Professional Documents
Culture Documents
الآية الحلاجية
الآية الحلاجية
إن الحالج جعله هللا آية لظهور الباطن ،وانقالب النشأة اإلنسانية ،بما يسمح به عالم الطبيعة الدنيوي المقّيد.
وهذا ،كاالستثناء الذي يؤكد القاعدة؛ ألن سواه من أهل هللا ،لم يقع لهم هذا االنقالب.
فكان ظهور الحالج بما ظهر به ،كالتعريف للعامة من وجه خفي لما هم أهل هللا عليه.
لهذا نقول إن الحالج كامل في نفسه (أي في آيته) ،ناقص بالمقارنة إلى غيره ،باعتبار الموطن.
ولما طغى باطن الحالج على ظاهره ،صار ظاهره باطنا؛ فانقلبت األحكام الحاكمة عليهما تبعا لذلك.
ومن هنا وقع له ما وقع من صلب وتقطيع وتحريق.
فالسالك ،يقع له الفناء والمحو في باطنه؛ وهو شرط في وصوله؛ أما الحالج فقد وقع له ذلك في ظاهره.
وقد كان يطلبه رضي هللا عنه ،كما يطلب غيره حال الفناء المعهود في الطريق.
ومن هنا أيضا كان تصريح الحالج بما لم يصرح به غيره؛ فكان لسانه محل قلبه.
ومن هنا قيل :لو علم الناس ما هي بواطن الخواص عليه ،لقالوا مجانين.
وأما اعتراض أمثال الجنيد والشبلي عليه ،فكان اعتراضا بلسان المقام ،ال بلسان الحقيقة؛ فإنهم رضي هللا عنهم أجل من أن
يقعوا في ذلك.
وكل من يفهم مخالفة كبار الصوفية على ظاهر ما يعطيه الكالم ،فما فهم شيئا.
وأما الحالج نفسه ،فما خالفهم إال في انعكاس آيته ،ال فيما كان عليه.
هذا ،مع اعتبار التفاوت في المعرفة والتحقق.
قيل إن الشبلي (وهو شيخ الحالج) ،أرسل جارية له تسأل الحالج عن التصوف ،وهو مصلوب على الخشبة ،فأجابها" :أدناه ما
ترينه اليوم ،وأعاله ما سترينه غدا".
وقد كان في الغد قطع رأسه وحرق بدنه وذرو رماده مع الرياح.
وما أخطأ رضي هللا عنه التعريف أبدا ،لو حمل السامع كالمه على الباطن.
إن الصلب وتقطيع األطراف ،هو نظير ما يقع للمريد من فناء في مرتبة األفعال؛ وإن القتل والحرق والذرو ،نظير ما يقع
للسالك من فناء في مرتبتي الصفات والذات.
وهنا لطيفة ،وهي أن فناء الصفات إذا تم؛ هو ما يسمى فناء الذات عند جل العارفين؛ وهو غيره عند المحققين.
وكٌّل ُيخبر عن نفسه وذوقه .لهذا ،فإن ما وقع للحالج ،هو تجسيد لفناء الصفات ،الذي يتكلم عنه أهل السلوك.
وأما فناء الذات (ذكر الذات) فال يطيقه إال األكابر من األولياء.
وقد ذكر الدباغ رضي هللا عنه أن سيدنا عيسى عليه السالم ،لم يكن يجاوز منه في اليوم العشرين إال بقليل.
وبهذا المعنى ،فإن الحالج صار آية ظاهرة لسالكي الطريق من بعده ،يقيسون بواطنهم إلى ظاهره ،حتى يعلموا أين هم منه.
وكل من لم يجد في باطنه ما وقع للحالج في ظاهره ،فليعلم أنه أجنبي عن طريق الخصوص ،وليعد إلى نفسه يتفقدها على نور
وبّينة.
وكما أن الحالج وقع عليه االعتراض لمّـا أظهر ما كان ينبغي إبطانه ،فكذلك المريد إذا خرج شيء من باطنه إلى ظاهره ،فإن
االعتراض يتوجه عليه من الحقائق؛ فيكون ناقصا عن كمال االعتدال بقدر ذلك ،ويصير هدفا لسهام الغيرة من الحضرات؛
فيناله من البالء بقدر ذلك أيضا.
وعلى هذا ،فإن المعتِبر من أهل الطريق ،إذا رأى شيئا ال يجد له تفسيرا من حيث جهة من الجهات ،فليس عليه أن ينبذه ،بل
عليه أن يبحث له عن تفسير من جهة أخرى؛ ألن هللا سبحانه ال يخلق شيئا عبثا ،بغض النظر عن حكم الشرع فيه.
وهذا باب من أبواب الحكمة عظيم ،لمن هداه هللا إليه.