Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 94

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫مناقشات مع الفرق المخالفة في مسألة الرؤية‬

‫فضيلة الشيخ سعيد فودة‬

‫اتفق أهل السنة على أن رؤية للا تعالى جائزة‪ ،‬وخالفهم في ذلك الشيعة‬
‫والمعتزلة واإلباضية‪ ،‬وقال الكرامية والمجسمة بجواز رؤية للا تعالى‪.‬‬

‫فالحاصل أن رؤية للا قال بها األشاعرة أهل السنة والكرامية والمجسمة‪،‬‬
‫واالتفاق هذا حاصل على مجرد تصحيح الرؤية مع عدم االتفاق على معناها‬
‫ومفهومها وشروطها ولوازمها‪ ،‬كما سيتضح‪.‬‬

‫وقال الشيعة والمعتزلة واإلباضية بنفي الرؤية‪.‬‬

‫ولم يتفق األشاعرة والمجسمة والكرامية على معنى الرؤية وحقيقتها‬


‫واألصول التي بنوا تصحيح الرؤية عليها‪ ،‬فالمجسمة والكرامية بنوا قولهم‬
‫بذلك على استصحاب أصلهم المعلوم من أن للا ‪ -‬تعالى ‪ -‬جسم وأنه في‬
‫جهة‪ ،‬والرؤية تحصل بالعين عن طريق مقابلة المرئي في الجهة‪ ،‬ويلزمهم‬
‫عند اشتراطهم هذه الشروط التشبيه المحض‪.‬‬

‫وأما األشاعرة والماتريدية‪ ،‬فقالوا بصحة الرؤية ونفي كون للا تعالى جسماً‪،‬‬
‫ونفي كونه ذا َحد أو حدود‪ ،‬ولم يقولوا باشتراط الجهة لصحة الرؤية‪.‬‬
‫فبأدنى تأمل‪ ،‬نعلم علما ً قطعيا ً أن معنى الرؤية عند األشاعرة ليس عينه عند‬
‫المجسمة و َمن وافقهم‪ ،‬وبعض الجهلة يعتمدون على اتفاق األشاعرة‬
‫والمجسمة والكرامية على أصل صحة الرؤية‪ ،‬فيقول هؤالء الجهلة بأن‬
‫حقيقة مذهب األشاعرة هو التجسيم والتشبيه‪ ،‬وهذا سوء ظن منهم‪ ،‬مبني‬
‫على جهل كما قلنا‪ ،‬ومبني على سوء طوية‪ ،‬فالذي يجب على هؤالء أن‬
‫يقولوه عند رؤية كالم األشاعرة‪ :‬إن معنى الرؤية عندهم ليس نفس معنى‬
‫صرح به‬
‫َّ‬ ‫الرؤية عند المجسمة‪ ،‬وهو التحقيق والحق الصريح الذي‬
‫األشاعرة‪.‬‬

‫مجسماً‪ ،‬فهذا غباء‬


‫ِّ‬ ‫وأما أن يقولوا بأن الذي يثبت الرؤية يلزمه أن يكون‬
‫مبني على جهل‪ ،‬ومبني على عدم إعمال القواعد المعتمدة عند العلماء في‬
‫تحقيق المذاهب‪.‬‬

‫صرحوا بنفي كون للا جسما ً بأقوالهم‬


‫َّ‬ ‫والمقصود‪ :‬أن األشاعرة ما داموا قد‬
‫وبنوا قواعد مذهبهم على ذلك‪ ،‬فال يصح أن يُلزَ موا بما يناقض مذهبهم‬
‫المصرح به خاصة وأنهم بيَّنوا المقصود من معنى الرؤية عندهم‪.‬‬
‫َّ‬

‫فبعد هذا ال يصح لواحد أن يقول إن األشاعرة يلزمهم التشبيه والتجسيم‬


‫لمجرد إثبات الرؤية‪.‬‬

‫وسوف يزداد هذا وضوحا ً فيما يلي‪.‬‬

‫هذا الكالم ذكرناه هنا‪ ،‬ألن بعض المتسرعين من المعتزلة والشيعة‬


‫واإلباضية وبعض الذين جعلوا عقائدهم عبارة عن خليط خاص من‬
‫مختاراتهم من هذه المذاهب ومن أهوائهم التي حسبوها علوما ً ومعارف‪،‬‬
‫اتهموا األشاعرة بالتجسيم والتشبيه من أجل ذلك‪ ،‬ولهذا نبهنا إلى غلطهم من‬
‫ناحية منهجية‪ ،‬وسوف نبطل قولهم إبطاالً فيما يأتي من المباحث‪.‬‬

‫ولكن العقالء من الفرق المذكورة لم يتهموا األشاعرة بهذه التهمة الباطلة‪،‬‬


‫صرح‬
‫بل كان غاية قولهم منازعتهم في إثبات الرؤية‪ ،‬بل إن بعض أفاضلهم َّ‬
‫بأن حقيقة معنى الرؤية عند األشاعرة ينفي أصل الخالف مع المعتزلة‬
‫والشيعة واإلباضية‪ ،‬وبعضهم قال العكس‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فنحن نرى الواحد يتنقل من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال في مثل‬
‫هذه المسألة‪.‬‬

‫ولذلك أحببنا أن نناقش بعض المخالفين من الشيعة والمعتزلة واإلباضية في‬


‫هذه المسألة‪ ،‬ونتناول كالً على حدة؛ لنبين اختالف مناهجهم وصواب وسداد‬
‫طريقة أهل الحق‪ ،‬وقد ارتأيتُ أن نبدأ بالكالم مع فرقة الشيعة‬
‫اإلماميةونتناول كتابا ً من كتبهم المعتمدة لعا ِّلم مشهور عندهم معت ََرف بعلمه‬
‫وحكمته‪ ،‬فنناقشه في مقوالته واستدالالته وعباراته‪.‬‬

‫وإنما اختارنا هذه الطريقة؛ ألن كثيراً من الناس الذين يخوضون في هذه‬
‫المسألة معارضين ألهل السنة‪ ،‬ممن نعرفهم أو نخاطبهم يدفعهم الهوى‬
‫والتعصب وقلة االطالع‪ ،‬فكان ينبغي علينا عندما نناقشه أن نعلمه ونوضح‬
‫له حقيقة المذاهب قبل أن نبدأ بإلزامه أو الرد عليه‪ ،‬وهذا األمر الزم في كل‬
‫مناقشة‪ ،‬ولكن قدره يزيد وينقص بحسب جهل أو علم من نتكلم معه‪ ،‬فلذلك‬
‫ارتأينا أن نتكلم مع واحد عا ِّلم من كل فرقة من هذه الفرق‪ ،‬فالكالم مع العلماء‬
‫‪ -‬وإن كان عن طريق الكتب – أليق بالحكماء المدققين الباحثين عن الحق‬
‫واليقين من المشاغبة والتشغيب مع َمن هو دونهم في العلم‪.‬‬
‫وندعو للا تعالى أن يوفقنا أجمعين لما فيه الخير‪.‬‬

‫مع الشيخ جعفر السبحاني في كتاب اإللهيات‬

‫هذا الكتاب من الكتب المعتمدة عند الشيعة‪ ،‬ومؤلفه الشيخ جعفر السبحاني‬
‫مشهود له بالمكانة العالية عندهم‪ ،‬وهذا يبعث على الطمأنينة عندما نتكلم معه‬
‫ونناقش كالمه‪ ،‬فاألصل أن يكون منضبطا ً بضوابط العلم والمعرفة‬
‫الصحيحة‪ ،‬بعيداً عن المغالطات التي يحبها العوام‪ ،‬وهذا يكون أقرب إلى‬
‫تحقيق الحق‪ ،‬وأجمع لطرق النقاش والبحث‪ ،‬وأمنع لتشتت الكالم‪.‬‬

‫وقد تكلم الشيخ السبحاني في كتابه عن مسألة الرؤية تحت عنوان (امتناع‬
‫رؤية للا سبحانه) الجزء الثاني ص‪ ،125‬طبعة مكتبة التوحيد – قم‪.‬‬

‫قال الشيخ السبحاني (‪" :)125/2‬اتفقت العدلية على أنه سبحانه ال يُرى‬
‫باألبصار ال في الدنيا وال في اآلخرة‪ ،‬وأما غيرهم فالكرامية والمجسمة الذين‬
‫يصفونه سبحانه بالجسم‪ ،‬ويثبتون له الجهة‪ ،‬جوزوا رؤيته بال إشكال في‬
‫عد أنفسهم من أهل التنزيه وتحاشيهم‬
‫الدارين‪ ،‬وأهل الحديث واألشاعرة ‪ -‬مع ِّ‬
‫عن إثبات الجسمية والجهة له سبحانه – قالوا برؤيته يوم القيامة‪ ،‬وأنه‬
‫ينكشف للمؤمنين انكشاف القمر ليلة البدر تبعا ً لبعض األحاديث واستظهاراً‬
‫من بعض اآليات"أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫الحظ أنه يستغرب من مذهب األشاعرة كيف ينفون الجسم والتحيز والجهة‬
‫عن للا تعالى‪ ،‬ومع ذلك يقولون بالرؤية‪ ،‬واستغرابه هذا جاء ألنه جعل‬
‫الرؤية مالزمة للجسمية والتحيز‪ ،‬وهذا هو المتبادر إلى أذهان عامة الناس‪،‬‬
‫ولكن بقليل من التأمل في كالم األشاعرة يُعلم أنه يوجد انفكاك بين الرؤية‬
‫مجسما ً‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫والجسمية‪ ،‬فقد يُثْ ِّبتُ الرؤية َمن ليس‬

‫والمجسمة‬
‫ِّ‬ ‫وكان ينبغي أن ينبِّه هنا إلى اختالف مفهوم الرؤية بين األشاعرة‬
‫وال يسوقه سوقا ً واحداً‪ ،‬وسوف نشير إلى ذلك فيما يلي‪.‬‬

‫ثم أشار السبحاني إلى اختالف أقوال الناس حول الرؤية‪ ،‬بحسب ما ذكره‬
‫اإلمام األشعري في كتاب مقاالت اإلسالميين‪.‬‬

‫وال داعي ألن نذكر نحن هنا هذه األقوال؛ ألن بعضها كما وصفه السبحاني‬
‫(‪" :)126/2‬من األقوال السخيفة الساقطة"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫ثم شرع السبحاني في بيان عقائد العدلية في الرؤية‪ ،‬وقال (‪" :)126/2‬فإن‬
‫في إثباتها كفاية لرد سائر األقوال وبيان وهنها"أ‪.‬هـ‪ ،‬ويقصد بالعدلية كما هو‬
‫ظاهر كل من أثبت أن للا تعالى ال يخالف ما زعموا أنه ثابت في نفسه من‬
‫العدل والظلم والتحسين والتقبيح‪ ،‬ويشمل هذا الشيعة والمعتزلة ‪...‬‬

‫وهو يدعي أن مجرد بيان قول العدلية يكفي إلظهار َو ْهن سائر األقوال‬
‫وردها‪ ،‬ولكنه سوف يناقش أدلة األشاعرة بعد ذلك‪ ،‬وسوف نرى كيف يناقش‬
‫أدلة األشاعرة‪ ،‬ونتكلم في بيانه ألقوال العدلية في أدلتهم‪.‬‬

‫ما هي حقيقة الرؤية‬


‫تحت هذا العنوان ذكر السبحاني خالصة ما يعتقد هو أنه حقيقة الرؤية‪ ،‬فذكر‬
‫أن الرؤية هي حقيقة عبارة عن انعكاس صورة المرئي على العين‪ ،‬وذلك‬
‫بواسطة وصول النور إلى العين‪ ،‬ثم تخلله في طبقات العين‪ ،‬ثم تحوله بعد‬
‫ذلك إلى تموجات مناسبة لألشعة‪ ،‬ويتم إرسال هذه التموجات إلى الدماغ‬
‫فيحللها ويفسرها ويتعقلها بالشكل والصورة التي نعرفها‪.‬‬

‫ثم قال في ص ‪" :127‬هذا هو واقع اإلبصار والرؤية‪ ،‬فيجب أن يكون كل‬
‫من النفي واإلثبات على هذا المعنى الذي كشف عنه جهابذة العلم"‪.‬أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫كذا قال‪ ،‬أما أن هذا هو المعنى الوحيد من الرؤية فهو ما سنناقشه بعد قليل‪،‬‬
‫ولكن قوله‪" :‬الذي كشف عنه جهابذة العلم" ال داعي له هنا‪ ،‬فالعلماء‬
‫المعاصرون وإن كانوا كشفوا عن بعض التفاصيل إال أن هذه العملية إجماالً‬
‫كانت معلومة‪ ،‬فليست معرفتُها متوقفةً على كشف جهابذة العلم !! وكالمه‬
‫هذا يوهم أن المتقدمين كانوا يتكلمون عن أمر ال يعرفونه‪ ،‬فلما عرف هو‬
‫حقيقة الرؤية على النحو الذي وضحه كان من الطبيعي أن الذي أثبت الرؤية‬
‫ونفى التجسيم رأيه باطل من أساسه‪.‬‬

‫ولكن األمر ليس كذلك كما قلنا‪ ،‬وال نستطيع أن نقول مطلقا ً بقوله هذا‪ ،‬بل‬
‫نقول بكل قوة‪ :‬إن القدر الذي كان معلوما ً عند المتقدمين كاف للكالم على‬
‫مسألة الرؤية نفيا ً وإثباتاً‪ ،‬وال يتوقف اتخاذ موقف فيها على ما كشفه جهابذة‬
‫العلم كما قال‪ ،‬وسوف نوضح ذلك الحقا ً‪.‬‬

‫ثم قال السبحاني في (‪" :)127/2‬وبذلك يعلم أن تفسير اإلبصار ورؤيته‬


‫سبحانه بالعلم به أو بإدراكه في القلب أو من طريق الشهود خروج عن‬
‫البحث‪ ،‬ونحن مركزون على إمكان رؤيته بهذه األبصار التي يملكها كل‬
‫إنسان؛ ألن هذا هو محط البحث بين العدلية واألشاعرة"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫ع كشف‪ ،‬بل يصر‬ ‫إذن السبحاني يرفض أن تكون الرؤيةُ نو َ‬


‫ع علم‪ ،‬أو نو َ‬
‫على أن الرؤية حقيقتها ما سبق‪ ،‬فإذا قلنا بالرؤية يجب عنده أن نثبت هذا‬
‫المعنى الذي ذكره؛ ألنه ال يوجد معنى آخر لها عنده وعند العدلية‪ ،‬وإذا‬
‫نفيناها فإنما ينفي هو هذا المعنى بالضبط‪.‬‬

‫والحقيقة أن البحث بهذا الشكل ليس صحيحاً‪ ،‬وبيان ذلك كما يلي‪:‬‬

‫أوالً نقول‪ :‬إن المعنى الذي ذكره للرؤية هو عبارة عن انفعال للنفس بما في‬
‫الخارج بواسطة وسائط وآالت‪ ،‬فالعين تنفعل بالشعاع والدماغ ينفعل‬
‫بالتموجات‪ ،‬ثم تحدث الصورة التي يطلق عليها أنها رؤية‪.‬‬

‫فنحن نسأل سؤاالً هنا‪ ،‬وهو سؤال مهم جداً‪ ،‬بل هو أساس البحث‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫هل الرؤية كاسم يطلق على هذه االنفعاالت فقط‪ ،‬أم يطلق على الصورة‬
‫المدركة بعد حصول االنفعاالت‪ ،‬أم يطلق على الصورة بشرط االنفعاالت‪،‬‬
‫َ‬
‫أو على مجموع الصورة واالنفعاالت؟‬

‫من الواضح لدى كل إنسان عاقل يفهم معنى الرؤية أنه يجزم بأن إطالق‬
‫اسم الرؤية على مجرد االنفعاالت أمر باطل قطعاً‪ ،‬فلو حصلت االنفعاالت‬
‫ولم تحصل الصورة لخلل في العين أو الدماغ أو لسبب آخر‪ ،‬فال يمكن أن‬
‫يطلق اسم الرؤية على مجرد االنفعاالت‪.‬‬

‫فيبقى إذن االحتماالت‪ :‬أن الرؤية هل هي مجرد الصورة ولو لم تحصل‬


‫االنفعاالت‪ ،‬أو هي الصورة بشرط حصول االنفعاالت بالنسق المذكور هنا‪،‬‬
‫أي الذي وضحه السبحاني‪.‬‬
‫من الواضح عند أدنى تفكر أن اسم الرؤية ال بُ َّد فيه من مالحظة حصول‬
‫الصورة‪ ،‬ولكن هل يشترط إلطالق اسم الرؤية كون الصورة مسبوقة بهذه‬
‫االنفعاالت المذكورة أو ال يُشترط ؟‬

‫هذا هو بالضبط حقيقة الخالف بين األشاعرة والعدلية‪.‬‬

‫فالعدلية يقولون‪ :‬كل صورة لم تحصل عن طريق هذه االنفعاالت فال تسمى‬
‫رؤية‪ ،‬واألشاعرة يقولون‪ :‬بل تسمى رؤية وإن لم تسبقها هذه االنفعاالت‪.‬‬

‫فاألصالة للرؤية عند األشاعرة للصورة وليست االنفعاالت جزءاً منها‪،‬‬


‫ويتصورون إمكان حصول الرؤية بال سبق االنفعاالت‪.‬‬

‫وأما العدلية‪ :‬فألنهم ال يتصورون إمكان حصول الصورة إال بواسطة هذه‬
‫االنفعاالت‪ ،‬فلذلك قالوا بنفي الرؤية‪ ،‬واالنفعاالت علة عندهم لحصول‬
‫الرؤية‪.‬‬

‫فالخالصة إذن بعبارة أخرى‪ ،‬هل يوجد ترتبات في الوجود الخارجي الحادث‬
‫بين أمر وأمر آخر‪ ،‬أي هل يوجد في الوجود الخارجي تالزم عقلي بين‬
‫متغايرين‪ ،‬بحيث ال يمكن وجود أحدهما إال بوجود اآلخر‪،‬‬
‫َ‬ ‫موجو َدين اثنين‬
‫متغايرين‪ ،‬ألنه لو كان موجوداً واحداً‪ ،‬فاالتفاق‬
‫َ‬ ‫وإنما قلنا بين موجو َدين‬
‫حاصل على أنه ال يوجد بدون ذاتياته‪.‬‬

‫ولكن محل الخالف بالضبط‪ :‬هل يمكن أن يكون وجود حادث شرطا ً أو علة‬
‫لوجود حادث آخر‪ ،‬بحيث يستحيل وجود الثاني إال بوجود األول‪ ،‬هذا هو‬
‫حقيقة الخالف وأصل المسألة‪.‬‬

‫ومن الواضح أنها راجعة إلى القول بالعلية والمعلولية بين أجزاء العالم‬
‫الحادث‪.‬‬
‫وإذا ظهر أن المسألة ترجع لهذا األصل‪ ،‬فلنوضح رأي األشاعرة ورأي‬
‫المخالفين لهم في هذه المسألة األصلية والتي يتفرع عليها أكثر مسائل علم‬
‫التوحيد‪.‬‬

‫فخالصة رأي األشاعرة أن للا تعالى هو الخالق بال واسطة لكل شيء موجود‬
‫من الموجودات الحادثة‪ ،‬فكل ما في هذا العالم من موجودات فاهلل تعالى هو‬
‫الخالق له بال واسطة‪ ،‬فال يوجد شيء من الموجودات الخارجية يتوقف في‬
‫وجوده على وجود شيء آخر‪ ،‬إال إذا كان جزءاً له أو داخالً فيه‪ ،‬فال يكونان‬
‫متغايرين منفصلَين حينذاك‪ ،‬والكالم في المتغايرات‪.‬‬
‫َ‬

‫وأما المخالفون من الشيعة ومن وافقهم من المعتزلة والفالسفة‪ ،‬فيقولون‪:‬‬


‫يوجد ترتب في العالم الحادث بين أفراده‪ ،‬وهذا الترتب هو ترتب علي‬
‫ومعلولي‪ ،‬بمعنى أن بعض األمور الموجودة في هذا العالم الحادث علة‬
‫لوجود غيرها‪ ،‬وما دامت علة لها‪ ،‬فال يمكن وجود المعلول إال بوجود العلة‪.‬‬

‫وهكذا إذا كانت الصورة معلولة لالنفعاالت‪ ،‬فال يمكن أن توجد الصورة عند‬
‫العقل أو فيه إال بوجود االنفعاالت‪ ،‬فاالنفعاالت شرط عقلي ال يمكن تخلفه‪.‬‬

‫واألشاعرة يقولون‪ :‬إن للا تعالى قادر على خلق الصورة بدون االنفعاالت‬
‫المشار إليها‪ ،‬ولذلك فليست االنفعاالت شرطا ً عقليا ً ال يتخلف‪ ،‬بل هي عبارة‬
‫عن ترتبات عادية وترتيبات حاصلة بإرادة للا تعالى‪ ،‬ولو شاء للا أن ال‬
‫يجعلها كذلك لقدر‪.‬‬

‫ولذلك قال األشاعرة بأن الرؤية حقيقة هي حصول الصورة اإلدراكية‪ ،‬وأما‬
‫مقدماتها االنفعالية فهي شروط عادية يمكن تخلفها‪ ،‬وما دامت كذلك‪ ،‬فال‬
‫يستحيل أن يخلق للا تعالى الصورة بال خلق اإلدراكات االنفعالية التي‬
‫جعلوها شروطا عقلية كالمقابلة واتصال الشعاع‪ ،‬وغيرها مما جعلوه شرطا‬
‫عقليا للرؤية كالحد للمرئي‪ ،‬وبالتالي ال يلزم أن يكون من حصل فيه صورة‬
‫المرئي مواجها ً له‪ ،‬وال يشترط عقالً أن يسبق ذلك كله حصول االنفعاالت‬
‫المذكورة‪ ،‬بل لو شاء للا تعالى أن يخلق الصورة مباشرة فإنه قادر على‬
‫ذلك‪.‬‬

‫يوجد للا هذه‬


‫وأما الشيعة ومن وافقوه في هذا الرأي‪ ،‬فقالوا‪ :‬ال يمكن أن ِّ‬
‫الصورة إال بإيجاد االنفعاالت‪ ،‬وال يمكن أن توجد االنفعاالت إال بوجود‬
‫الجهة والمقابلة وارتطام الشعاع بالمرئي ثم انعكاسه عنه وسقوطه على‬
‫العين‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫وهذا هو حقيقة الخالف بين الشيعة والعدلية من جهة‪ ،‬وبين األشاعرة من‬
‫جهة أخرى‪ ،‬وإذا تأملنا الخالف بهذا الوضع فإننا نستطيع أن نتبين عمق‬
‫بحث وتحليل األشاعرة في هذه المسألة‪ ،‬وربطهم لها بأصول العقائد بنا ًء‬
‫على ما تحقق لديهم‪.‬‬

‫وكذلك فالعدلية بنوا هذه المسألة على ما يعتقدونه من كون العالقة بين للا‬
‫تعالى وبين الموجودات في هذا العالم عالقة علية ومعلولية‪ ،‬كما يقول الشيعة‬
‫المتأخرون والفالسفة‪ ،‬أو مبنية على أن للا تعالى يجب عليه فعل الصالح‪،‬‬
‫وأن الحسن والقبح أمور ثابتة في نفس األمر‪ ،‬وأن للا ال يمكن إال أن يفعل‬
‫ما هو مقتضى الصالح والحسن‪ ،‬كما هو رأي المعتزلة‪.‬‬

‫ومن الظاهر أن رأي المعتزلة والشيعة يعود إلى نفي كون للا تعالى مختاراً‪،‬‬
‫أي أنهم ينفون كون للا تعالى متصفا ً باإلرادة كما هو متصف بالعلم والقدرة‪،‬‬
‫فاإلرادة عندهم هي عين الفعل أو راجعة إليه‪ ،‬فاإلرادة من صفات األفعال‬
‫ال الذات‪ ،‬وهو في الحقيقة نفي لإلرادة ال إثبات لها‪.‬‬

‫هذا هو حقيقة األمر وأصوله الكبرى‪.‬‬

‫ولنرجع قليالً إلى مسألة الرؤية‪:‬‬

‫إن من يعلم مذهب األشاعرة يعلم أنهم يرجعون الرؤية إلى اإلدراك‪ ،‬أي إلى‬
‫نوع إدراك‪ ،‬فمن أرجع الرؤية عندهم إلى العلم‪ ،‬فالحاصل أنه ال خالف بينه‬
‫وبين غيره من حيث الحقيقة‪ ،‬ومخالفة الشيعة والمعتزلة لهم غير مبنية على‬
‫أساس‪ ،‬والفرق بينهم في التدقيقات كنحو القول‪ :‬هل يجوز أن نحصل على‬
‫زيادة علم باهلل تعالى أم ال يمكن ذلك سواء في الدنيا أم في اآلخرة‪ ،‬فاألشاعرة‬
‫يقولون‪ :‬نعم هذا جائز‪ ،‬وغيرهم يقول ال‪ ،‬ولو جاز فال يسمى رؤية‪،‬‬
‫واألشاعرة يقولون‪ :‬يسمى رؤية؛ ألن هذا هو حقيقة الرؤية‪.‬‬

‫بل حقيقة الرؤية عندهم هو علم حاصل في اإلنسان في عينه بالترتيب العادي‬
‫المذكور سابقاً‪ ،‬ويمكن أن يخلقه للا مباشرة في النفس‪ ،‬ولكن تسميته بالرؤية‬
‫ألن العادة جرت على خلقه في العين ولو بال واسطة االنفعاالت‪ ،‬فكل إدراك‬
‫وعلم حصل لإلنسان عن طريق الترتبات العادية المذكورة فيسمى رؤية وإن‬
‫كان بخلق للا تعالى مباشرة‪.‬‬

‫وكون العين آلة‪ ،‬فهذا للعادة التي خلقها للا تعالى وليس ألن العين سبب وعلة‬
‫للرؤية‪ ،‬وأما القائلون بوجود صفة زائدة على العلم اسمها البصر‪ ،‬فالمذهب‬
‫بنا ًء على ذلك واضح‪.‬‬
‫إذن وبعد هذا التوضيح نقول‪:‬‬

‫الخالصة إن األشاعرة لم يسلموا أن الرؤية هي حصول اإلدراك بشرط‬


‫االنفعال المذكور‪ ،‬بل قالوا هو مجرد حصول اإلدراك‪ ،‬والشيعة ومن وافقهم‬
‫قالوا باشتراط اإلدراك باالنفعاالت المذكورة‪ ،‬بنا ًء منهم على العلية‬
‫والمعلولية والتولد والحسن والقبح العقليين‪ .‬ويبقى األمر عند األشاعرة في‬
‫إطالق اسم الرؤية بناء على ما وضحناه‪.‬‬

‫ويتضح لنا أن قول السبحاني بأن َمن فسر الرؤية بالعلم أو بالكشف أو نفى‬
‫اشتراطهما بهذه االنفعاالت ووصفه إياهم بأنهم خارجون عن محل النزاع‪،‬‬
‫مجرد مصادرة على المطلوب‪ ،‬فالمطلوب أساسا ً تحقيق هذه المسألة أي‬
‫معرفة هل الرؤية تطلق على هذا المعنى أو على ذاك‪.‬‬

‫فالشيخ السبحاني صا َد َر على أساس المسألة‪ ،‬واعتبر أنه ال تطلق الرؤية إال‬
‫على ما قاله‪ ،‬ولذلك َحك ََم بهذا الحكم كما ترى‪ ،‬ووقع في الغلط‪.‬‬

‫وأما الفرق بين قول األشاعرة وقول المجسمة‪ ،‬فهو كما يلي‪:‬‬

‫إن المجسمة انطلقوا من نفس المقدمات التي قررها الشيعة والمعتزلة من أنه‬
‫ال يمكن حصول الرؤية إال باالنفعال والمواجهة وكون المرئي في جهة‬
‫ومحدوداً ‪ ..‬إلخ‪ ،‬والمجسمة لما كانوا يقولون بأن للا في جهة ومحدود ‪...‬‬
‫إلخ‪ ،‬لم يلزمهم نفي الرؤية كما فعل المعتزلة والشيعة‪ ،‬ولم يلزمهم تحقيق‬
‫معنى الرؤية وتجريدها عن شروطها العادية كما فعل األشاعرة‪ ،‬فالحاصل‬
‫أن المجسمة والكرامية قالوا بكل ما قال به الشيعة والمعتزلة في شروط‬
‫فر منها هؤالء‪.‬‬
‫أجزاء الرؤية‪ ،‬والتزموا اللوازم التي َّ‬

‫وأما األشاعرة فقد عرفنا قولهم‪ ،‬وهو إثبات الرؤية على ما وضحناه‪ ،‬ونفي‬
‫لوازم التجسيم والتحديد والتشبيه‪.‬‬

‫فهذه هي خالصة هذه المسألة أتينا بها إليك من أصولها‪.‬‬

‫ونكمل اآلن مناقشة كالم السبحاني‪:‬‬

‫استدل السبحاني على نفي الرؤية بقوله (‪" :)127/2‬إن الرؤية إنما تصح‬
‫لمن كان مقابالً أو في حكم المقابل"‪.‬أهـ‪ .‬وبما أن للا تعالى ليس في جهة وال‬
‫ح َّد له‪ ،‬فيستحيل رؤيته‪ ،‬وقد بينا نحن أن الرؤية هي نفس اإلدراك الحاصل‬
‫ال بشرط االنفعاالت والمقابلة والحد‪ ،‬وبنا ًء على ذلك فال يلزمنا القول‬
‫باستحالة الرؤية‪ ،‬وأما قوله بعد ذلك بأن الرؤية "إذا أريد بها غير حقيقتها‬
‫مما يعبر عنه باإلدراك العلمي والشهود القلبي ‪ ...‬فهو حينئذ خارج عن محط‬
‫البحث ومجال النزاع"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫نقول‪ :‬الرؤية عبارة عن إدراك معين‪ ،‬وتحقيق كون الرؤية كذلك هو أصل‬
‫النزاع كما سبق تحقيقه‪ ،‬بل هو أصل المسألة‪ ،‬وادعاء كونه خارجا ً عن محل‬
‫النزاع وحصر الرؤية في الرؤية الحسية المشروطة بالشروط العادية عبارة‬
‫عن مصادرة على المطلوب‪.‬‬
‫وقد ساق أدلة أخرى راجعة إلى نفس األساس‪ ،‬منها لزوم كون المرئي‬
‫محدوداً متناهياً‪ ،‬ولزوم كونه جسما ً ذا أبعاد‪ ،‬وفي جهة‪ ،‬ثم قال‪" :‬فروح‬
‫األدلة األربعة يرجع إلى أمر واحد‪ ،‬وهو أن تجويز رؤيته معناه كونه سبحانه‬
‫موجوداً متحيزاً ومحدوداً وذا جهة وعوارض جسمانية وقابالً لإلشارة‪ ،‬وكل‬
‫ذلك مستحيل‪ ،‬فتكون النتيجة امتناع وقوع الرؤية عليه"‪.‬أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وكالمه في رجوع هذه األدلة إلى حرف واحد صحيح‪ ،‬ولذلك فجوابنا عن‬
‫جميعها واحد أيضاً‪ ،‬وهو أن الرؤية ال تستلزم هذه اللوازم‪ ،‬وإنما هذه شروط‬
‫عادية ال عقلية‪ ،‬والرؤية إدراك يخلقه للا مباشرة بال واسطة وال اشتراط‬
‫مقابلة وال حد وال جهة‪ ،‬فإذا سلم ذلك‪ ،‬فال وجه المتناع القول بها مع ورود‬
‫الشريعة بها‪.‬‬

‫ثم قال السبحاني مقرراً أدلته‪" :‬ومبادئ هذه البراهين أمور بديهية حسية‬
‫يكفي في تصديقها تصور القضايا بموضوعاتها ومحموالتها ونسبها"‪.‬أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وكالمه هذا ليس صحيحاً‪ ،‬فقد رأينا أنها ليست بدهية‪ ،‬بل ظاهرية‪ ،‬وأنها‬
‫تحت النقد والتحليل العقلي تنحل وتكون سرابا ً بقيعة‪ ،‬واالعتماد على ظواهر‬
‫األمور كما يفضي بها إلينا الحس من دون نقد ليس من عادة المحصلين وال‬
‫الناقدين المحققين‪ ،‬وكثير من إشكاالت الفرق المخالفة إنما وقعوا فيها من‬
‫هذا الباب‪.‬‬

‫وحاصل الكالم‪:‬‬

‫إن الرؤية الحسية المشروطة بالحس والمقابلة واتصال الشعاع مستحيلة على‬
‫للا‪ ،‬وال نسلم أن هذا المعنى هو حقيقة الرؤية‪ ،‬وأما حصول إدراك زائد على‬
‫ما حصلنا عليه بواسطة النظر العقلي والتفكير في العالم‪ ،‬فهذا ليس بمستحيل‬
‫سواء خلقه للا تعالى في العين ثم أدركناه بعقولنا أو خلقه للا مباشرة في‬
‫النفس‪ ،‬وهذا هو حقيقة الرؤية‪ ،‬وال وجه للقول بامتناعها على هذا النحو‪.‬‬

‫محاولة فاشلة‪:‬‬

‫لقد وصف السبحاني بهذا العنوان بعض األقوال التي نقلها عن األشاعرة‪،‬‬
‫وحاصل ما قاله تحت هذا العنوان إن األشاعرة لما رأوا أن الرؤية تفضي‬
‫إلى القول بالتجسيم‪ ،‬وكان القول بالتجسيم محاالً ممتنعاً‪ ،‬حاولوا تصحيح‬
‫مقولتهم بثبوت وجواز الرؤية بال لزوم التجسيم بوجوه خارجة عن محل‬
‫النزاع‪ ،‬كما قال السبحاني‪.‬‬

‫والحقيقة أن قول السبحاني مصادرة على المطلوب كما قلنا‪ ،‬ألن النزاع‬
‫أصالً‪ :‬هل ال يمكن تحقيق الرؤية إال على النحو الحسي المستلزم للجهة‬
‫والحد‪ ،‬أم ال؟ فهو و َم ْن وافقه قال نعم ال يمكن إال هذا الوجه وهذا المعنى‪،‬‬
‫واستداللهم مبني على ما يحسون به وادعوا أن هذا بديهي‪ ،‬والحقيقة أنه من‬
‫الظواهر الحسية والعقل ينفي كونها بديهية‪ ،‬فالحس ال يدل إال على الوقوع‪،‬‬
‫وال يدل على االستحالة‪ ،‬وكالمنا في االمتناع‪.‬‬

‫وكذلك فالعقل دل على أنه ال خالق إال للا‪ ،‬وأنه يخلق بال واسطة‪ ،‬وال توجد‬
‫علل وترتبات بين الموجودات الحادثة‪ ،‬هذا عند األشاعرة‪.‬‬

‫وأما عند المخالفين‪ ،‬فقالوا بالعلية والمعلولية والترتبات المذكورة‪ ،‬ولذلك‬


‫لزمهم نفي الرؤية‪ ،‬وال شك أن القول بالعلية والمعلولية والترتبات على النحو‬
‫الذي ادعوه هم ليس من البديهيات وال من الحسيات‪ ،‬بل ال يمكن إثباته إال‬
‫بالنظر الدقيق‪ ،‬وال نسلمه لهم‪ ،‬بل نعارضه بعد إبطاله بنظر أقوى منه‪.‬‬
‫فإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فكيف يقول السبحاني إن األشاعرة يتفلتون من هذه‬
‫لم ال يقول‪ :‬إنهم حققوا أن للرؤية معنيين‪ ،‬األول على ما جرت‬
‫المحاذير؟ َ‬
‫عليه العادة وهو المعنى الحسي‪ ،‬وقد منعه األشاعرة‪ ،‬والثاني المجرد عن‬
‫الشروط العادية‪ ،‬وقد قالوا به‪ ،‬وال يستلزم الجسمية وال الحد‪.‬‬

‫وليس هذا مجرد محاولة تخريج للقول أو خروج عن محل النزاع‪ ،‬بل هو‬
‫تحقيق لنفس المسألة‪ ،‬ولكن الشيخ السبحاني لم يقل ذلك‪ ،‬ولو قاله لدل على‬
‫إنصافه‪ ،‬ويمكن بعد ذلك أن يخالفهم في نفس هذا الرأي لو شاء‪ ،‬ولكن‬
‫اإلنصاف مطلوب منه ولم يفعله‪ ،‬بل بادر ‪ -‬كما هي عادتهم ‪ -‬إلى اتهام‬
‫األشاعرة بالتلفيق‪.‬‬

‫وقد نقل السبحاني قول الشهرستاني في بيان أن مذهب المعتزلة شرط الرؤية‬
‫بتلك الشروط المستلزمة للحد والجهة‪" :‬ونفوا رؤية الباري تعالى باألبصار‬
‫نفي االستحالة‪ ،‬واألشعري أثبتها إثبات الجواز على اإلطالق‪ ،‬والوجوب‬
‫بحكم الوعد"‪.‬أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وهذه الكلمة نقلها عن الشهرستاني في نهاية االقدام‪ ،‬ص‪ ،356‬وعلق‬


‫السبحاني عليها بأن الرؤية الحسية هي الرؤية المعلومة‪ ،‬وهي محالة لما‬
‫تستلزمه من الحد‪ ،‬ثم قال (‪" :)129/2‬وأما ما يدعيه العرفاء وأهل الكشف‬
‫والشهود خارج عن محط البحث"أ‪.‬هـ‪ .‬وهذا الكالم يُكثر السبحاني من‬
‫تكراره‪ ،‬وقد بينا لك أن هذا مجرد مغالطة منه ومصادرة على المطلوب‪،‬‬
‫فالمدار مبني على أن الصورة اإلدراكية هل تسمى رؤية أم ال‪ ،‬وقد ثبت‬
‫بالنصوص واستعمال اللغة أنها تسمى بالرؤية‪ ،‬فاإلنكار بعد ذلك تحكم‪.‬‬
‫وهذا كما لو ورد الشرع بنسبة اليد إلى للا تعالى‪ ،‬والمتبادر إلى الذهن من‬
‫اليد هي الجارحة‪ ،‬والجارحة مستحيلة على للا تعالى‪ ،‬فهل ننكر أصل النسبة‬
‫أم نبحث عن معنى آخر لليد يصح بنا ًء عليه نسبتها هلل‪ ،‬ال شك أن الصحيح‬
‫هو الطريق الثاني‪ ،‬فالمعنى الموجود في اللغة يصحح إطالق اليد وإرادة‬
‫القدرة والمعونة‪ ،‬وإطالق هذا المعنى على للا ال ضرر فيه‪.‬‬

‫وكذلك لما وردت نسبة الرؤية إلى للا تعالى‪ ،‬وكان المتبادر منها الرؤية‬
‫الحسية‪ ،‬وهذه محالة على للا تعالى‪ ،‬بحثنا في اللغة عن معنى آخر وتحقيق‬
‫لمفهوم الرؤية‪ ،‬فقلنا إنها حالة إدراكية أعلى مما تحصل عليه بواسطة النظر‪،‬‬
‫وهذا جائز على للا تعالى‪ ،‬أي يجوز أن نعلم من كماالت للا تعالى أكثر مما‬
‫نعلمه عن طريق النظر العقلي‪ ،‬فنحمل الرؤية على هذا القدر‪ ،‬وننفي اللوازم‬
‫الحسية‪ ،‬وهذا هو الذي فعله األشاعرة‪ ،‬بحيث ال يلزمهم نفي نص وارد في‬
‫الشريعة صحيح النسبة‪ ،‬وال يلزمهم مخالفة وال معارضة المقطوع به عقالً‬
‫على للا تعالى من تنزيهه عن الجسمية والحدود والجهات‪.‬‬

‫فأين اإلشكال في هذا المذهب‪ ،‬بل إن المنصف ال يرى فيه إال كل إتقان‬
‫وإبداع ‪...‬‬

‫ثم نقل السبحاني كالما ً عن العالمة القوشجي في شرح التجريد‪ ،‬فقال‬


‫(‪" :)129/2‬قال الفاضل القوشجي بعد شرح معنى الرؤية إما باالرتسام أو‬
‫خروج شعاع‪" :‬إنا إذا عرفنا الشمس مثالً بحد أو رسم‪ ،‬كان نوعا ً من‬
‫المعرفة‪ ،‬ثم إذا أبصرناها وغمضنا العين كان نوعا ً آخر فوق األول‪ ،‬ثم إذا‬
‫فتحنا العين حصل نوع آخر من اإلدراك فوق األولين نسميه الرؤية‪ ،‬وال‬
‫يتعلق في الدنيا إال بما هو في جهة ومكان‪.‬‬
‫فمحل النزاع أن مثل هذه الحالة اإلدراكية يصح أن تقع بدون المقابلة وتتعلق‬
‫بذات للا منزهة عن الجهة والمكان أوالً" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وعلق السبحاني على هذا الكالم قائالً (‪" :)130/2‬إن تمني الرؤية واإلبصار‬
‫بغير المقابلة والجهة مع تحققها بالعيون واألبصار أشبه بتمني وجود الشيء‬
‫مع التأكيد على عدمه"‪.‬أهـ‪.‬‬

‫يريد السبحاني بهذا التعليق الحكم على كالم القوشجي بالتناقض‪ ،‬فهل كالم‬
‫القوشجي فيه تناقض حقا ً كما يريد السبحاني إيهام ذلك ؟!‬

‫والحقيقة أنه بأدنى نظر نتبين أنه ال يوجد تناقض داخلي في كالم القوشجي‪،‬‬
‫بل التناقض ناتج عن أن السبحاني ألزم القوشجي بنا ًء على مذهبه هو ال‬
‫مذهب القوشجي‪ ،‬وبيان ذلك‪ :‬أن القوشجي يقول بإمكان خلق اإلدراك مع‬
‫عدم وجود االتصال والحد والجهة وغير ذلك‪ ،‬وهو بنا ًء على ذلك يقول إذا‬
‫حصل لنا إدراك علمي بمستوى معين‪ ،‬فهل يمكن أن يحصل لنا إدراك علمي‬
‫بمستوى أعلى منه ونسميه الرؤية كما نسمي إبصارنا للشمس رؤية‪ ،‬هذا هو‬
‫حاصل كالم العالمة القوشجي‪ ،‬وال يوجد تناقض‪.‬‬

‫ولكن السبحاني يعتقد في نفسه أنه ال يوجد رؤية إال باتصال شعاع ومقابلة‬
‫وجهة‪ ،‬فلما سمع القوشجي يقول برؤية بدون تلك األمور ألزمه بطلب وتمني‬
‫الرؤية واإلبصار مع عدم تحققها باألبصار مع أنها عند السبحاني ال تحصل‬
‫إال باألبصار‪ ،‬وظاهر أن هذا اإللزام ال يلزم‪ ،‬ألنه إلزام مركب على مذهب‬
‫الملزم‪ ،‬وليست كل مقدماته يسلم بها القوشجي كما هو ظاهر‪.‬‬
‫ِّ‬

‫فتبين لنا أن ال داعي لالستغراب من هذا الكالم‪.‬‬


‫والحقيقة أنه لو ت َّم التدقيق قليالً في كالم القوشجي لوصل المعارض إلى‬
‫أغلب الحل والجواب عن اإلشكاالت التي تمنعه من القول بالرؤية جوازاً‪.‬‬

‫وتوضيح ذلك‪ :‬أننا يمكن أن نعلم الشيء بالنظر والرسم والحد‪ ،‬ثم يمكن أن‬
‫نعلمه بمشاهدته باإلبصار‪ ،‬ومعلوم تفاوت هاتين الدرجتين من العلم‪ ،‬ومعلوم‬
‫أن حقيقة اللون مثالً المشاهَد بالعين واألبصار ال يمكن إدراكها إال بالعين‪،‬‬
‫أي ال يمكن إدراك حقيقة اللون عن طريق النظر العقلي واالستدالل‪ ،‬وعلمنا‬
‫باللون وإن توقف عادة على البصر واتصال الشعاع‪ ،‬إال أنه أقوى من علمنا‬
‫بالشيء بمجرد النظر العقلي‪ ،‬فتحقق لنا إذن مستويان من العلم‪ ،‬فالسؤال هنا‪:‬‬
‫هل يستحيل عقالً أن يحصل لنا علم باهلل تعالى بدرجة أعلى من الدرجة التي‬
‫حصلنا عليها عن طريق النظر العقلي والبحث في األخبار‪ ،‬بحيث تسمى‬
‫صلناه رؤية؟‬
‫هذه الدرجة من العلم بالنسبة لما ح َّ‬

‫إن الذي يفهم المسألة على هذا النحو يجزم بال تردد بعدم امتناع هذه الدرجة‬
‫من العلم‪ ،‬خاصة إذا أرجعنا حصولها إلى إرادة للا تعالى وقدرته المحيطة‬
‫بكل الممكنات كما يقول األشاعرة‪.‬‬

‫وإذا ص َّح ذلك‪ ،‬فال يبقى هناك وجه للقول باستحالة الرؤية خاصة إذا الحظنا‬
‫ورود األحاديث وورود بعض اآليات الدالة على إمكان الرؤية هلل تعالى‪.‬‬

‫فحكم العقل باإلمكان‪ ،‬مع ورود النصوص الشرعية‪ ،‬يكفيان للجزم بجواز‬
‫هذه المسألة‪ ،‬أعني رؤية للا تعالى‪ ،‬ويتوقف ثبوتها وحصولها في اآلخرة أو‬
‫في الدنيا على ثبوت سند الروايات الواردة بذلك‪ ،‬فال تناقض مطلقا ً في مذهب‬
‫األشاعرة‪ ،‬وليس مذهبا ً ملفقا ً كما يقول المعتزلة والشيعة وأنصاف الفالسفة‬
‫وغيرهم‪ ،‬بل هو مذهب مبني على التحقيق العميق في العقليات والنظر الدقيق‬
‫مع احترام نصوص الشريعة وعدم إهمال شيء منها‪.‬‬

‫ثم قال الشيخ السبحاني (‪" :)130/2‬و َمن أمعن النظر في كتب األشاعرة‬
‫خصوصا ً القدامى منهم‪ ،‬وباألخص كتب أهل الحديث والحنابلة يرى أنهم‬
‫يفرون من هذه المحاوالت وال يرون لها قيمة في أوساطهم‪ ،‬وهم يتمسكون‬
‫بالروايات وما استظهروه من اآليات ويحكمون بالرؤية الحقيقية كرؤية‬
‫القمر‪.‬‬

‫قال الشيخ األشعري في اإلبانة‪" :‬وندين بأن للا تعالى يُرى في اآلخرة‬
‫باألبصار كما يرى القمر ليلة البدر‪ ،‬يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن‬
‫رسول للا صلى للا عليه وآله وسلم"‪.‬‬

‫وقال في اللمع‪" :‬إن قال قائل‪ :‬لم قلتم إن رؤية للا باألبصار جائزة من باب‬
‫القياس قيل له‪ :‬قلنا ذلك ألن ما ال يجوز أن يوصف به للا تعالى ويستحيل‬
‫عليه ال يلزم في القول بجواز الرؤية"‪.‬أهـ‪ .‬انتهى كالم السبحاني‪.‬‬

‫وما ذكره من أن المتقدمين كاألشعري لم تكن تعجبهم هذا المذهب الذي سماه‬
‫السبحاني محاوالت‪ ،‬يقصد محاوالت لتخريج الرؤية وصرفها عن التشبيه‬
‫والتجسيم‪ ،‬والسبحاني يدعي أن هؤالء المتقدمين كانوا يقولون بظاهر‬
‫األحاديث ويثبتون الرؤية الحقيقية‪ ،‬وقد عرفنا نحن أن مراد السبحاني‬
‫بالرؤية الحقيقية الرؤية الحسية المستلزمة للجهة والحد والمقابلة والشعاع‬
‫واالنفعال‪ ،‬وهذه الرؤية لم يقل بها األشاعرة مطلقا ً ال المتقدمون منهم وال‬
‫المتأخرون‪ ،‬وحتى اإلمام األشعري لم يقل بذلك وال أحد من تالمذته‪ .‬بل‬
‫مذهب على طول العصور واحد وهو ما بيناه سابقا ً‪.‬‬
‫وأما الكالم الذي نقله عن اإلمام األشعري من اإلبانة فال يستلزم الجهة والحد‬
‫وإثبات الرؤية الحسية مطلقاً‪ ،‬ألن اإلمام األشعري يقول إن للا تعالى يخلق‬
‫الرؤية مباشرة في األبصار دون أن يستلزم ذلك كون للا في جهة وبال‬
‫اشتراط شعاع‪ ،‬فهو خلق مباشر من للا تعالى لإلدراك المسمى بالرؤية في‬
‫األبصار‪ ،‬وال إشكال في ذلك كما علم في دقيق الكالم‪ ،‬وبعضهم قال‪ :‬يخلقها‬
‫للا تعالى في النفس مباشرة وبعضهم في الوجه‪ ،‬وهذا مبني عندهم على أن‬
‫اإلدراك ال يشترط فيه البنية‪ ،‬وهي مسألة معروفة‪ ،‬والحجة في ذلك األصل‬
‫الكبير الذي نبهنا إليه سابقاً‪ ،‬وهو أن للا تعالى خالق لألشياء بال واسطة‪،‬‬
‫وال يوجد علية وال معلولية بين الموجودات الخارجية في هذا العالم‪.‬‬

‫وقد علم عند الجميع أن تشبيه الرؤية برؤية البدر إنما هو من حيث الوضوح‬
‫والتميز وعدم الشك في كون المرئي هو للا تعالى‪ ،‬وليس المقصود هو رؤية‬
‫للا في جهة وال غير ذلك‪ ،‬لذلك قال النبي‪" :‬ال تضامون في رؤيته"‪ ،‬و"ليس‬
‫بينكم وبينه سحاب"‪ ،‬وغير ذلك مما يدل على جهة الشبه في الرؤية وهي‬
‫الوضوح والتميز‪.‬‬

‫وأما النص الذي نقله السبحاني عن اإلمام األشعري من كتاب اللمع‪ ،‬فهو‬
‫صريح فيما قلناه من نفي الحد والمقابلة والجهة‪ ،‬ال في إثباتها كما يريد‬
‫السبحاني أن يدعيه‪ ،‬ودليل ذلك أن األشعري قال‪" :‬ألن ما ال يجوز أن‬
‫يوصف به للا تعالى ويستحيل عليه ال يلزم في القول بجواز الرؤية"‪.‬أهـ‪.‬‬
‫هذا هو كالمه الذي نقله السبحاني نفسه‪ ،‬ولو سأل نفسه‪ :‬ما هو الذي يستحيل‬
‫على للا تعالى لعرف أن الذي يستحيل عليه تعالى وال يجوز أن يوصف به‬
‫هو الحد والتجسيم والجهة وسقوط الشعاع‪ ،‬وغير ذلك مما جعله السبحاني‬
‫جزءاً من الرؤية أو علة لها‪ ،‬كما سبق بيانه‪ ،‬فاإلمام األشعري ال يجعل شيئا ً‬
‫من ذلك شرطا ً وال علة‪ ،‬بل يقول إن للا يقدر على خلق اإلدراك الذي هو‬
‫الرؤية بال تقدم هذه األمور‪ ،‬ألن هذه كلها شروط عادية‪ ،‬تترتب بخلق للا‬
‫وإرادته وال يوجبها العقل لحصول الرؤية‪.‬‬

‫هذا هو ما يقول به اإلمام األشعري‪ ،‬وهذا هو معنى كالمه‪ ،‬وال يحتاج الواحد‬
‫إلى عميق فكر ونظر حتى يعرف معناه‪ ،‬ولكنا قلنا إن السبحاني بنى جهات‬
‫من كالمه على مجرد مغالطات ومصادرات على المطلوب‪.‬‬

‫وبذلك‪ ،‬يكون العنوان الذي عنون به السبحاني هذه الفقرات‪ ،‬وهو "محاولة‬
‫فاشلة" وصفا ً الئقا ً بكالمه هو ال بما توهم أنه ف َعلَهُ األشاعرة كما قال‪.‬‬

‫وبعد أن بينا بطالن كالم السبحاني في هذا الموضع وعدم اتساقه‪ ،‬نكتفي‬
‫بذكر بعض كالم اإلمام أبي الحسن األشعري كما ذكره عنه اإلمام ابن فورك‬
‫في مجرد مقاالت األشعري‪ ،‬ص‪ ،82‬قال‪" :‬وكان يجيب عن سؤال من يسأله‬
‫في ذلك "كيف يُرى؟" أن هذا ال يخلو من أن يكون سؤاالً عن كيفية الرؤية‬
‫أو عن كيفية الرائي أو عن كيفية المرئي‪ ،‬فإن كان سؤاالً عن كيفية الرؤية‪،‬‬
‫فإن شيئا ً من األعراض ال كيفية لها‪ ،‬بل الكيفية نوع من األعراض‪ ،‬وهي‬
‫التركيب والهيئة‪ ،‬وإن كان سؤاالً عن كيفية المرئي فال كيفية له؛ ألنه ليس‬
‫كالم من يسأل فيقول‪:‬‬
‫َ‬ ‫بأجزاء مر َّكبة‪ ،‬ويقول‪[ :‬هذا كما تحيلون أنتم ونحن‬
‫كيف يُعلم؟ والجواب‪ :‬أنه يُرى بال كيفية له كما يُ ْع َل ُم بال كيفية له]"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وهذا الكالم واضح في نفي الحد والجهة وما زعم السبحاني أنه ال ينفك عن‬
‫الرؤية‪.‬‬

‫وقد نقل عنه اإلمام ابن فورك كالما ً كثيراً في تحقيق مذهبه‪ ،‬وكله يبطل ما‬
‫ينسبه إليه الشيخ السبحاني‪ ،‬وكان يكفي السبحاني مجرد مراجعة هذا الكتاب‬
‫ليمسك عن كتابة ما كتبه‪ ،‬بل لعمر الحق كان يكفيه مجرد التأمل في نفس‬
‫العبارات التي نقلها هو من كتاب اللمع لإلمام األشعري ليعرف أنها ال تدل‬
‫على ما زعمه‪ ،‬والكالم في هذا المعنى أكثر من ذلك ال حاجة إليه بعد اتضاح‬
‫الحق‪.‬‬

‫مناقشة االستدالالت العقلية عند السبحاني‬

‫األدلة العقلية للقائلين بالجواز‪:‬‬

‫ناقش الشيخ جعفر السبحاني بعض أدلة الجواز عند من قال بذلك‪ ،‬وسوف‬
‫نتعقبه نحن في كالمه وننقد بعض ما فيه اختالل‪.‬‬

‫قال السبحاني (‪" :)131/2‬إن الشيخ األشعري استدل على جواز الرؤية‬
‫بوجوه عقلية نقتطف منها وجهين‪:‬‬

‫األول‪ :‬قال‪" :‬ليس في جواز الرؤية إثبات َح َدث‪ ،‬ألن المرئي لم يكن مرئياً‪،‬‬
‫ألنه محدث ولو كان مرئيا ً لذلك للزمه أن يرى كل محدث‪ ،‬وذلك باطل‬
‫عنده"‪ ،‬كذا نقله السبحاني في كتابه‪ ،‬والحقيقة أنني عندما رأيت هذا النقل‬
‫عرفت أن فيه غلطا ً ما‪ ،‬فرجعت إلى كتاب اللمع لألشعري وتصحيح العبارة‬
‫من كتاب اللمع ص‪ 61‬كما يلي‪" :‬وليس في جواز الرؤية إثبات َح َدث‪ ،‬ألن‬
‫المرئي لم يكن مرئيا ً ألنه محدث‪ ،‬ولو كان مرئيا ً لذلك للزمهم أن يرى كل‬
‫محدث‪ ،‬وذلك باطل عندهم"‪.‬أهـ‪.‬‬
‫وقبل ذلك قال‪" :‬إن قال قائل‪ :‬لم قلتم إن رؤية للا تعالى باألبصار جائزة من‬
‫باب القياس؟ قيل له‪ :‬قلنا ذلك ألن ما ال يجوز أن يوصف به الباري ويستحيل‬
‫عليه فإنما ال يجوز ألن في تجويزه إثبات حدثه‪ ،‬او إثبات حدث معنى فيه‪،‬‬
‫أو تشبيهه أو تجنيسه أو قلبه عن حقيقته أو تجويزه أو تظليمه أو تكذيبه‪،‬‬
‫وليس في جواز الرؤية إثبات حدث‪ ،‬ألن المرئي ‪...‬إلخ"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫هذا هو كالم اإلمام األشعري‪ ،‬ومن الواضح أنه يستدل على جواز الرؤية‬
‫بأن الرؤية حاصلة في الرائي ال في المرئي‪ ،‬وال تستلزم حصول معنى‬
‫حادث في المرئي‪ ،‬فإذا كانت كذلك‪ ،‬فاألصل القول بجوازها‪ ،‬إذ العقل ال‬
‫يمنع ذلك إال إذا كانت هناك موانع منه‪ ،‬والموانع التي يذكرونها من استلزام‬
‫الحيز والجهة والحد‪ ،‬بينا نحن أنها غير الزمة ألن معنى الرؤية حصول‬
‫الصورة أو اإلدراك في البصر‪ ،‬وهذا األمر يمكن بقدرة للا تعالى بال‬
‫واسطة‪ ،‬فاألصل بقاؤها في حيز الجواز عند العقل‪.‬‬

‫وهذا االستدالل جيد وتام‪ ،‬ألن األصل عدم الحكم على األمر باالمتناع إال‬
‫لسبب‪ ،‬فإن عرفنا مانعا ً قلنا به‪ ،‬وإن عرفنا موجبا ً قلنا به‪ ،‬وإال بقي األمر‬
‫على مطلق الجواز‪ ،‬والجواز كما هو معلوم إما أن يكون بمعنى عدم المانع‪،‬‬
‫وإما أن يكون بمعنى الحكم بالصحة‪.‬‬

‫وبالمعنى األول إما أن يكون لعدم العلم بالمانع‪ ،‬وإما أن يكون للعلم بعدم‬
‫المانع‪ ،‬فعلى الثاني يرجع إلى القول بالصحة والجواز بالمعنى األخص‪ ،‬وأما‬
‫بالمعنى األول وهو عدم العلم بالمانع فال يكفي االستناد إليه في أحكام‬
‫األلوهية‪ ،‬إال إذا انضم مع ذلك ورود الشريعة بإطالق الرؤية‪ ،‬فيكون مرجحا ً‬
‫ومبينا ً لعدم المانع‪.‬‬
‫هذا هو مقصود اإلمام أبي الحسن األشعري‪ ،‬بل هذا هو معنى كالمه‪ ،‬فلننظر‬
‫اآلن كيف علق الشيخ جعفر السبحاني على هذا الكالم‪ ،‬قال (‪" :)131/2‬إن‬
‫الحدوث ليس شرطا ً كافيا ً في الرؤية‪ ،‬حتى تلزم رؤية كل محدث‪ ،‬بل هو‬
‫شرط الزم يتوقف على انضمام سائر الشروط التي أشرنا إليها‪ ،‬وبما أن‬
‫بعضها غير متوفر في الموجودات المجردة المحدثة‪ ،‬ال تقع عليها‬
‫الرؤية"‪.‬أهـ‪.‬‬

‫هكذا علق هذا الشيخ المحقق الجهبذ على كالم األشعري‪ ،‬والناظر في معنى‬
‫كالمه يعلم علما ً يقينيا ً أنه لم يفهم كالم األشعري كما وضحناه أعاله‪ ،‬بل ظن‬
‫السبحاني أن األشعري يقول إن شرط الرؤية حدوث المرئي‪ ،‬فعارضه‬
‫السبحاني بأن قال‪ :‬بعض الحوادث ال ترى‪ ،‬فالحدوث ليس شرطا ً كافيا ً أي‬
‫سببا ً للرؤية‪ ،‬ومعلوم أن هذا الكالم دال على عدم فهم عبارة األشعري وال‬
‫طريقة استدالله وال على ماذا يستدل‪.‬‬

‫فقد قلنا إن األشعري يستدل على مجرد الجواز‪ ،‬وكالمه صحيح‪ ،‬وهو ال‬
‫يستدل على الوقوع فضالً على لزوم الوقوع حتى يعارض بهذا الكالم‪،‬‬
‫واألشعري يتكلم عن عدم لزوم حصول معنى حادث في ذات المرئي عند‬
‫الرؤية‪ ،‬وال يتحدث عن كون الحدوث شرطا ً للرؤية‪ ،‬وفرق بين هذا وذاك‪،‬‬
‫بل هو رحمه للا نفى بكالمه أن تكون الرؤية سببا ً لحدوث المرئي خالفا ً لما‬
‫قاله السبحاني‪.‬‬

‫والحقيقة أنني تعجبتُ عندما رأيتُ هذا التخبط في كالم السبحاني‪.‬‬

‫ولنكمل ما قاله السبحاني‪ ،‬قال (‪" :)131/2‬الثاني قال‪" :‬ليس في إثبات الرؤية‬
‫هلل تعالى تشبيها ً"‪.‬‬
‫وأكمل قائال‪":‬يالحظ عليه‪ :‬إن حقيقة الرؤية قائمة بالمقابلة أو ما في حكمها‪،‬‬
‫وهي ال تنفك عن كون المرئي في جهة ومكان‪ ،‬وهو يستلزم كونه سبحانه‬
‫ذا جهة ومكان‪ ،‬فأي تشبيه أظهر من ذلك‪ ،‬وكيف يقول‪ :‬إن تجويز الرؤية ال‬
‫تورد يا سع ُد اإلبل" أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫يستلزم التشبيه ؟! ما هكذا َ‬

‫هذا كالم السبحاني‪ ،‬والحقيقة أنني كلما قرأت له كالما ً أزدا ُد تعجبا ً منه ومن‬
‫كالمه‪ ،‬فها هو مرة أخرى يلزم األشاعرة باستعمال مقدمات ال يسلمون هم‬
‫بها‪ ،‬فإنه يقول إن الرؤية ال تحصل إال بحد ومقابلة وجهة‪ ،‬ويلزمهم بنا ًء‬
‫على ذلك بثبوت ذلك هلل تعالى عند القول بصحة رؤيته‪ ،‬وهو يعلم – أي‬
‫السبحاني – علما ً تاما ً أن األشاعرة يقولون بعدم وجود التالزم بين الرؤية‬
‫وبين هذه األمور التي تستلزم التشبيه‪ ،‬فال يصح له إلزامهم بالتشبيه مطلقاً‪،‬‬
‫بل يكون ذلك كذبا ً عليهم وإلزاما ً لهم بما صرحوا بنفيه‪ ،‬ويكون مغالطة‬
‫محضة‪ ،‬وقد ارتكبها السبحاني عدة مرات كما رأينا‪ ،‬ووجه المغالطة أنه‬
‫يعتمد في إلزامهم على مقدمات ينكرونها‪ ،‬ثم هذا ليس دليالً خاصاً‪ ،‬بل هو‬
‫تكملة لالستدالل السابق على الجواز فعده دليالً ثانيا ً مغالطة أخرى من‬
‫السبحاني‪.‬‬

‫تورد يا سع ُد اإلبل"‪ ،‬ففيه سوء أدب غير خاف‪،‬‬


‫وأما قوله بعد ذلك‪" :‬ما هكذا َ‬
‫فما هكذا يخاطب األشعري و َمن هو في مقامه‪.‬‬

‫وقد اعتاد السبحاني ‪-‬هداه للا‪ -‬أن يبني كالمه على ما يتوهمه‪ ،‬ولذلك لما‬
‫اعتقد صواب انتقاده السابق لإلمام األشعري بنى عليه‪ ،‬ولما نظر في كتب‬
‫المتأخرين من األشاعرة ورأى أنهم يقولون بأن المصحح للرؤية هو الوجود‬
‫تحقيقا ً لقول األشعري‪َّ ،‬‬
‫ظن أن هذا عبارة عن محاولة أخرى منهم لترقيع‬
‫المذهب الذي فهمه هو عن األشعري‪ ،‬وظنه منهم دليالً جديداً‪ ،‬ولم يراجع‬
‫نفسه فيحتمل خطأ كالمه السابق كما بيناه‪ ،‬ولذلك قال (‪" :)131/2‬ثم إن أئمة‬
‫األشاعرة في العصور المتأخرة لما وقفوا على َوهن الدليلين السابقين ؟!‬
‫أن ِّمالك الرؤية والمصحح لها أمر‬‫عدلوا إلى دليل عقلي آخر‪ ،‬وحاصله َّ‬
‫مشترك بين الواجب وغيره‪ ،‬قالوا‪ :‬إن الرؤية مشتركة بين الجوهر‬
‫وال َع َرض‪ ،‬وال بد للرؤية المشتركة من علة واحدة‪ ،‬وهي إما الوجود أو‬
‫الحدوث‪ ،‬والحدوث ال يصلح للعلية؛ ألنه أمر عدمي فتعين الوجود‪ ،‬فينتج‬
‫أن صحة الرؤية مشتركة بين الواجب والممكن"‪.‬‬

‫ظاهر الضعف؛ إذ‬


‫ُ‬ ‫وهذا الدليل ‪ -‬مع أنه لم يتم عند المفكرين من األشاعرة ‪-‬‬
‫لقائل أن يقول‪ :‬إن الجهة المشتركة للرؤية في الجوهر والعرض ليس هو‬
‫الوجود بما هو وجود‪ ،‬بل الوجود المقيد بعدة قيود‪ ،‬وهو كونه ممكنا ًماديا ً‬
‫يقع في إطار شرائط خاصة‪ ،‬كشف عنها العلم في تحقيق الرؤية‪ ،‬فإن‬
‫المالك هو الوجود بما هو وجود‬
‫اإلبصار رهن ظروف خاصة‪ ،‬وادعاء كون ِّ‬
‫غفلة عما يثبته الحس والتجربة"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫هذا هو كالم السبحاني وتعليقه على استدالل األشعري العقلي‪.‬‬

‫والحقيقة أنه قد جانب الصواب في هذا التعليق أيضاً‪ ،‬وذلك لما يلي‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬إن القول بأن المصحح للرؤية هو الوجود ثابت النسبة إلى اإلمام‬
‫األشعري‪ ،‬وليس هو من مخترعات المتأخرين‪ ،‬وبالتالي فلم يخترعه‬
‫المتأخرون ليحاولوا تعديل فساد األدلة التي نسبها السبحاني إلى األشعري‪،‬‬
‫فقد رأينا أن السبحاني لم يفهم حقيقة قول األشعري وأنه نسب إليه استدالالت‬
‫ال يقول بها‪.‬‬
‫ثانيا ً‪ :‬مع أن األشعري يقول إن المصحح للرؤية هو الوجود‪ ،‬فقد اشتهر عند‬
‫األشاعرة أن الكثير منهم لم يوافقوه في هذا القول بل خالفوه فيه‪ ،‬وبالتالي‬
‫فإن األشاعرة أنفسهم هم الذين نقدوا كالم األشعري ولم ينتظروا الشيخ‬
‫السبحاني حتى يبين لهم ضعف هذا االستدالل‪.‬‬

‫ثالثا ً‪ :‬ولكن يبقى إدخال السبحاني العلوم المتأخرة في قوله‪" :‬كشف عنها العلم‬
‫في تحقيق الرؤية ‪ ..‬إلخ"‪ ،‬فقد تبين لنا أن هذا ما هو إال مجرد مبالغات‬
‫واستعارة لبعض األلفاظ التي ال تفيد في هذا المقام‪ ،‬فقد علمنا أن بحوث العلم‬
‫المعاصرة لم تزد على أن وضحت تفاصيل هذا االنفعال‪ ،‬ولكن معرفة كونه‬
‫انفعاالً معلوم منذ مئات السنين‪ ،‬ولم يكن العلماء جاهلين بذلك القدر‪ ،‬والعلم‬
‫بهذا القدر يكفي لبناء األدلة العقلية كما هو معلوم‪.‬‬

‫رابعا ً‪ :‬ال مدخلية للتجربة والحس ههنا في تحديد معنى الرؤية‪ ،‬بل يحتاج‬
‫ذلك إلى نوع نظر‪ ،‬وتمسك السبحاني بمجرد البناء على الظاهر من الحس‬
‫مصادرة على المطلوب كما قدمناه‪.‬‬

‫ثم قال السبحاني في (‪" :)132/2‬والعجب من هؤالء كيف يدعون أن‬


‫المصحح للرؤية هو الوجود مع أن الزمه صحة رؤية األفكار والعقائد‬
‫والروحيات والنفسانيات كالقدرة واإلرداة وغير ذلك من األمور الروحية‬
‫الوجودية التي ال تقع في مجال الرؤية"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫والجواب‪ :‬كل ما هو موجود يصح أن يدرك بهذا المعنى الذي وضحناه ألنه‬
‫علم خاص أو زيادة علم وإدراك‪ ،‬وال نمنع إمكان رؤية ما ذكره‪ ،‬غاية األمر‬
‫أن مجال الرؤية الحاصل للمخلوقات محصور ومقيد بحدود معينة‪ ،‬ولكن‬
‫هذا ال يستلزم االمتناع‪ ،‬غاية ما يستلزمه عدم رؤيتها بالفعل‪ ،‬وعدم الرؤية‬
‫بالفعل ال يستلزم عدم اإلمكان‪ ،‬وكالمنا أصالً في اإلمكان‪.‬‬

‫فظهر بذلك أن ال دليل في كالم السبحاني يتم له‪ ،‬وكثير من كالمه مبني على‬
‫مغالطات ومصادرات على المطلوب‪.‬‬

‫وبهذا الكالم نكون قد انتهينا من مناقشة ما أورده السبحاني في مسألة الرؤية‪،‬‬


‫ونفيها‪ ،‬وأما مناقشته لالستدالالت النقلية لمن أثبت الرؤية فسوف نذكرها في‬
‫محلها إن شاء للا تعالى‪.‬‬

‫إرجاع القول بالرؤية إلى اليهود والنصارى‬

‫ولم يذكر السبحاني أي دليل نقلي على عدم الرؤية ونفيها إال من خالل‬
‫مناقشته ألدلة المثبتين‪ ،‬ثم بعد ذلك أرجع مسألة إثبات الرؤية إلى اليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬وادعى أنها تسربت إلى من قال بها من المسلمين منهم‪ ،‬ودسوها‬
‫عليهم فقال (‪" :)139/2‬والقائلون بالرؤية من المسلمين وإن استندوا إلى‬
‫الكتاب والسنة ودليل العقل‪ ،‬لكن غالب الظن أن القول بها تسرب إلى‬
‫أوساطهم من المتظاهرين باإلسالم كاألحبار والرهبان‪ ،‬وربما صاروا‬
‫مصدراً لبعض األحاديث في المقام وصار ذلك سببا ً لجرأة طوائف من‬
‫المسلمين على جوازها واستدعاء األدلة عليها من العقل والنقل"أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫فها هو الشيخ السبحاني يتهم من قال بالرؤية بأنه استمد ذلك من اليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬ويكاد يصرح‪ ،‬بل يصرح بأن األحاديث التي تثبت الرؤية‬
‫إسرائيليات محضة‪ ،‬وأن َمن أثبت الرؤية قد وقع ضحية هذه اللعبة من اليهود‬
‫والنصارى حتى جعل يستدعي أدلة من القرآن‪.‬‬

‫هذا هو تصور السبحاني وتصور الخليلي في كتاب الحق الدامغ كما سنرى‬
‫عن أحوال الذين أثبتوا الرؤية‪ ،‬لم يفرقوا بين واحد منهم‪.‬‬

‫ومن الواضح أن هذا الكالم يمكن أن ينعكس عليهم؛ ألن بعض اليهود كانوا‬
‫يقولون بنفي الرؤية كما هو معلوم‪ ،‬ف ِّل َم ال يقال‪ :‬إن َم ْن نفى الرؤية كان‬
‫متأثراً بهؤالء ؟! واستمدها منهم ؟! خاصة أنه ال يوجد حديث واحد ينفي‬
‫الرؤية صراحة‪ ،‬وإن توهموا داللة بعض األحاديث على ذلك‪ ،‬كما سيأتي‬
‫بيانه‪ ،‬مع أنه يوجد أحاديث عديدة تثبتها صراحة‪ ،‬ولو كانت اليهود تثبتها‬
‫واإلسالم ينفيها لنبه النبي – صلى للا عليه وسلم – إلى ذلك‪ ،‬ولو ببعض‬
‫األحاديث كما نبه المسلمين على غير ذلك مما يخالف اإلسال ُم فيه اليهود‬
‫والنصارى‪.‬‬

‫ثم هذه اآليات التي يستدل بها المثبتون للرؤية‪ ،‬هل ُدسَّت داللتها أيضا ً في‬
‫دس هذه الدالالت على الرؤية‪،‬‬
‫القرآن؟! هل يمكن القول إن اليهود استطاعوا َّ‬
‫والمخالف إنها ظنية وال تفيد اليقين‪ ،‬هل دسوها‬
‫ُ‬ ‫وإن قال عنها السبحاني‬
‫أيضا ً في القرآن؟!‬

‫إننا نريد القول بأن هذا األسلوب من مناقشة األفكار أسلوب هابط وباطل‪،‬‬
‫وال يمكن تجويز القول به إال بأدلة صريحة واضحة‪ ،‬وال يمكن طرد ذلك‬
‫في كل مسألة يحصل فيها خالف‪ ،‬فيرمي كل واحد من المسلمين مخالفه بأنه‬
‫يتبع اليهود والنصارى‪.‬‬

‫وأما األدلة النقلية التي يعتمد عليها السبحاني وغيره من النفاة‪ ،‬فسوف نناقش‬
‫استداللهم بها في محله‪.‬‬

‫مع المعتزلة‪-‬القاضي عبد الجبار‬

‫مع القاضي عبد الجبار في شرح األصول الخمسة‬

‫القاضي عبد الجبار من كبار المعتزلة‪ ،‬وكتابه هذا من أهم الكتب الموجودة‬
‫اآلن للمعتزلة‪ ،‬وسوف نناقشه في كالمه على نفي الرؤية من الناحية العقلية‬
‫وما يتعلق بذلك‪ ،‬وأما مناقشة االستدالالت النقلية على الرؤية ونفي الرؤية‬
‫فسوف نرجئها إلى محلها‪.‬‬

‫قال القاضي عبد الجبار في شرح األصول الخمسة‪ ،‬ص‪" :232‬ومما يجب‬
‫نفيه عن للا تعالى الرؤية‪ ،‬وهذه مسألة خالف بين الناس‪ ،‬وفي الحقيقة‬
‫الخالف في هذه المسألة إنما يتحقق بيننا وبين هؤالء األشعرية الذين ال‬
‫يكيفون الرؤية‪ ،‬فأما المجسمة فهم يسلمون أن للا تعالى لو لم يكن جسما ً لما‬
‫ص َّح أن يُرى‪ ،‬ونحن نسلم لهم أن للا تعالى لو كان جسما ً لص َّح أن يُرى‪،‬‬
‫والكالم معهم في هذه المسألة لغو"أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫إذن المعتزلة يوافقون المجسمة في أصل الرؤية‪ ،‬أي في معناها وماهيتها‪،‬‬
‫ولكن لما كان المعتزلة ينزهون للا تعالى عن الجسمية‪ ،‬فقد نفوا الرؤية؛ ألن‬
‫الرؤية تستلزم الجسمية‪ ،‬ولما كان المجسمة يعتقدون الجسمية هلل تعالى‬
‫والحق والجهة‪ ،‬أثبتوا الرؤية‪ ،‬ومحل االتفاق بين المعتزلة والمجسمة إنما‬
‫هو على الرؤية الحسية المستلزمة للجهة والتحيز والمكان للمرئي ولالتصال‬
‫بالشعاع‪ ،‬إلى آخر ما ذكره السبحاني ووضحناه عنه‪.‬‬

‫صرح القاضي عبد الجبار بأن الخالف إنما يصح بينهم‪ ،‬أي المعتزلة‬
‫َّ‬ ‫وقد‬
‫وبين األشاعرة‪ ،‬وال يصح نصبه بينهم وبين المجسمة من هذه الجهة‪ ،‬وأصل‬
‫الخالف بين المعتزلة واألشاعرة إنما هو في المعنى الذي وضحناه سابقاً‪،‬‬
‫وهو هل يمكن حصول الرؤية وهي اإلدراك الزائد على العلم المتوصل إليه‬
‫بالنظر العقلي‪ ،‬من دون اتصال شعاع وال مقابلة‪ ،‬إلى آخر ذلك‪.‬‬

‫فاألشاعرة أجازوا ذلك‪ ،‬ألنهم يعتقدون أن للا تعالى على كل شيء قدير‪،‬‬
‫وهو فاعل مختار‪ ،‬يمكن أن يخلق هذا اإلدراك بدون خلق ما يسبقه عادة‪،‬‬
‫وذلك ألن الشروط غير المشروط‪ ،‬وإذا كانت الشروط عادية فيمكن عدم‬
‫وجودها بالكلية مع وجود المشروط بها‪ ،‬هذا هو معنى الشرط العادي‪ ،‬وكالم‬
‫األشاعرة بنا ًء على ذلك صحيح ال غبار عليه‪ ،‬وال تناقض فيه‪.‬‬

‫وحاصل كالم األشاعرة أن حقيقة الرؤية هي اإلدراك الحاصل بخلق للا‬


‫تعالى في المدرك‪ ،‬وأما الشروط التي يتكلم المخالفون عليها ويجعلونها أسبابا ً‬
‫وعلالً للرؤية‪ ،‬وال يتصورون حصول الرؤية إال بحصولها‪ ،‬فإنما هي أسباب‬
‫عادية يمكن تخلفها‪ ،‬وال أثر لها مطلقا ً في إيجاد الرؤية وال في حصولها‪ ،‬بل‬
‫األمر مجرد ترتب عادي‪ ،‬ومعنى ذلك الترتب أن للا تعالى خلق الكون على‬
‫هذا النحو من الترتيب‪ ،‬وعلى اإلنسان إذا أراد أن يكتسب إدراك الرؤية أن‬
‫يتبع هذه الشروط العادية‪ ،‬فهذه الشروط شروط لما خلقه للا تعالى في حركاته‬
‫وسعيه‪ ،‬فهي عبارة عن النظام الذي ارتضاه للا تعالى للمخلوقات وعلى‬
‫محالها ليترتب له ما جعله للا مترتبا ً عليها‪ ،‬وليست‬
‫ِّ‬ ‫اإلنسان أن يتقيد بها في‬
‫هذه الشروط شروطا ً لفعل للا تعالى وال لقدرته‪ ،‬وحقيقة قول المعتزلة أنهم‬
‫جعلوها شروطا ً لنفس القدرة اإللهية‪ ،‬وفي هذا ما فيه من القول بتعجيز للا‬
‫تعالى عن أن يخلق الرؤية بال توسط األسباب العادية‪ ،‬وإذا عرف اإلنسان‬
‫ذلك وصرح به‪ ،‬فإنه يقترب من إنكار التوحيد‪ ،‬فليحرص القراء على إدراك‬
‫هذه المسألة بهذا النحو؛ لكي يعرفوا مدى دقة وحرص علماء أهل السنة في‬
‫التدقيق في األمور والتحقيق فيها‪.‬‬

‫هذه كانت كالمقدمة لمناقشة القاضي عبد الجبار‪ ،‬ثم ذكر القاضي كالما ً فيه‬
‫فوائد وفيه مصائب وباليا‪ ،‬يحسن بنا أن ننبه إليه ونوضح ما فيه‪ ،‬قبل أن‬
‫نكمل مناقشتنا الستدالالته العقلية‪.‬‬

‫قال القاضي عبد الجبار ص‪" :233‬ويمكن أن نستدل على هذه المسألة بالعقل‬
‫والسمع جميعاً‪ ،‬ألن صحة السمع ال تقف عليها‪ ،‬وكل مسألة ال تقف عليها‬
‫صحة السمع فاالستدالل عليها ممكن‪ ،‬ولهذا جوزنا االستدالل بالسمع على‬
‫كونه حياً‪ ،‬لما لم تقف صحة السمع عليها"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫هذا القسم األول من كالمه‪ ،‬وقد صرح بهذه القاعدة التي ذكرها علماؤنا من‬
‫األشاعرة أيضاً‪ ،‬فقالوا‪ :‬كل ما يتوقف ثبوت السمع عليه‪ ،‬فال يصح االستدالل‬
‫عليه بالسمع‪ ،‬كوجود للا وكونه قادراً وعالما ً مريداً‪ ،‬وقد ضبطنا هذا في‬
‫حاشيتنا على صغرى الصغرى وفي ما قلناه في شرح كالم العضد على ابن‬
‫الحاجب األصولي‪ ،‬بما إذا كان كالمنا مع المخالفين ألصل الدين والمنكرين‬
‫لرب العالمين‪ ،‬فال يصح االستدالل على وجود للا تعالى للمنكر لوجوده‬
‫بقوله تعالى‪" :‬قل هو للا أحد" أو غيرها من اآليات القرآنية‪ ،‬ألن هذا الذي‬
‫ال يعلم وجود للا أو ينكره‪ ،‬كيف يسلم بالقرآن الذي ال يثبت إال إذا أثبتنا‬
‫وجود للا تعالى؛ ولذلك وجب أن نستدل عليه بالعقل حال مخاطبتنا المخالفين‬
‫في األصول‪.‬‬

‫الموحدين‪ ،‬والمؤمنين‪ ،‬فلنا أن نستدل على قدرة للا‬


‫ِّ‬ ‫وأما إذا كان كالمنا مع‬
‫تعالى بنفس القرآن‪ ،‬ألن القرآن حجة عليه وكل ما في القرآن حجة سواء‬
‫المو ِّح ُد‬
‫كان آيات تتكلم عن أحكام عقائدية أم أحكام عملية‪ ،‬والفرق أن هذا َ‬
‫مؤمن بصدق القرآن‪ ،‬فيجوز االستدالل له ومنه بما في القرآن‪ ،‬وكذلك يجوز‬
‫االستدالل باإلجماع على كون للا قديراً للموحدين؛ ألن اإلجماع حجة نقلية‪،‬‬
‫فحكمه حكم الحجج النقلية‪.‬‬

‫وهذا التقييد من توضيحاتي التي أرجو اإلصابة فيها‪.‬‬

‫بقي ما في كالم القاضي عبد الجبار من اعتبار صفة الحياة يصح االستدالل‬
‫عليها بالسمع‪ ،‬فهذا خالف ما عليه أئمتنا األشاعرة‪ ،‬فالدليل عليها عقلي‪ ،‬فال‬
‫عالم إال حي‪ ،‬ويستحيل التصديق بعالم غير حي‪ ،‬فهي من الصفات التي‬
‫يستدل عليها بالعقل على حسب التفصيل السابق‪.‬‬

‫ثم قال القاضي ص‪" :233‬يبين ذلك أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعا ً‬
‫حكيما ً وإن لم يخطر بباله أنه هل يُرى أم ال‪ ،‬ولهذا لم نكفر َمن خالفنا في‬
‫هذه المسألة لما كان الجهل بأنه تعالى ال يرى ال يقتضي جهالً بذاته وال‬
‫بشيء من صفاته‪ ،‬ولهذا جوزنا في قوله تعالى‪" :‬رب أرني أنظر إليك" أن‬
‫يكون سؤال موسى عليه السالم سؤاالً لنفسه‪ ،‬ألن المرئي ليس له بكونه‬
‫مرئيا ً حالة وصفة‪ ،‬وعلى هذا لم ِّ‬
‫نجهل شيخنا أبا علي باألكوان‪ ،‬حيث قال‬
‫إنها مدركة بالبصر"‪.‬أهـ‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬ما قاله القاضي عبد الجبار عن أن مسألة الرؤية ال يتوقف عليها إثبات‬
‫وجود للا وال ثبوت الشريعة‪ ،‬صحيح‪ ،‬وبنا ًء على ذلك‪ ،‬فإن المسألة تندرج‬
‫من حيث الطرق التي يصح االستدالل عليها بها في القاعدة السابقة التي‬
‫وضحناها‪.‬‬

‫ولكن تأمل في باقي كالمه‪ ،‬فهو يصرح بأن من ال يعرف أن للا ال يُرى‪،‬‬
‫ليس بجاهل باهلل العظيم؟! وهو يقصد فقط أنه ال يترتب على جهله بالرؤية‬
‫الشك في كون للا تعالى صانعا ً حكيماً‪ ،‬فهو يقول‪ :‬إن من علم كون للا صانعا ً‬
‫حكيما ً وجهل كونه يرى أو ال يُرى‪ ،‬فال يعود هذا بالضرر على كونه عالما ً‬
‫باهلل‪.‬‬

‫وبنا ًء على ذلك‪ ،‬فهو يقول‪ :‬ال ضرر من االعتقاد بأن سيدنا موسى عليه‬
‫السالم كان جاهالً بهذا الحكم‪ ،‬أي كون للا ال يرى‪ ،‬بل ربما ال يَرى إشكاالً‬
‫في اعتقاد سيدنا موسى عليه السالم جواز رؤيته‪ ،‬ألن ظاهر كالمه عليه‬
‫السالم يدل على أنه يعتقد جواز الرؤية‪.‬‬

‫فهذه إشكالية كبيرة يقع فيها المعتزلة‪ ،‬ويحاولون التملص منها بادعاء أن هذا‬
‫األمر ال يضر بكون الجاهل به عالما ً باهلل تعالى‪.‬‬

‫ولكن الحقيقة الواضحة التي ال يستطيع أحد إنكارها‪ ،‬هي أن الجاهل بكون‬
‫للا ال يُرى على حسب مذهب المعتزلة‪ ،‬يجب أن يكون جاهالً بأن للا منزه‬
‫عن الجسمية والجهة والحد وغير ذلك‪ ،‬وهذا كله داخل في التوحيد عندهم‪،‬‬
‫وهو أصل من أصول الدين فيلزم جهل سيدنا موسى عليه السالم ‪ -‬بنا ًء على‬
‫مذهب المعتزلة ‪ -‬بهذا كله‪.‬‬

‫وهذا الزم قبيح جداً‪ ،‬وهم يعلمون أنه الزم لهم‪ ،‬ولكن يحاولون التملص من‬
‫الحكم المترتب عليه بأن يقولوا‪ :‬الجاهل بعدم صحة الرؤية‪ ،‬ال يستلزم ذلك‬
‫كونه جاهالً باهلل العالم الصانع‪ ،‬فنقول‪ :‬نعم قد ال يستلزم ذلك‪ ،‬ولكن يستلزم‬
‫جهله بكون للا منزها ً عن الجهة والحد والمكان كما بيناه‪.‬‬

‫وبيان اللزوم أنهم ادعوا أنه ال توجد رؤية إال بكون المرئي في جهة وكونه‬
‫ذا حدود ومكان ‪ ..‬إلخ‪ ،‬وإذا قيل إن للا يُرى‪ ،‬يلزم كون للا في جهة وفي‬
‫مكان وله حدود‪ ،‬وهذا باطل‪ ،‬والعلم بالرؤية بالمعنى الذي يدعونه بديهي‬
‫ضروري‪ ،‬وحسي كما صرح به الشيخ السبحاني كما نقلناه عنه‪.‬‬

‫فيلزم إذن أن يكون موسى عليه السالم جاهالً إما بمعنى الرؤية الضروري‪،‬‬
‫أو جاهالً بكون للا منزها ً عن الحد والجهة والمكان‪ ،‬وكال الالزمين قبيح‪.‬‬

‫ويبدو أن القاضي عبد الجبار يلتزم كون موسى جاهالً من هذه الجهة‪ ،‬ولكن‬
‫هذا عنده ال يستلزم كونه جاهالً باهلل العالم الصانع‪ ،‬أي باهلل من حيث هو‬
‫عالم صانع‪.‬‬

‫وهذا صحيح‪ ،‬إذا صح عند المعتزلة جسم قديم خالق‪ ،‬وهم ال يصححون‬
‫ذلك‪ ،‬بل ينفونه‪.‬‬

‫ونحن نقول تحقيقا‪ :‬إذا قالت المعتزلة بأن الجاهل باستحالة الرؤية ال يلزمه‬
‫الجهل باهلل تعالى العالم الصانع‪ ،‬فإننا نقول بل يلزمه على التحقيق‪ ،‬وذلك‬
‫ألن المعتقد بصحة الرؤية عندهم ‪ ،‬يعتقد بأن للا تعالى جسم أو متحيز‪،‬‬
‫الستلزام الرؤية ذلك عندهم‪ ،‬والمعتقد بأن للا تعالى جسم‪ ،‬يستلزم إثبات‬
‫جسم قديم أوال‪ ،‬وهذا قبيح‪ .‬ويلزمه مخالفة ما تقرر عند العقالء من أن الجسم‬
‫ال يخلق أجساما‪ ،‬فاإلله إذا كان جسما فيستحيل أن يخلق أجساما‪ ،‬ولذلك‬
‫فيستحيل أن يكون صانعا‪ ،‬وهذا يخالف ادعاء القاضي عبد الجبار بأنه ال‬
‫يستلزم إنكار العالم الصانع‪ .‬بل تبين لنا أن يخالفه ويعارضه!!‬

‫فقد اتضح إذن أن المعتزلة يلزمهم قبائح عديدة ال يستطيعون التملص منها‪.‬‬

‫ولهذا األمر‪ ،‬فقد جاء علماؤنا األشاعرة وقالوا‪ :‬إن معنى الرؤية ليس مستلزما ً‬
‫للحد والمكان والجهة كما وضحنا‪ ،‬وطلب الرؤية واعتقادها أي القول‬
‫بصحتها ال يستلزم الجهل باهلل تعالى‪ ،‬وال إثبات الحد والجهة والحيز له ج َّل‬
‫شأنه‪ ،‬وال يستلزم ذلك كون سيدنا موسى عليه السالم جاهالً مطلقا ً ال باهلل‬
‫وال باألمر الضروري‪ ،‬بل موسى عليه السالم ما طلب إال أمراً ممكنا ً ولو‬
‫كان محاالً لما طلبه‪ .‬وهذا الكالم والتخريج والتحقيق للمسألة بهذه الصورة‬
‫ال يتم إال بنا ًء على مذهب السادة األشاعرة والماتريدية أهل السنة‪.‬‬

‫وسوف يأتي لهذا كله مزيد توضيح عند مناقشة األدلة النقلية‪ ،‬ونشرع اآلن‬
‫في مناقشة القاضي عبد الجبار في استدالالته العقلية ومناقشته العقلية‬
‫للمخالفين‪.‬‬

‫مناقشة استدالالت القاضي عبدالجبار العقلية‬

‫استدالالت القاضي عبد الجبار العقلية على نفي الرؤية‬


‫ذكر عدة أدلة على حسب اعتقاده تنفي جواز الرؤية‪ ،‬وسوف نذكر هذه األدلة‬
‫دليالً دليالً‪ ،‬ثم نعلق عليها وإن كان في كالمنا نوع تكرار‪ ،‬إال أنا نرجو أن‬
‫ال يخلو من فائدة‪.‬‬

‫قال القاضي عبد الجبار (‪" :)248/2‬داللة المقابلة‪ :‬وتحريرها أن الواحد منا‬
‫راء بحاسة‪ ،‬والرائي بالحاسة ال يرى الشيء إال إذا كان مقابالً أو حاالً في‬
‫المقابل أو في حكم المقابل‪ ،‬وقد ثبت أن للا تعالى ال يجوز أن يكون مقابالً‬
‫وال حاالً في المقابل وال في حكم المقابل‪.‬‬

‫وهذه الداللة مبنية على أصول‪ ،‬أحدها‪ :‬أن الواحد منا راء بالحاسة‪ ،‬والثاني‪:‬‬
‫أن الرائي بالحاسة ال يرى الشيء إال إذا كان مقابالً أو حاالً في المقابل أو‬
‫في حكم المقابل‪ ،‬والثالث‪ :‬أن القديم تعالى ال يجوز أن يكون مقابالً وال حاالً‬
‫في المقابل"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫إذن الداللة األولى التي اعتمد القاضي والمعتزلة عليها هي داللة المقابلة‪،‬‬
‫وهي التي أشار إليها السبحاني سابقاً‪ ،‬وحاصلها أن الرؤية ال يمكن أن تحصل‬
‫إال إذا كان المرئي في جهة من الرائي‪ ،‬وإذا لم يكن كذلك فيستحيل رؤيته‪،‬‬
‫وقد بينا نحن على أصول األشاعرة أن هذه الشروط أعني المقابلة والحد‬
‫‪..‬إلخ عبارة عن شروط عادية ال عقلية‪ ،‬بمعنى أن هذه الشروط حتى لو‬
‫انعدمت فيمكن حصول الرؤية‪ ،‬وذلك ألنا أرجعنا الرؤية إلى قدرة للا تعالى‬
‫على خلق اإلدراك مباشرة في الحاسة أو في محل اإلدراك‪ ،‬فالخالق بالفعل‬
‫هو للا تعالى ال الحاسة وال الضوء وال غير ذلك‪ ،‬بل هذه عبارة عن شروط‬
‫عادية يمكن تخلفها‪.‬‬
‫ولما اشترط المعتزلة هذا الشرط أحالوا رؤية للا تعالى؛ ألن للا ليس في‬
‫جهة وال حيز‪ ،‬وكون للا تعالى ليس متحيزاً وال في جهة وافقهم عليه أهل‬
‫السنة األشاعرة والماتريدية‪ ،‬وخالفوهم في اشتراط الرؤية بالمقابلة والشعاع‬
‫واتصاله بالمرئي ‪..‬إلخ‪.‬‬

‫فدليل المقابلة إذن ال يلزم إال المعتزلة ومن قال بقولهم‪ ،‬واألشاعرة لم يقولوا‬
‫بقولهم كما علمت‪.‬‬

‫ولنكمل اآلن قراءة كالم القاضي ونعلق عليه‪ ،‬قال‪" :‬أما األول‪ ،‬فالذي يدل‬
‫عليه أن أحدنا متى كان له حاسة صحيحة والموانع مرتفعة والمدرك موجود‪،‬‬
‫يجب أن يرى‪ ،‬ومتى لم يكن كذلك استحالة أن يرى‪ ،‬فيجب أن يكون لصحة‬
‫الحاسة في ذلك تأثير؛ ألن بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من األسباب‬
‫والعلل والشروط‪.‬‬

‫وأما الكالم في أن الرائي بالحاسة ال يرى الشيء إال إذا كان مقابالً أو حاالً‬
‫في المقابل‪ ،‬أو في حكم المقابل‪ ،‬هو أن الشيء متى كان مقابالً للرائي بالحاسة‬
‫ب أن يرى‪ ،‬وإذا لم يكن مقابالً‬
‫أو حاالً في المقابل‪ ،‬أو في حكم المقابل‪َ ،‬و َج َ‬
‫وال حاالً في المقابل‪ ،‬وال في حكم المقابل لم ي َُر‪ ،‬فيجب أن تكون المقابلة أو‬
‫ما في حكمها شرطا ً في الرؤية ألن بهذه الطريقة يعلم تأثير الشرط"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫هذه هي طريق االستدالل عند المعتزلة‪ ،‬وما يقولونه صحيح في حكم العادة‬
‫فقط‪ ،‬أما مع مالحظة األدلة العقلية الدالة على أن للا تعالى خالق كل شيء‪،‬‬
‫فيجب تخصيص كالمهم وتقييده بذلك‪ ،‬ثم إن كالم القاضي عبد الجبار مبني‬
‫على وجود العلل الخارجية بين المخلوقات الحادثة‪ ،‬وأن هذه العلل شروط‬
‫في الوجود إذا انعدمت يستحيل وجود ما يترتب عليها‪ ،‬وهذا هو األصل‬
‫الذي لفتنا النظر إليه في أول كالمنا مع الشيخ جعفر السبحاني‪ ،‬ومعلوم أن‬
‫هذا األمر‪ ،‬وهو االعتراف بوجود العلل الداخلية للوجود الحادث‪ ،‬ال يجوز‬
‫أن يعتبر بديهياً‪ ،‬فاألشاعرة خالفوا فيه‪ ،‬وبنوا نظرتهم إلى الكون على أساس‬
‫نفيه وعدم القول به‪ ،‬ثم هذا األصل الذي يقول به المعتزلة و َمن وافقهم ينافي‬
‫كل شيء‪ ،‬فالحاصل أن من يقول بقول المعتزلة في نفي‬
‫كون للا تعالى خالق ِّ‬
‫الرؤية يجب عليه أن يعلم أنه يجب أن يقول بكل هذه اللوازم واألقوال‪ ،‬وإال‬
‫فهو غير قائل بقول المعتزلة‪ ،‬بل هو موافق لهم في النتيجة فقط‪ ،‬وأما في‬
‫المذهب المتألف من الحكم والنتيجة مع طريقة االستدالل التي توضح حقيقة‬
‫نظرتهم إلى هذا الوجود وحقيقة اعتقادهم في للا تعالى‪ ،‬فإذا لم يوافقهم في‬
‫هذا كله فال يصح له أن يزعم أنه موافق للمعتزلة‪.‬‬

‫وال خالف بين األشاعرة والمعتزلة في كون للا منزها ً من الحد والجهة‬
‫والمكان‪ ،‬ولذلك ال نتكلم مع القاضي فيما يتعلق بهذا المعنى‪ ،‬ألن محل‬
‫الخالف بالضبط أن للا مع كونه منزها ً عن الحد والمقابلة والجهة كيف يمكن‬
‫حصول رؤيته‪.‬‬

‫قال القاضي عبد الجبار ص‪" :250‬فإن قيل‪ :‬أليس أن للا تعالى يرى الواحد‬
‫منا‪ ،‬وإن لم يكن مقابالً له وال حاالً في المقابل وال في حكم المقابل‪ ،‬فهال‬
‫جاز في الواحد منا أن يرى الشيء وإن لم يكن مقابالً له وال حاالً في المقابل‬
‫وال في حكم المقابل؟‬

‫قيل له‪ :‬إنما وجبت هذه القضية في القديم تعالى؛ ألنه ال يجوز أن يكون رائيا ً‬
‫بالحاسة والواحد منا راء بالحاسة‪ ،‬فال يعلم أن يرى إال كذلك"أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫وهذه فقرة في غاية األهمية‪ ،‬وقد أورد القاضي عبد الجبار االعتراض‬
‫وأجاب عليه‪ ،‬ونحن سنعيد بيان هذا االعتراض‪ ،‬ونتكلم على جواب القاضي‪.‬‬

‫حاصل اإليراد سؤال وإلزام موجَّه من األشاعرة الذين يثبتون الرؤية مع‬
‫تنزيه للا تعالى عن الجهة والمقابلة‪ ،‬ويردون بهذا السؤال عن الزعم الذي‬
‫يزعمه المعتزلة من أن الرؤية يلزمها الحد والجهة‪ ،‬فيقولون للمعتزلة‪ :‬إذا‬
‫قلتم إننا عندما نثبت رؤية للا يلزمنا إثبات كونه محدوداً وفي جهة‪ ،‬وأن علة‬
‫هذا اللزوم هو أن الرؤية نفسها تستلزم ذلك‪ ،‬فيلزمكم مثل ذلك في حق للا‪،‬‬
‫أال تقولون إن للا تعالى يرى المخلوقات‪ ،‬ومع رؤيته للمخلوقات ال يلزم‬
‫كونه في جهة منها وال متحيزاً وال محدوداً‪ ،‬فإذا ص َّح ذلك فكيف تزعمون‬
‫أن الرؤية يلزمها الجهة والحد‪ ،‬وأن هذا التالزم عقلي‪ ،‬والتالزم العقلي ال‬
‫يتخلف شاهداً وغائباً‪ ،‬فلماذا نراكم منعتم ذلك في حق للا وتقولون به في‬
‫حق العباد‪.‬‬

‫هذا هو حاصل السؤال‪ ،‬وهو قوي كما ترون‪ ،‬وأجاب القاضي كما يلي‪ :‬قال‬
‫إن الرؤية الحاصلة لإلنسان إنما تحصل له بحس‪ ،‬وأما للا تعالى فال يرى‬
‫بحاسة‪ ،‬ولذلك يرانا بال لزوم الجهة والحد والمقابلة وغير ذلك‪.‬‬

‫وهذا الجواب يعود بالنقض على أصل المعتزلة كما سنبين‪ ،‬فالمعتزلة أساسا ً‬
‫يقولون‪ :‬ال رؤية إال بمقابلة وحس وحد ومكان‪ ،‬وهم قد نفوا ما قالته األشاعرة‬
‫من إمكان تعقل رؤية بال هذه اللوازم‪ ،‬ولكنا نراهم اآلن يقولون بأن للا تعالى‬
‫يرى ورؤيته بال حس وال مقابلة‪.‬‬

‫إذن يعترف القاضي عبد الجبار بمفهومين من الرؤية‪.‬‬


‫األول‪ :‬رؤية بحس‪ ،‬أي رؤية حاصلة عن اإلحساس ومقابلة وحد‪ .‬الثاني‪:‬‬
‫رؤية بال حس‪ ،‬أي حاصلة بال إحساس وال مقابلة وال حد‪.‬‬

‫وهو يجيز تسمية المعنى الثاني رؤية‪ ،‬ولكنه يحصره في للا تعالى‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫ال يمكن أن تحصل الرؤية لإلنسان إال بالحس‪.‬‬

‫وكالمه ينبني على الفرق بين الرؤية والحس‪ ،‬فالحس هو سبب وآلة الرؤية‬
‫عندنا وال سبب وال آلة للرؤية في حق للا‪.‬‬

‫وهذا الكالم صحيح‪ ،‬ولكن يلزم منه هدم مذهب المعتزلة من أساسه‪ ،‬فإذا‬
‫قالوا إن الرؤية معنى واحد‪ ،‬وأن الحس آلة لها وسبب لها للمخلوقات‪ ،‬فيرجع‬
‫الخالف بينهم وبين األشاعرة إلى األصل الكبير الذي نبهنا إليه أوالً‪ ،‬وهو‬
‫مسألة التالزم العلي والمعلولي بين الحوادث‪ ،‬بحيث يقول المعتزلة‪ :‬إن‬
‫الرؤية ال يمكن أن تحصل وتوجد للمخلوق إال بواسطة اإلحساس‪.‬‬

‫والحقيقة أن من يتأمل في هذا الكالم يجده ضعيفا ً جداً‪ ،‬فإذا جزم المعتزلة أن‬
‫الرؤية غير الحس‪ ،‬وأن الحس آلة للرؤية‪ ،‬وأثبتوا هلل أنه يرى‪ ،‬إذن الرؤية‬
‫يمكن أن تقع بال حس وال مقابلة‪.‬‬

‫أليس هذا نقضا ً لألصل الذي وضعوه من إحالة الرؤية إال بمقابلة‪.‬‬

‫إن هذا الكالم في الحقيقة وعند التأمل الصادق يُظهر كم هم المعتزلة‬


‫متحكمون في استداللهم واستنباطهم وطريقة تفكيرهم!! ويكفي العاقل‬
‫االلتفات إلى هذا المعنى للحكم بضعف مذهبهم‪.‬‬

‫ومن جهة أخرى‪ :‬فإن القول بالعلل والمعلوالت‪ ،‬أو التولد‪ ،‬ال يصح‪ ،‬وال‬
‫يقول به إال المعتزلة ومن وافقهم‪ ،‬وأما األشاعرة فال يلتزمون به وال يقولون‬
‫به كما وضحناه‪.‬‬
‫وأيضاً‪ ،‬كيف يمكن لعاقل أن يدعي صحة القول بأن الحس غير الرؤية بل‬
‫هو آلتها وشرطها‪ ،‬ثم يثبت الرؤية هلل بال هذا الشرط‪ ،‬مع قوله بأن هذا‬
‫الشرط عقلي‪ ،‬وهل العقليات تتخلف وتنقض؟!‬

‫وما أَد َْرى المعتزلة أن اإلنسان ال يمكن أن يرى إال بالحاسة‪ ،‬وكيف حكموا‬
‫على للا تعالى بأنه ال يقدر على خلق الرؤية في اإلنسان بدون حاسة في‬
‫اإلنسان وال شعاع وال مقابلة؟! أال يستطيع للا ج َّل شأنه أن يوجد هذا المعنى‬
‫الذي سميتموه رؤيةً إال عن طريق توسط الحس‪ ،‬أليس هذا ح َّداً لقدرة للا‬
‫تعالى وتعجيزاً له؟!‬

‫إذن يتبين لنا أن األصول التي بنى عليها المعتزلة هذا الجواب أصول باطلة‬
‫وغير مسلمة وال تلزم خصومهم‪.‬‬

‫واألشاعرة ال يلزمهم مطلقا ً ما يريده المعتزلة‪.‬‬

‫فظهر قوة هذا اإلشكال‪ ،‬وضعف وتناقض جواب القاضي عبد الجبار‪ ،‬أما‬
‫ضعفه فبالنظر إلى المقدمات التي يعتمد عليها من التولد أو العلة والمعلول‪،‬‬
‫قرره المعتزلة من معنى الرؤية كما مضى‪.‬‬
‫وأما تناقضه فمع ما َّ‬

‫نهاية الكالم مع القاضي عبد الجبار‬

‫والمعتزلة يصرحون بأن الرؤية في المخلوق ال يمكن أن تحصل إال بحس‬


‫أي بتوسط اآلالت‪ ،‬ووجودها بال هذه اآلالت مستحيل‪ ،‬وللا ال يقدر على‬
‫خلقها كذلك‪ ،‬قال القاضي ص‪" :250‬ألنا قد بينا أن الواحد منا متى كانت‬
‫حاسته صحيحة والمرئي بهذه األوصاف وجب أن يراه‪ ،‬ومتى لم يكن كذلك‬
‫لم يصح أن يراه‪ ،‬فدال على أنه إنما يرى ما يراه بالحاسة"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وهذا الكالم أتى به لينقض كالم األشاعرة القائلين بأن للا تعالى يخلق الرؤية‬
‫في العبد مباشرة‪ ،‬ولو بال توسط هذه الحواس‪ ،‬ويستحيل بالطبع للقاضي أن‬
‫يوافق األشاعرة على هذا وإال هدم مذهبه كله‪ ،‬ولكن تناقض مع قوله بمعنى‬
‫مر في رؤية للا تعالى للمخلوقات‪.‬‬
‫قريب من ذلك كما َّ‬

‫ويظهر للناظر مدى قوة استدالالت األشاعرة عندما جعلوا كل هذه الشروط‬
‫والحواس مجرد أسباب عادية‪ ،‬ال عقلية‪ ،‬بمعنى أنها يمكن أن تتخلف بإرادة‬
‫للا تعالى‪ ،‬ومذهبهم موافق لكون للا تعالى قادراً على كل شيء‪ ،‬وال يلزم‬
‫عنه تعجيز هلل عن خلق بعض الممكنات‪.‬‬

‫كما ال يلزمهم مناقضة ظواهر القرآن والسنة‪ ،‬وال نسبة الجهل باهلل تعالى‬
‫من هذه الجهة إلى أحد األنبياء أولي العزم من الرسل‪.‬‬

‫ثم قال القاضي عبد الجبار ص‪" :250‬ويمكن إيراد هذه الداللة على وجه‬
‫آخر ال يلزمنا هذا السؤال‪ ،‬فيقال‪ :‬إن أحدنا إنما يرى الشيء عند شرطين‪:‬‬
‫أحدهما يرجع إلى الرائي‪ ،‬واآلخر يرجع إلى المرئي‪.‬‬

‫ما يرجع إلى الرائي فهو صحة الحاسة‪ ،‬وما يرجع إلى المرئي هو أن يكون‬
‫للمرئي مع الرائي حكم‪ ،‬وذلك الحكم هو أن يكون مقابالً أو حاالً في المقابل‪،‬‬
‫أو في حكم المقابل‪.‬‬

‫وإذا أوردته على هذا الوجه سقط عنك هذا السؤال"أ‪.‬هـ‪.‬‬


‫كذا قال القاضي عبد الجبار‪ ،‬وهو قاضي المعتزلة المشهور‪ ،‬وحكمه هنا‬
‫باطل؛ ألن السؤال باق وتغيير صيغته وإعادة ترتيب مقدماته ال يفيد‪ ،‬فيبقى‬
‫السؤال‪ ،‬وهو‪ :‬أن للا تعالى يرى المخلوقات‪ ،‬وال يوجد حكم المقابلة وال‬
‫الجهة للمخلوقات بالنسبة هلل تعالى‪.‬‬

‫إذن فقد انخرم شرط من الشروط ولم يؤثر هذا في عدم الرؤية‪ ،‬وكذلك نقول‪:‬‬
‫إن الرائي هنا وهو للا تعالى ليس له حاسة‪ ،‬إذن قد انخرم الشرطان معاً‪،‬‬
‫ومع ذلك حصلت الرؤية‪ ،‬فهذان الشرطان باطالن‪.‬‬

‫ولما أحس القاضي عبد الجبار بضعف كالمه هنا قال‪" :‬على أن هذا السؤال‬
‫الذي أورده ينبني على أن اإلدراك معنى‪ ،‬وسنبين الكالم في أن اإلدراك‬
‫ليس بمعنى إن شاء للا تعالى"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫إذن هو يحاول التملص من هذا اإلشكال بهذا الكالم وحاصله عدم التسليم‬
‫بأن الرؤية معنى راجع إلى اإلدراك‪ ،‬بل هو راجع إلى العلم‪ ،‬واالتفاق حاصل‬
‫على أن للا عالم بالمخلوقات‪.‬‬

‫هكذا يقترح القاضي أن يكون الجواب‪ ،‬ولكن هذا ال يزيل اإلشكال‪ ،‬ألن هذا‬
‫يستلزم أن العلم من حيثية معينة يسمى رؤية‪ ،‬فلماذا تنكر المعتزلة‬
‫والمخالفون حصول قدر زائد من العلم الحاصل عندنا باهلل تعالى‪ ،‬بحيث‬
‫يسمى هذا القدر الزائد رؤية‪ ،‬خاصة وأنه قد جرى تسميته كذلك في ظواهر‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬وال يمنع منه مانع بعد أن تبين أن جميع الشروط التي‬
‫اقترحوها ال تطرد لهم؟!‬

‫وهذا الكالم يعلم صحته وقوته كل من يفهمه‪.‬‬


‫وبعد أن انتهى القاضي عبد الجبار من الكالم على المعنى السابق‪ ،‬شرع في‬
‫الكالم على كون هذه الشروط عادية وليست عقلية‪ ،‬وهو قول األشاعرة‪،‬‬
‫فلننظر كيف يحاول القاضي الرد على هذا المذهب‪.‬‬

‫قال القاضي عبد الجبار ص‪" :231‬فإن قيل‪ :‬ما أنكرتم أن أحدنا إنما ال يرى‬
‫الشيء إال إذا كان مقابالً له‪ ،‬أو حاالً في المقابل أو في حكم المقابل‪ ،‬ألنه‬
‫تعالى أجرى العادة بذلك‪ ،‬فال يمتنع أن يختلف الحال فيه‪ ،‬فيرى القديم جل‬
‫وعز في دار اآلخرة"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وهذا وجه من وجوه استدالل األشاعرة كما مر‪ ،‬ونزيده توضيحا ً ووضوحاً‪،‬‬
‫ي أمرين موجودين متالزمين‪ ،‬فهذا التالزم إما أن يكون‬
‫فنقول‪ :‬إذا اعتبرنا أ َّ‬
‫تالزما ً عقليا ً يستحيل انفكاكه وقطعه‪ ،‬أو يكون تالزما ً عادياً‪ ،‬غايته أنه ما‬
‫دام هذا التالزم في األزمان من دون موجب داخلي بين األمرين الموجودين‬
‫يوجب بذاته التالزم‪ ،‬يعني ال توجد عالقة العلية بينهما‪ ،‬حتى يستحيل انفصال‬
‫التالزم بينهما‪ ،‬بل التالزم والمصاحبة حاصلة بينهما بخلق للا تعالى‬
‫وإرادته‪ ،‬وإذا ص َّح هذا‪ ،‬فنقول‪ :‬ما تنكرون أن تكون العالقة والترتب المشاهَد‬
‫بين الحس (المؤلف من العضو وانعكاس الشعاع عليه وكون المرئي في‬
‫جهة وذا حدود) والرؤية (وهي اإلدراك الحاصل عقيب الحس) مجرد عالقة‬
‫مبنية على التالزم والترتب العادي‪ ،‬وما هو الموجب لكونها عقلية وواجبة‬
‫وجوبا ً ذاتياً‪ ،‬بحيث ال يمكن انفكاكهما‪ ،‬أي ال يتصور حصول أحدهما إال‬
‫بحصول اآلخر‪ ،‬فإذا كانت عادية يجوز أن يخلق للا الرؤية بال مقابلة وال‬
‫حس‪.‬‬
‫هذا هو حاصل توضيح السؤال‪ ،‬وهو سؤال قوي كما يُال َح ُ‬
‫ظ‪ ،‬فلننظر كيف‬
‫يرد القاضي عليه!‬

‫قال القاضي في ص‪" :251‬قيل له‪ :‬إن ما يكون بمجرى العادة يجوز اختالف‬
‫الحر والبرد والثلج والمطر لما كان بمجرى العادة‬
‫َّ‬ ‫الحال فيه‪ ،‬أال ترى أن‬
‫اختلف بحسب البلدان واألهوية‪ ،‬فكان يجب مثله في مسألتنا لو كان ذلك‬
‫بالعادة‪ ،‬فيجب صحة أن يرى الشيء أحدنا وإن لم يكن مقابالً له وال حاالً‬
‫في المقابل وال في حكم المقابل في بعض الحاالت‪ ،‬الختالف العادة"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫هذا هو المقطع األول من جواب القاضي‪ ،‬وحاصله أن ما بالعادة يجوز‬


‫تخلفه‪ ،‬وهذا صحيح‪ ،‬بل هذا هو ما يقول به األشاعرة في رؤية للا تعالى‪،‬‬
‫ولكن حكم الجواز الذي هو من توابع العادة ال محل لالختالف فيه‪ ،‬ويوجد‬
‫فرق بين الجواز وبين الوقوع‪ ،‬أي ال يوجد فرق بين جواز التخلف لما هو‬
‫بالعادة‪ ،‬وبين حصول هذا التخلف بالفعل‪ ،‬ومثال القاضي الذي أتى به أعني‬
‫الثلج والمطر‪ ،‬يُفهم منه اشتراطه لوقوع التخلف عادة‪ ،‬أي كثرة التخلف كما‬
‫تختلف األحوال بين ثلج ومطر في البلدان بحسب اختالف المناخ‪ ،‬ولكن‬
‫كثرة التخلف ليست شرطا ً مطلقا ً في هذا الباب‪ ،‬بل الكافي في هذا المقام‪،‬‬
‫هو أصل التخلف ويكفي في ذلك حصوله مرة واحدة‪ ،‬وهو ما يدعيه‬
‫األشاعرة‪ ،‬ويقولون به في رؤية للا تعالى‪ ،‬وفي رؤية النبي عليه السالم من‬
‫ورائه كما يرى ِّم ْن أمامه‪ ،‬ثم فوق هذا نقول‪ :‬لو وقع التخلف مرة واحدة‪،‬‬
‫فهذا يدل على أن التالزم عادي‪ ،‬هذا صحيح‪ ،‬فالوقوع دليل اإلمكان‪ ،‬ولكن‬
‫ال يصح مطلقا ً أن يقال إن التخلف إذا لم يقع وال مرة واحدة‪ ،‬فهذا دليل على‬
‫عدم اإلمكان‪ ،‬أي دليل على كون األمر ليس بالعادة بل التالزم واجب وال‬
‫يتصور انفكاكه‪ ،‬بل غاية ما يمكن أن يقال هنا‪ :‬إن اإلمكان دليله العقل مطلقاً‪،‬‬
‫وهذا هو المقصود بأن الترتبات كلها عادية‪ ،‬وقد اكتفينا بمالحظة التخلف‬
‫في بعض الحوادث منها‪ ،‬ولم نحتج إلى رؤيته في كل نوع نوع من أنواع‬
‫الحوادث‪ ،‬وأيضا ً فلما د َّل العقل على أن للا تعالى خالق كل شيء بال واسطة‪،‬‬
‫كان هذا الدليل العقلي العام دليالً على أن كل ارتباط بين موجودين حادثين‬
‫فهذا االرتباط حاصل بإرادة للا‪ ،‬وليس باإليجاب‪ ،‬وما دام حاصالً بإرادته‬
‫يوجد اآلخر‪.‬‬ ‫ج َّل شأنه ص َّح أن ِّ‬
‫يوجد أح َدهما دون أن ِّ‬

‫وقد يقول قائل‪ :‬كيف يفهم كالم القاضي اشتراطه الوقوع للتخلف للحكم بكونه‬
‫بالعادة‪ ،‬قلنا‪ :‬تأ َّمل رحمك للا في بقية كالمه وها هو‪ ،‬فقد قال‪" :‬بل كان يجب‬
‫أن يرى المحجوب كما يرى المكشوف‪ ،‬ويرى البعيد كما يرى القريب‪،‬‬
‫ويرى الرقيق كما يرى الكثيف‪ ،‬ومتى ارتكبوا هذا كله‪ ،‬فالواجب أن يرى‬
‫المحجوب كما يرى المكشوف‪ ،‬ومعلوم خالفه"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫فهذا الكالم صريح في اشتراطه التخلف ووقوعه بالفعل أكثر من مرة‪ ،‬بل‬
‫كالمه السابق يدل على هذا‪ ،‬فهو قال‪" :‬فيجب صحة أن يرى الشيء أحدنا‬
‫‪ ...‬في بعض الحاالت الختالف العادة"أ‪.‬هـ‪ .‬ولو كان يريد به اإلمكان فقط‪،‬‬
‫لما قال في بعض الحاالت؛ ألن الصحة ثابتة في جميع الحاالت التي يكون‬
‫االرتباط فيها بالعادة‪ ،‬وليس في بعض الحاالت‪ ،‬أما الواجب عنده في بعض‬
‫الحاالت فهو الوقوع أي وقوع التخلف‪.‬‬

‫صد الصحة‪ ،‬فتقييده للصحة في بعض الحاالت فقط مشكل جداً‪ ،‬ألن‬
‫ولو قَ َ‬
‫الصحة حكم عقلي‪ ،‬وتقييده لها ببعض الحاالت دون بعض تخصيص للحكم‬
‫العقلي‪ ،‬وتخصيص الحكم العقلي ال يصح‪ ،‬بل يعود على وصفه بالعقلي‬
‫بالبطالن‪.‬‬
‫فيتحصل لنا على جميع الحاالت أن القاضي عبد الجبار ال يخلو كالمه من‬
‫ضعف وتناقض‪.‬‬

‫ثم قال القاضي عبد الجبار بعد ذلك ص‪" :251‬فإن قيل‪ :‬ما أنكرتم أن ذلك‬
‫من باب ما تستمر العادة به‪ ،‬كما في حصول الولد من ذكر وأنثى‪ ،‬وكطلوع‬
‫الشمس من مشرقها وغروبها من مغربها‪ ،‬وكحصول كل جنس من‬
‫الحيوانات من جنسه‪ ،‬وكتاب الزرع وما يجري هذا المجرى"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وهذا االعتراض والسؤال الذي ذكره القاضي على لسان األشاعرة صحيح‬
‫تماماً‪ ،‬فالعادة تصح أن تختلف وال يشترط تخلفها للحكم عليها بأنها عن‬
‫طريق العادة‪ ،‬أو على أنها عادة‪ ،‬وال يشترط حتى تخلفها مرة واحدة‪ ،‬ولكن‬
‫لو تخلفت مرة واحدة‪ ،‬فتخلفها هذه المرة يكون دليالً على كون التالزم‬
‫والتصاحب بالعادة‪ ،‬ووقوع التخلف دليل اإلمكان أي دليل العادة هنا‪ ،‬وال‬
‫يشترط لمعرفة اإلمكان وكون الحكم عاديا ً وقوع التخلف‪ ،‬فاإلمكان والعادة‬
‫عبارة عن حكم عقلي عام‪ ،‬وكلي مبني على قانون عام ذكرناه‪ ،‬وهو أن للا‬
‫تعالى هو الفاعل المختار بال واسطة ومبني على أن ال طبيعة من الطبائع‬
‫مر أكثر من‬
‫توجد بذاتها وال علة وال معلول في الموجودات الحادثة كما َّ‬
‫مرة‪ ،‬وهذا حكم عقلي يستدل عليه بقواعد عقلية عامة‪ ،‬وإن أمكن الكشف‬
‫عنه أيضا ً بحصول التخلف‪ ،‬فهذا توجيه االعتراض والسؤال‪ ،‬ولننظر اآلن‬
‫في جواب القاضي عبد الجبار‪ ،‬فقد قال في ص‪" :251‬وجوابنا‪ ،‬أنا لم نوجب‬
‫فيما طريقه العادة أن يختلف الحال من كل وجه‪ ،‬بل إذا اختلف من وجه‬
‫واحد كفى‪ ،‬وما من شيء من هذه األشياء التي ذكرتها إال والحال فيه مختلف‬
‫على وجه‪ ،‬أال ترى أن الولد قد يحصل ال من ذكر وأنثى فإن آدم عليه السالم‬
‫خلق ال من ذكر وأنثى ‪ ،‬وعيسى عليه السالم خلق ال من ذكر‪ ،‬وفيما بينا‬
‫فما من ولد إال والحال فيه بخالف الحال في غيره‪ ،‬فواحد يولد تاما ً واآلخر‬
‫يولد ناقصاً‪ ،‬فكان يجب مثله في مسألتنا حتى يصدق من أخبرنا أنه شاهد ما‬
‫ليس بمقابل له وال حال في المقابل وال في حكم المقابل‪ ،‬أو شاهد أقواما ً‬
‫يشاهدون األشياء من دون أن تكون على هذا الوجه أو ما يجري مجراه‪،‬‬
‫وقد علم خالفه"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫هذا هو جواب القاضي‪ ،‬وكما ترى فهو يشترط للحكم بكون الشيء على‬
‫العادة ال على سبيل العلة والمعلول‪ ،‬أن يحصل التخلف ولو مرة‪ ،‬أو يختلف‬
‫حاله من حال إلى حال‪ ،‬أو من وجه دون وجه‪.‬‬

‫أما اشتراطه التخلف ولو مرة للحكم يكون التالزم عادياً‪ ،‬فقد بينا بطالن هذا‬
‫الشرط وعدم صحته‪ ،‬ألن الحكم العادي صحيح أنه ما يعرف بتكرر الحس‬
‫على العادة‪ ،‬ولكن نفي التالزم العقلي ونفي العلية والمعلولية المدعاة من‬
‫طرف المخالفين‪ ،‬ال يتوقف على العادة‪ ،‬بل يستند إلى أدلة عقلية تامة‪ ،‬وهي‬
‫التي أشرنا إليها سابقا ً‪.‬‬

‫فظهر من هذا أن اشتراط التخلف ولو مرة واحدة‪ ،‬شرط باطل‪.‬‬

‫ت بدليل على أن رؤية‬


‫وأما اشتراطه االختالف من وجه دون وجه‪ ،‬فلم يأ ِّ‬
‫كل واحد مساوية من كل الوجوه لرؤية اآلخر‪ ،‬فما أدراه أن واقع الحال أن‬
‫الرؤية تختلف من بعض العوارض والجهات والوجوه‪ ،‬وكما يولد بعض‬
‫الناس ناقصين‪ ،‬فكذلك يوجد من يرى الشيء على غير وضعه كاألحول‪،‬‬
‫ومن يراه على غير لونه الذي يراه عليه غيره‪ ،‬كمن عنده مرض األلوان‪،‬‬
‫وتوجد أحوال متعددة للرؤية‪ ،‬تجعلنا نحكم باختالفها على سبيل اإلجمال من‬
‫حال إلى حال‪ ،‬ومن إنسان إلى إنسان‪.‬‬
‫على أن هذا أيضا ً ليس هو الشرط في معرفة كون التالزم عادياً‪ ،‬بل الشرط‬
‫ما عرفناه سابقاً‪ ،‬وهذا الذي يدعيه القاضي ال يشرط‪.‬‬

‫وأيضا ً نضيف‪ ،‬فنقول‪ :‬إذا جاز نسبة الرؤية إلى للا تعالى‪ ،‬أي إذا جاز القول‬
‫بأن للا تعالى يرانا‪ ،‬وهو ليس بجهة منا وال نحن بجهة منه‪ ،‬فهذه الحالة‬
‫كافية للداللة على كون هذه الشروط الحسية التي يدعيها المعتزلة‪ ،‬شروطا ً‬
‫عادية ال شروطا ً عقلية‪ ،‬وإال فلينفوا كون للا رائيا ً للمخلوقات؟! فيلزمهم إذا‬
‫فعلوا مناقضة الكتاب العزيز‪.‬‬

‫ويُضاف إلى ذلك ما َو َر َد في األحاديث من أننا سنرى للا يوم القيامة‪ ،‬أي‬
‫أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة‪ ،‬وقطعا ً نعلم بأنهم يرونه بال جهة وال‬
‫حد وال مقابلة‪ ،‬فكما يعلمونه بال حد يرونه كذلك‪.‬‬

‫وسوف نورد أكثر من هذه الشواهد الدالة على ثبوت الرؤية بال حد وال جهة‬
‫وال مقابلة وال اتصال حسي‪.‬‬

‫وبهذا التحليل‪ ،‬يُعلم قطعا ً أن استدالالت القاضي عبد الجبار غير تامة وال‬
‫كافية‪ ،‬بل يسودها االختالل كما بينا‪.‬‬

‫وقد يقول قائل‪ :‬ال يصح االنتقال من مفهوم الرؤية عند إطالقه على اإلنسان‬
‫المخلوق‪ ،‬إلى الرؤية عند نسبتها إلى للا‪ ،‬فهذا قياس والقياس ال يصح‪.‬‬

‫والجواب‪ :‬إن الذي يخالفنا يسلم أن مفهوم الرؤية واحد‪ ،‬وأن لها أحكاما ً‬
‫خاصة إذا نسبت إلى المخلوق‪ ،‬وهذه األحكام إذا كانت خاصة بالرؤية من‬
‫حيث ما هي رؤية يجب نسبتها إلى الخالق‪ ،‬والقول باشتراط هذه الشرائط‬
‫له‪ ،‬وهذا باطل اتفاقاً‪ ،‬وإال فقد حصل البرهان على أن هذه الشرائط ليست‬
‫لذات الرؤية‪ ،‬فتأمل‪.‬‬
‫قال القاضي عبد الجبار ص‪" :252‬فإن قيل‪ :‬ما أنكرتم أن الواحد منا إنما ال‬
‫يرى إال ما كان مقابالً أو حاالً في المقابل أو في حكم المقابل‪ ،‬األمر يرجع‬
‫إلى المرئي ال إلى الرائي‪.‬‬

‫قيل له‪ :‬هذا الذي ذكرته ال يصح‪ ،‬ألنه كان يجب في القديم تعالى أن ال يرى‬
‫هذه المرئيات لفقد هذا الحكم فيه‪ ،‬والمعلوم خالفه" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وتوضيح هذا اإلشكال‪ ،‬وال أراه يتسق مع أصول األشاعرة‪ ،‬أن الواحد إذا‬
‫رأى بعض األمور الموجودة‪ ،‬ولم يَ َر بعضها اآلخر‪ ،‬فلم ال يكون السبب في‬
‫عدم رؤيته للقسم الثاني هو أمراً راجعا ً إلى نفس هذا القسم‪ ،‬فربما كانت‬
‫تتصف بصفة تمنع رؤيتها‪.‬‬

‫فأجاب القاضي عبد الجبار‪ :‬إذا كان هذا السبب صحيحا ً في عدم رؤيتنا‬
‫لبعض هذه األمور التي ال نراها‪ ،‬فيلزم أن يكون هذا السبب مانعا ً ِّمن كل‬
‫رؤية‪ ،‬ال مانعا ً من رؤيتنا نحن فقط لها‪ ،‬بل يلزم أن يكون سببا ً للمنع من أن‬
‫يراها للا تعالى أيضاً‪ ،‬ولكن للا تعالى يرى كل شيء‪ ،‬إذن ال يصح أن يكون‬
‫السبب في منع الرؤية من نفس المرئي‪.‬‬

‫والحقيقة أن هذا الجواب صحيح‪ ،‬ولكنه أقرب إلى أصول األشاعرة من‬
‫أصول المعتزلة‪ ،‬ألن السبب عند األشاعرة في عدم رؤيتنا لبعض‬
‫الموجودات هو أن للا تعالى لم يخلق فينا رؤيتنا‪ ،‬فلم يرجعوا السبب في منع‬
‫الرؤية إلى المرئي‪ ،‬بل إلى إرادة للا تعالى‪.‬‬

‫والذي أردناه من هذه المناقشة ههنا إنما هو بيان كيف أن القاضي عبد الجبار‬
‫يقيس رؤية للا على رؤيتنا‪ ،‬ويقول‪ :‬المانع الذي يمنع رؤيتنا لألشياء إذا كان‬
‫في نفس األشياء‪ ،‬فينبغي أن يكون مانعا ً لرؤية للا تعالى لنفس هذه األشياء‪،‬‬
‫وهذا منه خروج عن أصول مذهبه الذي ينصره‪ ،‬أو هو جري منه مع‬
‫الجواب الحق‪ ،‬الذي يوافقه عليه األشاعرة‪ ،‬ولكن لو قال القاضي عبد الجبار‬
‫بهذا الجواب فعالً على المعنى الذي قلناه‪ ،‬يلزمه أن ينقض أصول مذهبه‬
‫بالكلية‪ ،‬أقصد أنه ينبغي أن ينقض كون الشروط التي جعلوها للرؤية وهي‬
‫المقابلة والتحيز والشعاع ‪..‬إلخ‪ ،‬شروطا ً عقلية‪ ،‬بل هي شروط عادية‪ ،‬وما‬
‫هو مانع عندنا مانع عند للا تعالى‪ ،‬وهو الزم باطل‪.‬‬

‫والسبب في هذا اإللزام أنه قاس رؤية للا على رؤيتنا من جهة الموانع‪.‬‬

‫ثم قال في ص‪" :252‬فإن قيل‪ :‬إنا نرى القديم تعالى بال كيف كما نعلمه بال‬
‫كيف‪ ،‬وال يحتاج إلى أن يكون مقابالً أو حاالً في المقابل أو في حكم المقابل‪.‬‬

‫قيل له‪ :‬إن هذا قياس الرؤية على العلم من دون علة تجمعها‪ ،‬فال يصح‪.‬‬

‫فإن للعلم أصالً في الشاهد‪ ،‬وللرؤية أصالً‪ ،‬فيجب أن يرد كل واحد منهما‬
‫إلى أصله‪ ،‬فالعلم من حقه أن يتعلق بالمعلوم على ما هو به‪ ،‬ولهذا يتعلق‬
‫بالموجود والمعدوم والمحدث والقديم‪ ،‬فإن كان معدوما ً علم معدوماً‪ ،‬وإن‬
‫كان موجوداً ‪ ،‬وكذلك الكالم إذا كان محدثا ً أو قديماً‪ ،‬وليس كذلك الرؤية‬
‫فإنها ال تتعلق إال بالموجود‪ ،‬ولهذا ال يصح في المعدوم أن يُرى" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫هذا سؤال صحيح على مذهب األشاعرة‪ ،‬وحاصل معناه‪ :‬إذا كانت الرؤية‬
‫نوعا ً من الكشف‪ ،‬أي أن الرؤية يتم بها الكشف عن المرئي من حيثية معينة‪،‬‬
‫فمن أين يلزم القول إننا إذا رأينا للا تعالى فيجب أن نراه في جهة وذا حد‬
‫ومقابلة ‪ ..‬إلخ‪ ،‬فالرؤية تكون فيها حدود إذا كان المرئي محدوداً وفي جهة‪،‬‬
‫وأما إذا كان غير محدود وال في جهة وال مقابالً‪ ،‬فإنه يُرى كذلك‪ ،‬وهذا‬
‫كالعلم‪ ،‬فاإلنسان يعلم بالنظر وبالفكر وبأسباب خاصة‪ ،‬ولكن للا تعالى يعلم‬
‫المدرك‬
‫َ‬ ‫ال بنظر وال فكر‪ ،‬فرؤية اإلنسان تكون نتيجتها إدراك محدود‪ ،‬ألن‬
‫سه محدود‪ ،‬وأما رؤية للا فال يكون الزمها كشفا ً عن محدود؛ ألن متعلق‬
‫نف َ‬
‫الرؤية ليس محدوداً‪.‬‬

‫هذا هو حاصل السؤال‪ ،‬وقد أشار اإلمام ابن فورك في مجرد مقاالت‬
‫األشعري إلى أن اإلمام األشعري كان يستعمل هذه الطريقة في الرد على‬
‫المخالفين‪ ،‬فقال نقالً عن اإلمام األشعري وتوضيحا ً لطريقته في المجرد‬
‫ص‪" :90‬وكان يقول‪َّ :‬‬
‫إن ر َّد حكم المرئي إلى المعلوم ال من حيث إن حكم‬
‫المرئي حكم المعلوم من كل وجه‪ ،‬ولكن النافين للرؤية يسلكون في نفيها‬
‫طرقَ االعتبار بالمرئيات في الشاهد‪ ،‬وأرادوا أن يسووا بين المرئيين في‬
‫الشاهد والغائب في األحكام واألوصاف التي عليها المرئيات في الشاهد‪،‬‬
‫فأراهم أن ذلك لو كان اعتباراً صحيحا ً لوجب مثله في المعلومات‪ ،‬وكل ما‬
‫فصلوا به بين المعلو َميْن في الشاهد والغائب‪ ،‬فصل بمثله بين المرئيين‪،‬‬
‫وكثيراً ما يستدل ابتدا ًء بمثل هذه الطريقة في أنه إما نفي أو إثبات‪ ،‬إجازة‬
‫أو إحالة‪ ،‬فاإلجازة ما قلنا‪ ،‬واإلحالة ال تخلو من هذه الوجوه التي تنتقض بما‬
‫ذكر في المعلوم‪ ،‬وكذلك كان يقلب في الرائي والعالم وسائر أوصاف المرئي‬
‫مما خالف فيه الشاهد الغائب" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫يعني أن المعتزلة عندما يسوون بين الرؤية في الشاهد والرؤية في الغائب‬


‫من كل وجه‪ ،‬فيلزم عندهم وجوب نفي رؤية الغائب‪ ،‬فيلزمهم مثل ذلك في‬
‫التسوية بين العلم في الشاهد والعلم في الغائب‪ ،‬فجيب أن يلزمهم نفي العلم‬
‫في الغائب‪ ،‬ولكن نفي العلم في الغائب محال‪ ،‬إذن نفي الرؤية في الغائب‬
‫ليس صحيحا ً أيضا ً‪.‬‬
‫ونبه اإلمام األشعري أنه ال يوجد تساو تام بين أحكام الرؤية وأحكام العلم‪،‬‬
‫ولكن يمكن قلب المسائل على المعتزلة باستخدام العلم‪.‬‬

‫واآلن وبعد أن وضحنا شيئا ً من وجه الداللة في هذا السؤال‪ ،‬فلنقرأ معا ً كالم‬
‫القاضي عبد الجبار في الرد على هذا اإلشكال الوارد على المعتزلة‪ ،‬وحاصل‬
‫جوابه محاولة الفرق بين العلم والرؤية‪ ،‬واعتبار الرؤية أصالً مستقالً ال‬
‫يشترك مع العلم في شيء مطلقاً‪ ،‬بحيث ال يصح بعد ذلك القياس بينهما‪.‬‬

‫ولكن الصحيح أن الجهة التي نبه إليها األشعري والتي بنى عليها القياس‬
‫يصح فيها المقايسة بينهما‪ ،‬وهذه الجهة هي أن العلم في الشاهد له أحكام‬
‫خاصة‪ ،‬ككونه حادثا ً وبأسباب خاصة كالنظر‪ ،‬ويقبل الزيادة والنقصان‪،‬‬
‫فرقنا بين أحكام العلم‬
‫ولكن العلم في الغائب ال يصح كونه كذلك‪ ،‬إذن نحن َّ‬
‫في الشاهد وفي الغائب‪ ،‬وهذه التفرقة متفق عليها‪ ،‬هذا هو األصل األول‪.‬‬

‫وبنا ًء على ذلك‪ ،‬لو سلمنا أن الرؤية شاهداً تشرط بالمقابلة واالتصال بشعاع‬
‫وكون المرئي محدوداً‪ ،‬فإن أثبتناها في الغائب كذلك‪ ،‬لزمنا إثبات صفات ال‬
‫كالحد وغيره من صفات األجسام‪ ،‬إذن فلم ال نثبتها‬
‫ِّ‬ ‫يصح إثباتها هلل تعالى‪،‬‬
‫غائبا ً مع نفي هذه الشروط‪ ،‬كما فعلنا بخصوص العلم‪.‬‬

‫فهذا الوجه من المقايسة صحيح كما ترى‪.‬‬

‫وقد يقول قائل‪ :‬فلماذا نثبت الرؤية غائبا ً من األصل؟‬

‫والجواب‪ :‬ألنها وردت باألحاديث ودلَّت عليها آيات القرآن‪ ،‬وال موجب‬
‫لصرفها عن ظاهرها‪ ،‬فلو لم ترد‪ ،‬لم نثبتها؛ ألن دليل وقوع الرؤية سمعي‬
‫عندنا‪.‬‬
‫والحظ أنه على هذا القياس ال يلزم مطلقا ً التسوية بين جميع أحكام الرؤية‬
‫وحقيقتها وبين أحكام العلم وحقيقته تسوية تامة‪ ،‬وهذا واضح‪.‬‬

‫وأما كالم القاضي على الحاسة السادسة بعد ذلك فال نخوض فيه لعدم الدليل‬
‫فيه‪ ،‬وللا أعلم‪.‬‬

‫وبهذا نكون قد ناقشنا جميع الوجوه التي أتى بها القاضي عبد الجبار في‬
‫داللة المقابلة‪ ،‬وبينا بطالن هذه الداللة وعدم قوتها‪ ،‬بل وتناقض بعض‬
‫أركانها مع بعض ما يقول به المعتزلة‪.‬‬

‫بقي مناقشة داللة الموانع‪:‬‬

‫داللة الموانع‪:‬‬

‫هذه الوجوه ذكر فيها القاضي عبد الجبار دالئل استدلوا بها على نفي الرؤية‪،‬‬
‫وهي قائمة أساسا ً على امتناع الرؤية لموانع كما يفهم من اسمها‪ ،‬وسوف‬
‫يتبين لك حقيقة هذه الداللة أثناء مناقشتنا لتفاصيلها كما فعلنا في داللة‬
‫المقابلة‪ ،‬وتوضيحها بمعنى آخر‪ ،‬إن الرؤية تكشف عن الشيء كما هو في‬
‫ذاته‪ ،‬والقديم حاصل على ما هو عليه في ذاته‪ ،‬فما المانع من أن يُرى؟!‬

‫هذا هو السؤال األساسي الذي تدور عليه هذه الداللة‪ ،‬أو تدور على الجواب‬
‫عليه‪ ،‬وحاصل السؤال أنا إذا قلنا‪ :‬الرؤية تكشف عن الشيء كما هو حاصل‬
‫في ذاته‪ ،‬وللا جل شأنه له ذات منزهة عن األمكنة والحدود والمقابلة‪ ،‬فلم ال‬
‫نقول‪ :‬الرؤية تكشف عن ذاته منزهة عن الجهة والحد والمقابلة‪ ،‬بل هذا هو‬
‫األصل الذي يجب القول به‪ ،‬ومن لم يقل به فإنما صرفه عنه سبب مانع‪ ،‬أو‬
‫معنى ادعى ثبوته يمنع من رؤية للا تعالى‪.‬‬
‫قال القاضي عبد الجبار جوابا ً عن هذا ص‪" :253‬وما ال يُرى‪ ،‬ينقسم إلى‬
‫ما ال يُرى لمنع‪ ،‬وإلى ما ال يُرى الستحالة الرؤية عليه‪ ،‬والقديم تعالى إنما‬
‫ال يُرى الستحالة رؤية عليه ال لمنع" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫هكذا أجاب القاضي على السؤال األصلي‪ ،‬ومن الظاهر أن هذا ليس جواباً‪،‬‬
‫بل مجرد دعوى‪ ،‬مقابلة لألصل الذي ذكرناه‪ ،‬وهو المبني على أن أصل‬
‫الرؤية منسوبة إلى للا تعالى‪ ،‬فال يصح نفيها إال لموجب‪ ،‬وال يوجد موجب‬
‫يدفعها‪ ،‬أو مانع يمنع منها‪ ،‬فلم يزد القاضي على أن قال‪" :‬إن للا تعالى ال‬
‫يُرى ألنه ال يمكن رؤية"‪ .‬ومعلوم أن التعليل الذي جاء به وهو قوله‪" :‬ال‬
‫يرى الستحالة رؤيته"‪ ،‬هو عين األصل الذي حصل فيه الخالف‪ ،‬وهو عين‬
‫دعوى المعتزلة التي ال يسلمها األشاعرة لهم‪ ،‬والدعوى ال تكون دليالً‪ ،‬بل‬
‫هي محتاجة إلى دليل‪ ،‬واالستدالل على الدعوى بنفس الدعوى مصادرة على‬
‫المطلوب‪.‬‬

‫وقد يقول قائل‪ :‬بل كالم القاضي دليل‪ ،‬ألنه مبني على استقراء أو مقسمة‬
‫لألشياء إلى ما يرى وإلى ما ال يرى‪ ،‬وما ال يُرى إما أن ال يُرى لمانع‪ ،‬او‬
‫الستحالة رؤيته‪ ،‬وهذا دليل‪ .‬فالجواب‪ :‬هذا عين الدعوى‪ ،‬أو جزء منه كذلك‪،‬‬
‫أعني االحتمال األخير الذي هو ما يستحيل رؤيته‪ ،‬فهو محل الخالف‪ ،‬فظهر‬
‫أن دليل القاضي مصادرة على المطلوب‪.‬‬

‫ثم قال القاضي ص‪" :253‬فإن قال‪ :‬ما في هذه الداللة إن أحدنا ال يرى للا‬
‫عز وجل‪ ،‬فمن أين أنه ليس بمرئي في نفسه؟‬

‫القديم تعالى‪ ،‬قال إنه ليس بمرئي في‬


‫َ‬ ‫قلنا‪ :‬كل َمن قال‪ :‬إن أحدنا ال َيرى‬
‫نفسه"أ‪.‬هـ‪ .‬كذا قال‪ ،‬ومن الظاهر أن القاضي الحظ في جوابه السابق وجه‬
‫النقص والضعف الذي أبرزناه‪ ،‬ولذلك جاء بهذا القيل‪ ،‬وهو ما الداللة على‬
‫استحالة رؤية للا تعالى في نفسه؟‬

‫فأجاب بجواب‪ ،‬ليس بجواب في الحقيقة‪ ،‬فإنه قال‪ :‬بما أننا كلنا أي كل واحد‬
‫فينا‪ ،‬يقول إنه ال يرى للا تعالى‪ ،‬فهذا يدل على أن للا تعالى ليس بمرئي في‬
‫نفسه‪ ،‬هذا هو االستدالل الذي يتعلق به القاضي‪ ،‬وهو لعمري من أغرب‬
‫االستدالالت‪ ،‬فمن أين يدل عدم حصول الرؤية لنا أو لكل واحد منا‪ ،‬على‬
‫استحالتها في نفسها‪ ،‬غاية ما يدل عليه عدم حصولها لنا‪ ،‬أما أنها في نفسه‬
‫تكون مستحيلة‪ ،‬فال‪ .‬وإال يلزم بأن للا تعالى ال يرى نفسه‪ ،‬وهذا باطل‪ ،‬فإذا‬
‫جاز أن يرى للا غيره‪ ،‬هل يستحيل أن يرى نفسه؟! كيف يصح هذا االستدالل‬
‫الذي يتعلق به القاضي‪.‬‬

‫سه العليَّة‪ ،‬ثبت‬


‫وبما أنه ظهر أن رؤية للا ليست مستحيلة في نفسها لرؤيته نف َ‬
‫أن أصل رؤيته جائز مطلقا ً وهو المطلوب‪.‬‬

‫وهل يمكن أن نقول على منوال طريقة استدالل القاضي‪ :‬كل من قال إن‬
‫أحدنا ال يرى البروتونات واإللكترونات‪ ،‬قال‪ :‬إن اإللكترونات غير مرئية‬
‫في نفسها‪ ،‬ويمكن أن نصوغ لوازم كثيرة ظاهرة البطالن على هذا النهج‪،‬‬
‫فيتبيَّن لنا بكل وضوح ضعف هذا االستدالل‪.‬‬

‫ولضعف هذه الداللة التي ذكرها القاضي عبد الجبار على استحالة رؤيته في‬
‫نفسه‪ ،‬ساق دليالً آخر على ذلك‪ ،‬فقال ص‪:253‬‬

‫ب‬
‫القديم تعالى لو جاز أن يُرى في حال من األحوال َلو َج َ‬
‫َ‬ ‫"دليل آخر‪ :‬وهو أن‬
‫أن نراه اآلن‪ ،‬ومعلوم أنا ال نراه اآلن‪.‬‬
‫وتحرير هذه الداللة هو أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى‬
‫المرئي لما رأى إال لكونه عليها‪ ،‬والقديم سبحانه حاصل على الصفة التي لو‬
‫رئي لما رئي إال لكونه عليها‪ ،‬والموانع المعقولة مرتفعة‪ ،‬فيجب أن نراه‬
‫اآلن‪ ،‬فمتى لم ن ََره‪ ،‬د َّل على استحالة كونه مرئيا ً"أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وهذا الدليل في الحقيقة عبارة عن صيغة أخرى للدليل السابق‪ ،‬وحاصله لو‬
‫ص َّح أن نرى للا لوجب أن نكون قد رأيناه‪ ،‬ولكن لما لم تقع رؤيته‪ ،‬فال‬
‫تصح رؤيته‪.‬‬

‫وهذا استدالل بعدم الوقوع على عدم اإلمكان‪ ،‬وهو استدالل باطل كما هو‬
‫معلوم‪ ،‬واالستدالل إنما يصح بالوقوع على اإلمكان‪ ،‬ال بعدم الوقوع علىعدم‬
‫اإلمكان‪.‬‬

‫ولم ال يفترض القاضي عبد الجبار ومعه المعتزلة أن هناك مانعا ً منع من‬
‫رؤية للا تعالى‪ ،‬فعلى هذا القول بالعلية والمعلولية‪ ،‬لم ال يكون المانع هو‬
‫عدم االستحقاق وعدم القابلية لحصول الرؤية فينا ونحن على هذه الحالة في‬
‫الحياة الدنيا‪ ،‬وأما على مذهب األشاعرة‪ ،‬فالرؤية جائزة في الدنيا وفي‬
‫اآلخرة‪ ،‬ولكن للا تعالى أراد أن تقع الرؤية في اآلخرة للمؤمنين‪ ،‬وأراد أن‬
‫ال تقع في الدنيا ألحد غير النبي – صلى للا عليه وسلم – على القول بأنه‬
‫رأى للا تعالى‪ ،‬وهو خالف مشهور بين الصحابة‪ ،‬فابن عباس أثبت رؤية‬
‫النبي عليه السالم لربه‪ ،‬والسيدة عائشة أثبتت أنه لم يره‪.‬‬

‫وبنا ًء على هذا الكالم‪ ،‬يتبين لنا أن دليل القاضي المعتزلي ليس يصح وال‬
‫يقوى على نفي الرؤية وإثبات استحالتها‪.‬‬
‫ثم شرع القاضي عبد الجبار في االستدالل لمقدمات هذا الدليل‪ ،‬ولم يزد في‬
‫المعنى الذي ذكرناه‪ ،‬ولكن ذكر بصريح عبارته أن "حصول الرؤية عندهم‬
‫بنا ًء على صحة الحواس وعدم الموانع‪ ،‬هو من قبيل الشروط‪ ،‬واألسباب‬
‫والعلل"‪ .‬وهذا الكالم يؤكد األصل الكبير الذي وضحناه نحن في أول هذه‬
‫الرسالة وقررنا أن مسألة الرؤية تنبني عليه عند المنكرين لها‪ ،‬وهو ثبوت‬
‫عالقة العلية والمعلولية بين الموجودات الحادثة‪ ،‬وهذا األصل ينكره‬
‫األشاعرة وي ُْرجعون جميع الحوادث إلى للا تعالى مباشرة بال واسطة‪ ،‬وقد‬
‫مضى هذا المعنى أكثر من مرة‪.‬‬

‫وأما باقي ما قرره القاضي عبد الجبار في الموانع المفترضة ورده عليها‪،‬‬
‫فكل أجوبته يعتمد فيها على األصول التي بناها سابقاً‪ ،‬ولذلك لم َ‬
‫نر أن‬
‫مر‪ ،‬خاصة بعد أن بينا الردود واألجوبة‬
‫نخوض معه في بقية كالمه لكفاية ما َّ‬
‫على استدالالته‪.‬‬

‫وبذلك يكون قد اتضح لدينا ضعف أدلة المعتزلة العقلية في هذه المسألة‪،‬‬
‫وهي تدور على نفس األصول التي يقول بها الشيعة كما نبهناك سابقاً‪ ،‬بل‬
‫ويشترك معهم فيها الزيدية واإلباضية كما سنرى‪.‬‬

‫مناقشة الزيدية في الرؤية‬

‫مناقشة كالم الزيدية في مسألة الرؤية‬


‫إن كتاب شرح األساس الكبير للشيخ أحمد الشرفي من أشهر كتب الزيدية‪،‬‬
‫وسوف ننقل فيما يلي كالمه في هذه المسألة ونناقش ما فيه‪ ،‬قال في‬
‫(‪:)433/2‬‬

‫"فرع آخر يتفرع على كونه تعالى ال يشبه شيئاً‪ ،‬قالت (العترة جميعا ً وصفوة‬
‫الشيعة) من الزيدية (والمعتزلة) وغيرهم كالخوارج والمرجئة وغيرهم (وللا‬
‫سبحانه ال تدركه األبصار في الدنيا وال في اآلخرة)؛ وذلك (ألن كل‬
‫محسوس) أي ُمد َْرك بأي الحواس الظاهرة إما بالبصر أو بالسمع أو بالشم‬
‫أو بالطعم أو اللمس (جسم أو عرض)‪ ،‬وكل جسم أو عرض (محدث) لما‬
‫مر من األدلة على حدوث األجسام واألعراض واستحالة أزليتها‪ ،‬وكونه‬
‫تعالى ليس بمحدث لما مر من األدلة على كونه تعالى ال أول لوجوده (هو‬
‫األول واآلخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)‪.‬‬

‫وأيضا ً لو ص َّح أن يرى للا تعالى عن ذلك الختص بجهة من الجهات ومكان‬
‫من األمكنة وللا يتعالى عن ذلك‪ ،‬إذ كان سبحانه وال مكان وال جهة وال‬
‫زمان" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫والمطلع على علم الكالم يعرف تماما ً أن كثيراً من آراء الزيدية أخذوها من‬
‫المعتزلة‪ ،‬فسوف نعلم أيضا ً أنهم لن يأتوا بأدلة جديدة زيادة على ما جاء به‬
‫المعتزلة‪ ،‬وهذه الفقرة تدل على ذلك‪ ،‬فهم يجعلون التالزم عقليا ً بين الرؤية‬
‫وبين الحس المستلزم للمماسة والجهة والحد‪ ،‬وقد مضى الكالم على بيان أن‬
‫هذه الشروط ليست شروطا ً عقلية بحيث يتقيد بها فعل للا تعالى أيضاً‪ ،‬بل‬
‫هي عبارة عن شروط عادية يمكن تخلفها كما مضى بيانه‪.‬‬
‫وكالمه صحيح تماما ً عن التالزم بين كون للا جسما ً وكونه حادثاً؛ ألن كل‬
‫جسم حادث‪ ،‬ولكن ليس هذا محل الخالف‪ ،‬بل موضع الخالف في أن الرؤية‬
‫هل يشترط فيها تلك الشروط أم ال‪.‬‬

‫وتنزيه للا تعالى عن الزمان والمكان صحيح مطلقا ً‪.‬‬

‫ثم قال ناقالً عن اإلمام األشعري‪" :‬وروي عن أبي الحسن علي بن أبي بشر‬
‫األشعري أنه قال‪ :‬يدرك بجميع الحواس فيشم ويسمع ويحس‪ ،‬ولم يقل بذلك‬
‫غيره" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وهذا الكالم ليس صحيح النسبة إلى اإلمام األشعري‪ ،‬ألن مراده منه أن للا‬
‫تعالى على مذهب األشعري يجوز أن يلمس ويمس ويحس بالحواس الخمس‪،‬‬
‫وهذا باطل كما ال يخفى على أحد‪ ،‬ولكن اإلمام األشعري قد يصح على‬
‫مذهبه أن يخلق للا تعالى العلم به في أي جزء حي من اإلنسان بال مماسة‬
‫بين للا وبين ذلك الجزء‪ ،‬فإذا سمي ذلك إحساساً‪ ،‬فاإلطالق غلط والمعنى‬
‫صحيح‪ ،‬إذن كما يخلق للا تعالى العلم به في الدماغ فتدركه النفس‪ ،‬فيمكن‬
‫أن يخلقه في العين فتدركه النفس فيسمى رؤية وهكذا‪ ،‬وهذا مبني على عدم‬
‫اشتراط البنية للعلم‪ ،‬وهي مسألة من دقيق الكالم‪.‬‬

‫ثم قال (‪" :)433/2‬وقالت (األشعرية‪ :‬بل يرى في اآلخرة بال كيف) أي ال‬
‫تكييف وال إشارة إلى جهة من الجهات ال فوق وال تحت وال يمين وال شمال‬
‫وال خلف وال قدام‪ ،‬قلنا‪( :‬ال يعقل) قولهم هذا‪ ،‬فبطل ما زعموه" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وقال (الرازي‪ :‬معناه) أي معنى قولهم أنه يرى في اآلخرة بال كيف (معرفة‬
‫ضرورية وعلم نفسي بحيث ال يشك فيه)‪ ،‬أي يعلم علما ً ضرورياً‪ ،‬حينئذ‬
‫قال عليه السالم (فالخالف حينئذ) أي حين فسره الرازي بما ذكر إذا كان‬
‫مرادهم ذلك (لفظي) أي في اللفظ والعبارة‪ ،‬والمعنى واحد‪ ،‬وهو أن للا‬
‫سبحانه ال يدرك بالحواس وال يقاس بالناس‪ ،‬ال تدركه األبصار وهو يدرك‬
‫األبصار وهو اللطيف الخبير" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫ُفرق بين رأي اإلمام األشعري وبين رأي متأخري‬


‫يريد المؤلف هنا أن ي ِّ‬
‫األشعرية‪ ،‬أو بين رأي المتقدمين منهم والمتأخرين‪ ،‬فزعم أن األشعري يقول‬
‫بأن للا يُد ِّْركُ بالحواس كلها على النحو السابق‪ ،‬وزعم هنا أن رأي األشعرية‬
‫غير رأيه‪ ،‬وأن رأيه غير رأيهم‪ ،‬وهذا الزعم باطل كما رأينا‪ ،‬فإن اإلمام‬
‫األشعري ال يقول بالحواس والمماسة هلل تعالى‪ ،‬وكذلك يقول األشاعرة‪ ،‬فكان‬
‫الالئق بالمؤلف أن يورد القول واحداً بال تمايز بين المتقدمين والمتأخرين‬
‫من األشاعرة‪ ،‬وال فرق بين األشعري وبين األشاعرة‪ ،‬ولكن هذا الصنيع‬
‫الذي قام به المؤلف هنا رأينا الشيخ جعفر السبحاني يشير إليه‪ ،‬وكذلك ابن‬
‫تيمية في كتبه يزعمه ويدعيه‪ ،‬وهم جميعا ً يزعمون ذلك بال دليل‪ ،‬وال بينة‬
‫وال برهان‪ ،‬بل هذا محاولة منهم إلظهار األشاعرة منقسمين على أنفسهم ال‬
‫يوجد رأي واحد يجمعهم‪ ،‬وأن متأخريهم يخالفون المتقدمين منهم‪ ،‬وكل هذه‬
‫َّ‬
‫ينخدعن بها القارئ‪.‬‬ ‫المزاعم باطلة لدى أدنى نظر‪ ،‬فال‬

‫وعلى كل حال‪ ،‬فالمؤلف لما نقل كالم اإلمام الرازي بأن حقيقة الرؤية هي‬
‫معرفة ضرورية‪ ،‬وهو حقيقة وتحقيق رأي األشعري واألشاعرة جميعاً‪ ،‬قال‬
‫بأن الخالف حينئذ لفظي مع األشاعرة‪ ،‬والتصريح بأن الخالف لفظي فيه‬
‫ع المؤلف فيه‪.‬‬
‫إنصاف بعد الظلم الذي أظهرنا وقو َ‬

‫ولنبين جهة الخالف بالضبط‪ ،‬فقد سبق أن نقلنا عن القاضي عبد الجبار قوله‬
‫بأن الخالف إنما هو مع األشاعرة‪ ،‬حتى زعم أنه ال خالف بينهم وبين‬
‫المجسمة‪ ،‬ونرى الشرفي ههنا يقول الخالف مع األشاعرة لفظي‪.‬‬
‫وتحقيق المقام أن هناك مسألتين‪:‬‬

‫األولى‪ :‬مفهوم الرؤية وشروطه‪ ،‬والخالف بين األشاعرة وبين غيرهم من‬
‫المعتزلة ومن وافقهم حقيقي معنوي؛ ألن المعتزلة يزعمون استحالة الرؤية‬
‫إال بالحاسة والمقابلة والحد‪ ،‬واألشاعرة يقولون‪ :‬إن الرؤية يمكن أن يوجدها‬
‫للا تعالى مباشرة في النفس أو العين‪ ،‬فتدركها النفس ولو بال توسط شعاع‬
‫وال كون المرئي محدوداً ومقابالً‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬رؤية للا تعالى‪ ،‬فاالتفاق حاصل في هذه المسألة بين األشاعرة‬
‫والمعتزلة ومن وافقهم على أن رؤية للا تعالى إذا حصلت فال يمكن أن تكون‬
‫بحد ومقابلة‪ ،‬ولكن المعتزلة يسمون الحاصل علماً‪ ،‬وإن سمي رؤية‪،‬‬
‫واألشاعرة يقولون هو رؤية‪ ،‬والرؤية يرجع حاصل معناها في النهاية عندهم‬
‫إلى المعرفة الضرورية‪ ،‬فالخالف على هذا لفظي محض‪ ،‬ولكن األشاعرة‬
‫يقولون إن هذا اإلدراك العلمي يسمى رؤية‪ ،‬وهو المقصود عند إطالق‬
‫الرؤية والمعتزلة ينكرون ذلك‪.‬‬

‫فإذا تبين هذا‪ ،‬عرفنا أن كثيراً من المنتمين إلى االعتزال والتشيع يجهلون‬
‫مذاهبهم عندما يظنون الخالف مع األشاعرة في مفهوم الرؤية نفسه أصليا ً‪.‬‬

‫ولنوضح المسألة زيادة توضيح‪ ،‬فلفظ الرؤية إما أن يراد به إدراك غير‬
‫العلم‪ ،‬أو يراد به العلم‪ ،‬وعلى القولين فاألشاعرة ال يشترطون للرؤية الحس‬
‫والحد والمقابلة كما ال يشترطون في العلم ذلك‪ ،‬أما المعتزلة فمنهم َمن أرجع‬
‫الرؤية إلى إدراك زائد‪ ،‬ومنهم من قال الرؤية هي العلم‪ ،‬وهذا هو المشهور‬
‫عنهم‪.‬‬
‫والرؤية عند المعتزلة إذا أطلقت في حق المخلوق فال بد لها من أسباب‬
‫واتصال وحد وغير ذلك‪ ،‬وهم يتناقضون إذا أثبتوها هلل مع نفي هذه األمور‪،‬‬
‫ألن األصل كما يدعون كون هذه األمور شروطا ً عقلية‪.‬‬

‫واإلمام األشعري لم يخالف األشاعرة كما لم يخالفوه هم عندما قالوا إن‬


‫الرؤية تكون بدون هذه الشروط؛ ألنها تفيد الكشف في من حصلت له أو‬
‫ثبتت له‪ ،‬وحتى لو قال من قال بأن الرؤية تحدث لإلنسان بخلق للا تعالى‬
‫في األبصار‪ ،‬ثم يدركها اإلنسان بنفسه فال يتوقف خلق هذه الرؤية على حد‬
‫وال علة جسم وال مقابلة‪ ،‬كما ال يتوقف خلق للا تعالى للعالم على أن يكون‬
‫العالم في جهة منه‪ ،‬وكما ال يتوقف عل ُم للا تعالى للعالم على أن يكون العالَم‬
‫في جهة منه أو يكون هو ج َّل شأنه محدوداً‪.‬‬

‫وكل َمن ألزم األشاعرة بما ال يلزمهم‪ ،‬فإما أن يكون جاهالً بمذهبهم‪ ،‬أو‬
‫مغالطاً‪ ،‬وكالهما ال يلتفت إلى رأيه‪.‬‬

‫ثم نقل المؤلف كالما ً عن بعض األشاعرة يؤيد به ما نقله عنهم من الخالف‬
‫بين المتقدمين والمتأخرين على زعمه‪ ،‬فقال (‪" :)434/2‬قال اإلمام يحيى‬
‫عليه السالم في الشامل‪" :‬واعلم أن التحقيق عندي أن الخالف بيننا وبين‬
‫المحققين من متأخري األشاعرة‪ ،‬في هذه المسألة إنما هو من حيث اللفظ‪،‬‬
‫وأما المعنى فنحن متفقون عليه"‪ ،‬قال‪" :‬وبيانه أن الغزالي ذكر في كتابه‬
‫االقتصاد أن الرؤية عبارة عن تجل مخصوص ال تنكره العقول‪ ،‬وهذا هو‬
‫الذي نريد بالعلم‪ ،‬ونحن ال ننكره وال نأباه"‪ .‬قال‪" :‬وذكر ابن الخطيب في‬
‫كتابه األربعين‪ :‬أن األدلة العقلية في هذه المسألة غير معتمدة أصالً وأنها‬
‫ليست قوية‪ ،‬وذكر في كتابه النهاية بعد تحريره لألدلة العقلية‪ ،‬ثم حكى هو‬
‫عن أصحابه أنهم قد حرروها على وجوه كثيرة وكلها ضعيفة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ويعزب أن يكون الخالف في هذه المسألة لفظيا ً" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬ما ذكره المؤلف في هذه المسألة ع َّمن س َّماهم بالمتأخرين من األشاعرة‬
‫يوافق عليه هو‪ ،‬ويحكم على الخالف بين الزيدية وبين األشاعرة بنا ًء عليه‬
‫سن‪.‬‬
‫بأنه خالف لفظي‪ ،‬وهذا َح َ‬

‫ولكنه يزعم أن المتقدمين يخالفون المتأخرين‪ ،‬وهاك ما قاله في بيان ذلك‬


‫(‪" :)434/2‬قال اإلمام يحيى عليه السالم‪" :‬وأما المتقدمون من األشعرية فقد‬
‫أطلقوا القول بأن للا تعالى يرى باألبصار في اآلخرة‪ ،‬وأنه يراه المؤمنون‬
‫دون غيرهم‪ ،‬قال‪ :‬والدليل على إبطال قولهم أن الرائي بالحاسة ال يرى إال‬
‫ما كان مقابالً أو في حكم المقابل‪ ،‬واحترز بقولنا أو في حكم المقابل عن‬
‫رؤية اإلنسان وجهه في المرآة‪ ،‬فإنه وإن لم يكن مقابالً فهو في حكم المقابل‬
‫وللا تعالى ليس مقابالً وال في حكمه‪ ،‬ويستحيل أن يكون تعالى مرئيا ً" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫إذن فالمؤلف يرجع ويعتمد على إطالق القول بأن للا تعالى يرى باألبصار‪،‬‬
‫وينبني على أن هذه الرؤية ال يمكن أن تحدث باألبصار إال بالمقابلة والحس‬
‫والشعاع وغير ذلك‪ ،‬وهذا غير صحيح‪ ،‬لما قلناه من أن للا تعالى يمكن أن‬
‫يخلق الرؤية في بصر اإلنسان مباشرة بال واسطة هذه الشروط العادية‪ ،‬فال‬
‫يجوز االعتماد على مجرد القول بأن للا يرى باألبصار للقول بأن هذا يلزمه‬
‫الحس والحد وغير ذلك من اللوازم الباطلة‪ ،‬فإن هذا ال يلزم األشاعرة إال‬
‫إذا قالوا‪ :‬هذه شروط عقلية للرؤية‪ ،‬وهم ال يقولون بذلك كما عرفت‪.‬‬

‫فيتضح لك أيها القارئ الكريم‪ ،‬أنه ال فرق في هذه المسألة بين المتقدمين‬
‫والمتأخرين من األشاعرة‪ ،‬وأن الفرق مجرد تهويش أو عدم علم أو غفلة‬
‫من الفرق المخالفة كالشيعة والزيدية وغيرهم‪ ،‬ومجرد الزعم غير المبني‬
‫على دليل وال بينة ال يلتفت إليه وال يعول عليه‪.‬‬

‫حد‬
‫فظهر بهذا أن أدلة األشاعرة أقوى من أدلة غيرهم‪ ،‬وأن مشيهم على ِّ‬
‫الشريعة أقوى وأوثق‪ ،‬وتعمقهم في المعاني وبناء األدلة أقوى وأرسخ من‬
‫سائر الفرق‪.‬‬

‫وأما ما قاله نقالً عن اإلمام الرازي من أن دليل العقل على جواز الرؤية‬
‫يعني داللة الوجود ضعيفة أي غير قطعية‪ ،‬فهذا قد يسلم‪ ،‬وال إشكال في‬
‫التسليم به‪ ،‬ألننا تابعون لألدلة‪ ،‬ولكن العاقل إذا قارن بين داللة الوجود على‬
‫الجواز‪ ،‬وغيرها من الدالالت العقلية‪ ،‬وبين داللة المقابلة على المنع‪ ،‬لحكم‬
‫جزما ً بأن أدلة المثبتين العقلية أقوى بال شك من أدلة النافين العقلية‪ ،‬فإن أدلة‬
‫المحيلين للرؤية مبناها على مجرد مغالطات وقياسات عادية ومصادرات‬
‫كما اتضح‪.‬‬

‫فإذا انضمت ظواهر اآليات القرآنية‪ ،‬وصريح األدلة النبوية على ثبوت‬
‫الرؤية إلى األدلة العقلية‪ ،‬صار الرجحان بال شك في صف المجوزين ال‬
‫النافين‪.‬‬

‫ثم ههنا سؤال‪ :‬إذا ورد ظاهر القرآن بإثبات الرؤية‪ ،‬ودلت صرائح األحاديث‬
‫على الرؤية أيضاً‪ ،‬وحكم المخالف بأن المعنى المراد بالرؤية عند األشاعرة‬
‫هو التجلي‪ ،‬فَ ِّل َم لم يقل الخصوم بالجري على ظاهر النقل فيثبتون الرؤية مع‬
‫بيان معناها الصحيح الجائز في حق للا تعالى‪ ،‬كما فعل السادة األشاعرة ؟!‬

‫فهذا هو خالصة ما ذكره الشرفي في هذا الكتاب‪ ،‬وهو لم يزد في المعلومات‬


‫واالستدالل على ما ذكرناه عن المعتزلة‪.‬‬
‫الرد على اإلباضية‬

‫مناقشة كالم اإلباضية في مسألة الرؤية‬

‫اإلباضية فرقة إسالمية معروفة ‪ ،‬بعضهم نسبها إلى الخوارج وقال إنهم‬
‫طائفة من طوائف الخوارج‪ ،‬وبعضهم نفى ذلك‪ ،‬وقد رأيت لبعض اإلباضية‬
‫كالما ً ينفي فيه كونهم من فِّ َرق الخوارج‪ ،‬وعلى كل حال فهم ليس لهم انتشار‬
‫كبير في البلدان اإلسالمية‪ ،‬بل أكثر تواجدهم في سلطنة عمان‪.‬‬

‫عمان – وزارة التراث‬


‫وسوف نعتمد في نقل آرائهم على كتاب نشرته سلطنة ُ‬
‫القومي والثقافة‪ ،‬وهو كتاب [معالم الدين] تأليف الشيخ عبد العزيز المصعبي‪،‬‬
‫وربما ننقل من غيره ككتاب [مشارق أنوار العقول] بتصحيح الشيخ أحمد‬
‫بن حمد الخليلي‪.‬‬

‫إن اإلباضية كغيرهم من المخالفين يحصرون معنى الرؤية باتصال الشعاع‬


‫وانطباع صورة المرئي في الحدقة‪ ،‬كما قال السالمي (‪" :)362/1‬هذه هي‬
‫حقيقة الرؤية التي كانت العرب تعرفها من عربيتهم وال يطلقونها على العلم‬
‫ونحوه إال تجوزاً لنكتة مع قرينة" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وقد علمنا نحن بشيء من التحليل العقلي ومالحظة ظواهر بل نصوص‬


‫األدلة النقلية‪ ،‬أن الرؤية ليست على النحو الذي يتصوره هؤالء‪ ،‬فقد علمنا‬
‫أن الشروط الحسية من المقابلة والحد والشعاع مجرد شروط عادية‪ ،‬ال يجوز‬
‫اعتبارها جزءاً من ماهية الرؤية‪ ،‬وال علة عقلية‪ ،‬وإال لزم تعجيز للا تعالى‬
‫عن أن يخلق اإلدراك في النفس بال توسط هذه الشروط‪ ،‬وهذا نقص ال يصح‬
‫إثباته هلل تعالى‪.‬‬

‫وقد تبين لي أن هذه الفرق المخالفة ظاهرية أيضاً‪ ،‬فليست الظاهرية منسوبة‬
‫فقط إلى المجسمة‪ ،‬بل إلى كل واحد يتبع منهجهم في فهم النصوص واألدلة‪،‬‬
‫فالظاهرية منهج‪ ،‬وقد كنتُ ذكرتُ هذا في شرحي على االقتصاد في االعتقاد‬
‫لإلمام الغزالي‪ ،‬ووجه ظاهريتهم أنهم يكتفون بمجرد إطالق الرؤية على ما‬
‫يحصل لإلنسان عندما يرى‪ ،‬فيأخذون كل ما يالحظونه حسا ً شرطا ً عقليا ً ال‬
‫انفكاك منه‪ ،‬بل يعتبرونه علة ال تتخلف‪ ،‬وهكذا كان يفعل المجسمة عندما‬
‫اكتفوا بمجرد إطالق بل نسبة اليد والعين والساق إلى للا تعالى‪ ،‬حتى نسبوا‬
‫هلل تعالى األجزاء واألبعاض والتحيز والجهة والمكان‪ ،‬واعتبروا هذه شروطا ً‬
‫عقلية في كل موجود‪ ،‬وهذه الفرق المخالفة في الرؤية ارتكبوا نفس هذا‬
‫األمر‪ ،‬فاكتفوا بمجرد إطالق الرؤية على ما يحصل لإلنسان عند المقابلة‬
‫والشعاع‪ ،‬فجعلوا هذه شروطا ً أو علالً وأسبابا ً عقلية كما رأينا ذلك صريحا ً‬
‫في كالم القاضي عبد الجبار‪ ،‬وهذه ظاهرية محضة كما ال يخفى‪.‬‬

‫بينما نرى السادة األشاعرة لم يكتفوا بمجرد اإلطالق ليبنوا عليه قواعد‬
‫عقلية‪ ،‬بل اعتمدوا على التحليل واالستدالل العقلي‪ ،‬ولما رأوا تخلف هذه‬
‫الشروط في بعض مصاديق الرؤية‪ ،‬قطعوا بأنها ليست شروطا ً وأسبابا ً‬
‫عقلية‪ ،‬فحكموا عليها بأنها عادية‪ ،‬بل اعتمدوا أيضا ً كما قلنا على األدلة‬
‫العقلية القطعية الجازمة بأن للا تعالى خالق كل شيء بال واسطة‪ ،‬وأنه ال‬
‫يوجد تالزم عقلي بين أي موجودين حادثين‪ ،‬بل التالزم عادي بخلق للا‬
‫تعالى بإرادته واختياره‪.‬‬
‫فبعد هذا التوضيح الدقيق‪ ،‬يتبين لنا أن كل ما يقوله المخالفون مجرد تهويالت‬
‫وتشنيعات مبنية على مصادرات ومغالطات‪ ،‬ال يتأثر بها إال ضعيف‪.‬‬

‫قال الشيخ المصعبي في معالم الدين (‪" :)29/2‬وهذا المرصد عندنا – يقصد‬
‫الرؤية – من جملة الممتنعات في حقه تعالى‪ ،‬وذلك أن أصحابنا واألكثرين‬
‫من علماء األمة على امتناعها عقالً ونقالً‪ ،‬وذهب األكثر من األشاعرة إلى‬
‫جوازها عقالً ونقالً" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫سه وأدلته على‬ ‫أما قوله إنها من الممتنعات في حقه تعالى‪ ،‬فسوف ننقض أ ُ ُ‬
‫س َ‬
‫ذلك‪ ،‬وهي ال تزيد على ما أوردناه سابقاً‪ ،‬ولكن نكررها هنا زيادة في التأكيد‬
‫والتوضيح‪.‬‬

‫وأما قوله إن أكثر علماء األمة على أن رؤية للا ممتنعة عقالً ونقالً‪ ،‬فهذا‬
‫كالم غير صحيح‪ ،‬ولعله َّ‬
‫ظن أنه لما كانت المعتزلة والشيعة واإلباضية‬
‫والزيدية ينكرون الرؤية‪ ،‬وكانت األشاعرة والماتريدية يثبتونها فيلزم من‬
‫ذلك أن أكثر علماء األمة ينكرونها !! وليس األمر كذلك‪.‬‬

‫فلو حسبنا عدد الماتريدية واألشاعرة في العالم كله‪ ،‬وقارنا هذا العدد بأعداد‬
‫جميع هذه الفرق‪ ،‬لعرفنا قطعا ً أن جميع هذه الفرق ال يتجاوز ُ‬
‫ع ْش َر عد ِّد‬
‫األشاعرة والماتريدية‪ ،‬ولو حسبنا عدد العلماء من الماتريدية واألشاعرة‪،‬‬
‫وقارناه بأعداد العلماء من كل هذه الفرق مجتمعة‪ ،‬لفاقهم أضعافا ً مضاعفة‪،‬‬
‫وهذا ال يستطيع أحد إنكاره‪.‬‬

‫فال يصح عند ذلك أن يقول إن جمهور علماء األمة على إنكار الرؤية عقالً‬
‫ونقالً‪ ،‬بل هذه مجرد مغالطة كما هو واضح‪ ،‬وكم يقترب هذا األسلوب مع‬
‫أسلوب المجسمة عندما يدعون أن جمهور علماء األمة على إثبات الجهة‬
‫والعلو‪ ،‬والحال أن الواقع هو عكس كالمهم المغلطي‪.‬‬

‫وبقي تدقيق آخر في كالمه‪ ،‬وذلك بأنه قال إن األكثر من األشاعرة على‬
‫جوازها عقالً ونقالً‪ ،‬فهذا القول بهذه الصيغة قد يفهم منه أن بعض األشاعرة‬
‫لم يقولوا بجوازها عقالً ونقالً‪ ،‬بل قالوا بامتناعها عقالً ونقالً‪ ،‬وهذا باطل‪.‬‬

‫والصحيح هو كما يلي‪ :‬إن جميع األشاعرة قالوا بجوازها نقالً‪ ،‬ولم يخالف‬
‫في هذا أحد نعرفه‪.‬‬

‫وأما عقالً‪ ،‬فالتجويز الشرعي دليل عند جميع األشاعرة على الجواز العقلي‬
‫بال شك وال ريب‪ ،‬فال يتصور ممن قال بالجواز شرعا ً أن يقول باالمتناع‬
‫عقالً‪ ،‬ولكن الذي حصل هو االختالف على بعض األدلة العقلية وهو دليل‬
‫الوجود‪ ،‬هل هو قاطع بتجويز الرؤية أم ال‪ ،‬هذا الذي قال بعضهم بأنه قاطع‬
‫وبعضهم نفى ذلك‪ ،‬وجمهور المحققين على عدم قطعيته‪ ،‬ولكن من جهة‬
‫سلَّم للخصوم دليل‪،‬‬
‫أخرى‪ ،‬فكلهم يقولون إنه ال يوجد دليل يمنع الرؤية‪ ،‬وال يُ َ‬
‫بل كل دليل فيرد عليه منع أو نقض‪ ،‬وكذلك يقال‪ :‬العقل إذا ُخ ِّل َ‬
‫ي ونفسه لم‬
‫يحكم بامتناع الرؤية ألول النظر‪ ،‬بل يتوقف منعه لها على دليل‪ ،‬فهو حاكم‬
‫بالجواز بالمعنى األعم‪ ،‬ومع انضمام األدلة النقلية يترجح الجواز وجوباً‪،‬‬
‫وهذا مسلك صحيح وسديد‪.‬‬

‫إذن ها هي أول عبارة مما قاله المصعبي فيها خلل ظاهر‪ ،‬وقد صرح‬
‫السالمي في المشارق بما لوح إليه المصعبي ههنا‪ ،‬فقال في (‪:)363/2‬‬
‫"وعلى هذا جمهور األشاعرة" أ‪.‬هـ‪.‬‬
‫وذلك لما ذكر الرؤية بالبصر وأشار إلى قول اللقاني في الجوهرة‪ ،‬وهو يريد‬
‫بذلك أن يوهم أن األشاعرة يقولون بالرؤية المعتادة بالبصر‪ ،‬وهو غلط‬
‫عليهم‪.‬‬

‫ثم ذكر المصعبي الحكم فيمن أثبت الرؤية‪ ،‬فقال (‪" :)29/2‬وقال أصحابنا‪:‬‬
‫َمن قال إنه يُرى في الدنيا فقد أشرك‪ ،‬و َمن قال إنه يُرى في اآلخرة فقد نافق"‬
‫أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫إذن هذا هو حكم من أثبت الرؤية في الدنيا وفي اآلخرة‪ ،‬فهو مشرك على‬
‫األول ومنافق على الثاني‪ ،‬وقد كنا رأينا المعتزلة أسهل من هؤالء في الحكم‬
‫نص السالمي أيضا ً على هذا الحكم في المشارق‪،‬‬
‫على مثبتي الرؤية‪ ،‬وقد َّ‬
‫فقال (‪:)392/2‬‬

‫"‬

‫و َم ْن يَد ِّْن بها يكفر النعم‬

‫بجسم‬
‫ِّ‬ ‫فاحكم له والشرك إن‬

‫(قوله‪ :‬ومن يدن بها ‪..‬إلخ) أي و َم ْن يعتقدها دينا ً فهذا حكمه‪ ،‬وكذلك أيضا ً‬
‫َط مخالفه فيها‪ ،‬فإنها ليست‬
‫َمن يعتقد بثبوتها على سبيل االجتهاد حيث لم يُخ ِّ‬
‫من المسائل االجتهادية‪ ،‬وإنما قيد المصنف هذا الحكم بالدائن بها؛ ألنه ال‬
‫يوجد قائل بها إال وهو يخطئ من خالفه فيها" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وكفر النعم هو النفاق الظاهري‪.‬‬


‫وهكذا نرى تشدد المخالفين وتعصبهم في األحكام‪ ،‬فالمخالف منافق‪،‬‬
‫والحديث الوارد من اإلسرائيليات وهكذا‪ ،‬وهم يحكمون بهذه األحكام على‬
‫جمهور األمة‪ ،‬فشابهوا المجسمة الوهابية والسلفية (أي المنتسبين إلى السلف‬
‫وهم منهم براء) في هذا المسلك أيضاً‪ ،‬ولذلك نرى بعض المعاصرين ممن‬
‫مال بالقول إلى هؤالء يحكم على األشاعرة بالنفاق ويخص بهذا الوصف‬
‫اإلمام األشعري !! ثم تراهم بعد ذلك يتجرأون ويقولون إننا نريد التقريب‬
‫بين المذاهب اإلسالمية‪ ،‬وال يحكم هؤالء بأي حكم مثل هذه األحكام على من‬
‫كفَّر كثيراً من الصحابة واتهمهم بخيانة النبي عليه الصالة والسالم وتغيير‬
‫اإلسالم وغير ذلك‪ ،‬بل تراه يتلطف معهم ويحرض عليهم من الزعل‬
‫والغضب وسبحان مقلب األحوال واآلراء‪.‬‬

‫ومما يدل على أن هؤالء اإلباضية ينسبون الرؤية الحسية إلى جمهور‬
‫األشاعرة ما قاله المصعبي بعد ذلك (‪" :)29/2‬واستدل كل على ما ادعاه‬
‫بالعقل والنقل‪ ،‬وسيتضح لك إن شاء للا ضعف مدعاهم من الجواز بالعقل‬
‫والنقل‪ ،‬ومن ثم وافق بعض المحققين منهم الجمهور في االمتناع كالفخر‬
‫والغزالي وغيرهما‪ ،‬وهؤالء من أعاظم أئمتهم" أ‪.‬هـ‪ ،‬ثم قال‪" :‬وقال‬
‫األكثرون منهم‪ :‬يرى بعين الرأس" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫فهو ينسب إلى جمهور األشاعرة أنهم يقولون بالرؤية الحسية هلل تعالى‪ ،‬وهذا‬
‫كذب عليهم‪ ،‬فقد تبين لنا أنه خالف بين المتقدمين والمتأخرين من األشاعرة‪،‬‬
‫وقد وضحنا ذلك أكثر من مرة‪ ،‬والحظ أيها القارئ الكريم أن هذا أسلوب‬
‫آخر يتبعه اإلباضية وغيرهم‪ ،‬ويشاركون فيه المجسمة في هجومهم على‬
‫األشاعرة‪ ،‬فكأن هؤالء ال يستطيعون الرد على األشاعرة إال بنحو هذه‬
‫األساليب الملتوية التي ال تقوم على دليل وال مستند‪.‬‬

‫وهذه األساليب الباطلة التي يتبعها هؤالء تدل طالب الحق على صواب رأي‬
‫األشاعرة؛ ألنهم في الحقيقة في غاية اإلنصاف لخصومهم ال يغالطونهم وال‬
‫يلصقون بهم ما ال يقولون به‪ ،‬وذلك ألن نصرة الحق ال تتوقف على االستعانة‬
‫بالباطل‪ ،‬ولكن نصرة الباطل ال تتم إال بالباطل‪ ،‬وسوف ترى مصداقَ هذا‬
‫كله بعينيك وتعلمه بعقلك ونفسك‪.‬‬

‫وهؤالء المخالفون لألشاعرة يتوهمون أوهاما ً ثم يبنون عليها‪ ،‬فهم توهموا‬


‫أوالً أن الرؤية التي يقول بها جمهور األشاعرة هي الرؤية الحسية المقتضية‬
‫للحد والجهة‪ ،‬ثم توهموا بعد ذلك أن اإلمام الرازي والغزالي يخالفون جمهور‬
‫األشاعرة عندما وضَّحوا حقيقة الرؤية التي يثبتها هؤالء‪ ،‬وغيرهم من‬
‫األشاعرة‪.‬‬
‫وليت شعري‪ ،‬هل هذا المؤلف للكتاب لم ي َّ‬
‫طلع على كتاب الغزالي واإلمام‬
‫الرازي؟ أم أنه نقل عن غيره ممن توهموا أنهم يخالفون المتقدمين من‬
‫األشاعرة !!‬

‫صرح بهذا الزعم‪ ،‬ألم‬


‫وإذا كان اطلع على كتبهما‪ ،‬ألم يقرأ هو وغيره ممن َّ‬
‫يقرأ قول الغزالي مثالً في [االقتصاد] بعدما وضح معنى الرؤية الذي يزعم‬
‫هذا الشيخ المؤلف اإلباضي أنه يخالف فيه جماهير األشاعرة‪ ،‬قال اإلمام‬
‫الغزالي ص‪ 66‬في مبحث الرؤية‪" :‬فإذا فهم المراد بما أطلقه أهل الحق من‬
‫الرؤية علم أن العقل ال يحيله‪ ،‬بل يوجبه‪ ،‬وأن الشرع قد شهد له فال يبقى‬
‫للمنازعة وجه إال على سبيل العناد أو المشاحة في إطالق عبارة الرؤية أو‬
‫القصور عن درك هذه المعاني الدقيقة التي ذكرناها" أ‪.‬هـ‪ ،‬فقد نسب اإلمام‬
‫الغزالي إذن المعنى الذي وضحه للرؤية إلى أهل الحق جميعاً‪ ،‬ولم يقل هذا‬
‫عبارة عن رأيه الخاص الذي تفرد به وتميز به عن غيره‪ ،‬ال‪ ،‬وال قال إن‬
‫هذا خالف رأي األشعري وال خالف رأي َمن تقدمه من األشاعرة‪ ،‬فهل كان‬
‫الشيخ السبحاني والسالمي والشيخ المصعبي وغيرهم ممن ادعى هذا األمر‬
‫أعلم بالغزالي من األشاعرة أنفسهم؟ أم كانوا أعلم بالغزالي من نفسه؟ أم‬
‫أعلم برأي األشعري من الغزالي نفسه؟ ال وللا ليسوا بشيء من ذلك‪ ،‬بل‬
‫غايتهم صدق الوصف الذي وصفهم به اإلمام الغزالي نفسه‪ ،‬كما ذكرناه‬
‫عنه‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬وإن كان المصعبي صاحب معالم الدين‪ ،‬قد وقع في الغلط الذي‬
‫ذكرناه‪ ،‬إال أنه أصاب من جهة ثانية عندما قال في (‪ )30/2‬بعد ما نقل رأي‬
‫الغزالي في الرؤية‪" :‬وفي جميع ما ذكره كما ترى نفي للرؤية المعتادة بل‬
‫استحالتها‪ ،‬وتصريح بأن ذلك ازدياد علم ال إحساس بالعين‪ ،‬وما ذكر كما‬
‫قال الشماخي ال ينكره نافي الرؤية إال أنه يسميه رؤية‪ ،‬بل علما ً يقينياً‪،‬‬
‫والخالف كما قال لفظي" أ‪.‬هـ‪ .‬وهذا كالم عجيب في الحقيقة‪ ،‬فهو يقول بأن‬
‫كالم الغزالي نفي للرؤية المعتادة يقصد الحسية المستلزمة للصورة والحد‬
‫ينف ذلك من‬
‫ِّ‬ ‫والجهة‪ ،‬فنقول له‪ :‬و َمن ‪ -‬أيها الشيخ اإلمام المحقق! – لم‬
‫األشاعرة‪ ،‬وهل تحسب أن الغزالي والرازي هما فقط من نفاها‪ ،‬إن هذا الظن‬
‫إن كان فيك فهذا قدح وللاِّ في اطالعك على آراء المخالفين‪ ،‬بل هو يقدح‬
‫في إنصافك؛ ألن من اإلنصاف االطالع على ما هو مشهور على األقل‪ ،‬نعم‬
‫لو كانت كتب الغزالي والرازي وغيرهما من األشاعرة خفية نادرة‪،‬‬
‫عذر‪.‬‬
‫َ‬ ‫لعذرناك‪ ،‬ولكنها كثيرة عديدة منتشرة‪ ،‬فال‬
‫وأما ما نقله عن البدر الشماخي‪ ،‬فهو حسن على وجه اإلجمال‪ ،‬ولكن هناك‬
‫ضه كالم الشماخي‪ ،‬ولم يَ ْقنَع بما قنع به الشماخي وهو‬
‫من اإلباضية َم ْن لم ي ُْر ِّ‬
‫من كبارهم‪ ،‬وذلك مثل السالمي صاحب مشارق أنوار العقول‪ ،‬فقد قال‬
‫(‪" :)363/2‬ثم إنا ال نقنع من الفخر الرازي والغزالي بما قااله في تأويل‬
‫الرؤية بالعلم؛ ألن حقيقة ذاته ال تُعلم‪ ،‬وإنما تعلم صفاته فقط‪ ،‬وذلك أنه ال بد‬
‫للشيء المعلوم من أن تتصور في ذهن العالم به‪ ،‬وحقيقة ذاته تعالى ال‬
‫تتصور" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫هذا أول كالم السالمي في هذا المحل‪ ،‬وسوف نورد بقيته تباعا ً بعد ِّ‬
‫الرد على‬
‫هذا القسم‪ ،‬فنقول‪ :‬عدم قناعتك بما قاله الرازي والغزالي ووافقا فيه سائر‬
‫األشاعرة ال يضيرنا وال يؤثر في األمور فيجعلنا نتشكك في صحة ما قااله‬
‫وال في صحة كالم األشعري نفسه في هذه المسألة‪.‬‬

‫عدم قناعته بقوله‪" :‬ألن حقيقة ذاته تعالى ال تعلم‪ ،‬وإنما تعلم‬
‫َ‬ ‫وأما تعليله‬
‫صفاته فقط" أ‪.‬هـ‪ ،‬فهو دليل على ضعفه وتسرعه في الحكم‪ ،‬فهو ينسب إلى‬
‫الغزالي والرازي أنهما يقوالن بأن الرؤية كاشفة عن حقيقة الذات‪ ،‬والحقيقة‬
‫أن كالً من الغزالي والرازي كالمهما صريح بأن حقيقة الذات اإللهية ال‬
‫وصرحا‬
‫َّ‬ ‫يمكننا العلم بها‪ ،‬وأننا ال نعلم سوى أحكام عنها وعن الصفات‪،‬‬
‫أيضا ً بأن الرؤية ال تستلزم الكشف عن الحقيقة‪ ،‬بل كل ما يلزمها إنما هو‬
‫زيادة علم عما كنا نعلمه بالنظر والعقل والنقل‪ ،‬وهذا غير محال في نفسه‬
‫وال بالنسبة لنا‪ ،‬بل الحكم بإمكانه العقلي واضح ال يحتمل النزاع أصالً‪.‬‬

‫وقوله‪" :‬حقيقة الذات ال تعلم"‪ ،‬إن أراد ال تعلم مطلقاً‪ ،‬فهو كالم باطل قطعاً‪،‬‬
‫ألن للا تعالى عالم بحقيقة ذاته‪ ،‬وإن أراد نحن ال نعلمها‪ ،‬فهذا ال يخالفه فيه‬
‫الرازي والغزالي كما قلنا‪ ،‬ولذلك فال يصح أن يُظ ِّهر هذا األمر على أنهما‬
‫يخالفانه فيه‪.‬‬

‫وأما قوله‪" :‬وإنما تعلم صفاته فقط"‪ ،‬إن أراد إننا نعلم حقيقة صفاته‪ ،‬فهو‬
‫كالم باطل قطعاً‪ ،‬ألننا كما ال نعلم ذات للا تعالى في حقيقتها‪ ،‬فكذلك ال نعلم‬
‫صفات للا تعالى في حقيقتها‪ ،‬وإنما الذي نعلمه مجرد أحكام ثابتة للذات‬
‫وللصفات‪.‬‬

‫وأما قوله‪( :‬وذلك أنه ‪..‬إلخ)‪ ،‬فدليل على ضعفه وعدم دقته‪ ،‬وها هنا وقع في‬
‫خلط بين قول المناطقة العلم الصورة الحاصلة في النفس أو العقل‪ ،‬وبين‬
‫كون المعلوم له صورة أي شكل معين ذو هيئة وأوضاع ونسب بين أجزائه‪،‬‬
‫فيوجد فرق كبير بين هذا وذاك‪ ،‬ولكن هذا الشيخ خلط بين األمرين‪ ،‬فاعتقد‬
‫المدرك له صورة‪ ،‬ويوجد فرق‬
‫َ‬ ‫أن حصول الصورة اإلدراكية يستلزم كون‬
‫بين األمرين‪.‬‬

‫فالصورة اإلدراكية هي عبارة عن اإلدراك الحاصل في العقل أو النفس‪ ،‬من‬


‫حيث النظر إلى ذاته‪ ،‬وهذه الصورة اإلدراكية من حيث هي موجودة‬
‫وحاصلة في العقل‪ ،‬تكشف عن المعلوم أو ينكشف بها المعلوم على ما هو‬
‫عليه‪ ،‬سوا ًء كان له صورة أم لم يكن‪ ،‬فال يشترط لإلدراك من حصول‬
‫للمدرك في نفسه‪.‬‬
‫َ‬ ‫صورة‬

‫فعندما نقول‪ :‬نحن علمنا أن اجتماع النقيضين باطل‪ ،‬تكون صورة إدراكية‬
‫قد حصلت في عقلنا‪ ،‬ولكن هذه الصورة تكشف عن شيء ال صورة له في‬
‫نفسه‪ ،‬بل المنكشف بها مجرد حكم ونسبة ال تتصف بالصورة والكيفية التي‬
‫هي الهيئة ذات الوضع أصالً‪.‬‬
‫وقد جهل بعض المتسلقة إلى هذه العلوم الشريفة هذا الفرق الدقيق‪،‬‬
‫فاعترضوا علينا بنفس االعتراض عندما قلنا‪ :‬الرؤية هي عبارة عن الصورة‬
‫اإلدراكية الحاصلة في النفس‪ ،‬فقالوا‪ :‬يلزمك إذن كون للا له صورة إذا قلت‬
‫برؤيته!! وهذا إلزام دال على جهل كبيركما ال يخفى على العالم‪ ،‬فال يلتفت‬
‫أصر على‬
‫َّ‬ ‫إليه وال يشتغل بالجواب عنه إال ببيان الفرق بينهما كما قلنا‪ ،‬فإن‬
‫زعمه فهو معاند حاقد ال يريد البحث والنظر‪ ،‬بل يريد مجرد المهاترات‬
‫والمشاغبات‪ ،‬و َمن كان كذلك فال نشتغل نحن بالكالم معه‪ ،‬ألن هذا ينزل من‬
‫مقام العلماء‪.‬‬

‫ثم قال السالمي (‪" :)363/2‬فإن قيل‪ :‬إن بعض األصحاب قد فسَّر الرؤية في‬
‫الحديث بالعلم‪ ،‬وقد قنع البدر الشماخي من الفخر والغزالي بما قااله‪ ،‬حيث‬
‫قال‪ :‬والخالف حينئذ لفظي‪ .‬قلنا‪ :‬أراد ذلك البعض بالعلم باهلل زيادة العلم‬
‫بصفاته‪ ،‬حيث انكشف لهم من أمور اآلخرة ما يعدهم بها‪ ،‬وكما قيل‪ :‬ليس‬
‫الخبر كالمعاينة‪ ،‬وعلى هذا المعنى حمل البدر كالم الفخر والغزالي ُحسْنَ‬
‫ظن بهم‪ ،‬لكن إشارتهم دالَّة على إرادة العلم بحقيقة ذاته ال بصفاته فقط" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫فأول ما نقوله في الرد على كالمه هذا‪ :‬أَ ْربِّع على نفسك بعض الشيء أيها‬
‫الشيخ السالمي!!‬
‫ع ْ‬
‫ط َوة أو حالً إلشكال بين متقاتلين حتى تقنع أو ال تقنع‬ ‫فليست المسألةُ مسألةَ َ‬
‫أنت أو غيرك‪ ،‬بل المسألةُ أساسا ً مسألةُ علم ونظر وبحث‪.‬‬

‫وليعلم السالمي أن عدم قناعته بكالم الغزالي والرازي قَدْح في الشماخي ألنه‬
‫قنع!! منهما بذلك‪ ،‬ولكن مسألة القناعة أصالً بهذا المعنى ليست مطروحة‬
‫هنا‪ ،‬بل المسألة مسألة قواعد علمية وكالم مستقيم سوي‪.‬‬
‫وبعد ذلك‪ ،‬نقول‪:‬‬

‫َح َم َل السالمي قول بعض أصحابه من اإلباضية عندما قالوا‪ :‬المقصود‬


‫بالرؤية في الحديث الوارد إنما هو العلم‪ ،‬وفهم من هذا العلم فقط أي زيادة‬
‫استدالالت وزيادة طمأنينة للقلب‪ ،‬فإن كان هذا هو المعنى الذي يريدونه‪،‬‬
‫فنحن نخالفهم فيه‪ ،‬بل الرازي والغزالي يخالفانهم فيه أيضاً‪ ،‬ولعله يحمل‬
‫الرؤية على هذا المعنى فقط؛ ألنه يعتقد أنه يعلم جميع صفات للا تعالى‪،‬‬
‫ويتعقل كماالته كلها؟! ولكنه إذا كان يعتقد ذلك‪ ،‬فهو اعتقاد باطل‪ ،‬وهذا عين‬
‫القول بأن العلم بالحقيقة حاصل‪ ،‬ولكنه نفى ذلك كما رأينا‪ ،‬إذن يتبين لنا أن‬
‫كالمه فيه تناقض من بعض الجهات‪.‬‬

‫والحق كما يلي‪ :‬أننا ال نعرف عن للا تعالى إال بعض األحكام‪ ،‬ولكن نقول‬
‫أيضا ً إن كماالت للا تعالى ال يحيط بها أحد‪ ،‬ولذلك فال يستحيل عقالً أن‬
‫يعلمنا للا علما ً ضروريا ً ما غاب عنا‪ ،‬وهذا هو خالصة معنى الرؤية‪،‬‬
‫وسوف نورد لك كالم الغزالي رحمه للا تعالى يبين هذا المعنى ويناقض‬
‫كالم السالمي اإلباضي الذي يدعي أنه يفهم حقيقة كالم الغزالي‪ ،‬وسوف‬
‫يتبين لك أن الغزالي مع هذا ال يقول مطلقا ً بأننا بالرؤية نعلم حقيقة الذات‬
‫كما زعم السالمي‪ ،‬فلم يقنعه!! ما قاله الغزالي والرازي‪.‬‬

‫قال اإلمام الغزالي رحمه للا تعالى في كتاب االقتصاد ص‪ ..." :64‬فلنبحث‬
‫عن الحقيقة (أي حقيقة الرؤية) ما هي‪ ،‬وال حقيقة لها إال أنها نوع إدراك هو‬
‫كمال ومزيد كشف باإلضافة إلى التخيل‪ ،‬فإنا نرى الصديق مثالً ثم نغمض‬
‫العين‪ ،‬فتكون صورة الصديق حاضرة في دماغنا على سبيل التخيل‬
‫والتصور‪ ،‬ولكنا لو فتحنا البصر أدركنا تفرقته‪ ،‬وال ترجع تلك التفرقة إلى‬
‫إدراك صورة أخرى مخالفة لما كانت في الخيال‪ ،‬بل الصورة المبصرة‬
‫مطابقة للمتخيلة من غير فرق‪ ،‬وليس بينهما افتراق‪ ،‬إال أن هذه الحالة الثانية‬
‫كاالستكمال لحالة التخيل‪ ،‬وكالكشف لها‪ ،‬فتحدث فيها صورة الصديق عند‬
‫فتح البصر حدوثا ً أوضح وأتم وأكمل من الصورة الجارية في الخيال‪،‬‬
‫والحادثة في البصر بعينها‪ ،‬تطابق الصورة الحادثة في الخيال‪.‬‬

‫فإذن التخيل نوع إدراك على رتبة‪ ،‬ووراءه رتبة أخرى هي أتم منه في‬
‫الوضوح والكشف‪ ،‬بل هي كالتكميل له‪ ،‬فنُ َ‬
‫س ِّمي هذا االستكمال باإلضافة إلى‬
‫الخيال رؤية وإبصاراً‪.‬‬

‫وكذا من األشياء ما نعلمه وال نتخيله‪ ،‬وهو ذات للا سبحانه وتعالى وصفاته‪،‬‬
‫وكل ما ال صورة له‪ ،‬أي ال لون له وال قدر‪ ،‬مثل القدرة والعلم والعشق‬
‫واإلبصار والخيال‪ ،‬فإن هذه أمور ال نعلمها وال نتخيلها‪ ،‬والعلم بها نوع‬
‫إدراك‪ ،‬فلننظر‪ :‬هل يحيل العقل أن يكون لهذا اإلدراك مزيد استكمال نسبته‬
‫إليه نسبة اإلبصار إلى التخيل؟‬

‫فإن كان ذلك ممكنا ً س َّمينا ذلك الكشف واالستكمال باإلضافة إلى العلم رؤية‬
‫كما س َّميناه باإلضافة إلى التخيل رؤية ‪..‬‬

‫ومعلوم أن تقدير هذا االستكمال في االستيضاح واالستكشاف غير محال في‬


‫الموجودات المعلومة التي ليست متخيلة كالعلم والقدرة وغيرهما‪ ،‬وكذا في‬
‫ذات للا سبحانه وصفاته‪ ،‬بل نكاد ندرك ضرورة من الطبع أنه يتقاضى‬
‫طلب مزيد استيضاح في ذات للا وصفاته وفي ذوات هذه المعاني المعلومة‬
‫كلها‪.‬‬
‫فنحن نقول‪ :‬إن ذلك غير محال‪ ،‬فإنه ال محيل له‪ ،‬بل العقل دليل على إمكانه‪،‬‬
‫بل على استدعاء الطبع له‪ ،‬إال أن هذا الكمال في الكشف غير مبذول في هذا‬
‫العالم‪ ،‬والنفس في شغل البدن وكدورة صفاته‪ ،‬فهو بسببه محجوب عنه‪.‬‬

‫وكما ال يبعد أن يكون الجفن أو الستر أو سواد ما في العين سببا ً بحكم اطراد‬
‫العادة المتناع اإلبصار للمتخيالت‪ ،‬فال يبعد أن تكون كدورة النفس وتراكم‬
‫حجب األشغال بحكم اطراد العادة مانعا ً من إبصار المعلومات‪.‬‬

‫فإذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور‪ ،‬وزكيت القلوب بالشراب‬


‫الطهور‪ ،‬وصفيت بأنواع التصفية والتنقية‪ ،‬لم يمتنع أن تستعد بسببها لمزيد‬
‫استكمال واستيضاح في ذات للا سبحانه أو في سائر المعلومات‪ ،‬يكون‬
‫ارتفاع درجته عن العلم المعهود كارتفاع درجة اإلبصار عن التخيل‪ ،‬فيعبر‬
‫عن ذلك بلقاء للا تعالى ومشاهدته أو رؤيته أو إبصاره أو ما شئت من‬
‫العبارات‪ ،‬فال مشاحة فيها بعد إيضاح المعاني‪.‬‬

‫وإذا كان ذلك ممكناً‪ ،‬بأن خلقت هذه الحالة في العين كان اسم الرؤية بحكم‬
‫وضع اللغة عليه أصدق وخلقه في العين غير مستحيل‪ ،‬كما أن خلقها في‬
‫القلب غير مستحيل‪ ،‬فإذا فهم المراد بما أطلقه أهل الحق من الرؤية علم أن‬
‫ش ِّهد له‪ ،‬فال يبقى للمنازعة وجه إال‬
‫العقل ال يحيله بل يوجبه‪ ،‬وأن الشرع قد َ‬
‫على سبيل العناد أو المشاحة في إطالق عبارة الرؤية أو القصور عد درك‬
‫هذه المعاني الدقيقة التي ذكرناها" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫ها هو كالم اإلمام الغزالي نقلناه لنبين للقارئ أن هذا السالمي اإلباضي لم‬
‫يتمع ْن كفاية في مدلوالت معاني كالم حجة اإلسالم‪ ،‬وقد تبين بوضوح أن‬
‫اإلمام الغزالي ال يزعم أن الرؤية تكشف عن حقيقة الذات اإللهية‪ ،‬بل يصرح‬
‫بخالف ذلك‪ ،‬وكل ما يقوله أن للا تعالى يمكن أن يخلق فينا زيادة علم تتجلى‬
‫به لنا بعض كماالته‪ ،‬كما يتجلى لنا الشيء زيادة تجل حين نراه بعد العلم‬
‫به‪ ،‬وهذه المسألة بهذا القدر قريبة من البداهة‪ ،‬ومنكرها معاند كما قال‪ ،‬وذلك‬
‫كله من دون إثبات صورة هلل تعالى وال تخيل له وال حد وال مقابلة وال جهة‬
‫‪..‬إلخ‪.‬‬

‫وأنا ال يخطر في بالي مطلقا ً أن كالم الغزالي يحتاج إلى شرح‪ ،‬فأستغرب‬
‫جداً عندما أرى بعض المشايخ المقَدَّمين في فرقهم وعند أتباعهم يغلطون في‬
‫إدراكه وفهمه‪.‬‬

‫وبعد ذلك نقول‪ :‬ال داعي ألن يتكلف السالمي ألن يضغط على نفسه ويحسن‬
‫الظن بالغزالي والرازي‪ ،‬وكأن كالمهما في ذاته باطل ومتناقض‪ ،‬ولكنه‬
‫إحسانا ً للظن بهم يقول ما يقول‪ ،‬أو أنه يعتقد أن ما قاله البدر الشماخي مبني‬
‫على إحسان الظن فقط‪ ،‬وليس مبنيا ً على معاني كالم الرازي والغزالي‬
‫نفسيهما‪ ،‬وهذا الظن من السالمي قادح في حكم الشماخي واتهام له بأن كالمه‬
‫غير مبني على قواعد علمية‪ ،‬بل على مجرد إحسان الظن‪ ،‬وال مدخلية‬
‫إلحسان الظن في هذه المسائل العلمية األصلية‪ ،‬والحق أن في كالم السالمي‬
‫إشارات كثيرة تزعج طالب الحق يذكرها تلويحاً‪ ،‬ويا ليته كان فيها من‬
‫المصيبين ! فنقر له ونحترم رأيه‪ ،‬بل هو في جميعها غير مصيب‪ ،‬وللا‬
‫الموفق‪.‬‬

‫مناقشة استدالالت اإلباضية على إحالة الرؤية عقالً‬


‫إن ما يتعلق به اإلباضية في هذا المطلب ال يزيد على ما تعلق به المعتزلة‬
‫وغيرهم‪ ،‬ولذلك فإننا سوف ننبه على بعض مواضع من كالمه‪ ،‬حتى ال‬
‫يتكرر الكالم كثيراً‪.‬‬

‫والمؤلف على سبيل العموم يتبع المعتزلة في استدالالته‪ ،‬وهو متوافق مع‬
‫الشيعة في تفسير كالم األشعري وغيرهم ممن يسمونهم قدماء األشاعرة أو‬
‫المتقدمين‪ ،‬وال أدري من أين جاؤوا بالقول بأن اإلمام األشعري قائل بالرؤية‬
‫الحسية المتضمنة لالتصال والمستلزمة للحد والجهة وغير ذلك‪ ،‬والحال أن‬
‫نسبة هذا القول إلى اإلمام األشعري وهو ينكره وينفيه يبعث على الدهشة‬
‫واالستغراب من هؤالء‪.‬‬

‫وهو في كل كالمه يبني معانيه واستدالله على أن الرؤية معناها (‪:)43/2‬‬


‫"انطباع مثل صورة المدرك في العين وانبعاث األشعة منها‪ ،‬فتفعل بالمرئي‬
‫وعلى كل منهما يستلزم الجهة والمقابلة‪ ،‬ويشترط لها مع ذلك عدم القرب‬
‫والبعد المفرطين‪ ،‬وال تتصل تلك األشعة إال باألجرام التي لها جهة ومقابلة‬
‫على ما مر غير مرة‪ ،‬وللا سبحانه منزه عن ذلك" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫هذا هو المعنى الذي يحاول المؤلف نفيه عن للا تعالى‪ ،‬ونحن قد علمنا أنه‬
‫ال يقول بهذا المعنى أحد إال المجسمة‪ ،‬أما األشاعرة فهم ينفونه صراحة‪ ،‬وال‬
‫يشترطون للرؤية هذه الشروط‪ ،‬وال يقولون يجب إذا كانت رؤية أن تنطبع‬
‫صورة للمرئي‪ ،‬فقد يكون المرئي ليس ذا صورة أصالً‪ ،‬فال ينطبع في العين‪،‬‬
‫أو ال يحصل في العين إال صورة إدراكية‪ ،‬تكشف عن المرئي إذا كانت ذا‬
‫صورة‪ ،‬تكشف عن صورته‪ ،‬وإال فهي تكشف عن حقيقته أو بعض صفاته‪.‬‬
‫وهذا المعنى ال يستلزم التجسيم وال يتضمنه كما هو واضح‪.‬‬
‫وأما رؤية األعراض واألصوات فإذا كانت موجودة‪ ،‬فقد قلنا إننا ال ندفع‬
‫رؤيتها وال نحيلها‪ ،‬بل نقول بإمكانها‪ ،‬غاية األمر أنها ليست حاصلة لنا إال‬
‫بحدود معينة‪ ،‬وال يستحيل على قدرة للا أن يخلق فينا قدرة على رؤية جميع‬
‫األعراض واألشعة والذبذبات االهتزازية‪ ،‬والقائل باستحالة ذلك عليه اإلتيان‬
‫بالدليل‪.‬‬

‫ونحن نتعجب من هذا الشيخ المصعبي عندما قال (‪ )45/2‬وصفا ً لكالم‬


‫األشاعرة‪" :‬وقالوا ولو سلم ذلك كله‪ ،‬فرؤية للا تعالى عن ذلك تكون بدون‬
‫اتصال‪ ،‬وبال ارتسام وال مقابلة وال جهة وال كيف‪ ،‬قلنا‪ :‬هذا وهلل الحمد‬
‫اعتراف بامتناع الرؤية المعهودة‪ ،‬التي هي محل النزاع ورجوع عن القول‬
‫بها إلى العلم الذي هو محل االتفاق‪ ،‬ونفي لها كما صار إليه اإلمام الفخر‬
‫كالغزالي‪ ،‬وهلل درهما‪ ،‬وقد حدا حدوهما بعض المحققين من األشاعرة" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وهذا الكالم كما ترى يكثر المؤلف الشيخ المصعبي من تكراره‪ ،‬وقد بينا أنه‬
‫ال أساس له من الصحة‪ ،‬وأن ما يتخيله من قول جمهور األشاعرة بالرؤية‬
‫الحسية المستلزمة للحد والجهة‪ ،‬فهو مجرد خيال في وهمه‪ ،‬بل جميعهم‬
‫قاطبة أنكروا هذا المعنى‪ ،‬وبصريح قولهم‪ ،‬ونفيهم ذلك عند الكالم على مسألة‬
‫الرؤية‪ ،‬ال يقال عليه إنه رجوع عن القول بالرؤية الحسية‪ ،‬إلى العلم‪ ،‬بل هو‬
‫يصرحون به دائماً‪ ،‬ولم تحدث‬
‫ِّ‬ ‫عبارة عن تحقيق كالمهم‪ ،‬ومتطابق مع ما‬
‫رجعة وال غيرها‪ ،‬إال في وهم القائل بالرجوع المزعوم‪ ،‬بنا ًء على فهمه‬
‫الغلط لمذهب القوم ‪..‬‬

‫وأما الفخر الرازي واإلمام الغزالي فلم ينفيا الرؤية مطلقاً‪ ،‬بل أثبتاها وإذا‬
‫قصد أنهما نفيا الرؤية الحسية العادية عن للا تعالى‪ ،‬فهذا النفي لم يختص‬
‫بهما‪ ،‬ولم يتفردا به‪ ،‬بل قال به جميع األشاعرة بدءاً من األشعري نفسه حتى‬
‫آخرهم‪ ،‬لم يخالف منهم أحد في هذا الوصف‪.‬‬

‫وأما ما زعمه الشيخ المصعبي بعد ذلك (‪" :)45/2‬ولو جاز أن يرى للا‬
‫تعالى من غير اتصال لجاز أن يش َّم ويذاق ويلمس‪ ،‬وقد التزمه البعض منهم‬
‫لجاجا ً وتعصباً‪ ،‬وجاز أن يكون جسما ً من غير تأليف‪ ،‬أو به بدون تحيز‪،‬‬
‫وأن يكون له وجه وكف وساعد وقدم من غير صورة أو على صورة اإلنسان‬
‫بغير شكل‪ ،‬وأن يكون طويالً وعريضا ً بال نهاية أو بها‪ ،‬وقد قال بكل ذلك‬
‫كثير من المرجئة واألشعرية" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫فهو ينسب إلى كثير من األشاعرة القول بهذه المتناقضات‪ ،‬وطريقة إلزامه‬
‫لهم بذلك متناقضة ومغلطية‪ ،‬ونسبة هذه األقوال إليهم كذب عليهم‪ ،‬وسوف‬
‫نبين ذلك باختصار‪.‬‬

‫فها هو يقيس الرؤية على الذوق والشم واللمس‪ ،‬وال وجه للقياس‪ ،‬ألمور‪:‬‬
‫أوالً أننا لم نثبت لفظ الرؤية إال لوروده‪ ،‬ثم حملناه على معنى معقول وسائغ‬
‫لغة‪ ،‬ولم نحمله على المعنى الذي يتبادر منه التجسيم إلى األذهان كما يزعم‬
‫المصعبي وغيره‪ ،‬وأما اللمس والذوق والشم فهي أوالً لم يرد نسبتها إلى للا‬
‫تعالى‪ ،‬وأيضا ً فهي دالة على التجسيم صراحة بظاهرها‪ ،‬ألن اللمس معناه‬
‫يتضمن الحد‪ ،‬وكذلك الشم والذوق يستلزم كل منهما االنقسام والحد‪ ،‬وكل‬
‫هذا باطل في حق للا تعالى‪ ،‬فتبين أنه ال يوجد قياس بين هذا وذاك‪ ،‬وأما‬
‫الجسم بدون التحيز‪ ،‬فمستحيل عقالً‪ ،‬ألن التحيز وصف نفسي للجسم‪،‬‬
‫ووجود الماهية بال ذاتياتها محال‪ ،‬وكذلك الجسم بال تأليف‪ ،‬وكذلك إثبات‬
‫األعضاء بال صورة‪ ،‬وغيره كل ذلك محال باطل؛ ألنه تناقض داخلي كما‬
‫مضى‪.‬‬

‫ولم يقل بهذه األقوال أحد من األشاعرة‪ ،‬وهذا معلوم واضح لكل ذي اطالع‪،‬‬
‫فنسبة هذه األقوال الباطلة إلى كثير من األشاعرة غلط كبير عليهم‪ ،‬قريب‬
‫من الكذب‪.‬‬

‫وهذا األسلوب من اإللزام والجدل الذي يستخدمه المصعبي ومثله السالمي‬


‫ومثلهما السبحاني‪ ،‬ال يليق حقيقة بالعلماء المحققين‪ ،‬خاصة مع انتشار كتب‬
‫األشاعرة ووضوح مذهبهم‪.‬‬

‫وقد قال المصعبي بعد ذلك إن األشاعرة مضطربون في مسألة الرؤية‪ ،‬وهاك‬
‫قوله في (‪" :)47/2‬وبالجملة فاضطراب أقوال األشاعرة في الرؤية دليل‬
‫قاطع على عدم إصابة وجه الحق في تنزيه الباري سبحانه" أ‪.‬هـ‪ ،‬ثم شرع‬
‫في بيان وجه االضطراب‪ ،‬بأن األشعري قال إن الرؤية تحدث بالبصر وعين‬
‫الرأس‪ ،‬ونقل عن الباقالني أن موسى عليه السالم رأى ربه‪ ،‬وقال إن بعضهم‬
‫منع الرؤية في الدنيا‪ ،‬وبعضهم قال بجوازها في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وبعضهم‬
‫منعها مطلقا ً دنيا وأخرى‪.‬‬

‫هكذا بين المصعبي اختالف أقوال األشاعرة‪ ،‬وكل ما نقله غير صحيح‪،‬‬
‫وسوف نبين ذلك بتفصيل عند بيان أقوال أهل السنة األشاعرة والماتريدية‬
‫في هذه المسألة في المباحث التالية‪ ،‬ولكن نقول هنا قوالً مجمالً‪ :‬لم يضطرب‬
‫األشاعرة في هذه المسألة‪ ،‬بل كلهم على قول واحد‪ ،‬وهو أن الرؤية جائزة‬
‫دنيا وأخرى‪ ،‬وواقعة في اآلخرة للمؤمنين‪ ،‬وأن الرؤية تكون بأن يخلق للا‬
‫تعالى الرؤية إما في العين أو النفس مباشرة‪ ،‬بال اتصال شعاع وال مقابلة‬
‫وال جهة وال حد وال صورة‪.‬‬

‫وأن الرؤية زيادة تجل هلل تعالى‪ ،‬وهي نعمة عظيمة ينعم للا تعالى بها على‬
‫المؤمنين‪.‬‬

‫وليس في هذا اختالف بينهم‪.‬‬

‫ولكن االختالف حاصل في فهم المخالفين لما يقول به األشاعرة‪ ،‬ولذلك‬


‫ينسب إليهم المصعبي وغيره االضطراب‪ ،‬كما رأينا ذلك عند الشيخ‬
‫السبحاني من الشيعة اإلمامية أيضاً‪ ،‬ورأيناه عند الزيدية‪ ،‬وإنما االضطراب‬
‫حاصل في فهم هؤالء لكالم األشاعرة وتوضيحات علمائهم‪ ،‬فلذلك توهموا‬
‫أن الرازي والغزالي يخالفان غيرهم من األشاعرة‪ ،‬ونحن قد بينا أن هذا كله‬
‫غير صحيح‪.‬‬

‫ع َبث بعد اتضاح المقام‪.‬‬


‫والزيادة من الكالم على هذا َ‬

‫مع المجسمة‬

‫مناقشة قول المجسمة التيمية في مسألة الرؤية‬

‫لقد بينا قول المجسمة في هذه المسألة أثناء كالمنا مع الفرق السابقة‪ ،‬ولكن‬
‫سوف ننقل ههنا بعض النصوص التي تدلل أن هذه الفرقة تثبت الرؤية‬
‫بالجهة والحد والجسمية‪ ،‬وجميع ما يلزم على ذلك من الصورة وغيرها‪.‬‬
‫إن الرؤية عند هؤالء المجسمة هي عبارة عن حصول الصورة في العين‬
‫بواسطة مقابلة المرئي‪ ،‬وهذا المعنى عام عندهم‪ ،‬فيجب أن يكون المرئي‬
‫مقابالً للرائي‪ ،‬ال يفرقون بين للا تعالى وبين المخلوقات‪ ،‬وهذا هو الفرق‬
‫الكبير بين قولهم وقول األشاعرة كما وضحناه‪.‬‬

‫فاهلل تعالى لو لم يكن في جهة الستحالت رؤيته‪ ،‬هكذا يقولون‪ ،‬وبذلك‬


‫يصرحون‪ ،‬فاهلل تعالى في جهة وله حدود ويقابل في المكان مكانَ وجود‬
‫المخلوقات ‪..‬إلى آخر ما يقال في هذا الصدد‪.‬‬

‫وقد كنا ذكرنا أن معنى الرؤية عند المعتزلة‪ ،‬هو عين معنى الرؤية عند‬
‫المجسمة‪ ،‬إال أن المعتزلة نفوا رؤيتنا هلل تعالى؛ ألن للا ليس جسما ً وال‬
‫متحيزاً وال محدوداً وال يتصل وال يماس المخلوقات‪ ،‬أما المجسمة فقد أثبتوا‬
‫الرؤية ألن للا تعالى عندهم جسم ومحدود في جهة من المخلوقات ويماسها‬
‫‪..‬إلخ‪.‬‬

‫فاألصل في معنى الرؤية محل اتفاق بين المعتزلة والمجسمة‪ ،‬بل هذا األصل‬
‫محل اتفاق بين المجسمة وبين جميع الفرق المخالفة لألشاعرة والماتريدية‬
‫أهل السنة‪.‬‬

‫وهذا ينقض ما يتصوره كثيرون من ذوي المعرفة السطحية‪ ،‬من أن هناك‬


‫اشتراكا ً في معنى الرؤية بين المجسمة وبين األشاعرة‪ ،‬والحقيقة أن‬
‫االشتراك واالتفاق حاصل في معنى الرؤية بين المجسمة وبين سائر الفرق‬
‫إال األشاعرة‪ ،‬ونحن قد وضحنا ذلك سابقا ً‪.‬‬

‫من هذه المقدمة التي يتلخص بها ما يمكن أن يقال في هذا الموضع‪ ،‬تتبين‬
‫لطالب الحق أصول كلية تفتح له أبوابا ً ومعارف‪.‬‬
‫واآلن فلنذكر بعض النصوص التي يقول بها هؤالء المجسمة في الرؤية‪،‬‬
‫ليتبين للقراء الكرام حقيقة الفرق بين قولهم وبين قول األشاعرة‪ ،‬وذلك حتى‬
‫ال يحصل خلط بعد ذلك بينهما في أذهان طالب العلم‪ ،‬فيترتب على ذلك‬
‫اختالط المسألة عندهم‪ ،‬مما ينتج عنه خطأ عظيم في األحكام والمواقف‪.‬‬

‫والحقيقة أن المعتزلة وغيرهم من الفرق المذكورة سابقاً‪ ،‬عندما كانوا‬


‫يتكلمون عن الرؤية الحسية التي تتضمن المقابلة والمماسة والتحيز والحد‪،‬‬
‫كانوا ينسبون ذلك إلى األشاعرة‪ ،‬ثم يتوهم بعضهم كاإلباضية والشيعة أن‬
‫المتأخرين من األشاعرة قد خالفوا المتقدمين‪ ،‬فالمتقدمون عند هؤالء كانوا‬
‫يثبتون الرؤية الحسية‪ ،‬والمتأخرون نفوها وقالوا‪ :‬الرؤية نوع كشف وتجل‪.‬‬

‫هكذا كان هؤالء يتوهمون‪ ،‬ونحن قد أبطلنا هذا الوهم في أبحاثنا السابقة‪،‬‬
‫واآلن نقول‪ :‬الحق أن تلك الفرق كان ينبغي لها أن توجه ردودها التي أشرنا‬
‫إليها سابقا ً إلى فرقة المجسمة‪ ،‬فهم الذين يثبتون الرؤية الحسية على حقيقتها‬
‫العرفية العادية‪ ،‬أقصد يثبتون الرؤية المشروطة بمحدودية المرئي وكونه‬
‫في جهة ومكان إلى آخر ذلك مما علم‪.‬‬

‫ولذلك فإن هؤالء المجسمة عندما كانوا يضيفون الرؤية إلى العين أو الوجه‪،‬‬
‫فهم يقصدون إثبات جميع اللوازم التي يعتبرها األشاعرة عادية‪ ،‬يقصد‬
‫المجسمة إثباتها هلل تعالى‪ ،‬ويصرحون بذلك ألنهم يعتقدون أن هذه األمور‬
‫ليست مجرد شروط عادية‪ ،‬بل هي شروط عقلية‪ ،‬ال يتصورون حصول‬
‫الرؤية إال بها‪ ،‬وهذه هي جهة االشتراك بينهم وبين المعتزلة كما وضحناه‬
‫سابقا ً‪.‬‬
‫ولذلك فقد قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ‪ ،‬ص‪" :205‬وإضافة‬
‫النظر إلى الوجه الذي هو محله‪ ،‬في هذه اآلية‪ ،‬وتعديته بأداة (إلى) الصريحة‬
‫في نظر العين‪ ،‬وإخالء الكالم من قرينة تدل على خالفه حقيقة موضوعة‬
‫صريحة في أن للا أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جالله"‬
‫أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫وهو يريد بهذا الكالم إثبات الرؤية الحسية‪ ،‬أي أن الرؤية التي يعتادها الناس‬
‫مع شروطها في حياتهم المعتادة‪ ،‬هي نفسها التي يثبتونها عندما يقولون‬
‫برؤية للا تعالى‪ ،‬فهم من هذا الباب مشبهة أيضاً‪ ،‬ومجسمة‪ ،‬وهذا هو محل‬
‫خالفهم مع األشاعرة‪ ،‬فإن األشاعرة أصابوا الحق عندما قالوا‪ :‬إن الرؤية‬
‫بحسب المرئي‪ ،‬وللا تعالى ليس له حد وال في جهة‪ ،‬ولذلك تكون رؤيته كما‬
‫هو عليه في نفسه أي بال حد وال في جهة‪ ،‬كما نعلمه كذلك‪ ،‬أما هؤالء‬
‫المجسمة فقد جعلوا نفس الرؤية دليالً على إثبات الجهة والحد في حق للا‬
‫تعالى‪ ،‬فشتان بين المذهبين‪ ،‬وتعسا ً لمن يسوي بينهما‪.‬‬

‫ولذلك وتأكيداً لهذا المعنى الذي قررنا أن المجسمة يقولون به‪ ،‬قال ابن أبي‬
‫العز الحنفي في ص‪" :211‬وليس تشبيه رؤية للا تعالى برؤية الشمس والقمر‬
‫تشبيها ً هلل‪ ،‬بل هو تشبيه للرؤية بالرؤية‪ ،‬ال تشبيه المرئي بالمرئي‪ ،‬ولكن فيه‬
‫دليل على علو للا على خلقه‪ ،‬وإال فهل تُعقل رؤية بال مقابلة؟ و َمن قال‪:‬‬
‫يرى ال في جهة‪ ،‬فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابراً لعقله وفي عقله شيء‪،‬‬
‫وإال فإذا قال يرى ال أمام الرائي وال خلفه وال عن يمينه وال عن يساره وال‬
‫فوقه وال تحته‪ ،‬رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة‪.‬‬
‫ولهذا ألزم المعتزلة َم ْن نفى العلو بالذات بنفي الرؤية‪ ،‬وقالوا‪ :‬كيف تعقل‬
‫رؤية بال مقابلة بغير جهة" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫هذا هو لب كالمه حول ما يتعلق بمعنى الرؤية ولوازمها وشروطها‪ ،‬ونود‬


‫قبل التعليق عليه أن نلفت النظر إلى ما يلي‪:‬‬

‫إن هذا ابن أبي العز الحنفي عندما يقول إن العلو ثابت هلل تعالى‪ ،‬يريد أصالة‬
‫بلفظ العلو معنى الجهة‪ ،‬وال يريد العلو في الوجود والحقيقة الذي هو محل‬
‫اتفاق بين جميع أهل اإلسالم‪ ،‬فال نعلم أحداً يقول إن اإلله أنزل مرتبةً من‬
‫المخلوقات‪ ،‬بل كونه عليا علو حقيقة وقدر وصفات‪ ،‬محل إجماع من كل‬
‫مؤمن باهلل تعالى‪.‬‬

‫ولذلك‪ ،‬فهو يغالط مجرد مغالطة عندما يستدل بنفس العلو على الجهة‪،‬‬
‫ويغالط عندما يستعمل لفظ العلو هنا‪ ،‬وكان ينبغي أن يستعمل لفظ الجهة؛‬
‫ألن معنى الجهة هو الذي فيه خالف ال العلو المحتمل لعلو القدر والمكانة‬
‫محل االتفاق‪ ،‬ولعلو الجهة والحيز والمكان محل الخالف‪ ،‬وكان ينبغي أن‬
‫يستعمل األلفاظ المحكمة محل النزاع‪ ،‬ولكن هذه هي عادة هؤالء المجسمة‪،‬‬
‫بل هي عادة كل المخالفين ألهل الحق ترويجا ً لمذهبهم‪.‬‬

‫ثم نقول‪ :‬الحظ أن ابن أبي العز يحكم باستحالة الرؤية بال جهة‪ ،‬ويعتبر هذا‬
‫مخالفا ً للعقل‪ ،‬وهذا دليل كما أخبرناك على أنهم يتفقون مع المعتزلة في أصل‬
‫معنى الرؤية‪ ،‬ويخالفون األشاعرة في ذلك‪.‬‬

‫وأما استناده إلى سؤال المعتزلة المبني على وجود تناقض بين إثبات الرؤية‬
‫ونفي الجهة‪ ،‬فال يضرنا؛ ألنا نقول‪ :‬هذا الزعم بالتناقض مبني على مصادرة‬
‫على المطلوب‪ ،‬ومغالطة‪ ،‬فبعض مقدماته وهي أنه ال رؤية إال بحد وجهة‬
‫مسلما ً‬
‫ال يسلمها الخصم‪ ،‬بل يلزمه التناقض‪ ،‬وإنما يلزم التناقض لو كان ِّ‬
‫بجميع المقدمات التي ينبني عليها بيان التناقض‪ ،‬وليس األمر كذلك هنا‪ ،‬وقد‬
‫كنا ذكرنا هذا المعنى في نقاشنا مع الشيعة والمعتزلة‪ ،‬ولكن نرجو أن يكون‬
‫في تكراره هنا فائدة وتذكير‪.‬‬

‫وأما تلويح ابن أبي العز أنه في قوله هذا إنما يعتمد على ظاهر الحديث من‬
‫تشبيه الرؤية بالرؤية‪ ،‬فهو كالم فاسد أيضاً‪ ،‬ومبني على مصادرة ومغالطة‪.‬‬

‫ألنا أوالً يجب أن نحرر المقصود من الرؤية‪ ،‬هل هي اإلدراك أم هي‬


‫اإلدراك مع المقابلة واتصال الشعاع وكون المرئي ذا حد ومكان‪ ،‬فالمجسمة‬
‫وغيرهم من الفرق‪ ،‬يقولون بالمعنى الثاني‪ ،‬أما األشاعرة ومن وافقهم‬
‫فيقولون بالمعنى األول‪ ،‬وبنا ًء على ذلك نفهم نحن الحديث النبوي الشريف‬
‫على مذهبنا وعلى فهمنا لمعنى الرؤية‪ ،‬فنقول‪ :‬المقصود بالرؤية زيادة تجل‪،‬‬
‫والمقصود بالحديث التشبيه بين رؤيتنا للقمر ليلة البدر وبين رؤيتنا هلل‪ ،‬من‬
‫جهة معينة‪ ،‬وهي أنها ال يشوبها شك‪ ،‬وال يعترضها معترض‪ ،‬بل تكون‬
‫تجليا ً ضروريا ً ال يمكن اجتماعه مع الشك والتردد‪.‬‬

‫وأما المجسمة‪ ،‬فلما قالوا بمعنى الرؤية الذي وضحناه‪ ،‬لزم عندهم أن يكون‬
‫للا بجهة وله حد وفي مكان ‪..‬إلخ‪.‬‬

‫وأما المعتزلة وغيرهم من الفرق‪ ،‬فلما قالوا بمعنى الرؤية الذي قال به‬
‫المجسمة‪ ،‬وكانوا ينفون كون للا جسما ً ومتحيزاً ‪..‬إلخ‪ ،‬نفوا أص َل الرؤية‪.‬‬

‫فالعاقل يرى أن أعدل المذاهب هو مذهب األشاعرة الذي أخذ بالثابت من‬
‫المنقول‪ ،‬ووضحه بما يتوافق مع المعقول‪ ،‬فلم يناقضوا قواعد العقل وأحكامه‬
‫كالمجسمة‪ ،‬وال ردوا الثابت بالنقل كالمعتزلة وغيرهم‪.‬‬
‫وبما أن المجسمة ارتكبوا ما ارتكبوا فال يصح أن يقول ابن أبي العز إن‬
‫صرح‬
‫تشبيه للا تعالى بخلقه ال يلزمهم‪ ،‬بل هم قائلون به ومصرحون‪ ،‬وقد َّ‬
‫ابن تيمية كما وضحت في كتاب الكاشف الصغير لزوم التشبيه على مذهبهم‪،‬‬
‫بل صرح بضرورة القول به‪ ،‬ونفى أن تكون الشريعة قد ذ َّمت التشبيه!!‬

‫والمجسمة من أتباع ابن تيمية ال يترددون في التزام الجهة والحد والحيز‪،‬‬


‫ولذلك ترى ابن أبي العز استعمل كلمة العلو أوالً‪ ،‬ثم استعمل كلمة الجهة‬
‫بعدها بسطر واحد‪ ،‬ليدل على أن مفهومه من العلو هو الجهة‪ ،‬وهذا اعتراف‬
‫منه بما قلناه ونسبناه إليهم‪.‬‬

‫وكذلك ترى ابن عثيمين يصرح بعدم الضرر من التزام الجسمية‪ ،‬أي التزام‬
‫كون للا جسما ً عند إثبات الرؤية بهذا المعنى‪ ،‬وذلك كما في شرح العقيدة‬
‫الواسطية ص‪ ،418-417‬فقد قال‪" :‬أما دليلهم العقلي على امتناع الرؤية‪،‬‬
‫فإنهم يقولون‪ :‬إنك إذا رأيت للا إذا قلنا بجواز الرؤية‪ ،‬لزم أن يكون جسماً‪،‬‬
‫واألجسام متماثلة‪ ،‬وهذا تكذيب لقوله تعالى‪( :‬ليس كمثله شيء)‪.‬‬

‫فنرد عليهم بأن نقول لهم‪ :‬إن كان يلزم من جواز رؤية للا عز وجل أن‬
‫يكون جسما ً فليكن‪ ،‬ألن الزم قول للا ورسوله حق‪ ،‬ولكن ال يلزم أن يكون‬
‫هذا الجسم كاألجسام المخلوقة" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫فها أنت ذا ترى ابن عثيمين ال يتردد في التزام كون للا جسماً‪ ،‬إلثبات الرؤية‬
‫بشروطها المعتادة‪ ،‬فهذا هو التشبيه حقاً‪ ،‬وهذا هو التجسيم‪ ،‬وال ينجيه من‬
‫التجسيم ما قاله بعد ذلك‪" :‬وكما أنكم تقولون إن هلل ذات ال تشبه الذوات‪،‬‬
‫فنحن نقول‪ :‬إذا كان يلزم أن يكون جسما ً فله جسم ال يشبه األجسام؛ ألن‬
‫أجسام المخلوق حادثة بعد أن لم تكن‪ ،‬ومكونة من أجزاء ال يقوم بعضها إال‬
‫ببعض‪ ،‬لكن الخالق ليس جسما ً بهذا المعنى أبداً" أ‪.‬هـ‪.‬‬

‫ومعنى هذا الكالم كما هو واضح‪ ،‬أن للا تعالى جسم‪ ،‬ولكنه يختلف عن‬
‫غيره من األجسام من وجوه‪:‬‬

‫صرح به ابن تيمية‬


‫َّ‬ ‫‪ -‬أن للا جسم قديم‪ ،‬وغيره أجسام حادثة‪ ،‬وهذا المعنى‬
‫كما بينته في الكاشف الصغير‪.‬‬

‫‪ -‬أن هلل صورة ليست مثل صورة غيره‪.‬‬

‫‪ -‬وأن أجزاء الجسم غير للا ربما تنفصل عن بعضها البعض‪ ،‬أما للا فال‬
‫صرح به ابن تيمية كما بينته في الكاشف‬
‫َّ‬ ‫تنفصل أجزاؤه أبداً‪ ،‬وهذا هو ما‬
‫الصغير‪.‬‬

‫فالفارق الرئيسي هو في الحدوث والقدم‪ ،‬أما حقيقة الجسمية فهم ال ينفونها‪،‬‬


‫بل يثبتونها هلل تعالى‪ ،‬وبعد هذا البيان فكيف يمكن أن يتجرأ واحد‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫إن مذهب األشاعرة هو عين مذهب المجسمة‪ ،‬وهذا القائل يدلل على مدى‬
‫جهله ال غير‪.‬‬

‫وبهذا المبحث نكون قد انتهينا من مناقشة الفرق المذكورة في المبحث‬


‫المذكور‪ ،‬وبهذا تكون مذاهب كل فرقة من هذه الفرق قد امتازت عن غيرها‪،‬‬
‫مما يؤهلنا لالنتقال إلى المباحث التالية بتوفيق للا تعالى‪.‬‬

You might also like