Professional Documents
Culture Documents
July 2018: Hany M. Bahaa Eldin
July 2018: Hany M. Bahaa Eldin
net/publication/357128932
اﻟﺘﻐﻴﺮ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻓﻲ- اﻷﻏﻮاط اﻟﺠﺰاﺋﺮ- اﺻﺪارات ﻣﺮﻛﺰ اﻟﺒﺤﺚ ﻓﻲ اﻟﻌﻠﻮم اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ واﻟﺤﻀﺎرة
اﻟﻮﻃﻦ اﻟﻌﺮﺑﻲ اﻟﻤﻌﺎﺻﺮ
CITATIONS READS
0 8,289
1 author:
SEE PROFILE
All content following this page was uploaded by Hany M. Bahaa Eldin on 17 December 2021.
تأليــف :
مجموعة من الباحث
تقديم :
أ.د مبروك زيد الخ ير
الطبعة األولى
التغير الاجتماعي في الوطن العربي المعاصر
الطبعة ا ألوىل
9341هـ 8192 -م
ISBN : 978_9931_705_01_7
إن الآراء والاتجاهات الوارد الحديث عنها في هذا الكتاب ،لا تعبر بالضرورة عن رأي مركز البحث في العلوم
الاسلامية والحضارة بالأغواط -الجزائر ،وان كانت في سياق اهتماماته المعرفية .
يمنع نسخ او استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأي وسيلة تصوير ية أو ال كترونية أو ميكانيكية أو أي وسيلة
نشر اخرى من دون إذن خطي من إدارة المركز .
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
أعضاء اللجنة العلمية:
د .برغوثي توفيقcrsic أ.د حسين عبداللاوي جامعة أبو القاسم سعد الله -الجزائر2
د .بن لحبيب بشير crsic أ.د أمحمد دلاسي جامعة عمار ثليجي -الاغواط
د .شتاتحة أم الخ ير crsic أ.د شر يف زهرة جامعة أبو القاسم سعد الله -الجزائر 2
د .حسيني مختار crsic أ.دخليفة عبد القادر جامعة قاصدي مرباح -ورقلة
د.سعال سومية crsic د .محمد الصاف ي جامعة ابن طفيل ،القنيطرة -المغرب
أ .قديم طيب crsic د .بشيري عبد الرحمان جامعة ز يان عاشور -الجلفة
أ .نور الدين بن نعيجة crsic د احمد بن طاهر جامعة مصراتة -ليبيا
أ .بن عزوزي محمد crsic د .عقون شراف المركز الجامعي عبد الحفيظ بالصوف -ميلة
أ .خبيزي محمد crsic د .طارق حامول جامعة طاهري محمد – بشار
أ .شلباك سليمان crsic د .كوبيبي حفصة جامعة عبد الحميد بن باديس -مستغانم
أ .شودار مبارك crsic د .سهى حمزاوي جامعة عباس لغرور -خنشلة
لقد جرت سنة الله في ال كون ،أن يكون التغير الاجتماعي ظاهرة بارزة ،تلزم
الانسانية ولا تنفك عنها ،حيث أنها ضرور ية لاستمرار ية النوع البشري ،وتفاعل نسيجه
وأنماطه ،تفاعلا يحقق الديمومة والفاعلية وقوة العطاء ،التي تبرزها معالم السيرورة ،ونمطية
التدافع ،وتؤكدها واقعية الفعل الاجتماعي ،الذي ما فتئ يدفع بالإنسان الى مواكبة التغير
لتحقيق الفعل الحضاري الذي يعطي للأمة تميزا ،و يحقق لها هويتها ،وضمان وجودها في
ميزان الزمان.
وقد كان الوطن العربي ولايزال ،يحتل موقعا استراتيجيا في بعده الجغرافي
والجيوسياسي ،وفي ملمحيته السياسية والاقتصادية والحضار ية بصورة عامة ،خاصة وأن
العالم العربي مجتمع كبير ،تربطه علائق الأعراق ،ووشائج الدين ،ومقتضيات التعايش
الآمن ،على رقعة واسعة عبر قارتي إفر يقيا وآسيا ،ويجمعه المصير المشترك ،والتحديات
المفروضة على الأمة ا لعربية في ظل العولمة المتنامية المتغولة ،وأطماع القوى المتشاكسة،
ويدفعه واقع التحولات في أنماط العيش ،ومطامح الحياة ،والتوق الى التقدم التكنولوجي،
مما يفرض ألوانا من التحديات ،تتعلق في الاساس بالثقافة الاجتماعية السائدة ،وحركية
التغير الايجابي والسلبي على حد سواء ،وما تفرزه ضغوط التقننة التي تفجرت عنها ثورة
الاتصالات ،وزخمية المعلوماتية ،مما يؤثر على المجتمع بمختلف شرائحه ومكوناته ،ويدفعه آليا
الى الصراع والتصادم ،والذي لا ينفك مطلقا عن مدخلات التأثير والتأثر التي ما فتئت
تعصف بالشباب ،وترمي به في بوتقة من التأجج التصادمي الذي توظفه القوى ال كبرى في
العالم ،من أجل إشعال فتيل الفتنة هنا وهناك ،وبذلك يحيد الجيل عن الصراط الذي
رسمته له هداية الله ،ومنهاجية التواصل الخلقي ،وملمحية التفاعل القيمي ،التي تمثل صمام
ولئن عانى الوطن العربي من ضغوطات الزمن ،عبر حقبة الاستعمار التي أهل كت
الحرث والنسل ،وشتت شمل الامة ،ووسعت الهوة بين أبناء الأوطان ،وحاولت الحيلولة
بين الأجيال الجديدة والتعليم وكل ما يفضي الى الوعي واليقظة ،فإن ذلك لم يمنع من
وجود ردود أفعال رافضة لذلك التخلف والتشرذم والتمادي في البقاء على شفا الجرف.
إن الثورات المنظمة والشعبية في الوطن العربي عبر القرنين الماضيين ،قد تمخضت عن نماذج
للنهضة والوعي والتحرر ،أنتجت لنا جيلا في كل البلاد ،يحمل بوادر للخلاص من الواقع
الذي أريد له أن يبقى فيه ولا يتخلص منه ،وتزامنت مع التغير الذي فرضته معطيات
ونحن إذ نشجع القائمين على هذا الكتاب الجماعي المهم ،لنثمن هذه الدراسات
الواعية التي تحاول أن تنفض الغبار عن ملامح التغير الاجتماعي في الوطن العربي ،وقد
بلورته اللجنة القائمة على تحكيمه ونشره وتدقيق شكله ومضمونه في محاور أساسية ،أعطتنا
صورة عن مفاهيم وقضايا حول التغير الاجتماعي ،وعرجت على دور وسائل الاعلام
الجديد في إحداث التغير بمنظومة القيم الاخلاقية والاجتماعية ،ورصدت لنا في محور
خاص مكانة المرأة في المجتمع العربي المعاصر ،وقد تضمنت المحاور جملة متنوعة من
المقالات العلمية المحكمة على مستوى راق من التحكيم والوثاقة ،وكانت المقالات واردة من
جامعات جزائر ية جمة مثل جامعة الأغواط ،وبشار ،وباتنة ،والمسيلة ،والطارف ،وبر يكة،
وأم البواقي ،ومستغانم ،وعنابة ،وتبسة ،و ورقلة ،وبسكرة ،وسطيف ،وتلمسان ،ومعسكر،
ولقد عهدنا إلى لجنة تحرير هذا الكتاب الجماعي المحكم وأكدنا على ضرورة تدقيق
المحاور ،والصرامة في التحكيم المزدوج ما أمكن ،وانتقاء المواضيع ذات الوثاقة والأهمية ،مما
يكون متصلا بالواقع ،ونافعا في خدمة التنمية الوطنية والعربية ،ومبرزا لدور الجزائر في
استثمار التغير الاجتماعي في توجيه الطاقات البشر ية نحو الفاعلية والجدوى ،وتشخيص
عوائق النهوض ،والعمل على فهم الواقع ،والتبصر بالمستقبل من أجل غد أكثر نجاعة
ومردودية ،وندعو الله لجميع باحثي المركز ،الذين عملوا على إصدار كتب على هذه الشاكلة،
مقدمة:
نتفق مع القضية التي تؤكد أن التغير أصبح هو الصيغة الحاكمة للتفاعل في نظامنا
العالمي المعاصر ،الذي تنوعت في إطاره أشكال التغير الاجتماعي ومستو ياته وسرعاته أيضًا،
بحيث أصبح على اللغة العلمية ابتكار المفاهيم القادرة علي تشخيص هذه المكونات فواقعنا
العالمي أصبح تغيره تغير ًا متسارعًا ،بحيث أصبحت التجريدات النظر ية عاجزة في غالب
الأحيان عن توصيف تفاعلات التغير وظروفه ،ناهيك عن تفسيره وفهمه لصياغة مجموعة
من القوانين ،أو لنقل التعميمات ،القادرة علي ضبط حركة التغير واتجاهه بما يخدم صالح
.
المجتمعات والإنسان مع ًا
وثمة إشكالية ،إذ "يتحرك العالم الآن نحو ما يسمى بالتحول النماذجي ،حيث يتزايد
الشكفي المفاهيم والنظر يات والعلوم التي كانت راسخة فيما مضى إبان ما سمي
بمرحلةالحداثة ،تلك المرحلة التي اتسمت بسيادة النموذج التطوري الخطي الحتمي،
وانتشارمفاهيم التقدم والتنمية والر يادة ،وغيرها من مفاهيم تطرح الز يادة الكمية
والعلومالطبيعية بوصفها النموذج المحتذى .لم تعد تلك النظر يات الراسخة تمثل قناعات
حقيقيةلدى العديد من الباحثين ،لقد انهارت المنظومات المفاهيمية التابعة لهذه النظر يات،
8
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
ازداد الشك فيما دعي قبلًا بالعلم والمنهج العلمي وفي يقينيته وفي حتميته"( .)1ولاشك في
أن فكرة التغير كانت نقطة هامة ،وعامل ًا أساسيًا في التقدم نحو دراسة المجتمعات ،ونحو
تفكير المفكرين وتساؤلهم عن الأسباب التي تدعو لاختلاف أي مجتمع عن مجتمع آخر،
وليست العلوم الاجتماعية نفسها سوي نتيجة الرغبة في السيطرة علي اتجاه التغير
الاجتماعي ،وقد ساهمت بدور عظيم في تحقيق هذه السيطرة فعل ًا(.)2
وعلي الرغم من هذه البداية تكاد تجمع كثير من الكتابات السوسيولوجية الحديثة علي
أن علماء الاجتماع يفتقدون نظر ية شاملة متكاملة في التغير الاجتماعي ،وقد نكون أكثر
دقة إذا ما قلنا أن علماء الاجتماع في دراساتهم للتغير لا يعانون من قلة النظر يات ،بل
يعانون من كثرتها وتعددها .وليس هناك مشكلة اجتماعية كمشكلة التغير الاجتماعي
استطاعت أن تسهم في ظهور نظر يات كبري تحاول تفسير كل جوانب الحياة الاجتماعية
بالرجوع إلي فكرة أساسية( .)3ولا تزال هذه القضية احدي القضايا دائمة الحضور في الجدل
السوسيولوجي ،مع تغير أشكال طرحها ،ومسلماتها ،ومحاور الاقتراب منها ،وبؤر التركيز فيها؛
ما يشي بأننا بصدد كم هائل من التراث النظري الذي يُحاول إمكانية مقاربة إشكاليات
(التغير الاجتماعي) ،والتي ليست وليدة اللحظة الراهنة ،بل ذا جذر ماضوي منذ نشأة العلم
الاجتماعي ذاته.
الأمر الذي يعني أنه مع تعدد المواقف النظر ية في علم الاجتماع الحديث ،أصبحت
معال جة مو ضوعاته من خ لال مو قف ن ظري وا حد ،م خاطرة كب يرة ع لي ح ساب الو ضوح
والتحليل الصحيح ،بالإضافة إلي عدم إمكان التصور المتكامل للحقيقة الاجتماعية ،كما أن
01
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
والتحل يل .ك ما أن الع لم حين ما تت طور ف يه مجمو عة كب يرة من النظر يات ال تي ت عالج م شكلة
واحدة ،فإنه يكون من الضروري اختزال هذه النظر يات ،إما عن طر يق رفض بعضها ،أو
تحقيق التكامل بينها في نطاق نظر ية بسيطة واحدة ،تنطوي علي الجوانب العامة لكل هذه
النظر يات( .)4أو التنظير Theorizingفي أحيان أخري ،وما يدفعنا إلي ذلك أنه لا يوجد
في الوقت الحاضر بناء متكامل لنظر ية علم الاجتماع قد حظي بالصدق أو القبول العام ،علي
وعلي ذلك استهدفت دراستنا ،تأسيس مدخل سوسيولوجي ملائم ،يتأتى من خلاله
فهم طبيعة التغير الاجتماعي ،من خلال النماذج النظر ية في علم اجتماع التغير ،عبر صياغة
رؤ ية "تركيبية توفيقية" مع مراعاة ألا يُحدِث هذا التوفيق تناقضًا علميًا وأن يفضي التوفيق
إلي صياغة رؤ ية تركيبية مبدعة إيمان ًا بأن هذه الصيغ أو النظر يات رغم كونها متعارضة في
كثير من الأحيان إلا أنها ليست أبنية أو أفكار ًا جامدة بل هي مسلمات قابلة للتفتيت
والتجزؤ ومن ثم التركيب ،الأمر الذي يفضي إلي خلق بناء أكثر إبداعًا .وتأكيد أن انتقائية
النماذج النظر ية هنا ،منتزعة السياق ،بمعنى أننا لا نقبلها في كليتها وانتقائيتها ،بل سنستثمر،
ما يرجي الإفادة منه ،بحيث تصبح في التحليل الأخير رؤ ية ذاتية ،وإن اعتمدت علي
00
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
كان ابن خلدون يري أنه يجب ألا تكون للتاريخ سوي غاية واحدة هي أن ت ُشرح
بوا سطة الق صص ت طورات المجت مع الب شري في أدواره وأ شكاله المختل فة ف من ال ضروري أن
نبدأ بدرس القوانين التي يحدث التطور طبق ًا لها ،فالحوادث لا تتعاقب مصادفة دون انتظام
بل أن ه ناك قوانين ت سير الحركة الاجتماع ية ،وأنه يجب البحث عن تلك القوانين بدرس
المجتمع في نفسه ،وذلك الدرس هو موضوع علم مستقل يسميه ابن خلدون علم العمران(.)6
وثمة تساؤلات تطرح نفسها ،في هذا السياق ،لا تغادر ظروفها الموضوعية التي تدعو
إلي إعادة طرحها ،مثلما طرحت من قبل مع اختلاف السياق وزمانيته ،وهذه التساؤلات
تبحث في:
ما هي الاتجاهات التي تتخذها عملية التغير ،وهل ثمة مراحل تغير م ُتتالية؟
و في محاو لة للإجا بة ع لي هذه الت ساؤلات مت ضافرة ،وجم لة وا حدة ،وبمراج عة
ا لإرث السو سيولوجي حول هذه الم سألة أمكن نا ر صد رؤي تين تحليلي تين ع لي خ لاف
العوامل ؛ بمعني أن الأنماط والتغيرات الاجتماعية تخضع لقوانين علمية (قانون السببية
،)Causal Lawويمكن تفسيرها في ضوء الأسباب والنتائج .إلا أن وجه الخلاف فيما
بين الرؤيتين أن الأولي م َالت إلي تأكيد عامل واحد كسبب للتحول سواء كان داخليًا
01
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
أو خارجيًا (بيرسي كوهين أنموذج ًا)( )7بينما مالت الرؤ ية الأخرى (بوتومور أنموذج ًا)،
إ لي تأك يد أن النظر يات السو سيولوجية في درا ساتها لعوا مل الت حول لم ت كن واحد يه
Monocausalك ما لم تكن حتمية بأي معني دقيق لهذه الكلمة( )8وسوف نرنو هنا إلي
وا لإثراء الف كري مع عدم إه مال الرؤ ية ا لأخرى والا ستعانة ب ها في إ طار تحليل نا
السوسيولوجي.
ويمكن نا ق بل الا ستغراق في تحد يد هذه الحتم يات الواحد ية ،أن ن ضعها ضمن
ات جاهين ،هما الات جاه المثالي ،والات جاه المادي ،ورغم كون هذين الات جاهين متعارضين،
إلا أنهما يتكاملان في معالجة مسألة التغير الاجتماعي .ودليل ذلك ظهور نظر يات في
سو سيولوجيا التغ ير والتنم ية ،انطل قت ب شكل أو بآخر من ال تراث الفي بري الم ثالي،
والماركسي المادي( .)9فالاتجاه المثالي ،يبتدأ من نظام الأفكار والعقائد والقيم الفاعلة في
النشاط الاقتصادي ،والقيم الثقافية هي المحدد لنوع ومستوي النشاط الاقتصادي ،ومن
ثم ف هذا الات جاه ي شمل الحتم يات ،من نوع الثقاف ية ،وال سيكولوجية ،والعن صر ية .أ ما
الات جاه ال مادي ،فيب تدأ من علا قة الإن سان بالطبي عة وبالو سائط ال تي ت نتج الخ يرات
والتكنولوجية
02
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
وابتداء بالاتجاه المثالي وحتمياته ،تبرز الحتمية الثقافية في المقدمة ،ومفاد هذه
الحتم ية أن الأف عال الاجتماع ية تت حدد ب صفة أسا سية بالعوا مل الثقاف ية ،والمنطل قة من
أ سبقية ا لوعي ع لي الو جود الاجت ماعي ،طبق ًا لهي جل ،مؤكدين ع لي ت طور الأف كار
باعتبار ها ال قوة الداف عة للتفا عل والت طور ال جدلي .و قد كان ماكس في بر ي قول إن نا لو
استطعنا أن نتعلم شيئًا من تاريخ التنمية الاقتصادية فإن ذلك الشيء هو أن الثقافة هي
المادية والعمل الجاد المثابر والنظرة إلى المستقبل والاهتمام بالتعليم والقيم الأخلاقية .بيد
الرئي سية ،أو أ نه دور ثانوي أو م ساعد ع لى إن جاز التنم ية بن جاح فح سب ،وإن ما ي جب أن
ينظر إليه على أنه هو جوهر العملية التنمو ية ،التي هي عملية إنسانية في آخر الأمر ،تتعلق
ك ما أ برز ماكس في بر في مؤل فه "الأخ لاق البروت ستانتية وروح الرأ سمالية" أ ثر
ال شعور ا لديني والأف كار والت صورات الدين ية في ت شكيل ال سلوك الإن ساني( )11و بخا صة
دور الأخلاق البروتستانتية في تشكيل النظام الرأسمالي القائم علي الأفكار التحرر ية التي
ي نادي ب ها ال مذهب البروت ستانتي .و قد لق يت نظري ته كث ير ًا من المعار ضة ،ذ لك أن
المجتم عات الكاثوليك ية كا نت قد بدأت حركة ت طوير الرأ سمالية الحدي ثة ق بل حركة
الإ صلاح بو قت طو يل ،وأن الحركات المناو ئة للإ صلاح ،و ليس الكاثوليك ية ،هي
الم سؤولة عن التخ لف الاقت صادي .و مع ذ لك فالم لاحظ بو جه عام هو ت قدم ا لدول
البروتستانتية عن الدول الكاثوليكية في أوروبا ذاتها في الوقت الحالي ،مما يضفي على آراء
في بر ب عض ال صحة ،فالبروت ستانتية تن فرد في رأ يه بال قدرة ع لى تحق يق الت قدم أك ثر من
03
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
الكاثوليك ية وكث ير من الأد يان ا لأخرى ال تي تفت قر إ لى و جود قيم سلوكية ت حض ع لى
التقدم.
و شهدت خم سينات و ستينات ال قرن المن صرم ،ظ هور عدد من الكتا بات
والاتجاهات التي سارت على نهج فيبر ،والتي ركزت على ما يعرف باسم نظر ية التحديث
الجدير بالإتباع ،وتنظر إلى الثقافات التقليدية في العالم الثالث نظرة سلبية لأنها تؤدي إلى
التخ لف وإ لى الف قر .وع لى هذا الأ ساس فالفقر ظاهرة ثقاف ية ،بل هو ثقا فة متكام لة،
حاول أوسكار لويس Oscar Lewisإبرازها في نظريته الشهيرة عن «ثقافة الفقر» التي
لا تعت بر الف قر م جرد الحر مان ،أو أ نه غ ياب شيء ما ،وإن ما هو ثقا فة متكام لة بالمعنى
ا لأنثروبولوجي للكلمة ،لأ نه يزود ال ناس برؤ ية للح ياة ذات منظو مة جاهزة من الح لول
لمعظم المشكلات التي تواجههم ،أي أنها تؤدي وظيفة ذات مغزى وذات أهمية بالغة.
وتعتبر «القدر ية» أو الاعتقاد في تدخل القدر والخضوع لأحكامه أحد المعالم الرئيسية
في ثقافة الفقر ،ولذا فإن هذه الثقافة تعيد وتكرر نفسها باستمرار من دون أن تدفع إلى
الت قدم إ لى الأ مام ،إذ يتعلم الف قراء ك يف يت عاملون مع الوا قع بدلا من الب حث عن
أسلوب وطر يقة للخروج والتخلص منه أو تغييره ،وذلك نظرًا إلى إيمانهم الراسخ بأن هذا
و قد تراج عت هذه النظر ية تراجع ًا شديد ًا نتي جة التغ يرات السيا سية الدول ية،
وانح سار قوة ال غرب من الم ستعمرات ال سابقة ،وا ندلاع حركات الإح ياء الث قافي ال تي
شهدتها مجتم عات ال عالم الثا لث ،ب عد ح صولها ع لى الا ستقلال و قدرتها ع لى المقار نة
والمفاضلة وحق الانتقاء والاختيار ،لدرجة أن البعض يرون أن نظر ية التحديث ماتت
04
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
بالفعل منذ أوائل السبعينيات ( .)12وأن لم تمت معها ثقافة الفقر ك ما نظن ،وقد تكون
تجارب جنوب شرق آسيا ،صاحبة القيم ال كونفوشية والطاو ية في السنوات الأخيرة،
وما حققته من نجاح كشفت عن تهافت تلك النظر ية الفيبر ية ،وأن العقبات قد تأتي
إ لا أن الحتم ية الثقاف ية ،و ما أن ت كاد ت غادر ال سياق السو سيو تن موي ،إ لا أن ها
تتوالد من جديد ،مما يؤكد نسبيتها وحتميتها في نفس الآن ؛ إذ يري سوروكن أن حجر
للو صول إلي ها ،إذ أن الجما عة في تكون ها تتب لور حول ف كرة رئي سية وت ستهدف قي مة تم ثل
محور وجودها وهدف أفعالها وممارساتها ؛ هذه القيمة هي التي توجهها في إطار م عايير
م ُلزمة لأعضاء الجماعة ،ك ما أنه جعل الأفكار والمفهومات السائدة المحدد الرئيسي لطابع
مجتمع محدد تار يخيًا ،ذلك الطابع لا يعدو انعكاسيًا لتلك الأفكار والمفهومات ،وهذا علي
خلاف النظر ية الماركسية( .)13كما أعطي بارسونز اهتمام ًا فائق ًا بدور العناصر الثقافية
في ت شكيل الف عل الاجت ماعي و في ضبط الن سق الاجت ماعي ف قد أو لي لنفس العنا صر
الثقافية أهمية كبيرة في عمليات التطور .فعمليات التباين والتكامل والتعميم التي عرضها
في كتا به المجتم عات لا تتم إ لا في الم ستو يات الثقاف ية والقيم ية ( .)14إذ تل عب الأف كار
بصفة عامة دور ًا هام ًا في تحديد الفعل الاجتماعي ،وتلعب الأيديولوجية بصفة خاصة
دور ًا رئي سيًا ،إذ أن ها ت حدد ات جاه الف عل الاجت ماعي ،ك ما أن ها تف سره وت برره ،وت حدد
وسائله وأهدافه ،كما أنها تبرر الغاية منه والجانب الإرادي فيه(.)15
عن صراع الح ضارات ،و هي أ حدث نظر يات ال صراع ،إذ يري منت قدًا أو مت جاوز ًا
05
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
فوكو ياما صاحب مؤلف نهاية التاريخ،بأن التاريخ لم ينته بعد ،وأننا نعيش في عالم تحكمه
الصراعات الدائمة ،وأن الانتصار الكامل لليبرالية ما يزال بعيد المنال ،وأن الصراع في
المس تقبل سيتخذ بعدًا حضاري ًا ،وسيكون النموذج الأكمل لتصادم الحضارات ،خلافًا لما
اقت صادية وا ستراتيجية وع سكر ية ،ول كن ،ل ماذا ستكون أز مة الع صر مواج هات بين
ح ضارات مختل فة؟ لأن ال عالم طبق ًا لهنتنج تون لم ي عد ينق سم في الو قت ا لراهن ح سب
معايير اقتصادية أو سياسية أو عسكر ية ،بل أضحى ينقسم إلى تجمعات أو مناطق حضار ية
اعتبار ًا من أن الهو ية الحضار ية سوف تكتسب أهمية متزايدة في المستقبل ،وأن العالم
سوف يشكله التفاعل بين سبع أو ثماني حضارات كبري ،ينقلها هنتنجتون عن المؤرخ
ا لإنجليزي أرنو لد توينبي ،و هي :الغرب ية ،واليابان ية ال كونفوشيو سية ،والإ سلامية،
والهندية ،والأرثوذك سية ،وال سلافية ،والأمريك ية اللاتين ية ،إ ضافة إ لى احت مال و جود
وما يؤخذ على نظر يه هنتنجتون اختزاله لصورة الوجود البشري المعقدة والمتداخلة
في حف نة من الح ضارات ،و لا تري ال عالم ع لى حقي قة توز ي عه لل سلطة وال ثروة ،ب ما ي صم
مقولته بمحاولة القفز فوق معطيات الواقع والتغاضي عن مساره التار يخي ،فضلًا عن عدم
د قة ا ستعماله لمف هوم الح ضارة ح يث يعطي ها مع نى جغرافي ًا (أفر يق يا) ،أو عقا ئدي ًا
(ال كنفوشو سية) ،أو ثقافي ًا (ال غرب) ،أو أثني ًا (ال سلافية) ،أو دولي ًا (اليا بان) ،أو ديني ًا
(الإسلام) بل لم يطبق هذه المعايير حين فصل اليابان عن العالم ال كونفوشيوسي( .)16كما
أن مقولة صراع الحضارات مقولة غير صحيحة ؛ لأن العلاقة بين الحضارات أمس واليوم
لي ست علا قة ت صادم بل علا قة تداخل ،وال صدمات وال صراعات ال تي حدثت دا خل
06
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
الح ضارة الوا حدة كالح ضارة الأورب ية مث لا ً هي أك ثر عدد ًا وأو سع تدمير ًا من ت لك ال تي
حدثت بين دول تنت مي إ لى ح ضارات مختل فة ،و قد يك في الإ شارة إ لى ال حربين ال عالميتين
الل تين عرفه ما ال تاريخ الب شري قد حدثتا دا خل الح ضارة الغرب ية وبف عل ت ناقض الم صالح
فيها(.)17
إلا أن «الحقيقة الأساسية المهمة هي أن الثقافة ،وليست السياسة ،هي التي تحدد
وت قرر ن جاح وت قدم المجت مع» .فالثقا فة تتفا عل مع التنم ية في أك ثر من م جال و بأكثر من
طر يقة ،سواء في ما يتعلق بتحديد الأهداف أو اختيار مجالات ووسائل وطرق التنمية ،وإن
كان من ال صعب صياغة ذ لك أو ترجم ته في نظر يات فا صلة ،ع لى ما ي قول أمارت يا صن
Amartya Senفي دراسته عن الثقافة والتنمية ،حول ما يجب تغييره أو الإبقاء عليه في
م شروعات التنم ية ،ن ظرًا إ لى تدخل عوا مل كث يرة أخلاق ية وسيا سية إ لى جا نب تع قد
منظومة القيم المرتبطة بالتنمية الاقتصادية ،التي قد يمكن تفسيرها بأساليب وطرق مختلفة.
وعلي ذلك ،فالأوضاع الثقافية قد تكون عامل ًا دافع ًا أو معوقًا للتنمية لأنها تتدخل في تحديد
موا قف ال ناس و سلوكياتهم واتجا هاتهم واخت ياراتهم ،ك ما أن ها ت تدخل في تحد يد القي مة
الاقت صادية المبا شرة للا ستثمارات الثقاف ية في ب عض الم شروعات التنمو ية المه مة ،ك ما هو
ال شأن مثل ًا في م شروعات التنم ية ال سياحية وب عض الاعت بارات الدين ية وال قيم الأخلاق ية
المتوارثة(.)18
وفي سياق الاتجاه المثالي ،تبرز الحتمية السيكولوجية ،ومفاد هذه الحتمية أن العامل
السيكولوجي هو القوة المحركة لتحول المجتمع عبر إرادية الأفراد النفسية .ومن أبرز رواد هذه
الحتمية" ،باريتو ،ووارد" ،إذ رفض باريتو كل صور التفسير السوسيولوجي القائم علي عا مل
وا حد ،وا لذي يخ تزل تف سيرات الح ياة الاجتماع ية إ لي عوا مل أو أ سباب بعين ها (.)19
07
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
و بخا صة دور الع قل لي طرح بديلًا عن ها الروا سب باعتبار ها عنا صر سو سيولوجية بيولوج ية
خال صة كام نة في ع مق ا لذات الب شر ية ،و هي ال قادرة دائم ًا ع لي تأك يد ا ستقرار المجت مع أو
ت طوره ،أو شيوع حا لة الفو ضى ف يه ،ويت حدد دور الروا سب في الت حول الاجت ماعي ع ند
خفوت فاعلية الصفوة الحاكمة ،مما يجعلها في بعض المراحل التار يخية صفوة بغير رواسب،
ومن ثم تجد نفسها فريسة سهلة لصفوة ذات رواسب قو ية تصعد إليها من القاع( .)20أما
ل ستر وارد ف يري أن ال قوي الاجتماع ية هي قوي نف سية وا ضحة ،وإن كا نت تنح صر في
الشعور ،باعتباره القوي المحركة لل ظواهر الاجتماعية ،بينما لا تعتبر مل كة التفكير من بين
هذه القوي بمعني أن الأفكار لا تشكل قوي وبالإضافة إلي وحدة الشعور يؤكد وارد وحدة
أخرى ،هي ميل الفرد إلي التخيل الإ بداعي ،ومن ثم يؤدي التكامل بين السلوك الدينامي
و ي ضاف إ لي ما سبق من حتم يات في سياق الات جاه الم ثالي ،الحتم يات المتهاف ته،
كالبيولوج ية ،ع ند ا لدارونيون ،وهر برت سبن سر ،والحتم ية الجغراف ية ،ع ند بن خ لدون،
وهنري بكن ،ودنكن ،والحتمية الديموجرافية عند مالتس ،وزيميل ،والتي وإن لعبت دور ًا
في التغير فيكون دور ًا م حدود ًا وليس أساسيًا ،وأخير ًا الحتمية العنصر ية ،والتي أثبت التاريخ
فشلها ،ولفظها من ذاكرته ،فليس ثمة أجناس راقية وأخري دنيئة ،وعلي حد تعبير تشارلز
C.في محاضرته الشهيرة التي ألقاها في خمسينات القرن العشرين بعنوان P. سنوSnow
القدرة على تعلم العلوم ،ولا مجال لإغفال هذه الحقيقة ،فمن الممكن القيام بالثورة العلمية في
الهند وأفر يقيا وجنوب شرق آسيا ،وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط في غضون خمسين
عام ًا ،وليس لدى الإنسان الغر بي عذر إذا لم يدرك هذه الحقيقة" .ولقد تحققت نبوءة سنو
08
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
بالفعل في بعض المناطق التي ذكرها ،والتي أخذت قبل غيرها في العالم النامي بأسباب تنمية
التع ليم والب حث العل مي ،وعر فت طبي عة الت قدم العل مي والتق ني والروا فد ال ضرور ية المغذ ية
له(.)22
وعلي الرغم من هذه الحتمية الثقافية الموصومة بالمثالية والمنطلقة من أسبقية الوعي
ع لي الو جود الاجت ماعي إ لا أن دعات ها لا ي ستبعدون العوا مل ا لأخرى في التغ ير ول كن
يجعلون له الأسبقية علي بقية العوامل فها هو فيبر مثل ًا ينكر بشدة وجود عامل واحد يسهم
ب صفة أسا سية في ت شكيل المجت مع أو ال تأثير ع لي التغ ير الاجت ماعي ف يه (الم صالح ،ال ثروة،
الأهداف ،القيم) ،ول كن الطابع الذاتي الذي ميز تصوره لعلم الاجتماع ،فضلًا عن تأكيده
للف عل العق لي الر شيد ،قد يكو نان م بررين لأن نذهب إ لي أ نه كان يم يل إ لي تأك يد ا لدور
ا لذي تلع به الأف كار في الح ياة الاجتماع ية( .)23ك ما أن أ صحاب ب عض الحتم يات ا لأخرى
يؤكدون أيض ًا ع لي أهم ية هذا العا مل الف كري ح تى لو جع لوه تابع ًا لحتم ياتهم و من أ برزهم
وعند التعرض للاتجاه المادي في سوسيولوجيا التغير ،تبرز الحتمية الاجتماعية في
المقد مة ،وم فاد هذه الحتم ية أن الأف عال الاجتماع ية م حددة كل ية بالمؤثرات الثقاف ية
والاجتماع ية دون اعت بار للعوا مل ا لأخرى ال سيكولوجية والبيولوج ية والجغراف ية .و بالتعبير
الماركسي ،وعلي خ لاف الحتمية الثقافية فليس وعي الأفراد هو الذي يحدد وجودهم كما
تري ،وإنما علي العكس ك ما تري الحتمية الاجتماعية ،فإن وجودهم الاجتماعي هو الذي
يحدد وعيهم.
11
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
فالبيروني في معرض حديثه عن التطور يذهب إلي أن" :التطور يحدث من خلال
تحولات العقل من خلال مقابلته للمادة ،حيث يصبح بعدها قادر ًا علي أن يتحرك و يطور
من فعله ،إذ في مقابلته للمادة يقوم بإخصابها ،خالق ًا منها شيئًا عظيم ال كمال"( .)24كما أدرك
ابن خلدون أن ثمة علاقة بين تقدم الحضارة وتقدم العلم .فالعلم لديه ثمرة "لاختلاج الفكر"
إلا أن الفكر يتوقف علي الحياة الاجتماع ية فلا يتسع ولا يتفتح إلي أقصي حدوده إلا في
المجتمع لأن العامل الجوهري في اتساعه هو التمرين ليتخذ الفكر شكله العامل ولا ينضج تمام ًا
إلا في حياة الحضر حيث تصل الحضارة إلي أعظم درجات التعقيد ،و يقول ابن خلدون
إن للإنسان ثلاثة أنواع للفهم :المميز الذي يميز به مسائل خاصة ،والتجريبي الذي يطبق علي
ال طرق العاد ية للح ياة كال عادات ال تي تتع لق بمعام لة ا لأفراد بع ضهم بعض ًا ،و يكت سب هذان
النوعان من الفهم بسهولة تامة ،و يوجدان في حياة البدو ول كنهما يرتقيان وينتظمان في حياة
الح ضر .والثا لث هو الف هم الن ظري ا لذي يؤ لف الع لائق بين الأف كار العا مة ،و من هذه
العلائق يستخرج الأفكار العامة التي تؤلف العلوم المختلفة التي تدفع المجتمع من القوة إلي
و من رواد الاجت ماع ال حديث يري سبن سر أن طبي عة الب ناء الاجت ماعي ت حدد نوع
المعر فة ،فا لدفاع عن الم صالح الماد ية ي شكل وي حرف إدراك نا للوا قع الاجت ماعي .وك ما أن
التغيرات التلقائية التي ت حدث في البناء الاجتماعي هي علة كل تغير في م جال المعرفة أو أي
مجال آخر ،لذلك يوصينا سبنسر بعدم التدخل ،ومن ثم يلغي دور الفكر الإنساني في تطوير
المجتمع أو تغييره" .لأنه بمجرد أن نبدأ التدخل في نظام الطبيعة فإن أحدًا لا يعرف ما الذي
ستنتهي إليه الأمور" .لأن المجتمع لابد أن يكون متحرر ًا من أي تدخل ،بهذا المبدأ يكف
10
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
سبن سر دور الف كر ،بل دور العل ماء والم صلحين ،عن ال تدخل ،و يطا لب الجم يع بأن يدعو
بين ما يؤكد دور كايم الحتم ية الاجتماع ية في أ برز صورها فالح قائق والو قائع
الاجتماع ية لد يه ذات طبي عة اجتماع ية مح ضة ،و من ثم لا يم كن شرحها وتف سيرها إ لا
بحقائق اجتماعية أخرى .وعلي الرغم من ذلك لا ينكر أهمية الفكر ودوره في تطور المجتمع
أو عرقلة مسيرته م ُقدم ًا فكرة العقل الجمعي الفاعل والم هيمن علي العقول الفردية ،وهو أيضًا
ع قل خ لاق ،و من فاعلي ته ت ستمد الع قول الفرد ية خلق ها وإ بداعها ،وتأثير ها في الو سط
في مؤل فة ور يذهب بن يامين ك يد B.Kidd الطبي عي والاجت ماعي( .)26و
كل شيء هي الباعث الأساسي للتغير الاجتماعي معارضًا كونت صراحة ً في أن العقل لا
يمكن أن يكون السبب الأساسي في التقدم ؛ ذلك لأنه يكسب الإنسان نزعة فردية غير
اجتماع ية ،بين ما الت طور في جوهره اجت ماعي ،ي ستهدف تحق يق مز يد من ال ترابط
الاجتماعي(.)27
أما ماركس فيقول" :إن ما يتشكل في العقل الإنساني من أفكار أو تخيلات ليس
إ لا مح صلات لعمل يات الح ياة الماد ية يم كن التح قق من ها امبر يقي ًا ك ما ترتبط بأ شياء ماد ية.
( )...إن الحياة لا تتحدد عن طر يق الوعي ،بل إنه (أي الوعي) هو الذي يتحدد عن طر يق
الحياة"( .)28و يذهب مانهايم متأثر ًا بالماركسية بأن المعرفة مشروطة اجتماعيًا ،أي أن ظهور
الأفكار وبلورتها يتأثران ب شكل عميق بعوامل خارجية ذات طبيعة اجتماعية ،ينفذ أثر ها
بأشكال الفكر ومضامينه ،وبالتالي تتأثر خبراتنا وملاحظاتنا بهذه العوامل( .)29ومع ذلك لا
ين كر مان هايم أهم ية المعر فة في ت شكيل الوا قع المتغ ير بتغ ير م ستو يات المعر فة الث لاث :المحاو لة
11
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
والخطأ ،والاختراع ،والتخ طيط .ولا يمكن نا أيضًا أن نغفل الحتمية الاجتماع ية عند جان
بياجيه فالإنسان لديه يولد دون أن يحمل دماغه ليتكون العقل بالتدريج من خلال الممارسة
الاجتماعية.
وعلي ما سبق وباستقراء هذه الحتمية السوسيولوجية تجلي تقديمها للعامل الاجتماعي
في التحول ل كنها مع ذلك لم تغفل العامل الفكري في إحداث التحول بل أن هناك من أكد
العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع و بين الواقع والفكر فكل منهما يشكل الآخر وفق ًا للطبيعة
الجدلية ك ما ظهر في أعمال أرسطو فالوجود المادي طبق ًا له وجود متحرك بالفعل أو بالقوة،
والمادة أزلية أبدية كذلك الحركة ،لأن الوجود المادي في حالة صيرورة مستمرة ،تتغير من
اللاوجود إلي الوجود ،وتتغير من الوجود إلي اللاوجود( .)30وأكد علي هذه العلاقة الجدلية
أ ما الحتم ية الاقت صادية ،ف هي من أك بر حتم يات الات جاه ال مادي ،وم فاد هذه
الحتمية أن العامل الاقتصادي هو المحدد الأساسي لبناء المجتمع ومن أبرز روادها ماركس
حيث قسم بنية المجتمع إلي بنائين أحدهما بناء تحتي وتعبر عنه قوي الإنتاج والآخر بناءًا فوقي
وتعبر عنه علاقات الإنتاج ،وهناك ارتباط وثيق بين البنائين يترتب عليه نتيجة هامة ،فأي
تغير في النسق الاقتصادي (البناء التحتي) لابد وأن يؤدي إلي تغير في البناء الفوقي ،وهكذا
فإن ت طور المجتم عات طبق ًا ل ماركس ر هن ق بل كل شيء بت طور قوي الإن تاج .فالن سق
الاقت صادي هو ما يب ني عل يه كا فة الأن ساق الاجتماع ية ا لأخرى .فالح ياة الاجتماع ية و ما
تشتمل عليه من أفكار وفلسفة وعقائد ما هي إلا انعكاسات لهذا النسق الاقتصادي وهذا
Historicalأو التفسير المادي أو هو المقصود من المادية التار يخية Materialism
الاقتصادي للتاريخ.
12
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
وإزاء هذه الحتم ية ر فض ا لبعض (في بر ،مو سكا ،سوروكين) – أ صحاب الحتم ية
الفكر ية طبق ًا لتصنيفهم -التفسير الماركسي ،بأنه يتركز علي عامل اقتصادي وحيد أحادي
الجا نب ،وع ِ لي حت مي ،ورب ما و جدت الم بررات لا ستخلاص هذه الحتم ية الاقت صادية
بالتأكيد الماركسي عليها .بينما يرى البعض بأن ماركس أسيء فهمه فلم يقل مطلق ًا بعامل
اقتصادي وحيد ،بل بأساس اقتصادي يتألف من مجموعة من المتغيرات التي تتمثل في قوي
الإنتاج وعلاقات الإنتاج والتي تؤلف موقف ًا اجتماعي ًا اقتصادي ًا يقوم علي علاقات جدلية،
من تطور ها ،ويحدث بينه ما صراع ينتهي بتغل يب العلا قات ع لي من ق يدوها ثم ن في هذه
القوي ،واستحداث أساليب جديدة لإنتاج الحياة المادية( .)31وعلي ذلك فالبناء التحتي لا
يتر تب عل يه أتوماتيكي اً التغ ير الكا مل للب ناء ال فوقي ف هو يتم يز بدر جة من الا ستقلال الن سبي
يك شف عن ها بو ضوح ا ستمراريته وت طوره فالب ناء التح تي يؤثر تأثير ًا حا سمًا ع لي نوع ية الب ناء
الفوقي إلا أن البناء الفوقي أيضًا يؤثر علي نوعية البناء التحتي من خلال عملية جدلية مستمرة
ي ضاف إ لي ما سبق من حتم يات ،الحتم ية التكنولوج ية ،وم فاد هذه الحتم ية أن
ال تكنولوجيا هي العامل الحاسم والمحدد للتغير الاجتماعي فالتكنولوجيا هي المقدمة وما بعدها
يأتي تباعًا عليها ،ومن أبرز رواد هذه الحتمية أوجبرن ،ويذهب في تفسيره للتغير الاجتماعي
أن الم ظاهر الماد ية للثقا فة كالتكنولوج يا ت سبق في التغ ير الم ظاهر غ ير الماد ية كال عادات
والفل سفات والمعت قدات وال قوانين( .)32وأن الجوا نب المعنو ية تب قي في كث ير من الأح يان
بدون أن تتغير ،أو تتغير بنسب أقل من تغير الجوانب المادية ،ومعني ذلك حدوث تخلف
ثقافي كلما حدث تغير مادي .وعلي ذلك إذا ظهر اختراع جديد ،وتغيرت الجوانب المادية
13
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
للثقافة ،كان علي الجوانب المعنو ية أن تتغير بنفس السرعة حتى لا يحدث تخلف ثقافي أو ما
أسماه بالهوة الثقافيةCultural Lagفالواجب يحتم علي المجتمع أن يعيد تنظيم نفسه بعد كل
اختراع حتى تتكيف جميع عناصره ،وتسير جوانب الثقافة جنبًا إلي جنب( .)33وإزاء رؤ ية
أوج برن يَع ترض سوروكين ع لي أن ال جزء ال مادي للثقا فة ينت شر أول ًا أو أ سرع من ال جزء
الأيديولوجي ،بل العكس هو الصحيح لأنه مهما كانت الظاهرة ثقافية أو دينية أو علمية أو
فنية أو اقتصادية ،فإن فكرتها أو معناها لابد أن تقنع النفوس أول ًا .وعندئذ تبدأ في التأثير
ومن أبرز دعاة هذه الحتمية أيضًا ،هنري مورجان ،إدوارد تيلور ،وهناك فر يق من
المعادين للفكر الاشتراكي وعلى رأسهم دانيل بل صاحب مؤلف نهاية الأيديولوجيا و ريمون
آرون في مقاله نهاية عصر الأيديولوجية وبداية عصر الأفكار ذهبا إلي أن التكنولوجيا قضت
علي الأيديولوجية وأصبحت العامل الحاسم في التغيير الاجتماعي ،وشايعهم في ذلك جون
ديوي أحد أبرز المؤ يدين للتكنولوجيا(.)34ومن أبرز الانتقادات التي وجهت لهذه الحتمية
التكنولوج ية أن رواد ها يت عاملون مع التكنولوج يا وكأن ها تأتي ب لا سياق اجت ماعي ،وب لا
مصالح ذات صله بتوجيه العلم والمعرفة وقبل أن يكونا مدخلات للتطوير التكنولوجي(.)35
وأن التكنولوجيا مهما تقدمت وارتقت لا يمكن لها أن تعمل في فراغ ،بل أن تطورها نفسه
وتطو يعها لخدمة المجتمع الإنساني أو لدماره رهن بنوع الأيديولوجية السائدة(.)36
وباستطلاع ما سبق من حتميات لاحظنا بما لا يدع م جال للشك عدم وجود هذه
الحتميات المطلقة في التفسير السوسيولوجي للتغير ؛ بل هناك نوع من التأكيد علي عامل ما
دون إغ فال لبق ية العوا مل ا لأخرى الفاع لة .بل يمكن نا أيض ًا أن نل غي التق سيمة المع تادة
للنظر يات السو سيولوجية بإدراج العوا مل الثقاف ية ضمن إ طار البنائ ية الوظيف ية ،والعوا مل
14
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
الاقتصادية والتكنولوجية ضمن إطار المادية التار يخية ؛ فماكس فيبر ،وسان سيمون مثلًا وهما
من رواد الوظيفية رغم اهتمامهم بالفكر والثقافة إلا أنهما لا ينكران العامل الاقتصادي في
التف سير والتغ ير الاجت ماعي ،ك ما أن ال حال ع ند ماركس ومان هايم وه ما من رواد الماد ية
التار يخية فرغم اهتمامهم بالعوامل الاقتصادية والتكنولوجية إلا أنهما لا ينكران كذلك أهمية
الفكر والمعرفة.
وعلي ما سبق من ملاحظة نركن إلي رفض الطابع الحتمي للسببية علي نحو ما فعل
بالضرورة الحتمية مؤكد ًا أنه إذا حاولت تفسير واقعة تار يخية بالنظر إلي قانون عام فإنك تسئ
كاف
ٍ فهمستبدل ًا مصطلح الضروري Necessaryالمعبر عن الطابع الحتمي للسببية بمصطلح
وأخ ير ًا يمكن نا ال قول أن نز عة المرا حل الحتم ية أو الم حددة سلف ًا قد اخت فت من المؤل فات
بح يث يم كن تلخي صها ع لي الن حو ال تالي :إن الجوا نب التكنولوج ية والاقت صادية من الثقا فة
تت طور وفق ًا لنمط من ال تراكم تواج هه ب عض العق بات .أ ما الجوا نب ا لأخرى من الثقا فة،
خا صة الفكر ية والجمال ية من ها ،فتخ ضع لتحو لات كم ية في ات جاه صاعد و هابط ،ك ما تخ ضع
لتحولات كيفية تؤثر علي طابع ها .ومن ال جدير بالذكر أن سوروكين وألفر يد فيبر قد صاغا
هذا التعميم(.)38
وأي ًا ما يكن من شأن الاختلافات النظر ية ،في مقار بة إشكالية التغير الاجتماعي،
ي كون من التع سف محاو لة الاعت ماد ع لي ات جاه م حدد م ثالي أو مادي ،وعا مل حت مي أي ًا
كان مسماه ،والرجوع إلي نظر ية بعينها من نظر يات سوسيولوجيا التغير لما فيه من تبسيط
15
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
زائد للظاهرة ،نظرًا لتشابك ظواهر الحياة الاجتماعية وتداخلها وتساندها وظيفيًا ،وقد يكون
من الأجدر الإفادة بالنظرة التعددية بديلًا عن أحادية التوجه والمدخل ،والنظر إلى التفاسير
وال شروح السو سيولوجيةللتغير ع لي أن ها م جرد وج هات ن ظر مختل فة ،ول كن ها متكام لة يم كن
الا ستعانة ب ها ك كل أو الاكت فاء ببعض جوانب ها في ف هم مقار بة التغ ير الاجت ماعي
سو سيولوجيًا .بح سب ال ظروف العا مة ،الأو ضاع الاجتماع ية والاقت صادية والسيا سية
ثمة فارق بين عملية التغير ،التي تعبر عن مرحلة انتقال ،Transitionوبين عملية
فالتحولات تتضمن التغيرات ،ل كنها أكبر وأوسع من التغير نفسه بمعني أن التحولات
تتصف بصفة الكلية بينما التغير تغلب عليه صفة الجزئية .وفكرة التحول المجتمعي علي
جاذبيتها ،تستلزم تحديد اتجاه هذا التحول ،وإلي أي نوع من المجتمعات؟ وغرضه النهائي
(المضمون الاجتماعي لهذا المجتمع) .ويمكننا أن نضع تصنيف ًا لأنواع التحول مع مراعاة أن
هذا التصنيف يحمل بعدًا نظري ًا من أجل الفهم والتحليل السوسيولوجي فهي متداخلة
إذ يحدد التحول وفق ًا لطبيعة الفاعل إلى نوعين:أولهما؛ التحول اللاإرادي العرضي
الخارج عن نطاق الإنسان وسيطرته ليقع في دائرة طبيعة المجتمع وقوانينه الخاصة .وثانيهما:
الت حول ا لإرادي الع مدي ا لداخل في ن طاق سيطرة الإن سان وال قوى الاجتماع ية صاحبة
16
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
الم صلحة ف يه .وي حدد الت حول وفق ًا لطبي عة م صدره إ لى نوعين :أوله ما؛ الت حول ا لداخلي
(الإرادي العمدي) وهو التحول الذي يؤسسه المجتمع بهدف تعظيم قدرته التكيفية ،وذلك
ح تى ي شغل مكا نة فاع لة في سلم ال تدرج ال عالمي لب ناء ال قوة ،و هذا ال نوع من الت حول له
استراتيجيته ،وله مشروعه الاجتماعي ،وله أسلوبه في التعامل مع البيئة العالمية المحيطة ،كما
أن له أهدافه المحددة التي يسعي إلي تحقيق ها ،وهو ما درج مفكرو الاقتصاد السياسي ع لي
تسميته بالتحول المستقبلي( .)40وثانيهما :التحول الخارجي (اللاإرادي القسري) وهو التحول
المفروض من أعلى الن ظام العالمي ع لى التحول القومي .وذلك في حالة التحول الق هري أو
الم فروض ،و ي كون إ ما ع لى هي ئة ضغوط دول ية ،أوع لى هي ئة إ غراءات قو ية ح تى ينط لق
الت حول في الات جاه الم حدد له.وعلى ا لرغم من أن أف ضل أ نواع التحو لات هي ال تي ت كون
وطنية النمو ،حتى وان جاء المحفز من الخارج إلا أنها في النهاية لابد أن تُساق وتقاد بلاعبين
وطن يين وتت سق والمنظو مة القيم ية لمجتمعات نا لأن ن جاح هذه الم شار يع الخارج ية ر غم عدم
ملائمتها لطبيعتنا المجتمعية يعنى أنها أوجدت لها عوامل داخلية (أ صحاب مصالح) ،تح قق لها
الأوضاع والمصالح المبتغاة سواء كانت هذه العوامل سياسات خاطئة أو صراعات داخلية
وي حدد التحول،أيض ًا ،وفق ًا لطبي عة الم شاركة الاجتماع ية ف يه إ لى نوعين :أوله ما؛
الت حول ال فوقي وتن فرد بو ضع خطو طه الرئي سية الن خب القائ مة بالتحول و بخا صة الن خب
السياسية .وثانيهما التحول التحتي والذي لا يمكن إنجازه إلا من خلال الشراكة بين النخب
القائمة بالتحول ،والمجتمع وجمهوره المستهدف بالتحول .ويحدد التحول وفقا ً للطبيعة البنائية
للمجت مع إ لى نوعين :أوله ما الت حول ا لأفقي وذ لك ع ندما ي كون الت حول من منط قة إ لى
17
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
أخري .وثانيهما التحول الرأسي عندما يكون التحول من مستوى أعلى إلى مستوى أسفل في
كما يحدد التحول وفق ًا لمداه ومجاله الاجتماعيين أي ًا كانت آلياته إلى نوعين :أولهما
الت حول ال جذريوذ لك ع ندما ي كون الت حول شاملًا لمخت لف جوا نب الب ناء الاجت ماعي.
وثانيه ما الت حول الجز ئي ع ندما ي كون الت حول م حدود الن طاق في جا نب م عين من جوا نب
البناء الاجتماعي ،كالتحول الاقتصادي أو السياسي .و يحدد ،كذلك ،وفقا ً لمعيار الدينامية
والسرعة التي يحدث بها إلى نوعين من التحول :أولهما؛ التحول التدر يجي الإصلاحي والذي
نرى م ظاهره في خفوت سرعته ال تي يحدث بها .وثانيهما التحول الف جائي الثور يالرادي كالي
ونري مظاهره في اشتداد سرعته التي يحدث بها ،ولا سيما في حالة الثورات الاجتماعية.
وأخير ًا ،يحدد التحول وفق ًا لمقداره الوصفي المورفولوجي إلى نوعين :أولهما؛ التحول الكمي
وذلك عندما يكون التحول مادي ًا كما في حالة المنجزات المادية للثقافة كالتكنولوجيا ونحوها.
وثانيهما التحول ال كيفي وذلك عندما يكون التحول كيفي ًا كما في حالة المنجزات المعنو ية
وتأسيس ًا علي ما جاء بالأدبيات السوسيولوجية المحددة لاتجاه التحول أمكننا رصد
أر بع اتجاهات تحولية تسير فيها المجتمعات ؛ التحول التراجعي الانحطاطي ،التحول التقدمي
الارت قائي طبق ًا ل قانون المرا حل المتعاق بة (كو نت و ماركس) ،الت حول ا لدائري (ا بن
خلدون ،باريتو ،شبنجلر ،توينبي) ،وأخير ًا التحول التذبذبي (فيكو ،سوروكين) .وإذا ما
أمعنا النظر بهذه الاتجاهات نراها قد انطوت علي خلط جلي بين ات جاه التحول وطبيعة سير
هذا الاتجاه ؛ بمع ني أن كل ًا من التحول التراجعي أو التقدمي يعبر عن اتجاه سير التحول
المجتمعي إما باتجاه التراجع أو باتجاه التقدم مع مراعاة أن التحول التراجعي لا يصدق إلا
18
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
في حا لة الأز مات Crisisبينما التحول الت قدمي تحكمه الرغ بة و هو الغاية ال تي ين شدها أي
تحول في المطلق ؛ الأمر الذي يعني أن الحتم بصيرورة اتجاه التحول بإزاء التأخر أو التقدم،
أما كِلا َ الاتجاهين :التحول الدائري والتذبذبي فيعبران عن طبيعة سير اتجاه التحول
سواء كان اتجا هه بناح ية ال تأخر أو الت قدم إ لا أن هذه الطبي عة يم كن أن تق بل المز يد من
التحديد والضبط عبر صياغة ثلاث طبائع يسير علي هديها التحول ،وإن كانت هذه الطبائع
لا يمكن تطبيقها بسهولة ويسر علي الواقع الاجتماعي ،فهي في أحسن الأحوال لا تخرج
عن كون ها تقري بات للوا قع الاجت ماعي هي :الت حول ا لدوري ع لي نم طين ق صير ال مدى،
وطو يل المدى ،والتحول أحادي الاتجاه علي ثلاثة أنماط الخطي والأسى والمنحني،وأخير ًا
21
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
ِإن لكل تغير قواه الاجتماعية التي تجسده ،وتكون صاحبة مصلحة فيه ،ولكل منها
الأيديولوجية الخاصة بها مشتملة على مجموعة الأفكار والآراء والأحكام والقيم .وتتضمن نقدًا
واتهام ًا للنظام القائم ،وتقدم تبر ير ًا لهذا النقد والاتهام في إطار الرؤ ية الجديدة التي تصوغها
للواقع الاجتماعي .لتعمل على إظهار مواطن الضعف العام في النظام القائم ،وتهيئة المناخ
الف كري والاجت ماعي الم لائم لتق بل التغ ير ،بالإ ضافة إ لى أن ها تزود ا لأفراد بن سق الأف كار
والقيم والمعايير كمنظومة قيميه تصبح موجه ًا للسلوك ومحرك ًا للعمل فيما بعد( .)42وإزاء هذه
التحولات وأيديولوجياتها وفاعليت ها ولا سيما التحو لات الجار ية والمت سارعة ال تي تدلل دوم ًا
على أن التغير هو الأصل في المجتمعات أما الاستقرار أو الثبات فهو الاستثناء يتباين الموقف
الأولي :وفيها تمتلك المجتمعات بنية اجتماعية قو ية ،فتقف موقف ًاإ يجابي ًا وانتقائي ًا من
التحولات التي تتدفق حولها .بحيث تنتقي السمات والعناصر التي تحتاج إليها ،والتي ليس
لديها ما يناظرها ،و يكون انتقاؤها مسترشدًا بمرجعيتها وهويتها ،وبذلك يكون المجتمع مسيطرًا
على التحول الحادث في إطاره بما يسهم في تحول بنائه إلى الأفضل .وعلى الرغم من ذلك
فقد تأتى التحولات قسر ًا خارجة عن سيطرة المجتمع ونطاقه ،وإزائها يبتدع الأفراد آليات
مناوئةأولها :آليات المواجهةو يقصد بها تلك الأساليب والإجراءات الرسمية وغير الرسمية التي
تتخذ لمناوأة التغيرات غير المرجوة من طرف جماعة ما .وثانيهما :ميكانزمات التكيف وهي
الح يل وردود الأف عال الإ يجاب ية وال سلبيةالتي يب تدعها ا لأفراد للت عايش مع التغ يرات ال تي
تفرض عليهم وتصبح واقع ًا لا يمكن الفكاك منه .وفى الحالة الثانية تكون البنية الاجتماعية
هشة وضعيفة ،وتقف موقف ًا سلبيًا من التغيرات التي تحدث حولها ،ولا تستطيع الانتقاء من
بين العناصر المتغيرة ما يلائم طبيعت ها .بل ِإن حدودها مخ ترقة دائم ًا ي تدفق عبر ها أي شيء
20
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
حتى وان كان مخالف ًا لمرجعية التراث أو مرجعيتها بصفة عامة أو مؤدي ًا في النهاية إلى تآكل
الهو ية ليكون بذلك مجتمع ًا خاضع ًا وفاقدًا للسيطرة بما يسهم في إضفاء قدراته البنائية.
ويتو قف ن جاح التغ ير من عد مه ع لى شرطين رئي سيين ،ا لأول :يتع لق بالمنظو مة
الوجه الأول :ويمثل الحالة المثالية ويتوقف على قوة المنظومة القيمية بحيث تستطيع
من خ لال آل يات التن شئة وال ضبط الاجت ماعيين أن ي ستوعب الب شر القيم المؤس سة ل شرعية
الت حول ،و من ثم ي صبحون ال قوة الداف عة للت حول والحار سة لمنجزا ته( ،)43و بذلك ي خرج
التحول من إطاره الفوقي إلى إطاره التحتي المجتمعي ؛ الأمر الذي يعنى نجاح هذا التحول
مكملين لبعضهما البعض ،وبهدف جعل الأ شخاص في المجتمع يتصارعون للمعايير التي توحد
بالنسق الاجتماعي ،فإذا فشل التطبيع الاجتماعي في جعل الأ شخاص يتبعون المعايير فان
أ ما الو جه ال ثاني :ف يأتي التغ ير بمنظوم ته القيم ية ،غ ير أ نه لا يمت لك الآل يات الفعا لة
لتنشئة البشر وفق معاني هذه المنظومة ومن ثم تقع أحداث التحول ومنجزاته ،غير أن البشر
لي ست لديهم الم عاني ال تي تربطهم ب هذه الإن جازات ،و من ثم ي ظل الت حول ومنجزا ته قائم ًا
كمو ضوعات ل ها م ساحتها في الم كان ،غ ير أن معاني ها لم تت سلل إ لى ذوات الب شر لت شكل
قناعتهم ،التي يدافعون عنها وغالب ًا إذا ما جاءت المنظومة القيمية على هذه الشاكلة فتكون
21
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
بذلك مؤذنا بفشل التحول وانتهاء صلاحيته مبكرًا ولا سيما في حالة المجتمعات القو ية على
أما الوجه الثالث والأخير ،ففيه يقع التغير مصحوب ًا بمنظومته القيمية ليتعايش مع
()45
و في هذه الحا لة تت شكل العلا قة بين المنظو مة الثقاف ية والقيم ية القائ مة في المجت مع
المن ظومتين لتج سد ب عض العمل يات الاجتماع ية إ ما التوا فق Accommodationأو التمث يل
استيعاب المنظومات الأخرى ،فإن تعايش هذه المنظومات يسبب حالة شبيهة بحالة الأنومي
وربما يتجلى الصراع في صورته المطلقة .وإذا ما نجح التحول يتأسس عقدًا اجتماعي ًا ضمنيا ً
بين الحاكم (أ صحاب التحول) ،والمحكومين (المجتمع المستهدف بالتحول) على أسس الحكم
وطر يقة التعامل بين الطرفين ،وعلى العكس من ذلك يكون الحال في حالة فشل التحول.
ويتمثل الشرط الثاني في ن جاح التغير من عدمه في ضرورة أن تكون البيئة الإقليمية
والعالمية مواتية ،بحيث يكون بإمكانها استيعاب التحول .وتستوعب البيئة الخارجية التحول
في حالتين :الحالة الأولي أن يكون التغير متوافق ًا مع متطلبات البيئة الخارجية أو على الأقل
غير متناقض معها ،فالتغيرات التي حدثت في كثير من مجتمعات العالم الثاني والثالث في
الفترة الأخيرة بالتأكيد على الأيديولوجيات والسياسات الليبرالية ،نجحت لاتساقها مع قيم
واحتياجات ومصالح البيئة العالمية المؤكدة على عولمة الثقافة والسوق والتأكيد على القطاع
الخاص .وفي الحالة الثانية ،تكون البيئة الخارجية ضعيفة ،بحيث لا تستطيع الوقوف في وجه
الت حول ح تى وان لم ي كن مواتي ًا ل ها أو متكيف ًا مع ها ،فن جاح الت حول الاقت صادي اليا باني
تح قق لت طرف المو قع اليا باني في عالم لم ت كن موا صلاته و لا ات صالاته مت طورة بح يث تؤكد
وحدته ،ومن ثم تؤسس قوى عالمية موحدة ومضادة له .ون جح النمو الذري الهندي في عالم
22
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
()47
ال حرب ال باردة المنق سم ع لى ذاته ،و من ثم ال ضعيف في مواج هة التحو لات الداخل ية
ويبقي أول ًا وآخر ًا ؛ المجتمع المستهدف بالتحول وجمهوره هو المحك القويم للوقوف
على نجاح أو ف شل التحول عبر ما يجنيه من نفع أو ضرر مع مراعاة أنه لا تغير بدون ألم
فالتحولات كلها تدور حول فكرة التضحية ،وال كفاءة تتحقق عندما لا تتجاوز هذه التضحية
حدودها المعقو لة وتتنا سب مع العا ئد من ورائ ها .وتتح قق العدا لة ع ندما توزع الت ضحيات
بشكل لا يثير الشعور العام ،والذكاء يتمثل في اقتناص الفرص المتاحة وعدم تحمل تضحيات
لا مبرر لها أو المبالغة في تحميلها للبعض على حساب البعض الآخر( ،)48من أجل تحقيق
المراجع:
)1إبراهيم البيومي غانم وآخرون ،بناء المفاهيم :دراسة معرفية ونماذج تطبيقية ،القاهرة ،دار السلام للطباعةوالنشر والتوز يع
)2أحمد أبو زيد ،الثقافة :الإنسان والتنمية (عرض نظري) ،ندوة الثقافة والتنمية ،ضمن فعاليات مهرجان القرين الرابع عشر
)3أحمد زايد ،تناقضات الحداثة في مصر ،القاهرة ،الهيئة المصر ية العامة للكتاب.2006 ،
)4أحمد فؤاد باشا ،في التنوير العلمي ،القاهرة ،الهيئة المصر ية العامة للكتاب.2006 ،
)5آلان سوينجوود ،تاريخ النظر ية في علم الاجتماع ،الإسكندر ية ،دار المعرفة الجامعية.1996 ،
)6بوتو مور ،تمهيد في علم الاجتماع ،ترجمة محمد الجوهري وآخرون ،القاهرة ،دار المعارف ،ط (.1983 ،)6
)8السيد ياسين ،الحوار الحضاري في عصر العولمة ،القاهرة ،الهيئة المصر ية العامة للكتاب.2005 ،
23
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
)9طه حسين ،فلسفة ابن خلدون الاجتماعية :تحليل ونقد ،ترجمة محمد عبد الله عنان ،القاهرة ،الهيئة المصر ية العامة للكتاب،
.2006
عادل مختار الهواري ،دراسات نقدية في علم الاجتماع والتنمية ،القاهرة ،مكتبة نهضة الشرق.1980 ، )10
عبد الباسط عبد المعطي ،في نظر ية علم الاجتماع ،القاهرة ،دار ال كتب الجامعية.2005 ، )11
عبد الباسط محمد حسن ،علم الاجتماع :المدخل ،القاهرة ،مكتبة غريب ،ط (.1982 ،)2 )12
عبد الحميد لطفي ،علم الاجتماع ،القاهرة ،دار المعارف ،ط (.1978 ،)7 )13
عزيزة خرازي ،الاتجاهات النظر ية الحديثة في سوسيولوجيا التنمية ،الحوار المتمدن ،ع (.2008 ،)2175 )14
على ليلة ،نظر ية علم الاجتماع :النماذج الرئيسية ،الإسكندر ية ،المكتبة المصر ية ،ط (.2000 ،)4 )15
علي ليلة ،التحولات الاجتماعية والتعليم العالي في مصر :طبيعة العلاقة المتبادلة ،دراسة ضمن أعمال مؤتمر جامعة )16
القاهرة التعليم العالي في مصر :خر يطة الواقع واستشراف المستقبل ،خلال الفترة من 17-14فبراير .2005
علي ليلة ،قوي التغيير في المجتمع التقليدي واتجاهاته :البحث عن نموذج نظري ،بحث مقدم لمؤتمر قضايا التغير )17
الاجتماعي في المجتمع القطري خلال القرن العشرين ،جامعة قطر ،خلال الفترة 28 -25فبراير .1988
قباري محم د إسماعيل ،علم الاجتماع الألماني ،القاهرة ،الهيئة المصر ية العامة للكتاب.1971 ، )18
مجدي عبد الحافظ ،فكرة التطور عند فلاسفة الإسلام ،ترجمة هدي كشرود ،القاهرة ،الهيئة المصر ية العامة للكتاب، )19
.2007
محمد الجوهري وآخرون ،دراسة علم الاجتماع ،القاهرة ،دار المعارف.1982 ، )20
محمد الغريب عبد ال كريم ،الاتجاهات الفكر ية في نظر ية علم الاجتماع المعاصر ،القاهرة ،مكتبة نهضة الشرق.1980 ، )21
محمد حافظ دياب ،الثقافة ،القاهرة ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ،سلسلة الشباب ،ع (.2003 ، )3 )22
محمد عاطف غيث ،الموقف النظري في علم الاجتماع المعاصر ،الإسكندر ية ،دار المعرفة الجامعية.1982 ، )24
نبيل رمزي ،النظر ية السوسيولوجية المعاصرة :أصولها الكلاسيكية واتجاهاتها المحدثة (قراءات و بحوث)، )25
نيقولا تيماشيف ،نظر ية علم الاجتماع :طبيعتها وتطورها ،ترجمة محمد عودة وآخرون ،دار المعارف.1996 ، )26
24
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
)27 Peter Scott, Reflections on the Reform of Higher Education in Central and Eastern Europe,
Online,2007.<http://www.search.eb.com/eb/article-9068438>.
الهوامش:
)1إبراهيم البيومي غانم وآخرون ،بناء المفاهيم :دراسة معرفية ونماذج تطبيقية ،القاهرة ،دار السلام للطباعةوالنشر والتوز يع
والترجمة ،ج (.2008 ،)1
)2بوتومور ،تمهيد في علم الاجتماع ،ترجمة محمد الجوهري وآخرون ،القاهرة ،دار المعارف ،ط ( ،1983 ،)6ص .363
) 3محمد الجوهري وآخرون ،دراسة علم الاجتماع ،القاهرة ،دار المعارف ،1982 ،ص.54
)4محمد عاطف غيث ،الموقف النظري في علم الاجتماع المعاصر ،الإسكندر ية ،دار المعرفة الجامعية ،1982 ،ص ص .36 ،1
)5بوتومور ،مرجع سابق ،ص.45
) 6طه حسين ،فلسفة ابن خلدون الاجتماعية :تحليل ونقد ،ترجمة محمد عبد الله عنان ،القاهرة ،الهيئة المصر ية العامة للكتاب،
،2006ص.59
)7عبدالباسطمحمدحسن،علمالاجتماع :المدخل،القاهرة،مكتبةغريب،ط( ،1982 ،)2ص.512
)8بوتومور ،مرجع سابق ،ص ص.554 ،553
) 9عزيزة خرازي ،الاتجاهات النظر ية الحديثة في سوسيولوجيا التنمية ،الحوار المتمدن ،ع (.2008 ،)2175
) 10أحمد أبو زيد،الثقافة :الإنسان والتنمية (عرض نظري) ،ندوة الثقافة والتنمية ،ضمن فعاليات مهرجان القرين الرابع عشر
بال كويت ،خلال الفترة من 25نوفمبر إلي 12ديسمبر ،2007ص.10
) 11قباريمحمدإسماعيل،علمالاجتماعالألماني،القاهرة،الهيئةالمصر يةالعامةللكتاب ،1971 ،ص.392
)12أحمد أبو زيد ،مرجع سابق ،ص ص.16 - 11
) 13نبيلرمزي،النظر يةالسوسيولوجيةالمعاصرة :أصولهاالكلاسيكيةواتجاهاتهاالمحدثة (قراءاتو بحوث)،الإسكندر ية،دارالفكرالجامعي،
،2002ص.257
) 14أحمدزايد ،تناقضاتالحداثةفيمصر،القاهرة،الهيئةالمصر يةالعامةللكتاب ،2006 ،ص.137
)15نبيل رمزي ،مرجع سابق ،ص.256
) 16محمد حافظ دياب ،الثقافة ،القاهرة ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ،سلسلة الشباب ،ع ( ،2003 ،)3ص ص .86 ، 84
)17محمد عابد الجابري ،صراع الحضارات أم توازن المصالح.>.http://www.nawaat.org>2005/2/21 ،
)18أحمد أبو زيد ،مرجع سابق ،ص ص.10 ،9
) 19نيقولاتيماشيف،نظر يةعلمالاجتماع :طبيعتهاوتطورها،ترجمةمحمدعودةوآخرون،دارالمعارف،1996 ،ص.248
) 20على ليلة ،نظر ية علم الاجتماع :النماذج الرئيسية،الإسكندر ية ،المكتبة المصر ية ،ط( ،2000،)4ص.545
25
التغير االجتماعي في الوطن العربي المعاصر
26
View publication stats