Professional Documents
Culture Documents
7- الثنائيات الضدية
7- الثنائيات الضدية
الثنائيات ّ
بحث في المصطلح وداللته
الفصل األول
الثنائيات الضدية :ذاكرة املصطلح
15 .......................................... -الثنائيات الضدية لغــة واصطالح ـاً
23 ................ -الثنائيات الضدية واملصطلحات املتعارضة معها
27 ................ -الثنائيات الضدية واملصطلحات املتداخلة معها
34 .............................................. -طبيعة الثنائيــات الضدية وبنيتهــا
36 ................ -الثنائيات الضدية وعالقتها بطبيعة النفس البرشية
الفصل الثاين
الثنائيات الضدية والعلم
45 .................................-حضور الثنائيات الضدية يف علم الطاقة
52 -ثنائية الني واليانغ وعنارص الطبيعة الخمسة
............................
الفصل الرابع
الثنائيات الضدية يف الرتاث الفلسفي العريب واإلسالمي
84 .............................................. -الثنائيات الضدية لــدى الفــارايب
92 ....................................-الثنائيات الضدية يف فلســفة ابن ســينا
100 .............................. -ثنائيــة عقل /نقل بني ابن رشــد والغــزايل
103 ..........................................-األدب الفلسفي والثنائيات الضدية
الفصل اخلامس
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية
122 .............................................-الثنائيات الضدية يف النقد األديب
124 ...................................................................................... -الرومانسية
126 ....................................................................................... -املاركسية
131 .............................................................................................-البنيوية
144 -ما بعــد البنيويــة
.............................................................................
اإليقاع الثن�ايئ
تع ّد فرضية الثنائية ( )Binary Assumptionمن املوضوعات التي أثارت
دهشة اإلنسان يف مسرية تاريخ الفكر البرشي ،فثمة طرفا ثنائية متضادان يف
الكون ،مثل :زيادة /نقصان ،ذكر /أنثى ،سلب /إيجاب ...ويرى بعضهم أن
هذه األضداد يبحث الطرف منها عن طرفه اآلخر؛ ليتحدا معاً مك ّونني الوحدة
األصلية ،ويرى آخرون أن هذه األضداد تقوم عىل رصاع أبدي بعضها مع
بعض ويرون أن هذا الرصاع مصدر الخلق ،والتوليد؛ الستمرار الحياة.
فحني درس العلامء ـ عىل سبيل املثال ـ املغناطيسية وارتباطها
باملالحة بوساطة البوصلة اعتمدوا عىل تقسيم ثنايئ ،إىل قطبني شاميل
وكل منهام يبحث عن اآلخر ،وهي نفسها الفكرة التي قامت
وجنويبّ ،
عليها الفلسفة الصينية القدمية ،ثنائية الني واليانغ ،فالكون ـ حسب هذه
الفلسفة ـ يتشكل من ثنائيات ضدية تجتمع يف مقام واحد ،ويسعى كل
طرف من طرفيها إىل الطرف اآلخر؛ ألن يف وجودهام معاً اتحادا ً وتكامالً.
ويف العرص الحديث تم التقسيم إىل كهرباء سالبة ،وكهرباء موجبة ،وال
يقوى طرف واحد منهام عىل النهوض والعمل بنفسه ،وهكذا...
للثنائية ـ إذن ـ تأثري قوي يف الرصاع ،واستمرار الحياة عىل األرض،
وتُظهر الثنائية منظومة فكرية فلسفية حياتية متكاملة ،ويبنى عىل أساس
يئ للعامل ،وبنيته؛ ألنه مرتبط بالثنائية حيث التضاد،
الثنائية اإليقا ُع الثنا ّ
وكل طرف من طريف الثنائية يس ّوغ وجود اآلخر.
والتوازيّ ،
10سلسلة مصطلحات معاصرة
وفصلنا يف املصطلحات
املتعارضة معها كالتناقض والثّنوية والتناظرّ ،
املتداخلة معها كالجدل ،والتقابل ،واملفارقة ،والطباق ،والتكافؤ.
ودرسنا يف الفصل الثاين حضور الثنائيات الضدية يف علم الطاقة،
ووجدنا أن أية ظاهرة مشكّلة من اجتامع ثنائيات ضدية فيها ،وتحدثنا عن
طاقتي الني واليانغ املتضادتني ،واللتني تعمالن بشكل متناوب ،ومن
ّ
تناوبهام تنشأ مظاهر الكون ،ودرسنا العنارص الخمسة املشكّلة للطبيعة،
والعالقات الضدية التي تحكمها ،والبعد الثالث الذي نعيش فيه ،املحكوم
مبنطق الثنائيات الضدية ،وبدراسة بعض املظاهر يف الرياضيات والفيزياء
والكيمياء تبني الحضور القوي للتقابالت الثنائية يف مختلف العلوم.
ودرسنا يف الفصل الثالث عالقة الثنائيات الضدية بالفلسفة ،فالثنائية
الضدية من املالمح البارزة لفلسفة أفالطون ،ومن بعده ديكارت ،وكانت،
وقد وجدنا أن الفلسفة بنيت عىل ثنائيات ضدية كثنائية الوحدة /الكرثة،
وثنائية حدوث الوجود /قدمه ،وثنائية الطبيعي /فوق الطبيعي .ودرسنا
وجود الثنائيات يف الفلسفة القدمية كالفلسفة الصينية “الني واليانغ” وفلسفة
الكامي اليابانية ،واملانوية ،والبوذية ،ووجدنا يف الصوفية بعدا ً فلسفياً مبنياً
عىل الثنائيات الضدية ،ووجدنا أثرا ً لها يف الفن التشكييل لدى الفنان
املبدع “إيرش” فتقوم رسوماته عىل بعد ثنايئ تقابيل ذي طابع فلسفي.
وبحثنا يف الفصل الرابع يف الجانب الفكري والفلسفي العريب
واإلسالمي ،فوجدنا أن الفلسفة العربية واإلسالمية أولت الثنائيات الضدية
أهمية كربى ،فرصدنا حضور هذه الثنائيات ،وفاعليتها لدى الفارايب
ومدينته الفاضلة ومضاداتها ،ووجدنا أن فكر ابن سينا الفلسفي بحث يف
التضاد والتناقض بوضوح ،وأولينا عنايتنا الهتامم ابن رشد املائز بالثنائيات
الضدية ،فدرسنا حضور ثنائية عقل ونقل لديه ،ولدى الغزايل.
12سلسلة مصطلحات معاصرة
يل التوفيق
والله و ّ
أ.د .سمر الديوب
حمص يف 2017/3/1
الفصل األول
الثنائيات ّ
الضدية:
ذاكرة المصطلح
مقدمة
مرادفة لالثنينية ،وهي كون الطبيعة ذات مبدأين ،ويقابلها كون الطبيعة
ذات مبدأ واحد ،أو عدة مبادئ (الثنوية واالثنينية)”[[[.
فاالثنينية هي كون الطبيعة ذات وحدتني ،أو هي كون اليشء الواحد
مشتمالً عىل ح ّدين متقابلني ،ومتطابقني كتقابل الفكر ،والعمل.
ويعني الكالم السابق أن االثنينية تفرتض اشتامل اليشء عىل مبدأين
مستقلني ال يذوب أحدهام يف اآلخر ،وال يشبهه ،كالظالم والنور ،والليل
والنهار.[[[ ...
إن الثنائيات الضدية نظرة فلسفية عميقة ،تتجاوز الجمع املبارش،
والسطحي بني طرفني .فهذان الطرفان تربطهام رابطة هي رابطة
التضاد؛ إذ يجتمع الخري والرش ،أو الظالم والنور يف ثنائيات ضدية ال
متناقضة ،فثمة عالقة بني املتضادّين املجتمعني يف ثنائية ،فال ينفي
أحدهام اآلخر ،بل يدخالن يف عالقة تواز ،وبهذا الشكل ال يتناقضان،
لكل
بل يتكامالن .فحقيقة الوجود تنطوي عىل تقابل دائم بني طرفنيّ ،
منهام قوانينه الخاصة.
وقد حملت اللغة العربية الثنائيات الضدية ،ففي القرآن الكريم ثنائيات
ضدية يف مواضع متعددة ،ميكن أن نشري إىل بعضها:
ب الخري لشديد)[[[ (وعىس -ثنائية الخري /الرش :يقول تعاىل(:وإنه ل ُ
ح ِّ
أن تكرهوا شيئاً وهو خري لكم ،وعىس أن تحبوا شيئاً وهو ّ
رش لكم ،والله
لعب
خري) (وما الحياة الدنيا إال ٌ
[[[
يعلم وأنتم ال تعلمون) (والصلح ٌ
[[[
ولهو ،وللدار اآلخر ُة خري للذين يتقون أفال تعقلون)[[[ (وقيل للذين اتقوا
ماذا أنزل بكم قالوا خريا)[[[.
لقد وضّ ح تعاىل مفهوم الخري لإلنسان الذي يستخلص أحياناً
مفهومات خاطئة للخري من غرائزه ،فالله تعاىل هو الذي يضع املقاييس
رش مقابل خري اآلخرة،
الصحيحة للخري فيام يتعلق بشؤون الحياة ،والدنيا ّ
وطاعة الله يف الحياة الدنيا تعيل من قدره عند الله .فثمة جانب نوراين
يحض عليه ميثل الخري ،يقابله جانب مظلم ميثل الرش.
ّ أخالقي
-ثنائية الظلامت /النور :يقول تعاىل( :الحمد لله الذي خلق السموات
واألرض وجعل الظلامت والنور)[[[ وردت الظلامت بصيغة الجمع قبل
النور ،فيمثل النور يف الكون نسبة ضئيلة من املجال غري املريئ الشاسع
جدا ً ،يظهر عىل شكل لون أسود َّ ٍ
معب عنه بالظلامت .فثمة مجال مريئ،
ومجاالت غري مرئية للموجات الكهرومغناطيسية.
-ثنائية األمر باملعروف /النهي عن املنكر :يقول تعاىل( :ولتكن منكم
أمة يدعون إىل الخري ،ويأمرون باملعروف ،وينهون عن املنكر ،وأولئك
هم املفلحون)[[[ ،فالفالح يف الدنيا واآلخرة مرتبط بالعوة إىل الخري،
واألمر باملعروف ،والنهي عن املنكر.
وبني كتاب نهج البالغة ـ عىل سبيل املثل عىل تقابالت ضدية
عميقة ،وهو يتسم مبستوى جاميل عال ،فهو نرث شعري ،والشعرية هي
املحور الرئيس يف نهج البالغة؛ إذ يرتقي هذا الكتاب إىل ذروة الشعرية
بوفرة الثنائيات الضدية .من ذلك:
“-أيها الناس ال تستوحشوا يف طريق الهدى لقلة أهله ،فإن الناس قد
اجتمعوا عىل مائدة شب ُعها قصري ،وجوعها طويل”[[[.
مثة دالالت مركزة تنطوي عىل جملة ثنائيات ،منها :اإلنسان الصالح/
اإلنسان الطالح ،الهدى /الضالل ،الحياة /املوت ،القلة /الكرثة ،الشبع/
الجوع ،القليل /الكثري .وهي ثنائيات تنفتح عىل آفاق من التأويل.
حرو َر
والوضوح بالبُهمة ،والجمود بالبللِ ،وال َ
َ “-ضا ّد النو َر بالظلمة،
ب بني متباعداتها، مؤلف بني متعادياتها ،مقا ِر ٌن بني متبايناتها ،مق ّر ٌ
ٌ بالص ِد
َّ َ
[[[
مف ّرقٌ بني متدانياتها”
إنه تضاد يتجاوز الجمع بني مفردتني متعاكستني إىل تضاد موقف،
ورؤيا ،والتميز يكون باألضداد؛ إذ متنح املتضادات متعة التأمل للمتلقي،
وتشكّل لغة الثنائيات الضدية العالقة بني الداخل والخارج ،فقد وردت
جملة ثنائيات يف وحدة موضوعية متناغمة.
“-الغنى يف الغربة وطن ،والفقر يف الوطن غربة”[[[.
“-لسان العاقل وراء قلبه ،وقلب األحمق وراء لسانه”[[[.
يعب التضاد عن توترات الواقع ،ومعاناة الوجود ،ويؤثر الجمع بني
ّ
املتضادَّين يف وجدان املتلقي ،وترتبط الثنننائيات الضدية ارتباطاً وثيقاًً
[[[ـ نهج البالغة ،مجموع ما اختاره الرشيف الريض من كالم أمري املؤمنني ،رشح اإلمام الشيخ محمد عبده،
دار املعرفة ،بريوت ،لبنان4 ،ج ،ج ،181/2واملائدة املقصودة هي مائدة الدنيا ،فال تغ ّرنكم رغباتها.
[[[ـ املصدر السابق ،ج120/2
[[[ـ املصدر السابق ،ج14/4
[[[ـ املصدر السابق ،ج11/4
19 الثنائيات الضدّية :ذاكرة المصطلح
[[[ـ انظر :موقع الحوار املتمدن ،مقال التأويل الالهويت للتاريخ عند أوغسطني ،عامر عبد زيد ،العدد ،3636
http://www.alhewar.org 2012/2/12
[[[ـ للتوسع يف هذه الفكرة ينظر :الثنائية مرجعهم فيه ،أدولف أوغي فجوي يف كتابه الثورة ضد ثنائية ،موقع:
http://mb-soft.com
20سلسلة مصطلحات معاصرة
والضد مقابل االختالفات التي ال يكون فيها التناقض قد نضج بعد وال
يزال يوجد بذاته إىل ح ّد كبري يعني تناقضاً متطورا ً أبرز يف املقدمة ،ووصل
إىل مرحلة أعىل من تطوره عندما يصل رصاع األضداد واالتجاهات إىل
املكان النهايئ لتطور مراحلها”[[[.
فالحالتان املتضادتان إذا تتالتا ،أو اجتمعتا معاً يف نفس املدرك كان
شعوره بهام أتم وأوضح ،وهذا ال يَصدق عىل اإلحساسات واإلدراكات
والصور العقلية فحسب بل يصدق عىل جميع حاالت الشعور كاللذة
واألمل والتعب والراحة ..فالحاالت النفسية املتضادة يوضح بعضها بعضاً،
وبض ِّدها تتميز األشياء ،وقانون التضاد أحد قوانني التداعي والتقابل[[[.
والتقابل (( )oppositionهو عالقة بني شيئني أحدهام مواجه لآلخر،
أو عالقة بني متحركني يقرتبان سوية من نقطة واحدة ،أو يبتعدان عنها ،ويف
املنطق يأخذ التقابل وجهني أحدهام تقابل الحدود ،واآلخر هو تقابل القضايا.
فاملتقابالن يف تقابل الحدود هام اللذان ال يجتمعان يف يشء واحد ،يف زمان
واحد ،وميكن التمييز هنا بني أربعة أقسام ،أو أنواع من التقابل:
1-تقابل السلب واإليجاب مثل الشعور والالشعور.
2-تقابل املتضايفني مثل األبوة والنبوة.
3-تقابل الض ّدين مثل السواد والبياض.
4-تقابل العدم وامللكة مثل العمى والبرص.
أما تقابل القضايا فيطلق عىل القضيتني اللتني تختلفان بالكم ،أو
بالكيف أو بهام معاً ،ويكون موضوعهام أو محمولهام واحدا ً ،ولهذا
[[[ـ لجنة من العلامء واألكادمييني السوفييت ،1980:املوسوعة الفلسفية ،ترجمة :سمري كرم ،ط ،2دار
الطليعة ،بريوت ،ص .281
[[[ـ انظر املعجم الفلسفي ،ص .285
21 الثنائيات الضدّية :ذاكرة المصطلح
الكيفيات النفسية األولية ،فليست اللذة خروجاً من األمل ،وال األمل خروجاً
من اللذة ،بل اللذة واألمل كالهام وجوديان ،ولكل منهام رشوط خاصة
مببدأ االثنينية .أما إذا قلنا :زيد عامل ،وعمرو ليس بعامل فال يتحقق التناقض.
وقد يكون التناقض ذاتياً ،فيناقض اليشء نفسه ،أو يحتوي عىل
تناقض ،وقد يكون وجدانياً كاالنفعاالت املتضاربة يف الوقت نفسه.
وإذا كان التضاد يقع يف األفعال فإن التناقض يف األقوال ،لكن الصفتني
املتناقضتني ال تصدقان عىل يشء واحد يف الوقت نفسه ،ومن الجهة
نفسها ،وال تكذبان .فاألسود واألبيض متضادان ،لكن األسود والال أسود
متناقضان ،ففي التناقض إذا صدقت إحدى الصفتني عىل يشء فاألخرى
كاذبة حكامً ،فيجب أن تصدق إحدى الصفتني ،وتكذب األخرى.
ويعني ما سبق أن مثة فرقاً بني التضاد والتناقض والتباين والتضارب
والتعارض والتغاير والتفاوت والفَرق واملخالفة واملعاكسة.
ويرى أرسطو Aristotalisأن لكل إيجاب سلباً يقابله ،واإليجاب
[[[
هو الحكم بيشء عىل يشء ،والسلب هو الحكم بنفي يشء عن يشء
لكنه يخلط بني التناقض والتقابل والتضاد “فليكن التناقض هو هذا؛ أعني
إيجاباً وسلباً متقابلني”[[[.
ونجد هذا الخلط عند الفارايب وابن رشد ،فقد تحدث الفارايب عن
التقابل بأنه مقابلة الواحد بعينه ملعنى واحد بعينه ،ولكن ليس عىل سبيل
االتفاق ،فيقرتب من تعريف أرسطو ،لكن الفارايب يرى أن التقابل يف
السلب واإليجاب يخص موضوع القضية ومحمولها ،بأن يكون كالهام
واحدا ً يف الرشوط نفسها ،فالتقابل هو التناقض[[[.
األمريية ،القاهرة ،ص67
[[[ـ يقول أرسطو« :لكل إيجاب سلب قبالته ،ولكل سلب إيجاب قبالته» انظر :أرسطوطاليس،1999 :
العبارة -النص الكامل ملنطق أرسطو ،تحقيق :د .فريد جرب ،ط ،1دار الفكر اللبناين ،بريوت ،ص117
[[[ـ املرجع السابق ،ص117
[[[ـ جعفر آل ياسني ،2012 :الفارايب يف حدوده ورسومه ،ط ،1منشورات املركز العلمي العراقي ،بغداد،
مكتبة البصائر ،بريوت ،ص126و 130
25 الثنائيات الضدّية :ذاكرة المصطلح
ويرى ابن سينا أن التقابل إما أن يكون عىل معنى التقابل ،أو معنى
التضاد ،وأن معنى التقابل أعم من معنى التناقض؛ لشموله األحكام
األربعة من تناقض ،وتضاد ،وما تحت التضاد ،وتداخل مؤكدا ً أن التقابل
بني السلب واإليجاب هو التناقض[[[ فيؤكد أن التقابل بني القضيتني يف
السلب واإليجاب يجعل هذا التقابل إحدى القضيتني صادقة ،واألخرى
كاذبة .لكن التقابل ال يعني سلباً وإيجاباً دامئاً ،فقد تكون القضيتان
صادقتني ،أو كاذبتني.
والضدان لدى ابن سينا هام املختلفان غاية يف املعنى الواحد بعينه،
فلكل إيجاب سلب قبالته ،ولكل سلب إيجاب قبالته.
- 2-2الثن�ائي�ة والثنوية والقطبي�ة
يختلط مصطلح الثنائية مبصطلح الثنوية ،وهو املعتقد الذي يقول
بوجود أصلني أو مبدأين متناقضني وراء مظاهر الوجود ،وصريورة الزمن
والتاريخ .وهذان املبدآن شيمتهام الرصاع من أجل أن يلغي أحدهام
اآلخر [[[.وال يتفق هذا التعريف مع مصطلح الثنائيات الضدية؛ إذ تكون
العالقة بني الطرفني املتضادين عالقة تكامل .ومثة فرق بني االثنينية
واملثنى[[[.
وقد جعل ابن رشد رشوط التقابل هي نفسها رشوط التناقض .انظر :ابن رشد ،1992 :تلخيص منطق أرسطو-
كتاب العبارة ،تحقيق :د .جريار التهامي ،ط ،1دار الفكر اللبناين ،بريوت ،ص.89
[[[ـ ابن سينا ،الشفاء ،ص119-44-43
[[[ـ للتوسع انظر :فراس السواح ،2002 :الرحمن والشيطان -الثنوية الكونية والهوت التاريخ يف الديانات
املرشقية ،ط ،1دار عالء الدين ،دمشق ،ص 11ويرى الباحث أنه ميكن تقسيم املعتقدات الثنوية من جهة
شكلها ومضمونها إىل ثالث فئات :الثنوية املطلقة ،الثنوية الجذرية ،الثنوية املعتدلة .املرجع السابق ،ص12
كل يشء يف املثنىكل تناظر يف االثنينية آيل إىل االختصام والفرقة ،بينام ّ
[[[ـ يرى د .محمود حيدر أن ّ
محمول عىل االنسجام والجمع؛ ألن زوجية املثنى ال تعمل إال وفقاً لقانون التكامل ،وألنها كذلك فإن سعيها
نحو الوحدة يجري طبقاً ملبدأ االمتداد الجوهري يف الواحد ،وبهذا املبدأ الساري عرب االنسجام والتناسب بني
قطبي املثنى ال يعود مثة قطيعة ،بل تكامل ،وتفاعل يف اآلن نفسه .انظر:
محمود حيدر ،2016 :الفيلسوف الحائر يف الحرضة ،فصلية االستغراب ،املركز اإلسالمي للدراسات
االسرتاتيجية ،العدد الخامس ،السنة الثانية ،بريوت ،خريف ،2016ص15
26سلسلة مصطلحات معاصرة
أما مصطلح القطبية فيقول بوجود ثنائية أصلية لها قطبان متعارضان،
يف كل يشء ،ولكنهام متعاونان ،وال قيام ألحدهام من غري اآلخر .ومن
تضادهام ،وتعاونهام تنشأ مظاهر الوجود ،وتستمر .واألمنوذج الذي يفرس
القطبية معتقد التاو الصيني الذي وضع أسسه العامل “الو تسو” ق 6ق.م
فالتاو مبدأ أزيل قديم ،هو القاع الكيل للوجود ،ومن هذا املبدأ صدرت
قوتان مجردتان هام قوة اليانغ املوجبة ،وقوة الني السالبة ،وبدوران هاتني
القوتني املتضادتني نشأ كل يشء .فاألبيض قوة يانغ يرمز إىل النور ،والني
قوة سالبة /أسود يرمز إىل الظالم ،ولكن ال ميكن فصل النور عن الظالم،
وال يسعى أحدهام إىل التغلب عىل اآلخر ،أو إقصائه؛ ألن غلبة طرف عىل
طرف أو إقصاءه تعود بالكون إىل حالة الهيوىل التي نشأ عنها .إنهام قطبان
كقطبي املغناطيس ،ال يعمل إال بوجودهام معاً[[[.
ويعني الكالم السابق أن مثة فرقاً بني القطبية والثنوية ،ففي القطبية
رصاع شكيل بني طريف الثنائية ،وتكامل يف املستوى العميق ،أما الثنوية
فتمثل الرصاع الذي يسعى إىل إقصاء أحد الطرفني اآلخر.
- 3-2الثن�ائي�ات الضدية والتن�اظر ()Symmetry
التناظر لغوياً نظري اليشء ،ومثله ،ويحيل التناظر عىل معنى التساوي،
والشبه ،والتجادل[[[ ويعني املعنى اللغوي أن التناظر عالقة بني طرفني؛ إذ
يكون اليشء متناظرا ً بالنسبة إىل يشء آخر.
والتناظر علمياً هو عدم التغري يف جملة إن حدث تحويل ما ،فاملربع
مثالً إذا قمنا بتدويره بزاوية قامئة فلن نستطيع التمييز بني املربع قبل
[[[ـ سيأيت التفصيل يف هذه الفكرة يف الجزء الذي سنتكلم فيه عىل حضور الثنائيات الضدية يف الفلسفة.
[[[ـ تناظر الحارضون :نظر بعضهم إىل بعض ،وتناظرت البيوت :تقابلت ،وتناظرا يف املوضوع :تجادال
وتحا ّجا ،وناظره :صار مثيالً له ،ومساوياً ،ونظري اليشء مثله .انظر لسان العرب ،مادة نظر.
27 الثنائيات الضدّية :ذاكرة المصطلح
التدوير وبعده ،ونسمي هذا تناظرا ً بالنسبة إىل التدوير ،وهو أساس مهم
جدا ً يف الفيزياء النظرية[[[.
والتناظر خاصية ميكن بها وصف العديد من األشياء كاألجسام
الهندسية ،واملعادالت الرياضية.
وحني نتحدث عن التناظر نتحدث عن ثنائية يناظر أحد طرفيها الطرف
اآلخر .ونواجه التناظر يف أبسط مستوياته حني ننظر إىل خيالنا يف املرآة
املستوية ،وليس مصطلح التناظر مقابالً ملصطلح الوحدة ،وحني يكون
الطرفان متناظرين فنحن نرفعهام إىل مستوى الوحدة ،فتكون الوحدة عىل
حساب التعددية ،فكل طرف من طريف الثنائية لقطة ،ويشكّل الطرفان وحدة[[[.
ويشرتك التناظر مع الرتادف ،ففي املصطلحني يأيت املعنى وما
يشبهه ،لكن يت ّم التفريق بينهام من جهة أن الرتادف يكون بني مفردتني،
والتناظر يكون أوسع بني جملتني.
- 3الثن�ائي�ات الضدية واملصطلحات املتداخلة معها
- 1-3الثن�ائي�ات الضدية واجلدل ()Dialectic
الديالكتيك هو علم دراسة األضداد املوجودة يف األشياء ،ومحاولة
فهمها ،وإيجاد حلول لها ،ويع ّد هيغل G.W.F. Hegelأول فيلسوف
تكلّم عىل الجدل ،وأخذ منه ماركس K.H. Marxما يعرف بالديالكتيكية
املادية .وقد ع ّد هيغل الفكر سابقاً املادة ،وعد املادة انعكاساً للوعي،
فالظواهر الطبيعية واالجتامعية كلها تقوم عىل أساس ثنائية املطلق/
العقل ،أو الروح /الفكرة املطلقة .ورأى يف رصاع األضداد الدافع لكل
[[[ـ للتوسع يف املادية الجدلية انظر- :فاسييل بودوستنيك وأوفيش ياخوت ،1979 :ألف باء املادية الجدلية،
ترجمة جورج طرابييش ،دار الطليعة ،بريوت.
-إمام عبد الفتاح إمام :د.ت ،املنهج الجديل عند هيغل ،دار املعارف ،القاهرة.
29 الثنائيات الضدّية :ذاكرة المصطلح
[[[ـ يرى فرديناند دو سوسور F. De Saussureأن الكلمة املوجودة يف السياق اللغوي تحدّ د داللتها الكلمة
املضادة ،أو املقابلة ،وهي كلمة غري موجودة يف النص ،فكلمة بارد مثالً تستدعي كلمة ساخن .انظر :عبد
العزيز حموده ،1998 :املرايا املحدبة من البنيوية إىل التفكيك ،عامل املعرفة ،املجلس الوطني للثقافة
والفنون واآلداب ،نيسان ،ص.224
[[[ـ لسان العرب ،مادة فرق.
31 الثنائيات الضدّية :ذاكرة المصطلح
[[[ـ جون ماكوين ،1990 :الرتميز -موسوعة املصطلح النقدي ،ترجمة عبد الواحد لؤلؤة ،دار املأمون للرتجمة
والنرش ،بغداد ،ص95
[[[ـ ترى نبيلة إبراهيم أن املفارقة ناجمة عن الوعي الشديد بتناقض داخل الذات بقدر ما هي الوعي الشديد
بالتناقض خارجها .انظر :نبيلة إبراهيم ،1987 :املفارقة ،مجلة فصول ،الهيئة العامة املرصية للكتاب ،املجلد
،7العددان 4-3إبريل -سبتمرب ،ص.134
32سلسلة مصطلحات معاصرة
[[[
فهام نظامان متداخالن ،باختصار “املفارقة تقلّص الثنائية إىل وحدة”
4--3الثنائيات الضدية والطباق والتكافؤ والتضاد
يعني مصطلح الثنائيات الضدية أن طريف الثنائية متصالن ،وأن ظهور
طرف ال يعني غياب الطرف اآلخر ،بل تخفّيه ،فيمكن أن يحوي الطرف
الظاهر من الثنائية يف بنيته العميقة نسقاً مضمرا ً يتعلق برؤية خاصة للحياة
بكلية أضدادها ،وحني تتضارب هذه األضداد ،وتتصادم تكشف جوهر
الوعي اإلنساين ،وطبيعة الحياة ،وجوهر الرصاع فيها.
وتتداخل بعض املصطلحات يف الدرس النقدي البالغي القديم مع
مفهوم الثنائيات الضدية ،ومن هذه املصطلحات الطباق ،والتكافؤ ،والتضاد.
فالطباق هو الجمع بني اليشء وضده عىل مستوى الجملة ،أو عىل
مستوى البيت من القصيدة .يقول أبو هالل العسكري“ :قد أجمع الناس
أن املطابقة يف الكالم هو الجمع بني اليشء وضده يف جزء من أجزاء
الرسالة ،أو الخطبة ،أو البيت من بيوت القصيدة ،مثل الجمع بني البياض
والسواد ،والليل والنهار ،والحر والربد.[[[”.
وورد مصطلح التكافؤ عند قدامة بن جعفر يف حديثه عن نعوت
املعاين ،ويقصد به الطرفني املتقابلني من جهة السلب واإليجاب ،أو
غريهام .وقد ورد لديه أيضاً عىل مستوى الجملة ،وهو تكافؤ لغوي “ومن
نعوت املعاين التكافؤ ،وهو أن يصف الشاعر شيئاً ،أو يذمه ،ويتكلم فيه،
أي معنى كان ،فيأيت مبعنيني متكافئني ،والذي أريد بقويل متكافئني يف
هذا املوضع أي متقابلني إما من جهة املصادرة ،أو السلب واإليجاب،
[[[ـ د.يس .ميويك ،1982 :املفارقة ،ترجمة :عبد الواحد لؤلؤة ،دار الرشيد للنرش ،بغداد ،ص.108
نصه :مفيد قميحة ،دار الكتب العلمية،
[[[ـ أبو هالل العسكري ،1981 :كتاب الصناعتني ،ط ،1حققه وضبط ّ
بريوت ،ص.339
33 الثنائيات الضدّية :ذاكرة المصطلح
[[[
فقوله م ّر وحلو تكافؤ”
وقد وردت املصطلحات الثالثة السابقة :الطباق والتضاد والتكافؤ
لدى يحيى بن حمزة العلوي باملعنى السابق نفسه ،وهو اإلتيان باليشء
وضده يف الكالم“ :واعلم أن هذا النوع من البديع متفق عىل صحة معناه،
وعىل تسميته بالتضاد والتكافؤ ،وإمنا وقع الخالف يف تسميته بالطباق
واملطابقة والتطبيق ،فأكرث علامء البيان عىل تلقيبه مبا ذكرناه إال قدامة
الكاتب فإنه قال :لقب املطابقة يليق بالتجنيس؛ ألنها مأخوذة من مطابقة
الفرس والبعري لوضع رجله مكان يده عند السري ،وليس هذا منه ،وزعموا
أنه يسمى طباقاً من غري اشتقاق ،واألجود تلقيبه باملقابلة؛ ألن الض ّدين
يتقابالن كالسواد والبياض ،وغري ذلك من األضداد من غري حاجة إىل
تلقيبه بالطباق واملقابلة.[[[”...
وال يخرج النقاد والبالغيون القدماء عن معنى واحد ورد عندهم،
فالطباق ويشبهه التكافؤ ،واملطابق ،والتطبيق ،واملقابلة ،والتضاد [[[.وقد
ورد عند ثعلب مصطلح مجاورة األضداد ،وقصد به تكرير اللفظة مبعنيني
[[[ـ قدامة بن جعفر :د.ت ،نقد الشعر ،تحقيق :محمد عبد املنعم خفاجي ،دار الكتب العلمية ،بريوت،
ص.148-147
[[[ـ يحيى بن حمزة العلوي ،1980 :كتاب الطراز املتضمن ألرسار البالغة وعلوم حقائق اإلعجاز ،بريوت،
ج377/2
[[[ـ انظر - :الرازي ،أبو بكر ،1982 :روضة الفصاحة ،ط ،1تحقيق أحمد النادي شعلة ،دار الطباعة املحمدية،
ص .238 ،232
-الخطيب القزويني ،1993 :اإليضاح يف علوم البالغة ،ط ،3رشح وتعليق محمد عبد املنعم خفاجي ،املكتبة
األزهرية للرتاث ،مجلد ،2ج/5ص.7-6
-القرطاجني ،حازم ،1981 :منهاج البلغاء ورساج األدباء ،ط ،2تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة ،دار الغرب
اإلسالمي ،بريوت ،ص .48
-ابن منقذ ،أسامة ،1960 :البديع يف نقد الشعر ،تحقيق :أحمد بدوي وحامد عبد املجيد ،مكتبة مصطفى البايب
الحلبي ،مرص ،ص .39 36-
34سلسلة مصطلحات معاصرة
[[[ـ أبو العباس ثعلب :د.ت ،قواعد الشعر ،رشحه وعلق عليه :محمد عبد املنعم خفاجي ،الدار املرصية
اللبنانية ،مكتبة الخانجي ،ص34
[[[ـ أبو بكر الرازي ،1982 :روضة الفصاحة ،ص238-232
[[[ـ عبد القاهر الجرجاين ،1991 :أرسار البالغة ،ط ،1قرأه وعلّق عليه :محمود محمد شاكر ،مطبعة املدين
بالقاهرة ،دار املدين بجدة ،ص.32
35 الثنائيات الضدّية :ذاكرة المصطلح
فيها األنساق املتضادة بهدف الوصول إىل مفهوم الوحدة ،أو االنسجام
(.)Harmony
وقد أشار كلود ليفي شرتاوس إىل أن البنية تحمل أوالً وقبل أي يشء
طابع النسق ،أو النظام ،فتتألف البنية من عنارص يكون من شأن أي تح ّول
[[[
يعرض للواحد منها أن يحدث تحوالً يف سائر العنارص األخرى.
وأشار الناقد الفرنيس جيل دولوز G. Deleuzeإىل طبيعة الجانب
[[[
النسقي للبنية بوصفها نظاماً مؤتلفاً من العالقات والعنارص املتفاضلة
وكل تح ّول يطرأ عىل البنية يطرأ عىل داخلها ،ال عىل الخارج.
ّ
وتتميز الثنائيات الضدية بخاصية التحويل ( )Transformationأي
تحويل الكلامت إىل أشياء ،وهذا ما يجعلها مصدرا ً مهامً من مصادر
الشعرية ،فالذي يدعو إىل لفت االنتباه ،وتيقظ الفكر ،وشدة االهتامم،
وتوليد اللغة الشعرية التضاد ،ال املشابهة؛ إذ يع ّد الجمع بني املتضادات
مولّدا ً أساسياً للشعرية.
إن وجود الثنائيات الضدية يعني وجود نسق ظاهر ،وآخر مضمر
يُستنتج استنتاجاً .وال يتعلق أمر الثنائيات الضدية بظهور طرف ،وتخفي
آخر وراءه ،بل يتعلق مبتلقي هذه الثنائية الذي يؤ ّولها ،ويستقبلها بناء
عىل تضاد الطرفني ،وظهور طرف ،وتخفي آخر .وقد أطلق يونغ Carl
Jungعىل هذه العملية التأليف األعىل للمتضادات ،فرأى أن جميع
الرموز والصور النمطية البدئية التي تتجسد فيها العملية أدوات للوظيفة
التجاوزية؛ أي أدوات لتوحيد الزوجني املختلفني للتعارضات النفسية
[[[ـ زكريا إبراهيم :د.ت ،مشكلة البنية أو أضواء عىل البنيوية ،دار مرص للطباعة ،ص35
[[[ـ املرجع السابق ،ص.38
36سلسلة مصطلحات معاصرة
رش .الثنائيات
أن الحدود قامئة بني طرفيها .فثمة حق /باطل ،وخريّ /
إيديولوجية ،وفهمها فهامً دوغامتياً يعني أنها تصدر عن الوعي املطلق
والنهايئ واليقيني ،وبذلك يصعب تطبيقها عىل واقع تحكمه النسبية
املرتبطة بتعقيدات الواقع .والحديث عنها يعني حديثاً عن توازي الثنائيات،
وسري طرفيها جنباً إىل جنب معاً .فالكون ميثل وحدة ،وهذه الوحدة هي
يف النهاية تعددية ضمن الوحدة وقد حاول الفالسفة أن يفهموا الكون،
فقسموه إىل ذات (إنسان) وموضوع (كون) ،ووضعوا بينهام برزخاً يفصل
كل ح ّد عىل أنه طرف منفصل
بني جوهر األشياء الوجودية ،فنظروا إىل ّ
عن اآلخر ،ونجم عن هذا الفصل بني األطراف وجود ثنائيات الهوتية:
الخري /الرش ،الحق /الباطل ،...وضدية :الظالم /النور ،واجتامعية :الظامل
/املظلوم..
ونجم عن هذا التصنيف الثنايئ الرصاعات بأشكالها ،والعنف نتيجة
ثنائية كون /إنسان ،وأدّى هذا األمر إىل مت ّرد الذات عىل ثنائية الوجود ،أو
تعدديته ،ودخلت األنا يف حال رصاع مع األنوات األخرى للسيطرة عىل
الخارج ،فثمة ال نهاية كربى ،وال نهاية صغرى ،وبينهام ال نهاية وسط
هي نقطة لقاء هاتني الالنهايتني يف اإلنسان .ففي داخل النفس البرشية
يلتقي طرفا هذه الثنائية التي انشغل بها الفكر اإلنساين كثريا ً عرب اختالف
عصوره ،وبدت الحياة صعبة التفسري مبعزل عن فكرة األضداد والثنائيات،
وبدت قامئة يف كثري من جوانبها عىل أضداد ،وثنائيات.
ري والتأث َر عىل نحو تظهر العالقة
تجاذب الفكُر والثنائياتُ التأث َ
َ لقد
بينهام جدلية .فال وجود لفكر إنساين من غري ثنائيات ضدية.
ميكن أن نح ّدد ـ بناء عىل ما سبق ـ مفهوم الثنائيات الضدية ،إنه
اجتامع األمر وض ّده يف مقام واحد ،وتكون العالقة بني الطرفني عالقة
38سلسلة مصطلحات معاصرة
توازٍ ،ويهدف التضاد بني الطرفني املتوازيني إىل التكامل ،ومن هذه
الفكرة وجدنا أن الثنائيات الضدية تختلف عن الثنوية التي تعني إقصاء
أحد الطرفني الطرف اآلخر ،يف حني أن هدف الثنائيات الضدية التكامل
بني املتضادين ،كام يختلف هذا املصطلح عن التناقض؛ ألن العالقة
بني املتناقضني عالقة نفي؛ فوجود أحد الطرفني ينفي وجود اآلخر ،أما
الطرفان املتضادان فيتوازيان ،وال يلتقيان ،ويختفي أحدهام وراء اآلخر،
كام يختلف عن مصطلح التناظر الذي ال يشرتط فيه التضاد ،ويلتقي
مصطلح الجدل الذي ع ّرفناه بأنه رصاع األضداد يف وحدة ،ويأخذ هذا
َ
الرصاع شكالً لولبياً نامياً ،ويتفق مع مصطلح القطبية التي يكون الرصاع
بني الطرفني شكلياً يهدف عىل املستوى العميق إىل التكامل ،ويلتقي يف
مصطلح املفارقة والتضاد والطباق واملقابلة ،ففي املفارقة
َ بعض جوانبه
الجمع بني األمر وضده ،وكذا يف الطباق يعني الجمع بني الكلمة وضدها،
مع أن مصطلح الثنائيات الضدية أوسع من ذلك.
وألن الثنائيات الضدية محور حياتنا بفروعها كلِّها تجىل حضورها يف
العلم ،وبخاصة علوم الطاقة.
املصادر واملراجع
املواقع االلكرتوني�ة.
1ـ موقع الحوار املتمدن ،مقال التأويل الالهويت للتاريخ عند
أوغسطني ،عامر عبد زيد ،العدد http://www. 2012/2/12 ،3636
alhewar.org
2ـ الثنائية مرجعهم فيه ،أدولف أوغي فجوي يف كتابه الثورة ضد
ثنائية ،موقعhttp://mb-soft.com :
3ـ موقع الباحثون السوريون:
ttp://www.syr-res.com/article/4423.html
- http://ar.wikipedia.org/wiki
4ـ موقع الباحثون السوريون ،مبادئ الفكر املاركيس ،ج:1
http://www.syr-res.com/article/7232,html
الفصل الثاني
ّ
الثنائيات ّ
الضدية والعلم
تتقابل األضداد يف حياتنا ،وتجتمع يف ثنائيات ،ويتح ّول بعضها إىل
بعض ،فحني يسري يشء يف اتجاه ما ،ويبلغ غايته ،يخالف اتجاهه ،ويعود
ويحل الربد
ّ ح ّر حني يبلغ منهاه يرتد إىل الوراء،
إىل االتجاه اآلخر ،فال َ
مكانه.
ويقوم منطق الثنائيات الضدية عىل أن الضد ميكن أن يحمل شيئاً من
خصائص ضده ،فثنائية النور والظالم –عىل سبيل املثال -أشد الثنائيات
ظهورا ً يف حياتنا ،فثمة نور ساطع جدا ً ،وظالم شديد الظلمة ،وكالهام
يحدث األثر نفسه يف العني ،وهنا ينتفي التعارض بني النور والظالم ،ويعني
هذا الكالم أن يف الظالم نورا ً بطريقة ما ،وأن يف النور ظالماً مبعنى خاص.
والرصاع بني األضداد سبب يف حدوث التغيريات الكميّة إىل ح ّد
معني ،فتحدث قفزة إىل تغيري نوعي ،فحني ترتفع درجة حرارة املاء يف
وعاء فإن قوتني متضادتني تظهران ،هام ق ّوتا جذب ،وتنافر ،وتتصارعان؛
لتصال إىل مرحلة تفقد دقائق املاء قدرتها عىل التامسك ،وحينذاك
يحدث التغري النوعي للامء من الحالة السائلة إىل الحالة الغازية ،ويشرتط
لحدوث ذلك ارتفاع درجة الحرارة يف الوعاء من جهة ،ورصاع الضدين:
التضاد بني جزيئات املاء داخلياً.
وتوجد الثنائيات الضدية يف محتوى ما ،فتأخذ األضداد وضعياتها
بطريقة معينة ،ويتعني عىل ذلك أن الظاهرة مجموع ثنائيات ضدية،
باجتامعها تأخذ ظاهرة ما معنى معيناً.
كل يشء تقريباً ،لكن هذه
إن جزيء املاء عىل سبيل املثال يدخل يف ّ
45 الثنائ ّيات الضدّية والعلم
الظاهرة يف حركة دامئة ،وناجمة عن التقاء داخيل للض ّدين ،فجزيء املاء
H2Oهو تحديدا ً ذرتان من الهيدروجني ،وذرة من األوكسجني ،وليس
ثالث ذرات (من نفس العنرص) مثالً ،وهذه الظاهرة الجزئية تدخل يف
تركيب ظواهر ضدية أكرب.
حضور الثن�ائي�ات الضدية يف علم الطاقة
إن الحياة مؤلفة من وجهني متضادين هام :املادية ،والال مادية ،وتع ّد
الذرة أصغر وحدة فيها ،فذرة الهيدروجني مؤلفة من بروتون واحد موجب،
والكرتون واحد سالب يسبح حوله.
ويف العرص الحايل يتم الرتكيز عىل العلوم املادية ،ومل يستطع العلامء
فهم العامل الخفي للطاقة ،واألرواح ،ولك ّن الجانبني يتكامالن ،فهنالك
أمور أبعد من النظرة العلمية للعلوم الحديثة ،واالعتقا ُد بطرف واحد من
هذه الثنائية :املادية /الال مادية يجعل وجهة النظر أحادية ،فالوجهان ثنائية
ضدية متثل جوهرا ً واحدا ً للحياة.
“وقد توصل العلم الفيزيايئ للذرة إىل أن املادة تساوي الطاقة انطالقاً
من مختلف العنارص إىل الذرة ،وأخريا ً إىل االلكرتونات والربوتونات وغري
ذلك من الجزيئات الذرية التي اكتشفت ،و ُحلِّلت مؤخرا ً ،وحني ت ّم مراقبة
تبي أنها مؤلفة من كتل من الطاقة ،وليست صلبة عىل
االلكرتونات بدقة ّ
اإلطالق ،فاألشياء املادية ليست إال كتالً من الطاقة ،تتذبذب ،وتتموج،
وتتغري باستمرار ،وزيادة عىل ذلك تتكثف املادة باستمرار من الطاقة؛
لتتحلل مجددا ً ،وتعود إىل الطاقة”[[[.
ويعني هذا الكالم أن الذرات التي تظهر عىل شكل كتل صلبة ما هي
[1] - Mitchio Kushi with Edward Esko, OTHER DIMINSIONS Exploring the
Unexplained, 1992, Avery Publishing Group Inc. Garden City Park, New York.p.54.
46سلسلة مصطلحات معاصرة
يف الحقيقة إال كتل طاقية ،فتأخذ سمتني متضادتني ،تتكامالن؛ لتولّدا هذا
الشكل النهايئ.
وميكن أن نجد الثنائيات الضدية يف كل حركة ،واتجاه ،فكلام ارتفعنا
عن سطح األرض ازدادت قوة الطرد األرضية ،وحصل انخفاض يف مستوى
الضغط الجوي ،وباملقابل ستزداد الطاقة الجوية القادمة من خارج األرض
قوة كلام اقرتبنا من باطن األرض؛ لذا يتعاظم الضغط الج ّوي يف املناطق
املنخفضة ،ففي قعر املحيط مثالً يكون الضغط الجوي أقوى من الضغط
الجوي يف نقطة متساوية مع سطح البحر.
ويؤكد هذا الكالم أ ّن مثة حركة كونية قادمة من الفضاء إىل األرض،
وحركة مضادة صادرة من األرض إىل الفضاء ،فهام حركتان متضادتان،
ومتكاملتان[[[.
يتعني عىل ما سبق أن عاملنا مادي ،وروحاين ،تتقابل فيه ثنائيات
العقل /الجسد ،والروح /املادة ،ويستطيع اإلنسان كشف العامل املادي
بأحاسيسه ،ومثة أناس ميولهم مادية ،وآخرون ميولهم روحية ،والظاهرتان
تجل ألمر واحد يف النهاية.
املادية والروحية ّ
ومثاالً عىل ذلك تتساوى الصحة الفيزيائية مع الصحة الروحية،
فلو أخذنا طرفاً واحدا ً من الثنائية فلن نستطيع الوصول إىل صحة كاملة
فيزيائياً ،وروحياً ،فكال الطرفني وجه لحقيقة كونية واحدة.
وتتكون العنارص من اتحاد االلكرتونات والربوتونات ،وتسري الثنائيات
الضدية يف حال تح ّول دائم.
“والجنني حني يتك ّون يف رحم األم ينشأ من اتحاد النطفة ،والبويضة،
ثم ينشأ يف وسط مايئ ،ويخرج إىل وسط هوايئ ،فيتغذى من األرض/
األم ،بعد أن كان يتغذى من املشيمة /األم.
وعند املوت تنفصل الحياة البيولوجية إىل فصلني :الفصل األول هو
الجسد الذي يعود إىل األرض كاملشيمة التي انتهى عملها بوصفها عنرصا ً
[[[
مغذياً للجنني ،والفصل الثاين هو الجسد الطاقي”.
وسيكمل الجسد الطاقي بقاءه يف الحياة يف العامل الروحي ،فيتحول
إىل كتلة من الطاقة –حسب علامء الطاقة-فالعامل الروحي موجود يف
بعد أعىل من البعد الثالث الذي نعيش فيه؛ لذا سيكون صعباً جدا ً إدراكنا
له ،فالعامل الفيزيايئ ،والعامل الروحي وجهان لحقيقة واحدة ،هام ثنائية
ضدية ،لكن أحد طرفيها يك ّمل اآلخر.
“وتطوف األرض حول الشمس مولّدة طاقة منبعثة إىل الخارج،
تصطدم بالطاقة اآلتية من النظام الشميس ،وتك ّون جوا ً مكثّفاً ،ومشحوناً
بالذبذبات ،وتشكل –كام يؤكد العلم الحديث -حقالً مغناطيسياً يسمى
الجواملغناطييس لألرض.
أما الجو الذبذيب للنظام الشميس ككل فيتخذ شكل الكرة ،الجزء
الفيزيايئ منه ،أو املريئ هو الصميم ،أما الباقي فهو الجزء الال مريئ من
الحقل الذبذيب الذي يغطي الجزء املريئ ،أو ما يسمى الهالة التي تشع من
النظام الشميس”[[[ ويشكل هذان الطرفان معاً وجهني مختلفني مك ّملني
لوحدة كونية.
إن الجسد الفيزيايئ شكل مكثّف للطاقة –كام سبق -وهو مشحون بطاقة
ساموية ،وأخرى أرضية ،وتعني ثنائية الحياة /املوت أن كل كائن ولد يف
هذا العامل يجب أن ميوت؛ ليولد يف حياة تالية ،فتمثل الحياة استمرارية من
خالل املوت ،ويعني ذلك أننا ننمو ،ونتطور من بعد إىل آخر[[[.
ولنالحظ حركة املاء ،تتبخر املياه ،وتتمدد يف الجو صعودا ً بشكل
بخار خفي ،فتتكثّف ،وتتساقط مجددا ً عىل شكل حبيبات مرئية من
الندى ،واملطر ،فرتتفع ،وتتساقط يف حركة ضدية ،وبحركتني :تصاعدية،
وانحدارية.
“ويف املحيط الحيوي لألرض تربة ،وماء ،وهواء تتحول إىل حياة
نباتية ،وحني متوت النباتات تتحلل ،وتفرج عن تلك العنارص ،فتعود إىل
[[[
الطبيعة ،فيجري إعادة إحيائها مجددا ً بأجيال جديدة من النباتات”
وهكذا تدخل الثنائيات يف متواليات من دورة الحياة ،فالتبادل الطاقي
موجود يف كل مكان ،وعىل سبيل املثال حني منيش ننتصب بحركة
عمودية ،وحني ننام نستلقي يف حركة أفقية يف أثناء الليل ،وهذا التكافؤ
أساس هذه الثنائية الضدية.
وباالنتقال إىل الدماغ البرشي متثل الجهة اليرسى فيه الطاقة االستيعابية
التحليلية املنطقية ،وهي تعمل يف انسجام وتناغم مع الجهة اليمنى وهي
طاقة استيعابية واعية للقدرة الفكرية ،واملاورائيات.
والقوة الفضائية اآلتية إىل األرض مصدرها “الحد الال نهايئ للفضاء
باتجاه املركز الوسطي لألرض ،وتسمى الطاقة الساموية ،والقوة األرضية
هي املنبعثة من املركز الوسطي لباطن األرض”القلب أو الصميم”
باتجاه الحد األقىص للفضاء تسمى الطاقة األرضية ،فقوة األرض هذه
[[[ـ سيأيت الحديث عن األبعاد ،والتفصيل يف بعدنا :البعد الثالث يف فقرة آتية.
[2] - Kuchi, Other Diminsions, P108.
49 الثنائ ّيات الضدّية والعلم
دائم لكل خلية من الجسم بقوة الحياة ،وتتغذى هذه الخاليا عرب الطاقات
املادية كاألوكسجني ،واألغذية املتنوعة التي تتوافر لها عرب الدورة
الدموية ،وتعتمد حياتنا ،وصحتنا عىل التكامل بني هذين املصدرين من
الطاقة :األول هو التدفق املساري من البيئة الكونية املحيطة بنا ،وينتج
الثاين من التحوالت الكيميائية لشتى األطعمة املختلفة”[[[.
إن جسد اإلنسان صورة مصغّرة عن الكون ،ومثاالً عىل ذلك تبدو
شعرة من رأس اإلنسان تحت املجهر شديدة الشبه بشجرة ،وكال الطرفني
مكون بشكل لولبي“ ،املحتوى الرئيس للشجرة له صلة بالكاربوهيدرات،
بينام شعرة الرأس لها صلة بالكرياتني ،وهو نوع من الربوتني”[[[ وهاتان
املادتان عضويتان ،ومتضادتان ،ومتكاملتان ،فتتشابهان يف الشكل والنمو
تقريباً ،وتختلفان يف القياس والحجم.
وكام أن جذور النباتات تُغمر يف الرتاب تُغمر جذور الشعر يف جيوب
خاصة ،فأجسادنا شكل مكثف للطبيعة من حولنا ،ويعني ذلك أن الداخل
يقابله الخارج ،ويتساوى معه ،والكبري يقابل الصغري ،ويتكامل معه.
والطاقتان الساموية واألرضية حارضتان ومتكاملتان ،ونجد صدى
لهذا التكامل يف جسد اإلنسان ،فـ”الكبد متامسك ،وجامد ،ولهذا نرى أنه
مك ّون من طاقة لولبية مركزية ،وانفالشية ،واملرارة جوفاء بنسبة أكرب ،لهذا
نرى أنها مكونة من طاقة لولبية طاردة مركزية آتية من أقايص الفضاء ،الكبد
[[[
واملرارة مختلفان يف التكوين ،لكنهام يعمالن بوصفهام كالً واحدا ً”
ويعمل القلب بحركتني متضادتني يف الوقت نفسه ،فهو يضخ الدم
واليانغ ،والواحدة منها تبطل األخرى“ ،فثمة تح ّول من الفراغ إىل الوفرة،
ومن الوفرة إىل الفراغ ،فتأخذ دورات الطبيعة مجراها ،ومتتزج طاقات
العنارص الخمسة بطرق ال نهائية؛ ليك تنتج الوجود الظاهري ،فتحتوي
األشياء يف الطبيعة عىل العنارص الخمسة جميعها ،ولكن بنسب متفاوتة،
ويوضح الشكل اآليت اشتامل األشياء يف الطبيعة عىل هذه العنارص عىل
[[[
وفق ثنائية الني واليانغ عىل وفق الرؤية التاوية
تختلف العنارص ،وتتقابل ،وتتكامل ،فاملاء هو طاقة العنرص املرافقة
للشتاء ،تتكثّف الطاقة خالله ،وتُخ ّزن ،ويصبح املاء قوة كامنة تنتظر أن
تُح ّرر ،ثم يأيت الربيع بطاقة الخشب التي تنشأ من الطاقة الكامنة للامء،
كام تنمو النباتات من األرض بأمطار الربيع ،وهي طاقة متجددة ترتافق
بالحيوية ،والنمو ،والتطور.
وتنضج طاقة الخشب؛ لتعطي طاقة النار املزهرة يف فصل الصيف،
فتنضج أشكال الحياة يف الصيف؛ بسبب التوهج املستمر لطاقة النار.
ويف نهاية الصيف تح ّول الطاقة نفسها إىل طاقة عنرص الرتاب،
وهي طاقة متوازنة ،وعند التحول من الصيف إىل الخريف تتحول الطاقة
إىل طاقة معدن ،تبدأ باالنكامش ،واالنسحاب إىل الداخل ،فالخشب
مبالمسة املعدن يُقطَع ،والنار مبالمسة املاء تُطفأ ،والرتاب مبالمسة
إن عامل البعد الواحد تح ّده نسختان من عامل البعد الصفري ،وعامل
األبعاد الثالثة األوىل مكاين ،يف حني أن البعد الرابع زمني.
و َمن يعيش يف عاملنا؛ عامل البعد الثالث غري قادر عىل اخرتاق بعد
أعىل منه ،لكنه قادر عىل ذلك يف البعد األدىن منه ،والبعد الثالث بعد
محكوم مبنطق الثنائيات الضدية ،وحني نرتقي إىل بعد أعىل يتحول
التضاد إىل وحدة.
وتَظهر دراسة األبعاد عن طريق نظرية األوتار ،أو نظرية الخيطية
( )String Theoryفاألشياء ،أو املادة مك ّونة من أوتار َحلَقية مفتوحة،
فكل ما يف الكون مك ّون من أوتار دقيقة مهتزة
وأخرى متناهية يف الصغرّ ،
بدءا ً بجسد الكائنات الحية وانتهاء باملجرات ،وبحسب هذه النظرية يعزف
الكون سيمفونية أوتار فائقة متذبذبة ،فالكون عزف موسيقي ،ومن املمكن
معرفة الكون من خالل معرفة األوتار ،ونغامتها[[[.
واملهم يف الكالم السابق أن البعد الثالث بعد الثنائيات الضدية ،أما
البعد الرابع[[[ ـ كام يرى العلامء ـ فيمكن أن يوجد فيه شخص ما يف
مكانني مختلفني،وهذا األمر غري ممكن يف البعد الثالث الذي ندركه،فالبعد
الثالث الذي نعيش فيه هو الذي حكم علينا مبنطق الثنائيات ،والتضاد يف
مراحل متقدمة يتحول إىل التكامل ،ويف بعدنا الثالث نحتاج إىل طريف
الثنائية ،فوجود أحد طرفيها فقط يعني أننا انخفضنا بالبعد إىل بعد أدىن،
فالثنائية أساس البعد الثالث؛ ألن انتفاء أحد طرفيها يعيدنا إىل البعد الثاين،
فيذهب الجدل ،ونعود إىل حالة سكون؛ أي موت مطلق ،وللتغلب عىل
هذه الحالة يظهر طرف الثنائية اآلخر.
وقد سبق أن مثّلنا الثنائية الضدية مبغناطيس له قطبان ،سالب،
وموجب ،ويتعني عىل ذلك أن األضداد القطبية تكون مرشوطة بالتأثري
املتبادل للقطبني املتضادين أحدهام يف اآلخر ،ويعني انفصال أحد هذين
القطبني تعطل آلية الثنائية الضدية ،فال توجد إال يف ارتباطهام ،واتحادهام
معاً ،وال وجود الرتباطهام إال يف تضادهام ،كام ال وجود التحادهام
إال باختالفهام ،وانفصالهام ،ويعني هذا الكالم أن مثة طبيعة ديالكتيكية
لطريف الثنائية الضدية.
وال ينشأ املنطق إال من املتضادات ،كالسبب /النتيجة ،العلة/
املعلول ،التامثل /االختالف ،املظهر /الجوهر....
ويعني ما سبق أن العمليات الكيميائية ترت ّد إىل ظاهريت الجذب
والدفع الكيميائيتني ،وتتوزع الكهرباء بني جسمني أو أكرث ،مشحونني
بشحنتني متضادتني.
ويف الرياضيات تبدأ الهندسة باكتشاف أن املستقيم واملنحني
ضدان ،ويتعذر التعبري عن املنحني مبستقيم واحد ،وأن االثنني
غري متقايسني ،ومع ذلك يبدو حساب الدائرة متعذرا ً إال بالتعبري عن
محيطها من خالل الخطوط املستقيمة ،لكن فيام يتعلق باملنحنيات
التي لها خطوط متقاربة يصبح املستقيم مندمجاً متاماً يف املنحني،
58سلسلة مصطلحات معاصرة
[[[
الشاشة ،أو تطبع الشكل ذاته يف الوثيقة األصلية
ويف الفيزياء وصل الفيزيائيون الغربيون إىل نتيجة مفادها أن
املتضادات هي املت ّمامت؛ إذ تقوم املفاهيم املتضادة عىل عالقة قطبية،
أو مت ّممة بني املفهوم ،والطرف اآلخر[[[.
ومثاالً عىل هذه العالقة بني أزواج املفاهيم ق ّدم نيلز بور N. Bhor
صفَني متتا ّمني للواقع
فكرة التتام ،فع ّد صورة الجسيم ،وصورة املوجةَ ،و ْ
فكل صورة
كل منهام صحيح جزئياً ،وله مجال محدود من التطبيقّ ،
نفسهّ ،
منهام رضورية لتقديم وصف كامل للواقع الذ ّري[[[.
كل جسيم يوجد مقابله مضا ّد له بكتلة متساوية،
يف الفيزياء الحديثة ّ
وشحنة متعاكسة[[[ فثمة وجود لجسيم مضاد لكل جسيم بكتلة متساوية،
لكن بشحنة معاكسة ،فالفوتون مثالً هو الجسيم املضاد لنفسه ،والجسيم
املضاد لاللكرتون هو البوزيرتون ،ومن ث ّم هنالك بروتون مضاد،
ونيوترون مضاد ،وحني يصدم الربوتون والربوتون املضاد توجد مثانية
بيونات ناجمة عن هذا التصادم[[[ حني تكون الطاقة عالية.
[[[ـ املرجع السابق ،ص190
[[[ـ لقد أق ّر كثري من الفيزيائيني املعارصين باالنسجام العميق بني الحكمة الصينية القدمية ،والفكر الغريب
الحديث ،وقد شخّص الصينيون تتام ّية املتضادات بالقطبني النمطيني الكبريين «الني ،واليانغ» ورأوا يف
الدينامي جوهر ظواهر الطبيعة كلها ،واملواقف البرشية.
ّ تفاعلهام
انظر :فرتيجوف كابرا ،1999 :الطاوية والفيزياء الحديثة ،ط ،1ترجمة :حنا عبود ،دار طالس ،دمشق .ويدرس
هذا الكتاب التامثل بني الفكر الصيني القديم حول ثنائية الني واليانغ والعلوم الفيزيائية الحديثة.
[[[ـ املرجع السابق ،ص 147إن مثة قوة جذب الكرتوين بني النواة الذرية ذات الشحنة املوجبة وااللكرتونات
ذات الشحنة السالبة ،وتتفاعل هذه القوة مع أمواج االلكرتون ،فيخلق تن ّوعاً ضخامً من البنى والظواهر يف
بيئتنا .إنه املسؤول عن التفاعالت الكيميائية ،وعن تشكل الجزيئات؛ أي تجميع عدد من الذرات ترتبط
الواحدة باألخرى بسبب الجذب املتبادل ،فالتفاعل بني االلكرتونات والنويات الذريّة هو أساس كل األجسام
الصلبة والسائلة والغازية ،وكذلك كل العضويات الحية ،والعمليات البيولوجية املرافقة لها .فثمة تناظر يف
الظواهر الطبيعية الفيزيائية ،فقد اكتشفت الفيزياء الحديثة أن الطاقة الثابتة املتدفقة من الشمس التي هي حلقة
اتصالنا بالكون الضخم جداً هي نتيجة تفاعالت نووية لظواهر تجري يف العامل املوغل يف الصغر .املرجع
السابق ،ص73
[[[ـ املرجع السابق ،ص. 76
[[[ـ املرجع السابق ،ص.214
60سلسلة مصطلحات معاصرة
إن هنالك تدفقاً دامئاً يف الطاقة ترقص فيه الجسيامت رقصاً إيقاعياً
مؤدّية عمليتي الخلق والتدمري ،فقد بنيت الفيزياء الحديثة عىل فكرة
الحركة واإليقاع ،فكل مادة يف األرض ،أو يف الكون الخارجي موجودة
يف حال رقص كوين مستمر.
جسيم ما دون الذ ّرة يف منطقة ضيقة من
ومثاالً عىل هذه الحركة يوجد ُ
الفراغ ،ويقوم بر ّد فعل عىل احتباسه فيها بالتحرك دائرياً ،وكلام ازدادت
املنطقة املحتبس فيها ضيقاً ازدادت رسعة اهتزازه ،ودورانه[[[ ويعني ذلك
أن الجسيامت متيل إىل رد الفعل عىل الحصار بالحركة ،فهي ال تعرف
الراحة ،بل متيل ميالً فطرياً إىل الدوران؛ ألنها غري مستقرة أساساً.
املادة ليست سلبية وخامدة يف الفيزياء ،بل تتحرك حركة دؤوبة وراقصة،
تقوم البنى النووية ،والذرية بتحديد إيقاعها تبعاً لثنائية التقييد /الحركة،
وينطبق هذا الكالم عىل عامل النجوم ،واملجرات ،فالكون ليس ثابتاً بل
يندرج يف ثنائية :متدد /تقلص ،فالكون ـ حسب علم الفلك الحديث -يأخذ
[[[
يف االتساع والتمدد دورياً عىل وفق إيقاع خاص بالخلق الكوين
وتع ّد ثنائية “االمتالء والفراغ” الثنائية التي تأسست عليها ذ ّرية
دميقريط Democritusونيوتن I.Newtonوال ميكن لهذين املفهومني
يف النسبية العامة ل إنشتاين A. Einsteinأن ينفصال ،فحيثام يكون جسم
ضخم سيكون أيضاً حقل جاذيب يُظهر انحناء يف الفضاء املحيط بذلك
الكم ( )Quantum Theoryال تعرف الهدوء ،بل تكون ّ [[[ـ املرجع السابق ،ص 176املادة طبقاً لنظرية
دامئاً يف حالة حركة ،واألشياء املادية حولنا مصنوعة من الذرات املرتبطة بعضها ببعض بطرق شتى؛ لتشكّل
هذا التنوع الهائل من البنى الجزيئية التي تتذبذب ،ويف الذرات املهتزة ترتبط االلكرتونات بالنواة الذرية عن
طريق قوى كهربائية تحاول االحتفاظ بهذه االلكرتونات أقرب ما ميكن فيكون ردّها عىل هذا التقييد بالدوران
دائرياً أقىص ما ميكن .انظر املرجع السابق ،ص. 178
[[[ـ الجدير ذكره أن هذه النظرة الفيزيائية الحديثة تتفق مع الفلسفة التاوية القدمية التي تقول:
«السكون يف السكون ليس السكون الحقيقي ،فقط حني يوجد السكون يف الحركة ميكن أن يظهر اإليقاع
الروحي الذي يبسط ظله يف األرض ،والسامء» املرجع السابق ،ص.178
61 المصادر والمراجع
الجسم ،لكن االثنني ال ميكن التفريق بينهام ،فال ميكن للامدة –يف
نظرية إنشتاين[[[ أن تنفصل عن حقل جاذبيتها ،وحقل الجاذبية ال ميكن
أن ينفصل عن الفضاء املنحني ،فاملادة والفضاء يبدوان غري منفصلني،
وجزأين مرتابطني ميثالن كالً واحدا ً.
-املصادر واملراجع
-أنجلز ،فريدريك ،1988ديالكتيك الطبيعة ،ط ،1ترجمة وتقديم:
توفيق سلوم ،دار الفارايب ،بريوت
-كابرا ،فرتيجوف ،1999 :الطاوية والفيزياء الحديثة ،ط ،1ترجمة :حنا
عبود ،دار طالس ،دمشق
-ماكليش ،جون :العدد -من الحضارات القدمية حتى عرص الكمبيوتر،
ترجمة :د .خرض األحمد ،د .موفق دعبول ،عامل املعرفة ،املجلس
الوطني للثقافة والفنون واآلداب ،العدد ،251نوفمرب.
-املراجع األجنبي�ة
Mitchio Kushi with Edward Esko, OTHER DIMINSIONS
Exploring the Unexplained, 1992, Avery publishing Group
Inc. Garden city park, New York.
-املراجع االلكرتوني�ة
http://nasainarabic.net
Malt Williams: http: universetoday.com/author/mvill 7 nov 2016
http://ar.m.wikipedia.org
www.alaalsayid.com
طبيعي وما فوق طبيعي ،ويعني ذلك أن الروح تبقى يف العامل فوق
الطبيعي بعد موت الجسم الطبيعي.
-2الثن�ائي�ات الضدية يف الفلسفة القديمة:
1--2الفلسفة الصيني�ة وثن�ائي�ة الني واليانغ
كل قطب من القطبني السالب،
ترى الفلسفة الصينية القدمية أن ّ
ولكل قطب صفات
ّ واملوجب ال يقوم مبعزل عن القطب املضاد له،
مضادة لصفات القطب اآلخر ،وتلك الصفات تح ّدد نوعية ما ينجم عنه
من مظاهر الكون ،فاليانغ املوجب إذا غلب الني السالب نجم ما له
صفة موجبة ،وإذا غلب الني السالب نجم ما له صفة سالبة ،وعىل ذلك
يقوم نظام الكون ،فكل ما فيه نتيجة تجاذب أقطاب الخري والرش التي
متثّل النور /الظالم ،الحياة /املوت ،الذكر /األنثى ،ويعني هذا الكالم أن
الفلسفة الصينية تقوم عىل فكرة القطبني املتجاذبني ،ال املتنافرين؛ إذ
[[[
يجتمع الني واليانغ يف إطار واحد ،وال فاعلية ألحدهام من غري اآلخر.
تشكل الثنائيات الضدية ـ إذن ـ جزءا ً من اإليقاع الكوين والبرشي،
صاغه الفكر الصيني يف تناوب املبدأين “يانع وين” ،وهي ثنائيات متثل
أمثلة متعددة من أزواج كونيات ،واجتامعيات ،ودينيات ضمنت التناوب
اإليقاعي للحياة والعامل ،وتلتقي جميع الفلسفات والديانات القدمية يف
فكرة الثنائية ،كالثنائية الفارسية لزرادشت يف املانوية ،فقد ع ّد زرادشت
العامل خليطاً من الروحي واملادي ،ويكون الخالص نتيجة جهد طويل
[[[ـ يقوم الفكر الصيني منذ أقدم األزمنة عىل النظر إىل الحياة واإلنسان والوجود بأكمله عىل أنه نتاج حركة
قوتني ساريتني يف مظاهر الوجود كلها هام الني واليانغ ،والسالب ،واملوجب ،املؤنث ،واملذكر ،وهاتان
القوتان عرب تعارضهام متعاونتان ،وال قيام إلحداهام مبعزل عن األخرى ،فهام أشبه بالقطب السالب ،والقطب
املوجب يف املغناطيس.
انظر :الو تسو ،1998 :التاو ..يت ..تشينغ ..إنجيل الحكمة التاوية يف الصني ،ط ،1ترجمة ورشح وتعليق:
فراس السواح ،دار عالء الدين ،دمشق ،ص.10-9
67 الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي
الضارة [[[.فالكامي فلسفة يابانية خاصة يصدر عنه الخري والرش ،فالكامي
قوة مؤثرة يف الكون ،ومن نتائج تأثريها أفعال الخري والرش ،ويشمل كل من
ميتلك قوى غري طبيعية تثري االحرتام والتبجيل حيناً ،وتبعث عىل الخوف
[[[ـ تكمن الثنائية املانوية يف قلب تعاليم ماين ،فالله أب العظمة ،يعارضه أمري الظالم ،واالثنان عنرصان
أوليان .انظر :جفري بارندر :د.ت ،املعتقدات الدينية لدى الشعوب ،ترجمة إمام عبد الفتاح ،مراجعة عبد
الغفار مكاوي ،مكتبة مدبويل ،ص150
وتق ّر املانوية أن إله النور والخري خلق اإلنسان من نور ،فكان نورانياً شفافاً ،غري أن إله الظلمة والرش عمد إىل
خلق جسم اإلنسان من مادة كثيفة؛ لتكون سجناً للروح اإلنسانية النورانية ،وكان هذا الجسم هو سبب الشقاء
الذي يعانيه اإلنسان ،وال سبيل إىل الخالص منه إال بالعمل عىل إفناء هذا الجسم ،والتخلص منه ،فنادت
بالزهد والتقشف ،وح ّرمت الزواج للقضاء عىل النسل .انظر :إبراهيم محمد إبراهيم1406 :هـ ،األديان الوضعية
يف مصادرها املقدّ سة ،مطبعة األمانة ،القاهرة ،س196
[[[ـ املرجع السابق ،ص .215
[[[ـ املرجع السابق ،ص.261
72سلسلة مصطلحات معاصرة
انطلقت من فكرة وجود إلهني أزليني :إله الظلمة ،وإله النور ،وقد نشأ
العامل -حسب معتقداتها ـ من امتزاج النور بالظلمة .فالله هو الخري والنور.
والشيطان هو الخطيئة والظالم ،وال بد من احتقار الحياة ،ونبذ الجسد،
وتفضيل املوت من أجل تخليص الروح والنور من سجن الجسد والظالم.
واملانوية عقيدة دينية غنوصية ،أي عرفان رباين بال وساطة ،يهدف إىل
كنه األرسار اإللهية ،ظهرت يف فارس يف القرن الثالث امليالدي ،ونسبت
[[[
إىل الحكيم الفاريس ماين املرتبط مبذهب غنويص.
وتعني املانوية الروح العارفة التي تحقق االستنارة ،وتدرك أصلها
النوراين ،و يجعل العرفا ُن النو َر منترصا ً عىل الظالم ،وقد ادّعى ماين
أن كشفني إلهيني دفعاه إىل إعالن مذهبه ،ويقوم هذا املذهب عىل
االعرتاف ببعض الديانات السابقة ماعدا اليهودية التي كان يبغضها ،وقال
إنه جاء؛ ليتمم عمل زرادشت وبوذا واملسيح ،وتتبنى هذه العقيدة بعض
املفهومات التقليدية الفارسية املتمثلة بالثنائية النور و الظلمة ،واألسطورة
واألخروية ...والعامل ـ يف رأيها ـ مصنوع من النور والظلمة ،وهام أصالن
أزليان قدميان ،وقد أُبدع العامل املادي بدئياً من قوة شيطانية ولدتها
الظلمة ،واإلنسان هو عمل قوى شيطانية تأمتر بأمر أمري الظالم ،و َخل ُْق
اإلنسان ت ّم بحركة يائسة من املادة يك متسك بجزئيات النور ،فوجود
اإلنسان والطبيعة والحياة يرجع إىل عدو الله أمري الظالم[[[.
للنور فعل الخري والصالح والرسور والنظام ،وللظلمة فعل الرش
والفساد والرضر والغم ..ومثة أضداد للطرق املعلنة من قبل أب النور،
ويقتيض الخالص ثالث محطات :اليقظة ،وكشف العلم املنقذ،
[[[ـ مجموعة من الكتاب ،2007 :ط ،1هيئة املوسوعة العربية ،ط ،1الجمهورية العربية السورية ،رئاسة
الجمهورية ،دمشق ،املجلد السابع عرش ،ص .581
[[[ـ املرجع السابق ،ص .582
73 الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي
والذكرى ،ويف النهاية تعجز الظلمة عن غزو مملكة النور [[[.وال تنفصل
املاهيتان نهائياً إىل حني تتخلص األرواح -جوهر النور -من سجن املادة،
كل إىل عامله ،وتلك هي القيامة واملعاد .فكون العامل محكوماً
فيصل ٌّ
رش.
رش ناجم عن عملية املزج بني املادة ،والروح ،والخري ،وال ّ
بال ّ
ومتثّل املانوية الثنائية املطلقة التي تقول بوجود أصلني أزليني
للعامل ،مستقلّني :عامل الروح /النور األزيل ،وعامل املادة /الظلمة االزلية،
وحني دخلت الظلمة يف نسيج النور كان ال بد من الفصل بينهام مجددا ً،
يف حني متثّل الزردشتية الثنوية الجذرية التي تقول بوجود أصلني ليسا
أزليني ،بل متولّدين عن اإلله األزيل الواحد القديم ،وهام يف حال رصاع
منذ وجودهام[[[.
- 3-2البوذية وثن�ائي�ة الشقاء والسعادة
البوذية حركة فكرية فلسفية تدعو إىل التعامل مع منغصات الحياة،
وكيفية التغلب عليها ،ويعني بوذا املستنري ،وتنص فلسفته عىل أن الحياة
أمل ،وتعب ،وشقاء ،وتعاسة ،فإذا وضع اإلنسان يده عىل مصدر الشقاء،
رس السعادة
وعرف سببه ،وكيف يقيض عليه يكون بذلك قد توصل إىل ّ
التي تخلصه من تكرار املولد ،وتوصله إىل النريفانا ،وهي هدف البوذي
من هذه الحياة ،وتعني النريفانا انتهاء الشهوة ،وخمودها [[[.تقوم البوذية ـ
إذن ـ عىل فكرة أن الضد يظهر من ض ّده.
وتأيت الهندوسية بفلسفة يغلب عليها الزهد ،والتصوف ،والهندوسية
خليط من أديان وعقائد ،حوت تحت جناحيها الطقوس الدينية ،وغري
الدينية ،فثمة تعدد آلهة ،ووحدانية ،هي دين املتضادات يف العبادات،
واملعتقدات ،وفيها الطقوس الدينية ،وغري الدينية ،وفيها التعدد والتفرد
يف املعتقد اإللهي.
-3الصوفية والبعد الفلسفي املبين على الثن�ائي�ات الضدية
كل يشء ،وهونجد يف كتابات الصوفية التضاد الواضح ،فاإلنسان هو ّ
ال يشء ،فمن منطق النفس يكون اإلنسان ال يشء ،ومن منطق الروح يكون
اإلنسان العامل األكرب ،وقد رأى جالل الدين الرومي أن اإلنسان الكامل
املثايل هو الجدول الذي ينبع من الداخل ،ويكون صافياً ،فتنعكس فيه
صورة األشياء ،وأن ما من يشء يف الحياة إال يحمل ضده معه ،فيكون
حياة لطرف ،وموتاً لطرف آخر:
“-فام يكون قوة ألحد يكون قيدا ً آلخر ،يكون سامً بالنسبة إىل أحد،
وآلخر كأنه السكر.
-وس ّم الحية يكون حياة لتلك الحية ،ولكنه بالنسبة إىل اإلنسان موت.
-والبحر بالنسبة إىل أحياء البحر كالحديقة ،لكنه ملخلوقات األرض
[[[
موت ،ومصيبة”.
[[[ـ عبد الله مصطفى نومسوك1420 :هـ ،البوذية :تاريخها ،وعقائدها ،وعالقة الصويف بها ،مكتبة أضواء
السلف ،ص220
مثنوي ،ترجمه ورشحه وقدّ م له :د .إبراهيم الدسوقي شتا ،املجلس
ّ [[[ـ موالنا جالل الدين الرومي،2002 :
75 الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي
ويقوم كتاب “مثنوي” عىل الجمع بني الثنائيات الضدية ،ورؤية كل
طرف من الثنائية باآلخر ،وتؤدي الثنائيات إىل التكامل لدى املتص ّوفة،
فاإلنسان الكامل هو القاسم املشرتك األعظم يف أعاملهم :اإلنسان يف
تساميه وشعفه ،عل ّوه وسقوطه ،طهره ودنسه.
والعالقة بني املعبود والعابد خاصة لديهم؛ إذ يشعر اإلنسان أنه
مخلوق شبه إلهي يفنى عن ذاته كلياً ،وهذا الحضور الدائم لله يف اإلنسان
يعطي للجدلية الصوفية بعض الغرابة.
إن املخلوق الذي فيه نغمة من اإلله نزل عىل األرض ـ مق ّر منفاه
وغربته ـ ال بد أن يكون جديرا ً بالعودة إىل أصله؛ لذا ال ب ّد أن يرتفع
عب
اإلنسان عن التضاد الشديد الذي يوصله إىل الحرية والرصاع .وهذا ما ّ
عنه حافظ الشريازي بقوله:
-ال أدري من يوجد بداخيل أنا املعذّب ،فأنا صامت ،وهو يف رصاخ
[[[
وعويل”
يتحد اإلنسان بالفضاء الطبيعي ،ويرى نفسه يف كل يشء جميل
يف الطبيعة ،ويقوم كل يشء حوله عىل ثنائيات ركيزتها التضاد ،وهدفها
التكامل ،والفكرة املهمة لديهم عظمة اإلنسان ،وسيادته ،إنه يتمثّل يف كل
يشء يف الطبيعة:
“-إننا نشعر بألوان من الحب نحو هذا الرتاب ،لقد خُلق يف حال من
أحوال الرضا؛ ذلك ألن هذا الرتاب ذو ظاهر أغرب ،لكنه يف الباطن ذو
صفات نورانية.
-وقد اشتبك ظاهره مع باطنه يفجدال ،فباطنه كالجوهر ،وظاهره كالحجر.
[1] - The Graphic work of M.C. ESCHER, Ninth Printing, April 1975 Ballantine
Books, a division of Random House, Inc. 201 East 50th Street New York, N.Y.
10022
78سلسلة مصطلحات معاصرة
الهندسة الخاصة بعامل هذا الرسم يكون للمالئكة القدر والشكل نفسهام،
وكل عدد غري منته من النسخ يتكرر أبدا ً
وكذلك األمر بالنسبة إىل الشياطنيّ ،
من غري أن يتجاوز حدود الدائرة .إنها الثنائية الضدية التي يسري طرفاها يف
خطني متوازيني من غري أن يلتقيا ،وهام متكامالن يف الصورة النهائية.
كل من الزمان واملكان،
كل من يغوص يف الالنهاية يف ّ
وكتب إيرش أن ّ
ويتعمق فيها من غري توقف بحاجة إىل نقاط مثبتة ،تكون مبنزلة معامل يف
طريقه يف أثناء انطالقه برسعة؛ ألنه إذا مل يتحقق ذلك تعذر عليه التمييز بني
حركته ،ووقوفه ساكناً ،ويتعني عليه أن يج ّزئ عامله إىل وحدات لها أطوال
كل منها اآلخر بتعاقب ال ينتهي.
[[[
محددة ،وإىل أقسام منفصلة يك ّرر ّ
ويعني الكالم السابق أن عامل البعد الثالث الذي نعيش فيه هو عامل
ثنائيات ضدية ،أما إذا ارتقينا إىل عامل أعىل حيث الدائرة فال أبعاد،
وتكتمل الثنائيات فيه ،فقد كان يريد أن يكرر أشكاالً تتكرر أبدا ً مقرتبة من
حد يحيط بها ،من غري أن تدرك هذا الح ّد.
وعامل داخيل يحتوي عىل النامذج العليا للمعرفة اإلنسانية ،وأدت هذه
الثنائية إىل ظهور ثنائية أخرى مامثلة يف تفسري وظيفة اللغة ،وتحديد معنى
النص األديب[[[.
وقد تأرجحت الفلسفة الغربية عرب ما يقرب من ثالثة قرون بني الداخل
والخارج ،بني فكر واقعي يعتمد التجربة الحسية بوصفها أساساً للمعرفة
اإلنسانية ،وفكر مثايل يضع أسس املعرفة داخل العقل البرشي ،ويتحرك
بني القطبني عدد من رواد الشك الذين يرون استحالة املعرفة اليقينية سواء
انطلقنا من الداخل ،أو من الخارج.
إن امليل إىل قطب الداخل يولّد اتجاهاً معاكساً يقرتب من قطب
الخارج ،ورسعان ما يولّد هو اآلخر عودة إىل القطب األول يف حركة
دامئة ،وقد ازدادت هذه الحركة املتضادة يف القرن العرشين ،ويع ّد لوك،
وهيوم ،وهوبز ،T. Hobbesوهيغل ،ونيتشه F. Nietzscheممثّلني
لقطب الخارج ،وديكارت ،وبريكيل Berkeleyوكانت I. Kantممثلني
[[[ـ للتوسع يف أثر الفلسفة يف النقد األديب ينظر:
عبد العزيز حمودة ،1998 :املرايا املحدبة من البنيوية إىل التفكيك ،عامل املعرفة ،املجلس الوطني للثقافة
والفنون واآلداب ،نيسان ،ص61
81 الثنائيات الضدية والبعد الفلسفي
لقطب الداخل ،واملنطقة الوسطى ،منطقة البني بني تض ّمهم جميعاً بني
حني ،وآخر.
إن األساس الفلسفي هو الذي ارتبط باللغة والنقد ،فلالتجاهات
النقدية الكربى أسس فلسفية ،وكان معظم النقاد فالسفة ،وسيتم التوسع
الحقاً يف هذه الفكرة .فكيف تجىل األساس الفلسفي يف املدارس النقدية
القامئة عىل تضاد الثنائيات؟
82سلسلة مصطلحات معاصرة
املصادر واملراجع
-إبراهيم ،إبراهيم :محمد 1406هـ ،األديان الوضعية يف مصادرها
املق ّدسة ،مطبعة األمانة ،القاهرة
-إلياد ،مرسيا ،1987 1986- :تاريخ املعتقدات واألفكار الدينية،
ترجمة عبد الهادي عباس ،ط ،1دار دمشق
-بارندر ،جفري :د.ت ،املعتقدات الدينية لدى الشعوب ،ترجمة إمام
عبد الفتاح ،مراجعة عبد الغفار مكاوي ،مكتبة مدبويل
-توال ،جان لوك ،2011 :فلسفة الزن -رحلة يف عامل الحكمة ،ط،1
ترجمة ثريا إقبال ،هيئة أبو ظبي للثقافة والرتاث
-حفني ،عبد املنعم ،2010 :موسوعة الفلسفة والفالسفة ،مكتبة
مدبويل ،القاهرة
-حمودة ،د .عبد العزيز ،1998 :املرايا املحدبة من البنيوية إىل
التفكيك ،عامل املعرفة ،املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب ،نيسان
-ديورانت ،ول ،1988 :قصة الحضارة 24 ،جزءا ً ،تقديم د .محيي
الدين صابر ،ترجمة :د .زيك نجيب محمود وآخرين ،دار الجيل ،بريوت،
املنظمة العربية للرتبية والثقافة والعلوم ،تونس
ي ،ترجمه ورشحه وق ّدم له:
-الرومي ،موالنا جالل الدين ،2002 :مثنو ّ
د .إبراهيم الدسوقي شتا ،املجلس األعىل للثقافة ،القاهرة
-السحمراين ،أسعد ،2009 :ترجامن األديان ،دار النفائس للطباعة
والنرش ،بريوت
-سكاتشنايدر ،دوريس ،1995 :أشكال إيرش املجازية ،مجلة العلوم،
الرتجمة العربية ملجلة ساينتفيك أمريكان ،مؤسسة الكويت للتقدم
83 المصادر والمراجع
املادة ،ونستطيع أن نرى مالمح ،أو نزعات مادية يف فلسفته ،فرناه صوفياً
حيناً ،فيلسوفاً مثالياً حيناً آخر ،فالسعادة برأيه تكون يف الحياة الدنيا ،وهذه
الحياة طريق لنيل السعادة القصوى يف الحياة األخرى ،وتتحقق السعادة
يف الحياة الدنيا عن طريق الفضائل النظرية يف الربهان العقيل والفكري،
وباستخالص القوانني الالزمة يف معرفة ما ينفع يف الحياة االجتامعية،
والفضائل الخلقية ،فالسعادة هي سعادة اإلنسان عىل هذه األرض[[[.
كل من
والتضاد لدى الفارايب هو التقابل بني أمرين وجوديني ،ويكون ّ
األمرين طاردا ً مباهيته اآلخر ،ناظرا ً إليه ،آبياً االجتامع معه وجودا ً .ومن
[[[
أحكام التضاد أنه ال يقع بني أكرث من طرفني ،فلليشء ضد واحد.
- 2-1املدين�ة الفاضلة ومضاداتها
نعت الفارايب مدينته باسم املدينة الفاضلة يف كتابه آراء أهل املدينة
الفاضلة ومضاداتها[[[ ليميزها من املدينة الضالة ،واملبتذلة وغري ذلك،
رش.
كل مدينة ،وميولها من خري ،و ّ
خواص ّ
ّ فذكر
ِ
الخــاف أن يجتمعــا لغايــة امتنعا فيام التضاد تقابل
ِ
فاعــرف وعنــد غــره أعــ ّم الفلسفي
ّ عند وجوديان هام
قريــب فاعلــا
ٌ جنــس
ٌ ليــس لــه كل ما
وليس يف األجناس بل يف ّ
ِ
واحــد ر ضــ ٍّد
ليــس لضــ ٍّد غــ ُ التباعد غاية وباعتبار
فيخــرج الجوهــ ُر وهــو ظاهــ ُر ووحــدة املوضــوع رش ٌ
ط آخــ ُر
محــل
ّ فليــس للخــروج منــه مــن املحــل
ّ وقيــل بــل يكفيــه وحــدة
الشيخ محمد حسني األصفهاين الغروي :د.ت ،تحفة الحكيم ،منظومة يف الحكمة وللعقول ،قدّ م لها ودققها:
الشيخ محمد رضا املظفر ،مؤسسة آل البيت إلحياء الرتاث ،ص.46-45
[[[ـ الفارايب :آراء أهل املدينة الفاضلة ومضاداتهاwww.al-mostafa.com ،
88سلسلة مصطلحات معاصرة
الله والعقل ،لكن تكون أفعالهم أفعال املدينة الجاهلة ،يقولون ما يقوله
أهل املدينة الفاضلة ،وال يعملون به.
واملدينة املبتذلة ،وقد كانت آراء أهلها وأفعالهم يف القديم مامثلة
آلراء أهل املدينة الفاضلة وأفعالهم لكنها تبدلت ،فدخلت فيها آراء
فاسدة ،واستحالت أفعالهم إىل أفعال مذمومة.
واملدينة الضالة ،وهي التي تعتقد يف الله ،والعقل الف ّعال آراء فاسدة،
ويكون رئيسها األول ضاالً ،يظ ّن أنه يوحى إليه ،وهو بعيد عن الوحي،
فيغري الناس ،ويخدعهم بأقواله ،وأفعاله.
2ـ الثن�ائي�ات الضدية يف فلسفة ابن سين�ا ت “427هـ”
- 1-2تقابل القضايا عند ابن سين�ا
تأثر ابن سينا بأرسطوطاليس لكنه عرف أنواعاً من التحليل تستجيب
ملطالب التطور الذي عرفته العلوم يف عرصه ،وهو -عىل الرغم من تأثره
مبنطق أرسطو -ال يراه ولد معه كامالً.
ويرى ابن سينا أن التناقض أقوى ،وأوضح من التقابل؛ ألنه تقابل تام
بني النفي واإلثبات ،فالقضيتان املتفقتان يف كيفية اإليجاب والسلب،
املختلفتان يف الحرص تسميان متداخلتني[[[ وبذلك يكتمل مربع التقابل
مع ابن سينا الذي وضعه أبوليوس Apuleiusيف القرن الثاين امليالدي من
غري أن يذكر املتداخلتني.
والتضاد هو تقابل قضيتني كليتني مختلفتي الكيف ،ويكون الدخول
تحت التضاد بني الجزئيتني املختلفتني يف الكيف ،والقضيتان املتضادتان
ال تصدقان معاً ،وقد تكذبان معاً ،بينام القضيتان الداخلتان تحت التضاد
[[[ـ للتوسع انظر :ابن سينا ،1970 :الشفاء .العبارة ،تحقيق محمود الخرضي ،وزارة املعارف العمومية،
مرص ،ص48
93 الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي
ال تكذبان معاً ،وقد تصدقان معاً ،فيقرر ابن سينا أن القضيتني املهملتني
يف مادة املمكن ليستا مبتضادتني ،وكيف ،وقد يصدق أن اإلنسان كاتب،
ويصدق أن يقال ليس بكاتب ،فيجتمعان عىل الصدق [[[.وهذا حكم
الجزئيتني الداخلتني تحت التضاد ،ويصل إىل نتيجة أن القضية املهملة
يف قوة الجزئية فـ”املهمالت ليست يف حكم املحصورات الكلية ،وإنها
يف حكم املحصورات الجزئية ،وهي األَوىل بها أن تسمى داخلة تحت
املتضادة”[[[.
والقضية املهملة يف حكم الجزئية لديه ،فكلية املوضوع ال توجب
الحكم عليه ،وخلص إىل أن املهمل يف حكم الجزئيتني الداخلتني
تحت التضاد ،فـ”ال تناقض بني املهملتني ،فيبقى أن يكون التناقض بني
املخصوصات واملحصورات”[[[ فالنقيضان ال يكذبان معاً ،وال يصدقان
معاً ،وال يتحقق التناقض إال مبراعاة املوضوع واملحمول .فالقضية
الشخصية لديه “زيد صادق” نقيضها القضية الشخصية “زيد ليس صادقاً”.
وتقتسم القضية املحصورة املوجبة الكلية ،والقضية املحصورة
الجزئية السالبة الصدق والكذب ،واالقتسام حاصل بني الكلية السالبة،
والجزئية املوجبة يف كل مادة؛ أي الواجب ،واملمكن ،واملمتنع[[[.
فالتناقض هو اختالف القضيتني بالسلب واإليجاب اختالفاً تاماً،
واختالفهام يف الكمية اختالفاً يلزم عنه أن إحداهام صادقة ،واألخرى
كاذبة ،فالقضيتان املختلفتان يف الكم دون الكيف تكونان صادقتني معاً،
مثل :كل إنسان حيوان ،وقولنا بعض اإلنسان حيوان ،وتكونان كاذبتني معاً
كقولنا :ال إنسان فان ،وليس بعض الناس فانياً ،فهذا تداخل.
ودفع ابن سينا للحديث عن التضاد تعريفه القضايا املحصورة
واملهملة ،وامتحان رشائط التقابل ،فاالنحراف عنها يقتيض االنحراف
عن التناقض ،فبسط القول يف الدخول تحت التضاد ،وأبدع التداخل،
وبحث يف تقابل القضايا الرشطية ،فالقضية الرشطية املتصلة الكلية
املوجبة البسيطة مثلام تتألف من قضيتني َح ْمليتني كليتني موجبتني تتألف
كذلك من جزئيتني موجبتني ،ومن كليتني سالبتني ،ومن جزئيتني سالبتني،
وهكذا[[[ فالتقابل بني القضايا قد يكون تقابل تضاد ،أو تداخل ،أو تناقض،
أو دخول تحت التضاد .وتجري عىل القضايا الرشطية قوانني تقابل القضايا
الحملية ذاتها ،فاملتضادتان ال تصدقان معاً ،وقد تكذبان معاً ،والداخلتان
تحت التضاد ال تكذبان معاً ،وقد تصدقان معاً ،ويف التداخل إذا صدقت
الكلية صدقت الجزئية معها ،وإذا كذبت الجزئية كذبت الكلية معها ،وال
ينعكس أحد األمرين.
- 2-2ثن�ائي�ة النفس /اجلسد عند ابن سين�ا
مسألة النفس من املسائل املهمة التي شغلت الفالسفة منذ زمن
اإلغريق ،وقد نبه سقراط Socratesعىل أن معرفة النفس هي الخطوة
األوىل نحو املعرفة ،فال يستطيع اإلنسان أن يعرف شيئاً إن مل يعرف
نفسه .والنفس اإلنسانية عند سقراط ظل الله يف اإلنسان ،وجوهر
اإلنسان ،وهي ذات طبيعة روحية إلهية ،لها وجود قائم يف ذاتها ،من
فس
جنس مغاير للبدن ،وهي القوة املح ّركة للجسم ،وتستخدم ال ّن ُ
[[[ـ ابن سينا ،1964 :الشفاء .القياس ،تحقيق سعيد زايد ،وزارة املعارف العمومية ،مرص ،ص 361وما بعدها.
95 الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي
فالنفس والجسد جوهران يؤلفان كائناً حياً ،وهي لدى أرسطو متوت مبوت
الجسد خالف أفالطون ،فالنفس تعيش يف عامل املثل بعيدا ً عن املادة
ودنسها ،وجودها يف الجسد مبنزلة سجن لها؛ ملعاقبتها عىل أخطائها.
ومتنح النفس الحياة للجسد لدى أرسطو ،كام أن الصورة هي جوهر
وجود املادة ،فالنفس والجسد جوهران متباينان ،فتتعمق ثنائية نفس/
جسد ،مادة /صورة ،لدى أرسطو ،وقد فصل بني طريف الثنائية ،فالنفس
س ّيد ،وحاكم موازنة بالجسد الذي ميثل العبد ،والغريزة.
وقد أخذ ابن سينا كثريا ً من آرائه عن الفارايب لكنه تف ّوق عليه ،فتحدث
عن أهمية إثبات وجود النفس فـ”من رام وصف يشء من األشياء وقبل أن
يتقدم فيثبت أنيته “وجوده” فهو معدود عند الحكامء ممن زاغ عن محجة
اإليضاح”[[[.
ومثة برهان طبيعي لديه يتمثل يف حركة الجسم ،فاإلنسان مييش مع أن
له طبيعة مضادة تقتيض السكون[[[ ومثة برهان نفيس ،فاإلنسان يتميز من
غريه بانفعاالته ،وقدرته عىل التمييز بني الخري والرش ،وقدرته عىل الكالم.
[[[ـ محمود قاسم ،1954 :يف النفس والعقل لفالسفة اإلغريق واإلسالم ،ط ،2مكتبة االنجلو املرصية،
القاهرة ،ص 23وما بعدها.
[[[ـ وولرت ستيس ،1984 :تاريخ الفلسفة اليونانية ،ترجمة :مجاهد عبد املنعم مجاهد ،دار الثقافة ،القاهرة،
ص.247
وللتوسع ينظر :أرسطوطاليس ،1949 :كتاب النفس ،ترجمة أحمد فؤاد األهواين ،املركز القومي للرتجمة،
مرص ،ص.43
[[[ـ ابن سينا ،1986 :النفس البرشية عند ابن سينا ،نصوص حققها وجمعها وقدم لها ألبري نرصي نادر ،دار
املرشق ،بريوت ،ص.11
[[[ـ إبراهيم مدكور ،1974 :يف الفلسفة اإلسالمية :منهج وتطبيقه ،سمريكو للطباعة والنرش ،القاهرة ،ص.138
96سلسلة مصطلحات معاصرة
ويع ّرف ابن سينا النفس بأنها “كامل أول لجسم طبيعي آيل من جهة ما
يفعل األفعال الكائنة باالختيار الفكري ،واالستنباط بالرأي ،ومن جهة ما
يدرك األمور الكلية”[[[.
فط ّور أفكار أرسطو حول ثنائية نفس /جسد ،لكنه فصل مفهوم الكامل
عن مفهوم الصورة ،فال متوت النفس مبوت البدن ،ولكنها توجد قبله،
فذهب مع أرسطو إىل أن النفس والجسد يوجدان يف وحدة متنح الكائن
الحي الحياة .فتحدث النفس بحدوث البدن ،وحدوث نفس من غري جسد
تعطيل لوجود هذه النفس ،وال يوجد يشء معطل يف الطبيعة ،فثمة وحدة
بني النفس والجسد ،وتحتاج النفس إىل جسد معني؛ لتحقق وجودها،
وكام أن النفس تفتقر يف تشخّصها ووجودها إىل البدن فالبدن أيضاً بحاجة
إىل اقرتانه بالنفس ،فكالهام يوجد يف تأثري متبادل ،ويشغل الجسد املكان
األول يف هذا التأثري ،فريى أن الحالة النفسية مرتبطة بالنشاط الفيزيولوجي
للدماغ ،والصحة النفسية نتيجة للصحة الفيزيولوجية للدماغ.
ومل يظهر أثر أفكار أرسطو فقط يف فلسفته بل تأثر بأفكار أفالطون،
فالنفس لدى ابن سينا يشء ما أكرث كامالً من الجسد ،ليست مادية ،وال
متوت مبوت البدن ،جوهر روحاين قائم يف ذاته ،مختلف عن املوجودات
املادية ،تغاير البدن ،فالنفس ثابتة ،والجسد يف حال تحلل وانتقاص،
واإلنسان بحاجة إىل الغذاء؛ ليعوض ما تحلل من جسده ،والجسد قابل
للفساد ،أما النفس فجوهر روحاين يفيض عىل الجسد املناسب له[[[.
ويظهر األثر األفالطوين يف نظرية خلود النفس ،فال تفنى النفس
بفناء الجسد عند ابن سينا؛ ألن جوهرها أقوى من جوهر البدن ،وهي غري
[[[ـ ابن سينا ،1952 :أحوال النفس ،حققها وقدم لها :أحمد فؤاد األهواين ،دار إحياء الكتب العربية ،القاهرة،
ص.57
[[[ـ النفس البرشية عند ابن سينا ،ص.32
97 الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي
محتاجة يف وجودها إىل البدن ،وحني ميوت البدن تتخلص النفس منه،
فإذا كان جوهر النفس كامالً بالعلم والحكمة والعمل الصالح فإنها تذهب
عيص عىل
ّ إىل العامل العقيل حيث تنعم بالسعادة وامللذات ،جوهرها
الحس ،سهل الظهور لدى العقل[[[.
ّ
تقوم ثنائية نفس /جسد لدى ابن سينا عىل أساس بني العلم والدين،
وهذا ما جعله يتأرجح بني نظرية النفس عند أرسطو ،وتأكيد ارتباطها
بالجسد ،ونظرية أفالطون الذي أكد روحانيتها ،ومغايرتها للبدن،
وخلودها ،فحاول أن يق ّرب بني رأييهام ،والرأي الديني ،فظلت نظريته
يف النفس أرسطية يف جوانب ،أفالطونية يف جوانب ،دينية إسالمية يف
جوانب أخرى.
3ـ الثن�ائي�ات الضدية بني الغزايل ت “505هـ” وابن رشد ت “ 520هـ”
- 1-3مفهوم الثن�ائي�ات الضدية لدى ابن رشد
يع ّد ابن رشد من أوسع الفالسفة املسلمني يف العلوم املا ورائية ،وله
محاولة يف الربط بني الفلسفة والرشيعة يف حدود تصوره لها ،وقد رأى
أنه إذا وجدت بعض اآليات الكرمية تضا ّد الفلسفة يجب تفسريها عىل
وفق أن لكل آية معنيني :حرفياً للعامة ،وروحياً للفالسفة ،وعىل العلامء أن
يجمعوا بني الحكمة والرشيعة[[[.
وناقش الخالف املتعلق بأن العامل قديم ،أو محدث ،ورأى أن
الخالف يف هذه املسألة يعود إىل اللفظ ،فهو خالف لفظي غري جوهري،
[[[ـ سنتناول يف سياق حديثنا عن األدب الفلسفي عينية ابن سينا يف النفس ،فالنفس لديه كانت تعيش يف
عامل قديس ،هبطت من غري رغبة منها إىل األرض ،ودخلت يف الجسد اإلنساين.
[[[ـ انظر :ابن رشد 1319 :هـ ،الكشف عن منهاج األدلة يف عقائد امللة ،ط ،1املطبعة الحامدية ،مرص،
ناقش يف هذا الكتاب بعض علامء الكالم يف تأويلهم البعيد عن روح اإلسالم ،ويف رد شبههم التي عرضوها
عىل الرشيعة؛ ليعارضوها بها.
98سلسلة مصطلحات معاصرة
فأوجد مسافة شبه التضاد ،فالعامل ُمح َدث إذا نظرنا إليه من جهة أنه معلول
من الله ،وقديم إذا اعتربنا أنه وجد عن الله منذ األزل من غري تراخ يف زمن.
وقد حظيت الثنائيات الضدية بدور أنطولوجي مهم يف فكر ابن رشد
يف مستويات الحياة كلها :الطبيعية ،واملعرفية ،واإلنسانية ،فالتضاد أساس
[[[
الكون ،وحركته ،وتخضع املتضادات لجملة من القوانني والضوابط.
وللثنائية طابع التضاد ،فال يكون التضاد إال بني أمرين بلغا غاية
االختالف ،فينتمي املتضادان إىل نوع واحد ،وهذا التضاد يف املوضوع
الواحد هو الذي يحيل عىل التكامل ،وقد يتعاقب املتضادان ،وقد
يتوازيان ،وقد يقوى أحد الطرفني املتضادين عىل اآلخر ،فيضعف اآلخر،
وعىل هذا يكون التضاد سبباً ِ
محدثاً جملة من الظواهر ،واألحوال.
يرى ابن رشد ـ عىل سبيل املثال ـ ان املرض مضا ّد للصحة؛ ألن
املؤمل هو الضد ال الشبيه[[[ والصحة اعتدال بني املتضادات ،واملرض
اختالل االعتدال بني املتضادين ،وهذا التناوب الضدي هو الذي يشهد أن
الجسم يتمتع بالحياة ،فاملرض موجود يف جوهر الكائن الحي.
ويعطي ابن رشد أهمية خاصة للكيفيات األربع :الحرارة والربودة
والرطوبة واليبوسة ،فهي أسباب تولِّد الكائنات التي يجري عليها الكون
والفساد كلها[[[ فالهواء إذا استحال من قبل الحرارة عاد نارا ً ،وإذا استحال
من قبل الربودة عاد ماء[[[.
ويرى أن صناعة الطب قادرة عىل فعل املتضادين معاً ،فهي تفعل
[[[ـ محمد مصباحي ،1995 :تحوالت يف تاريخ الوجود والعقل ،دار الغرب اإلسالمي ،املغرب ،ص.118
وللتوسع يف الفكرة ينظر :محمد مصباحي ،2001 :العلم والفكر العلمي بالغرب اإلسالمي يف العرص الوسيط،
منشورات كلية اآلداب ،الرباط.
[[[ـ ابن رشد :د.ت ،تلخيص كتاب اإلسطقسات ،لجالينوس ضمن رسائل ابن رشد الطبية ،ص.36
[[[ـ املصدر السابق ،ص.60
[[[ـ املصدر السابق ،ص.62
99 الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي
الصحة واملرض[[[ خالف القوى الفاعلة غري الناطقة التي ال تستطيع أن
تفعل بالذات سوى ض ّد واحد ،أو فعل واحد ،فالحا ّر يفعل تسخيناً فقط،
وليس يفعل الض َّد اآلخر الذي هو التربيد[[[.
ويقبل العقل عنده الصورتني املتضادتني ،وكأنهام صورة واحدة،
ولعل السبب يف ذلك راجع إىل أن جذر املتضادين واحد ،وهو الجنس
الذي ينتسبان إليه نسبة متساوية[[[.
ويرى أن الصور املتضادة املوجودة يف النفس هي بنحو صورة واحدة،
ولذلك قبلت النفس الصور املتضادة ،ويرى استحالة فعل الضدين يف
وقت واحد؛ الستحالة الجمع بني املتضادين ،ولو كانت صناعة الطب
تفعل اليشء وضده عىل حد سواء كالصحة واملرض لصارت حقيقة هذه
الصناعة متضادة ،وهو أمر مستحيل ،فاليشء ال يكون ض ّد نفسه ،ومتيل
النفس إىل فعل أحد الضدين يف وقت ما دون ضده[[[.
ودعا إىل الشفاء باملتضادات بحكم نظرته إليها بوصفها قوى طبيعية؛
وألنه رأى أن التوازن الضدي بني املكونات العنرصية والخلطية أهم ما
مييز حقيقة الصحة ،والفعل الضدي هو الذي يُحدث التوازن.
ويف سياق آخر تحدث ابن رشد عن ثنائية ذكورة /أنوثة ،فقد آمنت
الفلسفة الرشدية بوحدة العقل ،وكان لزاماً عليها أن تؤمن بوحدة اإلنسان؛
أي املساواة بني الرجل واملرأة ،فينظر إىل اإلنسان بوصفه إنساناً ،ال
بوصفه رجالً ،أو امرأة .لكن هذه الوحدة ال تلغي االختالف بني الرجل
[[[ـ ابن رشد ،1973 :تفسري ما بعد الطبيعة ،تحقيق :ج .بويج ،املطبعة الكاثوليكية ،بريوت ،مقالة ط،
ص.2-1
[[[ـ املصدر السابق ،مقالة ،3ص.81
[[[ـ املصدر السابق ،مقالة ز ،ص.485
[[[ـ املصدر السابق ،مقالة ط ،ص.8-7
100سلسلة مصطلحات معاصرة
عارض الغزايل الفالسفة األولني يف مسائل متعددة رأى فيها تناقضاً مع
النص الديني ،واختلفا يف مسألة ِق َدم العامل ،ومسألة األسباب واملسببات،
ومسألة إنكار الفالسفة البعث ،والجزاء األخروي.
وقد تحدث الغزايل يف كتابه تهافت الفالسفة عن خطأ الفالسفة الذين
أق ّروا بأزلية العامل ،وأبديته ،وهو ما أنكره الغزايل؛ ألنهم ربطوا أزلية العامل
بأزلية الله ،ما يعني -من وجهة نظره -أن فناء الكون فناء لله ،والله ال يحده
[[[
زمان ،وال مكان.
وير ّد عليه ابن رشد الذي يدافع عن الفالسفة ،فهو يق ّر بقدم العامل ،ولكن
هذا ال يعني أنه يسلّم مبزامنته لله يف الوجود؛ أي إنه ينفي صفة الزمان عن
الخالق ،ما يعني أن العامل حادث عن الله تعاىل ،وهو من أوجده.
[[[
[[[ـ الغزايل ،1990 :تهافت الفالسفة ،تحقيق :موريس بويج ،ط ،4دار املرشق ،بريوت ،ص.192
[[[ـ ابن رشد ،1964 :تهافت التهافت ،ط ،1تحقيق :سليامن دنيا ،دار املعارف ،القاهرة ،ص.185 ،60
[[[ـ تهافت الفالسفة ،ص.77
الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي 103
[[[ـ ابن سينا ،1059 :كتاب النفس -من أجزاء كتاب الشفاء ،حققه ونرشه د .فضل الرحمن ،أكسفورد،
ص.11-10
104سلسلة مصطلحات معاصرة
وقد جمع ابن سينا هذه الشذرات الفلسفية يف قصيدته العينية عن
النفس ،وفيها يقول[[[:
ورقــا ُء ذاتُ تعــ ّز ٍز ومت ّنــعِ ـل األرف ـعِ هبطــت إليـ َ
ـك مــن املحـ ّ
وقد التقى ابن سينا أفالطون الذي شبّه النفس بطائر حبيس يف قفص،
[[[
يتوق إىل الخالص منه
وهي التــي س ـ َف َرت ومل تتربقعِ كل مقلـ ِة عـ ٍ
ـارف محجوبـ ٌة عــن ِّ
[[[ـ انظر :فتح الله خليف ،1974 :ابن سينا ومذهبه يف النفس ،دار االحد «البحريي إخوان» جامعة بريوت
العربية ،بريوت ،ص 140نقالً عن:
Plato, Phaedo, Phaedrus, The Dialogues of Plato, Trans- lated into English with Analyses
and Intradiction by B. Jowell, Oxford, 1964- 68
106سلسلة مصطلحات معاصرة
ي إىل عامل سفيل ،كرهت التعلق وصاله .لقد رحلت من عامل علو ّ
بالجسد ،ثم أحبته ،تتعلق به ،ثم تفارقه ،وتعود إىل موطنها األصيل بعد أن
تخلصت من قيود الجسد.
ومنــازالً بفراقهــا مل تقنــعِ وأظ ّنها نســيت عهــودا ً بالحمى
َ
القدم /احلدوث: ثن�ائي�ة ِ
جع عليه؛ لحرمانها من امللذات التي
تكره النفس الجسد ،وتتف ّ
ألفتها مبجاورته مع أن يف الفراق خالصاً لها ،وخروجاً من الظلامت إىل
ي الكامل ،لك ّن أنسها بالجسد
النور ،وعودة إىل العامل النوراين العلو ّ
أنساها عاملها العلوي ،فالروح قدمية أزلية قبل هبوطها ،حادثة زمنية
بعد هبوطها ،فهي جوهر وصورة يف وقت واحد .ويع ّد هذا الكالم
محاولة للتوفيق بني رأي أرسطو القائل بحدوث النفس ،وأفالطون
القائل ب ِقدمها ،فهي جوهر قديم يستغني عن الجسد يف العامل العلوي،
لكنها صورة حادثة يف تعلّقها بالجسد ،فحدوث النفس لدى ابن سينا هو
تعلّقها بالجسد بعد هبوطها إليه ،ويعني هذا الكالم أن وجودها يف البعد
الثالث -بعدنا -مرتبط بوجود الجسد.
يف ميــمِ مركزِهــا بـ ِ
ـذات األج ُر ِع ِ
هبوطها حتــى إذا اتصلــت بهــا ِء
مل والطّلــو ِل الخُضَّ عِ
ني املعــا ِ
ب َ علقت بهــا ثا ُء الثَّقيـ ِل فأصبحت
ْ
وهو ثقيل؛ ألنه من الرتاب ،وهو أثقل العنارص الطبيعية ،واملعامل والطلول
الخضّ ع هي مواضع األحياء ،وآثارهم التي تساقطت بعضها يف إثر بعض.
رس من أرسار
وتعني عالقة ثاء الثقيل بالجسد أن ذلك تكليف ،وهو ّ
األلوهية ،فالروح تسمو ،والجسد يهبط.
مبدامع تهمي ومل تتقطّعِ تبيك إذا ذك َرتْ عهودا ً بالحمى
ت بتكرا ِر الريا ِ
ح األربعِ درس ْ
َ وتظل ساجع ًة عىل ال ِّدمن التي
ّ
كل َم ْن مل يُرفَعِ
والعل ُم يرف ُع َّ فوق ذرو ِة شاهقٍ
وغدت تغ ِّر ُد َ
الكامل ،فقد كانت يف أوىل مراحلها جاهلة ،غافلة ،فأهبطها؛ لتسمع ما مل
تكن تعرفه من العلوم واألخالق عن طريق الحواس ،والعقل.
حصلت الروح من رضوب العلم يف هذه الحياة فهي قارصة،
ومهام ّ
فال تنتهي العلوم عند ح ّد ،وحتى لو متكنت من التحصيل فاملدة التي
تقضيها يف الجسد لن تكفي ،لقد هبطت ليك تتعلق بالبدن ،وتتخذه
وسيلة إىل الكامل رشط أن تكون من أصحاب الفضيلة ،والخري.
لك ّن الروح يف املأل األعىل ناقصة ،واملأل مج ّرد كامل ،فكيف يتفق
ذلك؟ إن عاملنا مزيج من الخري والرش ،فكيف تنشد الروح الكامل يف
رش وسيلة إىل الخري؟
األرض؟ وهل يكون ال ُّ
لقد ُج ِعل الرتاب حامالً الذرة اللطيفة الربانية ،وقد أو ِدع ُ
قلب اإلنسان
نور العرفان عىل الرغم من إفساده يف األرض.
حتى لقد َغ َربت بغريِ املطلعِ وهي التي قط َع ال ّزما ُن طريقَها
ث َّم انطوى فكأنه مل يلمعِ ِ
بالحمى فكأنها ٌ
برق تألّق
يصوغ أبو حيان السؤال يف ثنائية ضدية ،فيقابل موقفاً مبوقف ،أو
حالة بحالة ،أو يف ّرغ حالة من حالة ،فيتعمق يف سؤاله ،فيبدو السؤال أكرث
عمقاً من الجواب ،ويبدو مؤمناً بثقافة السؤال[[[.
[[[ـ الهوامل والشوامل ،ص.45
[[[ـ ينظر التوحيدي إىل الفلسفة عىل أنها علم يؤدي إىل التوحيد ،وداء يداوي النفوس ،فللعقل مكانة رفيعة
عنده .ويعدّ كتاب اإلمتاع واملؤانسة أشهر كتبه ،ألفه خصيصاً أليب عبد الله العارض وزير صمصام الدولة
البويهي بناء عىل طلب من صديق أيب حيان أيب الوفاء املهندس .وهو كتاب فريد أيضاً يف األدب العريب،
جمع ألوان املعرفة يف الفلسفة ،واألخالق ،والتاريخ ،واألدب ،واللغة.
وهو مجموعة من الليايل تختلف عن الفضاء الحكايئ أللف ليلة وليلة؛ لتشابك الفلسفي باألديب ،والعقل
بالجامل ،فاإلمتاع تشكيل لغوي ،واملؤانسة احتفاء فكري.
الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي 113
«ما سبب من ي ّدعي العلم ،وهو يعلم أنه ال علم عنده؟ وما الذي
السفه واملهاترة؟
يحمله عىل الدعوى ،ويدنيه من املكابرة ،ويحوجه إىل ّ
قال أبو عيل مسكويه -رحمه الله »-سبب ذلك محبّة اإلنسان نفسه،
وشعوره مبوضع الفضيلة ،فهو ألجل املحبة ي ّدعي لها ما ليس منها .ألن
صورة النفس التي تحسن ،وعليها تحمد ،ومن أجلها تسعد هي العلوم
واملعارف .وإذا ع ّريت منها ،أو من جلّها حصلت له من املقابح ،ووجوه
الشقاء بحسب ما يفوتها من ذلك.
ومن شأن املحبة أن تغطّي املساوئ ،وتظهر املحاسن إن كانت
موجودة ،وت ّدعيها إن كانت معدومة .فإن كان هذا من فعل املحبة معلوماً،
وكانت النفس محبوبة ال محالة عرض لصاحبها عارض املحبة ،فلم ينكر
ادّعاء اإلنسان لهذه املعارف التي هي فضائلها ومحاسنها ،وإن مل يكن
عنده يشء من ذلك»[[[.
ويعب السؤال عن رغبة يف علم يشء مجهول ،أما التساؤل فهو أسلوب
ّ
تعلّم ،وكان التوحيدي مولعاً بثقافة السؤال والتساؤل ،فأدبه أدب فلسفي
طافح باألسئلة ،والتساؤالت.
ويرتبط السؤال والتساؤل بفلسفة يصدران عنها ،ويدوران يف فلكها،
ويعب السؤال عن استفهام مبارش يثريه أمام مسكويه ،وينتظر إجابة عنه ،أما
ّ
التساؤل فهو سؤال لنفسه ،ويبدو عاملاً بالجواب ،عميقاً فكرياً ،لدرجة أن
قارئ الهوامل والشوامل يشك أنه هو واضع األسئلة ،واإلجابات.
وتكون األسئلة عادة أدىن مستوى من اإلجابات ،لكننا واجدون فيها
نضجاً فكرياً عميقاً يتجاوز مستوى باحث عن املعرفة ،فيبدو التوحيدي
عىل دراية تامة مبوضوعه .وقد اختار مسكويه ،وهو شخصية مشهورة؛
[[[ـ الهوامل والشوامل ،ص.42
114سلسلة مصطلحات معاصرة
ليح ّملها فكره الخاص ،ومبالحظة السؤال واإلجابة يتضح التشابه الفكري.
وقد أثار التوحيدي السؤال مع مسكويه ،ونجد التساؤل مع
فاستغل اسم السجستاين؛
ّ السجستاين ،وهو من كبار املثقفني يف عرصه،
ليق ّدم تصوراته ،وآراءه يف مجاالت املعرفة ،والثقافة يف عرصه.
ونجد شبهاً بني ما فعله التوحيدي وما فعله أفالطون سابقاً مع أرسطو
جهها للسجستاين تساؤالت تقنعت تحت
أستاذه ،فأسئلة التوحيدي التي و ّ
اسم السجستاين كام فعل أفالطون يف محاوراته مع سقراط.
شخصيتي مسكويه
ّ ورمبا يكون يف تخفي التوحيدي تحت
والسجستاين شعور بالخشية من مواجهة اآلراء التي تخالفه يف مجتمعه،
ورمبا يكمن السبب يف الرغبة يف تقديم أسلوب جديد يخلخل األسلوب
الجامد يف ثقافة عرصه.
وال تكون اإلجابات مهمة بالقدر الذي توجد فيه األسئلة والتساؤالت،
فتغوص األسئلة يف قضايا فكرية وفلسفية عميقة ،وتختلف اإلجابات يف
السطحية والعمق.
للتوحيدي عىل الحوار ،والسؤال، [[[
ويقوم كتاب املقابسات
والتساؤل ،فمعنى املقابسات أن يشرتك اثنان أو أكرث يف محاورة علمية،
أو فلسفية ،فيقتبس أحدهام املعرفة من اآلخر ،ويعطيه ما عنده منها.
ويف مقابسات التوحيدي محاورات ،وآراء ،واختيارات ،ومحارضات يف
موضوعات فلسفية ،وعلمية ،ولغوية ،وأغلب هذه األحاديث جرت عند
أستاذه أيب سليامن السجستاين ،فهو إما ان يكون سائالً ،أو مسؤوالً.
«-قلت أليب سليامن :ما الفرق بني طريقة املتكلّمني وطريقة
[[[ـ أبو حيان التوحيدي ،1992 :املقابسات ،ط ،2حققه حسن السندويب ،دار سعاد الصباح ،الكويت.
الثنائيات الضدية في التراث الفلسفي العربي واإلسالمي 115
الفالسفة؟ فقال :ما هو ظاهر لكل ذي متيز وعقل وفهم ،طريقتهم «يعني
املتكلمني» مؤسسة عىل مكاييل اللفظ باللفظ ،وموازنة اليشء باليشء
إما بشهادة من العقل مدخولة وإما بغري شهادة منه البتة .واالعتامد عىل
الجدل ،وعىل ما يسبق إىل الحس ،أو يحكم به العيان ..والفلسفة أدام
الله توفيقك محدودة بحدود ستة ،كلها تدلك عىل أنها بحث عن جميع
ما يف العامل مام ظهر للعني ،وبطن للعقل ومركب بينهام ،ومائل إىل حد
طرفيهام ،عىل ما هو عليه .واستفادة اعتبار الحق من جملته وتفصيله،
ومسموعه ومرئيه ،وموجوده ومعدومه ،من غري هوى ميال به عىل العقل،
وال إلف يفتقر معه إىل جناية التقليد .مع إحكام العقل االختياري ،وترتيب
العقل الطبيعي.[[[»..
«-قلت أليب سليامن :إين أجد بني املنطق والنحو مناسبة غالبة،
ومشابهة قريبة ،وعىل ذلك فام الفرق بينهام ،وهل يتعاونان باملناسبة،
ووهل يتفاوتان بالقرب فيه؟
وجل نظر املتلقي
ّ فقال :النحو منطق عريب ،واملنطق نحو عقيل،
يف املعاين ،وإن كان ال يجوز له اإلخالل باأللفاظ التي هي لها كالحلل
واملعارض ،وجل نظر النحوي يف األلفاظ ،وإن كان ال يسوغ له اإلخالل
باملعاين التي هي لها كالحقائق والجواهر.[[[».
هل كالم التوحيدي سؤال ،أو تساؤل؟ إنه تساؤل يف صيغة سؤال؛ ذلك
أنه ينترص للعقل ،ال للوجدان ،واختياره املحاورة أمر ناجم عن ثنائية ضدية،
فيعرض الرأي والرأي اآلخر يف أسلوب فني ،وحرية فكرية موفقاً بني اآلراء
الفلسفية والصوفية .إنه متآلف مع االختالف ،وهو الذي يقول عن نفسه:
«أما ترى طبيعتي يف تحفّظي؟ أما ترى رقديت يف تيقّظي؟ أما ترى
غصتي يف إساغتي؟ أما ترى دعايئ لغريي مع
تف ّرقي يف تج ّمعي؟ أما ترى ّ
قلة إجابتي؟ أما ترى ضاليل يف اهتدايئ؟ أما ترى رشدي يف غ ّيي؟ أنت
[[[
ترى ضعفي يف قويت»..
إنها ثنائية الذات اإلنسانية ،فهو يجمع بني الحاالت املتضادة ،ويرى
التكامل يف اجتامع املتضادات.
إن األساس الفلسفي هو الذي ارتبط باللغة والنقد ،فلالتجاهات
النقدية الكربى أسس فلسفية ،وكان معظم النقاد فالسفة ،وسيتم التوسع
الحقاً يف هذه الفكرة .فكيف تجىل األساس الفلسفي يف املدارس النقدية
القامئة عىل تضاد الثنائيات؟
[[[ـ أبو حيان التوحيدي ،1982 :اإلشارات اإللهية ،تحقيق :وداد القايض ،دار القايض للثقافة ،بريوت،
ص.104-103
117 المصادر والمراجع
املصادر واملراجع
-القرآن الكريم
-أرسطوطاليس ،1949 :كتاب النفس ،ترجمة أحمد فؤاد األهواين،
املركز القومي للرتجمة ،مرص
-األصفهاين الغروي ،الشيخ محمد حسني :د.ت ،تحفة الحكيم،
منظومة يف الحكمة وللعقول ،ق ّدم لها ودققها :الشيخ محمد رضا املظفر،
مؤسسة آل البيت إلحياء الرتاث
-التوحيدي ،أبو حيان ،1982 :اإلشارات اإللهية ،تحقيق :وداد القايض،
دار القايض للثقافة ،بريوت
-التوحيدي ،أبو حيان ،1992 :املقابسات ،ط ،2حققه حسن السندويب،
دار سعاد الصباح ،الكويت
-التوحيدي ،أبو حيان ،1951 :الهوامل والشوامل ،تحقيق :أحمد أمني
والسيد أحمد صقر ،القاهرة.
-خليف ،فتح الله ،1974 :ابن سينا ومذهبه يف النفس ،دار االحد
«البحريي إخوان» جامعة بريوت العربية ،بريوت
-ابن رشد ،1973 :تفسري ما بعد الطبيعة ،تحقيق :ج .بويج ،املطبعة
الكاثوليكية ،بريوت
-ابن رشد ،2002 :تلخيص السياسة ،تحقيق :حسن مجيد العبيدي،
وفاطمة كاظم الذهبي ،دار الطليعة ،بريوت.
-ابن رشد :د.ت ،تلخيص كتاب اإلسطقسات ،لجالينوس ضمن رسائل
ابن رشد الطبية
118سلسلة مصطلحات معاصرة
-ابن رشد ،1964 :تهافت التهافت ،ط ،1تحقيق :سليامن دنيا ،دار
املعارف ،القاهرة
-ابن رشد :د.ت ،فصل املقال فيام بني الحكمة والرشيعة من االتصال،
تحقيق :محمد عامرة ،ط ،3دار املعارف ،القاهرة
-ابن رشد 1319 :هـ ،الكشف عن منهاج األدلة يف عقائد امللة ،ط،1
املطبعة الحامدية ،مرص
-ابن سينا ،1952 :أحوال النفس ،حققها وقدم لها :أحمد فؤاد األهواين،
دار إحياء الكتب العربية ،القاهرة
-ابن سينا ،1960 :اإلشارات والتنبيهات .املنطق ،نرشة سليامن دنيا ،دار
املعارف ،مرص
-ابن سينا ،1957 :الديوان ،تحقيق :د .حسني عيل محفوظ ،نرش اجتامع
املسترشقني الدويل ،طهران
-ابن سينا ،1970 :الشفاء .العبارة ،تحقيق محمود الخرضي ،وزارة
املعارف العمومية ،مرص
-ابن سينا ،1964 :الشفاء .القياس ،تحقيق سعيد زايد ،وزارة املعارف
العمومية ،مرص
-ابن سينا ،1986 :النفس البرشية عند ابن سينا ،نصوص حققها وجمعها
وقدم لها ألبري نرصي نادر ،دار املرشق ،بريوت
-شوقي ،أحمد ،1993 :الديوان ،دار صادر ،بريوت
-ستيس ،وولرت ،1984 :تاريخ الفلسفة اليونانية ،ترجمة :مجاهد عبد
املنعم مجاهد ،دار الثقافة ،القاهرة
-العاميل ،بهاء الدين محمد بن حسني ،1998 :الكشكول ،دار الكتب
119 المصادر والمراجع
العلمية ،بريوت.
-الغزايل ،1993 :االقتصاد يف االعتقاد ،ط ،1دار الكتب العلمية ،بريوت.
-الغزايل ،1990 :تهافت الفالسفة ،تحقيق :موريس بويج ،ط ،4دار
املرشق ،بريوت.
-الغزايل ،1989 :معارج القدس يف مدارج معرفة النفس ،ط ،1رشكة
الشهاب ،الجزائر.
-الفارايب:
آراء أهل املدينة الفاضلة ومضاداتهاwww.al-mostafa.com ،
-قاسم ،محمود ،1954 :يف النفس والعقل لفالسفة اإلغريق واإلسالم،
ط ،2مكتبة االنجلو املرصية ،القاهرة.
-مدكور ،إبراهيم ،1974 :يف الفلسفة اإلسالمية :منهج وتطبيقه ،سمريكو
للطباعة والنرش ،القاهرة.
-مروة ،حسني ،1981 :النزعات املادية يف الفلسفة العربية واإلسالمية،
ط ،4دار الفارايب ،بريوت.
-مصباحي ،محمد ،1995 :تحوالت يف تاريخ الوجود والعقل ،دار
الغرب اإلسالمي ،املغرب ،ص.118
-مصباحي ،محمد ،2001 :العلم والفكر العلمي بالغرب اإلسالمي يف
العرص الوسيط ،منشورات كلية اآلداب ،الرباط.
-أبو النرص ،عمر ،1970 :عباقرة الفكر اإلسالمي ،مكتب عمر أبو النرص،
بريوت.
الفصل الخامس
الثنائيات الضدية
واالتجاهات النقدية
- 1الثن�ائي�ات الضدية يف النقد األديب
- 2الرومانسية
انطلق الرومانسيون من فكرة أن الواقع ليس مصدر ثقة؛ لذا اتجهوا إىل
مصدر آخر لإلبداع ،وأصبحت العالقة بني الواقع والذات عالقة صدامية؛
لذا أكرث الشاعر الرومانيس من الشكوى واألمل ،وقد تغلبت الذات عىل
املوضوع يف عالقة ثنائية ،كام تغلبت العاطفة عىل الفكر ،والالشعور.
لقد انطلق الوعي الجاميل الرومانيس من فلسفة استعذاب األمل
وتقديسه ،ويعني هذا الكالم أن الوعي الفلسفي الرومانيس يقوم عىل ثنائية
األنا /العامل.
وتناولت الفلسفة الغربية العالقة بني العقل والعاطفة ،ووجدت
الرومانسية أن هذه الثنائية بني العقل والذات ال تحكمها عالقة تعارض
وتضاد بالرضورة[[[ .وميكن القول :إن الرومانسية كانت محاولة إلعادة
بعض التوحد املفقود بني مكونات الوجود مثل اإلنسان واللغة ،فقد
حاولوا جهدهم التقليل من خطورة التضاد ،كام حاولوا إقامة جرس بني
طريف الثنائية ،ونفي التعارض بني الحقيقتني العلمية ،والشعرية.
ويرتبط النقد الحدايث بأزمة اإلنسان الغريب الفكرية والثقافية،
اإلنسان منطقه وعقله ،فال خري -يف رأيهم -يف عاطفة وخيال ال يحكمهام
عقل ،وحكمة ،وإرادة.
وقد استنكر دعاة الرومانسية تدخل املجتمع يف تقييم األعامل
اإلبداعية ،فال ينتج الفن -عندهم -إال يف عزلة عن املجتمع ،فتجاهلوا أن
الفن يقوم عىل خربة متوارثة.
رأى الرومانيس العامل يف مرآة ذاته ،فتامهت ثنائية الذات والعامل
لديهم ،وبحثوا عن الكامل يف الال متناهي ،ورأوا اإلبداع الحق يف هذا
املنحى.
- 3الماركسية
للشكل أية قيمة مامل يكن له مضمون تطوير آلراء هيغل عن العالقة بني
طريف الثنائية ،فالطرف الثاين يحدد الشكل املناسب له ،وتغيري املضمون
يستتبع تغيريا ً حتمياً يف الشكل[[[.
لقد تأرجح الفكر املاركيس بني طريف ثنائية الداخل /الخارج،
وظل هذا التأرجح محور اختالف بني فكر واقعي يعتمد التجربة الحسية
بوصفها أساساً للمعرفة اإلنسانية ،وفكر مثايل يضع أسس املعرفة داخل
العقل البرشي.
ورفض البنيويون املاركسيون فكرة أن الداللة تحددها العالقة بني
الدوال واألنساق داخل النص؛ ألن يف ذلك عودة إىل قطب مفرد من
الثنائية ،وهو الداخل .هذه الثنائية -داخل /خارج -شهدت تباعدا ً يف القرن
العرشين وصل إىل ازدواج حاد.
وتنبع قيمة املاركسية -حسب ألتوسري [[[-L. Althusserيف أنها
استطاعت أن تنقل الفلسفة من الوضع اإليديولوجي إىل الوضع املادي
عرب املادية الجدلية ،وهي نظرية خاصة بالتطور االجتامعي ،تقوم عىل
“فحص التناقضات يف املجتمع ،وهي تك ّون أساس أطروحة الرصاع
الطبقي بوصفه القوة املحركة يف تطوير املجتمع الطبقي ،وتوصل هذه
األطروحة إىل كل نتائجها الثورية”[[[.
[[[ـ املوسوعة العربية ،2007 :ط ،1هيئة املوسوعة العربية ،ط ،1الجمهورية العربية السورية ،رئاسة
الجمهورية ،دمشق ،املجلد السابع عرش ،ص.132
[[[ـ محمد عزام ،2003 :تحليل الخطاب األديب ،منشورات اتحاد الكتاب العرب ،دمشق ،ص .39
[[[ـ لجنة من العلامء واألكادمييني السوفييت ،1980 :املوسوعة الفلسفية ،ترجمة :سمري كرم ،ط ،2دار
الطليعة ،بريوت ص.374
128سلسلة مصطلحات معاصرة
األدب يف نظر رواد النقد املاركيس مثل جورج لوكاتش G. Lukacs
ورومان جاكسون R. Jakobsonواملتأخرين مثل لوسيان جولدمان
L. Goldmanوتريي إيجلتون T. Eagletonوفريدريك جيمسون F.
Jamesonال ميكن أن ينفصل عن الحقائق االقتصادية واالجتامعية ،فقد
رفض املاركسيون تفريغ الشكل من مضمونه الهادف ،واإلبداع الفني يف
الفلسفة الجديدة ليس نتاجاً فردياً ،ليس إلهاماً غامضاً ،إنه يف حقيقته إنتاج
جمعي تتدخل فيه ،وتحدده بصورة حتمية حقائق البنى التحتية االقتصادية
واالجتامعية .وقد نتجت هذه األفكار من التحول نحو العلمية يف تحديث
املجتمع الرويس بعد الثورة ،وهو تحول مرتبط باالتجاه التجريبي يف
الفلسفة الغربية منذ بدايته حتى قيام الثورة[[[.
رفض املاركسيون التفسري اآلين للغة ،كام رفضوا تفريغ الشكل من
املضمون الهادف ،فال ميكن اختزال الفن إىل مجرد التعبري الطبقي أو
الظروف االقتصادية.
وقد احتضنت الشكلي ُة الروسي ُة املاركسيةَ ،لكنها انفصلت عنها بعد
ذلك [[[.وقد تحمس الشكيون الروس ملنهج جديد وصل بهم يف مرحلة
ما إىل إنكار املوضوع ،أو إنكار رسالة األدب ،وهذا ما وضعهم يف نهاية
األمر يف موقف مناقض ألهداف املاركسية ،وتحديدها الواضح لرسالة
األدب ووظيفته ،فقد اتخذ املاركسيون من جدلية هيغل واملادية التاريخية
نقطتي انطالق مبدأيتني.
[[[ـ للتوسع :انظر املرايا املحدبة ،ص 132وما بعدها.
[[[ـ املرايا املحدبة ،ص .122
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية 129
إن مثة حركة مستمرة بني الحقيقة املادية الخارجية والحقيقة الداخلية
الشعرية ،العلم والذات .وقد وقفت الشكلية عند حدود الطرف األول من
الثنائية ،وانطلقت من العلمية بوصفها نقطة انطالق إلنشاء علم األدب،
فتسلح الشكليون بأدوات التفكري العلمي يف التعامل مع النصوص األدبية،
وهم يرون للخارج املادي حضورا ً مؤثرا ً ،ويُرجعون –غالباً -مضمون
القصيدة إىل الخارج الذي يكون له حضور مؤثر يف املضمون.
وقد اعتمدت الشكالنية الروسية عىل ثنائية الشكل واملضمون،
وتبعتها مدرسة براغ ،وكانت البنيوية تعني ملدرسة براغ تركيباً جدلياً
( )Diulectical Synthesisأي الجمع بني ضدين يف سبيل إنشاء
قوة موحدة ،ويضم أمنوذجني فكريني شاملني ،واألمنوذج الفكري
))Paradigmهو املذهب الفكري ،أو الفلسفي القادر عىل تفسري
الظواهر ،واألمنوذج األول هو املذهب الرومانيس ،وقد تجىل بصفة
أساسية يف اآلداب والفنون ،وإن مل يقترص عليها.
أما األمنوذج الثاين فهو املذهب الفلسفي الذي يقوم عىل الحقائق
العلمية املستقاة من معطيات الحواس ،والخربة الحسية بالواقع،
والعالقات القامئة بينها ،ويرفض البحث يف أصولها األوىل ،أو شطحات
التأمل يف بذورها وجذورها .والتضاد بني املذهبني واضح ،فالرومانسية
تر ّحب بشطحات التأمل الفلسفية ،وتعيل من شأن الخيال ،واملشاعر،
والقدرة عىل الغوص يف أعامق الحقيقة ( )Truthأو الواقع ( )Realityأو
130سلسلة مصطلحات معاصرة
[[[ـ للتوسع يف الشكالنية الروسية انظر :محمد عناين ،2003 :املصطلحات األدبية الحديثة ،ط ،3الرشكة
املرصية العامة للنرش ،لونجامن ،ص.79-78
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية 131
- 4البنيوية
يقوم جوهر الثنائيات الضدية يف النقد الغريب عىل أساس فكرة فلسفية
أكرث منها لغوية ،وقد أىت النقاد البنيويون أوالً بهذه الطريقة يف استخدام
اللغة إذ تنطلق البنيوية من موت املؤلف ،والرتكيز عىل النص األديب من
خالل الثنائيات املوجودة فيه ،فتعتمد الظواه َر اللغوية؛ الستنتاج الدالالت
واملعاين .وتوحي كلمة ( binaryبعبارة مؤلفة من Binary opposition
132سلسلة مصطلحات معاصرة
أي (شيئان ،أو مزدوج) كام يف عبارة (كوكب مزدوج) ،أي كوكبان تسيطر
عليهام قوة جاذبية واحدة) [[[.إذ تشيع الثنائيات يف اللغة :أعىل /أسفل،
بطيء /رسيع ،عقل /طيش ،حقيقة/كذب ،أسود /أبيض ،رجل /امرأة...الخ.
ويشكل مفهوم الثنائيات الضدية عصب املدرسة البنائية يف النقد
والتحليل البنيوي /البنايئ .وينحدر هذا املفهوم بوصفه مفهوماً بنيوياً
من دراسات ليفي -شرتاوس حول األساطري .وال تستخدم اللسانيات /
األلسنية ،والتحليل البنيوي فكرة الثنائيات الضدية من جهة الكلامت
واملفاهيم فحسب بل من جهة تقاليد النص ورموزه.
وتتضمن فكرة الثنائيات الضدية ذاتها مركزية نظام معني أو وجوده.
وتعد هذه الداللة الثنائية ثابتة ومنظمة يف أعني البنيويني ،وغري ثابتة
ومحطمة ملا بعد البنيويني[[[.
حاولت البنيوية املاركسية أن تحقق حالً وسطاً تستطيع البنيوية
اللغوية للنص األديب عىل أساسه أن تكون مستقلة (الداخل) من ناحية،
وأن تؤكد عالقتها بالبنى واألنظمة األخرى كالنظام االقتصادي والرصاع
الطبقي والواقع الثقايف العام (الخارج) من ناحية أخرى .أما البنيوية األدبية
فرتفض الربط بني النظام اللغوي الداخيل وأية أنظمة أخرى خارجية.
يعني هذا الكالم أن ثنائية الداخل /الخارج الزمت الفلسفة الغربية
[1] - J. A. Cuddon, The penguin Dictionary of literary terms and literary theـ
ory. 1976 ven sed C.E. Preston, 1998, penguin Books 1999. PP. 2883-, P. So, p
418.
[[[ـ املرجع السابق83-PP.28 ،
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية 133
السابع عرش إىل اآلن عن معنى النص ،ووظيفة اللغة ،وحضور الذات
أو غيابها سواء أكانت ذات املبدع أم ذات املتلقي ترتبط ارتباطاً وثيقاً
بتطورات الفلسفة الغربية؛ ذلك ألن الفكر الفلسفي ليس منفصالً عن
الفكر النقدي واللغوي ،فقد كان الفيلسوف الغريب ناقدا ً أدبياً يف معظم
الحاالت.
والنقد البنيوي استمرار للنقد السابق ،وللفلسفة التي أنشأت النقد
السابق ،وثورة عليها يف الوقت نفسه ،فقد دعا البنيويون إىل الداخل ،لكنه
ليس الذات الرومانسية ،وليس ذات املتلقي ،الداخل هو داخل النص
األديب مستقالً عن ذات املبدع واملتلقي ،فالذات لدى النقاد الجدد هي
الذات باملفهوم التجريبي ،والفلسفة الغربية هي فهم للواقع الغريب يف
مواجهة الذات داخل سياق التجربة[[[.
وقد ُوجدت البنيوية بهدف الخروج من ثنائية مذهب علمي تجريبي
لدراسة مادة غري علمية ،ال تخضع ملقاييس املذهب التجريبي ،فتبنوا
املنهج العلمي التجريبي بعد مدة من الشك الوجودي؛ إلعادة الثقة يف
املنهج التجريبي الذي يُعمل العقل ،فـ ،تجريبية البنيوية سبب لرفضهم
املبديئ الذات الديكارتية”[[[ ،فنظروا يف األنساق الداخلية للنص األديب،
ِ
الذات تأكي َد نفسها ،فالذات تح ّددها وبهذا الصنيع عملوا عىل نفي قدرة
اللغة ،وتحكم حركتها ،واللغة ـ لدى البنيويني ـ هي املك ٍّون السببي للذات،
محل البنية االقتصادية التحتية التي تفرس األدب ،والظواهر االجتامعية.
تحل ّ
[[[ـ املرجع السابق ،ص .113
[[[ـ املرجع السابق ،ص .163
136سلسلة مصطلحات معاصرة
نفت املدرسة الفلسفية الفرنسية وجود الذات عىل أنها نقطة انطالق،
أما الفلسفة األمريكية فقد أكدت وجود الذات الحرة عىل أنها نقطة انطالق
“لذلك نظر األمريكيون إىل البنيوية عىل أنها جربية تناقض حرية الفرد،
فثقافتهم تقوم يف األساس عىل الحرية يف االختيار”[[[.
يؤكد الكالم السابق أن للنقد الغريب صيغة فلسفية واضحة مرتبطة
بأزمة اإلنسان الغريب ،فثمة فكر فلسفي متجذر عرب قرون ،ومثة ثورة
صناعية وعلمية ح ّولت العالقات التقليدية إىل أزمة خاصة باإلنسان
الغريب .وميكن أن نعد جهود ليفي شرتاوس يف األنرثوبولوجيا البنيوية
نقطة انطالق البنيوية غري اللغوية ،فقد أحدث نقلة حقيقية لألمنوذج
اللغوي إىل أنساق أخرى غري اللغة.
سعى شرتاوس بالثنائيات املتقابلة إىل إقامة مبادئ جرب داليل “فحني
يكون السلوك الثقايف قادرا ً عىل نقل املعلومات البد للس َّنة (الكود) التي
يتم التعبري عن الرسائل بوساطتها أن تكون ذات بنية جربية” [[[،كام دعا
إىل دراسة التاميز بني املتقابالت ،فالهدف من دراسة الثنائيات يف الفلسفة
اكتشاف كيفية استخدام العالقات املوجودة يف الطبيعة “كام تدركها األدمغة
البرشية يف توليد منتجات ثقافية تشتمل عىل هذه العالقات ذاتها”[[[.
وجد شرتاوس أن مثة تقابالً بني الثقافة والطبيعة ،فالثقافة متيز البرش
[[[ـ كلود ليفي شرتاوس ،1997 :األنرثوبولوجيا البنيوية ،ترجمة د .مصطفى صالح ،منشورات وزارة الثقافة،
دمشق ،ص .143
[[[ـ املرجع السابق ،ص .309
[[[ـ املرجع السابق ،ص 180وما بعدها.
[[[ـ املرجع السابق ،ص.308
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية 139
نظر الشكالنيون الروس إىل البيت الشعري عىل أنه بنية طباقية معقدة،
وأصبحت جهودهم أحد مصادر البنيوية الفرنسية التي قدمت نفسها عىل
أنها حركة للفكر ،ومنهج نقدي يعمل عىل اكتشاف القوانني التي تتحكم
باالستخدام األديب للغة إذ يقوم التحليل البنيوي عىل وجود بنية كربى
للنص ،وبنيات صغرى تقوم بينها عالقات تنافر وتضاد ،أو تشابه ومامثلة.
قامت الدراسات البنيوية عىل أن مفهوم اللغة يقوم عىل أن مثة نسقاً
وراء استخدامنا اللغة ،وهو منط الثنائيات املتضادة ،فعىل مستوى الفونيم
تشمل هذه الثنائيات الصائت /الصامت ،املجهور/غري املجهور ...ومثة
منطقة وسطى يلتقي فيها طرفا الثنائية مع احتفاظ كل طرف بتفرده.
فاتجهت الدراسات البنيوية يف نسقني :النسق العام أو النظام،
واألنساق الفردية ،فقد درسوا األعامل الفردية؛ ليستخلصوا من بناها
الصغرية التي ترتبط بعالقات تضاد تحكمها قاعدة التضاد الثنايئ أمنوذجاً،
أو نسقاً فردياً واحدا ً.
والنسق هو “نظام ينطوي عىل أفراد فاعلني تتحدد عالقاتهم مبواقفهم
وأدوارهم التي تنبع من الرموز املشرتكة واملقررة ثقافياً يف إطار هذا النسق،
[[[
وعىل نحو يغدو معه مفهوم النسق أوسع من مفهوم البناء االجتامعي”
ويعود االهتامم بالنسق لدى البنيويني إىل تحول االهتامم بالذات
الفردية (الرومانسية) عىل أنها مصدر للمعنى ،فاتجاهها إىل األنساق يعني
[[[ـ إديث كرويزل ،1993 :عرص البنيوية ،ترجمة :د .جابر عصفور ،ط ،1دار سعاد الصباح ،الكويت،
ص.411
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية 141
[[[ـ كامل أبو ديب ،1981 :جدلية الخفاء والتجيل ،دار العلم للماليني ،بريوت ،ص.109
[[[ـ املرجع السابق ،ص.110
142سلسلة مصطلحات معاصرة
[[[ـ وليم راي ،1987 :املعنى األديب من الظاهراتية إىل التفكيكية ،ط ،1ترجمة :يؤئيل يوسف عزيز ،دار
املأمون للرتجمة والنرش ،بغداد ،ص .23
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية 143
مثّل النقد الثقايف نظاماً بنيوياً له بنية كامنة يف أعامق الخطاب الثقايف،
ونجد يف هذا النظام ثنائية ظاهر /مضمر .فالداللة النسقية مضمرة تقوم
بوظيفة الفاعل املحرك يف الذهن الثقايف لألمة ،وهو املك ّون الخفي
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية 145
[1]- Greenblatt, Resonance and Wonder Literary, Edited by Peter Collier and
Jelg Gerer-Ryan, cornell university press, I Thaca, New York, 1990, p.81
[[[ـ املرجع السابق ،ص79
146سلسلة مصطلحات معاصرة
[1] - Jhon Branni an, Power and its reprentationa: Anew Historicist Reading of
Richar Jefferies “Snowed up” in Literary Theories, p.175
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية 147
- 2-5التفكيكية
الثنائية ،وطبيعة الحياة قامئة عىل ثنائية التغري /الثبات ،فحني تتعدد
الثنائيات يتعدد املسار الحريك التطوري؛ ذلك ألن الحركة تعتمد يف
جوهرها عىل وجود األضداد .ففي النظام الواحدي تكاد تكون الحركة
غري ملحوظة؛ لندرة وجودها ،ولندرة الخيارات املقدمة ،ومن ث ّم ندرة
الثنائيات .أما يف حال وفرة الثنائيات .فإن الحركة موجودة بقوة ،وهذا
األمر االجتامعي ينسحب عىل األدب ،فالحركة عنرص أساس للتطور.
األسلوب التفكييك مق ِّوض للثنائيات ،والحقائق األساسية .ففيام
يتصل بالتفكيكية وما بعد البنيوية مل تعط هاتان املدرستان انتباهاً كافياً
للثنائيات الضدية“ ،ألنها متثل حنيناً إىل حضور الذات واملركزية يف
النص .وينتقد الناقد الفرنيس جاك ديريدا يف كتابه “الرتكيب واإلشارة
والفعل يف خطاب العلوم اإلنسانية 1966سعي ليفي شرتاوس من
أجل القضايا الجوهرية يف تفسريه األساطري ...وتسعى مامرسات النقد
التفكييك إىل تفكيك الثنائيات النمطية ،والتقليل من أهميتها؛ ألنها متيل
إىل تبسيط املعنى عىل نحو كبري جدا ً ،ويظهر كيف يقلل النص من أثر
البنية الثنائية فيه عن طريق وجود ثنائية تستعيص عىل الحلول الرسيعة
املبارشة ،أو عن طريق انفتاح النص عىل أكرث من قراءة أو تفسري يعتمدان
عىل استجابة القارئ أو عن طريق تعددية املعنى وتنوعه[[[.
لقد سارت الثنائية يف الفكر التفكييك يف االتجاه املخالف،
فبعد الدمار الذي لحق بأوربا بعد الحرب العاملية الثانية .استخدمت
[[[ـ The Penguin Dictionary of literary Terms and literary the ory, P. 50, P.418
152سلسلة مصطلحات معاصرة
[[[ـ أبو حيان التوحيدي ،1964 :البصائر والذخائر ،مطبعة اإلرشاد ،دمشق ،ج.49/ 1
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية 157
ومتضاد ،ثم يرد هذه املستويات الثالثة التي تجسد حيوية القانون إىل
األصل الثنايئ اإلشكايل مركّزا ً إياه حول الحركة والسكون ،يقول“ :تلك
األنحاء الثالثة ،كلها يف جملة القول جامد ونام ،وكأن حقيقة القول يف
األجسام من هذه القسمة أن يقال :نام وغري نام”[[[.
ويعد كتاب املحاسن واألضداد للجاحظ مثاالً عىل اجتامع الفكرة
وضدها يف فكره ،إذ يقنع املتلقي مبحاسن فكرة ما ،ثم يأيت بض ّدها،
فيوصله إىل مرحلة االقتناع بخالف الفكرة السابقة ،فتكلم عىل محسن
الكتابة وضدها ،ومحاسن الصدق وضده ،ومحاسن الوفاء وضده،
ومحاسن حب الوطن وضده ،ومحاسن الجواري واملطلقات وضده..
يقول يف محاسن املشورة“ :يقال إذا استخار الرجل ربه ،واستشار
نصيحه ،واجتهد فقد قىض ما عليه ،ويقيض الله يف أمره ما يحب،
وقال آخر :حسن املشورة من املشري قضا ُء حق النعمة ،وقيل :إذا
استرشت فانصح ،وإذا قدرت فأفصح ،وقيل :من وعظ أخاه رسا ً زانه،
ومن وعظه جهرا ً شانه ،وقال آخر :االعتصام باملشورة نجاة.
ضده :قال بعض أهل العلم :لو مل يكن يف املشورة إال استضعاف
صاحبك لك ،وظهور فقرك إليه لوجب اطّراح ما تفيده املشورة،
وإلقاء ما يكسبه االمتنان ،وما استرشتُ أحدا ً إال كنت عند نفيس
ضعيفا ،وكان عندي قوياً ،وتصاغرت له ،ودخلته العزة فإياك واملشورة
وإن ضاقت بك املذاهب ،واختلفت عليك املسالك ..وقيل :نعم
[[[ـ انظر عمرو بن بحر (الجاحظ) ،1969 :الحيوان ،ط ،3حققه ورشحه عبد السالم هارون ،املجمع العلمي
العريب اإلسالمي ،بريوت ،ج.26/ 1
158سلسلة مصطلحات معاصرة
[[[ـ عمرو بن بحر (الجاحظ) ،1912 :كتاب املحاسن واألضداد ،ط ،1مطبعة السعادة بجوار محافظة مرص،
ص .29 28-
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية 159
[[[ـ -كامل أبو ديب ،1987 :يف الشعرية ،مؤسسة األبحاث العربية ،ط ،1بريوت ،ص.41
[[[ـ كامل أبو ديب ،جدلية لخفاء والتجيل -دراسات بنيوية يف الشعر – سبق تعريفه-
160سلسلة مصطلحات معاصرة
ينصب عىل البنيات والعالقات التي تربط بينها ال عىل الصور ،ثم تناول
مقطوعات شعرية ،وقصائد لشعراء قدماء من زاوية الثنائيات الضدية،
فرأى يف النص املدروس نسيجاً من الثنائيات الضدية ،وانطلق من هذه
الثنائيات إىل ثنائيات أخرى متوالدة منها .لكنه لجأ يف نقده إىل التقعيد
والتشجري ،فاستحال التحليل األديب لديه إىل عمليات رياضية معقدة
أدت إىل الغموض والتعقيد.
فقد س ّوغ لنفسه منهجاً [[[
أما د .عبد اله الغذامي (الخطيئة والتكفري)
جامعاً بني البنيوية والسيميائية والترشيحية مع أن لكل منهج حدوده
املختلفة عن اآلخر .ورأى أن اإلشارة مع أنها ذات طبيعة اعتباطية ال
تدرك إذا مل تقرتن مبا يخالفها وميايزها ،فجمع العنارص التي تدور يف
مجال ثنائية الخطيئة /التكفري ،واستخرج محاور داللية استقبلت كافة
الثنائيات ،وطبق هذه األفكار عىل شعر حمزة شحاتة ،ففكك النص ،ثم
كل عضوي يختلف عن الكل األويل.
أعاد تركيبه؛ ليصل إىل ّ
[[[
أما دراسة د .صالح فضل (نظرية البنائية يف النقد األديب)
ـ وهو يقصد البنيوية ـ فقد تناول ثنائيات النظم اللغوية عند سوسري،
واملقابالت الثنائية التي تكشف عن عالقاتها ،وتحدد طبيعتها مثل
ثنائية اللغة /الكالم ،املحور الوصفي الثابت /املحور الزمني املتطور،
النموذج السياقي /النموذج القيايس .ثم تعقب الشكالنيني الروس الذين
استبعدوا ثنائية الشكل /املضمون ،وأحلّوا محلها ثنائية الشكل /اإلجراء
[[[ـ عبد الله الغذامي ،1985 :الخطيئة والتكفري ،ط ،1النادي األديب -جدة.
[[[ـ صالح فضل ،1985 :نظرية البنائية يف النقد األديب ،دار اآلفاق الجديدة ،بريوت.
الثنائيات الضدية واالتجاهات النقدية 161
حفاظاً عىل الوحدة العضوية للعمل األديب ،لكن عمله ينطوي عىل
املنهج البنيوي الذي يويل الثنائيات الضدية
َ إشكال فيام يتعلق بفهمه
جل اهتاممه ،فقد فهمه عىل أن هدفه األساس اكتشاف تعدد املعاين يف
ّ
اآلثار األدبية يف حني أن هدف البنيوية األساس هو البنية.
[[[ـ جان كوهن ،1995 :اللغة العليا -النظرية الشعرية ،ترجمة وتقديم وتعليق :أحمد درويش ،املجلس
األعىل للثقافة ،املرشوع القومي للرتجمة ،ص .187
املصادر واملراجع
1 .1أبو ديب ،كامل ،1981 :جدلية الخفاء والتجيل ،دار العلم للماليني،
بريوت.
2 .2أبو ديب ،كامل ،1987 :يف الشعرية ،مؤسسة األبحاث العربية،
ط ،1بريوت.
3 .3التوحيدي ،أبو حيان ،1964 :البصائر والذخائر ،مطبعة اإلرشاد،
دمشق.
4 .4ابن بحر ،عمرو (الجاحظ) ،1969 :الحيوان ،ط ،3حققه ورشحه
عبد السالم هارون ،املجمع العلمي العريب اإلسالمي ،بريوت.
5 .5ابن بحر ،عمرو (الجاحظ) ،1912 :كتاب املحاسن واألضداد،
ط ،1مطبعة السعادة بجوار محافظة مرص.
6 .6حمودة ،د .عبد العزيز ،1998 :املرايا املحدبة من البنيوية إىل
التفكيك ،عامل املعرفة ،املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب،
نيسان.
7 .7كريستيان ديكان ،1982 :حوار مع جاك ديريدا ،مجلة الفكر العريب
املعارص ،العددان .19-18
8 .8راغب ،د .نبيل ،2003 :موسوعة النظريات األدبية – أدبيات -ط،1
الرشكة املرصية العاملية للنرش ،لونجامن ،مكتبة لبنان نارشون.
9 .9راي ،وليم ،1987 :املعنى األديب من الظاهراتية إىل التفكيكية ،ط،1
ترجمة :يؤئيل يوسف عزيز ،دار املأمون للرتجمة والنرش ،بغداد.
164سلسلة مصطلحات معاصرة
املراجع األجنبي�ة
يعود هذا املصطلح النقدي –إذن -يف أساسه إىل الخلفية الفلسفية
والرتاث الفكري الغريب الذي أنتجه ،وهو مختلف عن تراثنا وفكرنا
وفلسفتنا؛ لذا يجب التعامل بوعي مع مصطلحات هي وليدة فلسفة
غريبة عن فلسفتنا وعن فكرنا.
إ ّن مثة عالقة بني الحداثة واألساس الفلسفي الذي تقوم عليه ،والحاضن
الحقيقي للثنائيات الضدية هو الفكر الفلسفي أوالً ،والبنيوية ثانياً.
ومبدأ التضاد الثنايئ عنرص مشرتك يف الدراسات البنيوية كلها ،وقد
طور جاكبسون مبدأ الثنائيات املتضادة وتتبع خطى سوسري عن العالمة
والثنائيات املتضادة.
ويف النقد العريب الحديث غلب التطبيق عىل النظرية يف مجال
دراسة الثنائيات الضدية؛ لتلقيهم النقد الغريب جاهزا ً.
لقد حاولنا يف هذه الدراسة املتواضعة أن نثبت حضور الثنائيات
الضدية يف أوجه الحياة املختلفة ،ومجاالتها العلمية ،والفلسفية،
والنقدية ،واألدبية ،فالعلوم اإلنسانية بعامة ،والفنون التشكيلية تبنى أيضاً
بناء تقابلياً.