Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 12

‫الفن‬

‫‪ -‬تقديم‪:‬‬
‫رسم إدفرت مونك الصرخة للتعبير عن القلق المفاجئ الذي أصابه على حين غرة‪ ،‬و هو يتمش ى م ع‬
‫أصدقائه في جو هادئ‪ ،‬فتوقف صارخا‪ ،‬حتى تغيرت ألوان العالم من حوله‪ ،‬و أضحى كل شيء متعكرا‪.‬‬
‫إن كنت تنظر إلى هذه اللوحة ستشعر بأنها تحاول جذبك‪ ،‬إلى حيز س حيق نح اول اله رب من ه دائم ا‬
‫مع أنه متواجد‪ ،‬ليس بيننا أو معنا‪ ،‬و إنما فينا‪ ،‬داخلن ا‪ُ ،‬مح ايث لوجودن ا‪ُ ،‬يالزمن ا في ك ل خط وة‪ ،‬أينم ا‬
‫حللنا أو ارتحلنا‪.‬‬
‫األل وان القاني ة البرتقالي ة ال تي ترمي ك بت وتر ُيش تت داخل ك شخص ياتك المتنوع ة‪ ،‬و يخل ط أوراق‬
‫االختيارات التي ترغب بأن تتخذها في الحياة‪ ،‬و يظهر لك هشاشة األمل و اإليمان اللذين يمنحانك معنى‬
‫لحياتك‪ .‬إنها لوحة تخطفك إلى ذاك العالم الذي تركته ا خلف ك ب الثرثرة اليومي ة و الت أويالت المنطقي ة و‬
‫العقلية و الدينية‪.‬‬
‫هذه اللوحة ال تخبرنا عن الحقيقة و إنما تضعنا أمام أنفسنا‪ ،‬لكي نواجهه ا بم ا يوج د حق ا‪ ،‬و ليس م ا‬
‫نرميها خلفنا لنستمر في الوجود‪ ،‬لقد تمكنت هذه اللوح ة أن تجم ع ش تات ذواتن ا و تق دمها أمامن ا ب ألوان‬
‫مثيرة للغثيان‪.‬‬
‫لم ينتظر إدفرت كثيرا حتى قدم لنا لوحة رقصة الحياة‪ ،‬لنشعر بوجود اآلخر‪ ،‬الذي لواله لما اس تطعنا‬
‫أن نلعب بخفة في هذا الوج ود‪ .‬لق د وض عتنا لوح ة الص رخة أم ام عزلتن ا كم ا هي‪ ،‬والوحش ة المميت ة‪،‬‬
‫فجاءت لوحة رقصة الحياة‪ ،‬لتمزجنا مع اآلخر‪ ،‬الذي يهدئ فينا رعب العزلة‪.‬‬
‫لم تكن لتحدث هذه الرقصة لوال وجود تلك األنثى بفستانها األحمر‪ .‬إنها اآلنسة ال تي أخ رجت الرج ل‬
‫من عزلة الوحشة‪ ،‬فل و نظرن ا لكلم ة اآلنس ة‪ ،‬فس نجد أنه ا مش تقة من فع ل آنس ي ؤنس‪ ،‬و ال ذي يض اد‬
‫التوحش‪ ،‬فحتى اسم اإلنسان‪ ،‬مشتق من نفس الفرع‪ ،‬و اإلنسانية تخالف الوحشية‪ ،‬نقول حي وان مس تأنس‬
‫أي أليف‪ ،‬و حيوان متوحش أي بري‪.‬‬
‫لقد استطاعت اآلنسة أن ُت خرج الرجل من وحشته (من عزلته و من مج رد العيش) إلى إنس انيته (إلى‬
‫الحياة)‪ ،‬هذا االنقالب في اللوحتين‪ ،‬يؤكد بأن اآلخر قد ساعدنا لننس ى (النس يان ل ه قراب ة من اإلنس ان)‬
‫الوحشة التي كنا فيها‪.‬‬
‫الصرخة هي الحقيقة‪ ،‬العيش على األصل‪ ،‬الوجود األص يل (خل ق آدم)‪ ،‬أم ا رقص ة الحي اة فهي ذاك‬
‫الغالف الناعم األحمر الذي منحنا الحياة‪ ،‬و نسيان الوجود (الوجود المزيف)‪ .‬لق د ق امت األن ثى ب تزييف‬
‫عالمنا جماليا إلخفاء حقيقة الوجود التي تؤرقنا‪ .‬اآلنسة أنست الرجل حقيق ة الوج ود ليغ دو إنس انا‪ .‬فل وال‬
‫هذا النسيان لما استطاع أن يبدأ في تحرير نفسه من ضخامة ثقل الوجود (الموت)‪.‬‬
‫إنهما لوحتان وجوديتان‪ ،‬استطاعتا بألوانهما و خطوطهم ا و ظاللهم ا و ك ل أض وائهما‪ ،‬أن يض عاننا‬
‫أمام أنفسنا (الوجود) ثم يعطياننا نفحة حياة‪ ،‬و لكن بنسيم كئيب نوعا ما‪.‬‬
‫إن الفن هو هذا الذي يضعنا أمام أنفسنا كما يقول هيغل "إنه يضع اإلنسان أمام نفسه"(‪ .)1‬يقدم لنا تل ك‬
‫اإلمكانية لنعيد التفكير في الكثير من األمور‪ ،‬و يدفعنا لنص ير أك ثر نض جا مم ا نحن علي ه‪ ،‬من الناحي ة‬

‫‪ -)(1‬هاوزر‪ ،‬أرنولد؛ الفن و المجتمع عبر التاريخ ج‪ ،1‬ترجمة فؤاد زكريا‪ ،‬دار الوفاء لدنيا الطباعة و النشر‪ ،‬ط‪ ،2005-1‬ص‪18‬‬
‫الوجودية‪ .‬فالفن هو أن نخرج من ذاك الروتين الي ومي و ن دخل إلى ع الم ُمتخلى عن ه‪ ،‬فه و إب داع ألن ه‬
‫يستطع أن يخلق جدي دا‪ ،‬و ش يئا لم يكن في الس ابق‪ ،‬ليس نس خة‪ ،‬و ح تى النس خ ال تي ُتق ام ل ه‪ ،‬ال ُتخفي‬
‫أصالته‪ ،‬و إنما ُت سهل انتشاره‪ ،‬و تدفعنا لنبحث عنه من جديد كأصيل نحتاج لنتعرف عليه وجها لوجه‪.‬‬
‫إن محاولتنا للمعرفة مكنون الفن‪ ،‬صادفتنا أسئلة مهمة‪ ،‬أهمها‪ ،‬ما هذه الرغبة الملحة الرتباط اإلنسان‬
‫بالفن؟ ما أصلها؟ لماذا أضحى اإلنسان فنانا؟ و هل يستطيع أن يتخلى عنها؟ ماذا قدم الفن لنا كبشر؟‬
‫لكي أستطيع التعامل مع هذه األسئلة اإلشكالية‪ ،‬يلزمن ا‪ ،‬أن أتجنب الح ديث عن الفن‪ ،‬كإنت اج‪ ،‬و إنم ا‬
‫كدافع‪ ،‬و لتحقيق ذلك‪ ،‬يلزمني الحديث عن شيء أكثر شمولية عليه‪ ،‬و هو اإلبداع‪ ،‬الذي يعد الفن مج رد‬
‫جزء منه‪.‬‬

‫‪ -‬عالقة الكبرياء باإلبداع‬


‫من أجل تطويق الموضوع‪ ،‬على األقل‪ ،‬في جزئياته األساسية‪ ،‬يلزمني أن أبدأ الح ديث عن اإلنس ان‪،‬‬
‫أوال و قبل كل شيء كحيوان‪ ،‬و لكن لن يكون ح ديثا تاريخي ا تطوري ا‪ ،‬و إنم ا فق ط محاول ة الفص ل بين‬
‫الجوانب التي تميزه عن باقي الكائنات‪ ،‬ككائن يستطيع أن يتطور‪ ،‬و يتغير و أن ال يتخذ طبيعة واحدة‪.‬‬
‫نعلم طبعا‪ ،‬أن اإلنسان جزء من الطبيعة‪ ،‬لذا‪ ،‬يخضع كباقي الكائنات الحية للدورة البيولوجي ة ال تي ال‬
‫تستثني أي حي ف وق األرض‪ ،‬فهي دورة س لطوية ال يس تطيع اإلنس ان أن يفنيه ا‪ ،‬ألنه ا ليس ت ش يئا أو‬
‫عملية أو بنية تقع خارجه‪ ،‬و إنما تكمن في صميمه‪ ،‬أو في التصميم الذي يض عه في الوج ود كك ائن حي‬
‫(العيش)‪ ،‬إنه يأكل و يشرب و ينام و يفرز فضالته و يتكاثر‪ ،‬فلن يستطيع أن يخ رج على إطاره ا أب دا‪.‬‬
‫"فهذه الحياة تتبع حركة مستقيمة بحزم يسببها المحرك البيولوجي الذي يتقاسمه اإلنسان مع كائن ات حي ة‬
‫أخرى و الذي يحافظ دائما على الحركة الدورية الطبيعية"(‪.)2‬‬
‫إن كانت الدورة البيولوجية تتحكم في هذه الكائن الض عيف‪ ،‬و تف رض علي ه أن يك رر دورة أبدي ة ال‬
‫تتوقف‪ ،‬فإن‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬ثم ة ثغ رة داخ ل أح د غرائ زه‪ ،‬و أقص د الغري زة الجنس ية‪ .‬فاإلنس ان إن ك ان ال‬
‫يستطيع أن يتوقف عن األكل أو الشرب أو إفراز فضالته التي تتم أصال بطريقة آلية قوية‪ ،‬و كلها تحافظ‬
‫على حياته الفردية‪ ،‬إما أن يفعل كما يؤمر أو أن يموت‪ ،‬فإن الدوافع الجنس ية‪ ،‬يس تطيع أن يكبحه ا لم دة‬
‫طويلة‪ ،‬و هذا الكبح أو الكبت بلغة التحليل النفسي‪ ،‬هو الذي يستطيع به أن ينعزل قليال بنفسه‪ ،‬و أن ينفك‬
‫من إرادة الحياة القوية‪ .‬و قد الحظ فرويد مالحظ ة مهم ة ح ول ه ذا األم ر؛ "إن تح ول اللبي دو المتعل ق‬
‫بالموضوع إلى لبيدو نرجسي‪ ،‬و هو ما يحدث في هذه الحالة‪ ،‬إنما يتضمن بوضوح التخلي عن األهداف‬
‫الجنسية‪ ،‬أي يتضمن عملية سحب الطاقة الجنسية – فهو إذن عبارة عن نوع من اإلعالء"‪ .‬و قد أوض ح‬
‫المترجم في أن مصطلح اإلعالء يعني تحويل الطاقة الجنس ية إلى أنش طة غ ير جنس ية(‪ .)3‬و يض يف في‬
‫كتابه ما فوق مبدأ اللذة أن "ما يبدو لدى أقلية‪ ،‬من الناس من رغبة ملح ة جامح ة ت دفع بهم إلى ال رقي و‬
‫الكمال ليمكن تفسيره على أنه نتيجة كبت الميول الغريزية الذي يقوم علي ه ك ل س ام رفي ع في الحض ارة‬
‫(‪.)4‬‬
‫اإلنسانية"‬
‫و بالفع ل‪ ،‬فكبت المي ول الجنس ية‪ ،‬يق ود لتخ زين الش حنات النفس ية داخ ل اإلنس ان‪ ،‬و ال تي س يبحث‬
‫لتفريغها في مواضيع أخرى غير جنسية‪ ،‬كاللعب أو اإلبداع‪ .‬و ع وض أن يظ ل في وض ع ك امن‪ ،‬ن اتج‬
‫عن االمتصاص الطاقي في العملية الجنسية‪ ،‬فإنه يخرج من تلك الدورة لُيفرغها في مستوى جديد تمام ا‪.‬‬
‫فالوضع اللذيذ ال يقدم جديدا و إنما الوضع المتألم هو الذي يدفع اإلنسان لُيبدع‪ ،‬فإن كانت اللذة هي تفريغ‬
‫الطاقة الكامنة داخلنا‪ ،‬فإن األلم هو تلك الطاقة نفسها التي تبحث عن التفريغ‪ ،‬فإن تم كبتها لكي ال تحصل‬
‫على اللذة‪ ،‬فسوف تتجه نحو منفذ آخر‪ ،‬و هذا المنفذ هو اإلبداع أو اللعب‪ ،‬أو حدوث أمراض النفسية‪ ،‬أو‬
‫ظهورها على شكل أحالم‪.‬‬
‫لكن ما سبب هذا الكبت أصال؟ التحليل النفسي ال يحدثنا عن أصله‪ ،‬إنه يتحدث عنه ت ارة بأن ه أص يل‬
‫في اإلنسان و يعمل بفعل القمع الخارج الص ادر من األب‪ ،‬و ت ارة يتح دث عن ه كس لطة داخلي ة ظه رت‬
‫على مس توى األن ا األعلى‪ ،‬بع د أن عوض ت عق دة أديب‪ ،‬أي بع د أن تخلص الطف ل من حب والدت ه‪ ،‬و‬
‫تقمص شخصية والده القمعية (راجع الفصلين الثاني و الثالث من كتابه األنا و الهو)‪.‬‬
‫و لتجاوز هذا اإلشكال‪ ،‬أفترض أن الكبت يكمن في تلك القدرة على الكبرياء‪ ،‬ذاك الشعور الذي ي دفع‬
‫اإلنسان لكي يسمو على بعض األوضاع‪ ،‬ألنها ُتشعره بالمهانة‪.‬‬
‫‪ -)(2‬آرنت‪ ،‬الوضع البشري‪ ،‬ص ‪.182‬‬
‫‪ -)( 3‬فرويد‪ ،‬سيغموند؛ الطوطم و التابو‪ ،‬ترجمة بو علي ياسين‪ ،‬دار الحوار للنشر و التوزيع‪ ،‬ط‪ ،1983 -1‬ص ‪.171 -168‬‬

‫‪ -)(4‬هيغل‪ ،‬فريدريك؛ فنومينولوجيا الروح‪ ،‬ترجمة و تقديم ناجي العْو نلي‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة‪ ،‬ط ‪ ،2006 -1‬ص ‪.271‬‬
‫في هذا السياق‪ ،‬سنستعين بأسطورة وردت في كت اب ج ان بي ك دي ال ميرون دول‪ :‬مقال ة في كرام ة‬
‫اإلنسان‪" ،‬خلق هللا الحيوانات و النباتات‪ ،‬واهبا كل واحد من األنواع ص فتين جوهري تين‪ :‬أوال ع ددا من‬
‫المواهب الطبيعية‪ ،‬ثم منزلة خاصة في صلب الكون‪ ،‬ينفرد بها كل واحد منه ا" فهنال ك حيوان ات ُو هبت‬
‫المخالب و بعضها األنياب و البعض اآلخر الفراء يقيها من ال برد‪ ،‬و أخ رى األجنح ة لتط ير‪ ،‬و غيره ا‬
‫الغالصم لتعيش في الماء‪ .‬كل هذه المواهب ُمنحت للحيوانات لتعيش في ت وازن بي ئي متقن الص نع‪ ،‬لكن‬
‫اإلله و هو يفرق هذه المواهب‪ ،‬تفطن أنه لم ُيقدم لإلنس ان أي ش يء‪ ،‬و أن الم واهب ق د انتهت‪" .‬لم يع د‬
‫تحت تص رفه أي نم وذج ! و كم ا س يقول س ارتر في نفس المع نى [‪ ]...‬ليس لإلنس ان ماهي ة ق د تس بق‬
‫وجوده‪ ]...[ .‬يولد البشر إذن دون نمط مسبق‪ ،‬مفتقرين إلى مواهب طبيعية و إلى منزلة في الكوسموس‪:‬‬
‫إنهم عراة تماما‪ ،‬بال فراء و ال مخالب لحماية أنفسهم‪ ،‬ال يجرون سريعا جدا‪ ،‬و ليسوا أقوي اء ج دا [‪"]...‬‬
‫و لكي يعوض اإلله عن هذه النقائص سيهب اإلنسان الحرية (‪.)5‬‬
‫لو أن الكائن البشري‪ُ ،‬خ لق بموهبة معينة واضحة‪ ،‬النطمست ذاتيته في تلك الموهبة‪ ،‬و تورط بش كل‬
‫كلي داخل ال دورة البيولوجي ة‪ ،‬لكن ه ُمنح ب دل ذل ك الحري ة‪ ،‬و ال تي تع د موهب ة مرن ة تخ الف الموهب ة‬
‫الجامدة‪ .‬و بفضلها سيتمكن من تعلم كل المواهب التي يراها في محيطه البيولوجي‪ ،‬سيختار م ا يري د أن‬
‫يكونه‪ ،‬إنها قدرة على أن يؤكد‪ ،‬بأنه ال يريد هذه و إنما يريد تلك‪ ،‬يص رخ بق وة‪" ،‬أري د أن أك ون ه ذا و‬
‫ليس هذا‪ ،‬ال أرغب في أن أبقى كما أنا"‪ ،‬إنه تمرد على الوض ع كم ا ه و‪ ،‬إن ه ش عور بال ذات على أنه ا‬
‫ليست كالباقي‪ ،‬إنه تطلع نحو األعلى‪ ،‬للسمو عن المكانة التي يوجد فيها‪ ،‬إنه الحافز الذي يضطره ليق ول‬
‫لست كباقي هذه المخلوقات‪ ،‬إنه إحساس بالتع الي و الكبري اء‪ ،‬ق درة على ال رفض إن لم ُيق ِّد ر أح د ه ذه‬
‫القوة‪ .‬فإن كان مثال يحب أنثاه و لم تعترف بقوت ه فإن ه س يتخلى عنه ا و عن حب ه‪ ،‬و يكبت ك ل رغبات ه‬
‫الجنسية و العاطفية ليؤكد له ا أن ه يس تطيع أن يس يطر على ال دورة البيولوجي ة ال تي تحكم ك ل الكائن ات‬
‫الحية‪ ،‬و أن يس مو فوقه ا‪ ،‬و أن يع تزل الجمي ع مكتفي ا بذات ه‪ .‬إن الكبري اء ه و ذاك الم رور في االتج اه‬
‫اآلخر‪ ،‬من رقصة الحياة إلى الصرخة‪ ،‬من الهدوء العاطفي‪ ،‬إلى الضجيج الوج ودي ال ذي ي دفعنا لنق ول‬
‫أشياء مخفية عنا‪ ،‬إنه الهروب من القطيع إلى الذات‪ ،‬فحتى فرويد أعاله الحظ أن اإلعالء يح دث بتح ول‬
‫النشاط الجنسي من الموضوع إلى األنا (النرجسية)‪ ،‬فال يمكن بحسبه حدوث هذه العملية دون حب الذات‬
‫و االنغالق عليها‪ .‬فالذاتية تلزمنا في أي إبداع‪ ،‬إنه التفرد و التميز و نيل االع تراف بأن ا ذاتي أس مى من‬
‫(‪.)6‬‬
‫اآلخرين‪ .‬و تصرح حنة آرنت أنه ال يمكن إنتاج أي أثر من دون االنفراد و االنعزال‬
‫في فينومينولوجيا الروح يتحدث هيغل ضمن مسار الروح‪ ،‬عن معركة تح دث بين ذاتين يح اول ك ل‬
‫منهما أن ينال من اآلخر االعتراف به كذات مستلقة ال تحت اج ألح د (الوج ود بذات ه و لذات ه)‪ .‬يؤك د أن ه‬
‫نشب صراع حتى الموت بين ذاتين‪ ،‬انتهى باستسالم أحد الط رفين بس بب خوف ه من الم وت (لم يس تطع‬
‫التمرد على الدورة البيولوجية) فتحول لعبد‪ ،‬بينما تحول الطرف الثاني إلى سيد ألنه استطاع الس مو على‬
‫سيطرة البيولوجيا‪ ،‬و شعر بكبرياء يتجاوز تلك السلطة‪ ،‬فأظهر أنه حر بينما اآلخر مج رد عب د‪ ،‬و يق ول‬
‫في نفس الموضع "و إنه لعبر المجازفة بالحياة وحدها ُت خبر الحرية و تمتحن" (‪ .)7‬فالمجازف ة‪ ،‬ه و تأكي د‬
‫على تجاوز الدورة البيولوجية‪ ،‬و عدم الرضوخ الضطراراتها أو الخوف من س لطانها األك بر؛ الم وت‪،‬‬
‫فاإلنسان بالمخاطرة أو بالمجازفة‪ ،‬يحاول التصريح بأنه مستقل عن الضرورة التي تحكم باقي الكائن ات‪،‬‬
‫و على سموه عنها‪ ،‬و تعاليه عن مستواها‪ ،‬لذا كل من يخاطر يبحث عن االعتراف به‪ ،‬على أن ه خ ارق‪،‬‬
‫و بطل‪ ،‬و يستحق أكثر مما يعتقد الناس أنه عليه‪.‬‬

‫‪ -)( 5‬آرنت‪ ،‬حنة؛ الوضع البشري؛ ترجمة هادية العرقي؛ عن مؤسسة مؤمنون بال حدود‪ ،‬ص ‪.119‬‬
‫‪ -)(6‬الطوطم‪ ..‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.171‬‬
‫‪ -)(7‬آرنت‪ ،‬الوضع البشري‪ ،‬ص ‪182 -181‬‬
‫سبق ألفالطون في جمهوريته أن قسم النفس اإلنسانية إلى ثالثة أقسام؛ الغرائ ز و ال ثيموس (الج انب‬
‫الغضبي – الكبرياء) و العقل (‪ ، )8‬فإن كانت الغرائز تحافظ علينا داخل ال دورة البيولوجي ة ف إن ال ثيموس‬
‫يرفعنا فوقها‪( ،‬هذا إن طمسنا دور العقل و أهملناه هنا لغرض منهجي)‪ .‬فالجانب الغضبي‪-‬الكبريائي ه و‬
‫الذي أخرجنا من تلك ال دورة لنبحث عن وس يلة للتعب ير عن أنفس نا ككائن ات ق ادرة على أن تتم رد على‬
‫الدورة البيولوجية األبدية التي تبدأ بالوالدة و تنتهي بالموت‪.‬‬
‫لو تأملنا قليال هذا المسار التم ردي و التح رري من س يطرة ال دورة البيولوجي ة ألخ ذنا ه ذا إلى تل ك‬
‫البقعة‪ ،‬التي انتقل فيها الكائن البشري من الطبيعة إلى الثقاف ة‪ .‬فالطبيع ة مج رد اس تهالك و س لبية‪ ،‬و إن‬
‫كانت تترنح أحيانا بقدرة اإلنسان على العمل‪ ،‬إال أنها ظلت تف رض علي ه أن يك ون مج رد منفع ل اتج اه‬
‫شهوات العيش و جبروت دوافعه الحيوانية‪ .‬بينما الثقافة هي إنتاج و تمرد و فاعلية و تحرر من جبروت‬
‫المحيط‪.‬‬
‫لنعد أدراجنا للخلف نحو فرويد‪ ،‬الذي أعده مفكرا قدم تفس يرا تاريخ ا جميال لمح اوالت اإلنس ان لكي‬
‫يصنع لنفس ه مكان ا مم يزا داخ ل الطبيع ة‪ .‬ففي كتاب ه الط وطم و الت ابو‪ ،‬تح دث عن ح دث خي الي ش به‬
‫تاريخي‪ ،‬يفسر الطريقة التي ظهر به ا الط وطم (معب ود القبيل ة) و الت ابو (المق دس‪/‬الم دنس)‪ .‬ففي قبيل ة‬
‫افتراضية‪ ،‬كان ثمة أب يملك كل النساء‪ ،‬يح رم على أبن اءه االس تمتاع باإلن اث‪ ،‬أي يح رمهم من الحي اة‬
‫الجنسية‪ ،‬بل يقوم بتهميشهم خارج إطار القبيل ة‪ ،‬ف اتفق اإلخ وة‪ ،‬لقت ل وال دهم‪ ،‬و نجح وا طبع ا‪ ،‬و ق اموا‬
‫بالتهام جثت ه (دالل ة على تقمص شخص يته و قوت ه)‪ ،‬و حين انته وا من فعلتهم‪ ،‬ش عروا بال ذنب‪ ،‬فق اموا‬
‫باالتف اق لق بر أبيهم‪ ،‬و ص ناعة رم ز ل ه‪ ،‬من أج ل تقديس ه (الط وطم)‪ ،‬و ك ذلك ق اموا بتنظيم العالق ات‬
‫الجنسية‪ ،‬لكي ال يتكرر الحدث مرة أخ رى‪ ،‬فوض عوا قواع د و أعراف ا ح ول الجنس‪ ،‬تق وم على أس اس‬
‫تحريم ِس فاح القربى (التابو) (‪.)9‬‬
‫هنا يتضح أن كبت بعض الميوالت الجنسية (سفاح القربى) سمح لإلخوة بتنظيم أنفسهم داخل القبيل ة‪،‬‬
‫لقد ارتفعوا عن الطبيعة التي تف رض عليهم تفري غ ط اقتهم الجنس ية‪ ،‬لل دخول إلى إب داع أخالق (التق ييم)‬
‫ُت نظيم القبيلة‪ .‬و هذا االنتاج الجديد الذي لم يكن سابقا‪ ،‬هو الذي أعطى لإلنسان بأن يف رض نفس ه كفاع ل‬
‫داخل الطبيعة‪ ،‬فهو اآلن قد دخل إلى الثقافة‪.‬‬
‫و لكن قبل هذا البد أن نتسأل؛ هل اإلخ وة ق د قتل وا أب اهم ألن ه ق د ح رم عليهم ش يئا تحتاج ه ال دورة‬
‫البيولوجية التي تحكمهم‪ ،‬أم أنهم قتلوه ألنه همش هم و احتق رهم و ع دهم مج رد كائن ات هامش ية حق يرة‪،‬‬
‫تستحق العيش متشردة‪ ،‬و ذلك ألنه أفضل منهم؟‬
‫إن اإلخوة ق د قتل وا آب اهم‪ ،‬ألنهم ش عروا باالحتق ار و أن ك رامتهم ق د أهينت‪ ،‬و ليس ألنهم ك انوا في‬
‫حاجة لتحقيق رغباتهم الجنسية الحيوانية‪ ،‬فهي ك انت ُتحق ق أص ال بالممارس ة المثلي ة و بالع ادة الس رية‬
‫بحس ب م ا أورده فروي د نفس ه في نفس الكت اب(‪ .)10‬إذا فكبري اؤهم‪ ،‬ه و ال ذي دفعهم للخ روج عن ذاك‬
‫الروتين الجنسي السترداد ما يستحقون‪ ،‬فالحصول على األنثى هو االعتراف بك ل واح د منهم على أن ه‪،‬‬
‫ليس مجرد كائن هامشي حقير‪ .‬هذا التمرد هو الذي قضى بأن يكبتوا رغب اتهم الجنس ية لف ترة‪ ،‬من أج ل‬
‫شحن طاقة قتل األب (إبداع جديد لم يكن سابقا)‪ ،‬من أجل الحصول على ما يستحقون‪ ،‬و حتى ال يتك رر‬
‫األمر مرة أخ رى‪ ،‬و لكي ال ته ان كرام ة أي منهم‪ ،‬ق اموا بوض ع قواع د أخالقي ة ت برر كبت مي والتهم‬
‫الجنسية‪ ،‬لتنظيم المجتمع أكثر‪ ،‬فأبداع شيئا آخر مهم‪ ،‬و هو األخالق‪.‬‬

‫‪8()- Schopenhauer, Arthur; Le monde comme volonté et comme représentation, traduire en français: Auguste Burdeau, Librairie Félix Alcan-Paris, 1912, P285.‬‬

‫‪ -)( 9‬أفالطون؛ الجمهورية‪ ،‬تعريب شوقي داود تمراز‪ ،‬األهلية للنشر و التوزيع‪-‬بيروت‪ ،1994 ،‬ص‪..‬‬

‫‪ :)( 10‬غادامير‪ ،‬هانز جورج؛ الحقيقة و المنهج‪ :‬الخطوط األساسية لتأويلية فلسفية؛ ترجمة حسن ناظم و علي حاكم صالح‪ ،‬دار أويا للطباعة و النشر و التوزيع و التنمية الثقافية‪ ،‬ط ‪ ،2017 -1‬ص ‪.106‬‬
‫يرتبط إذًا‪ ،‬اإلبداع بالكرامة‪ ،‬فالشعور بالكبرياء‪ ،‬و التميز‪ ،‬و كبت بعض المي والت نح و أش ياء تح ط‬
‫من قيمة الشخص (الذي ال يريد أن يبقى مجرد حيوان) هو الذي قاد الكائن البشري لكي يب دع‪ ،‬لكي ينتج‬
‫شيئا لم يكن سابقا‪ ،‬لكي يضيف جديدا إلى حياته‪ .‬بهذه الطريقة ظهر العبقري الذي أخرج ذاته من الدورة‬
‫البيولوجية لينتج أمورا لم يسبق ألحد أن أراها سابقا‪ ،‬فشوبنهاور الح ظ ب أن العبق ري‪ ،‬ال ذي يع ده كان ط‬
‫خ الق الفن‪ ،‬ه و ش خص تم رد على إرادة الحي اة‪ ،‬ال تي تف رض علي ه الحف اظ على ال ذات فق ط‪ ،‬و على‬
‫النوع(‪ .)11‬فالعبقري هو ذاك الشخص الذي تخلى عن الدورة البيولوجية‪ ،‬و انعزل ُمح ّو ال طاقت ه النفس ية‬
‫إلى إبداع‪ ،‬لقد شعر بأنه أكثر سموا عن الكائنات األخرى‪ ،‬لذا ابتعد عن اآلخرين الذين يفرضون عليه أن‬
‫يظل شبيها بهم‪ ،‬لينفرد بنفسه من أجل إخراج شيء جديد إلى الوجود‪ ،‬فكرامته قد فرض ت علي ه العزل ة‪،‬‬
‫و كبت رغباته من أجل إنتاج شيء لم يكن في السابق‪.‬‬

‫‪ -‬اإلبداع و التطور الثقافي‬

‫استطاع الكائن البش ري أن يتج اوز نقص ه الب دني في الحي اة‪ ،‬و ذل ك بكبت رغبات ه‪ ،‬و الس مو عليه ا‬
‫لصناعة أشياء تساعده في محيطه الطبيعي‪ ،‬فهو ال يملك مخالب و ال أنياء‪ ،‬فصنع الفأس و الرمح‪ ،‬ال تي‬
‫‪-)( 11‬كوب‪ ،‬كاتي‪ ،‬و هارولد جولد وايت‪ ،‬إبداعات النار‪ :‬تاريخ الكيمياء المثير من السيمياء إلى العصر الذري‪ ،‬ترجمة فتح هللا الشيخ‪ ،‬مراجعة شوقي جالل‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،2001 ،266‬ص ‪14‬‬
‫استعملهما (األداتية) من أجل أن يفرض وجوده داخل الطبيعة‪ ،‬فلو أنه ارتاح لوضع الدورة البيولوجية و‬
‫دخل في راحة جنسية مثيرة‪ ،‬لما استطاع أن يجد وقتا للتفكير فيها إلنتاج هذه األشياء‪ ،‬فهو بكبته لرغباته‬
‫الجنسية‪ ،‬انعزل لصناعة أشياء تفيده في حياته‪ ،‬لفرض السيطرة على محي ط نوم ه (اس تقراره) و أيض ا‬
‫توسيعه عند الحاجة ضد الكائنات األخرى‪ ،‬ب ل إن ه ق د ق ام برس م الحيوان ات‪ ،‬اعتق ادا من ه ب أن رس مها‬
‫سيمنحه قدرة سحرية للسيطرة عليهم (‪ ،)12‬أو أن الرس م ُيَم ّك ن ه من فهم الحي وان مورفولوجي ا‪ ،‬باحث ا عن‬
‫نقاط قوته و ضعفه‪ ،‬إنها محاولة لسبر أغوار الكائن اآلخر لفهم سره‪.‬‬
‫إن الكبت قد سمح لإلنسان بصناعة أشياء ُت فيده في حياته الخاصة‪ ،‬فأضحى بذلك إنسانا ص انعا‪ ،‬لكن ه‬
‫حين انتق ل من مج رد ممارس ة الكبت على نفس ه‪ ،‬إلى تأس يس خط اب ت بريري حول ه‪ ،‬لكي ينتش ر بين‬
‫اآلخرين‪ ،‬فإنه ب دأ في اكتش اف المق دس و الم دنس‪ ،‬و ص ناعة ش يء يمث ل الق وة ال تي تتحكم في تمي يز‬
‫المقدس عن المدنس‪ ،‬لقد صار اإلنسان هنا كاهنا‪ ،‬يصنع ما يجسد القوة التي تتجاوز قدراته المحدودة‪ ،‬لم‬
‫يعد محصورا فيما يفيده‪ ،‬بل أضحى مهموما بما يحدد سلوكه و ينظمه ا‪ ،‬و ب ذا يك ون ق د اخ ترع مج اال‬
‫جديدا لم يكن سابقا و هو الثقافة‪.‬‬
‫لقد تجاوز اإلنسان بخلق خطاب الكبت‪ ،‬مرحلة الطبيعة‪ ،‬و دخل مرحلة الثقافة‪ ،‬و أسس صناعة أشياء‬
‫دينية يلزم على الجميع أن يقدسها و أن يحترم تحريماته ا‪ ،‬و أن ال يخ ترق قواع دها‪ ،‬لق د أس س الثقاف ة‪،‬‬
‫التي سمحت له بأن يزيد من توسيع رقعته على حساب الطبيعة‪ ،‬و كلما تقدم‪ ،‬كلما ارتف ع في س لم ال رقي‬
‫بعيدا عن الحالة البيولوجية‪ .‬و قد كان هذا الهذا الهذا الهذا البروز لللللثقافة من االنقالبات المهمة في حياة‬
‫اإلنسان‪ .‬لقد شق طريقه داخلها‪ ،‬و أض اف إلى األدوات و األس لحة‪ ،‬التماثي ل و ش واهد اإللى األدوات و‬
‫األسلحة‪ ،‬التماثيل و شواهد القبور و المعابد‪ ،‬لقد أس س إب داعا ال َي ُم ُّت بص لة لألداتي ة و النفعي ة‪ ،‬و إنم ا‬
‫للشعور الديني‪.‬إلى األدوات و األس لحة‪ ،‬التماثي ل و ش واهد القب ور و المعاب د‪ ،‬لق د أس س إب داعا ال َي ُم ُّت‬
‫بصلة لألداتية و النفعية‪ ،‬و إنما للشعور الديني‪.‬‬
‫إن تحرير خطاب الكبت‪ ،‬مّك ن اإلنسان من إبداع أمور لها صلة بالحياة األخ رى‪ ،‬و لم ا بع د الم وت‪،‬‬
‫لقد ابتكر مجاال لتجاوز خوفه من الموت‪ ،‬فبع د أن تح دي ال دورة البيولوجي ة ه اهو يح اول وض ع س بل‬
‫للقضاء على الخوف من أهم كيانات الدورة البيولوجية و هي الموت‪.‬‬
‫لم ينتهي األمر عند هذا الحد‪ ،‬فبفعل توسيع مجاله داخل الطبيع ة‪ ،‬تمكن الك ائن البش ري من اكتش اف‬
‫النار‪ ،‬و استعملها في البداية كوسيلة لطرد الحيوانات و التدفئة‪ ،‬إلى أنها أضحت فيما بع د أداة للطهي‪ ،‬و‬
‫تحويل األشياء من شكل إلى آخر‪ ،‬و من صفة إلى أخ رى‪ ،‬ظه ر انقالب جدي د في حيات ه‪ ،‬و هي تج اوز‬
‫األداتية و االربتاط بما بع د الم وت‪ ،‬لق د أض حى كيميائي ا‪" .‬فش عوب م ا قب ل الت اريخ ك انت تلقي بقط ع‬
‫الصخر الص غيرة في الن ار و تتأم ل تغ يرات األل وان الناتج ة عن ذل ك‪ ،‬و ك انت تل ك ممارس ة حقيقي ة‬
‫للكيمياء [‪ ]...‬و استخدموا الطالء و سيطروا على النار و صنعوا قدورا من الفخار‪ ،‬و جمعوا الفل زات و‬
‫صنعوها‪ ،‬و مارسوا فنون المداواة و العالج"(‪.)13‬‬
‫ساعدت النار اإلنسان على تحويل األشياء‪ ،‬لتس هيل ص ناعة األدوات و األس لحة و م ا يرتب ط بم اهو‬
‫ديني‪ ،‬فزاد من مردودية إنتاجه‪ ،‬و قد منحته هذه الطاقة الخارجية‪ ،‬تذكرة ال دخول في ط ور جدي د داخ ل‬
‫الثقافة‪ .‬فزيادة على ما كان ُيبدعه فيما مض ى‪ ،‬أض اف ش يئا جدي دا لحيات ه‪ ،‬و ه و ت زيين ممتلكات ه‪ ،‬فق د‬
‫أضحى ال يصنع فقط و ليعبد بل يصنع أيضا ليستمتع‪ ،‬لقد دخل من ثقافة االستعمال إلى ثقافة االس تمتاع‬
‫بالمرور من ثقافة التعبد‪ ،‬فإن كانت األولى أكثر ارتباطا بالطبيع ة‪ ،‬ألنه ا أق رب منه ا‪ ،‬و الثاني ة اس تقلت‬
‫عنها قليال‪ ،‬فإن الثالث أك ثر اس تقالال عنه ا‪ُ ،‬تش عر اإلنس ان أك ثر بحري ة أس مى‪ .‬فالن ار منحت ه فرص ة‬
‫‪ -)(12‬راجع كتاب الفكر البري‪ ،‬لكلود ليفي شتراوس‪ ،‬الفصل الرابع‪ ،‬الطوطم و الطائف‪.‬‬
‫‪ -)( 13‬فيري‪ ،‬لوك‪ ،‬بالتعاون مع كلود كبلياي؛ أجمل قصة في تاريخ الفلسفة‪ ،‬ترجمة محمود بن جماعة‪ ،‬دار التنوير للطباعة و النشر‪ ،‬ط ‪ ،2015 -1‬ص ‪.158 -156‬‬
‫لصناعة الطالء و أشياء زائدة عن اللزوم لها رونق جميل‪ .‬فإن صنع الفخ ار مثال من أج ل اس تعماله في‬
‫تخزين الغذاء‪ ،‬فإنه صنع الطالء للتزيين‪ ،‬ما يضيف على األداة ش يئا جدي دا‪ ،‬غ ير مرتب ط بنجاعته ا في‬
‫االستعمال‪ ،‬و إنما يتعلق األمر بجذب إثارة استمتاعه و الزيادة من رفاهيته‪.‬‬
‫استطاع اإلنسان في البداية أن ُيبدع ألنه حر‪ ،‬و تخلص من الخوف من الموت بعدها‪ ،‬و أض حى اآلن‬
‫يبدع ليستمتع بحريته‪ .‬إنه صنع ما ُيزين به بيته‪ ،‬و زوجته‪ ،‬حتى تبدو أكثر جم اال‪ ،‬لق د أض اف لجس دها‬
‫الطبيعي أشياء ذات بعد ثقافي(‪.)14‬‬
‫و ليس فقط الُمبدع هو من كان يس تمتع بمص نوعاته‪ ،‬ب ل ظه ر اهتم ام عن د اآلخ رين‪ ،‬له ذه األش ياء‬
‫الجميلة‪ ،‬فشق الُمب دع طريق ه نح و الس وق‪ ،‬لق د ص ار يبحث عن تق ييم اآلخ رين لمنتوجات ه‪" .‬إن مجال ه‬
‫العمومي هو سوق التبادل‪ ،‬حيث يمكنه أن يع رض منتوج ات يدي ه و أن يحص ل على التق دير ال ذي ه و‬
‫جدير به"(‪.)15‬‬
‫لم يعد اإلنسان‪ ،‬يصنع للمنفعة أو الدين أو االستمتاع فقط‪ ،‬لقد صار يصنع لنيل اعتراف اآلخرين ب ه‪،‬‬
‫لقد أضحى يحب الظهور‪ ،‬و يحاول تأكيد وجوده وسط اآلخرين‪ ،‬إنه اآلن يخترق ثقافة التباهي‪ ،‬و البحث‬
‫عن المكانة االجتماعية‪ ،‬إنه يسير قدما نحو إبداع التفاضل االجتماعي‪ .‬إنه يحاول إث ارة اهتم ام اآلخ رين‬
‫إلى ما يبدع‪ ،‬لقد دخل الشق االجتم اعي لمنتوج ه‪ ،‬لم يع د يص نع للمنفع ة األناني ة أو للتق رب من الق وى‬
‫الخارقة‪ ،‬أو لالستمتاع بالحياة أكثر‪ ،‬بل صار يصنع لكي ُيلفت نظر اآلخر‪ ،‬إنه ُمقيد اآلن بكي ان خ ارجي‬
‫في إبداعاته و هو اآلخر‪ ،‬إنه ُيبدع من أجل أن يفرض ذاته بين أقرانه‪ ،‬لقد انتق ل من ال دافع إلى اله دف‪،‬‬
‫من شيء داخلي يدفعه لينتج‪ ،‬إلى هدف خ ارجي يجذب ه ليفع ل‪ ،‬لق د ص ار يكتش ف محيط ه أك ثر بنظ رة‬
‫جمالية‪ ،‬ال ُيبدع فقط لتفريغ الشحنات طبيعية‪ ،‬و إنما لتحقيق أهداف ثقافية (المكان ة االجتماعي ة)‪ ،‬ف تزين‬
‫النساء مثال‪ ،‬باألساور و األص باغ و الص دف‪ ،‬ه و إظه ار ألفض لية بعض هم على بعض‪ ،‬ف التي ترت دي‬
‫الذهب ليس كالتي ترتدي الفضة أو ال ترتديها‪ ،‬و لكن هذا التفاخر ال يمكن أن يح دث ل وال وج ود مج ال‬
‫لتحقيقه‪ ،‬و هو مجال السوق و المهرجانات و الحفالت‪.‬‬
‫إن المبدع هنا أضحى يصنع من أجل أن يعرض لآلخرين‪ ،‬فثقافة العرض هي التي حول اإلنسان إلى‬
‫فنان‪ ،‬فلوال وجود اآلخر الذي يتذوق منتوجاته لما ك ان للفن مع نى‪ ،‬من ذ أن اخ ترق اآلخ ر مج ال إب داع‬
‫اإلنسان‪ ،‬حتى صار األخير فنانا‪ ،‬كان في البداية مجرد صانع‪ ،‬ثم تحول إلى كاهن‪ ،‬و بع دها إلى ح رفي‬
‫ليصير اآلن فنانا‪ ،‬فقبل هذا كان اآلخر غ ير موج ود‪ ،‬غ ير مهم في اإلنت اج‪ ،‬أم ا بع د دخ ول الس وق‪ ،‬و‬
‫التنافس بين األقران حول من هو األفضل في اإلبداع‪ ،‬سمح لآلخر بأن يخترق تلك العزلة التي كان فيه ا‬
‫المبدع‪ ،‬لقد دخلنا إلى رقصة الحياة‪.‬‬
‫سمح الكبت بظهور اإلبداع األداتي‪ ،‬و أعطى الخطاب الكبتي بظهور اإلبداع الكهنوتي‪ ،‬فجاءت الن ار‬
‫و وهبت اإلنسان اإلبداع الرفاهي‪ ،‬لُيقدم السوق له فرصة إلظهار اإلبداع الفني‪ .‬لقد برز ش يء جدي د في‬
‫حياة اإلنسان و هو المجتمع (مخالف للجماعة)‪ ،‬لم يعد مج رد ف رد داخ ل جماع ة‪ ،‬ب ل ص ار شخص ا ال‬
‫يتحدد إال ب رأي اآلخ ر‪ ،‬بم ا يقول ه اآلخ ر عن ه‪ ،‬إن الفن ان ه و من يح اول أن يك ون أفض ل موج ود في‬
‫المجتمع‪ ،‬يحاول أن يكون النم وذج ال ذي يس مو ل ه اآلخ رون‪ ،‬و يس عى للحص ول على أك بر تق دير من‬
‫الناس‪ ،‬إنه مرهون باآلخر‪ .‬لم يعد اإلنسان مرتبطا بالثقافة فقط‪ ،‬بل صار اآلن متعلق ا ب المجتمع‪ ،‬أض حى‬
‫ه‪.‬‬ ‫دخل في منتوجات‬ ‫لوكه‪ ،‬و ُيت‬ ‫دد س‬ ‫ع يح‬ ‫المجتم‬

‫‪ -)( 14‬فرويد‪ ،‬سيغموند؛ األنا و الهو‪ ،‬ترجمة محمد عثمان نجاتي‪ ،‬دار الشروق‪-‬بيروت‪ ،‬ط ‪ ،1982 -4‬ص ‪.52 -51‬‬
‫‪ -)(15‬فرويد‪ ،‬سيغموند؛ مافوق مبدأ اللذة‪ ،‬ترجمة إسحاق رمزي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬ط ‪ ،5‬ص ‪.76‬‬
‫‪ -‬استدامة العالم‬

‫أكدت حنة آرت أن اإلنسان الصانع‪ ،‬ه و ال ذي ص نع الع الم بفع ل م ا أنتج ه من األش ياء‪ ،‬و منح الحي اة‬
‫استدامة الحياة البشرية و جعلها أكثر استقرارا (الوضع البشري ص ‪)١٥٨-١٥٧‬‬
‫فاإلنسان بما أنه جزء من الطبيعة فإنه معرض للفناء كباقي الكائنات األخرى‪ ،‬لكن‪ ،‬و ألنه ق ادر على أن‬
‫يصنع األشياء‪ ،‬و التي تكتسب صالبتها من المادة التي ُت صنع منها‪ ،‬فإنه يبني عالم ا من األش ياء يكتس ب‬
‫موضوعية مستقلة عن حياة البشر‪ ،‬مما يضمن استقراره و استدامته (الوض ع البش ري ‪ )١٥٨‬و ه ذا م ا‬
‫يعطي ألجيال البشر تلك القدرة على النجاة من الدورة األبدية للطبيعة و النج اة من تك رار نفس حي اة من‬
‫سبقوهم‪ ،‬فهم يجدون العالم قد ُبني قبلهم‪ ،‬و يضيفون عليه ما استطاعوا‪.‬‬
‫و مع ذلك فإن األشياء المصنوعة‪ُ ،‬تس تعمل و تتع رض للتل ف و االنقض اء و البلي‪ ،‬ل ذا تظ ل اس تدامتها‬
‫نسبية و قصيرة األمد‪ ،‬ال تستمر كثيرا‪ ،‬فالمالبس مثال‪ ،‬نرت ديها لم دة فق ط ثم تبلى‪ ،‬فاالس تعمال يع رض‬
‫األشياء للعودة إلى الطبيعة من جديد‪.‬‬
‫إال أن هذا ال يصدق على األث ر الف ني "فاس تدامتها هي األك ثر ص فاء تقريب ا لآلث ار المفس دة للمس ارات‬
‫الطبيعية بما أنها ليست خاضعة الستعمال المخلوقات الحية" و بفعل هذا األمر‪" ،‬يصبح كل شيء كما ل و‬
‫أن استقرار العالم قد أصبح شفافا في دوام الفن" (الوضع البشري ص ‪ .)١٨٩‬فبسبب أن األثر الفني بعيد‬
‫كل البعد عن االستعمال‪ ،‬و الذهنية النفعية و األداتية‪ ،‬فإنه يسمو بالعالم إلى استدامة أكثر صفاء‪.‬‬
‫هذه الوظيفة‪ ،‬التي ُت خرج اإلنسان من تلك الدورة الطبيعية األبدية‪ ،‬و تسمح له بأن يتجدى الموت‪ ،‬و يبني‬
‫عالما يتجاوز دورة الحياة‪-‬الموت‪ ،‬تربط بين األجداد و األحفاد‪ ،‬و ُت فرز مجاال للتط ور و ص ناعة ت اريخ‬
‫أكثر نقاوة بعيدا عن الطبيعة‪.‬‬

‫الذوق هو ذاتي عند كل شخص‪ ،‬يعطي للشخص فرادته للتمي يز بين األش ياء و تفض يلها‪ ،‬و االهتم ام‬
‫بالبعض و إهمال البعض اآلخر‪ ،‬إنها قدرة على الترتيب و التنظيم‪ ،‬إنه خلق للنظام و العقالنية‪ .‬حديث‬
‫الفن يرتبط بنموذج مثالي نحاول تجسيده في الواقع‪ .‬إن الفنان هو من يح اول تحوي ل م ا يخط ر على‬
‫باله و خياله من ع الم األفك ار و المش اعر إلى الواق ع‪ ،‬أي خل ق مم ر ملكي بين الع الم المث الي و الع الم‬
‫الواقعي‪ ،‬إنه قدرة لتجاوز الوضع الحالي و خلق أشياء ال تنتمي ل ه‪ ،‬و ك أن الفن يمل ك ق درة نقدي ة ض د‬
‫العالم الوضعي‪ ،‬فهو ال يقبل ما بوج د ب ل يفك ر فيم ا ال يوج د تقريب ا‪ ،‬و ل و اس تطاع التح ول قليال نح و‬
‫مايجب أن يوجد لدخل نطاق األخالق‪ ،‬و ص ار معارض ا لمن يس ود الع الم الح الي‪ ،‬فالق درة على تغي ير‬
‫األشياء و تحويلها لبناء أشياء أخرى أكثر سموا و غير مرتبطة بالواقع يمنح للفن تلك المزي ة في تحري ر‬
‫االنسان‪.‬‬
‫الفن يمنحنا األشياء التي تخلق اس تدامة الع الم‪ .‬إن ه يق دم لالنس ان م ا يخل ق ب ه الع الم‪ ،‬فك ل األش ياء‬
‫المحيطة بنا هي ذات صلة باإلنسان الصانع الذي قام بصناعتها و ابداعها‪ ،‬فحتى و لو فرقنا بين األش ياء‬
‫التي يصنعها االنسان لالستعمال و األشياء التي يصنعها لالس تمتاع لم ا أث ر في فك رة أن الفن أو التقني ة‬
‫بالمعنى االغريقي‪ ،‬تخلق األشياء التي تمنح حياة اإلنسان استدامة‪ ..‬ف العمران مثال ه و من األم ور ال تي‬
‫يمتزج فيها الحس االستعمالي و االستمتاعي‪ ،‬و قدرته على الص مود يحاف ظ على اس تمرار الع الم‪ ،‬و ق د‬
‫قدم ابن خلدون مقدمته في العمران كدليل على مكانة العمران في ثبات الدول و زوالها‪.‬‬
‫لو نظرنا نحو العمران‪ ،‬فهو بناء ُيستعمل‪ ،‬لكنه ما يميزه هو أن كل مجتمع يحاول أن يبصم شخصيته‬
‫الخاصة عليه‪ ،‬فُيحول بذلك هذه البنايات من مستوى االستعمال إلى مستوى اآلثار الفنية‪.‬‬
‫فكما الحظ ابن خل دون ف العمران ه و ال ذي يم يز البش ر المس تقرين عن البش ر غ ير المس تقرين‪ ،‬و‬
‫بالعمران تظهر الدول و تزول بزوالها‪ ،‬فالعمران هو الصفة التي تمنح للناس حياة االستقرار و المحافظة‬
‫على هويتهم كما هي‪ ،‬فهي أهم جزء من الثقافة الملموسة‪ .‬و هو ال ذي يعطي للت اريخ حقيقت ه‪ ،‬و ه ذا م ا‬
‫الحظه ابن خلدون حينم ا يق ول في مقدمت ه "إعلم أن ه لم ا ك انت حقيق ة الت اريخ أن ه خ بر عن االجتم اع‬
‫اإلنساني الذي هو عمران العالم‪ ،‬و ما يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مث ل الت وحش و الت أنس‬
‫و العصبيات و أص ناف التغلب ات للبش ر بعض هم على بعض و م ا ينش أ عن ذل ك من المل ك و ال دول و‬
‫مراتبها و ما ينتحله البشر بأعمالهم و مس اعيهم من الكس ب و المع اش و العل وم و الص نائع و س ائر م ا‬
‫يحدث من ذلك العمران بطبيعته من األحوال" (مقدمة ابن خل دون ص ‪ .)٤٦‬و رغم أن ه تح دث هن ا عن‬
‫العمران كهيكل و نسق و ليس كمجسمات و بنايات‪ ،‬فإنه ما ذلك‪ ،‬يتضمن تصريحا بأن ما يميز االجتماع‬
‫البش ري ه و اش تراكهم في العم ران‪ ،‬ه و الج وار العم راني و األوس اط المتواج دة بينه ا حيث يلتق ون‬
‫(األسواق مثال‪ ،‬المسارح‪ ،‬المساجد‪ ،‬البرلمانات…)‪ ،‬فهي تشكيالت تسهل عمليات تنظيم العالق ات بينهم‪،‬‬
‫و ضبط السياقات المخلوقة حولهم‪ ،‬فبالعمران ُتحافظ المجتمع ات على أص التها‪ ،‬و تميزه ا‪ ،‬و ديمومته ا‬
‫وسط التغير‪.‬‬
‫فلو نظرنا إلى حديث حنة آرنت عن الع الم فس نجد أن جل ه متش كل من العم ران تض اف إلي ه أدوات‬
‫االستعمال و األثار الفنية‪ .‬و كما رأينا فاألثر الفني بحسب حن ة آرنت‪ ،‬يعطي اس تدامة أك ثر للع الم ال ذي‬
‫صنعه اإلنسان الصانع من األشياء‪ ،‬لكن المالحظ أنها لم تتحدث عن "الوضع" بصورة واضحة‪ ،‬ح تى و‬
‫إن الحظنا أنه قريب من المجال الذي س مته بالمج ال العم ومي‪ ،‬م ع ذل ك يبقى ه ذا األخ ير مج رد بني ة‬
‫تتضمن شبكة العالقات بين البشر‪ ،‬و ليس كمرحل ة ذات س ياقات معين ة تحققت عليه ا بعض اإلمكاني ات‬
‫من حياة اإلنسان‪ ،‬فالوضع‪ ،‬هو ذاك السياق الذي يخلقه البشر لتحقيق مصير معين‪ُ ،‬يناظر ما فكروا فيه‪،‬‬
‫و تخيلوه على أنه يمكن أن يحقق لهم أفضل حياة ممكنة‪.‬‬
‫و بسبب هذا اإلهمال الذي قامت به آرنت اتجاه "الوض ع"‪ ،‬فإنه ا اقتص رت فيم ا يخص ب األثر الف ني‬
‫على جانبه اإليجابي فقط‪ ،‬على الجانب الذي يبني و يحاف ظ و يض من‪ ،‬دون الح ديث عن جانب ه الس لبي‪،‬‬
‫الجانب الذي ينفي و ينتقد و يتجاوز الوضع القائم إلى إمكانيات أخرى‪.‬‬
‫لقد لعبت المدرسة النقدية دورا أساسيا في هذا الجانب‪ ،‬يقول هربرت ماركيوز في كتابه "اإلنس ان ذو‬
‫البعد الواحد"‪" :‬إن لفظة الفن تشير إلى النفي في تعريف هوايته د‪ .‬فالعق ل ك ان ح تى اآلن‪ ،‬و كم ا طب ق‬
‫على المجتم ع‪ ،‬معارض ا للفن‪ ،‬و ك ان يتمت ع بامتي از الالعقالني ة أي ع دم الخض وع للعق ل العلمي‪،‬‬
‫التكنولوجي‪ ،‬العاملي" (االنسان ذو البعد الواحد ص ‪ .)٢٤١‬و هنا يظهر أن هربرت ماركيوز يحاول أن‬
‫يؤكد بأن الوضع الرأسمالي الحالي‪ ،‬الذي تسوده القوة التكنولوجية و الذهنية األداتية و الوضعية‪ ،‬يه ددها‬
‫الفن في وضعها‪ ،‬ألنه يتحدى هذا الوضع‪ ،‬و يخلق أمور غير واقعي ة و غ ير مرتبط ة بالوض ع الح الي‪،‬‬
‫فارتباط الفن بمفهوم الجمال (الفن كما قلنا سابقا ميتافيزيقي) الذي يتجاوز األش ياء الجميل ة الحاض رة‪ ،‬و‬
‫يسمو عليها‪ ،‬يعد الفرد بأمور أكثر تساميا على ما هو موجود في الواقع‪ ،‬أي أن ما يوجد اآلن‪ ،‬لم يكتم ل‬
‫بعد‪ ،‬و لم يصل إلى ما يحلم به البشر‪ ،‬أي أنه وضع ناقص‪ ،‬يمكن تجاوزه (االنسان ذو البعد الواح د ص‬
‫‪ ، )٢٢٦ - ٢٢٥‬و هذا في حد ذاته تهديد الستقراره و استدامته‪ .‬و يرى ثيودور أدورنو أن الفن له ق درة‬
‫على تحري ر اإلنس ان "ف الفن يق ود إلى التح رر العقلي"‪ ،‬و إنق اذ اإلنس ان األوروبي من االس تالب‬
‫التكنولوجي الحديث‪ ،‬إلخراجه إلى النور (مفهوم الفن عن د ثي ودور أدورن و رس الة ماس تر إع داد حم زة‬
‫جلمود ص ‪ .)٥٧‬إن الفنان كما يقول نيتشه منفصل عن الواقع و عما ه و فعلي (في جينيالوجي ا األخالق‬
‫ص ‪ .)١٤٠‬و هذا ما يمنحه رؤية أمور خارج الوضع القائم‪.‬‬
‫إن هذه الطبيعة النقدية التي يمتلك الفن‪ ،‬و التي تمنح اإلنسان صورا و إمكاني ات للتح رر من الوض ع‬
‫الحالي إلى وضع أفضل‪ ،‬يمكن أن يرتبط بجوهر الفن الحر‪ ،‬فالفن ال ي ؤطر ش يء‪ ،‬فه و ج امح بجم وح‬
‫الخيال‪ ،‬و ليس ثمة سلطة تستطيع أن تضع حدودا إلبداعاته و المث ير أن ه يف رض ذات ه بق وة دون حاج ة‬
‫للبراهين و قد الحظ نيتشه هذا األمر في كتابه أفول ال‬

‫أساطير يونانية ص ‪17‬‬


‫كتابات أساسية ‪ 93‬فما فوق‬
‫الحقيقة و المنهج ‪ 89‬فما فوق‬
‫أفول األصنام ص ‪41‬‬

You might also like