Professional Documents
Culture Documents
الفن
الفن
-تقديم:
رسم إدفرت مونك الصرخة للتعبير عن القلق المفاجئ الذي أصابه على حين غرة ،و هو يتمش ى م ع
أصدقائه في جو هادئ ،فتوقف صارخا ،حتى تغيرت ألوان العالم من حوله ،و أضحى كل شيء متعكرا.
إن كنت تنظر إلى هذه اللوحة ستشعر بأنها تحاول جذبك ،إلى حيز س حيق نح اول اله رب من ه دائم ا
مع أنه متواجد ،ليس بيننا أو معنا ،و إنما فينا ،داخلن اُ ،مح ايث لوجودن اُ ،يالزمن ا في ك ل خط وة ،أينم ا
حللنا أو ارتحلنا.
األل وان القاني ة البرتقالي ة ال تي ترمي ك بت وتر ُيش تت داخل ك شخص ياتك المتنوع ة ،و يخل ط أوراق
االختيارات التي ترغب بأن تتخذها في الحياة ،و يظهر لك هشاشة األمل و اإليمان اللذين يمنحانك معنى
لحياتك .إنها لوحة تخطفك إلى ذاك العالم الذي تركته ا خلف ك ب الثرثرة اليومي ة و الت أويالت المنطقي ة و
العقلية و الدينية.
هذه اللوحة ال تخبرنا عن الحقيقة و إنما تضعنا أمام أنفسنا ،لكي نواجهه ا بم ا يوج د حق ا ،و ليس م ا
نرميها خلفنا لنستمر في الوجود ،لقد تمكنت هذه اللوح ة أن تجم ع ش تات ذواتن ا و تق دمها أمامن ا ب ألوان
مثيرة للغثيان.
لم ينتظر إدفرت كثيرا حتى قدم لنا لوحة رقصة الحياة ،لنشعر بوجود اآلخر ،الذي لواله لما اس تطعنا
أن نلعب بخفة في هذا الوج ود .لق د وض عتنا لوح ة الص رخة أم ام عزلتن ا كم ا هي ،والوحش ة المميت ة،
فجاءت لوحة رقصة الحياة ،لتمزجنا مع اآلخر ،الذي يهدئ فينا رعب العزلة.
لم تكن لتحدث هذه الرقصة لوال وجود تلك األنثى بفستانها األحمر .إنها اآلنسة ال تي أخ رجت الرج ل
من عزلة الوحشة ،فل و نظرن ا لكلم ة اآلنس ة ،فس نجد أنه ا مش تقة من فع ل آنس ي ؤنس ،و ال ذي يض اد
التوحش ،فحتى اسم اإلنسان ،مشتق من نفس الفرع ،و اإلنسانية تخالف الوحشية ،نقول حي وان مس تأنس
أي أليف ،و حيوان متوحش أي بري.
لقد استطاعت اآلنسة أن ُت خرج الرجل من وحشته (من عزلته و من مج رد العيش) إلى إنس انيته (إلى
الحياة) ،هذا االنقالب في اللوحتين ،يؤكد بأن اآلخر قد ساعدنا لننس ى (النس يان ل ه قراب ة من اإلنس ان)
الوحشة التي كنا فيها.
الصرخة هي الحقيقة ،العيش على األصل ،الوجود األص يل (خل ق آدم) ،أم ا رقص ة الحي اة فهي ذاك
الغالف الناعم األحمر الذي منحنا الحياة ،و نسيان الوجود (الوجود المزيف) .لق د ق امت األن ثى ب تزييف
عالمنا جماليا إلخفاء حقيقة الوجود التي تؤرقنا .اآلنسة أنست الرجل حقيق ة الوج ود ليغ دو إنس انا .فل وال
هذا النسيان لما استطاع أن يبدأ في تحرير نفسه من ضخامة ثقل الوجود (الموت).
إنهما لوحتان وجوديتان ،استطاعتا بألوانهما و خطوطهم ا و ظاللهم ا و ك ل أض وائهما ،أن يض عاننا
أمام أنفسنا (الوجود) ثم يعطياننا نفحة حياة ،و لكن بنسيم كئيب نوعا ما.
إن الفن هو هذا الذي يضعنا أمام أنفسنا كما يقول هيغل "إنه يضع اإلنسان أمام نفسه"( .)1يقدم لنا تل ك
اإلمكانية لنعيد التفكير في الكثير من األمور ،و يدفعنا لنص ير أك ثر نض جا مم ا نحن علي ه ،من الناحي ة
-)(1هاوزر ،أرنولد؛ الفن و المجتمع عبر التاريخ ج ،1ترجمة فؤاد زكريا ،دار الوفاء لدنيا الطباعة و النشر ،ط ،2005-1ص18
الوجودية .فالفن هو أن نخرج من ذاك الروتين الي ومي و ن دخل إلى ع الم ُمتخلى عن ه ،فه و إب داع ألن ه
يستطع أن يخلق جدي دا ،و ش يئا لم يكن في الس ابق ،ليس نس خة ،و ح تى النس خ ال تي ُتق ام ل ه ،ال ُتخفي
أصالته ،و إنما ُت سهل انتشاره ،و تدفعنا لنبحث عنه من جديد كأصيل نحتاج لنتعرف عليه وجها لوجه.
إن محاولتنا للمعرفة مكنون الفن ،صادفتنا أسئلة مهمة ،أهمها ،ما هذه الرغبة الملحة الرتباط اإلنسان
بالفن؟ ما أصلها؟ لماذا أضحى اإلنسان فنانا؟ و هل يستطيع أن يتخلى عنها؟ ماذا قدم الفن لنا كبشر؟
لكي أستطيع التعامل مع هذه األسئلة اإلشكالية ،يلزمن ا ،أن أتجنب الح ديث عن الفن ،كإنت اج ،و إنم ا
كدافع ،و لتحقيق ذلك ،يلزمني الحديث عن شيء أكثر شمولية عليه ،و هو اإلبداع ،الذي يعد الفن مج رد
جزء منه.
-)(4هيغل ،فريدريك؛ فنومينولوجيا الروح ،ترجمة و تقديم ناجي العْو نلي ،المنظمة العربية للترجمة ،ط ،2006 -1ص .271
في هذا السياق ،سنستعين بأسطورة وردت في كت اب ج ان بي ك دي ال ميرون دول :مقال ة في كرام ة
اإلنسان" ،خلق هللا الحيوانات و النباتات ،واهبا كل واحد من األنواع ص فتين جوهري تين :أوال ع ددا من
المواهب الطبيعية ،ثم منزلة خاصة في صلب الكون ،ينفرد بها كل واحد منه ا" فهنال ك حيوان ات ُو هبت
المخالب و بعضها األنياب و البعض اآلخر الفراء يقيها من ال برد ،و أخ رى األجنح ة لتط ير ،و غيره ا
الغالصم لتعيش في الماء .كل هذه المواهب ُمنحت للحيوانات لتعيش في ت وازن بي ئي متقن الص نع ،لكن
اإلله و هو يفرق هذه المواهب ،تفطن أنه لم ُيقدم لإلنس ان أي ش يء ،و أن الم واهب ق د انتهت" .لم يع د
تحت تص رفه أي نم وذج ! و كم ا س يقول س ارتر في نفس المع نى [ ]...ليس لإلنس ان ماهي ة ق د تس بق
وجوده ]...[ .يولد البشر إذن دون نمط مسبق ،مفتقرين إلى مواهب طبيعية و إلى منزلة في الكوسموس:
إنهم عراة تماما ،بال فراء و ال مخالب لحماية أنفسهم ،ال يجرون سريعا جدا ،و ليسوا أقوي اء ج دا ["]...
و لكي يعوض اإلله عن هذه النقائص سيهب اإلنسان الحرية (.)5
لو أن الكائن البشريُ ،خ لق بموهبة معينة واضحة ،النطمست ذاتيته في تلك الموهبة ،و تورط بش كل
كلي داخل ال دورة البيولوجي ة ،لكن ه ُمنح ب دل ذل ك الحري ة ،و ال تي تع د موهب ة مرن ة تخ الف الموهب ة
الجامدة .و بفضلها سيتمكن من تعلم كل المواهب التي يراها في محيطه البيولوجي ،سيختار م ا يري د أن
يكونه ،إنها قدرة على أن يؤكد ،بأنه ال يريد هذه و إنما يريد تلك ،يص رخ بق وة" ،أري د أن أك ون ه ذا و
ليس هذا ،ال أرغب في أن أبقى كما أنا" ،إنه تمرد على الوض ع كم ا ه و ،إن ه ش عور بال ذات على أنه ا
ليست كالباقي ،إنه تطلع نحو األعلى ،للسمو عن المكانة التي يوجد فيها ،إنه الحافز الذي يضطره ليق ول
لست كباقي هذه المخلوقات ،إنه إحساس بالتع الي و الكبري اء ،ق درة على ال رفض إن لم ُيق ِّد ر أح د ه ذه
القوة .فإن كان مثال يحب أنثاه و لم تعترف بقوت ه فإن ه س يتخلى عنه ا و عن حب ه ،و يكبت ك ل رغبات ه
الجنسية و العاطفية ليؤكد له ا أن ه يس تطيع أن يس يطر على ال دورة البيولوجي ة ال تي تحكم ك ل الكائن ات
الحية ،و أن يس مو فوقه ا ،و أن يع تزل الجمي ع مكتفي ا بذات ه .إن الكبري اء ه و ذاك الم رور في االتج اه
اآلخر ،من رقصة الحياة إلى الصرخة ،من الهدوء العاطفي ،إلى الضجيج الوج ودي ال ذي ي دفعنا لنق ول
أشياء مخفية عنا ،إنه الهروب من القطيع إلى الذات ،فحتى فرويد أعاله الحظ أن اإلعالء يح دث بتح ول
النشاط الجنسي من الموضوع إلى األنا (النرجسية) ،فال يمكن بحسبه حدوث هذه العملية دون حب الذات
و االنغالق عليها .فالذاتية تلزمنا في أي إبداع ،إنه التفرد و التميز و نيل االع تراف بأن ا ذاتي أس مى من
(.)6
اآلخرين .و تصرح حنة آرنت أنه ال يمكن إنتاج أي أثر من دون االنفراد و االنعزال
في فينومينولوجيا الروح يتحدث هيغل ضمن مسار الروح ،عن معركة تح دث بين ذاتين يح اول ك ل
منهما أن ينال من اآلخر االعتراف به كذات مستلقة ال تحت اج ألح د (الوج ود بذات ه و لذات ه) .يؤك د أن ه
نشب صراع حتى الموت بين ذاتين ،انتهى باستسالم أحد الط رفين بس بب خوف ه من الم وت (لم يس تطع
التمرد على الدورة البيولوجية) فتحول لعبد ،بينما تحول الطرف الثاني إلى سيد ألنه استطاع الس مو على
سيطرة البيولوجيا ،و شعر بكبرياء يتجاوز تلك السلطة ،فأظهر أنه حر بينما اآلخر مج رد عب د ،و يق ول
في نفس الموضع "و إنه لعبر المجازفة بالحياة وحدها ُت خبر الحرية و تمتحن" ( .)7فالمجازف ة ،ه و تأكي د
على تجاوز الدورة البيولوجية ،و عدم الرضوخ الضطراراتها أو الخوف من س لطانها األك بر؛ الم وت،
فاإلنسان بالمخاطرة أو بالمجازفة ،يحاول التصريح بأنه مستقل عن الضرورة التي تحكم باقي الكائن ات،
و على سموه عنها ،و تعاليه عن مستواها ،لذا كل من يخاطر يبحث عن االعتراف به ،على أن ه خ ارق،
و بطل ،و يستحق أكثر مما يعتقد الناس أنه عليه.
-)( 5آرنت ،حنة؛ الوضع البشري؛ ترجمة هادية العرقي؛ عن مؤسسة مؤمنون بال حدود ،ص .119
-)(6الطوطم ..المرجع نفسه ،ص .171
-)(7آرنت ،الوضع البشري ،ص 182 -181
سبق ألفالطون في جمهوريته أن قسم النفس اإلنسانية إلى ثالثة أقسام؛ الغرائ ز و ال ثيموس (الج انب
الغضبي – الكبرياء) و العقل ( ، )8فإن كانت الغرائز تحافظ علينا داخل ال دورة البيولوجي ة ف إن ال ثيموس
يرفعنا فوقها( ،هذا إن طمسنا دور العقل و أهملناه هنا لغرض منهجي) .فالجانب الغضبي-الكبريائي ه و
الذي أخرجنا من تلك ال دورة لنبحث عن وس يلة للتعب ير عن أنفس نا ككائن ات ق ادرة على أن تتم رد على
الدورة البيولوجية األبدية التي تبدأ بالوالدة و تنتهي بالموت.
لو تأملنا قليال هذا المسار التم ردي و التح رري من س يطرة ال دورة البيولوجي ة ألخ ذنا ه ذا إلى تل ك
البقعة ،التي انتقل فيها الكائن البشري من الطبيعة إلى الثقاف ة .فالطبيع ة مج رد اس تهالك و س لبية ،و إن
كانت تترنح أحيانا بقدرة اإلنسان على العمل ،إال أنها ظلت تف رض علي ه أن يك ون مج رد منفع ل اتج اه
شهوات العيش و جبروت دوافعه الحيوانية .بينما الثقافة هي إنتاج و تمرد و فاعلية و تحرر من جبروت
المحيط.
لنعد أدراجنا للخلف نحو فرويد ،الذي أعده مفكرا قدم تفس يرا تاريخ ا جميال لمح اوالت اإلنس ان لكي
يصنع لنفس ه مكان ا مم يزا داخ ل الطبيع ة .ففي كتاب ه الط وطم و الت ابو ،تح دث عن ح دث خي الي ش به
تاريخي ،يفسر الطريقة التي ظهر به ا الط وطم (معب ود القبيل ة) و الت ابو (المق دس/الم دنس) .ففي قبيل ة
افتراضية ،كان ثمة أب يملك كل النساء ،يح رم على أبن اءه االس تمتاع باإلن اث ،أي يح رمهم من الحي اة
الجنسية ،بل يقوم بتهميشهم خارج إطار القبيل ة ،ف اتفق اإلخ وة ،لقت ل وال دهم ،و نجح وا طبع ا ،و ق اموا
بالتهام جثت ه (دالل ة على تقمص شخص يته و قوت ه) ،و حين انته وا من فعلتهم ،ش عروا بال ذنب ،فق اموا
باالتف اق لق بر أبيهم ،و ص ناعة رم ز ل ه ،من أج ل تقديس ه (الط وطم) ،و ك ذلك ق اموا بتنظيم العالق ات
الجنسية ،لكي ال يتكرر الحدث مرة أخ رى ،فوض عوا قواع د و أعراف ا ح ول الجنس ،تق وم على أس اس
تحريم ِس فاح القربى (التابو) (.)9
هنا يتضح أن كبت بعض الميوالت الجنسية (سفاح القربى) سمح لإلخوة بتنظيم أنفسهم داخل القبيل ة،
لقد ارتفعوا عن الطبيعة التي تف رض عليهم تفري غ ط اقتهم الجنس ية ،لل دخول إلى إب داع أخالق (التق ييم)
ُت نظيم القبيلة .و هذا االنتاج الجديد الذي لم يكن سابقا ،هو الذي أعطى لإلنسان بأن يف رض نفس ه كفاع ل
داخل الطبيعة ،فهو اآلن قد دخل إلى الثقافة.
و لكن قبل هذا البد أن نتسأل؛ هل اإلخ وة ق د قتل وا أب اهم ألن ه ق د ح رم عليهم ش يئا تحتاج ه ال دورة
البيولوجية التي تحكمهم ،أم أنهم قتلوه ألنه همش هم و احتق رهم و ع دهم مج رد كائن ات هامش ية حق يرة،
تستحق العيش متشردة ،و ذلك ألنه أفضل منهم؟
إن اإلخوة ق د قتل وا آب اهم ،ألنهم ش عروا باالحتق ار و أن ك رامتهم ق د أهينت ،و ليس ألنهم ك انوا في
حاجة لتحقيق رغباتهم الجنسية الحيوانية ،فهي ك انت ُتحق ق أص ال بالممارس ة المثلي ة و بالع ادة الس رية
بحس ب م ا أورده فروي د نفس ه في نفس الكت اب( .)10إذا فكبري اؤهم ،ه و ال ذي دفعهم للخ روج عن ذاك
الروتين الجنسي السترداد ما يستحقون ،فالحصول على األنثى هو االعتراف بك ل واح د منهم على أن ه،
ليس مجرد كائن هامشي حقير .هذا التمرد هو الذي قضى بأن يكبتوا رغب اتهم الجنس ية لف ترة ،من أج ل
شحن طاقة قتل األب (إبداع جديد لم يكن سابقا) ،من أجل الحصول على ما يستحقون ،و حتى ال يتك رر
األمر مرة أخ رى ،و لكي ال ته ان كرام ة أي منهم ،ق اموا بوض ع قواع د أخالقي ة ت برر كبت مي والتهم
الجنسية ،لتنظيم المجتمع أكثر ،فأبداع شيئا آخر مهم ،و هو األخالق.
8()- Schopenhauer, Arthur; Le monde comme volonté et comme représentation, traduire en français: Auguste Burdeau, Librairie Félix Alcan-Paris, 1912, P285.
-)( 9أفالطون؛ الجمهورية ،تعريب شوقي داود تمراز ،األهلية للنشر و التوزيع-بيروت ،1994 ،ص..
:)( 10غادامير ،هانز جورج؛ الحقيقة و المنهج :الخطوط األساسية لتأويلية فلسفية؛ ترجمة حسن ناظم و علي حاكم صالح ،دار أويا للطباعة و النشر و التوزيع و التنمية الثقافية ،ط ،2017 -1ص .106
يرتبط إذًا ،اإلبداع بالكرامة ،فالشعور بالكبرياء ،و التميز ،و كبت بعض المي والت نح و أش ياء تح ط
من قيمة الشخص (الذي ال يريد أن يبقى مجرد حيوان) هو الذي قاد الكائن البشري لكي يب دع ،لكي ينتج
شيئا لم يكن سابقا ،لكي يضيف جديدا إلى حياته .بهذه الطريقة ظهر العبقري الذي أخرج ذاته من الدورة
البيولوجية لينتج أمورا لم يسبق ألحد أن أراها سابقا ،فشوبنهاور الح ظ ب أن العبق ري ،ال ذي يع ده كان ط
خ الق الفن ،ه و ش خص تم رد على إرادة الحي اة ،ال تي تف رض علي ه الحف اظ على ال ذات فق ط ،و على
النوع( .)11فالعبقري هو ذاك الشخص الذي تخلى عن الدورة البيولوجية ،و انعزل ُمح ّو ال طاقت ه النفس ية
إلى إبداع ،لقد شعر بأنه أكثر سموا عن الكائنات األخرى ،لذا ابتعد عن اآلخرين الذين يفرضون عليه أن
يظل شبيها بهم ،لينفرد بنفسه من أجل إخراج شيء جديد إلى الوجود ،فكرامته قد فرض ت علي ه العزل ة،
و كبت رغباته من أجل إنتاج شيء لم يكن في السابق.
استطاع الكائن البش ري أن يتج اوز نقص ه الب دني في الحي اة ،و ذل ك بكبت رغبات ه ،و الس مو عليه ا
لصناعة أشياء تساعده في محيطه الطبيعي ،فهو ال يملك مخالب و ال أنياء ،فصنع الفأس و الرمح ،ال تي
-)( 11كوب ،كاتي ،و هارولد جولد وايت ،إبداعات النار :تاريخ الكيمياء المثير من السيمياء إلى العصر الذري ،ترجمة فتح هللا الشيخ ،مراجعة شوقي جالل ،سلسلة عالم المعرفة ،العدد ،2001 ،266ص 14
استعملهما (األداتية) من أجل أن يفرض وجوده داخل الطبيعة ،فلو أنه ارتاح لوضع الدورة البيولوجية و
دخل في راحة جنسية مثيرة ،لما استطاع أن يجد وقتا للتفكير فيها إلنتاج هذه األشياء ،فهو بكبته لرغباته
الجنسية ،انعزل لصناعة أشياء تفيده في حياته ،لفرض السيطرة على محي ط نوم ه (اس تقراره) و أيض ا
توسيعه عند الحاجة ضد الكائنات األخرى ،ب ل إن ه ق د ق ام برس م الحيوان ات ،اعتق ادا من ه ب أن رس مها
سيمنحه قدرة سحرية للسيطرة عليهم ( ،)12أو أن الرس م ُيَم ّك ن ه من فهم الحي وان مورفولوجي ا ،باحث ا عن
نقاط قوته و ضعفه ،إنها محاولة لسبر أغوار الكائن اآلخر لفهم سره.
إن الكبت قد سمح لإلنسان بصناعة أشياء ُت فيده في حياته الخاصة ،فأضحى بذلك إنسانا ص انعا ،لكن ه
حين انتق ل من مج رد ممارس ة الكبت على نفس ه ،إلى تأس يس خط اب ت بريري حول ه ،لكي ينتش ر بين
اآلخرين ،فإنه ب دأ في اكتش اف المق دس و الم دنس ،و ص ناعة ش يء يمث ل الق وة ال تي تتحكم في تمي يز
المقدس عن المدنس ،لقد صار اإلنسان هنا كاهنا ،يصنع ما يجسد القوة التي تتجاوز قدراته المحدودة ،لم
يعد محصورا فيما يفيده ،بل أضحى مهموما بما يحدد سلوكه و ينظمه ا ،و ب ذا يك ون ق د اخ ترع مج اال
جديدا لم يكن سابقا و هو الثقافة.
لقد تجاوز اإلنسان بخلق خطاب الكبت ،مرحلة الطبيعة ،و دخل مرحلة الثقافة ،و أسس صناعة أشياء
دينية يلزم على الجميع أن يقدسها و أن يحترم تحريماته ا ،و أن ال يخ ترق قواع دها ،لق د أس س الثقاف ة،
التي سمحت له بأن يزيد من توسيع رقعته على حساب الطبيعة ،و كلما تقدم ،كلما ارتف ع في س لم ال رقي
بعيدا عن الحالة البيولوجية .و قد كان هذا الهذا الهذا الهذا البروز لللللثقافة من االنقالبات المهمة في حياة
اإلنسان .لقد شق طريقه داخلها ،و أض اف إلى األدوات و األس لحة ،التماثي ل و ش واهد اإللى األدوات و
األسلحة ،التماثيل و شواهد القبور و المعابد ،لقد أس س إب داعا ال َي ُم ُّت بص لة لألداتي ة و النفعي ة ،و إنم ا
للشعور الديني.إلى األدوات و األس لحة ،التماثي ل و ش واهد القب ور و المعاب د ،لق د أس س إب داعا ال َي ُم ُّت
بصلة لألداتية و النفعية ،و إنما للشعور الديني.
إن تحرير خطاب الكبت ،مّك ن اإلنسان من إبداع أمور لها صلة بالحياة األخ رى ،و لم ا بع د الم وت،
لقد ابتكر مجاال لتجاوز خوفه من الموت ،فبع د أن تح دي ال دورة البيولوجي ة ه اهو يح اول وض ع س بل
للقضاء على الخوف من أهم كيانات الدورة البيولوجية و هي الموت.
لم ينتهي األمر عند هذا الحد ،فبفعل توسيع مجاله داخل الطبيع ة ،تمكن الك ائن البش ري من اكتش اف
النار ،و استعملها في البداية كوسيلة لطرد الحيوانات و التدفئة ،إلى أنها أضحت فيما بع د أداة للطهي ،و
تحويل األشياء من شكل إلى آخر ،و من صفة إلى أخ رى ،ظه ر انقالب جدي د في حيات ه ،و هي تج اوز
األداتية و االربتاط بما بع د الم وت ،لق د أض حى كيميائي ا" .فش عوب م ا قب ل الت اريخ ك انت تلقي بقط ع
الصخر الص غيرة في الن ار و تتأم ل تغ يرات األل وان الناتج ة عن ذل ك ،و ك انت تل ك ممارس ة حقيقي ة
للكيمياء [ ]...و استخدموا الطالء و سيطروا على النار و صنعوا قدورا من الفخار ،و جمعوا الفل زات و
صنعوها ،و مارسوا فنون المداواة و العالج"(.)13
ساعدت النار اإلنسان على تحويل األشياء ،لتس هيل ص ناعة األدوات و األس لحة و م ا يرتب ط بم اهو
ديني ،فزاد من مردودية إنتاجه ،و قد منحته هذه الطاقة الخارجية ،تذكرة ال دخول في ط ور جدي د داخ ل
الثقافة .فزيادة على ما كان ُيبدعه فيما مض ى ،أض اف ش يئا جدي دا لحيات ه ،و ه و ت زيين ممتلكات ه ،فق د
أضحى ال يصنع فقط و ليعبد بل يصنع أيضا ليستمتع ،لقد دخل من ثقافة االستعمال إلى ثقافة االس تمتاع
بالمرور من ثقافة التعبد ،فإن كانت األولى أكثر ارتباطا بالطبيع ة ،ألنه ا أق رب منه ا ،و الثاني ة اس تقلت
عنها قليال ،فإن الثالث أك ثر اس تقالال عنه اُ ،تش عر اإلنس ان أك ثر بحري ة أس مى .فالن ار منحت ه فرص ة
-)(12راجع كتاب الفكر البري ،لكلود ليفي شتراوس ،الفصل الرابع ،الطوطم و الطائف.
-)( 13فيري ،لوك ،بالتعاون مع كلود كبلياي؛ أجمل قصة في تاريخ الفلسفة ،ترجمة محمود بن جماعة ،دار التنوير للطباعة و النشر ،ط ،2015 -1ص .158 -156
لصناعة الطالء و أشياء زائدة عن اللزوم لها رونق جميل .فإن صنع الفخ ار مثال من أج ل اس تعماله في
تخزين الغذاء ،فإنه صنع الطالء للتزيين ،ما يضيف على األداة ش يئا جدي دا ،غ ير مرتب ط بنجاعته ا في
االستعمال ،و إنما يتعلق األمر بجذب إثارة استمتاعه و الزيادة من رفاهيته.
استطاع اإلنسان في البداية أن ُيبدع ألنه حر ،و تخلص من الخوف من الموت بعدها ،و أض حى اآلن
يبدع ليستمتع بحريته .إنه صنع ما ُيزين به بيته ،و زوجته ،حتى تبدو أكثر جم اال ،لق د أض اف لجس دها
الطبيعي أشياء ذات بعد ثقافي(.)14
و ليس فقط الُمبدع هو من كان يس تمتع بمص نوعاته ،ب ل ظه ر اهتم ام عن د اآلخ رين ،له ذه األش ياء
الجميلة ،فشق الُمب دع طريق ه نح و الس وق ،لق د ص ار يبحث عن تق ييم اآلخ رين لمنتوجات ه" .إن مجال ه
العمومي هو سوق التبادل ،حيث يمكنه أن يع رض منتوج ات يدي ه و أن يحص ل على التق دير ال ذي ه و
جدير به"(.)15
لم يعد اإلنسان ،يصنع للمنفعة أو الدين أو االستمتاع فقط ،لقد صار يصنع لنيل اعتراف اآلخرين ب ه،
لقد أضحى يحب الظهور ،و يحاول تأكيد وجوده وسط اآلخرين ،إنه اآلن يخترق ثقافة التباهي ،و البحث
عن المكانة االجتماعية ،إنه يسير قدما نحو إبداع التفاضل االجتماعي .إنه يحاول إث ارة اهتم ام اآلخ رين
إلى ما يبدع ،لقد دخل الشق االجتم اعي لمنتوج ه ،لم يع د يص نع للمنفع ة األناني ة أو للتق رب من الق وى
الخارقة ،أو لالستمتاع بالحياة أكثر ،بل صار يصنع لكي ُيلفت نظر اآلخر ،إنه ُمقيد اآلن بكي ان خ ارجي
في إبداعاته و هو اآلخر ،إنه ُيبدع من أجل أن يفرض ذاته بين أقرانه ،لقد انتق ل من ال دافع إلى اله دف،
من شيء داخلي يدفعه لينتج ،إلى هدف خ ارجي يجذب ه ليفع ل ،لق د ص ار يكتش ف محيط ه أك ثر بنظ رة
جمالية ،ال ُيبدع فقط لتفريغ الشحنات طبيعية ،و إنما لتحقيق أهداف ثقافية (المكان ة االجتماعي ة) ،ف تزين
النساء مثال ،باألساور و األص باغ و الص دف ،ه و إظه ار ألفض لية بعض هم على بعض ،ف التي ترت دي
الذهب ليس كالتي ترتدي الفضة أو ال ترتديها ،و لكن هذا التفاخر ال يمكن أن يح دث ل وال وج ود مج ال
لتحقيقه ،و هو مجال السوق و المهرجانات و الحفالت.
إن المبدع هنا أضحى يصنع من أجل أن يعرض لآلخرين ،فثقافة العرض هي التي حول اإلنسان إلى
فنان ،فلوال وجود اآلخر الذي يتذوق منتوجاته لما ك ان للفن مع نى ،من ذ أن اخ ترق اآلخ ر مج ال إب داع
اإلنسان ،حتى صار األخير فنانا ،كان في البداية مجرد صانع ،ثم تحول إلى كاهن ،و بع دها إلى ح رفي
ليصير اآلن فنانا ،فقبل هذا كان اآلخر غ ير موج ود ،غ ير مهم في اإلنت اج ،أم ا بع د دخ ول الس وق ،و
التنافس بين األقران حول من هو األفضل في اإلبداع ،سمح لآلخر بأن يخترق تلك العزلة التي كان فيه ا
المبدع ،لقد دخلنا إلى رقصة الحياة.
سمح الكبت بظهور اإلبداع األداتي ،و أعطى الخطاب الكبتي بظهور اإلبداع الكهنوتي ،فجاءت الن ار
و وهبت اإلنسان اإلبداع الرفاهي ،لُيقدم السوق له فرصة إلظهار اإلبداع الفني .لقد برز ش يء جدي د في
حياة اإلنسان و هو المجتمع (مخالف للجماعة) ،لم يعد مج رد ف رد داخ ل جماع ة ،ب ل ص ار شخص ا ال
يتحدد إال ب رأي اآلخ ر ،بم ا يقول ه اآلخ ر عن ه ،إن الفن ان ه و من يح اول أن يك ون أفض ل موج ود في
المجتمع ،يحاول أن يكون النم وذج ال ذي يس مو ل ه اآلخ رون ،و يس عى للحص ول على أك بر تق دير من
الناس ،إنه مرهون باآلخر .لم يعد اإلنسان مرتبطا بالثقافة فقط ،بل صار اآلن متعلق ا ب المجتمع ،أض حى
ه. دخل في منتوجات لوكه ،و ُيت دد س ع يح المجتم
-)( 14فرويد ،سيغموند؛ األنا و الهو ،ترجمة محمد عثمان نجاتي ،دار الشروق-بيروت ،ط ،1982 -4ص .52 -51
-)(15فرويد ،سيغموند؛ مافوق مبدأ اللذة ،ترجمة إسحاق رمزي ،دار المعارف ،ط ،5ص .76
-استدامة العالم
أكدت حنة آرت أن اإلنسان الصانع ،ه و ال ذي ص نع الع الم بفع ل م ا أنتج ه من األش ياء ،و منح الحي اة
استدامة الحياة البشرية و جعلها أكثر استقرارا (الوضع البشري ص )١٥٨-١٥٧
فاإلنسان بما أنه جزء من الطبيعة فإنه معرض للفناء كباقي الكائنات األخرى ،لكن ،و ألنه ق ادر على أن
يصنع األشياء ،و التي تكتسب صالبتها من المادة التي ُت صنع منها ،فإنه يبني عالم ا من األش ياء يكتس ب
موضوعية مستقلة عن حياة البشر ،مما يضمن استقراره و استدامته (الوض ع البش ري )١٥٨و ه ذا م ا
يعطي ألجيال البشر تلك القدرة على النجاة من الدورة األبدية للطبيعة و النج اة من تك رار نفس حي اة من
سبقوهم ،فهم يجدون العالم قد ُبني قبلهم ،و يضيفون عليه ما استطاعوا.
و مع ذلك فإن األشياء المصنوعةُ ،تس تعمل و تتع رض للتل ف و االنقض اء و البلي ،ل ذا تظ ل اس تدامتها
نسبية و قصيرة األمد ،ال تستمر كثيرا ،فالمالبس مثال ،نرت ديها لم دة فق ط ثم تبلى ،فاالس تعمال يع رض
األشياء للعودة إلى الطبيعة من جديد.
إال أن هذا ال يصدق على األث ر الف ني "فاس تدامتها هي األك ثر ص فاء تقريب ا لآلث ار المفس دة للمس ارات
الطبيعية بما أنها ليست خاضعة الستعمال المخلوقات الحية" و بفعل هذا األمر" ،يصبح كل شيء كما ل و
أن استقرار العالم قد أصبح شفافا في دوام الفن" (الوضع البشري ص .)١٨٩فبسبب أن األثر الفني بعيد
كل البعد عن االستعمال ،و الذهنية النفعية و األداتية ،فإنه يسمو بالعالم إلى استدامة أكثر صفاء.
هذه الوظيفة ،التي ُت خرج اإلنسان من تلك الدورة الطبيعية األبدية ،و تسمح له بأن يتجدى الموت ،و يبني
عالما يتجاوز دورة الحياة-الموت ،تربط بين األجداد و األحفاد ،و ُت فرز مجاال للتط ور و ص ناعة ت اريخ
أكثر نقاوة بعيدا عن الطبيعة.
الذوق هو ذاتي عند كل شخص ،يعطي للشخص فرادته للتمي يز بين األش ياء و تفض يلها ،و االهتم ام
بالبعض و إهمال البعض اآلخر ،إنها قدرة على الترتيب و التنظيم ،إنه خلق للنظام و العقالنية .حديث
الفن يرتبط بنموذج مثالي نحاول تجسيده في الواقع .إن الفنان هو من يح اول تحوي ل م ا يخط ر على
باله و خياله من ع الم األفك ار و المش اعر إلى الواق ع ،أي خل ق مم ر ملكي بين الع الم المث الي و الع الم
الواقعي ،إنه قدرة لتجاوز الوضع الحالي و خلق أشياء ال تنتمي ل ه ،و ك أن الفن يمل ك ق درة نقدي ة ض د
العالم الوضعي ،فهو ال يقبل ما بوج د ب ل يفك ر فيم ا ال يوج د تقريب ا ،و ل و اس تطاع التح ول قليال نح و
مايجب أن يوجد لدخل نطاق األخالق ،و ص ار معارض ا لمن يس ود الع الم الح الي ،فالق درة على تغي ير
األشياء و تحويلها لبناء أشياء أخرى أكثر سموا و غير مرتبطة بالواقع يمنح للفن تلك المزي ة في تحري ر
االنسان.
الفن يمنحنا األشياء التي تخلق اس تدامة الع الم .إن ه يق دم لالنس ان م ا يخل ق ب ه الع الم ،فك ل األش ياء
المحيطة بنا هي ذات صلة باإلنسان الصانع الذي قام بصناعتها و ابداعها ،فحتى و لو فرقنا بين األش ياء
التي يصنعها االنسان لالستعمال و األشياء التي يصنعها لالس تمتاع لم ا أث ر في فك رة أن الفن أو التقني ة
بالمعنى االغريقي ،تخلق األشياء التي تمنح حياة اإلنسان استدامة ..ف العمران مثال ه و من األم ور ال تي
يمتزج فيها الحس االستعمالي و االستمتاعي ،و قدرته على الص مود يحاف ظ على اس تمرار الع الم ،و ق د
قدم ابن خلدون مقدمته في العمران كدليل على مكانة العمران في ثبات الدول و زوالها.
لو نظرنا نحو العمران ،فهو بناء ُيستعمل ،لكنه ما يميزه هو أن كل مجتمع يحاول أن يبصم شخصيته
الخاصة عليه ،فُيحول بذلك هذه البنايات من مستوى االستعمال إلى مستوى اآلثار الفنية.
فكما الحظ ابن خل دون ف العمران ه و ال ذي يم يز البش ر المس تقرين عن البش ر غ ير المس تقرين ،و
بالعمران تظهر الدول و تزول بزوالها ،فالعمران هو الصفة التي تمنح للناس حياة االستقرار و المحافظة
على هويتهم كما هي ،فهي أهم جزء من الثقافة الملموسة .و هو ال ذي يعطي للت اريخ حقيقت ه ،و ه ذا م ا
الحظه ابن خلدون حينم ا يق ول في مقدمت ه "إعلم أن ه لم ا ك انت حقيق ة الت اريخ أن ه خ بر عن االجتم اع
اإلنساني الذي هو عمران العالم ،و ما يعرض لطبيعة ذلك العمران من األحوال مث ل الت وحش و الت أنس
و العصبيات و أص ناف التغلب ات للبش ر بعض هم على بعض و م ا ينش أ عن ذل ك من المل ك و ال دول و
مراتبها و ما ينتحله البشر بأعمالهم و مس اعيهم من الكس ب و المع اش و العل وم و الص نائع و س ائر م ا
يحدث من ذلك العمران بطبيعته من األحوال" (مقدمة ابن خل دون ص .)٤٦و رغم أن ه تح دث هن ا عن
العمران كهيكل و نسق و ليس كمجسمات و بنايات ،فإنه ما ذلك ،يتضمن تصريحا بأن ما يميز االجتماع
البش ري ه و اش تراكهم في العم ران ،ه و الج وار العم راني و األوس اط المتواج دة بينه ا حيث يلتق ون
(األسواق مثال ،المسارح ،المساجد ،البرلمانات…) ،فهي تشكيالت تسهل عمليات تنظيم العالق ات بينهم،
و ضبط السياقات المخلوقة حولهم ،فبالعمران ُتحافظ المجتمع ات على أص التها ،و تميزه ا ،و ديمومته ا
وسط التغير.
فلو نظرنا إلى حديث حنة آرنت عن الع الم فس نجد أن جل ه متش كل من العم ران تض اف إلي ه أدوات
االستعمال و األثار الفنية .و كما رأينا فاألثر الفني بحسب حن ة آرنت ،يعطي اس تدامة أك ثر للع الم ال ذي
صنعه اإلنسان الصانع من األشياء ،لكن المالحظ أنها لم تتحدث عن "الوضع" بصورة واضحة ،ح تى و
إن الحظنا أنه قريب من المجال الذي س مته بالمج ال العم ومي ،م ع ذل ك يبقى ه ذا األخ ير مج رد بني ة
تتضمن شبكة العالقات بين البشر ،و ليس كمرحل ة ذات س ياقات معين ة تحققت عليه ا بعض اإلمكاني ات
من حياة اإلنسان ،فالوضع ،هو ذاك السياق الذي يخلقه البشر لتحقيق مصير معينُ ،يناظر ما فكروا فيه،
و تخيلوه على أنه يمكن أن يحقق لهم أفضل حياة ممكنة.
و بسبب هذا اإلهمال الذي قامت به آرنت اتجاه "الوض ع" ،فإنه ا اقتص رت فيم ا يخص ب األثر الف ني
على جانبه اإليجابي فقط ،على الجانب الذي يبني و يحاف ظ و يض من ،دون الح ديث عن جانب ه الس لبي،
الجانب الذي ينفي و ينتقد و يتجاوز الوضع القائم إلى إمكانيات أخرى.
لقد لعبت المدرسة النقدية دورا أساسيا في هذا الجانب ،يقول هربرت ماركيوز في كتابه "اإلنس ان ذو
البعد الواحد"" :إن لفظة الفن تشير إلى النفي في تعريف هوايته د .فالعق ل ك ان ح تى اآلن ،و كم ا طب ق
على المجتم ع ،معارض ا للفن ،و ك ان يتمت ع بامتي از الالعقالني ة أي ع دم الخض وع للعق ل العلمي،
التكنولوجي ،العاملي" (االنسان ذو البعد الواحد ص .)٢٤١و هنا يظهر أن هربرت ماركيوز يحاول أن
يؤكد بأن الوضع الرأسمالي الحالي ،الذي تسوده القوة التكنولوجية و الذهنية األداتية و الوضعية ،يه ددها
الفن في وضعها ،ألنه يتحدى هذا الوضع ،و يخلق أمور غير واقعي ة و غ ير مرتبط ة بالوض ع الح الي،
فارتباط الفن بمفهوم الجمال (الفن كما قلنا سابقا ميتافيزيقي) الذي يتجاوز األش ياء الجميل ة الحاض رة ،و
يسمو عليها ،يعد الفرد بأمور أكثر تساميا على ما هو موجود في الواقع ،أي أن ما يوجد اآلن ،لم يكتم ل
بعد ،و لم يصل إلى ما يحلم به البشر ،أي أنه وضع ناقص ،يمكن تجاوزه (االنسان ذو البعد الواح د ص
، )٢٢٦ - ٢٢٥و هذا في حد ذاته تهديد الستقراره و استدامته .و يرى ثيودور أدورنو أن الفن له ق درة
على تحري ر اإلنس ان "ف الفن يق ود إلى التح رر العقلي" ،و إنق اذ اإلنس ان األوروبي من االس تالب
التكنولوجي الحديث ،إلخراجه إلى النور (مفهوم الفن عن د ثي ودور أدورن و رس الة ماس تر إع داد حم زة
جلمود ص .)٥٧إن الفنان كما يقول نيتشه منفصل عن الواقع و عما ه و فعلي (في جينيالوجي ا األخالق
ص .)١٤٠و هذا ما يمنحه رؤية أمور خارج الوضع القائم.
إن هذه الطبيعة النقدية التي يمتلك الفن ،و التي تمنح اإلنسان صورا و إمكاني ات للتح رر من الوض ع
الحالي إلى وضع أفضل ،يمكن أن يرتبط بجوهر الفن الحر ،فالفن ال ي ؤطر ش يء ،فه و ج امح بجم وح
الخيال ،و ليس ثمة سلطة تستطيع أن تضع حدودا إلبداعاته و المث ير أن ه يف رض ذات ه بق وة دون حاج ة
للبراهين و قد الحظ نيتشه هذا األمر في كتابه أفول ال