Professional Documents
Culture Documents
فوضى الحواس - أحلام مستغانمي
فوضى الحواس - أحلام مستغانمي
أحالم مستغانمي
إهداء
إلى محمد بوضياف ..رئيسا وشهيدا.
والى سليمان عميرات ,الذي مات بسكتة قلبية وهو يقرأ فاتحة على روحه .فأهدوا إليه قبرا جواره.
والى ذلك الذي لم يقاوم شهوة االنضمام اليهما ,فذهب ذات أول نوفمبر ,بتلك الدقة المذهلة في
اختيار موته ,لينام على مقربة من خيبتهما.
من وقتها ..ورجال أول نوفمبر قهرا يرحلون.
من وقتها وأنا إلى أحدهم أواصل الكتابة.
إلى أبي ..مرة أخرى.
أحالم
بدءا
ً
عكس الناس ,كان يريد أن يختبر بها اإلخالص .أن يجرب معها متعة الوفاء عن جوع ,أن يربي
حبا وسط ألغام الحواس.
ً
هي ال تدري كيف اهتدت أنوثتها إليه.
هو الذي بنظرة ,يخلع عنها عقلها ,ويلبسها شفتيه .كم كان يلزمها من اإليمان ,كي تقاوم نظرته!
كم كان يلزمه من الصمت ,كي ال تشي به الحرائق!
هو الذي يعرف كيف يالمس أنثى .تماما ,كما يعرف مالمسة الكلمات .باالشتعال المستتر نفسه.
يحتضنها من الخلف ,كما يحتضن جملة هاربة ,بشيء من الكسل لكاذب.
متعمد ,على مسافة مدروسة لإلثارة.
شفتاه تعبرانها ببطء ّ
تماما .تنزلقان نحو عنقها ,دون أن تالمساه ح ّقاً .ثم
تمران بمحاذاة شفتيها ,دون أن تقبالهما ً
ّ
المتعمد نفسه .وكأ ّنه كان يق ّبلها بأنفاسه ,ال غير.
ّ تعاودان صعودهما بالبطء
كل
هذا لرجل الذي يرسم بشفتيه قدرها ,ويكتبها ويمحوها من غير أن يقبلها ,كيف لها أن تنسىّ ..
ما لم يحدث بينه وبينها؟
في ساعة متأخرة من الشوق ,يداهمها حبه.
هو ,رجل الوقت ليال ,يأتي في ساعة متأخره من الذكرى .يباغتها بين نسيان واخر .يضرم الرغبة
في ليلها ..ويرحل.
تمتطي إليه جنونها ,وتدري :للرغبة صهيل داخلي ال يعترضه منطق .فتشهق ,وخيول الشوق
الوحشية تأخذها إليه.
سهوا .حبه حالة ضوئية .في عتمة الحواس يأتي .يدخل الكهرباء إلى دهاليز
هو رجل الوقت ً
نفسها .يوقظ رغباتها المستترة .يشعل كل شيء في داخلها ..ويمضي.
ال لدهشتها .تستعيد به انبهارها
يوما مقاب ً
فتجلس ,في المقعد المواجه لغيابه ,هناك ..حيث جلس ً
األول.
ّ
عطرا .ماذا تراها تفعل بكل تلك الصباحات دونه؟ وثمة هدنة مع الحب ,خرقها هو ..رجل الوقت ً
تحبه كما لو
حبه .ومقعد للذاكرة ,ما زال شاغراً بعده .وأبواب مواربة للترقب .وامرأة ..ريثما يأتيّ ,
أنه لن يأتي .كي يجيء.
لو يأتي ..هو رجل الوقت شوقًا .تخاف أن يشي به فرحها المباغت ,بعدما لم ِ
يش غير لحبر
بغيابه.
أن يأتي ,لو يأتي.
كم يلزمها من األكاذيب ,كي تواصل الحياة وكأنه لم يأت! كم يلزمها من الصدق ,كي تقنعه أنها
انتظرته حقّا!
لو..
أي طريق سلك للذكرى ,ومن دلّه على امرأة ,لفرط ما
كعادته ,بمحاذاة الحب يمر ,فلن تسأله ّ
انتظرته ,لم تعد تنتظر.
لو..
بين مطار وطائرة ,انجرف به الشوق إليها فلن تصدق أنه استدل على النسيان بالذاكرة .ولن
ي.
تسأله عن أسباب هبوطه االضطرار ّ
حتما.
البحارة تدري ,أن البحر سيسرقه منها وأ ّنه رجل اإلقالعً ..
فهي تدري ,كنساء ّ
ريثما يأتي.
للقارات .والحزن العابر لألمسيات.
هو سيد الوقت ليالُ .سيد المستحيالت .والهاتف العابر ّ
واالنبهار الدائم بليل ّأول.
ريثما يعود ثانية حبيبها ,ريثما تعود من جديد حبيبته ,مازالت في كل ساعة متأخرة من الليل
تتساءل ..ماذا تراه اآلن يفعل؟
اليوم عاد..
هو الرجل الذي تنطبق عليه دوماً ,مقولة أوسكار وايلد "خلق اإلنسان الّلغة ليخفي بها مشاعره".
مازال كلّما تحدث تكسوه اللغة ,ويعريه الصمت بين الجمل.
وهي ما زالت انثى التداعيات .تخلع وترتدي الكلمات عن ضجر جسدي ..على عجل.
هيذي عارية الصوت .تكسو كلمات اللقاء بالتردد بين سؤالين. َ
تحاول كعادتها ,أن تخفي بالثرثرة بردها أمامه.
كادت تسأله :لماذا لبس ابتسامته معطفًا للصمت ,اليوم بالذات ,بعد شهرين من القطيعة؟
ثم فكرت في سؤال آخر :أينتهي الحب عندما نبدأ بالضحك من األشياء التي بكينا بسببها يوماً؟
ّ
وقبل أن تسأل .بدا لها وكأنه غير مكترث إال بصمتها أمام ضحكته .لحظتها فقط تنبهت إلى أنه
لم يكن يرتدي معطفًا.
الحزن ال يحتاج إلى معطف مضاد للمطر .إنه هطولنا السري الدائم .وبرغم ذلك ,ها هي اليوم
تقاوم عادتها في الكالم .وتجرب معه الصمت ,كما يجرب معها اآلن االبتسام.
االبتسامة الغائبة ,صمته .أو لغته األخرى التي يبدو وكأنه يواصل بها الحديث إلى نفسه ال إلى
اآلخرين .ويسخر بها من أشياء يعرفها وحده.
الذي يخفيه عنها ,كثيرا ما أثار حزنها .أما الذي يثير فضولها ,فلماذا تخلّى عنها ذات يوم بين
جملتين ,ورحل؟
تماما ماذا كان ينوي أن يقول؟
تذكر أ ّنه ,يومها أطبق على الحزن ضحكة ومضى .دون أن تعرف ً
ال تريد أن تصدق أنه تخلى عنها ,ألنها رفضت يوما أن ترافقه إلى مشاهدة ذلك الفيلم الذي كان
يستعجل مشاهدته.
سألته أهو فيلم عاطفي ..أجاب "ال".
سألته أهو فيلم ضاحك ..أجاب"ال".
-ولماذا تريد أن نذهب لمشاهدته إذن؟
في البكاء.
-ألنني أحب كل ما يثير ّ
ضحكت يومها .استنتجت أ ّنه رجل غريب األطوار ,ال يعرف كيف يتدبر أمر حب.
وهي ال تصدق أيضا ما قاله مرة ,من أن مأساة الحب الكبير ,أنه يموت دائما صغيرا .بسبب األمر
الذي نتوقعه األقل.
أيعقل أن يكون حبها قد مات ,فقط ألنها لم تشعر برغبة في أن تبكي معه ,في عتمة صالة
سينما؟
وانما كانت تفضل لو دعاها إلى مكان آمن ,بعيدا عن فضول اآلخرين ,يمكنهما فيه أن يعيشا
ٍ
اشتعاالت عالية..
ما تعتقده ,هو كونه أراد إذاللها ,كي يضمن امتالكها .وربما ظن أن على الرجل إذا أراد االحتفاظ
بامرأة ,أن يوهمها أ ّنه في أية لحظة يمكنه أن يتخلى عنها.
أما هي ,فكانت دائما تعتقد أن على المرأة أن تكون قادرة على التخلي عن أي شيء لتحتفظ
بالرجل الذي تحبه.
وهكذا تخلت ذات يوم عن كل شيء وجاءته.
فلم تجده.
تذكر جلست وحيدة ف ي تلك الزاوية اليسرى ,من ذلك المقهى الذي كان يعرف الكثير عنهما ,والذي
أصبح منذ ذلك اليوم يحمل اسمه خطأً "الموعد".
أحيانا ,يجب على األماكن أن تغير أسماءها ,كي تطابق ما أصبحنا عليه بعدها ,وال تستفزنا
المضادة.
ّ بالذاكرة
ألهذا ,عندما طلبته البارحة هاتفيا ,قال "انتظريني هناك" ثم أضاف مستدركا " اختاري لنا طاولة
أخرى ..في غير الزاوية اليسرى" وواصل بعد شيء من الصمت" ما عاد اليسار مكانا لنا".
أسرتهم؟
أألن الحروب والخالفات السياسية طالت كل شيء ,ووصلت حتى طاوالت العشاق و ّ
أم ألنه ال يريد إذالل الذاكرة ,أراد لها طاولة ال يتعرف الحب فيها إليهما ,كي يكون بإمكانهما أن
يضحكا ,حيث لم يستطيعا يوماً البكاء؟
هاهما جالسان إلى الطاولة المقابلة للذاكرة.
هناك ..حيث ذات يوم ,على جسد الكلمات أطفأ سيجارته األخيرة .ثم عندما لم يبق في جعبته
شيء ,دخن كل أعقاب األحالم وقال..
ال تذكر ماذا ق ال بالتحديد .قبل أن يحول قلبها مطفأة للسجائر ,ويمضي.
منذ ذلك اليوم وهي تتصدى لشوقها الذي فخخه بالتحدي.
مشرف لالتصال به ,مناسبة ما,
تلهي نفسها عن حبه ,بكراهيته ,في انتظار العثور على مبرر ّ
يمكن أن تقول له فيها "ألو ..كيف أنت؟" دون أن تكون قد انهزمت تماماً؟
في تمويه إلخفاقات عشقيَّة ,عرضت عليه يوماً أن يصبحا صديقين.
أجابها ضاحكاً "ال أعرف مصادقة جسد أشتهيه" .كادت تسعد ,لوال أنه أضاف " أنت أشهى عندما
ترحلين ..ثمة نساء يصبحن أجمل في الغياب".
ولم تفهم ما الذي كان يعنيه.
أما الذي كان يعنيها ,فأن تستمع إليه.
هوذا ,لم يتغير .ما زال يتوق إلى الكالم الذي ال يقال بغير العينين .وهي ال تملك إالّ أن تصمت,
كي ينصتا معاً إلى صخب الصمت بين عاشقين سابقين.
تهربه العابث .وذاكرة العشق ترتبك.
بين نظرتين ,يتابع الحب ّ
مع عاشق آخر ,كان بإمكانها أن تخلق اآلن ضجة وضحكاً.
طي على صمتها .أن تخلق اآلن إجابة لكل سؤال.
أن تختلق اآلن للصمت صوتاً ,يغ ّ
ولكن معه ,هي تحتفظ باألسئلة ,أو تطرحها عليه دفعة واحدة ,دون صوت ,بل بذبذبات صمت
وحده يعرفها.
وهو يقول دون أن يطفئ سيجارته تماماً ,دون أن يشعل رماد األحالم ,دون أن يقول شيئاً
تغير كثيراً منذ 1لك الحين.
بالتحديد ,دون أن يقول شيئاُ إطالقاً ,كان يعترف لها بأنه ّ
هو رجل يشي به سكوته المفاجئ بين كلمتين.
ولذا يصبح الصمت معه حالة لغوية ,وأحيانا حالة جوية ,تتحكم فيها غيمة مفاجئة للذكرى.
السادية.
ّ حتما ..كان به شيء من
ً
وموجعا في آن واحد .ولم تسأله لماذا هو كذلك.
ً مغريا
أيضا تراه ً
واللحظة ً
أيمكن لإلغراء أن يكون طيباً؟ هو الذي يوقظ شراسة األحالم فينا..
هي كانت تريد أن تسأله فقط :كيف هو؟
ولكن قبل أن تقول شيئاً ,سرق منها السؤال نفسه الذي لن يطرح غيره بعد ذلك ,وقال :كيف أنت؟
لف حول عنقه السؤال ربطة عنق من الكذب األنيق .وعاد إلى صمته.بين ابتسامتين ّ
أكان يخاف على الكلمات من البرد؟ أم يخاف عليها هي من األسئلة؟
األسئلة غالباً خدعة ,أي كذبة مهذبة نستدرج بها اآلخرين إلى كذبة أكبر.
هو نفسه قال هذا في يوم بعيد ,قبل أن..
ش ْي معي األسئلة .كي ال تجبريني على الكذب .يبدأ الكذب حقاً عندما نكون
تذكر قوله "تحا َ
مرغمين على الجواب .ما عدا هذا ,فكل ما سأقوله لك من تلقاء نفسي ,هو صادق".
جيداً .وحاولت أن تخلق لغة جديدة على قياسه ,لغة دون عالمات استفهام.
يومها حفظت الدرس ّ
كانت تنتظر أن تأتي األجوبة .وعندها فقط كانت تضعها أسفل أسئلتها ,دون أن تنسى أن تتبعها
بعالمات تعجب ,وغالباً بعالمات إعجاب.
تدريجياً ,وجدت في فلسفته في التحاور ,من دون أسئلة وال أجوبة ,حكمة ,وربما نعم ًة ما.
ّ
وشكرت له إعفاءها من أكاذيب صغيرة أو كبيرة .كانت تقترفها دون تفكير .وبدأت تتمتع بلعبة
المحادثة المفترضة التي ال سؤال فيها وال جواب.
ها هوذا اليوم .هو نفسه أمام السؤال.
من األرجح أنه يتساءل :أيطرحه أم يجيب عنه .وهو في الحالتين كاذب.
سره .وكالحرب إذن ,تصبح فيها المفاجأة هي العنصر الحاسم.
السؤال خدعة .ومباغتة لآلخر في ّ
الرجل صاحب المعطف أن يسرق منها سؤالها ,ويتخ ّلى عن طريقته الغريبة في
قرر ّ
لذا ,ربما ّ
التحاور.
مرة ,سالكة كل المنعطفات
كل ّ
ال ,وجعلتها تختار كلماتها بحذر ّ تلك الطريقة التي أربكتها طوي ً
اللغوية للهروب من صيغة السؤال ,كما في تلك اللعبة اإلذاعية التي ينبغي أن تجيب فيها عن
األسئلة ,دون أن تستعمل كلمة "ال" أو كلمة "نعم".
تلك اللعبة تناسبها تماماً ,هي المرأة التي تقف على حافة الشك .ويحلو لها أن تجيب "ربما" حتى
عندما تعني "نعم" ,و"قد" عندما تقصد "لن".
كانت تحب الصيغ الضبابية .والجمل الواعدة ولو كذباً ,تلك التي ال تنتهي بنقطة ,وانما بعدة نقاط
انقطاع.
هو لم يقل سوى "كيف أنت؟" وهي قبل اليوم لم تكن تتوقع أن يربكها الجواب عن سؤال كهذا.
واذ بها تكتشف كم هي رهيبة األسئلة البديهية في بساطتها ,تلك التي نجيب عنها دون تفكير كل
يوم ,غرباء ال يعنيهم أمرنا في النه اية ,وال يعنينا أن يصدقوا جوابا ال يقل نفاقا عن سؤالهم.
ولكن مع آخرين ,كم يلزمنا من الذكاء ,لنخفي باللغة جرحنا؟
بعض األسئلة استدراج لشماتة ,وعالمة االستفهام فيها ,ضحكة إعجاز ,حتّى عندما تأتي في
صوت دافئ كان يوما صوت من أحببنا.
"كيف ِ
أنت؟"
صيغة كاذبة لسؤال آخر .وعلينا في هذه الحاالت ,أن ال نخطئ في إعرابها.
فالمبتدأ هنا ,ليس الذي نتوقعه .إنه ضمير مستتر للتحدي ,تقديره "كيف أنت من دوني أنا؟"
أما الخبر ..فكل مذاهب الحب تتفق عليه.
من األسهل علينا تقبل موت من نحب .على تقبل فكرة فقدانه ,واكتشاف أن بإمكانه مواصلة
الحياة بكل تفاصيلها دوننا.
ذلك أن في الموت تساويا في الفقدان ,نجد فيه عزاءنا.
كانت تفاضل بين جواب وآخر ,عندما ت ّنبهت إلى أن جلستهما قد أصبحت فجأة معركة عاطفية
صامتة .تدار بأسلحة لغوية منتقاة بعناية فائقة.
واذ بالطاولة المربعة التي تفصلهما ,تصبح رقعة شطرنج ,اختار فيها كل واحد لونه ومكانه.
واضعا أمامه جيشا ..وأحصنة وقالعا من ألغام الصمت ,استعدادا للمنازلة.
بنية المباغتة:
أجابته ّ
-الحمد هلل..
األديان نفسها ,التي تحثنا على الصدق ,تمنحنا تعابير فضفاضة بحيث يمكن أن نحملها أكثر من
معنى .أوليست اللغة أداة ارتياب؟
أضافت بزهو من يكتسح المربع األول:
-وأنت؟
ها هي تتقدم نحو مساحة شكه ,وتجرده من حصانه األول .فهو لم يتعود أن يراها تضع اإليمان
برنسا لغويا على كتفيها.
ظلت عيناها تتابعانه.
هل سيخلع معطفه أخيراً ,ويقول إنه مشتاق إليها .وأنه لم يحدث أن نسيها يوماً؟
أم تراه سيرفع قبة ذلك المعطف ,ويجيبها بجواب يزيدها برداً؟
أي حجر شطرنج تراه سيلعب ,هو الذ يبدو غارقا في تفكير مفاجئ ,وكأنه يلعب قدره في كلمة؟
تذكرت وهي تتأمله ,ما قاله كاسباروف ,الرجل الذي هزم كل من جلس مقابال له أمام طاولة
شطرنج.
قال" :إن النقالت التي نصنعها في أذه اننا أثناء اللعب ,ثم نصرف النظر عنها .تشكل جزءا من
اللعبة ,تماما كتلك التي ننجزها على الرقعة".
لذ تمنت لو أنها أدركت من صمته ,بين أي جواب وجواب تراه يفاضل .فتلك الجمل التي يصرف
القول عنها ,تشكل جزءا من جوابه.
غير أنه أصلح من جلسته فقط .وأخذ الحجر الذي لم تتوقعه.
وقال دون أن يتوقف عن التدخين.
-أنا مطابق لك.
ثم أضاف بعد شيء من الصمت.
-تماماً..
هو لم يقل شيئا عدا أنه استعمل إحدى كلماته "القاطعة" بصيغة مختلفة هذه المرة .فانقطع بينهما
التحدي.
وهي لم تفهم .فعال ..لم تفهم كيف أن صمتا بين كلمتين أحدث بها هذا األثر ,وال كيف استطاع
أن يسرب إليها الرغبة دون جهد واضح ,عدا جهد نظرة كسلى ,تسلقت ثوبها األسود ,مشعلة حيث
مرت فتيلة الشهوة.
بكلمة ,كانت يده تعيد الذكرى إلى مكانها .وكأنه ,بقفا كلمة ,دفع بكل ما كان أمامهما أرضا.
ونظف الطاولة من كل تلك الخالفات الصغيرة التي باعتهما.
هي تعرف أن الحب ال يتقن التفكير .واألخطر أنه ال يملك ذاكرة.
إنه ال يستفيد من حماقاته السابقة ,وال من تلك الخيبات الصغيرة التي صنعت يوما جرحه الكبير.
وبرغم ذلك ,غفرت له كل شيء.
"قطعا" كانت سعيدة ,بهزيمتها التي أصبح لها مذاق متأخر للنصر.
سعادته "حتما" بنصر سريع ,في نزال مرتجل ,خاضه دون أن يخلع "تماما" معطفه!
***
ثمة بيوت ال تستطيع أن تكتب فيها سطرا واحدا ,مهما سكنتها ,ومهما كانت جميلة .وهذا أمر
يبقى دون تفسير منطقي.
وثمة أقالم ,تدري منذ اللحظة التي تشتريها فيها ..والكلمة األولى التي تخطها بها ,أنك لن تكتب
بها شيئا يستحق الذكر .وأن مزاجها الكسول ,ونفسها المتقطع ,لن يوصالك إلى األنفاق السرية
للكلمات.
وثمة دفاتر ,تشتريها بحكم العادة فتبقى في جواريرك أشهرا دون أن توقظ فيك مرة تلك الشهوة
الجارفة للكتابة ,أو تتحرش بك كي تخط عليها ولو بضعة أسطر.
وألنني أعرف هذا ,كلما تقدمت بي الكتابة ,ازدادت قوة عندي ,تلك الحاسة التي تجعلني منذ
اللحظة األولى ,أحكم على هذه األشياء ْأو َل َها بحدس ق ّلما يخطئ.
ولذا توقفت أمام ذلك الد فتر ,مدفوعة بإحساس يتجاوزني .مأخوذة بهذا "الشيء" الذي ال يميزه
عن بقية األشياء في تلك المكتبة ,سوى اقتناعي ,أو وهمي بأنه سيعيدني على الكتابة.
منذ اللحظة األولى ,شعرت أن بيني وبين هذا الدفتر ,ذبذبات ما ,تعدني بكتابة نص جميل .على
هذا الورق األبيض األملس ,الذي تضمه مفاصل حديدية .ويغطيه غالف أسود المع ,لم يكتب
عليه أي شيء.
ركضت به إلى البيت .أخفيته ,وكأنني أخفي تهمة ما .ولم أخرجه سوى البارحة ,ألكتب فيه تلك
القصة القصيرة ,التي قد يكون عنوانها "صاحب المعطف".
وهذا في حد ذاته إنجاز أدهشني .فأنا لم يحدث يوماً أن تعرفت إلى رجل يشبه هذا الرجل .في
نفوره الجذاب ,وحضوره المربك ,رجل يغشاه غموض الصمت والتباسه ,وله هذه القدرة الخرافية
تحدث ,حتى لو كان ذلك ,وهو يلفظ إحدى تلك الكلمات
على خلق حالة من االرتباك الجميل ,كلما ّ
القاطعة ,التي يتس ّلى باختيارها حسب المناسبة.
وتلك المرأة أيضاً ال تشبهني .إنها تنطق بعكس ما كنت سأقول ,وتتصرف بعكس ما كنت سأفعل.
وهي تعتقد بحماقة أنثى ,أن الذين نحبهم ,خلقوا ليتقاسموا معنا المتعة ,ال األلم ,وأن على الرجل
يحبها أن يبكي وحده .ثم يأتي يتمتع بها ,أو معها.
الذي ّ
ال على حبه لها.بل إنها من سذاجتها ,وجدت في تَ ْي ِن َك الكلمتين اللتين لفظهما دلي ً
في الواقع ,إن يجبها عن سؤالها "كيف أنت؟" .بقوله "أنا مطابق لك ..تماماً" .فهذا ال يعني سوى
أ ّنه قرر أن ال يقول لها شيئاً.
واذا كان ما أسعدني في هذه القصة ,كونها ليست مطابقة لحياتي ,فإن مطابقتها للحياة أمر
جعلني أنزعج من هذا المنطق العجيب لألقدار ,الذي يجعل دائماً في كل عالقة ,بين رجل وامرأة,
تمنيت سراً ,لو كان هذا الرجل لي .إنه على قياس صمتي ولغتي.
طرفاً ال يستحق اآلخر .وربما ّ
وهو مطابق لمزاج حزني وشهوتي.
ولكن هذه لم تكن مشكلتي .وتلك القصة لم تكن قصتي .أو باألحرى ,حتى اآلن ,لم تكن كذلك.
ولذا ,وضعت لها ذلك العنوان ,الذي لم أجهد نفسي كثيراً للعثور عليه .وعدت إلى مشاغلي.
يهيئني ألصبح طرفاً في هذه القصة .أو للدخول في مغامرة أدبية طويلة النفس.ال شيء كان ّ
هذه القصة أردتها قصيرة قدر اإلمكان ,بعيدة ع ّني قدر اإلمكان ,سريعة الوقع ,سريعة الخاتمة.
ولكن كاألعشاب البحرية ,ظلت جملها األخيرة عالقة بذهني .وعبثاً حاولت أن ألهي نفسي بأمور
أخرى .كان موضوع هذه القصة يطاردني .وشيء داخلي يرفض هذه النهاية.
لم يكن يعنيني لماذا افترق هذان العاشقان ,وما إذا كانا سيجتمعان ثاني ًة أم ال ,ومن منهما خسر
التحدي.
ّ رهان
قصتهما الي دخلتها مصادفة ,كمن يفاجئ نافذة مقابلة لشرفته مفتوحة ,فيتلصص على من
فيها ..ال تثير فضولي.
وحده ذلك الرجل يعنيني.
تحد ليس أكثر.
بي فضول نسائي لفهمه .بي رهان لجعله يخلع ذلك المعطف ..بي ٍّ
اكتشافي هذا ,لم يغير نيتي في إرغام هذا الرجل على الكالم ,فال شيء سواه يعنيني .صمته
المكابر يربكني ,معطفه السميك يزعجني .وكلماته القاطعة أصبحت مقصلة ألي مشروع نص قادم.
ومن الواضح أنه لن يكون بإمكاني أن أكتب شيئا قبل أن ينطق هذا الرجل.
وهكذا جلست إلى دفتري .ورحت أواصل كتابة القصة وكأنني لم أتوقف باألمس عن كتابتها.
****
مرة في
عشقي" .تماماً كما تذكر ذلك الموعد الذي جمعهما ّ
ّ تورطٌ
مرة "األسئلة ّ
تنس قوله ّ
فهي لم َ
سيارته ,بينما كان المطر يهطل بغزارة.
للحب ,له حميمية
ّ اكتشفت يومها جمال أن يكونا عاشقين ,ال عنوان لها سوى مسكن عابر
سيارة ..في لحظة ممطرة.
ّ
كانت تشعر أنهما أخيراً وحيدا ن .ومختبئان عن كل الناس .يغطيهما ستار من األمطار المنزلقة
على زجاج النافذة.
يومها كانت تريد أن تقول له أشياء ال تقال إال في لحظة كتلك.
سيارته إلى جانب الرصيف .وكأنه يوقف اندفاعها بين جملتين .وقال وهو يشعل
ولكنه أوقف ّ
سيجارة:
-ال جدوى من االحتماء بمظلة الكلمات ..فالصمت أمام المطر أجمل.
ٍ
شتاءات أخرى حزنها. بعدها عادت إلى البيت باكتشاف صنع في
فقد أدركت ,من فرط سعادتها معه يومها ,أ ّننا لسنا متساوين أمام المطر .ولذا ,عندما يغادرنا
العشقي الموجع ,واستفزازه
ّ الحب ,ونجد أنفسنا وحيدين في مواجهته ,علينا أن نتجاهل نداءه
ّ
شاق
السادي لنا ,كي ال يزيد من ألمنا ,كوننا ندري تماما أنه يصنع ,في اللحظة نفسها ,سعادة ع ّ
آخرين.
أجل ..أحيانا ,ليس أكثر ظلما من المطر!
****
سعدت بهذه النهاية ,التي لم أجهد نفسي كثيرا في العثور عليها .حتى أنني كتبتها هكذا كما
جاءت .دون أن أفاضلها بأخرى ,ودون أن أشطب أي سطر فيها ,أو أعيد قراءتها كعادتي أكثر
مرة.
من ّ
وكأنني أريد بذلك أن أقنع نفسي بأنني لست من كتبها.
ثمة دائما أمر ما تخفيه الكلمات ,حتى عندما تأتي بتلقائية مريبة؟ بل إن تدفقها هكذا
ولكن أليس ّ
على نحو أو آخر ,هو ما يجب أن يدعو إلى الريبة.
يحدث للغة أن تكون أجمل منا .بل نحن نتجمل بالكلمات نختارها كما نختار ثيابنا ,حسب مزاجنا,
ونوايانا.
هنالك أيضا ,تلك الكلمات التي ال لون لها ,ذات الشفافية الفاضحة .كامرأة خارجة نواً من البحر,
تقمصنا.
حد ّبثوب خفيف ملتصق بجسدها .إنها األخطر حتماً ,ألنها ملتصقة بناّ ,
أصر أنا على استنطاقه ,ويصر على إبقاء معطفه,
يصر على الصمت ,و ّ وهذا الرجل الذي كان ّ
كل حاالته ,حتى عندما يخلع صمته ..ويلبس صوتي
وأصر على تجريده منه ,ما زال يربكني في ّ
وكلماتي المبللة.
ها قد جعلته ينطق أخيرا ,ويقول كالما أردته أنا .فهل هزمته حقاً؟
للمرة الثانية من تلك المرأة أن ترافقه
وبرغم ذلك ,بإمكاني أن أعترف أنه فاجأني .ال ألنه طلب ّ
لمشاهدة ذلك الفيلم ,وهو أمر ال يشبهه ,ولكن ألنه أعطاها اسم قاعة سينما لم أسمع بها من
قبل .وال أدري إن كانت موجودة حقا .لكوني لم يحدث أن ارتدت السينما في هذه المدينة ,أو
تابعت حتى ما يعرض فيها من أفالم.
فجأة خطر ببالي أن أبحث في الجريدة ,إن كانت هذه القاعة موجودة حقاً.
وهكذا رحت أفتّش في الصفحة المخصصة لبرامج التلفزيون والعروض السينمائية ,مدققة في أٍماء
أميركي
ّ قاعات السينما ,الواحدة تلو األخرى ,واذ بي أعثر على قاعة "أولمبيك "حيث يعرض فيلم
بعنوان "Dead Poets Society",من األرجح أ ّنه يعرض بنسخته الفرنسية؛ فال أحد هنا
يفهم اإلنكليزية .
حاولت أن أجد ترجمة لهذا العنوان ,عسى ذلك يفك بعض لغزه .فعثرت على عنوان قد يكون:
"حلقة الشعراء الذين اختفوا".
كل
وألنني لم أصدق تماما أن يكون هذا هو الفيلم الذي يعنيه ذلك الرجل ,فقد رحت أدقق في ّ
الجرائد القديمة المكدسة أرضاً في مكتب زوجي ,والتي يحضرها كل يوم بحكم وظيفته ,فتبقى ملقاة
هنا أرضاً قبل أن يضعها بنفسه خارج مكتبه.
مرة ,كنت أعثر على ذلك الفيلم
كل األعداد التي صادفتني .وكل ّ
رحت أقلب صفحات السينما في ّ
معروضاً في القاعة نفسها.
أن عرضه قد يعود إلى
آخر جريدة أوصلتني إلى ما قبل الشهر والنصف ,وهو ما جعلني أستنتج ّ
حد إذهالي .فأنا
بداية الشهرين الماضيين ,كما جاء على لسان ذلك الرجل .وهو أمر فاجأني ,إلى ّ
ال أعرف هذه القاعة .ولم أسمع بهذا الفيلم .وكيف لي بالتالي أن أعرف أنه يعرض منذ شهرين
هناك ,وأن إحدى فترات عرضه تكون في الساعة الرابعة ,كما تؤكد الجريدة أيضاً؟
كل أسئلتي كانت تدور حول ذلك الرجل .لماذا يعنيني أمره إلى هذا الحد؟
ّ
عشقي؟
ّ تورطٌ
في هذا القدر من األسئلة؟ وهل األسئلة حقاًّ ..
ولماذا يثير ّ
أهو الذي قال هذا ..أم أنا؟
هو الذي لم يطرح سوى سؤال واحد "هل أر ِ
اك غداً؟"
سؤال طرحه بالتحديد عليها هي .ولكن كيف لي أن أخلف ,أنا الكاتبة موعداً كهذا .ألست أنا التي
أردته ..وحددته .وال بد أن أكون هناك .كي أختلق لهما أحاديث ومواعيد وخالفات ,ولقاءات جميلة
وخيبات ,ومتعة ودهشة ..ونهايات!
إنه امتياز ينفرد به الروائي ,متوهماً أنه يمتلك العالم بالوكالة .فيعبث بأقدرا كائنات حبرية ,قبل أن
يغلق دفاتره ,ويصبح بدوره دمية مشدودة إلى األعلى بخيوط ال مرئية .أو تحركه كغيره في المسرح
الشاسع للحياة ..يد القدر!
وقتها عبثًا يسبق مشاريعه قائالً "إن شاء اهلل" .وكأنه يمنح بذلك رشوة لألقدار ,كي تكافئه بتحقيق
أحالمه.
يعد
أذكر ,ذلك الذي كنت أقول له تع ّلم أن تقول "إن شاء اهلل" .سألته يوماً" متى نلتقي؟" كان ّ
حقيبة حزن على عجل .فأجابني على طريقته ببيت لمحمود درويش:
"نلتقي بعد قليل
بعد عام ...بعد عامين وجيل"
ولم نلتق بعد ذلك أبداً .نسي كالنا يومها أن يقول "إن شاء اهلل"! ألهذا م يعد؟ أم ترى ألنه ذهب
ليدفن أباه بنوايا انتحارية ,في ذلك البلد الذي يقتل الشعراء ..ويكثر من المهرجانات الشعرية,
فدفن جثة مشوهة جواره.
وكان قبلها يقول ..إنه سيغادر الشعر ,ويجرب نفسه في رواية!
أتراهما كانا سيلتقيان حقا؟ وبماذا تراها كانت ستجيبه لو أنني تركت لها حرية الجواب؟
أتوقع أنها كان ت سترد عليه بإحدى صيغها الضبابية .كأن تقول له "ربما نلتقي" ,وهي تدري تماما
أنها تعني "طبعا" ..وتماديا في المراوغة ربما قالت "قد يحدث ذلك" لِتُو ِه َم ُه أن ذلك "لن يحدث".
وعندها سيرفع التحدي ,ويجيبها" قطعا ..ليس هذا بالمهم" ويضع السماعة مغلقا أزرار معطفه.
مرتديا صمته من جديد.
الصمت ال يزعجني .وانما أكره الرجال الذين ,في صمتهم المطبق ,يشبهون أولئك الذين يغلقون
بنية إقناعك بأهميتهم.
قمصانهم من الزر األول حتى الزر األخير كباب كثير األقفال والمفاتيحّ ,
إنه باب ال يوحي إلي بالطمأنينة .وما قد يخفي صاحبه خلف ذلك الباب المصفح من ممتلكات ,ال
الحقيقيون ,ينسون دائماً
ّ يبهرني بقدر ما يفضح لي هوس صاحبه وحداثة ثروته .فاألغنياء
إغالق نافذة ,أو خزانة في قصرهم..
أنما المفاتيح هوس الفقراء ,أو أولئك الذين يخافون إن فتحوا فمهم ..أن يفقدوا وهم اآلخرين بهم!
الجميل في هذا الرجل أ ّنه ,ككل أثرياء الحلم ,يترك في أعلى معطفه السميك للصمت ,زرا واحدا
اء فيه .فهو ال يصمت
مفتوحا للوهم ,كباب موارب وربما كان هذا بالذات هو الشيء األكثر إغر ً
تماما ,وال يتكلم إال بقدر كسر الصمت بكلمات قليلة ,تختصر اللغة.
إنه بطل جاهز لرواية .يمنحك نفسه بالتقسيط.
وه ل الرواية سوى المسافة بين الزر األول المفتوح ,وآخر زر قد يبقى كذلك؟
كل تلك التفاصيل المذهلة,
ولكن ,أيكون هذا الرجل غير موجود سوى في مخيلتي؟ واذن ما تفسير ّ
التي لم أكن قد سمعت بها قبل كتابة تلك القصة؟
قوة خارقة تملي عليهم ما يكتبون ,وال
يدعون أن ثمة ّ
وبرغم كوني ال أصدق أولئك الكتّاب الذين ّ
أعتقد أيضا ,أن تكون هذه التفاصيل مجتمعة ,هي من حكم المصادفة.
األكثر غموضا ومفاجأة ,ذلك الجيل من الرجال ,الذين ينتمون إلى حروب طويلة ال َن َفس ,ابتلعت
وحولتهم رجا ًال عنيفين ,وسريعي العطب في آن واحد ,عاطفيين
طفولتهم وشبابهم دون رحمةّ ,
وجبابرة في الوقت نفسه.
أولئك يخفون داخلهم دائما رجال آخر ,ال أحد يدري متى يستيقظ ,وطفال لم يكونوا على أيامه ,قد
الطفولي,
ّ اخترعوا لعبة "الليغو" ,ليتمكن ككل األطفال ,من التدرب على تركيب قطعها حسب مزاجه
ثم فكها من جديد.
أتوقع أن يكون زوجي قد ولد بمزاج عسكري ,وحمل السالح قبل أن يحمل أي شيء .فأين العجب
في أن يكسرني أيضا دون قصد ,تماما ,كما أغراني قبل ذلك بسنوات ,دون جهد؟ أليست السلطة
كالثراء ,تجعلنا نبدو أجمل وأشهى؟
أوليست النساء كالشعوب ,يقعن دائما تحت فتنة البذلة العسكرية وسطوتها .قبل أن ينتبهن إلى
قوتها؟
أنهن بانبهارهن بها ,قد صنعن ّ
أما هو ,فمن األرجح أنه كان في هذا المجال أيضا ,يفكر بمنطق العسكر الذين ,عندما يصل
أحدهم على السلطة ,يصر على شغل كل المناصب الرئيسية في الدولة ,وكل الحقائب الوزارية
الهامة ,معتقدا أن ال احد غيره جدير بأن يشغلها,بل وأن وجود شخص غيره فيها هو احتمال دائم
لإلطاحة به.
ولهذا لم يترك في حياتي مساحة حرية ,يمكن أن يتسلل منها أحد .فقد سطا على كل الكراسي,
دون أن يشغل أحدها بجدارة.
تنبهت بعد ذلك ,إلى أن أبوته هي التي كانت تعني لي األكثر .وأن مهامه السياسية ورتبته
العسكرية لم تكن تعنيني بوجاهتها ,وانما لكونها استمرارا لذاكرة نضالية نشأت عليها ,وعنفوان
جزائر حلمت بها.
كنت أرى في قامته الوطن ,بقوته وشموخه .وفي جسده الذي عرف الجوع والخوف والبرد ,خالل
سنوات التحرير ,ما يبرر اشتهائي له.ز واحتفائي به إكراما للذاكرة.
كم مر من الوقت ,قبل أن أكتشف حماقة خلطي عقدة الماضي ..بالواقع المضاد.
..تماما ,كخلطي اآلن ,بين وهم الكتابة ..والحياة ,واصراري على الذهاب على ذلك الموعد الذي
أقنعت نفسي عبثا بأنني لست معنية به ,وأنه سيتم بين كائنات حبرية ,ال يحدث أن تغادر عالم
الورق؟
دوما
دوماً..
كنت أحبهم .أولئك العشاق الذين يزجون بأنفسهم في ممرات الحب الضيقة ,فيتعثرون حيث حلّوا,
بقصة حب وضعتها الحياة في طريقهم ,بعد أن يكونوا قد حشروا أنفسهم بين الممكن والمستحيل.
الحب التي ال تهدأ ,مأخوذين بعواصف الشغف ,مذهولين أمام
ّ أولئك الذين يعيشون داخل زوبعة
الحرائق التي مقابل أن تضيء أياما في حياتهم ,تلتهم كل شيء حولهم ,جاهزين تماما ..لتلك
الحتمي.
ّ اللّحظات المضيئة خلسة ,والتي ستخلف داخلهم عندما تنطفئ رماد انطفائهم
وربما كنت أشبههم.
أحبهمّ ..
ّ
المرة ,توقعت أنني أذكى من أن أتعثر في قصة حب وضعها األدب في طريقي .ال
ولكن هذه ّ
ليختبر قدرتي على الكتابة ,وانما ليختبر جرأتي على أخذ الكتابة مأخذ الحياة.
"إن أجمل األشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها
كنت في الواقع ,مأخوذة بمقولة ألندريه جيد ّ
العقل".
مأخوذة بها إلى درجة أنني ,عندما اقترح علي الجنون أن اذهب إلى موعد ضربه بطل قصتي
المرأة أخرى ,أخذت اقتراحه مأخذ الجد ,وقررت أن أذهب بذريعة كتابة شيء جميل.
ولهذا تعمدت أن أصل متأخرة عن الفيلم بربع ساعة ,كي ال أقف في طابور االنتظار ,أو أدخل
القاعة على مرأى من الناس.
...تماما كما طلبت من السائق أن يعود قبل موعد انتهاء الفيلم بربع ساعة ,تفاديا لتلك األضواء
التي ترافق نهاية كل عرض ,وتجعل الناس يتفحصون بعضهم بعضا بفضول كثيرا ما أربكني.
وألنني وصلت بع د فترة من بدء الفيلم كان لي حرية اختيار مكاني ,وهو األمر الذي مكنني من
الوقوف لحظات والقاء نظرة على الجو العام للقاعة التي بدت لي نصف فارغة.
كما توقعت ,كان الحضور جميعه رجاال .ومن األرجح أن يكون من الشبان الذين جاؤوا إلهدار
الوقت في قاعة السينما بدل إهداره وهم متكئون على جدار.
وحدهما رجل وامرأة ,كانا يجلسان على انفراد في آخر القاعة ويبدو أنهما كانا هنا لسبب آخر.
استنتجت أنهما "هما" فاخترت لي مكانا خلفهما تماما ,وكأنني أحتمي بهما ,أو أتجسس عليهما.
أتوقع أن وجودي أزعجهما .ولكنهما وجدا في أنوثتي ما يبعد الرعب عنهما.
ما أتعس العشاق في هذه المدينة التي يعيش فيها الحب ممسكا أنفاسه ,جالسا في عتمة
الشبهات على كراسي مزقتها بسكين ٍ
أيد لم تالمس يوماً جسد امرأة. ّ
أنشغل عنهما بمتابعة الفيلم الذي وصلته ,مع وصول البطل إلى الصف في أول الموسم الدراسي.
سن األ ربعين ببضع خيبات .دائم السخرية بشيء من الرومنطيقية وربما الحزن
إنه أستاذ تجاوز ّ
المستتر .لقد عاد بعد جيل وأكثر إلى المعهد الذي درس فيه ,ليعمل مدرسا في مادة األدب .ومن
الواضح أنه جاء لينقذ الطلبة من األخطاء التي سبق أن تعلمها على هذه المقاعد نفسها ,أو تلك
القناعات التي تربى عليها ..وتكفلت الحياة بتكذيبها بعد ذلك.
يدخل الصف بشيء من االستفزاز المرح ,وهو يصفر أما دهشة الطلبة الذين لم يتعودوا تصرفا
كهذا ,في مؤسسة دراسية صارمة ,ومشهورة بمحافظتها على التقاليد العريقة.
يتجه مباشرة ,نحو جدار علقت عليه صورة تذكارية ,باألسود واألبيض ,لطلبة شغلوا هذه المقاعد
الدراسية نفسها ,فوجا بعد آخر ,وجيال بعد آخر ,على مدى قرن كامل.
هاهو يشير بيده إلى الطلبة أن يلحقوا به ,ويطلب منهم أن يتأملوا تلك الصور التي لم تستوقفهم
قبل اليوم ,ويدققوا في وجوه أصحابها ,المجتمعة في صور جماعية للذكرى.
يلحق به الطلبة مندهشين ,فيبادرهم وكأنه يواصل حديثا سابقا ,أو كأنه يقد لهم نفسه ,كواحد
سيمر اآلخرون أمام صورته ..على أحد جدران هذا المعهد دون انتباه:
"كل اللذين ترونهم على هذه الصور ,بهيئاتهم الرياضية التي تشبه هيئاتكم ,وعنفوان شبابهم
الذي يشبه عنفوانكم ,بابتسامتهم العريضة ,وطموحاتهم الكبيرة ,ومشاريعهم وأحالمهم وثقتهم
المطلقة في الحياة ,كما هي اآلن ثقتكم جميعهم اآلن ..عظام تحت قبور فاخرة .لقد ماتوا كما
ستموتون!".
وقبل أن يستوعب الطلبة هذا الكالم الغريب ,ألستاذ يرونه ألول مرة ,يواصل:
"كل واحد فيكم هنا ,ذات يوم سيتوقف في ه كل شيء ويبرد جسده ثم تأكله الديدان وكأنه لم يكن.
" انظروا ..إنهم ينظرون إليكم اآلن ,كأنهم في صورهم هذه ,يقولون لكم كالما ال بد أن تنصتوا
إليه .تعالوا ..اقتربوا ..حاولوا أن تلتقطوا كلماتهم"..
يقترب الطلبة مذهولين من جدار تغطيه الصور العتيقة ,فيأتيهم صوت األستاذ من الخلف .وكأنه
يتحدث على طريقة المهرجين الذين يحركون دمية بيدهم ,وهم يتكلمون على لسانها بصوت
باطني ,دون أن يحركوا شفاههم.
"استفيدوا من اليوم الحاضر ..لتكن حياتكم مذهلة ..خارقة للعادة .اسطوا على الحياة ..امتصوا
نخاعها كل يوم مادام ذلك ممكنا .فذات يوم لن تكونوا شيئا ..سترحلون وكأنكم لم تأتوا"..
عادي:
ٍّ ثم يواصل بصوت
" كان هذا درسكم األول .بإمكانكم اآلن أن تعودوا إلى مقاعدكم ..وتفتحوا كتاب األدب"..
لم يمنعني انشغالي بمتابعة الفيلم ,من التفكير في الرجل والمرأة الجالسين أمامي ,واللذين جئت
أصال لمتابعتهما.
كانا صامتين .ال أدري أكانا حقا مشغولين بمتابعة الفيلم ,ولكنهما لم يتبادال ّأية كلمة.
ورغم ذلك ,كنت أشعر كأن تعليمات األستاذ ونصائحه ,قد تركت تأثيرا فيهما .وبدا لي كأن اليد
اليمنى للمرأة ,كانت تتحرك ببطء نحو ذلك الرجل ,وتتقدم نحوه بإصرار.
وهو ما شجعني على ا العتقاد بأنها هي المرأة "ذاتها" .مادامت ليست معنية بهذا الفيلم بقدر ما
هي معنية بالتحرش بهذا الرجل.
من الواضح أنها مشتاقة إليه .واال فماذا عدا الحب يمكن أن يأتي بها إلى هنا ,لتكون األنثى
الوحيدة ,في قاعة كهذه ,لمشاهدة فيلم كهذا؟
شعرت بشيء من الشفقة عليها .وربما بشيء من الشفقة على نفسي أيضا .مادمنا موجودتين
هنا من أجل الرجل نفسه.
هذا الرجل الذي يبدوا لي من الخلف ,يقارب األربعين ,بشعر مرتب ,وهيأة محترمة مقارنة ب"بني
عيان" وكل الذين ال يوحي شكلهم باألمان في هذه القاعة ,من األرجح أنه "هو" .إنه يرتدي
معطفا ,يقف اآلن ليخلعه ,ويضعه على ركبتيه ,بطريقة يغطي بها ركبتي تلك المرأة أيضا .ولن
يكون من الصعب بعد اآلن أن أتصور ما سيلي ذلك!
في هذه اللحظة ,حضر رجل ليأخذ مكانه على الكرسي المجاور لي تماما .وهو ما زاد في إزعاجي
وجعلني أندم على حماقة مجيئي إلى هذه القاعة ,معرضة نفسي للشبهات .فال أحد هنا سيصدق
أو سيفهم أن كاتبة جاء بها الفضول ,وأرادت أن تتلصص على عاشقين ,اعتقدت أن من حقها أن
تندس بينهما ,ألنها خلقتهما!
ليس هذا االكتشاف هو الذي صدمني ,بقدر ما أزعجني غبائي في هذه القصة التي تصرفت فيها
منذ البدء بحماقة مثالية .واختلقت مواقف وحوارات ومواعيد ,فقط كي أعيش في رومانسية الحب
الواهمة.
حتى إنني صدقت أن بإمكان رجل أن يغادر دفاتري ,ويضرب لي موعدا خارج الورق.
من الواضح اآلن أن ذلك كان ضربا من الجنون.
في لحظة من الخيبة كدت أهم بمغادرة القاعة ,والهروب من هذا الجو الموبوء الذي وضعت نفسي
فيه ,لوال أنني تذكرت أن السائق لن يحضر قبل انقضاء ساعة .وأنني لم أتمكن من متابعة الفيلم
الذي تقول الفتة عند مدخل القاعة إنه حصل على عدة جوائز عالمية.
وهكذا عدت ألتابع الفيلم ,محاولة تجاهل ما يحدث حولي.
كان االستاذ يلقي درسا في كيفية فهم الشعر ,حسب ما جاء في مقدمة الكتاب المعتمد للتدريس.
والتي كتبها أحد كبار المراجع المختصة في النقد .شارحا فيها كيف يمكن تقويم قصيدة ,ومقارنتها
بأخرى ,معتمدين على خط عمودي وآخر أفقي ,يلتقيان ليشكال زاوية مستقيمة ,على كل خط فيها
درجات نقيس بها عموديا المعنى ,وأفقيا المبنى وهكذا ,بإمكاننا أن نكتشف ضعف الشاعر أو
قوته بين قصيدة وأخرى وم قارنته بشاعر أو بآخر ,حسب مقاييس حسابية دقيقة.
وبينما كان الطلبة منهمكين في رسم خطوط عمودية وأفقية على دفاترهم ,ناقلين ما يكتبه االستاذ
على السبورة ,إذ به يتوقف فجأة ويمحو كل شيء ,ويفاجئهم قائال:
-طبعا ..ليس هذا صحيحا .ال يمكن أن نقيس الشعر طوال وعرضا وكأننا نقيس أنابيب معدنية..
اندهاشنا ,انبهارنا ,انفعالنا ,هو الذي يقيس الشعر .أمام قصيدة ,النسا يغمى عليهن ,واآللهة
تولد .والشعراء يبكون كأطفال.
من يقيس دموعنا ,فرحنا ,وكل ما يمكن أن تفعله بنا قصيدة؟
أتدرون لماذا نقرأ أو نكتب الشعر؟ ألننا جزء من اإلنسانية .كيف يمكن أن نقيس إنسانيتنا
بمقاييس حسابية؟ َّ
مزقوا كل ما كتبتموه على دفاتركم!
يصمت قليال ثم يضيف:
-وال بأس أن تمزقوا أيضا هذه المقدمة!
ينظر إليه الطلبة متسائلين عن مدى جدية ما يأمرهم به .ولكن أمام إصراره ,ال يملكون إال أن
يقتلعوا الصفحات األولى من الكتاب ,ليكون كتابا ال مكان فيه لشيء عدا الشعر.
أثناء ذلك ,كان يمر أمامهم بسلة المهمالت ,طالبا بعد آخر ,يجمع األوراق الممزقة ,بشيء من
الغبطة التي وحده يدرك سببها.
إنه لم يعطهم درسا في فهم الشعر .وانما درسا في فهم الحياة وشجاعة في التشكيك في كل شيء
حتى ما يرونه مكتوبا في كتب مدرسية تحت توقيع اسم كبير.
وخاصة الجرأة على تمزيق كل ما يعتقدونه خاطئا ,والقائه في سلة المهمالت!
ال أدري إلى أي مدى تجاوبت القاعة مع هذا المشهد الجميل ,وهل وجد فيه البعض ما يبرر
اسي.
مواصلة تمزيقه للكر ّ
أما ذلك الرجل الجالس أمامي فكان منهمكا في البحث عن قلم وورقة ما كاد يعثر عليهما ,حتى
راح يكتب شيئا ,توقعته خاطرة يسجلها على ورقة.
لم أقاوم فضول استراق النظر إلى ما كتب ,مصطنعة حركة تقربني إلى األمام.
ماذا لو كان يكتب شيئا بنية ان أطلع عليه؟ فلقد الحظ وجودي خلفه وتجسسي عليه.
هاتفي ,شعرت أن شيئا قد وقع مني.
ّ وقبل أن ألمح على الورقة رقما ,من األرجح أنه رقم
وتحسست أذني ,واذ به قرطي قد سقط أرضا.
انحنيت ألبحث عنه ,مستعينة بشعاع ضوء قادم من الشاشة ,واذ بوالعة تشتعل على مقربة مني,
ورجل ينحني ليضيء لي المكان.
فاجأني وجود هذا الرجل ,الذي كدت أنسى أنه جالس جواري .وربما كان عطره ,أو رائحة تبغه هو
ما فاجأني األكثر .فقد شعرت أنه يباغتني ,وأن رجولته تقتحمني في تلك العتمة .وهو هنا ,على
عما
بضعة أنفاس مني ,يتابع بحثي عن شيء ما ,دون أن يقول شيئا ,وحتى دون أن يسألني ّ
كنت أبحث عنه .وكأن تلك الشعلة التي يمسكها بيده ,ليست سوى إلضاءة وجهي.
عيني عن األرض ,متسلقة بنظرات بطيئة صدره .ثم عندما وصلت إلى وجهه ,كانت عيناه
ّ رفعت
مفاجأتي.
كانت لهما تلك النظرة التي أعطتها العتمة عمقاً مربكا ,بقدر ما هو ُم ٍ
غر.
لم يكن بإمكاني أن أدرك ,ما لونهما بالتحديد .ولكن أدركت أنه لم يكن أن أواصل النظر إليهما.
فجأة قررت أن أكف عن البحث.
كل الذي يشغلني نظرات هذا الرجل ,أو على
لم يعد أمر القرط يعنيني .وال ضياعه يزعجنيّ .
األصح حضوره المربك.
أصلحت من جلستي ,بعد أن قلت له بصوت خافت بضع كلمات من باب اللياقة:
-أعتذر ..لقد أزعجتك.
ولكنه أطفأ و ّالعته وقال وهو يعيدها إلى جيبه:
-قطعاً..
وعاد إلى مشاهدة الفيلم.
شدتني ,وسمرتني في مكاني .فقد لفظها وكأنه يلفظ كلمة السر التي ال يعرفها
كلمته الفريدة ّ
سوانا.
إلي ببطاقة تعريفه ,بنبرة موجزة فيها شيء من االستفزاز
ألقى بها في وجهي وكأنه يرمي ّ
المهذب ..أو السخرية المستترة .ولم يضف إليها شيئا.
هل صمت كي يقنعني بحجة قاطعة ,أنه رجل اللغة القاطعة؟
مذ تلك اللحظة ,لم يعد بإمكاني أن أركز على أي شيء مما يحدث حولي..
الحب يجلس دائما على غير الكرسي الذي نتوقعه .تماما ,بمحاذاة ما نتوقعه حباً.
وأنا التي خبرت طويال هذه الحقيقة ,كيف جلست أكثر من ساعة ,جوار رجل لم أول اهتماما
لوجوده .مشغولة عنه برجل آخر ,يجلس أمامي .جاء دون أن يدري ,متنكرا في زي الحب ,فقط
ألنه يرتدي معطفا ويجلس صحبة امرأة!
وهذا الذي قال "قطعا" وصمت ,ماذا لو لم يكن هو؟ لو أنه قال هذه الكلمة دون تفكير؟ لو أنه
جلس هنا ,ف قط ألنه المكان األقرب في الصف األخير؟ لو أن الحياة أرادت أن تسخر مني ,ككاتبة,
مرتين!
ال أدري كم قضينا من الوقت على هذا النحو ,هو يتابع الفيلم ,وأنا أتابعه هو .أو أسترق النظر
أحيانا إلى عاشقين ,لم يعد أمرهما يعنيني ,وال ما يقوالن يسعفني في شيء ,مذ قال هذا الرجل,
كلمة واحدة ..وصمت!
مرت مشاهد وأحداث ,حاولت عبثاً أن أرّكز عليها ,غير أن أحدها استوقفني.
أثناء انشغالي بهّ ,
أن وجهة نظرنا في أي أمر ,تختلف حسب كان األستاذ يشرح درساً ما .عندما راح يوضح للطلبة ّ
موقعنا ,والزاوية التي نقف فيها.
ولذا طلب منهم أن يأتوا صوبه ,ويصعدوا الواحد تلو اآلخر فوق مكتبه ,كي يروا من حيث هم
أن قاعة الصف نفسها تبدو مختلفة ,عندما نراها من فوق مكتب األستاذ ,من الجهة
كيف ّ
المقابلة لنا.
فالطريقة الصحيحة لفهم العالم .هي في التمرد على موقعنا الصغير فيه ,والجرأة على تغيير مكاننا
وتغيير وضعيتنا ,حتى بالوقوف على طاولة ,عوض الجلوس أمامها واإلتكاء عليها.
ال ,طالبا
كان يتحدث بينما كان الطلبة يتتالون على مكتبه صعوداً ونزوالً .يستبقي بعضهم قلي ً
منهم أخذ المزيد من الوقت ,للنظر إلى األشياء من حيث هم ,فينظرون إلى مقاعدهم الفارغة
دونهم ..ثم ينزلون مندهشين.
قرر أن يخوض تجربة وفجأة وبعد أجواء مرحة .يأخذ الفيلم منحى مأساوياً ,بانتحار طالب ّ
مسرحية سراً ,وضد مشيئة أبيه ,الذي بعث به إلى هذا المعهد الراقي والباهظ التكاليف ,كي
يصبح طبيبا..
وال شيء غير هذا.
المسرحي ببراعة جعلت القاعة تصفق له طويال ,بينما
ّ يحدث ذلك في الليلة التي يقدم فيها عرضه
يحضر أبوه الذي يسمع باألمر ,ليؤنبه ويهينه أمام الجميع ,ويعود به إلى البيت.
عده األهل سبباً النتحار ابنهم .وقررت إدارة
عندها اتجهت أصابع اال تّهام نحو األستاذ الذي ّ
وحرضهم ,بطريقته الغريبة في التعليم ,على التمرد.
المعهد طرده ألنه أفسد تفكير الطلبة ّ
كل من يرفض توقيعها بعقوبة الطرد. ضده ,مهددة ّ
وطالبت اإلدارة الطلبة بتوقيع عريضة أعدتها ّ
كانت بي رغبة في مشاهدة نهاية الفيلم ,ومعرفة ما إذا كان الطلبة سيتخلون عن األستاذ الذي
كل شيء بما في ذلك الدفاع عما يعتقدونه حقيقة ,أم هل تراهم سينهزمون ,أمام أول
علّمهم ّ
مساومة دنيئة تضعهم أمامها الحياة ,لوال أنني تنبهت إلى مرور الوقت واقتراب نهاية الفيلم ,الذي
ويحولني كما في قصة سندريال من سيدة المستحيل
ّ سيفاجئني الضوء بعده ويحرق شريط حلمي
كل هذه األحاسيس الجميلة
إلى امرأة عادية ,تجلس في قاعة بائسة ,جوار رجل قد ال يستحق ّ
التي خلقها داخلي.
وكنت قد يئست من مباغتة هذا الرجل لي بكلمة تؤكد أو تنفي ظنوني .ولذا قررت أن أباغته
عادية قدر اإلمكان:
بانصرافي .فوقفت وتوجهت إليه بكلمات أردتها ّ
-عفواً ..هل تسمح لي بالمرور؟
وجاء جوابه كلمة واحده:
-حتماً..
بكرسيه ,تاركا لي ما يكفي من المسافة ,ليالمس جسدي جسده من الخلف ,دون
ّ ووقف ليلتصق
أن يحتك به تماما.
مسافة ل أعد أدري أعبرتها في لحظة أم في ساعات .ولكنها المسافة الصغيرة والكبيرة في آن
واحد ,تلك التي عندما نقطعها ,نكون قد تجاوزنا عالم الحلم ,إلى عالم الحقيقة.
ٍ
رجولة لن حد إيقافي بعد ذلك أشهرا ,أمام
أكانت كافية ..ليلتصق بي عطره ,ويخترق كل حواسي ّ
أستدل عليها سوى بعطرها؟
أعتقد أن نظراته قد رافقتني حتى مغادرتي القاعة .فقد أحسست بها تودعني بصمت ,ولكن دون
أن يكلف نفسه مشقة استبقائي بكلمة ..أو بسؤال.
من األرجح أنه كان مأخوذا بنهاية الفيلم .فلحظة غادرت القاعة ,كان األستاذ يجمع أشياءه من
الصف .بينما كان ينوب عنه المدير العجوز في إعطاء درس األدب ,في انتظار تعيين أستاذ
جديد.
كل ما أفسده هذا األستاذ .حتى أنه طلب من التالميذ
كان المدير يبدو صارما ومتحمسا إلصالح ّ
أن يفتحوا كتبهم على الدرس األول .ألنه يريد تعليمهم كل البرنامج الدراسي منذ بديته.
ولك ّنه فوجئ بهم يملكون نسخا مختلفة عن نسخته؛ تنقصها تلك المقدمة النقدية.
فقد ذهب األستاذ ,ولكن بعد أن ألقى ألى سلة المهمالت ,كل ما كان يعتقده غير صحيح .ولم يعد
مزقوه ورموه.
بإمكان أحد بعد اآلن أن يقنع الطلبة بشيء ّ
محمال بأشيائه الصغيرة ,على مرأى من
كان األستاذ يراقب المشهد بصمت ,وهو يغادر الصف ّ
المدير.
علوه,
ليودعه من ّ
وعندما وقف ليلقي نظرة أخيرة على طلبته ,نهض أحدهم وصعد على مكتبه ّ
دون أدنى كالم ,بذلك القدر من صمت البكاء.
لحظتها ..كانت عدوى الشجاعة تنتقل إلى بقية الطلبة ,الذين راحوا يصعدون الواحد بعد اآلخر
ليودعوا صمتأ ذلك األستاذ الذي طرد من وظيفته ,ألنه علمهم الوقوف على
على طاوالتهم ّ
الممنوعات والنظر إلى العالم بطريقة مختلفة.
وكما في الحياة ,كان هناك ق ّلة فضلوا البقاء جالسين على كراسي الخضوع ,تملقا للمدير.
ولكنهم في انحنائهم ,لم يكونوا ليستوقفوا النظر ,فقد قصرت قامتهم .وسط صف أصبح كلّه على
الطاوالت!
كان األستاذ يغادر الصف .وكنت أغادر القاعة ,واثقة من أنني تقاسمت مع ذلك الرجل الغريب
لحظة بكاء ,بعدما تقاسمت معه لحظة من الرغبة الصامتة.
ولم يكن مهماً لحظتها أن تكون تلك المرأة التي جلس ت إلى جواره "هي" أم "أنا"؛ فقد حدثت األشياء
بيننا كما أرادها في عتمة قاعة سينما.
****
ما كدت أرى السائق في انتظاري عند الباب ,حتى ألقيت بنفسي داخل السيارة على عجل ,وكأنني
أريد أن أحتفظ بتلك األحاسيس الجميلة في مكان مغلق.
ٍ
بصمت جوار رجل غريب أن ينطفئ داخلي بسرعة, خفت على ذلك الشيء الجميل ,الذي عشته
أن يقتله أو يبعثره الشارع ,بضوئه وضجيجه وفضول مارته وبؤس واقعه.
كان شيئا شبيها بتلك اللحظات التي نعيشها مع شخص ال نعرف شيئاً عنه .نتقاسم معه كرسياً
مجاوراً أو مقابال في عربة ميترو أو في مقطورة ,مسافة من الزمن ,دون أن نتبادل شيئاً ,عدا
النظرات المتواطئة .ثم ننزل مكتفين بمتعة الصمت ,وبلحظات شفافة مرت بنا كشال من دانتيل
الشهوة .وخلفت داخلنا كل تلك الفوضى الجميلة .واحساسا غريبا بأننا قد ال نرى هذا الوجه بعد
ذلك أبداً وأنه كان يكفي قليل من الشجاعة ..وكلمات فقط ..كي يصبح لذلك الوجه اسم وعنوان.
ولكن ,ماذا نفعل بمتعة المجهول ..إذن؟
****
في المساء كنت أرتب حقيبة يدي عندما عثرت على ذلك القرط الذي توقعته قد ضاع مني .كان قد
وقع داخلها.
تساءلت ..أيمكن لشيء صغير إلى هذا الحد أن يغير مجرى قصة؟ وهل كان لي أن أتنبه لوجود
ذلك الرجل إلى جواري – وليس أمامي -لوال تلك الحادثة الصغيرة التي دونها كنت على األرجح,
عدت إلى البيت ,واثقة من حماقة مراهنتي على األوهام؟
نعم ..أليست حياتنا في النهاية إال نتيجة مصادفات ,وتفاصيل أصغر من أن نتوقعها على قدر من
األهمية ,بحيث تغير أقدرانا أو قناعاتنا؟
تفاصيل ,في حجم تينك الكلمتين ,اللتين على صغرهما ,جعلتاني أصدق أن األحالم األكثر جنونا
قابلة للتحقيق ,وأنه ال حدود بين الكتابة والحياة.
منذ البدء ,أخذت بجمالية تلك العالقة الغريبة والمستحيلة ,وبذلك الحب االفتراضي الذي قد يجمع
بين رجل من حبر وامرأة من ورق ,يلتقيان في تلك المنطقة المتلبسة بين الكتابة والحياة ,ليكتبا
معا ,كتابا خارجا من الحياة وعليها في آن واحد.
أكثر من انبهاري بشخصية ذلك الرجل ,ومساحة الظل فيها ,كنت مبهورة بلقائنا المحتمل بين
عتمة الحبر ..وعتمة الحواس.
كلما تعمقت في هذه الفكرة .ازددت تصديقا أو تورطا في مقولة أندريه جيد ,واثقة تماما بكتابة
قصة حب من الجمال إلى درجة لم يعد بها الجنون أية كاتبة قبلي!
الجنون ..بدايته حلم.
وحلمي الليلة ,أن أسكن جسد تلك المرأة التي ذهبت نيابة عنها ,لمشاهدة فيلم.
أود لو استعرت جسدها لمدة كتاب ,كما تستعير النساء عادة مصاغا أو ثوبا يرتدينه لعرس.
كل شيء ,أنافي هذه المدينة التي تستعير فيها النساء من بعضهن بعضاً كل شيء ويتبادلن ّ
كل ما في خزانتي ,ماذا لو استعرت الشيء الوحيد الذي ال أملكه حقا؟
التي أعرت الجميع ّ
جسد امرأة غيري ,وجهها ,مالمحها ,ذاكرتها العشقية ,قصتها مع رجل يعنيني أمره ,ويعنيني أكثر
أجن .وأنني جلست فعالً إلى جواره لمدة ساعتين ..وأنه قال
أن أتأكد من كوني لم أكن أحلم ..ولم ّ
لي خاللهما كلمتين!
أود لو كان بإمكاني أن أتنكر في زيها ,ليكون لي حق رؤيته في الضوء ال في العتمة.
أن نتبادل كالما طبيعيا ,ال كلمات قاطعة أو متقاطعة كتلك التي تبادلناها.
أن نجلس متقابلين ,ال متجاورين ,في الزاوية اليسرى أو اليمنى في أي مكان كان.
ولكن كيف؟ وأين؟
تستدرجني هذه التفاصيل إلى فكرة على قدر من الجنون ,فأركض نحو مكتبي ,أحضر الدفتر
األسود .وأشرع في قراءة تلك القصة ,قافزة على األسطر ,الهثة النظرات ,بحثا عن شيء محدد,
ما أكاد أعثر عليه ,حتى أتوقف عن القراءة ,بفرحة من عثر على شيء أضاعه في البحر.
أغلق الدفتر ,وأتنفس الصعداء .فقد عثرت على اسم المقهى الذي كانا يلتقيان فيه.
وهذه المرة أيضا ..لم أكن قد سمعت به من قبل!
سائق األجرة الذي طلبت منه مرافقتي إلى مقهى "الموعد" ,بدا عليه شيء من االندهاش جعلني
أعتقد أن ال وجود لهذا المقهى.
غير أنه سألني ,وهو يراني محملة بالجرائد واألوراق ,بنية التمويه ,إن كنت أقصد المقهى القائم
بجوار حي الفوبور .أجبته باإليجاب ,تفاديا لمزيد من األسئلة.
ولكنه راح يمد معي حديثا عن األوضاع األمنية .وعن شرطي ألقوا به ليلة البارحة من الجسر,
وعن فتاة ورفيقتها اختطفتا أثناء عودتهما من المدرسة ..وذبحتا.
كنت أستمع إليه وهو يسرد علي أخبار األقارب والجيران والزبائن .وكل ما سمع به من مصائب.
وال أدري أكان من األفضل أن أسايره با لحديث ,فأشغله عن فضوله تجاهي ,أم أصمت ,كي ال
أِجعه على تعكير مزاجي .فأنا أدري تماما أن الوضع األمني سيئ هذه األيام .وهو أحد أسباب
زيارة زوجي للعاصمة .ولست في حاجة إلى مزيد من التفاصيل ,في هذا الصباح بالذات..
كنت أعي أنني أقترف حماقة أخرى بذهابي إلى مكان ال أعرف شيئا عنه .حتى أني لست واثقة
من وجود ذلك الرجل فيه .ولم أحتط ,سوى في ذهابي إليه صباحا ,في ساعة ال يكون مكتظا فيها
بالزبائن ,وهو الوقت الذي أتوقع أن يلتقي فيه اثنان ,لو أنهما أرادا التالقي في مقهى.
أما الجرائد واألوراق التي أحملها ,بنية التمويه ,فيبدو أنها قد تكون سببا إضافيا للمتاعب ,ولن
تقيني من شبهات أخرى.
في النهاية ..لم يكن لي من شيء أحتمي به في ذلك الصباح سوى مقولة للشاعر اإلرلندي
شيماس هيني "امش في الهواء..مخالفا لما تعتقده صحيحا"!
وهكذا رحت أمشي نحو قدري ,عكس المنطق.
عمن جئت
كان المقهى أكثر هدوءاً مما توقعت .وبرغم ذلك دخلته بارتباك واضح .فأنا ال أدري ّ
أبحث ,وال أين يجب أن أجلس ,وال ماذا يجب أن أطلب ,وهل أخفي أوراقي أم هل أفردها على
الطاولة ..وكأنني جئت هنا ألكتب.
وقبل كل هذا ..أية زاوية يجب أن أختار للجلوس .كي ال أخطئ باختيارها قصدي.
هو قال "احجزي لنا طاولة أخرى ..في أية زاوية عدا الزاوية اليسرى ..ما عاد اليسار مكانا لنا".
أيعني أنني يجب أن أجلس في الزاوية اليمنى من المقهى وأنتظر؟ أم أجلس في الزاوية اليسرى,
ترقبا لمن سيأتي ويجلس إلى يميني؟!
بدا لي المكان شاسعا .يجلس في ركن أيسر منه شاب وفتاة ,مأخوذين بنقاش حول أمر ما .وفي
زاويته اليمنى رجل بقميص أبيض دون ربطة عنق ,منهمك في الكتابة .أمامه أوراق ..وجرائد..
وكثير من أعقاب السجائر.
جلست في الزاوية المقابلة له .محافظة على مسافة ثالث طاوالت بيننا ,تحسبا للخطأ.
بدت منه التفاتة فضولية .نظر إلي بعض الشيء .والى الجرائد التي وضعتها على الطاولة .ثم
عاد إلى الكتابة.
لم أفهم يوما ,كيف يكون بإمكان البعض أن يكتب هكذا في مقهى أو في قطار .دون أي اعتبار
لحميمية الكتابة.
أن تجلس لتكتب في مكان علني ,كأن تمارس الحب على وقع أزيز سرير معدني .وبإمكان الجميع
أن يتابعوا عن بعد ,كل أوضاعك النفسية ,وتقلباتك المزاجية ,أمام ورقة.
حاولت أن أنشغل عن ذلك الرجل ,ولكنني لم أتوقف عن متابعته.
أذهلني غيابه لحظة الكتابة .وأذهلني أكثر أنه يكتب كالما في صيغته النهائية .دون تفكير ,أو
تردد ,أو شطب.
كان يتوقف أحيانا .يأخذ نفسا من سيجارته ,ثم يعود إلى الكتابة.
في لحظة ما ,بدا لي وكأنه على وشك أن يبادرني بالكالم .فقد توقف بين جملتين .وراح ينظر إلي
دون أن يقول شيئا .توقعت التفاتة تفضحه .ولكنه كان وكأنه ينظر إلى شيء وحده يراه .ولم أجد
شيئا أهرب إليه من نظرته تلك ,سوى فتح جريدة كانت معي ..ورحت أطالعها كيفما اتّفق.
بدت منه لحظتها ,ابتسامة مربكة ,لم أفهمها تماما؛ أكان يسلم علي بها؟ أم يشفق علي من
إلي!
وحدتي؟ أم يسخر مما أقرأ؟ ..أم يقول لي فقط إنه تعرف ّ
ربما كانت تلك المرة األولى التي أطلت فيها النظر إلى مالمحه.
كان على قدر من الوسامة .وكنت أشعر بمود ة غامضة تجاه هذا الوجه ,وضعف تجاه هذا
الحضور الرجالي الصامت الذي ال يشبه في شيء التصرفات الذكورية في هذه المدينة.
إحساس ما ,كان يقول لي إنني في زمن ما ,أحببت رجال يشبهه أو أنه يشبه تماما رجال سأحبه
يوما.
ورغم ذلك لم أجرؤ على القول إنه "هو" قبل أن تصدر عنه أية التفاتة تشي به.
أكان منشغال عني حقا؟ أم كان فقط يتحرش بي بصمته .يجلس أمامي هكذا على مرمى قدر.
ينتظر سؤال يأخذنا إلى شيء قد يحضر؟
أنا المرأة الجبانة التي لم تبادر يوما رجال بالكالم ,كيف لي أنا أشاغبه ,أن أشعل تلك االنارات
الصغية التي ستجعله يوقف الكتابة ويقول لي شيئا؟
كم تمنيت لحظتها أن ينطق! ولكنه كان يعبث بي بكالم ال يقال إال صمتا ..ويدخلني في حالة من
االرتباك الجميل.
أثناء تفكيري ,جاء النادل وسألني ماذا أريد .ال أدري لماذا أجبته على غير عادتي "قهوة".
ربما ألنسيه أنوثتي .مادام الرجال يطلبون عادة قهوة.
ذهب ولم يعد.
ولم يعنني كثيرا أنه لم يأت بقدر ماكان يعنيني قدوم رجل مميز المظهر ,يرتدي قميصا اسود
ونظارات شمس سوداء ,في العقد الرابع من عمره .له خطى واثقة ,وأناقة رجولة ,في غنى عن أي
جهد.
بدا على الرجل وكأنه يعرفني ,أو كأنه فوجئ بوجودي هناك؛ فقد ألقى نحوي نظرة مندهشة ,ثم
سالما وديا بإشارة من رأسه .ذهب للجلوس جوار ذلك الرجل ,الذي توقف أخيرا عن الكتابة .وراحا
يتبادالن حديثا,لم يصلني منه شيء.
داهمني شعور بالندم ,وربما بالضآلة ,كلما طال حديثهما ,وكلما طال انتظاري لشيء ال يأتي.
عندما تنتظر أحدا ,أنت ال ترى شيئا بعينه ,وال تتأمل شيئا بالتحديد؛نظراتك مبعثر كمزاجك .والذي
تنتظره قد يأتي من الالمكان ,ويفاجئك وسط ذهولك ,وفوضى أفكارك ..وأسئلتك.
من هو هذا الرجل؟ هل تعرف إلي؟بل كيف أتعرف إليه؟وهذه المرأة التي سطوت على هويتها ,ما
شكلها ,ما لون شعرها؟ ما هي عاداتها في السالم ..عاداتها في الكالم ..عاداتها في االنتظار؟
وهذا الرجل الذي بادرني بالسالم ومضى,أتراه يعرفني؟ أم يعرف أخي ..أو زوجي؟ أم تراه يعرفها؟
ولماذا يتأملني هكذا؟ تراني أشبهها؟ تراه كان ينتظرني؟ أم كان ينتظرها؟ أم تراه كان موجودا هنا
للتحدث إلى هذا الصديق ال أكثر ..وماذا لو كان" هو"؟
أبحث في عينيه عن شيء ما ,عن ذكرى ..عن شوق مؤجل ,عن بقايا حزن سري ,عن حب مات
في هذا المكان.
ولكن عينيه المختفيتين خلف نظارات سوداء ,ال توصالنني إلى أي جواب .بينما يطالعني هو عن
بعد ,دون أن تفضحه نظراته.
أن يسترق النظر غلي أثناء حديثه ,هذا ال يعني شيئا .أي رجل غيره كان تصرف كذلك ,على
األقل من باب الفضول ,إن لم يكن من باب التحرش الصامت بأنثى تجازف بالجلوس بمفردها في
مقهى بمدينة كهذه.
وماذا لو كان صديقه ,هو الرجل الذي جئت من أجله ,وأنه يمثل معي دور التجاهل كما فعل طوال
عرض الفيلم ,إن هذا ا لدور يشبهه تماما .إنه رجل يشي به الصمت ,وتلك الزاوية اليمنى التي
أختارها للجلوس مقابال للذاكرة.
أخيرا جاء النادل بفنجان القهوة ,وضعه أمامي ,أو باألحرى رمى به أمامي وذهب.
انتبهت لعدم وجود السكر جواره ,كما هي العادة .رفعت يدي ألناديه ,ولكنني عدلت فقد كان بعيدا,
ولم أشأ أن أرفع صوتي ألقول كالما تافها مثل "ياخويا ..يعيشك ..جيبلي سكريه".
شعرت أن صمتي أجمل من أن أكسره ألقول شيئا لنادل ,خاصة أن عواقب ما سأقوله لن تكون
محمودة ,حسب ما توحي به لحيته.
فقد يرفض أن يعطيني السكر .وقد يطلب مني أن أذهب إلى بيتي ,واشرب القهوة بالسكر أو
بالقطران ..إذا شئت .هذا إذا لم يقلب علي فنجان القهوة.
فمنذ األزل ,الجزائر بلد يمكن أن يحدث لك فيه أي شيء مع نادل!
كتلك الحادثة التي روتها لي صديقة صحافية كانت موجودة في السبعينات في نزل فخم
بالعاصمة ,مع وفد من الصحافيين الجانب ,بمناسبة الذكرى الثالثين الندالع الثورة .وبعد انتظار
طويل ,وبعد أن يئست من إحضار طلباتها ,استدعت النادل ,وقالت له على طريقة الشرقيين:
نحن ننتظر منذ نصف ساعة ,عليك أن تولينا اهتماما خاصا .إننا ضيوف لدى الرئاسة!
ولكنه رد عليها بطريقة ال يتقنها غير الجزائريين:
ما دمت ضيفة عن الرئاسة ..روحي لعند بن جديد "يسربيلك".
ومضى ليتركها مذهولة.
طبعا عندما عادت إلى سوريا وروت هذه الحاثة ,لم يصدقها أحد .فعندنا فقط ,يطلب النادل من
رئيس الجمهورية أن يخدم ضيوفه بنفسه!
أمام ما أعرفه من قصص .عدلت عن طلب أي شيء من ذلك النادل .خاصة أنني في وضع
"مشبوه" بالنسبة إليه.
حتى إنني ,لم تكن بي رغبة في النهاية الحتساء تلك القهوة.
ولكن ..فجأة وقف ذلك الرجل ذو القميص األسود ,واتجه نحوي ,وفي يده صحن عليه بعض قطع
من السكر.
ال أدري كيف انتبه لما كنت سأطلبه ,,رغم كونه كان يبدو منشغال بالحديث إلى صديقه.
إحساس غامض انتابني وهو يقترب مني .ويمدني بذلك الصحن الصغير .عطره الذي اخترق
حواسي ,أعادني إلى العطر الذي شممته في السينما ,عندما اقترب ذلك الرجل مني ممسكا والعة.
فانتابني مزيج من الخوف واالندهاش.
وحدها نظرته كانت تنقص ,ليكتمل المشهد .ولكن كان باستطاعته أن يثير داخلي األحاسيس
نفسها ,ويقول الشيء نفسه ,دون أن يخلع نظارته السوداء؛ فقد اصبح لهذا العطر ذكرى تقودني
في عتمة الحواس ..ألستدل عليه.
ولذا لم أقاوم رغبة في استدراجه ,أو في اختباره ,وأنا أكرر معه المشهد نفسه ,مستعملة الكلمات
نفسها:
-أسفة ..لقد أزعجتك..
وجاءني الرد ,مذهال في تطابقه:
-قطعاً..
وكما في المرة األولى قالها ومضى ,دون ان يضيف شيئا.
أما أنا ,فمن ذهولي بقيت لحظات أتابع عودته إلى تلك الطاولة .وجلوسه بالتلقائية نفسها التي
غادرها بها.
رداً لفرط ما أردته بدا لي كأنني توهمته.
لحظات ..أتأمله ,قبل أن أصدق ّ
لم يكن قرطي هو الذي وقع مني هذه المرة .وانما قلبي الذي أصبح بكلمة واحدة يقع مغمى عليه
علي كل مرة أن اتعرف بكلمة
كلما خطر للحب أن يلعب معي لعبة الغميضة ,ويضعني أمام رجلينّ ,
واحدة إلى أحدهما!
كنت ما أزال تحت وقع تلك الكلمة ,عندما رأيتهما ينهضان .بدت من الرجل ص احب القميص
األبيض إشارة من رأسه كأنه يودعني بها ,رافقتها نظرة غائبة تعد بشيء ما .ومضى.
الحظت انه كان يرتدي بنطلونا أبيض ايضا ,بينما توجه نحوي اآلخر ,ممسكا جريدة ,لم تكن معه
عند مجيئه.
وقف برهة أمامي ..ثم سألني:
-أتسمحين لي بالجلوس؟
كان يجب أن أقول "ال" .أو في حالة أخرى "تفضل "ولكنني أجبت:
طبعا..
ً -
لكنه لم يجلس .قال وهو ما زال واقفا:
مقهى آخر ..أيزعجك
معا في ً
-في الحقيقة ..أنا أكره هذا المكان ..وأفضل أن نذهب لتناول شيء ً
هذا..؟
أجبته:
قطعا.
ً -
طبعا ,كان يجب أن اقول العكس .ولكن وجدتني ال أملك من لغة سوى لغته ,خاصة أنني وجدت
في عدم حبه لهذا المكان ,دليال آخر على كونه "هو".
أخرج من جيبه قطعة نقدية ,تركها على الطاولة ,ثمن قهوتي .ثم بلياقة فاجأتني ,سحب الكرسي
الذي أجلس عليه ,ليساعدني على مغادرة المكان.
ولم أملك سوى أن اتبعه .أو باألحرى أن أتبع شيماس هيني وأواصل مشيي في الهواء ,مخالفة
لما أعتقده ..صحيحا!
أمام باب المقهى أوقف سيارة أجرة بإشارة من يده وجلس جوار السائق .ووجدتني ألحق به,
وأجلس خلف سائق شاب ,فاجأتني طيبته .مما جعلني أغفر له ضيق سيارته وحرارتها القاتلة.
كنت سأفتح النافذة .ولكنني خفت أن يزيد هذا من احتمال رؤية اآلخرين لي .فرحت أنتظر أن
ينطق هذا الرجل ..لتنطلق بنا السيارة أخيرا.
-هل تعرف مكانا يمكن أن نذهب إليه؟
التفت السائق دهشا نحوه؛ فلم يحدث أن طرح عليه راكب سؤاال كهذا.
تأمله بشيء من السخرية .ربما أشفق علينا ,أو بارك جنوننا..
قال:
-أين تريدان الذهاب؟
أجاب اللون األسود:
-إلى أي مكان ال يزعجنا فيه أحد .هل هناك مقهى ,أو قاعة شاي هادئة؟
ابتسم الرجل ساخرا من طلبه .ومن األرجح أن يكون قد استنتج أننا غرباء.
أدار محرك سيارته وطار بنا.
كان الطريق بعيدا بعض الشيء .ورغبة لم تفارقني أثناءه .بالجلوس أخيرا الى هذا الرجل .أن
أكون جواره أو مقابلة له ,ال خلفه كما أنا اآلن .يصلني منه بعض عطره ,تحمله نسمت سيارة
مسرعة .فأتقاسم معه مجرى الهواء ..وكثيرا من صمت األسئلة.
أولها :لماذا جلس جوار السائق؟ أليضع بيننا مسافة ما ..لسبب أو آلخر ,أم ألن أي سائق
(أجرة) في الجزائر يشترط علي أن تجلس جواره ال خلفه؟ وقد يذكرك بهذا صارخا في وجهك "يا
خدام عندك!".
خو ..مانيش ّ
أما السؤال األهم فهو ليس سبب جلوسي وراءه وانما طبعا سبب وجودي معه.
ما الذي أوصلني إلى هنا؟ ترى فضولي األدبي هو الذي جعلني أدخل مغامرة على هذا القدر من
الغرابة؟
أم تراني أذهب نحو الحب بذريعة األدب؟
وكيف يمكن لرجل لم يقل لي سوى بضع كلمات ,أو باألحرى كلمة ,أن يأتي بي حتى هنا ,دون أن
أسأله حتى من يكون .وكان كل قدراتي العقلية قد تعطلت ,لتنوب عنها حواسي .فألحق رجال
اختزن جسدي رائحته؟
في لحظة ما ,كدت أسأله "ما اسم عطرك يا سيدي؟" ثم ترددت .جنون أن أسأل رجال عن اسم
عطره ,قبل أن أسأله عن اسمه اآلن ,فسيأخذ السؤال ُبعد اإلهانة للحلم.
الحلم ال اسم له.
وهو ,تراه يعرف اسمي؟ وأي األسماء تراه يعرف ..اسمي أم اسمها؟ ورفقة من هو جالس..
برفقتي أم برفقتها؟ ومع من هو ذاهب إلى هذا العنوان الذي ال يعرفه ,معي أم معها؟
عند "سيدة السالم" توقفت بنا السيارة ,أمام مقهى شاهق الموقع ,هادئ األجواء ,يطل على أودية
ال نهاية لعمقها.
مضى السائق محمال بشكرنا اللغوي ..والنقدي ليتركنا أمام األسئلة.
أجبنا عن سؤال النادل بالجواب نفسه" :نريد كوكا" .وكأننا نقول ,نريد أن تتركنا وشأننا.
وصمتا لنترك المجال ألسئلة أكبر.
كنت أعد نفسي لكالم كثير .ولكنه لم يقل شيئا .أشعل سيجارة ,وراح يتأملني في نظرة تطالعني
بين غيابين .ثم قال وهو يسكب لي المشروب ,بيد ما زالت ممسكة بالسيجارة:
-أخيرا ِ
أنت!
كان في نبرته شوق ,أو اندهاش جميل .كأنما لفرطه ,ال يمكن أن تختصره أكثر من كلمتين.
شعرت أنه يواصل الحديث إلى امرأة غيري .ربما تلك المرأة التي لم يكن يقول لها شيئا ,عدا
صمته .وربما امرأة أخرى غيرها.
ذهلت الستنتاج كهذا .أيعقل أن يأخذني مأخذها؟
ولكنه واصل بما يؤكد ظني:
-غريب حقا ..أن أصادفك في ذلك المقهى .لوال صديقي لما حضرت إلى هناك.
صمت قليال ثم واصل:
-شيء فيك تغير منذ ذلك الوقت .ربما تسريحتك ...أحبك بشعرك الطويل هذا .أتدرين ...كدت ال
أتعرف عليك لوال ثوبك األسود.
سألته دهشة:
-وهل تعرف هذا الثوب؟
أجب ضاحكا:
-ال ..ولكنني أعرف لك طريقة في ارتداء األسود ..لكأنه معك لون خلق للفتنة ال للزهد.
لم أدر كيف أرد على غزل لم اكن مهيأة له ,وال أظنني كنت المقصودة به.
قلت وأنا أسايره في خطاه:
-أما أنا ..فاعترف أنك فاجأتني ..قبلك لم أر رجال يلبس األسود في هذه المدينة ,حتى لو كان
ذلك حدادا .لكأن الرجال يخافون هذا اللون أو يكرهونه.
-وأي لون توقعت أن أرتدي؟
-ال أدري لكن الناس هنا يرتدون ثيابا ال لون لها.
مذهل هذا الرجل ,بكالمه المربك كصمته ,ومنطقه المعقد والبسيط في الوقت نفسه ,وأجوبته التي
ليست سوى رؤوس أقالم ..ألسئلة أخرى.
وبرغم أنه لم يترك لي مجاال لطرح أي سؤال "طبيعي" فقد اكتشفت في قوانين منطقة شرعية
احراجه ,واستدراجه لقول حقيقة ..لن تؤخ 1منه إال بالمقلوب!
ولذا بادرته قائلة بشيء من السخرية:
-أنت رجل يغري بطرح األسئلة معكوسة ..فهل لديك شجاعة كافية للرد على أسئلتي؟
أجاب بتحد مازح:
-هذا عائد إلى ذكائك!
رفعت التحدي .وطرحت سؤالي األول:
-أي اسم كنت تريد أن تحمل؟
وجاء جوابه مدهشا:
-االسم الذي اخترته لي في كتابك ..إنه يناسبني
كان يضحك وهو يجيبني.
ولم أصدق ما سمعت .جوابه كان يعني أنه يدري من اكون .ولكن ,من تراه يكون هو ..ليتحدث
إلي وكأنه خارج توا من قصتي؟
أجبته كمن يمزح:
-ولكن ..أنا لم أختر لك اسما بعد..
رد بالسخرية نفسها:
-فليكن ..يناسبني تماما أن أبقى بال اسم!
-ولكن هذا يزعجني ..أال يمكنك أن تخلع قليال من غموضك؟
-وحده الحب يعرينا يا سيدتي..
-هل أفهم أنك لست عاشقا..؟
بقي سؤالي معلقا إلى صمته ,فتداركت خطأي ,وأعدت طرح السؤال بصيغة أخرى.
عراك؟
-هل حدث للحب أن ّ
-حدث ذلك مرة واحدة .بعدها لبست خيبتي ولم أخلعها بعد.
قلت بنشوة أنثى:
-إذن ليس في حياتك امرأة؟
أجاب:
-كم يلزمني من الصمت يا سيدتي ..ألرد على أسئلتك؟
كان علي أن أفهم "كم يلزمني من الصبر يا سيدتي ألرد على فضولك" أو ربما "ألرد على أسئلتك
الغبية"..
ولكن هذه اإلهانة المهذبة ليست ما استوقفني .وانما كلمة أخرى شديدة التهذيب.
سألته:
-لماذا تناديني" سيدتي" ..من أخبرك أنني متزوجة؟
-ابتسم وقال:
-ثمة نساء خلقن هكذا بهذا اللقب ..جئن العالم بهذه الرتبة .وأية تسمية أخرى هي إهانة
ألنوثتهن.
وقبل أن أسعد بجوابه ,واصل بعد شيء من الصمت:
-ما عادا هذا فحالتك المدنية لم تعد تعنيني..
صيغة النفي ف ي جملته األخيرة ,فاجأتني .شعرت أنها تخفي سابق ما .أو أمرا ال يريد اإلفصاح
عنه.
سألته:
-لماذا قلت "لم" تعد تعنيني ..وليس ال تعنيني؟
رد بسؤال كاذب:
-أقلت هذا حقا؟
وصمت.
كان واضحا أنه يعرف شيئا عني .والمزعج ,أنني لم أكن قد عرفت بعد شيئا عنه .ولذا قررت أن
أواصل التحدي مستعملة طرقه المقلوبة ,في طرح األسئلة.
قلت:
-لم يحدث أن التقيت بشخص يشبهك في هذه المدينة ,بي فضول لمعرفة أي مدينة تسكنك؟
ولكنه رد ساخرا وكأنه اكتشف الهدف من سؤالي:
-لن يفيدك جوابي في شيء .أنا كالكتاب الذين يسكنون مدينة كي يكتبوا عن أخرى .أسكن
مدينة ,ألتمكن من حب أخرى .وعندما أغادرها ,ال أدري أيهما كانت تسكنني ..أيهما سكنت .أنا
حالياً شقة شاغرة .غادرت قسنطينة عن حب ..وغادرتني هي عن خيبة!
-أأنت من قسنطينة؟ عجيب ..توقعت أن تكون غريبا عنها.
-لنقل إنني كذلك.
-وماذا تعمل في الحياة؟ ..أقصد ما كنت تريد أن تكون؟
قال ضاحكا الستدراكي ,وللنبرة الساخرة التي صححت بها سؤالي:
-في الواقع كنت أريد أن أكون ممثال ..أو روائيا ,كي أعيش أكثر من حياة ..إن حياة واحدة ال
تكفيني .أنا أنتمي إلى جيل يعاني أزمة عمر ,وأنفق حياته قبل أن يعيشها.
وأضاف:
-ما عدا هذا ..أنا رسام ,وراض تماما عن مهنتي ,ألنني ال أفعل بيدي إال ما أريد.
قاطعته مندهشة:
-أنت رسام؟!
-وماذا توقعت أن أكون؟
-ال أدري ..ولكن..
-ولكن ماذا؟
-كنت أعرف في السابق رساما من قسنطينة ..تذكرته اللحظة.
أذكر أنه كان مهووسا بها إلى درجة أنه لم يكن يرسم سوى..
قاطعني قائال:
-سوى الجسور!.
صحت:
-هل عرفته أنت أيضا؟
ابتسم وقال:
-ال ..ولكن ,أتوقع لرسام يحب هذه المدينة ,أن يرتكب حماقة كهذه.
-ولماذا تسمي هذه حماقة؟
-لنقل أنني ال أحب الجسور..
-عجيب ..لقد قضى هو أشهرا في إقناعي بالعكس ,توقعت أن يحب الرسامون المعالم نفسها.
أطفأ سيجارته وكأنه يريد أن ينتهي من موضوع مزعج وقال:
-ما أدراك ..ربما يكون قد غير رأيه منذ ذلك الحين ..وحدهم األغبياء ال يغيرون رأيهم!
استنتجت أن حديثي عن قسنطينة يزعجه؛ فرحت أبحث عن موضوع أستدرجه به إلى الكالم .وقبل
أن أنطق قال وهو يتأملني:
-أحبك في هذا الثوب ..األسود يليق بك..
-حقاً؟
-حقاً .ولكن أكثر من هذا اللون .أحب المصادفة التي جعلتنا نرتد اللون نفسه اليوم أيضا .مازلت
أذكر ذلك الثوب الذي كنت ترتدينه يوم رأيتك أول مرة .حتى إنني كما في قصة ذلك األمير الذي لم
يبق له من (سندريال) سوى حذاء ليتعرف به إلى فتاة ال يعرف سوى مقاس قدمها ,أتوقع أنني لو
رأيت امرأة ترتدي ثوبا من الموسلين للحقت بها ,متأكدا من كونها أنت.
نفض سيجارته ببطء وواصل:
-الذي أحزنني يومها .هو أنني لم أستطع أن أتبادل معك ولو كلمة واحدة .كل األضواء كانت
ضدنا .ربما ألننا كنا األجمل ف ي زفاف كان لغيرنا .أذكر ..كانت الفرقة الموسيقية تعزف أغاني
للفرح ,عندما توقفت فجأة ,وراحت تعزف موسيقى الدخلة إيذاناً بقدوم العروسين .واصطف على
الجانبين نساء في كل زينتهن التقليدية ,يضربن على البندير والدفوف .في تلك اللحظة بالذات,
كنا ندخل مصادفة معاً ,مرتد ين اللون نفسه ,عندما انطلقت زغاريد النساء حولنا .لم نكن
العروسين ,وجدنا هناك خطأ في تلك اللحظة ,وذلك المكان بالذات .فقد كنا سابقين للعروسين
بخطوات فقط .ولكن كان مرورنا معا في تلك اللحظة هو الخطأ األجمل .فبعدنا بدا الموكب الشرعي
أقل تألقا في بياضه .لم يغادرني هذا المشهد أبدا بع ذلك لسنوات .لكأنهم زفوك إلي وهما في ذلك
الثوب األسود.
نفسا من سيجارته ثم واصل: سحب ً
-أذكر يومها تبعثرنا ارتباكا في تلك القاعة .رحت تحادثين آخر ,ورحت أحادث أخرى باهتمام
مقصود .أخذ كل واحد منا مكانا في مجلس مختلف ,تفاديا لمزيد من األضواء واألخطاء .ولكننا لم
نذهب أبعد من بعضنا بعضا .لقد كنا متقابلين حتى في تجاهلنا المتعمد أحدنا لآلخر .ال أعتقد أن
تكوني قد اشتهيتني في البدء ,وال أنا اشتهيتك .الحب هو الذي اشتهانا معاً ,وحلم ببطلين
تماما ليمثال دورا على هذا القدر من الغرابة.
يشبهاننا ً
كنت أستمع إليه .دون أن أجرؤ على مقاطعته بكلمة .وجدت في صمتي مالذاً ,وايهاما له بأنني
أعرف كل هذا ,إضافة إلى تلك الحالة الجمالية التي يضفيها الصمت في مواقف كهذه.
شعرت أنه يتحدث عن امرأة غيري .فأنا ال أذكر أنني ذهبت إلى زفاف بمفردي ولبست ثوبا كهذا,
ألنني ال أملك أصال في خزانتي أي ثوب من الموسلين األسود .ولو حدث هذا ,ودخلت قاعة زفاف
خطأ ,صحبة رجل غريب على هذا القد من التميز ,لما كنت نسيت ذلك .وال كانت هذه المدينة
التي تحترف اإلشاعات ,منحتني فرصة النسيان.
خفت أن أصارحه ,فأكسر كثيرا من جمالية وهم كل منا باآلخر .فبقيت صامتة ,كي استمتع
بوضعي الملتبس بين امرأتين ,واحده يطاردها ألنها ترتدي األسود ,واألخرى تطارده ألنه قال
"قطعا".
في النهاية ..كان كالنا بالنسبة إلى اآلخر سندريال واألمير في الوقت نفسه .وكان هذا أغرب ما
في قصتنا!
لم أجد شيئا أعلق به على كالمه .سوى جملة أردتها أن تحمل أي تفسير:
قلت:
-كم لنا من البدايات لقصة واحدة!
أجاب:
لقاء مشابها لهذا..
-ولهذا كنت واثقا تماما ,أننا سنلتقي .بل إنني تصورت لنا ً
ثم توقف قليال وواصل:
-أتدرين لماذا تركت لسائق التاكسي حرية اختيار مكان لنا ,وجازفت بموعدنا األول؟
وقبل أن أسأله "لماذا؟" واصل:
-ألنه في الحب أكثر من أي شيء آخر ,البد أن تكون لك عالقة ثقة بالقدر .أن تتركي له مقود
سيارتك .دون أن تعطيه عنوانا بالتحديد .أو تعليمات صارمة ,بما تعتقدينه أقصر الطرق .واال
فستتسلى الحياة بمعاكستك ,وتتعطل بك السيارة .وتقعين في زحمة سير ..وتصلين في أحسن
الحاالت متأخرة عن أحالمك!
قلت:
-إن أمرا كهذا يتطلب كثيرا من الصبر .وأنا امرأة ال تعرف االنتظار.
أجاب:
-أنت لم تعرفي الحب إذن!
قلت:
-بل عرفته ..ولكن معرفتي به لم تزدني إال عجلة .ولهذا ربما ..كثيرا ما أخطأت .علمني الحب أن
ال أصدقه فما استطعت .وعلمن ي أن أتعرف إليه قبل أن أحتفي به ,فما استطعت .مازلت أمام قطار
الحب ,أرى في كل نازل قدومه ,فأحمل عنه أمتعته ,وأسأله عن رحلته ,وعن مهنته ,وعن أسماء
المدن التي مر بها ,والنساء الالتي مررن به ,ثم أكتشف وهو يحادثني ,أنه أخطأ بين قطارين
وجهته ..فأذهب نحو حب آخر ,وأتركه مذهوال من أمري جالسا على حقيبته!
كان يستمع إلي بشيء من االهتمام ,الذي قد يكون سببه احتمال أن يكون هو أيضا ,في تلك
اللحظة جالسا على حقيبته ..دون علمه.
ألهذا قال وهو ينفض رماد سيجارته في المنفضة ببطء مدروس:
-أتمنى أن تغادري بعد اآلن هذه المحطة..
ساد بيننا شيء من الصمت ,الذي لم أعرف كيف أكسره سوى بسؤال بدا لي ساذجا بعد جملة
كهذه.
كان األصح أن أقول "كيف؟" ولكنني سألته:
-لماذا؟
وجاء الجواب مباغتا في صرامته:
-ألنني آخر راكب ينزل من هذا القطار .لقد كان الطريق إليك طويال .بعدي توقفت كل الرحالت.
فال تنتظري شيئا يا سيدتي ..لقد أعلنتك مدينة مغلقة!
كيف يمكن المرأة أن تقاوم رجال ثمال بهذا القدر من الكبرياء؟
وهل ثمة أجمل من حب يولد بشراسة الغيرة ,واقتناعنا بشرعية امتالكنا لشخص ليس لنا ..نراه
ألول مرة!
كان على قد من إغراء الرجولة في تلقائيتها .وهو يلفظ هذا البالغ العشقي األول بهدوء مربك في
ثقته ,بحيث لم يبق من مجال لسؤال منطقي مثل "بأي حق تقول هذا؟" فقد وقعت بجملة ,تحت
سطوة الحب وجنونه ,ورحت أتبادل معه حوارا خارج المنطق:
-ولكنني ال أعرف عنك شيئا..
-هذا أجمل.
-وال تعرف عني أكثر من وهم الموسلين..
-ال يهم..
-وتعتقد أنك قادر على إيقاف صفير القطارات وندائها السري داخلي..؟
-قطعا..
-وهل تظن أنه من السهل أن نكون عاشقين ..في هذا الزمن المضا للحب؟
-طبعا
-ولكننا نذهب نحو تورط عشقي..
-حتما يا سيدتي!
-وقبل أن أجمع دهشتي ألضيف شيئا .كان يرفع يده ويطلب من النادل الحساب ..وسيارة أجرة.
وما هي إال دقائق حتى كنا متجهين معا صوب فراق ,ونحن بعد مقبالن على حب.
عطره كصوتي .لم يكن هذه المرة مرتفع النبرة.
سألته:
-متى نلتقي؟
أجاب:
-سأتصل بك.
لم يترك لي من فسحة سوى لعالمة تعجب.
-تتصل بي؟ كيف؟
وجاء الجواب هادئا:
-ال تقلقي ..أعرف كل شيء.
-ولكن..
-أعرف.
كانت السيارة تنزل بنا نحو ضجيج قسنطينة االعتيادي.
التصاعدي.
ّ وكنا منعطفا بعد آخر نتسلق حبا شاهقا في صمته
ومده أمام دهشتي بورقة نقدية ..وبعنواني
فجأة ,طلب من السائق أن يوقفه أمام ضوء أحمرّ ,
خدي ..ولكنه
كامال ,طالبا منه أن يوصلني حتى الباب .ثم انحنى نحوي وكأنه سيضع قبلة على ّ
لم يفعل .همس في أذني" :من األحسن أن ال نعود معاً؛ هذا أكثر أمانا لك" ثم أضاف كمن نسي
شيئاً" :سأشتاقك".
وغادر السيارة ..ليتركني تحت وقع المفاجأة.
****
مرةً أخرى ..ها هو ذا يذهب ويتركني معلقة إلى عالمات االستفهام .تنتابني حالة لم أعرفها من
قبل :مزيج من أحاسيس عجيبة تفاجئني وأنا أغادر تلك السيارة ,وأسرع نحو البيت ببراءة امرأة
عائدة من السوق ,أو من زيارة ,ال من موعد في مكان ال تعرفه مع رجل ال تعرفه .ولكنه يعرفها!
أغلق باب غرفتي .أخلع بسرعة ثوبي األسود ,وكأنني أخلع تهمة على عجل.
أجلس على طرف سريري منهكة ,مبعثرة تائهة النظرات .أحاول أن أفهم ما حدث لي تماما ,أن
أستعيد كل الذي قاله ذلك الرجل في ساعة ونصف ,كل تفاصيل حوارنا الذي لم يسألني فيه سوى
سؤال أو سؤالين ,بينما طاردته أنا باألسئلة دون جدوى ,ما دمت قد عدت في النهاية بأسئلة
أكثر ,لم أكن أتوقع معظمها .ليس أقلها :من يكون هذا الرجل؟ ومن أين له كل تلك المعلومات؟
وكيف يعرف حتى عنوان بيتي؟
طبعا ,في منطق األشياء كان يجب أن أعرف عنه أكثر مما يعرف عني ,مادام ليس إال بطال في
ً
قصتي.
ولكن ,أصبح إبداعي اآلن يقتصر على التحايل عليه ,الكتشاف قصتي األخرى وهي تُروى على
حدثني فيها عن موعدنا األول ,وعن ثوب الموسلين األسود الذي كنت
لسانه .كتلك اللحظة التي ّ
أرتديه يومها .وكان يمكن أن أصدق احتمال لقاء كهذا ..لو أنه كان يوجد في خزنتي ثوب من
الموسلين األسود.
ولم أقاطعه عمدا ,وال علقت على كالمه؛ اكتفيت باالستماع إليه باندهاش مستتر ,وربما بغيرة
فجرت فيه يوما كل هذه األحاسيس الجميلة.
سرية من تلك المرأة التي ّ
لقد ولدت قصت ي معه ,أيضا في لحظة غيرة .فقد كان هو الرجل الذي كنت أبحث عنه ألقيس
نفسي به .ولذا منذ البدء لم يفارقني إحساس بالغيرة منه والغيرة عليه ,ورغبة في قتل تلك المرأة
والحلول محلها ,دون أن أترك بصماتي على عنق الكلمات.
منذ البدء ,ال هاجس لي سواها .حتى إنني سألته مرتين إن كان في حياته امرأة ,وأجابني في
المرتين بالنفي .وربما كان هذا أجمل ما قال لي.
طبعا لم يكن هناك من مبرر لسعادتي؛ فأنا ما زلت أذكر ذلك الذي سألته في أول موعد لنا" :هل
ً
ال في حياته
في حياتك امرأة؟" وأمام فرحتي بجوابه ,أضاف "ال تفرحي ..من األفضل أن تحبي رج ً
امرأة ..على أن تحبي رجالً في حياته قضية .فقد تنجحين في امتالك األول ,ولكن الثاني لن يكون
لك ..ألنه ال يمتلك نفسه!".
ولم أمتلكه .أخذته مني تلك القضية إلى األبد .وال استفدت برغم ذلك من نصيحته :ما زلت في
الحياة أحب الرجال الذين في حياتهم قضية ,وفي الروايات ,أحب األبطال الذين في حياتهم امرأة.
وكان أجدر بي ..لو فعلت العكس!
ذات لحظة ,راودني احتمال أن يكون في حياة هذا الرجل أيضاً قضية ما ,تبرر حزنه الباذخ,
ونوبات صمته ,ونزعته إلى التهرب من األسئلة .وهي صفات كثي ارً ما خبرتها في هذا النوع من
الرجال.
ولكنني استبعدت احتما ًال كهذا .فقد انتهى زمن القضايا الكبيرة ,والقضايا الجميلة ,التي كانت
تجعل جيال كامال من الرجال يبدو أكثر عنفوانا وتألقا مما هو.
في الدكاكين السياسية ,التي يديرها حكام زايدوا علينا بدهاء في كل قضية ..باعونا "أم القضايا"
القومي.
ّ وقضايا أخرى جديدة ,معلبة حسب النظام العالمي الجديد ,جاهزة لاللتهام المحلي و
مثالي .ثم متنا متسممين بأوهامنا ,لنكتشف ,بعد فوات األوان ,أنهم
ّ فانقضضنا عليها جميعا بغباء
مازالوا هم وأوالدهم على قيد الحياة يحتفلون بأعياد ميالدهم فوق أنقاضنا ..ويخططون لحكمنا
لألجيال القادمة.
ولذا ..منذ "تلك القضية" انقرض الحالمون ,وسقط فرسان الرومانسية من على خيولهم!
توصلني هذه الخواطر إلى زوجي الذي لم أمتلكه أيضاً .ال لكوني أقتسمه مع امرأة أخرى
"شرعية".ولكن ألنه ملك للمسؤولية .وألن الكرسي هو قضيته الوحيدة.
في النهاية ,أكاد أصل إلى نتيجة مخيفة :الحب قضية محض نسائية .ال تعني الرجال سوى
بدرجات متفاوتة من األهمية ,بين عمرين أو خيبتين ,وعند إفالس بقية القضايا "الكبرى".
ما يشغلني حقا هو كيف أواصل كتابة هذه القصة بالنزاهة نفسها.
كيف لي بعد اآلن ,أن أكون الراوية والروائية لقصة هي قصتي .والروائي ال يروي فقط .ال يستطيع
أن يروي فقط .إنه يزور أيضا .بل إنه يزور فقط .ويلبس الحقيقة ثوبا الئقا من الكالم.
كل امرئ بيته.
ولذا فإن كل روائي يشبه أكاذيبه ,تماما كما يشبه ّ
وصلت إلي هذه الفكرة وأنا أتذكر ما قرأته عن الكاتب األرجنتيني بورخيس الذي أصبح أعمى
تدريجيا ,والذي كان عندما يصل إلى مكان ,يطلب من مرافقه ,أن يصف له لون األريكة ,وشكل
الطاولة فقط .أما الباقي ,فكان بالنسبة إليه" مجرد أدب" .أي بإمكانه أن يؤثثه في عتمته ..كيفما
شاء.
عندما تعمقت في منطقه ,اكتشفت أن كل رواية ليست سوى شقة مفروشة بأكاذيب الديكور
الصغيرة ,وتفاصيله الخادعة ,قصد إخفاء الحقيقة ,تلك التي ال تتجاوز ,في كتاب ,مساحة أريكة
وطاولة .نفرش حولها بيتا من الكلمات ,منتقاة بنوايا تضليلية ,حد اختيار لون السجاد ..ورسوم
الستائر ..وشكل المزهرية.
ولذا ..تعلمت أن أحذّر الروائيين الذين يكثرون من التفاصيل :إنهم يخفون دائما أمراً ما!
تماماً ,كما يحلوا لي أن أتسلى بقراء يقعون في خدعتها ,بحيث ال ينتبهون لتلك األريكة التي
يجلسون فوقها طوال قراءتهم لذلك الكتاب متربعين على الحقيقة.
منذ األزل ..وأنا أبحث عن قارئ يتحداني ,ويدلني أين توجد "الطاولة" و"األريكة" في كل كتاب!
ال ,لم يوفق يوما في تمييز األثاث الحقيقي عن األثاث المزيف في أي نص كتبته .ولذا
زوجي مث ً
أصبح يبدي انزعاجه من جلوسي لساعات أمام طاولة الكتابة ,بدل تخصيص هذا الوقت لطفل ال
يأتي ,دون أن يعترف تماما بأن ما يزعجه هو الكتابة في حد ذاتها .كعمل مواجهة ,ومراوغة
صامتة .لم يستطع _ برغم إمكانياته البوليسية_ التجسس على مصداقيتها.
يوجهني من طبيب إلى آخر .ويبعث بي من مدينة إلى
وبدل أن يواجهني بحقيقة أفكاره ,راح ّ
ليحول األمومة مشكلتي وقضيتي األولى.
أخرىّ ,
لم أعد أذكر كم زرت من األطباء بتوصيات خاصة ,وكم من أضرحة لألولياء أجبرتنني أمي على
التبرك بها.
سنتان وأنا أرافقها دون اقتناع .وحتى دون رغبة حقيقية في "الشفاء" من عقمي.
يمكنني أن أقول بأنني كنت أذهب فضو ًال ..وربما استسالماً ال أكثر.
أحيانا ,أحب استسالمي .يمنحني فرصة تأمل العالم دون جهد .وكأنني لست معنية به.
في الواقع ,أثناء ذلك أكون في حالة كتابة ..صامتة.
كهذا المساء ,أتوقع أن أمارس عادتي في الكتابة ,صمتًا ,وأنا أتفرج على زوجي ,وهو يخلع بذلته
العسكرية ,ليرتدي جسدي للحظات ,ثم ..يغرق في النوم.
طبعا ..فاللباس ليس سوى "اإلشعار" الذي نريد إيصاله إلى اآلخرين .ولذا ككل إشاعة ,هو يحمل
دائما نية التضليل ,حسب منطق ذلك الرجل الباذخ الحزن ,والذي يرتدي الفرح إشاعة.
وهكذا ,تكمن عبقرية العسكر ,في اختراعهم البذلة العسكرية التي سيخيفوننا بها.
نقاء وأقرب
ويكمن دهاء رجال الدين ,في اختراعهم لثياب التقوى التي سيبدون فيها وكأنهم أكثر ً
إلى اهلل م ّنا.
وذكاء األثرياء ,في اختراعهم توقيعات لكبار المصممين .كي يرتدوا من الثياب ما يميزهم ع ّنا,
ويضع بيننا وبينهم مسافة واضحة!
وهو ..لماذا تراه اختار األسود؟
أم ليأتي مطابقا للون جئته فيه مصادفة .واختارته لي الحياة بنية التضليل ,كي أعطيه إشعارا
كاذبا ..بأنني" هي!"
****
هذه المرة ال أمنع نفسي من االبتسام وأنا أراها تهجم على المطبخ ,معتقدة أن مشكلتي هي األكل
ال غير؛ وان ال احد يهتم بي ويطبخ لي ما أحب.
وألنني حدث أن أحببت يوما هذه "الطمينة" فستظل أمي تطاردني بها حتى أخر أيامي ,أو أخر
أيامها.
والطمينة هي صحن مكون من خليط من العسل والسمن وطحين الحمص .وهي تقدم للنفساوات
ليستعدن قوتهن بعد الوضع .وتقدم أيضا للضيوف الذين يأتون ليطمئنوا إلى النفساء .وربما يكون
اسمها قد جاء من هنا.
وال اذكر كم من كميات أكلت من هذه "الطمينة" ,مع فطور الصباح وقهوة بعد الظهر ,دون أن
أتساءل مثل اليوم أكانت أمي تعدها لي كل فترة بنية تغذيتي أم بنية استدراج القدر كي تحل
البركات في هذا البيت وتسعد يوما بتقديم "طمينتها" لضيوف سيأتون ليطمئنوا إلي ..والى حفيدها!
حول فنجان قهوة ,وصحن طمينة ,ها نحن نجلس لنطمئن إلى بعضنا بعضا ,وكأننا لم نتحدث
يوميا على الهاتف ,أو كان في هذه المدينة ما يستحق الحديث كل يوم.
تسألني عن أخبار زوجي .أجيب انه جيد .وأكاد ال أجيب .مرة أخرى أتذكر فلسفة ذلك الرجل الذي
كان يجيب بالصمت عن األسئلة الغبية .ألن الناس يسألونك عن أخبار زوجتك ..ال عن أخبار
المرأة التي تحب.
ولكن كيف ألمي أن تسألني عن أخبار رجل ال أعر أنا نفسي اسمه ,وال تعرف هي أنه حبيبي.
ال آخر ..غير زوجي؟
وماذا تراها ستجيب لو قلت له في نوبة جنون ,إنني أحب رج ً
تراها عرفت الحب لتفهمني .هي التي لم تعرف حتى معنى الزواج .وتحملت نتائجه فقط.
كم مرة تراها ما رست الحب في حياتها؟ خمس سنوات من الزواج .كانت خاللها تسكن في بلد وأبي
في آخر .ولم يكن يعود من الجبهة إلى تونس ,إال مرة كل بضعة أشهر ,ليقضي معها بضعة أيام
ال أكثر ,يعود بعدها إلى قواعد المجاهدين .حيث كانت تنتظره مسؤولية إدارة العمليات في الشرق
الجزائري.
أخير شرف االستشهاد ,ولها قدر الترمل في العمر الذي تتزوج
ذات يوم ,ذهب ولم يعد .كان له ًا
فيه األخريات.
في الثالثة والعشرين من عمرها ,خلعت أمي أحالمها .خلعت شبابها ومشاريعها ,ولبست الحداد
اسما أكبر من عمرها ومن حجمها .لقد وقعت في فخ الرموز الكبرى ,بعدما وقعت قبله في فخ ً
الزواج المدبر .وهذه المرة أيضا لم يستشرها أحد ,إن كان هذا االسم الكبير يناسبها ثوبا أسود
حتى آخر عمرها ,وان كانت تفضل أن تكون زوجة لرجل عادي ,أو أرملة لرمز وطني .لقد وجدت
نفسها أمام األمر الواقع ,بطفلين صغيرين ..واسم كبير!
ومنذ ذلك الحين ,وهي تواصل طريقها هكذا ,بجسد ليس لها ,وبقدر يرضي كرامة الوطن ,الوطن
الذي يملك وحده,متى شاء ,حق تجريدك من أي شيء ,بما في ذلك أحالمك ,الوطن الذي جردها
من أنوثتها ,وجردني من طفولتي ..ومشى.
وها هو ذا ,يواصل المشي على جسدي وجسدها ,على أحالمي وأحالمها ,فقط بحذاء مختلف .إذ
لبس معي جزمة عسكرية ..ومعها حذاء التاريخ األنيق.
أتأملها في أنوثتها المعطوبة ,في جمالها المسالم ,في مرحها البسيط الذي يجاور الحزن .ها هي
ذي غامضة وهادئة كالجوكوندا .وأنا أكره الجوكوندا .أكره المالمح الهادئة ,واألنوثة
كل هذا الصقيع؟ أمن استسالمها للقدر أم من
المسالمة,واألجساد الباردة .فمن أين جاء أمي ّ
جهلها؟
كل هذه الحرائق؟ أمن تمردي على كل شيء؟ أم من براكين الكلمات التي
ومن أين جاءتني أنا ّ
تنفجر داخلي باستمرار؟
وكيف يمكن لهذا الرماد الجالس أمامي ملتفا بمالءة سوداء ..أن يلد كل هذه النيران التي
تسكنني؟
كل هذا الجمر,
وكثير ما تكذب األمثال! ها هو ذا مسحوق الرماد .يلد ّ
ًا يقول مثل" :النار تلد الرماد"
كل القناعات الجاهزة ,كل األكاذيب التي
كل شيءّ ,
كل هذه السيول النارية التي أحرقت في داخلي ّ ّ
توارثتها النساء.
توصلني أفكاري من جديد إلى ذلك الرجل .وتراودني فكرة حاولت مقاومتها منذ عشرة أيام .فأستفيد
من وجود أمي ألقترح عليها مرافقتها صحبة السائق حتى البيت .وهكذا يمكنني أثناء العودة أن
أطلب منه التجول بي في المدينة.
وأدري أن إمكانية العثور على ذلك الرجل في مدينة كهذه ,ضئيلة جداً .ولكن لماذا ال أحاول؟ فأنا
شيئا سوى بعض الوقت .وهو الشيء الوحيد الذي أملك من رتابته ,ما يفوق قدرتي على
ال أخسر ً
اإلنفاق.
ال .وتزينت تهيؤاً للقاء محتمل.
وهكذا بسرعة ,كنت قد ارتديت فستاناً جمي ً
ها أنا في سيارة رسمية .أجلس جوار سائق سلّمته مقود القدر.
أشعر براحة ,ألنني لم أجهد نفسي في البحث عن مكان لهذا الموعد .مادامت التفاصيل الصغيرة
حق التصرف ,أو التسلي ببرنامجي.مهمة القدر ,فألترك للقدر إذن ّ
لن أتدخل هذه المرة إطالقاً ألختار وجهة السائق ,أو أقترح عليه بالتحديد ,الطريق الذي سيسلكه
ليوصلني إلى قدري.
تركض بي السيارة نحو المجهول .السائق الذي يعرفني ويعرف هذه المدينة جيدا ,يعجب ألمري.
وال يفهم طلبي العجيب" خذني حيث شئت ..أريد أن أتفرج على المدينة".
تعود أن يتلقى األوامر فين ّفذها ,وليس مؤهال ألداء دور القدر .ولذا ال
إنه مجرد جندي متقاعدّ ,
يفهم أن أجرب معه وصفة ذلك الرجل نفسها ,عندما طلب من سائق غريب أن يأخذنا حيث شاء,
سيارتنا.
ويمنح القدر فرصة قيادة ّ
لف بي نصف شوارع المدينة ,متوهما أنني أريد أن أتفرج على واجهات المحالت:
فجأة سألني وقد ّ
ودرك ..وين نروحوا؟
ُ -
حاولت أن أستدرجه الختيار مكان بالتحديد؛ قلت:
تحبها أنت ..اديني ليها.
-واهلل ماني عارفة يا عمي أحمد ..راني شوية قلقانة إذا عندك بالصة ّ
أجاب ظقد فاجأه طلبي:
-أنا نحب كل شيء في قسنطينة ..راني ولد البالد.
رحت ألح في حشره:
تحب أكثر في قسنطينة؟
-وواش ّ
أجاب بعد شيء من الصمت:
-نحب القناطر ..ما كان حتّى بالد عندها قناطرها..
أصابني جوابه بشيء من الخيبة .ولكنني احترمت قانون اللعبة ,وقلت:
تحبه..
نحوس في كاش قنطرة ّ -إديني ّ
وراحت السيارة من جديد ,تسرع بي من جسر وهم إلى آخر ,معلقة بين السماء واألودية التي
يتدحرج نحو هاويتها أملي الضئيل في العثور على ذلك الرجل.
لقد قال أنه ال يحب الجسور .وربما قال إنه لم يعد يحبها .فلماذا جئت أبحث عنه فوقها؟
أتمادياً في نزاهتي مع القدر ,كي أثبت له حسن نيتي وثقتي المطلقة به؟
أم ألنني اعتقدت برغم ذلك –أو بسبب ذلك -قد أجده هناك ,وأنه يحدث أن نتردد على األماكن
التي لم نعد نحبهاو فقط لنبرر كراهيتنا لها ,ونتأكد من أننا على حق؟ وهو تصرف يشبهه تماماً!
في الواقع ,كنت ال أصدق كراهيته لهذه الجسور .وبرغم ما قاله أحسه مشابهاً لذلك الرسام الذي
حد الجنون.
عرفته في الماضي ..والذي كان مهووساً بها ّ
ويصر على كوني أشبهها ك ّلما رسمها.
ّ أذكر أنه كان يحبني بقدر حبه لها,
وأنا لم أكن أحبها ,وال كنت أشبهها .كنت أحبه ,وأشبه صديقه الشاعر ال غير.
أو ربما بالعكس ,كنت أشبهه هو ,وأحب صديقه .أو على األصح ,كنت أشبه نفسي ..وأحبهما
معاً.
مضاد.
ّ فافترقنا .كان هناك حب زائد في قصتنا .وكان ثمة قدر
مات الشاعر ميتة فلسطينية.
وتزوجت تلك الفتاة ..زيجة قسنطينية.
ّ
واختفى الرسام ,وكأنه قرر أن يموت أيضاً على طريقته غيابياً.
ال ال يغلق في وجهه باب .ولكنه لم يعد.
أي مبرر ,فقد كان رج ً
كان من الممكن أن يعود ,تحت ّ
مضى كما جاء دون ضجيج .وترك لي لوحة معلقة على جدار غرفة االستقبال .عليها جسر معلق
كقصتنا ..بحبال من حديد.
قبل هذه اللوحة لم أكن أحب الجسور الحديدية .تلك الشاهقة ,كسؤال ال يطاله جواب .واآلن أيضاً,
وأنا أرى هذا الجسر خارج تلك األلوان الزيتية التي تعودتها ,تعاودني كراهية غامضة له ..لم أجد
لها يوماً سبباً منطقياً.
طلبت من السائق أن يتوقف ,عساني أعثر على جواب لهذا اإلحساس ,أو ربما عثرت على ذلك
الرجل هنا وسط عشرات الناس العابرين.
يحدث للحياة أن تهدي إليك الشيء الذي تحبه األكثر ,في المكان الذي تكرهه .فلطالما أذهلتني
الحياة بمنطقها غير المتوقع.
الحديدي ,فتفاجئني قسنطينة
ّ أفتح باب السيارة من الجانب المطل على الجسر .أقترب من سوره
هوة من األودية الصخرية المخيفة ,موغلة في العمق ,تزيدها ساعة
كما لم أرها يوماً من جسرّ :
الغروب وحشة.
كل االتجاهات ,وكأنهم يخافون الجسور ,أو كأنهم
أتذكر وأنا أرى الناس حولي يسرعون في ّ
يخافون ليل قسنطينة ,تلك القصيدة لوولت ويتمان (على جسر بروكلين):
المد الصاعد تحتي ,وأراك وجهاً لوجه!
" ّ
غيوم من الغرب
والشمس ما تزال هناك لنصف ساعة أخرى
وأراك وجهاً لوجه
حشود من الرجال والنساء يتنكرون
في ثيابك العادية,
عيني!
ّ ما أغربكم في
علو
يعاودني فجأة إحساسي الدائم بالدوار .وقدماي تكادان ال تحمالنني .وأنا أقف مذعورة على ّ
ال رحل ..وأنتظر آخر لن يأتي. سبعمائة متر ,أستعيد رج ً
أسعد ألن السائق غادر السيارة ,ووقف ليرافقني حيث ال تثير وقفتي العجيبة فضول المارة ,الذين
لم يتعودوا رؤية سيارة رسمية تقف وسط الطريق ,لتخرج منها امرأة غريبة األطوار تريد التفرج
على جسر!
مد حديث مع السائق الذي أشعل سيجارة ووقف يتأمل الجسر ..وكأنه يكتشفه.
أشعر برغبة في ّ
أحدثه وكأنني أريد أن أبرر جنوني هذا.
رحت ّ
قلت:
هنا..كل ما نوقف قدام قنطرة ..تجيني الدوخة..
ّ -تعرف يا عمي أحمد ..هاذي أول مرة نجي فيها
القناطر تخوفني.
رد بنبرة األبوة:
-ما تخافيش يا بنتي ..المؤمن ما يخاف غير من ربي.
واصلت وكأنني أعاتبه على اختياره لهذا المكان:
الصح ..أنا نكرها.
ّ -ما على باليش عالش تحب القناطر ..نقولك
أجابني بمنطق البسطاء:
-حتى واحد ما يكره بالدو ..واش تكون قسنطينة بال قناطرها..
إيه لو تنطق هاذ القنطرة يا بنتي..
وصمت ,فتركته لصمته.
قررت أن ال أجادله :منطق المسنين والبسطاء يجردك من منطقك .من األفضل أال تجادلهم في
عمر من القناعات .ألنهم في جميع الحاالت أصبحوا أكبر من أن يغيروا رأيهم!
فجأة ..قال وكأنه تنبه لشيء:
-هيا نروحوا..
تنبهت بدوري إلى تقدم الوقت بنا .فأجبته:
-صح ..راح يطيح الليل!
سبقني كعادته ,بينما رحت ألقي نظرة أخيرة على تلك األودية القاحلة ,وكأنني أودعها بعدما تأكد
لي اآلن تماماً أنني أكره هذا الجسر ,وأن فضولي تجاهه قد مات تماماً ,كأملي في لقاء ذلك الرجل
الذي قضيت أكثر من ساعتين ,وأنا أجوب هذه المدينة في البحث عنه دون جدوى.
شعور عارم بالخيبة ,كان يزيد حزني .وقد خسرت تلك المراهنة الجنونية التي أبرمتها مع القدر.
أجئت هنا سابقة أم متأخرة عن الحب ,فلم أجد أحداً؟
أم لست أنا التي تقدمت أو تأخرت ,بل القدر هو الذي كان دقيقاً هذه المرة في توقيته ..كما هو
الموت؟!
دويها بقوة مباغتة ,حتى
فجأة ,خطفتني من أفكاري طلقات نارية انطلقت على مقربة مني .وهزني ّ
لكأن رصاصها اخترقني.
شاب ,أصبح على عدة أمتار مني ,يركض كسهم
انتفضت .والتفت مذعورة خلفي .فلم ألمح سوى ّ
وسط الناس ,ويختفي عند زقاق يتفرع من الجسر.
بحثت عن عمي أحمد .فلم أره داخل السيارة .وال خارجها.
تقدمت خطوات نحو الجهة األخرى .إذ بجسده ممدد على األرض ودم ينزف من رأسه وصدره.
علي ,كي أفقد وعيي وال أرى شيئاً مما يحدث
علي ,أو أنني أريد أن يغمى ّ
شعرت أنه يكاد يغمى ّ
حولي.
كانت رقعة الدم تتسع أمامي ,وصوتي يضيع مني.
تجمع حولي المارة .سألي بعضهم ما الذي حدث .بينما البعض اآلخر لم يكن في حاجة إلى سؤال
كل شيء ,أو استنتج ذلك.
أو تساؤل؛ لقد رأى بنفسه ّ
كنت أستمع إليهم يتحاورون .بعضهم يستغفر اهلل ,عاتباً على دولة يتنقل فيها المسلحون بهذه
الحرية .بعضهم يلقي نظرة دون تعليق ويبقى واقفاً للفرجة .أما أنا فأصبت بخرس الذهول .ولم
أنطق إال عندما وصلت أخيراً سيارة األمن ,لينزل منها شرطيان يشقان طريقهما بصفارة.
لم أجد ما أقول لهما وهما يسأالنني عما حدث ,سوى" خذوه إلى المستشفى ..أرجوكم خذوه".
راحا يتفحصان حالته .رصاصة في الرأس وأخرى في الصدر .طلبا سيارة إسعاف ,برغم كونه "لن
يعيش" حسب رأي أحدهما.
كان يبدو على سلوكهما توتر واضح .كانا في مقتبل العمر ,ويمسكان بمسدسيهما بعصبية,
وكأنهما منذ اللحظة التي اكتشفا فيها أنه ليس هنا من أمل في إنقاذه ,أصبح همهما أن ينجوا
بنفسيهما من تلك الحلقة البشرية التي التفت حولهما ,والتي قد يكون بينها قاتل آخر ,يحلم
باقتناص رأس أي شرطي كان.
تأمل أحدهما السيارة ,ثم رقمها بإمعان .استنتج بسرعة رتبة صاحبها ووظيفته .فذهب نحو ذلك
الجسد الممد أرضاً ,وأخذ المفاتيح من تلك اليد التي انغلقت عليها ,وكأن عمي أحمد كان يريد أن
يفتح السيارة على عجل ويهرب بي من خطر توقعه بحدسه العسكري ,أو كأنه أراد أن يموت كأي
جندي أثناء تأدية واجبه ممسكاً سالحه.
فجأةً ,أصبحت تلك السيارة الرسمية أهم من ذلك الرجل الذي قادها سنوات .والهروب بها أهم من
إنقاذ هذا الرجل الممد في بركة دم.
ال أدري كم مر من الوقت ,قبل أن تحضر سيارة اإلسعاف المنتظرة .وقت بدا لي طويال وغير
منطقي.
أثناء ذلك كان أحد الشرطيين يقف على مقربة من الجريح شاهراً سالحه ,مطالبا الناس بأن
يتفرقوا.
بينما كان الثاني يتفقد السيارة ومحتوياتها .ثم ما كادت تصل سيارة إسعاف عسكرية حتى حسم
األمر .فنقل عمي أحمد على عجل في سيارة اإلسعاف .ب ينما تكفل أحد العسكريين بقيادة السيارة
والعودة بها إلى البيت ..دوني.
جاءني أحدهم بعد ذلك طالباً مني مرافقته إلى المخفر ,ألقدم شهادتي عن الحادث بكل مالبساته
وتفاصيله.
وعبثًا حاولت إقناعهم بالسماح لي بمرافقة السائق في سيارة اإلسعاف ولكنهم رفضوا ,موضحين
أنه ليس ثمة ضرورة لوجودي.
سألت "إلى أين تذهبون به؟" .فأجابني أحدهم بشيء من العصبية "إلى المستشفى العسكري".
فهمت أنه ليس هناك من مجال ألي نقاش أو جدل.
كنت أراهم ينقلونه نحو سيارة اإلسعاف ,يضعونه على ناقلة جرحى ويوشكون أن يمضوا به.
انتابني شعور بأنني لن أراه ثانية بعد اآلن ,وأن ذلك الباب ربما سينغلق عليه إلى األبد.
ركضت نحو السيارة .ارتميت على يده ألثمها ,اغرق وجهي ودموعي فيها ,وكأنني أنقل إليه شيئا
من الحياة .كأنني أتقاسم معه حياتي مادمت لم أتقاسم معه موته ,أنا التي جئت به حتى هنا.
شفتي
ّ شعرت بأنني أقبل يد الموت ,الموت الذي سيأخذه ,والذي ينتظر اآلن فقط بأدب ,أن أرفع
عنه ليسحبه ويمضي به.
سمعته يتمتم بكلمات لم أفهمها .وصلني منها شيء شبيه ب"ما عليهش يا بنتي" أو ربما "ما
تبكيش يا بنتي "..ولكنني كنت أبكي,فبإمكاني اآلن أن أبكي في هذه السيارة القبر ..بعيدا عن
األنظار.
استعجلني العسكري الذي كان ينتظر نزولي ليغلق الباب .ولم يعد بإمكاني إال أن أغادر السيارة,
ونظراته الفارغة تالحقني ,ويده التي تركتها تواً ,بقيت متدلية تشير سبابتها بالشهادة.
تقذفني السيارة أمام باب المخفر.
تنتابني حالة لم أعرفها من قبل :مزيج من الحزن والذهول والذعر والغثيان ,وأنا أواجه رهطاً من
الناس ,لم أصادف مثلهم في حياتي؛ أناس بمظهر مخيف ,ووجوه مغلقة ,ونظرات عدوانية,
بعضهم في ثياب عادية ,وآخرون ملتحون ,يرتدون شعاراتهم داخل زي أفغاني .أحدهم حليق
الرأس في بذلة رياضية ,ويداه مشدودتان خلف ظهره بسالسل حديدية .وآخر جالس دون وجه وال
مالمح ,وآثار ضرب واضحة عليه.
بينما يتنقل العسكريون بلثام أسود ,شبيه بجوارب صوفية تخفي رأسهم .فال يبدو من وجوههم
سوى ثالثة ثقوب يتحدثون ويرون بها ,دون أن يعرفوا.
ما لم أجد له مبرراً أيضاً ,هو طول انتظاري في ذلك المكتب الصغير .وكان أمري ال يعني أحداً ,أو
كأن الجميع مشغولون عني بأمر أهم.
بين حين وآخر ,كانت تصلني صرخات شاب ,أتوقع انهم يقومون باستجوابه على طريقتهم ,وهو
ما زاد حزني وشعوري بالعجز واأللم.
في لحظة ما ..توقعت أنهم ألقوا القبض على القاتل .ولكن كنت أشك في أمر كهذا .فلم يحدث أن
ألقوا القبض على قاتل بهذه السرعة.
ثم حضر فجأة شرطي ,وطلب مني مرافقته.
هذه المرة كان ينتظرني في مكتب مؤثث بلياقة أكثر ,تتناسب مع رتبة الضابط الجالس خلفه,
تعلوه صورة الرئيس الشاذلي بن جديد.
نهض الضابط لمصافحتي وطلب مني الجلوس.
بادرته بالسؤال:
-هل عثرتم على القاتل؟
أجاب وهو يرتب بعض أوراقه:
-ال ..نحن نعتمد على شهادتك لمساعدتنا في ذلك.
أبتلع ريقي .يواصل:
كل شيء.
كل التفاصيل تعنينا .حاولي أن تتذكري ّ
ّ -
أجيب:
-ال ..أنا كنت أنظر نحو الجسر ..عندما سمعت طلقات نارية .وعندما التفت ..رأيت شاباً يركض
ويختفي في الزقاق المتفرع عن الجسر.
-أتعتقدين أنه كان وحيداً ..أم أن أحداً كان بصحبته؟
أجيب:
-أنا لم أر إال رجال واحداً يركض .وال أدري إن كان آخرون في انتظاره ,أو في صحبته.
-كم تتوقعين أن يكون عمره تقريبا؟
-ربما بين العشرين والخامسة والعشرين..
-أيمكن أن تصفيه لي؟
-ال أعرف كيف أصفه ..أنا لمحته من الخلف.
-هل الحظت أثناء مشواركم أن سيارة أو دراجة نارية تتبعكم؟
-ال أدري ,فقد كنت مشغولة بالنظر أمامي .أدري فقط أنه أثناء وقوفنا عند الجسر كان هناك
زحمة سيارات ,وزحمة مارة ,وأن البعض كالعادة ,كان يتلفت بفضول وينظر إلينا.
-هل أطلتما الوقوف على الجسر؟
-ال أعتقد ..ربما بقينا هناك ما يقارب العشر دقائق ال أكثر .أذكر أن السائق قال لي فجأة "هيا
نروحوا" وكأنه تنبه لشيء .ثم اتجه نحو السيارة ..وما كدت ألحق به حتى أطلقوا الرصاص عليه.
-هل من عادتك أن تترددي على هذا المكان؟
-ال ..إطالقاً.
-هل أخبرت أحدا بمشوارك هذا؟
-ال
-الشغالة مثال ..أما قلت لها أين أنت ذاهبة؟
-ال ..أخبرتها كالعادة أنني سأغادر البيت ال أكثر.
يتوقف قليالً وهو يقلب ورقة صغيرة أمامه .ثم يسألني:
-وأخوك ..هل هو على علم بتنقالتك؟
أجيبه دهشة:
-أخي؟ ..ولكنه ال يقطن معي.
يجيب:
-أعرف ذلك.
ثم يواصل:
-هل الحظت في اآلونة األخيرة تغيراً في سلوك السائق ,شيئاً من العصبية أو شيئا من القلق
الواضح في تصرفاته؟
-ال ..إنه رجل هادئ ومسالم .وكان أثناء مشوارنا األخير يتحدث إلي بروحه المرحة ذاتها.
ال:
يواصل تسجيل بعض مالحظاته على ورقة .ثم ينهض ويصافحني قائ ً
-قد نتصل بك مرة ثانية إذا كان من ضرورة للتدقيق في بعض التفاصيل.
ثم يواصل:
-لقد علمت أن زوجك موجود في مهمة بالعاصمة .سأرسل له خبراً عن طريق الوزارة ..وأقدم له
تقريراً حال عودته.
يرافقني نحو الباب ,وطلب من عسكري مرافقتي إلى البيت ,فأصافحه .وبصوت لم يعد صوتي أقول
"شكرا" وأغادر عالم الحديد ..إلى عالم الذهول والفجيعة.
****
مخيفة هي الكتابة دائماً .ألنها تأخذ لنا موعداً مع كل األشياء التي نخاف أن نواجهها أو نتعمق
في فهمها.
يوم بدأت هذا الدفتر ما كانت نيتي أن أفلسف األمور حولي .ولذا أكتشف اليوم ,أن موت هذا
الرجل أكبر مني ,يتجاوز حدود فهمي ,يتجاوز منطقي ,ألنه حدث خارج دفتري .أو باألحرى على
هامش صفحتي .في ذلك الخط األحمر الدقيق الذي يفصل بين الحياة والكلمات.
وهمي وكائن حبري ,ولم يحدث للموت أن كان في
ّ العجيب والمؤلم في موته ,أنه مات بسبب بطل
متناول الكلمات ,في متناول الوهم إلى هذا الحد!
ذلك الرجل الذي يكره الجسور ,ويكره األسئلة .أوصلني حبه إلى أسئلة ال جواب لها.
لماذا مات ذلك الرجل؟ لماذا اليوم؟ لماذا اآلن؟ لماذا هناك بالتحديد؟ لماذا هو بالذات؟
كنت أستدرجه ليختار عنوانا لقدري ,فأختار أنا عنوانا لقدره.
قلت له خذني إلى ال مكان الذي تحبه األكثر في هذه المدينة ,فسرق الموت سؤالي ,وأوصله إلى
جوابه األخير.
ولكن األمور بالنسبة إلى زوجي ,الذي عاد على عجل في صباح اليوم التالي ,ال يمكن أن تكون
مبسطة إلى هذا الحد .ليس فقط ألنه يجهل القصة التي أكتبها وأعيشها ,والتي أوصلتني إلى ذلك
كل شيء رجل عسكري .واألسئلة التي تعنيه أسئلة محض بوليسية ,ال
الجسر .ولكن ألنه قبل ّ
علي مشابهة لتلك التي سبق أن أجبت عنها البارحة.مكان فيها للقدر ,وال لألدب .وها هي تنهال ّ
ولكن بنبرة عصبية مختلفة ,وبإضافات جديدة هذه المرة.
-لماذا ذهبت إلى هناك؟ أجننت لتوقفي سيارة رسمية وسط الطريق وتنزلي لتتفرجي على جسر..
وتتبادلي الحديث مع السائق على مرأى من الناس؟
-أردت أن أرى الجسر عن قرب ال أكثر ..ألنني أراه دائما على تلك اللوحة المعلقة في الصالون..
تلك التي أهداها إلينا الرسام خالد بن طوبال يوم زواجنا .وصادف أن مررت من هناك ,فقلت ال
بأس أن أنزل وأتفرج على الجسر ,ما دمت أتجول وما دام أمامي بعض الوقت.
-تتجولين؟ أهذه مدينة للفسحة؟ أو هذا زمن للتجوال؟ البلد يعيش حالة حصار معلنة على كل
التراب الوطني ,وأنت تتجولين؟ أال تقرأين الجرائد؟ أال تتحدثين إلى الناس؟ كل يوم يقودون رجال
الشرطة ,يذبحونهم كالنعاج ويلقون بهم من الجسور..
-ولكن ال أفهم ما ذنب عمي أحمد في كل هذا؟
-إنه يقود سيارة عسكرية ..أي أنه عسكري!
-ولكنه لم يكن يرتدي زياً عسكرياً..
-ال يهم ..كان في خدمة الدولة ..وهذه تهمة كافية .إال إذا توقعوا أنه أنا .وفي هذه الحالة كان
لهم أكثر من سبب لقتله.
األهم:
ّ ال ثم يطرح سؤاله
يصمت قلي ً
-أين كنت تجلسين؟
ُت ََ َم ِت ُم:
أَ
-جواره كما أفعل أحياناً[ ..في الواقع كما أفعل دائماً].
نغرق معا في صمت فاضح .تذهب أفكارنا معا إلى الشيء نفسه.
عمي أحمد بالذات,
يحتج على جلوسي جوار السائق .ولكنني كنت ,مع ّ
ّ في البدء ,كان زوجي
عاجزة عن الجلوس خلفه .فقد كان يعيش معنا معظم الوقت كفرد من العائلة .وكان في حضوره
شيء من الوفاء والطيبة التي تجعلني أخجل من إعادته خارج البيت ,إلى مرتبة سائق وخادم
يحمل أشيائي ال أكثر ,هو الذي كان يوماً يحمل سالحاً.
كنت أحترم ذاكرته الوطنية .أحترم يديه ,وشعيرات رأسه الرمادية .ولم يكن يعنيني أن تكون قامته
الفارعة توحي بأنه أصغر من عمره ,حتى يبدو أحياناً قريباً في مظهره من زوجي .كما لم تعنني
الضباط ,عندما يفاجئنني جالسة إلى جواره.
ّ يوماً نظرات التعجب التي كانت تقابلني بها زوجات
في النهاية ,خالفي مع زوجي قد يتلخص في هذا المقعد .فقد كان طموحه الجلوس خلف سائق
في سيارة رسمية ,وطموحي كان الجلوس جوار رجل في سيارة.
كان بين أحالمنا مسافة مقعد ,ال أكثر .ولكن كانت المسافة أكثر شساعة ّمما توقّعت .فأنا لم أكن
أعرف قبل اليوم أن اختيارنا الجلوس في مقعد بالذات دون غيره قد يفضح اقتناعاتنا وطموحاتنا
غير صفته ورتبته.
يغير مكانهّ ,
إلى هذا الحد ,وال أنه قد يتسبب في قتل رجل بريء ,ألنه دون أن ّ
وها أنا إذن ,أمام شرح آخر لموته ,شرح ال يبرئني أيضاً من دمه ,ما دمت بجلوسي جواره ,حولته
في نظر اآلخرين من سائق إلى ضابط ,وجعلته بالتالي هدفاً مفضالً لرصاصهم.
أف ّكر فجأة في غرابة القدر الذي أبدع هذه المرة في كت ابة نهاية لحياة هذا الرجل ,الذي عاش
جندياً بسيطاً ..خمسين سنة .ثم مات برتبة ضابط كبير.
لقد بلغ أحالمه في اللحظة األخيرة من عمره .ومات بتهمة أحالمه .وربما سعيداً بها .ألم يمت
ضابطاً في المكان الذي يحبه األكثر في قسنطينة؟ الجسور!
المكان نفسه الذي من األرجح ,أن يكون قد حارب فيه منذ ثالثين سنة ,وجازف فيه بحياته أكثر
من مرة .ولكن الموت لم يأخذه يومها ,ألنه لم يرده جندياً متنكراً في برنس المجاهدين ,أو شهيداً
في عملية فدائية .تلك ميتة عادية.
ي.
ي ..ليموت برصاص جزائر ّ
أرداه بعد ثالثين سنة ,جندياً يجلس في مقعد ضابط جزائر ّ
إن ميتة كهذه ,وحدها ميتة استثنائية!
ناصر عمره سبع وعشرون سنة .يصغرني بثالث سنوات ,ويكبرني بقضية.
أسماء ال نختارها ,إذا بنا نشبهها في النهاية.
ً لقد جاء العالم هكذا حامال قضية معه ,كما نحمل
ربما ألن أبي الذي كان مأخوذا بشخصية عبد الناصر ,أثناء حرب التحرير ,أراد أن يعطيه اسما
مطابقا ألحالمه القومية .إذا به دون أن يدري يعطيه اسمين :اسمه كواحد من كبار شهداء
عربي.
ّ الجزائر ,ولقباً ألكبر زعيم
ناصر تقاسم كل شيء مع الوطن ,يتمه ..واسمه الذي لم يعد اسمه .ناصر عبد المولى ,كان
الطفل المدلل لذاكرة الوطن .ولكن ليس بالضرورة طفل الوطن المدلل .ولد باسم أكبر منه ,وضع
على كتفيه برنساً للوجاهة.
وكانت تلك مصيبته.
ال أن تكون ابن رمز وطني .دون أن تشعر بالبرد تحت ذلك المعطف الفاخر السميك.
ليس سه ً
فماذا تراه كان يلبس ,تحت ذلك المعطف .ليتدفأ في زمن الخيبات؟
ماذا تراه كان يخبئ تحت برنس الصمت؟
أقبله بشوق .أبادره كعادتي بلهجة قسنطينية ,مسروقة كلماتها من قاموس األمومة:
-واش راك ..يا اميمة توحشتك..؟
يجيب:
يعيشك.
-مليحّ ..
ويجلس في جبته البيضاء مقابال لي .اس تنتج أنه عائد من الصالة ,أو ذاهب إليها .فلم يحدث أن
قضيتين.
التقيت به ,إال وكان بين صالتين ..أو بين ّ
كما اآلن ,عندما أقول له ,وكأنني أبحث عن موضوع أبادره به:
-لقد جئت ألودع "ما" ..يبدو أنه لن تشبع من الحج..
فيجيبني:
-لقد قلت لها إن أجرها سيكون أعظم لو تصدقت بثمن حجتها إلى فقراء العراق ولكنها لم
تصدقني...
فأصمت وال أدري كيف أواصل معه الحديث.
أمي بموتي.
خالل تلك الفترة ..لم تفارقني فكرة االنتحار .ولم يمنعني من تحقيقها سوى فجيعة ّ
اضي" كبير ال يشبه في شيء بندقية الصيد المتواضعة
في الواقع كنت أبحث لي عن موت "استعر ّ
التي أطلق بها خليل حاوي ,رصاصة على جبينه في 7حزيران 1891احتجاجا على اجتياح
إسرائيل للبنان ,على مرأى من كل األخوان والجيران العرب ,بعد أن قال ألصدقائه "أين هذه األمة؟
من العار أن أقول أنا عربي أمام هذا التفرج المخزي".
كنت أريد لي انتحارا على قدر فجيعتي ,شبيها بانتحار الكاتب الياباني مشيما ,الذي بعد أن سلم
الجزء الرابع واألخير من روايته الرباعية ,إلى المطبعة .توجه ذات صباح أحد ,لتنفيذ الفصل
األخير من حياته كما خطط له إعالميا ,بعد أن قرر االنتحار ,احتجاجا على خروج اليابان مذلولة
من الحرب العالمية أمام أمريكا ,وضياع شخصيتها القومية أمام الغزو الغربي.
الجميل أنه استعد لموته ,بأخذ دروس خاصة بالمصارعة والفروسية ,والكمال الجسماني .ما مكنه
من أخذ قائد القوات اليابانية كرهينة ,والتوجه بخطاب حماسي إلى ألف جندي ياباني ,كانوا
مجتمعين لمناسبة وطنية.
وعندما لم يترك خطابه أثرا في ذلك الجيش المهزوم ,عاد ميشيما إلى غرفة قائد القوات .وارتدى
اللباس التقليدي الياباني .عاقدا أربطته وأزراره برباطة جأش ملحوظة .ثم دعا المصورين ليأخذوا
له صورا ,رفقة جيشه الصغير ,المكون من مائة شاب ,أعدهم للموت دفاعا عن عظمة اليابان .
ووقف ممسكا بسيفه السامورائي المحظور ,لينتحر مباشرة أما عدسات المصورين ,هو ومساعده,
وفقا لطريقة الهاراكيري الرهيبة في االنتحار ,الواحد تلو االخر.
سالما ميشيما.
أينما كنت أيها الصديق ,أقبل جبين رأسك المفصول عن جسدك .والملقى منذ نوفمبر 1871عند
أقدام الوطن ,رفضا أبديا لذل االنحناء ألمريكا.
ما زلت اتساءل :أكنا وقتها متفائلين أم سذجا كي ننحاز إلى أمة متمادية في هزيمتها وعنادها,
كي تنجز بتفوق كل ذلك االخفاق!
في تلك الفترة أصبح ناصر ضرورة يومية ,لبقائي على قيد العروبة ,مزايدا علي في كل شيء,
رافضا أن أشتم أمامه نظاما عربيا بالتحديد .فإما أن أشتمها واحدا ..واحدا[ ..ألسباب يسردها
علي مطولة مفصلة ..ومقنعة] أو أصمت .ففي شتم نظام عربي دون آخر بالنسبة إليه ,ما يفوق
جريمة السكوت عنه.
أذكر كان يمر بي أحيانا؛ يقضي برفقتي بعض الوقت ,ثم يمضي قائال "كان اهلل في عون هذه
األمة ,نصف حكامها عمالء ,والنصف اآلخر مجانين!".
ثم فجأة تغير ناصر.
لم يعد يحدثني عن الستة والعشرين مليارا التي تبخرت من خزينة الدولة الجزائرية ,وال عن
أصدقائه ,الذين انضموا إلى لوائح آالف الطلبة والشباب القسنطينيين ,الجاهزين للدفاع عن
العراق ,واالستشهاد تحت علمها ,الذي اضيف إليه للمناسبة "اهلل أكبر" ,وهو ما جعل بعض
الساخرين يقترح أن يضاف إلى العلم الجزائري شعار "اهلل غالب" أي ال نستطيع شيئا من أجلكم...
وال عن تلك اإلشاعات التي كان يصدقها الجميع ,والتي كانت تقول إن إسرائيل حصلت على
صاروخ يطول الجزائر ,وهي تستعد لضرب قسنطينة.
وهو ما جعل الناس يعيشون لمدة شهر ,على أهبة حرب ,كأنهم يتمنون حدوثها لمتعة الجهاد..
لولع باالستشهاد.
أو ٍ
***
طبعا
ً
قلما تأتي تلك األفراح التي ننتظرها في محطة.
موعدا.فيتأخر بنا أو بهم القدر.
ً وقلما يجيء ،أولئك الذين يضربون لنا
كثير من الفرح المؤجل.
ولذا ،أصبحت أعيش دون رزنامة مواعيد ،كي أوفر على نفسي ًا
بابا
مذ قررت أنه ليس هناك من حبيب يستحق االنتظار ،أصبح الحب مرابطًا عند بابي ،بل أصبح ً
تلقائيا حال اقترابي منه.
ً ينفتح
وهكذا تعودت أن أتس ّلى بهذا المنطق المعاكس للحب.
تقريبا.
ً وكنت جئت إلى هذه المدينة دون مشاريع ،ودون حقائب
ثيابا قليلة،اخترتها دون اهتمام خاص ألقنع نفسي أن ال شيء كان
وضعت في حقيبة يدي ً
ينتظرني هناك...عدا البحر.
إلي في ثياب خفيفة ،دون أن يناقشه أحد في ذلك .ولذا جئته بأخف
حق ال ّنظر ّ
البحر الذي يملك ّ
ما أملك،وبتواطؤ صامت ،فانا ال أدري إن كنت جئت ح ًقا من أجله.
دائما من شيء نعرفه .ولكن نحن الندري بالضرورة ،ماالّذي جئنا نبحث عنه.
عندما نسافر ،نهرب ً
أترك حقيبتي ملقاة على سرير شاسع ،لن يشغله سواي .وأذهب الكتشاف البيت الذي سأقضي
أسبوعا أو اسبوعين.
ً فيه
في الواقع ،اذهب الكتشاف مزاج األمكنه ،وماتبثّه روحها من ذبذبات ،أستشعرها منذ ال ّلحظة
األولى.
الخلفية ،حيث تتناثر بعض أشجار
ّ المعمارية تعجبني ،وحديقته
ّ أحببت هذا البيت :هندسته
البرتقال واللّيمون ,تغريني بالجلوس على مقعد حجري ,تظللّه ياسمينة مثقلة .فأجلس ،وأستسلم
للحظة حلم.
أيضا كالناس.هنالك ماتحبه من اللّحظة األولى .وهنالك ماالتحبه .ولو عاشرته وسكنته
البيوت ً
سنوات.
غريبا
ً ثمة بيوت تفتح لك قلبها ..وهي تفتح لك الباب .وأخرى معتمة ،مغلقة على أسرارها ،ستبقى
ّ
عنها ،وان كنت صاحبها.
أحدا .وليس له من
بنية أن يبهر ً
مختارا ّ
ً التطل على أحد .أثاثه ليس
ّ هذا البيت يشبهني .نوافذه
ٍ
سر يخفيه على أحد.
كل شيء فيه أبيض وشاسع .التحده سوى خضرة األشجار أوزرقة البحر و السماء.
ّ
بيت اليغري سوى بالحب والكسل ،وربما بالكتابة.
مر به قبلي ،ليؤثثه ويعتني بحديقته إلى هذاأتساءل وأنا أتأمله ،من ترى سكن هذا البيت .ومن ّ
الحد..خالل أكثر من ربع قرن؟ فمن الواضح أ ّنه بيت يعود إلى ّأيام االحتالل الفرنسي ،يوم كان
ّ
غالبا ماتكون غير
ائريةً ،
الفرنسيين ،يعمرون في ّليات فخمة على الشواطئ الجز ً
ّ االقطاعيين
ّ كبار
اعية ،الّتي كانوا يمتلكونها ،وحيث ياتون لالصطياف.
بعيدة عن السهول واألراضي الزر ّ
صيفياً
ّ مقرً
بعد االستقالل ،حجزت الدولة األمالك الشاغرة التي تركها المعمرون الفرنسيون لتكون ّا
عي ودائم على موريتي وسيدي فرج ونادي
لكبار الضباط والمسؤولين الذين أصبح لهم وجود شر ّ
الصنوبر.
الضباط كل صيف،
ّ ومن األرجح أن تكون هذه الفيال هي إحدى هذه األمالك التي يتناوب عليها
مستندا إلى نجومه الكثيرة ،أو إلى أكتافه العريضة .وسيشتريها
ً نهائياً،
ّ قبل أن يأتي من يحجزها
ي مثير للعجب. حسب قانون جديد ،بدينار مز ّ
متى حصل زوجي على هذه الفيالّ ..وكيف؟ أسئلة ال يعنيني الجواب عنها ،ولك ّنها تقودني إلى
التفكير فيه.
هاتفيا ألطمئن إلى سالمتنا ،كما طلب مني أن أفعل حال وصولنا.
ً فأتذكر أنني لم أطلبه
أصر ان يرافقنا
في الواقع ،كان اسهل وأكثر راحة لنا أن نسافر ،أنا وفريدة ،بالطّائرة .ولكن زوجي ّ
بالسيارة لخدمتنا .وحراسة هذا البيت الكبير ،الذي ال يمكن أن نبقى فيه بمفردنا ،وذلك
ّ السائق
بانتظار أن يلحق بنا بعض األهل..
تماما كيف أنفقها ،والتي أبدأها بأخذ حمام دافئ،
عدة أيام للّراحة ،ال أدري ً
في انتظار ذلك أمامي ّ
بحريتي.
ّ واللّجوء إلى النوم احتفاالً
رحت أستعجل النوم .أحاول أن أنام دون أن اقع في فح األحالم .ث ّمة غرف جميلة إلى حد الحزن،
أسرتها بالحلم!
تعاقبك ّ
الصباح ،لم أنج من جسدي .كنت أستيقظ وتستيقظ رغبة داخلي .تل ّفني رائحة
وبرغم ذلك ،في ّ
شهوتي فأبقى للحظات ،مبعثرة تحت شرشف النوم النسائي الكسول.
يستبقيني إحساس بمتعة مباغته ،لم أسع إليها .جاءني بها البحر على سيريري..ليتحرش بي.
حرية قد
باكر هذا الصباح .وكأ ّنني أريد أن استفيد من كل لحظة ّ
على غير عادتي ..أستيقظ ًا
ألي ٍ
سبب كان. تسرق مني فجأةّ ،
بالسائق إلحضار
وكأن شهيتي للحياة قد تضاعفت هنا ،فابعث ّ
صباحي اليقاومّ ،
ّ يفاجئني جوع
لوازم الفطور ،وأبقى ألتفرج على البحر.
بشهية غامضة
ّ اسي
تستفز حو ّ
ّ متوحشة
ّ المد والجزر تزحف نحوي
رائحته بعد ليلة كاملة من ّ
للحب.
أتجاهل اعترافه الفاضح بليلة حب قضاها على مقربة مني ،منشغالً بترويض األمواج ،بينما كنت
اسي والهروب بنفسي من تلك الهواجس التي كانت تطاردني وتعكر
أنا منشغلة عنه بترويض حو ّ
مزاج نومي.
نوما عمي ًقا ،كما لم أنم منذ أيام .شعرت بمعنى السكينة ،وكأنني تركت كل شيء
البارحة نمت ً
خلفي ،وجئت أللقي بنفسي هنا ،على سرير شاسع ،الذاكرة له.
واآلن الرغبة لي سوى في تناول فطوري ،والخروج صحبة فريدة على األقدام ،ال كتشاف هذه
المنطقة.
في البيت وجدت فريدة جالسة أمام التلفزيون ,وكأنها لم تقض حياتها امامه ,لتشاهد المسلسالت
الساذجة نفسها ,أو كأنه ال ينتظرها في قسنطينة.
أشفقت عليها من غبائها.
كل األشياء التي
كيف أشرح لها أن اإلنسان ،ال بد أن يعيش بملء رئتيه ،بملء حواسه إحساسهّ ,
يصادفها والتي لن تتكرر.
كيف أقنعها بأن تحب األشياء التي لن تراها سوى مرة واحدة ,ال تلك التي تراها على جهاز
كل يوم.
التلفزيون ّ
كنت أشعر برغبة في أن أنقل إليها عدوى سعادتي ,وشهيتي للحياة .ولكنها كانت امرأة محدودة
يحل بي.
االحالم ,محدودة الذكاء .فوجدت في سذاجتها نعمتي .فهي على األقل لن تنتبه لما ّ
الفرح يسكنني .وجرائد الحزن تتربص بي ملقاة على طاولة الحديقة .قبل ان اتصفحها أندم على
إحضارها .أتذكر ذلك الذي كان يقول "لم يحدث أن اشتريت جريدة عربية إال وندمت على اقتنائي
لها..".
أستعجل قلب صفحاتها .أخاف أن تغير أخبارها مزاجي .ولكن بعض عناوينها الكبرى تستوقفني
وتستدرجني إلى قراءتها جميعها من باب المازوشية!
أن تشتري جريدة عربية ذات حزيران من سنة 1881لتقرأ طالع هذه األمة ،فأنت تعرض نفسك
لذبحة قلبية.
أما أن تشتري جريدة جزائرية في ذلك التاريخ نفسه ,تجمع صفحتها األولى بين خيباتك الوطنية
والقومية فذلك ضرب من المجازفة بعقلك.
التجول
ّ قبل أن تفتح الجريدة ,يهجم عليك الوطن بعناوينه الكبرى" ،السلطات العسكرية تعلّق حظر
إلى ما بعد عيد األضحى" "اعتقال 968شخصا خالل األيام الثالثة الماضية" "جبهة االنقاذ تعلن
العصيان المدني ،وبدء اإلضراب واالعتصام المفتوح" "حضور عسكري مكثف حول المباني
ي استعدادا لمسيرة
الرسمية والمساجد" "عملية لإلستيالء على الباصات التابعة للنقل الحضر ّ
ضخمة على العاصمة".
تهرب إلى أسفل الصفحة فتنتظرك أوطان اخرى ,كنت تعتقد أنها أوطانك .فهكذا أكد لك منذ
طفولتك شاعر على قدر كبير من السذاجة ،مات وهو ينشد "بالد العرب أوطاني "..وهو لم يعد هنا
اليوم ليقرأ معك عناوين جريدة عربية بتاريخ 15حزيران " 1881استمرار محاصرة مخيمي
" الميه وميه" و "عين الحلوة" الفلسطينيين من طرف الجيش اللبناني" "العراق يقوم باعتقال
عشرات المصريين وتعذيبهم"" ،اإلعدامات مستمرة في الكويت في حق الرعايا العرب"" ،انفراد
الشركات األمريكية بإعادة اعمار الكويت"" ،إسقاط ديون مصر".
كل هذا ،ليس األخير .وانما ستجده في صفحة داخلية بخط كبير" .إقدام الديوان
والخبر السعيد في ّ
الجزائري للحوم بمناسبة عيد األضحى على استيراد 111ألف رأس غنم من استراليا ,وصلت
معظمها سالمة" .وسالمة تعني فقط أنها مازالت على قيد الحياة .رغم قضائها شهرا في البحر
مكدسة في باخرة وأن معظمها ال ينتظر سوى رحمة الذبح صباح العيد ,تماما كما ينتظر
الجزائريين منذ أشهر ،متزاحمين مكدسين بالعشرات امام سفارة استراليا ،رحمة الحصول على
تأشيرة الهروب إلى بلد ،تقول إشاعة كاذبة إنه يبحث عن يد عاملة!
وتماشيا مع حدث وصول هذه الباخرة ,بحمولتها المباركة من األكباش ,خصصت الجريدة صفحة
كاملة ,يتجادل فيها البعض ويجتهدون لحل اإلشكال الديني الذي طرحته أذيال األغنام األسترالية
المبتورة ،التي ال تشبه ما تعوده الجزائريون من أغنام ذات ألية سمينة.
وهل تجوز التضحية بها؟ لينتهي بهم األمر إلى فتوى تقول" إن بتر الذنب كله أو جزء منه،
بمقدار الثلثين ،يعد عيبا في األضحية ،سواء بتر الذنب كله أو بعضه ،خلقة أو بعد خلقة"
وليصبح السؤال بعد ذلك "ماذا نفعل إذن باألغنام؟ وبماذا نضحي صباح العيد؟".
في الواقع ،اإلشكــــــال الحقيقي لم يكن في أذناب األغنام األسترالية ،التي شغلت عامتنا وفقهائنا
أليام ،وانما في تلك األكباش البشرية المكدسة أمام سفارة أستراليا ،وفي سؤال كبير ومخيف:
نصدر البشر ،ونستورد األغنام؟
كيف ..وقد كنا شعباً يصدر إلى العالم الثورة واألحالم ,أصبحنا ّ
***
المضادة؟
ّ للحب ولكن أليست عظمة الحب في قدرته على الحياة في كل األزمنة
ّ طبعا..لم يكن زم ًنا
ً
حبه.
أن الشيء مما قرأته أو مما حدث لي بسبب هذا الرجل ،فكرة أعدل عن فكرة ّ
الدليل ّ
ّ
شيء يجرفني نحوه هذا المساء .شيء يحملني .شيء يركض بي .شيء يجلسني جوار هاتف.
تماما .وكأن ّني أجلس على حافّة قدري.
على حافة السرير أجلس ،دون أن أجلس ً
أخير كلماته ،ال كلماتي.
امرأة ليست أنا ،تطلب رجالً قد يكون "هو" .ورجل اسمه "هو" ،يرتدي ًا
هاتفياً .قد يقول "ألو" .قد يقول"نعم "قد يقول" من؟".
ّ يصبح صوتًا
بالصمت .وكأنها تتذكر
ّ امرأة عجلى تطلب أرقامه الستة .وتنتظر كلمة منه؟ تقرر هكذا أن تبادره
أنها ال تعرف هي من تطلب بالتحديد.
صوته يخترق صمتها .ال يقول" ألو" .ال يقول "نعم" .ال يقول "من؟".
يقول:
_كيف ِ
أنت؟
يواصل أمام دهشتها.
_انتظرت هاتفك.
شيئا من الصمت بين الكلمات يواصل:يضع ً
ال..
_جميل أن يأتي هاتفك لي ً
اس ..صوته يختزل المسافة بين
شيئا بعد ..وهو يتحدث إليها كأنه يراها بتداخل الحو ّ
هي لم تقل ً
حاسة وأخرى .يعيد تنقيط الجمل .بعد تنقيط األحالم.
ّ
دافئا ،كسو ًال.
تعرفه من نقاط االنقطاع في كالمه .تعرفه ،وتحبه بنبرته الهاتفية الجديدةً ،
تقول له أول جملة تخطر في ذهنها:
_أحب صوتك
يجيب:
_وأحب صمتك..
_هل أفهم أ ّنك ال تحب كالمي؟
_ بل أريد أن أسمع منك ما أشاء ،ال ما تقولين.
شيئا بعد.
_ولك ّنني لم أقل ً
_هذا أجمل .أتدرين أن الحيوانات ال تكذب أل ّنها ال تتك ّلم .وحده اإلنسان ينافق .ألنه حيوان
ناطق ..أي حيوان ممثل.
حق تقول هذا؟
_بأي ّ
_بحق معرفتي بالحياة ..وحق معرفتي بك.
_وماذا تعرف عني؟
أيضا ألحبك.
_أعرف ما يكفي ألحذرك ..وما يكفي ً
أيضا؟
_وهل يجب أن أحذرك ً
_بل يجب أن تحذري الحب ..وتحبيني
_ولكن ّني أحبك
_حقّاً؟
_....
أنك ِ
بدأت تتراجعين صمتًا .الكلمات الجميلة سريعة العطب .ولذا ال يمكن لفظها كيفما _الحظي ِ
اتفق!
الحاد .وبنظرته الفريدة إلى
ّ ال تدري كيف تواصل الحديث إليه .وكل ما ستقوله سيصطدم بذكائه
األشياء ..تقول:
_ أريد أن أتعلم منك فلسفتك في الحياة.
يضحك:
ال .أنا أعطيك رؤوس ٍ
أقالم فقط .نحن ال أمرا مستحي ً
_أنا ..أعلمك فلسفة الحياة؟ أنت تطلبين ً
أرضا بعد سقوطنا ووقوفنا.
نتعلم الحياة من اآلخرين .نتعلمها من خدوشنا ..ومن كل ما يبقى منا ً
دوما؟
_وهل يحدث هذا ً
أحدا..أو
طبعا ..ستتعلمين كيف تتخلين كل مرة عن شيء منك ،كيف تتركين خلفك كل مرة ً
_ ً
حلما .نحن نأتي الحياة كمن ينقل أثاثه وأشياءه .محملين بالمباديء ..مثقلين باألحالم..
مبدأً..أو ً
أحدا ،ليبقى لنا في
شيئا ،وتركنا خلفنا ً
محوطين باألهل وألصدقاء .ثم كلما تقدم بنا السفر فقدنا ً
ّ
النهاية ما نعتقده األهم .والذي أصبح كذلك ،ألنه تسلق سلم األهميات ،بعدما فقدنا ماكان أهم
منه!
تجد في حديثه بعض ما يساعدها على استدراجه للحديث عن نفسه .تسأله:
_ماذا تركت خلفك؟
فتصحح
ّ يصمت .ويطول صمته .تتذكر أنه يجيب هكذا عن األسئلة التي ال تستحق الجواب .
خطأها.
شيء األهم بالنسبة إليك اآلن؟
_أقصد ..وما هو ال ّ
يجيب بصوت غائب:
_ ِ
أنت..
يفاجئها الجواب ،وكأنها لم تكن تتوقعه ،هي كانت تتوقع أن يسألها "و ِ
أنت؟" ولكنه ال يفعل..
يواصل:
أولوياتك عن جدارة ..أو عن
ّ _سأنتظر موت األوهام حولك .فربما يومها أصبح األول في س ّلم
مصادفة!
تقاطعه:
_لست في حاجة إلى خيبات أكثر ألحبك .أنا ال أملك غيرك.
_بل أنت تملكين الكتابة ،أي وهم التّفوق .ولن نتساوى إال عندما تكتب قصتنا الحياة ..ال ِ
أنت! ْ
تسأله:
_أعدت بن ّية معاكستي..؟
كثيرا كل هذا الوقت .ال أفهم لماذا جاءت قصتنا معقدة إلى هذا
_بل عدت بنية حبك .افتقدتك ً
األمي يعرف ما يريده من امرأة ،وتعرف هي ما تنتظره
ّ بحبنا.
أم ّيين لسعدنا ّ
الحد .أتدرين؟ لو ك ّنا ّ
ّ
تصوري ..لو ك ّنا
اما لألدبّ .
منه .ولكن نحن استهوتنا لعبة الكلمات .فرحنا نقسو على الحب إكر ً
أم ّيين لقلت لك من البدء" أشتهيك" وانتهى األمر .ولكن ،هانحن بعد منتصف ا ّلليل نتحدث على
ّ
لنفسر هذا الحب.
بعضا ..وا ّنما ّ
لنحب بعضنا ً
ّ الهاتف ال
أم ّيين إذن!
_لنكن ّ
_ال نستطيع ..الجهل ترف لم يعد في متناولنا.
_وماذا نفعل إذن؟
الحب ،ال بمنطق األدب .ال يمكن أن نخرج
ّ بعضا بمنطق
ال وامرأة ال غير .لنحب بعضنا ً_لنكن رج ً
الضوء .أريد أن أر ِ
اك..أن ألمسك ..أن عية ّمن عتمة الحبر لندخل عتمة الليل .أطالب لحبنا بشر ّ
أقول لك أشياء دون أن نكون مجبرين على الكالم.
_ولك ّنني ال أدري أين يمكن أن نلتقي؟
مقاه ومطاعم جميلة حيث ِ
أنت ..يمكن أن تتقي فيها . _ثمة ٍ
ّ
الض ّباط ..وهم يعرفون زوجي .وال يمكن أن أجازف بموعد هنا.
كل جيراني هم من ّ _ولكن ّ
يصمت بعض الوقت ثم يقول:
_إذا شئت بإمكاننا أن تلتقي عندي في البيت .ولك ّني أسكن في العاصمة .على بعد ساعة منك
بالسيارة ..ال أدري إن كان هذا يناسبك؟
ّ
أقول:
سأتدبر األمر .
ّ يوما للتفكير..
_دع لي ً
شيئا:
ثم أواصل كمن تذ ّكر ً
_ولكن قبل ذلك ..أريد أن أعرف من تكون.
األهمية:
ّ يجيب وكأن السؤال ليس على هذا القدر من
منطقية.
ّ أحبيني دون أسئلة ..فليس للحب أجوبة
_ ّ
_ولكن كيف تريد أن أزور رجالً ال أعرف حتّى اسمه؟
_ستعرفين كل شيء في الوقت المناسب .
_ولك ّنني امرأة ال تعرف االنتظار.
_خسارة ..ألن األشياء تأخذ قيمتها من انتظارنا لها.
ثم يواصل:
عمرا،
_وبهذا المقياس أنت المرأة األشهى ،ألنك المرأة الّتي انتظرتها األكثر .لقد انتظرتك ً
عمر أطول.
أياما أو أسابيع .دعي للوهم ًا وبإمكانك أن تنتظري ً
زجت بنا في رغبة مباغتة ،عمد إلى تمديدها
لغوية ّ
ال أذكر ماذا قال بعد ذلك ،كي تفاجئنا حالة ّ
أمي ..يشتهي امرأة! ٍ ٍ
إلى أقصاها دون جهد واضح ،عدا جهد رغبته في التساوي بأي رجل ّ
الصباحية ع ّكرت مزاجي..
ّ عشقية ،لوال أن نشرة األخبار
ّ استيقظت في اليوم التالي مأخوذة بحالة
فقررت أن أطلب زوجي ألعرف منه ما يحدث في قسنطينة.
ال مجاورة .الستعمال
طالً ،وهو ما زاد قلقلي وجعلني أتّجه نحو أول في ّ
ولك ّنني فوجئت بالهاتف مع ّ
هاتفهم.
ولكن صاحبة البيت استقبلتني ببرود ،وهي تتفحصني بنظرة ال تخلو من اإلهانة .وهو ما زاد في
ي غير الئق
إرباكي .وجعلني أفسر نظراتها في البدء بكوني جئتها في ثياب البيت ..وربما في ز ّ
بزيارة.
أمام الباب الذي فتحته لي دون أ ن تدعوني إلى الدخول ،رحت أشرح لها أنني أسكن الفيال
المجاورة وأن هاتفي معطل.
وقبل أن أواصل ،قالت وهي تقاطعني بلهجة ال تخلو من ِ
لوم نسائي:
أنت الجارة الجديدة "..كل يوم عند العازبة عرس!"
أجبتها وأنا أتوقع أنها تخلط بيني وبين أخرى:
_أنا أسكن في الفيال 69على يمينكم .وموجودة هنا منذ أسبوع فقط.
أجابت بلهجة ساخرة:
_عادة تبقى النساء هنا ..ليلة أو ليلتين ال أكثر!
تجمد ت مكاني .وكأن كلماتها صفعتني .ولكنني جمعت شجاعتي .وقلت:
_ أنا زوجة العميد ...جئت ألسألك فقط عن سبب تعطل الهاتف ألنني لم أتمكن من االتصال بزوج
في قسنطينة .وال علم لي بما يحدث في هذا البيت قبل مجيئي.
بدا على المرأة ارتباك واضح .وراحت فجأة تفتح الباب ،وتدعوني معتذرة إلى الدخول ،وقد ندمت
على ما قالته .معتقدة أنني إحدى الزائرات العابرات لهذا البيت ،بعد أن شجعتها هيأتي الصباحية..
على مثل هذا االعتقاد .وراحت تبحث عن كلمات تقنعني بها أنها توقعت أن أكو ن مقيمة في فيال
نظر إلى خلو هذه الفيالت من المصطافين في باقي أيام السنة ،تعود البعض
أخرى .وأنه ًا
اصطحاب عشيقاته وصديقاته إلى هنا ،وهو أمر يزعجها ألنها تسكن هنا على مدار السنة.
أبديت لها تفهمي ،واعتذرت لها عن اإلزعاج وأنا أودعها بأدب .ولكنها ظلت تلح ألتصل بزوجي
من بيتها .وقالت إن ال ضرورة إلزعاجه بمشكلة الهاتف .فسيتكفل زوجها باالتصال بالجهات
فور.
المعنية إلصالحه ًا
عند عودتي لم أخبر فريدة بما قالته لي الجارة .احتفظت بتلك اإلهانة بنفسي .وماذا عساها تقول
وهي تحتفظ في أعماقها أن من حق أخيها أن يتصرف كيفما يشاء ،ليس فقط ألنه رجل بل ألنه
أيضا رجل دولة.
ً
العجيب أنني لم أشعر بالغيرة .إحساسي كان أقرب إلى الغثيان منه إلى إحساس آخر .فلم أشأ أن
أفكر في النساء الالتي تناوبن على هذا السرير .ولم أكلف نفسي مشقة وضع مالمح لوجوههن.
شكلهن ال يعنيني .فأنا أتصورهن من النوع الساقط والبذيء المظهر .وربما كن شق اروات مزيفات.
تماما.
عادة هذا النوع يروق لزوجي وربما كان يروق لكل الرجال .وهو أمر أتفهمه ً
ولكن ماال أفهمه،هو لماذا تزوج زوجي سمراء ،إذا كان يحب الشق اروات؟ ولماذا تزوج مرة ثانية ..
إذا كانت ال تشبعه سوى الوجبات التي يتناولها خارج البيت؟
دائما
مغرما بالشقراوات .وكان يزعجها أن تطاردها األلسن هامسة ً
ً أتذكر صديقة لي كان زوجها
ال في إغرائه أو استعادته،
"لقد رأينا زوجك صحبة شقراء" فقامت المسكينة بصبغ شعرها .ال أم ً
وانما حتى يبدو للناس ن بعيد أنه برفقتها .وكأن المهم في ذلك ،وانما حتى يبدو للناس ن بعيد
أنه برفقتها .وكأن المهم في هذه الحاالت إنقاذ المظاهر!
حل بي يومها ،لم يكن ما سمعته من تلك المرأة ،وانما عدم تمكني من سماع صوت
أكبر عقاب ّ
ذلك الرجل.
في اليوم التالي ،استيقظت على صوت زوجي الذي أعلن لي عودة الخط الهاتفي .جاء صوته
ليخرجني من كوابيس ليلتي .ولكن من دون أن يوقظ األحالم الجميلة داخلي.
لألحالم صوت داخلي .أسميته"هو" .هو الذي ال اسم له .والذي ليس سوى حرفين للحب .تتناوب
عليها حروف النهي وحروف النفي ..وحروف التحذير ..وحروف التساؤل.
"هو" ليس أكثر من "ال" و"لن" و"هل" و"لِ َم " ..و"متى؟"..و"كيف؟".
" هو" ليس أكثر من حرفين وستة أرقام .ليست أرقام هاتفه .إنها أرقام اليانصيب التي ألعب بها
قدري.
_اشتقتك ..لِ َم لم تطلبيني البارحة؟
ال..
_كان الهاتف معط ً
_وهل حسمت أمر لقائنا؟
_أجل إذا كان يناسبك سأزورك اليوم بعد الظهر.
شيئا من الصمت بيننا ثم يقول:
يضع ً
_أنا ليس لي برنامج غيرك .وبإمكانك أن تأتي متى ِ
شئت ،ولكن..
_ولكن ماذا..؟
_الوضع ال يوحي باألمان اليوم.
أطمئنه:
_ال يمكن أن يكون أسوأ مما عرفته في قسنطينة.
يجيب:
شيئا كهذا.
_ال أعتقد أن تكوني عرفت ً
يثير فضولي .أسأله:
_مالذي يحدث؟
يجيب:
_ لقد تحولت ساحات العاصمة في الليل إلى غرف نوم ضخمة .افترش فيها اإلسالميون األرض.
ال ي نهضون منها إال في الصباح إلطالق الشعارات والتهديدات ..واألدعية إلى اهلل..
_ومتى حصل كل هذا؟
نساء ورجا ًال..
ً _ البارحة ..لقد جاءت بهم الباصات بالعشرات حتى هنا.
أسأله متعجبة:
أيضا ؟
_النساء ً
يجيب:
_لقد وصلن في أتوبيسات مسدلة الستائر .ال يبان منها إال القرآن المرفوع خارج النوافذ.
شيئا من حماسي:
أسأله وقد بدأت أفقد ً
_وهل ما يحدث قريب منك؟
يجيب:
طبعا ..أنا أسكن شارع العربي بن مهيدي ..إنه شارع متفرع عن ساحة األمير عبد القادر حيث
_ ً
يتم االعتصام..
أقاطعه:
جيدا.
_أعرف هذا الشارع ً
كدت للحظة أتخلى عن مشروعي الجنوني .ولكنني كنت على درجة من اإلحباط ،أصبح معها عدم
اللقاء به هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لي.
توقعت أن أفاجئه وأنا أقول:
_ سأسلك طريق البريد المركزي للوصول إليك .أعطني العنوان فقط.
ولكنه أجاب بفرح أسعدني:
_توقعت منك جوابا كهذا ..إنه يشبهك.
ثم واصل:
_أفهمت لماذا أحبك؟
قلت وأنا أمازحه:
ال ..لم أفهم .ستشرح لي ذلك عندما أجيء!
***
أخير إنها الثالثة.
أخيراً .ا
إنها الثالثة ً
كثير .فلماذا تستعجلني اآلن إلى هذا الحد .وتركض بي في سيارة ستوصلني
أيها الحب تأخرت ًا
إلى منتصف الرغبة ،ألواصل وحدي المشي الهثة في شارع الخوف ،متحايلة تارة على عيون
سائق يحترف التجسس ،وتارة على نظرات مارة متفرغين للفضول.
ولكن من يملك ما يكفي من الحدس ،لقراءة خطى امرأة ذاهبة أو عائدة من موعد حب؟
كافيا لتبذيره ،الحب معك ال صبر له؛ يعلمك كل شيء دفعة
ذلك أنه عكس كل الذين يملكون وقتًا ً
واحدة ،والشيء ونقيضه في تجربة واحدة.يعلمك أن تكون أنت وآخر في آن واحد .ويجعلك ممثالً
من الدرجة األولى.
طى رصينة وداخل ثياب محتشمة .أتعلم المشي داخل هذه
أجتاز ساحة األمير عبد القادر راجلة بخ ً
يوما.
العباءة ..وهذا الشال الذي يغطي شعري ،وكأنني لم أخلعهما ً
أشعر بأمان ،وسط عشرات الرجال ذوي األزياء العجيبة والمالمح العدوانية ،والمشغولين عن
وسياسية.
ّ دينية
همومي األرضية ،بهموم اآلخرة .مرددين هتافات وشعارات ّ
وكنت أردت تفادي المرور بهذه الساحة .ولكن كان ال مفر من مروري بها ،وقد ازدحمت كل
الشوارع المؤدية إليها ،وتلك المحيطة بها .وهو ما كان سيؤخر موعدي بساعة على األقل.
ال أذكر أني مررت من هنا ،إال وصدمتني مقاييس تمثال األمير عبد القادر .ووضعتني في حالة
أيضا على عجلتي ،يلفت انتباهي ،وجوده وسط بحر من الحشود البشرية التي ال
عصبية .واليوم ً
أعالما خضراء..
ً وحمله
يكاد يعلو عليها سوى بمترين أو ثالثة .حتى أن بعضهم تسلقه بسهولة ّ
وسوداء.
ما يحزنني حقًا ،هو أحجام تلك التماثيل الهائلة التي تزين العواصم العربية .لحكام لم يقدموا
لشعوبهم غير المجازر والدمار .مقارنة بهذا التمثال المتواضع لرجل وهبنا كبرياء التاريخ .وأسس
ائرية أذهلت فرنسا نفسها.
لنا أول دولة جز ّ
رجل لم يطالبنا بأن نعيد رفاته من الشام ،وال بأن نصنع له تمثا ًال في ساحة هو أكبر منها.
إنه زمن عجيب حقًا ،اختلّت فيه المقاييس ،وأصبحت فيه الشعوب تصنع تماثيل لحكامها .على
قياس جرائمهم ..ال على قياس عظمتهم!
لذا مازال األمير منذ ربع قرن ،غير ر ٍ
اض عن وجوده بيننا ،موّل ًيا ظهره إلى مقر حزب جبهة
السياسية لدى سكان العاصمة.
ّ كثير من النكت
التحرير ..ووجهه صوب البحر ..وهو ما غذّى ًا
شعبا يتقن السخرية ،فكيف فقدنا الرغبة في الضحك؟ وكيف أصبح لنا يوما ًأجل..حدث أن كنا ً
يوما أزياءنا؟
هذه الوجوه المغلقة ..والطباع العدائية ..واألزياء الغريبة التي لم تكن ً
بعضا ،غرباء إلى حد الخوف ،وحد االحتياط من
كيف أصبحنا غرباء عن أنفسنا ،وعن بعضنا ً
عيون تتفحصنا ،أو خطى تسير خلفنا.
أمشي .يقودني الخوف إلى السرعة تارة .والى التأني تارة أخرى .محتمية بثياب ال تشبهني،
استعرتها هذه المرة من امرأة أخرى .ليست سوى فريدة.
ها أنا أعيش بين ثياب امرأتين .إحداهما تحترف اإلغراء ..واألخرى التقوى .أذهب لمالقاة ذلك
الرجل مرة في ثوب أسود ضيق ،ومرة في عباءة فضفاضة ،ال يبدو منها سوى وجهي .تتناوب
علي امرأتان ،كلتاهما أنا.
ّ
وألننا نفكر ،ونتصرف كل مرة حسب ما نرتدي وحسب ما نخلع ،فانا اآلن ،أمر بهذا الحشد من
الناس بتو ٍ
اطؤ غامض .أكاد أشاركهم حماسهم وهتافهم ،لوال أن عيني تواصالن البحث عن رقم
دائما بمحاذاة
البناية التي ينتظرني فيها ذلك الرجل ..وعقلي يواصل السؤال .لماذا يوجد هذا الرجل ً
السياسة ويعود بتوقيت التاريخ؟ ولماذا معه ،يحتاط فرحي من الحزن؟
ٍ
بخوف بالغ ،أتذكر فجأة "جميلة بوحيرد" التي ،أثناء الثورة، أمام مقهى "الميلك بار" الذي اجتازه
جاءت يوما إلى هذا المقهى نفسه .متنكرة في ثياب أوروبية .وقد طلبت شيئا من النادل ,قبل أن
تغادر المقهى تاركة تحت الطاولة ,حقيبة يدها المأل ى بالمتفجرات ،تلك التي اهتزت لدويها فرنسا،
مكتشفة -هي التي كانت تطالب برفع الحجاب عن المرأة الجزائرية -أن هذا السالح أصبح
يستعمل ضدها .وأن امرأة في زي عصري ،قد تخفي ..فدائية!
بعد أربعين سنة ،ها أنا الوريثة الشرعية لجميلة بو حيرد .أمر بهذا المقهى نفسه .متنكرة في
أيضا – أن ثياب التقوى قد تخفي عاشقة .تخبئ
ثياب التقوى.بعد أن اكتشفت النساء-هذه المرة ً
مفخخا بالشهوة.
ً جسدا
ً تحت عباءتها
بخوفها نفسه ،بتحديها واصرارها نفسه .أمشي هذا الشارع .بعد أن أصبح الحب هو أكبر عملية
ائرية.
فدائية تقوم بها امرأة جز ّ
ّ
دوما ،كنت أقول المرأة كانت أنا :ال تمري عندما تشعل الحياة أضواءها الحمراء .تعلمي الوقوف
ً
تزورين إشارات المرور .ال تؤخذ األقدار عنوة.
عند حاجز القدر .عبثًا ّ
وكنت أقول ..لقلب كان قلبي :حاول أن ال تشبهني .ال تكن على عجل .أنظر يمينك ويسارك ،قبل
ان تجتاز رصيف الحياة .ال تركب هذا القطار المجنون أثناء سيره .الحالمون يسافرون وقوفًا
دائما متأخرين عن اآلخرين بخيبة!
دائما ،ألنهم يأتون ً
ً
يرد:
وكان ّ
ِ
أحببت ،تبعثروا في قطار القدر. ِ
عرفت مشت على أحالمهم عجالت الوطن .والذين "كل من
حب!".
حتما ..في حادث ّفاعبري حيث شئت .ستموتين ً
في كل خ طوة ،كنت أشعر أنني حققت معجزة البقاء على قيد الحياة .وأعجب ألن قلبي مازال
تدق في اللحظة نفسها ،دقة شوقًا ،ودقة خوفًا ،على إيقاع هتافات
مكانه ،رغم تسارع دقاته التي ّ
وترد أخرى "ال
تحملني وتغطي على كل صوت داخلي" :ال دراسة ..ال تدريس ،حتى يسقط الرئيس" ّ
ميثاق ..ال دستور ..قال اهلل ..قال الرسول".
أخير.
ها هي ذي البناية ًا
أكاد ال أجتاز بابها حتى أشعر أنني أغادر عالماً ..وأدخل آخر.
درجها المتسخ ال يعنيني .مصعدها المعطل ال يثنيني .والطوابق األربعة التي سأصعدها تزيد من
حماسي.
الحب ..هي عندما نصعد الدرج!
ّ إن أجمل لحظات
أمام باب ينتظرني خلفه المجهول ،أستعيد أنفاسي وأحاول أن أتفقد هيأتي .ولكن قبل أن أدق
إلي بالدخول.
الباب ،أراه يفتح أمامي .وقامة أعرفها تختفي قليال خلفه .وكأنها تشير ّ
فأدخل ..وينغلق الباب خلفي.
أنا التي خبرت عناوين الحب جميعها ،أدري أن الحب ال يقيم في الفنادق من فئة خمسة نجوم،
وال في البيوت الباذخة البرودة .ولذا أسعدني أن يكون هذا البيت في بساطة عش ودفئه.
أتجه منهكة دون استئذان نحو أول غرفة تقابلني .ألقي بحقيبة يدي على األريكة .أوشك أن ألقي
أيضا جوارها .ولكنني أبقى واقفة لحظة أتأمله .وكأنني أبحث فيه عن سبب يبرر كل هذا
بنفسي ً
الجنون.
يقترب مني ،وتمتد يداه لترفع عن رأسي غطاء نسيت أن أخلعه .يوشك أن يقول شيئاً .ثم تسبق
كلماته ابتسامة ،يليها اعتراف ال يخلو من الحسرة:
-كم اشتقتك!..
وال أملك إال أن أجيبه:
-وأنا ..ماذا غير الشوق جاء بي إليك؟ ليتك تدري كم كان المجيء إليك صعباً!
يجلس على األريكة المقابلة لي .يعبث بهدوء بذلك الشال الذي ما زال ممسكا به .يتأملني في
هيأة ال تشبهني وكأنه يتعرف إلي ،بينما أتأمل أنا تلك الغرفة التي يغطيها أثاث بسيط منتقى
بذوق عزوبي ،ال يتعدى أريكة كبيرة من المخمل ،تشغل وظيفة الصالون .وطاولة ،ومكتبة تمتد
على طول الجدار المقابل .وال تترك فيها الكتب المصطفة بنظام ،سوى مكان لجهاز التلفزيون.
ولجهاز موسيقى ،تنبعث منه معزوفة خافتة على البيانو لريشار كليدرمان.
أحب تطابق ذوقي مع ذوق هذا الرجل .وأحب أكثر ،تطابق مزاجنا الغريب في التصرف عكس ّ
المنطق ،كاالستمتاع إلى معزوفة موسيقية في يوم على هذا القدر من الجنون الصارخ .األمر
الوحيد الذي فاجأني .هو عدم وجود أية لوحات في هذا البيت .وهو ما كان سيساعدني على
اكتشاف هذا الرجل.
أسأله:
_ماذا تستهلك عدا السجائر؟
_أستهلك الصبر ..والصمت.
الثلجية؟
ّ _وكيف يمكنك أن ترسم بهذه األحاسيس
_ومن قال لك إنني أرسم.؟ أن ترسم يعني أن تتذ ّكر ..أنا رجل يحاول أن ينسى.
أقول:
_أريد أن أرى بعض أعمالك..هل يمكن أذلك؟
يجيب:
ال..ليس معي شيء منه.
_وماذا فعلت بها..؟
_لقد تركتها في مدينة أخرى.
شيئا ما ،أو يكذب ،وأنه لم
بالشك في ما يقوله ،بل إحساس بأنه يخفي ً
ّ يساورني فجأة إحساس
يكن يوماً رساماً.
أسأله:
الرسم.
_أين تعلّمت ّ
يجيب بما يؤكد ظ ّني:
للرسم!
رسام ،هو دخول مدرسة ّ _إن أسوأ شيء بال ّنسبة إلى ّ
كنت أريد أن أجادله في هذا الرأي .أو ربما فقط أستدرجه للحديث عن نفسه .ولكنه صمت .ولم
ليحدثني بعد ذلك عن األوضاع السياسية .ويسألني إن كنت وجدت صعوبة في
يغادر صمته إ ّال ّ
الوصول إليه .
كان يتحدث .وكنت مشغولة عنه ،باإلنصات إلى يديه .كانتا الشيء الوحيد الذي يتكلم كثيراً عليه.
تعلّمت أمام أجوبته الهاربة ،أن أستجوبهما .وجدت فيهما المدخل الوحيد الذي يؤدي إليه.
دائما.
بدءا تفضحان كسله؛ فهو ال يستعمل منهما سوى واحدة :اليمنى ً إنهما ً
ال أصابعه ،أشعر أنها في امتالئها وطولها تقول الكثير عن رجولته .وأن طريقته في
أتأمل طوي ً
شهيتي
تقليم أظافره ،باستدارة مدروسة ،كأنه ال يريد أن يؤلم أحداً ولو عشقًا .تطمئنني ،وتثير ّ
الحقيقية.
ّ ميمية ،ولكنها ال تساعدني إطالقًا على معرفة مهنته
للمسات ح ّ
بعصبية الخلق.
ّ رساما .يده أكثر رصانة من يدين تعيشان
ً هذا الرجل ليس
إصبعا من
ً نحن نعرف عازف البيانو من رشاقة أصابعه .ونعرف النجار الذي غالباً ما يكون فقد
الجزار .ونعرف المعلم من الطباشير العالقة به ،والفالح الذي
الدهان ونعرف ّ
أصابعه .ونعرف ّ
انغرس التراب في أظافره ،وعامل المطبعة الذي أصبح الحبر جزًءا من بصمات أصابعه.
مذهل هو عالم األيدي ،في عريه الفاضح لنا .وال عجب أن يكون الرسامون والنحاتون ،قد قضوا
كثير من وقتهم في التجسس على ٍ
أيد ،كانوا يدخلون منها إلى لوحاتهم ومنحوتاتهم ،حتى إن ًا
كثير من طينها على يديه ،كان يلخص كثير من وقته وتركت ُا
النحات "رودان" الذي أخذت األيدي ًا
للحب" .فكيف أيد تبرد الغليل ..و ٍ
أيد أيد تنشر العطر و ٍ
أيد تلعن ،و ٍ
أيد تصلي و ٍ
ال" :ثمة ٍ
هوسه بها قائ ً
ّ
له إذن أن ينحت واحدة دون أخرى؟
ذ لك أن اليدين ،تقوالن الكثير عن أشيائنا الحميمة .تحمالن ذاكرتنا ،أسماء من احتضنا يوماً .من
لمسا أو بشيء من الخدوش. عبرنا أجسادهم ً
كل ما مارسناه من
تقوالن عمر لذتنا ،عمر شقائنا .تفضحان العمر الحقيقي لجسدنا .تفضحان ّ
حب.
كل ما مارسنا أو لم نمارس من ّ مهنّ .
ال للحياة .ما دامت لم تفعل شيئاً بحياتها. ولذا ثمة ٍ
أيد ،كأصحابها ،ليست أه ً
حد الولع .منحتا
أتأمل يديه ،وأدري تماما أنني أتأمل يدين عرفتا الحياة .حبكتاها ،عجنتاهاّ ،
النساء كثي ارً من المتعة .ومنحتهما الحياة كثيراً من الخيبة ،التي تبدو واضحة من كسلهما
المتعمد.
يد ان داعبتا ..اكتشفتا..عبثتا ..أشعلتا أكثر من أنثى .وهما تشعالنني اآلن خلف دخان سيجارة
الصمت.
تضرمان النار في أسئلتي .تشعالن حرائق غيرتي .هاتان اليدان اللتان لم يعلق بهما شيء .هل
عرتا؟ ما عمر لذتهما؟
حدث أن تعلقتا بأحد؟ وما اسم آخر امرأة أحبتا؟ آخر امرأة ّ
كثيرا ,أدري أنه رجل متعدد األعمار .ولذا كان بإمكاني أن أسأله "ما عمر عينيك؟
أنا التي تأملته ً
ما عمر شفتيك؟ أو ..ما عمر صمتك يا سيدي؟".
ولكنني سألته:
-ما عمر يديك؟
منذ النظرة األولى .فاجأتني شساعة المواضيع التي تضمها هذه المكتبة ،والتي تفضح ثقافة عالية
تاريخية وسياسية متشعبة ,لم أتوقعها في هذا الرجل.
ّ باللغتين ،واهتمامات
بينما تعجبت لعدم وجود أي كتاب عن الفنون التشكيلية أو عن الرسم ،في بيت رسام ،تضم
مكتبته كتباً متعددة االهتمامات ,تتناول حياة بعض رجال التاريخ والصراع العربي اإلسرائيلي،
وحتّى السطوة العالمية للشركات المتعددة الجنسية ،وال يوجد لإلبداع مكان فيها ،سوى في رف
سفلي ،تمتد على طوله كتب صغيرة للجيب ،ضمن سلسلة الشعر الفرنسي المعاصر .بينها كتاب ّ
الشر" لبودلير و"المركب الثمل" لرامبو ..وآخر لجان كوكتو وشعراء آخرين.
"أزهار ّ
كنت أتصفح بعضها بفضول ،عندما وقعت على كتاب لهنري ميشو "أعمدة الزاوية" .وهو كتاب لم
يحدث أن قرأته أو سمعت به .رغم أنني أحببت في زمن بعيد هذا الشاعر.
ال أدري أية مصادفة قادتن ي إلى ذلك الكتاب بالذات .فقد كان ،بين ما تصفحته من كتب ،هو
الوحيد الذي وضع علي هذا الرجل بعض مالحظاته ،واضافات أو إشارات إلى مقاطع دون غيرها.
شعرت وأنا أتصفحه أنني وقعت على المفتاح الذي يفتح سر هذا الرجل.
وصدقت تماما مقولة روالن بارت .فإذا كانت صيدلية بيتنا تفضح لآلخرين أمراضنا ،فإن مكتبتنا
ّ
قد تقول لهم أكثر مما نريد أن يعرفوه ع ّنا .خاصة إذا وقعوا على كتاب شاركنا في مواصلة كتابته
على الهامش.
ال بالقهوة.
كنت ما أزال أتصفحه عندما عاد محم ً
سألته:
-أيمكنني أن أستعير منك هذا الكتاب؟
قال دون أن يكلف نفسه مشقّة سؤالي عن عنوانه.
-طبعاً!
واصل وهو يضع القهوة على الطاولة:
-طلباتك متواضعة .كنت أريد لك طلبات أجمل!
أجبته وأنا أعيد الكتب األخرى إلى الرف:
-أكتفي بالمتواضعة ..األجمل ال تطلب!
قال وكأنه يتدارك خطأً:
-األجمل يأتي دائماً متأخراً ..يا سيدتي!
كان صوته مالمساً لمسمعي .ما كدت ألتفت خلفي حتّى وجدتني على حافة جسده .بيننا مسافة
أنفاس وقبلة .ولكنه لم يقبلني .امتدت يده اليمنى نحو شعري ،تالمسه مروراً بعنقي ببطء وعبث
أذني ،تخلع عنهما الواحدة بعد األخرى قرطهما.
ثم انزلقت نحو ّ
مثيرّ .
رف المكتبة ،بتلقائية من تعود أن يخلع عن امرأة أشياءها الصغيرة .وكأنه
وضع القرطين على ّ
كان يهيئني لطقوس عشقية .ثم راحت شفتاه تبدآن حيث توقفت يداه.
شفتي ,دون أن
ّ تمران بمحاذاة
ها هما تعبرانني ببطء متعمد .على مسافة مدروسة لإلثارةّ .
تقبالهما تماما .تنزلقان نحو عنقي ،دون أن تقباله حقاً ،ثم تعاودان صعودهما بالبطء المتعمد
نفسه.
وكأنه كان يقبلني بأنفاسه ال أكثر.
هو يعرف كيف يالمس أنثى .تماما كما يعرف مالمسة الكلمات ،باالشتعال المستتر نفسه.
يحتضنني من الخلف ،كما يحتضن جملة هاربة ،بشيء من الكسل الكاذب .فأبقى متكئة على
ال
الجدار حيث استدرجني منذ البدء ،وقد خدرتني زوبعة اللذة ،دون أن أسأل نفسي .ماذا تراه فاع ً
علي نصي القادم؟ أم تراه يلغي لغتي؟
بي؟ تراه يرسم بشفتيه جسدي؟ أم يرسم قدري؟ تراه يملي ّ
هذا الرجل الذي يكتبني ويمحوني بقبلة واحدة ,أو حتى من دون أن يقبلني ،كيف أقاومه وهو
كل ما كنت
شفتي مبتلعاً ّ
ّ يعبر بشفتيه الممرات السرية للرغبة ،ثم يجتاحني بشراسة مفاجئة ،يلتهم
سأقوله له؟
طا ريقي الممتزج
أكتشف أنه بدأ اآلن فقط بتقبيلي .ممسكاً بي من شعري المنفلت في يده ،خال ً
بريقه ..مثيراً لعرقي الذي يطغى على عطره ،قاطعاً ألنفاسي التي ضاعت في فمه ،حتّى لكأنني
أتنفس منه ومعه.
ضمني إليه كي يمنعني من السقوط .ولكنه كان يتلذذ بانبهار أنوثتي به ،حتّى أنه
كنت أتمنى لو ّ
لضمي سوى ذراع واحدة.
لم يستعمل ّ
ثم كما في قبلة عنقودية ..راح يضع على عنقي قبالت تنازلية متدرجة ،متالحقة ،وكأنه يضع
ّ
نص قد يعود إليه ومضى.
نقاط انقطاع عند نهاية ّ
رحت أستعيد أنفاسي .أتنبه للثوب الذي أتصبب تحته عرقًا ،وأنا أراه يخلع جاكيته ،يشعل سيجارة،
ويجلس على تلك األريكة الحتساء قهوته.
عاودتني أسئلتي ..وأنا أنظر إليه
كما تقرأ غجرية الكف ،رحت أقرأ هيأته .بحدسي وحواسي فقط.
ال يعنيني اللحظة أن أكتشف ماضيه ،بقدر ما يعنيني أن أطالع قدري مكتوباً عليه ،قدراً متعب
فوضوي الشعر ،كسول الكلمات ،مربك اللمسات ،مباغت القبالت ،متناقض الرغبات ،كرجل
ّ الشفاه،
في األربعين.
يسألني:
-فيم تفكرين؟
أجيب:
-أحب الرجال في األربعين
يرد:
يبتسمّ ..
-ولكنني لست الرجل الذي تتوهمين!
يلقي برماد سيجارته في المنفضة .ويمد نحوي يده:
-تعالي ..اجلسي قريباً مني
أتردد بعض الشيء قبل أن أعترف:
-إنني أتصبب عرقاً .أنا أرتدي هذه العباءة منذ ساعات.
ال .لكنه يقول وهو يسحبني إلى جواره:
أتوقع أن يقول اخلعيها مث ً
-أحب رائحتك ..لقد أحببت دائماً لغة جسدك!
ثم يواصل وكأنه يطمئنني:
جسد أخرس!
ٌ -إن جسداً ال رائحة له ..هو
أقول وأنا أجلس على مقربة منه:
-أخاف أن يأتي يوم يصبح فيه جسدي أكثر بالغة مني!
يرد:
ّ
-في جميع الحاالت هو أكثر صدقًا منك ..فوحدها حواسنا ال تكذب
يواصل:
أن هذهوقبلتك في زمن آخر ،و ّ
أن لي إحساساً ثابتاً بأنني قابلتك في بيت آخرّ ،
-لكن العجيبّ ..
أن بإمكاننا أن
الرائحة أعرفها من ضمة أخرى ،وهذا المذاق خبرته في قبلة أخرى ..كيف تفسرين ّ
ننسى الجسد الذي امتلكناه ولكننا ال ننسى الجسد الذي اشتهيناه ..ولم نمتلكه؟
طبعاً لم أكن أملك جواباً ألسئلة كهذه .خاص ًة أنني لم أكن أبادله اإلحساس بأن هذا قد حدث في
زمن سابق.
أكتفي بالقول:
-جميلة هي هذه الحالة العالية من الرغبة .ثمة بطولة ما ،في البقاء على قيد الوفاء ..لِ َو ْهم!
ولك ّنه وضع رجليه على الطاولة المقابلة له وقال بشيء من السخرية وهو ينفث دخانه بيننا:
-أية بطولة؟ مازلت تأخذين الحياة مأخذ ا ألدب ،ألن الناس يحبون القصص التي تنتهي بخيبة،
والتي تكثر فيها المبادئ ،ويصمد فيها "البطل" حتى الصفحة األخيرة ،ألنهم في الحياة عاجزون
الحد..
عن الصمود إلى هذا ّ
وأضاف:
-انتهى زمن القضايا الجميلة .لقد خذلتنا البطوالت في الحياة .فلتكن لنا في الروايات بطوالت
أجمل.
وكل انتصارات الحكمة .ال تساوي شيئاً أمام عظمة السقوط في لحظةكل بطوالت الفضيلةّ ..
ّ
نحب .السقوط عشقاً ،هو أكثر انتصاراتنا ثباتاً!
ضعف أمام من ّ
يمسك بيدي كأنه يستوقفني يقول:
المرة ..أريد لنا بطوالت بسيطة وجميلة ..في متناول الجميع .كأن تكون لنا أطول قبلة في
-هذه ّ
تاريخ األدب الجزائري..
ثم يسألني أمام دهشتي:
-أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك منذ قليل؟
قلت بفضول:
-بماذا؟
أجاب:
الحب أومأ لنا ،لنواصل في الحياة ،قبلة بدأناها
ّ أن الحياة بدأت معنا في تقليد األدب .كأن
-فكرت ّ
في كتاب سابق.
كما في تلك الرواية .ها نحن في موعدنا األول نفسه .نواصل قبلة أمام المكتبة إياها .وأنت
تستعيرين أحدها.
وهمي في
ّ رجل
تصوري روعة قبلة يبدأها ٌلقصتينّ . أحب مصادفة هذه القبلة العابرة للكتب ،العابرة ّ
كتاب ..ويواصلها في الحياة رجل آخر ،تطابق مع األول حتّى لكأ ّنه يعرف مذاق شفتي هذه المرأة.
في زمن البطوالت الخارقة ،والصواريخ العابرة للقارات واألقمار العابرة للكواكب ...قبل ٌة عابرةٌ للزمن،
تظل أهم إنجاز قد يفتخر به المرء.
عابرة للرواياتّ ،
أقول:
القياسي بالذات .عادةً يزهو
ّ تصر على تحطيم هذا الرقم
كل هذا ..ولكن ال أفهم لماذا ّ
-جميل ّ
الرجال بتحطيم أرقام قياسية أخرى!
وكأن سؤالي فاجأه .يقول بعد شيء من الصمت وكأنه جمع كلماته استعداداً لمرافعة:
يضحك ّ
العشقي الوحيد الذي تشترك فيه جميع حواسنا .نحن في حاجة إلى حواسنا
ّ -ألن القبلة هي الفعل
الخمس لتقبيل شخص .ولكن لسنا في حاجة إليها جميعها لنمارس الجنس .القبلة تفضحنا .ألنها
كل الحيوانات.
حالة عشقية محض ،ال عالقة لها بالرغبات الجنسية التي نشترك فيها مع ّ
الحب مع شخص ال نشعر برغبة في تقبيله .وقد نكتفي بقبلة من امرأة
ّ ولذا ،نحن قد نمارس
كل النساء على منحنا إياه!
الحمى ،ما تعجز أجساد ّ
تمنحنا شفتاها من ّ
وجنتي حمرة مفاجئة .أرتبك لهذه الكلمات التي يتكهرب لها جسدي .ولكنني ال أقول شيئاً،
ّ تعلو
وكأنني أصبحت فجأة أخرى.
يرفع عن وجهي خصلة أسدلها االرتباك .يقول:
أن عمر لذتي توقف
أقبل امرأةً منذ زمن طويل ،و ّ
الحب كثيراً.ولكنني اآلن أنتبه أ ّنني لم ّ
ّ -مارست
على شفتيك عند الصفحة172.
يتحدث؟ وكيف يذكر رقم الصفحة بالتحديد؟ ولكنني لم أعد أجد
أوشكت أن أسأله ،عن أي كتاب ّ
لي صوتاً أضيف به شيئاً إلى ما قاله.
فأقف وكأنني أبحث عن جواب قد أعثر عليه واقفة.
قد يكون أساء فهمي .فقد نظر إلى ساعته وسألني:
-متى يحضر السائق؟
أجبته:
الخلفي.
ّ -إنه ينتظرني عند الخامسة ..في الشارع
رد:
ّ
-أمامك ربع ساعة .أنصحك بالذهاب.
ال أجادله في شيء .فأنا أعرف عادته في قطع موعدنا في لحظته األجمل .كما ينقطع تيار
كهربائي أثناء احتفال.
الحب:
ّ أضاف وكأنه انتبه لشؤون أنساه إياها
-الوضع سيء ،وقد تحدث مواجهات في الساعات القليلة القادمة بين المتظاهرين والجيش.
سألته كمن يبحث عن عذر للبقاء.
-لماذا اليوم؟ لماذا اآلن؟
قال:
البد من
-ألن زعيم اإلنقاذ خطب اليوم واصفاً الشاذلي بأنه مسمار مزروع في كعب الجزائر ّ
الرئاسي مطالبة بتقديم تاريخ اال نتخابات
ّ أن مسيرة من الملتحين تتوجه نحو القصر
اقتالعه ،و ّ
الرئاسية.
سألني وهو يرى اندهاشي لهذه األخبار:
-أال تستمعين إلى اإلذاعة؟
قلت كمن يعتذر:
-ال يوجد مذياع حيث أنا ،وألنك نصحتني بأن ال أطالع الجرائد.
فأنا معزولة عن العالم منذ أسبوعين ،في ذلك المصيف.
رحت على مرأى منه أجدد هيأتي أمام مرآة .أضع من جديد ذلك الشال على رأسي.
أشياء حوله أحسدها .أتركها خلفي وأتجه نحو الباب.
يمدني به:
استوقفني حامالً ذلك الكتاب .قال مازحاً وهو ّ
-يبدو لي اآلن أنني أتطابق مع خالد في تلك الرواية .ولكن ال خطر من إعارتك هذا الكتاب..
مادام ليس ديواناً لزياد!
الحد.
عجبت لذاكرته ،ولغمزته الساخرة ،وأدهشني أن يعرف إحدى رواياتي إلى هذا ّ
قلت وأنا أطمئنه:
عدة سنوات .وال خطر عليك منه!
-لقد مات هنري ميشو منذ ّ
رد مازحاً:
ّ
-ال أدري ..ولك ّنني تعلمت أن ال أطمئن إلى قراءاتك!
ضحكت.
تذ ّكرت أن في تلك الرواية تستعير البطلة من خالد ديوان شعر لصديقه الفلسطيني زياد ،الذي ال
ينفك يحدثها عنه وعن شعره بإعجاب .مطمئناً إلى وجوده في الجبهة .ثم يصادف أن يحضر زياد
من لبنان لزيارة باريس لبضعة أيام ،فتقع البطلة في حب الشاعر وتتخلّى عن الراوي ،الذي
خسرها منذ بدأت في قراءة ذلك الكتاب.
بكل هذه المتعة ،أخاف أن أعي أنني كنت قبل ذلك في عداد األموات.
كنت عندما تأتيني الحياة ّ
قُبلة واحدة ،واذا بي أكتش ف الحياة دفعة واحدة .وأكتشف حجم خسائري السابقة.
أود لو كان بإمكاني أن أمأل هذا الدفتر األسود .وأنا أصف فقط هذه اللحظة الفاصلة بين
كنت ّ
عمرين .أن أوقفها .أن أحنطها داخل الوقت.
أود لو كانت لي يدا النحات الشهير رودان وموهبته ،كي أخلد عاشقين ،توقف بهما الزمن إلى
األبد في لحظة شغف ،وهما منشغالن عن العالم ،ومنصهران في قبلة من حجر.
لو كانت لي قدرة بروست في رائعته البحث عن الزمن الضائع على كتابة عشرين صفحة في
وصف قبلة واحدة ال أكثر.
خد الحبيبة ،استطاع أن يصفها إلى
أألن قبلة بروست لم تحدث حقاً ،وانتهت بعد طول السرد على ّ
ّ
الحد؟
ذلك ّ
وفياً تماماً لكاميل كلوديل النحاتة التي أقامت معه عالقة عاصفة أوصلتها إلى
وألن رودان لم يكن ّ
الحتمي في محترفه وفي حياته،
ّ مصح المجانين حيث ماتت ،أراد منذ البدء أن يعوض عن غيابها
ّ
بتمثال مربك في عريه يخلد به قبلة لن تتكرر بينهما.
هل وعى الخ ذالن المبكر شرط إبداعي؟ والعودة بسالل فارغة وحدها يمكن أن تمأل كتاباً؟
الجواب عن هذا السؤال ال يعنيني اآلن ..وفي جميع الحاالت أنا عاجزة عن الجواب عنه.
هذه الرغبة التي تسكنني اآلن تمنعني من التفكير .تشعلني ،تحرق أصابعي .تمنعني من الكتابة.
بل ربما كانت أرغمتني على الكتابة ،لو لم يكن أمامي هذا الهاتف ،الذي يمنحك بأرقام سحرية
حب فورية ،تجعل من الحماقة الجلوس أمام ورقة الستحضار حبيب بالكتابة!
وجبة ّ
كانت عودتي متوقعة ،نظراً إلى حلول العيد بعد ثالثة أيام .ولكن كنت أتوقع معجزة ما ،أو حادثاً
طارئاً ما ،يجعل زوجي يطلب من ي البقاء إلى حين عودة أمي من الحج .وهو ما سيمنحني فرصة
مرة أخرى.
لقاء ذلك الرجل ولو ّ
فكرة الوقت الذي بدأ بمطاردتي جعلتني أستعجل في طلبه ،وكأنني أدخل فوراً في سباق مع الزمن.
يرد ،وكأنه هنا في انتظاري:
ستة أرقام ..هاتف يدق دقتين ال أكثر ..وصوت ّ
-هل وصلت بسالمة؟
-نعم ..وأنت؟
فضلت أن أستفيد من ذاكرة األمكنة .رائحتك ما زالت تسكن هذا البيت .إنها
-لم أغادر البيتّ .
عقابك الجميل لي.
-لم أقصد ذلك..
-كان يمكن أن تفعلي ،لو قرأت ما فعلت جوزفين بنابليون ،عندما أجبرها على مغادرة القصر.
-ماذا فعلت؟
-رشت بعطرها غرفته ،بما يكفي إلبقائه خمسة عشرة يوماً محاصراً بها ،رغم وجوده مع أخرى.
ترش أشرعة باخرتها بعطرها ،حتّى تترك خلفها خيطاً من العطر حيث حلّت.
وقبلها كانت كليوبترا ّ
أقول ضاحكة:
للمرة القادمة.
-حسناً ..سأستفيد من هذه المعلومات ّ
يرد بعد شيء من الصمت:ولك ّنه ّ
-لن يكون هناك من مرة قادمة.
-لماذا؟
يرد دون أن يؤثر انفعالي في نبرة صوته:
ّ
-ألنني مسافر غداً..
-أنت ذاهب إلى قسنطينة؟
-ال ..إلى فرنسا.
أصرخ من جديد بعجب:
-إلى فرنسا! وماذا ستفعل هناك؟
يجيب ضاحكاً:
-ما يفعله اآلخرون عندما يسافرون إلى هناك.
-ولك ّنك..
يقاطعني:
ي أسافر بين دفاترك ومعك فقط .ومن
-ولكنني ال أشبههم ..أليس هذا ما تعنينه؟ أنا كائن حبر ّ
قسنطينة إلى العاصمة ..ال أكثر .وليس من ح ّقي أن آخذ تذكرة سفر لشخص واحد ..ولوجهة
ليست وجهتك.
ثم يواصل:
يصمت ّ
-ولكنني لست البطل الذي تتوهمين .أبطالك ال يمرضون وال يشيخون ،وأنا متعب ومريض يا
سيدتي.
أقول بخوف مفاجئ:
مم تعاني؟
ّ -
يرد متهكماً ،كما لفرط حزنه:
ّ
-أعاني الوقوف ..لقد قضيت عمري واقفاً ،ألنني ال أحسن الجلوس على المبادئ.
ال أريد أن أتعمق في فهم ما يقوله .سؤال واحد يعنيني:
-ومتى تعود؟
-ال أدري ..أنا رجل عابر.
-ولكنني معنية بحياتك..
يجيب ساخراً:
حياتي تعنيك؟
َّ أي
ّ -
أصمت ال أفهم ما يقصد.
يواصل:
إلي موتاً
-أنا لم أوفق في حياتي .ولذا أصبحت أمنيتي أن أوفق في موتي .أيمكن أن تهدي ّ
ال ..إذا ما خذلتني الحياة في المشهد األخير؟
جمي ً
أصرخ:
الحب .ما الذي أوصلك إلى
ّ -ما هذا الذي تقوله؟ لقد ك ّنا منذ ساعات قليلة سعيدين ،نتحدث عن
هذا التشاؤم؟
يضحك:
-ولكن ألن الحب يعنيك ..ال بد أن يعنيك الموت أيضاً .فالحب كالموت .هما اللغزان الكبيران في
هذا العالم .كالهما مطابق لآلخر في غموضه ..في شراسته ..في مباغتته ..في عبثيته ..وفي
أسئلته.
نحن نأتي ونمضي ،دون أن نعرف لماذا أحببنا هذا الشخص دون آخر؟ ولماذا نموت اليوم دون
الحب والموت يغذيان وحدهما
ّ فإن
يوم آخر؟ لماذا اآلن؟ لماذا هنا؟ لماذا نحن دون غيرنا؟ ولهذا ّ
كل األدب العالمي .فخارج هذين الموضوعين ،ال يوجد شيء يستحق الكتابة. ّ
يستدرجني كالمه إلى حالة من التفكير ،فأغرق في صمت يقطعه من جديد صوته:
-أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك اليوم؟
-بماذا؟
كل القبل مثلنا تموت ،فاألجمل أن نموت أثناء قبلة.
-فكرت ..أنه إذا كانت ّ
-عجيب ..هل تصدق أنني عندما عدت ،كتبت على دفتري "ثمة قبل إن لم نمت أثناءها فنحن
ال للعيش بعدها".
لسنا أه ً
ثم يقول:
يسجل لحظة صمت وكأنه يتعمق في هذه الفكرة أو يتذوقهاّ .
ّ
لتسمى
ّ حب شاهقة بما فيه الكفاية
-لقد أدركت وحدك ..أنه دون مالمسة الموت .ال توجد حالة ّ
عشقاً.
كل ما يلقنها أستاذ .ال برنامج دراسياً له عدا مزاجه
أصمت وكأنني تلميذة تحاول أن تحفظ ّ
الحب،
ّ المتقلب ،وعليها أن تستوعب في يوم واحد ،درساً في الرغبة ،وثانياً في الموت ،وثالثاً في
بكل ذلك الشغف ..ونغادرها بهذا القدر من الالمباالة!
وآخر في فن التخلي عن امرأة ،قبلناها ّ
كل ما علق في ذهني من هاتفه.هذا ّ
حب معينة .أو أنه ترك لي رقم هاتف آخر .أو عنواناً بالتحديد.
ال أذكر أنه قال بعد ذلك كلمة ّ
قال فقط ،إنه يحمل معه رائحة الوقت المسروق .وأضاف معتذراً أنه يريد أن ينام ليستريح
استعداداً للسفر.
وفهمت أنه سيكون بإمكاني أن أطلبه غداً ،حين أستيقظ ،لنتحدث مرة أخيرة في هذه التفاصيل.
ولكن في اليوم التالي ،كانت الساعة السابعة صباحاً .كنت أستيقظ من ليلة مضطربة ،عندما
طلبت ذلك الرقم وأنا نصف نائمة.
يدق بطريقة شبيهة بالبكاء ..ولم يكن ثمة من أحد ليوقف بكاءه على الطرف اآلخر
كان الهاتف ّ
الحب الدائمة التكرار.
ّ للذاكرة .إنها ملهاة
اآلن فقط ،يمكن للصمت أن يبكي.
حتما
ً
ــــــــــ
دوما.
نأتي الحب متأخرين قليالً ،متأخرين ً
قلبا بحذر ،كمن مسبقًا يعتذر ،عن حب يجيء ليمضي.بصيغ مغايرة ،يعيد الحب نفسه، نطرق ً
ببدايات شاهقة ألحالم ..وانحدارات مباغتة األلم .وعلينا أن نتعلم كيف ننتظر أن يوصلنا سائق
الحب الثمل إلى عناوين خيبتنا.
سريعا؟!
ً رشدا
حتما ..نضج الحلم .ولكن الزمن هو الذي لم يستو بعد .فما جدوى أن يبلغ القلب ً
ً
جاء العيد ..ولقسنطينة عيد آخر.
أعود إليها بقلب متعدد االنكسارات .ها أنا أنهض من تحت أنقاض الحلم .أتنفس من تحت ركام
هائل من األوهام.
وهاهي تفاجئني بوجه ال أعرفه .وقد تراكمت فيها القمامة على امتداد الشوارع بعد أن أضرب فيها
البلدية والتنظيفات الذين صادر اإلسالميون شاحناتهم المخصصة لنقل النفايات ،إلرغامهم
ّ عمال
ّ
على اإلضراب المفتوح ..مما جعل القطط هي المحتفلة الوحيدة بالعيد.
تستعد
ّ أستعجل العودة إلى بيتي .حيث أنا ال شيء يصلني سوى ضجيج المدينة التي
فجرا موتها.
لفرحها..و"ثغاء" الخرفان التي تنتظر ً
أكره األعياد .وهذا العيد كان أكثر األعياد حزناً .كان عيد الغياب.
انتابني هذا اإلحساس ،وأنا أستيقظ ذلك الصباح ،فال أجد أحداً في البيت ألعايده عدا الش ّغالة .وال
عمي أحمد التي زادني سماعها حزناً .وأيقظ
أحد يمكن أن أطلبه على الهاتف ،عدا زوجة ّ
إحساسي بالذنب تجاهها .
تحس ًبا لمظاهرات أو ألحداث طارئة قد تحدث بعد صالة العيد.
زوجي كان قد غادر البيت باكراًّ .
الحج ..وناصر لم
ّ فريدة ذهبت كعادتها لقضاء العيد مع أهلهاّ " .ما " لم تكن قد عادت بعد من
ليرد على هاتف ي .والخرفان نفسها التي كانت في البيت ،لم تعد هنا .ولم يبق منها
يكن في البيت ّ
دم على األرض ،وجثّة معلقة يتسلى الجزار بسلخ جلدها .سوى آثار ٍ
ماذا يفعل الناس صباح عيد األضحى غير االنقضاض على لحوم الخرفان سلخاً وتقطيعاً ..
المادية،
ّ إمكانياته
ّ أضحية .مهما كانت
ّ وتقسيماً .فهنا ال يمكن ألحد أن يتصور عيد األضحى دون
أو نوع البيت الذي يسكنه.
ولذا تعودت أن أراهم صباح العيد مسرعين جميعهم :الرجال نحو الذبائح..والنساء نحو المطابخ،
عنهن.
ّ حاجتهن ويتصدقن بما زاد
ّ يقسمن أجزاء الشاة حسب ّ
هذا العام أتوقع أن تكون الحاجة إلى الصدقات قد زادت ،بعدما تجاوزت أسعار الخروف ،العشرة
دينار جزائري .وهو ما جعل أضحية العيد تفوق ثمن اإلنسان نفسه،الذي ال يك ّلف هذه األيام أكثر
من رصاصة..
أطلب زوجي على الهاتف ألعايده .أشعر أن هاتفي يفاجئه وربما يسعده .أسأله إن كان أرسل
عمي أحمد ..يقول أنه نسي ذلك ،نظراً إلى مشاغله .أجيبه أنني سأتكفل باألمر .
شيئا إلى بيت ّ
ً
وقبل أن أواصل كال مي يدق في مكتبه هاتف آخر ..ويتوقف بيننا الكالم.
ثم ألحق به ..وأطلب منه أن
أطلب من السائق أن يأخذ نصف الشاة إلى بيت ذلك المسكينّ .
يوصلني قبل ذلك إلى المقبرة .
لم يحدث إ ّال نادرا أن زرت قبر أبي صباح العيد .كنت أحب أن أذهب إليه وحدي .كما نذهب إلى
حب.
موعد ّ
أكره أن أزوره في المناسبات .ربما من كثرة ما تقاسمته مع اآلخرين ،كتلك المرات التي أعبر فيها
شارعاً أو مدرسة تحمل اسمه ،فأشعر باليتم يجتاحني ،ويكاد يغطي على زهوي بحمل االسم نفسه .
كان بيني وبين هذا الرجل ،الذي يقيم تحت هذا الرخام ،تواطؤ ما .ولذا صنعت له ضريحاً صغيراً
داخلي ،ال عالقة له بوجاهة مقامه هنا ،ضريحا كان يكبر معي سنة بعد أخرى .واذا به في غيابه،
أكبر مما حولي من أحياء .
كنت أجلس إليه بين الحين واآلخر ،كما تجلس النساء إلى ضريح األولياء ،يشكون
همومهن،ويستنجدن ببركات األموات على مصائب الحياة .
وأحيا ًنا أغلق على نفسي باب غرفتي .وأفتح له ذاكرة حزني وأخطائي .وأدعوه إلى الجلوس على
حل بي .أستشيره .وأتوقع أجوبته .وعندما ال يأتي جوابه،
طرف سريري .أقص عليه بعض ما ّ
وتبقى صورته صامتة ،أجهش بالبكاء.
أخاف أن أكون قد قلت له الكثير عني .أخاف أال أكون عند حسن ظنه .فال أصعب من أن نبقى
عند حسن ظن األموات .
أيضا ،ككل المرات التي كان يضيق بي فيها القدر ،وتخذلني الحياة ،تقودني خطاي نحو هذا
اليوم ً
الشبر من التراب ،أنبش فيه عن جواب ألسئلتي الكثيرة.
ولكني هذه المرة لم أعثر على جواب .وانما عثرت على ناصر ،وهو يهم بمغادرة المقبرة.
ومما زاد من اندهشي ،أال تكون زيارة قبر أبي في األعياد إحدى عاداته .بل نقلت لي أمي منذ مدة
،أنه أفتى لها بأن زيارة القبور واألضرحة غير مستحبة.
وكعادتي ،لم أجادله في معتقداته ،وال في وجوده هنا ،حيث لم أتوقعه ..كالعادة .اكتفيت بإبداء
اندهاشي لوجوده ،وفرحي بلقائه.
ولكنني لم أمنع نفسي وأنا أقبله ،من أن أسأله عن مظهره الذي بدا لي قد تغير ،دون أن أتمكن
من معرفة ما تغير فيه بالتحديد.
رد بشيء من السخرية:
كثير من وزني في الفترة األخيرة..
_لقد فقدت ًا
ثم أضاف:
_كي ال أفقد معتقداتي!
لم أفهم ما يعنيه .أجبته بلهجة فرحة:
شبابا هكذا..
_هذا أفضل ..أنت تبدو أكثر ً
أجاب بالسخرية نفسها:
بشبوبيتي..؟
ّ _وواش اندير
هوذا كعادته ،يستدرجني إلى موضوع لن يكون من السهل الخوض فيه .كتلك المرة التي طلبت
منه فيها ،منذ سنوات أن يأخذ الساعة الجدارية إلصالحها ،ألنها تتأخر عدة دقائق كل مرة ،ولكنه
هازئا:
رد ً
_ روحي ..يا بنتي روحي ،إحنا رانا عايشين متأخرين على العالم بقرن .وأنت قاعدة عقاب
الساعة ،تحسبي لي في الدراج والدقائق .قرن كامل ما قلقكش ..وقلقوك الدقائق .حتى الراجل إذا
نديها لو يموت من الضحك ..في هاذ البالد ..الناس ما يأخذولو ساعة غير لما تحبس!
أتفادى الدخول معه في جدل سيهزمني فيه ال محالة .ألنه يرد على منطقي في الحياة ،بمنطقه
دائما إلى جانبه.
في معايشتها .وهو ما يجعل الحق ً
أقول كمن يعتذر:
_كنت على سفر .ولم أعد سوى منذ يومين .طلبتك هذا الصباح ألعايدك ..ولكنني لم أجدك.
رد:
ّ
_ أنا ال أقيم في البيت .كلنا على سفر كما ترين ،وحدهم األموات أصبح لهم عنوان ثابت هذه
األيام!
الصمت:
يواصل بعد شيء من ّ
_ ألنه لم يعد لهم من شيء يخافون عليه ..أو يخافون منه.
أسأله مستفيدة من هذا السياق:
ومم أنت خائف؟
_ ّ
يرد بثقة وكأني وجهت إليه تهمة:
_من اهلل ..من اهلل وحده.
أرد:
_كلنا نخاف اهلل..
يجيب:
_كيف يخاف اهلل من يطيع أعداءه؟
أصمت .ال ألنني ال أقدر على جوابه .ولكن ألنني أجد جدلنا هذا ،أمام مقبرٍة ذات عيدً ،
ضربا من
الجنون .فنحن لم نأت هنا لنتناقش وال لنتشاجر.
جئنا لنقرأ الفاتحة على قبر والدنا ،وهاهي ذي السياسة تطاردنا اآلن في كل مكان ،حتى في
أسرتنا ،وحتى في دفاترنا ،وحتى في المقابر.
أقول:
_ناصر خويا ..الناس تلتقي اليوم لتتعايد ،وتتصالح ،وتتسامح،وأنت ال أكاد أسلم عليك حتى
تنفجر في وجهي ..كن أخي ولو صباح العيد.
متذم ًرا:
يقول ّ
طرية ،تستقبل كل يوم دفعة جديدة من األبرياء.
أي عيد؟ أنظري حولك القبور كلها جديدة ،كلها ّ
_وما ذنبي أنا؟
_ذنبك ..أنك تقتسمين مع الشيطان بيته وسريره.
أرد:
_ال أدري إن كان هذا الرجل مال ًكا أو شيطا ًنا .ال أعتقد أنه يختلف عن اآلخرين ،سوى بكونه
ساميا تقع على أكتافه مسؤوليات الدفاع عن الوطن ،هذا الوطن الذي أؤمن به أكثر من
ً ضابطًا
إيماني بالمالئكة ..والشياطين.
_ وال يزعجك أن يحتضنك بيدين ملطختين بالدم؟ بتعليمات منه يسجن األبرياء ،وتمتلئ هذه
حرية الناس في اختيار مصيرهم؟
القبور ،ما فائدة ما تعلمته إذن ،عن ّ
_ ما تعلمته لم يفدني في شيء .وال حتى في اختيار مصيري ،فكيف تريد أن أقرر مصير
رسميا .ومهمتها تمثيل الشعب ،والدفاع عن
ً اآلخرين؟ ثمة أكثر من ستين حزباً معترفاً بها
اختياره .أما أنا فال يوجد حزب ليدافع عني .وحتى أنت ..لم تسألني قبل اليوم عن رأيي في شيء،
فلماذا تعجب أن ال يكون لي اليوم رأي؟
يصمت .وكأنه ال يجد ما يقوله ،أو ال يجد جدوى من الكالم .يستعيد لهجة أكثر حناناً .ويقول
وكأنه يودعني سراً.
-حياة ..انخاف عليك
أتمتم:
-من واش؟
يجيب:
كل شيء!
-من ّ
أرد بالحنان نفسه:
كل شيء.
علي دائماً من ّ
-لقد خفت ّ
يجيب:
تماما ما أقول .أتركي هذا الرجل ،اطلبي منه الطالق ما دام ليس لك أطفال
-ولكن هذه المرة أدري ً
منه .
أبتسم ثم أضحك لكالمه.
يسألني عاتباً:
-ما الذي يضحكك؟
أقول:
-تذكرت "ما" لو كانت هنا وسمعتك تنصحني بالطالق لج ّنت .هي التي تعتبر زواجي من هذا الرجل
أكبر مفاخرها.
يرد:
ّ
-ال تهتمي بأمي .إنها تعيش حياة مستندة إلى حقيقة واحدة (اآلخرين) .في الواقع هي تستند إلى
جدار من الوهم الكبير .استندي إلى اهلل في أي قرار تتخذينه فهو لن يخذلك.
أقول:
-لقد استندت إليه دائماً ..والى هذا القبر .وقدري نتيجة هذا .وكنت أتمنى أن تكون أنت أيضاً
كل ما أملك في هذه الدنيا .ولكن ها نحن كالغرباء نلتقي مصادفة في المقابر ..ال
سندي .إنك ّ
تطلبني وال تزورني ،وعندما أزورك ال أجدك.
يقاطعني بشيء من المرارة:
علي .سيكون لي أخيراً عنوان ثابت هنا.
-ذات يوم ..لن تجدي صعوبة في العثور ّ
أصرخ:
-ما هذا الذي تقوله ..أجننت؟
يقاطعني:
-الموت أقرب إلينا مما تتوقعين .أتريدين أن أدلك على قبر لصديق ،قتل منذ أيام دون مبرر،
شيئا ،على مقربة
سوى ألنهم اشتبهوا في أمره ،وهو يضع يده في جيبه ويوشك أن يخرج منها ً
شرطي .عندما قتلوه ،اكتشفوا انه لم يكن يحمل في جيبه شيئاً .تصوري :اآلن بإمكانك أن
ّ من
تموتي ال بسبب جريمة ارتكبتها ،وانما ألن هناك افتراضاً أن تكوني مجرمة .حسب المكان ،أو
الزمان ،أو الهيئة التي يصادف أن تكوني عليها وقتها .أي أننا جميعاً متهمون مفترضون .يكفي
أن تتوافر فينا إحدى هذه المصادفات ..وتتطابق مع "أعراض إرهابية!"
أقول:
كل واحد أصبح يعتقد أنه إن لم
-ال أطن أن أحداً يحب إيذاء اآلخر ،أو قتله لمتعة القتل .ولكن ّ
يكن القاتل ،فسيكون القتيل .إنها قضية ثقة .لقد فقدنا الثقة ببعضنا بعضاً .إنه زمن االنجراف
نحو الشر .يجب أن ال ننساق فيه إلى ركوب هذا القطار المجنون .الحياة جميلة يا ناصر،
صدقني ..يكفي أن نضع فيها شيئاً من الحب.
***
أ نا التي ذهبت يومها أبحث عن أجوبة ،عدت بأسئلة أكثر ،بعد أن قضيت نصف نهاري في
مواساة عائلة عمي أحمد ،والنصف اآلخر في مواساة نفسي ،عن رجال ال يأتون إال ليرحلوا ،وال
يسلمون علي إال ليودعوني..وال يتحدثون إلي إال ليضعوا الموت طرًفا ثالثًا بيننا.
أثمة في هذا الب لد ،عدوى انتشرت بين الرجال ..جعلتهم جميعهم يتكلمون الكالم نفسه ،وال
ّ
يحلمون سوى بالرحيل؟
في المساء ،جلست لياق ًة ألشارك زوجي العشاء .في الواقع ،كنت قد قررت منذ أيام أن ال آكل
شيئا من لحم تلك الخرفان ،التي ظلت رؤوسها ترتجف لعدة أيام ،بسبب ما عانته من دوار البحر،
ً
شهر ونص ًفا ،محشورة في الطبقات السفلية لباخرة.
لقضائها ًا
عادية ،عن أشياء
زوجي كان مره ًقا بدوره إلى درجة لم يلحظ معها غياب شهيتي .تبادلنا أحاديث ّ
عامة دون تحديد .وما أنهى عشاءه حتى رأيته يتجه نحو غرفة النوم ويخلع ثيابه .وكأنه يخلع
عبئا كان يحمله طوال النهار .ويلقي بنفسه على السرير.
ً
قلت له وأنا أعلق ثيابه على المشجب:
_كنت أتمنى لو قضيت هذا اليوم معي ..ال أفهم لماذا ال بد ان تقضي كل األيام في مكتبك ..حتى
األعياد.
أجابني:
_ إذا قضيت معك العيد ،فمن يضمن األمن في مدينة يتجاوز عدد طالبها في جامعة واحدة 18
ألف طالب .أما مساجدها فال أحد يعرف عددها ..إنها تنبت كل يوم..
قلت:
أبدا .حتى العطل واألعياد ،أصبحنا نقضيها كل على حده.
_كنت أقصد أننا لم نعد نلتقي ً
أوصلني هذا السياق إلى ناصر .تذكرته وتذكرت حديثي معه .احتفظت بمشروع سفره لنفسي.
ولكنني وجدتني دون تفكير أخبر زوجي بلقائي به هذا الصباح في المقبرة ،برغم علمي أن زوجي
يتحاشى الحديث عنه ،وكأنه يبادله مشاعر الكراهية نفسها.
ولكنه فاجأني هذه المرة ،وهو يقول بشيء من االرتياح:
_حس ًنا أن تكوني قد التقيت به..
ثم يضيف:
_كيف وجدته؟
أعجب لسؤاله ..أجيب:
كالعادة ..ربما نحف بعض الشيء ،ولكنه بصحة جيدة.
يسألني:
_ألم يخبرك بشيء؟
أصمت .أرتبك .يذهب فكري إلى كل االحتماالت.
أحدا .وماذا
تراه يعلم بمشروع سفر ناصر؟ أكان هناك من يتنصت أثناء حديثنا؟ ولكنني لم ألحظ ً
لو كان يستدرجني ليعرف مني ما يجهله؟
أجيب:
شيئا ،عدا أن أمي عائدة بعد ٍ
غد من الحج ..كي أستعد الستقبالها. _ال ..لم يخبرني ً
مستندا على السرير:
ً يسألني وهو يصلح من جلسته
_ألم يخبرك أنه اعتقل؟
أصرخ دهشة:
_اعتقل؟ لماذا؟ ومتى حدث هذا؟!
_ أثناء غيابك .لم أشأ أن أخبرك بذلك حتى ال أشغل بالك.
أصاب بحالة ذهول.
أهو منخرط في تنظيم خطر؟ هل وجدوا في حوزته وثائق أو أسلحة؟ ولكن من المؤكد أنهم لم
يعثروا على حجة كافية إلدانته ،و إال لما كانوا أطلقوا سراحه.
أسأل:
_ماذا فعل؟
يجيب:
كثير من الشبهات تدور حوله ،إلقامته عالقات مع جهات أصولية..
_إن ًا
أجبت بعصبية:
أحدا.
_ولكن أن يتعاطف مع هؤالء ال يعني أنه إرهابي .ال يمكن لناصر أن يحمل السالح ليقتل ً
أنا أعرف أخي.
يقاطعني بلهجة صارمة:
كثير من المتاعب .إنه يعتقد أن االسم الذي
علي وعليه ًا
كثير .ولوال لسانه لوفر ّ
_إن أخاك يتكلم ًا
يحمله يمنحه حصانة .ويعطيه حق شتم السلطة وتحريض اآلخرين .لقد تدخلت هذه المرة إلطالق
دائما .نحن نعيش حالة من التوتر األمني يجب أال يكون
سراحه ،ولكن ال يمكنني أن أفعل هذا ً
فيها استثناءات حتى ألقرب الناس إلينا ..البد أن تشرحي له هذا!
في كل ذلك الوحل.ماذا أشرح لناصر؟ أنا التي لم أتوقع أن خبر سجنه سيحرك ّ
تركت لزوجي فرصة استعراض قوته أمامي ،واشعاري بأني مدينة له بالكثير.
لم تكن عندي رغبة في الدخول معه في أي جدل ،وال كنت مستعدة ألن أنهي يوم العيد بالتشاجر
مع زوجي ..وقد بدأته بالتشاجر مع أخي.
رأيته فجأة يغرق في نوم عميق .فلم أملك إال أن أنزلق جواره.
وأحاول بدوري أن أنام مذهولة من أمري.
ال أدري كيف مات غضبي.
كثير ما أشعل قلمي وأشعلني
اآلن فقط اكتشفت أنه مات .وأنني فقدت ذلك الحريق الجميل ،الذي ًا
في وجه اآلخرين.
أال تكون لك قدرة على الغضب ،أو رغبة فيه ،يعني أنك غادرت شبابك ال غير .أو أن تلك الحرائق
غادرتك خيبة بعد أخرى .حتى أنك لم تعد تملك الحماس للجدل في شيء .وال حتى في قضايا
مستعدا للموت من أجلها!
ً المثالية ،بحيث كنت
ّ كانت تبدو لك في السابق من األهمية ،أو من
كانت عودة أمي من الحج ،هي كل ما يعنيني اآلن .وال أدري أي شعور بالتحديد جعلني أستعجل
لقاءها :شوقي إليها؟ أم حاجتي إليها؟ أم رغبتي في لقاء ناصر ،ومعرفة ما يخبئ لي من
مفاجآت؟
وأنا التي تعودت رؤية أمي ذاهب ًة أو عائدة من الحج ،لم يفاجئني جلوسها في الصالون بزيها
األبيض ،وغطاء رأسها األبيض إياه .بقدر ما فاجأني وجودها لمرة دون حاشيتها من النساء،
الالتي يودعنها ويستقبلنها في كل ذهاب واياب.
ولذا سعدت باالنفراد بها ..وربما االلتصاق بها ،وكأنني أسرق منها بعض بركاتها ،قبل أن تعود
عادية.
امرأة ّ
ال تكاد تراني حتى تبادرني بالسؤال:
هيأتك ال تعجبني ..هل بك شيء؟
أرد:
_ال
تواصل:
شحوبا ..ربما البحر ال يناسبك.
ً _لم تستفيدي من سفرك إلى العاصمة ..لقد عدت أكثر
أرد:
_بلى هو يناسبني ..ولكن هذه المدينة هي التي تتعبني.
أخير لعدم وجود مشاكل في غيابها.
فتعود إلى حديثها عن الحج ،وقد اطمأن بالها ًا
دعسا ..وعن
ً تحكي عن الحرارة التي ال تطاق هذا العام في مكة ..وعن الحجيج الذين ماتوا
ي الذي انهار ..وعن أسعار الذهب التي ارتفعت..
الدينار الجزائر ّ
أستوقفها:
دعاء هناك؟
ً "_ ّما" ..هل رفعت لي
تجيبني متعجبة:
دائما..
طبعا يا ابنتي ..إنني أفعل ذلك ً
_ ً
أقاوم رغبة جارفة في البكاء ،وكأنني كنت أنتظرها ألنهار باكية .ولكنني ال أفعل؛ أواصل االستماع
سرا أبكي.
إليها تحكي ..وأنا ً
أثناء ذلك ،تحضر إحدى الجارات ثم نساء أخريات .فأتركها لهن .وأذهب نحو ناصر ..كعادتي.
أحب ناصر في صمته .في رجولته الموروثه من قامة أبي ومالمحه .واليوم بالذات يبدو لي أكبر
من عمره.
ال فوق العقد ،فوق الشبهات .إنه ال يشترك في شيء مع أولئك الذين وجدوا في
أحسه رج ً
ردا على عجز
ال لكل عقدهم الرجالية ،أو مشاكلهم األرضية .ووجدوا في تطرفهم ً
األصولية ح ً
وطنية.
ّ تنفيسا عن عقدة
ً طبقية أو
انتقاما لذاكرة ّ
ً عاطفي ..أو
شيئا
لقد أثار هذا الطريق تارًكا كل شيء خلفه ،بينما لحق ب اآلخرون ،ألنهم لم يكونوا يملكون ً
ليخسروه!
كان بإمكانه الحصول على أية بنت ،وأية وظيفة ،وأية ثروة ،ولم يفعل .وال أدري أين كان يجد
سرا .إلى أي بلد كان يهاجر كل يوم ،وهو جالس يحتسي
الداخلية .ومع أية قضية تزوج ً
ّ ثروته
قهوته بتذمر صامت ،وأمي تحثه كل مرة على الكسب ،واغتنام الفرص التي تتاح له وتستفزه
بمقارنة حياته بحياة من هم أدنى منه ،ونجحوا في حياتهم.
نجحوا في الحياة؟ في الواقع ال .هي تقصد من نجحوا في اختصار مشقة الحياة ،ناهبين البالد
حيث وجدوا ،مشهرين غنائمهم دون خجل ،رافعين في بضع سنوات فيليات شاهقة ،تقف عند
بابها سيارات فخمة .وتسكنها امرأة تسافر إلى أوروبا في كل المناسبات لتجدد خزانتها.
لم تكن ت عي أنها كانت تعمق فيه الشعور بالخيبة ،وال تحثه سوى على المزايدة عليها.
يوما بعد آخر يفقد صوته بالرد عليها ،ويفقد أناقته ،وكأنه أضرب عن الحياة وعن
وكنت أراه ً
األناقة ،ألن الوطن لم يكن في أناقة أحالمه !
تماما كما خل ع اآلخرون فجأة شعاراتهم ،وحلقوا
أيضا حزب الصمت ،ويخلع صوتهً ،
أكان يدخل هو ً
قناعاتهم ،خوفًا من سجن يتربص بالملتحين.
إذن_أخير أصبحت متوافرة_ نزلت األسواق ،مع نزول مفاجئ في القيم،
ًا جاء زمن شفرات الحالقة
وفي قيمة اإلنسان .فهل هذا زمن الوطن التنازلي؟
نزلت ،ومعها نزلت الشعارات على الجدران ،تعلن بدء الزمن الصعب .وامتألت السجون
طأ بين نارين..كما في كل حرب.
بالملتحين..وبأولئك الذين أخذوا خ ً
أسأله بنبرة منخفضة:
_أيجب حقًا أن تسافر يا ناصر؟ وهل فكرت في ما سيحدث ألمي في غيابك؟
يجيب:
_ إني أسافر كي أعود .ولكن إن بقيت فقد تخسرونني .أقول هذا الكالم لك .أما أمي ..فسأغافلها
وأمضي بخديعة جميلة نحو قدري.
ستتحمل غيابي أكثر من تحملها خبر سجني أو موتي.
_ولكن هل هذه الخيارات محدودة حقًا إلى هذا الحد؟
طبعا..لقد انتهى ذلك الزمن الوديع في خيباته .جاء زمن السجون ..والموت المباغت..
_ ً
واالغتياالت الملفقة.
أقول:
_لقد أبلغني زوجي أنك اعتقلت أثناء غيابي.
يقاطعني:
أيضا أنه تدخل لإلفراج عني.
_وأبلغك ً
_وهل هذا غير صحيح؟
سياسية متعددة األهداف .إنه من جهة يجعلني مدي ًنا له بهذه الخدمة ،ومن
ّ _نعم..ولكنها مراوغة
ناحية أخرى يثير حولي الشبهات ،ويجعل رفاقي يشكون في مصداقية معاداتي للسلطة .مادمت لم
لعدة أشهر ،وربما لسنوات .ثم..إن يطلقوا سراحك فهذا ال
أسجن سوى يومين ويبقون هم هناك ّ
يعني سوى بدء مشاكلك ،خاصة مذ بدأوا بإطالق سراح كل من يزعجهم ،كي يتمكنوا بعد ذلك من
قتله خارج السجن ،تحت ستار الموت العشوائي .فماذا بقي لي من اختيار سوى الرحيل؟
أمرا لفرط غرابته ،أو كمن يرفع الغطاء خطأ أمامك عن صندوق استمعت إليه ،كمن ال يصدق ً
قمامة ،دون أن يعتذر لك عن عفونة أحالمك ..التي كنت أودعتها مكا ًنا "آم ًنا" أسميته الوطن!
فجأة ،لم تعد لي من رغبة سوى الهروب به إلى أي بلد آخر ..أو أي قارة أو كوكب آخر ،ريثما
يمر قطار الجنون.
يوما بمنطق رجل يتركني ويسافر .اقتنعت بمنطقه في مغادرة الوطن .ووجدتني
أنا التي لم أقتنع ً
وحججا إلقناع أمي بذلك.
ً ألفق معه أكاذيب
عدت يومها محملة بقبل ناصر ..وتعليماته .أما أمي فقد حملتني بعض ما أحضرت لي من هدايا.
تحس ًبا لذلك اليوم الذي قد
وعلى رأسها( ماء زمزم) ،الذي تعودت أن تأتيني به في كل حجةّ ،
أحبل فيه ..وأستنجد به عندما أضع مولودي!
يوما
في انتظار ذلك ،أنا حبلى بذلك الرجل .إنه الشيء الوحيد الذي يكبر داخلي كل يوم .واذا به ً
بعد آخر يغطي حتى على رحيل ناصر ،وعلى خيباتي األخرى .وال أفهم أن يستطيع هذا الرجل أن
ٍ
مآس ،اإلقامة داخلي ،ومنعي من يفعل بي كل هذا ،وأن يواصل برغم كل ما يحدث حولي من
التركيز على أي شيء عداه.
تبغ ما .وبرائحة عر ٍ
ق ما .لتشكل ٍ
بعطر ما .وبرائحة ٍ أكثر من كلماته ،علقت بي رائحته الممتزجة
كلها هذا الحضور الذي يوقظ حواسي ،والذي ال اسم له ،أو ربما كان اسمه :هو.
سلما شبه أخالقي للحواس ،وصف النظر باألكثر سطحية ،والسمع
وأذكر أن ديدرو الذي وضع ً
الشم.
تطيرا ،واللمس باألكثر عمقًا .وعندما وصل إلى ّ
غرورا ،والمذاق باألكثر ً
ً بالحاسة األكثر
جعله حاسة الرغبة ،أي حاسة ال يمكن تصنيفها ،ألنها حاسة يحكمها الال شعور ،وليس المنطق.
النسائي من هذه
ّ اسي .أو على األصح ،خوفي
المخيف مع هذا الرجل .أنه جعلني أكتشف حو ّ
الحواس.
اس أخاف أن يأتي يوم ،ال أستطيع معها أن أصفه ،أو
بل إنه وضعني في حالة من فوضى الحو ّ
أن أتعرف إليه ،بعد أن خرجت معرفتي به عن المنطق.
يوما التفرغ لمطالعة ذلك الكتاب الذي أحضرته معي لهنري منشو ،والذي وضع جوار
ولذا قررت ً
مقاطعة إشارات أو مالحظات .وكأنني وقد فشلت في اكتشاف ذلك الرجل في الحياة ،رحت أحاول
ال في كتاب.
اكتشافه داخل سطوة حضوره .بهدوء من يطالع رج ً
ٍ
غامض حد اإلغراء ،وحد اإلزعاج أحيا ًنا ،قد تكون فرصتك في كتابة أن تعيش مأخوذا بلغز رجل
أما إذا كنت عاشقًا ،فسيكون في لغزه عذابك ولعنتك .ذلك أن
رواية جميلة .هذا إذا كنت روائيًّاّ .
تحر .حتى ليكاد يصبح التحري مهنتك األخرى.الحب سيحولك رجل ٍ
ككل عاشق ،أنت تريد أن تعرف كل شيء عنه .تريد معرفة ماضيه وحاضره ،وأسماء من أحب
ومن أحبوه ،عناوين البيوت التي سكنها ،والمدن التي زارها ،والمهن التي مارسها ،واألماكن التي
يرتادها.
تطارده باألسئلة لتعرف برجه ،وهوايته ،وانتماءاته ..حتى إنك قد تعود بكتاب من مكتبته ،فقط
لمتعة التجسس على قراءاته!
عشقياً .وهنا
ّ طا
كثير من التلصص والتجسس والفضول .واألسئلة ال تزيدك إال تور ً
إن في الحب ًا
تكمن مصيبة العشاق!
سؤالي األول كان .مالذي أوصل هذا الرجل إلى هنري ميشو؟ ولماذا اختار هذا الكتاب ليسجل
أيضا .وعندما أصبح السؤال ،كيف يمكن
رساما ً
ً عليه خواطره؟ ولم أجد من جواب سوى كونه كان
أن أفهم رجالً من خالل شاعر وهو نفسه غامض .حتى إنه كان شاعر األسئلة التي ال تفضي
الظاهرية
ّ سوى إلى أسئلة أخرى .وكل حياته كانت مبنية على االنتهاكات الدائمة لوجاهة الحياة
فقد ظل يرفض الجوائز األدبية ،ويرفض أن تؤخذ له صور فوتوغرافية ،ويرفض أن تصدر كتبه في
طبعات شعبية ،بل ظل يت منى لو أصدر من كل كتاب له خمس نسخ فقط .ولم يفارقه طوال حياته
بالعبثية ،يتّضح منذ الفكرة األولى:
ّ إحساس دائم
خدما لك ،تكون على األرجح أنت من يتحول ًّ
"في ردهة روحك ،ظنا منك أنك تجعل من اآلخرين ً
خادما .خادم من؟ خادم ماذا؟ إذن فابحث ،ابحث"ً بالتدريج
على هامشها كتب " :ال تبحث ..ستضع ذكاءك في خدمة الجنون"
ثم خاطرة أخرى:
" في غياب الشمس تعلم أن تنضج في الجليد"
وأضاف باللون األزرق أسفلها " أو في جريدة!" .
ثم:
ّ
مقدما على
ً "إذا كنت اإلنسان المقدم على فشل ..فال تفشل كيفما كان" وواصل القلم " أما إذا كنت
الموت فال تهتم!".
أن يطالع أحد هواجسك في كتاب ،تركت عليه بعض آرائك ،أو ع ّلمت على بعض جمله ،كأن
يطالع شخصيتك في حقيبة يدك .أو يتلصص عليك من حيث ال تتوقع.
األشياء الحميمة ،نكتبها وال نقولها .فالكتابة اعتراف صامت .ولذ أشعر بشيء من الحرج أمام
كتاب لم يكن مهيأ لي.
بل ال أفهم ،كيف تجرأ ذلك الرجل على إعارتي إياه دون تردد .واذا بي أقرأ الكتاب قراءتين ،في
وقت واحد.
أحب تلك النصوص التي تكتب بقلمين .والتي تشبه في وقعها تلك الموسيقى التي تعزف على
البيانو بأربع ٍ
أيد ،وبتناوب عازفين .كهذه الخاطرة التي تبدأ بعزف منفرد على إيقاع "هنري
ميشو":
"في استطاعتك أن تكون مطمئنا.ال يزال فيك بعض نقاء .في حياة واحدة ..لم تستطع أن تدنس
كل شيء" !
ويدخل العزف اآلخر.ليضيف بنوتة مفاجئة " أحقا " .
أو هذه التي تأتي كما في عنف "بيرليوز" في سمفونيته المدمرة
"ما الذي تهدمه عندما تكون هدمت ما أردت هدمه :السد المنيع لمعرفتك الخاصة ؟" .
وترد أصابع واثقـة ..بقلم أزرق "بل جدارا اسمه الخوف " .ثم ينغلق البيانو .ويواصل القلم األزرق
بصمت ،وضع سطر تحت أبيات و خواطر استوقفته.
" ال تتعجل أخطاءك.ال تستخف بها وتعمل على إصالحها..إذ ما الذى تضعه مكانها ؟"
أو
"لم ألبث أن انتبهت أنني لم أكن النمل فحسب وانما كنت أيضا طريقه "
أو
" النوم في النهاية ،هو أكثر خيباتك ثباتا " وجوارها سؤال بالقلم بصيغة خيبة أكبر ،تأتي كما لو
أنها الجملة األولى في السمفونية الخامسة لبتهوفن" :والحب إذن ؟".
ويصمت األزرق.
قضيت أياما في العودة إلى "أعمدة الزاوية" من باب الفضول في البدء ،ثم مأخوذة بتطابق هذين
الرجلين في كثير من األشياء .كحبهما للرسم ،وحبهما للون األسود الذي كان غالبا ما ال يرسم
هنري ميشو إال به ،أو عليه ،لوحاته .إضافة إلى كراهيتهما لألسماء أو لألضواء .وهاجس الموت
معا.
الذي يسكنهما ً
اك تشافي اآلخر كان ،أن هذا الرجل يعمل في جريدة ،وأن في حياته خيبة عاطفية كبرى ،وأنه
تماما ..النوع
وذكاء حادين .وهو ً
ً أسلوبا على قدر كبير من السخرية ،التي تخفي مرارة
ً يملك
الذي أعشقه من الرجال.
أيضا أطالعه ،وأعود إليه من بين فكرتين ؟
أألنني كنت مسكونة بهاجس ناصر ،وجدتني ً
ثمة كتب تضعك أمام اكتشافات مذهلة .تكتشف فيها نفسك ،و مساحات منك لم تكن تعرفها.
شخصا آخر ،لم تكن تتوقعه .بل إنها قد تفضي بك من شخص إلى آخر .وها أنا أمام
ً و أخرى
ناصر.حتى بدا لي أن بعض الخواطر هو قائلها .كذلك البيت:
"ال اسم لي .اسمي تبذير لألسماء"
تبذير لحلمين والسمين :اسم جمال عبد الناصر ،واسم الطاهر عبد
ًا وهل كان ناصر عبد المولى إال
المولى؟
كيف يمكن أن تولد أثناء حرب التحرير الجزائرية ،بتوقيت التواريخ الناصرية دون أن تشعر فيما
حتما تاريخ حياتك.
بعد ،بأن سلسلة من المصادفات التاريخية ،ستغير ً
منذورا للقومية ،والنصف
ً قبل أي خطاب سياسي ،تفتح وعي ناصر على اسمه ،الذي كان نصفه
اآلخر للذاكرة الوطنية.
قبل أن يكبر بالقدر الذي يسمح له بمتابعة األخبار ،أو بطالعة جريدة ،فتح عينيه على غياب
ومحييا في صورته الشهيرة .ليس فقط لعدم
ً مبتسما
ً والده ،وعلى الحضور الدائم لعبد الناصر،
وجود جهاز للتلفزيون في بيتنا في تلك األيام ،ولن ألنه الصورة الوحيدة التي كانت في غربتنا ،
تزين غرفة متواضعة لالستقبال.
تماما أن تلك الصورة وصلتنا إلى منفانا بتونس .عن طريق صديق لوالدي كان يدعى سي وأذكر ً
ال بالهدايا وبمبلغ من المال ،ال
عبد الحميد ،وكان يتردد علينا أثناء وجود والدي في الجبهة ،محم ً
أدري إن كان منه أو بتكليف من الجبهة.
ذات مرة زارنا ،وراح يالعب ناصر كعادته .ثم سأله" ماذا تريد أن أحضر لك؟" واذا بناصر ،و لم
يتجاوز الرابعة من عمره ،يجيبه وكأنه يطلب لعبه " جيب لي عبد الناصر" .وتروي أمي أن سي
عبد الحميد ظل مذهو ًال للحظات قبل أن يجيبه بمنطق األطفال" سآتيك به في المرة القادمة".
أيضا مسؤو ًال عن متابعة
وألنه كان يتردد على القاهرة إلجراء بعض المشاورات السياسية ،وكان ً
شؤون الطلبة الجزائريين هناك ،والذين كان من بينهم طالب لم يكن يدعى بعد هواري بو مدين،
فقد أحضر لنا مرة صورة كبيرة لعبد الناصر ،مع جملة من الهدايا التذكارية.
منذ ذلك الحين أصبح بإمكاننا في بعض األمسيات أن تستمع من تونس إلى "صوت العرب من
القاهرة"
وهو يبث خطابات لجمال عبد الناصر ،وأناشيد عربية ملتهبة ،الزلت أحفظ بعضها ،كما يحفظ
الطفل في ذلك العمر أناشيد تعلموها في روضة ،وعلقت بذهنهم إلى األبد .ثم ننام سعيدين ،دون
ٍ
حاجة إلى التلفزيون الذي لم نكن قد شاهدناه في حياتنا بعد .
جدارية.مثبتة عليها صورة عبد الناصر ،قبل أن يأتي يوم
ّ لقد كنا نتفرج على العالم من شاشة
تجاور فيه صورة أبي على الجدار صورة عبد الناصر ،بحجم أصغر ،ولكن بالحجم الكبير ذاته
الذي نقلتها به الصحافة وهي تعلن في صيف 1861على صفحاتها األولى ،مقتل أحد قادة
الثورة على يد المظليين الفرنسيين ،بعد معركة ضارية في مدينة باتنة.
أياما بتلك الجريدة ،كنت خاللها أفتحها بين الحين واآلخر على الصفحة
أذكر أنني احتفظت ً
ال في تأمل مالمح أبي .كما توقف عندها الزمن إلى األبد ،قبل أن أفاجئ
األولى ،وأقضي وقتًا طوي ً
يوما أقتطعها بمقص ،وأقنع أمي بوضعها هي ،وال أية صورة أخرى في إطار ،لتصبح هي
نفسي ً
الصورة الثانية في بيتنا.
لدي يومها تلك الهواية السري ،التي لم تأخذ بعدها الموجع في حياتي ،إ ّال بعد أكثر من
ربما ولدت ّ
الفلسطينية ،عندما بدأت أقضي
ّ عشرين سنة ،والتي استيقظت فجأة داخلي على أيام االنتفاضة
ال في تأمل صور الشهداء .تلك التي درجوا على أخذها فرادى أو مجموعات للذكرى قبل وقتًا طوي ً
أية عملية انتحارية .والتي كانت تنشرها الجرائد في اليوم التالي لتعلن استشهادهم .وكنت أنا
أحتفظ بتلك الصفحة من الجريدة ..عملية بعد أخرى .ثم لكثرتها قررت أن أجمعها في كيس
بعيدا عن متناول يدي ..ومتناول نظري ،كي أرتاح.وأضعها ً
وكنت قد نسيت أمر تينك الصورتين ،اللتين بعد انتقالنا من تونس إلى الجزائر ،لم تعودا جزًءا من
ديكور غرفة استقبالنا ،التي أصبحت أكثر فخامة من أن تزينها صورتان في تلك البساطة .قبل أن
تقريبا ،في غرفة صغيرة فوق سطح بيتنا ،حيث تعودت أمي أن
ً أعثر عليهما مصادفة ،منذ سنة
تخبئ أشياء تحتفظ بها ،منظمة ومرتبة و"مدفونة " في حقائب وصناديق حديدية ،من ذلك النوع
الذي اندثر ،مذ أصبح الناس يسافرون على متن الطائرة ،والتي أتوقع أن تكون أمي قد
استعملتها لنقل حاجياتنا من تونس إلى الجزائر سنة 1861غداة استقالل الجزائر.
شيئا ما ،أو زم ًنا ما ،لفرط
أذكر أنني عثرت على تينك الصورتين بفرح كبير ،فقد أيقظتا في ً
بعده ،ولفرط صغري ،بدا لي وكأنه لم يكن.
كانتا ضمن أشياء أخرى تحتفظ أمي بها هكذا ،لكونها أهم من أن ترمى ،وأقل أهمية من أن تشغل
مكا ًنا في بيتنا.
ترددت يومها في تركهما لغبار النسيان ،وكأنني لم أصادفهما .ثم ترددت في أن آخذ واحدةً دون
البصرية أن تفصل إحداهما
ّ األخرى .فقد كانتا ذاكرة لزمن واحد .حتى إنه لم يكن بإمكان ذاكرتي
معا إلى بيتي ،حيث أصبح لهما مكان ثابت في مكتبي ..أمامعن األخرى .ولذا قررت أن آخذهما ً
احتجاج أمي ودهشة زوجي.
لم أشعر برغبة في تقديم أية شروح أحد .فقد كانت تلك الذاكرة تخصني وحدي .وربما أنا وناصر
ال غير.
أيضا فاجأني بتعامله الصامت مع تينك الصورتين .وكأنه لم يكن ثالثهما .
ولكن ناصر ً
الرجولة تأملت فقط صمتهطفولية قد يكون ألغاها منطق ّ
ّ ولم أشأ أن أستدرجه إلى اعترافات
أمامها ،واستنتجت أنه ربما نسي ولعه الطفو لي بأحدهما ،وولع اآلخر األبوي به ،وأنه تركهما
لي ،ليصبحا قضيتي وحدي.
ظل هو .فهو رحل منذ أكثر من شهر ،وأمي تطاردني بأسئلة عنه ،ال أجد لها
ولكن هاجسي األول ّ
جو ًابا.
_ لماذا ذهب إلى ألمانيا؟ الناس يذهبون عادة إلى فرنسا ..أنا لم أسمع بأحد سافر إلى ألمانيا..
وال ادري ماذا أقول لها .أنا نفسي لم أعرف بوجهته إال منذ أسبوع.
كان ذلك عندما حدثني على الهاتف .وكنت أزور أمي مصادفة.سألته إذا كان كل شيء كما يريد.
أجاب ":الحمد هلل" سألته إذا كان له عنوان أو رقم هاتف نطلبه عليه فرد أنه سيتصل بنا كلما
شيئا على الهاتف .ثم سألني إن كانت أمي تقيم معياستطاع ذلك .فهمت أنه ال يريد أن يقول ً
كثير بمفردها إذن "..ثم أضاف
منذ سفره .أجبته أنها تصر على البقاء في بيتها .قال" ال تتركيها ًا
للتأكيد " أرجوك..".
ذل اإلقامة
أمي رفضت منذ البدء ،فكرة االنتقال للعيش معي في انتظار عودة ناصر .فهي ترفض ّ
خاصة أنها تملك شقة جميلة ،وأنها متعلقة بكل أشيائها الصغيرة .
ّ عند صهرها.
هاتفياً ،
ّ تكف عن زيارتي ،أو طلبي
تعلق بي .ال ًّ ولكنها ،منذ ذلك الحين ،أصبحت تزداد
واستشارتي في كل شيء ،ومرافقتي إلى كل مكان ،حتى بدأت أشعر من فرط حاجتها إلي بأنني
أصبحت أنا أمها.
ترملت في سن العشرين ،وتيتّمت قبل ذلك في
وكنت أتفهم حاجتها الدائمة إلى حناني .فهي التي ّ
طفولتها ،ال تفهم أن تطاردها الحياة حتّى ذريتها ،وأن يكون قدرها أن تعيش بين ابنة عاقر ..وابن
غائب.
وهكذا أصبحت أستمع برحابة صدر ،إلى تذمرها ،وشكواها ،وثرثرة أمومتها .وال أملك إال أن
الحمام التركي" برغم
أستسلم مكرهة لكل نزواتها .حتى أنني قبلت أن أرافقها بعد ظهر اليوم إلى " ّ
الجماعي.
ّ الحمام
يوما حماسها لطقوس النظافة األسبوعية ،في هذا ّأنني لم أكن أشاركها ً
الحمام هو المكان الذي يمكن أن تلتقي فيه بكل نساء المدينة.
في الواقع كنت أتفهم منطقهاّ .
ماجد في حياتها ،وهي تباهي بمشترياتها الجديدة ،وصيغتها،
ّ ومثلهن يمكنها أن تثرثر وتحكي
ّ
وثيابها التي لم يرها رجل.
فض ّية ،ومشط من
الحمام الفاخرة .من طاسة ّ
زمن مضى تستعرض أواني ّتماما كما كانت في ٍ
ً
العاج والفضة بأسنان دقيقة ،ومناشف فاخرة مطرزة ،و"صابون ريحة "مستورد ،وعطور،
ومستحضرات إل زالة الشعر أو صبغة ،وكثير من التفاصيل النسائية التي تعودت أن أراها في
دائما في ركن من الخزانة .جاهز
طفولتي مجموعة في سطل فاخر من الفضة المنقوشة ،موجود ً
لالستعراض األسبوعي.
كثيرا .صحيح أن السطل فرغ من محتوياته وانتقل اآلن من
بعد عشرين سنة ،لم تتغير األشياء ً
فاخر يحتوي نبتة خضراء تزين قاعة الجلوس.ولكن عقل
وعاء ًا
ً خزانة أمي إلى الصالون ،ليتحول
عقليته األولى .لقد تأقلم فقط مع لوازم العصر .ولم يعد
تماما من محتوياته ..وال من ّأمي لم يفرغ ً
السماوي ،بأثواب أمي
ّ هناك من ضرورة اآلن لتلك الحقيبة المبطنة والمغلفة من الداخل بالساتان
الحميمية ،وتمتع بها أكثر مما تمتع بملمسها رجل.
كثير ما كنت أفتح تلك الحقيبة خلسةً ،كما نفتح صندوق العجائب .
وأذكر أنني في طفولتيً ،ا
النسائي الذي لم أكن أعرفه بعد.
ّ وأجلس على طرف السرير .أحلم بذلك العالم
تماما ،أمأل به كل
يوما جسد يشبه جسدها ً
أتفرج على أشياء أمي الصغيرة ..أحلم أن يكون لي ً
تلك األثواب الحميمية.
أحلم ..أحلم.ثم أغلق على جسد أمي في حقيبة .أعيد تلك الحقيبة إلى الخزانة .وأغادر مسرعة
تلك الغرفة قبل أن تفاجئني أمي األخرى .تلك التي ال جسد لها.
هيذي أمي" الحاجة" بجسدها الذي تغير منذ ذلك الحين ،تسبقني كما في طفولتي .فألحق بها من
قاعة إلى أخرى داخل الحمام دون جدل.
في تلك القاعات المتفاوتة التدفئة ،والتي تزداد حرارتها كلما اتجهت نحو األبعد ،تصر أمي على
القاعة الثالثة ،األشد حرارة .وال أجادلها ،رغم كراهيتي لهذه القاعات بالذات.
مائي ،جاهز للتّزلج والتهشم.
رويدا على بالط ّ
رويدا ًألحق بها .أمشي ً
يوما امرأة ،تقع أمامي ..وهي ممسكة برضيع ،فيفلت من يدها ،ويسقط ليموت
أذكر أنني شاهدت ً
بعد ساعات في مستشفى.
أدخل قاعة ،يتصاعد البخار فيها من البرك الجدارية .ويعلو صراخ طفل هنا ..وضحكات نساء
هناك.
أرضا،دون سؤال .أو باألحرى بسؤال واحد:
أمام أول بركة ،أجلس ً
لماذا منذ طفولتي األولى ،كنت أكره الجلوس في هذه القاعات العارية إال من البخار والماء ،والتي
ال تؤثثها سوى أجساد نساء عاريات؟
اما لألنوثة ،التي كنت أتوقعها أجمل من أجساد لم تعد لها من حدود ،وال تضاريس
ترى احتر ً
"طبيعية"؟
أم ألنني منذ البدء ،خلقت ألكون كائ ًنا من ور ٍ
ق وحبر ،تلغيه هذه الكميات الهائلة من الماء
والبخار؟
تجلس أمي جواري .تضع أشياءها .أما أنا فال أشياء لي ،سوى ما تركته في الخارج من أثواب
اما لها ..فيما لو التقينا بمن يعرفني.
أحضرتها إكر ً
تلقائياً.
ّ تزعجني هذه الفكرة .فألف حول جسدي تلك الفوطة من جديد ،وأعيد ربطها حول صدري
تماما ،لفرط ما سمعتها في هذا الحمام نفسه ،مذ
ولكن صوت أمي يباغتني ،يعيد كلمات أعرفها ً
أصبحت صبية تستحي من أنوثتها ،وتختبئ داخل الفوطة بإصرار من يبعد عنه تهمة.
هنا أنت تتعلمين من عيون اآلخرين ،كيف تنكرين جسدك ،وتضطهدين رغباتك ،وتتبرأين من
أيضا ..وكل ما يشبهني ولو صمتًا.
عيبا .وانما األنوثة ً
أنوثتك .فقد علموك أن ليس الجنس وحده ً
تصرخ أمي بي كعادتها" انزعي ع ّنا هذه الفوطة !" تقودني كلماتها إلى أسئلة جديدة.
أيضا على
تراها تظن جسدي أحد أمالكها الخاصة ،ألنها أنجبتني؛ ومن حقها إذن أن تستعرضه ً
وتعويضا عما آل إليه جسدها هي؟
ً اء
الناس ،كأحد إنجازاتها ،واجدة فيه عز ً
فجأة ،وجدتني أعي أحد أسباب عالقتي المعقدة البعيدة بهذا المكان .ففي هذه المدينة التي ليس
حميمي وخاص ،الحمام هو المكان الذي تنتهك فيه حرمة الجسد وحياؤه. ّ فيها أي مكان لما هو
الفضولية للنساء .تتالى عليه األيدي ح ّكاً ودل ًكا وتشطي ًفا ،ساكبة
ّ تسلط عله األضواء ،والنظرات
كميات هائلة من الماء .وكأنها تريد أن تطهره من أنوثته.
عليه ّ
تماما أمام
غالبا ،دون أن يتعرين ً
فهل األنوثة نجاسة؟ أم هل لهؤالء النساء الالتي يولدن ويمتن ً
ال بعد
رجل ،عالقة شبقية ما بهذه الكميات الهائلة من الماء ،التي يسكبنها على أجسادهن سط ً
آخر ،ساعات بأكملها دون توقف ،بلذة غامضة ما ،وبانشغال تام بتفاصيلهن النسائية ،وكأنهن
ليكن على موعد مع أجسادهن ال غير؟ أم أن جميع النساء ،هن على اختالف أجناسهنجئن هناّ ،
بلدا في عظمة مصر ،دون أن تغدر حمامها
وأعمارهن حفيدات"كليوباترا" تلك األنثى التي حكمت ً
تماما!
ً
..وأنهن يعتقدن ،عن صواب أو عن سذاجة،أنهن بعد كل حمام يعدن إلى بيوتهن ملكات ،على
عرش ليس سوى فراش الزوجية،عرش سيحملن تاجه لبضع لحظات_في العتمة_ ويعدن بعدها
العادية.
ّ لحياتهن
العتمة!..
اكتشف اآلن إحدى نعم العتمة .وأنا أتفرج على أجساد مشوهة األنوثة ،مترهلة البطون ،متدلّية
أيضا ليمنح كل مخلوقاته حق
الصدور .وأفهم أن يكون اهلل ،بحكمته تعالى ،قد خلق _ العتمة_ ً
ممارسة الحب في الظالم.
واال..فمن من الرجال ،مهما جمحت به رغبته الجنسية ..أو حالته المتقدمة من السكر ،سيقدر
على مضاجعة نساء على هذا الشكل ..في عز النهار؟
تماما كما أحتفظ بتلك الفوطة حول جسدي ،وكأنني أرفض أن
أحتفظ بتلك التعليقات لنفسيً ،
أختلط أو أحسب على هذا الرهط من النساء ،الالتي تجلس كل واحدة منهن اآلن جوار بركة ماء،
وحولها سيول سوداء ،أو بلون الحناء ،حسب الصبغة التي وضعتها على شعرها ،والتي تقوم اآلن
بغسلها ،محولة هي وغيرها بالط الحمام ،إلى "دانوب "متعدد األلوان.
وفجأةً ،تدخل الحمام ثالث نساء .متوسطات العمر ،متوسطات الجمال ،لكن بإغراء وبمظهر
"مميز" .فقد دخلن عاريات .شاهرات أنوثتهن في وجه الجميع ،بينما العادة هنا أن تدخل جميع
النساء بالفوطة وال يخلعنها إال وهن جالسات.
وفي لحظة ،التفتت نحوهن األعماق ،وطاردتهن نظرات فضولية وأخرى شزرة من كل صوب .
أفهم من مسبات أمي ونعوتها لهن ،أنهن مومسات .مومسات،
وهل مازال في هذه المدينة مكان لمهنة كهذه..؟ عدا أرصفة بعض الشوارع قليلة الحركة ،حيث
يحدث لبعض البائسات أن يقفن.
ينقسم تلقائيا ،قاعة الحمام ،إلى شطرين .النساء" الشريفات" من جهة ،والنساء" المشبوهات" في
الطرف اآلخر.
الطرف األول يالحق الطرف الثاني بالتعليقات ..والغمزات ..ونظرات االزدراء ،التي مصدرها
تماما وجود الطرف األول .وتتصرف
إحساس مفاجئ بفائض عفة وشرف .بينما يتجاهل الثاني ً
النساء الثالث ،وكأنهن بمفردهن .ويضحكن بصوت ٍ
عال ،ويتغاسلن ..ويتغازلن استفز ًا
از
لألخريات.
وجدت لذة في وجودي الشاذ بين طرفين ،دون أن أنحاز أخالقاً ألحدهما دون اآلخر.
سر أتسلى بكتابة بعض التعليقات في ذهني .هنا ،وسط البخار والماء والشهوة ..
وربما كنت ًا
والنفاق النسائي .فقد كنت على مسافة وسطية من العفة ..والخطيئة .هناك حيث يقف الكاتب..
وحيث يقف أي إنسان طبيعي.
يوما فتغرق
كافيا من القذارة ،قد تطفو ً
قدر ًفأنا أدري أن كل إنسان عفيف ،يحمل في داخله ًا
يوما ،
تماما كما أن في أعماق كل إنسان سيء ،شعلة صغيرة للخير ،ستضيء داخله ًحسناتهً ،
في اللحظة التي يتوقعها األقل.
وأدري قبل كل هذا ،أن بإمكان أية امرأة أن تغدو قديسة أو عاهرة في أي لحظة .لقد خلقت
معا .ولكنها كلما انحازت إلى أحد نصفيها ،تمادت في السخرية والتشهير بالنصف اآلخر.
بنصفين ً
تهجم أمي على ذراعي ،وتبدأ في دلكهما وحكهما بعد أن نفد صبرها ،رافضة أن تسلمني إلى
"طيابة".
إلي شتم تلك "الفاجرات ".تقول إن الع ائالت الكبيرة ،تعودت أن تستأجر الحمام
تواصل متحدثة ّ
وتحجزه مرة في األسبوع ،لتدعو القريبات والصديقات على حسابها.
كل هذا ،حتى تضمن عدم اختالطها بالغرباء ،وبهذه النماذج التي هجمت على قسنطينة فانتهكت
حرمتها ،وأهانت أهلها.
ال أجيب .أتظاهر باالستماع فقط.
فقد كنت مشغول ًة عنها ،بمقولة لساشا غتري " :ليس هناك من نساء غير شريفات ..وأخريات
شريفات .ثمة فقط ،نساء غير شريفات ..وأخريات قبيحات!".
عصرا تحت
ً تماما حتى أنني عدت إلى البيت
يومها غادرت الحمام ،دون أن يغادرني ساشا غتري ً
المطر .وأنا أستعيد إحدى مقوالته الساخرة " :ال تمارس الحب مساء السبت ..إذ ما الذي تفعله لو
أمطرت السماء صباح األحد؟ ".
ٍ
ضجر جسدي مساء السبت ،ثم ال وهي غمزة ساخرة ،عن األزواج الذين يمارسون الحب عن
يدرون بعدها ،ماذا يفعلون بأنفسهم طوال الغد ،عندما يبقون في البيت ..في ٍ
يوم ممطر!
ممطرا ،فقد قررت أن أخالف ذلك المساء نصيحة ساشا غتري ،بكونً ورغم أنه كان يوم سبت
السبت ليس نهاية أسبوع عندنا بل بدايته .وبالتالي لن يكون زوجي هنا في الغد ليقاسمني
ضجري ،لكوني عائدة من حمام نسائي أشعل شهوتي ،وبي رغبة في أن أهدي أنوثتي إلى رجل.
أسا على عقب .وال توقعت أن
طبعا ..لم أكن أدري أنه يكفي أن أنوي الحب ،كي تنقلب البالد ر ً
ً
التاريخ سيهدي إلى الجزائر يومها إحدى مفاجآته .وال أن الرئيس الشاذلي بن جديد ،سيختار ذلك
مساء من ليلة 11يناير 1881استقالته ،وحله
ً السبت بالذات ،ليعلن في نشرة الثامنة
دستورية.
ّ البرلمان ..ومن ثمة دخول البالد في متاهة
لم أعتب على الشاذلي بن جديد إهداره ليلتها رغبتي.
فقد أهدر قبلها سنوات بأكملها من رغبات شعب.
قطعا
ً
ـــــــــــ
وحده الزمن سيدلك على الصواب ،عندما يفقد اآلخرون صوابهم.
أما التاريخ ..فال تتوقع في هذه الحاالت أن يقول كلمته على عجل.
ّ
أيضا ينتظر.
هو ً
ط على مطار .ورجل تجاوز الثانية والسبعين منعاما من االنتظار .وطائرة تح ّ
ثمانية وعشرون ً
عمره ،ينزل .يمشي على سجاد أحمر ،مذهو ًال من أمره.
عاما
أكان بين الوطن والمنفى مسافة ساعة فقط؟ لماذا ..كان يلزمه إذن ،ثمانية وعشرون ً
ليقطعها؟!
الحق ،احدودب ظهره قليالً ،وخشنت يداه كثيراً ،وبانت عظام
ّ رجل نحيف ،ومستقيم ،وفارع كما هو
وجهه وعظام أصابعه.
قبل قليل.
قبل التاريخ بقليل .كان اسمه محمد بوضياف .وكان يسكن في مدينة صغيرة بالمغرب .يدير بيديه
سياسي .سوى ذكريات ثورة
ّ كل عمل
لآلج ّر .ويعيش بعيداً عن ّ
طا ُ مصنعا بسي ً
ً اللتين اخشوشنتا
تن ّكرت له ،وأخبار وطن حذف حكامه اسمه حتّى من كتب التاريخ المدرسية ،كزعيم أشعل ذات
نوفمبر سنة 1859الشرارة األولى للثورة التحريرية.
اللّحظة لم يعد له اسم.
مذ خطا على تراب الوطن ،أصبح اسمه هو "التاريخ".
أي شيء"؟
أليس التاريخ" هو ما يمنع المستقبل من أن يكون ّ
اآلن ..لم يعد له من عمر.
أخير عمر أحالمه ،تلك التي جاءت متأخرة بجيلين وأكثر.
لقد أصبح له ًا
اآلن ..في هذا العمر ،هو يتعلم المشي من جديد على تراب وطن ،لم يمش عليه يوماً بحرية وال
وجوا .ولم تجد من سبيل إللقاء القبض عليه هو ورفاقه
أرضا ً
بأمان .فقد طاردته فرنسا فوقه ً
سوى خطف طائرتهم سنة ،1856وهي تعبر أجواء البحر األبيض المتوسط ،في رحلة تقلهم من
فحولت وجهتها نحو فرنسا ،واقتادت بوضياف مع رفاقه األربعة :أحمد بن
المغرب نحو تونسّ ،
بللّة وآيت أحمد ومحمد خيدر ورابح بطاط ،موثقي األيدي نحو معتقالتها ،أمام اندهاش العالم
الذي ل م يكن قد سمع بعد ببدعة خطف الطائرات ،وأمام غضب الشارع العربي ومظاهراته ،والذي
قوميا.
كان عبدالناصر في السنة نفسها قد ألهبه خطابات حماسية ،ومأله عنفواناً وغروراً ً
حتى إن إذاعة صوت العرب من القاهرة لم يكن يلزمها أكثر من أيام لتخرج إلى العالم العربي
بألحان حم اسية تطالب بإطالق سراح الزعماء الخمسة ،أناشيد تلقفتها أفواه أطفالنا ،وحناجر
فرددنا معها:
رجالنا ،وزغاريد نسائناّ ،
"باسم األحرار الخمسة حنرد الثار يا فرنسا"..
ك ّنا نبكي.
ووحده التاريخ كان يضحك .فهو وحده كان يدرك ما لم يكن يتوقعه أحد.
فما كادت الجزائر تنال استقاللها ،ويصبح "الزعماء الخمسة" أحراراً ،حتى أرسل بن بل ّلة وقد أصبح
رئيساً ،من يقبض على رفيق نضاله محمد بوضياف ،في حزيران ،1868وهو يغادر بيته .واقتيد
بوضياف من مكان إلى مكان .حتّى انتهى به المطاف في معتقالت ضائعة في غياهب الصحراء،
حيث خبر رجل الثورة الجزائرية األول ،قبل غيره ،مهانة أن يكون لك وطن ،أقسى عليك من
أعدائك.
(أيضا) من سنة
ً وهو ما اكتشفه بعده بسنتين ،بن بللة نفسه .عندما جاءه بومدين ذات حزيران
عاما عجوزاً.
1865فأزاحه من السلطة ورمى به في السجن ،ليخرج منه بعد خمسة عشر ً
وما بالسلطة ،وانما رفض منذ البدء أن يكون قد كافح ليحرر وط ًنا
أما بو ضياف الذي لم يطالب ي ًّ
من االستعمار ،كي يسلمه لدكتاتورية الحزب الواحد ،فقد تساوى عنده الحاكمان.
يوم اختفى ،لم يوجد من بين رفاقه أحد ليسأل أين ذهبوا به!
كانوا مشغولين عنه باقتسام الوليمة.
فمضى بذلك القدر الهائل من الغي اب ،كما عاد بهذا القدر الهائل من الحضور.
عاما ،وقد شبعوا وانتفخوا ،ومأل وا جيوبهم وأفرغوا جيوب الجزائر .
تذ ّكروه ،هكذا فجأة ،بعد ثالثين ً
الدولي –مع كثير من التمني -لعدة أجيال فقط.
ّ وانسحبوا تاركين لنا وط ًنا مرهوًنا لدى البنك
يوما حول طاولة
فقد كان الوحيد الذي ما زال على ذلك القدر من ال ّنحافة ..والنزاهة ..ولم يجلس ً
الصفقات المشبوهة للسلطة.
حكما بعد
كان البد من اسمه ليعيد الثقة إلى شعب لم يعد يثق بشيء ،وال بأحد .وقد تناوب عليه ً
امياً.
آخر ،علي بابا واألربعون حر ّ
جاؤوا به .قالوا له الكلمات التي لم تصمد امامها شيخوخته" الجزائر في حاجة إليك ..أنت الرجل
الذي سينقذها".
دائما أنه ال يمكن ان تبني
اآلجر ،وذاكرته من الحقد .فقد آمن ً
ّ فقام العجوز .غسل يديه من طين
شيئاً بالكراهية .وكان له مقدرة مذهلة على الغفران ،فاحتضن من نفوه ومضى نحو "وطنه".
فمنذ األزل ،لم يحدث أن نادته الجزائر ولم يستجب لندائها.
ها هوذا..
يرتدي بذلة لم يتوقع أنه سيرتديها لمناسبة كهذه.
يتعلّم المشي أمامنا .يتعلم االبتسام لنا .يرفع يده اليمنى ليحيينا بخجل ،كمن يعتذر عن ٍ
يد لم
اآلجر ،ولم تكن مهيأة لمثل هذا الدور.
يوما سوى السالح ..و ّ
تحمل ً
ها هوذا ..بوضياف.
مشيا على األحالم .فتخرج الستقباله األعالم الوطنية ،وجيل لم يسمع
مشيا على األقدامً ،
يأتينا ً
باسمه قبل اليوم .ولكنه يرى في قامته ،تاريخ الجزائر في عظمتها الخرافية.
ها هوذا..
كل خطوة ،إنما تراب الجزائر ،هو الذي كان يحتفي
ليست أقدامه التي كانت تبوس تراب الوطن مع ّ
ويقبل حذاءه.
بخطاهّ ،
فال تملك القلوب إال أن تهتف :أيها التاريخ توقّف ..لقد جاءنا رجل من رجالك.
استثنائيا ،حتى في طقسه .فقد توقفت فيه األمطار التي هطلت قبل
ً يوما
كان يوم 19يناير ً 81
وكأن الطبيعة تطابقت مع مشاعر الجزائريين ،أو كأنها أرادت أن
ذلك بغزارة ،وجاء يوم مشمس ّ .
تتواطأ مع التاريخ ،وتهدي إلى بوضياف يومه األجمل.
الكل يريد أن يرى ويسمع هذا الرجل الذي
طوال الظهيرة ،تعلقت عيون الجزائر بشاشة التلفزيون؛ ّ
دخل حزب الصمت ،منذ ثالثين سنة .ماذا تراه سيقول؟
الكل يريد أن يقبل ،ولو بعينيه ،هذا الذي ينادي رفاقه "سي الطيب الوطني" والذي تناديه قلوبنا
ّ
اليوم "أبي".
وطنيا في
ً ًا
وعجز عاطفيا ،يفوق إفالس اقتصادنا،
ً إفالسا
ً فمنذ موت بومدين ونحن يتامى .نعاني
المحبة ،يفوق عجز مزانيتنا.
نحن نبحث عن رجل له قامة عبدالناصر ،وكلمات بومدين ،ونزاهة بوضياف ،رجل في بساطة
نصدقها .يعدنا بأحالم
يمرر يده على رأسنا ،يربت على أكتافنا ،يقول لنا أشياء بسيطة ّ
أهلناّ ،
كل من ماتوا ،دون أن يحقق في انتماءاتهم .يعتذر
بسيطة ندري أنه سيحققها ،يبكي أمامنا عن ّ
لألحياء عن موتاهم ..وللموتى عن اغتيال احالمهم .رجل منذ نزوله من الطائرة يعلن الحرب على
من سطوا على مستقبلنا ،وبنوا وجاهتهم ..بإذالل وطن.
كل شيء" فيوقظ فينا الكبرياء.
يقول "الجزائر قبل ّ
وتصبح كلماته البسيطة شعارنا.
قطعــًــا ..منذ األزل ،ك ّنا ننتظر بوضياف ،دون أن ندري .ولكن بوضياف ،ماذا تراه كان ينتظر؟ هو
"كل هذه الحفاوة لن تمنعهم من اغتيالي ..فال ثقة لي في هؤالء".
الذي قال يومها لزوجته ّ
كل
وعندما سألته إن كان جاء إذن بنية االنتحار .أجابها كمن ال مفر له من قدر "إنه الواجبّ ..
أملي أن يمهلوني بعض الوقت".
***
***
في صورة تذكارية تجمع بوضياف مع أعضاء من "التجمع الوطني" أراه ،وأكاد ال أصدق عيني.
تماما ،وهذه النظرة الغائبة ،إنها نفسها التي
يتسمر نظري عند وجهه بالذات :هذه المالمح أعرفها ً
ّ
استوقفتني يوم خلع ذلك الرجل نظاراته السوداء في موعدنا األخير ،ليقبلني .وهذا الشعر ..هذا
الفم ..هذا الكل ..أعرفه .إنه(..هو!)
تفسير لوجود هذا الرجل هنا.
ًا بتأن ،كي أجد
ثم َّ
أعيد قراءة ذلك المقال المرافق للصورة بعجلّ ،
كبير من شرائح
عددا ًايضم ً
تجمع ّ ي ،وهو ّ الوطني االستشار ّ
ّ قرر إنشاء المجلس
أن بوضياف ّ أفهم ّ
المجتمع الجزائري ،معظمهم من المثقفين والسياسيين الجزائريين المعروفين بنزاهتهم ،وغيرتهم
أي نظام سابق ،كي يساعدوه في إخراج الجزائر من مأزقها
الوطنية .وغير المحسوبين على ّ
ّ
التشريعي.
ّ السياسي و
ّ
أواصل قراءة المقال في الصفحة الثالثة ،التي تمألها عدة صور ،مرفقة ببطاقة تعريف بعض
أعضاء في هذا المجلس .حتّى
ً األعضاء .فأعجب لنسبة الكتّاب والمثقفين ،اللذين اختيروا ليكونوا
أن أحد الذين سيتناوبون على رئاسته ،لن يكون سوى الكاتب عبد الحميد بن هدوقة .وان من
أعضائه كثيراً من المثقفات واألساتذة الجامعيين والصحافيين .في بلد لم يسأل فيه المثقفون وال
النساء ..يوماً عن رأيهم.
كل هؤالء ،حتى أكاد أقتنع أن بي
رسام بين ّ
وكل المهن .وال أعثر على أي ّ
كل األسماءّ ..
أطالع ّ
كل مكان ،خاص ًة أنني أدري بوجوده في باريس .وتبدو لي
هوساً ،وأنني أصبحت أرى صورته في ّ
مستبعدا ،إال إذا كان قد عاد من السفر..
ً تجمع كهذا ًا
أمر مشاركته في ّ
ثم تخطر في ذهني فكرة ،وأجدها قادرة على أن تحسم شكوكي ،فأتجه نحو الهاتف وأطلب تلك
األرقام التي ما زالت يدي تحفظها عن ظهر قلب ،أو قلبي عن ظهر يد.
مناسبا ،أو إذا كان ذلك الرجل نفسه
ً كانت الساعة التاسعة صباحاً .لم أتساءل حتّى إذا كان الوقت
سيرد على الهاتف،بل إذا كانت تلك األرقام التي كنت اطلبها بيد مرتبكة ،وقلب يتضاعف
ّ هو الذي
نبضه ..صحيحة حقاً.
فجأة أصبحت على عجل .ال وقت لي حتّى للتحقق من صحتها .أريد أن أسمعه ،أو أسمع على
الحب ،فيوقظ أثاثه ،ويتحرش بذاكرته.
ّ يرن في بيت عرفت فيه
األقل ذلك الهاتف وهو ّ
ولكن في الدقة الثانية ُرفعت السماعة ،وكاد قلبي معها يتوقف عن النبض.
يرد أحد قبل أن أنطق.
شيئا ،ثم أنتظر أن ّ
أوشك أن أقول ً
بعد شيء من الصمت ،يأتي ذلك الصوت الذي لم أعد أنتظره لفرط ما انتظرته.
تراه عرفني من أنفاسي كي يسأل دون مقدمات:
-كيف أنت؟
أرد:
أكاد ال أصدق ما يحدث ليّ .
-أأنت هنا؟
ثم أواصل باالندهاش نفسه:
ّ
-كيف عرفتني؟
يجيب بسخريته المحببة:
السر بيننا.
-من صمتك ..الصمت كلمة ّ
وال أجد شيئاً أرد به سوى كلمات محمومة ..أرّددها كيفما اتّفق كمن يهذي:
-اشتقتك ..كيف تخلّيت ع ّني وسلّمتني إلى هذه المدينة المجنونة ..أريد أن أراك ..كيف أراك؟
الحد؟
ألحبك إلى هذا ّ
أجبني .أتدري أن الحياة ال تساوي شيئاً دونك ..ماذا فعلت بي ّ
وكأن كلماتي لم تصله .يسألني فقط:
وال يجيب بشيءّ ،
-من أين تتك ّلمين؟
أجيب:
-من قسنطينة..
يواصل:
أي مكان بالذات؟
-من ّ
أجيب:
-من البيت.
يرد:
ّ
-اطلبيني من مكان آخر.
أسأله:
-لماذا؟
يرد.
ال ّ
أسأله:
-متى؟
يجيب:
-متى تشائين ..أنا باق هذا الصباح في البيت.
ويضع السماعة.
كل هذا في دقائق .ولم يكن يلزمني أكثر من هذه الدقائق ألعود تلك المرأة األخرى التي
حدث ّ
كنتها قبل أشهر.
أيضا.
استمعت إليها بما أوتيت من صبر ،وبما أوتيت من ذكاء ً
معا إلى العاصمة لالستجمام!فوريا على قياسي :أن نسافر ً
ال ًفقد وجدت لمتاعبها ح ً
كل األقارب واألصدقاء الذين بإمكانها زيارتهم هناك..
طبعا قبلت أمي فكرتي بحماس .فإضافة إلى ّ
ً
تسميه أمي "تغيير
حد ذاتهّ ، لعدة أيام .وهذا في ّ
سيكون بإمكانها أن تحجزني معها في بيت واحد ّ
جو!"
غداء
ً تعد
كان لهذا المشروع الذي ارتجلته تواً مفعول منشط على أمي ،التي ذهبت نحو المطبخّ ،
يتناسب مع مفاجأة زيارتي ..ومفاجأة سفرنا.
أما أنا ..فاتجهت نحو الهاتف بالتوتر والفرحة نفسها ..ألطلب ذلك الرقم ّإياه.
ّ
وبالهدوء نفسه ،عاد ذلك الصوت نفسه يسأل:
-كيف ِ
أنت؟
أجبته كمن يحلم:
جيدة.
-اآلن فقط بإمكاني أن أقول إنني ّ
-وكيف كنت من قبل؟
كل شيء. -كنت أعيش فرا ًغا في ّ
-احذري الفراغ.ز إنه يصنع الرداءة.
كل حال.
-ولكنه زمن رديء على ّ
-قد يصبح أجمل ..يكفي أن نثق بذلك.
-أنت نفسك سبق أن قلت إنك لم تعد تثق بشيء ..أتذكر؟ قلت هذا في ذلك اليوم الذي التقينا فيه
عند بائع الجرائد.
-أذكر ..ولكنني اثق برجل .وألنه عاد ،عادت ثقتي بالقدر.
أسأل:
-أعدت من أجله أم..؟
عاطفي ما.
ّ أصمت وكأنني أمنحه فرصة اعتراف
ال إيحائي:
ولك ّنه يجيب متجاه ً
-أجل ..عدت من أجله.
-وأنا ..؟
ثم يقول:
يصمت قليالً وكأنه لم يتوقع سؤالي ّ
ِ -
أنت..؟
ويغرق في صمت آخر.
أواصل:
-في ذلك اليوم الذي التقينا فيه عند بائع الجرائد .أتذكر؟ نصحتني أن ال أطالع الجرائد .ومنذ ذلك
اليوم ..لم أطالع جريدة .ولو لم أتصفح جريدة هذا الصباح مصادفة ،لما كنت عرفت بوجودك هنا.
علما بذلك؟
أيعقل أن تعود دون أن تعطيني ً
-ولك ّنني فعلت ..أتعتقدين أنك عثرت مصادفة على تلك الجريدة؟ ال شيء يحدث مصادفة ح ًقا.
ثمة أشياء لفرط ما نريدها بإصرار وقوة تحدث .حتّى يبدو لنا في ما بعد كأننا خططنا لها بطريقة
ّ
أو بأخرى.
-ولكنك تبدو فاتر العواطف ..غير مشتاق!
رد بنبرة ساخرة:
ّ
-بلى .أنا مشتاق وعندي لوعة ..ولكن
-ولكن ماذا؟
أفضل أن تأتي إلى
ش ْي طلبي من البيتّ .
أيضا .تحا َ
-ولكن هاتفك في البيت مراقب ..وربما هذا ً
العاصمة .سيكون ذلك أفضل.
أجبته بثقة امرأة:
-سآتي..
ثم أضفت قبل أن ينقطع الخطّ:
حتما.
ً -
***
فالبد أن يستجيب القدر .حتّى إن كان الذي يتحكم في
ّ هن أردن الحياة
أيضا كالشعوب؛ إذ ّ
النساء ً
هن ضابط كبير ،أو دكتاتور صغير في هيأة زوج.أقدار ّ
حتّى اآلن ،ال أدري كيف استطعت إقناع زوجي بفكرة سفري إلى العاصمة لالستجمام على شاطئ
عز الشتاء!
البحر ،في ّ
وكيف لم يجد في سفر كهذا شبه ًة ما.
كل شيء .وأولئك
"ثمة نوعان من األغبياء :أولئك الذين يش ّكون في ّ
أتذ ّكر تلك المقولة الساخرة ّ
الذين ال يشكون في شيء!".
دائما على حذر ،فقد بدأ حياته الزوجية معي،
المهني ما يجعله ً
ّ أما زوجي الذي يملك من التذاكي
ّ
كل شيء.ي ،بالتجسس والتحري واالشتباه في ّكأي عسكر ّ
ّ
ربما بقدر ما يلزمه من الوقت كي
ثم أمام غياب األد ّلة ،أعطاني من الحرية ما فاجأني ،أو ّ
ّ
علي.
ينصرف ع ّني إلى مهامه ،واثقًا من سطوة نجومه الكثيرة ّ ..
السياسية ،وأن ال وقت له للتجسس
ّ ايضا ،من األرجح أنه مشغول ع ّني بالمستجداتوهذه المرة ً
النسائية ،التي حتّى اآلن ،لم يكن فيها ما يستحق اإلخفاء والحذر.
ّ على مشاغلي
يتنصتون إلى هواتف
التنصت إلى اإلرهابيين ّ ..
ّ مشكلتي اآلن مع "اآلخرين" ،أولئك الذين عوض
اق!
ش ّالع ّ
ساعة في طائرة ،ال أكثر ،واذا بي أبتعد عن قيودي بمئات الكيلومترات .وأعود إلى ذلك البيت
نفسه الذي جئته منذ أربعة أشهر مع فريدة.
كل شيء يصبح ممكناً كما في األحالم.
بيت أسميته بيت الحلم ،فهنا ّ
شيئا من الترتيب حولي حتّى أسرعت إلى الهاتف .وجاء ذلك الصوت بحرارة
ما كدت أصل ،وأضع ً
هذه المرة يؤكد لي أنني ال أحلم.
غدا ..أليس كذلك؟ -أخيراً ِ
أنت ..لو تدرين كم افتقدتك ..سأراك ً
كلمات ،وسؤال ال أكثر ،ويصبح العالم أجمل ،وتصبح األسئلة أكبر .ولكن ال وقت لي لإلجابة
حد األرق.
العشقية ..مأخوذة ّ
ّ عنها؛ مأخوذة أنا بهذه الحالة
مقولة لبودلير منعتني من النوم.
كل إنسان جدير بهذا االسم ،تجثم في صدره أفعى صفراء ،تقول (ال) كلما قال (أريد)"." ّ
قضيت ليلتي في محاولة قتل تلك األفعى.
أن "ال" أفعى بسبعة رؤوس ،وأنك ك ّلما قتلتها ،ظهرت لك "ال" أخرى،
اكتشفت قبل الفجر بقليل ّ
شاهرة في وجهك –ألسباب أخرى -أكثر من حرف نهي وتحذير.
وبرغم ذلك ،غفوت وأنا أقرض تفاحة الشهوة ،على مرأى من رؤوسها.
وكل شيء داخلي يعيش على مزاج "نعم".
لي موعد مع "نعم"ّ .
الحب.
ّ صباح "نعم" أيها العالم .صباح "نعم" أيها
كل األش ياء التي تصادفني والتي اصبح اسمها "نعم".
يا ّ
ال على غير عادته :من نقل إليك خبر "نعم"؟
كل الكون الذي يستيقظ جمي ً يا ّ
حل بي .أيتها الطرقات المشجرة
ّأيتها األغاني التي يردده المذياع هذا الصباح ..وكأنه يدري ما ّ
شتوي عشاقها ،أيتها
ّ التي تمتد أشجارها حتى قلبي ،أيتها الطاوالت التي تنتظر على رصيف
األسرة غير المرتبة ،التي تنتظر في مدن "نعم" متعتها.
"ربما ".صباحك "نعم" .فكم كان مساؤك "ال" يا أيها المساء!
ّأيها الليل الذي مساؤه ّ
شتوي هائج .وبداته بصباح مفخخ بأسئلة
ّ في اليوم التالي استيقظت من ليل تقاسمته مع بحر
أمي ومشاريعها.
ّ
كل برامجها المشتركة بكذبة .وذهبت نحو مشروعي األجمل.
ولكنني نجحت في إحباط ّ
الحب نفسه .الذي بدا لي أطول رغم سرعة السائق ،ورغم
ّ ظهرا ،سالكة طريق
انطلقت بي السيارة ً
المرة ،من حواجز التفتيش.
خلو الطرقات هذه ّ
ّ
الطبيعية.
ّ شعرت باالطمئنان ،وأنا أرى الشوارع قد عادت إلى حياتها
وفرغت من المتظاهرين ،والملتحين ،واختفت منها الالفتات ،والهتافات.
مشيا على األقدام.
ولذا ،نزلت عند ساحة األمير عبد القادر .وواصلت طريقي ً
رقم ..رقمان ..بناية ..بنايتان .وطوابق أربعة أصعدها بسرعة سارقة ،وبلهفة عاشقة.
شوق يركض بي ..قلب تسرع دقّاته .وباب ينفتح من دقة واحدة ،وينغلق خلفي.
باب يفصلني عن مدينة "ال" ويدخلني عالم" نعم".
تسمرني بين
تواً على فرحتي ّ
رجل ال اسم له ينتظرني .يتأملني .يضمني .وقبلة خلف باب مغلق ّ
عالمين.
يسألني وهو يراني ألتقط أنفاسي:
المرة؟
إلي هذه ّ
-هل وجدت صعوبة في الوصول ّ
وأجيب:
كل مرة أن أجتاز هذا الباب..
-األصعب ّ
ثم اواصل بعد شيء من الصمت: ّ
وخروجا!
ً -دخو ًال ..
يرد بشيء من السخرية:
ّ
-ابقي هنا إذن!
أرتمي متعبة على األريكة .أقول:
-احجزني رهينة عندك ..أيمكنك هذا؟
ساخرا:
ً يجيب
-كلنا رهائن.
-رهائن من؟
الحب" ..ولك ّنه يقول:
ّ أتوقع أن يقول "رهائن
-رهائن الوطن..
أرد بشيء من العصبية:
ّ
-أرجوك ..دعني من السياسة .أنا لست هنا ألحدثك عن الوطن .أنت ال تعي كم أنا أجازف
حب.
للوصول إليك ..فقط ألعيش لحظة ّ
حب خارج السياسة .ألم تفهمي هذا بعد؟ثمة من ّ -ولكن ليس ّ
كل عالقة؟
أصمت ألنني لم أفهم .وال أريد أن أفهم .لماذا تصبح السياسة طرًفا ثالثأ في ّ
شاق؟
لماذا تنام في سرير األزواج ،وفي سرير الع ّ
وكل وجبات النهار .وترافقنا إلى زيارة األحياء واألموات من
لماذا تتناول معنا فطور الصباحّ ..
أهلنا؟
لماذا تسبقنا إلة مدن الحلم ،وحال وصولنا ،تجلس معنا على األريكة .ولماذا تبعث بقريب إلى
نحب؟
الغربة ،وتعود متى شاءت بمن ّ
أقول:
حق ..في النهاية السياسة هي التي عادت بك.
ربما كنت على ّ
ّ-
ثم أواصل:
ّ
الحب.
ّ -لحسن حظّ
-وماذا لو كان العكس؟
أصدق أن تكون قد عدت من أجلي..-ال ّ
معا ..أليس هذا الذي
-أنا لم أقل أنني عدت من أجلك ..لنقل إنني عدت كي نواصل كتابة الرواية ً
يعنيك؟
الحد.
ربما ..ولكن ال أفهم أن يعنيك أنت إلى هذا ّ
ّ-
يضحك:
-طبعاً يعنيني ..ألنني ال أريد أن أخلف نهايتي ،أريد لنا نهاية جميلة.
-ح ًقا؟
مهمة هي النهايات ،في الكتب كما في الحياة.
طبعاّ ..
ً -
أقاطعه:
-أتدري ما يعنيني اآلن بالتحديد؟ يعنيني أن أعرف من تكون .وال شيء غير هذا .منذ ذلك اليوم
كل المقابالت السياسية التي يدلي بها أعضاء
كل الصور ،أطالع ّأتفحص ّكل الجرائدّ ،
وأنا أشتري ّ
شيئا لك..
كل شيء ،وال أقرأ ً
جميعا حول ّ
ً الوطني .أعرف حياة الجميع .أقرأ تصريحاتهم
ّ المجلس
لماذا؟
يرد ساخراً:
ّ
-لهم نياشين الكالم ..ولي بريق الصمت.
أي حزب تنتمي؟
اي جهة أنت؟ إلى ّ
-ولكن مع ّ
يرد:
ّ
عم انت منشق .وليس إلى أي حزب تنتمي.
-السؤال الحقيقي .هو ّ
ال أملك إال أن أتبع منطقه في قلب األسئلة .أسأل:
وعم انت منشق؟
ّ
ثم يجيب:وكأن السؤال فاجأهّ .
يصمت ّ
-لي أكثر من جواب عن سؤال كهذا .لنقل إ ّنني منشق عن أحالمي .أنا الشاهد األخير يا سيدتي
العربي .قضيت عمري على شرفة الخيبة .أتفرج على غروب أحالمي وط ًنا ..وط ًنا،
ّ على األفول
سر
القصة؟ تسألينني عن ّ ّ البد أن ال أخلف نهايتي في هذه
بما في ذلك وطني .أفهمت لماذا كان ّ
كل أحالمي كانت خلفي.
صمتي ،أنا رجل كنت قبل مجيء بوضياف فار ًغا بال أحالمّ .
-وأنا؟
ِ -
أنت؟
كل هذا؟
-أين تضعني في ّ
-أضعك تماما حيث ِ
أنت اآلن. ً
-أي..؟
-أي على ورق .أحالمي معك ،كمشاريعك معي ال تتجاوز مساحة صفحة .حتّى عندما تكون هذه
الصفحة في حجم سرير .إنه قدرنا.
***
عندما غادرته ،انتابتني أحاسيس متناقضة تراوح بين المتعة ،والخيبة ،واالندهاش الجميل والمؤلم
في الوقت نفسه.
توا من كتابك ،يحمل االسم نفسه ،والتشويه
حب ،واذا بك مع شخص خارج ً أن تذهب إلى موعد ّ
بد أن يترك في نفسك
الجسدي نفسه ألحد أبطالك ،وأن تبقى برغم ذلك على اشتهائك نفسه له ،ال ّ
كثير من فوضى المشاعر ..وفوضى األسئلة ،خاصة عندما ترى اسمه ،كما اخترعته أنت،
ًا
صحافي على جريدة،
ّ مكتوبا ،أسفل مقال
ً وأجهدت نفسك للعثور عليه ،قد غادر كتابك ،وأصبح
كاسم لرجل ال عالقة له بك ،لوال تلك الخصوصية الثانية التي تذهلك :كيف يمكن أن يكون
أيضا ..كبطلك؟
معطوب الذراع ً
ما يدهشني هو كون هذا الرجل ،يواصل معي قصة بدأت في رواية سابقة ،وكأ ّنه يعيد إصدارها في
اقعية .من نسخة واحدة.
طبعة و ّ
مرة ،أمام مكتبته ،قال "نحن نواصل قبلة ..بدأناها في الصفحة 171
ألول ّ
قبلني ّ
حتّى أ ّنه يوم ّ
من ذلك الكتاب ..في هذا المكان نفسه".
كل كتاب .وعثرت على تلك القبلة، وعدت إلى كتبي ،بحثًا في رواياتي عن الصفحة 171في ّ
مطولة مفصلّة ،مرتجلة ،كما حدثت ذات يوم بين ذلك الرسام ،وتلك الكاتبة.
ّ
يكرر معي حماقة حدثت في كتاب
ثم عندما استعرت منه كتاب هنري ميشو ،قال إ ّنه يخشى أن ّ
ّ
القصة لصديق البطل ..بسبب كتاب.
ّ حب البطلة في تلك
ملمحاً إلى ّ
سابقّ ،
كتابا.
تصرفات تلك البطلة بعد قبلة ،وأستعير ًأكرر في الحياة ّأما أنا فانتبهت أ ّنني كنت ّ
ّ
القصة ،بما في ذلك المدينة التي جمعتنا.
ّ كل شيء كان يعيدنا منذ البدء ،إلى تلكّ
كل ما قاله
ثمة رجوع ما ،أو تراجع متعمد ،عن ّ
بل حتّى في حديثه عن الجسور ..وعن قسنطينةّ ،
ويصححها ،عن خيبة
ّ وكأن المسافة الزمنية قد جعلته يراجع أراءه،
الرسام في تلك الروايةّ .
ذلك ّ
عشقي.
ّ وتطرف
ّ
أن ذلك الرجل الذي ما انفك منذ ستةكل هذا ،يبقى األمر مرب ًكا .فأنا ال أريد أن أصدق ّ
وبرغم ّ
عدة
ي الذي خلقته منذ ّأسا على عقب ،هو خالد بن طوبال ،ذلك الكائن الحبر ّ أشهر يقلب حياتي ر ً
ثم نسيته داخل كتاب .ألقيت به إلى جوف مطبعة كما نلقي بجثة إلى البحر ،بعد أن سنواتّ .
نثقلها بالصخور ،حتّى ال تعود إلى السطح ،ول ّكنه عاد.
ثم
هذا الكائن أعرفه عن ظهر قلب .فقد عشت معه أربع مائة صفحة وما يقارب األربع سنواتّ .
افترقنا .انتهى عمره مع آخر سطر .وبدأ عمري دونه منذ ذلك الحين.
كل ذلك الوقت؟ ومن م ّنا ترى كان األحوج إلى اآلخر؟
ولكن من منا كان يبحث عن اآلخر ،خالل ّ
إلي ..إ ّنهم ال يملكون
ساخر "ألن أبطالي في حاجة ّ
ًا ائي سئل "لماذا تكتب؟" فأجاب
أذكر مقولة لرو ّ
غيري على وجه األرض!".
فكل روائي هو في النهاية يتيم ..ومخلوق عجيب،
ويقدم اعترافًا بيتمه دونهمّ .
طبعا كان يرواغّ .
ً
حبرية ،يعيش بينها،
أحبة ،وكائنات ّ
وهمية ،وأصدقاء و ّ
ّ تخلّى عن أهله ،ليخلق لنفسه عائلة
مشغو ًال بهمومها ،محكوماً بمزاجها ،حتّى لكأ ّنه ال يملك على وجه األرض غيرها!
وكل من
كل عائلتي ،ويشغل مكان زوجي ،وأخي ،وأميّ .. فأين العجب في أن يصبح هذا الرجل ّ
يحيطون بي؟!
كل من خلقت من أبطال ،وان في الواقع ،كان عجبي الوحيد أن أتعلق بهذا الرجل بالذات ،من بين ّ
منطقياً ،كما جاء
ّ حب تمثال خلقه بيده ،وكان آية في الكمال ،فهذا األمر يبدو
يقع بيغماليون في ّ
ويحب روائي البطل الذي شوهه
ّ نحات التمثال الذي أخفق في خلقه،
يحب ّ
أما أن ّفي األسطورةّ .
بنفسه ..فهنا تكمن الدهشة.
الحل األمثل للهروب من نفسي؛ فقد كنت
ذلك المساء ..توقّعت أن يكون في جلوسي إلى أمي ّ
أهملتها بعض الشيء ،بعد أن أغريتها باالتصال ببعض معارفها في العاصمة ..وأعددت لها
حريتي.
برنامجا على قياس ّ
ً
تحدثني عن قريبة بعيدة ،تعقد قران ابنها في نهاية
كانت سعيدة ،أو ربما بدت لي كذلك ،وهي ّ
االسبوع ،وتدعونا لحضور احتفال الزواج ،ولم يعد صعبا أن أتوقع برنامجها لأليام القادمة.
يزوج
دائما بين عرسين ،أو حجتين ،أو نذرين .وحيثما ح ّلت ،تعثر على من يوشك أن ّأمي تعيش ً ّ
توا من العمرة أو الحج .أو "شيخ" ..يدعوها ل"وعدة" أو "زردة! "
قريبا ،أو من له قريب عائد ً
ً
وبرغم هذا ،لم تكن سعيدة تماما ،قد كان ينقص سعادتها شيء اسمه "ناصر".
تربيهم وتتسلّى بهم.
قبل اليوم كانت تتمنى أن تزوجه ،ويمتلئ البيت بك ّنة تتحكم فيها .وبأحفاد ّ
كل زواج يعيدها إليه ،بل أصبحت ال تريد أكثر من عودتهأما اآلن وقد رحل ناصر ،فقد أصبح ّ ّ
ليقاسمها ما بقي من العمر.
وأكثر ما كان يؤلمها في سفر ناصر أ ّنها لم تكن مهيأة له .فال شيء في طبع ناصر وال في نمط
حياته ،كان يوحي بأنه قد يأخذ قراراً مفاجئاً وحاسماً كهذا.
أمي عن السؤال نفسه الذي أخفي عليها
منذ سافر ناصر ،من ثالثة أشهر ،وأنا أحاول أن أجيب ّ
دائما نصف حقيقته.
ً
هي تسأل:
كل شيء.
-لماذا سافر أخوك يا ابنتي؟ أخبريني؛ أنت يقول لك ّ
وأنا أجيب:
يجرب حظه في الخارج مثله مثل اآلخرين..
-لقد سافر ألنه غير مرتاح في هذا البلد..يريد أن ّ
ولك ّنه سيعود ..لقد وعدني بذلك.
-ولكن متى؟ بعد أسابيع؟ بعد أشهر؟ بعد سنوات؟
وال أملك إال أن أجيبها:
ال ..وتتحسن الحاله..
-عندما تهدأ األوضاع قلي ً
فترد:
ّ
-أية أوضاع؟ وأية حالة هذه التي ستتحسن؟ ألم تسمعي بما حدث منذ يومين في البليدة ..لقد
روت لنا امرأة اليوم أنهم..
وأقاطعها:
أي شيء أرجوك..علي ّ
تقصي ّ -ال أريد أن أعرف ..ال ّ
علي أمي ليلتي بأخبار الموت ،كما تعودت أن تفعل ليال ،بين حين وآخر،
لم أكن أريد أن تفسد ّ
عندما كانت تطلبني هاتفيا عن ضجر ،أو عن خوف ،وال تجد ما تقصه علي إال قصصا لم أشاهد
مثلها حتى في أفالم الرعب.
وكانت قد شاعت فجأة بدعة تشويه الجثث ،والتمثيل بها ،كي ال ترتاح نفوس أصحابها ،وال تدخل
الجنة ،وكي يعتبر بها" الك فار" أو أولئك الذين يعملون في خدمة "الدولة الكافرة".
وهي صفة ال تعني غالبا ،سوى رجال األمن ،وبعض البائسين من شرطة السير ،الذين انقرضوا
وذبحا ومطاردة حتّى المقابر ،حيث اغتيل العديد منهم وهو يرافق
ً رميا بالرصاص،
في بضعة أشهر ً
قريبا إلى مثواه األخير.
أما أولئك "األذكياء" الذين جاؤوا لزيارة موتاهم بعد يومين أو أكثر .فقد فوجئوا بمن ينتظرهم ليال
ونهارا خلف القبور ،وذهبت بهم المفاجأة في مقبرة ،فكل القبور هنا مفتوحة تنتظر تهمة لتنغلق
على أحد.
فماذا يمكن ألمي أن تضيف إلى مسلسل الرعب الذي أتابعه مذهولة كل يوم ،مثل كل سكان هذا
البلد؟
فجأة سألتني أمي وقد عادت إلى هاجسها األهم:
-هل ترك لك ناصر عنوانا في الرسالة التي بعث بها مع ذلك الصديق؟
قلت:
-أجل
قالت:
-اكتبي إليه إذن..
قلت:
بد أن أراجعها هناك.
-سأفعل حال عودتي إلى قسنطينة .فقد سألني عن أمور ال ّ
في الواقع ،لم يكن قد سألني سوى عن أخباري وأخبار امي .ولكنني كنت فقط أريد إرجاء هذه
الرسالة إلى ما بعد .فقد كان ذهني مشغوالً بأمر واحد :ذلك الرجل ،تماما كانشغال أمي بأمر واحد
هو ناصر .ناصر الذي أصبح يذكرها فجأة بأبي الذي غاب هكذا منذ أكثر من ثالثين سنة مع
حفنة من الرجال كي يخططوا لما سيسمى في ما بعد" ثورة نوفمبر".
ربما منذ ذلك الحين ،أصبحت أمي تخاف الرجال الذين يرحلون هكذا فجاة ،دون أن يتركوا عنوانا
لغيابهم ،وال تاريخا لعودتهم؛ فقد ال يعودون ،أو قد يعودون عندما ال ننتظرهم ،لفرط ما انتظرناهم.
في ذلك اليوم الذي ال نصدق ذلك الصوت الصغير الذي يردد على مقربة م ّنا ،أنهم سيأتون،
وتدق يد على الجرس .وينفتح الباب ،على رجل ّ ثم فجأة تحدث المعجزة،
اليوم ..وربما اآلنّ .
يضم جسدنا الصغير إلى صدره .يقبلنا ..يقبلنا ..وال ندري
مغبر الثياب ،يرفعنا كدمية نحوهّ ،
متعبّ ،
لصغر سننا ،أكان لحظتها يبتسم أم يبكي.
أمي ،والتي حدثت يوم كنت طفلة في الخامسة من عمري ،وكنا كتلك الحادثة المذهلة التي تحكيها ّ
تعد واحدة
في شهر رمضان ،وكانت أمي تعد "البريك "لإلفطار ،فرحت أالحقها طالبة منها أن ّ
ألبي ،ألنه يحبه .وكانت تجيبني أنه غائب ،وال يمكنه أن يحضر .وأجيبها بعناد األوالد "بلى
أعدي له واحدة"!".سيحضرّ ..
قادما من الجبهة ،بعد غياب سنة
دق الباب ،وجاء أبي ً
وما كدنا نجلس حول طولة اإلفطار ،حتّى ّ
جدتي بالبكاء وهي تردد
تماماً .فقد كانت زيارته األخيرة تعود إلى رمضان الفائت .لحظتها أجهشت ّ
نصدق!".
"لقد قالت لنا حياة إنك ستأتي ..ولم ّ
ولذا أتوقع أن تطاردني أمي بعد االن بالسؤال "متى يعود ناصر؟" معتقدة أنني ما زلت أملك تلك
الحاسة السادسة أو ذلك الحدس الذي يملكه األطفال دون غيرهم ،والذي يدلهم على ما يجهله
الكبار.
طبعاً ،فقدت ذلك الحدس منذ زمن بعيد ،من جملة ما فقدت من أشياء جميلة ،تركتها خلفي ،كلّما
تقدم بي العمر.
ولو كنت ما زلت أملكه ،لوجدت الجواب عن أسئلة كثيرة أخرى .كان أحدها في الماضي "متى يعود
ذلك الرجل؟" وأصبح اآلن "من يكون؟" و "متى أراه؟" وأين هي ذاهبة بي هذه القصة الغريبة؟
ما كدت أتذكره حتى انتابتني رغبة جارفة في الحديث إليه ،وحاجة عجلى إلى سماع صوته،
فانتظرت أن تنام أمي وذهبت ألطلبه.
ط هاتفه مشغو ًال دون توقف .وهو ما فاجأني وأزعجني .كأنني لم
ولكن طوال ربع ساعة ،كان خ ّ
ال.
يتحدث إليه لي ً
أتوقع أن يكون في حياة هذا الرجل شخص آخر ،قد ّ
دق الهاتف اخيراً ،وجاء صوته:
ثم ّ
ّ
ِ
-كيف أنت؟
-بي شوق إليك .رأيت أن أطلبك وكان خطك مشغوال طول الوقت.
-كنت في حديث مع قسنطينة.
-أما زال أهلك هناك؟
عبدالحق.
ّ -ال ..كنت أتحدث مع صديقي
-تتحدث إلى صديق؟ في هذه الساعة المتأخرة من الليل!
رد كمن ينفي شبهة:ّ
ال.
-إنه رجل الوقت لي ً
-ماذا تقصد؟
-إنه صحافي يعمل ليال في الجريدة.
-وهل ثمة من جديد؟
بدا لي وكأنه كاد يقول شيئاً .ولك ّنه بعد شيء من الصمت ،أجاب وكأنه يخفي أمراً:
-ال ..ال شيء
ثم ..بصوت غائب:
ّ
-و ِ
أنت؟
-أنا ..كنت أريد أن أسمعك.
ثم قال:
صمت قليالًّ .
-وأنا أريدك.
فاجأتني مباشرته .سألته متعجبة:
استمت البارحة في الدفاع عن جمالية الحرمان؟
ّ -ح ًقا؟ لماذا إذن
أجاب:
-يحدث أن نقول كالما ..ليس تماما ما ك ّنا نريد قوله.
-وما الذي تريد قوله حقًا؟
منطقيا.
ً كالما
-الليلة ..ال شيء .إ ّني ثمل باألضداد .ال تتوقعي م ّني ً
ربما كانوا
خوفتني بالهاتف؛ ّ
أما أنا ..فلي كالم كثير إليك .ولكن أصبحت أتحاشى المكاشفة .قد ّ ّ-
يتنصتون إلينا اآلن.
ّ
ساخرا:
ً رد
ّ
السر إذا لم يسمع به اآلخرون!
-ال تهتمي ..ما فائدة ّ
صحت:
-هل جننت؟
الحب؟
ّ تحبين جمالية الفضيحة في
-ال ..ولكن أال ّ
فاجأني استهتاره ..قلت:
-ولك ّنني متزوجة..
ال:
رد قائ ً
ّ
كل لحظة أتزوجك وأقتلك.
-أدري ..ولهذا أنا في ّ
-لماذا؟
كل الحرام.
أشرع حبك ..أريدك حاللي كي أمارس معك ّ
-كي ّ
تحب امرأة؟
كل هذا كي ّ
-وهل أنت في حاجة إلى ّ
طبعا ..لقد حدث أن كنت رجال بكثير من المبادئ ..وقتها كنت أشهى ما أرفض.
ً -
ثم؟
ّ-
ثم ال شيء .اآلن أريدك دون أسئلة .لم يبق من الوقت الكثير.
ّ-
ثم يواصل:
يصمت قليال ّ
-تعالي غداً .أريد أن أسرب إليك جنوني.
أسأله:
-وهل تعدني لو جئت أن تخبرني من تكون؟
يرد:
ّ
-ال أعدك بشيء عدا المتعة ..وستأتين.
الحد بقدومي؟
-لماذا أنت واثق إلى هذا ّ
علي إلى
ألن ثمة من يحوم حولي ..وقد يسرقني منك .أال تشعرين بالغيرة من كائن قد يستحوذ ّ
ّ -
األبد؟
مصدقة:
ّ أسأله غير
-هل ستتزوج؟
يرد بحزن مستتر:
ّ
تسمي هذا زواجاً ..مع اختالف في بعض التفاصيل .إنه االرتباط األبدي الوحيد الذي
-بإمكانك أن ّ
ال ننجو منه وال نختاره.
ال أفهم ما يقوله .أستنتج أنه يمازحني ،كي يحثني على المجيء.
أقول:
-سأجيء ..وبرغم هذا احذر غيرتي .أنا امرأة من برج الحمل .إنه برج يش ّكل أكبر نسبة من
العشقية .وسآتيك بتحقيق يؤكد قولي..
ّ مرتكبي الجرائم
يضحك ..يقول:
-تعالي ..قد أكون أنا من سيقتلك!..
غير قناعاته ،هو الذي
يصر هذا الرجل على إضرام النار في جسدي وفي دفاتري؟ وما الذي ّ لماذا ّ
مكتفيا بقبلة؟ وهل ح ًقا ثمة امرأة تحوم حوله؟ من تراها تكون؟
ً كان يقف دائماً على حافة الحرام،
يوميا؟
أتحدث إليه ً
وكيف حدث هذا ..وأنا ّ
ثم تذكرت قوله "انتهى وقت األسئلة"
حاولت أن أنام ،وأنا أبحث عن أجوبة عن هذه األسئلةّ .
فأخفيت عالمات استفهامي تحت الوسادة.
ورحت أحلم بالموعد القادم.
***
المضاد
ّ علي من السماء .فأمام معرفتها بمزاجي
كان في انشغال أمي بذلك العرس هدية نزلت ّ
السرية
ّ أستعد لتلك األفراح
ّ لألفراح ،وبعد اليأس من مرافقتي لها ،ذهبت لحضوره بمفردها ،وتركتني
التي كانت وحدها تعنيني.
ظهرا عندما وصلت إلى ذلك البيت.
كان الوقت ً
غامضا ،وغير متوقّع كما هو البحر.
ً ي .فقد بدا لي
فتح لي ذلك الرجل الباب ،بمزاج بحر ّ
شيئا.
قبلني دون أن يقول ً ّ
فجلست على األريكة المقابلة له أتأمله.
قلت:
-فيك شيء من البحر.
قال:
-أكان لقبلتي مذاقه المالح؟
قلت:
-ال ..بل كان لها هدوؤه الكاذب.
لم يجب.
كل موعد في
دائما في ّ
الرغبة التي تعبرنا صمتًا تضعنا ً
كان الصمت يجعلنا أكثر فصاحة .ذبذبات ّ
منطقة حزام الزالزل.
نحب صمتنا المفاجئ هذا ،ونخافه. الشهوة حالة ترقّب صامت للجسد .ولذا ك ّنا ّ
خاص .فلم أجرؤ على
ّ كان أذان الظهر يأتي من مئذنة بعيدة ،بدا لي كأ ّنه يستمع إليه باهتمام
التحدث إليه.
ّ
أهم بالتوجه نحو المطبخ:
ما كاد ينتهي حتّى وقفت .رأيته مشغو ًال ع ّني بتدخين سيجارة .قلت وأنا ّ
ماء؟ إنني عطشى.
-أيمكن أن أحضر ً
ولكنه لم يجب.
ثم سألني فجأة:
امتّدت يده تستوقفني ،وتجذبني نحوهّ .
تحبين زوربا؟
-أما زلت ّ
حبي لرجل آخر.
شبيها بتهمة ّ
ً فاجأني سؤاله .بدا لي
قلت:
ربما.
ّ-
أجاب:
بكل ما هو رائع ومهلك .وبتلك الخسارات الموجعة التي تقلب
تحبينه .ما زال بك افتتان ّ
-بل ّ
المنطق.
قلت:
-أجل.
قال:
-تعالي إذن ..عندي لك ما يناسب مزاجك من متعة.
كان في نبرته شيء من الحزن الساخر الذي لم أفهمه.
كنت سأسأله ماذا كان يعني .ولكن ،كان قد سحبني من يدي .وذهب بي نحو أسئلة أخرى.
سجادها
أرضا ،زاوية من ّ
في غرفة مجاورة ،يؤثثها سرير شاسع ،وتفترش الجرائد والكتب الملقاة ً
المتواضع ،تركني واقفة للحظات ،واتجه نحو جهاز على مقربة من السرير وراح لدقائق يبحث بين
األشرطة عن شيء ما ،قبل أن يضع شريطًا لديميس روسوس ويعود.
قلت وقد أربكني وجودي في غرفة نومه:
تحب الموسيقى.
-يبدو أنك ّ
أجاب وهو يسدل بإمعان ستار النافذة الوحيدة:
-إن الموسيقى تجعلنا تعساء بشكل أفضل ...أال تعرفين هذه المقولة؟
قلت:
-ال.
قال:
-إنها لروالن بارت.
ثم واصل:ّ
-وهذا الشريط هل تعرفينه؟
قلت:
أي شريط هو
كل ما يغنيه ..ولكن ال أدري ّ
أحب ّ
-أنا أعرف معظم أغاني ديميس روسوس ...و ّ
هذا..
أجاب:
أيضا ال أدري ..فقد وجدته هنا مع أشرطة أخرى ..ولكن على أحد وجهيه أغنية ستحبينها
-أنا ً
حتما.
ً
لم أسأله أية أغنية يعنيها .فقد شعرت فجأة .أننا ك ّنا نستنجد بالموسيقى في محاولة إلنقاذ ما قد
يلحق بنا من دمار إثر متعة قد تفضي بنا إلى حزن ،ألكثر من سبب.
تأهب ،كانت تجعلنا دون مناعة عاطفية ،أمام
اس في حالة ّ أن رغبة مخيفة في صمتها ،وحو ّ غير ّ
ببحة األلم ،خيباته العاطفية.
صوت يوناني يغ ّني باإلنكليزيةّ ،
ك ّنا على مشارف قبلة ،عندما جاءت تلك الموسيقى ّإياها .مباغتة لنا ،زاحفة نحونا ،متباطئة،
تناقضا.
ً اجية الرغبات الطاعنة
ثم متقاربة اإليقاع ،بمز ّ
كسلىّ ،
كخطى راقص على أرصفة الشغف ،تحت مطر المساء ،كانت األقدام الحافية تنقل لنا إيقاعها
العشقي منتعلة خ ّفة شهوتنا.
ّ
وقميصا أسود ،وجلس يتأملني.
ً في حضرة زوربا ..خلع البحر نظاراته السوداء
مد وجزر ،يسحبني نحو قدري.
يجردني من أسئلتي ،بين ّ
رجل نصفه حبر ،ونصفه بحرّ ،
بحمى من القبل.
رجل نصفه حياء ..ونصفه إغراء ،يجتاحني ّ
يدي ويكتبني .يتأملني وسط ارتباكي .يقول:
يضمني .يلغي ّ
بذراع وحدة ّ
أخيرا.
أطل فيها من نافذة الصفحة ألت ّفرج على جسدك ..دعيني أراك ً
مرة ّ
-إ ّنها ّأول ّ
أحاول أن أحتمي بلحاف الكلمات ،يطمئنني:
-ال تحتمي بشيء .أنا أنظر إليك في عتمة الحبر ،وحده قنديل الشهوة يضيء جسدك اآلن .لقد
اس.
دائما في عتمة الحو ّ
حبنا ًعاش ّ
أود أن أسأله:
ّ
الحد؟
-لماذا أنت حزين إلى هذا ّ
بحرية ذهبت بأسئلتي .وبعثرتني رغوة ..على سرير الشهوة.
ولكن زوبعة ّ
ّ
يمر به.
كل مكان ّ
كل شيء في طريقه .يضع أعالم رجولته ،على ّ يتقدم ،يكتسح ّ
كان البحر ّ
محررة ،كنت اكتشف فداحة خسائري قبله.
كل منطقة يعلنها منطقة محتلّة وأعلنها منطقة ّ
مع ّ
كمن يتململ داخل قفص الجسد ،انتفض واقفًا .كان يريد أن يغادر ذاته ويتّحد بي.
أسأله:
-ماذا أنت فاعل بي؟
يجيب:
"ال تملك األشجار إال
الحب واقفة
ّ أن تمارس
تعالي للوقوف معي
أريد أن أشيع فيك صديقي
إلى مثواه األخير"
أسأله مستغربة:
-ماذا تقول؟
يجيب وهو يحاول اإلمساك بي.
-إ ّني أضمر لك قصيدة.
يمر به .وال أفهم ماذا يعني.
كل شيء ّ
فجأة تصبح كلماته كأطراف أصابعه ،أعواد كبريت تشعل ّ
الحد؟
كبير ومخي ًفا إلى هذا ّ
وال ..لماذا يريد لنا حري ًقا ًا
التدريجي.
ّ ثم أدخل طقوس االستسالم
رجولته تباغتني ،فأنتفض بين ذراعيه كسمكةّ .
فجأة يستوقفني:
-هل تحبينني؟
جسدية ملتبسة ،فأجبته
ّ العشقية ،في محاكاة
ّ إلي عدوى شراسته
كانت ذراعه الوحيدة تنقل ّ
مذعورة:
للحب أن أوصلني إلى الخطيئة قبلك.
ّ -طبعاً أحبك ..لم يحدث
ولك ّنه أجاب بحسرة ساخرة:
"حتّى متى سأبقى خطيئتك األولى
لك متسع ألكثر من بداية
كل النهايات
وقصيرة ّ
إنني أنتهي اآلن فيك..
عمرا
فمن يعطي للعمر ً
يصلح ألكثر من بداية؟"
كان لصوته مذاق متأخر للبكاء.
كدت أسأله "أيحدث للبحر أن يبكي؟" .ولكنه اختفى.
تنتهي العاصفة.
حب على شاطئ الذهول .يلقي على جسدي نظرة خاطفة.
يتركني البحر جثة ّ
قبلة ..قبلتان
موجة ..موجتان
سرا ..مع الدمعة القادمة.
وينسحب البحر ً
هائجا ،على عجل .أيحدث
صاخبا ً ..
ً أيضا يرحل على رؤوس األصابع .بعدما يكون قد أتى
البحر ً
الحب عن ألم؟
ّ أيضا ،أن يمارس
له ً
انسحب البحر إذن .غادر جسدي بين قصيدتين ودمعتين .وبقي الملح.
وبقيت هنا إسفنجة بحرية.
فاردا ذراعيه
حافيا على شاطئ الفاجعةً ،
لحظتها كان زوربا ،بوعي الخذالن المبكر ،يواصل الرقص ً
كنبي مصلوب ،يقفز على مقربة م ّني ،على وقع الطعنات المتالحقة ،بشراسة وجع
إلى أقصاهما ّ
توا من سطوة
حت أواصل الرقص معه ،منتفض ًة كسمكة خارجة ً
فر ُ
حد النشوةُ .
مازوشيا ّ
ً يجعلك
البحر.
متكئا على األسئلة.
عندما تنتهي العاصفة ..يشعل البحر سيجارة .يدخن ً
ال من جديد.
ثم عندما يعثر على األجوبة ،يكون قد أصبح رج ً
ّ
أبدية ،يصوغها الرجال حسب ذكائهم ،ليطمئ ّنوا إلى دوام
الحب ،تعود أسئلة ذكورية ّ
ّ دوما ،بعد
ً
رجولتهم:
اقل جماال!
دائما من لحظة كهذه؛ على سرير الواقع تصبح المشاعر ّ
-لقد خفت عليك ً
أطمئنه:
مما
الحب جعله يبدو أجمل ّ
ّ أن
-جميل ما حدث بيننا .وال أريد أن أعرف ،إذا كان كذلك حقًا ،أم ّ
هو.
أحاول أن أتحاشى االنتباه لذراعه وأنا أحدثه .ولكن كنت في انشغالي عنها أتأمله.
كل شيء ،حتّى أولئك الذين يقاسمونه
ائي أ ّنه ال يستطيع إال أن يراقب ّ
في الواقع ،مشكلة الرو ّ
سريره.
سألني وهو يصلح من جلسته:
-ما الذي تريدين رؤيته؟
ذنباً:
أبرر ً
فاجأتني نبرته الساخرة .قلت وكأنني ّ
صرف مثله
ي لجسدك ،كي أعرف إن كنت ح ًقا خالد بن طوبال .أنت تت ّ -أريد أن أطالع التاريخ السر ّ
كل شيء .عجيب كم تشبهه! في ّ
أرحني ..قل لي من تكون.
ساخرا:
ً أجاب
جميعا يتشابهون.
ً -رجالك
ثم أضاف بعد شيء من الصمت.. ّ
-ولكنني لست هو.
يغير
شيئا ّ
بقية الكالم ،وكأ ّنه لم يلفظ ً
لفظ هذه الكلمات األخيرة بهدوء .بالوقع نفسه الذي يقول به ّ
مجرى قصتنا.
قلت:
كل هذا الوقت؟
-ولماذا أخفيت ع ّني الحقيقة ّ
أجاب:
وتتغير معنا .ولذا لم
ّ تتغير فينا..
-ليس هناك من حقيقة واحدة .الحقيقة ليست نقطة ثابتة .إ ّنها ّ
يكن ممك ًنا لي أن أدلك إال على ما ليس الحقيقة.
وأضاف:
تصدقين.
سدا آخر" وال ّجسدا قد يخفي ج ً
ً إن
"أحب جسدك" وكنت أجيب" ّ
ّ أتذكرين ..كنت تقولين
أصحح؛ أقول "لست الرجل الذي تتوهمين" وال تصدقين.
"أحب الرجال في األربعين "و ّ
ّ وكنت تقولين
"أحب يديك..
ّ يدي .وكنت تطاردينني عنهما باألسئلة .تقولين
حب ّتماديا في الخطأ ،وقعت في ّ
ً بل
ألرد
دائما ُعقدي "..وال تفهمين .وال أملك اآلن سوى هذا الجسدّ .
ما عمرهما؟ "وأجيب " لقد أحببت ً
كل أسئلتك.
به على ّ
أجيب:
داع للمراوغة .فأنا أحبه كما هو..
-ولكن لم يكن من ٍ
يبتسم ..يقول:
-أنت تتوهمين
ثم يواصل:ّ
أي
أي شخص ،وفي ّ
متنكر في ّ
ًا للحب .وكان يمكن أن آتيك
ّ -الحقيقة الوحيدة هي أ ّنك كنت جاهزة
شيئا .كنت ستحبينني.
كالما كنت تنتظرينه ،أو ال أقول ً
ي ،أن أقول ً زّ
تابع قائالً:
كل الحاالت .وله هذه القدرة الخارقة على إضفاء جمالية حتّى على
الحب يتأقلم مع ّ
ّ ذلك أن
أيضا في تفاصيل قصتنا ما
العاديين .والدليل أ ّنك عندما ستكتشفين من أكون ،ستجدين ً
ّ األشخاص
يذهلك ،ويقنعك بأ ّنك تحبينني أنا ..وليس ذاك الذي كنت تتوقعين!
-ولكنك أريتني جريدة عليها اسم خالد بن طوبال.
-تلك حقيقة أخرى .إنه اسمي .أو إذا شئت إنه االسم الذي اخترته ألنه يشبهني .وألنه مذ
جديدا أوقع به مقاالتي .وال أشعر أنني سرقت
ً اسما
بد أن اختار ً
وصلتني تهديدات بالقتل .كان ال ّ
هذا االسم من احد .كل كلمة وقّعتها في تلك الجريدة ،كنت أشعر أنه كان بإمكان ذلك الرجل
الخارج من كتاب أن يقولها ..لو أنه نطق.
أيضا؟
ائيا ً
كل ما ينتج عنه أصبح رو ً
ائياّ ،
وضعا رو ً
ً يذهلني كالمه .أألننا ك ّنا نعيش
سألته:
-ما عدا هذا ..من أنت؟
ضحك ..أجاب:
جيد..
-أنا قارئ ّ
-ال أفهم.
دائما ،وا ّنني أعرف عنك ما يكفي إلدهاشك .أنا ذاكرة أخرى لك..
جيدا ،قرأتك ً
-لنقل أنني قرأتك ً
أعرف عنك ما نسيت..
-ولكن في الحياة ..من أنت؟
تصدقيني لو قلت لك إنني منذ ثالث سنوات كان هاجسي أن
صحافياً .ولن ّ
ّ -في الحياة ..اعمل
بحجة إجراء حوار للجريدة.
أتعرف إليكّ ،
أضاف قائال بعد شيء من الصمت:
في الواقع ،كنت أريد أن اطرح عليك أسئلة ،لم تكن تعني غيري .فقد صادف صدور كتابك مع تلك
الحادثة التي شلّت فيها ذراعي.
الحق جاءني بكتابك إلى
ّ وهو ما جعلني أقضي فترة النقاهة في قراءتك .أذكر أن صديقي عبد
ثم
تصوري :خفتُه قبل أن أقرأهّ ..
يمدني به" :جئتك بكتاب سيعجبكّ "..
المستشفى .وقال لي وهو ّ
الحد .كان بيني وبينه مدينة
خفته لفرط ما قرأته .أذهلني أن أعثر على بطل يشبهني إلى هذا ّ
مشتركة ،واهتمامات وخيبات مشتركة ،وعاهة وذوق مشتركان .ووحدك كنت الشيء الذي لم يكن
مشترًكا بيننا .فقد كنت حبيبته وحده.
وتابع:
بأن حياتي ستطابق بطريقة أو بأخرى قصتك معه .حتّى إنني
يوم التقيت بك ،أصبح عندي يقين ّ
وكثير ما راودتني رغبة في عدم االتصال بك .لو تدرين كم أحببتك ..وكم حقدت عليك
ًا خفتك.
بسبب كتاب!
ثم؟
ّ-
تظل
ال فاقد الذراع .ولكن ّ
ثم ال شيء ..أعتقد أ ّنك كنت تكتبين لقلب األشياء ،عندما اخترت بط ً
ّ-
فخ كبير هي الحياة!
أي ّ
الحياة أكثر غرائبية من القصص التي نبتكرهاّ .
معاكسا .لقد جئتك في
ً تعد لي ًا
دور ولكن الحياة كانت ّ
تصوري ..كنت أريد منك أجوبة ال أكثرّ . ّ
مما توقعت .ولكنني
أرد على أسئلتك .أعرف أنه دور أجمل ّ
زمن األسئلة .انقضى هذا الكتاب ،وأنا ّ
لم أسع إليه .اكتفيت بمجاراة قدري ،ومجموعة المصادفات التي واكبته.
السرية للعواطف ..وكمائن المواعيد.
ّ النص ،والمتاهات
ّ -وأثناء ذلك ،كنت تقودني إلى تيه
حب هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر. إن أجمل ّ-بل كنت أقودك إلى العشقّ .
أدري ..كنت تبحثين عن رجل ،خارج من كتبك .خلقته أنت ،على قياسك .ولكن أليس أجمل أن
أكون أنا الرجل الداخل إلى هذا الكتاب ..ولست الخارج منه؟
تدعي بعد اآلن ،أ ّنك كسرت ذلك الوهم الجميل ،وحصلت على
-ألهذا جئت اليوم؟ ألكي يمكنك أن ّ
تلك المرأة التي لم تمتلك منها سوى كتب ..وأسئلة ال جواب لها.
صحيحا .فأنا أملك من الكالم ما يم ّكنني من إقناعك بما
ً أن هذا ليس
تماما ّ
طبعا ال .وأنت تعرفين ً
ً -
أن
دائما ّ
أشاء ،ولك ّنني كنت احرص على أال أكسر أي شيء فيك .وال أي شيء بيننا .لقد اعتقدت ً
االشتهاء هو وحده حالة االمتال ك ،أما المتعة فهي بداية الفقدان.
-وما الذي أوصلنا إلى هذا السرير إذن؟
-أوصلنا إليه الموت.
للحب؟
ّ -أال ترى في قولك إهانة
رد اعتبار له .ال تظ ّني انه من السهل أن نأتي بالمتعة عن ألم ،أو نأتي الجنس بذريعة موت
-بل ّ
الحب لنثأر به من الموت.
ّ الرفاق .يلزمنا كثير من
كل هذا الحزن؟
من مات من معارفك كي يداهمك ّ
-ولكنْ ..
ثم يجيب:
يستنجد بسيجارة ّ
-مات سعيد مقبل ..ألم تسمعي بموته البارحة؟
قلت كمن يعتذر:
-أنا لم أشاهد التلفزيون منذ ّأيام ..وال قرأت الجرائد.
ثم واصلت:ّ
مقربا إليك؟
-هل كان صدي ًقا ً
أجاب:
بدا .أصبح صديقي البارحة .فقد رفعه القتلة برصاصتين إلى مرتبة صديق .-ال .أنا لم ألتق به أ ً
تصوري ..لي تسعة وعشرون صديقًا ،لم ألتق بمعظمهم ،إال على الصفحات األولى للجرائد ّ
الحق ،فقد كان يعمل معه في الجريدة قبل أن
ّ مقربا من عبد
بمناسبة نعيهم .ولك ّنه كان صديقًا ً
مدة ،ألعرض عليه الكتابة في
يتركها عبد الحق ويسافر إلى قسنطينة .ولقد اتصلت به منذ ّ
مفترضا أن نلتقي هذه األيام..
ً الجريدة نفسها ..وكان
أسأله:
-وكيف قتلوه؟
يجيب:
-كان يتناول غداءه .رفقة زميلة له في مطعم صغير جوار الجريدة .عندما اقترب منه شخص،
تصوري ..كان
مسدسا ،وأطلق النار عليه ومضى بهدوءّ .
ً توهم منه أ ّنه يريد محادثته .ولك ّنه أخرج
ّ
الرحمة"
ّ اسم المطعم"
-ولكن ..كيف لم يأخذ حذره؟
يغير عناوين نومه ،ومواعيد
طبعا كان على حذر .مذ حاولوا اغتياله منذ شهرين وفشلوا ،وهو ّ ً -
شيئا
كل هذا ً يغير ّ
قدومه إلى المكتب ،والطرق التي يسلكها في العودة ،واألماكن التي يرتادها .ولم ّ
نص
الصحافي في الجزائر هذه األيام في ّ
ّ كل هذا الرعب اليومي الذي يعيشهمن قدره .لقد وصف ّ
جميل ومؤثر قبل أسبوعين من اغتياله .وأعادت الجرائد نشره اليوم في صفحاتها األولى وهي
تنعاه .ألم تقرأيه؟ لقد تناقلته معظم وكاالت األنباء.
قلت بنبرة خافتة:
-ال
ال:
ثم عاد بجريدة أعطاني ّإياها قائ ً
فمضىّ .
-إقرايه إذن ..وستبكين صدي ًقا.
وما كدت أتوقف عند عنوان المقال "هذا السارق الذي "..حتّى أخذ مني الجريدة وراح يقرأ:
عائدا إلى بيته .إ ّنه هو.
يتسلل في الليل بمحاذاة الجدرانً ،
ّ "هذا السارق الذي
هذا األب الذي يوصي أوالده ،بأن ال يفضحوا في الخارج المهنة التي يتعاطاها .إنه هو.
منتظرا دوره للمثول أمام القاضي .إنه
ً يجر أذياله في قاعات المحاكم،
هذا المواطن السيئ الذي ّ
هو.
لحي ،والذي يدفع به كعب بندقية إلى قاع شاحنة .إنه هو.
هذا الفرد الذي يساق خالل مداهمة ّ
مقر عمله.
كل صباح ،غير واثق بأ ّنه سيصل إلى ّ
هو الذي يغادر منزله ّ
مساء ،غير متأكد من أنه سيصل إلى بيته.
ً وهو الذي يغادر عمله
هذا المشرد الذي لم يعد يعرف عند من يقضي ليلته .إنه هو.
سرّية إدارة رسمية.
إنه هو الذي ،يتعرض للتهديد في ّ
كل ما يعرف.الشاهد الذي ينبغي عليه أن يبتلع ّ
هذا المواطن األعزل.
مذبوحا .إنه هو.
ً هذا الرجل الذي أمنيته أن ال يموت
مقطوعا .إنه هو.
ً أسا
هذه الجثة التي يخيطون عليها ر ً
هو الذي ال يعرف ماذا يفعل بيديه ،سوى كتاباته الصغيرة.
كل شيء؛ أال تنبت الورود فوق أكوام القاذورات؟
ضد ّ
هو الذي يتمسك باألملّ ،
صحفي".
ّ كل هذا .وليس سوى
هو الذي ّ
ثم واصل:
ألقى بالجريدة على الطاولة المجاورةّ ،
بكل هذا العناد،
-كيف أحمل حداد رجل كان في السابعة والخمسين من عمره ،يواجه الموت ّ
ويصدر الجريدة الواحدة بعد األخرى ،في زمن لم يبق فيه أحد ليغامر بوضع توقيعه أسفل مقال؟
ساخرا من السلطة واإلرهابيين
ً يسمي زاويته "مسمار جحا" ،معل ًنا أ ّنه باق هنا بنية إزعاج الجميع،
و ّ
حد سواء.
على ّ
نفسا من سيجارته ،وواصل بنبرة محبطة:
سحب ً
إن في الوطن
احدا من أبنائه ،على هذا القدر من الشجاعة؟ ّ
ال أفهم ،كيف يمكن لوطن أن يغتال و ً
شيئا من األم ومة التي تجعلها تخاصمك ،دون أن تعاديك ،إال عندنا ،فبإمكان الوطن أن
عادة ً
كل شيء في
يغتالك دون أن يكون قد خاصمك! حتى أصبحنا حسب قول عبد الحق ..نمارس ّ
مرة للمرة األخيرة .فال أحد يدري متى وبأية تهمة سينزل عليه
كل ّ
حياتنا اليومية ..وكأننا نمارسه ّ
سخط الوطن.
سألني فجأة:
-أتدرين لماذا طلبت منك الحضور اليوم؟
وقبل أن أجيب واصل:
-ألنني خفت أن أموت قبل أن أعيش هذه اللحظة!
قاطعته بشيء من العتاب:
-ما هذا الذي تقوله؟ نحن لسنا هنا لنتحدث عن الموت
رد بسخرية:ّ
الباطني .المتعة
ّ طبعا ،نحن هنا لنلعب معه ،لنتحايل عليه .ولكنه موجود في جدول تفكيرنا
ً -
جسدي
ّ أيضا ..كما عشناها منذ قليل ،بتلك الشراسة وبذلك العنف ،وكأننا على أهبة افتراس
ً
متبادل ،ليست سوى حالة تطبيع مع الموت ال أكثر .في زمن النهايات المباغتة ،والموت
معنيا
االستعجالي ،والحروب البشعة الصغيرة التي ال اسم لها ،والتي قد تموت فيها دون أن تكون ً
ّ
كل ما نملك لننسي أنفسنا.
بها ،الجنس هو ّ
-والكتابة؟
-الكتابة؟ إنها وهمنا الكبير بأن اآلخرين لن ينسونا!
-أتقول هذا لتجعلني أعدل عنها؟
-بل ألجعلك تعدلين عن الحلم ،واألوهام الكبيرة .هذا الذي مات ،صديقي الذي يوارونه في هذه
أيضا بجدوى
اللحظة تحت التراب ،اآلن بتوقيت صالة العصر ،يس ّلمونه للديدان ،كان يؤمن ً
أن القارئ ال يمكن أن يبدأ صباحه دون
وبأن عموده اليومي ضروري لتغيير المجتمع ،و ّ
الكتابةّ ،
أحدا .لقد ضحك
يتحدى ً
تعليقاته الساخرة ،ونكاته الالّذعة .اآلن ،لم يعد بإمكانه أن ُيضحك أو ّ
كل يوم ببضعة أسطر .ها هي الحياة
يغير العالم ّ
وتحداه .هو الذي كان يتوهم أنه ّ
ّ عليه الموت
تستمر بعده ،والجريدة تواصل الصدور دونه ،والناس الذين مات من أجلهم ،سينسون مكانه في
ّ
لعدة سنوات ،ففي الصحافة كثير من نكران الجميل.
تلك الصفحة ،حيث أقام ّ
الحب.
ّ كالمه وضعني في حالة من اإلحباط المفاجئ .أفقدني رغبتي في الجدل ،أو حتّى في
أكل هذا ..من أجل هذا؟"
" ّ
يحدثني عن الموت؟
كل هذه المجازفة ،وهذه المخاطر ،وهذا الترقب ،وهذا التحايل ،كي أخلو برجل ّ
قلت:
األقل ال يغتالون ،وال
وهميا في قصة؛ هؤالء على ًّ ال
حبريا ،وبط ً
ً -كان من األفضل لو كنت كائ ًنا
حقيقيا؟
ً ال
يموتون ،وال نخاف عليهم من شيء .لماذا جئت إذا كنت رج ً
رد وهو يسحبني نحوه:
ّ
ألسرب إليك الرغبة .جئت إلمتاعك ،وامتاع نفسي بك .هؤالء ال يمكنهم أن يفعلوا هذا..
-جئت ّ
أليس كذلك؟
توا ،أو كأنه انتبه فجأة لوجودي
وراحت شفتاه في تقبيلي من جديد ،باللّهفة نفسها ،وكأننا التقينا ً
معه .برغم تلك الجثة الموجودة بيننا.
العشقي.
ّ كان يحلو لي أن أتابع تق ّلبات مزاجه
الجسدي.
ّ بكل هذا ال ّنهم
أحاول أن أفهم ما الذي أثاره فجأة من جديد ،ليجتاحني ّ
أحب كرم رجولته ،وأخال ق
أحب .بقدر ما ّ أتأمله في انشغاله بي ،لم يكن جسده هو ما كنت ّ
جسده.
يعوض عن نقصانه
الحب .كأنه ّ
ّ السخي ،الذي يعطي ويعطي كما هو
ّ كان لجسده ذلك الحضور
ثم يأخذ ويأخذ كما هي ال ّلهفة.
بالعطاءّ .
بكل شيء.
وكانت له تلك الرجولة التي تحسن التواضع أمام األنوثة ،وكأ ّنها مدينة لها ّ
ضمني إليه وقال:
فجأة ّ
-سأعترف لك بشيء ..ال تضحكي منه!
وقبل أن أجيب واصل:
ي .تقاسم معي
يوما ..وغرت من كائن حبر ّ
تصوري لم أغر من زوجك ً -حدث أن غرت من زيادّ .
بطولة ذلك الكتاب .ما زلت أشعر أ ّنه وجد ح ّقا في حياتك .وأ ّنه سبقني إلى جسدك.
أضحك ..أقول:
الحب الثالثية
ّ أحب قصص أبدا .لقد أوجدته ،أل نني ّ
ّ -أيها المجنون ..هذا الرجل لم يعد يوجد ً
كثير من البساطة والسذاجة التي ال تليق برواية .ولذا
الحب الثنائيةً ،ا
ّ األطراف .وأجد في قصص
الحب
ّ ألن هذا هو منطق
كان يلزمني رجل يعيش بمحاذاة تلك القصة ،قبل أن يصبح هو بطلهاّ .
دائما برقم.
في الحياة ،نحن نخطئ ً
بحب
قدرا مطاب ًقا لقدره .حتّى إنني أحفظ أشعاره .ما زلت أحلم ّ
-وبرغم هذا أحسده .كنت أريد لي ً
كبير ..بقضية كبرى ،وبموت جميل.
-ولكن انتهى زمن الموت الجميل .لم يعد بإمكان أحد اآلن حتّى في رواية ،أن يموت في معركة
كبيرة .لقد أفلست جميع قضايانا ،ولذا أحببت أن يموت زياد أثناء االجتياح اإلسرائيلي لبيروت.
غزة .لو عاش ،لدخل اليوم مباشرة إلى سجونها .أو انتهى
تصور ،هو الذي كان يحلم بالعودة إلى ّ
ّ
المس بأمن إسرائيل .كم من
ّ شرطيا فيها ،يقوم بسجن وتعذيب فلسطينيين آخرين بتهمة
ً به األمر
األوهام ماتت معه .فبعده ،لم يعد ثمة شيء اسمه فلسطين ..سعيدة أنا من أجل الذين سيأتون
أعمار لن ينفقوها في أوهامنا.
ًا بعدنا :لقد وفرنا عليهم
يصلح من جلسته .يترك رأسي على كتفه ،ويشعل سيجارة.
ال:
يباشر بتدخينها في بطء قائ ً
-دعينا من فلسطين ..أجيبيني :هل أنت سعيدة معي ؟
أرد عليه أقول:
يفاجئني سؤاله .ال أدري كيف ّ
إن
-حين نكون تعساء ندرك تعاستنا .ولكن عندما نكون سعداء ،ال نعي ذلك إال في ما بعدّ .
السعادة اكتشاف متأخر.
ساخرا:
ً يرد
ّ
-أيجب أن أنتظر الكتاب القادم ،كي أعرف إن كنت سعيدة معي؟
أرد ضاحكة:ّ
مرة إ ّال
طبعا ال ..بإمكاني أن أجيبك اآلن .ولكن في الواقع تعلّمت أن أخاف السعادة .ما اكتشفتها ّ
ً -
وفقدتها.
يجيب:
وكل األشياء
الحبّ ..
أن ال ّلذة نهب ،والفرح نهب ،و ّمهددة .أن تعي ّ
-ولذا عليك أن تعيشيها كلحظة ّ
الجميلة ،ال يمكن إال أن تكون مسروقة من الحياة ،أو من اآلخرين .فالمرء ال يبلغ المتعة إال
كل ما سطا عليه.
ويجرده من ّ
ّ سارقًا .في انتظار أن يأتي الموت،
أقول:
-أنت تذ ّكرني بفيلم "حلقة الشعراء الذين اختفوا" .أتذكر ذلك المشهد األول ،عندما تحلّق الطلبة
الصف ،لطلبة سبقوهم منذ أجيال إلى ذلك
ّ حول األستاذ ،ليتأملوا الصور المع ّلقة على جدران
المعهد .عندما كان األستاذ يردد "تأملوا هيأتهم وشبابهم الذي يشبه شبابكم اليوم .إنهم يقولون
لكم ..استفيدوا من اليوم الحاضر ..لتكن حياتكم مذهلة ..خارقة للعادة ..فذات يوم لن تكونوا
شيئا"..
ً
يعلّق دون اهتمام:
ال..
أتوقع أن يكون المشهد جمي ً
-أنا لم أشاهد هذا الفيلم ..ولكن ّ
أسأله دهشة:
-أح ًقا ..أنت لم تشاهد هذا الفيلم؟
متعجبا من نبرتي:
ً يجيب
-أكان يجب أن أراه؟
شيئا أبرر به اندهاشي أمام هذا االكتشاف سوى كلمات مرتبكة:
وال أجد ً
عدة جوائز..
-توقّعت أن تكون شاهدته ..فقد حصل على ّ
وأعود إلى صمتي .أستعيد قصتنا منذ البدء .أحاول أن أفهم :إن لم نكن قد التقينا في ذلك
العرض ،فمنذا ا لرجل الذي يا ترى جلس إلى جواري في ذلك اليوم ..بالعطر نفسه ..والصمت
نفسه؟
كل صوب .عندما قطع تفكيري قائالً كمن يعتذر:
كانت األسئلة تذهب بي في ّ
علي أثناء زيارتي إلى قسنطينة أن أرافقه إلى
الحق عن هذا الفيلم .وعرض ّ
ّ حدثني عبد
ّ -
مشاهدته .كان يريد أن يكتب عنه مقا ًال للجريدة .ولك ّنني شغلت ذلك اليوم بأمور أخرى .فذهب
لمشاهدته بمفرده .من المؤ ّكد أ ّنه ال يزال يعرض في قاعات بالعاصمة .سأحاول أن أحضره هنا،
مشهدا
ً كل واحد منكما وهو يروي
حتّى يصبح بإمكاني أن أتحدث معكما عنه ،بدل االستماع إلى ّ
من الفيلم .
ثم يواصل وهو يمرر يده على شعري:
ّ
-أيسعدك أن أراه؟
خده:
أجبته وأنا أضع قبلة على ّ
حتما.
ً -
شيئا إلى ما قلته.
الحق" .فلم أضف ً
ّ بدا لي فجأة أنني أستعمل معه لغة "عبد
حتما -إلى أسئلتي!
بعد قليل ،كنت أغادره .كان هو يعود إلى حداده .وأنا أعود – ً
***
ما كدت أخلو بنفسي ذلك المساء ،حتّى فتحت الدفتر األسود .متصفحة قصتي مع ذلك الرجل ،كما
يوما بعد آخر ،على ذلك الدفتر.
كتبتها ً
رحت أستعيد بداياتها ،أتوقف عند منعطفاتها ،عساني أفهم ،كيف ولدت هذه القصة .ومن أين
جاءني هذا الرجل؟
كل مقالبي ،ويعيش داخل
كل أسئلتي ،وينجو من ّ
تمكن خالل ثمانية أشهر أن يتهرب من ّ كيف ّ
ثم يفاجئني بالحقيقة عندما يشاء هو.
متنكر في رجل آخرّ ،
ًا هذا الدفتر،
ولكن ّأية حقيقة؟ أتلك التي باح لي بها؟ أم األخرى التي ال يعرفها هو نفسه ،والتي أوصلني إليها
كالما سابقًا له" :ليس ثمة من حقيقة واحدة .الحقيقة ليست نقطة ثابتة.
مؤكدا ً
ً دون أن يدري،
إنها تتغير فينا وتتغير معنا .ولذا لم يكن ممك ًنا لي أن أدلك إال على ما ليس الحقيقة".
ي وذاكرة مشتركة،
أيضا أصبح وسط التساؤالت ،حقيقة متحركة .في الواقع ،كان لنا زمن سر ّ
حبه ً
معا ،حتّى قبل أن نلتقي.
بالحب ،عشناه ً
ّ لشيء شبيه
صدقته ،ونسيت من انبهاري
حب هو الذي يأتيك أثناء بحثك عن شيء آخر" وأنا ّ
هو قال "أجمل ّ
به عن أي شيء بالتحديد كنت أبحث يوم صادفته.
ها هوذا اليوم ،في دوره األخير ،يصبح قارئي.
كل هذا!؟ ٍ
بكاتب ّ فكيف يمكن لقارئ أن يفعل
السرية للمشاعر.
ّ تدخل البعد الّالعقالني في السلوكات والقرارات اإلنسانية .وتذهلني الحياة
يربكني ّ
نحب .وانما
الحب ،ال عالقة له بمن ّّ إن وقوعنا فينفسيا ،يقول ّ
ً يوما بحثًا
أذكر أنني ،قرأت ً
توا من وعكة
لتصادف مروره في حياتنا بفترة نكون فيها دون مناعة عاطفية ،ألننا خارجون ً
رشحا" بين فصلين!
حبا" كما نلتقط" ً عشقية" .فنلتقط ً
ّ
مرضي.
ّ الحب عارض
ّ أن
واستنتجت يومها ّ
الحب" جاء فيه أننا نرتكب أكبر حماقاتنا في الصيف ألن
ّ طبيا عن "كيمياء
ثم قرأت بعد ذلك مقا ًال ً
تغير مزاجنا .ولها تأثيرات غريبة في تصرفاتنا :فأشعتها تخترق بشرتنا وكرياتنا الدموية..
الشمس ّ
أي شيء.
فتعبث بجهازنا العصبي ،وتحولنا أناسا غريبين بإمكانهم فعل ّ
الحب إذن حالة موسمية.
ّ وقلت..
تغير عالقتنا مع األشياء ،وتجعلنا نرتكب خطايا ،دون شعور بالذنب .ألن
أيضا ..أن الكتابة ّ
وقرأت ً
أن
نصا بدأت كتابته في كتاب .و ّ
تداخل الحياة واألدب يجعلك تتوهم أحيا ًنا أ ّنك تواصل في الحياةً ،
شهوة الكتابة ولعبتها تغريك بأن تعيش األشياء ،ال لمتعتها ،وانما لمتعة كتابتها.
واستنتجت أن مشكلة الكاتب أنه ال يقاوم أحيانا شهوة الخروج عن النص ،والتورط األدبي مع
الحياة ،حتى في سرير.
وهكذا بعد شيء من التفكير ،توصلت إلى كون ما حدث لي ال عالقة له بالمنطق .وانما بتصادف
عدة شروط ال منطقية.
ّ
عاطفية ،وانشغالي بين
ّ مستفيدا من فقداني ألية مناعة
ً فقد دخل هذا الرجل حياتي ذات صيف،
عدة ظروف استثنائية.
وحبه ليس إال تصادف اجتماع ّ حب وهمية ّ .
فصلين ،بكتابة قصة ّ
في الواقع ،من كثرة ما قرأت ،اكتشفت أن مصيبتي هي في كوني لست أمية .فكم من األشياء قد
تحدث لنا بسبب ما نق أر..
ذلك أن ثمة قراءات تفعل بنا فعل الكتابة ،وتوصلنا إلى حيث ال نتوقع.
الصحافي "ماذا كنت تعني عندما
ّ صحفية للكاتب األرجنتيني بورخيس سأله فيها
ّ وأذكر مقابلة
كثير "فأجاب "كنت اقصد ألنني
سئلت مرة عن حياتك فقلت "حدثت لي أشياء قليلة ..ولكنني قرأت ًا
كثيرا ..حدثت لي أشياء كثيرة".
قرأت ً
وأنا التي كنت أحلم بكتابة كتاب واحد ،يمكنني بعده أن أموت "كاتبة" ،كتاب يتدخل في حياة
حد منعه من النوم ،وجعله يعيد النظر في حياته ،ها أنا ُوفّقت على األقل مع قارئ واحد .
القارئّ ،
أسا على عقب.حد إدهاشي ،وقلب حياته وحياتي ..ر ً من اندهاشه بكتاب ،تطابق مع بطلي ّ
كثير قبل أن يكتب قصة.
أن على الكاتب أن يف ّكر ًاوهكذا أصبحت خالصتي في النهايةّ ،
ففي ّأية لحظة ،قد تأخذ الحياة قصته مأخذ الجد ،وتعاقبه بها ،أو تعاقب ذلك المسكين الذي وقع
ط الفاصل بين الوهم والحياة.
تحت سطوة الكلمات ،ولم يعد يدري وهو يقرأها ،أين يقع الخ ّ
حب يائس ،أصبح ألوف من شباب أوروبا
ليصور فيه قصة ّّ عندما كتب غوته كتابه "اآلم فرتر"
يرتدون ثيابا مثل بطله فرتر ،ويتصرفون مثله في المجالس .ويحملون تحت إبطهم مثلما كان
وجه إليه النقاد الّلوم ألنه
يفعل ،ديوان هوميروس .وكثير منهم أقدموا على االنتحار مثله ،حتى ّ
زين لهم االنتحار.
والواقع أن غوته لم يزين لهم الموت ،بل زين لهم الحياة بين دفتي كتاب .في تلك المساحة
المخصصة للحلم والوجاهة ،والتي اسمها "األدب".
كاتبا ،حتى تتوهم أنك بطل من أبطاله ،فأين العجب في أن يحب
تحب ًواذا كان من المعقول أن ّ
يوما في
حتما سيلتقي به ً
كاتب بطل من أبطاله ،حتى يتوهم بدوره ،أنه موجود في الحياة ،وأنه ً
كثير من األخبار ،والذكريات!
مقهى ..ويتبادالن ًا
***
عودة أمي ،أعادت إلى الحياة وجهها الطبيعي ،وأخرجتني لوقت من أسئلتي الدائمة .فقد جاءت
ومعه ا أخبار عن عرس أتوقع أن تحدثني عنه كثيرا في المستقبل فهي تؤكد أن شروط االنفجار
جاهزة بين الزوجتين األولى والجديدة.
أتسلى باالستماع إليها وأنا أعرف مسبقا المنحى الذي سيأخذه حديثها .فهي على يقين ثابت من
أن ضرتي هي سبب عقمي ،وبعض ما حل بي وهو ما ال أصدقه.
طبع ا،لم يكن سهال أن أتقبل فكرة مقاسمة رجل مع امرأة أخرى بل كان بإمكاني أن أشترط طالقه
منها .فقد كان يريدني وقتها إلى درجة الرضوخ لكل مطالبي .ولكنني كنت أشفق على تلك المرأة
التي تكبرني بخمس عشرة سنة والتي شاركت زوجي عشرين سنة من حياته وأعطته ثالثة أوالد
قبل أن يصبح ضابطاً ،على قدر من األهمية بحيث كان البد له ككل المسؤولين من حوله أن يعيد
النظر في حياته الزوجية.
أعتقد أن استسالمها منذ البدء لألمر الواقع هو الذي جردني من أسلحتي .ال أعتقد أنها كانت من
الطيبة لدرجة التحمس لهذا الزواج .ولكنها لم تكن شريرة وال حاولت يوما أن تكيد لي.
ثم مع الوقت ولد بيننا شيء من التواطؤ النسائي الصامت ،بعد أن أدركت كل واحدة منا ،أنها ال
ّ
يمكن أن تلغي األخرى ،أو تنفرد بامتالك ذلك الرجل.
كثير ما سألت نفسي إن كنت أغار من هذه المرأة ،التي من األرجح أن يكون زوجي اآلن في ًا
بيتها ،يقاسمها سريرا ال يشغله إال نادرا ،وغالبا أثناء غيابي.
والمدهش أن الجواب يأتي دائما بالنفي .وبرغم ذلك لم يتقبل جسدي تماما فكرة وجودها .بل انه لم
يتقبل هذا ،منذ الليلة األولى.
وأذكر أنه طوال ليلة زفافي ،لم تفارقني فكرة وجودها ،وال مشهد حضورها الصامت ،في تلك السهرة
مراعاة لزوجي الذي كان يريد أن يثبت للحضور مباركتها لهذا الزواج.
ربما لذلك السبب ،صنع جسدي يومها ،حاجزا لم يستطع زوجي تخطيه ،رغم ما أوتي من إمكانيات
فحولية.
ورغم اشتهائي له ،شيء في كان ال يطاوعني ويرفض االستسالم له .خاصة أن مقاطعة ناصر
لكل احتفاالت الزواج ،قد وضعتني في حالة نفسية سيئة.
أمي تنقل لي "وقائع"هذا الزفاف الذي لم تسفر ليلته عن نتائج ترضي
تراودني كل هذه األفكار ،و ّ
كبرياء العريس الممتلئ فحولة ذكورية ،وهو ما جعل النساء كعادتهن يجتهدن في تفسير األمر.
األهم ،فكان بالنسبة إلي شعور أمي المفاجئ بالضجر ورغبتها في العودة إلى قسنطينة
ّ أما الخبر
في أقرب وقت.
خبر تلقيته بمذاق سابق للحزن ،أسرعت بإخفائه عنها.
فقد تعلمت أن أخفي عنها حزني وفرحي ،حتى ال أجد نفسي مجبرة على شرح األول ،أو على
تبرير األخير .فلم تكن لنا يوما المقاييس نفسها للسعادة.
السعادة ،ذلك العصفور المعلق دوما على شجرة الترقب ،أو على شجرة الذكرى .هاهو على وشك
أن يفلت مني اآلن أيضا .وألنني أدركت ذلك بدأت أعيش ذلك الحب ،بشراسة الفقدان.
أحب
مهددا ،علمني الموت من حولي أن أعيش خوف اللحظة الهاربة ،أن َّ
ً عمرا
كالذين يعيشون ً
هذا الرجل كل لحظة ..وكأنني سأفقده في أية لحظة ،أن أشتهيه ،وكأ ّنه سيكون لغيري ،أن
أنتظره ..دون أن أصدق أنه سيأتي .ثم يأتي ..وكأنه لن يعود ،أبحث لنا عن فرحة أكثر شساعة
وداعا.
ً من موعد ،عن فراق ،أجمل من أن يكون
غير أنه كان يبدو فجأة غير مبال بمداهمة الحياة لنا ،بل إنه كان يملك من ترف الوقت ،ما جعله
سيرا
ي على بعد نصف ساعة ً
يصر على أن ال يكون موعدنا األخير في بيته ،وانما في مطعم بحر ّ
ّ
على األقدام من بيتي.
لوداع ،وال لموعد
ٍ أن هذا المكان ال يصلح
وعبثاً حاولت إقناعه بأننا قد ال نلتقي قبل زمن طويل ،و ّ
أخير .ولكنه كان يجيب":سيكون لنا هناك موعد أجمل".
***
التقينا.
في مقهى ارتجله الحب لنا ،كان هنا .هو والبحر ..وطاولة صيف مسائية..
وتنهدات األمواج بيننا.
هو وأنا ّ
قلت عاتبة:
-كان بإمكاننا أن نلتقي عندك .لماذا أصررت على تبذير ثروة الحلم أمامي ؟
أجاب دون أن يتوقف عن التدخين:
-تبذير الحياة ..هو أيضا جزء من الحياة.
-ولكنني أريدك ..وقد ال نلتقي قبل زمن طويل.
وضع بيننا كعادته منفضة الصمت .وأعقاب جمل لم تكتمل ثم قال:
-لفرط ما أردتك أفهم معنى أن تريديني .ولكن ال بد أن نتعود الحرمان ،حتى عندما نكون معا.
-ولكن لماذا؟
-ألن قدرنا أن ال نكون معا دائماً.
تعدني لكل هذا األلم ؟
إلي إذن كل تلك المتعة ..إذا كنت ّ
-لماذا أهديت ّ
البد أن نريده ،أن
أعدك لمتعة أجمل .قبلك لم يكن الحرمان جميال .ألنه لكي يكون كذلكّ ،
-أنا ّ
سرياً بين اثنين .وقتها فقط يغير اسمه ،تصبح له تسمية أجمل.
يكون تواطؤا ّ
يسألني بعد شيء من الصمت:
-أتعرفين ما اسمه؟
أقول دون تفكير:
-ال
يجيب:
-يصبح اسمه الوفاء!
تترك الحروف خلفها ذيال من الدخان الذي ينفثه بكسل نحوي.
أجيب:
-أنا أفهم تماما ما تقول .ولكن ،أال تعتقد أنك تزايد على القدر ،وتعاقبنا أكثر مما عاقبتنا الحياة؟
يرد:
-ما أعتقده هو أنك كنت دائما الطفلة المدللة للحب .أتوقع أن يكون قد منحك دائما ما أردته دون
جهد .ثمة أناس لهم تلك القدرة الخرافية على المشي فوق قلوب اآلخرين ،دون شعور بالذنب.
أتمتم:
-ألهذا..؟
يقاطعني:
-ال..ليس لهذا أعاقبك اليوم بالحرمان .واال أكون أعاقب نفسي بك.ولكن جميل أن يروضك رجل،لم
يفهم قبلك في الخيول..
وقبل أن أنطق يقول:
-أتدرين ..مع الخيول الوحشية ،األصعب دائما هو لحظة االقتراب منها .أما ترويضها بعد ذلك
فهو قضية وقت .ولهذا أوجد رعاة البقر لعبة الروديو ،التي يتنافسون فيها على عدد الدقائق التي
يبقون فيها على ظهر حصان وحشي ،قبل أن يرمي بهم أرضا ،لتتهشم عظامهم عند أقدامه .ففي
دقائق قد يربحون حصانا ،كما أنهم قد يخسرون حياتهم في دقائق!
ثم واصل وهو ينفض دخانه ببطء في المنفضة ،دون أن تغادرني نظراته:
ولذا عكس ما تتوقعين ،لم أربحك في موعدنا األخير ،وانما في موعدنا األول .في تلك الدقائق
القليلة التي سألتك فيها في مقهى "الموعد" ،إذا كنت تسمحين لي بالجلوس .وكنت على وشك أن
تقولي "ال" .ولكنك قلت "طبعا" .ولم أكن أملك بعد ذلك سوى حبل الكلمات ألطوقك به ،وأوقف
جربت رعب االقتراب من فرس.
ي .يومها فقطّ ..
جموحك الفطر ّ
-ثم..؟
بعضا
-ثم ها نحن معا أمام امتحاننا األصعب .عكس موعدنا األول ،لسنا نحن الذين نختبر بعضنا ً
اليوم ،أو نقيس استعدادنا للصمود في وجه الحب ،أو قدرتنا على اإليقاع بغيرنا .إنما الحياة هي
التي تختبرنا معاً ،وتختبر الحب بنا .ولكي ننجح علينا أحيانا أن نتساوى بالعشاق المفلسين ،أن
نتخلى عن ترف تملكنا لمفاتيح شقة .ونعيد للحب جماليته ..واستحالته األولى.
-جميل ما تقوله ..لوال أنك تجرب فينا نظريات في الحب ،ال يمكن أن تنطبق على واقعنا .أنت
تنسى وضعي االجتماعي ..وتنسى أنني موجودة معك هنا خلسة ..ومجازفة.
-لم أنس هذا .ولكن أنت نفسك قلت إنك ال تعيشين حبنا بخجل ،وانك تكرهين العالقات المستترة
ظل الشوارع الخلفية .فامنحي حبنا شرعية الضوء ،وشيئا من الكرامة التي تخرجنا
التي تعيش في ّ
السراقين.
من صنف ّ
-وماذا لو رآنا أحد معا؟ كيف أدافع عن تهمة معرفتي بك ..أو وجودي معك هنا؟
يقاطعني:
-تدافعين عن هذه التهمة! أي تهمة؟ وأمام من؟ أمام زوجك؟ وهو أحد المتهمين في هذا البلد!
الذي أعجب له األكثر ،أن يكون الحب هو الفعل الذي يحرص الناس على إخفائه األكثر ،والتهمة
التي يتبرأون منها بإصرار .ما عدا هذا ..فبإمكانك أن تكون مجرما أو سارقا وكاذبا وخائنا وناهبا
ألموال الوطن ..وتفرد ما سطوت عليه أمام الناس دون خجل ،وتواصل حياتك بينهم محترما.
أليس األمر مدهشا؟
يضيف متذمرا:
-بين الذين أهدروا ماضينا ،والذين يصرون على إهدار مستقبلنا ،بين الذين أفرغوا أرصدتنا،
وأولئك الذين سطوا على أحالمنا ،نظل نحن أثرياء الحب أشرف من غيرنا.
يواصل وهو ينفض سيجارته بشيء من العصبية:
عرف اإلنسان بما فقد وليس بما يملك .فنحن دائما
-مذ شلّت ذراعي ،تعلمت شيئا :األجدر أن ُي ّ
نتيجة ما فقدناه .ولكن ال أحد يسألك عن الذي فقدته؛ هم يسألونك فقط عما تملك و ِ
أنت نفسك ،لم
تسأليني يوما كيف فقدت ذراعي ،ومتى شلّت ..وكيف ؟ أال يعنيك أن تعرفي هذا ؟
أقول معتذرة وقد باغتني بسؤال لم أجرؤ على طرحه:
-توقعت أن يكون في األمر إزعاج لك.
يقول بسخرية المرارة:
-ولم يخجلني أمر لست فاعله؟ أتعرفين قصة بيكاسو ،عندما رسم لوحته الشهيرة "غرنيكا" مصورا
فيها خراب تلك المدينة على أيدي الفاشيين .فجاء منهم من يسأله "أنت الذي فعلت هذا؟" فرد
عليهم بجوابه الشهير "ال ..بل أنتم " .لو سألتني ألجبتك مثله" :لست أنا ..بل هم".
لم أفهم من كان يقصد بالتحديد.سألته:
-ومتى كان هذا..؟
أجاب وهو يسحب سيجارة جديدة ،ويشعلها ببطء من يشعل فتيلة الذكريات:
-حدث هذا أثناء أحداث أكتوبر .1899كنت وقتها أعمل مصورا صحافيا .فذهبت أللتقط صورا
لتلك التظاهرات التي اجتاحت فيها الحشود الشوارع دون سابق قرار .وكان شيئا مذهال ذلك الذي
شاهدته :سيارات مسرعة ..وجوه مرعبة وأخرى مرعوبة ،رصاص طائش وصدور تتلقى قدرها بغتة.
مدينة تحكمها الدبابات .كل شيء قائم فيها قد أصبح أرضا ،حتى أعمدة الكهرباء.
بشريا أمام اآلف الشبان الذين راحوا يكسرون في طريقهم كل شيء
ً كان العسكر يضعون حاجزا
يرمز إلى الدولة ،ويوجهون رصاصهم تارة في الهواء وتارة وسط الناس إلخافتهم دون جدوى.
بينما احتل جنود سطوح المباني الرسمية .أذكر أني حاولت أن ألتقط صورة لعسكري وهو يقف
على مبنى مقر الحزب ،موجها رشاشه نحو الشارع ،وخلفه علم الجزائر .عندما انطلق رصاص من
ذلك المبنى ،واخترق ذراعي اليسرى .ولم أدر إن كان العسكري قد اشتبه في أمري عندما رفعت آلة
تصويري وتوقع أنني أرفع سالحا أم أنني تلقيت رصاصا طائشا كان موجها إلى أي شخص.
ثم واصل بنبرة غائبة:
تصوري تلك اللحظة التي نزلت كي أصورها ،وتختزنها آلة تصويري اختزنها جسدي إلى األبد.
ّ -
وأصبحت ذاكرة جسد ،أتقاسمها مع مئات الجرحى والقتلى الذين سقطوا في تلك األحداث.
مرة أخرى فاجأني هذا الرجل بقصة لم يكن مقررا أن يقصها علي اليوم بالذات في هذا المكان وهذا
الظرف بالذات.
وكعادته أجابني عن السؤال الذي عدلت عن طرحه لفرط ما طاردتني عالمات استفهامه.
تأملته وهو يفك آخر زر في هذا المعطف الكثير األزرار ويحل آخر لغز في تلك الفوازير التي
شغلتني عدة أشهر وكأنه بلغ حالة تعب من المراوغة وقرر أن يهدي إلي أخيرا الحقيقة
***
الوقت مطر..
غيمة تغادر الهاتف .وتأتي كي تقيم في حقيبتي .وخلف نافذة الخريف ،مطر خفيف ..يطرق قلبي
على مهل.
الوقت قدر..
ال أزرار الذكرى .يغلقها أيضاً بإمعان ،حتى ال يتسرب الملح إلى
يغلق البحر قميصه .يتفقد لي ً
الكلمات.
ثم يرتدي صوته األجمل .يدير أرقام هاتف ..يسأل:
وتجيب امرأة:
-ألو نعم!
الوقت ألم..
لماذا نحن نقول دائما"نعم" عندما نرد على الهاتف ..حتى عندما يكون الوقت "ال"؟
الوقت" ال"..
في بهو الحزن الفاخر ،تعلّمي االحتفاء ليالً باأللم ..كضيف مفاجئ.
هو ألم فقط ..فال تستعدي له كما لو كان دمعك األول.
متأخر هذا البكاء ،لحزن جاء سابقا ألوانه ،كوداع.
ّ
فالوقت وداع..
يقول الحب :ألو" ..نعم"
وتجيب الحياة :ألو "ال" .والملح يتسرب عبر خط الهاتف يجتاحنا .بين استبداد الذاكرة ،وحياء
الوعود .تتابع األشياء رحلتها ..دوننا.
***
فجرا ،قبل أن يستيقظ البحر ،ويستبقيني بدمعة.
أغادر سيدي فرج ً
له كل ذلك الموج ،ولي الملح ،وطائرة تنتظر.
عندما جئت إلى هنا منذ أسبوعين ،كان بودلير يرافقني بتلك المقولة الجميلة ،التي كانت تستبقه
إلى كل سفر "الشهوة تناديني ..والحب يتوجني".
عية تناديني ..وقسنطينة تنتظرني .والحياة التي استغفلتهااآلن ،أترك عرش الحب خلفي .فالشر ّ
وخرجت على قانونها ،تعيدني إلى بيت الطاعة ،متوج ًة ببريق الذكريات.
أعود إلى قسنطينة ،متحاشي ًة النظر إلى هذه المدينة.
كنت أتمنى لو أراها بعيون بورخيس عندما يرى بوينوس آيرس بعينين فاقدتي البصر .عساني
أحبها دون ذاكرة بصرية.
ّ
لنتعرف مدناً لم نعد لفرط رؤيتها نراها.
أحيانا يجب أن نفقد بصرناّ ،
هنا شوارع نخاف من عيون عابريها ،مطاعم ال نجرؤ على ارتيادها ،بيوت ال يمكن أن ندخلها
معا.
هنا ..مدينة ال تعترف بالحب ،إال في أغاني "الفرقاني" .ال تغادر بيتها إال لتذهب إلى المسجد ،أو
إلى مقهى .ال تفتح نافذة إال لتطل على مئذنة.
وأنا جئتها بأعراض عشقية ،وكلمات اسخيليوس في مواجهة أثينا:
" يا سيدتي ..تخلي قليال عن اآللهة .واعطيني شيئا من شقائك العظيم"..
شقاء من عاشق في قسنطينة؟
ً وهل أكثر
زوجي قابلني بلطف مثير للشبهات ،أو ربما أنا التي كنت أبالغ في تضخيم أخطائه .بل أتربص
بها ،ليمكنني فيما بعد ،المبالغة بعدم الشعور بالذنب تجاهه.
بدا لي سعيدا بعودتي .أو ربما كان سعيدا ،ألسباب أخرى .فمذ جاء بوضياف ،عاد شيء من
األمان إلى قلوب الناس .وعادت الحياة الطبيعية إلى المدينة .ومعها تلك الحمى التي تسبق
الصيف دائما ،وتذهب بالعائالت أفواجا إلى مروج عين الباي ،وجبل الوحش.
وبدأ الناس يجرؤون أخيرا على ا لقيام بمشاريع قريبة أو بعيدة األمد ،مراهنين على خروج البالد
من النفق.
هذه الطمأنينة المباغتة ،جعلتني أتعلّم االستكانة إلى الوقت والمكان ،واثق ًة بكالم ذلك الرجل.
تراني تعلمت منه التفاؤل ..أم تعلمت التريث؟ حتى إنني كثيرا ما قاومت تلك الرغبة التي تستيقظ
داخلي ،وتغريني بالتحري لمعرفة من يكون عبد الحق.
ماكان يربكني هو كوني حيث كنت ،أواصل العيش بمحاذاته مادمت حتى هنا ،أتقاسم معه المدينة
نفسها.
أحياناً ..كانت تذهب بي األحالم ،فأتصور مكاناً قد يجمعنا مصادفة ،قد ال يتعرف إلي ،برغم أنه
القصة مادام هو الذي أهدى تلك الرواية لصديقه وأوصله دون أن
ّ قرأني ،بل كتبني طوال هذه
إلي.
يدريّ ..
علي .لو أنا أخذته معي .أما أنا فسأستدل عليه بصمته ،أو بتلك
وحده كتاب هنري ميشو قد يدله ّ
الكلمات القليلة التي كانت ميزته ،والتي كعطره ،سربها لصديقه.
سأسأله:
-هل عرفتني؟
وسيجيب:
-طبعاً.
أو قد يجيب:
حتما.
ً -
...الكلمتين الوحيدتين اللتين قالهما يوم جلس إلى جواري في قاعة السينما.
عندها سأعترف له:
-اشتقتك ..أتدري روعة أن نشتاق إلى شخص لم نلت ِ
ق به؟
كنت أحلم ،أتصور لنا أكثر من بداية .وأتصور لي أكثر من طريقة للعثور عليه .ثم أعدل عن
بكل حذافيرها.
أكرر معه مغامرتي مع صديقه ّ
أفكاري ،وأنا أتذ ّكر أنني ّ
أيضا ،أنا أمام رجل ال أعرف اسمه .فعبد الحق ليس اسما عائلياً ،وال يكفي للعثور على
هذه المرة ً
صحافي ،ال أدري في أية جريدة ..وال بأية لغة يكتب ،وال بأي اسم يوقع مقاالته ،في زمن أصبح
فيه لكل صحافي اسمان.
في الواقع ،كان يسعدني أن يكون هذا الرجل ،ال أحد.
رجل ال اسم له بالتحديد .ال أوصاف ،ال صفات مميزة ،وال أوراق ثبوتية.
جمالية تفوق فرحتنا بمعرفة الحقيقة.
ّ أن في ما نجهله
فقد تعلمت من تجربتي السابقةّ .
الحق للحياة ،تتدبره كما تشاء .حتى ال أفقد عنصر
ّ قررت أن أترك موعدي مع عبد ولذاّ ،
المفاجأة ..وحتى ال أستعجل الخاتمة.
فعندما نعثر على الشيء الذي بحثنا دائما عنه ،تكون بداية النهاية.
أما السبب األهم لعدولي عن البحث عنه ،فهو كوني كنت أجد في انشغالي الدائم والالشعوري به،
شيئا من الخيانة المستترة ،لذلك الرجل الذي قضى موعدنا األخير ،في إقناعي باإلخالص ،وكأنه
ً
لحب صديقين في
كتاب ،ما يكفي ليحذر نزعتي ّ كان يستبق األحداث ،أو كأنه كان يعرف عني في ٍ
الوقت نفسه.
ألهذا أعطاني من شراسة الحب وتقلباته ،كما لو كان أكثر من رجل .وقال وهو يودعني على
ألرد عنك خطره".
الحبّ ..
ّ الهاتف ذلك االعتراف الذي ألمني" :ال أملك إال
ما كدت أذكره ،بذلك القدر من التفاصيل ،حتى عاودتني حالة من االشتهاء له ،حاولت أن أهرب
منها إلى الكتابة .ولكن..
لليد ذاكرة ال تنفك تطاردك بالسؤال عن جسد الفقدان .وأنا ما زلت ال أفهم ،كيف أن جسده الذي لم
يكن األجمل ..أصبح األشهى إلى ح ّد إرباك سكينتي ،ومنعي أليام من الكتابة.
***
مر شهران..
كنت خاللهما أكتفي بوجبات األحالم ،ورشفات حبر سريعة ،وأترك لآلخرين والئم الضجر ..وقهوة
النميمة.
فن هدر الوقت والجلوس
التوحد مع الماء .وأنا لم أتقن يوماًّ ،
ّ فمنذ األزل ،كانت عقدة النار ،كيف
وكن خادمات لدى الفرح.إلى النساء .كنت سيدة الحزنّ ،
وأذكر اآلن ،تلك المقولة الجميلة "إن عظمة النار في كونها تحرق..وتحترق".وأفهم لماذا ،كنت
منذ األزل ،ال أجالس غير الرجال.
فمع النساء لم أكن أحرق سوى أعصابي!..
وبرغم ذلك ،قبلت يومها ،حضور دعوة لدى إحدى القريبات ،احتفاال بنجاح ابنتها في امتحان ما.
كنا في نهاية حزيران .وكانت النساء من حولي يتبادلن أحاديث حول قهوة ..وأصناف من الحلوى.
وكنت أهرب من ثرثرتهن ،وأسترق النظر أحيانا إلى جهاز التلفزيون الذي كان مفتوحا ..لمزيد من
الضجيج.
رحت أتابع بين حين وآخر ،خطاب بوضياف الذي كا ن التلفزيون ينقله مباشرة ،من دار الثقافة في
ألول مرة ،دون أن أدري أنني أتأمل ذلك
بتأملهّ ،
عنابة .ولكن،لم يكن يصلني منه الكثير فاكتفيت ّ
الرجل في حضوره األخير.
حتى دون صوت ،كان بوضياف يخترقك بعينين حزينتين ،لهما ذلك الحزن الغامض ،الذي يجبرك
على أن تثق بما يقوله.
تدرب الوطن على الغدر منذ األزل .عينان تغفران وتنسيان ،مذ داهمهما حزن
عينان تعرفان ّ
المنافي ،واحساس عميق بخيانة الرفاق.
فلم يعد يغادرهما حزنهما وال عادتا تقويان على الضحك.
وكان بو ضياف في وقفته األخيرة تلك موليا ظهره إلى ستار القدر ..أو "ستار الغدر".
وبريئا.
ً يبدو واثقاً وساذجاً وشجاعاً،
فكيف ال يحصل له..كل الذي حصل؟
ال أدري عن أي شيء كان يتحدث لحظتها .أذكر أن آخر كلمة قالها كانت" اإلسالم..".
وقبل أن ينهي جملته ،كان أحدهم ،من المسؤولين عن أمنه ،يخرج إلى المنصة من وراء الستار
دويها الحضور ينبطحون جميعهم
الموجود على بعد خطوة من ظهره ،ويلقي قنبلة تمويهية ..جعل ّ
أرضا.
ً
ثم راح يفرغ سالحه في جسد بوضياف ،هكذا مباشرة أمام أعين المشاهدين ،ويغادر المنصة من
الستار نفسه.
كنا في التاسع والعشرين من حزيران.
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وسبع وعشرين دقيقة.
وكانت الجزائر ..تتفرج مباشرة على اغتيال أحالمها.
كان الجميع ينتظر سيارة اإلسعاف التي لم تأت.
وكان علم الجزائر الموجود على المنبر ،قد أصبح مصادفة غطاء لرجل ينام أرضاً .جاء ليرفع
رؤوسنا ..فجعلنا أحالمه تنحني في بركة دم.
ذلك كان قدر بوضياف مع حزيران الوطن.
منذ أربعين سنة ،في الشهر نفسه ،اقتاده رفاقه إلى سجون الصحراء.
ثم جاء به الوطن ,كي يحكمه 166يوما .وها هو يكافئه ذات حزيران ..بكفن!
وابل من الرصاص ،مقابل خمسة أشهر من الحكم.
لم يمهلوه سبعة أيام فقط .كل ما كان يلزمه كي يصل به العمر حتى 5يوليو عيد االستقالل الذي
كان يريد أن يهدي فيه إلى الجزائر ،خطابه المنتظر.
فجأة ،توقف بنا القدر ،كما تتوقف عجالت سيارة في الوحل ،وهي في طريقها إلى مشوار جميل.
فقد كان كل شيء جاهزا كي ال يخلف بوضياف هذه المرة موعده مع الموت ،بما في ذلك سيارة
اإلسعاف التي أضاعت طريقها إلى المستشفى وهي تنقله ..فكان آخر من يصل من المصابين.
يوم موت بومدين ،قال بوضياف "لقد كنت دائما على خالف مع بومدين في كثير من القضايا.
ولكن عندما شاهدت جنازته شعرت بأنني ظلمته .فال يمكن لرجل يشيعه شعبه بهذا القدر من
الفجيعة ..أن يكون قد أخطأ في حق الوطن".
أولئك الذين كانوا يطلقون الزغاريد من الشرفات عند سماع الخبر ويعلنون دون خجل أمام
التلفزيون شماتتهم بموته ،ويتسابقون إلى المساجد متصدقين بوالئم "الكسكسى" احتفاال بدمه
المسفوك.
واألربعون حرامياً ،الذين كانوا يسعدون سرا ..أمام جثمانه ،ويفركون أيديهم فرحا بغنائم ،يمكنهم
مواصلة ا لتناوب على السطو عليها لسنوات أخرى ،أولئك الذين ظنوا أن جثمانه قد يمر سهوا في
غفلة من الوطن ،أن موته قد يكون حادثا ال حدثا في تاريخ الجزائر.
تراهم توقعوا له ..جنازة كتلك؟
لم أغادر يومها البيت كي أشارك في تشييعه .كان حزني أكبر من أن أتقاسمه مع أحد.
ولكن في مكان ما من أعماقي ،كنت سعيدة من أجله.
هذا الوطن الذي لم ِ
يهد إليه حياةً على قياس أحالمه ،أهدى إليه جنازة على قياس حياته.
جنازة لرجل عبر الحكم مشيا على األقدام 166 ..يوما ال غير .ولكنها جنازة ليس في متناول
أولئك الذين حكموا أوطانا ربع قرن بجيش من المخبرين ،متسلطين على شعوب طحنها الذل
األزلي.
هؤالء الواثقون من والء الدبابات لهم ،عليهم أن يجربوا الموت مرة ليختبروا رصيدهم في جنازة..
فيذهلو
***
أسبوعا بعد آخر ،موتًا بعد آخر ،كنت أعي أنني أعيش عمراً قيد اإلعداد .تصنعه تارة أحداث
ً
هامشية أخرى.
ّ كيرى ،وتارة أحداث
ألي ٍ
سبب كان ،يمكن لقدري أن يأخذ مجرى آخر. في كل لحظةّ ،
فأنا امرأة تعيش بين رجال ثالثة ،حياتهم معلقة برصاصة القدر.
ويتصرف بأعمارهم وأقدارهم أولئك الذين يهندسون الموت والرعب كل يوم في هذا الوطن ..وال
أدري متى سيسقط أحدهم قتيال بتهمة ،أو يسقط اآلخر بنقيضها .
ولذا أصبحت مسكونة دائما بهاجس ا لصدمة ،مهووسة بهذا الموت المباغت الذي أراه يحوم حول
كل من يحيطون بي.
بين أخي األصولي الذي تطارده السلطة ،وزوجي العسكري الذي يتربص به األصوليون ،وذلك
الصحفي الذي أحب ،والذي يصفي االثنان حساباتهما وخالفاتهما بدمه ،كيف يمكنني أن أعيش
خارج دائرة الذعر؟
منذ سقط بوضياف قتيال مباشرة على شاشة التلفزيون أمام ماليين الناس ،كان واضحا أن موسم
الصيد قد فتح ،وأصبح السؤال بعد كل موت ..من سيكون دوره اآلن؟
كنت أحاول أن أستعين على الخوف بالكتابة ،وغالبا بالحب ،أستعيد كل ما قاله لي ذلك الرجل
وهو يهيئني لزمن كهذا.
ولكنه هو نفس ه لم يعد هنا ليؤكد لي ذلك .منذ اغتيال محمد بو ضياف وأنا أحاول االتصال به
دون جدوى.
كان مجرد طلبه هاتفيا من قسنطينه أمرا فيه كثير من المجازفة ،وهو ما جعلني أحاول االتصال به
كلما وجدتني عند إحدى القريبات ،نظرا إلى كون هاتفي مراقبا ..بحكم أنه هاتف عسكري .وهاتف
أمي كذلك بنية التجسس على أخبار ناصر وتنقالته .وهاتف ذلك الرجل أيضا موضوع تحت
صحافيا وعضوا في المجلس االستشاري .وهو األمر الذي زاد من وحدتي
ً التصنت ..لكونه
المخفية
ّ وشعوري بأنني أعيش قدرا مضادا للحب .ليس الجانب البوليسي سوى أحد أوجهه
والمخيفة.
ذات صباح استيقظت ،وبي رغبة للتحرش بالذاكرة .كنت قد تعبت من جثة الوقت بيننا ،بعد أربعة
أشهر من الترقب .ولم أجد لي سوى مكان واحد قد يوصلني إليه ،أو إلى عبد الحق.
وهكذا أخذت أكثر قراراتي جنوًنا .لبست أكثر ثيابي احتشاما .وغادرت البيت دون زينة ..ودون
السائق .وال شي في حقي بة يدي سوى كتاب هنري ميشو "أعمدة الزاوية" ،الذي أخذته معي كي
أحتمي به من نظرات الفضول وأستعين به على انتظار قد يطول .وربما أيضا ألجعل ذلك الرجل
علي إذا ما حضر إلى المقهى ،ورآني أطالع كتابه الشخصي .وهو ما سيوفر علي ارتباك
يتعرف ّ
مبادرته بالكالم.
مشيت خطوات على قدمي .كدت أتوقف ألشتري جريدة بعد أن أصبحت قراءة الجرائد إحدى عاداتي
السيئة مثلي مثل كل الجزائريين الذين يهجمون كل صباح على الجرائد عن ضجر أو عن ذعر.
وكأن شيئا ما حدث أو سيحدث.
ولكن هذه المرة عدلت عن الفكرة ،تفاديا لما قد يلحقني من شبهات أخرى ..إن أنا رحت أطالعها
في مقهى وظن البعض أنني صحفية.
سعدت وأنا أوفّق على بعد شارع من بيتي ،بسائق أجرة .فطلبت منه بكثير من التودد إيصالي إلى
بدءا من السائق .فقد كنت
علي أن أثبت براءتي لكل من يصادفنيً ..
مقهى الموعد .شعرت أن ّ
أعي تماما أنني أقوم بعمل جنوني آخر.
في الواقع كنت أملك احتياطيا كافيا من الجنون يبدو أمامه رصيدي من العقل هزيال ،ورصيدي من
علي أي
الصبر معدوما .وكنت سعيدة أن تكون ثروتي ال تتعدى روايات أكتبها لنفسي ال تدر ّ
دخل ..ولكن يتدخل أبطالها في حياتي ..حد احتمال إيصالي إلى حتفي.
تعودت أن أنتظرهفي ذلك الطابق العلوي للمقهى ،جلست أمام أمكنة الحب الشاغرة .أترقب رجالًّ ..
بصمتي .أعبر إلى الوقت من غيابه .أتأمل طاولة في الزاوية اليمنى ،مستعيدة جمالية ألغام
الرغبة ،لحظة لقاء أول.
أكنت أنتظره حقا؟ ..من األرجح أنني كنت أنتظر صديقه بحجة أنه الرجل الذي سيزودني بأخباره..
أو سيوصلني إلى عبد الحق.
حتما ..كنت موجودة هناك من أجل عبد الحق .ولذا وضعت كتاب هنري ميشو على الطاولة..
عسى يلحظه إن هو حضر.
السفلي صخب يخفي حزن الناس ،ويأتي حتى طاولتي ليدخل الرعب إلى قلبي.
ّ كان في الطابق
كيف ال عقل يحرسني من طيش رغبات صباح بارد ،ولماذا بي افتتان برجال مجبولين بالعصيان..
وبأقدار يتعذر اإلمساك بها؟
دائما أعراض كتابة ،وتليها دائما فجيعة ما.
حب ،تسبقها ً
رحت أحاول تشخيص حالة ّ
ما الذي جاء بي هنا؟ وأي إحساس قادني هذا الصباح في هيئة ال تصلح للقاء ،وأجلسني في
مناطق منزوعة الرغبة ،مقابلة لطاولة منزوعة الشهوات؟
ٍ
بمفاجأة ما. إنها حتما حاستي الكتابية السادسة ،تلك التي ال تخطئ ..والتي تعدني اليوم
كانت األصوات الرجالية التي تصلني بأعداد أكثر كلما تقدم الوقت ،تزيد رعبي ،وال يقيني منها
سوى وجود امرأة ورجل يتحدثان في زاوية قريبة مني .ولكن هما نفسهما لم يكونا على قدر من
الطمأنينة ،فقد كانا مرتبكين ..وعصبيين.
ذلك الرعب أصبح فجأة عدوى جماعية قابلة لالنتقال من شخص إلى آخر ،ومشهدا عاديا قابال
للتضخم يوما بعد آخر .وأنت تصغر أمامه حتى تصبح في حجم حشرة ال تدري في جوف أي فريق
ستنتهي ،وفي أية وجبة سيتم أكلك .وبأية تهمة سيكون قتلك .إنه المنطق العبثي والعشوائي
للموت ،في زمن الحروب غير المعلنة ،تلك العبثية الموجعة التي اختصرها خليل حاوي في ذلك
البيت الجميل:
"كل ما أعرفه أني أموت
مضغة تافهة في جوف حوت"
أثناء ت فكيري ،جاء أحدهم وطلب من ذلك الشاب الحضور معه ..ألنهم يحتاجونه في المطبعة.
كان المسكين صحافيا إذن ..أو موظفا في جريدة .كدت احتضنه وأجهش بالبكاء ،لو ك ّنا بمفردنا.
ولكنني لم أجد في صوتي شجاعة سوى لطلب تلك الجريدة منه ..فناولني إياها ..ومضى.
لم تكن قدماي قادرتين على حملي .فعدت وجلست مكاني.
هذه المرة ..لم أكن أجالس وهما ..وانما ألماً.
مهمال كان الحزن في ركن من هذا المقهى ..حيث طاولة مغلقة على سرها كبيانو تنتظر رجال
تعود أن تأتيها ليكتب .وهي اآلن صامتة دونه .وحدها تشاركني الحداد عليه .وتسأل ..لماذا
اختارها هي دون غيرها؟
كل
كنت أحاول أن أكتشف حياته األخرى باندهاش متأخر ،كمن أحبت رجال بالمراسلة ،فعرفت ّ
شيء عنه ،ولم تمنحها الحياة فرصة التعرف إليه عن قرب .وها هي تطالع اآلن الجريدة كآالف
أبدا.
أما هو فلن يعرفها ً
القراء المجهولين الذين يكتشفون هذا الصباح موت رجل لم يلتقوا بهّ .
ّ
ي النكرة ،كيف له أن يدري ماذا فعل
دائما ،ذلك الحضور السر ّ
تلك المرأة التي كان لها في حياته ً
وتحدثت مع رجل غيره على
ّ بها موته؟ هي التي عاشت في بيته ،ونامت في سريره مع صديقه،
عطر كان له ،وتقاسمت معه في
كتابا كان يحمل هواجسه ،واستعملت ًا
هاتفه ،وطالعت دون علمهً ،
عتمة قاعة سينما ،اشتعاالً مباغتًا للرغبة ،ولحظ ة بكاء ،وتبادلت معه على بعد طاولة في مقهى،
ذبذبات حديث ال يقال إال صمتًا!
الحميمي ،على الطرف اآلخر من حياته.
ّ كل هذا ،دون أن يتوقع وجودها في عالمه
ّ
أن ثمة من أحبونا؟!
نحب ..ونعرف ّ
أنحتاج إلى موتنا كي ّ
في ذلك المساء ،حاولت أن ال أطيل النظر إلى صورته .كي ال أكتشف على شفتيه ،آثار أخر امرأة
يقبلها لو لم يمت ،فأحزن له.قبلها ،فأحزن لها ،أو تلك التي كان يمكن أن ّّ
تحاشيت عينيه اللّتين تنظران اآلن إلى مكان واحد يراه ،وشاربيه اللّذين كأحالمه ،يرفضان أن
يتواضعا حتّى بعد موته.
وبرغم ذلك ،وجدتني ،بحركة تلقائية ،أقتطع تلك الصورة ،وأخفيها بين أوراقي.
في البدء ،كنت أردت أن أقتطع تلك القصيدة ،وأحتفظ بها في الدفتر األسود نفسه ،الذي يعرف
الكثير عن ذلك الرجل ،عندما فاجأني إحساس قديم ومربك .فقد أعادتني تلك الحركة إلى طفولتي
تصدرت منذ ثالثين سنة
البعيدة ،إلى ذلك اليوم الذي اقتطعت فيه صورة أبي من الجريدة ،يوم ّ
الصفحات األولى للجرائد ،بهذا الحجم نفسه ،ولكن في حرب كان الغرباء فيها هم القتلة ،وكان
للموت فيها تسمية أجمل من الجريمة.
أجل "كل حرب تغير لبعض الوقت تعريف الموت ،وبهذا تفصل بشرخ سري بين األجيال".
هيذي تلك الصورة ،في اصفرارها ،معلقة أمامي مذ عثرت عليها ،منذ بضعة أشهر ،كما توقّفتَ
عندها نظرة أبي إلى األبد ،يفصلني عنها ..زجاج الوقت.
ويفصلها عن الوقت ،تسمية جديدة للموت.
دائما ،صورة أبي ،ولكن بحجم
وجوارها صورة عبد الناصر ذاتها ،تلك التي رافقت وجودها في بيتنا ً
قهر.
كل الميتات ..الموت ًا
دائما .وكأنها تلخص في انكسار عنفوانها موتًا أكبر من ّ
أكبر ً
وكل القضايا ،التي
كل الشهداءّ ،
لقد كانتا حتى اآلن ،تختصران في حضورهما الصامت ،صور ّ
آمنت بها منذ طفولتي األولى ،دون أن أسأل نفسي لماذا.
نتربى عليها ،وال نجرؤ على التشكيك فيها.
تماما ،كتلك المعتقدات التي ّ
ً
ٍ ٍ
وال يعنيني أن لم تعد الناصرية إال في خانة المشاعر ،أو في أسماء جيل حمل ،لمصادفة تاريخية،
اسم آخر محارب عربي ..بروح شاعر.
هل أجمل من أن يكون أبي قد أعطى البنه الوحيد اسم" ناصر" ،قبل أن يستشهد ،وأن يكون اسم
أيضا "ناصر" ..وأن يكون في مكتبة هذا الرجل كتب عن عبد
االبن البكر لمحمد بوضيافً ،
القومية؟
ّ شيئا من وهم
وطنيةً ..
ّ كل الذين يرحلون في فجيعة
الناصر ،وأن يترك لنا ّ
تفك إطار صورة .وتضع خلفها بطريقة مستترة،
كل هذه األفكار ،بينما كانت يدي ّكانت تراودني ّ
صورة أخرى ،بعد أن وجدت أ ّنه الطريقة الفضلى لالحتفاظ بها حاضرة وغائبة في الوقت نفسه،
أيضا لما قد يثيره وجودها في مكتبي من أسئلة.
وتفاديا ً
ً كما كان صاحبها،
كنت أستعين بأبي ،ألخفي خلفه رجالً أحببته .فقد كنت أدري أنه وحده هو سيتفهم هذا .فطالما
الرجال متنكرين فيه.
جاءني ّ
حب آخر.
حب خلف ّ كنت أخبئ موتًا ..بآخر .وأغطي وط ًنا بآخر .وأخفي تهمة ّ
ثانيا..
ال ً إن رجال قد يخفي رج ً
وبإمكاني اآلن أن أقول ،وأنا أرى صورة أبي على مقربة منيّ ،
ال ثالثًا ..واني وحدي أعرف ذلك!
أيضا رج ً
وربما ً
ألما
دائما الكتّاب الذين تكمن عظمتهم ،في كونهم يقولون لنا األشياء األكثر ً
في الواقع ،أحببت ً
وجدية ..باستخفاف يذهلنا.
كل شيء مأخذ عكسه ،فيتصرفون هم دائما أن أشبههم ،أولئك الرائعين ،الذين يأخذون ّ
تمنيت ً
الحب ..والخيانة ..والنجاح ..والفشل ..
وأبطالهم بطريقة تصدم منطقنا في التعامل مع الموت و ّ
والفجائع..والمكاسب..والخسارة .ولذا أحببت زوربا ،الذي راح يرقص ،عندما كان عليه أن يبكي.
وأحببت ذلك البطل في رواية "الغريب" أللبير كامو ،الذي حكم عليه القاضي باإلعدام ،ألنه لم
فيلما ..ويمارس
ي ستطع أن يبرر عدم بكائه ،عند دفن أمه .بل إنه يوم مأتمها ،ذهب ليشاهد ً
الحب رفقة صديقة جديدة.
ّ
وربما كنت ،منذ البدء ،أبحث عن مناسبة كهذه ،تمنحني فيها الحياة فرصة الذهاب بجنوني عكس
ّ
إلي إمكانية فريدة ألن أجرب في الحياة بعض المشاهد التي تمنيت بجنون الكتابة
المنطق ،وتهدي ّ
أن أعيشها ..لمتعة كتابتها بعد ذلك.
لسبب أجهله ،ليس الحزن هو الذي كان يسكنني يومها ،وا ّنما شعور عارم بالتحدي ،لم تكن
زينتي وأناقتي سوى بعض مظاهره الخارجية.
جميعا .وال أظن
ً ال أظن أنني ذهبت كذلك ألتحدى الموت .الموت قدر من اهلل نتساوى أمامه
أيضا ..أنني كنت امرأة بطلة؛ فقط ..كنت أتحدى القتلة ،شاهرة التهمتين اللتين جمعتهما :تهمة
ً
تحديا صامتًا في يدي ،ودفترا مغلفا على قصة ،الكتابة فيها
ً األنوثة وتهمة الكتابة ،تلك التي كانت
هي البطل الرئيسي .
اء على اإلطالق .ألنهما تذكير دائمفي الواقع ،في مواجهة الموت ،األنوثة كما الكتابة ،ليست عز ً
به .ولكن في مواجهة الجريمة ..ماذا يملك الكاتب عدا كلماته ..وتلك الحياة التي مذ بدأ الكتابة..
لم تعد في جميع الحاالت حياته؟
كل هذا صمتًا ،لذلك الرجل لو أنه جاء .أو ربما ،تمنيت أن يأتي ..كي نواصل
تم ّنيت أن أقول ّ
كتابة هذه القصة هنا..
شاق المفلسين .ورفض أن نلتقي في شقة عبد هو الذي أراد في آخر موعد لنا ..أن نتساوى بالع ّ
شاق هذه المدينة الذين ضاقت بهم
الحق .بإمكاننا اآلن أن نلتقي في جنازته ،ونتساوى ح ًقا ..بع ّ
ّ
ي الحزن ،جالسين على أي قبر يوما بعد آخر ،فأصبحوا يلتقون في المقابر ،متنكرين في ز ّ
الحياة ً
الحب يملك هذه القدرة الخارقة ،على جعل
ّ يصادفونه ،ليتبادلوا ما شاؤوا من حديث الوجد .فوحد
ال ،حتّى لقاء عاشقين في مقبرة!
كل شيء جمي ً
ّ
وبرغم هذا ..فحتّى موعد عاطفي على هذا القدر من األلم ،لم يكن ينتظرني هناك ،حيث وقفت
وسطية ،بين األلم ،وما يلزم من الجأش للتدقيق في وجوه عشرات
ّ بعيدا بين القبور ،على مسافة
ً
حق مرافقة الموتى ،والذين رحت أبحث بينهم عن رجل
الرجال ،الذين وحدهم دون النساء ،يملكون ّ
موعدا كهذا.
ً شيئا ،وال يمكن له أن يخلف
أحدا ..وال يشبه ً
ال يشبه ً
ثم انسحب الجميع ،بعد أن أودعوا حملهم جوف التراب ورحلوا ،ألجد نفسي في موقف عجيب، ّ
كل تألقي األسود ،أقف وحيدةً وسط
شبيه بمشهد سينمائي صامت لفيلم باألسود واألبيض .وأنا في ّ
ذلك الديكور الرخامي الشاسع البياض ،وذلك الدفتر األسود في يدي.
علي.
يستدل به ّ
ّ عسى ذلك الرجل ،إن جاء ..أن
ولك ّنه لم يأت.
تحول إحساسي بالتحدي ،إلى إحساس عارم بالحزن والخيبة .فأنا كنتوك ّلما تقدم بي االنتظارّ ،
موعدا كهذا،
ً ليتحداني بغيابه؟ وكيف له أن يخلف
ّ تغيب
أريد أن أتحدى به ..ومن أجله .أتراه ّ
مسافرا عن
ً مسافرا ،ولم يعد بعد؟ أم تراه ما زال في هذه المدينة
ً الحق أقرب صديق إليه؟ تراه
ّ وعبد
نفسه داخل الوطن ..وقد يعود ليزور هذا القبر على انفراد؟
الحق على طريقته؟
ّ ليشيع فيها عبد
الحب مع امرأة أخرىّ ،ّ أم ..تراه اآلن يمارس
قبر بعد آخر ،كانت األسئلة تتقدم بي نحو الرجل اآلخر .حتى تلك الخطوة األخيرة
ال أدري كيفً ،ا
التي أوصلتني إليه.
كان جثة أحالم ..تنام تحت كومة من التراب الذي تغطيه باقات الورود.
األغرب أنني لم ِ
أبك.
فقد كنت لحظتها أواصل الكتابة ،وأبحث عن الكلمات المناسبة ألصف هذا الموعد العجيب .أستعيد
طا..
في ذهني بعذ المقاطع والخواطر من كتاب هنري ميشو تلك التي وضعها هذا الرجل تحتها خ ً
أو كتب جوارها تعليقاته.
وأستعيد تلك القصيدة التي كتبها في رثاء( الطاهر جعوط) والتي نشرت البارحة من جديد جوار
صورته وخبر نعيه ،والتي اقتطعتها ،وخبأتها في هذا الدفتر األسود..
علي هنا.
فاجأتني رغبة في قراءتها من جديد .فأخرجتها ورحت أكتشف وقعها ّ
أكنت أقرأها لنفسي أم له ،بصوت خافت يسمعه ألول مرة ،منذ ذلك اليوم الذي جلست فيه جواره
في قاعة سينما ،ولم نتبادل سوى كلمتين؟!
ها هو ..ما زال الصامت األكبر ،حتّى في دوره األخير ،وما زلت وحدي أواصل الحديث إليه.
"مذهول به التراب
خرج ذلك الصباح
كي يشتري ورقًا وجريدة
لن يدري أحد ماذا كان سيكتب
لحظة ذهب به الحبر إلى مثواه األخير
كان في حوزته رؤوس أقالم
وفي رأسه رصاصة
وردا على قبره
ولذا ..لم يضعوا ً
وضعوا ما اشترى من أقالم
شيئا على قبره
ولذا لم يكتبوا ً
كثير من بياض الرخام
تركوا له ًا
ولذا ..لن تعرفوا إليه
كل القبور
هناك ،حيث ّ
ال شاهدة لها سوى قلم
كل مساءوحيث ّ
تستيقظ ٍ
أيد لتواصل الكتابة"
أعتقد أن صوتي قد مات مع آخر بيت ،وأنني عندما أغلقت الدفتر على تلك القصيدة ،بدا وكأنني
أصبحت جزًءا من مشهد سينمائي.
ألهذا لم أبك ،وأنا أضع ذلك الدفتر على كومة التراب وأمضي؟
أبدا،
بل لم أحاول بعد ذلك أن ألتفت خلفي ألشاهد آلخر مرة ذلك المنظر الذي لن يتكرر بعد ذلك ً
والذي بإمكاني بعد اآلن أن أصف في روايات قادمة ،وقعه على نفسي .ألنه حدث بالفعل.
منذ سنتين ،وأنا أريد أن أختبر مرةً واحد ًة ،هذا الشعور الذي ينتابك عندما تضع مخطوطًا على
متحسر على شيء.قبر وتمضي ،غير ّ
ال .فهذا الدفتر أحضرته كي
وها أنا قد فعلت ،دون أن أخطط لألمر تماما ،ودون أن أتوقعه أص ً
أعطيه للرجل اآلخر .ولكن وقد غاب ،لم أقاوم فكرةً جنونية راودتني.
ي ،ويستسلم
أحب أن يتّبع المرء مزاجه السر ّ
أمام المواقف غير المتوقعة التي تضعنا فيها الحياةّ ،
حق ،مهما
دائما على ّ
ألول فكرة تخطر بذهنه ،دون مفاضلتها أو مقارنتها بأخرى .فالفكرة األولى ً
كانت شاذة وغريبة ،ألنها وحدها تشبهنا.
وكانت تلك الفكرة ،تشبه كاتب ًة عرفتها.
تشبهها إلى درجة جعلتني أعتقد أنني أثأر لها من زمن بعيد ،كانت تتسلى فيه بخلق أبطال من
الحب والقتل دون سبب.
ّ ورق ،وقتلهم في كتب ،مطابقة لمنطق الحياة في
كل ما تكتبه إلى حقيقة.
حتّى راحت الحياة بدورها ،تلعب معها ،لعبة تحويل ّ
أكانت تتحرش بالحياة؟ واذ بالحياة تعيد إصدار كتابها ،في طبعة واقعية ،واذ بها القارئة الوحيدة
لنسخة مزورة ،تكفل القدر بنقلها طبق األصل عن روايتها ،بعد أن أدخل عليها بعض التغييرات
كل السرقات األدبية!
الطفيفة في األسماء ،أو في تسلسل األحداث ،كما في ّ
كل صفحة يكتبها ،يكتب عمره اآلتي .وأنه
أغرب ما يمكن أن يحدث لكاتب ،أن يكتشف أنه مع ّ
فاضحا..
ً تقليدا
ً برغم ذلك ال يستطيع رفع دعوى على الحياة ألنها طابقت خياله ،وقلّدت قصته
فعادة يحدث العكس!
أحب الناس إليها.
ذات يوم ،كتبت تلك الكاتبة رواية ،بنية استباق األلم ،فقتلت ّ
طبعا ،لم تكن تتوقع أنها تكتب قدرها .ومثل بطلها ستعود إلى الجزائر على عجل ،على متن طائرة
ً
للحزن ،بتوقيت حظر التجول ،محملة بمخطوط تلك الرواية نفسها .وأمام ذلك الجمركي العصبي
تصرح به سوى مخطوطتها ،وتلك
شيئا ّ
نفسه ،الذي سينبش في حقيبتها باإلصرار نفسه ،لن تجد ً
الذاكرة التي جاءت لتدفنها ..وهي تدفن أباها.
أمام قبره لم ِ
تبك.
كانت مشغولة بالتساؤل :لماذا مات اآلن؟ لماذا مات اليوم؟ لماذا بعد بوضياف بثالثة أشهر؟
كل تلك السنوات التي كان يزودها
لماذا قبل صدور الكتاب بأسبوعين ..وقد انتظره عدة سنواتّ ،
فيها بالمعلومات عن مدينة لم تزرها ،اسمها قسنطينة ،وبذاكرة أتعبه حملها بمفرده؟
أرحل كي يترك مكانا أكبر لذلك الكتاب ،وكأن الحياة ال يمكن أن تسعهما معا؟
النص بموته أجمل؟
ّ أو كأنه وهو الشاعر ،رحل كي يصبح ذلك
أم فقط ،ألنهم في زمن الميتات الملفقة ،والسيارات المفخخة ،فخخوا أحالمه ،وأطلقوا الرصاص
سن اليأس،
على ذاكرته أمامه ،فدخل عمر الذهول ،ال عن شيخوخة ،ولكن ألن الوطن كان يدخل ّ
يوما ،سوى عمر الوطن.
وهو لم يكن له من عمر ً
حتما ..كان عليه وهو رجل التاريخ أن ال يخطئ في اختيار تاريخ موته.
ً
وهي تذكر صباح ّأول نوفمبر..
كل المستشفى العسكري ،وهم يخرجون جثمانه .حتى بدا
وذلك النشيد الوطني الذي كان يدوي في ّ
لها وكأنهم يعزفونه من أجله ..أو كأنه يستوقف حامليه ليسمعه للمرة األخيرة:
قسما بالنازالت الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات
ً
والبنود الالمعات الخافقات في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
فاشهدوا ..فاشهدوا ..فاشهدوا
العسكرية تغطّي لحظتها على النشيد الوطني ،وتشق الطريق بصفاراتها،
ّ كانت سيارات اإلسعاف
جنودا جزائريين سقطوا بسالح جزائري .بعضهم جرحى ،وبعضهم جاؤوا
ً لتلقي على األسرة المتحركة
مشوهي الجثث لينتظروا أهلهم في براد.
يوما لماذا ماتوا.
ولذا نسيت يومها أن تبكي أباها ،وراحت تبكي النظرات الفارغة لجنود لن يدركوا ً
عندما زارت قبره في اليوم التالي ،حاولت أن تكون جميلة .تزينت كعادتها كي تتميز بمظهرها عن
جميع النساء من حوله ،وكي تمنحه –كعادته -زهو المفاخرة بها في مجلسه األخير.
يوما ..ويذهبن.
كانت ترفض وهي أحب مخلوق إليه ،أن تتساوى بمن جئن ليبكينه ً
ثمة حزن يصبح معه البكاء مبتذالً ،حتّى لكأنه إهانة لمن نبكيه.
دائما مساحة منا ،دون أن يدركوا ،هناك حيث هم ،أننا،
فلم البكاء ،مادام الذين يذهبون يأخذون ً
موتًا بعد آخر ،نصبح أولى منهم بالرثاء ،وأن رحيلهم كسر ساعتنا الجدارية ،وأعاد عقارب ساعة
عصور إلى الوراء؟
ًا الوطن ..
األغرب يومها ،أنها تركت الجميع متحلقين حول قبره ،وذهبت امام دهشتهم ،تبحث عن قبر آخر.
في تلك الباحة الشرفية للموت .حيث ينام كبار شهداء الجزائر.
توا على قبورهم بمناسبة اول نوفمبر ،توقف أمام قبر
تحت باقات الورود الرسمية ،التي وضعت ً
بوضياف.
ِ
ببساطة من يعتذر عن المساحة صغيرا ،أثار فضولها بتواضعه ،ووجوده على يمينه، غير أن ًا
قبر
ً
التي يشغلها هناك.
هوذا إذن ..سليمان عميرات ،الرجل الذي لم تسمع باسمه قبل ذلك اليوم ،الذي أفردت له الجرائد
صفحاتها ،لتنعاه في موته الغريب ،الموجع.
صغير جوار بوضياف ،وأنه منذ ذلك اليوم الذي سقط فيه ميتًا
ًا لم تتوقع أن يكونوا أهدوا إليه ًا
قبر
بسكتة قلبية ،عند أقدام جثمانه ،لم يفترقا.
انتهى به المشوار هنا.
حب الجزائر ،حتى
من عامه السابع عشر إلى عامه السبعين ،وهو متورط مع الوطن ،منخرط في ّ
الموت .عرفته سجون فرنسا ،وسجون الجزائر الثورية .حيث بقي عدة سنوات متهما بجرم
المطالبة بالديموقراطية..
أما في آخر مقابلة تلفزيونية له ،وكان قد أدرك خطر وقوع سالح الديموقراطية في يد من ال
يؤمنون بها إال مطية ،فقد صرح" :لو خيرت بين الجزائر والديموقراطية ..الخترت الجزائر".
قهر عند أقدام الوطن.
وها هوذا اختار ..الموت ًا
كل خبر لنا فيه فجيعة؟
كل قبر له جريمة ..وفي ّ
الوطن؟ كيف أسميناه وط ًنا ..هذا الذي في ّ
وطن؟ أي وطن هذا الذي كنا نحلم ان نموت من اجله ..واذ بنا نموت على يده.
أوطن هو ..هذا الذي كلما انحنينا لنبوس ترابه ،باغتنا بسكين ،وذبحنا كالنعاج بين أقدامه؟! وها
نحن جثة بعد أخرى نفرش أرضه بسجاد من رجال ،كانت لهم قامة أحالمنا ..وعنفوان غرورنا!
بين قبرين ،ال تميز أحدهما عن اآلخر سوى بعذ الوجاهة الرخامية ،رأيت تلك المرأة تجهش
بالبكاء ،فتتغير هيأتها وتصبح امرأة ككل النساء الناحبات هنا.
شيئا من اجلها .فقد أصبحت في لحظة امرأة ال أعرفها ،حولتها الفجيعة إلى
لم أستطع أن أفعل ً
امرأة أمية ،بطقوس حزن بدائية ،وبنحيب مفاجئ مزق الصمت حولها .وكأنها كانت تريد أن تقلد
قهر أمام قبر.
ذلك الرجل في موته .وتختبر حالة يمكن فيها ،من البكاء ،الموت ًا
كل
أهكذا ماتت الخنساء وهي تبكي أخاها؟ ولم هي تبكي هكذا على كل قبر تصادفه خطاها ،أفي ّ
قبر لها صخر؟
لم يكن بإمكاني أن أسألها لماذا اآلن؟ لماذا هنا؟ لماذا هما؟
هذه المرأة الغريبة األطوار ،ال تملك أجوبة عن أسئلة بديهية ،واال لما تركت الناس يبكون اباها..
وراحت لتبكي غيره.
شيء فيها ،أصبح فجأة يخيفني ،ويصيبني بالذعر .فتركتها يومها عند قبر بوضياف تنتحب،
وغادرت المكان على عجل.
هذه الذكريات التي فاجأتني .فقط ألنني وضعت ذلك الدفتر على قبر ومضيت ،لم تغير مزاجي ،أو
حد استدراجي إلى البكاء.
على األقل ،لم تغيره ّ
في الواقع ،لم أكن أشعر بشيء .ال شيء على اإلطالق.
فجأةً ،كما في انقطاع كهربائي ،إثر ض غط عال ،توقفت داخلي األحاسيس ،وأصبحت األشياء
حولي تحدث المرأة أخرى غيري.
أما أنا فكنت أشعر بخفة ،وشيء شبيه بالسعادة ،التي لم أجد لها من تفسير ،إال عندما تذكرت أن
سببها ذلك الدفتر الذي تركته خلفي ،غير معنية بمصيره ..وال بتلك المكاسب األدبية التي كان
يمكن أن أجنيها من وراء نشره ..بعد أن قضيت عاما كامال في كتابته.
حل بتلك الكاتبة ،التي لم تغفر
يحل بي ما ّ
الحقيقة ،هي كوني خفت إن أنا احتفظت به ،أن ّ
أبدا ترددها في وضع مخطوط روايتها على قبر أبيها ..والعودة إلى منفاها.
لنفسها ً
هي التي حملته إليه يوم موته ،لتقول له كمن يعتذر عن غياب :أنها خالل السنوات الطويلة التي
لم تحضر لزيارته ،ولم تره فيها ،كانت مشغولة عنه بالكتابة إليه ..ومن أجله.
طبعا ..كانت تكذب .هي كانت تكتب من اجلها .واال لكانت يومها ،تركت ذلك المخطوط على قبره..
ً
ومضت.
شيئا.
وألنها لم تجرؤ على ذلك ،لم تستطع بعدها أن تكتب ً
أعوام من الصمت لتعاقب نفسها على جريمة تفضيلها اآلف القراء ،على قارئ واحد ،لن يقرأها
ووحده يعنيها.
تغيرت نظرتي إلى الكتابة ،والى وجاهتها ،والى زهو شهرة تنزل
ربما بسبب جبنها في ذلك اليومّ ،
تذكير بخيانة لقارئ واحد .نسرق منه بذريعة أو
ًا عليك مصادفة بسبب كتاب ،والتي ليست إال
بأخرى مخطوطًا كتب له .كي نصنع منه اآلف النسخ المزورة لقراء ال يعنيهم أمرنا.
ٍ
لكتاب خيان ٌة لشخص. كل نجاح
قطعا ..في ّ
ً
***
عدت إلى البيت ،امرأة منزوعة الشهوات .لم يبق لها من تلك القصة سوى عطر اختزنه جسدها.
وما زالت تتعطر به لتتحرش بالذاكرة.
الرائحة ..هي آخر ما يتركه لنا الذين يرحلون.
وأول ما يطالبنا به العائدون.
وكل ما يمكن أن نهدي إليهم ،لنقول لهم إننا انتظرناهم.
ّ
يزف خبر نصره إلى زوجته
ولذا ،لم يخطئ ذلك العاشق الرائع ،الذي يدعى نابليون ،عندما بعث ّ
ال:
طالبا منها أن تحتفظ له برائحتها ،قائ ً
ً
"جوزفين ..ال تستحمي ..إني قادم بعد ثالثة أيام!".
منذ نابليون ،لم يوجد قائد عسكري يتقن الحديث إلى النساء .وينهزم أمام األنوثة ..بالعظمة
نفسها التي يهزم بها األعداء.
حماما ..وأنام هذا المساء!
ً ولذا ..سآخذ
أمي
أيضا ناصر ،الذي ال تنفك ّ
كل هذه الفترة ،وأهملت ً وربما جلست إلى أمي ،بعد أن أهملتها ّ ّ
الوهمية.
ّ تطالبني بالكتابة إليه .ولك ّنني ال أفعل ،النشغالي بذلك الدفتر ..وبتلك الحياة
ما كدت أتخ ّلص من عبودية الكتابة ،حتّى عاودني الشوق إلى ناصر .شوق مخيف في مباغتته
وفي تأنيبه.
كل هذا الوقت ،دون أن أفكر في ما قد ينتظره هناك من مقالب أخرى للحياة؟
كيف تخلّيت عنه ّ
كل هذا الوقت دونه ودون نبرته المتذمرة ..وتعليقاته الساخرة ..وحنانه
كيف استطعت أن أعيش ّ
لدي.
تعوضه ّ الرجالية أن ّ
ّ لكل كلمات العشق
المكابر الذي ال يمكن ّ
عشقي .أردت أن أجرب عليه
ّ كنص
قررت أن أكتب له رسالة طويلة ..جميلة ..موجعة ..مربكةّ ..
امية ..أن أسعده ..أن أبكيه ..عساني استعيده برسالة .حتّى أنني قلت له إنني أفكر
نزعاتي اإلجر ّ
في الطالق ،إن كان هذا األمر يرضيه..
إشعار لمن حولي بذلك .أن أتقاسم معهم حياتهم
ًا كنت أريد أن أحتفي بعودتي إلى الحياة ،وأعطي
اليومية ،بأحاديثها وضجرها ..بأفراحها وحزنها ومخاطرها ،أن أعود
ّ العادية ،بمشاغلها وتفاهتها
ّ
طبيعية بعائلة وبيت.
ّ أخيرا امرأة
ً
سببا .فراح يحاول
زوجي استفاد من اهتمامي المفاجئ به ،لينقذ عالقة اجتاحها فتور لم يجد له ً
استعادتي بالتفاتات صغيرة.
كل برنامجي.
حل بي ،واكتفت باجتياح ّ
مما ّ
شيئا ّ
أمي كعادتها ،لم تفهم ًّ
علي رسالة إلى ناصر.
ال ..قضت النهار وهي تُملي ّ
البارحة مث ً
وهذا الصباح ،ما كادت تستيقظ حتّى طلبتني لتذ ّكرني بإرسالها.
كدت أسلّمها إلى زوجي ،ليتكفل بها .ولك ّني ت ّنبهت أنني ال ب ّد أن أخفي عنه العنوان الذي يقيم فيه
ناصر.
القرطاسية ظرفًا وطوابع
ّ محل
وهكذا لم يكن أمامي ،إال أن أرتدي ثيابي ،وأذهب ألشتري من ّ
بريدية.
اسي .أذكر...
ك ّنا في بداية الموسم الدر ّ
تجدد حبرها بين كتابين.
تجدد هيأتها بين فصلين .وكاتبة ّ
سماء ّ
ٌ بدءا" كانت
" ً
مدرسية .فارداً دفاتره وأقالمه
ّ وكما اليوم ،البائع نفسه كان منهم ًكا في ترتيب ما وصله من لوازم
أمامي.
ال .يتجه نحوي ..يضع حمولته من الدفاتر الجديدة ،على تلك
كما منذ سنة ،ها هو يتوقف قلي ً
ال ماذا أريد.
الطاولة التي تفصلنا ..ويسألني مستعج ً
بريدية ،عندما...
ّ كنت سأطلب منه ظروفًا وطوابع
تمت.