Professional Documents
Culture Documents
قصة طويلة
قصة طويلة
تمسك بيده الصغيرة .تسير بروية ،فكل خطوة تخطوها تعادل خطوتين سريعتين يخطوهما
الصغير .في نظرتها حزم شديد يبقيها مركزة بصرها على وجهتها بينما يكثر الصغير من
اإللتفات ،يلتقط كل شيء بعين المتأمل المكتشف لألشياء ،ويحللها في ذهنه .أصوات ،أشياء
وأحياء ...كل شيء يراه ،يجده مخالفا ل لمنطق الصغير الذي يدرك به قانون الحياة .فيوم األحد
الماضي ،رأى معاقا متجهما يجلس على الكرسي المتحرك وفي يديه علب سجائر ،فتذكر
صورة معاق مبتسم في كتاب التربية الفنية ،يحمل كرة سلة و يمارس الرياضة .وحين قلب
الصفحة رأى آخر يحمل كمانا يدرس الموسيقى في معهد عال.
ذاك كان يوم اآلحد .أما قبل قليل ،فقد رأى رجل أمن يضرب بعصاه الغليظة بائع الورد،
ويحطم عربته الصغيرة ويدهس ورده الجميل بحذائه .فرأى مالمح الخوف مرتسمة على وجوه
الناس حول رجل األمن .فعادت به ذاكرته الصغيرة العفوية إلى الكراسة التي رأى فيها رجل
أمن يهدي بائعة الرغيف وردة في يوم المرأة العالمي وكان الجميع يستشعر األمن.
اليوم خان ميثاق أمه الذي يقضي بعدم طرح األسئلة التي ال يتوقف سيلها المتدفق كلما
بدأت .لقد خرق الميثاق من جديد ،وهذه المرة بسبب المشهد الذي أثار حزنا استبد بخاطره .حين
رأى تلك المرأة التي تفترش االسفلت بين مستشفى وبنك.
ـ لماذا يا بني؟
ـ أمي أنا صغير على رؤية مثل هذه المشاهد أليس كذلك؟
ـ أكيد يا بني ،أكيد.
ـ لقد حزنت فعال ،أنظري إلى هذه الدموع التي تنهمر من عيناي الصغيرتين .دمعهما ساخن هذه
المرة.
ـ يا حبيبي ال تبك.
ـ أمي ،ابنها في مثل عمري ،يهش على الذباب الذي يقتات على جراحها.
ـ ال يا ماما..
ـ بلى سأتذكر هذا المشهد ليال ،وسينتابني حزن أكبر من عمري ،لن أطيقه يا أمي.
ـ آااه.
ـ أمي قدماها فيهما قيح والقيح يقتات منه الذباب وهي تقول :عاهلل عاهلل.
ـ نعم ..المسكينة.
ـ تتسول الناس.
ـ تتسول؟
ـ نعم.
ـ إن شاء للا.
ـ كيف؟
ـ القصة طويلة.
ـ أمي أنت دائما تقولين :القصة طويلة ،ماذا تقصدين بهذا التعبير.
ـ ال تهتم.
ـ إن أصابني مرض وبترت قدماي سأتألم مثلها وأجلس مكانها هنا ،وأقول :عاهلل عاهلل.
ـ نعم.
********
خرجا معا من السوق .من بابه الخلفي .اشترت البنها دمية طفل مبتسم ،واشترت لنفسها حبال
طويال .نظر إليها الصغير باستغراب وهي تجدب الحبل بكلتا يدها الختبار متانته .تساءل االبن:
ـ إلى البيت.
ـ رائع .أنت تعاملينني برفق كما تعامل رقية ابنها سمير ،أعلم أنك تضحين من أجلي كي أكون
سعيدا.
تنهدت األم وشهقت بصعوبة هواء حارقا لم يطقه الصدر ،فأطلقت الرئتين سراحه في الحين مع
الزفير.
ـ من رقية؟
ـ تسكن في بيت جميل .فيه حديقة غناء .تعيش في الصفحة السابعة من الكراسة .إنها تعتني
بابنها كثيرا.
ـ جميل.
ــ رقية تعمل ممرضة في الحي ،وتحصل على المال من عملها .من أين تحضرين المال يا أمي؟
ـ سؤالك غريب.
ـ أ ليس له إجابة؟
ـ قد تكون له إجابة.
ـ القصة طويلة.
أفلت الصغير يدها محتجا على عبارتها المكررة ،متأففا من تجاهلها ألسئلته ،ثم توقف عن
السير .فقال ممتعضا:
ـ وإن تطل ،ال ضير فنحن نسير نحو البيت على االقدام ،والطريق طويل.
أمسكت بيده من جديد ،ومسحت على رأسه في رفق فاستئنفا مشيهما.األم تسير بروية والطفل
يسير بإيقاعه السريع البطيء ،نحو بناية مكتوب عليها "دار األيتام" .ازداد تنهد األم ضيقا،
وأحكمت القبضة على يد ابنها .تجاهلت سؤاله المكرر" :ما هذا المكان؟" دخال الدار معا...
****
بعد نصف ساعة ،خرجت األم بمفردها .نظرت إلى الخلف مرة واحدة ..ثم رفعت إيقاع سيرها
كي ال تلحق بها الخطيئة.