Professional Documents
Culture Documents
مناقشات مع الفرق المخالفة في مسألة الرؤية
مناقشات مع الفرق المخالفة في مسألة الرؤية
اتفق أهل السنة على أن رؤية للا تعالى جائزة ،وخالفهم في ذلك الشيعة
والمعتزلة واإلباضية ،وقال الكرامية والمجسمة بجواز رؤية للا تعالى.
فالحاصل أن رؤية للا قال بها األشاعرة أهل السنة والكرامية والمجسمة،
واالتفاق هذا حاصل على مجرد تصحيح الرؤية مع عدم االتفاق على معناها
ومفهومها وشروطها ولوازمها ،كما سيتضح.
وأما األشاعرة والماتريدية ،فقالوا بصحة الرؤية ونفي كون للا تعالى جسماً،
ونفي كونه ذا َحد أو حدود ،ولم يقولوا باشتراط الجهة لصحة الرؤية.
فبأدنى تأمل ،نعلم علما ً قطعيا ً أن معنى الرؤية عند األشاعرة ليس عينه عند
المجسمة و َمن وافقهم ،وبعض الجهلة يعتمدون على اتفاق األشاعرة
والمجسمة والكرامية على أصل صحة الرؤية ،فيقول هؤالء الجهلة بأن
حقيقة مذهب األشاعرة هو التجسيم والتشبيه ،وهذا سوء ظن منهم ،مبني
على جهل كما قلنا ،ومبني على سوء طوية ،فالذي يجب على هؤالء أن
يقولوه عند رؤية كالم األشاعرة :إن معنى الرؤية عندهم ليس نفس معنى
صرح به
َّ الرؤية عند المجسمة ،وهو التحقيق والحق الصريح الذي
األشاعرة.
وهكذا ،فنحن نرى الواحد يتنقل من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال في مثل
هذه المسألة.
وإنما اختارنا هذه الطريقة؛ ألن كثيراً من الناس الذين يخوضون في هذه
المسألة معارضين ألهل السنة ،ممن نعرفهم أو نخاطبهم يدفعهم الهوى
والتعصب وقلة االطالع ،فكان ينبغي علينا عندما نناقشه أن نعلمه ونوضح
له حقيقة المذاهب قبل أن نبدأ بإلزامه أو الرد عليه ،وهذا األمر الزم في كل
مناقشة ،ولكن قدره يزيد وينقص بحسب جهل أو علم من نتكلم معه ،فلذلك
ارتأينا أن نتكلم مع واحد عا ِّلم من كل فرقة من هذه الفرق ،فالكالم مع العلماء
-وإن كان عن طريق الكتب – أليق بالحكماء المدققين الباحثين عن الحق
واليقين من المشاغبة والتشغيب مع َمن هو دونهم في العلم.
وندعو للا تعالى أن يوفقنا أجمعين لما فيه الخير.
هذا الكتاب من الكتب المعتمدة عند الشيعة ،ومؤلفه الشيخ جعفر السبحاني
مشهود له بالمكانة العالية عندهم ،وهذا يبعث على الطمأنينة عندما نتكلم معه
ونناقش كالمه ،فاألصل أن يكون منضبطا ً بضوابط العلم والمعرفة
الصحيحة ،بعيداً عن المغالطات التي يحبها العوام ،وهذا يكون أقرب إلى
تحقيق الحق ،وأجمع لطرق النقاش والبحث ،وأمنع لتشتت الكالم.
وقد تكلم الشيخ السبحاني في كتابه عن مسألة الرؤية تحت عنوان (امتناع
رؤية للا سبحانه) الجزء الثاني ص ،125طبعة مكتبة التوحيد – قم.
قال الشيخ السبحاني (" :)125/2اتفقت العدلية على أنه سبحانه ال يُرى
باألبصار ال في الدنيا وال في اآلخرة ،وأما غيرهم فالكرامية والمجسمة الذين
يصفونه سبحانه بالجسم ،ويثبتون له الجهة ،جوزوا رؤيته بال إشكال في
عد أنفسهم من أهل التنزيه وتحاشيهم
الدارين ،وأهل الحديث واألشاعرة -مع ِّ
عن إثبات الجسمية والجهة له سبحانه – قالوا برؤيته يوم القيامة ،وأنه
ينكشف للمؤمنين انكشاف القمر ليلة البدر تبعا ً لبعض األحاديث واستظهاراً
من بعض اآليات"أ.هـ.
الحظ أنه يستغرب من مذهب األشاعرة كيف ينفون الجسم والتحيز والجهة
عن للا تعالى ،ومع ذلك يقولون بالرؤية ،واستغرابه هذا جاء ألنه جعل
الرؤية مالزمة للجسمية والتحيز ،وهذا هو المتبادر إلى أذهان عامة الناس،
ولكن بقليل من التأمل في كالم األشاعرة يُعلم أنه يوجد انفكاك بين الرؤية
مجسما ً.
ِّ والجسمية ،فقد يُثْ ِّبتُ الرؤية َمن ليس
والمجسمة
ِّ وكان ينبغي أن ينبِّه هنا إلى اختالف مفهوم الرؤية بين األشاعرة
وال يسوقه سوقا ً واحداً ،وسوف نشير إلى ذلك فيما يلي.
ثم أشار السبحاني إلى اختالف أقوال الناس حول الرؤية ،بحسب ما ذكره
اإلمام األشعري في كتاب مقاالت اإلسالميين.
وال داعي ألن نذكر نحن هنا هذه األقوال؛ ألن بعضها كما وصفه السبحاني
(" :)126/2من األقوال السخيفة الساقطة"أ.هـ.
ثم شرع السبحاني في بيان عقائد العدلية في الرؤية ،وقال (" :)126/2فإن
في إثباتها كفاية لرد سائر األقوال وبيان وهنها"أ.هـ ،ويقصد بالعدلية كما هو
ظاهر كل من أثبت أن للا تعالى ال يخالف ما زعموا أنه ثابت في نفسه من
العدل والظلم والتحسين والتقبيح ،ويشمل هذا الشيعة والمعتزلة ...
وهو يدعي أن مجرد بيان قول العدلية يكفي إلظهار َو ْهن سائر األقوال
وردها ،ولكنه سوف يناقش أدلة األشاعرة بعد ذلك ،وسوف نرى كيف يناقش
أدلة األشاعرة ،ونتكلم في بيانه ألقوال العدلية في أدلتهم.
ثم قال في ص " :127هذا هو واقع اإلبصار والرؤية ،فيجب أن يكون كل
من النفي واإلثبات على هذا المعنى الذي كشف عنه جهابذة العلم".أ.هـ.
كذا قال ،أما أن هذا هو المعنى الوحيد من الرؤية فهو ما سنناقشه بعد قليل،
ولكن قوله" :الذي كشف عنه جهابذة العلم" ال داعي له هنا ،فالعلماء
المعاصرون وإن كانوا كشفوا عن بعض التفاصيل إال أن هذه العملية إجماالً
كانت معلومة ،فليست معرفتُها متوقفةً على كشف جهابذة العلم !! وكالمه
هذا يوهم أن المتقدمين كانوا يتكلمون عن أمر ال يعرفونه ،فلما عرف هو
حقيقة الرؤية على النحو الذي وضحه كان من الطبيعي أن الذي أثبت الرؤية
ونفى التجسيم رأيه باطل من أساسه.
ولكن األمر ليس كذلك كما قلنا ،وال نستطيع أن نقول مطلقا ً بقوله هذا ،بل
نقول بكل قوة :إن القدر الذي كان معلوما ً عند المتقدمين كاف للكالم على
مسألة الرؤية نفيا ً وإثباتاً ،وال يتوقف اتخاذ موقف فيها على ما كشفه جهابذة
العلم كما قال ،وسوف نوضح ذلك الحقا ً.
والحقيقة أن البحث بهذا الشكل ليس صحيحاً ،وبيان ذلك كما يلي:
أوالً نقول :إن المعنى الذي ذكره للرؤية هو عبارة عن انفعال للنفس بما في
الخارج بواسطة وسائط وآالت ،فالعين تنفعل بالشعاع والدماغ ينفعل
بالتموجات ،ثم تحدث الصورة التي يطلق عليها أنها رؤية.
فنحن نسأل سؤاالً هنا ،وهو سؤال مهم جداً ،بل هو أساس البحث ،فنقول:
هل الرؤية كاسم يطلق على هذه االنفعاالت فقط ،أم يطلق على الصورة
المدركة بعد حصول االنفعاالت ،أم يطلق على الصورة بشرط االنفعاالت،
َ
أو على مجموع الصورة واالنفعاالت؟
من الواضح لدى كل إنسان عاقل يفهم معنى الرؤية أنه يجزم بأن إطالق
اسم الرؤية على مجرد االنفعاالت أمر باطل قطعاً ،فلو حصلت االنفعاالت
ولم تحصل الصورة لخلل في العين أو الدماغ أو لسبب آخر ،فال يمكن أن
يطلق اسم الرؤية على مجرد االنفعاالت.
فالعدلية يقولون :كل صورة لم تحصل عن طريق هذه االنفعاالت فال تسمى
رؤية ،واألشاعرة يقولون :بل تسمى رؤية وإن لم تسبقها هذه االنفعاالت.
وأما العدلية :فألنهم ال يتصورون إمكان حصول الصورة إال بواسطة هذه
االنفعاالت ،فلذلك قالوا بنفي الرؤية ،واالنفعاالت علة عندهم لحصول
الرؤية.
فالخالصة إذن بعبارة أخرى ،هل يوجد ترتبات في الوجود الخارجي الحادث
بين أمر وأمر آخر ،أي هل يوجد في الوجود الخارجي تالزم عقلي بين
متغايرين ،بحيث ال يمكن وجود أحدهما إال بوجود اآلخر،
َ موجو َدين اثنين
متغايرين ،ألنه لو كان موجوداً واحداً ،فاالتفاق
َ وإنما قلنا بين موجو َدين
حاصل على أنه ال يوجد بدون ذاتياته.
ولكن محل الخالف بالضبط :هل يمكن أن يكون وجود حادث شرطا ً أو علة
لوجود حادث آخر ،بحيث يستحيل وجود الثاني إال بوجود األول ،هذا هو
حقيقة الخالف وأصل المسألة.
ومن الواضح أنها راجعة إلى القول بالعلية والمعلولية بين أجزاء العالم
الحادث.
وإذا ظهر أن المسألة ترجع لهذا األصل ،فلنوضح رأي األشاعرة ورأي
المخالفين لهم في هذه المسألة األصلية والتي يتفرع عليها أكثر مسائل علم
التوحيد.
فخالصة رأي األشاعرة أن للا تعالى هو الخالق بال واسطة لكل شيء موجود
من الموجودات الحادثة ،فكل ما في هذا العالم من موجودات فاهلل تعالى هو
الخالق له بال واسطة ،فال يوجد شيء من الموجودات الخارجية يتوقف في
وجوده على وجود شيء آخر ،إال إذا كان جزءاً له أو داخالً فيه ،فال يكونان
متغايرين منفصلَين حينذاك ،والكالم في المتغايرات.
َ
وهكذا إذا كانت الصورة معلولة لالنفعاالت ،فال يمكن أن توجد الصورة عند
العقل أو فيه إال بوجود االنفعاالت ،فاالنفعاالت شرط عقلي ال يمكن تخلفه.
واألشاعرة يقولون :إن للا تعالى قادر على خلق الصورة بدون االنفعاالت
المشار إليها ،ولذلك فليست االنفعاالت شرطا ً عقليا ً ال يتخلف ،بل هي عبارة
عن ترتبات عادية وترتيبات حاصلة بإرادة للا تعالى ،ولو شاء للا أن ال
يجعلها كذلك لقدر.
ولذلك قال األشاعرة بأن الرؤية حقيقة هي حصول الصورة اإلدراكية ،وأما
مقدماتها االنفعالية فهي شروط عادية يمكن تخلفها ،وما دامت كذلك ،فال
يستحيل أن يخلق للا تعالى الصورة بال خلق اإلدراكات االنفعالية التي
جعلوها شروطا عقلية كالمقابلة واتصال الشعاع ،وغيرها مما جعلوه شرطا
عقليا للرؤية كالحد للمرئي ،وبالتالي ال يلزم أن يكون من حصل فيه صورة
المرئي مواجها ً له ،وال يشترط عقالً أن يسبق ذلك كله حصول االنفعاالت
المذكورة ،بل لو شاء للا تعالى أن يخلق الصورة مباشرة فإنه قادر على
ذلك.
وهذا هو حقيقة الخالف بين الشيعة والعدلية من جهة ،وبين األشاعرة من
جهة أخرى ،وإذا تأملنا الخالف بهذا الوضع فإننا نستطيع أن نتبين عمق
بحث وتحليل األشاعرة في هذه المسألة ،وربطهم لها بأصول العقائد بنا ًء
على ما تحقق لديهم.
وكذلك فالعدلية بنوا هذه المسألة على ما يعتقدونه من كون العالقة بين للا
تعالى وبين الموجودات في هذا العالم عالقة علية ومعلولية ،كما يقول الشيعة
المتأخرون والفالسفة ،أو مبنية على أن للا تعالى يجب عليه فعل الصالح،
وأن الحسن والقبح أمور ثابتة في نفس األمر ،وأن للا ال يمكن إال أن يفعل
ما هو مقتضى الصالح والحسن ،كما هو رأي المعتزلة.
ومن الظاهر أن رأي المعتزلة والشيعة يعود إلى نفي كون للا تعالى مختاراً،
أي أنهم ينفون كون للا تعالى متصفا ً باإلرادة كما هو متصف بالعلم والقدرة،
فاإلرادة عندهم هي عين الفعل أو راجعة إليه ،فاإلرادة من صفات األفعال
ال الذات ،وهو في الحقيقة نفي لإلرادة ال إثبات لها.
إن من يعلم مذهب األشاعرة يعلم أنهم يرجعون الرؤية إلى اإلدراك ،أي إلى
نوع إدراك ،فمن أرجع الرؤية عندهم إلى العلم ،فالحاصل أنه ال خالف بينه
وبين غيره من حيث الحقيقة ،ومخالفة الشيعة والمعتزلة لهم غير مبنية على
أساس ،والفرق بينهم في التدقيقات كنحو القول :هل يجوز أن نحصل على
زيادة علم باهلل تعالى أم ال يمكن ذلك سواء في الدنيا أم في اآلخرة ،فاألشاعرة
يقولون :نعم هذا جائز ،وغيرهم يقول ال ،ولو جاز فال يسمى رؤية،
واألشاعرة يقولون :يسمى رؤية؛ ألن هذا هو حقيقة الرؤية.
بل حقيقة الرؤية عندهم هو علم حاصل في اإلنسان في عينه بالترتيب العادي
المذكور سابقاً ،ويمكن أن يخلقه للا مباشرة في النفس ،ولكن تسميته بالرؤية
ألن العادة جرت على خلقه في العين ولو بال واسطة االنفعاالت ،فكل إدراك
وعلم حصل لإلنسان عن طريق الترتبات العادية المذكورة فيسمى رؤية وإن
كان بخلق للا تعالى مباشرة.
وكون العين آلة ،فهذا للعادة التي خلقها للا تعالى وليس ألن العين سبب وعلة
للرؤية ،وأما القائلون بوجود صفة زائدة على العلم اسمها البصر ،فالمذهب
بنا ًء على ذلك واضح.
إذن وبعد هذا التوضيح نقول:
ويتضح لنا أن قول السبحاني بأن َمن فسر الرؤية بالعلم أو بالكشف أو نفى
اشتراطهما بهذه االنفعاالت ووصفه إياهم بأنهم خارجون عن محل النزاع،
مجرد مصادرة على المطلوب ،فالمطلوب أساسا ً تحقيق هذه المسألة أي
معرفة هل الرؤية تطلق على هذا المعنى أو على ذاك.
فالشيخ السبحاني صا َد َر على أساس المسألة ،واعتبر أنه ال تطلق الرؤية إال
على ما قاله ،ولذلك َحك ََم بهذا الحكم كما ترى ،ووقع في الغلط.
وأما الفرق بين قول األشاعرة وقول المجسمة ،فهو كما يلي:
إن المجسمة انطلقوا من نفس المقدمات التي قررها الشيعة والمعتزلة من أنه
ال يمكن حصول الرؤية إال باالنفعال والمواجهة وكون المرئي في جهة
ومحدوداً ..إلخ ،والمجسمة لما كانوا يقولون بأن للا في جهة ومحدود ...
إلخ ،لم يلزمهم نفي الرؤية كما فعل المعتزلة والشيعة ،ولم يلزمهم تحقيق
معنى الرؤية وتجريدها عن شروطها العادية كما فعل األشاعرة ،فالحاصل
أن المجسمة والكرامية قالوا بكل ما قال به الشيعة والمعتزلة في شروط
فر منها هؤالء.
أجزاء الرؤية ،والتزموا اللوازم التي َّ
وأما األشاعرة فقد عرفنا قولهم ،وهو إثبات الرؤية على ما وضحناه ،ونفي
لوازم التجسيم والتحديد والتشبيه.
استدل السبحاني على نفي الرؤية بقوله (" :)127/2إن الرؤية إنما تصح
لمن كان مقابالً أو في حكم المقابل".أهـ .وبما أن للا تعالى ليس في جهة وال
ح َّد له ،فيستحيل رؤيته ،وقد بينا نحن أن الرؤية هي نفس اإلدراك الحاصل
ال بشرط االنفعاالت والمقابلة والحد ،وبنا ًء على ذلك فال يلزمنا القول
باستحالة الرؤية ،وأما قوله بعد ذلك بأن الرؤية "إذا أريد بها غير حقيقتها
مما يعبر عنه باإلدراك العلمي والشهود القلبي ...فهو حينئذ خارج عن محط
البحث ومجال النزاع"أ.هـ.
نقول :الرؤية عبارة عن إدراك معين ،وتحقيق كون الرؤية كذلك هو أصل
النزاع كما سبق تحقيقه ،بل هو أصل المسألة ،وادعاء كونه خارجا ً عن محل
النزاع وحصر الرؤية في الرؤية الحسية المشروطة بالشروط العادية عبارة
عن مصادرة على المطلوب.
وقد ساق أدلة أخرى راجعة إلى نفس األساس ،منها لزوم كون المرئي
محدوداً متناهياً ،ولزوم كونه جسما ً ذا أبعاد ،وفي جهة ،ثم قال" :فروح
األدلة األربعة يرجع إلى أمر واحد ،وهو أن تجويز رؤيته معناه كونه سبحانه
موجوداً متحيزاً ومحدوداً وذا جهة وعوارض جسمانية وقابالً لإلشارة ،وكل
ذلك مستحيل ،فتكون النتيجة امتناع وقوع الرؤية عليه".أ.هـ.
وكالمه في رجوع هذه األدلة إلى حرف واحد صحيح ،ولذلك فجوابنا عن
جميعها واحد أيضاً ،وهو أن الرؤية ال تستلزم هذه اللوازم ،وإنما هذه شروط
عادية ال عقلية ،والرؤية إدراك يخلقه للا مباشرة بال واسطة وال اشتراط
مقابلة وال حد وال جهة ،فإذا سلم ذلك ،فال وجه المتناع القول بها مع ورود
الشريعة بها.
ثم قال السبحاني مقرراً أدلته" :ومبادئ هذه البراهين أمور بديهية حسية
يكفي في تصديقها تصور القضايا بموضوعاتها ومحموالتها ونسبها".أ.هـ.
وكالمه هذا ليس صحيحاً ،فقد رأينا أنها ليست بدهية ،بل ظاهرية ،وأنها
تحت النقد والتحليل العقلي تنحل وتكون سرابا ً بقيعة ،واالعتماد على ظواهر
األمور كما يفضي بها إلينا الحس من دون نقد ليس من عادة المحصلين وال
الناقدين المحققين ،وكثير من إشكاالت الفرق المخالفة إنما وقعوا فيها من
هذا الباب.
وحاصل الكالم:
إن الرؤية الحسية المشروطة بالحس والمقابلة واتصال الشعاع مستحيلة على
للا ،وال نسلم أن هذا المعنى هو حقيقة الرؤية ،وأما حصول إدراك زائد على
ما حصلنا عليه بواسطة النظر العقلي والتفكير في العالم ،فهذا ليس بمستحيل
سواء خلقه للا تعالى في العين ثم أدركناه بعقولنا أو خلقه للا مباشرة في
النفس ،وهذا هو حقيقة الرؤية ،وال وجه للقول بامتناعها على هذا النحو.
محاولة فاشلة:
لقد وصف السبحاني بهذا العنوان بعض األقوال التي نقلها عن األشاعرة،
وحاصل ما قاله تحت هذا العنوان إن األشاعرة لما رأوا أن الرؤية تفضي
إلى القول بالتجسيم ،وكان القول بالتجسيم محاالً ممتنعاً ،حاولوا تصحيح
مقولتهم بثبوت وجواز الرؤية بال لزوم التجسيم بوجوه خارجة عن محل
النزاع ،كما قال السبحاني.
والحقيقة أن قول السبحاني مصادرة على المطلوب كما قلنا ،ألن النزاع
أصالً :هل ال يمكن تحقيق الرؤية إال على النحو الحسي المستلزم للجهة
والحد ،أم ال؟ فهو و َم ْن وافقه قال نعم ال يمكن إال هذا الوجه وهذا المعنى،
واستداللهم مبني على ما يحسون به وادعوا أن هذا بديهي ،والحقيقة أنه من
الظواهر الحسية والعقل ينفي كونها بديهية ،فالحس ال يدل إال على الوقوع،
وال يدل على االستحالة ،وكالمنا في االمتناع.
وكذلك فالعقل دل على أنه ال خالق إال للا ،وأنه يخلق بال واسطة ،وال توجد
علل وترتبات بين الموجودات الحادثة ،هذا عند األشاعرة.
وليس هذا مجرد محاولة تخريج للقول أو خروج عن محل النزاع ،بل هو
تحقيق لنفس المسألة ،ولكن الشيخ السبحاني لم يقل ذلك ،ولو قاله لدل على
إنصافه ،ويمكن بعد ذلك أن يخالفهم في نفس هذا الرأي لو شاء ،ولكن
اإلنصاف مطلوب منه ولم يفعله ،بل بادر -كما هي عادتهم -إلى اتهام
األشاعرة بالتلفيق.
وقد نقل السبحاني قول الشهرستاني في بيان أن مذهب المعتزلة شرط الرؤية
بتلك الشروط المستلزمة للحد والجهة" :ونفوا رؤية الباري تعالى باألبصار
نفي االستحالة ،واألشعري أثبتها إثبات الجواز على اإلطالق ،والوجوب
بحكم الوعد".أ.هـ.
وكذلك لما وردت نسبة الرؤية إلى للا تعالى ،وكان المتبادر منها الرؤية
الحسية ،وهذه محالة على للا تعالى ،بحثنا في اللغة عن معنى آخر وتحقيق
لمفهوم الرؤية ،فقلنا إنها حالة إدراكية أعلى مما تحصل عليه بواسطة النظر،
وهذا جائز على للا تعالى ،أي يجوز أن نعلم من كماالت للا تعالى أكثر مما
نعلمه عن طريق النظر العقلي ،فنحمل الرؤية على هذا القدر ،وننفي اللوازم
الحسية ،وهذا هو الذي فعله األشاعرة ،بحيث ال يلزمهم نفي نص وارد في
الشريعة صحيح النسبة ،وال يلزمهم مخالفة وال معارضة المقطوع به عقالً
على للا تعالى من تنزيهه عن الجسمية والحدود والجهات.
فأين اإلشكال في هذا المذهب ،بل إن المنصف ال يرى فيه إال كل إتقان
وإبداع ...
وعلق السبحاني على هذا الكالم قائالً (" :)130/2إن تمني الرؤية واإلبصار
بغير المقابلة والجهة مع تحققها بالعيون واألبصار أشبه بتمني وجود الشيء
مع التأكيد على عدمه".أهـ.
يريد السبحاني بهذا التعليق الحكم على كالم القوشجي بالتناقض ،فهل كالم
القوشجي فيه تناقض حقا ً كما يريد السبحاني إيهام ذلك ؟!
والحقيقة أنه بأدنى نظر نتبين أنه ال يوجد تناقض داخلي في كالم القوشجي،
بل التناقض ناتج عن أن السبحاني ألزم القوشجي بنا ًء على مذهبه هو ال
مذهب القوشجي ،وبيان ذلك :أن القوشجي يقول بإمكان خلق اإلدراك مع
عدم وجود االتصال والحد والجهة وغير ذلك ،وهو بنا ًء على ذلك يقول إذا
حصل لنا إدراك علمي بمستوى معين ،فهل يمكن أن يحصل لنا إدراك علمي
بمستوى أعلى منه ونسميه الرؤية كما نسمي إبصارنا للشمس رؤية ،هذا هو
حاصل كالم العالمة القوشجي ،وال يوجد تناقض.
ولكن السبحاني يعتقد في نفسه أنه ال يوجد رؤية إال باتصال شعاع ومقابلة
وجهة ،فلما سمع القوشجي يقول برؤية بدون تلك األمور ألزمه بطلب وتمني
الرؤية واإلبصار مع عدم تحققها باألبصار مع أنها عند السبحاني ال تحصل
إال باألبصار ،وظاهر أن هذا اإللزام ال يلزم ،ألنه إلزام مركب على مذهب
الملزم ،وليست كل مقدماته يسلم بها القوشجي كما هو ظاهر.
ِّ
وتوضيح ذلك :أننا يمكن أن نعلم الشيء بالنظر والرسم والحد ،ثم يمكن أن
نعلمه بمشاهدته باإلبصار ،ومعلوم تفاوت هاتين الدرجتين من العلم ،ومعلوم
أن حقيقة اللون مثالً المشاهَد بالعين واألبصار ال يمكن إدراكها إال بالعين،
أي ال يمكن إدراك حقيقة اللون عن طريق النظر العقلي واالستدالل ،وعلمنا
باللون وإن توقف عادة على البصر واتصال الشعاع ،إال أنه أقوى من علمنا
بالشيء بمجرد النظر العقلي ،فتحقق لنا إذن مستويان من العلم ،فالسؤال هنا:
هل يستحيل عقالً أن يحصل لنا علم باهلل تعالى بدرجة أعلى من الدرجة التي
حصلنا عليها عن طريق النظر العقلي والبحث في األخبار ،بحيث تسمى
صلناه رؤية؟
هذه الدرجة من العلم بالنسبة لما ح َّ
إن الذي يفهم المسألة على هذا النحو يجزم بال تردد بعدم امتناع هذه الدرجة
من العلم ،خاصة إذا أرجعنا حصولها إلى إرادة للا تعالى وقدرته المحيطة
بكل الممكنات كما يقول األشاعرة.
وإذا ص َّح ذلك ،فال يبقى هناك وجه للقول باستحالة الرؤية خاصة إذا الحظنا
ورود األحاديث وورود بعض اآليات الدالة على إمكان الرؤية هلل تعالى.
فحكم العقل باإلمكان ،مع ورود النصوص الشرعية ،يكفيان للجزم بجواز
هذه المسألة ،أعني رؤية للا تعالى ،ويتوقف ثبوتها وحصولها في اآلخرة أو
في الدنيا على ثبوت سند الروايات الواردة بذلك ،فال تناقض مطلقا ً في مذهب
األشاعرة ،وليس مذهبا ً ملفقا ً كما يقول المعتزلة والشيعة وأنصاف الفالسفة
وغيرهم ،بل هو مذهب مبني على التحقيق العميق في العقليات والنظر الدقيق
مع احترام نصوص الشريعة وعدم إهمال شيء منها.
ثم قال الشيخ السبحاني (" :)130/2و َمن أمعن النظر في كتب األشاعرة
خصوصا ً القدامى منهم ،وباألخص كتب أهل الحديث والحنابلة يرى أنهم
يفرون من هذه المحاوالت وال يرون لها قيمة في أوساطهم ،وهم يتمسكون
بالروايات وما استظهروه من اآليات ويحكمون بالرؤية الحقيقية كرؤية
القمر.
قال الشيخ األشعري في اإلبانة" :وندين بأن للا تعالى يُرى في اآلخرة
باألبصار كما يرى القمر ليلة البدر ،يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن
رسول للا صلى للا عليه وآله وسلم".
وقال في اللمع" :إن قال قائل :لم قلتم إن رؤية للا باألبصار جائزة من باب
القياس قيل له :قلنا ذلك ألن ما ال يجوز أن يوصف به للا تعالى ويستحيل
عليه ال يلزم في القول بجواز الرؤية".أهـ .انتهى كالم السبحاني.
وما ذكره من أن المتقدمين كاألشعري لم تكن تعجبهم هذا المذهب الذي سماه
السبحاني محاوالت ،يقصد محاوالت لتخريج الرؤية وصرفها عن التشبيه
والتجسيم ،والسبحاني يدعي أن هؤالء المتقدمين كانوا يقولون بظاهر
األحاديث ويثبتون الرؤية الحقيقية ،وقد عرفنا نحن أن مراد السبحاني
بالرؤية الحقيقية الرؤية الحسية المستلزمة للجهة والحد والمقابلة والشعاع
واالنفعال ،وهذه الرؤية لم يقل بها األشاعرة مطلقا ً ال المتقدمون منهم وال
المتأخرون ،وحتى اإلمام األشعري لم يقل بذلك وال أحد من تالمذته .بل
مذهب على طول العصور واحد وهو ما بيناه سابقا ً.
وأما الكالم الذي نقله عن اإلمام األشعري من اإلبانة فال يستلزم الجهة والحد
وإثبات الرؤية الحسية مطلقاً ،ألن اإلمام األشعري يقول إن للا تعالى يخلق
الرؤية مباشرة في األبصار دون أن يستلزم ذلك كون للا في جهة وبال
اشتراط شعاع ،فهو خلق مباشر من للا تعالى لإلدراك المسمى بالرؤية في
األبصار ،وال إشكال في ذلك كما علم في دقيق الكالم ،وبعضهم قال :يخلقها
للا تعالى في النفس مباشرة وبعضهم في الوجه ،وهذا مبني عندهم على أن
اإلدراك ال يشترط فيه البنية ،وهي مسألة معروفة ،والحجة في ذلك األصل
الكبير الذي نبهنا إليه سابقاً ،وهو أن للا تعالى خالق لألشياء بال واسطة،
وال يوجد علية وال معلولية بين الموجودات الخارجية في هذا العالم.
وقد علم عند الجميع أن تشبيه الرؤية برؤية البدر إنما هو من حيث الوضوح
والتميز وعدم الشك في كون المرئي هو للا تعالى ،وليس المقصود هو رؤية
للا في جهة وال غير ذلك ،لذلك قال النبي" :ال تضامون في رؤيته" ،و"ليس
بينكم وبينه سحاب" ،وغير ذلك مما يدل على جهة الشبه في الرؤية وهي
الوضوح والتميز.
وأما النص الذي نقله السبحاني عن اإلمام األشعري من كتاب اللمع ،فهو
صريح فيما قلناه من نفي الحد والمقابلة والجهة ،ال في إثباتها كما يريد
السبحاني أن يدعيه ،ودليل ذلك أن األشعري قال" :ألن ما ال يجوز أن
يوصف به للا تعالى ويستحيل عليه ال يلزم في القول بجواز الرؤية".أهـ.
هذا هو كالمه الذي نقله السبحاني نفسه ،ولو سأل نفسه :ما هو الذي يستحيل
على للا تعالى لعرف أن الذي يستحيل عليه تعالى وال يجوز أن يوصف به
هو الحد والتجسيم والجهة وسقوط الشعاع ،وغير ذلك مما جعله السبحاني
جزءاً من الرؤية أو علة لها ،كما سبق بيانه ،فاإلمام األشعري ال يجعل شيئا ً
من ذلك شرطا ً وال علة ،بل يقول إن للا يقدر على خلق اإلدراك الذي هو
الرؤية بال تقدم هذه األمور ،ألن هذه كلها شروط عادية ،تترتب بخلق للا
وإرادته وال يوجبها العقل لحصول الرؤية.
هذا هو ما يقول به اإلمام األشعري ،وهذا هو معنى كالمه ،وال يحتاج الواحد
إلى عميق فكر ونظر حتى يعرف معناه ،ولكنا قلنا إن السبحاني بنى جهات
من كالمه على مجرد مغالطات ومصادرات على المطلوب.
وبذلك ،يكون العنوان الذي عنون به السبحاني هذه الفقرات ،وهو "محاولة
فاشلة" وصفا ً الئقا ً بكالمه هو ال بما توهم أنه ف َعلَهُ األشاعرة كما قال.
وبعد أن بينا بطالن كالم السبحاني في هذا الموضع وعدم اتساقه ،نكتفي
بذكر بعض كالم اإلمام أبي الحسن األشعري كما ذكره عنه اإلمام ابن فورك
في مجرد مقاالت األشعري ،ص ،82قال" :وكان يجيب عن سؤال من يسأله
في ذلك "كيف يُرى؟" أن هذا ال يخلو من أن يكون سؤاالً عن كيفية الرؤية
أو عن كيفية الرائي أو عن كيفية المرئي ،فإن كان سؤاالً عن كيفية الرؤية،
فإن شيئا ً من األعراض ال كيفية لها ،بل الكيفية نوع من األعراض ،وهي
التركيب والهيئة ،وإن كان سؤاالً عن كيفية المرئي فال كيفية له؛ ألنه ليس
كالم من يسأل فيقول:
َ بأجزاء مر َّكبة ،ويقول[ :هذا كما تحيلون أنتم ونحن
كيف يُعلم؟ والجواب :أنه يُرى بال كيفية له كما يُ ْع َل ُم بال كيفية له]"أ.هـ.
وهذا الكالم واضح في نفي الحد والجهة وما زعم السبحاني أنه ال ينفك عن
الرؤية.
وقد نقل عنه اإلمام ابن فورك كالما ً كثيراً في تحقيق مذهبه ،وكله يبطل ما
ينسبه إليه الشيخ السبحاني ،وكان يكفي السبحاني مجرد مراجعة هذا الكتاب
ليمسك عن كتابة ما كتبه ،بل لعمر الحق كان يكفيه مجرد التأمل في نفس
العبارات التي نقلها هو من كتاب اللمع لإلمام األشعري ليعرف أنها ال تدل
على ما زعمه ،والكالم في هذا المعنى أكثر من ذلك ال حاجة إليه بعد اتضاح
الحق.
ناقش الشيخ جعفر السبحاني بعض أدلة الجواز عند من قال بذلك ،وسوف
نتعقبه نحن في كالمه وننقد بعض ما فيه اختالل.
قال السبحاني (" :)131/2إن الشيخ األشعري استدل على جواز الرؤية
بوجوه عقلية نقتطف منها وجهين:
األول :قال" :ليس في جواز الرؤية إثبات َح َدث ،ألن المرئي لم يكن مرئياً،
ألنه محدث ولو كان مرئيا ً لذلك للزمه أن يرى كل محدث ،وذلك باطل
عنده" ،كذا نقله السبحاني في كتابه ،والحقيقة أنني عندما رأيت هذا النقل
عرفت أن فيه غلطا ً ما ،فرجعت إلى كتاب اللمع لألشعري وتصحيح العبارة
من كتاب اللمع ص 61كما يلي" :وليس في جواز الرؤية إثبات َح َدث ،ألن
المرئي لم يكن مرئيا ً ألنه محدث ،ولو كان مرئيا ً لذلك للزمهم أن يرى كل
محدث ،وذلك باطل عندهم".أهـ.
وقبل ذلك قال" :إن قال قائل :لم قلتم إن رؤية للا تعالى باألبصار جائزة من
باب القياس؟ قيل له :قلنا ذلك ألن ما ال يجوز أن يوصف به الباري ويستحيل
عليه فإنما ال يجوز ألن في تجويزه إثبات حدثه ،او إثبات حدث معنى فيه،
أو تشبيهه أو تجنيسه أو قلبه عن حقيقته أو تجويزه أو تظليمه أو تكذيبه،
وليس في جواز الرؤية إثبات حدث ،ألن المرئي ...إلخ"أ.هـ.
هذا هو كالم اإلمام األشعري ،ومن الواضح أنه يستدل على جواز الرؤية
بأن الرؤية حاصلة في الرائي ال في المرئي ،وال تستلزم حصول معنى
حادث في المرئي ،فإذا كانت كذلك ،فاألصل القول بجوازها ،إذ العقل ال
يمنع ذلك إال إذا كانت هناك موانع منه ،والموانع التي يذكرونها من استلزام
الحيز والجهة والحد ،بينا نحن أنها غير الزمة ألن معنى الرؤية حصول
الصورة أو اإلدراك في البصر ،وهذا األمر يمكن بقدرة للا تعالى بال
واسطة ،فاألصل بقاؤها في حيز الجواز عند العقل.
وهذا االستدالل جيد وتام ،ألن األصل عدم الحكم على األمر باالمتناع إال
لسبب ،فإن عرفنا مانعا ً قلنا به ،وإن عرفنا موجبا ً قلنا به ،وإال بقي األمر
على مطلق الجواز ،والجواز كما هو معلوم إما أن يكون بمعنى عدم المانع،
وإما أن يكون بمعنى الحكم بالصحة.
وبالمعنى األول إما أن يكون لعدم العلم بالمانع ،وإما أن يكون للعلم بعدم
المانع ،فعلى الثاني يرجع إلى القول بالصحة والجواز بالمعنى األخص ،وأما
بالمعنى األول وهو عدم العلم بالمانع فال يكفي االستناد إليه في أحكام
األلوهية ،إال إذا انضم مع ذلك ورود الشريعة بإطالق الرؤية ،فيكون مرجحا ً
ومبينا ً لعدم المانع.
هذا هو مقصود اإلمام أبي الحسن األشعري ،بل هذا هو معنى كالمه ،فلننظر
اآلن كيف علق الشيخ جعفر السبحاني على هذا الكالم ،قال (" :)131/2إن
الحدوث ليس شرطا ً كافيا ً في الرؤية ،حتى تلزم رؤية كل محدث ،بل هو
شرط الزم يتوقف على انضمام سائر الشروط التي أشرنا إليها ،وبما أن
بعضها غير متوفر في الموجودات المجردة المحدثة ،ال تقع عليها
الرؤية".أهـ.
هكذا علق هذا الشيخ المحقق الجهبذ على كالم األشعري ،والناظر في معنى
كالمه يعلم علما ً يقينيا ً أنه لم يفهم كالم األشعري كما وضحناه أعاله ،بل ظن
السبحاني أن األشعري يقول إن شرط الرؤية حدوث المرئي ،فعارضه
السبحاني بأن قال :بعض الحوادث ال ترى ،فالحدوث ليس شرطا ً كافيا ً أي
سببا ً للرؤية ،ومعلوم أن هذا الكالم دال على عدم فهم عبارة األشعري وال
طريقة استدالله وال على ماذا يستدل.
فقد قلنا إن األشعري يستدل على مجرد الجواز ،وكالمه صحيح ،وهو ال
يستدل على الوقوع فضالً على لزوم الوقوع حتى يعارض بهذا الكالم،
واألشعري يتكلم عن عدم لزوم حصول معنى حادث في ذات المرئي عند
الرؤية ،وال يتحدث عن كون الحدوث شرطا ً للرؤية ،وفرق بين هذا وذاك،
بل هو رحمه للا نفى بكالمه أن تكون الرؤية سببا ً لحدوث المرئي خالفا ً لما
قاله السبحاني.
ولنكمل ما قاله السبحاني ،قال (" :)131/2الثاني قال" :ليس في إثبات الرؤية
هلل تعالى تشبيها ً".
وأكمل قائال":يالحظ عليه :إن حقيقة الرؤية قائمة بالمقابلة أو ما في حكمها،
وهي ال تنفك عن كون المرئي في جهة ومكان ،وهو يستلزم كونه سبحانه
ذا جهة ومكان ،فأي تشبيه أظهر من ذلك ،وكيف يقول :إن تجويز الرؤية ال
تورد يا سع ُد اإلبل" أ.هـ.
يستلزم التشبيه ؟! ما هكذا َ
هذا كالم السبحاني ،والحقيقة أنني كلما قرأت له كالما ً أزدا ُد تعجبا ً منه ومن
كالمه ،فها هو مرة أخرى يلزم األشاعرة باستعمال مقدمات ال يسلمون هم
بها ،فإنه يقول إن الرؤية ال تحصل إال بحد ومقابلة وجهة ،ويلزمهم بنا ًء
على ذلك بثبوت ذلك هلل تعالى عند القول بصحة رؤيته ،وهو يعلم – أي
السبحاني – علما ً تاما ً أن األشاعرة يقولون بعدم وجود التالزم بين الرؤية
وبين هذه األمور التي تستلزم التشبيه ،فال يصح له إلزامهم بالتشبيه مطلقاً،
بل يكون ذلك كذبا ً عليهم وإلزاما ً لهم بما صرحوا بنفيه ،ويكون مغالطة
محضة ،وقد ارتكبها السبحاني عدة مرات كما رأينا ،ووجه المغالطة أنه
يعتمد في إلزامهم على مقدمات ينكرونها ،ثم هذا ليس دليالً خاصاً ،بل هو
تكملة لالستدالل السابق على الجواز فعده دليالً ثانيا ً مغالطة أخرى من
السبحاني.
وقد اعتاد السبحاني -هداه للا -أن يبني كالمه على ما يتوهمه ،ولذلك لما
اعتقد صواب انتقاده السابق لإلمام األشعري بنى عليه ،ولما نظر في كتب
المتأخرين من األشاعرة ورأى أنهم يقولون بأن المصحح للرؤية هو الوجود
تحقيقا ً لقول األشعريَّ ،
ظن أن هذا عبارة عن محاولة أخرى منهم لترقيع
المذهب الذي فهمه هو عن األشعري ،وظنه منهم دليالً جديداً ،ولم يراجع
نفسه فيحتمل خطأ كالمه السابق كما بيناه ،ولذلك قال (" :)131/2ثم إن أئمة
األشاعرة في العصور المتأخرة لما وقفوا على َوهن الدليلين السابقين ؟!
أن ِّمالك الرؤية والمصحح لها أمرعدلوا إلى دليل عقلي آخر ،وحاصله َّ
مشترك بين الواجب وغيره ،قالوا :إن الرؤية مشتركة بين الجوهر
وال َع َرض ،وال بد للرؤية المشتركة من علة واحدة ،وهي إما الوجود أو
الحدوث ،والحدوث ال يصلح للعلية؛ ألنه أمر عدمي فتعين الوجود ،فينتج
أن صحة الرؤية مشتركة بين الواجب والممكن".
والحقيقة أنه قد جانب الصواب في هذا التعليق أيضاً ،وذلك لما يلي:
أوالً :إن القول بأن المصحح للرؤية هو الوجود ثابت النسبة إلى اإلمام
األشعري ،وليس هو من مخترعات المتأخرين ،وبالتالي فلم يخترعه
المتأخرون ليحاولوا تعديل فساد األدلة التي نسبها السبحاني إلى األشعري،
فقد رأينا أن السبحاني لم يفهم حقيقة قول األشعري وأنه نسب إليه استدالالت
ال يقول بها.
ثانيا ً :مع أن األشعري يقول إن المصحح للرؤية هو الوجود ،فقد اشتهر عند
األشاعرة أن الكثير منهم لم يوافقوه في هذا القول بل خالفوه فيه ،وبالتالي
فإن األشاعرة أنفسهم هم الذين نقدوا كالم األشعري ولم ينتظروا الشيخ
السبحاني حتى يبين لهم ضعف هذا االستدالل.
ثالثا ً :ولكن يبقى إدخال السبحاني العلوم المتأخرة في قوله" :كشف عنها العلم
في تحقيق الرؤية ..إلخ" ،فقد تبين لنا أن هذا ما هو إال مجرد مبالغات
واستعارة لبعض األلفاظ التي ال تفيد في هذا المقام ،فقد علمنا أن بحوث العلم
المعاصرة لم تزد على أن وضحت تفاصيل هذا االنفعال ،ولكن معرفة كونه
انفعاالً معلوم منذ مئات السنين ،ولم يكن العلماء جاهلين بذلك القدر ،والعلم
بهذا القدر يكفي لبناء األدلة العقلية كما هو معلوم.
رابعا ً :ال مدخلية للتجربة والحس ههنا في تحديد معنى الرؤية ،بل يحتاج
ذلك إلى نوع نظر ،وتمسك السبحاني بمجرد البناء على الظاهر من الحس
مصادرة على المطلوب كما قدمناه.
والجواب :كل ما هو موجود يصح أن يدرك بهذا المعنى الذي وضحناه ألنه
علم خاص أو زيادة علم وإدراك ،وال نمنع إمكان رؤية ما ذكره ،غاية األمر
أن مجال الرؤية الحاصل للمخلوقات محصور ومقيد بحدود معينة ،ولكن
هذا ال يستلزم االمتناع ،غاية ما يستلزمه عدم رؤيتها بالفعل ،وعدم الرؤية
بالفعل ال يستلزم عدم اإلمكان ،وكالمنا أصالً في اإلمكان.
فظهر بذلك أن ال دليل في كالم السبحاني يتم له ،وكثير من كالمه مبني على
مغالطات ومصادرات على المطلوب.
ولم يذكر السبحاني أي دليل نقلي على عدم الرؤية ونفيها إال من خالل
مناقشته ألدلة المثبتين ،ثم بعد ذلك أرجع مسألة إثبات الرؤية إلى اليهود
والنصارى ،وادعى أنها تسربت إلى من قال بها من المسلمين منهم ،ودسوها
عليهم فقال (" :)139/2والقائلون بالرؤية من المسلمين وإن استندوا إلى
الكتاب والسنة ودليل العقل ،لكن غالب الظن أن القول بها تسرب إلى
أوساطهم من المتظاهرين باإلسالم كاألحبار والرهبان ،وربما صاروا
مصدراً لبعض األحاديث في المقام وصار ذلك سببا ً لجرأة طوائف من
المسلمين على جوازها واستدعاء األدلة عليها من العقل والنقل"أ.هـ.
فها هو الشيخ السبحاني يتهم من قال بالرؤية بأنه استمد ذلك من اليهود
والنصارى ،ويكاد يصرح ،بل يصرح بأن األحاديث التي تثبت الرؤية
إسرائيليات محضة ،وأن َمن أثبت الرؤية قد وقع ضحية هذه اللعبة من اليهود
والنصارى حتى جعل يستدعي أدلة من القرآن.
هذا هو تصور السبحاني وتصور الخليلي في كتاب الحق الدامغ كما سنرى
عن أحوال الذين أثبتوا الرؤية ،لم يفرقوا بين واحد منهم.
ومن الواضح أن هذا الكالم يمكن أن ينعكس عليهم؛ ألن بعض اليهود كانوا
يقولون بنفي الرؤية كما هو معلوم ،ف ِّل َم ال يقال :إن َم ْن نفى الرؤية كان
متأثراً بهؤالء ؟! واستمدها منهم ؟! خاصة أنه ال يوجد حديث واحد ينفي
الرؤية صراحة ،وإن توهموا داللة بعض األحاديث على ذلك ،كما سيأتي
بيانه ،مع أنه يوجد أحاديث عديدة تثبتها صراحة ،ولو كانت اليهود تثبتها
واإلسالم ينفيها لنبه النبي – صلى للا عليه وسلم – إلى ذلك ،ولو ببعض
األحاديث كما نبه المسلمين على غير ذلك مما يخالف اإلسال ُم فيه اليهود
والنصارى.
ثم هذه اآليات التي يستدل بها المثبتون للرؤية ،هل ُدسَّت داللتها أيضا ً في
دس هذه الدالالت على الرؤية،
القرآن؟! هل يمكن القول إن اليهود استطاعوا َّ
والمخالف إنها ظنية وال تفيد اليقين ،هل دسوها
ُ وإن قال عنها السبحاني
أيضا ً في القرآن؟!
إننا نريد القول بأن هذا األسلوب من مناقشة األفكار أسلوب هابط وباطل،
وال يمكن تجويز القول به إال بأدلة صريحة واضحة ،وال يمكن طرد ذلك
في كل مسألة يحصل فيها خالف ،فيرمي كل واحد من المسلمين مخالفه بأنه
يتبع اليهود والنصارى.
وأما األدلة النقلية التي يعتمد عليها السبحاني وغيره من النفاة ،فسوف نناقش
استداللهم بها في محله.
القاضي عبد الجبار من كبار المعتزلة ،وكتابه هذا من أهم الكتب الموجودة
اآلن للمعتزلة ،وسوف نناقشه في كالمه على نفي الرؤية من الناحية العقلية
وما يتعلق بذلك ،وأما مناقشة االستدالالت النقلية على الرؤية ونفي الرؤية
فسوف نرجئها إلى محلها.
قال القاضي عبد الجبار في شرح األصول الخمسة ،ص" :232ومما يجب
نفيه عن للا تعالى الرؤية ،وهذه مسألة خالف بين الناس ،وفي الحقيقة
الخالف في هذه المسألة إنما يتحقق بيننا وبين هؤالء األشعرية الذين ال
يكيفون الرؤية ،فأما المجسمة فهم يسلمون أن للا تعالى لو لم يكن جسما ً لما
ص َّح أن يُرى ،ونحن نسلم لهم أن للا تعالى لو كان جسما ً لص َّح أن يُرى،
والكالم معهم في هذه المسألة لغو"أ.هـ.
إذن المعتزلة يوافقون المجسمة في أصل الرؤية ،أي في معناها وماهيتها،
ولكن لما كان المعتزلة ينزهون للا تعالى عن الجسمية ،فقد نفوا الرؤية؛ ألن
الرؤية تستلزم الجسمية ،ولما كان المجسمة يعتقدون الجسمية هلل تعالى
والحق والجهة ،أثبتوا الرؤية ،ومحل االتفاق بين المعتزلة والمجسمة إنما
هو على الرؤية الحسية المستلزمة للجهة والتحيز والمكان للمرئي ولالتصال
بالشعاع ،إلى آخر ما ذكره السبحاني ووضحناه عنه.
صرح القاضي عبد الجبار بأن الخالف إنما يصح بينهم ،أي المعتزلة
َّ وقد
وبين األشاعرة ،وال يصح نصبه بينهم وبين المجسمة من هذه الجهة ،وأصل
الخالف بين المعتزلة واألشاعرة إنما هو في المعنى الذي وضحناه سابقاً،
وهو هل يمكن حصول الرؤية وهي اإلدراك الزائد على العلم المتوصل إليه
بالنظر العقلي ،من دون اتصال شعاع وال مقابلة ،إلى آخر ذلك.
فاألشاعرة أجازوا ذلك ،ألنهم يعتقدون أن للا تعالى على كل شيء قدير،
وهو فاعل مختار ،يمكن أن يخلق هذا اإلدراك بدون خلق ما يسبقه عادة،
وذلك ألن الشروط غير المشروط ،وإذا كانت الشروط عادية فيمكن عدم
وجودها بالكلية مع وجود المشروط بها ،هذا هو معنى الشرط العادي ،وكالم
األشاعرة بنا ًء على ذلك صحيح ال غبار عليه ،وال تناقض فيه.
هذه كانت كالمقدمة لمناقشة القاضي عبد الجبار ،ثم ذكر القاضي كالما ً فيه
فوائد وفيه مصائب وباليا ،يحسن بنا أن ننبه إليه ونوضح ما فيه ،قبل أن
نكمل مناقشتنا الستدالالته العقلية.
قال القاضي عبد الجبار ص" :233ويمكن أن نستدل على هذه المسألة بالعقل
والسمع جميعاً ،ألن صحة السمع ال تقف عليها ،وكل مسألة ال تقف عليها
صحة السمع فاالستدالل عليها ممكن ،ولهذا جوزنا االستدالل بالسمع على
كونه حياً ،لما لم تقف صحة السمع عليها"أ.هـ.
هذا القسم األول من كالمه ،وقد صرح بهذه القاعدة التي ذكرها علماؤنا من
األشاعرة أيضاً ،فقالوا :كل ما يتوقف ثبوت السمع عليه ،فال يصح االستدالل
عليه بالسمع ،كوجود للا وكونه قادراً وعالما ً مريداً ،وقد ضبطنا هذا في
حاشيتنا على صغرى الصغرى وفي ما قلناه في شرح كالم العضد على ابن
الحاجب األصولي ،بما إذا كان كالمنا مع المخالفين ألصل الدين والمنكرين
لرب العالمين ،فال يصح االستدالل على وجود للا تعالى للمنكر لوجوده
بقوله تعالى" :قل هو للا أحد" أو غيرها من اآليات القرآنية ،ألن هذا الذي
ال يعلم وجود للا أو ينكره ،كيف يسلم بالقرآن الذي ال يثبت إال إذا أثبتنا
وجود للا تعالى؛ ولذلك وجب أن نستدل عليه بالعقل حال مخاطبتنا المخالفين
في األصول.
بقي ما في كالم القاضي عبد الجبار من اعتبار صفة الحياة يصح االستدالل
عليها بالسمع ،فهذا خالف ما عليه أئمتنا األشاعرة ،فالدليل عليها عقلي ،فال
عالم إال حي ،ويستحيل التصديق بعالم غير حي ،فهي من الصفات التي
يستدل عليها بالعقل على حسب التفصيل السابق.
ثم قال القاضي ص" :233يبين ذلك أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعا ً
حكيما ً وإن لم يخطر بباله أنه هل يُرى أم ال ،ولهذا لم نكفر َمن خالفنا في
هذه المسألة لما كان الجهل بأنه تعالى ال يرى ال يقتضي جهالً بذاته وال
بشيء من صفاته ،ولهذا جوزنا في قوله تعالى" :رب أرني أنظر إليك" أن
يكون سؤال موسى عليه السالم سؤاالً لنفسه ،ألن المرئي ليس له بكونه
مرئيا ً حالة وصفة ،وعلى هذا لم ِّ
نجهل شيخنا أبا علي باألكوان ،حيث قال
إنها مدركة بالبصر".أهـ.
نعم ،ما قاله القاضي عبد الجبار عن أن مسألة الرؤية ال يتوقف عليها إثبات
وجود للا وال ثبوت الشريعة ،صحيح ،وبنا ًء على ذلك ،فإن المسألة تندرج
من حيث الطرق التي يصح االستدالل عليها بها في القاعدة السابقة التي
وضحناها.
ولكن تأمل في باقي كالمه ،فهو يصرح بأن من ال يعرف أن للا ال يُرى،
ليس بجاهل باهلل العظيم؟! وهو يقصد فقط أنه ال يترتب على جهله بالرؤية
الشك في كون للا تعالى صانعا ً حكيماً ،فهو يقول :إن من علم كون للا صانعا ً
حكيما ً وجهل كونه يرى أو ال يُرى ،فال يعود هذا بالضرر على كونه عالما ً
باهلل.
وبنا ًء على ذلك ،فهو يقول :ال ضرر من االعتقاد بأن سيدنا موسى عليه
السالم كان جاهالً بهذا الحكم ،أي كون للا ال يرى ،بل ربما ال يَرى إشكاالً
في اعتقاد سيدنا موسى عليه السالم جواز رؤيته ،ألن ظاهر كالمه عليه
السالم يدل على أنه يعتقد جواز الرؤية.
فهذه إشكالية كبيرة يقع فيها المعتزلة ،ويحاولون التملص منها بادعاء أن هذا
األمر ال يضر بكون الجاهل به عالما ً باهلل تعالى.
ولكن الحقيقة الواضحة التي ال يستطيع أحد إنكارها ،هي أن الجاهل بكون
للا ال يُرى على حسب مذهب المعتزلة ،يجب أن يكون جاهالً بأن للا منزه
عن الجسمية والجهة والحد وغير ذلك ،وهذا كله داخل في التوحيد عندهم،
وهو أصل من أصول الدين فيلزم جهل سيدنا موسى عليه السالم -بنا ًء على
مذهب المعتزلة -بهذا كله.
وهذا الزم قبيح جداً ،وهم يعلمون أنه الزم لهم ،ولكن يحاولون التملص من
الحكم المترتب عليه بأن يقولوا :الجاهل بعدم صحة الرؤية ،ال يستلزم ذلك
كونه جاهالً باهلل العالم الصانع ،فنقول :نعم قد ال يستلزم ذلك ،ولكن يستلزم
جهله بكون للا منزها ً عن الجهة والحد والمكان كما بيناه.
وبيان اللزوم أنهم ادعوا أنه ال توجد رؤية إال بكون المرئي في جهة وكونه
ذا حدود ومكان ..إلخ ،وإذا قيل إن للا يُرى ،يلزم كون للا في جهة وفي
مكان وله حدود ،وهذا باطل ،والعلم بالرؤية بالمعنى الذي يدعونه بديهي
ضروري ،وحسي كما صرح به الشيخ السبحاني كما نقلناه عنه.
فيلزم إذن أن يكون موسى عليه السالم جاهالً إما بمعنى الرؤية الضروري،
أو جاهالً بكون للا منزها ً عن الحد والجهة والمكان ،وكال الالزمين قبيح.
ويبدو أن القاضي عبد الجبار يلتزم كون موسى جاهالً من هذه الجهة ،ولكن
هذا عنده ال يستلزم كونه جاهالً باهلل العالم الصانع ،أي باهلل من حيث هو
عالم صانع.
وهذا صحيح ،إذا صح عند المعتزلة جسم قديم خالق ،وهم ال يصححون
ذلك ،بل ينفونه.
ونحن نقول تحقيقا :إذا قالت المعتزلة بأن الجاهل باستحالة الرؤية ال يلزمه
الجهل باهلل تعالى العالم الصانع ،فإننا نقول بل يلزمه على التحقيق ،وذلك
ألن المعتقد بصحة الرؤية عندهم ،يعتقد بأن للا تعالى جسم أو متحيز،
الستلزام الرؤية ذلك عندهم ،والمعتقد بأن للا تعالى جسم ،يستلزم إثبات
جسم قديم أوال ،وهذا قبيح .ويلزمه مخالفة ما تقرر عند العقالء من أن الجسم
ال يخلق أجساما ،فاإلله إذا كان جسما فيستحيل أن يخلق أجساما ،ولذلك
فيستحيل أن يكون صانعا ،وهذا يخالف ادعاء القاضي عبد الجبار بأنه ال
يستلزم إنكار العالم الصانع .بل تبين لنا أن يخالفه ويعارضه!!
فقد اتضح إذن أن المعتزلة يلزمهم قبائح عديدة ال يستطيعون التملص منها.
ولهذا األمر ،فقد جاء علماؤنا األشاعرة وقالوا :إن معنى الرؤية ليس مستلزما ً
للحد والمكان والجهة كما وضحنا ،وطلب الرؤية واعتقادها أي القول
بصحتها ال يستلزم الجهل باهلل تعالى ،وال إثبات الحد والجهة والحيز له ج َّل
شأنه ،وال يستلزم ذلك كون سيدنا موسى عليه السالم جاهالً مطلقا ً ال باهلل
وال باألمر الضروري ،بل موسى عليه السالم ما طلب إال أمراً ممكنا ً ولو
كان محاالً لما طلبه .وهذا الكالم والتخريج والتحقيق للمسألة بهذه الصورة
ال يتم إال بنا ًء على مذهب السادة األشاعرة والماتريدية أهل السنة.
وسوف يأتي لهذا كله مزيد توضيح عند مناقشة األدلة النقلية ،ونشرع اآلن
في مناقشة القاضي عبد الجبار في استدالالته العقلية ومناقشته العقلية
للمخالفين.
قال القاضي عبد الجبار (" :)248/2داللة المقابلة :وتحريرها أن الواحد منا
راء بحاسة ،والرائي بالحاسة ال يرى الشيء إال إذا كان مقابالً أو حاالً في
المقابل أو في حكم المقابل ،وقد ثبت أن للا تعالى ال يجوز أن يكون مقابالً
وال حاالً في المقابل وال في حكم المقابل.
وهذه الداللة مبنية على أصول ،أحدها :أن الواحد منا راء بالحاسة ،والثاني:
أن الرائي بالحاسة ال يرى الشيء إال إذا كان مقابالً أو حاالً في المقابل أو
في حكم المقابل ،والثالث :أن القديم تعالى ال يجوز أن يكون مقابالً وال حاالً
في المقابل"أ.هـ.
إذن الداللة األولى التي اعتمد القاضي والمعتزلة عليها هي داللة المقابلة،
وهي التي أشار إليها السبحاني سابقاً ،وحاصلها أن الرؤية ال يمكن أن تحصل
إال إذا كان المرئي في جهة من الرائي ،وإذا لم يكن كذلك فيستحيل رؤيته،
وقد بينا نحن على أصول األشاعرة أن هذه الشروط أعني المقابلة والحد
..إلخ عبارة عن شروط عادية ال عقلية ،بمعنى أن هذه الشروط حتى لو
انعدمت فيمكن حصول الرؤية ،وذلك ألنا أرجعنا الرؤية إلى قدرة للا تعالى
على خلق اإلدراك مباشرة في الحاسة أو في محل اإلدراك ،فالخالق بالفعل
هو للا تعالى ال الحاسة وال الضوء وال غير ذلك ،بل هذه عبارة عن شروط
عادية يمكن تخلفها.
ولما اشترط المعتزلة هذا الشرط أحالوا رؤية للا تعالى؛ ألن للا ليس في
جهة وال حيز ،وكون للا تعالى ليس متحيزاً وال في جهة وافقهم عليه أهل
السنة األشاعرة والماتريدية ،وخالفوهم في اشتراط الرؤية بالمقابلة والشعاع
واتصاله بالمرئي ..إلخ.
فدليل المقابلة إذن ال يلزم إال المعتزلة ومن قال بقولهم ،واألشاعرة لم يقولوا
بقولهم كما علمت.
ولنكمل اآلن قراءة كالم القاضي ونعلق عليه ،قال" :أما األول ،فالذي يدل
عليه أن أحدنا متى كان له حاسة صحيحة والموانع مرتفعة والمدرك موجود،
يجب أن يرى ،ومتى لم يكن كذلك استحالة أن يرى ،فيجب أن يكون لصحة
الحاسة في ذلك تأثير؛ ألن بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من األسباب
والعلل والشروط.
وأما الكالم في أن الرائي بالحاسة ال يرى الشيء إال إذا كان مقابالً أو حاالً
في المقابل ،أو في حكم المقابل ،هو أن الشيء متى كان مقابالً للرائي بالحاسة
ب أن يرى ،وإذا لم يكن مقابالً
أو حاالً في المقابل ،أو في حكم المقابلَ ،و َج َ
وال حاالً في المقابل ،وال في حكم المقابل لم ي َُر ،فيجب أن تكون المقابلة أو
ما في حكمها شرطا ً في الرؤية ألن بهذه الطريقة يعلم تأثير الشرط"أ.هـ.
هذه هي طريق االستدالل عند المعتزلة ،وما يقولونه صحيح في حكم العادة
فقط ،أما مع مالحظة األدلة العقلية الدالة على أن للا تعالى خالق كل شيء،
فيجب تخصيص كالمهم وتقييده بذلك ،ثم إن كالم القاضي عبد الجبار مبني
على وجود العلل الخارجية بين المخلوقات الحادثة ،وأن هذه العلل شروط
في الوجود إذا انعدمت يستحيل وجود ما يترتب عليها ،وهذا هو األصل
الذي لفتنا النظر إليه في أول كالمنا مع الشيخ جعفر السبحاني ،ومعلوم أن
هذا األمر ،وهو االعتراف بوجود العلل الداخلية للوجود الحادث ،ال يجوز
أن يعتبر بديهياً ،فاألشاعرة خالفوا فيه ،وبنوا نظرتهم إلى الكون على أساس
نفيه وعدم القول به ،ثم هذا األصل الذي يقول به المعتزلة و َمن وافقهم ينافي
كل شيء ،فالحاصل أن من يقول بقول المعتزلة في نفي
كون للا تعالى خالق ِّ
الرؤية يجب عليه أن يعلم أنه يجب أن يقول بكل هذه اللوازم واألقوال ،وإال
فهو غير قائل بقول المعتزلة ،بل هو موافق لهم في النتيجة فقط ،وأما في
المذهب المتألف من الحكم والنتيجة مع طريقة االستدالل التي توضح حقيقة
نظرتهم إلى هذا الوجود وحقيقة اعتقادهم في للا تعالى ،فإذا لم يوافقهم في
هذا كله فال يصح له أن يزعم أنه موافق للمعتزلة.
وال خالف بين األشاعرة والمعتزلة في كون للا منزها ً من الحد والجهة
والمكان ،ولذلك ال نتكلم مع القاضي فيما يتعلق بهذا المعنى ،ألن محل
الخالف بالضبط أن للا مع كونه منزها ً عن الحد والمقابلة والجهة كيف يمكن
حصول رؤيته.
قال القاضي عبد الجبار ص" :250فإن قيل :أليس أن للا تعالى يرى الواحد
منا ،وإن لم يكن مقابالً له وال حاالً في المقابل وال في حكم المقابل ،فهال
جاز في الواحد منا أن يرى الشيء وإن لم يكن مقابالً له وال حاالً في المقابل
وال في حكم المقابل؟
قيل له :إنما وجبت هذه القضية في القديم تعالى؛ ألنه ال يجوز أن يكون رائيا ً
بالحاسة والواحد منا راء بالحاسة ،فال يعلم أن يرى إال كذلك"أ.هـ.
وهذه فقرة في غاية األهمية ،وقد أورد القاضي عبد الجبار االعتراض
وأجاب عليه ،ونحن سنعيد بيان هذا االعتراض ،ونتكلم على جواب القاضي.
حاصل اإليراد سؤال وإلزام موجَّه من األشاعرة الذين يثبتون الرؤية مع
تنزيه للا تعالى عن الجهة والمقابلة ،ويردون بهذا السؤال عن الزعم الذي
يزعمه المعتزلة من أن الرؤية يلزمها الحد والجهة ،فيقولون للمعتزلة :إذا
قلتم إننا عندما نثبت رؤية للا يلزمنا إثبات كونه محدوداً وفي جهة ،وأن علة
هذا اللزوم هو أن الرؤية نفسها تستلزم ذلك ،فيلزمكم مثل ذلك في حق للا،
أال تقولون إن للا تعالى يرى المخلوقات ،ومع رؤيته للمخلوقات ال يلزم
كونه في جهة منها وال متحيزاً وال محدوداً ،فإذا ص َّح ذلك فكيف تزعمون
أن الرؤية يلزمها الجهة والحد ،وأن هذا التالزم عقلي ،والتالزم العقلي ال
يتخلف شاهداً وغائباً ،فلماذا نراكم منعتم ذلك في حق للا وتقولون به في
حق العباد.
هذا هو حاصل السؤال ،وهو قوي كما ترون ،وأجاب القاضي كما يلي :قال
إن الرؤية الحاصلة لإلنسان إنما تحصل له بحس ،وأما للا تعالى فال يرى
بحاسة ،ولذلك يرانا بال لزوم الجهة والحد والمقابلة وغير ذلك.
وهذا الجواب يعود بالنقض على أصل المعتزلة كما سنبين ،فالمعتزلة أساسا ً
يقولون :ال رؤية إال بمقابلة وحس وحد ومكان ،وهم قد نفوا ما قالته األشاعرة
من إمكان تعقل رؤية بال هذه اللوازم ،ولكنا نراهم اآلن يقولون بأن للا تعالى
يرى ورؤيته بال حس وال مقابلة.
وهو يجيز تسمية المعنى الثاني رؤية ،ولكنه يحصره في للا تعالى ،ويقول:
ال يمكن أن تحصل الرؤية لإلنسان إال بالحس.
وكالمه ينبني على الفرق بين الرؤية والحس ،فالحس هو سبب وآلة الرؤية
عندنا وال سبب وال آلة للرؤية في حق للا.
وهذا الكالم صحيح ،ولكن يلزم منه هدم مذهب المعتزلة من أساسه ،فإذا
قالوا إن الرؤية معنى واحد ،وأن الحس آلة لها وسبب لها للمخلوقات ،فيرجع
الخالف بينهم وبين األشاعرة إلى األصل الكبير الذي نبهنا إليه أوالً ،وهو
مسألة التالزم العلي والمعلولي بين الحوادث ،بحيث يقول المعتزلة :إن
الرؤية ال يمكن أن تحصل وتوجد للمخلوق إال بواسطة اإلحساس.
والحقيقة أن من يتأمل في هذا الكالم يجده ضعيفا ً جداً ،فإذا جزم المعتزلة أن
الرؤية غير الحس ،وأن الحس آلة للرؤية ،وأثبتوا هلل أنه يرى ،إذن الرؤية
يمكن أن تقع بال حس وال مقابلة.
أليس هذا نقضا ً لألصل الذي وضعوه من إحالة الرؤية إال بمقابلة.
ومن جهة أخرى :فإن القول بالعلل والمعلوالت ،أو التولد ،ال يصح ،وال
يقول به إال المعتزلة ومن وافقهم ،وأما األشاعرة فال يلتزمون به وال يقولون
به كما وضحناه.
وأيضاً ،كيف يمكن لعاقل أن يدعي صحة القول بأن الحس غير الرؤية بل
هو آلتها وشرطها ،ثم يثبت الرؤية هلل بال هذا الشرط ،مع قوله بأن هذا
الشرط عقلي ،وهل العقليات تتخلف وتنقض؟!
وما أَد َْرى المعتزلة أن اإلنسان ال يمكن أن يرى إال بالحاسة ،وكيف حكموا
على للا تعالى بأنه ال يقدر على خلق الرؤية في اإلنسان بدون حاسة في
اإلنسان وال شعاع وال مقابلة؟! أال يستطيع للا ج َّل شأنه أن يوجد هذا المعنى
الذي سميتموه رؤيةً إال عن طريق توسط الحس ،أليس هذا ح َّداً لقدرة للا
تعالى وتعجيزاً له؟!
إذن يتبين لنا أن األصول التي بنى عليها المعتزلة هذا الجواب أصول باطلة
وغير مسلمة وال تلزم خصومهم.
فظهر قوة هذا اإلشكال ،وضعف وتناقض جواب القاضي عبد الجبار ،أما
ضعفه فبالنظر إلى المقدمات التي يعتمد عليها من التولد أو العلة والمعلول،
قرره المعتزلة من معنى الرؤية كما مضى.
وأما تناقضه فمع ما َّ
وهذا الكالم أتى به لينقض كالم األشاعرة القائلين بأن للا تعالى يخلق الرؤية
في العبد مباشرة ،ولو بال توسط هذه الحواس ،ويستحيل بالطبع للقاضي أن
يوافق األشاعرة على هذا وإال هدم مذهبه كله ،ولكن تناقض مع قوله بمعنى
مر في رؤية للا تعالى للمخلوقات.
قريب من ذلك كما َّ
ويظهر للناظر مدى قوة استدالالت األشاعرة عندما جعلوا كل هذه الشروط
والحواس مجرد أسباب عادية ،ال عقلية ،بمعنى أنها يمكن أن تتخلف بإرادة
للا تعالى ،ومذهبهم موافق لكون للا تعالى قادراً على كل شيء ،وال يلزم
عنه تعجيز هلل عن خلق بعض الممكنات.
كما ال يلزمهم مناقضة ظواهر القرآن والسنة ،وال نسبة الجهل باهلل تعالى
من هذه الجهة إلى أحد األنبياء أولي العزم من الرسل.
ثم قال القاضي عبد الجبار ص" :250ويمكن إيراد هذه الداللة على وجه
آخر ال يلزمنا هذا السؤال ،فيقال :إن أحدنا إنما يرى الشيء عند شرطين:
أحدهما يرجع إلى الرائي ،واآلخر يرجع إلى المرئي.
ما يرجع إلى الرائي فهو صحة الحاسة ،وما يرجع إلى المرئي هو أن يكون
للمرئي مع الرائي حكم ،وذلك الحكم هو أن يكون مقابالً أو حاالً في المقابل،
أو في حكم المقابل.
إذن فقد انخرم شرط من الشروط ولم يؤثر هذا في عدم الرؤية ،وكذلك نقول:
إن الرائي هنا وهو للا تعالى ليس له حاسة ،إذن قد انخرم الشرطان معاً،
ومع ذلك حصلت الرؤية ،فهذان الشرطان باطالن.
ولما أحس القاضي عبد الجبار بضعف كالمه هنا قال" :على أن هذا السؤال
الذي أورده ينبني على أن اإلدراك معنى ،وسنبين الكالم في أن اإلدراك
ليس بمعنى إن شاء للا تعالى"أ.هـ.
إذن هو يحاول التملص من هذا اإلشكال بهذا الكالم وحاصله عدم التسليم
بأن الرؤية معنى راجع إلى اإلدراك ،بل هو راجع إلى العلم ،واالتفاق حاصل
على أن للا عالم بالمخلوقات.
هكذا يقترح القاضي أن يكون الجواب ،ولكن هذا ال يزيل اإلشكال ،ألن هذا
يستلزم أن العلم من حيثية معينة يسمى رؤية ،فلماذا تنكر المعتزلة
والمخالفون حصول قدر زائد من العلم الحاصل عندنا باهلل تعالى ،بحيث
يسمى هذا القدر الزائد رؤية ،خاصة وأنه قد جرى تسميته كذلك في ظواهر
الكتاب والسنة ،وال يمنع منه مانع بعد أن تبين أن جميع الشروط التي
اقترحوها ال تطرد لهم؟!
قال القاضي عبد الجبار ص" :231فإن قيل :ما أنكرتم أن أحدنا إنما ال يرى
الشيء إال إذا كان مقابالً له ،أو حاالً في المقابل أو في حكم المقابل ،ألنه
تعالى أجرى العادة بذلك ،فال يمتنع أن يختلف الحال فيه ،فيرى القديم جل
وعز في دار اآلخرة"أ.هـ.
وهذا وجه من وجوه استدالل األشاعرة كما مر ،ونزيده توضيحا ً ووضوحاً،
ي أمرين موجودين متالزمين ،فهذا التالزم إما أن يكون
فنقول :إذا اعتبرنا أ َّ
تالزما ً عقليا ً يستحيل انفكاكه وقطعه ،أو يكون تالزما ً عادياً ،غايته أنه ما
دام هذا التالزم في األزمان من دون موجب داخلي بين األمرين الموجودين
يوجب بذاته التالزم ،يعني ال توجد عالقة العلية بينهما ،حتى يستحيل انفصال
التالزم بينهما ،بل التالزم والمصاحبة حاصلة بينهما بخلق للا تعالى
وإرادته ،وإذا ص َّح هذا ،فنقول :ما تنكرون أن تكون العالقة والترتب المشاهَد
بين الحس (المؤلف من العضو وانعكاس الشعاع عليه وكون المرئي في
جهة وذا حدود) والرؤية (وهي اإلدراك الحاصل عقيب الحس) مجرد عالقة
مبنية على التالزم والترتب العادي ،وما هو الموجب لكونها عقلية وواجبة
وجوبا ً ذاتياً ،بحيث ال يمكن انفكاكهما ،أي ال يتصور حصول أحدهما إال
بحصول اآلخر ،فإذا كانت عادية يجوز أن يخلق للا الرؤية بال مقابلة وال
حس.
هذا هو حاصل توضيح السؤال ،وهو سؤال قوي كما يُال َح ُ
ظ ،فلننظر كيف
يرد القاضي عليه!
قال القاضي في ص" :251قيل له :إن ما يكون بمجرى العادة يجوز اختالف
الحر والبرد والثلج والمطر لما كان بمجرى العادة
َّ الحال فيه ،أال ترى أن
اختلف بحسب البلدان واألهوية ،فكان يجب مثله في مسألتنا لو كان ذلك
بالعادة ،فيجب صحة أن يرى الشيء أحدنا وإن لم يكن مقابالً له وال حاالً
في المقابل وال في حكم المقابل في بعض الحاالت ،الختالف العادة"أ.هـ.
وقد يقول قائل :كيف يفهم كالم القاضي اشتراطه الوقوع للتخلف للحكم بكونه
بالعادة ،قلنا :تأ َّمل رحمك للا في بقية كالمه وها هو ،فقد قال" :بل كان يجب
أن يرى المحجوب كما يرى المكشوف ،ويرى البعيد كما يرى القريب،
ويرى الرقيق كما يرى الكثيف ،ومتى ارتكبوا هذا كله ،فالواجب أن يرى
المحجوب كما يرى المكشوف ،ومعلوم خالفه"أ.هـ.
فهذا الكالم صريح في اشتراطه التخلف ووقوعه بالفعل أكثر من مرة ،بل
كالمه السابق يدل على هذا ،فهو قال" :فيجب صحة أن يرى الشيء أحدنا
...في بعض الحاالت الختالف العادة"أ.هـ .ولو كان يريد به اإلمكان فقط،
لما قال في بعض الحاالت؛ ألن الصحة ثابتة في جميع الحاالت التي يكون
االرتباط فيها بالعادة ،وليس في بعض الحاالت ،أما الواجب عنده في بعض
الحاالت فهو الوقوع أي وقوع التخلف.
صد الصحة ،فتقييده للصحة في بعض الحاالت فقط مشكل جداً ،ألن
ولو قَ َ
الصحة حكم عقلي ،وتقييده لها ببعض الحاالت دون بعض تخصيص للحكم
العقلي ،وتخصيص الحكم العقلي ال يصح ،بل يعود على وصفه بالعقلي
بالبطالن.
فيتحصل لنا على جميع الحاالت أن القاضي عبد الجبار ال يخلو كالمه من
ضعف وتناقض.
ثم قال القاضي عبد الجبار بعد ذلك ص" :251فإن قيل :ما أنكرتم أن ذلك
من باب ما تستمر العادة به ،كما في حصول الولد من ذكر وأنثى ،وكطلوع
الشمس من مشرقها وغروبها من مغربها ،وكحصول كل جنس من
الحيوانات من جنسه ،وكتاب الزرع وما يجري هذا المجرى"أ.هـ.
وهذا االعتراض والسؤال الذي ذكره القاضي على لسان األشاعرة صحيح
تماماً ،فالعادة تصح أن تختلف وال يشترط تخلفها للحكم عليها بأنها عن
طريق العادة ،أو على أنها عادة ،وال يشترط حتى تخلفها مرة واحدة ،ولكن
لو تخلفت مرة واحدة ،فتخلفها هذه المرة يكون دليالً على كون التالزم
والتصاحب بالعادة ،ووقوع التخلف دليل اإلمكان أي دليل العادة هنا ،وال
يشترط لمعرفة اإلمكان وكون الحكم عاديا ً وقوع التخلف ،فاإلمكان والعادة
عبارة عن حكم عقلي عام ،وكلي مبني على قانون عام ذكرناه ،وهو أن للا
تعالى هو الفاعل المختار بال واسطة ومبني على أن ال طبيعة من الطبائع
مر أكثر من
توجد بذاتها وال علة وال معلول في الموجودات الحادثة كما َّ
مرة ،وهذا حكم عقلي يستدل عليه بقواعد عقلية عامة ،وإن أمكن الكشف
عنه أيضا ً بحصول التخلف ،فهذا توجيه االعتراض والسؤال ،ولننظر اآلن
في جواب القاضي عبد الجبار ،فقد قال في ص" :251وجوابنا ،أنا لم نوجب
فيما طريقه العادة أن يختلف الحال من كل وجه ،بل إذا اختلف من وجه
واحد كفى ،وما من شيء من هذه األشياء التي ذكرتها إال والحال فيه مختلف
على وجه ،أال ترى أن الولد قد يحصل ال من ذكر وأنثى فإن آدم عليه السالم
خلق ال من ذكر وأنثى ،وعيسى عليه السالم خلق ال من ذكر ،وفيما بينا
فما من ولد إال والحال فيه بخالف الحال في غيره ،فواحد يولد تاما ً واآلخر
يولد ناقصاً ،فكان يجب مثله في مسألتنا حتى يصدق من أخبرنا أنه شاهد ما
ليس بمقابل له وال حال في المقابل وال في حكم المقابل ،أو شاهد أقواما ً
يشاهدون األشياء من دون أن تكون على هذا الوجه أو ما يجري مجراه،
وقد علم خالفه"أ.هـ.
هذا هو جواب القاضي ،وكما ترى فهو يشترط للحكم بكون الشيء على
العادة ال على سبيل العلة والمعلول ،أن يحصل التخلف ولو مرة ،أو يختلف
حاله من حال إلى حال ،أو من وجه دون وجه.
أما اشتراطه التخلف ولو مرة للحكم يكون التالزم عادياً ،فقد بينا بطالن هذا
الشرط وعدم صحته ،ألن الحكم العادي صحيح أنه ما يعرف بتكرر الحس
على العادة ،ولكن نفي التالزم العقلي ونفي العلية والمعلولية المدعاة من
طرف المخالفين ،ال يتوقف على العادة ،بل يستند إلى أدلة عقلية تامة ،وهي
التي أشرنا إليها سابقا ً.
وأيضا ً نضيف ،فنقول :إذا جاز نسبة الرؤية إلى للا تعالى ،أي إذا جاز القول
بأن للا تعالى يرانا ،وهو ليس بجهة منا وال نحن بجهة منه ،فهذه الحالة
كافية للداللة على كون هذه الشروط الحسية التي يدعيها المعتزلة ،شروطا ً
عادية ال شروطا ً عقلية ،وإال فلينفوا كون للا رائيا ً للمخلوقات؟! فيلزمهم إذا
فعلوا مناقضة الكتاب العزيز.
ويُضاف إلى ذلك ما َو َر َد في األحاديث من أننا سنرى للا يوم القيامة ،أي
أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة ،وقطعا ً نعلم بأنهم يرونه بال جهة وال
حد وال مقابلة ،فكما يعلمونه بال حد يرونه كذلك.
وسوف نورد أكثر من هذه الشواهد الدالة على ثبوت الرؤية بال حد وال جهة
وال مقابلة وال اتصال حسي.
وبهذا التحليل ،يُعلم قطعا ً أن استدالالت القاضي عبد الجبار غير تامة وال
كافية ،بل يسودها االختالل كما بينا.
وقد يقول قائل :ال يصح االنتقال من مفهوم الرؤية عند إطالقه على اإلنسان
المخلوق ،إلى الرؤية عند نسبتها إلى للا ،فهذا قياس والقياس ال يصح.
والجواب :إن الذي يخالفنا يسلم أن مفهوم الرؤية واحد ،وأن لها أحكاما ً
خاصة إذا نسبت إلى المخلوق ،وهذه األحكام إذا كانت خاصة بالرؤية من
حيث ما هي رؤية يجب نسبتها إلى الخالق ،والقول باشتراط هذه الشرائط
له ،وهذا باطل اتفاقاً ،وإال فقد حصل البرهان على أن هذه الشرائط ليست
لذات الرؤية ،فتأمل.
قال القاضي عبد الجبار ص" :252فإن قيل :ما أنكرتم أن الواحد منا إنما ال
يرى إال ما كان مقابالً أو حاالً في المقابل أو في حكم المقابل ،األمر يرجع
إلى المرئي ال إلى الرائي.
قيل له :هذا الذي ذكرته ال يصح ،ألنه كان يجب في القديم تعالى أن ال يرى
هذه المرئيات لفقد هذا الحكم فيه ،والمعلوم خالفه" أ.هـ.
وتوضيح هذا اإلشكال ،وال أراه يتسق مع أصول األشاعرة ،أن الواحد إذا
رأى بعض األمور الموجودة ،ولم يَ َر بعضها اآلخر ،فلم ال يكون السبب في
عدم رؤيته للقسم الثاني هو أمراً راجعا ً إلى نفس هذا القسم ،فربما كانت
تتصف بصفة تمنع رؤيتها.
فأجاب القاضي عبد الجبار :إذا كان هذا السبب صحيحا ً في عدم رؤيتنا
لبعض هذه األمور التي ال نراها ،فيلزم أن يكون هذا السبب مانعا ً ِّمن كل
رؤية ،ال مانعا ً من رؤيتنا نحن فقط لها ،بل يلزم أن يكون سببا ً للمنع من أن
يراها للا تعالى أيضاً ،ولكن للا تعالى يرى كل شيء ،إذن ال يصح أن يكون
السبب في منع الرؤية من نفس المرئي.
والحقيقة أن هذا الجواب صحيح ،ولكنه أقرب إلى أصول األشاعرة من
أصول المعتزلة ،ألن السبب عند األشاعرة في عدم رؤيتنا لبعض
الموجودات هو أن للا تعالى لم يخلق فينا رؤيتنا ،فلم يرجعوا السبب في منع
الرؤية إلى المرئي ،بل إلى إرادة للا تعالى.
والذي أردناه من هذه المناقشة ههنا إنما هو بيان كيف أن القاضي عبد الجبار
يقيس رؤية للا على رؤيتنا ،ويقول :المانع الذي يمنع رؤيتنا لألشياء إذا كان
في نفس األشياء ،فينبغي أن يكون مانعا ً لرؤية للا تعالى لنفس هذه األشياء،
وهذا منه خروج عن أصول مذهبه الذي ينصره ،أو هو جري منه مع
الجواب الحق ،الذي يوافقه عليه األشاعرة ،ولكن لو قال القاضي عبد الجبار
بهذا الجواب فعالً على المعنى الذي قلناه ،يلزمه أن ينقض أصول مذهبه
بالكلية ،أقصد أنه ينبغي أن ينقض كون الشروط التي جعلوها للرؤية وهي
المقابلة والتحيز والشعاع ..إلخ ،شروطا ً عقلية ،بل هي شروط عادية ،وما
هو مانع عندنا مانع عند للا تعالى ،وهو الزم باطل.
والسبب في هذا اإللزام أنه قاس رؤية للا على رؤيتنا من جهة الموانع.
ثم قال في ص" :252فإن قيل :إنا نرى القديم تعالى بال كيف كما نعلمه بال
كيف ،وال يحتاج إلى أن يكون مقابالً أو حاالً في المقابل أو في حكم المقابل.
قيل له :إن هذا قياس الرؤية على العلم من دون علة تجمعها ،فال يصح.
فإن للعلم أصالً في الشاهد ،وللرؤية أصالً ،فيجب أن يرد كل واحد منهما
إلى أصله ،فالعلم من حقه أن يتعلق بالمعلوم على ما هو به ،ولهذا يتعلق
بالموجود والمعدوم والمحدث والقديم ،فإن كان معدوما ً علم معدوماً ،وإن
كان موجوداً ،وكذلك الكالم إذا كان محدثا ً أو قديماً ،وليس كذلك الرؤية
فإنها ال تتعلق إال بالموجود ،ولهذا ال يصح في المعدوم أن يُرى" أ.هـ.
هذا سؤال صحيح على مذهب األشاعرة ،وحاصل معناه :إذا كانت الرؤية
نوعا ً من الكشف ،أي أن الرؤية يتم بها الكشف عن المرئي من حيثية معينة،
فمن أين يلزم القول إننا إذا رأينا للا تعالى فيجب أن نراه في جهة وذا حد
ومقابلة ..إلخ ،فالرؤية تكون فيها حدود إذا كان المرئي محدوداً وفي جهة،
وأما إذا كان غير محدود وال في جهة وال مقابالً ،فإنه يُرى كذلك ،وهذا
كالعلم ،فاإلنسان يعلم بالنظر وبالفكر وبأسباب خاصة ،ولكن للا تعالى يعلم
المدرك
َ ال بنظر وال فكر ،فرؤية اإلنسان تكون نتيجتها إدراك محدود ،ألن
سه محدود ،وأما رؤية للا فال يكون الزمها كشفا ً عن محدود؛ ألن متعلق
نف َ
الرؤية ليس محدوداً.
هذا هو حاصل السؤال ،وقد أشار اإلمام ابن فورك في مجرد مقاالت
األشعري إلى أن اإلمام األشعري كان يستعمل هذه الطريقة في الرد على
المخالفين ،فقال نقالً عن اإلمام األشعري وتوضيحا ً لطريقته في المجرد
ص" :90وكان يقولَّ :
إن ر َّد حكم المرئي إلى المعلوم ال من حيث إن حكم
المرئي حكم المعلوم من كل وجه ،ولكن النافين للرؤية يسلكون في نفيها
طرقَ االعتبار بالمرئيات في الشاهد ،وأرادوا أن يسووا بين المرئيين في
الشاهد والغائب في األحكام واألوصاف التي عليها المرئيات في الشاهد،
فأراهم أن ذلك لو كان اعتباراً صحيحا ً لوجب مثله في المعلومات ،وكل ما
فصلوا به بين المعلو َميْن في الشاهد والغائب ،فصل بمثله بين المرئيين،
وكثيراً ما يستدل ابتدا ًء بمثل هذه الطريقة في أنه إما نفي أو إثبات ،إجازة
أو إحالة ،فاإلجازة ما قلنا ،واإلحالة ال تخلو من هذه الوجوه التي تنتقض بما
ذكر في المعلوم ،وكذلك كان يقلب في الرائي والعالم وسائر أوصاف المرئي
مما خالف فيه الشاهد الغائب" أ.هـ.
واآلن وبعد أن وضحنا شيئا ً من وجه الداللة في هذا السؤال ،فلنقرأ معا ً كالم
القاضي عبد الجبار في الرد على هذا اإلشكال الوارد على المعتزلة ،وحاصل
جوابه محاولة الفرق بين العلم والرؤية ،واعتبار الرؤية أصالً مستقالً ال
يشترك مع العلم في شيء مطلقاً ،بحيث ال يصح بعد ذلك القياس بينهما.
ولكن الصحيح أن الجهة التي نبه إليها األشعري والتي بنى عليها القياس
يصح فيها المقايسة بينهما ،وهذه الجهة هي أن العلم في الشاهد له أحكام
خاصة ،ككونه حادثا ً وبأسباب خاصة كالنظر ،ويقبل الزيادة والنقصان،
فرقنا بين أحكام العلم
ولكن العلم في الغائب ال يصح كونه كذلك ،إذن نحن َّ
في الشاهد وفي الغائب ،وهذه التفرقة متفق عليها ،هذا هو األصل األول.
وبنا ًء على ذلك ،لو سلمنا أن الرؤية شاهداً تشرط بالمقابلة واالتصال بشعاع
وكون المرئي محدوداً ،فإن أثبتناها في الغائب كذلك ،لزمنا إثبات صفات ال
كالحد وغيره من صفات األجسام ،إذن فلم ال نثبتها
ِّ يصح إثباتها هلل تعالى،
غائبا ً مع نفي هذه الشروط ،كما فعلنا بخصوص العلم.
والجواب :ألنها وردت باألحاديث ودلَّت عليها آيات القرآن ،وال موجب
لصرفها عن ظاهرها ،فلو لم ترد ،لم نثبتها؛ ألن دليل وقوع الرؤية سمعي
عندنا.
والحظ أنه على هذا القياس ال يلزم مطلقا ً التسوية بين جميع أحكام الرؤية
وحقيقتها وبين أحكام العلم وحقيقته تسوية تامة ،وهذا واضح.
وأما كالم القاضي على الحاسة السادسة بعد ذلك فال نخوض فيه لعدم الدليل
فيه ،وللا أعلم.
وبهذا نكون قد ناقشنا جميع الوجوه التي أتى بها القاضي عبد الجبار في
داللة المقابلة ،وبينا بطالن هذه الداللة وعدم قوتها ،بل وتناقض بعض
أركانها مع بعض ما يقول به المعتزلة.
داللة الموانع:
هذه الوجوه ذكر فيها القاضي عبد الجبار دالئل استدلوا بها على نفي الرؤية،
وهي قائمة أساسا ً على امتناع الرؤية لموانع كما يفهم من اسمها ،وسوف
يتبين لك حقيقة هذه الداللة أثناء مناقشتنا لتفاصيلها كما فعلنا في داللة
المقابلة ،وتوضيحها بمعنى آخر ،إن الرؤية تكشف عن الشيء كما هو في
ذاته ،والقديم حاصل على ما هو عليه في ذاته ،فما المانع من أن يُرى؟!
هذا هو السؤال األساسي الذي تدور عليه هذه الداللة ،أو تدور على الجواب
عليه ،وحاصل السؤال أنا إذا قلنا :الرؤية تكشف عن الشيء كما هو حاصل
في ذاته ،وللا جل شأنه له ذات منزهة عن األمكنة والحدود والمقابلة ،فلم ال
نقول :الرؤية تكشف عن ذاته منزهة عن الجهة والحد والمقابلة ،بل هذا هو
األصل الذي يجب القول به ،ومن لم يقل به فإنما صرفه عنه سبب مانع ،أو
معنى ادعى ثبوته يمنع من رؤية للا تعالى.
قال القاضي عبد الجبار جوابا ً عن هذا ص" :253وما ال يُرى ،ينقسم إلى
ما ال يُرى لمنع ،وإلى ما ال يُرى الستحالة الرؤية عليه ،والقديم تعالى إنما
ال يُرى الستحالة رؤية عليه ال لمنع" أ.هـ.
هكذا أجاب القاضي على السؤال األصلي ،ومن الظاهر أن هذا ليس جواباً،
بل مجرد دعوى ،مقابلة لألصل الذي ذكرناه ،وهو المبني على أن أصل
الرؤية منسوبة إلى للا تعالى ،فال يصح نفيها إال لموجب ،وال يوجد موجب
يدفعها ،أو مانع يمنع منها ،فلم يزد القاضي على أن قال" :إن للا تعالى ال
يُرى ألنه ال يمكن رؤية" .ومعلوم أن التعليل الذي جاء به وهو قوله" :ال
يرى الستحالة رؤيته" ،هو عين األصل الذي حصل فيه الخالف ،وهو عين
دعوى المعتزلة التي ال يسلمها األشاعرة لهم ،والدعوى ال تكون دليالً ،بل
هي محتاجة إلى دليل ،واالستدالل على الدعوى بنفس الدعوى مصادرة على
المطلوب.
وقد يقول قائل :بل كالم القاضي دليل ،ألنه مبني على استقراء أو مقسمة
لألشياء إلى ما يرى وإلى ما ال يرى ،وما ال يُرى إما أن ال يُرى لمانع ،او
الستحالة رؤيته ،وهذا دليل .فالجواب :هذا عين الدعوى ،أو جزء منه كذلك،
أعني االحتمال األخير الذي هو ما يستحيل رؤيته ،فهو محل الخالف ،فظهر
أن دليل القاضي مصادرة على المطلوب.
ثم قال القاضي ص" :253فإن قال :ما في هذه الداللة إن أحدنا ال يرى للا
عز وجل ،فمن أين أنه ليس بمرئي في نفسه؟
فأجاب بجواب ،ليس بجواب في الحقيقة ،فإنه قال :بما أننا كلنا أي كل واحد
فينا ،يقول إنه ال يرى للا تعالى ،فهذا يدل على أن للا تعالى ليس بمرئي في
نفسه ،هذا هو االستدالل الذي يتعلق به القاضي ،وهو لعمري من أغرب
االستدالالت ،فمن أين يدل عدم حصول الرؤية لنا أو لكل واحد منا ،على
استحالتها في نفسها ،غاية ما يدل عليه عدم حصولها لنا ،أما أنها في نفسه
تكون مستحيلة ،فال .وإال يلزم بأن للا تعالى ال يرى نفسه ،وهذا باطل ،فإذا
جاز أن يرى للا غيره ،هل يستحيل أن يرى نفسه؟! كيف يصح هذا االستدالل
الذي يتعلق به القاضي.
وهل يمكن أن نقول على منوال طريقة استدالل القاضي :كل من قال إن
أحدنا ال يرى البروتونات واإللكترونات ،قال :إن اإللكترونات غير مرئية
في نفسها ،ويمكن أن نصوغ لوازم كثيرة ظاهرة البطالن على هذا النهج،
فيتبيَّن لنا بكل وضوح ضعف هذا االستدالل.
ولضعف هذه الداللة التي ذكرها القاضي عبد الجبار على استحالة رؤيته في
نفسه ،ساق دليالً آخر على ذلك ،فقال ص:253
ب
القديم تعالى لو جاز أن يُرى في حال من األحوال َلو َج َ
َ "دليل آخر :وهو أن
أن نراه اآلن ،ومعلوم أنا ال نراه اآلن.
وتحرير هذه الداللة هو أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى
المرئي لما رأى إال لكونه عليها ،والقديم سبحانه حاصل على الصفة التي لو
رئي لما رئي إال لكونه عليها ،والموانع المعقولة مرتفعة ،فيجب أن نراه
اآلن ،فمتى لم ن ََره ،د َّل على استحالة كونه مرئيا ً"أ.هـ.
وهذا الدليل في الحقيقة عبارة عن صيغة أخرى للدليل السابق ،وحاصله لو
ص َّح أن نرى للا لوجب أن نكون قد رأيناه ،ولكن لما لم تقع رؤيته ،فال
تصح رؤيته.
وهذا استدالل بعدم الوقوع على عدم اإلمكان ،وهو استدالل باطل كما هو
معلوم ،واالستدالل إنما يصح بالوقوع على اإلمكان ،ال بعدم الوقوع علىعدم
اإلمكان.
ولم ال يفترض القاضي عبد الجبار ومعه المعتزلة أن هناك مانعا ً منع من
رؤية للا تعالى ،فعلى هذا القول بالعلية والمعلولية ،لم ال يكون المانع هو
عدم االستحقاق وعدم القابلية لحصول الرؤية فينا ونحن على هذه الحالة في
الحياة الدنيا ،وأما على مذهب األشاعرة ،فالرؤية جائزة في الدنيا وفي
اآلخرة ،ولكن للا تعالى أراد أن تقع الرؤية في اآلخرة للمؤمنين ،وأراد أن
ال تقع في الدنيا ألحد غير النبي – صلى للا عليه وسلم – على القول بأنه
رأى للا تعالى ،وهو خالف مشهور بين الصحابة ،فابن عباس أثبت رؤية
النبي عليه السالم لربه ،والسيدة عائشة أثبتت أنه لم يره.
وبنا ًء على هذا الكالم ،يتبين لنا أن دليل القاضي المعتزلي ليس يصح وال
يقوى على نفي الرؤية وإثبات استحالتها.
ثم شرع القاضي عبد الجبار في االستدالل لمقدمات هذا الدليل ،ولم يزد في
المعنى الذي ذكرناه ،ولكن ذكر بصريح عبارته أن "حصول الرؤية عندهم
بنا ًء على صحة الحواس وعدم الموانع ،هو من قبيل الشروط ،واألسباب
والعلل" .وهذا الكالم يؤكد األصل الكبير الذي وضحناه نحن في أول هذه
الرسالة وقررنا أن مسألة الرؤية تنبني عليه عند المنكرين لها ،وهو ثبوت
عالقة العلية والمعلولية بين الموجودات الحادثة ،وهذا األصل ينكره
األشاعرة وي ُْرجعون جميع الحوادث إلى للا تعالى مباشرة بال واسطة ،وقد
مضى هذا المعنى أكثر من مرة.
وأما باقي ما قرره القاضي عبد الجبار في الموانع المفترضة ورده عليها،
فكل أجوبته يعتمد فيها على األصول التي بناها سابقاً ،ولذلك لم َ
نر أن
مر ،خاصة بعد أن بينا الردود واألجوبة
نخوض معه في بقية كالمه لكفاية ما َّ
على استدالالته.
وبذلك يكون قد اتضح لدينا ضعف أدلة المعتزلة العقلية في هذه المسألة،
وهي تدور على نفس األصول التي يقول بها الشيعة كما نبهناك سابقاً ،بل
ويشترك معهم فيها الزيدية واإلباضية كما سنرى.
"فرع آخر يتفرع على كونه تعالى ال يشبه شيئاً ،قالت (العترة جميعا ً وصفوة
الشيعة) من الزيدية (والمعتزلة) وغيرهم كالخوارج والمرجئة وغيرهم (وللا
سبحانه ال تدركه األبصار في الدنيا وال في اآلخرة)؛ وذلك (ألن كل
محسوس) أي ُمد َْرك بأي الحواس الظاهرة إما بالبصر أو بالسمع أو بالشم
أو بالطعم أو اللمس (جسم أو عرض) ،وكل جسم أو عرض (محدث) لما
مر من األدلة على حدوث األجسام واألعراض واستحالة أزليتها ،وكونه
تعالى ليس بمحدث لما مر من األدلة على كونه تعالى ال أول لوجوده (هو
األول واآلخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم).
وأيضا ً لو ص َّح أن يرى للا تعالى عن ذلك الختص بجهة من الجهات ومكان
من األمكنة وللا يتعالى عن ذلك ،إذ كان سبحانه وال مكان وال جهة وال
زمان" أ.هـ.
والمطلع على علم الكالم يعرف تماما ً أن كثيراً من آراء الزيدية أخذوها من
المعتزلة ،فسوف نعلم أيضا ً أنهم لن يأتوا بأدلة جديدة زيادة على ما جاء به
المعتزلة ،وهذه الفقرة تدل على ذلك ،فهم يجعلون التالزم عقليا ً بين الرؤية
وبين الحس المستلزم للمماسة والجهة والحد ،وقد مضى الكالم على بيان أن
هذه الشروط ليست شروطا ً عقلية بحيث يتقيد بها فعل للا تعالى أيضاً ،بل
هي عبارة عن شروط عادية يمكن تخلفها كما مضى بيانه.
وكالمه صحيح تماما ً عن التالزم بين كون للا جسما ً وكونه حادثاً؛ ألن كل
جسم حادث ،ولكن ليس هذا محل الخالف ،بل موضع الخالف في أن الرؤية
هل يشترط فيها تلك الشروط أم ال.
ثم قال ناقالً عن اإلمام األشعري" :وروي عن أبي الحسن علي بن أبي بشر
األشعري أنه قال :يدرك بجميع الحواس فيشم ويسمع ويحس ،ولم يقل بذلك
غيره" أ.هـ.
وهذا الكالم ليس صحيح النسبة إلى اإلمام األشعري ،ألن مراده منه أن للا
تعالى على مذهب األشعري يجوز أن يلمس ويمس ويحس بالحواس الخمس،
وهذا باطل كما ال يخفى على أحد ،ولكن اإلمام األشعري قد يصح على
مذهبه أن يخلق للا تعالى العلم به في أي جزء حي من اإلنسان بال مماسة
بين للا وبين ذلك الجزء ،فإذا سمي ذلك إحساساً ،فاإلطالق غلط والمعنى
صحيح ،إذن كما يخلق للا تعالى العلم به في الدماغ فتدركه النفس ،فيمكن
أن يخلقه في العين فتدركه النفس فيسمى رؤية وهكذا ،وهذا مبني على عدم
اشتراط البنية للعلم ،وهي مسألة من دقيق الكالم.
ثم قال (" :)433/2وقالت (األشعرية :بل يرى في اآلخرة بال كيف) أي ال
تكييف وال إشارة إلى جهة من الجهات ال فوق وال تحت وال يمين وال شمال
وال خلف وال قدام ،قلنا( :ال يعقل) قولهم هذا ،فبطل ما زعموه" أ.هـ.
وقال (الرازي :معناه) أي معنى قولهم أنه يرى في اآلخرة بال كيف (معرفة
ضرورية وعلم نفسي بحيث ال يشك فيه) ،أي يعلم علما ً ضرورياً ،حينئذ
قال عليه السالم (فالخالف حينئذ) أي حين فسره الرازي بما ذكر إذا كان
مرادهم ذلك (لفظي) أي في اللفظ والعبارة ،والمعنى واحد ،وهو أن للا
سبحانه ال يدرك بالحواس وال يقاس بالناس ،ال تدركه األبصار وهو يدرك
األبصار وهو اللطيف الخبير" أ.هـ.
وعلى كل حال ،فالمؤلف لما نقل كالم اإلمام الرازي بأن حقيقة الرؤية هي
معرفة ضرورية ،وهو حقيقة وتحقيق رأي األشعري واألشاعرة جميعاً ،قال
بأن الخالف حينئذ لفظي مع األشاعرة ،والتصريح بأن الخالف لفظي فيه
ع المؤلف فيه.
إنصاف بعد الظلم الذي أظهرنا وقو َ
ولنبين جهة الخالف بالضبط ،فقد سبق أن نقلنا عن القاضي عبد الجبار قوله
بأن الخالف إنما هو مع األشاعرة ،حتى زعم أنه ال خالف بينهم وبين
المجسمة ،ونرى الشرفي ههنا يقول الخالف مع األشاعرة لفظي.
وتحقيق المقام أن هناك مسألتين:
األولى :مفهوم الرؤية وشروطه ،والخالف بين األشاعرة وبين غيرهم من
المعتزلة ومن وافقهم حقيقي معنوي؛ ألن المعتزلة يزعمون استحالة الرؤية
إال بالحاسة والمقابلة والحد ،واألشاعرة يقولون :إن الرؤية يمكن أن يوجدها
للا تعالى مباشرة في النفس أو العين ،فتدركها النفس ولو بال توسط شعاع
وال كون المرئي محدوداً ومقابالً.
والثانية :رؤية للا تعالى ،فاالتفاق حاصل في هذه المسألة بين األشاعرة
والمعتزلة ومن وافقهم على أن رؤية للا تعالى إذا حصلت فال يمكن أن تكون
بحد ومقابلة ،ولكن المعتزلة يسمون الحاصل علماً ،وإن سمي رؤية،
واألشاعرة يقولون هو رؤية ،والرؤية يرجع حاصل معناها في النهاية عندهم
إلى المعرفة الضرورية ،فالخالف على هذا لفظي محض ،ولكن األشاعرة
يقولون إن هذا اإلدراك العلمي يسمى رؤية ،وهو المقصود عند إطالق
الرؤية والمعتزلة ينكرون ذلك.
فإذا تبين هذا ،عرفنا أن كثيراً من المنتمين إلى االعتزال والتشيع يجهلون
مذاهبهم عندما يظنون الخالف مع األشاعرة في مفهوم الرؤية نفسه أصليا ً.
ولنوضح المسألة زيادة توضيح ،فلفظ الرؤية إما أن يراد به إدراك غير
العلم ،أو يراد به العلم ،وعلى القولين فاألشاعرة ال يشترطون للرؤية الحس
والحد والمقابلة كما ال يشترطون في العلم ذلك ،أما المعتزلة فمنهم َمن أرجع
الرؤية إلى إدراك زائد ،ومنهم من قال الرؤية هي العلم ،وهذا هو المشهور
عنهم.
والرؤية عند المعتزلة إذا أطلقت في حق المخلوق فال بد لها من أسباب
واتصال وحد وغير ذلك ،وهم يتناقضون إذا أثبتوها هلل مع نفي هذه األمور،
ألن األصل كما يدعون كون هذه األمور شروطا ً عقلية.
وكل َمن ألزم األشاعرة بما ال يلزمهم ،فإما أن يكون جاهالً بمذهبهم ،أو
مغالطاً ،وكالهما ال يلتفت إلى رأيه.
ثم نقل المؤلف كالما ً عن بعض األشاعرة يؤيد به ما نقله عنهم من الخالف
بين المتقدمين والمتأخرين على زعمه ،فقال (" :)434/2قال اإلمام يحيى
عليه السالم في الشامل" :واعلم أن التحقيق عندي أن الخالف بيننا وبين
المحققين من متأخري األشاعرة ،في هذه المسألة إنما هو من حيث اللفظ،
وأما المعنى فنحن متفقون عليه" ،قال" :وبيانه أن الغزالي ذكر في كتابه
االقتصاد أن الرؤية عبارة عن تجل مخصوص ال تنكره العقول ،وهذا هو
الذي نريد بالعلم ،ونحن ال ننكره وال نأباه" .قال" :وذكر ابن الخطيب في
كتابه األربعين :أن األدلة العقلية في هذه المسألة غير معتمدة أصالً وأنها
ليست قوية ،وذكر في كتابه النهاية بعد تحريره لألدلة العقلية ،ثم حكى هو
عن أصحابه أنهم قد حرروها على وجوه كثيرة وكلها ضعيفة ،ثم قال:
ويعزب أن يكون الخالف في هذه المسألة لفظيا ً" أ.هـ.
إذن ،ما ذكره المؤلف في هذه المسألة ع َّمن س َّماهم بالمتأخرين من األشاعرة
يوافق عليه هو ،ويحكم على الخالف بين الزيدية وبين األشاعرة بنا ًء عليه
سن.
بأنه خالف لفظي ،وهذا َح َ
إذن فالمؤلف يرجع ويعتمد على إطالق القول بأن للا تعالى يرى باألبصار،
وينبني على أن هذه الرؤية ال يمكن أن تحدث باألبصار إال بالمقابلة والحس
والشعاع وغير ذلك ،وهذا غير صحيح ،لما قلناه من أن للا تعالى يمكن أن
يخلق الرؤية في بصر اإلنسان مباشرة بال واسطة هذه الشروط العادية ،فال
يجوز االعتماد على مجرد القول بأن للا يرى باألبصار للقول بأن هذا يلزمه
الحس والحد وغير ذلك من اللوازم الباطلة ،فإن هذا ال يلزم األشاعرة إال
إذا قالوا :هذه شروط عقلية للرؤية ،وهم ال يقولون بذلك كما عرفت.
فيتضح لك أيها القارئ الكريم ،أنه ال فرق في هذه المسألة بين المتقدمين
والمتأخرين من األشاعرة ،وأن الفرق مجرد تهويش أو عدم علم أو غفلة
من الفرق المخالفة كالشيعة والزيدية وغيرهم ،ومجرد الزعم غير المبني
على دليل وال بينة ال يلتفت إليه وال يعول عليه.
حد
فظهر بهذا أن أدلة األشاعرة أقوى من أدلة غيرهم ،وأن مشيهم على ِّ
الشريعة أقوى وأوثق ،وتعمقهم في المعاني وبناء األدلة أقوى وأرسخ من
سائر الفرق.
وأما ما قاله نقالً عن اإلمام الرازي من أن دليل العقل على جواز الرؤية
يعني داللة الوجود ضعيفة أي غير قطعية ،فهذا قد يسلم ،وال إشكال في
التسليم به ،ألننا تابعون لألدلة ،ولكن العاقل إذا قارن بين داللة الوجود على
الجواز ،وغيرها من الدالالت العقلية ،وبين داللة المقابلة على المنع ،لحكم
جزما ً بأن أدلة المثبتين العقلية أقوى بال شك من أدلة النافين العقلية ،فإن أدلة
المحيلين للرؤية مبناها على مجرد مغالطات وقياسات عادية ومصادرات
كما اتضح.
فإذا انضمت ظواهر اآليات القرآنية ،وصريح األدلة النبوية على ثبوت
الرؤية إلى األدلة العقلية ،صار الرجحان بال شك في صف المجوزين ال
النافين.
ثم ههنا سؤال :إذا ورد ظاهر القرآن بإثبات الرؤية ،ودلت صرائح األحاديث
على الرؤية أيضاً ،وحكم المخالف بأن المعنى المراد بالرؤية عند األشاعرة
هو التجلي ،فَ ِّل َم لم يقل الخصوم بالجري على ظاهر النقل فيثبتون الرؤية مع
بيان معناها الصحيح الجائز في حق للا تعالى ،كما فعل السادة األشاعرة ؟!
اإلباضية فرقة إسالمية معروفة ،بعضهم نسبها إلى الخوارج وقال إنهم
طائفة من طوائف الخوارج ،وبعضهم نفى ذلك ،وقد رأيت لبعض اإلباضية
كالما ً ينفي فيه كونهم من فِّ َرق الخوارج ،وعلى كل حال فهم ليس لهم انتشار
كبير في البلدان اإلسالمية ،بل أكثر تواجدهم في سلطنة عمان.
وقد تبين لي أن هذه الفرق المخالفة ظاهرية أيضاً ،فليست الظاهرية منسوبة
فقط إلى المجسمة ،بل إلى كل واحد يتبع منهجهم في فهم النصوص واألدلة،
فالظاهرية منهج ،وقد كنتُ ذكرتُ هذا في شرحي على االقتصاد في االعتقاد
لإلمام الغزالي ،ووجه ظاهريتهم أنهم يكتفون بمجرد إطالق الرؤية على ما
يحصل لإلنسان عندما يرى ،فيأخذون كل ما يالحظونه حسا ً شرطا ً عقليا ً ال
انفكاك منه ،بل يعتبرونه علة ال تتخلف ،وهكذا كان يفعل المجسمة عندما
اكتفوا بمجرد إطالق بل نسبة اليد والعين والساق إلى للا تعالى ،حتى نسبوا
هلل تعالى األجزاء واألبعاض والتحيز والجهة والمكان ،واعتبروا هذه شروطا ً
عقلية في كل موجود ،وهذه الفرق المخالفة في الرؤية ارتكبوا نفس هذا
األمر ،فاكتفوا بمجرد إطالق الرؤية على ما يحصل لإلنسان عند المقابلة
والشعاع ،فجعلوا هذه شروطا ً أو علالً وأسبابا ً عقلية كما رأينا ذلك صريحا ً
في كالم القاضي عبد الجبار ،وهذه ظاهرية محضة كما ال يخفى.
بينما نرى السادة األشاعرة لم يكتفوا بمجرد اإلطالق ليبنوا عليه قواعد
عقلية ،بل اعتمدوا على التحليل واالستدالل العقلي ،ولما رأوا تخلف هذه
الشروط في بعض مصاديق الرؤية ،قطعوا بأنها ليست شروطا ً وأسبابا ً
عقلية ،فحكموا عليها بأنها عادية ،بل اعتمدوا أيضا ً كما قلنا على األدلة
العقلية القطعية الجازمة بأن للا تعالى خالق كل شيء بال واسطة ،وأنه ال
يوجد تالزم عقلي بين أي موجودين حادثين ،بل التالزم عادي بخلق للا
تعالى بإرادته واختياره.
فبعد هذا التوضيح الدقيق ،يتبين لنا أن كل ما يقوله المخالفون مجرد تهويالت
وتشنيعات مبنية على مصادرات ومغالطات ،ال يتأثر بها إال ضعيف.
قال الشيخ المصعبي في معالم الدين (" :)29/2وهذا المرصد عندنا – يقصد
الرؤية – من جملة الممتنعات في حقه تعالى ،وذلك أن أصحابنا واألكثرين
من علماء األمة على امتناعها عقالً ونقالً ،وذهب األكثر من األشاعرة إلى
جوازها عقالً ونقالً" أ.هـ.
سه وأدلته على أما قوله إنها من الممتنعات في حقه تعالى ،فسوف ننقض أ ُ ُ
س َ
ذلك ،وهي ال تزيد على ما أوردناه سابقاً ،ولكن نكررها هنا زيادة في التأكيد
والتوضيح.
وأما قوله إن أكثر علماء األمة على أن رؤية للا ممتنعة عقالً ونقالً ،فهذا
كالم غير صحيح ،ولعله َّ
ظن أنه لما كانت المعتزلة والشيعة واإلباضية
والزيدية ينكرون الرؤية ،وكانت األشاعرة والماتريدية يثبتونها فيلزم من
ذلك أن أكثر علماء األمة ينكرونها !! وليس األمر كذلك.
فلو حسبنا عدد الماتريدية واألشاعرة في العالم كله ،وقارنا هذا العدد بأعداد
جميع هذه الفرق ،لعرفنا قطعا ً أن جميع هذه الفرق ال يتجاوز ُ
ع ْش َر عد ِّد
األشاعرة والماتريدية ،ولو حسبنا عدد العلماء من الماتريدية واألشاعرة،
وقارناه بأعداد العلماء من كل هذه الفرق مجتمعة ،لفاقهم أضعافا ً مضاعفة،
وهذا ال يستطيع أحد إنكاره.
فال يصح عند ذلك أن يقول إن جمهور علماء األمة على إنكار الرؤية عقالً
ونقالً ،بل هذه مجرد مغالطة كما هو واضح ،وكم يقترب هذا األسلوب مع
أسلوب المجسمة عندما يدعون أن جمهور علماء األمة على إثبات الجهة
والعلو ،والحال أن الواقع هو عكس كالمهم المغلطي.
وبقي تدقيق آخر في كالمه ،وذلك بأنه قال إن األكثر من األشاعرة على
جوازها عقالً ونقالً ،فهذا القول بهذه الصيغة قد يفهم منه أن بعض األشاعرة
لم يقولوا بجوازها عقالً ونقالً ،بل قالوا بامتناعها عقالً ونقالً ،وهذا باطل.
والصحيح هو كما يلي :إن جميع األشاعرة قالوا بجوازها نقالً ،ولم يخالف
في هذا أحد نعرفه.
وأما عقالً ،فالتجويز الشرعي دليل عند جميع األشاعرة على الجواز العقلي
بال شك وال ريب ،فال يتصور ممن قال بالجواز شرعا ً أن يقول باالمتناع
عقالً ،ولكن الذي حصل هو االختالف على بعض األدلة العقلية وهو دليل
الوجود ،هل هو قاطع بتجويز الرؤية أم ال ،هذا الذي قال بعضهم بأنه قاطع
وبعضهم نفى ذلك ،وجمهور المحققين على عدم قطعيته ،ولكن من جهة
سلَّم للخصوم دليل،
أخرى ،فكلهم يقولون إنه ال يوجد دليل يمنع الرؤية ،وال يُ َ
بل كل دليل فيرد عليه منع أو نقض ،وكذلك يقال :العقل إذا ُخ ِّل َ
ي ونفسه لم
يحكم بامتناع الرؤية ألول النظر ،بل يتوقف منعه لها على دليل ،فهو حاكم
بالجواز بالمعنى األعم ،ومع انضمام األدلة النقلية يترجح الجواز وجوباً،
وهذا مسلك صحيح وسديد.
إذن ها هي أول عبارة مما قاله المصعبي فيها خلل ظاهر ،وقد صرح
السالمي في المشارق بما لوح إليه المصعبي ههنا ،فقال في (:)363/2
"وعلى هذا جمهور األشاعرة" أ.هـ.
وذلك لما ذكر الرؤية بالبصر وأشار إلى قول اللقاني في الجوهرة ،وهو يريد
بذلك أن يوهم أن األشاعرة يقولون بالرؤية المعتادة بالبصر ،وهو غلط
عليهم.
ثم ذكر المصعبي الحكم فيمن أثبت الرؤية ،فقال (" :)29/2وقال أصحابنا:
َمن قال إنه يُرى في الدنيا فقد أشرك ،و َمن قال إنه يُرى في اآلخرة فقد نافق"
أ.هـ.
إذن هذا هو حكم من أثبت الرؤية في الدنيا وفي اآلخرة ،فهو مشرك على
األول ومنافق على الثاني ،وقد كنا رأينا المعتزلة أسهل من هؤالء في الحكم
نص السالمي أيضا ً على هذا الحكم في المشارق،
على مثبتي الرؤية ،وقد َّ
فقال (:)392/2
"
بجسم
ِّ فاحكم له والشرك إن
(قوله :ومن يدن بها ..إلخ) أي و َم ْن يعتقدها دينا ً فهذا حكمه ،وكذلك أيضا ً
َط مخالفه فيها ،فإنها ليست
َمن يعتقد بثبوتها على سبيل االجتهاد حيث لم يُخ ِّ
من المسائل االجتهادية ،وإنما قيد المصنف هذا الحكم بالدائن بها؛ ألنه ال
يوجد قائل بها إال وهو يخطئ من خالفه فيها" أ.هـ.
ومما يدل على أن هؤالء اإلباضية ينسبون الرؤية الحسية إلى جمهور
األشاعرة ما قاله المصعبي بعد ذلك (" :)29/2واستدل كل على ما ادعاه
بالعقل والنقل ،وسيتضح لك إن شاء للا ضعف مدعاهم من الجواز بالعقل
والنقل ،ومن ثم وافق بعض المحققين منهم الجمهور في االمتناع كالفخر
والغزالي وغيرهما ،وهؤالء من أعاظم أئمتهم" أ.هـ ،ثم قال" :وقال
األكثرون منهم :يرى بعين الرأس" أ.هـ.
فهو ينسب إلى جمهور األشاعرة أنهم يقولون بالرؤية الحسية هلل تعالى ،وهذا
كذب عليهم ،فقد تبين لنا أنه خالف بين المتقدمين والمتأخرين من األشاعرة،
وقد وضحنا ذلك أكثر من مرة ،والحظ أيها القارئ الكريم أن هذا أسلوب
آخر يتبعه اإلباضية وغيرهم ،ويشاركون فيه المجسمة في هجومهم على
األشاعرة ،فكأن هؤالء ال يستطيعون الرد على األشاعرة إال بنحو هذه
األساليب الملتوية التي ال تقوم على دليل وال مستند.
وهذه األساليب الباطلة التي يتبعها هؤالء تدل طالب الحق على صواب رأي
األشاعرة؛ ألنهم في الحقيقة في غاية اإلنصاف لخصومهم ال يغالطونهم وال
يلصقون بهم ما ال يقولون به ،وذلك ألن نصرة الحق ال تتوقف على االستعانة
بالباطل ،ولكن نصرة الباطل ال تتم إال بالباطل ،وسوف ترى مصداقَ هذا
كله بعينيك وتعلمه بعقلك ونفسك.
ولكن ،وإن كان المصعبي صاحب معالم الدين ،قد وقع في الغلط الذي
ذكرناه ،إال أنه أصاب من جهة ثانية عندما قال في ( )30/2بعد ما نقل رأي
الغزالي في الرؤية" :وفي جميع ما ذكره كما ترى نفي للرؤية المعتادة بل
استحالتها ،وتصريح بأن ذلك ازدياد علم ال إحساس بالعين ،وما ذكر كما
قال الشماخي ال ينكره نافي الرؤية إال أنه يسميه رؤية ،بل علما ً يقينياً،
والخالف كما قال لفظي" أ.هـ .وهذا كالم عجيب في الحقيقة ،فهو يقول بأن
كالم الغزالي نفي للرؤية المعتادة يقصد الحسية المستلزمة للصورة والحد
ينف ذلك من
ِّ والجهة ،فنقول له :و َمن -أيها الشيخ اإلمام المحقق! – لم
األشاعرة ،وهل تحسب أن الغزالي والرازي هما فقط من نفاها ،إن هذا الظن
إن كان فيك فهذا قدح وللاِّ في اطالعك على آراء المخالفين ،بل هو يقدح
في إنصافك؛ ألن من اإلنصاف االطالع على ما هو مشهور على األقل ،نعم
لو كانت كتب الغزالي والرازي وغيرهما من األشاعرة خفية نادرة،
عذر.
َ لعذرناك ،ولكنها كثيرة عديدة منتشرة ،فال
وأما ما نقله عن البدر الشماخي ،فهو حسن على وجه اإلجمال ،ولكن هناك
ضه كالم الشماخي ،ولم يَ ْقنَع بما قنع به الشماخي وهو
من اإلباضية َم ْن لم ي ُْر ِّ
من كبارهم ،وذلك مثل السالمي صاحب مشارق أنوار العقول ،فقد قال
(" :)363/2ثم إنا ال نقنع من الفخر الرازي والغزالي بما قااله في تأويل
الرؤية بالعلم؛ ألن حقيقة ذاته ال تُعلم ،وإنما تعلم صفاته فقط ،وذلك أنه ال بد
للشيء المعلوم من أن تتصور في ذهن العالم به ،وحقيقة ذاته تعالى ال
تتصور" أ.هـ.
هذا أول كالم السالمي في هذا المحل ،وسوف نورد بقيته تباعا ً بعد ِّ
الرد على
هذا القسم ،فنقول :عدم قناعتك بما قاله الرازي والغزالي ووافقا فيه سائر
األشاعرة ال يضيرنا وال يؤثر في األمور فيجعلنا نتشكك في صحة ما قااله
وال في صحة كالم األشعري نفسه في هذه المسألة.
عدم قناعته بقوله" :ألن حقيقة ذاته تعالى ال تعلم ،وإنما تعلم
َ وأما تعليله
صفاته فقط" أ.هـ ،فهو دليل على ضعفه وتسرعه في الحكم ،فهو ينسب إلى
الغزالي والرازي أنهما يقوالن بأن الرؤية كاشفة عن حقيقة الذات ،والحقيقة
أن كالً من الغزالي والرازي كالمهما صريح بأن حقيقة الذات اإللهية ال
وصرحا
َّ يمكننا العلم بها ،وأننا ال نعلم سوى أحكام عنها وعن الصفات،
أيضا ً بأن الرؤية ال تستلزم الكشف عن الحقيقة ،بل كل ما يلزمها إنما هو
زيادة علم عما كنا نعلمه بالنظر والعقل والنقل ،وهذا غير محال في نفسه
وال بالنسبة لنا ،بل الحكم بإمكانه العقلي واضح ال يحتمل النزاع أصالً.
وقوله" :حقيقة الذات ال تعلم" ،إن أراد ال تعلم مطلقاً ،فهو كالم باطل قطعاً،
ألن للا تعالى عالم بحقيقة ذاته ،وإن أراد نحن ال نعلمها ،فهذا ال يخالفه فيه
الرازي والغزالي كما قلنا ،ولذلك فال يصح أن يُظ ِّهر هذا األمر على أنهما
يخالفانه فيه.
وأما قوله" :وإنما تعلم صفاته فقط" ،إن أراد إننا نعلم حقيقة صفاته ،فهو
كالم باطل قطعاً ،ألننا كما ال نعلم ذات للا تعالى في حقيقتها ،فكذلك ال نعلم
صفات للا تعالى في حقيقتها ،وإنما الذي نعلمه مجرد أحكام ثابتة للذات
وللصفات.
وأما قوله( :وذلك أنه ..إلخ) ،فدليل على ضعفه وعدم دقته ،وها هنا وقع في
خلط بين قول المناطقة العلم الصورة الحاصلة في النفس أو العقل ،وبين
كون المعلوم له صورة أي شكل معين ذو هيئة وأوضاع ونسب بين أجزائه،
فيوجد فرق كبير بين هذا وذاك ،ولكن هذا الشيخ خلط بين األمرين ،فاعتقد
المدرك له صورة ،ويوجد فرق
َ أن حصول الصورة اإلدراكية يستلزم كون
بين األمرين.
فعندما نقول :نحن علمنا أن اجتماع النقيضين باطل ،تكون صورة إدراكية
قد حصلت في عقلنا ،ولكن هذه الصورة تكشف عن شيء ال صورة له في
نفسه ،بل المنكشف بها مجرد حكم ونسبة ال تتصف بالصورة والكيفية التي
هي الهيئة ذات الوضع أصالً.
وقد جهل بعض المتسلقة إلى هذه العلوم الشريفة هذا الفرق الدقيق،
فاعترضوا علينا بنفس االعتراض عندما قلنا :الرؤية هي عبارة عن الصورة
اإلدراكية الحاصلة في النفس ،فقالوا :يلزمك إذن كون للا له صورة إذا قلت
برؤيته!! وهذا إلزام دال على جهل كبيركما ال يخفى على العالم ،فال يلتفت
أصر على
َّ إليه وال يشتغل بالجواب عنه إال ببيان الفرق بينهما كما قلنا ،فإن
زعمه فهو معاند حاقد ال يريد البحث والنظر ،بل يريد مجرد المهاترات
والمشاغبات ،و َمن كان كذلك فال نشتغل نحن بالكالم معه ،ألن هذا ينزل من
مقام العلماء.
ثم قال السالمي (" :)363/2فإن قيل :إن بعض األصحاب قد فسَّر الرؤية في
الحديث بالعلم ،وقد قنع البدر الشماخي من الفخر والغزالي بما قااله ،حيث
قال :والخالف حينئذ لفظي .قلنا :أراد ذلك البعض بالعلم باهلل زيادة العلم
بصفاته ،حيث انكشف لهم من أمور اآلخرة ما يعدهم بها ،وكما قيل :ليس
الخبر كالمعاينة ،وعلى هذا المعنى حمل البدر كالم الفخر والغزالي ُحسْنَ
ظن بهم ،لكن إشارتهم دالَّة على إرادة العلم بحقيقة ذاته ال بصفاته فقط" أ.هـ.
فأول ما نقوله في الرد على كالمه هذا :أَ ْربِّع على نفسك بعض الشيء أيها
الشيخ السالمي!!
ع ْ
ط َوة أو حالً إلشكال بين متقاتلين حتى تقنع أو ال تقنع فليست المسألةُ مسألةَ َ
أنت أو غيرك ،بل المسألةُ أساسا ً مسألةُ علم ونظر وبحث.
وليعلم السالمي أن عدم قناعته بكالم الغزالي والرازي قَدْح في الشماخي ألنه
قنع!! منهما بذلك ،ولكن مسألة القناعة أصالً بهذا المعنى ليست مطروحة
هنا ،بل المسألة مسألة قواعد علمية وكالم مستقيم سوي.
وبعد ذلك ،نقول:
والحق كما يلي :أننا ال نعرف عن للا تعالى إال بعض األحكام ،ولكن نقول
أيضا ً إن كماالت للا تعالى ال يحيط بها أحد ،ولذلك فال يستحيل عقالً أن
يعلمنا للا علما ً ضروريا ً ما غاب عنا ،وهذا هو خالصة معنى الرؤية،
وسوف نورد لك كالم الغزالي رحمه للا تعالى يبين هذا المعنى ويناقض
كالم السالمي اإلباضي الذي يدعي أنه يفهم حقيقة كالم الغزالي ،وسوف
يتبين لك أن الغزالي مع هذا ال يقول مطلقا ً بأننا بالرؤية نعلم حقيقة الذات
كما زعم السالمي ،فلم يقنعه!! ما قاله الغزالي والرازي.
قال اإلمام الغزالي رحمه للا تعالى في كتاب االقتصاد ص ..." :64فلنبحث
عن الحقيقة (أي حقيقة الرؤية) ما هي ،وال حقيقة لها إال أنها نوع إدراك هو
كمال ومزيد كشف باإلضافة إلى التخيل ،فإنا نرى الصديق مثالً ثم نغمض
العين ،فتكون صورة الصديق حاضرة في دماغنا على سبيل التخيل
والتصور ،ولكنا لو فتحنا البصر أدركنا تفرقته ،وال ترجع تلك التفرقة إلى
إدراك صورة أخرى مخالفة لما كانت في الخيال ،بل الصورة المبصرة
مطابقة للمتخيلة من غير فرق ،وليس بينهما افتراق ،إال أن هذه الحالة الثانية
كاالستكمال لحالة التخيل ،وكالكشف لها ،فتحدث فيها صورة الصديق عند
فتح البصر حدوثا ً أوضح وأتم وأكمل من الصورة الجارية في الخيال،
والحادثة في البصر بعينها ،تطابق الصورة الحادثة في الخيال.
فإذن التخيل نوع إدراك على رتبة ،ووراءه رتبة أخرى هي أتم منه في
الوضوح والكشف ،بل هي كالتكميل له ،فنُ َ
س ِّمي هذا االستكمال باإلضافة إلى
الخيال رؤية وإبصاراً.
وكذا من األشياء ما نعلمه وال نتخيله ،وهو ذات للا سبحانه وتعالى وصفاته،
وكل ما ال صورة له ،أي ال لون له وال قدر ،مثل القدرة والعلم والعشق
واإلبصار والخيال ،فإن هذه أمور ال نعلمها وال نتخيلها ،والعلم بها نوع
إدراك ،فلننظر :هل يحيل العقل أن يكون لهذا اإلدراك مزيد استكمال نسبته
إليه نسبة اإلبصار إلى التخيل؟
فإن كان ذلك ممكنا ً س َّمينا ذلك الكشف واالستكمال باإلضافة إلى العلم رؤية
كما س َّميناه باإلضافة إلى التخيل رؤية ..
وكما ال يبعد أن يكون الجفن أو الستر أو سواد ما في العين سببا ً بحكم اطراد
العادة المتناع اإلبصار للمتخيالت ،فال يبعد أن تكون كدورة النفس وتراكم
حجب األشغال بحكم اطراد العادة مانعا ً من إبصار المعلومات.
وإذا كان ذلك ممكناً ،بأن خلقت هذه الحالة في العين كان اسم الرؤية بحكم
وضع اللغة عليه أصدق وخلقه في العين غير مستحيل ،كما أن خلقها في
القلب غير مستحيل ،فإذا فهم المراد بما أطلقه أهل الحق من الرؤية علم أن
ش ِّهد له ،فال يبقى للمنازعة وجه إال
العقل ال يحيله بل يوجبه ،وأن الشرع قد َ
على سبيل العناد أو المشاحة في إطالق عبارة الرؤية أو القصور عد درك
هذه المعاني الدقيقة التي ذكرناها" أ.هـ.
ها هو كالم اإلمام الغزالي نقلناه لنبين للقارئ أن هذا السالمي اإلباضي لم
يتمع ْن كفاية في مدلوالت معاني كالم حجة اإلسالم ،وقد تبين بوضوح أن
اإلمام الغزالي ال يزعم أن الرؤية تكشف عن حقيقة الذات اإللهية ،بل يصرح
بخالف ذلك ،وكل ما يقوله أن للا تعالى يمكن أن يخلق فينا زيادة علم تتجلى
به لنا بعض كماالته ،كما يتجلى لنا الشيء زيادة تجل حين نراه بعد العلم
به ،وهذه المسألة بهذا القدر قريبة من البداهة ،ومنكرها معاند كما قال ،وذلك
كله من دون إثبات صورة هلل تعالى وال تخيل له وال حد وال مقابلة وال جهة
..إلخ.
وأنا ال يخطر في بالي مطلقا ً أن كالم الغزالي يحتاج إلى شرح ،فأستغرب
جداً عندما أرى بعض المشايخ المقَدَّمين في فرقهم وعند أتباعهم يغلطون في
إدراكه وفهمه.
وبعد ذلك نقول :ال داعي ألن يتكلف السالمي ألن يضغط على نفسه ويحسن
الظن بالغزالي والرازي ،وكأن كالمهما في ذاته باطل ومتناقض ،ولكنه
إحسانا ً للظن بهم يقول ما يقول ،أو أنه يعتقد أن ما قاله البدر الشماخي مبني
على إحسان الظن فقط ،وليس مبنيا ً على معاني كالم الرازي والغزالي
نفسيهما ،وهذا الظن من السالمي قادح في حكم الشماخي واتهام له بأن كالمه
غير مبني على قواعد علمية ،بل على مجرد إحسان الظن ،وال مدخلية
إلحسان الظن في هذه المسائل العلمية األصلية ،والحق أن في كالم السالمي
إشارات كثيرة تزعج طالب الحق يذكرها تلويحاً ،ويا ليته كان فيها من
المصيبين ! فنقر له ونحترم رأيه ،بل هو في جميعها غير مصيب ،وللا
الموفق.
والمؤلف على سبيل العموم يتبع المعتزلة في استدالالته ،وهو متوافق مع
الشيعة في تفسير كالم األشعري وغيرهم ممن يسمونهم قدماء األشاعرة أو
المتقدمين ،وال أدري من أين جاؤوا بالقول بأن اإلمام األشعري قائل بالرؤية
الحسية المتضمنة لالتصال والمستلزمة للحد والجهة وغير ذلك ،والحال أن
نسبة هذا القول إلى اإلمام األشعري وهو ينكره وينفيه يبعث على الدهشة
واالستغراب من هؤالء.
هذا هو المعنى الذي يحاول المؤلف نفيه عن للا تعالى ،ونحن قد علمنا أنه
ال يقول بهذا المعنى أحد إال المجسمة ،أما األشاعرة فهم ينفونه صراحة ،وال
يشترطون للرؤية هذه الشروط ،وال يقولون يجب إذا كانت رؤية أن تنطبع
صورة للمرئي ،فقد يكون المرئي ليس ذا صورة أصالً ،فال ينطبع في العين،
أو ال يحصل في العين إال صورة إدراكية ،تكشف عن المرئي إذا كانت ذا
صورة ،تكشف عن صورته ،وإال فهي تكشف عن حقيقته أو بعض صفاته.
وهذا المعنى ال يستلزم التجسيم وال يتضمنه كما هو واضح.
وأما رؤية األعراض واألصوات فإذا كانت موجودة ،فقد قلنا إننا ال ندفع
رؤيتها وال نحيلها ،بل نقول بإمكانها ،غاية األمر أنها ليست حاصلة لنا إال
بحدود معينة ،وال يستحيل على قدرة للا أن يخلق فينا قدرة على رؤية جميع
األعراض واألشعة والذبذبات االهتزازية ،والقائل باستحالة ذلك عليه اإلتيان
بالدليل.
وهذا الكالم كما ترى يكثر المؤلف الشيخ المصعبي من تكراره ،وقد بينا أنه
ال أساس له من الصحة ،وأن ما يتخيله من قول جمهور األشاعرة بالرؤية
الحسية المستلزمة للحد والجهة ،فهو مجرد خيال في وهمه ،بل جميعهم
قاطبة أنكروا هذا المعنى ،وبصريح قولهم ،ونفيهم ذلك عند الكالم على مسألة
الرؤية ،ال يقال عليه إنه رجوع عن القول بالرؤية الحسية ،إلى العلم ،بل هو
يصرحون به دائماً ،ولم تحدث
ِّ عبارة عن تحقيق كالمهم ،ومتطابق مع ما
رجعة وال غيرها ،إال في وهم القائل بالرجوع المزعوم ،بنا ًء على فهمه
الغلط لمذهب القوم ..
وأما الفخر الرازي واإلمام الغزالي فلم ينفيا الرؤية مطلقاً ،بل أثبتاها وإذا
قصد أنهما نفيا الرؤية الحسية العادية عن للا تعالى ،فهذا النفي لم يختص
بهما ،ولم يتفردا به ،بل قال به جميع األشاعرة بدءاً من األشعري نفسه حتى
آخرهم ،لم يخالف منهم أحد في هذا الوصف.
وأما ما زعمه الشيخ المصعبي بعد ذلك (" :)45/2ولو جاز أن يرى للا
تعالى من غير اتصال لجاز أن يش َّم ويذاق ويلمس ،وقد التزمه البعض منهم
لجاجا ً وتعصباً ،وجاز أن يكون جسما ً من غير تأليف ،أو به بدون تحيز،
وأن يكون له وجه وكف وساعد وقدم من غير صورة أو على صورة اإلنسان
بغير شكل ،وأن يكون طويالً وعريضا ً بال نهاية أو بها ،وقد قال بكل ذلك
كثير من المرجئة واألشعرية" أ.هـ.
فهو ينسب إلى كثير من األشاعرة القول بهذه المتناقضات ،وطريقة إلزامه
لهم بذلك متناقضة ومغلطية ،ونسبة هذه األقوال إليهم كذب عليهم ،وسوف
نبين ذلك باختصار.
فها هو يقيس الرؤية على الذوق والشم واللمس ،وال وجه للقياس ،ألمور:
أوالً أننا لم نثبت لفظ الرؤية إال لوروده ،ثم حملناه على معنى معقول وسائغ
لغة ،ولم نحمله على المعنى الذي يتبادر منه التجسيم إلى األذهان كما يزعم
المصعبي وغيره ،وأما اللمس والذوق والشم فهي أوالً لم يرد نسبتها إلى للا
تعالى ،وأيضا ً فهي دالة على التجسيم صراحة بظاهرها ،ألن اللمس معناه
يتضمن الحد ،وكذلك الشم والذوق يستلزم كل منهما االنقسام والحد ،وكل
هذا باطل في حق للا تعالى ،فتبين أنه ال يوجد قياس بين هذا وذاك ،وأما
الجسم بدون التحيز ،فمستحيل عقالً ،ألن التحيز وصف نفسي للجسم،
ووجود الماهية بال ذاتياتها محال ،وكذلك الجسم بال تأليف ،وكذلك إثبات
األعضاء بال صورة ،وغيره كل ذلك محال باطل؛ ألنه تناقض داخلي كما
مضى.
ولم يقل بهذه األقوال أحد من األشاعرة ،وهذا معلوم واضح لكل ذي اطالع،
فنسبة هذه األقوال الباطلة إلى كثير من األشاعرة غلط كبير عليهم ،قريب
من الكذب.
وقد قال المصعبي بعد ذلك إن األشاعرة مضطربون في مسألة الرؤية ،وهاك
قوله في (" :)47/2وبالجملة فاضطراب أقوال األشاعرة في الرؤية دليل
قاطع على عدم إصابة وجه الحق في تنزيه الباري سبحانه" أ.هـ ،ثم شرع
في بيان وجه االضطراب ،بأن األشعري قال إن الرؤية تحدث بالبصر وعين
الرأس ،ونقل عن الباقالني أن موسى عليه السالم رأى ربه ،وقال إن بعضهم
منع الرؤية في الدنيا ،وبعضهم قال بجوازها في الدنيا واآلخرة ،وبعضهم
منعها مطلقا ً دنيا وأخرى.
هكذا بين المصعبي اختالف أقوال األشاعرة ،وكل ما نقله غير صحيح،
وسوف نبين ذلك بتفصيل عند بيان أقوال أهل السنة األشاعرة والماتريدية
في هذه المسألة في المباحث التالية ،ولكن نقول هنا قوالً مجمالً :لم يضطرب
األشاعرة في هذه المسألة ،بل كلهم على قول واحد ،وهو أن الرؤية جائزة
دنيا وأخرى ،وواقعة في اآلخرة للمؤمنين ،وأن الرؤية تكون بأن يخلق للا
تعالى الرؤية إما في العين أو النفس مباشرة ،بال اتصال شعاع وال مقابلة
وال جهة وال حد وال صورة.
وأن الرؤية زيادة تجل هلل تعالى ،وهي نعمة عظيمة ينعم للا تعالى بها على
المؤمنين.
مع المجسمة
لقد بينا قول المجسمة في هذه المسألة أثناء كالمنا مع الفرق السابقة ،ولكن
سوف ننقل ههنا بعض النصوص التي تدلل أن هذه الفرقة تثبت الرؤية
بالجهة والحد والجسمية ،وجميع ما يلزم على ذلك من الصورة وغيرها.
إن الرؤية عند هؤالء المجسمة هي عبارة عن حصول الصورة في العين
بواسطة مقابلة المرئي ،وهذا المعنى عام عندهم ،فيجب أن يكون المرئي
مقابالً للرائي ،ال يفرقون بين للا تعالى وبين المخلوقات ،وهذا هو الفرق
الكبير بين قولهم وقول األشاعرة كما وضحناه.
وقد كنا ذكرنا أن معنى الرؤية عند المعتزلة ،هو عين معنى الرؤية عند
المجسمة ،إال أن المعتزلة نفوا رؤيتنا هلل تعالى؛ ألن للا ليس جسما ً وال
متحيزاً وال محدوداً وال يتصل وال يماس المخلوقات ،أما المجسمة فقد أثبتوا
الرؤية ألن للا تعالى عندهم جسم ومحدود في جهة من المخلوقات ويماسها
..إلخ.
فاألصل في معنى الرؤية محل اتفاق بين المعتزلة والمجسمة ،بل هذا األصل
محل اتفاق بين المجسمة وبين جميع الفرق المخالفة لألشاعرة والماتريدية
أهل السنة.
من هذه المقدمة التي يتلخص بها ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ،تتبين
لطالب الحق أصول كلية تفتح له أبوابا ً ومعارف.
واآلن فلنذكر بعض النصوص التي يقول بها هؤالء المجسمة في الرؤية،
ليتبين للقراء الكرام حقيقة الفرق بين قولهم وبين قول األشاعرة ،وذلك حتى
ال يحصل خلط بعد ذلك بينهما في أذهان طالب العلم ،فيترتب على ذلك
اختالط المسألة عندهم ،مما ينتج عنه خطأ عظيم في األحكام والمواقف.
هكذا كان هؤالء يتوهمون ،ونحن قد أبطلنا هذا الوهم في أبحاثنا السابقة،
واآلن نقول :الحق أن تلك الفرق كان ينبغي لها أن توجه ردودها التي أشرنا
إليها سابقا ً إلى فرقة المجسمة ،فهم الذين يثبتون الرؤية الحسية على حقيقتها
العرفية العادية ،أقصد يثبتون الرؤية المشروطة بمحدودية المرئي وكونه
في جهة ومكان إلى آخر ذلك مما علم.
ولذلك فإن هؤالء المجسمة عندما كانوا يضيفون الرؤية إلى العين أو الوجه،
فهم يقصدون إثبات جميع اللوازم التي يعتبرها األشاعرة عادية ،يقصد
المجسمة إثباتها هلل تعالى ،ويصرحون بذلك ألنهم يعتقدون أن هذه األمور
ليست مجرد شروط عادية ،بل هي شروط عقلية ،ال يتصورون حصول
الرؤية إال بها ،وهذه هي جهة االشتراك بينهم وبين المعتزلة كما وضحناه
سابقا ً.
ولذلك فقد قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ،ص" :205وإضافة
النظر إلى الوجه الذي هو محله ،في هذه اآلية ،وتعديته بأداة (إلى) الصريحة
في نظر العين ،وإخالء الكالم من قرينة تدل على خالفه حقيقة موضوعة
صريحة في أن للا أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جالله"
أ.هـ.
وهو يريد بهذا الكالم إثبات الرؤية الحسية ،أي أن الرؤية التي يعتادها الناس
مع شروطها في حياتهم المعتادة ،هي نفسها التي يثبتونها عندما يقولون
برؤية للا تعالى ،فهم من هذا الباب مشبهة أيضاً ،ومجسمة ،وهذا هو محل
خالفهم مع األشاعرة ،فإن األشاعرة أصابوا الحق عندما قالوا :إن الرؤية
بحسب المرئي ،وللا تعالى ليس له حد وال في جهة ،ولذلك تكون رؤيته كما
هو عليه في نفسه أي بال حد وال في جهة ،كما نعلمه كذلك ،أما هؤالء
المجسمة فقد جعلوا نفس الرؤية دليالً على إثبات الجهة والحد في حق للا
تعالى ،فشتان بين المذهبين ،وتعسا ً لمن يسوي بينهما.
ولذلك وتأكيداً لهذا المعنى الذي قررنا أن المجسمة يقولون به ،قال ابن أبي
العز الحنفي في ص" :211وليس تشبيه رؤية للا تعالى برؤية الشمس والقمر
تشبيها ً هلل ،بل هو تشبيه للرؤية بالرؤية ،ال تشبيه المرئي بالمرئي ،ولكن فيه
دليل على علو للا على خلقه ،وإال فهل تُعقل رؤية بال مقابلة؟ و َمن قال:
يرى ال في جهة ،فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابراً لعقله وفي عقله شيء،
وإال فإذا قال يرى ال أمام الرائي وال خلفه وال عن يمينه وال عن يساره وال
فوقه وال تحته ،رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة.
ولهذا ألزم المعتزلة َم ْن نفى العلو بالذات بنفي الرؤية ،وقالوا :كيف تعقل
رؤية بال مقابلة بغير جهة" أ.هـ.
إن هذا ابن أبي العز الحنفي عندما يقول إن العلو ثابت هلل تعالى ،يريد أصالة
بلفظ العلو معنى الجهة ،وال يريد العلو في الوجود والحقيقة الذي هو محل
اتفاق بين جميع أهل اإلسالم ،فال نعلم أحداً يقول إن اإلله أنزل مرتبةً من
المخلوقات ،بل كونه عليا علو حقيقة وقدر وصفات ،محل إجماع من كل
مؤمن باهلل تعالى.
ولذلك ،فهو يغالط مجرد مغالطة عندما يستدل بنفس العلو على الجهة،
ويغالط عندما يستعمل لفظ العلو هنا ،وكان ينبغي أن يستعمل لفظ الجهة؛
ألن معنى الجهة هو الذي فيه خالف ال العلو المحتمل لعلو القدر والمكانة
محل االتفاق ،ولعلو الجهة والحيز والمكان محل الخالف ،وكان ينبغي أن
يستعمل األلفاظ المحكمة محل النزاع ،ولكن هذه هي عادة هؤالء المجسمة،
بل هي عادة كل المخالفين ألهل الحق ترويجا ً لمذهبهم.
ثم نقول :الحظ أن ابن أبي العز يحكم باستحالة الرؤية بال جهة ،ويعتبر هذا
مخالفا ً للعقل ،وهذا دليل كما أخبرناك على أنهم يتفقون مع المعتزلة في أصل
معنى الرؤية ،ويخالفون األشاعرة في ذلك.
وأما استناده إلى سؤال المعتزلة المبني على وجود تناقض بين إثبات الرؤية
ونفي الجهة ،فال يضرنا؛ ألنا نقول :هذا الزعم بالتناقض مبني على مصادرة
على المطلوب ،ومغالطة ،فبعض مقدماته وهي أنه ال رؤية إال بحد وجهة
مسلما ً
ال يسلمها الخصم ،بل يلزمه التناقض ،وإنما يلزم التناقض لو كان ِّ
بجميع المقدمات التي ينبني عليها بيان التناقض ،وليس األمر كذلك هنا ،وقد
كنا ذكرنا هذا المعنى في نقاشنا مع الشيعة والمعتزلة ،ولكن نرجو أن يكون
في تكراره هنا فائدة وتذكير.
وأما تلويح ابن أبي العز أنه في قوله هذا إنما يعتمد على ظاهر الحديث من
تشبيه الرؤية بالرؤية ،فهو كالم فاسد أيضاً ،ومبني على مصادرة ومغالطة.
وأما المجسمة ،فلما قالوا بمعنى الرؤية الذي وضحناه ،لزم عندهم أن يكون
للا بجهة وله حد وفي مكان ..إلخ.
وأما المعتزلة وغيرهم من الفرق ،فلما قالوا بمعنى الرؤية الذي قال به
المجسمة ،وكانوا ينفون كون للا جسما ً ومتحيزاً ..إلخ ،نفوا أص َل الرؤية.
فالعاقل يرى أن أعدل المذاهب هو مذهب األشاعرة الذي أخذ بالثابت من
المنقول ،ووضحه بما يتوافق مع المعقول ،فلم يناقضوا قواعد العقل وأحكامه
كالمجسمة ،وال ردوا الثابت بالنقل كالمعتزلة وغيرهم.
وبما أن المجسمة ارتكبوا ما ارتكبوا فال يصح أن يقول ابن أبي العز إن
صرح
تشبيه للا تعالى بخلقه ال يلزمهم ،بل هم قائلون به ومصرحون ،وقد َّ
ابن تيمية كما وضحت في كتاب الكاشف الصغير لزوم التشبيه على مذهبهم،
بل صرح بضرورة القول به ،ونفى أن تكون الشريعة قد ذ َّمت التشبيه!!
وكذلك ترى ابن عثيمين يصرح بعدم الضرر من التزام الجسمية ،أي التزام
كون للا جسما ً عند إثبات الرؤية بهذا المعنى ،وذلك كما في شرح العقيدة
الواسطية ص ،418-417فقد قال" :أما دليلهم العقلي على امتناع الرؤية،
فإنهم يقولون :إنك إذا رأيت للا إذا قلنا بجواز الرؤية ،لزم أن يكون جسماً،
واألجسام متماثلة ،وهذا تكذيب لقوله تعالى( :ليس كمثله شيء).
فنرد عليهم بأن نقول لهم :إن كان يلزم من جواز رؤية للا عز وجل أن
يكون جسما ً فليكن ،ألن الزم قول للا ورسوله حق ،ولكن ال يلزم أن يكون
هذا الجسم كاألجسام المخلوقة" أ.هـ.
فها أنت ذا ترى ابن عثيمين ال يتردد في التزام كون للا جسماً ،إلثبات الرؤية
بشروطها المعتادة ،فهذا هو التشبيه حقاً ،وهذا هو التجسيم ،وال ينجيه من
التجسيم ما قاله بعد ذلك" :وكما أنكم تقولون إن هلل ذات ال تشبه الذوات،
فنحن نقول :إذا كان يلزم أن يكون جسما ً فله جسم ال يشبه األجسام؛ ألن
أجسام المخلوق حادثة بعد أن لم تكن ،ومكونة من أجزاء ال يقوم بعضها إال
ببعض ،لكن الخالق ليس جسما ً بهذا المعنى أبداً" أ.هـ.
ومعنى هذا الكالم كما هو واضح ،أن للا تعالى جسم ،ولكنه يختلف عن
غيره من األجسام من وجوه:
-وأن أجزاء الجسم غير للا ربما تنفصل عن بعضها البعض ،أما للا فال
صرح به ابن تيمية كما بينته في الكاشف
َّ تنفصل أجزاؤه أبداً ،وهذا هو ما
الصغير.