تطلعات مستقبلية في تعليم العربية

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 10

‫فيه الناس‪ ،‬على اختالف لغاتهم‪ ،‬وأمّا من حيث الشكل فلكل لغة منطقها‬ ‫تطلعات مستقبلية في تعليم العربية‬

‫الخاص الذي ينبع من خصوصية نسيجها اللغوي الذي يميزها عن‬ ‫(*)د‪ .‬إسماعيل أحمد العمايرة‬
‫غيرها‪ .‬وأحسب أن هذا المبدأ لم يراع في بعض جوانب التأليف‬ ‫أود في هذا المقام أن ألقي الضوء على أظهر التطلعات التي يتوخى‬
‫اللغوي الذي ُبنيت عليه الكتب المدرسّية‪ .‬فلو كّنا نراعي ذلك لما أدت‬ ‫تحقيقها في مجال تعليم العربية مستقبال ‪:‬‬
‫بنا الرغبة المّلحة في تفسير نصب الحال (الهدف الشكلي) إلى أن نجعل‬ ‫أّوًال‪ :‬في مرحلة التعليم العام‬
‫من السؤال بـ "كيف" ميزانًا نبني عليه كّل مفهوم الحال " مضمونًا" كما‬ ‫‪ .1‬العربّية لغة واسعة في ُبعديها الزماني والمكاني‪ ،‬وقد تراكم في‬
‫لو كان النصب مشروطًا بمضمون " كيف"‪.‬‬ ‫حاضرها‪ :‬القديُم والحديث‪ ،‬ولذا فقد بات لزامًا أن نحدد ما نريد من‬
‫انظر مثًال تحكّم " كيف" في درس الحال‪ ،‬في كتاب قواعد اللغة‬ ‫تعّلمها‪ ،‬في الصرف والنحو واألساليب‪ .‬وهذا ما تسعى إليه لغات حّية‬
‫العربّية‪ ،‬المقرر الحالي (ص‪ 173‬وما بعدها) مع أن قواعد الحال‬ ‫ال يمتد عمق الثقافة اللغوّية فيها‪ ،‬إلى ما يمتد إليه ُع مق الثقافة اللغوّية‬
‫شكلّيًا ال ينبغي أن تحول دون عّد جمل من نحو‪( :‬جلس الرجال‬ ‫العربّية‪ .‬ومع ذلك فقد سعوا إلى تحديد ما يريدون في ضوء هدف‬
‫يستريحون‪ ،‬أو وقفت أنتظر زيدًا‪ ،‬أو قابلت المسؤول أعرض عليه‬ ‫واضح يرمي إلى إيجاز الطريق على المتعّلم في الوصول إلى الهدف‬
‫مشكلتي) جمًال ال تجيب عن " كيف" بالدرجة األولى‪ ،‬وإ نما تجيب عن‬ ‫من اللغة‪ ،‬وهو تحقيق التواصل بأقِل ما يمكن َتعلمه من قواعد النحو‬
‫" لماذا"‪ ،‬ولكنه الخلط بين مقتضيات التفسير الشكلي والمضمون‪.‬‬ ‫والصرف والصوت واألساليب والمفردات‪ ،‬دون حاجة إلى استعماالت‬
‫‪ .4‬ال تستطيع اللغة أن تتوسع في أشكالها وقوالبها بما يجاري َتَو ّس ع‬ ‫مهجورة‪ ،‬ال يبعث فيها الحياة أن ُيَتكّلف لها موضوع حّي ‪ .‬ويحضرني‬
‫مضامينها‪ ،‬ولذا فقد أِلفنا في تاريخ كثير من اللغات أن تميل اللغة إلى‬ ‫هنا ما تكلفه مؤلفو كتاب (النحو والصرف للصف الثاني الثانوي األدبي‬
‫تحميل الشكل الواحد مجموعة من المضامين‪ ،‬وأن تختصر كثيرًا من‬ ‫والشرعي‪ ،‬المقرر الحالي([‪ )]1‬ص ‪ِ )55-50‬لَيبّث الحياة في كلمتي‬
‫األشكال التي تسقط على درب التطّو ر الذي تمّر به اللغة في رحلة‬ ‫َك َر ب واخلولق‪ ،‬حرصًا منهم على مبدأ الوفاء بحشد ما ورد في الكتب‬
‫ارتقائها‪ .‬وهذا ما حدث في أبنية األفعال العربّية‪ ،‬وفي ألوان من‬ ‫التراثية من أفعال دالة على الشروع‪ ،‬فكان مثال َك َر ب عندهم هو‪:‬‬
‫الجموع‪ ،‬والمصادر‪ ،‬وبعض أبنية المشتقات‪ ،‬وقد جرى ما يشبه ذلك‬ ‫َك َر َب فريُق كرة القدم الوطنُّي ُيتُّم استعداده للمشاركة في البطولة‬
‫في لغات أخرى أيضاً‪ .‬فاأللمانية الدارجة اختصرت صيغ األزمنة‬ ‫الدولّية‪ .‬ومثال اخلولق هو ‪ :‬اخلولق األمن الغذائي أن يشمل‬
‫القديمة فيها‪ ،‬لُتَح ّم ل وظيفتها عددًا قليًال تبّقى في واقع االستعمال‬ ‫المجتمعات الفقيرة‪.‬‬
‫اليومي‪.‬‬ ‫‪ .2‬نحتاج إلى وعٍي تَتمّثل فيه أهداف واضحة عملّية‪ ،‬من وراء تعليم‬
‫وأما العربّية فمما زاد في قواعدها أن تقعيدها ابتداء كان يقوم على‬ ‫اللغة‪ ،‬فالواقع الحالي َيُنّم عن أننا نركز على هدف الكتابة أكثَر من‬
‫أساس من التوسع في اختيار المستويات اللغوّية من شعرية ونثرية‪.‬‬ ‫تركيزنا على القراءة والتكّلم‪ ،‬ومن أمثلة ذلك أن نضبط أواخر الكلمات‬
‫وللشعر خصوصياته التي كان ينبغي أن ُتْفَص َل عن المستويات العادية‪،‬‬ ‫عند انتهاء الُج مل‪ ،‬ونقول بعدئٍذ للطفل‪ :‬ال تحرك عند الوقف‪ .‬وكثيرًا‬
‫التي تجمع بينه وبين النثر‪ ،‬فصًال أوسع مما نصت عليه كتب الضرائر‬ ‫ما تحّو لت حصة التعبير إلى ممارسة كتابية صامتة‪ ،‬دون أن تكون‬
‫الشعرية‪ .‬ولكن عدم الفصل هذا‪ ،‬جعل قواعد اللغة ُتْثَقل بكثرة القواعد‬ ‫فرصة للتحدث‪ .‬وكثيرًا ما كانت حصة القراءة الجهرّية قاعة محكمة‬
‫من جهة‪ ،‬وتتمّيع من جهة أخرى بما ال ُيعرف‪ :‬أهو من خصوصيات‬ ‫يتجّبر فيها المّد رس بألوان من السلوك االنفعالي القاسي‪ .‬وعلى العموم‪،‬‬
‫الشعر أم مما تجيزه اللغة في أوضاع االستعمال العادي‪ .‬كما أن‬ ‫فإن الهدف المنطوق من اللغة يظل هدفًا تنقصه المهارات الجادة في‬
‫المعيارّية العربّية قامت على تأليف القواعد مما َتَنوعت فيه اللهجات‪،‬‬ ‫مجال القراءة الجهرّية‪ ،‬والتعبير الجهري‪ ،‬والمواقف المنطوقة‬
‫فتداخلت العموميات التي تجمعها‪ ،‬بالخصوصيات التي يوقف إزاءها‬ ‫المتنوعة كالحوار‪ ،‬والخطابة‪ ،‬والمحاضرة‪ .‬وهذا ما تعكسه مواقف‬
‫بحيرة‪ :‬أهي من العموميات التي ينبغي أن ُيحرص عليها‪ ،‬أم من‬ ‫الطلبة حتى في المراحل الجامعّية‪ ،‬إذ هم يجرؤون على التعبير الكتابي‬
‫الخصوصيات التي يمكن االستغناء عنها؟ وقد ترتب على هذا ـ وفي‬ ‫أكثر من جرأتهم على التعبير المنطوق بالفصحى‪ ،‬التي يفّر ون منها إلى‬
‫ظل غياب منهج واضح في الفرز اإلحصائي الذي يعطي األشياء قيمة‬ ‫التعبير باللهجات المحلّية‪.‬‬
‫تتناسب وشيوعها‪ -‬أن جاءت كتبنا المدرسّية حافلة بما يلزم وبما ال‬ ‫‪ .3‬من مقتضيات التفكير العملي لغويًا‪ ،‬أّال يتحكم التفسير الشكلي للغة‬
‫يلزم‪ ،‬وفي هذا ما يفسر وجود هذا "الكم" الهائل من القواعد وأوجه‬ ‫في مضمونها‪ ،‬كما لو كانت قواعُد المضمون تتطابق دائمًا مع قواعد‬
‫التعدد التي َتْثُقل على الناشئة‪ ،‬وبخاصة حين ُيفرض عليهم معرفة أبنية‬ ‫الشكل في اللغة‪ ،‬أي لغة‪ ،‬وبالتالي ُيبني على ذلك‪ ،‬خطأ‪ ،‬توهُم أن‬
‫أو قواعد نحويٍة ال يستطيعون توظيفها‪ .‬وقد ترتب على هذا أن ُتحشد‬ ‫التفسير الشكلي ينبغي أن يكون خاضعًا للمنطق ذاته الذي يخضع له‬
‫لهم القواعد حشدًا عشوائيًا‪َ ،‬يْس تهدف الوفاء باستحضارها من الكتب‬ ‫تفسير المضمون؛ فالمضمون أقرب إلى درس المنطق الذي ال يختلف‬
‫الذي ُتمارس فيه ممارسة ال تحتاج معها إلى أي قدر من التعليم‪ .‬وعلى‬ ‫التراثية إلى الكتب المدرسّية استحضارًا جعل الكتب المدرسّية‪ُ ،‬تقَّد م‬
‫هذا قد ُيَخ ّطأ من يقول‪ُ :‬د َو لّي وُقَر ِو ّي ‪ ،‬وِم َهنّي ‪ ..‬وهكذا‪ ،‬أي بأن تكون‬ ‫للناشئة مادة مكتظة بالقواعد‪ ،‬وبخاصة في المراحل المتأخرة من‬
‫النسبة للجمع‪ ،‬وذلك ألن القاعدة البصرّية العتيدة تقتضي بأن تكون‬ ‫الرحلة المدرسية‪ ،‬بحجة أن مدارك التالميذ في الصفوف األخيرة قد‬
‫النسبة للمفرد‪ ،‬مع أن القاعدة الكوفية تجيز النسبة إلى الجمع‪ ،‬والعاّم ة‬ ‫اّتسعت بما يؤهلهم الستيعاب هذا الحشد من القواعد‪ ،‬وبحجة أن الرحلة‬
‫حين تقول مثًال‪ :‬مجلس األمن الُّد َو لّي ‪ ،‬ال تعني دولة بعينها‪ ،‬وإ نما تعني‬ ‫المدرسّية قد آذنت باالنتهاء‪ ،‬فال ُبد من إيـداع ما تبقى منها‪ ،‬من قواعد‬
‫النسبة إلى مجموعة الدول‪ ،‬وكذلك النسبة إلى الِم َهن فيقولون‪ :‬مركز‬ ‫اللغة‪.‬‬
‫التدريب المِه ني‪ ،‬أي الذي ُيَتدَر ب فيه على مجموعة من المهن‪،‬‬ ‫ولطالما أحس المدرسون بضيق الوقت المخصص للوفاء بحق تعليم‬
‫والمجلس الُقَر وي الذي تنتسب إليه مجموعة من القرى‪ ،‬فلماذا ال ُيتخذ‬ ‫العربّية في مدارسنا‪ .‬وهذا أمر خطير بحق‪ ،‬فكأننا بضيق الوقت نتعمد‬
‫من ذلك توسعة على اللغة؟ فيكون الُّد ْو لّي داًال على النسبة إلى دولة‬ ‫أن نحشـر األشياء في عنق الزجاجة‪ ،‬أو كأننا بتضييق الطريق وتكثيف‬
‫بعينها‪ ،‬والُّد َو لي حين تكون النسبة إلى مجموعة من الدول‪.‬‬ ‫السير فيها ال نريد لحوادث المرور أن تكثر‪.‬‬
‫إن التواصل بين الفصحى والعامّية أمر مطلوب ومرغوب فيه‪ ،‬وال‬ ‫ولو أن مستعرضًا َم ّح َص هذه القواعد لوجد إلى جانب سمة االكتظاظ‬

‫ينبغي أن ُيعادى‪ ،‬وال نملك أن نفّر منه‪ ،‬وهو ما حدث على َمّر‬ ‫فيها‪ ،‬سمًة أخرى‪ ،‬وهي سمة النقص‪ ،‬فالكتب المدرسّية التي تعج‬
‫العصور‪ ،‬وغاية ما ُيطمح فيه أن نراقب التدّر ج في رأب الُهّو ة كلما‬ ‫بأبواب النحو والصرف وبتفصيالت هذه األبواب التي ُخ دمت خدمة‬
‫اتسعت بينهما‪ ،‬ليكون ذلك لصالح الفصحى‪ ،‬وُر جحان كّفتها‪ .‬وعلى هذا‬ ‫تراثية‪ ،‬ما تزال فقيرة في مجال الدرس الصوتي‪ ،‬حتى كاد نظام المقطع‬
‫كنُت استحسن من بعض الكتب المدرسّية أن تأتي بأمثلة على التصغير‬ ‫يكون مغيبًا منها‪ .‬وقل مثل ذلك‪ ،‬في تأثير بعض األصوات على بعض‪،‬‬
‫من واقع ما يجري على ألسنة العامة‪ ،‬ما دام َيّتفق ونواميس الفصحى‬ ‫في نطق الكلمة والجملة‪ ،‬وفي وضع الكلمة حين تنطق منفردة‪،‬‬
‫نحو‪ :‬صويلح وسويلم وعبيد وسهيل (مذكرة في قواعد اللغة العربّية‬ ‫ووضعها في بيئتها من الجملة والنص‪.‬‬
‫للصف الثاني الثانوي األدبي والعلمي والتجاري‪ ،‬المقرر السابق ص‬ ‫وقد تزداد الحاجة إلى مثل هذا في مستويات األطفال الصغار في‬
‫‪ )109‬أمّا أن ُيؤتى بألفاظ من نحو ال ُيعهد تصغيره‪ ،‬فيقال‪ :‬كيف تطبق‬ ‫المراحـل الدراسّية األولى‪ ،‬حين تكون أعضاء النطق لديهم في حاجة‬
‫عليه قاعدة التصغير‪ ،‬فهذا يجعل اللغة صعبة‪ ،‬ومراَس ها عنيدًا‪ ،‬ويحيل‬ ‫إلى االرتقاء والنضج‪ .‬بل إن بعضهم يظل يعاني لغويًا ونفسيًا‬
‫قواعدها إلى رياضة ذهنّية عسرة‪ ،‬وال يخدم الفصحى‪ .‬فقاعدة التصغير‬ ‫واجتماعيًا‪ ،‬إلى مراحل متقدمة من العمر‪ ،‬من بعض المشكالت النطقية‬
‫مثًال ينبغي أن تنطلق من الواقع العملي‪ ،‬ال المتخيل‪ ،‬الذي كان يتسلى به‬ ‫التي ُينتظر من الكتاب المقرر أن يساعدهم فيها‪ ،‬كأن ُتَح ل مشكلة‬
‫الترف النحوي‪ ،‬حين كان يقال‪ :‬كيف تصغر أو تنسب إلى رجل ُسّم ي‪:‬‬ ‫تداخل األصوات عندهم‪ ،‬أو تأثير بعضها في بعض‪ ،‬فيأتي الكالم‬
‫كيف‪ ،‬أو سمي‪ :‬في‪ ،‬أو‪ :‬على…أو كيف تصغر‪ :‬سفرجل‪ ،‬أو إبراهيم‪.‬‬ ‫واضحًا بدًال من أن يظل مغمغما ُم ْلتّفًا غامضًا‪.‬‬
‫(لمزيد من التفصيل عـن التواصل بين العامّية والفصحى‪ ،‬انظر كتابي‪:‬‬ ‫وألضرب مثًال آخر من النحو‪ ،‬فعلى الرغم من وجود تفصيالت لكل‬
‫المستشرقون والمناهج اللغوية‪ ،‬ص‪ ،114‬الطبعة الثانية)‪.‬‬ ‫من جملة الشرط وجملة الصلة‪ ،‬وجملة الحال وغيرها‪ ،‬إّال أننا ال نجد‬
‫‪ .6‬نحتاج في تقديم المادة اللغوّية إلى منهجية واضحة تستسيغها‬ ‫درسًا واحدًا تجمعت فيه التراكيب الدالة على أنواع الزمن في العربّية‪.‬‬
‫الناشئة‪ ،‬فال يكفي أن يقال‪ :‬نبدأ باألسهل ثم نتدرج من ذلك إلى‬ ‫ويعود السبب في عدم إنصاف التعبير الزمنّي في العربّية إلى ذلك‬
‫األصعب‪ ،‬فهذا ال ُيغني عن طرح بنائّي لألبواب‪ ،‬كأن َيْع رف الناشئ‬ ‫الوفاء األعمى للمعيارّية التي ال ُيراد لها أن تخرج عن مقوالت من‬
‫شيئًا من الصرف‪ ،‬كالمجرد والمزيد‪ ،‬قبل أن يبدأ باستخدام المعجم‪،‬‬ ‫نحو‪ُ":‬و لد النحو بأسنان‪ ..‬ومن أراد أن يضع كتابًا في النحو بعد سيبويه‬
‫وإ ّال فسوف ُيضطر إلى ما اضطر إليه مؤلفو كتاب اللغة العربّية‬ ‫فليستح"‪.‬‬
‫للصف السادس‪ ،‬المقرر القديم‪ ،‬إذ َر َّتبوا معجم المفردات الصعبة في‬ ‫وأحسب أن علم البالغة قد أصابه األذى أكثر مما أصاب أّي علم من‬
‫آخر الكتاب‪ ،‬وفق الحرف األول فالثاني‪ ..‬للكلمة‪ ،‬دون النظر إلى‬ ‫علوم اللغة‪ ،‬فإذا كان الصرف والنحو من ثوابت اللغة‪ ،‬وكأن الثبوت‬
‫حروفها األصلية أو أساسها االشتقاقّي ‪.‬‬ ‫على المعايير القديمة ال يؤذيهما كثيرًا‪ ،‬فإن الثبوت على قواعد البالغة‬
‫وعلى ذلك ينبغي أن ُيبنى درس المبتدأ والخبر‪ ،‬على أساس من معرفة‬ ‫القديمة قد أوجعها وأوهنها وَع ّقَد ها‪ ،‬ألن البالغة‪ -‬رغم بعض ثوابتها‬
‫الجملة االسمّية‪ ،‬وأن ُيبنى درس النواسخ على أساس من معرفة المبتدأ‬ ‫النسبّية‪ -‬تظل من المتغيرات التي تتغير بتغير الذوق العام‪.‬‬
‫والخبر‪ ،‬وأن يبنى درس الفاعل على أساس من معرفة الجملة الفعلّية‪،‬‬ ‫‪ .5‬ثمة تحسس بالغ ْن بديه إزاء العاميات‪ ،‬وهو تحّس س مفرط ينبع من‬
‫وأن يبنى درس نائب الفاعل على أساس معرفٍة بالفاعل‪ ،‬وأن يبنى‬ ‫نظرة استعالئية‪ ،‬تحكم أحيانًا بأن االستعمال خطأ‪ ،‬ألنه مستساغ متداول‬
‫درس الحال والتمييز والشـرط والتعجب‪ ..‬على أساس من المعرفة‬ ‫في العامّية‪ ،‬فكأنما يراد بذلك أن ُتعزل اللغة عن الوسط االجتماعي‬
‫أيدي الناشئة معجمًا مناسبًا‪ ،‬يعينهم في فهم ألفاظ الحياة‪ ،‬وما علموا‬ ‫بالجملة االسمية والجملة الفعلية‪ ،‬وعلى ذلك أيضًا ينبغي أن ُينظر إلى‬
‫بذلك أن المسألة ليست في اختصار هذا المعجم الجليل‪ ،‬أو سواه‪ ،‬وال‬ ‫أن الكلمة تتألف من مقاطع‪ ،‬والمقاطع من أصوات‪ ،‬وهكذا‪ ..‬فهذا‬
‫في تصغير طبعته وخّطه‪ ،‬وإ نما في مدى مالءمته للغرض‪ .‬إن مثل‬ ‫أساس ال بّد منه في معرفة األصول وأصول األصول‪ ،‬والفروع وما‬
‫هذه األعمال‪ ،‬تخديرّية‪ ،‬ال ُتغني عن أن ُتؤّلف المعجمات بما يتناسب‬ ‫يتفرع عنها‪ ،‬في النحو والصرف والصوت‪ .‬فهذه النواميس اللغوّية‬

‫مع الحاجة الحقيقّية الواعية من وراء أن يقتني الصغير معجمًا يلبّي‬ ‫العامة ينبغي أن تراعى‪ .‬وال يدخل في هذا األساس البنائي أن يؤتى‬
‫حاجة عملية لديه‪ ،‬ال أن يكشف عن مفردات انسحب كثير منها من واقع‬ ‫بالمرفوعات جميعها‪ ،‬ثم المنصوبات ثم المجرورات‪ ،‬إذ األولى من ذلك‬
‫االستعمال‪ ،‬منذ زمن بعيد‪.‬‬ ‫أن يأخذ المؤلف شيئًا من هذه وشيئًا من تلك‪ ،‬وربما شيئًا رابعًا ال من‬
‫لقد أدركت عملّيًا قيمة العمل اإلحصائي في فرز القواعد اللغوّية إثر‬ ‫هذه وال تلك‪ ،‬فالنحو أوسع من أن ُيحصر في هذه المصطلحات الثالثة‪:‬‬
‫تجربة عملّية على باب الشرط‪ ،‬ثبت لي من خاللها أن عشرات من‬ ‫مرفوع‪ ،‬ومنصوب ومجرور أو مجزوم‪ ،‬أي هو أوسع من أن يحصر‬
‫القواعد التي نّص ت عليها كتب النحو ال لزوم لها‪ ،‬وحسبنا أن نعلم مثًال‬ ‫في عامل ومعمول‪ ،‬فثمة أشياء ال تعمل وال ُيعمل بها‪ ،‬وثّم ة نظرات‬
‫أن من أدوات الشرط ‪ -‬التي ال يكاد يخلو من ذكرها كتاب نحوّي ‪ -‬ما‬ ‫أخرى تخرج عن نظّر ية العامل‪ ،‬التي تفسر الشكل‪ ،‬إذ قد ينظر إلى‬
‫لم نجد عليه شيئًا من الشواهد‪ ،‬في عينة مستفيضة من النصوص‬ ‫النحو نظرة قائمة على المضمون‪ ،‬أو المراوحة بين الشكل والمضمون‪،‬‬
‫المحتج بها لغويًا‪ ،‬وأذكر من ذلك "أيان" التي يذكر لها النحاة شاهدًا‬ ‫فقد ُتبحث اللغة من باب األساليب كالنفي‪ ،‬والشرط‪ ،‬والزمن‪،‬‬
‫يتيمًا‪ ،‬لم يرد في عينتي‪"،‬وإ ذ ما" التي يستشهد عليها النحاة بشاهدين ال‬ ‫واالستثناء‪ ،‬والحال‪ ،‬والتعجب‪ ،‬واالستفهام‪ ،‬والمدح والذم‪ ،‬وما شاكل‬
‫ثالث لهما‪ .‬كما أثبت لي الفرز اإلحصائي مثًال‪ ،‬أّن الفعل الماضي أكثر‬ ‫ذلك‪ .‬وهو أمر ممكن‪.‬‬
‫شيوعًا من المضارع المجزوم في جملة الشرط‪ ،‬حتى إن نسبة شيوعه‬ ‫‪ .7‬وثمة أساس آخر‪ ،‬وهو الشيوع المبني على اإلحصاء‪ ،‬فنحن ال‬
‫في بعض النصوص‪ -‬ككتاب الرسالة لإلمام الشافعي‪ ،‬المجلد األّو ل‪-‬‬ ‫نزال نرتجل في تخمين األلفاظ الشائعة‪ ،‬التي نبني عليها نصوصنا‬
‫قد بلغت ‪.%100‬‬ ‫المدرسّية‪ ،‬وحسبنا أن َنْذ كر تجربة قام بها أحد الباحثين األلمان‪ ،‬إذ‬
‫‪ .8‬ال يخفى أن الكتب المدرسّية ‪ -‬ومنها كتب تعليم العربّية ‪ -‬تحتاج‬ ‫حاول أن يقف على المشترك من األفعال الشائعة في العربية‪ ،‬في كتب‬
‫إلى مزيد من التنويع في تمريناتها‪ ،‬فالتنويع المدروس فيه تحريك‬ ‫تعليمّية ثالثة كبيرة‪ ،‬جاء بعضها في مجلدات عدة‪ ،‬فكان المشترك بينها‬
‫للذهن‪ ،‬وُبْع د عن النمطية المملة‪ ،‬كما أن فيه إثارة وتشويقًا‪ .‬ولذا بات‬ ‫ال يتجاوز مئة وخمسين فعًال‪ ،‬والبقية أفعال اختلفت فيها هذه الكتب‬
‫من لوازم الوفاء بهذا المطلب أن تقوم بعض الدراسات باّالطالع على‬ ‫(انظر‪ :‬األفعال الشائعة في العربّية المعاصرة لهارتموت بوبتسين‪،‬‬
‫ما ُأّلف في مقررات الدول العربّية واألجنبّية‪ ،‬بقصد حصر أنماط‬ ‫ترجمة إسماعيل عمايرة‪ ،‬منشورات جامعة اإلمام محمد بن سعود‬
‫التمرينات والتدريبات اللغوّية فيها‪ ،‬وبيان اإليجابيات أو السلبيات لكّل‬ ‫اإلسالمّية ‪1986‬م)‪.‬‬
‫نمط فيها‪ .‬وسيكون هذا الجهد جزءًا من البنية التحتّية التي نعتمد عليها‬ ‫ولو كّنا نملك دراسات إحصائية لكان في وسعنا أن نقدم المادة اللغوّية‬
‫عند الشروع في تأليف مقرراتنا‪ ،‬أو تطويرها‪ ،‬فنتخير منها ما نحاكيه‪،‬‬ ‫في صورة معجمات صغيرة تتناسب وأعمار الناشئة‪ ،‬وثقافاتهم‪ ،‬ولكان‬
‫أو نصوغ على منواله‪ ،‬أو ُنَعّد له‪ .‬وبالتالي نكون قد أغنينا تجربتنا في‬ ‫في وسعنا في أبواب الصرف والنحو أن نعرف بأي القواعد نبدأ وبأّيها‬
‫مجال حيوّي من مجاالت التعليم‪ .‬وسيكون لهذا التنوع أثره اإليجابي‬ ‫نثني‪ .‬وعلى هذا فما تزال مناهجنا ومقرراتنا بحاجة إلى بنية تحتّية‬
‫في إنصـاف األغراض النطقّية‪ ،‬وبخاصة حين يكون من مقتضيات هذه‬ ‫وصفّية إحصائّية نعرف على أساسها كيف نقدم اللغة للناشئة بصورة‬
‫التمرينات استخدام األجهزة الصوتّية والمعامل اللغوّية التي تمكن‬ ‫مدروسة ال مرتجلة‪ .‬وعلى هذا فإن المرء يعجب من هذا العبارات‬
‫التلميذ من مراقبة أدائه من حيث الوقوف على األخطاء‪ ،‬ومن حيث‬ ‫الهّينة في كتابتها‪ ،‬حين نزعم في مقدمات هذه الكتب أننا نتخّير األلفاظ‬
‫مالحظة جمال الصوت‪ ،‬ومدى وضوحه‪ ،‬ومناسبته لمقتضى الحال‪.‬‬ ‫والقواعد وفق شيوعها‪ ،‬فأين نحن من الدراسات اإلحصائية الدقيقة التي‬
‫‪ .9‬مما يعجب له المرء أننا نشكو من تفاوت مستويات المدرسين‪،‬‬ ‫تقف بنا على أرضية ُص لبة تسمح لنا باالطمئنان إلى حقيقة ما يحتاج‬
‫ولكننا َنِك ل إليهم اختبار الطلبة‪ ،‬في كل صف من الصفوف المدرسّية‪،‬‬ ‫إليه األمر‪ ،‬حتى ُتترجم هذه العبارات إلى واقع ينقلها من المزاعم‬
‫فتأتي النتائج متفاوتة أيضًا‪ ،‬فثمة نوع من المدرسين يراعي جانب‬ ‫واألماني والتخمينات‪ ،‬إلى الواقع الحقيقي القائم على أساس علمي‪ ،‬كما‬
‫الذاكرة في التقويم‪ ،‬فتأتي أسئلته من نحو‪ :‬اذكر‪ ،‬عّد د ‪ ..‬وثمة نوع‬ ‫هي الحال في مقررات تدريس اللغات الحّية‪.‬‬
‫يجمع بين أسئلة تقّو م الذاكرة والذكاء‪ ،‬ويوازن بينهما‪ ،‬ومنهم من َيْع رف‬ ‫وقد كان من سخريات األمور أن تستسهل وزارات التربية والتعليم‪،‬‬
‫أساسيات التقويم‪ ،‬ومنهم من ال يعرف منها إّال اليسير‪ ،‬ومن المدرسين‬ ‫فتؤّبط الصبية الصغار‪ ،‬مختصرًا لمعجم الصحاح للجوهري‪ ،‬فتظن‬
‫من ُيجزل في إعطاء الدرجات‪ ،‬فيخدع الطالب ويخدع أسرته بعالمات‬ ‫بذلك المختصر‪ -‬وقد صغروا حرفه الطباعي‪-‬أنها قد وضعت بين‬
‫ناهيك عن تعّد د أشكالها في أول الكلمة ووسطها وآخرها‪ ،‬موصولة‬ ‫مرتفعة‪ ،‬ومنهم من َتِش ّح العالمات عندهم‪ ،‬فال يكاد ينجح أحد‪ ،‬وقد ُتعبر‬
‫ومنفردة‪ ،‬وهذا يعني أن يستوعب المتعامل مع النظام الكتابي جميع هذه‬ ‫الدرجة المعطاة عند بعضهم عن مضمونها أو ال تعّبر‪..‬‬
‫األشكال‪ ،‬مضروبة في عدد الصوامت في العربّية‪.‬‬ ‫وهكذا يصبح االختبار خاضعًا العتبارات شخصّية‪ ،‬قد يداخلها الهوى‪،‬‬
‫وقد ترّتب على النظام الكتابّي الموروث أن اشتركت بعض األصوات‬ ‫أو قلة الخبرة أو ما شاكل ذلك من أمور تجعل المرء يشك في تنجيح‬
‫المتباينة في رموز كتابية واحدة‪ .‬فالياء والواو في نحو‪َ :‬ي لِد ‪ ،‬وولد‪،‬‬ ‫الطلبة أو ترسيبهم على حّد سواء‪.‬‬
‫هما صامتان لِّينان (شبه حركة) ولكن الياء والواو في نحو‪ :‬بريء‪،‬‬ ‫وكان األولى أن تصمم اختبارات تشخيصّية تخضع العتبارات علمّية‬
‫ونوح‪ ،‬هما صائتان أي كل منهما حركة طويلة‪ ،‬ومع ذلك فالرمز‬ ‫لكل مستوى‪ ،‬اختبارات جادة تشرف على إعدادها مؤسسات تعليمّية‬
‫الكتابي واحد‪.‬‬ ‫تربوّية نفسّية‪ ،‬تقف بنا على مستوى أداء المدرس‪ ،‬والمدرسة‪،‬‬
‫وقد أسمى اللغويون كل ما َح ظي من األصوات برمز كتابي ثابت (أي‬ ‫اختبارات مجّر بة مدروسة متطورة تختبر المنهاج والكتاب المقرر‪،‬‬
‫ُيكتب في صلب الكالم) حرفًا‪ ،‬وعلى هذا فالباء والتاء حرفان‪ ،‬وكذلك‬ ‫والعملّية التعليمّية بكل مقوماتها وأسسها وطموحاتها‪.‬‬
‫األلف في نحو‪ :‬ما‪ ،‬وال ‪ ،‬وكّال‪ ،‬وما دامت الباء حرفًا ثابتًا‪ ،‬وهو‬ ‫وينبغي أن ُتَعّد االختبارات التشخيصّية المؤسسة المجّر بة‪ ،‬لكل ُم َقّر ر‪،‬‬
‫يحتمل الحركات بوصفها شيئًا متغيرًا‪ ،‬كأنها من الخصائص المتغيرة‬ ‫ولكّل الصفوف المدرسّية‪ .‬فما أقل هذه االختبارات‪ ،‬التي نستطيع بها‬
‫لذلك الثابت‪ ،‬فقد تخيلوا أن األلف تحتمل ذلك‪ ،‬فقالوا في ما‪ :‬إنها مبنّية‬ ‫أن نعرف مستويات المدارس والمدرسين والطلبة والكتب المدرسّية‬
‫على السكون ونسوا بذلك أنها حركة طويلة‪ ،‬ال يجوز في حقها أن‬ ‫وغير ذلك مـن مقومـات العملّية التعليمّية اللغوّية وغير اللغوّية([‪.!)]2‬‬
‫تدعى ساكنة‪ .‬وقالوا في‪ :‬رأى‪ :‬إنها مبنّية على الفتح المقدر على‬ ‫‪ .10‬إن مسألة الضبط بالشكل مرهونة بطبيعة النظام الكتابي للعربّية‪.‬‬
‫األلف‪ ،‬وفي عيسى ـ في النص‪ -‬إنه منصوب وعالمة نصبه فتحة‬ ‫والعربّية في هذه المسألة واحدة من أسرة لغوّية تشابهت اللغات التي‬
‫مقدرة على األلف‪( .‬قاسوه بنحو‪ُ :‬ع َمَر )‪.‬‬ ‫تتألف منها في أنها تهتم بالصوامت‪ ،‬وتهمل كثيرًا من الصوائت‪ ،‬أي‬
‫بل تخيل بعضهم أن فتحًة تسبق األلف التي تنتهي بها األسماء الخمسة‬ ‫الحركات‪ ،‬وبخاصة الحركات القصيرة كالفتحة والضمة والكسرة‪ ،‬وقد‬
‫المنصوبة‪ ،‬نحو‪ :‬أبًا‪ ،‬وأخًا‪ .‬ولعل في هذا ما يفسر سلوك الكاتب الذي‬ ‫تهمل الحركات الطويلة‪ ،‬والحركات الفرعّية كاإلمالة وما شاكلها‪ .‬وهي‬
‫يضع فتحة على الحرف الذي يسبق كل ألف‪ ،‬من نحو‪ :‬وسائل وخالد‪،‬‬ ‫سمة كتابية قديمة جدًا‪ ،‬نلحظها في النصوص العربّية والعربّية‬
‫ونوايا‪.‬‬ ‫الجنوبّية‪ ،‬واآلرامّية‪ ،‬والسريانية وغيرها‪ .‬وقد ظل هذا التقليد دارجًا في‬
‫واألمر نفسه قد حدث بالنسبة للواو أو الياء الصائتتين‪ ،‬فما‬ ‫هذه اللغات‪ ،‬ولم يعُد إصالح هذا النظام الكتابّي ‪ ،‬غير إكساب الحركات‪،‬‬
‫دامت الواو صوتًا حظي برمز كتابي كالباء‪ ،‬فهي تحتمل السكون‬ ‫في كل هذه اللغات نوعًا من الشرعّية؛ بإيجاد رموز كتابية لها ال ترقى‬
‫احتمال الباء لها‪ ،‬فقالوا في الواو المتصلة بالفعل الثالثي (واو الجماعة)‬ ‫إلى مستوى الصوامت‪ ،‬كالباء والتاء والثاء والجيم والحاء‪ .‬وإ نما‬
‫إنها ساكنة‪ ،‬وكذلك ياء المخاطبة في نحو‪ :‬تلعبين وفي هذا ما يفسر لنا‬ ‫توضع هذه الرموز الحركّية فوق الصوامت‪ .‬وعلى هذا عوملت‬
‫السلوك الكتابي لكسر الباء في تلعبين‪ ،‬وضم الواو في تلعبون‪ ،‬فما‬ ‫الصوامت بوصفها أصوًال ثابتة في الكتابة‪ ،‬وعوملت الصوائت‬
‫دامت الواو أو الياء حرفًا‪ ،‬أي له رمز كتابي‪ ،‬فهو عندهم ال يصلح أن‬ ‫(الحركات) بوصفها شيئًا تابعًا متغيرًا‪ ،‬وكأنما هي أحوال متغيرة لما‬
‫يكون حركة‪ ،‬ولذا فقد تصّو روه ساكنًا ووضعوا له السكون رمزًا‪ ،‬وما‬ ‫هو ثابت‪ ،‬فالباءـ وهي صامتة‪ -‬وذات رمز كتابّي ‪ -‬تحتمل أن تكون‬
‫دام ساكنًا‪ ،‬كان الّبد من حركة (سوى الواو أو الياء) للحرف الذي‬ ‫مكسورة أو مضمومة أو مفتوحة‪ ،‬كما تحتمل غير ذلك من األحوال‪،‬‬
‫يسبق الواو أو يسبق الياء‪ ،‬فوضعوا الكسرة أو الضمة‪.‬‬ ‫كأن يكون كسرها بشدة‪ ،‬وكذلك ضمها‪ ،‬أو فتحها‪.‬‬
‫لقد ساعدنا التطّو ر التقني الحديث في التخّلص آليًا من التغّلب على‬ ‫وعلى هذا فإن ضبط الصوامت بالحركة المناسبة أمر الزم إن‬
‫مشكالت كتابة الحروف في أول الكلمة أو وسطها أو آخرها‪ .‬فما عاد‬ ‫أردنا الدقة وأردنا للكتابة أن تصور النطق الصحيح للكلمة أو الجملة‪.‬‬
‫يلزم من الكاتب على جهاز الحاسوب مثًال سوى أن يضغط على‬ ‫غير أن هذا ـ كما أسلفنا‪ -‬يترتب عليه إثقال الحروف بالحركات‪ ،‬كما‬
‫الحرف‪ ،‬فيتولى الجهاز تحديد شكل الحرف تلقائيًا بما يتناسب مع‬ ‫يعني أن تضرب عدد الصوامت بعدد ما يمكن أن ُيضبط به من رموز‬
‫البداية أو الوسط أو النهاية‪ .‬وهذا إنجاز كبير وال شك‪َ ،‬بْيَد أن المشكلة‬ ‫فرعية‪ ،‬وعلى هذا فإن الباء مثًال تحتمل أن تكون على نحٍو ما‪ ،‬من‬
‫ظّلت تواجه الكتابة باليد‪.‬‬ ‫األشكال الكتابّية اآلتية‪:‬‬
‫وأما مشكلة الضبط بالحركات‪ ،‬فما تزال ماثلة أمام الكتابة اليدوية‬ ‫ْب ‪َ ،‬ب ‪ُ ،‬ب ‪ِ ،‬ب ‪َّ ،‬ب ‪ُّ ،‬ب ‪ِّ ،‬ب ‪ ،‬بًا ‪ٌ ،‬ب ‪ٍ ،‬ب‬
‫واآللية‪ ،‬وأخص الضبط بالحركات القصيرة‪ ،‬وعلى هذا كان البد من‬
‫التفكير في حّل مناسب لمسألة الضبط بالشكل‪ .‬وهي مسألة قديمة‬
‫من اعتبارات مختلفة‪ .‬ولذا فإن هذه الضوابط قد ُيزاد إليها أو ُينقص‬ ‫استسهل بعضهم لحلها أن ُيغّير الخط العربي‪ ،‬وهي كارثة بحق‪ ،‬فلئن‬
‫منها‪ ،‬في ضوء تجريبها‪ ،‬وتشخيص أحوال الُقّر اء‪.‬‬ ‫أقدم األتراك واألندونيسيون على تغيير كتابتهم واتخاذ الكتابة الالتينّية‪،‬‬
‫‪ .11‬في ضوء المنظور مما يجري حولنا بهذه السرعة المتسارعة‪ ،‬في‬ ‫فإن العرب ال يستطيعون ذلك‪ ،‬وإ ال عبثوا بما أؤتمنوا عليه‪ ،‬أي الحفاظ‬
‫مجاالت الحياة جميعًا‪ ،‬فإن اللغات ‪ -‬كالهويات الثقافّية‪ -‬تعيش صراع‬ ‫على النصوص المقدسة التي جاءت بلسانهم‪ ،‬وهذه مسألة قد يحلوا لمن‬
‫البقاء‪ ،‬وتتزاحم تزاحمًا عجيبًا‪ ،‬فكم من لغة كانت محلّية كاإلنجليزّية‬ ‫أراد أن يتناولها تناوًال سطحيًا أن يماري فيها‪ ،‬وال مجال هنا ألن يفاض‬
‫والفرنسية‪ ،‬ثم أصبحت عالمّية بوسائل العصر الحديث‪ ،‬وبمتغيرات‬ ‫في الحديث عن ذلك‪.‬‬
‫أخرى في معادلة القوة والضعف الحضارّي ‪ .‬فإذا أردنا للغتنا أن‬ ‫ورأى بعضهم أن ُيطور الخط العربي لتصبح الحركات جميعها ذات‬
‫تزاِح م‪ ،‬وأن تعزز مقومات وجودها‪ ،‬فإن علينا أن نبذل المال والوقت‬ ‫رموز كتابّية تدخل في صلب الكلمة‪ ،‬غير أن هذا الحّل كذلك لم تطمئن‬
‫والخبرة في سبيل تطوير الواقع كّله‪ ،‬والواقِع اللغوي من ضمنه‪ ،‬وأن‬ ‫به نفوس الناس‪ ،‬ألنه يحدث تغييرًا كبيرًا على نمط الكتابة الموروثة‪،‬‬
‫نواجه تحديات العصر في مجال االتصاالت بأنواعها‪ ،‬وفي كل‬ ‫ويصبح من الصعب به أن تقرأ النصوص التي كتبت بالنظام الكتابي‬
‫المجاالت‪ ،‬وأّال نكتفي بدور اليد السفلى التي تنتظر من اللغات‬ ‫الموروث‪ .‬وباإلجمال‪ُ ،‬نظر إلى هذا الحل على أنه ـ يقل خطورة عن‬
‫المزدهرة اآلن‪ ،‬بحثًا متطورًا تترجمه‪ ،‬أو برنامجًا حاسوبيًا ُتعّر به‪ ،‬وقد‬ ‫الحل السابق‪ ،‬بيد أنه ينطوي على كثير من المحاذير‪.‬‬
‫يأتي التعريب مسخًا‪ ،‬ال هو بالعربي وال هو باألجنّبي‪ ،‬كصورة التعليم‬ ‫فماذا بقي بعدئٍذ ‪ ،‬سوى أن نضبط كل شيء‪ ،‬وهذا حّل مِّك لف‪ ،‬جهدًا‪،‬‬
‫المدرسي والجامعي في بالدنا‪ .‬ال شك في أن مناهجنا الحديثة اختلفت‬ ‫ووقتًا‪ ،‬وماًال‪ ،‬وهو الزم في النصوص المرجع‍يةـ كما أسلفنا‪ -‬بيد أنه ال‬
‫درجة عن وضعها قبل مئات السنين‪ ،‬لكن هذا التطور‪ -‬الذي قد يكون‬ ‫يلزم في طباعة النصوص العادية‪ ،‬كلغة الصحافة والمراسالت‬
‫خطوة إلى اإلمام أو قد يكون خطوة إلى الوراء ‪ -‬يبقى كله خطوات‬ ‫والروايات وما شاكل ذلك‪ .‬وعلى هذا كان الّبد من تخير مواطن اللبس‬
‫متخّلفة‪ ،‬إذا ما وازنا ذلك بالخطى المتسارعة التي يسير فيها التطور‬ ‫حتى ُيقتصر على ضبطها‪ ،‬وحتى نخفف عن الحروف المثقلة‪ ،‬وعلى‬
‫العالمي‪ ،‬هائجًا مائجًا‪ ،‬وقد يتضمن الغث والسمين‪ ،‬وما ينفع وما يضر‪،‬‬ ‫هذا كان يحسن بنا ما يلي‪:‬‬
‫وقد واجهته مدارسهم وجامعاتهم‪ ،‬أما نحن فكثير مّنا ال يزال في خصام‬ ‫ا) عدم ضبط ما قبل األلف‪ ،‬وما قبل الواو والياء إذا كانا حرفي مّد‬
‫مع لحظة اليقظة من نوم عميق‪ ،‬متسائًال‪ :‬أيهما أنفع دفء الفراش ولو‬ ‫وضبط ما قبلهما إذا كانا من الصوامت‪ ،‬في نحو‪َ :‬بْو ح وَس يل‪.‬‬
‫بأحالم مزعجة‪ ،‬أم يقظة تعتريها عقبات وواقع صعب‪ ،‬وفي مجال اللغة‬ ‫ب) ضبط تلك المشتقات التي ال يميز بينها إّال بالحركات نحو‪َ :‬أْفَع َل ‪،‬‬
‫والتطوير التربوي يدور سؤال ربما يكون موازيًا‪ :‬أيهما أجدى أَننقطع‬ ‫ُأْفِع َل ‪َ ،‬أْفِع َل ‪ُ ،‬أَفِّع ُل ‪ ،‬أْفَع ُل وقيس على ذلك المشتقات من نحو اسمي‬
‫إلى الماضي‪ ،‬ومافيه‪ ،‬أم ننقطع عنه‪ ،‬ومنه‪ ،‬أم نواجه الحاضر بما ينفع‬ ‫الزمان والمكان‪ ،‬نحو اسم المكان في َم ْح َلب (مكان الحلب) واسم اآللة‬
‫من أسلحة الماضي والحاضر‪.‬‬ ‫في نحو ِم ْح َلب (أداة الحلب) واسمي الفاعل والمفعول مما فوق الثالثي‪:‬‬
‫ثانيا‪ :‬في مرحلة التعليم الجامعي‬ ‫ُمْر تِج ع ـ ُمْر َتَج ع؛ واألمر‪ :‬تناَو ْل ‪ ،‬والماضي‪ :‬تناَو َل ‪ ،‬والمصدر‪ :‬تناُو ل‬
‫لعّل من أخطر ما نعانيه في كليات اللغة العربية وأقسامها‪ ،‬أننا نرّك ز‬ ‫والمضارع‪ُ :‬تِناول؛ والمثنى‪ :‬مهندَس ي المشروع والجمع‪ :‬مهندسي‬
‫على الكّم على حساب الكيف‪ .‬وهذا عَر ض من أعراض المرض‪ .‬فقد‬ ‫المشروع‪.‬‬
‫اعتدنا أن نقسم مواد األدب على ما اعتدنا عليه من تقسيمنا األدب إلى‬ ‫ج) التعود على كتابة الشّد ة في جميع مواقعها‪.‬‬
‫عصور‪ ،‬فنخوض في ِخ َض ّم من الزمان والمكان‪ ،‬وتحّو لت بذلك نعمة‬ ‫د) االستغناء بالهمزة تحت األلف تغني عن تحريكها بالكسر في نحو‪:‬‬
‫الماضي المتصل بالحاضر‪ ،‬في تاريخ حضارتنا‪ ،‬إلى نقمة‪ .‬فالرقعة‬ ‫إّن ‪ ،‬ويبقى أمر الحركة مجاًال للفرق بين الهمزة المضمومة والهمزة‬
‫المكانية لألدب العربي واسعة‪ ،‬والعصورعديدة متماسكة‪ ،‬ولكن األدب‬ ‫المفتوحة‪ ،‬إذ تأتي الهمزة فوق األلف‪ .‬ويقاس على ذلك شكل الهمزة إذا‬
‫ُفِّتَت إلى عصور كالعصر الجاهلي‪ ،‬وصدر اإلسالم‪ ،‬والعصر األموي‪،‬‬ ‫جاءت على واو‪ ،‬فإنها تغني عن ضمها وجوبًا في نحو سماؤه‪ ،‬أو‬
‫والعصر العباسي‪ ،‬وقد ُش ِط َر هذا ‪ -‬بدوره ‪ -‬إلى عباسي أول‪،‬‬ ‫جاءت على ياء في نحو‪ :‬سمائه‪.‬‬
‫وعباسي ثان‪ ،‬وامتد التقسيم بامتداد رحلة الزمان التي استغرقت نحو‬ ‫ه) ضبط الجمل التي قد تقرأ على وجهين مختلفين‪ ،‬ال يفرق بينهما إّال‬
‫سبعة عشر قرنًا‪ .‬ومع كل تقسيم زماني يحتمل األمر تقسيمًا مكانيًا‪،‬‬ ‫الضبط بالشكل‪.‬‬
‫فاألدب يقسم إلى أدب في بالد الشام‪ ،‬وأدب في العراق‪ ،‬ومصر‪،‬‬ ‫و) ضبط أسماء األعالم وبخاصة األجنبية (بيْر ِج ْش تريسر) وغير‬
‫والمغرب‪ ،‬واألندلس‪ .‬وأما في العصر الحديث‪ ،‬فبالد الشام أجزاء‪،‬‬ ‫المألوفة (َطَر فة) أو المتشابهة (الَّز بيدي والُّز َبْي دّي )‪.‬‬
‫فهناك األدب في لبنان‪ ،‬واألدب في سورية‪ ،‬وفي فلسطين واألردن‪.‬‬ ‫ز) وقد يبقى احتمال اللبس قائمًا‪ ،‬ينهض بالكشف عنه السياق وحده‪،‬‬
‫وتوّقع مستوى المخاطب ُع ْم رًا‪ ،‬وتعليمًا‪ ،‬وقدرًة ذهنّية‪ ،‬إلى غير ذلك‬
‫المواد المخصصة لذلك نحو ‪ %30 - 25‬من مجمل ما يدرسه الطالب‬ ‫وُقْل مثل ذلك في أجزاء الجزيرة والمغرب‪ ،‬ووادي النيل‪ .‬وقد عرف‬
‫في المرحلة الجامعية األولى‪ .‬ومتطلبات فيها قدر من التخصيص‪,‬‬ ‫األدب تقسيمًا آخر‪ ،‬كأدب القبائل والمدن والطبقات‪ .‬وقد انسابت‬
‫تقترب بالطلبة ‪ -‬في العادة ‪ -‬من التخصصات التي ُتقّر بهم من االنتماء‬ ‫الخطط الدراسية في أقسام اللغة العربية‪ ،‬وراء هذا التجزيء بحجة ما‬
‫إلى فروع كليتهم‪ ،‬وُتَع د من مستلزمات الخريج في تلك الكلية التي‬ ‫له من منافع‪ ،‬فاستغرق منها معظم الساعات التي يمكن للطالب أن‬
‫ينتمي إليها الطالب‪ ،‬وتتبوأ هذه من الخطة العامة ‪ .%30 - 25‬وما‬ ‫يقضيها في الجامعة‪ ،‬وكان ذلك على حساب مواد أخرى قَّل نصيبها‬
‫تبقى فهو مواد من صلب تخصص الطالب‪ ،‬أي من ‪.%50 - 40‬‬ ‫كاللغة‪ ،‬وبعض المواد المساندة للتخصص‪ .‬وقد ترتب على ذلك أن‬
‫وربما كانت فلسفة الجامعات في ذلك‪ ،‬أّن الدرجة الجامعّية األولى‪،‬‬ ‫سعى كثير من األقسام إلى حشد محاضرات اللغة في بضع ساعات‪،‬‬
‫عاّم ة‪ ،‬وأن التخصص الدقيق يكون في الدرجتين التاليتين ‪ :‬الماجستير‬ ‫يفي بها عدد ضئيل من األساتذة‪ ،‬في حين أنها بسطت محاضرات‬
‫والدكتوراه‪ .‬والذي أراه ‪ :‬أّال تقل نسبة المواد التخصصّية في المرحلة‬ ‫األدب‪ ،‬ووفر لها األساتذة الذين يزيدون بكثيرعن أساتذة اللغة‪ .‬وفي‬
‫الجامعّية عن ‪ %60‬من مجمل ما يأخذه الطالب‪.‬‬ ‫هذا ما ُيَس ِّو غ كثرة الرسائل الجامعّية في األدب وقّلتها في اللغة‪ ،‬عالوًة‬
‫فكيف ‪ -‬والرقعة الزمنية محدودة‪ -‬نتصرف لنوازن بين الكم والكيف‬ ‫على صعوبة البحث اللغوّي في العادة‪ ،‬وجفافه‪.‬‬
‫في بناء شخصية الطالب المتخصص في اللغة العربية وآدابها?‬ ‫ومع أن هذا التقسيم ال يخلو من فائدة ال تخفى ‪ -‬إذ هو يعطي فرصة‬
‫لقد ثبت أن الوقت ال يتسع الستيعاب كل العصور المتعددة‪ ،‬واألصقاع‬ ‫لتركيز الضوء على فترة زمنية لها أهميتها‪ ،‬أو رقعة مكانية لها‬
‫المترامية وال يتسع لمنهجية اإلغراق في التفصيالت‪ .‬وإ ن المنبت في‬ ‫خصيصتها ‪ -‬غير أن له محاذيره‪ ،‬إذ يصعب أن نلتمس ما ُيَس ّو غ‬
‫هذا االتجاه‪ ،‬ال أرضًا قطع‪ ،‬وال ظهرًا أبقى‪ ،‬فال هو حافظ على مبدأ‬ ‫اإلغراق فيها كلها أو ٌج ّلها‪ ،‬بوصفها هدفًا ُيْس عى إلى حصره وتأبيده‬
‫الكم وال على مبدأ الكيف‪ ،‬وقد أخذت الشكوى تزداد يومًا بعد يوم من‬ ‫كمًا‪ ،‬واإلحاطة به في خطة دراسية محدودة الزمن‪ ،‬ناهيك عما قد‬
‫ضعف الطلبة وضعف الباحثين‪.‬‬ ‫انطوى عليه هذا الهدف من احتمال االنحياز إلى أهداف إقليمية‪ ،‬أو‬
‫ولست معنيًا ‪ -‬هنا‪ -‬بالحديث عن المواد غير التخصصّية‪ ،‬إذ المقصود‬ ‫عرقية‪ ،‬أو ما شاكلها‪ .‬وقد رأينا من آثار ذلك كيف تتحول المحاضرة‬
‫المواد التخصصّية من الخطة العامة لدرجة البكالوريوس‪ ،‬على أن‬ ‫عند بعض األساتذة إلى شكل من أشكال التعصب‪ ،‬الذي ُتَص ّو ر فيه‬
‫المواد غير التخصصّية‪ ،‬تعاني من عدم الفهم السليم لفلسفة وجودها‪،‬‬ ‫شخصية شاعر ما‪ ،‬في صورة ترتفع به عن آدميته‪ ،‬التي استمد منها‬
‫وقد ينعكس هذا على كيفّية تدريسها‪ ،‬وكيفّية تلقيها‪ ،‬بفتور من المدرس‪،‬‬ ‫مقومات فّنه‪ ،‬إلى شخصية تكاد ُتؤّله‪ ،‬أو ترقى لتصبح َم َلكًا يطل من‬
‫وزهد من الطالب فيها‪.‬‬ ‫ُس ُد م الفضاء‪ ,‬فيتناوله هؤالء اآلدميون من الباحثين ‪ -‬ما دام قد أصبح‬
‫كان يمكن أن تقتصر كليات اللغة العربية وأقسامها‪ ،‬على شطر مناسب‬ ‫موضوع اهتمامهم وتركيزهم ‪ -‬بآي المديح والثناء‪ .‬وقد يكون العكس‬
‫من المواد التخصصّية‪ ،‬كأن يكون الربع منها‪ ،‬لتحقيق جانب االستيعاب‬ ‫‪ -‬حين ال يكون الهوى مع ذلك الشاعر‪ -‬فتهوي به الريح في مكان‬
‫والشمول‪ ،‬ودراسة العصور واألماكن‪ ،‬على أن ُترسم التفصيالت‬ ‫سحيق‪ ،‬وُيقذف بكل ما َيشين‪.‬‬
‫والجزئيات بقدرها‪ ،‬كما ُترسم البلدان على الخرائط‪ ،‬فتبدو ُم ْح َك مة في‬ ‫ليس الطالب الذي ُو ِك ل أمر تخريجه إلى هذه األقسام مْلكًا لها إلى األبد‪،‬‬
‫مواقعها‪ ،‬وأشكالها ونسبة مساحاتها من المساحة العامة‪ ...‬وهكذا في‬ ‫فالزمن الذي يقضيه فيها من عمره محدود‪ ،‬وهو ال يتسع إلى كل‬
‫مسيرة األدب‪ ،‬ففي هذا النوع من المواد‪ ،‬يظفر الطالب بتصور شمولي‬ ‫العصور‪ ،‬وال إلى كل األماكن واألصقاع‪ ،‬ولذا كان ينبغي أن ُتحكم‬
‫لكل فترة زمنية أو بيئة مكانية‪ ،‬وفي خط أفقي عريض‪ ،‬ال ُيرّك ز فيه‬ ‫الخطط بما يراعي الزمن‪ ،‬فالجامعات بنظاميها‪ ،‬نطام الساعات‬
‫على جغرافيا األدب‪ ،‬في تفصيالتها والتواءاتها وشعابها‪ ،‬فيكون الطالب‬ ‫المعتمدة‪ ،‬ونظام السنوات‪ ،‬تخصص للتخرج من المرحلة الجامعية‬
‫بذلك عرضة إلى أن يضيع في ُبَنّيات الطريق‪ ،‬وإ نما ُتَقَّد م له الصورة‬ ‫األولى‪ ،‬فترة زمنية محددة‪ .‬وهي فترة مناسبة نسبيًا‪ ،‬إذا ما قيس ذلك‬
‫في مخطط محكم عريض‪ ،‬يشبه مخططات المدن الكبرى‪ ،‬التي تقف‬ ‫بالفترة التي يقضيها الطلبة في العادة‪ ،‬في النظام العالمي‪ ،‬للحصول‬
‫بالسائح عند أظهر المعالم وأهمها‪.‬‬ ‫على هذه الدرجة‪ ،‬وتقدر بأربع سنوات في النظام السنوي‪ ،‬أو بنحو مئة‬
‫إن عقلية الغوص في متاهات التفتيت والتجزيء‪ ،‬ربما تكون مسؤولة‬ ‫وثالثين ساعة معتمدة في نظام الساعات‪ .‬ومع تعدد مجاالت الحياة‪،‬‬
‫عن افتقار حياتنا العلمية إلى أعمال منهجية‪ ،‬موسوعية‪ .‬فكم من بحوث‬ ‫وتداخل أنواع التخصص‪ ،‬اتجهت الجامعات في المرحلة الجامعية‬
‫جزئية في مكتباتنا العربية‪ ،‬لكنها تظل كأوراق هائمة‪ ،‬ال تربطها‬ ‫األولى إلى أن ُي َلم من بعض العلوم األخرى بطرف‪ ،‬وأصبح‬
‫بشجرة العمل الكلي رابطة‪ ،‬وال تمتد منها خيوط تصلح ألن تربطها‬ ‫األمرُيتدرج معه في أبعاد ثالثة‪ ،‬متطلبات عامة‪ ،‬وترى الجامعات أنها‬
‫بعمل موسوعي جامع‪ .‬ولعّل السبب في ذلك يعود إلى أن كثيرًا من‬ ‫أساسية في بناء أي خريج‪ ،‬مهما كان تخصصه‪ ،‬وقد خصصت له‬
‫باحثينا المْح دثين قد ُر ّبوا على أن يروا األشياء في صورتها الُفَس ْي فسائّية‬ ‫بعض الجامعات من المواد ما سمي فيها‪ ،‬متطلبات جامعة‪ ،‬وتحتل‬
‫بموضوع رسالتك‪ ،‬وهي بعيدة عن مجال التحقيق‪ ،‬فتكون اإلجابة ‪:‬‬ ‫المجزأة‪ ،‬أكثر مما ُر ّبوا على استشراف الصورة العاّم ة‪ ،‬وإ يقاع‬
‫إنني حصلت عليه بصعوبة من إحدى المكتبات‪ ،‬فأردت أن أثبته في‬ ‫الجزيئات موقعها منها‪.‬‬
‫رسالتي‪ ،‬ثم سئل عن بعض ما ورد في النص‪ ،‬وهو ال يتجاوز‬ ‫وحتى األعمال الموسوعية التي بين أيدينا ‪ -‬على تواضعها كّم ًا وكيفًا‬
‫صفحتين‪ ،‬من غموض‪ ،‬فأبدى اعتذاره عن عدم فهم النص كله‪ ،‬وحسبه‬ ‫‪ -‬ما تزال تظهر عليها السمة الفردية المحدودة‪ ،‬فأين هي من‬
‫أنه أتاح لنص قديم مكتوب باليد أن يظهر في حرف مطبعي حديث‪.‬‬ ‫الموسوعات المؤسسية الجامعة‪ ،‬التي تستوعب تاريخ الحضارة من‬
‫نعم‪ ،‬إلى هذه "الدركات" تتردى الدراسات العليا أحيانًا‪ ،‬وإ ن كان الطلبة‬ ‫ماضيها إلى حاضرها‪ ،‬وتسّج ل ُخ طى مسيرتها في مجاالت اللغة‬
‫يحصلون على "الدرجات"‪ ،‬ثم تأتي‪ ،‬من َبْع ُد ‪ ،‬معاناُة األجيال من خريج‬ ‫واألدب والسياسة واالقتصاد‪ .‬إن حياة الناشئة تفتقر إلى ما يربى فيهم‬
‫تسلح بالدرجات الُع ليا والعلم القليل‪.‬‬ ‫َم َلَك ة اإلطاللة الموسوعية‪ ،‬التي تضع الجزء في مقامه‪ ،‬وفي مكان‬
‫وكم من طالب أنهى المرحلة الجامعّية دون أن يستعير كتابًا من‬ ‫استحقاقه‪.‬‬
‫المكتبة؟ مقتصرًا على ما يمكن أن يجتزئه من فراغ نفسه أثناء‬ ‫فالغاية المتوخاة من ربع المواد المتخصصة أن يستشرف الطالب‪ ،‬أكبر‬
‫المحاضرة‪ ،‬حتى يحصل على بعض ما تركه صدى صوت المعلم‪،‬‬ ‫"َك ّم " يمكن أن يأخذه مما اتسعت به رقعة المكان والزمان‪ ،‬في مواد‬
‫وتكراره‪ ،‬من أصداء معلومات ال تستقر بوثوق في النفس‪ ،‬لكنها تكفي‪،‬‬ ‫مدخلية عامة‪ ،‬كتاريخ األدب‪ ،‬وتاريخ النقد‪ ،‬وتاريخ النحو‪ ،‬وتاريخ‬
‫مع شيء من استدرار الشفقة والعطف‪ ،‬لوضعه في مصاّف الناجحين‪.‬‬ ‫البالغة‪ ..‬ويكون في الوقت نفسه‪ ،‬قد تربى‪ ،‬في ضوء دراسته لهذه‬
‫وكم تجّر أ بعض الباحثين الساعين نحو أعلى الدرجات العلمّية‪ ،‬على‬ ‫المواد المدخلّية ‪ -‬تربية كيفية منهجية‪ ،‬عرف بها كيف يكّو ن من‬
‫استخدام مصطلحات علمّية منهجّية‪ ،‬دون أن يتعمق في مرادها‪ ،‬كأن‬ ‫التفصيالت والتفاريق بناء محكمًا‪.‬‬
‫يزعم أنه سوف يسير على المنهج التاريخّي ‪ ،‬أو البنيوّي ‪ ،‬أو الوظيفّي ‪..‬‬ ‫على أن األهم من ذلك‪ ،‬الذي ينبغي أن تخصص له ثالثة أرباع المواد‪،‬‬
‫دون أن ُي لّم بأصول هذه المناهج‪ ،‬وأهدافها‪ ،‬ومزاياها‪ ،‬والعقبات التي‬ ‫هو جانب الكيف‪ ،‬أو المنهجية‪ .‬والمواد المنهجية غايتها التركيز على‬
‫تعترض الباحث الذي يسير عليها‪ ،‬والوسائل الالزمة لسيره عليها‪ ،‬إلى‬ ‫المنهج في تناول الظواهر وتحليلها‪ ،‬ال على الكم والمعلومات‪ ،‬فالطالب‬
‫غير ذلك من أمور‪.‬‬ ‫ُي لُّم بالمعلومات والتفصيالت والتواريخ واإلحصاءات‪ ،‬لتصبح المعلومة‬
‫وكم تجرأ على كتب التراث من محققين‪ ،‬أرادوا لكتب التراث أن تظهر‬ ‫إلى جانب المعلومة‪ ،‬كاللبنة إلى جانب اللبنة في تكوين بناء له مزاياه‬
‫في مظهر الئق بها‪ ،‬فما زادوها إّال غموضًا‪ .‬فيا ليت أقسام اللغة‬ ‫وشخصيته الفنية‪.‬‬
‫العربّية تُك ّف أيدي الباحثين في جميع المراحل الجامعّية عن العبث‬ ‫إن العناية بالمنهج تتطلب العناية بالمعلومة‪ ,‬ولكن المعلومات ال تأتي‬
‫بُح رمة التراث‪ ،‬إذ ُيْقدم الطلبة على مجال التحقيق دون أن يتمّر سوا‬ ‫مفككة وإ نما يستدعيها المنهج في مواقعها‪ ،‬حتى تصبح المعلومات في‬
‫بالقدر الكافي في هذا الفن‪ ،‬الذي يحتاج إلى نضج ودراية وخبرة‬ ‫مجموعها‪ ،‬كأنما هي حبات من الخرز‪ ،‬والمنهج ينتظمها‪ ،‬ويشكل منها‬
‫واسعة‪ .‬فإن كثيرًا من كتب التراث المحققة المنشورة تحتاج إلى إعادة‬ ‫عقدًا‪ ،‬بدونه يتعذر انتظام العقد حتى لو مألنا األرض خرزًا‪ ،‬ولؤلؤًا‪.‬‬
‫تحقيق‪ ،‬بيد أنها قبل ذلك تحتاج إلى أن ُينّظف السوق منها‪ ،‬حتى ُيْقِبل‬ ‫وتحضرني هنا بعض األمثلة‪ ،‬أتناولها من الرسائل العلمية لدرجتي‬
‫الناشر على المجازفة بإعادة نشرها دون أن يتعرض للخسارة المادّية‪.‬‬ ‫الماجستير والدكتوراه‪ .‬فقد ُس ئل أحد الطلبة في مناقشة أطروحته لنيل‬
‫ولكم كانت المأساة التراثية كبيرة حين أقبل نفر من األساتذة الذين ال‬ ‫الدكتوراه‪ ،‬عن إحصاءات تشكل ثلث رسالته‪ ،‬عن هدفه منها‪ ،‬ولماذا‬
‫خبرة لهم‪ ،‬أو ال وقت لهم‪ ،‬فأشرفوا على موضوعات طلبتهم في مجال‬ ‫أعّد ها‪ ،‬فعرفت من إجابته أن ال هدف له من ذلك‪ ،‬سوى أن ُيَح ّلي‬
‫التحقيق‪ ،‬وقد عظم الخطب‪ ،‬بحٍّق ‪ ،‬حين استباح هؤالء ألنفسهم حرمة‬ ‫رسالته بعقود من القوائم اإلحصائية التي تفتقر إلى الدقة في ذاتها‪،‬‬
‫النص في معناه تارة‪ ،‬وفي لغته أخرى‪ ،‬وفي إمالئه ثالثة ‪ ..‬وهكذا‪.‬‬ ‫وتفتقر إلى التوظيف مع غيرها‪ ،‬وثّم ة باحث آخر من درجة الماجستير‪،‬‬
‫وكّل هذا بحجة تصويبه وخدمته والسهر عليه‪.‬‬ ‫يقدم معطيات إحصائية‪ ،‬تأتي موشحة بعبارات من نحو‪" :‬يطرد هذا‬
‫وكم من خطط رسائل أعدت إعدادًا سريعًا‪ ،‬أو اسُتْج ديت موضوعاتها‬ ‫األمر أو يتواتر هذا األمر مرة واحدة"‪ ،‬دون أن يعي أن االطراد‬
‫استجداء‪ ،‬أو ُس رقت سرقة‪ .‬وما عرف الطالب أن إعداد خطة الرسالة‬ ‫والتواتر ال يتناسب مع المرة الواحدة‪ .‬وسئل أحدهم عن عبارات من‬
‫يشبه إعداد مخطط البناء‪ ،‬وأن اختيار البحث يحتاج إلى استقصاء يعدل‬ ‫نحو‪ ،‬وهذا كثير‪ ،‬أو وهذا شائع‪ ،‬كيف تترجم هذه التعبيرات العائمة إلى‬
‫االستقصاء الالزم الختيار شريكة حياته‪ .‬وأن موضوعه يصبح جنينًا‬ ‫أرقام وأنت تسير على المنهج اإلحصائي‪ ،‬فلم يقدم أرقامًا دقيقة‪ ،‬وإ نما‬
‫يتخلق داخله‪ ،‬وأن انتماءه إليه يشبه انتماء البنوة إلى األبوة‪ ،‬مع ما‬ ‫عبر بقوله‪ ،‬بالمئات واآلالف‪ ،‬في حين أن الحالة التي كان يتحدث عنها‬
‫يرافق ذلك من حب‪ ،‬وأنس‪ ،‬ورغبة في التضحية‪ .‬إن موضوعك هو‬ ‫لم تحظ إحصائيًا بأكثر من ثالث جمل فقط‪ .‬وثمة طالب (دكتوراه)‬
‫"أنت"‪ُ ،‬م جّس دًا في عالم يتهيأ للبقاء حين تندثر األجساد وتزول‪.‬‬ ‫ُيسأل في مناقشة أطروحته‪ ،‬ما عالقة هذا النص التراثّي الذي حققته‬
‫الطريقة بجالء ووضوح‪ ،‬كان له بعدئذ أن يطبق هذه الطريقة‬ ‫وهنا تظهر أهمية األستاذ الجامعي‪ ،‬إن شرط األستاذ الجامعي‪ ،‬شرط‬
‫بحرفيتها أو بتعديل مقصود‪ ،‬على نصوص أخرى‪ ،‬وعصور أخرى‬ ‫عسير‪ ،‬حتى يستحق هذا اللقبو؛ فاألستاذ هو الذي يملك الرؤية التي‬
‫وأماكن أخرى يختارها هو‪ ،‬وليس شرطًا أن يظل متبعًا ألستاذه‪ ،‬بل‬ ‫يشكل بها مدرسة أو على األقل التي ينتمي بها إلى مدرسة‪ ،‬ويكون‬
‫عليه أن يتعود درسًا يأخذه من النحلة‪ ،‬تقف على كل زهرة‪ ،‬ثم تشكل‬ ‫قادرًا على أن ُيَر ّبي فيها طالب علم وبحث‪ .‬والمدرسة الفكرية‪ ،‬أو‬
‫من مجمل الرحيق عسًال تطبخه هي‪ ،‬فيكون خاصًا بها‪ .‬فالجامعة‬ ‫األدبية "منهج"‪ ،‬أي قدرة على سلوك الطريق الذي يؤدي إلى "الحقيقة"‪.‬‬

‫مختبر‪ ،‬وميدان بحث عن الحقيقة‪ ،‬وأساليب الجهاد في هذه الميادين‪،‬‬ ‫وقد تتعدد األدوات الالزمة كاللغات والمختبرات فيحتاط لذلك‪ .‬وقد‬

‫هي المناهج‪ ،‬تنفرد أو تتكامل في سبيل الكشف عن الحقيقة‪ .‬وفي‬ ‫تتعدد الطرق الالزمة للكشف عن الحقيقة‪ ،‬فثمة طريق مختصرة‬

‫هذا فليقض الطلبة أوقاتهم‪ ،‬وعلى هذا ينبغي أن تتمحور المواّد ‪.‬‬ ‫وأخرى طويلة‪ ،‬ولكل مزايا وعيوب‪ ،‬وقد يضيء األستاذ سطحًا من‬

‫وهكذا يتعود الطالب فيأخذ من أستاذ آخر وثالث‪ ،‬طريقة ثانية‬ ‫أسطح الظاهرة ‪ -‬التي يمكن تعليميًا أن نشبهها بمكعب ‪ -‬فال يلهيه‬

‫وثالثة‪ ...‬على النصوص نفسها‪ ،‬أو على نصوص سواها‪ ،‬وبذا‬ ‫فرحه بما استضاء له منه‪ ،‬عن التَح ُّّر ف لها إلضاءتها من جانب ثان‬

‫يكون قد اكتسب مجموعة من المناهج‪ ،‬حتى إذا جاء إلى مرحلة‬ ‫وثالث‪ ...‬فإن أضاء الظاهرة من بواديها استدعاه َج ذب الِع شق‬

‫التخصص الدقيق وكتابة أطروحته‪ ،‬عرف شيوَخ ه وعرف كيف‬ ‫ليراها من دواخلها‪ ،‬وهو في كل هذا يتعلم ويعلم‪ ،‬كيف يستخدم‬

‫يختار موضوعه‪ .‬ولست أدري أيأتي يوم على طالب الدراسات‬ ‫أدواته وإ مكاناته‪ ،‬و كيف يتفادى الوهم‪ ،‬ويتقرب من الحقيقة‪ ،‬ال يثنيه‬

‫العليا‪ ،‬يتوجه فيه إلى الجامعة وقد َع ِلق في ذهنه أن في هذه الجامعة‪،‬‬ ‫عن ذلك مصلحة ُعْج لى‪ ،‬وال ِس حر ُش هرة‪ ،‬وضيق تعّص ب‪.‬‬

‫وفي هذا القسم‪ ،‬مدارس منهجية وأساتذة ومشروعات بحثية‪ ،‬وقد‬ ‫ولألستاذ عينان‪ ،‬عين المؤّص ل‪ ،‬وهي تتطلع إلى الحقيقة‪ ،‬وعين‬

‫اقترنت المدرسة بأساتذتها ومشروعاتها اقترانًا وثيقًا‪ ،‬وأنجزت على‬ ‫المرّبي‪ ،‬وهي تبحث عن وسائل إيصال الحقيقة إلى الطالب‪.‬‬

‫تطاول الزمان‪ ،‬وعمق التجربة‪ ،‬شيئًا ُيذكر للجامعة واألستاذ‪ ،‬وأن‬ ‫واألستاذ هو سادن الحقيقة‪ ،‬وعاشقها‪ ،‬وهو والد الباحث وُم نجبه‬

‫هذا الطالب الباحث سيسلك طريقه هنا أو هناك في مدرسة هذا‬ ‫علمّيًا وقد أنصفت بعض األنظمة الجامعّية حين أطلقت عليه اسم‬

‫األستاذ أو ذاك‪ ،‬وسيكون األستاذ خير معين له في تعريفه بمنجزات‬ ‫"األستاذ األب" ‪ .Doktorvater‬ما أكثر الذين يتهاوون أمام هذه‬

‫هذه المدرسة الفكرية‪ ،‬أو اللغوّية‪ ،‬وبأقرانه فيها‪ ،‬وما صنعوه من‬ ‫الشروط الحقيقة لألستاذّية‪ ،‬ويدخل في هؤالء من نَأْت بهم الشيخوخة‬

‫قبل‪ ،‬وبموقعه‪ ،‬وما ُينتظر منه‪ ،‬فإن كان األمر أمر تحقيق التراث‬ ‫المبّك رة عن البحث عند الحصول على هذا اللقب‪ .‬فاإلنسان مخلوق‬

‫اللغوي‪ ،‬عرف الطالب منهج هذه المدرسة في ذلك وماذا أنجزت‪...‬‬ ‫في َك َبد‪ ،‬وَك َبُد األستاذ في البحث عن الحقيقية‪ ،‬فإن لم ُتمّك نه عينه من‬

‫وما عليه إنجازه‪ ،‬وإ ن كان األمر منوطًا بالبالغة‪ ،‬عرف ما كان‬ ‫مواصلة البحث عنها‪ ،‬واصل البحث عنها بعين تلميذه‪ ،‬وهكذا‬

‫عليه أن ينجزه بالوقوف على تراكم البحث العلمي في مجال‬ ‫ينتصر للحياة حتى بعد رحيله عنها‪.‬‬

‫البالغة؟ وهكذا في سائر التخصصات‪ .‬إن القصور في هذا ال تقع‬ ‫تحتاج أقسام اللغة العربية أن يتوافر لها نفر من األساتذة الذين‬

‫تبعته على الطالب بقدر وقوعها على المؤسسة‪ ،‬ممثلة في الجامعة‬ ‫يمتلكون الهدف والمنهج والوسيلة‪ ،‬فيكون هدف المادة واضحًا‪ ،‬وبه‬

‫والكلية والقسم‪ ،‬بل في المؤسسة‪ ،‬ممثلة في الجامعات والوزارات‬ ‫ُتفتتح المحاضرات‪ ،‬وتكون لديهم القدرة على استخدام المنهج‬

‫المسؤولة‪ ،‬على مستوى الدول الناطقة بالعربية‪ .‬ويا ليت األّم ة‬ ‫المناسب أو المناهج المناسبة التي تسعفهم في الوصول إلى ما‬

‫تتداعى‪ ،‬في أعلى مستوياتها إلصالح أوضاع التعليم اللغوّي فيها‪.‬‬ ‫يريدون‪ ،‬وهذا ما ينبغي أن ُتَقّو م به قدرة األستاذ والطالب‪ ،‬فإن كانت‬

‫ولكن هذا لن يكون حتى تدرك األّم ة أن إصالح التعليم بُر ّم ته‪ ،‬ال‬ ‫الظاهرة تحتاج إلى الوقوف على مراحلها استخدم المنهج التاريخي‪،‬‬

‫يكون إّال بعد أن يصبح الطالب قادرًا على استيعاب العلوم بلغته‬ ‫وإ ن كانت تستلزم التأصيل احتاج إلى المنهج التاريخي المقارن‪ ،‬وإ ن‬

‫األصلّية‪ ،‬وأن تصحيح مسار التعليم اللغوي‪ ،‬خطوة أولى لتصحيح‬ ‫كانت تحتاج إلى الشيوع احتاج إلى المنهج اإلحصائي‪ ...‬ولكل‬

‫مسار التعليم كله‪ ،‬بل خطوة أولى في سبيل النهوض الحضارّي ‪ .‬إن‬ ‫منهج أدواته ووسائله‪ ،‬فاإلحصاء يحتاج إلى الحاسوب والبرمجة‪،‬‬

‫طلبتنا "يضيعون" وهم يتلقون تعليمهم الجامعي بلغات غير لغتهم‪،‬‬ ‫والتأصيل التاريخي قد يحتاج إلى اللغات‪ ...‬وهكذا‪.‬‬

‫وعلى أيدي أساتذة يواجهون صعوبة في التعبير بالعربّية وبغير‬ ‫وأما القسم فيبني ُأُس س برامجه على ما يمكن توافره من األساتذة‬

‫العربّية عن أفكارهم‪ .‬فكيف نشكو من ضعف خّر يجينا في‬ ‫الذين يمتلكون المنهجّية‪ ،‬وحسب الطلبة من كل شيخ طريقته مطبقة‬

‫تخصصاتهم المتباينة‪ ،‬دون أن نكون جاّد ين في حسم الموقف من‬ ‫على عصر من عصور األدب أو مطبقة على نصوص مختارة من‬
‫اللغة‪ ،‬أو النحو‪ ،‬أو الشعر‪ ،‬أو النثر‪ .‬فإن استوعب الطالب هذه‬
‫في مقدمة بحثه الفرضيات واألسئلة التي تتطلب إجابتها السير على‬ ‫أجل إصالح التعليم لغويًا ولو كره المترّد دون والمتشككون في‬
‫منهج دون سواه‪ ،‬وأذكر أننا ناقشنا رسالة ماجستير يتطلب إنجازها‬ ‫ُقدرات العربّية?‪.‬‬
‫مقابلة بين اللغات‪ ،‬ولكن صاحبها ال يعرف شيئًا من هذه اللغات لكنه‬ ‫تكاد الصورة تكون مبكية في كثير من جامعاتنا‪ ,‬فطالبنا ال يعرفون‬
‫راح يصور حروف إحدى اللغات الالزمة للموازنة بخط طفولي‬ ‫أساتذتهم بقدراتهم‪ ،‬ومناهجهم‪ ،‬وإ نما يقترب الطالب من األستاذ‬
‫ينبىء بجهله التام بتلك اللغة‪ ،‬لكنه أراد أن ُيزّين بحثه بحروف لغة‬ ‫العتقاده أنه سيحصل على الدرجة بأقل تكلفة‪ ،‬وبأخف إشراف‬
‫أخرى‪.‬‬ ‫وتوجيه‪ ،‬وإ ن لم يكن إشراف وتوجيه‪ ،‬عند بعضهم‪ ،‬فهو األفضل‪،‬‬
‫إن األطروحات العلمية الجادة تحتاج إلى قراءة أولية جادة‪ ،‬قبل أن‬ ‫وهكذا يتوزع الطالب على األساتذة في كثير من األحيان‪ ،‬ليس من‬
‫َيَقَّر رأي الطالب على موضوع بعينه‪ ،‬وأن ُيِع َّد خطة فيه‪ ،‬كما يحتاج‬ ‫خالل مشروعات وال مناهج وال مدارس‪ ،‬وإ نما هي العالقات‬
‫الباحث إلى إشراف فعلّي ‪ ،‬ومتابعة متواصلة لما َيِج ّد في موضوعه‪،‬‬ ‫الشخصية والتماس أخصر الطرق الموصلة إلى الدرجة‪ .‬وقد بلغت‬
‫غير أن األمر يأخذ أشكاًال متعددة من اإلهمال‪ ،‬اعتمادًا على رأفة‬ ‫المهزلة حدها حين فقدت الدرجات معناها‪ ،‬فأخذت مناقشات الرسائل‬
‫األستاذ و"ُحْس ن" اختياره‪ ،‬أو اختيار القسم للجنة هّينة لينة الجانب‬ ‫العلمّية تسفر عن خريجين يحصلون على درجات الشرف والتفوق‪،‬‬
‫عند المناقشة‪ ،‬حتى غدا شعار كثير من الدارسين في جامعات‬ ‫فإن انحدرت الدرجة التي يحصل عليها الخريج من القمة إلى ما‬
‫متعددة‪" :‬كل من دخل باب القبول في الدراسات العليا فهو آمن‬ ‫دون القمة بقليل‪ ،‬كان اكتئاب الخريج بالغًا‪ .‬ولقد أدركت بعض‬
‫ناجح"‪ .‬ولذا كان األولى بالجامعات في مثل هذه الحالة أن تستغني‬ ‫جامعاتنا هذا التنافس المحموم على الدرجات‪ ،‬دون أن يرافقه‬
‫عن المناقشات العلنية إلى مبدأ السرية في تقويم الرسائل العلمية‪،‬‬ ‫الحرص الكافي على اإلجادة‪ ،‬فألغت الدرجة التنافسّية الدقيقة‪،‬‬
‫قياسًا على ما يحدث في "الترقيات"‪ .‬إن ُم ضّي المؤسسات العلمية في‬ ‫واكتفت بإعطاء درجة "ناجح" فقط‪ .‬وال يخفى أن هذا ُيَخ ّد ر‬
‫تأكيد هذا الوضع ُيَع ّد إسهامًا منها فيه بقصد أو بغير قصد‪.‬‬ ‫المرض‪ ،‬بيد أنه ال يعالجه‪ ،‬وقد ُيَفِّو ت من جانب آخر‪ ،‬روح التنافس‬
‫ما أكثر أسباب التسّو س التي تؤدي إلى نخر المسيرة العلمية‬ ‫البّناء‪ ،‬وفرصة المجتمع في معرفة مواقع ِخ ّر يجيه اإلبداعّية‪.‬‬
‫المرتجاة‪ .‬بعضها تفرضه علينا أسباب عميقة الجذور‪ ،‬غائرة المنبع‪،‬‬ ‫وللنفس أن تأسى ما بلغها األسى‪ ،‬ونحن نّطلع على خطط الرسائل‬
‫في التاريخ‪ ،‬وفي الواقع الحضاري‪ ،‬وبعضها داخلية‪ ،‬وأخرى‬ ‫الجامعية في كثير من الجامعات‪ ،‬فنرى الخطة الفجة‪ ،‬وقد ُطبخت في‬
‫خارجية‪ ،‬وال مجال للتفصيل في هذا كله‪ ،‬غير أن هذا ال يمنع من أن‬ ‫ليلة‪ ،‬واعتراها النقص من كل جانب‪ .‬إن كثيرًا من الخطط ال يدري‬
‫يشار إلى بعض هموم الدراسات الجامعية والعليا‪ ،‬في أقسام اللغة‬ ‫صاحبها ما أبعاد موضوعه‪ ،‬وال األسئلة التي ُينتظر أن يجيب عنها‪.‬‬
‫العربية وكلياتها‪ ،‬بوصفها نماذج تمثل جزءًا من الواقع التعليمي في‬ ‫ويحلو لكثير من الطلبة أن يردد بفخر أجوف مقولة‪" :‬ولم يتطرق‬
‫تخصصات متعددة‪ ،‬وإ ذا لم يكن باإلمكان أن ُيصلح كل شيء فال أقل‬ ‫إلى هذا أحد قبلي"‪ ،‬وهو بهذا يحسب أن وجود دراسات سابقة لبحثه‬
‫من أن ُيصلح أي شيء‪ .‬وعلى المرء أن ال ييأس‪ ،‬ولو من فسيلة‬ ‫َم ْثلبة‪ ،‬ال ينبغي أن يعترف بها‪ .‬وما عرف أن العلم تراكمي‪ ،‬وأن‬
‫واحدة بين يديه يغرسها دون يأس‪ ،‬حتى لو بدا لبعضهم أن البحر قد‬ ‫الدراسة السابقة ال تلغي موضوعه بالضرورة‪ ،‬فأمامه أن يعمق ما‬
‫فاض‪ ،‬وأن الطوفان قد أغرق كل شيء‪ .‬فالمأساة كبيرة‪ ،‬غير أنه ال‬ ‫وصل إليه من قبله‪ ،‬بإضافة دليل جديد إلى أدّلتهم‪ ،‬أو رد دليل‬
‫يأس مع اإليمان‪ .‬وال يقال ‪ :‬إن أمر اللغة جزء من واقع األمة‬ ‫ضعيف عندهم بدليل قوي عنده‪ ،‬أو باتخاذ ما بنوه لبنات أخذْت‬
‫الراهن‪ ،‬وعرض من أعراض تخّلفها‪ ،‬فإن صلح حالها واستعادت‬ ‫موقعها في صرح المعرفة‪ ،‬وأن موضع لبنته سوف َيُس ّد فراغًا‬
‫دورها الحضارّي ‪ ،‬عاد لّلغة مجدها‪ ،‬فهذه المقولة‪ ،‬على صحتها‪ ،‬ال‬ ‫محددًا‪ ،‬وأن فقرة الدراسات السابقة تحدد موقع بحثه من البحوث‬
‫تسوغ أّال نبدأ‪ ،‬فمن بدايات النهوض الحضاري أن ُينتبه إلى الّلغة‪،‬‬ ‫القريبة من موضوعه‪ ،‬فهي "َم ْك َس ب" لبحثه‪ ،‬وليس لغمًا ينسفه‪ ،‬وكم‬
‫بوصفها الوعاء الذي يستوعب الحضارة‪ .‬وهذا ما فعلناه من قبل‪،‬‬ ‫من الطلبة َم ْن أساء فهم الدراسات السابقة من حيث المبدأ‪ ،‬إذ يحشد‬
‫وتفعله األمم الحّية‪.‬‬ ‫بعضهم في خطة بحثه من الكتب العامة كالمعجمات والفهارس ما‬
‫ولعله يحسن في هذا المقام أن نؤكد ضرورة أن تتداعى أقسام اللغة‬ ‫يدل على عدم وعي بمفهوم الدراسات السابقة‪ .‬وحتى استعراضهم‬
‫العربّية وكلّياتها‪ ،‬في األقطار الناطقة بها‪ ،‬وغير الناطقة بها‪ ،‬في‬ ‫لما يمكن أن ُيَع َّد من الدراسات السابقة‪ ،‬فإن فيه ما ينّم عن سطحية‬
‫اجتماعات وندوات تعقد عن طريق ُم ؤسسة تنبثق عنها‪ ،‬لُتْح كم‬ ‫بالغة‪ .‬وكثيرًا ما ردد الطالب عبارات جوفاء عن المنهج‪ ،‬من غير‬
‫التنسيق‪ ،‬مع ترك مجال للتمايز البّناء فيما بين التجارب‪ ،‬فتقوم‬ ‫أن تحس أن أهدافهم تتطلب ذلك المنهج‪ ،‬ومن غير أن يطرح أحدهم‬
‫بدورها في اختيار المواد‪ ،‬وِنَس بها‪ ،‬وبيان أهمّية المناهج‪ ،‬والوسائل‬
‫(*) عضو مجمع اللغة العربية األردني‪ ،‬وأستاذ اللسانيات في قسم اللغة‬ ‫التعليمّية‪ ،‬والتنسيق في مجال البحث العلمّي ‪ ،‬وتبادل األساتذة‬
‫العربية ـ الجامعة األردنية‪.‬‬ ‫والباحثين‪ ،‬وربط المكتبات ومصادر المعلومات بوسائل الربط‬
‫(‪ )1‬يقصد المقرر في المدارس األردنية‪.‬‬ ‫المتطورة‪ .‬فلو أّن الجامعات واألقسام فعلت هذا لتكاملت مكتباتها‪،‬‬
‫(‪ )2‬اجتهدت مع بعض الزمالء‪ ،‬في وضع اختبار‪ ،‬نشرته الجامعة‬ ‫وأغنْت باحثيها‪ ،‬وألحكَم ْت مشروعاتها‪ ،‬وعرفت أولوّياتها‪ ،‬وما‬
‫األردنّية‪ ،‬بعنوان ‪ ":‬دليل اختبار القراءة التشخيصي"‪ ،‬كما كانت لي مع‬ ‫ُأنجز منها وما لم ُينجز‪ ،‬ولما وقعت في التكرار الُم ِم ّل للبحوث‪.‬‬
‫ابنتي حنان محاولة أخرى ُنشرت‪ ،‬بعنوان‪":‬مهارات اللغة العربّية‪-‬‬ ‫فمتى ُيَفّع ل اتحاد الجامعات العربّية؟ ومتى ُتفّع ل مجامع اللغة‬
‫اختبار تشخيصّي في النحو والصرف والمعجم والعروض واإلمالء‬
‫العربّية‪ ،‬وينسق بينها من جهة‪ ،‬وبينها وبين الجامعات من جهة‬
‫والمعنى"‪.‬‬
‫أخرى؟ ومتى ُيْح كم التنسيق حتى بين جامعات البلد الواحد؟ ومتى‬
‫تصدر الدورّيات المشتركة لتحمل أخبار الجامعات وإ نجازاته؟ ومتى‬
‫ُتستثمر شبكات "اإلنترنت" ووسائل االتصال الحديثة لتقريب الزمان‬
‫والمكان؟ ومتى نعي أهمّية الوسائل المتطّو رة في توصيف اللغة‬
‫وتيسير تعليمها للناطقين بها‪ ،‬وللناطقين بغيرها؟ ومتى يؤّد ي‬
‫اللغويون دورهم المشترك مع تخّص صات أخرى في سبيل تقديم‬
‫العون إلى ماليين المعاقين نطقيًا متى ُتطّو ر ُم عجماتنا العاّم ة‬
‫والمتخصصة متى ُيستكثر من حلقات البحث والحوار في‬
‫المحاضرات‪ ،‬ومتى تهترىء أوراق دفاتر اإلمالء القديمة التي َيعتمُد‬
‫عليها طراز من المعلمين "المحترفين"‪ُ ،‬يزِه قون بها البحث العلمي‬
‫وُيرهقون األجيال ومتى تنشط الترجمة‪ ،‬وتعريب العلوم‪ ،‬وتوضع‬
‫األسس والخدمات الالزمة لذلك ومتى ُتحل عقدة تقليد المغلوب‬
‫للغالب فنستعيد ثقتنا بالعربّية‪ ،‬ونقبل عليها وال ُندبر عنها؟ ومتى‬
‫ُيرصد لتنمية العربّية جزء من المال المهدور من ميزانيات الدول‬
‫واألثرياء لتمويل مشروعاتها؟‪.‬‬
‫ال عزاء لإلنسان إزاء المساء الداكن الحزين الذي تقطعه العربّية في‬
‫زماننا ـ ومنذ قرون ـ سوى أن يؤّم ل في هبوب أنفاس الصبح‪ ،‬يحمل‬
‫بشائَر إشراقته بعُض السائرين الساهرين بإمكاناتهم‪ ،‬وإ ن كانت‬
‫محدودة‪ ..‬على أّن العزاء األكبر يأتي من أن هذه اللغة محفوظة من‬
‫اهلل سبحانه‪ ،‬بحفظها لكتابه الخالد‪ ،‬فقد تعّهده‪ ،‬سبحانه‪ ،‬فقال ‪( :‬إنا‬
‫نحن نّز لنا الذكر وإ نا له لحافظون)‪ .‬ولكن نواميس إرادته وحكمته‬
‫سبحانه‪ ،‬تقتضي أن يكون التغيير إلى األفضل‪ ،‬امتحانًا للمخلوق‬
‫الذي ينشد أن يترّبى على منهج العمل‪ ،‬لتمييزه من المخلوق الذي‬
‫يترّبى على منهج الكسل‪( .‬وإ َّن الّله ال يغّيُر ما بقوٍم حّتى يغّيروا ما‬
‫بأنفسهم) (وقل اعملوا فسيرى الّله عملكم)‪.‬‬
‫وختامًا‪ ،‬فالمرجو أن يظّل تحسين األداء في تقديم العربّية للناشئة‪،‬‬
‫هاجسًا ُيقلقنا‪ ،‬وأن تبقى العربّية أّم ًا لهذه األمة‪ ،‬تغار عليها‪ ،‬وتسهر‬
‫من أجل خدمتها‪ ،‬وَتعتُّز بها‪ ،‬فهي لغة القرآن العظيم‪ ،‬ولغة العلم‬
‫والحضارة‪ ،‬وهي مظهر وجوهر نَتوّح د عليه‪ ،‬ونباهي به‪.‬‬

You might also like