتمل أنه مل ينزهلا بسبب أهنم مل خيتاروا ذلك‪ ،‬ويدل على ذلك‪ ،‬أنه‬
‫مل يذكر يف اإلجنيل الذي أبيدي النصارى‪ ،‬وال له وجود‪ .‬وحيتمل أهنا نزلت كما وعد هللا‪ ،‬وهللا ال خيلف امليعاد‪،‬‬
‫ويكون عدم ذكرها يف ا ألانجيل الِت أبيديهم من اْلظ الذي ذكروا به فنسوه‪ .‬أو أنه مل يذكر يف اإلجنيل أصال‪ ،‬وإمنا‬
‫ذلك كان متواراث بينهم‪ ،‬ينقله اخللف عن السلف‪ ،‬فاكتفى هللا بذلك عن ذكره يف اإلجنيل‪ ،‬ويدل على هذا املعىن‬
‫ين } وهللا أعلم حبقيقة اْلال‪.16‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫قوله{ ‪َ :‬ونَ ُكو َن َعلَْي َها م َن الشهاهد َ‬
‫تفسري ابن كثري‬

‫أي ‪ :‬فمن كذب هبا من أمتك َي عيسى وعاندها (فإن أعذبه عذااب ال أعذبه أحدا من العاملني ) أي ‪ :‬من عاملي‬
‫زمانكم ‪ ،‬كقوله ( ‪ :‬ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ ) غافر ‪ ، ] 46 :‬وكقوله ( ‪ :‬إن املنافقني‬
‫‪] .145‬‬ ‫‪:‬‬ ‫النساء‬ ‫[)‬ ‫النار‬ ‫من‬ ‫األسفل‬ ‫الدرك‬ ‫يف‬
‫وقد روى ابن جرير ‪ ،‬من طريق عوف األعرايب ‪ ،‬عن أيب املغرية القواس ‪ ،‬عن عبد هللا بن عمرو قال ‪ :‬إن أشد‬
‫الناس عذااب يوم القيامة ثالثة ‪ :‬املنافقون ‪ ،‬ومن كفر من أصحاب املائدة ‪ ،‬وآل فرعون‪.‬‬
‫اْلواريني‪:‬‬ ‫على‬ ‫املائدة‬ ‫نزول‬ ‫يف‬ ‫السلف‬ ‫عن‬ ‫رويت‬ ‫أخبار‬ ‫ذكر‬
‫قال أبو جعفر بن جرير ‪ ،‬حدثنا القاسم ‪ ،‬حدثنا اْلسني ‪ ،‬حدثِن حجاج ‪ ،‬عن ليث ‪ ،‬عن عقيل عن ابن عباس‬
‫‪ :‬أنه كان حيدث عن عيسى ابن مرَي أنه قال لبِن إسرائيل ‪ :‬هل لكم أن تصوموا هلل ثالثني يوما ‪ ،‬مث تسألوه‬
‫فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له ‪ .‬ففعلوا ‪ ،‬مث قالوا ‪َ :‬ي معلم اخلري ‪ ،‬قلت لنا ‪ :‬إن أجر‬
‫العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثالثني يوما ‪ ،‬ففعلنا ‪ ،‬ومل نكن نعمل ألحد ثالثني يوما إال أطعمنا حني‬
‫نفرغ طعاما ‪ ،‬فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى ( ‪ :‬اتقوا هللا إن كنتم مؤمنني ‪ .‬قالوا‬
‫نريد أن َنكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ‪ .‬قال عيسى ابن مرَي اللهم‬

‫‪ 16‬عبد الرحمن بن ناصر السعدي‪ ،‬تيسير الكريم الرحمن في تفسير كالم المنان‪ ، -‬دار السالم للنشر و التوزيع ‪ ،‬تفسير سورة المائدة ‪ -‬اآلية ‪-‬‬
‫اآلية ‪115‬‬
‫ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا ألولنا وآخران وآية منك وارزقنا وأنت خري الرازقني ‪ .‬قال هللا إن‬
‫منزهلا عليكم فمن يكفر بعد منكم فإن أعذبه عذااب ال أعذبه أحدا من العاملني ) قال ‪ :‬فأقبلت املالئكة تطري‬
‫مبائدة من السماء ‪ ،‬عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة ‪ ،‬حىت وضعتها بني أيديهم ‪ ،‬فأكل منها آخر الناس كما‬
‫أكل منها أوهلم‬

‫كذا رواه ابن جرير ورواه ابن أيب حامت ‪ ،‬عن يونس بن عبد األعلى ‪ ،‬عن ابن وهب ‪ ،‬عن الليث ‪ ،‬عن عقيل ‪،‬‬
‫َنوه‪.‬‬ ‫فذكر‬ ‫‪،‬‬ ‫حيدث‬ ‫عباس‬ ‫ابن‬ ‫كان‬ ‫‪:‬‬ ‫قال‬ ‫‪،‬‬ ‫شهاب‬ ‫ابن‬ ‫عن‬
‫وقال ابن أيب حامت أيضا ‪ :‬حدثنا سعد بن عبد هللا بن عبد اْلكم ‪ ،‬حدثنا أبو زرعة وهب هللا بن راشد ‪ ،‬حدثنا‬
‫عقيل بن خالد ‪ ،‬أن ابن شهاب أخربه عن ابن عباس ; أن عيسى ابن مرَي قالوا له ‪ :‬ادع هللا أن ينزل علينا مائدة‬
‫من السماء ‪ ،‬قال ‪ :‬فنزلت املالئكة مبائدة حيملوهنا ‪ ،‬عليها سبعة أحوات ‪ ،‬وسبعة أرغفة ‪ ،‬فأكل منها آخر الناس‬
‫كما أكل منها أوهلم‬

‫وقال ابن أيب حامت ‪ :‬حدثنا أيب ‪ ،‬حدثنا اْلسن بن قزعة الباهلي ‪ ،‬حدثنا سفيان بن حبيب ‪ ،‬حدثنا سعيد بن أيب‬
‫عروبة ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن خالس ‪ ،‬عن عمار بن َيسر ‪ ،‬عن النيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬قال " ‪ :‬نزلت املائدة‬
‫من السماء ‪ ،‬عليها خبز وْلم ‪ ،‬وأمروا أن ال خيونوا وال يرفعوا لغد ‪ ،‬فخانوا وادخروا ورفعوا ‪ ،‬فمسخوا قردة وخنازير‬
‫"‬
‫وكذا رواه ابن جرير ‪ ،‬عن اْلسن بن قزعة مث رواه ابن جرير ‪ ،‬عن ابن بشار ‪ ،‬عن ابن أيب عدي ‪ ،‬عن سعيد ‪ ،‬عن‬
‫قتادة ‪ ،‬عن خالس ‪ ،‬عن عمار ‪ ،‬قال ‪ :‬نزلت املائدة وعليها مثر من مثار اجلنة ‪ ،‬فأمروا أال خيونوا وال خيبئوا وال‬
‫يدخروا ‪ .‬قال ‪ :‬فخان القوم وخبئوا وادخروا ‪ ،‬فمسخهم هللا قردة وخنازير‪.‬‬
‫وقال ابن جرير ‪ :‬حدثنا ابن املثىن ‪ ،‬حدثنا عبد األعلى ‪ ،‬حدثنا داود ‪ ،‬عن مساك بن حرب ‪ ،‬عن رجل من بِن‬
‫عجل ‪ ،‬قال ‪ :‬صليت إىل جنب عمار بن َيسر ‪ ،‬فلما فرغ قال ‪ :‬هل تدري كيف كان شأن مائدة بِن إسرائيل؟‬
‫قال ‪ :‬قلت ‪ :‬ال قال ‪ :‬إهنم سألوا عيسى ابن مرَي مائدة يكون عليها طعام أيكلون منه ال ينفد ‪ ،‬قال ‪ :‬فقيل هلم‬
‫‪ :‬فإهنا مقيمة لكم ما مل َتبؤوا ‪ ،‬أو َتونوا ‪ ،‬أو ترفعوا ‪ ،‬فإن فعلتم فإن معذبكم عذااب ال أعذبه أحدا من العاملني ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فما مضى يومهم حىت خبؤوا ورفعوا وخانوا ‪ ،‬فعذبوا عذااب مل يعذبه أحد من العاملني ‪ .‬وإنكم ‪ -‬معشر العرب‬
‫‪ -‬كنتم تتبعون أذانب اإلبل والشاء ‪ ،‬فبعث هللا فيكم رسوال من أنفسكم ‪ ،‬تعرفون حسبه ونسبه ‪ ،‬وأخربكم أنكم‬
‫ستظهرون على العجم ‪ ،‬وهناكم أن تكتنزوا الذهب والفضة ‪ .‬وأَي هللا ‪ ،‬ال يذهب الليل والنهار حىت تكنزومها‬
‫أليما‪.‬‬ ‫عذااب‬ ‫هللا‬ ‫ويعذبكم‬
‫وقال ‪ :‬حدثنا القاسم ‪ ،‬حدثنا حسني ‪ ،‬حدثِن حجاج ‪ ،‬عن أيب معشر ‪ ،‬عن إسحاق بن عبد هللا ‪ ،‬أن املائدة‬
‫نزلت على عيسى ابن مرَي ‪ ،‬عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات ‪ ،‬أيكلون منها ما شاؤوا ‪ .‬قال ‪ :‬فسرق بعضهم‬
‫فرفعت‪.‬‬ ‫‪".‬‬ ‫غدا‬ ‫تنزل‬ ‫ال‬ ‫لعلها‬ ‫"‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫منها‬
‫وقال العويف ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬نزلت على عيسى ابن مرَي واْلواريني ‪ ،‬خوان عليه خبز ومسك ‪ ،‬أيكلون منه أينما‬
‫نزلوا إذا شاؤوا ‪ .‬وقال خصيف ‪ ،‬عن عكرمة ومقسم ‪ ،‬عن ابن عباس ‪ :‬كانت املائدة مسكة وأرغفة ‪ .‬وقال جماهد‬
‫‪ :‬هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا ‪ .‬وقال أبو عب د الرمحن السلمي ‪ :‬نزلت املائدة خبزا ومسكا ‪ .‬وقال عطية‬
‫شيء‪.‬‬ ‫كل‬ ‫طعم‬ ‫فيه‬ ‫مسك‬ ‫املائدة‬ ‫‪:‬‬ ‫العويف‬
‫وقال وهب بن منبه ‪ :‬أنزهلا من السماء على بِن إسرائيل ‪ ،‬فكان ينزل عليهم يف كل يوم يف تلك املائدة من مثار‬
‫اجلنة ‪ ،‬فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شىت ‪ ،‬فكان يقعد عليها أربعة آالف ‪ ،‬فإذا أكلوا أبدل هللا مكان ذلك ملثلهم‬
‫وجل‪.‬‬ ‫عز‬ ‫هللا‬ ‫شاء‬ ‫ما‬ ‫ذلك‬ ‫على‬ ‫فلبثوا‬ ‫‪.‬‬
‫وقال وهب بن منبه ‪ :‬نزل عليهم قرصة من شعري وأحوات ‪ ،‬وحشا هللا بني أضعافهن الربكة ‪ ،‬فكان قوم أيكلون مث‬
‫خيرجون ‪ ،‬مث جييء آخرون فيأكلون مث خيرجون ‪ ،‬حىت أكل مجيعهم وأفضلوا‪.‬‬
‫وقال ا ألعمش ‪ ،‬عن مسلم ‪ ،‬عن سعيد بن جبري ‪ :‬أنزل عليها كل شيء إال اللحم‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ ،‬عن عطاء بن السائب ‪ ،‬عن زاذان وميسرة وجرير ‪ ،‬عن عطاء ‪ ،‬عن ميسرة قال ‪ :‬كانت‬
‫املائدة إذا وضعت لبِن إسرائيل اختلفت عليهم األيدي بكل طعام إال اللحم‪.‬‬
‫حامت‪.‬‬ ‫أيب‬ ‫ابن‬ ‫رواه‬ ‫‪.‬‬ ‫األرز‬ ‫من‬ ‫املائدة‬ ‫خبز‬ ‫كان‬ ‫‪:‬‬ ‫عكرمة‬ ‫وعن‬
‫وقال ابن أيب حامت ‪ :‬أخربان جعفر بن علي فيما كتب إيل ‪ ،‬حدثنا إمساعيل بن أيب أويس ‪ ،‬حدثِن أبو عبد هللا عبد‬
‫القدوس بن إبراهيم بن عبيد هللا بن مرداس العبدري ‪ -‬موىل بِن عبد الدار ‪ -‬عن إبراهيم بن عمر ‪ ،‬عن وهب بن‬
‫منبه ‪ ،‬عن أيب عثمان النهدي ‪ ،‬عن سلمان اخلري ; أنه قال ‪ :‬ملا سأل اْلواريون عيسى ابن مرَي املائدة ‪ ،‬كره ذلك‬
‫جدا وقال ‪ :‬اقنعوا مبا رزقكم هللا يف األرض ‪ ،‬وال تسألوا املائدة من السماء ‪ ،‬فإهنا إن نزلت عليكم كانت آية من‬
‫ربكم ‪ ،‬وإمنا هلكت مثود حني سألوا نبيهم آية ‪ ،‬فابتلوا هبا حىت كان بوارهم فيها ‪ .‬فأبوا إال أن أيتيهم هبا ‪ ،‬فلذلك‬
‫اآلية‪.‬‬ ‫قلوبنا )‬ ‫وتطمئن‬ ‫منها‬ ‫َنكل‬ ‫أن‬ ‫نريد‬ ‫(‪:‬‬ ‫قالوا‬
‫فلما رأى عيسى أن قد أبوا إال أن يدعو هلم هبا ‪ ،‬قام فألقى عنه الصوف ‪ ،‬ولبس الشعر األسود ‪ ،‬وجبة من شعر‬
‫‪ ،‬وعباءة من شعر ‪ ،‬مث توضأ واغتسل ‪ ،‬ودخل مصاله فصلى ما شاء هللا ‪ ،‬فلما قضى صالته قام قائما مستقبل‬
‫القبلة وصف قدميه حىت استوَي ‪ ،‬فألصق الكعب ابلكعب وحاذى األصابع ‪ ،‬ووضع يده اليمىن على اليسرى فوق‬
‫صدره ‪ ،‬وغض بصره ‪ ،‬وطأطأ رأسه خشوعا ‪ ،‬مث أرسل عينيه ابلبكاء ‪ ،‬فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر‬
‫من أطراف ْليته حىت ابتلت األرض حيال وجهه من خشوعه ‪ ،‬فلما رأى ذلك دعا هللا فقال ( ‪ :‬اللهم ربنا أنزل‬
‫علينا مائدة من السماء ) فأنزل هللا عليهم سفرة محراء بني غمامتني ‪ :‬غمامة فوقها وغمامة حتتها ‪ ،‬وهم ينظرون‬
‫إليها يف اهلواء منقضة من فلك السماء هتوي إليهم وعيسى يبكي خوفا للشروط الِت اَتذها هللا عليهم ‪ -‬فيها ‪ :‬أنه‬
‫يعذب من يكف ر هبا منهم بعد نزوهلا عذااب مل يعذبه أحدا من العاملني ‪ -‬وهو يدعو هللا من مكانه ويقول ‪ :‬اللهم‬
‫اجعلها رمحة ‪ ،‬إهلي ال جتعلها عذااب ‪ ،‬إهلي كم من عجيبة سألتك فأعطيتِن ‪ ،‬إهلي اجعلنا لك شكارين ‪ ،‬إهلي أعوذ‬
‫بك أن تكون أنزلتها غضبا وجزاء ‪ ،‬إهلي اجعلها سالمة وعافية ‪ ،‬وال جتعلها فتنة ومثلة‪.‬‬
‫فما زال يدعو حىت استقرت السفرة بني يدي عيسى واْلواريني وأصحابه حوله ‪ ،‬جيدون رائحة طيبة مل جيدوا فيما‬
‫مضى رائحة مثلها قط ‪ ،‬وخر عيسى واْلواريون هلل سجدا شكرا مبا رزقهم من حيث مل حيتسبوا وأراهم فيه آية‬
‫عظيمة ذات عجب وعربة ‪ ،‬وأقبلت الي هود ينظرون فرأوا أمرا عجيبا أورثهم كمدا وغما ‪ ،‬مث انصرفوا بغيظ شديد‬
‫وأقبل عيسى ‪ .‬واْلواريون وأصحابه حىت جلسوا حول السفرة ‪ ،‬فإذا عليها منديل مغطي ‪ .‬قال عيسى ‪ :‬من أجرؤان‬
‫على كشف املنديل عن هذه السفرة ‪ ،‬وأوثقنا بنفسه ‪ ،‬وأحسننا بالء عند ربه؟ فليكشف عن هذه اآلية حىت نراها‬
‫‪ ،‬وَنمد ربنا ‪ ،‬ونذكر ابمسه ‪ ،‬وَنكل من رزقه الذي رزقنا ‪ .‬فقال اْلواريون ‪َ :‬ي روح هللا وكلمته ‪ ،‬أنت أوالان بذلك‬
‫‪ ،‬وأحقنا ابلكشف عنها ‪ .‬فقام عيسى ‪ - ،‬عليه السالم ‪ ، -‬واستأنف وضوءا جديدا ‪ ،‬مث دخل مصاله فصلى‬
‫كذلك ركعات ‪ ،‬مث بكى بكاء طويال ودعا هللا أن أيذن له يف الكشف عنها ‪ ،‬وجيعل له ولقومه فيها بركة ورزقا ‪.‬‬
‫مث انصرف فجلس إىل السفرة وتناول املنديل ‪ ،‬وقال " ‪ :‬ابسم هللا خري الرازقني " ‪ ،‬وكشف عن السفرة ‪ ،‬فإذا هو‬
‫عليها مسكة ضخمة مشوية ‪ ،‬ليس عليها بواسري ‪ ،‬وليس يف جوفها شوك ‪ ،‬يسيل السمن منها سيال قد نضد حوهلا‬
‫بقول من كل صنف غري الكراث ‪ ،‬وعند رأسها خل ‪ ،‬وعند ذنبها ملح ‪ ،‬وحول البقول مخسة أرغفة ‪ ،‬على واحد‬
‫رماانت‪.‬‬ ‫مخس‬ ‫اآلخر‬ ‫وعلى‬ ‫‪،‬‬ ‫مثرات‬ ‫اآلخر‬ ‫وعلى‬ ‫‪،‬‬ ‫زيتون‬ ‫منها‬
‫فقال مشعون رأس اْلواريني لعيسى ‪َ :‬ي روح هللا وكلمته ‪ ،‬أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام اجلنة؟ فقال ‪ :‬أما آن‬
‫لكم أن تعتربوا مبا ترون من اآلَيت ‪ ،‬وتنتهوا عن تنقري املسائل؟ ما أخوفِن عليكم أن تعاقبوا يف سبب نزول هذه‬
‫اآلية! فقال مشعون ‪ :‬وإله إسرائيل ما أردت هبا سؤاال َي ابن الصديقة ‪ .‬فقال عيسى ‪ - ،‬عليه السالم ‪ : -‬ليس‬
‫شيء مما ترون من طعام اجلنة وال من طعام الدنيا ‪ ،‬إمنا هو شيء ابتدعه هللا يف اهلواء ابلقدرة العالية القاهرة ‪ ،‬فقال‬
‫له ‪ :‬كن ‪ .‬فكان أسرع من طرفة عني ‪ ،‬فكلوا مما سألتم ابسم هللا وامحدوا عليه ربكم ميدكم منه ويزدكم ‪ ،‬فإنه بديع‬
‫شاكر‪.‬‬ ‫قادر‬
‫فقالوا ‪َ :‬ي روح هللا وكلمته ‪ ،‬إان َنب أن ترينا آية يف هذه اآلية ‪ .‬فقال عيسى ‪ :‬سبحان هللا! أما اكتفيتم مبا رأيتم‬
‫يف هذه اآلية حىت تسألوا فيها آية أخرى؟ مث أقبل عيسى ‪ - ،‬عليه السالم ‪ ، -‬على السمكة ‪ ،‬فقال ‪َ :‬ي مسكة ‪،‬‬
‫عودي إبذن هللا حية كما كنت ‪ .‬فأحياها هللا بقدرته ‪ ،‬فاضطربت وعادت إبذن هللا حية طرية ‪ ،‬تلمظ كما يتلمظ‬
‫األسد ‪ ،‬تدور عيناها هلا بصيص ‪ ،‬وعادت عليها بواسريها ‪ .‬ففزع القوم منها واَنازوا ‪ .‬فلما رأى عيسى ذلك منهم‬
‫قال ‪ :‬ما لكم تسألون اآلية ‪ ،‬فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟ ما أخوفِن عليكم أن تعاقبوا مبا تصنعون! َي مسكة ‪،‬‬
‫عودي إبذن هللا كما كنت ‪ .‬فعادت إبذن هللا مشوية كما كانت يف خلقها األول‪.‬‬
‫فقالوا لعيسى ‪ :‬كن أنت َي روح هللا الذي تبدأ ابألكل منها ‪ ،‬مث َنن بعد فقال عيسى ‪ :‬معاذ هللا من ذلك! يبدأ‬
‫ابألكل من طلبها ‪ .‬فلما رأى اْلواريون وأصحاهبم امتناع نبيهم منها ‪ ،‬خافوا أن يكون نزوهلا سخطة ويف أكلها‬
‫مثلة ‪ ،‬فتحاموها ‪ .‬فلما رأى ذلك عيسى دعا هلا الفقرا ء والزمىن ‪ ،‬وقال ‪ :‬كلوا من رزق ربكم ‪ ،‬ودعوة نبيكم ‪،‬‬
‫وامحدوا هللا الذي أنزهلا لكم ‪ ،‬فيكون مهنؤها لكم ‪ ،‬وعقوبتها على غريكم ‪ ،‬وافتتحوا أكلكم ابسم هللا ‪ ،‬واختموه‬
‫حبمد هللا ‪ ،‬ففعلوا ‪ ،‬فأكل منها ألف وثالمثائة إنسان بني رجل وامرأة ‪ ،‬يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ‬
‫‪ ،‬ونظر عيسى واْلواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ أنزلت من السماء ‪ ،‬مل ينتقص منها شيء ‪ ،‬مث إهنا رفعت إىل‬
‫السماء وهم ينظرون فاستغىن كل فقري أكل منها ‪ ،‬وبرئ كل زمن أكل منها ‪ ،‬فلم يزالوا أغنياء صحاحا حىت خرجوا‬
‫الدنيا‪.‬‬ ‫من‬
‫وندم اْلواريون وأصحاهبم الذين أبوا أن أيكلوا منها ندامة ‪ ،‬سالت منها أشفارهم ‪ ،‬وبقيت حسرهتا يف قلوهبم إىل‬
‫يوم املمات ‪ ،‬قال ‪ :‬فكانت املائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم‬
‫بعضا ‪ :‬األغنياء والفقراء ‪ ،‬والصغار والكبار ‪ ،‬واألصحاء واملرضى ‪ ،‬يركب بعضهم بعضا ‪ .‬فلما رأى ذلك جعلها‬
‫نوائب ‪ ،‬تنزل يوما وال تنزل يوما ‪ .‬فلبثوا يف ذلك أربعني يوما ‪ ،‬تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فال تزال موضوعة‬
‫يؤكل منها ‪ ،‬حىت إذا قاموا ارتفعت عنهم ‪ .‬إبذن هللا إىل جو السماء ‪ ،‬وهم ينظرون إىل ظلها يف األرض حىت توارى‬
‫عنهم‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فأوحى هللا إىل نبيه عيسى ‪ - ،‬عليه السالم ‪ ، -‬أن اجعل رزقي املائدة ‪ ،‬لليتامى والفقراء والزمىن دون األغنياء‬
‫من الناس ‪ ،‬فلما فعل ذلك ارَتب هبا األغنياء من الناس ‪ ،‬وغمطوا ذلك ‪ ،‬حىت شكوا فيها يف أنفسهم وشككوا‬
‫فيها الناس ‪ ،‬وأذاعوا يف أمرها القبيح واملنكر ‪ ،‬وأدرك الشيطان منهم حاجته ‪ ،‬وقذف وسواسه يف قلوب املرَتبني‬
‫حىت قالوا لعيسى ‪ :‬أخربان عن املائدة ‪ ،‬ونزوهلا من السماء أحق ‪ ،‬فإنه قد ارَتب هبا بشر منا كثري؟ فقال عيسى ‪،‬‬
‫‪ -‬عليه السالم ‪ : -‬هلكتم وإله املسيح! طلبتم املائدة إىل نبيكم أن يطلبها لكم إىل ربكم ‪ ،‬فلما أن فعل وأنزهلا‬
‫عليكم رمحة ورزقا ‪ ،‬وأراكم فيها اآلَيت والعرب كذبتم هبا ‪ ،‬وشككتم فيها ‪ ،‬فأبشروا ابلعذاب ‪ ،‬فإنه انزل بكم إال‬
‫هللا‪.‬‬ ‫يرمحكم‬ ‫أن‬
‫وأوحى هللا إىل عيسى ‪ :‬إن آخذ املكذبني بشرطي ‪ ،‬فإن معذب منهم من كفر ابملائدة بعد نزوهلا عذااب ال أعذبه‬
‫أحدا من العاملني ‪ .‬قال فلما أمسى املرَتبون هبا وأخذوا مضاجعهم يف أحسن صورة مع نسائهم آمنني ‪ ،‬فلما كان‬
‫الكناسات‪.‬‬ ‫يف‬ ‫األقذار‬ ‫يتبعون‬ ‫فأصبحوا‬ ‫‪،‬‬ ‫خنازير‬ ‫هللا‬ ‫مسخهم‬ ‫الليل‬ ‫آخر‬ ‫يف‬
‫هذا أث ر غريب جدا ‪ .‬قطعه ابن أيب حامت يف مواضع من هذه القصة ‪ ،‬وقد مجعته أان له ليكون سياقه أمت وأكمل ‪،‬‬
‫أعلم‪.‬‬ ‫وتعاىل‬ ‫سبحانه‬ ‫وهللا‬
‫وكل هذه اآلاثر دالة على أن املائدة نزلت على بِن إسرائيل ‪ ،‬أَيم عيسى ابن مرَي ‪ ،‬إجابة من هللا لدعوته ‪ ،‬وكما‬
‫دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم ( ‪ :‬قال هللا إن منزهلا عليكم ) اآلية‪.‬‬
‫وقد قال قائلون ‪ :‬إهنا مل تنزل ‪ .‬فروى ليث بن أيب سليم ‪ ،‬عن جماهد يف قوله ( ‪ :‬أنزل علينا مائدة من السماء‬
‫شيء‪.‬‬ ‫ينزل‬ ‫ومل‬ ‫‪،‬‬ ‫ضرب‬ ‫مثل‬ ‫هو‬ ‫‪:‬‬ ‫)قال‬
‫رواه ابن أيب حامت وابن جرير ‪ .‬مث قال ابن جرير ‪ :‬حدثِن اْلارث ‪ ،‬حدثنا القاسم ‪ -‬هو ابن سالم ‪ -‬حدثنا حجاج‬
‫‪ ،‬عن ابن جريج ‪ ،‬عن جماهد قال ‪ :‬مائدة عليها طعام ‪ ،‬أبوها حني عرض عليهم العذاب إن كفروا ‪ ،‬فأبوا أن تنزل‬
‫عليهم‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪ :‬حدثنا ابن املثىن ‪ ،‬حدثنا حممد بن جعفر ‪ ،‬حدثنا شعبة ‪ ،‬عن منصور بن زاذان ‪ ،‬عن اْلسن ; أنه‬
‫تنزل‪.‬‬ ‫مل‬ ‫‪:‬‬ ‫املائدة‬ ‫يف‬ ‫قال‬
‫وحدثنا بشر ‪ ،‬حدثنا يزيد ‪ ،‬حدثنا سعيد ‪ ،‬عن قتادة قال ‪ :‬كان اْلسن يقول ‪ :‬ملا قيل هلم ( ‪ :‬فمن يكفر بعد‬
‫منكم فإن أعذبه عذااب ال أعذبه أحدا من العاملني ) قالوا ‪ :‬ال حاجة لنا فيها ‪ ،‬فلم تنزل‪.‬‬
‫وهذه أسانيد صحيحة إىل جماهد واْلسن ‪ ،‬وقد يتقوى ذلك أبن خرب املائدة ال تعرفه النصارى وليس هو يف كتاهبم‬
‫‪ ،‬ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله ‪ ،‬وكان يكون موجودا يف كتاهبم متواترا ‪ ،‬وال أقل من‬
‫اآلحاد ‪ ،‬وهللا أعلم ‪ .‬ولكن الذي عليه اجلمهور أهنا نزلت ‪ ،‬وهو الذي اختاره ابن جرير ‪ ،‬قال ‪ :‬ألنه تعاىل أخرب‬
‫بنزوهلا بقوله تعاىل ( ‪ :‬إن منزهلا عليكم فمن يكفر بعد منكم فإن أعذبه عذااب ال أعذبه أحدا من العاملني ) قال ‪:‬‬
‫وصدق‪.‬‬ ‫حق‬ ‫ووعيده‬ ‫هللا‬ ‫ووعد‬
‫وهذا القول هو ‪ -‬وهللا أعلم ‪ -‬الصواب ‪ ،‬كما دلت عليه األخبار واآلاثر عن السلف وغريهم ‪ .‬وقد ذكر أهل‬
‫التاريخ أن موسى بن نصري انئب بِن أمية يف فتوح بالد املغرب ‪ ،‬وجد املائدة هنالك مرصعة ابلآللئ وأنواع اجلواهر‬
‫‪ ،‬فبعث هبا إىل أمري املؤمنني الوليد بن عبد امللك ‪ ،‬ابن جامع دمشق ‪ ،‬فمات وهي يف الطريق ‪ ،‬فحملت إىل أخيه‬
‫سليمان بن عبد امللك اخلليفة بعده ‪ ،‬فرآها الناس وتعجبوا منها كثريا ملا فيها من اليواقيت النفيسة واجلواهر اليتيمة‬
‫‪ .‬ويقال إن هذه املائدة كانت لسليمان بن داود ‪ ،‬عليهما السالم ‪ ،‬فاهلل أعلم‪.‬‬
‫وقد قال اإلمام أمحد ‪ :‬حدثنا عبد الرمحن ‪ ،‬حدثنا سفيان ‪ ،‬عن سلمة بن كهيل ‪ ،‬عن عمران بن اْلكم ‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس قال ‪ :‬قالت قريش للنيب ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ : -‬ادع لنا ربك أن جيعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك قال‬
‫" ‪:‬وتفعلون؟ " قالوا ‪ :‬نعم ‪ .‬قال ‪ :‬فدعا ‪ ،‬فأَته جربيل فقال ‪ :‬إن ربك يقرأ عليك السالم ‪ ،‬ويقول لك ‪ :‬إن‬
‫شئت أصبح هلم الصفا ذهبا ‪ ،‬فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذااب ال أعذبه أحدا من العاملني ‪ ،‬وإن شئت‬
‫والرمحة‪" .‬‬ ‫التوبة‬ ‫ابب‬ ‫بل‬ ‫"‪:‬‬ ‫قال‬ ‫‪.‬‬ ‫والرمحة‬ ‫التوبة‬ ‫ابب‬ ‫هلم‬ ‫فتحت‬
‫مث رواه أمحد وابن مردويه واْلاكم يف مستدركه ‪ ،‬من حديث سفيان الثوري ‪ ،‬به‪.17‬‬

‫تفسري القرطيب‪:‬‬

‫قوله تعاىل ‪ :‬قال هللا إن منزهلا عليكم فمن يكفر بعد منكم فإن أعذبه عذااب ال أعذبه أحدا من العاملني‬
‫قوله تعاىل قال هللا إن منزهلا عليكم هذا وعد من هللا تعاىل أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى إجابة‬
‫للحواريني ‪ ،‬وهذا يوجب أنه قد أنزهلا ووعده اْلق ‪ ،‬فجحد القوم وكفروا بعد نزوهلا فمسخوا قردة وخنازير ‪ .‬قال‬
‫ابن عمر ‪ :‬إن أشد الناس عذااب يوم القيامة املنافقون ومن كفر من أصحاب املائدة وآل فرعون ; قال هللا تعاىل ‪:‬‬
‫فمن يكفر بعد منكم فإن أعذبه عذااب ال أعذبه أحدا من العاملني واختلف العلماء يف املائدة هل نزلت أم ال ؟‬
‫فالذي عليه اجلمهور ‪ -‬وهو اْلق ‪ -‬نزوهلا لقوله تعاىل ‪ :‬إن منزهلا عليكم ‪ ،‬وقال جماهد ‪ :‬ما نزلت وإمنا هو ضرب‬
‫مثل ضربه هللا تعاىل خللقه فنهاهم عن مسألة اآلَيت ألنبيائه ‪ .‬وقيل ‪ :‬وعدهم ابإلجابة فلما قال هلم ‪ :‬فمن يكفر‬
‫بعد منكم ‪ -‬اآلية ‪ -‬استعفوا منها ‪ ،‬واستغفروا هللا وقالوا ‪ :‬ال نريد هذا ; قاله اْلسن ‪ ،‬وهذا القول والذي قبله‬
‫خطأ ‪ ،‬والصواب أهنا نزلت ‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬إن عيسى ابن مرَي قال لبِن إسرائيل ( ‪ :‬صوموا ثالثني يوما مث سلوا‬
‫هللا ما شئتم يعطكم ) فصاموا ثالثني يوما وقالوا ‪َ :‬ي عيسى لو عملنا ألحد فقضينا عملنا ألطعمنا ‪ ،‬وإان صمنا‬
‫وجعنا فادع هللا أن ينزل علينا مائدة من السماء ‪ ،‬فأقبلت املالئكة مبائدة حيملوهنا ‪ ،‬عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات‬
‫‪ ،‬فوضعوها بني أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أوهلم ‪ ،‬وذكر أبو عبد هللا حممد بن علي الرتمذي اْلكيم‬
‫يف "نوادر األصول " له ‪ :‬حدثنا عمر بن أيب عمر قال حدثنا عمار بن هارون الثقفي عن زكرَيء بن حكيم اْلنظلي‬

‫‪ 17‬أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي‪ ،‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬الطبعة االولى‪ ،‬دار ابن حزم بيروت ‪ ،2000‬سورة المائدة‬
‫عن علي بن زيد بن جدعان عن أيب عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال ‪ :‬ملا سألت اْلواريون عيسى ابن‬
‫مرَي ‪ -‬صلوات هللا وسالمه عليه ‪ -‬املائدة قام فوضع ثياب الصوف ‪ ،‬ولبس ثياب املسوح ‪ -‬وهو سرابل من مسوح‬
‫أسود وْلاف أسود ‪ -‬فقام فألزق القدم ابلقدم وألصق العقب ابلعقب ‪ ،‬واإلهبام ابإلهبام ‪ ،‬ووضع يده اليمىن على‬
‫يده اليسرى ‪ ،‬مث طأطأ رأسه ‪ ،‬خاشعا هلل ; مث أرسل عينيه يبكي حىت جرى الدمع على ْليته ‪ ،‬وجعل يقطر على‬
‫صدره مث قال ‪ :‬اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا ألولنا وآخران وآية منك وارزقنا وأنت خري‬
‫الرازقني قال هللا إن منزهلا عليكم اآلية فنزلت سفرة محراء مدورة بني غمامتني غمامة من فوقها وغمامة من حتتها ‪،‬‬
‫والناس ينظرون إليها ; فقال عيسى ( ‪ :‬اللهم اجعلها رمحة وال جتعلها فتنة إهلي أسألك من العجائب فتعطي‬
‫) فهبطت بني يدي عيسى عليه السالم وعليها منديل مغطى ‪ ،‬فخر عيسى ساجدا واْلواريون معه ‪ ،‬وهم جيدون‬
‫هلا رائحة طيبة مل يكونوا جيدون مثلها قبل ذلك ‪ ،‬فقال عيسى ( ‪ :‬أيكم أعبد هلل وأجرأ على هللا وأوثق ابهلل فليكشف‬
‫عن هذه السفرة حىت َنكل منها ونذكر اسم هللا عليها وَنمد هللا عليها ) فقال اْلواريون ‪َ :‬ي روح هللا أنت أحق‬
‫بذلك فقام عيسى ‪ -‬صلوات هللا عليه ‪ -‬فتوضأ وضوءا حسنا وصلى صالة جديدة ‪ ،‬ودعا دعاء كثريا ‪ ،‬مث جلس‬
‫إىل السفرة ‪ ،‬فكشف عنها ; فإذا عليها مسكة مشوية ليس فيها شوك تسيل سيالن الدسم ‪ ،‬وقد نضد حوهلا من‬
‫كل البقول ما عدا الكراث ; وعند رأسها ملح وخل ‪ ،‬وعند ذنبها مخسة أرغفة على واحد منها مخسة رماانت ‪،‬‬
‫وعلى اآلخر مترات ‪ ،‬وعلى اآلخر زيتون ‪ .‬قال الثعليب ‪ :‬على واحد منها زيتون ‪ ،‬وعلى الثان عسل ‪ ،‬وعلى الثالث‬
‫بيض ‪ ،‬وعلى الرابع جنب ‪ ،‬وعلى اخلامس قديد ‪ .‬فبلغ ذلك اليهود فجاءوا غما وكمدا ينظرون إليه فرأوا عجبا ;‬
‫فقال مشعون ‪ -‬وهو رأس اْلواريني ‪َ : -‬ي روح هللا أمن طعام الدنيا أم من طعام اجلنة ؟ فقال عيسى صلوات هللا‬
‫عليه ( ‪ :‬أما افرتقتم بعد عن هذه املسائل ما أخوفِن أن تعذبوا ‪ ) .‬فقال مشعون ‪ :‬وإله بِن إسرائيل ما أردت بذلك‬
‫سوءا ‪ .‬فقالوا ‪َ :‬ي روح هللا لو كان مع هذه اآلية آية أخرى ; قال عيسى عليه السالم " ‪َ :‬ي مسكة احيي إبذن هللا‬
‫"فاضطربت السمكة طرية تبص عيناها ‪ ،‬ففزع اْلواريون فقال عيسى ( ‪ :‬ما يل أراكم تسألون عن الشيء فإذا‬
‫أعطيتموه كرهتموه ما أخوفِن أن تعذبوا ) وقال ( ‪ :‬لقد نزلت من السماء وما عليها طعام من الدنيا وال من طعام‬
‫اجلنة ولكنه شيء ابتدعه هللا ابلقدرة البالغة فقال هلا ‪ :‬كون فكانت ; ) فقال عيسى ( ‪َ :‬ي مسكة عودي كما كنت‬
‫) فعادت مشوية كما كانت ; فقال اْلواريون ‪َ :‬ي روح هللا كن أول من أيكل منها ‪ ،‬فقال عيسى ( ‪ :‬معاذ هللا إمنا‬
‫أيكل منها من طلبها وسأهلا ) فأىب اْلواريون أن أيكلوا منها خشية أن تكون مثلة وفتنة ; فلما رأى عيسى ذلك‬
‫دعا عليها الفقراء واملساكني واملرضى والزمىن واجملذمني واملقعدين والعميان وأهل املاء األصفر ‪ ،‬وقال ( ‪ :‬كلوا من‬
‫رزق ربكم ودعوة نبيكم وامحدوا هللا عليه ) وقال ( ‪ :‬يكون املهنأ لكم والعذاب على غريكم ) فأكلوا حىت صدروا‬
‫عن سبعة آالف وثالمثائة يتجشؤون فربئ كل سقيم أكل منه ‪ ،‬واستغىن كل فقري أكل منه حىت املمات ; فلما رأى‬
‫ذلك الناس ازدمحوا عليه فما بقي صغري وال كبري وال شيخ وال شاب وال غِن وال فقري إال جاءوا أيكلون منه ‪،‬‬
‫فضغط بعضهم بعضا فلما رأى ذلك عيسى جعلها نواب بينهم فكانت تنزل يوما وال تنزل يوما ‪ ،‬كناقة مثود ترعى‬
‫يوما وتشرب يوما ‪ ،‬فنزلت أربعني يوما تنزل ضحى فال تزال حىت يفيء الفيء موضعه ‪ ،‬وقال الثعليب ‪ :‬فال تزال‬
‫منصوبة يؤكل منها حىت إذا فاء الفيء طارت صعدا فيأكل منها الناس ‪ ،‬مث ترجع إىل السماء والناس ينظرون إىل‬
‫ظلها حىت تتوارى عنهم ‪ ،‬فلما مت أربعون يوما أوحى هللا تعاىل إىل عيسى عليه السالم (َي عيسى اجعل مائديت‬
‫هذه للفقراء دون األغنياء ) ‪ ،‬فتمارى األغنياء يف ذلك وعادوا الفقراء ‪ ،‬وشكوا وشككوا الناس ; فقال هللا َي‬
‫عيسى ( ‪ :‬إن آخذ بشرطي ) فأصبح منهم ثالثة وثالثون خنزيرا أيكلون العذرة يطلبوهنا ابألكباء ‪ ،‬واألكباء ‪-‬‬
‫هي الكناسة واحدها كبا ‪ -‬بعدما كانوا أيكلون الطعام الطيب وينامون على الفرش اللينة ‪ ،‬فلما رأى الناس ذلك‬
‫اجتمعوا على عيسى يبكون ‪ ،‬وجاءت اخلنازير فجثوا على ركبهم قدام عيسى ‪ ،‬فجعلوا يبكون وتقطر دموعهم‬
‫فعرفهم عيسى فجعل يقول ( ‪ :‬ألست بفالن ) ؟ فيومئ برأسه وال يستطيع الكالم‪ ،‬فلبثوا كذلك سبعة أَيم ‪-‬‬
‫ومنهم من يقول ‪ :‬أربعة أَيم ‪ -‬مث دعا هللا عيسى أن يقبض أرواحهم ‪ ،‬فأصبحوا ال يدرى أين ذهبوا ؟ األرض‬
‫ابتلعتهم أو ما صنعوا؟‪! .‬‬

‫قلت ‪ :‬يف هذا اْلديث مقال وال يصح من قبل إسناده ‪ ،‬وعن ابن عباس وأيب عبد الرمحن السلمي كان طعام املائدة‬
‫خبزا ومسكا ‪ ،‬وقال ابن عطية ‪ :‬كانوا جيدون يف السمك طيب كل طعام ; وذكره الثعليب ‪ ،‬وقال عمار بن َيسر‬
‫وقتادة ‪ :‬كانت مائدة تنزل من السماء وعليها مثار من مثار اجلنة ‪ ،‬وقال وهب بن منبه ‪ :‬أنزله هللا تعاىل أقرصة من‬
‫شعري وحيتاان ‪ ،‬وخرج الرتمذي يف أبواب التفسري عن عمار بن َيسر قال ‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫أنزلت املائدة من السماء خبزا وْلما وأمروا أال خيونوا وال يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة‬
‫وخنازير قال أبو عيسى ‪ :‬هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغري واحد عن سعيد بن أيب عروبة عن قتادة عن خالس‬
‫عن عمار بن َيسر موقوفا وال نعرفه مرفوعا إال من حديث اْلسن بن قزعة ‪ ،‬حدثنا محيد بن مسعدة قال حدثنا‬
‫سفيان بن حبيب عن سعيد بن أيب عروبة َنوه ومل يرفعه ‪ ،‬وهذا أصح من حديث اْلسن بن قزعة وال نعلم للحديث‬
‫املرفوع أصال ‪ ،‬وقال سعيد بن جبري ‪ :‬أنزل على املائدة كل شيء إال اخلبز واللحم ‪ ،‬وقال عطاء ‪ :‬نزل عليها كل‬
‫شيء إال السمك واللحم ‪ ،‬وقال كعب ‪ :‬نزلت املائدة منكوسة من السماء تطري هبا املالئكة بني السماء واألرض‬
‫اللحم‪.‬‬ ‫إال‬ ‫طعام‬ ‫كل‬ ‫عليها‬
‫قلت ‪ :‬هذه الثالثة أقوال خمالفة ْلديث الرتمذي وهو أوىل منها ; ألنه إن مل يصح مرفوعا فصح موقوفا عن صحايب‬
‫كبري ‪ .‬وهللا أعلم‪ ،‬واملقطوع به أهنا نزلت وكان عليها طعام يؤكل وهللا أعلم بتعيينه‪ ،‬وذكر أبو نعيم عن كعب أهنا‬
‫نزلت اثنية لبعض عباد بِن إسرائيل‪ ،‬قال كعب‪ :‬اجتمع ثالثة نفر من عباد بِن إسرائيل فاجتمعوا يف أرض فالة مع‬
‫كل رجل منهم اسم من أمساء هللا تعاىل ; فقال أحدهم ‪ :‬سلون فأدعو هللا لكم مبا شئتم ; قالوا ‪ :‬نسألك أن تدعو‬
‫هللا أن يظهر لنا عينا ساحة هبذا املكان ; ورَيضا خضرا وعبقرَي ‪ ،‬قال ‪ :‬فدعا هللا فإذا عني ساحة ورَيض خضر‬
‫وعبقري ‪ .‬مث قال أحدهم ‪ :‬سلون فأدعو هللا لكم مبا شئتم ; فقالوا ‪ :‬نسألك أن تدعو هللا أن يطعمنا شيئا من مثار‬
‫اجلنة فدعا هللا فنزلت عليهم بسرة فأكلوا منها ال تقلب إال أكلوا منها لوان مث رفعت ; مث قال أحدهم ‪ :‬سلون‬
‫فأدعو هللا لكم مبا شئتم ; فقالوا ‪ :‬نسألك أن تدعو هللا أن ينزل علينا املائدة الِت أنزهلا على عيسى قال ‪ :‬فدعا‬
‫اخلرب‪.‬‬ ‫متام‬ ‫وذكر‬ ‫;‬ ‫رفعت‬ ‫مث‬ ‫حاجتهم‬ ‫منها‬ ‫فقضوا‬ ‫فنزلت‬
‫مسألة ‪ :‬جاء يف حديث سلمان املذكور بيان املائدة وأهنا كانت سفرة ال مائدة ذات قوائم ‪ ،‬والسفرة مائدة النيب‬
‫صلى هللا عليه وسلم وموائد العرب ‪ ،‬خرج أبو عبد هللا الرتمذي اْلكيم ‪ :‬حدثنا حممد بن يسار ‪ ،‬قال حدثنا معاذ‬
‫بن هشام ‪ ،‬قال حدثِن أيب ‪ ،‬عن يونس ‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أنس قال ما أكل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على‬
‫خوان قط وال يف سكرجة وال خبز له مرقق ‪ .‬قال ‪ :‬قلت ألنس ‪ :‬فعالم كانوا أيكلون ؟ قال ‪ :‬على السفر ; قال‬
‫اإلسكاف‪.‬‬ ‫الفرات‬ ‫أبو‬ ‫هو‬ ‫هذا‬ ‫يونس‬ ‫‪:‬‬ ‫بشار‬ ‫بن‬ ‫حممد‬
‫قلت ‪ :‬هذا حديث صحيح اثبت اتفق على رجاله البخاري ومسلم ‪ ،‬وخرجه الرتمذي قال ‪ :‬حدثنا حممد بن بشار‬
‫قا ل حدثنا معاذ بن هشام فذكره وقال فيه ‪ :‬حسن غريب ‪ .‬قال الرتمذي أبو عبد هللا ‪ :‬اخلوان هو شيء حمدث‬
‫فعلته األعاجم ‪ ،‬وما كانت العرب لتمتهنها ‪ ،‬وكانوا أيكلون على السفر واحدها سفرة وهي الِت تتخذ من اجللود‬
‫وهلا معاليق تنضم وتنفرج ‪ ،‬فباالنفراج مسيت سفرة ألهنا إذا حلت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها فقيل هلا‬
‫السفرة وإمنا مسي السفر سفرا إلسفار الرجل بنفسه عن البيوت ‪ ،‬وقوله ‪ :‬وال يف سكرجة ; ألهنا أوعية األصباغ ‪،‬‬
‫وإمنا األصباغ لأللوان ومل تكن من مساهتم األلوان ‪ ،‬وإمنا كان طعامهم الثريد عليه مقطعات اللحم ‪ ،‬وكان يقول ‪:‬‬
‫اهن سوا اللحم هنسا فإنه أشهى وأمرأ فإن قيل ‪ :‬فقد جاء ذكر املائدة يف األحاديث ; من ذلك حديث ابن عباس‬
‫قال ‪ :‬لو كان الضب حراما ما أكل على مائدة النيب صلى هللا عليه وسلم ; خرجه مسلم وغريه ‪ .‬وعن عائشة ‪-‬‬
‫رضي هللا عنها ‪ -‬قالت ‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬تصلي املالئكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة‬
‫خرجه الثقات ; وقيل ‪ :‬إن املائدة كل شيء ميد ويبسط مثل املنديل والثوب ‪ ،‬وكان من حقه أن تكون مادة الدال‬
‫مضعفة ‪ ،‬فجعلوا إحدى الدالني َيء فقيل ‪ :‬مائدة ‪ ،‬والفعل واقع به فكان ينبغي أن تكون ممدودة ; ولكن خرجت‬
‫يف اللغة خمرج فاعل كما قالوا ‪ :‬سر كامت وهو مكتوم ‪ ،‬وعيشة راضية وهي مرضية ‪ ،‬وكذلك خرج يف اللغة ما هو‬
‫فاعل على خمرج مفعول فقالوا ‪ :‬رجل مشئوم وإمنا هو شائم ‪ ،‬وحجاب مستور وإمنا هو ساتر ; قال فاخلوان هو‬
‫املرتفع عن األرض بقوائمه ‪ ،‬واملائدة ما مد وبسط والسفرة ما أسفر عما يف جوفه ‪ ،‬وذلك ألهنا مضمومة مبعاليقها‬
‫‪ ،‬وعن اْلسن قال ‪ :‬األكل على اخلوان فعل امللوك ‪ ،‬وعلى املنديل فعل العجم ‪ ،‬وعلى السفرة فعل العرب وهو‬
‫السنة ‪ ،‬وهللا أعلم‪.18‬‬

‫‪ 18‬أبي عبد هللا محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬الجزء السابع‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة االولى ‪ ،2006‬سورة المائدة ‪-‬‬

You might also like