Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 171

‫الضد ّية‬

‫الثنائيات ّ‬
‫بحث في المصطلح وداللته‬

‫تأليف‪ :‬سمر الديوب‬


‫ّ‬
‫هوية الكتاب‬

‫•الكتاب‪ :‬الثنائيات الض ّدية‪ :‬بحث يف املصطلح وداللته‬

‫•تأليف‪ :‬سمر الديّوب‬

‫•النارش‪ :‬املركز اإلسالمي للدراسات االسرتاتيجية‬


‫العتبة العباسية املقدسة‬

‫•الطبعة‪ :‬األوىل ‪2017‬م ـ ‪1439‬هـ‬


‫الفهرس‬

‫‪9‬‬ ‫مقدمة‪ -‬اإليقاع الثنايئ‬


‫‪......................................................................‬‬

‫الفصل األول‬
‫الثنائيات الضدية‪ :‬ذاكرة املصطلح‬
‫‪15‬‬ ‫‪..........................................‬‬ ‫‪-‬الثنائيات الضدية لغــة واصطالح ـاً‬
‫‪23‬‬ ‫‪................‬‬ ‫‪-‬الثنائيات الضدية واملصطلحات املتعارضة معها‬
‫‪27‬‬ ‫‪................‬‬ ‫‪-‬الثنائيات الضدية واملصطلحات املتداخلة معها‬
‫‪34‬‬ ‫‪..............................................‬‬ ‫‪-‬طبيعة الثنائيــات الضدية وبنيتهــا‬
‫‪36‬‬ ‫‪................‬‬ ‫‪-‬الثنائيات الضدية وعالقتها بطبيعة النفس البرشية‬

‫الفصل الثاين‬
‫الثنائيات الضدية والعلم‬
‫‪45‬‬ ‫‪.................................‬‬‫‪-‬حضور الثنائيات الضدية يف علم الطاقة‬
‫‪52‬‬ ‫‪-‬ثنائية الني واليانغ وعنارص الطبيعة الخمسة‬
‫‪............................‬‬

‫‪55‬‬ ‫‪...‬‬‫‪-‬الثنائيات الضدية وفقاً للعلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية‬


‫الفصل الثالث‬
‫الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي‬
‫‪65‬‬ ‫‪..........................................‬‬ ‫‪ -‬بناء الفلسفة عىل الثنائيات الضدية‬
‫‪66‬‬ ‫‪-‬الثنائيات الضدية يف الفلسفة القدمية‬
‫‪.......................................‬‬

‫‪74‬‬ ‫‪......‬‬‫‪-‬الصوفية والبعد الفلسفي املبني عىل الثنائيات الضدية‬


‫‪76‬‬ ‫‪..................................................................‬‬‫‪-‬أشكال إيرش املجازية‬
‫‪80‬‬ ‫‪.........................................‬‬ ‫‪-‬الفلسفة الحديثة والثنائيات الضدية‬
‫الفهرس‬

‫الفصل الرابع‬
‫الثنائيات الضدية يف الرتاث الفلسفي العريب واإلسالمي‬
‫‪84‬‬ ‫‪..............................................‬‬ ‫‪-‬الثنائيات الضدية لــدى الفــارايب‬
‫‪92‬‬ ‫‪....................................‬‬‫‪-‬الثنائيات الضدية يف فلســفة ابن ســينا‬
‫‪100‬‬ ‫‪..............................‬‬ ‫‪-‬ثنائيــة عقل‪ /‬نقل بني ابن رشــد والغــزايل‬
‫‪103‬‬ ‫‪..........................................‬‬‫‪-‬األدب الفلسفي والثنائيات الضدية‬

‫الفصل اخلامس‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية‬
‫‪122‬‬ ‫‪.............................................‬‬‫‪-‬الثنائيات الضدية يف النقد األديب‬
‫‪124‬‬ ‫‪......................................................................................‬‬ ‫‪-‬الرومانسية‬
‫‪126‬‬ ‫‪.......................................................................................‬‬ ‫‪-‬املاركسية‬
‫‪131‬‬ ‫‪.............................................................................................‬‬‫‪-‬البنيوية‬
‫‪144‬‬ ‫‪-‬ما بعــد البنيويــة‬
‫‪.............................................................................‬‬

‫‪154‬‬ ‫‪-‬بني البنيوية والتفكيكية‬


‫‪.................................................................‬‬

‫‪156‬‬ ‫‪...........................‬‬‫‪-‬الثنائيــات الضدية يف الفكر العريب القديــم‬


‫‪158‬‬ ‫‪-‬الثنائيــات الضدية يف النقد العريب الحديــث‬
‫‪........................‬‬

‫‪161‬‬ ‫‪.................................‬‬ ‫‪-‬جاملية الثنائية الضدية “األثــر والتلقــي"‬


‫‪167‬‬ ‫خامتة ‪ -‬مآل املعابر‬
‫مقدمة املركز‬

‫تدخل هذه السلسلة التي يصدرها املركز اإلسالمي للدراسات‬


‫اإلسرتاتيجية يف سياق منظومة معرفية يعكف املركز عىل تظهريها‪،‬‬
‫وتهدف اىل درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت وملا تزل مرتكزات‬
‫أساسية يف فضاء التفكري املعارص‪.‬‬
‫وسعياً اىل هذا الهدف وضعت الهيئة املرشفة خارطة برامجية شاملة‬
‫للعناية باملصطلحات واملفاهيم األكرث حضورا ً وتداوالً وتأثريا ً يف‬
‫العلوم اإلنسانية‪ ،‬وال سيام يف حقول الفلسفة‪ ،‬وعلم اإلجتامع‪ ،‬والفكر‬
‫السيايس‪ ،‬وفلسفة الدين واالقتصاد وتاريخ الحضارات‪.‬‬
‫أما الغاية من هذا املرشوع املعريف فيمكن إجاملها عىل النحو التايل‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬الوعي باملفاهيم وأهميتها املركزية يف تشكيل وتنمية املعارف‬
‫والعلوم اإلنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها‪ ،‬وبالتايل التعامل معها‬
‫كرضورة للتواصل مع عامل األفكار‪ ،‬والتعرف عىل النظريات واملناهج‬
‫التي تتشكل منها األنظمة الفكرية املختلفة‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬إزالة الغموض حول الكثري من املصطلحات واملفاهيم التي‬
‫غالباً ما تستعمل يف غري موضعها أو يجري تفسريها عىل خالف املراد‬
‫منها‪ .‬ال سيام وأن كثريا ً من اإلشكاليات املعرفية ناتجة من اضطراب‬
‫الفهم يف تحديد املفاهيم والوقوف عىل مقاصدها الحقيقية‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬بيان حقيقة ما يؤديه توظيف املفاهيم يف ميادين االحتدام‬
‫الحضاري بني الرشق والغرب‪ ،‬وما يرتتب عىل هذا التوظيف من آثار‬
‫سلبية بفعل العوملة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها املجتمعات‬
‫‪ 8‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫العربية واإلسالمية وخصوصاً يف الحقبة املعارصة‪.‬‬


‫رابعاً‪ :‬رفد املعاهد الجامعية ومراكز األبحاث واملنتديات‬
‫الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة املفهوم ومعناه ودالالته‬
‫صالته‬‫اإلصطالحية‪ ،‬ومجال استخداماته العلمية‪ ،‬فضالً عن ِ‬
‫وارتباطه بالعلوم واملعارف األخرى‪ .‬وانطالقاً من البعد العلمي‬
‫واملنهجي والتحكيمي لهذا املرشوع فقد حرص المركز عىل أن‬
‫يشارك يف إنجازه نخبة من كبار األكادمييني والباحثني واملفكرين‬
‫من العاملني العريب واإلسالمي‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫يف هذه الحلقة من سلسلة مصطلحات معارصة تكتب الباحثة‬
‫السوريّة د‪ .‬سمر الديّوب حول مفهوم "الثنائيات الضديّة" بوصفه‬
‫ظاهرة فلسفية متت ّد إىل مجموعة من العلوم اإلنسانية وال سيام‬
‫يف مجال النقد األديب‪ .‬حيث أ ّن أول من ط ّبقها يف هذا املجال هي‬
‫املدرسة البنيوية الغربية‪ ،‬ولفهمه بأبعاده كلها سعت الباحثة إىل‬
‫بيان أصله الفلسفي؛ ثم أجرت تقييامً نقديّاً لهذا املصطلح يف إطار‬
‫اختباراته يف حقل علم االجتامع‪ ،‬وعلم النفس‪ ،‬فضالً عن الفلسفة‬
‫التي شكلت األرض الخصبة له‪.‬‬
‫والله ويل التوفيق‬
‫مقدمة‬

‫اإليقاع الثن�ايئ‬
‫تع ّد فرضية الثنائية (‪ )Binary Assumption‬من املوضوعات التي أثارت‬
‫دهشة اإلنسان يف مسرية تاريخ الفكر البرشي‪ ،‬فثمة طرفا ثنائية متضادان يف‬
‫الكون‪ ،‬مثل‪ :‬زيادة‪ /‬نقصان‪ ،‬ذكر‪ /‬أنثى‪ ،‬سلب‪ /‬إيجاب‪ ...‬ويرى بعضهم أن‬
‫هذه األضداد يبحث الطرف منها عن طرفه اآلخر؛ ليتحدا معاً مك ّونني الوحدة‬
‫األصلية‪ ،‬ويرى آخرون أن هذه األضداد تقوم عىل رصاع أبدي بعضها مع‬
‫بعض ويرون أن هذا الرصاع مصدر الخلق‪ ،‬والتوليد؛ الستمرار الحياة‪.‬‬
‫فحني درس العلامء ـ عىل سبيل املثال ـ املغناطيسية وارتباطها‬
‫باملالحة بوساطة البوصلة اعتمدوا عىل تقسيم ثنايئ‪ ،‬إىل قطبني شاميل‬
‫وكل منهام يبحث عن اآلخر‪ ،‬وهي نفسها الفكرة التي قامت‬
‫وجنويب‪ّ ،‬‬
‫عليها الفلسفة الصينية القدمية‪ ،‬ثنائية الني واليانغ‪ ،‬فالكون ـ حسب هذه‬
‫الفلسفة ـ يتشكل من ثنائيات ضدية تجتمع يف مقام واحد‪ ،‬ويسعى كل‬
‫طرف من طرفيها إىل الطرف اآلخر؛ ألن يف وجودهام معاً اتحادا ً وتكامالً‪.‬‬
‫ويف العرص الحديث تم التقسيم إىل كهرباء سالبة‪ ،‬وكهرباء موجبة‪ ،‬وال‬
‫يقوى طرف واحد منهام عىل النهوض والعمل بنفسه‪ ،‬وهكذا‪...‬‬
‫للثنائية ـ إذن ـ تأثري قوي يف الرصاع‪ ،‬واستمرار الحياة عىل األرض‪،‬‬
‫وتُظهر الثنائية منظومة فكرية فلسفية حياتية متكاملة‪ ،‬ويبنى عىل أساس‬
‫يئ للعامل‪ ،‬وبنيته؛ ألنه مرتبط بالثنائية حيث التضاد‪،‬‬
‫الثنائية اإليقا ُع الثنا ّ‬
‫وكل طرف من طريف الثنائية يس ّوغ وجود اآلخر‪.‬‬
‫والتوازي‪ّ ،‬‬
‫‪ 10‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫والثنائيات الضدية ثنائيات كونية‪ ،‬عالقتها بالوجود عالقة دينامية‪،‬‬


‫متالزمة كثنائية النور‪ /‬الظالم‪ ،‬والبقاء‪ /‬الفناء‪ ...‬تبنى عىل هذه الثنائيات‬
‫منظومة فكرية فلسفية دينية أسطورية علمية نقدية‪ ،‬وتتجىل يف األدب‪.‬‬
‫وتشكل كل ثنائية منظومة عالئقية أسطورية بدءا ً بأساطري الخلق‪،‬‬
‫واملعتقدات القدمية‪ ،‬وصوالً إىل الفلسفة واألدب والسياسية وعلم‬
‫الطاقة‪ ،‬وتنتج الثنائيات ثنائيات جديدة‪ ،‬فالثنائيات الضدية تندرج يف‬
‫مقام واحد‪.‬‬
‫والثنائيات الضدية موجودة منذ األزل‪ ،‬لك ّن طريف الثنائية يتوحدان يف‬
‫واحد كيل‪ ،‬فحني تشري الثنائية إىل التعدد تنتهي إىل الوحدة‪ ،‬والتكامل‪.‬‬
‫فالرش ال يناقض يف جوهره الخري‪ ،‬ولكنه مت ّمم له‪ ،‬والزم لوجوده‪ ،‬فال‬
‫تظهر الفضيلة إال باقرتانها بالضد‪ ،‬وال معنى للكرم من غري اقرتانه بالضد‪،‬‬
‫فال بد لكل يشء من ض ّد مييزه‪ ،‬ويوضّ حه‪ ،‬وقدمياً قال الشاعر‪:‬‬
‫رس من التعب‬
‫تأيت إال عىل ج ٍ‬ ‫برصتُ بالراح ِة الكربى فلم أرها‬
‫ح ُبها عىل النقد األديب‪،‬‬
‫والثنائيات الضدية ظاهرة فلسفية أساساً‪ ،‬ت ّم َس ْ‬
‫وأول من ط ّبقها عىل األدب البنيويون‪ ،‬ويع ّد هذا املصطلح مفردة من‬
‫مفردات الثقافة الغربية‪ ،‬ميثّل أسساً فلسفية بالدرجة األوىل‪ ،‬له أبعاد‬
‫إيديولوجية وفلسفية موغلة يف القدم‪ ،‬ولفهمه بأبعاده كلها البد من العودة‬
‫يتعي عىل ذلك دراسته يف حقل‬
‫إىل أصله الفلسفي؛ ليتضح معناه‪ ،‬ث ّم ّ‬
‫النقد األديب الذي استفاد من اصطالحات علم االجتامع‪ ،‬وعلم النفس‪..‬‬
‫ومن الفلسفة التي شكلت األرض الخصبة له‪.‬‬
‫وقد قسمنا الدراسة إىل مقدمة‪ ،‬وخمسة فصول‪ ،‬وخامتة‪ .‬تحدثنا يف الفصل‬
‫األول عن الثنائيات الضدية لغة واصطالحاً‪ ،‬وف ّرقنا بينها وبني املصطلحات‬
‫‪11‬‬ ‫مقدمة‬

‫وفصلنا يف املصطلحات‬
‫املتعارضة معها كالتناقض والثّنوية والتناظر‪ّ ،‬‬
‫املتداخلة معها كالجدل‪ ،‬والتقابل‪ ،‬واملفارقة‪ ،‬والطباق‪ ،‬والتكافؤ‪.‬‬
‫ودرسنا يف الفصل الثاين حضور الثنائيات الضدية يف علم الطاقة‪،‬‬
‫ووجدنا أن أية ظاهرة مشكّلة من اجتامع ثنائيات ضدية فيها‪ ،‬وتحدثنا عن‬
‫طاقتي الني واليانغ املتضادتني‪ ،‬واللتني تعمالن بشكل متناوب‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬
‫تناوبهام تنشأ مظاهر الكون‪ ،‬ودرسنا العنارص الخمسة املشكّلة للطبيعة‪،‬‬
‫والعالقات الضدية التي تحكمها‪ ،‬والبعد الثالث الذي نعيش فيه‪ ،‬املحكوم‬
‫مبنطق الثنائيات الضدية‪ ،‬وبدراسة بعض املظاهر يف الرياضيات والفيزياء‬
‫والكيمياء تبني الحضور القوي للتقابالت الثنائية يف مختلف العلوم‪.‬‬
‫ودرسنا يف الفصل الثالث عالقة الثنائيات الضدية بالفلسفة‪ ،‬فالثنائية‬
‫الضدية من املالمح البارزة لفلسفة أفالطون‪ ،‬ومن بعده ديكارت‪ ،‬وكانت‪،‬‬
‫وقد وجدنا أن الفلسفة بنيت عىل ثنائيات ضدية كثنائية الوحدة‪ /‬الكرثة‪،‬‬
‫وثنائية حدوث الوجود‪ /‬قدمه‪ ،‬وثنائية الطبيعي‪ /‬فوق الطبيعي‪ .‬ودرسنا‬
‫وجود الثنائيات يف الفلسفة القدمية كالفلسفة الصينية “الني واليانغ” وفلسفة‬
‫الكامي اليابانية‪ ،‬واملانوية‪ ،‬والبوذية‪ ،‬ووجدنا يف الصوفية بعدا ً فلسفياً مبنياً‬
‫عىل الثنائيات الضدية‪ ،‬ووجدنا أثرا ً لها يف الفن التشكييل لدى الفنان‬
‫املبدع “إيرش” فتقوم رسوماته عىل بعد ثنايئ تقابيل ذي طابع فلسفي‪.‬‬
‫وبحثنا يف الفصل الرابع يف الجانب الفكري والفلسفي العريب‬
‫واإلسالمي‪ ،‬فوجدنا أن الفلسفة العربية واإلسالمية أولت الثنائيات الضدية‬
‫أهمية كربى‪ ،‬فرصدنا حضور هذه الثنائيات‪ ،‬وفاعليتها لدى الفارايب‬
‫ومدينته الفاضلة ومضاداتها‪ ،‬ووجدنا أن فكر ابن سينا الفلسفي بحث يف‬
‫التضاد والتناقض بوضوح‪ ،‬وأولينا عنايتنا الهتامم ابن رشد املائز بالثنائيات‬
‫الضدية‪ ،‬فدرسنا حضور ثنائية عقل ونقل لديه‪ ،‬ولدى الغزايل‪.‬‬
‫‪ 12‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫رصدنا حضور هذه الثنائيات يف األدب الفلسفي‪ ،‬فوجدناها يف عينية ابن‬


‫سينا يف النفس‪ ،‬ويف أدب أيب حيان التوحيدي‪ ،‬فرصدنا الثنائيات الضدية يف‬
‫العينية‪ ،‬واهتممنا بثنائية السؤال والتساؤل لدى أيب حيان التوحيدي‪.‬‬
‫وتتبعنا يف الفصل الخامس الثنائيات الضدية‪ ،‬وحضورها يف املدارس‬
‫كل مدرسة عىل أساس فلسفي‪ ،‬ظهر‬ ‫النقدية الغربية الكربى‪ ،‬فقد قامت ّ‬
‫يف النقد‪ ،‬وظهر جلياً نهوض البنيوية عىل ثنائيات ضدية‪ ،‬ومن بعدها‬
‫التاريخانية الجديدة‪ ،‬ووازنا بني استعامل النقاد الغربيني هذا املصطلح‬
‫واستعامل النقاد العرب‪ ،‬وتحدثنا عن أثر الثنائيات الضدية يف إضفاء سمة‬
‫شعرية جاملية عىل النص األديب‪.‬‬
‫من أكرث الصعوبات التي واجهت البحث انعدام املراجع واملصادر‬
‫املعنونة بالثنائيات الضدية‪ ،‬وبهذه املناسبة أتوجه بالشكر ألخي الدكتور‬
‫املهندس عامر الديوب الذي أمدين بكثري من مراجع البحث‪ ،‬وكان‬
‫لنقاشه أثر كبري يف تطور أفكار هذه الدراسة‪ ،‬ونرجو أن تكون هذه الدراسة‬
‫املتواضعة قد قدمت املرجو منها‪.‬‬

‫يل التوفيق‬
‫والله و ّ‬
‫أ‪.‬د‪ .‬سمر الديوب‬
‫حمص يف ‪2017/3/1‬‬
‫الفصل األول‬
‫الثنائيات ّ‬
‫الضدية‪:‬‬
‫ذاكرة المصطلح‬
‫مقدمة‬ ‫ ‬

‫ميثّل املصطلح مفتاح العلم‪ ،‬ونواة وجوده‪ ،‬وال ميكن للعلوم‬


‫واملعارف أن تؤسس مفاهيمها من غري ضبط جهازها املصطلحي‪،‬‬
‫وتتوسل املصطلحات باللغة لتحديد املقصود منها‪ .‬ويبنى العلم عىل‬
‫النسقني املفهومي واملصطلحي‪ ،‬ويع ّد املصطلح الضامن الوحيد لنشأة‬
‫العلوم وتط ّورها‪ ،‬فاملصطلحات تسميات لغوية للمفاهيم‪ ،‬ووحدات رمزية‬
‫تعب عن املفهوم‪ ،‬كام يبني علم الرياضيات مصطلحاته عىل الرموز‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقد تتش ّعب مسارات املصطلح‪ ،‬ويصعب تأسيس املفهوم‪ ،‬وهو‬
‫األمر الذي يؤدي إىل اختالف املناهج‪ ،‬وتنوع مقارباتها‪ ،‬ونظرياتها‪.‬‬
‫وقد انتقلت آثار هذا التعدد‪ ،‬واالختالف إىل املصطلحية العربية؛ إذ‬
‫أنتج هذا التنوع خلطاً مصطلحياً عجيباً يف التصور واملفهوم والرتجمة‪،‬‬
‫فأدّى ذلك إىل كرثة العوائق التي حالت دون نشأ ٍة مصطلحية عربية أصيلة‪،‬‬
‫فقد ش ّوهت الرتجامت الخاطئة املنقول‪ ،‬وزادت من عوائق تأسيس‬
‫املفهوم عند العرب‪ ،‬واتسمت املصطلحات العربية بالفوىض الناجمة‬
‫عن عدم إدراك املفهوم يف أصوله‪ ،‬وكيفية ترجمته‪.‬‬
‫ومن هذه املصطلحات التي انتقلت إىل العربية مصطلح الثنائيات‬
‫الضدية‪ ،‬فنجد ظالالً له يف نقدنا القديم‪ ،‬كام نجد مصطلحات كثرية‬
‫متداخلة فيه‪ ،‬وأخرى مختلفة عنه‪ .‬فام األصل اللغوي‪ ،‬وما الداللة‬
‫االصطالحية للثنائيات الضدية؟‬
‫‪15‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫‪ - 1‬الثنائيات الضدية (‪ )Binary 0ppositions‬لغة واصطالحاً‬


‫تعود الثنائيات إىل الجذر الثاليث ث ن ي‪ ،‬ومن معانيها تكرار اليشء‬
‫والثّني‪ :‬ر ّد اليشء بعضه عىل بعض[[[ وقيل‪ :‬إن الثنايئ‬ ‫[[[‬
‫مرتني متواليتني‬
‫من األشياء ما كان ذا شقني ‪.‬‬
‫[[[‬

‫يتعني عىل ما سبق أن دالالت الثنائيات تفرتض وجود طرفني‪ ،‬وتعتمد‬


‫عىل التثنية‪ ،‬وهذان االثنان قد يكونان متواليني‪ ،‬أو معطوفني‪ ،‬أو متزامنني‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويدل املعنى اللغوي للثنائيات عىل ما هو أكرث من الواحد مهام كان‬
‫عدد الثنائيات‪ ،‬فقد تتعدد الثنائيات‪ ،‬لكنها تظل تدور يف فلك الرقم اثنني‪.‬‬
‫ويعني لفظ الثنائية ضعف العدد واحد‪ ،‬وقد يكون هذا الضّ عف‬
‫شبيهه‪ ،‬أو نظريه‪ ،‬أو ض ّده‪ ،‬ويعني هذا األمر أن العدد واحد يشكّل مع‬
‫كل‬
‫واحد آخر ثنائية مهام كانت العالقة بينهام‪ ،‬ويف هذه الحال يالزم ّ‬
‫طرف من طريف الثنائية اآلخر‪ ،‬وال ّ‬
‫ينفك عنه‪ ،‬وإذا كان قابالً لالنفكاك‬
‫عنه انتفت عنه صفة الثنائية‪.‬‬
‫ويختلف املعنى االصطالحي عن املعنى اللغوي من جهة عمقه‪،‬‬
‫وأبعاده الفلسفية والعلمية‪ ،‬فقد ع ّرفها املعجم الفلسفي بأنها “الثنايئ‬
‫املفسة‬
‫ّ‬ ‫من األشياء ما كان ذا شقني‪ ،‬والثنائية هي القول بزوجية املبادئ‬
‫للكون‪ ،‬كثنائية األضداد وتعاقبها‪ ،‬أو ثنائية الواحد واملادة ‪ -‬من جهة ماهية‬
‫مبدأ عدم التعيني ‪ -‬أو ثنائية الواحد وغري املتناهي عند الفيثاغورثيني أو‬
‫ثنائية عامل املثل وعامل املحسوسات عند أفالطون ‪ ...‬الخ‪ ،‬والثنائية‬
‫[[[ـ ثني من تكرير اليشء مرتني‪ ،‬أو جعله شيئني متواليني أو متباينني‪ ،‬والثني‪ :‬األمر يعاد مرتني‪ ،‬يقال للمرأة‬
‫ثني إذا ولدت اثنني‪ .‬انظر أحمد بن فارس بن زكريا‪ ،2008 :‬مقاييس اللغة‪ ،‬بعناية محمد عوض مرعب‪ ،‬وفاطمة‬
‫محمد أصالن‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬مادة ثني‪.‬‬
‫رصت له ثانياً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫[[[ـ ثنى اليشء ثنياً‪ :‬ر ّد بعضه عىل بعض‪ ،‬ثنيت اليشء ثنياً‪ :‬عطفته‪ ،‬ومنها يقال‪ :‬ثنيته‪ :‬إذا‬
‫وث ّنيته تثنية؛ أي جعلته اثنني‪ ،‬وجاء القوم مثنى مثنى؛ أي اثنني اثنني‪ .‬انظر ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة ثني‬
‫[[[ـ جميل صليبا‪ ،‬املعجم الفلسفي‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬ج‪379/1‬‬
‫‪ 16‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫مرادفة لالثنينية‪ ،‬وهي كون الطبيعة ذات مبدأين‪ ،‬ويقابلها كون الطبيعة‬
‫ذات مبدأ واحد‪ ،‬أو عدة مبادئ (الثنوية واالثنينية)”[[[‪.‬‬
‫فاالثنينية هي كون الطبيعة ذات وحدتني‪ ،‬أو هي كون اليشء الواحد‬
‫مشتمالً عىل ح ّدين متقابلني‪ ،‬ومتطابقني كتقابل الفكر‪ ،‬والعمل‪.‬‬
‫ويعني الكالم السابق أن االثنينية تفرتض اشتامل اليشء عىل مبدأين‬
‫مستقلني ال يذوب أحدهام يف اآلخر‪ ،‬وال يشبهه‪ ،‬كالظالم والنور‪ ،‬والليل‬
‫والنهار‪.[[[ ...‬‬
‫إن الثنائيات الضدية نظرة فلسفية عميقة‪ ،‬تتجاوز الجمع املبارش‪،‬‬
‫والسطحي بني طرفني‪ .‬فهذان الطرفان تربطهام رابطة هي رابطة‬
‫التضاد؛ إذ يجتمع الخري والرش‪ ،‬أو الظالم والنور يف ثنائيات ضدية ال‬
‫متناقضة‪ ،‬فثمة عالقة بني املتضادّين املجتمعني يف ثنائية‪ ،‬فال ينفي‬
‫أحدهام اآلخر‪ ،‬بل يدخالن يف عالقة تواز‪ ،‬وبهذا الشكل ال يتناقضان‪،‬‬
‫لكل‬
‫بل يتكامالن‪ .‬فحقيقة الوجود تنطوي عىل تقابل دائم بني طرفني‪ّ ،‬‬
‫منهام قوانينه الخاصة‪.‬‬
‫وقد حملت اللغة العربية الثنائيات الضدية‪ ،‬ففي القرآن الكريم ثنائيات‬
‫ضدية يف مواضع متعددة‪ ،‬ميكن أن نشري إىل بعضها‪:‬‬
‫ب الخري لشديد)[[[ (وعىس‬ ‫‪ -‬ثنائية الخري‪ /‬الرش‪ :‬يقول تعاىل‪(:‬وإنه ل ُ‬
‫ح ِّ‬
‫أن تكرهوا شيئاً وهو خري لكم‪ ،‬وعىس أن تحبوا شيئاً وهو ّ‬
‫رش لكم‪ ،‬والله‬

‫[[[ـ جميل صليبا‪ :‬د‪ .‬ت‪ ،‬املعجم الفلسفي‪ ،‬ص ‪.379‬‬


‫[[[ـ جاء يف موسوعة الحضارات أن الثنوية هم الذين يقولون بأصلني للوجود مختلفني متام االختالف‪ ،‬لكل‬
‫منهام وجود مستقل يف ذاته‪ ،‬ومن غري هذين األصلني ال ميكن فهم طبيعة الكون‪ .‬انظر‪ :‬عيىس الحسن‪،2007 :‬‬
‫موسوعة الحضارات‪ ،‬األهلية للنرش والتوزيع‪ ،‬األردن‪ ،‬ص‪246‬‬
‫[[[ـ العاديات‪8 :‬‬
‫‪17‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫لعب‬
‫خري) (وما الحياة الدنيا إال ٌ‬
‫[[[‬
‫يعلم وأنتم ال تعلمون) (والصلح ٌ‬
‫[[[‬

‫ولهو‪ ،‬وللدار اآلخر ُة خري للذين يتقون أفال تعقلون)[[[ (وقيل للذين اتقوا‬
‫ماذا أنزل بكم قالوا خريا)[[[‪.‬‬
‫لقد وضّ ح تعاىل مفهوم الخري لإلنسان الذي يستخلص أحياناً‬
‫مفهومات خاطئة للخري من غرائزه‪ ،‬فالله تعاىل هو الذي يضع املقاييس‬
‫رش مقابل خري اآلخرة‪،‬‬
‫الصحيحة للخري فيام يتعلق بشؤون الحياة‪ ،‬والدنيا ّ‬
‫وطاعة الله يف الحياة الدنيا تعيل من قدره عند الله‪ .‬فثمة جانب نوراين‬
‫يحض عليه ميثل الخري‪ ،‬يقابله جانب مظلم ميثل الرش‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أخالقي‬
‫‪ -‬ثنائية الظلامت‪ /‬النور‪ :‬يقول تعاىل‪( :‬الحمد لله الذي خلق السموات‬
‫واألرض وجعل الظلامت والنور)[[[ وردت الظلامت بصيغة الجمع قبل‬
‫النور‪ ،‬فيمثل النور يف الكون نسبة ضئيلة من املجال غري املريئ الشاسع‬
‫جدا ً‪ ،‬يظهر عىل شكل لون أسود َّ ٍ‬
‫معب عنه بالظلامت‪ .‬فثمة مجال مريئ‪،‬‬
‫ومجاالت غري مرئية للموجات الكهرومغناطيسية‪.‬‬
‫‪ -‬ثنائية األمر باملعروف‪ /‬النهي عن املنكر‪ :‬يقول تعاىل‪( :‬ولتكن منكم‬
‫أمة يدعون إىل الخري‪ ،‬ويأمرون باملعروف‪ ،‬وينهون عن املنكر‪ ،‬وأولئك‬
‫هم املفلحون)[[[‪ ،‬فالفالح يف الدنيا واآلخرة مرتبط بالعوة إىل الخري‪،‬‬
‫واألمر باملعروف‪ ،‬والنهي عن املنكر‪.‬‬
‫وبني كتاب نهج البالغة ـ عىل سبيل املثل عىل تقابالت ضدية‬

‫[[[ـ البقرة‪216 :‬‬


‫[[[ـ النساء‪128 :‬‬
‫[[[ـ األنعام‪32 :‬‬
‫[[[ـ النحل‪30 :‬‬
‫[[[ـ األنعام‪1 :‬‬
‫[[[ـ آل عمران‪104 :‬‬
‫‪ 18‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫عميقة‪ ،‬وهو يتسم مبستوى جاميل عال‪ ،‬فهو نرث شعري‪ ،‬والشعرية هي‬
‫املحور الرئيس يف نهج البالغة؛ إذ يرتقي هذا الكتاب إىل ذروة الشعرية‬
‫بوفرة الثنائيات الضدية‪ .‬من ذلك‪:‬‬
‫‪“-‬أيها الناس ال تستوحشوا يف طريق الهدى لقلة أهله‪ ،‬فإن الناس قد‬
‫اجتمعوا عىل مائدة شب ُعها قصري‪ ،‬وجوعها طويل”[[[‪.‬‬
‫مثة دالالت مركزة تنطوي عىل جملة ثنائيات‪ ،‬منها‪ :‬اإلنسان الصالح‪/‬‬
‫اإلنسان الطالح‪ ،‬الهدى‪ /‬الضالل‪ ،‬الحياة‪ /‬املوت‪ ،‬القلة‪ /‬الكرثة‪ ،‬الشبع‪/‬‬
‫الجوع‪ ،‬القليل‪ /‬الكثري‪ .‬وهي ثنائيات تنفتح عىل آفاق من التأويل‪.‬‬
‫حرو َر‬
‫والوضوح بالبُهمة‪ ،‬والجمود بالبللِ‪ ،‬وال َ‬
‫َ‬ ‫‪“-‬ضا ّد النو َر بالظلمة‪،‬‬
‫ب بني متباعداتها‪،‬‬ ‫مؤلف بني متعادياتها‪ ،‬مقا ِر ٌن بني متبايناتها‪ ،‬مق ّر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بالص ِد‬
‫َّ َ‬
‫[[[‬
‫مف ّرقٌ بني متدانياتها”‬
‫إنه تضاد يتجاوز الجمع بني مفردتني متعاكستني إىل تضاد موقف‪،‬‬
‫ورؤيا‪ ،‬والتميز يكون باألضداد؛ إذ متنح املتضادات متعة التأمل للمتلقي‪،‬‬
‫وتشكّل لغة الثنائيات الضدية العالقة بني الداخل والخارج‪ ،‬فقد وردت‬
‫جملة ثنائيات يف وحدة موضوعية متناغمة‪.‬‬
‫‪“-‬الغنى يف الغربة وطن‪ ،‬والفقر يف الوطن غربة”[[[‪.‬‬
‫‪“-‬لسان العاقل وراء قلبه‪ ،‬وقلب األحمق وراء لسانه”[[[‪.‬‬
‫يعب التضاد عن توترات الواقع‪ ،‬ومعاناة الوجود‪ ،‬ويؤثر الجمع بني‬
‫ّ‬
‫املتضادَّين يف وجدان املتلقي‪ ،‬وترتبط الثنننائيات الضدية ارتباطاً وثيقاًً‬

‫[[[ـ نهج البالغة‪ ،‬مجموع ما اختاره الرشيف الريض من كالم أمري املؤمنني‪ ،‬رشح اإلمام الشيخ محمد عبده‪،‬‬
‫دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪4 ،‬ج‪ ،‬ج‪ ،181/2‬واملائدة املقصودة هي مائدة الدنيا‪ ،‬فال تغ ّرنكم رغباتها‪.‬‬
‫[[[ـ املصدر السابق‪ ،‬ج‪120/2‬‬
‫[[[ـ املصدر السابق‪ ،‬ج‪14/4‬‬
‫[[[ـ املصدر السابق‪ ،‬ج‪11/4‬‬
‫‪19‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫بالوجود‪ ،‬واملشاعر اإلنسانية‪ ،‬وصفاء النفس‪.‬‬


‫وقد وردت تعريفات متعددة للثنائيات الضدية من وجهة نظر فلسفية؛‬
‫إذ يقول بعض الفالسفة بوجود عاملني‪ ،‬أو قوتني‪ ،‬أو نوعني من الحياة‬
‫متضادين‪ ،‬ومثاالً عىل ذلك أطروحة القديس أوغسطني يف كتابه “مدينة‬
‫الله” التي تعتمد عىل فكرة وجود مدينتني‪ :‬واحدة أرضية‪ ،‬وأخرى ساموية‪،‬‬
‫وترجع املجتمعات البرشية كلها إىل هاتني املدينتني‪ ،‬ويرى أن مدينة الله‬
‫خية بالطبع‪ ،‬وال تلك األرضية رشيرة بالطبع‪ ،‬بل‬
‫ـ وهي الساموية ـ ليست ّ‬
‫ينتمي كل فرد إىل إحدى املدينتني مبحض إرادته‪ ،‬وبينهام حرب هائلة؛‬
‫إذ تجاهد مدينة الله يف سبيل العدل‪ ،‬وتجاهد األخرى لتنرص الظامل‪ ،‬وال‬
‫تزال هذه الحرب مستمرة إىل نهاية العامل إىل أن يفيض الله أمره[[[‪.‬‬
‫واهتمت الفلسفة الغربية ذات امليول الدينية بتفسري الثنائيات من منطق‬
‫أن الكون نتيجة أبدية ملعارضة اثنني[[[ فالعامل مزدوج‪ ،‬ثنايئ‪ ،‬يتكون من‬
‫بدايتني متضادتني‪ ،‬تتقابالن‪ ،‬وتتكامالن‪ .‬فطرفا الثنائية متعاكسان يف العمل‪.‬‬
‫وتقوم الثنائية بوصفها فكرة فلسفية عىل فكرة أن مثة قدرة عىل الربط‬
‫بني الظواهر التي يبدو أنها منفصلة‪ ،‬فالتضاد رابطة مثل التامثل‪ ،‬والتناقض‬
‫رابطة؛ ألنه يعني نفي النقيض‪ ،‬فوجود الحق ينفي وجود الباطل؛ لذا‬
‫يدخل الحق والباطل يف عالقة تناقض‪ ،‬أما وجود األبيض فيتضاد مع‬
‫األسود‪ ،‬فالعالقة بينهام عالقة تضاد‪ ،‬فالضد “مقولة تعرب عن جانب واحد‬
‫من جوانب التناقض ووحدة األضداد‪ ،‬والجوانب واالتجاهات املتضادة‬
‫بشكل حاد تشكل تناقضاً يع ُّد هو القوة املح ّركة مصدر تطور األشياء‪...‬‬

‫[[[ـ انظر‪ :‬موقع الحوار املتمدن‪ ،‬مقال التأويل الالهويت للتاريخ عند أوغسطني‪ ،‬عامر عبد زيد‪ ،‬العدد ‪،3636‬‬
‫‪http://www.alhewar.org 2012/2/12‬‬
‫[[[ـ للتوسع يف هذه الفكرة ينظر‪ :‬الثنائية مرجعهم فيه‪ ،‬أدولف أوغي فجوي يف كتابه الثورة ضد ثنائية‪ ،‬موقع‪:‬‬
‫‪http://mb-soft.com‬‬
‫‪ 20‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫والضد مقابل االختالفات التي ال يكون فيها التناقض قد نضج بعد وال‬
‫يزال يوجد بذاته إىل ح ّد كبري يعني تناقضاً متطورا ً أبرز يف املقدمة‪ ،‬ووصل‬
‫إىل مرحلة أعىل من تطوره عندما يصل رصاع األضداد واالتجاهات إىل‬
‫املكان النهايئ لتطور مراحلها”[[[‪.‬‬
‫فالحالتان املتضادتان إذا تتالتا‪ ،‬أو اجتمعتا معاً يف نفس املدرك كان‬
‫شعوره بهام أتم وأوضح‪ ،‬وهذا ال يَصدق عىل اإلحساسات واإلدراكات‬
‫والصور العقلية فحسب بل يصدق عىل جميع حاالت الشعور كاللذة‬
‫واألمل والتعب والراحة‪ ..‬فالحاالت النفسية املتضادة يوضح بعضها بعضاً‪،‬‬
‫وبض ِّدها تتميز األشياء‪ ،‬وقانون التضاد أحد قوانني التداعي والتقابل[[[‪.‬‬
‫والتقابل (‪( )opposition‬هو عالقة بني شيئني أحدهام مواجه لآلخر‪،‬‬
‫أو عالقة بني متحركني يقرتبان سوية من نقطة واحدة‪ ،‬أو يبتعدان عنها‪ ،‬ويف‬
‫املنطق يأخذ التقابل وجهني أحدهام تقابل الحدود‪ ،‬واآلخر هو تقابل القضايا‪.‬‬
‫فاملتقابالن يف تقابل الحدود هام اللذان ال يجتمعان يف يشء واحد‪ ،‬يف زمان‬
‫واحد‪ ،‬وميكن التمييز هنا بني أربعة أقسام‪ ،‬أو أنواع من التقابل‪:‬‬
‫‪ 1-‬تقابل السلب واإليجاب مثل الشعور والالشعور‪.‬‬
‫‪ 2-‬تقابل املتضايفني مثل األبوة والنبوة‪.‬‬
‫‪ 3-‬تقابل الض ّدين مثل السواد والبياض‪.‬‬
‫‪ 4-‬تقابل العدم وامللكة مثل العمى والبرص‪.‬‬
‫أما تقابل القضايا فيطلق عىل القضيتني اللتني تختلفان بالكم‪ ،‬أو‬
‫بالكيف أو بهام معاً‪ ،‬ويكون موضوعهام أو محمولهام واحدا ً‪ ،‬ولهذا‬

‫[[[ـ لجنة من العلامء واألكادمييني السوفييت‪ ،1980:‬املوسوعة الفلسفية‪ ،‬ترجمة‪ :‬سمري كرم‪ ،‬ط‪ ،2‬دار‬
‫الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص ‪.281‬‬
‫[[[ـ انظر املعجم الفلسفي‪ ،‬ص ‪.285‬‬
‫‪21‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫التقابل أربعة أقسام أيضاً‪.‬‬


‫ـ التداخل عند اختالف القضيتني بالكم فقط‪.‬‬
‫ـ التضاد عند اختالفهام بالكيف فقط‪.‬‬
‫كل من‬
‫ـ التضاد الفرعي عند االختالف بالكيف فقط رشط أن تكون ّ‬
‫القضيتني جزئية‪.‬‬
‫ـ التناقض عند االختالف بالكم والكيف معاً[[[‪.‬‬
‫وال ترىض طبيعة الدماغ البرشي بالفصل‪ ،‬فحني تقوم بعملية التقابل‬
‫الثنايئ تضع الطرف األول يف حال تعارض مع الطرف الثاين‪ ،‬ومع‬
‫أطراف أخرى تشرتك معه يف الحال‪ ،‬أو الصفة‪ ...‬لك ّن هذين الطرفني‬
‫إذا نظرنا إليهام عىل أنهام طرفا عصا فثمة ما يربط بينهام‪ ،‬ويشكّل موقعاً‬
‫وسطاً هو ما ميكن أن نسميه حال شبه التضاد‪ ،‬أو العالقة بني طريف‬
‫الثنائية‪ ،‬فـ ال يرىض الدماغ البرشي عن االنفصال الناجم عن إقامة مثل‬
‫هذا التقابل القطبي‪ ،‬فيبحث عن موقع وسط”‪ [[[.‬فثمة منطقة وسطى‬
‫بني السالب واملوجب يف الفكر الفلسفي تربط بني الطرفني‪ ،‬ويستطيع‬
‫الدماغ البرشي أن يلتقط املنطقة الوسطى بني طريف الثنائية‪ ،‬أو الجزء‬
‫األوسط الواقع بني ح ّديها‪.‬‬
‫وقد مثّل كلود ليفي شرتاوس لهذه العملية باإلشارات الضوئية‪ ،‬فثمة‬
‫إشارة وسط بني األحمر واألخرض تتيح مسافة للذهن البرشي؛ ليتهيأ‪،‬‬
‫والفعل البرشي هو الذي يختارها[[[‪.‬‬
‫يشرتط يف الضدين أن يكونا من جنس واحد كاللذة ‪ /‬األمل “هام من‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.319 318-‬‬
‫[[[ـ إدموند ليتش‪ ،2002 :‬كلود ليفي شرتاوس دراسة فكرية‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬ثائر ديب‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪،‬‬
‫دمشق‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪ 22‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫الكيفيات النفسية األولية‪ ،‬فليست اللذة خروجاً من األمل‪ ،‬وال األمل خروجاً‬
‫من اللذة‪ ،‬بل اللذة واألمل كالهام وجوديان‪ ،‬ولكل منهام رشوط خاصة‬

‫تدل عىل أنهام إيجابيان”[[[ واإليجاب ‪ /‬السلب “واإليجاب عند الفالسفة‬


‫هو إيقاع النسبة وإيجادها‪ ،‬ويف الجملة هو الحكم بوجود محمول‬
‫ملوضوع‪ ،‬وهو نقيض السلب‪ ،‬كام أن اإلثبات هو نقيض النفي”[[[‪.‬‬
‫وتشكل األضداد ما يسمى بقانون وحدة األضداد ورصاعها‪ ،‬فكل‬
‫يشء يحتوي عىل أضداد‪ ،‬ووحدة األضداد نسبية‪ ،‬ورصاعها مطلق‪ ،‬وهو‬
‫قانون “مطلق للواقع‪ ،‬وفهمه بالعقل اإلنساين يعرب عن ماهية الجدل‬
‫املادي ولبّه‪ ..‬ورصاع األضداد يعني أن التناقض داخل ماهية يشء ما يتم‬
‫حلُّه بشكل دائم‪ ،‬وملا كان يُعاد تقدميه بشكل دائم فإنه يتسبب يف تحويل‬
‫فست املاركسية‪ ،‬وعرفت قانون وحدة األضداد‬
‫القديم إىل جديد‪ ...‬وقد ّ‬
‫بأنه قانون املعرفة‪ ،‬وقانون العامل املوضوعي”[[[‪.‬‬

‫[[[ـ املعجم الفلسفي‪ ،‬ص‪.126‬‬


‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.179‬‬
‫[[[ـ املوسوعة الفلسفية‪ ،‬ص‪.373‬‬
‫‪23‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫‪2‬ـ الثن�ائي�ات الضدية واملصطلحات املتعارضة معها‬


‫‪- 1-2‬الثن�ائي�ات الضدية والتن�اقض‬
‫تعني الثنائيات الضدية وجود أمرين متضادين مرتبطني برباط واحد‪،‬‬
‫وهي فكرة يقوم عليها إيقاع الكون‪ ،‬إنها قانون الكون‪ ،‬وناموس الطبيعة‬
‫الكونية‪ ،‬فالنور والظلمة يف النهار والليل ثنائية ضدية يجمعها اليوم‪،‬‬
‫والفرح والحزن متضادان‪ ،‬ويختفي أحدهام وراء اآلخر‪ ،‬وكذلك النجاح‬
‫والفشل‪ ،‬والغنى والفقر‪ ،‬والعلم والجهل‪....‬‬
‫لكن العالقة بني الثنائيات الضدية عالقة تضاد؛ أي تواز بني طريف‬
‫الثنائية‪ ،‬أما عالقة التناقض فتقوم عىل النفي‪ ،‬فوجود طرف ينفي وجود‬
‫الطرف اآلخر [[[‪.‬‬
‫والتناقض لغوياً إبطال بعض الكالم بعضه‪ ،‬فال ميكن أن يكون نور‬
‫وظالم يف الوقت نفسه‪ ،‬فهو التخالف‪ ،‬والتعارض‪ ،‬واإلبطال[[[‪.‬‬
‫أما التناقض (‪ )Contradiction‬اصطالحاً فهو القول إن اليشء ال‬
‫ميكن أن يكون حقاً وباطالً معاً‪ .‬فقد تتعدد أضداد اليشء‪ ،‬لك ّن له نقيضاً‬
‫واحدا ً‪.‬‬
‫وللتناقض قانونه الخاص‪ ،‬فالقضيتان املتناقضتان ال تصدقان معاً‪ ،‬وال‬
‫تكذبان معاً‪ ،‬وإذا صدقت إحداهام كذبت األخرى‪ ،‬فالتناقض “اختالف‬
‫القضيتني بالسلب واإليجاب اختالفاً يلزم عنه لذاته أن يكون أحدهام‬
‫صادقاً‪ ،‬واآلخر كاذباً”[[[ فالثلج ال يكون أبيض وغري أبيض معاً‪ ،‬فهذا يسمى‬
‫[[[ـ يطلق عىل اليشء أنه ضد يشء إذا كان عكسه ومبايناً عنه‪ ،‬ونقيضه أن يكون أمران متشابهان إمنا‬
‫متعاكسان‪ .‬انظر‪ :‬أحمد دمنهوري‪1427 :‬هـ‪ ،‬رسالة يف املنطق‪ -‬إيضاح املبهم يف معاين السلم‪ ،‬ط‪ ،2‬مكتبة‬
‫العارف‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪65‬‬
‫[[[ـ تناقضت أقوالهام‪ :‬تخالفت‪ ،‬تعارضت‪ ،‬تباينت‪ ،‬تناقض البائع واملشرتي البيع‪ :‬نقضاه‪ ،‬أبطاله‪ ...‬ويف‬
‫كالمه تناقض‪ :‬بعضه يقتيض إبطال بعض‪ .‬انظر لسان العرب‪ ،‬مادة نقض‪.‬‬
‫[[[ـ ابن سينا‪ ،1953 :‬الشفاء‪ -‬كتاب العبارة‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬محمود محمد الخضريي‪ ،‬ود‪ .‬سعيد زايد‪ ،‬املطبعة‬
‫‪ 24‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫مببدأ االثنينية‪ .‬أما إذا قلنا‪ :‬زيد عامل‪ ،‬وعمرو ليس بعامل فال يتحقق التناقض‪.‬‬
‫وقد يكون التناقض ذاتياً‪ ،‬فيناقض اليشء نفسه‪ ،‬أو يحتوي عىل‬
‫تناقض‪ ،‬وقد يكون وجدانياً كاالنفعاالت املتضاربة يف الوقت نفسه‪.‬‬
‫وإذا كان التضاد يقع يف األفعال فإن التناقض يف األقوال‪ ،‬لكن الصفتني‬
‫املتناقضتني ال تصدقان عىل يشء واحد يف الوقت نفسه‪ ،‬ومن الجهة‬
‫نفسها‪ ،‬وال تكذبان‪ .‬فاألسود واألبيض متضادان‪ ،‬لكن األسود والال أسود‬
‫متناقضان‪ ،‬ففي التناقض إذا صدقت إحدى الصفتني عىل يشء فاألخرى‬
‫كاذبة حكامً‪ ،‬فيجب أن تصدق إحدى الصفتني‪ ،‬وتكذب األخرى‪.‬‬
‫ويعني ما سبق أن مثة فرقاً بني التضاد والتناقض والتباين والتضارب‬
‫والتعارض والتغاير والتفاوت والفَرق واملخالفة واملعاكسة‪.‬‬
‫ويرى أرسطو ‪ Aristotalis‬أن لكل إيجاب سلباً يقابله‪ ،‬واإليجاب‬
‫[[[‬
‫هو الحكم بيشء عىل يشء‪ ،‬والسلب هو الحكم بنفي يشء عن يشء‬
‫لكنه يخلط بني التناقض والتقابل والتضاد “فليكن التناقض هو هذا؛ أعني‬
‫إيجاباً وسلباً متقابلني”[[[‪.‬‬
‫ونجد هذا الخلط عند الفارايب وابن رشد‪ ،‬فقد تحدث الفارايب عن‬
‫التقابل بأنه مقابلة الواحد بعينه ملعنى واحد بعينه‪ ،‬ولكن ليس عىل سبيل‬
‫االتفاق‪ ،‬فيقرتب من تعريف أرسطو‪ ،‬لكن الفارايب يرى أن التقابل يف‬
‫السلب واإليجاب يخص موضوع القضية ومحمولها‪ ،‬بأن يكون كالهام‬
‫واحدا ً يف الرشوط نفسها‪ ،‬فالتقابل هو التناقض[[[‪.‬‬
‫األمريية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪67‬‬
‫[[[ـ يقول أرسطو‪« :‬لكل إيجاب سلب قبالته‪ ،‬ولكل سلب إيجاب قبالته» انظر‪ :‬أرسطوطاليس‪،1999 :‬‬
‫العبارة‪ -‬النص الكامل ملنطق أرسطو‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬فريد جرب‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪117‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪117‬‬
‫[[[ـ جعفر آل ياسني‪ ،2012 :‬الفارايب يف حدوده ورسومه‪ ،‬ط‪ ،1‬منشورات املركز العلمي العراقي‪ ،‬بغداد‪،‬‬
‫مكتبة البصائر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪126‬و ‪130‬‬
‫‪25‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫ويرى ابن سينا أن التقابل إما أن يكون عىل معنى التقابل‪ ،‬أو معنى‬
‫التضاد‪ ،‬وأن معنى التقابل أعم من معنى التناقض؛ لشموله األحكام‬
‫األربعة من تناقض‪ ،‬وتضاد‪ ،‬وما تحت التضاد‪ ،‬وتداخل مؤكدا ً أن التقابل‬
‫بني السلب واإليجاب هو التناقض[[[ فيؤكد أن التقابل بني القضيتني يف‬
‫السلب واإليجاب يجعل هذا التقابل إحدى القضيتني صادقة‪ ،‬واألخرى‬
‫كاذبة‪ .‬لكن التقابل ال يعني سلباً وإيجاباً دامئاً‪ ،‬فقد تكون القضيتان‬
‫صادقتني‪ ،‬أو كاذبتني‪.‬‬
‫والضدان لدى ابن سينا هام املختلفان غاية يف املعنى الواحد بعينه‪،‬‬
‫فلكل إيجاب سلب قبالته‪ ،‬ولكل سلب إيجاب قبالته‪.‬‬
‫‪ - 2-2‬الثن�ائي�ة والثنوية والقطبي�ة‬
‫يختلط مصطلح الثنائية مبصطلح الثنوية‪ ،‬وهو املعتقد الذي يقول‬
‫بوجود أصلني أو مبدأين متناقضني وراء مظاهر الوجود‪ ،‬وصريورة الزمن‬
‫والتاريخ‪ .‬وهذان املبدآن شيمتهام الرصاع من أجل أن يلغي أحدهام‬
‫اآلخر‪ [[[.‬وال يتفق هذا التعريف مع مصطلح الثنائيات الضدية؛ إذ تكون‬
‫العالقة بني الطرفني املتضادين عالقة تكامل‪ .‬ومثة فرق بني االثنينية‬
‫واملثنى[[[‪.‬‬
‫وقد جعل ابن رشد رشوط التقابل هي نفسها رشوط التناقض‪ .‬انظر‪ :‬ابن رشد‪ ،1992 :‬تلخيص منطق أرسطو‪-‬‬
‫كتاب العبارة‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬جريار التهامي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.89‬‬
‫[[[ـ ابن سينا‪ ،‬الشفاء‪ ،‬ص‪119-44-43‬‬
‫[[[ـ للتوسع انظر‪ :‬فراس السواح‪ ،2002 :‬الرحمن والشيطان‪ -‬الثنوية الكونية والهوت التاريخ يف الديانات‬
‫املرشقية‪ ،‬ط‪ ،1‬دار عالء الدين‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص‪ 11‬ويرى الباحث أنه ميكن تقسيم املعتقدات الثنوية من جهة‬
‫شكلها ومضمونها إىل ثالث فئات‪ :‬الثنوية املطلقة‪ ،‬الثنوية الجذرية‪ ،‬الثنوية املعتدلة‪ .‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪12‬‬
‫كل يشء يف املثنى‬‫كل تناظر يف االثنينية آيل إىل االختصام والفرقة‪ ،‬بينام ّ‬
‫[[[ـ يرى د‪ .‬محمود حيدر أن ّ‬
‫محمول عىل االنسجام والجمع؛ ألن زوجية املثنى ال تعمل إال وفقاً لقانون التكامل‪ ،‬وألنها كذلك فإن سعيها‬
‫نحو الوحدة يجري طبقاً ملبدأ االمتداد الجوهري يف الواحد‪ ،‬وبهذا املبدأ الساري عرب االنسجام والتناسب بني‬
‫قطبي املثنى ال يعود مثة قطيعة‪ ،‬بل تكامل‪ ،‬وتفاعل يف اآلن نفسه‪ .‬انظر‪:‬‬
‫محمود حيدر‪ ،2016 :‬الفيلسوف الحائر يف الحرضة‪ ،‬فصلية االستغراب‪ ،‬املركز اإلسالمي للدراسات‬
‫االسرتاتيجية‪ ،‬العدد الخامس‪ ،‬السنة الثانية‪ ،‬بريوت‪ ،‬خريف ‪ ،2016‬ص‪15‬‬
‫‪ 26‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫أما مصطلح القطبية فيقول بوجود ثنائية أصلية لها قطبان متعارضان‪،‬‬
‫يف كل يشء‪ ،‬ولكنهام متعاونان‪ ،‬وال قيام ألحدهام من غري اآلخر‪ .‬ومن‬
‫تضادهام‪ ،‬وتعاونهام تنشأ مظاهر الوجود‪ ،‬وتستمر‪ .‬واألمنوذج الذي يفرس‬
‫القطبية معتقد التاو الصيني الذي وضع أسسه العامل “الو تسو” ق‪ 6‬ق‪.‬م‬
‫فالتاو مبدأ أزيل قديم‪ ،‬هو القاع الكيل للوجود‪ ،‬ومن هذا املبدأ صدرت‬
‫قوتان مجردتان هام قوة اليانغ املوجبة‪ ،‬وقوة الني السالبة‪ ،‬وبدوران هاتني‬
‫القوتني املتضادتني نشأ كل يشء‪ .‬فاألبيض قوة يانغ يرمز إىل النور‪ ،‬والني‬
‫قوة سالبة‪ /‬أسود يرمز إىل الظالم‪ ،‬ولكن ال ميكن فصل النور عن الظالم‪،‬‬
‫وال يسعى أحدهام إىل التغلب عىل اآلخر‪ ،‬أو إقصائه؛ ألن غلبة طرف عىل‬
‫طرف أو إقصاءه تعود بالكون إىل حالة الهيوىل التي نشأ عنها‪ .‬إنهام قطبان‬
‫كقطبي املغناطيس‪ ،‬ال يعمل إال بوجودهام معاً[[[‪.‬‬
‫ويعني الكالم السابق أن مثة فرقاً بني القطبية والثنوية‪ ،‬ففي القطبية‬
‫رصاع شكيل بني طريف الثنائية‪ ،‬وتكامل يف املستوى العميق‪ ،‬أما الثنوية‬
‫فتمثل الرصاع الذي يسعى إىل إقصاء أحد الطرفني اآلخر‪.‬‬
‫‪ - 3-2‬الثن�ائي�ات الضدية والتن�اظر (‪)Symmetry‬‬
‫التناظر لغوياً نظري اليشء‪ ،‬ومثله‪ ،‬ويحيل التناظر عىل معنى التساوي‪،‬‬
‫والشبه‪ ،‬والتجادل[[[ ويعني املعنى اللغوي أن التناظر عالقة بني طرفني؛ إذ‬
‫يكون اليشء متناظرا ً بالنسبة إىل يشء آخر‪.‬‬
‫والتناظر علمياً هو عدم التغري يف جملة إن حدث تحويل ما‪ ،‬فاملربع‬
‫مثالً إذا قمنا بتدويره بزاوية قامئة فلن نستطيع التمييز بني املربع قبل‬

‫[[[ـ سيأيت التفصيل يف هذه الفكرة يف الجزء الذي سنتكلم فيه عىل حضور الثنائيات الضدية يف الفلسفة‪.‬‬
‫[[[ـ تناظر الحارضون‪ :‬نظر بعضهم إىل بعض‪ ،‬وتناظرت البيوت‪ :‬تقابلت‪ ،‬وتناظرا يف املوضوع‪ :‬تجادال‬
‫وتحا ّجا‪ ،‬وناظره‪ :‬صار مثيالً له‪ ،‬ومساوياً‪ ،‬ونظري اليشء مثله‪ .‬انظر لسان العرب‪ ،‬مادة نظر‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫التدوير وبعده‪ ،‬ونسمي هذا تناظرا ً بالنسبة إىل التدوير‪ ،‬وهو أساس مهم‬
‫جدا ً يف الفيزياء النظرية[[[‪.‬‬
‫والتناظر خاصية ميكن بها وصف العديد من األشياء كاألجسام‬
‫الهندسية‪ ،‬واملعادالت الرياضية‪.‬‬
‫وحني نتحدث عن التناظر نتحدث عن ثنائية يناظر أحد طرفيها الطرف‬
‫اآلخر‪ .‬ونواجه التناظر يف أبسط مستوياته حني ننظر إىل خيالنا يف املرآة‬
‫املستوية‪ ،‬وليس مصطلح التناظر مقابالً ملصطلح الوحدة‪ ،‬وحني يكون‬
‫الطرفان متناظرين فنحن نرفعهام إىل مستوى الوحدة‪ ،‬فتكون الوحدة عىل‬
‫حساب التعددية‪ ،‬فكل طرف من طريف الثنائية لقطة‪ ،‬ويشكّل الطرفان وحدة[[[‪.‬‬
‫ويشرتك التناظر مع الرتادف‪ ،‬ففي املصطلحني يأيت املعنى وما‬
‫يشبهه‪ ،‬لكن يت ّم التفريق بينهام من جهة أن الرتادف يكون بني مفردتني‪،‬‬
‫والتناظر يكون أوسع بني جملتني‪.‬‬
‫‪ - 3‬الثن�ائي�ات الضدية واملصطلحات املتداخلة معها‬
‫‪ - 1-3‬الثن�ائي�ات الضدية واجلدل (‪)Dialectic‬‬
‫الديالكتيك هو علم دراسة األضداد املوجودة يف األشياء‪ ،‬ومحاولة‬
‫فهمها‪ ،‬وإيجاد حلول لها‪ ،‬ويع ّد هيغل ‪ G.W.F. Hegel‬أول فيلسوف‬
‫تكلّم عىل الجدل‪ ،‬وأخذ منه ماركس ‪ K.H. Marx‬ما يعرف بالديالكتيكية‬
‫املادية‪ .‬وقد ع ّد هيغل الفكر سابقاً املادة‪ ،‬وعد املادة انعكاساً للوعي‪،‬‬
‫فالظواهر الطبيعية واالجتامعية كلها تقوم عىل أساس ثنائية املطلق‪/‬‬
‫العقل‪ ،‬أو الروح‪ /‬الفكرة املطلقة‪ .‬ورأى يف رصاع األضداد الدافع لكل‬

‫[[[ـ انظر موقع «الباحثون السوريون»‪.http://www.syr-res.com/article/4423.html :‬‬


‫[[[ـ للتفصيل يف مصطلح التناظر انظر‪http://ar.wikipedia.org/wiki :‬‬
‫‪ 28‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫تطور‪ ،‬وعرف قانون نفي النفي‪ ،‬ويلتقي ديالكتيك هيغل ديالكتيك‬


‫ماركس الذي أخذ عنه‪ ،‬وط ّور أفكاره[[[‪.‬‬
‫وتعد وحدة رصاع األضداد أهم قوانني الجدل‪ /‬الديالكتيك‪ ،‬ويعني‬
‫أن الظاهرة وضدها موجودان يف وحدة‪ ،‬ال ينفصالن‪ ،‬فكل ظاهرة تحمل‬
‫ضدها معها يف الوحدة نفسها‪.‬‬
‫ويف الوحدة الواحدة تكون األضداد يف حال حركة مستمرة‪ ،‬ورصاع‬
‫دائم‪ ،‬فالقديم والجديد ضدان‪ ،‬ويوجدان معاً‪ ،‬وال ينفي أحدهام اآلخر‪ ،‬بل‬
‫يتصارعان‪ .‬وينتهي رصاع األضداد يف الجدل بسيطرة أحد الضدين‪ .‬وال‬
‫ينفي الضد ظهور ضد جديد‪ ،‬وإال توقف التطور‪.‬‬
‫وتثري املاركسية فكرة الرصاع الطبقي بقضاء طرف عىل ضده‪،‬‬
‫والحلول مكانه؛ أي تحاول الربوليتاريا “الطبقة العاملة” القضاء عىل‬
‫الطبقة البورجوازية‪ ،‬واستالم السلطة‪ ،‬وتطبيق ديكتاتوريتها الربوليتارية‪،‬‬
‫لكن تطور الرأساملية‪ ،‬والرثوات الهائلة التي حققتها متكنت من جعل‬
‫الرصاع غري تناحري‪ ،‬فال يهدف لقضاء طرف عىل طرف‪ ،‬بل غدا رصاعاً‬
‫يتمثل يف مطالب نقابية‪.‬‬
‫وقد ع ّد كارل ماركس وفريدريك أنجلز ‪ F. Angels‬املادية الجدلية‬
‫“الديالكتيك” قاعدة لتفسري جميع الظواهر الطبيعية‪ ،‬واملجتمعية‪.‬‬
‫والحركة مبفهومها الجديل تعني معنى واسعاً لتشمل الحركة الداخلية‪،‬‬
‫فاملادة حيوية‪ ،‬متحركة بحركة جدلية داخلية‪ ،‬هذه الحركة هي التي تفرس‬

‫[[[ـ للتوسع يف املادية الجدلية انظر‪- :‬فاسييل بودوستنيك وأوفيش ياخوت‪ ،1979 :‬ألف باء املادية الجدلية‪،‬‬
‫ترجمة جورج طرابييش‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪-‬إمام عبد الفتاح إمام‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬املنهج الجديل عند هيغل‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫التطور‪ ،‬والتقدم يف الطبيعة‪ ،‬واإلنسان‪ ،‬واملجتمع حسب أنجلز وماركس[[[‪.‬‬


‫ويف الحقيقة ال ميكن فصل ظاهرة‪ ،‬أو فهمها مبعزل عن ض ّدها‪ ،‬فمثالً‬
‫رس بقاء اإلنسان‪ ،‬واستمرار حياته موت خالياه‪ ،‬وتجددها‪ ،‬فكل يشء‬
‫ّ‬
‫يشتمل عىل ضده‪ ،‬ويشكالن سريورة متسارعة داخلياً‪.‬‬
‫‪ - 2-3‬الثن�ائي�ات الضدية والتقابل (‪)Opposition‬‬
‫يقوم مصطلح الثنائيات الضدية عىل الوحدة التي تشتمل عىل تعددية‬
‫داخلية‪ ،‬وتأخذ شكل مركبات ثنائية يحكمها التضاد بني طرفني متضادين‪،‬‬
‫وميكن أن تتولد صور ال نهائية من املتضادات‪.‬‬
‫والتقابل مظهر من مظاهر العالقة بني األلفاظ واملعاين‪ ،‬والعالقة‬
‫بينهام جدلية‪ ،‬وتتباين العالقة بني األلفاظ واملعاين بتباين األنساق الثقافية‬
‫لأللفاظ‪ ،‬فتتضاد مفردتان لغوياً‪ ،‬أو يكون للفظ الواحد داللتان متضادتان‪،‬‬
‫ج ْون الذي يحيل عىل األبيض واألسود معاً‪78919172.‬‬
‫كال َ‬
‫ويخضع التقابل ملبدأ الثنائية االزدواجية بوصفها مبدأ أساسياً يحكم‬
‫الظاهرة التقابلية‪ ،‬ومثة جوانب متضادة‪ ،‬وجوانب مشرتكة بني املتقابلني‪،‬‬
‫فذكر وأنثى يختلفان جنساً‪ ،‬ويشرتكان يف البعد اإلنساين‪ ،‬واألداء الوظيفي‪،‬‬
‫ورمبا ميكن القول إن التضاد بني املتقابلني أقل من درجة التامثل‪ ،‬فكل‬
‫مقابل يدل عىل مقابله بطريقة غري مبارشة[[[‪.‬‬
‫وتتقارب الكلامت املتصاحبة داللياً مشكّلة ترادفاً‪ ،‬وتتباعد داللياً‬
‫مشكّلة التضاد‪ ،‬وهذا ما دفع إىل القول‪ :‬إن املتقابلني يف الحقيقة مرتادفان‬
‫لكن من نوع خاص‪.‬‬
‫[[[ـ انظر‪ :‬موقع «الباحثون السوريون»‪ ،‬مبادئ الفكر املاركيس‪ ،‬ج‪:1‬‬
‫‪http://www.syr-res.com/article/7232,html‬‬
‫كل كلمة تُلفَظ تثري معناها املضاد‪ .‬صالح فضل‪ ،1998 :‬أساليب الشعرية‬
‫[[[ـ يقول جوست تراير ‪ّ J. Trier‬‬
‫املعارصة‪ ،‬دار قباء‪ ،‬القاهرة‬
‫‪ 30‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫والتقابل اللغوي ظاهرة معجمية سياقية‪ ،‬وترتبط التقابالت الثنائية إىل‬


‫حد كبري بالذاتية؛ ألنها نتاج الوعي‪ ،‬ال العامل املوضوعي‪.‬‬
‫وترد املتقابالت يف سياقات ال نهائية‪ ،‬فتقابل كبري‪ /‬صغري يندرج فيه‬
‫جملة من الثنائيات ال حرص لها‪ ،‬كوكب صغري‪ /‬كوكب كبري‪ .....‬ورب‬
‫سائل يسأل‪ :‬ملاذا تكون التقابالت ثنائية‪ ،‬ال ثالثية‪ ،‬وال رباعية؟‬
‫إن االزدواجية اهم مقومات التقابل‪ ،‬وتنتظم الثنائية املفاهيم‪ ،‬والقيم‬
‫املعرفية‪ ،‬والحقائق‪ ،‬والتصورات عن الكون والحياة واإلنسان‪ ،‬ويتم‬
‫عىل أساسها التمييز بني األشياء‪ ،‬وتصنيفها‪ ،‬وإدراك اختالفها‪ ،‬ومن غري‬
‫التقابالت يتعذر عىل اإلنسان أن يتعرف املحيط حوله‪.‬‬
‫ولغوياً يع ّد النص اللغوي مجموعة من التقابالت الثنائية (‪Binary‬‬
‫‪ )Opposition‬فكل كلمة يف ثنائية تستدعي حضورا ً لكلمة غائبة؛ لتحديد‬
‫[[[‬
‫الداللة الحارضة‪.‬‬
‫‪ - 3-3‬الثن�ائي�ات الضدية واملفارقة (‪)Irony‬‬
‫املفارقة لغ ًة من الجذر الثاليث فرق‪ ،‬وفارق اليشء مفارقة وفراقاً‬
‫باينه[[[‪ ،‬واملعنى االصطالحي قريب من املعنى اللغوي‪ ،‬ويتفق معه‪ ،‬فهي‬
‫العدول إىل الال متوقَّع يف الخطاب‪.‬‬
‫املفارقة صيغة بالغية تعرب عن القصد باستخدام كلامت تحمل املعنى‬
‫املضاد‪ ،‬واألصل اإلغريقي لهذه الكلمة هو “آيرون” أحد الشخصيات يف‬
‫الكوميديا الذي صفته آيرونيئيا؛ أي التظاهر واالدعاء بغري الحقيقة‪ ،‬ويفيد‬

‫[[[ـ يرى فرديناند دو سوسور ‪ F. De Saussure‬أن الكلمة املوجودة يف السياق اللغوي تحدّ د داللتها الكلمة‬
‫املضادة‪ ،‬أو املقابلة‪ ،‬وهي كلمة غري موجودة يف النص‪ ،‬فكلمة بارد مثالً تستدعي كلمة ساخن‪ .‬انظر‪ :‬عبد‬
‫العزيز حموده‪ ،1998 :‬املرايا املحدبة من البنيوية إىل التفكيك‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة‬
‫والفنون واآلداب‪ ،‬نيسان‪ ،‬ص‪.224‬‬
‫[[[ـ لسان العرب‪ ،‬مادة فرق‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫االسم معنى املف ّرق الذي يف ّرق بني الحقيقة واملظهر[[[‪.‬‬


‫وتعتمد املفارقة عىل أسلوب مراوغة‪ ،‬فهي حيلة كالمية‪ ،‬وإشارية‪،‬‬
‫تقوم عىل إظهار جدليات الرصاع‪ .‬إنها توليف ضدي يجمع األجزاء‬
‫املتنافرة يف سياق واحد‪.‬‬
‫ويتجىل أثر املفارقة يف املتلقي حني تفارق توقعاته‪ ،‬وتعرب عن رؤية‬
‫للعامل‪ ،‬فيوجِد صانع املفارقة عوامل متصارعة متضادة يق ّدم بها رؤية‬
‫للعامل والوجود برؤية مغايرة‪ ،‬فثمة عالقة ضدية يف بنية النص املفارِق تثري‬
‫يف املتلقي الرغبة الكتشافها‪.‬‬
‫ويعني الكالم السابق أن املفارقة عىل عالقة بلعبة األضداد‪ ،‬فينحرف‬
‫الخطاب عند نقطة معينة‪ ،‬وتفارق املفارقة الحقيقة‪ ،‬والواقع حني حني‬
‫تنتقل باملتلقي من العفوي إىل الال املتوقَّع‪.‬‬
‫إن مثة ثنائية لدى املتلقي فيام هو متوقَّع وما يحدث حقاً‪ ،‬فيأيت معنى‬
‫يتضاد مع معنى آخر ثابت يف الذهن‪ ،‬ويعني ذلك أن جوهر املفارقة قائم‬
‫عىل الرصاع‪ ،‬فيعمد صانع املفارقة إىل تشكيل العامل الخارجي وفق‬
‫عامله الذايت‪ ،‬أو محو العامل الخارجي لبناء عامله الذايت‪ .‬فثمة رصاع‬
‫بني النسبي والكيل‪ ،‬املعلوم واملجهول‪ ،‬وتنجم املفارقة عن وعي شديد‬
‫بالتناقض يف ذهن صانع املفارقة[[[ ‪.‬‬
‫تضمر املفارقة نسقني‪ :‬نسق صانع املفارقة الذي تتكون لديه رؤية‬
‫خاصة للعامل‪ ،‬ونسق اآلخر ضحية املفارقة‪ .‬وهذان النظامان غري متآلفني‪،‬‬

‫[[[ـ جون ماكوين‪ ،1990 :‬الرتميز‪ -‬موسوعة املصطلح النقدي‪ ،‬ترجمة عبد الواحد لؤلؤة‪ ،‬دار املأمون للرتجمة‬
‫والنرش‪ ،‬بغداد‪ ،‬ص‪95‬‬
‫[[[ـ ترى نبيلة إبراهيم أن املفارقة ناجمة عن الوعي الشديد بتناقض داخل الذات بقدر ما هي الوعي الشديد‬
‫بالتناقض خارجها‪ .‬انظر‪ :‬نبيلة إبراهيم‪ ،1987 :‬املفارقة‪ ،‬مجلة فصول‪ ،‬الهيئة العامة املرصية للكتاب‪ ،‬املجلد‬
‫‪ ،7‬العددان ‪ 4-3‬إبريل‪ -‬سبتمرب‪ ،‬ص‪.134‬‬
‫‪ 32‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫[[[‬
‫فهام نظامان متداخالن‪ ،‬باختصار “املفارقة تقلّص الثنائية إىل وحدة”‬
‫‪ 4--3‬الثنائيات الضدية والطباق والتكافؤ والتضاد‬
‫يعني مصطلح الثنائيات الضدية أن طريف الثنائية متصالن‪ ،‬وأن ظهور‬
‫طرف ال يعني غياب الطرف اآلخر‪ ،‬بل تخفّيه‪ ،‬فيمكن أن يحوي الطرف‬
‫الظاهر من الثنائية يف بنيته العميقة نسقاً مضمرا ً يتعلق برؤية خاصة للحياة‬
‫بكلية أضدادها‪ ،‬وحني تتضارب هذه األضداد‪ ،‬وتتصادم تكشف جوهر‬
‫الوعي اإلنساين‪ ،‬وطبيعة الحياة‪ ،‬وجوهر الرصاع فيها‪.‬‬
‫وتتداخل بعض املصطلحات يف الدرس النقدي البالغي القديم مع‬
‫مفهوم الثنائيات الضدية‪ ،‬ومن هذه املصطلحات الطباق‪ ،‬والتكافؤ‪ ،‬والتضاد‪.‬‬
‫فالطباق هو الجمع بني اليشء وضده عىل مستوى الجملة‪ ،‬أو عىل‬
‫مستوى البيت من القصيدة‪ .‬يقول أبو هالل العسكري‪“ :‬قد أجمع الناس‬
‫أن املطابقة يف الكالم هو الجمع بني اليشء وضده يف جزء من أجزاء‬
‫الرسالة‪ ،‬أو الخطبة‪ ،‬أو البيت من بيوت القصيدة‪ ،‬مثل الجمع بني البياض‬
‫والسواد‪ ،‬والليل والنهار‪ ،‬والحر والربد‪.[[[”.‬‬
‫وورد مصطلح التكافؤ عند قدامة بن جعفر يف حديثه عن نعوت‬
‫املعاين‪ ،‬ويقصد به الطرفني املتقابلني من جهة السلب واإليجاب‪ ،‬أو‬
‫غريهام‪ .‬وقد ورد لديه أيضاً عىل مستوى الجملة‪ ،‬وهو تكافؤ لغوي “ومن‬
‫نعوت املعاين التكافؤ‪ ،‬وهو أن يصف الشاعر شيئاً‪ ،‬أو يذمه‪ ،‬ويتكلم فيه‪،‬‬
‫أي معنى كان‪ ،‬فيأيت مبعنيني متكافئني‪ ،‬والذي أريد بقويل متكافئني يف‬
‫هذا املوضع أي متقابلني إما من جهة املصادرة‪ ،‬أو السلب واإليجاب‪،‬‬

‫[[[ـ د‪.‬يس‪ .‬ميويك‪ ،1982 :‬املفارقة‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد الواحد لؤلؤة‪ ،‬دار الرشيد للنرش‪ ،‬بغداد‪ ،‬ص‪.108‬‬
‫نصه‪ :‬مفيد قميحة‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫[[[ـ أبو هالل العسكري‪ ،1981 :‬كتاب الصناعتني‪ ،‬ط‪ ،1‬حققه وضبط ّ‬
‫بريوت‪ ،‬ص‪.339‬‬
‫‪33‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫أو غريهام من أقسام التقابل‪ ،‬مثل قول أيب الشعب العبيس‪:‬‬


‫يحمي الذِّما َر صبيح َة األرهانِ‬ ‫باسل‬
‫ٌ‬ ‫حلو الشامئل وهو م ٌّر‬

‫[[[‬
‫فقوله م ّر وحلو تكافؤ”‬
‫وقد وردت املصطلحات الثالثة السابقة‪ :‬الطباق والتضاد والتكافؤ‬
‫لدى يحيى بن حمزة العلوي باملعنى السابق نفسه‪ ،‬وهو اإلتيان باليشء‬
‫وضده يف الكالم‪“ :‬واعلم أن هذا النوع من البديع متفق عىل صحة معناه‪،‬‬
‫وعىل تسميته بالتضاد والتكافؤ‪ ،‬وإمنا وقع الخالف يف تسميته بالطباق‬
‫واملطابقة والتطبيق‪ ،‬فأكرث علامء البيان عىل تلقيبه مبا ذكرناه إال قدامة‬
‫الكاتب فإنه قال‪ :‬لقب املطابقة يليق بالتجنيس؛ ألنها مأخوذة من مطابقة‬
‫الفرس والبعري لوضع رجله مكان يده عند السري‪ ،‬وليس هذا منه‪ ،‬وزعموا‬
‫أنه يسمى طباقاً من غري اشتقاق‪ ،‬واألجود تلقيبه باملقابلة؛ ألن الض ّدين‬
‫يتقابالن كالسواد والبياض‪ ،‬وغري ذلك من األضداد من غري حاجة إىل‬
‫تلقيبه بالطباق واملقابلة‪.[[[”...‬‬
‫وال يخرج النقاد والبالغيون القدماء عن معنى واحد ورد عندهم‪،‬‬
‫فالطباق ويشبهه التكافؤ‪ ،‬واملطابق‪ ،‬والتطبيق‪ ،‬واملقابلة‪ ،‬والتضاد‪ [[[.‬وقد‬
‫ورد عند ثعلب مصطلح مجاورة األضداد‪ ،‬وقصد به تكرير اللفظة مبعنيني‬
‫[[[ـ قدامة بن جعفر‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬نقد الشعر‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد املنعم خفاجي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ص‪.148-147‬‬
‫[[[ـ يحيى بن حمزة العلوي‪ ،1980 :‬كتاب الطراز املتضمن ألرسار البالغة وعلوم حقائق اإلعجاز‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ج‪377/2‬‬
‫[[[ـ انظر‪ - :‬الرازي‪ ،‬أبو بكر‪ ،1982 :‬روضة الفصاحة‪ ،‬ط‪ ،1‬تحقيق أحمد النادي شعلة‪ ،‬دار الطباعة املحمدية‪،‬‬
‫ص ‪.238 ،232‬‬
‫‪ -‬الخطيب القزويني‪ ،1993 :‬اإليضاح يف علوم البالغة‪ ،‬ط‪ ،3‬رشح وتعليق محمد عبد املنعم خفاجي‪ ،‬املكتبة‬
‫األزهرية للرتاث‪ ،‬مجلد ‪ ،2‬ج‪/5‬ص‪.7-6‬‬
‫‪ -‬القرطاجني‪ ،‬حازم‪ ،1981 :‬منهاج البلغاء ورساج األدباء‪ ،‬ط‪ ،2‬تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة‪ ،‬دار الغرب‬
‫اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص ‪.48‬‬
‫‪ -‬ابن منقذ‪ ،‬أسامة‪ ،1960 :‬البديع يف نقد الشعر‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد بدوي وحامد عبد املجيد‪ ،‬مكتبة مصطفى البايب‬
‫الحلبي‪ ،‬مرص‪ ،‬ص ‪.39 36-‬‬
‫‪ 34‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫مختلفني[[[ وقد ورد التضاد لدى النقاد القدامى مبعنى الطباق[[[‪.‬‬


‫إن مثة تعددا ً اصطالحياً لكن الحقيقة أن بالغيينا القدامى أغفلوا‬
‫الوظيفة الفكرية العميقة للتضاد‪ ،‬وعالقته باألنساق الثقافية يف النص‬
‫األديب‪ ،‬ونظروا إليه عىل أنه الجمع بني اليشء وض ّده‪ .‬ويع ّد عبد القاهر‬
‫الجرجاين استثنائياً حني تحدث عن أهمية التضاد يف تشكيل الصورة‬
‫الفنية قائالً‪“ :‬وهل تشك يف أنه يعمل عمل السحر يف تأليف املتباينني‬
‫حتى يخترص لك بعد ما بني املرشق واملغرب‪ ،‬ويجمع ما بني املشئم‬
‫واملعرِق‪ ..‬ويريك التئام عني األضداد‪ ،‬فيأتيك بالحياة واملوت مجموعني‪،‬‬
‫واملاء والنار مجتمعني‪ ،‬كام يقال يف املمدوح هو حياة ألوليائه‪ ،‬موت‬
‫[[[‬
‫ألعدائه‪ ،‬ويجعل اليشء من جهة ماء‪ ،‬ومن أخرى نارا ً”‬
‫خاطب الجرجاين العقل يف أثناء كالمه عىل التضاد‪ ،‬ومعنى ذلك أنه‬
‫يدرك أثر الثنائيات الضدية املتشكلة ضمن أنساق ضدية يف خلق املعنى‬
‫يف النص‪.‬‬
‫يف الصورة لدى الجرجاين تنصهر الثنائيات الضدية؛ لتولّد املعنى‪،‬‬
‫ويف حديثه عن التضاد يخاطب عقل املتلقي‪ ،‬فالتضاد نزعة عقلية يف‬
‫النهاية‪ ،‬ويدرك األثر النفيس الذي يولّده اجتامع الضدين لدى املتلقي‪.‬‬
‫‪4‬ـ طبيعة الثن�ائي�ات الضدية وبنيتها‬
‫إن الجمع بني طريف ثنائية ضدية يولّد مسافة من التوتر يتولّد عنها‬
‫حركة دينام ّية فاعلة‪ ،‬فللتضاد أهمية كربى يف إيجاد شبكة عالقات تتنامى‬

‫[[[ـ أبو العباس ثعلب‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬قواعد الشعر‪ ،‬رشحه وعلق عليه‪ :‬محمد عبد املنعم خفاجي‪ ،‬الدار املرصية‬
‫اللبنانية‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬ص‪34‬‬
‫[[[ـ أبو بكر الرازي‪ ،1982 :‬روضة الفصاحة‪ ،‬ص‪238-232‬‬
‫[[[ـ عبد القاهر الجرجاين‪ ،1991 :‬أرسار البالغة‪ ،‬ط‪ ،1‬قرأه وعلّق عليه‪ :‬محمود محمد شاكر‪ ،‬مطبعة املدين‬
‫بالقاهرة‪ ،‬دار املدين بجدة‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫‪35‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫فيها األنساق املتضادة بهدف الوصول إىل مفهوم الوحدة‪ ،‬أو االنسجام‬
‫(‪.)Harmony‬‬
‫وقد أشار كلود ليفي شرتاوس إىل أن البنية تحمل أوالً وقبل أي يشء‬
‫طابع النسق‪ ،‬أو النظام‪ ،‬فتتألف البنية من عنارص يكون من شأن أي تح ّول‬
‫[[[‬
‫يعرض للواحد منها أن يحدث تحوالً يف سائر العنارص األخرى‪.‬‬
‫وأشار الناقد الفرنيس جيل دولوز ‪ G. Deleuze‬إىل طبيعة الجانب‬
‫[[[‬
‫النسقي للبنية بوصفها نظاماً مؤتلفاً من العالقات والعنارص املتفاضلة‬
‫وكل تح ّول يطرأ عىل البنية يطرأ عىل داخلها‪ ،‬ال عىل الخارج‪.‬‬
‫ّ‬
‫وتتميز الثنائيات الضدية بخاصية التحويل (‪ )Transformation‬أي‬
‫تحويل الكلامت إىل أشياء‪ ،‬وهذا ما يجعلها مصدرا ً مهامً من مصادر‬
‫الشعرية‪ ،‬فالذي يدعو إىل لفت االنتباه‪ ،‬وتيقظ الفكر‪ ،‬وشدة االهتامم‪،‬‬
‫وتوليد اللغة الشعرية التضاد‪ ،‬ال املشابهة؛ إذ يع ّد الجمع بني املتضادات‬
‫مولّدا ً أساسياً للشعرية‪.‬‬
‫إن وجود الثنائيات الضدية يعني وجود نسق ظاهر‪ ،‬وآخر مضمر‬
‫يُستنتج استنتاجاً‪ .‬وال يتعلق أمر الثنائيات الضدية بظهور طرف‪ ،‬وتخفي‬
‫آخر وراءه‪ ،‬بل يتعلق مبتلقي هذه الثنائية الذي يؤ ّولها‪ ،‬ويستقبلها بناء‬
‫عىل تضاد الطرفني‪ ،‬وظهور طرف‪ ،‬وتخفي آخر‪ .‬وقد أطلق يونغ ‪Carl‬‬
‫‪ Jung‬عىل هذه العملية التأليف األعىل للمتضادات‪ ،‬فرأى أن جميع‬
‫الرموز والصور النمطية البدئية التي تتجسد فيها العملية أدوات للوظيفة‬
‫التجاوزية؛ أي أدوات لتوحيد الزوجني املختلفني للتعارضات النفسية‬

‫[[[ـ زكريا إبراهيم‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬مشكلة البنية أو أضواء عىل البنيوية‪ ،‬دار مرص للطباعة‪ ،‬ص‪35‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪.38‬‬
‫‪ 36‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫املتقابلة يف تأليف يتجاوز الضدين املتقابلني[[[ فعن طريق تفاعل طريف‬


‫الثنائية يتولد لدى املتلقي أثر خاص‪ ،‬ونظرة فلسفية خاصة للحياة والكون‪.‬‬
‫‪5‬ـ الثن�ائي�ات الضدية وعالقتها بطبيعة النفس البشرية‬
‫يعتمد الفكر بعامة يف نشاطه عىل الثنائيات الضدية‪ ،‬وحوار الحدود‬
‫املتقابلة واملتباينة‪ ،‬وهو ما يسمى بالفلسفة الجدلية‪ ،‬أو الديالكتيك‪ ،‬وهي‬
‫كلمة ذات أصل يوناين يعني الحوار‪.‬‬
‫والحوار يف الحال العادية يكون بني شخصني مختلفني فكرا ً‪ .‬وقد ُع َّد‬
‫هرياقليطس ‪ Heraclitus‬ج ّد الجدلية‪ ،‬ثم أىت فيام بعد هيغل‪ ،‬وماركس‬
‫وأتباعه‪.‬‬
‫ويع ّد الجدل خصيصة فكرية موجودة يف تراث الحضارات كلها‪ ،‬وقد‬
‫اتخذ لدى هيغل صورة الجدل املثايل‪ ،‬ولدى ماركس الجدل املادي‪،‬‬
‫ومثة جدلية لدى اللغويني تتمثل يف األضداد يف اللغة‪ ،‬وجدلية لدى‬
‫الصوفية‪....‬‬
‫تجتمع يف النفس البرشية ـ إذن ـ ثنائيات ضدية ميكن ع ُّدها كامنة يف‬
‫أغوار النفس اإلنسانية‪ ،‬فالحياة غريزة واضحة األثر يف حركاتنا وسكناتنا‪،‬‬
‫واملوت غريزة ماثلة أمام أعيننا‪ ،‬والسواد والبياض موجودان جنباً إىل‬
‫جنب يف الحياة‪ ،‬وميكن القول‪ :‬إن مظاهر الحياة كلها هي نتيجة ذلك‬
‫التجاذب بني قطبي هذه الثنائية‪.‬‬
‫ويحدث أن يحاول طرف من الثنائية أن يشل حركة الطرف اآلخر‪،‬‬
‫ويحدث أن نجد منطقة وسطى بني الطرفني‪.‬‬
‫الثنائيات املوجودة يف الحياة ليست ثنائيات دوغامتية‪ ،‬مبعنى‬
‫[[[ـ يوالند جاكويب‪ ،1993 :‬علم النفس اليونغي‪ ،‬ط‪ ،1‬ترجمة‪ :‬ندرة يازجي‪ ،‬األهايل للطباعة والنرش‬
‫والتوزيع‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص‪.194‬‬
‫‪37‬‬ ‫الثنائيات الضدّية‪ :‬ذاكرة المصطلح‬

‫رش‪ .‬الثنائيات‬
‫أن الحدود قامئة بني طرفيها‪ .‬فثمة حق‪ /‬باطل‪ ،‬وخري‪ّ /‬‬
‫إيديولوجية‪ ،‬وفهمها فهامً دوغامتياً يعني أنها تصدر عن الوعي املطلق‬
‫والنهايئ واليقيني‪ ،‬وبذلك يصعب تطبيقها عىل واقع تحكمه النسبية‬
‫املرتبطة بتعقيدات الواقع‪ .‬والحديث عنها يعني حديثاً عن توازي الثنائيات‪،‬‬
‫وسري طرفيها جنباً إىل جنب معاً‪ .‬فالكون ميثل وحدة‪ ،‬وهذه الوحدة هي‬
‫يف النهاية تعددية ضمن الوحدة وقد حاول الفالسفة أن يفهموا الكون‪،‬‬
‫فقسموه إىل ذات (إنسان) وموضوع (كون)‪ ،‬ووضعوا بينهام برزخاً يفصل‬
‫كل ح ّد عىل أنه طرف منفصل‬
‫بني جوهر األشياء الوجودية‪ ،‬فنظروا إىل ّ‬
‫عن اآلخر‪ ،‬ونجم عن هذا الفصل بني األطراف وجود ثنائيات الهوتية‪:‬‬
‫الخري‪ /‬الرش‪ ،‬الحق‪ /‬الباطل‪ ،...‬وضدية‪ :‬الظالم‪ /‬النور‪ ،‬واجتامعية‪ :‬الظامل‬
‫‪ /‬املظلوم‪..‬‬
‫ونجم عن هذا التصنيف الثنايئ الرصاعات بأشكالها‪ ،‬والعنف نتيجة‬
‫ثنائية كون‪ /‬إنسان‪ ،‬وأدّى هذا األمر إىل مت ّرد الذات عىل ثنائية الوجود‪ ،‬أو‬
‫تعدديته‪ ،‬ودخلت األنا يف حال رصاع مع األنوات األخرى للسيطرة عىل‬
‫الخارج‪ ،‬فثمة ال نهاية كربى‪ ،‬وال نهاية صغرى‪ ،‬وبينهام ال نهاية وسط‬
‫هي نقطة لقاء هاتني الالنهايتني يف اإلنسان‪ .‬ففي داخل النفس البرشية‬
‫يلتقي طرفا هذه الثنائية التي انشغل بها الفكر اإلنساين كثريا ً عرب اختالف‬
‫عصوره‪ ،‬وبدت الحياة صعبة التفسري مبعزل عن فكرة األضداد والثنائيات‪،‬‬
‫وبدت قامئة يف كثري من جوانبها عىل أضداد‪ ،‬وثنائيات‪.‬‬
‫ري والتأث َر عىل نحو تظهر العالقة‬
‫تجاذب الفكُر والثنائياتُ التأث َ‬
‫َ‬ ‫لقد‬
‫بينهام جدلية‪ .‬فال وجود لفكر إنساين من غري ثنائيات ضدية‪.‬‬
‫ميكن أن نح ّدد ـ بناء عىل ما سبق ـ مفهوم الثنائيات الضدية‪ ،‬إنه‬
‫اجتامع األمر وض ّده يف مقام واحد‪ ،‬وتكون العالقة بني الطرفني عالقة‬
‫‪ 38‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫توازٍ‪ ،‬ويهدف التضاد بني الطرفني املتوازيني إىل التكامل‪ ،‬ومن هذه‬
‫الفكرة وجدنا أن الثنائيات الضدية تختلف عن الثنوية التي تعني إقصاء‬
‫أحد الطرفني الطرف اآلخر‪ ،‬يف حني أن هدف الثنائيات الضدية التكامل‬
‫بني املتضادين‪ ،‬كام يختلف هذا املصطلح عن التناقض؛ ألن العالقة‬
‫بني املتناقضني عالقة نفي؛ فوجود أحد الطرفني ينفي وجود اآلخر‪ ،‬أما‬
‫الطرفان املتضادان فيتوازيان‪ ،‬وال يلتقيان‪ ،‬ويختفي أحدهام وراء اآلخر‪،‬‬
‫كام يختلف عن مصطلح التناظر الذي ال يشرتط فيه التضاد‪ ،‬ويلتقي‬
‫مصطلح الجدل الذي ع ّرفناه بأنه رصاع األضداد يف وحدة‪ ،‬ويأخذ هذا‬
‫َ‬
‫الرصاع شكالً لولبياً نامياً‪ ،‬ويتفق مع مصطلح القطبية التي يكون الرصاع‬
‫بني الطرفني شكلياً يهدف عىل املستوى العميق إىل التكامل‪ ،‬ويلتقي يف‬
‫مصطلح املفارقة والتضاد والطباق واملقابلة‪ ،‬ففي املفارقة‬
‫َ‬ ‫بعض جوانبه‬
‫الجمع بني األمر وضده‪ ،‬وكذا يف الطباق يعني الجمع بني الكلمة وضدها‪،‬‬
‫مع أن مصطلح الثنائيات الضدية أوسع من ذلك‪.‬‬
‫وألن الثنائيات الضدية محور حياتنا بفروعها كلِّها تجىل حضورها يف‬
‫العلم‪ ،‬وبخاصة علوم الطاقة‪.‬‬
‫املصادر واملراجع‬

‫‪1 .1‬آل ياسني‪ ،‬جعفر‪ ،2012 :‬الفارايب يف حدوده ورسومه‪ ،‬ط‪،1‬‬


‫منشورات املركز العلمي العراقي‪ ،‬بغداد‪ ،‬مكتبة البصائر‪ ،‬بريوت‬
‫‪2 .2‬إبراهيم‪ ،‬زكريا‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬مشكلة البنية أو أضواء عىل البنيوية‪ ،‬دار مرص‬
‫للطباعة‬
‫‪3 .3‬إبراهيم‪ ،‬نبيلة‪ ،1987 :‬املفارقة‪ ،‬مجلة فصول‪ ،‬الهيئة العامة املرصية‬
‫للكتاب‪ ،‬املجلد ‪ ،7‬العددان ‪ 4-3‬إبريل‪ -‬سبتمرب‬
‫‪4 .4‬أرسطوطاليس‪ ،1999 :‬العبارة‪ -‬النص الكامل ملنطق أرسطو‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬د‪ .‬فريد جرب‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬بريوت‬
‫‪5 .5‬إمام عبد الفتاح إمام‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬املنهج الجديل عند هيغل‪ ،‬دار‬
‫املعارف‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪6 .6‬فاسييل بودوستنيك‪ ،‬فاسييل‪ ،‬وياخوت‪ ،‬أوفيش‪ ،1979 :‬ألف باء‬
‫املادية الجدلية‪ ،‬ترجمة جورج طرابييش‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪7 .7‬ثعلب‪ ،‬أبو العباس‪ :‬د‪ .‬ت‪ ،‬قواعد الشعر‪ ،‬رشحه وعلق عليه‪ :‬محمد‬
‫عبد املنعم خفاجي‪ ،‬الدار املرصية اللبنانية‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬مرص‬
‫‪8 .8‬الجرجاين‪ ،‬عبد القاهر‪ ،1991 :‬أرسار البالغة‪ ،‬ط‪ ،1‬قرأه وعلق عليه‬
‫محمود محمد شاكر‪ ،‬مطبعة املدين‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪9 .9‬ابن جعفر‪ ،‬قدامة‪ :‬د‪ .‬ت‪ ،‬نقد الشعر‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عبد املنعم‬
‫خفاجي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪1010‬جاكويب‪ ،‬يوالند‪ ،1993 :‬علم النفس اليونغي‪ ،‬ط‪ ،1‬ترجمة‪ :‬ندرة‬
‫يازجي‪ ،‬األهايل للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬دمشق‬
‫‪ 40‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫‪1111‬الحسن‪ ،‬عيىس‪ ،2007 :‬موسوعة الحضارات‪ ،‬األهلية للنرش‬


‫والتوزيع‪ ،‬األردن‪.‬‬
‫‪1212‬حمودة‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز‪ ،1998 :‬املرايا املحدبة من البنيوية إىل‬
‫التفكيك‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪،‬‬
‫نيسان‬
‫‪1313‬حيدر‪ ،‬محمود‪ ،2016 :‬الفيلسوف الحائر يف الحرضة‪ ،‬فصلية‬
‫االستغراب‪ ،‬املركز اإلسالمي للدراسات االسرتاتيجية‪ ،‬العدد‬
‫الخامس‪ ،‬السنة الثانية‪ ،‬بريوت‪ ،‬خريف ‪.2016‬‬
‫‪1414‬الخطيب القزويني‪ ،1993 :‬اإليضاح يف علوم البالغة‪ ،‬ط‪ ،3‬رشح‬
‫وتعليق محمد عبد املنعم خفاجي‪ ،‬املكتبة األزهرية للرتاث‪.‬‬
‫‪1515‬دمنهوري‪ ،‬أحمد‪1427 :‬هـ‪ ،‬رسالة يف املنطق‪ -‬إيضاح املبهم يف‬
‫معاين السلم‪ ،‬ط‪ ،2‬مكتبة العارف‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪1616‬الرازي‪ ،‬أبو بكر‪ ،1982 :‬روضة الفصاحة‪ ،‬ط‪ ،1‬تحقيق أحمد النادي‬
‫شعلة‪ ،‬دار الطباعة املحمدية‪.‬‬
‫‪1717‬ابن رشد‪ ،1992 :‬تلخيص منطق أرسطو‪ -‬كتاب العبارة‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪.‬‬
‫جريار التهامي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬بريوت‬
‫‪1818‬السواح‪ ،‬فراس‪ ،2002 :‬الرحمن والشيطان‪ -‬الثنوية الكونية والهوت‬
‫التاريخ يف الديانات املرشقية‪ ،‬ط‪ ،1‬دار عالء الدين‪ ،‬دمشق‬
‫‪1919‬ابن سينا‪ ،1953 :‬الشفاء‪ -‬كتاب العبارة‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬محمود محمد‬
‫الخضريي‪ ،‬ود‪ .‬سعيد زايد‪ ،‬املطبعة األمريية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪2020‬صليبا‪ ،‬جميل‪ :‬د‪ .‬ت‪ ،‬املعجم الفلسفي‪ ،‬ج‪ ،1‬دار الكتاب اللبناين‪،‬‬
‫بريوت‪.‬‬
‫‪2121‬العسكري‪ ،‬أبو هالل‪ ،1981 :‬كتاب الصناعتني‪ ،‬ط‪ ،1‬حققه وضبط‬
‫‪41‬‬ ‫المصادر والمراجع‬

‫نصه‪ :‬مفيد قميحة‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬


‫ّ‬
‫‪2222‬ابن حمزة العلوي‪ ،‬يحيى‪ ،1980 :‬كتاب الطراز املتضمن ألرسار‬
‫البالغة وعلوم حقائق اإلعجاز‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪2323‬ابن فارس بن زكريا‪ ،‬أحمد‪ ،2008 :‬مقاييس اللغة‪ ،‬بعناية محمد‬
‫عوض مرعب‪ ،‬وفاطمة محمد أصالن‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪.‬‬
‫‪2424‬فضل‪ ،‬صالح‪ ،1998 :‬أساليب الشعرية املعارصة‪ ،‬دار قباء‪ ،‬القاهرة‬
‫‪2525‬القرطاجني‪ ،‬حازم‪ ،1981 :‬منهاج البلغاء ورساج األدباء‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪2626‬ليتش‪ ،‬إدموند‪ ،2002 :‬كلود ليفي شرتاوس دراسة فكرية‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪.‬‬
‫ثائر ديب‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪2727‬ماكوين‪ ،‬جون‪ ،1990 :‬الرتميز‪ -‬موسوعة املصطلح النقدي‪ ،‬ترجمة‬
‫عبد الواحد لؤلؤة‪ ،‬دار املأمون للرتجمة والنرش‪ ،‬بغداد‪.‬‬
‫‪2828‬ابن منظور‪ ،‬جامل الدين محمد بن مكرم‪ ،1994 :‬لسان العرب‪ ،‬ط‪،3‬‬
‫دار صادر‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪2929‬ابن منقذ‪ ،‬أسامة‪ ،1960 :‬البديع يف نقد الشعر‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد بدوي‬
‫وحامد عبد املجيد‪ ،‬مكتبة مصطفى البايب الحلبي‪ ،‬مرص‪.‬‬
‫‪3030‬ميويك‪ ،‬د‪ .‬يس‪ ،1982 :‬املفارقة‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد الواحد لؤلؤة‪ ،‬دار‬
‫الرشيد للنرش‪ ،‬بغداد‪.‬‬
‫‪3131‬نهج البالغة‪ ،‬مجموع ما اختاره الرشيف الريض من كالم أمري‬
‫املؤمنني‪ ،‬رشح اإلمام الشيخ محمد عبده‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان‪4 ،‬ج‬
‫‪ 42‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫املواقع االلكرتوني�ة‪.‬‬
‫‪1‬ـ موقع الحوار املتمدن‪ ،‬مقال التأويل الالهويت للتاريخ عند‬
‫أوغسطني‪ ،‬عامر عبد زيد‪ ،‬العدد ‪http://www. 2012/2/12 ،3636‬‬
‫‪alhewar.org‬‬
‫‪2‬ـ الثنائية مرجعهم فيه‪ ،‬أدولف أوغي فجوي يف كتابه الثورة ضد‬
‫ثنائية‪ ،‬موقع‪http://mb-soft.com :‬‬
‫‪3‬ـ موقع الباحثون السوريون‪:‬‬
‫‪ttp://www.syr-res.com/article/4423.html‬‬
‫‪- http://ar.wikipedia.org/wiki‬‬
‫‪4‬ـ موقع الباحثون السوريون‪ ،‬مبادئ الفكر املاركيس‪ ،‬ج‪:1‬‬
‫‪http://www.syr-res.com/article/7232,html‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫ّ‬
‫الثنائيات ّ‬
‫الضدية والعلم‬
‫تتقابل األضداد يف حياتنا‪ ،‬وتجتمع يف ثنائيات‪ ،‬ويتح ّول بعضها إىل‬
‫بعض‪ ،‬فحني يسري يشء يف اتجاه ما‪ ،‬ويبلغ غايته‪ ،‬يخالف اتجاهه‪ ،‬ويعود‬
‫ويحل الربد‬
‫ّ‬ ‫ح ّر حني يبلغ منهاه يرتد إىل الوراء‪،‬‬
‫إىل االتجاه اآلخر‪ ،‬فال َ‬
‫مكانه‪.‬‬
‫ويقوم منطق الثنائيات الضدية عىل أن الضد ميكن أن يحمل شيئاً من‬
‫خصائص ضده‪ ،‬فثنائية النور والظالم –عىل سبيل املثال‪ -‬أشد الثنائيات‬
‫ظهورا ً يف حياتنا‪ ،‬فثمة نور ساطع جدا ً‪ ،‬وظالم شديد الظلمة‪ ،‬وكالهام‬
‫يحدث األثر نفسه يف العني‪ ،‬وهنا ينتفي التعارض بني النور والظالم‪ ،‬ويعني‬
‫هذا الكالم أن يف الظالم نورا ً بطريقة ما‪ ،‬وأن يف النور ظالماً مبعنى خاص‪.‬‬
‫والرصاع بني األضداد سبب يف حدوث التغيريات الكميّة إىل ح ّد‬
‫معني‪ ،‬فتحدث قفزة إىل تغيري نوعي‪ ،‬فحني ترتفع درجة حرارة املاء يف‬
‫وعاء فإن قوتني متضادتني تظهران‪ ،‬هام ق ّوتا جذب‪ ،‬وتنافر‪ ،‬وتتصارعان؛‬
‫لتصال إىل مرحلة تفقد دقائق املاء قدرتها عىل التامسك‪ ،‬وحينذاك‬
‫يحدث التغري النوعي للامء من الحالة السائلة إىل الحالة الغازية‪ ،‬ويشرتط‬
‫لحدوث ذلك ارتفاع درجة الحرارة يف الوعاء من جهة‪ ،‬ورصاع الضدين‪:‬‬
‫التضاد بني جزيئات املاء داخلياً‪.‬‬
‫وتوجد الثنائيات الضدية يف محتوى ما‪ ،‬فتأخذ األضداد وضعياتها‬
‫بطريقة معينة‪ ،‬ويتعني عىل ذلك أن الظاهرة مجموع ثنائيات ضدية‪،‬‬
‫باجتامعها تأخذ ظاهرة ما معنى معيناً‪.‬‬
‫كل يشء تقريباً‪ ،‬لكن هذه‬
‫إن جزيء املاء عىل سبيل املثال يدخل يف ّ‬
‫‪45‬‬ ‫الثنائ ّيات الضدّية والعلم‬

‫الظاهرة يف حركة دامئة‪ ،‬وناجمة عن التقاء داخيل للض ّدين‪ ،‬فجزيء املاء‬
‫‪ H2O‬هو تحديدا ً ذرتان من الهيدروجني‪ ،‬وذرة من األوكسجني‪ ،‬وليس‬
‫ثالث ذرات (من نفس العنرص) مثالً‪ ،‬وهذه الظاهرة الجزئية تدخل يف‬
‫تركيب ظواهر ضدية أكرب‪.‬‬
‫حضور الثن�ائي�ات الضدية يف علم الطاقة‬
‫إن الحياة مؤلفة من وجهني متضادين هام‪ :‬املادية‪ ،‬والال مادية‪ ،‬وتع ّد‬
‫الذرة أصغر وحدة فيها‪ ،‬فذرة الهيدروجني مؤلفة من بروتون واحد موجب‪،‬‬
‫والكرتون واحد سالب يسبح حوله‪.‬‬
‫ويف العرص الحايل يتم الرتكيز عىل العلوم املادية‪ ،‬ومل يستطع العلامء‬
‫فهم العامل الخفي للطاقة‪ ،‬واألرواح‪ ،‬ولك ّن الجانبني يتكامالن‪ ،‬فهنالك‬
‫أمور أبعد من النظرة العلمية للعلوم الحديثة‪ ،‬واالعتقا ُد بطرف واحد من‬
‫هذه الثنائية‪ :‬املادية‪ /‬الال مادية يجعل وجهة النظر أحادية‪ ،‬فالوجهان ثنائية‬
‫ضدية متثل جوهرا ً واحدا ً للحياة‪.‬‬
‫“وقد توصل العلم الفيزيايئ للذرة إىل أن املادة تساوي الطاقة انطالقاً‬
‫من مختلف العنارص إىل الذرة‪ ،‬وأخريا ً إىل االلكرتونات والربوتونات وغري‬
‫ذلك من الجزيئات الذرية التي اكتشفت‪ ،‬و ُحلِّلت مؤخرا ً‪ ،‬وحني ت ّم مراقبة‬
‫تبي أنها مؤلفة من كتل من الطاقة‪ ،‬وليست صلبة عىل‬
‫االلكرتونات بدقة ّ‬
‫اإلطالق‪ ،‬فاألشياء املادية ليست إال كتالً من الطاقة‪ ،‬تتذبذب‪ ،‬وتتموج‪،‬‬
‫وتتغري باستمرار‪ ،‬وزيادة عىل ذلك تتكثف املادة باستمرار من الطاقة؛‬
‫لتتحلل مجددا ً‪ ،‬وتعود إىل الطاقة”[[[‪.‬‬
‫ويعني هذا الكالم أن الذرات التي تظهر عىل شكل كتل صلبة ما هي‬

‫‪[1] - Mitchio Kushi with Edward Esko, OTHER DIMINSIONS Exploring the‬‬
‫‪Unexplained, 1992, Avery Publishing Group Inc. Garden City Park, New York.p.54.‬‬
‫‪ 46‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫يف الحقيقة إال كتل طاقية‪ ،‬فتأخذ سمتني متضادتني‪ ،‬تتكامالن؛ لتولّدا هذا‬
‫الشكل النهايئ‪.‬‬
‫وميكن أن نجد الثنائيات الضدية يف كل حركة‪ ،‬واتجاه‪ ،‬فكلام ارتفعنا‬
‫عن سطح األرض ازدادت قوة الطرد األرضية‪ ،‬وحصل انخفاض يف مستوى‬
‫الضغط الجوي‪ ،‬وباملقابل ستزداد الطاقة الجوية القادمة من خارج األرض‬
‫قوة كلام اقرتبنا من باطن األرض؛ لذا يتعاظم الضغط الج ّوي يف املناطق‬
‫املنخفضة‪ ،‬ففي قعر املحيط مثالً يكون الضغط الجوي أقوى من الضغط‬
‫الجوي يف نقطة متساوية مع سطح البحر‪.‬‬
‫ويؤكد هذا الكالم أ ّن مثة حركة كونية قادمة من الفضاء إىل األرض‪،‬‬
‫وحركة مضادة صادرة من األرض إىل الفضاء‪ ،‬فهام حركتان متضادتان‪،‬‬
‫ومتكاملتان[[[‪.‬‬
‫يتعني عىل ما سبق أن عاملنا مادي‪ ،‬وروحاين‪ ،‬تتقابل فيه ثنائيات‬
‫العقل‪ /‬الجسد‪ ،‬والروح‪ /‬املادة‪ ،‬ويستطيع اإلنسان كشف العامل املادي‬
‫بأحاسيسه‪ ،‬ومثة أناس ميولهم مادية‪ ،‬وآخرون ميولهم روحية‪ ،‬والظاهرتان‬
‫تجل ألمر واحد يف النهاية‪.‬‬
‫املادية والروحية ّ‬
‫ومثاالً عىل ذلك تتساوى الصحة الفيزيائية مع الصحة الروحية‪،‬‬
‫فلو أخذنا طرفاً واحدا ً من الثنائية فلن نستطيع الوصول إىل صحة كاملة‬
‫فيزيائياً‪ ،‬وروحياً‪ ،‬فكال الطرفني وجه لحقيقة كونية واحدة‪.‬‬
‫وتتكون العنارص من اتحاد االلكرتونات والربوتونات‪ ،‬وتسري الثنائيات‬
‫الضدية يف حال تح ّول دائم‪.‬‬
‫“والجنني حني يتك ّون يف رحم األم ينشأ من اتحاد النطفة‪ ،‬والبويضة‪،‬‬

‫‪[1]-Kuchi, Other Diminsions, P34.‬‬


‫‪47‬‬ ‫الثنائ ّيات الضدّية والعلم‬

‫ثم ينشأ يف وسط مايئ‪ ،‬ويخرج إىل وسط هوايئ‪ ،‬فيتغذى من األرض‪/‬‬
‫األم‪ ،‬بعد أن كان يتغذى من املشيمة‪ /‬األم‪.‬‬
‫وعند املوت تنفصل الحياة البيولوجية إىل فصلني‪ :‬الفصل األول هو‬
‫الجسد الذي يعود إىل األرض كاملشيمة التي انتهى عملها بوصفها عنرصا ً‬
‫[[[‬
‫مغذياً للجنني‪ ،‬والفصل الثاين هو الجسد الطاقي”‪.‬‬
‫وسيكمل الجسد الطاقي بقاءه يف الحياة يف العامل الروحي‪ ،‬فيتحول‬
‫إىل كتلة من الطاقة –حسب علامء الطاقة‪-‬فالعامل الروحي موجود يف‬
‫بعد أعىل من البعد الثالث الذي نعيش فيه؛ لذا سيكون صعباً جدا ً إدراكنا‬
‫له‪ ،‬فالعامل الفيزيايئ‪ ،‬والعامل الروحي وجهان لحقيقة واحدة‪ ،‬هام ثنائية‬
‫ضدية‪ ،‬لكن أحد طرفيها يك ّمل اآلخر‪.‬‬
‫“وتطوف األرض حول الشمس مولّدة طاقة منبعثة إىل الخارج‪،‬‬
‫تصطدم بالطاقة اآلتية من النظام الشميس‪ ،‬وتك ّون جوا ً مكثّفاً‪ ،‬ومشحوناً‬
‫بالذبذبات‪ ،‬وتشكل –كام يؤكد العلم الحديث‪ -‬حقالً مغناطيسياً يسمى‬
‫الجواملغناطييس لألرض‪.‬‬
‫أما الجو الذبذيب للنظام الشميس ككل فيتخذ شكل الكرة‪ ،‬الجزء‬
‫الفيزيايئ منه‪ ،‬أو املريئ هو الصميم‪ ،‬أما الباقي فهو الجزء الال مريئ من‬
‫الحقل الذبذيب الذي يغطي الجزء املريئ‪ ،‬أو ما يسمى الهالة التي تشع من‬
‫النظام الشميس”[[[ ويشكل هذان الطرفان معاً وجهني مختلفني مك ّملني‬
‫لوحدة كونية‪.‬‬
‫إن الجسد الفيزيايئ شكل مكثّف للطاقة –كام سبق‪ -‬وهو مشحون بطاقة‬
‫ساموية‪ ،‬وأخرى أرضية‪ ،‬وتعني ثنائية الحياة‪ /‬املوت أن كل كائن ولد يف‬

‫‪[1] - Kuchi, Other Diminsions, P88.‬‬


‫‪[2] - Kuchi, Other Diminsions, P89- 90.‬‬
‫‪ 48‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫هذا العامل يجب أن ميوت؛ ليولد يف حياة تالية‪ ،‬فتمثل الحياة استمرارية من‬
‫خالل املوت‪ ،‬ويعني ذلك أننا ننمو‪ ،‬ونتطور من بعد إىل آخر[[[‪.‬‬
‫ولنالحظ حركة املاء‪ ،‬تتبخر املياه‪ ،‬وتتمدد يف الجو صعودا ً بشكل‬
‫بخار خفي‪ ،‬فتتكثّف‪ ،‬وتتساقط مجددا ً عىل شكل حبيبات مرئية من‬
‫الندى‪ ،‬واملطر‪ ،‬فرتتفع‪ ،‬وتتساقط يف حركة ضدية‪ ،‬وبحركتني‪ :‬تصاعدية‪،‬‬
‫وانحدارية‪.‬‬
‫“ويف املحيط الحيوي لألرض تربة‪ ،‬وماء‪ ،‬وهواء تتحول إىل حياة‬
‫نباتية‪ ،‬وحني متوت النباتات تتحلل‪ ،‬وتفرج عن تلك العنارص‪ ،‬فتعود إىل‬
‫[[[‬
‫الطبيعة‪ ،‬فيجري إعادة إحيائها مجددا ً بأجيال جديدة من النباتات”‬
‫وهكذا تدخل الثنائيات يف متواليات من دورة الحياة‪ ،‬فالتبادل الطاقي‬
‫موجود يف كل مكان‪ ،‬وعىل سبيل املثال حني منيش ننتصب بحركة‬
‫عمودية‪ ،‬وحني ننام نستلقي يف حركة أفقية يف أثناء الليل‪ ،‬وهذا التكافؤ‬
‫أساس هذه الثنائية الضدية‪.‬‬
‫وباالنتقال إىل الدماغ البرشي متثل الجهة اليرسى فيه الطاقة االستيعابية‬
‫التحليلية املنطقية‪ ،‬وهي تعمل يف انسجام وتناغم مع الجهة اليمنى وهي‬
‫طاقة استيعابية واعية للقدرة الفكرية‪ ،‬واملاورائيات‪.‬‬
‫والقوة الفضائية اآلتية إىل األرض مصدرها “الحد الال نهايئ للفضاء‬
‫باتجاه املركز الوسطي لألرض‪ ،‬وتسمى الطاقة الساموية‪ ،‬والقوة األرضية‬
‫هي املنبعثة من املركز الوسطي لباطن األرض”القلب أو الصميم”‬
‫باتجاه الحد األقىص للفضاء تسمى الطاقة األرضية‪ ،‬فقوة األرض هذه‬

‫[[[ـ سيأيت الحديث عن األبعاد‪ ،‬والتفصيل يف بعدنا‪ :‬البعد الثالث يف فقرة آتية‪.‬‬
‫‪[2] - Kuchi, Other Diminsions, P108.‬‬
‫‪49‬‬ ‫الثنائ ّيات الضدّية والعلم‬

‫ناجمة عن دوران األرض حول نفسها‪ ،‬وحول الشمس”[[[ فتأيت الطاقة‬


‫الخارجية (القوة الساموية) بشكل جاذب نحو مركز األرض‪ ،‬وقد سامها‬
‫العلامء طاقة اليانغ‪ ،‬والحظوا أن القوة األرضية هي قوة مركزية طاردة نحو‬
‫الخارج‪ ،‬أو قوة انفالشية‪ ،‬وقد ص ّنفها العلامء عىل أنها طاقة ين‪“ ،‬فتتجه‬
‫هاتان الطاقتان نحو سطح األرض‪ ،‬فاألوىل تأيت من الفضاء الخارجي‪،‬‬
‫واألخرى تنبعث من باطن األرض‪ ،‬ومن الواضح أن كل يشء عىل هذا‬
‫الكوكب يعمل عىل أساس هاتني القوتني”[[[‪.‬‬
‫ويعني الكالم السابق أن كل ما يف األرض من هواء‪ ،‬وماء‪ ،‬وتراب‬
‫محكوم بهاتني القوتني‪ ،‬الطاقتني املتضادتني‪ ،‬واملتكاملتني يف الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬فكل يشء قابل لثنائية اليانغ‪ /‬الني‪ ،‬أو بتعبري ميتشو كويش ‪M.‬‬
‫‪ Kushi‬االنفالش‪ /‬االنكامش‪.‬‬
‫والجدير ذكره أن هذه الفكرة ال تتعارض مع املعتقد الديني‪ ،‬فقد ورد‬
‫يف الكتب املق ّدسة أن الله تعاىل خلق أوالً السامء واألرض‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫تم تكوين كل يشء آخر‪.‬‬
‫ويؤكد هذا الكالم أن السامء واألرض مصدر رئيس للطاقة‪ ،‬فحني تلتقي‬
‫هاتان القوتان‪ :‬االنفالش‪ /‬االنكامش تتولد طاقة عالية الشحنات‪ ،‬تعرف لدى‬
‫علامء الطاقة بالشاكرات (‪ .)Shakra‬تتولد الشاكرات يف أجسادالكائنات‬
‫الحية‪ ،‬وماقصده كويش هو دوامات الطاقة يف جسم اإلنسان‪.‬‬
‫ومثاالً عىل ذلك يورد ميتشو كويش جملة أمثلة‪“ ،‬فأوراق النباتات‬
‫تتفتح بطريقة انفالشية‪ ،‬بينام خاليا جسم اإلنسان تتطور بطريقة انكامشية‪،‬‬
‫فالطاقة القادمة من الفضاء‪ ،‬والطاقة املنبعثة من األرض تقومان بشحن‬

‫‪[1] - Kuchi, Other Diminsions, P34.‬‬


‫‪[2] - Kuchi, Other Diminsions, P34.‬‬
‫‪ 50‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫دائم لكل خلية من الجسم بقوة الحياة‪ ،‬وتتغذى هذه الخاليا عرب الطاقات‬
‫املادية كاألوكسجني‪ ،‬واألغذية املتنوعة التي تتوافر لها عرب الدورة‬
‫الدموية‪ ،‬وتعتمد حياتنا‪ ،‬وصحتنا عىل التكامل بني هذين املصدرين من‬
‫الطاقة‪ :‬األول هو التدفق املساري من البيئة الكونية املحيطة بنا‪ ،‬وينتج‬
‫الثاين من التحوالت الكيميائية لشتى األطعمة املختلفة”[[[‪.‬‬
‫إن جسد اإلنسان صورة مصغّرة عن الكون‪ ،‬ومثاالً عىل ذلك تبدو‬
‫شعرة من رأس اإلنسان تحت املجهر شديدة الشبه بشجرة‪ ،‬وكال الطرفني‬
‫مكون بشكل لولبي‪“ ،‬املحتوى الرئيس للشجرة له صلة بالكاربوهيدرات‪،‬‬
‫بينام شعرة الرأس لها صلة بالكرياتني‪ ،‬وهو نوع من الربوتني”[[[ وهاتان‬
‫املادتان عضويتان‪ ،‬ومتضادتان‪ ،‬ومتكاملتان‪ ،‬فتتشابهان يف الشكل والنمو‬
‫تقريباً‪ ،‬وتختلفان يف القياس والحجم‪.‬‬
‫وكام أن جذور النباتات تُغمر يف الرتاب تُغمر جذور الشعر يف جيوب‬
‫خاصة‪ ،‬فأجسادنا شكل مكثف للطبيعة من حولنا‪ ،‬ويعني ذلك أن الداخل‬
‫يقابله الخارج‪ ،‬ويتساوى معه‪ ،‬والكبري يقابل الصغري‪ ،‬ويتكامل معه‪.‬‬
‫والطاقتان الساموية واألرضية حارضتان ومتكاملتان‪ ،‬ونجد صدى‬
‫لهذا التكامل يف جسد اإلنسان‪ ،‬فـ”الكبد متامسك‪ ،‬وجامد‪ ،‬ولهذا نرى أنه‬
‫مك ّون من طاقة لولبية مركزية‪ ،‬وانفالشية‪ ،‬واملرارة جوفاء بنسبة أكرب‪ ،‬لهذا‬
‫نرى أنها مكونة من طاقة لولبية طاردة مركزية آتية من أقايص الفضاء‪ ،‬الكبد‬
‫[[[‬
‫واملرارة مختلفان يف التكوين‪ ،‬لكنهام يعمالن بوصفهام كالً واحدا ً”‬
‫ويعمل القلب بحركتني متضادتني يف الوقت نفسه‪ ،‬فهو يضخ الدم‬

‫‪[1] - Kuchi, Other Diminsions, P41.‬‬


‫‪[2] - Kuchi, Other Diminsions, P43.‬‬
‫‪[3] - Kuchi, Other Diminsions, P47.‬‬
‫‪51‬‬ ‫الثنائ ّيات الضدّية والعلم‬

‫من جهة‪ ،‬وينكمش من جهة أخرى‪ ،‬وبتكامل هاتني الحركتني املتضادتني‬


‫يكتمل عمل القلب‪ ،‬ومينح الحياة للجسد‪ ،‬فالتجاويف املوجودة يف‬
‫الجهة اليمنى تعمل عىل جمع الدم‪ ،‬وإرساله إىل الرئتني‪ ،‬أما التجاويف‬
‫املوجودة يف الجهة اليرسى للقلب فتعمل عىل ضخ هذا الدم املنتعش‬
‫القادم من الرئتني إىل جميع أنحاء الجسم‪ ،‬ومن الحركتني املتضادتني‬
‫كل خلية من خاليا الجسم التي ال تع ّد وال تحىص‪ ،‬والتي‬
‫يوزَّع الدم إىل ّ‬
‫تشبه مجرات الفضاء‪.‬‬
‫وتعمل الجهة اليمنى للقلب بطريقة اليانع إذ يجتمع الدم من أنحاء‬
‫الجسم يف القلب؛ لذلك تكون الجهة اليمنى أكرب من الجهة اليرسى‪،‬‬
‫وتضخ الجهة اليرسى الدم إىل أنحاء الجسم‪ ،‬فتعمل بطريقة الني‪ ،‬وتتمتع‬
‫بعضالت أقوى‪ ،‬وتعمل هاتان الطاقتان معاً‪ .‬فـ” طاقة األرض طاقة صعود‬
‫من الجهة اليمنى للجسم‪ ،‬وطاقة السامء طاقة انحدار إىل الجهة اليرسى‬
‫من الجسم”[[[ لذا ال يتشابه شيئان تشابهاً تاماً‪ ،‬فالكلية اليمنى أقل انفالشاً‪،‬‬
‫وأعىل موضعاً من الكلية اليرسى –عىل سبيل املثال‪ -‬فكل يشء يف الحياة‬
‫محكوم بالقوتني املتضادتني‪ ،‬التمدد‪ /‬التقلص‪ ،‬الشهيق‪ /‬الزفري‪.‬‬
‫وعنارص الطبيعة تعمل بطريقة الثنائيات الضدية‪ ،‬وكل منها يتمم‬
‫اآلخر[[[ فالنار موجودة يف الكربيت‪ ،‬واملاء يف الزئبق‪ ،‬وحني يوجدان‬
‫معاً يف أعامق األرض ينتجان مركبّاً ناجامً عن اجتامع الضدين‪ .‬هو ‪HgS‬‬
‫كربيتيد الزئبق ( (‪. Mercury sulfide‬‬
‫ويع ّد الهيدروجني أصغر ذرة مكونة من بروتون موجب –كام سبق‪-‬‬
‫والكرتون سالب‪ ،‬وهام موجودان معاً مهام زاد عدد الذرات‪ ،‬فعدد‬

‫‪[1]- Kuchi, Other Diminsions, P47.‬‬


‫[[[ـ سيتم التفصيل يف عنارص الطبيعة وعملها يف فقرة الحقة‪.‬‬
‫‪ 52‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫الربوتونات املوجودة‪ ،‬واملشحونة إيجابياً يف كل نواة يساوي عدد‬


‫االلكرتونات املشحونة سلبياً‪ ،‬والتي تطوف يف الحد األقىص من الذرة‪،‬‬
‫والكربون واألكسجني لهام مواصفات متقابلة‪ ،‬لكنهام يتآلفان بسهولة بالغة‪،‬‬
‫وكذلك األكسجني والهيدروجني لهام صفات متباعدة لكنهام يتآلفان يف‬
‫املاء‪ ،‬ويتكامالن‪ ،‬وهذا االنجذاب بني العنارص املتقابلة سبب وجود املاء‬
‫التي تغطي ثالثة أرباع الكرة األرضية‪ ،‬وأكرث من ‪ % 70‬من وزن اإلنسان‪.‬‬
‫يعني الكالم السابق أن أي عنرصين متحدين يجب أن يكونا متقابلني‪،‬‬
‫ومتكاملني‪ ،‬وحسب لغة علم الطاقة يجب أن يكون أحدهام “يانغ”‪ ،‬واآلخر‬
‫“ين”‪.‬؛ إذ يقول ميتشو كويش إن الصوديوم والبوتاسيوم يعمالن بهذه‬
‫الطريقة‪ ،‬فالصوديوم يعمل بطريقة االنكامش يف الجسم‪ ،‬والبوتاسيوم يعمل‬
‫بالطاقة االنفالشية[[[ فالطرفان ح ّدان لثنائية ضدية‪ ،‬متنافران‪ ،‬ومتكامالن يف‬
‫الوقت نفسه‪ .‬ومن الجدير ذكره أن التكامل يف هذين العنرصين ليس يف‬
‫عملهام يف بنية واحدة بل يف عملهام يف كامل الجسم‪ ،‬فال ميكن أن يتحد‬
‫الصوديوم والبوتاسيوم بل يتم التحول من عنرص إىل آخر عىل وفق رشوط‬
‫استمرار عمل جسم اإلنسان (أو الكائن الحي)‪.‬‬
‫[[[‬
‫‪ -2‬ثن�ائي�ة الني واليانغ وعناصر الطبيعة اخلمس‬
‫ميثّل الخشب‪ ،‬والنار‪ ،‬والرتاب‪ ،‬واملعدن‪ ،‬واملاء طاقات الطبيعة‬
‫الخمس‪ ،‬وتع ّد هذه العنارص نشاطات ملموسة لثنائية اليانغ‪ /‬الني‪ ،‬فباتحاد‬
‫حصتها من الني‬
‫الني واليانغ تنشأ طاقات العنارص الخمسة‪ ،‬ولكل منها ّ‬

‫‪[1] - Kuchi, Other Diminsions, P73.‬‬


‫[[[ـ انترش مفهوم العنارص الخمسة يف الثقافة الصينية يف القرن األول قبل امليالد‪ ،‬وكان له أثر كبري يف الفكر‬
‫والفلسفة الصينية يف مختلف مجاالت الحياة من الطب‪ ،‬وعلم الفلك‪ ،‬وعلم األعشاب الصيني إىل الفنون‬
‫القتالية واملوسيقى وغري ذلك‪.‬‬
‫وتهتم نظرية العنارص الخمسة بوصف التأثريات املتبادلة بني خمسة مك ّونات موجودة يف الطبيعة‪ ،‬وهي‬
‫الخشب والنار والرتاب واملاء واملعدن‪ ،‬والعمليات التي تؤدي إىل االنتقال من حالة إىل حالة أخرى‪.‬‬
‫وباختصار وضعت نظرية العنارص الخمسة لتقديم تفسري ملظاهر الطبيعة‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫الثنائ ّيات الضدّية والعلم‬

‫واليانغ‪ ،‬والواحدة منها تبطل األخرى‪“ ،‬فثمة تح ّول من الفراغ إىل الوفرة‪،‬‬
‫ومن الوفرة إىل الفراغ‪ ،‬فتأخذ دورات الطبيعة مجراها‪ ،‬ومتتزج طاقات‬
‫العنارص الخمسة بطرق ال نهائية؛ ليك تنتج الوجود الظاهري‪ ،‬فتحتوي‬
‫األشياء يف الطبيعة عىل العنارص الخمسة جميعها‪ ،‬ولكن بنسب متفاوتة‪،‬‬
‫ويوضح الشكل اآليت اشتامل األشياء يف الطبيعة عىل هذه العنارص عىل‬
‫[[[‬
‫وفق ثنائية الني واليانغ عىل وفق الرؤية التاوية‬
‫تختلف العنارص‪ ،‬وتتقابل‪ ،‬وتتكامل‪ ،‬فاملاء هو طاقة العنرص املرافقة‬
‫للشتاء‪ ،‬تتكثّف الطاقة خالله‪ ،‬وتُخ ّزن‪ ،‬ويصبح املاء قوة كامنة تنتظر أن‬

‫تُح ّرر‪ ،‬ثم يأيت الربيع بطاقة الخشب التي تنشأ من الطاقة الكامنة للامء‪،‬‬
‫كام تنمو النباتات من األرض بأمطار الربيع‪ ،‬وهي طاقة متجددة ترتافق‬
‫بالحيوية‪ ،‬والنمو‪ ،‬والتطور‪.‬‬
‫وتنضج طاقة الخشب؛ لتعطي طاقة النار املزهرة يف فصل الصيف‪،‬‬
‫فتنضج أشكال الحياة يف الصيف؛ بسبب التوهج املستمر لطاقة النار‪.‬‬

‫[[[ـ انظر موقع عالء السيد عى شبكة االنرتنت‪www.alaalsayid.com :‬‬


‫‪ 54‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫ويف نهاية الصيف تح ّول الطاقة نفسها إىل طاقة عنرص الرتاب‪،‬‬
‫وهي طاقة متوازنة‪ ،‬وعند التحول من الصيف إىل الخريف تتحول الطاقة‬
‫إىل طاقة معدن‪ ،‬تبدأ باالنكامش‪ ،‬واالنسحاب إىل الداخل‪ ،‬فالخشب‬
‫مبالمسة املعدن يُقطَع‪ ،‬والنار مبالمسة املاء تُطفأ‪ ،‬والرتاب مبالمسة‬

‫ختق‪ ،‬واملعدن مبالمسة النار يُذاب‪ ،‬واملاء مبالمسة الرتاب‬


‫الخشب يُ َ‬
‫يوقَف‪ ،‬كام يوضّ ح الشكل اآليت‪:‬‬
‫فالنار ـ عىل سبيل املثال ـ يساعد الرتاب‪ ،‬ويساعده الخشب‪ ،‬ويعيق‬
‫املعدن‪ ،‬ويعيقه املاء‪ ،‬واملاء يساعد الخشب‪ ،‬ويساعده املعدن‪ ،‬ويعيق‬
‫النار‪ ،‬ويعيقه الرتاب‪ ،‬وهكذا تتواىل الثنائيات الضدية‪.‬‬
‫وترتبط أعضاء الجسم‪ ،‬ومسارات الطاقة فيه بالعنارص الخمسة عن‬
‫طريق الوظائف التي تقوم بها‪ ،‬فجميع األشياء تُشتق من العنارص الخمسة‬
‫التي تتحكم يف املادة‪ ،‬واملشاعر‪ ،‬والتغريات املوسمية[[[‪.‬‬
‫[[[ـ للتوسع يف عنارص الطبيعة الخمسة ينظر موقع ويكيبيديا‪:‬‬
‫‪http://ar.m.wikipedia.org.‬‬
‫‪55‬‬ ‫الثنائ ّيات الضدّية والعلم‬

‫وتوضح نظرية العنارص الخمسة أن املاء يتسبب يف تكوين الخشب‪،‬‬


‫الذي ميثل السبب يف تكوين النار‪ ،‬والتي بدورها تعيد املك ّونات لألرض‪،‬‬
‫فتتكون املعادن‪ ،‬مام يتسبب يف تكوين املاء مرة أخرى‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -3‬الثن�ائي�ات الضدية وفقا للعلوم الرياضية والفزييائي�ة والكيمائي�ة‬
‫ينتظم الكون املحيط بنا أبعاد متعددة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫الصفري‪ ،‬وهو النقطة‪ ،‬ويف النقطة تنعدم الحركة‪ ،‬و َم ْن يكون‬
‫ـ البعد ّ‬
‫موجودا ً يف البعد الصفري يكون مقيدا ً بهذا البعد‪.‬‬
‫ـ البعد األول‪ ،‬وهو املستقيم املتشكّل من عدد ال نهايئ من النقاط‪،‬‬
‫وتكون حركة َمن يكون موجودا ً يف هذا البعد إىل األمام‪ ،‬وإىل الخلف‬
‫فقط؛ ألنه محكوم بالبعد املوجود فيه‪.‬‬
‫ـ البعد الثاين‪ ،‬وميكن التحرك فيه إىل االمام‪ ،‬والخلف‪ ،‬واليمني‪،‬‬
‫واليسار‪ ،‬لكن َمن يكون موجودا ً يف هذا البعد يكون محروماً من الحركة‬
‫إىل األعىل‪ ،‬واألسفل‪.‬‬
‫ـ البعد الثالث‪ ،‬باجتامع عدد ال نهايئ من البعد الثاين يتكون لدينا‬
‫البعد الثالث‪ ،‬وهو عاملنا الذي نحيا فيه‪ ،‬وفيه حرية الحركة يف االتجاهات‬
‫كلها‪ ،‬ومن بدهيات البعد الثالث أن اليشء نفسه ال ميكن أن يكون يف‬
‫مكانني مختلفني يف الوقت نفسه‪ ،‬كام ال ميكن لشيئني أن يكونا يف‬
‫املكان‪ ،‬والزمان نفسهام‪.‬‬
‫ومثة علامء يتكلمون عىل أبعاد أخرى‪ ،‬كالبعد الرابع‪ ،‬وفيه تصبح‬
‫[[[‬
‫قوانني الفيزياء التي تتحكم بالبعد الثالث مجرد لعبة‪.‬‬
‫[[[ـ للتوسع يف األبعاد‪ ،‬وهي متعددة‪ ،‬فبعض الدراسات تقول إن األبعاد ستة عرش بعداً‪ ،‬والهدف من دراسة‬
‫األبعاد تكوين هندسة موحدة للكون بأكمله‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫‪Malt Williams: http: universetoday.com/author/mvill 7 nov 2016‬‬
‫‪ 56‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫إن عامل البعد الواحد تح ّده نسختان من عامل البعد الصفري‪ ،‬وعامل‬
‫األبعاد الثالثة األوىل مكاين‪ ،‬يف حني أن البعد الرابع زمني‪.‬‬
‫و َمن يعيش يف عاملنا؛ عامل البعد الثالث غري قادر عىل اخرتاق بعد‬
‫أعىل منه‪ ،‬لكنه قادر عىل ذلك يف البعد األدىن منه‪ ،‬والبعد الثالث بعد‬
‫محكوم مبنطق الثنائيات الضدية‪ ،‬وحني نرتقي إىل بعد أعىل يتحول‬
‫التضاد إىل وحدة‪.‬‬
‫وتَظهر دراسة األبعاد عن طريق نظرية األوتار‪ ،‬أو نظرية الخيطية‬
‫(‪ )String Theory‬فاألشياء‪ ،‬أو املادة مك ّونة من أوتار َحلَقية مفتوحة‪،‬‬
‫فكل ما يف الكون مك ّون من أوتار دقيقة مهتزة‬
‫وأخرى متناهية يف الصغر‪ّ ،‬‬
‫بدءا ً بجسد الكائنات الحية وانتهاء باملجرات‪ ،‬وبحسب هذه النظرية يعزف‬
‫الكون سيمفونية أوتار فائقة متذبذبة‪ ،‬فالكون عزف موسيقي‪ ،‬ومن املمكن‬
‫معرفة الكون من خالل معرفة األوتار‪ ،‬ونغامتها[[[‪.‬‬
‫واملهم يف الكالم السابق أن البعد الثالث بعد الثنائيات الضدية‪ ،‬أما‬
‫البعد الرابع[[[ ـ كام يرى العلامء ـ فيمكن أن يوجد فيه شخص ما يف‬
‫مكانني مختلفني‪،‬وهذا األمر غري ممكن يف البعد الثالث الذي ندركه‪،‬فالبعد‬
‫الثالث الذي نعيش فيه هو الذي حكم علينا مبنطق الثنائيات‪ ،‬والتضاد يف‬

‫[[[ـ للتوسع يف نظرية األوتار الفائقة ينظر موقع ناسا بالعريب‪:‬‬


‫‪http://nasainarabic.net‬‬
‫[[[ـ يعمل السيد زولرن منذ سنوات عديدة يف مجال البعد الرابع للمكان‪ ،‬وقد اكتشف أن مثة أشياء كثرية‬
‫متعذرة يف مكان ذي ثالثة أبعاد‪ ،‬تبدو بدهية بذاتها يف مكان رباعي األبعاد‪ ،‬من ذلك مثالً أنه ميكن يف هذا‬
‫األخري قلب كرة معدنية باطنها ظاهراً‪ ،‬وكأنها قفاز‪ ،‬من غري إحداث أي ثقب فيها‪ ،‬كام ميكن ربط عقدة عىل‬
‫خيط ليس له نهايتان من الطرفني‪ ،‬أو عىل خيط ثبتت نهايتاه‪ ،‬وميكن أيضاً جعل حلقتني مغلقتني‪ ،‬ومنفصلتني‬
‫تتشابكان من غري فتح أي منهام‪.‬‬
‫انظر‪ :‬فريدريك أنجلز‪ ،1988 :‬ديالكتيك الطبيعة‪ ،‬ط‪ ،1‬ترجمة وتقديم‪ :‬توفيق سلوم‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ص‪.73‬‬
‫وكان فريدريك أنجلز قد درس يف هذا الكتاب العلوم من زاوية الديالكتيك املادي‪ ،‬فمعطيات العلوم الطبيعية‬
‫تفس إال يف ضوء الديالكتيك املادي‪ ،‬إنه ينظر إىل القوانني الديالكتيكية عىل‬
‫–حسب وجهة نظره‪ -‬ال ميكن أن ّ‬
‫أنها قوانني حقيقية لتطور الطبيعة‪ ..‬انظر مقدمة املرتجم‪ ،‬ص‪. 7‬‬
‫‪57‬‬ ‫الثنائ ّيات الضدّية والعلم‬

‫مراحل متقدمة يتحول إىل التكامل‪ ،‬ويف بعدنا الثالث نحتاج إىل طريف‬
‫الثنائية‪ ،‬فوجود أحد طرفيها فقط يعني أننا انخفضنا بالبعد إىل بعد أدىن‪،‬‬
‫فالثنائية أساس البعد الثالث؛ ألن انتفاء أحد طرفيها يعيدنا إىل البعد الثاين‪،‬‬
‫فيذهب الجدل‪ ،‬ونعود إىل حالة سكون؛ أي موت مطلق‪ ،‬وللتغلب عىل‬
‫هذه الحالة يظهر طرف الثنائية اآلخر‪.‬‬
‫وقد سبق أن مثّلنا الثنائية الضدية مبغناطيس له قطبان‪ ،‬سالب‪،‬‬
‫وموجب‪ ،‬ويتعني عىل ذلك أن األضداد القطبية تكون مرشوطة بالتأثري‬
‫املتبادل للقطبني املتضادين أحدهام يف اآلخر‪ ،‬ويعني انفصال أحد هذين‬
‫القطبني تعطل آلية الثنائية الضدية‪ ،‬فال توجد إال يف ارتباطهام‪ ،‬واتحادهام‬
‫معاً‪ ،‬وال وجود الرتباطهام إال يف تضادهام‪ ،‬كام ال وجود التحادهام‬
‫إال باختالفهام‪ ،‬وانفصالهام‪ ،‬ويعني هذا الكالم أن مثة طبيعة ديالكتيكية‬
‫لطريف الثنائية الضدية‪.‬‬
‫وال ينشأ املنطق إال من املتضادات‪ ،‬كالسبب‪ /‬النتيجة‪ ،‬العلة‪/‬‬
‫املعلول‪ ،‬التامثل‪ /‬االختالف‪ ،‬املظهر‪ /‬الجوهر‪....‬‬
‫ويعني ما سبق أن العمليات الكيميائية ترت ّد إىل ظاهريت الجذب‬
‫والدفع الكيميائيتني‪ ،‬وتتوزع الكهرباء بني جسمني أو أكرث‪ ،‬مشحونني‬
‫بشحنتني متضادتني‪.‬‬
‫ويف الرياضيات تبدأ الهندسة باكتشاف أن املستقيم واملنحني‬
‫ضدان‪ ،‬ويتعذر التعبري عن املنحني مبستقيم واحد‪ ،‬وأن االثنني‬
‫غري متقايسني‪ ،‬ومع ذلك يبدو حساب الدائرة متعذرا ً إال بالتعبري عن‬
‫محيطها من خالل الخطوط املستقيمة‪ ،‬لكن فيام يتعلق باملنحنيات‬
‫التي لها خطوط متقاربة يصبح املستقيم مندمجاً متاماً يف املنحني‪،‬‬
‫‪ 58‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫واملنحني يف املستقيم متاماً كام يف التوازي[[[‪.‬‬


‫والنظام الثنايئ الريايض يكمن وراء الحاسوب االلكرتوين الحديث‪،‬‬
‫إنه أساس رموز التكويد (‪ )Codes‬التي تستند إليها معظم العمليات‬
‫الحسابية‪ ،‬فتدار املفاتيح (‪ )Switches‬بـ “ فتح” ‪ On‬و”قفل” ‪ Off‬وحني‬
‫نريد كتابة حرف ما فإن تيارا ً جارياً فيه يتوقف حني نضغط عىل الحرف‬
‫يف لوحة املفاتيح‪ ،‬فنقطع هذا التيار الجاري‪ ،‬وهي ثنائية ضدية تكاملية‪.‬‬
‫تأخذ الحواسيب رقمني فقط يف النظام الثنايئ هام ‪ 1‬وميثله ‪On‬‬
‫و‪ 0‬وميثله ‪ Off‬ويستعمل الشخص العامل عىل الحاسوب عادة األعداد‬
‫املكتوبة بالنظام العرشي ولكن الحاسوب يح ّول هذه األعداد إىل أعداد‬
‫[[[‬
‫مكتوبة بالنظام الثنايئ قبل معالجتها‬
‫ي عدد يعالجه إىل نظام ‪ 1/0‬ويفرتض بول ‪G.‬‬ ‫يح ّول الحاسوب أ ّ‬
‫‪ Boole‬أن لدينا تيارا ً مي ّر من دارة من خالل مجموعة من املفاتيح التي‬
‫ي مفتاح منها ميكن أن يكون يف وضع الفتح ‪On‬‬
‫تعمل بصورة مستقلة‪ ،‬فأ ّ‬
‫أو وضع اإلغالق ‪ Off‬والحرف ‪ G‬مثالً يف النظام الثنايئ هو ‪1110010‬‬
‫ويستعمل كود ‪ ASCII‬يف الحواسيب الحديثة التي تقوم مبعالجة‬
‫النصوص‪ ،‬فيرتجم الحاسوب جميع أحرف اللوحة‪ ،‬والفراغات‪،‬‬
‫واألرقام‪ ،‬وتحكامت اللوحة حني يقرع عليها إىل مكآفئاتها يف ‪ASCII‬‬
‫إلجراء العمل الداخيل والتخزين يف الذاكرة‪ ،‬ثم يح ّول هذه األعداد ثانية‬
‫من الـ ‪ ASCII‬إىل األحرف والفراغات وأوامر التحكم التي تظهر عىل‬

‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪.307‬‬


‫[[[ـ للتوسع يف النظام الثنايئ يف الحاسوب انظر‪:‬‬
‫جون ماكليش‪ ،1999 :‬العدد‪ -‬من الحضارات القدمية حتى عرص الكمبيوتر‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬خرض األحمد‪ ،‬ود‪.‬‬
‫موفق دعبول‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،251‬نوفمرب‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪.‬‬
‫‪59‬‬ ‫الثنائ ّيات الضدّية والعلم‬

‫[[[‬
‫الشاشة‪ ،‬أو تطبع الشكل ذاته يف الوثيقة األصلية‬
‫ويف الفيزياء وصل الفيزيائيون الغربيون إىل نتيجة مفادها أن‬
‫املتضادات هي املت ّمامت؛ إذ تقوم املفاهيم املتضادة عىل عالقة قطبية‪،‬‬
‫أو مت ّممة بني املفهوم‪ ،‬والطرف اآلخر[[[‪.‬‬
‫ومثاالً عىل هذه العالقة بني أزواج املفاهيم ق ّدم نيلز بور ‪N. Bhor‬‬
‫صفَني متتا ّمني للواقع‬
‫فكرة التتام‪ ،‬فع ّد صورة الجسيم‪ ،‬وصورة املوجة‪َ ،‬و ْ‬
‫فكل صورة‬
‫كل منهام صحيح جزئياً‪ ،‬وله مجال محدود من التطبيق‪ّ ،‬‬
‫نفسه‪ّ ،‬‬
‫منهام رضورية لتقديم وصف كامل للواقع الذ ّري[[[‪.‬‬
‫كل جسيم يوجد مقابله مضا ّد له بكتلة متساوية‪،‬‬
‫يف الفيزياء الحديثة ّ‬
‫وشحنة متعاكسة[[[ فثمة وجود لجسيم مضاد لكل جسيم بكتلة متساوية‪،‬‬
‫لكن بشحنة معاكسة‪ ،‬فالفوتون مثالً هو الجسيم املضاد لنفسه‪ ،‬والجسيم‬
‫املضاد لاللكرتون هو البوزيرتون‪ ،‬ومن ث ّم هنالك بروتون مضاد‪،‬‬
‫ونيوترون مضاد‪ ،‬وحني يصدم الربوتون والربوتون املضاد توجد مثانية‬
‫بيونات ناجمة عن هذا التصادم[[[ حني تكون الطاقة عالية‪.‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪190‬‬
‫[[[ـ لقد أق ّر كثري من الفيزيائيني املعارصين باالنسجام العميق بني الحكمة الصينية القدمية‪ ،‬والفكر الغريب‬
‫الحديث‪ ،‬وقد شخّص الصينيون تتام ّية املتضادات بالقطبني النمطيني الكبريين «الني‪ ،‬واليانغ» ورأوا يف‬
‫الدينامي جوهر ظواهر الطبيعة كلها‪ ،‬واملواقف البرشية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تفاعلهام‬
‫انظر‪ :‬فرتيجوف كابرا‪ ،1999 :‬الطاوية والفيزياء الحديثة‪ ،‬ط‪ ،1‬ترجمة‪ :‬حنا عبود‪ ،‬دار طالس‪ ،‬دمشق‪ .‬ويدرس‬
‫هذا الكتاب التامثل بني الفكر الصيني القديم حول ثنائية الني واليانغ والعلوم الفيزيائية الحديثة‪.‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪ 147‬إن مثة قوة جذب الكرتوين بني النواة الذرية ذات الشحنة املوجبة وااللكرتونات‬
‫ذات الشحنة السالبة‪ ،‬وتتفاعل هذه القوة مع أمواج االلكرتون‪ ،‬فيخلق تن ّوعاً ضخامً من البنى والظواهر يف‬
‫بيئتنا‪ .‬إنه املسؤول عن التفاعالت الكيميائية‪ ،‬وعن تشكل الجزيئات؛ أي تجميع عدد من الذرات ترتبط‬
‫الواحدة باألخرى بسبب الجذب املتبادل‪ ،‬فالتفاعل بني االلكرتونات والنويات الذريّة هو أساس كل األجسام‬
‫الصلبة والسائلة والغازية‪ ،‬وكذلك كل العضويات الحية‪ ،‬والعمليات البيولوجية املرافقة لها‪ .‬فثمة تناظر يف‬
‫الظواهر الطبيعية الفيزيائية‪ ،‬فقد اكتشفت الفيزياء الحديثة أن الطاقة الثابتة املتدفقة من الشمس التي هي حلقة‬
‫اتصالنا بالكون الضخم جداً هي نتيجة تفاعالت نووية لظواهر تجري يف العامل املوغل يف الصغر‪ .‬املرجع‬
‫السابق‪ ،‬ص‪73‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪. 76‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪.214‬‬
‫‪ 60‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫إن هنالك تدفقاً دامئاً يف الطاقة ترقص فيه الجسيامت رقصاً إيقاعياً‬
‫مؤدّية عمليتي الخلق والتدمري‪ ،‬فقد بنيت الفيزياء الحديثة عىل فكرة‬
‫الحركة واإليقاع‪ ،‬فكل مادة يف األرض‪ ،‬أو يف الكون الخارجي موجودة‬
‫يف حال رقص كوين مستمر‪.‬‬
‫جسيم ما دون الذ ّرة يف منطقة ضيقة من‬
‫ومثاالً عىل هذه الحركة يوجد ُ‬
‫الفراغ‪ ،‬ويقوم بر ّد فعل عىل احتباسه فيها بالتحرك دائرياً‪ ،‬وكلام ازدادت‬
‫املنطقة املحتبس فيها ضيقاً ازدادت رسعة اهتزازه‪ ،‬ودورانه[[[ ويعني ذلك‬
‫أن الجسيامت متيل إىل رد الفعل عىل الحصار بالحركة‪ ،‬فهي ال تعرف‬
‫الراحة‪ ،‬بل متيل ميالً فطرياً إىل الدوران؛ ألنها غري مستقرة أساساً‪.‬‬
‫املادة ليست سلبية وخامدة يف الفيزياء‪ ،‬بل تتحرك حركة دؤوبة وراقصة‪،‬‬
‫تقوم البنى النووية‪ ،‬والذرية بتحديد إيقاعها تبعاً لثنائية التقييد‪ /‬الحركة‪،‬‬
‫وينطبق هذا الكالم عىل عامل النجوم‪ ،‬واملجرات‪ ،‬فالكون ليس ثابتاً بل‬
‫يندرج يف ثنائية‪ :‬متدد‪ /‬تقلص‪ ،‬فالكون ـ حسب علم الفلك الحديث‪ -‬يأخذ‬
‫[[[‬
‫يف االتساع والتمدد دورياً عىل وفق إيقاع خاص بالخلق الكوين‬
‫وتع ّد ثنائية “االمتالء والفراغ” الثنائية التي تأسست عليها ذ ّرية‬
‫دميقريط ‪ Democritus‬ونيوتن ‪ I.Newton‬وال ميكن لهذين املفهومني‬
‫يف النسبية العامة ل إنشتاين ‪ A. Einstein‬أن ينفصال‪ ،‬فحيثام يكون جسم‬
‫ضخم سيكون أيضاً حقل جاذيب يُظهر انحناء يف الفضاء املحيط بذلك‬

‫الكم (‪ )Quantum Theory‬ال تعرف الهدوء‪ ،‬بل تكون‬ ‫ّ‬ ‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪ 176‬املادة طبقاً لنظرية‬
‫دامئاً يف حالة حركة‪ ،‬واألشياء املادية حولنا مصنوعة من الذرات املرتبطة بعضها ببعض بطرق شتى؛ لتشكّل‬
‫هذا التنوع الهائل من البنى الجزيئية التي تتذبذب‪ ،‬ويف الذرات املهتزة ترتبط االلكرتونات بالنواة الذرية عن‬
‫طريق قوى كهربائية تحاول االحتفاظ بهذه االلكرتونات أقرب ما ميكن فيكون ردّها عىل هذا التقييد بالدوران‬
‫دائرياً أقىص ما ميكن‪ .‬انظر املرجع السابق‪ ،‬ص‪. 178‬‬
‫[[[ـ الجدير ذكره أن هذه النظرة الفيزيائية الحديثة تتفق مع الفلسفة التاوية القدمية التي تقول‪:‬‬
‫«السكون يف السكون ليس السكون الحقيقي‪ ،‬فقط حني يوجد السكون يف الحركة ميكن أن يظهر اإليقاع‬
‫الروحي الذي يبسط ظله يف األرض‪ ،‬والسامء» املرجع السابق‪ ،‬ص‪.178‬‬
‫‪61‬‬ ‫المصادر والمراجع‬

‫الجسم‪ ،‬لكن االثنني ال ميكن التفريق بينهام‪ ،‬فال ميكن للامدة –يف‬
‫نظرية إنشتاين[[[ أن تنفصل عن حقل جاذبيتها‪ ،‬وحقل الجاذبية ال ميكن‬
‫أن ينفصل عن الفضاء املنحني‪ ،‬فاملادة والفضاء يبدوان غري منفصلني‪،‬‬
‫وجزأين مرتابطني ميثالن كالً واحدا ً‪.‬‬
‫‪-‬املصادر واملراجع‬
‫‪ -‬أنجلز‪ ،‬فريدريك ‪ ،1988‬ديالكتيك الطبيعة‪ ،‬ط‪ ،1‬ترجمة وتقديم‪:‬‬
‫توفيق سلوم‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‬
‫‪-‬كابرا‪ ،‬فرتيجوف‪ ،1999 :‬الطاوية والفيزياء الحديثة‪ ،‬ط‪ ،1‬ترجمة‪ :‬حنا‬
‫عبود‪ ،‬دار طالس‪ ،‬دمشق‬
‫‪-‬ماكليش‪ ،‬جون‪ :‬العدد‪ -‬من الحضارات القدمية حتى عرص الكمبيوتر‪،‬‬
‫ترجمة‪ :‬د‪ .‬خرض األحمد‪ ،‬د‪ .‬موفق دعبول‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬املجلس‬
‫الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬العدد ‪ ،251‬نوفمرب‪.‬‬
‫‪-‬املراجع األجنبي�ة‬
‫‪Mitchio Kushi with Edward Esko, OTHER DIMINSIONS‬‬
‫‪Exploring the Unexplained, 1992, Avery publishing Group‬‬
‫‪Inc. Garden city park, New York.‬‬
‫‪-‬املراجع االلكرتوني�ة‬
‫‪http://nasainarabic.net‬‬
‫‪Malt Williams: http: universetoday.com/author/mvill 7 nov 2016‬‬
‫‪http://ar.m.wikipedia.org‬‬
‫‪www.alaalsayid.com‬‬

‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪.192‬‬


‫الفصل الثالث‬
‫الثنائيات الضدية‬
‫والبعد الفلسفي‬
‫املفسة‬
‫ّ‬ ‫الثنائية (‪ )Dualism‬نظرية فلسفية تقول بازدواج املبادئ‬
‫للكون‪ ،‬ومنها ثنائية األضداد وتعاقبها‪ ،‬فهي تع ّد الجوهرين‪ :‬الروحي‪،‬‬
‫ينحل أحدهام يف اآلخر‪ ،‬خالف الواحدية‪.‬‬
‫واملادي جوهرين متساويني‪ ،‬ال ّ‬
‫وتتمثل خالصة الفلسفة املادية الثنائية يف أنها اجتامع األضداد؛ إذ‬
‫يتغلب الضد عىل ضده‪ ،‬فال توجد حالة إال وهي تنطوي عىل ما يتضاد‬
‫معها‪ ،‬فال تبلغ متامها إال بظهور الضد‪ ،‬فالتضاد –حسب الفلسفة‪ -‬جذر‬
‫كل مادة حيوية [[[‪.‬‬
‫والثنائية من املالمح البارزة لفلسفة أفالطون ‪ ،Plato‬وديكارت ‪R.‬‬
‫‪ ،Descartes‬وكانت‪ ،‬وتشري الثنائية إىل أصل العامل القائم عىل مبدأين‬
‫متضادين متاميزين‪ :‬الوجود املادي‪ ،‬والوجود الذهني‪ ،‬فكل كيان ميتلك‬
‫وعبت نظرية املثل عند‬‫صفاته الخاصة واملتضادة مع الكيان اآلخر‪ّ ،‬‬
‫أفالطون عن أمنوذج مثايل للفكر الثنايئ‪ ،‬وأقام أفالطون فكره االثنيني‬
‫عىل ثنائية الحقيقي؛ أي املثل‪ ،‬والال حقيقي؛ أي املوضوع الحيس الذي‬
‫ظل‪ ،‬ومرآة تظهر ذلك املثال‪.‬‬
‫ميثل الال يقني‪ ،‬وهو موجود؛ ألنه ّ‬
‫وحاول أرسطو تجاوز ثنائية أفالطون‪ ،‬فظهرت الثنائية يف الفلسفة‬
‫األرسطية يف قطبي الوجود‪ :‬املادة‪ /‬الصورة‪ ،‬ويرفض أرسطو التقاء‬
‫املتضادات مع أنها موجودة يف الطبيعة‪ ،‬فتمثل املادة اإلمكان الوجودي‪،‬‬
‫ومتثل الصورة الوجود الفعيل‪.‬‬
‫[[[ـ يف القرن السادس قبل امليالد ظهر ما ُيع َرف بأبحاث إنكسمندر‪ ،‬وهو فيلسوف إغريقي يعدّ أول فيلسوف‬
‫تتأكد املعرفة يف حياته‪ ،‬ويقال إنه أول من وضع خريطة للعامل‪ ،‬وله كتاب طبيعة األشياء‪ ،‬رشح فيه نظرته حول‬
‫العامل‪ ،‬وأنه من مبدأ الال متناهي؛ أي املادة األوىل التي تجمع األضداد كلها‪ ،‬وبفعل الحركة تنفصل‪ ،‬وتتصل‬
‫ثانية‪ ،‬وتولد منها الكائنات واألشياء‪ .‬انظر‪ :‬عبد املنعم حفني‪ ،2010 :‬موسوعة الفلسفة والفالسفة‪ ،‬مكتبة‬
‫مدبويل‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج‪.203 /1‬‬
‫‪65‬‬ ‫الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي‬

‫ويف العرص الحديث يطالعنا رينيه ديكارت بثنائيته‪ ،‬فالعقل والجسد‬


‫غري متوامئني‪ ،‬رأى ديكارت أن العقل غري مادي‪ ،‬ويقصد به اإلدراك‬
‫والوعي الذايت‪ ،‬وف ّرقه عن الدماغ بأنه موضع الذكاء‪ ،‬فكان أول من صاغ‬
‫ثنائية العقل‪ ،‬والجسد[[[‪.‬‬
‫‪ -1‬بن�اء الفلسفة على الثن�ائي�ة الضدية‬
‫بحثت الفلسفة يف ثنائيات متعددة[[[‪ ،‬أبرزها‪:‬‬
‫‪-‬ثنائية الوحدة‪ /‬الكرثة‪ ،‬وهي أكرب الثنائيات الفلسفية‪ ،‬دخلت يف‬
‫جوانب علمية‪ ،‬وإنسانية‪ ،‬والهوتية‪ ..‬وصدرت عنها ثنائية الخلق‪ /‬األزلية‪،‬‬
‫ويعني طرف الخلق أن الواحد أصل الكرثة يف حني تعني األزلية أن األشياء‬
‫يصدر بعضها عن بعض‪ ،‬وجميعها أزلية‪ ،‬وقامئة يف ذاتها‪ ،‬ودخلت هذه‬
‫الثنائية يف فلسفة األخالق‪ ،‬وفلسفة علم االجتامع‪ ،‬فتُقابل الكرث ُة الوحدةَ‪،‬‬
‫وهي كرثة مركّبة من جملة آحاد‪ ،‬وتثري هذه الثنائية أسئلة وجودية‪ ،‬فهل‬
‫الكرثة يف الوجود بوصفها جملة آحاد ميكن ردّها إىل الوحدة؟‬
‫‪-‬ثنائية حدوث الوجود‪ /‬قدمه‪ ،‬وهي ثنائية أثري حولها جدل كبري؛‬
‫التصالها مبوضوع اإلميان الديني‪ ،‬فقد قال الفالسفة اليونان بقدم العامل‪،‬‬
‫وفالسفة آخرون قالوا بحدوثه‪.‬‬
‫‪-‬ثنائية الطبيعي‪ /‬فوق الطبيعي‪ ،‬يرى طرف ثنائية الطبيعي أن هنالك‬
‫عاملاً واحدا ً يحتوي كل يشء‪ ،‬ويرى أنصار الطرف الثاين وجود عاملني‪:‬‬
‫[[[ـ للتوسع يف هذه الفكرة انظر‪:‬‬
‫موقع ويكيبيديا‪ -‬املوسوعة الح ّرة‪ -‬ثنائية ديكارتية‪2016/11/26 ،‬‬
‫‪http://ar.wikipedia.org‬‬
‫[[[ـ مثة فلسفات تخلصت من الثنائيات‪ ،‬كفلسفة الزن‪ ،‬ويعني مصطلح الزن التأمل والتبرص‪ ،‬وتقوم عىل‬
‫التخلص من الثنائيات‪ ،‬فالزن هو اإلنصات بعمق للصمت الداخيل‪ ،‬بضبط النفس‪ ،‬والوعي بالقلب وعياً‬
‫صافياً‪.‬‬
‫للتوسع يف فلسفة الزن انظر‪ :‬جان لوك توال‪ ،2011 :‬فلسفة الزن‪ -‬رحلة يف عامل الحكمة‪ ،‬ط‪ ،1‬ترجمة ثريا‬
‫إقبال‪ ،‬هيئة أبو ظبي للثقافة والرتاث‪.‬‬
‫‪ 66‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫طبيعي وما فوق طبيعي‪ ،‬ويعني ذلك أن الروح تبقى يف العامل فوق‬
‫الطبيعي بعد موت الجسم الطبيعي‪.‬‬
‫‪ -2‬الثن�ائي�ات الضدية يف الفلسفة القديمة‪:‬‬
‫‪1--2‬الفلسفة الصيني�ة وثن�ائي�ة الني واليانغ‬
‫كل قطب من القطبني السالب‪،‬‬
‫ترى الفلسفة الصينية القدمية أن ّ‬
‫ولكل قطب صفات‬
‫ّ‬ ‫واملوجب ال يقوم مبعزل عن القطب املضاد له‪،‬‬
‫مضادة لصفات القطب اآلخر‪ ،‬وتلك الصفات تح ّدد نوعية ما ينجم عنه‬
‫من مظاهر الكون‪ ،‬فاليانغ املوجب إذا غلب الني السالب نجم ما له‬
‫صفة موجبة‪ ،‬وإذا غلب الني السالب نجم ما له صفة سالبة‪ ،‬وعىل ذلك‬
‫يقوم نظام الكون‪ ،‬فكل ما فيه نتيجة تجاذب أقطاب الخري والرش التي‬
‫متثّل النور‪ /‬الظالم‪ ،‬الحياة‪ /‬املوت‪ ،‬الذكر‪ /‬األنثى‪ ،‬ويعني هذا الكالم أن‬
‫الفلسفة الصينية تقوم عىل فكرة القطبني املتجاذبني‪ ،‬ال املتنافرين؛ إذ‬
‫[[[‬
‫يجتمع الني واليانغ يف إطار واحد‪ ،‬وال فاعلية ألحدهام من غري اآلخر‪.‬‬
‫تشكل الثنائيات الضدية ـ إذن ـ جزءا ً من اإليقاع الكوين والبرشي‪،‬‬
‫صاغه الفكر الصيني يف تناوب املبدأين “يانع وين”‪ ،‬وهي ثنائيات متثل‬
‫أمثلة متعددة من أزواج كونيات‪ ،‬واجتامعيات‪ ،‬ودينيات ضمنت التناوب‬
‫اإليقاعي للحياة والعامل‪ ،‬وتلتقي جميع الفلسفات والديانات القدمية يف‬
‫فكرة الثنائية‪ ،‬كالثنائية الفارسية لزرادشت يف املانوية‪ ،‬فقد ع ّد زرادشت‬
‫العامل خليطاً من الروحي واملادي‪ ،‬ويكون الخالص نتيجة جهد طويل‬

‫[[[ـ يقوم الفكر الصيني منذ أقدم األزمنة عىل النظر إىل الحياة واإلنسان والوجود بأكمله عىل أنه نتاج حركة‬
‫قوتني ساريتني يف مظاهر الوجود كلها هام الني واليانغ‪ ،‬والسالب‪ ،‬واملوجب‪ ،‬املؤنث‪ ،‬واملذكر‪ ،‬وهاتان‬
‫القوتان عرب تعارضهام متعاونتان‪ ،‬وال قيام إلحداهام مبعزل عن األخرى‪ ،‬فهام أشبه بالقطب السالب‪ ،‬والقطب‬
‫املوجب يف املغناطيس‪.‬‬
‫انظر‪ :‬الو تسو‪ ،1998 :‬التاو‪ ..‬يت‪ ..‬تشينغ‪ ..‬إنجيل الحكمة التاوية يف الصني‪ ،‬ط‪ ،1‬ترجمة ورشح وتعليق‪:‬‬
‫فراس السواح‪ ،‬دار عالء الدين‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص‪.10-9‬‬
‫‪67‬‬ ‫الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي‬

‫وصعب من أجل فصل النفس عن املادة‪ ،‬والنور عن الظلامت التي تأرسه‪.‬‬


‫ويف الحقيقة انطلقت الروحية اإليرانية‪ ،‬والعرفان (الغنويص)‬
‫الهلنستي‪ ،‬والغنوصيات الهندية (السمهكياريوجا والبوذية) من فكرة‬
‫الثنائيات الضدية‪ .‬وأعظم الثنائيات لدى اليانغ والني ثنائية الوجود يف‬
‫العامل املادي املتجسد‪ ،‬وض ّده غري املتجسد (الطاقة الكونية) أو األثري‬
‫الذي يحتفظ بخصائص الكيل‪ :‬الالمريئ‪ ،‬الذي ال شكل له‪ ،‬وال نهاية‪،..‬‬
‫وترمز ثنائية اليانغ والني إىل الوظيفة التي كانوا يعتقدونها للقوى الثنائية‬
‫املختلفة للكون‪ ،‬فالني ميثل القمر‪ ،‬واألنوثة‪ ،‬والسكون‪ ،‬والربودة‪،‬‬
‫والسلبية يف حني ميثل اليانغ الذكورة‪ ،‬والشمس‪ ،‬والحركة‪ ،‬والحرارة‪،‬‬
‫واإليجابية‪.‬‬
‫يف هذه الفلسفة بحث عن التضاد املتكامل لصيغتني للحياة‪ ،‬ولتناوب‬
‫مبدأين كونيني اليانع والني‪ .‬فاإليقاعات الكونية محكومة بتفاعل اليانغ‪،‬‬
‫والني‪ .‬وميكن القول‪ :‬إن اتجاهات الفكر الديني كلها يف الصني القدمية‬
‫لها قاسم مشرتك يف عدد من األفكار األساسية‪ ،‬فالحياة واملوت للكائنات‬
‫يفسان بتناوب اليانع‪ ،‬والني‪ :‬األول ينشط الطاقات الحيوية‪ ،‬والثاين‬‫َّ‬
‫[[[‬
‫يجلب الراحة‪.‬‬
‫وتنطلق الديانة يف عرص الربونز يف ديانات الصني القدمية من ثنائية‬
‫النور‪ /‬الظلمة‪ ،‬فالحياة منبثقة من الظلامت‪ ،‬ومن املوت‪ ،‬ومام مييزها‬
‫أيضاً “اتحاد الصور املتعاكسة (األفعى ذات الريش‪ ،‬األفعى والنرس‪)...‬‬
‫وبعبارة أخرى إن جدلية األضداد‪ ،‬واتحاد املتعارضات الزمة مركزية‬
‫[[[‬
‫بالنسبة للفالسفة والصوفيني التاويني‪”.‬‬
‫[[[ـ لالستزادة يف ثنائية اليانغ والني انظر‪ :‬مرسيا إلياد‪ ،1987 - 1986 :‬تاريخ املعتقدات واألفكار الدينية‪،‬‬
‫ترجمة عبد الهادي عباس‪ ،‬ط‪ ،1‬دار دمشق‪ ،‬ج‪.30 19- / 2‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ 68‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫ترتد أصولية الفكر الصيني إىل دورة املبادئ املتضادة‪ ،‬واملتكاملة‪،‬‬


‫واملعروفة تحت اليانغ والني “وإن النامذج الجذورية املفصلية بدأت من‬
‫مختلف األنواع لالنشطار الثنايئ أو التعددي‪ ،‬ومن االزدواجية أو التناوب‪،‬‬
‫ومن أزواج متضادة‪ ،‬ومن توافق املتضادات تصادف يف كل مكان من‬
‫العامل‪ ،‬وعىل كل مستويات الثقافة‪ ،‬وتأيت أهمية الزوجني من األضداد يانع‬
‫وين من واقعة أنها مل تخدم نظاماً للتصنيف الشامل فحسب‪ ،‬ولكن من‬
‫كونها إضافة إىل ذلك قد تطورت يف علم كوين “كوزمولجيا”‪ ،‬ومنهجت‬
‫عددا ً كبريا ً من تقنيات الجسد‪ ،‬ونظامات الروح من جهة‪ ،‬وحثّت عىل‬
‫[[[‬
‫التأمالت الفلسفية األكرث فاألكرث دقة ومنهجية من جهة أخرى‪”.‬‬
‫ويع ّد كتاب التغريات “إي‪ -‬جنج” أقدم وثيقة ورقية مكتوبة حفظها‬
‫الرتاث الصيني القديم‪ ،‬استمد منه كونفوشيوس حكمه‪ ،‬وجاء فيه أن‬
‫[[[‬
‫الثنائية الرمزية “الني واليانغ” مصدر الحقائق الكونية‪.‬‬
‫ويوضح الشكل اآليت تشكل مظاهر الطبيعة كلها من تضاد الني‬
‫واليانغ ودروانهام املستمر‪:‬‬
‫وقد أتت التاوية‪ ،‬وأسهبت يف فاعلية اليانغ والني يف الكون‪ ،‬ويُرمز‬
‫للتاو يف الفكر الصيني القديم بدائرة يتناوب فيها األبيض واألسود‪ ،‬أو‬
‫اليانغ والني‪ ،‬تنجم عن دوران القوتني املوجبة والسالبة‪ ،‬ويدخل األبيض‬
‫يف األسود‪ ،‬ويدخل األسود يف األبيض‪ ،‬فال حدود بني الطرفني املتضادين‪،‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫[[[ـ يقال إن هذا الكتاب كتبه ون وانج أحد مؤسيس أرسة جو يف سجنه‪ ،‬وأبسط مبادئه مستمدة من فويش‬
‫الذي عاش قبله بزمن طويل‪ .‬وتتلخص النظرة يف هذا الكتاب يف أن مثة قوة عليا تعرف باسم التاي‪ -‬جي‪،‬‬
‫الحقيقة املطلقة‪ ،‬تأيت بعدها القوتان املتضادتان يف الكون‪ ،‬الفاعلية‪ ،‬واالنفعال‪ ،‬أو اليانغ والني‪ ،‬وميتزجان مع‬
‫كل منهام عىل ضديته‪ ،‬ومن هذا التامزج يتم التحكم يف األشياء‪ ،‬وإكسابها صورها‪.‬‬ ‫محافظة ّ‬
‫فالني واليانغ ليسا خصمني‪ ،‬بل هام متوازيان‪ ،‬ال غنى ألحدهام عن اآلخر‪ ،‬وال نتاج لطرف يف غياب الطرف‬
‫اآلخر‪ ،‬إنهام متكامالن يف الفعل واإلنتاج‪ ،‬وبغري وجودهام معاً ينتهي الكون‪.‬‬
‫انظر‪:‬‬
‫ول ديورانت‪ ،‬قصة الحضارة‪ ،‬مجلد‪ ،1‬ج‪/4‬ص‪27‬‬
‫‪69‬‬ ‫الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي‬

‫ويحمل الض ّد شيئاً من خصائص ضده‪ ،‬ويتخذ كل ضد معناه من ضده‬


‫ويعب الخط الفاصل بني‬
‫ّ‬ ‫حيث ال نور من غري ظالم‪ ،‬وال خري من غري رش‪،‬‬

‫املساحتني يف الدائرة عن ظهور املتضادات إىل الوجود‪ ،‬فظهر املكان‬


‫من رحم الهيوىل‪ ،‬وانحلت الوحدة إىل قوى متعارضة‪ ،‬متضادة‪ ،‬متجاذبة‬
‫يف الوقت نفسه‬
‫يف القسم األبيض نقطة سوداء‪ ،‬فال اليانغ يتجىل يف حاله الرصفة‪ ،‬وال‬
‫الني‪ ،‬ففي كل إيجاب يشء من السلب‪ ،‬ويف كل سلب يشء من اإليجاب‪،‬‬
‫ويتخذ القسامن وضعاً دورانياً حركياً إشارة إىل التناوب الدائم بينهام‪:‬‬
‫ويقابل الني واليانغ الصينية فكرة الكامي اليابانية‪ ،‬لكن يف اليابان لها‬
‫اسم واحد بوظيفة مزدوجة ضدية الفعل‪ ،‬فمنها القوى النافعة‪ ،‬والقوى‬
‫‪ 70‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫الضارة‪ [[[.‬فالكامي فلسفة يابانية خاصة يصدر عنه الخري والرش‪ ،‬فالكامي‬
‫قوة مؤثرة يف الكون‪ ،‬ومن نتائج تأثريها أفعال الخري والرش‪ ،‬ويشمل كل من‬
‫ميتلك قوى غري طبيعية تثري االحرتام والتبجيل حيناً‪ ،‬وتبعث عىل الخوف‬

‫والرهبة حيناً آخر‪.‬‬


‫ومن أقوال الوتسو التي بنيت عىل الثنائيات الضدية‪:‬‬
‫‪-‬االنحناء هو االستقامة‬
‫‪-‬الفراغ هو االمتالء‬
‫ومن أقوال جنك تيس‪:‬‬
‫[[[‬
‫‪-‬ألن هنالك قبحاً يرون يف الجميل جامالً‬
‫وحني ينعدم التضاد بني هذا الطرف وذاك نبلغ التاو‪ -‬االنسجام الكيل‪،‬‬
‫[[[ـ أسعد السحمراين‪ ،2009 :‬ترجامن األديان‪ ،‬دار النفائس للطباعة والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪316‬‬
‫[[[ـ لالستزادة حول فلسفة التاو ينظر‪:‬‬
‫‪-‬هادي العلوي‪ ،2002 :‬كتاب التاو‪ ،‬دار املدى‪ ،‬بغداد‬
‫‪-‬رانية مشلب‪ ،2001 :‬التاو‪ ،‬مؤسسة االنتشار العريب‪ ،‬بريوت‬
‫‪71‬‬ ‫الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي‬

‫ي طرف منها إال مقرتناً بالطرف اآلخر‪،‬‬


‫فالثنائية الضدية تكاملية‪ ،‬وال يوجد أ ُّ‬
‫فال شهيق من غري زفري‪ ،‬وال ذكر من غري أنثى‪ ،‬وكل منهام يحمل القدرة‬
‫عىل التحول نحو اآلخر‪ .‬فثنائية الخري‪ /‬الرش تعني أنه ال يوجد خري مطلق‪،‬‬
‫ورش مطلق‪ ،‬وثنائية ذكر‪ /‬أنثى تعني أن يف الرجولة بعضاً من سامت‬
‫األنوثة‪ ،‬وكذلك األمر يف األنوثة‪.‬‬
‫‪2--2‬الثن�ائي�ات الضدية والمانوية‬
‫املانوية سفرية مصطلح الثنائيات الضدية إىل العامل‪ ،‬وتقول املانوية‬
‫إن الكون قائم عىل ثنائية الخري والرش الضدية‪ ،‬وهام أبديان متساويان‬
‫يف كل يشء‪ ،‬وال ينترص أحدهام عىل اآلخر‪ .‬إن الظالم والنور –حسب‬
‫[[[‬
‫املانوية‪ -‬أصالن أزليان‪ ،‬وال فرق بينهام إال يف التضاد‬
‫لقد انشغلت الديانات القدمية‪ ،‬واألفكار الفلسفية بثنائية الفناء‪/‬‬
‫الخلود‪ ،‬وغريها من الثنائيات‪ .‬فالروح ـ ال الحياة ـ هي اليشء األكرث قيمة؛‬
‫يل وأبدي‪ [[[ .‬والفكر الديني الهندي منذ عرص‬
‫ألنها تنتمي إىل عامل مثا ّ‬
‫الرباهامنا‪ -‬عىل سبيل املثال‪ -‬سعى إىل اتجاه التوفيق بني األضداد‪ ،‬فكان‬
‫وقال املذهب املانوي بالرصاع بني النور‬ ‫[[[‬
‫هذا االتجاه أبرز ما مييزه‪،‬‬
‫والظالم‪ ،‬وقامت الزردشتية واملانوية عىل ثنائية الخري‪ /‬الرش‪ .‬واملانوية‬
‫لسفة غنوصية (عرفانية) دمجت البوذية والزردشتية واليهودية واملسيحية‪،‬‬

‫[[[ـ تكمن الثنائية املانوية يف قلب تعاليم ماين‪ ،‬فالله أب العظمة‪ ،‬يعارضه أمري الظالم‪ ،‬واالثنان عنرصان‬
‫أوليان‪ .‬انظر‪ :‬جفري بارندر‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬املعتقدات الدينية لدى الشعوب‪ ،‬ترجمة إمام عبد الفتاح‪ ،‬مراجعة عبد‬
‫الغفار مكاوي‪ ،‬مكتبة مدبويل‪ ،‬ص‪150‬‬
‫وتق ّر املانوية أن إله النور والخري خلق اإلنسان من نور‪ ،‬فكان نورانياً شفافاً‪ ،‬غري أن إله الظلمة والرش عمد إىل‬
‫خلق جسم اإلنسان من مادة كثيفة؛ لتكون سجناً للروح اإلنسانية النورانية‪ ،‬وكان هذا الجسم هو سبب الشقاء‬
‫الذي يعانيه اإلنسان‪ ،‬وال سبيل إىل الخالص منه إال بالعمل عىل إفناء هذا الجسم‪ ،‬والتخلص منه‪ ،‬فنادت‬
‫بالزهد والتقشف‪ ،‬وح ّرمت الزواج للقضاء عىل النسل‪ .‬انظر‪ :‬إبراهيم محمد إبراهيم‪1406 :‬هـ‪ ،‬األديان الوضعية‬
‫يف مصادرها املقدّ سة‪ ،‬مطبعة األمانة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬س‪196‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.215‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪.261‬‬
‫‪ 72‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫انطلقت من فكرة وجود إلهني أزليني‪ :‬إله الظلمة‪ ،‬وإله النور‪ ،‬وقد نشأ‬
‫العامل‪ -‬حسب معتقداتها ـ من امتزاج النور بالظلمة‪ .‬فالله هو الخري والنور‪.‬‬
‫والشيطان هو الخطيئة والظالم‪ ،‬وال بد من احتقار الحياة‪ ،‬ونبذ الجسد‪،‬‬
‫وتفضيل املوت من أجل تخليص الروح والنور من سجن الجسد والظالم‪.‬‬
‫واملانوية عقيدة دينية غنوصية‪ ،‬أي عرفان رباين بال وساطة‪ ،‬يهدف إىل‬
‫كنه األرسار اإللهية‪ ،‬ظهرت يف فارس يف القرن الثالث امليالدي‪ ،‬ونسبت‬
‫[[[‬
‫إىل الحكيم الفاريس ماين املرتبط مبذهب غنويص‪.‬‬
‫وتعني املانوية الروح العارفة التي تحقق االستنارة‪ ،‬وتدرك أصلها‬
‫النوراين‪ ،‬و يجعل العرفا ُن النو َر منترصا ً عىل الظالم‪ ،‬وقد ادّعى ماين‬
‫أن كشفني إلهيني دفعاه إىل إعالن مذهبه‪ ،‬ويقوم هذا املذهب عىل‬
‫االعرتاف ببعض الديانات السابقة ماعدا اليهودية التي كان يبغضها‪ ،‬وقال‬
‫إنه جاء؛ ليتمم عمل زرادشت وبوذا واملسيح‪ ،‬وتتبنى هذه العقيدة بعض‬
‫املفهومات التقليدية الفارسية املتمثلة بالثنائية النور و الظلمة‪ ،‬واألسطورة‬
‫واألخروية‪ ...‬والعامل ـ يف رأيها ـ مصنوع من النور والظلمة‪ ،‬وهام أصالن‬
‫أزليان قدميان‪ ،‬وقد أُبدع العامل املادي بدئياً من قوة شيطانية ولدتها‬
‫الظلمة‪ ،‬واإلنسان هو عمل قوى شيطانية تأمتر بأمر أمري الظالم‪ ،‬و َخل ُْق‬
‫اإلنسان ت ّم بحركة يائسة من املادة يك متسك بجزئيات النور‪ ،‬فوجود‬
‫اإلنسان والطبيعة والحياة يرجع إىل عدو الله أمري الظالم[[[‪.‬‬
‫للنور فعل الخري والصالح والرسور والنظام‪ ،‬وللظلمة فعل الرش‬
‫والفساد والرضر والغم‪ ..‬ومثة أضداد للطرق املعلنة من قبل أب النور‪،‬‬
‫ويقتيض الخالص ثالث محطات‪ :‬اليقظة‪ ،‬وكشف العلم املنقذ‪،‬‬
‫[[[ـ مجموعة من الكتاب‪ ،2007 :‬ط‪ ،1‬هيئة املوسوعة العربية‪ ،‬ط‪ ،1‬الجمهورية العربية السورية‪ ،‬رئاسة‬
‫الجمهورية‪ ،‬دمشق‪ ،‬املجلد السابع عرش‪ ،‬ص ‪.581‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.582‬‬
‫‪73‬‬ ‫الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي‬

‫والذكرى‪ ،‬ويف النهاية تعجز الظلمة عن غزو مملكة النور‪ [[[.‬وال تنفصل‬
‫املاهيتان نهائياً إىل حني تتخلص األرواح‪ -‬جوهر النور‪ -‬من سجن املادة‪،‬‬
‫كل إىل عامله‪ ،‬وتلك هي القيامة واملعاد‪ .‬فكون العامل محكوماً‬
‫فيصل ٌّ‬
‫رش‪.‬‬
‫رش ناجم عن عملية املزج بني املادة‪ ،‬والروح‪ ،‬والخري‪ ،‬وال ّ‬
‫بال ّ‬
‫ومتثّل املانوية الثنائية املطلقة التي تقول بوجود أصلني أزليني‬
‫للعامل‪ ،‬مستقلّني‪ :‬عامل الروح‪ /‬النور األزيل‪ ،‬وعامل املادة‪ /‬الظلمة االزلية‪،‬‬
‫وحني دخلت الظلمة يف نسيج النور كان ال بد من الفصل بينهام مجددا ً‪،‬‬
‫يف حني متثّل الزردشتية الثنوية الجذرية التي تقول بوجود أصلني ليسا‬
‫أزليني‪ ،‬بل متولّدين عن اإلله األزيل الواحد القديم‪ ،‬وهام يف حال رصاع‬
‫منذ وجودهام[[[‪.‬‬
‫‪ - 3-2‬البوذية وثن�ائي�ة الشقاء والسعادة‬
‫البوذية حركة فكرية فلسفية تدعو إىل التعامل مع منغصات الحياة‪،‬‬
‫وكيفية التغلب عليها‪ ،‬ويعني بوذا املستنري‪ ،‬وتنص فلسفته عىل أن الحياة‬
‫أمل‪ ،‬وتعب‪ ،‬وشقاء‪ ،‬وتعاسة‪ ،‬فإذا وضع اإلنسان يده عىل مصدر الشقاء‪،‬‬

‫[[[ـ املرجع السابق ص ‪.583‬‬


‫[[[ـ وال تربط الثنائية املانوية بني الطرفني واألخالق‪ ،‬بل ترى وجودهام رضورياً للتكامل‪ ،‬وإال متت العودة‬
‫إىل حالة الهيوىل والسكون‪ ،‬أما الثنوية الزردشتية فرتبط بني الرش الطبعاين واألخالقي والشيطان‪.‬‬
‫وتقوم تصورات املانوية عىل فكرة فلسفية وجودية تقوم عىل حرية الفرد يف اختيار مساره ومصريه‪ ،‬فاإلنسان‬
‫إما أن يختار مسار الكامل الصاعد‪ ،‬أو خالفه‪ ،‬فليس مقيداً بل هو ح ّر يف اختيار مساره يف الحياة نحو الخري‪،‬‬
‫أو الرش‪.‬‬
‫أما الزردشتية فقد ربطت بني الدين واألخالق والشيطان املرتبط باألفعال الرشيرة‪ ،‬ويف الزردشتية صفة الثنوية التي‬
‫ال تلغي صفة الوحدانية؛ ألن الثنوية يف املفهوم الزردشتي تتعارض مع التعددية‪ ،‬ال مع الوحدانية‪ ،‬بل تتالزم معها‪.‬‬
‫فالحرية تقود إىل االختيار الذي هو جوهر األخالق‪ ،‬ففي الزردشتية حرية واختيار بني الخري والرش‪ ،‬ومسؤولية‬
‫أخالقية‪ ،‬فحسب زرادشت مثة توءم يتنافسان منذ البداية‪ ،‬مختلفان يف الفكر والعمل‪ ،‬فروح خبيث اختار البهتان‪،‬‬
‫وثابر عىل روح الرش‪ ،‬وروح طيب اختار الحق‪ ،‬وثابر عىل فعل الخري ومرضاة أهورامزدا‪ ،‬وحني تجابه االثنان للمرة‬
‫األوىل أبدعا الحياة وضدها‪ ،‬ولكن حني تحني النهاية فإن من اتبع البهتان سوف ُير ّد إىل أسوأ مقام‪ ،‬ومن اتبع الحق‬
‫سوف ير ّد إىل أسمى مقام‪ ،‬فثمة خطان متوازيان ال يلتقيان‪ ،‬وال يلغي أحدهام اآلخر‪.‬‬
‫للتوسع يف هذه الفكرة انظر‪:‬‬
‫السواح‪ ،‬فراس‪ ،2002 :‬الرحمن والشيطان‪ -‬الثنوية الكونية والهوت التاريخ يف الديانات املرشقية‪ ،‬ط‪ ،1‬دار‬
‫عالء الدين‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص‪12‬‬
‫‪ 74‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫رس السعادة‬
‫وعرف سببه‪ ،‬وكيف يقيض عليه يكون بذلك قد توصل إىل ّ‬
‫التي تخلصه من تكرار املولد‪ ،‬وتوصله إىل النريفانا‪ ،‬وهي هدف البوذي‬
‫من هذه الحياة‪ ،‬وتعني النريفانا انتهاء الشهوة‪ ،‬وخمودها‪ [[[.‬تقوم البوذية ـ‬
‫إذن ـ عىل فكرة أن الضد يظهر من ض ّده‪.‬‬
‫وتأيت الهندوسية بفلسفة يغلب عليها الزهد‪ ،‬والتصوف‪ ،‬والهندوسية‬
‫خليط من أديان وعقائد‪ ،‬حوت تحت جناحيها الطقوس الدينية‪ ،‬وغري‬
‫الدينية‪ ،‬فثمة تعدد آلهة‪ ،‬ووحدانية‪ ،‬هي دين املتضادات يف العبادات‪،‬‬
‫واملعتقدات‪ ،‬وفيها الطقوس الدينية‪ ،‬وغري الدينية‪ ،‬وفيها التعدد والتفرد‬
‫يف املعتقد اإللهي‪.‬‬
‫‪ -3‬الصوفية والبعد الفلسفي املبين على الثن�ائي�ات الضدية‬
‫كل يشء‪ ،‬وهو‬‫نجد يف كتابات الصوفية التضاد الواضح‪ ،‬فاإلنسان هو ّ‬
‫ال يشء‪ ،‬فمن منطق النفس يكون اإلنسان ال يشء‪ ،‬ومن منطق الروح يكون‬
‫اإلنسان العامل األكرب‪ ،‬وقد رأى جالل الدين الرومي أن اإلنسان الكامل‬
‫املثايل هو الجدول الذي ينبع من الداخل‪ ،‬ويكون صافياً‪ ،‬فتنعكس فيه‬
‫صورة األشياء‪ ،‬وأن ما من يشء يف الحياة إال يحمل ضده معه‪ ،‬فيكون‬
‫حياة لطرف‪ ،‬وموتاً لطرف آخر‪:‬‬
‫“‪-‬فام يكون قوة ألحد يكون قيدا ً آلخر‪ ،‬يكون سامً بالنسبة إىل أحد‪،‬‬
‫وآلخر كأنه السكر‪.‬‬
‫‪-‬وس ّم الحية يكون حياة لتلك الحية‪ ،‬ولكنه بالنسبة إىل اإلنسان موت‪.‬‬
‫‪-‬والبحر بالنسبة إىل أحياء البحر كالحديقة‪ ،‬لكنه ملخلوقات األرض‬
‫[[[‬
‫موت‪ ،‬ومصيبة‪”.‬‬
‫[[[ـ عبد الله مصطفى نومسوك‪1420 :‬هـ‪ ،‬البوذية‪ :‬تاريخها‪ ،‬وعقائدها‪ ،‬وعالقة الصويف بها‪ ،‬مكتبة أضواء‬
‫السلف‪ ،‬ص‪220‬‬
‫مثنوي‪ ،‬ترجمه ورشحه وقدّ م له‪ :‬د‪ .‬إبراهيم الدسوقي شتا‪ ،‬املجلس‬
‫ّ‬ ‫[[[ـ موالنا جالل الدين الرومي‪،2002 :‬‬
‫‪75‬‬ ‫الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي‬

‫ويقوم كتاب “مثنوي” عىل الجمع بني الثنائيات الضدية‪ ،‬ورؤية كل‬
‫طرف من الثنائية باآلخر‪ ،‬وتؤدي الثنائيات إىل التكامل لدى املتص ّوفة‪،‬‬
‫فاإلنسان الكامل هو القاسم املشرتك األعظم يف أعاملهم‪ :‬اإلنسان يف‬
‫تساميه وشعفه‪ ،‬عل ّوه وسقوطه‪ ،‬طهره ودنسه‪.‬‬
‫والعالقة بني املعبود والعابد خاصة لديهم؛ إذ يشعر اإلنسان أنه‬
‫مخلوق شبه إلهي يفنى عن ذاته كلياً‪ ،‬وهذا الحضور الدائم لله يف اإلنسان‬
‫يعطي للجدلية الصوفية بعض الغرابة‪.‬‬
‫إن املخلوق الذي فيه نغمة من اإلله نزل عىل األرض ـ مق ّر منفاه‬
‫وغربته ـ ال بد أن يكون جديرا ً بالعودة إىل أصله؛ لذا ال ب ّد أن يرتفع‬
‫عب‬
‫اإلنسان عن التضاد الشديد الذي يوصله إىل الحرية والرصاع‪ .‬وهذا ما ّ‬
‫عنه حافظ الشريازي بقوله‪:‬‬
‫‪-‬ال أدري من يوجد بداخيل أنا املعذّب‪ ،‬فأنا صامت‪ ،‬وهو يف رصاخ‬
‫[[[‬
‫وعويل”‬
‫يتحد اإلنسان بالفضاء الطبيعي‪ ،‬ويرى نفسه يف كل يشء جميل‬
‫يف الطبيعة‪ ،‬ويقوم كل يشء حوله عىل ثنائيات ركيزتها التضاد‪ ،‬وهدفها‬
‫التكامل‪ ،‬والفكرة املهمة لديهم عظمة اإلنسان‪ ،‬وسيادته‪ ،‬إنه يتمثّل يف كل‬
‫يشء يف الطبيعة‪:‬‬
‫“‪-‬إننا نشعر بألوان من الحب نحو هذا الرتاب‪ ،‬لقد خُلق يف حال من‬
‫أحوال الرضا؛ ذلك ألن هذا الرتاب ذو ظاهر أغرب‪ ،‬لكنه يف الباطن ذو‬
‫صفات نورانية‪.‬‬
‫‪-‬وقد اشتبك ظاهره مع باطنه يفجدال‪ ،‬فباطنه كالجوهر‪ ،‬وظاهره كالحجر‪.‬‬

‫األعىل للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪.48‬‬


‫[[[ـ املثنوي‪ ،‬ص‪.8‬‬
‫‪ 76‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫‪-‬فجسدك كاألرض‪ ،‬ورأسك مبنزلة السامء‪ ،‬وحواسك األنجم‬


‫والشمس مبنزلة الروح‪.‬‬
‫‪-‬والعظام كالجبل فهي شديدة‪ ،‬ونباتك هو الشعر‪ ،‬وأطرافك هي‬
‫الشجرة”[[[‪.‬‬
‫‪4‬ـ أشكال إيشر ‪ Maurits Cornelis Escher‬املجازية‬
‫تنهض رسومات الفنان إيرش[[[ عىل أساس فلسفي قائم عىل الثنائيات‬
‫الضدية‪ ،‬فقد كان مفتوناً بالتناظر اللوين (‪ ،)Color Symmrtry‬والرتتيب‪،‬‬
‫وتُستخ َدم أعامله حالياً يف إيضاح بعض املفاهيم الواردة يف علم‬
‫الرياضيات‪ ،‬والبلوريات‪ .‬وسنتحدث عن رسوماته ذات الطابع الفلسفي‬
‫يف إيضاح الركيزة التي قامت عليها‪ ،‬وهي الثنائيات الضدية‪ ،‬وحضورها‬
‫يف الفن التشكييل فلسفياً‪.‬‬
‫كتب إيرش أن الدافع الرئيس ألعامله االهتامم الشديد بالقوانني‬
‫ب‬
‫وقد ع ّ‬
‫[[[‬
‫الهندسية (‪ )Geometric‬التي تحكم الطبيعة من حولنا‪.‬‬

‫[[[ـ املثنوي‪ ،‬ص‪.16-14‬‬


‫[[[ـ ولد إيرش يف مدينة ليفاردن بهولندا‪ ،‬وترعرع مع إخوته ووالده املهندس املدين يف مدينة أرنهم‪ ،‬وكان‬
‫ضعيفاً يف الرياضيات‪ ،‬وبتشجيع من معلّم الفنون يف مدرسته الثانوية غدا مهتامً بالفنون التخطيطية‪ ،‬والتحق‬
‫عام ‪ 1919‬مبدرسة العامرة والفنون التزيينية يف مدينة هارمل يك يدرس الفن املعامري‪ ،‬لكن حني عرض أعامله‬
‫عىل دي ميسكيتا الذي كان يعلّم الفنون التخطيطية هناك شجعه عىل االهتامم باملوضوع‪ ،‬فاستقر يف روما بعد‬
‫أن أنهى دراسته‪ ،‬ومازت عيناه أشكاالً مثرية للصور الذهنية يف التفصيالت املعامرية العادية للرصوح التذكارية‪،‬‬
‫ويف تجمعات البيوت املمتدة من منحدرات الجبال إىل قاع الوديان‪ ،‬ويف التفصيالت الصغرية للطبيعة كام لو‬
‫كنا نراها بعدسة مكربة‪.‬‬
‫ثم تنقل بني إيطاليا‪ ،‬وسويرسا‪ ،‬وبروكسل مع عائلته‪ ،‬واستقر يف هولندا‪ ،‬وحدث انعطاف يف مجرى أعامله‪ ،‬فلم‬
‫تعد تستمد إلهامها مام تالحظه عيناه‪ ،‬بل مام يتص ّوره‪ ،‬فأصبح يعرض تعبريات برصية للمفاهيم‪ ،‬وميثّل بالصور‬
‫النواحي الغامضة يف املالحظة‪ ،‬والفهم البرشي‪.‬‬
‫دوريس سكاتشنايدر‪ ،1995 :‬أشكال إيرش املجازية‪ ،‬مجلة العلوم‪ ،‬الرتجمة العربية ملجلة ساينتفيك أمريكان‪،‬‬
‫مؤسسة الكويت للتقدم العلمي‪ ،‬مجلد ‪ ،11‬عدد ‪ ،3‬آذار‪ -‬مارس‪ ،‬ص‪38‬‬
‫واملقال مأخوذ من‪.Doris Schattschneider, Scientific American, November, 1994 :‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫ولالستزادة فيام يتعلق بفن إيرش ذي الطابع الفلسفي ينظر‪:‬‬
‫‪The Graphic Work of M. C. Escher, 1971, Ballantine Books.‬‬
‫‪77‬‬ ‫الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي‬

‫عن أفكاره يف أعامله البيانية (‪ )Graphic‬وق ّدم أشكاالً مجازية لألفكار‬


‫املتعلقة بالعلوم املذكورة‪.‬‬
‫ويع ّد مبدأ التناظر الذي أقام عليه إيرش رسوماته ذات الطابع الفلسفي‬
‫ثنائية ضدية‪ ،‬فالثنائية هي الغالبة عىل موضوعاته األخرية‪ ،‬ففي الرياضيات‬
‫لكل مقولة نفي‪ ،‬ولكل مجموعة مجموعة أخرى متممة لها‪ ،‬ويف األحوال‬
‫كلها فإن كل طرف من طريف الثنائية الضدية يتمم أحدهام اآلخر‪ ،‬ويف‬
‫نهاية الدائرة ال وجود لحدود‪ ،‬فالدائرة شكل ليس له أبعاد‪ ،‬وتوجد األبعاد‬
‫داخلها‪ ،‬وبالعودة إىل لوحة إيرش الشهرية‪“ :‬مالئكة وشياطني”[[[ يتبني‬
‫التكامل بني طريف الثنائية‪:‬‬
‫ست فراشات بألوان متناوبة بني األبيض واألسود حول نقطة‬ ‫تلتف ّ‬‫ّ‬
‫تلتقي فيها أطراف األجنحة اليرسى األمامية‪ ،‬كام أن ثالثاً منها بألوان‬
‫متناوبة تدور حول نقطة تتالمس فيها االجنحة اليمنى الخلفية‪ ،‬وفضالً عن‬
‫التناظر الدوراين مثة تناظر انسحايب مبني عىل شبكة من املثلثات‪ ،‬ميكن‬
‫لهذا األمنوذج أن يستمر إىل ما ال نهاية يف جميع االتجاهات‪ ،‬ويوفر هذا‬
‫الشكل متثيالً مجازياً ضمنياً لال نهاية‪.‬‬
‫يقوم هذا الشكل عىل ثنائيات ضدية‪ ،‬فيغدو الشكل ذو اللون األبيض‬
‫ممثالً املالئكة‪ ،‬واألسود ميثل الشياطني يف دائرة ال تنتهي‪ ،‬فمحيطات‬
‫وكل واحد من هؤالء‬
‫(‪ )Contours‬للمالئكة والشياطني يح ّدد بعضها بعضاً‪ّ ،‬‬
‫هو شكل‪ ،‬أو خلفية‪ ،‬ويحذف إيرش التفاصيل يف نصف األشكال‪ ،‬ويف هذا‬
‫الرصف الزائدي (‪ )Heperbolic‬تبدو األشكال ألعيننا اإلقليدية (‪)Euclidean‬‬
‫وقد ازدادت تش ّوهاً كلام صغر حجمها‪ ،‬بيد أنه لدى إجراء القياس وفق‬

‫‪[1] - The Graphic work of M.C. ESCHER, Ninth Printing, April 1975 Ballantine‬‬
‫‪Books, a division of Random House, Inc. 201 East 50th Street New York, N.Y.‬‬
‫‪10022‬‬
‫‪ 78‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫الهندسة الخاصة بعامل هذا الرسم يكون للمالئكة القدر والشكل نفسهام‪،‬‬
‫وكل عدد غري منته من النسخ يتكرر أبدا ً‬
‫وكذلك األمر بالنسبة إىل الشياطني‪ّ ،‬‬
‫من غري أن يتجاوز حدود الدائرة‪ .‬إنها الثنائية الضدية التي يسري طرفاها يف‬
‫خطني متوازيني من غري أن يلتقيا‪ ،‬وهام متكامالن يف الصورة النهائية‪.‬‬
‫كل من الزمان واملكان‪،‬‬
‫كل من يغوص يف الالنهاية يف ّ‬
‫وكتب إيرش أن ّ‬
‫ويتعمق فيها من غري توقف بحاجة إىل نقاط مثبتة‪ ،‬تكون مبنزلة معامل يف‬
‫طريقه يف أثناء انطالقه برسعة؛ ألنه إذا مل يتحقق ذلك تعذر عليه التمييز بني‬

‫حركته‪ ،‬ووقوفه ساكناً‪ ،‬ويتعني عليه أن يج ّزئ عامله إىل وحدات لها أطوال‬
‫كل منها اآلخر بتعاقب ال ينتهي‪.‬‬
‫[[[‬
‫محددة‪ ،‬وإىل أقسام منفصلة يك ّرر ّ‬
‫ويعني الكالم السابق أن عامل البعد الثالث الذي نعيش فيه هو عامل‬

‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪.40‬‬


‫‪79‬‬ ‫الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي‬

‫ثنائيات ضدية‪ ،‬أما إذا ارتقينا إىل عامل أعىل حيث الدائرة فال أبعاد‪،‬‬
‫وتكتمل الثنائيات فيه‪ ،‬فقد كان يريد أن يكرر أشكاالً تتكرر أبدا ً مقرتبة من‬
‫حد يحيط بها‪ ،‬من غري أن تدرك هذا الح ّد‪.‬‬

‫وقد كان إيرش أستاذا ً يف الخلط بني األبعاد‪ ،‬كام ّ‬


‫بي يف لوحته السابقة‬
‫“ليل ونهار”[[[‪:‬‬
‫تُ سخ مزارع ثنائية البعد عىل نحو خفي إىل إو ّز ثاليث البعد‪ .‬فالبعد‬
‫‪ ))Dimension‬هو ذلك املفهوم الذي مييز بوضوح النقطة‪ ،‬والخط‬
‫املستوي‪ ،‬والفضاء‪ .‬وإليضاح الغموض يف هذا املفهوم استغل إيرش‬
‫الصفحة املطبوعة التي ال بد أن تخدع الناظر إليها حني تص ِّور منظرا ً‬
‫ثاليث األبعاد‪ .‬ويف الليل والنهار تُ َسخ الرقعة املنبسطة لألرض الزراعية‬
‫يف أسفل الصفحة إىل رسبني من اإلوز‪ ،‬ويوجد كذلك االنعكاس والثنائية‬
‫الضدية‪ ،‬فاإلوز األسود يطري فوق قرية مضاءة بنور الشمس‪ ،‬ويرفرف اإلوز‬
‫األبيض بجناحيه يف منظر لييل‪ ،‬يشكّل خياالً مرآوياً للمنظر نفسه‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ الفلسفة احلديث�ة والثن�ائي�ات الضدية‬
‫ظهرت رحلة الشك يف العرص الحديث بجدل بدأ مبادية جون لوك‬
‫‪ ،J. Locke‬ومثالية عامنويل كانت ‪ ،I. Kant‬وهو شك يشرتكان فيه عىل‬
‫الرغم من التضاد املبديئ بني املدرستني‪ ،‬وأدت رحلة الشك هذه إىل‬
‫ظهور ثنائية الداخل‪ /‬الخارج‪ ،‬وهي ثنائية جديدة يف مضمونها‪ ،‬وتعني‬
‫القول بوجود عامل خارجي يرى املنادون بحقيقته أنه مصدر املعرفة‪،‬‬
‫‪[1] - The Graphic work of M.C. ESCHER, Ninth Printing, April 1975 Ballantine‬‬
‫‪Books, a division of Random House, Inc. 201 East 50th Street New York, N.Y.‬‬
‫‪10022.‬‬
‫‪ 80‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫وعامل داخيل يحتوي عىل النامذج العليا للمعرفة اإلنسانية‪ ،‬وأدت هذه‬
‫الثنائية إىل ظهور ثنائية أخرى مامثلة يف تفسري وظيفة اللغة‪ ،‬وتحديد معنى‬
‫النص األديب[[[‪.‬‬
‫وقد تأرجحت الفلسفة الغربية عرب ما يقرب من ثالثة قرون بني الداخل‬
‫والخارج‪ ،‬بني فكر واقعي يعتمد التجربة الحسية بوصفها أساساً للمعرفة‬

‫اإلنسانية‪ ،‬وفكر مثايل يضع أسس املعرفة داخل العقل البرشي‪ ،‬ويتحرك‬
‫بني القطبني عدد من رواد الشك الذين يرون استحالة املعرفة اليقينية سواء‬
‫انطلقنا من الداخل‪ ،‬أو من الخارج‪.‬‬
‫إن امليل إىل قطب الداخل يولّد اتجاهاً معاكساً يقرتب من قطب‬
‫الخارج‪ ،‬ورسعان ما يولّد هو اآلخر عودة إىل القطب األول يف حركة‬
‫دامئة‪ ،‬وقد ازدادت هذه الحركة املتضادة يف القرن العرشين‪ ،‬ويع ّد لوك‪،‬‬
‫وهيوم‪ ،‬وهوبز ‪ ،T. Hobbes‬وهيغل ‪ ،‬ونيتشه ‪ F. Nietzsche‬ممثّلني‬
‫لقطب الخارج‪ ،‬وديكارت‪ ،‬وبريكيل ‪ Berkeley‬وكانت ‪ I. Kant‬ممثلني‬
‫[[[ـ للتوسع يف أثر الفلسفة يف النقد األديب ينظر‪:‬‬
‫عبد العزيز حمودة‪ ،1998 :‬املرايا املحدبة من البنيوية إىل التفكيك‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة‬
‫والفنون واآلداب‪ ،‬نيسان‪ ،‬ص‪61‬‬
‫‪81‬‬ ‫الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي‬

‫لقطب الداخل‪ ،‬واملنطقة الوسطى‪ ،‬منطقة البني بني تض ّمهم جميعاً بني‬
‫حني‪ ،‬وآخر‪.‬‬
‫إن األساس الفلسفي هو الذي ارتبط باللغة والنقد‪ ،‬فلالتجاهات‬
‫النقدية الكربى أسس فلسفية‪ ،‬وكان معظم النقاد فالسفة‪ ،‬وسيتم التوسع‬
‫الحقاً يف هذه الفكرة‪ .‬فكيف تجىل األساس الفلسفي يف املدارس النقدية‬
‫القامئة عىل تضاد الثنائيات؟‬
‫‪ 82‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫املصادر واملراجع‬
‫‪ -‬إبراهيم‪ ،‬إبراهيم‪ :‬محمد ‪1406‬هـ‪ ،‬األديان الوضعية يف مصادرها‬
‫املق ّدسة‪ ،‬مطبعة األمانة‪ ،‬القاهرة‬
‫‪ -‬إلياد‪ ،‬مرسيا‪ ،1987 1986- :‬تاريخ املعتقدات واألفكار الدينية‪،‬‬
‫ترجمة عبد الهادي عباس‪ ،‬ط‪ ،1‬دار دمشق‬
‫‪ -‬بارندر‪ ،‬جفري‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬املعتقدات الدينية لدى الشعوب‪ ،‬ترجمة إمام‬
‫عبد الفتاح‪ ،‬مراجعة عبد الغفار مكاوي‪ ،‬مكتبة مدبويل‬
‫‪-‬توال‪ ،‬جان لوك‪ ،2011 :‬فلسفة الزن‪ -‬رحلة يف عامل الحكمة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫ترجمة ثريا إقبال‪ ،‬هيئة أبو ظبي للثقافة والرتاث‬
‫‪-‬حفني‪ ،‬عبد املنعم‪ ،2010 :‬موسوعة الفلسفة والفالسفة‪ ،‬مكتبة‬
‫مدبويل‪ ،‬القاهرة‬
‫‪ -‬حمودة‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز‪ ،1998 :‬املرايا املحدبة من البنيوية إىل‬
‫التفكيك‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬نيسان‬
‫‪-‬ديورانت‪ ،‬ول‪ ،1988 :‬قصة الحضارة‪ 24 ،‬جزءا ً‪ ،‬تقديم د‪ .‬محيي‬
‫الدين صابر‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬زيك نجيب محمود وآخرين‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫املنظمة العربية للرتبية والثقافة والعلوم‪ ،‬تونس‬
‫ي‪ ،‬ترجمه ورشحه وق ّدم له‪:‬‬
‫‪-‬الرومي‪ ،‬موالنا جالل الدين‪ ،2002 :‬مثنو ّ‬
‫د‪ .‬إبراهيم الدسوقي شتا‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬القاهرة‬
‫‪-‬السحمراين‪ ،‬أسعد‪ ،2009 :‬ترجامن األديان‪ ،‬دار النفائس للطباعة‬
‫والنرش‪ ،‬بريوت‬
‫‪-‬سكاتشنايدر‪ ،‬دوريس‪ ،1995 :‬أشكال إيرش املجازية‪ ،‬مجلة العلوم‪،‬‬
‫الرتجمة العربية ملجلة ساينتفيك أمريكان‪ ،‬مؤسسة الكويت للتقدم‬
‫‪83‬‬ ‫المصادر والمراجع‬

‫العلمي‪ ،‬مجلد ‪ ،11‬عدد ‪ ،3‬آذار‪ -‬مارس‪.‬‬


‫‪-‬السواح‪ ،‬فراس‪ ،2002 :‬الرحمن والشيطان‪ -‬الثنوية الكونية والهوت‬
‫التاريخ يف الديانات املرشقية‪ ،‬ط‪ ،1‬دار عالء الدين‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪ -‬مشلب‪ ،‬رانية‪ ،2001 :‬التاو‪ ،‬مؤسسة االنتشار العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬
‫‪-‬العلوي‪ ،‬هادي‪ ،2002 :‬كتاب التاو‪ ،‬دار املدى‪ ،‬بغداد‪ ،‬العراق‪.‬‬
‫‪ -‬الو تسو‪ ،1998 :‬التاو‪ ..‬يت‪ ..‬تشينغ‪ ..‬إنجيل الحكمة التاوية يف‬
‫الصني‪ ،‬ط‪ ،1‬ترجمة ورشح وتعليق‪ :‬فراس السواح‪ ،‬دار عالء الدين‪ ،‬دمشق‬
‫‪-‬مجموعة من الكتاب‪ ،2007 :‬ط‪ 1،‬هيئة املوسوعة العربية‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫الجمهورية العربية السورية‪ ،‬رئاسة الجمهورية‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪ -‬نومسوك‪ ،‬عبد الله مصطفى‪1420 :‬هـ‪ ،‬البوذية‪ :‬تاريخها‪ ،‬وعقائدها‪،‬‬
‫وعالقة الصويف بها‪ ،‬مكتبة أضواء السلف‪.‬‬
‫‪-‬املراجع األجنبي�ة‬
‫‪.The Graphic Work of M. C. Escher, 1971 Ballantine Books‬‬
‫‪The Graphic work of M.C. ESCHER, Ninth Printing, April‬‬
‫‪1975 Ballantine Books, a division of Random House, Inc. 201‬‬
‫‪East 50th Street New York, N.Y. 10022‬‬
‫‪-‬املواقع االلكرتوني�ة‬
‫موقع ويكيبيديا‪ -‬املوسوعة الح ّرة‪ -‬ثنائية ديكارتية‪2016/11/26 ،‬‬
‫‪http://ar.wikipedia.org‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫الثنائيات الضدية في التراث‬
‫الفلسفي العربي واإلسالمي‬
‫اهتدى الفالسفة إىل قانون الحركة يف الوجود‪ ،‬وقانون التضاد يف‬
‫األمر الواحد باتجاهني مختلفني‪ ،‬فالوجود مزدوج الحركة‪ ،‬يتأرجح بني م ّد‬
‫وجزر‪ ،‬فال اعتباط يف الوجود‪ ،‬وميثل التضاد جوهره‪.‬‬
‫وقد بحث الفالسفة العرب واملسلمون يف ثنائيات ضدية مختلفة‬
‫تحت مسميات متعددة‪ ،‬وسنحاول يف هذا الفصل أن نرصد جملة ثنائيات‬
‫لدى عدد من هؤالء الفالسفة‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الثن�ائي�ات الضدية لدى الفارايب”ت ‪339‬هـ”‬
‫‪ - 1-1‬تقابل التضاد عند الفارايب‬
‫أُطلق عىل الفارايب لقب املعلّم الثاين بعد أرسطو‪ ،‬وتجعله هذه‬
‫التسمية عىل قدم واحدة من املساواة بأرسطو‪ ،‬فكتب عن املدينة الفاضلة‪،‬‬
‫ورويت له بعض األشعار[[[‪.‬‬
‫وتع ّد فلسفة ابن سينا‪ ،‬وابن رشد نتاجاً للبذور التي زرعها الفارايب‪،‬‬
‫فقد تحدث عن ثنائية املادة والصورة‪ ،‬ونظر إىل العالقة الداخلية التي‬
‫تعمل باستقالل عن أي عامل خارجي‪ ،‬وهذه القوى الداخلية هي التي‬
‫تحفظ وجود املادة‪ ،‬وت ِ‬
‫ُحدث التحوالت‪ ،‬والتضاد‪ ،‬وبقاء النوع‪ ،‬وصيانته‬
‫من الفناء[[[ ويعني هذا الكالم حديثاً عن ديالكتيك العالقة الداخلية‬
‫لحركة األشياء الطبيعية؛ أي وحدة رصاع األضداد‪ ،‬وبقاء املادة‪ ،‬وتحولها‬
‫من شكل إىل آخر‪ ،‬فقد رأى أن كل يشء يف الوجود يحتوي عىل ض ّده‪،‬‬
‫ويكون بذلك قد اقرتب كثريا ً من املفهوم الهيغييل للجدل‪ .‬فالحياة تحمل‬
‫بذور املوت‪ ،‬واملوت يحمل بذور الحياة‪ ،‬كام أنه استرشف عدم فناء‬
‫[[[ـ للتوسع يف التعريف بالفارايب ينظر‪ :‬عمر أبو النرص‪ ،1970 :‬عباقرة الفكر اإلسالمي‪ ،‬مكتب عمر أبو‬
‫النرص‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪71‬‬
‫[[[ـ انظر‪ :‬حسني مروة‪ ،1981 :‬النزعات املادية يف الفلسفة العربية واإلسالمية‪ ،‬ط‪ ،4‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ج‪503/2‬‬
‫‪87‬‬ ‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي‬

‫املادة‪ ،‬ونستطيع أن نرى مالمح‪ ،‬أو نزعات مادية يف فلسفته‪ ،‬فرناه صوفياً‬
‫حيناً‪ ،‬فيلسوفاً مثالياً حيناً آخر‪ ،‬فالسعادة برأيه تكون يف الحياة الدنيا‪ ،‬وهذه‬
‫الحياة طريق لنيل السعادة القصوى يف الحياة األخرى‪ ،‬وتتحقق السعادة‬
‫يف الحياة الدنيا عن طريق الفضائل النظرية يف الربهان العقيل والفكري‪،‬‬
‫وباستخالص القوانني الالزمة يف معرفة ما ينفع يف الحياة االجتامعية‪،‬‬
‫والفضائل الخلقية‪ ،‬فالسعادة هي سعادة اإلنسان عىل هذه األرض[[[‪.‬‬
‫كل من‬
‫والتضاد لدى الفارايب هو التقابل بني أمرين وجوديني‪ ،‬ويكون ّ‬
‫األمرين طاردا ً مباهيته اآلخر‪ ،‬ناظرا ً إليه‪ ،‬آبياً االجتامع معه وجودا ً‪ .‬ومن‬
‫[[[‬
‫أحكام التضاد أنه ال يقع بني أكرث من طرفني‪ ،‬فلليشء ضد واحد‪.‬‬
‫‪ - 2-1‬املدين�ة الفاضلة ومضاداتها‬
‫نعت الفارايب مدينته باسم املدينة الفاضلة يف كتابه آراء أهل املدينة‬
‫الفاضلة ومضاداتها[[[ ليميزها من املدينة الضالة‪ ،‬واملبتذلة وغري ذلك‪،‬‬
‫رش‪.‬‬
‫كل مدينة‪ ،‬وميولها من خري‪ ،‬و ّ‬
‫خواص ّ‬
‫ّ‬ ‫فذكر‬

‫[[[ـ للتوسع انظر املرجع السابق‪ :‬ص‪.511 ،510 ،506‬‬


‫[[[ـ لخص أحدهم قانون التضاد يف الحياة من وجهة نظر فلسفية بقوله‪:‬‬

‫ِ‬
‫الخــاف أن يجتمعــا‬ ‫لغايــة‬ ‫امتنعا‬ ‫فيام‬ ‫التضاد‬ ‫تقابل‬
‫ِ‬
‫فاعــرف‬ ‫وعنــد غــره أعــ ّم‬ ‫الفلسفي‬
‫ّ‬ ‫عند‬ ‫وجوديان‬ ‫هام‬
‫قريــب فاعلــا‬
‫ٌ‬ ‫جنــس‬
‫ٌ‬ ‫ليــس لــه‬ ‫كل ما‬
‫وليس يف األجناس بل يف ّ‬
‫ِ‬
‫واحــد‬ ‫ر ضــ ٍّد‬
‫ليــس لضــ ٍّد غــ ُ‬ ‫التباعد‬ ‫غاية‬ ‫وباعتبار‬
‫فيخــرج الجوهــ ُر وهــو ظاهــ ُر‬ ‫ووحــدة املوضــوع رش ٌ‬
‫ط آخــ ُر‬
‫محــل‬
‫ّ‬ ‫فليــس للخــروج منــه مــن‬ ‫املحــل‬
‫ّ‬ ‫وقيــل بــل يكفيــه وحــدة‬
‫الشيخ محمد حسني األصفهاين الغروي‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬تحفة الحكيم‪ ،‬منظومة يف الحكمة وللعقول‪ ،‬قدّ م لها ودققها‪:‬‬
‫الشيخ محمد رضا املظفر‪ ،‬مؤسسة آل البيت إلحياء الرتاث‪ ،‬ص‪.46-45‬‬
‫[[[ـ الفارايب‪ :‬آراء أهل املدينة الفاضلة ومضاداتها‪www.al-mostafa.com ،‬‬
‫‪ 88‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫وينطلق من فكرة أن الض ّد مباين لليشء‪ ،‬فال ميكن أن يكون ضد اليشء‬


‫كل مباين هو ضد‪ ،‬وال كل ما مل ميكن أن‬
‫هو اليشء أصالً‪ ،‬ولكن ليس ّ‬
‫يكون هو اليشء هو الضد‪ ،‬فالضدان يف رتبة واحدة من الوجود[[[‪.‬‬
‫وتبدو آراؤه مثالية‪ ،‬ال تنطبق عىل عامل أهل األرض‪ ،‬فهو يريد تطبيق‬
‫حي‪ ،‬ثم يرشع يف رشح‬
‫املثل العليا عىل شؤون الحياة‪ ،‬فيش ّبه املدينة بجسم ّ‬
‫كل عضو من أعضاء هذه املدينة[[[‪ ،‬ويصل إىل نظرية عامة يط ّبقها‬
‫أهمية ّ‬
‫كل يشء‪ ،‬حتى عىل املعايري األخالقية‪ ،‬والقواعد األدبية واالجتامعية‪.‬‬
‫عىل ّ‬
‫وللحكمة يف مملكته حظ عظيم ـ كام هي يف مملكة أفالطون قبله ـ‬
‫وميثّل حكي ُم الفارايب زمنه‪ ،‬فيأتيه الوحي‪ ،‬وله سلطان واسع يف الحكم‪،‬‬
‫فتجتمع النظرة األفالطونية بالنظرة الفارابية‪ ،‬ويتك ّون من امتزاج الفكرين‬
‫صورة جميلة؛ إذ يسيطر الرئيس الذي افرتضه الفارايب عىل املدينة‬
‫الفاضلة‪ ،‬وعليه جلب السعادة ألتباعه املرؤوسني‪ ،‬وال يهتم الفاريب‬
‫بشكل الحكم‪ ،‬بل يهتم بالسعادة‪ ،‬ويرى الخري فيها كام يفعل املتصوفة‪،‬‬
‫وكام فعل أرسطو قبله‪.‬‬
‫ورب سائل يسأل‪ :‬ما الذي دفع الفارايب إىل تخيل مدينته الفاضلة؟‬
‫رمبا كانت معارصته األحداث الجسام التي م ّرت بها الخالفة العباسية‬
‫خالل الثامنني عاماً التي عاشها‪ ،‬وما عاناه املجتمع من جوع حداه إىل‬
‫طلب السعادة الحقيقية‪ ،‬فوضع نظاماً فلسفياً ربط فيه بني عامل الفكر‬

‫[[[ـ آراء اهل املدينة الفاضلة ومضاداتها‪ ،‬ص‪.3‬‬


‫[[[ـ يقول الفارايب‪« :‬واملدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح‪ ..‬وكام أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة‬
‫الفطرة والقوى‪ ،‬وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب‪ ،‬وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك الرئيس‪ ،‬وكل واحد‬
‫منها جعلت فيه بالطبع قوة يفعل بها فعله‪ ،‬ابتغاء ملا هو بالطبع غرض ذلك العضو الرئيس‪ ،‬وأعضاء أخر‬
‫فيها قوى تفعل أفعالها عىل حسب أغراض هذه التي ليس بينها وبني الرئيس واسطة‪-‬فهذه يف الرتبة الثانية‪-‬‬
‫وأعضاء أخر تفعل األفعال عىل حسب غرض هؤالء الذين يف املرتبة الثانية ثم هكذا إىل أن تنتهي إىل أعضاء‬
‫تخدم وال ترؤس أصالً‪ ،‬وكذلك املدينة أجزاؤها مختلفة الفطرة‪ ،‬متفاضلة الهيئات‪ »..‬آراء أهل املدينة الفاضلة‬
‫ومضاداتها‪ ،‬ص‪.31‬‬
‫‪89‬‬ ‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي‬

‫وعامل اإلنسان‪ ،‬وجعل السياسة غاية لفلسفته‪ .‬واملدينة الفاضلة يف نظره‬


‫وحدة متامسكة األجزاء تقوم عىل نظام مركزي دقيق‪.‬‬
‫كل منها رقعة‬
‫ويف عرص الفارايب انقسمت الخالفة إىل دويالت‪ ،‬تحتل ّ‬
‫كبرية من األرض‪ ،‬وتشتمل عىل مدن وأقاليم كثرية؛ لهذا األمر كان التصور‬
‫السيايس ملجتمع املدينة غريباً عىل الفكر اإلسالمي يف عرصه‪.‬‬
‫ويرى تضا ّد املدينة الفاضلة يف صورة سالمة األبدان‪ ،‬والتمتع‬
‫باللذات‪ ،‬ويصطلح عىل ذلك اسم املدينة الرضورة‪ ،‬ويُطلق عىل‬
‫املدينة التي تقترص عىل اللذات‪ ،‬وتق ّدم جانب الهزل واللعب اسم مدينة‬
‫عب عن‬
‫الخسة والسقوط‪ ،‬وإذا قصد أهل املدينة املدح والثناء والسمعة ّ‬
‫تلك املدينة مبدينة الكرامة‪ ،‬وإذا كانت املدينة تريد الغلبة والقهر عىل‬
‫اآلخرين سامها مدينة الغلبة‪ ،‬وتضا ّد املدن الضالة املدن الفاضلة‪ ،‬وقد‬
‫تع ّرض إىل أهل املدن الجاهلة ‪ ،‬فحني ينغمس الشعب يف امللذات‬
‫والشهوات يفقد القيم واملدارك الكلية‪ ،‬ويسري يف نطاق محدد تتحكم‬
‫فيه األهواء‪ ،‬والشهوات‪.‬‬
‫ويرى أن املدن الجاهلة الضالة إمنا تحدث متى كانت امللة مبنية عىل‬
‫بعض اآلراء القدمية الفاسدة‪ ،‬فترتدد لديه املدن الضالة الجاهلة بني قوم‬
‫فكل وجود يضا ّد اآلخر يف إثباته لنفي اآلخر‪،‬‬
‫رأوا املوجودات متضادة‪ّ ،‬‬
‫ويكون إثبات ذاته إما لدفع الوجود املضاد عنه؛ إلثباته‪ ،‬أو النظر إىل‬
‫بطالنه‪ ،‬أو تستخدم األشياء إلثبات ذاته‪.‬‬
‫ويتحدث عن االضطرار من قبل املدينة الجاهلة عىل املدينة‬
‫الفاضلة‪ ،‬فقد جعلتها خاضعة للرغبات وامللذات‪ ،‬إذا تقبلتها النفوس‬
‫صارت عىل وفق املدينة الجاهلة‪ ،‬وصار الجميع من غري تفاوت‪،‬‬
‫فالضابط لألعامل القبيحة هو تقبل النفس لها‪ ،‬وعىل املدينة الفاضلة‬
‫‪ 90‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫أن تكافح هذه األعامل مبقدار قدرتها عىل الرفض‪.‬‬


‫وع ّد الفارايب األرسة يف عداد املجتمعات الناقصة‪ ،‬فلم يرش إىل‬
‫أهميتها بوصفها الخلية األوىل يف املجتمع‪ .‬والتامسك االجتامعي يف‬
‫األرسة أقوى منه يف املدينة‪ ،‬ورمبا يكمن السبب يف أنه وجد أن الحديث‬
‫عن مجتمع األرسة قد يقوده إىل الحديث عن النسب أو العشرية أو القبيلة‬
‫عىل نحو ما كان شائعاً عند العرب‪ ،‬ورمبا لتأثره بأفالطون الذي مل يتكلم‬
‫وأحل محله نظاماً أكرث شيوعاً‪ ،‬واتساعاً‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عىل نظام االجتامع املنزيل‪،‬‬
‫وتتميز املجتمعات الفاضلة من غريها بالقوة‪ :‬قوة النفس‪ ،‬قوة االختيار‪،‬‬
‫ف ُينال الخري باالختيار واإلرادة‪ ،‬وتكون الرشور باالختيار واإلرادة‪ ،‬وتجتمع‬
‫املدينة الفاضلة عىل أشياء يراد بها السعادة‪ ،‬وليك تتحقق املدينة الفاضلة‬
‫الخية‪ ،‬وليك تكون‬
‫ّ‬ ‫يجب أن يجتمع األفراد عىل مجموعة من الغايات‬
‫الخية ال بد أن تكون نفوسهم صالحة‪ ،‬والطريق‬ ‫ّ‬ ‫لديهم هذه الغايات‬
‫الوحيدة لذلك هي قوة اإلرادة التي تجعل اإلنسان يختار الخري‪ ،‬ويرتك‬
‫الرش عىل الرغم من جاذبيته‪.‬‬
‫ويبحث الفارايب عن النفوس النقية لتسكن املدينة الفاضلة؛ ألن النقاء‬
‫جزء من قوة اإلرادة‪ ،‬وقد جعل النقاء نتيجة تربية شاقة تبدأ يف الصغر‪ ،‬فهو‬
‫ـ لديه ـ خصيصة إنسانية مرتبطة بقوة اإلرادة واالختيار‪ ،‬فلدى البرش نقاء‪،‬‬
‫لكن قالئل من يستطيعون محاربة الرشور‪ ،‬واختيار طريق السعادة‪.‬‬
‫والقوة لدى الفارايب ليست قوة مادية فقط‪ ،‬بل هي معنوية‪ ،‬رمزية‪،‬‬
‫روحية‪ ،‬فهدف القوة تحصيل السعادة‪ ،‬وليك يحصل اإلنسان عليها ال بد‬
‫أن يتحىل باإلرادة‪.‬‬
‫ومتثل القوة عند الفارايب ثنائية ضدية‪ ،‬فهي ليست مفهوماً سلبياً‪،‬‬
‫وليست مفهوماً إيجابياً‪ ،‬إنها مفهوم يتشكل حسب االستخدام‪ ،‬ومن‬
‫‪91‬‬ ‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي‬

‫املمكن أن يحمل املعنيني‪ ،‬فإذا استخدمه األفراد لتحقيق السعادة‪،‬‬


‫واملدينة الفاضلة فهو إيجايب‪ ،‬وإذا استُخدم استخداماً مضادا ً عمل عىل‬
‫تحقيق الرصاع والنزاع والبعد عن الفضيلة يف املدينة الجاهلة‪ ،‬والفصل‬
‫هنا هو اإلرادة‪ ،‬واالختيار‪.‬‬
‫املدينة الفاضلة ـ إذن ـ هي التي يقصد منها االجتامع‪ ،‬والتعاون‬
‫عىل األشياء التي تنال بها السعادة الحقيقية[[[‪ ،‬فيتعاون أهلها عىل يبلوغ‬
‫السعادة بالفكر والعمل‪ ،‬فقد جعل ـ كأفالطون ـ غاية الفردوس األريض‬
‫بلوغ السعادة والخري؛ ألن الخري غاية الكون‪ ،‬واإلنسان‪.‬‬
‫واملدينة الجاهلة مل يعرف أهلها السعادة وال خطرت يف بالهم‪،‬‬
‫وتقسم إىل املدينة الرضورة‪ ،‬يقترص أهلها عىل الرضوري يف املأكل‬
‫واملرشب وامللبس‪ ،‬ويتعاونون ألجل ذلك فقط‪ ،‬ومدينة الكرامة‪ ،‬يتعاون‬
‫أهلها عىل أن يكونوا مك ّرمني‪ ،‬ممدوحني‪ ،‬ممجدين‪ ،‬معظّمني بالقول‬
‫والفعل‪ ،‬ومدينة الخسة والشقوة‪ ،‬يتمتع أهلها باللذة من املحسوس‪،‬‬
‫وإيثار الهزل والتعب‪ ،‬ومدينة التغلّب‪ ،‬ويكون أهلها قاهرين لغريهم‪،‬‬
‫هدفهم اللذة التي تنال من الغلبة فقط‪.‬‬
‫ومن املدن التي هي ضد املدينة الفاضلة[[[‪ :‬املدينة الفاسقة التي‬
‫يعلم أهلها ما يعلمه أهل املدينة الفاضلة من أسباب السعادة‪ ،‬ويعرفون‬
‫[[[ـ يقول الفارايب‪« :‬واالجتامع الذي به يتعاون عىل نيل السعادة هو االجتامع الفاضل‪ ،‬واألمة التي تتعاون‬
‫مدنها كلها عىل ما تنال به السعادة هي األمة الفاضلة‪ ،‬وكذلك املعمورة الفاضلة‪ ،‬إمنا تكون إذا كانت األمم‬
‫التي فيها تتعاون عىل بلوغ السعادة» آراء اهل املدينة الفاضلة ومضاداتها‪ ،‬ص‪30‬‬
‫[[[ـ يقول الفارايب‪« :‬واملدينة الفاضلة تضادّها املدينة الجاهلة‪ ،‬واملدينة الفاسقة‪ ،‬واملدينة املبتذلة‪ ،‬واملدينة‬
‫الضالة‪ ...‬واملدينة الجاهلة هي التي مل يعرف أهلها السعادة‪ ،‬وال خطرت يف بالهم إن أرشدوا إليها فلم‬
‫يفهموها‪ ،‬ومل يعتقدوها‪ ،‬وإن عرفوا من الخريات بعض هذه التي هي مظنونة يف الظاهر أنها خريات من التي‬
‫تظن أنها هي الغايات يف الحياة‪ ،‬وهي سالمة األبدان واليسار والتمتع باللذات‪ ،‬وأن يكون مخىل هواه‪ ،‬وأن‬
‫يكون مكرماً ومعظامً‪ ..‬والسعادة العظمى الكاملة هي يف اجتامع هذه كلها‪ ،‬وأضدادها هي الشقاء‪ ،‬وهي آفات‬
‫األبدان‪ ،‬والفقر‪ ،‬وأال يتمتع باللذات‪ ..‬وهي تنقسم إىل جامعة مدن‪ :‬املدينة الرضورية‪ ،‬واملدينة البدالة‪ ،‬ومدينة‬
‫الخسة والسقوط‪ ،‬ومدينة الكرامة‪ ،‬ومدينة التغلب‪ ،‬واملدينة الجامعية‪ ،‬واملدينة الفاسقة‪ ،‬واملدينة املبدلة‪،‬‬
‫واملدينة الضالة‪ »..‬آراء أهل املدينة الفاضلة ومضاداتها‪ ،‬ص‪36-35‬‬
‫‪ 92‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫الله والعقل‪ ،‬لكن تكون أفعالهم أفعال املدينة الجاهلة‪ ،‬يقولون ما يقوله‬
‫أهل املدينة الفاضلة‪ ،‬وال يعملون به‪.‬‬
‫واملدينة املبتذلة‪ ،‬وقد كانت آراء أهلها وأفعالهم يف القديم مامثلة‬
‫آلراء أهل املدينة الفاضلة وأفعالهم لكنها تبدلت‪ ،‬فدخلت فيها آراء‬
‫فاسدة‪ ،‬واستحالت أفعالهم إىل أفعال مذمومة‪.‬‬
‫واملدينة الضالة‪ ،‬وهي التي تعتقد يف الله‪ ،‬والعقل الف ّعال آراء فاسدة‪،‬‬
‫ويكون رئيسها األول ضاالً‪ ،‬يظ ّن أنه يوحى إليه‪ ،‬وهو بعيد عن الوحي‪،‬‬
‫فيغري الناس‪ ،‬ويخدعهم بأقواله‪ ،‬وأفعاله‪.‬‬
‫‪2‬ـ الثن�ائي�ات الضدية يف فلسفة ابن سين�ا ت “‪427‬هـ”‬
‫‪ - 1-2‬تقابل القضايا عند ابن سين�ا‬
‫تأثر ابن سينا بأرسطوطاليس لكنه عرف أنواعاً من التحليل تستجيب‬
‫ملطالب التطور الذي عرفته العلوم يف عرصه‪ ،‬وهو ‪-‬عىل الرغم من تأثره‬
‫مبنطق أرسطو‪ -‬ال يراه ولد معه كامالً‪.‬‬
‫ويرى ابن سينا أن التناقض أقوى‪ ،‬وأوضح من التقابل؛ ألنه تقابل تام‬
‫بني النفي واإلثبات‪ ،‬فالقضيتان املتفقتان يف كيفية اإليجاب والسلب‪،‬‬
‫املختلفتان يف الحرص تسميان متداخلتني[[[ وبذلك يكتمل مربع التقابل‬
‫مع ابن سينا الذي وضعه أبوليوس ‪ Apuleius‬يف القرن الثاين امليالدي من‬
‫غري أن يذكر املتداخلتني‪.‬‬
‫والتضاد هو تقابل قضيتني كليتني مختلفتي الكيف‪ ،‬ويكون الدخول‬
‫تحت التضاد بني الجزئيتني املختلفتني يف الكيف‪ ،‬والقضيتان املتضادتان‬
‫ال تصدقان معاً‪ ،‬وقد تكذبان معاً‪ ،‬بينام القضيتان الداخلتان تحت التضاد‬
‫[[[ـ للتوسع انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،1970 :‬الشفاء‪ .‬العبارة‪ ،‬تحقيق محمود الخرضي‪ ،‬وزارة املعارف العمومية‪،‬‬
‫مرص‪ ،‬ص‪48‬‬
‫‪93‬‬ ‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي‬

‫ال تكذبان معاً‪ ،‬وقد تصدقان معاً‪ ،‬فيقرر ابن سينا أن القضيتني املهملتني‬
‫يف مادة املمكن ليستا مبتضادتني‪ ،‬وكيف‪ ،‬وقد يصدق أن اإلنسان كاتب‪،‬‬
‫ويصدق أن يقال ليس بكاتب‪ ،‬فيجتمعان عىل الصدق‪ [[[.‬وهذا حكم‬
‫الجزئيتني الداخلتني تحت التضاد‪ ،‬ويصل إىل نتيجة أن القضية املهملة‬
‫يف قوة الجزئية فـ”املهمالت ليست يف حكم املحصورات الكلية‪ ،‬وإنها‬
‫يف حكم املحصورات الجزئية‪ ،‬وهي األَوىل بها أن تسمى داخلة تحت‬
‫املتضادة”[[[‪.‬‬
‫والقضية املهملة يف حكم الجزئية لديه‪ ،‬فكلية املوضوع ال توجب‬
‫الحكم عليه‪ ،‬وخلص إىل أن املهمل يف حكم الجزئيتني الداخلتني‬
‫تحت التضاد‪ ،‬فـ”ال تناقض بني املهملتني‪ ،‬فيبقى أن يكون التناقض بني‬
‫املخصوصات واملحصورات”[[[ فالنقيضان ال يكذبان معاً‪ ،‬وال يصدقان‬
‫معاً‪ ،‬وال يتحقق التناقض إال مبراعاة املوضوع واملحمول‪ .‬فالقضية‬
‫الشخصية لديه “زيد صادق” نقيضها القضية الشخصية “زيد ليس صادقاً”‪.‬‬
‫وتقتسم القضية املحصورة املوجبة الكلية‪ ،‬والقضية املحصورة‬
‫الجزئية السالبة الصدق والكذب‪ ،‬واالقتسام حاصل بني الكلية السالبة‪،‬‬
‫والجزئية املوجبة يف كل مادة؛ أي الواجب‪ ،‬واملمكن‪ ،‬واملمتنع[[[‪.‬‬
‫فالتناقض هو اختالف القضيتني بالسلب واإليجاب اختالفاً تاماً‪،‬‬
‫واختالفهام يف الكمية اختالفاً يلزم عنه أن إحداهام صادقة‪ ،‬واألخرى‬
‫كاذبة‪ ،‬فالقضيتان املختلفتان يف الكم دون الكيف تكونان صادقتني معاً‪،‬‬

‫[[[ـ الشفاء‪ .‬العبارة‪ ،‬ص‪50‬‬


‫[[[ـ املصدر السابق‪ ،‬ص‪66‬‬
‫[[[ـ املصدر األسبق‪ ،‬ص‪67‬‬
‫[[[ـ للتوسع انظر‪ :‬ابن سينا‪ ،1960 :‬اإلشارات والتنبيهات‪ .‬املنطق‪ ،‬نرشة سليامن دنيا‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مرص‪،‬‬
‫ص‪.303‬‬
‫الشفاء‪ .‬العبارة‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫‪ 94‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫مثل‪ :‬كل إنسان حيوان‪ ،‬وقولنا بعض اإلنسان حيوان‪ ،‬وتكونان كاذبتني معاً‬
‫كقولنا‪ :‬ال إنسان فان‪ ،‬وليس بعض الناس فانياً‪ ،‬فهذا تداخل‪.‬‬
‫ودفع ابن سينا للحديث عن التضاد تعريفه القضايا املحصورة‬
‫واملهملة‪ ،‬وامتحان رشائط التقابل‪ ،‬فاالنحراف عنها يقتيض االنحراف‬
‫عن التناقض‪ ،‬فبسط القول يف الدخول تحت التضاد‪ ،‬وأبدع التداخل‪،‬‬
‫وبحث يف تقابل القضايا الرشطية‪ ،‬فالقضية الرشطية املتصلة الكلية‬
‫املوجبة البسيطة مثلام تتألف من قضيتني َح ْمليتني كليتني موجبتني تتألف‬
‫كذلك من جزئيتني موجبتني‪ ،‬ومن كليتني سالبتني‪ ،‬ومن جزئيتني سالبتني‪،‬‬
‫وهكذا[[[ فالتقابل بني القضايا قد يكون تقابل تضاد‪ ،‬أو تداخل‪ ،‬أو تناقض‪،‬‬
‫أو دخول تحت التضاد‪ .‬وتجري عىل القضايا الرشطية قوانني تقابل القضايا‬
‫الحملية ذاتها‪ ،‬فاملتضادتان ال تصدقان معاً‪ ،‬وقد تكذبان معاً‪ ،‬والداخلتان‬
‫تحت التضاد ال تكذبان معاً‪ ،‬وقد تصدقان معاً‪ ،‬ويف التداخل إذا صدقت‬
‫الكلية صدقت الجزئية معها‪ ،‬وإذا كذبت الجزئية كذبت الكلية معها‪ ،‬وال‬
‫ينعكس أحد األمرين‪.‬‬
‫‪ - 2-2‬ثن�ائي�ة النفس‪ /‬اجلسد عند ابن سين�ا‬
‫مسألة النفس من املسائل املهمة التي شغلت الفالسفة منذ زمن‬
‫اإلغريق‪ ،‬وقد نبه سقراط ‪ Socrates‬عىل أن معرفة النفس هي الخطوة‬
‫األوىل نحو املعرفة‪ ،‬فال يستطيع اإلنسان أن يعرف شيئاً إن مل يعرف‬
‫نفسه‪ .‬والنفس اإلنسانية عند سقراط ظل الله يف اإلنسان‪ ،‬وجوهر‬
‫اإلنسان‪ ،‬وهي ذات طبيعة روحية إلهية‪ ،‬لها وجود قائم يف ذاتها‪ ،‬من‬
‫فس‬
‫جنس مغاير للبدن‪ ،‬وهي القوة املح ّركة للجسم‪ ،‬وتستخدم ال ّن ُ‬

‫[[[ـ ابن سينا‪ ،1964 :‬الشفاء‪ .‬القياس‪ ،‬تحقيق سعيد زايد‪ ،‬وزارة املعارف العمومية‪ ،‬مرص‪ ،‬ص‪ 361‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪95‬‬ ‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي‬

‫الجسد بإخضاعه ألوامرها‪ ،‬فالنفس هي اإلنسان يف ذاته[[[‪.‬‬


‫وتحيل ثنائية نفس‪ /‬جسد لدى أرسطو عىل ثنائية مادة‪ /‬صورة‪ ،‬فالجسم‬
‫مادة اإلنسان‪ ،‬والنفس صورته‪ ،‬ومن املستحيل فصل املادة عن الصورة‬
‫[[[‬

‫فالنفس والجسد جوهران يؤلفان كائناً حياً‪ ،‬وهي لدى أرسطو متوت مبوت‬
‫الجسد خالف أفالطون‪ ،‬فالنفس تعيش يف عامل املثل بعيدا ً عن املادة‬
‫ودنسها‪ ،‬وجودها يف الجسد مبنزلة سجن لها؛ ملعاقبتها عىل أخطائها‪.‬‬
‫ومتنح النفس الحياة للجسد لدى أرسطو‪ ،‬كام أن الصورة هي جوهر‬
‫وجود املادة‪ ،‬فالنفس والجسد جوهران متباينان‪ ،‬فتتعمق ثنائية نفس‪/‬‬
‫جسد‪ ،‬مادة‪ /‬صورة‪ ،‬لدى أرسطو‪ ،‬وقد فصل بني طريف الثنائية‪ ،‬فالنفس‬
‫س ّيد‪ ،‬وحاكم موازنة بالجسد الذي ميثل العبد‪ ،‬والغريزة‪.‬‬
‫وقد أخذ ابن سينا كثريا ً من آرائه عن الفارايب لكنه تف ّوق عليه‪ ،‬فتحدث‬
‫عن أهمية إثبات وجود النفس فـ”من رام وصف يشء من األشياء وقبل أن‬
‫يتقدم فيثبت أنيته “وجوده” فهو معدود عند الحكامء ممن زاغ عن محجة‬
‫اإليضاح”[[[‪.‬‬
‫ومثة برهان طبيعي لديه يتمثل يف حركة الجسم‪ ،‬فاإلنسان مييش مع أن‬
‫له طبيعة مضادة تقتيض السكون[[[ ومثة برهان نفيس‪ ،‬فاإلنسان يتميز من‬
‫غريه بانفعاالته‪ ،‬وقدرته عىل التمييز بني الخري والرش‪ ،‬وقدرته عىل الكالم‪.‬‬

‫[[[ـ محمود قاسم‪ ،1954 :‬يف النفس والعقل لفالسفة اإلغريق واإلسالم‪ ،‬ط‪ ،2‬مكتبة االنجلو املرصية‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ص‪ 23‬وما بعدها‪.‬‬
‫[[[ـ وولرت ستيس‪ ،1984 :‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬ترجمة‪ :‬مجاهد عبد املنعم مجاهد‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ص‪.247‬‬
‫وللتوسع ينظر‪ :‬أرسطوطاليس‪ ،1949 :‬كتاب النفس‪ ،‬ترجمة أحمد فؤاد األهواين‪ ،‬املركز القومي للرتجمة‪،‬‬
‫مرص‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫[[[ـ ابن سينا‪ ،1986 :‬النفس البرشية عند ابن سينا‪ ،‬نصوص حققها وجمعها وقدم لها ألبري نرصي نادر‪ ،‬دار‬
‫املرشق‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫[[[ـ إبراهيم مدكور‪ ،1974 :‬يف الفلسفة اإلسالمية‪ :‬منهج وتطبيقه‪ ،‬سمريكو للطباعة والنرش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪.138‬‬
‫‪ 96‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫ويع ّرف ابن سينا النفس بأنها “كامل أول لجسم طبيعي آيل من جهة ما‬
‫يفعل األفعال الكائنة باالختيار الفكري‪ ،‬واالستنباط بالرأي‪ ،‬ومن جهة ما‬
‫يدرك األمور الكلية”[[[‪.‬‬
‫فط ّور أفكار أرسطو حول ثنائية نفس‪ /‬جسد‪ ،‬لكنه فصل مفهوم الكامل‬
‫عن مفهوم الصورة‪ ،‬فال متوت النفس مبوت البدن‪ ،‬ولكنها توجد قبله‪،‬‬
‫فذهب مع أرسطو إىل أن النفس والجسد يوجدان يف وحدة متنح الكائن‬
‫الحي الحياة‪ .‬فتحدث النفس بحدوث البدن‪ ،‬وحدوث نفس من غري جسد‬
‫تعطيل لوجود هذه النفس‪ ،‬وال يوجد يشء معطل يف الطبيعة‪ ،‬فثمة وحدة‬
‫بني النفس والجسد‪ ،‬وتحتاج النفس إىل جسد معني؛ لتحقق وجودها‪،‬‬
‫وكام أن النفس تفتقر يف تشخّصها ووجودها إىل البدن فالبدن أيضاً بحاجة‬
‫إىل اقرتانه بالنفس‪ ،‬فكالهام يوجد يف تأثري متبادل‪ ،‬ويشغل الجسد املكان‬
‫األول يف هذا التأثري‪ ،‬فريى أن الحالة النفسية مرتبطة بالنشاط الفيزيولوجي‬
‫للدماغ‪ ،‬والصحة النفسية نتيجة للصحة الفيزيولوجية للدماغ‪.‬‬
‫ومل يظهر أثر أفكار أرسطو فقط يف فلسفته بل تأثر بأفكار أفالطون‪،‬‬
‫فالنفس لدى ابن سينا يشء ما أكرث كامالً من الجسد‪ ،‬ليست مادية‪ ،‬وال‬
‫متوت مبوت البدن‪ ،‬جوهر روحاين قائم يف ذاته‪ ،‬مختلف عن املوجودات‬
‫املادية‪ ،‬تغاير البدن‪ ،‬فالنفس ثابتة‪ ،‬والجسد يف حال تحلل وانتقاص‪،‬‬
‫واإلنسان بحاجة إىل الغذاء؛ ليعوض ما تحلل من جسده‪ ،‬والجسد قابل‬
‫للفساد‪ ،‬أما النفس فجوهر روحاين يفيض عىل الجسد املناسب له[[[‪.‬‬
‫ويظهر األثر األفالطوين يف نظرية خلود النفس‪ ،‬فال تفنى النفس‬
‫بفناء الجسد عند ابن سينا؛ ألن جوهرها أقوى من جوهر البدن‪ ،‬وهي غري‬
‫[[[ـ ابن سينا‪ ،1952 :‬أحوال النفس‪ ،‬حققها وقدم لها‪ :‬أحمد فؤاد األهواين‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ص‪.57‬‬
‫[[[ـ النفس البرشية عند ابن سينا‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫‪97‬‬ ‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي‬

‫محتاجة يف وجودها إىل البدن‪ ،‬وحني ميوت البدن تتخلص النفس منه‪،‬‬
‫فإذا كان جوهر النفس كامالً بالعلم والحكمة والعمل الصالح فإنها تذهب‬
‫عيص عىل‬
‫ّ‬ ‫إىل العامل العقيل حيث تنعم بالسعادة وامللذات‪ ،‬جوهرها‬
‫الحس‪ ،‬سهل الظهور لدى العقل[[[‪.‬‬
‫ّ‬
‫تقوم ثنائية نفس‪ /‬جسد لدى ابن سينا عىل أساس بني العلم والدين‪،‬‬
‫وهذا ما جعله يتأرجح بني نظرية النفس عند أرسطو‪ ،‬وتأكيد ارتباطها‬
‫بالجسد‪ ،‬ونظرية أفالطون الذي أكد روحانيتها‪ ،‬ومغايرتها للبدن‪،‬‬
‫وخلودها‪ ،‬فحاول أن يق ّرب بني رأييهام‪ ،‬والرأي الديني‪ ،‬فظلت نظريته‬
‫يف النفس أرسطية يف جوانب‪ ،‬أفالطونية يف جوانب‪ ،‬دينية إسالمية يف‬
‫جوانب أخرى‪.‬‬
‫‪3‬ـ الثن�ائي�ات الضدية بني الغزايل ت “‪505‬هـ” وابن رشد ت “‪ 520‬هـ”‬
‫‪ - 1-3‬مفهوم الثن�ائي�ات الضدية لدى ابن رشد‬
‫يع ّد ابن رشد من أوسع الفالسفة املسلمني يف العلوم املا ورائية‪ ،‬وله‬
‫محاولة يف الربط بني الفلسفة والرشيعة يف حدود تصوره لها‪ ،‬وقد رأى‬
‫أنه إذا وجدت بعض اآليات الكرمية تضا ّد الفلسفة يجب تفسريها عىل‬
‫وفق أن لكل آية معنيني‪ :‬حرفياً للعامة‪ ،‬وروحياً للفالسفة‪ ،‬وعىل العلامء أن‬
‫يجمعوا بني الحكمة والرشيعة[[[‪.‬‬
‫وناقش الخالف املتعلق بأن العامل قديم‪ ،‬أو محدث‪ ،‬ورأى أن‬
‫الخالف يف هذه املسألة يعود إىل اللفظ‪ ،‬فهو خالف لفظي غري جوهري‪،‬‬

‫[[[ـ سنتناول يف سياق حديثنا عن األدب الفلسفي عينية ابن سينا يف النفس‪ ،‬فالنفس لديه كانت تعيش يف‬
‫عامل قديس‪ ،‬هبطت من غري رغبة منها إىل األرض‪ ،‬ودخلت يف الجسد اإلنساين‪.‬‬
‫[[[ـ انظر‪ :‬ابن رشد‪ 1319 :‬هـ‪ ،‬الكشف عن منهاج األدلة يف عقائد امللة‪ ،‬ط‪ ،1‬املطبعة الحامدية‪ ،‬مرص‪،‬‬
‫ناقش يف هذا الكتاب بعض علامء الكالم يف تأويلهم البعيد عن روح اإلسالم‪ ،‬ويف رد شبههم التي عرضوها‬
‫عىل الرشيعة؛ ليعارضوها بها‪.‬‬
‫‪ 98‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫فأوجد مسافة شبه التضاد‪ ،‬فالعامل ُمح َدث إذا نظرنا إليه من جهة أنه معلول‬
‫من الله‪ ،‬وقديم إذا اعتربنا أنه وجد عن الله منذ األزل من غري تراخ يف زمن‪.‬‬
‫وقد حظيت الثنائيات الضدية بدور أنطولوجي مهم يف فكر ابن رشد‬
‫يف مستويات الحياة كلها‪ :‬الطبيعية‪ ،‬واملعرفية‪ ،‬واإلنسانية‪ ،‬فالتضاد أساس‬
‫[[[‬
‫الكون‪ ،‬وحركته‪ ،‬وتخضع املتضادات لجملة من القوانني والضوابط‪.‬‬
‫وللثنائية طابع التضاد‪ ،‬فال يكون التضاد إال بني أمرين بلغا غاية‬
‫االختالف‪ ،‬فينتمي املتضادان إىل نوع واحد‪ ،‬وهذا التضاد يف املوضوع‬
‫الواحد هو الذي يحيل عىل التكامل‪ ،‬وقد يتعاقب املتضادان‪ ،‬وقد‬
‫يتوازيان‪ ،‬وقد يقوى أحد الطرفني املتضادين عىل اآلخر‪ ،‬فيضعف اآلخر‪،‬‬
‫وعىل هذا يكون التضاد سبباً ِ‬
‫محدثاً جملة من الظواهر‪ ،‬واألحوال‪.‬‬
‫يرى ابن رشد ـ عىل سبيل املثال ـ ان املرض مضا ّد للصحة؛ ألن‬
‫املؤمل هو الضد ال الشبيه[[[ والصحة اعتدال بني املتضادات‪ ،‬واملرض‬
‫اختالل االعتدال بني املتضادين‪ ،‬وهذا التناوب الضدي هو الذي يشهد أن‬
‫الجسم يتمتع بالحياة‪ ،‬فاملرض موجود يف جوهر الكائن الحي‪.‬‬
‫ويعطي ابن رشد أهمية خاصة للكيفيات األربع‪ :‬الحرارة والربودة‬
‫والرطوبة واليبوسة‪ ،‬فهي أسباب تولِّد الكائنات التي يجري عليها الكون‬
‫والفساد كلها[[[ فالهواء إذا استحال من قبل الحرارة عاد نارا ً‪ ،‬وإذا استحال‬
‫من قبل الربودة عاد ماء[[[‪.‬‬
‫ويرى أن صناعة الطب قادرة عىل فعل املتضادين معاً‪ ،‬فهي تفعل‬
‫[[[ـ محمد مصباحي‪ ،1995 :‬تحوالت يف تاريخ الوجود والعقل‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬املغرب‪ ،‬ص‪.118‬‬
‫وللتوسع يف الفكرة ينظر‪ :‬محمد مصباحي‪ ،2001 :‬العلم والفكر العلمي بالغرب اإلسالمي يف العرص الوسيط‪،‬‬
‫منشورات كلية اآلداب‪ ،‬الرباط‪.‬‬
‫[[[ـ ابن رشد‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬تلخيص كتاب اإلسطقسات‪ ،‬لجالينوس ضمن رسائل ابن رشد الطبية‪ ،‬ص‪.36‬‬
‫[[[ـ املصدر السابق‪ ،‬ص‪.60‬‬
‫[[[ـ املصدر السابق‪ ،‬ص‪.62‬‬
‫‪99‬‬ ‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي‬

‫الصحة واملرض[[[ خالف القوى الفاعلة غري الناطقة التي ال تستطيع أن‬
‫تفعل بالذات سوى ض ّد واحد‪ ،‬أو فعل واحد‪ ،‬فالحا ّر يفعل تسخيناً فقط‪،‬‬
‫وليس يفعل الض َّد اآلخر الذي هو التربيد[[[‪.‬‬
‫ويقبل العقل عنده الصورتني املتضادتني‪ ،‬وكأنهام صورة واحدة‪،‬‬
‫ولعل السبب يف ذلك راجع إىل أن جذر املتضادين واحد‪ ،‬وهو الجنس‬
‫الذي ينتسبان إليه نسبة متساوية[[[‪.‬‬
‫ويرى أن الصور املتضادة املوجودة يف النفس هي بنحو صورة واحدة‪،‬‬
‫ولذلك قبلت النفس الصور املتضادة‪ ،‬ويرى استحالة فعل الضدين يف‬
‫وقت واحد؛ الستحالة الجمع بني املتضادين‪ ،‬ولو كانت صناعة الطب‬
‫تفعل اليشء وضده عىل حد سواء كالصحة واملرض لصارت حقيقة هذه‬
‫الصناعة متضادة‪ ،‬وهو أمر مستحيل‪ ،‬فاليشء ال يكون ض ّد نفسه‪ ،‬ومتيل‬
‫النفس إىل فعل أحد الضدين يف وقت ما دون ضده[[[‪.‬‬
‫ودعا إىل الشفاء باملتضادات بحكم نظرته إليها بوصفها قوى طبيعية؛‬
‫وألنه رأى أن التوازن الضدي بني املكونات العنرصية والخلطية أهم ما‬
‫مييز حقيقة الصحة‪ ،‬والفعل الضدي هو الذي يُحدث التوازن‪.‬‬
‫ويف سياق آخر تحدث ابن رشد عن ثنائية ذكورة‪ /‬أنوثة‪ ،‬فقد آمنت‬
‫الفلسفة الرشدية بوحدة العقل‪ ،‬وكان لزاماً عليها أن تؤمن بوحدة اإلنسان؛‬
‫أي املساواة بني الرجل واملرأة‪ ،‬فينظر إىل اإلنسان بوصفه إنساناً‪ ،‬ال‬
‫بوصفه رجالً‪ ،‬أو امرأة‪ .‬لكن هذه الوحدة ال تلغي االختالف بني الرجل‬

‫[[[ـ ابن رشد‪ ،1973 :‬تفسري ما بعد الطبيعة‪ ،‬تحقيق‪ :‬ج‪ .‬بويج‪ ،‬املطبعة الكاثوليكية‪ ،‬بريوت‪ ،‬مقالة ط‪،‬‬
‫ص‪.2-1‬‬
‫[[[ـ املصدر السابق‪ ،‬مقالة ‪ ،3‬ص‪.81‬‬
‫[[[ـ املصدر السابق‪ ،‬مقالة ز‪ ،‬ص‪.485‬‬
‫[[[ـ املصدر السابق‪ ،‬مقالة ط‪ ،‬ص‪.8-7‬‬
‫‪ 100‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫واملرأة‪ ،‬وهو اختالف تقابيل ضدي‪ ،‬لكن هل هو تضاد تكاميل؟‪.‬‬


‫ال ميكن أن يكون اإلنسان رجالً‪ ،‬وال امرأة؛ ألنه هو أصلهام من جهة‬
‫التساوي‪ ،‬والعالقة بني الطرفني عالقة العلة باملعلول‪ ،‬فل َم ال يكون الذكر‬
‫نوعاً‪ ،‬واألنثى نوعاً آخر؟ فيخالف الذكر األنثى بالنوعية؛ إذ كان الذكر‬
‫ضد األنثى‪ ،‬والخالف بالضدية خالف بالنوع‪ ،‬فال يرى فرقاً بينهام عىل‬
‫الرغم من تضا ّد الجنس الذي ينتمي إليه كل منهام‪ ،‬فهذا االختالف ليس‬
‫جوهرياً‪ ،‬بل هو عريض‪.‬‬
‫ويرى أن املساواة بني الرجل واملرأة نظرياً ال تكفي‪ ،‬بل ال بد من‬
‫تفعيلها عىل املستوى العميل‪ ،‬فللرجل واملرأة عقل واحد‪ ،‬والتفاوت‬
‫بينهام تفاوت عريض‪ ،‬وميكن بنظره أن تكون املرأة حاكمة‪ ،‬ومحبّة‬
‫للحكمة يف املدينة العادلة[[[‪.‬‬
‫‪ - 2-3‬ثن�ائي�ة عقل‪ /‬نقل بني ابن رشد والغزايل‬
‫يقصد بالعقل والنقل األدلة العقلية‪ ،‬واألدلة النقلية‪ :‬الكتاب والسنة‪،‬‬
‫وينطلق ابن رشد من فكرة أن العقل الرصيح ال يخالف النقل الصحيح حيناً‪،‬‬
‫ويخالفه حيناً آخر‪ ،‬فقد وفّق بني الحكمة والدين‪ ،‬وتعارض مع الغزايل‪ ،‬ومن‬
‫أقواله املشهورة‪“ :‬الحق ال يضا ّد الحق‪ ،‬بل يوافقه‪ ،‬ويشهد له”[[[‪.‬‬
‫ال بد إذن من خلق انسجام بني معطيات العقل‪ ،‬ومعطيات اإلميان‪،‬‬
‫[[[ـ انظر أفكار ابن رشد فيام يتعلق بهذه الثنائية يف‪ ،2002 :‬تلخيص السياسة‪ ،‬تحقيق‪ :‬حسن مجيد العبيدي‪،‬‬
‫وفاطمة كاظم الذهبي‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫لكنه يناقض نفسه يف مواضع متفرقة يف حديثه البيولوجي‪ ،‬فريى املرأة نصف الرجل‪ ،‬أو موجودة ألجله‪ ،‬لكنه‬
‫فصل خطابه الفلسفي عن خطابه الفقهي‪ ،‬فتبدو املرأة التي تكلّم عليها فلسفياً مختلفة عن املرأة التي تكلم‬
‫عليها فقهياً‪.‬‬
‫[[[ـ ابن رشد‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬فصل املقال فيام بني الحكمة والرشيعة من االتصال‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد عامرة‪ ،‬ط‪ ،3‬دار‬
‫املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪21‬‬
‫وقد حاول الفالسفة املسلمون السري عىل منهج توفيقي ميكن للفلسفة أن تتناول النص الديني بالفهم من غري‬
‫أن يؤدي ذلك إىل نسف األسس اإلميانية التي يقوم عليها النص الديني بافرتاض أن الحقيقة واحدة ال ثاين لها‪.‬‬
‫وقد فتح ابن رشد آفاق التفسري العقيل من غري املس بقدسية النص‪.‬‬
‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي ‪101‬‬

‫ما هو عقيل‪ ،‬وما هو إلهي‪ ،‬فريى يف قوله تعاىل‪“ :‬فاعتربوا يا أويل‬


‫األبصار”[[[ دعوة رصيحة إىل إعامل العقل‪ ،‬وتفعيله يف فهم الكون‬
‫وموجوداته التي هي خري دليل عىل وجوده[[[‪.‬‬
‫وقد اعتمد ابن رشد عىل القياس الربهاين الذي يعرفه خاصة من‬
‫الناس‪ ،‬ومن بينهم الفالسفة والعلامء‪ ،‬والقياس الجديل الذي يخص‬
‫املتكلمني‪ ،‬فتستعني به الفرق الكالمية يف الربهنة‪ ،‬والقياس الفقهي الذي‬
‫يتم بحمل الفرع عىل األصل لعلة مشرتكة بينهام‪ ،‬لكنه فضّ ل القياس‬
‫الربهاين[[[ فنستطيع بالقياس الربهاين أن نصل إىل حقيقة الواجد من‬
‫خالل موجوداته‪ ،‬ويخص هذا النوع الفالسفة‪ ،‬وعلامء الدين‪.‬‬
‫ويرى أن فلسفة األولني خادمة للرشيعة‪ ،‬ال مضادّة لها[[[‪ ،‬فالفلسفة والدين‬
‫يتكامالن‪ ،‬وما عجز العقل عن فهمه وبيانه تم تفسريه بالوحي‪ .‬لك ّن للرشيعة‬
‫ظاهرا ً وباطناً‪ ،‬فالظاهر هو الواضح من غري حاجة إىل تفسري‪ ،‬والباطن ما‬
‫يحتاج إىل تأويل‪ ،‬وهنا ال بد من إعامل العقل‪ ،‬وهو عمل الفلسفة‪.‬‬
‫فيعتز ابن رشد بالعقل اإلنساين‪ ،‬والعالقة بني العقل والنقل عالقة‬
‫تكامل لديه‪ ،‬يف حني يؤكد الغزايل أن العقل والنقل مرتابطان‪ ،‬وال مييل‬
‫إىل العقل[[[ كام يفعل املعتزلة والفالسفة‪ ،‬وال يتعسف يف التأويل‪ ،‬وال‬
‫يقف عند ظاهر التأويل‪ ،‬بل يأخذ موقفاً وسطاً بني العقل‪ ،‬والنقل[[[‪.‬‬

‫[[[ـ الحرش‪.59 ،‬‬


‫[[[ـ يقول ابن رشد‪« :‬الرشع قد أوجب النظر بالعقل يف املوجودات واعتبارها‪ ،‬وكان االعتبار ليس شيئاً أكرث‬
‫من استنباط املجهول من املعلوم» الكشف عن منهاج األدلة يف عقائد امللة‪ ،‬ص‪.2‬‬
‫[[[ـ يقول‪« :‬الشارع قد ّ‬
‫حث عىل معرفة الله وسائر موجوداته بالربهان» انظر‪ :‬فصل املقال‪ ،‬ص‪.3‬‬
‫[[[ـ يقول ابن رشد‪« :‬علينا إن ألفينا ملن تقدّ م من األمم السالفة نظراً يف املوجودات اعتباراً لها بحسب ما‬
‫اقتضته رشائط الربهان‪ ،‬أن ننظر يف الذي قالوه من ذلك‪ ،‬وما أثبتوه يف كتبهم‪ ،‬وهو ما يعني أنه ال بد من الرجوع‬
‫إىل كتبهم‪ ،‬واالستعانة بها يف الربهنة عىل وجود الله بالتأمل العقيل‪ »..‬فصل املقال‪ ،‬ص‪.31‬‬
‫[[[ـ انظر‪ :‬الغزايل‪ ،1989 :‬معارج القدس يف مدارج معرفة النفس‪ ،‬ط‪ ،1‬رشكة الشهاب‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ص‪.58-57‬‬
‫[[[ـ للتوسع انظر‪ :‬الغزايل‪ ،1993 :‬االقتصاد يف االعتقاد‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.63‬‬
‫‪ 102‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫عارض الغزايل الفالسفة األولني يف مسائل متعددة رأى فيها تناقضاً مع‬
‫النص الديني‪ ،‬واختلفا يف مسألة ِق َدم العامل‪ ،‬ومسألة األسباب واملسببات‪،‬‬
‫ومسألة إنكار الفالسفة البعث‪ ،‬والجزاء األخروي‪.‬‬
‫وقد تحدث الغزايل يف كتابه تهافت الفالسفة عن خطأ الفالسفة الذين‬
‫أق ّروا بأزلية العامل‪ ،‬وأبديته‪ ،‬وهو ما أنكره الغزايل؛ ألنهم ربطوا أزلية العامل‬
‫بأزلية الله‪ ،‬ما يعني ‪-‬من وجهة نظره‪ -‬أن فناء الكون فناء لله‪ ،‬والله ال يحده‬
‫[[[‬
‫زمان‪ ،‬وال مكان‪.‬‬
‫وير ّد عليه ابن رشد الذي يدافع عن الفالسفة‪ ،‬فهو يق ّر بقدم العامل‪ ،‬ولكن‬
‫هذا ال يعني أنه يسلّم مبزامنته لله يف الوجود؛ أي إنه ينفي صفة الزمان عن‬
‫الخالق‪ ،‬ما يعني أن العامل حادث عن الله تعاىل‪ ،‬وهو من أوجده‪.‬‬
‫[[[‬

‫الغاية األساسية من كتاب تهافت الفالسفة مهاجمتهم‪ ،‬فقد أراد إثبات‬


‫ُ‬
‫فهدف‬ ‫التناقض بني ما قدمه الفالسفة أمثال الفارايب‪ ،‬وابن سينا‪ ،‬والرشيعة‪،‬‬
‫تهافت الفالسفة إبطال ما تقدم به الفارايب‪ ،‬وابن سينا يف فلسفتيهام[[[‪،‬‬
‫لك ّن ابن رشد كان منارصا ً للفلسفة‪ ،‬والفالسفة‪ ،‬فر ّد بـ”تهافت التهافت”‬
‫الذي معناه التناقض ـ حسب الغزايل ـ فقصد إىل تناقض التناقض‪ ،‬وهدفه‬
‫نفي األفكار التي تق ّدم بها الغزايل‪ ،‬وهدم بها أفكار ابن سينا‪ ،‬والفارايب‪،‬‬
‫وقبلهام أرسطو‪.‬‬

‫[[[ـ الغزايل‪ ،1990 :‬تهافت الفالسفة‪ ،‬تحقيق‪ :‬موريس بويج‪ ،‬ط‪ ،4‬دار املرشق‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.192‬‬
‫[[[ـ ابن رشد‪ ،1964 :‬تهافت التهافت‪ ،‬ط‪ ،1‬تحقيق‪ :‬سليامن دنيا‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪.185 ،60‬‬
‫[[[ـ تهافت الفالسفة‪ ،‬ص‪.77‬‬
‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي ‪103‬‬

‫‪ -4‬األدب الفلسفي والثن�ائي�ات الضدية‬


‫ً‬
‫‪ - 1-4‬الشعر الفلسفي‪ :‬عيني�ة ابن سين�ا أنموذجا‬
‫ص ّورت قريحة الشاعر الفيلسوف ابن سينا ثنائية النفس‪ ،‬والجسد‪.‬‬
‫فالجسد بعد فراق الروح يغدو طلالً‪ ،‬والعنارص الطبيعية األربعة “الحرارة‪،‬‬
‫تهب عىل مادة الجسد فتنطمس املعامل‬
‫والرطوبة‪ ،‬والربودة‪ ،‬واليبوسة” ّ‬
‫األوىل‪ ،‬ويتشوه‪ ،‬وتتنكّر الروح له‪ ،‬فالروح خالدة‪ ،‬تروح وتغدو‪ ،‬وال‬
‫تتحلل‪ ،‬وتفنى كالجسد‪.‬‬
‫الحظ ابن سينا أن النفس والجسد ميثالن وحدة‪ ،‬وتصدر الظواهر‬
‫النفسية والعقلية عنهام معاً‪ ،‬وكانت له شخصيته املستقلة حني عمل عىل‬
‫إثبات النفس اإلنسانية‪ ،‬ومغايرتها الجسم‪ ،‬وهي براهني مل يسبق إليها‪،‬‬
‫وم ّهدت ملن جاء بعده من فالسفة العرص الحديث‪.‬‬
‫كام الحظ أن الظواهر النفسية تستلزم املادة‪ ،‬وال تتم إال فيها فـ”اسم‬
‫النفس ال يقع عليها من حيث جوهرها بل من حيث هي مدبّرة لألبدان‪،‬‬
‫ومقيسة إليها‪ ،‬فلذلك يؤخذ البدن يف ح ّدها‪ ،‬كام يؤخذ مثالً البناء يف ح ّد‬
‫الباين‪ ،‬وإن كان ال يؤخذ يف ح ّده من حيث هو إنسان؛ ولذلك صار النظر‬
‫يف النفس من العلم الطبيعي؛ ألن النظر يف النفس من حيث هي نفس نظر‬
‫[[[‬
‫إليها من حيث لها عالقة باملادة‪ ،‬والحركة”‬
‫وقسم النفس إىل نباتية‪ ،‬وحيوانية‪ ،‬وإنسانية‪ ،‬وبحث علم املعاد لديه‬
‫ّ‬
‫يف بقاء الروح بعد فناء الجسد‪ ،‬والثواب والعقاب غري البدنيني‪ ،‬فهنالك‬
‫لذات وسعادات عقلية تتمتع بها النفس املطمئنة بعد املوت ثواباً عىل‬
‫تقواها‪ ،‬وإدراكها الحق‪.‬‬

‫[[[ـ ابن سينا‪ ،1059 :‬كتاب النفس‪ -‬من أجزاء كتاب الشفاء‪ ،‬حققه ونرشه د‪ .‬فضل الرحمن‪ ،‬أكسفورد‪،‬‬
‫ص‪.11-10‬‬
‫‪ 104‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫وقد جمع ابن سينا هذه الشذرات الفلسفية يف قصيدته العينية عن‬
‫النفس‪ ،‬وفيها يقول[[[‪:‬‬
‫ورقــا ُء ذاتُ تعــ ّز ٍز ومت ّنــعِ‬ ‫ـل األرف ـعِ‬ ‫هبطــت إليـ َ‬
‫ـك مــن املحـ ّ‬

‫ثن�ائي�ة عالم علوي رويح‪ /‬عالم سفلي مادي‪:‬‬


‫«محل أرفع» وهو لدى أفالطون عامل‬
‫ّ‬ ‫ي‬
‫كانت النفس تحيا يف عامل علو ّ‬
‫املثُل‪ ،‬وقد هبطت لتُح َبس يف قفص مظلم مضا ّد لطبيعتها‪ ،‬هو الجسد‪،‬‬
‫فال تنتمي إىل العامل املادي‪ ،‬لقد هبطت من عامل الروح حني ته ّيأ لها‬
‫ستحل فيه‪ ،‬فالنفس مقابل الجسد‪ ،‬هي جوهر روحي غني‬
‫ّ‬ ‫الجسد الذي‬
‫عن الجسد الذي حلّت فيه‪ ،‬ويتعني عىل ذلك أن الجسد والروح جوهران‬
‫متضادان‪ ،‬وألن النفس مباينة للجسد‪ ،‬ومضادة له تعززت‪ ،‬ومت ّنعت عن‬
‫مالمسته‪ ،‬ومامزجته‪ ،‬فمن كان عىل هذا القدر من السم ّو يف عامله يتمنع‬
‫عن مالمسة الض ّد‪ ،‬ومالزمة عامل الكون والفساد‪ ،‬فالجسد يتعرض لألذى‬
‫والفساد؛ ذلك أنه يتحلل‪ ،‬ويفنى‪.‬‬
‫وقد ش ّبه ابن سينا النفس بورقاء؛ أي بحاممة رمادية اللون‪ ،‬ومهام‬
‫اختلفت التفسريات حول لجوئه إىل رمز الورقاء فمن املعروف عن الحامم‬
‫أنه يستأنس بالبرش‪ ،‬وقد أكرثت العرب من ذكر الحامئم يف أشعارها‪،‬‬
‫وللحامم حضور يف اإلرث األسطوري‪ ،‬وله رمزية خاصة‪.‬‬

‫[[[ـ القصيدة موجودة يف‪:‬‬


‫‪-‬ابن سينا‪ ،1957 :‬الديوان‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬حسني عيل محفوظ‪ ،‬نرش اجتامع املسترشقني الدويل‪ ،‬طهران‪ ،‬ص‪19‬‬
‫‪-‬بهاء الدين محمد بن حسني العاميل‪ ،1998 :‬الكشكول‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ج‪.25/2‬‬
‫وقد عارض الشاعر أحمد شوقي العينية بقصيدة مطلعها‪:‬‬
‫هــذي املحاسـ ُن مــا خُلقــت لربقـعِ‬ ‫ض ّمــي قنا َعــك يــا ســعا ُد أو ارفعــي‬
‫أحمد شوقي‪ ،1993 :‬الديوان‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬مجلد‪.351-345/1‬‬
‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي ‪105‬‬

‫وقد التقى ابن سينا أفالطون الذي شبّه النفس بطائر حبيس يف قفص‪،‬‬
‫[[[‬
‫يتوق إىل الخالص منه‬
‫وهي التــي س ـ َف َرت ومل تتربقعِ‬ ‫كل مقلـ ِة عـ ٍ‬
‫ـارف‬ ‫محجوبـ ٌة عــن ِّ‬

‫ثن�ائي�ة احتجاب النفس‪ /‬سفورها‪:‬‬


‫النفس محتجبة عنا من جهة ماهيّتها‪ ،‬لكنها ظاهرة بأفعالها وصفاتها‪،‬‬
‫رس‬
‫وتحس‪ ،‬وتعقل‪ ،‬لكنها محجوبة ل ّ‬
‫ّ‬ ‫وتحب‪ ،‬وتكره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فهي تتلذذ‪ ،‬وتتأمل‪،‬‬
‫إلهي‪ ،‬فقد تجلّت بصفاتها‪ ،‬واحتجبت مباه ّيتها‪.‬‬
‫ّ‬
‫ونستدل عىل النفس من صفاتها‪ ،‬وأفعالها؛ ذلك ألنها جوهر روحي‬
‫الحس‪ ،‬أو العقل عىل إدراك كنهها‪ ،‬فهي‬ ‫ّ‬ ‫متج ّرد من املادّة‪ ،‬فال يقوى‬
‫مجردة تج ُّرد مصدرها‪ :‬الذات اإللهية‪.‬‬
‫جعِ‬
‫كرهــت فراقَك وهــي ذاتُ تف ُّ‬ ‫وصلــت عــى كــر ٍه إليــك ورمبا‬
‫أَنِ َســت مجاور َة الخـ ِ‬
‫ـراب البلقعِ‬ ‫أنِ َفــت ومــا ألِفَت فلــا واصلَت‬

‫ثن�ائي�ة نفور‪ /‬حب‪:‬‬


‫وصلت النفس إىل الجسد كارهة له‪ ،‬ونافرة من وصاله‪ ،‬لكن بعد أن‬
‫أنست إليه تأملت لفراقه‪ ،‬فهي تدخل الجسد كارهة‪ ،‬وتخرج منه كارهة‪،‬‬
‫لقد كرهت فراق عاملها العلوي النوراين إىل عامل الظلامت والقيد‪ ،‬فهذا‬
‫الجسد مضا ّد لطبيعتها‪ ،‬وطبعها‪ ،‬فهو خراب بلقع‪ ،‬لكن بعد ذلك اشتدت‬
‫العالقة بني النفس والجسد‪ ،‬وحدثت األلفة‪ ،‬فشُ غفت به؛ فهو تيتح لها‬
‫تحصيل لذّات ال سبيل لها من غريه‪ ،‬فكرهت فراقه بعد أن كانت تكره‬

‫[[[ـ انظر‪ :‬فتح الله خليف‪ ،1974 :‬ابن سينا ومذهبه يف النفس‪ ،‬دار االحد «البحريي إخوان» جامعة بريوت‬
‫العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪ 140‬نقالً عن‪:‬‬
‫‪Plato, Phaedo, Phaedrus, The Dialogues of Plato, Trans- lated into English with Analyses‬‬
‫‪and Intradiction by B. Jowell, Oxford, 1964- 68‬‬
‫‪ 106‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫ي إىل عامل سفيل‪ ،‬كرهت التعلق‬ ‫وصاله‪ .‬لقد رحلت من عامل علو ّ‬
‫بالجسد‪ ،‬ثم أحبته‪ ،‬تتعلق به‪ ،‬ثم تفارقه‪ ،‬وتعود إىل موطنها األصيل بعد أن‬
‫تخلصت من قيود الجسد‪.‬‬
‫ومنــازالً بفراقهــا مل تقنــعِ‬ ‫وأظ ّنها نســيت عهــودا ً بالحمى‬
‫َ‬
‫القدم‪ /‬احلدوث‪:‬‬ ‫ثن�ائي�ة ِ‬
‫جع عليه؛ لحرمانها من امللذات التي‬
‫تكره النفس الجسد‪ ،‬وتتف ّ‬
‫ألفتها مبجاورته مع أن يف الفراق خالصاً لها‪ ،‬وخروجاً من الظلامت إىل‬
‫ي الكامل‪ ،‬لك ّن أنسها بالجسد‬
‫النور‪ ،‬وعودة إىل العامل النوراين العلو ّ‬
‫أنساها عاملها العلوي‪ ،‬فالروح قدمية أزلية قبل هبوطها‪ ،‬حادثة زمنية‬
‫بعد هبوطها‪ ،‬فهي جوهر وصورة يف وقت واحد‪ .‬ويع ّد هذا الكالم‬
‫محاولة للتوفيق بني رأي أرسطو القائل بحدوث النفس‪ ،‬وأفالطون‬
‫القائل ب ِقدمها‪ ،‬فهي جوهر قديم يستغني عن الجسد يف العامل العلوي‪،‬‬
‫لكنها صورة حادثة يف تعلّقها بالجسد‪ ،‬فحدوث النفس لدى ابن سينا هو‬
‫تعلّقها بالجسد بعد هبوطها إليه‪ ،‬ويعني هذا الكالم أن وجودها يف البعد‬
‫الثالث ‪-‬بعدنا‪ -‬مرتبط بوجود الجسد‪.‬‬
‫يف ميــمِ مركزِهــا بـ ِ‬
‫ـذات األج ُر ِع‬ ‫ِ‬
‫هبوطها‬ ‫حتــى إذا اتصلــت بهــا ِء‬
‫مل والطّلــو ِل الخُضَّ عِ‬
‫ني املعــا ِ‬
‫ب َ‬ ‫علقت بهــا ثا ُء الثَّقيـ ِل فأصبحت‬
‫ْ‬

‫تضاد احلروف‪ ،‬ثن�ائي�ة انفصال‪ /‬اتصال‪:‬‬


‫هبطت النفس من هـ رمز الهبوط‪ ،‬أعىل‪ ،‬إىل أدىن‪ ،‬من م رمز املركز‬
‫الذي انفصلت منه إىل ث الثقيل‪ ،‬وهو الجسم الثقيل‪ ،‬فهو من الطني‪،‬‬
‫والرتاب‪ .‬فثمة انفصال من املركز إىل مركز الثقل‪ /‬الجسد‪ ،‬ومن ذات‬
‫األجرع‪ :‬املكان الفسيح إىل املكان املق ّيد‪ .‬والثقيل هو جسد اإلنسان‪،‬‬
‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي ‪107‬‬

‫وهو ثقيل؛ ألنه من الرتاب‪ ،‬وهو أثقل العنارص الطبيعية‪ ،‬واملعامل والطلول‬
‫الخضّ ع هي مواضع األحياء‪ ،‬وآثارهم التي تساقطت بعضها يف إثر بعض‪.‬‬
‫رس من أرسار‬
‫وتعني عالقة ثاء الثقيل بالجسد أن ذلك تكليف‪ ،‬وهو ّ‬
‫األلوهية‪ ،‬فالروح تسمو‪ ،‬والجسد يهبط‪.‬‬
‫مبدامع تهمي ومل تتقطّعِ‬ ‫تبيك إذا ذك َرتْ عهودا ً بالحمى‬
‫ت بتكرا ِر الريا ِ‬
‫ح األربعِ‬ ‫درس ْ‬
‫َ‬ ‫وتظل ساجع ًة عىل ال ِّدمن التي‬
‫ّ‬

‫ثن�ائي�ة السعادة‪ /‬البكاء‪:‬‬


‫قت ثا ُء الثقي ِل بالروح وقعت يف رشك شهوات الجسد‪،‬‬ ‫حني علِ ْ‬
‫فأصيبت باالنكسار‪ ،‬والخضوع للذات‪ ،‬وشُ ِغلت مبتا ِع الدنيا‪ ،‬ونسيت‬
‫عهودها التي أخذها الله عليها قبل أن تهبط إىل عاملنا السفيل‪ ،‬لكنها‬
‫حني تصحو من سكرتها‪ ،‬وتتذكّر عاملها األصيل تبيك أملاً وحرسة عىل‬
‫نسيانها‪ ،‬وهي تعلم أن سعادتها يف معا ِدها‪ ،‬ومنزلتها يف اآلخرة بقدر‬
‫اكتسابها الفضائل يف الدنيا؛ لذا تبيك نادمة عىل مقامها يف الجسد الذي‬
‫عصفت به الرياح‪ ،‬وتعاقب عليه الزمن‪.‬‬
‫ح امل َ ْربَعِ‬
‫ج الفسي ِ‬
‫قفص عن األو ِ‬
‫ٌ‬ ‫الكثيف وص ّدها‬
‫ُ‬ ‫الش ُك‬
‫إذ عاقَها َّ َ‬

‫ثن�ائي�ة احلرية‪ /‬القيد‪:‬‬


‫يف انفكاك الروح عن الجسد فكاك لها من شوائب املادة‪ ،‬وتحرر‬
‫من قيود الحس إىل حيث تسبح يف الفضاء الال متناهي‪ ،‬فإغواء الدنيا‬
‫قفص‪ ،‬والجسد مبنزلة القفص للروح كالقفص للطري القنيص‪ ،‬وال تستطيع‬
‫مغادرته إال إذا أراد واضعها ذلك‪ ،‬ومع أنه قفص تجد الروح فيه نوافذ‬
‫تسمح لها بإرسال الفكر إىل أرجاء الكون‪ ،‬ومنافذ الروح إىل الوجود هي‬
‫‪ 108‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫الحواس‪ ،‬والعقل‪ ،‬تقتنص بوساطتهام أرسار الوجود‪.‬‬


‫إن النفس لدى ابن سينا حاممة كانت تحلّق بحرية‪ ،‬ثم هبطت إىل‬
‫قفص الجسد‪ ،‬حبست فيه وامتنعت عن السمو إىل العامل النوراين‪ ،‬وهو‬
‫قفص مضا ّد لطبيعتها‪.‬‬
‫حيل إىل الفضا ِء األوسعِ‬
‫ودنا ال ّر ُ‬ ‫ري إىل الحمى‬ ‫حتى إذا قَ ُر َ‬
‫ب املس ُ‬
‫ب غري مشيَّعِ‬
‫الت ِ‬
‫عنها حليف ّ‬ ‫ـكل مخلّـ ٍ‬
‫ـف‬ ‫وغــدتْ مفارقـ ًة لـ ِّ‬

‫ثن�ائي�ة حياة النفس‪ /‬فناء اجلسد‪:‬‬


‫ترتبط الروح بالجسد ارتباطاً وثيقاً‪ ،‬وحني يحني الفراق تقطع ما بينه‬
‫وبينها من ِصالت وأسباب‪ ،‬فيغدو الجسد كتلة مادية معطّلة‪ ،‬فتتحرر إىل‬
‫العامل الفسيح تاركة الجسد خراباً وتراباً‪ ،‬إنها فرحة بنجاتها وخالصها‪،‬‬
‫لكنها حزينة عىل الفراق والرحيل‪ ،‬فاملوت هو الغاية القصوى للنفس؛‬
‫ألن فيه خالصها‪.‬‬
‫ما ليس يُد َر ُك بالعيونِ ال ُه َّ‬
‫جعِ‬ ‫هجعت وقد ك ُِش َف الغطا ُء فأبرصت‬
‫ْ‬

‫ثن�ائي�ة النوم‪ /‬اليقظة‪:‬‬


‫يعرب ابن سينا عن هذه الثنائية بالهجوع‪ ،‬وكشف الغطاء‪ ،‬فحني يزول‬
‫حجاب البدن ينكشف الغطاء‪ ،‬وتدرِك ما كان يستحيل عليها إدراكه يف‬
‫األرواح األجسا َد تكون هاجعة‪ ،‬وحني‬
‫ُ‬ ‫حال االتصال به‪ ،‬فحني تتلبّس‬
‫تحصله النفوس‬
‫ّ‬ ‫تكون عالقة باألبدان تكون محجوبة عن اإلدراك الذي‬
‫املج ّردة‪ ،‬كام يحتجب النائم عن إدراك ما يدركه اليقظان‪ ،‬فحني تفارق‬
‫الروح الجسد تكشف عن بصريتها غطاء كان حائالً بينها وبني الروح‬
‫الحق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اإللهية‪ ،‬وحني تفارق البدن تتخلص من أغاللها‪ ،‬وتبرص أرسار‬
‫وتكتشف أنها حني كانت هاجعة يف أغالل الجسد كانت غافلة‪ ،‬راقدة‪.‬‬
‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي ‪109‬‬

‫كل َم ْن مل يُرفَعِ‬
‫والعل ُم يرف ُع َّ‬ ‫فوق ذرو ِة شاهقٍ‬
‫وغدت تغ ِّر ُد َ‬

‫ثن�ائي�ة المادة‪ /‬الصورة‪ ،‬أو المادة‪ /‬العقل‪:‬‬


‫غدت الحاممة تغ ّرد يف أعىل الشجرة بعد أن تخلّصت من قيودها‪،‬‬
‫وكُشف الغطاء عنها‪ ،‬فحني تنفض عنها القيود تتجرد من قيود املادة‪،‬‬
‫ربأً من حاجات البدن‪ ،‬ترتفع إىل األعىل‬
‫وتصبح عنرصا ً عقلياً رصفاً م ّ‬
‫بعد أن كانت حاجات البدن تجذبها إىل أسفل‪ ،‬فتتصل بالعامل الروحاين‬
‫املج ّرد‪ ،‬وتشعر بالسعادة بسبب االتصال به‪ ،‬وقد اكتسبت من العلم حظاً‬
‫وافرا ً‪ ،‬فالعلم كفيل أن يرفع من شأن من يكون يف الحضيض األسفل‪.‬‬
‫ويُطلب العلم؛ ألنه أصل السعادة يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬فكامل النفس‬
‫اإلنسانية يكون بالعلم‪.‬‬
‫ِ‬
‫الحديد األوضعِ‬ ‫عا ٍل إىل قع ِر‬ ‫فألي يش ٍء أُهبِطت من شام ٍ‬
‫خ‬ ‫ِّ‬
‫اللبيب األرو ِع‬
‫ِ‬ ‫ت عن الف ِّذ‬
‫طويَ ْ‬ ‫إن كا َن أرسلها اإلل ُه لحكم ٍة‬
‫لتكو َن سامع ًة مبا مل تسمعِ‬ ‫الزب‬
‫ٍ‬ ‫فهبوطُها إن كان رضب َة‬
‫يف العاملني فخرقُها مل يُرقَعِ‬ ‫بكل حقيق ٍة‬
‫ِّ‬ ‫وتعود عامل ًة‬

‫ثن�ائي�ة اجلهل‪ /‬العلم‪:‬‬


‫ما الحكمة يف هبوط الروح إىل الجسد زمناً‪ ،‬ثم فراقها إياه؟ وملَ العناء‬
‫إذا كان مصريها يف النهاية العودة إىل عاملها النوراين؟‬
‫محي‪ ،‬وإن العقل بطاقاته املحدودة لعاجز عن‬
‫ّ‬ ‫إنه لسؤال وجودي‬
‫اإلجابة‪ ،‬فهو مقيّد‪ ،‬ومحدود‪ ،‬فكيف يدرك غري املقيّد‪ ،‬وغري املحدود؟‬
‫إن هنالك حكمة مخفية عن البرش‪ ،‬فإن كان الله قد ألزمها بالهبوط لحكمة‬
‫فلعلها ت َوف َُّق إىل اكتساب املعرفة يف العامل األريض‪ ،‬واستيفاء أسباب‬
‫‪ 110‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫الكامل‪ ،‬فقد كانت يف أوىل مراحلها جاهلة‪ ،‬غافلة‪ ،‬فأهبطها؛ لتسمع ما مل‬
‫تكن تعرفه من العلوم واألخالق عن طريق الحواس‪ ،‬والعقل‪.‬‬
‫حصلت الروح من رضوب العلم يف هذه الحياة فهي قارصة‪،‬‬
‫ومهام ّ‬
‫فال تنتهي العلوم عند ح ّد‪ ،‬وحتى لو متكنت من التحصيل فاملدة التي‬
‫تقضيها يف الجسد لن تكفي‪ ،‬لقد هبطت ليك تتعلق بالبدن‪ ،‬وتتخذه‬
‫وسيلة إىل الكامل رشط أن تكون من أصحاب الفضيلة‪ ،‬والخري‪.‬‬
‫لك ّن الروح يف املأل األعىل ناقصة‪ ،‬واملأل مج ّرد كامل‪ ،‬فكيف يتفق‬
‫ذلك؟ إن عاملنا مزيج من الخري والرش‪ ،‬فكيف تنشد الروح الكامل يف‬
‫رش وسيلة إىل الخري؟‬
‫األرض؟ وهل يكون ال ُّ‬
‫لقد ُج ِعل الرتاب حامالً الذرة اللطيفة الربانية‪ ،‬وقد أو ِدع ُ‬
‫قلب اإلنسان‬
‫نور العرفان عىل الرغم من إفساده يف األرض‪.‬‬
‫حتى لقد َغ َربت بغريِ املطلعِ‬ ‫وهي التي قط َع ال ّزما ُن طريقَها‬
‫ث َّم انطوى فكأنه مل يلمعِ‬ ‫ِ‬
‫بالحمى‬ ‫فكأنها ٌ‬
‫برق تألّق‬

‫ثن�ائي�ة اللذة الروحية‪ /‬اللذة اجلسدية‪:‬‬


‫وتقص‬
‫ّ‬ ‫قد تغفل النفس عن اللذات الروحية مقابل اللذات الجسدية‪،‬‬
‫يف تحصيل العلم‪ ،‬لك ّن مرور الزمن يوهن الجسد‪ ،‬فال تعود قادرة عىل‬
‫بلوغ مآربها من اللذات‪ ،‬فقد تعلقت بالجسد‪ ،‬ونسيت عاملها األصيل‬
‫الذي هبطت منه‪ ،‬وحني فارقت الجسد ظهر لها التضاد بني املوطنني‪،‬‬
‫من ثبات إىل تغري‪ ،‬ومن كامل إىل نقصان‪ ،‬ومن معقول إىل محسوس‪.‬‬
‫فالنفس يف الجسد برق خاطف مهام طال زمن بقائها فيه‪ ،‬فهذا الزمن‬
‫قصري قياساً إىل الزمن الكوين‪ ،‬وحياة اإلنسان وميض برق يختفي رسيعاً‪.‬‬
‫إن مراد النفس أن تبلغ ح ّد الكامل‪ ،‬لك ّن الزمن مل ميهلها‪ ،‬وهي مل‬
‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي ‪111‬‬

‫كل يشء‪ ،‬فلم تغرب كام أرشقت‪ ،‬بل عرفت‬


‫تظفر بيشء لكنها ملغ تفقد ّ‬
‫النعيم الذي يكون لها لو بلغت الكامل‪ ،‬ويكفيها هذا ملتابعة السري‪.‬‬
‫ويثار هنا سؤال‪ :‬مل هبوط الروح للوصول إىل كاملها‪ ،‬ث ّم فصلها قبل‬
‫أن تصل؟ يلتقي ابن سينا هنا فلسفة أفالطون‪ ،‬فقد كانت النفس تسبح‬
‫يف عامل املثل الصافية‪ ،‬فإذا دخلت الجسد انفصلت عنه‪ ،‬ثم تعود من‬
‫حيث أتت‪.‬‬
‫لكن ابن سينا يخالف أفالطون يف زاوية‪ ،‬فالنفس لديه مل تفارق‬
‫عاملها نتيجة ذنب اقرتفته‪ ،‬بل تعود إىل عاملها لتعود مرة أخرى إىل‬
‫العامل األريض‪ ،‬وهي الفكرة التي نظر إليها أفالطون عىل أنها وسيلة ليك‬
‫تتخلص النفس من آثامها‪.‬‬
‫‪ - 2-4‬ثن�ائي�ة السؤال والتساؤل يف أدب أيب حيان التوحيدي «‪414‬هـ»‬
‫الفلسفي‬
‫يع ّد كتاب الهوامل والشوامل[[[ أليب حيان التوحيدي أثرا ً فريدا ً يف‬
‫جه فيه التوحيدي أسئلة إىل الفيلسوف مسكويه شملت‬
‫األدب العريب‪ ،‬و ّ‬
‫مظاهر الحياة‪ ،‬وهموم اإلنسان‪ ،‬أطلق عليها اسم «هوامل»؛ أي اإلبل‬
‫السامئة املتف ّرقة‪ ،‬التي يهملها صاحبها‪ ،‬ويرتكها ترعى‪ ،‬وأجابه مسكويه‬
‫ولعل أبا‬
‫ّ‬ ‫سمها «شوامل» وهي التي تضبط اإلبل‪ ،‬فتجمعها‪.‬‬
‫بإجابات ّ‬
‫حيان التوحيدي هو من وضع عنوان الكتاب‪ ،‬وهو يشتمل عىل ثنائية‬
‫ضدية‪ ،‬فاألسئلة منسوبة إىل أيب ح ّيان‪ ،‬واإلجابات منسوبة إىل الفيلسوف‬
‫مسكويه‪ ،‬وكان مسكويه قد أجاب أبا حيان مشافهة‪ ،‬لك ّن ذكاء أيب حيان‪،‬‬
‫وقدرته الفائقة عىل التدوين جعاله يلتقط هذا األثر الفريد‪.‬‬
‫يعرض أبو حيان تساؤالته حول مظاهر الحياة‪ ،‬وهموم اإلنسان‪،‬‬
‫[[[ـ أبو حيان التوحيدي‪ ،1951 :‬الهوامل والشوامل‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني والسيد أحمد صقر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ 112‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫واألمور الغريبة يف سلوك الناس‪ ،‬فأرسل أسئلة غزيرة إىل مسكويه‪،‬‬


‫فغدت كاإلبل املس ّيبة‪ ،‬وأتت الشوامل إجابات ضابطة‪ ،‬ومحيطة ملا‬
‫يف نفس السائل‪ .‬يقول أبو حيان‪:‬‬
‫«ملَ قبح الثناء يف الوجه حتى تواطؤوا عىل تزييفه‪ ،‬ومل ُ‬
‫حسن يف‬
‫بكل معنى؟ أألن الثناء يف الوجه أشبه امللق‬
‫املغيب حتى متنى ذلك ّ‬
‫والخديعة‪ ،‬ويف املغيب أشبه اإلخالص والتكرمة أم لغري ذلك؟‬
‫قال أبو عىل مسكويه ‪-‬رحمه الله‪ :-‬ملا كان الثناء يف الوجه عىل األكرث‬
‫إعارة شهادة بفضائل النفس‪ ،‬وخديعة اإلنسان بهذه الشهادة حتى صار‬
‫وغرض‬
‫ُ‬ ‫ذلك ـ الغرتاره وتركه كثريا ً من االجتهاد يف تحصيل الفضائل‪،‬‬
‫فاعل ذلك احرتاز مودة صاحبه إىل نفسه بإظهار مودته له‪ ،‬ومحبته إياه‪-‬‬
‫صار كاملكر والحيلة‪ ،‬ف ُذ َّم وعيب‪.‬‬
‫حسن ألن قصد املثني يف األكرث االعرتاف‬
‫فأما يف املغيب فإمنا ُ‬
‫بفضائل غريه‪ ،‬والصدق عنه فيها‪ .‬ويف ذلك تنبيه عىل مكان الفضل‪ ،‬وبعث‬
‫وحض عىل أسبابه وعلله‪،‬‬
‫ّ‬ ‫للموصوف واملستمع عىل االزدياد واإلمتام‪،‬‬
‫ورمبا كان القصد خالف ذلك‪ ،‬أعني أن يكون غرض املثني يف املغيب‬
‫التعق َُّل‪ ،‬ولفظة العقل شبيهة بذلك؛ ألنه من ال ِعقال‪ ،‬وكذلك ال ِح ْ‬
‫جر‪».‬‬
‫[[[‬

‫يصوغ أبو حيان السؤال يف ثنائية ضدية‪ ،‬فيقابل موقفاً مبوقف‪ ،‬أو‬
‫حالة بحالة‪ ،‬أو يف ّرغ حالة من حالة‪ ،‬فيتعمق يف سؤاله‪ ،‬فيبدو السؤال أكرث‬
‫عمقاً من الجواب‪ ،‬ويبدو مؤمناً بثقافة السؤال[[[‪.‬‬
‫[[[ـ الهوامل والشوامل‪ ،‬ص‪.45‬‬
‫[[[ـ ينظر التوحيدي إىل الفلسفة عىل أنها علم يؤدي إىل التوحيد‪ ،‬وداء يداوي النفوس‪ ،‬فللعقل مكانة رفيعة‬
‫عنده‪ .‬ويعدّ كتاب اإلمتاع واملؤانسة أشهر كتبه‪ ،‬ألفه خصيصاً أليب عبد الله العارض وزير صمصام الدولة‬
‫البويهي بناء عىل طلب من صديق أيب حيان أيب الوفاء املهندس‪ .‬وهو كتاب فريد أيضاً يف األدب العريب‪،‬‬
‫جمع ألوان املعرفة يف الفلسفة‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬واألدب‪ ،‬واللغة‪.‬‬
‫وهو مجموعة من الليايل تختلف عن الفضاء الحكايئ أللف ليلة وليلة؛ لتشابك الفلسفي باألديب‪ ،‬والعقل‬
‫بالجامل‪ ،‬فاإلمتاع تشكيل لغوي‪ ،‬واملؤانسة احتفاء فكري‪.‬‬
‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي ‪113‬‬

‫«ما سبب من ي ّدعي العلم‪ ،‬وهو يعلم أنه ال علم عنده؟ وما الذي‬
‫السفه واملهاترة؟‬
‫يحمله عىل الدعوى‪ ،‬ويدنيه من املكابرة‪ ،‬ويحوجه إىل ّ‬
‫قال أبو عيل مسكويه ‪-‬رحمه الله‪ »-‬سبب ذلك محبّة اإلنسان نفسه‪،‬‬
‫وشعوره مبوضع الفضيلة‪ ،‬فهو ألجل املحبة ي ّدعي لها ما ليس منها‪ .‬ألن‬
‫صورة النفس التي تحسن‪ ،‬وعليها تحمد‪ ،‬ومن أجلها تسعد هي العلوم‬
‫واملعارف‪ .‬وإذا ع ّريت منها‪ ،‬أو من جلّها حصلت له من املقابح‪ ،‬ووجوه‬
‫الشقاء بحسب ما يفوتها من ذلك‪.‬‬
‫ومن شأن املحبة أن تغطّي املساوئ‪ ،‬وتظهر املحاسن إن كانت‬
‫موجودة‪ ،‬وت ّدعيها إن كانت معدومة‪ .‬فإن كان هذا من فعل املحبة معلوماً‪،‬‬
‫وكانت النفس محبوبة ال محالة عرض لصاحبها عارض املحبة‪ ،‬فلم ينكر‬
‫ادّعاء اإلنسان لهذه املعارف التي هي فضائلها ومحاسنها‪ ،‬وإن مل يكن‬
‫عنده يشء من ذلك»[[[‪.‬‬
‫ويعب السؤال عن رغبة يف علم يشء مجهول‪ ،‬أما التساؤل فهو أسلوب‬
‫ّ‬
‫تعلّم‪ ،‬وكان التوحيدي مولعاً بثقافة السؤال والتساؤل‪ ،‬فأدبه أدب فلسفي‬
‫طافح باألسئلة‪ ،‬والتساؤالت‪.‬‬
‫ويرتبط السؤال والتساؤل بفلسفة يصدران عنها‪ ،‬ويدوران يف فلكها‪،‬‬
‫ويعب السؤال عن استفهام مبارش يثريه أمام مسكويه‪ ،‬وينتظر إجابة عنه‪ ،‬أما‬
‫ّ‬
‫التساؤل فهو سؤال لنفسه‪ ،‬ويبدو عاملاً بالجواب‪ ،‬عميقاً فكرياً‪ ،‬لدرجة أن‬
‫قارئ الهوامل والشوامل يشك أنه هو واضع األسئلة‪ ،‬واإلجابات‪.‬‬
‫وتكون األسئلة عادة أدىن مستوى من اإلجابات‪ ،‬لكننا واجدون فيها‬
‫نضجاً فكرياً عميقاً يتجاوز مستوى باحث عن املعرفة‪ ،‬فيبدو التوحيدي‬
‫عىل دراية تامة مبوضوعه‪ .‬وقد اختار مسكويه‪ ،‬وهو شخصية مشهورة؛‬
‫[[[ـ الهوامل والشوامل‪ ،‬ص‪.42‬‬
‫‪ 114‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫ليح ّملها فكره الخاص‪ ،‬ومبالحظة السؤال واإلجابة يتضح التشابه الفكري‪.‬‬
‫وقد أثار التوحيدي السؤال مع مسكويه‪ ،‬ونجد التساؤل مع‬
‫فاستغل اسم السجستاين؛‬
‫ّ‬ ‫السجستاين‪ ،‬وهو من كبار املثقفني يف عرصه‪،‬‬
‫ليق ّدم تصوراته‪ ،‬وآراءه يف مجاالت املعرفة‪ ،‬والثقافة يف عرصه‪.‬‬
‫ونجد شبهاً بني ما فعله التوحيدي وما فعله أفالطون سابقاً مع أرسطو‬
‫جهها للسجستاين تساؤالت تقنعت تحت‬
‫أستاذه‪ ،‬فأسئلة التوحيدي التي و ّ‬
‫اسم السجستاين كام فعل أفالطون يف محاوراته مع سقراط‪.‬‬
‫شخصيتي مسكويه‬
‫ّ‬ ‫ورمبا يكون يف تخفي التوحيدي تحت‬
‫والسجستاين شعور بالخشية من مواجهة اآلراء التي تخالفه يف مجتمعه‪،‬‬
‫ورمبا يكمن السبب يف الرغبة يف تقديم أسلوب جديد يخلخل األسلوب‬
‫الجامد يف ثقافة عرصه‪.‬‬
‫وال تكون اإلجابات مهمة بالقدر الذي توجد فيه األسئلة والتساؤالت‪،‬‬
‫فتغوص األسئلة يف قضايا فكرية وفلسفية عميقة‪ ،‬وتختلف اإلجابات يف‬
‫السطحية والعمق‪.‬‬
‫للتوحيدي عىل الحوار‪ ،‬والسؤال‪،‬‬ ‫[[[‬
‫ويقوم كتاب املقابسات‬
‫والتساؤل‪ ،‬فمعنى املقابسات أن يشرتك اثنان أو أكرث يف محاورة علمية‪،‬‬
‫أو فلسفية‪ ،‬فيقتبس أحدهام املعرفة من اآلخر‪ ،‬ويعطيه ما عنده منها‪.‬‬
‫ويف مقابسات التوحيدي محاورات‪ ،‬وآراء‪ ،‬واختيارات‪ ،‬ومحارضات يف‬
‫موضوعات فلسفية‪ ،‬وعلمية‪ ،‬ولغوية‪ ،‬وأغلب هذه األحاديث جرت عند‬
‫أستاذه أيب سليامن السجستاين‪ ،‬فهو إما ان يكون سائالً‪ ،‬أو مسؤوالً‪.‬‬
‫‪«-‬قلت أليب سليامن‪ :‬ما الفرق بني طريقة املتكلّمني وطريقة‬

‫[[[ـ أبو حيان التوحيدي‪ ،1992 :‬املقابسات‪ ،‬ط‪ ،2‬حققه حسن السندويب‪ ،‬دار سعاد الصباح‪ ،‬الكويت‪.‬‬
‫الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي ‪115‬‬

‫الفالسفة؟ فقال‪ :‬ما هو ظاهر لكل ذي متيز وعقل وفهم‪ ،‬طريقتهم «يعني‬
‫املتكلمني» مؤسسة عىل مكاييل اللفظ باللفظ‪ ،‬وموازنة اليشء باليشء‬
‫إما بشهادة من العقل مدخولة وإما بغري شهادة منه البتة‪ .‬واالعتامد عىل‬
‫الجدل‪ ،‬وعىل ما يسبق إىل الحس‪ ،‬أو يحكم به العيان‪ ..‬والفلسفة أدام‬
‫الله توفيقك محدودة بحدود ستة‪ ،‬كلها تدلك عىل أنها بحث عن جميع‬
‫ما يف العامل مام ظهر للعني‪ ،‬وبطن للعقل ومركب بينهام‪ ،‬ومائل إىل حد‬
‫طرفيهام‪ ،‬عىل ما هو عليه‪ .‬واستفادة اعتبار الحق من جملته وتفصيله‪،‬‬
‫ومسموعه ومرئيه‪ ،‬وموجوده ومعدومه‪ ،‬من غري هوى ميال به عىل العقل‪،‬‬
‫وال إلف يفتقر معه إىل جناية التقليد‪ .‬مع إحكام العقل االختياري‪ ،‬وترتيب‬
‫العقل الطبيعي‪.[[[»..‬‬
‫‪«-‬قلت أليب سليامن‪ :‬إين أجد بني املنطق والنحو مناسبة غالبة‪،‬‬
‫ومشابهة قريبة‪ ،‬وعىل ذلك فام الفرق بينهام‪ ،‬وهل يتعاونان باملناسبة‪،‬‬
‫ووهل يتفاوتان بالقرب فيه؟‬
‫وجل نظر املتلقي‬
‫ّ‬ ‫فقال‪ :‬النحو منطق عريب‪ ،‬واملنطق نحو عقيل‪،‬‬
‫يف املعاين‪ ،‬وإن كان ال يجوز له اإلخالل باأللفاظ التي هي لها كالحلل‬
‫واملعارض‪ ،‬وجل نظر النحوي يف األلفاظ‪ ،‬وإن كان ال يسوغ له اإلخالل‬
‫باملعاين التي هي لها كالحقائق والجواهر‪.[[[».‬‬
‫هل كالم التوحيدي سؤال‪ ،‬أو تساؤل؟ إنه تساؤل يف صيغة سؤال؛ ذلك‬
‫أنه ينترص للعقل‪ ،‬ال للوجدان‪ ،‬واختياره املحاورة أمر ناجم عن ثنائية ضدية‪،‬‬
‫فيعرض الرأي والرأي اآلخر يف أسلوب فني‪ ،‬وحرية فكرية موفقاً بني اآلراء‬
‫الفلسفية والصوفية‪ .‬إنه متآلف مع االختالف‪ ،‬وهو الذي يقول عن نفسه‪:‬‬

‫[[[ـ املقابسات‪ ،‬ص‪.223‬‬


‫[[[ـ املقابسات‪ ،‬ص‪.170-169‬‬
‫‪ 116‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫«أما ترى طبيعتي يف تحفّظي؟ أما ترى رقديت يف تيقّظي؟ أما ترى‬
‫غصتي يف إساغتي؟ أما ترى دعايئ لغريي مع‬
‫تف ّرقي يف تج ّمعي؟ أما ترى ّ‬
‫قلة إجابتي؟ أما ترى ضاليل يف اهتدايئ؟ أما ترى رشدي يف غ ّيي؟ أنت‬
‫[[[‬
‫ترى ضعفي يف قويت‪»..‬‬
‫إنها ثنائية الذات اإلنسانية‪ ،‬فهو يجمع بني الحاالت املتضادة‪ ،‬ويرى‬
‫التكامل يف اجتامع املتضادات‪.‬‬
‫إن األساس الفلسفي هو الذي ارتبط باللغة والنقد‪ ،‬فلالتجاهات‬
‫النقدية الكربى أسس فلسفية‪ ،‬وكان معظم النقاد فالسفة‪ ،‬وسيتم التوسع‬
‫الحقاً يف هذه الفكرة‪ .‬فكيف تجىل األساس الفلسفي يف املدارس النقدية‬
‫القامئة عىل تضاد الثنائيات؟‬

‫[[[ـ أبو حيان التوحيدي‪ ،1982 :‬اإلشارات اإللهية‪ ،‬تحقيق‪ :‬وداد القايض‪ ،‬دار القايض للثقافة‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ص‪.104-103‬‬
‫‪117‬‬ ‫المصادر والمراجع‬

‫املصادر واملراجع‬
‫‪-‬القرآن الكريم‬
‫‪ -‬أرسطوطاليس‪ ،1949 :‬كتاب النفس‪ ،‬ترجمة أحمد فؤاد األهواين‪،‬‬
‫املركز القومي للرتجمة‪ ،‬مرص‬
‫‪ -‬األصفهاين الغروي‪ ،‬الشيخ محمد حسني‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬تحفة الحكيم‪،‬‬
‫منظومة يف الحكمة وللعقول‪ ،‬ق ّدم لها ودققها‪ :‬الشيخ محمد رضا املظفر‪،‬‬
‫مؤسسة آل البيت إلحياء الرتاث‬
‫‪ -‬التوحيدي‪ ،‬أبو حيان‪ ،1982 :‬اإلشارات اإللهية‪ ،‬تحقيق‪ :‬وداد القايض‪،‬‬
‫دار القايض للثقافة‪ ،‬بريوت‬
‫‪ -‬التوحيدي‪ ،‬أبو حيان‪ ،1992 :‬املقابسات‪ ،‬ط‪ ،2‬حققه حسن السندويب‪،‬‬
‫دار سعاد الصباح‪ ،‬الكويت‬
‫‪ -‬التوحيدي‪ ،‬أبو حيان‪ ،1951 :‬الهوامل والشوامل‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬
‫والسيد أحمد صقر‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬خليف‪ ،‬فتح الله‪ ،1974 :‬ابن سينا ومذهبه يف النفس‪ ،‬دار االحد‬
‫«البحريي إخوان» جامعة بريوت العربية‪ ،‬بريوت‬
‫‪ -‬ابن رشد‪ ،1973 :‬تفسري ما بعد الطبيعة‪ ،‬تحقيق‪ :‬ج‪ .‬بويج‪ ،‬املطبعة‬
‫الكاثوليكية‪ ،‬بريوت‬
‫‪-‬ابن رشد‪ ،2002 :‬تلخيص السياسة‪ ،‬تحقيق‪ :‬حسن مجيد العبيدي‪،‬‬
‫وفاطمة كاظم الذهبي‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪-‬ابن رشد‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬تلخيص كتاب اإلسطقسات‪ ،‬لجالينوس ضمن رسائل‬
‫ابن رشد الطبية‬
‫‪ 118‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫‪-‬ابن رشد‪ ،1964 :‬تهافت التهافت‪ ،‬ط‪ ،1‬تحقيق‪ :‬سليامن دنيا‪ ،‬دار‬
‫املعارف‪ ،‬القاهرة‬
‫‪-‬ابن رشد‪ :‬د‪.‬ت‪ ،‬فصل املقال فيام بني الحكمة والرشيعة من االتصال‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬محمد عامرة‪ ،‬ط‪ ،3‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‬
‫‪-‬ابن رشد‪ 1319 :‬هـ‪ ،‬الكشف عن منهاج األدلة يف عقائد امللة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫املطبعة الحامدية‪ ،‬مرص‬
‫‪-‬ابن سينا‪ ،1952 :‬أحوال النفس‪ ،‬حققها وقدم لها‪ :‬أحمد فؤاد األهواين‪،‬‬
‫دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬القاهرة‬
‫‪-‬ابن سينا‪ ،1960 :‬اإلشارات والتنبيهات‪ .‬املنطق‪ ،‬نرشة سليامن دنيا‪ ،‬دار‬
‫املعارف‪ ،‬مرص‬
‫‪-‬ابن سينا‪ ،1957 :‬الديوان‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬حسني عيل محفوظ‪ ،‬نرش اجتامع‬
‫املسترشقني الدويل‪ ،‬طهران‬
‫‪-‬ابن سينا‪ ،1970 :‬الشفاء‪ .‬العبارة‪ ،‬تحقيق محمود الخرضي‪ ،‬وزارة‬
‫املعارف العمومية‪ ،‬مرص‬
‫‪-‬ابن سينا‪ ،1964 :‬الشفاء‪ .‬القياس‪ ،‬تحقيق سعيد زايد‪ ،‬وزارة املعارف‬
‫العمومية‪ ،‬مرص‬
‫‪-‬ابن سينا‪ ،1986 :‬النفس البرشية عند ابن سينا‪ ،‬نصوص حققها وجمعها‬
‫وقدم لها ألبري نرصي نادر‪ ،‬دار املرشق‪ ،‬بريوت‬
‫‪ -‬شوقي‪ ،‬أحمد‪ ،1993 :‬الديوان‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‬
‫‪ -‬ستيس‪ ،‬وولرت‪ ،1984 :‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬ترجمة‪ :‬مجاهد عبد‬
‫املنعم مجاهد‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬القاهرة‬
‫‪ -‬العاميل‪ ،‬بهاء الدين محمد بن حسني‪ ،1998 :‬الكشكول‪ ،‬دار الكتب‬
‫‪119‬‬ ‫المصادر والمراجع‬

‫العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪-‬الغزايل‪ ،1993 :‬االقتصاد يف االعتقاد‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪-‬الغزايل‪ ،1990 :‬تهافت الفالسفة‪ ،‬تحقيق‪ :‬موريس بويج‪ ،‬ط‪ ،4‬دار‬
‫املرشق‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪-‬الغزايل‪ ،1989 :‬معارج القدس يف مدارج معرفة النفس‪ ،‬ط‪ ،1‬رشكة‬
‫الشهاب‪ ،‬الجزائر‪.‬‬
‫‪-‬الفارايب‪:‬‬
‫آراء أهل املدينة الفاضلة ومضاداتها‪www.al-mostafa.com ،‬‬
‫‪ -‬قاسم‪ ،‬محمود‪ ،1954 :‬يف النفس والعقل لفالسفة اإلغريق واإلسالم‪،‬‬
‫ط‪ ،2‬مكتبة االنجلو املرصية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬مدكور‪ ،‬إبراهيم‪ ،1974 :‬يف الفلسفة اإلسالمية‪ :‬منهج وتطبيقه‪ ،‬سمريكو‬
‫للطباعة والنرش‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬مروة‪ ،‬حسني‪ ،1981 :‬النزعات املادية يف الفلسفة العربية واإلسالمية‪،‬‬
‫ط‪ ،4‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬مصباحي‪ ،‬محمد‪ ،1995 :‬تحوالت يف تاريخ الوجود والعقل‪ ،‬دار‬
‫الغرب اإلسالمي‪ ،‬املغرب‪ ،‬ص‪.118‬‬
‫‪ -‬مصباحي‪ ،‬محمد‪ ،2001 :‬العلم والفكر العلمي بالغرب اإلسالمي يف‬
‫العرص الوسيط‪ ،‬منشورات كلية اآلداب‪ ،‬الرباط‪.‬‬
‫‪ -‬أبو النرص‪ ،‬عمر‪ ،1970 :‬عباقرة الفكر اإلسالمي‪ ،‬مكتب عمر أبو النرص‪،‬‬
‫بريوت‪.‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫الثنائيات الضدية‬
‫واالتجاهات النقدية‬
‫‪ - 1‬الثن�ائي�ات الضدية يف النقد األديب‬

‫يشكّل تضاد الثنائيات الالشعور الجمعي الذي يتكون من النامذج‬


‫البدائية الجمعية التي تشكلت من تراكم أفكار املجتمع ومعتقداته‬
‫عرب أجيال‪ ،‬وهذه النامذج يف حال رصاع دائم‪ ،‬فلكل منوذج ضده‪،‬‬
‫ويعرب الناس يف رموزهم العقائدية‪ ،‬أو إنتاجهم الفني عن هذه الثنائيات‬
‫املتصارعة‪ .‬وتعود أسس فلسفة املصطلح إىل فكرة أن اإلنسان قد ُهوِس‬
‫بتحديد موقعه يف العامل‪ ،‬وقد واجه اإلنسان يف عرصنا الحارض ما يس ّمى‬
‫بالرشذمة واالنشطار‪ ،‬وهو يعني «االنفصال بني الكلمة واليشء‪ ،‬وبني‬
‫الدال واملدلول‪ ،‬وبني الذات واملوضوع‪ ،‬يأيت ضمن صندوق باندورا‬
‫للذاتية والعدمية واإلنسية والنسبية التاريخية»[[[‪.‬‬
‫وميكن ع ُّد البداية الحداثية للفكرة الفلسفية تدور حول مركزية‬
‫اإلنسان‪ ،‬واستقالل وجوده‪ ،‬وقد ُوجِدت تجليات لهذه الفكرة يف العقالنية‪،‬‬
‫واالستنارة‪ ،‬والبنيوية‪ ،‬والتفكيكية‪ ،‬يف إطار من دراسة الثنائيات‪ .‬فالنص‬
‫ومتلق‪ ،‬والثقافة فاعل ومفعول‪ ،‬والدعوة إىل‬
‫ٍّ‬ ‫دال ومدلول‪ ،‬واإلبداع كاتب‬
‫انفصال الدال عن املدلول تعود إىل فكرة فلسفية هي عدم حاجة طرف‬
‫الثنائية إىل طرفه األول‪.‬‬
‫لقد ازداد انفصام إنسان القرن العرشين بسبب التعارض الحاد بني‬
‫مفرزات الثورة الصناعية التي أعادت إنسان القرن التاسع عرش إىل موقع‬
‫[[[ـ عبد العزيز حمودة‪ ،1998 :‬املرايا املحدبة من البنيوية إىل التفكيك‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬املجلس الوطني‬
‫للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬نيسان‪ ،‬ص ‪ 67‬نقالً عن‪:‬‬
‫‪Wallace Martini “ntoduction”: The Yale critics: Deconstrection in America‬‬
‫‪(Minneapolis: Uofmine sota p: 1938 xxx- VI‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪123‬‬

‫السيطرة والتحكم‪ ،‬قابلتها الحركة الرومانسية يف األدب التي أعادت تأكيد‬


‫األنا‪ ،‬والذات عند الشاعر حني شعر أن العلم مبذاهبه التجريبية قد فشل‬
‫يف تفسري الوجود‪.‬‬
‫وقد تولت الدراسات النفسية املتطورة تطوير مرحلة الشك إىل مرحلة‬
‫استحالة املعرفة املوضوعية النهائية‪ .‬فأوجدت رحلة الشك ثنائية ما‬
‫هو فيزيقي‪ ،‬وما هو ميتافيزيقي‪ ،‬ثنائية الداخل والخارج‪ :‬الخارج مصدر‬
‫املعرفة‪ ،‬والداخل النموذج األعىل للمعرفة اإلنسانية‪ .‬وقد أدت هذه الثنائية‬
‫إىل ظهور حتمي لثنائية مامثلة يف تفسري اللغة‪ ،‬وتحديد معنى النص‬
‫األديب‪ .‬فثمة عالقة عضوية بني تصورات الفكر الفلسفي الغريب والدراسات‬
‫النقدية‪ ،‬وقد ارتبطت بها يف مراحل تطورها املختلفة‪ ،‬وبخاصة الجانب‬
‫الفلسفي من الثقافية الغربية‪ ،‬فثمة ارتباط وثيق بني الحداثة الغربية والثورة‬
‫الصناعية وما تبعها من تقدم علمي‪ ،‬ومثة ارتباط وثيق بني مفردات الواقع‬
‫الثقايف الغريب‪ ،‬واألطر الفلسفية التي أنتجتها النظريات األدبية الحديثة‬
‫من بنيوية وتفكيكية‪.‬؛لذا البد من محطات توقف عند بعض الفالسفة مثل‬
‫هيوم ‪ D. Hume‬ونيتشه‪ ،‬وهورسل‪ ،‬وهايدغر‪ ،‬فقد اهتم هؤالء الفالسفة‬
‫مبوضوعات تتعلق بالكينونة‪ ،‬والذات‪ ،‬والوجود‪.‬‬
‫واألسس الثقافية فلسفية بالدرجة األوىل‪“ .‬فهي تحدد التغريات‬
‫الجذرية التي طرأت عىل أضالع املربع األربعة‪ :‬عامل امليتافيزيقا (الله)‬
‫واإلنسان والعامل املادي الفيزيقي (الطبيعة) ثم اللغة بوضعها أداة التعبري‬
‫عن املعرفة التي تولدها تلك العالقات املتشابكة‪ .‬وقد توالت املذاهب‬
‫‪ 124‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫الفلسفية من واقعية‪ ،‬وتجريبية‪ ،‬ومثالية‪ ،‬ووجودية‪ ..‬وهي مذاهب أحدثت‬


‫تغريات يف العالقة بني تلك األضالع بدرجات متفاوتة ما ترتب عليه من‬
‫تغريات مقابلة يف استخدام اإلنسان اللغ َة ونظرته إليها”[[[‪.‬‬

‫‪ - 2‬الرومانسية‬

‫انطلق الرومانسيون من فكرة أن الواقع ليس مصدر ثقة؛ لذا اتجهوا إىل‬
‫مصدر آخر لإلبداع‪ ،‬وأصبحت العالقة بني الواقع والذات عالقة صدامية؛‬
‫لذا أكرث الشاعر الرومانيس من الشكوى واألمل‪ ،‬وقد تغلبت الذات عىل‬
‫املوضوع يف عالقة ثنائية‪ ،‬كام تغلبت العاطفة عىل الفكر‪ ،‬والالشعور‪.‬‬
‫لقد انطلق الوعي الجاميل الرومانيس من فلسفة استعذاب األمل‬
‫وتقديسه‪ ،‬ويعني هذا الكالم أن الوعي الفلسفي الرومانيس يقوم عىل ثنائية‬
‫األنا‪ /‬العامل‪.‬‬
‫وتناولت الفلسفة الغربية العالقة بني العقل والعاطفة‪ ،‬ووجدت‬
‫الرومانسية أن هذه الثنائية بني العقل والذات ال تحكمها عالقة تعارض‬
‫وتضاد بالرضورة[[[‪ .‬وميكن القول‪ :‬إن الرومانسية كانت محاولة إلعادة‬
‫بعض التوحد املفقود بني مكونات الوجود مثل اإلنسان واللغة‪ ،‬فقد‬
‫حاولوا جهدهم التقليل من خطورة التضاد‪ ،‬كام حاولوا إقامة جرس بني‬
‫طريف الثنائية‪ ،‬ونفي التعارض بني الحقيقتني العلمية‪ ،‬والشعرية‪.‬‬
‫ويرتبط النقد الحدايث بأزمة اإلنسان الغريب الفكرية والثقافية‪،‬‬

‫[[[ـ املرايا املحدبة‪ ،‬ص‪.67‬‬


‫[[[ـ املرايا املحدبة‪ ،‬ص ‪.97‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪125‬‬

‫واالتجاهاتُ النقدي ُة الحداثي ُة استمرار لالتجاهات السابقة‪ ،‬فليس من‬


‫مدرسة نقدية جديدة خالصة‪ ،‬فالبنيوية مولودة من أرض الرومانسية‪،‬‬
‫فقد جعلوا اللغة موضوعاً للدراسة‪ ،‬وانطلقوا من ثنائية اللغة الحقيقية‪/‬‬
‫املجازية‪ ،‬ومن ثنائية الداخل‪ /‬الخارج يف تحديد معنى النص‪ ،‬ومن ثنائية‬
‫االستخدام النيص‪ /‬االستخدام السياقي للغة التي تكتسب معناها من‬
‫داخل النص‪ ،‬ال من خارجه‪.‬‬
‫إن الذات يف الرومانسية هي ذات املبدع‪ ،‬ال املتلقي‪ ،‬فقد ركزت‬
‫الرومانسية عىل أهمية الذات‪ ،‬وترجمت حضورها يف الفلسفة املثالية‬
‫األملانية إىل رشعية التعبري عن األنا ما دامت القالب الذي يصب العامل‬
‫فيه‪ .‬فالرومانسية محاولة إلعادة التوازن بني الداخل والخارج بعد أن مالت‬
‫مدة طويلة نحو الخارج املادي املحسوس‪ ،‬ومحاولة إعادة التوحد إىل‬
‫عامل أفقدته العلوم التجريبية وحدته‪.‬‬
‫إن مثة تأكيدا ً للذات يف الرومانسية‪ ،‬وتفتيتاً لها يف البنيوية‪،‬‬
‫والتفكيكية‪ .‬فالداخل يف البنيوية هو داخل النص األديب مستقالً عن ذات‬
‫املبدع واملتلقي‪ ،‬وميثل هذ األمر متردا ً عىل الرومانسية‪.‬‬
‫عملت الرومانسية ‪-‬إذن‪ -‬عىل خرق القواعد الكالس ّية‪ ،‬فهي تقف عىل‬
‫الطرف املضاد منها‪ ،‬كام وقفت يف وجه تش ّدد قواعدها العقلية واألدبية‪،‬‬
‫ودعت إىل التح ّرر من القيود االجتامعية والعقلية‪ .‬وقد جعلت التحوالت‬
‫االجتامعية والسياسية يف أوربا اإلنسان األوريب قلقاً حزيناً‪ ،‬فأدى ذلك‬
‫إىل ظهور الرومانسية‪ ،‬لكن النقاد الفرنسيني هجموا عليها؛ ألنها تسلب‬
‫‪ 126‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫اإلنسان منطقه وعقله‪ ،‬فال خري ‪-‬يف رأيهم‪ -‬يف عاطفة وخيال ال يحكمهام‬
‫عقل‪ ،‬وحكمة‪ ،‬وإرادة‪.‬‬
‫وقد استنكر دعاة الرومانسية تدخل املجتمع يف تقييم األعامل‬
‫اإلبداعية‪ ،‬فال ينتج الفن ‪-‬عندهم‪ -‬إال يف عزلة عن املجتمع‪ ،‬فتجاهلوا أن‬
‫الفن يقوم عىل خربة متوارثة‪.‬‬
‫رأى الرومانيس العامل يف مرآة ذاته‪ ،‬فتامهت ثنائية الذات والعامل‬
‫لديهم‪ ،‬وبحثوا عن الكامل يف الال متناهي‪ ،‬ورأوا اإلبداع الحق يف هذا‬
‫املنحى‪.‬‬

‫‪ - 3‬الماركسية‬

‫تقوم املاركسية عىل مفهو َم ْي الجدلية والرصاع الطبقي‪ ،‬فرصاع املتضادات‬


‫مرتكز أساس من مرتكزات الفلسفة املاركسية‪ .‬وقد طبق ماركس الفكرة‬
‫الهيغيلية تطبيقاً واقعياً حني تحدث عن التشكيلة االقتصادية االجتامعية التي‬
‫تنجم عن تفاعل أطروحة وطباقها‪ ،‬فكل تشكيلة تخلق طباقها وهكذا‪..‬‬
‫وانطلق املاركسيون من ثنائية الداخل ‪ /‬الخارج‪ ،‬وهم يرون أن الفن‬
‫جزء من إيديولوجية املجتمع؛ أي البنية الفوقية للمجتمع‪ .‬وقد ارتبطت‬
‫النظرية األدبية بالفكر السيايس واالقتصادي لدى ماركس وأنجلز‪ ،‬فدعا‬
‫املاركسيون إىل سيادة العقل‪ ،‬والتخلص من ذاتية الرومانسية‪ ،‬ومن ثنائية‬
‫الشكل واملضمون‪..‬‬
‫وتستند املاركسية لدى ماركس إىل أساس فلسفي‪ ،‬فمقولته ليس‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪127‬‬

‫للشكل أية قيمة مامل يكن له مضمون تطوير آلراء هيغل عن العالقة بني‬
‫طريف الثنائية‪ ،‬فالطرف الثاين يحدد الشكل املناسب له‪ ،‬وتغيري املضمون‬
‫يستتبع تغيريا ً حتمياً يف الشكل[[[‪.‬‬
‫لقد تأرجح الفكر املاركيس بني طريف ثنائية الداخل ‪ /‬الخارج‪،‬‬
‫وظل هذا التأرجح محور اختالف بني فكر واقعي يعتمد التجربة الحسية‬
‫بوصفها أساساً للمعرفة اإلنسانية‪ ،‬وفكر مثايل يضع أسس املعرفة داخل‬
‫العقل البرشي‪.‬‬
‫ورفض البنيويون املاركسيون فكرة أن الداللة تحددها العالقة بني‬
‫الدوال واألنساق داخل النص؛ ألن يف ذلك عودة إىل قطب مفرد من‬
‫الثنائية‪ ،‬وهو الداخل‪ .‬هذه الثنائية‪ -‬داخل ‪ /‬خارج‪ -‬شهدت تباعدا ً يف القرن‬
‫العرشين وصل إىل ازدواج حاد‪.‬‬
‫وتنبع قيمة املاركسية‪ -‬حسب ألتوسري ‪[[[-L. Althusser‬يف أنها‬
‫استطاعت أن تنقل الفلسفة من الوضع اإليديولوجي إىل الوضع املادي‬
‫عرب املادية الجدلية‪ ،‬وهي نظرية خاصة بالتطور االجتامعي‪ ،‬تقوم عىل‬
‫“فحص التناقضات يف املجتمع‪ ،‬وهي تك ّون أساس أطروحة الرصاع‬
‫الطبقي بوصفه القوة املحركة يف تطوير املجتمع الطبقي‪ ،‬وتوصل هذه‬
‫األطروحة إىل كل نتائجها الثورية”[[[‪.‬‬

‫[[[ـ املوسوعة العربية‪ ،2007 :‬ط‪ ،1‬هيئة املوسوعة العربية‪ ،‬ط‪ ،1‬الجمهورية العربية السورية‪ ،‬رئاسة‬
‫الجمهورية‪ ،‬دمشق‪ ،‬املجلد السابع عرش‪ ،‬ص‪.132‬‬
‫[[[ـ محمد عزام‪ ،2003 :‬تحليل الخطاب األديب‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫[[[ـ لجنة من العلامء واألكادمييني السوفييت‪ ،1980 :‬املوسوعة الفلسفية‪ ،‬ترجمة‪ :‬سمري كرم‪ ،‬ط‪ ،2‬دار‬
‫الطليعة‪ ،‬بريوت ص‪.374‬‬
‫‪ 128‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫األدب يف نظر رواد النقد املاركيس مثل جورج لوكاتش ‪G. Lukacs‬‬
‫ورومان جاكسون ‪ R. Jakobson‬واملتأخرين مثل لوسيان جولدمان‬
‫‪ L. Goldman‬وتريي إيجلتون ‪ T. Eagleton‬وفريدريك جيمسون ‪F.‬‬
‫‪ Jameson‬ال ميكن أن ينفصل عن الحقائق االقتصادية واالجتامعية‪ ،‬فقد‬
‫رفض املاركسيون تفريغ الشكل من مضمونه الهادف‪ ،‬واإلبداع الفني يف‬
‫الفلسفة الجديدة ليس نتاجاً فردياً‪ ،‬ليس إلهاماً غامضاً‪ ،‬إنه يف حقيقته إنتاج‬
‫جمعي تتدخل فيه‪ ،‬وتحدده بصورة حتمية حقائق البنى التحتية االقتصادية‬
‫واالجتامعية‪ .‬وقد نتجت هذه األفكار من التحول نحو العلمية يف تحديث‬
‫املجتمع الرويس بعد الثورة‪ ،‬وهو تحول مرتبط باالتجاه التجريبي يف‬
‫الفلسفة الغربية منذ بدايته حتى قيام الثورة[[[‪.‬‬
‫رفض املاركسيون التفسري اآلين للغة‪ ،‬كام رفضوا تفريغ الشكل من‬
‫املضمون الهادف‪ ،‬فال ميكن اختزال الفن إىل مجرد التعبري الطبقي أو‬
‫الظروف االقتصادية‪.‬‬
‫وقد احتضنت الشكلي ُة الروسي ُة املاركسيةَ‪ ،‬لكنها انفصلت عنها بعد‬
‫ذلك‪ [[[.‬وقد تحمس الشكيون الروس ملنهج جديد وصل بهم يف مرحلة‬
‫ما إىل إنكار املوضوع‪ ،‬أو إنكار رسالة األدب‪ ،‬وهذا ما وضعهم يف نهاية‬
‫األمر يف موقف مناقض ألهداف املاركسية‪ ،‬وتحديدها الواضح لرسالة‬
‫األدب ووظيفته‪ ،‬فقد اتخذ املاركسيون من جدلية هيغل واملادية التاريخية‬
‫نقطتي انطالق مبدأيتني‪.‬‬
‫[[[ـ للتوسع‪ :‬انظر املرايا املحدبة‪ ،‬ص ‪ 132‬وما بعدها‪.‬‬
‫[[[ـ املرايا املحدبة‪ ،‬ص ‪.122‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪129‬‬

‫إن مثة حركة مستمرة بني الحقيقة املادية الخارجية والحقيقة الداخلية‬
‫الشعرية‪ ،‬العلم والذات‪ .‬وقد وقفت الشكلية عند حدود الطرف األول من‬
‫الثنائية‪ ،‬وانطلقت من العلمية بوصفها نقطة انطالق إلنشاء علم األدب‪،‬‬
‫فتسلح الشكليون بأدوات التفكري العلمي يف التعامل مع النصوص األدبية‪،‬‬
‫وهم يرون للخارج املادي حضورا ً مؤثرا ً‪ ،‬ويُرجعون –غالباً‪ -‬مضمون‬
‫القصيدة إىل الخارج الذي يكون له حضور مؤثر يف املضمون‪.‬‬
‫وقد اعتمدت الشكالنية الروسية عىل ثنائية الشكل واملضمون‪،‬‬
‫وتبعتها مدرسة براغ‪ ،‬وكانت البنيوية تعني ملدرسة براغ تركيباً جدلياً‬
‫(‪ )Diulectical Synthesis‬أي الجمع بني ضدين يف سبيل إنشاء‬
‫قوة موحدة‪ ،‬ويضم أمنوذجني فكريني شاملني‪ ،‬واألمنوذج الفكري‬
‫‪ ))Paradigm‬هو املذهب الفكري‪ ،‬أو الفلسفي القادر عىل تفسري‬
‫الظواهر‪ ،‬واألمنوذج األول هو املذهب الرومانيس‪ ،‬وقد تجىل بصفة‬
‫أساسية يف اآلداب والفنون‪ ،‬وإن مل يقترص عليها‪.‬‬
‫أما األمنوذج الثاين فهو املذهب الفلسفي الذي يقوم عىل الحقائق‬
‫العلمية املستقاة من معطيات الحواس‪ ،‬والخربة الحسية بالواقع‪،‬‬
‫والعالقات القامئة بينها‪ ،‬ويرفض البحث يف أصولها األوىل‪ ،‬أو شطحات‬
‫التأمل يف بذورها وجذورها‪ .‬والتضاد بني املذهبني واضح‪ ،‬فالرومانسية‬
‫تر ّحب بشطحات التأمل الفلسفية‪ ،‬وتعيل من شأن الخيال‪ ،‬واملشاعر‪،‬‬
‫والقدرة عىل الغوص يف أعامق الحقيقة (‪ )Truth‬أو الواقع (‪ )Reality‬أو‬
‫‪ 130‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫النفس البرشية استنادا ً إىل الحدس (‪ )Intuition‬وحده[[[‪.‬‬


‫أما مدرسة براغ فقد اهتدت إىل البنيوية‪ .‬ويتضح مام سبق أن بعض‬
‫املدارس النقدية قامت عىل التضاد‪ ،‬وأن مثة تضادا ً بني املدارس النقدية‪.‬‬
‫وبنظرة نقدية رسيعة للامركسية نرى أنها تقرص نظرتها عىل رؤية‬
‫طبقتني متضادتني فقط‪ ،‬هام طبقة العامل وهي الطبقة املستع َبدة‪ ،‬وطبقة‬
‫الرأسامليني وهي الطبقة املستعبِدة‪ .‬لك ّن املاركسية فشلت يف التنبؤ‬
‫بظهور طبقة وسطى يف املجتمع الرأساميل؛ لذا تحتاج النظرية املاركسية‬
‫إىل إعادة نظر يف منهجها الفكري العام‪.‬‬
‫لقد أعاد كارل ماركس حركة التاريخ إىل رصاع الطبقات الذي سينتهي‬
‫بنشوء الثورة االشرتاكية التي تحققها الطبقة العاملة عىل مضادّتها الطبقة‬
‫البورجوازية‪ ،‬فتختلف حركة املجتمعات باختالف األحوال السياسية‬
‫واالقتصادية‪ ،‬فقد عمل ماركس عىل تجميد الجدلية الهيغيلية يف نظرتها‬
‫للمجتمع الذي أكّد ماركس أنه آيل إىل االشرتاكية من غري أدىن شك‪،‬‬
‫فاملاركسية من وجهة نظر ماركس مثل املدينة الفاضلة عند أفالطون‪،‬‬
‫والفارايب‪.‬‬
‫إن منهج الديالكتيك املادي الذي اتسمت به املاركسية عاجز عن‬
‫تحليل املجتمعات ومشكالتها؛ ألن أدوات التحليل جامدة‪ ،‬ال تتغري بتغري‬
‫األحوال السياسية‪ ،‬واالقتصادية للمجتمع‪.‬‬

‫[[[ـ للتوسع يف الشكالنية الروسية انظر‪ :‬محمد عناين‪ ،2003 :‬املصطلحات األدبية الحديثة‪ ،‬ط‪ ،3‬الرشكة‬
‫املرصية العامة للنرش‪ ،‬لونجامن‪ ،‬ص‪.79-78‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪131‬‬

‫ورصاع األضداد جوهر املاركسية‪ ،‬فلطبيعة الرصاع لديهم جدلية ثنائية‪،‬‬


‫أو ما يعرف برصاع األضداد‪ ،‬وهو رصاع مستمد من الجدلية الهيغيلية‪،‬‬
‫فاملجتمع ‪-‬لدى هيغل‪ -‬يتغري بتفاعل قوى متضادة‪ ،‬ويبقى السؤال قامئاً‪:‬‬
‫إذا نشأ الرصاع بني املتضادات فهل سيزول يف حال الوصول إىل مجتمع‬
‫اشرتايك؟ وهل ستزول الطبقات يف ظل هذا املجتمع؟‬
‫ال ميكن حرص الرصاع بني ضدين‪ ،‬وليست حركة التاريخ نتاج رصاع‬
‫ضدين‪ :‬البورجوازية‪ /‬الربوليتارية‪ ،‬فحركة التاريخ رصاع‪ ،‬وتفاعل‪ ،‬وليست‬
‫الثقافات يف املجتمعات املتضادة كلها أضدادا ً‪ ،‬بل ميكن أن تتفاعل‪ ،‬أو‬
‫ينفي أحدها اآلخر‪.‬‬
‫لذا ميكن القول إن املاركسية نتاج الواقع الذي وجد فيه هيغل وماركس‬
‫وأنجلز‪ ،‬وال ميكن تطبيقها عىل املجتمعات كافة؛ لجمود األدوات‬
‫النص‪ ،‬وبنيته التحتية‬
‫التحليلية‪ .‬كام عقد النقد املاركيس صلة موهومة بني ّ‬
‫“االقتصاد” فقد سجنت املاركسية النص يف سجن القوى االقتصادية‪.‬‬

‫‪ - 4‬البنيوية‬

‫يقوم جوهر الثنائيات الضدية يف النقد الغريب عىل أساس فكرة فلسفية‬
‫أكرث منها لغوية‪ ،‬وقد أىت النقاد البنيويون أوالً بهذه الطريقة يف استخدام‬
‫اللغة إذ تنطلق البنيوية من موت املؤلف‪ ،‬والرتكيز عىل النص األديب من‬
‫خالل الثنائيات املوجودة فيه‪ ،‬فتعتمد الظواه َر اللغوية؛ الستنتاج الدالالت‬
‫واملعاين‪ .‬وتوحي كلمة (‪ binary‬بعبارة مؤلفة من ‪Binary opposition‬‬
‫‪ 132‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫أي (شيئان ‪ ،‬أو مزدوج) كام يف عبارة (كوكب مزدوج)‪ ،‬أي كوكبان تسيطر‬
‫عليهام قوة جاذبية واحدة)‪ [[[.‬إذ تشيع الثنائيات يف اللغة‪ :‬أعىل‪ /‬أسفل‪،‬‬
‫بطيء‪ /‬رسيع‪ ،‬عقل‪ /‬طيش‪ ،‬حقيقة‪/‬كذب‪ ،‬أسود‪ /‬أبيض‪ ،‬رجل‪ /‬امرأة‪...‬الخ‪.‬‬
‫ويشكل مفهوم الثنائيات الضدية عصب املدرسة البنائية يف النقد‬
‫والتحليل البنيوي‪ /‬البنايئ‪ .‬وينحدر هذا املفهوم بوصفه مفهوماً بنيوياً‬
‫من دراسات ليفي‪ -‬شرتاوس حول األساطري‪ .‬وال تستخدم اللسانيات ‪/‬‬
‫األلسنية‪ ،‬والتحليل البنيوي فكرة الثنائيات الضدية من جهة الكلامت‬
‫واملفاهيم فحسب بل من جهة تقاليد النص ورموزه‪.‬‬
‫وتتضمن فكرة الثنائيات الضدية ذاتها مركزية نظام معني أو وجوده‪.‬‬
‫وتعد هذه الداللة الثنائية ثابتة ومنظمة يف أعني البنيويني‪ ،‬وغري ثابتة‬
‫ومحطمة ملا بعد البنيويني[[[‪.‬‬
‫حاولت البنيوية املاركسية أن تحقق حالً وسطاً تستطيع البنيوية‬
‫اللغوية للنص األديب عىل أساسه أن تكون مستقلة (الداخل) من ناحية‪،‬‬
‫وأن تؤكد عالقتها بالبنى واألنظمة األخرى كالنظام االقتصادي والرصاع‬
‫الطبقي والواقع الثقايف العام (الخارج) من ناحية أخرى‪ .‬أما البنيوية األدبية‬
‫فرتفض الربط بني النظام اللغوي الداخيل وأية أنظمة أخرى خارجية‪.‬‬
‫يعني هذا الكالم أن ثنائية الداخل‪ /‬الخارج الزمت الفلسفة الغربية‬

‫‪[1] - J. A. Cuddon, The penguin Dictionary of literary terms and literary the‬ـ‬
‫‪ory. 1976 ven sed C.E. Preston, 1998, penguin Books 1999. PP. 2883-, P. So, p‬‬
‫‪418.‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪83-PP.28 ،‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪133‬‬

‫واملدارس النقدية‪ ،‬وتحيل هذه الثنائية عىل ثنائية الذات ‪ /‬املوضوع‪،‬‬


‫وهي ثنائية فلسفية النشأة والطابع؛ ذلك ألن رحلة املعرفة اإلنسانية بني‬
‫الشك واليقني طويلة‪ ،‬فقد أتت تجربة (جون لوك ‪ ، )J. Locke‬فأبرزت‬
‫أهمية الحواس يف إدراك الوجود املادي الخارجي‪ ،‬ومثالية (كانت) ‪I.‬‬
‫‪ Kant‬وفكرة الشك يف قدرة الحواس عىل تحقيق املعرفة اليقينية بالكون؛‬
‫لتأكيد أهمية العقل يف تحقيق املعرفة‪ ،‬وتيارات الشك التي فقدت اإلميان‬
‫بالتجريبية واملثالية‪ ،‬وذلك م ّهد لظهور البنيوية اللغوية واألدبية‪.‬‬
‫لقد نظرت البنيوية إىل الثنائية عىل أنها خصيصة من خصائص الفكر‬
‫اإلنساين‪ ،‬واتخذتها بوصفها تقابالت ابستمولوجية (‪:)Epistemology‬‬
‫الدال ‪ /‬املدلول‪ ،‬اللغة‪ /‬الكالم‪ ،‬وعانت رصاعاً بني طريف ثنائية هل النص‬
‫األديب بنية مغلقة مستقلة‪ ،‬أو بنية نظرية ألنساق عامة أخرى ليست أدبية؟‬
‫بني انغالق النص واستقالل العالمات‪ ،‬وبني كون النص نظريا ً ألنساق‬
‫ثقافية واجتامعية واقتصادية‪.‬‬
‫الرصاع بني طريف ثنائية الداخل ‪ /‬الخارج لدى البنيويني مع أن الداخل‬
‫الداخل‪ ،‬هذا الخارج هو‬
‫َ‬ ‫ج هذا‬
‫ال ميكن أن يكشف عنه إال برؤية الخار ِ‬
‫الخارج االجتامعي والثقايف‪....‬‬
‫أما ثنائية الذات‪ /‬املوضوع فالذات املقصودة لدى البنيويني هي الذات‬
‫الدريكارتية العليا القادرة عىل تحقيق املعرفة اإلنسانية وتشكيلها[[[حينام‬
‫تفشل الحواس‪ ،‬وتتوقف وظيفتها عند حدود الظاهر املادي من ناحية‪،‬‬

‫[[[ـ انظر املرايا املحدبة‪ ،‬ص‪.213‬‬


‫‪ 134‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫وتحقيق معرفة عليا ال تحتاج إىل استخدام أدوات املنهج التجريبي؛‬


‫إلثبات صحتها من ناحية أخرى‪.‬‬
‫الذات التي ترفضها البنيوية هي الذات الفردية‪ ،‬أما املوضوع فهو‬
‫النسق أو النظام‪ .‬ويتكلم روالن بارت ‪ R. Barthes‬وميشيل فوكو ‪M.‬‬
‫‪ Foucault‬عىل ثنائية أخرى مختلفة هي ثنائية األنا‪ /‬اآلخر متأث َريْن‬
‫بدراسات فرويد ‪S. Freud‬النفسية‪ ،‬وسيكون لهذه الثنائية أثر مهم يف‬
‫التفكيكية‪ -‬كام سيأيت الحقاً‪ -‬إذ يقوم فكر بارت والبنيويني عىل كبت‬
‫الذات‪ ،‬أو الهروب منها منطلقني من أساس فلسفي لغوي سيايس نقدي‬
‫هو أن الذات املستقلة ال تتفق وأفكا َر البنيوية الجديدة فلسفياً[[[‪.‬‬
‫اعتمدت الفلسفة الغربية ثنائي َة الداخل ‪ /‬الخارج عىل أنها أساس‬
‫للمعرفة‪ ،‬وقد م ّر سابقاً أن هيغل ونيتشه مثَّال قطب الخارج يف إرجاع املعرفة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وديكارت وكانت مثّال قطب الداخل‪ ،‬العقل البرشي‪ ،‬ومثة فالسفة‬
‫وقفوا يف املنطقة الوسطى بني القطبني‪ ،‬وينسحب هذا األمر عىل الدراسة‬
‫النقدية‪ ،‬فالقول بوجود الحقيقة الخارجية يعود إىل نظرية املحاكاة األرسطية‪،‬‬
‫أما أن تكون أسس املعرفة موجودة يف داخل العقل البرشي فتعني تأكيد‬
‫الذات‪ .‬فثمة ثنائية نجم عنها ازدواج فلسفي أدّى إىل جدل مستمر بني تأكيد‬
‫الذات وتفتيتها لدى البنيويني ومن بعدهم التفكيكيني[[[‪.‬‬
‫يعني الكالم السابق أن القضايا األساسية التي شغلت النقاد من القرن‬

‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪.214‬‬


‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.214‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪135‬‬

‫السابع عرش إىل اآلن عن معنى النص‪ ،‬ووظيفة اللغة‪ ،‬وحضور الذات‬
‫أو غيابها سواء أكانت ذات املبدع أم ذات املتلقي ترتبط ارتباطاً وثيقاً‬
‫بتطورات الفلسفة الغربية؛ ذلك ألن الفكر الفلسفي ليس منفصالً عن‬
‫الفكر النقدي واللغوي‪ ،‬فقد كان الفيلسوف الغريب ناقدا ً أدبياً يف معظم‬
‫الحاالت‪.‬‬
‫والنقد البنيوي استمرار للنقد السابق‪ ،‬وللفلسفة التي أنشأت النقد‬
‫السابق‪ ،‬وثورة عليها يف الوقت نفسه‪ ،‬فقد دعا البنيويون إىل الداخل‪ ،‬لكنه‬
‫ليس الذات الرومانسية‪ ،‬وليس ذات املتلقي‪ ،‬الداخل هو داخل النص‬
‫األديب مستقالً عن ذات املبدع واملتلقي‪ ،‬فالذات لدى النقاد الجدد هي‬
‫الذات باملفهوم التجريبي‪ ،‬والفلسفة الغربية هي فهم للواقع الغريب يف‬
‫مواجهة الذات داخل سياق التجربة[[[‪.‬‬
‫وقد ُوجدت البنيوية بهدف الخروج من ثنائية مذهب علمي تجريبي‬
‫لدراسة مادة غري علمية‪ ،‬ال تخضع ملقاييس املذهب التجريبي‪ ،‬فتبنوا‬
‫املنهج العلمي التجريبي بعد مدة من الشك الوجودي؛ إلعادة الثقة يف‬
‫املنهج التجريبي الذي يُعمل العقل‪ ،‬فـ ‪،‬تجريبية البنيوية سبب لرفضهم‬
‫املبديئ الذات الديكارتية”[[[ ‪،‬فنظروا يف األنساق الداخلية للنص األديب‪،‬‬
‫ِ‬
‫الذات تأكي َد نفسها‪ ،‬فالذات تح ّددها‬ ‫وبهذا الصنيع عملوا عىل نفي قدرة‬
‫اللغة‪ ،‬وتحكم حركتها‪ ،‬واللغة ـ لدى البنيويني ـ هي املك ٍّون السببي للذات‪،‬‬
‫محل البنية االقتصادية التحتية التي تفرس األدب‪ ،‬والظواهر االجتامعية‪.‬‬
‫تحل ّ‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.163‬‬
‫‪ 136‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫نفت املدرسة الفلسفية الفرنسية وجود الذات عىل أنها نقطة انطالق‪،‬‬
‫أما الفلسفة األمريكية فقد أكدت وجود الذات الحرة عىل أنها نقطة انطالق‬
‫“لذلك نظر األمريكيون إىل البنيوية عىل أنها جربية تناقض حرية الفرد‪،‬‬
‫فثقافتهم تقوم يف األساس عىل الحرية يف االختيار”[[[‪.‬‬
‫يؤكد الكالم السابق أن للنقد الغريب صيغة فلسفية واضحة مرتبطة‬
‫بأزمة اإلنسان الغريب‪ ،‬فثمة فكر فلسفي متجذر عرب قرون‪ ،‬ومثة ثورة‬
‫صناعية وعلمية ح ّولت العالقات التقليدية إىل أزمة خاصة باإلنسان‬
‫الغريب‪ .‬وميكن أن نعد جهود ليفي شرتاوس يف األنرثوبولوجيا البنيوية‬
‫نقطة انطالق البنيوية غري اللغوية‪ ،‬فقد أحدث نقلة حقيقية لألمنوذج‬
‫اللغوي إىل أنساق أخرى غري اللغة‪.‬‬
‫سعى شرتاوس بالثنائيات املتقابلة إىل إقامة مبادئ جرب داليل “فحني‬
‫يكون السلوك الثقايف قادرا ً عىل نقل املعلومات البد للس َّنة (الكود) التي‬
‫يتم التعبري عن الرسائل بوساطتها أن تكون ذات بنية جربية”‪ [[[،‬كام دعا‬
‫إىل دراسة التاميز بني املتقابالت‪ ،‬فالهدف من دراسة الثنائيات يف الفلسفة‬
‫اكتشاف كيفية استخدام العالقات املوجودة يف الطبيعة “كام تدركها األدمغة‬
‫البرشية يف توليد منتجات ثقافية تشتمل عىل هذه العالقات ذاتها”[[[‪.‬‬
‫وجد شرتاوس أن مثة تقابالً بني الثقافة والطبيعة‪ ،‬فالثقافة متيز البرش‬

‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪.77‬‬


‫[[[ـ إدموند ليتش‪ ،2002 :‬كلود ليفي شرتاوس دراسة فكرية‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬ثائر ديب‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪،‬‬
‫دمشق ص‪.41‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪137‬‬

‫من بقية الحيوانات (الطبيعية)‪ ،‬فاملفاهيم الثنائية تشكل جزءا ً من طبيعة‬


‫اإلنسان “وعىل سبيل املثال فإن الرجال والنساء متشابهون مبعنى ما عىل‬
‫الرغم من أنهم متقابلون ومتبادلو االعتامد مبعنى آخر‪.[[[”..‬‬
‫ويرى أن األنا اإلنساين ال يوجد يف ذاته أبدا ً‪ ،‬وليس مثة أنا إال وهو‬
‫جزء من النحن‪ ،‬بل إن كل أنا هو فرد ينتمي إىل كثري من مجموعات النحن‪،‬‬
‫والثقافة مكتسبة‪ ،‬أما الطبيعة ففطرية‪ ،‬ومثة ارتباط لإلنسان بالطبيعة‪ ،‬وهو‬
‫يحاول أن يصل إىل الثقافة‪ ،‬وبينهام تقابل‪ ،‬والتحول من الطبيعة إىل الثقافة‬
‫تحول من العاطفة إىل العقلنة‪ ،‬وهو مير مبرحلة وسطى[[[‪.‬‬
‫ووجد أن اإلنسان قد ط ّور قدرة فريدة عىل االتصال بوساطة اللغة‬
‫والدوال؛ ولذلك البد آلليات الدماغ البرشي “من أن تشتمل عىل قدرات‬
‫معينة يف القيام بعمليات التمييز بني ‪ - / +‬وذلك من أجل تناول الثنائيات‬
‫الناتجة من ذلك بوصفها أزواجاً متعالقة‪ ،‬والتعامل مع هذه العالقات عىل‬
‫النحو الذي تُعامل به يف جرب املصفوفات”[[[‪.‬‬
‫ومبا أن الدماغ البرشي ينزع إىل التعامل مع األضداد الثنائية فقد بحث‬
‫شرتاوس يف تدخل األضداد يف تركيب األسطورة‪ ،‬فوجد أن كل أسطورة‬
‫تقابل مجموعة من املفاهيم املتعارضة واملتقابلة‪ ،‬وهي مجموعة ثنائية‬
‫مستقاة من مجاالت الخربة العملية البرشية‪ ،‬ثم رأى أن ذلك كله ميكن‬
‫تطبيقه عىل األدب‪ ،‬والشعر بصورة خاصة‪.‬‬

‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪.54‬‬


‫[[[ـ ‪ -‬املرجع السابق ص ‪.43‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.65‬‬
‫‪ 138‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫درس شرتاوس التنظيم الثنايئ يف املجتمعات‪ ،‬وهو تنظيم بني‬


‫مجتمعات تضم أكرثها بدائية‪ ،‬وأكرثها تقدماً‪ ،‬وسلسلة كاملة من‬
‫املجتمعات املتوسطة‪ ،‬وهي عالقات يحكمها بعض التشابه‪ ،‬وبعض‬
‫التناقض‪ ،‬ورأى أن التنافرات هي التي متنح الثقافات شخصيتها‪ [[[.‬وأن‬
‫الثقافات املدروسة ثقافات ذات أقنعة‪ ،‬ومفهوم القناع هو الذي شكّل لديه‬
‫مفتاح الثنائية[[[‪.‬‬
‫إن ثنائية منط معيشة مجتمع ما تؤثر يف حياتهم اليومية‪ ،‬ومتتد إىل‬
‫جميع مواقفهم النفسية‪ ،‬وتنظيمهم االجتامعي‪ ،‬وأفكارهم الغيبية؛ لذلك‬
‫تناول شرتاوس أشكال الثنائية‪ ،‬وتجليها يف البنيات االجتامعية من‬
‫خالل أشكال متعددة من الثنائيات متحدة املركز (تقابالت) بني ذكر ‪/‬‬
‫أنثى‪ ،‬عزوبة‪ /‬زواج‪ ،‬مقدس‪ /‬مدنس) وأشكال متعددة من الثنائية القطرية‪.‬‬
‫والتنظيامت الثنائية لديه تنظيامت معقدة‪ ،‬فثمة ثنائيات متحدة املركز‪،‬‬
‫وثنائيات قطرية‪ ،‬وطبيعة ثالثية للثنائيات متحدة املركز[[[‪.‬‬
‫تابع شرتاوس أيضاً ثنائية الفن التمثييل والفن غري التمثييل‪ ،‬ودرس‬
‫التحول إىل ثنائيات أخرى‪ ،‬وأفىض ذلك كله إىل معاينة ثنائية هي عالقة‬
‫متبادلة بني التعبري التشكييل والتعبري التخطيطي‪ ،‬وتقدم القاسم املشرتك‬
‫الوظيفي ملختلف تظاهرات مبدأ ازدواج التمثيل[[[‪.‬‬

‫[[[ـ كلود ليفي شرتاوس‪ ،1997 :‬األنرثوبولوجيا البنيوية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬مصطفى صالح‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪،‬‬
‫دمشق‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.309‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪ 180‬وما بعدها‪.‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪.308‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪139‬‬

‫لك ّن شرتاوس حني درس األسطورة مل ينظر يف محتواها الرسدي‬


‫بقدر ما نظر إىل العمليات الذهنية الكونية التي تبني األسطورة مثل إقامة‬
‫التقابالت الثنائية‪ ،‬وهي أمور تحيك عنها األسطورة بطريقة ما‪ .‬واهتم باللغة‬
‫أكرث من الكالم‪ ،‬فركز عىل الدراسة اآلنية للغة مع أنه مل ينكر األبعاد التعاقبية‬
‫لها‪ .‬وقد افرتض فرديناند وسوسري ‪ F.D. Saussure‬وجود عالقة جدلية‬
‫داخل النسق بني الدال (الصوت السمعي)‪ ،‬واملدلول (الصور الذهنية)‪،‬‬
‫وأكّد مفهوم التعارضات الثنائية يف اللغة‪ ،‬وهذا ما ساعد شرتاوس عىل‬
‫التوسط بني العنارص املتضادة مثل ساخن‪ /‬بارد‪ ،‬أرض‪ /‬سامء‪ ،‬ذكر‪ /‬أنثى‪،‬‬
‫قديم‪ /‬جديد‪ ...‬وكذلك تقبل ميشيل فوكو التعارضات الثنائية يف محاولته‬
‫الكشف عن األركولوجيا الالواعية للمعرفة يف كتابه أركولوجيا املعرفة‪،‬‬
‫فقد اعتمد نظام األشياء لديه عىل الفرضيات البنيوية[[[‪.‬‬
‫ناقش روجيه غارودي‪ [[[ R. Garaudy‬آراء شرتاوس وفوكو وغريهام‪،‬‬
‫ورأى أن البنيوية قد حلت محل الوجودية الفرنسية‪ ،‬وجاءت ر ّد فعل‪ ،‬فقد‬
‫اشتطت الوجودية يف النزعة الفردية‪ ،‬وشددت عىل الذات‪ ،‬ومسؤولية‬
‫اإلنسان‪ ،‬فورثتها البنيوية عىل أنها نقيض لها‪ ،‬وشددت عىل الرصاحة‬
‫العلمية واملوضوعية‪.‬‬
‫وطورت البنيوية بعض ما جاء به الشكالنيون الروس‪ ،‬وتأثر البنيويون‬
‫مبقوالت سوسري‪ ،‬ثم خرجوا من ألسنيته مع أنه مل يستعمل كلمة بنية‪.‬‬

‫[[[ـ انظر‪ :‬محمد عزام‪ ،‬تحليل الخطاب األديب‪ ،‬ص‪.25 - 24‬‬


‫[[[ـ روجيه غارودي‪ ،1979 :‬البنيوية فلسفة موت اإلنسان‪ ،‬ترجمة‪ :‬جورج طرابييش‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ 140‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫نظر الشكالنيون الروس إىل البيت الشعري عىل أنه بنية طباقية معقدة‪،‬‬
‫وأصبحت جهودهم أحد مصادر البنيوية الفرنسية التي قدمت نفسها عىل‬
‫أنها حركة للفكر‪ ،‬ومنهج نقدي يعمل عىل اكتشاف القوانني التي تتحكم‬
‫باالستخدام األديب للغة إذ يقوم التحليل البنيوي عىل وجود بنية كربى‬
‫للنص‪ ،‬وبنيات صغرى تقوم بينها عالقات تنافر وتضاد‪ ،‬أو تشابه ومامثلة‪.‬‬
‫قامت الدراسات البنيوية عىل أن مفهوم اللغة يقوم عىل أن مثة نسقاً‬
‫وراء استخدامنا اللغة‪ ،‬وهو منط الثنائيات املتضادة‪ ،‬فعىل مستوى الفونيم‬
‫تشمل هذه الثنائيات الصائت ‪/‬الصامت‪ ،‬املجهور‪/‬غري املجهور‪ ...‬ومثة‬
‫منطقة وسطى يلتقي فيها طرفا الثنائية مع احتفاظ كل طرف بتفرده‪.‬‬
‫فاتجهت الدراسات البنيوية يف نسقني‪ :‬النسق العام أو النظام‪،‬‬
‫واألنساق الفردية‪ ،‬فقد درسوا األعامل الفردية؛ ليستخلصوا من بناها‬
‫الصغرية التي ترتبط بعالقات تضاد تحكمها قاعدة التضاد الثنايئ أمنوذجاً‪،‬‬
‫أو نسقاً فردياً واحدا ً‪.‬‬
‫والنسق هو “نظام ينطوي عىل أفراد فاعلني تتحدد عالقاتهم مبواقفهم‬
‫وأدوارهم التي تنبع من الرموز املشرتكة واملقررة ثقافياً يف إطار هذا النسق‪،‬‬
‫[[[‬
‫وعىل نحو يغدو معه مفهوم النسق أوسع من مفهوم البناء االجتامعي”‬
‫ويعود االهتامم بالنسق لدى البنيويني إىل تحول االهتامم بالذات‬
‫الفردية (الرومانسية) عىل أنها مصدر للمعنى‪ ،‬فاتجاهها إىل األنساق يعني‬

‫[[[ـ إديث كرويزل‪ ،1993 :‬عرص البنيوية‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬جابر عصفور‪ ،‬ط‪ ،1‬دار سعاد الصباح‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫ص‪.411‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪141‬‬

‫ابتعادها بالذات عن املركز‪ ،‬فتغدو أداة من أدوات النسق ال أكرث‪.‬‬


‫يعايَ ُن النسق من جهة كونه عملية معقدة ثنائية‪ ،‬أي إنها يف جذورها تنبع‬
‫من متايز ظواهر معينة يف جسد النص أو الحكاية‪ ،‬ثم من تكرارها عددا ً‬
‫من املرات‪ ،‬ثم من انحالل هذه الظواهر واختفائها‪ ،‬بهذه الصفة يكتسب‬
‫النص طبيعة الجدلية [[[؛ لذا البد من توافر التضاد؛ ليتشكل النسق‪ ،‬وليك‬
‫يتشكل البد أن ينحل؛ لتنشأ عرب التغاير (الحضور والغياب) بنية تقوم عىل‬
‫ثنائية ضدية تنبع من التاميز بني عنرصين أساسيني[[[‪.‬‬
‫س‬
‫تؤس ُ‬
‫يرى ميشيل فوكو أن الذات تُبنى من خالل ضدها اآلخر‪ ،‬إذ َّ‬
‫الحرية بحضور الض ّد وهو القيد‪ ،‬ويف كل نص شعري بنية جدلية ال تظهر‬
‫يف نص واحد بل تنترش يف النصوص كلها‪ ،‬وترتابط ترابطاً جدلياً‪.‬‬
‫كام أن شبكة العالقات املتنامية يف النص تؤدي إىل خلق أبعاد خفية‬
‫له تنجم عن الزئبقية التي تسم األنساق النصية‪ ،‬كام أن تضاد هذه األنساق‬
‫يع ّمق مدلوالتها‪ ،‬ويفجر طاقاتها فـ “النتاج األديب ينقسم إىل قصدين‪،‬‬
‫وال ميكن أن يع ّد سوى خصومة عميقة بني كيانني متباينني وحالتني‬
‫متناقضتني‪ :‬القرابة والعنف لحركتني متناقضتني ال ميكن أن تنسجام أبدا ً‬
‫أو تستقرا‪ ،‬فالعمل ال يكشف عن تضامن‪ ،‬بل عن رصاع دائم بني قياس‬
‫العمل الذي يصبح ممكناً والزيادة يف العمل التي تجنح نحو املستحيل‪،‬‬
‫بني الشكل الذي يفهم به العمل‪ ،‬والسمة الالمحدودة التي يحافظ بها‬

‫[[[ـ كامل أبو ديب‪ ،1981 :‬جدلية الخفاء والتجيل‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪.109‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪.110‬‬
‫‪ 142‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫يجسم كينونة البدائية والالقرار الذي‬


‫العمل عىل ذاته‪ ،‬بني القرار الذي ّ‬
‫يجسم كينونة إعادة البداية”[[[‪.‬‬
‫ّ‬
‫محية‪ ،‬وقد اتخذت طريقة يف‬
‫ّ‬ ‫إن لغة البنيوية غامضة‪ ،‬وإيحاءاتها‬
‫التفكري تتعارض مع الفردية‪ ،‬فم ّهدت لربوز مقوالت فلسفية مشكِّكة‪،‬‬
‫كاختفاء الذات‪ ،‬وموت املؤلّف‪ ،‬واهتمت مبا هو عام‪ ،‬وعاملي عىل‬
‫حساب ما هو خاص‪ ،‬ومحيل‪.‬‬
‫وهي بإلحاحها عىل موت املؤلف سقطت يف فخ املطلق حني‬
‫حاولت إيجاد قانون عام وشامل‪.‬‬
‫وقد غرقت يف الرموز املبهمة‪ ،‬وأغفلت الجانب االجتامعي للرموز‪،‬‬
‫كام أغفلت خاصية التحليل الرمزي؛ أي الرتكيز عىل املضمون الثقايف‬
‫بهدف إبراز املعاين املرتبطة بالرموز‪ ،‬فركزت عىل األبنية الصورية‬
‫املج ّردة‪.‬‬
‫تتعامل البنيوية مع الخصائص الداخلية للنص‪ ،‬ومس ّوغها أدبية األدب‬
‫من غري أن تهتم بأية وظيفة لألدب غري املتعة الناجمة عن األدبية‪ ،‬فأبعدها‬
‫بحثها يف أدبية األدب‪ ،‬ويف العاالقات التقابلية الضدية فيه عن الطرف‬
‫الثاين من الثنائية‪ ،‬وهو وظيفة األدب‪ ،‬فال يعري البنيويون اهتامماً للرؤية‬
‫الفكرية؛ ألنهم يحرصون اهتاممهم بالبنى‪ ،‬واألنساق اللغوية يف النص‪،‬‬
‫وهو أمر يؤدي إىل عدم التفريق بني النص الجيد‪ ،‬والرديء‪.‬‬

‫[[[ـ وليم راي‪ ،1987 :‬املعنى األديب من الظاهراتية إىل التفكيكية‪ ،‬ط‪ ،1‬ترجمة‪ :‬يؤئيل يوسف عزيز‪ ،‬دار‬
‫املأمون للرتجمة والنرش‪ ،‬بغداد‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪143‬‬

‫إن املناهج النقدية الحديثة مأخوذة من الفكر الفلسفي الغريب‪ ،‬فثمة‬


‫عالقة وثيقة بني الحداثة النقدية والجذور الفلسفية لها‪ ،‬وأبني دليل عىل‬
‫ذلك املنظومة املصطلحية للنقد الغريب مثل‪ :‬الداخل‪ /‬الخارج‪ ،‬الشك‪/‬‬
‫اليقني‪ ،‬الذات‪ /‬املوضوع‪ ،‬اللغة الواصفة‪ /‬امليتا لغة‪ ..‬وهي مصطلحات‬
‫مستعارة من حقل الفلسفة‪ ،‬فثمة آراء فلسفية حول رصاع الثنائيات‪،‬‬
‫والتقائها‪.‬‬
‫وقد أقصت البنيوية التاريخ‪ ،‬وأهملت البعد االجتامعي للنص األديب‬
‫لكن فيام بعد أتت البنيوية التكوينية “املاركسية” لتتالىف النقص‪ ،‬فجمعت‬
‫بني النقد املاركيس والنقد الشكيل مع اإلبقاء عىل االهتامم بالبنية اللغوية‬
‫لألعامل األدبية‪ ،‬وعدم عزلها عن اإليديولوجيا التي يع ّدونها جزءا ً من‬
‫اللغة‪ .‬ومن هنا صار للبنية دور وظيفي متمثّل يف تقديم رؤية الكاتب التي‬
‫متثّل يف النهاية رؤية الفئة االجتامعية التي ينتمي إليها‪ .‬لكن هذا العمل‬
‫يواجه صعوبة كبرية‪ ،‬فكيف ميكن إجراء تحليل بنيوي تكويني ألعامل‬
‫تنتمي إىل عرص نجهل الكثري عنه‪.‬‬
‫رصت البنيوية عىل العالقات الضدية بني العالمات‪ ،‬ال عىل العالمات‬
‫أ ّ‬
‫نفسها‪ ،‬لكنها أعادت فكرة سجن النسق من جديد؛ إذ جعلت اإلنسان‬
‫يولد فيها‪ ،‬ويستجيب ألنساقها الداخلية‪ .‬فعزل النص عن الخارج أمر غري‬
‫مقبول؛ ألن النص ينهض يف ميدان ثقايف هو اجتامعي يف النهاية؛ لذا‬
‫تعجز البنيوية عن دراسة ثنائية الداخل‪ /‬الخارج يف النص األديب‪.‬‬
‫‪ 144‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫ما بعد البنيوية‬

‫ارتبط مصطلح ما بعد البنيوية بكتابات املنظّرين الفرنسيني ميشيل‬


‫فوكو‪ ،‬وجاك ديريدا ‪ ،J. Derrida‬وهو مصطلح يشري إىل طريقة تفسري‬
‫الذوات واملجتمع بطريقة تقطع مع نظريات املعرفة التقليدية السابقة‪،‬‬
‫فاألفراد ـ خالف ديكارت ـ ليسوا مبتكرين‪ ،‬أو مستقلني ألنفسهم‪،‬‬
‫أو ملجتمعهم‪ ،‬بل هم بدالً من ذلك جزء ال يتجزأ من شبكة العالقات‬
‫االجتامعية املعقدة التي تحدد أين ميكن أن يظهر أي فرد‪ ،‬وبأية صفة‪.‬‬
‫وتؤكد ما بعد البنيوية أن الرتكيز عىل الفرد بوصفه وكيالً مستقالً يجب‬
‫أن يُفكَّك‪ .‬فاألطر الفكرية الفلسفية هي التي أدت إىل ظهور هذا املصطلح‬
‫يف الغرب‪ ،‬وليك ندرس املدارس النقدية الغربية علينا دراسة تاريخ‬
‫الفلسفة الغربية منذ لوك وهيوم مرورا ً بكانت وهيغل ونيتشه إىل هورسل‪،‬‬
‫وهايدغر ‪ M. Heidegger‬وجادامر ‪ ،H.G. Gadamer‬فاملصطلح النقدي‬
‫الغريب ينتمي إىل أساس فلسفي فكري غريب‪ ،‬والحداثة الغربية نتاج واقع‬
‫مختلف متاماً عن الحداثة العربية‪ ،‬وحني طبق نقادنا العرب املصطلحات‬
‫الغربية وقعوا يف فوىض النقد؛ ألن الجديد يف الغرب أىت استجابة طبيعية‬
‫لتطورات اجتامعية‪ ،‬وفكرية‪ ،‬وسياسية‪.‬‬

‫‪ - 1-5‬التاريخاني�ة اجلديدة‪ /‬التحليل الثقايف‬

‫مثّل النقد الثقايف نظاماً بنيوياً له بنية كامنة يف أعامق الخطاب الثقايف‪،‬‬
‫ونجد يف هذا النظام ثنائية ظاهر ‪ /‬مضمر‪ .‬فالداللة النسقية مضمرة تقوم‬
‫بوظيفة الفاعل املحرك يف الذهن الثقايف لألمة‪ ،‬وهو املك ّون الخفي‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪145‬‬

‫لذائقتها‪ ،‬وأمناط تفكريها‪ ،‬وصياغة أنساقها املهيمنة‪ ،‬فالنسق مضمر‪،‬‬


‫يحتاج إىل جهد؛ لكشفه‪ ،‬مسترت بأقنعة البالغة؛ لذا أوجد دعاته نظريات‬
‫يف القبحيات؛ لكشف حركة األنساق‪ ،‬وفعلها املضاد للوعي النقدي‪.‬‬
‫واالنطالق من الثنائيات الضدية ليس مجرد أداة إجرائية لتحليل النص‬
‫األديب‪ ،‬إنها رؤية للعامل والوجود ويعني هذا أن مثة حتمية يف النقد‬
‫البنيوي والنقد الثقايف تشبه الحتمية الديالكتيكية يف املاركسية‪..‬‬
‫وقد ظهر يف الفكر النقدي ما بعد الحدايث ما يعرف بالجامليات‬
‫الثقافية (‪ )Cultaral Poetics‬وقد ورد هذا املصطلح عند ستيفن غرينبالت‬
‫بي به اإلجراءات القرائية‬
‫(‪ )Stephen Jay Greenblatt‬التاريخانية الجديدة ّ‬
‫لتأويل املظاهر التي كانت قد تشكلت من خالل البحث حول كتّاب عرص‬
‫النهضة‪ .‬فالتحليل الثقايف يف عالقته بالسياقات االجتامعية يفهم ضمناً‬
‫عىل شكل خارطة مرسومة داخل الفلك الجاميل الذي ميكّننا من رصد‬
‫بعض الدالالت التصويرية لهذه الخارطة[[[‪.‬‬
‫ويهتم النقاد التاريخانيون ببعض التعبريات الثقافية كالرمزي واملعتقد‪،‬‬
‫والبنى اإليديولوجية للمجتمع التي تنتجها جميعاً[[[‪.‬‬
‫كام يهتم النقاد التاريخانيون بفحص العالقة بني الكتابة واملجتمع‪،‬‬
‫واختصوا بدراسة أدب عرص النهضة‪ ،‬وأدب العرصين الفيكتوري‬
‫واإلليزابيثي‪ ،‬والداراما الشكسبريية‪ ،‬فقد أصبح العهد الفيكتوري مجاالً‬

‫‪[1]- Greenblatt, Resonance and Wonder Literary, Edited by Peter Collier and‬‬
‫‪Jelg Gerer-Ryan, cornell university press, I Thaca, New York, 1990, p.81‬‬
‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص‪79‬‬
‫‪ 146‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫للتنافس والرصاع بني الطبقة األرستقراطية املعروفة مبلكية األرض‬


‫والطبقة البورجوازية التجارية املتطورة‪ ،‬فقد يكون النص األديب ُمظهِرا ً‬
‫معنى ما لك ّن التأمل فيه يُظهر ضد ذلك‪ ،‬فقراءة العالقات املضمرة يف‬
‫بعض مرسحيات شكسبري تشكّل مظاهر وجود مقاومة قوية‪ ،‬وأماكن والدة‬
‫طبقات اجتامعية‪ ،‬وسلطة الرهبان‪ ،‬وهي صور لوجود التاميز الثقايف‬
‫والسيايس‪ ،‬والقومي[[[‪.‬‬
‫ويركز التحليل الثقايف عىل التاميز بني الطبقات االجتامعية‪ ،‬وتحليل‬
‫طرائق إنتاج الخطاب‪ ،‬وآليات تشكله من قبل السلطة التي تسعى إىل‬
‫الهيمنة‪ ،‬فقد أسهم الرصاع بني الطبقات االجتامعية الغربية وفق مفهوم‬
‫التحليل الثقايف يف والدة مفاهيم ذات مرجعيات وأشكال سلطوية‪:‬‬
‫كالرصاع بني األنا واآلخر‪ ،‬املركزي والهاميش‪ ،‬الفحويل واألنثوي‪...‬‬
‫ويقرأ الناقد هذه الثنائيات يف ضوء األحوال التاريخية التي أنشأتها‪.‬‬
‫فاليشء يُع َرف بض ّده‪ /‬اآلخر‪ ،‬فال تُع َرف الحرية إال بحضور الض ّد‪ /‬السجن‪،‬‬
‫وال ميكن فهم البنية الجدلية إال يف النص كامالً‪ ،‬ال يف حدوده الضيقة‪.‬‬
‫وتهتم التاريخانية الجديدة مبصطلحات مثل‪ :‬النص‪ ،‬والسياق‪،‬‬
‫واألدب‪ ،‬والتاريخ بوصفها ضدا ً كلياً‪ .‬والعامل من حولنا بناء ثقايف متعدد‬
‫األنساق الجدلية‪ ،‬وحني يلجأ الناقد إىل دراسة األنساق الجدلية ال يهمل‬
‫القيمة الجاملية يف النص األديب‪ ،‬بل يؤكّد رضورتها؛ لتعزيز الثقايف خالف‬
‫أصحاب مرشوع النقد الثقايف (‪ )Cultural Criticism‬الذين يرون أن‬

‫‪[1] - Jhon Branni an, Power and its reprentationa: Anew Historicist Reading of‬‬
‫‪Richar Jefferies “Snowed up” in Literary Theories, p.175‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪147‬‬

‫وظيفة النقد الثقايف تكمن يف استتار القبحيات خلف الجامليات‪ ،‬ومهمة‬


‫الناقد إظهار القبحيات من األنساق املضمرة يف النصوص األدبية‪.‬‬
‫وقد أعلن عبد الله الغذّامي موت النقد األديب‪ ،‬ووالدة النقد الثقايف‪،‬‬
‫فقد رأى أن تركيز القراءات عىل الجاميل أغفل العيوب النسقية يف‬
‫الخطاب[[[ وال نستطيع قبول هذا الرأي‪ ،‬فال ميكن أن يبنى نقد عىل أنقاض‬
‫نقد‪ ،‬وال يتحقق الخطاب الثقايف مبعزل عن جامليات اللغة‪ ،‬واملعنى‪.‬‬
‫ويتوسل التحليل الثقايف قراءة الضد يف البنية العميقة للخطاب‬
‫ّ‬
‫جر طاقاته‪،‬‬
‫األديب‪ ،‬وين ّمي تضاد األنساق الداللة يف النص األديب‪ ،‬ويف ّ‬
‫ويولّد هذا األمر شعرية نتيجة الجمع بني الضدين‪ ،‬ومسافة التوتر بينهام‪،‬‬
‫والحركة الزئبقية لألنساق النصية‪.‬‬
‫إن النص األديب ـ وفق التحليل الثقايف‪ -‬ينطوي عىل نسق مضمر يُظهِر‬
‫جدليات الرصاع بأبعاده اإلنسانية والزمانية واملكانية من خالل الثنائيات‬
‫الضدية‪ ،‬وهذا ما يعزز هيمنة النسق‪ /‬النظام‪ ،‬فمفهوم النسق أوسع من‬
‫مفهوم البناء االجتامعي[[[‪.‬‬
‫ويضع الشكالنيون الروس النسق األديب مقابل النسق التاريخي‪،‬‬
‫ويرون أن النسق األديب يتميز باستقالل تام‪ ،‬ويسمح هذا االستقالل‬
‫بالتفكري يف مسألة أدبية[[[‪.‬‬
‫[[[ـ عبد الله الغذامي‪ ،2001 :‬النقد الثقايف‪ -‬قراءة يف األنساق الثقافية العربية‪ ،‬ط‪ ،2‬املركز الثقايف العريب‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ص‪.89‬‬
‫[[[ـ أشار بارسونز يف كتابه بنية الفعل االجتامعي إىل أن النسق يرتكز عىل معايري وقيم تشكّل مع الفاعلني‬
‫اآلخرين جزءاً من بنية الفاعلني‪ .‬انظر‪ :‬إيان كريب‪ ،1999 :‬النظرية االجتامعية من بارسونز إىل هابرماس‪،‬‬
‫محمد حسني علوم‪ ،‬ومحمد عصفور‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫عدد ‪ ،244‬نيسان‪ ،‬ص‪71‬‬
‫[[[ـ مجموعة من الكتاب‪ ،1997 :‬مدخل إىل مناهج النقد األديب‪ ،‬ترجمة‪ :‬رضوان ظاظا‪ ،‬مراجعة‪ :‬املنصف‬
‫‪ 148‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫واهتمت البنيوية بالنسق حني تحولت عن مفهوم الذات‪ ،‬أو الوعي‬


‫الفردي إىل انزياح الذات عن املركز‪ ،‬فال تغدو له فاعلية يف تشكيل النسق‪،‬‬
‫بل تغدو وسيطاً ال أكرث‪ .‬أما حني نقول إن الشعر يف مرحلة ما ميثل حادثة‬
‫ثقافية فيعني ذلك أن الشاعر يستمد مادته من ثقافة التفاعل مع مجتمعه‪،‬‬
‫فثمة نسق جمعي‪ ،‬ونسق فردي خاص ميثل رؤية املبدع الخاصة‪ ،‬وقد يتمرد‬
‫النسق الفردي عىل النسق الجمعي املضاد‪ ،‬وقد يُظهِر الخضوع لسلطته‪،‬‬
‫ويتمرد يف النسق املضمر‪ ،‬ويف األحوال كلها يعيد املبدع بناء الواقع حني‬
‫يتمرد عليه‪ .‬واللغة الشعرية مرآة لألسيقة التاريخية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬والجغرافية‪.‬‬
‫ويتخذ النسق يف النص األديب طبيعة مراوغة‪ ،‬فيق ِّدم يف النسق الظاهر‬
‫الرؤية‪ ،‬وتدخل يف عالقة ضدية مع الرؤيا يف النسق املضمر‪ ،‬فيجسد‬
‫العامل يف النص األديب بناء ثقافياً جدلياً معقدا ً يق َّدم يف تشكيل خيايل‬
‫باللغة الشعرية عىل هيئة أنساق مولّدة للداللة‪.‬‬
‫تقوم الشعرية إذن عىل فكرة األنساق املضمرة‪ ،‬وتتأسس األنساق‬
‫عىل مبدأ الضدية‪ ،‬فتزداد مسافة التوتر بني الرؤية والرؤيا‪ ،‬والنسق الظاهر‬
‫والنسق املضمر‪.‬‬
‫إن النص األديب مثرة التفاعل بني طريف ثنائية ضدية “القصد‪/‬اإلنجاز”‬
‫ومن الصعب اإلمساك بهذا الجدل‪ ،‬فثمة أنساق إيجابية‪ /‬سلبية‪ ،‬جاملية‪/‬‬
‫قبحية‪ ،‬متجاوبة‪ /‬متصادمة‪ ،‬تتواىل يف النص األديب‪.‬‬
‫تهدف التاريخانية ‪-‬إذن إىل فهم العمل األديب يف سياقه التاريخي‪،‬‬

‫الشنويف‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد ‪ ،221‬أيار‪ ،‬ص‪214‬‬


‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪149‬‬

‫والرتكيز عىل التاريخ األديب والثقايف‪ ،‬واالنفتاح عىل تاريخ األفكار‪،‬‬


‫فارتبطت مبفهوم التاريخ‪ ،‬والتطور التاريخي والثقايف‪ ،‬وعنيت بقراءة‬
‫النصوص يف ضوء مقاربة تاريخانية جديدة تعنى بكشف األنساق‬
‫املضمرة‪ ،‬وتقويض املقوالت املركزية السائدة‪ ،‬فتستند التاريخانية‬
‫الجديدة إىل لغة التفكيك‪ ،‬وفضح األوهام اإليديولوجية يف املجتمع‪،‬‬
‫وترى أن مثة تاريخني متضادين هام‪ :‬تاريخ السيادة‪ ،‬والتاريخ امله ّمش‪.‬‬
‫وربطت التاريخانية الجديدة النص بالسياق التاريخي والثقايف‪،‬‬
‫وبحثت يف التناص؛ إذ نظرت إىل النص عىل أنه شبكة من األنساق‬
‫التاريخية والثقافية املضمرة‪ ،‬فيزخر باملعارف واإلحاالت التناصية‪،‬‬
‫ويتضمن السياق الذي ت ّم إنتاجه به‪.‬‬
‫نص مفكّك غري متجانس‪ ،‬تتحكم فيه‬
‫ومن وجهة نظرها النص األديب ّ‬
‫والنص واملؤلّف والقارئ يف نظرها‬
‫ّ‬ ‫جملة من األمور املعرفية والفكرية‪،‬‬
‫عوامل تتأثر بإيديولوجيا العرص‪ ،‬فتتفاعل النصوص تناصياً يف حقبة تاريخية‬
‫وميتص النص األديب سياقياً ما ّ‬
‫تعب عنه النصوص األخرى‪ ،‬وتتداخل‬ ‫ّ‬ ‫معينة‪،‬‬
‫معه داللة‪ ،‬وتشكيالً‪ ،‬ورؤية‪ .‬والنصوص كلها تتفاوض وتتداخل يف حقبة‬
‫لنص عىل آخر مبقوماته الفنية‪ ،‬والجاملية‪.‬‬
‫تاريخية معينة‪ ،‬فال أفضلية ّ‬
‫لكن التاريخانية الجديدة اتجهت إىل الطبقات امله ّمشة‪ ،‬وهي التي‬
‫تقع بني البنيتني الفوقية والتحتية‪ ،‬وهي ت ّدعي الحياد واملوضوعية‪،‬‬
‫لكنها ترتبط بخلفية إيديولوجية‪ ،‬فال مييزون النص األديب من غريه من‬
‫النصوص‪ ،‬ويرون أن النص الجاميل مثله مثل النصوص التاريخية‬
‫‪ 150‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫والثقافية واالجتامعية؛ إذ تتضمن هذه النصوص أبنية وأنساقاً مضمرة‬


‫وتعب عن قوى معينة طبقية‪ ،‬أو‬
‫ّ‬ ‫تحمل يف طياتها إيديولوجيات ثانوية‪،‬‬
‫سياسية متصارعة‪.‬‬
‫ويتوقف النقد التاريخاين عند أوجه الخلل‪ ،‬ويبقى عمله نقدياً فقط‪،‬‬
‫ويغض الطرف عن الجوانب الشكلية‬
‫ّ‬ ‫ويهمل الجوانب الفنية والجاملية‪،‬‬
‫واللسانية والسيميائية يف األدب‪.‬‬
‫تغض الطرف عن‬
‫ّ‬ ‫التاريخانية الجديدة منهجية متعددة املوارد‪،‬‬
‫الخصائص الفنية‪ ،‬والسامت الجاملية‪ ،‬وتتجاوز الشعرية الشكالنية‬
‫والجاملية بهدف البحث عن األنساق املضمرة التي تربطها عالقة تضاد‬
‫باألنساق الظاهرة‪.‬‬

‫‪ - 2-5‬التفكيكية‬

‫وجد التفكيكيون أن فهم الحياة عىل أساس الثنائيات الضدية يؤدي‬


‫إىل حرصها يف منط ثابت‪ ،‬وليس يف الحياة ثبات‪ ،‬فشككوا يف الثنائيات‬
‫التقابلية‪ ،‬ووضعوا املفاهيم التي تعتمد عىل القياس املنظم‪ ،‬واالتساق‬
‫املنطقي موضع الشك‪ ،‬واالستفهام‪.‬‬
‫وقد متيز الفكر التفكييك بأنه فكر عدمي‪ ،‬فالشك سمة علمية رشط‬
‫أال يكون هنالك غلو فيه‪ .‬وهذا ما أوقع التفكيكيني يف مغاالة كبرية‪ ،‬فثمة‬
‫حقائق يف الحياة‪ ،‬وهذا يعني أن الشك يجب أن يكون نسبياً‪ ،‬فالحياة قامئة‬
‫عىل ثنائية الشك‪ /‬اليقني‪ ،‬وتتنازع النفس اإلنسانية واحدة من طريف هذه‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪151‬‬

‫الثنائية‪ ،‬وطبيعة الحياة قامئة عىل ثنائية التغري‪ /‬الثبات‪ ،‬فحني تتعدد‬
‫الثنائيات يتعدد املسار الحريك التطوري؛ ذلك ألن الحركة تعتمد يف‬
‫جوهرها عىل وجود األضداد‪ .‬ففي النظام الواحدي تكاد تكون الحركة‬
‫غري ملحوظة؛ لندرة وجودها‪ ،‬ولندرة الخيارات املقدمة‪ ،‬ومن ث ّم ندرة‬
‫الثنائيات‪ .‬أما يف حال وفرة الثنائيات‪ .‬فإن الحركة موجودة بقوة‪ ،‬وهذا‬
‫األمر االجتامعي ينسحب عىل األدب‪ ،‬فالحركة عنرص أساس للتطور‪.‬‬
‫األسلوب التفكييك مق ِّوض للثنائيات‪ ،‬والحقائق األساسية‪ .‬ففيام‬
‫يتصل بالتفكيكية وما بعد البنيوية مل تعط هاتان املدرستان انتباهاً كافياً‬
‫للثنائيات الضدية‪“ ،‬ألنها متثل حنيناً إىل حضور الذات واملركزية يف‬
‫النص‪ .‬وينتقد الناقد الفرنيس جاك ديريدا يف كتابه “الرتكيب واإلشارة‬
‫والفعل يف خطاب العلوم اإلنسانية ‪ 1966‬سعي ليفي شرتاوس من‬
‫أجل القضايا الجوهرية يف تفسريه األساطري‪ ...‬وتسعى مامرسات النقد‬
‫التفكييك إىل تفكيك الثنائيات النمطية‪ ،‬والتقليل من أهميتها؛ ألنها متيل‬
‫إىل تبسيط املعنى عىل نحو كبري جدا ً‪ ،‬ويظهر كيف يقلل النص من أثر‬
‫البنية الثنائية فيه عن طريق وجود ثنائية تستعيص عىل الحلول الرسيعة‬
‫املبارشة‪ ،‬أو عن طريق انفتاح النص عىل أكرث من قراءة أو تفسري يعتمدان‬
‫عىل استجابة القارئ أو عن طريق تعددية املعنى وتنوعه[[[‪.‬‬
‫لقد سارت الثنائية يف الفكر التفكييك يف االتجاه املخالف‪،‬‬
‫فبعد الدمار الذي لحق بأوربا بعد الحرب العاملية الثانية‪ .‬استخدمت‬

‫[[[ـ ‪The Penguin Dictionary of literary Terms and literary the ory, P. 50, P.418‬‬
‫‪ 152‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫الواليات املتحدة القنبلتني الذريتني‪ ،‬فشهدوا نتائج الدمار الذي لحق‬


‫بهريوشيام وناغازايك‪ ،‬وتأكد للعامل فشل العلم يف تحقيق املعرفة‬
‫اليقينية‪ ،‬وعاد الشك يف قدرة العلم عىل تحقيق املعرفة[[[‪ .‬فتمت‬
‫العودة إىل الذات‪ .‬لكن هذه املرة بشكل مختلف عام كانت عليه‪،‬‬
‫فقد خيّم ٌّ‬
‫شك فلسفي عىل العامل‪ ،‬وهو شك جديد ناتج من العامل‬
‫املتغري واملتحول‪ ،‬ويفرتض تحقيق املعرفة ـ حسب ديريدا ـ وجود‬
‫مركز ثابت هو الكينونة‪ ،‬الجوهر‪ ،‬الحقيقة‪ ،‬وهي مدلوالت عليا متثل‬
‫أرضية ثابتة تقف فوقها متغريات العامل‪.‬‬
‫نشأت التفكيكية يف مناخ من الشك الفلسفي يف القدرة عىل تحقيق‬
‫معرفة يقينية‪ ،‬فيقوم التفكيك عىل تحديد اليشء‪ ،‬ثم كشفه وفضحه‪،‬‬
‫وكانت بعض األفكار األساسية لديريدا مثل الحضور‪ /‬الغياب متثل‬
‫غياباً للمركز الثابت للمعرفة‪ ،‬ورفضاً للثوابت والقراءات املتعمدة‪.‬‬
‫أما ثنائية الدال ‪/‬املدلول فتتحقق يف الفكر التفكييك حني تتسع‬
‫املسافة بينهام‪ ،‬وقد وصل التفكيكيون يف الفصل بينهام إىل أبعد نقطة‬
‫يعلن حضوره يف اللغة التي‬ ‫[[[‬
‫ممكنة‪ .‬فالوجود ـ كام يرى هايدغر ـ‬
‫تخفيه يف عالماتها‪ .‬ويجسد النص الشعري حضور الوجود وغيابه يف‬
‫اآلن نفسه‪ .‬لكن الحضور‪ /‬الغياب‪ ،‬الكشف ‪ /‬التخفي ليس ممكناً دامئاً‬
‫لدى هايدغر؛ ألن اللغة تصطدم بالتقاليد؛ لذلك يشن هجوماً عليها‪ ،‬هذا‬
‫الهجوم يرتبط بثنائية الحضور‪ /‬الغياب يف الفلسفة الهرمنيوطيقية‪.‬‬
‫[[[ـ للتوسع يف هذه الفكرة انظر‪ :‬املرايا املحدبة‪ ،‬ص ‪ 300‬وما بعدها‪.‬‬
‫[[[ـ املرايا املحدبة‪ ،‬ص‪303‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪153‬‬

‫يرى التفكيكيون أن التقاليد جامدة تحول دون تحقيق تزامن طريف‬


‫الثنائية‪ .‬فحضور الوجود األصيل يف اللغة ال يتحقق؛ ألنه يختفي‬
‫ويغيب خلف جدران التقاليد املتوارثة؛ لذا كان الهجوم عليها أمرا ً‬
‫إيجابيا‪ ،‬فال يعرب النص إال عن الغياب‪ ،‬فيأيت زائفاً‪.‬‬
‫تحول الشك الفلسفي عملياً إىل رفض القراءات املتعمدة‬
‫والتقاليد‪ .‬فالذات لدى (كانت) هي البديل لسيطرة املذهب التجريبي‪،‬‬
‫ثم فشله يف تحقيق املعرفة اليقينية‪ ،‬وبذلك تحولت ذات كانت إىل‬
‫أداة للمعرفة‪ ،‬ذات صانعة للعامل‪ ،‬وهذا ناجم عن الشك املطلق ال عن‬
‫الثقة يف قدرات الذات‪ [[[.‬فذات التفكيك هي ذات املتلقي يف تفسري‬
‫النص؛ لذا تكرث القراءات للنص الواحد‪.‬‬

‫‪ - 6‬بني البنيوية والتفكيكية‬

‫تعني التفكيكية تفكيك الخطابات والنظم الفكرية والغوص فيها‬


‫بحسب عنارصها‪ ،‬ويرى جاك ديريدا ‪ J. Derrida‬إن التفكيك حركة‬
‫بنائية‪ ،‬وضد بنائية يف اآلن نفسه‪ ،‬فنحن نفكك بناء‪ ،‬أو حادثاً مصطنعاً؛‬
‫لنربز بنيانه‪ ،‬وأضالعه‪ ،‬وهيكله‪ ،‬ولكن نفكك يف الوقت نفسه البنية‬
‫التي ال تفرس شيئاً‪ ،‬فهي ليست مركزا ً‪ ،‬وال مبدأ‪ ،‬وال قوة‪ ،‬فالتفكيك هو‬
‫طريقة حرص‪ ،‬أو تحليل‪ ،‬يذهب أبعد من القرار النقدي[[[‪.‬‬
‫فالخطاب يتوالد باستمرار‪ ،‬وال يتوقف مبوت مؤلفه‪ ،‬فثمة عالقة‬

‫[[[ـ املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.307‬‬


‫[[[ـ كريستيان ديكان‪ ،1982 :‬حوار مع جاك ديريدا‪ ،‬مجلة الفكر العريب املعارص‪ ،‬العددان ‪ ،19-18‬ص‪254‬‬
‫‪ 154‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫جدلية قامئة بني ثنائية الحضور والغياب يف جسد الخطاب‪ ،‬الحضور‬


‫سمة مرئية‪ ،‬وظالل الغياب عميقة غائرة‪ ،‬وهو املدلول املنفتح عىل‬
‫قراءة مستمرة تحاور القارئ‪.‬‬
‫ال تبحث التفكيكية فيام قاله املبدع‪ ،‬بل تقول ما مل يقله‪ ،‬فثمة‬
‫فراغات يف النص‪ ،‬والقراءة تقرأ ما مل يقله املؤلف‪ ،‬فثمة عالقات‬
‫حضور وغياب‪ ،‬وهي عالقات يحكمها التضاد‪.‬‬
‫بني البنيوية والتفكيكية بني موت املؤلف‪ ،‬ووالدة القارئ‪ ،‬وبني‬
‫ثنائية الحضور‪ /‬الغياب إىل أن أفق الغياب هو أفق خلفي للحضور‪،‬‬
‫وحضور أحدهام أمام الوعي يؤدي إىل استدعاء الغائب‪ ،‬فثمة متييز‬
‫حاسم بني الوجود والعدم‪ ،‬الحضور والغياب‪ .‬وقد ربطت البنيوية‬
‫بني العالمة واملتضادات الثنائية‪ ،‬فجمعت بني الداللة والتامثل بني‬
‫املتقابالت‪ .‬وتتبنى التفكيكية مفهوم الثنائيات الضدية‪ ،‬لكنها تبتعد‬
‫عن التوفيق بني األضداد‪ .‬فالتفكيك تغري ال نهايئ للنص بينام يرى‬
‫البنيويون النص مغلقاً‪ ،‬والتفسري مغلقاً ونهائياً‪ .‬كل قراءة‪ ،‬لدى‬
‫التفكيكيني صحيحة إىل أن تفكك القراءة نفسها بنفسها‪ ،‬فكل قراءة‬
‫لديهم هي إساءة قراءة‪ .‬والعالقة بني التفكيك والبنيوية –إذن‪ -‬عالقة‬
‫امتداد ومترد يف اآلن نفسه‪ .‬فقد بدا بعض التفكيكيني بنيوياً‪ ،‬وحني‬
‫فشل املرشوع البنيوي يف تحقيق طموحاتهم متردوا عليه‪.‬‬
‫مثة ثنائية‪ ،‬ورصاع يف مجال العالقة بالتقاليد‪ ،‬وتختار التفكيكية‬
‫ثنائية التقاليد املتمثلة يف استحالة الهروب منها‪ ،‬ورضورة تدمريها؛‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪155‬‬

‫للكشف عن الكينونة‪ /‬الوجود والتجربة اإلنسانية التي حجبتها‬


‫التقاليد‪ .‬وقد شغلت هذه القضية هايدغر ونظريته الهرمينوطيقية‪.‬‬
‫فاللغة تكشف‪ ،‬وتخفي يف اآلن نفسه‪.‬‬
‫وميثل التضاد الثنايئ عنرصا ً مشرتكاً يف الدراسات البنيوية‬
‫كلها‪ ،‬لكن التفكيكية نتجت من ثنائية الشك واليقني‪ ،‬ثنائية الذات‬
‫واملوضوع‪ ،‬الداخل والخارج‪ ،‬بناء عىل ما سبق يعني القول بإمكان‬
‫املعرفة تأسيساً عىل الحواس الشك يف سلطة الطرف اآلخر للثنائية‪،‬‬
‫والعكس صحيح‪ .‬فقد ظهرت البنيوية يف أحضان العلم والتجريب‪،‬‬
‫لكن الدمار الذي لحق بأوربا يف أثناء الحرب العاملية الثانية التي‬
‫انتهت باستخدام الواليات املتحدة قنبلتني ذريتني يف هريوشيام‬
‫وناغازايك أدى إىل شعور بالرعب من نتائج التطبيقات التكنولوجية‬
‫لالكتشافات العلمية‪ ،‬فتأكد للعامل أن العلم فشل يف تحقيق السعادة‬
‫واألمان واملعرفة اليقينية‪ ،‬وعاد عرص الشك عنيفاً‪ :‬الشك يف قدرة‬
‫العلم عىل تحقيق املعرفة‪ ،‬فكانت موجة الشك الجديدة أكرث عمقاً‬
‫وشموالً‪ ،‬ومن هنا نشأ الفكر التفكييك رافضاً االعرتاف بوجود املركز‬
‫الثابت‪ ،‬فهم يحددون اليشء‪ ،‬ثم يكتشفونه‪ ،‬ويتعني عىل ذلك أن ثنائية‬
‫الحضور‪ /‬الغياب ثنائية ال نهائية الداللة[[[‪.‬‬
‫وتتبنى التفكيكية –إذن‪ -‬مفهوم املتضادات الثنائية مبتعدة عن‬
‫أحل‬
‫التوفيق بني األضداد (‪ )Reconciliation of Opposites‬فقد ّ‬
‫[[[ـ يرى أصحاب هذا االتجاه النقدي أن الوجود يجسد حضوره يف اللغة التي تخفيه يف عالماتها‪ .‬انظر‪:‬‬
‫املرايا املحدبة‪ ،‬ص‪264‬‬
‫‪ 156‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫التفكيكيون اللعب الح ّر للدوال محل التضاد الثنايئ‪ ،‬فالدالالت‪/‬‬


‫الكلامت ال تكتسب داللتها من تجمعها يف تقابالت ثنائية يح ّدد فيها‬
‫معنى كلمة غائبة من معنى كلمة أخرى حارضة يف النص‪ ،‬بل تكتسب‬
‫معناها املراوغ‪ ،‬واملتخفي عن طريق لعب املدلوالت‪ ،‬وحركتها‬
‫الح ّرة‪ ،‬فيت ّم تحديد املعنى بصفة مؤقتة إىل أن يفككه قارئ آخر‪.‬‬

‫‪ - 7‬الثن�ائي�ات الضدية يف الفكر العريب القديم‬

‫الثنائيات الضدية وليدة فكر معريف يتحرك‪ ،‬وينسج مسار حركته‪،‬‬


‫ويتشكل تاريخياً‪ ،‬وهو ينجم عن الواقع الذي يقرؤه يف أثناء حركته‪،‬‬
‫يُحكم برشوط تبدأ باالقتصاد‪ ،‬وتنتهي بالالوعي‪.‬‬
‫ولثنائية النسق الكوين‪ ،‬ما مياثلها يف تفكرينا‪ ،‬فقد رأى الفالسفة‬
‫أن العقل يدرك الحقيقة بالثنائية ومثة ثنائيات كثرية لها أشد الحضور‬
‫يف حياتنا‪ ،‬فال وجود ليشء من غري ضده‪ .‬أما اللغة فهي أداة تحقيق‬
‫معاين الحياة‪ ،‬و”ألن حقائق املعاين ال تثبت إال بحقائق األلفاظ‪،‬‬
‫فإذا انحرفت املعاين‪ ،‬فكذلك تتزيف األلفاظ‪ ،‬فاأللفاظ واملعاين‬
‫متالحمة ومتواشجة‪.[[[”...‬‬
‫يف ّعل العقل ثنائية الفكر‪ /‬املوضوع رغب ًة يف الوصول إىل الحقيقة‬
‫بالعقل املج ّرب أمام الطبيعة‪ .‬ويع ّد الجاحظ من أوائل الذي التفتوا إىل‬
‫قانون الثنائية الضدية يف الثقافة العربية عىل أنه قانون الحياة الجوهري‪،‬‬
‫إذ يرى أن العامل مبا فيه من األجسام عىل ثالثة أنحاء‪ :‬متفق ومختلف‬

‫[[[ـ أبو حيان التوحيدي‪ ،1964 :‬البصائر والذخائر‪ ،‬مطبعة اإلرشاد‪ ،‬دمشق‪ ،‬ج‪.49/ 1‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪157‬‬

‫ومتضاد‪ ،‬ثم يرد هذه املستويات الثالثة التي تجسد حيوية القانون إىل‬
‫األصل الثنايئ اإلشكايل مركّزا ً إياه حول الحركة والسكون‪ ،‬يقول‪“ :‬تلك‬
‫األنحاء الثالثة‪ ،‬كلها يف جملة القول جامد ونام‪ ،‬وكأن حقيقة القول يف‬
‫األجسام من هذه القسمة أن يقال‪ :‬نام وغري نام”[[[‪.‬‬
‫ويعد كتاب املحاسن واألضداد للجاحظ مثاالً عىل اجتامع الفكرة‬
‫وضدها يف فكره‪ ،‬إذ يقنع املتلقي مبحاسن فكرة ما‪ ،‬ثم يأيت بض ّدها‪،‬‬
‫فيوصله إىل مرحلة االقتناع بخالف الفكرة السابقة‪ ،‬فتكلم عىل محسن‬
‫الكتابة وضدها‪ ،‬ومحاسن الصدق وضده‪ ،‬ومحاسن الوفاء وضده‪،‬‬
‫ومحاسن حب الوطن وضده‪ ،‬ومحاسن الجواري واملطلقات وضده‪..‬‬
‫يقول يف محاسن املشورة‪“ :‬يقال إذا استخار الرجل ربه‪ ،‬واستشار‬
‫نصيحه‪ ،‬واجتهد فقد قىض ما عليه‪ ،‬ويقيض الله يف أمره ما يحب‪،‬‬
‫وقال آخر‪ :‬حسن املشورة من املشري قضا ُء حق النعمة‪ ،‬وقيل‪ :‬إذا‬
‫استرشت فانصح‪ ،‬وإذا قدرت فأفصح ‪ ،‬وقيل‪ :‬من وعظ أخاه رسا ً زانه‪،‬‬
‫ومن وعظه جهرا ً شانه‪ ،‬وقال آخر‪ :‬االعتصام باملشورة نجاة‪.‬‬
‫ضده‪ :‬قال بعض أهل العلم‪ :‬لو مل يكن يف املشورة إال استضعاف‬
‫صاحبك لك‪ ،‬وظهور فقرك إليه لوجب اطّراح ما تفيده املشورة‪،‬‬
‫وإلقاء ما يكسبه االمتنان‪ ،‬وما استرشتُ أحدا ً إال كنت عند نفيس‬
‫ضعيفا‪ ،‬وكان عندي قوياً‪ ،‬وتصاغرت له‪ ،‬ودخلته العزة فإياك واملشورة‬
‫وإن ضاقت بك املذاهب‪ ،‬واختلفت عليك املسالك‪ ..‬وقيل‪ :‬نعم‬

‫[[[ـ انظر عمرو بن بحر (الجاحظ)‪ ،1969 :‬الحيوان‪ ،‬ط‪ ،3‬حققه ورشحه عبد السالم هارون‪ ،‬املجمع العلمي‬
‫العريب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ج‪.26/ 1‬‬
‫‪ 158‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫املستشا ُر العمل ونعم الوزير العقل‪.[[[”...‬‬

‫‪ - 8‬الثن�ائي�ات الضدية يف النقد العريب احلديث‪:‬‬

‫يستمد هذا املصطلح داللته من اإلطار الفكري للفلسفة املنتجة‪،‬‬


‫وحني يستعمله النقاد العرب يدخلونه يف بيئة غري بيئته‪ ،‬لذا يجب‬
‫التعامل بوعي مع املصطلح‪.‬‬
‫حاول كثري من الحداثيني العرب تطبيق املناهج الحداثية عىل‬
‫األدب‪ ،‬وال يستندون إىل فلسفة خاصة بهم عن الذات والكون‬
‫واملعرفة‪ ،‬فهم يستعريون املفاهيم النهائية لدى اآلخرين‪ ،‬وينقلون‬
‫نقالً‪ ،‬أو يلفقون تلفيقاً‪.‬‬
‫واتخذ موقف النقاد العرب من النقد الغريب شكل ثنائية الذات‪/‬‬
‫اآلخر‪ ،‬وغالباً ما يعلون من شأن اآلخر عىل حساب الذات‪ ،‬فينبهرون‬
‫مبا قدمه الغرب‪ ،‬أو يعتمدون عىل مناهج غربية ذات اتجاه واحد‬
‫كالتفكيكية والبنيوية والنفسية‪ ،‬أو يكون منهجهم تلفيقياً‪ ،‬فيجمعون‬
‫النقد العريب القديم والنموذج الغريب‪ ،‬فيفقد املنهج هويته‪ ،‬كام أن‬
‫املناهج الغربية وليدة أسس فلسفية غربية‪ ،‬فقد جمع الغذامي بني‬
‫البنيوية والترشيحية‪ ،‬وجمع كامل أبو ديب بني البنيوية والتفكيكية‪ ،‬أما‬
‫عبد امللك مرتاض فقد جمع بني البنيوية والتقليدية‪.‬‬
‫اعتمد نقادنا عىل معطيات الفكر الغريب‪ ،‬وكل ناقد فهم الثنائيات‬

‫[[[ـ عمرو بن بحر (الجاحظ)‪ ،1912 :‬كتاب املحاسن واألضداد‪ ،‬ط‪ ،1‬مطبعة السعادة بجوار محافظة مرص‪،‬‬
‫ص ‪.29 28-‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪159‬‬

‫ضمن املنهج بطريقته الخاصة‪.‬‬


‫فثمة ثنائيات يف البنيوية‪ ،‬لكنها لدى النقاد بنيويات ال بنيوية‪،‬‬
‫واعتمد بعضهم عىل مقولة واحدة من مقوالت منهج نقدي‪ ،‬فظن أنه‬
‫املنهج كله‪ ،‬ونادرا ً ما عالج بعض النقاد هذا املصطلح بشكل واضح‪،‬‬
‫وقد ورد يف ثنايا دراستهم‪ .‬كام عالج بعضهم الثنائيات الضدية من‬
‫وجهة نظر املنهج البنيوي الشكيل‪ ،‬فلم يخرجوا عن النص‪ ،‬وجمع‬
‫بعضهم بني املناهج النقدية‪ ،‬وبعضهم اآلخر خرج إىل مفاهيم حداثية‬
‫أكرث من البنيوية‪.‬‬
‫وتأيت دراسة كامل أبو ديب (يف الشعرية) محاولة لدراسة التاميز‬
‫بني األنساق الضدية‪ ،‬وفجوة التوتر التي تنشأ من ذلك التاميز وهي تنشأ‬
‫– يف رأيه‪ [[[ -‬يف لغة الشعر بإقحام مفهومني أو أكرث‪ ،‬أو تصورين‪ ،‬أو‬
‫كل منهام‬
‫موقفني ال متجانسني‪ ،‬أو متضادين يف بنية واحدة متثل فيها ّ‬
‫مكوناً أساسياً وتتحدد طبيعة التجربة الشعرية جوهرياً بطبيعة العالقة‬
‫التي تقوم بينهام ضمن هذه البنية‪.‬‬
‫الثنائيات الضدية إذن مصدر أساس من مصادر الشعرية‪ ،‬وترتفع‬
‫درجة الشعرية يف النص بازدياد درجة التضاد‪.‬‬
‫فقد كان ناقدا ً تطبيقياً‪،‬‬ ‫[[[‬
‫أما يف كتابه (جدلية الخفاء والتجيل)‬
‫حلل الصورة والسياق‪ ،‬وهذا ليس من البنيوية يف يشء؛ ألن ه ّم البنيوية‬

‫[[[ـ ‪ -‬كامل أبو ديب‪ ،1987 :‬يف الشعرية‪ ،‬مؤسسة األبحاث العربية‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ ،‬ص‪.41‬‬
‫[[[ـ كامل أبو ديب‪ ،‬جدلية لخفاء والتجيل‪ -‬دراسات بنيوية يف الشعر – سبق تعريفه‪-‬‬
‫‪ 160‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫ينصب عىل البنيات والعالقات التي تربط بينها ال عىل الصور‪ ،‬ثم تناول‬
‫مقطوعات شعرية‪ ،‬وقصائد لشعراء قدماء من زاوية الثنائيات الضدية‪،‬‬
‫فرأى يف النص املدروس نسيجاً من الثنائيات الضدية‪ ،‬وانطلق من هذه‬
‫الثنائيات إىل ثنائيات أخرى متوالدة منها‪ .‬لكنه لجأ يف نقده إىل التقعيد‬
‫والتشجري‪ ،‬فاستحال التحليل األديب لديه إىل عمليات رياضية معقدة‬
‫أدت إىل الغموض والتعقيد‪.‬‬
‫فقد س ّوغ لنفسه منهجاً‬ ‫[[[‬
‫أما د‪ .‬عبد اله الغذامي (الخطيئة والتكفري)‬
‫جامعاً بني البنيوية والسيميائية والترشيحية مع أن لكل منهج حدوده‬
‫املختلفة عن اآلخر‪ .‬ورأى أن اإلشارة مع أنها ذات طبيعة اعتباطية ال‬
‫تدرك إذا مل تقرتن مبا يخالفها وميايزها‪ ،‬فجمع العنارص التي تدور يف‬
‫مجال ثنائية الخطيئة ‪ /‬التكفري‪ ،‬واستخرج محاور داللية استقبلت كافة‬
‫الثنائيات‪ ،‬وطبق هذه األفكار عىل شعر حمزة شحاتة‪ ،‬ففكك النص‪ ،‬ثم‬
‫كل عضوي يختلف عن الكل األويل‪.‬‬
‫أعاد تركيبه؛ ليصل إىل ّ‬
‫[[[‬
‫أما دراسة د‪ .‬صالح فضل (نظرية البنائية يف النقد األديب)‬
‫ـ وهو يقصد البنيوية ـ فقد تناول ثنائيات النظم اللغوية عند سوسري‪،‬‬
‫واملقابالت الثنائية التي تكشف عن عالقاتها‪ ،‬وتحدد طبيعتها مثل‬
‫ثنائية اللغة‪ /‬الكالم‪ ،‬املحور الوصفي الثابت‪ /‬املحور الزمني املتطور‪،‬‬
‫النموذج السياقي‪ /‬النموذج القيايس‪ .‬ثم تعقب الشكالنيني الروس الذين‬
‫استبعدوا ثنائية الشكل‪ /‬املضمون‪ ،‬وأحلّوا محلها ثنائية الشكل ‪ /‬اإلجراء‬
‫[[[ـ عبد الله الغذامي‪ ،1985 :‬الخطيئة والتكفري‪ ،‬ط‪ ،1‬النادي األديب‪ -‬جدة‪.‬‬
‫[[[ـ صالح فضل‪ ،1985 :‬نظرية البنائية يف النقد األديب‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية ‪161‬‬

‫حفاظاً عىل الوحدة العضوية للعمل األديب‪ ،‬لكن عمله ينطوي عىل‬
‫املنهج البنيوي الذي يويل الثنائيات الضدية‬
‫َ‬ ‫إشكال فيام يتعلق بفهمه‬
‫جل اهتاممه‪ ،‬فقد فهمه عىل أن هدفه األساس اكتشاف تعدد املعاين يف‬
‫ّ‬
‫اآلثار األدبية يف حني أن هدف البنيوية األساس هو البنية‪.‬‬

‫‪ - 9‬جمالية الثن�ائي�ة الضدية (األثر والتلقي)‬

‫لعل جاملية الثنائيات الضدية تنجم عن الجمع بني ضدين يف بنية‬


‫واحدة‪ ،‬وهذا ما يؤدي إىل تعميق البنية الفكرية للنص بالحركة الجدلية‬
‫بني الثنائيات الضدية‪.‬‬
‫ويثري اجتامع الثنائيات املتضادة الدهشة واملفارقة املتولدة عن‬
‫اجتامع الضدين يف موقف واحد‪ ،‬أو جملة واحدة‪ ،‬أو بيت شعري‬
‫واحد؛ إذ يوفر الضد إمكان املوازنة بينه وبني ضده‪ ،‬وهذا ما يولد تصورا ً‬
‫معرفياً عن األشياء يساعد املتلقي عىل استيالد ثنائية من ثنائية‪ ،‬فثنائية‬
‫النور‪ /‬الظالم مثالً ميكن أن تحيل عىل ثنائية الحلم‪ /‬الواقع وغريها‪..‬‬
‫تولِّد الثنائيات الضدية فضاء مائزا ً للنص‪ ،‬إذ تجتمع جملة عالقات‬
‫زمانية ومكانية‪ ،‬فعلية بأزمنة مختلفة‪ ،‬فتلتقي هذه العالقات عىل أكرث‬
‫من محور‪ ،‬تلتقي وتتصادم وتتقاطع وتتوازى‪ ،‬فتغني النص‪ ،‬وتعدد‬
‫إمكانات الداللة فيه‪ ،‬فالتضاد الفعيل واالسمي يشكل عاملاً من جدل‬
‫الواقع والذات يف رصاعها مع الحياة‪ ،‬ووفرة الثنائيات يف النص األديب‬
‫دليل انسجام إيقاعاته‪ ،‬وانفتاحه عىل أكرث من محور‪ ،‬فيمكن أن نعرث‬
‫‪ 162‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫عىل مجموعة أنساق متضادة يف النص األديب الواحد تضفي عليه‬


‫مزيدا ً من الحيوية والحركة‪ ،‬هذه األنساق املتضادة ذات صلة بالكون‬
‫الذي تصوره سواء أكان ذلك األمر بالتضاد أم بالتكامل؛ لذا تجتمع‬
‫فيها الخصائص الجاملية‪.‬‬
‫يرى جان كوهن ‪ [[[ J. Cohen‬أن الثنائية الضدية تنشأ من شعورين‬
‫مختلفني يوقظان اإلحساس‪ ،‬وواحد من هذين الشعورين فقط هو الذي‬
‫يستثمر نظام اإلدراك يف الوعي‪ ،‬والثاين يظل يف الالوعي‪.‬‬
‫ويتلقى املتلقي الثنائية يف النسق؛ ذلك ألنه نظام مع أن نظاميته‬
‫تتجىل يف مخاتلته‪ ،‬وطبيعته املراوغة‪ ،‬فتقوم الشعرية عىل األنساق‬
‫املضمرة‪ ،‬وتتأسس هذه األنساق عىل مبدأ الضدية عىل مستوى‬
‫املوضوع واللغة والصورة‪ ،‬وهذا ما يؤدي إىل زيادة التوتر يف املسافة‬
‫بني ما يظهره النص وما يضمره‪ .‬وقد تكون العالقة بني الثنائيات عالقة‬
‫نفي سلبي وتضاد مطلق‪ ،‬وقد تكون عالقة توسط‪ ،‬أو تناغم وتكامل‬
‫وإخصاب تكشف دراستها عن الرتكيب الضدي للعامل‪ ،‬والجدلية التي‬
‫تتخلله‪.‬‬
‫النص األديب‬
‫ّ‬ ‫وإذا كانت الثنائيات الضدية تولّد شعرية خاصة يف‬
‫فكيف تجلّت أدبياً عىل صعيدي الشعر والنرث؟‬

‫[[[ـ جان كوهن‪ ،1995 :‬اللغة العليا‪ -‬النظرية الشعرية‪ ،‬ترجمة وتقديم وتعليق‪ :‬أحمد درويش‪ ،‬املجلس‬
‫األعىل للثقافة‪ ،‬املرشوع القومي للرتجمة‪ ،‬ص ‪.187‬‬
‫املصادر واملراجع‬

‫‪1 .1‬أبو ديب‪ ،‬كامل‪ ،1981 :‬جدلية الخفاء والتجيل‪ ،‬دار العلم للماليني‪،‬‬
‫بريوت‪.‬‬
‫‪2 .2‬أبو ديب‪ ،‬كامل‪ ،1987 :‬يف الشعرية‪ ،‬مؤسسة األبحاث العربية‪،‬‬
‫ط‪ ،1‬بريوت‪.‬‬
‫‪3 .3‬التوحيدي‪ ،‬أبو حيان‪ ،1964 :‬البصائر والذخائر‪ ،‬مطبعة اإلرشاد‪،‬‬
‫دمشق‪.‬‬
‫‪4 .4‬ابن بحر‪ ،‬عمرو (الجاحظ)‪ ،1969 :‬الحيوان‪ ،‬ط‪ ،3‬حققه ورشحه‬
‫عبد السالم هارون‪ ،‬املجمع العلمي العريب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪5 .5‬ابن بحر‪ ،‬عمرو (الجاحظ)‪ ،1912 :‬كتاب املحاسن واألضداد‪،‬‬
‫ط‪ ،1‬مطبعة السعادة بجوار محافظة مرص‪.‬‬
‫‪6 .6‬حمودة‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز‪ ،1998 :‬املرايا املحدبة من البنيوية إىل‬
‫التفكيك‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪،‬‬
‫نيسان‪.‬‬
‫‪7 .7‬كريستيان ديكان‪ ،1982 :‬حوار مع جاك ديريدا‪ ،‬مجلة الفكر العريب‬
‫املعارص‪ ،‬العددان ‪.19-18‬‬
‫‪8 .8‬راغب‪ ،‬د‪ .‬نبيل‪ ،2003 :‬موسوعة النظريات األدبية – أدبيات‪ -‬ط‪،1‬‬
‫الرشكة املرصية العاملية للنرش‪ ،‬لونجامن‪ ،‬مكتبة لبنان نارشون‪.‬‬
‫‪9 .9‬راي‪ ،‬وليم‪ ،1987 :‬املعنى األديب من الظاهراتية إىل التفكيكية‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫ترجمة‪ :‬يؤئيل يوسف عزيز‪ ،‬دار املأمون للرتجمة والنرش‪ ،‬بغداد‪.‬‬
‫‪ 164‬سلسلة مصطلحات معاصرة‬

‫‪1010‬شرتاوس‪ ،‬كلود ليفي‪ ،1997 :‬األنرثوبولوجيا البنيوية‪ ،‬ترجمة د‪.‬‬


‫مصطفى صالح‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪1111‬عزام‪ ،‬د‪ .‬محمد‪ ،2003 :‬تحليل الخطاب األديب‪ ،‬منشورات اتحاد‬
‫الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪1212‬غارودي‪ ،‬روجيه‪ ،1979 :‬البنيوية فلسفة موت اإلنسان‪ ،‬ترجمة‪:‬‬
‫جورج طرابييش‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪1313‬الغذامي‪ ،‬د‪ .‬عبد الله‪ ،1985 :‬الخطيئة والتكفري‪ ،‬ط‪ ،1‬النادي‬
‫األديب‪ -‬جدة‪.‬‬
‫‪1414‬الغذامي‪ ،‬د‪ .‬عبد الله‪ ،1994 :‬املشاكلة واالختالف‪ ،‬ط ‪ ،1‬املركز‬
‫الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪1515‬عبد الله الغذامي‪ ،2001 :‬النقد الثقايف‪ -‬قراءة يف األنساق الثقافية‬
‫العربية‪ ،‬ط‪ ،2‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪1616‬محمد عناين‪ ،2003 :‬املصطلحات األدبية الحديثة‪ ،‬ط‪ ،3‬الرشكة‬
‫املرصية العامة للنرش‪ ،‬لونجامن‪.‬‬
‫‪1717‬فضل‪ ،‬د‪ .‬صالح‪ ،1985 :‬نظرية البنائية يف النقد األديب‪ ،‬دار اآلفاق‬
‫الجديدة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪1818‬كرويزل‪ ،‬إديث‪ ،1993 :‬عرص البنيوية‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪ .‬جابر عصفور‪،‬‬
‫ط‪ ،1‬دار سعاد الصباح‪ ،‬الكويت‪.‬‬
‫‪1919‬إيان كريب‪ ،1999 :‬النظرية االجتامعية من بارسونز إىل هابرماس‪،‬‬
‫محمد حسني علوم‪ ،‬ومحمد عصفور‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬املجلس‬
‫الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪ ،‬عدد ‪ ،244‬نيسان‪.‬‬
‫‪2020‬كوهن‪،‬جان‪ ،1995:‬اللغة العليا‪ -‬النظرية الشعرية‪ ،‬ترجمة وتقديم وتعليق‪:‬‬
‫‪165‬‬ ‫المصادر والمراجع‬

‫أحمد درويش‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬املرشوع القومي للرتجمة‪.‬‬


‫‪2121‬لجنة من العلامء واألكادمييني السوفييت‪ ،1980 :‬املوسوعة‬
‫الفلسفية‪ ،‬ترجمة‪ :‬سمري كرم‪ ،‬ط‪ ،2‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪2222‬ليتش‪ ،‬إدموند‪ ،2002 :‬كلود ليفي شرتاوس دراسة فكرية‪ ،‬ترجمة‪:‬‬
‫د‪ .‬ثائر ديب‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪2323‬مجموعة من الكتاب‪ ،2007 :‬ط‪ 1،‬هيئة املوسوعة العربية‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫الجمهورية العربية السورية‪ ،‬رئاسة الجمهورية‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪2424‬مجموعة من الكتاب‪ ،1997 :‬مدخل إىل مناهج النقد األديب‪،‬‬
‫ترجمة‪ :‬رضوان ظاظا‪ ،‬مراجعة‪ :‬املنصف الشنويف‪ ،‬عامل املعرفة‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬العدد ‪ ،221‬أيار‪.‬‬

‫املراجع األجنبي�ة‬

‫‪-J. A. Cuddon, The penguin Dictionary of literary terms‬‬


‫‪and literary the ory. 1976 ven sed C.E. Preston, 1998,‬‬
‫‪penguin Books 1999.‬‬
‫‪-Greenblatt, Resonance and Wonder Literary, Edited‬‬
‫‪by Peter Collier and Jelg Gerer-Ryan, cornell university‬‬
‫‪press, I Thaca, New York, 1990.‬‬
‫‪-Jhon Branni an, Power and its reprentationa: Anew‬‬
‫‪Historicist Reading of Richar Jefferies “Snowed up” in‬‬
‫‪Literary Theories.‬‬
‫خاتمة‪ ..‬مآل املعابر‬

‫«سقراط‪ :‬ما سوف يقوله أفالطون اآلن خاطئ‬


‫أفالطون‪ :‬ما قاله سقراط قبل قليل صحيح»‬
‫جورج بول‬

‫انطالقاً من فكرة أن العلوم تنفتح بعضها عىل بعض‪ ،‬وتتالقى وجدنا‬


‫أن الثنائيات الضدية حارضة يف مختلف العلوم يف حياتنا التي أساسها‬
‫التكافؤ بني املتضادات‪.‬‬
‫والثنائيات الضدية هي توارد األفكار يف النفس البرشية‪ ،‬واجتامع األمر‬
‫وضده‪ ،‬لها أصول مرتبطة باأليدلوجيا والفلسفة‪ ،‬واألسطورة‪ ،‬والعلم‪ ،‬وقد‬
‫تم سحبها عىل النقد األديب فقد بُ ِني سلوك اإلنسان عليها‪ ،‬وهي قضية‬
‫فلسفية ال تفهم مبعزل عن البنى الفلسفية املؤسسة للفكر اإلنساين‪.‬‬
‫وقد نهضت األساطري عىل تقابالت ثنائية‪ ،‬وبحثت مبنطق التقابالت‬
‫عن األسئلة الوجودية‪ ،‬وفلسفة اإلنسان‪ ،‬ورؤيته الكون‪.‬‬
‫ولهذه األسئلة الوجودية عالقة بالفلسفة‪ ،‬قد حرضت الثنائيات‬
‫بقوة يف الفلسفة القدمية والحديثة‪ ،‬وحاول الفالسفة تقديم تصورات‪،‬‬
‫وإجابات عن الكون مبنطق الثنائيات‪ ،‬وقد ارتبط األساس الفلسفي‬
‫باللغة والنقد‪ ،‬فكانت االنتجاهات النقدية الغربية الكربى قامئة عىل‬
‫أسس فلسفية بالدرجة األوىل‪.‬‬
‫خاتمة ‪167‬‬

‫يعود هذا املصطلح النقدي –إذن‪ -‬يف أساسه إىل الخلفية الفلسفية‬
‫والرتاث الفكري الغريب الذي أنتجه‪ ،‬وهو مختلف عن تراثنا وفكرنا‬
‫وفلسفتنا؛ لذا يجب التعامل بوعي مع مصطلحات هي وليدة فلسفة‬
‫غريبة عن فلسفتنا وعن فكرنا‪.‬‬
‫إ ّن مثة عالقة بني الحداثة واألساس الفلسفي الذي تقوم عليه‪ ،‬والحاضن‬
‫الحقيقي للثنائيات الضدية هو الفكر الفلسفي أوالً‪ ،‬والبنيوية ثانياً‪.‬‬
‫ومبدأ التضاد الثنايئ عنرص مشرتك يف الدراسات البنيوية كلها‪ ،‬وقد‬
‫طور جاكبسون مبدأ الثنائيات املتضادة وتتبع خطى سوسري عن العالمة‬
‫والثنائيات املتضادة‪.‬‬
‫ويف النقد العريب الحديث غلب التطبيق عىل النظرية يف مجال‬
‫دراسة الثنائيات الضدية؛ لتلقيهم النقد الغريب جاهزا ً‪.‬‬
‫لقد حاولنا يف هذه الدراسة املتواضعة أن نثبت حضور الثنائيات‬
‫الضدية يف أوجه الحياة املختلفة‪ ،‬ومجاالتها العلمية‪ ،‬والفلسفية‪،‬‬
‫والنقدية‪ ،‬واألدبية‪ ،‬فالعلوم اإلنسانية بعامة‪ ،‬والفنون التشكيلية تبنى أيضاً‬
‫بناء تقابلياً‪.‬‬

You might also like