Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 97

‫اململكة العربية السعودية‬

‫وزارة التعليم‬

‫حممد بن سعود اإلسالمية‬


‫جامعة اإلمام ّ‬
‫معهد العلوم اإلسالمية والعربية يف إندونيسيا‬

‫قسم اللغة العربية‬

‫البالغة القرآنية والنبوية‬

‫املستوى الثامن‬

‫إعداد‪:‬‬

‫طالب وطالبات قسم اللغة العربية (الدفعة الثانية)‬

‫املشرف‪:‬‬

‫الدكتور رشاد عبد هللا عبد الدائم بن أمحد‬

‫عضو هيئة التدريس ابملعهد‬

‫العام اجلامعي‬

‫‪ ١٤٤3 – ١٤٤2‬ه‬
‫‪1‬البالغة القرآنية‬

‫سيظل القرآن الكريم شامخا وإعجازه عظيما باقيا إلى يوم الدين‪ ،‬فلقد اشتهر العرب قبل اإلسالم بالفصاحة والبالغة لدرجة عظيمة‪،‬‬
‫حيث كانت األسواق تقام ويتبارى فيها الفصحاء والبلغاء واألدباء والشعراء كل يدلي بدلوه إما بالشعر و إما بالخطب و إما بالنصائح و إما بالحكم و‬
‫األمثال‪.‬‬

‫من أجل ذلك جاء القرآن الكريم بفصاحته و بالغته متحديا لهم على لسان رسول كريم و نبي أمي ال يقرأ و ال يكتب فتحداهم جميعا‬
‫أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا و سيظل القرآن متحديا لهم إلى يوم الدين يحمل بين سطوره برهان كماله وآية إعجازه‪ ،‬يقول هللا عز وجل ‪(:‬نزل‬
‫أُ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُّ ُ أ‬
‫وح األ ِم ُين على قل ِبك ِلتكون ِمن اْل أن ِذ ِرين ِب ِلس ٍان عرِب ٍّ ٍي ُم ِب ٍين ) (سورة الشعراء ‪.)195-193 :‬‬‫ِب ِه الر‬

‫كثيرة نذكر منها على سبيل اْلثال ال الحصر ما يلي‪:‬‬


‫هذا وقد جاء التحدي واإلعجاز البالغي في القرآن الكريم في مواضع ٍ‬

‫أوال‪:‬‬ ‫•‬
‫أ ُُ أ أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُأ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬
‫ض ظ ِه ًيرا) (سورة اإلسراء‪:‬‬
‫اإلنس وال ِجن على أن يأتوا ِب ِمث ِل هذا القر ِآن ال يأتون ِب ِمث ِل ِه ولو كان بعضهم ِلبع ٍ‬
‫قوله عز وجل‪( :‬قل ل ِئ ِن اجتمع ِت ِ‬
‫‪.)88‬‬
‫ثانيا‪:‬‬ ‫•‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫أ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ات و أاد ُعوا من أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َللا ِإن كنت أم ص ِاد ِقين () ف ِإل أم ي أست ِج ُيبوا‬ ‫استط أعت أم ِمن دو ِن ِ‬ ‫ِ‬ ‫قوله عز وجل‪ :‬أ أم يقولون افتراه ق أل فأتوا ِبعش ِر ُسو ٍر ِمث ِل ِه ُمفتري ٍ‬
‫ّ‬ ‫أ ّ‬ ‫ّ ُأ‬ ‫ُ‬
‫َللا وأ أن ال ِإله ِإال ُهو فه أل أ أن ُت أم ُم أس ِل ُمون (سورة هود‪.)14-13 :‬‬ ‫أ‬
‫لك أم فاعل ُموا أنما أن ِزل ِب ِعل ِم ِ‬
‫ثالثا‪:‬‬ ‫•‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬
‫َللا ِإن كنت أم ص ِاد ِقين () ف ِإن ل أم‬ ‫قوله عز وجل‪ :‬و ِإن كنت أم ِفي ري ٍب ِم ّما نزلنا على ع أب ِدنا فأتوا ِب ُسور ٍة ِمن ِمث ِل ِه وادعوا شهداءك أم ِمن دو ِن ِ‬
‫أ‬ ‫ُُ‬ ‫ّ ُ أ‬ ‫النار ّالتي و ُق ُ‬ ‫ت أفع ُلوا ول أن ت أفع ُلوا ف ّات ُقوا ّ‬
‫اس وال ِحجارة أ ِع ّد أت ِللكا ِف ِرين) (سورة البقرة‪.)24-23 :‬‬ ‫ودها الن‬ ‫ِ‬
‫رابعا‪:‬‬ ‫•‬
‫ّ‬ ‫ُ أ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُ ُأ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ أ ُ ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬
‫اطير األو ِلين (سورة األنفال ‪ .) 31:‬هذا قول‬
‫قوله عز وجل ‪ :‬و ِإذا تتلى علي ِهم آياتنا قالوا قد س ِمعنا لو نشاء لقلنا ِمثل هذا ِإن هذا ِإال أس ِ‬
‫كفار قريش الذي حكاه تعالى عنهم وهذا كذب و افتراء ودعوى باطلة بال دليل وال برهان ولو كانوا صادقين ألتوا بما يعارضه بل إنهم يعلمون كذب‬
‫ات و أاأل أرض إ ّن ُه كان غ ُف ً‬
‫ورا ر ِح ًيما) (سورة الفرقان‪.) 6 :‬‬ ‫أ ُ ٍّ‬
‫الس ّر في ّ‬
‫السماو ِ‬
‫ُ أ أ ُ ّ‬
‫ِ ِ‬ ‫أنفسهم‪ .‬قال هللا عز وجل ردا عليهم‪( :‬قل أنزله ال ِذي يعلم ِ ِ‬
‫خامسا‪:‬‬ ‫•‬

‫القرآن الكريم معجز من وجوه متعددة من حيث فصاحته وبالغته ونظمه وتراكيبه وأساليبه وما تضمنه من أخبار ماضية و مستقبلة‬
‫جلية و قد تحدى ببالغة ألفاظه فصحاء العرب كما تحداهم بما اشتمل عليه من معان صحيحة كاملة و هي‬‫و ما اشتمل عليه من أحكام ّ‬
‫أعظم في التحدي عند كثير من العلماء‪ ،‬فأسلوب كالم القرآن ال يشبه أسلوب كالم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الوارد في أحاديثه الشريفة‪،‬‬
‫ال يقدر أحد من الصحابة وال من جاء بعدهم أن يتكلم بمثل أساليبه صلى هللا عليه و سلم في فصاحته و بالغته‪.‬‬

‫البالغ ن يف القرآن الكريم‪ ,‬ص‪9‬‬


‫ي‬
‫ن‬ ‫ن‬
‫حسي سالمة‪ ،‬اإلعجاز‬ ‫‪ 1‬حمد‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪1‬‬
‫أ‬ ‫أُ‬
‫ات ما ِمثل ُه آمن عل أي ِه البش ُر‪ ،‬و ِإ ّنما كان‬ ‫ّ أ ُ أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ أ ّ‬ ‫أ‬
‫عن أ ِبي هريرة أن ر ُسول ِ‬
‫َللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ما ِمن األن ِبي ِاء ِمن ن ِب ٍّ ٍي ِإال قد أع ِطي ِمن اآلي ِ‬
‫أ‬ ‫ً‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫يت و أحيا أ أوحى هللا ِإل ّي‪ ،‬فأ أر ُجو أ أن أكون أكثر ُه أم ت ِابعا ي أوم ال ِقيام ِة" أخرجه البخاري و مسلم ‪ .‬نعم إنه القرآن الكريم ذلك الكتاب اْلعجز‬ ‫ّالذي ُأوت ُ‬
‫ِ ِ‬
‫الذي يمنح اإلنسانية من علومه ومعارفه ومن أسراره و حكمه ما يزيدهم إيمانا بأنه اْلعجزة الخالدة للنبي األمي صلوات هللا و سالمه عليه‪1‬‬

‫صلة البالغة بالقرآن الكريم‬

‫للبالغة عالقة وثيقة بالقرآن الكريم‪ ،‬حتى أن الكثيرين من العلماء عدوا علم البالغة فرعا من علوم القرآن الكريم؛ فعلم البالغة تعين‬
‫على معرفة معاني القرآن‪ ،‬وأسرار التعبير فيه والوجوه املحتملة لجمله وتراكيبه‪ ،‬وهو يكشف لنا إعجاز القرآن الكريم‪ ،‬واْلقصود من معانيه‬
‫الدقيقة حتى نصل إلى أحكام هللا وتشريعاته‪ .‬وإذا تأملنا التاريخ سنجد أن البالغة قد مرت بمراحل عدة حتى اكتملت‪ ،‬ومن أهم هذه اْلراحل‬
‫يسميها العلماء باْلرحلة النشأة والنمو‪.‬‬

‫تبدأ هذه اْلرحلة بدراسات حول إعجاز القرآن حيث كانت الكتب الخاصة به هي النواة األولى لنشأة علم البالغة وتطوره‪ ،‬وإذا تتبعنا‬
‫معمر بن اْلثنى (ت ‪ 210‬هـ) وهو أحد الكتب التي وصلت إلينا يهتم بجمع‬‫البدايات األولى لهذه الكتب سنجد كتاب "مجاز القرآن" ألبي عبيدة ّ‬
‫األلفاظ من أجل شرح ما فيها من غريب‪ ،‬ويشير أيضا إلى بعض اْلسائل البالغية التي يتصل بعضها بنظم القرآن‪ .‬وفي هذا الكتاب يقول محمد‬
‫هدارة‪ « :‬كان القرآن يجري على قواعد العرب في لغتها‪ٍّ ،‬‬
‫مصطفى ٍّ‬
‫وأنه يتميز بنهج خاص في استعمال هذه اللغة وفي التعبير عن اْلعاني التي يتضمنها‬
‫فكان اْلوالي واْلولدون بحاجة إلى من يبين لهم ذلك‪ .‬وقد ظهرت كتب في هذه اْلرحلة تحاول معالجة هذه الظاهرة ومن أوائل الكتب "مجاز القرآن"‬
‫ألبي عبيدة معمر بن اْلثنى ألن كلمة مجاز هنا ‪ ...‬تدل على ما تدل عليه اليوم كلمة أسلوب»‪2]1[ .‬‬

‫ثم يأتي كتاب آخر ذو قيمة علمية كبيرة هو كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ هذا الكتاب الذي قال فيه أبو هالل العسكري عند‬
‫الحديث عن كتب البالغة «وكان أكبرها وأشهرها كتاب البيان والتبيين ألبي عثمان عمرو بن بحر الكناني اْللقب الجاحظ ‪ ،‬وهو لعمري كثير‬
‫الفوائد‪...‬إال أن اإلبانة عن حدود البالغة‪ ،‬وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه ومنتشرة في أثنائه؛ فهي ضالة بين األمثلة‪ ،‬ال توجد إال‬
‫بالتأمل الطويل‪ ،‬والتصفح الكثير‪]2[ ».‬‬
‫سأل إبراهيم بن إسماعيل‪ ،‬من ُك ّتاب الوزير الفضل بن الربيع ومن جلسائه‪ ،‬سأل أبا عبيدة معمر بن اْلثنى عن قول هللا تعالى‪{ :‬ط أل ُعها كأ ّن ُه ُر ُؤ ُ‬
‫وس‬
‫هللا العرب على‬ ‫واْلشبه به غير معروف؟! وإنما يقع الوعد واإليعاد بما ُعرف مثله‪ ،‬فقال أبو عبيدة‪ :‬إنما ّكلم ُ‬
‫ّ‬ ‫اط ِين} [الصافات‪ ،]65 :‬كيف وقع هذا التشبيه‬ ‫ّ‬
‫الشي ِ‬
‫ق أدر كالمهم‪ ،‬أما سمعت قول امرئ القيس‪:‬‬
‫أ‬ ‫أ ُ ُ‬ ‫أ ُّ ُ‬ ‫أ ُُ‬
‫أغوال‬
‫ِ‬ ‫اب‬
‫ومسنونة زرق كأني ِ‬ ‫اج ِعي‬
‫أيقتلني واْلشر ِفي مض ِ‬
‫وهم لم يروا الغول قط؟! ولكنهم ْلا كان أمر الغول يهولهم ُأوعدوا به‪ ...‬وعزم أبو عبيدة منذ ذلك الحين أن يضع ً‬
‫كتابا في القرآن في أشباه هذا‪ ،‬وما‬
‫ُيحتاج إليه من ع ألمه‪ ،‬ثم وضع كتابه (املجاز)‪ ،‬فكان أول كتاب ُأ ٍّلف في ٍّ‬
‫فن البالغة‪3.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪ 1‬المرجع السابق‬
‫‪:‬‬ ‫ر‬
‫‪ 2‬مذكرة مقدمة ضمن متطلبات نيل شهادة الماست تخصص لسانيات عامة‪ ،‬بعنوان تعليمية البالغة وفق المقاربة بالكفاءات مستوى‪:‬‬
‫السنة الثالثة ثانوي "شعبة اآلداب" أنموذج‪ ،‬إعداد‪ :‬سعاد بن حامد‪ ،‬السنة الجامعية‪1439 :‬ه‪1440-‬ه‪2018/‬م‪2019-‬م‪ ،‬ص‪21 .‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪2‬‬
‫جو البيان ُو ِلد في ٍّ‬
‫جو القرآن الكريم‪ ،‬ولو تتبعنا تاريخ البيان العربي‬ ‫ً‬
‫واضحا من هذه القصة التي سقناها باختصار أن التأليف في ٍّ‬ ‫يبدو‬
‫ٍّ‬ ‫لوجدنا أنه كذلك نشأ وأيفع واكتهل في ٍّ‬
‫جو القرآن‪ ،‬يدلنا على ذلك أن العلماء منذ عهد أبي عبيدة كانوا يضعون نصب أعينهم حين يؤلفون في‬
‫ٍّ‬ ‫البيان قضية اإلعجاز‪ ،‬وإن كانوا يضعون بجانب ذلك أغر ً‬
‫الس ِر ٍّي واْلتخ ِلف من الكالم‪ ،‬وكالقدرة على إنشاء الجيد من الشعر‬‫اضا أخرى‪ ،‬كمعرفة ّ‬
‫ودل على قصور‬ ‫فإن اْلتعلم إذا «فاته هذا العلم‪ ،‬مزج الصفو بالكدر‪ ،‬وخلط الغرر بالعرر‪ ...‬وساء اختياره‪ٍّ ،‬‬ ‫والنثر‪ ،‬واختيار الجيد منهما‪ٍّ ،‬‬
‫فهمه»[‪1.]3‬‬

‫ويرى السكاكي ٍّأن من أهم البواعث على دراسة البالغة طلب االستعانة على فهم كتاب هللا‪ ،‬فهو يذكر في مقدمة كتابه (اْلفتاح) أنه إذا‬
‫كان اْلراد من علم األدب مجرد الوقوف على بعض األوضاع فذلك أمر ميسور‪« ،‬أما إذا ُخ أ‬
‫ضت فيه ِله ٍّمة تبعثك على االحتراز عن الخطأ في‬
‫الق أربة‪ ،‬وال سيما إذا انضم إلى همتك الشغف بالتلقي ْلراد هللا‬ ‫ٍّ‬
‫العربية‪ ،‬وسلوك جادة الصواب فيها‪ ،‬اعترض دونك منه أنواع تلقى ألدناها عرق ِ‬
‫تعالى من كالمه‪ ،‬الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه» [‪2.]4‬‬

‫ينبه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم ‪-‬تعالى و ّ‬


‫تقدس‪ -‬من كالمه‬ ‫ثم يعود في مقدمة علم اْلعاني والبيان‪ ،‬فيقول‪« :‬وفيما ذكرنا ما ٍّ‬
‫مفتقر إلى هذين ال ِع ألمين ٍّ‬
‫كل االفتقار‪ ،‬فالويل ٍّ‬
‫كل الويل ْلن يتعاطى التفسير وهو فيهما راجل» [‪.]5‬‬
‫وهذا كالم سبق به ُ‬
‫عبد القاهر حين قسا بقلمه على بعض اْلفسرين‪ ،‬فرماهم بالجهل‪ ،‬ووسمهم بالغفلة‪ ،‬وجعل ّ‬
‫مرد ذلك إلى أنهم ال‬
‫كل ذي علم يستطيع أن‬ ‫يحسنون فهم الدقائق واألسرار [‪ّ ،3]6‬‬
‫وردده الزمخشر ُّي في مقدمة كتابه (الكشاف)‪ ،‬حيث نقل قول الجاحظ‪« :‬وليس ٍّ‬
‫يغوص على أسرار التفسير‪ ،‬وأن يدرك لطائف اآليات» [‪ ،]7‬ثم جعل القدرة على ذلك ً‬
‫وقفا على من برع في علمي اْلعاني والبيان‪4.‬‬

‫ً‬
‫واضحا في كالم عبد القاهر في (دالئل اإلعجاز)‪،‬‬ ‫ومن العلماء من جعل الغاية الوحيدة من دراسة علوم البيان معرفة ٍّ‬
‫سر اإلعجاز‪ ،‬ويبدو ذلك‬ ‫ِ‬
‫ٍّ‬
‫وابن خلدون في (اْلقدمة)‪« :‬واعلم أن ثمرة هذا الفن ‪-‬يريد البيان‪ -‬إنما هو في فهم إعجاز القرآن» [‪5.]8‬‬

‫للدارس معنى الفصاحة‪ ،‬فهو في حاجة‬ ‫أيضا ضرورية لفهم إعجاز القرآن؛ فإن هذه الد اسة ٍّ‬
‫تحقق‬ ‫بالص أرفة ٍّأن دراسة البالغة ً‬
‫ويرى القائلون ّ‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫ماسة إلى دراسة فصاحة القرآن ليقطع أنها كانت في مقدورهم من جنس فصاحتهم‪.‬‬‫ٍّ‬

‫ومن ذلك ظهر لنا أن بين علم البالغة وعلوم القرآن ال يمكن الفصل بينها بحدود عازلة‪ ،‬فبعضها يؤدي إلى بعض‪ ،‬ويكمل بعضها بعضا‪ ،‬فليس لنا‬
‫أن نكشف إعجاز القرآن الكريم إن لم يكن لدينا علم بمعانيه‪ ،‬ولن نستطيع أن نعرف دقائق هذه اْلعاني إن لم يكن لدينا علم بالبالغة‪6.‬‬

‫اخلصائص العامة للبالغة القرآنية‬


‫أ‬
‫يختلف القرآن الكريم في نظ ِمه عن النثر والشعر‪ ،‬ولكنه في ذات الوقت يجمع من خصائصهما ما ُيح ٍِّير السامع له‪،‬‬

‫ن‬
‫(الصناعتي) للعسكري‪ ،‬ص‪ ،)3 ،2( :‬ط‪ .‬المكتبة العرصية‪ ،‬بتوت‪.‬‬ ‫‪ 1‬من مقدمة كتاب‬
‫للسكاك‪ ،‬ص‪ ،)39 ،38( :‬ط‪ .‬دار الكتب العلمية‪.‬‬‫ي‬ ‫‪ 2‬مفتاح العلوم‪،‬‬
‫ن‬
‫المعن‪ ،‬وانظره‪ :‬مفتتح (دالئل اإلعجاز)‪ ،‬عناية‪ :‬محمود شاك‬ ‫‪ 3‬الرسالة الشافية لعبد القاهر بطولها ن يف تقرير هذا‬
‫للزمخشي (‪ ،)96/1‬ط‪ .‬مكتبة العبيكان‪.‬‬ ‫ر‬ ‫‪ 4‬الكشاف‪،‬‬
‫‪ 5‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ص‪ ،)630( :‬ط‪ .‬دار األرقم‬
‫‪ 6‬المرجع السابق‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪3‬‬
‫ّ‬
‫تتجلى فيها [‪1.]1‬‬ ‫وإلعجاز ّ‬
‫النظم في القرآن الكريم ّ‬ ‫أ‬
‫عدة مظاهر‬
‫ِّ‬
‫أوال‪ :‬الخصائص املتعلقة باألسلوب‬

‫التعبيرية عندهم ال ت أع ُدو أن تكون ً‬ ‫ّ‬ ‫خارج عن اْلعروف من نظام جميع كالم العرب‪ ،‬فالفنون‬ ‫أ‬
‫شعرا أو‬ ‫أ‪ )-‬أن األسلوب القرآني يج ِري على نسق بديع ٍ‬
‫ُ‬ ‫الر ِحيم (‪ِ )2‬كتاب ُف ٍّ‬
‫صل أت آي ُات ُه ق أرآ ًنا عرِب ًّيا ِلق أو ٍم ي أعل ُمون (‪)3‬‬ ‫نثرا‪ ،‬ولكن القرآن ش يء آخر؛ فلننظر إلى قوله تعالى‪{ :‬حم (‪ )1‬ت أنزيل من ّ أ‬ ‫ً‬
‫ِ‬ ‫الرحم ِن ّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫بش ًيرا ونذ ًيرا فأ أعرض أ أكث ُر ُه أم ف ُه أم ال ي أسم ُعون (‪ )4‬وق ُالوا ُق ُل ُوبنا في أك ّنة م ّما ت أد ُعونا إل أيه وفي آذاننا و أقر وم أن ب أيننا وب أينك حجاب ف أ‬
‫اعم أل ِإ ّننا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫ع ِاملون} [فصلت‪.]5-1 :‬‬

‫فهذه اآليات القرآنية بتأليفها العجيب‪ ،‬ونظمها البديع حينما سمعها عتبة بن ربيعة ‪-‬وكان من أساطين (سالطين) البيان‪ -‬استولت على أحاسيسه‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ومشاعره‪ ،‬وطارت ُبل ٍّبه‪ ،‬ووقف في ذهول وح أيرة‪ ،‬ثم ّ‬
‫سمعت مثله قط‪ ،‬وهللا! ما‬ ‫سمعت من محمد قوال ما‬ ‫عبر عن ح أيرته وذهوله بقوله‪" :‬وهللا لقد‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫سمعت ُه نبأ عظيم"[‪2.]2‬‬ ‫ّ‬
‫هو بالشعر وال بالسحر وال بالكهانة‪ ...‬وهللا ليكونن لقوله الذي‬
‫ّ‬
‫ودقة الصياغة وروعة التعبير‪ ،‬رغم ُّ‬ ‫ٍّ‬ ‫يظل ً‬
‫ب‪ )-‬كما أن األسلوب القرآني ُّ‬
‫تنقله بين‬ ‫السمو في جمال اللفظ‪ ،‬وعمق اْلعنى‬
‫ِ‬ ‫جاريا على نسق واحد من‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫موضوعات مختلفة من التشريع والقصص واْلواعظ ُ‬
‫والحجج والوعد والوعيد‪ ،‬وتلك حقيقة شاقة‪ ،‬بل لقد ظلت مستحيلة على الزمن لدى‬
‫فحول علماء العر ّبية والبيان‪.‬‬

‫ج‪ )-‬ومن خصائص األسلوب القرآني كذلك أن معانيه مصاغة بحيث يصلح أن يخاطب بها الناس كلهم على اختالف مداركهم وثقافتهم‪ ،‬وعلى‬
‫يتعلق ً‬‫ّ‬ ‫تطور علومهم واكتشافاتهم‪ُ .‬خ أذ آية من كتاب هللا ّ‬ ‫تباعد أزمنتهم وبلدانهم‪ ،‬ومع ُّ‬
‫بمعنى تتفاوت في مدى فهمه العقول‪ ،‬ثم اقرأها على‬ ‫مما‬
‫كال منهم يستفيد منها ً‬ ‫ّ ًّ‬ ‫ًّ‬
‫معنى‬ ‫مسامع خليط من الناس يتفاوتون في اْلدارك والثقافة‪ ،‬فستجد أن اآلية تعطي كال منهم معناها بقدر ما يفهم‪ ،‬وأن‬
‫وجا وجعل فيها سر ً‬
‫اجا وقم ًرا ُم ِن ًيرا} [الفرقان‪ ،]61 :‬فهذه اآلية تصف‬ ‫ِ ِ‬ ‫وراء الذي انتهى عنده علمه‪ ،‬مثل قوله تعالى‪{ :‬تبارك ّال ِذي جعل في ّ‬
‫السم ِاء ُب ُر ً‬
‫ِ‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ًّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ًّ‬
‫واْلتأمل من علماء العربية يد ِرك من‬
‫ِ‬ ‫فالعامي من العرب يفهم منها أن كال من الشمس والقمر يبعثان بالضياء إلى األرض‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كال من الشمس والقمر‬
‫منيرا‪ّ ،‬أما‬
‫سمي ً‬ ‫اجا‪ ،‬والقمر يبعث بضياء ال حرارة فيه لذلك ٍّ‬ ‫سماها سر ً‬ ‫تدل على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة؛ فلذلك ّ‬ ‫وراء ذلك أن اآلية ُّ‬
‫ِ‬
‫مجرد انعكاس‪ ..‬وكل هذه اْلعاني صحيحة [‪3.]3‬‬ ‫العال ُم الفلكي الحديث فقد يفهم منها أن إضاءة الشمس ذاتية كالسراج‪ ،‬بينما نور القمر ّ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫د‪ )-‬ومن خصائص أسلوب القرآن الكريم‪ ،‬التكرار‪ ،‬قال السيوطي – رحمه هللا‪ :‬التكرير وهو أبلغ من التأكيد‪ ،‬وهو من محاسن الفصاحة خالفا‬
‫لبعض من غلط (‪)2‬‬

‫البيان ن يف القرآن‪ ،‬وعائشة‬


‫ي‬
‫ن‬ ‫‪ 1‬ن يف مظاهر إعجاز النظم ن يف القرآن الكريم انظر محمد السيد شيخون‪ :‬اإلعجاز ن يف نظم القرآن الكريم‪ ،‬والمحمدي عبد العزيز الحناوي‪ :‬دراسات حول اإلعجاز‬
‫ن‬
‫البيان‪.‬‬ ‫ئ‬
‫الشاط)‪ :‬إعجاز القرآن‬ ‫عبد الرحمن (بنت‬
‫ي‬ ‫ر‬
‫‪/‬‬ ‫‪:‬‬ ‫‪/‬‬ ‫‪:‬‬
‫والسهيل الروض األنف ‪ ،46 2‬وابن كثت الستة النبوية ‪505 ،504 1‬‬
‫ي‬ ‫البيهق‪ :‬دالئل النبوة (‪ ،79/2 )509‬وابن هشام الستة النبوية ‪،294 1‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪:‬‬ ‫ي‬
‫‪2‬‬

‫‪ 3‬نظر‪ :‬محمد عبد هللا دراز‪ :‬النبأ العظيم ص ‪.148 ،147‬‬


‫" اإلتقان ن يف علوم القرآن " (‪ )280 / 3‬طبعة مؤسسة النداء ‪2‬‬

‫‪ 3‬مجموع الفتاوى " (‪408 / 14‬‬


‫‪4‬مجموع الفتاوى " ( ‪168 ، 167 / 19‬‬
‫" اإلتقان ن يف علوم القرآن " (‪ )282 ،281 / 3‬طبعة ‪5‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪4‬‬
‫فوائد التكرار‬

‫‪ -‬قال شيخ اإلسالم ابن تيمية – رحمه هللا‪ :‬وليس في القرآن تكرار محض‪ ،‬بل البد من فوائد في كل خطاب (‪)3‬‬

‫‪ -‬وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية – رحمه هللا – في التعليق على تكرار قصة موس ى مع قومه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫يسمى ُ‬ ‫ً‬
‫نوعا غير النوع اآلخر‪ ،‬كما ّ‬
‫هللا ورسوله‬ ‫وقد ذكر هللا هذه القصة في عدة مواضع من القرآن‪ ،‬يبين في كل موضع منها من االعتبار واالستدالل‬
‫ُ‬
‫وكتابه بأسماء متعددة ‪ ،‬كل اسم يدل على معنى لم يدل عليه االسم اآلخر ‪ ،‬وليس في هذا تكرار ‪ ،‬بل فيه تنويع اآليات مثل أسماء النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم إذا قيل ‪ :‬محمد ‪ ،‬وأحمد ‪ ،‬والحاشر ‪ ،‬والعاقب ‪ ،‬واْلقفى ‪ ،‬ونبي الرحمة ‪ ،‬ونبي التوبة ‪ ،‬ونبي اْللحمة ‪ ،‬في كل اسم داللة على معنى ليس‬
‫في االسم اآلخر ‪ ،‬وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة‬

‫وكذلك القرآن إذا قيل فيه‪ :‬قرآن‪ ،‬وفرقان‪ ،‬وبيان‪ ،‬وهدى‪ ،‬وبصائر‪ ،‬وشفاء‪ ،‬ونور‪ ،‬ورحمة‪ ،‬وروح‪ :‬فكل اسم يدل على معنى ليس هو اْلعنى اآلخر‬

‫وكذلك أسماء الرب تعالى إذا قيل‪ :‬اْللك‪ ،‬القدوس‪ ،‬السالم‪ ،‬اْلؤمن‪ ،‬اْلهيمن‪ ،‬العزيز‪ ،‬الجبار‪ ،‬اْلتكبر‪ ،‬الخالق‪ ،‬البارئ‪ ،‬اْلصور‪ :‬فكل اسم يدل على‬
‫معنى ليس هو اْلعنى الذي في االسم اآلخر‪ ،‬فالذات واحدة‪ ،‬والصفات متعددة‪ ،‬فهذا في األسماء‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫معان فيها‪ ،‬ثم يعبر عنها بجمل أخرى تدل على ٍ‬
‫معان أخر‪ ،‬وإن كانت القصة اْلذكورة‬ ‫وكذلك في الجمل التامة‪ ،‬يعبر عن القصة بجمل تدل على ٍ‬
‫ُ‬ ‫الجمل ً‬
‫معنى ليس في ُ‬
‫الجمل األخرى‪)4( .‬‬ ‫ذاتها واحدة فصفاتها متعددة‪ ،‬ففي كل جملة من ُ‬

‫وقال السيوطي – رحمه هللا ‪ :-‬وله – أي‪ :‬التكرار ‪ -‬فوائد‪:‬‬


‫أ‬
‫تقرر “‪ ،‬وقد نبه تعالى على السبب الذي ألجله كرر األقاصيص واإلنذار في القرآن بقوله (وص ّرفنا ِف ِيه ِمن‬
‫تكرر ّ‬ ‫منها‪ :‬التقرير‪ ،‬وقد قيل " الكالم إذا ّ‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫يد لعل ُه أم ي ّت ُقون أ أو ُي أح ِدث ل ُه أم ِذك ًرا)‪.‬‬
‫الو ِع ِ‬

‫ومنها‪ :‬التأكيد‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكالم بالقبول‪ ،‬ومنه (وقال ّال ِذي آمن يا ق أو ِم ّاتب ُعو ِن أ أه ِد ُك أم سبيل ّ‬
‫الرش ِاد‪ .‬يا ق أو ِم ِإ ّنما ه ِذ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أالحي ُاة ُّ‬
‫الد أنيا متاع)‪ ،‬فإنه كرر فيه النداء لذلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وتجديدا لعهده ‪ ،‬ومنه ُ(ث ّم إ ّن رّبك ِل ّل ِذين عم ُلوا ُّ‬
‫السوء ِبجهال ٍة ث ّم ت ُابوا ِم أن ب أع ِد ذ ِلك‬
‫ً‬
‫ومنها ‪ :‬إذا طال الكالم وخش ي تناس ي األول أعيد ثانيها تطرية له‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ أ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫أ‬ ‫وأ أ ُ ّ‬
‫صلحوا ِإن رّبك ِمن ب أع ِدها ) ‪( ،‬ث ّم ِإن رّبك ِلل ِذين هاج ُروا ِمن ب أع ِد ما ف ِتنوا ث ّم جاهدوا وصب ُروا ِإن رّبك ِمن ب أع ِدها ) ‪ ( ،‬وْلا جاءه أم ِكتاب ِمن ِعن ِد ِ‬
‫َللا‬
‫أ‬ ‫أ ُّ أ‬ ‫أ أ ُ‬ ‫أ ُ أ ُ‬ ‫أ ُ ُّ‬ ‫أ ُ‬ ‫أ ّ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ أ‬ ‫ّ‬
‫اب‬‫) إلى قوله ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا ِب ِه) ‪ ( ،‬ال تحسبن ال ِذين يفرحون ِبما أتوا وي ِحبون أن يحمدوا ِبما لم يفعلوا فال تحسبنهم ِبمفاز ٍة ِمن العذ ِ‬
‫أ‬ ‫) ‪( ،‬إ ٍّني أ أي ُت أحد عشر ك أوك ًبا و ّ‬
‫الش أمس والقمر رأ أي ُت ُه أم ) ‪.‬‬ ‫ِِ ر‬
‫أ ُ أ‬
‫اب اليمين) ‪5.‬‬
‫أ ُ أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ ُّ أ ُّ أ‬
‫ِ ِ‬ ‫اب الي ِم ِين ما أصح‬ ‫ومنها‪ :‬التعظيم والتهويل نحو (الحاقة‪ .‬ما الحاقة)‪( ،‬الق ِارعة‪ .‬ما الق ِارعة)‪( ،‬وأصح‬
‫ِّ‬
‫َّ‬
‫القرآنية‬ ‫املفر َدة‬
‫املتعلقة بجمال َ‬ ‫ثانيا‪ :‬الخصائص‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫والتي من ٍّ‬
‫عادة دالالت الكلمات األخرى‬ ‫أهم مزاياها وخصائصها جمال وقعها في السمع‪ ،‬وا ِتساقها الكامل مع اْلعنى‪ ،‬وا ِتساع داللتها ْلا ال تتسع له‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫من اْلعاني واْلدلوالت‪ .‬وقد نجد في تعابير بعض األدباء والبلغاء كلمات تتصف ببعض هذه اْلزايا والخصائص‪ّ ،‬أما أن تجتمع كلها ً‬
‫معا وبصورة‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪5‬‬
‫ّ‬ ‫تشذ فذلك ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مما لم يتوافر إال في القرآن الكريم‪ ،‬وإليك هذا اْلثال القرآني الذي يوضح هذه الظاهرة ويجليها‪ :‬قول تعالى في‬ ‫مط ِردة ال تتخلف أو‬
‫ّ‬
‫الص أب ِح ِإذا تن ّفس} [التكوير‪ ،]18 ،17 :‬ففي هاتين الكلمتين‪" :‬ع أسعس"‪ ،‬و"تن ّفس" تشعر أنهما‬
‫الل أيل إذا ع أسعس * و ُّ‬
‫كل من الليل والصبح‪{ :‬و ِ ِ‬
‫وصف ٍّ‬
‫ٍ‬
‫ُّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫تبعثان في خيالك صورة اْلعنى محسوسا مجسما دون حاجة للرجوع إلى قواميس اللغة؟! وهل في مقدورك أن تص ِور إقبال الليل وتمدده في اآلفاق‬
‫سعس"؟! وهل تستطيع أن ُتص ٍّور انفالت الضحى من مخبأ الليل وسجنه بكلمة أروع من "تن ّفس"[‪]5‬؟!‪1‬‬ ‫وأدل من "ع أ‬ ‫اْلترامية بكلمة ّ‬
‫أدق ّ‬
‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫القرآنية وصياغتها‬ ‫ثالثا ‪:‬الخصائص املتعلقة بالجملة‬
‫ً ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬
‫دائما مؤلفة من كلمات وحروف‬ ‫واضحا في التالؤم واال ِتساق الكاملين بين كلماتها‪ ،‬وبين حركاتها وسكناتها؛ فالجملة في القرآن تجدها‬ ‫ونجد ذلك‬
‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫تضامها نسق جميل ينطوي على إيقاع رائع‪ ،‬ما كان ِلي ِت ّم لو نقصت من الجملة كلمة‬ ‫ِ‬ ‫ويتكون من‬ ‫وأصوات يستريح لتألفها السمع والصوت واْلنطق‪،‬‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫السم ِاء ِبم ٍاء ُم أنه ِم ٍر * وف ّج أرنا األ أرض ُع ُيونا فالتقى اْل ُاء على‬
‫أو حرف‪ ،‬أو اختلف ترتيب ما بينها بشكل من األشكال‪ ،‬فاقرأ قوله تعالى‪{ :‬ففت أحنا أ أبواب ّ‬
‫وتأمل تناسق الكلمات في كل جملة‪ ،‬بل وتناسق الحروف قبل الكلمات‪ ،‬وعن هذا التناسق البديع بين الجمل‬ ‫أ أمر ق أد ُق ِدر}[القمر‪ّ ،]12 ،11 :‬‬
‫ٍ‬
‫مما يتعذر على البشر ويمتنع"[‪2!]6‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫والكلمات يقول الباقالني‪" :‬تلك األلفاظ البديعة‪ ،‬وموافقة بعضها بعضا في اللطف والبراعة‪ّ ،‬‬

‫ّ‬ ‫تدل بأقصر عبارة على أوسع معنى ٍّ‬ ‫كما نجد الجملة القر ّ‬
‫آنية ُّ‬
‫تام متكامل‪ ،‬ال يكاد اإلنسان يستطيع التعبير عنه إال بأسطر وجمل كثيرة‪ ،‬دون أن‬
‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ً ا ُمخ ًّال‪ ،‬أو ً‬
‫ضعفا في األدلة [‪،3]7‬‬ ‫تجد فيه اختصار ِ‬

‫يتاء‬ ‫يد أب ُن أاْلُغيرة إلى ر ُسول هللا صلى هللا عليه وآله وس ّلم‪ ،‬فقال ل ُه أاق أرأ عل ّي‪ ،‬فقرأ عل أيه إ ّن َّللا ي أأ ُم ُر ب أالع أدل و أ أ‬ ‫ع أن ع أكرمة قال‪" :‬جاء أالول ُ‬
‫سان و ِإ ِ‬
‫اإلح ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أُ‬
‫شاء واْلنك ِر والبغ ِي ي ِعظك أم لعلك أم تذك ُرون‪ .‬قال‪ :‬أ ِعد‪ ،‬فأعاد الن ِب ُّي صلى هللا عل أي ِه وآله وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬و ِ‬
‫هللا ِإن له لحالوة‪،‬‬ ‫ِذي الق أربى‪ ،‬وينهى ع ِن الفح ِ‬
‫ُ ُأ‬ ‫ُأ‬ ‫ً‬
‫]و ِإ ّن عل أي ِه لطالوة‪ ،‬و ِإ ّن أ أعال ُه ْلث ِمر‪ ،‬و ِإ ّن أ أسفل ُه ْلغ ِدق وما ي ُقو ُل هذا بشر"‪1.‬‬
‫‪".‬وذكر أبو عبيدة‪( :‬أ ّن أ أعراب ًّيا سمع ر ُج ًال ي أق ُرأ‪﴿ :‬ف أ‬
‫اصد أع ِبما ُت أؤم ُر ﴾ فسجد وقال‪" :‬سجدت لفصاحته‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أُ ً‬ ‫أ‬ ‫صوا نج ًّيا﴾ ُسور ُة ُي ُ‬
‫وسف‪ :‬اآلية‪ .80 /‬فقال‪ :‬أشه ُد أ ّن مخلوقا ال ي أق ِد ُر على ِمث ِل هذا الكالم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫است أيأ ُسوا م أن ُه خل ُ‬
‫ِ‬
‫‪].‬وسمع آخر يقرأ‪﴿ :‬فل ّما أ‬

‫َللا ع أن ُه كان ي أو ًما نا ِئ ًما في أاْل أسج ِد فإذا ُهو بر ُجل بقا ِئم على أرأس ِه يتش ّه ُد شهادة أالح ٍّق‪ ،‬ف أ‬
‫است أخبر ُه ُعم ُر رض ي ّ ُ‬
‫َللا‬ ‫و ُحكي‪ :‬أ ّن ُعمر أبن أالخ ّطاب رض ي ّ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ ِ ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ أ ّ ُأ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ع أن ُه‪ ،‬عن ذلك‪ ،‬فأ أعلمه أنه ِم أن بطارق ِة ُّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الر ِوم ِم ّم أن ُي أح ِس ُن كالم العر ِب وغ أي ِرها وأنه س ِمع ر ُجال ِم أن أ أسرى اْل أس ِل ِمين يقرأ آية ِم أن ِكت ِابكم فتأملتها ف ِإذا‬ ‫ِ‬
‫أ‬
‫الد أنيا واآلخرة ‪2‬‬
‫‪.‬ق أد ُجمع فيها ما أنزل هللا على عيس ى بن م أريم م أن أ أحوال ُّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ ُ ُّ أ‬ ‫ُ ُ أ ُ‬ ‫ّ ّأ ُ‬ ‫ّ ُ ُ أ‬ ‫أ ُ‬ ‫أُ ُ‬
‫ور‪ :‬اآلية‪52 /‬‬ ‫و ِهي قوله‪﴿ :‬ومن ي ِط ِع َللا ورسوله ويخش َللا ويتق ِه فأول ِئك هم الفا ِئزون﴾‪ .‬سورة الن ِ‬
‫الروح والحركة فيها‪ ،‬فيقول ‪{ :I‬مث ُل ُه أم كمثل ّال ِذي أ‬
‫است أوقد ن ًارا فل ّما‬
‫ٍّ‬
‫ببث ُّ‬‫املجرد في صورة حسية ملموسة‪ِ ،‬‬ ‫وكذلك إخراج الجملة القرآنية للمعنى ّ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫أ ُ‬ ‫أ‬
‫ات ال ُي أب ِص ُرون} [البقرة‪ ،]17 :‬إنه ُيص ٍّ ِور لك هذا اْلعنى في مظهر من الحركة املحسوسة الدائرة‬ ‫ور ِه أم وترك ُه أم ِفي ظلم ٍ‬
‫أضاءت ما حوله ذهب َللا ِبن ِ‬
‫الحق والباطل باألعمى الذي ال يبصر [‪4.]9‬‬ ‫شبه حال اْلنافق اْلضطرب بين ٍّ‬ ‫بين عينيك؛ حيث ّ‬
‫ِ‬

‫ِّ‬
‫‪ 1‬وللوقوف عل الخصائص المتعلقة بالمفردة القرآنية انظر‪ :‬تمام حسان‪ :‬البيان ن يف روائع القرآن من ص‪.328-289‬‬
‫الباقالن‪ :‬إعجاز القرآن ص‪.42‬‬‫ن‬ ‫‪2‬‬
‫ن‬ ‫ي‬
‫‪:‬‬ ‫‪:‬‬ ‫‪:‬‬
‫‪ 3‬محمد عبد هللا دراز النبأ العظيم ص ‪ ،153‬وانظر تمام حسان البيان يف روائع القرآن ص‪421-395‬‬
‫البيهق ن يف دالئل النبوة‬
‫ي‬
‫ر‬ ‫‪ .1‬رواه‬
‫‪2‬فصاحة القران ‪aluka.net.‬‬

‫‪ 4‬محمد أبو زهرة‪ :‬المعجزة ر‬


‫الكتى القرآن ص‪.272‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪6‬‬
‫هذه بعض مظاهر اإلعجاز اللغوي والبياني في القرآن‪ ،‬وقد اعترف نصارى العصر الحديث بعظمة القرآن‪ّ ،‬‬
‫وسجلوا في ذلك شهاداتهم التي تنطق‬
‫ّ‬
‫الفرنسية بترجمة اثنين وس ٍِّتين سورة من‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الخارجية واْلعارف‬ ‫بالحق؛ فها هو ذا الدكتور ماردروس[‪ 1]10‬اْلستشرق الفرنس ي بعد أن كلف أت ُه وزارتا‬
‫ٍّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مقدمة ترجمته الصادرة سنة (‪1926‬م)‪" :‬أما أسلوب القرآن فهو أسلوب الخالق جل وعال؛ فإن‬ ‫ٍّ‬
‫القرآن يعترف بعظمة القرآن الكريم‪ ،‬وقال في ِ‬
‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫األسلوب الذي ينطوي على ُك أن ِه الخالق الذي صدر عنه هذا األسلوب ال يكون إال ً‬
‫ّ‬
‫وارتيابا قد خضعوا‬ ‫إلها‪ ،‬والحق الواقع أن أكثر الكتاب شكا‬
‫لسلطان تأثيره"[‪2]11‬‬

‫املراجع‬

‫‪ -1‬مذكرة مقدمة ضمن متطلبات نيل شهادة اْلاستر تخصص لسانيات عامة‪ ،‬بعنوان‪ :‬تعليمية البالغة وفق اْلقاربة بالكفاءات مستوى‪:‬‬
‫السنة الثالثة ثانوي "شعبة اآلداب" أنموذج‪ ،‬إعداد‪ :‬سعاد بن حامد‪ ،‬السنة الجامعية‪1439 :‬ه‪1440-‬ه‪2018/‬م‪2019-‬م‪ ،‬ص‪21 .‬‬
‫‪ -2‬من مقدمة كتاب (الصناعتين) للعسكري‪ ،‬ص‪ ،)3 ،2( :‬ط‪ .‬اْلكتبة العصرية‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ -3‬مفتاح العلوم‪ ،‬للسكاكي‪ ،‬ص‪ ،)39 ،38( :‬ط‪ .‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪ -4‬الرسالة الشافية لعبد القاهر بطولها في تقرير هذا اْلعنى‪ ،‬وانظره‪ :‬مفتتح (دالئل اإلعجاز)‪ ،‬عناية‪ :‬محمود شاكر‪.‬‬
‫‪ -5‬الكشاف‪ ،‬للزمخشري (‪ ،)96/1‬ط‪ .‬مكتبة العبيكان‬
‫‪ -6‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ص‪ ،)630( :‬ط‪ .‬دار األرقم‬
‫‪ -7‬في مظاهر إعجاز النظم في القرآن الكريم انظر محمد السيد شيخون‪ :‬اإلعجاز في نظم القرآن الكريم‪ ،‬واملحمدي عبد العزيز الحناوي‪:‬‬
‫دراسات حول اإلعجاز البياني في القرآن‪ ،‬وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)‪ :‬إعجاز القرآن البياني‪.‬‬
‫‪ -8‬البيهقي‪ :‬دالئل النبوة (‪ ،79/2 )509‬وابن هشام‪ :‬السيرة النبوية ‪ ،294/1‬والسهيلي‪ :‬الروض األنف ‪ ،46/2‬وابن كثير‪ :‬السيرة النبوية‬
‫‪505 ،504/1‬‬
‫‪ -9‬انظر‪ :‬محمد عبد هللا دراز‪ :‬النبأ العظيم ص ‪148 ،147‬‬
‫ٍّ‬
‫‪ -10‬وللوقوف على الخصائص ِ‬
‫اْلتعلقة باْلفردة القرآنية انظر‪ :‬تمام حسان‪ :‬البيان في روائع القرآن من ص‪.328-289‬‬
‫‪ -11‬الباقالني‪ :‬إعجاز القرآن ص‪.42‬‬
‫‪ -12‬محمد عبد هللا دراز‪ :‬النبأ العظيم ص ‪ ،153‬وانظر‪ :‬تمام حسان‪ :‬البيان في روائع القرآن ص‪421-395‬‬
‫‪ -13‬محمد أبو زهرة‪ :‬اْلعجزة الكبرى القرآن ص‪.272‬‬
‫مار أد ُروس ‪Joseph Charles Mardrus (1868-1949‬م)‪ :‬طبيب ومستشرق فرنس ي‪ ،‬ولد بالقاهرة‪ ,‬ورحل إلى باريس فدرس‬
‫‪ -14‬جوزيف شارل أ‬
‫فيها الطب‪ ،‬وترجم معاني (القرآن الكريم) إلى الفرنسية‪ ,‬وكتاب (ألف ليلة وليلة)‪ .‬انظر‪ :‬نجيب العقيقي‪ :‬اْلستشرقون ‪.241/1‬‬
‫‪ -15‬محمد رشيد رضا‪ :‬مجلة اْلنار ‪.282/33‬‬

‫ن‬ ‫ر‬ ‫ْ ُْ‬


‫جوزيف شارل ماردروس‪ Mardrus (1868-1949‬ر‪ Joseph Charles‬م)‪ :‬طبيب ومستشق فر ي‬
‫معان (القرآن الكريم) إىل‬ ‫نس‪ ،‬ولد بالقاهرة‪ ,‬ورحل إىل باريس فدرس فيها الطب‪ ،‬وترجم‬ ‫‪1‬‬
‫ي‬
‫‪/‬‬ ‫ر‬ ‫‪:‬‬
‫العقيق المستشقون ‪.241 1‬‬ ‫‪:‬‬ ‫‪.‬‬
‫الفرنسية‪ ,‬وكتاب (ألف ليلة وليلة) انظر نجيب‬
‫ي‬
‫‪ 2‬محمد رشيد رضا‪ :‬مجلة المنار ‪.282/33‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪7‬‬
‫مصادر التحليل البالغي للنظم القرآني‪ ،‬وضوابطه عند أهل السنة واجلماعة‪.‬‬

‫التحليل البالغي للنظم القرآني‬

‫❖ تعريف التحليل البالغي في القران الكريم‬


‫هو اْلنهج الذي تدور مباحثه حول بالغة القرآن في صوره البيانية من تشبيه واستعارة وكناية وتمثيل ووصل وفعل وما يتفرع من ذلك‬
‫من استعمال حقيقي‪ ،‬أو استخدام مجازي أو استدراك لفظي‪ ،‬أو استجالء للصورة أو تقويم للبنية‪ ،‬أو تحقيق في العالقات اللفظية واْلعنوية أو‬
‫كشف الدالالت الحالية واْلقالية‪ .‬والبحث في هذا الجانب يعد بحثا أصيال في جوهر اإلعجاز القرآني ومؤشرا دقيقا في استكناه البالغة القرآنية‪.1‬‬

‫ومن أشهر مفسري هذا الفن هو أبو عثمان الجاحظ (ت‪ 255 :‬هـ) إذ خصص كثيرا من مباحثه في كتابه (نظم القرآن) إلى استيفاء مجال‬
‫العبارة‪ ،‬واستخراج ما فيها من مجاز وتشبيه بمعانيها الواسعة غير املحددة‪ ،‬إال أن هذا العرض من قبل الجاحظ جاء مجزأ ومفرقا ولم يكن متفرغا‬
‫للقرآن كله‪ ،‬بل لبعض من آياته كما يبدو‪ ،‬وذلك من خالل معالجته البيانية في (نظم القرآن) والبيان والتبيين للجاحظ! ولكن عند ظهور الشيخ‬
‫عبد القاهر الجرجاني (ت‪ 471 :‬هـ) في كتابيه‪« :‬دالئل اإلعجاز» و«أسرار البالغة» فكانت الحال مختلفة فالجرجاني عالم واسع الثقافة مرهف‬
‫الحس‪ ،‬متوقد الذكاء‪ ،‬وقد استخدم ذلك في استنباط األصول االستعارية واألبعاد التشبيهية‪ ،‬واْلعالم املجازية آليات القرآن الكريم وأخضعها‬
‫باعتبارها نماذج حية للتطبيق العلمي‪ .‬فهو بذلك أوسع بكثير من سابقه الجاحظ في هذا اْلضمار‪ ،‬إال أن الصورة التكاملية للقرآن مفقودة في كال‬
‫الكتابين على عظم قدرهما البالغي‪ ،‬ومفتقرة إلى السعة لتشمل القرآن أجمع‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫إال أن ظهور جار َللا الزمخشري (ت‪ 538 :‬هـ) فتح لنا عمق دراسة جديدة في البالغة القرآنية التطبيقية‪ ،‬انتظمت على ما ابتكره عبد‬
‫القاهر الجرجاني‪ ،‬وما أضافه من نكت بالغية‪ ،‬ومعان إعجازية اعتمدت اْلناخ الفتي فعاد تفسيره اْلسمى «الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون‬
‫األقاويل في وجوه التأويل» كنزا من اْلعارف ال تنتهي فرائده‪.‬‬

‫فقد تجلى فيه ما أضافه من دالالت جمالية في نظم اْلعاني‪ ،‬وما بحثه من اْلعاني الثانوية في تقديم العبارة وعائدية الضمائر‪ ،‬والتركيب‬
‫اللغوي‪ ،‬وتعلق العبارة بعضها ببعض من وجهة نظر بالغية تعتمد على عانيته بالكناية واالستعارة والتشبيه واملجاز والتمثيل والتقديم والتأخير‪،‬‬
‫عناية فائقة فهو يفصل القول في الفروق اْلميزة بينها‪ ،‬ويثير من خاللها إلى اْلعاني الثابتة‪ ،‬وهو كثير التنقل باأللفاظ القرآنية من الحقيقة إلى املجاز‪،‬‬
‫إذا كان اْلعنى الحقيقي يختلف عن نظريات اْلذهب اْلعتزلي وصميم أفكاره! وقد أخضع تفسيره هذا للوجهة الكالمية عند اْلعتزلة والتعريف‪،‬‬
‫والفصل والوصل‪ ،‬واملجاز اللغوي واملجاز العقلي وفي التمثيل والتشبيه‪.‬‬

‫وامتاز على عبد القاهر الجرجاني‪ .‬أن عبد القاهر قد وجه عنايته بنظريته إلى اْلعاني ومدى عالقتها بالنظم‪ ،‬ولم يعر أهمية لبديع القرآن‬
‫بينما اهتم الزمخشري وجعله أساسا يندرج تحت مفهوم البيان باعتبار البديع أشكاال وقوالب وصورا‪ ،‬تفنن بها القرآن وأبرزها على نحو فني تتميز‬
‫به أساليب القول‪.‬‬

‫ن‬
‫حسي الصغت‪ -‬ص ‪.103‬‬ ‫‪ 1‬دراسات قرآنية‪ -‬محمد‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪8‬‬
‫وبهذا امتاز الزمخشري بكونه من أوائل العلماء البالغيين الذين كرسوا الجهد في الكشاف الستجالء اإلعجاز من خالل االستعمال البياني‬
‫استوى } [طه ‪ ]5 :‬يبحث موضوع االستواء‬ ‫من على أالع أرش أ‬
‫الر أح ُ‬
‫في التفسير! وكان له لقطات والتفاتات رائعة في كثير من اْلواضع منها في قوله تعالى { ّ‬
‫ِ‬
‫والعرش في ضوء ما تستعمله العرب من املجاز والكناية‪ ،‬ويضرب لذلك األشباه والنظائر من القرآن وأقوال العرب فيقول ‪ْ« :‬لا كان االستواء على‬
‫العرش وهو سرير اْللك‪ ،‬مما يرادف اْللك جعلوه كناية عن اْللك فقالوا ‪ :‬استوى فالن على العرش‪ ،‬يريدون ملك‪ ،‬وإن لم يجلس على السرير البتة‪،‬‬
‫وقالوا أيضا لشهرته في ذلك اْلعنى ومساواته ملك في مؤداه‪ ،‬وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة األمر ونحوه قولك ‪ :‬يد فالن مبسوطة ويد فالن‬
‫مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل‪ ،‬ال فرق بين العبارتين إال فيما قلت‪ ،‬حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال‪ ،‬أولم تكن له يد رأسا قيل فيه يده‬
‫أ ُ أ ُ‬ ‫أ ُ ُ ُ ّ أُ‬
‫تان} أي هو‬
‫َللا مغلولة} [اْلائدة ‪ ]64 :‬أي هو بخيل! {بل يداه مبسوط ِ‬
‫مبسوطة‪ْ ،‬لساواته عندهم قولهم هو جواد ومنه قوله تعالى {وقال ِت اليهود يد ِ‬
‫جواد من غير تصور يد وال غل وال مبسط‪ ،‬والتفسير بالنعمة والتحمل للتشبيه من ضيق العطن‪ ،‬واْلسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام؟!»‪.1‬‬

‫حقيقة مدعي أهل السنة‪ :‬أن الزمخشري ببيانه هذا لم يعمل سوى تفسير اْلتشابه على وفق البالغة وعلم اْلعاني العربي‪ ،‬مع ميالنه إلى‬
‫االعتزال أي تحرير عقله عن الجمود األشعري‪.‬‬
‫وهذا مما أشار حفيظة من ألبسوا أنفسهم ثوب السنة‪ٍّ ،‬‬
‫ألنهم تعصبوا ألحاديثهم وغالوا برجالهم ومنهم شيخهم األشعري الذي تنطع وكابر‬
‫في تفسيره للمتشابه فارتكس بالتشبيه والتجسيم‪ ،‬والجبر‪ ،‬والرؤية‪ ،‬وغيرها‪ .‬باإلضافة إلى جمودهم وتجميد عقولهم على موروثاتهم‪ ،‬فلم يتمالكوا‬
‫أمام افتضاح زيغهم وضاللهم إال بشن الطعون واالتهامات كعادتهم ضد اْلعتزلة والعدلية وأهل التنزيه تعصبا وإصرارا وإن ظهر وبدا لهم زيف‬
‫مذهبهم؟! ونقول لهم ال داعي لكل هذا الضجيج‪ ،‬وإطالق االتهامات‪ ،‬فإن الزمخشري فسر القرآن باللغة التي نزل بها وهي لغة العرب‪ ،‬ثم وإن كنا ال‬
‫نوافق اْلعتزلة في إفراطاتهم العقلية في مقابل تفريطات العقول عند مدعي السنة‪ ،‬إال أن الزمخشري قد حرر عقله مقابل جمود القوم!‬

‫القرآن أعلى مراتب البالغة والفصاحة والبيان ‪،‬ومنه وإليه فطن عبد القاهر الجرجاني إلى نظريته ‪،‬وقد نزل القرآن على أفصح الناس‬
‫لسانا فتحداهم فأعجزهم ‪،‬فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله ‪،‬وال أن يأتوا بسورة أو بآية‪ ،‬فأبانوا عن عجز واستسالم ‪،‬ولكن يبقى السؤال ما الذي‬
‫أعجزهم فيه ؟أعن معان دقيقة صحيحة قوية ؟أم ألفاظه املحكمة الفصيحة؟ أجاب الجرجاني عن سر عجز العرب عن اإلتيان بمثله ٍّ‬
‫‪،‬وفسر‬
‫إعجابهم به فقال‪“ :‬أعجزهم مزايا ظهرت لهم في نظمه‪ ،‬وخصائص صادفوها في سياق لفظه‪ ،‬وبدائع راعتهم من مبادي آية ومقاطعها‪ ،‬ومجاري‬
‫ألف اظها ومواقعها وفي مضرب كل مثل ‪،‬مساق كل خبر‪ ،‬وصورة كل عظة وتنبيه وإعالم‪ ،‬وتذكير وترغيب وترهيب‪ ،‬ومع كل حجة وبرهان‪ ،‬وصفة‬
‫وتبيان‪ ،‬وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة‪ ،‬وعشرا عشرا‪ ،‬وآية آية‪ ،‬فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو مكانها‪ ،‬ولفظة ينكر شأنها ‪،‬ويرى أن هناك أصلح‬
‫هناك أو أشبه‪ ،‬أو أحرى ‪،‬بل وجدوا اتساقا بهر العقول‪ ،‬وأعجز الجمهور‪ ،‬ونظاما والتئاما‪ ،‬وإتقانا وإحكاما‪ ،‬لم يدع في نفس بليغ منهم‪-‬ولو حك‬
‫بيافوخه السماء‪-‬موضع طمع ‪،‬حتى خرست األلسن عن أن تدعي وتقول "‪2‬‬

‫مفهوم النظم‬

‫ً‬
‫ونظاما‪ ،‬فهو ناظم ومنظوم‪ ،‬وهو ضد (اْلقابل) النثر‪ .‬وقد جاء في معاجم اللغة أن مادة ( ن ظ م ) تفيد‪ :‬التأليف‬ ‫النظم‪ :‬مصدر نظم ينظم ً‬
‫نظما‬
‫والتركيب‪ ،‬وضم ش ٍيء إلى آخر على نسق معين؛ كنظم الدر والخرز وغيرهما‪ .‬وكلمة النظم تطلق على الش يء اْلنظوم من باب الوصف باْلصدر مبالغة‬
‫ُ ُ‬
‫وتخفيفا؛ كما في قوله تعالى‪﴿ :‬و ِإ أن ك ّن أوال ِت ح أم ٍل﴾ [الطالق‪]6 :‬؛ أي‪ :‬وإن كن صاحبات محمو ٍل في بطونهن‪.‬‬
‫ً‬

‫ر‬
‫الزمخشي‪ -‬الكشاف‪.530 /2 -‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 2‬دالئل اإلعجاز ‪،‬ص‪84‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪9‬‬
‫ً‬
‫ونظاما‪ ،‬ونظمه فانتظم‪ ،‬وتنظم ونظمت اللؤلؤ‪ .‬ومعنى عند علماء التفسير وعلوم‬ ‫يقول جمال الدين بن منظور‪( :‬النظم التأليف‪ ،‬نظمه ينظمه ً‬
‫نظما‬
‫الق أرآن ‪ -‬وجه من وجوه إعجاز ُ‬
‫الق أرآن الذي عجزت عنه (اإلتيان بمثله) البشرية جمعاء منذ أن نزل على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى يومنا‬ ‫ُ‬

‫هذا ‪.‬‬

‫أهمية دراسة النظم القرآني‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٍّ‬
‫أخص خصائص القرآن وأدق صفاته‪ ،‬وهذه الصفة ليست صفة ثانوية هامشية؛ بل هي في‬ ‫إن النظم املحكم والرصف اْلتفرد والبناء اْلتالحم من‬
‫غاية األهمية؛ إذ فيها يكمن ٍّ‬
‫سر اإلعجاز ودقائق اْلعاني كما أشار العلماء املحققون؛ فالنظم القرآني نظم شديد الترابط والتناسب واالنسجام فال‬
‫اختالف فيه وال تنافر؛ وذلك ألن القرآن أحسن الحديث‪ ،‬وليس ذلك فحسب؛ بل إن هذا النظم اْلنسجم من أعظم وجوه اإلعجاز القرآني؛ إذ إن‬
‫تميز نظم القرآن عن سائر نظوم البشر‪ ،‬وهي داللة على أنه من عند هللا؛ إذ لو كان من عند غيره‬ ‫صفة الترابط والتناسب واالنسجام هذه هي التي ٍّ‬
‫أ ً‬ ‫أ‬
‫ند غ أي ِر هللا لوج ُدوا ِف ِيه اخ ِتالفا ك ِث ًيرا) «النساء ‪ »82:‬وبمفهوم املخالفة‬ ‫أ‬ ‫أُ‬
‫ْلا سلم من االختالف والتنافر؛ قال تعالى‪( :‬أفال يتد ّب ُرون الق أرآن ول أو كان ِمن ِع ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -‬كما يقول األصوليون ‪ -‬فإنه ْلا كان من عند هللا فقد وجدوا فيه انسجاما وتناسبا وتعاضدا وتماسكا ال يكون لسواه من أنواع الكالم على إطالقها‪.‬‬
‫أ أ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫«فإن زلل ُت أم ِمن ب أعد‬ ‫العرب البلغاء األوائل هذه الصفة في القرآن‪ ،‬ويروى أن أعرابيا في زمان «عمر بن الخطاب» سمع رجال يقرأ خطأ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ولقد عرف‬
‫اعل ُم أوا أ ّن هللا غ ُف أور ر ِح أيم» فقال األعرابي‪ :‬ال يكون(‪ ،)1‬وذلك لعدم اْلناسبة بين الجملة األولى والثانية؛ إذ إن الضالل بعد‬ ‫ما جاء أت ُك ُم الب ٍّين ُ‬
‫ات ف أ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫أ ُ ُ أ ٍّ ُ أ ُ أ‬ ‫أ‬ ‫ٍّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬
‫معرفة الهدى ال يقابل بالغفران والرحمة‪ ،‬والصحيح في القرآن هو‪( :‬ف ِإن زللتم ِمن بع ِد ما جاءتكم الب ِينت فاعلموا أن هللا ع ِزيز ح ِكيم) «البقرة‪:‬‬
‫‪. »209‬‬

‫وقد أدرك الصحابة ‪ -‬رضوان هللا عليهم ‪ -‬أهمية النظم والسياق في معرفة اْلعنى وإدراك الدالالت القرآنية‪ ،‬يقول «ابن مسعود»‪( :‬إذا سأل أحدكم‬
‫ٍّ‬
‫ويعضد ذلك ما قاله مسلم بن يسار‪:‬‬ ‫صاحبه كيف يقرأ آية كذا وكذا فليسأله عما قبلها وعما بعدها) (‪ )2‬وبهذا أشار «ابن مسعود» إلى منهج النظم‪،‬‬
‫ً‬
‫(إذا ُح ٍّدثت عن هللا حديثا فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده) (‪.)3‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وال شك أن معرفة اْلعنى من خالل السياق وإدراكه من النظوم والتراكيب ليس منهجا جديدا وال أسلوبا محدثا وال طريقة مبتكرة؛ وإنما هو أمر‬
‫ثابت معروف‪ ،‬وقد أشار إليه النبي صلى هللا عليه وسلم واستخدمه في استدالالته‪ ،‬ومن ذلك ما روى الترمذي من أن عائشة رض ي هللا عنها قد سألت‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُُ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ع أن ه ِذ ِه اآلي ِة «وال ِذين ُي أؤ ُتون ما آت أوا وقل ُوب ُه أم و ِجلة» قال أت عا ِئشة‪ :‬أ ُه أم ال ِذين يشرُبون الخ أمر وي أس ِرقون؟ قال‪ :‬ال يا ِبنت‬
‫أ أ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ُّ‬ ‫الص ٍِّديق‪ ،‬ول ِك ّن ُه أم ّال ِذين ي ُ‬
‫ات) (‪ )4‬وقد‬ ‫ومون و ُيصلون ويتصدقون وه أم يخافون أن ال ُيقبل ِمن ُه أم‪ :‬ثم قرأ بعدها‪( :‬أول ِئك ال ِذين يس ِارعون ِفي الخير ِ‬ ‫ص ُ‬
‫ِ ِ‬
‫ٍّ‬
‫ُ‬ ‫ٍّ‬
‫دل هذا الحديث بصورة واضحة ال لبس فيها وال خفاء على أن النبي صلى هللا عليه وسلم قد استشهد بالنظم وأعمله في بيان اْلعنى اْلراد عند وصله‬
‫لآلية اْلسئول عنها بما بعدها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وللمكانة اْلنهجية العظمى التي يحتلها النظم ولكونه أمرا ضروريا في استنباط اْلعاني وضبطها فقد حفل به اْلفسرون‪ ،‬إذ أشار «الزمخشري» إلى‬
‫أنه أهم ما يجب على اْلفسر معرفته (‪)5‬؛ وما ذاك إال ألن األسرار واْلعاني واللطائف القرآنية كامنة فيه‪ ،‬يقول اإلمام الرازي‪( :‬أكثر لطائف التفسير‬
‫مودعة في الترتيبات والروابط) (‪.)6‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪10‬‬
‫سر اإلعجاز يف النظم ‪:‬‬
‫ُ‬
‫حكمت آياته‪ ،‬وذهب اْلفسرون إلى أن من‬ ‫من اْلعاني التي تشير إلى تناسب النظم القرآني معنى «اإلحكام»؛ وقد ذكر هللا تعالى أن القرآن كتاب أ ِ‬
‫معاني اإلحكام‪ :‬اإلحكام في النظم والرصف والتأليف‪ ،1‬وْلا كان األمر على هذا الوجه ٍّ‬
‫فإنه ينبغي مراعاة هذه الصفة التي عليها القرآن عند التعامل‬
‫معه‪ .‬وإذا كان الضم الحسن والنظم اْلتفرد والرصف الرائع والتأليف البديع من أبرز سمات القرآن وأظهر خصائصه فالفرق كبير وشاسع بين‬
‫النظم اإللهي والنظوم البشرية األخرى؛ وألجل ذلك يقول الجاحظ‪( :‬وفرق بين نظم القرآن وتأليفه ونظم سائر الكالم وتأليفه)‪ 2‬؛ ولهذا ٍّ‬
‫فإن القرآن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪-‬لدقة النظم وإحكامه ‪ -‬ال يمكن أن يدخل فيه ما ليس منه؛ يقول اإلمام القرطبي‪« :‬إن آياته قد ُنظمت نظما محكما ال يلحقها معه تناقض وال‬
‫خلل»‪.3‬‬
‫ً‬ ‫وْلا كان النظم من األهمية في هذا اْلكان السامي الذي ذكرنا فقد وجب االعتناء به؛ وألجل ذلك مال اْلفسرون والبالغيون إليه ٍّ‬
‫وعدوه أصال‬
‫ً‬
‫لإلعجاز ومناطا للتحدي؛ فالقرآن لتناسبه الشديد ال يستطيع الفصحاء والبلغاء اإلتيان بمثله في النظم والتأليف؛ فهو نص إلهي متماسك األجزاء؛‬
‫متالئم التراكيب‪ ،‬األمر الذي تجد خالفه في نظوم البشر وتآليفهم‪.‬‬

‫فالنظم إذن هو الذي يحدد جمال الكالم أو عدمه؛ فالكالم الجيد اْلتميز هو الذي حسنت نظومه وتراكيبه‪ ،‬والكالم الرديء هو الذي ساءت‬
‫تراكيبه ونظومه‪ ،‬وليست العبرة باْلفردات اللغوية املجردة‪.4‬‬
‫ُ‬
‫وْلا كان األمر على الوجه الذي ذكر‪ -‬فإنه قد ثبت أن لكل نظم وسياق مفردات تناسبه؛ ومن أمثلة ذلك أنك ترى القرآن يصف األرض في موضع‬
‫بأنها (هامدة) ويصفها في موضع آخر بأنها (خاشعة)‪ ،‬وما كان ذلك كذلك إال لسبب مخصوص وغرض معين؛ وهو اختالف النظوم باختالف اْلعاني‬
‫أ ُ‬ ‫ّ أ ُ ٍّ ُ ُ‬ ‫ُّ ّ ُ ُ ُ أ أ ٍّ أ أ‬
‫اب ث ّم ِمن ُّنطف ٍة ث ّم‬ ‫العامة؛ إذ ذكر (األرض(هامدة) مع ذكر البعث واإلحياء ؛ قال تعالى‪( :‬يا أيها الناس ِإن كنتم ِفي ري ٍب ِمن البع ِث ف ِإنا خلقنكم ِمن تر ٍ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُُ ُ ُ‬ ‫ً ُ‬ ‫ُ أ ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫م أن علقة ُث ّم من ُّم أ‬
‫ضغ ٍة ُّمخلق ٍة وغ أي ِر ُمخلق ٍة ِل ُنب ٍِّين لك أم و ُن ِق ُّر ِفي األ أرح ِام ما نشاء ِإلى أج ٍل ُّمس ًّمى ث ّم ُنخ ِر ُجك أم ِط أفال ث ّم ِلت أبلغوا أش ّدك أم و ِمنكم ّمن ُيتوفى‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫أ أ أ‬ ‫ً‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ً‬ ‫أ‬ ‫أ أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ ُ ُّ أ أ‬
‫و ِمنكم من يرد ِإلى أرذ ِل العم ِر ِلكيال يعلم ِمن بع ِد ِعل ٍم شيئا وترى األرض ه ِامدة ف ِإذا أنزلنا عليها اْلاء اهتزت وربت) «الحج‪ .»5:‬أما ذكر األرض (خاشعة)‬
‫س وال‬ ‫ّ أ‬ ‫أ ُ ُ‬ ‫ّأ ُ ّ ُ ّ أ ُ أ ُ‬ ‫أ‬
‫فقد جئ به في سياق التسبيح والذكر وسجود اْلالئكة للخالق العظيم؛ قال تعالى‪( :‬و ِمن آيا ِت ِه الليل والنهار والشمس والقمر ال تسجدوا ِللشم ِ‬
‫ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ أ ُ‬ ‫ُ ّ ُ ُ أ ّ ُ أُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫النه ِار و ُه أم ال ي أسأ ُمون و ِم أن آيا ِت ِه أ ّنك ترى‬
‫الل أيل و ّ‬ ‫ٍّ ُ ٍّ ُ‬
‫ِللقم ِر واسجدوا هلل ال ِذي خلقهن ِإن كنتم ِإياه تعبدون ف ِإ ِن استكبروا فال ِذين ِعند رِبك يس ِبحون له ِب ِ‬
‫أ ُ ُ‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫ً‬ ‫أ‬
‫اشعة ف ِإذا أنزلنا عل أيها اْلـاء أاهت ّز أت ورب أت) «فصلت ‪ »39 -37‬وسياق اآلية سياق مهيب يبعث في النفس الخشوع والخضوع‪.‬‬ ‫األ أرض خ ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صوها) وقد ختمها في سورة إبراهيم ختما مختلفا عنه في‬ ‫أيضا قوله تعالى في سورتي إبراهيم والنحل‪( :‬وإن ت ُع ُّد أوا ِن أعمة هللا ال ُت أح ُ‬ ‫ً‬
‫ومن أمثلة ذلك‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫سورة النحل؛ إذ أن السياق والنظم ليس واحدا ؛ ألن هللا قد وصف في سورة إبراهيم اإلنسان وما فيه من ظلم وإنكار لفضل اْلنعم؛ ثم قال‪( :‬و ِإن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ أ ُ‬ ‫ُ ُّ أ أ‬
‫اإلنسان لظلوم ك ّفار) «إبراهيم ‪ »34‬أما في سورة النحل فقد ُوصف هللا وذكرت صفاته وأثبتت ألوهيته؛ ثم قال‪:‬‬ ‫ّ‬
‫تعدوا ِنعمة هللا ال تحصوها ِإن ِ‬
‫صوها ِإ ّن هللا لغ ُفور ّر ِحيم) «النحل ‪.»18‬‬‫(وإن ت ُع ُّد أوا ِن أعمة هللا ال ُت أح ُ‬
‫ِ‬

‫الجامع ألحكام القرآن‪10/ 4 ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫الجاحظ‪ :‬كتاب العثمانية‪ ،‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬ص‪16‬‬ ‫‪2‬‬

‫الجامع ألحكام القرآن‪2/ 6 ،‬‬ ‫‪3‬‬


‫ن‬
‫الجرجان‪ :‬عبد القاهر ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬تحقيق محمود محمد شاكر‪ ،‬ط‪ ،2‬مكتبة القاهرة ‪ ،‬سنة ‪1992‬م ‪48-46‬‬ ‫‪4‬‬
‫ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪11‬‬
‫ُ‬
‫واإلعجاز‪ -‬عند الجرجانى‪ -‬ال يتركز في اْلفردات املجردة؛ بل في النظم الذي هو سمة دقيقة يكون بها التفاضل بين البلغاء؛ فجودة التراكيب‬
‫وجمال النظوم يرفع الكالم درجات عالية؛ فإذا انسجمت اْلفردات وتناسبت الكلمات وقويت الرابطة حتى ت ُ‬ ‫ُ‬
‫ناتج الفضل ما بينها وحصلت اْلزية من‬
‫استو أت على‬ ‫ض أابل ِع أي ماء ِك ويا سم ُاء أ أق ِل ِع أي و ِغ أيض أالـم ُاء و أ‬ ‫ٍّ‬
‫ويمثل الجرجانى لذلك بقوله تعالى‪( :‬و ِق أيل يا أ أر ُ‬ ‫ٍّ‬
‫مجموعها‪ ،‬فإن تلك هي البالغة الكاملة؛ ِ‬
‫ّٰ‬ ‫ً أ‬
‫الج أو ِد ٍّ ِي و ِق أيل ُب أعدا ِللق أو ِم الظ ِل ِم أين) «هود‪ »44:‬حيث إنك لم تجد ما وجدت من اْلزية الظاهرة والفضيلة الباهرة إال ألمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم‬ ‫ُ‬
‫ألد أت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من اآلية؟ قل‬ ‫أ‬
‫وأفردت ّ‬ ‫خذت من بين أخواتها‬ ‫لفظة منها لو ُأ أ‬
‫ً‬ ‫بعضها ببعض ‪ ،‬وإن شك أكت ٍّ‬
‫فتأمل‪ :‬هل ترى‬
‫«ابلعي» واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها وكذلك اعتبر سائر ما يليها‪( :‬وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة في أ أن‬
‫نوديت األرض ثم أمرت ثم في أأن كان النداء بـ«يا» دون «أي» نحو «ياأيتها األرض»‪ ،‬ثم إضافة اْلاء إلى الكاف دون أن يقال «ابلعي اْلاء»‪ ،‬ثم أن أتبع‬
‫ُ‬ ‫نداء األرض وأمرها بما هو من شأنها ‪ -‬نداء السماء وأمرها كذلك بما ٍّ‬
‫يخصها‪ ،‬ثم أن قيل «وغيض اْلاء» فجاء الفعل بصيغة «ف ِعل» الدالة على أنه‬
‫لم يغض إال بأمر آمر وقدرة قادر‪ ،‬ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى‪( :‬واستوت على الجودي)‪ ،‬ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة‬
‫ً‬
‫والداللة على عظم الشأن‪ ،‬ثم مقابلة «قبل» في الخاتمة بـ«قبل» في الفاتحة؟ أفترى لش يء من هذه الخصائص التي تملؤك باإلعجاز روعة وتحضرك‬
‫تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ أم ٍّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كل ذلك ْلا بين معاني األلفاظ‬ ‫عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من االتساق العجيب؟ فقد اتضح اتضاحا ال يدع للشك مجاال أن األلفاظ ال تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة‪ ،‬وال من حيث هي كلم مفردة وأن‬
‫ٍّ‬
‫الفضيلة وخالفها في مالئمة معنى اللفظة ْلعنى التي تليها وما أشبه ذلك؛ مما ال تعلق له بصريح اللفظ)‪.1‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫وهذا هو ٍّ‬
‫تفاضل البلغاء في الكالم البليغ؛ فكلما ارتفعت الدرجة في البالغة‪ ،‬كان الكالم أكثر تماسكا وانسجاما‪ ،‬حتى يصل األمر إلى مرتبة‬
‫ِ‬ ‫سر‬
‫اإلعجاز التي انفرد بها القرآن عن سائر أنواع الكالم‪.‬‬

‫وال يقتصر «الجرجاني» في دراسته العظيمة لإلعجاز على ترابط األلفاظ اْلفردة فحسب؛ بل يتعداه إلى الربط بين الجملة والجملة‪ ،‬ويصف‬
‫ٍّ‬
‫اْلتعلق بربط الجمل ٍّ‬
‫بأنه‪ :‬خفي وغامض يقول‪( :‬اعلم أنه ما من علم من علوم البالغة أنت تقول فيه‪ :‬إنه خفي غامض ودقيق صعب ‪-‬‬ ‫هذا العلم‬
‫إال وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب)‪.2‬‬
‫ّ‬ ‫فإن هذا الربط بين ُ‬‫وْلا كان األمر كذلك ٍّ‬
‫الجم ِل علم عظيم تتكشف عنه من اْلعاني ما ال يتكشف في سواه؛ ولهذا نبه العلماء إلى ضرورة معرفة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قل اهتمام الناس به؛ يقول‪:‬‬ ‫عجيبة إال أنه قد ٍّ‬ ‫اْلفسر ٍّأن لهذا التناسب أسرارا‬
‫تناسب النظم بين اآلي والجمل القرآنية‪ ،‬وذكر أبو بكر بن العربي ٍّ‬
‫ِ‬
‫يتعرض له إال عالم واحد عمل فيه سورة‬ ‫(ارتباط آي القرآن ببعضها حتى تكون كالكلمة الواحدة؛ مشتقة اْلعاني؛ منتظمة اْلباني علم عظيم لم ّ‬
‫عز ٍّ‬
‫وجل لنا فيه؛ فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين هللا ورددناه إليه)‪.3‬‬ ‫البقرة ثم فتح هللا ٍّ‬

‫دور النظم يف حتديد املعاني وإدراك الدالالت ‪:‬‬


‫ً‬ ‫للنظم دور مقدر وأثر واضح في تحديد اْلعاني وإدراك الدالالت‪ٍّ ،‬‬
‫ورب أسلوب من األساليب أو عبارة من العبارات أفادت حال انفرادها معنى معينا‪،‬‬
‫أدل على ذلك من األمر والنهي داخل سياقات القرآن؛‬ ‫فإذا انضمت إلى السياق‪ ،‬واحتواها النظم والتركيب ٍّ‬
‫تغير ذلك اْلعنى بصورة مباشرة‪ ،‬وليس ٍّ‬
‫فـ«األمر» هو طلب الفعل على وجه القطع واألصل فيه هو الوجوب‪ ،‬والنهي هو طلب اجتناب الفعل على وجه القطع واألصل فيه هو التحريم‪ ،‬فإذا‬
‫ً ً‬
‫دخل هذا «األمر» في السياق‪ ،‬وأحاطت به بعض القرائن‪ ،‬فربما صار إلى معنى آخر من تهديد أو إباحة وتخيير‪ ،‬وإذا أردت مثاال بينا على ذلك فخذ‬

‫‪ 1‬دالئل اإلعجاز ص‪46-45‬‬


‫‪ 2‬المصدر السابق ص‪231‬‬
‫التهان ن يف علوم القرآن ‪36/1‬‬
‫‪ 3‬ر‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪12‬‬
‫تدل حال انفرادها على وجوب االنتشار واالبتغاء من فضل هللا؛‬ ‫ضل هللا) «الجمعة‪ »10:‬فهذه الجملة ٍّ‬ ‫أ‬ ‫أ ُ‬ ‫أ أ‬ ‫ُ‬
‫ض وابتغوا ِمن ف ِ‬‫قوله تعالى‪( :‬فانت ِشروا ِفي األر ِ‬
‫ً‬
‫إطالقا إذا نظرنا إلى النظم كله؛ إذ ٍّ‬
‫اسع أوا ِإلى‬
‫تقدم ‪ -‬قبل هذه الجملة‪ -‬حظر االنتشار واالبتغاء من فضل هللا بقوله‪( :‬ف أ‬ ‫ولكن ليس اْلقصود ذلك‬
‫ُ‬
‫الصالة فانت ِش ُروا‬ ‫ِذ أكر هللا وذ ُروا أالب أيع) «الجمعة ا‪ »9 :‬وْلا كان هذا النهي حظرا لالنتشار عندما ُينادى لصالة الجمعة فإن قوله تعالى‪( :‬فإذا قضي ِت ّ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫أ‬ ‫أ ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫ض وابتغوا ِمن فض ِل هللا) قد كان رفعا لهذا الحظر ؛ ولهذا أفاد ذلك داخل هذا النظم معنى اإلباحة والتخيير‪ ،‬واْلعنى‪ :‬لكم أن تنتشروا‬
‫‪1‬‬
‫ِفي األر ِ‬
‫أُ أ أ ُ أ‬ ‫ً‬
‫فتبتغوا من فضل هللا أو ال تنتشروا‪ ،‬إذ أنكم مخيرون واألمر لكم بعد قضاء الصالة ال قبلها‪ .‬ومثل ذلك أيضا قوله تعالى‪( :‬و ِإذا حللتم فاصطادوا)‬
‫الحل‪ ،‬ولكنه إباحة له فحسب؛ إذ تقدم في النظم حظره بقوله تعالى‪( :‬غ أير ُم ِح ٍّلي ّ‬
‫الص أي ِد وأن ُت أم ُح ُرم)‬ ‫«اْلائدة‪ »2 :‬فليس هذا أم ًرا باالصطياد في ٍّ‬
‫ِ‬
‫فدل األمر بعد ذلك على رفع هذا الحظر‪ .‬ولهذا أمثلة كثيرة في القرآن‪.‬‬ ‫«اْلائدة‪ٍّ »1 :‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫وْلا كان األمر على ذلك الوجه الذي سبق فقد اتضح اتضاحا ال يدع للشك مجاال أن من أهم األمور في معرفة مراد هللا وإدراك معانيه ومقاصده‬
‫هو مراعاة النظم والسياق؛ ولهذا يقول «ابن القيم» عن النظم‪( :‬هو من أعظم القرائن الدالة على مراد اْلتكلم فمن أهمله غلط في نظيره وغالط في‬
‫ّ‬
‫مناظراته)‪ ، 2‬ويقول «الشاطبي»‪( :‬ال بد من ِ ٍّرد آخر الكالم على أوله وأوله على آخره؛ وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم اْلكلف)‪ ، 3‬ويقول «ابن‬
‫ً‬
‫تيمية»‪(ُ :‬ينظر في كل آية بخصوصها وسياقها وما يبين معناها ‪ ،‬فهذا أصل عظيم مهم نافع في باب فهم الكتاب واالستدالل به مطلقا ونافع في معرفة‬
‫االستدالل واالعتراض والجواب وطرد الدليل ونقضه فهو نافع في كل علم خبري أو إنشائي وفي كل استدالل أو معارضة من الكتاب والسنة وفي سائر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أدلة الخلق)‪ ، 4‬وبهذا فإن ْلراعاة النظم أهمية كبيرة ومكانة عالية في االستدالل ومعرفة اْلعاني والدالالت‪.‬‬

‫النظم حيدّد معاني املفردات ‪:‬‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫ْلا كان قصد اْلتكلم ال يتأتى إال بتتبع أجزاء الكالم والربط بينها فقد اتضح اتضاحا ال يدع للشك مجاال أن من أهم األمور في معرفة مراد هللا‬
‫وإدراك معانيه ومقاصده هو مراعاة النظم القرآني؛ ولهذا كان هذا النظم من أعظم األمور التي يجب مراعاتها في التفسير‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وْلا كانت اْلعاني ال تعرف إال من النظوم فإن فهم اْلعنى الدقيق للمفردات ال يتأتى إال من خالل ذلك أيضا‪ ،‬إذ إن النظم يستبعد االستخدامات‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫دقيقا‪ ،‬كيف ّ‬ ‫ً‬
‫تغيرت دالالت اْلفردات اللغوية اْلنسلخة عن النظم عندما انتظمت فشكلت فكرة متكاملة‬ ‫األخرى للفظ ويحدد اْلعنى اْلراد تحديدا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومقصدا معينا‪.‬‬
‫ً‬
‫وهذه اْلفردات لم تأخذ معناها الدقيق إال عندما نظمها السياق وجمعها النظم والتركيب وضمتها العالقات والروابط؛ ولذلك أمثلة كثيرة جدا‬
‫من القرآن‪ ،‬ومن ذلك لفظ (أمة) و(كتاب) و (فتنة) و (وحي) و (ذكر) و (قضاء) فهذه اْلفردات إذا تأملناها في نظوم القرآن العظيم فإننا نجد معناها‬
‫يختلف من نظم إلى آخر بحسب اْلعنى العام‪ ،‬ولكننا في هذا اْلضمار سوف نقتصر على معنى «األمة» لضيق املجال؛ فلفظ (أمة) في األسلوب القرآني‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫النظم والسياق‪ ،‬ومن ذلك أن «األمة» تعني اآلتي‪:‬‬ ‫ومعان متباينة يحددها‬
‫ٍ‬ ‫يعطي دالالت مختلفة‬

‫العرن‪ ،‬بتوت‪ ،‬سنة ‪1404‬ه‪ ،‬ج ‪ 2‬ص ‪198‬‬ ‫ري‬ ‫الجميل‪ ،‬ط‪ 1/‬دار الكتاب‬
‫ي‬ ‫عل بن محمد‪ :‬اإلحكام ن يف أصول األحكام‪ ،‬تحقيق سيد‬ ‫اآلمدي‪ :‬ي‬
‫‪1‬‬
‫ن‬ ‫‪/‬‬ ‫ابن القيم‪ :‬محمد نبن ر ي‬
‫الزرغ‪ ،‬بدائع الفوائد‪ ،‬تحقيق هشام عبد العزيز عطا وآخرون‪ ،‬ط مكتبة نزار مصطق الباز ‪ -‬مكة المكرمة ‪ -‬ابن القيم الجوزية سنة ‪1416‬ه‪ ،‬ج‪4‬‬ ‫أن بكر أيوب‬ ‫‪2‬‬
‫ي‬
‫والتهان يف علوم القرآن ج ‪ 2‬ص ‪200‬‬ ‫ص ‪ ،815‬ر‬
‫الشاطن‪ :‬إبراهيم بن موىس‪ :‬الموافقات‪ ،‬تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن‪ ،‬ط ‪1/‬دار ابن عفان‪ ،‬سنة‪1997‬م‪ ،‬ج ‪ 4‬ص ‪267‬‬ ‫ري‬
‫‪3‬‬

‫‪ 4‬ابن تيمية‪ :‬أحمد بن عبد الحليم‪ ،‬مجموع فتاوى شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬تحقيق أنور الباز وعامر الجزار‪ ،‬ط‪ 3/‬دار الوفاء‪ ،‬سنة ‪ 1426‬ه‪ ،‬ج ‪ 6‬ص ‪18‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪13‬‬
‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫‪ -1‬اْلدة من الزمن كما في قوله تعالى‪( :‬وقال ال ِذي نجا ِم أن ُهما و ّادكر ب أعد أ ّم ٍة) «يوسف‪ »45 :‬ومثله قوله‪( :‬ول ِئ أن أ ّخ أرنا ع أن ُه ُم العذاب ِإلى أ ّم ٍة م أع ُدود ٍة‬
‫ُ‬
‫لي ُقول ّن ما ي أح ِب ُس ُه) «هود ‪»8 :‬‬
‫ُ ً‬
‫‪ -2‬الرجل الجامع لصفات الخير الذي يؤتم به‪ ،‬كما في قوله تعالى‪(ِ :‬إ ّن ِإ أبر ِاهيم كان أ ّمة) «النحل‪»120 :‬‬
‫ُُ‬ ‫ُّ‬
‫ض وال طا ِئ ٍر ي ِط ُير ِبجناح أي ِه ِإال أمم أ أمثالكم) «األنعام ‪»38 :‬‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫‪ -3‬الجماعة من الدواب والطير‪ ،‬كما في قوله تعالى‪( :‬وما ِمن دآب ٍة ِفي األر ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫‪ -4‬الدين‪ ،1‬كما في نظم قوله تعالى‪( :‬ب أل قالوا ِإ ّنا وج أدنا آباءنا على أ ّم ٍة و ِإ ّنا على آث ِار ِهم ُّم أهت ُدون) «الزخرف‪.»22 :‬‬

‫اس ي أس ُقون)‬ ‫أ ُ ّ ً ٍّ ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬


‫‪ -5‬الجماعة من الناس‪ 2‬ال يجمعهم ش يء سوى مصلحة معينة؛ كما في نظم قوله تعالى‪( :‬وْلا ورد ماء مدين وجد علي ِه أمة ِمن الن ِ‬
‫«القصص‪.»23 :‬‬

‫ُ‬
‫ودقائق اْلعاني ولطائفها‪ ،‬وقد أشار النبي ‪ -‬صلى‬ ‫سر اإلعجاز‬ ‫تناس ُب نظمه وانسجامه‪ ،‬وهذه الصفة يكمن فيها ُّ‬ ‫من خصائص القرآن الدقيقة ُ‬
‫هللا عليه وسلم ‪ -‬إلى هذه الصفة‪ٍّ ،‬‬
‫وبين الصحابة ‪ -‬رضوان هللا عليهم ‪ -‬أهميتها‪ ،‬واعتنى بها اْلفسرون وعلماء اإلسالم أيما عناية‪ ،‬وما ذاك إال للمكانة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اْلنهجية العظمى التي تحتلها هذه الصفة ولكونها أمرا ضروريا في استنباط اْلعاني واألسرار القرآنية‪.‬‬

‫البالغة عند أهل السنة واجلماعة‪:‬‬

‫• التعريف بأهل السنة والجماعة ‪:‬‬


‫ٍّ‬
‫النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬وصحابته تفرق اْلسلمون لعدة فرق‪ ،‬وذلك بسبب نشوء الفتن بينهم كالبدعة والخوارج وغيرها‪،‬‬ ‫بعد وفاة ٍّ‬
‫ُ‬
‫وهذه الفرق كثيرة منها‪ :‬والرافضة‪ ،‬والشيعة‪ ،‬وأهل السنة والجماعة هم فئة اْلسلمين التي تتبع في منهجها القرآن الكريم وما جاء في السنة النبوية‬
‫الصحيحة عن الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬والصحابة والتابعين‪.‬‬

‫كلمة على حدة‪.‬‬ ‫شقين أساسيين أال وهما السنة والجماعة‪ ،‬ولتعريف معناه يجب تعريف ٍّ‬‫يتكون من ٍّ‬‫ومصطلح أهل السنة والجماعة ٍّ‬
‫كل ٍ‬
‫ً‬
‫واعتقادا في الظاهر‬ ‫فالسنة لغة هي الطريقة‪ ،‬والسنة اصطالحا هي العمل واألخذ ٍّ‬
‫بكل ما جاء به الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬قوال وعمال‬
‫األدق لها‪ ،‬فمنهم من قال ٍّأن الجماعة هم‬
‫والباطن‪ٍّ .‬أما الجماعة هي في اللغة عدد الش يء وكثرته‪ٍّ ،‬أما اصطالحا فقد اختلف العلماء في تحديد اْلعنى ٍّ‬
‫كل ما كان على ٍّ‬
‫الحق حتى‬ ‫أيضا ٍّأن الجماعة هي ٍّ‬
‫الصحابة ‪ -‬رضوان هللا عليهم ‪ ،-‬ومنهم من رأى ٍّأن الجماعة هم أهل الفقه والعلم والحديث‪ ،‬وقيل ً‬
‫قل اْلتمسكون به‪ ،‬وقال ابن مسعود‪ " :‬الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك "‪.‬‬ ‫ولو ٍّ‬

‫• تحديد مفهوم أهل السنة‬


‫يستخدم مصطلح أهل السنة ويراد به مجموعة من الدالالت‪:‬‬
‫‪ .1‬كل من ينتسب لإلسالم ما عدا الرافضة‪.‬‬
‫‪ .2‬ما يقابل اْلعتزلة فيدخل فيه األشاعرة واْلاتردية‬
‫‪ .3‬اْلعنى الخاص‪ ،‬وهو إطالقه على السلف الصالح أصحاب الحديث واألثر أو الفرقة الناجية‪.‬‬

‫جامع البيان ج ‪ 13‬ص ‪ ،243‬وتفست القرآن العظيم ج ‪ 1‬ص ‪ ،158‬والجامع ألحكام القرآن ج ‪ 10‬ص ‪10‬‬ ‫‪1‬‬

‫تفست القرآن العظيم ج ‪ 1‬ص ‪158‬‬ ‫‪2‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪14‬‬
‫فالداللة األولى والثانية من اإلطالق العام لهذا اْلصطلح على تفاوت بينهما‪ ،‬يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية‪" :‬فلفظ أهل السنة يراد به‬
‫من أثبت خالفة الخلفاء الثالثة‪ ،‬فيدخل في ذلك جميع الطوائف إال الرافضة‪ ،‬وقد يراد به أهل الحديث والسنة املحضة‪ ،‬فال يدخل فيه إال من‬
‫يثبت الصفات هلل تعالى‪ ،‬ويقول إن القرآن غير مخلوق‪ ،‬وإن هللا يرى في اآلخرة‪ ،‬ويثبت القدر‪ ،‬وغير ذلك من األصول اْلعروفة عند أهل الحديث‬
‫والسنة"‪ ،‬وأكثر من يستعمل هذا اْلصطلح بهذا اْلفهوم الرافضة‪ ،‬حيث يجعلون اْلسلمين سنة وشيعة‪ ،‬فالشيعة لهم‪ ،‬والسنة لغيرهم‪ ،‬مع أنهم‬
‫يطلقون على أهل السنة مصطلحات أخرى كالنواصب والجمهور وغيرهما‪.‬‬
‫وأما الداللة الثالثة داللة املفهوم الخاص‪ ،‬وهو إطالقه على أهل السنة املحضة من السلف الصالح‪ ،‬أو الفرقة الناجية‪ ،‬فهو‬
‫تميزت بمصطلح خاص بها يميزها عن غيرها‪.‬‬‫اإلطالق الصحيح ألن كل فرقة غير أهل السنة ٍّ‬
‫والتعريف اْلراد هو أن‪" :‬أهل السنة هم الذين اعتصموا بكتاب هللا تعالى وسنة نبيهم – صلى هللا عليه وسلم – في عقائدهم‪ ،‬وسائر أصول‬
‫دينهم‪ ،‬ولم يعارضوا نصوصها بالعقل والهوى‪ ،‬وتمسكوا بما كان عليه الصحابة – رض ي هللا عنهم – من دعائم اإليمان وأركان اإلسالم‪.‬‬

‫ضوابط التحليل البالغي عند أهل السنة ‪:‬‬ ‫•‬


‫‪ .1‬التعامل مع النصوص الشريفة من منطلق منهج أهل السنة في العقائد‪.‬‬
‫‪ .2‬اإلفادة من اْلؤلفات البالغية لغير أهل السنة بقدر موافقتها ْلنهج أهل السنة‪ ،‬وذلك من مبدأ قبول الحق ممن جاء به‪.‬‬
‫‪ .3‬التعامل في توجيه النصوص وتحليلها بالغيا من منطلق سنن العرب في كالمها‪ ،‬ألنه ـ من خالل االستقراء – ال يمكن أن يتصادم‬
‫منهج أهل السنة مع قوانين اللغة‪ .‬كما يقول ابن خلدون‪" :‬إن البالغة تؤيد مذهب أهل السنة‪ ،‬وليس اْلعتزلة‪ ،‬العتماد اْلعتزلة‬
‫على العقل‪ ،‬وتوازن أهل السنة في ذلك‪.‬‬
‫‪ .4‬أن يكون األدب اإلسالمي ميدانا فسيحا تنتقي منه البالغة السنية شواهدها‪.‬‬
‫‪ .5‬تخليص كتاب البالغة من االستشهاد باألحاديث اْلوضوعة ‪.‬‬
‫‪ .6‬تخليصها من الشواهد اْلصادمة للمعتقدات‪ ،‬أو التي تخدش الحياء الشرعي‪.‬‬
‫‪ .7‬تقديم القرائن اللفظية على القرائن العقلية‪.‬‬

‫املراجع‪:‬‬
‫‪ .1‬اْلدخل إلى دراسة بالغة أهل السنة‬
‫‪https://sotor.com/‬تعريف_أهل_السنة_والجماعة‬
‫‪http://www.darululoom-deoband.com/arabic/magazine/tmp/1334986062fix3sub3file.htm .2‬‬
‫‪https://www.alukah.net/sharia/0/114629/#ixzz75d9Vvkty .3‬‬
‫‪https://www.alukah.net/sharia/0/114629/#ixzz75d9HT6ED .4‬‬
‫‪http://www.darululoom-deoband.com/arabic/magazine/tmp/1334986062fix3sub3file.htm .5‬‬
‫‪https://almerja.net/reading.php?idm=11285 .6‬‬
‫‪https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D9%.7‬‬
‫‪85_%D8%B9%D9%86%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B1%D8%AC%D8%A7%D9%86%D9%8A‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪15‬‬
‫املوضوع‪ :‬اصطفاء األلفاظ (داللة‪ ،‬وصيغة‪ ،‬وصوتا)‬
‫داللة األلفاظ في القرآن ‪:‬‬

‫‪ .1‬الداللة الصرفية‪:‬‬

‫قيمة الداللة الصرفية ‪:‬‬


‫عدها العلماء لها ما تمتاز به من اتساع األبنية‪ ،‬وكثرة الصيغ التي تستوعب اْلعاني التي يمكن أن تجيش بها ُ‬
‫نفس‬ ‫من خصائص العربية التي ّ‬
‫إنسان في وقت من األوقات‪ ،‬وْلٍّا كان التصريف هو سبيل الوصول إلى تلك الصيغ فقد قالوا‪ٍّ :‬‬
‫«أما التصريف فإن من فات ُه علمه فات ُه اْلعظم»‪(1).‬‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫الضد‬ ‫ويعلل ابن فارس لتلك اْلقولة بأمثلة كثيرة تكشف عن فائدة التصريف في التمييز بين اْلعاني التي تتحول بتصريف صيغها من‬
‫ٍّ‬
‫فتحول اْلعنى بالتصريف من الجور إلى العدل‪.‬‬ ‫واْلقسط للعادل؛‬ ‫القاسط للجائر‪،‬‬ ‫ٍّ‬
‫ِ‬ ‫إلى الضد‪« :‬يقال‪ِ :‬‬

‫القدامى لخطورة أمر الصيغ‪ ،‬والخلط‬ ‫وثمة قصة وقعت لعمرو بن عبيد اْلعتزلي مع أبي عمرو بن العالء تكشف عن التفات علماء اللغة ُ‬ ‫ٍّ‬
‫ً‬
‫بين بعضها وعدم التفريق الدقيق بين دالالتها؛ فقد أشارت اْلصادر إلى وفود أبي عثمان عمرو بن عبيد اْلعتزلي على أبي عمرو بن العالء يسأله قائال‪:‬‬
‫عقابا‪ ،‬أيخلف هللا و أعده؟ فقال أبو عمرو‪ :‬من العجمة‬
‫خلف هللا و أعده؟ قال أبو عمرو‪ :‬ال‪ .‬قال عمرو‪ :‬أفرأيت من وعده هللا على عمل ً‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫«يا أبا عمرو‪ :‬أي ِ‬
‫أتيت أبا عثمان؛ ٍّ‬
‫إن الوعد غير الوعيد‪(2).‬‬

‫صحت الرواية‪ -‬قد أخطأ هنا التفريق بين الصيغتين‪ :‬فالو أعد مصدر (وعد)‪ ،‬أما الوعيد فهو مصدر (أ أوعد)؛‬
‫فعمرو بن عبيد ‪-‬إن ٍّ‬
‫فالصيغة األولى مصدر ثالثي‪ ،‬والثانية صيغة مصدر رباعي‪.‬‬

‫غي‬ ‫ٍّ‬
‫الضدي هو ما يستفاد من اْلعنى ٍّ‬
‫الصي ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫الضد‪ ،‬وهذا اْلعنى‬ ‫ٍّ‬
‫الضد إلى‬ ‫والخلط بين الصيغتين ومصدريهما قد ّأدى إلى االنتقال من‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬
‫و(تحنث)‪ ،‬و(أثم) و(تأثم)‪...‬إلخ‪،‬‬ ‫الضد كما في (قسط) و(أقسط)‪ ،‬و(حنث)‬ ‫الضد إلى‬ ‫نظائر كثيرة تنقل الصيغة فيها الكلمة من‬ ‫للكلمة‪ ،‬وفي اللغة‬
‫مع اختالف أنواع الصيغ اْلمثل بها‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫الضد‪.‬‬ ‫ٍّ‬
‫الضد إلى‬ ‫وهذا ٍّكله يدلنا على خطورة أمر الصيغ؛ إ أذ ٍّإن الخطأ فيها ٍّ‬
‫يحول اْلعنى من‬ ‫ِ‬

‫ا‬
‫السيوط‪ ،‬ط دار الجيل‪ )330 /1( ،‬نقًل عن ابن فارس‪ .‬ويالحظ أن الترصيف الذي يعنيه ابن فارس هنا يدخل فيه الصياغة وغتها من موضوعات‬
‫ي‬ ‫)‪ (1‬المزهر ن يف علوم اللغة وأنواعها‪،‬‬
‫الرصف‪.‬‬
‫األندلس‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ .‬ص‪.39‬‬ ‫ن‬
‫واللغويي‪ ،‬الزبيدي‪ ،‬أبو بكر محمد بن الحسن‬ ‫ن‬
‫النحويي‬ ‫)‪ (2‬طبقات‬
‫ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪16‬‬
‫اكبا مع الداللة اْلعجمية أو اللفظية على ٍّ‬ ‫ً‬
‫محموال على اْلادة متر ً‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬
‫حد‬ ‫تكلفنا مادة جديدة‪ ،‬بل يأتي اْلعنى الوظيفي للصيغة‬‫فضال عن أن الصيغ ال ِ‬
‫ً‬ ‫تعبير ابن ٍّ‬
‫ومن ثم معناها الوظيفي‪ .‬فضال عن أن اْلعاني الوظيفية ذاتها‬ ‫جني‪ ،‬وذلك عن طريق صورة اللفظ التي تتلبس به لتعطي للكلمة صيغتها‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬
‫تتعدد وتتراكب للصيغة الواحدة في الوقت الواحد في السياق الواحد‪.‬‬ ‫ٍّ‬

‫ً‬ ‫وجوها ٍّ‬


‫ً‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫متعددة من الداللة‪ ،‬وظالال‬ ‫معان وظيفية‪ ،‬تجعل للكلمة الواحدة‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن الصيغة الواحدة قد تشترك بين عدة ٍ‬
‫إيحائية‪ ،‬تعمل على إثراء اْلعاني الفنية التي يريد اْلبدع أن يعبر عنها‪(1).‬‬

‫َدورالصرفيين في بيان الدالالت املطردة للصيغ الصرفية‪:‬‬


‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫الحق أن الصرفيين قد بذلوا ما عليهم في بيان الدالالت املختلفة اْلطردة للصيغ؛ كداللة اسم الفاعل واسم اْلفعول وصيغ اْلبالغة‬
‫واْلصادر واسم ٍّ‬
‫اْلرة واسم الهيئة وصيغ األفعال املجردة واْلزيدة‪ ،‬وبيان األثر الداللي الذي تحدثه الزيادة في تلك الصيغ‪ ،‬وغير ذلك كثير مما نقف‬
‫عليه في عامة كتب الصرف‪.‬‬

‫وإنما الذي نعنيه هنا هو استثمار تلك الدالالت التي كشف عنها الصرفيون؛ للوقوف على دالالتها السياقية وما يكون بينها وبين سياقاتها‬
‫ومقاماتها من تفاعل؛ حيث تضيف إليه ويضيف إليها‪ ،‬ويأتي التحليل األسلوبي للخطاب ليكشف عن أثر تلك الداللة الصرفية في إثراء اْلعنى‪.‬‬

‫أمثلة لبيان قيمة الداللة الصرفية في إثراء اْلعنى التفسيري في غير صيغ االسم والفعل‪:‬‬
‫ونتمم البحث هنا بتقديم أمثلة لبيان قيمة الداللة الصرفية في إثراء اْلعنى التفسيري في غير صيغ االسم والفعل التي وقف ٍّ‬
‫كل من عبد‬
‫القاهر الجرجاني والزمخشري عند بعضها؛ فمن ذلك‪:‬‬
‫أ‬
‫(فعال) ‪:‬ومن أمثلتها ما ورد في سورة الشعراء في قصة موس ى على لسان فرعون‪{ :‬قال ِللم ِإل ح أول ُه ِإ ّن هذا‬ ‫صيغة املبالغة‪ :‬مثل صيغة ِّ‬
‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ أ أ أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ أ ُ أ ُ أ‬
‫اش ِرين * يأ ُتوك ِبك ِ ٍّل س ّح ٍار ع ِل ٍيم} [الشعراء‪:‬‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫احر ع ِليم * ي ِريد أن يخ ِرجك أم ِمن أ أر ِضك أم ِب ِسح ِر ِه فماذا تأ ُم ُرون * قالوا أ أر ِجه وأخاه وابعث ِفي اْلدا ِئ ِن ح ِ‬
‫لس ِ‬
‫‪.]37-34‬‬
‫ًّ‬ ‫حيث جاء التعبير بصيغة اْلبالغة ٍّ‬
‫(سحار) في هذا اْلوضع داال على مقابلة اْلأل وصف فرعون ْلوس ى بالسحر‪ ،‬وتأكيده على أنه يريد أن‬
‫سحار عليم يفوق سحره سحر موس ى‪.‬‬‫بكل ٍّ‬
‫يخرجهم من أرضهم (بسحره)؛ فناسب ذلك أن يقابلوا ذلك بالوصية باإلتيان ٍّ‬

‫وتتضح هذه النكتة حينما نقف على سياق القصة اْلشابهه في سورة األعراف‪ ،‬حيث يقول هللا تعالى على لسان اْلأل من قوم فرعون‪{ :‬قال‬
‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ ُ أ ُ أ‬ ‫ُ‬
‫اش ِرين * يأ ُتوك ِبك ِ ٍّل‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ ّ‬ ‫أ‬
‫اْلأل ِمن قو ِم ِف أرعون ِإن هذا لس ِاحر ع ِليم * ي ِريد أن يخ ِرجكم ٍِّمن أ أر ِضك أم فماذا تأ ُم ُرون * قالوا أ أر ِجه وأخاه وأ أر ِس أل ِفي اْلدا ِئ ِن ح ِ‬
‫اح ٍر ع ِل ٍيم} [األعراف‪.]112-109 :‬‬‫س ِ‬
‫ضعف من هذا التعليل أن اْلأل قد وصف موس ى كذلك في الشعراء بأنه (ساحر عليم)‪ .‬وأرى أنه لم تأت اْلبالغة ٍّ‬
‫(سحار) في سورة‬ ‫ُ أ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ولكن ي ِ‬
‫ُ‬ ‫األعراف؛ ألنه لم ٍّ‬
‫ومن ثم لم‬
‫حره) فلم تذكر هذه الكلمة في سورة األعراف‪ِ ،‬‬ ‫ينص على أن املحذور ‪-‬وهو إخراج موس ى لهم من أرضهم‪ -‬إنما يقع ِ‬
‫(بس ِ‬
‫أن ما جاء به موس ى ‪-‬وهو ما وصفوه بكونه ً‬
‫سحرا‪ -‬يكون له‬ ‫يتصور ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫(سحار) في وصف السحرة‪ّ ،‬‬
‫فكأن اْلأل في هذا اْلوضع لم‬ ‫ُتقابل بصيغة اْلبالغة ٍّ‬

‫ن‬
‫الرصف‪ ،‬للدكتور عبد الحميد هنداوي‪ ،‬المكتبة العرصية‪ -‬بتوت‪ ،‬ط‪1422 ،1‬هـ‪2001 -‬م‪ ،‬ص‪.8 ،7‬‬ ‫)‪ (1‬اإلعجاز‬
‫ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪17‬‬
‫من القوة والتأثير أن يخرجهم من أرضهم‪ ،‬ف ِمن ثم ال يحتاج إبطال سحره إلى اإلتيان بمهرة السحرة‪ٍّ .‬أما في سورة الشعراء فإن الكالم فيها على لسان‬
‫ُ‬
‫سماها فرعون ِس أح ًرا) تبلغ من القوة والتأثير أن يخرجهم موس ى من أرضهم بها‪.‬‬‫فرعون ال اْلأل‪ ،‬وهو يؤكد لهم أن معجزة موس ى ‪-‬عليه السالم‪( -‬والتي ٍّ‬
‫ومن ثم بالغوا له في وصف السحرة الذين يؤتى بهم إلبطال معجزة موس ى عليه السالم‪.‬‬
‫ِ‬
‫ٍّ‬
‫ويمكن أن يقال‪ :‬إنه ْلا كان الواصف ْلوس ى ‪-‬عليه السالم‪ -‬في هذا اْلوضع بـ(السحر) هو فرعون؛ لذا جاؤوا بكلمة اإلحاطة وبصيغة اْلبالغة‬
‫ليطيبوا قلبه‪ ،‬وليسكنوا بعض قلقه‪(1).‬‬

‫ّ‬ ‫أ أ ّ‬ ‫ُأ‬ ‫ّ‬ ‫الصفة املشبهة ‪:‬من ذلك ما جاء في قول هللا تعالى في وصف قوم نوح‪{ :‬فك ّذ ُب ُ‬
‫الفل ِك وأغرقنا ال ِذين كذ ُبوا ِبآيا ِتنا‬ ‫وه فأنج أين ُاه وال ِذين مع ُه ِفي‬
‫ِإ ّن ُه أم ك ُانوا ق أو ًما ع ِمين} [األعراف‪.]64 :‬‬
‫ً‬
‫(عامين)‪.‬‬
‫حيث آثرت اآلية التعبير عن وصف هؤالء اْلكذبين بالصفة اْلشبهة على غيرها من الصيغ كاسم الفاعل مثال ِ‬

‫اع ُب ُدوا‬ ‫أ أ أ ُ ً‬
‫وحا إلى ق أومه فقال يا ق أوم أ‬ ‫ٍّ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ونستطيع أن نتبين سر اختيار هذه الصيغة إذا ما راجعنا سياق اآلية من أوله‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬لقد أرسلنا ن ِ‬
‫أ ّ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ أُ أ‬ ‫أ ُ ُ ٍّ‬ ‫ُ أ أ‬ ‫ّ‬
‫الل ُّم ِب ٍين}[األعراف‪.]60 ،59 :‬‬
‫َللا ما لكم ِمن ِإل ٍه غيره ِإ ِني أخاف عليكم عذاب يو ٍم ع ِظ ٍيم * قال اْلأل ِمن قو ِم ِه ِإنا لنراك ِفي ض ٍ‬
‫بادعائهم ضالل ُه‪ ،‬وكان طريق إثبات هذه الدعوى الكاذبة هو افتراؤهم عليه‬ ‫لنبيهم ٍّ‬
‫ِ‬ ‫حيث نجد أن اْلأل من قوم نوح قد ّبر ُروا تكذيبهم ِ ٍّ‬
‫بإثبات رؤيتهم له في ضالل مبين‪ ،‬وْلٍّا كان أساس تلك الدعوى الكاذبة هو ادعاء الرؤية اْلبالغ في إثباتها ب ٍّ‬
‫ـ(إن والالم)‪ ،‬واستخدم حرف الجر (في) الدال‬
‫ً‬
‫واضحا ‪-‬أقول‪ْ :‬لا كان أساس تلك الدعوى هو تلك الرؤية الكاذبة‬ ‫ً‬ ‫على انغماسه في الضالل وإحاطته به‪ ،‬فضال عن ادعاء كون ذلك الضالل ٍِّبي ًنا‬
‫مقاب ٍل لذلك بطريقة أبلغ مما يقتض ي إثبات العمى لهم‬
‫بوصف ِ‬‫ٍ‬ ‫اْلبالغ فيها على هذا النحو؛ ناسب هذا السياق أن يبالغ في وصف هؤالء اْلكذبين‬
‫بصيغة دالة على الثبات واللزوم تناسب ما هم عليه من انطماس بصائرهم‪.‬‬
‫العمي والعامي أن العمي ٍّ‬
‫يدل على عمى ثابت‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ولذا قال الزمخشري‪{ :‬ع ِمين} عمى القلوب‪ ،‬غير مستبصرين‪ ،‬وقرئ (عامين)‪ ،‬والفرق بين‬
‫ِ‬
‫والعامي على عمى حادث‪(2).‬‬

‫ويوضح الطيبي ذلك ويعلله بقول‪« :‬لداللة الصفة اْلشبهة على الثبوت‪ ...‬وألن اسم الفاعل دونها في الداللة على الثبوت‪(3).‬‬

‫خاصة ممن استخدموا اْلناهج ُ‬


‫األلسنية الحديثة‪ ،‬وخاصة اْلنهج األسلوبي في تحليل‬ ‫وغير ذلك أمثلة كثيرة فطن إليها الدارسون املحدثون ٍّ‬
‫ٍّ‬
‫النص القرآني ‪.‬‬

‫‪ .2‬الداللة النحوية‪:‬‬
‫قيمة الداللة النحوية‪:‬‬
‫الداللة النحوية من الدالالت اللغوية التي ال يستهان بها في بيان اْلعاني التفسيرية‪ ،‬وقد ٍّ‬
‫تنبه لها اْلبرزون من اْلفسرين ببيان قيمتها وأثرها‬
‫في إثراء اْلعنى التفسيري‪.‬‬

‫بمجء الكالم المذكور عل لسان فرعون ن يف سورة الشعراء؛ وعل لسان المأل ن يف سورة األعراف‪،‬‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫)‪(1‬‬
‫الرازي (‪ ،)120 /12‬وأحب ُأن أنبه إىل َأن َ أكت المفشين قد انشغلوا يف هذا الموضع ر ي‬
‫ن‬
‫المعان‪،‬‬ ‫روح‬ ‫‪.‬‬ ‫)‬‫‪81‬‬ ‫‪/‬‬ ‫‪2‬‬ ‫(‬ ‫الكشاف‬ ‫‪:‬‬ ‫المثال‬ ‫سبيل‬ ‫عل‬ ‫انظر‬ ‫‪.‬‬ ‫االختالف‬ ‫ذلك‬ ‫توجيه‬ ‫حسن‬ ‫ي‬ ‫لم‬ ‫ولكنه‬ ‫ن‬
‫السورتي‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫الصيغة‬ ‫اختالف‬ ‫إىل‬ ‫بعضهم‬ ‫ت‬ ‫التف‬ ‫وقد‬ ‫‪،‬‬‫ذكرت‬ ‫ما‬ ‫تأمل‬ ‫عن‬ ‫بذلك‬ ‫فانشغلوا‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫التاث‪.(23 ،22 /9( ،‬‬ ‫اآللوىس‪ -‬ط‪ .‬دار إحياء ر‬
‫ي‬
‫الحلن (شهاب الدين أبو العباس بن يوسف)‪ ،‬تحقيق‪ :‬عادل عبد الموجود وزميله‪ ،‬ط‪ .‬دار الكتب العلمية‪/3( .‬‬ ‫ير‬ ‫ن‬
‫السمي‬ ‫اآللوىس (‪ .)154 /8‬الدر المصون‪،‬‬ ‫‪:‬‬‫وانظر‬ ‫)‪ (2‬الكشاف (‪.)68 /2‬‬
‫ي‬
‫‪.(289‬‬
‫ن‬
‫الحسي المحمود‪.(575 /1( .‬‬ ‫للطين‪ ،‬رسالة دكتوراه‪ ،‬مخطوط‪ ،‬جامعة األزهر‪ ،‬كلية اللغة العربية‪ ،‬تحقيق‪ .‬د‪ :‬جميل‬ ‫)‪ (3‬فتوح الغيب‬
‫ري‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪18‬‬
‫أ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫تعالى‪{:‬إ ّنما يخش ى َللا ِم أن ِعب ِاد ِه ال ُعلم ُاء} [فاطر‪ ،]28 :‬أو قوله تعالى‪{:‬و ِإ ِذ أابتلى ِإ أبر ِاهيم رُّب ُه‬
‫ِ‬ ‫ولبيان قيمة هذه الداللة؛ أقول لك‪ :‬كيف تفهم قول هللا‬
‫ات} [البقرة‪.]124 :‬‬
‫ِبك ِلم ٍ‬
‫وما العلم الذي ُي أفهمك أن اْلعنى‪ :‬أن العلماء ‪-‬على وجه الخصوص‪ -‬هم الذين يخشون هللا من بين العباد‪ٍّ ،‬‬
‫وأن إبراهيم قد ابتاله ُّربه بكلمات‪ ،‬وليس‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫يظن بعض الجهال أن هللا يخش ى من العلماء‪ ،‬أو أن إبراهيم قد ابتلى ربه ‪-‬حاشاه سبحانه‪-‬؟ أليس هو علم النحو وإعراب القرآن؟!‬ ‫كما ٍّ‬

‫وْلا كان األمر ك ذلك كان مقصود طالب العلم أن يقف على تلك الداللة النحوية لكلم القرآن؛ بأن يعرف أن هذه الكلمة فاعل‪ ،‬وتلك‬
‫باأللف ألنه مثنى‪ ،‬أو بالواو‬ ‫ٍّ‬ ‫مفعول‪ ،‬وهذه مبتدأ مؤخر‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وال يعنيه ً‬
‫كثيرا أن تبين له أن الفاعل هنا مرفوع بضمة ظاهرة أو مقدرة‪ ،‬أو مرفوع ِ‬
‫فكل ذلك محفوظ ّ‬
‫مقرر؛ إنما الذي يحتاج إليه هو معرفة موقع تلك الكلمة حتى يعرف داللتها‪:‬‬ ‫ألنه جمع مذكر سالم أو اسم من األسماء الستة؛ ٍّ‬
‫ألنه ٍّ‬
‫هل تدل على الفاعلية أو اْلفعولية‪ ،‬أو الظرفية أو الحالية‪ ،‬أو التمييز‪...‬إلخ؛ ٍّ‬
‫يترتب على ذلك داللة‪ ،‬ويختلف لذلك تفسير القرآن‪ ،‬بل تختلف‬
‫يدل على عقيدة صحيحة أإن أصبت اإلعراب أو على عقيدة فاسدة أإن أخطأت ُه؛ كما لو أعربت اسم الجاللة‬ ‫األحكام واآلداب اْلستنبطة منه‪ ،‬بل ٍّ‬
‫أ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫تعالى‪{:‬إ ّنما يخش ى َللا ِم أن ِعب ِاد ِه ال ُعلم ُاء} [فاطر‪.]28 :‬‬
‫ِ‬ ‫فاعال في قوله‬

‫أ ُ‬ ‫الجر لـ(أرجلكم) في قوله تعالى‪{ :‬يا أ ُّيها ّال ِذين آم ُنوا إذا ُق أم ُت أم إلى ّ‬ ‫وانظر‪ :‬كيف يكون الحكم الفقهي لو قرأت بقراءة ٍّ‬
‫الصال ِة فاغ ِسلوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ ُ ُُ ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ ُ ُ أ ُ‬
‫وسك أم وأ أر ُجلك أم ِإلى الك أعب أي ِن} [اْلائدة‪]6:‬؟‬
‫وجوهك أم وأي ِديك أم ِإلى اْلرا ِف ِق وامسحوا ِبرء ِ‬
‫وذلك أن ُ‬
‫األرجل في قراءة حفص هذه منصوبة؛ ومن ثم فهي معطوفة على اْلغسول وهو الوجوه واأليدي‪ ،‬فهي إذن مغسولة‪ٍّ .‬أما في قراءة‬
‫الجر‪ ،‬فهي معطوفة على املجرور‪ ،‬وهو الرؤوس؛ ومن ثم فهي مجرورة‪ ،‬فهي إذن ممسوحة‪.‬‬

‫وهذا مثال واحد‪ ،‬واألمثلة على ذلك أكثر من أن تحص ى‪.‬‬


‫وغير ذلك أمثلة كثيرة أشار إليها أسالفنا ُ‬
‫القدامى‪ ،‬وفطن إليها الدارسون املحدثون ٍّ‬
‫خاصة ممن استخدموا اْلناهج األلسنية الحديثة‪،‬‬
‫ٍّ‬
‫النص القرآني‪.‬‬ ‫ٍّ‬
‫وخاصة اْلنهج األسلوبي في تحليل‬

‫فالداللة النحوية للكلمة هي داللة موقعها اإلعرابي التي تتراكب مع الداللة اْلعجمية والصرفية؛ إلثراء الداللة اللغوية الكاملة التي هي‬
‫ٍّ‬
‫اْلصنفون في علوم القرآن‪.‬‬ ‫أساس الداللة التفسيرية التي ترتبط بالسياق واْلقام وأسباب النزول وغير ذلك من القواعد التفسيرية التي بينها‬
‫ِ‬
‫أ‬ ‫ً‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫فمثال في قوله تعالى‪{ :‬فأ ّما الي ِتيم فال ت أقه أر} [الضحى‪ .]9 :‬فلو نظرنا مثال إلى دالالت كلمة‪( :‬الي ِتيم) نجد أن لها داللة معجمية من مادة‬
‫ً‬
‫الي أتم ولزومه له‪ ،‬وله داللة نحوية باعتبار كونها (مفعوال‬
‫تدل على ثبوت معنى ُ‬
‫(يتم) تستخرج من اْلعجم‪ ،‬ولها داللة صرفية باعتبارها (صفة مشبهة) ٍّ‬
‫كل كلمة من كلمات القرآن‪.‬‬‫مقد ًما؛ أي‪ :‬وقع عليه فعل القهر‪ ،‬مع اعتبار داللة التقديم وما تفيده من العناية واالختصاص‪ ،‬وكذلك في ٍّ‬ ‫به) ّ‬

‫أمثلة حتليلية لبيان أثر الداللة النحوية يف اتساع املعاني التفسريية‪:‬‬

‫بتعدد التوجيه اإلعرابي ْلوقعها النحوي‪ ،‬وقد يحتمل السياق تلك الدالالت جميعها‪ ،‬أو يرجح واحدة‬ ‫تتعدد الدالالت النحوية للكلمة ٍّ‬
‫ٍّ‬
‫منها على باقيها‪ ،‬وسوف أتناول هنا بش يء من التفصيل بعض الظواهر النحوية التي تؤدي إلى اتساع اْلعنى أو ُّ‬
‫تعدده‪ ،‬مع دراسة أثر السياق في تحديد‬
‫ً‬
‫جميعا‪ ،‬فمن هذه الظواهر‪:‬‬ ‫أحد هذه اْلعاني‪ ،‬أو اتساعه لها‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪19‬‬
‫‪ .1‬اتساع الداللة من خالل التضمين النحوي‪.‬‬
‫‪ .2‬اتساع الداللة من خالل ُّ‬
‫تعدد التوجيه اإلعرابي للكلمة‪.‬‬
‫‪ُّ .3‬‬
‫تعدد اْلعنى بسبب االحتمال في اإلحالة النحوية‪.‬‬

‫أوال‪ :‬اتساع الداللة من خالل التضمين النحوي‪:‬‬

‫وصف ابن ِج ٍّني ظاهرة التضمين بقوله‪« :‬باب من هذه اللغة واسع لطيف طريف‪ ،‬وهو اتصال الفعل بحرف ليس مما يتعدى به؛ ألنه في معنى فعل‬
‫يتعدى به‪.‬‬
‫الرف ُث إلى نسائ ُك أم} [سورة البقرة‪]187 :‬؛ ْلٍّا كان في معنى اإلفضاء ّ‬
‫عداه بإلى»‪(1).‬‬
‫ُ‬
‫من ذلك قوله تعالى‪{ :‬أح ّل ل ُك أم ل أيلة ٍّ‬
‫الصيام ّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫تضمينا»‪(2).‬‬ ‫ويسمى ذلك‬ ‫شربون لفظا معنى ٍ‬
‫لفظ‪ ،‬فيعطونه حكمه‪،‬‬ ‫ويبينه ابن هشام بقوله‪« :‬قد ي ِ‬
‫ونرى أن تعريف ابن هشام أوسع من تعريف ابن ٍّ‬
‫جني؛ حيث إنه ال يقتصر على األفعال وحدها بل يتسع لغيرها كذلك من أنواع الكلم‪.‬‬
‫وقد ٍّ‬
‫تعددت الدراسات لهذه الظاهرة في القديم والحديث‪ ،‬وإن كانت قد انحصرت في معظمها في دائرة الدراسة النحوية‪ ،‬حيث اقتصرت‬
‫معظم هذه البحوث على محاولة تحديد موقع التضمين‪ ،‬وهل هو الفعل أو الحرف؟‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫ففي مثل قوله تعالى‪{ :‬ونص أرن ُاه ِمن الق أو ِم ال ِذين كذ ُبوا ِبآيا ِتنا}[سورة األنبياء‪ ،]77 :‬يذهب بعضهم إلى وقوع التضمين في الفعل‪ ،‬فيرى أنه‬
‫ُ‬
‫ض ٍّمن معنى (على)‪(3).‬‬ ‫ُ ٍّ‬
‫قد ض ِمن معنى التنجية‪ ،‬بينما يرى فريق آخر أن التضمين إنما وقع في الحرف ال الفعل‪ ،‬فيرى أن الحرف ِ(من) قد ِ‬
‫معا (نصر) ّ‬
‫و(نجى)‪ ،‬فيكون اْلعنى‪( :‬نجيناه من القوم‪ ،‬وكانت هذه النجاة‬ ‫لكننا نرى أن فائدة التضمين هنا أن يعطي الفعل معنى الفعلين ً‬
‫ً‬
‫تخليصا وتنجية‪ ،‬ولكن هذه التنجية هي في حد ذاتها نصر من هللا له‪.‬‬ ‫ً‬
‫نصرا له)؛ وذلك ألن النصر هنا لم يكن غلبة له على القوم‪ ،‬ولكنه كان‬
‫ُ‬ ‫ّ ُ‬
‫الرفث ِإلى ِنسا ِئك أم}[سورة‬ ‫ويجري على التضمين بهذه الداللة كثير من أفعال القرآن الكريم‪ .‬ومن ذلك قوله تعالى‪{ُ :‬أ ِح ّل ل ُك أم ل أيلة ٍّ‬
‫الصي ِام‬
‫ِ‬
‫ٍّ‬
‫والتعدي بـ(إلى) يمنح‬ ‫البقرة‪ ،]187 :‬يقول الدكتور‪ :‬محمد نديم فاضل‪« :‬فتضمين الرفث وهو مقدمات اْلباشرة أو اْلباشرة ذاتها معنى اإلفضاء‪،‬‬
‫ِ‬
‫العالقة بين الزوجين ْلسة إنسانية تترفع بها عن عالم الحيوان‪ْ ،‬لسة حانية‪ ،‬فيها من الرفق والنداوة والشفافية مثلما فيها من ُس ُم ٍّ ِو اْلشاعر‪ ،‬وتحسر‬
‫(إلى) هذه عن مسافر وجهها الجميل لتحكي ما اشتملت عليه اْلشاعر حين جمعت الرفث إلى اإلفضاء فيما أحل هللا للزوجين في شهر الصيام لتنأى‬
‫كل من الزوجين‪ ،‬و ٍّتتصل بأفق أرفع‬ ‫بهما عن ُعرام الجسد والحبس في الرغبات اْلكبوتة في اللحم والدم بعد أن تستتبع خلفها معنى الستر؛ يتدثر به ٍّ‬

‫ر‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫)‪(1‬‬


‫والنش‪ ،‬بتوت‪َ -‬لبنان‪ ،‬س‪1958‬م‪.(226 /1( ،‬‬ ‫جن بذلك‪ .‬الخصائص‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬محمد عل النجار‪ ،‬ط‪ .‬دار الهدى للطباعة‬ ‫وهو من شواهد ظاهرة التضمي‪ ،‬وإن لم يسمها ابن ي‬
‫َ‬ ‫{ف ْ‬ ‫َ‬
‫اسأ ْل ِب ِه خ ِب ًتا}[الفرقان‪ ،]59 :‬أي‪:‬‬ ‫الناش‪ :‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة السادسة‪1985 :‬م‪.( 897( ،‬تعاىل‪:‬‬ ‫مغن اللبيب‪ ،‬المحقق‪ :‬د‪ .‬مازن المبارك‪ /‬محمد عل حمد هللا‪ ،‬ر‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫)‪ (2‬ابن هشام‪ ،‬ن‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫بمعن الباء‪.‬‬ ‫عنه‪ .‬وبقوله تعاىل‪{َ :‬و َما َين ِط ُق َع ِن ال َه َوى} [النجم‪ ،]3 :‬أي‪ :‬بالهوى‪ ،‬فحرف الجر (عن)‬
‫َ ْ َ ُ َّ ْ َ َ‬ ‫َ ُ َ َّ‬ ‫ا‬
‫مغن اللبيب‪ .)148 /1( :‬وأورد طائفة من اآليات عل هذا المصطلح؛ ومن ذلك قوله تعاىل‪{ :‬وهو ال ِذي يقبل التوبة‬ ‫ن‬
‫عت عن هذا الباب بـ(المرادفة)‪ .‬ي‬
‫ّ‬
‫(مغن اللبيب) فقد ر‬ ‫ي‬
‫ن‬ ‫ّأما ابن هشام ن يف‬
‫ن‬
‫المعن‪( :‬وهو الذي يقبل التوبة من عباده)‪.‬‬ ‫َع ْن ِع َب ِاد ِه} [الشورى‪ ،]25 :‬فتى أن الحرف (عن) مرادف للحرف ِ(من) فيكون‬
‫سماهم ابن قيم الجوزية ن يف بدائع الفوائد‪ ،‬ط‪ .‬دار الفكر‪ ،‬بتوت‪ :)920( ،‬بظاهرية النحاة]‬ ‫[ممن ّ‬ ‫المصنفي نف حروف العربية ومعهم علماء الكوفة وآخرون ّ‬
‫ي‬
‫ن‬ ‫)‪ (3‬ومن ثم ذهب جماعة من‬
‫و(مغن اللبيب)‬ ‫ن‬ ‫ادي‪،‬‬ ‫ر‬ ‫للم‬ ‫)‬ ‫ن‬
‫الدان‬ ‫ن‬ ‫و(الج نَ‬
‫َ‬ ‫‪،‬‬ ‫ر‬
‫للمالق‬ ‫)‬ ‫ن‬
‫المبان‬ ‫(رصف‬ ‫‪:‬‬ ‫مثل‬ ‫التضمي فيها‪ ،‬وهذا ما نجده نف العديد من كتب هذا ّ‬
‫الفن‬ ‫ن‬ ‫ع‬‫بوقو‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫الحروف‬ ‫بنيابة‬ ‫بالقول‬ ‫إىل َح ّل هذه اإلشكالية‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ن‬
‫معنىحرف‬ ‫فعل آخر‪ ،‬واختالف المعن محصور يف الحرف؛ إذ اكتسب‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫باق عل معناه المعهود‪ ،‬ولم تنتقل داللته المعنوية إىل معن ٍ‬ ‫للموزغ فالفعل إذا ٍ‬
‫ي‬ ‫المغان)‬
‫ي‬ ‫البن هشام‪ ،‬و(مصابيح‬
‫ونش‪ :‬السيد أحمد صقر‪ ،‬دار‬ ‫وممن ينحو هذا المنج نف التفست اإلمام ابنقتيبة نف كتابه‪( :‬تأويل مشكل القرآن)‪ ،‬ابن قتيبة ‪-‬أبو محمد عبد هللا بن مسلم‪ -‬رشح ر‬ ‫آخر يستحق هذه التعدية‪ّ .‬‬
‫َّ ْ‬ ‫َ َ ُ َ ِّ َ َّ ُ ْ ن ُ ُ‬ ‫ي‬ ‫ً‬ ‫ي‬ ‫ر‬
‫وع النخ ِل}[طه‪:‬‬ ‫‪1973‬م‪( ،‬ص‪ )567‬ن‪ .‬وقد عقد بابا بعنوان‪« :‬دخول بعض حروفالصفات مكان بعض»‪ ،‬ويستشهد عل ذلك بقوله تعاىل‪{ :‬وألصلبنكم ِ يف جذ ِ‬ ‫التاث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1393 ،2‬هـ‪-‬‬
‫بمعن (عل)‪ ،‬والمعن‪ :‬عل جذوع النخل‪ .‬وبقوله‬ ‫ن‬ ‫(ف)‬ ‫‪ ،]71‬فتى أن حرف الجر ن‬
‫ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪20‬‬
‫ٍّ‬
‫يخضر بها ويرمي ظالله‪ ،‬وْلسة رفافة‬ ‫من األرض وبغاية أسمى من اللذة‪ ،‬تر ٍّق وت أرقى إلى معارج ُعليا‪ ...‬وح ُ‬
‫سب التضمين أنه جعل في لفظ الرفث نداوة‬
‫تنأى عن ُعرام الجسد تبتغي اإلعفاف واإلنجاب‪ ،‬وتوقظ معنى الستر في هذا الحرف (إلى)‪ ،‬فجمع من صنوف البيان ما ذاع صيته على ٍّ‬
‫كل لسان»‪(1).‬‬

‫ِّ‬ ‫ُْ‬ ‫فمقتض ى التضمين هنا أن اآلية َّ‬


‫ضمت إلى معنى الرفث معنى اإلفضاء ولم تلغ داللة الرفث‪ ،‬وإال فلماذا ذكر لفظ الرفث أصال إن كانت‬
‫داللته هدرا؟!وملاذا لم ُيستبدل باإلفضاء إن كان هو املقصود وحده؟!‬
‫الحق أن اْلزية التي يرجع إليها التضمين هي كما قال الزمخشري وورد نحوه عن ابن هشام وأبي البقاء الكفوي ً‬
‫آنفا‪« :‬فإن قلت‪ٍّ :‬‬
‫أي‬ ‫ولكن ٍّ‬
‫ً ٍّ‬ ‫ُ‬
‫فذ»‪(2).‬‬
‫غرض في هذا التضمين؟‪ ...‬قلت‪ :‬الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين‪ ،‬وذلك أقوى من إعطاء معنى ٍ‬

‫ثانيا‪ :‬اتساع الداللة من خالل تعدد التوجيه اإلعرابي للكلمة‪:‬‬

‫وذلك يكون ألسباب‪ ،‬منها‪ :‬غياب الحركة اإلعرابية‪ :‬فقد يحتمل اْلوقع النحوي أكثر من وجه‪ ،‬وتكون العالمة اإلعرابية هي الحاسمة في‬
‫اسم رٍِّبك‬ ‫تحديد الوجه اْلراد‪ ،‬وعندما تكون العالمة مقدرة ‪-‬غير ظاهرة ألسباب تقتضيها طبيعة اللغة‪ٍّ -‬‬
‫تتعدد األوجه‪ .‬ومثال ذلك قوله تعالى‪{ :‬س ٍّبح أ‬
‫ِِ‬
‫أ‬ ‫أ أ‬
‫نصب‪ ،‬صفة‬ ‫األعلى} [سورة األعلى‪ ،]1 :‬يحتمل اْلوقع الذي يشغله (األعلى) وجهين؛ لتعذر ظهور الحركة على االسم‪ ،‬فيجوز فيه أن يكون في موضع ٍ‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫عرف باإلضافة‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬وهذا ِذكر ُمبارك أنـزلن ُاه}‬‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫لـ(اسم) الذي ع ِرف باإلضافة‪ ،‬ويجوز فيه أيضا أن يكون في موضع جر صفة لـ(ر ِب) الذي ِ‬
‫ُ ٍّ‬
‫أ‬
‫[سورة األنبياء‪ ،]50 :‬يحتمل موقع (أنـزلن ُاه) وجهين؛ لعدم ظهور الحركة على الجملة‪ ،‬فيجوز أن تكون الجملة في موضع رفع‪ ،‬صفة ثانية ل ِـ(ذكر)‪،‬‬
‫ً‬
‫حاال من ِ(ذ أكر)‪ ،‬ألنه ُخ ٍّ‬
‫صص بالوصف‪(3).‬‬ ‫ويجوز أن تكون في موضع نصب‪،‬‬
‫ّ ُ أ‬
‫وكما في احتمال (من) معنى الفاعلية أو اْلفعولية في قوله تعالى‪{ :‬أال ي أعل ُم م أن خلق و ُهو الل ِطيف الخ ِب ُير} [سورة اْللك‪ ،]14 :‬والسياق‬
‫أُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫ات رٍِّب ِه الك أبرى} [سورة النجم‪ ،]18 :‬فإن الكبرى تحتمل النصب على اْلفعولية‪ ،‬أي‪ :‬رأى اآلية‬ ‫يحتمل اْلعنيين‪ .‬وكما في قوله تعالى‪{ :‬لقد رأى ِمن آي ِ‬
‫الكبرى‪ ،‬أو الجر على النعت لآليات‪.‬‬

‫وال مانع من الجمع بينهما فلقد رأى العديد من اآليات العظيمة في معراجه‪ ،‬كما رأى اآلية األعظم في لقائه لربه ورؤيته إياه أو رؤية نور‬
‫جالله على االختالف الوارد في ذلك‪.‬‬

‫آيات ربه} التي يمكن أن يراها البشر‪ ،‬فـ{الكبرى} على هذا‬


‫«قال جماعة من أهل التأويل‪ ،‬معناه‪ :‬رأى الكبرى من آيات ربه‪ ،‬واْلعنى‪{ِ :‬من ِ‬
‫مفعول بـ{رأى}‪ .‬وقال آخرون اْلعنى‪{ :‬لقد رأى} ً‬
‫بعضا {من آيات ربه الكبرى}‪ ،‬فـ{الكبرى} على هذا وصف لآليات»‪(4).‬‬
‫ِ‬

‫وهكذا تتعدد وجوه اْلعنى وتتسع بتعدد وجوه اإلعراب‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬تعدد املعنى بسبب االحتمال في اإلحالة‪:‬‬


‫ُ‬ ‫أ‬
‫نستطيع أن نتأمل ذلك في قوله تعالى‪{ :‬ب أل ع ِج ُبوا أ أن جاء ُه أم ُم أن ِذر ِم أن ُه أم فقال الكا ِف ُرون هذا ش أيء ع ِجيب * أ ِئذا ِم أتنا وك ّنا ُتر ًابا ذ ِلك ر أجع‬
‫ب ِعيد} [ق‪.]3 ،2 :‬‬

‫(التضمي النحوي نف القرآن الكريم)‪ ،‬طبع ر‬


‫ونش مكتبة دار الزمان‪ ،‬بالمدينة المنورة‪.(367 /1( ،‬‬ ‫ن‬ ‫)‪ (1‬د‪ /‬محمد نديم فاضل‬
‫ي‬
‫العرن‪ -‬بتوت‪ ،‬الطبعة الثالثة‪1407 :‬ه‪.)257( ،‬‬ ‫الكتاب‬ ‫دار‬ ‫ر‬
‫للزمخشي‪.‬‬ ‫)‪ (2‬الكشاف‪،‬‬
‫ري‬
‫العرن‪ -‬بتوت‪ ،‬الطبعة الثالثة‪1407 :‬ه‪.)257( ،‬‬ ‫‪.‬‬ ‫ر‬
‫)‪ (3‬الكشاف‪ ،‬للزمخشي دار الكتاب‬
‫ري‬
‫ن‬
‫الوجت‪ ،‬تحقيق‪ :‬عل عوض وزميله‪ ،‬دار الكتب العلمية‪.(226 /6( ،‬‬ ‫)‪ (4‬المحرر‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪21‬‬
‫بشرا مثلهم ُ{منذر ُ‬
‫منهم}‪ ،‬ومن كونه ينذرهم بالبعث والنشور‪(1).‬‬ ‫ُ‬
‫عجبهم إنما كان من كون الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ً -‬‬
‫ِ‬
‫أ‬
‫ويظهر جمال القرآن وإعجازه هنا في توسط هذه الجملة‪{ :‬فقال الكا ِف ُرون هذا ش أيء ع ِجيب} في موضع تصلح أن تكون إحالة اإلشارة (هذا)‬
‫منذر‪ ،‬ومن كونه‬ ‫منهم) فيكون التعجب من بش ِرّية ِ‬
‫اْلنذر‪ ،‬أو من مجيء ِ‬ ‫(منذر ُ‬
‫إلى ما قبلها أو إلى ما بعدها‪ ،‬أي‪ :‬تكون اإلشارة إلى ما قبلها وهو قوله‪ِ :‬‬
‫بشرا‪ ،‬فيمكن أن تعود اإلحالة األولى إلى أمرين ّ‬
‫تعجب منهما الكفار‪.‬‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫ويمكن أن تكون اإلحالة في (هذا) إلى ما بعدها وهو قوله‪{ :‬أ ِئذا ِم أتنا وك ّنا ُتر ًابا ذ ِلك ر أجع ب ِعيد}‪ ،‬وهو البعث‪.‬‬
‫اْلنذر ً‬ ‫ٍّ‬
‫بشرا منهم‪ ،‬ومن كونه ينذرهم بالبعث‬ ‫منذر‪ ،‬ومن كون هذا ِ‬
‫ويمكن الجمع بين هذه اْلعاني كلها؛ فيقال إنهم تعجبوا من مجيء ِ‬
‫والحساب والعذاب بعد اْلوت‪.‬‬
‫وفي هذا جمع بين اْلعاني اْلمكنة مما ال يأباه السياق‪ ،‬بل يقتضيه ّ‬
‫أشد االقتضاء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ومن صور تعدد اْلعنى واتساعه لالحتمال في اإلحالة كذلك‪ :‬ما في قوله تعالى‪{ :‬وي ُقو ُل ال ِذين كف ُروا ل أوال أ أن ِزل عل أي ِه آية ِم أن رٍِّب ِه ق أل ِإ ّن َللا‬
‫ُي ِض ُّل م أن يش ُاء وي أه ِدي ِإل أي ِه م أن أناب} [سورة الرعد‪.]27 :‬‬

‫حيث يحتمل الضمير اْلستتر في (يشاء) اإلحالة إلى لفظ الجاللة أو إلى (من)؛ والجمع بين اإلحالتين يفيد أن هللا تعالى يضل من أراد‬
‫الضاللة واختارها على الهدى‪ ،‬وأن ذلك يكون بمشيئة هللا تعالى وقدره في الوقت نفسه؛ إذ ال يكون في الكون ٍّإال ما شاء هللا ّ‬
‫وقدره وقضاه‪.‬‬

‫‪ .3‬الداللة الصوتية‪:‬‬

‫املقصود بالداللة الصوتية‪ ،‬وبيان طبيعتها‪:‬‬

‫(اْلد) على (طول الجدال) في قوله تعالى‪:‬‬‫الحس؛ وذلك كداللة ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫خفية تحتاج إلدراكها إلى قوة الذوق ورهافة‬ ‫الداللة الصوتية داللة غامضة ٍّ‬
‫ّ‬ ‫ُ ُّ ٍّ‬
‫َللا وق أد هد ِان} [األنعام‪.]80 :‬‬
‫اج ِوني ِفي ِ‬‫اج ُه ق أو ُم ُه قال أتح‬
‫{وح ّ‬

‫أ ً‬
‫(ضيزى) في قوله تعالى‪ِ { :‬تلك ِإذا ِق أسمة ِضيزى} [النجم‪ ،]22 :‬على النفور من تلك القسمة الجائرة‪.‬‬ ‫وكالداللة الصوتية لكلمة ِ‬

‫ض} [التوبة‪:‬‬ ‫اقلتم) في قوله تعالى‪{ :‬يا أ ُّيها ّال ِذين آم ُنوا ما ل ُك أم إذا ِقيل ل ُك ُم أان ِف ُروا في سبيل ّ ِ ّ أ ُ أ أ أ‬ ‫ٍّ‬
‫(اث ُ‬
‫َللا اثاقلتم ِإلى األر ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أو الداللة الصوتية لكلمة‬
‫‪ ،]38‬على التباطؤ والتكاسل‪.‬‬

‫وغير ذلك أمثلة كثيرة فطن إليها القدماء وأطال الوقوف عندها الدارسون املحدثون خاصة ممن استخدموا اْلناهج األلسنية الحديثة‬
‫ٍّ‬
‫النص القرآني‪.‬‬ ‫في تحليل‬

‫ومن ثم فاْلقصود بتلك الداللة الصوتية‪ :‬ما توحي به أصوات الكلم ومخارجها وسماتها الصوتية من إيحاءات تشارك في التعبير عن اْلعنى‬
‫في سياق من السياقات‪.‬‬

‫والداللة الصوتية ال تأتي منفصلة عن بقية الدالالت األخرى‪ :‬اْلعجمية والصرفية والنحوية والبيانية؛ بل تأتي متراكبة معها‪ ،‬مشاركة‬
‫إياها في صنع الداللة؛ كما أنها ال تأتي منعزلة عن السياق؛ بل إن السياق هو الذي يعطيها معناها وداللتها التي تتناسب معه‪.‬‬

‫ّ‬
‫وعل محمد معوض‪ ،‬ط‪ .‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بتوت‪ -‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‪1413 :‬هـ‪1993-‬م‪،‬‬
‫ي‬ ‫األندلس‪ ،‬تفست البحر المحيط‪ ،‬تحقيق‪ :‬عادل أحمد عبد الموجود‪-‬‬
‫ي‬ ‫)‪ (1‬انظر‪ :‬أبو حيان‬
‫(‪.(120 /8‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪22‬‬
‫ٍّ‬
‫الدال؛ وسوف يتبين ذلك من خالل األمثلة اآلتية‪.‬‬ ‫للدال الصوتي ً‬
‫قيما مختلفة باختالف سياقاتها مع اتحاد ذلك‬ ‫ٍّ‬ ‫ومن ثم نستطيع أن نجد‬

‫قيمة الداللة الصوتية‪:‬‬

‫أثرا ال ُينكر في تشكيل‬ ‫أثرا ً‬


‫كبيرا في التعبير عن اْلعاني واألفكار واْلشاعر؛ كما أن لها ً‬ ‫أثبتت الدراسات األسلوبية الحديثة أن لهذه الداللة ً‬
‫يقرب اْلعنى ويوضحه‪.‬‬ ‫الصورة الفنية التي ُيستعان بها على تقريب اْلعاني وتصويرها في صورة بارزة ملموسة يسهل إدراكها وتصورها مما ٍّ‬

‫ويحكم لهذه الداللة بالجودة وعدمها بحسب مناسبتها للمعنى والسياق واْلقام الذي وردت فيه‪ ،‬أو بحسب ما ذكره البالغيون ً‬
‫قديما‬
‫نقول‪ :‬يحكم لها بالجودة بحسب مطابقتها ْلقتض ى الحال‪ ،‬وإن كان البالغيون القدامى لم يتكلموا في هذه الداللة أو لم يعنوا بها العناية الكافية؛ ال‬
‫انتقدت على البالغيين القدامى في الدرس البالغي الحديث واْلعاصر‪(1).‬‬ ‫سيما من جهة التنظير البالغي الذي اقتصر على تقعيدات الفصاحة التي ُ‬ ‫ٍّ‬

‫الحاجة إلى تعميق البحث في هذا املجال‪:‬‬


‫كثيرا من الدراسات التي ٍّ‬
‫تمحضت لدراسة األصوات في القرآن قد‬ ‫تظهر الحاجة إلى تعميق البحث في هذا املجال الداللي إذا علمنا أن ً‬
‫اقتصرت في دراستها على الدراسة البحتة لألصوات‪( ،‬سواء كان في إطار علم األصوات‪ ،‬أو في إطار علم القراءات القرآنية وتجويد القرآن)‪ ،‬ولم يقم‬
‫ً‬ ‫اْلفسرين واللغويين ً‬
‫قديما وحديثا‪.‬‬ ‫باستثمار تلك الدراسات أو تطويرها لبحث األثر الجمالي أو الداللة الفنية لتلك األصوات ٍّإال النابهون من ٍّ‬
‫ُّ‬ ‫ٍّ‬
‫(خاصة في ضوء تلك الطفرة البحثية الحديثة في الدراسات الجمالية للغة القائمة على اإلفادة من الدراسات‬ ‫لذلك أرى أنه ينبغي علينا‬
‫ٍّ‬
‫األسلوبية) ضرورة استثمار الدرس اللغوي األسلوبي اْلعاصر ال سيما في هذا املجال الخصب؛ أقصد مجال األصوات القرآنية‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫يتركب من ثالثة‪ :‬حروف هي من األصوات‪ ،‬وكلمات هي من الحروف‪ُ ،‬‬
‫وجمل هي من الكالم‪ .‬وقد رأينا ِس ٍّر اإلعجاز‬ ‫وإذا كان «الكالم بالطبع‬
‫ً‬ ‫ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫أ‬
‫كلها بحيث خرجت من جميعها تلك الطريقة اْلعجزة التي قامت به؛ فليس لنا بد في صفته من الكالم في ثالثتها جميعا»‪2.‬‬ ‫في نظم القرآن يتناول هذه‬
‫ٍّ‬
‫وإذا كان اْلتكلم في إعجاز القرآن ليس له ُب ٌّد من الكالم في هذه اْلستويات الثالثة‪:‬‬

‫‪ )1‬اْلستوى الصوتي‪.‬‬

‫‪ )2‬اْلستوى اْلعجمي والصرفي‪.‬‬

‫‪ )3‬اْلستوى النحوي‪.‬‬
‫ملحة لدراسة هذا الجانب اْلهم من جوانب اإلعجاز القرآني‪ ،‬خاصة مع كثرة الدراسات في الجانبين اآلخرين ً‬
‫نوعا‬ ‫ال جرم ظهرت الحاجة ٍّ‬
‫ٍّ‬
‫ما‪ ،‬أي‪ :‬ما يتعلق بألفاظه اْلعجمية‪ ،‬أو بتراكيبه النحوية‪ ،‬سواء من الناحية اْلعجمية‪ ،‬أو النحوية البحتة‪.‬‬

‫أمثلة تحليلية لبيان أثر الداللة الصوتية في اتساع املعاني التفسيرية‪:‬‬

‫ر‬ ‫ّ ن‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ّ‬ ‫)‪(1‬‬


‫ون‪ ،‬د‪ /‬عبد الحميد هنداوي‪،‬‬
‫الحق أن ما ذكره البالغيون يف هذا المقام ال يخلو من انتقادات عديدة وجهها إليهم الدارسون المحدثون‪ .‬وللتوسع يف هذه النقطة؛ يراجع‪ :‬اإلعجاز الص ي‬
‫ط الدار الثقافية‪ -‬القاهرة‪( ،‬ص‪.(21‬‬‫‪.‬‬
‫افع‪ ،‬ط‪ .‬المكتبة العرصية‪ -‬بتوت‪( ،‬ص‪.(171‬‬ ‫إعجاز القرآن والبالغة النبوية‪ ،‬الر ي‬
‫)‪(2‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪23‬‬
‫نحتاج أن نقف أمام بعض األمثلة لتأملها وبيان مدى وقوف علماء اللغة القدامى على هذه الظاهرة‪ ،‬فلنتأمل على سبيل اْلثال كلمة‪:‬‬
‫أ‬ ‫ّ ّ أ‬ ‫ُ ُّ ّ‬
‫الدار اآل ِخرة ل ِهي الحيو ُان ل أو ك ُانوا ي أعل ُمون}‬ ‫الد أنيا ِإال ل أهو ول ِعب و ِإن‬ ‫(الحيوان)‪ ،‬وهي مصدر على صيغة (فعالن) في قوله تعالى‪{:‬وما ه ِذ ِه الحياة‬
‫[العنكبوت‪.]64 :‬‬

‫إذا تأملنا البنية الصوتية للمصادر التي تأتي على صيغة (فعالن) وجدنا أن توالي الحركتين القصيرتين (الفتحتين) وإتباع هاتين الفتحتين‬
‫ٍّ‬
‫الزّنة الطويلة‪ ...‬إذا تأملنا ذلك كله‬ ‫اْلد‪ ،‬ثم انتهاء الكلمة بالنون ذات الغنة املجهورة التي يمتد زمن النطق بها ً‬
‫حينا بما يشبه ّ‬ ‫بفتحة طويلة هي ألف ٍّ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ٍّ‬
‫وجدنا تمام اْلناسبة بين السمات الصوتية لتلك اْلصادر واْلعنى الذي تدل عليه وهو الحركة واالهتزاز واالضطراب الذي يزداد شيئا فشيئا‪ ،‬وهذا‬
‫لتعبر عن طول تلك الحركة‪ ،‬ثم يأتي حرف النون ليعبر‬ ‫تعبر عنه الحركتان القصيرتان (الفتحتان اْلتواليتان) ثم تأتي الحركة الطويلة (ألف ٍّ‬
‫اْلد) ٍّ‬ ‫ما ٍّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فشيئا حتى تهدأ‪ ،‬وهو ما تعبر عنه غنةٍّ‬
‫ً‬ ‫عن معنى آخر وهو أن هدوء تلك الحركة ال يكون فجأة بل يحتاج إلى زمن يسير تخفت فيه الحركة شيئاً‬
‫النون ذات الصوت املجهور‪.‬‬
‫ُ‬ ‫شيئا ً‬
‫فشيئا‪ .‬وهو تمثيل رائع ٍّ‬ ‫إنه تمثيل صوتي لعملية الغليان والثوران التي تنتهي باالستقرار والخمود ً‬
‫لكل ما فيه حركة واضطراب وثؤور‬
‫وارتفاع وغليان وثوران‪.‬‬

‫دالليا ال ُي أنكر في التعبير‬


‫أثرا ًّ‬ ‫فإذا ما تأملنا األثر الداللي الختيار صيغة (الفعالن) في هذه اآلية الكريمة ‪-‬في كلمة (الحيوان)‪ -‬نجد ٍّ‬
‫أن لها ً‬
‫وتجدد ألوانه‪ ،‬وذلك في مقابل‬ ‫الن أفس واهتزازها مع دوام ذلك واستمراره ُّ‬
‫عن الحياة في الدار اآلخرة بما تشتمل عليه من حركة ونشاط وابتهاج وخ ٍّفة ّ‬
‫ِ‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫رتابة صور الحياة وتكرارها بال تجدد‪ ،‬مع سرعة انقطاع لذاتها‪ ،‬وزوال‬ ‫وسأم‪ ،‬من ِ‬ ‫انكسار ٍ‬
‫ٍ‬ ‫الحياة الدنيا ‪-‬حياة اللهو واللعب‪ -‬بما تشتمل عليه من‬
‫نعيمها‪ُّ ،‬‬
‫وتحول عافيتها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يدل على ُّ‬
‫ومما ٍّ‬
‫تأصل البحث األسلوبي عند اللغويين العرب وقوف سيبويه على هذه الظاهرة؛ فلنتأمل على سبيل اْلثال قوله‪« :‬ومن‬
‫ّ‬
‫النزوان ّ‬
‫والنقزان والقفزان‪ ،‬وإنما هذه األشياء في زعزعة البدن واهتزازه في ارتفاع‪،‬‬ ‫اْلصادر التي جاءت على مثال واحد حين تقاربت اْلعاني‪ ،‬قولك‪:‬‬
‫ُّ‬
‫والرتكان‪ ...‬ومثل هذا الغليان؛ ألنه زعزعة وتحرك‪ ،‬ومثله الغثيان؛ ألنه تجيش نفسه وتثور‪ ،‬ومثله الخطران واللمعان؛ ألن هذا‬ ‫ومثله العسالن ّ‬
‫ٍّ ُ‬
‫وثؤوره‪ ،‬فإنما هو بمنزلة الغليان‪(1).»...‬‬ ‫اضطراب وتحرك‪ ،‬ومثل ذلك اللهبان والصخدان والوهجان؛ ألنه ُّ‬
‫تحرك الحر‬
‫ٍّ‬
‫النص التفات سيبويه إلى الداللة اْلركزية اْلشتركة التي توحي بها البنية الصوتية لتلك اْلصادر‪( :‬النزوان والنقزان والقفزان‬ ‫نلمح في هذا‬
‫والعسالن ّ‬
‫والرتكان والغليان والغثيان والخطران واللمعان واللهبان والوهجان‪...‬إلخ)‪.‬‬
‫جميعا في بنية صوتية واحدة هي صيغة (فعالن) بما لها من سمات صوتية ٍّ‬
‫خاصة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فهذه اْلصادر قد اشتركت‬

‫تعبر عن‬‫وإذا تأملنا الداللة اْلعجمية لتلك اْلصادر وجدناها تشترك جميعها في معنى مشترك بينها هو الحركة واالهتزاز واالضطراب‪ ،‬وهي ٍّ‬
‫حينا وال يكون هدوؤه فجأة بل يستمر ً‬
‫زمنا حتى يهدأ‪(2).‬‬ ‫شيئا ً‬
‫فشيئا‪ ،‬ثم تطول حركته ويستمر اضطرابه ً‬ ‫الش يء الذي تزداد حركته واهتزازه واضطرابه ً‬

‫ولذا قال الزمخشري‪« :‬وفي بناء (الحيوان) زيادة معنى ليس في بناء (الحياة)‪ ،‬وهي ما في بناء (فعالن) من معنى الحركة‬
‫بناء ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واالضطراب‪ :‬كالنزوان والنغصان واللهبان وما أشبه ذلك‪ ،‬والحياة حركة كما أن اْلوت سكون‪ ،‬فمجيئه على ٍ ٍ‬
‫دال على معنى الحركة مبالغة في‬
‫معنى الحياة؛ ولذلك اختيرت على (الحياة) في هذا اْلوضع اْلقتض ي للمبالغة»‪3.‬‬

‫)‪(1‬‬
‫الكتى األمتية‪ -‬ببوالق مرص المحمية‪ ،‬س‪1317‬ه‪ ،‬القاهرة‪.(218 /2( ،‬‬ ‫الكتاب‪ ،‬سيبويه‪ ،‬ط‪ .‬المطبعة ر‬
‫‪/‬‬ ‫ر‬
‫الصون‪ ،‬د عبد الحميد هنداوي‪ ،‬الدار الثقافية‪ -‬القاهرة‪( ،‬ص‪.(16‬‬ ‫)‪ (2‬اإلعجاز‬
‫ي‬
‫العرن‪ -‬بتوت‪ ،‬الطبعة الثالثة‪1407 :‬ه‪.(463 /2( ،‬‬ ‫ر‬
‫للزمخشي‪ .‬دار الكتاب‬ ‫)‪ (3‬انظر‪ :‬الكشاف‪،‬‬
‫ير‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪24‬‬
‫خاصة‪ ،‬هي‬ ‫(أن) الذي يتميز بسمة صوتية لها داللة ٍّ‬ ‫غنة النون‪ ،‬ولننظر على سبيل اْلثال إلى ذلك اْلقطع الصوتي ّ‬ ‫أيضا داللة ٍّ‬
‫ومن األمثلة ً‬
‫تغن في القراءة القرآنية بمقدار حركتين في جميع السياقات‪ ،‬لننظر إلى داللة ذلك اْلقطع التي قد‬ ‫سمة النبر الشديد بالنون اْلشددة ذات الغنة التي ٍّ‬
‫ّ‬ ‫ترد في سياقات كثيرة متضافرة مع الداللة اْلعجمية للكلمة ٍّ‬
‫(أن) في إفادة التوكيد‪ ،‬وهذا ما نستشعره في النطق بها في مثل قوله تعالى‪{ :‬ذ ِلك ِبأ ّن َللا‬
‫ّ ّ أ ُ أ أُُ‬ ‫أ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ُ ٍّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُهو أالح ُّق وأ ّن ُه ُي أح أ أ‬
‫يي اْلوتى وأنه على ك ِل ش أي ٍء ق ِدير * وأن الساعة آ ِتية ال ريب ِفيها وأن َللا يبعث من ِفي القب ِ‬
‫ور} [سورة الحج‪.]7 ،6 :‬‬ ‫ِ‬
‫حيث تتوالى الكلمة في هذا السياق بداللة واحدة هي التوكيد اْلستفاد من داللتها اْلعجمية‪ ،‬وداللتها السياقية‪ ،‬وداللتها الصوتية التي‬
‫ُيوحي بها تكرار النون فيها‪ ،‬فالتكرار من وسائل التوكيد‪.‬‬
‫تغن بمقدار حركتين‪ُ ،‬‬
‫يحدث من خالل النطق بهما نوع من الضغط واالرتكاز الذي يشبه اإلصرار على تأكيد اْلعنى‬ ‫كما توحي بها تلك ٍّ‬
‫الغنة التي ٍّ‬
‫وتثبيته لدى السامع‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫وهذا كله يتضافر مع الداللة السياقية للكلمة في هذا اْلقام الذي تؤكد فيه قدرة هللا تعالى على اإلحياء والبعث‪.‬‬
‫ُ ُ ً‬
‫فإذا انتقلنا من هذا السياق إلى سياق آخر؛ مثل قوله تعالى على لسان لوط ‪-‬عليه السالم‪{:-‬ل أو أ ّن ِلي ِبك أم ق ّوة} [هود‪ ،]80 :‬وذلك حينما‬
‫الحسان‪ ،‬ومن ثم لم يتمالك لوط‬ ‫شذوذ قومه ورغبتهم الجامحة في فعل اْلعصية‪ ،‬ومراودتهم له عن أضيافه ذوي الوجوه ِ‬ ‫ِ‬ ‫بلغ به الضيق مداه من‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ولم يلبث أأن ٍّ‬
‫ألم به الحنق والغيظ‪ ،‬بحيث توحي الداللة الصوتية لكلمة (أن) في هذه اآلية بصورة لوط ‪-‬عليه السالم‪ -‬وهو جاذ على أسنانه‪ ،‬يطيل‬
‫معب ًرا عن انفعاله الشديد بالغيظ والحنق من طبيعة هؤالء القوم الدنيئة؛ كما تأتي تلك الداللة‬ ‫الضغط واالرتكاز في النطق بغنة النون اْلشددة ٍّ‬
‫ِ‬
‫ٍّ‬
‫مختلطة بداللة األس ى والحزن والتحسر على عدم تمكنه من االنتصار منهم أو ِردهم عن طيشهم وضاللهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُّ‬
‫وهنا تتدخل داللة السياق لترجيح هذا اْلعنى الصوتي الذي نستشفه من اآلية‪ ،‬كما يتدخل توقع القارئ حدوث مثل هذا الصوت عادة‬
‫ً‬ ‫في مثل هذا الحال‪ ،‬مما يصرف ذهنه إلى الربط بين ذلك الصوت وبين اْلعنى الذي ٍّ‬
‫يدل عليه عادة في مثل هذا السياق‪.‬‬

‫(ضيزى) ليس لها من انسيابية النطق وجمال‬ ‫أ ً أ‬


‫ومن األمثلة كذلك قوله تعالى‪ِ { :‬تلك ِإذا ِقسمة ِضيزى} [النجم‪ ،]22 :‬نجد أن هذه الكلمة ِ‬
‫ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫الوقع على األذن ما للكلمة اْلرادفة لها (جائرة)‪ .‬لنا أن نزعم أنها ‪-‬في موقعها من قول هللا تعالى في سورة النجم يخاطب اْلشركين‪{ :‬ألك ُم الذك ُر ول ُه‬
‫ٍّ‬ ‫أ ً‬ ‫أُ‬
‫األ أنثى * ِتلك ِإذا ِق أسمة ِضيزى} [النجم‪ -]21،22 :‬دالة أبلغ داللة على اْلراد‪ :‬وهو فساد القسمة وحيفها‪ ،‬بشكل يولد في النفس ‪-‬عند نطق الكلمة‪-‬‬
‫إحساسا بثقلها ُوبغضها والنفور منها‪ ،‬وهي داللة ال تتفجر من الكلمة السابقة‪.‬‬
‫ً‬

‫ونتممه ببيان أوجه اْلناسبة بين السمات الصوتية لتلك الكلمة وداللتها فنقول‪ٍّ :‬‬
‫إن الناظر في مناسبة تلك الكلمة لداللتها‬ ‫ٍّ‬
‫ونؤيد ما ذكر ٍّ‬
‫مصحوبا بحركة ياء ٍّ‬
‫اْلد‬ ‫ً‬ ‫ال يحتاج أكثر من أن يتأمل طريقة نطقه بها‪ ،‬وأن ينظر إلى هيئة الفم حال النطق لها‪ ،‬حيث نالحظ أن النطق بحرف الضاد‬
‫منفتحا بدرجة كبيرة؛ سب ُبها أن مخرج الضاد من حافة اللسان مما يلي األضراس‪ ،‬فإذا جاءت الضاد مصحوبة باْلد بالياء فإن ذلك يؤدي‬ ‫ً‬ ‫يجعل الفم‬
‫ُ ً‬ ‫ٍّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬
‫إلى انفتاح الفم انفتاحا أفقيا إلى هذه الدرجة التي هي أشبه بهيئة اْلشمئز من الش يء‪ ،‬ويزداد االقتراب في الشبه بهذه الهيئة حينما ينتقل الفم فجاءة‬
‫باأللف)؛ مما يؤدي إلى انتقال الفم من االنفتاح األفقي‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫من نطق الضاد ذات الكسرة الطويلة (اْلد بالياء)‪ ،‬إلى نطق الزاي ذات الفتحة الطويلة (اْلد ِ‬
‫العرض ي إلى االنفتاح الرأس ي الطولي؛ ليوحي ‪-‬بهذه الطريقة اإلشارية اْلتولدة من نطق هذه الكلمة‪ -‬بداللة النفور واالشمئزاز من تلك القسمة الجائرة‬
‫ً‬ ‫التي تبعث على االشمئزاز واألنفة من تلك العقول الفاسدة التي ّ‬
‫سوغت أن يكون اْلالئكة الذين هم عباد الرحمن إناثا‪ ،‬بينما هم ال يرضون باإلناث‬
‫ألنفسهم فيتخلصون منهم بالقتل والوأد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫ويمكننا أن نقف كذلك عند الداللة الصوتية لكلمة (اثاقلتم) من قوله تعالى‪{ :‬يا أ ُّيها ال ِذين آمنوا ما لك أم ِإذا ِقيل لك ُم ان ِف ُروا ِفي س ِب ِيل ِ‬
‫َللا‬
‫أ‬ ‫اع أالحياة ُّ‬
‫الد أنيا من أاآلخرة فما مت ُ‬
‫األرض أرض ُيت أم ب أالحياة ُّ‬ ‫ّ أُ أ‬
‫الد أنيا ِفي اآل ِخر ِة ِإال ق ِليل} [التوبة‪ ،]38 :‬فاْلتأمل لتلك الكلمة يستشعر صولة‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اثاقلتم ِإلى أ ِ ِ‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪25‬‬
‫أ ٍّ ُ‬ ‫ُ‬
‫أن األولى بتشكيلها الصوتي‬ ‫واضحة في نطقها‪ ،‬وليست خفيفة الوقع كذلك على األذن‪ ،‬وذلك على خالف ما نراه في كلمة بديلة وهي (تثاقلتم)‪ ،‬بيد‬
‫مجسمة للتباطؤ الشديد‪ ،‬وتثير في خيال قارئها وسامعها صورة ذلك الجسم اْلتثاقل يرفعه‬ ‫أقوى في تصوير اْلراد واإليحاء به؛ إذ ترسم صورة ٍّ‬
‫الرافعون في جهد فيسقط من أيديهم في ثقل‪ ،‬وحينما نوازن بين السمات الصوتية لهذه الكلمة وبين سياقها نجد أنها قد جاءت ٍّ‬
‫معبرة تمام التعبير‬
‫العلى فهو قريب‬‫مكررا‪ ،‬وهو حرف يخرج مما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا ُ‬ ‫عن الفكرة التي سيقت ألجلها؛ حيث نالحظ أن حرف (الثاء) قد جاء ً‬
‫يتردد فيه‪ ،‬كما أن النطق ال يزال ٍّ‬
‫يتردد في مخرج الثاء يكرره وال يبرحه‪ ،‬ثم‬ ‫املخرج‪ ،‬وتكرره بالتشديد يصور هيئة اْلتثاقل اْلتباطئ فهو ال يبرح مكانه ٍّ‬
‫ٍّ‬
‫خاص بهذا الحرف (الثاء) الذي ال يكاد النطق يبرحه‪ :‬تارة بتشديده‬ ‫ٍّ‬ ‫يأتي اْلد ليصور لك أن هذا اْلتثاقل ال يتحرك وال يمتد إال في مكانه‪ ،‬فهو م ٍّد‬
‫الظان أن اْلتثاقل قد تحرك ً‬
‫شيئا أو جاوز مكانه؛ فإذا‬ ‫ٍّ‬ ‫اْلد يبلغ أقصاه حيث مخرج القاف أقص ى اللسان‪ ،‬وهنا ٍّ‬
‫يظن‬ ‫وتكريره وتارة بمده‪ ،‬ثم ها هو ٍّ‬
‫ٍّ‬
‫به يرتد تارة أخرى إلى مكانه الذي قد قام منه وهو منطقة طرف اللسان؛ حيث الثاء والالم والتاء‪ ،‬بل إنه يتساقط ويتأخر عن مكان ابتدائه حيث‬
‫ٍّ‬
‫وخاصة مع إيحاء هذا اْلقطع‬ ‫يرتد إلى مخرج اْليم عند الشفتين‪ ،‬وال شك أن اْلرء حينما ينطق بهذه الكلمة ال يكاد يصل إلى نطق تلك اْليم الساكنة‪،‬‬
‫ً‬ ‫األخير ُ(تم) حتى يستشعر أن ً‬
‫شيئا قد سقط على األرض فجأة محدثا هذا الصوت‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫اْلشددة‬ ‫يصور هيئة اْلتثاقل اْلتساقط وهو ٍّ‬
‫يتردد في قيامه ويتلعثم فيه ويتمادى في تباطئه‪ ،‬وذلك في نطق الثاء‬ ‫ٍّ‬
‫وكأن النطق بهذه الكلمة ٍّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫اْلمدودة‪ ،‬ثم ال يلبث أن ينهض حتى يتساقط ًّ‬
‫متجاوزا عنه إلى الخلف قليال‪ ،‬فهو ال يكاد يقوم حتى يسقط‪ ،‬وهنا نستشعر‬ ‫مرتدا إلى مكان قيامه أو‬
‫أن الكلمة بسماتها الصوتية موحية ومعبرة عن معنى التثاقل والتباطؤ بدرجة فنية عالية‪ ،‬ال تستطيع أن توحي بها داللتها اْلعجمية وحدها‪.‬‬

‫على أن في اآلية كلمة أخرى ال تقل داللتها الصوتية عن داللة تلك الكلمة في التعبير عن ذلك التثاقل والخلود إلى األرض والركون إلى الدعة‬
‫والراحة‪ ،‬أال وهي كلمة (األرض)؛ وذلك أنك إذا تأملت وقوفك على الضاد الساكنة بما لها من صفات االستطالة واالنبساط والتفش ي الستشعرت‬
‫فيها ما يوحي به نطق الضاد من استطالة الركود واالنبساط فيه‪ ،‬وتفش ي هؤالء اْلتثاقلين واسترخائهم وتمددهم في التصاقهم باألرض واستنامتهم‬
‫إليها‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫إنها داللة ال تلوح بها الداللة اْلعجمية للكلمة من قريب وال من بعيد‪ ،‬وإنما تنفرد بها الداللة الصوتية لهذا الحرف في ذلك النسق والسياق‬
‫الداللي‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪26‬‬
‫الصوت يف القرآن الكريم‬

‫أمناطه ودالالته‬

‫املبحث األول‪ :‬التكرير يف الصوت لتكرير الداللة‬

‫أ) التكريرفي الفعل الرباعي املضعف‪:‬‬

‫من اْلظاهر اللغوية التكرير في األصوات اللغوية‪ ،‬فمن اْلعلوم ان اللغة العربية ترجع في أصولها إلى البناء الثالثي في الغالب‪ ،‬وهناك‬
‫طائفة من األلفاظ ثنائية التركيب‪ ،‬وحين نجد تركيبا رباعيا أو خماسيا فإنما األصل فيه الثالثي‪ ،‬وسنعرض مجموعة من األلفاظ التي وردت في‬
‫االستعمال القرآني لنتعرف على كيفية التناسب بين تكرير الصوت وتكرير الداللة فيها وهذه املجموعة‪ :‬يتكرر فيها الصوت األول مع الثالث‪ ،‬والثاني‬
‫مع الرابع‪:‬‬

‫‪ .1‬حصحص‬

‫األصل في هذه اْلادة (حصص) ومعناه وضح وانكشف‪ ،‬قال الزجاج اشتقاقه في اللغة من الحصة‪ ،‬أي تبينت حصة الحق من حصة‬
‫الباطل‪ ،‬عندما نقول حصحص الحق‪ .‬وتأتي الحصحصة بمعنى اْلبالغة‪ ،‬يقال‪ :‬حصحص الرجل إذا بالغ في أمره)‪ .(1‬وهذه اْلبالغة هي نتيجة لزيادة‬
‫صوت الحاء فأصبح بناء الكلمة رباعيا بعد أن كان ثالثيا‪.‬‬
‫أ‬ ‫ُ أ‬
‫وقد وردت هذه اْلادة في القرآن الكريم مرة واحدة في قصة يوسف [ع]‪ ،‬على لسان امرأة العزيز‪ ،‬قال تعالى‪( :‬قال ِت أامرأة الع ِزي ِز اآلن‬
‫الص ِاد ِقين) (يوسف‪ .)51 :‬فمعنى حصحص هو ظهور الحق وانكشافه وتمكنه في القلوب والنفوس‪،‬‬ ‫صحص أالح ُّق أنا راو أد ُت ُه ع أن ن أف ِس ِه وإ ّن ُه ِْلن ّ‬
‫ح أ‬
‫ِ‬
‫كما يقال حصحص البعير واستقر في األرض‪(2).‬‬

‫‪ .2‬دمدم‬

‫تأتي الدمدمة في اللغة لعدة معان‪ ،‬إذ يقال لصوت الهرة دمدمة‪ ،‬ويقال دمدم فالن في كالمه إذا أخرج صوتا غير مفهوم‪ .‬ويقال ناقة مدمدمة‬
‫إذا ألبسها الشحم‪ ،‬فإذا كررت االطباق قلت دمدمت عليه‪(3).‬‬

‫وجاءت مادة دمدم في موضع واحد من القرآن الكريم‪ ،‬قال تعالى‪( :‬فك ّذ ُب ُ‬
‫وه فعق ُروها فد أمدم عل أي ِه أم رُّب ُه أم ِبذ أن ِب ِه أم فس ّواها) (الشمس‪.)14 :‬‬

‫ومعنى دمدم أن العذاب قد أطبق عليهم وعمهم من جميع الجوانب‪ ،‬كما يقال للش يء السمين‪ ،‬كأنما دم بالشحم دما‪ ،‬إذ جعل الزجاج دمدم‬
‫من هذا اْلعنى على التضعيف كما في كبكبوا وغيرها‪(4).‬‬

‫‪ .3‬رفرف‪:‬‬

‫)‪ (1‬اللسان‪.477/2 :‬‬


‫)‪ (2‬التفست الكبت‪126/18 :‬‬
‫ن‬
‫معان القرآن واعرابه‪ :‬للزجاج‪.255/5 :‬‬ ‫)‪(3‬‬
‫ي‬
‫)‪ (4‬المفردات‪.178 :‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪27‬‬
‫يأتي الرفرف في اللغة معنى الحركة‪ ،‬إذ يقال‪ :‬رفرف الطائر إذا حرك جناحيه‪ ،‬وهو اليبرح مكانه‪ ،‬ويأتي بمعنى البساط‪ ،‬فيقال فرشوا لنا رفرفا‪،‬‬
‫وهو ضرب من البسط الخضر وقد يأتي الرفرف بمعنى اْلنتشر من األوراق‪(1).‬‬

‫ض ٍر‬‫وردت كلمة رفرف في القرآن الكريم في موضع واحد منه في وصف حال اْلؤمنين وما يجدونه من نعيم فيها‪ ،‬قال تعالى‪(ُ :‬م ّتكئين على ر أفرف ُخ أ‬
‫ٍ‬ ‫ِِ‬
‫وع أبق ِر ٍّ ٍي ِحس ٍان) (الرحمن‪ .)76 :‬والرفرف‪ :‬اسم جنس يأتي بمعنى الجمع ومفرده رفرفة‪ ،‬واْلعنى أنهم متكئون على بسط تشبه الرياض‪ .‬وإذا كانت‬
‫ش‬ ‫ُُ‬
‫الرفرفة مأخوذة من الحركة‪ ،‬فهذا يعني أنهم على تلك البسط اْلرفوعة التي ورد ذكرها في موضع آخر من القرآن الكريم في قوله تعالى‪( :‬وفر ٍ‬
‫ُ‬
‫م أرفوع ٍة) (الواقعة‪ )34 :‬فالتكرير في الصوت يتبعه تكرير في داللة اْلادة‪ ،‬كما هي الحال في حركة البساط أو أجنحة الطائر‪.‬‬

‫‪ .4‬زحزح ‪:‬‬

‫الزحزحة في اللغة هي التنحية والدفع عن اْلوضع‪ .‬قال ذو الرمة‪:‬‬


‫ى زمنا وغافر الذنب زحزحني عن النــار)‪(2‬‬ ‫يا قابض الروح عن جسم عص‬
‫وبهذا اْلعنى جاء في الحديث الشريف أنه‪( :‬من صام يوما في سبيل هللا زحزحه هللا عن النار سبعين خريفا)‪(3).‬‬

‫وردت هذه اْلادة في موضعين من القرآن الكريم؛ إذ جاءت بصيغة الفعل اْلاض ي اْلبني للمجهول في قوله تعالى‪( :‬فم أن ُز أح ِزح ع ِن ال ّن ِار‬
‫ور) (آل عمران‪ .)185 :‬ففي الزحزحة تكرير للزح الذي يعني الجذب بعجلة‪ ،‬فمن تخلص من‬ ‫ُ أُُ‬ ‫أ ُ ُّ أ ّ‬ ‫أ‬ ‫أ ّ‬ ‫ُأ‬
‫وأد ِخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا ِإال متاع الغر ِ‬
‫العذاب ووصل إلى الثواب فقد فاز باْلقصد األقص ى والغاية التي ال مطلوب بعدها‪(4).‬‬

‫وجاء في الحديث أن الرسول [ص] قال‪( :‬من أحب ان يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن باهلل واليوم اآلخر وليؤت‬
‫إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه)‪(5).‬‬

‫ُ‬ ‫وكذلك وردت هذه اْلادة في القرآن الكريم بصيغة الزحزحة‪ .‬قال تعالى‪( :‬وما ُهو ب ُمز أحزحه من أالعذاب أ أن ُيع ّمر و ّ ُ‬
‫َللا ب ِصير ِبما ي أعملون) (البقرة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ل‬
‫‪ .)96‬قال القاض ي‪ :‬اْلراد أنه ال يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير‪ ،‬ولو قال تعالى‪ :‬وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كداللة هذا القو ‪.‬‬
‫ففي الزحزحة معنى أبلغ من الزح‪ ،‬فالقرآن الكريم يختار اللفظ اْلناسب في اْلوضع اْلناسب‪(6).‬‬

‫‪ .5‬زلزل‪:‬‬

‫تأتي هذه اْلادة (زلل) في اللغة بمعنى الحركة اْلعتادة‪ ،‬والزلة في األصل‪ :‬استرسال الرجل من غير قصد‪ ،‬يقال‪ :‬زلت ِرجل‪ ،‬تزل والزلة‪ :‬اْلكان‬
‫الزلق‪ ،‬وقيل للذنب من غير قصد زلة تشبيها بزلة الرجل‪ .‬والتزلزل يأتي بمعنى االضطراب‪ ،‬إذ أن تكرير حروف لفظه تنبيه على تكرير معنى الزلل‬
‫فيه‪(7).‬‬

‫وقد وردت هذه اْلادة في القرآن الكريم بصيغة الفعل اْلبني للمجهول‪ ،‬كما وردت بصيغة اْلصدر في سورة الزلزلة‪ ،‬قال تعالى‪( :‬إذا ُزألزل ِت أاأل أر ُ‬
‫ض‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ‬
‫ِزلزالها) (الزلزلة‪ )1 :‬فالزلزال بالكسر اْلصدر‪ ،‬والزلزال بالفتح االسم‪ ،‬واْلعنى أن األرض حركت حركة شديدة‪ ،‬وفي ذلك تصوير ليوم القيامة‪.‬‬

‫)‪ (1‬أساس البالغة‪.242 :‬‬


‫)‪ (2‬للسان‪.346/4 :‬‬
‫)‪ (3‬نفسه‪.4:347 :‬‬
‫)‪ (4‬التفست الكبت‪.108 9 :‬‬
‫‪/‬‬
‫)‪ (5‬صحيح مسلم‪ 1844 :‬باب االمارة‪.‬‬
‫)‪ (6‬التفست الكبت‪.187/3 :‬‬
‫)‪ (7‬ينظر‪ :‬المفردات‪.219 :‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪28‬‬
‫وتأتي الزلزلة بمعنى الحركة‪ ،‬أي انك كررت تلك اإلزالة‪ ،‬فضوعف لفظه بمضاعفة معناه‪ .‬وكل ما كان فيه تكرير كررت فاء الفعل وعينه‪.(1).‬‬

‫ب) التكريرفي عين الفعل الرباعي ‪:‬‬

‫هناك صورة أخرى من صور التكرير‪ ،‬هي تكرير العين في الفعل الرباعي؛ إذ جعلوا تكرير الصوت دليال على تكرير الفعل‪ ،‬فاألصوات تابعة‬
‫وقطع‪ ،‬وكسر ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫وكسر‪ ،‬زادوا في الصوت لزيادة اْلعنى‪ ،‬واقتصدوا فيه‬ ‫للمعاني فمتى قويت قويت‪ ،‬ومتى ضعفت ضعفت‪ ،‬ومن ذلك قولهم‪ :‬قطع‬
‫القتصادهم فيه‪.‬‬
‫ََ‬
‫‪ .1‬غل َق‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫(فعلت) في اللغة بمعنى التكثير في الفعل‪ ،‬مثل قولهم‪ٍّ :‬‬
‫قتلت القوم ٍّ‬ ‫تأتي صيغة ٍّ‬
‫وفرقت جمعهم‪ ،‬وغلقت األبواب‪ ،‬ولكن ذلك ال يكون على‬
‫ٍّ‬
‫وعشيته‪(2).‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫وعلمته ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫وحييته وغذيته‬ ‫االطالق؛ إذ تأتي هذه الصيغة أحيانا وال يراد بها التكثير‪ ،‬كما في قولهم‪ :‬كلمته وسويته‬
‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫وردت كلمة غلق في القرآن الكريم في قصة يوسف [ع]‪ .‬قال تعالى‪( :‬وراود أت ُه ال ِتي ُهو ِفي ب أي ِتها ع أن ن أف ِس ِه وغلق ِت األ أبواب) (يوسف‪ .)23 :‬إذ‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫عدل التعبير القرآني عن صيغة (غلق) إلى (غلق) لغرض بالغي‪ ،‬قال الراغب‪" :‬أغلقت الباب أو غلقته على التكثير‪ ،‬وذلك إذا أغلقت أبوابا كثيرة أو‬
‫أغلقت بابا واحدا مرارا أو أحكمت إغالق باب"‪(3).‬‬

‫ٍّ‬
‫واألصل في هذا مأخوذ من قولهم في كل ش يء تشبث في ش يء فلزمه قد غلق يقال‪ :‬غلق في الباطل وغلق في غضبه‪ ،‬ومنه غلق في الرهن‪ ،‬ثم‬
‫ٍّ‬
‫غلقت على التكثير ألنها غلقت سبعة أبواب‪ ،‬ثم دعته إلى نفسها‪(4).‬‬ ‫ُيعدى باأللف فيقال‪ :‬أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر ُ‬
‫فتحه‪ .‬وجاء‬
‫ِّ‬
‫‪ .2‬قطع‪:‬‬

‫صرم وإبانة ش يء من ش يء‪ .‬يقال‪ :‬قطعت الش يء أو أقطعه قطعا‪ ،‬إذا فصلته ومنه ما كان ُمدركا بالبصر كاألجسام‬ ‫ٍّ‬
‫مادة (ق ط ع) تدل على ِ‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫أو ُمدركا بالبصيرة كاألشياء اْلعقولة‪ ،‬ومن ذلك قطع األعضاء نحو قوله تعالى‪( :‬فل ّما رأ أين ُه أكب أرن ُه وقط أعن أ أي ِدي ُه ّن) (يوسف‪.)31 :‬‬

‫فكانت اْلرأة من شدة دهشتها وحيرتها تقطع يدها‪ ،‬وهي تظن أنها تقطع الفاكهة‪ .‬جاء في اللسان وصفا لتلك الحالة‪" :‬قطعن أيديهن قطعا‬
‫بعد قطع وخدشتها خدشا كثيرا‪ ،‬ولذلك شدد"‪(5).‬‬

‫إن الزيادة الحاصلة في هذه الكلمات عن طريق التضعيف‪ ،‬وجدت لزيادة اْلعنى‪ ،‬وقد اكتفينا بمثالين لالستشهاد بهما على ذلك‪ ،‬وهذه‬
‫الحالة في اللغة واسعة وكبيرة يقول عنها ابن جني‪" :‬زادوا في اللفظ هذه الزيادة لزيادة معناه‪ ،‬وكأن أصل هذا إنما هو لتضعيف العين في نحو اْلثال‪:‬‬
‫قطع ٍّ‬
‫وكسر وبابهما‪ ،‬وإنما جعلنا هذا هو األصل‪ ،‬ألنه مطرد في بابه أشد من اطراد باب الصفة"‪(6).‬‬
‫ٍّ‬

‫وعن داللة هذه الصيغة ٍّ‬


‫(فعل) في القرآن الكريم يقول أبو حيان‪" :‬إنها تدل على التكرير والتكثير‪ ،‬كما تدل على منتهى التفضيل إذ أن الزيادة في‬
‫فرح ٍّ‬
‫وكسر فجعلوا قوة اللفظ لقوة اْلعنى(‪(7).‬‬ ‫اْلبنى زيادة في اْلعنى"‪ ،‬فجعلوا تكرير العين داال على تكرير الفعل‪ ،‬نحو ٍّ‬

‫التفست الكبت‪.18/6 :‬‬ ‫)‪(1‬‬

‫إصالح المنطق‪ :‬البن السكيت‪.145 :‬‬ ‫)‪(2‬‬

‫المفردات‪. 366 :‬‬ ‫)‪(3‬‬

‫التفسير الكبير‪92/18 :‬‬ ‫)‪(4‬‬

‫اللسان‪416/7 :‬‬ ‫)‪(5‬‬

‫الخصائص‪. 269/3 :‬‬ ‫)‪(6‬‬

‫ارتشاف الضرب من لسان العرب‪.84/1 :‬‬ ‫)‪(7‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪29‬‬
‫املبحث الثاني التبادل الصوتي‪:‬‬

‫توصف اللغة العربية بأنها لغة الفصاحة والبيان؛ إذ تعبر عن اْلعاني بأجمل األلفاظ وأحسنها من حيث قوة األداء التعبيري‪ ،‬إذ تتساوق‬
‫األصوات في بنية الكلمة مع ما توحيه من دالالت تثيرها الصور الذهنية التي ترتسم في ذاكرة القارئ والسامع على حد سواء‪.‬‬

‫وهناك طائفة من األلفاظ تشترك في الداللة على الش يء‪ ،‬بيد أنها تختلف في صوت واحد عن الكلمة األخرى‪ ،‬مما يفض ي قوة داللية للكلمة‪،‬‬
‫بحيث تختلف عن الكلمة األخرى وهذا ما سنالحظه في الكلمات اآلتية‪:‬‬
‫‪ِّ .1‬أز ِّ‬
‫وهز ‪:‬‬

‫إن داللة األز في اللغة تشبه داللة الهز‪ ،‬ويقال‪ :‬أزه أزا وأزيزا مثل هزه‪ ،‬وهي الحركة الشديدة‪ .‬قال رؤبةبن العجاج‪:‬‬
‫*** فينا وال قول العدى ذو ِّ‬
‫األز)‪(1‬‬ ‫ِّ‬
‫والتحزي‬ ‫ال ياخذه التأفيك‬

‫كما جاء الهز بمعنى الحركة في قول تأبط شرا ‪:‬‬


‫ُ‬
‫األوارك)‪(2‬‬ ‫أهزبه في ندوة الحي عطفه *** كما هزعطفي بالهجان‬
‫أ‬ ‫أ ّ‬
‫اطين على الكا ِف ِرين ت ُؤ ُّز ُه أم أ ًّزا) (مريم‪.)83 :‬‬ ‫ّ‬
‫وردت كلمة أز في القرآن الكريم‪ ،‬في مقام الحديث عن الكفار‪ .‬قال تعالى‪( :‬أل أم تر أنا أ أرسلنا الشي ِ‬
‫واْلعنى أنها تحركهم تحريكا شديدا‪.‬‬
‫أ‬ ‫أ ّ أ ُ‬
‫النخل ِة تسا ِقط‬ ‫(هز)‪ ،‬في الخطاب اإللهي اْلوجه إلى مريم [عليها السالم]‪ ،‬قال تعالى‪( :‬و ُه ٍّ ِزي ِإل أي ِك ِب ِجذ ِع‬
‫في حين جاء التعبير القرآني بكلمة ٍّ‬
‫حركي جذع النخلة‪ ،‬وألنه جذع يقتض ي التحريك الشديد‪.‬‬ ‫عل أي ِك ُرط ًبا ج ِن ًّيا) (مريم‪ )25 :‬ومعنى هزي‪ :‬أي ٍّ‬

‫فاألز والهز يأتيان بمعنى الحركة‪ ،‬وهما في اللغة بمعنى واحد؛ بيد أن اختالف الصوتين أدى إلى اختصاص كل صوت بالحالة التي سيق‬
‫من أجلها‪ .‬يقول ابن جني‪" :‬الهمزة أخت الهاء‪ ،‬فتقارب اللفظان لتقارب اْلعنيين‪ ،‬وكأنهم خصوا هذا اْلعنى بالهمزة‪ ،‬ألنها أقوى من الهاء‪ ،‬وهذا اْلعنى‬
‫أعظم في النفوس من الهز‪(3).‬‬

‫وهكذا نجد ان التعبير القرآني قد امتاز بالدقة في اختيار اللفظ اْلناسب للتعبير عن اْلقام بما يالئمه‪ .‬ففي الحديث عن الكفار اختار األز‪،‬‬
‫ْلا في صوت الهمزة من شدة وصالبة‪ ،‬فالهمزة توصف بأنها من أشد الحروف في اللغة العربية‪ ،‬وهي أكثر األصوات مالءمة للبيئة البدوية ْلا فيها من‬
‫الشدة والقوة؛ لذا فإنها ناسبت اْلقام الذي وردت فيه‪ ،‬على حين اختيرت الهاء في مقام الخطاب اْلوجه إلى مريم [عليها السالم]‪ ،‬انسجاما مع الحالة‬
‫النفسية التي كانت تتسم بالقلق واالضطراب‪ْ ،‬لا كان يكتنفها من ظروف اجتماعية؛ إذ كانت متهمة في عفتها‪ ،‬فكيف تضع امرأة وليدا من غير زوج‪،‬‬
‫فكان صوت الهاء الذي يتصف بالهمس والرخاوة أكثر مناسبة للموقف الذي عبر عنه؛ فجاء الصوتان أكثر مالءمة للحالة التي عبر عنها كل من‬
‫الصوتين في هذين اْلوضعين املختلفين‪.‬‬

‫‪ .2‬مكة وبكة ‪:‬‬

‫)‪ (1‬اللسان‪.141/1 :‬‬


‫‪:‬‬ ‫‪/‬‬ ‫‪:‬‬ ‫ن‬
‫التميت ‪ ،322 5‬األوراك اإلبل ترغ شجر األراك‪.‬‬ ‫)‪ (2‬بصائر ذوي‬
‫)‪ (3‬الخصائص‪.148/2 :‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪30‬‬
‫ٍّ‬
‫ذهب قسم من علماء اللغة إلى أن اشتقاق بكة مأخوذ من ازدحام والتدافع‪ .‬يقال بك الناس بعضهم بعضا إذا ازدحموا‪ .‬قال الراجز‪:‬‬
‫يبك ِّبكه)‪(1‬‬
‫فخله حتى ِّ‬ ‫ِّ‬
‫إذا الشريب أخذته أكه ***‬
‫وقيل سميت بكة ألنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم‪ ،‬قال عبد هللا بن الزبير‪ :‬لم يقصدها جبار قط بسوء إال وقصه هللا عز وجل‪(2).‬‬

‫و(اْليم) في اْلك أن يدل على اْلص أو الشرب‪ ،‬وهو مأخوذ من قولهم‪ :‬امتككت املخ إذا مصصته‪ ،‬فسميت مكة بهذا االسم لقلة مائها‬
‫وكأن ماءها قد امتك‪ .‬وكانوا يسمون اْلاء الذي يستخرجونه بهذا االسم‪ :‬اْلكة أو اْلكاكة‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬
‫يا مكة الفاجر مكي مكا *** وال تمكي مذحجا وعكا)‪(3‬‬

‫وهناك من يرى أن بكة ومكة اسمان ْلسمى واحد‪ .‬قال مجاهد‪ :‬بكة هي مكة‪ ،‬وجعله نحو‪ :‬سبد رأسه وسمده‪ ،‬وضربة الزب والزم في كون الباء بدال‬
‫من اْليم‪.‬‬

‫ولم ترد اْلادة في القرآن الكريم سوى مرتين‪ ،‬مرة بلفظ مكة وأخرى بلفظ بكة‪ ،‬ففي معرض إشارة القرآن الكريم بالفضل واالمتنان على اْلؤمنين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ف أ أيدي ُه أم ع أن ُك أم وأ أيدي ُك أم ع أن ُه أم بب أطن م ّكة م أن ب أعد أ أن أ أظفر ُك أم عل أيه أم وكان ّ ُ‬
‫َللا ِبما ت أعملون ب ِص ًيرا) (الفتح‪.)24 :‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قال تعالى‪( :‬و ُهو ال ِذي ك‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اس لل ِذي ِببكة ُمباركا و ُه ًدى ِللع ِاْلين) (آل عمران‪.)96 :‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ أ ُ‬
‫وجاء لفظ بكة في قوله تعالى‪(ِ :‬إن أول بي ٍت و ِضع ِللن ِ‬
‫وذهب قسم من علماء اللغة إلى التفريق بين اللفظين‪ .‬قال أبو عبيدة‪ :‬بكة هي اسم لبطن مكة‪ .‬وقال الطبري‪" :‬بكة موضع مزدحم الناس‬
‫للطواف‪ ،‬فبكة موضع البيت ومكة ما سوى ذلك"‪.‬‬

‫والراجح أنهما يحمالن داللة واحدة‪ ،‬ألن الباء واْليم يحصل بينهما تبادل صوتي التحاد هذين الصوتين في املخرج والصفة‪ ،‬فهما صوتان‬
‫مجهوران‪ ،‬ومخرجهما من الشفة‪ .‬وقد يرجع االختالف في النطق إلى اختالف البيئة التي تنطق بالباء أو اْليم‪ ،‬تبعا للقبائل العربية‪ ،‬وإن كان اْلفسرون‬
‫ال يشيرون إلى من يقول بكة وال يقولها باْليم‪(4).‬‬

‫‪َ .3‬سع َد وصعد‪:‬‬

‫ومن األلفاظ التي حصل بينهما تبادل صوتي هاتان الكلمتان‪ :‬صعد وسعد‪ ،‬إذ جعلوا الصاد ألنها اقوى‪ْ ،‬لا فيه اثر مشاهد وهو الصعود في‬
‫الجبل ونحو ذلك‪ .‬في حين جعلوا السين لضعفها ْلا ال يشاهد حسا؛ إذ أن فيه صعود الجد ال صعود الجسم‪.‬‬

‫وهكذا عملت اللغة على اختيار األصوات متساوقة مع ما تشير إليه من دالالت‪ ،‬فجعلوا الصاد لقوتها مع ما يشاهد من األفعال الصعبة‪ ،‬ألن‬
‫الصاد تمتاز بصفة االطباق الذي يفيد التفخيم‪ .‬وكان السين لضعفها فيما تعرفه النفس وإن لم تره العين‪ ،‬فصفة الهمس الذي تتصف به السين‬
‫يتناسب مع الداللة التي تحملها هذه الكلمة‪ ،‬فالداللة اللفظية أقوى من الداللة اْلعنوية‪.‬‬

‫‪ .4‬نضح ونضخ‬

‫األصل في داللة مادة (ن ض ح) في اللغة هو رش اْلاء‪ ،‬قال أهل اللغة‪ :‬يقال لكل ما رق نضح‪ ،‬ومنه نضح جلده بالعرق‪ ،‬قال أبو طالب‪:‬‬

‫)‪ (1‬الجمهرة‪ ،19/1 :‬وينظر الكشاف‪. 447/1 :‬‬


‫)‪ (2‬الجامع ألحكام القرآن‪.138/4 :‬‬
‫)‪ (3‬الجمهرة‪.120/1 :‬‬
‫الكشفا‪ ،386/1 :‬وفقه اللغة المقارن‪ :‬للسامرائي‪.259 :‬‬ ‫)‪(4‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪31‬‬
‫*** بو رك نضح الرمان والزيتون )‪(1‬‬ ‫بورك امليت الغريب كما‬

‫ومادة (ن ض خ) قريبة في الداللة من مادة نضح‪ ،‬إال أن النضخ أكثر منه‪ .‬والنضخ‪ :‬شدة فور اْلاء في جيشانه وانفجاره من ينبوعه‪ ،‬قال‬
‫أبو علي‪ :‬ما كان من سفل إلى علو فهو نضخ وعين ٍّ‬
‫نضاخة إذا جاشت باْلاء‪.‬‬
‫وقد وردت مادة نضخ في القرآن الكريم‪ ،‬وصفا للعينين‪ ،‬قال تعالى (فيهما ع أينان ن ّ‬
‫ضاخت ِان) (الرحمن‪ .)66 :‬ومعنى نضاختان أي فوارتان‪ ،‬فجعلوا‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫الحاء لرقتها للماء الخفيف‪ ،‬والخاء لغلظها ْلا هو أقوى منه‪ ،‬ألن الخاء من حروف االستعالء‪ ،‬واالستعالء من أوصاف القوة‪ ،‬وحروفه تقيد التفخيم؛‬
‫لذا اكتسبت الكلمة قوتها األدائية في التعبير عن اْلعنى‪ ،‬من قوة صوت الخاء‪.‬‬

‫‪ .5‬وسل وصل‪:‬‬

‫األصل في مادة (و س ل) هو الرغبة والطلب‪ ،‬والواسل الراغب إلى هللا تعالى‪ ،‬قال لبيد‪:‬‬
‫أرى الناس ال يدرون ما قدرأمرهم *** بلى كل ذي دين إلى هللا ُ‬
‫واسل)‪(2‬‬

‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬


‫وتوسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل‪ ،‬قال تعالى‪( :‬أول ِئك ال ِذين ي أد ُعون ي أبت ُغون ِإلى ِرٍّب ِه ُم الو ِسيلة أ ُّي ُه أم أ أقر ُب وي أر ُجون ر أحمت ُه ويخافون‬
‫ُ‬
‫عذاب ُه ِإ ّن عذاب رٍِّبك كان م أحذ ًورا) (اإلسراء‪ )57 :‬والوسيلة إلى هللا سبحانه وتعالى هي مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحري مكارم الشريعة وهي‬
‫ُ‬
‫كالق أربة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتأتي توصل بمعنى توسل‪ ،‬يقال‪ٍّ :‬‬
‫توصل إليه أي تلطف في الوصول إليه‪ ،‬وجاء في حديث عتبة واْلقدام‪ :‬أنهما أسلما فتوصال باْلشركين‬
‫حتى خرجا إلى عبيدة بن الحارث‪ .‬وتوصال بمعنى توسال وتقربا‪3.‬‬

‫فالوسيلة والوصيلة بمعنى واحد بيد أن إحداهما تتفوق على األخرى في الداللة؛ إذ أن الوسيلة أخص من الوصيلة‪ ،‬فالصاد أقوى صوتا‬
‫من السين ْلا فيها من االستعالء اْلتمثل بصفة اإلطباق‪ ،‬في حين أن السين يتصف بالهمس مما يجعله أضعف من الصاد‪ .‬فجعلوا الصاد لقوتها‬
‫للمعنى األقوى‪ ،‬والسين لضعفها للمعنى األضعف‪(4).‬‬

‫إن التبادل الصوتي بين الكلمات يضفي عليها دالالت خاصة‪ ،‬بحسب ما يحمله الصوت من صفات؛ لذا فإن داللة األلفاظ تتقابل بما‬
‫يشاكل أصواتها من أحداث‪ ،‬فكثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت األحداث اْلعبر عنها فيعدلونها بها ويحتذونها عليها‪(5).‬‬

‫وعن هذه الحالة في اللغة يقول السيوطي‪" :‬انظر إلى بديع مناسبة األلفاظ ْلعانيها‪ ،‬وكيف فاوتت العرب في هذه األلفاظ اْلقترنة اْلتقاربة‬
‫في اْلعاني؛ فجعلت الحرف األضعف فيها واأللين واألخفى واألسهل واألهمس ْلا هو أدنى وأقل وأخف عمال أو صوتا‪ ،‬وجعلت الحرف األقوى واألشد‬
‫واألظهر واألجهر ْلا هو أقوى عمال وأعظم حسا"‪(6).‬‬

‫المقاييس‪.438/5 :‬‬ ‫)‪(1‬‬

‫المفردات‪.538 :‬‬ ‫)‪(2‬‬

‫اللسان‪.322/9 :‬‬ ‫)‪(3‬‬

‫الخصائص‪.162/2 :‬‬ ‫)‪(4‬‬

‫اللسان‪.322/9 :‬‬ ‫)‪(5‬‬

‫المزهر‪.53/1 :‬‬ ‫)‪(6‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪32‬‬
‫تغاير الصيغ توظيفي ًا يف القرآن الكريم‬

‫تنوع توظيف الصيغ اْلشتقة من أصل واحد‪ .‬فمن اْلعلوم أن لكل كلمة عربية مشتقة‬ ‫من مظاهر اإلعجاز الصوتي في القرآن الكريم ُ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫لغويا هو األصل في كل الصيغ التي ُ‬ ‫ً‬
‫اشتقت منه‪ .‬وهذا الجذر غالبا ما يكون ثالثيا مكونا من ثالثة أحرف ‪ .‬وهذا األساس االشتقاقي موظف في‬ ‫جذرا‬
‫السياق القرآني على شكل جمالي فريد؛ ولذا كان ال بد من الوقوف على تنوعات االشتقاق من الجذر الواحد في هذا السياق‪ ،‬وإدراك فنيات التالؤم‬
‫الداللي بين هذه الصيغ‪.‬‬

‫وعند البحث في ظاهرة مثل هذه ال بد من تقسيمها إلى جزئيات ليتسنى لنا الوقوف بالتفصيل على مفرداتها‪.‬‬

‫ويمكننا تقسيم ظاهرة تغاير الصيغ إلى ثالثة أقسام هي‪:‬‬

‫‪ .1‬تغاير الصيغ الفعلية ذات األصل االشتقاقي الواحد‪.‬‬


‫‪ .2‬تغاير صيغ اْلشتقات ذات األصل االشتقاقي الواحد‪.‬‬
‫‪ .3‬تغاير صيغ اْلصادر الراجعة إلى أصل اشتقاقي واحد‪.‬‬

‫ولنقف اآلن على فنيات التوظيف في كل قسم‪.‬‬

‫أوال‪ :‬تغاير الصيغ الفعلية ذات األصل االشتقاقي الواحد‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫ينهج القرآن الكريم في توظيفه لألفعال نهجا فريدا‪ ،‬إذ يوظف هذه األفعال بكل تشكيالتها الصرفية في سياقات متنوعة‪ ،‬تتالءم وهذه‬
‫السياقات‪ .‬هذا بالرغم من االتحاد الصيغي لهذه األفعال في عودتها إلى (مادة لغوية واحدة)‪ ،‬لكن مراعاة مبدأ التناسب النص ي والداللي هو الحاكم‬
‫في هذا التنوع الوظيفي‪ .‬ولذا فإننا هنا معنيون بالوقوف على حكمة اختصاص كل آية بصيغة فعلية موظفة فيها‪ ،‬ألنه من اْلعلوم أن ال ترادف بين‬
‫الصيغ الفعلية‪ ،‬وال بد من وجود فروق داللية دقيقة بين هذه الصيغ‪.‬‬

‫ويرى د‪ .‬عودة هللا القيس ي أن محاولة الوقوف على الفروق الداللية الدقيقة بين الصيغ الفعلية اْلشتقة يتحدد بثالثة عناصر األول‪:‬‬
‫ً‬
‫مادة الكلمة والجذر الثالثي لها‪ ،‬وهو أساس معناها‪ .‬والثاني‪ :‬صيغة الكلمة االشتقاقية ؛ فعال أو اسم فاعل أو صيغة مبالغة‪ .‬والثالث‪ :‬موضوع‬
‫وهدف السياق الذي وردت فيه‪(1).‬‬

‫ولنمثل اآلن ببعض األمثلة القرآنية للتدليل على هذه الظاهرة‪.‬‬


‫ّ‬ ‫أ‬
‫ات ِبال ِق أس ِط وال ِذين‬ ‫يعا و أعد ٍَّللا ح ٍّق ًا إ ّن ُه ي أبد ُأ أالخ ألق ُث ّم ُيع ُ‬
‫يد ُه ِلي أجزي ّال ِذين آم ُن أوا وعم ُل أوا ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫من ذلك قوله تعالى‪ِ :‬إل أي ِه م أر ِج ُعك أم ج ِم‬
‫الص ِالح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أ أ‬ ‫أ‬
‫كف ُروا ل ُه أم شراب ٍِّم أن ح ِم ٍيم وعذاب أ ِليم ِبما ك ُانوا يك ُف ُرون )سورة يونس آية‪(4 :‬‬

‫نش ُئ‬ ‫أ أ ُ ُّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ أ‬ ‫ُ أ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ُ ُّ أ أ ُ ُ ُ ُ ّ‬ ‫أ‬


‫ض فانظ ُروا ك أيف بدأ الخلق ث ّم َللا ي ِ‬ ‫وقوله تعالى‪ :‬أول أم يروا ك أيف ي أب ِدئ َللا الخلق ث ّم ي ِعيده ِإن ذ ِلك على ِ‬
‫َللا ي ِسير قل ِسيروا ِفي األر ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ أ أ‬
‫النشأة اآل ِخرة ِإن َللا على ك ِ ٍّ ٍ ِ‬
‫ل ش أيء قدير‪(2).‬‬

‫البيان ن يف القرآن ‪ ،‬دار البشت ‪ ،‬األردن ‪.328 ، 1996 ،‬‬


‫ي‬
‫ن‬ ‫القيس ‪ ،‬ش اإلعجاز‬
‫ي‬ ‫)‪ (1‬د‪ .‬عودة هللا‬
‫)‪ (2‬سورة العنكبوت‪ :‬اآليتان رقم (‪.)20-19‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪33‬‬
‫أ‬
‫و(ي أب ِدئ) على وزن ُ(ي أف ِعل) وماضيه (أفعل) ‪،‬‬
‫(يفعل) وماضيه (فعل) ‪ُ ،‬‬ ‫(يبدأ) على وزن أ‬
‫فقد وظف القرآن الكريم في اآليتين فعلين هما أ‬
‫وهما من أصل اشتقاقي واحد هو (البدء)‪ ،‬غير أنهما ال يعودان إلى صيغة اشتقاقية واحدة‪ .‬فالفعل (ي أبدأ) هو مضارع الثالثي (بدأ) تقول‪( :‬بدأ‪ ،‬أيبدأ‪،‬‬
‫أ ُ‬
‫(أبدأ‪ُ ،‬ي أب ِد ُئ‪ِ ،‬إ أبداء)‪.‬‬ ‫بدءا)‪ ،‬والفعل ُ(ي أب ِدئ) رباعي‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫وقد ورد الفعل (ي أبدأ) بهذا اللفظ في القرآن الكريم في (‪ 6‬ستة مواضع)‪ ،‬تدور جميعها على سياق بدء الخلق وإعادته مرة أخرى‪ ،‬وعن نفي‬
‫استوى‬ ‫ات واأل أرض في س ّت ِة أ ّيام ُث ّم أ‬
‫ِ ِ‬ ‫َللا ّال ِذي خلق ّ‬
‫السماو ِ‬
‫هذه القدرة عن غير هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وقصرها عليه وحده عز وجل‪ .‬يقول تعالى‪):‬إ ّن رّب ُك ُم ٍّ ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َللا ح ٍّق ًا إ ّن ُه ي أبد ُأ أالخ ألق ُثمّ‬
‫ً أ ٍّ‬ ‫أ أ ُُ‬ ‫ّ‬ ‫أ ُ ُ‬ ‫ُ ٍّ ُ ُ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫على أالع أر ُ ٍّ‬
‫ش يد ِب ُر األ أمر ما ِمن ش ِف ٍيع ِإال ِمن ب أع ِد ِإذ ِن ِه ذ ِلك ُم َللا رُّبك أم فاع ُبدوه أفال تذكرون ِإلي ِه مر ِجعكم ج ِميعا وعد ِ‬
‫أ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُيع ُ‬
‫يد ُه ‪(1)..‬‬
‫ِ‬

‫ثانيا‪ :‬تغايرصيغ املشتقات ذات األصل االشتقاقي الواحد‬

‫تتنوع صيغ اْلشتقات ذات األصل االشتقاقي الواحد في سياقات القرآن الكريم بما يعضد دالالتها الجمالية‪ ،‬ويثري جوانبها التوظيفية‪،‬‬
‫مع الحفاظ على اللمحات اإلعجازية لهذا التوظيف في آيات النص الكريم‪ .‬كما أن اْلوجه للداللة في هذه السياقات إنما هو اآلية التي ترد فيها هذه‬
‫الصيغ‪ ،‬باإلضافة إلى السياق العام للسورة‪ .‬وكل ذلك يتم في إطار اتساق تام ومتكامل مع فنيات االنتقاء واالختيار لهذه الصيغ كما تم على أدق وألتم‬
‫هيئة‪ .‬ولذا فإننا هنا نحاول الوقوف على بعض هذه التنويعات في الصيغ االشتقاقية لتبيان ما تحويه من دالالت‪ ،‬وما تهدفه من مقاصد جمالية‪.‬‬
‫ً‬ ‫أُ أ‬ ‫ً‬ ‫ُ ً ً ٍّ‬
‫لِل ح ِنيفا ول أم ي ُك ِمن اْلش ِر ِكين ش ِاكرا‬ ‫ّ أ‬
‫فمن ذلك توظيف القرآن لصيغة اسم الفاعل (ش ِاكر) في قوله تعالى‪ِ :‬إن ِإبر ِاهيم كان أ ّمة قا ِنتا ِ ِ‬
‫دا ش ُكو ًرا‪(3)،‬‬
‫أ ً‬
‫وح ِإ ّن ُه كان عب‬ ‫ُ‬ ‫ُ ٍّ ّ أ أ‬ ‫ُ‬ ‫ٍّأل أن ُعمه أ‬
‫اجتب ُاه وهد ُاه إلى صر ٍ ُّ أ‬
‫اط مست ِق ٍيم‪ ،‬وتوظيفه لصيغة اْلبالغة (شكور) في قوله تعالى ‪ :‬ذ ِرية من حملنا مع ن ٍ‬
‫)‪(2‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫والصيغتان من أصل اشتقاقي واحد هو مادة (شكر)‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد ورد اسم الفاعل من هذه الصيغة في القرآن الكريم في (‪ 13‬ثالثة عشر موضعا)‪ ،‬في حين وردت صيغة اْلبلغة من هذا الفعل في (‪10‬‬
‫عشرة مواضع)‪ (4 ).‬ومن هذه اْلواضع التعبيرية في القرآن موضعان‪:‬‬
‫أُ أ‬ ‫ً‬ ‫ُ ً ً ٍّ‬
‫لِل ح ِنيفا ول أم ي ُك ِمن اْلش ِر ِكين‬ ‫ّ أ‬
‫األول‪ :‬في وصف هللا تعالى للخليل إبراهيم بصيغة اسم الفاعل في قوله تعالى‪ِ :‬إن ِإبر ِاهيم كان أ ّمة قا ِنتا ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫أ ُ‬ ‫ً ٍّ أ‬
‫اط ُّم أست ِق ٍيم‪.‬‬
‫ش ِاكرا ِألن ُع ِم ِه اجتباه وهداه ِإلى ِصر ٍ‬
‫ً ُ ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ ٍّ ّ أ أ‬
‫وح ِإ ّن ُه كان ع أبدا شكورا ‪ .‬فلم تمت هذه املخالفة‬
‫والثاني‪ :‬في وصف هللا تعالى لنوح بصيغة اْلبالغة في قوله تعالى ذ ِرية من حملنا مع ن ٍ‬
‫التعبيرية بالصيغ االشتقاقية في سياق وصف اثنين من أنبياء هللا لهما من اْلنزلة العليا ما لهما‪ ،‬كما أنهما من أولى العزم من الرسل؟‬

‫ونالحظ بداية أن صيغة اسم الفاعل عبارة عن وصف مأخوذ من فعل مضارع مبني للمعلوم للداللة على من قام بالفعل‪ .‬ويؤخذ من‬
‫ً‬
‫اْلضارع أساسا ألنه وصف يدل على حدث وزمن‪ ،‬وداللته على الزمن ترتبط بالحال واْلستقبل‪ ،‬وهذا هو زمن اْلضارع‪ ،‬فكالهما يدل على االستمرار‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أيضا‪(5).‬‬ ‫ويكون اْلضارع اْلأخوذ منه مبنيا للفاعل ألن اْلأخوذ منه يكون وصفا للفاعل‬

‫)‪ (1‬سورة يونس ‪ :‬آية رقم ‪4-3‬‬


‫)‪ (2‬سورة النحل‪ :‬اآليتان رقم (‪.)121-120‬‬
‫)‪ (3‬سورة اإلشاء‪ :‬آية رقم (‪.)3‬‬
‫الباف ‪ ،‬المعجم المفهرس ‪.475 – 474 ،‬‬ ‫ر‬ ‫)‪(4‬‬
‫ر‬ ‫محمد فؤاد عبد ي‬
‫الصون للبنية العربية ‪.114 ،‬‬ ‫المنهج‬ ‫‪،‬‬ ‫ن‬
‫شاهي‬ ‫الصبور‬ ‫عبد‬ ‫‪.‬‬‫د‬ ‫)‪(5‬‬
‫ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪34‬‬
‫واسم الفاعل في حقيقة أمره نعت كما يقول اْليداني (ت ‪ 518‬هـ)‪ :‬كل فعل ماضيه على (فعل) بفتح العين فإن النعت منه على فاعل نحو‪:‬‬
‫وضارب‪ .‬وهذا بالتأكيد ألن اسم الفاعل مأخوذ من داللة الفعل على االسم القائم بهذا الفعل‪ ،‬ووصفه بأنه نعت فيه كثير من التخصيص‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ناصر‪،‬‬
‫ِ‬
‫ألن النعت نوع من أنواع الوصف العام‪ ،‬ألنه يشمل في طياته اسم الفاعل وأخواته من اْلشتقات‪(1).‬‬

‫أما صيغة اْلبالغة على وزن (ف ُعول)‪ ،‬فاألصل فيها أنها اسم فاعل ُح ٍّ ِول إلى صيغة أخرى هي صيغة اْلبالغة بقصد التأكيد واْلبالغة والتكثير‬
‫في القيام بالفعل‪ .‬يقول أبو حيان‪ :‬اْلبالغة بأحد أمرين‪ :‬إما بالنسبة لتكرير وقوع الوصف‪ .‬وإما بالنسبة إلى تكثير اْلتعلق‪ .‬فصيغة اْلبالغة تدل على‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كثرة اْلعنى كما وكيفا‪ .‬ويرى د‪ .‬أحمد مختار عمر أن وزن (ف ُعول) يتميز بنوع من اْلبالغة ناتج عن كثرة هذا الوزن للداللة على اسم الش يء الذي ُي أفعل‬
‫ُ‬
‫ضوء‪ ،‬والوقود‪ ،‬والث ُقوب‪ .‬فكأن استخدامه في اْلبالغة باعتبار أنه آلة معدة إليقاع الفعل‪.‬‬ ‫به نحو الو ُ‬

‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ ُ أ ٍّ‬ ‫ُ ً‬ ‫ّ أ‬ ‫أ‬ ‫أ ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬


‫اط ِل في أدمغ ُه ف ِإذا‬
‫اطل كان زهوقا‪ ،‬وقوله تعالى‪ :‬ب أل نق ِذف ِبالح ِق على الب ِ‬
‫اط ُل ِإن الب ِ‬
‫ومن ذلك أيضا قوله تعالى‪ :‬وق أل جاء الحق وزهق الب ِ‬
‫ُ أ‬
‫ُهو ز ِاهق ولك ُم الو أي ُل ِم ّما ت ِص ُفون‪.‬‬

‫عبر في اآليتين بصيغتين اشتقاقيتين من أصل واحد هما؛ الصفة اْلشبهة باسم الفاعل (زهوق) في آية سورة اإلسراء‪ ،‬وصيغة اسم الفاعل‬ ‫فقد ٍّ‬
‫(زاهق) في آية سورة األنبياء‪ ،‬فلم هذا التنويع في التعبير بصيغة ذات األصل الواحد؟‬
‫ً‬
‫وأهل البالغة على تقرير معنى اْلبالغة للتعبير بصيغة الصفة اْلشبهة باسم الفاعل كما الحال في التعبير بصيغة اْلبالغة‪ ،‬وأيضا على‬
‫معنى التكثير‪ .‬ففي سياق آية سورة األنبياء يدور اْلعنى حول انتصار الحق على الباطل‪ ،‬وهزيمة هذا الباطل أمام نور الحق‪ .‬وهذا مستفاد من توظيف‬
‫(نق ِذف) فكأننا نشاهد الحق قذيفة مندفعة سريعة تصل إلى قلب الباطل فتدمغه (تسحقه)‪ .‬يقول الراغب‪ :‬يدمغه‪ :‬أي يكسر دماغه‪ .‬وحجة‬ ‫الفعل أ‬
‫أ‬
‫دامغة كذلك‪ .‬ويقال للطلعة تخرج من أصل النخلة فتفسده إذا لم تقطع‪ :‬دامغة‪ ،‬وللحديدة التي تشد على آخر الرحل‪ :‬دامغة‪ .‬وكل ذلك استعارة‬
‫من الدمغ الذي هو كسر الدماغ‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬تغايرصيغ املصادرالراجعة إلى أصل اشتقاقي واحد‬


‫ً‬
‫اْلصدر هو االسم الدال على الحدث مجردا من الحدث والشخص والزمان واْلكان‪ ،‬وهو عند البصريين اصل اْلشتقات‪ .‬واختلف‬
‫القدماء حول اْلصدر والفعل أيهما اصل وأيهما فرع‪ .‬فقد ذهب البصريون إلى أن اْلصدر أصل الفعل‪ ،‬وذهب الكوفيون إلى أن الفعل هو األصل‪،‬‬
‫ً‬
‫واْلصدر فرع عليه‪ .‬واْلصدر يختلف عن الفعل في كونه اسما‪ ،‬ويتفق معه في الداللة على الحدث‪ ،‬مع زيادة الفعل على اْلصدر في اقترانه بالزمن‬
‫الذي هو جزء منه‪.‬‬

‫وقد تتعدد صيغ اْلصدر ألصل لغوي واحد داللة على ثراء اللغة وعبقريتها‪ ،‬وتنوع موادها‪ .‬ومن أمثلة ذلك ما جاء في تعليق أبي عبيدة (ت‬
‫ً أ ً‬ ‫ً‬ ‫أ ُ ٍّ ُ‬ ‫ً‬
‫نا ‪ ،‬كلهن سواء‪(3).‬‬‫النعاس أمنة ٍِّم أن ُه‪ (2)،‬بقوله‪ :‬وهي مصدر بمنزلة أم أن ُت أمنة وأمانا وأم‬
‫يك ُم ُّ‬‫‪ 210‬هـ) على اْلصدر (أمنة) في قوله تعالى‪ِ :‬إذ يغ ِش‬

‫فهذا التعليق بقوله‪( :‬وكلهن سواء) داللة على أنه وقف على الصيغة في مظهرها اللغوي فقط‪ ،‬أي أنه اكتفى بوصف الظاهرة دون اإلمعان‬
‫ً‬
‫في تحليلها جماليا‪.‬‬

‫الميدان ‪ ،‬نزهة الطرف ن يف علم الرصف ‪ ،‬دار األفاق الجديدة ‪ ،‬بتوت ‪.231 ، 1981 ،‬‬
‫ي‬
‫ن‬ ‫)‪(1‬‬

‫)‪ (2‬سورة األنفال‪ :‬آية رقم (‪.)11‬‬


‫الخانج ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ط‪.242 / 1 ، 1988 ، 2‬‬ ‫ش ن‬
‫كي ‪ ،‬مكتبة‬ ‫)‪ (3‬أبو عبيدة ‪ ،‬مجاز القرآن ‪ ،‬تحقيق ‪ :‬محمد فؤاد ن‬
‫ر ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪35‬‬
‫أ‬ ‫أ ُ أ ٍّ‬ ‫ُ ُ ً‬ ‫أ‬ ‫أ ُ‬
‫يض‬ ‫يض ق أل هو أذى فاعت ِزلوا ِ‬
‫النساء ِفي امل ِح ِ‬ ‫كذلك نجد األخفش (ت ‪ 215‬هـ) يقف أمام كلمة (املحيض) في قوله تعالى‪ :‬ويسألونك ع ِن امل ِح ِ‬
‫أ‬
‫وه ّن ح ّتى يط ُه أرن)‪ ( 1‬فيقول‪ :‬وهو الحيض‪ .‬وإنما أكثر الكالم في اْلصدر إذا ُب ِني هكذا أن يراد به (اْل أفعل) نحو قولك‪( :‬ما في ُبرك مكال) أي‪:‬‬
‫وال ت أقرُب ُ‬
‫ك أيل‪ .‬وقد قيلت األخرى أي قيل‪ :‬مكيل‪(2).‬‬
‫ِ‬

‫فنظر إلى األمر من ناحية تعداد األوزان الصرفية فقط دون أن يحاول تفسير ِلم ورد مثل هذا التعدد؟‬

‫وقد وظف النص القرآني هذه الظاهرة أجمل توظيف في سياق اآليات‪ ،‬وفق كل إمكانات هذه اْلصادر من الناحية اللغوية والصرفية‬
‫والصوتية والداللية‪ ،‬وكل هذا يتم في سياق منظومة جمالية تتسم باإلعجاز في شتى مناحيه‪.‬‬
‫(الت أوب‪ّ ،‬‬
‫والت أوبة)‬ ‫والرشاد)‪ .‬ومصدرين ْلادة (توب) هما‪ّ :‬‬
‫والرشد‪ّ ،‬‬ ‫(الر أشد‪ّ ،‬‬
‫فالقرآن الكريم يورد في سياق آياته ثالثة مصادر ْلادة (رشد) هي‪ُّ :‬‬
‫ُ ُ‬ ‫ُّ أ‬ ‫ُُ‬ ‫ُأ‬ ‫(الضالل‪ّ ،‬‬
‫ومادة (ض ّل) هما‪ّ :‬‬
‫(الشكر‪ ،‬والشكور)‬ ‫والضاللة)‪ ،‬ومادة (أمن) هما‪( :‬األ أمن‪ ،‬واألمنة) ومادة (خلد) هما‪( :‬الخلد‪ ،‬والخلود) ومادة (شكر) هما‪:‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫ومادة (بأس) هما (البأس‪ ،‬والبأساء)‪.‬‬

‫اْلراجع‪:‬‬

‫‪https://tafsir.net/article/5251/dlalat-al-alfaz-al-qr-aanyt-anwa-ha-wqymt-ha-wkyfyt-al-wqwf-alyha-1-3#_ftnref18 .1‬‬
‫‪https://tafsir.net/article/5253/dlalat-al-alfaz-al-qr-aanyt-anwa-ha-wqymt-ha-wkyfyt-al-wqwf-alyha-2-3#_ftnref12 .2‬‬
‫‪https://tafsir.net/article/5254/dlalat-al-alfaz-al-qr-aanyt-anwa-ha-wqymt-ha-wkyfyt-al-wqwf-alyha-3-3#_ftnref16 .3‬‬
‫‪https://phonetics-acoustics.blogspot.com/2015/07/12.html .4‬‬
‫‪http://www.alfaseeh.com/vb/archive/index.php/t-36062.html .5‬‬

‫)‪(1‬‬
‫سورة البقرة ‪ :‬آية رقم ‪222‬‬
‫)‪(2‬‬
‫األخفش ‪ ،‬معاني القرآن ‪ ،‬تحقيق ‪ :‬د‪ .‬هدى قراعة ‪ ،‬مكتبة الخانجي ‪ ،‬القاهرة ‪.368 / 1 ، 1990 ،‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪36‬‬
‫التصوير‬
‫مفهوم التصوير‬

‫لغة‪ :‬مصدر من صور الش يء أي جعل له صورة وشكال أورسمه أو نقشه‪ ،‬و صور األمر وصفه بدقة‪.‬‬ ‫•‬
‫اصطالحا‪ :‬األدوات التعبيرية اْلييزة في القرآن الكريم‪ ،‬فالتصوير يحيل اْلعاني املجردة الذهنية‪ ،‬واْلشاهدة‪ ،‬واْلواقف‪ ،‬والوجدان إلى صور‬ ‫•‬
‫تنبض بالحركة بظاللها الحركية والصوتية واللونية‪ ،‬فتبدو شاخصة محسوسة مؤثرة في النفس‪ ،‬بالغة غاية التأثير‪.‬‬

‫أنواع التصوير‬
‫‪ -1‬التصويربالحركة الجسمية ‪:‬‬
‫اْلقصود باْلشاهد الحركية الفعل الحركي الذي يؤديه اإلنسان بواسطة أعضائه الجسمية التعبير عما بداخله من اْلشاعر اإلنسانية‬
‫والوجدانات النفسية تجاه األحداث اْلتباينة التي تثير شعوره نحو الرضا بش يء ما أو الفرح به‪ ،‬أو التعجب منه أو تقبله أو إنكاره أو الفور منه أو‬
‫الخوف منه أو اإلقبال عليه أو اإلعراض عنه أو التهكم به والسخرية منه‪ ،‬أو إظهار حركة تبدو في الظاهر لتستمر بها ما في الباطن كما هو الحال في‬
‫شأن اْلنافقين‪ .‬أو تصوير حدث معين أو صفة معنوية بصورة حركية تظهر في األعضاء الجسمية كل هذا يحكيه القرآن وينقله لنا لكي نتصوره‬
‫لندرك مداه وبيان مدى تأثيره في جالء الصورة التي غابت عنا ولم نشاهدها فيكون الش يء املحكي لنا عن طريق اْلشهد الحركي حاضرا معنا وكأننا‬
‫نشاهده‪ .‬وقد تكون الصورة الحركية غير محكية وإنما قصد النظم القرآني إلى إبرازها بواسطة الحركة الجسمية ْلا في ذلك من تمكينها في النفس‬
‫وتثبيتها في الذهن‪.‬‬
‫ومن األمثال الصور الحركية في األعضاء الجسمية في القرآن الكريم‪:‬‬
‫أ‪ -‬حركة اليد وما يتصل بها ‪:‬‬
‫القرآن الكريم صور اليد في صور حركية في مواضع متعددة فصور حركة األصابع وادخالها في اآلذان للدالة على شدة الرعب من صوت‬
‫ُُۢ ۡ‬ ‫ٱلصوعق حذر ۡٱْل ۡو ِۚت و ّ ُ‬‫ٱلسم ٓا ِء ِف ِيه ُظ ُلمت ور ۡعد وب ۡرق ي ۡجع ُلون أصبع ُه ۡم ف ٓي ءاذ ِانهم ٍِّمن ّ‬
‫الرعد اْلفزع‪ ،‬في قوله تعالى‪ :‬أ ۡو كص ٍّيب ٍِّمن ّ‬
‫ٱلِل ُم ِحيط ِبٱلك ِف ِرين‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫[البقرة‪ ]19 :‬وصور اْلولى عز وجل حركة عض األنامل بسبب الغيظ الذي لحق باْلنافقين ‪-‬وحركة عض الظالم على يديه وحركة السقوط في اليد‪-‬‬
‫وحركة بسط اليد وقبضها ‪-‬وحركة اليد وإشارتها إلى الفم‪ ،‬وحركة شد اليد بالغل إلى العنق‪ -‬وحركة بسط الكف إلخ‪...‬‬
‫ُُۢ ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ ۡ ِۚ ّ‬ ‫أما حركة وضع األصابع في اآلذان ففي قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬ي ۡجع ُلون أصبع ُه ۡم ف ٓي ءاذ ِانهم ٍِّمن ّ‬
‫ٱلصو ِع ِق حذر ٱْلو ِت وٱلِل م ِحيط ِبٱلك ِف ِرين [البقرة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫‪ ]19‬فالتعبير عن حركة وضع أصابعهم في آذانهم يؤذن بشدة صوت الرعد اْلصحوب بالصواعق اْلهلكة‪ ،‬ألنهم يدخلون األصابع كلها‪ .‬ومحاولتهم‬
‫إدخال األصابع كلها في اآلذان دليل على شدة الرعب والفزع الذي أحاط بهم من كل جانب‪ ،‬وهم ال يتمكنون من ذلك وإنما يمكنهم إدخال بعض‬
‫األصابع وهي األنامل ففي التعبير مبالغة بذكر الكل وهي األصابع وإرادة الجزء وهي األنامل على طريق املجاز اْلرسل لعالقة الكلية وقرينته االستحالة‬
‫أي استحالة إدخال األصبع كلها في األذن كما قرر البالغييون‪ ،‬فقد علمنا مدى شدة صوت الرعب بحركة جعل األصابع في األذن‪.‬‬
‫ب‪ -‬حركة عض اليدين ‪:‬‬
‫ً‬ ‫ۡ ّ ۡ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُّ ّ‬
‫وي ۡوم يعض ٱلظ ِالم على يدي ِه يقول يليت ِني ٱتخذت مع ٱلرسو ِل س ِبيال‪ ،‬يويلتى ليت ِني لم أت ِخذ فالنا خ ِليال [الفرقان‪ ]28-27 :‬هنا يعرض اْلولى‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫‪-‬عز وجل‪ -‬مشهدا من مشاهد يوم القيامة يصور فيه ندم الظاْلين الضالين‪ ،‬فاْلوقف أشد هوال والحسرة أشد أْلا والندم بلغ منتهاه‪ ،‬ولذلك صورت‬
‫حركته بصورة أقوى وأشد من سابقة وهو عض األنامل غيظا وحسرة ففي هذا السياق ال يعض أنامله فقط وال يعض يدا واحدة ألنها ال تشفي ما‬
‫به من شدة الحسرة والندامة إنما هو يعض على يديه معا يداول بين هذه وتلك أو يجمع بينها لشدة ما يعانيه من هذا اْلوقف ويحيط به العذاب‬
‫من كل جانب‪ ،‬فيجسم حالته النفسية التي هي في قمة انفعالها وثورتها وندمها على ما فات بعض اليدين لبيان مدى الحسرة والندم‪ ،‬وشدة التفجع‬
‫تجد مدى تعلق النفس بما فات وهيهات أن يستدرك بل‬ ‫ٱلر ُسول سبيال [الفرقان‪ ]27 :‬أ‬ ‫بعد فوات األوان ‪ ...‬وانظر إلى قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬يل ۡيت ِني ّٱتخ ۡذ ُت مع ّ‬
‫ِ ِ‬
‫من املحال وذلك بأسلوب التمني اْلصدر بالنداء وليس مرادا به النداء‪ ،‬وإنما اْلراد به التنبيه على مدى الخسران الذي لحق به عندما حاد عن طريق‬
‫ۡ ُ‬
‫الرسول‪ ،‬وهنا نجد أسلوب الترقي في الندم من حالة إلى حالة آخرى أشد منها إذ يكون أشد حدة من سابقه فيقول‪ :‬يو ۡيلتى ل ۡيت ِني ل ۡم أ ّت ِخذ فال ًنا‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪37‬‬
‫خ ِليال [الفرقان‪ ]28 :‬ألنه هنا ينادي فيه ويلته يعني هالكه يقول لها تعالي فهذا أوانك‪ ،‬وفي قوله ‪-‬تعالى‪ -‬فالنا بدون تحديد شخص معين كناية عن‬
‫صاحب السوء أيا كان فيشمل كل صاحب سوء صده عن سبيل الرسول‪ ،‬وأضله عنن ذكر هللا ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫ج‪ -‬صك الوجه ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬
‫جاء في التنزيل الحكيم قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬فأقبل ِت ٱمرأت ۥه ِفي صرة فصكت وجهها وقالت عجوز ع ِقيم [الذاريات‪ ]29 :‬حكاية عن سارة زوج‬
‫إبراهيم ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬حين جاءته اْلالئكة‪ ،‬وبشروه بغالم عليم وهي في سن يستبعد فيها الحمل‪ ،‬فحين علمت بذلك صاحت صيحة الدهشة‬
‫والتعجب من وقع اْلفاجأة‪ ،‬ولم تكتف بذلك بل عبرت عن شدة تعجبها بضرب يدها على وجهها أو على جبهتها على عادة النساء عند التعجب‪ ،‬واْلرء‬
‫يدهش عندما يرى ما يخالف اْلألوف له‪ ،‬ويعجب كيف يكون‪ ،‬ولكن اْلشيئة اإللهية اْلطلقة التتقيد بمألوف البشر‪ .‬فقد علمنا التعجب من هذه‬
‫الصيحة اْلصحوبة بالتأوه‪ ،‬أما مقداره وشدته وقوته فقد علمناه من نقل مشهد حركة اليد وهي تضرب الوجه‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه أن‬
‫استبعادها هذه البشرى الناتج من شدة التعجب ليس من حيث قدرة هللا‪ ،‬فقدرته تعالى ليس لها حدود ولكن من حيث العادة التي أجراها هللا ‪-‬‬
‫تعالى‪ -‬على سائر النساء في سنها وتستمر في التعجب باألسلوب الخبري في قولها ‪ (( :‬عجوز عقيم )) أي أنا عجوز ال أنجب فكيف يحدث هذا‪ ،‬وحذف‬
‫اْلسند إليه هنا لضيق اْلقام‪.‬‬
‫‪ -2‬التصويربوصف الهيئة والشكل ‪:‬‬
‫وقـد قابل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬بين صور وجوه األخيار البررة يوم القيامة والكفرة الفجرة‪:‬‬
‫ُ‬
‫[القيامة‪. ]25-22 :‬‬
‫ٓ‬ ‫اسرة‪ ،‬تظ ُّن أن ُي ۡفعل ِبها فا ِقرة‬ ‫ُ ُ ۡ‬
‫اظرة‪ ،‬ووجوه يوم ِئ ِِۭذ ب ِ‬ ‫اضرة‪ِ ،‬إلى ٍِّربها ن ِ‬
‫ُ ُ ۡ ّ‬
‫أ‪ -‬قال ‪-‬تعالى‪ :-‬وجوه يوم ِئذ ن ِ‬
‫ۡ ُ ۡ ُ‬ ‫ُ‬
‫احكة ُّم ۡست ۡب ِشرة‪ ،‬و ُو ُجوه ي ۡوم ِئ ٍذ عل ۡيها غبرة‪ ،‬ت ۡره ُقها قترة‪ ،‬أ أول ِئك ُه ُم ٱلكفرة ٱلفجرة [عبس‪]42-38 :‬‬ ‫ُ ُ‬
‫ب‪ -‬وقوله ‪-‬تعالى‪ :-‬وجوه ي ۡوم ِئذ ُّم ۡس ِفرة‪ ،‬ض ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬
‫ج‪ -‬قال ‪-‬سبحانه‪ :-‬ه ۡل أتىك ح ِديث ٱلغشي ِة ‪ُ 1‬و ُجوه ي ۡوم ِئ ٍذ خشعة ‪ 2‬عاملة ّناصبة ‪ 3‬ت ۡ‬
‫صلى ن ًارا ح ِامية ‪ 4‬ت ۡسقى ِم ۡن ع ۡي ٍن ءا ِنية ‪ 5‬ل ۡيس ل ُه ۡم طعام ِإال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ۡ‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ُ ُ ُۡ‬
‫ِمن ض ِريع ‪ 6‬ال ي ۡس ِمن وال يغ ِني ِمن جوع ‪ 7‬وجوه يوم ِئذ ن ِ‬
‫اضية ‪ِ 9‬في جن ٍة ع ِالية ‪ 10‬ال تسمع ِفيها ل ِغية ‪ِ 11‬فيها عين ج ِارية ‪ِ 12‬فيها‬ ‫ۡ‬
‫اعمة ‪ِ 8‬لسع ِيها ر ِ‬
‫ص ُفوفة ‪ 15‬وزر ِاب ُّي م ۡبثوثة ‪[ 16‬الغاشية‪ . ]16-1 :‬فقد بدت مظاهر الفرح على وجوه اْلؤمنين‬
‫ُ‬ ‫ضوعة ‪ 14‬ونمار ُق م ۡ‬ ‫ُس ُرر ّم ۡر ُفوعة ‪ 13‬وأ ۡكواب ّم ۡو ُ‬
‫ِ‬
‫فأشرقت واستنارت ألن أصحابها مسرورون بنجاتهم من هول الصاخة‪ ،‬فانعكس هذا السرور وذلك االطمئنان على صفحات وجوههم فهي ضاحكة‬
‫أ‬
‫والبشر والتفاؤل‪ ،‬والضحك واالستبشار مظهران من مظاهر فرحة النفوس‪ ،‬وفى‬ ‫مستبشرة ألن كل ما حولها من النعيم والتكريم يدعو إلى السرور ِ‬
‫مغبرة يعلوها سواد وظلمة ويغشاها كدر وانقباض‪ ،‬وهذه اْلالمح الحسية اْلرسومة على تلك الوجوه تنبئ عن حزن القائل‬ ‫اْلقابل نرى وجوها ٍّ‬
‫والخيبة والحسرة التى يحس بها أهلها‪.‬‬
‫ومثل ذلك "وجوه يومئذ ناضرة‪ ...‬وجوه يومئذ باسرة‪ "...‬ولعل ما يزيد النعيم النظر إلى هللا ‪-‬جل وعال‪ ،-‬وهى لحظة تعجز الكلمات عن وصفها‬
‫فيعجز اإلدراك من تصورها بكل حقيقتها‪.‬‬
‫ُ‬
‫وأنه النظر إلى وجهه ‪-‬سبحانه‪ -‬فأي ِرفعة‪ ،‬وأي شرف‪ ،‬وأي سعادة‪ ،‬إن اإلنسان ليستمتع أحيانا بما أبدعه هللا فى خلقه من جمال الطبيعة‬
‫واْلاء والخضرة فيبدو ذلك على قسمات وجهه فكيف إذا رأى خالق هذا اإلبداع صاحب الجالل والجمال والكمال ليرتقي فى سلم السعادة‪ ،‬وعالم‬
‫والبشر‪ ،‬إن العقل والقلب ال يكاد يتصـور ذلك اللقاء‪ ،‬وتلك النعمة التى ال تفوقها نعمة‪.‬‬ ‫النور الفائض باألنس ِ‬
‫وتأتي اْلقابلة الثالثة فى سورة الغاشية فى سياق طويل بين النعيم اْلقيم والحريق الدائم فى صورة متحركة شاخصة فتبدأ اآليات باالستفهام‬
‫اْلقرر اْلؤكد لحقيقة الغاشية والداهية التى تغش ى الناس وتغمرهم بأهوالها وهي من األسماء اْلوحية التى يذكر بها وينذر ويبشر بها الضمائر‬
‫الحساسة والتي تخش ى وتتقي كما تثير الرجاء واالرتقاب والتطلع‪.‬‬
‫ثم يبدأ سبحانه بوصف مشهد العذاب قبل النعيم فهو أقرب لهول الغاشية وجوها وظلها فهناك وجوه خاشعة ذليلة متعبة مرهقة عملت‬
‫ونصبت فلم تحمد العاقبة‪ ،‬ولم تجد إال الخسارة فزادت مضضا وإرهاقا وتعبا فهى عاملة ناصبة عملت لغير هللا‪ ،‬ونصبت في غير سبيله ثم وجدت‬
‫الشقاء األبدي والسواد اْلقيم الذي يجرها إلى العذاب األليم تجر وتواجه وهى ذليلة خائبة الرجاء‪ ،‬وال أقص ى وال أشد من اجتماع الذل والوهن من‬
‫لسع النار الحامية من التروى باْلاء البالغ الحرارة والتغذى بالشوك من مجموعة هذه اْلشاهد تتجمع فى حسنا وادراكنا أقص ى درجات األلم وأشد‬
‫حاالت العذاب‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪38‬‬
‫وعلى الجانب اآلخر وجوه يبدو فيها النعيم ويفيض منها الرض ى وجوه تنعم بما تجده وتحمد ما عملت فوجدت عقباه خيرا وتستمتع بهذا‬
‫الشعور الرفيع‪ ،‬شعور الرض ى حين رض ي هللا عنهم وأرضاهم فهي وجوه ناعمة‪ ،‬وإنما جاء الوصف بالنعومة لبيان حالة الترف والراحة والطمأنينة‬
‫وأبلغ وصف وأعظم رونق لتوصل اْلسامع تمثيال مصورا نادرا يعجز‬ ‫ُ‬
‫القلبية التى ظهرت آثارها على الوجوه فداللة الوجه جاءت في أبهى صورة‪ِ ،‬‬
‫اإلنسان عن اإلتيان بمثله أو مجاراته‪ ،‬ثم إن النعومة تعطي معنى الترف فالوجه الناعم داللة واضحة على النعمة والحياة الهانئة‪.‬‬
‫ويتضح هذا التباين النغمى جليا فى فواصل اآلى وقدرتها على تلوين الكالم بما يتناسق مع البسط والفرصة (مسفرة ‪ -‬مستبشرة ‪ -‬ناعمة ‪-‬‬
‫ناضرة) فتوحى بانبساط وراحة نفسية للمؤمن بينما توحى الفواصل املختزلة ذوات القبض فى الصيغة (غبرة ‪ -‬فترة ‪ -‬فجرة ‪ -‬خاشعة ‪ -‬ناصبة ‪ -‬باسرة)‬
‫بش يء من التوجس والكدر النفس ي الذي يعانيه هؤالء‪.‬‬
‫‪ -3‬التصويرباللون ‪:‬‬
‫تغير ألوان الوجه بالبياض أو السواد من أبرز اْلظاهر الخارجية التى شخصها هللا لنا فى القرآن الكريم للداللة على االنفعاالت النفسية‪،‬‬
‫إذ إن لأللوان داللتها فى تشخيص الفرح الذى يشعر به اإلنسان والحزن الذي يخيم عليه‪ ،‬فاأللوان ال تحيل إلى األلوان ذاتها لكنه يتحول إلى داللة‬
‫ثانية إيحائية ذات طبيعة وجدانية‪.‬‬
‫ً‬
‫وال شك أن اللون من أهم الظواهر التى تشكل الصورة‪ ،‬ألن له ارتباطا بمجاالت الحياة وظواهر الكون‪ ،‬وله عالقة وطيدة بعلم النفس‪ ،‬وفى‬
‫صور هللا لنا الوجوه بلونين متضادين وهما األبيض واألسود فاألبيض يرمز للطهارة والنور والنقاء والصفاء والخير والعدالة وقد ورد‬ ‫القرآن الكريم ّ‬
‫إحدى عشرة مرة‪ ،‬ويقابل باللون األسود في كل دالئله إذ يمثل ويصور كل األوصاف اإليجابية والخصائص املحمودة وعلى اللون األسود لون الظالم‬
‫واليأس والخيبة والخسران والضيق والحزن والكدر والغم وقد ورد فى سبع آيات فعند كظم الغيظ والحزن يجعل النفس سوداوية وهذه السوداوية‬
‫ۡ‬ ‫ُۡ‬ ‫ٍّ‬
‫تظهر على الوجه‪ .‬ويتضح ذلك من خالل معالجة اآليات‪ ،‬قال تعالى‪( :‬و ِإذا ُب ِشر أح ُد ُهم ِبٱألنثى ظ ّل و ۡج ُه ُ ۥه ُم ۡسو ٍّدا و ُهو ك ِظيم) ‪ 58‬يتورى ِمن ٱلق ۡو ِم ِمن‬
‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ٓ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍّ‬
‫اب أال ساء ما ي ۡحك ُمون) ‪[ 59‬النحل‪ ،]59-58 :‬وقوله تعالى‪ :‬و ِإذا ُب ِشر أح ُد ُهم ِبما ضرب ِل ّلر ۡحم ِن‬ ‫ٱلتر ِۗ‬
‫ِ‬ ‫ُس ٓو ِء ما ُب ِشر ِب ِهۦِٓۚ أ ُي ۡم ِسك ُ ۥه على ُهو ٍن أ ۡم ي ُد ُّس ُ ۥه ِفي‬
‫مثال ظ ّل و ۡج ُه ُ ۥه ُم ۡسو ٍّدا و ُهو ك ِظيم ‪[ 17‬الزخرف‪]17 :‬‬
‫أهل الجاهلية بمشهد يظهر فيه التهكم‪ ،‬فالصورة توحد بين الخارج والداخل فاْلالمح الخارجية‬ ‫يصور هللا ‪-‬تعالى‪ -‬فى اآليتين الكريمتين حال ِ‬
‫بظالله في السياق إلى‬ ‫بدت عليها أمارات الحزن والغم العميق إذ أربد الوجه وتغير متنكرا وعاله السواد من سوء ما بشر به واللون األسود هنا يحيل ِ‬
‫هذه الداللة الشعورية والحركات الداخلية في "وهو كظيم" الذي تعبر عما تكنه النفس من الحزن‪.‬‬
‫فرصد الصورة جاء متتابعا فقد صور تهكم من حوله بكلمة "بشر" ثم صور شدة الكرب والضيق بــ"ظل وجهه مسودا وهو كظيم"‪ ،‬ثم صور‬
‫وقع النبأ الذى حمله إليه القوم مبشرين أو متهكمين أو مشفقين بقوله يتوارى من القوم من سوء ما بشر به" ثم صور الحيرة التى تراوده‪ ،‬وتطوف‬
‫بخاطره بقوله‪" :‬أيمسكه على هون أم يدسه فى التراب" التفكير والنظر فى "يدسه" لتبصر كيف أنها تشف عن الغيظ والشدة والتخفي من الناس‪،‬‬
‫وقد تلبست بها حالة الرجل وأعضاؤه‪ ،‬وكيف تصور لك دوافع الغيظ اْلضادة للرحمة فى مظهرها الضعيف اْلتألم‪.‬‬
‫إن إثبات حدوث السواد فى الصورة يتضمن الداللة على أن بشرة الوجه لم تكن كذلك قبل حدوث البشارة‪ ،‬وهذا يوحى بأن الغم الذى‬
‫تجسده تلك الصورة هو حال يطرأ على النفس بعد أن كانت على حال مغايرة‪.‬‬
‫يشمل هذا املحور من البحث التغيرات التى تعترى الوجه فى مواقف معينة كتغير لون الوجه من اللون الطبيعى إلى الشحوب واإلكفهرار أو‬
‫من االكفهرار إلى التورد واالحمرار‪ ،‬وكما يتغير لون الوجه من السواد عند الشعور بالكآبة والغم والكرب‪ ،‬وإلى البياض عند الشعور بالفرح والسرور‪.‬‬

‫خصائص التصوير ‪:‬‬

‫الخصائص البيانية ألسلوب التشبيه ‪:‬‬ ‫‪-1‬‬


‫مستمدة من الطبيعة نفسها‪ ،‬من نباتها وحيواناتها وجمادها‪ ،‬فهذه الطبيعة ميدان تقتبس منها تلك التشبيهات‪ ،‬وتستمد منها‬ ‫َ‬ ‫أن عناصرالتشبيه‬ ‫أ‪-‬‬
‫تلك العناصر‪ ،‬فمن عناصر تلك الطبيعة التي تقع تحت أبصارهم‪ ،‬ومن بين أظهرهم تكونت أجزاء تلك التشبيهات‪ ،‬كما تتضح هذه الخاصية وتبدو‬
‫ّۡ‬ ‫ً‬
‫نفرة ‪ 50‬ف ّر ۡت ِمن ق ۡسور ِِۭة ‪[ 51‬اْلدثر‪ ،]51-49 :‬فقد شبه القرآن إعراضهم‬ ‫ّ ُ‬
‫جلية في قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬فما ل ُه ۡم ع ِن ٱلتذ ِكر ِة ُم ۡع ِر ِضين ‪ 49‬كأن ُه ۡم ح ُمر ُّم ۡست ِ‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪39‬‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فتأمل هذا التشبيه في هذه اآليات تجد أنه من صميم البيئة التي يعيشون فيها‪ ،‬فقد ألفوا‬ ‫بحمر قد استنفرتها األسود‪ ،‬تريد قتلها‪ ،‬والفتك بها‪،‬‬
‫مشاهدة هذا اْلنظر‪ ،‬ومعايشته‪.‬‬
‫سر من أسرار خلود هذه‬ ‫وتكمن بالغة هذه الخاصية في أنها تحقق الغرض من التشبيه‪ ،‬والهدف اْلنشود من ورائه‪ ،‬وفي هذه الخاصية ٌّ‬
‫التشبيهات‪ ،‬وديمومة تأثيرها في حس الناس ووجدانهم‪ ،‬على اختالف مداركهم‪ ،‬وتباين أفهامهم؛ لكون هذه العناصر اْلستمدة من الطبيعة ليست‬
‫مختصة بزمن معين‪ ،‬أو بمكان معين‪ ،‬أو بفئة دون أخرى‪ ،‬من هنا كانت هذه التشبيهات ‪-‬بهذه الخاصية‪ -‬باقية على ممر العصور وامتدادها‪.‬‬
‫ب‪ -‬أن التشبيه الذي يتم في اآليات فيها ليس عنصرا إضافيا في الجملة‪ ،‬أو أنه يقوم بدور ثانوي‪ ،‬بعد اكتمال املعنى وتمامه‪ ،‬كال فقد كان‬
‫جزءا أساسيا ال يتم اْلعنى إال به‪ ،‬فقد تطلبه اْلعنى‪ ،‬واستدعاه اْلقام‪ ،‬بل لو خال النظم من التشبيه النهار اْلعنى من أساسه‪،‬‬ ‫التشبيه ً‬
‫ً‬
‫وذلك أن التشبيه هو الذي يظهر اْلعنى‪ ،‬ويبرزه في صورة واضحة مؤثرة‪ ،‬ومن هنا كان وجود التشبيه ضرورة في الجملة يتطلبه اْلعنى ليصبح‬
‫قويا‪ ،‬وليؤدي الغرض منه‪ ،‬ويتضح هذا األمر جليا حينما ننظر في التشبيهات التي وردت في حديث القرآن عن آيات القرآن‪ ،‬تأمل قوله ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫ّۡ‬
‫اب أ ِل ٍيم ‪[ 7‬لقمان‪ ،]7 :‬وتأمل قوله‪ :‬فما ل ُه ۡم ع ِن‬ ‫ّ ٓ ُ ُ ۡ ۡ ۖ ٍّ ُ‬ ‫ّۡ ۡ ۡ‬ ‫ُ ّ ُ ۡ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُۡ‬
‫ٱلتذ ِكر ِة‬ ‫‪ :‬و ِإذا تتلى علي ِه ءايتنا ولى مستك ِبرا كأن لم يسمعها كأن ِفي أذني ِه وقرا فب ِش ۡره ِبعذ ٍ‬
‫نفرة ‪ 50‬ف ّر ۡت ِمن ق ۡسور ِِۭة ‪[ 51‬اْلدثر‪ ،]51-49 :‬تجد أن التشبيه في هذه اآليات عنصر أساس ي ال يكتمل اْلعنى‬ ‫ّ ُ‬
‫ُم ۡع ِر ِضين ‪ 49‬كأن ُه ۡم ح ُمر ُّم ۡست ِ‬
‫إال به‪ ،‬وال يظهر إال من خالله‪ ،‬ولو خلت اآليات من التشبيه النهار اْلعنى‪ ،‬وتالش ى تماما‪ ،‬كما سيتالش ى معه الغرض من اآليات ويضمحل‪،‬‬
‫فلما كان اْلراد من هذه اآليات بيان شدة إعراض أولئك القوم عن القرآن‪ ،‬وكفرهم به‪ ،‬جاء القرآن بالتشبيه ليقوم بهذا اْلعنى‪ ،‬وليؤدي‬
‫الغرض على أكمل وجه وأتمه‪ ،‬ولو لم يأت التشبيه ْلا اتضح اْلعنى‪ ،‬وْلا تحقق هذا الغرض‪ ،‬وْلا تبين شدة إعراضهم عن القرآن‪ ،‬ومدى‬
‫كفرهم به‪ .‬ومن هنا يتبين أن التشبيه في حديث القرآن عن القرآن ركيزة أساسية تظهر اْلعنى اْلراد‪ ،‬وتحقق الغرض اْلنشود منها‪.‬‬
‫وهكذا ومن خالل حديث القرآن عن القرآن‪ ،‬ومن خالل ما ورد فيه من تشبيهات يتبين أن ما جاء من تشبيه لم يكن في حد ذاته هدفا يسعى‬
‫له‪(( ،‬ويقصد إليه دون أن يستتبع اْلعنى‪ ،‬ويكون جزءا أساسيا تتوقف عليه داللة اآلية‪ ،‬فهو نمط من أنماط التصوير القرآني الذي أعجز بلغاء‬
‫محسنا خارجا عن إطار‬ ‫العرب‪ ،‬وظل شامخا في مجال القول‪ ،‬ومعجزة باهرة تتردد عبر العصور ‪ ،‬فلم يتناولها البلى أو التفكك‪ ،‬فالتشبيه إذن ليس ٍّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اْلضمون‪ ،‬يتجمل به النظم‪ ،‬وترشق به العبارة‪ ،‬وإنما هو جوهر داخل اْلضمون‪ ،‬ليتضح أثره النفس ي)) ‪.‬‬
‫ج‪ -‬الدقة في الوصف‪ ،‬وكثرة القيود فيها‪ :‬وذلك كله إلظهار الصورة واضحة‪ ،‬دقيقة أخاذة‪ ،‬تأخذ باأللباب‪ ،‬وتأسر األفئدة‪ ،‬تتجلى هذه الخاصية حين‬
‫ّۡ‬
‫نفرة ‪ 50‬ف ّر ۡت ِمن ق ۡسور ِِۭة ‪[ 51‬اْلدثر‪ ،]51-49 :‬نجد في هذه اآلية أن هللا لم‬ ‫ّ ُ‬
‫نتأمل قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬فما ل ُه ۡم ع ِن ٱلتذ ِكر ِة ُم ۡع ِر ِضين ‪ 49‬كأن ُه ۡم ح ُمر ُّم ۡست ِ‬
‫يقف في تشبيه هؤالء القوم بالحمر بل أضاف على هذا التشبيه كثيرا من القيود واألوصاف‪ ،‬فهم كالحمر في أشد حاالتها هلعا ورعبا‪ ،‬فهي حمر‬
‫مستنفرة هاربة ال تلوي على ش يء‪ ،‬ولم يقف التشبيه عند هذا الحد‪ ،‬بل ذكر هللا مزيدا من القيود في اْلشبه به حينما بين أن تلك الحمر اْلستنفرة‬
‫قد تفرقت فزعة من مالحقة األسد لها‪ ،‬ومطاردتها إياها‪.‬‬
‫تأمل قوله تعالى‪" :‬وإذا ُت أتلى عل أيه ءاي ُاتنا و ّلى ُم أست أكبرًا كأنّ‬
‫أ‬ ‫د‪ -‬أن املشبه في آيات حديث القرآن عن القرآن قد يكون واحدا‪ ،‬وقد يشبه باثنين أو أكثر‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ُُ‬
‫ل أم ي أسم أعها كأ ّن ِفي أذن ِيه وق ًرا " (لقمان‪ )7 :‬تجد أن اْلعرض عن آيات القرآن قد شبه بأمرين‪ ،‬فهو حينما استكبر عن هذه اآليات وما جاء فيها صار‬
‫أ‬
‫كأنه لم يسمع هذه اآليات أصال وهي تتلى عليه‪ ،‬كما أن ذلك اْلستكبر اْلعرض كأن في أذنيه وقرا‪ ،‬فالحظ تعدد اْلشبه به لذلك اْلشبه الواحد‪.‬‬
‫وتكمن بالغة هذه الخاصية وداللتها في حديث القرآن أن فيها تحقيقا للغرض الذي سيقت له اآليات‪ ،‬وإظهارا له‪ ،‬فلما كان إعراض هذا‬
‫الرجل عن القرآن شديدا‪ ،‬جاء اْلشبه به متعددا داللة على هذا اْلعنى‪ ،‬وإشارة إليه‪.‬‬
‫كما أن في هذا تثبيتا للغرض في النفوس‪ ،‬وذكرا لكثير من األحوال والصفات التي كان عليها هذا اْلعرض‪ ،‬فتعددت التشبيهات لبيان هذه‬
‫الصفات‪ ،‬وتلك األحوال وإظهارها‪.‬‬
‫فقد أدى هذا التشبيه ألفاظ منتقاة مختارة‪ ،‬لها داللتها‪ ،‬وإيحاؤها في إبراز التشبيه‪ ،‬وإظهار الغرض منه‪ ،‬وتحقيق غايته وهدفه‪ ،‬وتتجلى‬
‫نفرة ‪ 50‬ف ّر ۡت ِمن ق ۡسور ِة ‪[ 51‬اْلدثر‪ ،]51-49 :‬أ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ّۡ‬
‫تأمل‬ ‫ِۭ‬ ‫هذه الخاصية‪ ،‬وتبرز جليا حينما نتأمل قوله‪ :‬فما ل ُه ۡم ع ِن ٱلتذ ِكر ِة ُم ۡع ِر ِضين ‪ 49‬كأن ُه ۡم ح ُمر ُّم ۡست ِ‬
‫قوله‪" :‬ق أسورة" فقد جاء اختيار هذه اللفظة‪ ،‬والتعبير بها هنا دون غيرها من أسماء األسد الكثيرة‪ ،‬وذلك أن لهذه اللفظة داللتها في هذا السياق‪،‬‬
‫وأثرها في إظهار التشبيه‪ ،‬وتحقيق الغرض منه‪ ،‬فلهذه اللفظة إيحاؤها الخاص بها‪ ،‬فهي التي تحقق غرض هذا التشبيه‪ ،‬ومن هنا تتجلى بالغة القرآن‬
‫العظيم‪ ،‬في انتقاء األلفاظ‪ ،‬وإيثارها على ماسواها‪ ،‬وه ذه الخاصية تفرد بها القرآن وتميز بها ليس في تشبيهاته فقط‪ ،‬بل هذا هو شأنه في جميع‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪40‬‬
‫أساليبه‪ ،‬وفي كل موضوعاته التى يعالجها‪ ،‬ويتحدث عنها فألفاظه كلها قائمة على االنتقاء واالختيار‪ ،‬ولو عدنا إلى لسان العرب وأردنا أن نأتي بلفظة‬
‫أخرى غير تلك اللفظة ْلا وجدنا إلى ذلك سبيال‪ ،‬وْلا اهتدينا إليه أبدا‪ ،‬فلن نجد أبدا لفظة في كتاب هللا يمكن أن يستبدل بها غيرها‪ ،‬أو أن يستغنى‬
‫عنها بغيرها‪.‬‬
‫ه‪ -‬حذف وجه الشبه‪ ،‬وهذه الخاصية تكاد تطرد في تشبيهات القرآن كلها‪ ،‬فمن يتأمل كثيرا من التشبيهات في القرآن يجد أن وجه الشبه غالبا ما يكون‬
‫ّ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ ّ‬
‫محذوفا‪ ،‬وقد برزت هذه الخاصية في تشبيهات آيات حديث القرآن عن القرآن‪ ،‬تأمل قوله تعالى‪ :‬و ِإذا ُت ۡتلى عل ۡي ِه ءايتنا ولى ُم ۡستك ِبرا كأن ل ۡم ي ۡسم ۡعها‬
‫ّ ٓ ُ ُ ۡ ۡ ۖ ٍّ ُ‬
‫اب أ ِل ٍيم ‪[ 7‬لقمان‪ ] 7 :‬فقد شبه هذا اْلعرض اْلستكبر بمن ال يسمع اآليات أصال وهي تتلى على مسمعه‪ ،‬في أي ش يء؟‬ ‫كأن ِفي أذني ِه وقرا فب ِش ۡره ِبعذ ٍ‬
‫وما وجه الشبه بينهما؟ لم يذكر‪ ،‬كما شبه ‪-‬أيضا‪ -‬هذا اْلعرض اْلستكبر بمن أصيب بوقر في أذنيه‪ ،‬فما وجه الشبه بينهما؟ لم يذكر في هذه اآلية‪.‬‬
‫ّۡ‬
‫نفرة ‪ 50‬ف ّر ۡت ِمن ق ۡسور ِِۭة ‪[ 51‬اْلدثر‪ ،]51-49 :‬فقد شبه هؤالء القوم بالحمر‪،‬‬ ‫ّ ُ‬
‫وتأمل قوله تعالى‪ :‬فما ل ُه ۡم ع ِن ٱلتذ ِكر ِة ُم ۡع ِر ِضين ‪ 49‬كأن ُه ۡم ح ُمر ُّم ۡست ِ‬
‫ولكن في أي ش يء؟ وما هو وجه الشبه بينهما؟ هل هو في سرعة هروبها ونفورها؟ هل هو في حمقها وغبائها؟ وهي مضرب اْلثل في ذلك‪ ،‬وهل هو في‬
‫يذكر القرآن ذلك‪ ،‬بل حذفه‪ ،‬فطوى ذكره من السياق‪ ،‬فما داللة هذا األمر؟ وما إيحاؤه في حديث‬ ‫انطالقها على وجهها دون هدف وال غاية؟ لم ِ‬
‫القرآن عن القرآن؟ تكمن بالغة هذه الخاصية أن في هذا الحذف إشارة إلى التماثل التام بين اْلشبه واْلشبه به‪ ،‬إذ ليس الشبه بينهما واحدا أو اثنين‬
‫حتى يذكر ويشار إليه بل هما متماثالن متقاربان في أشياء كثيرة بل في كل ش يء‪ ،‬ومن هنا كان الحذف تأكيدا على التقارب والتماثل وإشارة إلى تلك‬
‫الصلة القوية بينهما‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫تسفيه لهم بأن يشار بهذا الحذف أنهم‬ ‫ٍ‬ ‫وحط من قدرتهم وشأنهم‪ ،‬فأي ذم لهم أن يشبهوا بالحمر في كل ش يء‪ ،‬وأي‬ ‫وفي هذا مزيد ذم لهم‪ٍ ،‬‬
‫وهذه الحمر متقاربان متماثالن في أمور كثيرة‪ ،‬ومن هنا يتجلى عظم الجرم أقدموا عليه وفداحته حينما أعراضوا عن القرآن واستكبروا عنه‪.‬‬
‫كما أن في حذف وجه الشبه إشارة إلى كون اإلجمال في مواضعه أبلغ من التفضيل‪ ،‬وأكد في الداللة‪ ،‬وأقوى في األثر والتأثير‪ ،‬حتى تذهب‬
‫النفس في ذلك املحذوف كل مذهب‪ ،‬وتسلك في تقديره كل مسلك‪ ،‬فيكون هذا الحذف باعثا لكل متأمل على استنباط األوجه املحذوفة‪ ،‬والوقوف‬
‫عندها تأمال وتدبرا‪.‬‬
‫ولهذه الخاصية داللتها وإيحاؤها في هذه اآليات التى تذكر موقف القوم من القرآن‪ ،‬وتبين شدة إنكارهم وإعراضهم عنه‪ ،‬وذلك أننا حين‬
‫ننعم النظر في التشبيه‪ ،‬ونسرح الطرف في أوجه الشبه تتبدى كثير من أوجه الشبه بينهما‪ ،‬فيكون في كل وجه منها ذم لهم وتسفيه لهم‪ ،‬وحط من‬
‫قدرهم أن شبهوا بالحمر بالنظر إلى هذا الوجه‪ ،‬هكذا‪.‬‬
‫كما في حذف وجه الشبه داللة أخرى في هذه اآليات‪ ،‬فقد شبه القرآن هؤالء القوم بالحمر دون أن يذكر وجه الشبه في هذا التشبيه‪ ،‬فكأنه يقول‪:‬‬
‫حسب هؤالء القوم مذمة أن يقرنوا بالحمر‪ ،‬ويشبهوا بها‪ ،‬بغض النظر عن أوجه الشبه بينهما‪ ،‬فقد أدى هذا البشبيه دوره‪ ،‬وحقق غايته‪ ،‬والهدف‬
‫منه‪ ،‬وهو في هذه الصورة قد أحدث في نفوسهم أثرا‪ ،‬كما زاده ترهيبا وتهويال‪.‬لخصائص البيانية ألسلوب التشبيه‬

‫‪ -2‬الخصائص البيانية ألسلوب املجازالعقلي ‪:‬‬


‫أ‪ -‬أنه جاء في هذه اآليات متو افقا أتم التو افق مع حديث القرآت عن القرآن‪ ،‬ومحققا غاياته‪ ،‬فقد جاء املجاز ليبين عظم القرآن الكريم‪ ،‬وجاللة‬
‫ُُ‬ ‫قدره وشأنه‪ ،‬ليبين ‪-‬أيضا‪ -‬موقف اْلؤمنين منه اْلقبلين عليه‪ ،‬تأمل قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬إ ّنما ۡٱْلُ ۡؤم ُنون ّٱلذين إذا ُذكر ّ ُ‬
‫ٱلِل و ِجل ۡت قل ُوب ُه ۡم و ِإذا ُت ِلي ۡت عل ۡي ِه ۡم‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬
‫ءاي ُت ُ ۥه زاد ۡت ُه ۡم ِإيمنا وعلى رٍِّب ِه ۡم يتوكلون ‪[ 2‬األنفال‪ ،]2 :‬وأنعم النظر في قوله "و ِإذا ُت ِلي أت عل أي ِه أم آي ُات ُه زاد أت ُه أم ِإيم ًانا"؛ لتدرك أن املجاز العقلي جاء لتحقيق‬
‫دل املجاز على شدة تعلق اْلؤمنين بالقرآن تالوة وتدبرا‪ ،‬وذلك‬ ‫ذلك الغرض‪ ،‬وإلبراز عظمة القرآن‪ ،‬ولبيان موقف اْلؤمنين منه‪ ،‬وحالهم معه‪ ،‬فقد ٍّ‬
‫ْلا جاء فيه من البينات والهدى‪ ،‬التي من شأنها أن يقبل النفوس اْلؤمنة عليها‪ ،‬وفي هذا إشارة إلى عظم القرآن‪ ،‬وإلى ما جاء في تضاعيفه‪.‬‬
‫ب‪ -‬كما أن في هذا املجازداللة على أثرالقرآن على هؤالء املؤمنين‪ ،‬ونفعه لهم العاجل واآلجل‪ ،‬فقد ازداد إيمانهم به‪ ،‬وازدادوا به رسوخا وثباتا على هذا‬
‫على هذا الطريق‪ ،‬وقد جاء املجاز العقلي في هذه اآلية ليدل على هذه اْلعاني العظيمة كلها‪ ،‬ويشير إليها‪ ،‬ومن هنا تتجلى خصائص هذا املجاز‪ ،‬وتبرز‬
‫حكمه وأسراره في حديث القرآن عن القرآن من خالل بيان موقف اْلؤمنين من القرآن‪ ،‬وبيان أثره عليهم‪ ،‬ونفعه لهم في الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪41‬‬
‫ۡ ۡ‬
‫وفي اْلقابل نجد أن املجاز العقلي جاء في حديث القرآن لبيان موقف الكافرين به‪ ،‬اْلكذبين له‪ ،‬كما في قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬و ِإذا قرأت ٱل ُق ۡرءان‬
‫ۡٓ‬ ‫ّ‬ ‫ۡ‬
‫ورا" نجد أن فيه كثيرا من األسرار‬ ‫ٱأل ِخر ِة ِحجابا ّم ۡس ُتورا‪[ 45‬اإلسراء‪ ،]45 :‬فعندما نتأمل قوله " ِحج ًابا م أس ُت ً‬‫جعلنا ب ۡينك وب ۡين ٱل ِذين ال ُي ۡؤ ِم ُنون ِب‬
‫البالغية التي تضمنها هذا املجاز‪ ،‬وجاء بها‪.‬‬

‫وتكمن بالغة هذا املجاز هنا‪ ،‬وتبرز خصائصه أنه جاء في هذا السياق الذي يتحدث عن هؤالء اْلشركين ليبين شدة ما هم فيه من الجحود‬
‫واإلنكار واإلعراض عن القرآن‪ ،‬وفي هذا داللة على أن هذا املجاز العقلي قد وظف في حديث القرآن عن القرآن أحسن توظيف لدليل على موقف‬
‫اْلشركين من القرآن‪ ،‬ويبين حالهم معه‪ ،‬فقد جاء هذا املجاز إلظهار هذه الغايات وتحقيقها‪ ،‬ومن هنا تتجلى خصائص هذا املجاز‪ ،‬وتبرز أسراره‬
‫البالغيىة‪.‬‬

‫‪ -3‬الخصائص البيانية ألسلوب املجازاملرسل‬


‫أ‪ -‬اإليجاز‪ :‬تبدو هذه الخاصية‪ ،‬وتتجلى في هذا املجاز حينما تكون عالقته‪ :‬اعتبار ما سيكون‪ ،‬كما في قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬وك ۡم أ ۡهل ۡكنا ق ۡبل ُهم ٍِّمن ق ۡر ٍن ه ۡل ُت ِحسُّ‬
‫ۡ ُۢ‬
‫ِم ۡن ُهم ٍِّم ۡن أح ٍد أ ۡو ت ۡسم ُع ل ُه ۡم ِركزا ‪[ 98‬مريم‪ ،]98 :‬ففي كلمة "اْلتقين" مجاز باعتبار ما سيكون‪ ،‬فهم متقون بالنظر إلى ما يصيرون إليه‪ ،‬ويؤول إليه‬
‫حالهم بعد تدبر القرآن‪ ،‬وتأمله والعمل بما فيه‪ ،‬وال يخفي ما في هذا املجاز من اإليجاز‪ ،‬فقد قامت هذه اللفظة مقام عدة جمل‪ ،‬إذ اْلراد أن هذا‬
‫القرآن بشرى للناس الذين يصيرون متقين بسبب إيمانهم بالقرآن‪ ،‬وإقبالهم عليه‪ ،‬فقد أدى املجاز اْلعنى اْلراد تحقيقه بألفاظ أقل مما تؤديه‬
‫الحقيقة‪ ،‬فتأمل بالغة هذا املجاز كيف عبر عن اْلعنى بهذا اإليجاز البديع‪ ،‬وحسبك باإليجاز بالغة‪ ،‬بل هو البالغة نفسها‪ ،‬فكم تنافس فيه‬
‫اْلتنافسون‪ ،‬وكم تفاوت فيه القوم‪ ،‬وتباينت مراتبهم فيه‪.‬‬
‫ب‪ -‬في هذا املجاز تهويل وتعظيم ملن يعرض عن القرآن‪ ،‬أو يكتم شيئا منه جزاء غرض ٓمن الدنيا يأخذ مقابل ذلك الكتمان‪ ،‬كما يبدو هذا األمر جليا‬
‫ۡ‬ ‫ٱلِل من ۡٱلكتب وي ۡشت ُرون بهۦ ثمنا قل ًيال ُأ أولئك ما ي ۡأ ُك ُلون في ُب ُطونه ۡم إ ّال ّ‬
‫ٱلنار وال ُيك ٍّل ُم ُه ُم ّ ُ‬
‫ٱلِل ي ۡوم ٱل ِقيم ِة‬ ‫في قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬إ ّن ّٱلذين ي ۡك ُت ُمون م ٓا أنزل ّ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫أُُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍّ‬
‫وال ُيز ِك ِيه ۡم ول ُه ۡم عذاب أ ِليم ‪[ 174‬البقرة‪ ،]174 :‬ففي قوله‪" :‬أول ِئك ما يأكلون ِفي بط ِون ِهم" مجاز مرسل بعالقة اْلسببية‪ ،‬وذلك حينما جعل اْلأكول‬
‫أ‬
‫نارا‪ ،‬فقد أطلق اْلسبب وأريد السبب‪ ،‬فالنار ال تؤكل‪ ،‬وإنما هؤالء القوم يأكلون ماال حراما‪ ،‬تتسبب عنه النار‪ ،‬وال يخفى ما في هذا املجاز من تفظيع‬
‫لذلك العمل‪ ،‬وتبشيع له‪ ،‬فحسبه فظاعة وشناعة أن كان ذلك الكتمان للقرآن سببا ألكل هذه النار‪ ،‬وال يخفى ما تضمن هذا املجاز من التهويل‬
‫والتعظيم لذلك اْلآل الذي يؤولون إليه‪ ،‬بذكر هذه الصورة التى ينفر منها أصحاب العقول السليمة‪ ،‬األفئدة الصحيحة‪.‬‬
‫ٓ‬
‫اس عج ًبا أ ۡن أ ۡوح ۡينا ِإلى ر ُجل ٍِّم ۡن ُه ۡم [يونس‪ ،]2 :‬ففي قوله "الناس" ‪-‬التي تم فيها املجاز‬ ‫ّ‬
‫كما تتجلى هذه الخاصية في قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬أكان ِللن ِ‬
‫اْلرسل بعالقة الكلية ـ‪ -‬تمويل وتعظيم في بيان حال هؤالء الكفار مع القرآن‪ ،‬وتعجب منه‪ ،‬إذ لم يكفر الناس كلهم بالقرآن‪ ،‬ويتعجبوا بمن جاء به‪،‬‬
‫وبما جاء فيه‪ ،‬بل اْلراد بهؤالء الناس اْلشركون فقط‪ ،‬دون من آمن به‪ ،‬وأقبل عليه‪ ،‬إال أن في هذا املجاز حينما جاء في هذا السياق ‪-‬بهذه العالقة‪-‬‬
‫ً‬
‫داللة على عظم الكفر بالقرآن‪ ،‬واإلعراض عنه‪ ،‬ولو كان هذا األمر صادرا من فئة محدودة‪ ،‬ومن عدد معين محصور‪ ،‬وذلك أن ما جاء في هذا القرآن‬
‫من البيئات والهدى واْلنائر والدالئل من شأنها أن يؤمن الناس بها‪ ،‬ويقبلوا عليها‪ ،‬ويصدقوا ها‪ ،‬فإذا أعرضوا عن القرآن وكفروا به بعد هذا كله كان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫هذا أمرا عظيما‪ ،‬ومن هنا جاء ‪ ،‬املجاز هذه العالقة مبينا أنه يتساوى في هذا األمر العدد القليل والكثير‪ ،‬جزء من الناس أو كلهم‪ ،‬فيكفي أن في‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الكفر به واإلعراض عنه جرما شيعا‪ ،‬وقدحا بالقرآن بالغا عظيما‪ ،‬ومن هنا جاء املجاز هذه العالقة مشيرا إلى هذا اْلعنى‪ ،‬وداال عليه‪.‬‬
‫ج‪ -‬قائمة على التقابل والتضاد‪ ،‬فهناك الكلية والجزئية‪ ،‬وهناك الحالية واملحلية‪ ،‬وهناك السببية املسببية‪ ،‬والخاصية في هذا أن هذا املجازـ كما‬
‫ً‬
‫رأينا في آيات حديث القرآن عن القرآن ـ يعبر عن كثير من اْلعاني‪ ،‬ويحقق كثيرا من األغراض بألفاظ أقل مما تؤديه الحقيقة‪ ،‬أو أي أسلوب آخر غير‬
‫هذا املجاز‪ ،‬فكان هذا األسلوب قائم على تداعي اْلعاني‪ ،‬وورودها في ذهن املخاطب بها‪ ،‬أو القارئ لها‪ ،‬بسبب تلك العالقات اْلتقابلة‪ ،‬فحينما تذكر‬
‫اْلسببية يرد على الذهن السبب الذي تسبب عنه‪ ،‬وحين تذكر املحلية يرد على الذهن الحال في هذا املحل‪ ،‬وحين تذكر الكلية يرد على الذهن اْلقابل‬
‫له‪ ،‬وهي الجزئية اْلرادة من هذا الكل‪ ،‬وكذلك العكس‪.‬‬
‫وقد وظفت هذه الخاصية لهذا املجاز في حديث القرآن عن القرآن في تحقيق الغرض من ذكر تلك اآليات‪ ،‬يتجلى هذا األمر في حديث القرآن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عن الغاية من نزول القرآن‪ ،‬كما تنتحلى ـ أيضا ـ في ذكر حال الناس معه‪ ،‬وانقسامهم حوله إلى مؤمنين وكافرين‪ ،‬كما تتحلى ‪-‬أيضا‪ .. -‬في بيان أثر‬
‫ً‬
‫القرآن على الناس أجمعين‪ ،‬اْلؤمن منهم والكافر‪ ،‬كما تحلت هذه الخاصية ‪-‬أيضا‪ -‬وبرزت في تلك اآليات وهي تتحدث عن مآل اْلؤمنين في اآلخرة‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪42‬‬
‫وتذكر نعيمهم بسبب إبمالهم بالقرآن‪ ،‬وإقبالهم عليه‪ ،‬وبرزت هذه اآليات وهي تتحدث عن مصير الكافرين‪ ،‬وتذكر عذاهم في اآلخرة بسبب كفرهم‬
‫هذا القرآن‪ ،‬وإعراضهم عنه‪.‬‬
‫‪ -4‬الخصائص البيانية ألسلوب االستعارة‬
‫أ‪ -‬اإليضاح‬
‫ً‬
‫فتكاد تكون هذه الخاصية من أبرز سمات االستعارة‪ ،‬وبيان ذلك‪ :‬أن هذه االستعارة تستخدم كثيرا من األلفاظ اْلوضوعة في أصل اللغة‬
‫ً‬
‫للداللة على األمور الحسية للداللة على األمور اْلعنوية‪ ،‬فما أكثر ما تأتي هذه االستعارة لتمثيل ما ليس مرئيا باْلرئي‪ ،‬فتصبح اْلعاني محسوسة‬
‫ملموسة‪ ،‬فينتقل السامع من حد السماع إلى حد البيان واْلشاهدة لها بالبصر‪.‬‬
‫ض ج ِميعا ف ِإن ٱلِل لغ ِن ٌّي ح ِميد ‪[ 8‬إبراهيم‪ ،]8 :‬فقد جاءت لالستعارة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ۡ ۡ‬ ‫ۡ ُ ُٓأ ُ ۡ‬ ‫ُ ٓ‬
‫كما تجلت هذه الخاصية في قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬وقال موس ى ِإن تكفروا أنتم ومن ِفي ٱألر ِ‬
‫ً‬
‫في هذه اآلية وتكررت إليضاح تلك اْلعاني اْلعنوية بمعان محسوسة ملموسة مأنوسة لدى النفس البشرية تألفها‪ ،‬وتراها دائما وتعايتها‪ ،‬فقد استعيرت‬
‫الظلمات للكفر‪ ،‬كما استعير النور لإليمان‪ ،‬وكذا الصراط لإلسالم‪ ،‬فهذه اْلعاني اْلعنوية لم تظهر ويتضح اْلراد منها إال خالل هذه االستعارة التي‬
‫تضمنتها هذه اآلية‪.‬‬
‫ولهذه الخاصية أثر مهم في معنى اآلية‪ ،‬والغرض الذي جاءت من أجله‪ ،‬وذلك أننا حين نتأمل هذه اآلية وتنعم النظر فيها بجد أنها تتحدث‬
‫عن القرآن‪ ،‬مبينة الغرض من إنزاله فقد نزل القرآن ليخرج الناس من الظلمات إلى النور‪ ،‬وليهديهم كذلك إلى اإلسالم‪ ،‬وهو الصراط اْلستقيم‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فحتى يقف الناس جميعا على هذه اْلعاني ويدركوها جيدا‪ ،‬ويفقهوها ال بد أن تكون هذه اْلعاني واضحة جلية بينة مفهومة‪ ،‬ومن هنا جاءت االستعارة‬
‫إليضاح هذه اْلعاني‪ ،‬وجعلها مرئية محسوسة‪ ،‬فمن منا ال يعرف الظلمة‪ ،‬أو يجهل حقيقتها‪ ،‬وشدة ظالمها‪ ،‬ومن منا من ال يعرف حقيقة النور‪،‬‬
‫وشدة سطوعه‪ ،‬وذلك أن وضوح هذه اْلعاني وظهروها مما يدعو الناس إلى اإليمان بالقرآن واإلقبال عليه حتى ينتفعوا به‪ ،‬وتتحقق لهم هذه الغاية‬
‫التي نزل القرآن من أجلها‪.‬‬
‫ب‪ -‬حسن التشبيه الذي بنيت عليه االستعارات‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فقد كان التشبيه ممهدا لتلك االستعارات‪ ،‬وداال عليها‪ ،‬وال يخفى أن للتشبيه أثرا في االستعارة قوة ووضوحا‪ ،‬وداللة على اْلعنى اْلراد‪ ،‬كما‬
‫ُۡ ۡ‬ ‫ٱصد ۡع بما ُت ۡؤم ُر وأ ۡعر ۡ‬ ‫ً‬
‫جليا في قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬ف ۡ‬
‫ض ع ِن ٱْلش ِر ِكين ‪[ 94‬الحجر‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تجلى هذا في تشبيه الكفر بالظلمات‪ ،‬واإليمان بالنور‪ ،‬كما اتضح هذا األمر‬
‫‪ ،]94‬حين شبه التبليغ بالصدع‪ ،‬وتكمن بالغة هذه الخاصية أن هذا التشبيه ينقل أثره وداللته إلى االستعارة‪ ،‬ومن ثم إلى اْلعنى اْلراد تحقيقه من‬
‫تلك اآليات التي تتحدث عن مكانة القرآن‪ ،‬والغرض من إنزاله‪ ،‬واألمر بالجهر به‪ ،‬وبيان حال الناس معه‪.‬‬
‫ج‪ -‬الدقة في اختياراأللفاظ‬
‫فألفاظ هذه االستعارات قد تم اختيارها وانتقاؤها على ما سواها إلظهار االستعارة‪ ،‬وإبراز معناها‪ ،‬فلو تأملنا االستعارات التي وردت في‬
‫حديث القرآن عن القرآن لوجدنا ما يدل على هذه الخاصية‪ ،‬ويشير إليها‪ ،‬تأمل قول هللا ـ تعالى ـ ﴿فاصدع بما تؤمر﴾ (الحجر‪ ،)94 :‬وأنعم نظرك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متدبرا متأمال في هذه اللفظة (فاصدع) فإن في هذه اللفظة من الدالالت واإليحاءات واْلعاني ما تتقاصر دونه األفهام‪ ،‬وتتطامن عنه الرؤوس‪ ،‬وتقصر‬
‫جميع األلفاظ كذلك أن تؤدي ما تؤديه هذه اللفظة من اْلعاني والدالالت‪ ،‬وال يسد مسد هذه اللفظة غيرها‪ ،‬مهما بذل في سبيل ذلك من محاوالت‪،‬‬
‫وتكمن خاصية االستعارة في هذه اللفظة أن كل ما فيها من معان ودالالت قد تم توظيفه لذلك اْلعنى العظيم الذي جاءت به اآلية‪ ،‬وهو أمر رسول‬
‫هللا ﷺ بالجهر بالقرآن‪ ،‬والصدع به في أرجاء مكة كلها‪.‬‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬
‫ور ِب ِإذ ِن رٍِّب ِه ۡم ِإلى ِصر ِط ٱلع ِز ِيز ٱلح ِم ِ‬
‫يد‬ ‫كما تتجلى الدقة في اختيار األلفاظ وتوخيها في قوله ‪-‬تعالى‪ِ :-‬كتب أنزلنه ِإليك ِلتخ ِرج ٱلناس ِمن ٱلظلم ِت ِإلى ٱلن ِ‬
‫‪[ 1‬إبراهيم‪ ،]1 :‬فعند تأمل هاتين اللفظتين "النور والظلمات" اللتين وردت االستعارة فيهما نجد أن في كل واحدة منهما من اْلعاني والدالالت ما‬
‫ً‬
‫تتقاصر عنه جميع األلفاظ ألداء هذا اْلعنى والقيام به‪ ،‬فضال عن داللة جمع لفظة "الظلمىت"‪ ،‬وإفراد لفظة "النور"‪.‬‬
‫ومن هنا تتجلى خاصية هذه االستعارة في اختيار ألفاظها‪ ،‬وتوخيها على ما سواها ألداء معانيها‪ ،‬وتحقيق أغراضها وأهدافها‪.‬‬
‫د‪ -‬تتجلى في االستعارة التبعية بالحروف خاصية من خصائص االستعارة في حديث القرآن عن القرآن‪ ،‬ووجه من وجوه بالغتها‪ ،‬فحينما نتأمل ما ورد في‬
‫وانقسامهم حوله‬
‫حال ۡ الناس ُ ُمع القرآن‪ٓ ُ ّ ۡ ،‬‬ ‫هذه اآليات من استعارة في الحروف نجد أن القرآن قد وظف هذه الحروف في حديثه عن القرآن لبيان‬
‫أ‬ ‫ِۚ‬ ‫ۡ ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ ۡ ُ ۡ‬ ‫ً‬
‫ٱلِل أول ِئك ِفي‬ ‫قسمين‪ ،‬كما يتضح هذا األمر جليا قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬أفمن شرح ٱلِل صدر ۥه ِل ِإل ۡسل ِم ف ُهو على نور ٍِّمن ّرِب ِهۦِۚ فويل ِللق ِسي ِة قلوبهم ِمن ِذك ِر ِ‬
‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪43‬‬
‫ضلل ُّم ِب ٍين ‪[ 22‬الزمر‪ ]22 :‬فحينما نتأمل االستعارة في اآلية ندرك عظمة إعجاز القرآن وبالغته‪ ،‬فقد سخر الحروف الصماء وجعلها ناطقة في كشف‬
‫معانيه‪ ،‬وتحقيق أغراضه‪.‬‬
‫يتجلى هذا األمر حينما استعار حرف الجر (على) لصاحب الحق الذي شرح هللا صدره لإلسالم‪ ،‬وأقبل على القرآن‪ ،‬فقد بين هذا الحرف ‪-‬‬
‫بداللته على االستعالء‪ -‬علو منزلته‪ ،‬ورفيع قدره في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫كما استعار لصاحب الضالل‪ ،‬اْلعرض عن هدي القرآن وبيانه حرف الجر (في) للداللة على شدة انغماسه في الضالل‪ ،‬وتخبطه في الظلمات‪ ،‬بسبب‬
‫إعراضه عن القرآن‪ ،‬وكفره به‪ ،‬فقد بين هذا الحرف ـ بداللته على الظرفية‪ .‬حاله وواقعه الذي يعيش فيه في هذه الدنيا‪ ،‬كما أن فيه داللة على سوء‬
‫مصيره‪ ،‬وماله الذي ينتظره في اآلخرة‪.‬‬
‫ه‪ -‬وأيضا ذلك اْلسلك الذي سلكته بعض استعارات القرآن‪ ،‬ونهجته في حديثها عن القرآن‪ ،‬في بيان موقف الكفار منه‪ ،‬يتجلى ذلك اْلسلك‪ ،‬وتلك‬
‫الخاصية في االستعارة التهكمية‪ ،‬فقد خرجت هذه االستعارة عن أسلوب اْلدح والثناء واإلطراء وسلكت مسلكا آخر‪ ،‬وهو مسلك السخرية والتهكم‪.‬‬
‫وقد ورد هذا النوع من االستعارات كثيرا في هذه اآليات في معرض حديثها عن اْلشركين واْلنافقين‪ ،‬واْلعرضين عن القرآن الكافرين به‪ ،‬وهذا‬
‫مكمن حسنها‪ ،‬فقد أشارت إلى موقف هؤالء بألفاظ تدل على اْلدح إال أنها استخدمت هذه اْلعاني في نقضيها من اْلعاني‪ ،‬فقد تضمنت تلك األلفاظ‬
‫بين طياتها كل معاني الذم واإلهانة والتحقير‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ٍّۡ‬ ‫ّۡ ۡ ۡ ۖ‬ ‫ۡ ُ ّ ُ ُّ ُ ۡ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ٍّ ُ ٍّ ّ‬
‫اب أ ِليم‬ ‫ٱلِل تتلى علي ِه ثم ي ِصر مستك ِبرا كأن لم يسمعها فب ِشره ِبعذ ٍ‬ ‫اك أ ِثيم ‪ 7‬يسمع ءاي ِت ِ‬ ‫تتجلى هذه الخاصية في قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬ويل ِلك ِل أف ٍ‬
‫‪[ 8‬الجاثية‪ ]8-7 :‬لتدرك بالغة هذه االستعارة‪ ،‬وخاصية هذا األسلوب حينما جعلت العذاب الذي ينظره بشارة يبشر به‪ ،‬سخرية به واستزاء وإذالال‪،‬‬
‫جزاء وفاقا‪ ،‬بعدما كان يستكبر عن آيات القرآن‪ ،‬ويعرض عنها‪ ،‬فجزاؤه الالئق به اإلهانة‪ ،‬والسخرية والتحكم‪.‬‬
‫‪ -5‬الخصائص البيانية ألسلوب الكناية‬
‫أ‪ -‬تجسيد املعاني وإبرازها في صورة محسوسة تزخربالحركة والحياة‬
‫ق‬
‫بالنفوس وتأثير فيها‪.‬‬
‫ُُۡ‬ ‫ورسوخا ۡفي ُ النفسٓ وتأكيدا ّ ُوذلك ْۡلا لألمور ۡالحسية من علو ً ُ ٓ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فتزداد هذه الكناية بهذه الخاصية تعريفا ووضوحا‪،‬‬
‫أ‬
‫تتجلى هذه الخاصية عندما نتأمل قوله ‪-‬تعالى‪ِ :-‬إن ٱل ِذين يكت ُمون ما أنزل ٱلِل ِمن ٱل ِكت ِب ويشت ُرون ِب ِهۦ ثمنا ق ِليال أول ِئك ما يأكلون ِفي‬
‫َللا" نجد أن هذه الكناية‬ ‫ٱلِل ي ۡوم ۡٱلقيمة وال ُيز ٍّكيه ۡم ول ُه ۡم عذاب أليم ‪[ 174‬البقرة‪ ]174 :‬فحينما نتأمل قوله "وال ُيك ٍّل ُم ُه ُم ّ ُ‬ ‫ُب ُطونه ۡم إ ّال ّ‬
‫ٱلنار وال ُيك ٍّل ُم ُه ُم ّ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫جاءت مبرزة اْلعنى في صورة محسوسة‪ ،‬فقد كني عن شدة الغضب عليهم ومقتهم بأمر واضح جلي‪ ،‬وهو عدم تكليم هللا لهم‪ ،‬وإعراضه عنهم‪.‬‬
‫وتكمن بالغة هذه الكناية بهذه الخاصية أن فيها إظهارا وداللة على عظم جرم هؤالء القوم‪ ،‬وشناعة ما أقداموا عليه‪ ،‬فاستحقوا بذلك‬
‫العذاب العظيم‪ ،‬والجزاء اْلهول الالئق بهم‪ ،‬وبأفعالهم اْلنكرة مع القرآن‪ ،‬فكان في هذه الخاصية مزيد من إظهار ذلك اْلقت الشديد عليهم من‬
‫موقفهم من القرآن‪.‬‬
‫ب‪ -‬قوة التأكيد‬
‫واْلبالغة في إثبات اْلعنى اْلراد بيانه وتقريره‪ ،‬وذلك أن هذه الكناية تعرض اْلعنى مصحوبا بدليله‪ ،‬مقرونا بحجته وبرهانه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫أ ُۡ‬ ‫ۡ ُ ُ ُ ّ‬ ‫ُ ٍّ‬ ‫ُۡ‬
‫وه ٱل ِذين كف ُروا ٱْلنك ۖر يك ُادون يسطون ِبٱل ِذين‬ ‫تتجلى هذه الخاصية حينما نتأمل قول هللا ‪-‬تعالى‪ :-‬و ِإذا تتلى عل ۡي ِه ۖ ۡم ءايتنا ب ِينت تع ِرف ِفي وج ِ‬
‫أ ُ ُ ُ ّ‬ ‫ۡ‬ ‫أ ۡ‬ ‫ُّ ّ‬ ‫ُ ِۚ ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ِۗ ُ ُ ٍّ ُ ُ‬ ‫ُۡ‬
‫وه ال ِذين‬ ‫يتلون عل ۡي ِه ۡم ءاي ِتنا ق ۡل أفأن ِبئكم ِبش ٍّر ِمن ذ ِلك ُم ٱلن ُار وعدها ٱلِل ٱل ِذين كف ُروا و ِبئس ٱْل ِص ُير ‪[ 72‬الحج‪ .]72 :‬فحينما نتأمل قوله "تع ِرف ِفي وج ِ‬
‫أُ‬
‫كف ُروا اْل أنكر" نجد أن هللا كنى بهذه األلفاظ عن شدة عداوة أولئك الكفرة الفجرة للقرآن الكريم‪ ،‬ومدى حقدهم وحنقهم عليه‪ ،‬هذا اْلعنى الذي‬
‫جاء القرآن بذكره وبيانه لم يأت غفال من البينات الدالئل التى تؤكده‪ ،‬فقد جاء مقحوبا بما يدل عليه ‪ ،‬بالبرهان الذي يشير إليه‪ ،‬ويظهره ويؤكده‪،‬‬
‫وهو أن هؤالء القوم من شدة ذلك الحقد والبغض أمرا عظيما حتى إنك ترى في وجوههم اْلنكر‪ ،‬والغيظ من هذه اآليات ومن يتلوها عليهم‪.‬‬
‫كما تتجلى في هذه الكناية تجسيد هذا اْلعنى‪ ،‬وإبرازه بصورة حسية مشاهدة‪ ،‬ومن هنا تجلت بالغة هذه الكناية بهذه الخاصية حينما‬
‫ذكرت هذا اْلعنى وأكدته بما ال يدع للشك فيه طريقا وال مجاال؛ ألنها ذكرت هذا اْلعنى وأوردته بالدليل الدال عليه‪ ،‬واْلؤكد له‪ ،‬وأتبعته بالحجة‬
‫اْلبنية له‪ ،‬ومن هنا كانت الكناية يهذه الخصائص أبلغ من التصريح في مقاماتها‪ ،‬وأقوى من حيث إثبات هذه الحقائق وتأكيدها‪.‬‬
‫ج‪ -‬اإليجاز‪:‬‬
‫وهذه الخاصية وإن كانت ميزة تتجلى في كثير من األساليب القرآنية‪ ،‬إال أن للكناية منه نصيبا وافرا‪ ،‬وحظا موفورا‪ً.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪44‬‬
‫تتجلى هذه الخاصية حينما نتأمل قول هللا ‪-‬تعالى‪ -‬في حديثه عن اْلشركين الذين ارتابوا ويرتابون في القرآن‪ ،‬فقال لهم بعدما تحداهم بأن‬
‫ۡ‬ ‫ُۖ ُ‬ ‫ّ ُ ۡ‬ ‫ٱلنار ّٱلتي و ُق ُ‬
‫يأتوا بسورة من مثل القرآن‪ :‬فإن ّل ۡم ت ۡفع ُل أوا ولن ت ۡفع ُل أوا ف ّٱت ُق أوا ّ‬
‫اس وٱل ِحجارة أ ِع ّد ۡت ِللك ِف ِرين ‪[ 24‬البقرة‪ ]24 :‬فقد كنى بهذه‬ ‫ودها ٱلن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اْلعجزة لهم والعجز باإلتيان من مثل القرآن‪ ،‬فقد جاءت الكناية في هذا اْلقام ْلا فيها‬ ‫ظهور‬ ‫اآلية حين أمر باتقاء النار عن ترك العناد واْلكابرة عند‬
‫من إيجاز بديع‪ ،‬واختصار لطيف‪ ،‬فقد أغنت هذه الكناية عن التكرار والتطويل‪ ،‬فلما كان اْلقام مقام إيجاز جاءت الكناية اقتضاء لتطلب اْلقام‬
‫لها‪ ،‬فتأمل بالغة هذا األسلوب الكنائي كيف اشتمل على هذا اإليجاز‪ ،‬فكان بحق خاصية من خصائص هذه الكناية في هذا الكتاب العظيم‪.‬‬
‫‪ -6‬الخصائص البيانية ألسلوب التعريض‪:‬‬
‫ال تقل بالغة التعريض عن بالغة الكناية‪ ،‬وأثرها في اْلقام الذي يستدعيها‪ ،‬فله من الخصائص واْلميزات ما يجعله يفوق غيره من األساليب؛‬
‫لكونه أخفى من الكناية؛ وذلك العتماده في داللته على السياق دون اللفظ‪ ،‬ومن هنا كان له األثر البالغ في النفوس‪.‬‬
‫وقد ظهرت خصائص هذا األسلوب‪ ،‬وتجلت في كتاب هللا‪ ،‬كما كان لهذا التعريض ‪ -‬بما أودع فيه من الخصائص‪ -‬األثر الكبير في حديث‬
‫القرآن عن القرآن في آداء معانيه‪ ،‬وفي تحقيق أغراضه وأهدافه‪ ،‬يتجلى هذا األمر حينما نتأمل السياقات واْلقامات التي ورد فيها التعريض في تلك‬
‫اآليات‪ ،‬فنجد أن هذا األسلوب يأتي للكشف عن موقف اْلشركين من القرآن‪ ،‬وبيان حالهم معه‪ ،‬وموقفهم منه‪ ،‬يكشف هذا اْلوقف‪ ،‬ويذكر تلك‬
‫وسر إعجازه‪ ،‬وأكبر خصائصه‪ ،‬فقد كان وسيلة ناجحة وناجعة في الوقت نفسه في ذكر ما عليه‬ ‫األحوال تعريضا ال تصريحا‪ ،‬وهذا مكمن بالغته‪ُّ ،‬‬
‫تكنه صدورهم من العداء للقرآن الكريم‪.‬‬ ‫القوم من الجحود واإلنكار واإلعراض والكفر بالقرآن‪ ،‬فقد كشف هذا التعريض ما ٍّ‬
‫وبينت ما هم عليه من الغفلة واإلعراض عن القرآن‪ ،‬وما جاء فيه من البيانات والهدى‪،‬‬ ‫طيعة كشفت حقيقتهم‪ٍّ ،‬‬ ‫كما كان هذا التعريض أداة ٍّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫وبين موقفهم منه‪ ،‬وقد تم هذا كله دون مواجهة لهم بذلك‪ ،‬أو مجابهة‪ ،‬وإنما كان يذكر هذه‬ ‫ٍّ‬
‫فقد كشف التعريض هذا كله وبينه‪ ،‬وذكر حالهم معه‪ِ ،‬‬
‫اْلعاني كلها تعريضا‪ ،‬فيدرك اْلؤمنون اْلراد منها‪ ،‬وما تهدف إليه‪ ،‬دون أن يدرك اْلشركون ما ورائها‪ ،‬وما غاياتها‪.‬‬
‫ومن هنا تتجلى بالغة هذا األسلوب وأثره في حديث القرآن عن القرآن‪ ،‬خاصة في مقام ذكر موقف الكافرين منه‪ ،‬وبيان حالهم معه‪.‬‬

‫مظاهر التصوير‪:‬‬
‫إن اْلتتبع لنصوص كتاب هللا تعالى‪ ،‬واْلمارس لتالوته آناء الليل وأطراف النهار‪ ،‬ليلمس التصوير القرآني يتدرج في مظاهر متعددة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬إخراج مدلول اللفظ من دائرة املعنى الذهني املجرد إلى الصورة املحسوسة واملتخيلة‪:‬‬
‫فهو يعبر عن اْلعنى الذهني بالصورة املحسوسة اْلتخيلة‪ ،‬فيكون الخطاب أوقع في النفس‪ ،‬وأقوى في التأثير‪ ،‬وأدعى إلى القبول؛ إذ يجعل‬
‫الحس يتأثر عن طريق الخيال بالصورة ما شاء له التأثر؛ فيستقر اْلعنى في النهاية في أعماق النفس‪.‬‬
‫ٱلسم ٓا ِء وال ي ۡد ُخ ُلون ۡٱلج ّنة ح ّتى ي ِلج ۡٱلجم ُل في سمٍّ‬ ‫وخذ مثاال على ذلك قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬إ ّن ّٱل ِذين ك ّذ ُب أوا بَٔـاي ِتنا و ۡ‬
‫ٱست ۡكب ُر أوا ع ۡنها ال ُتف ّت ُح ل ُه ۡم أ ۡبو ُب ّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُۡ‬ ‫ِۚ‬ ‫ۡ‬
‫اط وكذ ِلك ن ۡج ِزي ٱمل ۡج ِر ِمين ‪[ 40‬األعراف‪ ]40 :‬وانظر كيف ترسم في الخيال صورة لتفتح أبواب السماء‪ ،‬وأخر لولوج الجمل ‪-‬وهو ذكر الجمل‬
‫ى‬ ‫ٱل ِخي ِ‬
‫أو الحبل الغليظ‪ -‬في سم الخياط‪ ،‬ويترك الحس يتأثر ‪-‬عن طريق الخيال‪ -‬بالصورتين ما شاء له التأثر‪ ،‬ليستقر في النهاية معنى استحالة قبول هؤالء‬
‫اْلكذبين اْلستكبرين عن آيات هللا –تعالى‪ .-‬ويدخل في هذا اْلظهر تصوير الحاالت النفسية واْلعنوية‪.‬‬
‫فالتصوير القرآني كما أنه يخرج اْلعاني الذهنية بصورة حسية‪ ،‬كذلك يخرج الحاالت النفسية واْلعنوية صورا شاخصة أو متحركة‪ ،‬ويعدل‬
‫ۡ‬ ‫ۖ‬ ‫ّ‬
‫اس من ي ۡع ُب ُد ٱلِل على ح ۡرف ف ِإ ۡن أصاب ُ ۥه خ ۡير ٱطمأ ّن ِب ِهۦۖ و ِإ ۡن أصاب ۡت ُه ِف ۡتنة‬ ‫ّ‬
‫اْلصور‪ .‬ومثال ذلك قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬و ِمن ٱلن ِ‬ ‫بها عن التعبير املجرد إلى الرسم‬
‫ُ‬ ‫ُ ۡ ُ ۡ ُ ُۡ‬ ‫ُّ ۡ ۡ ٓ ِۚ‬
‫ٱنقلب على و ۡج ِه ِهۦ خ ِسر ٱلدنيا وٱأل ِخرة ذ ِلك هو ٱلخسران ٱْل ِبين ‪[ 11‬الحج‪ ]11 :‬إذ تصور لنا ذلك التردد ‪-‬الذي يحار فيه ويتبلبل ذلك اإلنسان‬
‫الذي لم ترسخ العقيدة في قلبه؛ ولم تتضح صورة اإليمان في نفسه‪ -‬بصورة إنسان يقوم ليؤدي عبادة على أرض ال تستقر عليها أقدامه‪ ،‬وإلى جنبه‬
‫واد عميق يخش ى السقوط فيه‪ ،‬فهو قلق مضطرب‪.‬‬
‫‪ -2‬التخييل الحس ي‪:‬‬
‫وهو تلك الحركة التي يضفيها التصوير القرآني على اللوحة الصامتة فيبث فيها الحياة‪ ،‬ويحولها إلى منظر حي متحرك‪ ،‬فهو ال يكاد يعبر‬
‫بالصورة املحسة واْلتخيلة ‪-‬عن اْلعنى الذهني أو الحالة النفسية‪ -‬حتى يرتقي بالصورة التي رسمها فيمنحها الحياة النابضة‪ ،‬والحركة اْلتجددة‪ ،‬فإذا‬
‫اْلعنى الذهني حركة يرتفع بها نبض الحياة‪ ،‬وإذا الحالة النفسية لوحة متحركة أو مشهد حي‪ .‬ومن أمثلة ذلك‪:‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪45‬‬
‫ُ‬ ‫قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬وترى ۡٱأل ۡرض هامدة فإذ ٓا أنزۡلنا عل ۡيها ۡٱْل ٓاء ۡ‬
‫ٱهت ّز ۡت ورب ۡت وأ ُۢنبت ۡت ِمن ك ِ ٍّل ز ۡو ِِۭج ب ِهيج ‪[ 5‬الحج‪ . ]5 :‬فانظر كيف استحالت األرض الجامدة‬ ‫أ‪-‬‬
‫ِ ِ‬
‫كائنا حيا‪ ،‬بلمسة واحدة‪ ،‬في لفظة واحدة (اهتزت) وكأنها ذاك الكائن الحي الذي أخمد الظمأ أنفاسه‪ ،‬حتى إذا مس اْلاء أحشاءه عادت إليه الحياة‬
‫وانبعث فيه النشاط‪.‬‬
‫ٱلص ۡب ِح ِإذا تنفس ‪[ 18‬التكوير‪ ]18 :‬فالحياة تخلع ‪-‬في هذه اآلية‪ -‬على الصبح وكأنه أصبح كائنا حيا يتنفس‪ ،‬فتتنفس معه الحياة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬و ُّ‬ ‫ب‪-‬‬
‫وتشرق بإشراقة من ثغره‪ ،‬ويدب النشاط في األحياء على وجه األرض والسماء‪.‬‬
‫التجسيم والتضخيم‪:‬‬ ‫‪-3‬‬
‫إن من مظاهر التصوير القرآني تجسيم اْلعنويات وتضخيمها‪ ،‬وإبرازها وكأنها أجسام أو محسوسات ‪-‬على العموم‪ -‬تتضاخم وتتعاظم ‪-‬‬
‫حسبما يقتض ي الجو واْلشهد‪ -‬حتى تمأل النفس شعورا وإحساسا‪ .‬ومن أمثلة ذلك‪:‬‬
‫ٓ‬ ‫ُ ُ ِۚ‬ ‫ُ ۡ ۡ ُ ۡ ُ ۡ‬
‫ور ِه ۡم أال ساء ما ي ِز ُرون ‪[ 31‬األنعام‪ .]31 :‬فانظر كيف تجسم األعمال السيئة وكأنها أحمال مثقلة‪ ،‬تنوء‬ ‫قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬وهم يح ِملون أوزارهم على ظه ِ‬ ‫أ‪-‬‬
‫بحملها ظهور أولئك الفاسقين يوم القيامة‪.‬‬
‫ُ ُ ّ‬ ‫ِۚ‬ ‫ُُۡ ۡ ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ٓ ٓ ِۚ‬ ‫ۡ‬
‫قوله ‪-‬تعالى‪ّ :-‬ما ل ُهم ِب ِهۦ ِم ۡن ِعلم وال ِألبا ِئ ِه ۡم كبرت ك ِلمة تخرج ِمن أفو ِه ِهم ِإن يقولون ِإال ك ِذبا ‪[ 5‬الكهف‪ ]5 :‬ففيه تضخيم وتفظيع الفترائهم على‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ب‪-‬‬
‫ٱلِل ولدا ‪[ 4‬الكهف‪.]4 :‬‬ ‫هللا ‪-‬تعالى‪ -‬بقولهم‪ّ :‬ٱتخذ ّ ُ‬

‫وسائل التصوير‬
‫يتحقق التصوير الفني في القرآن بوسائل متعددة منها القريبة ومنها البعيدة‪:‬‬
‫الوسائل القريبة‪:‬‬ ‫‪-1‬‬
‫وهي تلك القواعد التي استخلصت واستنبطت من أسلوب التصوير القرآني‪ ،‬ووضع عليها العلماء علم البيان من تشبيه واستعارة وتمثيل‬
‫ٓ‬ ‫ۡٓ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومجاز مرسل‪ .‬التشبيه في قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬وٱل ِذين ي ۡد ُعون ِمن ُدو ِن ِهۦ ال ي ۡست ِجي ُبون ل ُهم ِبش ۡي ٍء ِإال كب ِس ِط ك ّف ۡي ِه ِإلى ٱْلا ِء ِلي ۡبلغ ف ُاه وما ُهو ِبب ِل ِغ ِهۦِۚ وما ُدعا ُء‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ۡ‬
‫ٱلك ِف ِرين ِإال ِفي ضلل ‪[ 14‬الرعد‪ .]14 :‬وقوله ‪-‬تعالى‪ :-‬فترى ٱلق ۡوم ِفيها ص ۡرعى كأ ّن ُه ۡم أ ۡعج ُاز نخ ٍل خ ِاوية ‪[ 7‬الحاقة‪.]7 :‬‬
‫ور ‪[ 7‬اْللك‪:‬‬ ‫واستعارات وتمثيل في قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬نس ٓا ُؤ ُك ۡم ح ۡرث ّل ُك ۡم [البقرة‪ ]223 :‬وقوله ‪-‬تعالى‪ :-‬إذ ٓا ُأ ۡل ُق أوا فيها سم ُع أوا لها شهيقا وهي ت ُف ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ۡ‬
‫ور فجمعنهم جمعا ‪[ 99‬الكهف‪.]99 :‬‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ۖ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ۡ ۡ ُ ۡ ۡ‬
‫‪ ]7‬وقوله ‪-‬تعالى‪ :-‬وتركنا بعضهم يوم ِئذ يموج ِفي بعض ون ِفخ ِفي ٱلص ِ‬
‫ِۚ‬ ‫ّ ٓ‬ ‫ُ‬
‫ٱلسما ِء ِر ۡزقا [غافر‪ ]13 :‬وإنما الذي ينزل سبب الرزق وهو اْلطر‪ ،‬وفي قوله ‪-‬تعالى‪:-‬‬ ‫وأما املجاز اْلرسل في مثل قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬و ُين ٍّ ِز ُل لكم ٍِّمن‬
‫اجرا ك ّفارا ‪[ 27‬نوح‪ ]27 :‬واْلولود‬
‫ُ ٓأ ّ‬ ‫ّ ۡ ۡ‬
‫ِإن ٱألبرار ل ِفي ن ِع ٍيم ‪[ 22‬اْلطففين‪ ]22 :‬والنعيم معنى يحل في مكان يكون فيه األبرار‪ ،‬وفي قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬وال ي ِلدوا ِإال ف ِ‬
‫ال يكون فاجرا إال باعتبار ما سيكون‪.‬‬
‫الوسائل البعيدة‪:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫وهي ذاك التناسق الفني الذي يبلغ الذورة في التصوير‪ ،‬بتخير األلفاظ ونظمها في نسق خاص يبلغ في الفصاحة أرقى درجاتها‪ ،‬وينشأ عنه‬
‫إيقاع موسيقي رفيع‪ ،‬مع تسلسل معنوي بين األغراض في سياق اآليات‪ ،‬فتخرج الكلمة والجملة في قالب من اللفظ وطريقة األداء يبث في اإلحساس‬
‫والخيال صورة مجسمة حية للمعنى‪.‬على أنه ليس بمقدور الفكر اإلنساني‪ :‬أن يقف على القاعدة التي يتم بها تصوير اللفظ القرآني للمعنى‪،‬‬
‫ليتخذها ضابطا في صياغة الكالم‪ ،‬بل كل ما في اإلمكان أن يعلم ويحس‪ :‬أن اللفظ القرآني يصور اْلعنى ويلصق صورته وشكله باإلحساس‪ ،‬بتأثير‬
‫من تناسق حروفه وحركاته‪ ،‬وتركيب مفرداته وجمله واألمثلة على ذلك القرآن كل‪.‬‬
‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ّ‬
‫ٱلِل ٱثاقلت ۡم إلى ٱأل ۡر ِۚ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ أ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ٓ‬
‫ض [التوبة‪]38 :‬؛ ليتصور في خيالك ذلك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٱنف ُروا ِفي س ِب ِيل ِ‬‫على سبيل اْلثال قوله ‪-‬تعالى‪ :-‬يأ ُّيها ٱل ِذين ءامنوا ما لك ۡم ِإذا ِقيل لك ُم ِ‬
‫الجسم اْلتثاقل‪ ،‬يرفعه الرافعون في جهد‪ ،‬فيسقط من أيديهم في ثقل وكأنه القناطير اْلقنطرة من األثقال‪ ،‬كل ذلك يرسمه في خيالك هذا اللفظ‬
‫املختار (اثاقلتم)‪.‬‬
‫ّ ٍّ‬ ‫ُ‬
‫وقوله ‪-‬تعالى‪ :-‬و ِإ ّن ِمنك ۡم ْلن ل ُيب ِطئ ّن [النساء‪ ]72 :‬لترتسم صورة التباطؤ في جرس العبارة كلها‪ ،‬وإن اللسان ليكاد يتعثر وهو يتخبط فيها‬
‫حتى يصل ببطء إلى نهايتها‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪46‬‬
‫ۡ ۡ‬ ‫ٍّ‬
‫وكذلك أول ما نزل من القرآن من سورة العلق‪ ،‬لترى ذلك التناسق بين اْلعاني واألهداف‪ ،‬وذلك الجرس اْلوسيقى األخاذ إذ يقول هللا ‪-‬تعالى‪ :-‬ٱقرأ‬
‫ّ ۡ‬ ‫ّ ۡ‬ ‫ۡ ۡ ُّ ۡ ۡ ُ ّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ٍّ ّ‬
‫ٱإلنسن ما ل ۡم ي ۡعل ۡم ‪[ 5‬العلق‪.]5-1 :‬‬
‫ٱإلنسن ِمن عل ٍق ‪ 2‬ٱقرأ وربك ٱألكرم ‪ 3‬ٱل ِذي علم ِبٱلقل ِم ‪ 4‬علم ِ‬
‫ِبٱس ِم رِبك ٱل ِذي خلق ‪ 1‬خلق ِ‬

‫املراجع ‪:‬‬

‫معجم الرائد‬ ‫•‬


‫التصوير البياني في حديث القرآن عن القرآن دراسة بالغية تحليلية للدكتور عبد العزيز بن صالح العمار‬ ‫•‬
‫بالغة التصوير بالوجه في الفرآن الكريم للدكتور مها إبراهيم اْلشيطي‬ ‫•‬
‫التصوير باإلشارة والحركة الجسمية للدكتور عبد هللا محمد سليمان هنداوى‬ ‫•‬
‫التصوير البياني في حديث القرآن عن القرآن دراسة بالغية تحليلية للدكتور عبد العزيز بن صالح عمار‬ ‫•‬
‫‪http://www.al-eman.com/‬‬ ‫•‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪47‬‬
‫نظم سور القرآن وتناسب آياتها‬

‫معنى النظم ‪:‬‬ ‫•‬

‫ف ـ ــي اللغـ ـ ــة ‪ :‬الت ـ ــأليف‪ ،‬مصـ ـ ــدر "نظ ـ ــم"‪ ،‬ونظـ ـ ــم األش ـ ــياء ‪ :‬ضـ ـ ــم بعض ـ ــها إلـ ـ ــى بع ـ ــض وفـ ـ ــق نظ ـ ــام معـ ـ ــين ف ـ ــي الترتيـ ـ ــب‪ ،‬ونظم ـ ـ ُـت اللؤلـ ـ ــؤ‬
‫أي جمعته في السلك‪1.‬‬

‫ونظم القرآن في معجم الوسيط ‪ :‬العبارة التي تشتمل عليها اْلصاحف صيغة ولغة‪.‬‬
‫وف ـ ـ ــي االص ـ ـ ــطالح ‪ :‬ت ـ ـ ــأليف الكلم ـ ـ ــات والجم ـ ـ ــل مرتب ـ ـ ــة اْلع ـ ـ ــاني ‪ ،‬مناس ـ ـ ــبة ال ـ ـ ــد الالت ؛ عل ـ ـ ــى حس ـ ـ ــب مايقتض ـ ـ ــيه العق ـ ـ ــل‪ ،‬وقي ـ ـ ــل ‪ :‬األلف ـ ـ ــاظ اْلرتب ـ ـ ــة‬
‫اْلسوقة اْلعتبرة داللتها على ما يقتضيه العقل‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وق ـ ــد ك ـ ــان ال ـ ــنظم يطل ـ ــق عن ـ ــد الع ـ ــرب عل ـ ــى الش ـ ــعر خاص ـ ــة ‪ ،‬وعل ـ ــى الس ـ ــجع أحيان ـ ــا ؛ وذل ـ ــك تميي ـ ـزا لهم ـ ــا ع ـ ــن الك ـ ــالم اْلرس ـ ــل ؛ لتمي ـ ــز‬
‫نمطهما ‪ ،‬ولكونهما يفتقران إلى مزيد عناية بخالف سائر الكالم‪2.‬‬

‫بداية فكرة النظم في القرآن ‪:‬‬ ‫•‬


‫ب ـ ـ ــدأت فك ـ ـ ــرة ال ـ ـ ــنظم من ـ ـ ــذ أن أخ ـ ـ ــذ اْلعتزل ـ ـ ــة يبحث ـ ـ ــون ف ـ ـ ــي إعج ـ ـ ــاز الق ـ ـ ـرآن الك ـ ـ ــريم‪ ،‬فق ـ ـ ــد ذه ـ ـ ــب بعض ـ ـ ــهم إل ـ ـ ــى ٍّ‬
‫أن الق ـ ـ ـرآن معج ـ ـ ــز‬
‫بنظمه العجيب‪3).‬‬

‫قـ ـ ــال ابـ ـ ــن اْلقفـ ـ ــع‪ ،‬وقـ ـ ــد أشـ ـ ــار إلـ ـ ــى نظـ ـ ــم الكـ ـ ــالم ‪ :‬أن النـ ـ ــاظم كصـ ـ ــاحب الفصـ ـ ــوص وجـ ـ ــد ياقوتـ ـ ــا وزبرجـ ـ ــدا ومرجانـ ـ ــا فنظمـ ـ ــه قالئـ ـ ــد وسـ ـ ــموطا‬
‫ـص موض ـ ــعه‪ ،‬وجم ـ ــع إل ـ ــى ك ـ ــل ل ـ ــون ش ـ ــبهه مم ـ ــا يزي ـ ــده ب ـ ــذلك حس ـ ــنا‪ ،‬فس ـ ــمي ب ـ ــذلك ص ـ ــائغا رقيق ـ ــا‪ .‬وأم ـ ــا الج ـ ــاحظ حي ـ ــث‬ ‫وأكالي ـ ــل ووض ـ ــع ك ـ ــل ف ـ ـ ٍ‬
‫ذهب إلى أن كتاب هللا معجز بنظمه البديع ‪" :‬الذي ال يقدر على مثله العباد"‪.‬‬

‫وق ـ ــال الب ـ ــاقالني ‪ :‬فأم ـ ــا ش ـ ــأو نظ ـ ــم الق ـ ـرآن فل ـ ــيس ل ـ ــه مث ـ ــال يحت ـ ــذى علي ـ ــه وال إم ـ ــام يقت ـ ــدى ب ـ ــه وال يص ـ ــح وق ـ ــوع مثل ـ ــه اتفاق ـ ــا كم ـ ــا يتف ـ ــق للش ـ ــاعر‬
‫البيـ ـ ــت النـ ـ ــادر والكلم ـ ـ ــة الشـ ـ ــاردة واْلعن ـ ـ ــى الفـ ـ ــذ الغري ـ ـ ــب والش ـ ـ ـ يء القلي ـ ـ ــل العجيـ ـ ــب‪ ،‬وق ـ ـ ــال ‪ :‬لـ ـ ــيس اإلعج ـ ـ ــاز فـ ـ ــي نف ـ ـ ــس الحـ ـ ــروف وإنم ـ ـ ــا هـ ـ ــو ف ـ ـ ــي‬
‫نظمه ـ ـ ــا وإحك ـ ـ ــام رص ـ ـ ــفها وكونه ـ ـ ــا عل ـ ـ ــى وزن م ـ ـ ــا أت ـ ـ ــى ب ـ ـ ــه النب ـ ـ ــي ‪ -‬ص ـ ـ ــلى هللا علي ـ ـ ــه وس ـ ـ ــلم ‪ -‬ول ـ ـ ــيس نظمه ـ ـ ــا أكث ـ ـ ــر م ـ ـ ــن وجوده ـ ـ ــا متقدم ـ ـ ــة ومت ـ ـ ــأخرة‬
‫ومترتبة في الوجود‪ ،‬وليس لها نظم سواها‪.‬‬

‫• النظم عند املعاصرين ‪:‬‬


‫وف ـ ــي زم ـ ــن اْلعاص ـ ــرين كالش ـ ــيخ محم ـ ــد الط ـ ــاهر ب ـ ــن عاش ـ ــور م ـ ــن وق ـ ــف م ـ ــن نظري ـ ــة ال ـ ــنظم وقف ـ ــة اْلس ـ ــتفيد منه ـ ــا‪ ،‬الش ـ ــارح ل ـ ــدالالتها‪،‬‬
‫اْلطب ـ ــق له ـ ــا ف ـ ــي األعم ـ ــال البياني ـ ــة ف ـ ــي التفس ـ ــير‪ .‬فق ـ ــد ق ـ ــال اب ـ ــن عاش ـ ــور ع ـ ــن ال ـ ــنظم ‪ :‬إن نظ ـ ــم الق ـ ـرآ ن مبن ـ ــي عل ـ ــى وف ـ ــرة اإلف ـ ــادة وتع ـ ــدد الدالل ـ ــة؛‬
‫فجم ـ ـ ـ ُـل الق ـ ـ ـرآن له ـ ـ ــا داللته ـ ـ ــا البالغي ـ ـ ــة الت ـ ـ ــي يش ـ ـ ــاركها ف ـ ـ ــي مجمله ـ ـ ــا ك ـ ـ ــالم البلغ ـ ـ ــاء‪ ،‬وال يص ـ ـ ــل ش ـ ـ ـ يء م ـ ـ ــن كالمه ـ ـ ــم إل ـ ـ ــى مبل ـ ـ ــغ بالغته ـ ـ ــا‪ .‬وله ـ ـ ــا داللته ـ ـ ــا‬
‫اْلطوي ـ ــة‪ ،‬وه ـ ــي دالل ـ ــة م ـ ــا ي ـ ــذكر عل ـ ــى م ـ ــا يق ـ ــدر اعتم ـ ــادا عل ـ ــى القرين ـ ــة‪ ،‬وه ـ ــذه الدالل ـ ــة قليل ـ ــة ف ـ ــي ك ـ ــالم البلغ ـ ـاء‪ ،‬وكث ـ ــرت ف ـ ــي الق ـ ـرآن؛ مث ـ ــل تق ـ ــدير‬

‫‪ . 1‬انظر موسوعة علوم اللغة العربية أل‪.‬د‪ .‬إميل بديع يعقوب‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ج ‪ 9‬ص ‪.319‬‬
‫آن ن يف آيات الجهاد ص ‪.9‬‬ ‫ن‬
‫‪ .‬انظر النظم القر ي‬
‫‪2‬‬

‫‪ . 3‬نقلته من كتب معجم المصطلحات البالغية وتطورها ص ‪663-661‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪48‬‬
‫الق ـ ــول‪ ،‬وتق ـ ــدير اْلوص ـ ــوف‪ ،‬وتق ـ ــدير الص ـ ــفة‪ .‬وله ـ ــا دالل ـ ــة مواق ـ ــع جمل ـ ـ ِـه؛ بحس ـ ــب م ـ ــا قبله ـ ــا ومابع ـ ــدها ؛ كك ـ ــون الجمل ـ ــة ف ـ ــي موق ـ ــع العل ـ ــة لك ـ ــالم‬
‫قبلها‪ ،‬أو في موقع االستدراك ‪ ،‬أو في موقع جواب سؤال‪ ،‬أو في موقع تعريض‪ ،‬أو نحوه‪.‬‬

‫وه ـ ــذه الدالل ـ ــة التت ـ ــأثر ف ـ ــي ك ـ ــالم الع ـ ــرب ‪ :‬لقص ـ ــر أغراض ـ ــه ف ـ ــي قص ـ ــائدهم وخط ـ ــبهم بخ ـ ــالف الق ـ ـرآن؛ فإن ـ ــه ْل ـ ــا كـ ــان م ـ ــن قبي ـ ــل الت ـ ــذكير وال ـ ــتالوة‬
‫سمحت أغراضه باإلطالة‪ ،‬وبتلك االطالة تأتي تعدد مواقع الجمل واألغراض"‪.‬‬

‫ومهم ـ ــا يك ـ ــن م ـ ــن أم ـ ــر ف ـ ــإن كت ـ ــاب هللا تع ـ ــال معج ـ ــز للبش ـ ــر قاطب ـ ــة بنظم ـ ــه‪ ،‬وحس ـ ــن تأليف ـ ــه‪ ،‬وجم ـ ــال إش ـ ـراقه‪ ،‬وق ـ ــوة ت ـ ــأثيره‪ ،‬وإحك ـ ــام أي ـ ــه‪ .‬كم ـ ــا‬
‫أنـ ـ ـ ــه معج ـ ـ ـ ــز بحقيقتـ ـ ـ ــه ومج ـ ـ ـ ــازه‪ ،‬وجملـ ـ ـ ــه وألفاظ ـ ـ ـ ــه‪ ،‬وخبـ ـ ـ ــره وإنش ـ ـ ـ ــائه‪ ،‬وتقديمـ ـ ـ ــه وت ـ ـ ـ ــأخيره‪ ،‬وتعريفـ ـ ـ ــه وتنكي ـ ـ ـ ــره‪ ،‬وإضـ ـ ـ ــماره وإظه ـ ـ ـ ــاره‪ ،‬وقص ـ ـ ـ ــره‬
‫والتفاته‪ ،‬وفصله ووصله‪ ،‬وإيجازه وإطنابه‪.‬‬

‫متيز النظم القرآني ‪:‬‬

‫اش ـ ــتمل القـ ـ ـرآن عل ـ ــى أفص ـ ــح ألف ـ ــاظ العربي ـ ــة وأع ـ ــذبها‪ ،‬وإن ه ـ ــذه األلف ـ ــاظ وإن كان ـ ــت معه ـ ــودة اس ـ ــتعملها الع ـ ــرب قب ـ ــل اإلس ـ ــالم وبع ـ ــده؛ ف ـ ــإن‬
‫الق ـ ـرآن ق ـ ــد ف ـ ــاق جمي ـ ــع كالمه ـ ــم وع ـ ــال علي ـ ــه عل ـ ــوا ش ـ ــامخا‪ ،‬وم ـ ــا ذلـ ــك إال لحس ـ ــن الس ـ ــبك وروع ـ ــة الت ـ ــأليف‪ .‬فق ـ ــد تح ُس ـ ـ ُن الكلم ـ ــة ف ـ ــي م ـ ــورد ويت ـ ــألق‬
‫في ـ ـ ــه جماله ـ ـ ــا‪ ،‬لتعانقه ـ ـ ــا م ـ ـ ــع م ـ ـ ــا حوله ـ ـ ــا‪ ،‬بينم ـ ـ ــا تب ـ ـ ــرز ش ـ ـ ــوهاء ش ـ ـ ــنيعة ف ـ ـ ــي موق ـ ـ ــع آخ ـ ـ ــر‪ ،‬ذل ـ ـ ــك أن تناس ـ ـ ــب الك ـ ـ ــالم عائ ـ ـ ــد إل ـ ـ ــى دالالت األلف ـ ـ ــاظ‬
‫ومراياه ـ ـ ــا؛ وخفته ـ ـ ــا ورقته ـ ـ ــا أو فخامته ـ ـ ــا وجزالته ـ ـ ــا‪ .‬إن مراع ـ ـ ــاة ه ـ ـ ــذه األس ـ ـ ـرار وال ـ ـ ــدقائق ف ـ ـ ــي اس ـ ـ ــتعمال األلف ـ ـ ــاظ عل ـ ـ ــى الوج ـ ـ ــه األكم ـ ـ ــل ال ـ ـ ــذي درج‬
‫عليه القرآن من أوله إلى آخره أمر متفوق تعجز عنه اْللكات األدبية والقدرات البشرية‪.‬‬

‫إن الك ـ ـ ــالم إذا جـ ـ ـ ــاء شـ ـ ـ ــعرا منظومـ ـ ـ ــا؛ ورد زاخـ ـ ـ ـرا ب ـ ـ ــالعواطف قـ ـ ـ ــوي اإليقـ ـ ـ ــاع‪ ،‬ممـ ـ ـ ــا يعوقـ ـ ـ ــه ف ـ ـ ــي معظـ ـ ـ ــم األحيـ ـ ـ ــان عـ ـ ـ ــن إبانـ ـ ـ ــة اْلعـ ـ ـ ــاني‬
‫اْلقص ـ ــودة تفض ـ ــيال وس ـ ــرد الح ـ ــوادث إس ـ ــهابا‪ ،‬وإذا ك ـ ــان الك ـ ــالم نث ـ ـرا فق ـ ــد؛ عل ـ ــى األغل ـ ــب؛ كثي ـ ـرا م ـ ــن الح ـ ـرارة‪ ،‬فأب ـ ــان ع ـ ــن اْلع ـ ــاني بفت ـ ــور ظ ـ ــاهر‪،‬‬
‫يحت ـ ـ اج مع ـ ــه الكات ـ ــب إل ـ ــى االستش ـ ــهاد بآي ـ ــة م ـ ــن كت ـ ــاب هللا املجي ـ ــد أو بي ـ ــت م ـ ــن الش ـ ــعر‪ .‬أم ـ ــا الق ـ ـرآن العظ ـ ــيم فق ـ ــد امت ـ ــاز بنظم ـ ــه الفري ـ ــد اْلتس ـ ــق‬
‫ـهاب وحس ـ ـ ُـن البي ـ ــان م ـ ــن االش ـ ــتمال عل ـ ــى اإليق ـ ــاع اْلالئ ـ ــم والق ـ ــدرة عل ـ ــى إث ـ ــارة‬ ‫ـاف‪ .‬ول ـ ــم يمنع ـ ــه اإلس ـ ـ ُ‬ ‫ـاف كـ ـ ٍ‬
‫م ـ ــع اْلع ـ ــاني واألغ ـ ـراض ببي ـ ــان س ـ ــاطع ش ـ ـ ٍ‬
‫ٍّ‬
‫اْلش ـ ـ ــاعر الح ـ ـ ــارة وق ـ ـ ــوة الت ـ ـ ــأثير ف ـ ـ ــي القل ـ ـ ــوب‪ ،‬حت ـ ـ ــى راح الكت ـ ـ ـاب واألدب ـ ـ ــاء يفض ـ ـ ــلون االستش ـ ـ ــهاد بآي ـ ـ ــة م ـ ـ ــن الق ـ ـ ـرآن اْلب ـ ـ ــين‪ ،‬لت ـ ـ ــزدان به ـ ـ ــا آث ـ ـ ــارهم‬
‫األدبية‪.‬‬

‫لقـ ـ ــد نقـ ـ ــض الـ ـ ــنظم القرآنـ ـ ــي عـ ـ ــادة العـ ـ ــرب فيمـ ـ ــا ائتلفـ ـ ــوا عليـ ـ ــه ضـ ـ ــروب الكـ ـ ــالم مـ ـ ــن شـ ـ ــعر ونثـ ـ ــر ورسـ ـ ــائل وحكـ ـ ــم وأمثـ ـ ــال‪ ،‬فإنـ ـ ــه كمـ ـ ــا‬
‫قال اإلمام الرماني ‪" :‬فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة من العادة‪ ،‬لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫معجزة يف تركيب النظم القرآني‬

‫إن هـ ـ ــذا الق ـ ـ ـرآن هـ ـ ــو ضـ ـ ــمير الحيـ ـ ــاة العربيـ ـ ــة‪ ،‬وهـ ـ ــو مـ ـ ــن اللغـ ـ ــة ـك ـ ــالروح اإللهيـ ـ ــة التـ ـ ــي تسـ ـ ــتقر فـ ـ ــي مواهـ ـ ــب اإلنسـ ـ ــان فتضـ ـ ــمن آلثـ ـ ــاره‬
‫الخل ـ ــود؛ ثـ ـ ــم ال يعـ ـ ــدل عليهـ ـ ــا حـ ـ ــين التعـ ـ ــرف إال بصـ ـ ــفات كـ ـ ــل نفـ ـ ــس ْلواقـ ـ ــع تلـ ـ ــك اآلثـ ـ ــار منهمـ ـ ــا‪ ،‬ـك ـ ــأن هـ ـ ــذه الـ ـ ــروح تحـ ـ ــاول أن تفصـ ـ ــح عـ ـ ــن معـ ـ ــاني‬
‫النبـ ـ ــوغ الفنـ ـ ــي فـ ـ ــي آثارهـ ـ ــا الخالـ ـ ــدة‪ ،‬فـ ـ ــال تجـ ـ ــد أقـ ـ ــرب إلـ ـ ــى غرضـ ـ ــها مـ ـ ــن أن تهـ ـ ــيج اإلحسـ ـ ــاس بهـ ـ ــا فـ ـ ــي كـ ـ ــل نفـ ـ ــس‪ ،‬فيجـ ـ ــزء ذلـ ـ ــك البيـ ـ ــان عنهـ ـ ــا‪ ،‬ألن‬
‫اإلحساس إنما هو اللغة النفسية الكاملة‪.‬‬

‫العرن‪ ،‬الطبعة التاسعة‪ ،‬ص ‪248-209‬‬ ‫افع‪ ،‬دار الكتاب‬ ‫ن‬ ‫‪1‬‬
‫ري‬ ‫انظر إعجاز القرآن والبالغة النبوية لمصطق صادق الر ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪49‬‬
‫سر إعجازالقرأن هو في النظم‪ ،‬وله ثالث جهات ‪ :‬في الحروف‪ ،‬والكلمات‪ ،‬والجمل‪.‬‬ ‫•‬

‫‪ )1‬في الحروف وأصواتها‪:‬‬


‫ُ‬
‫أن املخ ـ ـ ــارج والص ـ ـ ــفات للح ـ ـ ــروف إنم ـ ـ ــا أخ ـ ـ ــذ أكثره ـ ـ ــا م ـ ـ ــن ألف ـ ـ ــاظ الق ـ ـ ـرآن ال م ـ ـ ــن ك ـ ـ ــالم الع ـ ـ ــرب وفص ـ ـ ــاحتهم‪ ،... ،‬ف ـ ـ ــإن طريق ـ ـ ــة ال ـ ـ ــنظم‬
‫الت ـ ــي اتس ـ ــقت به ـ ــا الق ـ ـرآن‪ ،‬وتألف ـ ــت له ـ ــا ح ـ ــروف ه ـ ــذه األلف ـ ــاظ‪ ،‬إنم ـ ــا ه ـ ــي طريق ـ ــة ُيت ـ ــو ى به ـ ــا إل ـ ــى أن ـ ــواع م ـ ــن اْلنط ـ ــق وص ـ ــفات م ـ ــن اللهج ـ ــة ل ـ ــم تك ـ ــن‬
‫عل ـ ــى ه ـ ــذا الوج ـ ــه م ـ ــن ك ـ ــالم الع ـ ــرب‪ ،‬ولكنه ـ ــا ظه ـ ــرت في ـ ــه أول ش ـ ـ يء عل ـ ــى لس ـ ــان الن ب ـ ــي ص ـ ــلى هللا علي ـ ــه وس ـ ــلم؛ فجعل ـ ــت اْلس ـ ــامع ال تنب ـ ــو ع ـ ــن ش ـ ـ يء‬
‫من القرآن‪ ،‬وال تلوي من دونه حجاب القلب‪.‬‬

‫فك ـ ــان الع ـ ــرب يترس ـ ــلون أو يخ ـ ــدمون ف ـ ــي م ـ ــنطقهم كيفم ـ ــا اتف ـ ــق له ـ ــم‪ ،‬ال يراع ـ ــون أكث ـ ــر م ـ ــن تكيي ـ ــف الص ـ ــوت؛ دون تكيي ـ ــف الح ـ ــروف الت ـ ــي ه ـ ــي‬
‫م ـ ــادة الص ـ ــوت‪ ،‬إل ـ ــى أن يتف ـ ــق م ـ ــن ه ـ ــذه قط ـ ــع ف ـ ــي كالمه ـ ــم تج ـ ــيء بطبيع ـ ــة الغ ـ ــرض ال ـ ــذي تك ـ ــون في ـ ــه‪ ،‬أو بم ـ ــا تع ٍّم ـ ـل له ـ ــا اْل ـ ــتكلم‪ ،‬عل ـ ــى نم ـ ــط م ـ ــن‬
‫النظم اْلوسيقي‪ ،‬إن لم يكن في الغاية ففيه ما عرفوه من هذه الغاية‪.‬‬

‫فلم ـ ـ ــا ق ـ ـ ــرئ عل ـ ـ ــيهم الق ـ ـ ـرآن‪ ،‬رأوا حروف ـ ـ ــه ف ـ ـ ــي كلمات ـ ـ ــه‪ ،‬وكلما ِت ـ ـ ـه ف ـ ـ ــي جمل ـ ـ ــه‪ ،‬ألحان ـ ـ ــا لغوي ـ ـ ــة رائع ـ ـ ــة؛ كأنه ـ ـ ــا الئتالفه ـ ـ ــا وتناس ـ ـ ــبها قطع ـ ـ ــة واح ـ ـ ــدة‪،‬‬
‫قراءته ـ ــا ه ـ ــي توقيعه ـ ــا فل ـ ــم يف ـ ـ أـتهم ه ـ ــذا اْلعن ـ ــى‪ ،‬وأن ـ ــه أم ـ ــر ال قب ـ ــل له ـ ــم ب ـ ــه‪ ،‬وكـ ــان ذل ـ ــك أب ـ ــين ف ـ ــي عج ـ ــزهم؛ حت ـ ــى إن م ـ ــن عارض ـ ــه م ـ ــنهم‪ ،‬كمس ـ ــيلمة‪،‬‬
‫جـ ـ ــنح فـ ـ ــي خرافتـ ـ ــه إلـ ـ ــى مـ ـ ــا حسـ ـ ــبه نظمـ ـ ــا موسـ ـ ــيقيا أو بابـ ـ ــا منـ ـ ــه وطـ ـ ــوى عمـ ـ ــا وراء ذلـ ـ ــك مـ ـ ــن التصـ ـ ــرف فـ ـ ــي اللغـ ـ ــة وأسـ ـ ــاليبها ومحاسـ ـ ــنها ودق ـ ـ ــائق‬
‫التركي ـ ــب البي ـ ــاني‪ ،‬كأن ـ ــه فط ـ ــن إل ـ ــى أن الص ـ ــدمة األول ـ ــى لل ـ ــنفس العربي ـ ــة‪ ،‬وإنم ـ ــا ه ـ ــي ف ـ ــي أوزان الكلم ـ ــات وأج ـ ـراس الح ـ ــروف دون م ـ ــا ع ـ ــداها؛ ول ـ ــيس‬
‫يتفق ذلك في ش يء‪ ،‬من كالم العرب إال أن يكون وزنا من الشعر أو السجع‪.‬‬

‫في الكلمات وحروفها ‪:‬‬

‫ألف ـ ــاظ القـ ـ ـرآن تظهـ ـ ــر فـ ـ ــي تركيـ ـ ــب ممتنـ ـ ــع؛ وله ـ ــذا ترتفـ ـ ــع إلـ ـ ــى أنـ ـ ــواع أسـ ـ ــمى مـ ـ ــن الدالل ـ ــة اللغويـ ـ ــة أو البيانيـ ـ ــة التـ ـ ــي هـ ـ ــي طبيعيـ ـ ــة فيهـ ـ ــا‪،‬‬ ‫•‬
‫فتخرج من لغة االستعمال إلى لغة الفهم‪ ،‬وتكون بتركيبها اْلعجز طبقة عقلية في اللغة‪.‬‬
‫حرك ـ ــات ألف ـ ــاظ الق ـ ـرآن الص ـ ــرفية واللغوي ـ ــة تج ـ ــري ف ـ ــي الوض ـ ــع والتركي ـ ــب مج ـ ــرى الح ـ ــروف أنفس ـ ــها فيم ـ ــا ه ـ ــي ل ـ ــه م ـ ــن أم ـ ــر الفص ـ ــاحة‬ ‫•‬
‫فيه ـ ـ ــيء بعض ـ ـ ــها ل ـ ـ ــبعض‪ ،‬ويس ـ ـ ــاند بعض ـ ـ ــا‪ ،‬وربم ـ ـ ــا تج ـ ـ ــد الحرك ـ ـ ــة ثقيل ـ ـ ــة ف ـ ـ ــي نفس ـ ـ ــها لس ـ ـ ــبب م ـ ـ ــن أس ـ ـ ــباب الثق ـ ـ ــل أيه ـ ـ ــا كـ ـ ــان‪ ,‬ف ـ ـ ــإذا ه ـ ـ ــي‬
‫اس ـ ــتعملت ف ـ ــي القـ ـ ـرآن رأي ـ ــت له ـ ــا ش ـ ــأنا عجيب ـ ــا م ـ ــن أص ـ ــوات األح ـ ــرف والحرك ـ ــات الت ـ ــي قبله ـ ــا ق ـ ــد امته ـ ــدت له ـ ــا طريق ـ ــا ف ـ ــي اللس ـ ــان م ـ ــن‬
‫ذل ـ ــك ف ـ ــي قول ـ ــه تع ـ ــالى ‪{:‬ولق ـ ــد أن ـ ــذرهم بطش ـ ــتنا فتم ـ ــاروا بالن ـ ــذر}‪ ،‬ف ـ ــي لفظ ـ ــة (الن ـ ــذر) الض ـ ــمة ثقيل ـ ــة فيه ـ ــا لتواليه ـ ــا عل ـ ــى الن ـ ــون وال ـ ــذال‬
‫معا‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫ـتخلفنهم ف ـ ــي األرض} فه ـ ــي كلم ـ ــة واح ـ ــدة م ـ ــن‬‫ق ـ ــد وردت ف ـ ــي الق ـ ـرآن ألف ـ ــاظ ه ـ ــي أط ـ ــول الك ـ ــالم م ـ ــن ع ـ ــدد ح ـ ــروف ومق ـ ــاطع كقول ـ ــه ‪{ :‬ليس ـ ـ‬ ‫•‬
‫عشـ ــرة أح ـ ــرف قـ ــد ج ـ ــاءت عـ ــذوبتها م ـ ــن تنـ ــوع مخ ـ ــارج الحـ ــروف وم ـ ــن نظـ ــم حركاته ـ ــا‪ ،‬فإنهـ ــا ب ـ ــذلك صـ ــارت ف ـ ــي النطـ ــق كأنه ـ ــا أربـ ــع كلم ـ ــات؛‬
‫إذ تنطق على أربعة مقاطع‪.‬‬

‫ف ـ ــي الق ـ ـرآن لفظ ـ ــة غريب ـ ــة ه ـ ــي م ـ ــن أغ ـ ــرب م ـ ــا في ـ ــه‪ ،‬وم ـ ــا حس ـ ــنت ف ـ ــي ك ـ ــالم ق ـ ــط إال ف ـ ــي موقعه ـ ــا من ـ ــه‪ ،‬وه ـ ــي كلم ـ ــة ((ض ـ ــيزى)) م ـ ــن قول ـ ــه‬ ‫•‬
‫تعالى ‪{ :‬تلك إذن قسمة ضيزى} ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكالم من أغرب الحسن وأعجبه؛‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪50‬‬
‫هن ـ ــاك كلم ـ ــات ُيظ ـ ــن أنه ـ ــا زائ ـ ــدة ف ـ ــي الق ـ ـرآن كم ـ ــا يق ـ ــول النح ـ ــاة‪ ،‬ف ـ ــإن في ـ ــه م ـ ــن ذل ـ ــك أحرف ـ ــا‪ :‬كقول ـ ــه تع ـ ــالى ‪{ :‬فبم ـ ــا رحم ـ ــة م ـ ــن هللا لن ـ ــت‬ ‫•‬
‫له ـ ــم}‪ ،‬وقول ـ ــه ‪{ :‬فلم ـ ــا أن ج ـ ــاء البش ـ ــير ألق ـ ــاه عل ـ ــى وجه ـ ــه فارت ـ ـ ٍّـد بص ـ ــيرا} ف ـ ــإن النح ـ ــاة يقول ـ ــون إن (م ـ ــا) ف ـ ــي اآلي ـ ــة األول ـ ــى و(أن) ف ـ ــي الثاني ـ ــة‬
‫زائدتان‪ ،‬أي في اإلعراب‪ .‬ففي هذه الزيادة لون من التصوير لو حذف من الكالم لذهب بكثير من حسنه وروعته‪،‬‬

‫بع ـ ــض األلف ـ ــاظ ل ـ ــم ي ـ ــأت ف ـ ــي نظ ـ ــم الق ـ ـرآن إال مجموع ـ ــا ول ـ ــم ت س ـ ــتعمل من ـ ــه ص ـ ــيغة اْلف ـ ــرد‪ ،‬ف ـ ــإذا احت ـ ــيج إل ـ ــى ه ـ ــذه الص ـ ــيغة اس ـ ــتعمل‬ ‫•‬
‫مرادفهـ ـ ــا ‪ :‬كلفظـ ـ ــة (اللـ ـ ــب) فإنهـ ـ ــا لـ ـ ــم تـ ـ ــرد إال مجموعـ ـ ــة‪ ،‬كقولـ ـ ــه تعـ ـ ــالى‪{ :‬إن فـ ـ ــي ذلـ ـ ــك لـ ـ ـذكرى ألولـ ـ ــي األلبـ ـ ــاب}‪ ،‬وقولـ ـ ــه ‪{ :‬وليـ ـ ــذكر أولـ ـ ــو‬
‫األلباب}‪ ،‬ونحوهما‪ ،‬ولم تجئ فيه مفردة‬

‫وم ـ ــن األلف ـ ــاظ لفظ ـ ــة (اآل ُج ـ ـر) ول ـ ــيس فيه ـ ــا م ـ ــن خف ـ ــة التركي ـ ــب إال الهم ـ ــزة وس ـ ــائرها ن ـ ــافر متقلق ـ ــل ال يص ـ ــلح م ـ ــع ه ـ ــذا اْل ـ ــد ف ـ ــي ص ـ ــوت وال‬ ‫•‬
‫تركي ـ ــب عل ـ ــى قاع ـ ــدة نظ ـ ــم الق ـ ـرآن‪ ،‬فلم ـ ــا احت ـ ــاج إليه ـ ــا لفظه ـ ــا ولف ـ ــظ مرادفه ـ ـا وه ـ ــو القرمي ـ ــد (الط ـ ــين املح ـ ــرق ال ـ ــذي يبن ـ ــى ب ـ ــه) وكالهم ـ ــا‬
‫اس ـ ـ ــتعمله فص ـ ـ ــحاء الع ـ ـ ــرب ول ـ ـ ــم يعرف ـ ـ ــوا غيره ـ ـ ــا‪ ،‬ث ـ ـ ــم أخ ـ ـ ــرج معناه ـ ـ ــا ب ـ ـ ــألطف عب ـ ـ ــارة وأرقه ـ ـ ــا وأع ـ ـ ــذبها‪ ،‬وس ـ ـ ــاقها ف ـ ـ ــي بي ـ ـ ــان مكش ـ ـ ــوف‬
‫يفض ـ ــح الص ـ ــبح‪ ،‬وذل ـ ــك ف ـ ــي قول ـ ــه تع ـ ــالى ‪{ :‬وق ـ ــال فرع ـ ــون ي ـ ــا أيه ـ ــا اْل ـ ــأل م ـ ــا علم ـ ــت لك ـ ــم م ـ ــن إل ـ ــه غي ـ ــري فأوق ـ ـ أـد ل ـ ــي ي ـ ــا هام ـ ــان عل ـ ـى الط ـ ــين‬
‫فاجعل لي صرحا}‪.‬‬

‫ف ـ ــي تق ـ ــديم اس ـ ــم عل ـ ــى غي ـ ــره أو ت ـ ــأخيره عن ـ ــه ل ـ ــنظم حروف ـ ــه ومكان ـ ــه م ـ ــن النط ـ ــق ف ـ ــي الجمل ـ ــة؛ أو لنكت ـ ــة أخ ـ ــرى م ـ ــن نك ـ ــت اْلع ـ ــاني‪ ،‬كقول ـ ــه‬ ‫•‬
‫ات ُمف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أُ‬ ‫أ‬ ‫ُّ‬ ‫أ‬
‫صـ ـ ـ ـال ٍت}‪ ،‬فإنهـ ـ ـ ــا خمسـ ـ ـ ـة أسـ ـ ـ ــماء‪ ،‬أخفهـ ـ ـ ــا فـ ـ ـ ــي اللفـ ـ ـ ــظ‬ ‫‪{ :‬فأ أرسـ ـ ـ ـلنا علـ ـ ـ ـ أي ِه ُم الطوفـ ـ ـ ـان والجـ ـ ـ ـراد والق ّمـ ـ ـ ـل والضـ ـ ـ ـف ِادع والـ ـ ـ ــدم آيـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫أ‬
‫(ال ُق ّم ـ ـ ـل وال ّ‬
‫ض ـ ـ ـف ِادع) فقـ ـ ــدم (الطوفـ ـ ــان) ْلكـ ـ ــان اْلـ ـ ـ ّـدين فيهـ ـ ــا؛ حتـ ـ ــى يـ ـ ــأنس اللسـ ـ ــان بخفتهـ ـ ــا؛ ثـ ـ ــم‬ ‫(الطوفـ ـ ــان والج ـ ـ ـراد والـ ـ ــدم) وأثقلهـ ـ ــا‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫الجـ ـ ـراد وفيهـ ـ ــا كـ ـ ــذلك مـ ـ ــد؛ ثـ ـ ــم جـ ـ ــاء بـ ـ ــاللفظين الشـ ـ ــديدين مبتـ ـ ــدئا بأخفهمـ ـ ــا فـ ـ ــي اللسـ ـ ــان وأبعـ ـ ــدهما فـ ـ ــي الصـ ـ ــوت ْلكانـ ـ ــة تلـ ـ ــك الغنـ ـ ــة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في ـ ــه؛ ث ـ ــم ج ـ ــيء بلفظ ـ ــة (ال ـ ــدم) آخ ـ ـرا‪ ،‬وه ـ ــي أخ ـ ــف الخمس ـ ــة وأقله ـ ــا حروف ـ ــا؛ ليس ـ ــرع اللس ـ ــان فيه ـ ــا ويس ـ ــتقيم له ـ ــا ذوق ال ـ ــنظم وي ـ ــتم به ـ ــا‬
‫هذا اإلعجاز في التركيب‪.‬‬
‫في الجمل وكلماتها‬
‫إن طريقـ ـ ــة نظـ ـ ــم الق ـ ـ ـرآن تجـ ـ ــري علـ ـ ــى اسـ ـ ــتواء واحـ ـ ــد فـ ـ ــي تركيـ ـ ــب الحـ ـ ــروف باعتبـ ـ ـ ٍـار مـ ـ ــن أصـ ـ ــواتها ومخارجهـ ـ ــا‪ ،‬وفـ ـ ــي التمكـ ـ ــين للمعنـ ـ ــى‬
‫ـس الكلمـ ـ ــة وصـ ـ ـ ِـفتها‪ ،‬ثـ ـ ــم االفتنـ ـ ــان فيـ ـ ــه بوضـ ـ ــعها مـ ـ ــن الكـ ـ ــالم‪ ،‬وباستقصـ ـ ــاء أجـ ـ ـزاء البيـ ـ ــان وترتيـ ـ ــب طبقاتـ ـ ــه علـ ـ ــى حسـ ـ ــب مواقـ ـ ــع‬ ‫بحـ ـ ـ ٍّ‬
‫ِ‬
‫يتفاوت ذلك وال ُّ‬
‫يختل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الكلمات‪ ،‬ال‬
‫تناسب آيات القرآن‬

‫معنى التناسب واْلناسبة ‪:‬‬


‫ُ‬
‫فـ ـ ــي اللغ ـ ـ ــة ‪ :‬ناس ـ ـ ــبه ‪ :‬ش ـ ـ ــركه ف ـ ـ ــي نس ـ ـ ــبه‪ ،‬اْلناس ـ ـ ــبة اْلش ـ ـ ــاكلة‪ ،‬وتناس ـ ـ ــبا ‪ :‬تم ـ ـ ــاثال وتش ـ ـ ــاكال‪ ،‬والتناس ـ ـ ــب م ـ ـ ــن تناس ـ ـ ــب‪ . 1‬وف ـ ـ ــالن يناس ـ ـ ــب‬
‫فالنا فهو نسيبه‪ ،‬أي قريبه‪.‬‬
‫ومن اْلشاكلة قوله تعالى ‪( :‬إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا)‪.‬‬
‫ومنه قول الشاعر‪:‬‬
‫قالوا‪ :‬اقترح شيئا نجد لك طبخه *** قلت‪ :‬اطبخوا لي جبة وقميصا‬
‫اطبخوا لي أي خيطوا لي ‪.‬‬

‫‪ 1‬معجم المصطلحات البالغية وتطورها ص ‪419‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪51‬‬
‫والتناسـ ـ ــب بـ ـ ــين اْلعـ ـ ــاني ‪ :‬عقـ ـ ــد ابـ ـ ــن األثيـ ـ ــر بابـ ـ ــا فـ ـ ــي الصـ ـ ــناعة اْلعنويـ ـ ــة سـ ـ ــماه "التناسـ ـ ــب بـ ـ ــين اْلعـ ـ ــاني"‪ ،‬وهـ ـ ــو عنـ ـ ــده ثالثـ ـ ــة أقسـ ـ ــام ‪:‬‬
‫اْلطابقة وصحة التقسيم وفساده وترتيب التفسير وما يصح من ذلك وما يفسد‪1.‬‬

‫اْلناسبة عند البالغيين ‪:‬‬


‫عند الرماني ‪ :‬النوع الثاني من التجانس‪ ،‬قال ‪“ :‬وهي تدور في فنون اْلعاني التي ترجع إلى أصل واحد"‪،‬‬
‫كقولـ ـ ــه تعـ ـ ــالى ‪{ :‬ثـ ـ ــم انصـ ـ ــرفوا صـ ـ ــرف هللا قلـ ـ ــوبهم}‪ ،‬ف ُجـ ـ ـ أونس باالنصـ ـ ـراف عـ ـ ــن الـ ـ ــذكر ثـ ـ ــم صـ ـ ــرف القلـ ـ ــب عـ ـ ــن الخيـ ـ ــر‪ ،‬واألصـ ـ ــل فيـ ـ ــه‬
‫يء‪ ،‬أما هم فذهبوا عن الذكر‪ ،‬وأما قلوبهم فذهب بها الخير‪2.‬‬ ‫واحد‪ ،‬وهو الذهاب عن الش‬
‫ومث ـ ــل ‪{ :‬يخ ـ ــافون يوم ـ ــا تتقل ـ ــب في ـ ــه القل ـ ــوب واألبص ـ ــار } ‪ :‬فج ـ ــونس ب ـ ــالقلوب التقل ـ ــب‪ ،‬واألص ـ ــل واح ـ ــد‪ ،‬ف ـ ــالقلوب تتقل ـ ــب ب ـ ــالخواطر‪،‬‬
‫واألبصار تتقلب في اْلناظر‪ ،‬واألصل التصرف‪.‬‬
‫التناسب في علم القرآن‪ ،‬وهو اْلراد ‪:‬‬
‫وعنـ ـ ــد الس ـ ـ ــيوطي ‪ :‬ه ـ ـ ــو الت ـ ـ ـرابط بـ ـ ــين اآلي ـ ـ ــات الكريم ـ ـ ــة وغيره ـ ـ ــا‪ ،‬قـ ـ ــال ‪ :‬اْلناس ـ ـ ــبة ف ـ ـ ــي اللغ ـ ـ ــة اْلشـ ـ ــاكلة واْلقارب ـ ـ ــة ومرجعه ـ ـ ــا ف ـ ـ ــي اآلي ـ ـ ــات‬
‫ونحوه ـ ــا إل ـ ــى معن ـ ــى رل ـ ــبط بينهم ـ ــا ع ـ ــام وخ ـ ــاص‪ ،‬عقل ـ ــي أو حس ـ ـ ي أو خي ـ ــالي أو غي ـ ــر ذل ـ ــك م ـ ــن أن ـ ــواع عالق ـ ــات ال ـ ــتالزم ال ـ ــذهني كالس ـ ــبب‬
‫واْلس ـ ـ ــبب والعل ـ ـ ــة واْلعل ـ ـ ــول والنظي ـ ـ ــرين والض ـ ـ ــدين ونح ـ ـ ــوه‪ ،‬وفائدت ـ ـ ــه جع ـ ـ ــل أج ـ ـ ـزاء الك ـ ـ ــالم بعض ـ ـ ــها آخ ـ ـ ــذا باعن ـ ـ ــاق بع ـ ـ ــض فيق ـ ـ ــوى‬
‫بذلك االرتباط ويصير التأليف حالته حال البناء املحكم اْلتالئم األجزاء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ويع ـ ـ ــرف اص ـ ـ ــطالحا بأن ـ ـ ــه‪ :‬اجم ـ ـ ــن‪ ،‬وقولن ـ ـ ــا‪( :‬أج ـ ـ ـزاء الق ـ ـ ـرآن) ش ـ ـ ــامل لآلي ـ ـ ــة م ـ ـ ــع اآلي ـ ـ ــة‪ ،‬والحك ـ ـ ــم م ـ ـ ــع الحك ـ ـ ــم‪ ،‬والس ـ ـ ــورة م ـ ـ ــع الس ـ ـ ــورة‪،‬‬
‫والقصة مع القصة‪ ،‬وكل جزء من القرآن مع ما قارنه‪.‬‬

‫ترتيب السوربين التوقيف والنظر‪:3‬‬ ‫•‬

‫أجم ـ ــع العلم ـ ــاء عل ـ ــى أن ترتي ـ ــب اآلي ـ ــات ف ـ ــي س ـ ــورها ت ـ ــوقيفي‪ ،‬ل ـ ــيس للنظ ـ ــر واالجته ـ ــاد أي دور في ـ ــه‪ ،‬فق ـ ــد ك ـ ــان جبري ـ ــل يوق ـ ــف الن ـ ــي عل ـ ــى‬
‫مواقع اآليات في سورها‪ ،‬وكان يوص ي بذلك كتبة الوحي والصحابة رضوان هللا عليهم‪.‬‬

‫وق ـ ــد نق ـ ــل ه ـ ــذا اإلجم ـ ــاع غي ـ ــر واح ـ ــد م ـ ــن العلم ـ ــاء م ـ ــنهم اب ـ ــن الزبي ـ ــر ال ـ ــذي ق ـ ــال ف ـ ــي مناس ـ ــبا‪ :‬ترتي ـ ــب اآلي ـ ــات ف ـ ــي س ـ ــورها واق ـ ــع بتوقيف ـ ــه *‬
‫وأمـ ــره م ـ ــن غي ـ ــر خ ـ ــالف ف ـ ــي ه ـ ــذا ب ـ ــين اْلسـ ــلمين ‪ ،‬وق ـ ــال ف ـ ــي م ـ ــالك التأوي ـ ــل‪ :‬إن ترتي ـ ــب الس ـ ــور بتوقيـ ــف عل ـ ــى اص ـ ــح اْلاخ ـ ــذين‪ ،‬وام ـ ــا ترتي ـ ــب األي ف ـ ــال‬
‫توقف فيه‪ ،‬وإن ذلك كله معتمد فيه غير ترتيب النزول ‪.‬‬

‫ومـ ـ ــنهم الزركش ـ ـ ـ ي فـ ـ ــي البره ـ ـ ــان قـ ـ ــال‪ :‬أمـ ـ ــا اآلي ـ ـ ــات فـ ـ ــي كـ ـ ــل س ـ ـ ــورة ووضـ ـ ــع البسـ ـ ــملة أوائله ـ ـ ــا ترتيبهـ ـ ــا نـ ـ ــونبني ب ـ ـ ــال شـ ـ ــك‪ ،‬وال خـ ـ ــالف في ـ ـ ــه ‪.‬‬

‫هـ ــذا م ـ ــن جه ـ ــة ترتي ـ ــب اآلي ـ ــة‪ ،‬وق ـ ــد أوج ـ ــزت الق ـ ــول في ـ ــه التف ـ ــاق العلم ـ ــاء علـ ــى التوقي ـ ــف في ـ ــه‪ ،‬وألن ـ ــه ل ـ ــيس م ـ ــن غرض ـ ــنا األساس ـ ـ ي ف ـ ــي ه ـ ــذا التق ـ ــديم‬
‫اما من جهة ترتيب السور العلماء به على ثالثة مذاهب ‪:‬‬

‫‪ -‬ذهب الجمهور منهم إلى أنه باالجتهاد والنظر‪ ،‬وأن الرسول و أمر ترتيب السور إلى صحابته فاجتهدوا في ذلك وأعملوا األنظار‪.‬‬

‫‪ -‬وقال البعض بالتوقيف وجعلوا ترتيب السور کترتيب األي‪ ،‬الكل من هللا‪.‬‬

‫‪ . 1‬معجم المصطلحات البالغية وتطورها ص ‪422‬‬


‫‪ . 2‬معجم المصطلحات البالغية وتطورها ص ‪647‬‬
‫التهان ن يف تناسب سور القرآن)‪ ،‬تحقيق د‪ .‬سعيد بن جمعة الفالح‪ ،‬ص ‪44‬‬ ‫ن‬
‫الثان من كتاب ( ر‬
‫‪3‬انظر المبحث ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪52‬‬
‫‪ -‬ومال البعض اآلخر إلى التفصيل‪ ،‬فإذا كان الكثير من السور قد علم ترتيبها بالتوقيف فإن البعض منها كان باجتهاد الصحابة‪.‬‬

‫التوفيق بين اآلراء ‪:‬‬

‫حـ ـ ــاول ابـ ـ ــن الزبيـ ـ ــر الثقفـ ـ ــي أن يوفـ ـ ــق بـ ـ ــين اآلراء الثالثـ ـ ــة‪ ،‬فبـ ـ ــين أنهـ ـ ــا تلتقـ ـ ــي جميعـ ـ ــا علـ ـ ــى القـ ـ ــول بـ ـ ــالتوقيف‪ ،‬والخـ ـ ــالف بينهـ ـ ــا ال يعـ ـ ــدو‬
‫أن يكون لفظيا ‪ :‬هل هو بتوقيف قولي صريح من رسول هللا أم هو بتوقيف فعلي مستفاد من أفعال رسول هللا ؟‬

‫فاْلنتص ـ ـ ــرون لالجته ـ ـ ــاد يقول ـ ـ ــون‪ :‬إن ـ ـ ــه رم ـ ـ ــز إل ـ ـ ــيهم الترتي ـ ـ ــب لعلمه ـ ـ ــم بأس ـ ـ ــباب نزول ـ ـ ــه ومواق ـ ـ ــع كلمات ـ ـ ــه وس ـ ـ ــماعهم ذل ـ ـ ــك ع ـ ـ ــن الرس ـ ـ ــول‬
‫عند استظهاره على جبريل وقراءته في الصالة وفي اْلناسبات املختلفة‪.‬‬

‫يقـ ـ ــول ابـ ـ ــن الزبي ـ ـ ــر ‪ :‬إن ـك ـ ــان بتوقيـ ـ ــف من ـ ـ ــه فـ ـ ــال مج ـ ـ ــال للخصـ ـ ــم بعـ ـ ــد ذل ـ ـ ــك التحديـ ـ ــد الجلي ـ ـ ــل والرسـ ـ ــم‪ ،‬وإن ـك ـ ــان مم ـ ـ ــا فـ ـ ــوض في ـ ـ ــه‬
‫األمـ ــر إلـ ــى األمـ ــة بعـ ــده فقـ ــد أعمـ ــل الكـ ــل مـ ــن الصـ ــحابة فـ ــي ذلـ ــك جهـ ــده وهـ ــم األمليـ ــاء بعلمـ ــه‪ ،‬واْلسـ ــلم لهـ ــم فـ ــي وعيـ ــه وفهمـ ــه‪ ،‬والعـ ــارفون بأسـ ــباب‬
‫ٍّ‬
‫نـ ـ ــزول اآليـ ـ ــات ومواقـ ـ ــع الكلمـ ـ ــات‪ ،‬وإنمـ ـ ــا ألفـ ـ ــوا القـ ـ ـرآن علـ ـ ــى مـ ـ ــا ـك ـ ــانوا يسـ ـ ــمعونه مـ ـ ــن رسـ ـ ــول هللا ‪ ،‬وهـ ـ ــذا قـ ـ ــول مالـ ـ ــك فـ ـ ــي حكايـ ـ ــة بعضـ ـ ــهم عنـ ـ ــه‪.‬‬
‫ومال ـ ــك أح ـ ــد الق ـ ــائلين ب ـ ــأن ترتي ـ ــب الس ـ ــور باجته ـ ــاد م ـ ــن اْلس ـ ــلمين‪ .‬وكيفم ـ ــا دار األم ـ ــر فمن ـ ــه ُعـ ـ ـرف ترتي ـ ــب الس ـ ــور‪ ،‬وعل ـ ــى م ـ ــا س ـ ــمعوه من ـ ــه بن ـ ــوا‬
‫ً‬
‫جلي ـ ــل ذل ـ ــك النظ ـ ــر‪ ،‬ف ـ ــإذا إنم ـ ــا الخ ـ ــالف ه ـ ــل ذل ـ ــك بتوقي ـ ــف ق ـ ــولي أم بمج ـ ــرد اس ـ ــتناد فعل ـ ــي‪ ،‬بحي ـ ــث بق ـ ــي له ـ ــم في ـ ــه مج ـ ــال للنظ ـ ــر؟ فه ـ ــذا موض ـ ــع‬
‫الخالف‪.‬‬

‫حرمة هذا الترتيب ‪:‬‬

‫إن ترتيـ ـ ــب السـ ـ ــور سـ ـ ــواء أ ـك ـ ــان بتوقيـ ـ ـ ٍ‬


‫ـف أم باجتهـ ـ ــاد ‪ ،‬أم بهمـ ـ ــا معـ ـ ــا‪ ،‬أمـ ـ ــر مرعـ ـ ــي محتـ ـ ــرم ؛ فـ ـ ــإن ـك ـ ــان عـ ـ ــن توقيـ ـ ــف فمراعاتـ ـ ــه واحترامـ ـ ــه وخاصـ ـ ــة فـ ـ ــي‬
‫كتاب ـ ــة اْلص ـ ــاحف الت ـ ـزام بس ـ ــنة رس ـ ــول هللا‪ ،‬وإن ك ـ ــان ع ـ ــن اجته ـ ــاد م ـ ــن الص ـ ــحابة ففي ـ ــه امتث ـ ــال إلجم ـ ــاعهم‪ ،‬واإلجم ـ ــاع حج ـ ــة‪ ،‬وه ـ ــو ف ـ ــي كلت ـ ــا الح ـ ــالتين‬
‫صـ ـ ــيانة لكتـ ـ ــا ب هللا ودرء ألسـ ـ ــباب الفتنـ ـ ــة واْلفسـ ـ ــدة؛ إذ لـ ـ ــو وقـ ـ ــع التسـ ـ ــاهل فـ ـ ــي ترتيـ ـ ــب اْلصـ ـ ــاحف ألدى ذلـ ـ ــك علـ ـ ــى اْلـ ـ ــدى البعيـ ـ ــد إلـ ـ ــى االخـ ـ ــتالف فـ ـ ــي‬
‫ُ‬
‫تأليف القرآن ونظمه‪ ،‬وتأليف القرآن من إعجازه‪ ،‬وقد قال ابن سيرین‪ :‬تأليف هللا خير من تأليفكم‪.‬‬

‫أم ـ ـ ــا ترتي ـ ـ ــب الس ـ ـ ــور عن ـ ـ ــد ال ـ ـ ــتالوة فمن ـ ـ ــدوب‪ ،‬وتفريقه ـ ـ ــا أو عكس ـ ـ ــها ج ـ ـ ــائز‪ ،‬ولكن ـ ـ ــه خ ـ ـ ــالف األول ـ ـ ــى‪ ،‬واس ـ ـ ــتدلوا بم ـ ـ ــا رواه مس ـ ـ ــلم ع ـ ـ ــن‬
‫حذيف ـ ــة ق ـ ــال‪ :‬ص ـ ــليت م ـ ــع النب ـ ــي ‪ -‬ذات ليل ـ ــة ف ـ ــافتتح س ـ ــورة البق ـ ــرة‪ ،‬فقل ـ ــت يرك ـ ــع عن ـ ــد اْلائ ـ ــة ث ـ ــم مضـ ـ ـ ى‪ ،‬فقل ـ ــت يص ـ ــلي به ـ ــا ف ـ ــي ركع ـ ــة فمضـ ـ ـ ى‪،‬‬
‫فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران‪ . . .‬الحديث‪.‬‬

‫وأمـ ـ ــا قـ ـ ـراءة السـ ـ ــور منكوسـ ـ ــة مـ ـ ــن آخرهـ ـ ــا إلـ ـ ــى أولهـ ـ ــا فمتفـ ـ ــق علـ ـ ــى منعـ ـ ــه ألنـ ـ ــه يـ ـ ــذهب بعـ ـ ــض نـ ـ ــوع اإلعجـ ـ ــاز ويزيـ ـ ــل حكمـ ـ ــة الترت ـ ـ ــب‪،‬‬
‫أخرج الطبراني بسند جيد عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسا‪ ،‬قال‪ :‬ذلك منكوس القلب‪.‬‬

‫وأم ـ ــا خل ـ ــط س ـ ــورة بس ـ ــورة‪ ،‬فق ـ ــد ع ـ ــد الحليم ـ ــي ترك ـ ــه م ـ ــن اآلداب ْل ـ ــا أخرج ـ ــه أب ـ ــو عبي ـ ــد ع ـ ــن عم ـ ــر م ـ ــولى عف ـ ــرة أن النب ـ ــي ق ـ ــال ل ـ ــبالل‪:‬‬
‫إذا ق ـ ـرات الس ـ ــور فأنف ـ ــذها ‪ .‬وق ـ ــال البيهق ـ ــي‪ ،‬وأحس ـ ــن م ـ ــا ُيح ـ ــتج ب ـ ــه أن يق ـ ــال‪ :‬إن ه ـ ــذا الت ـ ــأليف لكت ـ ــاب هللا م ـ ــأخوذ م ـ ــن جه ـ ــة النب ـ ــي‪ ،‬وق ـ ــد أخ ـ ــذه‬
‫عن جبريل‪ ،‬فاألولى للقاری أن يقرأه على التأليف اْلنقول‪.‬‬

‫وأم ـ ــا ق ـ ـراءة الس ـ ــورة م ـ ــن آخره ـ ــا إل ـ ــى أوله ـ ــا فممن ـ ــوع منع ـ ــا متأك ـ ــدا ألن ـ ــه ي ـ ــذهب ب ـ ــبعض ض ـ ــروب اإلعج ـ ــاز ويزي ـ ــل حكم ـ ــة ترتي ـ ــب اآلي ـ ــات‪.‬‬
‫وق ـ ــد روى اب ـ ــن أبـ ـ ــي داود ع ـ ــن إبـ ـ ـراهيم النخع ـ ــي اإلمـ ـ ــام الت ـ ــابعي الجليـ ـ ــل وع ـ ــن اإلم ـ ــام مالـ ـ ــك ب ـ ــن انـ ـ ــس أنهم ـ ــا کرهـ ـ ــا ذل ـ ــك‪ ،‬وان مالكـ ـ ــا ك ـ ــان يعيبـ ـ ــه‬
‫ويقول‪ :‬هنا عظیم‪...‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪53‬‬
‫وأم ـ ــا تعل ـ ــيم الص ـ ــبيان م ـ ــن آخ ـ ــر اْلص ـ ــحف إل ـ ــى اول ـ ــه فحس ـ ــن‪ ،‬ول ـ ــيس ه ـ ــذا م ـ ــن الب ـ ــاب‪ ،‬ف ـ ــإن ذل ـ ــك ق ـ ـراءة منفص ـ ــلة ف ـ ــي أي ـ ــام متع ـ ــددة عل ـ ــى م ـ ــا في ـ ــه‬
‫من تسهيل الحفظ عليهم‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫مناسبة آية القرآن وسوره‪:1‬‬ ‫•‬

‫قال الشيخ أبو الحسن الشهرباني ‪ :‬أول من أظهر ببغداد علم اْلناسبة ولم نكن سمعناه من غيره هو الشيخ اإلمام أبو بكر النيسابوري ‪ . . .‬وكان‬
‫يقول على الكرس ي إذا قرئ عليه اآلية‪ :‬لم جعلت هذه اآلية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة من جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يزري على‬
‫علماء بغداد لعدم علمهم باْلناسبة‪.‬‬

‫ومن أشهر الذين أفردوه بالتأليف العالمة أبو جعفر بن الزبير في كتابه البرهان في تناسب سور القرآن‪ ،‬والشيخ برهان الدين البقاعي في کتاب سماء‬
‫نظم الدرر في تناسب اآلي والسور‪ ،‬والسيوطي في كتابه الذي صنفه في أسرار التنزيل وقد لخص منه مناسبة السور خاصة في جزء لطيف سماء‪:‬‬
‫تناسق الدرر في تناسب السور‪.‬‬

‫إن فضيلة هذا العلم لم تقف عند هذا بل تجاوزته إلى تسديد الفهوم بتجلية اْلفهوم‪ ،‬فاْلناسبة ال تقل أهمية عن السبب في اإلعانة على فهم اْلعنى‬
‫ونبين حدود األحكام‪ ،‬ولئن جرت عادة اْلفسرين البداءة بذكر سبب النزول فإنهم يقدمون أحيانا ذكر اْلناسبة كلما رأوا فيها اْلصحح الحقيقي والذي‬
‫ال غنى عنه لنظم الكالم وإجالء اْلعنى‪.‬‬

‫يق ـ ـول الزرکش ـ ـ ي‪ :‬إذا ك ـ ــان وج ـ ــه اْلناس ـ ــبة ال يتوق ـ ــف عل ـ ــى س ـ ــبب الن ـ ــزول ف ـ ــاألولى تق ـ ــديم وج ـ ــه اْلناس ـ ــبة‪ ،‬م ـ ــن ذل ـ ــك أن قول ـ ــه تع ـ ــالى ف ـ ــي‬
‫س ـ ــورة النس ـ ــاء ‪{ :‬أل ـ ــم ت ـ ــر إل ـ ــى ال ـ ــذين أوت ـ ــوا نص ـ ــيبا م ـ ــن الكت ـ ــاب يؤمن ـ ــون بالجب ـ ــت والط ـ ــاغوت ويقول ـ ــون لل ـ ــذين كف ـ ــروا ه ـ ــؤالء أه ـ ــدى م ـ ــن ال ـ ــذين‬
‫آمن ـ ــوا سبيال}[النس ـ ــاء‪ .] ۵۱ :‬ق ـ ــد ن ـ ــزل ف ـ ــي كع ـ ــب ب ـ ــن األش ـ ــرف‪ ،‬وكـ ــان م ـ ــن أه ـ ــل الكت ـ ــاب ق ـ ــدم مك ـ ــة وش ـ ــاهد قتل ـ ــى ب ـ ــدر وح ـ ــرض الكف ـ ــار عل ـ ــى األخ ـ ــذ‬
‫بث ـ ــأرهم وقت ـ ــال النب ـ ــي فس ـ ــألو ه‪ :‬م ـ ــن أه ـ ــدى س ـ ــبيال؟ اْلؤمن ـ ــون ام ه ـ ــم؟ فتمل ـ ــق ع ـ ــواطفهم وق ـ ــال‪ :‬ب ـ ــل أن ـ ــتم أه ـ ــدى م ـ ــن اْل ـ ــؤمنين س ـ ــبيال‪ ،‬وبع ـ ــد أن‬
‫تعاق ـ ــب اآلي ـ ــات ف ـ ــي ح ـ ــق ه ـ ــذا الرج ـ ــل وح ـ ــق م ـ ــن ش ـ ــاركه ف ـ ــي مقالت ـ ــه م ـ ــن أه ـ ــل الكت ـ ــاب يتح ـ ــول الس ـ ــياق القرآن ـ ــي إل ـ ــى آي ـ ــة جدي ـ ــدة موض ـ ــوعها أداء‬
‫األمان ـ ـ ــات إل ـ ـ ــى أهله ـ ـ ــا‪ ،‬يق ـ ـ ــول تع ـ ـ ــالى‪{ :‬إن هللا ي ـ ـ ــأمركم أن ت ـ ـ ــؤدوا األمان ـ ـ ــات إل ـ ـ ــى أهلها}[النس ـ ـ ــاء‪ ،] ۵۸ :‬وي ـ ـ ــذكر اْلفس ـ ـ ــرون أن ه ـ ـ ــذه اآلي ـ ـ ــة نزل ـ ـ ــت ف ـ ـ ــي‬
‫عثمـ ــان بـ ــن طلحـ ــة بـ ــن أبـ ــي طلح ـ ــة العبـ ــدري حاجـ ــب الكعبـ ــة‪ْ ،‬لـ ــا أخ ـ ــذ منـ ــه رسـ ــول هللا مفتـ ــاح البيـ ــت يـ ــوم الف ـ ــتح ثـ ــم رده عليـ ــه‪ ،‬وبـ ــين اآليـ ــة األول ـ ــى‬
‫التي نزلت عقب بدر والثانية التي نزلت عند الفتح ست سنوات فلم قرنتا؟ ولم أعقب هذا اْلوضوع بذلك رغم البعد الزمني؟‬

‫غاية املناسبة وارتباط اآلية‪: 2‬‬ ‫•‬

‫بع ـ ــد أن رجـ ـ ــح الزمخش ـ ــري توقيـ ـ ــف ترتي ـ ــب السـ ـ ــور قـ ـ ــال ‪ :‬وإذا اعتب ـ ــرت افتتـ ـ ــاح ك ـ ــل سـ ـ ــوره وجدت ـ ــه فـ ـ ــى غايـ ـ ــة اْلناس ـ ــبة ْلـ ـ ــا خ ـ ــتم بـ ـ ــه السـ ـ ــورة‬
‫قبلهـ ـ ــا ثـ ـ ــم هـ ـ ــو يخفـ ـ ــى تـ ـ ــارة ويظهـ ـ ــر أخرى‪.‬كافتتـ ـ ــاح سـ ـ ــورة األنعـ ـ ــام بالحمـ ـ ــد فإنـ ـ ــه مناسـ ـ ــب لختـ ـ ــام سـ ـ ــورة اْلائـ ـ ــدة مـ ـ ــن فصـ ـ ــل القضـ ـ ــاء كمـ ـ ــا قـ ـ ــال‬
‫أ‬ ‫أ ُ ّ‬ ‫أ ٍّ‬ ‫ُ‬
‫لِل ر ِ ٍّب العـ ـ ـ ِاْلين }‪ ،‬وكافتتـ ـ ــاح س ـ ــورة ف ـ ــاطر ب ـ ـ ـ {الحمـ ـ ــد} أيض ـ ــا فإن ـ ــه مناس ـ ــب لختـ ـ ــام م ـ ــا قبله ـ ــا مـ ـ ــن‬ ‫س ـ ــبحانه {وقضـ ِ ـ ـ ي ب أيـ ـ ـن ُه أم ِبـ ـ ـالح ِق و ِقي ـ ــل الح أمـ ـ ـد ِ ِ‬
‫ُ ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫اع ِه أم ِمـ ـ ـن ق أبـ ـ ـ ُل} وكمـ ـ ــا قـ ـ ــال تعـ ـ ــالى‪{ :‬فق ِطـ ـ ـع دا ِبـ ـ ـ ُر القـ ـ ـ أو ِم الـ ـ ـ ِذين ظل ُمـ ـ ـوا والح أمـ ـ ـد ِ ِ‬
‫لِل ر ِ ٍّب‬ ‫قولـ ـ ــه {و ِحيـ ـ ــل ب أيـ ـ ـن ُه أم وبـ ـ ـين مـ ـ ـا يشـ ـ ـت ُهون كمـ ـ ـا ف ِعـ ـ ـل ِبأشـ ـ ـي ِ‬
‫اب ال‬ ‫أالع ـ ـ ِاْلين } وكافتت ـ ــاح س ـ ــورة الحدي ـ ــد بالتس ـ ــبيح فإن ـ ــه مناس ـ ــب لخت ـ ــام س ـ ــورة الواقع ـ ــة م ـ ــن األم ـ ــر ب ـ ــه وكافتت ـ ــاح البق ـ ــرة بقول ـ ــه {آل ـ ــم ذ ِل ـ ـك أال ِكت ـ ـ ُ‬
‫أُ‬ ‫ص ـ ـ ـراط} فـ ـ ــي قولـ ـ ــه {ا أه ـ ـ ـ ِدنا ال ٍّ‬
‫رأي ـ ـ ـب ِفيـ ـ ـ ِـه} إشـ ـ ــارة إلـ ـ ــى {ال ٍّ‬
‫ص ـ ـ ـراط اْل أس ـ ـ ـت ِقيم } ـك ـ ــأنهم ْلـ ـ ــا سـ ـ ــألوا الهدايـ ـ ــة إلـ ـ ــى الص ـ ـ ـراط اْلسـ ـ ــتقيم‪ ،‬قيـ ـ ــل لهـ ـ ــم ذل ـ ـ ــك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫(التهان ن يف تناسب سور القرآن) تحقيق د‪ .‬سعيد بن جمعة الفالح‪ ،‬ص ‪65‬‬
‫‪1‬انظر المبحث الثالث من كتب ر‬
‫كس ص ‪38‬‬ ‫ر‬ ‫ن‬
‫التهان يف علوم القرآن للزر ي‬
‫‪ 2‬ر‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪54‬‬
‫الص ـ ـراط ال ـ ــذي س ـ ــألتم الهداي ـ ــة إلي ـ ــه ه ـ ــو الكت ـ ــاب‪ .‬وه ـ ــذا معن ـ ــى حس ـ ــن يظه ـ ــر في ـ ــه ارتب ـ ــاط س ـ ــورة البق ـ ــرة بالفاتح ـ ــة وه ـ ــو ي ـ ــرد س ـ ــؤال الزمخش ـ ــري‬
‫في ذلك‪.‬‬

‫أنواع ارتباط اآلية بعضها ببعض ‪:‬‬

‫ذكـ ـ ــر اآليـ ـ ــة بعـ ـ ــد األخـ ـ ــرى إمـ ـ ــا أن يظهـ ـ ــر االرتبـ ـ ــاط بينهمـ ـ ــا لتعلـ ـ ــق الكـ ـ ــالم بعضـ ـ ــه بـ ـ ــبعض وعـ ـ ــدم تمامـ ـ ــه بـ ـ ــاألولى فواضـ ـ ــح وكـ ـ ــذلك إذا كانـ ـ ــت‬
‫الثانية لألولى على جهة التأكيد والتفسير أو االعتراض والتشديد وهذا القسم ال كالم فيه‪.‬‬

‫وإم ـ ــا أال يظه ـ ــر االرتب ـ ــاط ب ـ ــل يظه ـ ــر أن ك ـ ــل جمل ـ ــة مس ـ ــتقلة ع ـ ــن األخ ـ ــرى وأنه ـ ــا خ ـ ــالف الن ـ ــوع اْلب ـ ــدوء ب ـ ــه فإم ـ ــا أن تك ـ ــون معطوف ـ ــة عل ـ ــى‬
‫ما قبلها بحرف من حروف العطف اْلشترك في الحكم أوال‪:‬‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ ُ‬
‫القسـ ـ ــم األول‪ :‬أن تكـ ـ ــون معطوفـ ـ ــة وال بـ ـ ــد أن تكـ ـ ــون بينهمـ ـ ــا جهـ ـ ــة جامعـ ـ ــة علـ ـ ــى مـ ـ ــا سـ ـ ــبق تقسـ ـ ــيمه كقولـ ـ ــه تعـ ـ ــالى {يعل ـ ـ ـم مـ ـ ـا ي ِلـ ـ ـج ِف ـ ـ ـي األر ِ‬
‫ض وم ـ ـ ـا‬
‫ُ‬ ‫ي أخ ـ ـ ـ ُر ُج م أنه ـ ـ ـا وم ـ ـ ـا ي أن ـ ـ ـز ُل مـ ـ ـ ـن ال ّس ـ ـ ـماء وم ـ ـ ـا ي أع ـ ـ ـ ُر ُج فيهـ ـ ـ ـا} وقول ـ ـ ــه {و ّ ُ‬
‫ض وي أب ُس ـ ـ ـط و ِإل أي ـ ـ ـ ِه ُت أرج ُع ـ ـ ـون} وفائ ـ ـ ــدة العط ـ ـ ــف جعلهم ـ ـ ــا ك ـ ـ ــالنظيرين‬ ‫َللا ي أق ـ ـ ـب ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫والشريكين‪.‬‬

‫وق ـ ــد ت ـ ــأتي الجمل ـ ــة معطوف ـ ــة عل ـ ــى م ـ ــا قبله ـ ــا ويش ـ ــكل وج ـ ــه االرتب ـ ــاط فتحت ـ ــاج إل ـ ــى ش ـ ــرح ون ـ ــذكر م ـ ــن ذل ـ ــك ص ـ ــورا يلتح ـ ــق به ـ ــا م ـ ــا ه ـ ــو ف ـ ــي معناه ـ ــا‪:‬‬
‫ورها} البقرة ‪189 :‬‬ ‫أ ُُ‬ ‫أ ٍّ أ أ ُّ أ أ ُ أ ُ ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ّ ُ أ‬ ‫أ‬
‫اس والح ِج وليس ال ِبر ِبأن تأتوا البيوت ِمن ظه ِ‬ ‫فمنها قوله تعالى يسألونك {يسألونك ع ِن األ ِهل ِة قل ِهي موا ِقيت ِللن ِ‬
‫فقد يقال أي رابط بين أحكام األهلة وبين حكم إتيان البيوت والجواب من وجوه‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الحكمة في تمام األهلة ونقصانها‬

‫الثاني ‪ :‬أنه من باب االستطراد ْلا ذكر أنها مواقيت للحج‬

‫الثال ـ ــث‪ :‬أن ـ ــه م ـ ــن قبي ـ ــل التمثي ـ ــل ْل ـ ــا ه ـ ــم علي ـ ــه م ـ ــن تعكيس ـ ــهم ف ـ ــي س ـ ــؤالهم وأن م ـ ــثلهم كمث ـ ــل م ـ ــن يت ـ ــرك باب ـ ــا وي ـ ــدخل م ـ ــن ظه ـ ــر البي ـ ــت فقي ـ ــل له ـ ــم‬
‫ليس البر ما أنتم عليه من تعكيس األسئلة‪.‬‬

‫ض} اآليـ ـ ــة فـ ـ ــإن فيهـ ـ ــا خمـ ـ ــس تخلصـ ـ ــات وذلـ ـ ــك أنـ ـ ــه جـ ـ ــاء بصـ ـ ــفة النـ ـ ــور وتمثيلـ ـ ــه ثـ ـ ــم‬ ‫ور ال ّسـ ـ ـماو ِ أ‬ ‫ومـ ـ ــن أحسـ ـ ــن أمثلتـ ـ ــه قولـ ـ ــه تعـ ـ ــالى { ّ ُ‬
‫َللا ُنـ ـ ـ ُ‬
‫ات واألر ِ‬
‫تخل ـ ــص من ـ ــه إل ـ ــى ذك ـ ــر الزجاج ـ ــة وص ـ ــفاتها ث ـ ــم رج ـ ــع إل ـ ــى ذك ـ ــر الن ـ ــور والزي ـ ــت يس ـ ــتمد من ـ ــه ث ـ ــم ال ـ ــتخلص من ـ ــه إل ـ ــى ذك ـ ــر الش ـ ـجرة ث ـ ــم تخل ـ ــص م ـ ــن‬
‫ذكرها إلى صفة الزيت ثم تخلص من صفة الزيت إلى صفة النور وتضاعفه ثم تخلص منه إلى نعم هللا بالهدى على من يشاء‪.‬‬

‫أنواع املناسبات‪: 1‬‬


‫ً‬
‫‪ -1‬املناسبات في السورة الواحدة‪ ،‬ويتضمن أقساما‪ ،‬ومنها ‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال ‪ :‬اْلناسبة بين أول السورة وخاتمتها ‪:‬‬

‫مثالـ ـ ــه ‪ :‬قولـ ـ ــه ـ تعـ ـ ــالى ـ ‪ :‬فـ ـ ــي أول سـ ـ ــورة البقـ ـ ــرة ‪ {:‬الـ ـ ــذين يؤمنـ ـ ــون بالغيـ ـ ــب ويقيمـ ـ ــون الصـ ـ ــالة وممـ ـ ــا رزقنـ ـ ــاهم ينفقـ ـ ــون} (البقـ ـ ــرة ‪ ،)3 :‬ثـ ـ ــم قـ ـ ــال فـ ـ ــي‬
‫آخ ـ ــر الس ـ ــورة ‪{ :‬آم ـ ــن الرس ـ ــول بم ـ ــا أن ـ ــزل إلي ـ ــه م ـ ــن رب ـ ــه واْلؤمن ـ ــون ك ـ ــل آم ـ ــن ب ـ ــاهلل ومالئكت ـ ــه وكتب ـ ــه ورس ـ ــله}‪( .‬البق ـ ــرة ‪ ،)285 :‬فه ـ ــو ف ـ ــي أول الس ـ ــورة‬

‫ن‬
‫الخرصي‬ ‫‪ . 1‬علم المناسبات ن يف القرآن للدكتور محمد بن عبد العزيز‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪55‬‬
‫يـ ـ ــذكر صـ ـ ــفات اْلتقـ ـ ــين التـ ـ ــي يتميـ ـ ــزون بهـ ـ ــا وفـ ـ ــي آخـ ـ ــر السـ ـ ــورة يبـ ـ ــين أن الرسـ ـ ــول صـ ـ ــلى هللا عليـ ـ ــه وسـ ـ ــلم والـ ـ ــذين آمنـ ـ ــوا معـ ـ ــه قـ ـ ــد امتثلـ ـ ــوا تلـ ـ ــك‬
‫الصفات وتحلوا بها‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬اْلناسبة بين اآلية والتي تليها ‪:‬‬

‫مـثـالـ ـ ـ ــه ‪ :‬قول ـ ـ ــه ـ تع ـ ـ ــالى ـ ‪{ :‬إي ـ ـ ــاك نعب ـ ـ ــد وإي ـ ـ ـاك نس ـ ـ ــتعين}‪( .‬الفاتح ـ ـ ــة ‪ ،)5 :‬فإن ـ ـ ــه ْل ـ ـ ــا ذك ـ ـ ــر ف ـ ـ ــي أول الس ـ ـ ــورة استحق ـ ـ ــاق هللا ـ تـع ـ ـ ــالى ـ لك ـ ـ ــل املحام ـ ـ ــد‪،‬‬
‫ً‬
‫وكون ـ ــه رب ـ ــا للع ـ ــاْلين‪ ،‬وه ـ ــو ال ـ ــرحمن ال ـ ــرحيم‪ ،‬وه ـ ــو م ـ ــع ك ـ ــل ه ـ ــذا اْلل ـ ــك اْلتص ـ ــرف ف ـ ــي الي ـ ــوم ال ـ ــذي ال مل ـ ــك في ـ ــه ألح ـ ــد إال هلل‪ .‬ك ـ ــان م ـ ــن ش ـ ــأن ك ـ ــل‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عاق ـ ــل أن ُيق ِب ـ ـل عل ـ ــى م ـ ـ أن ه ـ ــذه صـفـات ـ ـ ــه وتل ـ ــك عظمت ـ ــه معترف ـ ــا بالعبودي ـ ــة ل ـ ــه وال ـ ــذل الكام ـ ــل لجناب ـ ــه العظ ـ ــيم ملتجئ ـ ــا إلي ـ ــه طالب ـ ــا من ـ ــه الع ـ ــون‬
‫واْل ـ ــدد‪ ،‬ث ـ ــم إن ـ ــه ْل ـ ــا حم ـ ــد وأثن ـ ــى وم ٍّج ـ ـد واعت ـ ــرف بالعبودي ـ ــة ناس ـ ــب أن يستش ـ ــرف للطل ـ ــب م ـ ــن ذل ـ ــك ال ـ ــرب اْلس ـ ــتعان‪ ،‬فيق ـ ــول ‪{ :‬اه ـ ــدنا الص ـ ـراط‬
‫اْلستقيم}‪( .‬الفاتحة ‪.)6 :‬‬
‫ً‬
‫ثالثا ‪ :‬اْلناسبة بين حكمين في اآليات أو اآلية ‪:‬‬

‫وذل ـ ــك كم ـ ــا ف ـ ــي آي ـ ـ ــات االس ـ ــتئذان ح ـ ــين أعقبه ـ ــا باألمـ ـ ــر بغ ـ ــض البص ـ ــر؛ ف ـ ــإن االسـ ـ ــتئذان إنم ـ ــا جعـ ـ ــل م ـ ـ ــن أج ـ ـ ــل أن ال يق ـ ــع بص ـ ــر اْلس ـ ــتأذن علـ ـ ــى‬
‫ع ـ ــورة‪ ،‬ول ـ ــو ص ـ ــادف أن وق ـ ــع ف ـ ــإن عل ـ ــى اْلس ـ ــتأذن أن يـغ ـ ـ ــض البص ـ ــر‪ ،‬ث ـ ــم إن العالق ـ ــة ب ـ ــين الحكم ـ ــين ٍِّبين ـ ــة؛ إذ فيهم ـ ــا ذك ـ ــر م ـ ــا تكـ ـ ـون ب ـ ــه العف ـ ــة‬
‫وحفظ العورات في املجتمع اْلسلم‪.‬‬

‫واْلناسبة بين األمر بحفظ الفرج واألمر بغض البصر تقدمت ـ فيما سبق ـ‪ ،‬وهما حكمان في آية واحدة‪.‬‬
‫ً‬
‫رابعا‪ :‬اْلناسبة بين اسم السورة ومضمونها ‪:‬‬

‫مثال ـ ــه ‪ :‬اْلناس ـ ــبة ب ـ ــين مض ـ ــمون س ـ ــورة الكه ـ ــف واس ـ ــمها؛ ف ـ ــإن الس ـ ــورة ق ـ ــد ذك ـ ــرت أن ـ ــواع ال ف ـ ــتن الت ـ ــي تم ـ ــر ب ـ ــاْلرء؛ إذ ذك ـ ــرت فيه ـ ــا الفتن ـ ــة ف ـ ــي ال ـ ــدين‬
‫ف ـ ــي قص ـ ــة الفتي ـ ــة‪ ،‬وفتن ـ ــة الجلس ـ ــاء ف ـ ــي قول ـ ــه ‪﴿ :‬واص ـ ــبر نفس ـ ــك م ـ ــع ال ـ ــذين ي ـ ــدعون ربه ـ ــم بالغ ـ ــداة والعشـ ـ ـ ي﴾‪( .‬الكه ـ ــف ‪ ،)28 :‬وفـتـنـ ـ ـ ــة اْل ـ ــال ف ـ ــي‬
‫قص ـ ــة ص ـ ــاحب الجنت ـ ــين‪ ،‬وفتن ـ ــة العل ـ ــم فـ ـ ــي ق ـصـ ـ ــة مـوس ـ ــى والخـض ـ ـ ــر‪ ،‬وفتن ـ ــة الس ـ ــلطان ف ـ ــي قص ـ ــة ذي الق ـ ــرنين‪ ،‬وفتن ـ ــة الق ـ ــوة والكث ـ ــرة ف ـ ــي خب ـ ــر‬
‫يأجوج ومأجوج‪ ،‬وذكرت هذه السورة املخرج من كل واحدة من هذه الفتن؛ فكأنها كهف ْلن اعتصم بها من الفتن‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -2‬املناسبات بين السورتين ‪ :‬ويتضمن أقساما منها ‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال ‪ :‬اْلناسبة بين فاتحة السورة وخاتمة التي قبلها ‪:‬‬

‫مثال ـ ـ ــه ‪ :‬ف ـ ـ ــي آخ ـ ـ ــر س ـ ـ ــورة الط ـ ـ ــور ق ـ ـ ــال ‪ ﴿ :‬وم ـ ـ ــن اللي ـ ـ ــل فس ـ ـ ــبحه وإدب ـ ـ ــار النج ـ ـ ــوم﴾ (الط ـ ـ ــور ‪ ،)49 :‬وف ـ ـ ــي أول س ـ ـ ــورة ال ـ ـ ــنجم ق ـ ـ ــال ‪ ﴿:‬وال ـ ـ ــنجم إذا‬
‫هوى﴾‪( .‬النجم ‪.)1 :‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬اْلناسبة بين مضمون السورة والتي تليها ‪:‬‬

‫مثاله ‪ :‬في سورة الضحى ذكر للـنـعـم الحـسـيـة على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وفي سورة الشرح ذكر للنعم اْلعنوية عليه‪.‬‬

‫‪ -3‬مـنـاسبات عامة ‪:‬‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫وهي اْلناسبات التي يذكرها العلماء مطلقة في القرآن وهي كثيرة جدا أذكر منها نموذجا للبيان‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪56‬‬
‫‪ُ -‬‬
‫افتتحـ ـ ــت سـ ـ ــورتان بقولـ ـ ــه ‪﴿ :‬ي ـ ـ ــا أيهـ ـ ــا النـ ـ ــاس ﴾‪ ،‬وهم ـ ـ ــا ‪ :‬سـ ـ ــورتا النسـ ـ ــاء‪ ،‬والح ـ ـ ــج‪ ،‬وذكـ ـ ــر فـ ـ ــي األول ـ ـ ــى بـ ـ ــدء الخلـ ـ ــق والحي ـ ـ ــاة لإلنسـ ـ ــان ‪ ﴿:‬يـ ـ ــا أيـهـ ـ ـ ــا‬
‫الن ـ ــاس اتق ـ ــوا ربك ـ ــم ال ـ ــذي خلقك ـ ــم م ـ ــن نف ـ ــس واح ـ ــدة وخل ـ ــق منه ـ ــا زوجه ـ ــا وب ـ ــث منهم ـ ــا رج ـ ــاال كثي ـ ـرا ونس ـ ــاء﴾‪( .‬النس ـ ــاء ‪ ،)1 :‬وف ـ ــي س ـ ــورة الح ـ ــج ذك ـ ــر‬
‫لنهاية هذه الحياة وبداية حياة أخرى ‪﴿ :‬يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة ش يء عظيم﴾‪( .‬الحج ‪.)1 :‬‬

‫نموذج لتناسب السور من الكتاب‪( ،‬البرهان في تناسب سور القرآن)‬

‫سورة أم القرآن ‪:‬‬

‫ق ـ ــد ذك ـ ــر الن ـ ــاس كيفي ـ ــة تض ـ ــمنها مجم ـ ــال ْل ـ ــا تفص ـ ــل ف ـ ــي الكت ـ ــا ب العزي ـ ــز بجملت ـ ــه‪ ،‬وه ـ ــو أوض ـ ــح وج ـ ــه ف ـ ــي تق ـ ــدمها س ـ ــوره اْلكرم ـ ــة‪ ،‬ث ـ ــم (ه ـ ــي)‬
‫ممـ ـ ــا يلـ ـ ــزم اْلسـ ـ ــلم حفظـ ـ ــه‪ ،‬وال بـ ـ ــد للمصـ ـ ــلي مـ ـ ــن قراءتهـ ـ ــا‪ ،‬ثـ ـ ــم افتتاحهـ ـ ــا بحمـ ـ ــد هللا سـ ـ ــبحانه وقـ ـ ــد شـ ـ ــرع فـ ـ ــي ابتـ ـ ــداءات األمـ ـ ــور‪ ،‬وأوضـ ـ ــح الشـ ـ ــرع‬
‫فضـ ـ ــل ذلـ ـ ــك‪ ،‬واخـ ـ ــذ بـ ـ ــه دـ ـ ــل خطيـ ـ ــب ومـ ـ ــتكلم‪ ،‬وفيهـ ـ ــا تعقيـ ـ ــب الحمـ ـ ــد (لـ ـ ــه) سـ ـ ــبحانه بـ ـ ــذكر صـ ـ ــفاته الحسـ ـ ــنى‪ ،‬واإلشـ ـ ــارة إلـ ـ ــى إرسـ ـ ــال الرسـ ـ ــل فـ ـ ــي‬
‫قول ـ ـ ــه‪{ :‬اه ـ ـ ــدنا}[ الفاتح ـ ـ ــة‪ ،]6 :‬وقول ـ ـ ــه ‪{ :‬ص ـ ـ ـراط ال ـ ـ ــذين أنعم ـ ـ ــت عل ـ ـ ــيهم} [الفاتح ـ ـ ــة‪ ،] ۷ :‬وق ـ ـ ــد ق ـ ـ ــال تع ـ ـ ــالى‪{ :‬أولئ ـ ـ ــك ال ـ ـ ــذين ه ـ ـ ــدى هللا في ـ ـ ــداهم‬
‫اقت ـ ـ ـ ــده}[ األنعـ ـ ـ ـ ــام‪ ،] 90:‬وذك ـ ـ ـ ــر افتـ ـ ـ ـ ـراق الخل ـ ـ ـ ــق بـ ـ ـ ـ ــذكر اْلهت ـ ـ ـ ــدين وذكـ ـ ـ ـ ــر اْلغض ـ ـ ـ ــوب علـ ـ ـ ـ ــيهم والض ـ ـ ـ ــالين‪ ،‬وأن مـ ـ ـ ـ ــالك اله ـ ـ ـ ــدی بیـ ـ ـ ـ ــده‪{ :‬وإيـ ـ ـ ـ ــاك‬
‫نستعين}[الفاتحة ‪ .]5‬وهذا كله أشفى ش يء في بيان (وجه) التقديم‬

‫سورة البقرة ‪:‬‬

‫نبه ـ ــوا عل ـ ــى اإلخ ـ ــالص‪ ،‬وأن يك ـ ــون ق ـ ــولهم‪{ :‬اه ـ ــدنا} ص ـ ــادرا ع ـ ــن يق ـ ــين وإخ ـ ــالص‪ ،‬حت ـ ــى ال يش ـ ــبهوا م ـ ــن يقول‪{:‬ءامن ـ ــا ب ـ ــاهلل وب ـ ــاليوم اآلخ ـ ــر وم ـ ــا‬
‫ه ـ ــم بم ـ ــؤمنين}[البقرة ‪ ،]8 :‬وبس ـ ــط له ـ ــم م ـ ــن ح ـ ــال ه ـ ــؤالء ف ـ ــي ث ـ ــالث عش ـ ــرة آي ـ ــة م ـ ــا يوض ـ ــح له ـ ــم طري ـ ــق اله ـ ــدى الواض ـ ــح إذا ح ـ ــذروا م ـ ــن (ش ـ ــكوك)‬
‫هؤالء وحيرتهم فقالوا‪ :‬اهلنا عن يقين وإخالص‪.‬‬

‫ثـ ـ ــم أعقـ ـ ــب ذلـ ـ ــك بـ ـ ــذكر الـ ـ ــدالئل اْلشـ ـ ــاهدة ‪ :‬مـ ـ ــن جعـ ـ ــل األرض فراشـ ـ ــا والسـ ـ ــماء بنـ ـ ــاء‪ ،‬وإنـ ـ ـزال اْلـ ـ ــاء‪ ،‬وإخـ ـ ـراج النبـ ـ ــات‪ ،‬وذلـ ـ ــك كلـ ـ ــه أمـ ـ ــر‬
‫مشـ ـ ــاهد يصـ ـ ــل إليـ ـ ــه كـ ـ ــل عاقـ ـ ــل بـ ـ ــأول وهلـ ـ ــة‪ ،‬ثـ ـ ــم أعقـ ـ ــب بابتـ ـ ــداء الخلـ ـ ــق‪ ،‬وهـ ـ ــو قولـ ـ ــه تعـ ـ ــال ‪{ :‬وإذ قـ ـ ــال ربـ ـ ــك للمالئكـ ـ ــة إنـ ـ ــي جاعـ ـ ــل فـ ـ ــي األرض‬
‫خليفـ ـ ـ ــة} [البقـ ـ ـ ــرة ‪( ، ]۳۰ :‬وذلـ ـ ـ ــك كلـ ـ ـ ــه) مبـ ـ ـ ــين لقولـ ـ ـ ــه ‪ :‬أنـ ـ ـ ــه {هلل رب العاْلين}[الفاتحـ ـ ـ ــة‪{ ،]۲ :‬مالـ ـ ـ ــك يـ ـ ـ ــوم الـ ـ ـ ــدين} [الفاتحـ ـ ـ ــة‪ ] 4 :‬إذ مـ ـ ـ ــن البـ ـ ـ ــدأة‬
‫تعلم العودة ْلن تدبر‪ ،‬وقد نبه تعال بتكرر النبات‪.‬‬

‫ث ـ ـ ــم ذك ـ ـ ــر أح ـ ـ ــوال بن ـ ـ ــي إس ـ ـ ـرائيل وإمه ـ ـ ــالهم عل ـ ـ ــى مرتكب ـ ـ ــاتهم‪ ،‬ومع ـ ـ ــاملتهم ب ـ ـ ــالعفو واإلقال ـ ـ ــة‪ ،‬وذل ـ ـ ــك م ـ ـ ــن س ـ ـ ــعة رحمت ـ ـ ــه‪ ،‬وأعل ـ ـ ــم تع ـ ـ ــالى أن‬
‫أفع ـ ـ ــالهم تل ـ ـ ــك مم ـ ـ ــا أعق ـ ـ ــبهم أن ض ـ ـ ــربت عل ـ ـ ــيهم الذل ـ ـ ــة واْلس ـ ـ ــكنة وب ـ ـ ــاؤوا بغض ـ ـ ــب م ـ ـ ــن هللا‪ ،‬تح ـ ـ ــذيرا ْل ـ ـ ــن طل ـ ـ ــب س ـ ـ ــلوك الطري ـ ـ ــق اْلس ـ ـ ــتقيم م ـ ـ ــن‬
‫ح ـ ـ الهم‪ ،‬وإعالم ـ ــا لعب ـ ــاده أن اْلتق ـ ــين اْلس ـ ــتجاب له ـ ــم عن ـ ــد ق ـ ــولهم‪( :‬اه ـ ــدنا)‪ ،‬ليس ـ ــوا ف ـ ــي ش ـ ـ يء م ـ ــن ذل ـ ــك‪ ،‬ألنه ـ ــم ق ـ ــالوا‪ :‬اه ـ ــدنا ع ـ ــن يق ـ ــين وإخ ـ ــالص‬
‫متبرئين من الدعاوی‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪57‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫القرآن الكريم هو كالم هللا الذي نزل به الروح األمين على قلب رسول هللا محمد بن عبد هللا بألفاظه العربية ومعانيه الحقة ليكون حجة‬
‫للرسول هللا ودستورا للناس يهتدون بهذه وقربة يتعبدون بتالوته‪.‬‬

‫وفي هذا البحث سنتحدث عن دراسة تحليلية لبعض سور‪ ،‬واْلقصود بهذه الدراسة هي دراسة عن صياغة القرآن الكريم‪ ،‬مثل‪( :‬صيغة‬
‫النداء‪ ،‬وصيغة األمر‪ ،‬وصيغة النهي وغير ذلك)‪.‬‬
‫ّ ُ‬ ‫ۖ‬ ‫ٓ ُّ ّ‬
‫ۡ‬ ‫أ‬ ‫أ ّ ُّ‬ ‫ٗ‬
‫ضع ٗفا ُّمضعفة و ّٱت ُقوا ٱلِل لعلك ۡم ُت ۡف ِل ُحون (‪ )130‬و ّٱت ُقوا ٱ ّلنار ٱل ِت ٓي أ ِع ّد ۡت ِللك ِف ِرين (‪)131‬‬ ‫ٱلرب ٓو أا أ ۡ‬‫ُ أ ۡ ُ ُ أ ٍّ‬
‫قال تعالى‪ ﴿ :‬يأيها ٱل ِذين ءامنوا ال تأكلوا ِ‬
‫ۡ‬ ‫ّ ُ ۡ ۡ ُ ُ‬ ‫ٱلر ُسول لع ّل ُك ۡم ُت ۡرح ُمون (‪۞ )132‬وسار ُع ٓو أا إلى م ۡغفرة ٍّمن ّرٍّب ُك ۡم وج ّنة ع ۡر ُ‬ ‫ُ أ ّ‬
‫ض أ ِع ّد ۡت ِلل ُم ّت ِقين (‪[ ﴾)133‬سورة آل‬ ‫ضها ٱلسموت وٱألر‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ٖ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ٱلِل و ّ‬ ‫وأ ِطيعوا‬
‫عمران‪.]133-130 :‬‬

‫بدأت هذه اآليات الكريمة بالنداء لتنبيه‪ ،‬وإيقاظ اْلشاعر‪ ،‬واألحاسيس‪ .‬وقد أثر حرف النداء (يا) اْلوضوع لنداء البعيد‪ ،‬وهللا عز وجل‬
‫أقرب إلى عباده من حبل الوريد‪ ،‬لإليذان بأن الخطاب الذي يتلوه معنى به جدا‪ ،‬فإن نداء القريب قد وضع له (أي) والهمزة‪ ،‬فإذا استخدم في ندائه‬
‫(يا) فقد يكون ذلك لتنبيه على أنه قد سها وغفل‪ ،‬فنزل لغفلته منزلة البعيد‪ ،‬وقد يكون فطنا غير غافل‪ ،‬ولكن األمر اآلتي بعد النداء من األمور‬
‫اْلهمة اْلعنى بها‪ ،‬فتستخدم (يا) لتنبيه إلى ذلك وتلفت إليه‪ ،‬كما في اآلية الكريمة‪ ،‬وقد كثر في القرآن الكريم النداء على هذه الطريقة ألن كل ما نادى‬
‫هللا له عباده من أوامر ونواهي‪ ،‬وعظات وزواجر‪ ،‬ووعد ووعيد‪ ،‬ونحو ذلك مما أنطق به كتابه‪ ،‬أمور عظام‪ ،‬ومعان ينبغي أن يتي ّقظوا لها‪ ،‬ويميلوا‬
‫بقلوبهم وبصائرهم إليها‪.‬‬

‫و(أي) وصلة إلى نداء ما فيه األلف والالم‪ ،‬وهو الذي يعمل فيه حرف النداء واالسم التابع له صفته‪ ،‬وهو ال ينفك عنها‪ ،‬وال يستقل‬
‫بنفسه‪ْ ،‬لا فيه من إبهام تجليه هذه الصفة‪ ،‬وفي هذا التدرج من اإلبهام إلى التوضيح ضرب من التوكيد والتنبيه‪.‬‬

‫و(ها) كلمة تنبيه مقحمة بين الصفة وموصوفها‪ ،‬وهي تقوي حرف النداء (يا) لتقارب بهما في اْلعنى‪ ،‬فحرف النداء فيه تنيبه وإيقاظ‬
‫للمدعو‪ ،‬وحرف التنبيه (ها) مما يقوي ذلك اإليقاظ ويؤكده‪.‬‬

‫وبعد أن نبه النداء وأيقظ اْلشاعر وهيأ النفوس للتلقى توالي النهي واألمر‪(( :‬وال تأكلوا الربا … واتقوا هللا … واتقوا النار … وأطيعوا هللا‬
‫والرسول … وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة …))‪.‬‬

‫والنفوس عند ما تتلقى هذه األوامر والنواهي‪ ،‬وهي مهيأة يقظة يكون ذلك أدعى للقبول واإلجابة وسرعة االمتثال‪.‬‬

‫وفي تقديم النهي عن الربا على تلك األوامر اْلذكورة إيذان بشدة خطره‪ ،‬ومبالغة في تحريمه وخطره‪ ،‬ألنه كان شائعا إذ ذاك ولذا خص‬
‫بالنهي هنا دون غيره من سائر ما نهى عنه في موضوع أخرى من آيات الذكر الحكيم‪.‬‬

‫وقد قيـد النهي عن الربا بكونه أضعافا مضاعفة‪ ،‬وال يعني تقييد النهي عن أكل الربا بذلك القيـد (أضعافا مضاعفة) أن أصـل الربا غير‬
‫منهي عنه‪ ،‬وأنه إذا لم يكن أضعافا مضاعفة جـاز أكله‪ ،‬وإنما اْلراد النهي اْلطلق‪ ،‬وقد جيء بالقيـد للتنفير والداللة على التبشيع‪ ،‬وهذا شائع في‬
‫كالمهم‪ ،‬يقولون‪ :‬ال تضيع حق جـارك الصالح‪ ،‬ال تضيع دينـك بكسرة خبر‪ ،‬وهم ال يريدون بذلك إباحة تضييع حق الجـار غير الصالح‪ ،‬وجواز إضاعة‬
‫الدين إذا غال ثمنه‪ ،‬وإنما يريدون حث املخاطب على التمسك بدينه‪ ،‬وحفظ حقوق جـاره مطلقا‪ ،‬وقد جيء بالقيـد ليكون املخاطب أكثر استجابة‬
‫وأسرع انقيادا‪ْ ،‬لا في التقييـد من تقبيح يدعو إلى النفور واالبتعاد وسرعة االستجابة ‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪58‬‬
‫وبعـد أن هيئت النفوس هـذه التهيئة‪ ،‬وكان ما رأيت من حث وإيقاظ وتنبيـه‪ ،‬وأصبحت النفوس مهيأة لإلصغاء ومتطلعة ْلـا سيلقى إليهـا‪،‬‬
‫توالت هذه األساليب‪( :‬ال تأكلوا الربا أضعافا مضـاعفة واتقوا هللا لعلكم تفلحـون‪ ،‬واتقوا النار التي أعدت للكافرين‪ ،‬وأطيعوا هللا والرسول لعلكم‬
‫ترحمون‪ ،‬وسارعوا إلى مغفـرة من ربكم وجنـة ‪ )..‬وهي أساليب إنشائيةـ كما ترى بدأت بالنهي (ال تأكلوا) ثم عطفت عليـه تلك األوامـر (اتقوا هللا ‪ ...‬اتقـوا‬
‫النار ‪ ...‬أطيعوا هللا والرسـول ‪ ...‬سارعوا ‪ )...‬فالوصـل بين النـار هذه الجمل للتوسط بين الكمالين‪ ،‬مع عدم اْلانع من الوصل‪ ،‬ووجود اْلناسبة اْلسوغة‬
‫له‪ ،‬حيث اتفقت في كونها إنشائية لفظا ومعنى‪.‬‬

‫وقد اقترن الرجـاء باألمر في قوله تعالى‪( :‬واتقوا هللا لعلكم تفلحون)‪ .‬وفي قوله عز وجل‪( :‬وأطيعوا هللا والرسول لعلكم ترحمون) فلعل‬
‫موضوعة للترجي أو لإلشفاق‪ ،‬بمعنى أنهـا موضوعة إلنشاء توقع أمر مرغوب فيه أو مرهوب منه‪ .‬فاألول الترجي كقولك‪ :‬لعـل هللا يرحمنا‪ ،‬والثاني‬
‫اإلشفاق كقولك‪ :‬لعل الساعة آتية‪.‬‬

‫ولعـل في اآليتين للترجي‪ ،‬واقتران الرجاء باألمر في اْلوضعين يفيد أن اْلؤمن ينبغي أن يكون دائمـا بين الرجـاء والخوف‪ ،‬يخضع ألمر هللا‬
‫ويستجيب له‪ ،‬ويحـذر املخالفة‪ ،‬فيتجنب النهي‪ ،‬وهو في نفس الوقت يطمع في كرم هللا‪ ،‬فيرجو الفالح‪ ،‬ويرجو رحمة ربه‪.‬‬

‫وقد فصـل بين جملتي‪( :‬اتقوا هللا‪ ،‬لعلكم تفلحون) وكذا بين جملتي (اطيعوا هللا والرسـول‪ ،‬لعلكم ترحمون) لالستئناف البياني اْلسمى‬
‫بشبه كمال االتصـال‪ ،‬حيث تضمنت الجملة األولى في كل منهما سؤاال ووقعت الثانيـة جوابا له‪ ،‬وكان سائال سـأل‪ :‬لم يتق اْلؤمـن ربه‪ ،‬ويطيع هللا‬
‫ورسوله؟ مـا جزاؤه؟ وما الذي يرجوه؟ فـجـاء الجواب‪ :‬لعلكم تفلحون ‪ ..‬لعلكم ترحمون‪.‬‬

‫ووصفت النـار بقوله عـز وجـل‪( :‬التي أعـدت للكافرين) للمبالغة في التخويف والتحذير‪ ،‬وقد قالوا‪ :‬هذه أخـوف آية في القرآن‪ ،‬حيث توعـد‬
‫هللا اْلؤمنين بالنار اْلعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه‪.‬‬

‫والتعبير بالفعل اْلاض ي (أعـدت) يدل على أن النـار مخلوقة ومعدة للكفار منذ قديم‪ ،‬وكذلك الجنة‪ ،‬كما سياتي في قوله تعالى‪( :‬وجنة‬
‫عرضها السموات واألرض أعـدت للمتقين)‪.‬‬

‫وحذف الفاعل في قوله تعالى‪( :‬اعدت للكافرين) لوضوحه والعلم به‪ ،‬كما يدل هـذا الحذف وبناء الفعل للمفعول على تهـويل العـذاب‬
‫وتفخيمه‪ ،‬وينبىء بأن النار قد أعد فيها من صنوف العذاب ماال يحيط به الوصف‪ ،‬ومـا يذهل أمامه العقـل‪ ،‬فيشغل غمن أعـده‪ ،‬وال يتطلع إلى‬
‫معرفته‪ ،‬وكذا القول في حذف الفاعل‪ ،‬وبنـاء الفعل للمفعول في قوله‪( :‬أعدت للمتقين) فهو يدل على التعظيم والتفخيم‪ ،‬وينبىء بأن الجنـة قـد أعد‬
‫فيها للمؤمنين‪ ،‬ما ال عين رأت‪ ،‬وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر‪ ،‬فاملخاطب يشغله ذلك النعيم‪ ،‬ويأخذه فال يسأل عمن أعـده‪ ،‬وال يشغل به‪.‬‬

‫وفي قوله تعالى‪( :‬وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنـة عرضها السموات واألرض) عبر بالفعل (سارع) حثا على اإلقبال واْلبادرة واْلنافسة‬
‫«وفي ذلك فليتنافس اْلتنافسون» (‪ )۱۲‬فليس اْلراد مجرد اإلسراع الجنة ذات ا‪ ،‬إلى تحصيل أسباب ما‪ ،‬وفي هذا من اْلبالغة واإلقبـال‪ ،‬وإنمـا اْلـراد‬
‫اْلنافسة في تحقيـق مـا أمـروا به وتحصيله‪ ،‬وكان اْلعنى‪ :‬فليسـارع بعضكم بعضا إلى ذلك الخـير وليسابق بعضكم بعضا إلى تحصيله والفوز به‪.‬‬

‫واْلسارعة اْلأمور بها مسارعة إلى تحصيل أسباب اْلغفرة‪ ،‬وأسباب الفوز بالجنة من اإليمان واألعمال الصالحة‪ ،‬فاْلعنى على حـذف‬
‫مضاف‪ ،‬والتقدير‪ :‬سارعوا إلى أسبابهما‪ ،‬وفي هـذا الحذف حث على اْلبادرة واالمتثال‪ ،‬فهو يجعل اْلسارعة إلى مغفرة هللا‪ ،‬وإلى الجنـة ذاتها‪ ،‬ال إلى‬
‫تحصيل أسبابهما‪ ،‬وفي هذا من اْلبالغة في الحث على االمتثال ما فيه‪.‬‬

‫ونكرت كل من اْلغفرة والجنة في قوله‪( :‬إلى مغفرة من ربكم وجنـة) للداللة على التعظيم‪ ،‬ويؤكد هـذا اْلعنى ‪-‬معنى التعظيم‪ -‬وصف كل‬
‫منهما بما وصفت به‪ ،‬فقد وصفت اْلغفرة بأنها من الـرب (من ربكم) وفي ذكر معنى الربوبية وإضافتها إلى املخاطبين إظهـار ْلزيـد اللطف بهم‪ ،‬والتجـاوز‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪59‬‬
‫عن سيئات التائبين‪ ،‬وغفران ذنوبهم كما وصفت الجنـة بقوله تعالى‪( :‬عرضها السموات واألرض)‪ ،‬فهذان الوصـفـان يـؤكدان معنى التعظيم الذي دل‬
‫عليـه تنكير كل من اللفظين‪.‬‬

‫وقدمت اْلغفرة على الجنة في قوله (مغفرة من ربكم وجنـة) ألن غفران الذنوب والتجاوز عن السيئات أولى‪ ،‬فاإلنسان يتطلع إلى دفع مـا‬
‫يضره‪ ،‬ويحرص على أن يتم أوال‪ ،‬ثم يكون ثانيـا دخـول الجنة‪ ،‬وهم يقولون ‪ :‬إن درء اْلضار مقدم على جلب اْلنافع‪ ،‬والتخلية مقدمة على التحليـة‪.‬‬

‫والتشبيه في قوله تعالى‪( :‬عرضها السموات واألرض) تشبيه بلیغ‪ ،‬حذفت أداته‪ ،‬ووجـه الشبه‪ ،‬كما حـذف اْلضاف في اْلشبه به‪ ،‬والتقدير‪:‬‬
‫عرضها كعرض السموات واألرض في السعة والبسطة‪ ،‬واْلراد من التشبيه وصف الجنة بالسعة والبسطة‪ ،‬وقـد بولغ في هـذا الوصف من عـدة جهات‪:‬‬
‫‪ - 1‬كون التشبيه بليغـا قد حذفت اداته ووجهه‪.‬‬
‫‪ - ۲‬حـذف اْلضاف من اْلشبه به‪ ،‬إذ التقدير‪ :‬وجنة عرض ا كعرض السموات واألرض‪.‬‬
‫‪ - 3‬التعبير بالعـرض دون الطول‪ ،‬وقد جرت العادة بأن العرض أدنى من الطول‪ ،‬فإذا كان عرضها السموات واألرض‪ ،‬فما بالك بطولها؟ والعرب كثيرا‬
‫ما تصف الش يء بالعرض إذا أرادوا اْلبالغة في وصفه بالسعة‪ ،‬فهم يقولون‪ :‬أعرض في اْلكارم‪ ،‬يريدون‪ :‬توسع فيها وبالغ في تحصيلها‪.‬‬

‫وبجانب آخر سنتحدث عن بعض الكلمات التي ذكرفي القرآن الكريم وتعطي عدة معاني‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫وجد في القرآن ألفاظ الحمار في خمسة مواقع منها سورة البقرة وسورة النحل وسورة لقمان وسورة الجمعة وسورة اْلدثر‪ .‬لفظ الحمار‬
‫موضوع هذا البحث ٍّ‬
‫ألن كان فيها نظام الرمز ويملك اْلعنى الحقيقي واْلعنى اْلدلولي‪ .‬ابتداءا من هذه النقطة‪ ،‬نستطيع أن نفهم أن في لغة القرآن‬
‫هناك نظام الرمز‪ .‬واألدوات التحليل اْلناسبة في دراسة النظام الرمز في إحدى اللغة هي دراسة السيميائية‪ .‬بناء من ذلك األساس التفكير‪ ،‬أعد هذا‬
‫البحث في تحليل السيميائية عن لفظ الحمار في القرآن الكريم‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬تهدف هذه الدراسة في معرفة اْلعنى الداللية عن لفظ الحمار في‬
‫القرآن الكريم‪ .‬مع االفتراضات أولية أن اْلعنى األساس ي اْلعجمي لفظ الحمار هو اْلواش ي‪ ،‬واستخدم هذا اللفظ في القرآن الكريم في اْلعنى التشبيه‪.‬‬

‫ينفذ هذا البحث بمنهج الوصفي التحليلي بطريقة وصف الحقائق موجودة في موضوع البحث و التحليل الواضح عنها بنظرية السيميائية‪.‬‬
‫واستخدم الباحث قراءة اْلشجع )‪ (heuristic‬في تحليل البيانات اْلوجودة‪ .‬واْلراحل تحليل عن قراءة استدالل هي يبدء بتحليل اللغوية (تشمل على‬
‫تحليل النحوية‪ ،‬والصرفية‪ ،‬و داللية) واستمر إلى تحليل السياقية‪.‬‬

‫والنتيجة هذا البحث هو أن لفظ الحمار في القرآن الكريم ورد في خمسة مواضع وهي‪:‬‬
‫ۡ ۡ ۖ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ۖ‬ ‫‪﴿ -‬أ ۡو ك ّٱلذي م ّر على ق ۡرية وهي خاوية على ُع ُروشها قال أ ّنى ُي ۡحيۦ هذه ّ ُ‬
‫ٱلِل ِمائة ع ٖام ث ّم بعث ُ ۥۖه قال كم ل ِبثت قال‬ ‫ٱلِل ب ۡعد م ۡوتها فأمات ُه ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٖ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُۡ‬ ‫ۖ‬ ‫ّ‬ ‫ٗ ٍّ‬ ‫ۡ‬ ‫ُۡ‬ ‫ّ ۡۖ‬ ‫ۡ‬ ‫ُۡ‬ ‫ّ ۡ أ‬ ‫ۖ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ً‬ ‫ۡ ُ ۡ‬
‫اس وٱنظر‬ ‫ل ِبثت يوما أو بعض يو ٖم قال بل ل ِبثت ِمائة ع ٖام فٱنظر ِإلى طع ِامك وشر ِابك لم يتسنه وٱنظر ِإلى ِحم ِارك وِلنجعلك ءاية ِللن ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِۚ‬ ‫ُ ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬
‫نش ُزها ث ّم نك ُسوها ل ۡح ٗما فل ّما تب ّين ل ُ ۥه قال أ ۡعل ُم أ ّن ٱلِل على ك ِ ٍّل ش ۡي ٖء ق ِد ‪ٞ‬ير (‪[ ﴾)259‬سورة البقرة‪.]259 :‬‬ ‫ِإلى ٱل ِعظ ِام ك ۡيف ن ِ‬
‫ِٗۚ ۡ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬
‫‪﴿ -‬وٱلخ ۡيل وٱل ِبغال وٱلح ِمير ِلت ۡرك ُبوها و ِزينة ويخل ُق ما ال ت ۡعل ُمون﴾ [سورة النحل‪.]8 :‬‬
‫ۡ‬ ‫ض من ص ۡو ِت ِۚك إ ّن أنكر ۡٱأل ۡ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ۡ‬
‫صو ِت لص ۡو ُت ٱلح ِم ِير﴾ [سورة لقمان‪.]9 :‬‬ ‫ِ‬ ‫‪﴿ -‬وٱق ِصد ِفي مش ِيك وٱغض ۡ ِ‬
‫ٱلِل و ّ ُ‬
‫ٱلِل ال ي ۡه ِدي‬ ‫ارا ب ۡئس مث ُل ٱ ۡلق ۡوم ّٱلذين ك ّذ ُب أوا بئايت ّ ِۚ‬ ‫ۡ ُ ۡ ُۢ ِۚ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ ٍّ ُ أ ّ ۡ ُ ّ ۡ ۡ ُ‬ ‫ُ ّ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫‪ ﴿ -‬مثل ٱل ِذين ح ِملوا ٱلتورىة ثم لم يح ِملوها كمث ِل ٱل ِحم ِار يح ِمل أسف ِ‬
‫ّ‬ ‫ۡ‬
‫ٱلق ۡوم ٱلظ ِل ِمين (‪[ ﴾ )5‬سورة الجمعة‪.]5 :‬‬
‫‪ٞ‬‬ ‫ّ ُ‬
‫نفرة﴾ [سورة اْلدثر‪.]50 :‬‬ ‫‪﴿ -‬كأن ُه ۡم ح ُم ‪ٞ‬ر ُّم ۡست ِ‬

‫وجاء لفظ الحمار في خمس األيات السابقة إلى اْلعنى املختلفة وأربع ٍّ‬
‫منهن بمعنى داللية‪ .‬جاء لفظ الحمار في [سورة البقرة‪ ]259 :‬إلى‬
‫اْلعنى الضعف‪ ،‬وهذه هي إشارة على وجود الطبقة االجتماعية في املجتمع التي وصفها القرآن الكريم في األيته‪ .‬وأما لفظ الحمار في [سورة النحل‪]8 :‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪60‬‬
‫يشير إلى اْلعنى الداللية خادمة الذي ال يملك القدرة على التفكير‪ .‬ولفظ الحمار في [سورة لقمان‪ ]9 :‬هو لفظ بمعنى الداللية التي يشير إلى اْلعنى‬
‫صوت اْلستكبرين‪ .‬ولفظ الحمار في [سورة الجمعة‪ ]5 :‬جاء إلى اْلعنى الداللية تشير به إلى اْلعنى الضالل والجهل‪ .‬ولفظ الحمار في [سورة اْلدثر‪]50 :‬‬
‫يشير إلى اْلعنى تلميحي يمثل إلى اْلعنى الخوف على عذاب النار وتأسف الكافرين في النار السقر‪ .‬ويلعب السياق دوره في االنتقال اْلعنى لفظ الحمار‬
‫وتنوع اْلعانه في القرآن الكريم‪.‬‬

‫ُۡ‬ ‫ۖ ُ ٓ‬ ‫ُ ٓ‬
‫﴿أ أول ِئك على ُه ٗدى ٍِّمن ّ ِرٍّب ِه ۡم وأ أول ِئك ُه ُم ٱْل ۡف ِل ُحون (‪[ ﴾)5‬سورة البقرة‪.]5 :‬‬

‫التعبير باسم اإلشارة اْلوضوع للبعيد (أولئك) يدل على التعظيم وعلو اْلكانة‪ ،‬تنزيال للبعد اْلعنوي منزلة البعد الحس ى‪ ،‬وجملة «أولئك‬
‫على هدى» إما خبر للذين يؤمنون بالغيب‪ ،‬إن جعل «الذين يؤمنون بالغيب» مبتدأ‪ ،‬أو خبر للذين يؤمنون بما أنزل إليك‪ ،‬على سبيل التعريض بأهل‬
‫الكتاب الذين لم يؤمنوا وهم ظانون أنهم على الهدى‪ ،‬وطامعون في نيل الفالح‪.‬‬

‫ويصح أن يكون «الذين يؤمنون بالغيب» تابعا للمتقين ‪-‬كما بينا‪ -‬وأن يكون «أولئك على هدى» مستأنفا استئنافا بيانيا‪ ،‬كأنه قيل ما بال‬
‫اْلستقلين بهذه الصفات هل اختصوا بالهدی والفالح؟ فأجيب بأن أولئك اْلوصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجال‪ ،‬وبالفالح‬
‫آجال‪.‬‬

‫واسم اإلشارة (أولئك) قد حسن موقعه هنا ولطف‪ ،‬إذ يؤذن بأن ما يرد عقبه من جزاء‪ ،‬فاْلذكورون قبله أهل له‪ ،‬وجديرون باكتسابه‪،‬‬
‫من أجل الخصال التي عددت لهم‪ ،‬وهذا شأن اسم اإلشارة عندما يرد بعد تحديد صفات وخصال‪ ،‬فيؤذن بان اْلشار إليه جدير باستحقاق ما یأتی‬
‫ُ ۡ‬ ‫ّ‬ ‫ۡ ُ‬ ‫ُ ٓ‬
‫عقيبه من جزاء‪ ،‬من أجن تلك الخصال اْلتقدمة‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬أ أول ِئك ُه ُم ٱلو ِرثون (‪ )10‬ٱل ِذين ي ِرثون ٱل ِف ۡرد ۡوس ُه ۡم ِفيها خ ِل ُدون (‪﴾)11‬‬
‫ۡ ‪ٞ‬‬ ‫ُٓ‬ ‫ُ ٓ‬
‫[سورة اْلؤمنون‪ .]11-10 :‬وقوله عز وجل‪﴿ :‬أ أول ِئك جزاؤ ُهم ّمغ ِفرة ٍِّمن ّ ِرٍّب ِه ۡم وج ّن ‪ٞ‬ت ‪[ ﴾...‬سورة آل عمران‪ ،]136 :‬وعد إلى السورتين وتأمل ما عدد من‬
‫صفات‪ ،‬وما عقب به من جزاء ليتضح لك صدق ما قلناه‪.‬‬

‫وفي قوله تعالى «على هدى من ربهم» استعارة تبعية في الحرف (عل ) حيث شبه تمسك اْلتقين بالهدى وتمكنهم منه باستعالء الراكب على‬
‫ّ ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ٍّ ُ‬
‫ٱلنخ ِل ‪[ ﴾71 ...‬سورة‬ ‫ما يركبه بجامع التمكن واالستقرار‪ ،‬ثم استعير له الحرف اْلوضوع لالستعالء‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ ...﴿ :‬وألص ِلب ّنك ۡم ِفي ُجذ ِوع‬
‫طه‪ .]71 :‬حيث شبه تمكن الجذع من اْلصلوب باستقرار اْلظروف في الظرف بجامع الثبات‪ ،‬ثم استعير لسه الحرف اْلوضوع للظرفية‪.‬‬

‫واستخدام الحرف (عل ) في التمثيل لتمكن اْلتقين من الهدی واستقرارهم عليه‪ ،‬يشعر بتكريمهم وتعظيمهم‪ ،‬حيث شبهت حالهم بحال‬
‫من اعتلى الش يء وركبها سموا ورفعة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ۡ ۡ ۖ ُ ّ ُۖ ٓ‬ ‫ۡ ُ ُ ُ ٍّ‬ ‫ُ ۡ‬
‫ٱلِل و ِإ ّنا أ ۡو ِإ ّياك ۡم لعلى ُه ًدى أ ۡو ِفي ضل ٖل ُّم ِب ٖين﴾ [سورة سبأ‪ .]24 :‬فستجد‬ ‫ض ق ِل‬ ‫ّ‬
‫وتأمل قوله تعالى‪ ﴿ :‬قل من يرزقكم ِمن ٱلسمو ِت وٱألر ِ‬
‫عند التأمل أن اْلهتدين قد صوروا تصوير تكريم وتعظيم‪ ،‬فهم على هدى قد اعتلوه وتلك مكانة سامية‪ ،‬أما الضالون فهم منغمسون في الضالل‪،‬‬
‫يتخبطون فيه‪ ،‬وتلك منزلة هابطة‪ ،‬ومكانة ساقطة‪ ،‬تمثل هبوط الضالين‪ ،‬وانغمامهم في الضالل اْلبين‪ ،‬تحقيرا لهم وحطا من شأنهم‪.‬‬

‫وتنكير (هدى) للداللة على التعظيم‪ ،‬وبيان أنه ضرب مبهم ال يبلغ كنهه‪ ،‬وال يحاط به‪ ،‬ولذلك وصف بقوله «من ربهم» مبالغة في تعظيمه‬
‫وإبهامه‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪61‬‬
‫وقوله تعالى‪« :‬وأولئك هم اْلفلحون» أعيد اسم اإلشارة (أولئك) فلم يقل‪ :‬وهم اْلفلحون مثال للداللة على اختصاصهم بكل واحدة من‬
‫الصفتين (الهدى) و(الفالح) على حدة‪ ،‬لتكون كل منهما مميزة لهم عمن عداهم‪ ،‬ولإلشعار بأن الصفة الواحدة منهما لو انفردت لكفت مميزة لهم‬
‫على حيالها‪.‬‬
‫ِۚ‬ ‫ۡ ۡ‬ ‫ُ ٓ‬
‫وتدل الواو في قوله‪« :‬وأولئك» على اختالف الخبرين وتميزهما‪ ،‬وذلك عكس قوله تعالى في شأن الكفار‪...﴿ :‬أ أول ِئك كٱألنع ِم ب ۡل ُه ۡم أض ُّل‬
‫ۡ ُ‬ ‫ُ ٓ‬
‫أ أول ِئك ُه ُم ٱلغ ِفلون﴾ [سورة األعراف‪ .]179 :‬فإن الخبرين هنا متفقان‪ ،‬إذ التسجيل عليهم بالغفلة‪ ،‬وتشبيههم بالبهائم ش يء واحد‪ ،‬فالجملة الثانية‬
‫مقررة ْلا في األولى‪ ،‬ومؤكدة ْلعناها‪ ،‬ولذا فصل بينهما الكمال االتصال‪.‬‬

‫وأسلوب (أولئك هم اْلفلحون) أسلوب قصر طريقة تعريف الخبر بأل التي للجنس‪ ،‬فالفالح مقصور عليهم‪ ،‬ال يتعداهم إلى غيرهم‪ ،‬قصر‬
‫صفة على موصوف‪ ،‬و(هم) ضمير فصل مؤكد لالختصاص‪.‬‬

‫وال يخفى عليك أن الوصل بين جملتي‪( :‬أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم اْلفلحون) للتوسط بين الكمالين مع عدم اْلانع‪ ،‬حيث اتفقتا‬
‫في الخبرية لفظا ومعنى‪ ،‬ووجدت اْلناسبة اْلصححة للوصل بينهما‪.‬‬

‫وقد أبرزت اآلية الكريمة اختصاص اْلتقين بنيتل ماال يناله أحد‪ ،‬وأكدت ذلك بطرق شتى‪ ،‬ووسائل مختلفة‪ ،‬التعبير باسم اإلشارة‬
‫(أولئك) وتكراره‪ ،‬وتعريف اْلفلحين بأل‪ ،‬وتوسط ضمير الفصل (هم) بينه وبين (أولئك) والغرض من ذلك تجلية منزلتهم وبيان مراتبهم‪ ،‬والتبصير‬
‫بها‪ ،‬والترغيب والحث على العمل لنيل هذه اْلراتب السامية‪.‬‬

‫املراجع‪:‬‬
‫بالغة القرآن في التعبير القرآني‪ ،‬للدكتور فاضل صالح السامرائي‪.‬‬ ‫•‬
‫‪.1133/http://etheses.uin-malang.ac.id/id/eprint‬‬ ‫•‬
‫بالغة تطبقية دراسة ْلسائل البالغة من خالل النصوص‪ ،‬لدكتور بسيوني عبد الفتاح قيود‪ ،‬ط‪ 1412 ،1:‬ه‪ 1991-‬م‪ ،‬مطبعة الحسين‬ ‫•‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ص‪.22-19 .‬‬
‫بالغة تطبيقية دراسة ْلسائل البالغة من خالل النصوص للدكتور بسيوني عبد الفتاح فيود‪ ،‬ط‪ 1412 ،1:‬ه‪ 1991-‬م‪ ،‬مطبعة الحسين‬ ‫•‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ص‪.64–62 .‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪62‬‬
‫املوضوع‪ :‬البالغة النبوية (منزلتها وخصائصها العامة)‬
‫منزلة البالغة النبوية‪:‬‬

‫إن أسلوب البالغة النبوية يمتاز بأنه ليس له مثيل في كالم الفصحاء‪ ،‬وهو معدود من أعالي ضروب الفصاحة‪ ،‬وهو على مقدار من االعتبار؛ كلها‬
‫تجعل البليغ يقف عندها‪ ،‬ويخصها باإلعجاب‪ ،‬ألن كالمه ـ صلى هللا عليه وسلم ـ في باب التمكين ال يعدله ش يء من كالم الفصحاء‪ ،‬فال تلمح في جهة‬
‫من جهاته ثلمة ممكن أن يقتحم عليه فيها بالرأي أو النقد‪ ،‬بل ترى التماسك العجيب في األلفاظ واْلعنى‪ ،‬وذكر الرافعي في إعجاز القرآن والبالغة‬
‫النبوية أهم مميزات كالمه ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ـ وأفاد بأن مبنى ذلك على ثالثة أسس بالغية هي‪:‬‬

‫الخلوص‪ ،‬والقصد‪ ،‬واالستيفاء‪.‬‬


‫ُ‬
‫‪ .1‬أما األول فهو في اللغة كيف يخلص إلى اْلعنى بطريقة بديعة‪ ،‬حيث لم يكن في العرب ولن يكون فيمن بعدهم أبد الدهر من ينفذ في اللغة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وأسرارها وضعا وتركيبا‪ ،‬ويستعبد اللفظ الحر‪ ،‬ويحيط بالعتيق من الكالم‪ ،‬ويبلغ من ذلك إلى الصميم‪ ،‬على ما كان من شأنه ـ صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ويقول الرافعي‪ :‬وال نعرف في الناس من يتهيأ له األسلوب العص ي الجامع املجتمع على توثق السرد وكمال اْلالءمة كما تراه في‬
‫ً‬
‫الكالم النبوي‪ ،‬وما من فصيح أو بليغ إال وهو في إحدى هاتين اْلنزلتين دون ما يكون في األخرى على ما يلحقه من النقص فيهما جميعا إذا‬
‫تصفحت وجوه كالمه وضروب الفصاحة فيه‪ ،‬واعتبرت ذلك بما سلف‪ ،‬وأبلغ الناس من وفق أن يكون في اْلنزلة الوسطى بين منزلتيه ـ‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ .2‬وأما القصد واإليجاز واالقتصار على ما هو من طبيعة اْلعنى في ألفاظه ومن طبيعة األلفاظ في معانيها‪ .‬ومن طبيعة النفس في حظها من‬
‫الكالم من جهتين (اللفظية واْلعنوية) ـ فذلك مما امتازت به البالغة النبوية حتى كأن الكالم ال يعدو فيها حركة النفس‪ ،‬وكأن الجملة‬
‫ً ً‬
‫ُتخلق في منطقه ـ صلى هللا عليه وسلم ـ خلقا سويا‪ ،‬وهذا عجيب حتى ما يمكن أن يعطيه امرؤ حظه من التأمل إال أعطاه حظ نفسه من‬
‫العجب‪.‬‬
‫‪ .3‬وهو االستيفاء‪ ،‬الذي يخرج به الكالم ـ ـ على حذف فضوله وإحكامه مبسوط اْلعنى بأجزائه ليس فيها اضطراب وال إحالة حتى كأن تلك‬
‫ً‬
‫األلفاظ القليلة إنما ركبت تركيبا على وجه تقتضيه طبيعة اْلعنى في نفسه‪ ،‬وطبيعته في النفس‪ ،‬فمتى وعاها السامع واستوعبها القارئ‪،‬‬
‫ً‬
‫تمثل اْلعنى وأتمه في نفسه‪ ،‬وبحسب ذلك التركيب‪ ،‬فوقع إليه تاما مبسوط األجزاء‪ ،‬وأصاب هو من الكالم معنى يسري في النفس في‬
‫انسجام تام‪ .‬وهذه القدرة العجيبة على إيقاع الكالم في موضعه بما يتواءم مع اْلعنى دون زيادة أو نقصان‪ ،‬قلما يستحكم المرئ إال بتأييد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من هللا وتمكين من اليقين والحجة‪ ،‬فهو على حقيقته مما ال ُيتحصل عليه بالدربة واْلزاولة إال شيئا يسيرا‪ ،‬وال يمكن أن تجعله اْلزاولة‬
‫ً‬
‫فيمن ليس من أهله أن يكون أهال لذلك بمجرد التدريب‪ ،‬ولذلك قال أفصح العرب ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ''أعطيت جوامع الكلم'' وفي‬
‫رواية ''أوتيت''‪ ،‬وكان يتحدث في ذلك بنعمة هللا عليه‪ ،‬فما هو اكتساب وال تمرين‪ ،‬وال هو أثر من أثرهما في التفكير واالعتبار‪ ،‬وال هو غاية‬
‫الصنعة والوضع‪ ،‬إنما هو (إعطاء وإيتاء) فمن لم يعط لم يأخذ‪ ،‬ومن لم يأخذ لم يكن له ذلك‪.‬‬ ‫من غايات هذين في ِ‬

‫والجتماع تلك الثالثة في كالمه ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ـ وبناء بعضها على بعض‪ ،‬سلم هذا الكالم العظيم من التعقيد والخطل والحشو‪ ،‬وسلمت‬
‫وجوهه من االستعانة بما ال حقيقة له من أصول البالغة‪ .‬ولذلك السبب نجد البالغة النبوية بالكالم الجامع هي في أعالي حكم البالغة‪ ،‬ونضرب‬
‫للقارئ الكريم بعض األمثلة النبوية من كالمه ـ صلى هللا عليه وسلم ـ كقوله‪( :‬إنما األعمال بالنيات)‪( ،‬الدين النصيحة)‪( ،‬الحالل بين والحرام بين‬
‫وبينهما أمور متشابهات)‪( ،‬وقوله في معنى اإلحسان‪ :‬أن تعبد هللا كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك)‪( ،‬اْلرء مع من أحب)‪( ،‬الصبر عند الصدمة‬
‫األولى)‪ ،‬وقوله ْلا سئل عن البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)‪ ...‬إلى ما ال يحصيه العد من كالمه ـ صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ولو ذهبنا نشرح كل حديث‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪63‬‬
‫لكتبنا عشرات الصفات‪ ،‬وهذا الضرب هو الذي عناه أكثم بن صيفي حكيم العرب في تعريف البالغة‪ ،‬إذ عرفها بأنها‪ :‬دنو اْلأخذ‪ ،‬وقرع الحجة‪،‬‬
‫وقليل من كثير‪ ،‬وهي صفات متى أصابها اْلتكلم وأتقنها حاز قصب السبق في البالغة‪ .‬إن كثيرا من الدراسات اعتنت بالقرآن الكريم من حيث جانب‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫نط ُق ع ِن الهوى* ِإ أن ُهو ِإال و أحي ُيوحى''‪.‬‬
‫البالغة وأهملت جانب السنة النبوية والتي هي وحي إلهي أيضا ال ينبغي إهماله وصدق هللا إذ يقول‪'' :‬وما ي ِ‬
‫أسأل هللا أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام‪.‬‬

‫‪-‬الثالث‪-‬‬

‫اخلصائص العامة للبالغة النبوية‬

‫إن الحديث عن الخصائص الجمالية في الحديث النبوي الشريف؛ معناه البحث في بالغة الحديث النبوي والكشف عن خصائصه‬
‫وصفاته البالغية‪ ،‬وسماته األسلوبية‪ ،‬وذلك ألن الجمال من أبرز صفات البالغة‪ ،‬ومن أظهر مميزاتها‪ ،‬فهي ٍّ‬
‫تقدم الكلمة والكالم بأسلوب جمالي جامع‬
‫ِ‬
‫للفكر ومثير للمشاعر‪.‬‬

‫والبالغة كعلم اهتمت منذ نشأتها بالبحث عن الخصائص الجمالية واألسلوبية التي تميزت بها النصوص األدبية بصفة عامة والقرآن الكريم بصفة‬
‫خاصة‪ ،‬والحديث النبوي نص أدبي بلغ الذروة من البيان والجمال‪ ،‬وال يرتفع فوقه في مجال األدب الرفيع إال كتاب هللا‪.‬‬

‫فليس من العجيب أن يوليه العلماء منذ القديم أهمية بالغة‪ ،‬للكشف عن اْلعالم الجمالية في لفظه ومعناه وصوره وتراكيبه‪.‬‬

‫وقد حوت أحاديث الرسول‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬صنوف البالغة‪ ،‬وألوان الجمال والفصاحة‪ ،‬وكانت من أبرز مظاهر عظمته‪ ،‬وأبرز‬
‫دالئل نبوته‪ ،‬وعبرت أدق تعبير عن سمو نفسه‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأبانت عن اْلنبع العذب الذي نهلت منه‪ .‬وقد تبارى العلماء والبلغاء في وصف‬
‫فصاحته‪ ،‬وما امتاز به كالمه‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬من جمال وبالغة جعلته يتربع على قمة األساليب البشرية‪.‬‬

‫ومن أفضل ما قيل في ذلك ما سجله الجاحظ رائد البالغة العربية حيث يقول‪“ :‬وهو الكالم الذي قل عدد حروفه‪ ،‬وكثر عدد معانيه‬
‫وجل عن الصنعة ونزه عن التكلف… واستعمل اْلبسوط في موضع البسط‪ ،‬واْلقصور في موضع القصر‪ ،‬وهجر الغريب الوحش ي‪ ،‬ورغب عن الهجين‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫السوقي‪ .‬فلم ينطق إال عن ميراث حكمته‪ ،‬ولم يتكلم إال بكالم قد ُحف بالعصمة‪ ،‬وشيد بالتأييد‪ ،‬ويسر بالتوفيق… ثم لم يسمع الناس بكالم قط‬
‫ّ‬
‫أعم نفعا‪ ،‬وال أصدق لفظا‪ ،‬وال أعدل وزنا‪ ،‬وال أجمل مذهبا‪ ،‬وال أكرم مطلبا‪ ،‬وال أحسن موقعا‪ ،‬وال أسهل مخرجا‪ ،‬وال أفصح عن معناه‪ ،‬وال أبين في‬
‫فحواه من كالمه‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬كثيرا‪.‬‬

‫وسيكون ح ديثنا منصبا على جملة من األسس الجمالية والفنية‪ ،‬تحققت في أحاديثه‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ويمكن أن نحددها في العناصر اآلتية‪:‬‬

‫األسس اجلمالية والفنية اليت حتققت يف أحاديث النيب صلى اهلل عليه وسلم‬

‫أ‪ .‬جمالية في األلفاظ‪ :‬وتبرز هذه الجمالية في عبقريته‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وبراعته الفائقة في اختيار ألفاظه ومراعاته الفروق الدقيقة بين معاني‬
‫الكلمات‪.‬‬

‫ب‪ .‬جمالية في املعنى‪ :‬وتبرز هذه الجمالية في قدرته‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬على التعبير عن اْلعاني الكثيرة بعبارات تتسم باإليجاز الشديد والكثافة‬
‫الداللية والسمو في اْلعاني‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪64‬‬
‫ٍّ‬
‫ج‪ .‬جمالية في التصوير‪ :‬وتتجلى هذه الجمالية في قدرته‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬على التعبير والتصوير والتشبيه‪ ،‬مما يدل على موهبة فذة‪ ،‬تشعر‬
‫القارئ والسامع على السواء كأنه أمام لوحات فنية ممتعة‪.‬‬

‫أوال‪ :‬جمالية األلفاظ ‪:‬‬

‫اهتمت الدراسات البالغية العربية القديمة بجمالية اللفظ اهتماما بالغا؛ إذ اعتبرت جمال اللفظ وإعجازه‪ ،‬وجمال األدب (شعره ونثره)‬
‫في بالغة اللفظ وعذوبته‪ .‬وقد أرجع علماء البالغة جمال اللفظ اْلفرد وفصاحته إلى أمور عدة عرضها ابن سنان في كتابه‪( :‬سر الفصاحة) نذكر‬
‫منها‪:‬‬

‫‪ -‬أن تكون حروف الكلمة متباعدة املخارج‪.‬‬

‫‪ -‬أن ال تكون الكلمة غريبة متوعرة أو وحشية ال يمكن استيعابها وفهمها‪.‬‬

‫‪ -‬أال تكون الكلمة عامية مبتذلة تنفر منها األسماع واألذواق‪.‬‬

‫‪ -‬أن تكون الكلمة معتدلة في عدد حروفها‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬جمالية املعاني‪:‬‬

‫ويتجلى هذا الجمال في عمق معانيه‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وغناها بالدالالت البالغية‪ ،‬وورودها في صور متعددة‪ ،‬كالتشبيه واالستعارة‬
‫والنهي واألمر‪ ،‬وتكثيف اْلعنى في عبارات قليلة‪ .‬وهو ما وصف الرسول‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬به نفسه بقوله‪" :‬بعثت بجوامع الكلم " ؛ واْلقصود‬
‫بجوامع الكلم‪ :‬اإليجاز‪ .‬واإليجاز عند البالغيين من شروط جمال الكالم وبالغته‪ .‬ومعناه‪“ :‬تقليل الكالم من غير إخالل باْلعنى؛ فال يكون في الكالم‬
‫إيجاز حتى تأتي األلفاظ على قدر اْلعاني ال تزيد عنها وال تنقص‪ ،‬وإنما الشرط أن يتم ذلك من غير إخالل باْلعنى‪ ،‬وإال كان الكالم تقصيرا‪ .‬فاإليجاز‬
‫بالغة وجمال ألنه ال يظهر فيه إخالل باْلعنى اْلدلول‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬جمالية التصوير‪:‬‬

‫سلك الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬طرقا فنية متعددة‪ ،‬تو ى منها في اْلقام األول‪ ،‬توجيه اإلنسان اْلسلم توجيها عقديا وتربويا وأخالقيا‪ ،‬ومن‬
‫بين هذه الطرق‪ :‬التعبير بالصورة؛ ونقصد بالصورة ذلك التركيب اللغوي الذي تمتزج فيه األلفاظ باْلعاني في سياق بياني خاص ٍ‬
‫وموح بمعان ودالالت‪،‬‬
‫تحمل التأثير والتوصيل لتخلق انفعاال لدى اْلتلقي ومشاركة معه‪.‬‬

‫إن وظيفة الصورة ال تنحصر في توضيح اْلعنى أو تحققه؛ ألن اْلعنى يمكن أن يتحقق بدونها أو بغيرها‪ ،‬وإنما تتجاوز ذلك إلى خلق معان خاصة غنية‬
‫باإليحاءات‪ ،‬التي ال يمكن أن يفي بها التعبير الحقيقي أو اْلباشر‪ ،‬لتحدث أثرا واستجابة في نفوس متلقيها‪.‬‬

‫ومن خصائصها العامة ‪ :‬الدقة في اختيارالكلمات‬


‫ٍّ‬
‫يمتاز الحديث النبوي بالدقة في اختيار الكلمات اْلوحية بأغراض سامية نبيلة؛ من حيث محتوياتها ومدلوالتها‪" ،‬فكان النبي ِ‬
‫يدقق اختياره‬
‫من الكلمات الرنانة التي تتسلسل في آذان املخاطبين‪ ،‬وتروع معانيها؛ من تلك األجراس الصوتية"‪1.‬‬

‫‪ 1‬الألوي لقمان‪ ،‬من خصائص أسلوب النبوي‪ ،‬ورقة الندوة قدمت لقسم اللغة العربية ن يف جامعة عثمان بن فودي صكتوا نيجتيا‪ ،‬ص‪.13‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪65‬‬
‫مثل قوله صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬ألنجشة‪(ُ :‬رو أيدك يا أ أنجشة‪ ،‬أ‬
‫ارفق بالقوارير)‪1.‬‬

‫واضحة في هذا الحديث؛ حيث اختار كلمة القوارير من كلمات كثيرة توحي إلى ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تبدو ُ‬
‫الضعف‪ ،‬ومطالبة الحماية‪ ،‬ومضادة‬ ‫دقته ظاهرة‬
‫القساوة‪ِْ ،‬لا تتميز بـه كلمة القوارير مـن إيحاء لغوي‪ ،‬وألحان مثيرة في خلجات نفس املخـاطب‪ ،‬وفي ُسويداء قلبه‪ ،‬ويجد القارئ أن كلمة القوارير التي‬
‫ً‬
‫تشبيها لها بالزجاج من‬ ‫عملت هنا وتراد بهــا اْلرأة؛ ألن الولد ُّ‬
‫يقر في رحمها كما ي ِقر اْلاء في القارورة‪ ،‬أو‬ ‫ُ‬
‫هي جمع قارورة‪ ،‬وهي إناء من الزجاج ‪ -‬قد است ِ‬
‫أضعف ش يء‪ ،‬فال تقبل اللعب وال القوة والجبروتية‪ ،‬فـإذا أجبرته انكسر‪ ،‬فإذا انكسر فسد‪ ،‬وال يعود إلى العرجون‬ ‫ُ‬ ‫حيث ّ‬
‫الضعف؛ ألن القارورة هي‬
‫القديم؛ قال الشاعر‪:‬‬
‫طعها ال ُي ُ‬
‫جبر‬ ‫القلوب إذا تنافر ُو ُّدها *** م أث ُل ُّ‬
‫الزجاج ِة ق ُ‬ ‫إ ّن ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫وصفهن اْلصطفى ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬بالقوارير ِْلا بينهما من عالقة داللية مع قرينة إيحائية معنوية‪ ،‬فرسولنا‬ ‫هكذا النساء‪ ،‬وهكذا‬
‫الحكيم‪ ،‬يخاطب العقول ال األجساد‪ ،‬فلمعرفة مدلول هذا الحديث ال بد من استعمال العقل والتدبر‪.‬‬

‫فنيا مؤث ًـرا في نفسية املخاطب‪ ،‬كما اختار كلمة "فت أند ِل ُق" التي توحي‬
‫تصويرا ًّ‬
‫ً‬ ‫تصور اْلشهد والحادثة‬‫ٍّ‬
‫فقد تمتاز بالغته باستعمال كلمات ِ‬
‫سمعت رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫ُ‬ ‫إلى خروج الش يء بـالسرعة لتصوير مشهد العالم الفاشل‪ ،‬الذي ال يعمل بعلمه في الدنيا؛ حيث قال أسامة بن زيد‪:‬‬
‫أهل النار‪ ،‬فيقولون‪:‬‬ ‫الرحى‪ ،‬فيجتمع إليه ُ‬ ‫ندلق أ أقتاب ب أطنه‪ ،‬في ُدور بها كما يدور الحمار في ّ‬ ‫أ‬
‫القيامة‪ ،‬ف ُيلقى في النار‪ ،‬فت ِ‬
‫ِ‬ ‫((ي أؤتى بالرجل ي أوم‬
‫وسلم يقول‪ُ :‬‬
‫آمر باْلعروف وال آتيه‪ ،‬وأنهى عن اْلنكر وآتيه"‪ ،2‬فإن كلمة االندالق التي‬ ‫تأمر باْلعروف وتنهى عن اْلنكر‪ ،‬فيقول‪ :‬بلى‪ُ ،‬‬
‫كنت ُ‬ ‫ما لك يا فالن؟ ألم تكن ُ‬
‫ُّ‬ ‫تصور لنا مشهد العالم الفاشل في بطن جهنم‪ًّ ،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬
‫تقشعر لها األبدان‪ ،‬وترتعد منها القلـوب‪،‬‬ ‫حقا إن هذه لصورة رهيبة‬ ‫تدل على خروج الش يء فجأة‪ِ ،‬‬
‫قيد على الطاحون‪.‬‬ ‫خرج أقتاب بطنه من شدة العذاب‪ ،‬فيدور ويجول ‪ -‬وأمعاؤه جارية على األرض ‪ -‬كما يدور الحمار إذا ٍّ‬ ‫وهي صورة رجل عالم ت ُ‬
‫ِ‬
‫يتصرف فيها كيف يشاء ومتى شـاء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كالمه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فاأللفاظ ُتطيعه كأن بيده عنانها‪،‬‬ ‫فهذه هي خاصية كالمية يتصف بها ُ‬
‫ً‬
‫توفيقا من هللا‬ ‫وال نعرف أن ْلثل هذه الفصاحة طريق االكتساب‪ ،‬إال موهبة من هللا؛ قال الـرافعي‪" :‬وال نعلم أن هذه الفصاحة قد كـانت له إال‬
‫التكلف ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫والصنعة بعيد نزيه؛ قال الرافعي‪" :‬كان أفصح‬ ‫قصد ترصيعه‪ ،‬فهو من‬
‫قصد تزيينه‪ ،‬ومرصع وإن لم ي ِ‬‫وتوقيفا"‪ ،3‬فكالمه مزين وإن لم ي ِ‬
‫ّ‬
‫يتكلف القول‪ ،‬وال يقصد تزينه‪ ،‬وال يبغي إليه وسيلة من وسائل ّ‬
‫الصنعة‪ ،‬وال يجاوز به مقدار اإلبداع في اْلعنى الذي يريده"‪.4‬‬ ‫العرب‪ ،‬على أنه ال‬

‫اْلراجع‪:‬‬

‫‪https://www.aleqt.com/2011/08/17/article_570301.html .1‬‬
‫‪https://www.alukah.net/sharia/0/129656/#ixzz773BVN2bF .2‬‬
‫‪https://www.arrabita.ma/blog/ .3‬‬

‫النسان ن يف سننه‪ ،‬رقم [‪ ]10362‬ص ‪.135‬‬


‫ي‬
‫ئ‬ ‫‪ 1‬أخرجه البخاري نف صحيحه‪[ ،‬باب من انتظر ر‬
‫حن دفن ]‪ ،‬رقم [‪ ]6209‬ص‪ ،48‬وأخرجه‬ ‫ي‬
‫‪ 2‬أخرجه المسلم ن يف صحيحه "باب عقوبة من يأمر بالمعروف وال ينىه عن المنكر " ج[‪ ،]4‬ص[‪.]2290‬‬
‫افع‪ ،‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.224‬‬‫الر ي‬
‫‪3‬‬

‫‪ 4‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.224‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪66‬‬
‫اخلصائص البالغية للقصة النبوية مع دراسة حتليلية إلحدى قصصه‬

‫القصة النبوية‬
‫تعريف القصة النبوية‪:‬‬

‫أدرك الرس ـ ــول ﷺ أثر القص ـ ـ ِـة في النفوس‪ ،‬فاحتذاها في بيانه الكريم كأس ـ ــلوب من أهم أس ـ ــاليب الدعوة‪ ،‬وأجاد اس ـ ــتعماله بما أبدع في‬
‫ً‬
‫صور رائع ـ ــة م ـ ــؤثرة كشفا لحقائق الدين‪ ،‬وتصويرا ْلكنونات النفوس‪،‬‬ ‫قصصه من وسائل وصور بيانية للمعاني‪ ،‬من أجل وضوح الفكرة وإبرازها في ٍ‬
‫وتحليال للدوافع النفسية‪.‬‬

‫وازعي الترغيب والترهيب‪،‬‬‫ٍّ‬ ‫القصة النبوية في أهداف ا ومقاصدها منبثقة عن القصة القرآنية‪ ،‬وموج ة إلى النفس البشرية؛ إليجاد‬
‫ِ‬
‫ۡ ۡ‬
‫وحسبنا دليال على ذلك أن هللا عز وجل أمر نبيه في محكم كتابه أن يقص على قومه القصص ليكون ل م عبرة وموعظة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ولو ِشئنا‬
‫ِۚ‬ ‫ّ أ‬ ‫ّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ۡ ۡ ِۚ ّ‬ ‫ۡ ۡ‬ ‫ۡ ۡ‬ ‫ِۚ ُ‬ ‫ۡ ۡ‬ ‫ُّ ۡ‬
‫ض و ّٱتبع هوى ُه فمثل ُ ۥه كمث ِل ٱلكل ِب ِإن ت ۡح ِم ۡل عل ۡي ِه يلهث أ ۡو تت ُرك ُه يلهث ذ ِلك مث ُل ٱلق ۡو ِم ٱل ِذين كذ ُبوا ِب اي ِتنا‬ ‫ۡ ُ‬
‫لرفعنه ِبها ول ِكن ۥٓه أخلد ِإلى ٱألر ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ‬
‫ص ٱلقصص لعل ُه ۡم يتفك ُرون ﴾ [ األعراف‪ ، ]176:‬وليتخذوا من القصص منطلقا إلى التفكير السليم القويم‪ ،‬الذي يهديهم إلى الحق لكي يحيوا‬ ‫فٱقص ِ‬
‫حياة طيبة في املجتمع‪ ،‬قوام ا الحق والخير والفضيلة‪.‬‬

‫إذن ليست القصة النبوية الكريمة عمال فنيا مستقال في موضوعه‪ ،‬وطريقة عرضه‪ ،‬وإدارة حوادثه‪ ،‬كما هو الحال في القصة األدبية‬
‫ۡ ٓ‬
‫نط ُق ع ِن ٱل وى ِإ ۡن ُهو‬
‫الفنية التي قوام ا الخيال وهدف ا اإلمتاع‪ ،‬ذلك أن ا ذات هدف خاص ومصدر خاص‪ ،‬فقائل ا ‪-‬كما قرر هللا سبحانه‪﴿ -‬وما ي ِ‬
‫ّ‬
‫ِإال و ۡح ‪ٞ‬ي ُيوحى ﴾ [ الـنحـم‪ , ]4-3:‬ولقد ضمنها اْلصطفى – صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬الكثير من القضايا والحقائق‪ :‬فيها تحقيق التوحيد‪ ،‬وإثبات الوحي‬
‫والرسالة‪ ،‬وبراهين اإليمان بالغيب‪ ،‬والبعث بعد اْلوت‪ ،‬ومظاهر القدرة اإلل ية‪ .‬وفي ا اإلنذار والبشارة‪ ،‬والترغيب والترهيب‪ ،‬وعقبى اْلتقين‪ ،‬ومصارع‬
‫الظاْلين‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫وعليه نس ـ ـ ــتطيع أن نعرف القص ـ ـ ــة النبوية بأن ا‪ :‬ما حكاه الرس ـ ـ ــول – ص ـ ـ ــلى هللا عليه وس ـ ـ ــلم ‪ -‬من أخبارعن األمم الس ـ ـ ــابقة أو أمور‬
‫مس ـ ـ ـ ــتقبلية غيبية‪ ،‬مما يحقق الغاية من إيراد الحدث والنتائع‪ ،‬والتركيز على مواطن الع رة والعظة فيها‪ ،‬أي أنها حيزيتو افرعلى الش ـ ـ ـ ــمولية‬
‫والكلية في آثاره‪ ،‬ووجود بداية ونهاية للحدث ووحدة الحدث والشخصيات من فعل ومعنى في وحدة متجانسة ال تقبل التجزئة‪.‬‬

‫خصائص القصص النبوية‪:‬‬

‫امتاز القصص النبوية بخصائص فريدة ميزت ا عما سواها من القصص‪ ،‬وتبدو هذه الخصائص جلية لكل من قرأ ها وتأمل ا ‪ ،‬ويمكن‬
‫إجمال هذه الخصائص فيما يلي ‪:‬‬
‫ٓ ۖ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ ُۢ ٓ ۡ‬ ‫ۡ‬
‫وحي ا ِإل ۡيك‬ ‫‪ )1‬القصص النبوية في غالبها وحي من هللا تعالى‪ ،‬وقد جاء ما يشير لذلك في القرآن الكريم‪ ،‬قال تعالى‪ِ ﴿ :‬تلك ِمن أنبا ِء ٱلغ ۡي ِب ن ِ‬
‫ٓ‬ ‫ٓ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ ُ ُ ُّ ۡ ۡ‬ ‫ُّۡ‬ ‫ۖ ۡ ۡۖ ّ ۡ‬ ‫ۡ ُ ٓ‬ ‫ُ‬
‫ص ِبما أ ۡوح ۡينا‬ ‫ۡ‬ ‫ُۡ‬
‫ما كنت تعلمها أنت وال قومك ِمن قب ِل هذا فٱص ِبر ِإن ٱلع ِقبة ِللمت ِقين ﴾ [ هود‪ ،49:‬وقال‪﴿ :‬نحن نقص عليك أحسن ٱلقص ِ‬
‫ً‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬
‫ِإل ۡيك هذا ٱل ُق ۡرءان و ِإن كنت ِمن ق ۡب ِل ِهۦ ِْلن ٱلغ ِف ِلين ﴾ [ يوسف‪ .]3:‬وهذه اْليزة تضيف لصحيح القصص النبوية نوعا من القداسة وتزيد‬
‫الثقة ب ا وتقديرها‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪67‬‬
‫‪ )2‬القصص النبوي ــة ق ــصص هادف ــة‪ ،‬وأغراض ــها س ــامية‪ ،‬وأه ــدافها تربوي ــة‪ :‬فاْلتأم ــل للق ــصص النبوية على اختالف أنواع ــا يج ــد أن ــا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تـشترك في غرضـ ا ومقصدها ‪ ،‬ف ذه القصص إنما ساق ا النبي ﷺ بغرض التربية والتوجيه والدعوة ترغيبـا في الخير ‪ ،‬وترهيبـا مـن الـشر‬
‫‪ ،‬فمــا كــان النــبي ﷺ يعــرض تلــك القــصص بمختلف أنواع ا لذات ا كأنماط قصصية ذات طريقة فنية جميلة ‪ ،‬أي أنه لم يعرض ا لذات‬
‫ً‬
‫الفن القص ـ ـص ـ ـ ي وإن كان هذا يتحقق تبعا وإنما كان يعرض ـ ـ ا وهو يس ـ ــت دف بالدرجة األولى اْلبادئ واألهداف الس ـ ــامية التي يريد نقل ا‬
‫ألمته‪.‬‬
‫‪ )3‬أصالة موضوعات القصص النبوية‪ ،‬وقوته ـ ـ ــا‪ ،‬وتنوعه ـ ـ ــا‪ :‬فاْلتأمل ْلوض ـ ـ ــوعات القصص النبوية يجد أن ـ ـ ــا م ـ ـ ــن الن ـ ـ ــوع ال ـ ـ ــذي يثير في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫السـامع أو القـ ـ ـ ـ ــارئ كثيرا مـ ـ ـ ـ ــن االنفعاالت ‪ ،‬ويحرك فيه شـتى العواطف واْلشـاعر ‪ ،‬ويجعله مرتبطا بمتابعة القصـة إلى ن ايت ا ‪ ،‬وذلك ْلا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تتمتع به اْلوضوعات في القصة م ــن الق ــوة واألصالة ‪ ،‬بحيث تست وي اْلتلقي وتشده إلى درجة أن يظل اْلوض ــوع حيا في تفكيره ‪ ،‬عالقا في‬
‫ذهنه حتى بعد انت ائه من القصة بفترة طويلة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪ )4‬االهتمام بالناحية الش ـ ــعورية‪ :‬ونعني بذلك ترفع القص ـ ــة عن قيود الزمان واْلكان لتس ـ ــتوعب الحياة كل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا وتبقى آثارها حتى بعد فناء‬
‫األشخاص اْلفترضين في ا‪.‬‬
‫‪ )5‬الصـ ـ ـ ـ ــدق‪ :‬ف ــالقص ـ ـ ـ ـ ــة النبوي ــة ال تجنح إلى الخي ــال في اختي ــار موض ـ ـ ـ ــوع ــاته ــا‪ ،‬وإنم ــا تعم ــد إلى ع ــالم الواقع‪ ،‬فهي تخبر عن أمور ح ــدث ــت‪،‬‬
‫وشخصيات وجدت ليس فيها اختراع للشخصيات‪ ،‬أو تلفيق للحوادث‪.‬‬
‫‪ )6‬الو اقعية‪ :‬حيث نقلت لنا القصـة النبوية الشـخصـية اإلنسـانية بأمانة ودقة وواقعية‪ ،‬فصـورت اإلنسـان بمختلف جوانبه‪ :‬الخير والشـر‬
‫والقوة والض ـ ـ ـ ــعف‪ ،‬واإليمان والكفر‪ ،‬اإلنس ـ ـ ـ ــان كما خلقه هللا بما فيه من جوانب روحية وجوانب مادية‪ ،‬واقع اإلنس ـ ـ ـ ــان وهو يهبط إلى‬
‫األرض وإلى رغبات األرض‪ ،‬وواقعه وهو يرتفع إلى مسـتوى نفخة الروح‪ ،‬وواقعه أيضـا وهو يصـارع جوانب الشـر ويدافعها وينتصـر عليها في‬
‫النهاية مؤكدا بذلك أصالة الخير فيه وقوته في كيانه‪.‬‬
‫‪ )7‬االلتزام‪ :‬االلتزام في األدب يعني أن ينحو األديب بفنه إلى تحقيق اْلثل العليا في املجتمعات اإلنسانية من خالل الدعوة إلى تثبيت الدعائم‬
‫ّ‬
‫الخلقية‪ ،‬ولقد تجلى هذا اْلعنى بوض ــوح في القص ــة النبوية في مض ــمونها وفي طريقة أدائها‪ ،‬أما اْلض ــمون فإنه مس ــتمد من عقائد اإلس ــالم‬
‫وأخالقه‪ ،‬وأما طريقة األداء فإن أبرز مظاهر االلتزام فيها اسـ ـ ــتخدام الوسـ ـ ــيلة النظيفة في التعبير والتصـ ـ ــوير للشـ ـ ــخصـ ـ ــيات واْلواقف‪،‬‬
‫هم الرجل باْلرأة‪ ،‬إال أنها ٍّ‬ ‫ً‬
‫أحيانا من مواقف جنســية تصـ ٍّـور ّ‬ ‫فليس فيها ما يثير الغرائز أو يدغدغ اْلشــاعر‪ ،‬مع ما ُ‬
‫تقدمه بأســلوب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يرد فيها‬
‫رفيع اْلستوى تتشح عباراته بالعفة‪ ،‬وترتدي أثواب النزاهة‪.‬‬
‫‪ )8‬دقة اإليجازوبراعة اإلعجاز‪ :‬فعبارات القص ــة النبوية وس ــائر تراكيبها قص ــيرة موجزة‪ ،‬تتجلى في نظم متماس ــك جيد الفص ــل والوص ــل‪،‬‬
‫خال من أي نوع من أنواع التعقيد بالتقديم أو التأخير‪ ،‬بحيث يس ــترس ــل القارئ أو الس ــامع مع القص ــة في متابعة جيدة ال يش ــعر خاللها‬
‫ٍ‬
‫بأدنى عناء أو تعثر‪.‬‬
‫‪ )9‬البساطة في التعبير وخلوه من التكلف‪.‬‬
‫وهي البســاطة الزاخرة بالحياة والقوة التي تجعله أكثر تأثيرا وجاذبية‪ ،‬نظرا ْلا يتمتع به من تنوع في الصــياغة والتعبير‪ ،‬بعيدا عن البهرجة‬
‫اللفظية أو املحسنات التي ال طائل تحتها‪.‬‬
‫‪ )10‬استخدام أسلوب التشويق‪.‬‬
‫ويعتبر هذا عنصــر مهم في إضــفاء الحيوية على النص في القصــص النبوية وضــمان اســتمرار اْلتلقي أو القارئ في متابعة األحداث‪ ،‬وإثارة‬
‫توقعاته املختلفة ْلا سيحصل في اْلستقبل‪.‬‬
‫‪ )11‬التأثير من خالل التصوير‬
‫لقد اعتمد كثير من القصص النبوية على التصوير الذي يشيع جوا من الحياة في ثنايا القصة‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪68‬‬
‫والتصوير في القصص النبوية له ثالثة أنواع‪:‬‬
‫• تصوير اْلشاهد واْلواقف‬
‫وهذا التصوير أكثر استخداما في القصص النبوية‪ ،‬واْلثال على هذا النوع‪" :‬يجاء بالرجل يوم القيامة‪ ،‬فيلقى في النار‪ ،‬فتتدلق‬
‫أقتابه في النار‪ ،‬فيدور كما يدور الحمار برحاه"‪ ،‬هنا يصور الرسول ﷺ هذا الحال في كلمات قليلة‪ ،‬لكن أدق تعبيرا على ما‬
‫يكون عن هذا اْلوقف الرهيب الذي وقع مع هذا الرجل اْلنكود‪ .‬فهذا الرجل ال يلقي في النار وينتهي األمر‪ ،‬بل اندلقت أمعاؤه‬
‫إلى خارج بطنه‪ ،‬فتصور القارئ أو السامع هيئته‪ .‬وكانت القصة تعطينا صورة مفصلة تحوي أبعاد اْلوقف من مزايا متعددة‪.‬‬
‫تصوير العواطف واالنفعاالت‬ ‫•‬
‫يهدف هذا التصوير إلى إبراز العواطف واالنفعاالت من خالل السلوك الشخصية ومواقفها من األشياء ومواجهتها لألحداث‪.‬‬
‫مثال ذلك قصة "أصحاب األخدود" في موقف الغالم حين أتى الدابة التي سدت على الناس طريقهم فحبستهم‪ ،‬وعند هذا‬
‫اْلوقف تصور لنا القصة ما يدور في داخل الغالم من قلق نفس ي‪.‬‬
‫تصوير الشخصيات‬ ‫•‬
‫حيث نجد أن القصة النبوية تحاول أن تضع أمامنا معالم الشخصية التي تتحرك في أثنا القصة‪ ،‬فترسم لنا نوعية الشخصية‬
‫من خالل عرض القصص ي‪ .‬ومن أمثلة هذا النوع هي قصة "جرة الذهب"‪ .‬تقول القصة‪" :‬اشترى رجل من رجل عقارا له‪ ،‬فوجد‬
‫الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب‪ ،‬فقال الذي اشترى له العقار‪ :‬خذ ذهبك مني"‪ ،‬فالحوار بين الرجلين يوضح‬
‫لنا أي نوع هذين الرجلين‪ ،‬ويبين أنها من الصنف الورع األمين‪ ،‬اْلتمسك بدينه‪ ،‬الخائف من الوقوع في الشبهة‪ ،‬رغم بريق‬
‫الذهب الزاهي أمامها‪.‬‬

‫أمثلة للقصة النبوية‬


‫تنقسم القصة النبوية إلى ثالثة أقسام‪:‬‬
‫‪ .1‬القصة الو اقعية‪ :‬وهي أحداث وتجارب ذاتية وقعت في الرسول ﷺ في فترات مختلفة من حياته وفي ظروف مختلفة‪.‬‬
‫مثال ذلك قول الرس ــول ﷺ ‪ -‬في رؤيا قصـ ـ ا على الص ــحابة رض ــوان هللا علي م‪ ،‬ورؤيا األنبياء حق – ‪ « :‬أتاني ربي عز وجل‬
‫الليلة في أحسـ ـ ــن صـ ـ ــورة أحسـ ـ ــبه ‪ -‬يعني في النوم ‪ -‬فقال ‪ :‬يا محمد هل تدري فيم يختصـ ـ ــم اْلأل األعلى؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬ال‪ ،‬قال النبي ﷺ‪:‬‬
‫فوض ــع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي‪ ،‬أو قال‪ :‬نحري ‪ ،‬فعلمت ما في الس ــموات وما في األرض‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا محمد هل تدري‬
‫فيم يختص ـ ـ ـ ــم اْلأل األعلى؟ قــال‪ :‬قلــت‪ :‬نعم‪ ،‬يختص ـ ـ ـ ــمون في الكفــارات والــدرجــات‪ ،‬قــال‪ :‬ومــا الكفــارات والــدرجــات ؟ قــال‪ :‬اْلكــث في‬
‫اْلسـاجـد‪ ،‬واْلش ي على األقـدام إلى الجـمـعـات‪ ،‬وإبالغ الوضـوء في اْلكاره ‪ » . . .‬رواه أحمد في مسنده‪۳6۸/۱ ،‬‬
‫لق ـ ــد عبر الرسول ﷺ باْلكث في اْلساج ـ ــد عن الذكر والدعاء والتسبيح مجازا مرسال عالقته السببية (من إطالق السبب‬
‫وإرادة اْلس ــبب)‪ ،‬كما عبر باْلش ـ ي على األقدام إلى الجمعات عن فعل الخير والحس ــنات فأطلق الس ــبب وأراد اْلس ــبب‪ .‬وفي ذلك إش ــارة‬
‫إلى الثواب الجزيل ْلن قام ب ا‪ ،‬وأيضا ْلن هم ب ا ولم يفعل ا‪ ،‬ألمر داهمه فمنعه عن القيام ب ا‪.‬‬

‫‪ .2‬القص ــة التمثيلية‪ :‬اتخذها الرس ــول ﷺ مثاال للفكرة اْلطروحة أو القض ــية اْلقررة س ــواء وقع هذا اْلثال على أرض الواقع أو لم يقع؛‬
‫فالقصة التمثيلية تصور وقائع وأحداثا قد نتصور وقوع ا وقد تقع على أرض الواقع‪ ،‬ويستسيغ العقل وقائع ا‪.‬‬
‫مثال ذلك حديث اْلصـ ـ ــطفى ﷺ عن اْلسـ ـ ــلمين والي ود والنصـ ـ ــارى في قبول م للنور الذي جاء من عند هللا أو عدم قبول م‬
‫له‪ ،‬وبيان فوت أجر كل من الي ود والنصـارى لعدم بقائ م على اإليمان بما أنزل هللا بعد نسـخ رسـاالت م‪ ،‬أما اْلسـلمون فقد اسـتكملوا‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪69‬‬
‫أجر الفريقين بإيمان م بحمد ﷺ‪ ،‬وما جاء به من الحق إض ــافة إلى إيمان م باألنبياء الس ــابقين‪ ،‬وإقرارهم برس ــاالت م‪ ،‬وما جاءوا به من‬
‫ُ‬ ‫أ‬ ‫الدين الصـ ـ ـ ــحيح‪ ،‬فكان جزاؤهم كما بينه النبي ﷺ بقوله‪ « :‬مث ُل أاْلُ أسـ ـ ـ ـلمين و أالي ُهود و ّ‬
‫النصـ ـ ـ ـارى كمث ِل ر ُج ٍل ا أسـ ـ ـ ـتأجر ق أو ًما ي أعملون ل ُه‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫صــــ ّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫أ أُ‬ ‫ّأ‬ ‫ً أً‬
‫اطل‪،‬‬ ‫ف النه ِار‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال حاجة لنا ِإلى أج ِرك ال ِذي ش ـ ـ ـ ـرطت لنا‪ ،‬وما ع ِملنا ب ِ‬ ‫وم‪ ،‬فع ِملوا له ِإلى ِن أ ِ‬
‫عمال‪ ،‬يوما ِإلى اللي ِل على أج ٍر معل ٍ‬
‫ُ‬ ‫أ ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫ُ أ ُ‬
‫فقال ل ُه أم‪ :‬ال ت أفعلوا‪ ،‬أك ِملوا ب ِق ّية عم ِلك أم وخذوا أ أجرك أم ك ِامال‪ ،‬فأب أوا وتركوا‪ ،‬وا أسـ ـ ـ ـتأجر آخرأي ِن ب أعد ُه أم‪ ،‬فقال‪ :‬أك ِملوا ب ِق ّية ي أو ِمك أم هذا‬
‫أ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ول ُكم ّال ِذي ش ـر أط ُت ل ُه أم من أاأل أجر‪ ،‬فعم ُلوا ح ّتى إذا كان ِح ُين ص ـالة أالع أ‬
‫اطل‪ ،‬ولك األ أج ُر ال ِذي جعلت لنا ِف ِيه‪،‬‬ ‫ص ـ ِر‪ ،‬قالوا‪ :‬لك ما ع ِملنا ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النهار ش ـ أيء ي ِس ـير‪ ،‬فأب أوا‪ ،‬وا أس ـت أأجر ق أو ًما أ أن ي أعم ُلوا ل ُه ب ِق ّية ي أو ِمه أم‪ ،‬فعم ُلوا ب ِق ّية ي أو ِمهمأ‬ ‫فقال ل ُهم‪ :‬أ أكم ُلوا بق ّية عمل ُك أم‪ ،‬فإن ما بقي من ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ّ أ ُ أ أ ُ أ أ‬ ‫ّ‬
‫ور » رواه البخاري ‪۵۱-۵۰/۳‬‬ ‫حتى غاب ِت الشمس‪ ،‬واستكملوا أجر الف ِريقي ِن ِكلي ِهما فذ ِلك مثلهم ومثل ما ق ِبلوا ِمن هذا الن ِ‬
‫شـبه الرسـول عليه الصـالة والسـالم الهدى بالنور بجامع االهتداء في كل‪ .‬ثم اسـتـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ــار النور املحسـوس اْلرئي لـ ـ ـ ـ ــلهـ ـ ـ ـ ــدى‬
‫اْلع ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ــول اْلعنوي فوض ــح اْلعنى‪ ،‬وجعل الص ــورة مأنوس ــة لدى النفس‪ .‬ولم يقف البيان النبوي عند هذا الحد من إيض ــاح اْلعنى‪،‬‬
‫وحسـن تصـويره‪ ،‬بل إن الجانب اللفظي سـاعد على توضـيح اْلعنى‪ ،‬فكان اللفظ اْلوحي‪ ،‬وهو لفظ «النور» اْلشـار إليه باسـم اإلشـارة‬
‫الحس ـ ـ ــية «هذا» ‪ ،‬حتى بدت الص ـ ـ ــورة ظاهرة واض ـ ـ ــحة للعيان‪ .‬فهذا النور يبدد الظالم الحس ـ ـ ـ ي‪ ،‬وينير جوانب الطرق‪ ،‬فيبعث األمن‬
‫والطمأنينة في النفس‪ ،‬كما أن الهدى يبدد ظالم النفس‪ ،‬ويدعوها إلى ال هدوء واالس ـ ـ ـ ــتقرار‪ ،‬ويقتل حيرتها‪ ،‬ويقض ـ ـ ـ ـ ي على اض ـ ـ ـ ــطرابها‬
‫النفس ـ ـ ي والفكري‪ .‬وهكذا يظهر أثر هذا النور في نفوس اْلسـ ــلمين بفضـ ــل طاعتهم نبيهم؛ لينالوا الفوز العظيم‪ ،‬فها هم هؤالء عملوا‬
‫واستكملوا أجر الفريقين‪.‬‬

‫‪ .۳‬القصة الغيبية‪ :‬وهي التي تتناول أحداثا ووقائع من صميم الغيب‪ ،‬مستمدة من مشاهد اآلخرة‪ ،‬وهي غيب سواء وقعت في اْلاض ي أو‬
‫سوف تقع في اْلستقبل‪ ،‬وهي بالنسبة لإلنسان غيبا مج وال ال تقع تحت حواس البشر‪.‬‬
‫ُ‬
‫مثال ذلك قول النبي ﷺ‪ٍّ « :‬إن أول الناس ُي أقضـ ـ ى يوم القيامة عليه ر ُجل ا أسـ ـ ُتشـ ـ د فأ ِتي به ّ‬
‫أ‬
‫فعرفه نعمه‪ ،‬فعرف ا‪ .‬قال‪ :‬فما‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫قاتلت فيك حتى ا أس ـ ـ ـ ُت أش ـ ـ ـه أد ُت‪ ،‬قال‪ :‬كذ أبت ٍّ‬
‫ُ‬
‫ولكنك قاتلت ألن يقال ج ِر أيء‪ ،‬فقد قيل‪ ،‬ثم أ ِمر به فس ـ ـ ـ ِحب على وجهه‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫عملت فيها؟ قال‪:‬‬
‫ّأ ُ أ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ُأ‬
‫حتى أل ِقي في الن ــار‪ ،‬ورج ــل تعلم ال ِعلم وعلم ـه‪ ،‬وقرأ القرآن ف ــأتي ب ــه‪ ،‬فع ّرف ــه نعم ــه فعرفه ــا‪ ،‬ق ــال‪ :‬فم ــا عمل ــت فيه ــا؟ ق ــال‪ :‬تعلم ـت ال ِعلم‬
‫أ‬ ‫ّ‬ ‫وع ّل أم ُته‪ ،‬وقر ُ‬
‫أت ف ـ ـ ــيك القرآن‪ ،‬قال‪ :‬كذبت‪ ،‬ولكنك تعل أمت ال ِعلم ل ـ ـ ـي ـ ـ ـق ـ ـ ــال ع ِالم‪ ،‬وقرأت القرآن ُليقال هو قارىء‪ ،‬فقد قيل‪ .‬ثم أمر به‬
‫فسحب على و أج ِه ِه حتى ألقي في النار ‪ » . . .‬رواه مسلم ‪ ،4۷/6‬وأحمد في مسنده‪ ،۳۲۲/۲ ،‬والنسائي ‪۲۳/6‬‬ ‫ُ‬
‫هذا الحوار القص ـص ـ ي يرس ــم مش ــهدا من مش ــاهد يوم القيامة‪ ،‬يرس ــم ص ــورة حية للخزي والعار الذي يناله اْلراءون يومئذ‪.‬‬
‫فاألفعال «أمر به فسـحب على وجهه حتى ألقي في النار»أفعال ماضـية‪ ،‬وكان مقتضـ ى السـياق أن يقال‪ :‬يؤمر به‪ ،‬فيسـحب‪ ،‬حتى يلقى‪،‬‬
‫لكن البيان النبوي عبر عن أحداث اْلس ـ ـ ــتقبل تلك بص ـ ـ ــيغة اْلاض ـ ـ ـ ي‪ ،‬وآثر هذا التعبير حتى ص ـ ـ ــور ما س ـ ـ ــيقع في اْلس ـ ـ ــتقبل كأنه حدث‬
‫بـالفعـل‪ ،‬إشـ ـ ـ ـ ــارة إلى تحقيق الوعيـد‪ .‬وفي ذلـك التنبيـه إلى وجوب اإلخالص في العمـل‪ ،‬والتحـذير من الريـاء؛ ألن عقـابـه حـاصـ ـ ـ ـ ــل وواقع‪،‬‬
‫وإنكاره غير مقبول‪ .‬وفي بناء األفعال للمجهول ما يفيد معنى اإلكراه والقسر‪.‬‬
‫فشــبه األمر والســحب واإللقاء في اْلســتقبل باألمر والســحب واإللقاء في اْلاضـ ي‪ ،‬بجامع تحقق الوقوع في كل‪ .‬ثم اســتعير كل‬
‫من األمر في اْلاضـ ي لألمر اْلســتقبل‪ ،‬والســحب في اْلاضـ ي للســحب في اْلســتقبل‪ ،‬واإللقاء في اْلاضـ ي لإللقاء في اْلســتقبل‪ .‬ثم اش ـتق من‬
‫ُ‬
‫«سحب» بمعنى ُ«يسحب»‪ ،‬ومن اإللقاء « ألقي » بمعنى ُ«يلقى» استعارة تصريحية تبعية‪.‬‬ ‫األمـر «أمر» بمعنى «يؤمر»‪ ،‬ومن السحب ُ‬
‫وإذا كان يعبر عن اْلسـتقبل باْلاضـ ي لتحقق الوقوع‪ ،‬كذلك يعبر عن وقائع وأحداث ماضـية بصـيغة اْلسـتقبل؛ السـتحضـار‬
‫ص ـ ـ ـ ــورته‪ ،‬فتكون ماثلـة في النفوس‪ ،‬حاض ـ ـ ـ ــرة في الخيـال‪ ،‬فتتمكن في النفس وتقر بهـا‪ ،‬وهذا من أهداف البيـان النبوي‪ ،‬ولذلك يلجـأ إلى‬
‫األسلوب التقريري في تصوير األحداث‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪70‬‬
‫‪ o‬اْلراجع‪:‬‬
‫‪ .1‬القصة النبوية‪ ،‬خصائصها وأهدافها التربوية للدكتور حافظ محمد بادشاه (محاضر بقسم اللغة العربية في الجامعة‬
‫الوطنية للغات الحديثة‪ ،‬إسالم آبد)‪ ،‬مجلة القسم العربي‪ ،‬جامعة بنجاب‪ ،‬الهور – باكستان‪ .‬العدد الثاني والعشرون‪،‬‬
‫‪ 2015‬م‬
‫‪ .2‬الوجوه البيانية في القصة النبوية وأسرارها الدقيقة‪ ،‬رسالة مقدمة لنيل درجة اْلاحستير في البالغة‪ ،‬إعداد الطالبة فوزية‬
‫بنت عبد هللا بن سند العصيمي‪ ،‬وزارة التعليم العالي‪ ،‬جامعة أم القرى – كلية اللغة العربية‪.‬‬
‫‪ .3‬القصة التمثيلية في نماذج من الحديث النبوي الشريف – قراءة أسلوبية‪ ،‬مجلة جامعة النجاح لألبحاث (العلوم اإلنسانية)‬
‫املجلد ‪2013 ،)8( 27‬‬
‫‪ .4‬القصة في السنة النبوية – شبكة األلوكة‬
‫‪ .5‬الهيكل العام لبناء القصص النبوي – شبكة األلوكة‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪71‬‬
‫اخلصائص البالغية لألدعية النبوية مع دراسة حتليلية إلحدى أدعيته‬

‫‪ .1‬دعاء محمد صلى هللا عليه وسلم‬

‫ما هي أدعية األنبياء اْلستجابة في القرآن؟ وما هي أدعية األنبياء والرسل؟ يعرض هذا اْلقال أدعية األنبياء في القرآن الكريم‪.‬‬
‫ٍّإن دعاء سيدنا ٍّ‬
‫محمد ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في القرآن ما يأت‪:‬‬
‫الر ُسو ُل يا ر ٍّب إ ّن ق أو ِمي ّاتخ ُذوا هـذا أال ُق أرآن م أه ُج ً‬
‫ورا﴾ [الفرقان‪.]30 :‬‬ ‫﴿وقال ّ‬ ‫▪‬
‫ِ ِ‬
‫صيرا﴾ [االسراء‪.]80 :‬‬ ‫﴿و ُقل ٍّب أدخلني ُمدخل صدق وأخرجني ُمخرج صدق واجعل لي من ل ُدنك ُس ً‬
‫لطانا ن ً‬ ‫▪‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫رِ ِ‬
‫ُّ‬
‫الذ ٍّل وك ٍّب ُره ت ً‬ ‫ُ ُ ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ ّ ّ‬ ‫ُ‬
‫كبيرا﴾ [االسراء‪.]111 :‬‬ ‫لك ولم يكن له و ِلي ِمن ِ ِ‬
‫﴿وق ِل الحمد ِلل ِـه الذي لم يت ِخذ ولدا ولم يكن له شريك ِفي اْل ِ‬ ‫▪‬
‫ُ ّ ٍّ أ‬
‫اغ ِف أر و أارح أم وأنت خ أي ُر ّ‬
‫الر ِاح ِمين﴾ [اْلؤمنون‪.]118 :‬‬ ‫﴿وقل ر ِب‬ ‫▪‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫﴿ر ِ ٍّب فال ت أجعل ِني ِفي الق أو ِم الظ ِ ِاْلين﴾ [اْلؤمنون‪.]94 :‬‬ ‫▪‬
‫أ ُُ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ون (‪[ ﴾)98‬اْلؤمنون‪.]98-97 :‬‬ ‫﴿وقل ّر ِ ٍّب أعوذ ِبك ِمن همز ِ‬
‫ات الشيا ِط ِين (‪ )97‬وأعوذ ِبك ر ِب أن يحضر ِ‬ ‫▪‬
‫ُ‬
‫﴿وقل ر ِ ٍّب ِزدني ِع ًلما﴾ [طه‪.]144 :‬‬ ‫▪‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫السماوات و أاأل أ ض عالم أالغ أيب و ّ‬ ‫ُ ّ‬
‫الشهاد ِة أنت ت أحك ُم ب أين ِعب ِادك ِفي ما ك ُانوا ِف ِيه يخت ِل ُفون﴾ [الزمر‪.]46 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ر ِ ِ‬ ‫اطر ّ‬
‫﴿ق ِل الل ُـه ّم ف ِ‬ ‫▪‬
‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ ُأ‬ ‫أ ُأ‬ ‫أ ُأ‬ ‫ُ ّ‬
‫﴿ق ِل الل ُـه ّم م ِالك اْلل ِك ُت أؤ ِتي اْللك من تش ُاء وت ِنز ُع اْللك ِم ّمن تش ُاء وت ِع ُّز من تش ُاء و ُت ِذ ُّل من تش ُاء ِبي ِدك الخ أي ُر ِإ ّنك على ك ِ ٍّل ش أي ٍء‬ ‫▪‬
‫ُ أ‬ ‫أ ٍّ ُ ُ‬ ‫أ ٍّ ُ أ ُ أ ٍّ‬ ‫ّأ ُ أ ُ أ‬ ‫ّ ُ ُ ّ‬ ‫ُ ُ ّأ‬
‫اب‬‫ق ِدير (‪ )26‬ت ِولج الليل ِفي النه ِار وت ِولج النهار ِفي اللي ِل وتخ ِرج الح ّي ِمن اْل ِي ِت وتخ ِرج اْل ِيت ِمن الح ِي وت أرزق من تشاء ِبغي ِر ِحس ٍ‬
‫(‪[ ﴾)27‬آل عمران‪.]27-26 :‬‬

‫أ‬
‫﴿اغ ِف أر و أارح أم وأنت خ أي ُر ّ‬
‫الر ِاح ِمين﴾ [اْلؤمنون‪.]118 :‬‬ ‫قوله تعالى‪:‬‬ ‫•‬

‫جناس اشتقاق‪.1‬‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫السماوات و أاأل أ ض عالم أالغ أيب و ّ‬ ‫ُ ّ‬
‫الشهاد ِة أنت ت أحك ُم ب أين ِعب ِادك ِفي ما ك ُانوا ِف ِيه يخت ِل ُفون﴾ [الزمر‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ر ِ ِ‬ ‫اطر ّ‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬ق ِل الل ُـه ّم ف ِ‬ ‫•‬
‫‪.]46‬‬
‫أ‬
‫(الغ أيب‪ ...‬و ّ‬
‫الشهاد ِة)‪.2‬‬ ‫ِ‬ ‫الطباق بين‬

‫البالغ ن يف القرآن الكريم‪.197 :‬‬


‫ي‬
‫ن‬ ‫(‪ )1‬اإلعجاز‬
‫(‪ )2‬المرجع نقسه‪.278 :‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪72‬‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ ُأ‬ ‫أ ُأ‬ ‫أ ُأ‬ ‫ُ ّ‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬ق ِل الل ُـه ّم م ِالك اْلل ِك ُت أؤ ِتي اْللك من تش ُاء وت ِنز ُع اْللك ِم ّمن تش ُاء وت ِع ُّز من تش ُاء و ُت ِذ ُّل من تش ُاء ِبي ِدك الخ أي ُر ِإ ّنك على‬ ‫•‬
‫أ‬ ‫أ أ‬ ‫أ‬ ‫أ أ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫النهار ِفي الل أي ِل و ُتخ ِر ُج الح ّي ِمن اْل ٍِّي ِت و ُتخ ِر ُج اْل ٍِّيت ِمن الح ٍّ ِي وت أر ُز ُق من تش ُاء ِبغ أي ِر‬
‫النهار و ُتول ُج ّ‬
‫ّ‬
‫ك ِ ٍّل ش أي ٍء ق ِدير (‪ )26‬ت ِولج الل أيل ِفي ِ ِ‬
‫اب (‪[ ﴾)27‬آل عمران‪.]27-26 :‬‬
‫ِحس ٍ‬
‫في اآلية الكريمة الكثير من ضروب الفصاحة والبالغة ما يأتي‪:1‬‬
‫ُ‬ ‫أ‬
‫‪ -‬الطباق بين ُ(ت أؤ ِتي وتن ِز ُع) و (ت ِع ٍّز و ُت ِذ ُّل)‪.‬‬
‫أ ُأ‬
‫‪ -‬الجناس الناقص في (م ِالك اْلل ِك)‪.‬‬
‫أ ُأ‬ ‫أ ُأ‬
‫‪ -‬في قوله تعالى‪(ُ :‬ت أؤ ِتي اْللك من تش ُاء وت ِنز ُع اْللك ِم ّمن تش ُاء) التكرار للتفخيم والتعظيم وفيها كذلك إيجاز بالحذف أي تؤتي اْللك من تشاء أن‬
‫تؤتيه ومثلها وتنزع وتعز وتذل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النهار و ُتول ُج ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ ُ ّ‬
‫النهار ِفي الل أي ِل)‪.‬‬ ‫‪ -‬في قوله تعالى‪( :‬ت ِولج الل أيل ِفي ِ ِ‬

‫جاء في تلخيص البيان هذه استعارة عجيبة وهي عبارة عن إدخال هذا على هذا وهذا على هذا فما ينقصه من الليل يزيده في النهار والعكس‪،‬‬
‫ولفظ اإليالج أبلغ ألنه يفيد إدخال كل واحد منهما في األخر بلطيف اْلمازجة وشديد اْلالءمة‪.‬‬
‫أ‬ ‫أ أ‬ ‫أ‬ ‫أ أ‬
‫‪ -‬في قوله تعالى‪( :‬و ُتخ ِر ُج الح ّي ِمن اْل ٍِّي ِت و ُتخ ِر ُج اْل ٍِّيت ِمن الح ٍّ ِي)‪.‬‬

‫الحي واْليت مجاز عن اْلؤمن والكافر فقد شبه اْلؤمن بالحي والكافر باْليت وهللا أعلم‪.‬‬

‫‪ .2‬دعاء عيس ى عليه السالم‬


‫ً ٍّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫أ ُ أ ّ‬
‫الل ُه ّم رّبنا أنز أل عل أينا ما ِئد ًة ٍِّمن ّ‬
‫يدا ِأل ّوِلنا‬ ‫السم ِاء تكون لنا ِع‬ ‫ِ‬ ‫دعاء إنزال اْلائدة من السماء‪ :‬قال هللا تعالى‪﴿ :‬قال ِعيس ى ابن مريم‬ ‫▪‬
‫و ِآخرنا وآي ًة ٍِّمنك ۖ و أار ُز أقنا وأنت خ أي ُر ّ‬
‫الر ِاز ِقين﴾ [الصف‪.]6 :‬‬ ‫ِ‬
‫دعاء اْلغفرة لقومه‪ :‬قال هللا تعالى‪﴿ :‬إن ُتع ٍِّذ أب ُه أم فإ ّن ُه أم ِعب ُادك ۖ وإن ت أغ ِف أر ل ُه أم فإ ّنك أنت أالعز ُيز أالح ِك ُ‬
‫يم﴾ [اْلائدة‪.]118 :‬‬ ‫▪‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ .3‬دعاء آدم عليه السالم‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ّ أ‬
‫دعاء توبة النبي آدم ‪-‬عليه السالم‪ -‬إلى هللا تعالى‪ ،‬قال هللا تعالى‪﴿ :‬قاال رّبنا ظل أمنا أ ُنفسنا و ِإن ل أم تغ ِف أر لنا وت أرح أمنا لنكون ّن ِمن‬ ‫▪‬
‫أ‬
‫اس ِرين﴾ [األعراف‪.]23 :‬‬
‫الخ ِ‬

‫‪ .4‬دعاء موس ى عليه السالم‪:‬‬

‫للنبي موس ى ‪ -‬عليه السالم‪ -‬الكثير من األدعية في القرآن الكريم‪ ،‬وهذه األدعية هي‪:‬‬
‫أ‬ ‫ً‬ ‫﴿و أاك ُت أب لنا في هذه ُّ‬
‫الد أنيا حسنة و ِفي اآل ِخر ِة ِإ ّنا ُه أدنا ِإل أيك﴾ [األعراف‪.]156 :‬‬ ‫ِ ِِ‬ ‫▪‬

‫(‪ )1‬المرجع نفسه‪.61-60 :‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪73‬‬
‫ُُ‬ ‫أ‬ ‫ۖ ّ أ‬ ‫ُّ‬ ‫﴿رّبنا إ ّنك آت أيت ف أرع أون ومأل ُه زين ًة وأ أمو ًاال في أالحياة ُّ‬
‫س على أ أمو ِال ِه أم واش ُد أد على قل ِوب ِه أم‬
‫اط ِم أ‬ ‫الد أنيا رّبنا ِل ُي ِضلوا عن س ِب ِيلك ربنا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫▪‬
‫أ‬ ‫ّ ُ أ‬
‫فال ُي أؤ ِمنوا حتى يروا العذاب األ ِليم﴾ [يونس‪.]88 :‬‬‫ُ‬

‫أ ٍّ‬ ‫ً ٍّ‬ ‫أُ‬ ‫ٍّ أ‬


‫اجعل ِلي و ِز ًيرا ٍِّم أن أ أه ِلي (‪)29‬‬‫احل أل ُع أقدة ٍِّمن ِلسا ِني (‪ )27‬ي أفق ُهوا ق أو ِلي (‪ )28‬و‬ ‫﴿ب اشر أح ِلي ص أد ِري (‪ )25‬وي ِ ٍّس أر ِلي أ أم ِري (‪ )26‬و‬‫ِ‬ ‫▪‬
‫اش ُد أد ب ِه أ أز ِري (‪ )31‬وأ أشر أك ُه في أ أمري (‪ )32‬ك أي ُنس ٍّبحك ك ِث ًيرا (‪ )33‬ون أذ ُكرك ك ِث ًيرا (‪ )34‬إ ّنك ُكنت بنا ب ِصيراً‬ ‫أ‬
‫ه ُارون أ ِ ي (‪)30‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪[ ﴾)35‬طه‪.]35-25 :‬‬
‫الر ِح ُ‬
‫يم﴾ [القصص‪.]15 :‬‬ ‫ور ّ‬‫اغف أر لي فغفر ل ُه ِۚ إ ّن ُه ُهو أالغ ُف ُ‬
‫أ‬ ‫أ ُ أ‬ ‫ٍّ ٍّ‬
‫▪‬
‫ِ‬ ‫﴿ر ِب ِإ ِني ظلمت نف ِس ي ف ِ ِ‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫﴿ر ِ ٍّب ن ِ ٍّج ِني ِمن الق أو ِم الظ ِ ِاْلين﴾ [القصص‪.]21 :‬‬ ‫▪‬
‫أ‬ ‫ٍّ‬
‫﴿ر ِ ٍّب ِإ ِني ِْلا أنزلت ِإل ّي ِم أن خ أي ٍر ف ِقير﴾ [القصص‪.]24 :‬‬ ‫▪‬
‫ٍّ ُ أ ُ ٍّ ٍّ ُ ٍّ ُ ٍّ ُ ٍّ ّ ُ أ ُ أ أ‬ ‫ُ‬
‫اب﴾ [غافر‪.]27 :‬‬
‫﴿وقال موس ى ِإ ِني عذت ِبرِبي ورِبكم ِمن ك ِل متك ِب ٍر ال يؤ ِمن ِبيو ِم ال ِحس ِ‬ ‫▪‬

‫‪ .5‬دعاء يونس عليه السالم‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اض ًبا فظ ّن أن لن ّن أق ِدر عل أي ِه فنادى ِفي‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ورد دعاء سيدنا يونس ‪ -‬عليه السالم‪ -‬في سورة األنبياء حيث قال تعالى ً‬
‫مخبرا عنه‪﴿ :‬وذا النو ِن ِإذ ذهب مغ ِ‬
‫ّ‬ ‫الظ ُلمات أن ّال إله إ ّال أنت ُس أبحانك إ ٍّني ُك ُ‬
‫ُّ‬
‫نت ِمن الظ ِ ِاْلين﴾ [األنبياء‪.]87 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫مكروبا وقتما دعا هذا الدعاء‪ٍّ ،‬‬
‫ونجاه هللا تعالى من كربه‪ ،‬واستجاب دعاءه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فالنبي يونس كان‬

‫‪ .6‬دعاء نوح عليه السالم‬

‫رد لسيدنا نوح ‪ -‬عليه السالم‪ -‬أكثر من دعاء في القرآن الكريم‪ ،‬وهذه األدعية هي‪:‬‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ ّ أ‬ ‫أ‬ ‫أ أ‬ ‫ٍّ ُ ُ‬
‫﴿ر ِ ٍّب ِإ ِني أعوذ ِبك أن أسألك ما ليس ِلي ِب ِه ِعلم ۖ و ِإال تغ ِف أر ِلي وت أرح أم ِني أكن ٍِّمن الخ ِ‬
‫اس ِرين﴾ [هود‪.]47 :‬‬ ‫▪‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أُأ‬ ‫أ ً أ أ‬ ‫ّ أ‬
‫﴿ر ِ ٍّب اغ ِف أر ِلي و ِلو ِالد ّي و ِْلن دخل ب أي ِتي ُمؤ ِمنا و ِلل ُمؤ ِم ِنين واْلؤ ِمن ِ‬
‫ات وال ت ِز ِد الظ ِ ِاْلين ِإال تب ًارا﴾ [نوح‪.]28 :‬‬ ‫▪‬
‫ٍّ أ ُ‬
‫﴿أ ِني مغلوب فانت ِص أر﴾ [القمر‪.]10 :‬‬ ‫▪‬
‫أ أُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أ‬ ‫ُ‬
‫﴿وقل ّر ِ ٍّب أ ِنزل ِني ُمنزال ُّمباركا وأنت خي ُر اْل ِ ِ‬
‫نزلين﴾ [اْلؤمنون‪.]29 :‬‬ ‫▪‬

‫‪ .7‬دعاء شعيب عليه السالم‬


‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ّ أ ِۚ‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫َللا توكلنا رّبنا افت أح ب أيننا وب أين ق أو ِمنا ِبالح ِ ٍّق وأنت خ أي ُر الفا ِت ِحين﴾ [األعراف‪ ،]89 :‬ومعنى‪" :‬افتح‬
‫إن دعاء شعيب ‪ -‬عليه السالم‪ -‬هو‪﴿ :‬على ِ‬
‫بيننا"‪ ،‬أي‪ :‬احكم بيننا‪.‬‬

‫‪ .8‬دعاء إبراهيم عليه السالم‬

‫وردت العديد من االدعية على لسان سيدنا إبراهيم‪ ،‬نذكرها فيما يأتي‪:‬‬
‫ِۚ‬ ‫ُ‬ ‫اجع ألني ُم ِقيم ّ‬
‫الصال ِة و ِمن ذ ٍّ ِرّي ِتي رّبنا وتق ّب أل ُدع ِاء﴾ [إبراهيم‪.]40 :‬‬ ‫﴿ر ٍّب أ‬ ‫▪‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪74‬‬
‫اج ُن أبني وبن ّي أن ّن أع ُبد أاأل أ‬
‫صنام﴾ [إبراهيم‪.]35 :‬‬ ‫ً أ‬ ‫أ‬ ‫ٍّ أ أ‬ ‫▪‬
‫﴿ر ِب اجعل هذا البلد ِآمنا و ِ ِ‬
‫أ‬ ‫اجع ألني من ورثة ج ّنة ّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ ٍّ‬ ‫﴿ر ٍّب ه أب لي ُح أك ًما وأ أل ِح أقني ب ّ‬
‫الن ِع ِيم (‪ )85‬واغ ِف أر‬ ‫ِ ِ‬ ‫الص ِال ِحين (‪ )83‬واجعل ِلي ِلسان ِصد ٍق ِفي اآل ِخ ِرين (‪ )84‬و ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫▪‬
‫ّ أ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ِأل ِبي ِإنه كان ِمن الض ِالين (‪ )86‬وال تخ ِزِني يوم يبعثون (‪ )87‬يوم ال ينفع مال وال بنون (‪ِ )88‬إال من أتى َللا ِبقل ٍب س ِل ٍيم (‪﴾ )89‬‬
‫[الشعراء‪.]89-83 :‬‬
‫﴿ر ٍّب ه أب لي ِمن ّ‬
‫الص ِال ِحين﴾ [الصفات‪.]100 :‬‬ ‫▪‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ِح ُ‬
‫يم﴾ [البقرة‪.]128 :‬‬ ‫اب ّ‬ ‫اجع ألنا ُم أسلم أين لك ومن ُذ ٍّرّيتنا ُأ ّم ًة ُّم أسلم ًة ّلك وأرنا مناسكنا و ُت أب عل أينا ۖ إ ّنك أنت ّ‬
‫الت ّو ُ‬ ‫﴿رّبنا و أ‬ ‫▪‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫‪ .9‬دعاء داوود عليه السالم‬
‫ُذكر في القرآن الكريم ٍّأن داوود ‪ -‬عليه السالم‪ -‬استغفر ٍّربه وأناب إليه‪ ،‬ولكن لم ُيذكر دعاء خاص له‪ٍّ ،‬إال ما ورد في قصة طالوت مع جالوت‪ٍّ ،‬‬
‫وأن‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫وده ق ُالوا رّبنا أ أفر أغ عل أينا ص أب ًرا وث ٍّب أت أ أقدامنا و ُ‬ ‫ُُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ُ‬
‫انص أرنا على الق أو ِم الكا ِف ِرين﴾ [البقرة‪ ،]250 :‬ومعنى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫طالوت وجنوده قالوا‪﴿ :‬وْلا برزوا ِلجالوت وجن ِ ِ‬
‫جنديا في جيش طالوت‪.‬‬ ‫صبرا‪ ،‬وداوود ‪ -‬عليه السالم‪ -‬كان ً‬ ‫صبرا"‪ ،‬أي‪ :‬أنزل علينا ً‬ ‫"أفرغ علينا ً‬

‫‪ .10‬دعاء سليمان عليه السالم‬


‫اغ ِف أر لي وه أب لي ُم أل ًكا ّال ينب ِغي ِألح ٍد ٍِّمن ب أع ِدي ۖ إ ّنك أنت أالو ّه ُ‬
‫اب﴾ [ص‪.]35 :‬‬
‫ٍّ أ‬
‫ٍّإن دعاء سليمان ‪ -‬عليه السالم‪ -‬هو‪﴿ :‬ر ِب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ .11‬دعاء زكريا عليه السالم‬

‫دعا زكريا ‪ -‬عليه السالم‪ -‬بالذرية والولد فقال‪:‬‬


‫﴿ر ٍّب ه أب لي من ّل ُدنك ُذ ٍّرّي ًة ط ٍّيب ًة ۖ إ ّنك سم ُيع ُّ‬
‫الدع ِاء﴾ [العمران‪.]38 :‬‬ ‫▪‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫أ‬
‫﴿ر ِ ٍّب ال تذ أرِني ف أر ًدا وأنت خ أي ُر الو ِارِثين﴾ [األنبياء‪.]89 :‬‬ ‫▪‬

‫‪ .12‬دعاء أيوب عليه السالم‬

‫الر ِاح ِمين﴾ [األنبياء‪ ،]83 :‬فاستجاب له ٍّربه وكشف‬ ‫مخبرا عن أيوب عليه السالم‪﴿ :‬وأ ُّيوب إ أذ نادى رّب ُه أ ٍّني م ّسني ُّ‬
‫الض ُّر وأنت أ أرح ُم ّ‬ ‫قال تعالى ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٍّ‬
‫ضره‪.‬‬

‫‪ .13‬دعاء هود عليه السالم‬

‫اط ُّم أست ِق ٍيم﴾ [هود‪.]56 :‬‬ ‫ّ ٍّ‬ ‫ّ ّ ُ‬ ‫ّ ٍّ ٍّ ُ‬ ‫ٍّإن دعاء هود ‪ -‬عليه السالم‪ -‬هو‪ ّ ٍّ :‬أ ُ‬
‫َللا رِبي ورِبكم ِۚ ّما ِمن داب ٍة ِإال هو ِآخذ ِبن ِ‬
‫اصي ِتها ِۚ ِإن رِبي على ِصر ٍ‬ ‫﴿إ ِني توكلت على ِ‬
‫ِ‬
‫‪ .14‬دعاء لوط عليه السالم‬

‫ورد لسيدنا لوط ‪ -‬عليه السالم‪ -‬أكثر من دعاء‪ ،‬وهذه األدعية هي‪:‬‬
‫ُ‬
‫﴿ر ِ ٍّب ن ِ ٍّج ِني وأ أه ِلي ِم ّما ي أعملون﴾ [الشعراء‪.]169 :‬‬ ‫▪‬
‫أُ‬ ‫أ‬
‫انص أرِني على الق أو ِم اْل أف ِس ِدين﴾ [العنكبوت‪.]30 :‬‬
‫﴿ر ٍّب ُ‬
‫ِ‬ ‫▪‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪75‬‬
‫‪ .15‬دعاء يوسف عليه السالم‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫السماوات و أاأل أرض أنت ول ٍّيي في ُّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫أ ُأ‬
‫الد أنيا واآل ِخر ِة ۖ توف ِني‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اطر ّ‬
‫يث ِۚ ف ِ‬
‫أ أ‬
‫داعيا‪﴿ :‬ر ِ ٍّب قد آتيت ِني ِمن اْلل ِك وعل أمت ِني ِمن تأ ِو ِيل األح ِاد ِ‬
‫قال يوسف عليه السالم ً‬
‫ُم أس ِل ًما وأ أل ِح أقني ب ّ‬
‫الص ِال ِحين﴾ [يوسف‪.]101 :‬‬ ‫ِ ِ‬
‫‪ .16‬دعاء يعقوب عليه السالم‬
‫ّ‬
‫َللا ما ال ت أعل ُمون﴾ [يوسف‪.]86 :‬‬ ‫دعاء يعقوب ‪ -‬عليه السالم‪ -‬في القرآن قوله‪﴿ :‬إ ّنما أ أش ُكو ب ٍّثي و ُح أزني إلى ّ أ‬
‫َللا وأعل ُم ِمن ِ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إقرأ اْلزيد على سطور‪.‬‬

‫تركيب اجلملة‬
‫التقديم‬ ‫❖‬

‫أوال‪ :‬تقديم مفردة على مفردة ‪:‬‬

‫ويلحظ فيها تقديم معنى على معنى‪ ،‬ومن ذلك تقديم اإلطعام على السقاية في دعائه ‪-‬عليه السالم‪ -‬ومنه قوله‪:‬‬

‫«اللهم أطعم من أطعمني‪ ،‬واسق من سقاني»‪.‬‬ ‫▪‬

‫«الحمد هلل الذي أطعمنا وسقانا‪ ،‬وكفانا وآوانا‪ ،‬فكم ممن ال كافي له وال مؤوي»‪.‬‬ ‫▪‬

‫وهذا لبيان أهمية اإلطعام ودوره في الحفاظ على الكائن الحي‪ ،‬واستمراريته في الحياة‪ ،‬يستطيع اإلنسان االمتناع عن الشراب أليام قبل أن ينهار‬
‫جسده‪ ،‬ولكن لن يصبر أبدا على الطعام الذي هو مصدر حرارته وبقائه‪ ،‬ومهما طالت مدة احتماله فالعلة حاصلة كنقص الفيتاسينات واْلعادن‬
‫وغيرها من اْلواد الالزمة لبناء الجسد‪ ،‬ولن يسد النقص حال األكل على العكس من الشرب‪ ،‬كما أن اْلاء سهل يسير الحصول عليه‪ ،‬بينما ينبغي‬
‫لتأتي الطعام بذل اْلال واْلشقة‪ ،‬ومن اْلمكن أن تحصل على اْلاء من الطعام‪ ،‬فجعله في األولويات وقدمه على الشراب وغيره‪ ،‬كما قدم الطعام‬
‫والشراب على الكفاية واإليواء‪ ،‬فالبقاء حيا أول ما يؤرق اإلنسان ويشغله‪ ،‬فإذا ثبت ذلك تعداه للتفكير في اْلسكن واْلأوى‪ .‬وفي القرآن تقدم األكل‬
‫على الشراب في قوله تعالى‪﴿ :‬وكلوا واشربوا وال تسرفوا﴾ [األعراف‪ .]31 :‬ومنه أيضا تقديم التنقية على الغسيل‪ ،‬في قوله عليه السالم‪« :‬اللهم نقني‬
‫من خطايا كما ينقى الثوب األبيض من الدنس‪ ،‬اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج واْلاء والبرد»‪.‬‬

‫لقد قدم عليه السالم التقية على الغسيل‪ ،‬وجعلها مرحلة هيأ فيها العبد نفسه للرجوع عن ذنوبه وخطاياه‪ ،‬فكأنما يخلصه هللا شيئا فشيئا من‬
‫تلك الخطايا فالتنقية وهللا أعلم محو الذنب وإزالة‪ ،‬ثم يمطره بماء يغسل ما تبقى منها‪ ،‬كتلك الذنوب الصغيرة وبقايا اآلثام العالقة‪ ،‬والغسيل هنا‬
‫ْلا تبقى من آثار الذنوب‪ ،‬وهذا األصل في إزالة الش يء وغسله‪ .‬ومنه قوله عليه الصالة والسالم‪« :‬اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» فقدم‬
‫الخبث وأخر الخبائث‪ .‬والخبث كما ذكر مسلم والبخاري‪ :‬الشر كله‪ ،‬والخبائث األفعال الذميمة غير املحمودة‪ ،‬وقيل إنهما ذكران الجن وإنائهم‪.‬‬
‫فإذا كان الخبث األصل في الشر ومنبعه ومصدره كانت االستعاذة منه أولى أن تقدم‪ ،‬وحتى في التفسير الثاني الذكر أصل لألنثى مثلما كان آدم‬
‫أصال لحواء وهللا أعلم‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪76‬‬
‫ثانيا‪ :‬تقديم بعض أجزاء الجملة على بعض‬

‫ومنه تقديم اْلتعلق (الجار واملجرور) على الفعل‪ ،‬مثال ذلك قوله عليه الصالة والسالم‪:‬‬

‫((اللهم باسمك أحيا‪ ،‬وباسمك أموت))‪.1‬‬ ‫▪‬

‫وهذا التقديم يحمل معنى الحصر والتقديم والقصر‪ ،‬فليس الحياة واْلوت اال باسم هللا وإرادته ومشيئته‪.‬‬

‫((اللهم لك الحمد ملء السماء‪ ،‬وملء األرض))‪.2‬‬ ‫▪‬

‫فقصر الحمد على هللا عز وجل‪ ،‬ينفرد به وبربو بيته‪ ،‬والقصر هنا حقيقي‪ ،‬تحصل من قصر الصفة على اْلوصوف [الهاشمي‪ ،‬أحمد (‪)2006‬‬
‫جواهر البالغة‪ ،‬ط‪ ،2‬مؤسسة املختار للنشر والتوزيع‪ /‬القاهرة‪ /‬ص ‪ ]161‬فال ينقطع وال يتوقف‪.‬‬

‫((وليديه فاغفر))‪.3‬‬ ‫▪‬

‫فقدم اليدين ْلا ترتكبانه وتقدمانه من معاص وآثم‪.‬‬

‫((اللهم لك أسلمت‪ ،‬وبك آمنت‪ ،‬وعليك توكلت‪ ،‬وإليك أنبت‪ ،‬وبك خاصمت‪ ،‬اللهم إني أعوذ بعزتك‪ ،‬ال إله إال أنت‪ ،‬أن تصلني‪،‬‬ ‫▪‬
‫أنت الحي الذي ال يموت والجن واإلنس يموتون))‪.4‬‬

‫فتقديم الجار واملجرور على الفعل في أكثر من جملة إنما هو لألهمية‪ ،‬فقد قصر كل التسليم واإليمان والتوكل على هللا‪ .‬ومن أشكال التقديم في‬
‫الدعاء النبوي تقديم الجار واملجرور على (الفعل واْلفعول به) ويكون غرض القصر فيها جوهريا متعلقا بحالة الجملة ومعناها‪.‬‬

‫((سبحانك اللهم ربي بك وضعت جنبي‪ ،‬وبك أرفعه‪ ،‬إن أمسكت نفس ي‪ ،‬فاغفر لها‪ ،‬وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك‬ ‫▪‬
‫الصالحين))‪.5‬‬

‫توكيد‬ ‫❖‬

‫توكيد في الدعاء ودالالته البالغية‬

‫الخبر هو ما يحتمل الصدق والكذب لذاته‪ ،‬ويراد بالصدق مطابقته للواقع‪ ،‬والكـذب عـدم اْلطابقة وللخبر أضرب ثالثة‪ :‬ضرب ابتدائي‪ ،‬يلقى‬
‫فيه الخبر خاليا من اْلؤكـدات‪ ،‬وضرب طلبي يأتي فيه الخبر بمؤكد واحد‪ ،‬والضرب األخير إنكاري‪ ،‬يكـون الخبـر فيـه بمؤكدين فأكثر‪.‬‬

‫التوكيد في الدعاء ودالالته البالغية الخبر هو ما يحتمل الصدق والكذب لذاته‪ ،‬ويراد بالصدق مطابقته للواقع‪ ،‬والكـذب عـدم اْلطابقة وللخبر‬
‫أضرب ثالثة‪ :‬ضرب ابتدائي‪ ،‬يلقى فيه الخبر خاليا من اْلؤكـدات‪ ،‬وضرب طلبي يأتي فيه الخبر بمؤكد واحد‪ ،‬والضرب األخير إنكاري‪ ،‬يكـون الخبـر‬
‫فيـه بمؤكدين فأكثر‪.‬‬

‫واْلؤكدات تتفاوت بتفاوت درجة اإلنكار أو التصديق‪ ،‬وكلما ازداد املخاطـب إنكـارا ازدادت اْلؤكدات‪ ،‬انظر قوله تعالى في قصة أصحاب القرية‪:‬‬

‫صحيح مسلم‪.32/9 :‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫صحيح مسلم‪.363/2 :‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صحيح مسلم‪.328 /1 :‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫صحيح مسلم‪.34 /3 :‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫صحيح مسلم‪.31 /9 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪77‬‬
‫ُ ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ أ‬ ‫﴿ق ُالوا ما أ ُنت أم إ ّال بشر ٍِّم أث ُلنا وما أنزل ّ‬
‫الر أحم ُن ِمن ش أي ٍء ِإ أن أ ُنت أم ِإال تك ِذ ُبون (‪ )15‬قالوا رُّبنا ي أعل ُم ِإ ّنا ِإل أيك أم ْل أرسلون (‪[ ﴾)16‬يس‪.]16-15 :‬‬ ‫ِ‬
‫فتدرج الحوار ما بين اإلخبار وتردد السامع في قبول الخبر‪ ،‬ثم إنكاره الخبر كليا في ردهم‪:‬‬

‫‪ ...‬وما أنزل الرحمن من ش يء‪ ،‬ليلقى الخبر بمؤكدين لدفع الشك وتأكيد الخبر‪ ...« :‬إنـا إليكم ْلرسلون‪ ،‬والتوكيد هنا بإن والالم‪ ،‬وهي الم االبتداء‪.‬‬

‫من أمثلة الدعاء النبوي الخبري اْلؤكد نورد هذه النماذج مع محاولة بيان األغراض من التوكيد‪ ،‬كثر التوكيد بإن مقرونة مع االستعاذة‪ ،‬ومنه‬
‫قوله عليه السالم‪:‬‬

‫«اللهم إني أعوذ بك من اْلأثم واْلغرم»‪.‬‬ ‫▪‬

‫«اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر‪ ،‬وأعوذ بك من فتنة اْلسيح الدجال»‪.‬‬ ‫▪‬

‫«اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم‪ ،‬وعذاب القبر»‪.‬‬ ‫▪‬

‫«اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار‪ ،‬وفتنة القبر وعذاب القبر»‪.‬‬ ‫▪‬

‫«اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل»‪.‬‬ ‫▪‬

‫والتوكيد هنا جاء إلظهار اليقين الكامل‪ ،‬بأن االستعاذة ال تكـون إال بـاهلل‪ ،‬والحمايـة والوقاية ال تتحقق إال بيقين صاحبها باهلل صاحب القدرة‬
‫والقـوة‪ ،‬وهـو يثبـت هلل القـدرة واالستطاعة على أن يعيذ من استعاذ به‪ ،‬ويجير من استجار به‪ .‬فهو سبحانه بيده القـدرة التامة‪ ،‬والداعي يشعر‬
‫بقوة هذه القدرة وحقيقتها‪ ،‬وكما هي مؤكدة عنده يعكسها فـي دعائـه وجملته‪ .‬واقترنت االستعاذة باألمور اْلهلكة كعذاب القبر والكسل والجبن‬
‫والنار وشـر مـا مض ى وما هو آت‪ ،‬وهي ما يطلب كل ذي لب الوقاية منها فتثبت في جنانه وفكره‪ ،‬فتحسن معها االستعاذة كما يحسن فيها التوكيد‬
‫للتثبيت واإلقرار بأنها ملحة في ضمير اْلتكلم (الداعي)‪.‬‬

‫داللة التنكيروالتعريف‬ ‫❖‬


‫ً‬
‫مقصودا‪ ،‬فالقرآن الكريم على سبيل اْلثال ُيورد بعض‬ ‫من خالل التتبع ألسلوب القرآن العظيم نجد في بعض األحيان ٍّأن اإلبهام قد يكون‬
‫ٍّ‬ ‫ً‬
‫الكلمات‪ ،‬ولها دالالت خاصة ضمن سياق معين فمثال‪ :‬ال نراها مقصورة على اْلعنى اْلتبادر منها في أو األمر إال عندما ننعم النظر والتدقيق في‬
‫الكلمة نجد أن داللتها تتسع وأن لها إشعاعات مضيئة توحي باْلعنى األهم واْلقصود األدق‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫وقد يظن ضان أن اْلعرفة أجال فهي ِمن النكرة أوال‪ ،‬ويخفا عليه أن اإلبهام في مواطن خليق وأن سلوك اإليضاح ليس بسلوك الطريق؛ وعلة‬
‫فإنها لواحد بعينه يثبت الذهن عنده ويسكن إليه‪ ،‬فالنكرة تأتي ضمن سياقات‬ ‫ذلك‪ :‬أن النكرة ليست بمفردها مقدار مخصوص بخالف اْلعرفة ٍّ‬
‫ٍّ‬
‫معينة‪ ،‬واْلعرفة تأتي ضمن سياقات أخرى وْلا كان في اإلبهام للتفخيم على سبيل اْلثال حذفوا صلة اْلوصول من قولهم‪ :‬بعد الوتيا‪ ...‬إلى آخره من‬
‫كالم العرب أي بعد القضية‪ ،‬التي ال يبلغ الخبر مداها وال يحصل الخبر حالها وهذا في كتاب البرهان؛ لذلك أبهم هللا سبحانه وتعالى أسماء أهل‬
‫الكهف‪ ،‬وزمانهم‪ ،‬ومكانهم‪ ،‬وقد أجهد اْلفسرون أنفسهم ليعرفوا أسمائهم‪ ،‬واسم كلبهم‪ ،‬وزمانهم‪ ،‬ومكانهم‪ ،‬ولو أراد القرآن الكريم أن يعرفهم‬
‫ولكن القرآن العظيم أبهم ذلك‪ ،‬وفي هذا بالغة يقصدها القرآن‪ ،‬فقد يكون اإلبهام اسمى مراتب البيان؛ ألنهٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫ويعلمنا زمانهم لفعل‪ّ ،‬‬
‫ويحدد مكانهم ِ‬
‫ً‬
‫لو قال أسمائهم‪ ،‬واألسماء مشخصات مثال‪ ،‬فربما قال قائل‪ :‬هذه الظاهرة لهؤالء األسماء بخصوصهم‪ ،‬ولو ٍّ‬
‫عين القرآن الكريم مكانهم‪ ،‬لقال قائل‪:‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪78‬‬
‫ليدل على ٍّ‬
‫أن الوصف هو اْلطلوب‪ ،‬فقال‬ ‫لكن الحق سبحانه وتعالى في كتابه الحق أبهم األسماء‪ ،‬والزمان‪ ،‬واْلكان؛ ٍّ‬ ‫ربما كان مكانهم يسمح بذلك‪ّ ،‬‬
‫﴿إ ّن ُه أم ِف أتية آم ُنوا ِبرٍِّب ِه أم و ِز أدن ُاه أم ُه ًدى﴾ [الكهف‪.]13 :‬‬
‫تعالى‪ِ :‬‬
‫نتأمل كلمات في كتاب هللا تعالى من ناحية التنكير‪ ،‬ومن ناحية التعريف فنأتي إلى كلمة‪( :‬حياة)‪ ،‬فلو تأملنا كلمة حياة بصيغة التنكير في سياق‬
‫اس على حي ٍاة﴾ [البقرة‪ ،]96 :‬فكلمة (حياة) بالتنكير‬ ‫ّ‬ ‫ُّ أ أ‬
‫الحديث عن اليهود الذين أعرضوا عن الدعوة اإلسالمية في قوله تعالى‪﴿ :‬ولت ِجدنهم أحرص الن ِ‬
‫أقل ما يصدق عليه اسم الحياة فوردوها‬ ‫توحي بحرص أولئك اليهود على أن يضيفوا إلى حياتهم ولو عاشوا ما عاشوا حياة زائدة‪ ،‬ولو كان الزائد ٍّ‬
‫منكرة يعني‪ :‬أثارت في النفس تحقير‪ٍّ ،‬‬ ‫ٍّ‬
‫ودل على حياة حقيرة وشدت تكالب عليها من قبلهم‪ ،‬ونرى في مقابل ذلك التنكير التعريف للحياة اآلخرة لتفيد‬
‫أ‬ ‫ّ ّ أ‬ ‫أ ُ ُّ ّ‬
‫الدار اآل ِخرة ل ِهي الحيو ُان ل أو ك ُانوا‬ ‫الد أنيا ِإال ل أهو ول ِعب و ِإن‬ ‫هذه الحياة ٍّ‬
‫اْلعرفة اْلبالغة في إكبار شأنها وتعظيم أمرها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وما ه ِذ ِه الحياة‬
‫صورت في النفس بعبث األوالد ولعبهم ساعة من‬ ‫ي أعل ُمون﴾ [العنكبوت‪ ،]64 :‬فالحياة الدنيا محصورة في اللهو واللعب من باب التشبيه البليغ وقد ٍّ‬
‫النهار ثم يتفرقون‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫ولكل منهما مقام يناسبه وحال يقتضيه‪ ،‬ونظير‬ ‫فعندما نأتي إلى أسلوب القرآن الكريم نرى التنكير لغرض‪ ،‬والتعريف لغرض آخر أو لعلة أخرى‪ٍ ،‬‬
‫ُ أ أ‬
‫اص حياة﴾ [البقرة‪ ،]179 :‬فتنكير لفظ‪(:‬حياة) أفاد التعظيم‪ ،‬وذلك ٍّأنهم كانوا في الجاهلية يقتلون بالواحد‬‫ذلك في قوله تعالى‪﴿ :‬ولكم ِفي ال ِقص ِ‬
‫الجماعة‪ ،‬كما في أخبارهم وسيرهم يتقاتلون فيما بينهم ويتناحرون فيما بينهم وكان ُيقتل باْلقتول غير قاتله فتدور الفتنة ويقع بينهم التناحر‪ٍّ ،‬‬
‫فلما‬
‫ُ‬
‫شرع القصاص فكانت هذه الحياة فيها الحياة واإلنسان إذا علم ٍّأنه إذا قتل قتل ارتدع من القتل فيسلم هو من القتل وصاحبه من‬ ‫جاء اإلسالم ٍّ‬
‫سببا في حياة نفس ِين فهذه الحياة اْلستقبلة مستفادة من شرعية القصاص‪.‬‬ ‫القتل فكان القصاص ً‬

‫ونأتي إلى كلمة أخرى‪ ،‬كما قال العلماء في تنكير (أحد)‪ ،‬وتعريف (الصمد) األمام السيوطي‪-‬رحمه هللا‪ -‬سأل عن حكمة في تنكير (أحد)‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َللا أحد (‪ُ ّ )1‬‬ ‫ُ‬
‫﴿ق أل ُهو ّ ُ‬
‫الصم ُد (‪ )2‬ل أم ي ِل أد ول أم ُيول أد (‪ )3‬ول أم يك أن ل ُه ك ُف ًوا أحد (‪[ ﴾ )4‬اإلخالص‪ ،]4-1:‬فأجاب‬
‫َللا ّ‬ ‫وتعريف(الصمد) في قوله تعالى‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫للتعظيم‪ ،‬واإلشارة إلى أن مدلوله‪ ،‬وهو الذات اْلقدسة غير ممكن تعريفها واإلحاطة بها‪ ،‬ومما خطر لي أن (هو) مبتدأ‪ ،‬و(َللا) خبر‪،‬‬ ‫بقوله‪ٍّ :‬إنه ُن ٍّكر ٍّ‬
‫واستغني عن تعريف (أحد)؛ إلفادة‬‫صر ليطابق الجملة األولى‪ُ ،‬‬ ‫الصم ُد)؛ إلفادة أالح أ‬ ‫فعرف الجزآن في‪ُ ّ :‬‬
‫(َللا ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫أ‬
‫وكالهما معرفة‪ ،‬فاقتض ى الحصر‪ِ ،‬‬
‫االسم الكريم مبتدأ‪ ،‬و(أحد) خبر‪ ،‬ففيه من ضمير الشأن ما فيه من‬ ‫الحصر دونه‪ ،‬فأتي به على أصله من التنكير‪ ،‬على أنه خبر ثان‪ ،‬وإن جعل أ‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫أ‬
‫التفخيم والتعظيم‪ ،‬فأتى بالجملة الثانية على نحو األولى‪ ،‬بتعريف الجزأين للحضر تفخيما وتعظيما‪.‬‬

‫لكل من التنكير والتعريف في النص‬ ‫وعرفه في أماكن أخرى‪ ،‬وقد كان ٍ‬ ‫كذلك إذا جئنا إلى تنكير كلمة (سالم) وتعريفها‪ ،‬فقد ٍّنكره في تحية األنبياء‪ٍّ ،‬‬
‫أ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬
‫وح ِفي الع ِاْلين﴾ [الصافات‪:‬‬
‫القرآني الكريم مقام كريم وسر عظيم‪ ،‬كقوله تعالى‪﴿:‬سالم على ِإبر ِاهيم﴾ [الصافات‪ ،]109 :‬وقوله تعالى‪﴿:‬سالم على ن ٍ‬
‫اسين﴾ [الصافات‪ ،]130 :‬وقوله تعالى‪﴿:‬سالم على ُموس ى وه ُارون﴾ [الصافات‪ ،]120 :‬فقد ابتدأ هللا سبحانه‬ ‫‪ ،]79‬وقوله تعالى‪﴿:‬سالم على ِإ أل ي ِ‬
‫ألن السالم دعاء وطلب‪ ،‬والعرب في ألفاظ الدعاء والطلب ٍّإنما يأتون بالنكرة ٍّإما مرفوعة‬ ‫وتعالى السالم بلفظ النكرة في كل هذه اآليات الشريفة؛ ٍّ‬
‫ويال له‪ً ،‬‬‫ً‬
‫رعيا له‪ ،‬فجاء سالم عليهم في بدأ التحية‬ ‫على االبتداء‪ ،‬أو منصوبة على اْلصدر‪ ،‬كقولهم في الدعاء على سبيل اْلثال على اإلنسان‪ :‬ويل له‪،‬‬
‫ُ‬
‫ألن هللا سبحانه وتعالى يقول‪ ﴿:‬ق أر ًآنا عرِبيا غير ِذي ِعو ٍج﴾ [الزمر‪ ،]28 :‬أي‪ :‬أن القرآن‬
‫أ‬ ‫ًّ‬ ‫بلفظ النكرة‪ ،‬كما جاءت بقية األلفاظ الدعاء عند العرب؛ ٍّ‬
‫العظيم جاء على وفق أساليب اللغة العربية‪.‬‬

‫الدالالت البالغية ( للمشتقات وصيغ األفعال)‬ ‫❖‬

‫أوال‪ :‬املشتقات‬

‫اْلشتق مأخوذ من غيره‪ ،‬ألن األصل له ينسب له ويتفرع منه‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪79‬‬
‫اْلشتقات هي كل مأخوذ من اْلادة (الفعل الثالثي) وهي ما نعرفه في اسم الفاعل‪ ،‬واسم اْلفعول‪ ،‬والصفة اْلشبهة‪ ،‬وصيغة اْلبالغة‪ ،‬ومصدر‬
‫اْلرة‪ ،‬واْلصدر اْليمي‪ ،‬واسمي الزمان واْلكان‪ .‬وقد رصد البحث اْلشتقات الواردة في دعاء النبوي فرأى تنوعا على قلة ورودها‪ ،‬ويستطيع أن يلخص‬
‫إلى ذلك بالتدليل على بعض أنواع اْلشتقات مع بيان الداللة على سبيل االستشهاد ال على سبيل الحصر‪ .‬مع اإلشارة إلى أن اْلشتقات السابقة‬
‫وردت كلها في الدعاء النبوي بتفاوت واضح‪.‬‬

‫ومن اْلشتقات في دعاء النبوي قوله عليه السالم‪:‬‬


‫أ ُُ‬ ‫ُُ‬ ‫ّ ُ ّ ُ ٍّ‬
‫وب ص ٍّ ِرف قلوبنا على طاع ِتك»‪.‬‬
‫«اللهم مص ِرف القل ِ‬
‫فمن مقتضيات السؤال واإلجابة‪ ،‬أن تسأل من يمكنه تحقيق اْلسألة‪ ،‬وإال فلن يكون جديرا بالسؤال‪ ،‬وإذا كان اإليمان متحصال في القلب بأن‬
‫هللا هو مصرف القلوب وموجه لها على كل حال‪ ،‬استشعر القلب ذلك فنطق به في اللسان‪ ،‬وانتقى من السبيكة اللغوية ما يظهر للمسؤول بأن‬
‫ُُ‬ ‫ّ ُ ّ ُ ٍّ‬
‫عبده السائل عالم متيقن بقدرته‪ ،‬فكانت دعوة الرسول "اللهم مص ِرف القل ِ‬
‫وب"‬

‫وهذا أدعى لإلجابة وأسرع‪.‬‬

‫هذا من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى جاءت أسماء الفاعلين التي تشير إلى اْلؤمنين‪ ،‬لتدل على ثباتهم على تلك الصفات التي أحب هللا فيهم‪ ،‬ودعاهم‬
‫إليها‪ ،‬ورغمهم فيها‪ ،‬وهذا أيضا يزيد في اإلجابة‪ .‬ومثال ذلك قوله عليه السالم‪:‬‬
‫ُ أ أ ٍّ‬ ‫هللا و ِل أل ُمق ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ أ أ ٍّ‬
‫«الله ّم اغ ِف أر ِلل ُمح ِل ِقين»‪.‬‬ ‫ص ِرين؟ قال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫«الله ّم اغ ِف أر ِلل ُمح ِل ِقين»‪ ،‬قالوا‪ :‬يا ر ُسول ِ‬

‫والحلق والتقصير نسق في الحج والعمرة‪ ،‬ويفضل الحلق للرجل على التقصير‪ ،‬أما األول فبإزالة الشعر‪ ،‬وأما التقصير فتجزئة منه وأقلها ثالث‬
‫شعرات‪ .‬ويفيد اسم الفاعل هنا التجدد والدوام‪ ،‬فهم على عادتهم ال ينقطعون عنها‪ ،‬وهذا يضفي على الدعاء قوة وإلحاحا‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬دالالت األفعال‬

‫يقول عبد القاهر الجرجاني في دالئل اإلعجاز‪( :‬وأما الفعل فموضوع على أنه يقتض ي تجدد اْلعنى اْلثبت به شيئا بعد ش يء) ويقول أيضا‪( :‬إن‬
‫موضوع االسم على أن يثبت به اْلعنى للش يء من غير أن يقتض ي تجدد ش يء بعد ش يء)‪.‬‬

‫وشرح الجرجاني شاهدا آية قرآنية ال نرى بدا من عرضها لجمال الفكرة فيها إذ يقول‪:‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫اسط ِذراع أي ِه ِبالو ِص ِ‬
‫يد﴾ [الكهف‪.]18 :‬‬ ‫فانظر إلى قوله تعالى‪﴿ :‬وكل ُب ُهم ب ِ‬

‫فإن أحدا ال يشك في امتناع الفعل ههنا‪ ،‬وأن قول (كلبهم يبسط ذراعيه) ال يؤدي الغرض‪ ،‬وليس ذلك إال ألن الفعل يقتض ي مزاولة الصفات‬
‫وتجددها في الوقت‪ .‬ويقتض ي االسم ثبوت الصفة وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وترجية فعل ومعنى يحدث شيئا فشيئا‪.‬‬

‫ومثال دالالت األفعال في دعاء النبي قوله عليه السالم‬


‫ُ ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ ّ ٍّ ُ‬
‫اهيم مكة»‪.‬‬‫هم ِإني أح ٍّ ِر ُم ما أبين جبل أيها ِمثل ما ح ّرم إبر‬ ‫«الل‬

‫إشارة لطيفة إلى عنايته صلى هللا عليه وسلم بدقة اْلعنى‪ ،‬فلم يقل يا رب لقد حرمت ما بين جبليها‪ ،‬بل قصد إلى استعمال أحرم‪ ،‬ليفيد اْلداومة‬
‫وعدم االنقطاع وعدم الرجوع عما رمى إليه وطلبه‪.‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪80‬‬
‫القصر ودالالته البالغية‬

‫يعد القصر من أساليب التوكيد البالغية‪ ،‬بل نستطيع القول بأنه أعالها مرتبة؛ ألنـه توكيد فوق توكيد‪ ،‬ففيه تختصر جملتان في جملة واحدة‬
‫ويتحد معنيان ليؤكدا معنى واحدا‪.‬‬

‫وطرق القصر أربعة‪:‬‬

‫‪ .1‬القصرب "إنما"‬
‫وهي أداة القصر اْلشهورة‪ ،‬نحو قوله تعالى‪﴿ :‬إ ّنما ح ّرم عل أي ُك ُم أاْل أيتة و ّ‬
‫الدم﴾ [البقرة‪ .]173 :‬وهنا يتأخر اْلقصور عليه وجوبا على اْلقصور‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪ .2‬القصربالنفي مع االستثناء‬

‫وفيه ترد أداة نفي في سياق االستثناء لغاية القصر‪ .‬ويكـون اْلقصور عليه بعد أداة االستثناء‪ ،‬نحو قول الشاعر‪:‬‬

‫وقد علمت سلمى *** وجاراتها ما قطر الفارس إال أنا‬

‫‪ .3‬القصربحروف العطف (ال‪ ،‬بل‪ ،‬لكن) نحو قولنا‪:‬‬

‫"اْلتنبي شاعر ال كاتب"‪ ،‬وهنا يتقدم اْلقصور عليه قبل حرف العطف ليـستوي اْلعنى‪.‬‬

‫"ما األرض ثابتة لكن متحركة"‪ ،‬ويكون اْلقصور عليه متأخرا بعد حـرف العطـف‪.‬‬

‫ما األرض ثابتة بل متحركة "‪ ،‬ويكون اْلقصور عليه متأخرا بعد بل‪.‬‬

‫‪ .4‬القصربتقديم ما حقه التأخير‬

‫﴿إ ّياك ن أع ُب ُد و ِإ ّياك ن أست ِع ُين﴾ [الفاتحة‪.]4 :‬‬


‫كقوله تعالى‪ِ :‬‬
‫وأشار سيبويه إمام النحاة إلى القصر فقال‪:‬‬

‫(كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم‪ ،‬وهم ببيانه أعنى‪ ،‬وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم)‬

‫ويكون التقديم للجار واملجرور أو ضمير النصب اْلنفصل‪ .‬وفي أدعية اْلصطفى عليه السالم تتبع البحث أسلوب القـصـر بـصوره األربع‪ .‬فوجد أن‬
‫القصر موجود بطرقه إال واحدة وهي القصر بحروف العطف‪ ،‬واألدعيـة كاآلتي وفق طرق القصر السابقة‪:‬‬

‫القصرب "إنما"‪ :‬دعاء واحد فقط وردت فيه (إنما) وهو قوله عليه السالم‪« :‬اللهم إنما أنا بشر‪ ،‬فأيما رجل من اْلسلمين سببته‪ ،‬أو لعنته‪ ،‬أو‬
‫جلدته‪ ،‬فاجعلها له زكاة ورحمة» (‪ .)2‬وجمهور العلماء على أنها (إن اْلؤكدة) و(ما الكافة)‪ ،‬رغم أن بعضا منهم قال إنها (ما النافية) حمال لها على‬
‫النفي واالستثناء في قوله تعالى‪" :‬إنما حرم عليكم اْليتة والدم" والقصد‪ :‬ما حرم عليكم إال اْليتة والدم وهذا ضعفه كثيرون‪.‬‬

‫ويقول فيها الجرجاني‪" :‬أقوى ما تكون وأعلق ما ترى بالقلب‪ ،‬إذا كان ال يراد بالكالم بعدها نفس معنـاه‪ ،‬ولكـن التعريف بأمر هو مقتضاه " (‪.)3‬‬
‫وإنما في الحديث الشريف السابق تحمل في لفظها ومعناهـا الحصر‪ ،‬فقد قصر عليه السالم ضمير اْلتكلم (أنا) على البشر‪ ،‬وفي هذا تقييد له بأنه‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪81‬‬
‫ال يعـدو واحدا منهم‪ .‬ولو قال‪ :‬بشر أنا‪ ،‬ألفادت معنى التوكيد فقط‪ ،‬ولكن إنما جعلت التوكيد أقوى بتعديه لجمع معنيين في معنى واحد‪ :‬أن‬
‫الرسول بشر وأن البشر يخطئون‪.‬‬

‫القصربالنفي مع االستثناء‬

‫ودعاء نبينا الكريم يشبه دعاء يونس عليه السالم‪ ،‬إذ نادى ربه مستغفرا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ٍّ ُ‬ ‫ّ‬
‫﴿أ أن ال ِإله ِإال أ أنت ُس أبحانك ِإ ِني ك أن ُت ِمن الظ ِ ِاْلين﴾ [األنبياء‪.]87 :‬‬

‫وإذا كان الخبر في اآلية جاء مؤكدا بإن التوكيدية‪ ،‬وأسلوب الحصر‪ ،‬ليظهر يقين يونس عليه السالم وإقراره بذنبه‪ ،‬فإن التكرار لجملة ال إله إال‬
‫هللا في الدعاء النبوي زاد علـى التأكيد تأكيدا وضاعفه‪ ،‬ليكون اْلعنى قويا وجليا ال شك فيه وال ريبة‪.‬‬

‫القصربتقديم ما حقه التأخير‬

‫تقديم شبه الجملة (الجار واملجرور) على متعلقة وهو النمط األكثر شيوعا في الحديث النبوي‪ ،‬ومثل ذلك قوله عليه السالم‪:‬‬

‫«بك وضعت جنبي» (‪« - )2‬لك أسلمت» (‪)1‬‬

‫«بك آمنت» (‪« - )4‬عليك توكلت» (‪)3‬‬

‫وفي لغة العرب تقديم الجار واملجرور يكون ْلزيد من االختصاص‪ ،‬وتذهب الدراسة إلى أن وهذا التقديم في األدعية الشريفة بتقديم شبه الجملة‬
‫على الفعل‪ ،‬اختصر الكثيـر مـن اْلعـانـي اْلتعلقة باإليمان والربوبية ما كانت لتظهر لو أخر الرسول الكريم الجار والجـرور‪ ،‬فلـيس التوكل أو‬
‫االستسالم هو الذي يؤرق رسولنا عليه الصالة والسالم‪ ،‬بل بيان اْلعبود الذي تتعلق به كل هذه األحوال فكان التقديم أقوى في ترسيخ التعلق‬
‫والخضوع‪.‬‬

‫املراجع‪:‬‬

‫‪ .1‬كتاب صحيح اْلسلم‪ ،‬أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري‪.‬‬

‫‪ .2‬الدعاء في الحديث النبوي الشريف أساليبه ودالالته لصباح أحمد سالم الشريف‪.‬‬

‫‪ .3‬جواهر البالغة‪ ،‬أحمد الهاشمي‪ ،‬الطبعة ‪ ،2‬مؤسسة املختار للنـشر والتوزيـع‪ ،‬القـاهرة ‪.2006‬‬

‫‪ .4‬علم اْلعاني والبديع في البالغة العربية‪ ،‬عبد العزيز عتيق‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪.‬‬

‫‪ .5‬النحو الوافي‪ ،‬حسن‪ ،‬عباس‪ ،‬ط ‪ ،3‬دار اْلعارف بمصر‪.‬‬

‫‪ .6‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬تعلیق محمود محمد شـاكر‪ ،‬ط ‪ ،3‬مطبعـة اْلـدني القاهرة ‪.1992‬‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪82‬‬
‫اخلصائص البالغية للخطبة النبوية مع دراسة حتليلية إلحدى خطبه‬
‫يف بالغة الرسول ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬

‫ترقى البالغة النبوية إلى أعلى مدارج الكمال البشري في حسن التأتي للمعاني بأدق ما يمكن أن تؤديه اْلفردات والجمل من دالالت ومعان‬
‫ً ً‬
‫تقع في النفوس موقعا بالغا من التأثير ما ال تنقض ي عجائبه وال يذهب بروائه ورونقه تقادم العهد وكثرة الترداد‪:‬‬
‫وإذا كان من شأن العرب أن يتكلفوا القول صناعة‪ ،‬يحسنها خطيبهم وحكيمهم‪ ،‬فإن الرسول ((صلى هللا عليه وسلم)) – وقد صنعه هللا‬
‫ً‬
‫سليما مما يعتري كالم الناس من خلل أو اضطراب‪ ،‬أو بعتور محدثهم من ٍّ‬
‫عى أو حصر‪1 .‬‬ ‫ً‬
‫على عينه – يرسل الحديث سليقة وإلهاما‪،‬‬
‫والجاحظ خير من وصف بالغة الرسول ((صلى هللا عليه وسلم)) بقوله‪" :‬وهو الكالم الذي قل عدد حروفه‪ ،‬وكثر عدد معانيه‪ ،‬وجل عن‬
‫الصنعة ونزه عن التكلف‪ ....‬واستعمل اْلبسوط في مواضع البسط واْلقصور في موضع القصر‪ ،‬وهجر الغريب الوحش ي‪ ،‬ورغب عن الهجين السوقي‪....‬‬
‫وهو الكالم الذي ألقى هللا املحبة عليه وغشاه بالقبول‪ ،‬وجمع له بين اْلهابة والحالوة وبين حسن اإلفهام‪ ،‬وقلة عدد الكالم"‪.‬‬
‫وال غرو أن الرسول ((صلى هللا عليه وسلم)) قد نشأ في أفصح القبائل‪ ،‬إذ كان مولده في بني هاشم‪ ،‬وأخواله من بني زهرة ورضاعه في سعد‬
‫بن بكر‪ ،‬ومنشؤه في قريش‪ ،‬لذا قال – عليه الصالة والسالم‪(( :‬أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر))‪.‬‬
‫وحين تهيئه العناية الربانية لالضطالع بأعظم ما عرفته البشرية في تاريخها الطويل من رساالت‪ ،‬وفي قوم لهم في ميدان البالغة والفصاحة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫القدح اْلعلى‪ ،‬فالبد أن يكون النبي اْلرسل إليهم أفضلهم بيانا وأقدرهم على التصرف في فنون القول‪ ،‬وأبعدهم عن عيوب الكالم زلال واضطرابا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وإلهاما من هللا‪ ،‬أو ما هذه سبيله))‪2.‬‬ ‫واستكراها ((فليس إال أن يكون ما خص به النبي صلى هللا عليه وسلم في ذلك قد كان توفيقا‬
‫والحديث الشريف كالقرآن الكريم يجري على سنن العرب في كالمها بحفوله باألساليب والفنون العربية التي وقفنا عليها من خالل مباحث‬
‫البالغيين‪ ،‬إال أن هذه األساليب والفنون تأتي في البيان النبوي كما في القرآن الكريم على الصورة التي تتساوق فيها الفكرة مع الفن التعبيري على أدق‬
‫ً‬
‫وجه‪ ،‬فكل لفظة أو جملة أو فقرة ال تجدها تنبو عن موضعها‪ ،‬وال يسع أحدا أن يخيلها عن ذلك اْلوضع أو يستبدل بها غيرها لتكون أو في داللة‬
‫وأشد إحكاما‪..‬‬
‫((وليس أحكام األداء وروعة الفصاحة وعذوبة اْلنطق وسالسة النظم‪ ،‬إال صفات كانت فيه صلى هللا عليه وسلم عند أسبابها‬
‫ً‬
‫الطبيعية‪ ....‬لم يتكلف لها عمال‪ ،‬وال ارتاض من أجلها رياضة بل خلق مستكمل األداة فيها‪ ،‬ونشأ موفر األسباب عليها‪ ،‬كأنه صورة تامة من الطبيعة‬
‫العربية))‪.‬‬
‫ً‬
‫وفي ضوء هذا كله كان جديرا بالدارسين أن تكون لهم وقفة بل وقفات متأنية متأملة عند البالغة النبوية بعقد مباحث تحليلية تكشف‬
‫عن مواطن البراعة والدقة في فن القول في أرفع مستوياته‪3 .‬‬

‫ن‬
‫الغن‪2007 ،‬م‪ ،‬ص‪.126 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫خطبة الوداع فوائد وفرائد‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫‪ 2‬المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.127 :‬‬
‫ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.127 :‬‬‫ن‬ ‫‪3‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪83‬‬
‫النص النبوي الكريم‬

‫ُ ُ‬
‫وذ باهلل م أن ُشرور أأن ُفسنا وم أن ٍّ‬ ‫نحمد ُه ون أست ِع ُينه‪ ،‬ون أست أغ ِف ُر ُه‪ ،‬ون ُت ُ‬
‫هللا فال ُم ِض ّل ل ُه‪ ،‬وم أن‬ ‫أعمالنا من ي أهد ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سيئآت أ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫وب إليه‪ ،‬ونع‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫(الحمد هلل‬
‫ُيض ِل أل فال ه ِادي ل ُه‪ .‬أ ّما بعد‪:‬‬
‫ٍّ أ ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫أ ُّيها ّ‬
‫لي ال ألقاك أم ب أعد عامي هذا‪ ،‬بهذا اْلوقف أبدا‬ ‫الناس‪ ،‬اسمعوا قولي‪ ،‬فإني ال أ أد ِري‪ ،‬لع‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أيها الناس ِإ ّن ِدماءك أم وأ أموالك أم وأ أعراضك أم عل أيك أم حرام ك ُح أرم ِة ي أو ِمك أم هذا ِفي ش أه ِرك أم هذا ِفي بل ِدك أم هذا أال ه أل بل أغ ُت » وإنكم ستلقون‬
‫أ‬
‫فليؤدها إلى م أن ائتمن ُه عليها‪ ،‬أال وإن كل ش يء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع‬ ‫ٍّ‬
‫ِ‬ ‫ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت‪ ،‬فم أن كان أت ِع أند ُه أمانة‬
‫ً ُ‬ ‫وإن با الجاه ٍّلية موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم ال تظلمون وال تظلمون‪ .‬قض ى هللا أنه ال ربا‪ٍّ ،‬‬
‫وإن أ ٍّول ربا أ أبدأ ِب ِه ِربا‬ ‫ِ‬ ‫ودماء الجاهلية موضوعة … ّ ِر‬
‫ع ٍّمي العباس بن عبد اْلطلب وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد اْلطلب‪ ،‬وكان مسترضعا في‬
‫بني ليث فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية‪.‬‬
‫أيها الناس فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا‪ ،‬ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رض ي به بما تحقرون من أعمالكم‬
‫فاحذروه على دينكم‪1 .‬‬

‫ُ ُّ ُ ً ُ ٍّ ُ ُ ً‬
‫عاما‪ ،‬ليواط ُئوا ع ّدة ما ح ّرم ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫هللا فيحلوا ما حرم هللا‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫الكفر‪ُّ ،‬‬
‫يضل به الذين كفروا‪ ،‬ي ِحلونه عاما‪ ،‬ويح ِرمونه‬ ‫ِ‬ ‫الناس‪ِ ،‬إ ّنما النس ُيء ِزيادة في‬
‫أ ُّيها ّ‬

‫ويحرموا ما أحل هللا‪ .‬إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق هللا السماوات واألرض وإن عدة الشهور عند هللا اثنا عشر شهرا‪ ،‬منها أربعة حرم ثالثة‬
‫متوالية ورجب‪ ،‬الذي بين جمادى وشعبان‪.‬‬
‫الناس‪ ،‬اتقوا هللا في النساء‪ ،‬فإنكم إنما أخذتموهن بأمانة هللا واستحللتم فروجهن بكلمات هللا‪ ،‬واستوصوا بالنساء خيرا‪ ،‬فإنهن عندكم‬ ‫أ ُّيها ّ‬
‫ً‬
‫عوان ال يملكن ألنفسهن شيئا إال أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في اْلضاجع‪ ،‬واضربوهن ضربا غير مبرح‪ ،‬فإن أطعنكم فال تبغوا‬
‫ً‬ ‫أ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫عليهن سبيال‪ .‬إال إن لكم على نسا ِئك أم حقا ِولنسا ِئك أم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم؛ فال ُيوطئن ف ُرشك أم غيركم‪ ,‬وال ُي أد ِخلن أحدا تكر ُهون ُه‬
‫ُ ّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬
‫احشة‪ ،‬فإن أط أعنك أم فعل أيك أم ِرزقهن وكسوت ُهن باْل أع ُر ِ‬
‫وف‪ ،‬فاعقلوا أيها الناس قولي‪ ،‬فإني قد بلغت وقد تركت فيكم ما إن‬ ‫بيوتك أم‪ ،‬وال يأتين ِبف ِ‬
‫اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا‪ ،‬أمرا بينا‪ ،‬كتاب هللا وسنة نبيه‪.‬‬
‫س‬ ‫أ‬ ‫ٍّ أ‬ ‫ُّ أ‬
‫المرى ٍء م ُ‬ ‫ُّ ّ‬
‫طيب نف ٍ‬
‫خيه إال عن ِ‬‫ال أ ِ‬ ‫أيها الناس‪ ،‬اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن اْلسلمين إخوة‪ ،‬فال ي ِحل ِ‬
‫ُ أ ُُ‬ ‫أ ُ ٍّ أ ُ ً‬ ‫ُ‬
‫ضك أم رقاب ب أعض‪.‬‬ ‫ضرب بع‬ ‫منه‪ ،‬فال تظلمن أنفسكم اللهم هل بلغت ؟ و ستلقون ربكم فال تر ِجعن بع ِدي كفارا ي ِ‬
‫ٍّ ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫واحد‪ُ ،‬ك ُّلك أم آلدم‪ُ ،‬‬ ‫ٍّ ُ‬ ‫ُ‬
‫عجمي إال‬ ‫ضل على‬ ‫لعربي ف أ‬
‫ٍّ‬ ‫هللا أأتقاك أم وليس‬
‫كرمك أم عند ِ‬ ‫وآدم من ُتراب‪ ،‬أ‬ ‫اس إن رّبك أم و ِاحد‪ ،‬وإن أباك أم ِ‬
‫أيها ٍّ‬
‫الن ُ‬
‫أ ّ أ ُ ٍّ‬
‫الل ُه ٍّم اشهد"‪2‬‬ ‫بالت أقوى‪ ،‬أال هل بلغت‪،‬‬
‫ٍّ‬

‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.8-7 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.9-8 :‬‬‫ن‬ ‫‪2‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪84‬‬
‫الدراسة البالغية‬

‫ً‬ ‫أ‬
‫الخطبة نموذج ائع للخطب الدينية‪ ،‬وقد التزم الخطيب بالوضوح اْلشرق ٍّ‬
‫ُ‬
‫الناس عنه جميعا‪ ،‬فأنت‬ ‫يريد أن ي أفهم‬
‫ألنه عليه السالم ُ‬ ‫ر‬ ‫هذه‬
‫اط ُب جميع البشر‪ ،‬ولن يبلغ حاجته بغير الوضوح ٍّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫والداعية األمين ٍّ‬
‫الساطع‬ ‫يقدر موقفه ويعرف أنه يخ ِ‬
‫ِ‬ ‫ال تشعر بلفظ غريب وال بمعنى مبهم‪ ،‬وكيف؟‬
‫دقيق كاشف‪.‬‬
‫واإلشراق الوض يء واْلعاني متسلسلة‪ ،‬مع تحديد ٍ‬
‫هللا َفال ُمض َّل َله‪ُ،‬‬
‫أع َمال َنا َمن َي ْهد ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫نحمد ُه َو َن ْس َتع ُينه‪َ ،‬ون ْس َت ْغف ُر ُه‪ ،‬ونت ُ‬
‫وب إليه‪ ،‬ون ُعوذ باهلل م ْن شرور أنفسنا وم ْن ِّ‬
‫سيئآت ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫(الحمد هلل‬
‫َ َ‬ ‫َ ْ ُ َ َ َ‬
‫ضل ْل فال َهاد َي ل ُه‪ .‬أ َّما بعد‪):‬‬ ‫ومن ي‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫صارت‬ ‫بدأ الرسول الخطبة الجامعة بالحمد والثناء فكان ذلك سننا مرسومة يحتذيه جميع الخطباء بل إن الجمل األولى من هذه الخطبة‬
‫محفوظة مشتهرة لكثرة ما ٍّ‬
‫يرددها الخطباء ُمعجبين‪ ،‬ولها مكانتها في نفوس ٍّ‬
‫السامعين‪ .‬وإن الثناء هلل تعالى نثني عليه‪ ،‬ونطلب منه العون‪ ،‬ونرجو‬ ‫ِ‬
‫اْلغفرة والرجوع إليه‪ ،‬ونلجأ إليه تعالى من وساوس أنفسنا‪ ،‬ومن دنايا أفعالنا‪ ،‬فإنه تبارك وتعالى يحفظ من هداه‪ ،‬فال سبيل إلى ضالله‪ ،‬ومن فقد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هدايته فلن يجد هاديا مرشدا‪ .‬وهذه االفتتاحية تبدو عباراتها معبرة عن لب اإليمان وجوهره‪ ،‬وعن حقيقة اإلسالم ومضمونه وهذا مسلك فريد‬
‫اتسمت به الخطابة اإلسالمية التي ازدهرت في ظالل اإلسالم‪1 .‬‬

‫أنه قال‪ :‬الحمد هلل ولم يقل أحمد هللا أو نحمد هللا وما قاله أولى من وجوه عدة‪:‬‬
‫إن القول " أحمد هللا " أو " نحمد هللا " مختص بفاعل معين ففاعل أحمد هو اْلتكلم وفاعل نحمد هم اْلتكلمون في حين أن عبارة "الحمد‬
‫هلل" مطلقة ال تختص بفاعل معين وهذا أولى فإنك إذا قلت " أحمد هللا " أخبرت عن حمدك أنت وحدك ولم تفد أن غيرك حمده وإذا قلت " نحمد‬
‫هللا " أخبرت عن اْلتكلمين ولم تفد أن غيركم حمده في حين أن عبارة "الحمد هلل" ال تختص بفاعل معين فهو املحمود على وجه اإلطالق منك ومن‬
‫غيرك‪.‬‬
‫وقول " أحمد هللا " تخبر عن فعلك أنت وال يعني ذلك أن من تحمده يستحق الحمد؛ في حين إذا قلت " الحمد هلل" أفاد ذلك استحقاق‬
‫الحمد هلل وليس مرتبط بفاعل معين‪.‬‬
‫وقول " أحمد هللا " أو " نحمد هللا " مرتبط بزمن معين ألن الفعل له داللة زمنية معينة‪ ،‬فالفعل اْلضارع يدل على الحال أو االستقبال‬
‫ومعنى ذلك أن الحمد ال يحدث في غير الزمان الذي تحمده فيه‪ ،‬وال شك أن الزمن الذي يستطيع الشخص أو األشخاص الحمد فيه محدود وهكذا‬
‫كل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن فإن أقص ى ما يستطيع أن يفعله أن يكون مرتبطا بعمره وال يكون قبل ذلك وبعده فعل فيكون الحمد أقل‬
‫مما ينبغي فإن حمد هللا ال ينبغي أن ينقطع وال يحد بفاعل أو بزمان في حين أن عبارة "الحمد هلل" مطلقة غير مقيدة بزمن معين وال بفاعل معين‬
‫فالحمد فيها مستمر غير منقطع‪.‬‬

‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.130 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪85‬‬
‫جاء في تفسير الرازي أنه لو قال " أحمد هللا " أفاد ذلك كون القائل قادرا على حمده‪ ،‬أما ْلا قال "الحمد هلل" فقد أفاد ذلك‪ ،‬أنه كان‬
‫محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين فهؤالء سواء حمدوا أم لم يحمدوا فهو تعالى محمود من األزل إلى األبد بحمده القديم وكالمه‬
‫القديم‪1 .‬‬

‫وقول "أحمد هللا" جملة فعلية و"الحمد هلل" جملة اسمية والجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد‪ ,‬في حين أن الجملة االسمية دالة‬
‫على الثبوت وهي أقوى وأدوم من الجملة الفعلية‪ .‬فاختيار الجملة االسمية أولى من اختيار الجملة الفعلية هنا‪ ،‬إذ هو أدل على ثبات الحمد‬
‫واستمراره‪.‬‬
‫وقول "الحمد هلل" معناه أن الحمد والثناء حق هلل وملكه فإنه تعالى هو اْلستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آالئه على العباد‪ .‬فقولنا‬
‫"الحمد هلل" معناه أن الحمد هلل حق يستحقه لذاته ولو قال "أحمد هللا" لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد بذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كونه مستحقا للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصا واحدا حمده‪.‬‬
‫والحمد‪ :‬عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك املحمود متفضال منعما مستحقا للتعظيم واإلجالل‪ .‬فإذا تلفظ اإلنسان بقوله‪:‬‬
‫"أحمد هللا " مع أنه كان قلبه غافال عن معنى التعظيم الالئق بجالل هللا كان كاذبا ألنه أخبر عن نفسه بكونه حامدا مع أنه ليس كذلك‪ .‬أما إذا قال‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫"الحمد هلل" سواء كان غافال أو مستحضرا ْلعنى التعظيم فإنه يكون صادقا ألن معناه‪ :‬أن الحمد حق هلل وملكه وهذا اْلعنى حاصل سواء كان العبد‬
‫ً‬
‫مشتغال بمعنى التعظيم واإلجالل أو لم يكن‪ .‬فثبت أن قوله "الحمد هلل" أولى من قوله أحمد هللا أو من نحمد هللا‪ .‬ونظيره قولنا "ال إله إال هللا" فإنه‬
‫ال يدخل في التكذيب بخالف قولنا "أشهد أن ال اله إال هللا" ألنه قد يكون كاذبا في قوله "أشهد" ولهذا قال تعالى في تكذيب اْلنافقين‪" :‬وهللا يشهد إن‬
‫اْلنافقين لكاذبون" (اْلنافقون‪ ،‬آية ‪2 .)1‬‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫وْلاذا لم يقل " حمدا هلل "؟ الحمد هلل معرفة بأل و" حمدا " نكرة؛ والتعريف هنا يفيد ما ال يفيده التنكير ذلك أن "أل" قد تكون لتعريف‬
‫العهد فيكون اْلعنى‪ :‬أن الحمد اْلعروف بينكم هو هلل‪ ،‬وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل االستغراق فيدل على استغراق األحمدة كلها‪ .‬ورجح‬
‫بعضهم اْلعنى األول ورجح بعضهم اْلعنى الثاني بدليل قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬اللهم لك الحمد كله" فدل على استغراق الحمد كله فعلى هذا‬
‫يكون اْلعنى‪ :‬أن الحمد اْلعروف بينكم هو هلل على سبيل االستغراق واإلحاطة فال يخرج عنه ش يء من أفراد الحمد وال أجناسه‪.‬‬
‫"الحمد هلل" أهي خبر أم إنشاء؟ الخبر هو ما يحتمل الصدق أو الكذب واإلنشاء هو ما ال يحتمل الصدق أو الكذب‪.‬‬
‫قال أكثر النحاة واْلفسرين‪ :‬أن الحمد هلل إخبار كأنه يخبر أن الحمد هلل سبحانه وتعالى‪ ،‬وقسم قال‪ :‬أنها إنشاء ألن فيها استشعار املحبة‬
‫وقسم قال‪ :‬أنها خبر يتضمن إنشاء‪.‬‬
‫أحيانا يحتمل أن تكون التعبيرات خبرا أو إنشاء بحسب ما يقتضيه اْلقام الذي يقال فيه‪ .‬فعلى سبيل اْلثال قد نقول (رزقك هللا) ونقصد بها الدعاء‬
‫وهذا إنشاء وقد نقول (رزقك هللا وعافاك) والقصد منها أفال تشكره على ذلك؟ وهذا خبر‪.‬‬

‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.131 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.132-131 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪86‬‬
‫والحمد هلل هي من العبارات التي يمكن أ ن تستعمل خبرا وإنشاء بمعنى الحمد هلل خبر ونستشعر نعمة هللا علينا ونستشعر التقدير كان‬
‫نقولها عندما نستشعر عظمة هللا سبحانه في أمر ما فنقول الحمد هلل‪1 .‬‬

‫ً‬
‫فلماذا لم يقل الرسول " إن الحمد هلل " ؟ ال شك أن الحمد هلل لكن هناك فرق بين التعبيرين أن نجعل الجملة خبرا محضا في قول الحمد‬
‫هلل (ستعمل للخبر أو اإلنشاء) ولكن عندما تدخل عليه " إن " ال يمكن إال أن يكون إنشاء‪ ،‬لذا فقول " الحمد هلل " أولى ْلا فيه من اإلجالل والتعظيم‬
‫والشعور بذلك‪ .‬لذا جمعت الحمد هلل بين الخبر واإلنشاء ومعناهما‪ ،‬مثال نقول رحمة هللا عليك (هذا دعاء) وعندما نقول إن رحمة هللا عليك فهذا‬
‫خبر وليس دعاء‪.‬‬
‫من اْلعلوم أنه في اللغة قد تدخل بعض األدوات على عبارات فتغير معناها مثال‪ :‬رحمه هللا (دعاء)‪ ،‬قد رحمه هللا (إخبار)‪ ،‬رزقك هللا‬
‫(دعاء)‪ ،‬قد رزقك هللا (إخبار)‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫(أيها الناس)‬
‫ً‬
‫نلحظ أول ما نلحظ هذا النداء القريب إلى النفوس‪ ،‬إذ استغنى عن أداة النداء ((يا))‪ ،‬وغيرها تحقيقا لهذا القرب والتالحم مع أبناء األمة‬
‫الذين زالت الهوة بينهم وبين معلمهم وهاديهم‪.‬‬
‫إن حذف أداة النداء قد حقق هذا القرب والتالحم‪ ،‬فكأن الناس قريبون إليه يناديهم بأرق النداء وأعذبه ليستميل قلوبهم إلى ما يلقي عليهم من‬
‫حسن التوجيه وسديد اإلرشاد‪.‬‬
‫ويا للنداء وضع في أصله لنداء البعيد‪ ،‬بدليل أنهم عدوا األداتين ((الهمزة وأي)) للقريب‪.‬‬
‫ً‬
‫وأما ((يا)) فقال ابن الحاجب‪ :‬أنها حقيقة في القريب والبعيد ألنها لطلب اإلقبال مطلقا‪ ،‬وقال الزمخشري‪ :‬إنها للبعيد))‪.‬‬
‫ً‬
‫وإذا كان األمر كذلك فإن من الواضح أن يكون حذف أداة النداء داال على قرب اْلنادي للمنادى‪ ،‬وااللتصاق به والتحبب إليه‪:‬‬
‫وليس يسعنا في هذا اْلوضع أن نحمل حذف األداة على خالف مقتض ى الظاهر‪ ،‬ألن ذلك يدعونا إلى القول إن اْلنادى ممن سها أو غفل‪ ،‬وما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كان له أن يكون على ذلك الحال‪ ،‬إال أن حذف األداة هنا جاء على الحقيقة والحال وليس عدوال عنها تنزيها من الرسول (صلى هللا عليه وسلم)‬
‫للمسلمين عن السهر والغفلة‪2 .‬‬

‫( اسمعوا قولي )‬
‫اسمعوا‪ ،‬فعل أمر‪ ،‬ولألمر وجهتان في التعبير البالغي‪ :‬حقيقي ومجازي‪ ،‬وللمجازي أغراض متعددة‪.‬‬
‫ينبغي أن نحدد بادئ ذي بدء مدلول األمر الحقيقي واملجازي لنتبين في أي اْلسارات تتجه هذه الصيغة‪.‬‬
‫ً‬
‫األمر الحقيقي‪(( :‬صيغته موضوعة لطلب الفعل استعالءا‪ ،‬لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك وتوقف ما سواه على القرينة))‪.‬‬
‫أما صيغة األمر املجازي – فكما قال القزويني – ((قد تستعمل في غير طلب الفعل بحسب مناسبة اْلقام‪ ،‬كاإلباحة‪ ...‬والتهديد‪ ...‬والتعجيز‪...‬‬
‫والتسخير))‪.‬‬

‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.132 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.133 :‬‬ ‫‪2‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪87‬‬
‫وإني أرجح أن األمر في هذا اْلوضع مجازي‪ ،‬وذلك بداللة االستهالل الرقيق‪ ،‬فال يسوغ أن يكون النداء يحمل في تضاعيفه من معاني التودد‬
‫ً‬
‫والتلطف ثم يعتبه مباشرة بما يدل على األمر خشية أن يقع ذلك من نفوس سامعيه موقعا ال يرتضيه‪ ،‬وْلا يحصل من التفاوت بين الرقة والتلطلف‬
‫ً‬
‫وبين الشدة التي يحملها األمر الحقيقي مدلوال من مدلوالته‪.‬‬
‫أقول ذلك من غير أن يتبادر إلى الذهن أن الرسول (صلى هللا عليه وسلم) ال قبل له بأن يأمر قومه بما يشاء فيطاع‪ ،‬هذا أمر ال مشاحة فيه‬
‫بقدر ما نود أن نرسم من خالل هذا اْلقطع صورة التناغم البياني بين أجزاء اْلقطع‪ ،‬وتلك خصوصية من خصوصيات البالغة النبوية الكريمة‪.‬‬
‫ولذلك فإن اْلعنى املجازي الذي أرجحه من خالل صيغة األمر هو لفت األنظار وتوجيه النفوس أو تنبيه الجمع املخاطب إلى ما يعرضه عليهم من‬
‫توجيهات‪1 .‬‬

‫وما يلي هذا األمر من العبارات يعزز مجازيته‪ ،‬وذلك في قوله (صلى هللا عليه وسلم)‪:‬‬
‫((فإني ال أدري لعلي ال ألقاكم بعد عامي هذا‪ ))...‬فجملة اْلقطع تتسم باإلنسيابية وهدوء النبرة‪ ،‬مما يتسق مع مجازية األمر السابق على هذا‬
‫اْلقطع‪ ،‬وْلا في األمر الحقيقي – لو كان اْلراد – من القوة والشدة‪.‬‬
‫َ ِّ َ َ‬
‫(فإن َي ال أ ْدري)‬
‫إن‪ :‬من أدوات التوكيد‪ ،‬وهي ترد في غضون الخطبة بكثرة ملحوظة‪ ،‬ولكل موضع ترد فيه ((إن)) داللة التوكيد واألهمية‪ .‬فهل كانت ((إن)) من‬
‫ً‬
‫مؤكدات مضمون هذا القول‪ ،‬وهل هي من مقتضياته؟ أما كان منتظرا أن يقول‪ :‬فلعلي ال ألقاكم بعد عامي هذا؟‪.‬‬
‫أقول‪ :‬لو جاء الكالم على هذه الشاكلة ْلا تأتى لهذا الكالم أن يفعل فعله التوجيهي العقائدي‪.‬‬
‫إن جو الكالم منذ استهالله يوحي بأن الرسول (صلى هللا عليه وسلم) قد وقف وقفة الوداع‪ ،‬فأراد أن يقرر حقيقة رحلة اإلنسان من حياته الدنيا‪،‬‬
‫ً‬
‫بتقريره أنه – وإن كان رسوال يوحى إليه – فهو ال يدري متى سيكون رحيله‪.‬‬
‫ً‬
‫– فإني ال أدري –‪ :‬أي حتى هو بوصفه نبيا يوحى إليه – يجهل حقيقة هذا األمر‪ ،‬ولعل مما يخالج نفوس اْلسلمين من أن الرسول (صلى هللا عليه‬
‫وسلم) يعلم بذلك‪ ،‬فلكي يستقر هذا اْلفهوم بكل أبعاده من غير أن يعتري السمع شك في ذلك جاء بصيغة التوكيد الذي من شأنه أن يرسخ الفكرة‬
‫في األذهان‪.‬‬
‫وربما يرد في هذا اْلوضع سؤال مفاده‪ :‬أليس هذا يعني أن الرسول (صلى هللا عليه وسلم) قد أوحي إليه بدنو أجله؟‪2‬‬

‫نقول‪ :‬ربما أوحي إليه بذلك‪ ،‬ولكن لم يرد أن يقطع بش يء من ذلك‪ ،‬فاهلل وحده الذي يقرر‪ .‬واالستشعار بدون األجل ليس معناه معرفة‬
‫ساعة الرحيل على وجه الدقة والضبط‪ ،‬ثم أنه (صلى هللا عليه وسلم) لم يشأ أن يجعل اْلسلمين في دوامة االضطراب والقلق خشية أن ينفرط‬
‫شملهم ويصيبهم من الذهول ما ال يرتضيه لهم‪.‬‬
‫ً‬
‫ومن اْلالحظ البالغية في استخدام ((إن)) في هذا اْلوضع أنها جاءت في عقب جملة سابقة فقد كان مجيء ((إن)) ضربا من ضروب التوثيق‬
‫بين الجملتين‪.‬‬
‫قال الزملكاني‪(( :‬وتجيء – أي ٍّإن – لربط بين جملتين لتوصل إحداهما باألخرى‪ ،‬فتراهما بعد دخولها كأنهما قد افرغا في قالب واحد))‪.‬‬
‫ويرى الزملكاني أنه يسع اْلتكلم أن يأتي بالفاء مكان ((إن)) ولكن ال تؤدي مؤداها من قوة الربط والتوكيد واالمتزاج‪.‬‬

‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.134 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.134-133 :‬‬ ‫‪ 2‬المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ن‬
‫ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪88‬‬
‫ً‬
‫يقول في ذلك‪ ...(( :‬لرأيت االمتزاج واأللف مقاصرا عما كان عليه))‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ولعل في هذا جوابا على تساؤلي في موضع سابق‪ :‬ألم يكن منتظرا أن يقول الرسول (صلى هللا عليه وسلم)‪(( :‬اسمعوا قولي فلعلي ال‬
‫ألقاكم))‪ ،‬ففي كالم الزملكاني ما يغني عن التفصيل والبيان‪1 .‬‬

‫َ‬ ‫َ ِّ َ َ ْ َ ُ‬
‫لي ال ألقاك ْم َب ْع َد َعامي َهذا‪ ،‬بهذا املوقف أبدا )‬ ‫(لع‬
‫((لعلي)) أداة الترجي‪ ،‬هذه األداة لم تحظ بعناية البالغيين قدر ما عدوه أداة نحوية فحسب‪ .‬وكان األجدر بالبالغيين أن يتحدثوا عن هذه‬
‫األداة في جملة ما تحدثوا به عن غيرها من أساليب التعبير كاألمر واالستفهام والنهي والتمني وأن يعدوها في اإلنشاء غير الطلبي بوجه خاص‪ ،‬كما‬
‫فعلوا بصنوها ((ليت))‪.‬‬
‫واْلعنى األساس لألداة ((لعل)) هو الترجي‪ .‬ولو تتبعنا دالاللتها املجازية لوجدت أنها تخرج إلى معان أخر‪ ،‬وربما كان التقرير أو التمويه أو‬
‫التمني من جملة دالاللتها‪.‬‬
‫ً‬
‫وإني أنفي أن تكون داللتها في الخطبة ترجيا‪ ،‬بل هو تقرير وإشعار بدنو األجل‪ ،‬ولكن الرسول (صلى هللا عليه وسلم) أراد أن يجعل األمر‬
‫ً‬
‫مرهونا باآلجال التي قرر أنه ال يدري مواقيتها‪.‬‬

‫َ ُ َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ َ ُ َ ُ‬
‫اضك ْم َعل ْيك ْم َح َرام ك ُح ْر َمة َي ْومك ْم َهذا في ش ْهرك ْم َهذا في َبلدك ْم َهذا )‬
‫( أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعر‬
‫ٍّ‬ ‫اللغة أصله من ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫ف"كرر" الش يء وكركره أي‪ :‬أعاده مرة بعد أخرى‪ .‬وأما في‬ ‫الكر بمعنى الرجوع‪ ،‬ويأتي بمعنى اإلعادة والعطف‪.‬‬ ‫والتكرار في‬
‫اإلصطالح‪ ،‬فاْلقصود به‪ :‬تكرار كلمة أو لفظ أكثر من مرة في سياق واحد لنكتة ما‪ ،‬وذلك إما للتوكيد‪ ،‬أو لزيادة التنبيه أو للتهويل‪ ،‬أو للتعظيم‪ ,‬وهو‬
‫فن قولي من األساليب اْلعروفة عند العرب‪ ،‬بل هو من محاسن الفصاحة وهو إشعار بأهمية األمر وإعظام لشأنه‪2 .‬‬ ‫ٍّ‬

‫ويشير الزمخشري إلى القيمة الفنية واْلعنوية في ظاهرة التكرار بأنها ((استدعاء منهم لتجديد االستبصار عند كل خطاب وارد‪ ،‬وطريقة‬
‫مبي ًنا الفائدة منه‪" :‬إن الناس لو استغنوا‬
‫اإلنصات لكل حكم نازل‪ ،‬وتحريك منهم لئال يفتروا أو يغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به))‪ .‬ويقول الجاحظ ٍّ‬
‫ُ‬ ‫قل فضله‪ ،‬ومن ٍّ‬‫قل علمه ٍّ‬
‫قل علمه‪ ،‬ومن ٍّ‬
‫قل اعتباره ٍّ‬
‫لقل اعتبارهم‪ .‬ومن ٍّ‬
‫عن التكرير ‪ -‬التكرار ‪ -‬وكفوا مئونة البحث والتنقير ٍّ‬
‫قل فضله كثر نقصه‪،‬‬
‫شر جناه‪ ،‬ولم يجد طعم ٍّ‬ ‫ُ‬
‫وكثر نقصه لم ُيحمد على خير أتاه‪ ،‬ولم ُي ٍّ‬
‫ذم على ٍّ‬ ‫ومن ٍّ‬
‫العز‪ ،‬وال سرور الظفر‪ ،‬وال روح الرجاء‪ ،‬وال برد‬ ‫قل علمه وفضله‬
‫اليقين وال راحة األمن)‪.‬‬
‫قال (صلى هللا عليه وسلم)‪ :‬كحرمة يومكم هذا‪ ،‬وكحرمة شهركم هذا‪ .‬والحرمة في حياة اْلسلمين قضية لها من الخطر والجالل ما لها‪،‬‬
‫ً‬
‫وتكرار اللفظة إيقاظ الحواس‪ ،‬وال يغب عن البال ما أضافه تكرار (هذا) في نهاية كل مقطع من إيقاع لفظي زاد من جالل التوكيد جالال‪ ،‬وكان له‬
‫من الواقع ما يحفز النفوس إلى تثبيت والتملي واستيعاب القضية بكل أبعادها النفسية والفكرية‪ ،‬وهذا ((على جانب من التنغيم النافذ إلى الروح‪،‬‬
‫ً‬
‫ندركه دائما في حسن جرسه وتعانق معانيه وتتابع موجاته‪ ،‬يدفع بعضها في نشاط وتشابه))‪.‬‬

‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.134-133 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.136 :‬‬ ‫‪ 2‬المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ن‬
‫ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪89‬‬
‫وأنظر إلى تكرار لفظ ( حرمة ) على سبيل التأكيد ذلك أن حرمة األموال والدماء ولقاء هللا ووضع الربا والدماء مما تعد من كبريات القضايا‬
‫التي كانت تسود حياة العرب‪ ،‬وكان البد لها من الحسم القاطع‪ ،‬تنقية للمجتمع اإلسالمي من كل بقايا الجاهلية ومواريثها‪1 .‬‬

‫ومن ناحية ثانية‪ :‬نجد في ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)) تقدم الجار واملجرور (عليكم) على خبر إن‪ ،‬وهو في عرف النحاة فضلة‬
‫من حقها أن تتأخر‪ ،‬ولكن له في البيان النبوي تقدم ملموس ظاهر‪ ،‬ترى أكان التناغم اللفظي هو الذي استدعى هذا التقديم‪ ،‬أم أن وراء تقديمه‬
‫غاية معنوية أخرى‪.‬‬
‫ليس بوسعنا أن نقطع بإجابة عن واحد من ذينك التساؤلين بقدر ما نود أن نوفق بين التساؤلين‪.‬‬
‫إن البيان النبوي قد تو ى اإليقاع اْلتناغم الذي يكسب العبارة جمالية محببة إلى النفس من خالل توالي‪ :‬دمائكم – أموالكم – عليكم‬
‫إذن نحن ال ننفي هذه الصيغة الجمالية التي هي من أجلى خصائص البالغة النبوية التي اجتمعت فيها – على حد قول الرافعي – ثالث‬
‫صفات هي‪ :‬الخلوص والقصد واالستيفاء‪.‬‬
‫ً‬ ‫إال أننا في الوقت ذاته ٍّ‬
‫نحس أن التقديم إن خال من الفائدة اْلعنوية فإن الجانب الجمالي يظل حلية خاوية ننزه البالغة النبوية عن أن تكون هدفا‬
‫من أهدافها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إن الذهن ينتظر خبر (إن) ليكتمل به اْلعنى األساس‪ ،‬فإذا بالذهن يقرع بالجار واملجرور (عليكم) خطابا مباشرا إلى اْلسلمين؛ إذن األمر‬
‫ً‬
‫الذي سيسمعونه خطير‪ ،‬فهو يعنيهم ويمس وجودهم وكيانهم‪ ،‬ففي هذه اللحظة يساق الخبر حكما من األحكام خطير الشأن‪ ،‬بعد أن هيأ تقديم‬
‫الجار واملجرور األذهان لتلقي الخبر‪2 .‬‬

‫َّ ْ ُ‬ ‫َ َ‬
‫( قد بلغت)‪( ،‬أال َه ْل َبلغت ) (اللهم هل بلغت ؟)‬
‫ولعل في هذه الصيغة ( قد بلغت ) من الثقة واالعتداد بتجاوب اْلسلمين ما لم يجد معه حاجة إلى إلتماس األساليب اإلنشائية التي‬
‫ً‬
‫تساق غالبا في مواضع بها حاجة إلى استثارة الهمم وقرع النفوس التي قد تتلبس ببعض الغفلة أو التردد‪.‬‬
‫((وقد بلغت))‪ :‬صيغة الحسم والقطع‪ ،‬بل صيغة اإلشعار بأن هذا هو البالغ النهائي الذي ال بالغ من بعده‪.‬‬
‫ثم أعقب ذلك بصيغة إنشائية‪ :‬اللهم هل بلغت‪ ...‬والصيغة اْلعتمدة هي االستفهام‪ ،‬ليستوثق من يقظة اْلسلمين وتجاوبهم فيسمع منهم‬
‫الجواب الذي يبعث في نفسه الطمأنينة على أن ما زرعه من كلمات إنما هي الشجرة التي ضربت بجذورها في األعماق‪ ،‬وسمقت إلى األعالي باسقة‬
‫ً ً‬
‫ظليلة آنية ثمرا طيبا‪.‬‬
‫ً‬
‫وهنا تستوقفنا الصيغة االستفهامية لنسأل أنفسنا‪ :‬هل جاء االستفهام في هذا اْلوضع حقيقة أم مجازا؟ أود أن أعرض لألمر من جانبين‪:‬‬
‫كل جانب يجدد مسار هذا االستفهام‪.‬‬
‫ً‬
‫الجانب األول‪ :‬يتصل بالرسول (صلى هللا عليه وسلم) مبلغا لألمانة‪ ،‬فقد عدل عن الصيغة اإلخبارية على النحو الذي ورد في أول الخطبة‬
‫((وقد بلغت)) لكي يأتي التقرير أشد في النفس وأوقع‪ ،‬وادعى إلى الطمأنينة‪ .‬أي أن االستفهام مجازي خرج إلى التقرير والتثبيت‪.‬‬
‫أما الجانب الثاني‪ :‬فهو مما يتصل بجمهور سامعيه حين حملوا االستفهام على معناه الحقيقي‪ ،‬فأجابوا‪ :‬اللهم نعم‪3 .‬‬

‫ونحن نعلم أن االستفهام املجازي هو ما ال يحتاج إلى جواب‪ ،‬ألنه ليس من قبيل طلب حصول الفهم – كما يقول البالغيون‪.‬‬

‫الغن‪ ،‬ص‪.137 :‬‬‫ن‬ ‫‪1‬‬


‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.137 :‬‬ ‫‪ 2‬المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ن‬
‫ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.138 :‬‬ ‫ن‬ ‫‪3‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪90‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وبذلك حققت البالغة النبوية نمطا فريدا من التعبير راعى فيه حالة اْلتكلم وموقفه مبدئيا ونفسيا‪ ،‬وراعى في الوقت ذاته املخاطبين وما‬
‫هم عليه من موقف إزاء ما يلقى عليهم‪ ،‬فوجدوا أنفسهم أن الرسول (صلى هللا عليه وسلم)‪ :‬يستفهم بقوله ((هل بلغت)) ليجيء الجواب في إثره‪:‬‬
‫اللهم نعم‪ ...‬وهو جانب يعزز الحالة النفسية للرسول اْلبلغ حيث استوثق أنه أدى األمانة كاملة غير منقوصة‪.‬‬
‫ٍّ أ‬ ‫وقد ّأكد كل ٍّ‬
‫نص بقوله‪ :‬أال هل بلغت‪ ،‬اللهم اشهد‪ ،‬وهو تأكيد يهدف إلى اإلقناع اْللزم‪ ،‬ويقفل باب اللجاج!‪.‬‬
‫ُ‬
‫وهذا التأكيد اْللزم قد ك ٍّرر عن قصد‪ ،‬والتكرار يصادف موضعه الطبيعي إذا حل في مقام التقرير واإللزام‪ ،‬لكيال يكون للناس على هللا‬
‫حجة بعد التأكيد والتقرير والهدوء البصير‪ ،‬واليقين الثابت‪ ,‬واالطمئنان للحق‪ ،‬كل ذلك واضح في حديث الخطيب املخلص والرسول الحريص على‬
‫اهتداء قومه الرحيم بأمته عليه أفضل الصالة والتسليم‪.‬‬
‫وفي التعبير يلحظ استخدام (قد) في قوله ( وقد بلغت ) مفيدة التحقيق هو لون آخر من ألوان التوكيد التي تحفل بها كظاهرة معنوية‬
‫موظفة للتبليغ والتثبيت ولفت األنظار نحو األحكام النبوية‪1 .‬‬

‫(وإنكم ستلقون ربكم)‬


‫صيغ جديرة بالوقوف عندها للتعرف على داللتها الخاصة وهي قوله‪(( :‬وإنكم ستلقون ربكم)) ذلك أن من أركان العقيدة أن يلقى العباد‬
‫ربهم ليحاسبهم ويسألهم عن أعمالهم‪.‬‬
‫والفعل في الجملة مصدر بالسين‪ ،‬والسين في اللغة تفيد االستقبال عند النحاة باإلجماع‪ ،‬وكثير منهم يذهب إلى أن السين تفيد التوكيد (يعني‬
‫االستقبال مع التوكيد) السين وسوف يفيدان التوكيد واالختالف بينهما هو أيهما أبعد زمنا لكن االثنين يفيدان االستقبال مع التوكيد وقد بدأ بهذا‬
‫الرأي الزمخشري‪ ،‬فالسين إذن هي لالستقبال اْلؤكد‪ .‬وهذه السين قد حققت إحساس السامع بقرب هذا اللقاء‪ ،‬وقد عدل البيان النبوي عن‬
‫ً‬
‫((سوف)) وهو أيضا حرف استقبال ولكنه يدل على تحقق الفعل بزمن أبعد‪ ،‬وربما كان في استخدامه في ظاهر الحال أكثر داللة على السين‪ ،‬إال أن‬
‫ً‬
‫((السين)) فيها من داللة القرب ما يشعر أن األمر واقع ال محالة‪ ،‬ليكون ذلك اإلحساس باعثا على التعجيل بااللتزام والتمثل والتطبيق‪.‬‬
‫وحين تحقق السين هذا اإلحساس دون سوف الدالة على الترا ي الزمني فإن البالغة النبوية قد حققت مبدأ اْلطابقة ْلقتض ى الحال‬
‫بدقة متناهية متساوقة مع القدرة اْلتميزة ألعلى ذروة البالغة البشرية أن تبلغها أو أن تحققها‪2 .‬‬

‫َ ْ ْ ََ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ْ ْ َ‬
‫تمن ُه َعليها)‬‫(ف َم ْن كانت عن َد ُه أ َمانة فليؤ ِّدها إلى من ائ‬
‫إن تقديم األلفاظ بعضها على بعض له أسباب عديدة يقتضيها اْلقام وسياق القول‪ ،‬يجمعها قولهم‪ :‬إن التقديم إنما يكون للعناية‬
‫واالهتمام‪ .‬فما كانت به عنايتك أكبر قدمته في الكالم‪ .‬والعناية باللفظة ال تكون من حيث أنها لفظة معينة بل قد تكون العناية بحسب مقتض ى‬
‫الحال‪ .‬ولذا كان عليك أن تقدم كلمة في موضع ثم تؤخرها في موضع آخر ألن مراعاة مقتض ى الحال تقتض ي ذاك‪ .‬وفيه تقديم الظرف (عنده) على‬
‫أمانة‪ ,‬والعادة أن يفيد االختصاص إال أنه ليس اْلراد هنا تخصيص األمر وإنما هو من باب التوجيه فقدمها لالهتمام بشأنها والتوجيه إلى عدم ضياع‬
‫األمانة‪.‬‬

‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.139-138 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.139 :‬‬‫ن‬ ‫‪2‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪91‬‬
‫ً‬
‫ونقف عند الفعل ((فليؤدها)) وهو مضارع مجزوم بالم األمر جاء جوابا لشرط ال يحتمل إال هذه اْلباشرة التي وضحت الحكم بكل أبعاده‪،‬‬
‫فاألمانة ينبغي أن تؤدى‪ ،‬وإذا لم يكن هناك سبيل إلى غير ذلك فال مناص للمخاطب إال أن يفعل‪.‬‬
‫ى اْلوقف الذي يتطلب ذلك‪ ،‬وقد سبق أن عرضنا لداللة األمر الحقيقي‪1 .‬‬ ‫واألمر هنا حقيقي‪ ،‬وحقيقته هي من مقتض‬

‫(أال وإن كل ش يء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة … َّ‬
‫وإن رَبا َ‬
‫الجاه ِّلية َموضوع ولكن لكم رءوس‬
‫َ ُ‬ ‫ِّ َ‬
‫وإن أ ِّو َل ربا أ ْبدأ به رَبا َع ِّمي العباس بن عبد املطلب وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع‬ ‫أموالكم ال تظلمون وال تظلمون‪ .‬قض ى هللا أنه ال ربا‪،‬‬
‫وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد املطلب‪ ،‬وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية)‬
‫ً‬
‫ترد بعد ذلك الحقائق التي أراد الرسول (صلى هللا عليه وسلم) أن يغرسها في نفوس اْلسلمين على أنها أحكام للحياة ال تحتمل تأويال وال‬
‫ً‬
‫تقبل حيدة أو جنوحا‪ .‬فجملة ما واجه به اْلسلمين وردت بصيغة التوكيد الحقيقي‪ .‬وقد قرر البالغيون أن ((االهتمام بالش يء وانفعال النفس به‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يستوجب ضربا من تأكيده‪ ،‬أمرا أو نهيا أو خبرا يستلزم طلبا أو خبرا يقع في الجواب))‪ .‬وقد جاء التوكيد في مقاطع الخطبة بأكثر من وسيلة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫ً‬ ‫أداة التوكيد ّ‬
‫((إن)) والتكرار‪ ،‬وتقديم ما حقه التأخير (ومنه القصر)‪ ،‬وأداتا التحقيق والتوكيد ((قد وكل))‪ .‬ومما جاء مؤكدا بإن‪(( :‬إن دماءكم‬
‫وأموالكم عليكم حرام‪(( ))...‬وإنكم ستلقون ربكم‪(( ))...‬وإن ربا عباس بن عبد اْلطلب موضوع كله‪(( ))...‬وإن كل دم في الجاهلية موضوع)) ((وإن أول‬
‫دمائكم أضع‪ ))...‬ولذلك تصدرت هذه اْلقاطع أداة التوكيد ((إن)) التي تضمن اإليصال والتثبيت إضافة إلى حسم التردد والشك في القبول والتلقي‪.‬‬
‫ولقد ذهب البالغيون إلى أن استخدام أداة التوكيد واحدة ضمن العبارة هي لحسم الشك والتردد‪ .‬قال القزويني‪(( :‬وإن كان متصور‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الطرفين‪ ،‬مترددا في إسناد أحدهما إلى اآلخر طالبا له حسن تقويته بمؤكد))‪.‬‬
‫ً‬
‫وليس هذا األمر مطردا على نسق متواصل‪ ،‬فقد يخرج استخدام األداة في غير هذا اْلوضع مراعاة لغير الظاهر‪ ،‬كما قرر البالغيون‬
‫ً‬
‫أنفسهم‪ ،‬فقد ذكر القزويني نفسه ذلك في قوله‪(( :‬وكثيرا ما يخرج على خالفه‪ ،‬فينزل غير السائل منزلة السائل – أي اْلتردد الشاك – إذا قدم إليه‬
‫ما يلوح له بحكم الخبر‪ ،‬فيستشرف له استشراف اْلتردد الطالب))‪.‬‬
‫ونحن نقول‪ :‬إن أداة التوكيد سواء أكانت واحدة أم أكثر فإنها تقيد توثيق األمر وضمان حسن تلقيه وأثره في نفس اْلتلقي واتخاذ موقف‬
‫ً‬
‫معين مضامينه‪ ،‬سواء أكان في األمر شك أم لم يكن‪ ،‬وإلى جانب ذلك إشعار بأهمية األحكام اْلعروضة ضمانا لحشد الطاقات النفسية واالجتماعية‬
‫الجتثاث ما علق بالنفوس والواقع اْلعيش من آثار وقيم نسخها الدين اإلسالمي‪2 .‬‬

‫ويلفت أنظارنا أن اْلقاطع التي تصدرتها أدوات توكيد تخللتها مقاطع خلت من تلك األدوات‪ ،‬مع أن مقتض ى الظاهر أن تتصدر بها‪ ،‬ألن‬
‫مضامينها ليست أدنى درجة من األهمية عن مضامين تلك الجمل اْلؤكدة التي تكتنفها قبل وبعد‪.‬‬
‫((ومن هذه اْلقاطع قوله (صلى هللا عليه وسلم)‪(( :‬ال تظلمون وال تظلمون)) ((قض ى هللا أنه ال ربا))‬
‫والجواب عن ذلك يتطلب النظر إلى اْلوضوع من جهتين‪:‬‬
‫األولى‪ :‬أن الرسول (صلى هللا عليه وسلم) استشهد بآية كريمة‪ ،‬واالستشهاد ال يحتمل اإلضافة والزيادة‪.‬‬

‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.140 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.141-140 :‬‬‫ن‬ ‫‪2‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪92‬‬
‫الثانية‪ :‬أن االستغناء عن أدوات التوكيد في عرف البالغيين ألمرين‪ :‬إما أن املخاطب خالي الذهن‪ ،‬أي أنه غير متردد في قبول الحكم‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫غير منكر له حتى يتطلب أداة للتوكيد‪ ،‬وأما أن اْلتكلم ينزل اْلتردد أو اْلنكر منزلة خالي الذهن‪ ،‬ألن اْلوضوع مما ال يحتمل شكا أو إنكارا‪.‬‬
‫قال القزويني في بيان ذلك‪:‬‬
‫((فإن كان املخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على اآلخر‪ ،‬والتردد فيه استغنى عن مؤكدات الحكم)) ‪.‬‬
‫((وكذلك ينزل اْلنكر منزلة غير اْلنكر‪ ،‬إذا كان معه ما تأمله ارتدع عن اإلنكار‪ ،‬كما يقال ْلنكر اإلسالم ((اإلسالم حق)) وعليه قوله تعالى‬
‫في حق القرآن ((ال ريب فيه)) ))‪1 .‬‬

‫ً‬
‫وكأن هللا تعالى جعل انتفاء ظلم اْلؤمن ألخيه اْلؤمن في معيار اإلسالم أمرا ال مشاحة فيه‪ ،‬أي أنه من مستلزمات الروابط اإلسالمية في‬
‫ظل املجتمع اإلسالمي أن يخلو من الظلم‪.‬‬

‫(قض ى هللا أنه ال ربا)‬


‫أرى أن ننظر فيه من وجهتين‪:‬‬
‫ً‬
‫األولى‪ :‬إن خلو اْلقطع من أدوات التوكيد هو أيضا من باب إنزال اْلتردد أو اْلنكر منزلة خالي الذهن لوضوح األمر وبداهته‪ ،‬فكيف يصح‬
‫في شرع قوامه العدل والحق أن يكون فيه إباحة للربا وهو ظلم فاحش‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الثانية‪ :‬إنني أملح أن الصيغة التي سبقت بها العبارة مؤكدة لذاتها‪ ،‬وهذا يدعونا إلى القول أن في اْلقطع توكيدا ضمنيا يوحي به عموم‬
‫ً‬
‫العبارة‪ ،‬فهل يفهم من الفعل ((قض ى)) غير األمر الجازم الذي ال محيد عنه‪ ،‬وهل يفهم من قوله ((ال ربا)) بهذا النفي غير أن يكون الحكم حاسما ال‬
‫خالف عليه‪.‬‬
‫ً‬
‫ويشبه ذلك ما يستخدم من العبارات الشائعة من قولهم‪ :‬يجب أن – والبد أن – وال مناص من‪ ،‬أليست هذه الصيغ مما يحمل التوكيد ضمنا من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تضاعيفها‪ .‬وبهذا يمكننا أن نضيف نوعا جديدا ألساليب التوكيد اْلعنوي واللفظي نسميه بالتوكيد الضمني‪ .‬وهو ما يستفاد من عموم العبارة التي‬
‫ً‬
‫واحدا يفيد الجزم والحسم والتوكيد‪2 .‬‬ ‫ً‬
‫تساق بحيث ال تحتمل من اْلعاني إال وجها‬
‫وأنظر إلى ( كل ) وهي موضوعة للشمول واستغراق األفراد ومنها‪ ( :‬كل ش يء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع) و(كل دم كان في‬
‫ُ‬
‫و(ك ُّلك أم آلدم‪ُ ،‬‬
‫وآدم من ُتراب)‪ .‬فكل ما يأتي من الجاهلية مما ال يقره االسالم وكل الدماء التي تعاملوا بها‬ ‫الجاهلية موضوع) و(كل مسلم أخ للمسلم)‬
‫موضوعة متروكة‪ ،‬كما كل مسلم صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى أخ في االسالم كما أن كل البشرية عامة بأبيضها وأسودها وقصيرها وطويلها ورفيعها‬
‫ووضيعها وفقيرها وغنيها وحاكمها ومحكومها من آدم‪ ,‬وكل بني آدم من تراب‪.‬‬
‫وأنظر إلى تقدم الخبر (الجار واملجرور) على اْلبتدأ في قوله (صلى هللا عليه وسلم)‪(( :‬ولكن لكم رؤوس أموالكم)) فإنه إشعار إلى أن ما‬
‫كان غير محذور يعود إلى أصحابه؛ فرؤوس األموال حق مشروع من حقوقهم دون ما يتمخض عن الربا من أموال ال يباح لهم تملكها وحيازتها‪ .‬ومن‬
‫أجل أن ال يظنوا أنهم سيضيعون كل ش يء بعث في نفوسهم الطمأنينة من خالل (لكم) وهو خبر مقدم‪ ،‬لو قال‪ :‬ولكن رؤوس أموالكم لكم‪ ،‬فلربما‬
‫ً‬
‫أوال‪ ،‬فإن تقدمه باعث على الطمأنينة وراحة البال وفي بالغة التقديم يقول‬ ‫ذهبت الظنون أنها هي األخرى ستضيع‪ ،‬فالخبر هو األهم في أن يذكر‬

‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.142-141 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.142 :‬‬ ‫‪ 2‬المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ن‬
‫ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪93‬‬
‫القزويني‪(( :‬إن تكون العناية بتقديمه واالعتناء بشأنه بكونه في نفسه نصب عينك‪ ،‬والتفات خاطرك إليه في التزايد‪ ....‬أو لعارض يورثه ذلك‪ ،‬كما إذا‬
‫ً‬
‫توهمت إن مخاطبك ملتفت الخاطر إليه ينتظر أن تذكره‪ ،‬فيبرر في معرض أمر يتجدد في شأنه التقاض ي ساعة فساعة‪ ،‬فمتى تجد له مجاال للذكر‬
‫ً‬
‫صالحا أوردته))‪1 .‬‬

‫(أيها الناس فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا‪ ،‬ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رض ي به بما تحقرون من‬
‫أعمالكم فاحذروه على دينكم)‬
‫تبشير وتحذير‪" :‬أيها الناس‪ ..‬إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رض ي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أعمالكم"‪ .‬يخاطب الرسول الكريم املجتمعين معلنا بشراه في يأس إبليس وجنوده من السيطرة على أتباع محمد ومحذرا من ارتكاب الصغائر التي‬
‫يحقرها الناس دون تأمل إلى ما تجلبه من الكبائر‪ ،‬مما ينحرف باإلنسان إلى طريق الشيطان‪ .‬وفي أسلوب النداء "أيها الناس" إثارة وتهييج الوجدان‪،‬‬
‫وجذب االنتباه لدى املخاطبين‪ .‬وفي قوله‪" :‬هذه" تعبير باسم اإلشارة للقريب‪ ،‬لتمييز هذه األرض أتم تمييز وأكمله في مقام اْلدح‪.‬‬
‫وفي إتيان الفعل ( يعبد ويطع ) بصيغة املجهول فائدة ذلك أن الفعل اْلبني للمجهول يتطلب سياقا ذا داللة خاصة تنبئ عن مكنون‬
‫اْلشهد وخفاياه اْلطوية‪ ،‬فقد يأتي؛ ليصور مجهول النفس وما طوي أو أضمر فيها‪ ،‬كتصويره خبايا النفس وخفي النيات في دروب الباطن‪ ،‬كما في‬
‫أُ‬ ‫انا ف ُت ُق ٍّبل م أن أحدهما ول أم ُيتق ّب أل من أاآلخر قال أل أق ُتل ّنك قال إ ّنما يتق ّب ُل ّ ُ‬
‫أ ٍّ أ ّ ُ أ ً‬
‫َللا ِمن اْل ّت ِقين)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫قوله تعالى‪( :‬و أات ُل عل أي ِه أم نبأ أابن أي آدم ِبالح ِق ِإذ قربا قرب‬
‫(ف ُت ُق ٍِّبل) بعدم تسمية الفاعل إشارة لتعليق قبول العمل على ما انطوي عليه القلب من إخالص وتقوى وإيمان‪ ،‬فتقبل هللا من أحدهما (هابيل)‬
‫إليمانه وتقواه‪ ،‬ولم يتقبل من اآلخر (قابيل) لكفره وحسده‪ ،‬وهذا وذاك محله القلب‪2 .‬‬

‫أ‬
‫قد يأتي الفعل اْلبني للمجهول ليمثل عنصر اْلفاجأة وليصعد بجو اْلشهد إلى ذروة الحركة وعنفها‪ ،‬كما في قوله تعالى‪( :‬مل ُعو ِنين أ أينما‬
‫ً‬ ‫ُ ُ ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ث ِق ُفوا أ ِخذوا وق ٍِّتلوا ت أق ِتيال)‪ .‬فاللعنة تالحقهم في كل مكان وجدوا فيه‪ ،‬ثم يأخذون عنوة ويقتلون تقتيال‪ ،‬ثقفوا‪ ،‬أخذوا‪ ،‬وقتلوا تقتيال‪.‬‬
‫كما أنه إذا جاء الفعل اْلبني للمجهول في سياق االستفهام أو النفي أو الشرط أفاد العموم عليه‪ ،‬فصدر الكالم جاء بالبناء للمجهول‬
‫فتناسق الختام مع البدء وجاء الفعل (يعبد) مبنيا للمجهول حيث استخدم هذا الفعل في مقام الذم والقدح‪ ،‬وأنظر كيف جاء الفعل (يئس) بالبناء‬
‫للمعلوم للداللة على يئس الشيطان دون غيره‪ .‬أما في العبادة والطاعة التي ال تكون إال هلل تعالى ولرسوله وأولي االمر فقد أتت هنا بالبناء للمجهول؛‬
‫ألن اْلقام خالف ْلا عهد من الطاعة الحقة فطاعة الشيطان وعبادته مما ال تذكر‪.‬‬
‫ومن ثم فإن فن بناء ( يطع ) للمجهول اْلراد منه عموم الشيطان‪ ،‬فكل الشياطين تسعى إلى أن تحقر األعمال الصالحة وهذا من خالل‬
‫ورود اْلبني للمجهول في سياق الشرط ( إن )‪.‬‬
‫ومن جانب آخر فإن وورود الفعل (يطع ) بعد الشرط له داللة استمرارية وهذه قاعدة في القرآن الكريم مؤداها‪ :‬إذا كان فعل الشرط‬
‫ُ‬ ‫ُ ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يدل على الحدوث مرة واحدة‪( .‬ف ِإن كذ ُبوك فق أد ك ِذب ُر ُسل ٍِّمن ق أب ِلك جآؤوا‬
‫ماضيا فهو ٍّ‬ ‫دل على استمرارية الحدث وإذا كان فعل الشرط‬ ‫مضارعا ٍّ‬
‫أ‬ ‫ُّ أ‬
‫الز ُبر والكتاب اْلُنير)‪3 .‬‬ ‫أ ٍّ‬
‫ات و ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِبالب ِين ِ‬

‫الغن‪ ،‬ص‪.143 :‬‬‫ن‬ ‫‪1‬‬


‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.144-143 :‬‬ ‫‪ 2‬المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ن‬
‫ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.144 :‬‬ ‫ن‬ ‫‪3‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪94‬‬
‫َ ُ َ ِّ ُ َ‬
‫ون ُه عاما‪َ ،‬يواط ُئوا ع َّدة َما َح َّر َم ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫هللا فيحلوا ما‬ ‫الذين كفروا‪ُ ،‬يحلون ُه عاما‪ ،‬ويحرم‬ ‫(أيها الناس‪ ،‬إن َما النس ُيء زيادة في الكفر‪ ،‬يضل به‬
‫حرم هللا ويحرموا ما أحل هللا‪ .‬إن الزمان قد استداركهيئته يوم خلق هللا السموات واألرض وإن عدة الشهورعند هللا اثنا عشرشهرا‪ ،‬منها أربعة‬
‫حرم ثالثة متوالية ورجب الذي بين جمادى وشعبان )‬
‫ً‬
‫واْلعنى‪ :‬إنما تأخير العرب حرمة الشهر الحرام إلى شهر آخر تحايال من أجل استمرار القتال‪ ،‬هو كفر آخر مضموم إلى كفرهم‪ ،‬ألنه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تحليل ما حرمه هللا‪ ،‬وتحريم ما حلله فهو سبب موجب للضالل وعدم الهداية‪ .‬وإن عدد الشهور في حكم هللا اثنا عشر شهرا قمريا في اللوح املحفوظ‪،‬‬
‫أو فيما أثبته هللا تعالى وأوجبه‪ ،‬وقد استقر ذلك منذ بدء الخليقة‪ ،‬ومن تلك الشهور االثني عشر أربعة حرم‪ :‬ثالثة متواليات‪ :‬ذو القعدة وذو الحجة‪،‬‬
‫واملحرم‪ ،‬وواحد فرد‪ :‬رجب الذي بين جمادى وشعبان‪.‬‬
‫فوضعت (إنما) إلفادة القصر‪ ،‬وتعريفه‪ :‬تخصيص الحكم باْلذكور في الكالم ونفيه عن سواه بطرق مخصوصة‪ .‬ففي هذا القول الكريم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫(إنما النس يء زيادة في الكفر) أسلوب قصر طريقه إنما من قصر اْلوصوف على الصفة قصرا حقيقيا‪ ،‬وقد أفادت "إنما" التعريض بما كان يفعله‬
‫ً‬
‫هؤالء في جاهليتهم من تحريم الشهر الحالل‪ ،‬وتحليل الحرام‪ ،‬وفقا ْلزاجهم وهواهم‪ .‬وفي ذكر‪ :‬ذو القعدة وذو الحجة واملحرم‪ ،‬وجب بعد ثالثة‬
‫متواليات‪ ،‬وواحد فرد‪ :‬نوع من اإلطناب البالغي طريقة التفصيل بعد اإلجمال‪1 .‬‬

‫َّ‬ ‫َ‬
‫(أيها الناس‪ ،،‬اتقوا هللا في النساء‪ ،‬فإنكم إنما أخذتموهن بأمانة هللا واستحللتم فروجهن بكلمات هللا‪ ،‬واستوصوا بالنساء خيرا‪،‬‬
‫فإنهن عندكم عوان ال يملكن ألنفسهن شيئا إال أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في املضاجع‪ ،‬واضربوهن ضربا غير م رح‪ ،‬فإن‬
‫وطئن ُف ُر َش ُك ْم َ‬
‫غيركم‪َ ،‬وال‬
‫ُ َ‬ ‫َ ُ‬
‫نسائك ْم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم؛ فال ي‬
‫َ ُ‬
‫نسائك ْم حقا ول‬ ‫أطعنكم فال تبغوا عليهن سبيال‪ .‬إال إن لكم على‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وكسوت ُه َّن بامل ْع ُروف)‬ ‫أط ْع َن ُك ْم َف َع َل ْي ُك ْم ر ُزق َّ‬
‫هن‬
‫ْ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ‬
‫تكر ُهون ُه بيوتك ْم‪ ،‬وال يأتين بفاحشة‪ ،‬فإن‬ ‫ُي ْدخ ْل َن َ‬
‫أحدا‬
‫ومن األسرار البالغية قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إنما النساء عندكم عوان" وهذا أسلوب قصر‪ ،‬طريقه إنما من قصر اْلوصوف على‬
‫ً‬
‫الصفة‪ ،‬وقد أفاد هذا القصر‪ :‬تقرير اْلعنى وتأكيده‪ ،‬فإن في ذلك دفعا للرجال إلى الترفق‪ ،‬والعطف بنسائهم‪ .‬وفي التركيب تشبيه بليغ‪ ،‬حيث شبهت‬
‫النساء باألسيرات املحبوسات‪.‬‬

‫َ‬
‫(فاعقلوا أيها الناس قولي‪ ،‬فإني قد بلغت‪ ،‬وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا‪ ،‬أمرا بينا‪ ،‬كتاب هللا وسنة نبيه‪ .‬أيها‬
‫ِّ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫الناس‪ ،‬اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن املسلمين إخوة (إنما املؤمنون إخوة)‪َ ،‬ف َال َيحل ْ‬ ‫َّ‬
‫ال أخيه إال َع ْن‬ ‫ىء م‬
‫المر ٍ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ض ُك ْم َ‬‫منه‪ ،‬فال تظلمن أنفسكم اللهم هل بلغت ؟ وستلقون ربكم فال َت ْرج ُع ِّن َب ْعدي ُكفا ا َيضر ُب َب ْع ُ‬
‫طيب ْنفس ُ‬
‫اس إن َرَّبك ْم‬ ‫الن ُ‬ ‫رقاب َب ْعض‪ .‬أيها‬ ‫ر‬ ‫ٍ‬
‫ِّ ِّ ِّ ْ َ َ َ َ ْ َّ ْ ُ ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ َ َ ُ‬
‫الل ُهمِّ‬ ‫َواحد‪ ،‬وإن أباكم واحد‪ ،‬كلكم آلدم‪ ،‬وآدم من تراب‪ ،‬أكرمكم عند هللا أتقاكم وليس لعربي فضل على عجمي إال بالتقوى‪ ،‬أال هل بلغت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫اشهد")‪2‬‬

‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.145 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.146-145 :‬‬‫ن‬ ‫‪2‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪95‬‬
‫ً‬
‫ينادي الرسول عليه الصالة والسالم أهل اإليمان مبينا بأسلوب القصر أن اْلؤمنين اْلصدقين بقلوبهم‪ ،‬املحققين للواجبات الشرعية هم‬
‫ً‬
‫جميعا إخوة تربطهم رابطة اإلسالم‪ ،‬فمن واجب أهل اإليمان أن يكتسبوا من األسباب ما يصيرون به إخوة كإخوة النسب حيث الشفقة والرحمة‬
‫واملحبة‪ ،‬واْلواساة‪ ،‬والنصيحة‪ .‬وأمارة هذه األخوة حرمة مال اْلسلم مالم يتنازل عن ش يء بمحض إرادته واختياره‪ .‬وهللا تبارك وتعالى شاهد ورقيب‪.‬‬
‫وينهى الرسول { عن النكسية نحو الكفر بعد اإليمان‪ ..‬وما يترتب عليها من تقاطع وتدابر في مجتمعات اْلؤمنين يصل إلى حد اإلهالك‬
‫واإلبادة‪ ،‬على أنه ال سبيل إلى الخالص والهداية إال من خالل كتاب الهداية اْلعجز‪ :‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫ومن األسرار البالغية في القول الكريم‪( :‬إنما اْلؤمنون إخوة) أسلوب قصر‪ ،‬طريقه‪ :‬إنما من قصر اْلوصوف على الصفة‪ ،‬والغرض منه‪:‬‬
‫حث اْلؤمنين على أن يحققوا ربط األخوة بينهم فإن يد هللا مع الجماعة‪.‬‬
‫وأنظر كيف تجسد الحرص النبوي على أن تبلغ جملة هذه التوجيهات من مكامن نفوس اْلسلمين إلى صورة التوكيد‪(( .‬فال تظلمن‬
‫أنفسكم)) وكان يسعه (صلى هللا عليه وسلم) أن يقول‪ :‬فال تظلموا أنفسكم‪ ،‬ولكن نون التوكيد هي بمثابة أداة القرع للنفس خشية أن تغفل فتضل‪.‬‬
‫‪1‬‬

‫وأنظر إلى حذف اْلفعول من ((اللهم اشهد)) حيث يقول اإلمام عبد القاهر في بالغة الحذف وأثره الجميل في تقوية الفكرة‪(( .‬هو باب دقيق‬
‫اْلسلك‪ ،‬لطيف اْلأخذ‪ ،‬عجيب األمر‪ ،‬شبيه بالسحر‪ ،‬فتلك ترى به ترك اْلذكور أفصح من الذكر‪ ،‬والصمت عن اإلفادة أزيد لإلفادة‪ ،‬وتجدك أنطق‬
‫ً‬
‫ما تكون إذا لم تنطق‪ ،‬وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن))‪.‬‬
‫إن البيان النبوي قد استغنى عن اْلفعول به لعمومه‪ ،‬وداللة ما سبقه عليه من جهة‪ ،‬إذ أنه ((يتناول كل ما يصح أن يدخل تحت هذا‬
‫الفعل‪ ،‬فليس ذكر البعض بأولى من اآلخر)) ومن جهة أخرى فإن االهتمام بالفعل هو اْلراد‪ ،‬أي أن الرسول (صلى هللا عليه وسلم) أشهدهم على أنه‬
‫قام بالتبليغ‪ ،‬إذن الحديث هو األرجح في الذكر دون غيره من متعلقاته‪.‬‬
‫وفي بيان هذا اْلنحى البالغي يقول الزمخشري في حديثه عن حذف اْلفعول‪(( :‬وقد يحذف اْلفعول ألن القصد إلى الفعل غير معتمد إلى‬
‫ش يء‪ ،‬يقول في قوله تعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ال تقدموا بين يدي هللا ورسوله} وفي قوله‪ :‬ال تقدموا من غير ذكر مفعول وجهان‪ :‬أحدهما يحذف‬
‫ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدم‪ ،‬والثاني إال يقصد قصد مفعول وال حذفه))‪2 .‬‬

‫املرجع‪:‬‬
‫خطبة الوداع فوائد وفرائد‪ ،‬محمد أحمد عبد الغني‪2007 ،‬م‪.‬‬

‫ن‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.146 :‬‬ ‫‪1‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ي‬
‫الغن‪ ،‬ص‪.147-146 :‬‬ ‫‪ 2‬المرجع السابق‪ ،‬محمد أحمد عبد ن‬
‫ي‬

‫مقرر مادة البالغة القرآنية والنبوية للمستوى الثامن أعده طالب قسم اللغة العربية وطالباته (الدفعة الثانية) إبشراف د‪ .‬رشاد عبد هللا ‪-‬حفظه هللا‪.-‬‬

‫‪96‬‬

You might also like