Professional Documents
Culture Documents
Word 1377
Word 1377
Word 1377
-2-
الحقوق كافة
مـحــــفــــوظـة
التـحــاد الـكـتّـاب الــعـرب
-3-
الدكتور األخضر جمعي
اللفظ والمعنى
في التفكير النقدي والبالغي عند العرب
-دراســــــة -
-4-
-5-
ش اإلهــداء
إلــى والدتي
وإلـــى روح أخي السعيد
اللذين لوال تضحياتهما وصبرهما،
بعد توفيق هللا ،ما كان لهذه المحاولة أن تظهر.
-6-
بسم هللا الرحمن الرحيم
-7-
مقدمة
لم يكن من اهتمامنا مواجهة إشكال اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم من
منظور تصنيفي يبتغي تنزيل النقاد طوائف :لفظيين ومعنويين ومسّو ين بين قطبي
الداللة؛ ألننا نحسب أن هذه المباشرة قاصرة ،إذ باإلضافة إلى أنها تفترض سلفًا
هذا السّلم التصنيفي مما يجعل التحليل مشدودًا مبدئيًا إلى هذه الفكرة ،فإنها ال
تحدد غالبًا مقاصدها من المشكلة ،وال تضبط حقل التناول بصرامة .من هنا تكون
مباشرة التصنيف تجاوزًا لكثير من الخصوصيات التي قد تدعو مراعاتها إلى
إغفال كثير من شائع اآلراء.
كما أنه ال يعنينا تعقب داللة اللفظ والمعنى ومقاييسهما في التراث؛ ذلك أنه
إذا كان من معاني "اللفظ" ما يلفظ به من الكلمات أو يتكلم به ،ومن دالالت
"المعنى" ،القصد ،وما يدل عليه اللفظ ،فإن عنايتنا مرتبطة بعالئق اللفظ والمعنى
ودرجات وعي أعالم التراث بمستويات هذه العالئق .هذه المستويات التي انتهى
بنا رصدها إلى إدراجها ضمن منظورين في معاينة هذا التعّلق :منظور يستخدم
فكرة "االئتالف" في رصد شبكة الصالت بين الدوال والمدلوالت مع ما تعنيه كلمة
"االئتالف" من الوصل والجمع والتوافق .ومنظور يعي فكرة عن البنية ،باعتبار
أن خالصة تفاعل وحدات الكالم في نسيج السياق يؤول إلى بنية أو "هيئة"( ،)1دون
أن يمتنع تداخل المفهومين في المجرى الواحد .علمًا بأن الرصد تعقب في كثير
من المفاصل العالئق التي تنتظم قطبي الداللة إلى غاية ائتالف وحدات القول أو
تفاعلهما في بنية عامة .وكان يمكن أن ننحت عنوانًا معاصرًا لموضوع البحث ما
(?) ينظر :مادة :لفظ ،معىن ،ائتالف ،بنية ،ابن منظور ،لسان العرب ،دار بريوت ،جملد ،7ص ..461 :جملد ،7ص: 1
.104 ،461جملد ،15جملد ،9ص :و .جملد ،14ص .89 :املعجم الوسيط ،جممع اللغة العربية ،دار املعارف مبصر،
(جـ( ،1972 )1جـ ،1973 )2ط ،2جـ ،2ص ،633 ،832:جـ ،1ص.72 ،24:
-8-
دمنا بصدد معاينة وعي النقاد العرب القدماء بمشكالت النص والبنية ،إال أننا
فضلنا توظيف ما اعتمده النقاد أنفسهم من اصطالح ،إذ فضًال عن أن ذلك يوفي
بالمستلزمات التاريخية فإنه ينجينا في اآلن نفسه من تعسف إسقاط االصطالح
المحدث على القديم.
وبالقدر الذي انحصر الموضوع في نواة مركزية تتمثل في معاينة التأليف
بين عنصري الداللة أو تفاعلهما إلى غاية البنية العامة ،فإن هذه القراءة لم تحصر
نفسها بجنس أدبي معين ،ذلك أن اتجاهات النقد العربي القديم لم تكن تضبط نفسها
مطلقًا عند مقاربة إشكال اللفظ والمعنى في خانة نوع أدبي محدد ،بل كان
استقصاؤها شامًال ،دون أن نغفل اإلشارة إلى تخصيص بعض الفئات نوعًا معينًا
بالتركيز ،كالفالسفة وحازم القرطاجني مثًال ،علمًا بأن هذا الشمول ال يلغي الوعي
األولي على األقل بمفهوم األنواع األدبية في التراث النقدي .ثم كان هاجس هذه
القراءة عامًا يستضيئ بمقولة "األدبية" دون أن يغفل مراعاة تنوع األحكام
المتفرعة من معاينة أكثر من نوع أدبي إذا اقتضى األمر ذلك.
وباإلضافة إلى تجاوز البحث مشكلة النوع ،فرض عليه استقصاء
االتجاهات النقدية التي عرفتها الحضارة العربية اإلسالمية انتشارًا واسعًا شمل من
منظور الزمنية حقبة تبدأ بالجاحظ وتنتهي بحازم القرطاجّني ،ومن منظور
االتجاهات :النقاد ،والفالسفة ،والمتكلمين .فإذا كان أمر النقاد بّينًا،ونحن ال نفصل
بينهم وبين البالغيين ،إذ الفصل لم يكن حاسمًا في القديم ،فإننا قصدنا بالفالسفة من
عرفوا قديمًا بهذا الوصف من خارج المتكلمين ،ونريد بهم من تفقه في ما ترجم
من فلسفات يونانية بالخصوص .ومثّل هؤالء في النقد األدبي مسارًا أَّر قه التنظير
للظاهرة األدبية ،دون أن يتناسى االهتمام بالهيئة التي يتلبسها المعنى ،وبالكيفية
التي يستحيل بها الخطاب شعرًا أو خطابة ،وإ ذا كان من أقطاب هذا االتجاه الكندي
والفارابي ومسكويه وابن سينا وابن رشد ومن سار على دربهم ،فإننا لم نجد ُبّد ًا
من عّد أبي حيان التوحيدي ضمن هذه الدائرة ،ذلك أنه باإلضافة إلى كونه أديب
الفالسفة ،شكلت مطارحاته المعرفية عامة ،واألدبية بالخصوص لحمة جدالية
حاور فيها فالسفة كمسكويه وأبي سليمان المنطقي ،فكان بذلك أقرب إلى هؤالء،
علمًا بأن وضعه في خانة النقاد ال يستقيم والوجهة التي انضبط بها بحث هؤالء.
وما دام اصطالح المتكلمين يسع من هّب قديمًا إلى الدفاع عن العقيدة بالحجة
العقلية ،ومَّثل المعتزلة واألشاعرة طائفتي الكالم العظميين في التراث ،فإن
قراءتنا نتاج هؤالء تجاوزت هذا التصنيف العقائدي ،إذ شملت المقاربة معتزلة
-9-
وأشاعرة معًا ،كالخطابي والرماني والباقالني والقاضي عبد الجبار وأخيرًا عبد
القاهر الجرجاني ،ذلك أنه لم يكن من اهتمامات هذا البحث سوى استجالء الرأي
في الروابط التي يمكن أن تنضبط بها عالئق عناصر النص في نظر المتكلمين
جميعًا ،ذلك أن المنطلقات العقائدية المختلفة لم تُح ل دون معاينة المشكلة الواحدة
بمفاتيح متقاربة؛ ويكفي اإلشارة هنا إلى الشبه الكبير بين القاضي عبد الجبار
وعبد القاهر واعتمادهما النحو في تحديد بنية العبارة.
وباالستناد إلى ما سلف يمكننا القول إنه لم يقع بين أيدينا بحث يختص بقضية
اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم حسب االتجاهات المحددة سابقًا ،ويحصر
جوهر استقصائه في العالئق التي تربط العنصرين في المستويات المختلفة ،دون
أن نغفل اإلشارة إلى أن هناك بحوثًا بنت مشروعها بمقاربة المسألة من زاوية
مغايرة كالشأن مع مصطفى ناصف في "نظرية المعنى في النقد العربي" ،أو كان
اهتمامها محكومًا بمنطلقات نظرية كمؤلف جابر عصفور "مفهوم الشعر" ،الذي
أفدنا منه ما خص به حازمًا بالخصوص ،وإ ن كانت وجهتنا في هذه الدراسة مباينة
لمجرى البحث في الكتاب؛ وغيرها كثير كالحال مع المؤلفات التي تهتم بمقاييس
الفصاحة والبالغة للفظ والمعنى مثًال ،إال أنه يمكننا اإلقرار بأن مقال شكري
محمد عياد" :المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العربية" ،كان
من البحوث التي أفدنا منها في تحديد وجهة البحث .ثم حوى إنجاز حمادي
صمود" :التفكير البالغي عند العرب" أجوبًة لكثير من مشاغلنا المتعلقة بالجاحظ
وعبد القاهر والعسكري وابن سنان ،وإ ن كانت إفادتنا من الكتاب عظيمة في
الموضوعات المشتركة بيننا وبينه ،إال أن ذلك لم يحل دون أن تباين آراؤنا جملة
من آراء الباحث ،ومع ذلك سيبقى الكتاب يمثل قراءة جادة وعميقة تستضيئ
بمفاتيح أسلوبية معاصرة لكثير من قضايا البالغة في التراث.
ومع كل ما سلف ،وخضوعًا لمسايرة طبيعة التناول التي تفرض علينا عزل
كل اتجاه عن اآلخر ،إذ أفردنا النقاد بوقفة ،ثم الفالسفة فالمتكلمين ،وأخيًر ا مصّبًا
تفاعلت فيه الشعب السالفة تمّثل في حازم القرطاجني ،هذا المنظور الفاصل بين
هذه االتجاهات اقتضى افتراض عدم الصدور عن رؤية تاريخية في معاينة
اإلشكال المطروح باألساس ،ذلك أن هذه االتجاهات انبثقت من نسيج الثقافة
الواحدة وتفاعلت أسسها ونتائجها؛ فلقد عاصر النقاد والمتكلمون الفالسفة ،وإ ن
كان ما بين أيدينا من نتاج المتكلمين يبدأ بالقرن الرابع الهجري .من هنا يكون
إفراد كل تيار عن اآلخر معناه قراءة معادلة لإلشكال نفسه من منظور يكرر
- 10 -
الزمن وال يبنيه صعدًا ،إذ يخضعه إلى قراءة دائرية تعيد نفسها مجددًا بعين
مغايرة لعين .ومع ذلك أملى البحث نفسه بناًء جداليًا شبه متصاعد ،إذ بعد أن
اجتزنا مشكلة النقاد في فصلين ،ثم خصصنا الفالسفة بثالث ،فكان ميالد
األطروحة بهذا الثالث انبثاقًا من فكرة التخييل ليبرز مقابلها في الفصل التالي على
يد عبد القاهر هذا المقابل الذي تجسد في النظم ،ثم تنتهي القضية إلى ما يشبه
التأليف على يد حازم القرطاجني إذ انصهر لديه النظم والتخييل في تأليف متناسق
متكامل .فكأن الدوائر التي تعيد نفسها تمردت على المركز وانطلقت في خط
مستقيم ،ومع ذلك لم تكن غايتنا محكومة بمنهج تاريخي ،بل ظلت عنايتنا متعلقة
بمقاربة نّص ّية تستند إلى التحليل ،وإ ن نازعتهما الحضور أحيانًا إمالءات القضّية
ومقابلها.
ومع أننا ال نستطيع أن ندعي أنه كان بإمكاننا تجريد هذه الرجعة إلى التراث
من كل معاصرة أو حداثة ،إذ إن كل قراءة تظل أسيرة قناعات الذات ومنطلقاتها،
إال أننا حاولنا تنزيل المحاولة في سياقها الثقافي ،ولكن ضمن أبنية حديثة تستهدف
إدراج المقروء في خانات ضبطها البحث النقدي واألسلوبي المستندين إلى
أصول البحث اللساني الحديث ،فبالقدر الذي تستعين فيه المحاصرة بمفاتيح
معاصرة ،قصد تكييف المقروء للمقاربة الحديثة ،ال تمسخ تاريخه فترى فيه نّد ًا
للحديث ،وال تسلمه رقبتها فتستحيل عبدًا إلمالءاته ،إنما هي المباشرة التي تضمن
لنفسها مسافة واعية بظروف القديم وبمعطيات الحديث ،ونحسبها بذلك تكون في
منجاة من التطرف.
أما الخطة تفصيًال ،فقد قامت على مدخل وخمسة فصول .خص المدخل
بتعّقب األصول اللغوية والفكرية التي أّثرت في مشكلة اللفظ والمعنى ،كعالقة
اللغة بالفكر ،ومشكلة الكالم النفسي التي وّلدها البحث في قضية القرآن ،وكذلك
ثنائية الهيولى والصورة ،دون أن نغفل التعرض النعكاس الوعي بتميز وظيفة
الخطاب األدبي عن مجرد اإلخبار على فهم النص األدبي :إذ يتكيف البحث في
عالقة اللفظ بالمعنى في النص بحسب الوظيفة المبتغاة .وقد وجدنا أن التقديم
للبحث بمتابعة هذه األصول تنزيل للظاهرة ضمن مصادرها الفكرية واللغوية
العامة ،فال يقع اجتثاث لها عن تلك المنابع واألصول.
وقد أفردنا للنقاد فصلين :تكفل أولهما بتعقب بنية النص األدبي من الجاحظ
إلى قدامة بن جعفر وقام بناؤه على تقسيم ثالثي ،أفرد القسم األول للجاحظ،
واألخير لقدامة ،والقسم األوسط البن قتيبة وابن طباطبا .وعادله الفصل الثاني في
- 11 -
القسمة ،إذ قام على تعقب مشكلة النص األدبي بين ثنائية اللفظ والمعنى والفصاحة
والبالغة حتى ابن رشيق ،فكان قسمه األول ألصحاب الموازنات ،ونقصد اآلمدي
وصاحب الوساطة ،واألخير لنقاد من القرن الخامس الهجري هم المرزوقي
والشريف المرتضى وابن رشيق ،وخص القسم األوسط بالعسكري وابن سنان.
ولم نخص هؤالء النقاد بالبحث في فصلين إال ألن لهم آراء ناضجة في
الموضوع ،فقد قامت أعمال بعضهم كقدامة على وعي صريح بمشكلة بناء النص
عمومًا ،فكانت فكرته في االئتالف قاعدة مقاربته مستويات النص ،علمًا بأن طرح
القضية تنوع وفق طروحات الناقد واهتمامه ،إذ بالقدر الذي تكيف اإلشكال وفق
مرامي أصحاب الموازنات مثًال ،أخذ طابعًا مخصوصًا مع إشكال الفصاحة
والبالغة لدى العسكري وابن سنان .أما عن تبرير وقفتنا في الفصل األول بقدامة،
فلم يكن الداعي إلى ذلك سوى اإليمان بانتهاء دورة ناضجة في النقد أسس
قواعدها الجاحظ الذي سُتعرْض أغلب آرائه في كل المسارات بعده ،ثم ختمت
بقدامة بن جعفر ،فلم يكن للنقاد بعدهم ُبّد من أن يعيدوا أغلب ما سلف من
أطروحات ،وإ ن تلونت بخصوصية البحث لدى هذا الناقد أو ذاك ،علمًا بأننا لم
نهمل اإلشارة في الهامش إلى من لم يفرد بالبحث في المتن ،وصادف أن وافقت
بعض آرائه وجهات نظر المتعرض له بالدرس.
أما الفالسفة اإلسالميون،الذين ُخ ّص وا بالفصل الثالث ،فإننا نريد بهم – كما
أشرنا سلفًا – كل من ولع بالبحث الفلسفي الخالص ،وتعاطى ما نقل عن اليونان
بالخصوص ،وكان لـه حظ من البحث في الظاهرة األدبية .ولم نكتف بتوظيف
أعمالهم المرتبطة بمسائل األدب فحسب ،بل حاولنا تقّص ي ما يدعم هذه اآلراء في
نتاجهم الفلسفي العام.
ثم انبنى الفصل الرابع على عرض المقابل إلنجاز الفالسفة المتمثل في
نظرية النظم .فبعد أن تعقبنا الموضوع لدى دارسي اإلعجاز من غير عبد القاهر
خصصنا القسم األكبر له ،وبه اكتمل وعي ببنية النص األدبي يسّلم بإمكان تحقيق
المباشرة المدققة في العالئق الالحمة بين عناصره ،إذ قام االستقصاء على توظيف
معاني النحو تجلية للظاهرة ،ثم قّد ر لهذه المجاري أن تتالقى أخيرًا لتثمر تأليفًا
متمسكًا ،أفرد له الفصل الخامس ،فتم فيه صهر نتاج الفالسفة المتكئ على المنطق
وإ نجاز عبد القاهر المراهن على النحو في إطار من الشمول الواعي بكل
مستلزمات القضية ،فضًال عن توظيف أطروحات شتى لقدامة وابن سنان الخفاجي
وغيرهما من النقاد والبالغيين السابقين في إطار من اإلحساس بخصوصية
- 12 -
الظاهرة األدبية وبجدوى قراءتها ونقدها ،وكان ذلك لدى علم من أعالم البحث
النقدي في الحضارة العربية اإلسالمية هو حازم القرطاجني .وأخيرًا ال يدعي
صاحب هذه المحاولة أنه قال الرأي الفيصل في القضية ،إذ مع اإلقرار بشمول
الطموح الذي دعاه إلى متابعة اإلشكال في أغلب مظانه من تراث العرب النقدي،
تظل مادة هذا التراث الثرية قابلة للقراءة المجددة والتأويل ،وبحسبه أنه حاول أن
يجلَو إحدى مشكالت النقد الكبرى من خالل رؤية حاولت االقتراب قدر اإلمكان
من جوهر اإلشكال ،وعساه أن يكون قد أصاب بعض التوفيق.
وباهلل التوفيق
- 13 -
مدخل
اللغة بين أصناف الدالالت
- 14 -
وباعتماد العقل المفتق لخصائص اإلفضاء بالداللة بحسب طبيعة أنظمة
األدلة ووظائفها يتم تنزيل تلك الدالالت أصنافًا أو أنواعًا رئيسية حيث
يبدو "توافق عام عند العرب على تقسيم الداللة ثالثة أنواع :عقلية وطبيعية
ووضعية" ( .)5وهذا التمييز إذ يبيح إمكان ضبط الفروق بين هذه األنساق الداللية
المؤسسة على رصد دقائق اإلدالء بين طرفي كل دليل وطبيعة ذلك اإلدالء القائمة
على أساس طبيعي أو عقلي أو عرفي يمّك ن من استجالء خصائص الدليل اللغوي
في هذا اإلطار الشامل .إال أن المقام ال يبيح لنا متابعة هذه الخصائص وال ضبط
تلك الفروق ،إنما نكتفي باإلشارة إلى أنه وقع في التراث العربي اإلسالمي تمييز
الدليل اللغوي بخاصية االعتباط باعتباره يتنزل في متصور العرف مقابل وسم
غيره من أنظمة األدلة األخرى المترتبة في خانة النسق الطبيعي والمنطقي بسمة
االضطرار .واستحالت خاصية االعتباط معيارًا لضبط الجهاز اللغوي وطاقته
اإلبالغية ( .)6ولقد ترتب على هذا التمييز النوعي أن تبوأت اللغة مكانة الئقة
تكفل لها االستجابة لحاجة االجتماع البشري إلى االتصال باعتبارها الوسيلة
األولى المحققة لهذه الغاية.
ورغم ما حظيت به اللغة في التراث العربي اإلسالمي من مكانة وما شكله
استقصاء البحث فيها من غنى ،إذ يكفي للتدليل على ذلك اإلشارة إلى ثراء
المعارف التي عرفتها هذه الحضارة التي أسسها االعتكاف على قراءة الظاهرة
اللغوية قراءاٍت كان محورها القرآن الكريم ،وقد تنزلت اللغة في هذا التراث
منزلة المعرف للكائن العاقل ،إذ أنه تواتر – تحت تأثير يوناني ال شك – تعريف
اإلنسان بأنه حيوان ناطق ،فإنه حظيت مع ذلك بعض األدلة بمتابعة وتقٍّص ،
وشكلت منطلقًا صحب الدليل اللغوي ميالدًا ووظيفة ،كداللة اإلشارة التي تتحقق
بكيفيات شّتى ،تثريها مرونة العضو أو الكيفية التي بها تؤّد ى ،إذ قد تكون "باليد
والرأس" ( ،)7وتتحقق برفع الحواجب وكسر األجفان ،ولِّي الشفاه وتحريك
األعناق ،وقبض الوجوه ،وأبعدها أن تلوي بثوب على مقطع جبل تجاه عين
الناظر ( .)8وقد تكون وحيًا إذ هو "اإلبانة عما في النفس بغير المشافهة على أي
معنى وقعت من إيماء وإ شارة ( ،)9لتأخذ أخيرًا اصطالح الرمز الذي "يكون
بالشفتين والحاجبين والعينين" ( ،)10علمًا بأن للرمز إطارًا وظيفيًا آخر أكثر
شموًال يتعادل مع فكرة اإليحاء بالداللة عن طريق تشكيل صوري يأخذ طابع
التعبير غير المباشر عن المقصود ،كما شّخ صه الفيلسوف الكندي في شرح الرؤيا
الرمزية إذ يرى أن "الرامزة فإنها إذا كانت اآللة أقل تهيؤًا لقبول أنباء النفس الحي
بها ،باألشياء فإنها حينئذ تحتال وتتلطف التخاذ الحي ما أرادت اتخاذه إياه بالرمز:
- 15 -
فمثًال أقول كأنها أرادت أن تريه سفرًا ،فأرته ذاته طائرة من مكان إلى مكان،
فرمزت له بالنقلة" ( .)11ولقد نبه القرآن الكريم إلى اإليحاء بالرمز في قوله
تعالى لزكريا عليه السالم" آيتك أال تكلم الناس ثالثة أيام إال رمزًا" ( .)12وتتنزل
هذه اآلراء في مجرى السيميائّية التي "هي علم األدلة" ( )13هذا العلم الذي ضبط
مشروعه الحديث شارل بيرس ودي سوسير ( ،)14ولكن يعنينا اإلشارة في هذه
الوقفة إلى ما جاله صانعو التراث العربي اإلسالمي من صلة عميقة بين اإلشارة
والعبارة اللغوية ،إذ كما
يرى ابن سينا "إن اإلشارة إذا اقترنت بالعبارة أوقعت المعنى في النفس إيقاعًا
جليًا" ( ،)15وإ ن انحسار الدوال أمام عدم تناهي المدلوالت في تصور الجاحظ
أوجب تعاضد اإلشارة مع اللغة أحيانًا إليفاء الداللة حقها إذ "البد لبيان اللسان من
أمور :منها إشارة اليد" ( ،)16ومن هنا احتاج التعبير اللغوي في نظره إلى أن
يدعم بوسائل أخرى خاصة حين يتعلق األمر بخاص الخاص (.)17
هذا من منظور دعم داللة اللغة بغيرها من وسائل اإلبانة لتحقيق غاية
اإلبالغ والتوصيل ،إال أن لإلشارة دورًا أوليًا في ميالد الظاهرة اللغوية نفسها في
تصور أولئك المفكرين ،إذ البد أن يتحقق شرط سبق اإلشارة ليمكن للمواضعة
اللغوية الميالد ما دامت تقوم على خاصية االعتباط ،من هنا تصوروا "أن اللغة ال
تستقيم في أول نشأتها إال إذا استندت إلى نظام عالمي مغاير لها ومتقدم عليها في
نفس الوقت ،ونموذج هذا النظام العالمي المولد للحدث اللساني الكامل هو
اإلشارة" (.)18
وإ ذا كان ما سبق متعلقًا بأمر نشأة اللغة وحاجة هذه النشأة إلى سند اإلشارة
الذي ال يعنينا أكثر من إيراده سريعًا ،فإنه يتعلق به في مجرى قناعات مؤسسي
الفكر اللغوي في الحضارة العربية اإلسالمية تولد المتصورات الذهنية من
مراجعها المتمثلة في أعيان األشياء والموجودات ،وذلك في إطار منظور يبتغي
حصر كيفيات حصول المعرفة من جهة ،ومعاينة الترابط بين المتصورات الذهنية
ودوالها الحسية من جهة أخرى .وتتنزل هذه المتابعة ضمن رصيد شامل يبدأ
بمعاينة المراجع ويختم بدليل الكتابة ،وكثيرًا ما يتسلسل الرصد في شكل منعكس
مع طبيعة النشأة في الزمان ،إذ كما يرى الفيلسوف الكندي "فإن الخط الذي هو
جوهر منبئ عن اللفظ الذي هو جوهر ،واللفظ الذي هو جوهر منبئ عن المفكر
فيه الذي هو جوهر ،والمفكر فيه الذي هو جوهر منبئ عن العين الذي هو جوهر"
( .)19ولكن حازمًا القرطاجني – ككثير من المنظرين -استطاع أن يبلور
- 16 -
حصول المعاني الذهنية عند معاينة األشياء العينية في إطار من التتبع الراصد
لكيفيات التناسخ الحاصل بين هذه األصناف من األدلة ،يقول ":إن المعاني هي
الصور الحاصلة في األذهان عن األشياء الموجودة في األعيان .فكل شيء له
وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك
منه .فإذا عبر عن تلك الصور الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم فصار للمعنى
وجود آخر من جهة داللة األلفاظ .فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على
األلفاظ من لم يتهيأ لـه سمعها من المتلفظ بها صارت رسوم الخط تقيم في األفهام
هيئات األلفاظ فتقوم بها في األذهان صورة المعاني فيكون لها أيضًا وجود من
جهة داللة الخط على األلفاظ الدالة عليها" (.)20
ورغم اإلقرار بسبق الوعي بوجود األشياء في األعيان إذ إنه شرط حصول
الصورة في األذهان ،فإن عملية االرتسام الصوري في الذهن للمدرك العينّي
تصاحب حتمًا لحظة الشعور به ،ويتأكد ذلك خاصة حين ينعكس الذهن على نفسه
مستخلصًا المجردات وتستحيل المراجع عندها صورًا ذهنية ،إنما كان إلحاح
القدماء متركزًا لضمان حصول الصورة الذهنية على اشتراط ":كون األشياء
الموجودات حقًا في أنفسها" ( )21ذلك أنه إذا "لم يكن للشيء ثبوت في نفسه ،لم
يرتسم في النفس مثاله" ( .)22كما أن التعبير رهن بحصول الصورة الذهنية،
ومن هنا أشاروا إلى خاصية التطابق بين هذه األركان .يقول الغزالي أيضًا" :ولو
لم يكن وجود في األعيان لم تنطبع صورة في األذهان ،ولو لم تنطبع صورة في
األذهان ولم يشعر به إنسان ،لم يعبر عنه باللسان .فإذًا ،اللفظ والعلم والمعلوم
ثالثة أمور متباينة ،لكنها متطابقة متوازية" ( .)23فإذا كان التوازي والتطابق بين
هذه األركان يكشفان أن "الفالسفة العرب القدامى أدركوا أن هنالك عالقة بين
تركيب اللغة وتركيب العقل وتركيب الواقع" ( .)24وهذا إن اعتمدنا منظورًا
فلسفيًا في قراءة ما سبق ،فإن ذلك يتضمن أيضًا رؤية لغوية ترى أن" :الوجود في
األعيان واألذهان ال يختلف بالبالد واألمم بخالف األلفاظ و الكتابة فإنهما دالتان
بالوضع واالصطالح" ( ،)25وهذا مخالف للفهم الحديث ،إذ إن المفاهيم التي
تتحدد كياناتها باأللفاظ في لسان ما ليست مطابقة بالضرورة للمفاهيم التي تحددها
لغة أخرى (.)26
وهذه النتيجة تستوجب البحث في العالقة المتولدة من تفاعل "العام والخاص"
الصورة الذهنية المجردة ودالها الحسي .من هنا يستوجب ضغط التقصي وحصره
في طرفي الداللة اللغوية بغية الكشف عن صلة اللغة بالفكر في نظر منّظري
- 17 -
التراث العربي اإلسالمي.
عالقة اللغة بالفكر:
واإلقرار فيما سلف باستناد الظاهرة اللغوية إلى خاصية الوضع واالصطالح
وهو أمر راسخ الثبوت في التراث العربي اإلسالمي سواء كانت األلفاظ موضوعة
إزاء الصور الذهنية ،أي الصورة التي تصورها الواضع في ذهنه عند إرادة الوضع
أم بإزاء الماهيات الخارجية ( ،)27فإن ذلك يتضمن اإلقرار أيضًا بخاصية االعتباط
( )28في الحدث اللغوي ،لكنها خاصية تصحب المواضعة لحظة النشأة والتكوين
فحسب ذلك "أن االعتباط تعسف من حيث هو متنزل في مبدأ االقتران ومنطلق
االتصال ،وما إن يطرد اتصال الدال في اللغة بمدلوله طبقًا لتواتر الزمانية حتى
يرتفع التحّك م األولي عند لحظة االقتران الداللي" (.)29
وتالزم الدوال لمدلوالتها المتولد من اطراد االستعمال هو الذي يهّيئ لعملية
الفكر أن تكون ،ذلك أن تكامل الصور الذهنية النائبة عن مراجعها مع دوالها
الحسية ،فضًال عن أنه يمّك ن الذهن من ممارسة عملية التفكير التي ال تتحقق إال
بتفاعل الدوال والمدلوالت ،يفسح المجال لكمال هذه الفعالية بوضع قواعد
استخالص المفاهيم والمجردات من الصور الفردية التي هي انعكاس ألعيان
األشياء ،ثم يتيح لعمل الفكر المتحقق لغة أن يستبطن ذاته ويتأمل نفسه كما عرف
في الثقافة العربية اإلسالمية بحديث النفس.
وعملية التالزم إذ تتبلور أو ما تتبلور في تالزم الدال والمدلول على محور
االستبدال ،كما عبر عن ذلك ابن سينا في قوله "ومعنى داللة اللفظ أن يكون إذا
ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس معنى ،فتعرف النفس أن هذا
المسموع لهذا المفهوم .فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه"
( .)30والعكس وارد إذ كلما حضر المدلول بالبال صحبه الدال ( ،)31إال أن
عملية التالزم تبلغ أقصى درجات التفاعل في محور التوزيع ،فيعمد الذهن إلى
نضد الوحدات الدالة في لحمة متكاملة لتحقيق غايات االتصال أو التعبير عمومًا،
فتنتظم الوحدات انتظامًا متفاعًال يطبع العبارة بطابع التفرد الداللي والتوحد
المعنوي (.)32
ولقد كان من المسّلم به في التراث العربي اإلسالمي التمييز بين النطق
الحادث في اللسان المتجسد في الصوت المعبر عما في النفس ،والنطق النفسي،
كما يقول الفارابي مدققًا في معاني مصطلح "منطق" فيرى :أنه مشتق من النطق
وهي لفظة دالة على معاٍن ،منها الداللة على القول الخارج بالصوت ،وهو الذي به
- 18 -
تكون عبارة اللسان عما في الضمير ،والثاني القول المتمركز في النفس ،وهو
المعقوالت التي تدل عليها األلفاظ ( .)33أما النطق الداخلي عند الشهرستاني
فيطلق على التمييز العقلي والتفكير النفساني والتصور الخيالي ،وهو معاٍن مختلفة
في ذهن اإلنسان ،ويتفق مع الفارابي في تعريف النطق الخارجي (.)34
ويلزم مما سبق ،عند قصد التعبير وإ لباس الداخلي جسم األصوات اللغوية،
إحداث التطابق والتحاذي بين بنية العبارة المجسدة للنطق الخارجي وبنية
"المنطوق" الداخلي المجسد للمعاني النفسية ،ذلك أنه "لم يرد بين تركيب األلفاظ
وبين تركيب المعقوالت فرق" ( .)35من هنا يكون الفعل المجسد للوحدة
المزدوجة المتقابلة متحققًا في مستويين :يكون المستوى الظاهري فيهما انبثاقًا من
الباطن ومحاكاة له .وهذا بالقدر الذي يهيئ منطقيًا ولغويًا لطرح معضلة اللفظ
والمعنى ،بقدر ما يمهد لترسيخ فكرة التشاكل بين بنية الدوال الخارجية وبنية
المدلوالت الداخلية .يقول الفارابي متابعًا تأصيل هذه الفكرة بحيث يرى أنه
يحصل "تركيب األلفاظ شبيهًا بتركيب المعاني المركبة التي تدل عليها تلك األلفاظ
المركبة ،وتجعل في األلفاظ المركبة أشياء ترتبط بها األلفاظ بعضها إلى بعض
متى كانت األلفاظ دالة على معاٍن مركبٍة ترتبط بعضها ببعض .ويتحرى أن يجعل
ترتيب األلفاظ مساويًا لترتيب المعاني في النفس" (.)36
إن القصد إلى تحقيق مستلزمات وحدة الملفوظ والمعنى النفسي ،يبدو جليًا
لدى غير الفارابي من منّظري الثقافة العربية اإلسالمية ،فهي إذ تأخذ نفسها
األعمق لدى مزاولي العمل المنطقي والفلسفي ،تجد لها الحضور األكيد أيضًا عند
غيرهم فقد شكلت أساسًا بلور أصول التنظير لدى البعض كما هو الحال مع عبد
القاهر الجرجاني الذي سيملي علينا شرط إيفائه حقه من التقصي وقفة متأنية في
موقعها من البحث ( .)37أما عند ابن سينا فما دام المنطلق أيضًا في ضبط الحاجة
إلى القول "هي الداللة على ما في النفس"( )38أصبح لزامًا العلم بأن "في األلفاظ
واآلثار التي في النفس ما هو مفرد وفيها ما هو مركب .واألمر فيها متحاذ
متطابق"( ،)39لتستحيل المسألة لدى الشهرستاني إلى إقرار مبدئي باستحالة
تحقيق الكالم المنطوق مع تصور االنتفاء النفسي ،ويصبح مبدأ المطابقة لزوميًا
لتحقيق حدث الكالم فلوال "مطابقة األلفاظ اللسانية معانيها النفسانية لم يكن كالمًا
أصًال" ( .)40وهكذا يتولد من فعل المطابقة وحدة البعد الداللي في العبارة الواحدة
إذ يكون "لكل عبارة خاصة مدلول خاص متميز عن سائر المدلوالت وهذا أوضح
ما تقرر ( ،)41ذلك أن أحد معنيي وحدة الكالم المركب كما يرى ابن رشد يتحقق
- 19 -
"إذا دل على معنى واحد" (.)42
يعمق هذا المجرى الملّح على تحقيق التماثل بين بنيتي الدوال الخارجية
والمدلوالت الداخلية بقيامه على اقتناع مبدئي يقوم على تركيز وظيفة اللغة أساسًا
في استكشاف المعاني وجالئها ،وهذا األمر إذ يشكل مسلمة لدى الفالسفة خاصة
التي أملتها المنطلقات المنطقية التي مثلت قاعدة هؤالء في مقاربة ظاهرة اللغة،
كما تبدو راسخة لدى المتكلمين بشتى طوائفهم أيضًا ،مع رسوخ قضية الكالم
النفسي ،تمامًا كحضورها في البحث اللغوي الخالص الذي نجتزئ منه في اإللماح
إلى هذه الظاهرة قول ابن فارس حيث يرى أن االسم جعل تنويهًا وداللة على
المعنى ( ،)43وابن جّني الذي يعتبر أن زينة األلفاظ وحليتها لم يقصد بها إال
تحصين المعاني وحيطتها .فالمعنى إذن هو المكّر م المخدوم ،واللفظ هو المبتذل
الخادم ( )44لتستحيل العالقة بين الطرفين في رأيه إلى عالقة الوعاء بما يحتويه
( .)45ولعل مما يشفع لمثل هذه المواقف أنها لم تستهن ببنية األلفاظ ( ،)46وأن
زاوية الرؤية المحكومة في ما سلف بقضية الوظيفة هي التي أملت مثل ما سبق،
وسنجد لدى منظّر ي التراث العربي اإلسالمي اإللحاح المتكرر على فكرة التشاكل
والتطابق بين المعاني واأللفاظ.
غير أنه في بعض المواقف يتأسس بحث صلة األلفاظ بالمعاني على منظور
يوازي بين القطبين ،فيجزم مثًال أن الخالف بين اللفظ والمعنى هو "أن اللفظ
طبيعي والمعنى عقلي ،وبهذا كان اللفظ بائدًا على الزمان ،ألن الزمان يقفو أثر
الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتًا على الزمان،
ألن مستملي المعنى عقل ،والعقل إلهي ،ومادة اللفظ طينية ،وكل طيني متهافت" (
.)47وثبات المعنى على الزمان يأخذ صبغة شمولية تتجاوز اإلنساني أيضًا،
ذلك" :أن كالم المالئكة إنما هو إشارات وإ يماء ،وكالم الناس عبارات وألفاظ.
وأما المعاني فهي مشتركة بين الجميع" ( )48وتكون المصادرة في نهاية المطاف
على ثنائية الحقيقة والثبوت الموسوم بهما المعنى النفسي ،مقابل انعدامهما في
النطق اللساني ( .)49وهذه اآلراء باإلضافة إلى أنها محكومة باإلقرار بكون
المعاني صورًا لمراجع لها الوجود الحق في األعيان ،فإنها تقوم على مسلمة تماثل
المعاني المنطبعة في النفس لدى الجميع في حين تقوم الظاهرة اللغوية على
التواضع واالصطالح ،ومن ثمة على االختالف والتباين ،وهذا ال يمنع تحقيق
التطابق بين طرفي الداللة ،ذلك أن عملية إخراج الكالم النفسي إلى الوجود الفعلي
ال تتم إال عبر النطق اللساني ،وأن التفكير الداخلي ال يتحقق إال بواسطة األلفاظ.
- 20 -
وتأخذ المقارنة لدى الجاحظ بعدًا آخر يقوم على التسليم بأن "المعاني
مبسوطة إلى غير غاية ،وممتدة إلى غير نهاية ،وأسماء المعاني مقصورة معدودة
ومحصلة محدودة" ( ،)50وعدم التكافؤ ال يمنع من تحقيق إمكان التعبير عن أي
معنى يخطر بالبال بلفظ مالئم ،ما دامت عملية التعبير نفسها تقوم على نضد ألفاظ
في تركيب متضمن لمعنى ،وتتكامل الوجوه المتعددة التي تتحقق بها األشكال
المختلفة للتراكيب مع قابلية الذهن لتفتيق شتى المعاني ،لكن المقابلة لدى الجاحظ
إذ تظل في حدود الدال والمدلول المفردين تقرر أنه "ال يكون اللفظ اسمًا إال وهو
مضمن بمعنى ،وقد يكون المعنى وال اسم له" ( .)51لكن يبدو أن أمر هذه
الكينونة نسبي "وأن القطيعة ليست مطلقة" ( ،)52إذ أن هذه المعاني المختلجة في
صدور الناس "موجودة في معنى معدومة" ( ،)53ذلك أن الوجود الحق للمعنى ال
يتحقق إال في الحين الذي يتزّين فيه بلبوس اللفظ.
ولكن ابن المدبر ال يخالجه الشك في تقرير أن "المعاني وإ ن كانت كامنة في
الصدور ،فإنها مصورة فيها ،ومتصلة بها ،وهي كالآللئ المنظومة في أصدافها،
والنار المخبوءة في أحجارها ،فإن أظهرته من أكنانه وأصدافه ،تبين حسنه (كذا)
وإ ن قدحت النار من مكامنها وأحجارها انتفعت بها ،وإ ال بقيت محجوبة مستورة" (
)54؛ غير أنه يبدو لنا أن القول بكمون المعاني في الصدور ال يتطابق تمامًا مع
وصفها باالستقالل الذاتي عن الكلمات المعبرة عنها ( ،)55ذلك أن كمون المعاني
في الصدور ككمون النار في الحجارة لها خاصية الوجود بالقوة الذي يمر إلى
الفعل بعامل االقتداح أو التعبير ،فكأن الوجود الحق يتم باقتداح شرارة المعنى
باللفظ ،وقد يدعم ذلك اعتماد ابن المدبر لتوضيح الفكرة ترداد ما شاع من تشبيههم
"المعنى الخفي بالروح الخفي ،واللفظ الظاهر بالجسمان الظاهر" ( .)56ومع ذلك
نلمس لدى أولئك المنظرين وقفات تخفف من غلواء وسم مواقفهم بتأكيد الفصل
دومًا.
لذا يتأسس لدى أبي حيان التوحيدي جدل الصحة والبطالن في عالقة ثنائية
تلحم األلفاظ والمعاني إذ كل "ما صح معناه صح اللفظ به ،وما بطل معناه بطل اللفظ
به" ( )57يكون كل فكر مميز صحيح إنما يتيسر تحقيقه باللغة مراعاة لوظيفتها في
الكشف عن هذا الفكر ذلك أن "األغراض المعقولة والمعاني المدركة ال يوصل إليها
إال باللغة الجامعة لألسماء واألفعال والحروف" (.)58
أما المصادرة لدى إخوان الصفاء فتسلم مبدئيًا بفكرة التكامل الوجودي القائم
بين األلفاظ والمعاني المشابه لتكامل األرواح واألجساد ( ،)59ثم تأخذ هذه العالقة
- 21 -
طابعًا أكثر خصوصية وذلك في تأكيد استحالة إخراج المعنى من كمون العدم إلى
الوجود المعرف ما لم يصغ لفظًا ذلك ان "كل معنى ال يمكن أن يعبر عنه بلفظ ما
في لغة ما فال سبيل إلى معرفته" (.)60
ومع ابن سينا يترسخ مبدأ حضور اللغة مع كل ممارسة فكرية تبتغي إجراًء
عمليًا يقصد اإلبالغ ،أو ممارسة باطنية تقوم على التأّم ل وقراءة الذات داخليًا ،إذ
ما دام أن االكتساب اللغوي يقوم على قاعدتي االرتسام المزدوج للمدلول والدال
في آٍن واحد ،يكون كل استحضار ألحدهما رهنًا بحضور اآلخر ،ذلك أن "األلفاظ
إذا سمعت أدرك مع سماعها معنى ،فارتسم في النفس المعنى واللفظ معًا .فكلما
خطر بالبال ذلك المعنى أدرك اللفظ ،وكلما سمع ذلك اللفظ أدرك المعنى ()61؛
ومن هنا يكون كل فعل واع يقصد إحداث ترتيب داخلي في معنى نفسي ال يتيسر
قيامه إال باللفظ .فمن "المتعّذ ر على الروية أن ترتب المعاني من غير أن تتخيل
معها ألفاظها ،بل تكاد تكون الروية مناجاة من اإلنسان ذهنه بألفاظ متخيلة" (.)62
ومع أن الشهرستاني يورد اعتراضًا اعتزاليًا يدحض مقولة الكالم النفسي،
إال أنه يدقق في مبدأ الخواطر التي تنتاب اإلنسان فال يرى لها إمكان التحقق إال
باللغة ،وإ ذ تظل القضية امتدادًا لما طرح ابن سينا تبحث لنفسها عن برهان
بالنقيض من عدم الكالم جملة .فقد "قالت المعتزلة نحن ال ننكر الخواطر التي
تطرأ على قلب اإلنسان وربما نسميها أحاديث النفس إما مجازًا وإ ما حقيقة" غير
أنها تقديرات للعبارات التي في اللسان أال ترى أن من لم يعرف كلمة بالعربية ال
يخطر بباله كالم العرب ومن ال يعرف العجمية ال يطرأ عليه كالم العجم ،و من
عرف اللساَنين تارًة تحدث نفسه بلسان العرب وتارة بلسان العجم .فعلم على
الحقيقة أنها تقديرات وأحاديث تابعة للعبارة التي تعلمها اإلنسان في أول نشوئه.
والعبارات هي أصول لها منها تصدر وعليها ترد ،حتى لو قدرنا إنسانًا خاليًا من
العبارات كلها أبكم ال يقدر على نطق لم نشك أن نفسه ال تحدثه بعربية وال عجمية
وال لسان من األلسن وعقله يعقل كل معقول وإ ن كان يعرى عن كل مسموع
ومنقول" ()63؛ وإ ن كان الفكر الحديث المستجلي عالئق اللغة بالفكر ال يوافق
الشهرستاني اإلقرار بأن األبكم الخالي عن العبارات يعقل كل معقول ،فقد ثبت أن
إدراكه لألمور إدراك ناقص وأنه باإلضافة إلى تضايقه في عالقاته مع غيره
محدود الفكر على المستوى الذاتي أيضًا (.)64
ويمكننا اإلشارة إلى أن المنظور المعاصر المدقق في عالقة اللغة بالفكر
مغاير للمنظور القديم فضًال عن تباين المنظورين في المنطلقات المؤسسة للبحث
- 22 -
في الظاهرة اللغوية عمومًا ،إذ بالقدر الذي تمثل فيه ارتباط اللغة في التصور
القديم بالعقل من خالل اعتبارها األداة التي تجلو ما يختمر فيه من فكر ،قام البحث
اللساني الحديث بتنزيل اللغة في خضم األداء وربطها تعريفيًا بوظيفتها التي هي
اإلبالغ القائمة بماهيتها على تعريف مستند إلى البنية (.)65
ففي التراث العربي اإلسالمي ومن زاوية عالقة اللغة بالفكر قام التقصي
على قاعدة أسندت فيها إلى اللغة وظيفة التعبير عن محتوى العقل من أفكار ،وكأن
عملية التعبير وفق هذا المنطلق تقتضي أن تكون "الكلمات موضوعة إزاء أفكار"
(.)66وهذا الوضع بقدر ما يرسخ فكرة التحاذي والتوازي بين الطرفين (،)67
يعتبر اللغة واسطة الفكر كما يبدو في إقرار منظري التراث أن عملية التأمل
وحوار الذات ال تتّم ان إال باللغة ،والحق "أن المعاني ال تتبين بالكالم .المعاني
تتبين كالمًا" ( .)68ومن هنا يطرد في التراث العربي اإلسالمي تشبيه العالقة بين
الفكر واللغة بعالقة الجسم باللباس ،علمًا بأن "اللغة ليست اللباس ،ولكنها جسم
الفكر نفسه" (.)69
لكن ما يمكن أن نفيده من هذا اإليجاز العابر لقضايا الداللة وصلة اللغة
بالفكر في التراث العربي اإلسالمي هو التمهيد الستقصاء الرأي في إشكال اللفظ
والمعنى بعد التأسيس لقواعده الفكرية ،إذ نجد أبرز ما يمكن أن يجلو بعض
المفاصل في ذلك اإلشكال ويمهد لمحاصرة تنوعه هو اإلجماع على خاصية
التوازي بين الكالم النفسي والكالم اللساني ،باإللحاح على تحقيق مستويين من
الوحدة في الكالم تقوم على تآلف المنطوق في اللسان والمنطبع في النفس ،يعمق
فيها بعد هذا المنطلق الموحد بين التأليفين اإللحاح على وظيفة اللغة في التعريف
بمحتوى الفكر ،مما يجلو خاصية التكامل بين المعرف وآلة التعريف .لكن
استكمال بناء القواعد األصولية المؤسسة إلشكال اللفظ والمعنى خاصة حين يتعلق
األمر بتقصي فعاليتهما في بنية النص – وهو موضوع البحث الرئيسي – يدعو
إلى استقصاء مشكلة الكالم النفسي التي باإلضافة إلى أنها مثلت محورًا في
البحث الكالمي تنازعت جذبه طوائف المتكلمين ،مما أفرزت أنضج تصور عرفه
التراث يجلو بمفاتيح متقدمة مسائل بنية النص بمصادرته على النظم.
قضية الكالم النفسي وأثرها في اللفظ والمعنى
وقضية الكالم النفسي هي قضية خلق القرآن بغير اختالف ( ،)70فإذا كان
"مذهب المشبهة والحلولية المجسمة ،أن كالم الباري حروف وأصوات وأنه قديم"
( ،)71فإن قول "المعتزلة" و"الخوارج" وأكثر "الزيدية" و"المرجئة" وكثير من
- 23 -
"الرافضة" " :أن القرآن كالم اهلل سبحانه ،وأنه مخلوق هلل ،لم يكن ثم كان" ()72
في حين يذهب "أهل الحق من اإلسالميين إلى كون الباري – تعالى – متكلمًا بكالم
قديم أزلي نفساني .أحادي الذات ،ليس بحروف وال أصوت" (.)73
وجوهر الخالف يكمن في تعريف الكالم :فالمختار عند المعتزلة في حد
الكالم" :أنه ما حصل فيه نظام مخصوص من هذه الحروف المعقولة ،حصل في
حرفين أو حروف" ( .)74فإذا كان الكالم هو هذه الحروف المقطعة التي تركب
في لفظ ،فال مناص من اإلقرار بأن كالمه – أي الباري " ،-محدث مخلوق في
محل" ( .)75وليس لمعتنقي الكالم النفسي أن يحملوا القرآن المسموع لنا المقروء
والمتلو على أن "المراد به العبارة عن كالم اهلل عز وجل ويزعموا أن ذلك محدث،
وأن الكالم القديم سواه" ( .)76أما الكالم عند األشاعرة فإنه "معنى قائم بالنفس
يعّبر عنه بهذه األصوات المسموعة تارًة وبغيرها أخرى" (.)77
والتشعبات التي تولدها أوجه الخالف ال تعنينا ،إنما نبتغي اإلحاطة بالوفاق
األشعري الذي جمع في رؤية شمولية بين صفتي الِقدم والحداثة ،فتم له اإلبقاء على
صلة بالمطلق من خالل تردد تالوة القرآن وسماعه ،وأسس بذلك قاعدة مزدوجة،
يهتم أحد شقيها بالتدليل على األصل اإللهي للقرآن وذلك باالعتماد على قدم الكالم
النفسي ،ويوفر الثاني أسس التدليل على اإلعجاز باالستناد إلى الكالم المعبر عن
القديم ليؤول هذا األخير إلى نظرية شاملة في النص األدبي عمومًا.
تتجمع خيوط هذا الوفاق الثنائي بين يدي الباقالني – الشارح األكبر للمذهب
– فيبدأ نسج لحمته وسداه بتأكيده أن كالم اهلل "صفة له قديمة ال يحتاج فيه إلى
أداة من صوت أو حرف أو مخرج" ( ،)78وإ ن كان يجب أن يعلم "أن كالم اهلل
تعالى مسموع لنا على الحقيقة لكن بواسطة وهو القارئ" ( ،)79فهو أي كالم اهلل
تعالى "صفة لذاته لم يزل وال يزال موصوفًا به وأنه قائم به ومختص به ،وال
يصح وجوده بغيره ،وإ ن كان محفوظًا بالقلوب ،ومتداوًال باأللسن ،ومكتوبًا في
المصاحف ،ومقرءًا في المحاريب على الحقيقة ال على المجاز ،وغير حال في
شيء من ذلك" ( ،)80لكن كيف ينتفي عنه الحلول في أي واحد من ذلك وهو "في
مصاحفنا مكتوب على الوجه الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ" (.)81
والحل الذي نستظهره من كالم الباقالني ،وإ ن لم نقع على نص صريح فيه،
هو أن القرآن قديم ومخلوق في الوقت نفسه ( .)82والجمع بين الصفتين على
طريقة األشاعرة – عامة -إقرار بحدوث الحروف وهي دالالت على الكالم،
والدليل غير المدلول وال يتصف بصفة المدلول (.)83
- 24 -
لكن الباقالني في سبيل إرساء قواعد لإلعجاز يصف عالقة القدم والحداثة
حسب مقتضيات تتالي الرساالت السماوية وطبائع االجتماع البشري المتميز
بالتفرد اللساني ،فيتسنى وفقها للنسبي التعبير المتخصص عن المطلق في مرحلة
أولى ليرتقي في الثانية إلى التدليل على أصله إفهامًا وإ عجازًا كما نتحقق ذلك في
القرآن الكريم ،يقول" :فالكالم الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل
عليه أمارات تدل عليه ،فتارة تكون قوًال بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما
اصطلحوا عليه وجرى عرفهم به وجعل لغة لهم ،وقد بين تعالى ذلك بقولـه" :وما
أرسلنا من رسول إال بلسان قومه ليبين لهم"( )84فأخبر تعالى أنه أرسل موسى
عليه السالم إلى بني إسرائيل بلسان عبراني ،فأفهم كالم اهلل القديم القائم بالنفس
بالعبرانية ،وبعث عيسى عليه السالم بلسان سرياني ،فأفهم قومه كالم اهلل القديم
بلسانهم ،وبعث نبينا صلى اهلل عليه وسلم بلسان العرب ،فأفهم قومه كالم اهلل القديم
القائم بالنفس بكالمهم ،فلغة العرب غير لغة العبرانية ولغة السريانية غيرهما ،لكن
الكالم القديم القائم بالنفس شيء واحد ال يختلف وال يتغير" (.)85
هنا يكمل الشق األول من القضية إذ باشتراك الكتب المنزلة في اإلبانة عن
الكالم القديم يتحقق لها األصل السماوي ،إال أنه تركز في القرآن باإلضافة إلى
هذه الصفة ،خاصية التحدي التي ولدت ظاهرة اإلعجاز ،ألنه لم يكن معجزًا
"لكونه عبارة عن الكالم القديم ،ألن التوراة واإلنجيل عبارة عن الكالم القديم،
وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف" ( )86ألن جوهر التحدي – من منظور
أشعري – إنما يقع في "الحروف المنظومة ،التي هي عبارة عنه ،في براعتها
وفصاحتها و اختصارها وكثرة معانيها" ( .)87غير أن منطلق المعتزلة في
التدليل على اإلعجاز ،حتى عند من يقول بالصرفة ،ال يباين طروحات األشاعرة
عند االعتكاف على النص ،إذ اإلقرار المبدئي بسمو فصاحة القرآن أو نظمه عن
أن يضاهى يكّيف التدليل المشخص للظاهرة باالحتكام إلى النص ،من هنا لم تكن
فكرة الكالم النفسي لدى األشاعرة سوى منطلق مبدئي ال يمنع ظاهرة اإلعجاز من
أن يبني برهانها.
يهمنا من هذه العجالة ،اإلشارة إلى أن االحتكام إلى قاعدة النظم في تحليل
الخطاب البليغ عمومًا سيرّس خ مبدأ تشاكل بنية الكالم الخارجية مع بنيته الداخلية
إذ سيعتمد في أنضج طروحاته على بنية النص عمومًا ،ممتدًا بفكرة تطابق اللفظ
والمعنى إلى أقصى مراتبها في التراث ،وسينتهي إلى أن الداللة إفراز للحمة
الوحدات كليًا في مستوى التركيب خاصة .من هنا لم يكن لفكرة الكالم النفسي أن
- 25 -
تعكر مجرى التقصي في ثنايا وحدات اللغة والتغلغل في العالئق الناسجة لشبكة
التفاعل بينها في بنية الخطاب.
- 26 -
لدى الفالسفة ال يملك كل علم أن يصوغ لنفسه أصول البرهنة على قوانينه ،بل
يأخذها من العلم الكلي أي اإللهي المؤسس للعلل األربع التي يستدل بها كل علم
حسب حاجته لهذا العنصر أو ذاك من النظرية ،فحاجة العلم الطبيعي إنما تكون
لعنصري المادة والصورة ذلك "أن كل جسم طبيعي فهو متقوم الذات من جزءين
أحدهما يقوم مقام الخشب من السرير ويقال له هيولى ومادة،واآلخر يقوم مقام
صورة السرير من السرير ويسمى صورة" (.)90
لكنه ال يمتنع في تصور الفالسفة أن يتحقق هذا الوجود في شكل متراكب
تبدو فيه عالقة العنصرين ذات طابع إلصاقي خارجي ،ذلك أن االنطباع الخارجي
للصورة على المادة يتيح إمكانية اشتراك موجودات عدة في المادة وإ ن اختلفت في
الصورة التي تهبها التميز واالستقالل "فاختالف الموجودات إنما هو بالصورة ال
بالهيولى ،وذلك أّنا نجد أشياء كثيرة جوهرها واحد ،وصورها مختلفة" (.)91
والحق أن هذه المقارنة يمكن أن تتم على مستوى المادة وعلى مستوى الصورة،
وهذا قد يكشف آلية التضام بين العنصرين ،فيمكن لجسم أن يشارك آخر "في
صورته ،مثل الحائط المبني من حجارة والحائط المبني من طين ،فإنهما يشتركان
في الصورة ،ويختلفان في المادة ...وإ ما أن يشاركه في المادة ويخالفه في
الصورة مثل اإلبريق والطست إذا كانا جميعًا من جوهر واحد :إما نحاس ،أو
فضة ،أو ذهب" (.)92
وقد تطول المقارنة لدى ابن سينا الفن ،فالصنم "المصور المركب من نحاس
وصورة إنسان ،إذا وجد النحاس بال صورة إنسان ،وجد تلك الصورة بال نحاس" (
،)93ذلك أن األجسام الطبيعية مركبة من مادة هي محل وصورة هي حالة فيه،
ونسبة المادة إلى الصورة نسبة النحاس إلى التمثال ( ،)94وعلى كٍّل يتيح المنظور
المزدوج مقارنة صريحة بين طرفي الشيء ،وتحت تأثير هذا المنظور يمكن تصور
تفاوت بين العنصرين فكل "صنعة تتعلق بمادة وصورة ،وبحسب اختالف كل واحد
من المادة والصورة يختلف المصنوع في الصنعة .فربما كانت الصورة فاضلة ولم
تكن المادة فاضلة ،كما يتفق أن يبنى البيت من خشب نخر وطين سبخ ،ثم يوفى
حقه من الشكل والرسم ،وال يغني ذلك ،وال يبلغ به الغرض األقصى من االنتفاع
به ،والسبب فيه رداءة مادته .وربما كانت المادة فاضلة ،لكن الصورة غير فاضلة،
كما يتفق أن يبنى بيت من خشب صلب وحجارة صلبة بناء غير محكم في تركيبه
ووضعه وهندامه وشكله ،فيعدم فائدة استجادة خشبه وحجارته الستفساد صورته،
وربما اجتمع األمران جميعًا" (.)95
- 27 -
ومصدر هذا التصور المفكك للعنصرين ميتافيزيقي يومئ بانطباع صوري
خارجي على مادة موجودة بالقوة تتشكل وفق هذا االنطباع ،فتوهب وجودها
حسب خصوصية الصورة المنطبعة ،وعلى الرغم من إقرار الفالسفة بأن ال
وجود فعلي للهيولى خارج الصورة ،فإن ذلك ال يمنع من إجراء مقارنة بين
مكوني الشيء ،والحق أن طبيعة البحث في الطبيعيات وفي المنطق على
الخصوص توفر إمكانية التصور الثنائي بشكل حاد .وصلة المنطق بالميتافيزيقا
واردة لدى الفالسفة اتباعًا لسنة أرسطو" ،فالمنطق لم يوضع فقط ليكون منهجًا
للعلم األول عند أرسطوطاليس ،بل اتصلت حقائق المنطق بحقائق الميتافيزيقا
اتصاًال كليًا" ( ،)96وهذا االتصال يتجسد في قيام هذا المنطق على الصورية
والمادية معًا ،فإذا كانت صورية هذا القياس الذي يأخذ به الفالسفة اإلسالميون
تكمن في بنائه الشكلي المجسد في عناصر تأليف كل قياس ،فإن خصوصية المادة
المضغوطة في هذا البناء الصوري هي التي تحدد للقياس نوعيته ،فالمنطق عند
ابن سينا "صوري ومادي في الوقت عينه ( .)97فبجانب الصورة مادة أيضًا ،وإ ذا
كانت هناك أقيسة علمية يقينية ،فهناك أقيسة أخرى مشهورة وظنية في ميدان
الجدل والخطابة (.)98
من هنا يتنزل مبحث الخطابة والشعر لدى هؤالء الفالسفة ضمن جملة
المنطق ،ومرد ذلك إلى أن خصوصيتهما المؤسسة على مقدمات نوعية وتفيد
إقناعًا أو تخييًال ،بالقدر الذي تكفل لهما التمايز النوعي ،ال تمنع من انضوائهما
تحت جملة المنطق (.)99
وال شك أن النصوص السابقة توفر إمكان اإلقرار بفصل الفالسفة بين المادة
والصورة ،والعوامل التي تؤكد هذا الفصل ،هي باإلضافة إلى المنطلقات الفلسفية
البحتة المترسخة أساسًا في تمسك هؤالء بفكرة الهيولى ،تبدو أيضًا في محاولة
إخضاع فكرة التضام بين العنصرين إلى منظور معياري ،تخضع فيه المقارنة
أحيانًا لفكرة الجدوى التي يولدها "شكل" المادة أو مادة "الشكل" ،أو يتسببان – في
حالة التهافت – في فقدها .لكن مما قد يخفف غلواء هذا الفصل تسليم الفالسفة
المبدئي باستحالة وجود طرف في غياب اآلخر ،ذلك أن الوجود السابق للهيولى
في كمون القوة ليس إال محض افتراض فلسفي يهيئ لقبول فكرة االنطباع
الصوري على المادة حيث إن "الهيولى ال تتجرد عن الصورة الجسمية" (،)100
ألنه ليس يمكن في الهيولى أن توجد وحدها معّر اًة من الصورة وال في الصورة
وحدها أن توجد بال هيولى (.)101
- 28 -
ولعل تصور هذا الوجود المتكامل يصل إلى أعلى درجات نبضه حين يتعلق
األمر بعالئق المعاني باأللفاظ وتآلفها وأثر ذلك في بناء النص ،إذ إنه سابق في
تصور صانعي التراث أن ال إمكان النبثاق المعنى إلى الوجود الفعلي إال باللفظ،
وهذا االنبثاق ال يتحقق له الكمال إال بإيفاء حق التطابق بين الدوال والمدلوالت
مداه ليستحيل تصورًا ناضجًا يقوم على تلك المسلمات من جهة ،ويترسخ في
مصادرات أخرى تقوم على الوعي بعالئق الوحدات المتكاملة في النص باالستناد
إلى معاني النحو من جهة أخرى.
- 29 -
وترسيخ الوعي بخصوصية الصياغة األدبية التي ليست إال إفرازًا لظاهرة
االنزياح عن االستعمال العادي ،حيث أشاروا إلى هذه الظاهرة بمصطلحات عدة
أبرزها ،المجاز أو التجوز ،ومنها العدول ،أو إخراج القول غير مخرج
العادة،والتوسع وغيرها (.)105
وهذا المنحى المنزل للظاهرة األدبية في خانة المجاز بقدر ما ينم عن الوعي
بالكيفية التي تتحقق بها الداللة في هذا القول المتميز يرسخ الفهم بخاصية التكامل
بين طرفيها ،ذلك أن "الثنائية التي آلت إليها اللغة في قضية اللفظ والمعنى لم تكن
الغاية التي انتهت إليها القسمة عند البالغيين...
كأنهم يفرقون بين المعنى في ذاته مجردًا عن البعد االستطيقي والمعنى الذي
يتأتى فيه ذلك البعد" (.)106
وعملية التفرقة تقوم على "إدخال مفهوم الواسطة كمميز نوعي للداللة
األدبية" ( ،)107ذلك أن اإلفضاء إلى المعنى في النص األدبي قد يتحقق عبر
تشابك داللي يستحيل فيه المدلول نفسه داًال ،فتكون عملية التالزم الداللي في هذا
التشابك مفضية حتمًا إلى الوعي بتعقيد المسالك المؤدية إلى المعنى،وتبلغ عندها
عملية التالحم بين المعاني واأللفاظ درجة قصوى خاصة حين يتحقق للفهم إمكان
اإلحاطة بكيفية تعاضد الوحدات الدالة في كون شامل يهبها الوجود المتالحم في
بنية عامة.
- 30 -
هوامش المدخل:
( )1البيان.76 :
( )2نفسه .الحيوان .46-45-44-35-34-33 :1كتاب التربيع والتدوير.62 :
( )3ينظر ابن المدبر،الرسالة العذراء .247 :المبرد،الكامل .90 :2العسكري ،الصناعتين:
.20أبو طاهر البغدادي.قانون البالغة .61 :الرماني ،النكت في إعجاز القرآن.106 :
الباقالني إعجاز القرآن...274 :
( )4ينظر :الجاحظ ،الحيوان .210 – 209 ،206 :1
( )5عادل فاخوري ،علم الداللة عند العرب.13 :
( )6ينظر :عبد السالم المسدي ،التفكير اللساني في الحضارة العربية ،107 :وفي مواضع
مختلفة من الكتاب.
( )7الجاحظ ،البيان .79 :1
( )8الجاحظ .الحيوان .48 :1
( )9ابن وهب ،البرهان في وجوه البيان.139 :
( )10الفراء ،معاني القرآن ،1ص.213 :
( )11الكندي ،رسائل الكندي الفلسفية ،1ص.304 – 203 :
( )12سورة آل عمران ،اآلية .41 :ينظر :شكري محمد عياد ،المؤثرات الفلسفية والكالمية
في النقد العربي والبالغة العربية .األقالم ،عدد ،11السنة ،15بغداد .1980
(O.DUCROT. T.TODOROV. DICTIONNAIRE ENCYCLOPEDIQUE DES )13
.SCIENCES DU LANGAGE .P: 113
( )14ينظر :عادل فاخوري ،علم الداللة عند العرب...13 :
F. DE SAUSSURE. COURS DE LINGUISTIQUE
GENERALE. P. 33.
( )15ابن سيناء ،فن الشعر،ص.171 :
( )16الحيوان .50 :1
( )17ينظر :البيان .87 :1الحيوان .201 :5حمادي صمود ،التفكير البالغي عند العرب:
.169
( )18عبد السالم المسدي ،التفكير اللساني في الحضارة العربية.122 :
( )19الرسائل الفلسفية .156 – 155 :1ينظر :الفارابي ،شرح العبارة .25 – 24 :ابن
سيناء ،العبارة .3-2 :ابن حزم ،التقريب لحد المنطق .5-4 :ابن رشد ،تلخيص كتاب
العبارة .81 :ابن وهب ،البرهان في وجوه البيان ،60 :ابن سنان ،سر الفصاحة.226 :
أبو طاهر البغدادي قانون البالغة.28-27 :
- 31 -
( )20المنهاج ،ص.19-18 :
( )21ابن حزم ،التقريب لحد المنطق ،ص.4 :
( )22الغزالي ،معيار العلم ،ص.76 :
( )23المقصد األسنى في شرح أسماء اهلل الحسنى ،ص.19 :
( )24محمود فهمي زيدان ،في فلسفة اللغة ،ص.176:
ينظر هنري كوربان ،تاريخ الفلسفة اإلسالمية ،ص.221 :
( )25الغزالي ،معيار العلم ،ص .76:ينظر :ابن سينا ،العبارة ،ص .5:ابن رشد ،تلخيص
كتاب العبارة ،ص .81:ابن وهب ،البرهان ،ص .63-62 :الشهرستاني ،نهاية االقدام
في علم الكالم ،ص.323 :
( )26عبد الرحمن الحاج صالح ،مدخل إلى علم اللسان الحديث ،مجلة اللسانيات ،معهد العلوم
اللسانية والصوتية – جامعة الجزائر – عدد ،4سنة ،1974 - 1973
ص.33 :
( )27السيوطي ،المزهر .42 :1
( )28ينظر :عبد الرحمن الحاج صالح ،مدخل إلى علم اللسان الحديث ،مجلد ،1عدد،1971 ،2
ص ،45 :هامش .36 :والمجلد ،2عدد ،1972 ،1ص ،46:هامش .88 :وخاصية
االعتباط في عالقة الدال بالمدلول شكلت إحدى النظريات التي صاغها دي سوسير.
COURS DE LINGUISTIQUE GENERALE. P. ينظر100 :
وقد أثارت النقد بعده ،سواء بنقد فكرة التدليل على الخاصية باعتماد فكرة تباين الدوال في اللغات
المختبلفة ووحدة المدلول ،أم باالستناد إلى فكرة المرجع .ينظر:
-J. KRISTEVA, LE LANGAGE CET INCONNU, P. 21.
-R. JAKOBSON, SIX LECONS SUR SE SON IT LE SENS, P. 39
-M. LEROY, LES GRANDS COURANTS DE LA LINGUISTIQUE MODERNE, P: 115-
116.
( )29عبد السالم المسدي ،التفكير اللساني في الحضارة العربية ،ص.169 :
( )30العبارة ،ص .4 :ويجمع الدليل اللغوي لدى دي سوسير بين متصور ذهني وصورة
أكوستيكية التي هي األثر النفسي للصوت الفيزيائي.
ينظر.COURS DE LINGUESTIQUE GENERALE P. :9 :
وقد لقيت فكرة الصورة األكوستيكية النقد بعده أيضًا ،فمع تأكيد وحدة الدليل اللغوي
المتشكل من دال ومدلول تحدد الدال بأنه المظهر الصوتي للدليل المتشكل من فونيمات،
أو هو المظهر الشكلي لكيان يدعى دليًال .ينظر:
-A.MARTINET, ELEMENTS DE LINGUISTIQUE GÉNÉRAL 15-16.
-E.BENVENISTE, PROBLÉMES DE LINGUISTIQUE GÉNÉRALE, T.2, P.220.
أما من منظور فلسفي فإن النظريات المحددة لعالقة اللفظ بالمعنى كثيرة يمكن اإلشارة
إلى أبرزها ،وهي :النظرية اإلشارية في المعنى ،والنظرية الفكرية ،ونظرية المنّبه
- 32 -
واالستجابة ...محمود فهمي زيدان ،في فلسفة اللغة ص.96 :
( )31ابن سيناء ،التعليقات ،ص.96:
( )32ينظر الستقصاء فكرة التالزم على محوري االستبدال والتوزيع :عبد السالم المسدي،
التفكير اللساني في الحضارة العربية ،ص...166 :
( )33إحصاء العلوم ،ص.62:
( )34نهاية االقدام ،ص.319 – 318 :
( )35الفارابي ،شرح العبارة ،ص.16 – 25 :
( )36كتاب الحروف ،ص .141 – 140 :ينظر األلفاظ المستعملة في المنطق ،ص– 57:
.58
( )37ينظر أيضًا- :ابن األثير ،الجامع الكبير ،ص.82 :
-السيوطي ،المزهر ،1ص...44 :
( )38العبارة ،ص.31 :
( )39نفسه ،ص .6 :ينظر :ابن رشد ،تلخيص كتاب العبارة ،ص.127 :
( )40نهاية االقدام ،ص.286 :
( )41نفسه ،ص.323 :
( )42تلخيص كتاب الشعر ،ص.236 :
( )43الصاحبي ،ص.88 :
( )44الخصائص ،1ص.150 :
( )45نفسه ،1ص217 :
( )46البن جني وقفات في أبواب من كتابه السالف خص بها عالقة المعنى ببنيته اللفظية على
مستوى المفردة وعلى مستوى التركيب .الخصائص ،2ص...113 :
( )47أبو حيان التوحيدي ،االمتاع والمؤانسة ،1ص.115 :
( )48إخوان الصفا ،الرسائل ،1ص.176 :
( )49الشهرستاني ،نهاية االقدام .ص.327 – 326 :
( )50البيان ،1ص.76 :
( )51الرسائل .262 ،1
( )52حمادي صمود ،التفكير البالغي عند العرب ،ص.170 :
( )53البيان ،1ص.76 :
( )54الرسالة العذراء ،ص.246 :
( )55ينظر جابر عصفور ،الصورة الفنية ،ص.319 :
( )56الرسالة العذراء ،ص.247 :
- 33 -
( )57البصائر والذخائر ،ص.175 :
( )58اإلمتاع والمؤانسة ،1ص.111 :
( )59الرسائل ،1ص .318 :وجـ ،3ص.132 – 121 :
( )60الرسائل ،3ص.120 :
( )61التعليقات ،ص.162 :
( )62المدخل من الشفاء ،ص.23 :
( )63نهاية االقدام ،ص.324 – 323 :
( )64ينظر :إبراهيم أنيس ،داللة األلفاظ ،ص.37 :
P.CHAUCHARD, LE LANGAGE ET LA PENSÉE, P.7.
( )65ينظر عبد السالم المسدي ،اللسانيات وأسسها المعرفية ،ص.23 :
G.MOUNIN, LA LINGUISTIQUE DE 20E SIÉCLE, P. 264.
مع اإلشارة إلى تعدد الوظائف المسندة إلى اللغة وإ ن كان محورها وظيفة اإلبالغ.
ينظر :عبد الرحمن الحاج صالح ،مدخل إلى علم اللسان الحديث ،عدد ،4ص.2.9 :
-A.MARTINET, ELEMENTS DE LINGUISTIQUE GÉNÉRALE, P. 9-10.
-G.MOUNIN, CLEFS POUR LA LINGUISTIQUE, P.76.
( )66مصطفى ناصف ،نظرية المعنى في النقد العربي ،ص.41 :
( )67وقد أثبت علماء النفس في العصر الحديث عدم التوازي والتطابق بين نشاط الفكر ونشاط
اللغة .ينظر :عبد الرحمن الحاج صالح ،مدخل إلى علم اللسان الحديث ،مجلد ،1عدد
،1971 ،1ص.27 :
( )68كمال يوسف الحاج ،في فلسفة اللغة ،ص.75 :
(.J.COHEN. STRUCTURE DU LANGAGE POETIQUE, P. 33 )69
ينظر.A.SCHAFF, LANGAGE ET CONNAISSANCE, P.135.. :
دون أن ننسى اإلشارة إلى أن المفاهيم التي أسسها النحاة واللغويون العرب األولون ال
تقل أهمية عن مفاهيم العلم الحديث .ينظر :عبد الرحمن الحاج صالح ،مدخل إلى علم
اللسان الحديث،عدد ،4ص.26 :
( )70شكري عياد ،المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العربية ،ص.5 :
( )71الباقالني ،اإلنصاف ،ص.111 :
( )72األشعري ،مقاالت اإلسالميين ،2ص.231 :
( )73اآلمدي ،غاية المرام في علم الكالم ،ص .88 :ينظر :الشهرستاني ،الملل والنحل ،1
ص.96 :
( )74القاضي عبد الجبار ،المغني في أبواب التوحيد والعدل ،7ص .6 :ينظر :ابن سنان ،سر
الفصاحة ،ص .39 :الشهرستاني ،نهاية االقدام ،ص .320 :العلوي ،الطراز ،3ص:
- 34 -
.424
( )75الشهرستاني ،الملل والنحل ،1ص.45 :
( )76القاضي عبد الجبار ،المغني ،7ص.88 :
( )77الباقالني ،التمهيد ،ص .251 :الشهرستاني ،نهاية االقدام ،ص.320 :
( )78اإلنصاف ،ص.79 :
( )79اإلنصاف ،ص .94
( )80نفسه ،ص.86 :
( )81نفسه ،ص.93 :
( )82شكري عياد ،المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العبية .ص.7 :
( )83الغزالي ،االقتصاد في االعتقاد ،ص ...54 :قواعد العقائد ص .74-17 :اآلمدي ،غاية
المرام ،ص .97 :ابن القيم الجوزية ،الصواعق المرسلة ،2ص.291 – 290 :
( )84سورة إبراهيم ،اآلية.4 :
( )85اإلنصاف ،ص.107 – 106 :
( )86الباقالني ،إعجاز القرآن ،ص.260 :
( )87الباقالني ،التمهيد ،ص .152 :ينظر :الزركشي ،البرهان في علوم القرآن ،2ص.93 :
( )88كاألساس النفسي للشعر ،ووظيفته التخييلية القائمة على كونه صياغة لغوية متميزة تتوافق
مع مدارك الجمهور ...ينظر :ألفت الروبي ،نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين.
األخضر جمعي ،نظرية الشعر عند الفالسفة اإلسالميين ،بحث مرقون بجامعة الجزائر.
( )89الكندي ،الرسائل الفلسفية ،1ص .218 – 217 :ينظر :الفارابي ،فلسفة أرسطو طاليس،
ص .93 – 92 :إخوان الصفاء .الرسائل ،1ص .201 :الخوارزمي ،مفاتيح العلوم،
ص .93 :ابن سيناء ،إلهيات الشفاء ،2ص .258 – 257 :إلهيات اإلشارات ،3ص:
،14 – 13رسائل ابن سينا .ص .3 :ابن باجة ،كتاب النفس ،ص .32 :ابن رشد،
تلخيص كتاب البرهان ،ص .471 :تلخيص ما بعد الطبيعة ،ص...4 – 3 :
( )90ابن سينا ،تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات ،ص .3 :ينظر :ابن سينا .إلهيات الشفاء
،1ص .72 :عيون الحكمة ،ص .17 :الكندي ،الرسائل ،1ص .166 :الرسائل ،2
ص .16 – 14 :الفارابي ،إحصاء العلوم ،ص .95 – 94 :كتاب آراء أهل المدينة
الفاضلة ،ص .64 :السياسة المدنية ،ص .37 – 36 :فصول منتزعة ،ص– 26 :
.27ابن باجة كتاب النفس ،ص .20 – 19 :ابن طفيل ،حي بن يقظان.
( )91إخوان الصفا ،الرسائل ،2ص.4 :
( )92الفارابي ،رسالة للفارابي في الرد على يحيى النحوي في الرد على أرسطو طاليس ،ص:
.109
( )93إثبات النبوات ،ص.42 :
- 35 -
( )94ابن سينا ،النجاة ،القسم الثاني :الطبيعيات ،ص.159 :
( )95ابن سينا ،قسم القياس من الشفاء ،ص.6:
( )96علي سامي النشار ،المنطق الصوري ،ص.54 :
( )97نفسه ،ص .24 – 23 – 20 :ينظر أيضًا :علي سامي النشار ،مناهج البحث عند مفكري
اإلسالم ،ص.22 – 21 :
( )98إبراهيم مدكور ،مقدمة قسم القياس من الشفاء البن سينا ،ص.7 :
( )99ينظر ابن سينا ،قسم القياس من الشفاء ،ص .5-4-3 :قسم المنطق من اإلشارات ،ص:
.274 – 273ابن رشد ،تلخيص كتاب القياس ،ص.139 – 138 :
( )100ابن سينا ،اإلشارات .القسم الثاني :الطبيعيات ،ص.207 :
( )101ابن مسكويه ،الفوز األصغر ،ص.30 :
( )102حمادي صمود ،التفكير البالغي عند العرب ،ص .617 :ينظر أيضًا :عبد الحكيم
راضي ،النقد اللغوي في التراث العربي ،مجلة فصول ،مجلد ،6عدد ،2القاهرة ،1986
ص.81 :
( )103ينظر :الغزالي ،معيار العلم ،ص .72 :ابن سينا ،منطق المشرقيين ،ص .37 :الخطيب
القزويني ،اإليضاح في علوم البالغة ،2ص .327 -326 :عادل فاخوري ،علم الداللة
عند العرب .41 :مصطفى ناصف ،دراسة األدب العربي ،ص .196 – 195 :نظرية
المعنى في النقد العربي ،ص ،92 – 91 :عن الصيغة اإلنسانية للداللة ،عدد فصول
السابق ،ص.92 :
( )104علي سامي النشار ،مناهج البحث عند مفكري اإلسالم ،ص.28 – 27 :
( )105ينظر الستقصاء هذه المصطلحات :د .حمادي صمود ،التفكير البالغي عند العرب،
ص.396 :
( )106لطفي عبد البديع ،التركيب اللغوي لألدب ،ص.3 :
( )107حمادي صمود ،التفكير البالغي عند العرب ،ص.413 :
- 36 -
- 37 -
الفصل األول :
بنية النص األدبي
من الجاحظ إلى قدامة بن جعفر
- 38 -
( )2حين تترادف داللته مع داللة البالغة والفصاحة ما يقرب من هذه الحقيقة.
وهذا ما نجلوه من استقراء كل من عبد السالم المسدي وحمادي صمود ،إذ
رغم اتفاقهما على تنوع المضامين المستخلصة من تلك المصطلحات ،نجد
المسدي يؤكد وعي الجاحظ بثنائية توظيف الظاهرة اللغوية بين داللة غايتها البث
كما تتبدى في االستعمال اللغوي العادي ،وداللة أسلوبية غايتها الخلق الفني كما
تظهرها خصائص النص البنائية ( ،)3في حين يتحفظ صمود إزاء هذا الفصل
مبوئًا وظيفة الفهم واإلفهام الصدارة ،لكنه ال يلبث وهو يتعقب دالالت مصطلح
"بيان" حين يتطابق مع مصطلحي "فصاحة" و"بالغة" أن يقَّر بما يتوافق مع
الوظيفة الشعرية للخطاب ،وذلك حين يرى أن مضمون "بيان" يتجاوز مرتبة
الكشف عن المعنى من أي طريق كان إلى" :كيفية في بلوغ تلك الغاية وهيئة
مخصوصة يكون عليها الخطاب تجعله معطى حضوريًا قائمًا بذاته بينما كان في
الفعل اللغوي العادي غائبًا وراء ما يؤديه" (.)4
ولقد أشار غير حمادي صمود إلى مكانة وظيفة الفهم واإلفهام في بالغة
الجاحظ حيث يرى أمجد الطرابلسي أنه من أجل هدف تسهيل إفهام الفكرة فقط،
يكون من الضرورة االعتناء بشكل الخطاب لدى الجاحظ طبعًا ( ،)5إال أنه ورغم
وجاهة اإلقرار بتبّو ء وظيفة الفهم واإلفهام مكانة متقدمة لدى الجاحظ وفي التراث
النقدي العربي كله ،إذ إن جدوى الخطاب وفائدة القول ركنان مكينان في كل
مباشرة كالمية ،وال أدل على ذلك من مكانة المعنى في كل محاولة نقدية وتعدد ما
أسند إلى هذه الداللة من مفاهيم ( ،)6فإن اإللحاح على تعهد الصياغة بالعناية
البالغة وترسيخ مفهوم الصنعة في الشعر خاصة ،مع اإلشارة إلى حضور األنواع
األدبية المختلفة وخاصة الخطابة والشعر ،وكذلك القرآن باعتباره قمة البيان
المعجز في كل محاولة تقنين لظاهرة األسلوب ،يفسح المجال لإلقرار بأن القدماء
واعون بتحرك القول ضمن مسار االستعمال المألوف الهادف إلى االتصال
أساسًا ،ومسار االستعمال غير المألوف ،وإ ن لم ينتف منه القصد إلى الفائدة ،ذلك
أنه مع اإلشارة إلى أن استخالص مقاييس األسلوب كان شامًال لكل كالم بليغ ،إال
أن ذلك ال يعدو من منظور أولي ضبط األسس والقواعد العامة التي تأخذ طابعها
المتخصص عندما يتعلق األمر بنوع أو بآخر ،وال أدل على ذلك من إقرارهم أن
القرآن صيغ بأسلوب العربية غير أنه معجز فوق مقدور البشر ،معنى ذلك أن
عملية التشكيل الفّني للظاهرة البالغية في القرآن الكريم ترتقي درجة اإلعجاز
وتتفرد من ثمة بحكم طريقة الصياغة وأساليب تشكيلها ،وكذلك الشعر ،إذ
- 39 -
يجمعون على تميز خطابه بخصوصية في تشكيل المعنى ،حيث يترسخ الوعي
بخصوصية هذا الخطاب في مقابلة الشعر بالنثر ،علمًا بأن الوعي بالخواص
البنيوية للغة كل نوع متفاوتة لدى النقاد ،لكنها حاضرة بكل وضوح لدى البعض
كالجاحظ وأبي حيان التوحيدي ( ،)7وشديدة الوضوح لدى الفالسفة اإلسالميين (
.)8
فالخطاب الشعري في الثقافة العربية اإلسالمية قديمًا ال يعدو من منظور
أصول المعاني أن يكون مكرورًا ،إذ إن ترسيخ القيم التي أفرزتها قناعات ثقافية
شتى ،وربط الشعر بالقديم الراسخ في الجاهلية حصر للفعل اإلبداعي في الشعر
في اإلخراج المتجدد للمألوف ،وفي هذا اإلخراج مفارقة إذ إنه إذ يظل أمينًا
للخطوط العريضة لمسارات المعنى في كل تفرعاته ينحت الشاعر لنفسه التفرد
والتميز في الصورة المخرجة للمعنى المتميزة بخصوصية العبارة ،أو االختراع
الجزئي المتمثل في التفريع والتوليد ،من هنا لم يكن المتلقي يبحث عن الجديد
بالدرجة األولى بقدر ما كان يستهدف اللذة الحاصلة من التجدد الطارئ على
المعروف.
ولقد تبدى الوعي بتفرد بنية القصيدة الشعرية مبكرًا إذ يكفي استطالع آراء
اللغويين من أمثال الخليل بن أحمد القائل" :الشعراء أمراء الكالم يصرفونه أنى
شاءوا ويجوز لهم ما ال يجوز لغيرهم من إطالق المعنى وتقييده ومن تصريف
اللفظ وتعقيده ومد المقصور وقصر الممدود والجمع بين لغاته والتفريق بين
صفاته ،واستخراج ما كّلت األلسن عن وصفه ونعته واألذهان عن فهمه
وإ يضاحه ،فيقربون البعيد ويبعدون القريب ويحتج بهم وال يحتج عليهم
ويصورون الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل" ( ،)9وابن الجمحي
في تأكيده دور الضرورة الشعرية النابعة من قيود الوزن والقافية في قولـه:
"والمنطق على المتكلم أوسع منه على الشاعر والشعر يحتاج إلى البناء والعروض
والقوافي ،والمتكلم مطلق يتخير الكالم" ( ،)10للتأكد من حضور مفهوم النوع
األدبي في التقنين لبنية النص ومقاييس األسلوب .هذا الحضور الذي يأبى اختزال
خصوصية الشعر في اعتباره نثرًا تزينه موسيقى – على حد عبارة حمادي صمود
– إلى اإلقرار بأنه حسب رأيه أيضًا "مغاير للنثر منفرد ببنية لغوية متميز بلغة ال
تخضع لنفس القوانين التي تترتب حسبها اللغة واألشياء في النثر" ( ،)11وهذا
الوعي بتميز البنية اللغوية في كل نوع ليس إال انعكاسًا لتباين الوظائف المسندة
إلى كل واحد منها.
- 40 -
أما شأن هذه المسألة عند الجاحظ ،فإننا نراه قد أفرد بالغة النثر بقسم من
البيان والتبيين واستشهد عليها بأنواع النثر المتداولة في عصره حيث "أقام بذلك
الدليل على أنه يعتبر النثر الفني ندا للشعر كفؤًا" ( ،)12فإذا أدركنا أنه حاد الوعي
بتفرد الشعر ببنية مخصوصة تجعله مستعصيًا على الترجمة ( ،)13أصبح
باإلمكان اإلقرار بأن حضور هذه األنواع في بالغته سيطبع تصوره لمشكلة اللفظ
والمعنى ،والبنية العامة بطابع التداخل ،أو ازدواجية النظرة وسيغلب هيمنة نوع
أو نوعين في استخالص مفاهيم هذا المستوى أو ذاك ،فحديث الجاحظ عن البنية
العامة الذي ينحصر بين درسه النظم وإ لحاحه على تالحم األجزاء وحسن الوصف
نابع من استقراء بنية النص القرآني والشعر أساسًا.
هذا اإلطار العام مّك ن الجاحظ من تحقيق الوعي بمرتبتي الكالم :العادي
واألدبي والفصل بينهما ،ذلك أنه يرى أن "كالم الناس في طبقات كما أن الناس
أنفسهم في طبقات ،فمن الكالم الجزل والسخيف والمليح والحسن ،والقبيح
والسمج ،والخفيف والثقيل ،وكله عربي وبكل قد تكلموا ،وبكل قد تمادحوا
وتعايبوا" ( .)14هذه المساحة العامة للكالم الواقعة بين قطبي السخيف السوقي
الصادر عن طبقة العامة دون شك والمليح الحسن الذي يكون محصلة الصنعة
واالعتناء الذي يضعه أهل القول البليغ ،تتحدد بخواص في الكالم ذاته ،ذلك أن
"العامة ربما استخفت أقل اللغتين أو أضعفهما ،وتستعمل ما هو أقل في أصل اللغة
استعماًال وتدع ما هو أظهر وأكثر" ( ،)15في حين يكون البصر بجوهر الكالم
البليغ عند رواة الكتاب أعم ،وعلى ألسنة حذاق الشعراء أظهر ،هذا الجوهر
المتحقق باالعتماد على األلفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة وعلى "األلفاظ العذبة
والمخارج السهلة ،والديباجية الكريمة ،وعلى الطبع المتمكن وعلى السبك الجيد،
وعلى كل كالم لـه ماء ورونق ،وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور
عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم ،وفتحت للسان باب البالغة ودّلت األقالم على
مدافن األلفاظ ،وأشارت إلى ِح سان المعاني" (.)16
وهذا الصنف من الكالم المتميز بالخصائص الفنية يقتضي اإلخراج المتأني
الواعي كما يتحقق في التنقيح والصنعة وحذف فضول الكالم حسب ما تشخصه
مقولة :خير الشعر الحولي المنقح ( ،)17أو العناية البالغة بالخطابة وتدبير القول
خاصة إذا دعت المقاصد إلى ذلك .وعلى العموم يحتاج البيان في هذا المستوى
الفني "إلى تمييز وسياسة ،وإ لى ترتيب ورياضة ،وإ لى تمام اآللة وإ حكام الصنعة"
( .)18من هنا يتحقق للمستويين السابقين ضوابط تتنزل في مجرى "المقابلة التي
- 41 -
أقامها الجاحظ بين "البيان" و"حسن البيان" ( .)19فالمستوى العادي يلح على
اإلفهام لمجرد اإلبالغ واإلخبار في حين يتحقق في المستوى الثاني من توظيف
الظاهرة اللغوية تحسين اإلبانة ،كما يتمثل ذلك في سياق تعليق الجاحظ على قول
العتابي حين زعم أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ ،إذ يرى الجاحظ أنه "لم يعن
أن كل من أفهمنا من معاشر المولدين والبلديين قصده ومعناه ،بالكالم الملحون،
والمعدول عن جهته ،والمصروف عن حقه ،أنه محكوم له بالبالغة كيف كان ،بعد
أن نكون قد فهمنا عنه .فمن زعم أن البالغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل،
جعل الفصاحة واللكنة ،والخطأ والصواب ،واإلغالق واإلبانة ،والملحون
والمعرب ،كله سواء ...وإ نما عني العتابي إفهامك العرب حاجتك على مجاري
كالم العرب الفصحاء" (.)20
وتأسيسًا على ما سلف يكون تحرك الجاحظ لضبط خصائص الصياغة
الجميلة المخرجة للقول وفق معايير البالغة شامًال ،يطول اللفظة في مستواها
اإلفرادي ثم في عالئقها بالمعنى ،إلى غاية فهم لحمة الوحدات في السياق الواحد
في ما أسماه بالنظم أو حسن التأليف والنسج .ونكتفي باإلشارة إلى رصد الجاحظ
مبدأ االختيار األول المتجسد في اللفظة والمنطلقات المؤسسة لهذا االختيار ،حيث
يترسخ اشتراط الجاحظ في اللفظة المفردة انسجام وحداتها الصوتية المشكلة
لبنيتها كما يتحقق ذلك في ائتالف هذه المكونات مما ينتج عنه صفات يجمل
بعضها في "ما َّر ق وعذب وخف وسهل" ( )21أو غيرهما مما أجمله أيضًا في
حاجة المنطق "إلى الحالوة والطالوة كحاجته إلى الجزالة والفخامة" (،)22
وأوصاف أخرى تبدو انعكاسًا لتصور أخالقي من مثل قوله أن يكون اللفظ كريمًا
في نفسه ( )23ونكتفي بهذه اإلشارة رغم تأكيد أهمية شرط االختيار األول
المتمثل في اللفظ المنتقى وفق الشروط المحددة ودوره في بالغة النص عامة لنمّر
إلى العنصر األهم في موضوعنا الذي يتجسد في عالقة اللفظ بالمعنى.
فرغم إشارة الجاحظ إلى إمكان وجود معنى بدون لفظ فإنه يرى مستحيًال أن
"يكون اللفظ اسمًا إال وهو مضمن بمعنى ،وقد يكون المعنى بال اسم ،وال يكون
اسمًا إال وله معنى" ( .)24والتمييز بين الحقلين لم يمنع من الدعوة إلى إحداث
أشكال من االئتالف بينهما أو تطابقهما .ويتحقق هذا االئتالف في مستويات شتى
منطلقها أساس وجودي – إن صح الوصف – يقوم على مقابلة المعنى واللفظ
بالروح والجسد إذ إن "األسماء في معنى األبدان والمعاني في معنى األرواح.
اللفظ للمعنى بدن ،والمعنى للفظ روح" ( ،)25وتتبدى عملية االحتواء اللفظي
- 42 -
للمعنى كتضمن البدن للنفس فالنفوس "المضمنة كالمعاني المضمنة" (.)26
هذا المستوى الكوني يضيق ليتلبس بلبوس األصول االجتماعية والمنظور
األخالقي ذلك أن "من أراد معنى كريمًا فيلتمس لـه لفظًا كريمًا ،فإن حق المعنى
الشريف اللفظ الشريف" ( ،)27ثم تتبسط المقابالت في أزواج ثنائية تمتد لتحكم
صلة المعنى باللفظ خارج أطر المعتقدات االجتماعية واألخالقية لتتأسس وفق
خواص في المعنى ذاته من حيث الوضوح وااللتباس وذلك في قوله" :إنما األلفاظ
على أقدار المعاني ،فكثيرها لكثيرها ،وقليلها لقليلها ،وشريفها لشريفها ،وسخيفها
لسخيفها ،والمعاني المفردة البائنة بصورها وجهاتها ،تحتاج من األلفاظ إلى أقل
مما تحتاج إليه المعاني المشتركة ،والجهات الملتبسة" ()28؛ فإذا كان بدء العالقة
بين الطرفين يقوم في المالحظة السابقة على أساس كّم ي فإن تفاعلهما تعمقه
طبيعة المعنى ذاته ،ذلك أن الغموض وااللتباس يحتاجان إذا قصد التوضيح إلى
اإلطالة والشرح حيث إن عملية التفاعل محكومة بخصوصية في المعنى ذاته،
ويتأكد هذا المجرى من منظور الكم أيضًا ،فالمعاني "إذا كثرت والوجوه إذا افتنت،
كثر عدد اللفظ ،وإ ن حذفت فضوله بغاية الحذف" (.)29
وانطالقًا من هذه العالقة بين المعنى واللفظ القائمة على أسس وجودية
واجتماعية ،ومحكومة بفكرة اإلبداع ،يكون إيالء أحد الطرفين األولوية في التعبير
مسًا وتشويهًا لعملية التعبير نفسها ،فشر "البلغاء من هّيأ رسم المعنى قبل أن يهيئ
المعنى عشقًا لذلك اللفظ وشغفًا بذلك االسم حتى صار يجر إليه المعنى جرًا ويلزقه
إلزاقًا" ( ،)30ذلك أن عدم إيفاء المعنى الغامض في ذاته حقه في اللفظ المالئم
والمطابق والتعلق ببراعة اللفظ ونشدانه إحداث لعدم التوازن بين طرفي الداللة
"فاختر من المعاني ما لم يكن مستورًا باللفظ المنعقد مغرقًا في اإلكثار والتكلف فما
أكثر من ال يحفل باستهالك المعنى مع براعة اللفظ وغموضه على السامع بعد أن
يتسق له القول وما زال المعنى محجوبًا لم تكشف عنه العبارة فالمعنى بعد مقيم
على استخفائه وصارت العبارة لغوًا وظرفًا خاليًا" ( .)31وتأسيسًا على ما سبق
تكون "القاعدة األولى والعامة لعالقة اللفظ بالمعنى تقوم عنده على مطابقة اللفظ
للمعنى" ( )32والجاحظ صريح في استخالصه هذا المبدأ إذ يقول" :من علم حق
المعنى أن يكون االسم لـه طبقًا ،وتلك الحال لـه وفقًا ،ويكون االسم لـه ال فاضًال
وال مفضوًال ،وال مقصرًا ،وال مشتركًا ،والمضمنًا" ( .)33وعدم إيفاء هذا
األصل حقه من العناية يؤدي إلى اختالل التوازن بين األلفاظ والمعاني فيمتد أحد
الطرفين على حساب اآلخر ،فالزنادقة" :أصحاب ألفاظ في كتبهم ،وأصحاب
- 43 -
تهويل ،ألنهم حين عدموا المعاني ولم يكن عندهم منها طائل ،مالوا إلى تكلف ما
هو أخصر وأيسر وأوجز كثيرًا" (.)34
ويأخذ مبدأ المطابقة والمشاكلة بين المعنى واللفظ مدى أوسع يصبح بمقتضاه
تالزم المعنى واللفظ انعكاسًا للوظيفة المبتغاة أو تمشيًا مع خاصية في اللغة
كقيامها على غزارة الدالالت ،أو محكومًا بمفهوم للنوع األدبي ،فمبدأ الوضوح
واعتماد الداللة التصريحية في عالقة اللفظ بالمعنى مشروطان بتحقيق وظيفة
تبليغية مباشرة إفهامية ،كما يستشف ذلك من قول الجاحظ معرفًا البيان بأنه
"الداللة الظاهرة على المعنى" ( ،)35وأن "أحسن الكالم ما كان قليله يغنيك عن
كثيره ،ومعناه في ظاهر لفظه" ( ،)36هذه الضوابط التي تجد سندها في مقياس
التزامن الذي يجسد التقبل اآلني للدال والمدلول وهو ناتج عن "مراعاته للمقامات
وال سيما المقام الخطابي" ( ،)37يظهر ذلك في مثل قوله ملخصًا نتيجة إيفاء كثير
من شروط التطابق بين المعنى واللفظ ضوابطها التي تكون محصلتها امتناع أن
يكون "اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب"
( ،)38وأن االسم ال "يستحق اسم البالغة حتى يطابق معناه لفظه ،ولفظه معناه،
فال يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك" ( ،)39لكن إذا كان هذان
المبدآن يجّس دان أثر العناصر الحافة بالخطاب في بنية الخطاب نفسه تدعمهما
مقتضيات الخطابة كنوع يقتضى خصائص منها الوضوح والتزامن باعتبارها
عوامل تكفل للخطاب نجاعته وجدواه ،وتتمشى مع الداللة الصريحة للغة ،إال أن
هذا الموقف المؤسس على االهتمام بفعالية الداللة المباشرة ينافسه اإلقرار بثراء
الداللة اللغوية المتأتية من إمكان التعبير المتعدد والمتنوع عن المتصور الواحد ،إذ
إن من مميزات لغة األسلوب األدبي عند الجاحظ "اعتمادها على الطاقات اإليحائية
في الظاهرة اللغوية أكثر من اقتصارها على طاقاتها التصريحية" ( .)40فإذا كان
البد من اإلقرار بأن العدول عن التصريح إلى اإليحاء كان في بالغة الجاحظ
محكومًا بمقتضيات "المقام والمواضعات االجتماعية من ناحية ،وأصول االعتقاد
االعتزالي من ناحية أخرى" ( ،)41فإنه البد من اإلشارة أيضًا إلى أن للنوع
األدبي كما يتجسد في الشعر هنا ،والكتاب المعجز ،دورًا حاسمًا في تأكيد دور
الطاقة اإليحائية في كسر مبدأي الوضوح والتزامن باعتبارها مميزًا رئيسيًا
لألسلوب األدبي ،واالمتداد بالداللة إلى مدى أوسع تحتاج بمقتضاه إلى تعميق
النظر لتحقيق الفهم ،هذا الفهم الذي يكون محصلة تفاعل المتلقين مع الطاقات
الكامنة في النص حيث يتيح لها هذا الكمون االنفتاح على مبدأ التأويل الستجالء
خفاياه.
- 44 -
إن االصطالحات المحددة لطاقة اإليحاء في اللغة التي تتنوع بتنوع المواقع
المجلية لهذه الخاصية التي يجمل الجاحظ معظمها في "الوحي واإلشارة واإليجاز
والكناية والتعريض" ( ،)42تجد مبررها األكيد في الخطاب الشعري عمومًا
والقرآن الكريم باعتباره خاصية فردية في اللغة العربية خصوصًا .فاإليحاء يوفر
إمكان التعبير المتعدد عن المعنى الواحد ،إذ إن الناس قد يستعملون "الكناية وربما
وضعوا الكلمة بدل الكلمة يريدون أن يظهروا المعنى بأبين اللفظ" ( ،)43إال أنه"
ربما كانت الكناية أبلغ في التعظيم ،وأدعى إلى التقديم ،من اإلفصاح والشرح" (
)44؛ وهذا المبدأ يتفاعل مع متطلبات النوع األدبي .فاقتضاب اللفظ وقصد
اإليجاز إنما هو خاصية شعرية إذ من خواص اللغة الشعرية قيامها على الوحي
واإلشارة والتكثيف .من هنا كانت األمثلة الشعرية لإليجاز لدى الجاحظ تقتضي
إعمال الذهن لمحاصرة المعنى ،إذ إن مبدأ التزامن في تلقي الدال بالسمع والمعنى
بالقلب ينحصر ليتيح انفساحًا زمنيًا يستوجبه تتابع دوائر الصياغة للوصول إلى
المعنى .فمن األمثلة التي يضربها لإليجاز وحذف الفضول قول بعضهم يصف
"كالبًا في حال شدها وعْد وها ،وفي سرعة رفع قوائمها ووضعها ،فقال :كأنها
ترفع ما لم يوضع.
...ومن اإليجاز المحذوف قول الراجز،ووصف سهمه حين رمى عيرًا كيف نفذ سهمه وكيف
صرعه ،وهو قوله:
- 46 -
ان "ال يدقق المعاني كل التدقيق ،وال ينقح األلفاظ كل التنقيح ،وال يصفيها كل
التصفية ،وال يهذبها غاية التهذيب ،وال يفعل ذلك حتى يصادف حكيمًا ،أو فيلسوفًا
عليمًا ،ومن قد تعود حذف فضول الكالم ،وإ سقاط مشتركات األلفاظ" ( .)54وإ ذا
كانت اإلشارة األخيرة تكشف عن انعكاس المستوى المعرفي والثقافي للفئة
المتوجه إليها بالخطاب في بنية هذا الخطاب ،فإن للنوع األدبي أيضًا دورًا في
القصد إلى التنقيح والتحكيك مثلما تجسد في تسمية بعض القصائد "بالحوليات
والمقلدات والمنقحات والمحكمات" ( ،)55ومثلما تختزله هذه المقولة" :خير
الشعر الحولي المنقح" ( .)56وكذلك األمر في الخطابة إذ أنه نسب إلى البعيث
الشاعر قوله" :إني واهلل ما أرسل الكالم قضيبًا خشيبا ،وما أريد أن أخطب يوم
الحفل إال بالبائت المحكك" ( .)57ومع اإلقرار باالختالف في قصد الصنعة بين
الشعر والخطابة إذ أن التدبير في الشعر أشيع إال أنهم "كانوا مع ذلك إذا احتاجوا
إلى الرأي في معاظم التدبير ومهمات األمور ،مّيثوه في صدورهم ،وقيدوه على
أنفسهم ،فإذا قومه الثقاف وأدخل الكير ،وقام على الخالص ،أبرزه محككًا منقحًا،
ومصفى من األدناس مهذبًا" (.)58
وإ ذا كان هذا الموقف المزدوج من الصنعة انعكاسًا لموقف مزدوج يدعو إلى
الوضوح ويقر الوحي واإلشارة والتكثيف ويتماشى مع خاصية الغزارة في الداللة
اللغوية ،فإنه محكوم أيضًا بمنظور اجتماعي ذي طابع معرفي وثقافي تتنزل فيه
الطبقة منزلة معرفية أساسًا في ثنائية العامة والخاصة ،ذلك أن العامة في هذا
التصور ليست مضادة للخاصة إال في الدرجة ،بحيث يكون موقعها في سّلم
المعرفة أدنى فحسب،وهذا يعني انضواءهما معًا تحت لواء الثقافة عمومًا ،مما
يجعل فئة السوقة والبلديين خارج هذا الحصر ،وهو موقف يفسر مراتب القول
البليغ المتدرج في مستويات تمشيًا مع المتلقي ومستواه ومصادرًا في اآلن نفسه
على النوع ،إذ أن عموم الخطابة وذيوعها في مختلف األوساط والمناسبات يجعل
بنيتها انعكاسًا لموقف المتلقي معرفيًا فتتدرج صياغتها بين قصد التسهيل وقصد
اإليجاز والغموض ،ونفس الشيء في الشعر ،ذلك أن بنيته النوعية ال تتنافى مع
قدراته على تلبية أذواق الجميع إلى أن يسموا في قصائد السماطين والطوال التي
تنشد يوم الحفل ،والتي تلتمس بها صالت األشراف والقادة وجوائز الملوك
والسادة التي ال بد من أن يقصد فيها "صنيع زهير والحطيئة وأشباههما" (،)59
والقرآن متعاطى في أوساط العامة والخاصة جميعًا إّال أن استيعاب مقاصده
مختلف ،وهذا المنظور التصنيفي يحدده الجاحظ في قوله" :وإ ذا سمعتموني أذكر
العوام فإني لست أعني الفالحين والحشوة والصناع والباعة ،ولست أعني أيضًا
- 47 -
األكراد في الجبال وسكان الجزائر في البحار ،ولست أعني من األمم مثل البير
والطيلسان ومثل موفان وجيالن ومثل الزنج وأشباه الزنج ،وإ نما األمم المذكورون
من جميع الناس أربع :العرب ،وفارس ،والهند ،والروم .والباقون همج وأشباه
الهمج .وأما العوام من أهل ملتنا ودعوتنا ،ولغتنا وأدبنا وأخالقنا ،فالطبقة التي
عقولها وأخالقها فوق تلك األمم ولم يبلغوا منزلة الخاصة مّنا .على أن الخاصة
تتفاضل في طبقات أيضًا"(.)60
ولكن كيف يستقيم هذا الفهم الداعي إلى مطابقة المعنى واللفظ ،مع اإليمان
بأن األلفاظ "تكون كسوة لتلك المعاني" ( ،)61وأن وظيفتها تزيين المعاني(،)62
بل إن المسألة لتمتد إلى اإلقرار بإمكان عدم التكافؤ بين قطبي الداللة من منظور
القيمة ،وإ ّن المعنى المزين باللفظ قد ينقل إلى مقدار أعلى من مقداره ،فالمعاني
"إذا كسيت األلفاظ الكريمة ،أو أكسبت األوصاف الرفيعة ،تحولت في العيون عن
مقادير صورها وأربت على حقائق أقدارها ،بقدر ما زينت ،وحسب ما زخرفت.
فقد صارت األلفاظ في معاني المعارض ،وصارت المعاني في معنى الجواري" (
،)63وإ ذا كان هذا ترسيخًا لمبدأ الزخرفة المكين في قناعات النقاد القدماء
عمومًا ،فإنه ال يناقض ما سلف من تأكيد ضرورة التطابق بين المعنى واللفظ ،ذلك
أن األمر هنا متعلق بالصنعة وبالمبالغة في اإلخراج الصوري للمعنى ،وهذا يدعو
إلى عرض رأيه في صور المعاني التي تزيد رأيه في المعاني واأللفاظ والصالت
بينها تحديدًا وتدقيقًا .وتأخذ عالقة المعنى المحتوى في اللفظ باالستناد إلى األصل
الفلسفي في الصورة والهيولى اصطالح صورة المعنى ،وهي أدق في إيفاء عالقة
المستويين المتكاملين في النص وصفهما إذا إن المعنى المتلبس بالصورة ال وجود
له خارج مجالها.
ومفهوم الصورة يشمل كل مراتب المعاني المتلبسة بالصورة،فهو ليس
خاصية تتعلق بالقول البليغ ،إذ إن كل إخراج للمعنى في صياغة ما بناء لصورته،
يصف الجاحظ بعض رسائله بأنه صّو رها في أحسن صورة ( .)64واالنحراف
في رواية نادرة "يخرجها عن صورتها" ( ،)65فاإلعراب "يفسد نوادر المولدين،
كما أن اللحن يفسد كالم األعراب ،ألن سامع ذلك الكالم إنما أعجبته تلك الصورة
وذلك المخرج ،وتلك اللغة وتلك العادة ،فإذا دخلت على هذا األمر – الذي إنما
أضحك بسخفه وبعض كالم العجمية التي فيه – حروف اإلعراب والتحقيق
والتثقيل وحولته إلى صورة ألفاظ األعراب الفصحاء،وأهل المروءة والنجابة
انقلب المعنى مع انقالب نظمه ،وتبدلت صورته" ( ،)66وتبدل الصورة وانقالب
- 48 -
المعنى إقرار بتكامل المستويين ،هذا التكامل الذي يأخذ طابعًا خصوصيًا ومتفردًا
في الشعر ذلك أن صورة المعنى فيه تتشكل في صياغة يراعى فيها خصوصيتها
ذاتها ،وهذا اإلخراج المتميز للشعر يهبه التمايز ضمن أشكال القول البليغ فيكسبه
التفرد بالمقابل إلى أشكال التعبير في الحضارة الواحدة ذلك أن "الشعر ال يستطاع
أن يترجم وال يجوز عليه النقل ،ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه ،وذهب
حسنه وسقط موضع التعجب ال كالكالم المنثور" (.)67
إن اإلقرار باستعصاء الشعر على الترجمة تأكيد لقيمة الشكل في الشعر ال
ريب ،لكنا نرى الشكل معادًال للصورة في هذا المقام،ومن هنا يكون شكل الشعر
المتميز محتويًا على معناه ،فموضع التعجب من الشعر كما ورد في نص الجاحظ
السابق ليس نتاج مستويات صوتية فحسب ،بل هو خالصة تفاعل عناصر الكالم
في نظم يتهدده التقطع إن هو ترجم .فاإللحاح على "الشكالنية" هنا متوافق مع
خواص الشعر الذي تولى فيه اللغة ونسيج البناء األولية ،من هنا نجد المدخل إلى
قراءة مقولة الجاحظ في أن "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي
والعربي ،والبدوي والقروي ،والمدني ،وإ نما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ،
وسهولة المخرج ،وكثرة الماء ،وفي صحة الطبع وجودة السبك .فإنما الشعر
صناعة ،وضرب من النسج ،وجنس من التصوير" ( .68ال شك أن للصراع
الشعوبي وموقف الجاحظ السياسي والثقافي عامة أثرًا في إصدار هذا الحكم (
،)69فضًال عن أنه باالعتماد على المستوى النقدي من المقولة يظهر القبول
"لمبدأ الفلسفة األرسطية التي تقدم الصورة على الهيولى أو الشكل على المادة" (
)70؛ على أننا ال نرى في مبدأ التقديم إخالًال بالهيولى أو المادة ،إذ إنه باإلضافة
إلى العالقة الجدلية بين الصورة والمادة التي تنفي وجود أحدهما في غياب اآلخر،
يتنزل مبدأ الهيولى في هذا المقام ضمن مستويين ،إذ بمعادلته للمعنى يتحدد لـه
وجودان إن صح الوصف ،فالمعنى خارج مجال الصورة مادة ملقاة في الطريق،
كأصول عامة منثورة في الموجودات كلها ذلك أن كل موجود ناطق بالداللة،
ناهيك عن أن األغراض أو أصولها التي هي مصادر للشعر مادة ملقاة في الذاكرة
العامة راسخة في الديوان المعرفي لألمة ،وما دام المقام مقام شعر ،فاإلخراج
الصوري للمعنى فيه إنما هو سبك لهذه المادة الملقاة أو المعروفة في بناء جديد،
فتولد كيانًا جديدًا ،أصوله معروفة وخواصه الحيوية جديدة .وفي هذا السبك
الجديد ميالد جديد للمعنى يتم عبر التوليد أو التفطن للغريب وسط الملقى المألوف،
أو التعامل مع المعروف على أنه بمجرد أن يتلبس بالصورة يوهب الوجود
المتجدد فيستحيل محتوى بعد أن كان موضوعًا .فللمعنى عنده داللتان :داللة
- 49 -
المحتوى المتلبس بالصياغة أو كما شاع قديمًا صورة المعنى ،وأسس عليه عبد
القاهر فهمه للجاحظ نفسه ولفكرته في الصورة والنظم ( ،)71وداللة المعنى
المعادل للمادة األولية" .وعلى أساس هذا التفسير يكون الناس الذين ظنوا أن
"المعنى" في نظرية الجاحظ يشير إلى عدم التفاوت في "العملية الفكرية" القائمة
وراء البناء الفني ،قومًا مخطئين في تصورهم .فهم قد أساؤوا فهم ما رمى إليه
الجاحظ ،ألنه لم يتجاوز بما يعني "المادة األولية" التي تتوالها "الروية" بالصياغة،
فخلطوا – بذلك – بين تلك المادة الضرورية المشاعة وبين "الروية" الفكرية التي
تؤسس "وحدة متكاملة" من اللفظ والمعنى تأسيسًا متفاوتًا في القدرة على التأثير.
فأرجعوا الفضيلة إلى اللفظ وحده" (.)72
وتأسيسًا على ما سلف يمكننا االقتراب من رأيه في أبيات عنترة "في صفة الذباب ،فإنه وصفه
فأجاد صفته فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرض له أحد منهم .ولقد عرض له بعض المحدثين ممن
كان يحسن القول بمبلغ من استكراهه لذلك المعنى ،ومن اضطرابه فيه ،أنه صار دليًال على سوء طبعه
في الشعر .قال عنرتة:
- 50 -
والبّر كالماء نبته أمر
استقام الشعر ولكن قد ال يكون له معنى .وإ نما أراد أن النبات يكون على
الغيث أجود" ()75؛ وانتفاء المعنى باستبدال الكلمة بأخرى ال يعني خلّو البيت من
كِّل داللة ،إذ إن بنية البيت القائمة على القواعد النحوية تظل محتفظة بداللة ما ،إال
أن المعنى الشعري المعجب هو الذي يأفل بتغيير لفظة واحدة لها إشعاع معنوي
عميق ،من هنا يكون المعنى محصلة للتفاعل الحادث بين معاني الكلمات المختلفة
في السياق الواحد ،ولو كان للمعنى وجود مستقل مستقر ثابت لما كان التفاوت
كبيرًا بل واردًا أصًال بين استعمال "الغيث" أو "الماء" في البيت السابق.
فتقديم الجاحظ الصياغة أو اللفظ تارة والمعنى أخرى ال يوحي بتضاد أو
تناقض إذا حملنا المعنى على أن المقصود به محتوى الصياغة ،أو المادة األولية
حسب داللة العبارات ومقتضى آرائه البالغية والنقدية .فعلى الرغم من أننا نتحفظ
من القول بوجود قائلين بأن البالغة في األلفاظ (كالجاحظ واآلمدي والجرجاني
مثًال) فعند من يقول بهذا الرأي يرى أنهم "لم يعنوا باأللفاظ أصواتًا مجردة من
معانيها وإ نما عنوا بها العبارة عن المعنى" ( .)76لذلك نستغرب من إحسان
عباس ،وهو الذي رأى في داللة المعنى لدى الجاحظ المستخلص من مقولته في
المعاني المطروحة باالستعانة برأي عبد القاهر "مادة أولية" تتفاوت حتمًا حين
تتناولها الروية فتؤسس "وحدة كاملة" من اللفظ والمعنى" ( ،)77نستغرب منه،
وهو يقارن بين الجاحظ وابن قتيبة ،أن يرى أن "من بين الفروق بينهما اختالفهما
في النظر إلى مشكلة اللفظ والمعنى ،فبينما انحاز الجاحظ إلى جانب اللفظ ،ذهب
ابن قتيبة مذهب التسوية" ( .)78ولعّل إحسان عباس يحّم ل اللفظ في نصه السابق
معنى الشكل ،فيكون انحياز الجاحظ إلى اللفظ انحيازًا إلى الصياغة المحتوية على
معناها ،في حين يتجسد موقف ابن قتيبة في تبنيه فكرة الصياغة والمعنى في
مستواه القيمي المتجسد في ما يدعو إليه الشعر من حكمة وأخالق .قد نجد تأكيد
هذا المنحى في الفهم في موقفه اآلخر من الجاحظ الذي يسمه فيه بالتناقض بناء
على نظريته في الشكل ،إذ إنه يرى أن الجاحظ وقف منها موقفين أحدهما يؤيدها
والثاني ينقضها ،فأما األول فيتبدى في إصراره على أن الشعر ال يترجم كما رأينا
في النصوص السابقة ،ذلك أن استعصاءه على الترجمة إنما هو سٌّر من أسرار
الشكل" ،وأما الثاني فهو قوله إن هناك معاني ال يمكن أن تسرق كوصف عنترة
للذباب ...فقوله إنه ال يسرق دليل على أن "السر في المعنى" قبل اللفظ ،ولكن
الجاحظ لم ينتبه لهذا التناقض" ( .)79ولكن أين يكمن هذا المعنى المحتوي على
- 51 -
السر ،أهو معادل للمادة األولية ،وإ ذ ذاك ينتفي عن أبيات عنترة كل وصف
بالشعر ،وإ ذا كان مضمنًا في صياغة عنترة مصداقًا لفعل "الروية المؤسسة لوحدة
اللفظ والمعنى" ،كما يرى إحسان عباس أيضًا ،أصبح عنصرًا حيويًا في الشكل إذ
ال نحسب أن إحسان عباس يحمل نظرية الجاحظ في الشكل على المستوى
الصوتي لأللفاظ لخلّو ها من كل داللة عدا داللة التصويت الموسيقي ،وهذا غير
وارد ،إذ يرى في نظرية الجاحظ في الشكل نصرة لإلعجاز ،ذلك "أن اإلعجاز ال
يفسر إال عن طريق النظم ،ومن آمن بأن النظم جديٌر برفع البيان إلى مستوى
اإلعجاز ،لم يعد قادرًا على أن يتبنى نظرية تقديم المعنى على اللفظ" ( ،)80فلو
حملنا المعنى هنا على المواد األولية القابلة للتشكيل في صياغات متعددة النتفى
التناقض عن الجاحظ ،إذ إن النظم المبرهن على اإلعجاز ال يعني أصواتًا مفارقة
إنما هو االنتظام الموحد لوحدات دالة في سياق خاص يكون المعنى المفرز
خالصة هذا االنتظام نفسه .فالنظم أو الشكل إنما هو لحمة طرفين هما معنى
ولفظ ،وبهذا الفهم ينتفي عن الجاحظ الوصف بالتناقض،ويكون من دالالت
"المعنى" عنده المادة األولية القابلة ألن تتشكل في صياغات شتى ،هذه ال يوليها
االهتمام إال باعتبارها وجودًا بالقوة يستحيل شكًال جميًال بالصياغة،ويكون
انتصاره للنظم دليًال على اإلعجاز أو تقديمه أبيات عنترة باعتبارها سبقًا معنويًا
فريدًا أو غيرها من مواقف شبيهة يعني الصورة العامة الشاملة لطرفي الداللة
اللذين هما :المعنى واللفظ .وهذا يحيل إلى البحث في مفهوم النظم ( )81لدى
الجاحظ أو ما يتعلق بالبنية العامة.
نالحظ مبدئيًا أن مجمل آراء الجاحظ في البنية العامة كان نتيجة تحسسه
مشكلة التأليف في القرآن والشعر أساسًا ،وهذا إذ يدعم فكرة توزع مقاييس
الجاحظ األسلوبية بين أكثر من نوع من أنواع الكالم البليغ ،يؤكد استقالل القرآن
والشعر بقطاع مهم من هذه المقاييس وهو النظم أو التأليف والبنية العامة ،مما
يرسخ االقتناع باحتالل الوعي بالصياغة وبخصائص بنية الكالم ذاتها مكانًا عميقًا
في بالغة الجاحظ ،ويعمق الدليل على وعيه بالمستوى الفني من الكالم الذي يقصد
في إخراجه تجنب المألوف من االستعمال ،وتجاوز وظيفة اإلفهام إلى وظيفة
اإلطراب والتعجيب.
فإذا كان "لقضية النظم هذه أثر واضح في تحديد مفهوم الجاحظ لألسلوب "(
)82فإن ضبط مدلولها بدقة أمر متعذر خاصة في غياب مؤلفه "نظم القرآن" ،إال
أنه يمكن تحسس دالالتها األولية التي قد تسعف في االقتراب من مقاصد الجاحظ
- 52 -
من استعمال هذا االصطالح.
وعلى الرغم من وجاهة رأي من يرى أن قضية النظم لدى الجاحظ "لم
تتجاوز عنده اإلعالن المبدئي المشفوع ببعض األمثلة القليلة إلى بحث لغوي
بالغي منظم في أساليب القرآن كما سيكون الشأن في مؤلفات إعجاز القرآن بعده"
( )83فإن غياب البحث البالغي المنظم ال يمنع من اإلشارة إلى أن الجاحظ يبدي
إحساسًا بخصوصية اإلخراج القرآني للقول البليغ ،وقد يسعف هذا اإلحساس في
االقتراب من التعرف على مفهومه للنظم .صحيح أن الباحث أشار إلى الوقفة
الوحيدة للجاحظ – حسب رأيه -المعرفة لألسلوب القرآني كما يلخصها نصه
الذي أشار فيه إلى استعارات القرآن وإ لى استغالله المتميز للطاقة اإليحائية (
،)84التي تمثل بعض مقومات النظم عنده ،إال أن امتداد الجاحظ بوصف كل
تأليف فني ينضوي تحت نوع أدبي بوصف النظم أو بعض مترادفاته كالسبك
وحسن التأليف مع اإلقرار باقتران لفظ القرآن بهذا الوصف في كثير من
المواضع ،يزيدها التحاما ًمؤلفه الضائع المشار إليه سابقًا ،قد يمكن هذا التوظيف
األولي للمصطلح من استنتاج أن معناه يطول مفهوم التركيب والبنية الملحمة لكل
عناصر النص.
يالحظ مبدئيًا أن النظم أو بعض مترادفاته كالسبك تذكر كمواصفات نص
اكتملت له صفات الجودة ألفاظًا ومعاني ثم سبكًا .فجواهر الكالم التي هي من
اختصاص الكّتاب وحّذ اق الشعراء توجد في "األلفاظ المتخيرة ،والمعاني المنتخبة،
وعلى األلفاظ العذبة ،والمخارج السهلة ،والديباجية الكريمة ،وعلى الطبع المتمكن
وعلى السبك الجيد" ( ،)85فكأن السبك فعالية تنضاف إلى اكتمال المعاني
واأللفاظ في الخطاب ،فقد استقبل بعضهم بعض كتبه "بالتصغير لقدره والتهجين
لنظمه واالعتراض على لفظه ،والتحقير لمعانيه ،فزريت على نحته وسبكه ،كما
زريت على معناه ولفظه" ( )86ذلك ان السبك إنما يكون لعناصر مكتملة الحسن
في ذاتها "فإن التأليف يزيد األجزاء الحسنة حسنًا" (.)87
ثم يقترب معنى النظم من مفهوم التأليف الشامل لمستويات النص،كما يظهر
في مثل هذا الوصف األولي عن "نظم القرآن وغريب تأليفه وبديع تركيبه" (.)88
وهذا التأليف المتميز بخصوصية هذا النوع أو ذاك مما سيتفرع من الشعر والنثر
هو الذي يمّك ن من مقابلة القرآن بغيره من أجناس القول ،وهو يكشف عن وعي
الجاحظ األولى بمفهوم الطريقة أو البناء الخاص بكل نوع أدبي ،ففرق "ما بين
نظم القرآن وتأليفه ونظم سائر الكالم وتأليفه؛ فليس يعرف فروق النظم واختالف
- 53 -
البحث إال من عرف القصيد من الرجز ،والمخمس من األسجاع ،والمزاوج من
المنثور ،والخطب من الرسائل ،وحتى يعرف العجز العارض الذي يجوز ارتفاعه
من العجز الذي هو صفة في الذات .فإذا عرف صنوف التأليف عرف مباينة نظم
القرآن لسائر الكالم" (.)89
إذًا فاقتران النظم والتأليف من جهة والمقابالت الثنائية بين مختلف األنواع
المذكورة التي تنتهي إلى قوله صنوف التأليف واشتراط معرفتها إلدراك مباينة
نظم القرآن لها جميعًا من جهة أخرى ،ينم عن وعي بالفروق الشكلية بين
المتشابهات ،كالمزاوج من المنثور والخطب من الرسائل والقصيد من الرجز
والمخمس من األسجاع .فإدراك الفرق بين المزاوج والمنثور مثًال البد أن يقوم
على وعي بالمستوى اإليقاعي المتفرد في المزاوج الذي تخضع فيه الدوال إلى
أنماط من االنتظام والتكرار ،في حين يغيب مثل هذا البناء في المنثور .وقد يمكن
أن نستنتج من ذلك أن الجاحظ مدرك لخواص بنائية في القرآن تجعل إلحاحه على
تمييز نظمه عما عداه قائمًا على رصيد من ضبط لطريقته في نضد الكالم يتجاوز
فيها اإلشارة إلى االستعارة واستغالل الطاقة اإليحائية ،وقد يدعم ذلك وضعه النظم
في النص السالف موضع الطريقة .ويزيدنا اقترابًا من فهم الجاحظ اختالف
أصناف القول قولـه" :إذا ادعينا للعرب أصناف البالغة من القصيد واألرجاز،
ومن المنثور واألسجاع ،ومن المزدوج وما ال يزدوج ،فمعنى العلم أن ذلك له
شاهد صادق من الديباجة الكريمة ،والرونق العجيب ،والسبك والنحت" (.)90
فمصطلحات الديباجة والسبك والنحت البد أن تتشكل وفق بناء كل نوع ،ولعل في
الوعي بذلك ما يدعم فكرة قيام رأيه في نظم القرآن على إدراك متميز لبناء الكالم
فيه حتى وإ ن كان إدراكًا أوليًا.
فمعنى النظم يترادف مع التأليف والسبك ومشابهاتها في إطار شامل لبنية أي
نص ،ثم يضيق ليحمل داللة الطريقة أو األسلوب في نوع أدبي أو صنف خطابي،
بحيث يمكننا هذا التضييق من مقاربته أكثر ،خاصة أن الجاحظ خص الشعر
بوقفات متعددة مبرزًا مقاييس جودته عبر رصده بعض مستويات بنيته وتعاضد
هذه المستويات في البنية العامة.
اهتم الجاحظ باإلخراج الصوري للمعنى في الشعر خاصة ،ويكفي ذيوع
مقولته في أن الشعر صياغة ونسج وتصوير للكشف عن تصوره للحمة المعنى
واللفظ في إطار شامل يذيب العناصر في كل موحد،تبدو الالزمة المتكررة فيه
إيقاع أصواته المنظم كخاصية نوعية في القصيدة .هذه الخاصية التي تأخذ مكانها
- 54 -
في بنية عامة تشمل كل المستويات.
اإلحساس بالمستوى الصوتي يظهر في وقفات لدى الجاحظ في رصد ما أسماه بالتنافر في
الكالم ،ذلك أن "من ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر وإ ن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد
إنشادها إال ببعض االستكراه ...منها قول الشاعر:
وانثنت نحو عزف نفس ذهول لم يضرها ،والحمد هلل ،شيء
فتفقد النصف األخير من هذا البيت ،فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض" ( .)91وإ ذا كان
في ما سلف تشخيص للظاهرة كما تتجسد شعرًا ،فإن معتمده الشعر أيضًا لمحاكمة هذا النمط من عدم
تآلف اللفظ في مثل هذا الحكم الذي يتضمنه هذا البيت الشعري:
لسان دعّي في الق::ريض دخي::ل ()92 وش::عر كبع::ر الكبش ف ّ:ر ق بين::ه
لتنتهي خالصة الموقف إلى مقابلة الشكلين المتوافق والمتالئم في وصف
اللفظ والمتخالف المستكره وانعكاس ذلك على نظام البيت الذي يمكن أن تكون
أجزاؤه "مختلفة متباينة ،ومتناظرة مستكرهة ،تشق على اللسان وتقده ،واألخرى
تراها سهلة لينة ،ورطبة مواتية ،سلسة النظام ،خفيفة على اللسان ،حتى كأن البيت
بأسره كلمة واحدة ،وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد" (.)93
والحق أن حديث الجاحظ عن التالحم والتالؤم اللفظي ليس خالصًا للمستوى
الصوتي إذ يتعاضد مع المنظور الكلي المؤسس على لحمة المستويات المختلفة في
القصيدة .صحيح أن ولع الجاحظ باإليقاع الصوتي واضح يشهد لـه أكثر من
موقف ( )94خاصة في ضرورة تنزل اللفظة في مكانها من النص وتنكب الوقوع
في قلق القافية كما تبينه هذه اإلرشادات الموجهة لقاصد الصنعة الشعرية "وتجد
اللفظة لم تقع موقعها ولم تصر إلى قرارها وإ لى حقها من أماكنها المقسومة لها،
والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها،ولم تتصل بشكلها ،وكانت قلقة في
مكانها ،نافرة من موضعها ،فال تكرهها على اغتصاب األماكن ،والنزول في غير
أوطانها" ( ،)95إال أن مالحظة اضطراب اللفظة بين أخواتها وقلق القافية ،ليس
رصدًا لمستوى صوتي بحت ،ذلك أن تنزل الكلمة في األماكن المقسومة لها ال
يضبطه اإليقاع الصوتي فقط بل سيكون باإلضافة إلى ذلك من نتائج السياق جملة
بمستوييه الداللي والتركيبي أيضًا" ،فالوجه الضار أن يحفظ ألفاظًا بأعيانها من
كتاب بعينه أومن لفظ رجل ثم يؤيد أن يعد لتلك األلفاظ قسمها من المعاني فهذا ال
يكون إال مستكرهًا أللفاظه متكلفًا لمعانيه مضطرب التأليف منقطع النظام" (.)96
فاستكراه اللفظ وتكلف المعنى معًا يكونان مدعاة إلى الوقوع في اضطراب النظام
وتفكك التأليف ،إذ إن النظام خالصة لتفاعل المعاني مع األلفاظ ،يتأكد ذلك في
- 55 -
حديثه عن النظم في مستوى المعاني كما يبينه قوله مشيرًا إلى "من قد تعّبد للمعاني
وتعّو د نظمها وتنضيدها ،وتأليفها وتنسيقها" (.)97
والحق أن مصطلح "القرآن" الذي يبدو أن الغالب عليه معنى االنسجام
الصوتي كما يتبدى في "اقتران األلفاظ واقتران الحروف" ( )98يتسع ليشمل تآلف
األبيات جملة ،وال يبقى منحصرًا – كما يبدو لنا – في رصد تآلف األصوات (
.)99يشرح الجاحظ مصطلح "القرآن" بعد أن يورد رأي رؤبة في شعر ابنه عقبة
بأنه "ليس لشعره قران" يرى أنه "يريد بقوله "قران" التشابه والموافقة" ،ثم يردف
بقول "عمر بن لجأ لبعض الشعراء :أنا أشعر منك! قال وبم ذاك قال :ألني أقول
البيت وأخاه ،وأنت تقول البيت وابن عمه" ( .)100والحق أن الموافقة تطول بنية
األبيات كلها ،وال يمكن أن تتلخص في لحمة التأليف الصوتي فقط ،فمن جهة أن
حديث الجاحظ عن األلفاظ عمومًا ال ينحصر في مستواها الصوتي بمعزل عن
المعنى ،إال إذا فرض ذلك المقام ،ومن جهة أخرى أن التالحم المرصود في ما
سلف من أقوال ال يمكن أن ينحصر في تآلف األلفاظ صوتيًا ،إذ إن قول البيت
وأخيه ،وتحقيق التشابه البد أن يتعلق بالمستوى المعنوي أيضًا ليستحيل توافقًا
كليًا ،وقد يدعم ذلك قوله مواصًال التدليل على القضية نفسها" وقالوا :لو أن شعر
صالح بن عبد القدوس ،وسابق البربري كان مفرقًا في أشعار كثيرة ،لصارت تلك
األشعار أرفع مما هي عليه بطبقات ،ولصار شعرهما نوادر سائرة في اآلفاق
ولكن القصيدة إذا كانت كلها أمثاًال لم تسر ،ولم تجر مجرى النوادر .ومتى لم
يخرج السامع من شيء إلى شيء لم يكن لذلك عنده موقع" ( .)101وقد يبدو هذا
الرأي مخالفًا لما نحن فيه إال أن ذلك ال يعدو الظاهر ،ذلك أن القصيدة المؤسسة
على أبيات الحكمة تبدو في شكل الدوائر المستقلة المنفردة حيث ينتفي من جملتها
سمة التشابه والتوافق ،وذلك أن كل بيت منها عالم مستقل بنفسه ال يربطه بغيره
إال اإللصاق الظاهري في حين لو انبثت هذه األبيات في قصائد شتى وكان لكل
منها أن يحتل الموضع الذي يقتضيه رسم الموضوع المصور ألمكن أن تربطه
وغيره سمات أعمق ،مما يحيل القصيدة كًال واحدًا ملتحم األجزاء سلس النظام
ماهية كل عنصر رهن بالعالئق المعقدة الرابطة بينه وبين غيره مثلما يجسده قول
الجاحظ" :وأجود الشعر ما رأيته متالحم األجزاء سهل المخارج ،فتعلم بذلك أنه قد
أفرغ إفراغًا واحدًا ،وسبك سبكًا واحدًا ،فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان"
(.)102
فالجاحظ بوقفاته المتنوعة والمثيرة لكثير من التساؤالت ،وتنوع مجاالت
- 56 -
بحثه والطموحات الواسعة التي امتدت بنظرته إلى إثارة كثير من قضايا النص
العميقة ،كعالقة األلفاظ بالمعاني ،وخصائص التشكيل الصوتي للمعنى الشعري،
ومشكلة النظم أو البنية ،وغيرها ،ستكون المفاتيح التي يلج بواسطتها النقاد بعده
عالم النص ،وستظل كثير من طروحاته مسّلمًا بها لدى كثير من النقاد والبالغيين،
فيكفي أن مقولة المعاني المطروحة ستمثل إشكاًال متناسخًا في كل عصور النقد
العربي القديم بل "نستطيع أن نقول إن النقد العربي كله ال يعدو أن يكون حاشية
متوسعة على عبارة الجاحظ" (.)103
- 57 -
تنتفي منه جودة المعنى واللفظ معًا ،يسعف في تبين قصده من هذين الركنين
األساسيين ،إذ يستنتج طه أحمد إبراهيم من تعليق ابن قتيبة السالف أنه يريد "باللفظ
التأليف والنظم ،يريد الصياغة كلها بما تضمه من لفظ ووزن وروي ،ويريد
بالمعنى الفكرة التي يبين عنها البيت أو األبيات" ( .)108فالصياغة تفرز
باعتبارها محصلة تشكيل المعنى كما تتجسد في اللفظ والوزن والروي عند نثرها
فكرة ،وسيمكننا رأي ابن قتيبة في الفكرة المنثورة من تصور رأيه في المعنى
الذي يتنزل عنده في مستويين :مستوى قيمي أخالقي يشكل محصلة تصوره
وظيفة الشعر ،ومستوى صوري يبدو مضمنًا في اللفظ – الصياغة .وكمال
الخطاب األدبي لديه هو في تعاضد قيمة المعنى وأخالقيته ،وخالبة الصياغة
ونضارتها ،إذ يجمل الموقف في تعليقه على شعر يورده بأنه "كثير الوشي لطيف
المعاني" (.)109
يكشف كمال الجودة في الطرفين في الضرب األول الذي "حسن لفظه وجاد معناه" ( )110عن
اعتماد ابن قتيبة على الصياغة الجميلة والمعنى األخالقي معًا .فالتعليقات التي يرسلها عقب ما يورده
من نماذج لتشخيص هذا الضرب تدليل على هذا المنطلق ،إذ يقول إثر النموذج األول :لم يقل في الهيبة
شيء أحسن منه ،وعقب الثاني :لم يبتدئ أحد مرثية بأحسن من هذا ،وعقب الثالث :يذكر رواية عن
األصمعي فحواها أن هذا أبدع بيت قالته العرب ،والبيت ألبي ذؤيب هو قوله:
وإ ذا ترّد إلى قليل تقنع والنفس راغبة إذا رّغ بتها
أما تعليقه عقب النموذج الرابع الذي ُيجّس م ثقل الهرم على نفس الشاعر فهو قوله :ولم يقل في
الكبر شيء أحسن منه ،لتنتهي أمثلة هذا الضرب بقول النابغة:
- 58 -
لإلفراط مثًال ،إذ يرى "ذلك جائزًا حسنًا" ( )113ولعل ذلك كان نتيجة "لدفاعه عن
إعجاز القرآن وإ بطال رأي القائل بأنه كذب" ( ،)114ولكنه في مواضع أخرى
يقر بعيب هذا المنحى في القول (.)115
ويسعفنا الضرب الذي "جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه" ( )116في تدقيق ثنائية الصياغة
والمعنى ،ذلك أن القيمة األخالقية هي التي تكفل لنماذج هذا الضرب جودة المعنى في حين تقصر
الصياغة عن تحقيق اإلبانة الالئقة .من أمثلة هذا الضرب قول لبيد بن ربيعة:
إذ يعلق على هذا البيت بقوله" :هذا وإ ن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل
الماء والرونق" ( .)117ولعل مباشرة الخطاب والقالب الحكمي الصارخ
والمستوى العقلي الواضح كانت كلها وراء جفاف هذا البيت من الماء والرونق
حسب رأي ابن قتيبة ،لكن االحتكام إلى أخالقية المعنى أو االحتكام إلى أمر خارج
عن خصائص الصياغة ذاتها دفع البيت عن أن ينحط إلى الضرب الذي فسد معناه
ولفظه.
وإ حساس ابن قتيبة بضعف الصياغة في هذا الضرب صريح في تعليقه على بيت النابغة مصورًا
فزعه من وعيد النعمان:
تمد بها أيد إليك نوازع خطا طيف حجن في حبال متينة
إذ يقول" :رأيت علماءنا يستجيدون معناه ،ولست أرى ألفاظه جيادًا وال مبينة
لمعناه" ( ،)118ونحسب في قولـه" :وال مبينة لمعناه" اقترابًا من خصائص
الصياغة ذاتها وإ قرارًا بتولد المعنى منها مما سيعطي لثنائية اللفظ والمعنى
خاصية العنصرين المتالحمين في البنية الموحدة ،يتضح ذلك – كما يبدو لنا – في
الضرب الذي "حسن لفظه وحال ،فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى" (
،)119ويمثل لهذا الضرب بأبيات الحج المعروفة ثم يختمها بهذا التعليق" :هذه
األلفاظ كما ترى ،أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع ،وإ ن نظرت إلى ما تحتها
من المعنى وجدته ،ولما قطعنا أيام ِم نى ،واستلمنا األركان وعالينا إبلنا األنضاء،
ومضى الناس ال ينتظر الغادي الرائح ،ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في
األبطح" ( .)120وإ قرار ابن قتيبة بحسن صياغتها يعضده اإلقرار أيضًا بأن
"تحتمها معنى" ثم يشرع في نثر معاني األبيات كما سلف ،ولكن مقابلة هذا المعنى
المبطن في الصياغة بقوله نافيًا عن هذا الضرب "الفائدة في المعنى" إبانة ثنائية
عن ثنائية المنظور الذي يحتكم إليه في بحث المعنى ،إذ إن المعنى الذي تفرزه
الصياغة ال يؤكد سبقًا أو جودة ،إنما المسألة تجلوها فائدته ،أي قيمته من حيث إنه
- 59 -
يتنزل في إطار تصور اجتماعي وأخالقي لقيمة الشعر ،ولذلك تكون النماذج
الباقية كلها التي يضربها لهذا النمط في الغزل ،ومنها قول جرير" :في العيون
التي في طرفها حور" ( .)121وهي تؤكد هذا المنحى الذي يقُّر بتولد معنى في
صياغة خالبة ،لكن منزلته دونية أخالقيًا ،ولعل هذا هو الذي جعل إحسان عباس
يستنتج "أن المعنى عنده قد يعني الصورة الشعرية مثلما يعني الحكمة" (.)122
الحق أن إحساس ابن قتيبة بصورة المعنى يظهر عميقًا في بحثه مجازات
القرآن المصوغة على غرار مجازات الكالم عند العرب ،فهذه الطرائق والمآخذ
في القول التي تكسب القرآن خصائصه البالغية تجعله ممتنعًا عن الترجمة ،إذ "ال
يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من األلسنة ،كما نقل اإلنجيل عن
السريانية إلى الحبشية والرومية ،وترجمت التوراة والزبور ،وسائر كتب اهلل
تعالى بالعربية ،ألن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب" ( )123وإ ذا كان من
فضائل العربية االتساع في المجاز – كما يرى – فإن خصائص اإلخراج القرآني
للمعنى في صورة متفردة إقرار بتعاضد العناصر اللفظية مع المعنوية في
الصياغة مما يجعل كل معنى خالصة إلخراجه الصوري" .أال ترى أنك لو أردت
أن تنقل قوله تعالى :وإ ّم ا تخافّن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) (124لم
تستطع أن تأتي بهذه األلفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها،
وتصل مقطوعها ،وتظهر مستورها فتقول :إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد
فخفت منهم خيانة ونقضًا فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم ،وآذنهم بالحرب،
لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء" ( .)125وعلى الرغم من أن النقل
هنا يتم في إطار اللغة الواحدة فإن فك بنية النص األصلية والتصرف في معناه
وإ خراجه إخراجًا جديدًا إدراك لتفاعل المعنى مع لفظه في العبارة الواحدة ألنه ال
قدرة على الصرف في المعنى إال يفك بنية اللفظ عمومًا.
وخالصة الرأي في ابن قتيبة أنه وإ ن أدرك لحمة المعنى واللفظ في إطار
الصياغة الواحدة ،إال أنه ظل مشدودًا إلى الثنائية أيضًا ،وربما كان ارتكازه في
بحث المعنى على قيمته األخالقية سببًا في ترسيخ هذا المبدأ وتعطيل إمكانات
مواجهة النص في ذاته والمصادرة على السياق وحده.
أما ابن طباطبا فعلى الرغم من رسوخ هذه الثنائية في فكره النقدي ،وتأسيسه
رأيه في النص األدبي ومراحل وضعه وتعليله أزمة الشاعر المعاصر له وكذا
تلقي القصيدة وتذوقها سيظل مشدودًا إلى هذه الثنائية ،فإنه استطاع أن يؤلف من
عناصر المعنى واللفظ والتأليف أو النسج كما يقول ثالثيًا راسخ الحضور في
- 60 -
أغلب مقارباته النقدية ،مركزًا في اآلن نفسه على المشاكلة والمطابقة بين المعنى
واللفظ (.)126
وإ ذا كان المبدأ في عالقة المعنى واللفظ عنده هو مقولة الجاحظ في أن
"الكالم الذي المعنى له كالجسد الذي ال روح فيه" ( )127التي إن أبرزت أهمية
المعنى وأولويته فإنها تقرر تكامل الطرفين وجوديًا إذ إن انعدام الروح من الجسد
انعدام للحياة فيه ،لكن ابن طباطبا وبناء على هذا األصل يتصور ،وهو يدعو إلى
المشاكلة والمطابقة بين العنصرين ،إمكانية حدوث التفاوت بينهما في الحسن مما
يهدد النص بالوهن والرداءة .وهذا إن كشف عن تصور كمال كل طرف في ذاته
إال أن الدعوة إلى إيفاء المشاكلة حقها تخفف من حدة هذا التفاوت فللمعاني "ألفاظ
تشاكلها فتحسن فيها وتقبح في غيرها ،فهي لها كالمعرض للجارية الحسناء التي
تزداد حسنًا في بعض المعارض دون بعض ،وكم من معنى حسن قد شين
بمعرضه الذي أبرز فيه ،وكم معرض حسن قد ابتذل على معنى قبيح ألبسه...
وكم من حكمة غريبة قد ازدريت لرثاثة كسوتها ،ولو جلبت في غير لباسها ذلك
لكثر المشيرون إليها" ( .)128فإذا كان في مثل ما سلف" ما يؤكد الفصل بين
عنصري الشكل والمحتوى داخل الصنعة الشعرية" ( .)129ويتصور الكمال في
توافق جودة المعنى وحسن المعرض ،فإن في دعواه إلى إيفاء المشاكلة حقها
وانتقاء اللفظ المالئم للمعنى المالئم ما يكشف عن فهم أولي لتعاضد عنصري
الداللة ذلك أن "أحسن الشعر ما يوضع فيه كل كلمة موضعها حتى يطابق المعنى
الذي أريدت لـه" ( ،)130فمبدأ المطابقة إذ يركز على ضرورة إحداث التشاكل
بين المعنى واللفظ يسلم بتبعية اللفظ للمعنى في هذا المستوى ويجعل إيفاء مبدأ
التشاكل حقه تحقيقًا للحمة الطرفين في ما يشبه الصوغ والسبك وانتظام العقد.
يتجسد ذلك في "إيفاء كل معنى حظه من العبارة ،وإ لباسه ما يشاكله من األلفاظ
حتى يبرز في أحسن زي وأبهى صورة واجتناب ما يشينه من سفاسف الكالم
وسخيف اللفظ والمعاني المستبردة ،والتشبيهات الكاذبة ،واإلشارات المجهولة،
واألوصاف البعيدة ،والعبارات الغثة ،حتى ال يكون متفاوتًا مرقوعًا بل يكون
كالسبيكة المفرغة ،والوشي المنمنم والعقد المنظم ،واللباس الرائق فتسابق معانيه
ألفاظه" (.)131
ويؤلف مبدأ المطابقة عند ابن طباطبا مقياسًا في ضبط أقسام الشعر ،واألثر
المنطقي واضح في التقسيم وكذلك تأثير ابن قتيبة ،إال أن ابن طباطبا يعرض رأيه
في أقسام الشعر انطالقًا من مبدأ مقابلة اللفظ بالمعنى في مستويين ،األول ال يكاد
- 61 -
يتجاوز الطرفين أنفسهما ،أّم ا الثاني الموسوم عنده باالئتالف أو النسج فهو يمتد
إلى عنصر البنية.وهذا العنصر يهيُئ لـه إمكان االمتداد بمفهومه للنص إلى
مستوى كلي يطول عالئق الدوال في المستوى التوزيعي ويشمل أيضًا بنية األبيات
في القصيدة الكلية .ففي مستوى التقسيم األول يظل أمينًا لطروحات ابن قتيبة،
يرى أن من أبيات الشعر ما "تخلب معانيها للطافة الكالم فيها" ( .)132ويدقق هذا
النوع أكثر في عودة أخرى تحت هذا الوصف الشامل للمعنى "الصحيح البارع
الحسن ،الذي قد أبرز في أحسن معرض وأبهى كسوة ،وأرق لفظ" ( ،)133وإ ذا
كان هذا يقابل ما حسن لفظه وجاد معناه لدى ابن قتيبة فإن النوع القادم الذي منه
"الحكم العجيبة والمعاني الصحيحة الرثة الكسوة ،التي لم يتنوق في معرضها الذي
برزت فيه" ( )134يتوافق مع ما ضعف لفظه وجاد معناه عند ابن قتيبة .أما
النوع اآلخر الذي خلب معرضه ولم يحسن محتواه فإنه يتحقق في "األبيات الحسنة
األلفاظ المستعذبة الرائقة سماعًا ،الواهية تحصيًال ومعنى ،وإ نما يستحسن منها
اتفاق الحاالت التي وضعت فيها ،وتذّك ر اللذات بمعانيها ،والعبارة عما كان في
الضمير منها ،وحكايات ما جرى من حقائقها دون نسج الشعر وجودته ،وأحكام
رصفه وإ تقان معناه" ( .)135وإ ذا كانت أغلب األمثلة التي يضربها لهذا الضرب
خاصة هي أمثلة ابن قتيبة ،فإن في إشارته األخيرة إلى جودة النسج وإ حكام
الرصف ما يفسح المجال العتماد عنصر البنية في التقسيم ،ومن هنا يتاح لكل
المفاهيم المستخدمة في معالجة النص ممارسة حقها في الحضور ،فضًال عن أنه
يستدرك ذكر القسم الرابع الذي تأخر معناه ولفظه فيذكره
تحت وصف "األشعار الغثة األلفاظ ،الباردة المعاني ،المتكلفة النسج ،القلقة
القوافي" ( ،)136ويمثل له بأبيات اختل فيها النسج خاصة كما يبدو في عدم إيفاء
الوحدات في المستوى التوزيعي حقها ،إذ يظهر الفساد في التقديم أو التأخير وكذا
التعقيد أو التكرار ،أو فاسد االستعارة ،ثم يعيد صياغة الضرب الكامل الذي
استوفت عناصره حقها من اإلتقان فيرتقي إلى مرتبة "األشعار المحكمة المتقنة
المستوفاة المعاني الحسنة الرصف السلسة األلفاظ" (.)137
وعلى الرغم من أن المنظور القيمي في نقد المعنى ماثل في تصور ابن
طباطبا ومحكوم برأيه في الصدق ذي الشقين اللذين هما عنده :خارجي ويبدو في
ضرورة األمانة في نقل الموصوف النقل الذي ال يلحق أي تحريف أو تشويه
بخلقته ،ويتطابق فيه المعنى مع أصوله االجتماعية العقلية ،وداخلي يتجسد في
قصد الصدق في التعبير عن ذات النفس ( ،)138فإن اإللحاح على المطابقة بين
المعنى واللفظ وتحّس س نسج النص يكشف عن االهتمام بكل العناصر النصية،
- 62 -
وإ ن لم يترتب على ذلك تصور الوحدة في شكل تفاعل المستويات المختلفة ،بل
يكاد يغلب عليها مبدأ الوصف لعناصر تكاد تكتمل في ذاتها يتحقق لها نوع من
االنسجام والتأليف انطالقًا من تضام كماالت شبه مستقلة.
وتأخذ فكرة التطابق أو التشاكل مداها في معالجة ابن طباطبا مختلف القضايا
التي لها صلة بالنص ،ويتحقق ذلك ابتداء من تصور وضع القصيدة وضبط عالئق
العناصر في تتاليها المرحلي ،واألساس في ذلك االعتماد على مبدأ الصنعة ،ومن
هنا يكون واجبًا على "صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة لطيفة مقبولة حسنة،
مجتلبة لمحبة السامع له والناظر بعقله إليه ،مستدعية لعشق المتأمل في محاسنه
والمتفرس في بدائعه فيحسه جسمًا ويحققه روحًا ،أي يتقنه لفظًا ويبدعه معنى،
ويجتنب إخراجه على ضد هذه الصفة فيكسوه قبحًا ويبرزه مسخًا ،بل يسوي
أعضاءه وزنًا ويعدل أجزاءه تأليفًا" (.)139
تحتل عناصر المعنى واللفظ والتأليف مراكز فعل الصنعة ،والمحور الذي
يدور عليه هذا الفعل هو إيفاء كل عنصر حقه قصد إحداث االئتالف بينها جميعًا،
إذ ال يتحقق االئتالف في نظر ابن طباطبا إال بإيفاء العناصر حقها من اإلتقان،
فتبرز القصيدة مستوية األعضاء عمقها روح وظاهرها جسم .والحق أنه إذا كان
إمكان تصور العناصر منفردة متحققًا في هذا الوصف ،فإنه ال وجود لكيان
القصيدة التام إال بتضام هذه العناصر في شكل متناسق ،حيث إن تأكيد مبدأ
التطابق يؤول إلى تحقيق القصيدة وحدة عناصرها جملة .ويتحقق ذلك في
رصده مراحل صنعة القصيدة في قوله" :فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض
المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا ،وأعد له ما يلبسه إياه من األلفاظ
التي تطابقه ،والقوافي التي توافقه ،والوزن الذي يسلس له القول عليه .فإذا اتفق له
بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته ،وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه
من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه ،بل يعلق كل بيت
يتفق له نظمه ،على تفاوت ما بينه وبين ما قبله .فإذا كملت له المعاني وكثرت
األبيات وفق بينها بأبيات تكون نظامًا لها وسلكًا جامعًا لما تشتت منها.)140( "...
وال يهمنا في مقامنا تعقب مراحل التنقيح التي تختم مراحل الصنعة ،وإ نما يهمنا
تحسس فهمه تضام العناصر في الصنعة وكيفية تآلفها.
فإذا كان اعتماد الشاعر على وجدانه يقل في هذا المفهوم للصنعة ،ويكون
معتمده "على" عقله "في استحداث التناسب والمالءمة بين الجزء من ناحية ،وبين
األجزاء والكل من ناحية أخرى" ( ،)141وأن الشعر لديه يصبح "جيشان فكر"
- 63 -
قائمًا على الوعي التام المطلق" ()142؛ فإننا ال نعتقد أنه "من الواضح أن المعنى
الذي مخض في الفكر نثرًا ،لن يتغير جوهره ،كل ما يطرأ عليه هو تقبله للصياغة
الجديدة ،وظهوره من خالل شكل متميز ،لكن المعنى في ذاته يظل متصفًا بالحياد"
( ،)143ذلك أن "الوعي األولي بالموضوع مقتضى أساسي لإلبداع" (،)144
فمخض المعنى في الذهن نثرًا ،إنما هو استحضار األغراض أو المقاصد ،هو
االنطالق من المعاني الملقاة في الطريق .وعندما يتكامل فعل الصنعة يتحقق
للشاعر "بيت يشاكل المعنى الذي يرومه" ،وما دام البيت نفسه يمثل خالصة تشاكل
معنى ولفظ ووزن وقافية ،فهو في كيانه الكامل يتوافق مع المرام والقصد ،هذا
األخير الذي يشكل أرضية القول ،ولو كان المعنى النثري المخيض في الذهن يظل
محتفظًا بجوهره كامًال في الصياغة الشعرية لما أمكن تحقيق البيت "الكامل" الذي
يشاكل المعنى أو الغرض المقصود ،إذ إن البيت يحتوي معناه ،ومطابقته القصد
هو تنزله وفق مقتضيات أغراض الشعر ومراميه ،يؤكد ذلك إلحاح ابن طباطبا
على مراعاة التطابق بين المعنى واللفظ وكذلك الوزن والقافية ،يقول محلًال بقية
فعل الصنعة "وإ ن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني ،واتفق له معنى
آخر مضاد للمعنى األول ،وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في
المعنى األول ،نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن ،وأبطل ذلك البيت أو
نقض بعضه ،وطلب لمعناه قافية تشاكله" ()145؛ وكل هذا يؤكد ولع ابن طباطبا
بانتقاء العناصر اللفظية والصوتية الموافقة للمعنى ،فإذا أضفنا أن هذا األخير
يشكل منطلق اإلبداع ،وأنه محكوم بقيم ثقافية راسخة في الفعل الشعري العربي
تحدد بموجبها للشاعر أغراض القول ،وحدود المعاني بحسب المقتضيات
االجتماعية واألخالقية واللغوية عامة ،أمكن اإلقرار باستحالة بقاء المعنى في
وضع محايد ،إذ "كيف إذن يبقى التالقي الموضوعاتي بدون اثر على تراكيب
اللغة" ()146؛ وما دام المنطلق هو استحضار الوعي األولي بالغرض ،فإن كل
اقتطاع من هذا األصل لبنية دالة إنما يقوم على تطابق المعنى واللفظ ،دون أن
ندعي أن تصور هذا التطابق متماثل مع الوعي بتفاعل الوحدات في السياق ،إال
أن هناك إلحاحًا على ضرورة إيفاء العنصرين الرئيسيين في النص حقهما في
التشاكل والتآلف.
ويشبه حال الشاعر في إيفاء وحدات نصه انسجامها وتآلفها حال "النساج
الحاذق الذي يفوف وشيه بأحسن التفويف ويسّد ه وينيره ،وال يهلهل شيئًا منه
فيشينه ،وكالّنقاش الذي يضع األصباغ في أحسن تقاسيم نقشه ،ويشبع كل صبغ
منها حتى يتضاعف حسنه في العيان ،وكناظم الجوهر الذي يؤلف بين النفيس منها
- 64 -
والثمين الرائق ،وال يشين عقوده ،بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها" (
.)147والقصد من هذه التشابيه المختلفة تقريب فعل الشاعر أثناء مباشرته عملية
الصنعة ،إذ إن غايتها األولى ضرورة اإلحساس العميق بكيانات العناصر المشكلة
للنص بحيث ينبغي أن تصاغ وفق مبدأ التآلف والتنسيق ،تمامًا كطرائق إخراج
الصنائع المذكورة .وهذا المبدأ يطول أبيات القصيدة كاملة دون أن يتجاوز كيان
البيت الواحد أيضًا "فال يباعد كلمة عن أختها وال يحجز بينها وبين تمامها بحشو
يشينها ،ويتفقد كل مصراع هل يشاكل ما قبله" ( .)148وعلى الرغم من أن
المشاكلة الحادثة بين األبيات وبين مصراعي البيت الواحد قائمة على أشكال من
النسبة المنطقية أو وحدة المعنى الذي يراعي التآلف العقلي ،فإن في امتداد بحثه
في النص األدبي إلى أن يغطي البنية الكلية تخفيفًا من غلواء هذه النظرة المنطقية
خاصة أن رأيه ينم عن إحساس بضرورة تحقيق صلة عميقة بين مستويات النص،
وربما لم تسعفه النماذج المتوفرة إليفاء تصوره النظري بالتطبيق المالئم ،هذا
التصور الذي تؤدي مراعاته إلى أن "تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغًا ...ال
تناقض في معانيها ،وال وهي في مبانيها ،وال تكلف في نسجها ،تقتضي كل كلمة
ما بعدها ،ويكون ما بعدها متعلقًا بها مفتقرًا إليها" (.)149
ورأيه في السرقات مؤسس على فكرة الثنائية نفسها إذ يرى أن الشاعر إذا
تناول "المعاني التي قد سبق إليها فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها لم يعب
بل وجب له فضل لطفه وإ حسانه فيه" ( .)150وإ ذا كان هذا إقرارًا بسبق المعنى
عند مباشرة صياغته ،فإن ذلك ال يعني أن إخراجه الجديد يتطابق مع صورته
القديمة.
وهذا الموقف من السرقات الشائع لدى أغلب النقاد يتماشى مع تصور المعنى
في النقد العربي القديم عمومًا ،إذ كان مجال االختراع محدودًا فيه.
وهو كالمعطى السابق يحصر حدود االختراع أو االبتداع في هامش
الصياغة التي تتجدد بها حياة هذا المعنى.
وفي السياق نفسه يكون تصوره محنة شعراء زمانه إذ يرى أنهم "قد سبقوا
إلى كل معنى بديع ولفظ فصيح ،وحيلة لطيفة ،وخالبة ساحرة" ()151؛ ومن هنا
يكون اإلغراب واألناقة في الصياغة ممر المحدثين إلى القبول "والشعراء في
عصرنا إنما يحابون على ما يستحسن من لطيف ما يوردونه من أشعارهم وبديع
ما يضربونه من معانيهم وبليغ ما ينظمونه من ألفاظهم ،ومضحك ما يوردونه من
نوادرهم ،وأنيق ما ينسجونه من وشي قولهم" ( .)152فالبليغ والبديع واالغراب
- 65 -
واألنيق كلها عالمات على رسوخ مبدأ التأنق في الصياغة وهي عناصر تطول
المعنى واللفظ والنسج حيث تكشف أن الشعرية باتت رهن اإلغراق في الصنعة،
وأنها تمس عناصر البنية كلها.
ويكون مبدأ تضام األجزاء وتطابقها لتحقيق كمال الصياغة معّو له في تحقيق
كمال الفهم المتذوق للشعر ،ذلك أنه إذا "اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة
المعنى وعذوبة اللفظ فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تَّم قبولـه له ،واشتماله
عليه ،وإ ن نقص جزء من أجزائه التي يعمل بها وهي :اعتدال الوزن ،وصواب
المعنى ،وحسن األلفاظ ،كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه" (،)153
وإ شارته إلى خطر نقصان بعض أجزاء الشعر التي يعمل بها على الفهم قد يكشف
عن فهم آلي للبنية تبدو فيه األجزاء مستقًال بعضها عن بعض ،قائمة صلتها على
مبدأ اإللصاق والتجاور ،لكن الذي يشفع البن طباطبا أنه في موقف معياري
يضطره تقصي الخطأ والصواب إلى ذكر األجزاء التي يمكن أن يطولها ،كما أن
القنوات التي يجتازها الخطاب لتحقيق التلقي محكومة بالذهن والسمع ،فكان أن
عدد المواصفات ضمن شروط التقبل العقلي والتقبل الحسي ،فكان شرط حسن
اللفظ واعتدال الوزن متمشيًا مع لذة السمع ،وضابط الصحة في المعنى مسايرًا
لشرط الذهن لقبول الخطاب – حسب رأيه – وإ ن كان كمال القبول يتحقق بأن
يكون الكالم سالمًا من جور التأليف موزونًا بميزان الصواب لفظًا ومعنى وتركيبًا
(.)154
والخالصة أن ابن طباطبا إذ يتحرك في ضوء تصوره النص على أساس من
اللفظ والمعنى ،يسمح له تبني فكرته عن التأليف أو النسج بمسح العناصر النصية
في انبساطها الكلي في شكل بنية عامة للقصيدة ،وهذه إن ظلت محكومة بشكل من
أشكال التراص ،فإن اإلحساس بضرورة تحقيق االنسجام والسالسة في النسج
حتى يتحقق للقصيدة أن تكون كالكلمة الواحدة اقترابًا من تبني فكرة عن وحدة
المستويات المختلفة في النص ،يزيده تعميقًا رأيه في تشاكل اللفظ والمعنى.
وسيتحقق لهذه المنطلقات مزيد من العمق لدى قدامة بن جعفر الذي سيصادر
أساسًا في معالجته النص على صورة المعنى وعلى فكرة االئتالف.
- 66 -
يتنزل المعنى لدى قدامة أيضًا في مستويين :مستوى العنصر الذي يشمله
وغيره من عناصر النص التركيب االئتالفي الشامل ،وهو بذلك يغدو مادة غير
مفارقة لشكلها ،ومستوى المعنى في ذاته حيث يبحث من منظور قيمته وغايته.
وفي هذا المستوى الثاني ينضبط درسه في مسارين هما :محاصرته من
منظور الغرض وتشخيصه ضمن قالب منطقي توضح فيه حدود المعنى عامة،
وهو ما أسماه بنعوت المعاني وعيوبها.
وتنّز ل المعنى ضمن خانة الغرض يحكمه قانون جماع الوصف فيه "أن
يكون المعنى موافقًا للغرض المقصود ،غير عادل عن األمر المطلوب"(،)155
وهذا يخول لقدامة تقّص ي المعاني حسب أوضاعها في األغراض مشدودًا في كل
ذلك إلى منظور الوظيفة .وأخالقية الوظيفة التي تطول الغزل أيضًا ال تضاد
الدعوة إلى الغلو ورفض االقتصار على الحد األوسط ذلك أن الغلو عنده "أجود
المذهبين"( ،)156وهو ال يعدو أن يكون امتدادًا بالموجود إلى "المثل وبلوغ النهاية
في النعت"( ،)157وهو ال يعكر أهداف الوظيفة المبتغاة ،بل يدخل ضمن تصور
مثالي غايته نشدان الفضيلة.
وإ ذا كان ضبط المعنى في المستوى السالف يفرز درس نعوت األغراض
وعيوبها كالوصف والنسيب والمراثي والمديح وغيرها( )158فإن تناوله في
المنظور العام ينحصر في رصد عالئق المعنى كما تتمّثل في صّح ة التقسيم ،وصحة
التفسير ،والتتميم ،وصحة المقابلة والمبالغة ،والتكافؤ ،وااللتفات ،ثم يخلص إلى
بحث عيوبها ويذكر إثرها عيوبًا عامة أخرى كاالستحالة والتناقض التي يوجدها
الجمع بين المعنيين المتقابلين ،ثم يذكر من عيوب المعاني إيقاع الممتنع فيها في حال
ما يجوز وقوعه ويمكن كونه ،وهذا يخالف الغلو في المعنى لينتهي إلى اعتبار
مخالفة العرف ونسبة الشيء إلى ما ليس له من هذه العيوب(.)159
وال شك أن األثر الفلسفي والمنطقي الذين يشكالن منطلقات في رصد المعنى
على هذا المستوى كانا خلف وسم قدامة بأنه "كان منحازًا إلى تقدير "المعنى"(،)160
إال أن المعنى ال يلبث أن يستحيل عنصرًا في البنية حيث يمتنع تحديد كينونة الشعر
باالستناد إلى جوهره المعنوي فقط؛ ذلك أن هذا األخير ال يعدو أن يكون مادة أولية
قابلة ألن تتشكل في صور شتى ،ومن هنا فوسم القول بالشعرية باالستناد إلى معناه
فقط خروج عن حدود المحاصرة العلمية الدقيقة للنص الشعري ،إذ إن الشعرية
يحققها اإلخراج الصوري للمعنى .فالتركيز لن يكون إال على الصياغة وهذا يكشف
عن حضور الوعي ببنية الكالم ومواصفاته الذاتية ذلك "أن المعاني كلها معّر ضة
- 67 -
للشاعر ،وله أن يتكلم فيها في ما أحب وآثر ،من غير أن يحضر عليه معنى يروم
الكالم فيه ،إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة ،والشعر فيها
كالصورة ،كما يوجد في كل صناعة من أنه ال بد فيها من شيٍء موضوع يقبل تأثير
الصور منها ،مثل الخشب للّنجارة ،والفضة للصياغة ،وعلى الشاعر إذا شرع في
أي معنى –كان -من الّر فعة والّض عة ،والّر فث والّنزاهة ،والبذخ والقناعة ،والمدح
وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة ،أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى
الغاية المطلوبة"(.)161
وإ ذا كان الموقف السابق يستدعي فسح المجال للشاعر لينتقي المعنى الذي
يريد كأن يصور تجربة شخصية أو يقصد في المدح إلى الوصف بخالف المعاني
النفسية التي رّس خها قدامة مثل أن يصف الممدوح بجمال الوجه مثًال ،فإنه يبدو أن
انفساح المجال المعنوي للشاعر ال يعني الخروج عن حدود المواصفات المحددة
للمعنى الالئق بحسب ما تتطلبه مقتضيات الوظيفة ذلك أن إزالة الحظر على
الشاعر فيما يبتغي قوله من المعنى ال يعني إزالة كل ضابط ،بل ينبغي أن يكون
االنتقاء وفق مراتب المعاني المالئمة لألغراض ،وما دام تنوع األغراض كثيرًا
فإنه يستتبعه تنوع المعاني وتفاوتها ،وحتى لو حدث أن كان الوصف مخالفًا
لمقتضى الغرض كبيتي امرئ القيس اللذين يوردهما قدامة وفيهما وصف
لمغامراته النسائية ثم يعلق أن "ليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر
فيه كما ال يعيب جودة النجارة في الخشب مثًال رداءته في ذاته"( ،)162فإنما يأتي
بالشاهد لتدعيم وجهة نظره في ضرورة قصد التجويد في القول بغض النظر عن
قيمة المعنى ،إذ لو كان الموقف عامًا لكان في إقراره فحش امرئ القيس وتجاوزه
عن هذا الفحش ،ما يبين عن مناقضته نفسه إذ يتطلب في الغزل ضد هذا المنحى
بل يشده إلى منظوره األخالقي عامة ويتسامى به إلى اعتباره المقابل لمدح
الرجال(.)163
والمهم في مقامنا أن تقديم الصياغة انطالقًا من فكرته عن صورة المعنى
ينبني عليه رفض االحتكام إلى مادة المعنى في ذاتها ،إذ ما دام المعتبر هو تجويد
الصياغة فلن يكون معيبًا على الشاعر مدحه الشيء في قصيدة ثم ذّم ه في أخرى
إن أحسن المدح والذم بل ذلك يدل عند قدامة "على قوة الشاعر في صناعته
واقتداره عليها"( .)164ومن هنا فالطرافة واالستغراب في المعاني ليست من
عالئم الجودة في شيء" إذا كانت المعاني مما ال يجعل القبيح منها حسنًا لسبق
السابق إلى استخراجها كما ال يجعل الحسن قبيحًا للغفلة عن االبتداء"(.)165
- 68 -
فإخراج الصورة للمعنى هو الغاية ،وهذا ال يعني تجاهًال للمعنى بل إقرارًا
باستحالته محتوى ال يمكن ضبطه إال ضمن خواصه الصورية؛ ذلك أن تطبيقه
المبدأ الفلسفي في الهيولى والصورة "حين رد ماهية الشعر إلى شكله"( )166ال
يعني إهماًال للمعاني الشعرية بل ذلك يؤكد حضورها في النص حضورًا "غير
مفارق للصورة أو الشكل"( ،)167وهذا الوعي بصورة المعنى واإلحساس بتالحم
المادة وصورتها هو الذي هيأ لبحث ائتالف عناصر النص ،هذا البحث الذي يمر
إلى درسه عقب تعرضه لهذه العناصر أفرادًا حسب ما حدده منهجه الخاضع
لمنظور منطقي في التصنيف.
أما مستوى البحث في عناصر البنية أفرادًا فيظهر في تقصيه خصائص
المعنى واللفظ والوزن والقافية ليتسنى لـه إحداث أوجه التآلف بينها جميعًا ضمن
ثنائيات ضامة لكل عنصرين على حدة وكانت هذه المباشرة المفككة للعناصر من
مقتضيات منهجه.
ويأتي عقب المعنى الذي أواله أهمية بالغة –كما أشرنا في ما سلف -اللفظ
الذي يشترط فيه "أن يكون سمحًا ،سهل مخارج الحروف من مواضعها ،عليه
رونق الفصاحة ،مع الخلو من البشاعة"( ،)168ويعتني في وصف اللفظ بجوانب
التلفظ مع ذكر الفصاحة عمومًا دون تحديد خصائصها ،ويمكن القول إن الوصف
في النص السابق يتعلق ببنية الكلمة إجماًال.
لكنه عندما يتعرض لذكر عيوب اللفظ يتجاوز المستوى السابق ،حيث يرى
أن من هذه العيوب استعمال الحوشي من الكالم ،وجريه على غير سبيل اإلعراب
واللغة ،ومنها أيضًا المعاضلة التي يحددها باالستناد إلى رأي ألحمد بن يحيى
المعروف بثعلب :بأنها مداخلة الشيء في الشيء ،ثم يدقق التعريف بقولـه" :فمن
المحال أن تنكر مداخلة بعض الكالم في ما يشبهه من وجه أو في ما كان من
جنسه ويقي النكير إنما هو في أن يدخل بعضه في ما ليس من جنسه .وما هو غير
الئق به وما أعرف ذلك إال فاحش االستعارة"( .)169وال يعنينا موقف النقاد من
فهم قدامة للمعاضلة بهذا الشكل ،إنما يعنينا اإلشارة إلى أن بحثه اللفظ يطول
الداللة ،إذ أن كل قصد للتجوز في الكالم باستعمال االستعارة حسنة كانت أم
قبيحة ،إنما يتم باالرتكاز على معاني األلفاظ ومن هنا يشمل بحثه اللفظ مستوى
الداللة ليومئ إلى المستوى التركيبي أيضًا ،إذ إن التنبه إلى أثر اللحن في
اإلعراب ال يقوم إال على الوعي بعالئق الوحدات في التركيب.
ثم ينتقل إلى المستوى الصوتي ليفرع منه درس الوزن والقافية مشترطًا في
- 69 -
الوزن "أن يكون سهل العروض"( ،)170وفي القافية "أن تكون عذبة سلسة
المخرج"( .)171وما دامت "بنية الشعر" إنما هي التسجيع والتقفية( ،)172وهو
إحساس باإلخراج الشعري المتميز للقول بتأسيسه على عالئق االنتظام اإليقاعي
للصوت إذ كلما كان الشعر أكثر توظيفًا لهذه الخصائص الصوتية وأكثر اشتماًال
عليها "كان أدخل له في باب الشعر وأخرج له عن مذهب النثر"( .)173أقول ما
دامت بنية الشعر كذلك يكون منطقيًا إلحاحه على ضرورة االعتناء بالتوافقات
الصوتية كما تتجسد في التصريع والترصيع ،ذلك أن قصد الشعراء إنما هو
"المقاربة بين الكالم بما يشبه بعضه بعضًا"(.)174
وإ ذا كان مبدأ المقاربة في الكالم يتحقق حسب ما سلف في اعتماد إيراد
المتشابهات في المستوى التوزيعي للكالم بحيث يتم فيه لألصوات التناغم
واالنسجام باعتماد التكرار في العناصر الصوتية أو توزيعها وفق نسبة زمنية
متوافقة ،فإن أشكاًال من المقاربة تمثل عناصر النص جملة يحكمها مبدأ واحد هو:
االئتالف تحقق لمستويات النص المختلفة باعتمادها أشكاًال من التوافقات التي تتيح
لـه أن يخرج منسجمًا متناغمًا ،ذلك أن "مؤلف الكالم البليغ الفصيح ،واللفظ
المسجع الصحيح ،كناظم الجوهر المرصع ،ومركب العقد الموشح ،يعد أكثر
أصنافه ،ليسهل عليه إتقان رصفه وائتالفه"(.)175
ويشكل مبدأ االئتالف منظورًا شامًال لكل مقاربة تحليلية للنص بدءًا من
ضبط حد الشعر الذي يصاغ وفق محاصرة شاملة لكل العناصر المشكلة له ،فهو
"لفظ موزون ُم قّفى يدل على معنى" ( ،)176إلى تشخيص أشكال التآلف الضابطة
للعناصر.
واألساس المنطقي الذي كان خلف ضبط حد الشعر يكون المسؤول عن
تفكيك البنية في هذه المقابالت الثنائية في شكل تتراص فيه العناصر إلى أن يكتمل
البناء.
وإ ذا كنا سنؤخر القول في بحث ائتالف اللفظ والمعنى إذ سيؤول بحث هذه
العالقة إلى اإلقرار بالطاقة اإليحائية للغة وقدراتها على التكثيف ،فإن ائتالف
اللفظ والوزن يكشف عن مفهوم أقرب ما يكون إلى الكم يرصد عالئق الوزن
باأللفاظ والعبارة في مستوى البنية الصرفية والتركيبية من منظور خارجي يكون
التآلف فيه في انسجام الوزن وهيآت الكالم ،وهو وإ ن طال الداللة ،إال أن المعتبر
هو الكم حيث ال ينبغي أن يطرأ على هذه العالقة المتآلفة زيادة أو نقص يكون من
شأنهما اإلخالل بالعبارة أو الغرض ،فائتالف اللفظ والوزن يتحقق بأن "تكون
- 70 -
األسماء واألفعال في الشعر تامة مستقيمة كما بنيت لم يضطر األمر في الوزن إلى
نقضها عن البنية بالزيادة عليها أو النقصان منها ،وأن تكون أوضاع األسماء
واألفعال والمؤلفة منها وهي األقوال على ترتيب ونظام لم يضطر الوزن إلى
تأخير ما يجب تقديمه ،وال إلى تقديم ما يجب تأخيره منها ،وال اضطر أيضًا إلى
إضافة لفظة أخرى يلتبس المعنى بها ،بل يكون الموصوف مقدمًا والصفة مقولة
عليها ...ومن هذا الباب أيضًا أن ال يكون الوزن قد اضطر إلى إدخال معنى ليس
الغرض في الشعر محتاجًا إليه ،حتى إذا حذف لم تنقص الداللة لحذفه أو بإسقاط
معنى ال يتم الغرض المقصود إال به ،حتى إن فقده قد أّثر في الشعر تأثيرًا بان
موقعه"(.)177
ويكشف هذا االئتالف عن تصور احتوائي يقوم بين الوزن والمعنى مما
يؤدي إلى ترسيخ فكرة الوزن القالب ،إذ ال يبدو في فهم قدامة أن الوزن انبعاث
لتناغم األصوات في البيت كما تشكلها بنية النص المتفاعلة عناصرها في
المستويات المختلفة ،حيث يتسنى للداللة االمتداد إلى المستوى الصوتي أيضًا ،وإ ذ
ذاك ال يمكن تصور الوزن مفارقًا أو كالمفارق لباقي المستويات ،ويؤكد هذا
المنحى في التصور نعته ائتالف المعنى والوزن حيث يتحقق بأن "تكون المعاني
تامة مستوفاة لم تضطر بإقامة الوزن إلى نقصها عن الواجب وال إلى الزيادة فيها
عليه"(.)178
فكأن إقامة الوزن أمر طارئ على معاٍن مكتملة قد يوقعها االضطرار في
عيوب "منها المقلوب :وهو أن يضطر الوزن الشاعر إلى إحالة المعنى وقلبه إلى
خالف ما قصد به .ومنها :المبتور :وهو أن يطول المعنى عن أن يحتمل
العروض تمامه في بيت واحد فيقطعه بالقافية ويتمه في البيت الثاني"(.)179
فمقتضى االنسجام يستوجب تكّيف كل طرف مع اآلخر بحيث ال ينتج عن محاولة
االئتالف هذه وتكلف إخراج القول في نسق واحد أدنى اضطراب وقلق.
وتتنزل القافية في صلتها بالمعنى ضمن هذا المجرى الذي يقتضي التحام القافية بما عداها من
عناصر المعنى في البيت ،ومن هنا تتجسد أبرز عيوبها في أن يؤتى بها "ألن تكون نظيرة ألخواتها في
السجع ،ال ألن لها فائدة في معنى البيت"" ،أو أن تكون مستدعاة قد تكلف في طلبها فاستعمل معنى سائر
البيت"( ،) 180لذلك وجب أن يكون تعلق القافية بما تقدم من معنى البيت" :تعلق نظم له ومالءمة لما مّر
فيه"( .) 181ويتحقق هذا التعلق الالحم للقافية بسائر المعنى في أشكال من االئتالف كاإليغال والتوشيح
حيث يمثل هذا األخير النموذج األوفى لهذه الصلة "وهو أن يكون أول البيت شاهدًا بقافيته ومعناه متعلقًا
به حتى إن الذي يعرف قافية القصيدة التي البيت منها إذا سمع أول البيت عرف آخره وبانت له قافيته.
مثال ذلك قول الراعي:
- 71 -
فإذا سمع اإلنسان أول هذا البيت استخرج منه لفظة قافيته ،ألنه يعلم أن قوله
وزن الحصى سيأتي بعده رزين لعلتين :أحدهما :أن قافية القصيدة توجبه،
واألخرى :أن نظام المعنى يقتضيه ألن الذي يفاخره برجاحة الحصى يلزمه أن
يقول في حصاه أنه رزين"( )182فليست القافية في هذا التصور عنصرًا موسيقيًا
يؤتى به إلحداث االنسجام الصوتي فحسب ،وإ نما هي عنصر حيوي في لحمة
النظام المعنوي لمجمل البيت.
وأخيرًا يتحقق جوهر االئتالف في عالقة اللفظ بالمعنى التي تمثل قطب
الرحى لمجمل عالئق العناصر في البنية الشاملة ،وتبرز بموجبها عالقة المعنى
بصورته في أشكال من التآلف ،تبدو أحيانًا تطابقًا للعنصرين في نفس الحّيز الذي
تشغله مساحة المعنى أو مساحة اللفظ ،ويكون ذلك في ما سمي بالمساواة بين
الطرفين" وهو أن يكون اللفظ مساويًا للمعنى حتى ال يزيد عليه وال ينقص عنه"(
.)183ويتحقق ذلك بأن تكون "األلفاظ قوالب للمعاني" حيث تتم التسوية بين
الطرفين ،فال تفاضل في المقدار بينهما .وتأخذ العالقة أحيانًا أخرى خاصية
"التلميح" التي تحقق كثافة في المعنى بحيث "يكون اللفظ القليل مشتمًال على معان
كثيرة بإيماء إليها ،أو لمحة تدل عليها"( .)184وعدم التكافؤ بين الطرفين ال يعني
اإلخالل ،وإ نما هو استغالل اإلمكانات التعبيرية الكامنة في اللغة التي تنفي عن
صالت الطرفين كل مباشرة وتغدو الداللة بموجب هذا البناء المتكاثف محصلة
الروابط الخفية بين الدوال والمدلوالت ويتعمق ذلك في اإلرداف "وهو أن يريد
الشاعر داللة على معنى من المعاني فال يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى ،بل
بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له ،فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع"(
،)185وفي التمثيل "وهو أن يريد الشاعر إشارة إلى المعنى فيضع كالمًا يدل
على معنى آخر وذلك المعنى اآلخر والكالم ينبئان عما أراد أن يشير إليه"(.)186
ولقد أولى غير قدامة اإليحاء في اللغة عناية ،إال أن تنزيله لدى قدامة ضمن
فكرته عن االئتالف عامة ترسيخ لعالقات العناصر النصّية في وحدة ضامة لكافة
المستويات تتألف في إطارها هذه العناصر في كيان شامل لها جميعًا ،لكن هذه
الوحدة الشاملة ال تقوم على وعي بتفاعل العناصر في بنية تجعل مستحيًال إمكان
تصور أي عنصر خارج إطارها البنيوي العام ،ذلك رغم أنه "أدخل المفهوم
األساسي لالئتالف فهو ال يفضي بفضله إلى دراسة القصيدة بصفتها عنصر تنظيم
عام ،لكنه يجري في الواقع تصنيفًا منطقيًا مدرجًا دراسة العالقات الوسطية
عوض التحليل البنيوي الحقيقي الهادف إلى فهم اآلليات الداخلية"(.)178
- 72 -
إال أنه رغم ضوابط التصنيف المنطقي ،وانتهاء مشروع قدامة التأليفي
بمواجهة كل عنصر في البنية على حدة ،ثم إدراجه في عالقات توافق مع غيره،
فإن كل ذلك ال يقلل من محاولته الكشف عن تكامل العناصر النصية في كون
جامع يغدو بموجبه المعنى متآلفًا مع بقية طبقات النص .ويتأكد بذلك إحساسه
العميق بحضور العناصر النصية بكياناتها البارزة حيث ينتفي عنها دور الوسيط
المشير إلى المعنى فقط ،بل تغدو خصائص اإلشارة ترسيخًا لوعي بالنص
"وأحسن البالغة الترصيع ،والسجع واتساق البناء ،واعتدال الوزن ،واشتقاق لفظ
من لفظ ،وعكس ما نظم من بناء ،وتلخيص العبارة بألفاظ مستعارة ،وإ يراد
األقسام موفورة بالتمام ،وتصحيح المقابلة بمعان متعادلة ،وصحة التقسيم باتفاق
النظْم ،وتلخيص األوصاف بنفي الخالف ،والمبالغة في الرصف بتكرير الوصف،
وتكافؤ المعاني في المقابلة ،والتوازي ،وإ رداف الالحق ،وتمثيل المعاني"(.)188
فقدامة بن جعفر الذي أسس تصوره النص األدبي باالستناد إلى مقولة
االئتالف تمكن ،رغم المنطلقات المنطقية ،من أن يمتد بنظرته لتعانق عناصر
النص المختلفة في منهج صارم انتظمت خطوطه بنية كتاب "نقد الشعر"،
وتوزعت على إثرها مسائل النص ومستوياته .واستطاع أن يدلل على فكرة
اإلخراج الصوري للمعنى ببحث دقائق هذا اإلخراج وبتتبع عالئق عناصر النص
المتوافقة ألحداث الداللة .وبه كملت حلقة من حلقات البحث النقدي والبالغي عند
العرب طرحت أغلب األسس التي سيعتمد عليها الالحقون في تقصّيهم مسائل
النص األدبي وتجلية قضاياه.
- 73 -
ص.38 :
( )7ينظر :المجدوب البشير ،تحليل نقدي لمفهوم النثر الفني عند القدامى ،ضمن :قضايا األدب
العربي ،ص.344 :
( )8ينظر :ألفت كمال الروبي ،نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين ،ص.149 :
( )9منهاج البلغاء وسراج األدباء ،ص.144-143 :
( )10طبقات فحول الشعراء ،ص.56 :
( )11مالحظات حول مفهوم الشعر عند العرب ،ضمن قضايا األدب العربي ،ص.236 :
( )12البشير المجدوب ،تحليل نقدي لمفهوم النثر الفني عند القدامى ،ص.345 :
( )13الحيوان ،1ص.75-74 :
( )14البيان والتبيين ،1ص.144 :
( )15البيان والتبيين ،1ص.20 :
( )16نفسه ،1ص.24 :
( )17نفسه ،1ص.204 :
( )18نفسه ،ص .14 :ينظر أيضًا :عبد السالم المسدي ،البيان والتبيين بين منهج التأليف ،ص:
.131
( )19عبد الحكيم راضي ،النقد اللغوي في التراث العربي ،ص.84 :
( )20الجاحظ ،البيان ،1ص.161 :
( )21الجاحظ ،كتاب التربيع والتدوير ،ص.20 :
( )22الجاحظ ،البيان ،1ص.14 :
( )23نفسه ،2ص .8 :وللتعرف على هذه الصفات ومراتبها ينظر :حمادي صمود ،التفكير
البالغي ،ص 263 :وما بعدها .عبد السالم المسدي ،قراءات ،ص.132-131 :
ميشال عاصي ،مفهوم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ ،ص.169 :
( )24رسائل الجاحظ ،1ص.262 :
( )25نفسه .ينظر :الرسائل بتحقيق الحاجري ،ص.100 :
( )26نفس المصدرين ،على التوالي.107-271 :
( )27الجاحظ ،البيان ،1ص.136 :
( )28الجاحظ ،الحيوان ،6ص .8 :ينظر أيضًا :الحيوان ،3ص .39 :البيان ،1ص.145 :
( )29الجاحظ ،البيان ،4ص.28 :
( )30الجاحظ ،رسالة في مدح التجار وذم عمل السلطان ،مجموع ساسي ،ص ،159 :بداللة
حمادي صمود ،التفكير البالغي .146 :هامش.2 :
( )31نفسه .ينظر :الرسائل .262 :1الرسائل بتحقيق الحاجري.100 :
( )32ميشال عاصي .مناهج الجمالية والنقد في أدب الجاحظ.168 :
- 74 -
( )33الجاحظ ،البيان .93-92 :1ينظر :حمادي صمود ،التفكير البالغي.286 :
( )34الحيوان .365 :3
( )35الجاحظ ،البيان .75 :1
( )36نفسه .83 :1وكذا .107-106 :والجزء .7 :2
( )37حمادي صمود ،التفكير البالغي.280 :
( )38الجاحظ ،كتاب التربيع والتدوير.90 :
( )39الجاحظ ،البيان .113-111 :1
( )40عبد السالم المسدي ،قراءات.140 :
( )41حمادي صمود ،التفكير البالغي.277 :
( )42البيان .117-116 :1لمزيد من االّطالع على استغالل الجاحظ لهذه الطاقة ومختلف
االصطالحات المعتمدة .ينظر :عبد السالم المسدي ،البيان والتبيين بين منهج التأليف:...
.143-142-141
الجاحظ ،مجموع ساسي.162 : ()43
الجاحظ ،الرسائل .307 :1 ()44
الجاحظ ،الحيوان .75-72 :3 ()45
وهذا الحضور لذات الخطاب هو الذي يميز وظيفته اإلنشائية ،ينظر: ()46
.R. JAKOBSON, Essais de Linguistique Général, T. 1, p. 218
( )47سورة الواقعة ،اآلية.19 :
( )48الجاحظ ،الحيوان .86 :3
( )49الجاحظ ،البيان .376 :3
( )50عبد القاهر ،أسرار البالغة .136-135 :ينظر أيضًا :إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي
عند العرب.432-431 :
( )51الجاحظ ،البيان .90-89 :1
( )52الجاحظ ،البيان .144 :1وكذلك.378-137 :
( )53الجاحظ ،الحيوان .90 :1
( )54الجاحظ ،البيان .92 :1
( )55الجاحظ ،البيان .9 :2
( )56نفسه .204 :1
( )57نفسه.
( )58نفسه .14 :2
( )59الجاحظ ،البيان .14 :2
( )60نفسه .137 :1
- 75 -
( )61الجاحظ ،الرسائل بتحقيق الحاجري.219 :
( )62الجاحظ ،البيان .114 :1
( )63نفسه .254 :1
( )64الجاحظ ،الحيوان .7 :1
( )65الجاحظ ،البيان .146 :1
( )66الجاحظ ،الحيوان .282 :1
( )67الجاحظ ،الحيوان .75-74 :1
( )68الجاحظ ،الحيوان .132-131 :3
( )69ينظر :شكري عياد .م :المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العربية:
.10حمادي صمود ،التفكير البالغي.275 :
( )70شكري عياد ،المؤثرات الفلسفية.10 :...
( )71ينظر :عبد القادر الجرجاني ،دالئل اإلعجاز.181 :
( )72إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي عند العرب.424 :
()73الجاحظ ،الحيوان .312-311 :3
( )74الجاحظ ،الحيوان ...21 :7 .457-456 -325 :6 .167 :4 .353 -93 :2
( )75الجاحظ ،الحيوان .476 :3
( )76شكري عياد ،كتاب أرسطو طاليس في الشعر.248 :
( )77إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي.424 :
( )78نفسه.107 :
( )79إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي.100 :
( )80نفسه.98 :
( )81سبق الوعي بمسائل التركيب في مؤلفات السابقين من اللغويين التي ستمثل منطلقات البحث
في قضايا النظم ،خاصة في بيئات المتكلمين.
ينظر :سيبويه .الكتاب ...56 :1أبو عبيدة .مجاز القرآن -35-31-13-138 :1
.173 -36الفراء .معاني القرآن .256-202 .44 -43 .24-23 .14-13 :1جـ
.467 ،416 ،308 :2ابن سالم .طبقات فحول الشعراء .135-132-39 :1جـ:2
..535من الدارسين المعاصرين ينظر :حمادي صمود .التفكير البالغي.121-120 :
( )82عبد السالم المسدي .قراءات.134 :
( )83حمادي صمود .التفكير البالغي.295 :
( )84ينظر :الجاحظ .الحيوان .86 :3ذكرنا النص في بحث اإليحاء.
( )85الجاحظ .البيان .24 :4
( )86الجاحظ .الحيوان .10 :1ينظر :الرسائل .تحقيق الحاجري.175 :
( )87الجاحظ ،الرسائل ،تحقيق الحاجري.88 :
- 76 -
( )88الجاحظ ،الحيوان .9 :1
( )89الجاحظ ،العثمانية.16 :
( )90الجاحظ ،البيان .28 :3
( )91الجاحظ ،البيان .66-65 :1
( )92نفسه .66 :1
( )93نفسه .67 :1
( )94ينظر :البيان ...287-89 :1
( )95البيان .138 :1
( )96الجاحظ ،مجموع ساسي.160 :
( )97الجاحظ ،البيان .30 :4
( )98الجاحظ ،البيان .69 :1
( )99مثلما اعتبره حمادي صمود ،حيث ضمنه معنى التآلف الصوتي ،ينظر :التفكير البالغي
عند العرب.289 :
( )100نفسه .506-205 :1
( )101نفسه .206 :1
( )102نفسه .67 :1
( )103مصطفى ناصف ،نظرية المعنى في النقد العربي.39 :
( )104ابن قتيبة ،تأويل مشكلة القرآن.3 :
( )105نفسه.14 :
( )106ابن قتيبة ،الشعر والشعراء .69 :1
( )107نفسه .73-72 :1
( )108طه أحمد إبراهيم ،تاريخ النقد األدبي عند العرب.118 :
( )109ابن قتيبة ،الشعر والشعراء .92 :1
( )110ابن قتيبة ،الشعر والشعراء .92 :1
( )111نفسه .66 :1
( )112ينظر :الشعر والشعراء .64-63 :1تأويل مشكل القرآن .14 :عيون األخبار :2
.185
( )113ابن قتيبة ،تأويل مشكل القرآن.131 :
( )114حمادي صمود ،التفكير البالغي.334 :
( )115ابن قتيبة ،الشعر والشعراء ...311-297-216-170 :1المعاني الكبير .283 :1
( )116ابن قتيبة ،الشعر والشعراء .68 :1
( )117ابن قتيبة ،الشعر والشعراء .68 :1
- 77 -
( )118نفسه.
( )119نفسه .66 :1
( )120ابن قتيبة ،الشعر والشعراء .67-66 :1
( )121نفسه .68-67 :1
( )122إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي.108 :
( )123ابن قتيبة ،تأويل مشكل القرآن.16 :
( )124سورة األنفال ،اآلية.85 :
( )125ابن قتيبة ،تأويل مشكل القرآن.16 :
( )126ومبدأ المشاكلة يبدأ في الشيوع عند النقاد بدءًا من القرن الثالث بتأثير من الجاحظ ال شك.
ينظر :ابن المدبر ،الرسالة العذراء في موازين البالغة ضمن رسائل البلغاء-230 :
.242-231الصولي ،أخبار البحتري .137-136 :ابن وهب ،البرهان.186 :
( )127ابن طباطبا ،عيار الشعر.11 :
( )128ابن طباطبا ،عيار الشعر.8 :
( )129جابر عصفور ،مفهوم الشعر.42 :
( )130ابن طباطبا ،عيار الشعر.127 :
( )131نفسه.4 :
( )132ابن طباطبا ،عيار الشعر.85 :
( )133نفسه.89 :
( )134نفسه.87 :
( )135نفسه.83 :
( )136ابن طباطبا ،عيار الشعر .67 :ينظر أيضًا.102-40 :
( )137نفسه.49-48 :
( )138نفسه.121-120 :
( )139ابن طباطبا ،عيار الشعر.121 :
( )140ابن طباطبا ،عيار الشعر.5 :
( )141عبد الحميد يونس ،األسس الفنية للنقد األدبي.54 :
( )142إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي.136 :
( )143جابر عصفور ،مفهوم الشعر.45 :
(.J. E. BENCHEIKH, Poétique Arabe, p. 122 )144
( )145ابن طباطبا ،عيار الشعر .5 :ينظر.128 :
(.J. E. BENCHEIKH, Poétique Arabe, p. 122 )146
( )147ابن طباطبا ،عيار الشعر.6-5 :
- 78 -
( )148ابن طباطبا ،عيار الشعر.124 :
( )149نفسه.127-126 :
( )150نفسه.76 :
( )151ابن طباطبا ،عيار الشعر.9 :
( )152نفسه.
( )153نفسه.15 :
( )154نفسه.14 :
( )155قدامة ،نقد الشعر .91 :ينظر.96-184 :
( )156نفسه.94 :
( )157نفسه.
( )158نفسه 95 :وما بعدها.
()159
( )160إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي.190 :
( )161قدامة بن جعفر ،نقد الشعر.66-65 :
( )162نفسه.66 :
( )163نفسه .136-164 :ينظر أيضًا :إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي.212 :
( )164قدامة ،نقد الشعر.66 :
( )165نفسه.152 :
( )166شكري عّياد ،م :المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العربية.11 :
( )167جابر عصفور ،مفهوم الشعر.195 :
( )168قدامة ،نقد الشعر.74 :
( )169نفسه.175-174-172 :
( )170نفسه.78 :
( )171نفسه.86 :
( )172نفسه.90 :
( )173نفسه.
( )174نفسه.85 :
( )175قدامة ،جواهر األلفاظ.2 :
( )176قدامة ،نقد الشعر.64 :
( )177نفسه .165 :ينظر لتقصي عيوب ائتالف اللفظ والوزن التي منها :الحشو والتثليم
والتذنيب ...وهي تفصيل ما أجمله في النص السابق.208-207-206 :
( )178نفسه.166 :
- 79 -
( )179نفسه.209 :
( )180نفسه.210 :
( )181نفسه .167
( )182نفسه.
( )183نفسه153 :
( )184نفسه.155-154 :
( )185نفسه.157 :
( )186نفسه .160 :جواهر األلفاظ.8-7 :
(.J. E. BENCHEIKH, Poétique Arabe, p. 98 )187
( )188قدامة ،جواهر األلفاظ.3 :
- 80 -
الفصل الثاني:
النص األدبي بين ثنائية اللفظ
والمعنى والفصاحة والبالغة حتى ابن رشيق
لم يكن قصدنا مقاربة تصور الذهن العربي اإلسالمي إلشكال اللفظ والمعنى
من منظور تاريخي يتنامى فيه الرصد وفق تتابع الفكرة ،إنما هدفنا تحّس س هذا
التصور لدى الطوائف التي نخصها بالبحث وفق ما يستوجبه منطق منهجه الذي
يقتضي أن نخص كل فئة أو تيار بوقفة أو وقفات ،فكان أن انتهت دورة النقاد
األولى بقدامة بن جعفر ،وبه اكتمل رأي في النص األدبي ينوع في أشكال معالجته
له بدءًا من اإللحاح على ضرورة التشاكل والتطابق بين المعنى واللفظ التي
ستصل إلى نضوجها في المصادرة على فكرة صورة المعنى المطروحة من أيام
الجاحظ ،إلى فكرة االئتالف الضام لعناصر النص المختلفة كما رأينا ذلك عند
قدامة بن جعفر.
والواقع أن النقاد الذين نخصهم بهذه الوقفة بدءًا من أصحاب الموازنات ،ثم
بعض البالغيين كأبي هالل العسكري وابن سنان الخفاجي اللذين تزاوج الطرح
عندهما في بحث إشكال اللفظ والمعنى بإشكال الفصاحة والبالغة ،إلى فئة من نقاد
القرن الخامس الهجري كالمرزوقي والشريف المرتضى وابن رشيق ،دون أن
نجزم بانفصال حقل البالغة عن حقل النقد لدى هؤالء ولدى غيرهم أيضًا ،كان
بين أيديهم وواكبهم نتاج وافر في الميدان ،تجّس ده إنجازات النقاد السابقين ،وتمّثل
أيضًا في أعمال متفلسفة في اإلسالم في مجال النقد األدبي والبالغة انطالقًا من
- 81 -
مختصرات الكندي إلى آراء الفارابي مع اإلشارة إلى طروحات أبي حيان
التوحيدي واجتهادات مسكويه وتشعبات آراء فالسفة القرن الرابع في األدب نثره
وشعره عامة ،وفي معضلة اللفظ والمعنى خاصة كما تبلوره أيضًا طائفة
المتكلمين التي استقطب نتاجها مبحث إعجاز القرآن كحال الجاحظ في مؤلفه الذي
لم يصلنا ،وما يمكن أن يكون قد بّثه الواسطي في الموضوع مما تضمنه كتابه في
إعجاز القرآن أيضًا ،إلى المعالجة المتقّد مة كما يجسّد ها الرماني والخطابي
فالباقالني وغيرهم ،هذه الفئات المتعاصرة والمتداخلة كان يمكن أن تتيح للنقاد
الذين ندرسهم في هذا الموضع مزيدًا من تعميق البحث في إشكال اللفظ والمعنى،
إال أن هؤالء ظلوا في األغلب -أمناء لطروحات السابقين وخاصة الجاحظ
وقدامة -فيما يخص قضيتنا طبعًا -ولم يتمكنوا من إضافة الجديد الحق باستثناء
بعض التفريعات والتشقيقات أحيانًا ،دون أن ننسى محاولة هذا الناقد أو ذاك تنزيل
عمله في إطار عام كاإلشكال الذي انطلق منه اآلمدي والقاضي الجرجاني
المتمحور حول قضية الموازنة والوساطة التي ستشكل بدايتنا في قراءة آراء
هؤالء النقاد والبالغيين.
- 82 -
إطاره النظري المؤسس لمنطلقات كل طرف ،مع توثيق التنظير بتفريعات التمثيل
والتحليل ألبرز كتابات الطرفين.
من هنا تتنّز ل الموازنة والوساطة في جوهر هذه األعمال إذ نمثل بهما
ألصحاب الموازنات عامة ،لكّننا ال ندعي أن الفواصل كانت حاسمة بين التيارين،
ففي الشعر مثًال ،ال يمكن وضع البحتري بمنأى عن تلطيف المعنى واستغالل
الشائع من الثقافة الفلسفية إذ له مثاليته الخاصة( ،)1أما في النقد فإنه على الرغم
من أن اآلمدي ال يخفي موقفه من االنتصار لمذهب عمود الشعر العربي ،فإنه ال
يجد ُبّد ًا من االنطالق من أصول فلسفية عامة يبني عليها رأيه في طريقتي الكتابة
اللذين يمّثلهما كل من البحتري وأبي تمام.
فاآلمدي إذ يهدف إلى توفير شروط االقتناع بصحة رأيه في الشعر وميله إلى
القديم يضع تصوره هذا ضمن نطاق شامل لكل صناعة باالعتماد على فكرة العلل
األربع ،ذلك "أن صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات ال تجود وتستحكم إال
بأربعة أشياء وهي :جودة اآللة ،وإ صابة الغرض المقصود ،وصحة التأليف،
واالنتهاء إلى تمام الصنعة من غير نقص فيها وال زيادة عليها"( ،)2ثم يدّقق هذه
المصطلحات مقتربًا من المصطلح المعتمد لدى الفالسفة ذاكرًا أن كل محدث
مصنوع يحتاج إلى أربعة أشياء" :عّلة هيوالنية وهي األصل ،وعّلة صورية،
وعّلة فاعلة ،وعّلة تمامية"( ،)3ليخلص إثر ذكر أنموذج الخلق عامة مصداقًا لهذه
المبادئ أو العلل إلى التطبيق على فعل الصنعة الذي يشمل كل مصنوع ،بما في
ذلك الشعر ،ذلك أنه ال يستقيم فعل الصنعة "إال بهذه األشياء األربعة ،وهي :آلة
يستجيدها ويتخيرها مثل خشب النجار ،وفضة الصانع ،وآجر البناء ،وألفاظ
الشاعر والخطيب ،وهذه هي العّلة الهيوالنية التي قّد موا ذكرها وجعلوها األصل.
ثم إصابة الغرض فيما يقصد الصانع صنعته ،وهي العّلة الصورية التي ذكروها.
ثم صحة التأليف حتى ال يقع فيه خلل وال اضطراب ،وهي العلة الفاعلة .ثم أن
ينتهي الصانع إلى تمام صنعته من غير نقص منها وال زيادة عليها ،وهي العّلة
التمامية .فهما قول جامع لكل الصناعات والمخلوقات.
فإن اتفق اآلن لكل صانع بعد هذه الدعائم األربع أن يحدث في صنعته معنًى
لطيفًا مستغربًا كما قلنا في الشعر من حيث ال يخرج عن الغرض ،فذلك زائد في
حسن صنعته وجودتها ،وإ ال فالصنعة قائمة بنفسها مستغنية عّم ا سواها"(.)4
- 83 -
وعلى الرغم من أن توظيف هذا االقتباس لتوضيح فكرة الصنعة
الشعرية غير متطابق تمامًا مع المعاني أو الوظائف التي حددها الفالسفة للعلل
األربع( ،)5فإننا نميل إلى أن اآلمدي كان واعيًا بالمنزع الذي نحاه في استغالل
هذه المبادئ لتحديد تصّو ره الشعر وجودته ،من هنا ال نميل إلى وسمه بأنه "لم
يعرف منزلة" العلة الصّو رية" من هذه العلل األربع ،وأنها هي التي تقوم بها
الصفة الذاتية للشيء ،وكأنه توّهم من قولهم إن العلة الهيوالنية هي (األصل) وأن
العلل الباقيات فروع لها .وهو قد رأى هذه العلة الهيوالنية في األلفاظ دون أن
يالحظ أن األلفاظ دوال على معان ،ومن ثم كان بعيدًا كل البعد عن أن يبين
بطريقة فلسفية ،صفات الشعر الجّيد ،وانتهى إلى حيث بدأ من تقرير أن المعاني
اللطيفة في الشعر نافلة ليست بأصل"( .)6ذلك أن العوامل المؤدية إلى غير هذا
الموقف كثيرة.
ونالحظ بداية أن فكرة العلل األربع شائعة في األوساط الثقافية آنذاك وليست
حكرًا على فئة دون أخرى ،إذ يبدو أن هذه المصطلحات ،وخاصة مصطلح
الصورة ،رائجة التوظيف لدى الفئات المختلفة ،وليس اعتماد الجاحظ وسم
الصياغة الشعرية للمعنى بالصورة( )7سوى استغالل لهذا المنحى ،فال يمكن
لآلمدي أن يكون في منأى عن هذا الشيوع وهو يتخذ موقفًا رافضًا لكل ميل إلى
استغالل التدقيق الفلسفي في الشعر ،علمًا بأنه عاش في القرن الرابع الهجري
عصر رواج التفلسف وذيوع صيته ،ناهيك أن انتقاده قدامة بن جعفر في كتابه "نقد
الشعر" ،ومخالفته إياه في مسائل كالمدح بصفات الجمال كانت تتيح له وهو ينقد
هذا الكتاب المؤسس على فكرة التأليف واستغالل مفهوم الصورة والمادة بصريح
قول قدامة ،أن يدرك بعمق دالالت هذه المصطلحات وأن ينّز ل مفهوم الصورة
المنزلة التي تالئم المعنى الفلسفي ،ولكنه أبى مسايرة قدامة ذلك ألنه يبتغي
توظيف هذه المبادئ لخدمة أغراضه.
أما في اإلطار العام فقد ساير معهود االستعمال ،ففي شرحه الخلق اإللهي
للكائنات يرى أن "الهيوالنية فهم يعنون به :الطينة التي يبتدعها البارئ جّل جالله
ويخترعها ليصور ما شاء تصويره من رجل أو فرس أو جمل أو غيرها من
الحيوان ،أو بّر ة أو كرمة أو نخلة أو سدرة أو غيرها من سائر أنواع النبات"(،)8
فباستثناء رأيه بأن الهيولى مخلوقة تمشّيًا مع التصور اإلسالمي لفعل الخلق وهي
عند الفالسفة قديمة ،نراه مدركًا لعالقة الهيولى بالصورة ،إذ إن فحوى كالمه يؤكد
أن اختالف المخلوقات إنما هو بالصورة الطارئة على المادة "الطينة" .فالمخلوقات
- 84 -
المعددة في النص تشترك في وحدة المادة وتختلف في الصورة التي تهب كال
خصائصه ،فضًال عن أن استعماله المصطلح يكشف عن إلمامه بالتنوع في
االصطالح ،فاستعماله العّلة التمامية وهي "إن صدقنا اآلمدي في استعمال
المصطلح تساوي العّلة الغائية"( )9يكشف عن إطالعه على التنوع في
االصطالحات المستخدمة في وصف الفكرة الواحدة ،ذلك أن هذا االستخدام يعود
إلى أيام الفيلسوف الكندي(.)10
أما المهم فهو مقابل اللفظ والمعنى في هذه المبادئ األربعة ،فهل "غير خاف
أننا ال نستطيع مناقشة اآلمدي في هذا التشبيه الذي استمده من الفلسفة ،ألنه لم
يفهمه .فالعلتان األولى والثانية "الهيوالنية والصورية" تقابالن في الشعر ما أطلق
عليه النقاد العرب اسمي "اللفظ والمعنى"()11؟ والحق أن التقابل لم يكن بهذه
الكيفية دائمًا ،إذ من النقاد من قابل –حقًا -بين الهيولى والصورة والمعنى واللفظ
كقدامة مثًال ،ومن تأثره كأسامة بن منقذ ،والنواجي( .)12ومن النقاد من اعتبر
الهيولى مقابًال لأللفاظ ،ألنه يعتبر موضوع الصنعة الشعرية لأللفاظ وحسن
تأليفها ،ومن هؤالء اآلمدي وابن سنان وكالهما انتقد قدامة وأفاد منه ،وكذلك
المواعيني الذي عرض إحسان عباس رأيه في الموضوع(.)13
وتأسيسًا على ما سلف لم يهمل اآلمدي المعنى إذ يتنّز ل عنده في مرتبتين:
مرتبة يكون المعنى فيها كاألمر البديهي يسميه المعنى المكشوف( ،)14إذ إن
كل صياغة شعرية ال بد أن تحتوي معنى ،أّم ا جوهر الشعرية فيكمن في الصياغة
نفسها .ومرتبة يتحقق فيها للمعنى اللطافة واالستغراب ،وهذا أمر
زائد في حسن الصنعة والجودة ،ذلك أّن الصنعة قائمة بنفسها مستغنية عما سواها(
.)15
ولذلك كان توظيف اآلمدي فكرة العلل األربع متمشيًا مع هذه األصول ،ذلك
أن تمام الصياغة الشعرية يتحقق بإصابة الغرض المقصود المقابل للعّلة الصورية
التي تتأسس على الهيولى المتجسدة هنا في األلفاظ ،وهو تحوير في القضية ،إذ إن
قدامة يرى أن المعنى كالمادة والشعر فيه كالصورة ،واآلمدي يرى اللفظ كالمادة
وإ صابة الغرض المقصود هو الصورة ،وال يشك في أن إصابة الغرض في الشعر
هو تحقيق المعنى المقصود .ثم يتلوهما صحة التأليف حتى ال يقع فيه خلل وال
اضطراب ،كما قال ،ومن هنا نفهم قوله أخيرًا" :فصّح ة التأليف في الشعر وفي كل
صناعة هي أقوى دعائمه بعد صحة المعنى ،فكل من كان أصح تأليفًا كان أقوم
بتلك الصناعة ممن اضطرب تأليفه"( ،)16فصّح ة المعنى هنا هي تنّز له ضمن
- 85 -
المقصد والغرض حسب التقاليد الضابطة لألغراض ،ومقتضيات األعراف
االجتماعية وخصائص الصنعة الشعرية ،ويبدو أن اآلمدي استغل قدامة هنا ،ذلك
أن من شروط صحة المعنى لديه مالءمته الغرض( .)17أما صحة التأليف فهي
مسألة صياغة تتعلق بنسيج الكالم ونظمه .وهكذا نصل إلى العّلة الغائية التي
تضبط شروط إيفاء الصنعة حقها من غير زيادة وال نقصان ،وبتمامها يكمل لفعل
الصنعة وجوده ،وخارج هذا الوجود يمكن أن يتفق للشاعر تحقيق معنى لطيف،
فهو كالفضلة يزيد من حسن الصنعة ما دام "ال يخرج عن الغرض" .وانتفاؤه من
الصياغة ال يعني قيام التأليف على شكل مفارق أجوف ،إذ إنه يتأسس على معاني
الشعر المعهودة كما حصرها عمود الشعر عند العرب.
وسيكون بين يدي اآلمدي مبدآن اثنان يقيم بواسطتهما موازنته بين البحتري
وأبي تمام ،وبهما تتأسس معالجته النص األدبي عمومًا ،وهما :حسن التأليف،
ودقة المعاني ،وحضور العنصرين في الصياغة الشعرية تحقيق لغاية الجودة
القصوى ،واالكتفاء بحسن التأليف فقط ،مع قيامه طبعًا على معهود المعاني ،يعني
وقوع الصياغة ضمن قيم عمود الشعر العربي ،وتلك طريقة البحتري ،أما اعتبار
تلطيف المعنى ودقته هاجس الكتابة األول مع عدم إيفاء التأليف شروطه الجميلة،
فهو خروج بالشعر عن مساره وتلك طريقة أبي تمام .ونجد أن فكرة التأليف
الجميل ودقة المعاني ليست إال امتدادًا لثنائية اللفظ والمعنى ،فهي تستفيد من فكرة
الجاحظ عن المعنى ومن ثنائية ابن قتيبة وتعضدها بفكرة قدامة عن التأليف مع
حضور خفّي لفكرة الصورة أيضًا ،فالتأليف الجميل يتعادل مع الصورة أو اللفظ
في حين يتكافأ اصطالح معنى مع المعنى الدقيق إذ إن "دقيق المعاني موجود في
كل أمة ،وفي كل لغة"()18؛ وما دام التأليف عنده إفرازًا لتركيب العناصر بما فيها
المعنى ،فإن دقيق المعاني قيمة في ذات المعنى ،وليست دومًا مشروطة بكمال
التأليف ،إذ إن إمكان الجمع بين سوء التأليف ودقيق المعاني وارد وهي الحجة
التي يبرزها في وجه أنصار أبي تمام.
وتأسيسًا على ما سلف يكون إيفاء التأليف حقه من الجمال والحسن تحقيقًا
لغاية القول شعرًا ونثرًا ،ومعاضدة هذا الركن بالمعنى اللطيف زيادة في البهاء
ذلك أن "ليس الشعر عند أهل العلم به إال حسن التأتي ،وقرب المأخذ ،واختيار
الكالم ،ووضع األلفاظ في مواضعها ،وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه
المستعمل في مثله ،وأن تكون االستعارات والتمثيالت الئقة بما استعيرت لـه
وغير منافرة لمعناه ،فإن الكالم ال يكتسي البهاء والرونق إال إذا كان بهذا
- 86 -
الوصف ،وتلك طريقة البحتري .قالوا :وهذا أصل يحتاج إليه الشاعر والخطيب
صاحب النثر ...فإن اتفق -مع هذا -معنى لطيف ،أو حكمة غريبة ،أو أدب
حسن ،فذلك زائد في بهاء الكالم ،وإ ن لم يتفق فقد قام الكالم بنفسه ،واستغنى عما
سواه"(.)19
وما دام هذا الموقف انتصارًا لخواص الصياغة ذاتها ،وإ حالًال للمعاني
الفكرية والحكمية محًال ثانويًا وهو رأي يكشف أن ميزة الشعر العربي تتجسد في
"البيان ،والفصاحة ،وحسن الصياغة ،ال المعاني ،فالمعاني يستطيعها كل إنسان
بكل لسان"()20؛ فإنه يكون اعتماد طريقة مغايرة للطريقة السابقة بالتركيز على
المعاني الفلسفية انحرافًا عن الذوق الراسخ كما يرى اآلمدي وانفالتًا من إسار
التقليد الفني الذي يبوئ التأليف الجميل المقام األول ،فإذا "كانت طريقة الشاعر
غير هذه الطريقة ،وكانت عبارته مقصرة عنها ،ولسانه غير مدرك لها حتى يعتمد
دقيق المعاني من فلسفة يونان ،أو حكمة الهند أو أدب الفرس ،ويكون أكثر ما
يورده منها بألفاظ متعسّفة ونسج مضطرب ،وإ ن اتفق في تضاعيف ذلك شيء من
صحيح الوصف وسليم النظر ،قلنا له :قد جئت بحكمة وفلسفة ومعان لطيفة
حسنة ،فإن شئت دعوناك حكيمًا ،أو سميناك فيلسوفًا ،ولكن ال نسميك شاعرًا ،وال
ندعوك بليغًا ،ألن طريقتك ليست على طريقة العرب ،وال على مذاهبهم ،فإن
سميناك بذلك لم نلحقك بدرجة البلغاء وال المحسنين الفصحاء"( .)21فال شك أن
الموّج هات السياسية والحضارية عملت على بلورة هذين المنحيين في الكتابة إال
أنه في ظّن اآلمدي يتحّقق اإلبداع في اإلخراج المتكرر للمعهود ،ذلك أن الطريف
بحسبه يكمن في تلّبس المعهود المتداول بالغريب والجديد حسب ما تحققه جماليات
التأليف ،فحسن "التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسنًا ورونقًا
حتى كأنه قد أحدث فيه غرابة لم تكن ،وزيادة لم تعهد ،وذلك مذهب البحتري"(
.)22وهذا حل مزدوج ،فبالقدر الذي يبقي على الصالت بالمعهود يفتح المجال
للجديد الذي ال يعبث باألصول ،عكس المنزع اآلخر ،ذلك "أن سوء التأليف
ورداءة اللفظ يذهب بطالوة المعنى الدقيق ويفسده ويعمّيه حتى يحوج مستمعه إلى
طول تأمل ،وهذا مذهب أبي تمام في معظم شعره"(.)23
وأوجه التقابل التي نّز ل فيها األصلين الفنيين ،جودة التأليف ،ودقيق المعاني
تساعدنا على حل اإلشكال الذي يضعنا فيه نصه التالي ،فقد وجد "أهل الّنصفة من
أصحاب البحتري ،ومن يقدم مطبوع الشعر دون متكلفه ،ال يدفعون أبا تمام عن
لطيف المعاني ودقيقها ،واإلبداع واإلغراب فيها ...وإ ن اهتمامه بمعانيه أكثر من
- 87 -
اهتمامه بتقويم لفظه ،على شدة غرامه بالطباق والتجنيس والمماثلة ،وأنه إذا الح
له أخرجه بأي لفظ استوى من ضعيف أو قوي ...وإ ذا كان هذا هكذا فقد سلموا لـه
الشيء الذي هو ضالة الشعراء وطلبتهم ،وهو لطيف المعاني ،وبهذه الخّلة دون ما
سواها فضل امرؤ القيس ،ألن الذي في شعره من دقيق المعاني وبديع الوصف
ولطيف التشبيه وبديع الحكمة ،فوق ما في أشعار سائر الشعراء من الجاهلية
واإلسالم ،حتى أنه ال تكاد تخلو له قصيدة واحدة من أن تشتمل من ذلك على نوع
أو أنواع ،ولوال لطيف المعاني واجتهاد امرئ القيس فيها وإ قباله عليها ،لما تقدم
على غيره ،ولكان كسائر الشعراء من أهل زمانه ،إذ ليست لـه فصاحة توصف
بالزيادة على فصاحتهم ،وال أللفاظه من الجزالة والقوة ما ليس أللفاظهم"(،)24
ولكن هل يمكن اعتبار هذا الموقف المشيد بالمعاني وكونها وسيلة السبق والتقديم
وأنها ضالة الشعراء وطلبتهم مخالفًا لرأيه فيما سلف من نصوص ،وتأكيده أن
التأليف الحسن هو أّس الشعر وبذلك فضل البحتري؟ فهل نعد ذلك تناقضًا "في
تصور اآلمدي لتياري النقد ،بسبب من ميله الذاتي إلى الفريق الثاني"(،)25
الفريق الذي ينصر التأليف الجميل؟ الواقع أن تقديم امرئ القيس ،حسب رأي
اآلمدي ،لم يتم إال بتعاضد دقيق المعاني والتأليف الحسن في شعره ،وهي الغاية
في الجودة ،إذ ما دام يستوي وغيره في الفصاحة ذلك أن "األعرابي إنما ينظم
كالمه المنثور الذي يستعمله في مخاطباته ومحاوراته"( ،)26فإن سبق امرئ
القيس يكمن في أنه اتفق له من بديع المعاني ما لم يتفق لهم ،في حين أن تحقيق
أبي تمام "ضالة الشعراء وطلبتهم" لم يسنده دومًا تأليف جميل .من هنا لم تشفع له
دقة المعاني أمام سوء التأليف ورداءة اللفظ ،وهذا يتماشى مع أصوله ومنطلقاته
المحددة لجودة الكالم.
ومع كل ما سلف إال أن موقف اآلمدي ال يلبث أن يضطرب ويتذبذب ،ولعل
مرّد ذلك قصده التلّطف في مواجهة أنصار أبي تمام ومحاولة اإليهام بموقفه
العادل في الموازنة ،إذ يكاد يتزحزح عن الموقف السابق في تبرير السبق بجودة
التأليف ودقة المعنى معًا أو االكتفاء بالتأليف الحسن في المشهور من المعنى ،إلى
اعتبار أن السبق المعنوي شفيع الضطراب اللفظ فإذا "كان قد اضطرب لفظ أبي
تمام واختّل في بعض المواضع ،فهل خال من ذلك شاعر قديم أو محدث؟ هذا
األعشى يختل لفظه كثيرًا ،ويسفسف دائمًا ،ويرق ويضعف ،ولم يجهلوا حّقه
وفضله حتى جعلوه نظيرًا للنابغة ،وألفاظ النابغة في الغاية من البراعة والحسن،
وعديًال لزهير الذي صرف اهتمامه كّله إلى تهذيب ألفاظه وتقويمها ،وألحقوه
بامرئ القيس الذي جمع الفضيلتين فجعلوهم طبقة ،وصار فضل كل واحد من
- 88 -
غير الوجه الذي فضل منه صاحبه"( ،)27بل يكاد يتراجع عن موقفه من أبي تمام
مطلقًا حين يتساءل بعد أن يورد شواهد شعرية له متعجبًا "فكيف وبدائعه مشهورة،
ومحاسنه متداولة ،ولم يأت إال بأبلغ لفظ وأحسن سبك"( ،)28وهذا إقرار بتكامل
الصنعة لدى أبي تمام ألفاظًا ومعاني ،لكن اآلمدي وإ ن اضطرب موقفه قليًال من
أبي تمام ،فإن إلحاحه على التأليف الجميل ال ينفي لديه إمكان تكامله مع المعاني
الدقيقة ليصل الشعر بتحقيقهما إلى مرتبة "امرئ القيس الذي جمع الفضيلتين".
ومع اإلقرار بهذا االضطراب إال أن الراسخ في أغلب فصول الموازنة
تأكيده المنظور الثنائي المؤسس على التأليف الجميل من جهة ودقيق المعاني من
جهة أخرى ،كما يلخصه قوله" :والمطبوعون وأهل البالغة ال يكون الفضل
عندهم من جهة استقصاء المعاني واإلغراق في الوصف ،وإ نما يكون الفضل
عندهم في اإللمام بالمعاني وأخذ العفو منها ،كما كانت األوائل تفعل ،مع جودة
السبك ،وقرب المأتى"( ،)29إلى أن تستحيل المقابلة رصدًا لنمطي الكتابة لدى
الشاعرين إذ يروي عن البحتري موازنًا بين صنعته وصنعة أبي تمام قوله" :كان
أغوص على المعاني مّني ،وأنا أقوم بعمود الشعر منه"( .)30والمواقف التي
يلخصها فيها منهجي الكتابة لدى الشاعرين ،ومن ثم خالصة مبادئ المذهبين
المتقابلين –حسب رأيه -مذهب عمود الشعر ومذهب التعقيد وتدقيق المعاني
وابتكارها كثيرة ،نجتزئ منها قوله :فإن كنت "ممن يفضل سهل الكالم وقريبه،
ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق ،فالبحتري
أشعر عندك ضرورة .وإ ن كنت تميل إلى الصنعة ،والمعاني الغامضة التي
تستخرج بالغوص والفكرة ،وال تلوي على ما سوى ذلك ،فأبو تمام عندك أشعر ال
محالة"(.)31
وعلى الرغم من أن ما سبق يرسخ مبدأ الثنائية القائمة أساسًا على مقابلة
التأليف الحسن بالمعنى الدقيق دون أن يمتنع الجمع بينهما كما رأينا ،فإن مما
يحمد لآلمدي نظرات له في النص تقر بمبدأ التفاعل بين عنصري الداللة:
المعنى واللفظ ،وإ ن كان بعض آرائه قد يؤكد الفصل بينهما بل التفاوت ،يرى
أنه "قد يتفاوت البيتان الجيدان النادران فيعلم أهل العلم بصناعة الشعر
أيهما أجود إن كان معناهما واحدًا ،أو أيهما أجود في معناه إن كان معناهما مختلفًا"( ،)32فكأن الجودة
ال تطول المعنى ،إال أن في مثل تعليقه على بيت أبي تمام التالي ما يجعل حضور المعنى في اعتبار
الجودة واردًا ،وهو قوله:
- 89 -
هو مصون؟ وإ نما أراد أبو تمام أذيلت مصونات الدموع التي هي اآلن سواكب ،ولفظه يحتمل ما أراده،
والبيت جيد لفظًا ومعنى ونظمًا"( ،)33فالمعنى يتنزل هنا عنصرًا في الصياغة ،إال أن اصطالح
"المعنى" يأخذ داللة أخرى في مثل تعليقه على بيت البحرتي:
وسل داري سدعي إن شفاك سؤالها قف العيس قد أدنى خطاها كاللها
هذا لفظ حسن ،ومعنى ليس بالجيد ،ألنه قال" :قد أدنى خطاها كاللها" أي قارب من خطوها
الكالل ،وهذا كأنه لم يقف لسؤال الدار الذي تعرض ألن يشفيه سؤالها ،وإ نما وقف إلعياء المطي()34
فسوء المعنى هنا سببه عدم مطابقته الغرض وخروجه عن مبدأ اللياقة التي يمليها غرض الوقوف على
الطلل ،فليس المقصود بالمعنى هنا العنصر المتعاضد مع التأليف في بنية البيت ،وإ نما المنظور المتحكم
في نقد المعنى هنا وضعه في إطار الغرض العام ،ذلك أن األغراض قد تكون "من جنس واحد وإ ن
اختلفت المعاني"( ،)35وهذا إقرار بإمكان التنوع في معاني الغرض الواحد حيث تظل المعاني محكومة
بأصول عامة وإ ن أباحت لها الصياغة والتوليد تحقيق الجدة والطرافة ،نرى ذلك في قوله معلقًا على
بيت البحرتي:
- 90 -
التي تقوم على الفصل بين ما هو تخييلي يقدم معرفة نوعية ال تقوم دومًا على
النسخ لقانون المعطى الواقعي ،إذ تكون الداللة محصلة لحمة ألفاظ في النص ال
مبرر لها سوى الحقيقة الفنية نفسها ،وما هو رصد للواقعة أو "للحقيقة" .يقول:
ورأيت من عاب قوله (البحرتي):
حتى عدلت أجاجهن بعذبه فصبغت أخالقي برونق خلقه
وقالوا :إنما كان ينبغي لما ذكر األجاج والعذب أن يقول "فمزجت" ال أن
يقول "فصبغت" ،أو لما قال "فصبغت" أن يقول "حتى عدلت ألوانها بحسن لونه"
"وليست هذه المعارضة بشيء ،والمعنى صحيح ،وذلك أنه ليس هناك صبغ على
الحقيقة فيقابل بذكر لون حتى يتكافأ المعنيان ،وال مشروب عذب وال أجاج على
الحقيقة فيستعمل ذكر المزج ،وإ نما هذه استعارات ينوب بعضها عن بعض ،ويقوم
بعضها مقام بعض ،ألنها ليست بحقائق فيما استعيرت له"(.)38
ولآلمدي إشارات أيضًا إلى بنية الكالم فيما يسميه "استواء نظمه ،وصحة
سبكه ،ووضع الكالم منه في مواضعه"( ،)39ويتكلم عن "تعسف النظم ورداءته
وتعقيده"( ،)40الذي ينتج عنه اختالل في البيت وإ شكال في المعنى(.)41
ويحاول االقتراب من شرح أسباب هذا االضطراب باالعتماد على رأيه في المعاظلة التي يراها
"في شدة تعليق الشاعر ألفاظ البيت بعضها ببعض ،وأن يداخل لفظة من أجل لفظة تشبهها أو تجانسها،
وإ ن أخل بالمعنى بعض اإلخالل ،وذلك كقول أبي متام:
عنه فلم يتخّو ن جسمه الكمد خان الصفاء أخ خان الزمان أخا
فانظر إلى أكثر ألفاظ هذا البيت ،وهي سبع كلمات آخرها قوله "عنه" ما أشد
تشبث بعضها ببعض ،وما أقبح ما اعتمده من إدخال ألفاظ في البيت من أجل ما
يشبهها"( )42ليخلص أخيرًا إلى شرح مقولة النقاد المبينة لما يستجاد من النظم
والنثر ،وهي قولهم :هذا كالم يدل بعضه على بعض ويأخذ بعضه برقاب بعض،
بقولـه" :إنما أرادوا المعاني إذا وقعت ألفاظها في مواقعها ،وجاءت الكلمة مع
أختها المشاكلة لها التي تقتضي أن تجاورها لمعناها :إما على االتفاق ،أو التضاد،
حسبما توجبه قسمة الكالم"(.)43
والخالصة أن اآلمدي قد أولى جمال التأليف عناية كبرى واعتبر حسن
الصياغة وإ ن أخرجت المشهور المعروف عالمة الشاعرية ،وأن مراعاة دقيق
المعاني إن شفعت له جودة الصياغة كان غاية الحسن ،دون أن ينسى اإللمام بنظم
القول عامة مبرزًا ضرورة االعتناء بتنزيل الكلمات منازلها المالئمة في النص،
وتجنب فساد النظم وتعسف التأليف.
- 91 -
وليس للقاضي الجرجاني فيما نرى إضافة تحسب له إلى قضية اللفظ
والمعنى إذ قد شغله مبحث السرقات( )44خصوصًا عن إيفاء كثير من قضايا النقد
حقها من الدرس ،فتضاءل وزن ما أواله لهذه القضية .ومع ذلك يكون منطلقنا في
فهم رأيه في إشكال اللفظ والمعنى معضلة السرقات نفسها وإ شكال الصراع بين
القدماء والمحدثين ،حيث يرى أن لو أنصف المحدثون "لوجد يسيرهم أحق
باالستكثار وصغيرهم أوفى باإلكبار ،ألن أحدهم يقف محصورًا بين لفظ قد ضيق
مجاله ،وحذف أكثره ،وقل عدده ،وحظر معظمه ،ومعان قد أخذ عفوها ،وسبق
إلى جيدها"( ،)45وإ ذا كان شبح ابن طباطبا ماثًال في هذا التحليل ،فإنه يكشف
أيضًا عن فهم كمي لكل من اللفظ والمعنى حتى ليبدو ثراؤهما في تناقض مع
الزمن ،علمًا بأن تراكم الكتابة والتوظيف المتنّو ع لأللفاظ سيكون من شأنهما تمديد
مساحتها الداللية ،مما يتيح للمتأخر إمكانات أوسع تلبي مقاصده ،إال أن المسألة لم
ينظر إليها من منظور المبدع ذاته ومدى ما تتطلبه تجربته الخاصة من استغالل
متميز للموجود .ولم يقم فهم المعنى أيضًا باالستناد إلى السياق وحده ،بل كانت
الرؤية منطلقة من اإليمان بأن الفعل الشعرّي يتلخص في اإلخراج المتجدد
للمعروف ،وبالبحث والتوليد من األصل .وتلك هي األصول التي أملت رأي
الجرجاني السابق.
لكن المهم في موضوعنا منطلقه الثنائي في تبرير أزمة المحدثين ذلك أن
انحسار االختراع أمامهم –حسب رأيه -يشمل اللفظ والمعنى معًا ،بحيث أن عملية
الصياغة الشعرية تقوم عنده أيضًا على ضرورة المقابلة بين األلفاظ ومعانيها
وسبر ما بينهما من نسب ،وامتحان ما يجتمعان فيه من سبب( .)46وهذه الدعوة
إلى إحداث وشائج القربى بين اللفظ والمعنى تمتّد لتشمل صلة األلفاظ باألغراض
عامة وضرورة انتقاء ما يالئم كل غرض ،إذ يجب "أن تقسم األلفاظ على رتب
المعاني ،فال يكون الغزل كاالفتخار وال المديح كالوعيد ،وال الهجاء كاالستبطاء،
وال الهزل بمنزلة الجد ،وال التعريض مثل التصريح"(.)47
ومع ذلك تأسست صلة اللفظ بالمعنى عنده على فكرة الكسوة والتحسين إذ
يتكلم عن موقع اللفظ الرشيق من القلب "وعظم غنائه في تحسين الشعر"(،)48
وعن أثر لين الحضارة في المحدثين فترققوا "ما أمكن ،وكسوا معانيهم ألطف ما
سنح من األلفاظ"( .)49أما االستعارة فبها "يتوصل إلى تزيين اللفظ وتحسين النظم
والنثر"( .)50ومع ذلك استفاد من مجهودات السابقين في اإلشارة إلى تمّيز
الخاصية الفنية للشعر عن الصياغة اللغوية للحقيقة( .)51وكان يمكن أن يؤدي
- 92 -
ذلك إلى الوعي العميق بتعلق الداللة في النص الشعري بفعالية السّياق ،إال أن
الذهن ظل محكومًا في تعليل الظاهرة الفنية بالواقع ومقتضيات الُعرْف االجتماعي
وتقاليد الصنعة.
ويبدو أن ثنائية اآلمدي القائمة على مقابلة دقيق المعاني بجودة التأليف
وجدت طريقها إلى القاضي الجرجاني فصاغ رأيه في أبي تمام بنفس لغة اآلمدي(
)52ليبلور مذهبي الكتابة السالفين في قوله المشهور" :وكانت العرب إنما تفاضل
بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحته ،وجزالة اللفظ واستقامته،
وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب ،وشّبه فقارب ،وبده فأغزر ،ولمن كثرت
سوائر أمثاله وشوارد أبياته ،ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة ،وال تحفل باإلبداع
واالستعارة إذا حصل لها عمود الشعر ،ونظام القريض"(.)53
وللقاضي إشارات إلى اضطراب النظم ،وسوء التأليف ،وهلهلة النسج()54
في حديثه عن عيوب الشعر ،إال أنه يحاول باالستعانة بجهود اآلمدي وغيره من
النقاد االقتراب من األسباب المؤدية إلى هذا االضطراب علمًا بأن وضعه النظم
في جوار اللفظ كمقابلين للمعنى ال يدل على فهم دقيق له .يقول مرددًا بعض أقوال
خصوم المتنبي" :إنما عمد إلى شعر أبي تمام فغّير ألفاظه وغّير نظمه ،فأما
المعاني فهي تلك بأعيانها"( ،)55ويستفيد من نماذج من شعر أبي تمام ضربها
اآلمدي للتعقيد ،فيرجع هو أيضًا أسباب الهلهلة إلى فساد التركيب .يقول معلقًا
على بيت أبي تمام:
"فحذف عمدة الكالم ،وأخل بالنظم ،وإ نما أراد يدي لمن شاء رهن
(إن كان) لم يذق ،فحذف (إن كان) من الكالم ،فأفسد الترتيب وأحال الكالم على وجه"(.)56
من راحتيك درى ما الصاب والعسل" "يدي لمن شاء رهن لم يذق
جرعًا
ويعود إلى القضية ببعض التفصيل في بعض المواضع معتمدًا دائمًا في تعليله على فساد
التركيب ،منها قوله موردًا أقوال بعض خصوم المتنبي عقب بيته:
- 93 -
فيها لم يكن في مستوى آراء السابقين.
النص األدبي وإشكال الفصاحة والبالغة
ليس مصطلحا الفصاحة والبالغة إال مظهرين يّد الن على حضور إشكال
اللفظ والمعنى في كل معالجة نقدية عرفها النقاد والبالغيون العرب القدماء تبتغي
اكتناه العالئق الرابطة بين عناصر النص.
ويزيد األمر تأكيدًا أن البالغة والفصاحة تشكالن مجاًال معرفيًا يهتم بعالج
النص عمومًا ،ومن هنا تظل الحدود التي تنضبط بها مفاهيم هذين المصطلحين
لدى هذا البالغي أو ذاك محكومة برأيه في اللفظ والمعنى .ولعل محاولة كل من
أبي هالل العسكري وابن سنان الخفاجي تمثالن أنموذجين بارزين في هذا
المنحى ،ذلك أنهما تشكالن أبرز محاولتين عرفهما القرنان الرابع والخامس
الهجريان تنطلقان من هذا اإلشكال ،دون أن نغفل اإلشارة إلى عبد القاهر
الجرجاني الذي سيشكل رأيًا خاصًا في الموضوع نرجئه إلى بحث النظم لدى
المتكلمين .وهاتان المحاولتان إذ تعتمدان في األغلب على طروحات السابقين
تنطلقان من رصد عالئق االتفاق واالختالف بين مصطلحي البالغة والفصاحة
كأساسين تنضبط بموجبهما تفريعات البحث في النص ،وإ ن اختلفت المحاولتان في
تماسك المنهج.
أما أبو هالل العسكري فرغم أن تواتر نقوله عن السابقين وخاصة الجاحظ
وابن قتيبة وابن طباطبا في ما يتعلق بقضيتنا أساسًا سيوهن من محاولته ويهلهل
أصالته ،فإنه يحاول االجتهاد أو يحاول إحداث نسق من االنسجام بين آراء
مختلفة ،من ذلك موقفه في عرض معاني الفصاحة والبالغة ،إذ باإلضافة إلى أنه
يبوئها الصدارة في توزيع مادة الكتاب ،فإنه يبسط الرأي فيهما مما يكشف عن
محاولته تلمس مخرج يضمن له توليف رأي من مبسوط اآلراء.
فهو بداية يحاول عرض المعاني اللغوية لالصطالحين ،فبعد التفريع في
مجاالت إطالق البالغة ومعانيها يحصر داللتها في الكالم باعتبار أنها سميت بالغة
ألنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه .ثم يخلص إلى الفصاحة التي يتمحور
معناها حول تعبير المتكلم عما في نفسه وإ ظهاره ،لينتهي أخيرًا إلى تقرير هذه
الخالصة وهي أن "الفصاحة والبالغة ترجعان إلى معنى واحد وإ ن اختلف
أصالهما :ألن كل واحد منهما إنما هو اإلبانة عن المعنى واإلظهار له"(.)58
ثم يعرض أقواًال لبعض العلماء منها أن "الفصاحة تمام آلة البيان ،فلهذا ال
يجوز أن يسمى اهلل تعالى فصيحًا ،ألن الفصاحة تتضمن معنى اآللة وال يجوز
- 94 -
على اهلل تعالى الوصف باآللة ،ويوصف كالمه بالفصاحة لما يتضمن من تمام
البيان .والدليل على ذلك أن األلثغ والتمتام ال يسميان فصيحين لنقصان آلتيهما عن
إقامة الحروف ،وقيل :زياد األعجم لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف ،وكان
يعّبر عن الحمار بالهمار ،فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه ،فعلى هذا تكون
الفصاحة والبالغة مختلفتين ،وذلك أن الفصاحة تمام آلة البيان فهي تتعلق باللفظ،
ألن اآللة تتعلق باللفظ دون المعنى ،والبالغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب
فكأنها مقصورة على المعنى"(.)59
ونسأل هل تؤدي مقابلة الرأيين السابقين إلى استنتاج أن العسكري يجمع بين
"موقفين متقابلين ،موقف تتطابق حسبه داللة المصطلحين ويعتبر ميدان الدراسة
األسلوبية ميدانًا واحدًا تتفاعل فيه مكونات النص وتتضافر إلبانة المعنى
وإ ظهاره ،وموقف يفصل أصحابه بين المصطلحين ويضيقون مجال الفصاحة إلى
درجة أنهم اعتبروها صفة للمتكلم ال للكالم وتتحقق في النص المنطوق ال
المكتوب"؟( .)60فإذا كان الموقف األول واضحًا ينسجم مع مقصد العسكري
الصريح ،فإنه يخيل إلينا أن في الموقف الثاني لبسًا وأن االستنتاج قابل للمناقشة.
فاعتبار الفصاحة صفة للمتكلم تتحقق في النص المنطوق وليس في المكتوب
نصف الخالصة المضمنة في النص ،وإ ال فكيف ينفي عن اهلل تعالى الوصف
بالفصاحة لعدم جواز الوصف باآللة عليه سبحانه ،ثم يصف كالمه بالفصاحة؟ ثم
يشخص الرأي بوصف زياد ،فهو "أعجم لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف،
غير أن شعره فصيح"( ،)61أليس الوصف بالفصاحة هنا خاصية في الشعر
والقرآن معًا؟ ويؤكد الموقف أنه حين يتعلق األمر بالنص المنطوق يستعمل
اصطالح "اآللة" ،أما إذا كان الشأن بالمكتوب فإنه يكتفي بذكر "تمام البيان" دون
ذكر اآللة .ومن هنا وعلى الرغم من إقراره بفصل حقل الفصاحة عن البالغة في
آخر النص واختصاص الفصاحة باللفظ والبالغة بالمعنى ،فإن امتداد معنى
الفصاحة ليشمل مواصفات في النصين المنطوق والمكتوب معًا ،يجعل حضورها
والبالغة في وصف النص الواحد واردًا.
ويقول مواصًال سرد اآلراء" :فإذا قلت :فصح رجل ،أفاد ذلك أنه صار إلى
حال يقيم فيها الحروف ويوفيها حقها .وإ ذا قلت :بلغ ،أفاد ذلك أنه صار إلى حال
يؤدي فيها المعاني حق تأديتها في صورة مقبولة ،ثم صار الفصيح والبليغ صفتين
لمن جاد لفظة وبان معناه"( )61فإذا كان الوصف بالفصاحة يتعلق بتمام آلة
البيان ،فإن البالغة تستحيل تأدية للمعنى في صورة مقبولة .وال شك أن اصطالح
- 95 -
الصورة المقبولة يوسع من دائرة اختصاص البالغة بالمعنى فقط لتشتمل المعنى
والمعرض الحسن الذي يبرز فيه .فإذا دققنا في آخر النص نجد إحساسًا بالتطور
في ضبط العسكري داللة االصطالحين ،إذ إن الصيرورة أدت إلى أن يتضام
الوصفان لتحديد جودة اللفظ ووضوح المعنى ،وجودة اللفظ أمر يتعلق بالنص
غالبًا ،فإذا ضممنا هذا الوصف إلى اشتراط الصورة المقبولة في وصف الكالم
بالبالغة ،أصبح باإلمكان االستنتاج أن البالغة تشمل مرًة المعنى وصورته،
وتختص مرًة بالمعنى ليكون اللفظ قسيم الفصاحة .ويتأكد ذلك في رأيه التالي الذي
ينم عن اجتهاد في تحديد معاني المصطلحين ،يقول" :وقد يجوز مع هذا أن يسّم ى
الكالم الواحد فصيحًا بليغًا إذا كان واضح المعنى ،سهل اللفظ ،جيد السبك ،غير
مستكره فج ،وال متكلف وخم"( .)62فباإلضافة إلى أن األوصاف المتعلقة بسهولة
اللفظ وجودة السبك تتحقق في النص المكتوب ،يتأكد المنظور الثنائي المؤسس
على تقابل البالغة بالمعنى والفصاحة باللفظ ،إال أن وصول العسكري في العرض
إلى هذا الحد جعل إمكان االمتداد باصطالح البالغة ليشمل عنصري المعنى
واللفظ واقعًا يهيئ لهذا الفهم منطلقه المطابق بين مفهومي الفصاحة والبالغة ،وما
أوصله إليه مجرى النقاش من االمتداد بمعنى البالغة ليطول أداء المعنى في
الصورة المقبولة ،لينتهي إلى بلورة الموقف في هذه الصياغة المقررة لما سلف:
"البالغة كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمّك نه في نفسه كتمّك نه في نفسك مع
صورة مقبولة ومعرض حسن وإ نما جعلنا حسن المعرض وقبول الصورة شرطًا
في البالغة ،ألن الكالم إذا كانت عباراته رثة ومعرضة خلقًا لم يسم بليغًا ،وإ ن
كان مفهوم المعنى ،مكشوف المغزى ،فهذا يدل على أن من شروط البالغة أن
يكون المعنى مفهومًا واللفظ مقبوًال على ما قدمناه"( ،)63وهكذا يتأكد شمول
مصطلح البالغة عنده اللفظ والمعنى وتغليبه في االستعمال على اصطالح
الفصاحة ،إذ وجد أن ال معنى لتوظيف االصطالحين معًا والبالغة تطول
عنصري الداللة معًا فضًال عن أن مدخله ينبئ بهذه النتيجة على الرغم من أنه
يفتح استثناًء آخر وهو بصدد استقصاء اآلراء المختلفة في الموضوع ،يروي أنه
شاهد" :قومًا يذهبون إلى أن الكالم ال يسمى فصيحًا حتى يجمع مع هذه النعوت
"نعوت الجودة السابقة" فخامة وشدة جزالة ...قالوا :وإ ذا كان الكالم يجمع نعوت
الجودة ،ولم يكن فيه فخامة وفضل جزالة سمي بليغًا ولم يسم فصيحًا"( ،)64وهذا
الموقف ال يمثل إال هامشًا دفعه إليه داعي االستقصاء ،إذ يظل الموقف النهائي
مجمًال في قوله الجامع وهو "إن البالغة إنما هي إيضاح المعنى وتحسين اللفظ"(
.)65
- 96 -
وهذه النتيجة تحيلنا إلى إشكال اللفظ والمعنى أصل القضية ،وتمكننا من
التساؤل عن طبيعة الصلة الجامعة بين المدخل التأسيسي القائم على بحث معاني
الفصاحة والبالغة ،وثنائية اللفظ والمعنى ،وهل أن صاحب "الكتاب لم يستطع
استغالل هذا المدخل استغالًال محكمًا ولم يبن كتابه على أساسه فأجهضت
المحاولة وانفصلت بقية الفصول عن هذا المدخل ...فال هو درس البالغة
والفصاحة من زاوية متحدة متفاعلة وال استطاع أن يلتزم بالفهم الضيق .لذلك
يشعر القارئ أنه يستأنف كل مرة كالمًا جديدًا ال عالقة له بهذه المسألة .ومن
أحسن األدلة على ذلك دراسته لثنائية اللفظ والمعنى فقد كنا ننتظر أن يربطها
ببحثه في معنى الفصاحة والبالغة لكنه باشرها كمسألة مستقلة"()66؟ فإذا كانت
الوحدة المنهجية المطلوبة في الكتاب هي قيامه على وحدة الفكرة المنبثة في كامل
الفصول التي يؤدي عرضها المتنامي إلى إيفاء كل تفرعاتها حقها من البحث
واالستقصاء ،فإن الصناعتين خلو من ذلك .وإ ن كان القصد تأكيد انتفاء كل صلة
بين الفصول وهو ما قد يفهم من الحكم السابق فإن األمر قد يحتاج إلى مراجعة،
ذلك أنه ورغم اإلقرار بأن فصول الصناعتين المنزلة في األبواب المشكلة لحجم
الكتاب مستقل بعضها عن بعض من حيث القضايا المدروسة ،فإن خيطًا خفيًا يلحم
أطروحات العسكري المختلفة يتبدى بوضوح في القناعة الواحدة التي تحكم بحثه
اللفظ والمعنى ومدخله التأسيسي الضابط لعالئق الفصاحة والبالغة.
ولقد أدى استقصاء ما طرح في المدخل إلى اإلقرار بشمول البالغة المعنى
واللفظ ،وأدى إلى تبني هذا الموقف المسار الذي تحقق بمقابلة دالالت
المصطلحين ،إذ بدوا متطابقين لتختص البالغة بالمعنى ،والفصاحة باللفظ مع
انسحابها على شرط التمام في آلة البيان .ثم تعود داللة البالغة لتنبسط على
عنصر اللفظ الذي هو من اختصاص الفصاحة ،ويصبح شرط البالغة في الكالم
متحققًا في وضوح المعنى ووضوح اللفظ ،وهذه النتيجة هي التي خولت للعسكري
االنتقال إلى بحث اللفظ والمعنى باعتبارهما عنصري البالغة الرئيسيين،
فإفرادهما بالبحث تفريع للقول في البالغة ذلك أن تقصي المواصفات التي ينبغي
أن تميز حضورهما بحث في بالغة الكالم عمومًا ،هذا من جهة الصلة المنهجية
بين المبحثين ،أما من جهة القناعات التي تحكم منظوره لكل منهما فيكشف عنها
استقراء رأيه في اللفظ والمعنى.
فإذا كان تحقيق البالغة يقوم على إبانة المعنى في صورة مقبولة ذلك "أن
الكالم إذا كانت عبارته رثة ومعرضة خلقًا لم يسم بليغًا وإ ن كان مفهوم المعنى،
- 97 -
مكشوف المغزى"( )67فإن اشتراطه خصوصيات في اللفظ تتمحور حول الجودة
والتحسين واكتفاءه غالبًا في وصف المعنى بالتركيز على اإلبانة والوضوح ،أمر
يتمشى مع المنطلق البالغي في بحث الكالم إذ يختص بالتركيز على الوسائل
األسلوبية ،وهذا الرأي يمهد لموقفه مرددًا مقولة الجاحظ" :وليس الشأن في إيراد
المعاني ألن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي ،وإ نما هو في
جودة اللفظ وصفائه ،وحسنه وبهائه ،ونزاهته ونقائه ،وكثرة طالوته ومائه ،مع
صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف .وليس يطلب من المعنى إال
أن يكون صوابًا ،وال يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته
التي تقدمت"( ،)68فهو يشترط في المعنى (اإلصابة) ،وهذا أمر يتوافق عنده مع
الوصف بالوضوح إذ يظالن حاضرين في وصف المعنى ،هذا من جهة ومن جهة
أخرى يبدو الموقف تأكيدًا لرأيه في بالغة الكالم .يظهر ذلك في عودته لالنطالق
من مصطلح البالغة في استمراره التدليل على رأيه السالف ،يقول" :ومن الدليل
على أن مدار البالغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة ،واألشعار الرائقة ما
عملت إلفهام المعاني فقط ألن الرديء من األلفاظ يقوم مقام الجيدة منها في
اإلفهام ،وإ نما يدل حسن الكالم ،وإ حكام صنعته ،ورونق ألفاظه ،وجودة مطالعه،
وحسن مقاطعه ،وبديع مباديه ،وغريب مبانيه على فضل قائله ،وفهم منشئه.
وأكثر هذه األوصاف ترجع إلى األلفاظ دون المعاني .وتوخي صواب المعنى
أحسن من توخي هذه األمور في األلفاظ"(.)69
يستخلص مما سلف أن العسكري ال يستأنف في بحث اللفظ والمعنى جديدًا،
بل يلحمه بتصوره البالغة ،وأن مسار بحث العنصرين عنده ال يأخذ هاجس
التقصي عن أوجه ائتالفهما أو تشاكلهما أساسًا بقدر ما ينبسط في تحديد أوصاف
كل طرف ،يتبدى فيه المعنى خصوصًا في وضع المادة المزينة بالمعرض
الحسن ،والمهم في هذا الموقف الذي وسم فيه بمنتهى الشكالنية( )70أنه ال ينسى
تكرار شروط الصواب في المعنى دون أن يتغافل عن إيالء صورته مقامًا عاليًا،
ذلك أن "الكالم إذا كان لفظه حلوًا عذبًا ،وسلسًا سهًال ،ومعناه وسطًا ،دخل في
جملة الجيد ،وجرى مع الرائع النادر"( .)71فإذا كان اللفظ الحسن يشفع لوسطية
المعنى ووسطية المعنى إيذان بتنزل المعنى في مراتب ،فإن المعنى إذا كان
"صوابًا ،واللفظ باردًا وفاترًا ،والفاتر شر من البارد ،كان مستهجنًا ملفوظًا،
ومذمومًا مردودًا"( ،)72فصواب المعنى بقدر ما يبدو قيمة في المعنى ذاته وهو
مقياس منطقي في تناول المعاني ،ال يشفع لضعف الصورة اللفظية ،إال أن ذلك ال
يعني التقديم المطلق للصورة اللفظية ،إذ ما دام االعتبار في اإلخراج الجميل
- 98 -
للمعنى الصواب ،فإن ضعف اإلخراج يوهن من بالغة النص مثلما أن سخف
المعنى يهلهل الكالم الجيد اللفظ ذلك أنه "ال خير فيما أجيد لفظه إذا سخف معناه،
وال في غرابة المعنى إال إذا شرف لفظه مع وضوح المغزى ،وظهور المقصد"(
.)73وهكذا تتضافر المواقف لتؤدي إلى تأكيد حضور المعنى واللفظ معًا في
بالغة العسكري ،مع اإلقرار باألثر المتبادل بينهما .ويكفي إلزاحة وسمه
بالشكالنية اعتقاده في هذا النص بسقوط الكالم الذي حسن لفظه وسخف معناه،
وإ ن ظلت العالئق الرابطة بين العنصرين قائمة على منظور ثنائي يرصد
أوصاف كل طرف على حدة دون أن يمتنع لديه أن يكون ألوصاف هذا الطرف
أثر في الطرف اآلخر سلبًا وإ يجابًا ،مع اإلشارة أخيرًا إلى أن وصف المعنى
يستقطبه مبدأ (الصواب) في حين يشترط في اللفظ الحسن والجودة.
وتأسيسًا على ما سلف نستعرض موقفه الذي رأى فيه باحثون كثيرون
تناقضًا مع ما سالف رأيه الذي اقتبس من الجاحظ ،يقول" :إن الكالم ألفاظ تشتمل
على معان تدل عليها وتعبر عنها ،فيحتاج صاحب البالغة إلى إصابة المعنى
كحاجته إلى تحسين اللفظ ،ألن المدار بعد على إصابة المعنى وألن المعاني تحل
من الكالم محل األبدان واأللفاظ تجري معها مجرى الكسوة ،ومرتبة إحداهما على
األخرى معروفة"( ،)74إذ إننا ال نرى في قوله "إن المدار على إصابة المعنى" ما
يعكر رأيه في "المعاني المطروحة" حتى نسم موقفه بالتناقض من مشكلة اللفظ
والمعنى( ،)75وال نجد أنه في نقده يقدم المعنى ،وأنه في أبحاثه النقدية يقرر أن
مدار البالغة على اللفظ( .)76صحيح أن هناك مغاالة يوقع العسكري فيه اعتماده
في بعض األحيان على النقل التام لنصوص سابقة مما يشوش مسار عرضه
الفكرة الواحدة ،إال أنه في قضيتنا يظل الجوهر المؤسس لرأيه فيها إلحاحه على
الصواب في المعنى والتحسين في اللفظ ،وهما صفتان واردتان في نّص ه السابق
بصريح اللفظ .وإ ذا كان في النص ما يشي بميل إلى تقديم صواب المعنى ،أدته
إليه نيته تأكيد أهميته باإلضافة إلى اللفظ ،فإن في بدء النص ما يكشف عن
حضور الطرفين بالصفات المميزة لكل منهما ،وحتى لو فرضنا أن إمكان استنباط
تقديم المعنى على اللفظ وارد من خالل نصه السابق ،فإذا هذا التقديم لم ينبن عليه
أكثر من اشتراط الصواب في المعنى وهو الوصف نفسه الذي ذكره في نصوصه
السابقة دون أن يتأسس على رأيه في "المعنى الصائب" إمكان أن يشفع لضعف
اللفظ ،وهو ما يكشف لو حدث عن تراجع في الموقف ،بل العكس هو الوارد ،إذ
يواصل بسطه الرأي السالف في الصفحة نفسها من الكتاب بقوله" :والمعاني على
ضربين :ضرب يبتدعه صاحب الصناعة من غير أن يكون لـه إمام يقتدي به فيه،
- 99 -
أو رسوم قائمة في أمثلة مماثلة يحمل عليها .وهذا الضرب ربما يقع عليه عند
الخطوب الحادثة ،ويتنبه له عند األمور النازلة الطارئة .واآلخر ما يحتذيه على
مثال تقدم ورسم فرط .وينبغي أن يطلب اإلصابة في جميع ذلك ويتوخى فيه
الصورة المقبولة ،والعبارة المستحسنة ،وال يتكل فيما ابتكره على فضيلة ابتكاره
إياه ،وال يغره ابتداعه لـه ،فيساهل نفسه في تهجين صورته ،فيذهب حسنه
ويطمس نوره ويكون فيه أقرب إلى الذم منه إلى الحمد"( .)77فليس الوصف
باالحتذاء واالبتداع بكاف في ضبط خصائص المعنى ،إنما تمامه في صوابه
وتوخي إخراجه في الصورة المقبولة ،ولو كان األمر عنده في تقديم المعنى حينًا
وتأخيره آخر لما أكد في آخر النص السابق ذهاب حسن المعنى المبتكر بتهجين
صورته.
والواقع أن المبدأين الرئيسيين الضابطين اللفظ والمعنى عنده يظالن
حاضرين في أغلب معالجته لهما .فهو يرى في شعر يورده أن معناه "جيد وليس
لأللفاظ رونق"( ،)78ولم ينبن على ذلك تقديم هذا الشعر ،ويعلق على شعر
األصفهاني العلوي بقوله" :ولست أورد أكثر شعره إال إلصابة معناه دون لفظه
ألن أكثر لفظه متكلف وجل صنعته فاسد"( ،)79ولم يشفع صواب المعنى للعلوي
أن يتبوأ شعره الصدارة بل يظل في نظر العسكري ضعيفًا .وفي مواقف لنقاد
سابقين كابن قتيبة وابن طباطبا ما كان يتمشى مع رأيه لو كان لفظيًا دومًا ،لكنه
يورد بعض أشعار استشهدوا بها كنماذج من غزليات جرير المشهورة من مثل
قوله" :إن العيون التي في طرفها حور" ،ويرفض أن يكون هذا الشعر من الذي
يستحسن لجودة لفظه وليس له كبير معنى بل يجزم بأنه ال يعلم" معنى أجود وال
أحسن من معنى هذا الشعر"( ،)80ذلك أن حضور العنصريين في معالجته النص
راسخ يؤكده رأيه في أن المراد من الشعر" ،حسن اللفظ وجودة المعنى"( )81ذلك
أن "سبيل الشعر أن يكون كالمه كالوحي ومعانيه كالسحر مع قربها من الفهم.
والذي ال بد لـه منه حسن المعرض ووضوح الغرض"( .)82وهكذا يتأسس
استقصاؤه المعاني في كتابه "ديوان المعاني" على خصائص ما يشترطه في
األلفاظ والمعاني إذ يقدم بين يدي كتابه بقوله" :جمعت في هذا الكتاب أبلغ ما جاء
في كل فن وأبدع ما روي في كل نوع من أعالم المعاني وأعيانها إلى عواديها
وشذاذها ،وتخيرت من ذلك ما كان جيد النظم محكم الرصف غير مهلهل رخو وال
متجعد فج"(.)83
ويبقى موقفه الذي يتأكد فيه جمعه المعنى واللفظ قائمًا بحسب المواصفات
اعتبار اللغة وسيلة الكشف عن الفكر ُم سّلمة لدى الفالسفة اإلسالميين .ولم
يكن بد للغة من أن تتنّز ل في هذا التصور منزلة الحامل للمعنى ،كالمشير الذي
يومئ إلى الشيء ،أو الصوت الحسي الظاهر الدال على المعنى العقلي الخفي،
ذلك أن التناول المنطقي للظاهرة وضع الفالسفة في إسار التركيز البدهي على
المعنى ،إذ لواله لما كان تلفظ ،والنعدم بذلك كل سلوك لغوي .فإذا انضاف إلى
ذلك كون التناول الفاحص للغة أو األلفاظ ليس إال من توابع البحث في المنطق أو
الفكر ،أو أنه –كما يقول ابن سينا" :لو أمكن أن يتعلم المنطق بفكرة ساذجة ،إّنما
تلحظ فيها المعاني وحدها ،لكان كافيًا"( ،)1أمكن التسليم مبدئيًا بأنه في عرف
الفالسفة فإّن كل بحث في اللغة إنما هو من مقتضيات الفكر ،وأنه تبعًا لذلك يتأكد
التمييز بين حقلي األلفاظ والمعاني ،ليشكل كّل منها خطًا يوازي اآلخر ويحاذيه.
ولّم ا كانت عملية التفكير ال تتم إال باللفظ بإقرار الفالسفة أنفسهم( ،)2وأن
عملية التفكير نفسها تتفاوت وتتنوع ،وأنها إذا تجّس دت في مسلك تعبيري يستهدف
إحداث تعبير فني عبر مدارج الكالم البليغ باتت لحمة األلفاظ والمعاني أشّد ما
تكون تآلفًا ،وأصبحت الفعالية إذ ذاك لمقدرة الذهن على توظيف األلفاظ لتدل على
مقاصد الفن .من هنا تنحسر عالئق الداللة المباشرة على المعاني وينتفي تالزم
المدلول بدال محدد أو العكس ،ويتضاءل –إن لم ينتِف -حضور التصور المنطقي
وال كلمت من بعد هجرانه الّس مر فال حسمت من بعد فقدانه الّظبي
ومنها تداخل األدوات ومخالفتها وتشاكلها" :من" و "إلى" من باب
المتخالفات ،و"من" و"عن" من باب المتشاكالت"(.)73
ونالحظ أن ابن سينا ذكر أمثلة لتشاكل األدوات وتخالفها ولم يستوف أقسامها
الناقصة والتامة ،فضًال عن أّن النظام المرّص ع كما قال يشمل مقابالت ثنائية تكاد
تغطي وحدات البيت كلها ،وهذا االزدواج الموسيقي الحادث بين الوحدات تشكيل
لمستوى صوتي موسيقي يشمل بالتناسب أو االنسجام المتوازن أصوات الوحدتين
أو الوحدات المتقابلة ،مّم ا يمكن أن يوضع ضمن مرتبة األلفاظ الّد الة البسيطة في
مستواها الّص وتي ،ذلك أن عّد الترصيع ضمن هذا التقسيم فيه تّج وز إذ إن تكرار
األلفاظ المتوازنة المتفقة األعجاز في الّش طرين ال يمكن أن ينضوي تحت القسم
األول من تخالف األدوات أو تشاكلها ،أما إذا كان ابن سينا يرى في الترصيع
تشابه أواخر المقاطع وأوائلها حيث يجتزئ المقطع األخير من كل لفظ مثًال
لينسجم مع مقابله ،فهو تفكيك لوحدة دالة بكامل أصواتها وتعسف في التمثيل.
"وأما الصيغ التي بحسب القسم الثاني فالتي بالمشاكلة التامة .فهي أن يتكرر
تبدو المشاكلة التامة الحادثة هنا بين معنيين مركبين من معاٍن عديدة نتاجًا
لتشاكل الترتيب في المعاني الجزئية المحدثة للتركيبين أو الشتراك في هذه
األجزاء مما يهب التركيبين تشاكًال تامًا ،خاصة إذا تأسس على هذا االشتراك في
األجزاء ترتيب منسجم متوازن ،إذ يبدو المستوى هنا مناظرًا لقسم األلفاظ المرّك بة
المترّتبة وفق عالقات تناسب وحداتها الجزئية .أما التخالف في هذا القسم وإ ن
شّك ل نوعًا من االنسجام والتناغم بالتضاد خاصة نوعه المرّك ب المؤسس على
المشترك في األجزاء ،فإنه ال يعدو أن يكون تضخيمًا للمطابق ،إذ إن من أقسام
هذا النوع ما يقع على الجمع والتفريق ،وجمع الجملة لتفصيل البيان .والتمثيل
وتأتي على قدر الكرام المكارم على قدر أهل العزم تأتي العزائم
ومثال الموافقة في بعض اللفظ وكل المعنى قولهم :درهم ضرب األمير،
ومضروب األمير .ومثل عكس هذا ،أعني في اللفظ وبعض المعنى :األسماء
المشّك كة ،والشعراء يستعملونها كثيرًا .ومثال الموافقة في كل اللفظ فقط األسماء
()91أبو حيان التوحيدي ،مثالب الوزيرين .94 :ينظر :البصائر والذخائر .م -422 :3/2
.423
()92أبو حيان التوحيدي ،البصائر والذخائر.181 :
()93أبو حيان التوحيدي ،اإلمتاع والمؤانسة .102 :1
()94نفسه .121 :1
()95أبو حيان التوحيدي .مسكويه ،الهوامل والشوامل.21 :
أصاخت إلى الواشي فلج بي الهجر إذا ما نهى الَّناهي فلّج بي الهوى
فبحسب ما سلف يمكن لنظرية عبد القاهر في النظم أن تعدد فعاليتها وأن
تشمل كل استعمال للكالم ،سواء أكان لمجرد االتصال أم للتأثير الفني ،وهذا الفهم
يبدو مخالفًا لرأي حمادي صمود في النظم إذ يحصره في الكالم الفني وال يرى لـه
عالقة بغيره( ،)154وقد انبنى هذا على رأيه في مدلول النظم ،إذ بعد أن دفع أن
يكون في اإلعراب أو في قواعد التركيب النظرية خلص إلى القول بأن النظم أو
معاني النحو "،هو خضوع الكالم لنواميس الفكر وبروزه على هيئة تحاكي
الروابط المنطقية التي يقيمها بين المعاني فتكون البنية اللغوية صدى لبنية عقلية،
منطقية سابقة"( .)155وعلى الرغم من أن هذا التحديد يتوافق مع تعليالت شتى
لعبد القاهر تبتغي حصر فعالية النظم من مثل قوله" :ليس الغرض بنظم الكلم أن
توالت ألفاظها في النطق ،بل أن تناسقت داللتها وتالقت معانيها على الوجه الذي
اقتضاه العقل" .)156(.وهي تقع في الصميم من أصوله المرتدة إلى معطيات
كالمية راسخة في نظرية الكالم النفسي ،فإن هذا التحديد يمثل حصرًا لفعالية
النظم في أقصى مراتبها من منظور أساسها العقلي ،حينما تكون صياغة القول
صدى لفعل العقل المتدبر في العالئق الالحمة لمعاني الكلمات في كمونها النفسي
الممثلة لبنية القول العميقة ،حيث ستمثل هذه الممارسة قاعدة الكالم األدبي ،لكن
هذا ال يتنافى مع شمول النظرية كل مراتب الكالم ،دون أن يؤدي بنا هذا إلى
االدعاء بأن عبد القاهر يولي األهمية نفسها لكل هذه المراتب ،إذ إن أغراضه
األساسية محصورة في التدليل على إمكان البرهنة على اإلعجاز باالعتماد على
النظم ،ومن ثمة وصف خصائص "األدبية" في النص األدبي عمومًا.
وتتبَّد ى الفعاليتان اللتان تبينان عن شمول نظرية النظم صنفي الكالم العادي واألدبي في قول عبد
القاهر":فلست بواجد شيئًا يرجع صوابه إن كان صوابًا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم ،ويدخل تحت
هذا االسم ،إال وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع في حقه ،أو عومل بخالف
هذه المعاملة فأزيل من موضعه ...ويكفيك أنهم قد كشفوا عن وجه ما أدركناه حيث ذكروا فساد النظم،
يشبه موقف حازم القرطاجّني موقف عبد القاهر الجرجاني في ما ينبغي أن
يتخذه ذو الذهن الكبير من ثقافات عصره من مواقف ،وفي حسم ما يكون قد
وصله من قناعات وآراء تأخذ صبغة المبادئ في الحقول المعرفية التي يتعاطاها.
غير أن الشبه بينهما ال يعدو هذا المنطلق ،بل يمكن اإلقرار بأن حصيلة موقفيهما
أقرب ما تكون إلى التباين ،علمًا بأن هذا التباين لم يمنع حازمًا من اإلفادة من عبد
القاهر.
وأصول هذا التباين أو االختالف تمتد إلى خصام النحو والمنطق باعتبارهما
عالمتين مميزتين لمنحيين في التفكير يرفد كًال منهما مصدر مغاير لآلخر ،فاألول
يتمثل في الثقافة العربية اإلسالمية في حدود أصالتها من منظور علماء اإلسالم
وعلماء اللغة خصوصًا ،وما يتفرع من ذلك من شعب تتأسس على مسلمات قائمة
على أساس من الشرع أو الفكر اللغوي العربي األصيل الذي لم يكن إال حاشية
على علوم القرآن ،أما الثاني فيتجسد في الفكر الفلسفي ذي األصول اليونانية
خاصة ،هذا التفكير الذي اعتبر ـ عند أقطابه ـ أّس األسس في كل معرفة تبتغي
بلوغ اليقين.
من هنا اعتمدوه منطلقًا فيصًال في ضبط مناهج البحث في المعارف وتأسيس
دروب التفكير العقلي الصحيح .وتم له أن يطول خصوصيات في الثقافة العربية
اإلسالمية كالشعر والخطابة ،خاصة في أعمال شراح أرسطو من الفالسفة
فانثنت نحو عزف نفس ذهول( لم يضرها ،والحمد هلل ،شيء
)52
المنزع الشعري
وتآلف العناصر الشكلية والمضمونية
"والمنازع هي الهيئات الحاصلة عن كيفيات مآخذ الشعراء في أغراضهم
وأنحاء اعتماداتهم فيها ،وما يميلون بالكالم نحوه أبدًا ،ويذهبون به إليه ،حتى
يحصل بذلك للكالم صورة تقبلها النفس أو تمتنع من قبولها .والذي تقبله النفس من
ذلك ما كانت المآخذ فيه لطيفة ،والمقصد فيه مستطرفًا ،وكان للكالم به حسن
موقع من النفس"( .)88وعلى الرغم من أن المنزع يكاد يتعادل بهذا التحديد مع
الطريقة أو المنحى الذي ينتحيه شاعر ما في الكالم أبدًا حتى يعرف به ،وإ ذ
إذا مشى الليث فيها مشى مختتل ذنبي إلى الخيل كّر ي في جوانبها
فإنك لو غيرت صيغة هذا البيت وأزلتها عن موضعها ،فقلت مثًال" :كم
أذنبت إلى الخيل بكّر ي في جوانبها" ،أو غيرته غير هذا التغيير لم تجد له من
حسن الموقع من النفس ،ما لـه في صيغته ووضعه الذي وضعه عليه المخزومي"(
.)93
فعلى الرغم من تجنب حازم التدليل على حسن البيت باعتماد وجه نحوي
صريح فإن تعليل ذلك بالرجوع إلى وضعه وصيغته تحرك في حقل المفهوم العام
المترتب على النظم.
والخالصة إن حازمًا استطاع أن يؤلف من محصول آراء النقاد قبله في
النص وبخاصة الفالسفة وعبد القاهر تركيبة متماسكة ،انصهر في أتونها "التخييل
والنظم" فولدا نظرية بالقدر الذي بحثت الشعر من جوانب عناصره الكلية التي
تحّد د مفهومه وغايته ،بقدر ما كيفت أداته للغاية والمفهوم ،فتجسدت بنيته اللغوية
في تالحم المعاني واأللفاظ في مراتب دائرية ،تبدأ بمركز يترسخ في لحمة المعنى
هوامش الفصل الخامس
(-)1أشار المحقق إلى مواضع عديدة يستعين فيها حازم بالفيلسوفين في الهامش ،مثل ما ورد
في 165 :هامش .1و 63 :هامش .1و 69 :هامش.3-1 -
(-)2نفسه.86 :
(-)3ينظر :ابن حازم ،التقريب لحد المنطق .206 :الرسائل ،389 :1جـ.164-163 :3
(-)4حازم ،المنهاج.122-121 :
(-)5نفسه.124 :
(-)6ينظر الفصل السابق.
(-)7إحسان عباس ،تاريخ النقد األدبي.370 :
(-)8حازم ،المنهاج.87 :
(-)9ينظر :شوقي ضيف ،البالغة تطور وتاريخ ..32 :جابر عصفور ،الصورة الفنية.123 :
(-)10ينظر مثًال :المنهاج .135 :وكتاب الشعر.228 :
(-)11نفسه.19-18 :
(-)12ينظر :جابر عصفور ،مفهوم الشعر.305 :
(-)13حازم ،المنهاج.17 :
(-)14وحازم بهذا يتأثر بالفالسفة اإلسالميين .ينظر :جابر عصفور ،مفهوم الشعر.237 :
األخضر جمعي ،نظرية الشعر.43-27 :
(-)15حازم ،المنهاج.250-249 :
(-)16نفسه.193 :
(-)17نفسه.
(-)18نفسه.196-195 :
(-)19ينظر :الفصل الخاص بالفالسفة.
(-)20حازم ،المنهاج.89 :
(-)21نفسه.63 :
إنه يمكننا اإلقرار في ختام هذه الرحلة بأن وعي النقاد العرب القدماء بمشكلة
اللفظ والمعنى ،ووجوه التناول التي أفرزتها محاوالت استقصائهم الموضوع،
تتجاوز مجرد االنتصار لهذا الشق أو ذاك ،إلى محاولة حصر منطقة التالحم بين
العنصرين؛ ذلك أن الوعي ظل في جوهره مشدودًا إلى أشكال التآلف التي يمكن
أن تلحمهما ،أو التفاعل دون أن يغيب عن البال اهتمام أولئك أيضًا بمختلف
المعاني ..التي استخدم فيها المصطلحان ،ولكن البحث إذ ضبط منطقة استقصاء
واحدة هي عالئق الطرفين ،أزاح ما عداها إال بالقدر الذي تمليه شروط القراءة.
من هنا يمكننا اإلقرار بأن أشكال العالئق التي تنتظم المعنى واللفظ في وعي النقد
العربي القديم ..تقوم على مراهنات تبدأ من ضرورة تحقيق تطابقهما إلى مستوى
أعمق تبلغ فيه الصلة بين الطرفين مرحلة التفاعل الذي يكاد يحيلهما كًال واحدًا،
خاصة حين تمتد المعاينة لتعانق عبارة كاملة أو نصًا باالستناد إلى مفاتيح متطورة
مثل معاني النحو.
وإ ذ نقر أيضًا بأن دعوى التآلف بين العنصرين أو تفاعلهما ،إذ تبدأ من
معاينة التجسد الفعلي لهذه الخاصية في مستوى إفرادي يلحم داًال ومدلوًال ،تنتهي
إلى مسار معقد تتكامل فيه دوال عدة في بنية عبارة ،أو تأتلف في فصول خطاب
في بنية كلية ،دون أن يغيب عن الرصد معاينة مستويات الخطاب المؤتلفة أو
المتفاعلة دالليًا وتركيبيًا وصوتيًا ،وإ ن تفاوتت عدسات الرؤية المعاينة للظاهرة
بين ناقد وناقد واتجاه وآخر.
فلقد قدر لمقاربة الجاحظ مشكلة اللفظ والمعنى ،والنظم ،أن تحوي أغلب
البذور التي استثمرتها المحاوالت التالية ،إذ إن إلحاحه على ضرورة تحقيق
تطابقهما ..ووعيه الحاد بلحمة عناصر النص في الخطاب الشعري خاصة
-كتاب األلفاظ المستعملة في المنطق ،تحقيق حسن مهدي ،دار المشرق ،بيروت،
المراجع األجنبية
BEN CHEIKH Jamal Eddine:
- Poétique Arabe, ed. Antropos, Paris, 1975.
BENVENISTE Emile:
- Problèmes de linguistique Générale, t.2, Gallimard, 1974.
CHAUCHARD Paul:
- Le langage et la pensée, P.U.F., Paris, 1968, 7éme ed.
COHEN Jean:
- Structure du langage poétique, flammarion, Paris, 1966.
DE SAUSSURE Ferdinand:
- Cours de linguistique générale, publié par charles Bally et Albert
Sechehaye, ed. Critique preparée par de Mauro, Payot, Paris,
- 270 -
المحتويات
اإلهداء 5...........................................................................
مقدمة 7............................................................................
مدخل اللغة بين أصناف الدالالت 13..............................................
عالقة اللغة بالفكر17............................................ :
قضية الكالم النفسي وأثرها في اللفظ والمعنى23...................
مفهوم الهيولى والصورة وإ شكال اللفظ والمعنى25.................
أثر المجاز في بحث اللفظ والمعنى28.............................
هوامش المدخل30...................................................... :
الفصل األول :بنية النص األدبي من الجاحظ إلى قدامة بن جعفر37...........
الجاحظ وتطابق اللفظ والمعنى37.................................
ابن قتيبة وابن طباطبا والمنظور الثنائي في فهم النص األدبي57. .:
قدامة بن جعفر وائتالف عناصر النص67.........................
هوامش الفصل األول74................................................ :
الفصل الثاني:النص األدبي بين ثنائية اللفظ والمعنى والفصاحة والبالغة حتى
ابن رشيق 81................................................................
اللفظ والمعنى عند أصحاب الموازنات82..........................
النص األدبي وإ شكال الفصاحة والبالغة94........................
ائتالف اللفظ والمعنى عند نقاد القرن الخامس الهجري114........
هوامش الفصل الثاني121................................................
الفصل الثالث :الشعر بين المحتوى والشكل عند الفالسفة اإلسالميين129......
الكالم العادي والكالم األدبي130..................................
المستوى المعني للمحاكاة والخاصية النوعية للشعر139............
التحسينات اللفظية والتحسينات المعنوية149.......................
تحلي ـ ــل الطراغوذي ـ ــا (الم ـ ــديح الش ـ ــعري) والمص ـ ــادرة علىالمض ـ ــمون
والشكل 161.....................................................
414 -1ج م ع ل
810.9 -2ج م ع ل
-4جمعي -3العنوان