Word 1377

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 274

‫اللفظ والمعنى‬

‫في التفكير النقدي والبالغي عند العرب‬

‫‪-2-‬‬
‫الحقوق كافة‬
‫مـحــــفــــوظـة‬
‫التـحــاد الـكـتّـاب الــعـرب‬

‫‪: unecriv@net.sy E-mail‬‬ ‫االلكتروني‪:‬‬ ‫البريد‬


‫‪aru@net.sy‬‬
‫موقع اتحاد الكّتاب العرب على شبكة اإلنترنت‬
‫‪http://www.awu-dam.org‬‬

‫تصميم الغالف للفنان‪ :‬سائد سلوم‬


‫‪‬‬

‫‪-3-‬‬
‫الدكتور األخضر جمعي‬

‫اللفظ والمعنى‬
‫في التفكير النقدي والبالغي عند العرب‬
‫‪ -‬دراســــــة ‪-‬‬

‫من منشورات اتحاد الكتاب العرب‬


‫دمشق ‪2001 -‬‬

‫‪-4-‬‬
-5-
‫ش اإلهــداء‬

‫إلــى والدتي‬
‫وإلـــى روح أخي السعيد‬
‫اللذين لوال تضحياتهما وصبرهما‪،‬‬
‫بعد توفيق هللا‪ ،‬ما كان لهذه المحاولة أن تظهر‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪-6-‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫‪-7-‬‬
‫مقدمة‬

‫لم يكن من اهتمامنا مواجهة إشكال اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم من‬
‫منظور تصنيفي يبتغي تنزيل النقاد طوائف‪ :‬لفظيين ومعنويين ومسّو ين بين قطبي‬
‫الداللة؛ ألننا نحسب أن هذه المباشرة قاصرة‪ ،‬إذ باإلضافة إلى أنها تفترض سلفًا‬
‫هذا السّلم التصنيفي مما يجعل التحليل مشدودًا مبدئيًا إلى هذه الفكرة‪ ،‬فإنها ال‬
‫تحدد غالبًا مقاصدها من المشكلة‪ ،‬وال تضبط حقل التناول بصرامة‪ .‬من هنا تكون‬
‫مباشرة التصنيف تجاوزًا لكثير من الخصوصيات التي قد تدعو مراعاتها إلى‬
‫إغفال كثير من شائع اآلراء‪.‬‬
‫كما أنه ال يعنينا تعقب داللة اللفظ والمعنى ومقاييسهما في التراث؛ ذلك أنه‬
‫إذا كان من معاني "اللفظ" ما يلفظ به من الكلمات أو يتكلم به‪ ،‬ومن دالالت‬
‫"المعنى"‪ ،‬القصد‪ ،‬وما يدل عليه اللفظ‪ ،‬فإن عنايتنا مرتبطة بعالئق اللفظ والمعنى‬
‫ودرجات وعي أعالم التراث بمستويات هذه العالئق‪ .‬هذه المستويات التي انتهى‬
‫بنا رصدها إلى إدراجها ضمن منظورين في معاينة هذا التعّلق‪ :‬منظور يستخدم‬
‫فكرة "االئتالف" في رصد شبكة الصالت بين الدوال والمدلوالت مع ما تعنيه كلمة‬
‫"االئتالف" من الوصل والجمع والتوافق‪ .‬ومنظور يعي فكرة عن البنية‪ ،‬باعتبار‬
‫أن خالصة تفاعل وحدات الكالم في نسيج السياق يؤول إلى بنية أو "هيئة"(‪ ،)1‬دون‬
‫أن يمتنع تداخل المفهومين في المجرى الواحد‪ .‬علمًا بأن الرصد تعقب في كثير‬
‫من المفاصل العالئق التي تنتظم قطبي الداللة إلى غاية ائتالف وحدات القول أو‬
‫تفاعلهما في بنية عامة‪ .‬وكان يمكن أن ننحت عنوانًا معاصرًا لموضوع البحث ما‬

‫(?) ينظر‪ :‬مادة‪ :‬لفظ‪ ،‬معىن‪ ،‬ائتالف‪ ،‬بنية‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار بريوت‪ ،‬جملد ‪ ،7‬ص‪ ..461 :‬جملد ‪ ،7‬ص‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ .104 ،461‬جملد ‪ ،15‬جملد ‪ ،9‬ص‪ :‬و‪ .‬جملد ‪ ،14‬ص‪ .89 :‬املعجم الوسيط‪ ،‬جممع اللغة العربية‪ ،‬دار املعارف مبصر‪،‬‬

‫(جـ‪( ،1972 )1‬جـ‪ ،1973 )2‬ط‪ ،2‬جـ‪ ،2‬ص‪ ،633 ،832:‬جـ‪ ،1‬ص‪.72 ،24:‬‬

‫‪-8-‬‬
‫دمنا بصدد معاينة وعي النقاد العرب القدماء بمشكالت النص والبنية‪ ،‬إال أننا‬
‫فضلنا توظيف ما اعتمده النقاد أنفسهم من اصطالح‪ ،‬إذ فضًال عن أن ذلك يوفي‬
‫بالمستلزمات التاريخية فإنه ينجينا في اآلن نفسه من تعسف إسقاط االصطالح‬
‫المحدث على القديم‪.‬‬
‫وبالقدر الذي انحصر الموضوع في نواة مركزية تتمثل في معاينة التأليف‬
‫بين عنصري الداللة أو تفاعلهما إلى غاية البنية العامة‪ ،‬فإن هذه القراءة لم تحصر‬
‫نفسها بجنس أدبي معين‪ ،‬ذلك أن اتجاهات النقد العربي القديم لم تكن تضبط نفسها‬
‫مطلقًا عند مقاربة إشكال اللفظ والمعنى في خانة نوع أدبي محدد‪ ،‬بل كان‬
‫استقصاؤها شامًال‪ ،‬دون أن نغفل اإلشارة إلى تخصيص بعض الفئات نوعًا معينًا‬
‫بالتركيز‪ ،‬كالفالسفة وحازم القرطاجني مثًال‪ ،‬علمًا بأن هذا الشمول ال يلغي الوعي‬
‫األولي على األقل بمفهوم األنواع األدبية في التراث النقدي‪ .‬ثم كان هاجس هذه‬
‫القراءة عامًا يستضيئ بمقولة "األدبية" دون أن يغفل مراعاة تنوع األحكام‬
‫المتفرعة من معاينة أكثر من نوع أدبي إذا اقتضى األمر ذلك‪.‬‬
‫وباإلضافة إلى تجاوز البحث مشكلة النوع‪ ،‬فرض عليه استقصاء‬
‫االتجاهات النقدية التي عرفتها الحضارة العربية اإلسالمية انتشارًا واسعًا شمل من‬
‫منظور الزمنية حقبة تبدأ بالجاحظ وتنتهي بحازم القرطاجّني‪ ،‬ومن منظور‬
‫االتجاهات‪ :‬النقاد‪ ،‬والفالسفة‪ ،‬والمتكلمين‪ .‬فإذا كان أمر النقاد بّينًا‪،‬ونحن ال نفصل‬
‫بينهم وبين البالغيين‪ ،‬إذ الفصل لم يكن حاسمًا في القديم‪ ،‬فإننا قصدنا بالفالسفة من‬
‫عرفوا قديمًا بهذا الوصف من خارج المتكلمين‪ ،‬ونريد بهم من تفقه في ما ترجم‬
‫من فلسفات يونانية بالخصوص‪ .‬ومثّل هؤالء في النقد األدبي مسارًا أَّر قه التنظير‬
‫للظاهرة األدبية‪ ،‬دون أن يتناسى االهتمام بالهيئة التي يتلبسها المعنى‪ ،‬وبالكيفية‬
‫التي يستحيل بها الخطاب شعرًا أو خطابة‪ ،‬وإ ذا كان من أقطاب هذا االتجاه الكندي‬
‫والفارابي ومسكويه وابن سينا وابن رشد ومن سار على دربهم‪ ،‬فإننا لم نجد ُبّد ًا‬
‫من عّد أبي حيان التوحيدي ضمن هذه الدائرة‪ ،‬ذلك أنه باإلضافة إلى كونه أديب‬
‫الفالسفة‪ ،‬شكلت مطارحاته المعرفية عامة‪ ،‬واألدبية بالخصوص لحمة جدالية‬
‫حاور فيها فالسفة كمسكويه وأبي سليمان المنطقي‪ ،‬فكان بذلك أقرب إلى هؤالء‪،‬‬
‫علمًا بأن وضعه في خانة النقاد ال يستقيم والوجهة التي انضبط بها بحث هؤالء‪.‬‬
‫وما دام اصطالح المتكلمين يسع من هّب قديمًا إلى الدفاع عن العقيدة بالحجة‬
‫العقلية‪ ،‬ومَّثل المعتزلة واألشاعرة طائفتي الكالم العظميين في التراث‪ ،‬فإن‬
‫قراءتنا نتاج هؤالء تجاوزت هذا التصنيف العقائدي‪ ،‬إذ شملت المقاربة معتزلة‬

‫‪-9-‬‬
‫وأشاعرة معًا‪ ،‬كالخطابي والرماني والباقالني والقاضي عبد الجبار وأخيرًا عبد‬
‫القاهر الجرجاني‪ ،‬ذلك أنه لم يكن من اهتمامات هذا البحث سوى استجالء الرأي‬
‫في الروابط التي يمكن أن تنضبط بها عالئق عناصر النص في نظر المتكلمين‬
‫جميعًا‪ ،‬ذلك أن المنطلقات العقائدية المختلفة لم تُح ل دون معاينة المشكلة الواحدة‬
‫بمفاتيح متقاربة؛ ويكفي اإلشارة هنا إلى الشبه الكبير بين القاضي عبد الجبار‬
‫وعبد القاهر واعتمادهما النحو في تحديد بنية العبارة‪.‬‬
‫وباالستناد إلى ما سلف يمكننا القول إنه لم يقع بين أيدينا بحث يختص بقضية‬
‫اللفظ والمعنى في النقد العربي القديم حسب االتجاهات المحددة سابقًا‪ ،‬ويحصر‬
‫جوهر استقصائه في العالئق التي تربط العنصرين في المستويات المختلفة‪ ،‬دون‬
‫أن نغفل اإلشارة إلى أن هناك بحوثًا بنت مشروعها بمقاربة المسألة من زاوية‬
‫مغايرة كالشأن مع مصطفى ناصف في "نظرية المعنى في النقد العربي"‪ ،‬أو كان‬
‫اهتمامها محكومًا بمنطلقات نظرية كمؤلف جابر عصفور "مفهوم الشعر"‪ ،‬الذي‬
‫أفدنا منه ما خص به حازمًا بالخصوص‪ ،‬وإ ن كانت وجهتنا في هذه الدراسة مباينة‬
‫لمجرى البحث في الكتاب؛ وغيرها كثير كالحال مع المؤلفات التي تهتم بمقاييس‬
‫الفصاحة والبالغة للفظ والمعنى مثًال‪ ،‬إال أنه يمكننا اإلقرار بأن مقال شكري‬
‫محمد عياد‪" :‬المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العربية"‪ ،‬كان‬
‫من البحوث التي أفدنا منها في تحديد وجهة البحث‪ .‬ثم حوى إنجاز حمادي‬
‫صمود‪" :‬التفكير البالغي عند العرب" أجوبًة لكثير من مشاغلنا المتعلقة بالجاحظ‬
‫وعبد القاهر والعسكري وابن سنان‪ ،‬وإ ن كانت إفادتنا من الكتاب عظيمة في‬
‫الموضوعات المشتركة بيننا وبينه‪ ،‬إال أن ذلك لم يحل دون أن تباين آراؤنا جملة‬
‫من آراء الباحث‪ ،‬ومع ذلك سيبقى الكتاب يمثل قراءة جادة وعميقة تستضيئ‬
‫بمفاتيح أسلوبية معاصرة لكثير من قضايا البالغة في التراث‪.‬‬
‫ومع كل ما سلف‪ ،‬وخضوعًا لمسايرة طبيعة التناول التي تفرض علينا عزل‬
‫كل اتجاه عن اآلخر‪ ،‬إذ أفردنا النقاد بوقفة‪ ،‬ثم الفالسفة فالمتكلمين‪ ،‬وأخيًر ا مصّبًا‬
‫تفاعلت فيه الشعب السالفة تمّثل في حازم القرطاجني‪ ،‬هذا المنظور الفاصل بين‬
‫هذه االتجاهات اقتضى افتراض عدم الصدور عن رؤية تاريخية في معاينة‬
‫اإلشكال المطروح باألساس‪ ،‬ذلك أن هذه االتجاهات انبثقت من نسيج الثقافة‬
‫الواحدة وتفاعلت أسسها ونتائجها؛ فلقد عاصر النقاد والمتكلمون الفالسفة‪ ،‬وإ ن‬
‫كان ما بين أيدينا من نتاج المتكلمين يبدأ بالقرن الرابع الهجري‪ .‬من هنا يكون‬
‫إفراد كل تيار عن اآلخر معناه قراءة معادلة لإلشكال نفسه من منظور يكرر‬

‫‪- 10 -‬‬
‫الزمن وال يبنيه صعدًا‪ ،‬إذ يخضعه إلى قراءة دائرية تعيد نفسها مجددًا بعين‬
‫مغايرة لعين‪ .‬ومع ذلك أملى البحث نفسه بناًء جداليًا شبه متصاعد‪ ،‬إذ بعد أن‬
‫اجتزنا مشكلة النقاد في فصلين‪ ،‬ثم خصصنا الفالسفة بثالث‪ ،‬فكان ميالد‬
‫األطروحة بهذا الثالث انبثاقًا من فكرة التخييل ليبرز مقابلها في الفصل التالي على‬
‫يد عبد القاهر هذا المقابل الذي تجسد في النظم‪ ،‬ثم تنتهي القضية إلى ما يشبه‬
‫التأليف على يد حازم القرطاجني إذ انصهر لديه النظم والتخييل في تأليف متناسق‬
‫متكامل‪ .‬فكأن الدوائر التي تعيد نفسها تمردت على المركز وانطلقت في خط‬
‫مستقيم‪ ،‬ومع ذلك لم تكن غايتنا محكومة بمنهج تاريخي‪ ،‬بل ظلت عنايتنا متعلقة‬
‫بمقاربة نّص ّية تستند إلى التحليل‪ ،‬وإ ن نازعتهما الحضور أحيانًا إمالءات القضّية‬
‫ومقابلها‪.‬‬
‫ومع أننا ال نستطيع أن ندعي أنه كان بإمكاننا تجريد هذه الرجعة إلى التراث‬
‫من كل معاصرة أو حداثة‪ ،‬إذ إن كل قراءة تظل أسيرة قناعات الذات ومنطلقاتها‪،‬‬
‫إال أننا حاولنا تنزيل المحاولة في سياقها الثقافي‪ ،‬ولكن ضمن أبنية حديثة تستهدف‬
‫إدراج المقروء في خانات ضبطها البحث النقدي واألسلوبي المستندين إلى‬
‫أصول البحث اللساني الحديث‪ ،‬فبالقدر الذي تستعين فيه المحاصرة بمفاتيح‬
‫معاصرة‪ ،‬قصد تكييف المقروء للمقاربة الحديثة‪ ،‬ال تمسخ تاريخه فترى فيه نّد ًا‬
‫للحديث‪ ،‬وال تسلمه رقبتها فتستحيل عبدًا إلمالءاته‪ ،‬إنما هي المباشرة التي تضمن‬
‫لنفسها مسافة واعية بظروف القديم وبمعطيات الحديث‪ ،‬ونحسبها بذلك تكون في‬
‫منجاة من التطرف‪.‬‬
‫أما الخطة تفصيًال‪ ،‬فقد قامت على مدخل وخمسة فصول‪ .‬خص المدخل‬
‫بتعّقب األصول اللغوية والفكرية التي أّثرت في مشكلة اللفظ والمعنى‪ ،‬كعالقة‬
‫اللغة بالفكر‪ ،‬ومشكلة الكالم النفسي التي وّلدها البحث في قضية القرآن‪ ،‬وكذلك‬
‫ثنائية الهيولى والصورة‪ ،‬دون أن نغفل التعرض النعكاس الوعي بتميز وظيفة‬
‫الخطاب األدبي عن مجرد اإلخبار على فهم النص األدبي‪ :‬إذ يتكيف البحث في‬
‫عالقة اللفظ بالمعنى في النص بحسب الوظيفة المبتغاة‪ .‬وقد وجدنا أن التقديم‬
‫للبحث بمتابعة هذه األصول تنزيل للظاهرة ضمن مصادرها الفكرية واللغوية‬
‫العامة‪ ،‬فال يقع اجتثاث لها عن تلك المنابع واألصول‪.‬‬
‫وقد أفردنا للنقاد فصلين‪ :‬تكفل أولهما بتعقب بنية النص األدبي من الجاحظ‬
‫إلى قدامة بن جعفر وقام بناؤه على تقسيم ثالثي‪ ،‬أفرد القسم األول للجاحظ‪،‬‬
‫واألخير لقدامة‪ ،‬والقسم األوسط البن قتيبة وابن طباطبا‪ .‬وعادله الفصل الثاني في‬

‫‪- 11 -‬‬
‫القسمة‪ ،‬إذ قام على تعقب مشكلة النص األدبي بين ثنائية اللفظ والمعنى والفصاحة‬
‫والبالغة حتى ابن رشيق‪ ،‬فكان قسمه األول ألصحاب الموازنات‪ ،‬ونقصد اآلمدي‬
‫وصاحب الوساطة‪ ،‬واألخير لنقاد من القرن الخامس الهجري هم المرزوقي‬
‫والشريف المرتضى وابن رشيق‪ ،‬وخص القسم األوسط بالعسكري وابن سنان‪.‬‬
‫ولم نخص هؤالء النقاد بالبحث في فصلين إال ألن لهم آراء ناضجة في‬
‫الموضوع‪ ،‬فقد قامت أعمال بعضهم كقدامة على وعي صريح بمشكلة بناء النص‬
‫عمومًا‪ ،‬فكانت فكرته في االئتالف قاعدة مقاربته مستويات النص‪ ،‬علمًا بأن طرح‬
‫القضية تنوع وفق طروحات الناقد واهتمامه‪ ،‬إذ بالقدر الذي تكيف اإلشكال وفق‬
‫مرامي أصحاب الموازنات مثًال‪ ،‬أخذ طابعًا مخصوصًا مع إشكال الفصاحة‬
‫والبالغة لدى العسكري وابن سنان‪ .‬أما عن تبرير وقفتنا في الفصل األول بقدامة‪،‬‬
‫فلم يكن الداعي إلى ذلك سوى اإليمان بانتهاء دورة ناضجة في النقد أسس‬
‫قواعدها الجاحظ الذي سُتعرْض أغلب آرائه في كل المسارات بعده‪ ،‬ثم ختمت‬
‫بقدامة بن جعفر‪ ،‬فلم يكن للنقاد بعدهم ُبّد من أن يعيدوا أغلب ما سلف من‬
‫أطروحات‪ ،‬وإ ن تلونت بخصوصية البحث لدى هذا الناقد أو ذاك‪ ،‬علمًا بأننا لم‬
‫نهمل اإلشارة في الهامش إلى من لم يفرد بالبحث في المتن‪ ،‬وصادف أن وافقت‬
‫بعض آرائه وجهات نظر المتعرض له بالدرس‪.‬‬
‫أما الفالسفة اإلسالميون‪،‬الذين ُخ ّص وا بالفصل الثالث‪ ،‬فإننا نريد بهم – كما‬
‫أشرنا سلفًا – كل من ولع بالبحث الفلسفي الخالص‪ ،‬وتعاطى ما نقل عن اليونان‬
‫بالخصوص‪ ،‬وكان لـه حظ من البحث في الظاهرة األدبية‪ .‬ولم نكتف بتوظيف‬
‫أعمالهم المرتبطة بمسائل األدب فحسب‪ ،‬بل حاولنا تقّص ي ما يدعم هذه اآلراء في‬
‫نتاجهم الفلسفي العام‪.‬‬
‫ثم انبنى الفصل الرابع على عرض المقابل إلنجاز الفالسفة المتمثل في‬
‫نظرية النظم‪ .‬فبعد أن تعقبنا الموضوع لدى دارسي اإلعجاز من غير عبد القاهر‬
‫خصصنا القسم األكبر له‪ ،‬وبه اكتمل وعي ببنية النص األدبي يسّلم بإمكان تحقيق‬
‫المباشرة المدققة في العالئق الالحمة بين عناصره‪ ،‬إذ قام االستقصاء على توظيف‬
‫معاني النحو تجلية للظاهرة‪ ،‬ثم قّد ر لهذه المجاري أن تتالقى أخيرًا لتثمر تأليفًا‬
‫متمسكًا‪ ،‬أفرد له الفصل الخامس‪ ،‬فتم فيه صهر نتاج الفالسفة المتكئ على المنطق‬
‫وإ نجاز عبد القاهر المراهن على النحو في إطار من الشمول الواعي بكل‬
‫مستلزمات القضية‪ ،‬فضًال عن توظيف أطروحات شتى لقدامة وابن سنان الخفاجي‬
‫وغيرهما من النقاد والبالغيين السابقين في إطار من اإلحساس بخصوصية‬

‫‪- 12 -‬‬
‫الظاهرة األدبية وبجدوى قراءتها ونقدها‪ ،‬وكان ذلك لدى علم من أعالم البحث‬
‫النقدي في الحضارة العربية اإلسالمية هو حازم القرطاجني‪ .‬وأخيرًا ال يدعي‬
‫صاحب هذه المحاولة أنه قال الرأي الفيصل في القضية‪ ،‬إذ مع اإلقرار بشمول‬
‫الطموح الذي دعاه إلى متابعة اإلشكال في أغلب مظانه من تراث العرب النقدي‪،‬‬
‫تظل مادة هذا التراث الثرية قابلة للقراءة المجددة والتأويل‪ ،‬وبحسبه أنه حاول أن‬
‫يجلَو إحدى مشكالت النقد الكبرى من خالل رؤية حاولت االقتراب قدر اإلمكان‬
‫من جوهر اإلشكال‪ ،‬وعساه أن يكون قد أصاب بعض التوفيق‪.‬‬
‫وباهلل التوفيق‬

‫الجزائر‪ :‬ربيع األول – ربيع اآلخر ‪ 1408‬هـ‬


‫نوفمبر – ديسمبر ‪1987‬م‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 13 -‬‬
‫مدخل‬
‫اللغة بين أصناف الدالالت‬

‫يرتبط لدى مؤّس سي الفكر اللغوي في الحضارة العربية اإلسالمية مبحث‬


‫الداللة اللغوية بتصور شامل ألصناف شتى من الدالالت التي تقوم في جوهرها‬
‫على فكرة اإلفضاء إلى حقائق األشياء أو المدلوالت والمعاني باالعتماد على‬
‫أنواع من األدلة‪.‬‬
‫ولقد شكل المنظور الشمولي لفكرة الداللة دائرة واسعة استوعبت على‬
‫المستوى المبدئي كل ما يمكن أن يصدر عنه فعل اإلبانة عامة‪ ،‬فكما يرى الجاحظ‬
‫أن "البيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى‪ ،‬وهتك الحجاب دون‬
‫الضمير‪ ،‬حتى يفضي السامع إلى حقيقته‪ ،‬ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك‬
‫البيان‪ ،‬ومن أي جنس كان ذلك الدليل" (‪ )1‬طالما أن المعتبر هو إباحة الدليل‬
‫بمخزونه ومحتواه‪.‬‬
‫ولقد تواتر ذكر أصناف داللية خمسة قام الجاحظ برصدها أيضًا‪ ،‬إذ يرى أن‬
‫"جميع أصناف الدالالت على المعاني من لفظ وغير لفظ‪ ،‬خمسة أشياء ال تنقص‬
‫وال تزيد‪ :‬أولها اللفظ‪ ،‬ثم اإلشارة‪ ،‬ثم العقد‪ ،‬ثم الخط‪ ،‬ثم الحال التي تسمى نصبة"‬
‫(‪.)2‬‬
‫وشكلت هذه األصناف لدى غيره حضورًا متكررًا كلما استدعى المقام‬
‫التعرض لمسائل الداللة (‪.)3‬‬
‫وينتظم هذه األصناف من الدالالت أصول عامة تتمثل في منطلقات عقائدية‬
‫بالخصوص‪ ،‬يستحيل بموجبها فعل الداللة طرقًا على المطلق ومعانقة ألصل‬
‫الوجود (‪ ،)4‬دون أن نغفل أساس الحاجات االجتماعية المتجسدة أساسًا في‬
‫االضطرار إلى االتصال وتكييف بعض هذه األصناف وفق هذه الوظيفة‪.‬‬

‫‪- 14 -‬‬
‫وباعتماد العقل المفتق لخصائص اإلفضاء بالداللة بحسب طبيعة أنظمة‬
‫األدلة ووظائفها يتم تنزيل تلك الدالالت أصنافًا أو أنواعًا رئيسية حيث‬
‫يبدو "توافق عام عند العرب على تقسيم الداللة ثالثة أنواع‪ :‬عقلية وطبيعية‬
‫ووضعية" (‪ .)5‬وهذا التمييز إذ يبيح إمكان ضبط الفروق بين هذه األنساق الداللية‬
‫المؤسسة على رصد دقائق اإلدالء بين طرفي كل دليل وطبيعة ذلك اإلدالء القائمة‬
‫على أساس طبيعي أو عقلي أو عرفي يمّك ن من استجالء خصائص الدليل اللغوي‬
‫في هذا اإلطار الشامل‪ .‬إال أن المقام ال يبيح لنا متابعة هذه الخصائص وال ضبط‬
‫تلك الفروق‪ ،‬إنما نكتفي باإلشارة إلى أنه وقع في التراث العربي اإلسالمي تمييز‬
‫الدليل اللغوي بخاصية االعتباط باعتباره يتنزل في متصور العرف مقابل وسم‬
‫غيره من أنظمة األدلة األخرى المترتبة في خانة النسق الطبيعي والمنطقي بسمة‬
‫االضطرار‪ .‬واستحالت خاصية االعتباط معيارًا لضبط الجهاز اللغوي وطاقته‬
‫اإلبالغية (‪ .)6‬ولقد ترتب على هذا التمييز النوعي أن تبوأت اللغة مكانة الئقة‬
‫تكفل لها االستجابة لحاجة االجتماع البشري إلى االتصال باعتبارها الوسيلة‬
‫األولى المحققة لهذه الغاية‪.‬‬
‫ورغم ما حظيت به اللغة في التراث العربي اإلسالمي من مكانة وما شكله‬
‫استقصاء البحث فيها من غنى‪ ،‬إذ يكفي للتدليل على ذلك اإلشارة إلى ثراء‬
‫المعارف التي عرفتها هذه الحضارة التي أسسها االعتكاف على قراءة الظاهرة‬
‫اللغوية قراءاٍت كان محورها القرآن الكريم‪ ،‬وقد تنزلت اللغة في هذا التراث‬
‫منزلة المعرف للكائن العاقل‪ ،‬إذ أنه تواتر – تحت تأثير يوناني ال شك – تعريف‬
‫اإلنسان بأنه حيوان ناطق‪ ،‬فإنه حظيت مع ذلك بعض األدلة بمتابعة وتقٍّص ‪،‬‬
‫وشكلت منطلقًا صحب الدليل اللغوي ميالدًا ووظيفة‪ ،‬كداللة اإلشارة التي تتحقق‬
‫بكيفيات شّتى‪ ،‬تثريها مرونة العضو أو الكيفية التي بها تؤّد ى‪ ،‬إذ قد تكون "باليد‬
‫والرأس" (‪ ،)7‬وتتحقق برفع الحواجب وكسر األجفان‪ ،‬ولِّي الشفاه وتحريك‬
‫األعناق‪ ،‬وقبض الوجوه‪ ،‬وأبعدها أن تلوي بثوب على مقطع جبل تجاه عين‬
‫الناظر (‪ .)8‬وقد تكون وحيًا إذ هو "اإلبانة عما في النفس بغير المشافهة على أي‬
‫معنى وقعت من إيماء وإ شارة (‪ ،)9‬لتأخذ أخيرًا اصطالح الرمز الذي "يكون‬
‫بالشفتين والحاجبين والعينين" (‪ ،)10‬علمًا بأن للرمز إطارًا وظيفيًا آخر أكثر‬
‫شموًال يتعادل مع فكرة اإليحاء بالداللة عن طريق تشكيل صوري يأخذ طابع‬
‫التعبير غير المباشر عن المقصود‪ ،‬كما شّخ صه الفيلسوف الكندي في شرح الرؤيا‬
‫الرمزية إذ يرى أن "الرامزة فإنها إذا كانت اآللة أقل تهيؤًا لقبول أنباء النفس الحي‬
‫بها‪ ،‬باألشياء فإنها حينئذ تحتال وتتلطف التخاذ الحي ما أرادت اتخاذه إياه بالرمز‪:‬‬
‫‪- 15 -‬‬
‫فمثًال أقول كأنها أرادت أن تريه سفرًا‪ ،‬فأرته ذاته طائرة من مكان إلى مكان‪،‬‬
‫فرمزت له بالنقلة" (‪ .)11‬ولقد نبه القرآن الكريم إلى اإليحاء بالرمز في قوله‬
‫تعالى لزكريا عليه السالم" آيتك أال تكلم الناس ثالثة أيام إال رمزًا" (‪ .)12‬وتتنزل‬
‫هذه اآلراء في مجرى السيميائّية التي "هي علم األدلة" (‪ )13‬هذا العلم الذي ضبط‬
‫مشروعه الحديث شارل بيرس ودي سوسير (‪ ،)14‬ولكن يعنينا اإلشارة في هذه‬
‫الوقفة إلى ما جاله صانعو التراث العربي اإلسالمي من صلة عميقة بين اإلشارة‬
‫والعبارة اللغوية‪ ،‬إذ كما‬
‫يرى ابن سينا "إن اإلشارة إذا اقترنت بالعبارة أوقعت المعنى في النفس إيقاعًا‬
‫جليًا" (‪ ،)15‬وإ ن انحسار الدوال أمام عدم تناهي المدلوالت في تصور الجاحظ‬
‫أوجب تعاضد اإلشارة مع اللغة أحيانًا إليفاء الداللة حقها إذ "البد لبيان اللسان من‬
‫أمور‪ :‬منها إشارة اليد" (‪ ،)16‬ومن هنا احتاج التعبير اللغوي في نظره إلى أن‬
‫يدعم بوسائل أخرى خاصة حين يتعلق األمر بخاص الخاص (‪.)17‬‬
‫هذا من منظور دعم داللة اللغة بغيرها من وسائل اإلبانة لتحقيق غاية‬
‫اإلبالغ والتوصيل‪ ،‬إال أن لإلشارة دورًا أوليًا في ميالد الظاهرة اللغوية نفسها في‬
‫تصور أولئك المفكرين‪ ،‬إذ البد أن يتحقق شرط سبق اإلشارة ليمكن للمواضعة‬
‫اللغوية الميالد ما دامت تقوم على خاصية االعتباط‪ ،‬من هنا تصوروا "أن اللغة ال‬
‫تستقيم في أول نشأتها إال إذا استندت إلى نظام عالمي مغاير لها ومتقدم عليها في‬
‫نفس الوقت‪ ،‬ونموذج هذا النظام العالمي المولد للحدث اللساني الكامل هو‬
‫اإلشارة" (‪.)18‬‬
‫وإ ذا كان ما سبق متعلقًا بأمر نشأة اللغة وحاجة هذه النشأة إلى سند اإلشارة‬
‫الذي ال يعنينا أكثر من إيراده سريعًا‪ ،‬فإنه يتعلق به في مجرى قناعات مؤسسي‬
‫الفكر اللغوي في الحضارة العربية اإلسالمية تولد المتصورات الذهنية من‬
‫مراجعها المتمثلة في أعيان األشياء والموجودات‪ ،‬وذلك في إطار منظور يبتغي‬
‫حصر كيفيات حصول المعرفة من جهة‪ ،‬ومعاينة الترابط بين المتصورات الذهنية‬
‫ودوالها الحسية من جهة أخرى‪ .‬وتتنزل هذه المتابعة ضمن رصيد شامل يبدأ‬
‫بمعاينة المراجع ويختم بدليل الكتابة‪ ،‬وكثيرًا ما يتسلسل الرصد في شكل منعكس‬
‫مع طبيعة النشأة في الزمان‪ ،‬إذ كما يرى الفيلسوف الكندي "فإن الخط الذي هو‬
‫جوهر منبئ عن اللفظ الذي هو جوهر‪ ،‬واللفظ الذي هو جوهر منبئ عن المفكر‬
‫فيه الذي هو جوهر‪ ،‬والمفكر فيه الذي هو جوهر منبئ عن العين الذي هو جوهر"‬
‫(‪ .)19‬ولكن حازمًا القرطاجني – ككثير من المنظرين ‪ -‬استطاع أن يبلور‬

‫‪- 16 -‬‬
‫حصول المعاني الذهنية عند معاينة األشياء العينية في إطار من التتبع الراصد‬
‫لكيفيات التناسخ الحاصل بين هذه األصناف من األدلة‪ ،‬يقول‪ ":‬إن المعاني هي‬
‫الصور الحاصلة في األذهان عن األشياء الموجودة في األعيان‪ .‬فكل شيء له‬
‫وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك‬
‫منه‪ .‬فإذا عبر عن تلك الصور الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم فصار للمعنى‬
‫وجود آخر من جهة داللة األلفاظ‪ .‬فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على‬
‫األلفاظ من لم يتهيأ لـه سمعها من المتلفظ بها صارت رسوم الخط تقيم في األفهام‬
‫هيئات األلفاظ فتقوم بها في األذهان صورة المعاني فيكون لها أيضًا وجود من‬
‫جهة داللة الخط على األلفاظ الدالة عليها" (‪.)20‬‬
‫ورغم اإلقرار بسبق الوعي بوجود األشياء في األعيان إذ إنه شرط حصول‬
‫الصورة في األذهان‪ ،‬فإن عملية االرتسام الصوري في الذهن للمدرك العينّي‬
‫تصاحب حتمًا لحظة الشعور به‪ ،‬ويتأكد ذلك خاصة حين ينعكس الذهن على نفسه‬
‫مستخلصًا المجردات وتستحيل المراجع عندها صورًا ذهنية‪ ،‬إنما كان إلحاح‬
‫القدماء متركزًا لضمان حصول الصورة الذهنية على اشتراط "‪:‬كون األشياء‬
‫الموجودات حقًا في أنفسها" (‪ )21‬ذلك أنه إذا "لم يكن للشيء ثبوت في نفسه‪ ،‬لم‬
‫يرتسم في النفس مثاله" (‪ .)22‬كما أن التعبير رهن بحصول الصورة الذهنية‪،‬‬
‫ومن هنا أشاروا إلى خاصية التطابق بين هذه األركان‪ .‬يقول الغزالي أيضًا‪" :‬ولو‬
‫لم يكن وجود في األعيان لم تنطبع صورة في األذهان‪ ،‬ولو لم تنطبع صورة في‬
‫األذهان ولم يشعر به إنسان‪ ،‬لم يعبر عنه باللسان‪ .‬فإذًا‪ ،‬اللفظ والعلم والمعلوم‬
‫ثالثة أمور متباينة‪ ،‬لكنها متطابقة متوازية" (‪ .)23‬فإذا كان التوازي والتطابق بين‬
‫هذه األركان يكشفان أن "الفالسفة العرب القدامى أدركوا أن هنالك عالقة بين‬
‫تركيب اللغة وتركيب العقل وتركيب الواقع" (‪ .)24‬وهذا إن اعتمدنا منظورًا‬
‫فلسفيًا في قراءة ما سبق‪ ،‬فإن ذلك يتضمن أيضًا رؤية لغوية ترى أن‪" :‬الوجود في‬
‫األعيان واألذهان ال يختلف بالبالد واألمم بخالف األلفاظ و الكتابة فإنهما دالتان‬
‫بالوضع واالصطالح" (‪ ،)25‬وهذا مخالف للفهم الحديث‪ ،‬إذ إن المفاهيم التي‬
‫تتحدد كياناتها باأللفاظ في لسان ما ليست مطابقة بالضرورة للمفاهيم التي تحددها‬
‫لغة أخرى (‪.)26‬‬
‫وهذه النتيجة تستوجب البحث في العالقة المتولدة من تفاعل "العام والخاص"‬
‫الصورة الذهنية المجردة ودالها الحسي‪ .‬من هنا يستوجب ضغط التقصي وحصره‬
‫في طرفي الداللة اللغوية بغية الكشف عن صلة اللغة بالفكر في نظر منّظري‬

‫‪- 17 -‬‬
‫التراث العربي اإلسالمي‪.‬‬
‫عالقة اللغة بالفكر‪:‬‬
‫واإلقرار فيما سلف باستناد الظاهرة اللغوية إلى خاصية الوضع واالصطالح‬
‫وهو أمر راسخ الثبوت في التراث العربي اإلسالمي سواء كانت األلفاظ موضوعة‬
‫إزاء الصور الذهنية‪ ،‬أي الصورة التي تصورها الواضع في ذهنه عند إرادة الوضع‬
‫أم بإزاء الماهيات الخارجية (‪ ،)27‬فإن ذلك يتضمن اإلقرار أيضًا بخاصية االعتباط‬
‫(‪ )28‬في الحدث اللغوي‪ ،‬لكنها خاصية تصحب المواضعة لحظة النشأة والتكوين‬
‫فحسب ذلك "أن االعتباط تعسف من حيث هو متنزل في مبدأ االقتران ومنطلق‬
‫االتصال‪ ،‬وما إن يطرد اتصال الدال في اللغة بمدلوله طبقًا لتواتر الزمانية حتى‬
‫يرتفع التحّك م األولي عند لحظة االقتران الداللي" (‪.)29‬‬
‫وتالزم الدوال لمدلوالتها المتولد من اطراد االستعمال هو الذي يهّيئ لعملية‬
‫الفكر أن تكون‪ ،‬ذلك أن تكامل الصور الذهنية النائبة عن مراجعها مع دوالها‬
‫الحسية‪ ،‬فضًال عن أنه يمّك ن الذهن من ممارسة عملية التفكير التي ال تتحقق إال‬
‫بتفاعل الدوال والمدلوالت‪ ،‬يفسح المجال لكمال هذه الفعالية بوضع قواعد‬
‫استخالص المفاهيم والمجردات من الصور الفردية التي هي انعكاس ألعيان‬
‫األشياء‪ ،‬ثم يتيح لعمل الفكر المتحقق لغة أن يستبطن ذاته ويتأمل نفسه كما عرف‬
‫في الثقافة العربية اإلسالمية بحديث النفس‪.‬‬
‫وعملية التالزم إذ تتبلور أو ما تتبلور في تالزم الدال والمدلول على محور‬
‫االستبدال‪ ،‬كما عبر عن ذلك ابن سينا في قوله "ومعنى داللة اللفظ أن يكون إذا‬
‫ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس معنى‪ ،‬فتعرف النفس أن هذا‬
‫المسموع لهذا المفهوم‪ .‬فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه"‬
‫(‪ .)30‬والعكس وارد إذ كلما حضر المدلول بالبال صحبه الدال (‪ ،)31‬إال أن‬
‫عملية التالزم تبلغ أقصى درجات التفاعل في محور التوزيع‪ ،‬فيعمد الذهن إلى‬
‫نضد الوحدات الدالة في لحمة متكاملة لتحقيق غايات االتصال أو التعبير عمومًا‪،‬‬
‫فتنتظم الوحدات انتظامًا متفاعًال يطبع العبارة بطابع التفرد الداللي والتوحد‬
‫المعنوي (‪.)32‬‬
‫ولقد كان من المسّلم به في التراث العربي اإلسالمي التمييز بين النطق‬
‫الحادث في اللسان المتجسد في الصوت المعبر عما في النفس‪ ،‬والنطق النفسي‪،‬‬
‫كما يقول الفارابي مدققًا في معاني مصطلح "منطق" فيرى‪ :‬أنه مشتق من النطق‬
‫وهي لفظة دالة على معاٍن ‪ ،‬منها الداللة على القول الخارج بالصوت‪ ،‬وهو الذي به‬

‫‪- 18 -‬‬
‫تكون عبارة اللسان عما في الضمير‪ ،‬والثاني القول المتمركز في النفس‪ ،‬وهو‬
‫المعقوالت التي تدل عليها األلفاظ (‪ .)33‬أما النطق الداخلي عند الشهرستاني‬
‫فيطلق على التمييز العقلي والتفكير النفساني والتصور الخيالي‪ ،‬وهو معاٍن مختلفة‬
‫في ذهن اإلنسان‪ ،‬ويتفق مع الفارابي في تعريف النطق الخارجي (‪.)34‬‬
‫ويلزم مما سبق‪ ،‬عند قصد التعبير وإ لباس الداخلي جسم األصوات اللغوية‪،‬‬
‫إحداث التطابق والتحاذي بين بنية العبارة المجسدة للنطق الخارجي وبنية‬
‫"المنطوق" الداخلي المجسد للمعاني النفسية‪ ،‬ذلك أنه "لم يرد بين تركيب األلفاظ‬
‫وبين تركيب المعقوالت فرق" (‪ .)35‬من هنا يكون الفعل المجسد للوحدة‬
‫المزدوجة المتقابلة متحققًا في مستويين‪ :‬يكون المستوى الظاهري فيهما انبثاقًا من‬
‫الباطن ومحاكاة له‪ .‬وهذا بالقدر الذي يهيئ منطقيًا ولغويًا لطرح معضلة اللفظ‬
‫والمعنى‪ ،‬بقدر ما يمهد لترسيخ فكرة التشاكل بين بنية الدوال الخارجية وبنية‬
‫المدلوالت الداخلية‪ .‬يقول الفارابي متابعًا تأصيل هذه الفكرة بحيث يرى أنه‬
‫يحصل "تركيب األلفاظ شبيهًا بتركيب المعاني المركبة التي تدل عليها تلك األلفاظ‬
‫المركبة‪ ،‬وتجعل في األلفاظ المركبة أشياء ترتبط بها األلفاظ بعضها إلى بعض‬
‫متى كانت األلفاظ دالة على معاٍن مركبٍة ترتبط بعضها ببعض‪ .‬ويتحرى أن يجعل‬
‫ترتيب األلفاظ مساويًا لترتيب المعاني في النفس" (‪.)36‬‬
‫إن القصد إلى تحقيق مستلزمات وحدة الملفوظ والمعنى النفسي‪ ،‬يبدو جليًا‬
‫لدى غير الفارابي من منّظري الثقافة العربية اإلسالمية‪ ،‬فهي إذ تأخذ نفسها‬
‫األعمق لدى مزاولي العمل المنطقي والفلسفي‪ ،‬تجد لها الحضور األكيد أيضًا عند‬
‫غيرهم فقد شكلت أساسًا بلور أصول التنظير لدى البعض كما هو الحال مع عبد‬
‫القاهر الجرجاني الذي سيملي علينا شرط إيفائه حقه من التقصي وقفة متأنية في‬
‫موقعها من البحث (‪ .)37‬أما عند ابن سينا فما دام المنطلق أيضًا في ضبط الحاجة‬
‫إلى القول "هي الداللة على ما في النفس"(‪ )38‬أصبح لزامًا العلم بأن "في األلفاظ‬
‫واآلثار التي في النفس ما هو مفرد وفيها ما هو مركب‪ .‬واألمر فيها متحاذ‬
‫متطابق"(‪ ،)39‬لتستحيل المسألة لدى الشهرستاني إلى إقرار مبدئي باستحالة‬
‫تحقيق الكالم المنطوق مع تصور االنتفاء النفسي‪ ،‬ويصبح مبدأ المطابقة لزوميًا‬
‫لتحقيق حدث الكالم فلوال "مطابقة األلفاظ اللسانية معانيها النفسانية لم يكن كالمًا‬
‫أصًال" (‪ .)40‬وهكذا يتولد من فعل المطابقة وحدة البعد الداللي في العبارة الواحدة‬
‫إذ يكون "لكل عبارة خاصة مدلول خاص متميز عن سائر المدلوالت وهذا أوضح‬
‫ما تقرر (‪ ،)41‬ذلك أن أحد معنيي وحدة الكالم المركب كما يرى ابن رشد يتحقق‬

‫‪- 19 -‬‬
‫"إذا دل على معنى واحد" (‪.)42‬‬
‫يعمق هذا المجرى الملّح على تحقيق التماثل بين بنيتي الدوال الخارجية‬
‫والمدلوالت الداخلية بقيامه على اقتناع مبدئي يقوم على تركيز وظيفة اللغة أساسًا‬
‫في استكشاف المعاني وجالئها‪ ،‬وهذا األمر إذ يشكل مسلمة لدى الفالسفة خاصة‬
‫التي أملتها المنطلقات المنطقية التي مثلت قاعدة هؤالء في مقاربة ظاهرة اللغة‪،‬‬
‫كما تبدو راسخة لدى المتكلمين بشتى طوائفهم أيضًا‪ ،‬مع رسوخ قضية الكالم‬
‫النفسي‪ ،‬تمامًا كحضورها في البحث اللغوي الخالص الذي نجتزئ منه في اإللماح‬
‫إلى هذه الظاهرة قول ابن فارس حيث يرى أن االسم جعل تنويهًا وداللة على‬
‫المعنى (‪ ،)43‬وابن جّني الذي يعتبر أن زينة األلفاظ وحليتها لم يقصد بها إال‬
‫تحصين المعاني وحيطتها‪ .‬فالمعنى إذن هو المكّر م المخدوم‪ ،‬واللفظ هو المبتذل‬
‫الخادم (‪ )44‬لتستحيل العالقة بين الطرفين في رأيه إلى عالقة الوعاء بما يحتويه‬
‫(‪ .)45‬ولعل مما يشفع لمثل هذه المواقف أنها لم تستهن ببنية األلفاظ (‪ ،)46‬وأن‬
‫زاوية الرؤية المحكومة في ما سلف بقضية الوظيفة هي التي أملت مثل ما سبق‪،‬‬
‫وسنجد لدى منظّر ي التراث العربي اإلسالمي اإللحاح المتكرر على فكرة التشاكل‬
‫والتطابق بين المعاني واأللفاظ‪.‬‬
‫غير أنه في بعض المواقف يتأسس بحث صلة األلفاظ بالمعاني على منظور‬
‫يوازي بين القطبين‪ ،‬فيجزم مثًال أن الخالف بين اللفظ والمعنى هو "أن اللفظ‬
‫طبيعي والمعنى عقلي‪ ،‬وبهذا كان اللفظ بائدًا على الزمان‪ ،‬ألن الزمان يقفو أثر‬
‫الطبيعة بأثر آخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتًا على الزمان‪،‬‬
‫ألن مستملي المعنى عقل‪ ،‬والعقل إلهي‪ ،‬ومادة اللفظ طينية‪ ،‬وكل طيني متهافت" (‬
‫‪ .)47‬وثبات المعنى على الزمان يأخذ صبغة شمولية تتجاوز اإلنساني أيضًا‪،‬‬
‫ذلك‪" :‬أن كالم المالئكة إنما هو إشارات وإ يماء‪ ،‬وكالم الناس عبارات وألفاظ‪.‬‬
‫وأما المعاني فهي مشتركة بين الجميع" (‪ )48‬وتكون المصادرة في نهاية المطاف‬
‫على ثنائية الحقيقة والثبوت الموسوم بهما المعنى النفسي‪ ،‬مقابل انعدامهما في‬
‫النطق اللساني (‪ .)49‬وهذه اآلراء باإلضافة إلى أنها محكومة باإلقرار بكون‬
‫المعاني صورًا لمراجع لها الوجود الحق في األعيان‪ ،‬فإنها تقوم على مسلمة تماثل‬
‫المعاني المنطبعة في النفس لدى الجميع في حين تقوم الظاهرة اللغوية على‬
‫التواضع واالصطالح‪ ،‬ومن ثمة على االختالف والتباين‪ ،‬وهذا ال يمنع تحقيق‬
‫التطابق بين طرفي الداللة‪ ،‬ذلك أن عملية إخراج الكالم النفسي إلى الوجود الفعلي‬
‫ال تتم إال عبر النطق اللساني‪ ،‬وأن التفكير الداخلي ال يتحقق إال بواسطة األلفاظ‪.‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫وتأخذ المقارنة لدى الجاحظ بعدًا آخر يقوم على التسليم بأن "المعاني‬
‫مبسوطة إلى غير غاية‪ ،‬وممتدة إلى غير نهاية‪ ،‬وأسماء المعاني مقصورة معدودة‬
‫ومحصلة محدودة" (‪ ،)50‬وعدم التكافؤ ال يمنع من تحقيق إمكان التعبير عن أي‬
‫معنى يخطر بالبال بلفظ مالئم‪ ،‬ما دامت عملية التعبير نفسها تقوم على نضد ألفاظ‬
‫في تركيب متضمن لمعنى‪ ،‬وتتكامل الوجوه المتعددة التي تتحقق بها األشكال‬
‫المختلفة للتراكيب مع قابلية الذهن لتفتيق شتى المعاني‪ ،‬لكن المقابلة لدى الجاحظ‬
‫إذ تظل في حدود الدال والمدلول المفردين تقرر أنه "ال يكون اللفظ اسمًا إال وهو‬
‫مضمن بمعنى‪ ،‬وقد يكون المعنى وال اسم له" (‪ .)51‬لكن يبدو أن أمر هذه‬
‫الكينونة نسبي "وأن القطيعة ليست مطلقة" (‪ ،)52‬إذ أن هذه المعاني المختلجة في‬
‫صدور الناس "موجودة في معنى معدومة" (‪ ،)53‬ذلك أن الوجود الحق للمعنى ال‬
‫يتحقق إال في الحين الذي يتزّين فيه بلبوس اللفظ‪.‬‬
‫ولكن ابن المدبر ال يخالجه الشك في تقرير أن "المعاني وإ ن كانت كامنة في‬
‫الصدور‪ ،‬فإنها مصورة فيها‪ ،‬ومتصلة بها‪ ،‬وهي كالآللئ المنظومة في أصدافها‪،‬‬
‫والنار المخبوءة في أحجارها‪ ،‬فإن أظهرته من أكنانه وأصدافه‪ ،‬تبين حسنه (كذا)‬
‫وإ ن قدحت النار من مكامنها وأحجارها انتفعت بها‪ ،‬وإ ال بقيت محجوبة مستورة" (‬
‫‪)54‬؛ غير أنه يبدو لنا أن القول بكمون المعاني في الصدور ال يتطابق تمامًا مع‬
‫وصفها باالستقالل الذاتي عن الكلمات المعبرة عنها (‪ ،)55‬ذلك أن كمون المعاني‬
‫في الصدور ككمون النار في الحجارة لها خاصية الوجود بالقوة الذي يمر إلى‬
‫الفعل بعامل االقتداح أو التعبير‪ ،‬فكأن الوجود الحق يتم باقتداح شرارة المعنى‬
‫باللفظ‪ ،‬وقد يدعم ذلك اعتماد ابن المدبر لتوضيح الفكرة ترداد ما شاع من تشبيههم‬
‫"المعنى الخفي بالروح الخفي‪ ،‬واللفظ الظاهر بالجسمان الظاهر" (‪ .)56‬ومع ذلك‬
‫نلمس لدى أولئك المنظرين وقفات تخفف من غلواء وسم مواقفهم بتأكيد الفصل‬
‫دومًا‪.‬‬
‫لذا يتأسس لدى أبي حيان التوحيدي جدل الصحة والبطالن في عالقة ثنائية‬
‫تلحم األلفاظ والمعاني إذ كل "ما صح معناه صح اللفظ به‪ ،‬وما بطل معناه بطل اللفظ‬
‫به" (‪ )57‬يكون كل فكر مميز صحيح إنما يتيسر تحقيقه باللغة مراعاة لوظيفتها في‬
‫الكشف عن هذا الفكر ذلك أن "األغراض المعقولة والمعاني المدركة ال يوصل إليها‬
‫إال باللغة الجامعة لألسماء واألفعال والحروف" (‪.)58‬‬
‫أما المصادرة لدى إخوان الصفاء فتسلم مبدئيًا بفكرة التكامل الوجودي القائم‬
‫بين األلفاظ والمعاني المشابه لتكامل األرواح واألجساد (‪ ،)59‬ثم تأخذ هذه العالقة‬

‫‪- 21 -‬‬
‫طابعًا أكثر خصوصية وذلك في تأكيد استحالة إخراج المعنى من كمون العدم إلى‬
‫الوجود المعرف ما لم يصغ لفظًا ذلك ان "كل معنى ال يمكن أن يعبر عنه بلفظ ما‬
‫في لغة ما فال سبيل إلى معرفته" (‪.)60‬‬

‫ومع ابن سينا يترسخ مبدأ حضور اللغة مع كل ممارسة فكرية تبتغي إجراًء‬
‫عمليًا يقصد اإلبالغ‪ ،‬أو ممارسة باطنية تقوم على التأّم ل وقراءة الذات داخليًا‪ ،‬إذ‬
‫ما دام أن االكتساب اللغوي يقوم على قاعدتي االرتسام المزدوج للمدلول والدال‬
‫في آٍن واحد‪ ،‬يكون كل استحضار ألحدهما رهنًا بحضور اآلخر‪ ،‬ذلك أن "األلفاظ‬
‫إذا سمعت أدرك مع سماعها معنى‪ ،‬فارتسم في النفس المعنى واللفظ معًا‪ .‬فكلما‬
‫خطر بالبال ذلك المعنى أدرك اللفظ‪ ،‬وكلما سمع ذلك اللفظ أدرك المعنى (‪)61‬؛‬
‫ومن هنا يكون كل فعل واع يقصد إحداث ترتيب داخلي في معنى نفسي ال يتيسر‬
‫قيامه إال باللفظ‪ .‬فمن "المتعّذ ر على الروية أن ترتب المعاني من غير أن تتخيل‬
‫معها ألفاظها‪ ،‬بل تكاد تكون الروية مناجاة من اإلنسان ذهنه بألفاظ متخيلة" (‪.)62‬‬
‫ومع أن الشهرستاني يورد اعتراضًا اعتزاليًا يدحض مقولة الكالم النفسي‪،‬‬
‫إال أنه يدقق في مبدأ الخواطر التي تنتاب اإلنسان فال يرى لها إمكان التحقق إال‬
‫باللغة‪ ،‬وإ ذ تظل القضية امتدادًا لما طرح ابن سينا تبحث لنفسها عن برهان‬
‫بالنقيض من عدم الكالم جملة‪ .‬فقد "قالت المعتزلة نحن ال ننكر الخواطر التي‬
‫تطرأ على قلب اإلنسان وربما نسميها أحاديث النفس إما مجازًا وإ ما حقيقة" غير‬
‫أنها تقديرات للعبارات التي في اللسان أال ترى أن من لم يعرف كلمة بالعربية ال‬
‫يخطر بباله كالم العرب ومن ال يعرف العجمية ال يطرأ عليه كالم العجم‪ ،‬و من‬
‫عرف اللساَنين تارًة تحدث نفسه بلسان العرب وتارة بلسان العجم‪ .‬فعلم على‬
‫الحقيقة أنها تقديرات وأحاديث تابعة للعبارة التي تعلمها اإلنسان في أول نشوئه‪.‬‬
‫والعبارات هي أصول لها منها تصدر وعليها ترد‪ ،‬حتى لو قدرنا إنسانًا خاليًا من‬
‫العبارات كلها أبكم ال يقدر على نطق لم نشك أن نفسه ال تحدثه بعربية وال عجمية‬
‫وال لسان من األلسن وعقله يعقل كل معقول وإ ن كان يعرى عن كل مسموع‬
‫ومنقول" (‪)63‬؛ وإ ن كان الفكر الحديث المستجلي عالئق اللغة بالفكر ال يوافق‬
‫الشهرستاني اإلقرار بأن األبكم الخالي عن العبارات يعقل كل معقول‪ ،‬فقد ثبت أن‬
‫إدراكه لألمور إدراك ناقص وأنه باإلضافة إلى تضايقه في عالقاته مع غيره‬
‫محدود الفكر على المستوى الذاتي أيضًا (‪.)64‬‬
‫ويمكننا اإلشارة إلى أن المنظور المعاصر المدقق في عالقة اللغة بالفكر‬
‫مغاير للمنظور القديم فضًال عن تباين المنظورين في المنطلقات المؤسسة للبحث‬

‫‪- 22 -‬‬
‫في الظاهرة اللغوية عمومًا‪ ،‬إذ بالقدر الذي تمثل فيه ارتباط اللغة في التصور‬
‫القديم بالعقل من خالل اعتبارها األداة التي تجلو ما يختمر فيه من فكر‪ ،‬قام البحث‬
‫اللساني الحديث بتنزيل اللغة في خضم األداء وربطها تعريفيًا بوظيفتها التي هي‬
‫اإلبالغ القائمة بماهيتها على تعريف مستند إلى البنية (‪.)65‬‬
‫ففي التراث العربي اإلسالمي ومن زاوية عالقة اللغة بالفكر قام التقصي‬
‫على قاعدة أسندت فيها إلى اللغة وظيفة التعبير عن محتوى العقل من أفكار‪ ،‬وكأن‬
‫عملية التعبير وفق هذا المنطلق تقتضي أن تكون "الكلمات موضوعة إزاء أفكار"‬
‫(‪.)66‬وهذا الوضع بقدر ما يرسخ فكرة التحاذي والتوازي بين الطرفين (‪،)67‬‬
‫يعتبر اللغة واسطة الفكر كما يبدو في إقرار منظري التراث أن عملية التأمل‬
‫وحوار الذات ال تتّم ان إال باللغة‪ ،‬والحق "أن المعاني ال تتبين بالكالم‪ .‬المعاني‬
‫تتبين كالمًا" (‪ .)68‬ومن هنا يطرد في التراث العربي اإلسالمي تشبيه العالقة بين‬
‫الفكر واللغة بعالقة الجسم باللباس‪ ،‬علمًا بأن "اللغة ليست اللباس‪ ،‬ولكنها جسم‬
‫الفكر نفسه" (‪.)69‬‬
‫لكن ما يمكن أن نفيده من هذا اإليجاز العابر لقضايا الداللة وصلة اللغة‬
‫بالفكر في التراث العربي اإلسالمي هو التمهيد الستقصاء الرأي في إشكال اللفظ‬
‫والمعنى بعد التأسيس لقواعده الفكرية‪ ،‬إذ نجد أبرز ما يمكن أن يجلو بعض‬
‫المفاصل في ذلك اإلشكال ويمهد لمحاصرة تنوعه هو اإلجماع على خاصية‬
‫التوازي بين الكالم النفسي والكالم اللساني‪ ،‬باإللحاح على تحقيق مستويين من‬
‫الوحدة في الكالم تقوم على تآلف المنطوق في اللسان والمنطبع في النفس‪ ،‬يعمق‬
‫فيها بعد هذا المنطلق الموحد بين التأليفين اإللحاح على وظيفة اللغة في التعريف‬
‫بمحتوى الفكر‪ ،‬مما يجلو خاصية التكامل بين المعرف وآلة التعريف‪ .‬لكن‬
‫استكمال بناء القواعد األصولية المؤسسة إلشكال اللفظ والمعنى خاصة حين يتعلق‬
‫األمر بتقصي فعاليتهما في بنية النص – وهو موضوع البحث الرئيسي – يدعو‬
‫إلى استقصاء مشكلة الكالم النفسي التي باإلضافة إلى أنها مثلت محورًا في‬
‫البحث الكالمي تنازعت جذبه طوائف المتكلمين‪ ،‬مما أفرزت أنضج تصور عرفه‬
‫التراث يجلو بمفاتيح متقدمة مسائل بنية النص بمصادرته على النظم‪.‬‬
‫قضية الكالم النفسي وأثرها في اللفظ والمعنى‬
‫وقضية الكالم النفسي هي قضية خلق القرآن بغير اختالف (‪ ،)70‬فإذا كان‬
‫"مذهب المشبهة والحلولية المجسمة‪ ،‬أن كالم الباري حروف وأصوات وأنه قديم"‬
‫(‪ ،)71‬فإن قول "المعتزلة" و"الخوارج" وأكثر "الزيدية" و"المرجئة" وكثير من‬

‫‪- 23 -‬‬
‫"الرافضة" ‪" :‬أن القرآن كالم اهلل سبحانه‪ ،‬وأنه مخلوق هلل‪ ،‬لم يكن ثم كان" (‪)72‬‬
‫في حين يذهب "أهل الحق من اإلسالميين إلى كون الباري – تعالى – متكلمًا بكالم‬
‫قديم أزلي نفساني‪ .‬أحادي الذات‪ ،‬ليس بحروف وال أصوت" (‪.)73‬‬
‫وجوهر الخالف يكمن في تعريف الكالم‪ :‬فالمختار عند المعتزلة في حد‬
‫الكالم‪" :‬أنه ما حصل فيه نظام مخصوص من هذه الحروف المعقولة‪ ،‬حصل في‬
‫حرفين أو حروف" (‪ .)74‬فإذا كان الكالم هو هذه الحروف المقطعة التي تركب‬
‫في لفظ‪ ،‬فال مناص من اإلقرار بأن كالمه – أي الباري ‪" ،-‬محدث مخلوق في‬
‫محل" (‪ .)75‬وليس لمعتنقي الكالم النفسي أن يحملوا القرآن المسموع لنا المقروء‬
‫والمتلو على أن "المراد به العبارة عن كالم اهلل عز وجل ويزعموا أن ذلك محدث‪،‬‬
‫وأن الكالم القديم سواه" (‪ .)76‬أما الكالم عند األشاعرة فإنه "معنى قائم بالنفس‬
‫يعّبر عنه بهذه األصوات المسموعة تارًة وبغيرها أخرى" (‪.)77‬‬
‫والتشعبات التي تولدها أوجه الخالف ال تعنينا‪ ،‬إنما نبتغي اإلحاطة بالوفاق‬
‫األشعري الذي جمع في رؤية شمولية بين صفتي الِقدم والحداثة‪ ،‬فتم له اإلبقاء على‬
‫صلة بالمطلق من خالل تردد تالوة القرآن وسماعه‪ ،‬وأسس بذلك قاعدة مزدوجة‪،‬‬
‫يهتم أحد شقيها بالتدليل على األصل اإللهي للقرآن وذلك باالعتماد على قدم الكالم‬
‫النفسي‪ ،‬ويوفر الثاني أسس التدليل على اإلعجاز باالستناد إلى الكالم المعبر عن‬
‫القديم ليؤول هذا األخير إلى نظرية شاملة في النص األدبي عمومًا‪.‬‬
‫تتجمع خيوط هذا الوفاق الثنائي بين يدي الباقالني – الشارح األكبر للمذهب‬
‫– فيبدأ نسج لحمته وسداه بتأكيده أن كالم اهلل "صفة له قديمة ال يحتاج فيه إلى‬
‫أداة من صوت أو حرف أو مخرج" (‪ ،)78‬وإ ن كان يجب أن يعلم "أن كالم اهلل‬
‫تعالى مسموع لنا على الحقيقة لكن بواسطة وهو القارئ" (‪ ،)79‬فهو أي كالم اهلل‬
‫تعالى "صفة لذاته لم يزل وال يزال موصوفًا به وأنه قائم به ومختص به‪ ،‬وال‬
‫يصح وجوده بغيره‪ ،‬وإ ن كان محفوظًا بالقلوب‪ ،‬ومتداوًال باأللسن‪ ،‬ومكتوبًا في‬
‫المصاحف‪ ،‬ومقرءًا في المحاريب على الحقيقة ال على المجاز‪ ،‬وغير حال في‬
‫شيء من ذلك" (‪ ،)80‬لكن كيف ينتفي عنه الحلول في أي واحد من ذلك وهو "في‬
‫مصاحفنا مكتوب على الوجه الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ" (‪.)81‬‬
‫والحل الذي نستظهره من كالم الباقالني‪ ،‬وإ ن لم نقع على نص صريح فيه‪،‬‬
‫هو أن القرآن قديم ومخلوق في الوقت نفسه (‪ .)82‬والجمع بين الصفتين على‬
‫طريقة األشاعرة – عامة‪ -‬إقرار بحدوث الحروف وهي دالالت على الكالم‪،‬‬
‫والدليل غير المدلول وال يتصف بصفة المدلول (‪.)83‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫لكن الباقالني في سبيل إرساء قواعد لإلعجاز يصف عالقة القدم والحداثة‬
‫حسب مقتضيات تتالي الرساالت السماوية وطبائع االجتماع البشري المتميز‬
‫بالتفرد اللساني‪ ،‬فيتسنى وفقها للنسبي التعبير المتخصص عن المطلق في مرحلة‬
‫أولى ليرتقي في الثانية إلى التدليل على أصله إفهامًا وإ عجازًا كما نتحقق ذلك في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬يقول‪" :‬فالكالم الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل‬
‫عليه أمارات تدل عليه‪ ،‬فتارة تكون قوًال بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما‬
‫اصطلحوا عليه وجرى عرفهم به وجعل لغة لهم‪ ،‬وقد بين تعالى ذلك بقولـه‪" :‬وما‬
‫أرسلنا من رسول إال بلسان قومه ليبين لهم"(‪ )84‬فأخبر تعالى أنه أرسل موسى‬
‫عليه السالم إلى بني إسرائيل بلسان عبراني‪ ،‬فأفهم كالم اهلل القديم القائم بالنفس‬
‫بالعبرانية‪ ،‬وبعث عيسى عليه السالم بلسان سرياني‪ ،‬فأفهم قومه كالم اهلل القديم‬
‫بلسانهم‪ ،‬وبعث نبينا صلى اهلل عليه وسلم بلسان العرب‪ ،‬فأفهم قومه كالم اهلل القديم‬
‫القائم بالنفس بكالمهم‪ ،‬فلغة العرب غير لغة العبرانية ولغة السريانية غيرهما‪ ،‬لكن‬
‫الكالم القديم القائم بالنفس شيء واحد ال يختلف وال يتغير" (‪.)85‬‬
‫هنا يكمل الشق األول من القضية إذ باشتراك الكتب المنزلة في اإلبانة عن‬
‫الكالم القديم يتحقق لها األصل السماوي‪ ،‬إال أنه تركز في القرآن باإلضافة إلى‬
‫هذه الصفة‪ ،‬خاصية التحدي التي ولدت ظاهرة اإلعجاز‪ ،‬ألنه لم يكن معجزًا‬
‫"لكونه عبارة عن الكالم القديم‪ ،‬ألن التوراة واإلنجيل عبارة عن الكالم القديم‪،‬‬
‫وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف" (‪ )86‬ألن جوهر التحدي – من منظور‬
‫أشعري – إنما يقع في "الحروف المنظومة‪ ،‬التي هي عبارة عنه‪ ،‬في براعتها‬
‫وفصاحتها و اختصارها وكثرة معانيها" (‪ .)87‬غير أن منطلق المعتزلة في‬
‫التدليل على اإلعجاز‪ ،‬حتى عند من يقول بالصرفة‪ ،‬ال يباين طروحات األشاعرة‬
‫عند االعتكاف على النص‪ ،‬إذ اإلقرار المبدئي بسمو فصاحة القرآن أو نظمه عن‬
‫أن يضاهى يكّيف التدليل المشخص للظاهرة باالحتكام إلى النص‪ ،‬من هنا لم تكن‬
‫فكرة الكالم النفسي لدى األشاعرة سوى منطلق مبدئي ال يمنع ظاهرة اإلعجاز من‬
‫أن يبني برهانها‪.‬‬
‫يهمنا من هذه العجالة‪ ،‬اإلشارة إلى أن االحتكام إلى قاعدة النظم في تحليل‬
‫الخطاب البليغ عمومًا سيرّس خ مبدأ تشاكل بنية الكالم الخارجية مع بنيته الداخلية‬
‫إذ سيعتمد في أنضج طروحاته على بنية النص عمومًا‪ ،‬ممتدًا بفكرة تطابق اللفظ‬
‫والمعنى إلى أقصى مراتبها في التراث‪ ،‬وسينتهي إلى أن الداللة إفراز للحمة‬
‫الوحدات كليًا في مستوى التركيب خاصة‪ .‬من هنا لم يكن لفكرة الكالم النفسي أن‬

‫‪- 25 -‬‬
‫تعكر مجرى التقصي في ثنايا وحدات اللغة والتغلغل في العالئق الناسجة لشبكة‬
‫التفاعل بينها في بنية الخطاب‪.‬‬

‫مفهوم الهيولى والصورة وإشكال اللفظ والمعنى‬


‫ويبقى في فسحة البحث الفلسفي الذي عرفه التراث العربي اإلسالمي أصل‬
‫آخر شّك ل على مستوى المفهوم والتصور رؤية شاملة لعالقة التضام بين األلفاظ‬
‫والمعاني‪ ،‬إذ ليس هذا التضام المؤلف بين العناصر إال تجسيدًا نوعيًا لظاهرة‬
‫التأليف المزدوج المؤسس على فكرة الهيولى والصورة المطبق على كل‬
‫الموجودات‪ .‬من هنا يمكن الموازاة بين فكرة اإلخراج الصوري المعدد للهيولى‬
‫الموجودة بالقوة حيث يهبها هذا اإلخراج الوجود بالفعل وفكرة تأليف المنطوق‬
‫اللساني المعبر عن هيئة التأليف الداخلية المنطبعة في النفس‪ .‬صحيح أن‬
‫االختالف العقائدي عميق بين فكرة الهيولى وفكرة الكالم النفسي أو القديم‪ ،‬إال أنه‬
‫يمكن إحداث التقارب بينهما حين يتعلق األمر بالكالم المنطوق أو النص المكتوب‪،‬‬
‫إذ سنجد أنه باإلضافة إلى أن فكرة الصورة والمادة ستفرز على مستوى المصطلح‬
‫النقدي المتخصص فكرة صورة المعنى‪ ،‬فإنها ستعمق الوعي بتعاضدها مع أصول‬
‫معرفية (‪ )88‬أخرى ال تعنينا في هذا المقام اإلقرار بأن خاصية النوعية للشعر‬
‫ولألدب عمومًا إنما مردها إلى كونه تشكيًال لغويًا متميزًا‪ .‬هذه الخصوصية التي‬
‫ستحيل على مستوى النص إلى اإللحاح على ضرورة التكامل بين هيئة التأليف‬
‫اللفظية وهيئة التأليف المعنوية‪ ،‬مثلما سيصطلح الفالسفة خاصة ومن تأثر بهم‬
‫كحازم القرطاجني‪.‬‬
‫وهذا يدعونا إلى الكشف عن هذا األصل في مظانه الميتافيزيقية والمنطقية‬
‫بالخصوص‪ .‬وفكرة الصورة والمادة تقع ضمن شمول نظري يضعها في ما يسمى‬
‫بنظرية العلل األربع التي هي العنصر أو المادة والصورة والفاعل والغاية‪ ،‬فالعلل‬
‫"الطبيعية إما أن تكون‪ :‬عنصرية‪ ،‬وإ ما صورية‪ ،‬وإ ما فاعلة‪ ،‬وإ ما تمامية‪ :‬أعني‬
‫بالعنصرية عنصر الشيء الذي منه يكون الشيء‪ ،‬كالذهب الذي هو عنصر الدينار‬
‫الذي منه كون الدينار وأعني بالصورة صورة الدينار التي باتحادها بالذهب كان‬
‫الدينار‪ ،‬وأعني بالفاعلة صانع الدينار الذي وحد صورة الدينار بالذهب‪ ،‬وأعني‬
‫بالتتامية ما له أحد الصانع صورة الدينار بالذهب‪ ،‬التي هي المنفعة بالدينار ونيل‬
‫المطلوب به" (‪.)89‬‬
‫هذه النظرية تملك عناصر البرهنة على كل علم‪ ،‬إذ في المنظور األصولي‬

‫‪- 26 -‬‬
‫لدى الفالسفة ال يملك كل علم أن يصوغ لنفسه أصول البرهنة على قوانينه‪ ،‬بل‬
‫يأخذها من العلم الكلي أي اإللهي المؤسس للعلل األربع التي يستدل بها كل علم‬
‫حسب حاجته لهذا العنصر أو ذاك من النظرية‪ ،‬فحاجة العلم الطبيعي إنما تكون‬
‫لعنصري المادة والصورة ذلك "أن كل جسم طبيعي فهو متقوم الذات من جزءين‬
‫أحدهما يقوم مقام الخشب من السرير ويقال له هيولى ومادة‪،‬واآلخر يقوم مقام‬
‫صورة السرير من السرير ويسمى صورة" (‪.)90‬‬
‫لكنه ال يمتنع في تصور الفالسفة أن يتحقق هذا الوجود في شكل متراكب‬
‫تبدو فيه عالقة العنصرين ذات طابع إلصاقي خارجي‪ ،‬ذلك أن االنطباع الخارجي‬
‫للصورة على المادة يتيح إمكانية اشتراك موجودات عدة في المادة وإ ن اختلفت في‬
‫الصورة التي تهبها التميز واالستقالل "فاختالف الموجودات إنما هو بالصورة ال‬
‫بالهيولى‪ ،‬وذلك أّنا نجد أشياء كثيرة جوهرها واحد‪ ،‬وصورها مختلفة" (‪.)91‬‬
‫والحق أن هذه المقارنة يمكن أن تتم على مستوى المادة وعلى مستوى الصورة‪،‬‬
‫وهذا قد يكشف آلية التضام بين العنصرين‪ ،‬فيمكن لجسم أن يشارك آخر "في‬
‫صورته‪ ،‬مثل الحائط المبني من حجارة والحائط المبني من طين‪ ،‬فإنهما يشتركان‬
‫في الصورة‪ ،‬ويختلفان في المادة‪ ...‬وإ ما أن يشاركه في المادة ويخالفه في‬
‫الصورة مثل اإلبريق والطست إذا كانا جميعًا من جوهر واحد‪ :‬إما نحاس‪ ،‬أو‬
‫فضة‪ ،‬أو ذهب" (‪.)92‬‬
‫وقد تطول المقارنة لدى ابن سينا الفن‪ ،‬فالصنم "المصور المركب من نحاس‬
‫وصورة إنسان‪ ،‬إذا وجد النحاس بال صورة إنسان‪ ،‬وجد تلك الصورة بال نحاس" (‬
‫‪ ،)93‬ذلك أن األجسام الطبيعية مركبة من مادة هي محل وصورة هي حالة فيه‪،‬‬
‫ونسبة المادة إلى الصورة نسبة النحاس إلى التمثال (‪ ،)94‬وعلى كٍّل يتيح المنظور‬
‫المزدوج مقارنة صريحة بين طرفي الشيء‪ ،‬وتحت تأثير هذا المنظور يمكن تصور‬
‫تفاوت بين العنصرين فكل "صنعة تتعلق بمادة وصورة‪ ،‬وبحسب اختالف كل واحد‬
‫من المادة والصورة يختلف المصنوع في الصنعة‪ .‬فربما كانت الصورة فاضلة ولم‬
‫تكن المادة فاضلة‪ ،‬كما يتفق أن يبنى البيت من خشب نخر وطين سبخ‪ ،‬ثم يوفى‬
‫حقه من الشكل والرسم‪ ،‬وال يغني ذلك‪ ،‬وال يبلغ به الغرض األقصى من االنتفاع‬
‫به‪ ،‬والسبب فيه رداءة مادته‪ .‬وربما كانت المادة فاضلة‪ ،‬لكن الصورة غير فاضلة‪،‬‬
‫كما يتفق أن يبنى بيت من خشب صلب وحجارة صلبة بناء غير محكم في تركيبه‬
‫ووضعه وهندامه وشكله‪ ،‬فيعدم فائدة استجادة خشبه وحجارته الستفساد صورته‪،‬‬
‫وربما اجتمع األمران جميعًا" (‪.)95‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫ومصدر هذا التصور المفكك للعنصرين ميتافيزيقي يومئ بانطباع صوري‬
‫خارجي على مادة موجودة بالقوة تتشكل وفق هذا االنطباع‪ ،‬فتوهب وجودها‬
‫حسب خصوصية الصورة المنطبعة‪ ،‬وعلى الرغم من إقرار الفالسفة بأن ال‬
‫وجود فعلي للهيولى خارج الصورة‪ ،‬فإن ذلك ال يمنع من إجراء مقارنة بين‬
‫مكوني الشيء‪ ،‬والحق أن طبيعة البحث في الطبيعيات وفي المنطق على‬
‫الخصوص توفر إمكانية التصور الثنائي بشكل حاد‪ .‬وصلة المنطق بالميتافيزيقا‬
‫واردة لدى الفالسفة اتباعًا لسنة أرسطو‪" ،‬فالمنطق لم يوضع فقط ليكون منهجًا‬
‫للعلم األول عند أرسطوطاليس‪ ،‬بل اتصلت حقائق المنطق بحقائق الميتافيزيقا‬
‫اتصاًال كليًا" (‪ ،)96‬وهذا االتصال يتجسد في قيام هذا المنطق على الصورية‬
‫والمادية معًا‪ ،‬فإذا كانت صورية هذا القياس الذي يأخذ به الفالسفة اإلسالميون‬
‫تكمن في بنائه الشكلي المجسد في عناصر تأليف كل قياس‪ ،‬فإن خصوصية المادة‬
‫المضغوطة في هذا البناء الصوري هي التي تحدد للقياس نوعيته‪ ،‬فالمنطق عند‬
‫ابن سينا "صوري ومادي في الوقت عينه (‪ .)97‬فبجانب الصورة مادة أيضًا‪ ،‬وإ ذا‬
‫كانت هناك أقيسة علمية يقينية‪ ،‬فهناك أقيسة أخرى مشهورة وظنية في ميدان‬
‫الجدل والخطابة (‪.)98‬‬
‫من هنا يتنزل مبحث الخطابة والشعر لدى هؤالء الفالسفة ضمن جملة‬
‫المنطق‪ ،‬ومرد ذلك إلى أن خصوصيتهما المؤسسة على مقدمات نوعية وتفيد‬
‫إقناعًا أو تخييًال‪ ،‬بالقدر الذي تكفل لهما التمايز النوعي‪ ،‬ال تمنع من انضوائهما‬
‫تحت جملة المنطق (‪.)99‬‬
‫وال شك أن النصوص السابقة توفر إمكان اإلقرار بفصل الفالسفة بين المادة‬
‫والصورة‪ ،‬والعوامل التي تؤكد هذا الفصل‪ ،‬هي باإلضافة إلى المنطلقات الفلسفية‬
‫البحتة المترسخة أساسًا في تمسك هؤالء بفكرة الهيولى‪ ،‬تبدو أيضًا في محاولة‬
‫إخضاع فكرة التضام بين العنصرين إلى منظور معياري‪ ،‬تخضع فيه المقارنة‬
‫أحيانًا لفكرة الجدوى التي يولدها "شكل" المادة أو مادة "الشكل"‪ ،‬أو يتسببان – في‬
‫حالة التهافت – في فقدها‪ .‬لكن مما قد يخفف غلواء هذا الفصل تسليم الفالسفة‬
‫المبدئي باستحالة وجود طرف في غياب اآلخر‪ ،‬ذلك أن الوجود السابق للهيولى‬
‫في كمون القوة ليس إال محض افتراض فلسفي يهيئ لقبول فكرة االنطباع‬
‫الصوري على المادة حيث إن "الهيولى ال تتجرد عن الصورة الجسمية" (‪،)100‬‬
‫ألنه ليس يمكن في الهيولى أن توجد وحدها معّر اًة من الصورة وال في الصورة‬
‫وحدها أن توجد بال هيولى (‪.)101‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫ولعل تصور هذا الوجود المتكامل يصل إلى أعلى درجات نبضه حين يتعلق‬
‫األمر بعالئق المعاني باأللفاظ وتآلفها وأثر ذلك في بناء النص‪ ،‬إذ إنه سابق في‬
‫تصور صانعي التراث أن ال إمكان النبثاق المعنى إلى الوجود الفعلي إال باللفظ‪،‬‬
‫وهذا االنبثاق ال يتحقق له الكمال إال بإيفاء حق التطابق بين الدوال والمدلوالت‬
‫مداه ليستحيل تصورًا ناضجًا يقوم على تلك المسلمات من جهة‪ ،‬ويترسخ في‬
‫مصادرات أخرى تقوم على الوعي بعالئق الوحدات المتكاملة في النص باالستناد‬
‫إلى معاني النحو من جهة أخرى‪.‬‬

‫أثر المجاز في بحث اللفظ والمعنى‬


‫وباالستناد إلى ما سلف يؤول بنا رصد األصول المتحكمة في قراءة مفكري‬
‫التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬ممن لهم عالقة ببحث فكرة اللفظ والمعنى إلى اإلشارة‬
‫إلى مسألة أخيرة تشكل قاعدة لغوية أسلوبية قامت على فكرة التقابل بين الكالم‬
‫العادي والكالم األدبي‪ ،‬ذلك أن الوعي الذي يؤسس المنظور الذي يفتق عالئق‬
‫المعاني باأللفاظ في النص يكون أكثر رسوخًا حين يتعلق األمر بالخطاب األدبي‪،‬‬
‫ما دام أن محاصرة الفهم لمواصفات هذا األخير يقوم على عمق إدراك البنية‬
‫اللغوية وطريقتها في تشكيل المعنى‪.‬‬
‫ولقد انتهى النزوع المتحسس خصائص الخطاب األدبي تحت طائلة مبحث‬
‫المجاز إلى اإلقرار بوجود مستويين في استعمال اللغة "مستوى يجري فيه‬
‫المستعمل على العادة والعرف‪" ...‬االحتذاء" ومستوى يتصرف فيه المستعمل في‬
‫المواضعات ويجري اللغة على ما يستجيب لمقاصده في العبارة وجمعوا كل ذلك‬
‫تحت مصطلح "اإلنشاء" بالمعنى الواسع الذي يدل عليه األصل اليوناني لكلمة "‬
‫‪ "POETIQUE‬الفرنسية" (‪.)102‬‬
‫ولئن كان التبصر بمواصفات االستعمال اللغوي في هذين المستويين عامًا‬
‫يطول مستويات النص أصواتًا وتراكيب وداللة‪ ،‬فإنه ترتب على ارتباط مبحث‬
‫المجاز بقضايا الداللة أن تم تنزيل هذا المبحث ضمن خانات رصد منطقي داللي‬
‫يستقصي كيفيات تحقق داللة اللفظ على معناه‪ ،‬وذلك في التقسيم المعروف إلى‬
‫داللة المطابقة وداللة التضمن وداللة االلتزام (‪ ،)103‬مع اإلشارة إلى اختالف‬
‫معنى الداللة عند المناطقة عنه عند النحاة (‪.)104‬‬
‫وآل األمر أمام اإلشكاالت التي يطرحها تفسير القرآن الكريم واإلبانة عن‬
‫إعجازه‪ ،‬وفك بنية الخطاب الشعري خاصة‪ ،‬إلى محاولة تجلية مغالق اإلعجاز‬

‫‪- 29 -‬‬
‫وترسيخ الوعي بخصوصية الصياغة األدبية التي ليست إال إفرازًا لظاهرة‬
‫االنزياح عن االستعمال العادي‪ ،‬حيث أشاروا إلى هذه الظاهرة بمصطلحات عدة‬
‫أبرزها‪ ،‬المجاز أو التجوز‪ ،‬ومنها العدول‪ ،‬أو إخراج القول غير مخرج‬
‫العادة‪،‬والتوسع وغيرها (‪.)105‬‬
‫وهذا المنحى المنزل للظاهرة األدبية في خانة المجاز بقدر ما ينم عن الوعي‬
‫بالكيفية التي تتحقق بها الداللة في هذا القول المتميز يرسخ الفهم بخاصية التكامل‬
‫بين طرفيها‪ ،‬ذلك أن "الثنائية التي آلت إليها اللغة في قضية اللفظ والمعنى لم تكن‬
‫الغاية التي انتهت إليها القسمة عند البالغيين‪...‬‬
‫كأنهم يفرقون بين المعنى في ذاته مجردًا عن البعد االستطيقي والمعنى الذي‬
‫يتأتى فيه ذلك البعد" (‪.)106‬‬
‫وعملية التفرقة تقوم على "إدخال مفهوم الواسطة كمميز نوعي للداللة‬
‫األدبية" (‪ ،)107‬ذلك أن اإلفضاء إلى المعنى في النص األدبي قد يتحقق عبر‬
‫تشابك داللي يستحيل فيه المدلول نفسه داًال‪ ،‬فتكون عملية التالزم الداللي في هذا‬
‫التشابك مفضية حتمًا إلى الوعي بتعقيد المسالك المؤدية إلى المعنى‪،‬وتبلغ عندها‬
‫عملية التالحم بين المعاني واأللفاظ درجة قصوى خاصة حين يتحقق للفهم إمكان‬
‫اإلحاطة بكيفية تعاضد الوحدات الدالة في كون شامل يهبها الوجود المتالحم في‬
‫بنية عامة‪.‬‬
‫‪‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫‪ ‬هوامش المدخل‪:‬‬
‫(‪ )1‬البيان‪.76 :‬‬
‫(‪ )2‬نفسه‪ .‬الحيوان‪ .46-45-44-35-34-33 :1‬كتاب التربيع والتدوير‪.62 :‬‬
‫(‪ )3‬ينظر ابن المدبر‪،‬الرسالة العذراء‪ .247 :‬المبرد‪،‬الكامل ‪ .90 :2‬العسكري‪ ،‬الصناعتين‪:‬‬
‫‪ .20‬أبو طاهر البغدادي‪.‬قانون البالغة‪ .61 :‬الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪.106 :‬‬
‫الباقالني إعجاز القرآن‪...274 :‬‬
‫(‪ )4‬ينظر‪ :‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪.210 – 209 ،206 :1‬‬
‫(‪ )5‬عادل فاخوري‪ ،‬علم الداللة عند العرب‪.13 :‬‬
‫(‪ )6‬ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي‪ ،‬التفكير اللساني في الحضارة العربية‪ ،107 :‬وفي مواضع‬
‫مختلفة من الكتاب‪.‬‬
‫(‪ )7‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.79 :1‬‬
‫(‪ )8‬الجاحظ‪ .‬الحيوان ‪.48 :1‬‬
‫(‪ )9‬ابن وهب‪ ،‬البرهان في وجوه البيان‪.139 :‬‬
‫(‪ )10‬الفراء‪ ،‬معاني القرآن ‪ ،1‬ص‪.213 :‬‬
‫(‪ )11‬الكندي‪ ،‬رسائل الكندي الفلسفية ‪ ،1‬ص‪.304 – 203 :‬‬
‫(‪ )12‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية‪ .41 :‬ينظر‪ :‬شكري محمد عياد‪ ،‬المؤثرات الفلسفية والكالمية‬
‫في النقد العربي والبالغة العربية‪ .‬األقالم‪ ،‬عدد ‪ ،11‬السنة ‪ ،15‬بغداد ‪.1980‬‬
‫(‪O.DUCROT. T.TODOROV. DICTIONNAIRE ENCYCLOPEDIQUE DES )13‬‬
‫‪.SCIENCES DU LANGAGE .P: 113‬‬
‫(‪ )14‬ينظر‪ :‬عادل فاخوري‪ ،‬علم الداللة عند العرب‪...13 :‬‬
‫‪F. DE SAUSSURE. COURS DE LINGUISTIQUE‬‬
‫‪GENERALE. P. 33.‬‬
‫(‪ )15‬ابن سيناء‪ ،‬فن الشعر‪،‬ص‪.171 :‬‬
‫(‪ )16‬الحيوان ‪.50 :1‬‬
‫(‪ )17‬ينظر‪ :‬البيان ‪ .87 :1‬الحيوان ‪ .201 :5‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي عند العرب‪:‬‬
‫‪.169‬‬
‫(‪ )18‬عبد السالم المسدي‪ ،‬التفكير اللساني في الحضارة العربية‪.122 :‬‬
‫(‪ )19‬الرسائل الفلسفية ‪ .156 – 155 :1‬ينظر‪ :‬الفارابي‪ ،‬شرح العبارة‪ .25 – 24 :‬ابن‬
‫سيناء‪ ،‬العبارة‪ .3-2 :‬ابن حزم‪ ،‬التقريب لحد المنطق‪ .5-4 :‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص كتاب‬
‫العبارة‪ .81 :‬ابن وهب‪ ،‬البرهان في وجوه البيان‪ ،60 :‬ابن سنان‪ ،‬سر الفصاحة‪.226 :‬‬
‫أبو طاهر البغدادي قانون البالغة‪.28-27 :‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫(‪ )20‬المنهاج‪ ،‬ص‪.19-18 :‬‬
‫(‪ )21‬ابن حزم‪ ،‬التقريب لحد المنطق‪ ،‬ص‪.4 :‬‬
‫(‪ )22‬الغزالي‪ ،‬معيار العلم‪ ،‬ص‪.76 :‬‬
‫(‪ )23‬المقصد األسنى في شرح أسماء اهلل الحسنى‪ ،‬ص‪.19 :‬‬
‫(‪ )24‬محمود فهمي زيدان‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬ص‪.176:‬‬
‫ينظر هنري كوربان‪ ،‬تاريخ الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.221 :‬‬
‫(‪ )25‬الغزالي‪ ،‬معيار العلم‪ ،‬ص‪ .76:‬ينظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬العبارة‪ ،‬ص‪ .5:‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص‬
‫كتاب العبارة‪ ،‬ص‪ .81:‬ابن وهب‪ ،‬البرهان‪ ،‬ص‪ .63-62 :‬الشهرستاني‪ ،‬نهاية االقدام‬
‫في علم الكالم‪ ،‬ص‪.323 :‬‬
‫(‪ )26‬عبد الرحمن الحاج صالح‪ ،‬مدخل إلى علم اللسان الحديث‪ ،‬مجلة اللسانيات‪ ،‬معهد العلوم‬
‫اللسانية والصوتية – جامعة الجزائر – عدد ‪ ،4‬سنة ‪،1974 - 1973‬‬
‫ص‪.33 :‬‬
‫(‪ )27‬السيوطي‪ ،‬المزهر ‪.42 :1‬‬
‫(‪ )28‬ينظر‪ :‬عبد الرحمن الحاج صالح‪ ،‬مدخل إلى علم اللسان الحديث‪ ،‬مجلد‪ ،1‬عدد‪،1971 ،2‬‬
‫ص‪ ،45 :‬هامش‪ .36 :‬والمجلد‪ ،2‬عدد‪ ،1972 ،1‬ص‪ ،46:‬هامش‪ .88 :‬وخاصية‬
‫االعتباط في عالقة الدال بالمدلول شكلت إحدى النظريات التي صاغها دي سوسير‪.‬‬
‫‪COURS DE LINGUISTIQUE GENERALE. P.‬‬ ‫ينظر‪100 :‬‬
‫وقد أثارت النقد بعده‪ ،‬سواء بنقد فكرة التدليل على الخاصية باعتماد فكرة تباين الدوال في اللغات‬
‫المختبلفة ووحدة المدلول‪ ،‬أم باالستناد إلى فكرة المرجع‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪-J. KRISTEVA, LE LANGAGE CET INCONNU, P. 21.‬‬
‫‪-R. JAKOBSON, SIX LECONS SUR SE SON IT LE SENS, P. 39‬‬
‫‪-M. LEROY, LES GRANDS COURANTS DE LA LINGUISTIQUE MODERNE, P: 115-‬‬
‫‪116.‬‬
‫(‪ )29‬عبد السالم المسدي‪ ،‬التفكير اللساني في الحضارة العربية‪ ،‬ص‪.169 :‬‬
‫(‪ )30‬العبارة‪ ،‬ص‪ .4 :‬ويجمع الدليل اللغوي لدى دي سوسير بين متصور ذهني وصورة‬
‫أكوستيكية التي هي األثر النفسي للصوت الفيزيائي‪.‬‬
‫ينظر‪.COURS DE LINGUESTIQUE GENERALE P. :9 :‬‬
‫وقد لقيت فكرة الصورة األكوستيكية النقد بعده أيضًا‪ ،‬فمع تأكيد وحدة الدليل اللغوي‬
‫المتشكل من دال ومدلول تحدد الدال بأنه المظهر الصوتي للدليل المتشكل من فونيمات‪،‬‬
‫أو هو المظهر الشكلي لكيان يدعى دليًال‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪-A.MARTINET, ELEMENTS DE LINGUISTIQUE GÉNÉRAL 15-16.‬‬
‫‪-E.BENVENISTE, PROBLÉMES DE LINGUISTIQUE GÉNÉRALE, T.2, P.220.‬‬
‫أما من منظور فلسفي فإن النظريات المحددة لعالقة اللفظ بالمعنى كثيرة يمكن اإلشارة‬
‫إلى أبرزها‪ ،‬وهي‪ :‬النظرية اإلشارية في المعنى‪ ،‬والنظرية الفكرية‪ ،‬ونظرية المنّبه‬

‫‪- 32 -‬‬
‫واالستجابة‪ ...‬محمود فهمي زيدان‪ ،‬في فلسفة اللغة ص‪.96 :‬‬
‫(‪ )31‬ابن سيناء‪ ،‬التعليقات‪ ،‬ص‪.96:‬‬
‫(‪ )32‬ينظر الستقصاء فكرة التالزم على محوري االستبدال والتوزيع‪ :‬عبد السالم المسدي‪،‬‬
‫التفكير اللساني في الحضارة العربية‪ ،‬ص‪...166 :‬‬
‫(‪ )33‬إحصاء العلوم‪ ،‬ص‪.62:‬‬
‫(‪ )34‬نهاية االقدام‪ ،‬ص‪.319 – 318 :‬‬
‫(‪ )35‬الفارابي‪ ،‬شرح العبارة‪ ،‬ص‪.16 – 25 :‬‬
‫(‪ )36‬كتاب الحروف‪ ،‬ص‪ .141 – 140 :‬ينظر األلفاظ المستعملة في المنطق‪ ،‬ص‪– 57:‬‬
‫‪.58‬‬
‫(‪ )37‬ينظر أيضًا‪- :‬ابن األثير‪ ،‬الجامع الكبير‪ ،‬ص‪.82 :‬‬
‫‪-‬السيوطي‪ ،‬المزهر ‪ ،1‬ص‪...44 :‬‬
‫(‪ )38‬العبارة‪ ،‬ص‪.31 :‬‬
‫(‪ )39‬نفسه‪ ،‬ص‪ .6 :‬ينظر‪ :‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص كتاب العبارة‪ ،‬ص‪.127 :‬‬
‫(‪ )40‬نهاية االقدام‪ ،‬ص‪.286 :‬‬
‫(‪ )41‬نفسه‪ ،‬ص‪.323 :‬‬
‫(‪ )42‬تلخيص كتاب الشعر‪ ،‬ص‪.236 :‬‬
‫(‪ )43‬الصاحبي‪ ،‬ص‪.88 :‬‬
‫(‪ )44‬الخصائص ‪ ،1‬ص‪.150 :‬‬
‫(‪ )45‬نفسه‪ ،1‬ص‪217 :‬‬
‫(‪ )46‬البن جني وقفات في أبواب من كتابه السالف خص بها عالقة المعنى ببنيته اللفظية على‬
‫مستوى المفردة وعلى مستوى التركيب‪ .‬الخصائص ‪ ،2‬ص‪...113 :‬‬
‫(‪ )47‬أبو حيان التوحيدي‪ ،‬االمتاع والمؤانسة ‪ ،1‬ص‪.115 :‬‬
‫(‪ )48‬إخوان الصفا‪ ،‬الرسائل‪ ،1‬ص‪.176 :‬‬
‫(‪ )49‬الشهرستاني‪ ،‬نهاية االقدام‪ .‬ص‪.327 – 326 :‬‬
‫(‪ )50‬البيان ‪ ،1‬ص‪.76 :‬‬
‫(‪ )51‬الرسائل ‪.262 ،1‬‬
‫(‪ )52‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي عند العرب‪ ،‬ص‪.170 :‬‬
‫(‪ )53‬البيان ‪ ،1‬ص‪.76 :‬‬
‫(‪ )54‬الرسالة العذراء‪ ،‬ص‪.246 :‬‬
‫(‪ )55‬ينظر جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية‪ ،‬ص‪.319 :‬‬
‫(‪ )56‬الرسالة العذراء‪ ،‬ص‪.247 :‬‬

‫‪- 33 -‬‬
‫(‪ )57‬البصائر والذخائر‪ ،‬ص‪.175 :‬‬
‫(‪ )58‬اإلمتاع والمؤانسة ‪ ،1‬ص‪.111 :‬‬
‫(‪ )59‬الرسائل ‪ ،1‬ص‪ .318 :‬وجـ ‪ ،3‬ص‪.132 – 121 :‬‬
‫(‪ )60‬الرسائل ‪ ،3‬ص‪.120 :‬‬
‫(‪ )61‬التعليقات‪ ،‬ص‪.162 :‬‬
‫(‪ )62‬المدخل من الشفاء‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫(‪ )63‬نهاية االقدام‪ ،‬ص‪.324 – 323 :‬‬
‫(‪ )64‬ينظر‪ :‬إبراهيم أنيس‪ ،‬داللة األلفاظ‪ ،‬ص‪.37 :‬‬
‫‪P.CHAUCHARD, LE LANGAGE ET LA PENSÉE, P.7.‬‬
‫(‪ )65‬ينظر عبد السالم المسدي‪ ،‬اللسانيات وأسسها المعرفية‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪G.MOUNIN, LA LINGUISTIQUE DE 20E SIÉCLE, P. 264.‬‬
‫مع اإلشارة إلى تعدد الوظائف المسندة إلى اللغة وإ ن كان محورها وظيفة اإلبالغ‪.‬‬
‫ينظر‪ :‬عبد الرحمن الحاج صالح‪ ،‬مدخل إلى علم اللسان الحديث‪ ،‬عدد ‪ ،4‬ص‪.2.9 :‬‬
‫‪-A.MARTINET, ELEMENTS DE LINGUISTIQUE GÉNÉRALE, P. 9-10.‬‬
‫‪-G.MOUNIN, CLEFS POUR LA LINGUISTIQUE, P.76.‬‬
‫(‪ )66‬مصطفى ناصف‪ ،‬نظرية المعنى في النقد العربي‪ ،‬ص‪.41 :‬‬
‫(‪ )67‬وقد أثبت علماء النفس في العصر الحديث عدم التوازي والتطابق بين نشاط الفكر ونشاط‬
‫اللغة‪ .‬ينظر‪ :‬عبد الرحمن الحاج صالح‪ ،‬مدخل إلى علم اللسان الحديث‪ ،‬مجلد ‪ ،1‬عدد‬
‫‪ ،1971 ،1‬ص‪.27 :‬‬
‫(‪ )68‬كمال يوسف الحاج‪ ،‬في فلسفة اللغة‪ ،‬ص‪.75 :‬‬
‫(‪.J.COHEN. STRUCTURE DU LANGAGE POETIQUE, P. 33 )69‬‬
‫ينظر‪.A.SCHAFF, LANGAGE ET CONNAISSANCE, P.135.. :‬‬
‫دون أن ننسى اإلشارة إلى أن المفاهيم التي أسسها النحاة واللغويون العرب األولون ال‬
‫تقل أهمية عن مفاهيم العلم الحديث‪ .‬ينظر‪ :‬عبد الرحمن الحاج صالح‪ ،‬مدخل إلى علم‬
‫اللسان الحديث‪،‬عدد ‪ ،4‬ص‪.26 :‬‬
‫(‪ )70‬شكري عياد‪ ،‬المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العربية‪ ،‬ص‪.5 :‬‬
‫(‪ )71‬الباقالني‪ ،‬اإلنصاف‪ ،‬ص‪.111 :‬‬
‫(‪ )72‬األشعري‪ ،‬مقاالت اإلسالميين ‪ ،2‬ص‪.231 :‬‬
‫(‪ )73‬اآلمدي‪ ،‬غاية المرام في علم الكالم‪ ،‬ص‪ .88 :‬ينظر‪ :‬الشهرستاني‪ ،‬الملل والنحل ‪،1‬‬
‫ص‪.96 :‬‬
‫(‪ )74‬القاضي عبد الجبار‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل ‪ ،7‬ص‪ .6 :‬ينظر‪ :‬ابن سنان‪ ،‬سر‬
‫الفصاحة‪ ،‬ص‪ .39 :‬الشهرستاني‪ ،‬نهاية االقدام‪ ،‬ص‪ .320 :‬العلوي‪ ،‬الطراز ‪ ،3‬ص‪:‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫‪.424‬‬
‫(‪ )75‬الشهرستاني‪ ،‬الملل والنحل ‪ ،1‬ص‪.45 :‬‬
‫(‪ )76‬القاضي عبد الجبار‪ ،‬المغني‪ ،7‬ص‪.88 :‬‬
‫(‪ )77‬الباقالني‪ ،‬التمهيد‪ ،‬ص‪ .251 :‬الشهرستاني‪ ،‬نهاية االقدام‪ ،‬ص‪.320 :‬‬
‫(‪ )78‬اإلنصاف‪ ،‬ص‪.79 :‬‬
‫(‪ )79‬اإلنصاف‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫(‪ )80‬نفسه‪ ،‬ص‪.86 :‬‬
‫(‪ )81‬نفسه‪ ،‬ص‪.93 :‬‬
‫(‪ )82‬شكري عياد‪ ،‬المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العبية‪ .‬ص‪.7 :‬‬
‫(‪ )83‬الغزالي‪ ،‬االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬ص‪ ...54 :‬قواعد العقائد ص‪ .74-17 :‬اآلمدي‪ ،‬غاية‬
‫المرام‪ ،‬ص‪ .97 :‬ابن القيم الجوزية‪ ،‬الصواعق المرسلة ‪ ،2‬ص‪.291 – 290 :‬‬
‫(‪ )84‬سورة إبراهيم‪ ،‬اآلية‪.4 :‬‬
‫(‪ )85‬اإلنصاف‪ ،‬ص‪.107 – 106 :‬‬
‫(‪ )86‬الباقالني‪ ،‬إعجاز القرآن‪ ،‬ص‪.260 :‬‬
‫(‪ )87‬الباقالني‪ ،‬التمهيد‪ ،‬ص‪ .152 :‬ينظر‪ :‬الزركشي‪ ،‬البرهان في علوم القرآن ‪ ،2‬ص‪.93 :‬‬
‫(‪ )88‬كاألساس النفسي للشعر‪ ،‬ووظيفته التخييلية القائمة على كونه صياغة لغوية متميزة تتوافق‬
‫مع مدارك الجمهور‪ ...‬ينظر‪ :‬ألفت الروبي‪ ،‬نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين‪.‬‬
‫األخضر جمعي‪ ،‬نظرية الشعر عند الفالسفة اإلسالميين‪ ،‬بحث مرقون بجامعة الجزائر‪.‬‬
‫(‪ )89‬الكندي‪ ،‬الرسائل الفلسفية ‪ ،1‬ص‪ .218 – 217 :‬ينظر‪ :‬الفارابي‪ ،‬فلسفة أرسطو طاليس‪،‬‬
‫ص‪ .93 – 92 :‬إخوان الصفاء‪ .‬الرسائل ‪ ،1‬ص‪ .201 :‬الخوارزمي‪ ،‬مفاتيح العلوم‪،‬‬
‫ص‪ .93 :‬ابن سيناء‪ ،‬إلهيات الشفاء ‪ ،2‬ص‪ .258 – 257 :‬إلهيات اإلشارات ‪ ،3‬ص‪:‬‬
‫‪ ،14 – 13‬رسائل ابن سينا‪ .‬ص‪ .3 :‬ابن باجة‪ ،‬كتاب النفس‪ ،‬ص‪ .32 :‬ابن رشد‪،‬‬
‫تلخيص كتاب البرهان‪ ،‬ص‪ .471 :‬تلخيص ما بعد الطبيعة‪ ،‬ص‪...4 – 3 :‬‬
‫(‪ )90‬ابن سينا‪ ،‬تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات‪ ،‬ص‪ .3 :‬ينظر‪ :‬ابن سينا‪ .‬إلهيات الشفاء‬
‫‪،1‬ص‪ .72 :‬عيون الحكمة‪ ،‬ص‪ .17 :‬الكندي‪ ،‬الرسائل ‪ ،1‬ص‪ .166 :‬الرسائل ‪،2‬‬
‫ص‪ .16 – 14 :‬الفارابي‪ ،‬إحصاء العلوم‪ ،‬ص‪ .95 – 94 :‬كتاب آراء أهل المدينة‬
‫الفاضلة‪ ،‬ص‪ .64 :‬السياسة المدنية‪ ،‬ص‪ .37 – 36 :‬فصول منتزعة‪ ،‬ص‪– 26 :‬‬
‫‪ .27‬ابن باجة كتاب النفس‪ ،‬ص‪ .20 – 19 :‬ابن طفيل‪ ،‬حي بن يقظان‪.‬‬
‫(‪ )91‬إخوان الصفا‪ ،‬الرسائل ‪ ،2‬ص‪.4 :‬‬
‫(‪ )92‬الفارابي‪ ،‬رسالة للفارابي في الرد على يحيى النحوي في الرد على أرسطو طاليس‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.109‬‬
‫(‪ )93‬إثبات النبوات‪ ،‬ص‪.42 :‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫(‪ )94‬ابن سينا‪ ،‬النجاة‪ ،‬القسم الثاني‪ :‬الطبيعيات‪ ،‬ص‪.159 :‬‬
‫(‪ )95‬ابن سينا‪ ،‬قسم القياس من الشفاء‪ ،‬ص‪.6:‬‬
‫(‪ )96‬علي سامي النشار‪ ،‬المنطق الصوري‪ ،‬ص‪.54 :‬‬
‫(‪ )97‬نفسه‪ ،‬ص‪ .24 – 23 – 20 :‬ينظر أيضًا‪ :‬علي سامي النشار‪ ،‬مناهج البحث عند مفكري‬
‫اإلسالم‪ ،‬ص‪.22 – 21 :‬‬
‫(‪ )98‬إبراهيم مدكور‪ ،‬مقدمة قسم القياس من الشفاء البن سينا‪ ،‬ص‪.7 :‬‬
‫(‪ )99‬ينظر ابن سينا‪ ،‬قسم القياس من الشفاء‪ ،‬ص‪ .5-4-3 :‬قسم المنطق من اإلشارات‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪ .274 – 273‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص كتاب القياس‪ ،‬ص‪.139 – 138 :‬‬
‫(‪ )100‬ابن سينا‪ ،‬اإلشارات‪ .‬القسم الثاني‪ :‬الطبيعيات‪ ،‬ص‪.207 :‬‬
‫(‪ )101‬ابن مسكويه‪ ،‬الفوز األصغر‪ ،‬ص‪.30 :‬‬
‫(‪ )102‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي عند العرب‪ ،‬ص‪ .617 :‬ينظر أيضًا‪ :‬عبد الحكيم‬
‫راضي‪ ،‬النقد اللغوي في التراث العربي‪ ،‬مجلة فصول‪ ،‬مجلد ‪ ،6‬عدد‪ ،2‬القاهرة ‪،1986‬‬
‫ص‪.81 :‬‬
‫(‪ )103‬ينظر‪ :‬الغزالي‪ ،‬معيار العلم‪ ،‬ص‪ .72 :‬ابن سينا‪ ،‬منطق المشرقيين‪ ،‬ص‪ .37 :‬الخطيب‬
‫القزويني‪ ،‬اإليضاح في علوم البالغة ‪ ،2‬ص‪ .327 -326 :‬عادل فاخوري‪ ،‬علم الداللة‬
‫عند العرب‪ .41 :‬مصطفى ناصف‪ ،‬دراسة األدب العربي‪ ،‬ص‪ .196 – 195 :‬نظرية‬
‫المعنى في النقد العربي‪ ،‬ص‪ ،92 – 91 :‬عن الصيغة اإلنسانية للداللة‪ ،‬عدد فصول‬
‫السابق‪ ،‬ص‪.92 :‬‬
‫(‪ )104‬علي سامي النشار‪ ،‬مناهج البحث عند مفكري اإلسالم‪ ،‬ص‪.28 – 27 :‬‬
‫(‪ )105‬ينظر الستقصاء هذه المصطلحات‪ :‬د‪ .‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي عند العرب‪،‬‬
‫ص‪.396 :‬‬
‫(‪ )106‬لطفي عبد البديع‪ ،‬التركيب اللغوي لألدب‪ ،‬ص‪.3 :‬‬
‫(‪ )107‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي عند العرب‪ ،‬ص‪.413 :‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 36 -‬‬
- 37 -
‫الفصل األول ‪:‬‬
‫بنية النص األدبي‬
‫من الجاحظ إلى قدامة بن جعفر‬

‫الجاحظ وتطابق اللفظ والمعنى‬


‫إن القصد إلى تحّس س وعي أعالم التراث النقدي والبالغي العربي بإشكال‬
‫اللفظ والمعنى‪ ،‬وما يترتب على ذلك من تبصر ببنية الخطاب عمومًا‪ ،‬يستدعي‬
‫العناية باألصول اللغوية وتأثيرها في المسائل األسلوبية لما للعالئق بين المجالين‬
‫من صالت حميمة‪ .‬وتتأكد هذه الصالت الحميمة بين المباحث األسلوبية والنقدية‬
‫واآلراء اللغوية لدى بعض النقاد والبالغيين خاصة‪ ،‬كالجاحظ‪ ،‬الذي باإلضافة إلى‬
‫رأيه في أقسام البيان عامة ومالحظاته المتعلقة بالظاهرة اللغوية خاصة مما يشكل‬
‫إطارًا عامًا لهذه المباحث‪ ،‬تمتد تصوراته األسلوبية ومقاييسه البالغية في رسوخ‬
‫في نظريته في الكالم‪ ،‬إذ هو‪" :‬أول مفكر عربي نقف في تراثه على نظرية‬
‫متكاملة تقدر أن الكالم‪ ،‬وهو المظهر العملي لوجود اللغة المجرد‪ ،‬ينجز‬
‫بالضرورة في سياق خاص يجب أن تراعى فيه‪ ،‬باإلضافة إلى الناحية اللغوية‬
‫المحضة‪ ،‬جملة من العوامل األخرى كالسامع والمقام وظروف المقال وكل ما‬
‫يقوم بين هذه العناصر‪ .‬غير اللغوية "‪ Extra linguistique‬من روابط" (‪.)1‬‬
‫ولئن كان تفاعل هذه العناصر سيكون المسؤول عن تحديد خصائص الكالم‪،‬‬
‫فإن المرور إلى معاينة هذه الخصائص يستوجب االقتراب من تصور الجاحظ‬
‫أوجه استعمال الظاهرة اللغوية‪ ،‬وسنجد في محتوى الحدود الضابطة مضامين‬
‫مصطلح البالغة‪ ،‬وما يدور في مجالها‪ ،‬أو يتقاطع مع فعاليتها كالفصاحة‪ ،‬والبيان‬

‫‪- 38 -‬‬
‫(‪ )2‬حين تترادف داللته مع داللة البالغة والفصاحة ما يقرب من هذه الحقيقة‪.‬‬
‫وهذا ما نجلوه من استقراء كل من عبد السالم المسدي وحمادي صمود‪ ،‬إذ‬
‫رغم اتفاقهما على تنوع المضامين المستخلصة من تلك المصطلحات‪ ،‬نجد‬
‫المسدي يؤكد وعي الجاحظ بثنائية توظيف الظاهرة اللغوية بين داللة غايتها البث‬
‫كما تتبدى في االستعمال اللغوي العادي‪ ،‬وداللة أسلوبية غايتها الخلق الفني كما‬
‫تظهرها خصائص النص البنائية (‪ ،)3‬في حين يتحفظ صمود إزاء هذا الفصل‬
‫مبوئًا وظيفة الفهم واإلفهام الصدارة‪ ،‬لكنه ال يلبث وهو يتعقب دالالت مصطلح‬
‫"بيان" حين يتطابق مع مصطلحي "فصاحة" و"بالغة" أن يقَّر بما يتوافق مع‬
‫الوظيفة الشعرية للخطاب‪ ،‬وذلك حين يرى أن مضمون "بيان" يتجاوز مرتبة‬
‫الكشف عن المعنى من أي طريق كان إلى‪" :‬كيفية في بلوغ تلك الغاية وهيئة‬
‫مخصوصة يكون عليها الخطاب تجعله معطى حضوريًا قائمًا بذاته بينما كان في‬
‫الفعل اللغوي العادي غائبًا وراء ما يؤديه" (‪.)4‬‬
‫ولقد أشار غير حمادي صمود إلى مكانة وظيفة الفهم واإلفهام في بالغة‬
‫الجاحظ حيث يرى أمجد الطرابلسي أنه من أجل هدف تسهيل إفهام الفكرة فقط‪،‬‬
‫يكون من الضرورة االعتناء بشكل الخطاب لدى الجاحظ طبعًا (‪ ،)5‬إال أنه ورغم‬
‫وجاهة اإلقرار بتبّو ء وظيفة الفهم واإلفهام مكانة متقدمة لدى الجاحظ وفي التراث‬
‫النقدي العربي كله‪ ،‬إذ إن جدوى الخطاب وفائدة القول ركنان مكينان في كل‬
‫مباشرة كالمية‪ ،‬وال أدل على ذلك من مكانة المعنى في كل محاولة نقدية وتعدد ما‬
‫أسند إلى هذه الداللة من مفاهيم (‪ ،)6‬فإن اإللحاح على تعهد الصياغة بالعناية‬
‫البالغة وترسيخ مفهوم الصنعة في الشعر خاصة‪ ،‬مع اإلشارة إلى حضور األنواع‬
‫األدبية المختلفة وخاصة الخطابة والشعر‪ ،‬وكذلك القرآن باعتباره قمة البيان‬
‫المعجز في كل محاولة تقنين لظاهرة األسلوب‪ ،‬يفسح المجال لإلقرار بأن القدماء‬
‫واعون بتحرك القول ضمن مسار االستعمال المألوف الهادف إلى االتصال‬
‫أساسًا‪ ،‬ومسار االستعمال غير المألوف‪ ،‬وإ ن لم ينتف منه القصد إلى الفائدة‪ ،‬ذلك‬
‫أنه مع اإلشارة إلى أن استخالص مقاييس األسلوب كان شامًال لكل كالم بليغ‪ ،‬إال‬
‫أن ذلك ال يعدو من منظور أولي ضبط األسس والقواعد العامة التي تأخذ طابعها‬
‫المتخصص عندما يتعلق األمر بنوع أو بآخر‪ ،‬وال أدل على ذلك من إقرارهم أن‬
‫القرآن صيغ بأسلوب العربية غير أنه معجز فوق مقدور البشر‪ ،‬معنى ذلك أن‬
‫عملية التشكيل الفّني للظاهرة البالغية في القرآن الكريم ترتقي درجة اإلعجاز‬
‫وتتفرد من ثمة بحكم طريقة الصياغة وأساليب تشكيلها‪ ،‬وكذلك الشعر‪ ،‬إذ‬

‫‪- 39 -‬‬
‫يجمعون على تميز خطابه بخصوصية في تشكيل المعنى‪ ،‬حيث يترسخ الوعي‬
‫بخصوصية هذا الخطاب في مقابلة الشعر بالنثر‪ ،‬علمًا بأن الوعي بالخواص‬
‫البنيوية للغة كل نوع متفاوتة لدى النقاد‪ ،‬لكنها حاضرة بكل وضوح لدى البعض‬
‫كالجاحظ وأبي حيان التوحيدي (‪ ،)7‬وشديدة الوضوح لدى الفالسفة اإلسالميين (‬
‫‪.)8‬‬
‫فالخطاب الشعري في الثقافة العربية اإلسالمية قديمًا ال يعدو من منظور‬
‫أصول المعاني أن يكون مكرورًا‪ ،‬إذ إن ترسيخ القيم التي أفرزتها قناعات ثقافية‬
‫شتى‪ ،‬وربط الشعر بالقديم الراسخ في الجاهلية حصر للفعل اإلبداعي في الشعر‬
‫في اإلخراج المتجدد للمألوف‪ ،‬وفي هذا اإلخراج مفارقة إذ إنه إذ يظل أمينًا‬
‫للخطوط العريضة لمسارات المعنى في كل تفرعاته ينحت الشاعر لنفسه التفرد‬
‫والتميز في الصورة المخرجة للمعنى المتميزة بخصوصية العبارة‪ ،‬أو االختراع‬
‫الجزئي المتمثل في التفريع والتوليد‪ ،‬من هنا لم يكن المتلقي يبحث عن الجديد‬
‫بالدرجة األولى بقدر ما كان يستهدف اللذة الحاصلة من التجدد الطارئ على‬
‫المعروف‪.‬‬
‫ولقد تبدى الوعي بتفرد بنية القصيدة الشعرية مبكرًا إذ يكفي استطالع آراء‬
‫اللغويين من أمثال الخليل بن أحمد القائل‪" :‬الشعراء أمراء الكالم يصرفونه أنى‬
‫شاءوا ويجوز لهم ما ال يجوز لغيرهم من إطالق المعنى وتقييده ومن تصريف‬
‫اللفظ وتعقيده ومد المقصور وقصر الممدود والجمع بين لغاته والتفريق بين‬
‫صفاته‪ ،‬واستخراج ما كّلت األلسن عن وصفه ونعته واألذهان عن فهمه‬
‫وإ يضاحه‪ ،‬فيقربون البعيد ويبعدون القريب ويحتج بهم وال يحتج عليهم‬
‫ويصورون الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل" (‪ ،)9‬وابن الجمحي‬
‫في تأكيده دور الضرورة الشعرية النابعة من قيود الوزن والقافية في قولـه‪:‬‬
‫"والمنطق على المتكلم أوسع منه على الشاعر والشعر يحتاج إلى البناء والعروض‬
‫والقوافي‪ ،‬والمتكلم مطلق يتخير الكالم" (‪ ،)10‬للتأكد من حضور مفهوم النوع‬
‫األدبي في التقنين لبنية النص ومقاييس األسلوب‪ .‬هذا الحضور الذي يأبى اختزال‬
‫خصوصية الشعر في اعتباره نثرًا تزينه موسيقى – على حد عبارة حمادي صمود‬
‫– إلى اإلقرار بأنه حسب رأيه أيضًا "مغاير للنثر منفرد ببنية لغوية متميز بلغة ال‬
‫تخضع لنفس القوانين التي تترتب حسبها اللغة واألشياء في النثر" (‪ ،)11‬وهذا‬
‫الوعي بتميز البنية اللغوية في كل نوع ليس إال انعكاسًا لتباين الوظائف المسندة‬
‫إلى كل واحد منها‪.‬‬

‫‪- 40 -‬‬
‫أما شأن هذه المسألة عند الجاحظ‪ ،‬فإننا نراه قد أفرد بالغة النثر بقسم من‬
‫البيان والتبيين واستشهد عليها بأنواع النثر المتداولة في عصره حيث "أقام بذلك‬
‫الدليل على أنه يعتبر النثر الفني ندا للشعر كفؤًا" (‪ ،)12‬فإذا أدركنا أنه حاد الوعي‬
‫بتفرد الشعر ببنية مخصوصة تجعله مستعصيًا على الترجمة (‪ ،)13‬أصبح‬
‫باإلمكان اإلقرار بأن حضور هذه األنواع في بالغته سيطبع تصوره لمشكلة اللفظ‬
‫والمعنى‪ ،‬والبنية العامة بطابع التداخل‪ ،‬أو ازدواجية النظرة وسيغلب هيمنة نوع‬
‫أو نوعين في استخالص مفاهيم هذا المستوى أو ذاك‪ ،‬فحديث الجاحظ عن البنية‬
‫العامة الذي ينحصر بين درسه النظم وإ لحاحه على تالحم األجزاء وحسن الوصف‬
‫نابع من استقراء بنية النص القرآني والشعر أساسًا‪.‬‬
‫هذا اإلطار العام مّك ن الجاحظ من تحقيق الوعي بمرتبتي الكالم‪ :‬العادي‬
‫واألدبي والفصل بينهما‪ ،‬ذلك أنه يرى أن "كالم الناس في طبقات كما أن الناس‬
‫أنفسهم في طبقات‪ ،‬فمن الكالم الجزل والسخيف والمليح والحسن‪ ،‬والقبيح‬
‫والسمج‪ ،‬والخفيف والثقيل‪ ،‬وكله عربي وبكل قد تكلموا‪ ،‬وبكل قد تمادحوا‬
‫وتعايبوا" (‪ .)14‬هذه المساحة العامة للكالم الواقعة بين قطبي السخيف السوقي‬
‫الصادر عن طبقة العامة دون شك والمليح الحسن الذي يكون محصلة الصنعة‬
‫واالعتناء الذي يضعه أهل القول البليغ‪ ،‬تتحدد بخواص في الكالم ذاته‪ ،‬ذلك أن‬
‫"العامة ربما استخفت أقل اللغتين أو أضعفهما‪ ،‬وتستعمل ما هو أقل في أصل اللغة‬
‫استعماًال وتدع ما هو أظهر وأكثر" (‪ ،)15‬في حين يكون البصر بجوهر الكالم‬
‫البليغ عند رواة الكتاب أعم‪ ،‬وعلى ألسنة حذاق الشعراء أظهر‪ ،‬هذا الجوهر‬
‫المتحقق باالعتماد على األلفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة وعلى "األلفاظ العذبة‬
‫والمخارج السهلة‪ ،‬والديباجية الكريمة‪ ،‬وعلى الطبع المتمكن وعلى السبك الجيد‪،‬‬
‫وعلى كل كالم لـه ماء ورونق‪ ،‬وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور‬
‫عمرتها وأصلحتها من الفساد القديم‪ ،‬وفتحت للسان باب البالغة ودّلت األقالم على‬
‫مدافن األلفاظ‪ ،‬وأشارت إلى ِح سان المعاني" (‪.)16‬‬
‫وهذا الصنف من الكالم المتميز بالخصائص الفنية يقتضي اإلخراج المتأني‬
‫الواعي كما يتحقق في التنقيح والصنعة وحذف فضول الكالم حسب ما تشخصه‬
‫مقولة‪ :‬خير الشعر الحولي المنقح (‪ ،)17‬أو العناية البالغة بالخطابة وتدبير القول‬
‫خاصة إذا دعت المقاصد إلى ذلك‪ .‬وعلى العموم يحتاج البيان في هذا المستوى‬
‫الفني "إلى تمييز وسياسة‪ ،‬وإ لى ترتيب ورياضة‪ ،‬وإ لى تمام اآللة وإ حكام الصنعة"‬
‫(‪ .)18‬من هنا يتحقق للمستويين السابقين ضوابط تتنزل في مجرى "المقابلة التي‬

‫‪- 41 -‬‬
‫أقامها الجاحظ بين "البيان" و"حسن البيان" (‪ .)19‬فالمستوى العادي يلح على‬
‫اإلفهام لمجرد اإلبالغ واإلخبار في حين يتحقق في المستوى الثاني من توظيف‬
‫الظاهرة اللغوية تحسين اإلبانة‪ ،‬كما يتمثل ذلك في سياق تعليق الجاحظ على قول‬
‫العتابي حين زعم أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ‪ ،‬إذ يرى الجاحظ أنه "لم يعن‬
‫أن كل من أفهمنا من معاشر المولدين والبلديين قصده ومعناه‪ ،‬بالكالم الملحون‪،‬‬
‫والمعدول عن جهته‪ ،‬والمصروف عن حقه‪ ،‬أنه محكوم له بالبالغة كيف كان‪ ،‬بعد‬
‫أن نكون قد فهمنا عنه‪ .‬فمن زعم أن البالغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل‪،‬‬
‫جعل الفصاحة واللكنة‪ ،‬والخطأ والصواب‪ ،‬واإلغالق واإلبانة‪ ،‬والملحون‬
‫والمعرب‪ ،‬كله سواء‪ ...‬وإ نما عني العتابي إفهامك العرب حاجتك على مجاري‬
‫كالم العرب الفصحاء" (‪.)20‬‬
‫وتأسيسًا على ما سلف يكون تحرك الجاحظ لضبط خصائص الصياغة‬
‫الجميلة المخرجة للقول وفق معايير البالغة شامًال‪ ،‬يطول اللفظة في مستواها‬
‫اإلفرادي ثم في عالئقها بالمعنى‪ ،‬إلى غاية فهم لحمة الوحدات في السياق الواحد‬
‫في ما أسماه بالنظم أو حسن التأليف والنسج‪ .‬ونكتفي باإلشارة إلى رصد الجاحظ‬
‫مبدأ االختيار األول المتجسد في اللفظة والمنطلقات المؤسسة لهذا االختيار‪ ،‬حيث‬
‫يترسخ اشتراط الجاحظ في اللفظة المفردة انسجام وحداتها الصوتية المشكلة‬
‫لبنيتها كما يتحقق ذلك في ائتالف هذه المكونات مما ينتج عنه صفات يجمل‬
‫بعضها في "ما َّر ق وعذب وخف وسهل" (‪ )21‬أو غيرهما مما أجمله أيضًا في‬
‫حاجة المنطق "إلى الحالوة والطالوة كحاجته إلى الجزالة والفخامة" (‪،)22‬‬
‫وأوصاف أخرى تبدو انعكاسًا لتصور أخالقي من مثل قوله أن يكون اللفظ كريمًا‬
‫في نفسه (‪ )23‬ونكتفي بهذه اإلشارة رغم تأكيد أهمية شرط االختيار األول‬
‫المتمثل في اللفظ المنتقى وفق الشروط المحددة ودوره في بالغة النص عامة لنمّر‬
‫إلى العنصر األهم في موضوعنا الذي يتجسد في عالقة اللفظ بالمعنى‪.‬‬
‫فرغم إشارة الجاحظ إلى إمكان وجود معنى بدون لفظ فإنه يرى مستحيًال أن‬
‫"يكون اللفظ اسمًا إال وهو مضمن بمعنى‪ ،‬وقد يكون المعنى بال اسم‪ ،‬وال يكون‬
‫اسمًا إال وله معنى" (‪ .)24‬والتمييز بين الحقلين لم يمنع من الدعوة إلى إحداث‬
‫أشكال من االئتالف بينهما أو تطابقهما‪ .‬ويتحقق هذا االئتالف في مستويات شتى‬
‫منطلقها أساس وجودي – إن صح الوصف – يقوم على مقابلة المعنى واللفظ‬
‫بالروح والجسد إذ إن "األسماء في معنى األبدان والمعاني في معنى األرواح‪.‬‬
‫اللفظ للمعنى بدن‪ ،‬والمعنى للفظ روح" (‪ ،)25‬وتتبدى عملية االحتواء اللفظي‬

‫‪- 42 -‬‬
‫للمعنى كتضمن البدن للنفس فالنفوس "المضمنة كالمعاني المضمنة" (‪.)26‬‬
‫هذا المستوى الكوني يضيق ليتلبس بلبوس األصول االجتماعية والمنظور‬
‫األخالقي ذلك أن "من أراد معنى كريمًا فيلتمس لـه لفظًا كريمًا‪ ،‬فإن حق المعنى‬
‫الشريف اللفظ الشريف" (‪ ،)27‬ثم تتبسط المقابالت في أزواج ثنائية تمتد لتحكم‬
‫صلة المعنى باللفظ خارج أطر المعتقدات االجتماعية واألخالقية لتتأسس وفق‬
‫خواص في المعنى ذاته من حيث الوضوح وااللتباس وذلك في قوله‪" :‬إنما األلفاظ‬
‫على أقدار المعاني‪ ،‬فكثيرها لكثيرها‪ ،‬وقليلها لقليلها‪ ،‬وشريفها لشريفها‪ ،‬وسخيفها‬
‫لسخيفها‪ ،‬والمعاني المفردة البائنة بصورها وجهاتها‪ ،‬تحتاج من األلفاظ إلى أقل‬
‫مما تحتاج إليه المعاني المشتركة‪ ،‬والجهات الملتبسة" (‪)28‬؛ فإذا كان بدء العالقة‬
‫بين الطرفين يقوم في المالحظة السابقة على أساس كّم ي فإن تفاعلهما تعمقه‬
‫طبيعة المعنى ذاته‪ ،‬ذلك أن الغموض وااللتباس يحتاجان إذا قصد التوضيح إلى‬
‫اإلطالة والشرح حيث إن عملية التفاعل محكومة بخصوصية في المعنى ذاته‪،‬‬
‫ويتأكد هذا المجرى من منظور الكم أيضًا‪ ،‬فالمعاني "إذا كثرت والوجوه إذا افتنت‪،‬‬
‫كثر عدد اللفظ‪ ،‬وإ ن حذفت فضوله بغاية الحذف" (‪.)29‬‬
‫وانطالقًا من هذه العالقة بين المعنى واللفظ القائمة على أسس وجودية‬
‫واجتماعية‪ ،‬ومحكومة بفكرة اإلبداع‪ ،‬يكون إيالء أحد الطرفين األولوية في التعبير‬
‫مسًا وتشويهًا لعملية التعبير نفسها‪ ،‬فشر "البلغاء من هّيأ رسم المعنى قبل أن يهيئ‬
‫المعنى عشقًا لذلك اللفظ وشغفًا بذلك االسم حتى صار يجر إليه المعنى جرًا ويلزقه‬
‫إلزاقًا" (‪ ،)30‬ذلك أن عدم إيفاء المعنى الغامض في ذاته حقه في اللفظ المالئم‬
‫والمطابق والتعلق ببراعة اللفظ ونشدانه إحداث لعدم التوازن بين طرفي الداللة‬
‫"فاختر من المعاني ما لم يكن مستورًا باللفظ المنعقد مغرقًا في اإلكثار والتكلف فما‬
‫أكثر من ال يحفل باستهالك المعنى مع براعة اللفظ وغموضه على السامع بعد أن‬
‫يتسق له القول وما زال المعنى محجوبًا لم تكشف عنه العبارة فالمعنى بعد مقيم‬
‫على استخفائه وصارت العبارة لغوًا وظرفًا خاليًا" (‪ .)31‬وتأسيسًا على ما سبق‬
‫تكون "القاعدة األولى والعامة لعالقة اللفظ بالمعنى تقوم عنده على مطابقة اللفظ‬
‫للمعنى" (‪ )32‬والجاحظ صريح في استخالصه هذا المبدأ إذ يقول‪" :‬من علم حق‬
‫المعنى أن يكون االسم لـه طبقًا‪ ،‬وتلك الحال لـه وفقًا‪ ،‬ويكون االسم لـه ال فاضًال‬
‫وال مفضوًال‪ ،‬وال مقصرًا‪ ،‬وال مشتركًا‪ ،‬والمضمنًا" (‪ .)33‬وعدم إيفاء هذا‬
‫األصل حقه من العناية يؤدي إلى اختالل التوازن بين األلفاظ والمعاني فيمتد أحد‬
‫الطرفين على حساب اآلخر‪ ،‬فالزنادقة‪" :‬أصحاب ألفاظ في كتبهم‪ ،‬وأصحاب‬

‫‪- 43 -‬‬
‫تهويل‪ ،‬ألنهم حين عدموا المعاني ولم يكن عندهم منها طائل‪ ،‬مالوا إلى تكلف ما‬
‫هو أخصر وأيسر وأوجز كثيرًا" (‪.)34‬‬
‫ويأخذ مبدأ المطابقة والمشاكلة بين المعنى واللفظ مدى أوسع يصبح بمقتضاه‬
‫تالزم المعنى واللفظ انعكاسًا للوظيفة المبتغاة أو تمشيًا مع خاصية في اللغة‬
‫كقيامها على غزارة الدالالت‪ ،‬أو محكومًا بمفهوم للنوع األدبي‪ ،‬فمبدأ الوضوح‬
‫واعتماد الداللة التصريحية في عالقة اللفظ بالمعنى مشروطان بتحقيق وظيفة‬
‫تبليغية مباشرة إفهامية‪ ،‬كما يستشف ذلك من قول الجاحظ معرفًا البيان بأنه‬
‫"الداللة الظاهرة على المعنى" (‪ ،)35‬وأن "أحسن الكالم ما كان قليله يغنيك عن‬
‫كثيره‪ ،‬ومعناه في ظاهر لفظه" (‪ ،)36‬هذه الضوابط التي تجد سندها في مقياس‬
‫التزامن الذي يجسد التقبل اآلني للدال والمدلول وهو ناتج عن "مراعاته للمقامات‬
‫وال سيما المقام الخطابي" (‪ ،)37‬يظهر ذلك في مثل قوله ملخصًا نتيجة إيفاء كثير‬
‫من شروط التطابق بين المعنى واللفظ ضوابطها التي تكون محصلتها امتناع أن‬
‫يكون "اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب"‬
‫(‪ ،)38‬وأن االسم ال "يستحق اسم البالغة حتى يطابق معناه لفظه‪ ،‬ولفظه معناه‪،‬‬
‫فال يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك" (‪ ،)39‬لكن إذا كان هذان‬
‫المبدآن يجّس دان أثر العناصر الحافة بالخطاب في بنية الخطاب نفسه تدعمهما‬
‫مقتضيات الخطابة كنوع يقتضى خصائص منها الوضوح والتزامن باعتبارها‬
‫عوامل تكفل للخطاب نجاعته وجدواه‪ ،‬وتتمشى مع الداللة الصريحة للغة‪ ،‬إال أن‬
‫هذا الموقف المؤسس على االهتمام بفعالية الداللة المباشرة ينافسه اإلقرار بثراء‬
‫الداللة اللغوية المتأتية من إمكان التعبير المتعدد والمتنوع عن المتصور الواحد‪ ،‬إذ‬
‫إن من مميزات لغة األسلوب األدبي عند الجاحظ "اعتمادها على الطاقات اإليحائية‬
‫في الظاهرة اللغوية أكثر من اقتصارها على طاقاتها التصريحية" (‪ .)40‬فإذا كان‬
‫البد من اإلقرار بأن العدول عن التصريح إلى اإليحاء كان في بالغة الجاحظ‬
‫محكومًا بمقتضيات "المقام والمواضعات االجتماعية من ناحية‪ ،‬وأصول االعتقاد‬
‫االعتزالي من ناحية أخرى" (‪ ،)41‬فإنه البد من اإلشارة أيضًا إلى أن للنوع‬
‫األدبي كما يتجسد في الشعر هنا‪ ،‬والكتاب المعجز‪ ،‬دورًا حاسمًا في تأكيد دور‬
‫الطاقة اإليحائية في كسر مبدأي الوضوح والتزامن باعتبارها مميزًا رئيسيًا‬
‫لألسلوب األدبي‪ ،‬واالمتداد بالداللة إلى مدى أوسع تحتاج بمقتضاه إلى تعميق‬
‫النظر لتحقيق الفهم‪ ،‬هذا الفهم الذي يكون محصلة تفاعل المتلقين مع الطاقات‬
‫الكامنة في النص حيث يتيح لها هذا الكمون االنفتاح على مبدأ التأويل الستجالء‬
‫خفاياه‪.‬‬
‫‪- 44 -‬‬
‫إن االصطالحات المحددة لطاقة اإليحاء في اللغة التي تتنوع بتنوع المواقع‬
‫المجلية لهذه الخاصية التي يجمل الجاحظ معظمها في "الوحي واإلشارة واإليجاز‬
‫والكناية والتعريض" (‪ ،)42‬تجد مبررها األكيد في الخطاب الشعري عمومًا‬
‫والقرآن الكريم باعتباره خاصية فردية في اللغة العربية خصوصًا‪ .‬فاإليحاء يوفر‬
‫إمكان التعبير المتعدد عن المعنى الواحد‪ ،‬إذ إن الناس قد يستعملون "الكناية وربما‬
‫وضعوا الكلمة بدل الكلمة يريدون أن يظهروا المعنى بأبين اللفظ" (‪ ،)43‬إال أنه"‬
‫ربما كانت الكناية أبلغ في التعظيم‪ ،‬وأدعى إلى التقديم‪ ،‬من اإلفصاح والشرح" (‬
‫‪)44‬؛ وهذا المبدأ يتفاعل مع متطلبات النوع األدبي‪ .‬فاقتضاب اللفظ وقصد‬
‫اإليجاز إنما هو خاصية شعرية إذ من خواص اللغة الشعرية قيامها على الوحي‬
‫واإلشارة والتكثيف‪ .‬من هنا كانت األمثلة الشعرية لإليجاز لدى الجاحظ تقتضي‬
‫إعمال الذهن لمحاصرة المعنى‪ ،‬إذ إن مبدأ التزامن في تلقي الدال بالسمع والمعنى‬
‫بالقلب ينحصر ليتيح انفساحًا زمنيًا يستوجبه تتابع دوائر الصياغة للوصول إلى‬
‫المعنى‪ .‬فمن األمثلة التي يضربها لإليجاز وحذف الفضول قول بعضهم يصف‬
‫"كالبًا في حال شدها وعْد وها‪ ،‬وفي سرعة رفع قوائمها ووضعها‪ ،‬فقال‪ :‬كأنها‬
‫ترفع ما لم يوضع‪.‬‬
‫‪ ...‬ومن اإليجاز المحذوف قول الراجز‪،‬ووصف سهمه حين رمى عيرًا كيف نفذ سهمه وكيف‬
‫صرعه‪ ،‬وهو قوله‪:‬‬

‫"حتى نجا من جوفه وما نجا" (‬


‫‪.)45‬‬

‫والشك أن التضاد الداللي في ترفع ويوضع والتجانس في نجا المكررة يركز‬


‫حضور الصياغة (‪ )46‬نفسها ويحقق إعجابًا أو لذة باإلضافة إلى انه يدهش الذهن‬
‫بتصادم المدلوالت في السياق الواحد مما يتجاوز بالقول حد اإلفهام فقط إلى‬
‫مستوى اإلطراب أو التعجيب‪.‬‬
‫واإليجاز خاصية من خواص األسلوب في القرآن الكريم‪ ،‬يقول الجاحظ إن‬
‫له كتابًا جمع فيه آيًا من القرآن "تعرف بها فصل ما بين اإليجاز والحذف‪،‬وبين‬
‫الزوائد والفضول واالستعارات‪ ،‬فإذا قرأتها رأيت فضلها في اإليجاز والجمع‬
‫للمعاني الكثيرة باأللفاظ القليلة‪ ...‬فمنها قوله حين وصف خمر أهل الجنة ‪‬ال‬
‫يصّد عون عنها وال ينزفون)‪  (47‬وهاتان الكلمتان قد جمعتا جميع عيوب خمر‬
‫أهل الدنيا" (‪ .)48‬وتكثيف الداللة الذي يتجسد مقومًا رئيسيًا في النص الكريم‪،‬‬
‫يؤكد مبدأ التأويل الذي هو باإلضافة إلى أنه نتاج استغالل الطاقة اإليحائية في‬
‫اللغة عمومًا‪ ،‬يمثل أصًال في التعامل مع أسلوب القرآن الكريم القائم على استغالل‬
‫‪- 45 -‬‬
‫هذه الطاقة‪ .‬هذا االستغالل الذي يترتب عليه شحذ الذهن لمحاصرة الداللة التي‬
‫تعمق مبدأ التفاوت بين المتلقين في فهم فحوا الخطاب‪ .‬ومبدأ التأويل طبيعي إذ لو‬
‫لم يكن لكان ((ينبغي أن يكون اللفظ بجميع التوراة واإلنجيل متفقًا على تأويله‪ ،‬كما‬
‫يكون متفقًا على تنزيله‪ ،‬وال يكون بين جميع النصارى واليهود اختالف في شيء‬
‫من التأويالت‪ .‬وينبغي لك أن ال ترجع إّال إلى لغة ال اختالف في تأويل ألفاظها‪،‬‬
‫ولو شاء اهلل أن ينزل كتبه ويجعل كالم أنبيائه وورثة رسله ال يحتاج إلى تفسير‬
‫لفعل‪ ،‬ولكّنا لم نر شيئًا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية‪ ،‬ولو كان األمر كذلك‬
‫لسقطت البلوى والمحنة‪ ،‬وذهبت المسابقة والمنافسة‪ ،‬ولم يكن التفاضل‪ ،‬وليس‬
‫على هذا بنى اهلل الدنيا" (‪.)49‬‬
‫إن مبدأ التأويل ُيحّطم مقولة الوضوح والتزامن في الخطاب ليبني الداللة في‬
‫طبقات من المعنى يصل إليها الذهن بعد فترة‪ ،‬ذلك أن مبدأ الغموض في النص‬
‫يتماشى مع لذة الذهن في استكناه المجهول والطرق على باب الغامض مرارًا‬
‫لينفتح‪ ،‬يروي عبد القاهر الجرجاني عن الجاحظ فيما يتعلق بفضيلة الفكر والنظر‬
‫فيرى أن‪" :‬رهان العقول التي تستبق ونضالها الذي تمتحن قواها في تعاطيه هو‬
‫الفكر والّر وية والقياس واالستنباط" (‪ .)50‬ذلك "ألن الشيء من غير معدنه‬
‫أغرب‪،‬وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم وكلما كان أبعد في الوهم‪ ،‬كان‬
‫أطرف وكلما كان أطرف كان أعجب‪ ،‬وكلما كان أعجب كان أبدع" (‪.)51‬‬
‫وهذه االزدواجية القائمة على الدعوة إلى المشاكلة والمطابقة بين طرفي‬
‫الداللة لتحقيق الوضوح في الخطاب واإلقرار بطاقة اإليحاء في اللغة تنعكس في‬
‫موقف مزدوج من الصنعة أيضًا‪ .‬صحيح أن الدعوة إلى الوسطية في انتقاء‬
‫المعجم اللفظي في أنه "كما ال ينبغي أن يكون اللفظ عاميًا وساقطًا سوقيًا‪ ،‬فكذلك ال‬
‫ينبغي أن يكون غريبًا وحشيًا" (‪ ،)52‬تبدو من مقتضيات تحقيق اإلفهام كما يتجسد‬
‫في وضوح الداللة‪ ،‬إال أن تحقيق الغموض المحوج إلى التأويل ال يقتضي توظيف‬
‫الغريب أو الوحشي‪ ،‬ذلك أن خفي الداللة يولده السياق أساسًا‪ ،‬وهذا ال يتنافى مع‬
‫ما يشرطه الجاحظ من مقاييس أسلوبية‪ .‬وإ ذن فموقف الجاحظ المزدوج من‬
‫الصنعة يؤكده تحرك الصياغة في مسارين رئيسيين يشمالن أوساطًا ال شك بهما‪،‬‬
‫فغاية اإلفهام وتحقيق الوضوح يكونان مدعاة إلى االقتصاد في تأليف الكتاب‪ ،‬حتى‬
‫ال "يهّذ به جدًا‪ ،‬وينّقحه ويصّفيه ويروقه‪ ،‬حتى ال ينطق إال بلّب اللّب ‪ ،‬وباللفظ قد‬
‫حذف فضوله‪ ،‬وأسقط زوائده‪ ،‬حتى عاد خالصًا ال شوب فيه‪ ،‬فإنه إن فعل ذلك‪ ،‬لم‬
‫يفهم عنه إال بأن يجدد لهم إفهامًا مرارًا وتكرارًا" (‪ ،)53‬ومن صفات البليغ أيضًا‬

‫‪- 46 -‬‬
‫ان "ال يدقق المعاني كل التدقيق‪ ،‬وال ينقح األلفاظ كل التنقيح‪ ،‬وال يصفيها كل‬
‫التصفية‪ ،‬وال يهذبها غاية التهذيب‪ ،‬وال يفعل ذلك حتى يصادف حكيمًا‪ ،‬أو فيلسوفًا‬
‫عليمًا‪ ،‬ومن قد تعود حذف فضول الكالم‪ ،‬وإ سقاط مشتركات األلفاظ" (‪ .)54‬وإ ذا‬
‫كانت اإلشارة األخيرة تكشف عن انعكاس المستوى المعرفي والثقافي للفئة‬
‫المتوجه إليها بالخطاب في بنية هذا الخطاب‪ ،‬فإن للنوع األدبي أيضًا دورًا في‬
‫القصد إلى التنقيح والتحكيك مثلما تجسد في تسمية بعض القصائد "بالحوليات‬
‫والمقلدات والمنقحات والمحكمات" (‪ ،)55‬ومثلما تختزله هذه المقولة‪" :‬خير‬
‫الشعر الحولي المنقح" (‪ .)56‬وكذلك األمر في الخطابة إذ أنه نسب إلى البعيث‬
‫الشاعر قوله‪" :‬إني واهلل ما أرسل الكالم قضيبًا خشيبا‪ ،‬وما أريد أن أخطب يوم‬
‫الحفل إال بالبائت المحكك" (‪ .)57‬ومع اإلقرار باالختالف في قصد الصنعة بين‬
‫الشعر والخطابة إذ أن التدبير في الشعر أشيع إال أنهم "كانوا مع ذلك إذا احتاجوا‬
‫إلى الرأي في معاظم التدبير ومهمات األمور‪ ،‬مّيثوه في صدورهم‪ ،‬وقيدوه على‬
‫أنفسهم‪ ،‬فإذا قومه الثقاف وأدخل الكير‪ ،‬وقام على الخالص‪ ،‬أبرزه محككًا منقحًا‪،‬‬
‫ومصفى من األدناس مهذبًا" (‪.)58‬‬
‫وإ ذا كان هذا الموقف المزدوج من الصنعة انعكاسًا لموقف مزدوج يدعو إلى‬
‫الوضوح ويقر الوحي واإلشارة والتكثيف ويتماشى مع خاصية الغزارة في الداللة‬
‫اللغوية‪ ،‬فإنه محكوم أيضًا بمنظور اجتماعي ذي طابع معرفي وثقافي تتنزل فيه‬
‫الطبقة منزلة معرفية أساسًا في ثنائية العامة والخاصة‪ ،‬ذلك أن العامة في هذا‬
‫التصور ليست مضادة للخاصة إال في الدرجة‪ ،‬بحيث يكون موقعها في سّلم‬
‫المعرفة أدنى فحسب‪،‬وهذا يعني انضواءهما معًا تحت لواء الثقافة عمومًا‪ ،‬مما‬
‫يجعل فئة السوقة والبلديين خارج هذا الحصر‪ ،‬وهو موقف يفسر مراتب القول‬
‫البليغ المتدرج في مستويات تمشيًا مع المتلقي ومستواه ومصادرًا في اآلن نفسه‬
‫على النوع‪ ،‬إذ أن عموم الخطابة وذيوعها في مختلف األوساط والمناسبات يجعل‬
‫بنيتها انعكاسًا لموقف المتلقي معرفيًا فتتدرج صياغتها بين قصد التسهيل وقصد‬
‫اإليجاز والغموض‪ ،‬ونفس الشيء في الشعر‪ ،‬ذلك أن بنيته النوعية ال تتنافى مع‬
‫قدراته على تلبية أذواق الجميع إلى أن يسموا في قصائد السماطين والطوال التي‬
‫تنشد يوم الحفل‪ ،‬والتي تلتمس بها صالت األشراف والقادة وجوائز الملوك‬
‫والسادة التي ال بد من أن يقصد فيها "صنيع زهير والحطيئة وأشباههما" (‪،)59‬‬
‫والقرآن متعاطى في أوساط العامة والخاصة جميعًا إّال أن استيعاب مقاصده‬
‫مختلف‪ ،‬وهذا المنظور التصنيفي يحدده الجاحظ في قوله‪" :‬وإ ذا سمعتموني أذكر‬
‫العوام فإني لست أعني الفالحين والحشوة والصناع والباعة‪ ،‬ولست أعني أيضًا‬
‫‪- 47 -‬‬
‫األكراد في الجبال وسكان الجزائر في البحار‪ ،‬ولست أعني من األمم مثل البير‬
‫والطيلسان ومثل موفان وجيالن ومثل الزنج وأشباه الزنج‪ ،‬وإ نما األمم المذكورون‬
‫من جميع الناس أربع‪ :‬العرب‪ ،‬وفارس‪ ،‬والهند‪ ،‬والروم‪ .‬والباقون همج وأشباه‬
‫الهمج‪ .‬وأما العوام من أهل ملتنا ودعوتنا‪ ،‬ولغتنا وأدبنا وأخالقنا‪ ،‬فالطبقة التي‬
‫عقولها وأخالقها فوق تلك األمم ولم يبلغوا منزلة الخاصة مّنا‪ .‬على أن الخاصة‬
‫تتفاضل في طبقات أيضًا"(‪.)60‬‬
‫ولكن كيف يستقيم هذا الفهم الداعي إلى مطابقة المعنى واللفظ‪ ،‬مع اإليمان‬
‫بأن األلفاظ "تكون كسوة لتلك المعاني" (‪ ،)61‬وأن وظيفتها تزيين المعاني(‪،)62‬‬
‫بل إن المسألة لتمتد إلى اإلقرار بإمكان عدم التكافؤ بين قطبي الداللة من منظور‬
‫القيمة‪ ،‬وإ ّن المعنى المزين باللفظ قد ينقل إلى مقدار أعلى من مقداره‪ ،‬فالمعاني‬
‫"إذا كسيت األلفاظ الكريمة‪ ،‬أو أكسبت األوصاف الرفيعة‪ ،‬تحولت في العيون عن‬
‫مقادير صورها وأربت على حقائق أقدارها‪ ،‬بقدر ما زينت‪ ،‬وحسب ما زخرفت‪.‬‬
‫فقد صارت األلفاظ في معاني المعارض‪ ،‬وصارت المعاني في معنى الجواري" (‬
‫‪ ،)63‬وإ ذا كان هذا ترسيخًا لمبدأ الزخرفة المكين في قناعات النقاد القدماء‬
‫عمومًا‪ ،‬فإنه ال يناقض ما سلف من تأكيد ضرورة التطابق بين المعنى واللفظ‪ ،‬ذلك‬
‫أن األمر هنا متعلق بالصنعة وبالمبالغة في اإلخراج الصوري للمعنى‪ ،‬وهذا يدعو‬
‫إلى عرض رأيه في صور المعاني التي تزيد رأيه في المعاني واأللفاظ والصالت‬
‫بينها تحديدًا وتدقيقًا‪ .‬وتأخذ عالقة المعنى المحتوى في اللفظ باالستناد إلى األصل‬
‫الفلسفي في الصورة والهيولى اصطالح صورة المعنى‪ ،‬وهي أدق في إيفاء عالقة‬
‫المستويين المتكاملين في النص وصفهما إذا إن المعنى المتلبس بالصورة ال وجود‬
‫له خارج مجالها‪.‬‬
‫ومفهوم الصورة يشمل كل مراتب المعاني المتلبسة بالصورة‪،‬فهو ليس‬
‫خاصية تتعلق بالقول البليغ‪ ،‬إذ إن كل إخراج للمعنى في صياغة ما بناء لصورته‪،‬‬
‫يصف الجاحظ بعض رسائله بأنه صّو رها في أحسن صورة (‪ .)64‬واالنحراف‬
‫في رواية نادرة "يخرجها عن صورتها" (‪ ،)65‬فاإلعراب "يفسد نوادر المولدين‪،‬‬
‫كما أن اللحن يفسد كالم األعراب‪ ،‬ألن سامع ذلك الكالم إنما أعجبته تلك الصورة‬
‫وذلك المخرج‪ ،‬وتلك اللغة وتلك العادة‪ ،‬فإذا دخلت على هذا األمر – الذي إنما‬
‫أضحك بسخفه وبعض كالم العجمية التي فيه – حروف اإلعراب والتحقيق‬
‫والتثقيل وحولته إلى صورة ألفاظ األعراب الفصحاء‪،‬وأهل المروءة والنجابة‬
‫انقلب المعنى مع انقالب نظمه‪ ،‬وتبدلت صورته" (‪ ،)66‬وتبدل الصورة وانقالب‬

‫‪- 48 -‬‬
‫المعنى إقرار بتكامل المستويين‪ ،‬هذا التكامل الذي يأخذ طابعًا خصوصيًا ومتفردًا‬
‫في الشعر ذلك أن صورة المعنى فيه تتشكل في صياغة يراعى فيها خصوصيتها‬
‫ذاتها‪ ،‬وهذا اإلخراج المتميز للشعر يهبه التمايز ضمن أشكال القول البليغ فيكسبه‬
‫التفرد بالمقابل إلى أشكال التعبير في الحضارة الواحدة ذلك أن "الشعر ال يستطاع‬
‫أن يترجم وال يجوز عليه النقل‪ ،‬ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه‪ ،‬وذهب‬
‫حسنه وسقط موضع التعجب ال كالكالم المنثور" (‪.)67‬‬
‫إن اإلقرار باستعصاء الشعر على الترجمة تأكيد لقيمة الشكل في الشعر ال‬
‫ريب‪ ،‬لكنا نرى الشكل معادًال للصورة في هذا المقام‪،‬ومن هنا يكون شكل الشعر‬
‫المتميز محتويًا على معناه‪ ،‬فموضع التعجب من الشعر كما ورد في نص الجاحظ‬
‫السابق ليس نتاج مستويات صوتية فحسب‪ ،‬بل هو خالصة تفاعل عناصر الكالم‬
‫في نظم يتهدده التقطع إن هو ترجم‪ .‬فاإللحاح على "الشكالنية" هنا متوافق مع‬
‫خواص الشعر الذي تولى فيه اللغة ونسيج البناء األولية‪ ،‬من هنا نجد المدخل إلى‬
‫قراءة مقولة الجاحظ في أن "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي‬
‫والعربي‪ ،‬والبدوي والقروي‪ ،‬والمدني‪ ،‬وإ نما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ‪،‬‬
‫وسهولة المخرج‪ ،‬وكثرة الماء‪ ،‬وفي صحة الطبع وجودة السبك‪ .‬فإنما الشعر‬
‫صناعة‪ ،‬وضرب من النسج‪ ،‬وجنس من التصوير" (‪ .68‬ال شك أن للصراع‬
‫الشعوبي وموقف الجاحظ السياسي والثقافي عامة أثرًا في إصدار هذا الحكم (‬
‫‪ ،)69‬فضًال عن أنه باالعتماد على المستوى النقدي من المقولة يظهر القبول‬
‫"لمبدأ الفلسفة األرسطية التي تقدم الصورة على الهيولى أو الشكل على المادة" (‬
‫‪)70‬؛ على أننا ال نرى في مبدأ التقديم إخالًال بالهيولى أو المادة‪ ،‬إذ إنه باإلضافة‬
‫إلى العالقة الجدلية بين الصورة والمادة التي تنفي وجود أحدهما في غياب اآلخر‪،‬‬
‫يتنزل مبدأ الهيولى في هذا المقام ضمن مستويين‪ ،‬إذ بمعادلته للمعنى يتحدد لـه‬
‫وجودان إن صح الوصف‪ ،‬فالمعنى خارج مجال الصورة مادة ملقاة في الطريق‪،‬‬
‫كأصول عامة منثورة في الموجودات كلها ذلك أن كل موجود ناطق بالداللة‪،‬‬
‫ناهيك عن أن األغراض أو أصولها التي هي مصادر للشعر مادة ملقاة في الذاكرة‬
‫العامة راسخة في الديوان المعرفي لألمة‪ ،‬وما دام المقام مقام شعر‪ ،‬فاإلخراج‬
‫الصوري للمعنى فيه إنما هو سبك لهذه المادة الملقاة أو المعروفة في بناء جديد‪،‬‬
‫فتولد كيانًا جديدًا‪ ،‬أصوله معروفة وخواصه الحيوية جديدة‪ .‬وفي هذا السبك‬
‫الجديد ميالد جديد للمعنى يتم عبر التوليد أو التفطن للغريب وسط الملقى المألوف‪،‬‬
‫أو التعامل مع المعروف على أنه بمجرد أن يتلبس بالصورة يوهب الوجود‬
‫المتجدد فيستحيل محتوى بعد أن كان موضوعًا‪ .‬فللمعنى عنده داللتان‪ :‬داللة‬
‫‪- 49 -‬‬
‫المحتوى المتلبس بالصياغة أو كما شاع قديمًا صورة المعنى‪ ،‬وأسس عليه عبد‬
‫القاهر فهمه للجاحظ نفسه ولفكرته في الصورة والنظم (‪ ،)71‬وداللة المعنى‬
‫المعادل للمادة األولية‪" .‬وعلى أساس هذا التفسير يكون الناس الذين ظنوا أن‬
‫"المعنى" في نظرية الجاحظ يشير إلى عدم التفاوت في "العملية الفكرية" القائمة‬
‫وراء البناء الفني‪ ،‬قومًا مخطئين في تصورهم‪ .‬فهم قد أساؤوا فهم ما رمى إليه‬
‫الجاحظ‪ ،‬ألنه لم يتجاوز بما يعني "المادة األولية" التي تتوالها "الروية" بالصياغة‪،‬‬
‫فخلطوا – بذلك – بين تلك المادة الضرورية المشاعة وبين "الروية" الفكرية التي‬
‫تؤسس "وحدة متكاملة" من اللفظ والمعنى تأسيسًا متفاوتًا في القدرة على التأثير‪.‬‬
‫فأرجعوا الفضيلة إلى اللفظ وحده" (‪.)72‬‬
‫وتأسيسًا على ما سلف يمكننا االقتراب من رأيه في أبيات عنترة "في صفة الذباب‪ ،‬فإنه وصفه‬
‫فأجاد صفته فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرض له أحد منهم‪ .‬ولقد عرض له بعض المحدثين ممن‬
‫كان يحسن القول بمبلغ من استكراهه لذلك المعنى‪ ،‬ومن اضطرابه فيه‪ ،‬أنه صار دليًال على سوء طبعه‬
‫في الشعر‪ .‬قال عنرتة‪:‬‬

‫فتركن كل حديقة كالدرهم‬ ‫جادت عليه كل عين ثّر ة‬


‫هزجًا كفعل الشارب المترنم‬ ‫فترى الذباب بها يغني وحده‬
‫فعل المكب على الزناد األجذم‬ ‫غردًا يحك ذراعه بذراعه‬
‫ولم أسمع في هذا المعنى بشعر أرضاه غير شعر عنترة" (‪ ،)73‬فإننا ال‬
‫نرى بين تصوره للمعنى في قوله السابق‪ ،‬ومفهومه للصياغة والصورة تناقضًا‪،‬‬
‫ذلك أن المعنى – كما بدا لنا في النص السابق – معادل للمحتوى بدليل تعليقه في آخر‬
‫المقطوعة بقوله‪" :‬إنه لم يسمع في هذا المعنى بشعر أرضاه غير شعر عنترة"‪ ،‬فالمعنى كما تقدمه‬
‫صياغة عنترة هو المعجب‪ ،‬وإ ال فلَم فقد قيمته ولحقه االضطراب عندما تناوله غير عنترة؟ فلو كان‬
‫المعنى ال يتفاوت في أي صياغة لما تفرد عنترة بهذا السبق‪ ،‬ألن جوهر هذا السبق إنما يكمن في‬
‫التطابق التام بين المعنى المبتدع الذي ال وجود له خارج صياغته المتفردة‪ ،‬وبين هذه الصياغة نفسها‪،‬‬
‫فالمادة األولية للمعنى يمكن أن تكون "صفة الذباب عندما يحك إحدى يديه باألخرى"‪ ،‬لكن تشبيهه‬
‫بمقطوع اليدين المكب على الزناد ضمن هذا اإلطار الوصفي الشامل هو الخصوصية المحدثة في‬
‫المعنى التي لم تتأسس إال على الصياغة؛ صحيح أن الجاحظ بحث في المعنى في مستويات شتى‬
‫كتصنيفه المعاني من منظور زوايا اإلسراف أو اإلفراط واالقتصاد أو الصدق وتعرضه ألخطاء‬
‫الشعراء فيها‪ ،‬وكذا تعقبه السرقات في المعاني واأللفاظ‪ ،‬فضًال عن مقابلته بين أصول المعاني في النثر‬
‫ومشابهاتها في الشعر‪،‬و غيرها (‪ ،)74‬إال أنه يبني فهمًا للمعنى أعمق عندما يكون خالصة للصياغة‪،‬‬
‫يظهر ذلك في مثل هذا الموقف" وقال زهير ‪:‬‬

‫والبّر كالغيث نبته أمر‬ ‫واإلثم من شّر ما توصل به‬


‫أي كثير‪ ،‬ولو شاء أن يقول‪:‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫والبّر كالماء نبته أمر‬
‫استقام الشعر ولكن قد ال يكون له معنى‪ .‬وإ نما أراد أن النبات يكون على‬
‫الغيث أجود" (‪)75‬؛ وانتفاء المعنى باستبدال الكلمة بأخرى ال يعني خلّو البيت من‬
‫كِّل داللة‪ ،‬إذ إن بنية البيت القائمة على القواعد النحوية تظل محتفظة بداللة ما‪ ،‬إال‬
‫أن المعنى الشعري المعجب هو الذي يأفل بتغيير لفظة واحدة لها إشعاع معنوي‬
‫عميق‪ ،‬من هنا يكون المعنى محصلة للتفاعل الحادث بين معاني الكلمات المختلفة‬
‫في السياق الواحد‪ ،‬ولو كان للمعنى وجود مستقل مستقر ثابت لما كان التفاوت‬
‫كبيرًا بل واردًا أصًال بين استعمال "الغيث" أو "الماء" في البيت السابق‪.‬‬
‫فتقديم الجاحظ الصياغة أو اللفظ تارة والمعنى أخرى ال يوحي بتضاد أو‬
‫تناقض إذا حملنا المعنى على أن المقصود به محتوى الصياغة‪ ،‬أو المادة األولية‬
‫حسب داللة العبارات ومقتضى آرائه البالغية والنقدية‪ .‬فعلى الرغم من أننا نتحفظ‬
‫من القول بوجود قائلين بأن البالغة في األلفاظ (كالجاحظ واآلمدي والجرجاني‬
‫مثًال) فعند من يقول بهذا الرأي يرى أنهم "لم يعنوا باأللفاظ أصواتًا مجردة من‬
‫معانيها وإ نما عنوا بها العبارة عن المعنى" (‪ .)76‬لذلك نستغرب من إحسان‬
‫عباس‪ ،‬وهو الذي رأى في داللة المعنى لدى الجاحظ المستخلص من مقولته في‬
‫المعاني المطروحة باالستعانة برأي عبد القاهر "مادة أولية" تتفاوت حتمًا حين‬
‫تتناولها الروية فتؤسس "وحدة كاملة" من اللفظ والمعنى" (‪ ،)77‬نستغرب منه‪،‬‬
‫وهو يقارن بين الجاحظ وابن قتيبة‪ ،‬أن يرى أن "من بين الفروق بينهما اختالفهما‬
‫في النظر إلى مشكلة اللفظ والمعنى‪ ،‬فبينما انحاز الجاحظ إلى جانب اللفظ‪ ،‬ذهب‬
‫ابن قتيبة مذهب التسوية" (‪ .)78‬ولعّل إحسان عباس يحّم ل اللفظ في نصه السابق‬
‫معنى الشكل‪ ،‬فيكون انحياز الجاحظ إلى اللفظ انحيازًا إلى الصياغة المحتوية على‬
‫معناها‪ ،‬في حين يتجسد موقف ابن قتيبة في تبنيه فكرة الصياغة والمعنى في‬
‫مستواه القيمي المتجسد في ما يدعو إليه الشعر من حكمة وأخالق‪ .‬قد نجد تأكيد‬
‫هذا المنحى في الفهم في موقفه اآلخر من الجاحظ الذي يسمه فيه بالتناقض بناء‬
‫على نظريته في الشكل‪ ،‬إذ إنه يرى أن الجاحظ وقف منها موقفين أحدهما يؤيدها‬
‫والثاني ينقضها‪ ،‬فأما األول فيتبدى في إصراره على أن الشعر ال يترجم كما رأينا‬
‫في النصوص السابقة‪ ،‬ذلك أن استعصاءه على الترجمة إنما هو سٌّر من أسرار‬
‫الشكل‪" ،‬وأما الثاني فهو قوله إن هناك معاني ال يمكن أن تسرق كوصف عنترة‬
‫للذباب‪ ...‬فقوله إنه ال يسرق دليل على أن "السر في المعنى" قبل اللفظ‪ ،‬ولكن‬
‫الجاحظ لم ينتبه لهذا التناقض" (‪ .)79‬ولكن أين يكمن هذا المعنى المحتوي على‬

‫‪- 51 -‬‬
‫السر‪ ،‬أهو معادل للمادة األولية‪ ،‬وإ ذ ذاك ينتفي عن أبيات عنترة كل وصف‬
‫بالشعر‪ ،‬وإ ذا كان مضمنًا في صياغة عنترة مصداقًا لفعل "الروية المؤسسة لوحدة‬
‫اللفظ والمعنى"‪ ،‬كما يرى إحسان عباس أيضًا‪ ،‬أصبح عنصرًا حيويًا في الشكل إذ‬
‫ال نحسب أن إحسان عباس يحمل نظرية الجاحظ في الشكل على المستوى‬
‫الصوتي لأللفاظ لخلّو ها من كل داللة عدا داللة التصويت الموسيقي‪ ،‬وهذا غير‬
‫وارد‪ ،‬إذ يرى في نظرية الجاحظ في الشكل نصرة لإلعجاز‪ ،‬ذلك "أن اإلعجاز ال‬
‫يفسر إال عن طريق النظم‪ ،‬ومن آمن بأن النظم جديٌر برفع البيان إلى مستوى‬
‫اإلعجاز‪ ،‬لم يعد قادرًا على أن يتبنى نظرية تقديم المعنى على اللفظ" (‪ ،)80‬فلو‬
‫حملنا المعنى هنا على المواد األولية القابلة للتشكيل في صياغات متعددة النتفى‬
‫التناقض عن الجاحظ‪ ،‬إذ إن النظم المبرهن على اإلعجاز ال يعني أصواتًا مفارقة‬
‫إنما هو االنتظام الموحد لوحدات دالة في سياق خاص يكون المعنى المفرز‬
‫خالصة هذا االنتظام نفسه‪ .‬فالنظم أو الشكل إنما هو لحمة طرفين هما معنى‬
‫ولفظ‪ ،‬وبهذا الفهم ينتفي عن الجاحظ الوصف بالتناقض‪،‬ويكون من دالالت‬
‫"المعنى" عنده المادة األولية القابلة ألن تتشكل في صياغات شتى‪ ،‬هذه ال يوليها‬
‫االهتمام إال باعتبارها وجودًا بالقوة يستحيل شكًال جميًال بالصياغة‪،‬ويكون‬
‫انتصاره للنظم دليًال على اإلعجاز أو تقديمه أبيات عنترة باعتبارها سبقًا معنويًا‬
‫فريدًا أو غيرها من مواقف شبيهة يعني الصورة العامة الشاملة لطرفي الداللة‬
‫اللذين هما‪ :‬المعنى واللفظ‪ .‬وهذا يحيل إلى البحث في مفهوم النظم (‪ )81‬لدى‬
‫الجاحظ أو ما يتعلق بالبنية العامة‪.‬‬
‫نالحظ مبدئيًا أن مجمل آراء الجاحظ في البنية العامة كان نتيجة تحسسه‬
‫مشكلة التأليف في القرآن والشعر أساسًا‪ ،‬وهذا إذ يدعم فكرة توزع مقاييس‬
‫الجاحظ األسلوبية بين أكثر من نوع من أنواع الكالم البليغ‪ ،‬يؤكد استقالل القرآن‬
‫والشعر بقطاع مهم من هذه المقاييس وهو النظم أو التأليف والبنية العامة‪ ،‬مما‬
‫يرسخ االقتناع باحتالل الوعي بالصياغة وبخصائص بنية الكالم ذاتها مكانًا عميقًا‬
‫في بالغة الجاحظ‪ ،‬ويعمق الدليل على وعيه بالمستوى الفني من الكالم الذي يقصد‬
‫في إخراجه تجنب المألوف من االستعمال‪ ،‬وتجاوز وظيفة اإلفهام إلى وظيفة‬
‫اإلطراب والتعجيب‪.‬‬
‫فإذا كان "لقضية النظم هذه أثر واضح في تحديد مفهوم الجاحظ لألسلوب "(‬
‫‪ )82‬فإن ضبط مدلولها بدقة أمر متعذر خاصة في غياب مؤلفه "نظم القرآن"‪ ،‬إال‬
‫أنه يمكن تحسس دالالتها األولية التي قد تسعف في االقتراب من مقاصد الجاحظ‬

‫‪- 52 -‬‬
‫من استعمال هذا االصطالح‪.‬‬
‫وعلى الرغم من وجاهة رأي من يرى أن قضية النظم لدى الجاحظ "لم‬
‫تتجاوز عنده اإلعالن المبدئي المشفوع ببعض األمثلة القليلة إلى بحث لغوي‬
‫بالغي منظم في أساليب القرآن كما سيكون الشأن في مؤلفات إعجاز القرآن بعده"‬
‫(‪ )83‬فإن غياب البحث البالغي المنظم ال يمنع من اإلشارة إلى أن الجاحظ يبدي‬
‫إحساسًا بخصوصية اإلخراج القرآني للقول البليغ‪ ،‬وقد يسعف هذا اإلحساس في‬
‫االقتراب من التعرف على مفهومه للنظم‪ .‬صحيح أن الباحث أشار إلى الوقفة‬
‫الوحيدة للجاحظ – حسب رأيه ‪ -‬المعرفة لألسلوب القرآني كما يلخصها نصه‬
‫الذي أشار فيه إلى استعارات القرآن وإ لى استغالله المتميز للطاقة اإليحائية (‬
‫‪ ،)84‬التي تمثل بعض مقومات النظم عنده‪ ،‬إال أن امتداد الجاحظ بوصف كل‬
‫تأليف فني ينضوي تحت نوع أدبي بوصف النظم أو بعض مترادفاته كالسبك‬
‫وحسن التأليف مع اإلقرار باقتران لفظ القرآن بهذا الوصف في كثير من‬
‫المواضع‪ ،‬يزيدها التحاما ًمؤلفه الضائع المشار إليه سابقًا‪ ،‬قد يمكن هذا التوظيف‬
‫األولي للمصطلح من استنتاج أن معناه يطول مفهوم التركيب والبنية الملحمة لكل‬
‫عناصر النص‪.‬‬
‫يالحظ مبدئيًا أن النظم أو بعض مترادفاته كالسبك تذكر كمواصفات نص‬
‫اكتملت له صفات الجودة ألفاظًا ومعاني ثم سبكًا‪ .‬فجواهر الكالم التي هي من‬
‫اختصاص الكّتاب وحّذ اق الشعراء توجد في "األلفاظ المتخيرة‪ ،‬والمعاني المنتخبة‪،‬‬
‫وعلى األلفاظ العذبة‪ ،‬والمخارج السهلة‪ ،‬والديباجية الكريمة‪ ،‬وعلى الطبع المتمكن‬
‫وعلى السبك الجيد" (‪ ،)85‬فكأن السبك فعالية تنضاف إلى اكتمال المعاني‬
‫واأللفاظ في الخطاب‪ ،‬فقد استقبل بعضهم بعض كتبه "بالتصغير لقدره والتهجين‬
‫لنظمه واالعتراض على لفظه‪ ،‬والتحقير لمعانيه‪ ،‬فزريت على نحته وسبكه‪ ،‬كما‬
‫زريت على معناه ولفظه" (‪ )86‬ذلك ان السبك إنما يكون لعناصر مكتملة الحسن‬
‫في ذاتها "فإن التأليف يزيد األجزاء الحسنة حسنًا" (‪.)87‬‬
‫ثم يقترب معنى النظم من مفهوم التأليف الشامل لمستويات النص‪،‬كما يظهر‬
‫في مثل هذا الوصف األولي عن "نظم القرآن وغريب تأليفه وبديع تركيبه" (‪.)88‬‬
‫وهذا التأليف المتميز بخصوصية هذا النوع أو ذاك مما سيتفرع من الشعر والنثر‬
‫هو الذي يمّك ن من مقابلة القرآن بغيره من أجناس القول‪ ،‬وهو يكشف عن وعي‬
‫الجاحظ األولى بمفهوم الطريقة أو البناء الخاص بكل نوع أدبي‪ ،‬ففرق "ما بين‬
‫نظم القرآن وتأليفه ونظم سائر الكالم وتأليفه؛ فليس يعرف فروق النظم واختالف‬

‫‪- 53 -‬‬
‫البحث إال من عرف القصيد من الرجز‪ ،‬والمخمس من األسجاع‪ ،‬والمزاوج من‬
‫المنثور‪ ،‬والخطب من الرسائل‪ ،‬وحتى يعرف العجز العارض الذي يجوز ارتفاعه‬
‫من العجز الذي هو صفة في الذات‪ .‬فإذا عرف صنوف التأليف عرف مباينة نظم‬
‫القرآن لسائر الكالم" (‪.)89‬‬
‫إذًا فاقتران النظم والتأليف من جهة والمقابالت الثنائية بين مختلف األنواع‬
‫المذكورة التي تنتهي إلى قوله صنوف التأليف واشتراط معرفتها إلدراك مباينة‬
‫نظم القرآن لها جميعًا من جهة أخرى‪ ،‬ينم عن وعي بالفروق الشكلية بين‬
‫المتشابهات‪ ،‬كالمزاوج من المنثور والخطب من الرسائل والقصيد من الرجز‬
‫والمخمس من األسجاع‪ .‬فإدراك الفرق بين المزاوج والمنثور مثًال البد أن يقوم‬
‫على وعي بالمستوى اإليقاعي المتفرد في المزاوج الذي تخضع فيه الدوال إلى‬
‫أنماط من االنتظام والتكرار‪ ،‬في حين يغيب مثل هذا البناء في المنثور‪ .‬وقد يمكن‬
‫أن نستنتج من ذلك أن الجاحظ مدرك لخواص بنائية في القرآن تجعل إلحاحه على‬
‫تمييز نظمه عما عداه قائمًا على رصيد من ضبط لطريقته في نضد الكالم يتجاوز‬
‫فيها اإلشارة إلى االستعارة واستغالل الطاقة اإليحائية‪ ،‬وقد يدعم ذلك وضعه النظم‬
‫في النص السالف موضع الطريقة‪ .‬ويزيدنا اقترابًا من فهم الجاحظ اختالف‬
‫أصناف القول قولـه‪" :‬إذا ادعينا للعرب أصناف البالغة من القصيد واألرجاز‪،‬‬
‫ومن المنثور واألسجاع‪ ،‬ومن المزدوج وما ال يزدوج‪ ،‬فمعنى العلم أن ذلك له‬
‫شاهد صادق من الديباجة الكريمة‪ ،‬والرونق العجيب‪ ،‬والسبك والنحت" (‪.)90‬‬
‫فمصطلحات الديباجة والسبك والنحت البد أن تتشكل وفق بناء كل نوع‪ ،‬ولعل في‬
‫الوعي بذلك ما يدعم فكرة قيام رأيه في نظم القرآن على إدراك متميز لبناء الكالم‬
‫فيه حتى وإ ن كان إدراكًا أوليًا‪.‬‬
‫فمعنى النظم يترادف مع التأليف والسبك ومشابهاتها في إطار شامل لبنية أي‬
‫نص‪ ،‬ثم يضيق ليحمل داللة الطريقة أو األسلوب في نوع أدبي أو صنف خطابي‪،‬‬
‫بحيث يمكننا هذا التضييق من مقاربته أكثر‪ ،‬خاصة أن الجاحظ خص الشعر‬
‫بوقفات متعددة مبرزًا مقاييس جودته عبر رصده بعض مستويات بنيته وتعاضد‬
‫هذه المستويات في البنية العامة‪.‬‬
‫اهتم الجاحظ باإلخراج الصوري للمعنى في الشعر خاصة‪ ،‬ويكفي ذيوع‬
‫مقولته في أن الشعر صياغة ونسج وتصوير للكشف عن تصوره للحمة المعنى‬
‫واللفظ في إطار شامل يذيب العناصر في كل موحد‪،‬تبدو الالزمة المتكررة فيه‬
‫إيقاع أصواته المنظم كخاصية نوعية في القصيدة‪ .‬هذه الخاصية التي تأخذ مكانها‬

‫‪- 54 -‬‬
‫في بنية عامة تشمل كل المستويات‪.‬‬
‫اإلحساس بالمستوى الصوتي يظهر في وقفات لدى الجاحظ في رصد ما أسماه بالتنافر في‬
‫الكالم‪ ،‬ذلك أن "من ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر وإ ن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد‬
‫إنشادها إال ببعض االستكراه‪ ...‬منها قول الشاعر‪:‬‬

‫وانثنت نحو عزف نفس ذهول‬ ‫لم يضرها‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬شيء‬

‫فتفقد النصف األخير من هذا البيت‪ ،‬فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ من بعض" (‪ .)91‬وإ ذا كان‬
‫في ما سلف تشخيص للظاهرة كما تتجسد شعرًا‪ ،‬فإن معتمده الشعر أيضًا لمحاكمة هذا النمط من عدم‬
‫تآلف اللفظ في مثل هذا الحكم الذي يتضمنه هذا البيت الشعري‪:‬‬

‫لسان دعّي في الق‪::‬ريض دخي‪::‬ل (‪)92‬‬ ‫وش‪::‬عر كبع‪::‬ر الكبش ف ‪ّ:‬ر ق بين‪::‬ه‬
‫لتنتهي خالصة الموقف إلى مقابلة الشكلين المتوافق والمتالئم في وصف‬
‫اللفظ والمتخالف المستكره وانعكاس ذلك على نظام البيت الذي يمكن أن تكون‬
‫أجزاؤه "مختلفة متباينة‪ ،‬ومتناظرة مستكرهة‪ ،‬تشق على اللسان وتقده‪ ،‬واألخرى‬
‫تراها سهلة لينة‪ ،‬ورطبة مواتية‪ ،‬سلسة النظام‪ ،‬خفيفة على اللسان‪ ،‬حتى كأن البيت‬
‫بأسره كلمة واحدة‪ ،‬وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد" (‪.)93‬‬
‫والحق أن حديث الجاحظ عن التالحم والتالؤم اللفظي ليس خالصًا للمستوى‬
‫الصوتي إذ يتعاضد مع المنظور الكلي المؤسس على لحمة المستويات المختلفة في‬
‫القصيدة‪ .‬صحيح أن ولع الجاحظ باإليقاع الصوتي واضح يشهد لـه أكثر من‬
‫موقف (‪ )94‬خاصة في ضرورة تنزل اللفظة في مكانها من النص وتنكب الوقوع‬
‫في قلق القافية كما تبينه هذه اإلرشادات الموجهة لقاصد الصنعة الشعرية "وتجد‬
‫اللفظة لم تقع موقعها ولم تصر إلى قرارها وإ لى حقها من أماكنها المقسومة لها‪،‬‬
‫والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها‪،‬ولم تتصل بشكلها‪ ،‬وكانت قلقة في‬
‫مكانها‪ ،‬نافرة من موضعها‪ ،‬فال تكرهها على اغتصاب األماكن‪ ،‬والنزول في غير‬
‫أوطانها" (‪ ،)95‬إال أن مالحظة اضطراب اللفظة بين أخواتها وقلق القافية‪ ،‬ليس‬
‫رصدًا لمستوى صوتي بحت‪ ،‬ذلك أن تنزل الكلمة في األماكن المقسومة لها ال‬
‫يضبطه اإليقاع الصوتي فقط بل سيكون باإلضافة إلى ذلك من نتائج السياق جملة‬
‫بمستوييه الداللي والتركيبي أيضًا‪" ،‬فالوجه الضار أن يحفظ ألفاظًا بأعيانها من‬
‫كتاب بعينه أومن لفظ رجل ثم يؤيد أن يعد لتلك األلفاظ قسمها من المعاني فهذا ال‬
‫يكون إال مستكرهًا أللفاظه متكلفًا لمعانيه مضطرب التأليف منقطع النظام" (‪.)96‬‬
‫فاستكراه اللفظ وتكلف المعنى معًا يكونان مدعاة إلى الوقوع في اضطراب النظام‬
‫وتفكك التأليف‪ ،‬إذ إن النظام خالصة لتفاعل المعاني مع األلفاظ‪ ،‬يتأكد ذلك في‬

‫‪- 55 -‬‬
‫حديثه عن النظم في مستوى المعاني كما يبينه قوله مشيرًا إلى "من قد تعّبد للمعاني‬
‫وتعّو د نظمها وتنضيدها‪ ،‬وتأليفها وتنسيقها" (‪.)97‬‬
‫والحق أن مصطلح "القرآن" الذي يبدو أن الغالب عليه معنى االنسجام‬
‫الصوتي كما يتبدى في "اقتران األلفاظ واقتران الحروف" (‪ )98‬يتسع ليشمل تآلف‬
‫األبيات جملة‪ ،‬وال يبقى منحصرًا – كما يبدو لنا – في رصد تآلف األصوات (‬
‫‪ .)99‬يشرح الجاحظ مصطلح "القرآن" بعد أن يورد رأي رؤبة في شعر ابنه عقبة‬
‫بأنه "ليس لشعره قران" يرى أنه "يريد بقوله "قران" التشابه والموافقة"‪ ،‬ثم يردف‬
‫بقول "عمر بن لجأ لبعض الشعراء‪ :‬أنا أشعر منك! قال وبم ذاك قال‪ :‬ألني أقول‬
‫البيت وأخاه‪ ،‬وأنت تقول البيت وابن عمه" (‪ .)100‬والحق أن الموافقة تطول بنية‬
‫األبيات كلها‪ ،‬وال يمكن أن تتلخص في لحمة التأليف الصوتي فقط‪ ،‬فمن جهة أن‬
‫حديث الجاحظ عن األلفاظ عمومًا ال ينحصر في مستواها الصوتي بمعزل عن‬
‫المعنى‪ ،‬إال إذا فرض ذلك المقام‪ ،‬ومن جهة أخرى أن التالحم المرصود في ما‬
‫سلف من أقوال ال يمكن أن ينحصر في تآلف األلفاظ صوتيًا‪ ،‬إذ إن قول البيت‬
‫وأخيه‪ ،‬وتحقيق التشابه البد أن يتعلق بالمستوى المعنوي أيضًا ليستحيل توافقًا‬
‫كليًا‪ ،‬وقد يدعم ذلك قوله مواصًال التدليل على القضية نفسها" وقالوا‪ :‬لو أن شعر‬
‫صالح بن عبد القدوس‪ ،‬وسابق البربري كان مفرقًا في أشعار كثيرة‪ ،‬لصارت تلك‬
‫األشعار أرفع مما هي عليه بطبقات‪ ،‬ولصار شعرهما نوادر سائرة في اآلفاق‬
‫ولكن القصيدة إذا كانت كلها أمثاًال لم تسر‪ ،‬ولم تجر مجرى النوادر‪ .‬ومتى لم‬
‫يخرج السامع من شيء إلى شيء لم يكن لذلك عنده موقع" (‪ .)101‬وقد يبدو هذا‬
‫الرأي مخالفًا لما نحن فيه إال أن ذلك ال يعدو الظاهر‪ ،‬ذلك أن القصيدة المؤسسة‬
‫على أبيات الحكمة تبدو في شكل الدوائر المستقلة المنفردة حيث ينتفي من جملتها‬
‫سمة التشابه والتوافق‪ ،‬وذلك أن كل بيت منها عالم مستقل بنفسه ال يربطه بغيره‬
‫إال اإللصاق الظاهري في حين لو انبثت هذه األبيات في قصائد شتى وكان لكل‬
‫منها أن يحتل الموضع الذي يقتضيه رسم الموضوع المصور ألمكن أن تربطه‬
‫وغيره سمات أعمق‪ ،‬مما يحيل القصيدة كًال واحدًا ملتحم األجزاء سلس النظام‬
‫ماهية كل عنصر رهن بالعالئق المعقدة الرابطة بينه وبين غيره مثلما يجسده قول‬
‫الجاحظ‪" :‬وأجود الشعر ما رأيته متالحم األجزاء سهل المخارج‪ ،‬فتعلم بذلك أنه قد‬
‫أفرغ إفراغًا واحدًا‪ ،‬وسبك سبكًا واحدًا‪ ،‬فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان"‬
‫(‪.)102‬‬
‫فالجاحظ بوقفاته المتنوعة والمثيرة لكثير من التساؤالت‪ ،‬وتنوع مجاالت‬

‫‪- 56 -‬‬
‫بحثه والطموحات الواسعة التي امتدت بنظرته إلى إثارة كثير من قضايا النص‬
‫العميقة‪ ،‬كعالقة األلفاظ بالمعاني‪ ،‬وخصائص التشكيل الصوتي للمعنى الشعري‪،‬‬
‫ومشكلة النظم أو البنية‪ ،‬وغيرها‪ ،‬ستكون المفاتيح التي يلج بواسطتها النقاد بعده‬
‫عالم النص‪ ،‬وستظل كثير من طروحاته مسّلمًا بها لدى كثير من النقاد والبالغيين‪،‬‬
‫فيكفي أن مقولة المعاني المطروحة ستمثل إشكاًال متناسخًا في كل عصور النقد‬
‫العربي القديم بل "نستطيع أن نقول إن النقد العربي كله ال يعدو أن يكون حاشية‬
‫متوسعة على عبارة الجاحظ" (‪.)103‬‬

‫ابن قتيبة وابن طباطبا‬


‫والمنظور الثنائي في فهم النص األدبي‪:‬‬
‫االرتكاز على ثنائية اللفظ والمعنى كان هو منظور ابن قتيبة في معالجة‬
‫النص األدبي‪ ،‬صحيح أنه في بعض المواضع يتحدث عما أسماه بـ ‪":‬معجز التأليف‬
‫وعجيب النظم" (‪ ،)104‬وهو يبحث بالغة القرآن أو يشير إلى بعض خصائص‬
‫بنية الشعر كما تتمثل في كونه محروسًا "بالوزن والقوافي وحسن اللفظ" (‪،)105‬‬
‫لكن األساس الثنائي المحكوم بالمعنى واللفظ يظل قاعدته في مقاربة النص البليغ‪.‬‬
‫ومن هنا ال يكاد يولي البنية العامة اهتمامًا‪ ،‬وال يظهر ولعًا بالحديث عن تالحم‬
‫األجزاء في النص‪ ،‬وعن ضرورة االنتظام المتكامل لعناصر البنية ليتحقق لها‬
‫سهولة المعاطف وسالسة النظام‪ ،‬كما ألح الجاحظ‪ .‬ولعل ابن قتيبة بهذا الموقف‬
‫يحتل مرتبة أدنى منه‪ ،‬إال أن اهتمامه المستمر بالمعنى وتبنيه منظورًا قيمّيًا يؤسس‬
‫عليه رأيًا في جدوى الخطاب قد يشفع لـه في مباشرة الشعر من زاوية أضربه‬
‫األربعة كما يرى‪ .‬ولعله قصد باهتمامه بالقيمة إكمال النقص في نظرية الجاحظ‬
‫التي أولت صورة المعنى االهتمام األول‪ ،‬واعتبرت البحث في أخالقية المعنى‬
‫ميدانًا غير الحكم على الشعر أو النص البليغ عمومًا‪ ،‬إذ إن جوهره الصياغة‬
‫الجميلة للمعنى وليس المعنى في ذاته‪.‬‬
‫مدخلنا إلى قراءة مقاصد ابن قتيبة من المعنى واللفظ رأيه في بيتي شعر‬
‫"للمرقش" يوردهما من جملة أمثلته للضرب الرابع الذي يراه أدنى أضرب الشعر‬
‫األربعة‪ ،‬وهو الذي "تأخر معناه وتأخر لفظه" (‪ ،)106‬يقول بعد أن يورد البيتين‬
‫معلقًا‪" :‬والعجيب عندي من األصمعي‪ ،‬إذ أدخله في متخيره‪ ،‬وهو شعر ليس‬
‫بصحيح الوزن‪ ،‬وال حسن الروي‪ ،‬وال متخير اللفظ‪ ،‬وال لطيف المعنى" (‪،)107‬‬
‫وحشده مصطلحات الوزن والروي واللفظ في مقابل المعنى في نقد أنموذج شعري‬

‫‪- 57 -‬‬
‫تنتفي منه جودة المعنى واللفظ معًا‪ ،‬يسعف في تبين قصده من هذين الركنين‬
‫األساسيين‪ ،‬إذ يستنتج طه أحمد إبراهيم من تعليق ابن قتيبة السالف أنه يريد "باللفظ‬
‫التأليف والنظم‪ ،‬يريد الصياغة كلها بما تضمه من لفظ ووزن وروي‪ ،‬ويريد‬
‫بالمعنى الفكرة التي يبين عنها البيت أو األبيات" (‪ .)108‬فالصياغة تفرز‬
‫باعتبارها محصلة تشكيل المعنى كما تتجسد في اللفظ والوزن والروي عند نثرها‬
‫فكرة‪ ،‬وسيمكننا رأي ابن قتيبة في الفكرة المنثورة من تصور رأيه في المعنى‬
‫الذي يتنزل عنده في مستويين‪ :‬مستوى قيمي أخالقي يشكل محصلة تصوره‬
‫وظيفة الشعر‪ ،‬ومستوى صوري يبدو مضمنًا في اللفظ – الصياغة‪ .‬وكمال‬
‫الخطاب األدبي لديه هو في تعاضد قيمة المعنى وأخالقيته‪ ،‬وخالبة الصياغة‬
‫ونضارتها‪ ،‬إذ يجمل الموقف في تعليقه على شعر يورده بأنه "كثير الوشي لطيف‬
‫المعاني" (‪.)109‬‬
‫يكشف كمال الجودة في الطرفين في الضرب األول الذي "حسن لفظه وجاد معناه" (‪ )110‬عن‬
‫اعتماد ابن قتيبة على الصياغة الجميلة والمعنى األخالقي معًا‪ .‬فالتعليقات التي يرسلها عقب ما يورده‬
‫من نماذج لتشخيص هذا الضرب تدليل على هذا المنطلق‪ ،‬إذ يقول إثر النموذج األول‪ :‬لم يقل في الهيبة‬
‫شيء أحسن منه‪ ،‬وعقب الثاني‪ :‬لم يبتدئ أحد مرثية بأحسن من هذا‪ ،‬وعقب الثالث‪ :‬يذكر رواية عن‬
‫األصمعي فحواها أن هذا أبدع بيت قالته العرب‪ ،‬والبيت ألبي ذؤيب هو قوله‪:‬‬

‫وإ ذا ترّد إلى قليل تقنع‬ ‫والنفس راغبة إذا رّغ بتها‬
‫أما تعليقه عقب النموذج الرابع الذي ُيجّس م ثقل الهرم على نفس الشاعر فهو قوله‪ :‬ولم يقل في‬
‫الكبر شيء أحسن منه‪ ،‬لتنتهي أمثلة هذا الضرب بقول النابغة‪:‬‬

‫وليل أقاسيه بطيء الكواكب‬ ‫كليني لهّم يا أميمة ناصب‬


‫ثم يرسل رأيه في أنه "لم يبتدئ أحد من المتقدمين بأحسن منه وال أغرب" (‬
‫‪ .)111‬فإذا كانت الصياغة الجميلة حسب رأي ابن قتيبة تكفل لهذه النماذج‬
‫ولمثيالتها االنضواء تحت المظلة الشعرية‪ ...‬فإن فائدة المعنى وجدواه أخالقيًا‬
‫تكمالن قالب الصياغة الحسن‪ ،‬إال أن الطابع الحكمي والمباشرة في الخطاب قد‬
‫تقلالن من شعرية مثل هذه النماذج كبيت أبي ذؤيب السابق‪ ،‬وال شك أن هذه‬
‫الصفة لم تكن لتمنع ابن قتيبة من إقرار أسبقية مثل هذه النماذج‪ ،‬ذلك أن الموقف‬
‫عنده مشروط برؤية أخالقية في وظيفة الشعر حيث تتبوأ لديه هذه الوظيفة مكانة‬
‫سامية (‪.)112‬‬
‫ويولي ابن قتيبة المعنى في ذاته‪ ،‬في إطار ما عرف به من صدق أو اقتصاد‬
‫أو إسراف أو غلو‪ ،‬وبما يمكن أن يحتويه من عيوب أخرى مثل أخطاء الشعراء‬
‫عمومًا أهمية‪ ،‬ولكن موقفه من القضية غير حاسم‪ ،‬فهو في بعض المواضع ينتصر‬

‫‪- 58 -‬‬
‫لإلفراط مثًال‪ ،‬إذ يرى "ذلك جائزًا حسنًا" (‪ )113‬ولعل ذلك كان نتيجة "لدفاعه عن‬
‫إعجاز القرآن وإ بطال رأي القائل بأنه كذب" (‪ ،)114‬ولكنه في مواضع أخرى‬
‫يقر بعيب هذا المنحى في القول (‪.)115‬‬
‫ويسعفنا الضرب الذي "جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه" (‪ )116‬في تدقيق ثنائية الصياغة‬
‫والمعنى‪ ،‬ذلك أن القيمة األخالقية هي التي تكفل لنماذج هذا الضرب جودة المعنى في حين تقصر‬
‫الصياغة عن تحقيق اإلبانة الالئقة‪ .‬من أمثلة هذا الضرب قول لبيد بن ربيعة‪:‬‬

‫والمرء يصلحه الجليس الصالح‬ ‫ما عاتب المرء الكريم كنفسه‬

‫إذ يعلق على هذا البيت بقوله‪" :‬هذا وإ ن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل‬
‫الماء والرونق" (‪ .)117‬ولعل مباشرة الخطاب والقالب الحكمي الصارخ‬
‫والمستوى العقلي الواضح كانت كلها وراء جفاف هذا البيت من الماء والرونق‬
‫حسب رأي ابن قتيبة‪ ،‬لكن االحتكام إلى أخالقية المعنى أو االحتكام إلى أمر خارج‬
‫عن خصائص الصياغة ذاتها دفع البيت عن أن ينحط إلى الضرب الذي فسد معناه‬
‫ولفظه‪.‬‬
‫وإ حساس ابن قتيبة بضعف الصياغة في هذا الضرب صريح في تعليقه على بيت النابغة مصورًا‬
‫فزعه من وعيد النعمان‪:‬‬

‫تمد بها أيد إليك نوازع‬ ‫خطا طيف حجن في حبال متينة‬
‫إذ يقول‪" :‬رأيت علماءنا يستجيدون معناه‪ ،‬ولست أرى ألفاظه جيادًا وال مبينة‬
‫لمعناه" (‪ ،)118‬ونحسب في قولـه‪" :‬وال مبينة لمعناه" اقترابًا من خصائص‬
‫الصياغة ذاتها وإ قرارًا بتولد المعنى منها مما سيعطي لثنائية اللفظ والمعنى‬
‫خاصية العنصرين المتالحمين في البنية الموحدة‪ ،‬يتضح ذلك – كما يبدو لنا – في‬
‫الضرب الذي "حسن لفظه وحال‪ ،‬فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى" (‬
‫‪ ،)119‬ويمثل لهذا الضرب بأبيات الحج المعروفة ثم يختمها بهذا التعليق‪" :‬هذه‬
‫األلفاظ كما ترى‪ ،‬أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع‪ ،‬وإ ن نظرت إلى ما تحتها‬
‫من المعنى وجدته‪ ،‬ولما قطعنا أيام ِم نى‪ ،‬واستلمنا األركان وعالينا إبلنا األنضاء‪،‬‬
‫ومضى الناس ال ينتظر الغادي الرائح‪ ،‬ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في‬
‫األبطح" (‪ .)120‬وإ قرار ابن قتيبة بحسن صياغتها يعضده اإلقرار أيضًا بأن‬
‫"تحتمها معنى" ثم يشرع في نثر معاني األبيات كما سلف‪ ،‬ولكن مقابلة هذا المعنى‬
‫المبطن في الصياغة بقوله نافيًا عن هذا الضرب "الفائدة في المعنى" إبانة ثنائية‬
‫عن ثنائية المنظور الذي يحتكم إليه في بحث المعنى‪ ،‬إذ إن المعنى الذي تفرزه‬
‫الصياغة ال يؤكد سبقًا أو جودة‪ ،‬إنما المسألة تجلوها فائدته‪ ،‬أي قيمته من حيث إنه‬

‫‪- 59 -‬‬
‫يتنزل في إطار تصور اجتماعي وأخالقي لقيمة الشعر‪ ،‬ولذلك تكون النماذج‬
‫الباقية كلها التي يضربها لهذا النمط في الغزل‪ ،‬ومنها قول جرير‪" :‬في العيون‬
‫التي في طرفها حور" (‪ .)121‬وهي تؤكد هذا المنحى الذي يقُّر بتولد معنى في‬
‫صياغة خالبة‪ ،‬لكن منزلته دونية أخالقيًا‪ ،‬ولعل هذا هو الذي جعل إحسان عباس‬
‫يستنتج "أن المعنى عنده قد يعني الصورة الشعرية مثلما يعني الحكمة" (‪.)122‬‬
‫الحق أن إحساس ابن قتيبة بصورة المعنى يظهر عميقًا في بحثه مجازات‬
‫القرآن المصوغة على غرار مجازات الكالم عند العرب‪ ،‬فهذه الطرائق والمآخذ‬
‫في القول التي تكسب القرآن خصائصه البالغية تجعله ممتنعًا عن الترجمة‪ ،‬إذ "ال‬
‫يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من األلسنة‪ ،‬كما نقل اإلنجيل عن‬
‫السريانية إلى الحبشية والرومية‪ ،‬وترجمت التوراة والزبور‪ ،‬وسائر كتب اهلل‬
‫تعالى بالعربية‪ ،‬ألن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب" (‪ )123‬وإ ذا كان من‬
‫فضائل العربية االتساع في المجاز – كما يرى – فإن خصائص اإلخراج القرآني‬
‫للمعنى في صورة متفردة إقرار بتعاضد العناصر اللفظية مع المعنوية في‬
‫الصياغة مما يجعل كل معنى خالصة إلخراجه الصوري‪" .‬أال ترى أنك لو أردت‬
‫أن تنقل قوله تعالى‪ :‬وإ ّم ا تخافّن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء)‪  (124‬لم‬
‫تستطع أن تأتي بهذه األلفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها‪،‬‬
‫وتصل مقطوعها‪ ،‬وتظهر مستورها فتقول‪ :‬إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد‬
‫فخفت منهم خيانة ونقضًا فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم‪ ،‬وآذنهم بالحرب‪،‬‬
‫لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء" (‪ .)125‬وعلى الرغم من أن النقل‬
‫هنا يتم في إطار اللغة الواحدة فإن فك بنية النص األصلية والتصرف في معناه‬
‫وإ خراجه إخراجًا جديدًا إدراك لتفاعل المعنى مع لفظه في العبارة الواحدة ألنه ال‬
‫قدرة على الصرف في المعنى إال يفك بنية اللفظ عمومًا‪.‬‬
‫وخالصة الرأي في ابن قتيبة أنه وإ ن أدرك لحمة المعنى واللفظ في إطار‬
‫الصياغة الواحدة‪ ،‬إال أنه ظل مشدودًا إلى الثنائية أيضًا‪ ،‬وربما كان ارتكازه في‬
‫بحث المعنى على قيمته األخالقية سببًا في ترسيخ هذا المبدأ وتعطيل إمكانات‬
‫مواجهة النص في ذاته والمصادرة على السياق وحده‪.‬‬
‫أما ابن طباطبا فعلى الرغم من رسوخ هذه الثنائية في فكره النقدي‪ ،‬وتأسيسه‬
‫رأيه في النص األدبي ومراحل وضعه وتعليله أزمة الشاعر المعاصر له وكذا‬
‫تلقي القصيدة وتذوقها سيظل مشدودًا إلى هذه الثنائية‪ ،‬فإنه استطاع أن يؤلف من‬
‫عناصر المعنى واللفظ والتأليف أو النسج كما يقول ثالثيًا راسخ الحضور في‬

‫‪- 60 -‬‬
‫أغلب مقارباته النقدية‪ ،‬مركزًا في اآلن نفسه على المشاكلة والمطابقة بين المعنى‬
‫واللفظ (‪.)126‬‬
‫وإ ذا كان المبدأ في عالقة المعنى واللفظ عنده هو مقولة الجاحظ في أن‬
‫"الكالم الذي المعنى له كالجسد الذي ال روح فيه" (‪ )127‬التي إن أبرزت أهمية‬
‫المعنى وأولويته فإنها تقرر تكامل الطرفين وجوديًا إذ إن انعدام الروح من الجسد‬
‫انعدام للحياة فيه‪ ،‬لكن ابن طباطبا وبناء على هذا األصل يتصور‪ ،‬وهو يدعو إلى‬
‫المشاكلة والمطابقة بين العنصرين‪ ،‬إمكانية حدوث التفاوت بينهما في الحسن مما‬
‫يهدد النص بالوهن والرداءة‪ .‬وهذا إن كشف عن تصور كمال كل طرف في ذاته‬
‫إال أن الدعوة إلى إيفاء المشاكلة حقها تخفف من حدة هذا التفاوت فللمعاني "ألفاظ‬
‫تشاكلها فتحسن فيها وتقبح في غيرها‪ ،‬فهي لها كالمعرض للجارية الحسناء التي‬
‫تزداد حسنًا في بعض المعارض دون بعض‪ ،‬وكم من معنى حسن قد شين‬
‫بمعرضه الذي أبرز فيه‪ ،‬وكم معرض حسن قد ابتذل على معنى قبيح ألبسه‪...‬‬
‫وكم من حكمة غريبة قد ازدريت لرثاثة كسوتها‪ ،‬ولو جلبت في غير لباسها ذلك‬
‫لكثر المشيرون إليها" (‪ .)128‬فإذا كان في مثل ما سلف" ما يؤكد الفصل بين‬
‫عنصري الشكل والمحتوى داخل الصنعة الشعرية" (‪ .)129‬ويتصور الكمال في‬
‫توافق جودة المعنى وحسن المعرض‪ ،‬فإن في دعواه إلى إيفاء المشاكلة حقها‬
‫وانتقاء اللفظ المالئم للمعنى المالئم ما يكشف عن فهم أولي لتعاضد عنصري‬
‫الداللة ذلك أن "أحسن الشعر ما يوضع فيه كل كلمة موضعها حتى يطابق المعنى‬
‫الذي أريدت لـه" (‪ ،)130‬فمبدأ المطابقة إذ يركز على ضرورة إحداث التشاكل‬
‫بين المعنى واللفظ يسلم بتبعية اللفظ للمعنى في هذا المستوى ويجعل إيفاء مبدأ‬
‫التشاكل حقه تحقيقًا للحمة الطرفين في ما يشبه الصوغ والسبك وانتظام العقد‪.‬‬
‫يتجسد ذلك في "إيفاء كل معنى حظه من العبارة‪ ،‬وإ لباسه ما يشاكله من األلفاظ‬
‫حتى يبرز في أحسن زي وأبهى صورة واجتناب ما يشينه من سفاسف الكالم‬
‫وسخيف اللفظ والمعاني المستبردة‪ ،‬والتشبيهات الكاذبة‪ ،‬واإلشارات المجهولة‪،‬‬
‫واألوصاف البعيدة‪ ،‬والعبارات الغثة‪ ،‬حتى ال يكون متفاوتًا مرقوعًا بل يكون‬
‫كالسبيكة المفرغة‪ ،‬والوشي المنمنم والعقد المنظم‪ ،‬واللباس الرائق فتسابق معانيه‬
‫ألفاظه" (‪.)131‬‬
‫ويؤلف مبدأ المطابقة عند ابن طباطبا مقياسًا في ضبط أقسام الشعر‪ ،‬واألثر‬
‫المنطقي واضح في التقسيم وكذلك تأثير ابن قتيبة‪ ،‬إال أن ابن طباطبا يعرض رأيه‬
‫في أقسام الشعر انطالقًا من مبدأ مقابلة اللفظ بالمعنى في مستويين‪ ،‬األول ال يكاد‬

‫‪- 61 -‬‬
‫يتجاوز الطرفين أنفسهما‪ ،‬أّم ا الثاني الموسوم عنده باالئتالف أو النسج فهو يمتد‬
‫إلى عنصر البنية‪.‬وهذا العنصر يهيُئ لـه إمكان االمتداد بمفهومه للنص إلى‬
‫مستوى كلي يطول عالئق الدوال في المستوى التوزيعي ويشمل أيضًا بنية األبيات‬
‫في القصيدة الكلية‪ .‬ففي مستوى التقسيم األول يظل أمينًا لطروحات ابن قتيبة‪،‬‬
‫يرى أن من أبيات الشعر ما "تخلب معانيها للطافة الكالم فيها" (‪ .)132‬ويدقق هذا‬
‫النوع أكثر في عودة أخرى تحت هذا الوصف الشامل للمعنى "الصحيح البارع‬
‫الحسن‪ ،‬الذي قد أبرز في أحسن معرض وأبهى كسوة‪ ،‬وأرق لفظ" (‪ ،)133‬وإ ذا‬
‫كان هذا يقابل ما حسن لفظه وجاد معناه لدى ابن قتيبة فإن النوع القادم الذي منه‬
‫"الحكم العجيبة والمعاني الصحيحة الرثة الكسوة‪ ،‬التي لم يتنوق في معرضها الذي‬
‫برزت فيه" (‪ )134‬يتوافق مع ما ضعف لفظه وجاد معناه عند ابن قتيبة‪ .‬أما‬
‫النوع اآلخر الذي خلب معرضه ولم يحسن محتواه فإنه يتحقق في "األبيات الحسنة‬
‫األلفاظ المستعذبة الرائقة سماعًا‪ ،‬الواهية تحصيًال ومعنى‪ ،‬وإ نما يستحسن منها‬
‫اتفاق الحاالت التي وضعت فيها‪ ،‬وتذّك ر اللذات بمعانيها‪ ،‬والعبارة عما كان في‬
‫الضمير منها‪ ،‬وحكايات ما جرى من حقائقها دون نسج الشعر وجودته‪ ،‬وأحكام‬
‫رصفه وإ تقان معناه" (‪ .)135‬وإ ذا كانت أغلب األمثلة التي يضربها لهذا الضرب‬
‫خاصة هي أمثلة ابن قتيبة‪ ،‬فإن في إشارته األخيرة إلى جودة النسج وإ حكام‬
‫الرصف ما يفسح المجال العتماد عنصر البنية في التقسيم‪ ،‬ومن هنا يتاح لكل‬
‫المفاهيم المستخدمة في معالجة النص ممارسة حقها في الحضور‪ ،‬فضًال عن أنه‬
‫يستدرك ذكر القسم الرابع الذي تأخر معناه ولفظه فيذكره‬
‫تحت وصف "األشعار الغثة األلفاظ‪ ،‬الباردة المعاني‪ ،‬المتكلفة النسج‪ ،‬القلقة‬
‫القوافي" (‪ ،)136‬ويمثل له بأبيات اختل فيها النسج خاصة كما يبدو في عدم إيفاء‬
‫الوحدات في المستوى التوزيعي حقها‪ ،‬إذ يظهر الفساد في التقديم أو التأخير وكذا‬
‫التعقيد أو التكرار‪ ،‬أو فاسد االستعارة‪ ،‬ثم يعيد صياغة الضرب الكامل الذي‬
‫استوفت عناصره حقها من اإلتقان فيرتقي إلى مرتبة "األشعار المحكمة المتقنة‬
‫المستوفاة المعاني الحسنة الرصف السلسة األلفاظ" (‪.)137‬‬
‫وعلى الرغم من أن المنظور القيمي في نقد المعنى ماثل في تصور ابن‬
‫طباطبا ومحكوم برأيه في الصدق ذي الشقين اللذين هما عنده‪ :‬خارجي ويبدو في‬
‫ضرورة األمانة في نقل الموصوف النقل الذي ال يلحق أي تحريف أو تشويه‬
‫بخلقته‪ ،‬ويتطابق فيه المعنى مع أصوله االجتماعية العقلية‪ ،‬وداخلي يتجسد في‬
‫قصد الصدق في التعبير عن ذات النفس (‪ ،)138‬فإن اإللحاح على المطابقة بين‬
‫المعنى واللفظ وتحّس س نسج النص يكشف عن االهتمام بكل العناصر النصية‪،‬‬
‫‪- 62 -‬‬
‫وإ ن لم يترتب على ذلك تصور الوحدة في شكل تفاعل المستويات المختلفة‪ ،‬بل‬
‫يكاد يغلب عليها مبدأ الوصف لعناصر تكاد تكتمل في ذاتها يتحقق لها نوع من‬
‫االنسجام والتأليف انطالقًا من تضام كماالت شبه مستقلة‪.‬‬
‫وتأخذ فكرة التطابق أو التشاكل مداها في معالجة ابن طباطبا مختلف القضايا‬
‫التي لها صلة بالنص‪ ،‬ويتحقق ذلك ابتداء من تصور وضع القصيدة وضبط عالئق‬
‫العناصر في تتاليها المرحلي‪ ،‬واألساس في ذلك االعتماد على مبدأ الصنعة‪ ،‬ومن‬
‫هنا يكون واجبًا على "صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة لطيفة مقبولة حسنة‪،‬‬
‫مجتلبة لمحبة السامع له والناظر بعقله إليه‪ ،‬مستدعية لعشق المتأمل في محاسنه‬
‫والمتفرس في بدائعه فيحسه جسمًا ويحققه روحًا‪ ،‬أي يتقنه لفظًا ويبدعه معنى‪،‬‬
‫ويجتنب إخراجه على ضد هذه الصفة فيكسوه قبحًا ويبرزه مسخًا‪ ،‬بل يسوي‬
‫أعضاءه وزنًا ويعدل أجزاءه تأليفًا" (‪.)139‬‬
‫تحتل عناصر المعنى واللفظ والتأليف مراكز فعل الصنعة‪ ،‬والمحور الذي‬
‫يدور عليه هذا الفعل هو إيفاء كل عنصر حقه قصد إحداث االئتالف بينها جميعًا‪،‬‬
‫إذ ال يتحقق االئتالف في نظر ابن طباطبا إال بإيفاء العناصر حقها من اإلتقان‪،‬‬
‫فتبرز القصيدة مستوية األعضاء عمقها روح وظاهرها جسم‪ .‬والحق أنه إذا كان‬
‫إمكان تصور العناصر منفردة متحققًا في هذا الوصف‪ ،‬فإنه ال وجود لكيان‬
‫القصيدة التام إال بتضام هذه العناصر في شكل متناسق‪ ،‬حيث إن تأكيد مبدأ‬
‫التطابق يؤول إلى تحقيق القصيدة وحدة عناصرها جملة‪ .‬ويتحقق ذلك في‬
‫رصده مراحل صنعة القصيدة في قوله‪" :‬فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض‬
‫المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا‪ ،‬وأعد له ما يلبسه إياه من األلفاظ‬
‫التي تطابقه‪ ،‬والقوافي التي توافقه‪ ،‬والوزن الذي يسلس له القول عليه‪ .‬فإذا اتفق له‬
‫بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته‪ ،‬وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه‬
‫من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه‪ ،‬بل يعلق كل بيت‬
‫يتفق له نظمه‪ ،‬على تفاوت ما بينه وبين ما قبله‪ .‬فإذا كملت له المعاني وكثرت‬
‫األبيات وفق بينها بأبيات تكون نظامًا لها وسلكًا جامعًا لما تشتت منها‪.)140( "...‬‬
‫وال يهمنا في مقامنا تعقب مراحل التنقيح التي تختم مراحل الصنعة‪ ،‬وإ نما يهمنا‬
‫تحسس فهمه تضام العناصر في الصنعة وكيفية تآلفها‪.‬‬
‫فإذا كان اعتماد الشاعر على وجدانه يقل في هذا المفهوم للصنعة‪ ،‬ويكون‬
‫معتمده "على" عقله "في استحداث التناسب والمالءمة بين الجزء من ناحية‪ ،‬وبين‬
‫األجزاء والكل من ناحية أخرى" (‪ ،)141‬وأن الشعر لديه يصبح "جيشان فكر"‬

‫‪- 63 -‬‬
‫قائمًا على الوعي التام المطلق" (‪)142‬؛ فإننا ال نعتقد أنه "من الواضح أن المعنى‬
‫الذي مخض في الفكر نثرًا‪ ،‬لن يتغير جوهره‪ ،‬كل ما يطرأ عليه هو تقبله للصياغة‬
‫الجديدة‪ ،‬وظهوره من خالل شكل متميز‪ ،‬لكن المعنى في ذاته يظل متصفًا بالحياد"‬
‫(‪ ،)143‬ذلك أن "الوعي األولي بالموضوع مقتضى أساسي لإلبداع" (‪،)144‬‬
‫فمخض المعنى في الذهن نثرًا‪ ،‬إنما هو استحضار األغراض أو المقاصد‪ ،‬هو‬
‫االنطالق من المعاني الملقاة في الطريق‪ .‬وعندما يتكامل فعل الصنعة يتحقق‬
‫للشاعر "بيت يشاكل المعنى الذي يرومه"‪ ،‬وما دام البيت نفسه يمثل خالصة تشاكل‬
‫معنى ولفظ ووزن وقافية‪ ،‬فهو في كيانه الكامل يتوافق مع المرام والقصد‪ ،‬هذا‬
‫األخير الذي يشكل أرضية القول‪ ،‬ولو كان المعنى النثري المخيض في الذهن يظل‬
‫محتفظًا بجوهره كامًال في الصياغة الشعرية لما أمكن تحقيق البيت "الكامل" الذي‬
‫يشاكل المعنى أو الغرض المقصود‪ ،‬إذ إن البيت يحتوي معناه‪ ،‬ومطابقته القصد‬
‫هو تنزله وفق مقتضيات أغراض الشعر ومراميه‪ ،‬يؤكد ذلك إلحاح ابن طباطبا‬
‫على مراعاة التطابق بين المعنى واللفظ وكذلك الوزن والقافية‪ ،‬يقول محلًال بقية‬
‫فعل الصنعة "وإ ن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني‪ ،‬واتفق له معنى‬
‫آخر مضاد للمعنى األول‪ ،‬وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في‬
‫المعنى األول‪ ،‬نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن‪ ،‬وأبطل ذلك البيت أو‬
‫نقض بعضه‪ ،‬وطلب لمعناه قافية تشاكله" (‪)145‬؛ وكل هذا يؤكد ولع ابن طباطبا‬
‫بانتقاء العناصر اللفظية والصوتية الموافقة للمعنى‪ ،‬فإذا أضفنا أن هذا األخير‬
‫يشكل منطلق اإلبداع‪ ،‬وأنه محكوم بقيم ثقافية راسخة في الفعل الشعري العربي‬
‫تحدد بموجبها للشاعر أغراض القول‪ ،‬وحدود المعاني بحسب المقتضيات‬
‫االجتماعية واألخالقية واللغوية عامة‪ ،‬أمكن اإلقرار باستحالة بقاء المعنى في‬
‫وضع محايد‪ ،‬إذ "كيف إذن يبقى التالقي الموضوعاتي بدون اثر على تراكيب‬
‫اللغة" (‪)146‬؛ وما دام المنطلق هو استحضار الوعي األولي بالغرض‪ ،‬فإن كل‬
‫اقتطاع من هذا األصل لبنية دالة إنما يقوم على تطابق المعنى واللفظ‪ ،‬دون أن‬
‫ندعي أن تصور هذا التطابق متماثل مع الوعي بتفاعل الوحدات في السياق‪ ،‬إال‬
‫أن هناك إلحاحًا على ضرورة إيفاء العنصرين الرئيسيين في النص حقهما في‬
‫التشاكل والتآلف‪.‬‬
‫ويشبه حال الشاعر في إيفاء وحدات نصه انسجامها وتآلفها حال "النساج‬
‫الحاذق الذي يفوف وشيه بأحسن التفويف ويسّد ه وينيره‪ ،‬وال يهلهل شيئًا منه‬
‫فيشينه‪ ،‬وكالّنقاش الذي يضع األصباغ في أحسن تقاسيم نقشه‪ ،‬ويشبع كل صبغ‬
‫منها حتى يتضاعف حسنه في العيان‪ ،‬وكناظم الجوهر الذي يؤلف بين النفيس منها‬
‫‪- 64 -‬‬
‫والثمين الرائق‪ ،‬وال يشين عقوده‪ ،‬بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها" (‬
‫‪ .)147‬والقصد من هذه التشابيه المختلفة تقريب فعل الشاعر أثناء مباشرته عملية‬
‫الصنعة‪ ،‬إذ إن غايتها األولى ضرورة اإلحساس العميق بكيانات العناصر المشكلة‬
‫للنص بحيث ينبغي أن تصاغ وفق مبدأ التآلف والتنسيق‪ ،‬تمامًا كطرائق إخراج‬
‫الصنائع المذكورة‪ .‬وهذا المبدأ يطول أبيات القصيدة كاملة دون أن يتجاوز كيان‬
‫البيت الواحد أيضًا "فال يباعد كلمة عن أختها وال يحجز بينها وبين تمامها بحشو‬
‫يشينها‪ ،‬ويتفقد كل مصراع هل يشاكل ما قبله" (‪ .)148‬وعلى الرغم من أن‬
‫المشاكلة الحادثة بين األبيات وبين مصراعي البيت الواحد قائمة على أشكال من‬
‫النسبة المنطقية أو وحدة المعنى الذي يراعي التآلف العقلي‪ ،‬فإن في امتداد بحثه‬
‫في النص األدبي إلى أن يغطي البنية الكلية تخفيفًا من غلواء هذه النظرة المنطقية‬
‫خاصة أن رأيه ينم عن إحساس بضرورة تحقيق صلة عميقة بين مستويات النص‪،‬‬
‫وربما لم تسعفه النماذج المتوفرة إليفاء تصوره النظري بالتطبيق المالئم‪ ،‬هذا‬
‫التصور الذي تؤدي مراعاته إلى أن "تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغًا‪ ...‬ال‬
‫تناقض في معانيها‪ ،‬وال وهي في مبانيها‪ ،‬وال تكلف في نسجها‪ ،‬تقتضي كل كلمة‬
‫ما بعدها‪ ،‬ويكون ما بعدها متعلقًا بها مفتقرًا إليها" (‪.)149‬‬
‫ورأيه في السرقات مؤسس على فكرة الثنائية نفسها إذ يرى أن الشاعر إذا‬
‫تناول "المعاني التي قد سبق إليها فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها لم يعب‬
‫بل وجب له فضل لطفه وإ حسانه فيه" (‪ .)150‬وإ ذا كان هذا إقرارًا بسبق المعنى‬
‫عند مباشرة صياغته‪ ،‬فإن ذلك ال يعني أن إخراجه الجديد يتطابق مع صورته‬
‫القديمة‪.‬‬
‫وهذا الموقف من السرقات الشائع لدى أغلب النقاد يتماشى مع تصور المعنى‬
‫في النقد العربي القديم عمومًا‪ ،‬إذ كان مجال االختراع محدودًا فيه‪.‬‬
‫وهو كالمعطى السابق يحصر حدود االختراع أو االبتداع في هامش‬
‫الصياغة التي تتجدد بها حياة هذا المعنى‪.‬‬
‫وفي السياق نفسه يكون تصوره محنة شعراء زمانه إذ يرى أنهم "قد سبقوا‬
‫إلى كل معنى بديع ولفظ فصيح‪ ،‬وحيلة لطيفة‪ ،‬وخالبة ساحرة" (‪)151‬؛ ومن هنا‬
‫يكون اإلغراب واألناقة في الصياغة ممر المحدثين إلى القبول "والشعراء في‬
‫عصرنا إنما يحابون على ما يستحسن من لطيف ما يوردونه من أشعارهم وبديع‬
‫ما يضربونه من معانيهم وبليغ ما ينظمونه من ألفاظهم‪ ،‬ومضحك ما يوردونه من‬
‫نوادرهم‪ ،‬وأنيق ما ينسجونه من وشي قولهم" (‪ .)152‬فالبليغ والبديع واالغراب‬

‫‪- 65 -‬‬
‫واألنيق كلها عالمات على رسوخ مبدأ التأنق في الصياغة وهي عناصر تطول‬
‫المعنى واللفظ والنسج حيث تكشف أن الشعرية باتت رهن اإلغراق في الصنعة‪،‬‬
‫وأنها تمس عناصر البنية كلها‪.‬‬
‫ويكون مبدأ تضام األجزاء وتطابقها لتحقيق كمال الصياغة معّو له في تحقيق‬
‫كمال الفهم المتذوق للشعر‪ ،‬ذلك أنه إذا "اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة‬
‫المعنى وعذوبة اللفظ فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تَّم قبولـه له‪ ،‬واشتماله‬
‫عليه‪ ،‬وإ ن نقص جزء من أجزائه التي يعمل بها وهي‪ :‬اعتدال الوزن‪ ،‬وصواب‬
‫المعنى‪ ،‬وحسن األلفاظ‪ ،‬كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه" (‪،)153‬‬
‫وإ شارته إلى خطر نقصان بعض أجزاء الشعر التي يعمل بها على الفهم قد يكشف‬
‫عن فهم آلي للبنية تبدو فيه األجزاء مستقًال بعضها عن بعض‪ ،‬قائمة صلتها على‬
‫مبدأ اإللصاق والتجاور‪ ،‬لكن الذي يشفع البن طباطبا أنه في موقف معياري‬
‫يضطره تقصي الخطأ والصواب إلى ذكر األجزاء التي يمكن أن يطولها‪ ،‬كما أن‬
‫القنوات التي يجتازها الخطاب لتحقيق التلقي محكومة بالذهن والسمع‪ ،‬فكان أن‬
‫عدد المواصفات ضمن شروط التقبل العقلي والتقبل الحسي‪ ،‬فكان شرط حسن‬
‫اللفظ واعتدال الوزن متمشيًا مع لذة السمع‪ ،‬وضابط الصحة في المعنى مسايرًا‬
‫لشرط الذهن لقبول الخطاب – حسب رأيه – وإ ن كان كمال القبول يتحقق بأن‬
‫يكون الكالم سالمًا من جور التأليف موزونًا بميزان الصواب لفظًا ومعنى وتركيبًا‬
‫(‪.)154‬‬
‫والخالصة أن ابن طباطبا إذ يتحرك في ضوء تصوره النص على أساس من‬
‫اللفظ والمعنى‪ ،‬يسمح له تبني فكرته عن التأليف أو النسج بمسح العناصر النصية‬
‫في انبساطها الكلي في شكل بنية عامة للقصيدة‪ ،‬وهذه إن ظلت محكومة بشكل من‬
‫أشكال التراص‪ ،‬فإن اإلحساس بضرورة تحقيق االنسجام والسالسة في النسج‬
‫حتى يتحقق للقصيدة أن تكون كالكلمة الواحدة اقترابًا من تبني فكرة عن وحدة‬
‫المستويات المختلفة في النص‪ ،‬يزيده تعميقًا رأيه في تشاكل اللفظ والمعنى‪.‬‬
‫وسيتحقق لهذه المنطلقات مزيد من العمق لدى قدامة بن جعفر الذي سيصادر‬
‫أساسًا في معالجته النص على صورة المعنى وعلى فكرة االئتالف‪.‬‬

‫قدامة بن جعفر وائتالف عناصر النص‬


‫أولى قدامة المعنى أهمية كبرى في نظريته في الشعر عامة حيث يؤلف عنده‬
‫مدخًال يضبط تصوره ائتالف عناصر النص باالستناد إلى فكرة "صورة المعنى"‬
‫التي ستمثل المنطلق في تحديد فكرته عن االئتالف‪.‬‬

‫‪- 66 -‬‬
‫يتنزل المعنى لدى قدامة أيضًا في مستويين‪ :‬مستوى العنصر الذي يشمله‬
‫وغيره من عناصر النص التركيب االئتالفي الشامل‪ ،‬وهو بذلك يغدو مادة غير‬
‫مفارقة لشكلها‪ ،‬ومستوى المعنى في ذاته حيث يبحث من منظور قيمته وغايته‪.‬‬
‫وفي هذا المستوى الثاني ينضبط درسه في مسارين هما‪ :‬محاصرته من‬
‫منظور الغرض وتشخيصه ضمن قالب منطقي توضح فيه حدود المعنى عامة‪،‬‬
‫وهو ما أسماه بنعوت المعاني وعيوبها‪.‬‬
‫وتنّز ل المعنى ضمن خانة الغرض يحكمه قانون جماع الوصف فيه "أن‬
‫يكون المعنى موافقًا للغرض المقصود‪ ،‬غير عادل عن األمر المطلوب"(‪،)155‬‬
‫وهذا يخول لقدامة تقّص ي المعاني حسب أوضاعها في األغراض مشدودًا في كل‬
‫ذلك إلى منظور الوظيفة‪ .‬وأخالقية الوظيفة التي تطول الغزل أيضًا ال تضاد‬
‫الدعوة إلى الغلو ورفض االقتصار على الحد األوسط ذلك أن الغلو عنده "أجود‬
‫المذهبين"(‪ ،)156‬وهو ال يعدو أن يكون امتدادًا بالموجود إلى "المثل وبلوغ النهاية‬
‫في النعت"(‪ ،)157‬وهو ال يعكر أهداف الوظيفة المبتغاة‪ ،‬بل يدخل ضمن تصور‬
‫مثالي غايته نشدان الفضيلة‪.‬‬
‫وإ ذا كان ضبط المعنى في المستوى السالف يفرز درس نعوت األغراض‬
‫وعيوبها كالوصف والنسيب والمراثي والمديح وغيرها(‪ )158‬فإن تناوله في‬
‫المنظور العام ينحصر في رصد عالئق المعنى كما تتمّثل في صّح ة التقسيم‪ ،‬وصحة‬
‫التفسير‪ ،‬والتتميم‪ ،‬وصحة المقابلة والمبالغة‪ ،‬والتكافؤ‪ ،‬وااللتفات‪ ،‬ثم يخلص إلى‬
‫بحث عيوبها ويذكر إثرها عيوبًا عامة أخرى كاالستحالة والتناقض التي يوجدها‬
‫الجمع بين المعنيين المتقابلين‪ ،‬ثم يذكر من عيوب المعاني إيقاع الممتنع فيها في حال‬
‫ما يجوز وقوعه ويمكن كونه‪ ،‬وهذا يخالف الغلو في المعنى لينتهي إلى اعتبار‬
‫مخالفة العرف ونسبة الشيء إلى ما ليس له من هذه العيوب(‪.)159‬‬
‫وال شك أن األثر الفلسفي والمنطقي الذين يشكالن منطلقات في رصد المعنى‬
‫على هذا المستوى كانا خلف وسم قدامة بأنه "كان منحازًا إلى تقدير "المعنى"(‪،)160‬‬
‫إال أن المعنى ال يلبث أن يستحيل عنصرًا في البنية حيث يمتنع تحديد كينونة الشعر‬
‫باالستناد إلى جوهره المعنوي فقط؛ ذلك أن هذا األخير ال يعدو أن يكون مادة أولية‬
‫قابلة ألن تتشكل في صور شتى‪ ،‬ومن هنا فوسم القول بالشعرية باالستناد إلى معناه‬
‫فقط خروج عن حدود المحاصرة العلمية الدقيقة للنص الشعري‪ ،‬إذ إن الشعرية‬
‫يحققها اإلخراج الصوري للمعنى‪ .‬فالتركيز لن يكون إال على الصياغة وهذا يكشف‬
‫عن حضور الوعي ببنية الكالم ومواصفاته الذاتية ذلك "أن المعاني كلها معّر ضة‬

‫‪- 67 -‬‬
‫للشاعر‪ ،‬وله أن يتكلم فيها في ما أحب وآثر‪ ،‬من غير أن يحضر عليه معنى يروم‬
‫الكالم فيه‪ ،‬إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة‪ ،‬والشعر فيها‬
‫كالصورة‪ ،‬كما يوجد في كل صناعة من أنه ال بد فيها من شيٍء موضوع يقبل تأثير‬
‫الصور منها‪ ،‬مثل الخشب للّنجارة‪ ،‬والفضة للصياغة‪ ،‬وعلى الشاعر إذا شرع في‬
‫أي معنى –كان‪ -‬من الّر فعة والّض عة‪ ،‬والّر فث والّنزاهة‪ ،‬والبذخ والقناعة‪ ،‬والمدح‬
‫وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة‪ ،‬أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى‬
‫الغاية المطلوبة"(‪.)161‬‬
‫وإ ذا كان الموقف السابق يستدعي فسح المجال للشاعر لينتقي المعنى الذي‬
‫يريد كأن يصور تجربة شخصية أو يقصد في المدح إلى الوصف بخالف المعاني‬
‫النفسية التي رّس خها قدامة مثل أن يصف الممدوح بجمال الوجه مثًال‪ ،‬فإنه يبدو أن‬
‫انفساح المجال المعنوي للشاعر ال يعني الخروج عن حدود المواصفات المحددة‬
‫للمعنى الالئق بحسب ما تتطلبه مقتضيات الوظيفة ذلك أن إزالة الحظر على‬
‫الشاعر فيما يبتغي قوله من المعنى ال يعني إزالة كل ضابط‪ ،‬بل ينبغي أن يكون‬
‫االنتقاء وفق مراتب المعاني المالئمة لألغراض‪ ،‬وما دام تنوع األغراض كثيرًا‬
‫فإنه يستتبعه تنوع المعاني وتفاوتها‪ ،‬وحتى لو حدث أن كان الوصف مخالفًا‬
‫لمقتضى الغرض كبيتي امرئ القيس اللذين يوردهما قدامة وفيهما وصف‬
‫لمغامراته النسائية ثم يعلق أن "ليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر‬
‫فيه كما ال يعيب جودة النجارة في الخشب مثًال رداءته في ذاته"(‪ ،)162‬فإنما يأتي‬
‫بالشاهد لتدعيم وجهة نظره في ضرورة قصد التجويد في القول بغض النظر عن‬
‫قيمة المعنى‪ ،‬إذ لو كان الموقف عامًا لكان في إقراره فحش امرئ القيس وتجاوزه‬
‫عن هذا الفحش‪ ،‬ما يبين عن مناقضته نفسه إذ يتطلب في الغزل ضد هذا المنحى‬
‫بل يشده إلى منظوره األخالقي عامة ويتسامى به إلى اعتباره المقابل لمدح‬
‫الرجال(‪.)163‬‬
‫والمهم في مقامنا أن تقديم الصياغة انطالقًا من فكرته عن صورة المعنى‬
‫ينبني عليه رفض االحتكام إلى مادة المعنى في ذاتها‪ ،‬إذ ما دام المعتبر هو تجويد‬
‫الصياغة فلن يكون معيبًا على الشاعر مدحه الشيء في قصيدة ثم ذّم ه في أخرى‬
‫إن أحسن المدح والذم بل ذلك يدل عند قدامة "على قوة الشاعر في صناعته‬
‫واقتداره عليها"(‪ .)164‬ومن هنا فالطرافة واالستغراب في المعاني ليست من‬
‫عالئم الجودة في شيء" إذا كانت المعاني مما ال يجعل القبيح منها حسنًا لسبق‬
‫السابق إلى استخراجها كما ال يجعل الحسن قبيحًا للغفلة عن االبتداء"(‪.)165‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫فإخراج الصورة للمعنى هو الغاية‪ ،‬وهذا ال يعني تجاهًال للمعنى بل إقرارًا‬
‫باستحالته محتوى ال يمكن ضبطه إال ضمن خواصه الصورية؛ ذلك أن تطبيقه‬
‫المبدأ الفلسفي في الهيولى والصورة "حين رد ماهية الشعر إلى شكله"(‪ )166‬ال‬
‫يعني إهماًال للمعاني الشعرية بل ذلك يؤكد حضورها في النص حضورًا "غير‬
‫مفارق للصورة أو الشكل"(‪ ،)167‬وهذا الوعي بصورة المعنى واإلحساس بتالحم‬
‫المادة وصورتها هو الذي هيأ لبحث ائتالف عناصر النص‪ ،‬هذا البحث الذي يمر‬
‫إلى درسه عقب تعرضه لهذه العناصر أفرادًا حسب ما حدده منهجه الخاضع‬
‫لمنظور منطقي في التصنيف‪.‬‬
‫أما مستوى البحث في عناصر البنية أفرادًا فيظهر في تقصيه خصائص‬
‫المعنى واللفظ والوزن والقافية ليتسنى لـه إحداث أوجه التآلف بينها جميعًا ضمن‬
‫ثنائيات ضامة لكل عنصرين على حدة وكانت هذه المباشرة المفككة للعناصر من‬
‫مقتضيات منهجه‪.‬‬
‫ويأتي عقب المعنى الذي أواله أهمية بالغة –كما أشرنا في ما سلف‪ -‬اللفظ‬
‫الذي يشترط فيه "أن يكون سمحًا‪ ،‬سهل مخارج الحروف من مواضعها‪ ،‬عليه‬
‫رونق الفصاحة‪ ،‬مع الخلو من البشاعة"(‪ ،)168‬ويعتني في وصف اللفظ بجوانب‬
‫التلفظ مع ذكر الفصاحة عمومًا دون تحديد خصائصها‪ ،‬ويمكن القول إن الوصف‬
‫في النص السابق يتعلق ببنية الكلمة إجماًال‪.‬‬
‫لكنه عندما يتعرض لذكر عيوب اللفظ يتجاوز المستوى السابق‪ ،‬حيث يرى‬
‫أن من هذه العيوب استعمال الحوشي من الكالم‪ ،‬وجريه على غير سبيل اإلعراب‬
‫واللغة‪ ،‬ومنها أيضًا المعاضلة التي يحددها باالستناد إلى رأي ألحمد بن يحيى‬
‫المعروف بثعلب‪ :‬بأنها مداخلة الشيء في الشيء‪ ،‬ثم يدقق التعريف بقولـه‪" :‬فمن‬
‫المحال أن تنكر مداخلة بعض الكالم في ما يشبهه من وجه أو في ما كان من‬
‫جنسه ويقي النكير إنما هو في أن يدخل بعضه في ما ليس من جنسه‪ .‬وما هو غير‬
‫الئق به وما أعرف ذلك إال فاحش االستعارة"(‪ .)169‬وال يعنينا موقف النقاد من‬
‫فهم قدامة للمعاضلة بهذا الشكل‪ ،‬إنما يعنينا اإلشارة إلى أن بحثه اللفظ يطول‬
‫الداللة‪ ،‬إذ أن كل قصد للتجوز في الكالم باستعمال االستعارة حسنة كانت أم‬
‫قبيحة‪ ،‬إنما يتم باالرتكاز على معاني األلفاظ ومن هنا يشمل بحثه اللفظ مستوى‬
‫الداللة ليومئ إلى المستوى التركيبي أيضًا‪ ،‬إذ إن التنبه إلى أثر اللحن في‬
‫اإلعراب ال يقوم إال على الوعي بعالئق الوحدات في التركيب‪.‬‬
‫ثم ينتقل إلى المستوى الصوتي ليفرع منه درس الوزن والقافية مشترطًا في‬

‫‪- 69 -‬‬
‫الوزن "أن يكون سهل العروض"(‪ ،)170‬وفي القافية "أن تكون عذبة سلسة‬
‫المخرج"(‪ .)171‬وما دامت "بنية الشعر" إنما هي التسجيع والتقفية(‪ ،)172‬وهو‬
‫إحساس باإلخراج الشعري المتميز للقول بتأسيسه على عالئق االنتظام اإليقاعي‬
‫للصوت إذ كلما كان الشعر أكثر توظيفًا لهذه الخصائص الصوتية وأكثر اشتماًال‬
‫عليها "كان أدخل له في باب الشعر وأخرج له عن مذهب النثر"(‪ .)173‬أقول ما‬
‫دامت بنية الشعر كذلك يكون منطقيًا إلحاحه على ضرورة االعتناء بالتوافقات‬
‫الصوتية كما تتجسد في التصريع والترصيع‪ ،‬ذلك أن قصد الشعراء إنما هو‬
‫"المقاربة بين الكالم بما يشبه بعضه بعضًا"(‪.)174‬‬
‫وإ ذا كان مبدأ المقاربة في الكالم يتحقق حسب ما سلف في اعتماد إيراد‬
‫المتشابهات في المستوى التوزيعي للكالم بحيث يتم فيه لألصوات التناغم‬
‫واالنسجام باعتماد التكرار في العناصر الصوتية أو توزيعها وفق نسبة زمنية‬
‫متوافقة‪ ،‬فإن أشكاًال من المقاربة تمثل عناصر النص جملة يحكمها مبدأ واحد هو‪:‬‬
‫االئتالف تحقق لمستويات النص المختلفة باعتمادها أشكاًال من التوافقات التي تتيح‬
‫لـه أن يخرج منسجمًا متناغمًا‪ ،‬ذلك أن "مؤلف الكالم البليغ الفصيح‪ ،‬واللفظ‬
‫المسجع الصحيح‪ ،‬كناظم الجوهر المرصع‪ ،‬ومركب العقد الموشح‪ ،‬يعد أكثر‬
‫أصنافه‪ ،‬ليسهل عليه إتقان رصفه وائتالفه"(‪.)175‬‬
‫ويشكل مبدأ االئتالف منظورًا شامًال لكل مقاربة تحليلية للنص بدءًا من‬
‫ضبط حد الشعر الذي يصاغ وفق محاصرة شاملة لكل العناصر المشكلة له‪ ،‬فهو‬
‫"لفظ موزون ُم قّفى يدل على معنى" (‪ ،)176‬إلى تشخيص أشكال التآلف الضابطة‬
‫للعناصر‪.‬‬
‫واألساس المنطقي الذي كان خلف ضبط حد الشعر يكون المسؤول عن‬
‫تفكيك البنية في هذه المقابالت الثنائية في شكل تتراص فيه العناصر إلى أن يكتمل‬
‫البناء‪.‬‬
‫وإ ذا كنا سنؤخر القول في بحث ائتالف اللفظ والمعنى إذ سيؤول بحث هذه‬
‫العالقة إلى اإلقرار بالطاقة اإليحائية للغة وقدراتها على التكثيف‪ ،‬فإن ائتالف‬
‫اللفظ والوزن يكشف عن مفهوم أقرب ما يكون إلى الكم يرصد عالئق الوزن‬
‫باأللفاظ والعبارة في مستوى البنية الصرفية والتركيبية من منظور خارجي يكون‬
‫التآلف فيه في انسجام الوزن وهيآت الكالم‪ ،‬وهو وإ ن طال الداللة‪ ،‬إال أن المعتبر‬
‫هو الكم حيث ال ينبغي أن يطرأ على هذه العالقة المتآلفة زيادة أو نقص يكون من‬
‫شأنهما اإلخالل بالعبارة أو الغرض‪ ،‬فائتالف اللفظ والوزن يتحقق بأن "تكون‬

‫‪- 70 -‬‬
‫األسماء واألفعال في الشعر تامة مستقيمة كما بنيت لم يضطر األمر في الوزن إلى‬
‫نقضها عن البنية بالزيادة عليها أو النقصان منها‪ ،‬وأن تكون أوضاع األسماء‬
‫واألفعال والمؤلفة منها وهي األقوال على ترتيب ونظام لم يضطر الوزن إلى‬
‫تأخير ما يجب تقديمه‪ ،‬وال إلى تقديم ما يجب تأخيره منها‪ ،‬وال اضطر أيضًا إلى‬
‫إضافة لفظة أخرى يلتبس المعنى بها‪ ،‬بل يكون الموصوف مقدمًا والصفة مقولة‬
‫عليها‪ ...‬ومن هذا الباب أيضًا أن ال يكون الوزن قد اضطر إلى إدخال معنى ليس‬
‫الغرض في الشعر محتاجًا إليه‪ ،‬حتى إذا حذف لم تنقص الداللة لحذفه أو بإسقاط‬
‫معنى ال يتم الغرض المقصود إال به‪ ،‬حتى إن فقده قد أّثر في الشعر تأثيرًا بان‬
‫موقعه"(‪.)177‬‬
‫ويكشف هذا االئتالف عن تصور احتوائي يقوم بين الوزن والمعنى مما‬
‫يؤدي إلى ترسيخ فكرة الوزن القالب‪ ،‬إذ ال يبدو في فهم قدامة أن الوزن انبعاث‬
‫لتناغم األصوات في البيت كما تشكلها بنية النص المتفاعلة عناصرها في‬
‫المستويات المختلفة‪ ،‬حيث يتسنى للداللة االمتداد إلى المستوى الصوتي أيضًا‪ ،‬وإ ذ‬
‫ذاك ال يمكن تصور الوزن مفارقًا أو كالمفارق لباقي المستويات‪ ،‬ويؤكد هذا‬
‫المنحى في التصور نعته ائتالف المعنى والوزن حيث يتحقق بأن "تكون المعاني‬
‫تامة مستوفاة لم تضطر بإقامة الوزن إلى نقصها عن الواجب وال إلى الزيادة فيها‬
‫عليه"(‪.)178‬‬
‫فكأن إقامة الوزن أمر طارئ على معاٍن مكتملة قد يوقعها االضطرار في‬
‫عيوب "منها المقلوب‪ :‬وهو أن يضطر الوزن الشاعر إلى إحالة المعنى وقلبه إلى‬
‫خالف ما قصد به‪ .‬ومنها‪ :‬المبتور‪ :‬وهو أن يطول المعنى عن أن يحتمل‬
‫العروض تمامه في بيت واحد فيقطعه بالقافية ويتمه في البيت الثاني"(‪.)179‬‬
‫فمقتضى االنسجام يستوجب تكّيف كل طرف مع اآلخر بحيث ال ينتج عن محاولة‬
‫االئتالف هذه وتكلف إخراج القول في نسق واحد أدنى اضطراب وقلق‪.‬‬
‫وتتنزل القافية في صلتها بالمعنى ضمن هذا المجرى الذي يقتضي التحام القافية بما عداها من‬
‫عناصر المعنى في البيت‪ ،‬ومن هنا تتجسد أبرز عيوبها في أن يؤتى بها "ألن تكون نظيرة ألخواتها في‬
‫السجع‪ ،‬ال ألن لها فائدة في معنى البيت"‪" ،‬أو أن تكون مستدعاة قد تكلف في طلبها فاستعمل معنى سائر‬
‫البيت"(‪ ،) 180‬لذلك وجب أن يكون تعلق القافية بما تقدم من معنى البيت‪" :‬تعلق نظم له ومالءمة لما مّر‬
‫فيه"(‪ .) 181‬ويتحقق هذا التعلق الالحم للقافية بسائر المعنى في أشكال من االئتالف كاإليغال والتوشيح‬
‫حيث يمثل هذا األخير النموذج األوفى لهذه الصلة "وهو أن يكون أول البيت شاهدًا بقافيته ومعناه متعلقًا‬
‫به حتى إن الذي يعرف قافية القصيدة التي البيت منها إذا سمع أول البيت عرف آخره وبانت له قافيته‪.‬‬
‫مثال ذلك قول الراعي‪:‬‬

‫وجدت حصى ضريبتهم رزينا‬ ‫وإ ن وزن الحصى فوزنت قومي‬

‫‪- 71 -‬‬
‫فإذا سمع اإلنسان أول هذا البيت استخرج منه لفظة قافيته‪ ،‬ألنه يعلم أن قوله‬
‫وزن الحصى سيأتي بعده رزين لعلتين‪ :‬أحدهما‪ :‬أن قافية القصيدة توجبه‪،‬‬
‫واألخرى‪ :‬أن نظام المعنى يقتضيه ألن الذي يفاخره برجاحة الحصى يلزمه أن‬
‫يقول في حصاه أنه رزين"(‪ )182‬فليست القافية في هذا التصور عنصرًا موسيقيًا‬
‫يؤتى به إلحداث االنسجام الصوتي فحسب‪ ،‬وإ نما هي عنصر حيوي في لحمة‬
‫النظام المعنوي لمجمل البيت‪.‬‬
‫وأخيرًا يتحقق جوهر االئتالف في عالقة اللفظ بالمعنى التي تمثل قطب‬
‫الرحى لمجمل عالئق العناصر في البنية الشاملة‪ ،‬وتبرز بموجبها عالقة المعنى‬
‫بصورته في أشكال من التآلف‪ ،‬تبدو أحيانًا تطابقًا للعنصرين في نفس الحّيز الذي‬
‫تشغله مساحة المعنى أو مساحة اللفظ‪ ،‬ويكون ذلك في ما سمي بالمساواة بين‬
‫الطرفين" وهو أن يكون اللفظ مساويًا للمعنى حتى ال يزيد عليه وال ينقص عنه"(‬
‫‪ .)183‬ويتحقق ذلك بأن تكون "األلفاظ قوالب للمعاني" حيث تتم التسوية بين‬
‫الطرفين‪ ،‬فال تفاضل في المقدار بينهما‪ .‬وتأخذ العالقة أحيانًا أخرى خاصية‬
‫"التلميح" التي تحقق كثافة في المعنى بحيث "يكون اللفظ القليل مشتمًال على معان‬
‫كثيرة بإيماء إليها‪ ،‬أو لمحة تدل عليها"(‪ .)184‬وعدم التكافؤ بين الطرفين ال يعني‬
‫اإلخالل‪ ،‬وإ نما هو استغالل اإلمكانات التعبيرية الكامنة في اللغة التي تنفي عن‬
‫صالت الطرفين كل مباشرة وتغدو الداللة بموجب هذا البناء المتكاثف محصلة‬
‫الروابط الخفية بين الدوال والمدلوالت ويتعمق ذلك في اإلرداف "وهو أن يريد‬
‫الشاعر داللة على معنى من المعاني فال يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى‪ ،‬بل‬
‫بلفظ يدل على معنى هو ردفه وتابع له‪ ،‬فإذا دل على التابع أبان عن المتبوع"(‬
‫‪ ،)185‬وفي التمثيل "وهو أن يريد الشاعر إشارة إلى المعنى فيضع كالمًا يدل‬
‫على معنى آخر وذلك المعنى اآلخر والكالم ينبئان عما أراد أن يشير إليه"(‪.)186‬‬
‫ولقد أولى غير قدامة اإليحاء في اللغة عناية‪ ،‬إال أن تنزيله لدى قدامة ضمن‬
‫فكرته عن االئتالف عامة ترسيخ لعالقات العناصر النصّية في وحدة ضامة لكافة‬
‫المستويات تتألف في إطارها هذه العناصر في كيان شامل لها جميعًا‪ ،‬لكن هذه‬
‫الوحدة الشاملة ال تقوم على وعي بتفاعل العناصر في بنية تجعل مستحيًال إمكان‬
‫تصور أي عنصر خارج إطارها البنيوي العام‪ ،‬ذلك رغم أنه "أدخل المفهوم‬
‫األساسي لالئتالف فهو ال يفضي بفضله إلى دراسة القصيدة بصفتها عنصر تنظيم‬
‫عام‪ ،‬لكنه يجري في الواقع تصنيفًا منطقيًا مدرجًا دراسة العالقات الوسطية‬
‫عوض التحليل البنيوي الحقيقي الهادف إلى فهم اآلليات الداخلية"(‪.)178‬‬

‫‪- 72 -‬‬
‫إال أنه رغم ضوابط التصنيف المنطقي‪ ،‬وانتهاء مشروع قدامة التأليفي‬
‫بمواجهة كل عنصر في البنية على حدة‪ ،‬ثم إدراجه في عالقات توافق مع غيره‪،‬‬
‫فإن كل ذلك ال يقلل من محاولته الكشف عن تكامل العناصر النصية في كون‬
‫جامع يغدو بموجبه المعنى متآلفًا مع بقية طبقات النص‪ .‬ويتأكد بذلك إحساسه‬
‫العميق بحضور العناصر النصية بكياناتها البارزة حيث ينتفي عنها دور الوسيط‬
‫المشير إلى المعنى فقط‪ ،‬بل تغدو خصائص اإلشارة ترسيخًا لوعي بالنص‬
‫"وأحسن البالغة الترصيع‪ ،‬والسجع واتساق البناء‪ ،‬واعتدال الوزن‪ ،‬واشتقاق لفظ‬
‫من لفظ‪ ،‬وعكس ما نظم من بناء‪ ،‬وتلخيص العبارة بألفاظ مستعارة‪ ،‬وإ يراد‬
‫األقسام موفورة بالتمام‪ ،‬وتصحيح المقابلة بمعان متعادلة‪ ،‬وصحة التقسيم باتفاق‬
‫النظْم ‪ ،‬وتلخيص األوصاف بنفي الخالف‪ ،‬والمبالغة في الرصف بتكرير الوصف‪،‬‬
‫وتكافؤ المعاني في المقابلة‪ ،‬والتوازي‪ ،‬وإ رداف الالحق‪ ،‬وتمثيل المعاني"(‪.)188‬‬
‫فقدامة بن جعفر الذي أسس تصوره النص األدبي باالستناد إلى مقولة‬
‫االئتالف تمكن‪ ،‬رغم المنطلقات المنطقية‪ ،‬من أن يمتد بنظرته لتعانق عناصر‬
‫النص المختلفة في منهج صارم انتظمت خطوطه بنية كتاب "نقد الشعر"‪،‬‬
‫وتوزعت على إثرها مسائل النص ومستوياته‪ .‬واستطاع أن يدلل على فكرة‬
‫اإلخراج الصوري للمعنى ببحث دقائق هذا اإلخراج وبتتبع عالئق عناصر النص‬
‫المتوافقة ألحداث الداللة‪ .‬وبه كملت حلقة من حلقات البحث النقدي والبالغي عند‬
‫العرب طرحت أغلب األسس التي سيعتمد عليها الالحقون في تقصّيهم مسائل‬
‫النص األدبي وتجلية قضاياه‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪ ‬هوامش الفصل األول‪:‬‬


‫(‪ )1‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي عند العرب‪ ،‬ص‪.185 :‬‬
‫(‪ )2‬ضبط المحقق ضمن قائمة الفهارس العامة فهرسًا للبيان والبالغة حدد فيه مواضع ذكر‬
‫تعريفات االصطالحات ذات الصلة باألدب وأنواعه وغيرها من االصطالحات المعتمدة‬
‫لدى الجاحظ لتحديد خصائص النص الفنّية‪ .‬ينظر‪ :‬البيان والتبيين ‪.114-107 :4‬‬
‫(‪ )3‬ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي‪ ،‬البيان بين منهج التأليف ومقاييس األسلوب ضمن قراءات مع‬
‫الشابي والمتنبي والجاحظ وابن خلدون‪...123 :‬‬
‫(‪ )4‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي عند العرب‪ ،‬ص‪.169 :‬‬
‫(‪.A. TRABULSI, La critique poétique des Arabes, p. 123 )5‬‬
‫(‪ )6‬ينظر لإلحاطة بدالالت مصطلح معنى‪ :‬مصطفى ناصف‪ ،‬نظرية المعنى في النقد العربي‪،‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫ص‪.38 :‬‬
‫(‪ )7‬ينظر‪ :‬المجدوب البشير‪ ،‬تحليل نقدي لمفهوم النثر الفني عند القدامى‪ ،‬ضمن‪ :‬قضايا األدب‬
‫العربي‪ ،‬ص‪.344 :‬‬
‫(‪ )8‬ينظر‪ :‬ألفت كمال الروبي‪ ،‬نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين‪ ،‬ص‪.149 :‬‬
‫(‪ )9‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬ص‪.144-143 :‬‬
‫(‪ )10‬طبقات فحول الشعراء‪ ،‬ص‪.56 :‬‬
‫(‪ )11‬مالحظات حول مفهوم الشعر عند العرب‪ ،‬ضمن قضايا األدب العربي‪ ،‬ص‪.236 :‬‬
‫(‪ )12‬البشير المجدوب‪ ،‬تحليل نقدي لمفهوم النثر الفني عند القدامى‪ ،‬ص‪.345 :‬‬
‫(‪ )13‬الحيوان ‪ ،1‬ص‪.75-74 :‬‬
‫(‪ )14‬البيان والتبيين ‪ ،1‬ص‪.144 :‬‬
‫(‪ )15‬البيان والتبيين ‪ ،1‬ص‪.20 :‬‬
‫(‪ )16‬نفسه ‪ ،1‬ص‪.24 :‬‬
‫(‪ )17‬نفسه ‪ ،1‬ص‪.204 :‬‬

‫(‪ )18‬نفسه‪ ،‬ص‪ .14 :‬ينظر أيضًا‪ :‬عبد السالم المسدي‪ ،‬البيان والتبيين بين منهج التأليف‪ ،‬ص‪:‬‬
‫‪.131‬‬
‫(‪ )19‬عبد الحكيم راضي‪ ،‬النقد اللغوي في التراث العربي‪ ،‬ص‪.84 :‬‬
‫(‪ )20‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪ ،1‬ص‪.161 :‬‬
‫(‪ )21‬الجاحظ‪ ،‬كتاب التربيع والتدوير‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫(‪ )22‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪ ،1‬ص‪.14 :‬‬
‫(‪ )23‬نفسه ‪ ،2‬ص‪ .8 :‬وللتعرف على هذه الصفات ومراتبها ينظر‪ :‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير‬
‫البالغي‪ ،‬ص‪ 263 :‬وما بعدها‪ .‬عبد السالم المسدي‪ ،‬قراءات‪ ،‬ص‪.132-131 :‬‬
‫ميشال عاصي‪ ،‬مفهوم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ‪ ،‬ص‪.169 :‬‬
‫(‪ )24‬رسائل الجاحظ ‪ ،1‬ص‪.262 :‬‬
‫(‪ )25‬نفسه‪ .‬ينظر‪ :‬الرسائل بتحقيق الحاجري‪ ،‬ص‪.100 :‬‬
‫(‪ )26‬نفس المصدرين‪ ،‬على التوالي‪.107-271 :‬‬
‫(‪ )27‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪ ،1‬ص‪.136 :‬‬
‫(‪ )28‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪ ،6‬ص‪ .8 :‬ينظر أيضًا‪ :‬الحيوان ‪ ،3‬ص‪ .39 :‬البيان ‪ ،1‬ص‪.145 :‬‬
‫(‪ )29‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪ ،4‬ص‪.28 :‬‬
‫(‪ )30‬الجاحظ‪ ،‬رسالة في مدح التجار وذم عمل السلطان‪ ،‬مجموع ساسي‪ ،‬ص‪ ،159 :‬بداللة‬
‫حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪ .146 :‬هامش‪.2 :‬‬
‫(‪ )31‬نفسه‪ .‬ينظر‪ :‬الرسائل ‪ .262 :1‬الرسائل بتحقيق الحاجري‪.100 :‬‬
‫(‪ )32‬ميشال عاصي‪ .‬مناهج الجمالية والنقد في أدب الجاحظ‪.168 :‬‬

‫‪- 74 -‬‬
‫(‪ )33‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪ .93-92 :1‬ينظر‪ :‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.286 :‬‬
‫(‪ )34‬الحيوان ‪.365 :3‬‬
‫(‪ )35‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.75 :1‬‬
‫(‪ )36‬نفسه ‪ .83 :1‬وكذا‪ .107-106 :‬والجزء ‪.7 :2‬‬
‫(‪ )37‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.280 :‬‬
‫(‪ )38‬الجاحظ‪ ،‬كتاب التربيع والتدوير‪.90 :‬‬
‫(‪ )39‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.113-111 :1‬‬
‫(‪ )40‬عبد السالم المسدي‪ ،‬قراءات‪.140 :‬‬
‫(‪ )41‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.277 :‬‬
‫(‪ )42‬البيان ‪ .117-116 :1‬لمزيد من االّطالع على استغالل الجاحظ لهذه الطاقة ومختلف‬
‫االصطالحات المعتمدة‪ .‬ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي‪ ،‬البيان والتبيين بين منهج التأليف‪:...‬‬
‫‪.143-142-141‬‬
‫الجاحظ‪ ،‬مجموع ساسي‪.162 :‬‬ ‫(‪)43‬‬
‫الجاحظ‪ ،‬الرسائل ‪.307 :1‬‬ ‫(‪)44‬‬
‫الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪.75-72 :3‬‬ ‫(‪)45‬‬
‫وهذا الحضور لذات الخطاب هو الذي يميز وظيفته اإلنشائية‪ ،‬ينظر‪:‬‬ ‫(‪)46‬‬
‫‪.R. JAKOBSON, Essais de Linguistique Général, T. 1, p. 218‬‬
‫(‪ )47‬سورة الواقعة‪ ،‬اآلية‪.19 :‬‬
‫(‪ )48‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪.86 :3‬‬
‫(‪ )49‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.376 :3‬‬
‫(‪ )50‬عبد القاهر‪ ،‬أسرار البالغة‪ .136-135 :‬ينظر أيضًا‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‬
‫عند العرب‪.432-431 :‬‬
‫(‪ )51‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.90-89 :1‬‬
‫(‪ )52‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪ .144 :1‬وكذلك‪.378-137 :‬‬
‫(‪ )53‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪.90 :1‬‬
‫(‪ )54‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.92 :1‬‬
‫(‪ )55‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.9 :2‬‬
‫(‪ )56‬نفسه ‪.204 :1‬‬
‫(‪ )57‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )58‬نفسه ‪.14 :2‬‬
‫(‪ )59‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.14 :2‬‬
‫(‪ )60‬نفسه ‪.137 :1‬‬

‫‪- 75 -‬‬
‫(‪ )61‬الجاحظ‪ ،‬الرسائل بتحقيق الحاجري‪.219 :‬‬
‫(‪ )62‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.114 :1‬‬
‫(‪ )63‬نفسه ‪.254 :1‬‬
‫(‪ )64‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪.7 :1‬‬
‫(‪ )65‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.146 :1‬‬
‫(‪ )66‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪.282 :1‬‬
‫(‪ )67‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪.75-74 :1‬‬
‫(‪ )68‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪.132-131 :3‬‬
‫(‪ )69‬ينظر‪ :‬شكري عياد‪ .‬م‪ :‬المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العربية‪:‬‬
‫‪ .10‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.275 :‬‬
‫(‪ )70‬شكري عياد‪ ،‬المؤثرات الفلسفية‪.10 :...‬‬
‫(‪ )71‬ينظر‪ :‬عبد القادر الجرجاني‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪.181 :‬‬
‫(‪ )72‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪.424 :‬‬
‫(‪)73‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪.312-311 :3‬‬
‫(‪ )74‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪...21 :7 .457-456 -325 :6 .167 :4 .353 -93 :2‬‬
‫(‪ )75‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪.476 :3‬‬
‫(‪ )76‬شكري عياد‪ ،‬كتاب أرسطو طاليس في الشعر‪.248 :‬‬
‫(‪ )77‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.424 :‬‬
‫(‪ )78‬نفسه‪.107 :‬‬
‫(‪ )79‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.100 :‬‬
‫(‪ )80‬نفسه‪.98 :‬‬
‫(‪ )81‬سبق الوعي بمسائل التركيب في مؤلفات السابقين من اللغويين التي ستمثل منطلقات البحث‬
‫في قضايا النظم‪ ،‬خاصة في بيئات المتكلمين‪.‬‬
‫ينظر‪ :‬سيبويه‪ .‬الكتاب ‪ ...56 :1‬أبو عبيدة‪ .‬مجاز القرآن ‪-35-31-13-138 :1‬‬
‫‪ .173 -36‬الفراء‪ .‬معاني القرآن ‪ .256-202 .44 -43 .24-23 .14-13 :1‬جـ‬
‫‪ .467 ،416 ،308 :2‬ابن سالم‪ .‬طبقات فحول الشعراء ‪ .135-132-39 :1‬جـ‪:2‬‬
‫‪ ..535‬من الدارسين المعاصرين ينظر‪ :‬حمادي صمود‪ .‬التفكير البالغي‪.121-120 :‬‬
‫(‪ )82‬عبد السالم المسدي‪ .‬قراءات‪.134 :‬‬
‫(‪ )83‬حمادي صمود‪ .‬التفكير البالغي‪.295 :‬‬
‫(‪ )84‬ينظر‪ :‬الجاحظ‪ .‬الحيوان ‪ .86 :3‬ذكرنا النص في بحث اإليحاء‪.‬‬
‫(‪ )85‬الجاحظ‪ .‬البيان ‪.24 :4‬‬
‫(‪ )86‬الجاحظ‪ .‬الحيوان ‪ .10 :1‬ينظر‪ :‬الرسائل‪ .‬تحقيق الحاجري‪.175 :‬‬
‫(‪ )87‬الجاحظ‪ ،‬الرسائل‪ ،‬تحقيق الحاجري‪.88 :‬‬

‫‪- 76 -‬‬
‫(‪ )88‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان ‪.9 :1‬‬
‫(‪ )89‬الجاحظ‪ ،‬العثمانية‪.16 :‬‬
‫(‪ )90‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.28 :3‬‬
‫(‪ )91‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.66-65 :1‬‬
‫(‪ )92‬نفسه ‪.66 :1‬‬
‫(‪ )93‬نفسه ‪.67 :1‬‬
‫(‪ )94‬ينظر‪ :‬البيان ‪...287-89 :1‬‬
‫(‪ )95‬البيان ‪.138 :1‬‬
‫(‪ )96‬الجاحظ‪ ،‬مجموع ساسي‪.160 :‬‬
‫(‪ )97‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.30 :4‬‬
‫(‪ )98‬الجاحظ‪ ،‬البيان ‪.69 :1‬‬
‫(‪ )99‬مثلما اعتبره حمادي صمود‪ ،‬حيث ضمنه معنى التآلف الصوتي‪ ،‬ينظر‪ :‬التفكير البالغي‬
‫عند العرب‪.289 :‬‬
‫(‪ )100‬نفسه ‪.506-205 :1‬‬
‫(‪ )101‬نفسه ‪.206 :1‬‬
‫(‪ )102‬نفسه ‪.67 :1‬‬
‫(‪ )103‬مصطفى ناصف‪ ،‬نظرية المعنى في النقد العربي‪.39 :‬‬
‫(‪ )104‬ابن قتيبة‪ ،‬تأويل مشكلة القرآن‪.3 :‬‬
‫(‪ )105‬نفسه‪.14 :‬‬
‫(‪ )106‬ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء ‪.69 :1‬‬
‫(‪ )107‬نفسه ‪.73-72 :1‬‬
‫(‪ )108‬طه أحمد إبراهيم‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪.118 :‬‬
‫(‪ )109‬ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء ‪.92 :1‬‬
‫(‪ )110‬ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء ‪.92 :1‬‬
‫(‪ )111‬نفسه ‪.66 :1‬‬
‫(‪ )112‬ينظر‪ :‬الشعر والشعراء ‪ .64-63 :1‬تأويل مشكل القرآن‪ .14 :‬عيون األخبار ‪:2‬‬
‫‪.185‬‬
‫(‪ )113‬ابن قتيبة‪ ،‬تأويل مشكل القرآن‪.131 :‬‬
‫(‪ )114‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.334 :‬‬
‫(‪ )115‬ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء ‪ ...311-297-216-170 :1‬المعاني الكبير ‪.283 :1‬‬
‫(‪ )116‬ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء ‪.68 :1‬‬
‫(‪ )117‬ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء ‪.68 :1‬‬

‫‪- 77 -‬‬
‫(‪ )118‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )119‬نفسه ‪.66 :1‬‬
‫(‪ )120‬ابن قتيبة‪ ،‬الشعر والشعراء ‪.67-66 :1‬‬
‫(‪ )121‬نفسه ‪.68-67 :1‬‬
‫(‪ )122‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.108 :‬‬
‫(‪ )123‬ابن قتيبة‪ ،‬تأويل مشكل القرآن‪.16 :‬‬
‫(‪ )124‬سورة األنفال‪ ،‬اآلية‪.85 :‬‬
‫(‪ )125‬ابن قتيبة‪ ،‬تأويل مشكل القرآن‪.16 :‬‬
‫(‪ )126‬ومبدأ المشاكلة يبدأ في الشيوع عند النقاد بدءًا من القرن الثالث بتأثير من الجاحظ ال شك‪.‬‬
‫ينظر‪ :‬ابن المدبر‪ ،‬الرسالة العذراء في موازين البالغة ضمن رسائل البلغاء‪-230 :‬‬
‫‪ .242-231‬الصولي‪ ،‬أخبار البحتري‪ .137-136 :‬ابن وهب‪ ،‬البرهان‪.186 :‬‬
‫(‪ )127‬ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪.11 :‬‬
‫(‪ )128‬ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪.8 :‬‬
‫(‪ )129‬جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪.42 :‬‬
‫(‪ )130‬ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪.127 :‬‬
‫(‪ )131‬نفسه‪.4 :‬‬
‫(‪ )132‬ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪.85 :‬‬
‫(‪ )133‬نفسه‪.89 :‬‬
‫(‪ )134‬نفسه‪.87 :‬‬
‫(‪ )135‬نفسه‪.83 :‬‬
‫(‪ )136‬ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪ .67 :‬ينظر أيضًا‪.102-40 :‬‬
‫(‪ )137‬نفسه‪.49-48 :‬‬
‫(‪ )138‬نفسه‪.121-120 :‬‬
‫(‪ )139‬ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪.121 :‬‬
‫(‪ )140‬ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪.5 :‬‬
‫(‪ )141‬عبد الحميد يونس‪ ،‬األسس الفنية للنقد األدبي‪.54 :‬‬
‫(‪ )142‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.136 :‬‬
‫(‪ )143‬جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪.45 :‬‬
‫(‪.J. E. BENCHEIKH, Poétique Arabe, p. 122 )144‬‬
‫(‪ )145‬ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪ .5 :‬ينظر‪.128 :‬‬
‫(‪.J. E. BENCHEIKH, Poétique Arabe, p. 122 )146‬‬
‫(‪ )147‬ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪.6-5 :‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫(‪ )148‬ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪.124 :‬‬
‫(‪ )149‬نفسه‪.127-126 :‬‬
‫(‪ )150‬نفسه‪.76 :‬‬
‫(‪ )151‬ابن طباطبا‪ ،‬عيار الشعر‪.9 :‬‬
‫(‪ )152‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )153‬نفسه‪.15 :‬‬
‫(‪ )154‬نفسه‪.14 :‬‬
‫(‪ )155‬قدامة‪ ،‬نقد الشعر‪ .91 :‬ينظر‪.96-184 :‬‬
‫(‪ )156‬نفسه‪.94 :‬‬
‫(‪ )157‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )158‬نفسه‪ 95 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪)159‬‬
‫(‪ )160‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.190 :‬‬
‫(‪ )161‬قدامة بن جعفر‪ ،‬نقد الشعر‪.66-65 :‬‬
‫(‪ )162‬نفسه‪.66 :‬‬
‫(‪ )163‬نفسه‪ .136-164 :‬ينظر أيضًا‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.212 :‬‬
‫(‪ )164‬قدامة‪ ،‬نقد الشعر‪.66 :‬‬
‫(‪ )165‬نفسه‪.152 :‬‬
‫(‪ )166‬شكري عّياد‪ ،‬م‪ :‬المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العربية‪.11 :‬‬
‫(‪ )167‬جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪.195 :‬‬
‫(‪ )168‬قدامة‪ ،‬نقد الشعر‪.74 :‬‬
‫(‪ )169‬نفسه‪.175-174-172 :‬‬
‫(‪ )170‬نفسه‪.78 :‬‬
‫(‪ )171‬نفسه‪.86 :‬‬
‫(‪ )172‬نفسه‪.90 :‬‬
‫(‪ )173‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )174‬نفسه‪.85 :‬‬
‫(‪ )175‬قدامة‪ ،‬جواهر األلفاظ‪.2 :‬‬
‫(‪ )176‬قدامة‪ ،‬نقد الشعر‪.64 :‬‬
‫(‪ )177‬نفسه‪ .165 :‬ينظر لتقصي عيوب ائتالف اللفظ والوزن التي منها‪ :‬الحشو والتثليم‬
‫والتذنيب‪ ...‬وهي تفصيل ما أجمله في النص السابق‪.208-207-206 :‬‬
‫(‪ )178‬نفسه‪.166 :‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫(‪ )179‬نفسه‪.209 :‬‬
‫(‪ )180‬نفسه‪.210 :‬‬
‫(‪ )181‬نفسه ‪.167‬‬
‫(‪ )182‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )183‬نفسه‪153 :‬‬
‫(‪ )184‬نفسه‪.155-154 :‬‬
‫(‪ )185‬نفسه‪.157 :‬‬
‫(‪ )186‬نفسه‪ .160 :‬جواهر األلفاظ‪.8-7 :‬‬
‫(‪.J. E. BENCHEIKH, Poétique Arabe, p. 98 )187‬‬
‫(‪ )188‬قدامة‪ ،‬جواهر األلفاظ‪.3 :‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫النص األدبي بين ثنائية اللفظ‬
‫والمعنى والفصاحة والبالغة حتى ابن رشيق‬

‫لم يكن قصدنا مقاربة تصور الذهن العربي اإلسالمي إلشكال اللفظ والمعنى‬
‫من منظور تاريخي يتنامى فيه الرصد وفق تتابع الفكرة‪ ،‬إنما هدفنا تحّس س هذا‬
‫التصور لدى الطوائف التي نخصها بالبحث وفق ما يستوجبه منطق منهجه الذي‬
‫يقتضي أن نخص كل فئة أو تيار بوقفة أو وقفات‪ ،‬فكان أن انتهت دورة النقاد‬
‫األولى بقدامة بن جعفر‪ ،‬وبه اكتمل رأي في النص األدبي ينوع في أشكال معالجته‬
‫له بدءًا من اإللحاح على ضرورة التشاكل والتطابق بين المعنى واللفظ التي‬
‫ستصل إلى نضوجها في المصادرة على فكرة صورة المعنى المطروحة من أيام‬
‫الجاحظ‪ ،‬إلى فكرة االئتالف الضام لعناصر النص المختلفة كما رأينا ذلك عند‬
‫قدامة بن جعفر‪.‬‬
‫والواقع أن النقاد الذين نخصهم بهذه الوقفة بدءًا من أصحاب الموازنات‪ ،‬ثم‬
‫بعض البالغيين كأبي هالل العسكري وابن سنان الخفاجي اللذين تزاوج الطرح‬
‫عندهما في بحث إشكال اللفظ والمعنى بإشكال الفصاحة والبالغة‪ ،‬إلى فئة من نقاد‬
‫القرن الخامس الهجري كالمرزوقي والشريف المرتضى وابن رشيق‪ ،‬دون أن‬
‫نجزم بانفصال حقل البالغة عن حقل النقد لدى هؤالء ولدى غيرهم أيضًا‪ ،‬كان‬
‫بين أيديهم وواكبهم نتاج وافر في الميدان‪ ،‬تجّس ده إنجازات النقاد السابقين‪ ،‬وتمّثل‬
‫أيضًا في أعمال متفلسفة في اإلسالم في مجال النقد األدبي والبالغة انطالقًا من‬

‫‪- 81 -‬‬
‫مختصرات الكندي إلى آراء الفارابي مع اإلشارة إلى طروحات أبي حيان‬
‫التوحيدي واجتهادات مسكويه وتشعبات آراء فالسفة القرن الرابع في األدب نثره‬
‫وشعره عامة‪ ،‬وفي معضلة اللفظ والمعنى خاصة كما تبلوره أيضًا طائفة‬
‫المتكلمين التي استقطب نتاجها مبحث إعجاز القرآن كحال الجاحظ في مؤلفه الذي‬
‫لم يصلنا‪ ،‬وما يمكن أن يكون قد بّثه الواسطي في الموضوع مما تضمنه كتابه في‬
‫إعجاز القرآن أيضًا‪ ،‬إلى المعالجة المتقّد مة كما يجسّد ها الرماني والخطابي‬
‫فالباقالني وغيرهم‪ ،‬هذه الفئات المتعاصرة والمتداخلة كان يمكن أن تتيح للنقاد‬
‫الذين ندرسهم في هذا الموضع مزيدًا من تعميق البحث في إشكال اللفظ والمعنى‪،‬‬
‫إال أن هؤالء ظلوا في األغلب‪ -‬أمناء لطروحات السابقين وخاصة الجاحظ‬
‫وقدامة‪ -‬فيما يخص قضيتنا طبعًا‪ -‬ولم يتمكنوا من إضافة الجديد الحق باستثناء‬
‫بعض التفريعات والتشقيقات أحيانًا‪ ،‬دون أن ننسى محاولة هذا الناقد أو ذاك تنزيل‬
‫عمله في إطار عام كاإلشكال الذي انطلق منه اآلمدي والقاضي الجرجاني‬
‫المتمحور حول قضية الموازنة والوساطة التي ستشكل بدايتنا في قراءة آراء‬
‫هؤالء النقاد والبالغيين‪.‬‬

‫اللفظ والمعنى عند أصحاب الموازنات‬


‫تكشف الموازنة بين البحتري وأبي تمام والوساطة بين المتنبي وخصومه‬
‫عن ذوقين في الكتابة ومنحيين في تصور خصائص الفن في النص األدبي‪ ،‬وهذان‬
‫الموقفان ليسا إال واجهتين لصدام خفي بين مسلكين في المعرفة‪ ،‬اقتنع أحدهما بأنه‬
‫الوصي على أصول قديمة راسخة في الثقافة العربية اإلسالمية ُتحُّد بجهود‬
‫اللغويين ومن تأثر بهم في البحث البالغي واألدبي‪ ،‬وتترسخ قناعة هذا التيار‬
‫شعريًا في ضرورة تأسيس هذا الفن ممارسة ونقدًا على ثوابت تقاليد القصيدة‬
‫الجاهلية‪ .‬واستفاد ثانيهما من روافد ثقافية فلسفية ومنطقية فعكف يستمليها ليجدد‬
‫الحياة في عروق القصيدة العربية‪ ،‬إذ خّي ل إليه أن تدقيق المعنى وسبكه في صورة‬
‫معقدة تقوم على االستغالل الواسع ألوجه بالغية كاالستعارة والجناس والطباق‪،‬‬
‫وتوّظف األلفاظ المستعارة من حقول معرفية ظلت غريبة عن الشعر كعلم الكالم‬
‫والفلسفة تجديد في الشعر‪ ،‬فكان أن اختلفت مواقف النّقاد بين منتصٍر للقديم‬
‫ومنتصٍر للمحدث‪ .‬وظل الصدام مطروحًا والخالف مستفحًال إلى أيام اآلمدي‬
‫والقاضي الجرجاني بل إلى ما بعدهما‪ ،‬حيث قدر لهذا الخالف أن يأخذ مداه كامًال‬
‫باالعتكاف على استخالص األسس والقواعد الفنّية التي ستمكن من وضعه في‬

‫‪- 82 -‬‬
‫إطاره النظري المؤسس لمنطلقات كل طرف‪ ،‬مع توثيق التنظير بتفريعات التمثيل‬
‫والتحليل ألبرز كتابات الطرفين‪.‬‬
‫من هنا تتنّز ل الموازنة والوساطة في جوهر هذه األعمال إذ نمثل بهما‬
‫ألصحاب الموازنات عامة‪ ،‬لكّننا ال ندعي أن الفواصل كانت حاسمة بين التيارين‪،‬‬
‫ففي الشعر مثًال‪ ،‬ال يمكن وضع البحتري بمنأى عن تلطيف المعنى واستغالل‬
‫الشائع من الثقافة الفلسفية إذ له مثاليته الخاصة(‪ ،)1‬أما في النقد فإنه على الرغم‬
‫من أن اآلمدي ال يخفي موقفه من االنتصار لمذهب عمود الشعر العربي‪ ،‬فإنه ال‬
‫يجد ُبّد ًا من االنطالق من أصول فلسفية عامة يبني عليها رأيه في طريقتي الكتابة‬
‫اللذين يمّثلهما كل من البحتري وأبي تمام‪.‬‬
‫فاآلمدي إذ يهدف إلى توفير شروط االقتناع بصحة رأيه في الشعر وميله إلى‬
‫القديم يضع تصوره هذا ضمن نطاق شامل لكل صناعة باالعتماد على فكرة العلل‬
‫األربع‪ ،‬ذلك "أن صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات ال تجود وتستحكم إال‬
‫بأربعة أشياء وهي‪ :‬جودة اآللة‪ ،‬وإ صابة الغرض المقصود‪ ،‬وصحة التأليف‪،‬‬
‫واالنتهاء إلى تمام الصنعة من غير نقص فيها وال زيادة عليها"(‪ ،)2‬ثم يدّقق هذه‬
‫المصطلحات مقتربًا من المصطلح المعتمد لدى الفالسفة ذاكرًا أن كل محدث‬
‫مصنوع يحتاج إلى أربعة أشياء‪" :‬عّلة هيوالنية وهي األصل‪ ،‬وعّلة صورية‪،‬‬
‫وعّلة فاعلة‪ ،‬وعّلة تمامية"(‪ ،)3‬ليخلص إثر ذكر أنموذج الخلق عامة مصداقًا لهذه‬
‫المبادئ أو العلل إلى التطبيق على فعل الصنعة الذي يشمل كل مصنوع‪ ،‬بما في‬
‫ذلك الشعر‪ ،‬ذلك أنه ال يستقيم فعل الصنعة "إال بهذه األشياء األربعة‪ ،‬وهي‪ :‬آلة‬
‫يستجيدها ويتخيرها مثل خشب النجار‪ ،‬وفضة الصانع‪ ،‬وآجر البناء‪ ،‬وألفاظ‬
‫الشاعر والخطيب‪ ،‬وهذه هي العّلة الهيوالنية التي قّد موا ذكرها وجعلوها األصل‪.‬‬
‫ثم إصابة الغرض فيما يقصد الصانع صنعته‪ ،‬وهي العّلة الصورية التي ذكروها‪.‬‬
‫ثم صحة التأليف حتى ال يقع فيه خلل وال اضطراب‪ ،‬وهي العلة الفاعلة‪ .‬ثم أن‬
‫ينتهي الصانع إلى تمام صنعته من غير نقص منها وال زيادة عليها‪ ،‬وهي العّلة‬
‫التمامية‪ .‬فهما قول جامع لكل الصناعات والمخلوقات‪.‬‬

‫فإن اتفق اآلن لكل صانع بعد هذه الدعائم األربع أن يحدث في صنعته معنًى‬
‫لطيفًا مستغربًا كما قلنا في الشعر من حيث ال يخرج عن الغرض‪ ،‬فذلك زائد في‬
‫حسن صنعته وجودتها‪ ،‬وإ ال فالصنعة قائمة بنفسها مستغنية عّم ا سواها"(‪.)4‬‬

‫‪- 83 -‬‬
‫وعلى الرغم من أن توظيف هذا االقتباس لتوضيح فكرة الصنعة‬
‫الشعرية غير متطابق تمامًا مع المعاني أو الوظائف التي حددها الفالسفة للعلل‬
‫األربع(‪ ،)5‬فإننا نميل إلى أن اآلمدي كان واعيًا بالمنزع الذي نحاه في استغالل‬
‫هذه المبادئ لتحديد تصّو ره الشعر وجودته‪ ،‬من هنا ال نميل إلى وسمه بأنه "لم‬
‫يعرف منزلة" العلة الصّو رية" من هذه العلل األربع‪ ،‬وأنها هي التي تقوم بها‬
‫الصفة الذاتية للشيء‪ ،‬وكأنه توّهم من قولهم إن العلة الهيوالنية هي (األصل) وأن‬
‫العلل الباقيات فروع لها‪ .‬وهو قد رأى هذه العلة الهيوالنية في األلفاظ دون أن‬
‫يالحظ أن األلفاظ دوال على معان‪ ،‬ومن ثم كان بعيدًا كل البعد عن أن يبين‬
‫بطريقة فلسفية‪ ،‬صفات الشعر الجّيد‪ ،‬وانتهى إلى حيث بدأ من تقرير أن المعاني‬
‫اللطيفة في الشعر نافلة ليست بأصل"(‪ .)6‬ذلك أن العوامل المؤدية إلى غير هذا‬
‫الموقف كثيرة‪.‬‬
‫ونالحظ بداية أن فكرة العلل األربع شائعة في األوساط الثقافية آنذاك وليست‬
‫حكرًا على فئة دون أخرى‪ ،‬إذ يبدو أن هذه المصطلحات‪ ،‬وخاصة مصطلح‬
‫الصورة‪ ،‬رائجة التوظيف لدى الفئات المختلفة‪ ،‬وليس اعتماد الجاحظ وسم‬
‫الصياغة الشعرية للمعنى بالصورة(‪ )7‬سوى استغالل لهذا المنحى‪ ،‬فال يمكن‬
‫لآلمدي أن يكون في منأى عن هذا الشيوع وهو يتخذ موقفًا رافضًا لكل ميل إلى‬
‫استغالل التدقيق الفلسفي في الشعر‪ ،‬علمًا بأنه عاش في القرن الرابع الهجري‬
‫عصر رواج التفلسف وذيوع صيته‪ ،‬ناهيك أن انتقاده قدامة بن جعفر في كتابه "نقد‬
‫الشعر"‪ ،‬ومخالفته إياه في مسائل كالمدح بصفات الجمال كانت تتيح له وهو ينقد‬
‫هذا الكتاب المؤسس على فكرة التأليف واستغالل مفهوم الصورة والمادة بصريح‬
‫قول قدامة‪ ،‬أن يدرك بعمق دالالت هذه المصطلحات وأن ينّز ل مفهوم الصورة‬
‫المنزلة التي تالئم المعنى الفلسفي‪ ،‬ولكنه أبى مسايرة قدامة ذلك ألنه يبتغي‬
‫توظيف هذه المبادئ لخدمة أغراضه‪.‬‬
‫أما في اإلطار العام فقد ساير معهود االستعمال‪ ،‬ففي شرحه الخلق اإللهي‬
‫للكائنات يرى أن "الهيوالنية فهم يعنون به‪ :‬الطينة التي يبتدعها البارئ جّل جالله‬
‫ويخترعها ليصور ما شاء تصويره من رجل أو فرس أو جمل أو غيرها من‬
‫الحيوان‪ ،‬أو بّر ة أو كرمة أو نخلة أو سدرة أو غيرها من سائر أنواع النبات"(‪،)8‬‬
‫فباستثناء رأيه بأن الهيولى مخلوقة تمشّيًا مع التصور اإلسالمي لفعل الخلق وهي‬
‫عند الفالسفة قديمة‪ ،‬نراه مدركًا لعالقة الهيولى بالصورة‪ ،‬إذ إن فحوى كالمه يؤكد‬
‫أن اختالف المخلوقات إنما هو بالصورة الطارئة على المادة "الطينة"‪ .‬فالمخلوقات‬

‫‪- 84 -‬‬
‫المعددة في النص تشترك في وحدة المادة وتختلف في الصورة التي تهب كال‬
‫خصائصه‪ ،‬فضًال عن أن استعماله المصطلح يكشف عن إلمامه بالتنوع في‬
‫االصطالح‪ ،‬فاستعماله العّلة التمامية وهي "إن صدقنا اآلمدي في استعمال‬
‫المصطلح تساوي العّلة الغائية"(‪ )9‬يكشف عن إطالعه على التنوع في‬
‫االصطالحات المستخدمة في وصف الفكرة الواحدة‪ ،‬ذلك أن هذا االستخدام يعود‬
‫إلى أيام الفيلسوف الكندي(‪.)10‬‬
‫أما المهم فهو مقابل اللفظ والمعنى في هذه المبادئ األربعة‪ ،‬فهل "غير خاف‬
‫أننا ال نستطيع مناقشة اآلمدي في هذا التشبيه الذي استمده من الفلسفة‪ ،‬ألنه لم‬
‫يفهمه‪ .‬فالعلتان األولى والثانية "الهيوالنية والصورية" تقابالن في الشعر ما أطلق‬
‫عليه النقاد العرب اسمي "اللفظ والمعنى"(‪)11‬؟ والحق أن التقابل لم يكن بهذه‬
‫الكيفية دائمًا‪ ،‬إذ من النقاد من قابل –حقًا‪ -‬بين الهيولى والصورة والمعنى واللفظ‬
‫كقدامة مثًال‪ ،‬ومن تأثره كأسامة بن منقذ‪ ،‬والنواجي(‪ .)12‬ومن النقاد من اعتبر‬
‫الهيولى مقابًال لأللفاظ‪ ،‬ألنه يعتبر موضوع الصنعة الشعرية لأللفاظ وحسن‬
‫تأليفها‪ ،‬ومن هؤالء اآلمدي وابن سنان وكالهما انتقد قدامة وأفاد منه‪ ،‬وكذلك‬
‫المواعيني الذي عرض إحسان عباس رأيه في الموضوع(‪.)13‬‬
‫وتأسيسًا على ما سلف لم يهمل اآلمدي المعنى إذ يتنّز ل عنده في مرتبتين‪:‬‬
‫مرتبة يكون المعنى فيها كاألمر البديهي يسميه المعنى المكشوف(‪ ،)14‬إذ إن‬
‫كل صياغة شعرية ال بد أن تحتوي معنى‪ ،‬أّم ا جوهر الشعرية فيكمن في الصياغة‬
‫نفسها‪ .‬ومرتبة يتحقق فيها للمعنى اللطافة واالستغراب‪ ،‬وهذا أمر‬
‫زائد في حسن الصنعة والجودة‪ ،‬ذلك أّن الصنعة قائمة بنفسها مستغنية عما سواها(‬
‫‪.)15‬‬
‫ولذلك كان توظيف اآلمدي فكرة العلل األربع متمشيًا مع هذه األصول‪ ،‬ذلك‬
‫أن تمام الصياغة الشعرية يتحقق بإصابة الغرض المقصود المقابل للعّلة الصورية‬
‫التي تتأسس على الهيولى المتجسدة هنا في األلفاظ‪ ،‬وهو تحوير في القضية‪ ،‬إذ إن‬
‫قدامة يرى أن المعنى كالمادة والشعر فيه كالصورة‪ ،‬واآلمدي يرى اللفظ كالمادة‬
‫وإ صابة الغرض المقصود هو الصورة‪ ،‬وال يشك في أن إصابة الغرض في الشعر‬
‫هو تحقيق المعنى المقصود‪ .‬ثم يتلوهما صحة التأليف حتى ال يقع فيه خلل وال‬
‫اضطراب‪ ،‬كما قال‪ ،‬ومن هنا نفهم قوله أخيرًا‪" :‬فصّح ة التأليف في الشعر وفي كل‬
‫صناعة هي أقوى دعائمه بعد صحة المعنى‪ ،‬فكل من كان أصح تأليفًا كان أقوم‬
‫بتلك الصناعة ممن اضطرب تأليفه"(‪ ،)16‬فصّح ة المعنى هنا هي تنّز له ضمن‬

‫‪- 85 -‬‬
‫المقصد والغرض حسب التقاليد الضابطة لألغراض‪ ،‬ومقتضيات األعراف‬
‫االجتماعية وخصائص الصنعة الشعرية‪ ،‬ويبدو أن اآلمدي استغل قدامة هنا‪ ،‬ذلك‬
‫أن من شروط صحة المعنى لديه مالءمته الغرض(‪ .)17‬أما صحة التأليف فهي‬
‫مسألة صياغة تتعلق بنسيج الكالم ونظمه‪ .‬وهكذا نصل إلى العّلة الغائية التي‬
‫تضبط شروط إيفاء الصنعة حقها من غير زيادة وال نقصان‪ ،‬وبتمامها يكمل لفعل‬
‫الصنعة وجوده‪ ،‬وخارج هذا الوجود يمكن أن يتفق للشاعر تحقيق معنى لطيف‪،‬‬
‫فهو كالفضلة يزيد من حسن الصنعة ما دام "ال يخرج عن الغرض"‪ .‬وانتفاؤه من‬
‫الصياغة ال يعني قيام التأليف على شكل مفارق أجوف‪ ،‬إذ إنه يتأسس على معاني‬
‫الشعر المعهودة كما حصرها عمود الشعر عند العرب‪.‬‬
‫وسيكون بين يدي اآلمدي مبدآن اثنان يقيم بواسطتهما موازنته بين البحتري‬
‫وأبي تمام‪ ،‬وبهما تتأسس معالجته النص األدبي عمومًا‪ ،‬وهما‪ :‬حسن التأليف‪،‬‬
‫ودقة المعاني‪ ،‬وحضور العنصرين في الصياغة الشعرية تحقيق لغاية الجودة‬
‫القصوى‪ ،‬واالكتفاء بحسن التأليف فقط‪ ،‬مع قيامه طبعًا على معهود المعاني‪ ،‬يعني‬
‫وقوع الصياغة ضمن قيم عمود الشعر العربي‪ ،‬وتلك طريقة البحتري‪ ،‬أما اعتبار‬
‫تلطيف المعنى ودقته هاجس الكتابة األول مع عدم إيفاء التأليف شروطه الجميلة‪،‬‬
‫فهو خروج بالشعر عن مساره وتلك طريقة أبي تمام‪ .‬ونجد أن فكرة التأليف‬
‫الجميل ودقة المعاني ليست إال امتدادًا لثنائية اللفظ والمعنى‪ ،‬فهي تستفيد من فكرة‬
‫الجاحظ عن المعنى ومن ثنائية ابن قتيبة وتعضدها بفكرة قدامة عن التأليف مع‬
‫حضور خفّي لفكرة الصورة أيضًا‪ ،‬فالتأليف الجميل يتعادل مع الصورة أو اللفظ‬
‫في حين يتكافأ اصطالح معنى مع المعنى الدقيق إذ إن "دقيق المعاني موجود في‬
‫كل أمة‪ ،‬وفي كل لغة"(‪)18‬؛ وما دام التأليف عنده إفرازًا لتركيب العناصر بما فيها‬
‫المعنى‪ ،‬فإن دقيق المعاني قيمة في ذات المعنى‪ ،‬وليست دومًا مشروطة بكمال‬
‫التأليف‪ ،‬إذ إن إمكان الجمع بين سوء التأليف ودقيق المعاني وارد وهي الحجة‬
‫التي يبرزها في وجه أنصار أبي تمام‪.‬‬
‫وتأسيسًا على ما سلف يكون إيفاء التأليف حقه من الجمال والحسن تحقيقًا‬
‫لغاية القول شعرًا ونثرًا‪ ،‬ومعاضدة هذا الركن بالمعنى اللطيف زيادة في البهاء‬
‫ذلك أن "ليس الشعر عند أهل العلم به إال حسن التأتي‪ ،‬وقرب المأخذ‪ ،‬واختيار‬
‫الكالم‪ ،‬ووضع األلفاظ في مواضعها‪ ،‬وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه‬
‫المستعمل في مثله‪ ،‬وأن تكون االستعارات والتمثيالت الئقة بما استعيرت لـه‬
‫وغير منافرة لمعناه‪ ،‬فإن الكالم ال يكتسي البهاء والرونق إال إذا كان بهذا‬

‫‪- 86 -‬‬
‫الوصف‪ ،‬وتلك طريقة البحتري‪ .‬قالوا‪ :‬وهذا أصل يحتاج إليه الشاعر والخطيب‬
‫صاحب النثر‪ ...‬فإن اتفق ‪ -‬مع هذا‪ -‬معنى لطيف‪ ،‬أو حكمة غريبة‪ ،‬أو أدب‬
‫حسن‪ ،‬فذلك زائد في بهاء الكالم‪ ،‬وإ ن لم يتفق فقد قام الكالم بنفسه‪ ،‬واستغنى عما‬
‫سواه"(‪.)19‬‬
‫وما دام هذا الموقف انتصارًا لخواص الصياغة ذاتها‪ ،‬وإ حالًال للمعاني‬
‫الفكرية والحكمية محًال ثانويًا وهو رأي يكشف أن ميزة الشعر العربي تتجسد في‬
‫"البيان‪ ،‬والفصاحة‪ ،‬وحسن الصياغة‪ ،‬ال المعاني‪ ،‬فالمعاني يستطيعها كل إنسان‬
‫بكل لسان"(‪)20‬؛ فإنه يكون اعتماد طريقة مغايرة للطريقة السابقة بالتركيز على‬
‫المعاني الفلسفية انحرافًا عن الذوق الراسخ كما يرى اآلمدي وانفالتًا من إسار‬
‫التقليد الفني الذي يبوئ التأليف الجميل المقام األول‪ ،‬فإذا "كانت طريقة الشاعر‬
‫غير هذه الطريقة‪ ،‬وكانت عبارته مقصرة عنها‪ ،‬ولسانه غير مدرك لها حتى يعتمد‬
‫دقيق المعاني من فلسفة يونان‪ ،‬أو حكمة الهند أو أدب الفرس‪ ،‬ويكون أكثر ما‬
‫يورده منها بألفاظ متعسّفة ونسج مضطرب‪ ،‬وإ ن اتفق في تضاعيف ذلك شيء من‬
‫صحيح الوصف وسليم النظر‪ ،‬قلنا له‪ :‬قد جئت بحكمة وفلسفة ومعان لطيفة‬
‫حسنة‪ ،‬فإن شئت دعوناك حكيمًا‪ ،‬أو سميناك فيلسوفًا‪ ،‬ولكن ال نسميك شاعرًا‪ ،‬وال‬
‫ندعوك بليغًا‪ ،‬ألن طريقتك ليست على طريقة العرب‪ ،‬وال على مذاهبهم‪ ،‬فإن‬
‫سميناك بذلك لم نلحقك بدرجة البلغاء وال المحسنين الفصحاء"(‪ .)21‬فال شك أن‬
‫الموّج هات السياسية والحضارية عملت على بلورة هذين المنحيين في الكتابة إال‬
‫أنه في ظّن اآلمدي يتحّقق اإلبداع في اإلخراج المتكرر للمعهود‪ ،‬ذلك أن الطريف‬
‫بحسبه يكمن في تلّبس المعهود المتداول بالغريب والجديد حسب ما تحققه جماليات‬
‫التأليف‪ ،‬فحسن "التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسنًا ورونقًا‬
‫حتى كأنه قد أحدث فيه غرابة لم تكن‪ ،‬وزيادة لم تعهد‪ ،‬وذلك مذهب البحتري"(‬
‫‪ .)22‬وهذا حل مزدوج‪ ،‬فبالقدر الذي يبقي على الصالت بالمعهود يفتح المجال‬
‫للجديد الذي ال يعبث باألصول‪ ،‬عكس المنزع اآلخر‪ ،‬ذلك "أن سوء التأليف‬
‫ورداءة اللفظ يذهب بطالوة المعنى الدقيق ويفسده ويعمّيه حتى يحوج مستمعه إلى‬
‫طول تأمل‪ ،‬وهذا مذهب أبي تمام في معظم شعره"(‪.)23‬‬
‫وأوجه التقابل التي نّز ل فيها األصلين الفنيين‪ ،‬جودة التأليف‪ ،‬ودقيق المعاني‬
‫تساعدنا على حل اإلشكال الذي يضعنا فيه نصه التالي‪ ،‬فقد وجد "أهل الّنصفة من‬
‫أصحاب البحتري‪ ،‬ومن يقدم مطبوع الشعر دون متكلفه‪ ،‬ال يدفعون أبا تمام عن‬
‫لطيف المعاني ودقيقها‪ ،‬واإلبداع واإلغراب فيها‪ ...‬وإ ن اهتمامه بمعانيه أكثر من‬

‫‪- 87 -‬‬
‫اهتمامه بتقويم لفظه‪ ،‬على شدة غرامه بالطباق والتجنيس والمماثلة‪ ،‬وأنه إذا الح‬
‫له أخرجه بأي لفظ استوى من ضعيف أو قوي‪ ...‬وإ ذا كان هذا هكذا فقد سلموا لـه‬
‫الشيء الذي هو ضالة الشعراء وطلبتهم‪ ،‬وهو لطيف المعاني‪ ،‬وبهذه الخّلة دون ما‬
‫سواها فضل امرؤ القيس‪ ،‬ألن الذي في شعره من دقيق المعاني وبديع الوصف‬
‫ولطيف التشبيه وبديع الحكمة‪ ،‬فوق ما في أشعار سائر الشعراء من الجاهلية‬
‫واإلسالم‪ ،‬حتى أنه ال تكاد تخلو له قصيدة واحدة من أن تشتمل من ذلك على نوع‬
‫أو أنواع‪ ،‬ولوال لطيف المعاني واجتهاد امرئ القيس فيها وإ قباله عليها‪ ،‬لما تقدم‬
‫على غيره‪ ،‬ولكان كسائر الشعراء من أهل زمانه‪ ،‬إذ ليست لـه فصاحة توصف‬
‫بالزيادة على فصاحتهم‪ ،‬وال أللفاظه من الجزالة والقوة ما ليس أللفاظهم"(‪،)24‬‬
‫ولكن هل يمكن اعتبار هذا الموقف المشيد بالمعاني وكونها وسيلة السبق والتقديم‬
‫وأنها ضالة الشعراء وطلبتهم مخالفًا لرأيه فيما سلف من نصوص‪ ،‬وتأكيده أن‬
‫التأليف الحسن هو أّس الشعر وبذلك فضل البحتري؟ فهل نعد ذلك تناقضًا "في‬
‫تصور اآلمدي لتياري النقد‪ ،‬بسبب من ميله الذاتي إلى الفريق الثاني"(‪،)25‬‬
‫الفريق الذي ينصر التأليف الجميل؟ الواقع أن تقديم امرئ القيس‪ ،‬حسب رأي‬
‫اآلمدي‪ ،‬لم يتم إال بتعاضد دقيق المعاني والتأليف الحسن في شعره‪ ،‬وهي الغاية‬
‫في الجودة‪ ،‬إذ ما دام يستوي وغيره في الفصاحة ذلك أن "األعرابي إنما ينظم‬
‫كالمه المنثور الذي يستعمله في مخاطباته ومحاوراته"(‪ ،)26‬فإن سبق امرئ‬
‫القيس يكمن في أنه اتفق له من بديع المعاني ما لم يتفق لهم‪ ،‬في حين أن تحقيق‬
‫أبي تمام "ضالة الشعراء وطلبتهم" لم يسنده دومًا تأليف جميل‪ .‬من هنا لم تشفع له‬
‫دقة المعاني أمام سوء التأليف ورداءة اللفظ‪ ،‬وهذا يتماشى مع أصوله ومنطلقاته‬
‫المحددة لجودة الكالم‪.‬‬
‫ومع كل ما سلف إال أن موقف اآلمدي ال يلبث أن يضطرب ويتذبذب‪ ،‬ولعل‬
‫مرّد ذلك قصده التلّطف في مواجهة أنصار أبي تمام ومحاولة اإليهام بموقفه‬
‫العادل في الموازنة‪ ،‬إذ يكاد يتزحزح عن الموقف السابق في تبرير السبق بجودة‬
‫التأليف ودقة المعنى معًا أو االكتفاء بالتأليف الحسن في المشهور من المعنى‪ ،‬إلى‬
‫اعتبار أن السبق المعنوي شفيع الضطراب اللفظ فإذا "كان قد اضطرب لفظ أبي‬
‫تمام واختّل في بعض المواضع‪ ،‬فهل خال من ذلك شاعر قديم أو محدث؟ هذا‬
‫األعشى يختل لفظه كثيرًا‪ ،‬ويسفسف دائمًا‪ ،‬ويرق ويضعف‪ ،‬ولم يجهلوا حّقه‬
‫وفضله حتى جعلوه نظيرًا للنابغة‪ ،‬وألفاظ النابغة في الغاية من البراعة والحسن‪،‬‬
‫وعديًال لزهير الذي صرف اهتمامه كّله إلى تهذيب ألفاظه وتقويمها‪ ،‬وألحقوه‬
‫بامرئ القيس الذي جمع الفضيلتين فجعلوهم طبقة‪ ،‬وصار فضل كل واحد من‬
‫‪- 88 -‬‬
‫غير الوجه الذي فضل منه صاحبه"(‪ ،)27‬بل يكاد يتراجع عن موقفه من أبي تمام‬
‫مطلقًا حين يتساءل بعد أن يورد شواهد شعرية له متعجبًا "فكيف وبدائعه مشهورة‪،‬‬
‫ومحاسنه متداولة‪ ،‬ولم يأت إال بأبلغ لفظ وأحسن سبك"(‪ ،)28‬وهذا إقرار بتكامل‬
‫الصنعة لدى أبي تمام ألفاظًا ومعاني‪ ،‬لكن اآلمدي وإ ن اضطرب موقفه قليًال من‬
‫أبي تمام‪ ،‬فإن إلحاحه على التأليف الجميل ال ينفي لديه إمكان تكامله مع المعاني‬
‫الدقيقة ليصل الشعر بتحقيقهما إلى مرتبة "امرئ القيس الذي جمع الفضيلتين"‪.‬‬
‫ومع اإلقرار بهذا االضطراب إال أن الراسخ في أغلب فصول الموازنة‬
‫تأكيده المنظور الثنائي المؤسس على التأليف الجميل من جهة ودقيق المعاني من‬
‫جهة أخرى‪ ،‬كما يلخصه قوله‪" :‬والمطبوعون وأهل البالغة ال يكون الفضل‬
‫عندهم من جهة استقصاء المعاني واإلغراق في الوصف‪ ،‬وإ نما يكون الفضل‬
‫عندهم في اإللمام بالمعاني وأخذ العفو منها‪ ،‬كما كانت األوائل تفعل‪ ،‬مع جودة‬
‫السبك‪ ،‬وقرب المأتى"(‪ ،)29‬إلى أن تستحيل المقابلة رصدًا لنمطي الكتابة لدى‬
‫الشاعرين إذ يروي عن البحتري موازنًا بين صنعته وصنعة أبي تمام قوله‪" :‬كان‬
‫أغوص على المعاني مّني‪ ،‬وأنا أقوم بعمود الشعر منه"(‪ .)30‬والمواقف التي‬
‫يلخصها فيها منهجي الكتابة لدى الشاعرين‪ ،‬ومن ثم خالصة مبادئ المذهبين‬
‫المتقابلين –حسب رأيه‪ -‬مذهب عمود الشعر ومذهب التعقيد وتدقيق المعاني‬
‫وابتكارها كثيرة‪ ،‬نجتزئ منها قوله‪ :‬فإن كنت "ممن يفضل سهل الكالم وقريبه‪،‬‬
‫ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق‪ ،‬فالبحتري‬
‫أشعر عندك ضرورة‪ .‬وإ ن كنت تميل إلى الصنعة‪ ،‬والمعاني الغامضة التي‬
‫تستخرج بالغوص والفكرة‪ ،‬وال تلوي على ما سوى ذلك‪ ،‬فأبو تمام عندك أشعر ال‬
‫محالة"(‪.)31‬‬
‫وعلى الرغم من أن ما سبق يرسخ مبدأ الثنائية القائمة أساسًا على مقابلة‬
‫التأليف الحسن بالمعنى الدقيق دون أن يمتنع الجمع بينهما كما رأينا‪ ،‬فإن مما‬
‫يحمد لآلمدي نظرات له في النص تقر بمبدأ التفاعل بين عنصري الداللة‪:‬‬
‫المعنى واللفظ‪ ،‬وإ ن كان بعض آرائه قد يؤكد الفصل بينهما بل التفاوت‪ ،‬يرى‬
‫أنه "قد يتفاوت البيتان الجيدان النادران فيعلم أهل العلم بصناعة الشعر‬
‫أيهما أجود إن كان معناهما واحدًا‪ ،‬أو أيهما أجود في معناه إن كان معناهما مختلفًا"(‪ ،)32‬فكأن الجودة‬
‫ال تطول المعنى‪ ،‬إال أن في مثل تعليقه على بيت أبي تمام التالي ما يجعل حضور المعنى في اعتبار‬
‫الجودة واردًا‪ ،‬وهو قوله‪:‬‬

‫أذيلت مصونات الدموع السواكب‬ ‫على مثلها من أربع ومالعب‬


‫يرى أن بعضهم قد أنكر "قوله‪" :‬مصونات الدموع السواكب" وقال‪ :‬كيف يكون من السواكب ما‬

‫‪- 89 -‬‬
‫هو مصون؟ وإ نما أراد أبو تمام أذيلت مصونات الدموع التي هي اآلن سواكب‪ ،‬ولفظه يحتمل ما أراده‪،‬‬
‫والبيت جيد لفظًا ومعنى ونظمًا"(‪ ،)33‬فالمعنى يتنزل هنا عنصرًا في الصياغة‪ ،‬إال أن اصطالح‬
‫"المعنى" يأخذ داللة أخرى في مثل تعليقه على بيت البحرتي‪:‬‬

‫وسل داري سدعي إن شفاك سؤالها‬ ‫قف العيس قد أدنى خطاها كاللها‬
‫هذا لفظ حسن‪ ،‬ومعنى ليس بالجيد‪ ،‬ألنه قال‪" :‬قد أدنى خطاها كاللها" أي قارب من خطوها‬
‫الكالل‪ ،‬وهذا كأنه لم يقف لسؤال الدار الذي تعرض ألن يشفيه سؤالها‪ ،‬وإ نما وقف إلعياء المطي(‪)34‬‬
‫فسوء المعنى هنا سببه عدم مطابقته الغرض وخروجه عن مبدأ اللياقة التي يمليها غرض الوقوف على‬
‫الطلل‪ ،‬فليس المقصود بالمعنى هنا العنصر المتعاضد مع التأليف في بنية البيت‪ ،‬وإ نما المنظور المتحكم‬
‫في نقد المعنى هنا وضعه في إطار الغرض العام‪ ،‬ذلك أن األغراض قد تكون "من جنس واحد وإ ن‬
‫اختلفت المعاني"(‪ ،)35‬وهذا إقرار بإمكان التنوع في معاني الغرض الواحد حيث تظل المعاني محكومة‬
‫بأصول عامة وإ ن أباحت لها الصياغة والتوليد تحقيق الجدة والطرافة‪ ،‬نرى ذلك في قوله معلقًا على‬
‫بيت البحرتي‪:‬‬

‫تشكو اختالفك بالهبوب السرمد‬ ‫"أصبا األصائل إن برقة منشد‬


‫مازلت أسمع الشيوخ من أهل العلم بالشعر يقولون‪ :‬إنهم ما سمعوا لمتقدم وال‬
‫متأخر في هذا المعنى أحسن من هذا البيت‪ ،‬وال أبرع لفظًا‪ ،‬وال أكثر ماًء وال‬
‫رونقًا‪ ،‬وال ألطف معنًى "(‪ .)36‬وذكره المعنى في التعليق ليس من باب التكرار إذ‬
‫المعنى في األول يراد به مطلق الغرض أو المقصد‪ ،‬وهو هنا يتوافق مع عنوان‬
‫فرعي يذكره في مقدمة هذا الشاهد وهو‪" :‬تعفية الرياح للديار"‪ ،‬والمعنى في قوله‬
‫"وال ألطف معنى" حصر لداللة البيت‪ ،‬وهو تعبير عن إعجاب اآلمدي بما حققه‬
‫البحتري من غرابة في الوصف‪.‬‬
‫ونصل أخيرًا إلى ما يكاد يجزم بتنبه اآلمدي لتبعية المعنى للصياغة‪ ،‬وهو موقف متطور نسبيًا‬
‫في تحليل النص يقوم على اإلقرار بأن كل تغيير يطول الدال يتبعه حتمًا تغيير في المعنى‪ ،‬وأن انتقاء‬
‫الدوال ضمن محور االستبدال يحكمه التنبه إلى لطائف في المعنى‪ .‬يقول معلقًا على بيت البحتري‬
‫يصف أخالق املمدوح‪:‬‬

‫مزن والودق خارج من خالله‬ ‫"يتصّر عن للّر جاء دنو الـ‬


‫ولو قال "يتدانين للرجاء دنو المزن" لكان أحسن في اللفظ‪ ،‬وأوفق من أجل‬
‫التجنيس‪ ،‬ولكن "يتصرعن" أوكد في المعنى‪ ،‬ألنه بمعنى يتساقطن ويتطرحن‪،‬‬
‫يريد اإلسراع إلى الرجاء من غير ترفق وال توق لالنحطاط والوقوع‪ ،‬ليدل على‬
‫الحرص والشهوة"(‪ ،)37‬فالعالئق التي تتنزل فيها اللفظة في بنية البيت متنوعة‪،‬‬
‫فبالقدر الذي ينتظمها وبقية األلفاظ التوافق واالنسجام في المستوى الصوتي‪ ،‬بقدر‬
‫ما يوفر لها اإلشعاع المعنوي للدال التعاضد في مستوى التركيب والداللة‪.‬‬
‫ومما يحمد اآلمدي أيضًا في معالجته النص إيمانه بالخاصية الفنية المميزة له‬

‫‪- 90 -‬‬
‫التي تقوم على الفصل بين ما هو تخييلي يقدم معرفة نوعية ال تقوم دومًا على‬
‫النسخ لقانون المعطى الواقعي‪ ،‬إذ تكون الداللة محصلة لحمة ألفاظ في النص ال‬
‫مبرر لها سوى الحقيقة الفنية نفسها‪ ،‬وما هو رصد للواقعة أو "للحقيقة"‪ .‬يقول‪:‬‬
‫ورأيت من عاب قوله (البحرتي)‪:‬‬
‫حتى عدلت أجاجهن بعذبه‬ ‫فصبغت أخالقي برونق خلقه‬
‫وقالوا‪ :‬إنما كان ينبغي لما ذكر األجاج والعذب أن يقول "فمزجت" ال أن‬
‫يقول "فصبغت"‪ ،‬أو لما قال "فصبغت" أن يقول "حتى عدلت ألوانها بحسن لونه"‬
‫"وليست هذه المعارضة بشيء‪ ،‬والمعنى صحيح‪ ،‬وذلك أنه ليس هناك صبغ على‬
‫الحقيقة فيقابل بذكر لون حتى يتكافأ المعنيان‪ ،‬وال مشروب عذب وال أجاج على‬
‫الحقيقة فيستعمل ذكر المزج‪ ،‬وإ نما هذه استعارات ينوب بعضها عن بعض‪ ،‬ويقوم‬
‫بعضها مقام بعض‪ ،‬ألنها ليست بحقائق فيما استعيرت له"(‪.)38‬‬
‫ولآلمدي إشارات أيضًا إلى بنية الكالم فيما يسميه "استواء نظمه‪ ،‬وصحة‬
‫سبكه‪ ،‬ووضع الكالم منه في مواضعه"(‪ ،)39‬ويتكلم عن "تعسف النظم ورداءته‬
‫وتعقيده"(‪ ،)40‬الذي ينتج عنه اختالل في البيت وإ شكال في المعنى(‪.)41‬‬
‫ويحاول االقتراب من شرح أسباب هذا االضطراب باالعتماد على رأيه في المعاظلة التي يراها‬
‫"في شدة تعليق الشاعر ألفاظ البيت بعضها ببعض‪ ،‬وأن يداخل لفظة من أجل لفظة تشبهها أو تجانسها‪،‬‬
‫وإ ن أخل بالمعنى بعض اإلخالل‪ ،‬وذلك كقول أبي متام‪:‬‬

‫عنه فلم يتخّو ن جسمه الكمد‬ ‫خان الصفاء أخ خان الزمان أخا‬
‫فانظر إلى أكثر ألفاظ هذا البيت‪ ،‬وهي سبع كلمات آخرها قوله "عنه" ما أشد‬
‫تشبث بعضها ببعض‪ ،‬وما أقبح ما اعتمده من إدخال ألفاظ في البيت من أجل ما‬
‫يشبهها"(‪ )42‬ليخلص أخيرًا إلى شرح مقولة النقاد المبينة لما يستجاد من النظم‬
‫والنثر‪ ،‬وهي قولهم‪ :‬هذا كالم يدل بعضه على بعض ويأخذ بعضه برقاب بعض‪،‬‬
‫بقولـه‪" :‬إنما أرادوا المعاني إذا وقعت ألفاظها في مواقعها‪ ،‬وجاءت الكلمة مع‬
‫أختها المشاكلة لها التي تقتضي أن تجاورها لمعناها‪ :‬إما على االتفاق‪ ،‬أو التضاد‪،‬‬
‫حسبما توجبه قسمة الكالم"(‪.)43‬‬
‫والخالصة أن اآلمدي قد أولى جمال التأليف عناية كبرى واعتبر حسن‬
‫الصياغة وإ ن أخرجت المشهور المعروف عالمة الشاعرية‪ ،‬وأن مراعاة دقيق‬
‫المعاني إن شفعت له جودة الصياغة كان غاية الحسن‪ ،‬دون أن ينسى اإللمام بنظم‬
‫القول عامة مبرزًا ضرورة االعتناء بتنزيل الكلمات منازلها المالئمة في النص‪،‬‬
‫وتجنب فساد النظم وتعسف التأليف‪.‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫وليس للقاضي الجرجاني فيما نرى إضافة تحسب له إلى قضية اللفظ‬
‫والمعنى إذ قد شغله مبحث السرقات(‪ )44‬خصوصًا عن إيفاء كثير من قضايا النقد‬
‫حقها من الدرس‪ ،‬فتضاءل وزن ما أواله لهذه القضية‪ .‬ومع ذلك يكون منطلقنا في‬
‫فهم رأيه في إشكال اللفظ والمعنى معضلة السرقات نفسها وإ شكال الصراع بين‬
‫القدماء والمحدثين‪ ،‬حيث يرى أن لو أنصف المحدثون "لوجد يسيرهم أحق‬
‫باالستكثار وصغيرهم أوفى باإلكبار‪ ،‬ألن أحدهم يقف محصورًا بين لفظ قد ضيق‬
‫مجاله‪ ،‬وحذف أكثره‪ ،‬وقل عدده‪ ،‬وحظر معظمه‪ ،‬ومعان قد أخذ عفوها‪ ،‬وسبق‬
‫إلى جيدها"(‪ ،)45‬وإ ذا كان شبح ابن طباطبا ماثًال في هذا التحليل‪ ،‬فإنه يكشف‬
‫أيضًا عن فهم كمي لكل من اللفظ والمعنى حتى ليبدو ثراؤهما في تناقض مع‬
‫الزمن‪ ،‬علمًا بأن تراكم الكتابة والتوظيف المتنّو ع لأللفاظ سيكون من شأنهما تمديد‬
‫مساحتها الداللية‪ ،‬مما يتيح للمتأخر إمكانات أوسع تلبي مقاصده‪ ،‬إال أن المسألة لم‬
‫ينظر إليها من منظور المبدع ذاته ومدى ما تتطلبه تجربته الخاصة من استغالل‬
‫متميز للموجود‪ .‬ولم يقم فهم المعنى أيضًا باالستناد إلى السياق وحده‪ ،‬بل كانت‬
‫الرؤية منطلقة من اإليمان بأن الفعل الشعرّي يتلخص في اإلخراج المتجدد‬
‫للمعروف‪ ،‬وبالبحث والتوليد من األصل‪ .‬وتلك هي األصول التي أملت رأي‬
‫الجرجاني السابق‪.‬‬
‫لكن المهم في موضوعنا منطلقه الثنائي في تبرير أزمة المحدثين ذلك أن‬
‫انحسار االختراع أمامهم –حسب رأيه‪ -‬يشمل اللفظ والمعنى معًا‪ ،‬بحيث أن عملية‬
‫الصياغة الشعرية تقوم عنده أيضًا على ضرورة المقابلة بين األلفاظ ومعانيها‬
‫وسبر ما بينهما من نسب‪ ،‬وامتحان ما يجتمعان فيه من سبب(‪ .)46‬وهذه الدعوة‬
‫إلى إحداث وشائج القربى بين اللفظ والمعنى تمتّد لتشمل صلة األلفاظ باألغراض‬
‫عامة وضرورة انتقاء ما يالئم كل غرض‪ ،‬إذ يجب "أن تقسم األلفاظ على رتب‬
‫المعاني‪ ،‬فال يكون الغزل كاالفتخار وال المديح كالوعيد‪ ،‬وال الهجاء كاالستبطاء‪،‬‬
‫وال الهزل بمنزلة الجد‪ ،‬وال التعريض مثل التصريح"(‪.)47‬‬
‫ومع ذلك تأسست صلة اللفظ بالمعنى عنده على فكرة الكسوة والتحسين إذ‬
‫يتكلم عن موقع اللفظ الرشيق من القلب "وعظم غنائه في تحسين الشعر"(‪،)48‬‬
‫وعن أثر لين الحضارة في المحدثين فترققوا "ما أمكن‪ ،‬وكسوا معانيهم ألطف ما‬
‫سنح من األلفاظ"(‪ .)49‬أما االستعارة فبها "يتوصل إلى تزيين اللفظ وتحسين النظم‬
‫والنثر"(‪ .)50‬ومع ذلك استفاد من مجهودات السابقين في اإلشارة إلى تمّيز‬
‫الخاصية الفنية للشعر عن الصياغة اللغوية للحقيقة(‪ .)51‬وكان يمكن أن يؤدي‬

‫‪- 92 -‬‬
‫ذلك إلى الوعي العميق بتعلق الداللة في النص الشعري بفعالية السّياق‪ ،‬إال أن‬
‫الذهن ظل محكومًا في تعليل الظاهرة الفنية بالواقع ومقتضيات الُعرْف االجتماعي‬
‫وتقاليد الصنعة‪.‬‬
‫ويبدو أن ثنائية اآلمدي القائمة على مقابلة دقيق المعاني بجودة التأليف‬
‫وجدت طريقها إلى القاضي الجرجاني فصاغ رأيه في أبي تمام بنفس لغة اآلمدي(‬
‫‪ )52‬ليبلور مذهبي الكتابة السالفين في قوله المشهور‪" :‬وكانت العرب إنما تفاضل‬
‫بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحته‪ ،‬وجزالة اللفظ واستقامته‪،‬‬
‫وتسلم السبق فيه لمن وصف فأصاب‪ ،‬وشّبه فقارب‪ ،‬وبده فأغزر‪ ،‬ولمن كثرت‬
‫سوائر أمثاله وشوارد أبياته‪ ،‬ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة‪ ،‬وال تحفل باإلبداع‬
‫واالستعارة إذا حصل لها عمود الشعر‪ ،‬ونظام القريض"(‪.)53‬‬
‫وللقاضي إشارات إلى اضطراب النظم‪ ،‬وسوء التأليف‪ ،‬وهلهلة النسج(‪)54‬‬
‫في حديثه عن عيوب الشعر‪ ،‬إال أنه يحاول باالستعانة بجهود اآلمدي وغيره من‬
‫النقاد االقتراب من األسباب المؤدية إلى هذا االضطراب علمًا بأن وضعه النظم‬
‫في جوار اللفظ كمقابلين للمعنى ال يدل على فهم دقيق له‪ .‬يقول مرددًا بعض أقوال‬
‫خصوم المتنبي‪" :‬إنما عمد إلى شعر أبي تمام فغّير ألفاظه وغّير نظمه‪ ،‬فأما‬
‫المعاني فهي تلك بأعيانها"(‪ ،)55‬ويستفيد من نماذج من شعر أبي تمام ضربها‬
‫اآلمدي للتعقيد‪ ،‬فيرجع هو أيضًا أسباب الهلهلة إلى فساد التركيب‪ .‬يقول معلقًا‬
‫على بيت أبي تمام‪:‬‬
‫"فحذف عمدة الكالم‪ ،‬وأخل بالنظم‪ ،‬وإ نما أراد يدي لمن شاء رهن‬
‫(إن كان) لم يذق‪ ،‬فحذف (إن كان) من الكالم‪ ،‬فأفسد الترتيب وأحال الكالم على وجه"(‪.)56‬‬

‫من راحتيك درى ما الصاب والعسل"‬ ‫"يدي لمن شاء رهن لم يذق‬
‫جرعًا‬
‫ويعود إلى القضية ببعض التفصيل في بعض المواضع معتمدًا دائمًا في تعليله على فساد‬
‫التركيب‪ ،‬منها قوله موردًا أقوال بعض خصوم المتنبي عقب بيته‪:‬‬

‫بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه‬ ‫"وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه‬


‫‪ ...‬فما هذا من المعاني التي يضيع لها حالوة اللفظ‪ ،‬وبهاء الطبع‪ ،‬ورونق‬
‫االستهالل‪ ،‬ويشح عليها حتى يهلهل ألجلها النسج ويفسد النظم‪ ،‬ويفصل بين الباء‬
‫ومتعلقها بخبر االبتداء قبل تمامه‪ ،‬ويقّد م ويؤّخ ر‪ ،‬ويعّم ي ويعّو ص!"(‪.)57‬‬
‫والخالصة أن القاضي الجرجاني سار في طريق مدروس وشغلته قضايا‬
‫أخرى عن أن يولي مسألة اللفظ والمعنى أهمية خاصة‪ ،‬وحتى القليل الذي أورده‬

‫‪- 93 -‬‬
‫فيها لم يكن في مستوى آراء السابقين‪.‬‬
‫النص األدبي وإشكال الفصاحة والبالغة‬
‫ليس مصطلحا الفصاحة والبالغة إال مظهرين يّد الن على حضور إشكال‬
‫اللفظ والمعنى في كل معالجة نقدية عرفها النقاد والبالغيون العرب القدماء تبتغي‬
‫اكتناه العالئق الرابطة بين عناصر النص‪.‬‬
‫ويزيد األمر تأكيدًا أن البالغة والفصاحة تشكالن مجاًال معرفيًا يهتم بعالج‬
‫النص عمومًا‪ ،‬ومن هنا تظل الحدود التي تنضبط بها مفاهيم هذين المصطلحين‬
‫لدى هذا البالغي أو ذاك محكومة برأيه في اللفظ والمعنى‪ .‬ولعل محاولة كل من‬
‫أبي هالل العسكري وابن سنان الخفاجي تمثالن أنموذجين بارزين في هذا‬
‫المنحى‪ ،‬ذلك أنهما تشكالن أبرز محاولتين عرفهما القرنان الرابع والخامس‬
‫الهجريان تنطلقان من هذا اإلشكال‪ ،‬دون أن نغفل اإلشارة إلى عبد القاهر‬
‫الجرجاني الذي سيشكل رأيًا خاصًا في الموضوع نرجئه إلى بحث النظم لدى‬
‫المتكلمين‪ .‬وهاتان المحاولتان إذ تعتمدان في األغلب على طروحات السابقين‬
‫تنطلقان من رصد عالئق االتفاق واالختالف بين مصطلحي البالغة والفصاحة‬
‫كأساسين تنضبط بموجبهما تفريعات البحث في النص‪ ،‬وإ ن اختلفت المحاولتان في‬
‫تماسك المنهج‪.‬‬
‫أما أبو هالل العسكري فرغم أن تواتر نقوله عن السابقين وخاصة الجاحظ‬
‫وابن قتيبة وابن طباطبا في ما يتعلق بقضيتنا أساسًا سيوهن من محاولته ويهلهل‬
‫أصالته‪ ،‬فإنه يحاول االجتهاد أو يحاول إحداث نسق من االنسجام بين آراء‬
‫مختلفة‪ ،‬من ذلك موقفه في عرض معاني الفصاحة والبالغة‪ ،‬إذ باإلضافة إلى أنه‬
‫يبوئها الصدارة في توزيع مادة الكتاب‪ ،‬فإنه يبسط الرأي فيهما مما يكشف عن‬
‫محاولته تلمس مخرج يضمن له توليف رأي من مبسوط اآلراء‪.‬‬
‫فهو بداية يحاول عرض المعاني اللغوية لالصطالحين‪ ،‬فبعد التفريع في‬
‫مجاالت إطالق البالغة ومعانيها يحصر داللتها في الكالم باعتبار أنها سميت بالغة‬
‫ألنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه‪ .‬ثم يخلص إلى الفصاحة التي يتمحور‬
‫معناها حول تعبير المتكلم عما في نفسه وإ ظهاره‪ ،‬لينتهي أخيرًا إلى تقرير هذه‬
‫الخالصة وهي أن "الفصاحة والبالغة ترجعان إلى معنى واحد وإ ن اختلف‬
‫أصالهما‪ :‬ألن كل واحد منهما إنما هو اإلبانة عن المعنى واإلظهار له"(‪.)58‬‬
‫ثم يعرض أقواًال لبعض العلماء منها أن "الفصاحة تمام آلة البيان‪ ،‬فلهذا ال‬
‫يجوز أن يسمى اهلل تعالى فصيحًا‪ ،‬ألن الفصاحة تتضمن معنى اآللة وال يجوز‬

‫‪- 94 -‬‬
‫على اهلل تعالى الوصف باآللة‪ ،‬ويوصف كالمه بالفصاحة لما يتضمن من تمام‬
‫البيان‪ .‬والدليل على ذلك أن األلثغ والتمتام ال يسميان فصيحين لنقصان آلتيهما عن‬
‫إقامة الحروف‪ ،‬وقيل‪ :‬زياد األعجم لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف‪ ،‬وكان‬
‫يعّبر عن الحمار بالهمار‪ ،‬فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه‪ ،‬فعلى هذا تكون‬
‫الفصاحة والبالغة مختلفتين‪ ،‬وذلك أن الفصاحة تمام آلة البيان فهي تتعلق باللفظ‪،‬‬
‫ألن اآللة تتعلق باللفظ دون المعنى‪ ،‬والبالغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب‬
‫فكأنها مقصورة على المعنى"(‪.)59‬‬
‫ونسأل هل تؤدي مقابلة الرأيين السابقين إلى استنتاج أن العسكري يجمع بين‬
‫"موقفين متقابلين‪ ،‬موقف تتطابق حسبه داللة المصطلحين ويعتبر ميدان الدراسة‬
‫األسلوبية ميدانًا واحدًا تتفاعل فيه مكونات النص وتتضافر إلبانة المعنى‬
‫وإ ظهاره‪ ،‬وموقف يفصل أصحابه بين المصطلحين ويضيقون مجال الفصاحة إلى‬
‫درجة أنهم اعتبروها صفة للمتكلم ال للكالم وتتحقق في النص المنطوق ال‬
‫المكتوب"؟(‪ .)60‬فإذا كان الموقف األول واضحًا ينسجم مع مقصد العسكري‬
‫الصريح‪ ،‬فإنه يخيل إلينا أن في الموقف الثاني لبسًا وأن االستنتاج قابل للمناقشة‪.‬‬
‫فاعتبار الفصاحة صفة للمتكلم تتحقق في النص المنطوق وليس في المكتوب‬
‫نصف الخالصة المضمنة في النص‪ ،‬وإ ال فكيف ينفي عن اهلل تعالى الوصف‬
‫بالفصاحة لعدم جواز الوصف باآللة عليه سبحانه‪ ،‬ثم يصف كالمه بالفصاحة؟ ثم‬
‫يشخص الرأي بوصف زياد‪ ،‬فهو "أعجم لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف‪،‬‬
‫غير أن شعره فصيح"(‪ ،)61‬أليس الوصف بالفصاحة هنا خاصية في الشعر‬
‫والقرآن معًا؟ ويؤكد الموقف أنه حين يتعلق األمر بالنص المنطوق يستعمل‬
‫اصطالح "اآللة"‪ ،‬أما إذا كان الشأن بالمكتوب فإنه يكتفي بذكر "تمام البيان" دون‬
‫ذكر اآللة‪ .‬ومن هنا وعلى الرغم من إقراره بفصل حقل الفصاحة عن البالغة في‬
‫آخر النص واختصاص الفصاحة باللفظ والبالغة بالمعنى‪ ،‬فإن امتداد معنى‬
‫الفصاحة ليشمل مواصفات في النصين المنطوق والمكتوب معًا‪ ،‬يجعل حضورها‬
‫والبالغة في وصف النص الواحد واردًا‪.‬‬
‫ويقول مواصًال سرد اآلراء‪" :‬فإذا قلت‪ :‬فصح رجل‪ ،‬أفاد ذلك أنه صار إلى‬
‫حال يقيم فيها الحروف ويوفيها حقها‪ .‬وإ ذا قلت‪ :‬بلغ‪ ،‬أفاد ذلك أنه صار إلى حال‬
‫يؤدي فيها المعاني حق تأديتها في صورة مقبولة‪ ،‬ثم صار الفصيح والبليغ صفتين‬
‫لمن جاد لفظة وبان معناه"(‪ )61‬فإذا كان الوصف بالفصاحة يتعلق بتمام آلة‬
‫البيان‪ ،‬فإن البالغة تستحيل تأدية للمعنى في صورة مقبولة‪ .‬وال شك أن اصطالح‬

‫‪- 95 -‬‬
‫الصورة المقبولة يوسع من دائرة اختصاص البالغة بالمعنى فقط لتشتمل المعنى‬
‫والمعرض الحسن الذي يبرز فيه‪ .‬فإذا دققنا في آخر النص نجد إحساسًا بالتطور‬
‫في ضبط العسكري داللة االصطالحين‪ ،‬إذ إن الصيرورة أدت إلى أن يتضام‬
‫الوصفان لتحديد جودة اللفظ ووضوح المعنى‪ ،‬وجودة اللفظ أمر يتعلق بالنص‬
‫غالبًا‪ ،‬فإذا ضممنا هذا الوصف إلى اشتراط الصورة المقبولة في وصف الكالم‬
‫بالبالغة‪ ،‬أصبح باإلمكان االستنتاج أن البالغة تشمل مرًة المعنى وصورته‪،‬‬
‫وتختص مرًة بالمعنى ليكون اللفظ قسيم الفصاحة‪ .‬ويتأكد ذلك في رأيه التالي الذي‬
‫ينم عن اجتهاد في تحديد معاني المصطلحين‪ ،‬يقول‪" :‬وقد يجوز مع هذا أن يسّم ى‬
‫الكالم الواحد فصيحًا بليغًا إذا كان واضح المعنى‪ ،‬سهل اللفظ‪ ،‬جيد السبك‪ ،‬غير‬
‫مستكره فج‪ ،‬وال متكلف وخم"(‪ .)62‬فباإلضافة إلى أن األوصاف المتعلقة بسهولة‬
‫اللفظ وجودة السبك تتحقق في النص المكتوب‪ ،‬يتأكد المنظور الثنائي المؤسس‬
‫على تقابل البالغة بالمعنى والفصاحة باللفظ‪ ،‬إال أن وصول العسكري في العرض‬
‫إلى هذا الحد جعل إمكان االمتداد باصطالح البالغة ليشمل عنصري المعنى‬
‫واللفظ واقعًا يهيئ لهذا الفهم منطلقه المطابق بين مفهومي الفصاحة والبالغة‪ ،‬وما‬
‫أوصله إليه مجرى النقاش من االمتداد بمعنى البالغة ليطول أداء المعنى في‬
‫الصورة المقبولة‪ ،‬لينتهي إلى بلورة الموقف في هذه الصياغة المقررة لما سلف‪:‬‬
‫"البالغة كل ما تبلغ به المعنى قلب السامع فتمّك نه في نفسه كتمّك نه في نفسك مع‬
‫صورة مقبولة ومعرض حسن وإ نما جعلنا حسن المعرض وقبول الصورة شرطًا‬
‫في البالغة‪ ،‬ألن الكالم إذا كانت عباراته رثة ومعرضة خلقًا لم يسم بليغًا‪ ،‬وإ ن‬
‫كان مفهوم المعنى‪ ،‬مكشوف المغزى‪ ،‬فهذا يدل على أن من شروط البالغة أن‬
‫يكون المعنى مفهومًا واللفظ مقبوًال على ما قدمناه"(‪ ،)63‬وهكذا يتأكد شمول‬
‫مصطلح البالغة عنده اللفظ والمعنى وتغليبه في االستعمال على اصطالح‬
‫الفصاحة‪ ،‬إذ وجد أن ال معنى لتوظيف االصطالحين معًا والبالغة تطول‬
‫عنصري الداللة معًا فضًال عن أن مدخله ينبئ بهذه النتيجة على الرغم من أنه‬
‫يفتح استثناًء آخر وهو بصدد استقصاء اآلراء المختلفة في الموضوع‪ ،‬يروي أنه‬
‫شاهد‪" :‬قومًا يذهبون إلى أن الكالم ال يسمى فصيحًا حتى يجمع مع هذه النعوت‬
‫"نعوت الجودة السابقة" فخامة وشدة جزالة‪ ...‬قالوا‪ :‬وإ ذا كان الكالم يجمع نعوت‬
‫الجودة‪ ،‬ولم يكن فيه فخامة وفضل جزالة سمي بليغًا ولم يسم فصيحًا"(‪ ،)64‬وهذا‬
‫الموقف ال يمثل إال هامشًا دفعه إليه داعي االستقصاء‪ ،‬إذ يظل الموقف النهائي‬
‫مجمًال في قوله الجامع وهو "إن البالغة إنما هي إيضاح المعنى وتحسين اللفظ"(‬
‫‪.)65‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫وهذه النتيجة تحيلنا إلى إشكال اللفظ والمعنى أصل القضية‪ ،‬وتمكننا من‬
‫التساؤل عن طبيعة الصلة الجامعة بين المدخل التأسيسي القائم على بحث معاني‬
‫الفصاحة والبالغة‪ ،‬وثنائية اللفظ والمعنى‪ ،‬وهل أن صاحب "الكتاب لم يستطع‬
‫استغالل هذا المدخل استغالًال محكمًا ولم يبن كتابه على أساسه فأجهضت‬
‫المحاولة وانفصلت بقية الفصول عن هذا المدخل‪ ...‬فال هو درس البالغة‬
‫والفصاحة من زاوية متحدة متفاعلة وال استطاع أن يلتزم بالفهم الضيق‪ .‬لذلك‬
‫يشعر القارئ أنه يستأنف كل مرة كالمًا جديدًا ال عالقة له بهذه المسألة‪ .‬ومن‬
‫أحسن األدلة على ذلك دراسته لثنائية اللفظ والمعنى فقد كنا ننتظر أن يربطها‬
‫ببحثه في معنى الفصاحة والبالغة لكنه باشرها كمسألة مستقلة"(‪)66‬؟ فإذا كانت‬
‫الوحدة المنهجية المطلوبة في الكتاب هي قيامه على وحدة الفكرة المنبثة في كامل‬
‫الفصول التي يؤدي عرضها المتنامي إلى إيفاء كل تفرعاتها حقها من البحث‬
‫واالستقصاء‪ ،‬فإن الصناعتين خلو من ذلك‪ .‬وإ ن كان القصد تأكيد انتفاء كل صلة‬
‫بين الفصول وهو ما قد يفهم من الحكم السابق فإن األمر قد يحتاج إلى مراجعة‪،‬‬
‫ذلك أنه ورغم اإلقرار بأن فصول الصناعتين المنزلة في األبواب المشكلة لحجم‬
‫الكتاب مستقل بعضها عن بعض من حيث القضايا المدروسة‪ ،‬فإن خيطًا خفيًا يلحم‬
‫أطروحات العسكري المختلفة يتبدى بوضوح في القناعة الواحدة التي تحكم بحثه‬
‫اللفظ والمعنى ومدخله التأسيسي الضابط لعالئق الفصاحة والبالغة‪.‬‬
‫ولقد أدى استقصاء ما طرح في المدخل إلى اإلقرار بشمول البالغة المعنى‬
‫واللفظ‪ ،‬وأدى إلى تبني هذا الموقف المسار الذي تحقق بمقابلة دالالت‬
‫المصطلحين‪ ،‬إذ بدوا متطابقين لتختص البالغة بالمعنى‪ ،‬والفصاحة باللفظ مع‬
‫انسحابها على شرط التمام في آلة البيان‪ .‬ثم تعود داللة البالغة لتنبسط على‬
‫عنصر اللفظ الذي هو من اختصاص الفصاحة‪ ،‬ويصبح شرط البالغة في الكالم‬
‫متحققًا في وضوح المعنى ووضوح اللفظ‪ ،‬وهذه النتيجة هي التي خولت للعسكري‬
‫االنتقال إلى بحث اللفظ والمعنى باعتبارهما عنصري البالغة الرئيسيين‪،‬‬
‫فإفرادهما بالبحث تفريع للقول في البالغة ذلك أن تقصي المواصفات التي ينبغي‬
‫أن تميز حضورهما بحث في بالغة الكالم عمومًا‪ ،‬هذا من جهة الصلة المنهجية‬
‫بين المبحثين‪ ،‬أما من جهة القناعات التي تحكم منظوره لكل منهما فيكشف عنها‬
‫استقراء رأيه في اللفظ والمعنى‪.‬‬
‫فإذا كان تحقيق البالغة يقوم على إبانة المعنى في صورة مقبولة ذلك "أن‬
‫الكالم إذا كانت عبارته رثة ومعرضة خلقًا لم يسم بليغًا وإ ن كان مفهوم المعنى‪،‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫مكشوف المغزى"(‪ )67‬فإن اشتراطه خصوصيات في اللفظ تتمحور حول الجودة‬
‫والتحسين واكتفاءه غالبًا في وصف المعنى بالتركيز على اإلبانة والوضوح‪ ،‬أمر‬
‫يتمشى مع المنطلق البالغي في بحث الكالم إذ يختص بالتركيز على الوسائل‬
‫األسلوبية‪ ،‬وهذا الرأي يمهد لموقفه مرددًا مقولة الجاحظ‪" :‬وليس الشأن في إيراد‬
‫المعاني ألن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي‪ ،‬وإ نما هو في‬
‫جودة اللفظ وصفائه‪ ،‬وحسنه وبهائه‪ ،‬ونزاهته ونقائه‪ ،‬وكثرة طالوته ومائه‪ ،‬مع‬
‫صحة السبك والتركيب والخلو من أود النظم والتأليف‪ .‬وليس يطلب من المعنى إال‬
‫أن يكون صوابًا‪ ،‬وال يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته‬
‫التي تقدمت"(‪ ،)68‬فهو يشترط في المعنى (اإلصابة)‪ ،‬وهذا أمر يتوافق عنده مع‬
‫الوصف بالوضوح إذ يظالن حاضرين في وصف المعنى‪ ،‬هذا من جهة ومن جهة‬
‫أخرى يبدو الموقف تأكيدًا لرأيه في بالغة الكالم‪ .‬يظهر ذلك في عودته لالنطالق‬
‫من مصطلح البالغة في استمراره التدليل على رأيه السالف‪ ،‬يقول‪" :‬ومن الدليل‬
‫على أن مدار البالغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة‪ ،‬واألشعار الرائقة ما‬
‫عملت إلفهام المعاني فقط ألن الرديء من األلفاظ يقوم مقام الجيدة منها في‬
‫اإلفهام‪ ،‬وإ نما يدل حسن الكالم‪ ،‬وإ حكام صنعته‪ ،‬ورونق ألفاظه‪ ،‬وجودة مطالعه‪،‬‬
‫وحسن مقاطعه‪ ،‬وبديع مباديه‪ ،‬وغريب مبانيه على فضل قائله‪ ،‬وفهم منشئه‪.‬‬
‫وأكثر هذه األوصاف ترجع إلى األلفاظ دون المعاني‪ .‬وتوخي صواب المعنى‬
‫أحسن من توخي هذه األمور في األلفاظ"(‪.)69‬‬
‫يستخلص مما سلف أن العسكري ال يستأنف في بحث اللفظ والمعنى جديدًا‪،‬‬
‫بل يلحمه بتصوره البالغة‪ ،‬وأن مسار بحث العنصرين عنده ال يأخذ هاجس‬
‫التقصي عن أوجه ائتالفهما أو تشاكلهما أساسًا بقدر ما ينبسط في تحديد أوصاف‬
‫كل طرف‪ ،‬يتبدى فيه المعنى خصوصًا في وضع المادة المزينة بالمعرض‬
‫الحسن‪ ،‬والمهم في هذا الموقف الذي وسم فيه بمنتهى الشكالنية(‪ )70‬أنه ال ينسى‬
‫تكرار شروط الصواب في المعنى دون أن يتغافل عن إيالء صورته مقامًا عاليًا‪،‬‬
‫ذلك أن "الكالم إذا كان لفظه حلوًا عذبًا‪ ،‬وسلسًا سهًال‪ ،‬ومعناه وسطًا‪ ،‬دخل في‬
‫جملة الجيد‪ ،‬وجرى مع الرائع النادر"(‪ .)71‬فإذا كان اللفظ الحسن يشفع لوسطية‬
‫المعنى ووسطية المعنى إيذان بتنزل المعنى في مراتب‪ ،‬فإن المعنى إذا كان‬
‫"صوابًا‪ ،‬واللفظ باردًا وفاترًا‪ ،‬والفاتر شر من البارد‪ ،‬كان مستهجنًا ملفوظًا‪،‬‬
‫ومذمومًا مردودًا"(‪ ،)72‬فصواب المعنى بقدر ما يبدو قيمة في المعنى ذاته وهو‬
‫مقياس منطقي في تناول المعاني‪ ،‬ال يشفع لضعف الصورة اللفظية‪ ،‬إال أن ذلك ال‬
‫يعني التقديم المطلق للصورة اللفظية‪ ،‬إذ ما دام االعتبار في اإلخراج الجميل‬
‫‪- 98 -‬‬
‫للمعنى الصواب‪ ،‬فإن ضعف اإلخراج يوهن من بالغة النص مثلما أن سخف‬
‫المعنى يهلهل الكالم الجيد اللفظ ذلك أنه "ال خير فيما أجيد لفظه إذا سخف معناه‪،‬‬
‫وال في غرابة المعنى إال إذا شرف لفظه مع وضوح المغزى‪ ،‬وظهور المقصد"(‬
‫‪ .)73‬وهكذا تتضافر المواقف لتؤدي إلى تأكيد حضور المعنى واللفظ معًا في‬
‫بالغة العسكري‪ ،‬مع اإلقرار باألثر المتبادل بينهما‪ .‬ويكفي إلزاحة وسمه‬
‫بالشكالنية اعتقاده في هذا النص بسقوط الكالم الذي حسن لفظه وسخف معناه‪،‬‬
‫وإ ن ظلت العالئق الرابطة بين العنصرين قائمة على منظور ثنائي يرصد‬
‫أوصاف كل طرف على حدة دون أن يمتنع لديه أن يكون ألوصاف هذا الطرف‬
‫أثر في الطرف اآلخر سلبًا وإ يجابًا‪ ،‬مع اإلشارة أخيرًا إلى أن وصف المعنى‬
‫يستقطبه مبدأ (الصواب) في حين يشترط في اللفظ الحسن والجودة‪.‬‬
‫وتأسيسًا على ما سلف نستعرض موقفه الذي رأى فيه باحثون كثيرون‬
‫تناقضًا مع ما سالف رأيه الذي اقتبس من الجاحظ‪ ،‬يقول‪" :‬إن الكالم ألفاظ تشتمل‬
‫على معان تدل عليها وتعبر عنها‪ ،‬فيحتاج صاحب البالغة إلى إصابة المعنى‬
‫كحاجته إلى تحسين اللفظ‪ ،‬ألن المدار بعد على إصابة المعنى وألن المعاني تحل‬
‫من الكالم محل األبدان واأللفاظ تجري معها مجرى الكسوة‪ ،‬ومرتبة إحداهما على‬
‫األخرى معروفة"(‪ ،)74‬إذ إننا ال نرى في قوله "إن المدار على إصابة المعنى" ما‬
‫يعكر رأيه في "المعاني المطروحة" حتى نسم موقفه بالتناقض من مشكلة اللفظ‬
‫والمعنى(‪ ،)75‬وال نجد أنه في نقده يقدم المعنى‪ ،‬وأنه في أبحاثه النقدية يقرر أن‬
‫مدار البالغة على اللفظ(‪ .)76‬صحيح أن هناك مغاالة يوقع العسكري فيه اعتماده‬
‫في بعض األحيان على النقل التام لنصوص سابقة مما يشوش مسار عرضه‬
‫الفكرة الواحدة‪ ،‬إال أنه في قضيتنا يظل الجوهر المؤسس لرأيه فيها إلحاحه على‬
‫الصواب في المعنى والتحسين في اللفظ‪ ،‬وهما صفتان واردتان في نّص ه السابق‬
‫بصريح اللفظ‪ .‬وإ ذا كان في النص ما يشي بميل إلى تقديم صواب المعنى‪ ،‬أدته‬
‫إليه نيته تأكيد أهميته باإلضافة إلى اللفظ‪ ،‬فإن في بدء النص ما يكشف عن‬
‫حضور الطرفين بالصفات المميزة لكل منهما‪ ،‬وحتى لو فرضنا أن إمكان استنباط‬
‫تقديم المعنى على اللفظ وارد من خالل نصه السابق‪ ،‬فإذا هذا التقديم لم ينبن عليه‬
‫أكثر من اشتراط الصواب في المعنى وهو الوصف نفسه الذي ذكره في نصوصه‬
‫السابقة دون أن يتأسس على رأيه في "المعنى الصائب" إمكان أن يشفع لضعف‬
‫اللفظ‪ ،‬وهو ما يكشف لو حدث عن تراجع في الموقف‪ ،‬بل العكس هو الوارد‪ ،‬إذ‬
‫يواصل بسطه الرأي السالف في الصفحة نفسها من الكتاب بقوله‪" :‬والمعاني على‬
‫ضربين‪ :‬ضرب يبتدعه صاحب الصناعة من غير أن يكون لـه إمام يقتدي به فيه‪،‬‬
‫‪- 99 -‬‬
‫أو رسوم قائمة في أمثلة مماثلة يحمل عليها‪ .‬وهذا الضرب ربما يقع عليه عند‬
‫الخطوب الحادثة‪ ،‬ويتنبه له عند األمور النازلة الطارئة‪ .‬واآلخر ما يحتذيه على‬
‫مثال تقدم ورسم فرط‪ .‬وينبغي أن يطلب اإلصابة في جميع ذلك ويتوخى فيه‬
‫الصورة المقبولة‪ ،‬والعبارة المستحسنة‪ ،‬وال يتكل فيما ابتكره على فضيلة ابتكاره‬
‫إياه‪ ،‬وال يغره ابتداعه لـه‪ ،‬فيساهل نفسه في تهجين صورته‪ ،‬فيذهب حسنه‬
‫ويطمس نوره ويكون فيه أقرب إلى الذم منه إلى الحمد"(‪ .)77‬فليس الوصف‬
‫باالحتذاء واالبتداع بكاف في ضبط خصائص المعنى‪ ،‬إنما تمامه في صوابه‬
‫وتوخي إخراجه في الصورة المقبولة‪ ،‬ولو كان األمر عنده في تقديم المعنى حينًا‬
‫وتأخيره آخر لما أكد في آخر النص السابق ذهاب حسن المعنى المبتكر بتهجين‬
‫صورته‪.‬‬
‫والواقع أن المبدأين الرئيسيين الضابطين اللفظ والمعنى عنده يظالن‬
‫حاضرين في أغلب معالجته لهما‪ .‬فهو يرى في شعر يورده أن معناه "جيد وليس‬
‫لأللفاظ رونق"(‪ ،)78‬ولم ينبن على ذلك تقديم هذا الشعر‪ ،‬ويعلق على شعر‬
‫األصفهاني العلوي بقوله‪" :‬ولست أورد أكثر شعره إال إلصابة معناه دون لفظه‬
‫ألن أكثر لفظه متكلف وجل صنعته فاسد"(‪ ،)79‬ولم يشفع صواب المعنى للعلوي‬
‫أن يتبوأ شعره الصدارة بل يظل في نظر العسكري ضعيفًا‪ .‬وفي مواقف لنقاد‬
‫سابقين كابن قتيبة وابن طباطبا ما كان يتمشى مع رأيه لو كان لفظيًا دومًا‪ ،‬لكنه‬
‫يورد بعض أشعار استشهدوا بها كنماذج من غزليات جرير المشهورة من مثل‬
‫قوله‪" :‬إن العيون التي في طرفها حور"‪ ،‬ويرفض أن يكون هذا الشعر من الذي‬
‫يستحسن لجودة لفظه وليس له كبير معنى بل يجزم بأنه ال يعلم" معنى أجود وال‬
‫أحسن من معنى هذا الشعر"(‪ ،)80‬ذلك أن حضور العنصريين في معالجته النص‬
‫راسخ يؤكده رأيه في أن المراد من الشعر‪" ،‬حسن اللفظ وجودة المعنى"(‪ )81‬ذلك‬
‫أن "سبيل الشعر أن يكون كالمه كالوحي ومعانيه كالسحر مع قربها من الفهم‪.‬‬
‫والذي ال بد لـه منه حسن المعرض ووضوح الغرض"(‪ .)82‬وهكذا يتأسس‬
‫استقصاؤه المعاني في كتابه "ديوان المعاني" على خصائص ما يشترطه في‬
‫األلفاظ والمعاني إذ يقدم بين يدي كتابه بقوله‪" :‬جمعت في هذا الكتاب أبلغ ما جاء‬
‫في كل فن وأبدع ما روي في كل نوع من أعالم المعاني وأعيانها إلى عواديها‬
‫وشذاذها‪ ،‬وتخيرت من ذلك ما كان جيد النظم محكم الرصف غير مهلهل رخو وال‬
‫متجعد فج"(‪.)83‬‬
‫ويبقى موقفه الذي يتأكد فيه جمعه المعنى واللفظ قائمًا بحسب المواصفات‬

‫‪- 100 -‬‬


‫التي حددت‪ ،‬وهو رأيه في صنعة الكالم إذ بالرغم من أنه يعتمد على نصوص‬
‫أوردها الجاحظ لبعض البالغيين‪ ،‬وعلى رأي ابن طباطبا خصوصًا فإن ما أورده‬
‫منها ينسجم مع أطروحاته‪ ،‬يقول‪" :‬إذا أردت أن تصنع كالمًا فأخطر معانيه ببالك‪،‬‬
‫وتنوق له كرائم اللفظ" (‪ ،)84‬ويمكن إلحاق رأيه في السرقات بما سبق إلى أنه ال‬
‫يعدو أن يكون رأيًا مكرورًا(‪.)85‬‬
‫وللعسكري رأي في نظم الكالم عمومًا يؤلف دعمًا لموقفه الداعي إلى توخي‬
‫إيقاع الصورة الحسنة في المعنى‪ ،‬يظهر ذلك في حديثه عن حسن الرصف‬
‫والتأليف‪ ،‬وكمال الصوغ والتركيب(‪ ،)86‬وفي ترداده رأي الجاحظ في القرآن‬
‫وما خصه اهلل به من حسن التأليف وبراعة التركيب(‪ )87‬وفي وصف الشعر‬
‫بالكالم المنسوج وأن حسنه في تالؤم نسجه(‪ ،)88‬وفي اإلشارة إلى التئام الكالم‬
‫عمومًا(‪ ،)89‬ليبسط أشكال تحقيقه في دعوته إلى جعل الكالم "مشتبهًا أولـه بآخره‪،‬‬
‫ومطابقًا هاديه لعجزه‪ ،‬وال تتخالف أطرافه‪ ،‬وال تتنافر أطراره‪ ،‬وتكون الكلمة منه‬
‫موضوعة مع أختها‪ ،‬ومقرونة بلفقها"(‪ )90‬ليشير إلى أن من سوء النظم المعاظلة‬
‫وهي ركوب بعض ألفاظه رقاب بعض(‪ .)91‬ثم لينتهي أخيرًا إلى تخصيص باب‬
‫كامل من كتابه "الصناعتين" للبيان "عن حسن النظم وجودة الرصف والسبك‬
‫وخالف ذلك"(‪.)92‬‬
‫وهو "يستعمل هذه األلفاظ الثالثة مترادفة"(‪ )93‬ثم يزيد معانيها بعض الشرح‬
‫والتحديد يقول‪" :‬وحسن الرصف أن توضع األلفاظ في مواضعها‪ ،‬وتمّك ن في‬
‫أماكنها‪ ،‬وال يستعمل فيها التقديم والتأخير‪ ،‬والحذف والزيادة إال حذفًا ال يفسد‬
‫الكالم‪ ،‬وال يعّم ي المعنى‪ ،‬وتضم كل لفظة منها إلى شكلها‪ ،‬وتضاف إلى لفقها‪،‬‬
‫وسوء الّر صف تقديم ما ينبغي تأخيره منها‪ ،‬وصرفها عن وجوهها‪ ،‬وتغّير‬
‫صيغتها‪ ،‬ومخالفة االستعمال في نظمها"(‪.)94‬‬
‫والحقيقة أن االهتمام بالصورة الحسنة والتحسينات اللفظية المتحققة في‬
‫الكالم لدى العسكري لم ينبن عليه االستهانة بالمعنى‪ ،‬بل ظّل يلح على تطّلب‬
‫الصواب والوضوح فيه‪ ،‬وأن فهم العنصرين بهذا المنحى هو الذي أّلف رأيه في‬
‫البالغة التي تبدو عنده شاملة لهما معًا‪.‬‬
‫وأما لدى ابن سنان الخفاجي فإن اإلشكال يأخذ مدى أكثر التواء وتعقيدًا‪ ،‬إذ‬
‫كان طموحه إلى استغالل النتاج السابق في مجال النقد والبالغة ضمن مجاري‬
‫ضبطها تصوره فعاليات المعنى واللفظ مدعاة إلى التقسيم والتفريع الحتواء المادة‪،‬‬
‫ولو ظلت المسألة خالصة الجتهاد في حدود اللفظ والمعنى التمس له العذر‪ ،‬ولكن‬

‫‪- 101 -‬‬


‫محاولة الزج بالتقسيمات المتفرعة من المبدأين السابقين في إطار من فهم خاص‬
‫لمصطلحي البالغة والفصاحة أوقعه في حرج‪ ،‬مما اضطره إلى تمديد مجال‬
‫المعنيين ليستوعبا محصول التفريعات التي يشملها استقصاء حضور األلفاظ‬
‫والمعاني أفرادًا وتراكيب في الكالم‪.‬‬
‫وإ ذا كان االختالف واردًا مع ابن سنان الخفاجي في فهمه الفصاحة والبالغة‬
‫والفواصل التي تحد مجال كل نوع‪ ،‬فإنه ال بّد من اإلقرار بأن تفريعاته المستقرئة‬
‫للفصاحة والبالغة محكومة بمقدماته ومشدودة إلى أصوله النظرية‪ ،‬وأنه لم يحد‬
‫عن المسار الذي ضبطه في المدخل‪ ،‬وإ ن أوحت التقسيمات إلى باحثين كثيرين‬
‫باالضطراب والقلق(‪.)95‬‬
‫ومن هنا يكون لزامًا البدء بعرض رأيه في قضية العلل األربع أو الخمس إذا‬
‫اعتبرنا اآللة من مشموالتها‪ ،‬التي تؤلف اإلطار النظري العام الذي يحتوي أصول‬
‫آرائه المنظمة لعالئق العنصرين في بنية الكالم‪.‬‬
‫يقوم رأيه في القضية على استغالل كل من قدامة واآلمدي معًا مما أوقع رأيه‬
‫في كثير من التعقيد واللبس‪ .‬يقول فيما يشبه رأي قدامة إن "صناعة التأليف في‬
‫المعنى الفاحش مثل الصناعة في المعنى الجميل‪ ،‬ويطلب في كل واحد منهما‬
‫صحة الغرض وسالمة األلفاظ على حٍّد واحد‪ ،‬وليس لكون المعنى في نفسه فاحشًا‬
‫أو جميًال تأثير في الصناعة"(‪ ،)96‬ولكن الجديد يكمن في استخدامه التأليف بدل‬
‫الصورة كما هو الشأن عند قدامة حيث إن المعاني عنده مادة والّش عر فيها‬
‫كالصورة‪ ،‬وهو ينص على أن الجودة تظل من اختصاص التأليف وحده مشترطًا‬
‫في المعنى أيًا كان صحة الغرض‪ ،‬وهذا يدل على انضباط المعاني لديه في خانة‬
‫المنطق أيضًا‪.‬‬
‫ثم يعود إلى نفس القضية بمزيد من التدقيق ليحيد عن هذا التوجه الذي‬
‫يحتويه نّص ه السابق‪ ،‬فيقول مدققًا هذه األصول ومقابالتها في صناعة الكالم "إن‬
‫الموضوع هو الكالم المؤلف من األصوات‪ ...‬فأما الصانع المؤلف فهو الذي ينظم‬
‫الكالم بعضه مع بعض‪ ...‬وأما الصورة فهي كالفصل للكاتب والبيت للشاعر‪...‬‬
‫وأما اآللة فأقرب ما قيل فيها إنها طبع هذا الناظم‪ ،‬والعلوم التي اكتسبها بعد‬
‫ذلك‪ ...‬وأما الغرض فبحسب الكالم المؤلف فإن كان مدحًا كان الغرض به قوًال‬
‫ينبئ عن عظم حال الممدوح‪ ،‬وإ ن كان هجوًا فبالضد‪ .)97("...‬ولكن ما دام ينص‬
‫صراحة على أن الموضوع هو األلفاظ‪ ،‬فكيف يمكن حمل هذا الرأي على نصه‬
‫األول الذي يرى فيه أيضًا أن "صناعة التأليف تكون في المعاني"؟‬

‫‪- 102 -‬‬


‫إنه يحاول أن يضبط رأيه حين يدفع أن يكون الموضوع في المعاني كما‬
‫ذهب قدامة في "نقد الشعر"‪ ،‬فيرى أنه "يجب أن يقال لـه إذا ذهبت إلى أّن المعاني‬
‫هي الموضوع خّبرنا عن األلفاظ التي أخذها هذا الصانع المؤّلف فأّلفها إذا لم تكن‬
‫عندك موضوعًا لصناعته فما منزلتها من األقسام التي اعتبرها الحكماء في كّل‬
‫صناعة؟ والتأمل قاٍض بصحتها"(‪ ،)98‬وإ ذ يستقيم له التدليل على أن موضوع‬
‫الصناعة لن يكون إال االلفاظ بعد أن يؤكد استحالة أن تكون اآللة أو الصانع أو‬
‫الصورة أو الغرض موضوع الصناعة‪ ،‬يطرح اإلشكال األخير متسائًال‪" :‬فإن قال‬
‫لنا‪ :‬ما تقولون أنتم في المعاني مع أن علقتها أيضًا وكيدة؟؟ قلنا‪ :‬المعاني وتأليف‬
‫األلفاظ هي صناعة هذا الصانع التي أظهرها في الموضوع"(‪ ،)99‬وهذا ال يعكر‬
‫في نظره اختيار أن تكون مادة الصناعة هي األلفاظ‪ ،‬إذ إن الصناعة تتحقق‬
‫بالتأليف الذي يعضده المعنى‪ .‬لكن ما عالقة المعنى المنسجم مع التأليف هنا‬
‫بالمعنى الذي تتجّس د فيه صناعة التأليف نفسها؟ نالحظ أن المعنى في الموقف‬
‫األّو ل منّز ل في إطار قيمي‪ ،‬فلم تكن فحاشته أو جماله لتطول الصنعة إذا كان‬
‫متالئمًا مع الغرض وخلوًا من الخطأ‪ ،‬في حين يتبدى المعنى هنا قسيمًا للتأليف‬
‫الطارئ على الموضوع الذي له فعالية في الصنعة إذ هو شطرها‪ ،‬فالمعنى في‬
‫مستوى التأليف هو أقرب ما يكون إلى الداللة العالقة بنسيجها‪ ،‬والمعنى في‬
‫المستوى اآلخر هو الوجه اآلخر للمعنى المتآلف الذي يمكن أن ينضبط في خانات‬
‫البحث المنطقي‪ ،‬واألخالقي‪ ،‬ويرّتب وفق مواصفات األغراض ويكّيف حسب‬
‫مقتضيات اإلطار االجتماعي عاّم ة‪...‬‬
‫وهكذا إذ يتنزل المعنى في مستويين‪ :‬المستوى العالق بالتأليف والمستوى‬
‫المستقل إن صح الوصف –وليس مرد استقالله إال أنه يكون موضوعًا لفعاليات‬
‫أخرى منطقية وأخالقية وغيرها‪ -‬يتنّز ل موضوع الصنعة أيضًا في مرتبتين‪:‬‬
‫مرتبة األلفاظ‪ ،‬ومرتبة التأليف‪ .‬وما دام كالهما يتعاضدان في فعل الصنعة‬
‫أصبح لزامًا دحض مقولة قدامة القائمة على أن الموضوع الرديء ال يؤثر في‬
‫الصورة الجيدة‪ ،‬واشتراط االنتقاء واالختيار في األلفاظ نفسها‪ ،‬ذلك أن ناظم الكالم‬
‫قادر "على اختيار موضوعه‪ ،‬غير محظور عليه تأليف ما يؤثر منه"‬
‫(‪ ،)100‬ليخلص إلى ضبط العنصرين معًا المؤسسين لحقل الفصاحة بقوله‪:‬‬
‫"الفصاحة عبارة عن حسن التأليف في الموضوع المختار"(‪.)101‬‬
‫وهذه النتيجة تخّو ل لنا إدراك الضوابط التي كانت وراء تصنيفه المواد‬
‫اللفظية والمعنوية التي ستظل مشدودة إلى األصول السابقة حيث سيكون‬

‫‪- 103 -‬‬


‫االستقصاء مرتبًا حسب عالئق هذه المستويات في البنية العامة‪ ،‬إذ يبدأ ببحث‬
‫موضوع الصنعة الذي هو اللفظ المفرد وشروط فصاحته‪ ،‬ففصاحة التأليف‬
‫بشمولها األلفاظ والمعاني في أقسام يمليها تصوره طبيعة العالقة بين العنصرين‪،‬‬
‫ثم يعرض في مرحلة ثالثة المعاني المفردة كما أسماها‪ .‬وها نحن نستحضر‬
‫بإيجاز عناصر كل طرف وصفاته الفنية مرجئين تنزيل هذه األقسام في خانات‬
‫الفصاحة والبالغة إلى حين يكتمل لنا الفهم بتفريعاته المتشعبة لكي نتجّنب اللبس‬
‫الذي يمكن أن يضعنا فيه تحديده حقلي الفصاحة والبالغة مبدئيًا‪.‬‬
‫أما فيما يتعّلق بالصفات التي اشترطها في موضوع الصناعة أو كما أسماه‬
‫بالفصاحة في اللفظة المفردة‪ ،‬فإنها شروط تحّد د كثير منها قبله ودّقق بعده‪ ،‬وقد‬
‫وسع في مجالها حتى شملت صفات ال يمكن أن يتفق على أنها من الميدان الذي‬
‫ذكر وهي إجماًال ثمانية أشياء‪ ،‬نكتفي باإلشارة إليها بإيجاز‪ .‬فاألول أن يكون‬
‫تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج‪ ،‬والثاني أن تجد لتأليف اللفظة في‬
‫السمع حسنًا ومزية على غيرها‪ ،‬وإ ن تساويًا في التأليف من الحروف المتباعدة؛‬
‫والسر في ذلك تأليف مخصوص مع البعد‪ .‬والثالث‪ :‬أن تكون الكلمة – كما قال‬
‫أبو عثمان الجاحظ‪ -‬غير متوّع رة وحشية‪ ،‬والرابع أن تكون الكلمة غير ساقطة‬
‫عامية‪ ،‬كما قال أبو عثمان أيضًا‪ .‬والخامس‪ :‬أن تكون الكلمة جارية على العرف‬
‫العربي الصحيح غير شاذة‪ .‬ويدخل في هذا القسم كل ما ينكره أهل اللغة ويرّد ه‬
‫علماء النحو من التصرف الفاسد في الكلمة‪ .‬والسادس أال تكون الكلمة قد عّبر بها‬
‫عن أمر آخر يكره ذكره‪ ،‬فإذا وردت وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت‪،‬‬
‫وإ ن كملت فيها الصفات التي بّيناها‪ .‬والسابع‪ :‬أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة‬
‫الحروف‪.‬‬
‫والثامن أن تكون الكلمة مصغرة في موضوع عّبر بها فيه عن شيء لطيف‬
‫أو خفّي أو قليل أو ما يجري مجرى ذلك(‪ ...)102‬وهذه المقاييس فضفاضة‬
‫تجاوزت المعهود من شروط الفصاحة في المفرد‪ ،‬وكانت موضع انتقاد قديمًا‬
‫وحديثًا‪ ،‬فإذا كان بعض هذه الشروط متفقًا عليه يقوم على ضوابط لغوية دقيقة فإن‬
‫"بعضها اآلخر إما نسبي يمكن أن يختلف في تقديره الناس –الشرط الثاني‪ -‬أو في‬
‫غير محّله إذ ال دخل للفظ فيه‪ -‬الشرط الثامن‪.)103("-‬‬
‫أما الشروط العالقة بالتأليف فهي أقسام أربعة‪ :‬قسم يشترك مع شروط اللفظة‬
‫المفردة‪ ،‬وقسمان كاألصلين يتفرع منهما شروط عدة تتعلق بلحمة الكلمات في‬
‫السياق على مستويات مختلفة‪ ،‬ورابع يبدو في أشكال من تآلف الوحدات في‬

‫‪- 104 -‬‬


‫السياق أيضًا‪ ،‬إال أن تعلق المعنى فيه باللفظ عبر محور عمودي إن صّح الوصف‪،‬‬
‫هو الذي جعله يخص هذا القسم بوصف "الفصاحة والبالغة"‪.‬‬
‫أما فيما يخص المّتفق مع شروط اللفظة المفردة‪ ،‬فمن أبرزه شرط تأليف‬
‫اللفظة من حروف متباعدة المخارج‪ ،‬وانعدامه في التأليف أقبح "وذلك أن اللفظة‬
‫المفردة ال يستمر فيها من تكرار الحرف الواحد أو تقارب الحرف مثل ما يستمر‬
‫في الكالم المؤلف إذا طال واّتسع"(‪.)104‬‬
‫وإ ذا كان ال عالقة للتأليف بالشرط الثاني والثالث والرابع إال ما يتحقق فيه‬
‫من حسن وقبح تبعًا لما يثيره التواتر والترادف في استعمال هذا الصنف أو ذاك‪،‬‬
‫تمامًا كالشرطين السابع والثامن(‪ ،)105‬فإن للشرطين الخامس والسادس عالقة‬
‫بالتأليف ذلك أن الشرط الخامس ينص على أن تكون الكلمة جارية على العرف‬
‫العربي الصحيح‪ ،‬وال يتم للمتكلم ذلك حتى يضع كل اسم في موضعه ويلفظ به‬
‫على حّد ما يلفظ به أهله‪ ،‬وال يكون ذلك حتى يورد اللفظ في سياق معّين‪ ،‬وبذلك‬
‫يدخل اإلعراب فيه ألن معاني الكالم تتعلق به‪ ،‬وهو الدليل على المقصود منها‪،‬‬
‫وبه يزول اللبس‪ ،‬والجواز فيها(‪ ،)106‬وبهذا التصور يكاد يختص الشرط‬
‫الخامس بالتأليف رغم ما يوحي به إلحاحه على مجاراة العرف الذي يمكن أن‬
‫يشمل الخروج عن القياس في بنية الكلمة أيضًا‪ ،‬خاصة أنه يشير إلى تجنب الشذوذ‬
‫في الكلمة‪ ،‬أو أن تكون اللفظة بعينها غير عربية(‪ .)107‬أما الشرط السادس فال‬
‫يكاد يكون خالصًا إال للتأليف إذ إن استعمال الكلمة في التعبير عن أمر آخر يكره‬
‫ذكره ال يتحقق إال في السياق‪.‬‬
‫ثم ينتقل إلى الشروط الخاصة بالتأليف‪ ،‬فيبسطها في أصلين كبيرين يحتوي‬
‫كل منهما جملة مسائل ينتظمها جوهر االنضواء تحت األصل الواحد‪ ،‬ثم يختمها‬
‫بشروط مشتركة بين الفصاحة والبالغة؛ وهو يعي انضواء هذه الشروط تحت ظل‬
‫هذه األقسام أو األصول الجامعة‪ ،‬حيث يباشرها بقوله‪" :‬إن أحد هذه األصول‬
‫وضع األلفاظ موضعها حقيقة أو مجازًا ال ينكره االستعمال وال يبعد فيه"(‪.)108‬‬
‫وهذا األصل جامع لكثير من المبادئ المتعلقة بمراعاة االنتظام السليم للوحدات في‬
‫التركيب وتنزيلها مواضعها الحقة‪ ،‬وإ ن شمل قضايا في الداللة كاالستعارة‪ ،‬إال أن‬
‫فهم المؤلف لها إذ يقول فيها بالنقل سّو غ له إيرادها في هذا القسم الذي تعّر ض فيه‬
‫إلى التقديم والتأخير‪ ،‬والقلب‪ ،‬وحسن االستعارة‪ ،‬والحشو‪ ،‬ومداخلة الكالم بعضه‬
‫بعضًا أو المعاظلة‪ ،‬وعدم إيراد ألفاظ الّذ م في المدح‪ ،‬وألفاظ المدح في الّذ م‪ ،‬وألفاظ‬
‫المتكلمين والنحويين والمهندسين وألفاظ أهل المهن والعلوم(‪.)109‬‬

‫‪- 105 -‬‬


‫ثم ينتقل إلى األصل الثاني الذي يحدده بقوله‪" :‬ومن شروط الفصاحة المناسبة‬
‫بين اللفظين‪ ،‬وهي على ضربين‪ :‬مناسبة بين اللفظين من طريق الصيغة ومناسبة‬
‫بينهما من طريق المعنى"(‪ ،)110‬وهو مبدأ عام يشكل أشكاًال عّد ة من أنماط‬
‫التناسب الحادثة بين وحدات الكالم في مستوييه الصوتي والمعنوي‪ ،‬ذلك أن كل‬
‫عالقة تضم وحدتين أو أكثر تزيد من بهاء الكالم لما ألشكال التوازن الحادث بين‬
‫وحداته من أثر في إيقاع الكالم وتناسق عناصره‪ ،‬وهو أمر يمتد به ليغطي‬
‫مساحات عامة في البنية كالقافية والوزن‪ .‬وما أورده من هذه األوجه عالقًا‬
‫بالصيغة فهو السجع واالزدواج والقوافي في الشعر التي يراها تجري مجرى‬
‫السجع‪ ،‬ثم التصريع والترصيع‪ ،‬ومنها أيضًا حمل اللفظ على اللفظ في الترتيب‬
‫ليكون ما يرجع إلى المقّد م مقّد مًا وإ لى المؤخر مؤخرًا‪ ،‬ومن المناسبة أيضًا‬
‫التناسب في المقدار‪ ،‬وهذا في الشعر محفوظ بالوزن‪ ،‬ومنه المجانس‪ .‬أما تناسب‬
‫األلفاظ من طريق المعنى فإنه يتم على وجهين‪ :‬أن يكون معنى اللفظتين متقاربًا‪،‬‬
‫أو أحد المعنيين مضادًا لآلخر وهو المطابق‪ ،‬أو قريبًا من المضاد(‪.)111‬‬
‫أما ما عددناه قسمًا رابعًا فهو يذكره تحت وصف‪ :‬شروط الفصاحة‬
‫والبالغة‪ ،‬وهو قضايا خمس هي‪ :‬حسن الكناية(‪ ،)112‬واإليجاز واالختصار‬
‫ويتعّر ض فيه للمساواة والتذييل‪ ،‬ومنه أيضًا وضوح الكالم وظهوره حتى ال‬
‫يحتاج إلى فكر في استخراجه‪ ،‬ثم اإلرداف والتتبيع‪ ،‬وأخيرًا التمثيل(‪.)113‬‬
‫وبهذا ينتهي قسم التأليف بتفرعاته وأقسامه‪ ،‬ليخلص منه إلى القسم الثالث‬
‫المعنون بالكالم في المعاني المفردة وهو يشعر بصعوبة حصر المعاني بقوانين‬
‫تستوعب أقسامها كما ذكر في األلفاظ إذ إن ذلك "ثمرة علم المنطق‪ ،‬ونتيجة‬
‫صناعة الكالم"(‪ ،)114‬ثم ينتهي إلى مقصده في إيفاء معاني صناعة الكالم حقها‬
‫من الحصر والتنبيه على الخطأ باسطًا قبل ذلك مقدمة نظرية في الداللة تحصر‬
‫المعاني في وجودها المتعدد‪ :‬في نفسها‪ ،‬وفي أفهام المتصورين لها‪ ،‬وفي األلفاظ‬
‫التي تدّل عليها‪ ،‬وفي الخط‪ .‬وإ ذا كان وجود المعاني في األلفاظ هو موضوع‬
‫البحث فإنه ليس يتكلم "عليها من حيث وجدت في جميع األلفاظ‪ ،‬بل من حيث توجد‬
‫في األلفاظ المؤّلفة المنظومة على طريقة الشعر والرسائل وما يجري مجراهما‬
‫فقط"(‪.)115‬‬
‫أما حصر هذه األوصاف فيرسلها في قائمة عامة تشمل الصحة في المعاني‬
‫والكمال والمبالغة والتحّر ز مما يوجب الطعن واالستدالل بالتمثيل والتعليل‬
‫وغيرهما‪ ،‬ثم يذكر من ذلك تفصيًال‪ :‬الصحة في التقسيم وتجنب االستحالة‬

‫‪- 106 -‬‬


‫والتناقض‪ ،‬وذلك بجمع المتقابلين من جهة واحدة‪ ،‬ويعرض للفرق بين المستحيل‬
‫والممتنع‪ ،‬والجائز‪ ،‬ثم يعرض لصحة التشبيه‪ ،‬والتشبيه عنده معنى‪ ،‬وصحة‬
‫األوصاف في األغراض‪ ،‬وفيها يعرض لضرورة مالئمة المعاني للغرض‪،‬‬
‫ويتحقق ذلك في النثر أيضًا باحترام المواضعات في الخطاب واالصطالحات‪ ،‬ثم‬
‫يثير إشكال المدح بالحسن والجمال‪ ،‬والّذ م بضدها‪ ،‬ويخالف قدامة في الموضوع‬
‫منضمًا إلى اآلمدي‪ ،‬ثم يعرض لصحة المقابلة في المعاني‪ ،‬وصّح ة النسق والنظم‬
‫ويريد به حسن التخّلص من معنى إلى آخر‪ ،‬وصحة التفسير‪ ،‬وكمال المعنى‪ ،‬ثم‬
‫المبالغة والغلو‪ ،‬والتحّر ز مما يوجب الّطعن‪ ،‬فاالستدالل بالتمثيل والتعليل‪ ،‬دون أن‬
‫ينسى إثارة مشكلة القدماء والمحدثين‪ ،‬ومسائل أخرى كحّد الشعر ووظيفته‬
‫والمفاضلة بينه وبين النثر(‪...)116‬‬
‫وقد اضطرنا إلى هذا العرض الطويل مقصد التدليل على أن األقسام التي‬
‫خضع لها الكالم عند الخفاجي قائمة على أساس من التصّو ر النظري متنزلة في‬
‫إطارها منه ومحكومة بفهم للفصاحة والبالغة ال يتسنى إدراكه إال بعد الوعي‬
‫بالفواصل الحاسمة بين هذه األقسام‪.‬‬
‫وتأسيسًا على ما سلف يمكننا إدراك قوله مفرقًا بين الفصاحة والبالغة "إن‬
‫الفصاحة مقصورة على وصف األلفاظ‪ ،‬والبالغة ال تكون إال وصفًا لأللفاظ مع‬
‫المعاني‪ ،‬ال يقال في كلمة واحدة ال تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة‪ ،‬وإ ن قيل‬
‫فيها فصيحة‪ ،‬وكل كالم بليغ فصيح‪ ،‬وليس كل فصيح بليغ‪ ،‬كالذي يقع فيه‬
‫اإلسهاب في غير موضعه"(‪ .)117‬فقصره الفصاحة على األلفاظ ال يعني بها‬
‫األلفاظ المفردة إذ خاتمة النص تؤكد ذلك‪ ،‬فالكالم المسهب في غير موضعه‬
‫فصيح وليس بليغًا‪ ،‬فهي شاملة لأللفاظ المفردة والمركبة‪ ،‬يؤكد ذلك اعتباره ما‬
‫تعّر ض لـه في قسم األلفاظ المؤّلفة منضويًا تحت األلفاظ عمومًا(‪ ،)118‬من هنا‬
‫يحصر الفصاحة في موضع آخر في التأليف فقط‪ ،‬ذلك أن الّز بدة في العلوم األدبية‬
‫والّنكتة "نظم الكالم على اختالف تأليفه‪ ،‬ونقده ومعرفة ما يختار منه مما يكره‪،‬‬
‫وكال األمرين متعّلق بالفصاحة‪ ،‬بل هو مقصور على المعرفة بها"(‪.)119‬‬
‫فالفصاحة إذًا شاملة لأللفاظ المفردة والمؤلفة‪ ،‬وهو ما أسماه صريحًا في‬
‫األقسام السابقة بشروط الفصاحة‪ .‬وال تناقض عنده في قصرها مرة على األلفاظ‬
‫ومرة أخرى على التأليف كما هو صريح في النصين السابقين‪ ،‬وهذا يؤدي به إلى‬
‫االستغناء بأحد الطرفين في وصفها‪ .‬يظهر ذلك في نّص ه اآلتي الذي يورده عقب‬
‫سرده شروط الفصاحة في األلفاظ المركبة‪ .‬يقول‪" :‬فهذا منتهى ما نقوله في‬

‫‪- 107 -‬‬


‫األلفاظ بانفرادها واشتراكها في المعاني‪ ،‬ومن وقف عليه عرف حقيقة الفصاحة‬
‫ومائيتها‪ ،‬وعلم أسرارها وعللها‪ ،‬فأما الكالم على المعاني بانفرادها‪ ،‬فقد قدمنا‬
‫القول بأن البالغة عبارة عن حسن األلفاظ والمعاني‪ ،‬وأن كل كالم بليغ ال بّد من‬
‫أن يكون فصيحًا‪ ،‬وليس كل فصيح بليغًا‪ ،‬إذ كانت البالغة تشتمل على الفصاحة‬
‫وزيادة‪ ،‬لتعلق البالغة مع األلفاظ بالمعاني"(‪ ،)120‬فكيف تسع الفصاحة األلفاظ‬
‫بانفرادها وأيضًا باشتراكها مع المعاني‪ ،‬واشتراك األلفاظ مع المعاني حقل من‬
‫حقول البالغة بصريح قوله؟‬
‫والمسألة متماشية مع ما أورده من أقسام‪ .‬فكما رأينا فإن اصطالح "األلفاظ‬
‫بانفرادها" يشمل صفات المفرد‪ ،‬والمؤلف بأقسامه الثالثة األولى التي عرضناها‪،‬‬
‫َّل‬
‫أما اشتراك األلفاظ مع المعاني فهو متعلق بالقسم الرابع من المؤ ف الذي َعْن وَن‬
‫قضاياه بشروط الفصاحة والبالغة‪ .‬من هنا رأى لزامًا لكمال العلم بالفصاحة‬
‫إضافة هذا الركن الرابع في التعريف ليتسنى لها شمول المفرد والمركب المتآلف‪،‬‬
‫والمشترك بالمعنى‪ ،‬وهذا األخير نفسه من حقول البالغة أيضًا فهو شركة بين‬
‫اثنين‪ ،‬مع اختصاص البالغة بالمعاني مفردة‪.‬‬
‫ومما يؤّك د هذا المنحى باإلضافة إلى تطابقه مع األقسام التي عرضنا لها‬
‫قصره البالغة على األلفاظ والمعاني معًا‪ ،‬ثم اعتباره أيضًا المعاني المفردة من‬
‫اختصاصها‪ ،‬فكيف تكون المعاني مفردة؟ نستوضح ذلك من إيراد بقية الّنص "فإذا‬
‫كان قد مضى الكالم في األلفاظ على االنفراد واالشتراك‪ ،‬فلنذكر اآلن الكالم على‬
‫المعاني مفردة من األلفاظ ليكون هذا الكتاب كافيًا في العلم بحقيقة البالغة‬
‫والفصاحة‪ ،‬فإّنهما وإ ن تمّيزا من الوجه الذي ذكرته فهما عند أكثر الناس شيء‬
‫واحد‪ ،‬وال يكاد يفرق بينهما إال القليل"(‪ .)121‬لقد رأينا في ذكره المعاني مفردة‬
‫من األلفاظ أن األمر يتعّلق بقسم من المعاني العامة عكس ما قد يوهم به اصطالح‬
‫"مفردة"‪ ،‬وإ نما قصده المعاني خلوًا من بحث اللفظ تمامًا كاصطالح األلفاظ على‬
‫االنفراد‪ ،‬ليست المفردة فقط‪ ،‬بل تشمل المفرد‪ ،‬والمركب بأقسامه األربعة الخالص‬
‫منها والمشترك‪ .‬فالفصاحة إذًا تشمل المفرد والمؤلف‪ ،‬والبالغة تتعلق بالمعاني‬
‫المفردة‪ ،‬ويشتركان في قسم ذكر مسائله تحت عنوان "شروط الفصاحة والبالغة"‬
‫وهي الكناية واإليجاز والتتبيع والتمثيل ووضوح العبارة عن المعنى‪ ،‬ويسميه‬
‫أيضًا المشترك أو ما تشترك فيه األلفاظ والمعاني‪ .‬وهذا التداخل بين حقلي البالغة‬
‫والفصاحة في األلفاظ المؤلفة هو الذي يجعل التمييز بينهما صعبًا باستثناء جوهر‬
‫الفرق بينهما الكامن في اختصاص البالغة بالمعاني المفردة‪ ،‬ذلك أنه "إذا كانت‬

‫‪- 108 -‬‬


‫الفصاحة شطرها وأحد جزئيها‪ ،‬فكالمي على المقصود –وهو الفصاحة‪ -‬غير‬
‫متمّيز إال في الموضع الذي يجب بيانه من الفرق بينهما على ما قدمت ذكره‪ .‬فأما‬
‫ما سوى ذلك فعام ال يختص‪ ،‬وخليط ال ينقسم"(‪ .)122‬والسر في كونه عامًا ال‬
‫يختص وخليطًا ال ينقسم هو انضواؤه كّله في قسم األلفاظ المؤّلفة‪ ،‬فال يمكنه فصل‬
‫مجاالته المشتركة بإفراد ما يخص البالغة عن خاص الفصاحة‪.‬‬
‫وهكذا نجد تعريفات الخفاجي بالرغم من االعتراف بتعقيدها تتماشى‬
‫باعتبارها حدودًا حاصرة لمجاالت فعالياتها مع أصلها النظري العام المتمثل في‬
‫قضية العلل ومقابلها من عناصر الكالم‪ ،‬وتتناسق هذه المنطلقات النظرية مع‬
‫التفريعات الجامعة للمسائل التفصيلية‪.‬‬
‫ونحسب أن هذا الفهم هو الذي أوصلنا إلى التنسيق بين مختلف آرائه وإ لى‬
‫إزالة ما يمكن أن يكون مدعاة لوسمه بالتناقض أو التضارب‪ ،‬كما هو الحال في‬
‫مثل هذا الموقف الذي ينطلق من رأي ابن سنان في نصه الذي جمع فيه خالصة‬
‫بحثه األلفاظ المؤّلفة بقسميها اللفظي الخاص والمشترك مع المعاني‪ ،‬فيرى أنه‬
‫بمقارنة هذا "بالفقرة التي ذكر فيها الفرق بين الفصاحة والبالغة حيث يقول‪:‬‬
‫"والبالغة ال تكون إال وصفًا لأللفاظ مع المعاني"‪ .‬نستنتج أن ما ذكر في شروط‬
‫التأليف هو من مجال البالغة؛ لكن المؤلف يضيف بعد ذلك مباشرة ما يصد عن‬
‫الفهم" ومن وقف على هذا عرف حقيقة الفصاحة ومائيتها" ثم يضيف ما يفهم منه‬
‫أن البالغة ال تتم إال بالقسم المتبّقي من الكتاب وهو الكالم (على المعاني مفردة من‬
‫األلفاظ) بغية أن يكون الكتاب (كافيًا في العلم بحقيقة البالغة والفصاحة)‪ .‬ويختم‬
‫الفقرة بشيء من التراجع واالحتراز فيقرر أنهما عند أكثر الناس شيء واحد"(‬
‫‪ .)123‬والواقع أن كل اإلشكال يثيره حديثه عن القسم المشترك المؤّلف من‬
‫األلفاظ والمعاني الذي هو حّد عام وخليط بين البالغة والفصاحة‪ ،‬وبجالئه يزول‬
‫االلتباس والتضارب ويتحدد لكل من الفصاحة والبالغة مجاله‪ ،‬مع اإلقرار بتداخل‬
‫اختصاصهما‪ .‬واإلشكال نفسه يدعو الباحث إلى تكرار مؤاخذته الخفاجي بما‬
‫اعتبره تذبذبًا‪ ،‬إذ يرى أن "الناظر في القسم المخّص ص لشروط التأليف يالحظ هذا‬
‫التذبذب على مستوى العبارة‪.‬‬
‫فكثير من الشروط بدأها بقوله‪( :‬ومن شروط الفصاحة والبالغة) بينما‬
‫المفروض أن تكون لشروط الفصاحة بالتأليف"(‪ .)124‬علمًا بأن الخفاجي نّز ل‬
‫تلك الشروط في خانة المشترك بين الفصاحة والبالغة عن وعي‪ ،‬تماشيًا مع أسسه‬
‫النظرية كما شرحنا ذلك في التعريفات‪ .‬ولعل ذكره هذه المسائل المشتركة في‬

‫‪- 109 -‬‬


‫آخر شروط األلفاظ المؤلفة‪ ،‬باستثناء الكناية‪ ،‬دليل منهجي آخر على إحساسه‬
‫بتمّيزها عن باقي قضايا التأليف‪.‬‬
‫ولكن ما هو األساس الخفي الذي جعل الخفاجي ينحو في التقسيم هذا المنحى؟‬
‫وهل لذلك صلة بفكرته عن اللفظ والمعنى؟ نحسب أن رأيًا في اللفظ والمعنى هو‬
‫الذي كان خلف هذا التقسيم‪ ،‬فقد واجهته وهو يبحث عالئق المعنى باللفظ في‬
‫النص مسألة الداللة وكيفية تحققها‪.‬‬
‫فحضور األلفاظ المفردة بالمواصفات التي ذكرها في النص تحيل البسائط‬
‫مركبات‪ ،‬حيث إن المستويات التي الحظها في المفردة الواحدة تعود لتتضخم في‬
‫النص‪ ،‬صوتيًا كما لحظه في أشكال التناسب الصوتي البحت بما فيه الوزن‬
‫والقافية‪ ،‬وتركيبيًا كما أبداه استقصاؤه ألنماط التالحم بين الوحدات في التركيب‪،‬‬
‫وكذا دالليًا‪ ،‬كما يظهر عميقًا في أشكال التعبير غير المباشر عن المعنى في التتبيع‬
‫والتمثيل والكناية وغيرها‪ .‬وتالحم هذه المستويات يزداد في تصوره رسوخًا‬
‫بموجب إقراره بأن "المعاني وتأليف األلفاظ هي صناعة هذا الصانع التي أظهرها‬
‫في الموضوع"(‪ .)125‬وإ ذا كان المعنى في المستوى المتآلف ينضوي في بنية‬
‫يمكن فّك مغالقها باالعتماد عليها ذاتها وبحث عالئق الوحدات ألفاظًا ومعاني في‬
‫إطارها‪ ،‬فإن للمعنى وجهًا آخر تستلزم مقاربته تنزيله في إطاره العام من بنية‬
‫المجتمع باالستناد إلى أساس من العقل‪ ،‬ذلك أن المنظور الوظيفي خاضع‬
‫لمقتضيات الشروط االجتماعية‪ ،‬وقوانين التصوير الشعري للواقعة أو "الحقيقة"‬
‫محكومة بجوهر منطقي ومشدودة في اآلن نفسه إلى نوع أدبي‪ .‬ويتأكد رسوخ هذا‬
‫المنطلق لدى الخفاجي المتمثل في فهم صالت المعاني باأللفاظ في النص اعتباره‬
‫األلفاظ وسيلة للمعاني‪ ،‬ذلك "أن األلفاظ غير مقصودة في أنفسها‪ ،‬وإ نما المقصود‬
‫هو المعاني واألغراض التي احتيج إلى‬
‫العبارة عنها بالكالم‪ ،‬فصار اللفظ بمنزلة الطريق إلى المعاني التي هي مقصودة"(‬
‫‪.)126‬‬
‫فلو بقي التصور قائمًا على رأي في اللفظ والمعنى تأّس س عليه الكتاب كله‬
‫لوجد التبرير واالستساغة‪ ،‬لكنه أبى إّال أن يزّج بالتركيبة كلها في قناتي الفصاحة‬
‫والبالغة‪ ،‬فأوقعه هذا التوجه في الحرج‪ ،‬هذا إذا انطلقنا من المعهود الشائع عن‬
‫دالالت الفصاحة والبالغة‪ ،‬أما إذا اعتمدنا منهجًا وصفيًا نستقرئ فيه الموجود‬
‫بربطه بمنطلقاته التأسيسية‪ ،‬فاالنسجام وارد بين المنطلقات والتقسيمات كما رأينا‪.‬‬
‫لكنه قصد حشر تفريعاته في قناتي الفصاحة والبالغة معًا فاضطر إلى‬

‫‪- 110 -‬‬


‫الفصل بين هذه األقسام‪ .‬وإ ذا كان قد سهل عليه تقسيم األلفاظ المفردة والمعاني‬
‫المفردة بين الفصاحة والبالغة بسهولة‪ ،‬فإن اإلشكال كامن في األلفاظ المرّك بة‪ ،‬إذ‬
‫هي تشمل المعنى واللفظ‪ ،‬فوضعها في خانة الفصاحة تجاوز‪ ،‬واعتبارها بالغة‬
‫معناه حصر للفصاحة في المفرد‪ .‬من هنا عمد إلى تقسيمها بينهما‪ ،‬ولكن ما‬
‫األساس الذي يقوم عليه الفصل ما دام يمتنع لديه اعتبار حقل األلفاظ المركبة كله‬
‫شركة بين االثنين‪ ،‬ولو كان كذلك لذكر كل قضاياه تحت عنوان شروط الفصاحة‬
‫والبالغة معًا؟ نحسب أنه شقي قبل أن يصل إلى الحل الذي توخاه في الفصل بين‬
‫المتآلف من األلفاظ باعتماد أساس خفي غير حاسم‪ ،‬فما دامت الفصاحة تتعلق‬
‫باللفظ‪ ،‬فإن القسم من األلفاظ المركبة الذي يكون من اختصاصها يجب أن يتمّيز‬
‫بخواص لفظية بّينة‪ ،‬فوجد ذلك أوًال في المشترك بين صفات المفرد والمركب‪ ،‬ثم‬
‫اكتشف أن قضايا التركيب من مثل مباحث المعاظلة والتقديم والتأخير والقلب‬
‫ومثيالتها مما رأيناه سابقًا‪ ،‬أقرب إلى االرتباط باللفظ إذ صلته حميمة بمسائل‬
‫السبك والنسج والنظم وهو يتحّقق عمومًا في أنماط التالحم بين الوحدات في‬
‫السياق‪ ،‬فنّز له في خانة الفصاحة‪ ،‬وألحق به وهذا تأكيد للسابق‪ ،‬مسائل التناسب‬
‫الصوتي من سجع وجناس وازدواج‪ ،‬وبرر له هذا التوجه جعل الوزن والقافية‬
‫منه‪ ،‬ومسائل التناسب تطول الوحدات معنويًا أيضًا‪ ،‬ومن هنا اعتبر من تناسب‬
‫األلفاظ معنويًا الطباق وتقارب األلفاظ في المعنى ما داما يقعان ضمن عالئق‬
‫الوحدات توزيعيًا وإ ن تعلقا بمعانيها‪ ،‬فرأى أن ضمهما إلى أوجه التناسب ممكن‪،‬‬
‫وبهذا الحصر أنهى تركة الفصاحة‪ .‬والباقي من الشروط المشتركة التي تدخل في‬
‫مسائل الداللة شركة بين االثنين‪ ،‬فهي من جهة كونها من شروط التركيب‬
‫فصاحة‪ ،‬ومن جهة صلتها العميقة بالمعنى بالغة‪ .‬وبذلك اعتبر الخفاجي عمله‬
‫مسحًا للحقلين معًا مع مقتضيات الفصل بينهما علمًا بأن الفصاحة شطر من‬
‫البالغة إذ البالغة تشملها وزيادة‪.‬‬
‫فالسبب الجوهري الذي أوصله إلى هذه النتيجة –كما بدا لنا‪ -‬هو رأي في‬
‫المعنى واللفظ ومعالجة لعناصر النص أراد لها أن تزج في اصطالح الفصاحة‬
‫والبالغة فتعسف القسمة‪ .‬ولم يوّس ع من مفهوم الفصاحة فقط لتنضوي تحتها‬
‫"الوجوه البالغية بمختلف أقسامها‪ :‬التركيب والداللة والمحاسن بحكم أن اللغة‬
‫حقيقة كانت أو مجازًا‪ ،‬كناية أو تصريحًا موضوعة لإلبانة عن المقاصد"(‪،)127‬‬
‫ما دام يفهم الفصاحة بمعنى اإلبانة واإلظهار‪ ،‬وإ ّنما وّس ع من مفهوم البالغة أيضًا‪،‬‬
‫وإ ال فما عالقة البالغة بالغلو وبحث المعاني المالئمة لألغراض والتعرض‬
‫لالستحالة والتناقض وما أشبهها؟ مع التذكير أيضًا بأن كل مسائل الفصاحة هي‬
‫‪- 111 -‬‬
‫شطر من البالغة‪.‬‬
‫فهذا هو المسّو غ الذي جعل الخفاجي يوزع قضايا اللفظ والمعنى هذا‬
‫التوزيع‪ ،‬ونحسب أنه اجتهاد دفعته إليه رغبته في التفرد وتأكيد إدعائه السبق إلى‬
‫ذلك‪ ،‬كما ذكر ذلك صريحًا في تعرضه لشروط الفصاحة في اللفظة المفردة(‬
‫‪ ،)128‬علمًا بأن أصح ما أورده في المسألة معروف وباقيه ال عالقة له بموضعه‪.‬‬
‫ثم دفعه هذا الموقف إلى حشد كل مسائل الفصاحة والبالغة والنقد تحت عنوان‬
‫مقصود "سر الفصاحة"‪ ،‬إذ العنوان يخفي إشكاًال آخر ذلك أنه يفهم منه أن محتوى‬
‫الكتاب في الفصاحة‪ ،‬وهي نفسها جزء من المتن‪.‬‬
‫ومع اإلقرار أخيرًا بأن أثر قدامة بن جعفر في مؤلف الخفاجي باد في‬
‫مواضع شتى(‪ ،)129‬إال أّنه تأّثر مسالك غيره أيضًا‪ ،‬فهو يستفيد من اآلمدي في‬
‫فهم قضية العلل والمدح بصفات الجمال والحسن فيخالف في ذلك قدامة‪ .‬ويفيد من‬
‫مباحث الجاحظ في الفصاحة‪ ،‬ثم إن أغلب ما أورده معروف في كتب البالغة‬
‫والنقد‪ ،‬وتداوله النقاد بعد قدامة‪ ،‬ومن هنا يكون البناء الذي أخضع لـه مادة كتابه‬
‫متماشيًا مع منطلقاته ودقائق أسسه‪ ،‬وإ ن كان الجزم باضطرابه واردًا إذا قابلناه‬
‫بالمعهود من مباحث الفصاحة والبالغة‪ ،‬إال أنه يظل محكومًا بمنطق خفي ساد كل‬
‫فصول الكتاب‪ ،‬وإ ذا كان باإلمكان قبول الرأي في "أنه أراد بناء كتاب على نسق‬
‫"نقد الشعر" واإلحاطة بكل القضايا التي تضمنها"(‪ ،)130‬فإننا نتحفظ إزاء وسم‬
‫مؤلفه بخلل المنهج مطلقًا‪ ،‬فقد اعتمد شكًال من أشكال التخطيط الذي خضعت له‬
‫المادة في الكتاب‪ ،‬ولم يضطره تقليد قدامة والقسمة الثنائية التي بنى عليها الكتاب"‬
‫إلى حشد المسائل التي كانت موزعة على أبواب عديدة (عند قدامة) في قسم‬
‫األلفاظ المؤلفة بال تمييز‪ .‬فجعل المجانس والمطابق مع المساواة واإلشارة‪ ،‬مثًال‪،‬‬
‫صفات للفظ‪ ،‬بينما هي عند قدامة إّم ا من نعوت المعاني –المجانس والمطابق‪-‬‬
‫وأما من نعوت ائتالف اللفظ والمعنى –المساواة واإلشارة‪)131("-‬؛ والحق أنه‬
‫ميز –كما رأينا‪ -‬بين هذه المسائل‪ ،‬فنّز ل المجانس والمطابق في قسم التناسب‬
‫اللفظي والمعنوي من قسم األلفاظ المؤلفة الخاصة بالفصاحة‪ ،‬في حين عّد المساواة‬
‫واإلشارة من مشترك الفصاحة والبالغة‪ ،‬علمًا بأن قدامة اعتبر هذه األشياء كلها‬
‫من نعوت ائتالف اللفظ والمعنى‪ ،‬إال إذا كان الباحث يقصد بالمطابق التكافؤ عند‬
‫قدامة‪ ،‬وهو يعادل الطباق عند البالغيين‪ ،‬علمًا بأن قدامة استعمل المطابق يريد به‬
‫الجناس المعروف(‪.)132‬‬
‫وأخيرًا يمكننا القول بأن مؤلف الخفاجي قد أماله رأي في اللفظ والمعنى‪،‬‬

‫‪- 112 -‬‬


‫وهذا الرأي لم يؤده إلى التعسف في بحث العالئق الرابطة بين العنصرين‪ ،‬بل‬
‫يمكن اعتبار محاولته إقرارًا بترابطهما وحضورهما معًا في القول البليغ‪ ،‬ورأيه‬
‫في األمر صريح‪ ،‬ويكفي للتدليل عليه قوله إن "المعاني وتأليف األلفاظ هي‬
‫صناعة هذا الصانع التي أظهرها في الموضوع"(‪.)133‬‬
‫ائتالف اللفظ والمعنى‬
‫عند نقاد القرن الخامس الهجري‬
‫من نقاد القرن الخامس الهجري الذين نتوقف عندهم والذين أولوا قضية اللفظ‬
‫والمعنى أهمية‪ :‬المرزوقي والشريف المرتضى وابن رشيق‪ ،‬ومع اإلقرار بأن‬
‫بعضهم بلور مبادئ سابقة وأخرجها في إطار نظري شامل كنظرية عمود الشعر‬
‫العربي لدى المرزوقي‪ ،‬فإن في قضيتنا ال نكاد نجد جديدًا عند هؤالء باستثناء‬
‫تفريعات تدّلل على أصول سابقة لم تكن في منجاة من بعض االضطراب أيضًا‪.‬‬
‫وأغلب نقاد هذا القرن "يميلون إلى التوفيق بين اللفظ والمعنى"(‪ ،)134‬غير‬
‫أن أشكال هذا التوفيق تساير منطلقات كل ناقد وتلتحم بأصوله‪ .‬فالمرزوقي يقابل‬
‫بين كل من األلفاظ والمعاني واألوعية واألمتعة(‪ ،)135‬ذلك أن من مبادئ عمود‬
‫الشعر عنده تحقيق المشاكلة بين اللفظ والمعنى‪ ،‬والتحام أجزاء النظم والتئامها(‬
‫‪ ،)136‬في حين يستقطب هذه المشاكلة موقفان‪ :‬موقف طالب المعاني‪ ،‬وموقف‬
‫أرباب األلفاظ(‪.)137‬‬
‫وتبدو صياغة الكالم لدى أصحاب األلفاظ مراتب يستقيم لكل مرتبة درجة من‬
‫الّتشكيل الفني حسب خواّص فنّية في هذا الّتشكيل نفسه‪" :‬فمن البلغاء من يقول‪ :‬فقر‬
‫األلفاظ وغررها‪ ،‬كجواهر العقود ودررها‪ ،‬فإذا وسم أغفالها بتحسين نظومها وحلي‬
‫أعطالها بتركيب شذورها‪ ،‬فراق مسموعها ومضبوطها وزان مفهومها ومحفوظها‬
‫وجاء ما حرر منها مصفى من كدر العي والخطل‪ ،‬مقومًا من أود اللحن والخطأ‪،‬‬
‫سالمًا من جنف التأليف‪ ،‬موزونًا بميزان الصواب‪ ،‬يموج في حواشيه رونق الصفاء‬
‫لفظًا وتركيبًا‪ ،‬قبله الفهم والتّذ به السمع"(‪ ،)138‬والتركيز في هذه المرتبة يكون‬
‫على التركيب الذي يضيف إلى الوحدات حسنًا بضمها إلى غيرها مع اإللحاح على‬
‫تجنب الخطأ واللحن‪ .‬أما في المرتبة الثانية فيقوم النص على االنتقاء الدقيق في‬
‫اختيار الدال المطابق لمدلوله‪ ،‬وتحقيق قدر أعلى من تناسب أقسام النص في مراتبه‬
‫المختلفة‪ ،‬ويكون ذلك بتتميم "المقطع‪ ،‬وتلطيف المطلع‪ ،‬وعطف األواخر على‬
‫األوائل‪ ،‬وداللة الموارد على المصادر‪ ،‬وتناسب الفصول والوصول‪ ،‬وتعادل‬
‫األقسام واألوزان‪ ،‬والكشف عن قناع المعنى بلفظ هو في االختيار أولى‪ ،‬حتى‬

‫‪- 113 -‬‬


‫يطابق المعنى اللفظ‪ ،‬ويسابق فيه الفهم السمع"(‪ ،)139‬لينتهي األمر في آخر مرتبة‬
‫إلى إثقال النص بأشكال "من الترصيع والتسجيع‪ ،‬والتطبيق والتجنيس‪ ،‬وعكس البناء‬
‫في النظم‪ ،‬وتوشيح العبارة بألفاظ مستعارة‪ ،‬إلى وجوه أَخ ْر تنطق بها الكتب المؤلفة‬
‫في البديع"(‪.)140‬‬
‫وتتكاثف مستويات الصياغة بشكل الفت في المرتبتين السابقتين خاصة‪ ،‬مما‬
‫يجعل خصائص النص األسلوبية في النص مرتّد ة إلى نفسها –إن صح الوصف‪-‬‬
‫في أشكال من البناء المرّك ز على تناسق األصوات والتركيب‪ .‬أما قصد أصحاب‬
‫المعاني فيتجسد في تحقيق قدر أعلى من التأمل لدى المتلقي إذ "طلبوا المعاني‬
‫المعجبة من خواص أماكنها‪ ،‬وانتزعوها جزلة عذبة حكيمة ظريفة أو رائقة بارعة‬
‫وجعلوا رسومها أن تكون قريبة التشبيه‪ ،‬الئقة االستعارة‪ ،‬صادقة األوصاف‪،‬‬
‫الئحة األوضاح‪ ...‬مستوفية لحظوظها عند االستهام من أبواب التصريح‬
‫والتعريض واإلطناب والتقصير‪ ،‬والجد والهزل‪ ...‬مبتسمة من مثاني األلفاظ عند‬
‫االستشفاف‪ ،‬محتجبة في غموض الصيان‪ ،‬لدى االمتهان"(‪.)141‬‬
‫ويتلخص الموقف العام في ضرورة تحقيق التشاكل والتوافق بين األلفاظ‬
‫والمعاني(‪ )142‬حيث تكون دالئل ذلك "حسن التباس بعضها ببعض‪ ،‬ال جفاء في‬
‫خاللها وال نبو‪ ،‬وال زيادة فيها وال قصور‪ ،‬وكان اللفظ مقسومًا على رتب‬
‫المعاني‪ :‬قد جعل األخص لألخص‪ ،‬واألخس لألخس‪ ،‬فهو البريء من العيب"(‬
‫‪ .)143‬ودعوة االئتالف هذه ال جديد فيها‪ ،‬فأصولها تعود إلى الجاحظ‪ ،‬تمامًا‬
‫كموقف المرزوقي مما أسماه بالتحام أجزاء النظم والتئامه المتوّلد من انسجام‬
‫الفصول واألبنية إذ يقوم على استغالل أصول قديمة كمفهوم "القران" الجاحظي‬
‫وشواهده الشعرية أيضًا(‪.)144‬‬
‫وللمرزوقي رأي في بنية النص الشعري أدته إليه مقارنته بين النثر والشعر‬
‫وتحّس سه خواص الشعر الّش كلية القائمة على الوزن والقافية ووحدة البيت الذي‬
‫ينتج عنه حصر المعنى الشعري في حدود المدى الذي يسع بنيته‪ ،‬مما مّك نه من‬
‫الوعي بتالزم خاصيتي التكثيف والغموض في الشعر "لذلك وجب أن يكون‬
‫الفضل في أكثر األحوال في المعنى‪ ،‬وأن يبلغ الشاعر في تلطيفه‪ ،‬واألخذ من‬
‫حواشيه‪ ،‬حتى يتسع اللفظ لـه‪ ،‬فيؤديه على غموضه وخفائه‪ ،‬حدًا يصير المدرك لـه‬
‫والمشرف عليه‪ ،‬كالفائز بذخيرة أغتنمها‪ ،‬والظافر بدفينة استخرجها"(‪.)145‬‬
‫ولعل ما يضيف إلى المرزوقي وزنًا باإلضافة إلى هذه النظرات التي كانت‬
‫خالصة لالستيعاب العميق لنتاج سابقيه من النقاد‪ ،‬صياغته نظرية عمود الشعر‬

‫‪- 114 -‬‬


‫العربي الصياغة النهائية‪.‬‬
‫أما أمر اللفظ والمعنى مع الشريف المرتضى فيشينه بعض االضطراب‪ ،‬فإذا‬
‫كان الحديث عن المعنى متعلقًا بصياغة المتداول المعروف‪ ،‬فال يضير –في رأيه‪-‬‬
‫المعبر ترداده هذا المألوف مادام يحسن العبارة عنه إذ إن "حظ العبارة في الشعر‬
‫أقوى من حظ المعنى"(‪)146‬؛ ذلك أن تفرد الصياغة وحسنها يشفعان للشاعر‬
‫اشتراكه مع غيره في المعاني‪ ،‬ومع هذا االشتراك "إنما يقع اإلحسان في حسن‬
‫النسج‪ ،‬وسالمة السبك‪ ،‬وأن تكون العبارة عن ذلك المعنى ناصعة‪ ،‬وفي القلوب‬
‫متقّب له"(‪.)147‬‬
‫ثم يعود إلى القضية من منظور مغاير لكنه مؤكد للسابق أيضًا حيث يقابل‬
‫بين الشيء في وضعه األصلي‪ ،‬واستحالته محتوى في صياغة فنية‪ ،‬فيرى أن‬
‫التغيير الطارئ على الشيء المصور بتقديمه في صورة تخالف أصله ال يحط من‬
‫قيمة الصورة الراسمة للشيء‪ ،‬ليخلص إلى قاعدته التي تنص "على أن حظ األلفاظ‬
‫في الكالم الفصيح ‪ -‬منظومًا ومنثورًا‪ -‬أقوى من حظ المعاني"(‪.)148‬‬
‫لكن البحث عن تمّي ز الشاعر بمعنى ضمن المشترك يضطره إلى اعتبار المعاني األصل في‬
‫التقديم‪ ،‬إذ يعرض بيتيه اآلتيني‪:‬‬

‫وفاد بذاك البذل مني حرامه‬ ‫فحب به من باذل لي حالله‬


‫فلم يرض لي حتى ربحت أثامه‬ ‫ومن ملتقى عذب المذاق ربحته‬
‫ثم قول الفرزدق‪:‬‬
‫فأبعد من بيض األنوق كالمها‬ ‫إذا ما نأت عني حييت وإ ن دنت‬
‫ويبذل لي عند المنام حرامها‬ ‫وتمنع عيني وهي يقظى حاللها‬
‫ثم يعلق بقولـه‪" :‬فليس لـه بالمعنى الذي اختصصت به شبه‪ ،‬وإ ن كان قد أتى‬
‫بلفظ التحريم والتحليل وليس المعول على األلفاظ‪ ،‬وإ نما المعول على المعاني‪...‬‬
‫وكل مّنا قصد مقصدًا صحيحًا‪ ،‬ألّني أردت أن التمّتع الذي نلته في النوم حالًال‪ ،‬لو‬
‫كان في اليقظة لكان حرامًا‪ .‬والفرزدق أراد به أنه تمتع في اليقظة ‪-‬من كالم وما‬
‫أشبهه‪ -‬حالًال‪ ،‬وتبذل له عند المنام ما هو حرام‪ .‬وإ نما يريد أنه حرام لو كان في‬
‫اليقظة‪ ،‬فأما ما يكون في النوم ال يكون حرامًا‪ ،‬فبان هذا الشرح خالف المعنى‬
‫الذي قصدته لمعنى الفرزدق"(‪ .)149‬فأدى اعتبار االختالف في المعاني والتدليل‬
‫على الخصوصية إلى اعتمادها األصل في الجودة‪ ،‬لكن مما يقلل من حّد ة‬
‫التعارض بين هذا الرأي وما سبقه من آراء‪ ،‬كون المعنى مستخلصًا من صياغته‪.‬‬

‫‪- 115 -‬‬


‫أما نفيه أن تكون المسألة في إيراد ألفاظ بعينها‪ ،‬كالتحريم والتحليل فال يعني إزاحة‬
‫اللفظ عن كل مزية إذ إن القصد –كما بدا لنا‪ -‬هو الطريقة التي تتضام بها األلفاظ‬
‫ألداء معنى معّين‪.‬‬
‫ولعّل رأيه الحاسم يظهر في إقراره توزيع الجودة بين االثنين معًا‪ ،‬إذ تبدو‬
‫خالصة ذلك في اعتباره ديوانه وديوان أخيه ثم ديواني الطائيين جامعة ألجود ما‬
‫قيل في موضوع الّش يب‪ ،‬ذلك أنها ضمت "محاسن القول في الشيب والتصرف في‬
‫فنون أوصافه وضروب معانيه حتى ال يشذ عنها في هذا الباب شيء يعبأ به‪ ،‬هذا‬
‫حكم المعاني‪ ،‬فأما بالغة العبارة عنها وجالؤها في المعاريض الواصلة إلى‬
‫القلوب بال حجاب واالنتقال في المعنى الواحد من عبارة إلى غيرها مما يزيد‬
‫عليها براعة وبالغة أو يساويها أو يقاربها حتى يصير المعنى باختالف العبارة‬
‫عنه وتغّير الهيئات عليه وإ ن كان واحدًا كأنه مختلف في نفسه فهو وقف على هذه‬
‫الدواوين مسلم لها مفوض إليها"(‪ ،)150‬لينتهي إلى اعتماد العنصرين معًا في‬
‫تحليالته الشعرية‪ ،‬كوصفه بيتًا ألبي تمام بقوله‪" :‬جيد المعنى مليح اللفظ"(‪.)151‬‬
‫ولقد اشتهر ابن رشيق برأيه الداعي إلى ائتالف اللفظ والمعنى‪ ،‬واستطاع مع‬
‫ذلك أن يجمع في بعض المواقف بين مسائل نقدية متعددة منها ما يبحث في بنية‬
‫النص‪ ،‬أو يعرض لمشكالت الصنعة وأدوات التثقيف المحققة لها‪ .‬يقول في نص‬
‫جامع لكثير من هذه المبادئ النقدية‪" :‬والبيت من الشعر كالبيت من األبنية‪ :‬قراره‬
‫الطبع‪ ،‬وسمكه الرواية‪ ،‬ودعائمه العلم‪ ،‬وبابه الّد ربة‪ ،‬وساكنه المعنى‪ ،‬وال خير في‬
‫بيت غير مسكون‪ ،‬وصارت األعاريض والقوافي كالموازين واألمثلة لألبنية‪ ،‬أو‬
‫كاألواخي واألوتاد لألخبية‪ ،‬فأما ما سوى ذلك من محاسن الشعر فإنما هو زينة‬
‫مستأنفة‪ ،‬ولو لم تكن الستغنى عنها"(‪.)152‬‬
‫ونقول‪ :‬إن أدوات الثقافة المحققة للصنعة ال تهمنا‪ ،‬وإ نما المهم أن نجاعة‬
‫البيت الذي يكون نتاجًا لهذه المواد الخام تكمن في احتوائه معنى‪ ،‬والمعنى غير‬
‫مفارق ألشكال إخراجه‪ ،‬فالحديث عنه حديث عن صورته اللفظية التي تشّك ل‬
‫بنيتها الصوتية في تناسبها اإليقاعي ميزان الكالم واعتداله‪ ،‬أما التحسينات فهي‬
‫طارئة ثانوية ال كبير جدوى من إلحاقها بالبيت‪.‬‬
‫وينم تشبيه بنية البيت الشعري بالبناء عن فهم لشكل من أشكال تالحم‬
‫عناصره يجعل كماله غير متأت بغياب أحدها‪ ،‬إال ما قد يعّك ر ذلك من تشبيهه‬
‫المعنى بالساكن إذ له أن يغيب فيبقى البناء قائمًا‪ .‬غير أنه قد يفهم أن القصد من‬
‫هذا التشبيه تأكيد ضرورة قيام البيت على معنى يؤديه‪ ،‬بل ستستحيل عالقات‬

‫‪- 116 -‬‬


‫العناصر إلى كيان متالحم يكون المعنى في إطارها شبه تابع حتمي للخواص‬
‫اللفظية‪ ،‬ذلك أن ابن رشيق يعتقد أنه غير خاف "أن الصانع إذا صنع شعرًا في‬
‫وزن ما وقافية ما وكان لمن قبله من الشعراء شعر في ذلك الوزن وذلك الروي‬
‫وأراد المتأخر معنى بعينه فأخذ في نظمه أن الوزن يحضره والقافية تضطره‬
‫وسياق اللفظ يحدوه حتى يورد نفس الكالم األول ومعناه حتى كأنه سمعه وقصد‬
‫سياقته وإ ن لم يكن سمعه قط"(‪ .)153‬فعلى الرغم من أن ابن رشيق يبحث هنا في‬
‫السرقات األدبية فإنه يقر بالتولد االضطراري للمعنى من أشكال صياغته وكأن‬
‫سياق األلفاظ في بنيتها التركيبية الملحمة بالبناء الصوتي تملي على الشاعر سلطة‬
‫بنيتها المستقلة فتفرز داللتها أيضًا‪ ،‬وال يملك الشاعر سوى االختيار المبدئي‬
‫لمقصد القول الذي ستّو جهه عناصر البنية المتعاضدة إلى نهايته‪.‬‬
‫وهذا الفهم السابق هو الذي كان خلف تبني ابن رشيق المقولة السابقة المشبهة‬
‫للمعنى واللفظ بالروح والجسد(‪ ...)154‬والمقولة تعالج من منظور نظري عام‬
‫صلة العنصرين حيث تقوم هذه الصلة على التسليم بالتأثر المتبادل بينهما ضعفًا‬
‫وقّو ة(‪ .)155‬ولم يهتم ابن رشيق بتفريع أحوال التأثر المتبادل بينهما في حالة‬
‫القوة‪ ،‬ولو فعل لربما أدته المقارنة إلى بحث كيفية هذا التفاعل بين العنصرين في‬
‫الحالة المجّس دة ألرقى درجاتها‪ ،‬مما كان يمكن أن يوصله إلى خالصة أكثر عمقًا‬
‫في بحث دقائقه وأبعاده‪ .‬إال أنه ربما وجد أن من السهولة تشخيص رأيه في حالة‬
‫الضعف التي تقوم أوًال على تبيان أثر الخلل النسبي في أحد الطرفين على اآلخر‪،‬‬
‫ذلك أنه "إذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصًا للشعر وهجنة عليه‪ ،‬كما‬
‫يعرض لبعض األجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك‪ ،‬من غير أن‬
‫تذهب الروح‪ ،‬وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان اللفظ من ذلك أوفر‬
‫حّظًا كالذي يعرض لألجسام من المرض بمرض األرواح"(‪ ،)156‬وهذا اإلقرار‬
‫المتكرر دفعته إليه القسمة الثنائية ورغبة التدليل على الصالت بين العنصرين‪ ،‬إال‬
‫أن المقارنة رغم تأكيدها النهائي انتقاء طرف بانتقاء آخر أو فساده "فإن اختل‬
‫المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتًا ال فائدة فيه‪ ...‬وكذلك إن اختل اللفظ جملة‬
‫وتماشى لم يصح له معنى(‪ )157‬فإنها تظل مشدودة في مباشرة عالقة الطرفين‬
‫إلى االنطالق من أحدهما مما يؤكد انحصار النظرة في األساس الثنائي دائمًا رغم‬
‫اإلشارة إلى العالئق "الوجودية" بين العنصرين‪.‬‬
‫والمهم أن الموقف السابق سيفرز لدى ابن رشيق تصنيفًا للشعراء إلى لفظيين‬
‫معنويين‪ ،‬وفي اللفظين من يذهب الفخامة والجزالة دون أن يتصنع‪ ،‬كبشار‪ ،‬وفرقة‪،‬‬

‫‪- 117 -‬‬


‫منهم ابن هانئ أصحاب جلبة وقعقعة بال طائل معنى إال القليل‪ ،‬كما يصفهم‪ ،‬ومنهم‬
‫من يقصد تسهيل اللفظ ولم ينج من الركاكة وإ فراط اللين كأبي العتاهية‪ .‬أما من يؤثر‬
‫المعنى على اللفظ فيقصد صواب المعنى وال يبالي بصورته اللفظية فمنهم‬
‫مطبوعون كابن الرومي والمتنبي‪ ،‬ومنهم متصنعون(‪ .)158‬وهذا التصنيف ال‬
‫يعني تجاهل أحد قطبي الداللة إنما يقوم على التنويه بالخاصية التي تميز كل فئة‬
‫وتلفت النظر إلى طريقة بنائها الكالم‪ ،‬فبشار الذي ُع ّد من اللفظيين زاد وأصحابه‬
‫"معاني ما مرت قط بخاطر جاهلي وال مخضرمي وال إسالمي‪ ،‬والمعاني أبدًا تتردد‬
‫وتتولد والكالم يفتح بعضه بعضًا"(‪.)159‬‬
‫وهذا الموقف التصنيفي المرتد إلى األساس الثنائي دفع ابن رشيق إلى حشد‬
‫آراء متباينة بدءًا من ترداد مقولة الجاحظ في المعاني المطروحة‪ ،‬إلى اعتماد الفكرة‬
‫المشبهة للمعنى بالصورة واللفظ بالكسوة‪ ،‬فإن لم تقابل الصورة الحسناء بما يشاكلها‬
‫ويليق بها من اللباس فقد بخست حقها‪ ،‬إلى االستشهاد بكالم لعبد الكريم النهشلي‬
‫يرى فيه مرة أن‪ :‬الكالم الجزل أغنى عن المعاني اللطيفة من المعاني اللطيفة عن‬
‫الكالم الجزل‪ ،‬ويرى في أخرى أن‪ :‬المعنى مثال‪ ،‬واللفظ حذو‪ ،‬والحذو يتبع المثال‪،‬‬
‫فيتغّير بتغّيره‪ ،‬ويثبت بثباته(‪ .)160‬وهي آراء وإ ن بدا فيها بعض االضطراب في‬
‫الموقف‪ ،‬إال أنها بالقدر الذي تلح على الصورة المبرزة للمعنى وتدعو إلى‬
‫تحسينها‪ ،‬ال تغفل أساس المشاكلة بين المعنى واللفظ أيضًا يدعمها ما يورده لبعض‬
‫النقاد كالثعالبي الذي يرى أن البليغ هو الذي "يخيط األلفاظ على قدور المعاني"(‪161‬‬
‫) أما ما ورد في وصية أبي تمام للبحتري في قوله‪" :‬كن كأنك خّياط يقطع الثياب‬
‫على مقادير األجسام"(‪.)162‬‬
‫على أية حال يظل هذا المنظور الثنائي الذي سيزدوج برأيه في الصنعة‬
‫أساس كثير من آرائه النقدية‪ ،‬فهو يسند رأي أبي الفتح عثمان بن جني في قوله‪:‬‬
‫"الموّلدون يستشهد بهم في المعاني كما يستشهد بالقدماء في األلفاظ"(‪.)163‬‬
‫ويوازن بين القدماء والمحدثين مستغًال تشبيه الشعر بالبناء يقول‪" :‬وإ نما مثل‬
‫القدماء والمحدثين كمثل رجلين‪ :‬ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه‪ ،‬ثم أتى اآلخر فنقشه‬
‫وزّينه‪ ،‬فالكلفة ظاهرة على هذا وإ ن حسن‪ ،‬والقدرة ظاهرة على ذلك وإ ن خشن"(‬
‫‪ ،)164‬ثم يقر بتفاوت القيمة الفنية بين بيتين‪ :‬مطبوع ومصنوع ومحورهما‬
‫المعنوي واحد‪ ،‬حيث يرى "أن البيت إذا وقع مطبوعًا في غاية الجودة ثم وقع في‬
‫معناه بيت مصنوع في نهاية الحسن‪ ،‬لم تؤثر فيه الكلفة وال ظهر عليه التعّم ل كان‬
‫المصنوع أفضلهما"(‪.)165‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫وتأسيسًا على ما سلف يبني تفرقته بين االختراع واإلبداع وإ ن كان معناهما‬
‫في العربية واحدًا كما يرى‪ ،‬إّال "أن االختراع‪ :‬ابتكار المعاني التي لم يسبق إليها‪،‬‬
‫واإلتيان بما لم يكن منها قط‪ ،‬واإلبداع إتيان الشاعر بالمعنى المستطرف‪ ،‬والذي لم‬
‫تجر العادة بمثله‪ ،‬ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له بديع‪ ،‬وإ ن كثر وتكرر‪ ،‬فصار‬
‫االختراع للمعنى‪ ،‬واإلبداع للفظ"(‪ ،)166‬ثم يسحب هذا الموقف على رأيه في‬
‫السرقات التي يخضعها لهذا المنظور أيضًا في قولـه‪" :‬والمعاني التي يقال أنها‬
‫اختراعات وأخذها سرقات إنما هي المقاصد وترتيباتها والطرائق إليها"(‪ ،)167‬ثم‬
‫في رأيه اآلخر في الموضوع نفسه إذ يقول‪" :‬إن السرقة إنما تقع في البديع النادر‬
‫والخارج عن العادة وذلك في العبارات التي هي األلفاظ"(‪ )168‬علمًا أنه يستعمل‬
‫البديع في مواضع أخرى مرادفًا للمعنى الخاص كما يظهر ذلك في مقابلته بين‬
‫"البديع المخترع الذي يختص به الشاعر‪ ،‬ال المعاني المشتركة"(‪ .)169‬ولـه في‬
‫المعنى رأي طريف إذ يتحدث عن "معنى الصنعة كالتطبيق والتجنيس وما‬
‫أشبههما ال معنى الكالم الذي هو روحه"(‪.)170‬‬
‫والحديث عن المعنى يجره إلى الفصل بين المخترع الذي لم يسبق إليه قائله‪،‬‬
‫والتوليد‪ ،‬وهو أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه(‪ .)171‬وإ لى‬
‫مالحظة ما يمتاز به كل شاعر من طريقة فنية خاصة‪ ،‬كأبي نّو اس في الخمر‬
‫وأبي تمام في التصنيع‪ ،‬والبحتري في الّطيف‪ ،‬وابن المعتز في التشبيه‪ ...‬إلى أن‬
‫يخص ابن الرومي بقولـه أنه‪" :‬أولى الناس باسم شاعر‪ ،‬لكثرة اختراعه‪ ،‬وحسن‬
‫افتنانه"(‪ ،)172‬وهو موقف دعا إحسان عباس إلى اعتبار ابن رشيق "أميل إلى‬
‫جانب المعنى"(‪ )173‬ثم يؤاخذه على تناقضه إذ يرى أنه "إذا أخذ في النقد كان‬
‫ميله إلى ناحية الشكل أظهر"(‪ ،)174‬لكننا ال نعتبر رأي ابن رشيق في ابن‬
‫الرومي دليًال على ميل إلى المعنى‪ ،‬بمقدار ما هو تحديد لخاصية ميزت شعره‬
‫مثلما تمّيز الشعراء الذين ذكرهم قبله بمناح خاصة في القول‪ ،‬تقوم على اهتمام‬
‫معّين أماله الطبع والميل كما بدا ذلك في التقديم لرأيه السابق بقوله‪" :‬البّد لكل‬
‫شاعر من طريقة تغلب عليه فينقاد إليها طبعه‪ ،‬ويسهل عليه تناولها"‬
‫(‪ ،)175‬فإذا دعاه ذلك إلى استنباط الصفة المميزة التي تسم الممارسة الشعرية‬
‫لدى شاعر معين فإن ذلك ال يعني أن ما يستخلص يستحيل مبدأ نقديًا عامًا يحكم‬
‫رأيه مطلقًا‪ ،‬فقد رأى ميزة ابن المعتز في التشبيه وأبي تمام في التصنيع وال‬
‫نحسب أن ذلك يشي بتقديم للمعنى‪ ،‬بل لقد رأيناه يعّد بشارًا من اللفظيين ولم يمنعه‬
‫ذلك من االعتراف بابتكارات بشار المعنوية‪.‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫فموقف ابن رشيق وإ ن بدا فيه بعض التفاوت من جّر اء تنّو ع زوايا الرؤية‪،‬‬
‫إال أنه يظل مشدودًا إلى فكرة االئتالف بين المعاني واأللفاظ‪ ،‬ومن ثمة تبقى‬
‫معالجة النص عنده محكومة بهذا األصل الذي يمكن أن يتعمق إلى غاية بلورة‬
‫وعي بتفاعل عناصره معاني وألفاظًا يكون من شأنه توّلد داللة عميقة يتفاوت في‬
‫إدراكها وتحصيلها‪ ،‬وتغدو بموجبه كل مقاربة إنما هي إقرار بغزارة هذه الداللة‪،‬‬
‫كما يظهر ذلك في ما أسماه باب االتساع "وذلك أن يقول الشاعر بيتًا يتسع فيه‬
‫التأويل‪ ،‬فيأتي كل واحد بمعنى‪ ،‬وإ نما يقع ذلك الحتمال اللفظ‪ ،‬وقوته‪ ،‬واتساع‬
‫المعنى"(‪.)180‬‬
‫والخالصة أن إشكال اللفظ والمعنى وإ ن تنّو ع بحسب اهتمامات النّقاد الذين‬
‫تناولناهم في هذا الفصل‪ ،‬إال أنه ظّل يتمحور حول ضرورة االعتناء بالطرفين‬
‫لتحقيق تكاملهما وتآلفهما في الّنص‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪ ‬هوامش الفصل الثاني‬
‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬مصطفاي موهوب‪ ،‬المثالية في الشعر العربي‪.628 :‬‬
‫(‪ )2‬اآلمدي‪ ،‬الموازنة ‪.402 :1‬‬
‫(‪ )3‬نفسه ‪. 403 :1‬‬
‫(‪ )4‬نفسه ‪.404-403 :1‬‬
‫(‪ )5‬ينظر المدخل‪.‬‬
‫(‪ )6‬شكري عياد‪ ،‬كتاب أرسطو طاليس في الشعر‪.237 :‬‬
‫(‪ )7‬لمزيد من التعرف على دالالت اصطالح التصوير لدى الجاحظ ينظر‪ :‬جابر عصفور‪،‬‬
‫الصورة الفنية‪...257 :‬‬
‫(‪ )8‬اآلمدي‪ ،‬الموازنة ‪.403 :1‬‬
‫(‪ )9‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.171 :‬‬
‫(‪ )10‬ينظر‪ :‬رسائل الكندي الفلسفية‪.217 ،101 :1‬‬
‫(‪ )11‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.171 :‬‬
‫(‪ )12‬البديع في نقد الشعر‪ .289 :‬ومقدمة في صناعة النظم والنثر‪.28 :‬‬
‫(‪ )13‬تاريخ النقد األدبي‪.516-515 :‬‬
‫(‪ )14‬الموازنة ‪.402 :1‬‬
‫(‪ )15‬نفسه‪.404-403 :1‬‬
‫(‪ )16‬نفسه ‪.405 :1‬‬

‫‪- 120 -‬‬


‫(‪ )17‬ينظر ما خص به قدامة في الفصل السابق‪.‬‬
‫(‪ )18‬اآلمدي‪ ،‬الموازنة‪.400 :1‬‬
‫(‪ )19‬نفسه ‪.401-400 :1‬‬
‫(‪ )20‬محمد زغلول سالم‪ ،‬تاريخ النقد العربي ‪.204 :1‬‬
‫(‪ )21‬اآلمدي‪ ،‬الموازنة ‪.402-401 :1‬‬
‫(‪ )22‬نفسه ‪.402 :1‬‬
‫(‪ )23‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )24‬نفسه ‪.398-397 :1‬‬
‫(‪ )25‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.161 :‬‬
‫(‪ )26‬اآلمدي‪ ،‬الموازنة ‪.443 :1‬‬
‫(‪ )27‬نفسه ‪.398 :1‬‬
‫(‪ )28‬نفسه ‪.399 :1‬‬
‫(‪ )29‬نفسه ‪.496 :1‬‬
‫(‪ )30‬نفسه ‪.12 :1‬‬
‫(‪ )31‬نفسه ‪ ،7 :1‬وأيضًا‪...136-135-134-35-20-19-18-6 :‬‬
‫(‪ )32‬نفسه ‪.391 :1‬‬
‫(‪ )33‬نفسه ‪.425 :1‬‬
‫(‪ )34‬نفسه ‪.358 :1‬‬
‫(‪ )35‬نفسه ‪.481 :1‬‬
‫(‪ )36‬نفسه ‪.425-424 :1‬‬
‫(‪ )37‬نفسه ‪.384 :1‬‬
‫(‪ )38‬نفسه ‪.382-381 :1‬‬
‫(‪ )39‬نفسه ‪.390 :1‬‬
‫(‪ )40‬نفسه ‪.388-384-244 :1‬‬
‫(‪ )41‬نفسه ‪.181-48-47 :1‬‬
‫(‪ )42‬نفسه ‪.277 :1‬‬
‫(‪ )43‬نفسه ‪.280 :1‬‬
‫(‪ )44‬استغرق مبحث السرقات عنده في الوساطة‪ :‬من ‪ 189‬إلى ‪.412‬‬
‫(‪ )45‬القاضي الجرجاني‪ ،‬الوساطة‪ .52 :‬وكذا ‪.215-214‬‬
‫(‪ )46‬نفسه ‪.413 :‬‬

‫‪- 121 -‬‬


‫(‪ )47‬نفسه‪.24 :‬‬
‫(‪ )48‬نفسه‪.25-24 :‬‬
‫(‪ )49‬نفسه‪.19 :‬‬
‫(‪ )50‬نفسه ‪.248 :‬‬
‫(‪ )51‬نفسه ‪.433-432 :‬‬
‫(‪ )52‬نفسه‪.19 :‬‬
‫(‪ )53‬نفسه ‪.34-33 :‬‬
‫(‪ )54‬نفسه‪.424-413-100 :‬‬
‫(‪ )55‬نفسه ‪ .179 :‬وكذا‪.180 :‬‬
‫(‪ )56‬نفسه ‪ .79 :‬ينظر‪ :‬الموازنة ‪.181 :1‬‬
‫(‪ )57‬نفسه ‪.98 :‬‬
‫(‪ )58‬العسكر‪ ،‬الصناعتين‪.13-12 :‬‬
‫(‪ )59‬نفسه ‪.14-13 :‬‬
‫(‪ )60‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.437 :‬‬
‫(‪ )61‬العسكري‪ ،‬الصناعتين‪.14 :‬‬
‫(‪ )62‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )63‬نفسه‪.16 :‬‬
‫(‪ )64‬نفسه‪.15-114 :‬‬
‫(‪ )65‬نفسه‪.18 :‬‬
‫(‪ )66‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.438 :‬‬
‫(‪ )67‬العسكري‪ ،‬الصناعتين‪.16 :‬‬
‫(‪ )68‬نفسه‪ .64-63 :‬ولقد تأثر بهذه المقولة أغلب النقاد‪ ،‬فممن لم نخصهم بالبحث مثًال‪:‬‬
‫األصفهاني‪ :‬الواضح في مشكالت شعر المتنبي‪ .52-51 :‬ابن األثير‪ ،‬المثل السائر‪:‬‬
‫‪.124-123‬‬
‫(‪ )69‬نفسه‪.64 :‬‬
‫(‪.A. TRABULSI, la Critique poétique des Arabes, p.125 )70‬‬
‫(‪ )71‬العسكري‪ ،‬الصناعتين‪.65 :‬‬
‫(‪ )72‬نفسه‪ .‬وكذا‪.73 :‬‬
‫(‪ )73‬نفسه‪.66 :‬‬
‫(‪ )74‬نفسه‪.75 :‬‬
‫(‪ )75‬شكري عياد‪ ،‬كتاب أرسطو طاليس في الشعر‪.239 :‬‬
‫‪- 122 -‬‬
‫(‪ )76‬غرنباوم‪ ،‬دراسات في األدب العربي‪.104 :‬‬
‫(‪ )77‬العسكري‪ ،‬الصناعتين‪.76-75 :‬‬
‫(‪ )78‬العسكري‪ ،‬ديوان المعاني ‪.330 :1‬‬
‫(‪ )79‬نفسه‪.345 :‬‬
‫(‪ )80‬العسكري‪ ،‬الصناعتين‪.10 :‬‬
‫(‪ )81‬نفسه‪.134 :‬‬
‫(‪ )82‬العسكري‪ ،‬ديوان المعاني ‪.87 :2‬‬
‫(‪ )83‬نفسه‪.87 :‬‬
‫(‪ )84‬العسكري‪ ،‬الصناعتين‪ .139 :‬وكذا‪ .145 :‬ولقد تأثر نقاد كثيرون بهذا التحليل‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫الصاحب بن عباد الكشف‪ ،‬عن مساوئ المتنبي‪ .229 :‬الحاتمي‪ ،‬الرسالة الموضحة‪.42 :‬‬
‫أبو طاهر البغدادي‪ ،‬قانون البالغة‪ .150-149 :‬أسامة بن منقذ‪ ،‬البديع‪.296-295 :‬‬
‫ابن أبي اإلصبع‪ ،‬تحرير التعبير‪.416-412 :‬‬
‫(‪ )85‬نفسه‪ .202 :‬ويمكن التدليل على تفرعات رأيه في اللفظ والمعنى بتتبع ما أورده في التشبيه‬
‫واالستعارة واإلشارة ثم اإلرداف والتوابع فالمضاعفة‪ ،‬وقبل ذلك شرحه صحيفة الهند‬
‫وغيرها‪ ..441 ...374 ..249 ...25 :‬وإ ن كان أغلب ما يورده من ابتكارات‬
‫السابقين‪.‬‬
‫(‪ )86‬نفسه‪.61:‬‬
‫(‪ )87‬نفسه‪.7 :‬‬
‫(‪ )88‬نفسه‪.66 :‬‬
‫(‪ )89‬نفسه‪.147 :‬‬
‫(‪ )90‬نفسه‪.148-147 :‬‬
‫(‪ )91‬نفسه‪.169 :‬‬
‫(‪ )92‬نفسه‪.167 :‬‬
‫(‪ )93‬نفسه‪ :‬شكري عياد‪ ،‬كتاب أرسطو طاليس في الشعر‪.271 :‬‬
‫(‪ )94‬العسكري‪ ،‬الصناعتين‪ .167 :‬وكذا‪.157 :‬‬
‫(‪ )95‬ينظر‪ :‬عبد المتعال الصعيدي‪ ،‬مقدمة التحقيق‪ ،‬سر الفصاحة‪ :‬ز‪-‬حـ‪-‬ط‪ .‬حمادي صمود‪،‬‬
‫التفكير البالغي‪...441 :‬‬
‫(‪ )96‬ابن سنان‪ ،‬سر الفصاحة‪.276 :‬‬
‫(‪ )97‬نفسه‪.84-83 :‬‬
‫(‪ )98‬نفسه‪.84 :‬‬
‫(‪ )99‬نفسه‪.‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫(‪ )100‬نفسه‪.85 :‬‬
‫(‪ )101‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )102‬نفسه‪.82 ...54 :‬‬
‫(‪ )103‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪ .444 :‬ينظر‪ :‬شوقي ضيف‪ ،‬البالغة تطور وتاريخ‪:‬‬
‫‪ .327-326‬ابن األثير‪ ،‬المثل السائر ‪.266-261 :1‬‬
‫(‪ )104‬ابن سنان‪ ،‬سر الفصاحة‪.87 :‬‬
‫(‪ )105‬نفسه‪.1000-97 :‬‬
‫(‪ )106‬نفسه‪.99 :‬‬
‫(‪ )107‬نفسه‪.67 :‬‬
‫(‪ )108‬نفسه‪ .100 :‬في حين يرى حمادي صمود أن ابن سنان باشر هذه الشروط مباشرة‬
‫تفصيلية باستثناء هذا األصل‪ ،‬مما أدى في نظره إلى جعل اإللمام بتخطيط الكتاب غير‬
‫ميسور‪ .‬التفكير البالغي‪ .453 :‬وهذا من المسائل التي اختلفت فيها وجهة نظرنا مع‬
‫رأيه‪ ،‬ونراها من األسباب التي جعلته يحكم على الكتاب بالتداخل واضطراب المادة‪.‬‬
‫(‪ )109‬نفسه‪.158 ...101 :‬‬
‫(‪ )110‬نفسه‪.162 :‬‬
‫(‪ )111‬نفسه‪.191 ...162 :‬‬
‫(‪ )112‬نفسه‪.155 :‬‬
‫(‪ )113‬نفسه‪.223-197 :‬‬
‫(‪ )114‬نفسه‪.225 :‬‬
‫(‪ )115‬نفسه‪.226 :‬‬
‫(‪ )116‬نفسه‪.280 ...225 :‬‬
‫(‪ )117‬نفسه‪.50-49 :‬‬
‫(‪ )118‬نفسه‪.197 :‬‬
‫(‪ )119‬نفسه‪.3 :‬‬
‫(‪ )120‬نفسه‪.225 :‬‬
‫(‪ )121‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )122‬نفسه‪.51-50 :‬‬
‫(‪ )123‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.454 :‬‬
‫(‪ )124‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )125‬ابن سنان‪ ،‬سر الفصاحة‪.84 :‬‬
‫(‪ )126‬نفسه‪.206 :‬‬

‫‪- 124 -‬‬


‫(‪ )127‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.456 :‬‬
‫(‪ )128‬ابن سنان الخفاجي‪ ،‬سر الفصاحة‪.83 :‬‬
‫(‪ )129‬ينظر‪ :‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.458 :‬‬
‫(‪ )130‬نفسه‪.459 :‬‬
‫(‪ )131‬نفسه‪.460-459 :‬‬
‫(‪ )132‬ينظر‪ :‬قدامة بن جعفر‪ ،‬نقد الشعر‪.162-147 :‬‬
‫(‪ )133‬ابن سنان‪ ،‬سر الفصاحة‪.84 :‬‬
‫(‪ )134‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.370 :‬‬
‫(‪ )135‬المرزوقي‪ ،‬شرح الحماسة‪.5 :‬‬
‫(‪ )136‬نفسه‪.9 :‬‬
‫(‪ )137‬نفسه‪.7 :‬‬
‫(‪ )138‬نفسه‪.6-5 :‬‬
‫(‪ )139‬نفسه‪.6 :‬‬
‫(‪ )140‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )141‬نفسه‪.7 :‬‬
‫(‪ )142‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )143‬نفسه‪.11 :‬‬
‫(‪ )144‬نفسه‪.10 :‬‬
‫(‪ )145‬نفسه‪.19-18 :‬‬
‫(‪ )146‬الشريف المرتضى‪ ،‬طيف الخيال‪.168 :‬‬
‫(‪ )147‬نفسه‪.21 :‬‬
‫(‪ )148‬نفسه‪.39 :‬‬
‫(‪ )149‬نفسه‪.149-148 :‬‬
‫(‪ )150‬الشريف المرتضى‪ ،‬الشهاب في الشيب والشباب‪.3 :‬‬
‫(‪ )151‬الشريف المرتضي‪ ،‬طيف الخيال‪.19 :‬‬
‫(‪ )152‬ابن رشيق‪ ،‬العمدة ‪.121 :1‬‬
‫(‪ )153‬ابن رشيق‪ ،‬قراضة الذهب‪.86 :‬‬
‫(‪ )154‬وهذه المقولة حاضرة لدى أغلب النقاد‪ ،‬فمن الذين تبنوها باإلضافة إلى من عرضنا لهم‪:‬‬
‫ابن شرف‪ ،‬أعالم الكالم‪ .28-27 :‬ابن عبد ربه‪ ،‬العقد الفريد‪ .394 :5 ،‬ابن األثير‪،‬‬
‫الجامع الكبير‪ .21 :‬المثل السائر ‪ .21 :2‬العلوي‪ ،‬الطراز ‪ .235 :3‬النواجي‪ ،‬مقدمة‬
‫في صناعة النظم والنثر‪.30-29 :‬‬

‫‪- 125 -‬‬


‫(‪ )155‬ابن رشيق‪ ،‬العمدة ‪.124 :2‬‬
‫(‪ )156‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )157‬نفسه‪.‬‬
‫(‪ )158‬نفسه ‪.125-124 :2‬‬
‫(‪ )159‬نفسه ‪.238 :2‬‬
‫(‪ )160‬نفسه ‪.127 :1‬‬
‫(‪ )161‬نفسه ‪.128 :1‬‬
‫(‪ )162‬نفسه ‪.115 :2‬‬
‫(‪ )163‬نفسه ‪.256 :2‬‬
‫(‪ )164‬نفسه ‪.92 :1‬‬
‫(‪ )165‬نفسه ‪.131 :1‬‬
‫(‪ )166‬نفسه ‪.265 :1‬‬
‫(‪ )167‬ابن رشيق‪ ،‬قراضة الذهب‪.55 :‬‬
‫(‪ )168‬نفسه‪.20 :‬‬
‫(‪ )169‬ابن رشيق‪ ،‬العمدة ‪.281 :2‬‬
‫(‪ )170‬نفسه ‪.132 :1‬‬
‫(‪ )171‬نفسه ‪.232 :1‬‬
‫(‪ )172‬نفسه ‪.83 :1‬‬
‫(‪ )173‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.449 :‬‬
‫(‪ )174‬نفسه‪.170 :‬‬
‫(‪ )175‬ابن رشيق‪ ،‬العمدة ‪.86 :1‬‬
‫(‪ )176‬نفسه ‪.93 :1‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 126 -‬‬


‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫الشعر بين المحتوى والشكل‬
‫عند الفالسفة اإلسالميين‬

‫اعتبار اللغة وسيلة الكشف عن الفكر ُم سّلمة لدى الفالسفة اإلسالميين‪ .‬ولم‬
‫يكن بد للغة من أن تتنّز ل في هذا التصور منزلة الحامل للمعنى‪ ،‬كالمشير الذي‬
‫يومئ إلى الشيء‪ ،‬أو الصوت الحسي الظاهر الدال على المعنى العقلي الخفي‪،‬‬
‫ذلك أن التناول المنطقي للظاهرة وضع الفالسفة في إسار التركيز البدهي على‬
‫المعنى‪ ،‬إذ لواله لما كان تلفظ‪ ،‬والنعدم بذلك كل سلوك لغوي‪ .‬فإذا انضاف إلى‬
‫ذلك كون التناول الفاحص للغة أو األلفاظ ليس إال من توابع البحث في المنطق أو‬
‫الفكر‪ ،‬أو أنه –كما يقول ابن سينا‪" :‬لو أمكن أن يتعلم المنطق بفكرة ساذجة‪ ،‬إّنما‬
‫تلحظ فيها المعاني وحدها‪ ،‬لكان كافيًا"(‪ ،)1‬أمكن التسليم مبدئيًا بأنه في عرف‬
‫الفالسفة فإّن كل بحث في اللغة إنما هو من مقتضيات الفكر‪ ،‬وأنه تبعًا لذلك يتأكد‬
‫التمييز بين حقلي األلفاظ والمعاني‪ ،‬ليشكل كّل منها خطًا يوازي اآلخر ويحاذيه‪.‬‬
‫ولّم ا كانت عملية التفكير ال تتم إال باللفظ بإقرار الفالسفة أنفسهم(‪ ،)2‬وأن‬
‫عملية التفكير نفسها تتفاوت وتتنوع‪ ،‬وأنها إذا تجّس دت في مسلك تعبيري يستهدف‬
‫إحداث تعبير فني عبر مدارج الكالم البليغ باتت لحمة األلفاظ والمعاني أشّد ما‬
‫تكون تآلفًا‪ ،‬وأصبحت الفعالية إذ ذاك لمقدرة الذهن على توظيف األلفاظ لتدل على‬
‫مقاصد الفن‪ .‬من هنا تنحسر عالئق الداللة المباشرة على المعاني وينتفي تالزم‬
‫المدلول بدال محدد أو العكس‪ ،‬ويتضاءل –إن لم ينتِف ‪ -‬حضور التصور المنطقي‬

‫‪- 127 -‬‬


‫الضابط لوظائف األلفاظ في الداللة اإلشارية‪ ،‬ذلك أن التعبير عن المعاني‬
‫المقصودة في وظيفة الكالم األدبي ليست خالصة لمحاصرة منطقية للمعنى‪ ،‬بل‬
‫هو البيان الذي يراه ابن سينا في أن يحسن المتكلم "العبارة عن المعاني التي‬
‫تهجس في ضميره فيحتاج إلى نقل صورها المتخيلة أو المعقولة إلى ضمير من‬
‫يخاطبه"(‪ )3‬وما دام البيان يتجسد في حسن التعبير عن المعاني الهاجسة في‬
‫الضمير أمكن اإلقرار بتصور الفالسفة لمستوى من الكالم يتجاوز اإلبانة العادية‬
‫إلى تحسين اإلبانة بغية إحداث تأثير في المتلتقى‪ ،‬وهذا حقل الكالم البليغ عامة‬
‫سواء أكان خطابة أم شعرًا‪.‬‬
‫الكالم العادي والكالم األدبي‬
‫فانطالقًا من رصد ثنائية االستعمال في الظاهرة اللغوية بين الكالم العادي‬
‫والكالم األدبي‪ ،‬حّد د الفالسفة إطار الشعر والخطابة حيث يتنزل هذان الفنان‬
‫ضمن سياق القول البليغ وإ ن تفاوتا في الدرجة‪ .‬ويعتمد الفالسفة اإلسالميون‬
‫رصد أشكال االنزياح عن الكالم العادي في إصطالحات مختلفة كالتجّو ز والتوّس ع‬
‫والعدول وإ خراج القول غير مخرج العادة‪ ،‬ذلك أن المنظور الوظيفي هو الذي‬
‫يحدد خصائص بنية القول‪ ،‬فكما يرى الفارابي أن "األقاويل المبتذلة كلها قد يبلغ‬
‫بها المقصود في تفهيم السامع"(‪ ،)4‬ألن وظيفة اإلفهام التي يحققها القول المبتذل ال‬
‫تتطلب خصائص فنية في النص‪" :‬أما األقاويل التي ليست مبتذلة‪ ،‬فمنها أقاويل‬
‫شعرية وخطبية وما جرى مجراها"(‪ ،)5‬فانتفاء األقاويل المبتذلة من حقل الشعر‬
‫وما قاربه من فنون تخصيص لنوعية خطاب تتجسد فيه اللغة في مستوى انتقائي‬
‫لتحقيق الطرافة والجدة وإ زاحة المشهور والمبتذل‪ ،‬ذلك أن كل قصد للتأثير في‬
‫المتلقى تخصيص للقول ضمن حقل كيفي تراعى فيه ضوابط الوظيفة األدبية‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬وكما يرى الفارابي أن "الجمهور والخطباء والشعراء يتسامحون في‬
‫العبارة ويجّو زون فيها"(‪ .)6‬وعلى الرغم من أن الفارابي يقابل بين االستعمال‬
‫العلمي للغة الذي يفيد تحقيق اإلبانة‪ ،‬إذ يؤسس البرهان المحقق لليقين في مقابل‬
‫األشكال اللغوية المرنة في استعماالت الجمهور والخطباء والشعراء‪ ،‬الهادفة إلى‬
‫غير اليقين البرهاني‪ ،‬والموزعة ضمن مراتب اإلفادة العادية أو إحداث األثر‬
‫النفسي الناتج من القول األدبي‪ ،‬فإّن تخصيص التوسع والتجّو ز بالقول األدبي‬
‫ضبط أساسي لمبادئ القول البليغ‪ ،‬حيث يشكل مفهوم التوسع أو المسامحة‬
‫واستعمال االستعارة –كما يقول‪ -‬مبدأ قارًا في مالحظة كيفية التأسيس للقول‬
‫الشعري أو الخطابي‪ ،‬ذلك أن "التجوز والمسامحة إنما تستعمل في الصنائع التي‬

‫‪- 128 -‬‬


‫يحتاج اإلنسان فيها إلى إظهار القوة الكاملة في غاية الكمال على استعمال األلفاظ‪،‬‬
‫فيعرف أّن له قدرة على اإلبانة عن الشيء بغير لفظه الخاص به ألدنى تعلق يكون‬
‫له بالذي تجعل العبارة عنه باللفظ الثاني‪ ،‬أو له قدرة على استعمال اللفظ الذي‬
‫يخص شيئًا ما على ما له تعلق به ولو يسيرًا من التعلق‪ ،‬ويبين عن نفسه أن له‬
‫قدرة على أخذ اتصاالت المعاني بعضها بعض ولو االتصال اليسير‪ ،‬ويبّين أّن‬
‫عباراته وإ بانته ال تزول وال تضعف وإ ن عّبر عن الشيء بغير لفظه الخاص به‬
‫بل بلفظ غيره‪ .‬وأما االستعارة فألن فيها تخُّيًال وهو شعري"(‪.)7‬‬
‫فجوهر التوسع واستعمال المجاز واالستعارة والتسامح في العبارة المحّد دة‬
‫لنوعية الخطاب األدبي عمومًا والشعري خصوصًا‪ ،‬قدرة على التحكم في اللفظ‬
‫ومرونة في إحكام الصلة بين األلفاظ والمعاني‪ ،‬وتوظيفها في عالقات جديدة ينشأ‬
‫عنها القول البليغ عمومًا‪ .‬ومن هنا تنشأ الخاصية النوعية للخطاب األدبي في‬
‫استغالل قابلية األلفاظ للدخول في عوالم جديدة يتولد من لحمتها السياقية معاٍن‬
‫شعرية وخطابية ينتفي منها المشهور والمباشر‪ ،‬ويبرز بها المخترع الطريف‬
‫تمامًا كما يرى ابن سينا أيضًا‪ ،‬أن "العدول عن المبتذل إلى الكالم العالي الطبقة‬
‫التي فيها أجزاء هي نكت نادرة‪ ،‬هو في األكثر بسبب التزيين‪ ،‬ال بسبب التبيين"(‬
‫‪.)8‬‬
‫فإذا كانت اإلبانة ناتجة عن الكالم المبتذل أو العادي فإن تزيين اإلبانة من‬
‫خصائص الكالم العالي‪ ،‬من هنا يفّض ل في الكالم العالي –إن مثلنا له بالشعر‪ -‬أن‬
‫ال يكون مشهورًا وقريبًا‪ ،‬ذلك أن القريب والمشهور غير مستحسن في الشعر" بل‬
‫المستحسن فيه المخترع المبتدع"(‪.)9‬‬
‫وينسجم رأي ابن رشد مع رأي الفارابي وابن سينا السابقين في ضبط حقل‬
‫الكالم األدبي عمومًا‪ ،‬والشعري خصوصًا‪ ،‬بمقابلته بالكالم العادي‪ ،‬ذلك أن كل‬
‫شكل من أشكال التغّير التي تطول الكالم الحقيقي تؤدي إلى تحقيق القول الشعري‬
‫"فقد يستدل على أن القول الشعري هو المغّير أنه إذا غير القول الحقيقي سمّي‬
‫شعرًا أو قوًال شعريًا‪ ،‬ووجد له فعل الشعر"(‪ ،)10‬واإلخراج المجازي للمعنى‬
‫تحقيق لشعرية القول الذي يظهر في كل أصناف التغييرات التي تطول مستويات‬
‫النص المختلفة‪ ،‬دالليًا في مستوى الصورة‪ ،‬وتركيبيًا في مستوى تالحم الوحدات‬
‫في السياق كما تنتظمها العالقات النحوية أو تحدثها الهيئات الحادثة في البنية‬
‫النحوية للعبارة في حاالت الحذف أو التقديم والتأخير وغيرها‪ ،‬وصوتيًا في أشكال‬
‫التناسب العالقة بالطبقات الصوتية للقول‪ .‬كل هذه األشكال من التغييرات وغيرها‬

‫‪- 129 -‬‬


‫مما يتحّقق في النص معنًى ولفظًا ينضوي تحت ما أسماه ابن رشد "إخراج القول‬
‫غير مخرج العادة"(‪.)11‬‬
‫وهكذا تكون مقابلة الكالم العادي بالكالم األدبي مبدًأ أساسيًا في ضبط مجال‬
‫كل من الحقلين‪ .‬وإ ذ يقُّر الفالسفة بالخصائص النوعية لبنية النص األدبي المجّس دة‬
‫لوظيفته الفنية‪ ،‬يظل الهاجس الرئيسي هو منظور الوظيفة القائم على أثر الخطاب‬
‫األدبي في المتلّقي الذي تنبني عليه كل الخصائص األسلوبية في النص‪ .‬فليست‬
‫أشكال الخروج عن الكالم المبتذل إال تحقيقًا واستجابة لغاية التأثير ولمقتضيات‬
‫كمال اإلبالغ‪ ،‬ذلك أنه كما يرى إخوان الصفا إن المعاني إّنما "تفهم من الكل من‬
‫الّلكن والفصحاء‪ ،‬وإ ّنما يتفاضل الّناس في البالغة"(‪.)12‬‬
‫وأساس التفاضل إنما يتأّتى من القدرة على الصياغة المجددة للمعنى‪ ،‬فليست‬
‫البالغة إّال إيصال المعنى إلى النفس في أحسن صورة لفظية كما شاع في أوساط‬
‫النقاد والبالغيين أيضًا‪ .‬من هنا يصّنف أبو حيان التوحيدي درجات اإلفهام مقابًال‬
‫بينها وبين البالغة التي يراها مستوًى تحسينيًا لإلفهام‪ ،‬حيث إن "اإلفهام إفهامان‪:‬‬
‫رديء وجيد‪ ،‬فاألول لسفلة الناس‪ ،‬ألن ذلك غايتهم وشبيه برتبتهم في نقصهم‪،‬‬
‫والثاني لسائر الناس‪ ،‬ألن ذلك غايتهم وشبيه برتبتهم في نقصهم‪ ،‬والثاني لسائر‬
‫الناس‪ ،‬ألن ذلك جامع للمصالح والمنافع‪ .‬فأما البالغة فإنها زائدة على اإلفهام‬
‫الجيد بالوزن والبناء‪ ،‬والّس جع والتقفية‪ ،‬والحلية الرائعة‪ ،‬وتخّير اللفظ‪ ،‬واختصار‬
‫الّز ينة‪ ،‬بالِّر قة والجزالة والمتانة‪ ،‬وهذا الفن لخاصة النفس‪ ،‬ألن القصد فيه‬
‫اإلطراب بعد اإلفهام والتواصل إلى غاية ما في القلوب لذي الفضل بتقويم البيان"(‬
‫‪ .)13‬وإ ذا كان التركيز في النص الّس ابق على فوارق اإلفهام واإللحاح على‬
‫الخصائص األسلوبية للنص التي تطول مستوياته المختلفة المحققة لإلطراب بعد‬
‫اإلفهام‪ ،‬فإن المنظور الوظيفي المؤسس على مقابلة اإلفهام بالبالغة يقوم على‬
‫مصادرة يتقابل فيها الكالم العادي بالكالم األدبي‪ ،‬إذ إن تحقيق اإلفهام ليس إال‬
‫خالصة لألول‪ ،‬في حين تنتج عن الثاني وظيفة اإلطراب‪ ،‬فالغرض "األول في‬
‫الكالم اإلفادة‪ ،‬وجل األمم على هذا والثاني تحسين اإلفادة"(‪.)14‬‬
‫هذا المنطلق المؤسس لفوارق الكالم العادي والكالم األدبي المحكوم‬
‫بالمنظور الوظيفي ليس حاسمًا في تأكيد الفصل بين الحقلين‪ ،‬إذ إن كّل انحراف‬
‫عن الكالم العادي وإ خراج القول غير مخرج العادة‪ ،‬ليس نفيًا لمستوى االستعمال‬
‫العادي في الكالم‪ ،‬إذ إن ذلك سيحيل القول لغزًا وإ نما المسألة نسبة ما بين‬
‫المستويين‪ ،‬ومرّد ذلك انعكاس الوظيفة أيضًا‪ .‬فالتأثير أو اإلطراب وإ ن أبان عن‬

‫‪- 130 -‬‬


‫وظيفة نوعية إال أنها ال تنفي اإلفهام‪ ،‬وتعاضد الوظيفتين ينعكس في تالحم‬
‫التحسين واإلبانة‪ ،‬أو تالحم العادي وغير العادي في القول‪.‬‬
‫يتجسد المبدأ السابق لدى الفالسفة اإلسالميين في تقصيهم أصناف األلفاظ‬
‫المستعملة في الشعر وغيره من أصناف الخطاب المنطقي في مستوياته المختلفة‬
‫بدءًا من البرهان ثم الجدل فالسفسطة وفي درجة وسطى الخطابة‪ ،‬ضمن مقابلة‬
‫االستعمال اللغوي بين الشعر والعلم عمومًا‪ ،‬أو خصائص اللفظ في الخطاب‬
‫األدبي والعلمي‪ ،‬مع اإلقرار بتفاوت درجات األنواع المتفرعة من كل موقف‪.‬‬
‫وتقصي فوارق اللغة في الخطابين الشعري والبرهاني من جهة‪ ،‬والشعري‬
‫والخطابي من جهة أخرى ال تعنينا في هذا المقام(‪ ،)15‬إنما أساس التقصي في‬
‫موضوعنا هو اللغة في النص األدبي والشعري خصوصًا‪ ،‬في سياق مقابلة الكالم‬
‫العادي بغير العادي ليتسنى لنا البناء على هذا األساس المجسم للوعي بتميز النص‬
‫األدبي بخواص أسلوبية‪ ،‬يظهرها لدى الفالسفة تصّو رهم عالئق األلفاظ بالمعاني‬
‫في مرتبة المحاكاة التي هي الجوهر المحقق للوظيفة الشعرية‪ ،‬ثم عالئقهما في‬
‫مقامات التحسين والهيئات الترتيبية القائمة على أشكال التناسب بينهما‪ ،‬مما يتنّز ل‬
‫في مجرى التشكيالت التي تعضد المحاكاة أو تعّو ض غيابها عن القول المقرر‬
‫المباشر‪.‬‬
‫ويتأسس المدخل الضابط لطبيعة االستعمال الشعري للفظ وللفوارق الفاصلة‬
‫بين طبيعة هذا االستعمال في الشعر وطبيعته في غيره كالمنطق والفلسفة‪ ،‬في قول‬
‫الفارابي‪" :‬وحروف السؤال كثيرة‪" :‬ما" و"أي" و "هل" و "لم" و "كيف" و "كم"‬
‫و"أين" و"متى"‪ .‬وهذه وجل األلفاظ قد تستعمل دالة على معانيها التي للداللة عليها‬
‫وضعت منذ أول ما وضعت‪ ،‬وتستعمل على معاٍن ُأَخ ْر على اتساع ومجاز‬
‫واستعارة‪ ،‬واستعمالها مجازًا واستعارة‪ ،‬هو بعد أن تستعمل دالة على معانيها التي‬
‫لها وضعت من أول ما وضعت‪ .‬والخطابة والشعر فإّن األلفاظ تستعمل فيهما‬
‫بالنوعين جميعًا‪ ،‬وأما الفلسفة والجدل والسفسطائية فال تستعمل فيهما إال على‬
‫المعاني األولى التي ألجلها وضعت أوًال"(‪.)16‬‬
‫يتعاضد استعمال األلفاظ في داللتها الوضعية والمجازية معًا في حقلي‬
‫الخطابة والشعر وتختص الفلسفة والعلوم عامة بتوظيف اللفظ في داللته الوضعية‪،‬‬
‫فيتميز الخطاب األدبي باستغالل أنواع التجّو ز والتوسع المشكلة لخصائصه‬
‫النوعية‪ .‬ويعدد الفارابي األسماء التي يرى أن‪ :‬منها مستعارة‪ ،‬ومنها منقولة‪،‬‬
‫ومنها مشتركة‪ ،‬ومنها ما يقال بتواطؤ‪ ،‬ومنها ما يقال عن الشيء بعموم‬

‫‪- 131 -‬‬


‫وخصوص‪ ،‬ومنها ما هي متباينة‪ ،‬ومنها ما هي مترادفة‪ ،‬ومنها ماهي مشتقة‪ ،‬ثم‬
‫يعّر ف كل نوع على حدة ليخلص إلى تقرير أن "األسماء المستعارة ال تستعمل في‬
‫شيء من العلوم‪ ،‬وال في الجدل‪ ،‬بل في الخطابة والشعر"(‪.)17‬‬
‫وقد وردنا البن سينا وابن رشد نّص ان طويالن تخّلال شرحيهما فّن الّش عر‬
‫األرسطي حددا فيهما أصناف الّلفظ الّد ال‪ ،‬مع ما أوليا هذا الموضوع من وقفات‬
‫وعودات في تلخيص الخطابة‪ .‬وقد انحصر في مراتب أقسام األلفاظ التي يتوّلون‬
‫شرحها مجال االستعمال الّنوعي في الشعر والخطابة أو القول األدبي عمومًا‪.‬‬
‫وهذا التصنيف لأللفاظ ليس إال تفريعًا لحقلي الكالم العادي والكالم األدبي‬
‫المتماّس ين‪ ،‬إذ ال يمكن ضبط الحدود الفاصلة بين المستويين فضًال عن أّن مقولة‬
‫الكالم العادي الخلو من أدنى مراتب االنحراف ليست إّال مقولة تجريدية ال تجسيد‬
‫لها في الواقع‪ .‬يرى ابن سينا أّن "كل لفظ دال‪ ،‬فإّم ا حقيقي ومستول‪ ،‬وإ ّم ا لغة‪،‬‬
‫وإ ما زينة وإ ما موضوع‪ ،‬وإ ما منفصل‪ ،‬وإ ّم ا متغّير"‪ ،‬والحقيقي هو اللفظ المستعمل‬
‫عند الجمهور المطابق بالتواطؤ للمعنى‪ .‬وأما اللغة فهي اللفظ الذي تستعمله قبيلة‬
‫وأمة أخرى وليس من لسان المتكلم‪ ،‬وإ نما أخذ من هناك ككثير من الفارسية‬
‫المعّر بة بعد أن لم يكن مشهورًا متداوًال فقد صار كلغة القوم‪.‬‬
‫وأما النقل فإن يكون أول الوضع والتواطؤ على معنى وقد نقل عنه إلى معنى‬
‫آخر‪ ،‬من غير أن صار كأنه اسمه صيرورة ال يمّيز معهما بين األول والثاني‪،‬‬
‫فتارًة تنقل من الجنس إلى النوع‪ ،‬وتارًة من النوع إلى الجنس‪ ،‬وتارًة من نوع إلى‬
‫نوع آخر‪ ،‬وتارًة إلى منسوب إلى شيء من مشابهه في النسبة إلى رابع‪...‬‬
‫وأما االسم الموضوع المعمول فهو الذي يخترعه الشاعر ويكون هو أول من‬
‫استعمله‪...‬‬
‫وأما االسم المنفصل والمختلط فهو الذي احتيج إلى أن حّر ف عن أصله بمد‬
‫قصر‪ ،‬أو قصر مد‪ ،‬أو ترخيم‪ ،‬أو قلب‪ ،‬وقيل إنه الذي يعسر التفوه به لطوله أو‬
‫لتنافر حروفه واستعصائها على اللسان أو بحال اجتماعها‪ ،‬واألول هو الصحيح‪.‬‬
‫وأما المتغّير وهو المستعار والمشّبه على نحو ما قيل في "الخطابة"‪.‬‬
‫والزينة هي اللفظة التي التدّل بتركيب حروفها وحده‪ ،‬بل بما يقترن به من‬
‫هيئة نغمة ونبرة‪ ،‬وليست للعرب"(‪.)18‬‬
‫يتحدد ضمن أقسام اللفظ السابقة حقل الكالم األدبي بقسميه الخطابة والشعر‪،‬‬
‫وغيره من أصناف الكالم األخرى المشكلة للكالم الصريح سواء انضوت تحت‬

‫‪- 132 -‬‬


‫تفرعات العلم في مفهومه القديم‪ ،‬أم القول المبتذل الهادف إلى اإلفادة والمتداول‬
‫بين الناس المحدد لوظيفة االتصال في طورها األول‪ ،‬فأوضح القول يرى ابن سينا‬
‫أيضًا "وأفضله ما يكون بالتصريح‪ .‬والتصريح هو ما يكون باأللفاظ الحقيقية‬
‫المستولية‪ ،‬وسائر ذلك يدخل ال للتفهيم بل للتعجيب مثل المستعارة‪ ،‬فيجعل القول‬
‫لطيفًا كريمًا‪ .‬واللغة تستعمل لإلغراب والتحيير والرمز‪ ،‬والنقل أيضًا كاالستعارة‪،‬‬
‫وهو ممكن‪ ،‬وكذلك االسم المضّع ف‪ .‬وكّلما اجتمعت هذه كانت الكلمة ألّذ وأغرب‬
‫وبها تفخيم الكالم وخصوصًا األلفاظ المنقولة‪ .‬فلذلك يتضاحكون بالشعراء إذا أتوا‬
‫بلفظ مفصل أو أتوا بنقل أو استعارة يريدون اإليضاح‪ ،‬وال يستعمل شيء منها‬
‫لإليضاح"(‪.)19‬‬
‫وعلى الرغم من أن وظيفة اإليضاح تحددها األلفاظ المستولية أو الحقيقة‬
‫ويتولد من أصناف األلفاظ األخرى وظائف اإلغراب والّر مز والتحيير والتعجيب‪،‬‬
‫المقابلة لإلفهام‪ ،‬فإن للشعراء أن يقصدوا تحقيق وظيفة اإليضاح أيضًا يؤكد ذلك‬
‫مالحظته األخيرة عند عدم إصابة القصد بجمع المختلفين كما يظهر ذلك في‬
‫غرض اإليضاح بتوظيف أقسام اللفظ المؤّد ية لإلغراب والتعجيب‪.‬‬
‫على كل حال يجتمع للشعر وللكالم األدبي عمومًا أن يوظف أصناف األلفاظ‬
‫السابقة عمومًا بما فيها الحقيقي والمستولي‪ ،‬الذي يلتزم به العلم والكالم العادي مع‬
‫اإلقرار بتفاوت القول األدبي‪ ،‬بحسب أنواعه‪ ،‬في توظيف هذه األقسام كمّيًا وكيفيًا‪،‬‬
‫كما يتجسد ذلك أساسًا في الفروق بين الخطابة والشعر ويتأكد هذا التصور لدى‬
‫ابن رشد أيضًا في تعرضه ألقسام االسم على غرار ابن سينا‪ ،‬فيرى أنه إّم ا‬
‫حقيقي‪ ،‬وإ ما دخيل في اللسان‪ ،‬وإ ما منقول نادر االستعمال‪ ،‬وإ ما مزّين‪ ،‬وإ ّم ا‬
‫معمول‪ ،‬وإ ما معقول‪ ،‬وإ ما مفارق‪ ،‬وإ ّم ا مغّير‪ .‬ثم يشرع في تعريف كل نوع مما‬
‫ال يجعله مختلفًا عن ابن سينا إّال في اللفظ‪ ،‬فالتوافق بينهما يكون بين الحقيقي‪ ،‬ثم‬
‫الدخيل الذي يقابله لدى ابن سينا اللغة‪ ،‬وكذا االسم النادر المنقول أو النقل‪ ،‬واالسم‬
‫المعمول أو الموضوع‪ ،‬وكذا المزّينة أو الّز ينة‪ ،‬والمغّيرة أو المتغّير‪ ،‬ويكاد يتحدد‬
‫مفهوم االسم المفارق والمعقول لدى ابن رشد بما يالئم شرح ابن سينا لالسم‬
‫المنفصل والمختلط‪ ،‬حيث يرى ابن رشد انتفاء وجوده في لسان العرب‪ ،‬ثم يرى‬
‫أنه "قد قيل إّنه يعني بالمفارق األسماء المغّيرة بالزيادة فيها والنقصان منها‬
‫والحذف أو القلب‪ .‬وقيل‪ :‬بل يعني بذلك األسماء التي يعسر النطق بها‪ .‬وظاهر‬
‫كالمه (أي أرسطو) أنه اسم كان يؤّلف عندهم من مقاطع محدودة‪ .‬وأما االسم‬
‫المعقول فإنه فيما أحسب الذي سّم اه المختلف‪ ،‬وظاهر كالمه أّنه االسم المحذوف‬

‫‪- 133 -‬‬


‫بالنقصان‪ ،‬مثل األسماء المرّخ مة عندنا"(‪ ،)20‬وال يكاد فصله بين األسم المفارق‬
‫واالسم المعقول يضيف جديدًا‪ ،‬خاصة أن تعريف الثاني ليس إال صورة من‬
‫تعريف األول‪.‬‬
‫والمهم أن مسار الشعر أو القول الشعري عمومًا يتبدى في التوظيف‬
‫المتوازن ألقسام الكالم السابقة‪ ،‬خاصة في الجمع بين االسم الحقيقي وغيره من‬
‫أصناف األسماء األخرى‪ ،‬فكما يرى ابن رشد أن "فضيلة القول الّش عري العفيفي‬
‫أن يكون مؤلفًا من األسماء المستولية ومن تلك األنواع األخر‪ ،‬ويكون الشاعر‬
‫حيث يريد اإليضاح يأتي باألسماء المستولية‪ ،‬وحيث يريد الّتعجيب واإللذاذ يأتي‬
‫بالّص نف اآلخر من األسماء‪ .‬ولذلك قد يتضاحك بمن يريد اإليضاح فيأتي باألسماء‬
‫المشتركة أو الغريبة أو األلسن أو المعموالت‪ .‬ويتضاحك أيضًا بمن يريد الّتعجيب‬
‫واإللذاذ فيأتي باألسماء المبتذلة‪ .‬وكأن الّش اعر يجب له أال يفرط في استعمال‬
‫األسماء الغير مستولية (كذا) فيخرج إلى حّد الرمز‪ ،‬وال أيضًا يفّر ط في األسماء‬
‫المستولية‪ ،‬فيخرج عن طريقة الشعر إلى الكالم المتعارف"‬
‫(‪ ،)21‬فمحصلة التوازن في توظيف االسم الحقيقي‪ ،‬وغيره من أقسام الكالم أو‬
‫األسماء المحكومة بتحقيق وظيفة اإلطراب أو التأثير ال تنفي وظيفة اإلفهام أيضًا‪،‬‬
‫ومزج الوظيفتين ينعكس في طبيعة التوظيف ألقسام الكالم‪.‬‬
‫والمهم أن طريقة الّش عر تقابل طريقة الكالم المتعارف‪ ،‬وعلى الرغم من أن‬
‫الكالم المتعارف مرادف للكالم العادي فإّنه حقل يّتسع ليشمل كل توظيف حقيقي‬
‫للغة بغية إفادة التوضيح في المستوى البرهاني(‪ ،)22‬أو االتصال الهادف إلى‬
‫اإلفهام في طوره األدنى أو العادي في مستوى الكالم العادي‪ ،‬ويتناظر ذلك مع‬
‫مستوى الكالم غير العادي الذي ينضوي تحته كل قول ينزع في بنيته منزعًا‬
‫شعريًا أو خطابيًا‪ ،‬مع اإلقرار بتفاوت االستعمال لعناصر الكالم السابقة بين‬
‫الحقلين مع ما يعضد ذلك من خصائص صوتية تتبدى في الوزن واإليقاع والنبر‬
‫والنغم وتطول الهيئات الخارجية التي تدعم القول اإلنفعالي شعريًا كان أم خطابيًا‪،‬‬
‫كما يرى ذلك خاصة في حركات المتكلم شاعرًا كان أم خطيبًا‪ ،‬ومختلف ما يأتي‬
‫به من هيئات تنضوي تحت ما أسماه الفالسفة "األخذ بالوجوه"‪ .‬ومن هنا إذ تندرج‬
‫لغة الخطابة في خانة الكالم البليغ فإّنها تحتّل رتبة أدنى بالنسبة إلى الشعر‪ ،‬ذلك‬
‫أن هدفها المتجسد في إيقاع اإلقناع المرتبط بنوع من أنواع التصديق ال يخول لها‬
‫االستغالل التام ألشكال التغييرات(‪ )23‬اللغوية كما هو الحال في الشعر‪.‬‬
‫وإ ذا كانت أشكال االنحراف عن الكالم المتعارف انفساحًا لمجال القول‬

‫‪- 134 -‬‬


‫الّش عري عامة‪ ،‬فإن بنية النص المشكلة من توليف األقسام اللفظية السابقة تتناسب‬
‫سياقاتها الّثرية في مستوياتها المختلفة مع ما توفره إمكانات استغالل الوحدات‬
‫الّد الة على مستوى محور االستبدال عبر انتقاء المالئم والمناسب منها‪ ،‬وإ مكانيات‬
‫التوليف التي يفسحها محور التوزيع الذي تتفاعل فيه الدوال في بنية شاملة في‬
‫سياق كلي‪ ،‬من هنا يكون مجال التوسع لدى الفارابي شامًال يطول مستويات النص‬
‫المختلفة‪ ،‬فإذ يرصد ظهور المجازات واالستعارات وأشكال التجوز في الداللة‬
‫على معنًى ما بغير اللفظ الذي وضع له يضع ضمن هذه التجوزات "التوسع في‬
‫العبارة بتكثير األلفاظ وتبديل بعضها ببعض وترتيبها وتحسينها"(‪.)24‬‬
‫ويمكن أن ينضوي تحت العبارة السابقة كل األشكال التحسينية المحدثة‬
‫للهيئات الترتيبية البليغة في الكالم‪ ،‬وتقوم هذه على لحمة بالغية تتراصف فيها‬
‫الوحدات في أشكال ترتيبية مقصودة تتبدى في عالقات الوحدات تركيبيًا‪ ،‬دون أن‬
‫ننسى اإلشارة إلى تكثير اللفظ في أنماط الترادف أو أشكال اإلعادة المختلفة التي‬
‫قد تنتج عن تكرار الوحدات فيها أنغام موسيقية أو بسط للكالم فيما عرف في‬
‫أوساط البالغيين باإلطناب‪.‬‬
‫وعند ابن سينا تشمل التغييرات كل مستويات النص أيضًا‪ ،‬فقد رأينا مصادر‬
‫القول الشعري لديه ضمن أقسام األلفاظ المختلفة‪ ،‬مع شمول مفهوم العدول عنده‬
‫أيضًا‪ ،‬فباإلضافة إلى استغالل النقل واللغة واالستعارة وغيرها مما يحقق إلذاذًا‬
‫وتعجيبًا في القول‪ ،‬يمكن أن تتحقق الصنعة في القول‪" :‬بالتركيب وبالقلب مثل‬
‫قولك‪ :‬ليس اإلنسان بسبب السنة‪ ،‬بل السنة بسبب اإلنسان‪ ،‬والعطف والمطابقة‬
‫وسائر ما قيل في الخطابة"(‪.)25‬‬
‫والتغيير لدى ابن رشد "يعطي في المعنى جودة إفهام‪ ،‬وغرابة‪ ،‬ولذة"(‪،)26‬‬
‫وهو يشمل مستويات النص المختلفة‪ ،‬فالقول "إنما يكون مختلفًا‪ ،‬أي مغيرًا عن‬
‫القول الحقيقي من حيث توضع فيه األسماء متوافقة في الموازنة والمقدار‪،‬‬
‫وباألسماء الغريبة‪ ،‬وبغير ذلك من أنواع التغيير"(‪ ،)27‬ويفصل القول في أشكال‬
‫هذه التغيرات فيراها "تكون بالموازنة والموافقة واإلبدال والتشبيه‪ ،‬وبالجملة‪:‬‬
‫بإخراج القول غير مخرج العادة‪ ،‬مثل‪ :‬القلب والحذف والزيادة والنقصان والتقديم‬
‫والتأخير وتغيير القول من اإليجاب إلى الّس لب ومن الّس لب إلى اإليجاب‪،‬‬
‫وبالجملة‪ :‬من المقابل إلى المقابل‪ ،‬وبالجملة‪ :‬بجميع األنواع التي تسمى مجازًا"(‬
‫‪.)28‬‬
‫فواضح أن أشكال التغيير تتسع لتشمل كل إخراج للقول غير مخرج العادة‬

‫‪- 135 -‬‬


‫سواء تعلق األمر بمستوى الداللة في النص كما يظهر في قصد التشبيه واإلبدال‪،‬‬
‫وأنواع المجاز‪ ،‬أّم مستوى التركيب كما يتبدى في أشكال الترتيب الحادثة بين‬
‫وحدات النص خاصة في حالة التقديم والتأخير والحذف‪ ،‬وأشكال التناسب الحادثة‬
‫من اعتماد نسق التوازن بين الوحدات في المستوى المعنوي كما تظهر في‬
‫التطابق والتقابل‪ ،‬وفي المستوى الصوتي أو اللفظي كما يتحقق في الجناس مع ما‬
‫يتشكل من أنماط التوازن والتوافق من موسيقى‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن أبا حيان التوحيدي يوزع المعنى واللفظ بين العقل‬
‫والحس مستندًا في ذلك إلى رأي أبي سليمان المنطقي‪ ،‬فيرى أنه الحظ للفظ عند‬
‫العقل ما دام يطلب المعنى‪ ،‬فإّنه يرى مع ذلك أن العقل "يتخير لفظًا بعد لفظ‪،‬‬
‫ويعشق صورة دون صورة‪ ،‬ويأنس بوزن دون وزن"(‪ )29‬وتخير اللفظ إقرار‬
‫بانتقاء الدوال وإ حساس بالتمايز بين األلفاظ في مستواها اإلفرادي الذي سيعضده‬
‫مفهوم للبيان شامل لديه يقوم "على صحة التقسيم وتخير اللفظ وترتيب النظم‬
‫وتقريب المراد‪ .‬ومعرفة الوصل والفصل‪ ،‬وتوخي الزمان والمكان‪ ،‬ومجانبة‬
‫العسف واالستكراه‪ ،‬وطلب العفو كيف كان"(‪ ،)30‬وهكذا يكون مستوى البيان‬
‫شامًال يراعى فيه اللفظ‪ ،‬والنظم في داللته العامة‪ ،‬مّم ا يغطي عناصر النص‬
‫المختلفة أيضًا وإ ن تميز األمر لدى التوحيدي بالمصادرة على اللفظ والمعنى‪،‬‬
‫وعلى النظم في اآلن نفسه‪.‬‬
‫ويعود التوحيدي إلى الفكرة نفسها بمزيد من الّتدقيق والضبط فيما يرويه عن‬
‫أبي سعيد السيرافي مخاطبًا أبا بشر بن يونس في المناظرة المشهورة‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫"وقّد ر اللفظ على المعنى فال يفضل عنه‪ ،‬وقّد ر المعنى على اللفظ فال ينقص منه‪،‬‬
‫هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ماهو به‪ .‬فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط‬
‫المراد فأجل اللفظ بالروادف الموضحة واألشباه المقربة‪ ،‬واالستعارات الممتعة‬
‫وبّين المعاني بالبالغة‪ ،‬أعني لوح منها لشيء حتى ال تصاب إال بالبحث عنها‬
‫والشوق إليها‪ ،‬ألن المطلوب إذا ظفر به على الوجه عز وحال وكرم وعال‪،‬‬
‫واشرح شيئًا حتى ال يمكن أن يمترى فيه أو يتعب في فهمه أو يعرج عنه‬
‫الغتماضه فهذا المذهب يكون جامعًا لحقائق األشباه وألشباه الحقائق"(‪ .)31‬وتبدو‬
‫إشارة التوحيدي إلى التلويح أو اإليحاء طريفة‪ ،‬فاإليحاء يزيد لغة األدب رسوخًا‬
‫في األدبية‪ ،‬وهو ال ينسى الدعوة إلى تكامل الغموض الناتج عن توظيف طاقة‬
‫اإليحاء في اللغة مع المستوى الشارح من القول‪ ،‬مما يعيد إلى الذهن فكرة التوليف‬
‫بين المباشر وغير المباشر أو العادي وغير العادي‪.‬‬

‫‪- 136 -‬‬


‫والمهم أن المستويات المختلفة لبنية النص دالليًا وتركيبًا وصوتيًا التي‬
‫يباشرها الفالسفة باالرتكاز على ثنائية اللفظ والمعنى أو االعتماد على بسطها في‬
‫أنماط الترتيبات والهيئات الحاصلة من التحسينات المختلفة في القول المؤسسة‬
‫على الجوهر المحاكي‪ ،‬تحددت باالنطالق من مفهوم راسخ لدى الفالسفة يقوم‬
‫على اإليمان بفكرة التوسيع والتجوز وإ خراج القول غير مخرج العادة‪ .‬هذه‬
‫المستويات المختلفة للنص تبدو في التوزيع الفلسفي مراتب حسب األهمّية أو‬
‫األولوية‪ ،‬ذلك أن المنظور الوظيفي للخطاب األدبي عمومًا وللنص الشعري‬
‫خصوصًا هو الذي حدد خصائص بنيتهما‪ ،‬من هنا كان جوهر الشعرية في النص‬
‫متجسدًا في المحاكاة التي تتأسس عبر الخواص الصورية‪ ،‬أي انطالقًا من صلة‬
‫المعنى باللفظ‪ ،‬مع ما يعضد ذلك من وزن‪ ،‬هذا في المستوى الجوهري من بنية‬
‫النص الذي تثريه التشكيالت الّتحسينية التي تحدثها أنماط الترتيبات المختلفة في‬
‫أنماط التوازن والتوافق بين المعاني من جهة واأللفاظ من جهة أخرى‪ ،‬مما يشّك ل‬
‫في عمومه طبقة عرضية فوق طبقة المحاكاة في المعنى‪ .‬هذا التصور يقتضي‬
‫التعرض مبدئيًا للحمة المعنى واللفظ في مستوى المحاكاة األول ليردف بالمستوى‬
‫التحسيني العرضي ثانيًا‪.‬‬

‫المستوى المعني للمحاكاة والخاصية النوعية للشعر‬


‫يضطرنا المرور إلى المستوى الجوهري للمحاكاة المتحقق في لحمة المعنى‬
‫واللفظ‪ ،‬باعتبار أن فعل المحاكاة أو أساسها إنما هو خواص صورية يتشكل وفقها‬
‫المعنى ليتسنى له الدخول إلى خانة الشعرية‪ ،‬إلى الكشف عن األصول العامة‬
‫المؤسسة للمحاكاة‪ ،‬ذلك أن المنظور الوظيفي للشعر القائم على فكرة التخييل لدى‬
‫الفالسفة يعتمد في مستوى المفهوم على فكرة المحاكاة التي قد تتعادل مع اصطالح‬
‫التخييل‪ .‬فالمحاكاة المتحققة في الصياغة الجمالية للمحاكى تختزل منطلقات مفهوم‬
‫الشعر لدى الفالسفة في كونه إخراجًا جماليًا بالصياغة المميزة للموضوع‪ ،‬حيث‬
‫يمّك ن هذا المفهوم من وضع الشعر ضمن دائرة الفنون باالستناد إلى صالت‬
‫التشابه بينه وبينها‪ ،‬وباالعتماد على الخواّص الشكلية المتميزة التي يصوغ فيها‬
‫الشعر معانيه‪ ،‬ومع ذلك احتل الشعر موقعه ضمن بناء منطقي شامل ألصناف‬
‫الخطابات المنطقية نزًال من البرهان المحقق لليقين فالجدل والسفسطة ثم الخطابة‬
‫والشعر‪ ،‬فاعتبار الشعر تخييًال ليس إال إسناد مهمة نوعية للشعر ضمن جملة‬
‫المنطق عمومًا(‪.)32‬‬

‫‪- 137 -‬‬


‫ويتألف مع المفهوم المشّك ل لحد الشعر لدى الفالسفة اإلسالميين‪ ،‬المنظور‬
‫الجمالي للخطاب الشعري‪ ،‬ذلك أن المحاكاة "هي إيراد مثل الشيء وليس هو هو"(‬
‫‪ .)33‬فالمستوى النوعي في صياغة المعطى الحيوي هو الذي سيمّيز الشعر في‬
‫سّلم الخطابات المنطقية عمومًا‪ ،‬إذ سيفرده بالخواّص الصورية التي تؤسس جوهر‬
‫المحاكاة بما يضمنها من وزن وترتيبات تحسينية تلحق المعنى واللفظ وغيرها من‬
‫العناصر الداعمة لفعل المحاكاة والتخييل‪.‬‬
‫يتأسس مفهوم الشعر ومهمته على قناعة معرفية تمثل ركنًا في نظرية‬
‫الفالسفة اإلسالميين في المعرفة‪ ،‬وذلك أن مراتب الناس في اإلدراك متفاوتة فإذا‬
‫يتسّنى للبعض تمّثل البرهان في يقينه وإ دراك الخطاب الفلسفي في عمقه‬
‫التجريدي‪ ،‬لم يتمكن غير هؤالء من الجمهور من تجاوز سّلم الخطابة والشعر إذ‬
‫إن أذهان هؤالء فطرت أو مرنت على ربط كل تصور إدراكي بأمثلة األشياء‪ ،‬فال‬
‫يعدم هؤالء إلباس كل معنى عميق بمثاله أو صورته الشارحة القائمة على‬
‫المستوى الحسّي من المعرفة‪ ،‬من هنا يتوسل في شرح معاني الحكمة العميقة‬
‫لهؤالء باألقوال التخييلية في الشعر‪ ،‬واإلقناعية في الخطابة التي إن حققت نوعًا‬
‫من الّتصديق الخطابي فإّنها تستفيد من خواّص التغيير الشعري وتستعملها بقدر‬
‫طبقًا لوظيفتها في اإلقناع‪ .‬لهذه الفئة التي عدمت القدرة على تعاطي المجرد‬
‫يوضع القول األدبي عمومًا‪ ،‬ليتسنى رفدها بالمعرفة بعد وضعها في قالب حسي‬
‫كما يتجسد خاصة في الشعر(‪.)34‬‬
‫يحيل هذا المستوى المعرفي على تصور الفالسفة اإلسالميين للنفس البشرية‬
‫وملكاتها وقدراتها المختلفة وتفاوت هذه القدرات والملكات في القيمة‪ .‬وآراء‬
‫الفالسفة في النفس البشرية ووظائفها تمثل أساسًا التحم بحد الشعر لديهم‪ ،‬ذلك أن‬
‫قوى النفس المدركة لدى الفالسفة تختزلها مراتب أساسية ثالث هي‪ :‬الحس‬
‫والتخيل والعقل مع اإلقرار بتفرعات كل مستوى(‪ ،)35‬فإذا كانت مرتبة العقل‬
‫حضنًا للدرجة العالية في المعرفة كما تتمثل في الفلسفة والمنطق‪ ،‬وكل ما يحتاج‬
‫فيه إلى قدر عال من التجريد‪ ،‬ويمثل الحس القناة األولى في التعرف على‬
‫الموجودات في إطارها الحسي‪ ،‬فإن مخزون الحس يمثل بدوره رافد المخيلة‬
‫يمدها برصيد المدرك الحسي الذي يتيح لها ممارسة وظائفها‪ ،‬ومن هنا تتحدد‬
‫منطقة الشعر في هذا المستوى الوسط‪ ،‬إذ يكون كل قول شعري إنما هو تشكيل‬
‫لمحسوسات أدركت إفرادًا‪ ،‬وإ عادة لصياغتها وترتيبها وفق المقصد مما يدلل لدى‬
‫الفالسفة على البرهان عن األصل السيكولوجي لفعل المحاكاة والتخييل‪.‬‬

‫‪- 138 -‬‬


‫غير أن األصول المنطقية والمعرفية والجذر النفسي المؤسسة لمفهوم الشعر‬
‫ومهمته لدى الفالسفة‪ ،‬بقدر ما تثقل الشعر وتجذبه نحو قيود المنطق وتهويمات‬
‫المخيلة وحصار الوظيفة الشارحة والتابعة‪ ،‬تقوم على تأكيد الخاصية النوعية‬
‫للشعر التي تتجسد في الصياغة المميزة للمعنى‪ ،‬وهذه الخاصية المميزة تقوم أيضًا‬
‫على مسّلمة لدى الفالسفة اإلسالميين تحيل على حقل اإللهيات لديهم‪ ،‬واألصول‬
‫الكلية الّنابعة من هذا العلم التي تشّك ل بدورها مفاتيح البرهان والبحث في ما عداها‬
‫من فنون المعرفة‪ .‬هذه المسلمة تقوم على فكرة المادة والصورة التي تختزل‬
‫مبادئ البرهنة على وجود كل كائن‪ ،‬إذ تراه خالصة النطباع صورة تهبه وجوده‬
‫وخصائصه على هيولى تمثل وجودًا بالقوة‪ ،‬وإ ن كان من قناعات الفالسفة أن ال‬
‫وجود للصورة إال بالمادة والعكس صحيح‪ ،‬لذلك يكون االقتراب من خواص‬
‫الشعر كامنًا في اإلقرار بقدرته المتميزة على صياغة المعنى في بنية من‬
‫التصوير‪ ،‬وتكون هذه الخاصية هي التجسيد الفعلي للفكرة الفلسفية السابقة في‬
‫الشعر(‪.)36‬‬
‫هذا األساس الفلسفي األخير الذي يمثل أّس اسًا آخرًا ينضاف إلى بقية األسس‬
‫الفلسفية المبرهنة على وضع الشعر وغيره من فنون الخطابات األدبية ضمن‬
‫البناء الفكري لفالسفة اإلسالم يتيح لنا المرور‪ ،‬عقب هذه الوقفة الشارحة لخلفيات‬
‫منطلقات الفالسفة في ضبط مفهوم الشعر إلى مستوى النص في ذاته ومحاولة‬
‫كشف طروحات الفالسفة وتصوراتهم لبنيته النوعية‪ ،‬ذلك أن مهمتنا تعقب‬
‫المستوى اللغوي المجّس د لنوعية القول الشعري الذي ال يمثل سوى تفريع أو إعادة‬
‫لمقولة المعنى واللفظ‪ ،‬وخارج هذا اإلطار من رصد المفهوم أو المهمة وما‬
‫يشبههما من مواضع البحث في الشعر ليست من عناصر اهتمامنا في هذا‬
‫الموضوع‪.‬‬
‫اهتم ابن سينا بفكرة الهيئة الناتجة عن خصائص التناول الشعري للمعنى‬
‫القائمة أساسًا على المحاكاة بما يرفدها من إيقاع‪ ،‬دون أن ينسى عناصر أخرى‬
‫تدعم الشعر في أداء وظيفته‪ ،‬فالتخييل المحرك من القول متعّلق "إما بجودة هيئته‪،‬‬
‫أو قّو ة صدقه‪ ،‬أو قوة شهرته‪ ،‬أو حسن محاكاته"(‪ ،)37‬إال أنه ال يلبث أن يرى‬
‫أنه‪" :‬قد نخص باسم المخيالت‪ ،‬ما يكون تأثيره بالمحاكاة"(‪ ،)38‬فيركز جوهر‬
‫الشعر في المحاكاة المتشكلة أساسًا من الصياغة المتميزة للمعنى‪ .‬تتجّس د لدى ابن‬
‫سينا فكرة الهيئة في االنقالب الذي تحدثه في أصل المعنى ليستحيل شعريًا‪،‬‬
‫وعملية التغيير الطارئة على المعاني في إطارها التصديقي هي التناول الشعري‬

‫‪- 139 -‬‬


‫لها الذي يصوغها وفق خصائصه‪ ،‬فالمخّي ل "هو الكالم الذي تذعن له النفس‬
‫فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روّية وفكر واختيار‪ ،‬وبالجملة تنفعل‬
‫له انفعاًال نفسانيًا غير فكري‪ ،‬سواء كان المقول مصدقًا به أو غير مصدق‪ .‬فإّن‬
‫كونه مصدقًا به غير كونه مخّيًال أو غير مخّي ل‪ :‬فإنه قد يصدق بقول من األقوال‬
‫وال ينفعل عنه‪ ،‬فإن قيل مرة أخرى وعلى هيئة أخرى انفعلت النفس عنه طاعة‬
‫للتخييل ال للتصديق‪ ،‬فكثيرًا ما يؤثر االنفعال وال يحدث تصديقًا وربما كان المتيقن‬
‫كذبه متخيًال"(‪ .)39‬صحيح أن ابن سينا يقر بأن جوهر المعنى قد ال يتغير جذريًا‪،‬‬
‫ذلك أن إعادة القول مرة أخرى وعلى هيئة أخرى إيمان بأن الشعر تشكيل لموجود‬
‫وليس إيجادًا لمعنى جديد يولده الّس ياق المستقل‪ ،‬إال أن الهيئة الطارئة تشي بفهم‬
‫لنوعية الصياغة الشعرية المتميزة التي تضعها في مواجهة القول التصديقي‪ ،‬يتأكد‬
‫ذلك في وقفة البن سينا في الموضوع نفسه يرى فيها أن "القول الّص ادق إذا ُح ّر ف‬
‫عن العادة وألحق به شيء تستأنس به النفس‪ ،‬فربما أفاد الّتصديق والّتخييل معًا‪،‬‬
‫وربما شغل التخييل عن االلتفات إلى التصديق والشعور به"(‪ ،)40‬وهكذا تكسب‬
‫عملية التشكيل الشعري للمعنى إذا تتأسس على مسلمة االنحراف عن العادة –كما‬
‫ورد في النص السابق‪ -‬خصوصيتها من تعاضد مستويات القول المحتشدة لتحقيق‬
‫اآلية المتمثلة في إحداث التخييل في المتلقي‪ ،‬من هنا يوثق ابن سينا فكرة الهيئة‬
‫السابقة بتفصيل أقسامها في النص وتشّخ صاتها الحسية ذلك أن "األمور التي تجعل‬
‫القول مخيًال‪ :‬منها أمور تتعلق بزمان القول وعدد زمانه وهو الوزن‪ ،‬ومنها أمور‬
‫تتعلق بالمسموع من القول‪ ،‬ومنها أمور تتعلق بالمفهوم من القول‪ ،‬ومنها أمور‬
‫تتردد بين المسموع والمفهوم‪ .‬وكل واحد من المعجب بالمسموع أو المفهوم على‬
‫وجهين‪ ،‬ألنه إّم ا أن يكون من غير حيلة بل يكون نفس اللفظ فصيحًا من غير‬
‫صنعة فيه‪ ،‬أو يكون نفس المعنى غريبًا من غير صنعة إّال غرابة المحاكاة‬
‫والتخييل الذي فيه‪ .‬وإ ما أن يكون التعّج ب منه صادرًا عن حيلة في اللفظ أو‬
‫المعنى"(‪.)41‬‬
‫وهنا ترتّد الخواّص الصياغية التي َتهُب القول طاقة التخييل إلى اللفظ والمعنى مطلقًا لتكون فيهما‬
‫أصًال وجوهرًا إذا وّلدا التخييل لخواص فيهما تتوفر لهما إذا صيغا وفق خصائص الخطاب الشعري‬
‫واألدبي عمومًا ‪ .‬وقد تتولد منهما بحيلة وصنعة‪ ،‬وهو ما سيعرف لدى الفالسفة بأشكال التناسب‬
‫والهيئات التحسينية التي تشكل مستوًى ثانويًا في سّلم الّتخييل‪ ،‬وذلك إذا رّتبا ورتب ما يتفرع منهما من‬
‫أصناف التراكيب وفق الهيئات الجمالية التحسينية‪ .‬أما ما يتعلق بزمان القول وعدد زمانه الذي هو‬
‫الوزن فإّنه ليس إال إيقاعًا تفرزه أنماط التناسب الحادثة بين األصوات وتوزيعها المنسجم والمتردد وفق‬
‫الزمن‪ ،‬وهذا يرتّد إلى اللفظ أيضًا في مستواه الّص وتي الموّلد لموسيقى القصيدة‪ ،‬ومن هنا تكون‬
‫المستويات الصوتية والتركيبية والداللية مراتب تتكامل وفق التصور الخاص لصلة المعنى باللفظ أو‬
‫للطاقات التخييلية التي تعلق بكل طرف‪ .‬نلمس ذلك في عودة البن سينا للموضوع نفسه باعتماد الشاهد‬

‫‪- 140 -‬‬


‫حيث يرى "أن القول الشعري يتألف من مقدمات مخيلة‪ ،‬وتكون تلك المقدمات موجهة تارًة بحيلة من‬
‫الحيل الصناعية نحو التخييل‪ ،‬وتارًة لذواتها بال حيلة من الحيل‪ ،‬وهي أن تكون إما في لفظها مقولة‬
‫باللفظ البليغ الفصيح بحسب اللغة‪ ،‬أو أن تكون في معناها ذات معنًى بديع في نفسه‪ ،‬ال بحيلة قارنته‪،‬‬
‫مثال ذلك القول القائل‪:‬‬

‫بس‪:::::::‬هميك في أعش‪:::::::‬ار قلب مفّتل‬ ‫وم‪:‬ا ذرفت عين‪:‬اك إّال لتض‪:‬ربي‬


‫وأما في المعنى كقوله‪:‬‬
‫لدى وكرها الُعّذاب والحشف البالي‬ ‫كأّن قلوب الطير رطبًا ويابسًا‬
‫ومن هذا الباب جودة العبارة عن المعنى وتضمين معاٍن كثيرة في قسمة بيت‬
‫واحد من غير تقصير في العبارة"(‪.)42‬‬
‫فاالرتداد بفعالية التخييل إلى خواص في اللفظ أو في المعنى إقرار صريح‬
‫بالتمييز بين العنصرين وإ ن لم ينبن على ذلك تقديم طرف على آخر‪ ،‬وذلك أن‬
‫تمام القول الشعري يكون في تعاضد المستويات اللفظية والمعنوية على تحقيق‬
‫الوظيفة‪ .‬غير أن الداللة المستخلصة من القول ال تبدو إفرازًا عميقًا للحمة ناظمة‬
‫بين عناصره المختلفة المرتّد ة إلى تفاعل اللفظ والمعنى أو تفريعاتهما في مراتب‬
‫الداللة والتركيب والصوت‪ ،‬إنما يبدو أن لكل طرف فعالية مستقلة أو كالمستقلة‬
‫ويكون الكمال في تراكم هذه الفعاليات باإلضافة‪ ،‬فابن سينا يرى في البيت األخير‬
‫شاهدًا للمعنى البديع في ذاته الخالص من حيل التخييل وصنعته‪ ،‬والمعنى البديع‬
‫هنا يتمّثل في الصورة القائمة في البيت على التشبيه‪ ،‬وقد أفرط األقدمون بمختلف‬
‫طوائفهم في اإلعجاب بهذا البيت واعتباره سبقًا‪ ،‬إذ فيه تشبيه شيئين اثنين بشيئين‬
‫اثنين‪ ،‬إال أن حمل البيت األول على النوع الذي توّفر لـه اللفظ البليغ الفصيح‬
‫بحسب اللغة –كما يرى‪ -‬مدعاة إلى إثارة بعض الشك‪ ،‬ذلك أن البيت يقوم على‬
‫استغالل الصورة أيضًا وذلك في استعارة السهم للعين‪ ،‬ولعل الذي دعا ابن سينا‬
‫إلى اعتبار هذا البيت شاهدًا للفظ الفصيح هو قوة ألفاظه وشّد ة أصواته‪ ،‬غير أن‬
‫ذلك ال يمنع من اعتبار البيت أنموذجًا لتعاضد فصيح اللفظ مع بديع المعنى‪ ،‬على‬
‫أن المنظور الثنائي المؤسس على قناعات فكرية ترتد إلى أصول منطقية يتحكم‬
‫في تشخيص بنية القول الشعري لفظًا ومعنى‪ .‬ويكاد ابن سينا يستدرك ما فات في‬
‫قوله في آخر النص "إّن من هذا الباب جودة العبارة عن المعنى وتضمين معاٍن‬
‫كثيرة في قسمة بيت واحد من غير تقصير في العبارة "وإ ن كان يفهم من القول‬
‫اإلقرار بتالزم اإلجادة في المعنى واللفظ إال أن هناك تمييزًا بينهما‪ ،‬فإذا كانت حّد ة‬
‫هذا الّتمييز خافتة في الدعوة إلى جودة العبارة عن المعنى‪ ،‬فإن الخشية من وقوع‬

‫‪- 141 -‬‬


‫القصور في العبارة مع تضمين القول معاني كثيرة –استغالًال لطاقات اللغة في‬
‫التعبير واإليحاء‪ -‬كشف لعدم الوعي بالتكامل الدقيق بين المعاني العميقة المتفاعلة‬
‫مع العبارات التي تؤديها‪.‬‬
‫ويتأكد إسناد ابن سينا الفعالية إلى الطرفين مع التمييز بينهما في قوله‪" :‬وما‬
‫كان من أجزاء الشعر بّطاًال ليس فيه صنعة ومحاكاة‪ ،‬بل هو شيء ساذج‪ ،‬فحقه أن‬
‫يعنى فيه بفصاحة اللفظ وقوته‪ ،‬ليتدارك به تقصير المعنى‪ ،‬وتتجنب فيه البذالة‪،‬‬
‫اللهم إال أن يكون شديد االشتهار كمثل مضروب"(‪ ،)43‬فإكمال تقصير المعنى‬
‫بفصاحة اللفظ إقرار بتمييز الطرفين‪ ،‬وكأن الفصاحة هنا لفظية تتميز بخواص‬
‫صوتية في القول دون أن يكون لهذه الخواص قدرة اإليحاء بالمعنى نفسه‪ .‬لكن‬
‫لموقف ابن سينا فضيلة تتجسد في اشتراطه فصاحة اللفظ مما يكشف عن تمايز‬
‫األلفاظ في التعبير عن المعنى الواحد‪ ،‬مما يحقق إمكان االختيار بين الدوال في‬
‫التعبير عن المدلوالت‪ ،‬ومع ذلك يظل إحساسه بالهيئات الناتجة عن تكامل عناصر‬
‫الصياغة في النص األدبي دليًال على وعي بإحساس متميز ببنية النص الشعري‪.‬‬
‫أما الفارابي فقد كان له السبق إلى ضبط عناصر التخييل في القول التي ينتظمها‬
‫المعنى واللفظ أيضًا‪ ،‬مع التنويه باإليقاع بما فيه القافية‪ .‬يقول محددًا خواص‬
‫الشعر عند الجمهور وعند كثير من الشعراء الذين "يرون أن القول شعر متى كان‬
‫موزونًا مقسومًا بأجزاء ينطق بها في أزمنة متساوية‪ ،‬وليس يبالون كانت مؤلفة‬
‫مّم ا يحاكي الشيء أم ال‪ ،‬وال يبالون بألفاظه كيف كانت بعد أن تكون فصيحة في‬
‫ذلك اللسان‪ ،‬بل يؤثرون منها ما كان مشهورًا سهًال‪ ،‬وكثيٌر منهم يشترطون فيها‬
‫مع ذلك تساوي نهايات أجزائها‪ ،‬وذلك إّم ا أن تكون حروفًا واحدة بأعيانها أو‬
‫حروفًا ينطق بها في أزمان متساوية"(‪ ،)44‬فهناك اإللحاح على ضرورة تحقق‬
‫المحاكاة التي تكمن في الطريقة الممّيزة في تقديم الشيء‪ ،‬مع انتقاٍء للفظ يتجاوز‬
‫المشهور والسهل‪ ،‬باإلضافة إلى مستوى اإليقاع والقافية‪.‬‬
‫ويعود الفارابي إلى الموضوع بمزيد من التدقيق باعتماد مصطلحي المعنى‬
‫واللفظ لتوثيق خاصية المحاكاة في القول إذ إن األشعار "إنما تصير أكمل وأفضل‬
‫بألفاظ ما محدودة (إما غريبة وإ ما مشهورة)‪ ،‬وأن تكون المعاني المفهومة عن‬
‫ألفاظها أمورًا تحاكي األمور التي فيها القول‪ ،‬وأن تكون بإيقاع‪ ،‬وأن تكون‬
‫مقسومة األجزاء وأن تكون أجزاؤها في كل إيقاع سّالبات وأسباب وأوتاد محدودة‬
‫العدد‪ ،‬وأن يكون ترتيبها في كل وزن ترتيبًا محدودًا‪ ،‬وأن يكون ترتيبها في كل‬
‫جزء هو ترتيبها في اآلخر (فإن بهذا تصير أجزاؤها متساوية في زمان النطق‬

‫‪- 142 -‬‬


‫بها) وأن تكون ألفاظها في كل وزن مرتبة ترتيبًا محدودًا‪ ،‬وأن تكون نهاياتها‬
‫محدودة "إّم ا بحروف بأعيانها أو بحروف متساوية في زمان النطق بها‪ ،‬وأن تكون‬
‫ألفاظها أيضًا كالمحاكية لألمر الذي فيه القول‪ ،‬ثم أن تكون ملحنة"(‪.)45‬‬
‫فالمحاكاة تتحقق بالمعاني المفهومة من األلفاظ‪ ،‬هذه األخيرة يشترط فيها‬
‫أيضًا أن تكون كالمحاكية لألمر الذي فيه القول‪ ،‬ويدعم ذلك الوزن الذي هو‬
‫خالصة لترتيب صوتي وفق نسب معّينة‪ ،‬ثم الّلحن‪ .‬غير أّن الجوهر يظل في‬
‫المعنى واللفظ اللذين يمثالن ركيزة القول األدبي عمومًا سواء في مستوى الخطابة‬
‫أم الشعر‪ ،‬أو في مستوى القول الشعري الذي يغيب عنه الوزن الشعري وتتحقق‬
‫فيه المحاكاة‪ .‬فطبيعة تشكيل المعنى واللفظ تمثل جوهر الخطاب األدبي عامة‪ ،‬ثم‬
‫تضاف إلى هذا الجوهر أعراض أو تستخلص من كيفية ترابط ركنيه خصائص‬
‫تضع القول في خانة الشعر أو الخطابة أو النثر الفني عمومًا‪ .‬ونجد أن خيط اللفظ‬
‫والمعنى يمثل المسار الخفي المزدوج الذي يشكل أساس تصور الفالسفة لبنية‬
‫النص األدبي عمومًا‪ ،‬ذلك أن المحاكاة التي هي قاعدة القول ليست إال خاصية في‬
‫المعنى يعضدها مستوى الفصاحة في اللفظ‪ ،‬وبتكاملهما يتكامل للقول خواصه‬
‫الشعرية التي قد تزداد اختصاصًا بالوزن لتستحيل شعرًا أو تخفت فيها كثافة‬
‫المحاكاة لتكون خطبة مع ما يرفدها من أساليب إيقاعية ذاتية‪.‬‬
‫واألمر مطابق لما سلف لدى ابن رشد أيضًا إذ إنه يرى أن "المحاكاة في‬
‫األقاويل الشعرية تكون من قبل ثالثة أشياء‪ :‬من قبل النغم المتفقة‪ ،‬ومن قبل‬
‫الوزن‪ ،‬ومن قبل التشبيه نفسه"(‪)46‬؛ وعلى الرغم من أنه كان يقابل في القول‬
‫السابق بين الشعر وغيره من الفنون‪ ،‬فإّن تخصيص المحاكاة الشعرية بالّتشبيه‬
‫المرادف للمحاكاة التي ستكون محصلة للمعنى المستخلص من اللفظ‪ ،‬وما يدعمها‬
‫من وزن‪ ،‬ونغم أحيانًا ويراد به األلحان الموسيقية التي قد تضاف إلى الشعر‪ ،‬سير‬
‫في الطريق الذي عّبده سابقوه‪ ،‬يتأكد ذلك في قوله "ومتى طال الكالم وليس فيه‬
‫تغيير وال محاكاة‪ ،‬فينبغي أن يعتنى في ذلك بإيراد األلفاظ البّينة الداللة‪ ،‬وهي التي‬
‫تدل على أشياء بعينها‪ ،‬ال على أشياء متضادة أو مختلفة‪ ،‬ويكون تركيبها على‬
‫المشهور عندهم‪ ،‬وتكون سهلة عند النطق‪ .‬ويشبه أن يكون هذا هو أكثر ما ينطلق‬
‫عليه في لسان العرب اسم‪" :‬الفصاحة"‪ ،‬إال أن يكون ذلك القول ظاهر الصدق‬
‫ومشهورًا‪ ،‬فإن الصدق الذي يتضمنه يشفع لما فيه من قلة الفصاحة وقلة التغيير‬
‫والمحاكاة"(‪ )47‬وإ كمال القصور في المحاكاة بإيفاء اللفظ حقه من الفصاحة‪ ،‬إعادة‬
‫لتأكيد اإليمان بخواّص للفظ ترتّد إليه في ذاته تدعم مستوى المعنى من القول‪.‬‬

‫‪- 143 -‬‬


‫فإذا قصدنا حصر القول في خانة الشعر بانت لزامًا اعتبار أن الشعرية فيه إنما‬
‫تكمن في المحاكاة مع ما يعضدها من وزن‪ ،‬إذ بتعاضد المحاكاة في المعنى مع ما‬
‫يدعمها من خصائص الفصاحة اللفظية‪ ،‬واإليقاع الموسيقي تركيز لخواّص القول‬
‫البليغ في منتهى طاقاته التعبيرية‪ ،‬هذه الطاقات التي تمّثل قمة هرم القول األدبي‬
‫الذي يتحقق له النوع وفق قسطه من المحاكاة والوزن كميًا ونوعيًا‪ ،‬فتكون أصناف‬
‫األقوال البليغة مترتبة بدءًا من النثر الفني والخطابة ثم الشعر "فقوام الشعر وجوهره‬
‫عند القدماء هو أن يكون قوًال مؤّلفًا مما يحاكي األمر وأن يكون مقسومًا بأجزاء‬
‫ينطق بها في أزمنة متساوية‪ ،‬ثم سائر ما فيه فليس بضرورة في قوام جوهره وإ نما‬
‫هي أشياء يصير بها الشعر أفضل"(‪ .)48‬وعند ابن سينا يكون الكالم شعرًا أيضًا‬
‫"بأن يجتمع فيه القول المخيل والوزن"(‪ ،)49‬تمامًا كما يرى ابن رشد ضرورة أن‬
‫يوجد في الشعر األمران معًا(‪.)50‬‬
‫غير أن عملية فحص مقاصد الفالسفة من المحاكاة والوزن باعتبارهما‬
‫تشكيالت متحققة في تضام وحدات النص‪ ،‬ستبرز حدود الفهم الذي أقاموه لهذا‬
‫التضام ولعالقة المعنى باللفظ في السياق‪ .‬ففي مستوى المحاكاة ستتجّس د خواّص‬
‫الشعر النوعية المنسحبة على الصورة البالغية عمومًا التي بواسطتها يكتسب‬
‫الشعر طابعه الحّس ي الّنوعي مقابل المستوى التجريدي للخطاب الفلسفي والعلمي‪،‬‬
‫ذلك أنه ينبغي أن يتحقق في كل محاكاة "حفظ للطبيعة الشعرية وللمحسوس‬
‫المعروف عن حال الشعر"(‪ ،)52‬ولقد حصر الفالسفة الّص ورة البالغية في‬
‫التشبيه واالستعارة والتركيب منهما –كما عاينوا أصنافها بحسب صفات الطرفين‬
‫ونوعهما من التجريد والحس وكذا مستوى البساطة والتركيب في الّص ورة المرتد‬
‫إلى اإلتيان بطرفين أو إنابة طرف عن آخر في االستعارة أو اعتماد التركيب‬
‫وبناء استعارة على أخرى وكذا درجة الصورة من الشيوع واالبتذال أو الغرابة‬
‫واالختراع‪ ،‬ثّم طبيعتها الذاتية المرتدة إلى كونها مباشرة تصريحية أو خفية تقوم‬
‫على التشخيص أو التجسيد بما فيه اإلغراب في إقامة عالئق األطراف بين الصور‬
‫أو االقتراب‪ ،‬ولكن لم يترّتب على ذلك تبّص ر دقيق بفعالية الّص ورة في الّس ياق‬
‫النّص ي ودورها الحاسم في بناء الّد اللة‪ ،‬بل كانت أقرب في تصّو ر الفالسفة إلى‬
‫البديل الفّني للمعنى الّتجريدي بالّر غم من ربط الفالسفة الخواّص الّش عرية‬
‫بالّتصوير أساسًا(‪)53‬؛ ومن هنا فإن فهم الفالسفة للّص ورة يعيد إلى األذهان‬
‫أطروحات نقاد كثيرين وبالغيين قدامى‪ ،‬يرون في الّص ورة مستوى من الصياغة‬
‫الملّم عة للمعنى العاري من خواّص التّص وير‪ .‬والواقع أّن هذا الفهم أملته شروط‬
‫الوظيفة المسندة إلى الشعر في نظر الفالسفة‪ ،‬هذه الوظيفة التي تتحّقق من خالل‬
‫‪- 144 -‬‬
‫الصياغة الزخرفية والتزيينية للمعاني التي تستخلصها الحكمة النظرية والعلمية‬
‫لتتعّهد بموجبها الجماهير بالتنشئة األخالقية والتعليمية‪ ،‬ويتّم ذلك بمراعاة قدراتها‬
‫واستعداداتها التي تفرض صياغة القول الّش عري وفق المحسوس والمخّي ل‬
‫والمثال(‪.)54‬‬
‫فإذا قصدنا إكمال الرأي في المستوى الصوتي الذي يعضد مستوى الداللة في‬
‫القول اتضح الفهم المراكم لهذه المستويات‪ ،‬ومستوى الوزن الشعري القائم على‬
‫انتظام الحركة الصوتية في الزمان‪ ،‬بما يتخللها من وقفات تحيل مقاطع القول‬
‫متناسبة انطالقًا من التوزيع المنتظم المتواتر للمقاطع الصوتية‪ ،‬ال تهمنا في ذاتها‬
‫في موضوعنا‪ ،‬وكذا أقسام التفاعيل وعناصرها من وحدات المقاطع األولية‬
‫والتشكيالت العروضية الحادثة عنها والنسب المحددة بين عدد المتحركات‬
‫والسواكن في البحر الواحد‪ ،‬وغيرها مما يتعلق بخواص الوزن في ذاته وصالته‬
‫بالموسيقى عمومًا‪ ،‬إذ يتنزل بحث موسيقى الشعر لدى الفالسفة ضمن علم التعاليم‬
‫الذي من مشموالته درس الموسيقى(‪ ،)55‬إّنما يهمنا صلة الوزن بالمعنى مع‬
‫التذكير بأن الفالسفة يؤكدون أنه محصلة التركيب المتميز لألصوات في القول‪،‬‬
‫ويقوم فهمهم للوزن من منظور المعنى على فكرة استقالله بالداللة مما يستوجب‬
‫اعتماد وزن معين في كل غرض ليحدث التالؤم بين المعنى أو الغرض والوزن‪.‬‬
‫يرى الفارابي "أن جل الشعراء في األمم الماضية والحاضرة الذين بلغنا‬
‫أخبارهم خلطوا أوزان أشعارهم بأحوالها ولم يرتبوا لكل نوع من أنواع المعاني‬
‫الشعرية وزنًا معلومًا‪ ،‬إّال اليونانيون فقط‪ :‬فإنهم جعلوا لكل نوع من أنواع الشعر‬
‫نوعًا من أنواع الوزن‪ ،‬مثل أن أوزان المدائح غير أوزان األهاجي‪ ،‬وأوزان‬
‫األهاجي غير أوزان المضحكات‪ ،‬وكذلك سائرها"(‪ ،)56‬أما لدى الخوارزمي فإن‬
‫الطويل "بحر خضم يستوعب ماال يستوعبه غيره من المعاني ويتسع للفخر‬
‫والحماسة والتشابيه واالستعارات وسرد الحوادث وتدوين األخبار ووصف‬
‫األحوال"(‪ .)57‬وليس الوزن لدى مسكويه إال "حلية زائدة‪ ...‬ومثال النظم من‬
‫الكالم مثال اللحن من النظم‪ ،‬فكما أن اللحن يكتسي منه النظم صورة زائدة على ما‬
‫كان له‪ ،‬كذلك صفة النظم الذي يكتسي منه النظم صورة زائدة على ما كان له"(‬
‫‪ ،)58‬وهكذا يتواتر الفهم نفسه لدى البقية‪ ،‬فيرى ابن سينا أيضًا أن اليونانيين‬
‫"كانت لهم أغراض محدودة يقولون فيها الشعر‪ ،‬وكانوا يخصون كل غرض بوزن‬
‫على حدة"(‪ ،)59‬أما حسب ابن الرشد فإن "من التخييالت والمعاني ما يناسب‬
‫األوزان الطويلة‪ ،‬ومنها ما يناسب القصيرة"(‪.)60‬‬

‫‪- 145 -‬‬


‫وعلى العموم فإن الوزن يملك داللته الذاتية النابعة من خصائص تركيبه‬
‫ومن هنا يراعى في المعنى المقصود إلباسه بالوزن المالئم‪ ،‬وعلى كل ينسجم هذا‬
‫الفهم للوزن مع فكرة التمييز بين المعنى واللفظ‪ ،‬إذ يتضافر العنصران في إحداث‬
‫الوظيفة أو تشكيل الداللة‪ ،‬لكن مع اإلقرار بتميز كل طرف في نطاق البنية‪.‬‬
‫وسيمتد هذا الفهم عند الفالسفة في تصورهم أنماط التناسب الحادثة بين المعاني‬
‫من جهة واأللفاظ من جهة أخرى‪ ،‬في شتى مراتب الطرفين أفرادًا وتراكيب مما‬
‫سيمثل عضدًا لجوهر المحاكاة المتمّثل في المعاني من جهة األلفاظ كما يقولون‪.‬‬
‫وتمثل هذه التناسبات لواحق بقدر ما تدعم المحاكاة في حالة تجسدها في الخواص‬
‫الصورية المجسدة للمعنى‪ ،‬وعند تضافر كل أشكال التخييل‪ ،‬بقدر ما يمكن أن‬
‫تعّو ض غيابها‪.‬‬
‫التحسينات اللفظية والتحسينات المعنوية‬
‫تمثل فكرة التناسب أسًا قارًا في فكر الفالسفة الجمالي عمومًا‪ ،‬فإذ يتنّز ل‬
‫الشعر خصوصًا والقول األدبي عمومًا عندهم ضمن بنائهم الفلسفي المتكامل‪،‬‬
‫ينتظمه والموسيقى خاصة قناعات شّتى ترتد بالدرجة األولى إلى االشتراك في‬
‫الوظيفة وإ لى االشتراك في الهيئة‪ ،‬انطالقًا من التوافق الملحوظ بين النغم‬
‫الموسيقي والعروض الّش عري(‪ ،)61‬ويصبح باإلمكان إيجاد المقابل لنمط التناسب‬
‫الّش عري في الموسيقى‪ ،‬بل إّن مبدأ التناسب وحسن االنتظام في المدرك عامة‬
‫قاعدة راسخة في تحديد موضوعية الجميل لدى الفالسفة‪ ،‬ذلك "أن النفس النطقية‬
‫والحيوانية أيضًا لجوار النطقية أبدًا تعشقان كل شيء حسن النظم والتأليف‬
‫واالعتدال مثل المسموعات الموزونة وزنًا متناسبًا والمذوقات المركبة من أطعمة‬
‫مختلفة بحسب التناسب وما شابه ذلك"(‪ ،)62‬وتختزل الموقف مقولة إخوان الصفا‬
‫القائلة‪" :‬إن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات ما كان تأليف أجزائه وأساس بنيته‬
‫على النسبة األفضل"(‪.)63‬‬
‫فإذا خصصنا القول بالموسيقى كما يراها الفارابي‪ ،‬نجد أنه‪" :‬إذا تأملنا‬
‫األلحان تأمًال كثيرًا وجدنا فيها اقترانات للنغم وترتيبات لها‪ ،‬وأعني باالقترانات‬
‫اجتماع اثنين منها أو أكثر‪ ،‬والترتيبات أن يقدم هذا في السمع أو يؤخر هذا‪ ،‬وفي‬
‫االقترانات ماهي كماالت أيضًا وطبيعية ومنها ما ليس كذلك‪ .‬وكماالت االقتران‬
‫والترتيب تتصور بطريق المناسبة"(‪ ،)64‬فإذا كان كل نغم يقوم على اقترانات‬
‫شتى يتحقق لها كمال الترتيب بطريق المناسبة فإن في األلحان أيضًا ماهو كماالت‬
‫للتناسبات الجوهرية‪ ،‬تقابل في الشعر فعل المحاكاة في المعنى الذي يهب القول‬

‫‪- 146 -‬‬


‫شعريته ولواحق تلك المحاكاة‪ .‬ومن هنا يمكن للفارابي أن يصف األقاويل‬
‫الشعرية بأنها "دون غيرها تجّم ل وتزّين وتفخم ويجعل لها رونق وبهاء"(‪،)65‬‬
‫وأنه إذا كانت هذه التزيينات من خواص األقاويل الشعرية وجب أن تنتفي من كل‬
‫قول فلسفي‪ ،‬إذ كما يرى "ليس يجب أن نفحص عن أقاويل الذين فلسفتهم شبيهة‬
‫بالزخارف‪ .‬وبهذه السبيل تلتئم األقاويل التي تسّم ى الرموز واأللغاز‪ .‬وعسى أن‬
‫ال تكون هذه مرذولة إال في أنحاء التعاليم الفلسفية فقط‪ .‬فأما في الخطابة وفي‬
‫األقاويل المستعملة في األمور السياسية‪ ،‬فعسى أن ال يكون الواجب غيرها"(‪.)66‬‬
‫وتظهر فكرة التناسب كأحسن ما تكون لدى الفالسفة في بحث الوزن‬
‫الشعري‪ ،‬غير أنه في هذا الموضع من البحث يهمنا ما تجسده في اللفظ والمعنى‬
‫كلواحق لمحاكاة الجوهر‪ ،‬إذ يمكننا التماس مثال لدى الفارابي في تناسب الوحدات‬
‫في سياق البيت‪ ،‬يظهر ذلك في ما أسماه باإلخطار بالبال الذي يرى له غناء‬
‫عظيمًا في صناعة الشعر "وذلك مثل ما يفعله بعض الشعراء في زماننا هذا من‬
‫أنهم إذا أرادوا أن يضعوا كلمة في قافية البيت ذكروا الزمًا من لوازمها أو وصفًا‬
‫من أوصافها في أول البيت فيكون لذلك رونق عجيب"(‪ ،)67‬فهناك تناسب معنوي‬
‫يلحم بصلة االنتساب إلى الحقل الداللي الواحد قافية البيت وأوله مما يشي بشكل‬
‫من أشكال اللحمة المعنوية الحادثة في امتداد البيت‪.‬‬
‫أما لدى ابن سينا فإن فكرة التحسينات الطارئة على المعنى واللفظ تأخذ مدى‬
‫أبعد‪ ،‬لتشمل األلفاظ والمعاني في مراتب مختلفة ضمن تصنيفات فاصلة بين كل‬
‫مرتبة وأخرى‪ ،‬وفق ضوابط حسابية تكاد تحيل المسالة إلى نوع من أنواع‬
‫المماحكة‪.‬‬
‫ونمّر إلى تصنيفات ابن سينا وضوابطه مستندين إلى رأيه في الصوت‬
‫اإلنساني الذي إذا "زّين بالتأليف المتناسب‪ ،‬والنظام المتفق‪ ،‬كان ذلك أهّز للنفس‬
‫من مثله‪ ،‬وفي غيره"(‪ ،)68‬وفي الشعر تكون عملية التزيين للقول من باب‬
‫اللواحق إذ إن "للمقدمات المخيلة لواحق وعوارض بها ينضوي تخييلها"(‪،)69‬‬
‫هذه الخواص النوعية للشعر التي تجسد طاقاته التخييلية ترتد إلى المفهوم‬
‫والمسموع كما يرى ابن سينا أو المعنى واللفظ‪ .‬وتتحقق في هذين الركنين في‬
‫مستوى أصلي أو قاعدي وطبيعي ينتج عن عفوية التعبير الشعري‪ ،‬كما تكون‬
‫خالصة لحيل فيهما‪ .‬فهذه الخصائص قد تتولد من اللفظ والمعنى "من غير حيلة‬
‫بل يكون نفس اللفظ فصيحًا من غير صنعة فيه‪ ،‬أو يكون نفس المعنى غريبًا من‬
‫غير صنعة إّال غرابة المحاكاة والتخييل الذي فيه‪ .‬وإ ّم ا أن يكون التعّج ب منه‬

‫‪- 147 -‬‬


‫صادرًا عن حيلة في الّلفظ أو المعنى‪ :‬إّم ا بحسب البساطة أو بحسب التركيب"(‬
‫‪.)70‬‬
‫وتحدث هذه الحيل الواقعة بين األجزاء أشكاًال من التناسب في أقسام خمسة‬
‫تشمل األلفاظ والمعاني‪ .‬فالذي يقع فيها بحسب اللفظ يكون "إما في األلفاظ الناقصة‬
‫الّد الالت‪ ،‬أو العديمة الدالالت كاألدوات والحروف التي هي مقاطع القول‪ ،‬وإ ما‬
‫في األلفاظ الّد الة البسيطة وإ ما في األلفاظ المركبة‪ ،‬وإ ّم ا أن يكون بحسب مركّبات‬
‫المعاني"(‪ ،)71‬علمًا بأن هذا التناسب في المراتب الخمسة السابقة يقع "إّم ا‬
‫بمشاكلة‪ ،‬وإ ّم ا بمخالفة‪ ،‬والمشاكلة‪ ،‬إّم ا تامة‪ ،‬وإ ّم ا ناقصة‪ ،‬وكذلك المخالفة‪ :‬إّم ا‬
‫تامة‪ ،‬وإ ما ناقصة"(‪ ،)72‬فيفترض في كل مستوى وقوع تشاكل تام وتشاكل‬
‫ناقص‪ ،‬وكذا تخالف تام وتخالف ناقص‪ ،‬فتكون أنماط التناسب الواقعة بين األجزاء‬
‫في كل مستوى أربعة‪ ،‬وسيتفرع من بعض المراتب كاأللفاظ الدالة البسيطة‬
‫مستوى جديد إذ يراعى فيها المستوى الصوتي‪ ،‬أي اللفظي المحض ومستوى‬
‫المعنى‪ ،‬مما يشرك هذا المستوى بمرتبة بسائط المعنى‪ ،‬علمًا بأن ابن سينا ال‬
‫يحصي كل أوجه التخريجات المفترضة ولعّله يتعذر إيجاد األمثلة لكل مقام‪.‬‬
‫"ولنبدأ من القسم األول‪ ،‬فنقول‪ :‬إّن من الصيغ التي بحسب القسم األول تشابه أواخر المقاطع‬
‫وأوائلها‪ ،‬والنظام المسمى المرّص ع كقوله‪:‬‬

‫وال كلمت من بعد هجرانه الّس مر‬ ‫فال حسمت من بعد فقدانه الّظبي‬
‫ومنها تداخل األدوات ومخالفتها وتشاكلها‪" :‬من" و "إلى" من باب‬
‫المتخالفات‪ ،‬و"من" و"عن" من باب المتشاكالت"(‪.)73‬‬
‫ونالحظ أن ابن سينا ذكر أمثلة لتشاكل األدوات وتخالفها ولم يستوف أقسامها‬
‫الناقصة والتامة‪ ،‬فضًال عن أّن النظام المرّص ع كما قال يشمل مقابالت ثنائية تكاد‬
‫تغطي وحدات البيت كلها‪ ،‬وهذا االزدواج الموسيقي الحادث بين الوحدات تشكيل‬
‫لمستوى صوتي موسيقي يشمل بالتناسب أو االنسجام المتوازن أصوات الوحدتين‬
‫أو الوحدات المتقابلة‪ ،‬مّم ا يمكن أن يوضع ضمن مرتبة األلفاظ الّد الة البسيطة في‬
‫مستواها الّص وتي‪ ،‬ذلك أن عّد الترصيع ضمن هذا التقسيم فيه تّج وز إذ إن تكرار‬
‫األلفاظ المتوازنة المتفقة األعجاز في الّش طرين ال يمكن أن ينضوي تحت القسم‬
‫األول من تخالف األدوات أو تشاكلها‪ ،‬أما إذا كان ابن سينا يرى في الترصيع‬
‫تشابه أواخر المقاطع وأوائلها حيث يجتزئ المقطع األخير من كل لفظ مثًال‬
‫لينسجم مع مقابله‪ ،‬فهو تفكيك لوحدة دالة بكامل أصواتها وتعسف في التمثيل‪.‬‬
‫"وأما الصيغ التي بحسب القسم الثاني فالتي بالمشاكلة التامة‪ .‬فهي أن يتكرر‬

‫‪- 148 -‬‬


‫في البيت ألفاظ مّتفقة التصريف متخالفة الجوهر‪ ،‬أو متفقة الجوهر متخالفة‬
‫التصريف‪ .‬والتي بالمشاكلة الناقصة فأن تكون متقاربة الجوهر‪ ،‬أو متقاربة‬
‫الجوهر والتصريف‪ :‬ومثال األول‪ :‬العين والغين‪ ،‬ومثال الثاني‪ :‬الّش مل والّش مال‪،‬‬
‫ومثال الثالث والرابع‪ :‬الفاره والهارف‪ ،‬أو العظيم والعليم والصابح والسابح‪ ،‬أو‬
‫الّس هاد والّس ها‪ .‬وهذا هو التشاكل الذي في اللفظ بحسب ما هو لفظ‪ .‬وقد يكون ذلك‬
‫في اللفظ بحسب المعنى‪ ،‬وهو أن يكون لفظان اشتهرا مترادفين وأحدهما مقوًال‬
‫على مناسب اآلخر أو مجانسه واستعمل على غير تلك الجهة‪ ،‬كالكوكب والنجم‬
‫ويراد به النبت‪ ،‬أو السهم والقوس يراد به األثر العلوي‪ .‬وأما الذي بحسب‬
‫المخالفة فإذ ليس لفظ من األلفاظ بمخالف للفظ بجهة لفظّيته‪ ،‬فإذن إن خالف فمعناه‬
‫ما يخالف وهو المعنى الذي يكون اشتهر لـه‪ .‬فتكون الصيغة التي على هذا السبيل‬
‫في ألفاظ أو لفظين يقع أحدهما على شيء‪ ،‬واآلخر على ضده أو ما يظن به أنه‬
‫ضده وينافيه‪ ،‬أو ما يشاكل ضده أو يناسبه ويتصل به‪ ،‬وقد استعمل على غير تلك‬
‫الجهة‪ ،‬كالسواد التي هي القرى‪ ،‬والبياض والرحمة وجهنم وما جرى مجراه"(‬
‫‪.)74‬‬
‫فالتشاكل التام أو الناقص المتأتيان من عالقات الجوهر والتصريف بين‬
‫األلفاظ سواء في حالة االتفاق أم التباين بالرغم من إمكان حملهما على ما عرف‬
‫عند البالغيين بالجناس أو التجنيس‪ ،‬فإّن المشكلة هنا تكمن في ما يقصد ابن سينا‬
‫بالجوهر‪ ،‬فإذا عادلناه بالمعنى أمكن اعتبار الّتمثيل بالعين والغين للمّتفق‬
‫والّتصريف المتخالف الجوهر متمشيًا مع نماذج التجنيس إّال أن باقي األمثلة ال‬
‫يستقيم مع هذا المنحى‪ ،‬من هنا يبدو أن ابن سينا يريد بالجوهر المواد الصوتية‬
‫التي تتكون منها الوحدة والتصريف هو الّص ياغة الصرفية لهذه المادة‪ ،‬لذلك‬
‫يستقيم له التمثيل لألنواع التي ذكر‪ ،‬ذلك أن معاني ما قّد م من كلمات مختلفة وإ ن‬
‫توافقت في الماّد ة الصوتية أو صيغة البناء‪ ،‬لذلك سمى هذا النوع من التشاكل‬
‫بالواقع في اللفظ بحسب ما هو لفظ‪ ،‬كأنه يقصد به مستواه الصوتي فقط‪ ،‬يدعم ذلك‬
‫بحثه عقب ما سلف التشاكل الواقع في اللفظ بحسب المعنى‪ .‬في هذا النوع األخير‬
‫إشكال‪ ،‬ذلك أن اعتبار لفظين مترادفين إقرار بوحدة معناهما‪ ،‬إّال أن استعمال‬
‫أحدهما في غير النسبة التي تربطه باآلخر كأن يستعمل النجم في معنى النبت بدل‬
‫أن يكون من مرادفات الكوكب أو مجانسه‪ ،‬أو يستعمل القوس في معنى األثر‬
‫العلوي‪ ،‬وهو برج في السماء بدل استعماله مناسبًا للسهم إحداث لنوع من التشاكل‪،‬‬
‫ولكن ال ُتدرى كيفية حدوثه إّال أن يكون في نوع من األلغاز‪ ،‬إذ قد يتبادر إلى‬
‫الّذ هن أن استعمال اللفظين معًا من باب الّترادف فإذا بانكشاف المعنى يدّل على‬
‫‪- 149 -‬‬
‫خالف ذلك‪ ،‬ولعله لو وضع هذا ضمن التخالف لكان أولى خاصة أنه يبحث معنى‬
‫اللفظ‪ .‬أّم ا القسم الثالث فهو يتنّز ل ضمن ما يعرف في أبحاث البالغيين بالّطباق أو‬
‫المقابلة إذا كان يشمل ألفاظ عدة‪.‬‬
‫"وأما الصيغ التي بحسب القسم الثالث‪ ،‬فالذي منه بالمشاكلة فأن يكون لفظ‬
‫مرّك ب من أجزاء ذوات التصريف في االنفراد وتجتمع منها جملة ذوات ترتيب‬
‫في التركيب ويقارنه مثله‪ ،‬أو يكون التركيب من ألفاظ لها إحدى الصيغ التي في‬
‫البسيطة ويقارنه مثله‪ .‬والذي بحسب المخالفة فالذي يكون فيه مخالفة ترتيب‬
‫األجزاء بين جملتي قولين مركبين‪ :‬إّم ا في أجزاء مشتركة فيهما‪ ،‬أو أجزاء غير‬
‫مشتركة فيهما"(‪.)75‬‬
‫فالتشاكل في القسم اللفظي المركب سواء تعلق باقتران تركيبين تترّتب فيهما‬
‫األلفاظ المتصرفة الترّتب نفسه‪ ،‬مما يحقق لهما من جّر اء ذلك توازنًا وانسجامًا‬
‫ينتج عن توزيع الوحدات المنسجمة على مستوى التصريف في نفس مواقع‬
‫الترتيب‪ ،‬أم تحقق من اقتران تركيبين مشكلين من رصف متوازن أللفاظ غير‬
‫متصرفة‪ ،‬وكذا التخالف الذي يتأّتي من اعتماد التخالف في ترتيب األلفاظ في‬
‫القول المرّك ب سواء كانت هذه األلفاظ مشتركة أم غير مشتركة‪ ،‬ال تعدو أن تكون‬
‫تفرعًا لخصائص تعلق اللفظ في ذاته بدءًا من مستوى المقطع إلى التركيب الشامل‬
‫لعدة ألفاظ‪ .‬وعلى الرغم من أن البحث في هذا المستوى يتطرق إلى المدلوالت‬
‫أحيانًا‪ ،‬فإن االهتمام بالصيغة اللفظية في ذاتها إلحاح على دور الصوت المحدث‬
‫لألشكال الموسيقية المختلفة في القول الشعري عمومًا‪ ،‬خاصة أن أشكال‬
‫التنظيمات الموسيقية قد ترتقي عند تحقق اإليقاع التام فيكون القول شعرًا‪ ،‬وقد‬
‫تتوقف عند مستوى القول الخطابي إذا اكتفت بنوع من انسجام األصوات كالسجع‬
‫أو االزدواج‪ ،‬وهذا يدعم أيضًا فكرة توزيع الشعرية بين اللفظ والمعنى معًا في‬
‫خطين متوازيين يتعاضدان على تحقيق التخييل‪ ،‬إال أنهما يحتفظان بتمايزهما إن‬
‫صح الوصف‪ ،‬وإ ن أباح لهما المستوى الجوهري من المحاكاة نوعًا من التآلف‬
‫المتعاضد‪.‬‬
‫ونمّر عقب ما سبق إلى التناسب المتعلق ببسائط المعاني ثم مرّك باتها‪،‬‬
‫فالّص يغ "التي بحسب القسم الرابع‪ :‬أما الذي بحسب المشاكلة التامة فأن يتكرر في‬
‫البيت معنى واحد باستعماالت مختلفة‪ ،‬وأّم ا الذي بحسب المشاكلة الناقصة فأن‬
‫يكون هناك معاٍن مفردة متضادة أو متناسبة‪ ،‬كمعنى القوس والسهم‪ ،‬ومعنى األب‬
‫واالبن‪ .‬وقد يكون التناسب بتشابه في النسبة‪ ،‬وقد يكون بجهة االستعمال‪ ،‬وقد‬

‫‪- 150 -‬‬


‫يكون باشتراك في الحمل‪ ،‬وقد يكون باشتراك في االسم‪ ،‬مثال األول‪ :‬الملك‬
‫والعقل‪ .‬مثال الثاني‪ :‬القوس والسهم‪ .‬مثال الثالث‪ :‬الطول والعرض‪ .‬مثال الرابع‪:‬‬
‫الشمس والمطر‪ .‬وربما صرح بسبب المشاكلة وربما لم يصرح‪ .‬وإ ذا صرح‬
‫فربما بحسب األمر في نفسه‪ ،‬وربما كان بحسب الوضع‪ .‬والمخالفة إّم ا تامة في‬
‫األضداد وما جرى مجراها‪ ،‬وإ ما ناقصة وهي بين شيء ونظير ضده أو مناسب‬
‫ضده‪ ،‬أو بين نظيري ضدين أو مناسبيهما‪ .‬وربما كانت المخالفة بسبب يذكر‪،‬‬
‫وربما كانت في نفس األمر"(‪.)76‬‬
‫فيمكن انضواء التشاكل التام في هذا القسم في خانة المترادف إذ هو تكرار‬
‫المعنى باستعماالت مختلفة دون أن نغفل اإلشارة إلى أنه يفترض في كل استعمال‬
‫جديد ميالد لمعنى جديد‪ ،‬ذلك أن لكل لفظ معنى أو معاني خاصة وإ ن اشترك مع‬
‫غيره في الحقل المعنوي العام‪ .‬أما التشاكل الناقص فهو التضاد أو المتناظر حسب‬
‫وصفه لـه في كتاب المجموع‪ ،‬وهذا شكل من التناسب بين المعاني يسع حقوًال‬
‫معنوية شتى يجعل المعنيين في نسبة المتالزمين لجهة من جهات التالزم إال أن‬
‫تسميته بالتضاد غير دقيق‪ ،‬إذ يصدق التضاد في المتخالف من هذا القسم‪ ،‬حيث‬
‫يستحيل تطابقًا تامًا في حالة التخالف التام أو شكًال من أشكال التطابق إذا كان‬
‫األمر يتعلق بوضع المعنى‪ ،‬ال بإزاء ضده بل بإزاء نظير ضده أو مناسب ضده أو‬
‫وضع نظيري الضدين أو مناسبيهما معًا‬
‫"وأما الذي بحسب القسم الخامس‪ :‬فأّم ا في المشاكلة فأن يكون معنى مركب من معان وآخر غيره‬
‫يتشاكل ترتيبهما أو يشتركان في األجزاء‪ .‬وأما الذي بالمخالفة فأن يتخالفا في التركيب أو الترتيب بعد‬
‫الشركة في األجزاء‪ ،‬أو بال شركة في األجزاء‪ :‬ويدخل في هذه القسمة كقولهم‪ :‬إما كذا كذا‪ ،‬وإ ما كذا‬
‫كذا‪ .‬والجمع والتفريق كقولهم‪ :‬أنت وفالن بحر‪ ،‬لكن أنت للغمارة‪ ،‬وذلك للزعاقة‪ .‬وجمع الجملة لتفصيل‬
‫البيان كقوهلم‪" :‬يرّج ى" و"يّتقى"‪:‬‬

‫وتخشى الصواعق"(‪)77‬‬ ‫يرجى الحيا منه‬

‫تبدو المشاكلة التامة الحادثة هنا بين معنيين مركبين من معاٍن عديدة نتاجًا‬
‫لتشاكل الترتيب في المعاني الجزئية المحدثة للتركيبين أو الشتراك في هذه‬
‫األجزاء مما يهب التركيبين تشاكًال تامًا‪ ،‬خاصة إذا تأسس على هذا االشتراك في‬
‫األجزاء ترتيب منسجم متوازن‪ ،‬إذ يبدو المستوى هنا مناظرًا لقسم األلفاظ المرّك بة‬
‫المترّتبة وفق عالقات تناسب وحداتها الجزئية‪ .‬أما التخالف في هذا القسم وإ ن‬
‫شّك ل نوعًا من االنسجام والتناغم بالتضاد خاصة نوعه المرّك ب المؤسس على‬
‫المشترك في األجزاء‪ ،‬فإنه ال يعدو أن يكون تضخيمًا للمطابق‪ ،‬إذ إن من أقسام‬
‫هذا النوع ما يقع على الجمع والتفريق‪ ،‬وجمع الجملة لتفصيل البيان‪ .‬والتمثيل‬

‫‪- 151 -‬‬


‫لذلك يقوم على تضاد في المعنى‪ ،‬وتشخيص ذلك في تقابل الغمارة والّز عاقة‪،‬‬
‫ويرّج ى ويّتقى وكذا ببعض التجوز الحيا والصواعق‪.‬‬
‫وخالصة الرأي في هذه التفريعات السينوية ألوجه التناسب العالقة باللفظ‬
‫والمعنى وأقسامهما‪ ،‬هي أنها امتداد للثنائية الناظمة لفكر ابن سينا المؤسسة على‬
‫قناعات فكرية عميقة تتجذر أصولها في مصادرها المنطقية والفكرية عمومًا‪.‬‬
‫أما لدى ابن رشد فإّن التناسب العالق باأللفاظ والمعاني ال يبدو من مرتبة‬
‫الحيل أو لواحق المحاكاة‪ ،‬بل يكون باإلضافة إلى أصناف الصور المجازية من‬
‫جوهر الفعل الشعري‪ ،‬ذلك أن "القول إّنما يكون مختلفًا‪ ،‬أي مغيرًا عن القول‬
‫الحقيقي من حيث توضع فيه األسماء متوافقة في الموازنة والمقدار‪ ،‬وباألسماء‬
‫الغريبة‪ ،‬وبغير ذلك من أنواع التغيير"(‪ .)78‬فاعتماد مبدأي التوافق والتوازن في‬
‫إخراج القول الشعري تحقيق لمرتبة من مراتب الشعرية في القول‪ ،‬إذ إن في‬
‫التناسب الحادث بين األلفاظ والمعاني كشفًا الهتمام بالشكل يجعل القول المخرج‬
‫وفق هذا المنحى متميزًا عن بقية أصناف القول‪ ،‬إّال أنه يبدو أن ابن رشد يقصد‬
‫مخالفة ابن سينا في منح مبدأ الموافقة في إخراج القول قيمة أساسية في تحقيق مبدأ‬
‫الشعرية‪ .‬فمستويات التناسب عمومًا تتنزل لدى ابن سينا في مرتبة الثانوي أو‬
‫التحسيني دون أن يغفل أنها محدثة للمحاكمة أيضًا‪ ،‬أما ابن رشد فإّنه يقر بإمكان‬
‫خلو القول الشعري من أقسام األلفاظ المجازية عمومًا‪ ،‬وقيامه على الحقيقي أو‬
‫المستولي فقط‪ ،‬في حين يمتنع قيام نص شعري دون أن يتحقق في بعض مستوياته‬
‫شكل من التوافق في الموازنة والمقدار‪ ،‬يقول‪" :‬وأما موافقة األلفاظ بعضها لبعض‬
‫في المقدار ومعادلة المعاني بعضها لبعض وموازنتها‪ ،‬فأمر يجب أن يكون عامًا‬
‫ومشتركًا لجميع األلفاظ التي هي أجزاء القول الشعري‪ ،‬وذلك أنا نجد الشعراء‪،‬‬
‫وإ ن استعملوا األلفاظ الحقيقية في المواضع التي يهزأ بهم في استعمالهم إياها‪ ،‬ليس‬
‫يخلو شعرهم من هذين األمرين‪ :‬أعني من الموازنة والموافقة في المقدار‪ .‬ولكن‬
‫كان هذا عامًا لجميع أنواع الشعر‪ .‬وأما اِأل شعار التي تأتلف من األسماء المختلفة‬
‫فوجود هذا المعنى فيها أبين"(‪.)79‬‬
‫ولعل الذي دعا ابن رشد إلى تبني هذه المواقف إحساسه بفعالية ألوان‬
‫االنسجام الصوتي في الشعر بما فيها الوزن والقافية‪ ،‬ومقابلها اإليقاعي في‬
‫الخطابة‪ .‬إال أن ما يدعم رأينا في اعتبار موقف ابن رشد من القضية مؤسسًا على‬
‫مبدأ االختالف مع ابن سينا‪ ،‬هو أن ابن سينا وإ ن اعتبر أشكال التناسب من حيل‬
‫المحاكاة فقد امتد بها لتشمل مراتب خمس‪ ،‬عرضنا لها سابقًا‪ ،‬تطول األلفاظ‬

‫‪- 152 -‬‬


‫والمعاني في مراتبها اإلفرادية والتركيبية‪ ،‬في حين لم يذكر ابن رشد من هذه‬
‫المراتب سوى ما علق باأللفاظ اإلفرادية في مستوييها الصوتي والمعنوي دون أن‬
‫يتمكن من فصل الحقلين فصًال تامًا‪ ،‬وأغفل ذكر التوافق أو التوازن في األدوات‬
‫ومقاطع القول والتراكيب‪ ،‬وهذا يتناقض مع اعتباره هذه األشكال من جوهر‬
‫الشعر‪ .‬من هنا يكون اقتصاره على مرتبة التوافق والتوازن في األلفاظ والمعاني‬
‫في مستواهما اإلفرادي‪ ،‬اقتطاعًا لمرتبة واحدة مما ذكر ابن سينا قصد بها أن تعّم‬
‫القول الشعري وأن تصبح من جوهر المحاكاة‪.‬‬
‫ومبدأ الموافقة مبدأ فضفاض يستوعب أشكاًال عدة من أوجه الّنسبة الجامعة‬
‫بين اللفظين في المستوى الصوتي أو المعنوي‪ ،‬يقول‪" :‬وموافقة األلفاظ التي ذكر‬
‫في المقدار هي مقاربة بعضها لبعض في عدد الحروف‪ .‬وإ ن وافقت مع هذا في‬
‫كل اللفظ‪ ،‬أو في بعض اللفظ‪ ،‬فهو الذي يعرف بالمطابقة والمجانسة عند أهل‬
‫زماننا"(‪ ،)80‬والموافقة في كل اللفظ أو في بعض اللفظ ال يمكن أن يصدق عليها‬
‫وصف المجانسة إّال إذا تضمنت اختالفًا في معاني األلفاظ المتجانسة‪ ،‬علمًا بأن‬
‫وصف هذه العالقة القائمة بين تناسب الحروف كما نص ابن رشد‪ ،‬ال يمكن أن‬
‫تنضوي تحت وصف المطابقة إذا اعتمدنا التعريف البالغي إّال إذا اعتبرنا ابن‬
‫رشد يستعمل اللفظين‪ :‬المطابقة والمجانسة كمترادفين‪ ،‬أو نحّم ل االصطالحين‬
‫معاني أوسع وفق منظور مزدوج‪ ،‬حيث سيكون تقارب الحروف في اللّفظين نوعًا‬
‫من أنواع المجانسة‪ ،‬واختالفهما في أي درجة من درجات االختالف شكًال من‬
‫المطابقة‪ .‬وقد ينسجم هذا التفريق مع هذه المقابالت التي اقتضتها القسمة المنطقية‬
‫التي أوجدها ابن رشد حين شرع في تعداد أصناف الموافقة التي تكون أنحاء‪.‬‬
‫وذلك أنه ال تخلو الموافقة أن تكون في كل اللفظ وكل المعنى‪ ،‬ومثله قول الشاعر‪:‬‬
‫ال أرى الموت يسبق الموت شيء‬
‫ومثل قولهم‪" :‬طويل الّن جاد‪ ،‬طويل العماد"‪ .‬ثم ذكر مقابل النوع السابق وهو أن تكون الموافقة في‬
‫بعض اللفظ وبعض المعنى‪ ،‬ثم تفرع الموقف إلى هذه المقابالت حيث تتحقق ضمن هذه األزواج أيضًا‪:‬‬
‫في بعض اللفظ وكل المعنى‪ ،‬أو في كل اللفظ وبعض المعنى‪ ،‬أو تكون في كل اللفظ فقط أو في بعض‬
‫اللفظ فقط‪ ،‬أو تكون في كل المعنى فقط أو في بعض المعنى فقط‪" :‬فمثال الموافقة في بعض اللفظ‬
‫وبعض المعنى‪ :‬األسماء المشتقة من تصريف واحد‪ ،‬وذلك مثل قول املتنيب‪:‬‬

‫وتأتي على قدر الكرام المكارم‬ ‫على قدر أهل العزم تأتي العزائم‬
‫ومثال الموافقة في بعض اللفظ وكل المعنى قولهم‪ :‬درهم ضرب األمير‪،‬‬
‫ومضروب األمير‪ .‬ومثل عكس هذا‪ ،‬أعني في اللفظ وبعض المعنى‪ :‬األسماء‬
‫المشّك كة‪ ،‬والشعراء يستعملونها كثيرًا‪ .‬ومثال الموافقة في كل اللفظ فقط األسماء‬

‫‪- 153 -‬‬


‫المشتركة مثل قول المعري‪:‬‬
‫َم َعاٍن من أحّبتنا َم َعاُن‬
‫ومثل قوله‪:‬‬
‫فرندك مغتال وطرفك مغتال‬
‫ومثال المتفقة في بعض اللفظ فقط قول حبيب‪:‬‬
‫ما أنت على ذهلية بذاهل‬
‫وقول أبي الطيب‪:‬‬
‫أقّلب الطرف بين الَخ ْي ل والَخ َو ل‬
‫وهذا كله في لغة العرب‪ ،‬مثل الضرب والضرب‪ ،‬والَح ْم ل والَح َم ل‪ ،‬وأشرقت‬
‫الشمس وشرقت‪.‬‬
‫ومثال الموافقة في كل المعنى فقط األسماء المترادفة‪ ،‬مثل قوله‪ :‬أقوى‬
‫وأقفر‪ .‬ومثال المتفقة في بعض المعنى فقط األسماء المختلفة التي تدّل من الشيء‬
‫الواحد على جهات مختلفة‪ ،‬مثل الّص ارم والّذ َك ر‪ .‬والقوافي عند العرب هي موافقة‬
‫في المقدار وفي بعض اللفظ‪ :‬وذلك إّم ا في حرف واحد وهو األخير‪ ،‬وإ َّم ا في‬
‫حرفين وهو الذي يعرفه المحدثون بـ‪" :‬اللزوم"(‪.)81‬‬
‫فإذا كانت الموافقة في كل اللفظ وفي كل المعنى تدخل في باب المتكرر‬
‫"الموت‪ ،‬طويل" فإن التمثيل بالعزم والعزائم للمتوافق في بعض اللفظ وبعض‬
‫المعنى غير دقيق‪ ،‬إذ ليست العزائم إال جمعًا للعزم‪ ،‬ولعل ابن رشد يعتبر أن في‬
‫صيغة الجمع اختالفًا عن المفرد‪ ،‬وهذا يقتضي وضعها ضمن المتوافق في بعض‬
‫اللفظ وكل المعنى‪ .‬ولكن ال يمكن اعتبار ما سبق من المجانس أبدًا بحسب التحديد‬
‫البالغي‪ ،‬فضًال عن أّن أمثلة الموافق في كّل المعنى وبعض المعنى ال تدخل تحت‬
‫المتطابق‪ ،‬إال إذا اعتبرنا النسبة الحاصلة بين المعاني المترادفة نوعًا من أنواع‬
‫التطابق‪ .‬وكان يمكنه أن يعتبر هذه األنماط من التوافقات من خصائص القول‬
‫الشعري قد تشمل التجنيس كما في بعض األمثلة الباقية‪" :‬معان‪ .‬معان‪ .‬مغتال‪:‬‬
‫مغتال‪ .‬ذهلية‪ :‬ذاهل‪ ،"...‬وقد ال تشمله إّنما تقوم على ألوان من التوازن المعنوي‬
‫واللفظي عمومًا لتحقيق خصائص الشعرية في القول إذ إن من جوهرها قصد‬
‫التناسب‪.‬‬
‫ويعتبر مبدأ التوافق لدى ابن رشد استغالًال لما أسماه ابن سينا بالتشاكل في‬
‫مرتبة بسائط األلفاظ في منزلتي التشاكل الذي يكون في اللفظ بحسب ماهو لفظ‪،‬‬

‫‪- 154 -‬‬


‫والذي يكون فيه بحسب المعنى‪ ،‬في حين يمثل التوازن استثمارًا لما أورده ابن‬
‫سينا في قسم التشاكل الواقع في بسائط المعاني مع تغيير طفيف في بعض األمثلة‪،‬‬
‫يقول ابن رشد‪" :‬وأما الموازنة في أجزاء القول فهي على أنحاء أربعة‪ :‬أحدها أن‬
‫يأتي بالشيء‪ ،‬وشبيهه‪ ،‬مثل الشمس والقمر‪ ،‬أو يأتي باألضداد‪ ،‬مثل الليل والنهار‪،‬‬
‫أو يأتي بالشيء وما يستعمل فيه‪ ،‬مثل القوس والسهم والفرس واللجام‪ ،‬أو يأتي‬
‫باألشياء المناسبة‪ ،‬مثل الملك واإلله‪ .‬وهذه المناسبة إنما تؤخذ من أربعة أشياء‪.‬‬
‫ومن هذا الباب عيب على الكميت‪:‬‬
‫تكامل فيه الّد ّل والّش نب‬
‫ألن الّد ّل غير شبيه بالشنب(‪.)82‬‬
‫والخالصة أن أشكال التناسب التي تطول األلفاظ والمعاني وإ ن شملت‬
‫مساحة الداللة والصوت في القول خاصة‪ ،‬يدعمها فهم أولي للتركيب كما بدا في‬
‫ما سلف من أمثلة خصوصًا في حالة اعتماد الترتيب في األلفاظ والمعاني في‬
‫العبارات المركبة حسب رأي ابن سينا‪ ،‬أو كما تظهر في قول ابن رشد مبينًا دور‬
‫التركيب في إحداث التغيير في الخطابة‪ ،‬إذ يقول‪" :‬واإلغرابات التي تنجح في هذه‬
‫الصناعة من قبل التركيب الغير المعتاد في األقاويل هي أيضًا تغييرات‪ ،‬يريد‬
‫بحسب التركيب ال بحسب األلفاظ المفردة‪ ،‬وذلك فيما أحسب‪ ،‬مثل التقديم والتأخير‬
‫والحذف والزيادة واإلغرابات الغريبة"(‪ )83‬يبدو أّنها تفريٌع لموقف من اللفظ‬
‫والمعنى أو الشكل والمضمون عمومًا‪ ،‬مع اإلقرار بامتداد اإللحاح على هذه‬
‫األنماط من أوجه التناسب المعنوي واللفظي في القول األدبي عمومًا كالخطابة‬
‫التي يشترط فيها تحقيق التناغم الصوتي في أواخر الفقر الكالمية‪ ،‬واعتماد‬
‫التفصيل في هذه األقاويل بأن تكون أواخرها على صيغ واحدة أو اعتماد تكرار‬
‫لفظ بعينه‪ ،‬وتفريعات ذلك في ما يسميه ابن رشد بالكرور والعطوف وغيرها(‬
‫‪ .)84‬فعلى الرغم من تنزيل وجوه التناسب السابقة المحققة عامة ألشكال من‬
‫الهيئات التحسينية الملحقة بالمحاكاة في مستواها الجوهري في ركن الصوت‬
‫والداللة والتركيب‪ ،‬فإّنها تظل محكومة برأي الفالسفة في صلة األلفاظ بالمعاني‪،‬‬
‫علمًا بأن تخصيص القول الشعري أو األدبي عمومًا بوضعه في خانة المغاير‬
‫للعادي لم ينبن عليه اإليمان بجدوى السياق وفعاليته في بناء الّد اللة‪.‬‬
‫أما عند أبي حيان التوحيدي فإن معتمده يكون على اللفظ والمعنى‪ ،‬وعلى‬
‫النظم‪ .‬ويبدو ألول وهلة‪ ،‬وهو يتحرك في مسار ثنائي يفصل العنصرين‪ ،‬أّنه‬
‫يؤمن بتقديم طرف على آخر‪ ،‬فمما يمكن أن يكون دليًال على هذا التوجه ما يرويه‬

‫‪- 155 -‬‬


‫عن بعضهم داعيًا إلى ضرورة االعتناء باللفظ الموثق والتأليف المعجب‪ ،‬إذ "ما‬
‫أكثر ما رد صالح معناه لفاسد لفظه‪ ،‬وقبل فاسد معناه لصالح لفظه"(‪ ،)85‬إّال أنه‬
‫ال يلبث أن يستدرك في أكثر من موضع ملحًا على ضرورة االعتناء بالعنصرين‪.‬‬
‫من هذه المواضع قولـه‪" :‬وال تعشق اللفظ دون المعنى‬
‫وال تهَو المعنى دون اللفظ"(‪ ،)86‬ذلك أن "أحسن الكالم ما رق لفظه‪ ،‬ولطف‬
‫معناه"(‪ ،)87‬و "ألن المعاني ليست في جهة واأللفاظ في جهة‪ ،‬بل هي متمازجة‬
‫متناسبة والصحة عليهما وقف"(‪ .)88‬من هنا يكون من ضرورات البالغة عنده‬
‫في مراتبها المختلفة‪ ،‬إذ يراها حسب ما يرويه عن أبي سليمان ضروبًا‪ ،‬منها‬
‫"بالغة الشعر‪ ،‬ومنها بالغة الخطابة‪ ،‬ومنها بالغة النثر‪ ،‬ومنها بالغة المثل‪،‬‬
‫ومنها بالغة العقل‪ ،‬ومنها بالغة البديهة‪ ،‬ومنها بالغة التأويل"(‪ .)89‬أقول‪ :‬يكون‬
‫من ضرورات البالغة عنده االعتناء باللفظ والمعنى معًا في أغلب ضروبها‪ ،‬مما‬
‫يجعل إمكانية اختيار الدوال وفق مقاصد القول ضرورة أسلوبية تقتضي تحقيق‬
‫خصائص الفصاحة في األلفاظ والوضوح في المعاني والشهرة أو اللطف‪ ،‬حسب‬
‫ضرورات الموضع ومتطلبات المقام(‪.)90‬‬
‫لكن الموقف من المعنى واللفظ ال يلبث أن يمتد ليشمل النظم الالحم لهما‪،‬‬
‫وبدخولـه حقل القول البليغ لدى التوحيدي ارتقاء إلى مرتبة الجمع بين ركني القول‬
‫اللذين هما المعنى واللفظ‪ ،‬إذ "ينبغي أن يكون الغرض األول في صحة المعنى‪،‬‬
‫والغرض الثاني في تخيير اللفظ‪ .‬والغرض الثالث في تسهيل النظم وحالوة‬
‫التأليف‪ ،‬واجتالب الرونق‪ ،‬واالقتصاد في المؤاخاة‪ ،‬واستدامة الحال ليستمر الثاني‬
‫على األول‪ ،‬والثالث على الثاني"(‪ ،)91‬ويبدو أن وظيفة النظم هنا ال تتجاوز طابع‬
‫الرصف الجامع لشتات الدوال‪ ،‬إال أنه بمقابلة داللة النظم هنا بدور النحو في‬
‫الكالم وفي تحصيل المعنى إذ "أن الكالم كالجسم والنحو كالحلية‪ ،‬وأن التمييز بين‬
‫الجسم والجسم إنما يقع بالحلي القائمة واألعراض الحاّلة فيه‪ ،‬وأن حاجته إلى‬
‫حركة الكلمة بأحد وجوه اإلعراب حتى يتميز الخطأ من الصواب كحاجته إلى‬
‫نفس الخطاب"(‪ ،)92‬وحاجة الكالم إلى النحو أكيدة إذ لها عالقة بمعناه حيث‬
‫"يتغير المراد فيه باختالف اإلعراب"(‪ )93‬فقد تمكننا من استشفاف تصور أولي‬
‫لعالقة نظم الكالم بالنحو‪ ،‬حيث قد تقترب هذه الصلة من الوعي بالمستوى‬
‫التركيبي‪ ،‬وعالقة النحو أو معانيه برباط الوحدات في السياق‪ ،‬إذ يروي التوحيدي‬
‫عن أبي سعيد السيرافي في مناظرته متى بن يونس قوله‪" :‬معاني النحو منقسمة‬
‫بين حركات اللفظ وسكناته‪ ،‬بين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها‪ ،‬وبين‬
‫تأليف الكالم بالتقديم والتأخير وتوّخ ي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك"(‬
‫‪- 156 -‬‬
‫‪ .)94‬فداللة معاني النحو هنا ال تقتصر على حركات اإلعراب أو الوقاية من‬
‫الخطأ وقصد الصواب بل تتخلل تأليف الكالم وتتحكم في ترتيب وحداته مع‬
‫مراعاة مواضعها‪ ،‬ولو ارتبطت هذه الوظيفة بالنظم صراحة لكانت خطوة أعمق‬
‫في فهم بنية الكالم‪.‬‬
‫ويحاول التوحيدي االقتراب من فهم بنية الكالم باعتماد تشبيهه بالعقد‪،‬‬
‫فينطلق من ضرورة اختيار الدوال ليتعاضد حسنها في مرحلة التوزيع ذلك أن‬
‫بالغة المرّك ب تتأسس على عناصر مكتملة الحسن في ذاتها‪ ،‬إذ إن "شبه الحروف‬
‫واألسماء المركبة منها ونظم األسماء بالعقود والّس موط المؤلفة من خرزات مختلفة‬
‫في القد واللون والجوهر والخرط‪ .‬وقد علم أن للعقد المنظوم من النفس ثالثة‬
‫مواضع أحدها مفردات تلك الخرز واختيار أجناسها وجواهرها‪ .‬والثاني موقع‬
‫النظم الذي يجعل للحبة إلى جانب الحبة قبوًال آخر‪ ،‬وموضعًا من النفس ثانيًا‪،‬‬
‫والثالث وضع كل واحد من هذه العقود في خاص موقعه من النحر والرأس والزند‬
‫والصدر"(‪.)95‬‬
‫وإ ذا كانت مرتبة الحروف المقابلة لمرتبة مفردات الخرز طبيعة كما يرى‪ ،‬ال‬
‫صنع فيها للبشر‪ ،‬وال يظهر فيها أثر للصنعة التي يتحدد مجالها بقسمي التركيب‬
‫والنظم‪ ،‬فإّنه في قسم التركيب الذي تمزج فيه الحروف لتؤلف وحدة دالة تتجّس د‬
‫أول مراتب المزية‪ ،‬من هنا‪" :‬يجب أن يكون بعض األسماء أحسن من بعض‪،‬‬
‫وأعذب في السمع‪ ،‬وأقرب إلى قبول النفس‪ ،‬وبعضها أبعد في هذه األشياء"(‪.)96‬‬
‫فإذا اكتمل لألسماء االنتقاء وفق شروط الفصاحة أمكن تحقيق المرتبة الثالثة التي‬
‫يوجدها تضام الوحدات في مستوى النظم من الكالم حيث هنا "تظهر صناعة‬
‫الخطابة والبالغة والشعر‪ .‬وذلك أنه إذا اختار المختار الحروف المؤّلفة باألسماء‬
‫حتى ال يكون فيها مستكره وال مستنكر‪ ،‬ووضعها من النظم في مواضعها‪ ،‬ثم‬
‫نظمها نظمًا آخر –أعني وضع الكلمة إلى جنب الكلمة‪ -‬موافقًا للمعنى غير قلق‬
‫في المكان‪ ،‬وال نافر عن السمع‪ ،‬فقد استتمت له الصناعة‪ ،‬إما شعرًا وإ ما خطبة‬
‫وإ ما غيرها من أقسام الكالم‪ .‬ومتى دخل عليه الخلل في أحد هذه المواضع الثالثة‬
‫اختلت صناعته‪ ،‬وأبت النفس قبول ما نظمه من الكالم بحسب ذلك"(‪.)97‬‬
‫فأبو حيان التوحيدي يتحرك في ضبط حدود بالغة القول في محاور المعنى‬
‫واللفظ والنظم وال يصادر على طرف ويغفل آخر‪ ،‬بل تمتد خواّص النص‬
‫األسلوبية لديه لتغطي العناصر كلها‪ ،‬حيث يشكل فيها النظم مرتبة الحقة الكتمال‬
‫مواصفات بالغية ينبغي توفرها في المعنى واللفظ‪ ،‬وبها يتحقق لهما الحسن الذاتي‬

‫‪- 157 -‬‬


‫الذي يكون جماعه في النظم الضام للطرفين‪ .‬ومع أن النظم ال يؤسس جوهر‬
‫الكالم البليغ كما سيتحقق في أنضج تصوره لدى بعض المتكلمين‪ ،‬فإن داللته إذ‬
‫تتضمن معنى التأليف مستفيدة من الوظيفة النحوية‪ ،‬تكشف عن المدى الذي يمكن‬
‫أن يتحقق بالتأليف فيحيل الكالم نصًا أدبيًا يكون خطبة أو شعرًا أو ما أشبههما‪.‬‬
‫تحليل الطراغوذيا (المديح الشعري)‬
‫والمصادرة علىالمضمون والشكل‬
‫إذا عدنا إلى الفالسفة اإلسالميين لنؤكد المنظور الثنائي الذي يتضمن ما‬
‫يتصورونه بنية للنص األدبي معاني وألفاظًا‪ ،‬فلن نجد أفضل من وقفة مكثفة أخيرة‬
‫نتابع فيها تحديدهم نوعًا شعريًا متميزًا‪ ،‬هو الطراغوذيا أو المديح الشعري الذي‬
‫يشكل منطلق ما يعتمدونه من تحليل لفعالية الشعر عمومًا ولبنية النص خصوصًا‪،‬‬
‫حيث ستتجمع العناصر أو األقسام الُم شِّك لة للمديح الشعري منتظمة في ثنائية ما به‬
‫يحاكى‪ ،‬ومحتوى المحاكاة‪ .‬ونحن إذ نتوقف عند هذا النوع الشعري مدّللين به‬
‫على المسار النظري الضابط لرأي الفالسفة في المحتوى والشكل‪ ،‬ال نغفل‬
‫اإلشارة إلى أن الفالسفة اإلسالميين ذكروا أنواعًا شعرية عديدة مستعينين بأرسطو‬
‫أو بشّر احه(‪ )98‬معّر فين كل نوع على ِح دة‪ ،‬ذاكرين وظيفته‪ ،‬وإ ن لم ينبن على‬
‫ذلك تفريع لخواص هذه األنواع جملة‪ ،‬وهي ال تعدو ‪-‬في الغالب‪ -‬أن تكون‬
‫تفريعات من نوعي الشعر البارزين اللذين هما الطراغوذيا والقوموذيا لدى ابن‬
‫سينا أو المديح والهجاء عند غيره(‪.)99‬‬
‫تتحّد د الطراغوذيا لدى ابن سينا بكونها "محاكاة فعل كامل الفضيلة عالي‬
‫المرتبة‪ ،‬بقول مالئم جدًا‪ ،‬ال يختص بفضيلة جزئية‪ ،‬تؤّثر في الجزئيات ال من‬
‫جهة الملكة‪ ،‬بل من جهة الفعل‪ ،‬محاكاة تتفاعل معها األنفس برحمة وتقوى‪ .‬وهذا‬
‫الحّد قد بين فيه أمر الطراغوذيا بيانًا على أنه يذكر فيه الفضائل الرفيعة كّلها بكالم‬
‫موزون لذيذ‪ ،‬على جهة تميل األنفس إلى الرّقة والتقية‪ .‬وتكون محاكاتها لألفعال‪،‬‬
‫ألن الفضائل والملكات بعيدة عن التخّي ل وإ نما المشهور من أمرها أفعالها‪ .‬فيكون‬
‫الطراغوذيا يقصد فيه ألجل هذه األفعال أن يكمل أيضًا بإيقاع آخر واتفاق نغم يتم‬
‫به الّلحن‪ .‬ويجعل له من هذه الجهة إيقاع زائد على أنواع أوزانه في نفسه‪ .‬وقد‬
‫يعملون عند إنشاء طراغوذيا باللحن أمورًا أخرى من اإلشارات واألخذ بالوجه تتم‬
‫بها المحاكاة"(‪ .)100‬فالطراغوذيا تقوم على محاكاة فعل بقول مالئم يدعمه وزن‬
‫لذيذ‪ .‬وقد تكمل بنغم ولحن‪ ،‬وفي أحيان أخرى بأشكال وهيئات المنشدين والقصد‬
‫منها التمثيل حسب فهم الفالسفة له‬

‫‪- 158 -‬‬


‫(‪ ،)101‬ذلك أن الطراغوذيا "يجب أن تكون كاملة فيما تعمل من المحاكاة وأن‬
‫تعّظم األمر الذي تقصده‪ .‬فإن تلك المعاني قد تقال قوًال مرسًال من غير الرونق‬
‫والفخامة والحشمة"(‪ .)102‬والذي يكفل للمعاني الرونق والفخامة هو إعطاء‬
‫عناصرها وخصائصها حقها‪ ،‬إذ إن المحاكاة باعتبارها الجوهر المحقق لشعرية‬
‫القول يكون كمالها في الصياغة الّص ورية للمعنى الذي يتمثل في الطراغوذيا في‬
‫أفعال‪ ،‬جانبها األخالقي المشكل لجوهر القيمة ال يهمنا بل إن المهم في مقامنا هو‬
‫أن هذا الفعل يشكل في نظر ابن سينا قاعدة المعنى الذي إن أتيح له اإلخراج‬
‫الجميل بالقول المدعوم بعناصر اإليقاع والنغم كملت للطراغوذيا خصائصها‪ ،‬ذلك‬
‫أن الشعر عمومًا يحاكي بثالثة أشياء‪ :‬باللحن الذي يتنغم به‪ ،‬وبالكالم نفسه إذا كان‬
‫مخيًال محاكيًا‪ ،‬وبالوزن(‪.)103‬‬
‫وانطالقًا مما سلف يمكن أن نفّص ل العناصر المحدثة للطراغوذيا ضمن هذه‬
‫القناعة القائمة على مقابلة المعنى باللفظ الممتّد ة في كون القصيدة عاّم ة‪ ،‬ذلك أّن‬
‫"أجزاء الطراغوذيا التامة عندهم ستة‪ :‬األقوال الشعرية والخرافية والمعاني التي‬
‫جرت العادة بالحث عليها‪ ،‬والوزن‪ ،‬والحكم‪ ،‬والرأي بالدعاء إليه‪ ،‬والبحث‬
‫والنظر‪ ،‬ثم اللحن‪ .‬فأما الوزن‪ ،‬والخرافة‪ ،‬واللحن‪ ،‬فهي ثالثة تقع بها المحاكاة‪.‬‬
‫وأما العبارة واالعتقاد‪ ،‬والنظر فهو الذي يقصد محاكاته‪ ،‬فيكون الجزآن األّو الن‬
‫له‪ :‬أحدهما ما يحاكي‪ ،‬والثاني ما يحاكى‪ .‬ثم كل واحد منهما ثالثة أقسام"(‪.)104‬‬
‫تتمحور العناصر المحققة للطراغوذيا في‪ :‬المحاكاة الوزن واللحن‪ ،‬وهذه‬
‫تشكل الّص ورة المقابلة للهيولى المتمثلة هنا في المعاني التي تتفرع إلى عادات‬
‫واعتقادات‪ ،‬ونظر ويراد به الحجج التي تدعم القيم والعادات األخالقية التي ينبغي‬
‫ترسيخها في الجمهور‪ .‬وكل ذلك ينبغي أن يتشخص في فعل‪ ،‬ويّتسم هنا بطابع‬
‫السلوك الخّير المتمّثل في مناقب الممدوح أو الموصوف عامة‪ ،‬وال ينبني في‬
‫حدث‪ ،‬إذ لو تشّك ل وفق هذا الفهم لكان األمر أقرب إلى الوعي ببناء التراجيديا‪،‬‬
‫هذا البناء الذي تتحّد د كينونته في الفعل‪ ،‬أو الحدث المحاكى بما يفترضه من‬
‫إدراك للشخصيات الفاعلة لألحداث وعناصر البناء المشكلة للتراجيديا عمومًا‪.‬‬
‫لكن فهم ابن سينا يتحرك ضمن ثنائية الصورة والهيولى‪ ،‬إذ سيتحدد للطراغوذيا‬
‫كيانها باالنطباع الشعري للعناصر الشكلية على المعاني الممّثلة للمستوى‬
‫الهيوالني‪ ،‬فيتكامل بهذا االنطباع الكيان الوجودي للطراغوذيا‪.‬‬
‫يتأسس فهم ابن رشد لبناء المديح الشعري المقابل عنده للطراغوذيا على‬
‫المنطلقات نفسها‪ ،‬ففضًال عن الحد الذي يذكره له الذي ال يكاد يختلف عن حد ابن‬

‫‪- 159 -‬‬


‫سينا(‪ ،)105‬نرى في أقسام المديح الستة وتفصيلها لديه ترسيخًا لهذا المنحى‪ ،‬إذ‬
‫كما يرى "يجب أن تكون أجزاء صناعة المديح ستة‪ :‬األقاويل الخرافية‪ ،‬والعادات‪،‬‬
‫والوزن‪ ،‬واالعتقادات‪ ،‬والنظر‪ ،‬واللحن‪ .‬والدليل على ذلك أّن كل قول شعري قد‬
‫ينقسم إلى مشّبه ومشّبه به‪ ،‬والذي به يشّبه ثالثة‪ :‬المحاكاة‪ ،‬والوزن‪ ،‬واللحن‪.‬‬
‫والذي يشبه في المدح ثالثة أيضًا‪ :‬العادات واالعتقادات‪ ،‬والنظر‪ ،‬أعني االستدالل‬
‫لصواب االعتقاد‪ ،‬فتكون أجزاء صناعة المديح ضرورة‪ :‬ستة"(‪ ،)106‬فكل قول‬
‫شعري عند ابن رشد ينقسم إلى مشّبه ومشّبه به‪ ،‬وتتحقق خصوصية هذا النوع أو‬
‫ذاك بحسب محتوى المحاكاة علمًا بأن ميزة الّش عر تكمن في طريقة تقديمه المعنى‪،‬‬
‫إال أن عملية الفصل لدى ابن رشد بين ما يحاكي ويحاكى تبدو كاآللية‪ ،‬إذ كما‬
‫يرى أن "أّو ل أجزاء صناعة المديح الشعري في العمل وهو أن تحصى المعاني‬
‫الشريفة التي بها‬
‫يكون التخييل‪ ،‬ثم تكسى تلك المعاني اللحن والوزن المالئمين للشيء المقول فيه"(‬
‫‪ ،)107‬والتعبير بالكسوة كاٍف في التدليل على فهم ابن رشد للعالقات الشاملة‬
‫لعناصر القول‪ .‬والبن سينا رأي قريب من رأي ابن رشد في كيفية صناعة‬
‫الطراغوذيا‪ ،‬إذ يرى أن "أّو ل أجزاء الطراغوذيا هو المقصود من المعاني المتخّي لة‬
‫والوجيهة ذات الّر ونق‪ .‬ثم يبنى عليها اللحن والقول‪ .‬فإنهم يحاكون باجتماع هذه‪.‬‬
‫ومعنى القول‪ :‬اللفظ الموزون"(‪.)108‬‬
‫وهذا الموقف الممّيز بين محتوى العمل الشعري وشكله حيث تتحقق‬
‫خصائص الشعر في المحاكاة والوزن‪ ،‬واللحن أحيانًا‪ ،‬هو الذي يمّك ن الفالسفة من‬
‫ضبط حد النوع الشعري الذي يبتغون‪ ،‬ذلك أن االحتفاظ بخصائص الشكل أو ما‬
‫به يحاكى يكون مطلقًا‪ ،‬ويحتاج الحد في كل صياغة إلى حصر محتوى النوع‬
‫الجديد‪ ،‬نلتمس ذلك في تعريف األشعار القصصية المقابلة للملحمة التي يبدو‬
‫"سبيلها في األجزاء التي هي المبدأ والوسط والنهاية سبيل أجزاء صناعة المديح‪.‬‬
‫وكذلك المحاكاة‪ .‬إّال أن المحاكاة ليس تكون لألفعال فيها‪ ،‬وإ ّنما تكون لألزمنة‬
‫الواقعة فيها تلك األفعال‪ ،‬وذلك أنه إنما يحاكى في هذه كيف كانت أحوال المتقدم‬
‫مع أحوال المتأخر‪ ،‬وكيف تنقل الدول والممالك واألّيام"(‪.)109‬‬
‫والخالصة أن وعي الفالسفة بتميز الخطاب األدبي عمومًا والشعري‬
‫خصوصًا بصياغة لغوية مخصوصة لم تترجمه المعاينة الُم حلِّلة للنص إلى إدراك‬
‫عميق لتفاعل مستوياته بقدر ما ظل تأكيد خاصية التوازي بين العناصر وتوافقها‬
‫هي الّس مات الغالبة على فهم عالئقها الُم شكِّلة للنص‪.‬‬

‫‪- 160 -‬‬


‫‪‬‬
‫هوامش الفصل الثالث‪:‬‬
‫(‪)1‬المدخل من الشفاء‪.23 :‬‬
‫(‪)2‬ينظر مدخل البحث‪.‬‬
‫(‪)3‬تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات‪.100 :‬‬
‫(‪)4‬كتاب الموسيقى‪.1092 :‬‬
‫(‪)5‬نفسه‪.‬‬
‫(‪)6‬الفارابي‪ ،‬الحروف‪.87 :‬‬
‫(‪)7‬نفسه‪.225 :‬‬
‫(‪)8‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪.174 :‬‬
‫(‪ )9‬نفسه‪.163 :‬‬
‫(‪)10‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪.242 :‬‬
‫(‪)11‬الرسائل ‪.129 :3‬‬
‫(‪ )12‬نفسه‪243 :‬‬
‫(‪ )13‬أبو حيان التوحيدي‪ ،‬المقابسات‪.170 :‬‬
‫(‪ )14‬أبو حيان التوحيدي‪ ،‬مثالب الوزيرين‪ .294 :‬ينظر‪ :‬اإلمتاع والمؤانسة ‪.144 :3‬‬
‫(‪)15‬ينظر‪ :‬ألفت الروبي‪ ،‬نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين‪...153 :‬‬
‫(‪)16‬الفارابي‪ ،‬الحروف‪.164 :‬‬
‫(‪)17‬الفارابي‪ ،‬كتاب في المنطق‪ :‬العبارة‪.19 :‬‬
‫(‪)18‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪.192 :‬‬
‫(‪ )19‬نفسه‪.193 :‬‬
‫(‪ )20‬نفسه‪ .238-237:‬ويتعرض ابن رشد لنفس الموضوع في مواضع مختلفة من تلخيص‬
‫الخطابة‪ ،‬كقوله في ص‪ 531 :‬إن األلفاظ المفردة كانت اسمًا أو كلمة أو حرفًا‪ ،‬تنقسم من‬
‫جهة أنحاء دالالتها ثمانية أقسام‪ :‬منها المستولية‪ ،‬ومنها المغّيرة‪ ،‬ومنها الغريبة‪ ،‬ومنها‬
‫اللغات‪ ،‬ومنها المزينة‪ ،‬ومنها المركبة‪ ،‬ومنها المغلطة‪ ،‬ومنها الموضوعة‪.‬‬
‫(‪)21‬نفسه‪.239-238 :‬‬
‫(‪)22‬ينظر‪ :‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص الخطابة‪.540 :‬‬
‫(‪)23‬نفسه‪.542 :‬‬
‫(‪)24‬الفارابي‪ ،‬الحروف‪.141 :‬‬

‫‪- 161 -‬‬


‫(‪)25‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪.193 :‬‬
‫(‪)26‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص الخطابة‪.547 :‬‬
‫(‪)27‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪.242 :‬‬
‫(‪)28‬نفسه‪.243 :‬‬
‫(‪)29‬أبو حيان التوحيدي‪ ،‬المقابسات‪.245 :‬‬
‫(‪)30‬نفسه‪.145 :‬‬
‫(‪)31‬أبو حيان التوحيدي‪ ،‬اإلمتاع والمؤانسة‪.125 :‬‬
‫(‪)32‬ينظر‪ :‬الفارابي‪ ،‬رسالة في قوانين صناعة الشعراء‪ .151-150 :‬كتاب الشعر‪.94-93 :‬‬
‫إحصاء العلوم‪ .68-67 :‬فصول منتزعة‪ ...62 :‬األلفاظ المستعملة في المنطق‪-98 :‬‬
‫‪ .99‬ابن سينا‪ ،‬البرهان‪ .63 :‬قسم المنطق من النجاة‪ .6-5 :‬قسم المنطق من‬
‫اإلشارات‪ .195 :‬جوامع علم الموسيقى‪ .123-122 :‬عيون الحكمة‪ .14-13 :‬كتاب‬
‫المجموع‪ ...‬في الشعر‪ .15 :‬القياس من الشفاء‪ .56-55 :‬فن الشعر‪ .162-161 :‬ابن‬
‫رشد‪ :‬كتاب الشعر‪ .203 :‬جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪ ...241 :‬ألفت الروبي‪ ،‬نظرية‬
‫الشعر‪ ...113 :‬األخضر جمعي‪ ،‬نظرية الشعر‪...20 :‬‬
‫(‪ )33‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪.168 :‬‬
‫(‪)34‬ينظر‪ :‬الكندي‪ ،‬الرسائل ‪ ،111-110 :1‬الفارابي‪ ،‬كتاب آراء أهل‪.148-147 ...‬‬
‫السياسة المدنية‪ ....85 :‬ابن مسكويه‪ ،‬الفوز األصغر‪ .83 :‬ابن سينا‪ ،‬قسم الحكمة‬
‫اإللهية من النجاة‪ .502-501 :‬ابن باجة‪ ،‬الرسائل اإللهية‪ ...167 :‬ابن طفيل‪ ،‬حي بن‬
‫يقظان‪ .126-121 :‬ابن رشد‪ ،‬مناهج األدلة‪ .251-250-249 :‬كذا‪.173-172 :‬‬
‫تلخيص الخطابة‪ ...19 :‬فصل المقال‪ .48-46 :‬تلخيص كتاب الجدل‪ .501 :‬تلخيص‬
‫كتاب المغالطة‪ .671 :‬األخضر جمعي‪ ،‬نظرية الشعر‪...28 :‬‬
‫(‪)35‬ينظر لالطالع على هذه األقسام‪ :‬جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية‪ ...26 :‬ألفت الروبي‪،‬‬
‫نظرية الشعر‪ ...19 :‬األخضر جمعي‪ ،‬نظرية الشعر‪...182 :‬‬
‫(‪)36‬ينظر‪ :‬األخضر جمعي‪ ،‬نظرية الشعر‪...74 :‬‬
‫(‪ )37‬ابن سينا‪ ،‬قسم المنطق من اإلشارات‪.199 :‬‬
‫(‪)38‬نفسه‪.200 :‬‬
‫(‪ )39‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪.162-161 :‬‬
‫(‪)40‬نفسه‪.162 :‬‬
‫(‪)41‬نفسه‪.163 :‬‬
‫(‪)42‬ابن سينا‪ ،‬كتاب المجموع‪ ...‬في معاني كتاب الشعر‪.23-22-21 :‬‬
‫(‪)43‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪.195 :‬‬
‫(‪)44‬الفارابي‪ ،‬كتاب الشعر‪.92 :‬‬

‫‪- 162 -‬‬


‫(‪)45‬نفسه‪.91 :‬‬
‫(‪)46‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪.203 :‬‬
‫(‪)47‬نفسه‪.247 :‬‬
‫(‪)48‬الفارابي‪ ،‬كتاب الشعر‪.92 :‬‬
‫(‪)49‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪.160 :‬‬
‫(‪)50‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪.904 :‬‬
‫(‪)51‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪ .189 :‬ينظر‪ :‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪.230-229 :‬‬
‫(‪ )52‬ينظر‪ :‬الكندي‪ ،‬الرسائل ‪ .376 :1‬الفارابي‪ ،‬كتاب الشعر‪ .95-94-93 :‬رسالة في‬
‫قوانين صناعة الشعراء‪ .157 :‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪ .171-168-167 :‬كتاب‬
‫المجموع‪ ...‬في معاني كتاب الشعر‪ ...17 :‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪ ...201 :‬تلخيص‬
‫الخطابة‪ ...607 :‬الخوارزمي‪ ،‬مفاتيح العلوم‪ .58 :‬جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنّية‪:‬‬
‫‪ .444‬ألفت الروبي‪ ،‬نظرية الشعر‪ .201 :‬األخضر جمعي‪ ،‬نظرية الشعر‪.187 :‬‬
‫(‪)53‬ينظر‪ :‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪ .242 :‬الكندي‪ ،‬الرسائل ‪ .376 :1‬الخوارزمي‪ ،‬مفاتيح‬
‫العلوم‪.58 :‬‬
‫(‪)54‬ينظر لإلحاطة بمهمة الشعر عند الفالسفة‪ :‬ألفت الروبي‪ ،‬نظرية الشعر‪ ...125 :‬األخضر‬
‫جمعي‪ ،‬نظرية الشعر‪...129 :‬‬
‫(‪)55‬ينظر إليفاء هذه المسائل حقها من االطالع‪ :‬جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪ ...367 :‬ألفت‬
‫الروبي‪ ،‬نظرية الشعر‪ ...248 :‬األخضر جمعي‪ ،‬نظرية الشعر‪...209 :‬‬
‫(‪)56‬الفارابي‪ ،‬رسالة في قوانين صناعة الشعراء‪.152 :‬‬
‫(‪)57‬الخوارزمي‪ ،‬مفاتيح العلوم‪.49 :‬‬
‫(‪)58‬مسكويه‪ ،‬الهوامل والشوامل‪.309 :‬‬
‫(‪)59‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪ .165 :‬كتاب المجموع‪ ...‬في معاني كتاب الشعر‪.30 :‬‬
‫(‪)60‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪.232 :‬‬
‫(‪)61‬ينظر‪ :‬جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪ ...367 :‬األخضر جمعي‪ ،‬نظرية الشعر‪...167 :‬‬
‫‪...210‬‬
‫(‪)62‬ابن سينا‪ ،‬رسالة في ماهية العشق‪.17 :‬‬
‫(‪)63‬أخوان الصفا‪ ،‬الرسائل ‪ .262 :1‬وكذا‪ .190-177-167 :‬ينظر‪ :‬جابر عصفور‪،‬‬
‫الصورة الفنية‪.287 :‬‬
‫(‪)64‬الفارابي‪ ،‬كتاب الموسيقى‪.11 :‬‬
‫(‪ )65‬الفارابي‪ ،‬إحصاء العلوم‪.69 :‬‬
‫(‪)66‬الفارابي‪ ،‬األلفاظ المستعملة في المنطق‪.92 :‬‬
‫(‪)67‬الفارابي‪ ،‬رسالة في قوانين صناعة الشعراء‪.157 :‬‬

‫‪- 163 -‬‬


‫(‪)68‬ابن سينا‪ ،‬جوامع علم الموسيقى‪.7 :‬‬
‫(‪)69‬ابن سينا‪ ،‬كتاب المجموع‪ ...‬في معاني كتاب الشعر‪.21 :‬‬
‫(‪)70‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪ .193 :‬وكذا‪ :‬كتاب المجموع‪ ...‬في معاني كتاب الشعر‪-22-21 :‬‬
‫‪.23‬‬
‫(‪)71‬نفس المصدرين‪.163/24 :‬‬
‫(‪)72‬نفس المصدرين‪ .24-16323 :‬ينظر‪ :‬ألفت الروبي‪ ،‬نظرية الشعر‪...170 :‬‬
‫(‪)73‬نفس المصدرين‪.26-25-164/24-163 :‬‬
‫(‪)74‬نفس المصدرين‪.28-27-164/26 :‬‬
‫(‪)75‬نفس المصدرين‪.164/28 :‬‬
‫(‪)76‬نفس المصدرين‪.29-165/28 :‬‬
‫(‪)77‬نفس المصدرين‪.165/29 :‬‬
‫(‪)78‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪.242 :‬‬
‫(‪)79‬نفسه‪.239 :‬‬
‫(‪)80‬نفسه‪.‬‬
‫(‪)81‬نفسه‪.241-240-239 :‬‬
‫(‪)82‬نفسه‪.241 :‬‬
‫(‪)83‬ابن رشد‪ ،‬تلخيص الخطابة‪ .623 :‬ينظر‪ :‬كتاب الشعر‪.244-243 :‬‬
‫(‪)84‬نفسه‪.596 :‬‬
‫(‪)85‬مثالب الوزيرين‪.11 :‬‬
‫(‪)86‬اإلمتاع والمؤانسة ‪.10 :1‬‬
‫(‪)87‬نفسه ‪.145 :2‬‬
‫(‪)88‬البصائر والذخائر‪ .‬م‪ .50 :3/1‬ينظر‪.92 :2/1 :‬‬
‫(‪)89‬اإلمتاع والمؤانسة ‪.141-140 :2‬‬
‫(‪)90‬نفسه ‪ .65-64 :1‬جزء ‪...140 :2‬‬

‫(‪)91‬أبو حيان التوحيدي‪ ،‬مثالب الوزيرين‪ .94 :‬ينظر‪ :‬البصائر والذخائر‪ .‬م ‪-422 :3/2‬‬
‫‪.423‬‬
‫(‪)92‬أبو حيان التوحيدي‪ ،‬البصائر والذخائر‪.181 :‬‬
‫(‪)93‬أبو حيان التوحيدي‪ ،‬اإلمتاع والمؤانسة ‪.102 :1‬‬
‫(‪)94‬نفسه ‪.121 :1‬‬
‫(‪)95‬أبو حيان التوحيدي‪ .‬مسكويه‪ ،‬الهوامل والشوامل‪.21 :‬‬

‫‪- 164 -‬‬


‫(‪)96‬نفسه‪.23 :‬‬
‫(‪)97‬نفسه‪.‬‬
‫(‪)98‬ينظر‪ :‬الفارابي‪ ،‬رسالة في قوانين صناعة الشعراء‪ ...152 :‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪-166 :‬‬
‫‪.167‬‬
‫(‪)99‬ينظر‪ :‬الكندي‪ ،‬الرسائل ‪ .382 :1‬الفارابي‪ ،‬رسالة في قوانين صناعة الشعراء‪-151 :‬‬
‫‪ .152‬ابن سينا‪ :‬فن الشعر‪ ...172-169-166 :‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪-201 :‬‬
‫‪.245-208‬‬
‫(‪)100‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪.176 :‬‬
‫(‪)101‬ينظر‪ :‬األخضر جمعي‪ :‬نظرية الشعر‪...111 :‬‬
‫(‪)102‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪.181 :‬‬
‫(‪)103‬نفسه‪.168 :‬‬
‫(‪)104‬نفسه‪.178-177 :‬‬
‫(‪)105‬ينظر‪ :‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪.209-208 :‬‬
‫(‪)106‬نفسه‪.210-209 :‬‬
‫(‪)107‬نفسه‪.209 :‬‬
‫(‪)108‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪.177 :‬‬
‫(‪)109‬ابن رشد‪ ،‬كتاب الشعر‪ .245 :‬ينظر‪ :‬ابن سينا‪ ،‬فن الشعر‪.194 :‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 165 -‬‬


‫الفصل الرابع‬
‫المتكلمون بين ثنائّية‬
‫اللفظ والمعنى والنظم‬

‫النص األدبي في دراسات اإلعجاز قبل عبد القاهر‬


‫تراوح فهم المتكلمين للنص بين ثنائية اللفظ والمعنى‪ ،‬والنظم‪ ،‬ولم يكد الحسم‬
‫يكون بّينًا في إسناد هذه الفعالية إلى النظم إال مع عبد القاهر‪ ،‬في حين ظل سابقوه‬
‫يقرون مزايا للفظ والمعنى مع تبني فهم للنظم بدالالت مختلفة ومتفاوتة‪ ،‬اقتربت‬
‫عند القاضي عبد الجبار من مستوى النضج حيث بدأ األساس اللغوي والنحوي‬
‫للنظم في التشكيل‪.‬‬
‫ومن هنا استقام في أذهان هؤالء رؤية النص األدبي من منظور ثنائية اللفظ‬
‫والمعنى‪ ،‬دون أن يتخلوا عن الضابط لهذين الشقين والالحم لهما بطريقة اإلضافة‬
‫الخارجية عمومًا‪ ،‬مصطلحين على تسمية هذه العالقة الضامة لعناصر النص‬
‫باصطالحات تبدو مترادفة كالسبك واالنتظام والرصف‪...‬‬
‫فقد بدأ النظم فضفاضًا قابًال الستيعاب دالالت مختلفة‪ ،‬ذلك أنه على مستوى‬
‫أولي تحدد مرادفًا للطريقة‪ ،‬أو النوع األدبي في نصوص كل المتكلمين السابقين‬
‫لعبد القاهر‪ ،‬فالعادة‪ ،‬كما يرى الرماني "كانت جارية بضروب من أنواع الكالم‬
‫معروفة‪ :‬منها الشعر ومنها السجع ومنها الخطب ومنها الرسائل‪ ،‬ومنها المنثور‬
‫الذي يدور بين الناس في الحديث‪ ،‬فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة‬
‫لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة"(‪ ،)1‬وهذا الفهم للنظم المرادف الطريقة‬
‫وارد عند الخطابي في مثل قوله متحدثًا عن فصاحة العرب حيث إنهم "مقتدرون‬
‫على التصرف في أودية الكالم‪ ،‬عارفون بنظومه قصيده ورجزه وسجعه‪ ،‬وسائر‬
‫فنونه"(‪ .)2‬ولقد تواتر ذكر النظم في أعمال الباقالني وجهًا من وجوه إعجاز‬

‫‪- 166 -‬‬


‫القرآن‪ ،‬حيث "إنه بديع النظم‪ ،‬عجيب التأليف متناه في البالغة إلى الحد الذي يعلم‬
‫عجز الخلق عنه"(‪)3‬؛ غير أن داللته األولى تمر عبر الفهم السالف الذكر ذلك "أن‬
‫نظم القرآن على تصرف وجوهه‪ ،‬وتباين مذاهبه‪ ،‬خارج عن المعهود من نظام‬
‫جميع كالمهم"(‪.)4‬‬
‫ومع أن القاضي عبد الجّبار يورد نصًا لشيخه "أبي هاشم" يحدد فيه فهمه‬
‫للفصاحة والنظم‪ ،‬وهو قوله‪" :‬إنما يكون الكالم فصيحًا لجزالة لفظه‪ ،‬وحسن‬
‫معناه‪ ،‬والبد من اعتبار األمرين‪ ،‬ألنه لو كان جزل اللفظ‪ ،‬ركيك المعنى لم يعد‬
‫فصيحًا‪ ،‬فإذن يجب أن يكون جامعًا لهذين األمرين‪ ،‬وليس فصاحة الكالم بأن‬
‫يكون له نظم مخصوص‪ ،‬ألن الخطيب عندهم قد يكون أفصح من الشاعر‪ ،‬والنظم‬
‫مختلف إذا أريد بالنظم اختالف الطريقة"(‪ ،)5‬إال أنه ال يتخلى عن هذا المستوى‬
‫من فهم النظم في مناظراته وحجاجه الخصوم فهو يجمل رأيه إثر بسطه هذه‬
‫الفكرة في قوله إنا "جعلنا الطريقة الخارجة عن العادة في النظم مؤكدة لكونه‬
‫معجزًا إذا كان له رتبة عظيمة في الفصاحة"(‪.)62‬‬
‫والحق أن هذا الفهم للنظم ال يعدو أن يكون شرحًا أوليًا لمدلوله‪ ،‬يتحدد للقرآن‬
‫فيه اإلقرار بتميز نوعي ضمن فنون القول المختلفة‪ .‬هذا التحديد الخارجي األول‬
‫الهادف إلى إخراج القرآن من كل التباسات القول الشائعة يمثل أساسًا مبدئيًا تقوم‬
‫عليه اآلراء المفرعة للقول في القرآن مضمونًا وشكًال‪ .‬ومن هذا المستوى يندرج‬
‫البحث في عناصر النص المشكلة لبنيته وذلك في مستوى أول ال يعدو تصوره أن‬
‫يكون إحساسًا بصلة بين عنصري المعنى واللفظ‪ ،‬أو بنوع من اللحمة السابكة‬
‫للعناصر‪.‬‬
‫فإذا كان التالؤم عند الرماني "تعديل الحروف في التأليف"(‪ ،)7‬هذا التأليف‬
‫المتفرع إلى‪ :‬متنافر‪ ،‬ومتالئم في الطبقة الوسطى‪ ،‬ومتالئم في الطبقة العليا‪ ،‬فإن‬
‫فائدة هذا التالؤم في الكالم تتبدى في "حسن الكالم في السمع‪ ،‬وسهولته في اللفظ‪،‬‬
‫وتقبل المعنى له في النفس لما يرد عليه من حسن الصورة وطريق الداللة"(‪.)8‬‬
‫وعلى الرغم من أن مبحث التالؤم من مباحث الفصاحة يعرض للحروف‬
‫وانسجامها في الكلمات‪ ،‬وأسباب ذلك العائدة إلى قوانين وشروط تراعي كيفية‬
‫تأليف الوحدات الدالة‪ ،‬وإ لى صور مخصوصة توفر لها حسن السمع‪ ،‬فإن االمتداد‬
‫به إلى مستوى شامل يغطي نصًا قرآنيًا أو شعريًا كشف لتصور أولي بضرورة‬
‫مراعاة قدر من انسجام النص وإ ن بدا في شكل لفظي ال يتجاوز المستوى‬
‫الصوتي‪ ،‬إال أن إحساسًا أوليًا بخيط جامع لعناصر النص ينضاف إلى جمال‬

‫‪- 167 -‬‬


‫الصورة أو عذوبة اللفظ يبدأ في الظهور عند الرماني‪ ،‬فإذ يعلل جمال بعض‬
‫التشبيهات القرآنية المقر بحسنها يتساءل عن الكيفية التي يكون عليها هذا التشبيه‪،‬‬
‫"إذا تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة اللفظ وكثرة الفائدة وصحة الداللة"(‪،)9‬‬
‫واإلقرار بعذوبة اللفظ‪ ،‬وكثرة الفائدة‪ ،‬معناه إسناد الحسن إلى اللفظ والمعنى‪ ،‬غير‬
‫أن إضافة حسن النظم كشف عن وعي بفعالية ثالثة تنضاف إلى عنصري الجمال‬
‫السابقين‪ ،‬ومع ذلك ال يمكن ضبط مدلول النظم في النص السابق بدقة‪ ،‬غير أن‬
‫ذكره مع اللفظ والمعنى يكاد يقرب معناه من مفهوم التأليف‪ ،‬الذي يبدو واضحًا في‬
‫قول الرماني "والكالم اليخلو من أن يكون باسم أو صفة أو تأليف من غير اسم‬
‫للمعنى أو صفة‪ ،‬كقولك‪ :‬غالم زيد‪ ،‬فهذا التأليف يدل على الملك من غير ذكر له‬
‫باسم أو صفة‪ .‬وداللة االشتقاق كداللة التأليف في أنه من غير ذكر اسم أو صفة‪،‬‬
‫كقولك‪ ،‬قاتل تدل على مقتول وقتل من غير ذكر اسم أو صفة لواحد منهما‪ ،‬ولكن‬
‫المعنى مضمن بالصفة المشتقة‪ ،‬وإ ن لم تكن له‪ .‬وداللة األسماء والصفات‬
‫متناهية‪ ،‬فأما داللة التأليف فليس لها نهاية‪ ،‬ولهذا صح التحدي فيها بالمعارضة‬
‫لتظهر المعجزة‪ ،‬ولو قال قائل‪ :‬قد انتهى تأليف الشعر حتى ال يمكن ألحد أن يأتي‬
‫بقصيدة إال وقد قيلت فيما قيل لكان ذلك باطًال‪ ،‬ألن داللة التأليف ليس لها نهاية‬
‫كما أن الممكن من العدد ليس لـه نهاية يوقف عندها ال يمكن أن يزاد عليها‪.‬‬
‫والقرآن كله في نهاية حسن‬
‫البيان"(‪ ،)10‬فالتأليف حسب هذا الفهم مؤّد إلى حصول داللة ال توجد في ظاهر‬
‫األلفاظ المشكلة للعبارة "ظهور معنى الملك من غير ذكر لـه باسم أو صفة"‪،‬‬
‫فاإلضافة هنا مزج لدوال في وحدة تؤول إلى معنى واحد‪ ،‬من هنا ينفسح المجال‬
‫لبروز نصوص أدبية كثيرة‪ .‬ذلك أنها محصلة فعالية في مستوى الكالم‪ ،‬وتركيب‬
‫تأليفي لمعطيات جزئية تتجسد في العناصر المشكلة لهذه البنية أفرادًا‪ .‬فمحدودية‬
‫األلفاظ أفرادًا‪ ،‬تستحيل ال نهائية تركيبًا نظرًا لفعالية التأليف‪.‬‬
‫ويأخذ هذا اإلحساس االول بمفهوم التأليف مدى أشمل لدى الخطابي‪ ،‬إذ يمثل‬
‫أساسًا في نظرته لبنية النص‪ ،‬إال أنه يتعادل بداية مع فكرة التأليف الجامعة‬
‫لعنصري اللفظ والمعنى‪ ،‬فبالغة القرآن في نظره ال تقتصر على "مفرد األلفاظ‬
‫التي منها يتركب الكالم دون ما يتضمنه من ودائعه التي هي معانيه‪ ،‬ومالبسه التي‬
‫هي نظوم تأليفية"(‪ ،)11‬ذلك أن الكالم يقوم بهذه األشياء الثالثة‪ :‬لفظ حامل‪،‬‬
‫ومعنى به قائم‪ ،‬ورباط لهما ناظم(‪ .)12‬هذا الفهم المراكم لعناصر النص ال يعطي‬
‫النظم فعالية أولى في التركيب‪ ،‬دون أن ننفي أن يكون له دور في ضم أجزاء‬
‫الكالم غير أنه ال تتحدد في هذا المستوى الكيفية التي بها يتم هذا االنتظام‪ ،‬ومع‬
‫‪- 168 -‬‬
‫ذلك يظل لرسوم النظم األهمية البالغة "فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر ألنها‬
‫لجام األلفاظ وزمام المعاني وبه تنتظم أجزاء الكالم‪ ،‬ويلتئم بعضه بعضًا (كذا)‬
‫فتقوم لـه صورة في النفس يتشكل بها البيان"(‪ ،)13‬ولو قصدنا االقتراب من الكيفية‬
‫التي يتحقق بها االنسجام بين وحدات النص لرأيناه يلح على ضرورة التدقيق في‬
‫توظيف األلفاظ المتقاربة‪ ،‬في المعنى خصوصًا وتنزيلها في مواقعها التي يقتضيها‬
‫فصل الكالم‪ ،‬ذلك أن "عمود هذه البالغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل‬
‫نوع من األلفاظ التي تشتمل عليها فصول الكالم موضعه األخص األشكل به‪ ،‬الذي‬
‫إذا أبدل مكانه غيره جاء منها إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكالم وإ ما‬
‫ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البالغة‪ ،‬ذلك أن في الكالم ألفاظًا متقاربة في‬
‫المعاني يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب‪ :‬كالعلم‬
‫والمعرفة‪ ،‬والحمد والشكر‪ ...‬واألمر فيها وفي ترتيبها عند علماء أهل اللغة‬
‫بخالف ذلك‪ ،‬ألن لكل لفظة خاصة تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها وإ ن‬
‫كانا قد يشتركان في بعضها"(‪.)14‬‬
‫ومع كل ذلك يكشف الخطابي عن نوع من اإلحساس بانتظام عناصر النص‬
‫في وحدة خفية تستند إلى أساس معنوي مما يعطي مفهوم النظم فسحة ممتدة‬
‫تتعادل تقريبًا مع مفهوم للوحدة الجامعة لفصول النص‪ ،‬يظهر ذلك في رده على‬
‫المعترض القائل‪" :‬أو ليس وإ ن توجه الكالم وصح على الوجه الذي ذكرتموه في‬
‫معنى قوله سبحانه‪ :‬كما أْخ َر َج َك َر ُّبَك ِم ْن َبْي ِتَك بالحِّق ‪ ،‬فقد دخله من االنتشار‬
‫بتفّر ق أجزائه وتباعد مابين فصوله ما أخرجه من حسن النظم الذي وصفتموه به؟‬
‫قيل‪ :‬ال‪ ...‬وذلك ألنه لم يدخل بينه وبين أول ما يتصل به‪ ،‬إنما قال‪ :‬وأطيعوا اهلل‬
‫ورسوله إن كنتم مؤمنين‪ ،‬ثم وصف هذا اإليمان وحقيقته إذ كان هذا القسم يقع‬
‫على أمر ذي شعب وأجزاء‪ ،‬يلزم أدناه من ذلك ما يلزم أقصاه‪ ،‬فلو لم يستوفه‬
‫بالصفة الجامعة‪ -‬لـه لم يبن معه المراد‪ ،‬ثم عطف بالكالم على أول الفصل فقال‪:‬‬
‫‪‬كما َأْخ َر َج َك رُّبَك من بيِتَك بالحِّق وإ ن فريقًا من المؤمنين لكارهون‪ ،‬فشبه‬
‫كراهتهم ماجرى في أمر األنفال وقسمها بالكراهة في مخرجه من بيته‪ ،‬وكل ما ال‬
‫يتم الكالم إال به من صفة وصلة فهو كنفس الكالم"(‪ ،)15‬وحّج ة الخطابي في ذلك‬
‫أن صلة معنوية خفية تلحم اآليات وتسقط حجة المعترض الواصف لها بالتفرق‬
‫واالنتشار‪ ،‬وبالتالي سقوط النظم‪ ،‬ذلك أن كراهة المؤمنين للخروج إلى القتال‬
‫المعبر عنها في قوله تعالى‪ :‬كما أخرجك رُّبك مْن بيِتِك وإ ن فريَّقًا ِم َن المؤمنين‬
‫لكارهون‪ ،‬ينتظمها ومطلع سورة األنفال في قوله تعالى‪ :‬يسألوَنَك َعْن األنفال‪،‬‬
‫ِهلل‬
‫ُقْل األنفاُل والَّر سوِل ‪ ،‬فاَّتقوا اهلل وأصلحوا ذاَت بيِنُك ْم وأطيعوا اهلل َو َر ُس وَلُه إْن‬
‫‪- 169 -‬‬
‫ُك ْن ُتْم مؤمنين‪ ،‬وحدة تكمن في الداللة على الكراهية الواردة في اآليات‪ ،‬فكان‬
‫الحسم في أمر األنفال الذي لم يتوافق مع الرغبة في اقتسامها‪ ،‬متطابقًا مع مخالفة‬
‫رغبة المؤمنين في الميل إلى غير ذات الشوكة‪ ،‬التي هي غنائم بدر‪ ،‬فكرهوا لذلك‬
‫الخروج إلى القتال‪ ،‬وما بينهما حديث عن اإليمان الذي يجب أن يكون انصياعًا‬
‫ألمر اهلل‪ ،‬فال انتشار في النص إنما تكامل وانتظام وتالؤم‪ ,‬فامتداد نفس النظم في‬
‫لحمة جامعة آليات كثيرة إحساس بوجود رابط يلحم عناصر قد تبدو متباعدة‪ ،‬غير‬
‫أن هذا الفهم وإ ن كان يعطي لبنية النص وحدة‪ ،‬فإن األساس الذي يقوم عليه‬
‫متروك لالجتهاد‪.‬‬
‫ولم يشذ الباقالني عن إعطاء النظم هذا المدلول المرادف للتأليف غير‬
‫المستند إلى أساس لغوي أو نحوي‪ ،‬يقول معددًا أوجه النظم‪ ،‬ذاكرًا هذا الوجه‬
‫الثالث "وهو أن عجيب نظمه‪ ،‬وبديع تأليفه ال يتفاوت وال يتباين‪ ،‬على ما يتصرف‬
‫إليه من الوجوه التي يتصرف فيها"(‪ ،)16‬ثم يفسر هذا المعنى في مترادفات‬
‫كالرصف في مثل قوله‪" :‬وقد تأملنا نظم القرآن‪ ،‬فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من‬
‫الوجوه التي قدمنا ذكرها‪ ،‬على حٍّد واحد‪ ،‬في حسن النظم‪ ،‬وبديع التأليف‬
‫والرصف‪ ،‬ال تفاوت فيه‪ ،‬وال انحطاط عن المنزلة العليا"(‪.)17‬‬
‫وسواء حملنا النظم على داللة الطريقة أم التأليف‪ ،‬فإنه لم يستطع أن يزيح‬
‫تصور النص في ثنائية المعنى واللفظ من الحضور‪ ،‬ويستحوذ بالتالي على‬
‫المفاتيح الشارحة لتالؤم عناصره‪ ،‬بل يتجسد دور النظم في هذا المستوى في ما‬
‫يشبه الخيط يأتي جامعًا لعناصر لغوية تشكلت عالئقها بموجب معنى ولفظ‬
‫متضامين متفاوتي الحسن أحيانًا‪ .‬ومن هنا ظل الحديث عن اللفظ والمعنى حاضرًا‬
‫رغم اللهج بالنظم ومترادفاته‪ ،‬وهذا الفهم سيتوافق مع تصور العناصر الفاعلة في‬
‫النص‪ ،‬والمحدثة لمزاياه‪ ،‬كالصورة والموسيقى مثًال‪ ...‬فالرماني إذ يستدرك على‬
‫حد البالغة باإلفهام ذلك أنه "ليست البالغة إفهام المعنى ألنه قد يفهم المعنى‬
‫متكلمان أحدهما بليغ واآلخر عي‪ ،‬وال البالغة أيضًا بتحقيق اللفظ على المعنى‪،‬‬
‫ألنه قد يحقق اللفظ على المعنى وهو غث مستكره ونافر متكلف‪ .‬وإ نما البالغة‬
‫إيصال المعنى إلى القلب في حسن الصورة من اللفظ"(‪ .)18‬فإنما يحصر فعالية‬
‫البالغة في ثنائية المعنى والصورة اللفظية المحسنة للمعنى‪ ،‬ويكاد يختزل تصور‬
‫فعالية الخطاب في هذه الثنائية المحددة معياريًا مزايا الطرفين‪ .‬وهذا يتوافق تمامًا‬
‫مع فهمه لالستعارة التي هي تعليق العبارة على غير ما وضعت لـه في أصل اللغة‬
‫على جهة النقل لإلبانة (‪ ،)19‬فيكون التحسين الصوري تكريسًا لبالغة اللفظ‬

‫‪- 170 -‬‬


‫المتجسدة في كون االستعارة نائبة عن الحقيقة التي هي أصل الداللة على المعنى‬
‫في اللغة‪ ،‬كقول امرئ القيس في صفة الفرس‪" :‬قيد األوابد"‪ ،‬والحقيقة فيه‪ :‬مانع‬
‫األوابد‪ ،‬وقيد األوابد أبلغ وأحسن(‪.)20‬‬
‫وتتسع عملية التحسين نفسها حتى تطول موسيقى النص في مستوى الفواصل‬
‫واألسجاع أو الوزن الشعري والقافية‪ ،‬ذلك أن المنظور الثنائي يرى في خصائص‬
‫الصورة الشعرية والموسيقية تراكمًا يثقل الداللة بالتحسين قد يتوافق أو يتضاد مع‬
‫المعنى‪ ،‬فالفواصل "حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني‪،‬‬
‫والفواصل بالغة‪ ،‬واألسجاع عيب‪ ،‬وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني‪ ،‬وأما‬
‫األسجاع فالمعاني تابعة لها"(‪ ،)21‬وأما القوافي فليست في الطبقة العليا من‬
‫البالغة‪" ،‬وإ نما حسن الكالم فيها إقامة الوزن ومجانسة القوافي"(‪.)22‬‬
‫ومثل هذا الفهم لعناصر النص‪ ،‬يسعف في ‪-‬االقتراب من فكرة النظم أو‬
‫التأليف التي تكاد تحدد بكونها جمعًا لعناصر مكتملة ‪ -‬الحسن أو متفاوتة الدرجة‬
‫بين القبح والحسن‪ .‬ومع ذلك قد يدق هذا التصور الثنائي ويتالحم ليتجاوز رصد‬
‫بالغة النص في معنى مسبق يلبس محسنات صورية بغية إحداث تأثير في‬
‫المتلقي‪ ،‬يتجاوز ذلك إلى كشف ثراء الداللة المتأتية من طاقة اللغة وقدرتها على‬
‫اإليحاء الذي يتحقق في انفساح المعنى وامتداده خارج حدود اللفظ الصائغ له‪،‬‬
‫فتتجاوز اللغة عندها قدرتها على اإليصال والتبليغ إلى تحقيق إمكانية االمتداد في‬
‫الداللة إلى أبعاد تستخلص من الصورة اللفظية المركزة فيما عرف باإليجاز‪.‬‬
‫وهذا الفهم يتوافق مع مبادئ الدرس الداللي المعاصر‪ .‬فاإليجاز تقليل الكالم من‬
‫غير إخالل بالمعنى‪ ،‬وإ ذا كان المعنى يمكن أن ُيعَّبر عنه بألفاظ كثيرٍة ‪ ،‬ويمكن أن‬
‫ُيعّبر عنه بألفاظ قليلة‪ ،‬فاأللفاظ القليلة إيجاز(‪ ،)23‬وهذا إقرار بتعدد إمكانية‬
‫التعبير عن المعنى بأكثر من طريق‪ ،‬خصوصًا أن اإليجاز متحقق في تشذيب كل‬
‫فائض عن المقصود‪ ،‬سواء في مستوى العبارة أم الغرض‪ ،‬وهذا إحساس بشكل‬
‫من أشكال وحدة النص‪ ،‬ذلك أن "اإليجاز على ثالثة أوجه‪ :‬اإليجاز بسلوك‬
‫الطريق األقرب دون األبعد‪ ،‬وإ يجاز باعتماد الغرض دون ما تشعب‪ ،‬وإ يجاز‬
‫بإظهار الفائدة بما يستحسن دون ما يستقبح‪ ،‬ألن المستقبح ثقيل على النفس‪ ،‬فقد‬
‫يكون للمعنى طريقان أحدهما أقرب من اآلخر كقولك‪ :‬تحرك حركة سريعة‪ ،‬في‬
‫موضع أسرع‪ ،‬وقد يكتنف الغرض شعب كثيرة كالتشبيب قبل المدح‪ ،‬وكالصفات‬
‫لما يعترض الكالم مما ليس عليه اعتماد‪ ،‬وإ ذا ظهرت الفائدة بما يستحسن فهو‬
‫إيجاز لخفته على النفس"(‪.)24‬‬

‫‪- 171 -‬‬


‫والخطابي رغم كثرة لهجه بفكرة النظم‪ ،‬فإن تفكيك النص إلى معنى ولفظ‬
‫ونظم متواتر عنده‪ ،‬بل إن هذه الفضائل الثالث العائدة إلى العناصر الثالثة السابقة‬
‫قد توجد "على التفرق في أنواع الكالم‪ ،‬فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه‬
‫فلم توجد إال في كالم العليم القدير"(‪ ،)25‬ذلك أن اللفظ عند الخطابي حامل للمعنى‬
‫وظرف له‪ ،‬ويستتبع بالتالي أن تكون معاني األشياء "محمولة على تلك‬
‫األغراض"(‪.)26‬‬
‫ويتفرع من مفهوم اللفظ الحامل للمعنى في داللة احتوائية ضبط خصائص‬
‫كل طرف‪ ،‬علمًا بأن معاناة المعاني التي تحملها األلفاظ أشد "ألنها نتائج العقول‬
‫ووالئد األفهام وبنات األفكار"(‪ ،)27‬وهذه المعاناة إذ تؤكد ضرورة التدّبر وإ عمال‬
‫الفكر أثناء مباشرة عملية التعبير‪ ،‬فإنها تهب العقل دورًا أوليًا في توليد األفكار‪،‬‬
‫ذلك أن فعل التعبير الواعي يتولد منه االختيار في المعنى‪ ،‬وهذا يتماشى مع‬
‫ضوابط االختيار في اللفظ‪ ،‬لذلك ينفي أن تكون الغرابة من شروط بالغة اللفظ(‬
‫‪)28‬؛ وإ ذا كانت أجناس الكالم مختلفة ومتفاوتة‪ ،‬منها البليغ الرصين الجزل‪،‬‬
‫ومنها الفصيح القريب السهل‪ ،‬ومنها الجائز الطلق الرسل‪ ،‬فكان أن انتظم لبالغات‬
‫القرآن بامتزاج هذه األوصاف نمط من الكالم يجمع صفتي الفخامة والعذوبة(‬
‫‪.)29‬‬
‫والحق أن التطبيق العملي يساعد على تحديد خصائص كل من المعنى‬
‫واللفظ‪ ،‬ذلك أنه كما نرى ستكون ممارسة عملية الشرح للنص الشعري مثًال‬
‫تراوحًا بين خصائص الشكل أو الصورة وطبيعة المعنى‪ ،‬يقول الخطابي محلًال‬
‫أبيات امرئ القيس في وصف الليل إثر مقارنتها بأبيات للنابغة في المعنى نفسه‪،‬‬
‫"إال أن في أبيات امرئ القيس من ثقافة الصنعة وحسن التشبيه وإ بداع المعاني‬
‫ماليس في أبيات النابغة‪ ،‬إذ جعل لليل صلبًا وأعجازًا وكلكًال‪ ،‬وشّبه تراكم ظلمة‬
‫الليل بموج البحر في تالطمه عند ركوب بعضه بعضًا حاًال على حال‪ ،‬وجعل‬
‫النجوم كأنها مشدودة بحبال وثيقة فهي راكدة ال تزول وال تبرح‪ ،‬ثم لم يقتصر‬
‫على ما وصف من هذه األمور حتى عللها بالبلوى ونبه فيها على المعنى"(‪،)30‬‬
‫وكأنه يمكن أن يستغني في وصف هذه األمور عن تعليلها بالمعنى‪ ،‬من هنا فك‬
‫عناصر الصورة التي هي موطن الحسن‪ ،‬ليردفها بالمدلول‪ ،‬على أن اعتباره‬
‫المعنى علة قد ينُّم عن نوع من اإلدراك لوحدة الصورة والمعنى‪ ،‬ذلك أن الصورة‬
‫الدالة معلول للمعنى‪ ،‬على الرغم من أن هذا الفهم ال يتنافى مع فكرة االنفصال‬
‫نفسها التي تخضع تتابع الطرفين لتصور منطقي‪ .‬ورأيه في االستعارة تصديق‬

‫‪- 172 -‬‬


‫لهذا الموقف إذ يراها صياغة بليغة مقابلة للحقيقة‪.)31(.‬‬
‫وعلى الرغم من أن الباقالني يصوغ للنظم مفهومًا يكاد يترادف مع مفهوم‬
‫العالقات كما سنرى‪ ،‬فإنه يظل مشدودًا في تحليل بالغة النص إلى ثنائية اللفظ‬
‫والمعنى‪ ،‬سواء تعلق األمر بالقرآن أم بالشعر ويطغى على النظم إذ ذاك معنى‬
‫الرباط الخارجي‪ .‬ومع ذلك يشترط التالؤم بين المعنى واللفظ المعبر عنه‪ ،‬وكلما‬
‫اقترب الطرفان من إحداث التوافق بينهما كان التعبير ناجحًا‪ ،‬ذلك أن محصول‬
‫البالغة "اإلبانة في اإلبالغ عن ذات النفس على أحسن معنى وأجزل لفظ"(‪.)32‬‬
‫وستمثل فكرة الكالم النفسي مستند الباقالني في بحث اإلعجاز ومنطلق كل‬
‫تعبير كأس نفسي يتحقق شرط ظهوره بإيفائه حقه في اللفظ المالئم‪ .‬من هنا تكاد‬
‫تحصر جهوده الشارحة لإلعجاز‪ ،‬ولبالغة النص الشعري في االنطالق من بحث‬
‫عالقة عنصري اللفظ والمعنى وطرائق توافقهما وانسجامهما في تأدية المراد‪ ،‬فإذا‬
‫"كان الكالم إنما يفيد اإلبانة عن األغراض القائمة في النفوس‪ ،‬التي ال يمكن‬
‫التوصل إليها بأنفسها وهي محتاجة إلى ما يعبر عنها‪ ،‬فما كان أقرب إلى‬
‫تصويرها‪ ،‬وأظهر في كشفها للفهم الغائب عنها‪ ،‬وكان مع ذلك أحكم في اإلبانة‬
‫عن المراد‪ ،‬وأشد تحقيقًا في اإليضاح عن المطلب وأعجب في وضعه‪ ،‬وأرشق في‬
‫تصرفه‪ ،‬وأبرع في نظمه‪ ،‬كان أولى وأحق بأن يكون شريفًا"(‪ ،)33‬ذلك أن تحقق‬
‫البراعة إنما يكون في انسجام الطرفين‪ ،‬فإذا "وجدت األلفاظ وفق المعنى‪،‬‬
‫والمعاني وفقها‪ ،‬ال يفضل أحدهما على اآلخر‪ ،‬فالبراعة أظهر‪ ،‬والفصاحة أتم"(‬
‫‪،)34‬فإذا كان تفاوت الطرفين في الفصل يعكر فكرة التالؤم نفسها‪ ،‬فإن اإللحاح‬
‫على تأكيدها يقوم على مراعاة التوافق بين الطرفين بحسب درجة االبتذال‬
‫واالبتكار فيهما‪"،‬ذلك أنه قد علم أن تخير األلفاظ للمعاني المتداولة المألوفة‪،‬‬
‫واألسباب الدائرة بين الناس‪ ،‬أسهل وأقرب من تخير األلفاظ لمعان مبتكرة‪،‬‬
‫وأسباب مؤسسة مستحدثة‪ .‬فإذا برع اللفظ في المعنى البارع‪ ،‬كان ألطف وأعجب‬
‫من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر‪ ،‬واألمر المتقرر‬
‫المتصور"(‪.)35‬‬
‫واختالف األوصاف المسقطة على كٍّل من اللفظ والمعنى يبين عن منظور‬
‫خاص‪ ،‬في فهم فكرة االبتكار‪ ،‬ذلك أن ابتكار المعنى يستتبعه حتمًا ابتكار في‬
‫اللفظ الذي يؤديه‪ ،‬ويبدو في ذهن الباقالني أن المسألة تتم في درجة من الوضوح‬
‫يتيح االنتقاء المتميز لألطراف وفق مواصفات التداول أو االبتكار‪ .‬ولعل من‬
‫فضائله في هذا الموقف إرجاعه مسألة صعوبة تحقيق انسجام األطراف إلى‬

‫‪- 173 -‬‬


‫خصائص فيهما‪ ،‬إال أن المسألة تظل متروكة لالختيار الواعي المنضبط وفق‬
‫مزايا المعنى واللفظ‪ .‬صحيح أن اإللحاح على ضرورة انسجام الطرفين وتحقيق‬
‫البراعة في كليهما إيمان بضرورة تكامل ابتكار المعنى وبراعة الصياغة‪ ،‬غير أن‬
‫الباقالني لو فكر بأن ميالد المعنى المبتكر هو ميالد للفظ المبتكر أو البارع أيضًا‪،‬‬
‫لما وزع المزايا على العنصرين منفردين‪ ،‬وألح على ضرورة تحقيق انسجام‬
‫يتوافق فيه االبتكار مع البراعة‪ ،‬من هنا كان رأيه إعادة لقول الرماني في السجع‬
‫والفواصل‪ ،‬ذلك "ألن السجع من الكالم يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع‪.‬‬
‫وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن‪ ،‬ألن اللفظ يقع فيه تابعًا‬
‫للمعنى‪ ،‬وفرٌق بين أن ينتظم الكالم في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود‬
‫فيه‪ ،‬وبين أن يكون المعنى منتظمًا دون اللفظ"(‪ ،)36‬فهناك اقتراب من تصور‬
‫وحدة الداللة الحاصلة من انتظام الكالم في نفسه المولد لهذه الداللة الممتدة بامتداد‬
‫اللفظ المنتظم لها‪ ،‬عكس المستوى الثاني الذي يبدو فيه المعنى كالمستقل عن‬
‫اللفظ‪ ،‬ومن هنا يكون السجع تزيينًا مضافًا ال فاعلية له في المعنى‪.‬‬
‫ومع ذلك يظل حضور العنصرين في ذهن الباقالني حضورًا متفاوت القيمة‪،‬‬
‫إذ إنه ال يمتنع عنده تصور إمكان صياغة المعنى الواحد في صور شتى دون أن‬
‫يكون لهذه الصور فاعلية في تغيير المعنى أو إحداث ما سمي بصورة المعنى‪ ،‬من‬
‫هنا تكون "إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة‪ ،‬تؤدي معنًى واحدًا من األمر‬
‫الصعب‪ ،‬الذي تظهر به الفصاحة‪ ،‬وتتبين به البالغة‪ .)37( ،‬فالفصاحة تكمن في‬
‫اإلخراج المجدد للمعنى الواحد‪ ،‬ومع أن هذا الرأي يرد في موقف الحجاج الهادف‬
‫إلى التدليل على اإلعجاز القرآني وعجز البشر عن المعارضة‪ ،‬إذ لو كانوا قادرين‬
‫ألعادوا التعبير عن نفس القصة بألفاظ لهم تؤدي نفس المعاني‪ ،‬إال أن هذا ال يمنع‬
‫من اإلشارة إلى أن دعوة الباقالني إلى تحقيق التالؤم بين المعنى واللفظ ال تنفي‬
‫إمكانية التعبير المتفاوت القيمة عن المعنى الواحد‪.‬‬
‫ويضبط الباقالني حقل كل طرف بالمقابلة مع اآلخر من منظور كّم ي يبدو‬
‫فيه التقسيم امتدادًا للمألوف‪ ،‬ذلك أنه في "جملة الكالم ما تقصر عبارته وتفضل‬
‫معانيه‪ ،‬وفيه ما تقصر معانيه وتفضل العبارات‪ .‬وفيه ما يقع كل واحد منهما وفقًا‬
‫لآلخر"(‪ ،)38‬وفي هذا النوع األخير الذي يتوافق فيه الطرفان تفريع يبسط إمكانية‬
‫االختالف في البراعة وإ سنادها إلى الطرفين معًا أو إلى أحدهما‪ ،‬ألن ما يقع وفقًا‬
‫ينقسم" إلى أنه قد يفيدها على جملة وقد يفيدها على تفصيل‪ .‬وكل واحد منهما قد‬
‫ينقسم إلى ما يفيدها على أن يكون كل واحد منهما بديعًا شريفًا‪ ،‬وغريبًا لطيفًا‪ .‬وقد‬

‫‪- 174 -‬‬


‫يكون كل واحد منهما مستجلبًا متكلفًا‪ ،‬ومصنوعًا متعسفًا‪ ،‬وقد يكون كل واحد‬
‫منهما حسنًا رشيقًا‪ ،‬وبهيجًا نضيرًا‪ .‬وقد يتفق أحد األمرين من دون اآلخر"(‪.)39‬‬
‫وفي هذا المقام يستفيد من حديث الرماني عن اإلعجاز‪ ،‬مشيرًا إلى إمكانات‬
‫اللغة في إثراء الداللة وتفجير طاقاتها في االمتداد بالمعنى طبقات في ما سمي‬
‫باإلشارة التي هي "اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة"(‪ ،)40‬وإ ذ يضيف‬
‫راويًا عن بعضهم وصفه للبالغة بأنها "لمحة دالة"(‪ .)41‬يكتمل اإلحساس بقدرة‬
‫اللغة على تجاوز داللتها المباشرة والصريحة لتستحيل تلميحًا بالمعنى يتطلب‬
‫إدراكه تدقيق النظر مع اإلقرار باإلمكانات المتعددة في فهم النص‪.‬‬
‫وظل القاضي عبد الجبار نفسه مشدودًا إلى فهٍم للفصاحة يتوزع بين جزالة‬
‫اللفظ وحسن المعنى‪ ،‬رغم أن فهمه للنظم أنضج من تصور سابقيه بل سيبدو‬
‫توزيعه غير عادل بين العنصرين مما يشي باضطراب الموقف إزاءهما‪ .‬ومستند‬
‫في ذلك رأي شيخه أبي هاشم في قوله‪" :‬إنما يكون الكالم فصيحًا لجزالة لفظه‪،‬‬
‫وحسن معناه‪ ،‬والبد من اعتبار األمرين‪ ،‬ألنه لو كان جزل اللفظ ركيك المعنى لم‬
‫يعد فصيحًا‪ ،‬فإذن يجب أن يكون جامعًا لهذين األمرين"(‪.)42‬‬
‫وقد تمكن الباقالني‪ ،‬وتمكن القاضي عبد الجبار على وجه أخص من‬
‫االقتراب من فهم أكثر تحديدًا للنظم‪ .‬فقد انضبطت داللته لدى الباقالني في مايمكن‬
‫أن يوصف بالعالقات وطرائق ضم الكلمات بعضها إلى بعض دون أن يتسنى لـه‬
‫تحديد أساس عميق للضم‪ .‬ومن هنا‪ ،‬ومع إقراره بضرورة إحداث اللحمة بين‬
‫الكلمات في السياق الواحد رافضًا اعتبار اإلعجاز في وجوه البيان مستقلة عن‬
‫مواقعها في النظم‪ ،‬إال أن األساس اللغوي أو النحوي الغائب الذي كان من الممكن‬
‫أن يسعفه في ضبط محصل العالقة بين الكلمات الموجدة للداللة أوهى من فكرته‬
‫في النظم حتى في هذا الطور المتقدم‪ ،‬ولم يتمكن عندما واجه بالتحليل النصوص‬
‫الطويلة من الكشف إال عن فهم انطباعي لنظم شامل ألجزائها‪.‬‬
‫فليست الوجوه البالغية بموجدة لإلعجاز وحدها‪ ،‬إنما تتنزل ضمن كٍّل‬
‫أشمل‪ ،‬ألن اآلية التي فيها ذكر التشبيه "إن اَّد عي إعجازها أللفاظها ونظمها‬
‫وتأليفها‪ ،‬فإني ال أدفع ذلك وأصححه‪ ،‬ولكن ال أّد عي إعجازها لموضع التشبيه"(‬
‫‪ .)43‬فهو يقر لهذه الوجوه البالغية بميزة في الكالم إال أنه ال يجعل اإلعجاز‬
‫متعلقًا بها ووقفًا عليها ومضافًا إليها(‪ ،)44‬فهي عناصر أسلوبية في كٍّل أشمل‬
‫يحوي سر اإلعجاز ويمكن تلمس تحديد أدق لإلعجاز وبالتالي للنظم في مثل قوله‪:‬‬
‫"ليس اإلعجاز في نفس الحروف‪" ،‬حروف المعجز"‪ ،‬وإ نما هو في نظمها وإ حكام‬

‫‪- 175 -‬‬


‫رصفها وكونها على وزن ما أتى به النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وليس نظمها أكثر‬
‫من وجودها متقدمة ومتأخرة ومترتبة في الوجود‪ ،‬وليس لها نظم سواها وهو‬
‫كتتابع الحركات إلى السماء ووجود بعضها قبل بعض ووجود بعضها بعد بعض"‪.‬‬
‫(‪.)45‬‬
‫ولو قصدنا توثيق ما يقول بالتماس نماذج تطبيقية في تفسير القرآن وشرح‬
‫الشعر‪ ،‬لتبين لنا أن مفهومه للنظم‪ ،‬وإ ن حده بلفظ العالقات وإ حداث التقديم‬
‫والتأخير وغيرها من لوازم انبناء الكالم على الموقع‪ ،‬واسع يتضمن معنى الوصل‬
‫بين أجزاء الكالم مما ينم عن إحساس بوحدة معنوية‪ ،‬وينبني التحليل في أغلب‬
‫فصوله على منظور نقدي ثنائي يفكك عناصر النص إلى المعنى واللفظ‪.‬‬
‫فهو يبدأ تحليله بالدعوة إلىتأمل السورة التي يذكر فيها "الّنمل"‪ ،‬والنظر في‬
‫كل كلمة‪ ،‬وفصل فصل‪ ،‬يقول‪ :‬بدأ بذكر السورة‪ ،‬إلى أن بّين القرآن من عنده‪،‬‬
‫فقال‪:‬وإ ّنك لتلَّقى القرآن من ّلدن حكيم عليم)‪ ،(46‬ثم وصل بذلك قصة موسى‬
‫عليه السالم وأنه رأى نارًا وذكر تواتر رؤيته النار في سور شتى ليخلص إلى‬
‫القول‪ :‬وكل كلمة من هذه الكلمات وإ ن أنبأت عن قصة فهي بليغة بنفسها‪ ،‬تامة‬
‫في معناها(‪ .)47‬وهكذا يتحدد لبالغة الكلمة في ذاتها مستقلة عن موقعها أساس‬
‫في تحليله سيزاحم حديثه عن النظم المتحدد في وصلة بين أقسام السورة‪ ،‬كقولـه‬
‫مواصًال التحليل‪ ،‬ثم قال‪ :‬فلما جاَء ها ُنوِد َي َأْن ُبوِر َك َم ْن في الَّنار ومن حولها‬
‫وسبحان اهلل رِّب العالمين)‪ ،(48‬ثم يعلق بقوله‪ :‬فانظر إلى ما أجرى لـه الكالم من‬
‫علو أمر هذا النداء‪ ،‬وعظيم شأن هذا الثناء‪ ،‬وكيف انتظم مع الكالم األول‪ ،‬وكيف‬
‫اتصل بتلك المقدمة‪ ،‬وكيف وصل بها ما بعدها من األخبار عن الربوبية‪ ،‬وما دل‬
‫به عليها من قلب العصا حّية(‪ ....)49‬ولكننا ال ندري كيف تم لهذا الكالم االنتظام‬
‫مع الكالم األول‪ ،‬وعلى أي أساس تقوم الوصلة الجامعة بين أطرافه‪ .‬لكن منطلقه‬
‫في اللفظ والمعنى يشكل أَّساسًا قارًا في الحديث عن بالغة اآليات‪ ،‬إذ يقول‬
‫مباشرة بعد ما سلف‪ :‬وانظر إلى الكلمات المفردة القائمة بأنفسها في الحسن‪ ،‬وفيما‬
‫تتضمنه من المعاني الشريفة‬
‫(‪ .)50‬ثم يواصل تحليله مارًا ببعض اآليات الالحقة فيقف مدلًال على إعجازها‬
‫جامعًا في هذا الموقف مستنديه في التحليل "ثنائية اللفظ والمعنى‪ ،‬وفكرته عن‬
‫النظم"‪ ،‬يقول‪ :‬ثم انظر في آية آية‪ ،‬وكلمة كلمة‪ ،‬هل تجد كما وصفنا‪ :‬من عجيب‬
‫النظم‪ ،‬وبديع الرصف؟ فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية‪ ،‬وفي الداللة‬
‫آية‪ ،‬فكيف إذا قارنتها أخواتها‪ ،‬وضامتها ذواتها مما تجري في الحسن مجراها‪،‬‬

‫‪- 176 -‬‬


‫وتأخذ في معناها؟ ثم من قصة إلى قصة‪ ،‬ومن باب إلى باب من غير خلل يقع في‬
‫نظم الفصل إلى الفصل‪ ،‬وحتى يصور لك الفصل وصًال‪ ،‬ببديع التأليف‪ ،‬وبليغ‬
‫التنزيل(‪ ،)51‬فاكتمال الحسن لديه يتم بتضام كلمات بديعة في ذاتها ليتم لها الحسن‬
‫بمضامة أخواتها ثانيًا‪ ،‬غير أنه ال يتضح أساس لهذا التضام عدا الحديث المسرف‬
‫عن قواعد النظام‪ ،‬والتركيب في ما يسمى بالفصل والوصل والتقديم والتأخير‪،‬‬
‫دون أن ينضبط لديه في التحليل تفاعل الوحدات اللغوية باالستناد إلى سياقاتها‬
‫الموحدة لها‪ .‬ويواصل حديثه خالل عرض آيات السور بنفس الوتيرة مع ثبات‬
‫منطلقه في االعتماد على اللفظ والمعنى‪ ،‬مقرًا أن آيات ثكيرة إن لم تراِع البديع‬
‫البليغ في الكلمات األفراد واأللفاظ اآلحاد‪ ،‬فقد تجد ذلك مع ترّك ب الكلمتين‬
‫والثالث‪ ،‬ويطرد ذلك في االبتداء‪ ،‬والخروج‪ ،‬والفواصل‪ ،‬وما يقع بين الفاتحة‬
‫والخاتمة من الواسطة‪ ،‬أو باجتماع ذلك أو في بعض ذلك‪ ،‬ما يخلف اإلبداع في‬
‫أفراد الكلمات‪ ،‬وإ ن كانت الجملة والمعظم على ما سبق الوصف فيه‪.)52(.‬‬
‫وإ ذا كان هذا هو أساس النظم عنده ومن ثمة قاعدة التدليل على حقائق‬
‫اإلعجاز‪ ،‬فإن هناك آيات مثل قوله تعالى‪ُ :‬ح ِّر َم ْت عليكم أَّم هاتكم وبناُتكم‬
‫وأخواُتكم وعَّم اُتكم وخاالُتكم‪ ،(53)...‬ال تنفك من الحكم التي تخلف حكمة‬
‫اإلعجاز في النظم والتأليف‪ ،‬والفائدة التي تنوب مناب العدول عن البراعة في‬
‫وجه الترصيف(‪ ،)54‬وتتجسد هذه الفائدة النائبة عن الرصف والتأليف في رأي‬
‫الباقالني في اعتبار تنزيل الخطاب‪ ،‬وظهور الحكمة في الترتيب والمعنى(‪.)55‬‬
‫ولعل في هذا الموقف القائم على تبني فهم للحمة معنوية تنتظم أجزاء اآليات‪ ،‬أو‬
‫القول‪ ،‬الذي يتكرر عنده وإ ن اختلف األنموذج المقدم(‪ ،)56‬ما يكشف عن توزع‬
‫الباقالني بين درجتين في تفسير الوحدة الناتجة عن تأليف عناصر النص‪ ،‬تتمثل‬
‫األولى في اإلقرار بنوع من الصياغة المؤلفة بين عناصر بديعة‪ ،‬فيحوي النص إذ‬
‫ذاك البالغة واإلعجاز من كل األطراف‪ ،‬بحيث تتشكل وحدته في تكامل عناصره‬
‫وفق إحساس أولي بتصور للعالقات دون أن يخرج عن إسار االنطباع عمومًا‪ ،‬في‬
‫حين ينتفي بحسب الدرجة الثانية تحقيق الحسن في الكلمات المفردة في ذاتها‬
‫ولذلك التمس الباقالني المخرج في تأكيد وحدة معنوية يتفرع من بؤرتها إشعاع‬
‫داللي واحد شامل لعناصر اآليات‪ ،‬ولو تيسر لـه مزج المستوى الداللي المنبث في‬
‫تتالي اآليات مع مستوى الصياغة البليغة في تصور عميق لمفهوم العالقة‪ ،‬لوصل‬
‫إلى تحديد شكل من أشكال الوحدة الجامعة لمستويات النص دالليًا وتركيبيًا‪.‬‬
‫على أن الباقالني يؤكد في تصّد يه للشعر بالتحليل انجذابه الكامل لتجزئة‬

‫‪- 177 -‬‬


‫النص‪ ،‬إذ لم يتمكن من االنفالت من إسار ثنائية اللفظ والمعنى كما يبدو ذلك في‬
‫تحليله معلقة امرئ القيس حيث يتواتر مثل قوله‪" :‬وفي لفظه ومعناه خلل" "معنى‬
‫بديع‪ ،‬ولفظ حسن"(‪)57‬؛ ولو اجتزأنا رأيه في أبيات الحج المشهورة ألسعفنا في‬
‫تأكيد ما قلناه‪ .‬يقول بعد أن يورد األبيات مستدًال بها على رأي لـه في أبيات‬
‫للبحتري أثناء تحليله قصيدته "هذه ألفاظ بديعة المطالع والمقاطع‪ ،‬حلوة المجاني‬
‫والمواقع‪ ،‬قليلة المعاني والفوائد"(‪ .)58‬والواقع أن مثل هذا الموقف تكرر في نقده‬
‫قصيدة البحتري مما جعله يدعمه بنموذج شعري ليعمم رأيه في بالغة ألفاظ مثل‬
‫هذا الشعر ووهن معانيه وقلة فوائده‪.‬‬
‫ومع كل ذلك يمكن تلّم س إحساس لدى الباقالني بنوع من الوحدة الخفّية التي‬
‫تلحم أبيات القصيدة معنويًا‪ ،‬فنقده قصيدة امرئ القيس يتأسس في مواضع شتى على‬
‫كشف التناقض الحاصل بين بعض أبيات القصيدة‪ ،‬واإللحاح على ربط البيت‬
‫المشروح بالسابق مع اإلشارة إلى توافقهما أو اختالفهما(‪ .)59‬ولعل هذا الذي دعا‬
‫بعض الباحثين إلى اعتبار ذلك داللة على تصور واضح لما نسميه اليوم "الوحدة‬
‫الفنية"‪ ،‬إال أنها وحدة مصدرها الشعور أو الكالم النفسي(‪.)60‬‬
‫أما القاضي عبد الجبار‪ ،‬فإن للنظم عنده أساسًا أكثر وضوحًا وتدقيقًا حيث‬
‫"كَّر سه للداللة على طرائق التركيب اللغوي وكيفية ضم أفراد الكلمات وقد اعتبره‬
‫من أهّم مقّو مات الفصاحة"(‪ ،)61‬واألساس اللغوي بِّين لدى صاحب المغني في‬
‫تحديد فاعلية الكلمات ضمن سياق محدد‪ ،‬فما دام الكالم من "األفعال المحكمة‪،‬‬
‫كالبناء‪ ،‬والّنساجة‪ ،‬والصياغة"(‪ ،)62‬فإن موقع الفصاحة يتحدد في الكالم‪ ،‬ذلك أن‬
‫طرائق الضم والتأليف مختلفة‪ ،‬ويّتسع مجالها لإلمكانات التي يوّفرها السياق مقابل‬
‫جملة الكالم المحدودة ذلك"أن جملة الكالم وإ ن كانت محصورة‪ ،‬فتأليفها يقع على‬
‫طرائق مختلفة من الوجوه التي بّيناها‪ ،‬فتختلف لذلك مراتبه في الفصاحة"(‪.)63‬‬
‫هذا المدخل حدد للقاضي عبد الجبار حقل الفصاحة واستتبع بالتالي اإلقرار‬
‫بالتفاوت بين العبارات في حدود التأليف‪ ،‬ومن هنا التفاضل بين صياغة وأخرى‬
‫ما دام األمر ال يتعلق بالمواضعة بل ينبني على التركيب‪ ،‬ذلك "أن الفصاحة ال‬
‫تظهر في أفراد الكالم‪ ،‬وإ نما تظهر في الكالم بالضم على طريقة مخصوصة‪،‬‬
‫والبد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة‪ ،‬وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون‬
‫بالمواضعة التي تتناول بالضم‪ ،‬وقد تكون باإلعراب الذي له مدخل فيه‪ ،‬وقد تكون‬
‫بالموقع‪ ،‬وليس لهذه األقسام رابع‪ ،‬ألنه إما أن تعتبر فيه الكلمة‪ ،‬أو حركاتها‪ ،‬أو‬
‫موقعها‪ ،‬والبد من هذا االعتبار في كل كلمة‪ ،‬ثم البد من اعتبار مثله في الكلمات‪،‬‬

‫‪- 178 -‬‬


‫إذا انضم بعضها إلى بعضن ألنه قد يكون لها عند االنضمام صفة‪ ،‬وكذلك لكيفية‬
‫إعرابها‪ ،‬وحركاتها‪ ،‬وموقعها‪ ،‬فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه إنما تظهر مزّية‬
‫الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها"‪.)64(.‬‬
‫وهذا التطور في فهم النظم وتأكيد أساسه الملتمس في طرائق الضم‬
‫والتركيب اللغوي مع ما يتضمنه من نفي للفصاحة من اللفظة المفردة‪ ،‬وجعلها‬
‫عالقة بالسياق‪ ،‬ال يشوش مجراه سوى معضلة المعنى‪ ،‬مما قد يوحي بأن طرائق‬
‫التركيب هذه تنحصر فعاليتها في األلفاظ المتضامة وفق الموقع واإلعراب دون‬
‫اعتبار للمعنى‪ ،‬إذ يورد صاحب المغني رأي متسائل وهو قوله‪" :‬فإن قال‪ :‬فقد قلتم‬
‫في أن جملة ما يدخل في الفصاحة حسن المعنى‪ ،‬فهال اعتبرتموه؟ قيل لـه‪ :‬إن‬
‫المعاني‪ ،‬وإ ن كان البد منها فال تظهر فيها المزية‪ ،‬وإ ن كانت تظهر في الكالم‬
‫ألجلها"(‪ ،)65‬إذ تبدو المعاني منحسرة عن معاضدة اللفظ في الفصاحة‪ ،‬بل التبدو‬
‫لها الفعالية قط في العبارة ولذلك "نجد المعبرين عن المعنى الواحد يكون أحدهما‬
‫أفصح من اآلخر‪ ،‬والمعنى متفق"(‪ .)66‬فتفاوت العبارة في الفصاحة واتفاق‬
‫المعنى كشف لفهم غير عميق لطبيعة التعاضد بين اللفظ والمعنى في السياق‪ ،‬غير‬
‫أن المقابل وارد‪ ،‬ذلك أن أحد المعنيين قد يكون أحسن وأرفع‪ ،‬والمعبر عنه‪ ،‬في‬
‫الفصاحة أدون‪ ،‬فهو مما البد من اعتباره‪ ،‬وإ ن كانت المزّية تظهر بغيره(‪،)67‬‬
‫فشرط الحسن في المعنى ليس أكيدًا في تحقيق الفصاحة‪ ،‬ذلك أن "المعاني ال يقع‬
‫فيها تزايد‪ ،‬فإذن يجب أن يكون الذي يعتبر التزايد عند األلفاظ التي يعبر بها‬
‫عنها"(‪.)68‬‬
‫ومقابلة هذه اآلراء في المعنى باشتراطه الفصاحة في المعنى واللفظ يسم‬
‫آراء صاحب المغني باالضطراب‪ ،‬أو على األقل بعدم وضوح الرأي في النظم‬
‫الذي ينبني على أساس الصياغة‪ ،‬في حين يظل المعنى كالمفارق ال يتغير بتغير‬
‫هذه الصياغة‪ ،‬ذلك أن تماديه في شرح أسس رأيه في طرائق التركيب حيث يؤكد‬
‫أنها المبدأ األوحد في الفصاحة مثير للحيرة فهو يؤكد أن الذي تظهر به المزية‬
‫ليس إال اإلبدال الذي به تختص الكلمات‪ ،‬أو التقدم والتأخر‪ ،‬الذي يختص الموقع‪،‬‬
‫أو الحركات التي تختص اإلعراب‪ ،‬حتى يرى أنه ال "يمتنع في اللفظة الواحدة أن‬
‫تكون إذا استعملت في معنى‪ ،‬تكون أفصح منها إذا استعملت‬
‫في غيره‪ ،‬وكذلك فيها‪ ،‬إذا تغيرت حركاتها‪ ،‬وكذلك القو ل في جملة من الكالم"(‬
‫‪ ،)69‬فتبعية فصاحة اللفظة للمعنى المستعملة فيه كعنصر مؤثر في فصاحتها‬
‫إقرار بفعاليتها في الفصاحة‪ ،‬وهذا قد ال ينسجم مع رأيه السابق في تفاوت‬

‫‪- 179 -‬‬


‫العبارتين في الفصاحة وتوافق المعنى فيهما‪ ،‬بل إن قوله إن "حسن المعنى يؤكد‬
‫كون الكالم الفصيح معجزًا‪ ،‬وإ ن كان لو انفرد لم يختص لهذه الصفة"(‪،)70‬‬
‫إقرار بنسبية المعنى في تحقيق الفصاحة‪ ،‬وهذا يغاير قوله في أن المنازعة‬
‫والمباراة في سائر الكالم‪" :‬ال معتبر فيه بالمعاني‪ ،‬وإ نما يعتبر قدره في الفصاحة"(‬
‫‪ ،)71‬فإذا قابلنا ما سلف برأيه حيث يقول‪":‬وبَّين شيوخنا‪ :‬أنه لو لم يكن له معنى‬
‫كان ال يكون معجزًا‪ ،‬ألن إعجازه هو بما يحصل له من المزَّية والرتبة في قدرة‬
‫الفصاحة‪ ،‬وال يكون الكالم فصيحًا إال بحسن معناه‪ ،‬وموقعه‪ ،‬واستقامته‪ ،‬كما ال‬
‫يكون فصيحًا إال بجزالة لفظه‪ ،‬ولو أن أحدًا من المتكلمين أَّلف من الكالم المهمل‬
‫جملة‪ ،‬وتكلم بها‪ ،‬من غير مواضعة لم يعّد من الكالم الفصيح‪ ،‬كما لو كان في‬
‫معناه ركاكة‪ ،‬لم يعّد منه‪ ،‬وكما لو رك لفظة لم يعد في ذلك‪ ،‬فكيف يصح لمن أقر‬
‫بأنه معجز أن يزعم أنه ال معنى لـُه؟ وأنه ال فائدة فيه"(‪ ،)72‬أقول‪ :‬إذا ما قابلنا‬
‫آراءه تلك برأيه هذا بدا االضطراب واضحًا والتردد بّينًا‪.‬‬
‫وهذا التردد في إعطاء المعنى مزية في الفصاحة وسحبها منه يبِّين مقدار‬
‫تصور صاحب المغني لفاعلية الكلمات المتضامة في السياق في إيجاد معناها‪.‬‬
‫وكأن خصائص التركيب إلحاق بمعنى سالف مرًة‪ ،‬وإ قرار بتعاضده مع مزايا‬
‫أخرى‪ .‬والحق أن رأي صاحب المغني في المجاز يدعم شكًال نيته ـ إن صح‬
‫الوصف ـ فالتناول المجازي للمعنى الحقيقي ال ينبني عليه تغيير في جوهره ـ‬
‫حسب رأيه ـ يقول‪" :‬على أّنا قد بّينا في أصول الفقه‪ :‬أن وجه المجاز مع القرينة‬
‫بمنزلة نفس الحقيقة‪ ،‬فإذا كان بالحقيقة يعلم المراد ويتساوى حال الجميع فيه‪ ،‬فبأن‬
‫يعلم ذلك بالمجاز مع القرينة (أولى)‪ ،‬وبّيّنا‪ :‬أن ذلك يحل محل قول القائل عشرة‬
‫إال واحدًا‪ ،‬في أنه يعرف ما به يعرف‪ ،‬بقوله‪ :‬تسعة‪ ،‬وال معتبر باختالف اللفظ في‬
‫هذا الباب"(‪ ،)73‬فإذا نزلنا هذا الفهم ضمن تصوره الكلي للفصاحة وللنظم أمكن‬
‫القول بأن المزية شكلية أساسًا‪ ،‬وإ ن بدت في طابع مركب‪ ،‬ذلك أن المعنى الذي‬
‫كان ينبغي أن يكون إفرازًا للسياق المتضام‪ ،‬يظل كالمنفصل تعلق به المزية طورًا‬
‫وتسحب منه طورًا‪.‬‬
‫عبد القاهر وجدل النظم والتخييل‬
‫لم يكن بّد لعبد القاهر الجرجاني‪ ،‬وبين يديه مقاييس في تعليل بنية النص‬
‫األدبي‪ ،‬وفصاحته‪ ،‬من أن يعيد التأسيس شأن كل ذهن عبقري يجد نفسه في ملتقى‬
‫طرائق التعليل المتنوعة للظاهرة الواحدة‪ ،‬وأبرز رؤيتين يكون قد ورثهما‬
‫تؤسسان رأيًا في جمال النص األدبي‪ ،‬أو تعلالن ظاهرة اإلعجاز القرآني بيانيًا‪،‬‬

‫‪- 180 -‬‬


‫هما نظرية التخييل الفلسفية‪ ،‬ومفهوم النظم الكالمي‪ .‬وهما رافدان أثريا المفهوم‬
‫الواحد في حضارة واحدة‪ ،‬وإ ن كانت أصولهما في خالف‪ ،‬ذلك أن األصل‬
‫المنطقي لمصطلح التخييل راسخ وشهير‪ ،‬في حين تبدو فكرة الكالم النفسي‬
‫المستند المفهومي والعقائدي لنظرية النظم‪.‬‬
‫والموقف العقائدي لعبد القاهر الشافعي األشعري يهيئ السبل لالقتناع بتبني‬
‫التفسير الكالمي في شقه األشعري لظاهرة اإلعجاز‪ .‬من هنا يكون النظم بديًال على‬
‫المستوى المبدئي لفكرة التخييل التي هي اصطالح اعتمده الفالسفة اإلسالميون في‬
‫تحديد تصورهم للشعر‪ ،‬ومستندات الفالسفة في تحديد المصطلح الذي يضبط رأيهم‬
‫في الشعر مفهومًا ووظيفًة وأداًة مؤسس على آرائهم في الفلسفة عمومًا‪ ،‬فإذ تشكل‬
‫فكرة الصورة والمادة ُأَّسه الميتافيزيقي يتجَّذ ر أصله النفسي في تصور الفالسفة‬
‫لملكات النفس وقدراتها ضمن ترتيب القدرات في العقل والتخيير والحس‪ ،‬ويستقيم‬
‫لهويته الكمال في البعد المنطقي‪ ،‬إذ ليس التخييل سوى قناة من قنوات النفس في‬
‫صياغة المعرفة المترتبة في سّلم تنازلي يحتل فيه البرهان قمة الهرم‪ ،‬فالجدل ثم‬
‫السفسطة‪ ،‬فالخطابة‪ ،‬والشعر دون أن ننسى روافد الفلسفة المختلفة وأثرها في تشكيل‬
‫المفهوم كاألخالق والسياسة وغيرها‪.)74(.‬‬
‫فبداية ال يمكن لعبد القاهر أن يتبنى هذا الفهم للشعر فضًال عن أن يعتمده في‬
‫مقاربة القرآن‪ ،‬والمالبسات التي حّفت بمصطلح التخييل عمومًا في الثقافة العربية‬
‫اإلسالمية تمنع من تبنيه في درس القرآن‪ ،‬وموقف ابن المنير من الزمخشري‬
‫ونقده لـه العتماده استعمال "اصطالح التخييل"‪ ،‬في تعليل التشبيه في بعض اآليات‬
‫القرآنية معروف‪.)75(.‬‬
‫فإذا أضفنا إلى ذلك أن المصطلح نفسه المؤسس على المنطق ـ والفالسفة لم‬
‫يبحثوا في الشعر إال ضمن جملة المنطق من مؤلفاتهم ـ يلتبس بالموقف العام من‬
‫المنطق في بيئات الفقهاء‪ ،‬واألصوليين واللغويين والنحاة‪ .‬واستحضار صور من‬
‫صراع المنطق والنحو قبل عبد القاهر وبعده يكشف حدة هذا الخصام‪ ،‬ويكفي‬
‫العودة إلى مناظرة السيرافي وأبي بشر متى ابن يونس القنائي التي رواها أبو‬
‫حيان التوحيدي (‪ ،)76‬للتأكد من عمق الشرخ بين فئتي النحاة والمنطقيين‪.‬‬
‫وخلفيات الصراع الحضارية التي تكشف صدام الثقافة العربية اإلسالمية‬
‫ومعارفها األصلية والتقليدية بالطارئ من ثقافات اآلخرين وخاصة اليونانية‬
‫التهمنا في هذا المقام‪ ،‬بقدر ما يهمنا أن الصراع ولد منظورين في مقاربة النص‪،‬‬
‫وذلك في السياق الثقافي الواحد‪ ،‬يتأسس أحدهما على المنطق‪ ،‬ويقوم اآلخر على‬

‫‪- 181 -‬‬


‫النحو‪ .‬فإذا أضفنا إلى ذلك ـ فيما يتعلق بعبد القاهر ـ آراءه العقائدية‪ ،‬وكونه من‬
‫علماء النحو‪ ،‬أمكن اإلقرار بأن تبنيه النحو أساسًا مبدئيًا في تعليل بالغة الكالم‬
‫أمر بديهي‪ ،‬ومسّلمة يقتضيها الحال والظرف‪ ،‬فإذا أدركنا أن "النحو قبل عبد‬
‫القاهر كان بسبيل العناية بنظام الكلمات إلى جانب أواخر الكلمات أو اإلعراب"(‬
‫‪ ،)77‬وأن مسائل تنظيم الكلمات تشكل "مجاًال واسعًا للذود عن مكانة الدراسات‬
‫اللغوية والنحوية حتى يستقيم لها صفة المناظر القوي للمباحث الفلسفية و المنطقية‬
‫المعنية بالدالالت‪ ،‬واألصول الكلية للتفكير والوجود"(‪ ،)78‬أصبح من مسّلمات‬
‫البحث لدى عبد القاهر إبداء الرأي في التخييل ومحاصرته ضمن ضوابطه‬
‫العقائدية ومنطلقاته البالغية المؤسسة على معاني النحو‪ .‬ومن هنا يتبدى رأيه‬
‫الصريح في التخييل الذي يجمله في قوله هو‪" :‬ما يثبت فيه الشاعر أمرًا هو غير‬
‫ثابت أصًال ويّد عي دعوى ال طريق إلى تحصيلها ويقول قوًال يخدع فيه نفسه‬
‫ويريها ما ال ترى"(‪)79‬؛ ويبدو مرتكزه المنطقي والعقلي واضحين في موقفه من‬
‫التخييل كما بينه الرأي السابق‪ ،‬خاصة عند مقابلة التخييل بالقسم العقلي من‬
‫المعاني‪ ،‬إذ تنقسم أوًال قسمين‪ :‬عقلي وتخييلي‪ ،‬وكل واحد منهما يتنوع‪ ،‬فالعقلي‬
‫على أنواع‪ .‬أولهما عقلي صحيح‪ ،‬مجراه في الشعر والكتابة‪ ،‬والبيان والخطابة‪،‬‬
‫مجرى األدلة التي تستنبطها العقالء‪ ،‬والفوائد التي تثيرها الحكماء‪.)80(...‬‬
‫ولكن إذا كانت المالبسات الثقافية الحافة تحدد موقفه المبدئي الرافض للنهج‬
‫الفلسفي في تشخيص بالغة النص‪ ،‬فما األسس الفنية التي أملت هذه القسمة‬
‫للمعاني إلى عقلية وتخييلية؟ وهل كان "عبد القاهر في موازنته بين التخييل‬
‫والحقيقة أبعد مايكون عن صفة البليغ وأقرب ما يكون إلى صفة المتكلم؟ فهو مع‬
‫النظرة المنطقية إلى العمل الشعري حريص كل الحرص على أن ينظر إلى‬
‫المعاني من جهة "الصدق والكذب"‪ ،‬ال من جهة حسن الصورة"(‪ ،)81‬وهل كان‬
‫"مفهومه للتخييل ـ رغم المقارنة بالرسم ـ يدل على أنه لم يفهم منه سوى درجة من‬
‫"الحيل" العقلية في التمويه"(‪.)82‬‬
‫صحيح أن رأي عبد القاهر في التخييل ينبني على منظور منطقي أو كالمي‬
‫في مستوى أول‪ ،‬وصحيح أيضًا أن التخييل عنده قياس خادع‪ ،‬غير أن لهذا الرأي‬
‫نفسه أصًال لدى الفالسفة‪ ،‬ذلك أن التخييل لديهم منّز ل في أدنى مرتبة في نسقهم‬
‫المنطقي‪ ،‬ومع إقرارهم بأن جوهر التخييل أو المحاكاة هو الصياغة المتجددة‬
‫والمتميزة للمعنى أو الحقيقة التي يؤسسها البرهان‪ ،‬فإن هذه الصياغة ال تملك إال‬
‫أن تعتمد التمويه في إيصال هذا الخطاب التخييلي إلى الجمهور الذي ال يملك‬

‫‪- 182 -‬‬


‫القدرة على استيعاب الخطاب البرهاني الفلسفي‪ ،‬فضًال عن أن المخيلة لم توضع‬
‫إال تحت وصاية العقل(‪ ،)83‬ومع ذلك يكشف عبد القاهر عن موقف أعمق من‬
‫هذا المستوى‪ ،‬ذلك أنه يدرك أن نظرية التخييل الفلسفية رغم ما البسها من منطق‬
‫استطاعت أن تؤسس فهمًا متميزًا للشعر مستندًا إلى خواّص ه التصويرية‪ ،‬وقد‬
‫وصلته في طورها الناضج لدى ابن سينا‪ ،‬وأن اإلقرار بالنوعية المتميزة للشعر‬
‫المؤسسة على فكرة التخييل خاصة في إحدى دالالتها المرادفة للصورة المجازية‬
‫بأنواعها‪ ،‬انحسار لفعالية الكشف عن سر مزايا الكالم في مستوى الصورة (‪،)84‬‬
‫الذي تعضده الموسيقى أساسًا‪ ،‬فيكون البديل لهذه النظرية اعتماد المنطق النحوي‬
‫الذي ينبني منظوره باالعتماد على المستوى التركيبي المتفاعل مع مستوى الداللة‬
‫بحسب فهم أعمق للصورة الشعرية التي تتحدد في اإلثبات وليس في المثبت‪ ،‬أي‬
‫ستتنزل ضمن عالقات السياق بين معاني الكلم‪ .‬ومن هنا رَّك ز على فكرة القياس‬
‫الخادع وقد قدمها مدخًال لرأيه في التخييل‪ ،‬وهذا الموقف يؤول إلى اإلقرار‬
‫بانقباض المجال أمام نظرية التخييل في مواجهة النصوص‪ ،‬ذلك أن ُم جمْل‬
‫الخطابات ال تقوم على القياس الخادع‪ ،‬فهي ال تستطيع أن تفي إال بشطر من‬
‫القول‪ ،‬فضًال عن أنها لن تنفع في بحث اإلعجاز‪ ،‬وال يمكن أن ُيَّد عى ـ بحسب فهم‬
‫عبد القاهر للتخييل ـ أن في القرآن تخييًال‪ ،‬بل لن تجدي في فهم الشعر الذي يتنزل‬
‫في القسم العقلي‪ ،‬ومن هنا فتبنيها ضرب من المجازفة التي قد ال تسعف في‬
‫مواجهة كل النصوص‪.‬‬
‫ومصداق ذلك أن موقفه العقلي من التخييل لم يمنعه من اإلقرار بجانبه الفني‬
‫الرائع الذي يراه "مفتن المذاهب‪ ،‬كثير المسالك‪ ،‬ال يكاد يحصر إال تقريبًا‪ ،‬وال‬
‫يحاط به تقسيمًا وتبويبًا(‪ ،)85‬وأن المقدمات التخييلية المؤسسة لكثير من الشعر‬
‫تسلم كما وردت فال "يؤخذ الشاعر بأن يصحح كون ما جعله أصًال وعّلة كما ادعاه‬
‫فيما يبرم أو ينقض من قضية‪ ،‬وأن يأتي على ما صَّيره قاعدة وأساسًا ببّينة عقلية"(‬
‫‪ ،)86‬بل تمادى في تفريع أنواع التخييل باسطًا هذه األنواع المختلفة حتى التبس‬
‫األمر بالصورة البالغية صراحة‪ ،‬إذ يقول‪" :‬إن باب التشبيهات قد حظي من هذه‬
‫الطريقة بضرب من السحر ال تأتي الصفة على غرابته"(‪ ،)87‬خاتمًا أنواعه‬
‫المعللة صراحة أو خفية بقوله‪" :‬إن االسم المستعار كلما كان قدمه أثبت في مكانه‪،‬‬
‫كان موضعه من الكالم أضن به وأشد محاماة عليه وأمنع لك من أن تتركه وترجع‬
‫إلى الظاهر وتصرح بالتشبيه فأمر التخييل فيه أقوى‪ ،‬ودعوى المتكلم له أظهر‬
‫وأتم"(‪ ،)88‬ومن هنا إذ ينبني رأيه في التخييل على اعتباره قياسًا خادعًا ال يمنعه‬
‫ذلك من اإلقرار بفنيته وخالبته‪ ،‬ذلك ألن هناك ثنائية في موقف عبد القاهر تحتكم‬
‫‪- 183 -‬‬
‫إليها كل آرائه في بالغة القول‪ ،‬ترتد إلى الكالم النفسي المتالئم مع العقل‪ ،‬الذي‬
‫باكتماله في النفس يكتمل اللفظ المعبر عنه في المنطق‪ .‬فالصورة الراسمة للمعنى‬
‫التخييلي قد تحوز الحسن‪ ،‬لكن مع اإلقرار بقيامها على معنى خادع‪ ،‬ذلك أن‬
‫جمالية هذا القول ال تزيل أساسه الواهي عقليًا‪ ،‬يتأكد ذلك في موقفه من القبيل‬
‫األول أي العقلي‪ ،‬إذ يرى أن العقل بعد على تفضيله "وتقديمه وتفخيم قدره‬
‫وتعظيمه‪ ،‬وماكان العقل ناصره‪ ،‬والتحقيق شاهده‪ ،‬فهو العزيز جانبه‪ ...‬هذا ومن‬
‫سّلم أن المعاني المعرقة في الصدق‪ ،‬المستخرجة من معدن الحق‪ ،‬في حكم الجامد‬
‫الذي ال ينمو‪ ،‬والمحصور الذي ال يزيد؟"(‪.)89‬‬
‫فالمعاني العقلية يمكن أن تضاهي التخييالت بل تفوقها في تشكيالتها الفنية‪،‬‬
‫وفي تفريعاتها البالغية القائمة على موافقة العقل‪ ،‬يظهر ذلك في رأيه في‬
‫االستعارة‪ ،‬التي يرى أن "سبيلها سبيل الكالم المحذوف في أنك إذا رجعت إلى‬
‫أصله وجدت قائله وهو يثبت أمرًا عقليًا صحيحًا ويّد عي دعوى لها سنخ من‬
‫العقل"(‪ ،)90‬ذلك أنه يقع التوافق في االستعارة بين السند العقلي‪ ،‬والصورة‬
‫االستعارية التي يتقمصها المعنى القائم على العقل‪ ،‬فال تكون المسألة كالتخييل‬
‫الذي هو‪ :‬أظهر أمرًا في البعد عن الحقيقة وأكشف وجهًا في أنه خداع للعقل‬
‫وضرب من التزويق‪ ،‬هنا يجتمع األساسان‪" :‬خداع العقل والتزويق"(‪ ،)91‬ذلك أن‬
‫خالبة الصورة ال تنسي األساس الخادع‪.‬‬
‫وهذا الموقف يمِّك ن العقل من مواجهة النص ويقر بجدارة العقل النقدي وفائدة‬
‫الكالم المنقود‪ ،‬خاصة إذا كانت المسألة مسألة كشف لإلعجاز القرآني‪ ،‬فالمسّلم به‬
‫أن إعجاز القرآن البياني يقوم على الحقيقة المتطابقة مع العقل‪ ،‬وأن فك رموزه‬
‫يقتضي تقديم الفرضيتين بداهة‪ ،‬وأن البديل للمنطق المؤسس للتخييل إنما هو النحو‬
‫الذي يتحكم في المعاني التي تعكس الفكر في نشاطه‪ ،‬إذ ليس النحو إال منطقًا‬
‫مسلوخًا من العربية على حِّد عبارة التوحيدي(‪.)92‬‬

‫عبد القاهر وإشكال اللفظ والمعنى‬


‫يمكن أن نسّلم مبدئيًا بأن نظرية عبد القاهر في النص األدبي لها أساسها‬
‫العقائدي المتجّذ ر في قناعات دينية وحضارية‪ ،‬ملتبسة بعلوم ومعارف أصيلة تقوم‬
‫على سند مكين من اللغة والنحو‪ ،‬وأن تحديد مواصفات الكالم البليغ انطالقًا من‬
‫هذا اإلطار‪ ،‬وبحسب ماكان يعتبر آنذاك سنة جمالية وأدبية يستدعي العناية بقضية‬
‫اللفظ والمعنى‪ ،‬هذه القضية التي تمثل أساسًا قاّر ًا في كل محاولة عرفها النقد‬

‫‪- 184 -‬‬


‫العربي القديم تبتغي تأسيس رأي في بنية النص األدبي‪ .‬من هنا يصبح لزامًا‬
‫االنطالق من فكرة عبد القاهر في اللفظ و المعنى للوفاء بشروط تقصي رأيه في‬
‫النظم‪.‬‬
‫ويمكن اعتماد مستويين في تحديد نظرته إلى المسألة‪ ،‬مستوًى لغوي عام‪،‬‬
‫ومستوًى أدبي‪ .‬ففي المستوى األول يمكن اإلقرار بأن تصور عبد القاهر للغة يقوم‬
‫على التمييز بين المعاني واأللفاظ‪ ،‬إذ تتحدد العالقة بينهما في صلة إشارية‪ ،‬تختزل‬
‫في مواضعة تشير إلى شيء سابق معروف‪ ،‬مما يجعل عبد القاهر يتساءل مندهشًا‬
‫"كيف والمواضعة ال تكون وال تتصور إال على معلوم‪ ،‬فمحال أن يوضع اسم أو‬
‫غير اسم لغير معلوم‪ ،‬وألن المواضعة كاإلشارة فكما أنت إذا قلت‪ :‬خذ ذاك‪ :‬لم تكن‬
‫هذه اإلشارة لتعرف السامع المشار إليه في نفسه ولكن ليعلم أنه المقصود من بين‬
‫سائر األشياء التي تراها وتبصرها‪ ،‬كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له‪ .‬ومن هذا الذي‬
‫يشك أَّنا لم نعرف الرجل‪ ،‬والفرس‪ ،‬والضرب‪ ،‬والقتل إال من أسمائها؟ لو كان لذلك‬
‫مساغ في العقل لكان ينبغي إذا قيل‪ :‬زيد‪ ،‬أن تعرف المسمى بهذا االسم من غير أن‬
‫تكون قد شاهدته أو ذكر لك بصفة"(‪ ،)93‬وهذا الرأي أماله تصور كيفية حدوث‬
‫المواضعة‪ ،‬إذ تقتضي سبق الوعي بصورة المدلول الذهنية المنعكسة عن مرجع‪،‬‬
‫لتنتهي العالقة إلى دال يأتلف مع الصورة‪ ،‬ومادامت وظيفة اللفظ تختزل في اإلشارة‬
‫إلى المعلوم‪ ،‬فلن يكون لـه في هذا المنظور أكثر من وظيفة السمة الملحقة بالمعنى‪،‬‬
‫إذ لم تكن "األلفاظ إال من أجل المعاني وهل هي إال خدم لها‪ ،‬ومصرفة على حكمها؟‬
‫أو ليست هي سمات لها؟"(‪ ،)94‬من هنا تكون العالقة بينهما عالقة الوعاء بالشيء‬
‫الموعى فاأللفاظ "أوعية للمعاني"(‪ .)95‬ويستتبع ذلك أن يكون العلم باللفظ الحقًا‬
‫للعلم بالمعنى‪ .‬ويستقيم هذا التدرج وفق فكرة الكالم النفسي‪ ،‬إذ "العلم بمواقع المعاني‬
‫في النفس‪ ،‬علم بمواقع األلفاظ الدالة عليها في النطق"‪.)96(.‬‬
‫وإ ذا كان هذا الفهم يؤول إلى ضرورة تطابق بنية الدوال الخارجية مع بنية‬
‫المدلوالت النفسية الداخلية‪ ،‬فإن دور اللفظ يظل مرّك زًا في الشفوف عن المعنى‪،‬‬
‫ويفقد بذلك "فعاليته الجمالية أو أن تلك الفعالية ال تتعلق به أصًال وال تقتصر عليه"(‬
‫‪ ،)97‬ما دمنا نحمل الفعالية الجمالية هنا على كل تركيز يولي اللفظ في ذاته ميزة‪،‬‬
‫ذلك أن قاعدة التحرك التي ستضبط لعبد القاهر مساره المتقصي بنية النص‪،‬‬
‫ستتحدد بمنطقة الصياغة التي هي خالصة تفاعل بين المعنى واللفظ مما سيمكنه‬
‫من تجاوز الثنائية التي علقت بهما طويًال‪.‬‬
‫فاالنتقال من الشق اللغوي العام إلى المستوى الفني سيتأسس في بناء جدالي‬

‫‪- 185 -‬‬


‫ينبسط في حجج متتالية‪ ،‬يتعقب فيها عبد القاهر حجج اللفظيين المغالين في التمسك‬
‫بشكلية تولي اللفظ العناية األولى‪ ،‬وكذا حجج المعنويين الذين يقّد مون القول بمعناه‬
‫المرادف للفائدة المستخلصة من الخطاب التي ال يكون التركيز عليها إال إقرارًا‬
‫بالنجاعة األخالقية للمعنى دون تبيان فصاحته أو بيانه‪.)98(.‬‬
‫من مسّلمات رأيه المؤسس على فكرته في النظم القائمة على األساس النفسي‬
‫يكون الحكم في الترتيب بين المعاني واأللفاظ على مستوى المتكلم متمشيًا مع‬
‫فكرة سبق الكالم النفسي اللفظ الدال عليه "فإن االعتبار ينبغي أن يكون بحال‬
‫الواضع للكالم والمؤلف له‪ ،‬والواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه ال مع‬
‫السامع‪ ،‬وإ ذا نظرنا علمنا ضرورة أنه محال أن يكون الترتيب فيها تبعًا لترِّتب‬
‫األلفاظ ومكتسبًا عنه‪ ،‬ألن ذلك يقتضي ان تكون األلفاظ سابقة للمعاني‪ ،‬وأن تقع‬
‫في نفس اإلنسان أوًال ثم تقع المعاني من بعدها وتالية لها بالعكس مما يعلمه كل‬
‫عاقل إذا هو لم يؤخذ على نفسه"(‪.).99‬‬
‫ومصداق ذلك فعل الفكر نفسه الذي هو فعالية في رأي عبد القاهر ال تتم إال‬
‫بالمعنى‪ ،‬حيث تتبدى محصلته في الداللة المؤسسة على العالقات المعنوية الشاملة‬
‫لأللفاظ الدالة‪ .‬من هنا ال يتأتى اعتماد الفصاحة إال على مستوى معنوي‪ ،‬ويستتبع‬
‫ذلك أن تشكل األلفاظ صورة المعاني المتفاعلة‪ ،‬فمعلوم "أن الفكر من اإلنسان‬
‫يكون في أن يخبر عن شيء بشيء‪ ،‬أو يصف شيئًا بشيء‪ ،‬أو يضيف شيئًا إلى‬
‫شيء‪ ،‬أو يشرك شيئًا في حكم شيء‪ ،‬أو يخرج شيئًا من حكم قد سبق منه لشيء‪،‬‬
‫أو يجعل وجود شيء شرطًا في وجود شيء‪ ،‬وعلى هذا السبيل‪ .‬وهذا كله ِفَك ْر في‬
‫أمور معلومة معقولة زائدة على اللفظ"(‪ ،)100‬فمحصلة عملية التعبير بأنواعها‬
‫إنما هي فعل العقل الواعي في المعاني وفق منطق النحو‪ ،‬وطبيعة الفعل المؤسس‬
‫للداللة تفرض خصائصها على مستوى التلّقي‪ .‬من هنا يكون إدراك الخطاب فعًال‬
‫عقليًا متدبرًا‪ ،‬وفعل التدبر نفسه ال يقوم إال على معانقة المعنى بالعقل‪ ،‬إذ "لو كان‬
‫القصد بالنظم إلى اللفظ نفسه دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس ثم‬
‫النطق باأللفاظ على حذوها لكان ينبغي أن ال يختلف حال اثنين في العلم بحسن‬
‫النظم أو غير الحسن فيه ألنهما يحَّسان بتوالي األلفاظ في النطق إحساسًا واحدًا(‬
‫‪..)101‬‬
‫من كل ما سبق يبدو تسلط المعاني على األلفاظ واضحًا وتحكمها في رقابها‬
‫بّينًا‪ ،‬وتكاد مزية اللفظ تختزل في مالءمة معنى اللفظة لمعنى غيرها في السياق‪.‬‬
‫وهذا يؤكد نسبية الحسن الذي يمكن أن يعلق بأي لفظة "فقد اتضح إذن‬

‫‪- 186 -‬‬


‫اتضاحًا ال يدع مجاًال للشك أن األلفاظ ال تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة‪ ،‬وال‬
‫من حيث هي كلم مفردة‪ ،‬وأن األلفاظ تثبت لها الفضيلة وخالفها في مالءمة معنى‬
‫اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما ال تعلق له بصريح اللفظ‪ ،‬ومما يشهد‬
‫لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع‪ ،‬ثم تراها بعينها تثقل عليك‬
‫وتوحشك في موضع آخر‪.)102("...‬‬
‫وما دامت البالغة عالقة بالمعنى وكل وصف للفظ بالمزية إنما يكون تبعًا‬
‫لموقعه في سياق دال‪ ،‬أمكن اعتبار ثبات الصورة اللفظية الدالة وتغير المعنى دليًال‬
‫أسلوبيًا آخر يؤكد سبق المعنى وأولويته "ذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعًا لأللفاظ‬
‫في ترتيبها‪ ،‬لكان محاًال أن تتغَّير المعاني واأللفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها‪ ،‬فلما‬
‫رأينا المعاني قد جاز فيها التغيير من غير أن تتغير األلفاظ وتزول عن أماكنها علمنا‬
‫أن األلفاظ هي التابعة والمعاني هي المتبوعة"(‪.)103‬‬
‫فثراء المعنى وإ مكانات فهمه متعددة بقدر ما تؤكد كون البالغة في المعنى‬
‫تزيح اللفظ عن أن يكون له أهمية أكثر من اعتباره حامًال لهذا المعنى المتعدد‬
‫الصور‪ ،‬وفي السياق نفسه يؤكد انتفاء المعارضة من األلفاظ المجردة عن المعاني‬
‫ترسيخًا لمنحى عبد القاهر نفسه في تأكيد كون البالغة ومترادفاتها‪ ،‬إنما هو في‬
‫المعنى "ألنه إذا لم يكن في القسمة إال المعاني واأللفاظ‪ ،‬وكان ال يعقل تعارض في‬
‫األلفاظ المجردة إال ما ذكرت لم يبق إال أن تكون المعارضة معارضة من جهة‬
‫المعنى‪ ،‬وكان الكالم يعارض من حيث هو فصيح وبليغ ومتخّير اللفظ حصل من‬
‫ذلك أن الفصاحة والبالغة وتخير اللفظ عبارة عن خصائص ووجوه تكون معاني‬
‫الكالم عليها وعن زيادات تحدث في‬
‫أصول المعاني‪ ...‬وأن ال نصيب لأللفاظ من حيث هي ألفاظ فيها بوجه من‬
‫الوجوه"(‪.)104‬‬
‫ويترّتب على ما سلف أن يكون اعتبار وجوه كالجناس والّس جع من فصاحة‬
‫اللفظ خطأ رغم ارتباطها بالمستوى الصوتي لأللفاظ‪ ،‬فقد "يتوهم في بدء الفكرة‪،‬‬
‫وقبل إتمام العبرة‪ ،‬أن الحسن والقبح فيها ال يتعدى اللفظ والجرس‪ ....‬وعلى‬
‫الجملة فإنك ال تجد تجنيسًا مقبوًال‪ ،‬وال سجعًا حسنًا‪ ،‬حتى يكون المعنى هو الذي‬
‫طلبه واستدعاه وساق نحوه"(‪.)105‬‬
‫ثم يقصد عبد القاهر آراء في التراث تبدو ظاهرًا في نصرة اللفظ‪ ،‬فُيخضعها‬
‫لتأويل يساير رأيه في اللفظ والمعنى خاصة أن فهمها الحرفي الظاهري قد يشوش‬
‫مسار نظريته ويجد فيه "اللفظيون" دعمًا تراثيًا لمقوالتهم‪ ،‬فمن الصفات "التي‬

‫‪- 187 -‬‬


‫تجدهم يجرونها على اللفظ ثم ال تعترضك شبهة وال يكون منك توقف في أنها‬
‫ليست لـه ولكن لمعناه كقولهم‪ :‬ال يكون الكالم يستحق اسم البالغة حتى يسابق‬
‫معناه لفظه ولفظه معناه‪ ،‬وال يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك‪.‬‬
‫وقولهم‪ :‬يدخل في األذن بال إذن‪ ،‬فهذا مما ال يشك العاقل في أنه يرجع إلى داللة‬
‫المعنى على المعنى وأنه ال يتصور أن يراد به داللة اللفظ على معناه الذي وضع‬
‫له في اللغة"(‪ ،)106‬واألساس الذي يعتمده في التدليل على وجهة نظره في اعتبار‬
‫المقصود من العبارة غير داللة اللفظ على معناه الوضعي‪ ،‬أصل أسلوبي تنبني‬
‫الداللة فيه والمقصد من القول على ما أسماه "معنى المعنى"‪ ،‬إذ يستحيل المدلول‬
‫المباشر للفظ داًال للمدلول المقصود‪ ،‬ويكون التسابق بين المدلول األخير وداله‬
‫الذي هو مدلول أول‪ ،‬وتنزع من اللفظ في مستواه الصوتي كل قيمة في إحداث أثر‬
‫ما في المتلقي‪ ،‬ومصداق ذلك رأيه في التذوق الفني إذ يقول "إذا رأيت البصير‬
‫بجواهر الكالم يستحسن شعرًا أو يستجيد نثرًا‪ ،‬ثم يجعل الثناء عليه من حيث‬
‫اللفظ‪ ،‬فيقول‪ :‬حلو رشيق‪ ،‬وحسن أنيق‪ ،‬وعذب‪ ،‬سائغ‪ ،‬وخلوب رائع‪ ،‬فاعلم أنه‬
‫ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف‪ ،‬وإ لى ظاهر الوضع اللغوي بل‬
‫أمر يقع في المرء في فؤاده‪ ،‬وفضل يقتدحه العقل من زناده"(‪.)107‬‬
‫وفي المسار نفسه يكون كل تخصيص للفظ بالحديث أو الوصف إنما هو من‬
‫باب النيابة عن المعنى دون أن يمتد بالذهن الظن بأن المراد اللفظ في ذاته‪،‬‬
‫فقولهم‪" :‬لفظ ليس فيه فضل عن معناه‪ ،‬محال أن يكون المراد به اللفظ‪ ،‬ألنه ليس‬
‫ههنا اسم أو فعل أو حرف يزيد على معناه أو ينقص عنه‪ .‬كيف وليس بالذرع‬
‫وضعت األلفاظ على المعاني‪ ،‬وإ ن اعتبرنا المعاني المستفادة من الجمل فكذلك‪...‬‬
‫وإ نما يختُّل اللفظ عن المعنى أن تريد الداللة بمعنى على معنى‪ ،‬فتدخل في أثناء‬
‫ذلك شيئًا ال حاجة بالمعنى المدلول عليه إليه‪ ،‬وكذلك السبيل في السبك والطابع ال‬
‫يحتمل شيء من ذلك أن يكون المراد به اللفظ من حيث هو لفظ"(‪.)108‬‬
‫ثم يقصد تكييف بعض األقوال السابقة‪ ،‬مع أصول نظريته لتستوعب هذه‬
‫األصول قصد ترسيخ المسار نفسه المستدل بالتراث وتعميق هذه األصول نفسها‪،‬‬
‫وتصحيح سوء الفهم الذي أخطأ ـ في رأيه ـ فهم مقاصد األقدمين‪ ،‬فهل قالوا‪" :‬لفظة‬
‫متمكنة ومقبولة‪ ،‬وفي خالفه‪ :‬قلقة ونابية‪ ،‬ومستكرهة‪ ،‬إال وغرضهم أن يعّبروا‬
‫بالتمّك ن عن حسن االتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما‪ ،‬وبالقلق والنبو عن سوء‬
‫التالؤم‪ ،‬وأن األولى لم تلق بالثانية في معناها"(‪.)109‬‬
‫وأخيرًا تبدو حجة يظهر فيها تعليق وصف الفصاحة باللفظ من باب كونها‬

‫‪- 188 -‬‬


‫عالمة ال تكون فيه إال ليستدل بها على المزية المذكورة في غيره "فإن قيل‪ :‬إذا‬
‫كان اللفظ بمعزل عن المزية التي تنازعنا فيها وكانت مقصورة على المعنى فكيف‬
‫كانت الفصاحة من صفات اللفظ البتة؟ وكيف امتنع أن يوصف بها المعنى فيقال‪:‬‬
‫معنى فصيح وكالم فصيح المعنى؟ قيل‪ :‬إنما اختصت الفصاحة باللفظ وكانت من‬
‫صفته من حيث كانت عبارة عن كون اللفظ على وصف إذا كان عليه دَّل على‬
‫المزية التي نحن في حديثها!‪ ..‬وإ ذا كانت لكون اللفظ داًال استحال أن يوصف بها‬
‫المعنى بأنه دال مثًال فاعرفه"(‪.)110‬‬
‫وهكذا يكاد اللفظ في ذاته أن يتجرد من كل مزية وال يكاد يعترف للفظة‬
‫بأكثر "من أن تكون هذه مألوفة مستعملة‪ ،‬وتلك غريبة وحشية‪ ،‬أو أن تكون‬
‫حروف هذه أخف‪ ،‬وامتزاجها أحسن"‪ .‬ومما يكُّد اللسان من هنا انزاح عن األلفاظ‬
‫أي دور أسلوبي في بنية النص عدا كونها ممرًا للمعنى الذي ينسج في المحور‬
‫التركيبي من خالل مزج دالالت الكلمات في وحدة معنوية‪ ،‬لذلك "لم يحفل‬
‫الجرجاني بالعمليات التي يمكن أن تقع على محور االستبدال‪ ،‬ونقض المبدأ‬
‫األساس الذي قامت عليه نظرية أسالفه في بالغة النص وهو مبدأ االختيار الذي‬
‫يقوم بدوره على التسليم بأن اللغة توفر لمستعملها أكثر من إمكانية في التعبير عن‬
‫المتصور الواحد"‪.)112(.‬‬
‫ولم يكن حظ المعنى بداللة الغرض أفضل من حظ اللفظ في نقد عبد القاهر‬
‫فكالهما مادتان في مستوى خام ليس من حق طورهما األول هذا أن ينال حظًا من‬
‫مزية‪ ،‬فإذا انتفى عن األلفاظ كل مزية فكيف يمكن اإلقرار بمثل ذلك لألغراض‬
‫وأصول المعاني؟ إنما هي مادة قابلة للتشكيل ويتحدد لها الفضل والحسن طبق‬
‫الشكل الذي تتلبسه والصورة التي تداخلها‪ ،‬ذلك "أنهم لم يعيبوا تقديم الكالم بمعناه من‬
‫حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدبًا وحكمة وكان غريبًا نادرًا فهو أشرف مما ليس‬
‫كذلك‪ ،‬بل عابوه من حيث كان من حكم من قضى في جنس من األجناس بفضل أو‬
‫نقص أن ال يعتبر في قضيته تلك إال األوصاف التي تخص ذلك الجنس وترجع إلى‬
‫حقيقته وأن ال ينظر فيها إلى جنس آخر وإ ن كان من األول بسبيل أو متصًال به‬
‫اتصاًال ما ال ينفك منه"(‪.)113‬‬
‫ومع ذلك يرى عبد القاهر أن لبعض المعاني مزّية ذاتّية‪ ،‬فهي كالجواهر ليس‬
‫للفظ فيها أكثر من الّتوشية والّتحسين‪ ،‬وأنها كالجواهر المتفّر دة بالحسن يقر لها‬
‫بالجودة والسبق تطابقها مع العقل وكونها تفريعًا من مأثور الحديث أو القرآن‪،‬‬
‫فقول الشاعر‪:‬‬

‫‪- 189 -‬‬


‫وكّل امرئ يولي الجميل محّبب‬
‫صريح معنى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب وإ نما له ما يلبسه من‬
‫اللفظ ويكسوه من العبارة وكيفية التأدية من االختصار وخالفه والكشف أو ضده‪،‬‬
‫وأصله قول النبي صلى اهلل عليه وسلم‪[ :‬جبلت القلوب على حِّب من أحسن إليها](‬
‫‪ .)114‬بل قول اهلل عز وجل‪  :‬ادفع باّلتي ِه َي َأْح َس ْن َفِإَذ ا اَّلّذ ي َبيَنَك َو َبْيَنُه َع َد اَو ٌة‬
‫َك َأَّنُه ولٌّي َح ِم يْم )‪..(115‬‬
‫هذا اإلقرار يبدو ظاهريًا في نزاع مع رأيه األسبق الذي ينفي تعليق المزية‬
‫بالمعنى ويعتبرها من خصوصيات الصورة التي يتجسد فيها المعنى‪ ،‬إال أن‬
‫الحجاج العقلي ومرامي الطعن في التخييل مع اعتماد العقل مرجعًا في تعليل‬
‫الظاهرة األسلوبية‪ ،‬كانت سبب هذا االعتراف النسبي بقيمة المعنى في ذاته‬
‫وليست انزياحًا عن موقف راسخ سابق‪ .‬وسيتأكد هذا االعتراف في قوله‪":‬إن من‬
‫الكالم ماهو شريف في جوهره كالذهب اإلبريز الذي تختلف عليه الصور‪،‬‬
‫وتتعاقب عليه الصناعات‪ ،‬وجل المعول في شرفه على ذاته‪ ،‬وإ ن كان التصوير قد‬
‫يزيد في قيمته ويرفع من قدره‪ ،‬ومنه ماهو كالمصنوعات العجيبة من مواد غير‬
‫شريفة فلها مادامت الصورة محفوظة عليها لم تنتقض وأثر الصنعة باقيًا معها لم‬
‫يبطل‪ ،‬قيمة تغلو‪ ،‬ومنزلة تعلو‪ ،‬وللرغبات إليها انصباب‪ ،‬وللنفوس بها إعجاب‪،‬‬
‫حتى إذا خانت األيام فيها أصحابها‪ ،‬وضامت الحادثات أربابها‪ ،‬وفجئتهم فيها بما‬
‫يسلبها حسنها المكتسب بالصنعة‪ ،‬وجمالها المستفاد من طريق الغرض فلم يبق إال‬
‫المادة العارية من التصوير‪ ،‬والطينة الخالية من التشكيل سقطت قيمتها‪ ،‬وانحطت‬
‫رتبتها"(‪.)116‬‬
‫فمن الكالم ما له شرف ذاتي‪ ،‬ومنه ما "يشرف" نسبيًا بصنعة تغطي عواره‪،‬‬
‫وهنا قد تتنوع مقاييس الحكم بالفضل والمزية‪ ،‬حيث قد يفرد كل عنصر من‬
‫العناصر المؤسسة للنص بالفضل‪ ،‬هذا الفضل الذي يجب "إما لمعنى غريب يسبق‬
‫إليه الشاعر فيستخرجه‪ ،‬أو استعارة بعيدة يفطن لها‪ ،‬أو لطريقة في النظم‬
‫يخترعها"(‪ ،)117‬وهذا الذي يبدو في الظاهر كالتناقض ال يمكن إزاحته إال بتحديد‬
‫رأيه في صورة المعنى‪ ،‬صحيح أن هناك إقرارًا محتشمًا بقيمة بعض المعاني‬
‫العقلية إذا اعتمدنا التسليم بأن هذا اإلقرار ال ينبني عليه اعتراف بفضل بالغة أو‬
‫فصاحة‪ ،‬إنما هو سمٌّو معنوي نتج عن مطابقة القيم الدينية أو األخالقية عمومًا‪،‬‬
‫غير أن هذا التنويه بالقيمة األخالقية للمعنى لن يؤسس لدى عبد القاهر أصًال‬
‫يعّض د أصوله الفنية األخرى المعتمدة في النقد‪ ،‬بل يظل اعتباريًا يؤكد اعتباريته‬

‫‪- 190 -‬‬


‫هذه رأيه في صورة المعنى‪.‬‬
‫صورة المعنى عند عبد القاهر‬
‫واعتماد مصطلح الصورة يعضده مقابلة الكالم بأشكال الصياغة والنساجة‬
‫والتصوير وكل الصناعات التي تقصد إحداث الشكل الجميل في المادة الموضوعة‬
‫للصناعة‪ ،‬باإلضافة إلى أن معاني المصطلح الفلسفية تخدم الغرض النقدي الهادف‬
‫إلى جالء بنية النص في لحمة المعنى واللفظ‪ .‬علمًا بأن االصطالح معتمد على‬
‫صعيد واسع‪ ،‬وراسخ في بيئات البالغيين والنقاد‪...‬‬
‫فالهيئة التي يتّلبسها المعنى في البيت الشعري‪ ،‬مثًال‪ ،‬تدعى صورة‪ ،‬فهي‬
‫على المستوى الفني خصوصية تنطبع على المعنى أما على مستوى المفهوم فهي‬
‫"تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا"(‪ ،)118‬فهي مقولة‬
‫ذهنية تكون محصلة لتجريد التجسيد العيني للمعنى في البيت‪ ،‬وهي تبدو في‬
‫وضعها التشخيصي نظيرًا لخصوصية الصورة التي يبين بها الفرد الواحد من‬
‫آحاد جنسه‪.‬‬
‫وفي هذا المستوى يستخدم اصطالح الصورة لغاية ضبط الخصوصيات‬
‫المشكلة للشيء أو المعنى‪ ،‬ذلك أنه لما "وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في‬
‫اآلخر بينونة في عقولنا وفرقًا عّبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا‪ :‬للمعنى‬
‫في هذا صورة غير صورته في ذلك"(‪.)119‬‬
‫يفهم من النص السابق أن المعنى الواحد يمكن أن يتلبس بصور شتى تتمايز‬
‫بسبب مراتب صياغتها‪ ،‬ومن هنا تكون صور المعاني المختلفة هذه تفريعات من‬
‫أصل واحد يتمثل في بنية معنوية تتبدى في الغرض‪ ،‬وتأخذ أشكاًال متنوعة‬
‫متفاوتة في الفصاحة‪ ،‬وفق الصياغات المتنوعة" وال يغرنك قول الناس‪ :‬قد أتى‬
‫بالمعنى بعينه وأخذ معنى كالمه فأداه على وجهه فإنه تسامح منهم‪ ،‬والمراد أنه‬
‫أدى الغرض فأما أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كالم‬
‫األول‪ ،‬حتى ال تعقل ههنا إالما عقلته هناك‪ ،‬وحتى يكون حالهما في نفسك حال‬
‫الصورتين المشتبهتين في عينك كالَّسوارين والشنفين فهي غاية اإلحالة وظٌّن‬
‫يفضي بصاحبه إلى جهالة عظيمة‪ ،‬وهي أن تكون األلفاظ مختلفة المعاني إذا‬
‫فرقت‪ ،‬ومتفقتها‪ ،‬إذا جمعت وألف منها كالم"(‪.)120‬‬
‫ومن هنا تنتفي من الغرض في أصله أي ميزة‪ ،‬بل ال يمكن أن يتصور إال‬
‫متلبسًا بصياغة‪ ،‬بصورة تهبه خصوصية ما‪ ،‬وقد يعتمد أدنى هذه الصور‬
‫المعنوية فصاحة أصًال‪ ،‬خاصة إذا انتفى منها الخصائص األسلوبية وصيغت في‬

‫‪- 191 -‬‬


‫شكل لغوي مباشر ال تتجاوز الوظيفة فيه المستوى العادي من الكالم‪.‬‬
‫فإذ تذوب عناصر الصياغة في سياق واحد منطبعة على أصل الغرض لتبرز‬
‫في صورة منفردة‪ ،‬تكون بذلك عناصر المعنى واللفظ قد تم لها االلتحام في شكل‬
‫موَّحد يكون أساس كل عملية نقدية‪ ،‬ذلك "أن سبيل الكالم سبيل الّتصوير‬
‫والصّياغة وأن سبيل المعنى الذي يعبرعنه سبيل الشيء الذي يقع الّتصوير‬
‫والّص وغ فيه كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار‪ ،‬فكما أن محاًال إذا أنت‬
‫أردت النظر في صوغ الخاتم‪ ،‬وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة‬
‫الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه العمل وتلك الصنعة كذلك محال إذا‬
‫أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكالم أن تنظر في مجرد معناه"‪(.‬‬
‫‪.)121‬‬
‫ولكن إذا كان النظر في الجودة يقتضي بحث الصورة الحاملة فإن هذا ال‬
‫يترتب عليه أن تكون كل صورة حاملة لمعنى جميلة (‪ .)122‬صحيح أن اعتماد‬
‫مصطلح الصورة ومقابلته المستمرة باصطالحات الصياغة والصنعة يشي مبدئيًا‬
‫بالمستوى الفني الذي يسكب فيه المعنى‪ ،‬يدعمه مثل قول عبد القاهر‪":‬وإ نا لنراهم‬
‫يقيسون الكالم في معنى المعارضة على األعمال الصناعية كنسيج الّد يباج وصوغ‬
‫الشنف والسوار وأنواع ما يصاغ وكل ماهو صنعة وعمل يد بعدأن يبلغ مبلغًا يقع‬
‫التفاضل فيه ثم يعظم حتى يزيد فيه الصانع على الصانع زيادة يكون له بها صيت‬
‫ويدخل في حد ما يعجز عنه األكثرون"(‪ ،)123‬غير أن مقابلة الكالم باألعمال‬
‫الصناعية‪ "،‬بعد أن يبلغ مبلغًا يقع التفاضل فيه "ال ينفي عن غيره األدنى الوصف‬
‫بالصورة‪ ،‬ومن هنا قد تلتبس الصورة في الفهم بالسبق دومًا أو على األقل‬
‫بالمستوى البالغي للكالم‪ ،‬وهذا ليس مطلقًا؛ ذلك أنه إذا أدت المقارنة إلى اإلقرار‬
‫بترادف مفهوم الصورة مع المستوى البليغ من الكالم‪ ،‬فإنه في مواضع أخرى ال‬
‫يعدو توظيفها التعريف بالنسج الذي تتضام عبره كلمات دالة على معنى ينتسب‬
‫بدوره إلى غرض أصلي‪ ،‬يؤكد ذلك قوله‪" :‬إن أصل الفساد وسبب اآلفة هو ذهابهم‬
‫عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصور‪ ،‬وتحدث فيها خواّص ومزايا من‬
‫بعد أن ال تكون‪ ،‬فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل فصنع منه ما يصنع‬
‫الصانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم وعمل شنف وغيرهما من أصناف‬
‫الحلّي "(‪ ،)124‬فإغراب الصنعة الحادث في المعنى المبتذل ال ينفي تلبسه بصورة‬
‫في مستواه المبتذل ذلك أن "من شأن المعاني أن تختلف عليها الصور"‪ .‬ومن هنا‬
‫يمكن االستنتاج بأن "مصطلح الصورة" مصطلح واسع غير مرادف دومًا للكالم‬

‫‪- 192 -‬‬


‫البليغ‪ ،‬بل هو مفهوم مرن يمكن أن يستوعب ألوانًا شتى من الكالم تتفاوت في‬
‫الحسن‪ ،‬وترجع مزاياها إلى خصوصيات متنوعة‪ ،‬يصدق ـ مثًال ـ على الكالم‬
‫المفسر والتفسير‪ ،‬ذلك "أن قولهم‪ :‬إن التفسير يجب أن يكون كالمفسر‪ :‬دعوى ال‬
‫تصح لهم إال من بعد أن ينكروا الذي بّيّناُه من أن من شأن المعاني أن تختلف بها‬
‫الصور"(‪.)125‬‬
‫ومفهومه لصورة المعنى هو الذي مّك نه من رفض فكرة السرقات ـ غالبًا ـ‬
‫وتقليص مجال االحتذاء في نطاق أسلوبي ضّيق‪ ،‬فما دام "المعنى ينقل من صورة‬
‫إلى صورة"(‪ ،)126‬فكل عودة إلى معنى عار كما هو شائع في قولهم‪ ،‬وكسوته‬
‫لفظًا جديدًا‪ ،‬تعني إخراجه في صورة جديدة‪ ،‬وإ ال "فمن أين يجب إذا وضع‬
‫(الثاني) لفظًا على معنى أن يصير أحق به من صاحبه الذي أخذه منه إن كان هو‬
‫ال يصنع بالمعنى شيئًا"(‪.)127‬‬
‫فتعدد اإلخراج الصوري للمعنى الواحد إقرار بتعدد مستويات البالغة‬
‫والفصاحة فيه‪ ،‬من هنا قد يكون المعنى السابق معنى ساذجًا يعاد سبكه في صورة‬
‫أرقى‪ .‬يبّين ذلك ضبط مجاالت االتفاق في السرقة بين الشعراء‪ ،‬ذلك أن االتفاق قد‬
‫يكون في عموم الغرض‪ ،‬وقد يكون في وجه الداللة على الغرض‪ ،‬وإ ذا كان‬
‫االتفاق األول ال يعتبر سرقة‪ ،‬فإن الثاني "إن كان مما اشترك الناس في معرفته‬
‫وكان مستقرًا في العقول والعادات فإن حكم ذلك وإ ن كان خصوصًا في المعنى‬
‫حكم العموم الذي تقَّد م ذكره"(‪ ،)128‬من ذلك أصناف التشبيهات المشهورة‪،‬‬
‫فالصورة الجميلة قد تفقد فضلها باالبتذال‪ ،‬مما يعني أن اعتماد اصطالح الوصف‬
‫بالصورة ال يعني المزية مطلقًا‪ ،‬علمًا بأن هذا المبتذل والمشترك العامي قد تتغير‬
‫قيمته فيصير بما "غَّير من طريقته‪ ،‬واستؤنَف من صورته‪ ،‬واستجد له من‬
‫المعرض‪ ،‬وكسي من دِّل التعرض‪ ،‬داخًال في قبيل الخاص الذي يتملك بالفكرة‬
‫والتعمل‪ ،‬ويتوصل إليه بالتدبر والتأمل"(‪.)129‬‬
‫وإ ذا قصدنا التدليل على معنى "مصطلح الصورة" بالبحث عن مقابالته‬
‫البالغية‪ ،‬أو تجسداته األسلوبية في النص‪ ،‬تأكد لدينا أن أصناف الكالم المفيدة في‬
‫مراتبها العادية أو الفنية تخضع لوصف الصورة‪ ،‬فعلى مستوى الكالم الفصيح‬
‫نراه" ينقسم قسمين‪ :‬قسم تعزى المزية والحسن فيه إلى اللفظ وقسم يعزى ذلك فيه‬
‫إلى النظم"(‪ ،)130‬بل "إن ههنا كالمًا حسنه للفظ دون النظم‪ ،‬وآخر حسنه للنظم‬
‫دون اللفظ‪ ،‬وثالثًا َقَر َن الحسن من الجهتين"(‪.)131‬‬
‫يتجسد الترتيب في أصناف الكالم باعتماد نماذج من الصياغات للتمثيل لكل‬

‫‪- 193 -‬‬


‫مستوى "فلو أن قائًال قال‪ :‬رأيت األسد‪ ،‬وقال اآلخر‪ :‬لقيت الليث‪ :‬لم يجز أن يقال‬
‫في الثاني إنه صور المعنى في غير صورته األولى‪ ،‬وال أن يقال أبرزه في‬
‫معرض غير معرضه"(‪ .)132‬فصورة الكالم في المثال السابق ال تعدو‬
‫المستوى العادي المفيد حتمًا ولكنه خلو من البالغة‪ ،‬ذلك "أن صور المعاني ال‬
‫تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتساع ومجاز وحتى ال يراد من‬
‫األلفاظ ظواهر ما وضعت لـه في اللغة ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخر"(‪.)133‬‬
‫فالصورة المجازية إحداث للصنعة في الكالم العادي تنتقل به من مستواه إلى‬
‫المستوى البليغ‪ ،‬حيث تتكثف الداللة وتنتفي المباشرة من الخطاب‪ .‬هذا هو‬
‫المستوى األول من التغيير؛ غير أن هناك تغييرًا آخر يحدث في بنية الكالم في‬
‫مستوى العالقات الركنية أو التوزيعية يتحول فيه المعنى إلى صورة أبدع‪ ،‬نظرًا‬
‫لعالقات التفاعل الحاصلة بين الكلم علمًا بأن األلفاظ ثابتة على حالها لم تتعرض‬
‫لتغير مجازي "واعلم أن هذا كذلك ما دام النظم واحدًا‪ ،‬فأما إذا تغير النظم فالبد‬
‫حينئٍذ من أن يتغير المعنى على ما مضى من البيان في مسائل التقديم والتأخير‬
‫وعلى ما رأيت في المسألة التي مضت اآلن أعني قولك‪ :‬إن زيدًا كاألسد وكأن‬
‫زيدًا األسد‪ :‬ذلك ألنه لم يتغير من اللفظ شيئ وإ ن تغير النظم فقط"(‪.)134‬‬

‫النظم عند عبد القاهر الجرجاني‬


‫تفيدنا هذه الوقفة مع اصطالح "صورة المعنى"‪ ،‬في تأكيد أن إسقاط هذا‬
‫الوصف على الكالم ال ينبني عليه اإلقرار ببالغة أو فصاحة‪ ،‬بل يتسع الوصف‬
‫باصطالح الصورة لمراتب الكالم المختلفة‪ .‬وسيفيدنا ثانيًا‪ ،‬إذ يلتبس بمصطلح‬
‫النظم في تحديد مقاصد عبد القاهر منه‪ .‬ويكشف اعتماد هذا االصطالح عن تطور‬
‫في بحث إشكال اللفظ والمعنى‪ ،‬ذلك أنه يعني اإلقرار بتكامل عناصر البنية دواًال‬
‫ومدلوالت‪ ،‬بحيث يتعلق الحال ببنية النص في ذاته المتولدة من تفاعل اللفظ‬
‫والمعنى مما ينم عن فهم شكلي للعبارة؛ ذلك أن التعامل هنا خارج األغراض‬
‫كأصول للمعاني وخارج المستوى الصوتي لأللفاظ بل يندرج في سياق داللة‬
‫تفرزها خصوصية الصياغة‪ ،‬ويتأسس الفعل النقدي باالستناد إلى معاينة بنية‬
‫تتعاضد فيها وحداتها‪ ،‬ال يعكرها إال غياب العناية بالمستوى الصوتي لأللفاظ‪،‬‬
‫وانحسارها في حدود الجملة‪.‬‬
‫غير أن باإلضافة إلى ما سبق‪ ،‬نؤسس على فكرة عبد القاهر في صورة‬
‫المعنى رأيه فيما يتعلق بثنائية اللغة والكالم‪ ،‬ذلك أن اصطالح الصورة ال يعتمد‬

‫‪- 194 -‬‬


‫إال في وصف الكالم المنجز‪ ،‬فإذا كان تفرع الكالم إلى معنى ولفظ ملحمين في‬
‫صورة‪ ،‬يقتضي اإلقرار ـ على مستوى المعنى ـ بأصل الغرض‪ ،‬فإنه يستوجب‬
‫على مستوى األلفاظ اإلقرار بأصلها الخام‪ ،‬المتمثل في الكلم المفردة‪ ،‬من هنا‬
‫يمكننا التسليم بداهة بأن النظم ال يكون إال في مستوى الكالم‪ ،‬وأن معانيه الملتبسة‬
‫بمفهوم العالقات والترتيب أو معاني النحو‪ ،‬لن تكون إال في الكالم "فكما ال تكون‬
‫الفضة خاتمًا أو الذهب سوارًا أو غيرهما من أصناف الحلي بأنفسها ولكن بما‬
‫يحدث فيها من الصورة‪ ،‬كذلك ال تكون الكلم المفردة التي هي أسماء وأفعال‬
‫وحروف كالمًا وشعرًا من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخي معاني‬
‫النحو وأحكامه"(‪.)135‬‬
‫ويمكن استخالص المقابالت التالية من النص السابق‪ ،‬وهي‪ :‬أن الفضة أو‬
‫الذهب تؤوالن إلى خاتم أو سوار‪ ،‬بعد انطباع الصورة عليهما‪ ،‬وأن الكلم المفردة‬
‫(أسماء‪ ،‬وأفعاًال‪ ،‬وحروفًا)‪ ،‬تستحيل كالمًا وشعرًا بتشكلها بالنظم الذي هو توخي‬
‫معاني النحو وأحكامه‪.‬‬
‫فتكون الصورة في الطرف األول معادلة للنظم في الطرف الثاني‪ ،‬وتتيح لنا‬
‫هذه النتيجة مبدئيًا إسقاط دالالت مصطلح صورة حسب ما حدده استخدام عبد‬
‫القاهر لها في ما سلف من نصوص على مصطلح نظم‪ ،‬مما يمكننا من تقديم هذه‬
‫الفرضية المبدئية‪ ،‬وهي أن اصطالح النظم لن يختص بالكالم الفني فقط‪ ،‬بل يعم‬
‫إطالقه كل كالم مفيد‪ :‬فنيًا وغير فني‪.‬‬
‫وتمثل اللغة حسب هذا التحديد المادة الخام التي تستغل في كل تركيب دال‪،‬‬
‫ذلك أن الفضة في وضعها الخام ليست إال مادة محايدة‪ ،‬قد تتشكل في صور شتى‬
‫تبعًا لقصد الصائغ‪ ،‬تمامًا كحال الكلم المفردة بالنسبة إلى الكالم المنجز الدال‪.‬‬
‫ويؤسس هذا التقابل األصل اللغوي لنظرية عبد القاهر في النظم‪ ،‬من هنا‬
‫يتميز إنجازه في إعطاء المصطلحات العامة دالالت محددة تفي بأغراض المقصد‬
‫البالغي‪ ،‬وتكشف عن تفرد صاحبها في الفهم‪ .‬فليس اصطالح الصورة المقابلة‬
‫للمادة إال مفهومًا فلسفيًا أصوله ضاربة في اإللهيات‪ ،‬استغله الفالسفة والنقاد‬
‫لتشخيص عالقة اللفظ بالمعنى في النص‪ ،‬ولن يشذ عبد القاهر عن القاعدة‪ ،‬إال أنه‬
‫يأبى إال أن يخصص هذا االصطالح أو يعتمد مرادفًا له أدق يكون راسخ االمتداد‬
‫في منطلقاته الثقافية‪ .‬فكان أن اعتمد الوصف بالحسن العائد إلى اللفظ تارة‪،‬‬
‫والحسن العائد إلى النظم أو كليهما معًا تارة أخرى بدائل لمفهوم الصورة‪ ،‬ثم يسود‬
‫مفهوم النظم منظورًا لمحاصرة كل كالم مفيد بليغ وغير بليغ‪ ،‬فإذا أضفنا إلى ذلك‬

‫‪- 195 -‬‬


‫أن األساس النحوي للمفهوم يجرد المصطلح من أبعاده الفلسفية‪ ،‬أو يقلل على األقل‬
‫من أثر هذه المعرفة "الدخيلة" في فكر عبد القاهر النقدي اكتمل لعبد القاهر موقف‬
‫أصيل متميز عن منحى الفالسفة في تحليل الخطاب منطلقات وإ جراء‪.‬‬
‫فانطالقًا مما سلف‪ ،‬يمكن لعبد القاهر أن يدّلل على األصل اللغوي لنظريته‬
‫في النظم‪ ،‬ذلك أن "األلفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها‬
‫في أنفسها‪ ،‬ولكن ألن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها‬
‫فوائد"(‪ ،)136‬فال يترتب على األلفاظ إفادة "حتى تؤلف ضربًا خاصًا من التأليف‪،‬‬
‫ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب"(‪.)137‬‬
‫وإ ذا كان هذا عاّم ًا في كل استعمال للغة لمجرد تحقيق االتصال بين‬
‫المتخاطبين‪ ،‬فإن األمر في الكالم الفني أخص‪ .‬من هنا ال يكون لمعاني األلفاظ‬
‫المفردة أي حظ من الوصف بالبالغة ذلك أن "ليس لنا إذا نحن تكلمنا في البالغة‬
‫والفصاحة مع معاني الكلم المفردة شغل وال هي منا بسبيل‪ ،‬وإ نما نعمد إلى‬
‫األحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب"(‪.)138‬‬
‫هذه األحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب ليست إال معاني النحو وهذا ال‬
‫ينفي إمكانية التفكير في معاني األلفاظ المفردة أصًال‪ ،‬ولكنه "ال يتعلق بها مجردة‬
‫من معاني النحو ومنطوقًا بها على وجه ال يتأتى معه تقدير معاني النحو وتوخيها‬
‫فيها"(‪ ،)139‬ذلك أن كل قصد للكالم إنما هو قصد لتحقيق مفهوم واحد يكون‬
‫محصلة ترتيب في معاني ألفاظ مؤسس على معاني النحو؛ ذلك أن مثل "واضع‬
‫الكالم مثل من يأخذ قطعًا من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى‬
‫تصير قطعة واحدة‪ .‬وذلك أنك إذا قلت‪ :‬ضرب زيد عمرًا يوم الجمعة ضربًا‬
‫شديدًا تأديبًا لـه‪ :‬فإنك تحصل من مجموع هذه الَك ِلْم كلها على مفهوم هو معنى‬
‫واحد ال عدة معان كما يتوهمه الناس‪ ،‬وذلك ألنك لم تأِت بهذه الكلم لتفيده أنفس‬
‫معانيها وإ نما جئت بها لتفيده وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو ضرب وبين ما‬
‫عمل فيه واألحكام التي هي محصول التعلق"(‪.)140‬‬
‫فالغاية من النظم إحداث تأليف بين الكلم بحيث يترتب على هذا التأليف‬
‫المتوافق مع العقل بناء الداللة ومن ثمة المفهوم الواحد‪ ،‬ومادام كل فعل تأليف إنما‬
‫يحدث بين معاني الكلم‪ ،‬فإن المواد اللغوية في مستواها الخام تشكل الداللة‬
‫الموجودة بالقوة التي يخرجها النظم إلى الفعل‪ ،‬وتتأكد شرعية هذا التصور في‬
‫بعده األصولي المنسجم مع ثنائية اللغة والكالم وأصول الغرض وصورة المعنى‪.‬‬
‫فإذا كان توخي التأليف في معاني الكلم إحداثًا للداللة وبالتالي للصورة المعنوية‪،‬‬

‫‪- 196 -‬‬


‫وإ ذا كانت تلك فعالية حادثة في الكالم مبدئيًا‪ ،‬فإن هذا التأليف إذ يترادف مع مفهوم‬
‫العالقة واالنتظام الحادثين بين الكلم في طور أول‪ ،‬يعود فيتخصص بمعاني النحو‬
‫في طور أدق‪ ،‬فماذا يقصد بمعاني النحو وأين يمكن أن تتنزل ضمن نظريته في‬
‫النص عامة؟‬
‫ينفي عبد القاهر مبدئيًا أن يكون القصد من معاني النحو اإلعراب‪ ،‬ذلك أنه‬
‫"لم يجز إذا عد الوجوه التي تظهر بها المزية أن يعد فيها اإلعراب وذلك أن العلم‬
‫باإلعراب مشترك بين العرب كلهم‪ ،‬وليس هو مما يستنبط بالفكر ويستعان عليه‬
‫بالرؤية (كذا)‪ ،‬فليس أحدهم بأن إعراب الفاعل الرفع والمفعول النصب والمضاف‬
‫إليه الجر بأعلم من غيره‪ ،‬وال ذاك المفعول به مما يحتاجون فيه إلى حدة ذهن‬
‫وقوة خاطر‪ .‬إنما الذي تقع الحاجة فيه إلى ذلك العلم بما يوجب الفاعلية للشيء إذا‬
‫كان إيجابها من طريق المجاز كقوله تعالى ‪‬فما ربحت تجارتهم‪ ،‬وكقول‬
‫الفرزدق "سقتها خروق في المسامع"‪ ،‬وأشباه ذلك مما يجعل الشيء فيه فاعًال على‬
‫تأويل يدق‪ ،‬ومن طريق تلطف‪ ،‬وليس يكون هذا علمًا باإلعراب ولكن بالوصف‬
‫الموجب لإلعراب"(‪ ،)141‬فإذا كانت المزية منتفاة من األشكال الظاهرية‬
‫لإلعراب وأن معاني النحو ليست هي هذه األشكال‪ ،‬فإن العلم بالوصف الموجب‬
‫لإلعراب كالفاعلية مثًال من صميم معاني النحو‪ ،‬وهي من حقول فعل العقل حيث‬
‫بواسطتها يتم إلحام معاني الكلم بمزجها في مفهوم واحد وفق التالحم الذي تحدثه‬
‫معاني النحو‪ ،‬باعتباره المفتاح الذي يتم به بناء علم الداللة المحدثة بينها‪ ،‬ذلك أنه‪:‬‬
‫"قد علم أن األلفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون اإلعراب هو الذي يفتحها‪ ،‬وأن‬
‫األغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها‪ ،‬وأنه المعيار الذي ال يتبين‬
‫نقصان كالم ورجحانه حتى يعرض عليه‪ ،‬والمقياس الذي ال يعرف صحيح من‬
‫سقيم حتى يرجع إليه"‪.)142(.‬‬
‫فليست داللة اإلعراب في النص السابق داللة شكلية‪ ،‬ذلك أنه يتعلق بها تفتيق‬
‫المعاني واألغراض من األلفاظ‪ ،‬وليست المعاني واألغراض نتاج األلفاظ المفردة‪،‬‬
‫وإ نما هي خالصة التفاعل الحادث بين كلمتين فأكثر بحسب ما تبيحه معاني النحو‪،‬‬
‫وهي أخيرًا المعيار المحدد للخطأ والصواب في القول‪ ،‬وبما أن كل نضد للداللة‬
‫ضمن سياق معنوي تنتجه كلمات ال يتحقق إال بتوخي معاني النحو في معاني‬
‫الكلم‪ ،‬إذ تبلغ بها وحدة المفهوم‪ ،‬ومجانبة الخطأ وتحقيق الصواب رهن التزامها‬
‫أيضًا‪ ،‬أمكن تحديد معاني النحو وفق هذا التصور بما يعرف حديثًا بالوظائف‬
‫النحوية(‪.)143‬‬

‫‪- 197 -‬‬


‫إال أن ذلك ال يعني حصرها في األبنية القاعدية للتركيب‪ ،‬فمما قد يشفع لهذا‬
‫الفهم تحديد عبد القاهر معاني النحو في نص نادر‪ ،‬لم يقصد فيه غير ذكر نماذج‬
‫للنظم البليغ الذي يتحقق به لصاحبه السبق‪ ،‬إذ لو لم يكن كذلك لما‬
‫"كان إذ سبق الخليل وسيبويه في معاني النحو إلى ما سبقا إليه من اللفظ والنظم لم‬
‫يسبق الجاحظ في معانيه التي وضع كتبه لها إلى ما يوازي ذلك ويضاهيه"(‪.)144‬‬
‫ونستضيئ بتمثيله لندرك قصده من معاني النحو التي سبق إليها الخليل‬
‫وسيبويه‪ .‬ذلك أنه إذ يذكر سبق الشاعر والناثر إلى النظم الذي يعلم أن من يعقبه‬
‫ال يدانيه فيه يخلص إلى القول‪" :‬ومن أخص شيء بأن يطلب ذلك فيه الكتب‬
‫المبتدأة الموضوعة في العلوم المستخرجة‪ ،‬فإنا نجد أربابها قد سبقوا في فصول‬
‫منها إلى ضرب من اللفظ والنظم أعيا من بعدهم أن يطلبوا مثله‪ ،‬أو يجيئوا بشبيه‬
‫له‪ ،‬فجعلوا ال يزيدون على أن يحفظوا تلك الفصول على وجوهها‪ ،‬ويرددوا‬
‫ألفاظهم فيها على نظامها‪ ،‬وكما هي وذلك ما كان مثل قول سيبويه في أول‬
‫الكتاب‪":‬وأّم ا الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث األسماء وبنيت لما مضى وما يكون‬
‫ولم يقع‪ ،‬وما هو كائن لم ينقطع ال نعلم أحدًا أتى في معنى هذا الكالم بما يوازيه أو‬
‫يدانيه‪ ،‬أو يقع قريبًا منه"(‪ ،)145‬فإذا كان السبق يجلوه االستخدام المتميز لمعاني‬
‫النحو لتحقيق المقاصد واألغراض‪ ،‬فإن المقصد هنا هو التعبير عن المعاني‬
‫النحوية نفسها‪ ،‬والتقنين لها‪ ،‬وهذا ال يؤدي إلى حصرها في مستوى األبنية‬
‫القاعدية للتركيب‪ ،‬إذ لو كان كذلك لما كان استخدامها في ضبط بعض فصولها‬
‫دليل سبق سيبويه‪ ،‬وليس هذا السبق سوى التوظيف الذكي لما يتالءم مع المقصد‬
‫من هذه المعاني‪ ،‬ويؤدي ذلك إلى اإلقرار بأن تجريد أصولها في كتاب ال ينبني‬
‫عليه حصر داللتها في هذا المستوى التقعيدي‪ ،‬فهي تتعلق باالستعمال مادام حمل‬
‫النظم على معاني النحو يقتضي ربطها بحقل الكالم بداهة‪ ،‬ومن هنا توفر هذه‬
‫األبنية القاعدية إمكانات الصوغ غير المحدودة للمقاصد وفق نوايا المتكلمين‬
‫بحسب الوجوه والفروق التي توفرها‪ .‬ذلك أن كل نظم إنما هو تفاعل معاٍن نحوية‬
‫مع معاني كلم مفردة‪ ،‬وإ ذا كانت معاني الكلم المفردة ال تعني الناظم في شيء‪ ،‬إال‬
‫أن تنتظم كالمًا داًال‪ ،‬كذلك يخرج من حقل اهتمامه الحصر النظري للقواعد‬
‫النظرية للتركيب‪ ،‬إنما الغاية في استغاللها في كل سلوك قولي ذلك‪":‬أن ال نظم في‬
‫الكلم وال ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض ويبنى بعضها على بعض‪ ،‬وتجعل هذه‬
‫بسبب من تلك‪ ،‬هذا ما ال يجهله عاقل‪ ،‬وال يخفى على أحد من الناس‪ ،‬وإ ذا كان‬
‫كذلك فبنا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها‬
‫ما معناه وما محصوله‪ ،‬وإ ذا نظرنا في ذلك علمنا أن ال محصول لها غير أن تعمد‬
‫‪- 198 -‬‬
‫إلى اسم فتجعله فاعًال لفعل أو مفعوًال أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرًا عن‬
‫اآلخر‪.)146(."...‬‬
‫وما دام كل تعليق للكالم بعضه ببعض ال يتم إال بتوخي معاني النحو انعدم‬
‫إيجاد رباط للكلمات خارج هذه المعاني‪ ،‬وانضبط بموجب ذلك األساس المعياري‬
‫المؤسس لصحة القول ذلك "أنا إن بتنا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة‬
‫سلكًا ينظمها وجامعًا يجمع شملها ويؤلفها ويجعل بعضها بسبب من بعض غير‬
‫توخي معاني النحو وأحكامه فيها‪ ،‬طلبنا ما كل محال دونه"‬
‫(‪ ،)147‬ذلك أن كل استعمال للكالم عمومًا لغاية تحقيق اإلفادة البد له من أن‬
‫يتأّس س على السبك النحوي لمعاني كلماته المفردة وإ ال انتفت عن المتكلم صفة‬
‫المؤِّلف‪" ،‬وذلك إن عمدت إلى ألفاظ فجعلت تتبع بعضها بعضًا من غير أن تتوخى‬
‫فيها معاني النحو لم تكن صنعت شيئًا تدعى به مؤلفًا"(‪ .)148‬وإ ذا كان عدم توخي‬
‫معاني النحو في معاني الكلم انعدامًا للداللة كما يتأكد ذلك في قول عبد‬
‫القاهر‪":‬ومن أجل ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده‬
‫إلى شيء مظهر أو مقدر مضمر‪ ،‬وكان لفظك به إذا أنت لم ترد ذلك وصوت‬
‫تصوته سواء"(‪ .)149‬أمكن االستنتاج بأن معاني النحو وإ ن ارتبطت بالكالم‪ ،‬فإن‬
‫ما سلف من النصوص يقر بعموميتها‪ ،‬وأنها قاعدة كل قول‪ ،‬وأساس كل كالم‪،‬‬
‫ولكن عبد القاهر يؤسس على نظريته في النظم قانونًا لضبط خصائص الكالم‬
‫البليغ والتدليل على اإلعجاز‪ ،‬فالمعاني النحوية التي ينبني على مراعاتها تحقيق‬
‫وحدة المفهوم الجامع لشتات معاني الكلمات المفردة في السياق الواحد‪ ،‬بقدر ما‬
‫يتفرع منها المنظور المعياري الضابط لفساد القول وصحته ومن ثمة المنطلق في‬
‫تأسيس كل قول مفيد‪ ،‬بقدر ما يشكل التصرف فيما توفره من عالقات منتظمة‬
‫لصالت الكلم مستوى ثانيًا يختص بالقول البليغ‪ ،‬ذلك أن الوجوه والفروق التي‬
‫توفرها معاني النحو متعددة‪ ،‬وأن المقاصد واألغراض مختلفة‪ ،‬فضًال عن أن‬
‫العالئق الداللية الملحمة للكلم تفسح المجال لتفجير طاقات اللغة الكامنة‪ ،‬يضاف‬
‫إلى ذلك أن القول البليغ كثيرًا ما يتحقق بتجاوز المستوى القاعدي لمعاني النحو‪.‬‬
‫وإ ذ يحصر عبد القاهر في نصه اآلتي اإلمكانات غير المحدودة التي توفرها‬
‫وجوه كل باب من أبواب النحو وفروعه‪ ،‬يتأكد تركيزه أيضًا على األساس‬
‫المعياري يقول‪" :‬واعلم أن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه‬
‫علم النحو‪ ،‬وتعمل على قوانينه وأصوله‪ ،‬وتعرف مفاهيمه التي نهجت فال تزيغ‬
‫عنها‪ ،‬وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فال تخّل بشيء منها‪ ،‬وذلك أنا ال نعلم شيئًا‬

‫‪- 199 -‬‬


‫يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه‪ ،‬فينظر في الخبر إلى‬
‫الوجوه التي تراها في قولك‪ :‬زيد منطلق وزيد ينطلق وينطلق زيد ومنطلق زيد‬
‫وزيد المنطلق والمنطلق زيد وزيد هو المنطلق وزيد هو منطلق (يذكر أمثلة في‬
‫الشرط والجزاء‪ ،‬والحال‪ ،‬وبعض الحروف)‪ ،‬ثم يقول‪ :‬وينظر في الجمل التي‬
‫تسرد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل‪ ،‬ثم يعرف فيما حقه الوصل‬
‫موضع الواو من موضع الفاء وموضع الفاء من موضع ثم وموضع أو من موضع‬
‫أم وموضع لكن من موضع بل‪ ،‬ويتصرف في التعريف والتنكير والتقديم والتأخير‬
‫في الكالم كله‪ .‬وفي الحذف والتكرار أو اإلضمار واإلظهار فيضع كًال من ذلك‬
‫مكانه‪ ،‬ويستعمله على الصحة‪ ،‬وعلى ما ينبغي له"(‪.)150‬‬
‫ويطالعنا في بداية النص حشد من مصطلحات من مثل‪ :‬الوضع‪ ،‬القوانين‪،‬‬
‫األصول‪ ،‬المفاهيم‪ ،‬الرسوم‪ ،‬محكومة بأفعال‪ ،‬مثل‪ :‬تضع‪ ،‬يقتضي‪ ،‬تعمل‪ ،‬تعرف‪،‬‬
‫نهجت‪ ،‬تزيغ‪ ،‬تحفظ‪ ،‬تخل‪ ،‬حيث يجمع في آخر النص النمطين من الكلمات في‬
‫قولـه‪" :‬يستعمله على الصحة"‪ .‬ويبدو هذا الحشد تأكيدًا للقيمة المعيارية ذلك أن‬
‫"المعاني من هذه الجهة تنزل منزلة المعايير التي يرجع إليها في الحكم على صحة‬
‫الكالم وسقمه‪ ،‬واطراده وشذوذه"‪ ،)151( .‬ذلك أن توفر الصحة أساس كل قول‪،‬‬
‫وينبني على هذا اإلقرار بأن كل قصد للفصاحة أو البالغة في القول ال يقوم إال‬
‫على مراعاة الصحة أيضًا‪ ،‬وأن انتفاء الصحة من القول انعدام للبالغة فيه وليس‬
‫انعدام البالغة انتفاء للصحة‪.‬‬
‫إن معاني النحو إذ تشكل األساس لكل قول يكمن ثراؤها وعدم محدودية‬
‫وجوهها وفروقها‪ ،‬في ما توّفره أبنيتها األساسية من إمكانات التفريع منها‪ ،‬ذلك أن‬
‫"اللغة توّفر لمستعملها أكثر من إمكانية لصياغة نفس الوظيفة النحوية‪ ،‬وأن بين‬
‫هذه اإلمكانيات المتنوعة في البناء فروقًا معنوية‪ ،‬وأن كل بنية مع ما يصاحبها من‬
‫خصوصيات معنوية توافق مقامًا معينًا وتخدم غرضًا دون غرض"‪)152(.‬‬
‫وهنا نجد التعاضد التام لألصول المؤسسة لنظرية الجرجاني في النظم‪ ،‬ومفهومه لمعاني النحو‪،‬‬
‫ذلك أن أصول األغراض‪ ،‬واللغة كما تتجسد هنا في أقسام الكلم المفردة‪ ،‬والقواعد النظرية للتركيب‪،‬‬
‫تشكل مواد البنية في طورها الخام‪ ،‬ثم تلتحم اإلمكانات المتفرعة من استغالل المالئم من هذه األصول‬
‫وفق الغرض المقصود في بنية لغوية مخصوصة تشكل صورة معنوية متميزة‪ .‬وهذا سيوفر إمكانات‬
‫التعبير المتنوعة وفق المقاصد "المختلفة"‪ .‬ويمكن التمثيل لذلك بالنص التالي الذي يستشهد فيه عبد‬
‫القاهر بأبيات شعرية تصديقًا لرأيه في وحدة أجزاء الكالم المؤسسة للمفهوم الواحد‪ ،‬وهو إذ يقر بامتناع‬
‫هذا النوع من الحصر‪ ،‬يمثل لـه بالمزاوجة "بين معنيين في الشرط والجزاء معًا كقول البحرتي‪:‬‬

‫أصاخت إلى الواشي فلج بي الهجر‬ ‫إذا ما نهى الَّناهي فلّج بي الهوى‬

‫‪- 200 -‬‬


‫فهذا نوع‪ ،‬ونوع منه آخر قول سليمان بن داود القضاعي‪:‬‬
‫ومنحط أتيح لـه اعتالء‬ ‫فبينا المرء في علياء أهوى‬
‫وبؤس إذ تعقبه ثراء‬ ‫وبينا نعمة إذ حال بؤس‬
‫ونوع ثالث وهو ماكان كقول كثري‪:‬‬
‫تخليُت مما بيننا وتخّلت‬ ‫وإ ني وتهيامي بعّز ة بعدما‬
‫تبوَّأ منها للمقيل اضمحَّلِت ‪("...‬‬ ‫لك المرتجى ظَّل الغمامة كلما‬
‫‪.)153‬‬

‫فبحسب ما سلف يمكن لنظرية عبد القاهر في النظم أن تعدد فعاليتها وأن‬
‫تشمل كل استعمال للكالم‪ ،‬سواء أكان لمجرد االتصال أم للتأثير الفني‪ ،‬وهذا الفهم‬
‫يبدو مخالفًا لرأي حمادي صمود في النظم إذ يحصره في الكالم الفني وال يرى لـه‬
‫عالقة بغيره(‪ ،)154‬وقد انبنى هذا على رأيه في مدلول النظم‪ ،‬إذ بعد أن دفع أن‬
‫يكون في اإلعراب أو في قواعد التركيب النظرية خلص إلى القول بأن النظم أو‬
‫معاني النحو‪ "،‬هو خضوع الكالم لنواميس الفكر وبروزه على هيئة تحاكي‬
‫الروابط المنطقية التي يقيمها بين المعاني فتكون البنية اللغوية صدى لبنية عقلية‪،‬‬
‫منطقية سابقة"(‪ .)155‬وعلى الرغم من أن هذا التحديد يتوافق مع تعليالت شتى‬
‫لعبد القاهر تبتغي حصر فعالية النظم من مثل قوله‪" :‬ليس الغرض بنظم الكلم أن‬
‫توالت ألفاظها في النطق‪ ،‬بل أن تناسقت داللتها وتالقت معانيها على الوجه الذي‬
‫اقتضاه العقل"‪ .)156(.‬وهي تقع في الصميم من أصوله المرتدة إلى معطيات‬
‫كالمية راسخة في نظرية الكالم النفسي‪ ،‬فإن هذا التحديد يمثل حصرًا لفعالية‬
‫النظم في أقصى مراتبها من منظور أساسها العقلي‪ ،‬حينما تكون صياغة القول‬
‫صدى لفعل العقل المتدبر في العالئق الالحمة لمعاني الكلمات في كمونها النفسي‬
‫الممثلة لبنية القول العميقة‪ ،‬حيث ستمثل هذه الممارسة قاعدة الكالم األدبي‪ ،‬لكن‬
‫هذا ال يتنافى مع شمول النظرية كل مراتب الكالم‪ ،‬دون أن يؤدي بنا هذا إلى‬
‫االدعاء بأن عبد القاهر يولي األهمية نفسها لكل هذه المراتب‪ ،‬إذ إن أغراضه‬
‫األساسية محصورة في التدليل على إمكان البرهنة على اإلعجاز باالعتماد على‬
‫النظم‪ ،‬ومن ثمة وصف خصائص "األدبية" في النص األدبي عمومًا‪.‬‬
‫وتتبَّد ى الفعاليتان اللتان تبينان عن شمول نظرية النظم صنفي الكالم العادي واألدبي في قول عبد‬
‫القاهر‪":‬فلست بواجد شيئًا يرجع صوابه إن كان صوابًا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم‪ ،‬ويدخل تحت‬
‫هذا االسم‪ ،‬إال وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع في حقه‪ ،‬أو عومل بخالف‬
‫هذه المعاملة فأزيل من موضعه‪ ...‬ويكفيك أنهم قد كشفوا عن وجه ما أدركناه حيث ذكروا فساد النظم‪،‬‬

‫‪- 201 -‬‬


‫فليس من أحد يخالف في نحو قول الفرزدق‪:‬‬
‫أبو أمه حي أبوه يقاربه‬ ‫وما مثله في الناس إال مملكا‬
‫وقول املتنيب‪:‬‬
‫من أنها عمل السيوف عوامل‬ ‫ولذا اسم أغطية العيون جفونها‬
‫وفي نظائر ذلك مما وصفوه بفساد النظم وعابوه من جهة سوء التأليف‪ ،‬أن‬
‫الفساد والخلل كانا من أن تعاطي الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير‬
‫الصواب‪ ،‬وضع في تقديم أو تأخير أو حذف وإ ضمار أو غير ذلك ما ليس له أن‬
‫يضعه‪ ،‬وما ال يسوغ وال يصح على أصول هذا العلم‪ ،‬وإ ذا ثبت أن فساد النظم‬
‫واختالله أن ال يعمل بقوانين هذا الشأن ثبت أن سبب صحته أن يعمل عليها‪ ،‬ثم إذا‬
‫ثبت أن مستنبط صحته وفساده من هذا العلم ثبت أن الحكم كذلك في مزيته‬
‫والفضيلة التي تعرض فيه"(‪.)157‬‬
‫فإذا كان تنكب الصواب في استعمال معاني النحو مدعاة للوقوع في الفساد‬
‫فإن "المزية والفضيلة" التي تعرض في الكالم مردهما إليه أيضًا‪ ،‬ولقد حصر‬
‫شكري عّياد الفعاليتين المسندتين إلىمعاني النحو‪ ،‬بعد أن عرض محتوى العالقات‬
‫الحادثة بين الكلم وفق ما أسماه "بارتباط معنوي بين العامل والمعمول"‪ ،‬ذلك أن‬
‫"هذه العالقات بين الكلم هي ما يسميه عبد القاهر"معاني النحو"‪ ،‬وقد ارتقت نظرية‬
‫النظم من هذا األصل إلى البحث في وجوه التصرف في هذه العالقات‪ ،‬للتوصل‬
‫إلى معرفة أنحاء الحسن في الكالم"‪.)158(.‬‬
‫والحق أن مفهومه للصورة يسعفنا في تأكيد هذا الفهم‪ ،‬فبالرغم من‬
‫قولـه‪" :‬إنه ال يكون ترتيب في شيء حتى يكون هناك قصد إلى صورة وصنعة"(‬
‫‪ ،)159‬فإنه ليس كل قصد إلى صورة يقتضي تحقيق البالغة‪ ،‬ذلك أننا رأينا أن‬
‫المعاني تختلف عليها الصور‪ ،‬وأن االصطالح يطلق على الكالم المفسر وعلى‬
‫التفسير‪ ،‬وأنها تتسع لتشمل في حدود داللتها الكالم العائد حسنه إلى اللفظ والذي‬
‫يعود حسنه إلى النظم‪ ،‬وإ لى الذي يجمعهما‪ .‬وإ ذا كنا ندرك أن الترتيب في الكلم‬
‫المؤسس على "معاني النحو"‪ ،‬إنما هو تخصيص وتوثيق نحوي لمدلول الصورة‪،‬‬
‫أصبح باإلمكان اإلقرار بأن كل توٍّخ لمعاني النحو في الكلم ال ينبني عليه تحقيق‬
‫بالغة وفصاحة‪ ،‬بل البد من خصوصية أخص "ولذلك اعتبر الجرجاني أن فكرة‬
‫النظم هي العمود الفقري في كل طاقات اللغة على المستوى اإلخباري وعلى‬
‫المستوى اإلنشائي كذلك"(‪ ،)160‬يتأكد ذلك في قول عبد القاهر اآلتي‪" :‬وجملة‬
‫األمر أنه كما ال تكون الفضة خاتمًا أو الذهب سوارًا أو غيرهما من أصناف الحلي‬

‫‪- 202 -‬‬


‫بأنفسهما ولكن بما يحدث فيهما من الصورة‪ ،‬كذلك ال تكون الكلم المفردة التي هي‬
‫أسماء وأفعال وحروف كالمًا وشعرًا من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته‬
‫توّخ ي معاني النحو وأحكامه"‪.)161(.‬‬
‫فتوخي معاني النحو في الكلم تحقيق للكالم وللشعر‪ ،‬وال نعتقد أن ذكره الكالم‬
‫هنا من باب الترادف‪ .‬ذلك أن داللة الكالم أعم من داللة الشعر‪ ،‬وهذه أخص من‬
‫تلك‪ ،‬ذلك أنه إذا كان تحقيق الفائدة في الخطاب متعلقًا بفعالية األساس النحوي فيه‬
‫متجسدًا في معانيه‪ ،‬فإن انتفاء هذه المعاني من القول انتفاء إلمكان إطالق صفة‬
‫المؤلف على صاحبه‪ ،‬ولكن هذا المستوى األول المجسد لكل اتصال بين‬
‫المتخاطبين ال ينبني عليه الجمال حتمًا‪ ،‬إنما يتأسس الجمال في القول بمراعاة‬
‫اإلفادة والتحسين معًا‪ ،‬ومن هنا يمكن اإلقرار بأن كل قول جميل مفيد أصًال ألنه ال‬
‫يمكن أن يقوم على خطأ‪ ،‬ودليل ذلك رأيه في بيتي الفرزدق والمتنبي السابقين إذ‬
‫كان كشفًا عن سوء استعمال معاني النحو وعن الفساد العالق بالكلم الناتج عن‬
‫االنحراف عن إخراج القول وفق معايير هذه المعاني‪ ،‬من هنا لم يكن التحليل‬
‫تشخيصًا للبالغة بقدر ماهو تدليل على تعقيد المعنى أو فساده أصًال‪ ،‬وتأكيد ذلك‬
‫موقف له ثاٍن من بيت الفرزدق حيث يرى أن سبب فساده في كونه "لم يرّتب‬
‫األلفاظ في الّذ كر‪ ،‬على موجب ترّتب المعاني في الفكر‪ ،‬فكّد وكّد ر‪ ،‬ومنع السامع‬
‫أن يفهم الغرض إال بأن يقِّد م ويؤِّخ ر‪ ،‬ثم أسرف في إبطال النظام‪ ،‬وإ بعاد المرام‪،‬‬
‫وصار كمن رمى بأجزاء تتألف منها صورة ولكن بعد أن يراجع فيها باب من‬
‫الهندسة لفرط ما عادى بين أشكالها‪ ،‬وشّد ة ما خالف بين أوضاعها"‪.)162(.‬‬
‫وتعليق "فهم" البيت بإعادة تـرتيب أجزائـه حصـر للتحليـل في مسـتوى اإلفهـام‪،‬‬
‫ولكن إذا ك ــان الخط ــأ يظه ــر جليـ ـًا في االنح ــراف عن مع ــايير النح ــو‪ ،‬فكي ــف يمكن‬
‫تحديد المزية في القول‪ ،‬ومن ثم ماهي حدود القول البليغ الـذي يمكن اعتبـاره كالمـًا‬
‫يختص‪ ،‬فضًال عن أن في هذا المستوى الفصيح نفسه يقع التفاضل؟‬
‫ومقابلة رأييه في بيت الفرزدق يسعف في الجواب‪ :‬إذ يعتمـد في الـرأي األول‬
‫تشــخيص ســبب الفســاد في تنكب معــاني النحــو‪ ،‬وفي الثــاني في حــدوث التضــاد بين‬
‫ترتيب األلفاظ والفكر‪ ،‬مما يبيح االستنتاج بتطـابق معــاني النحـو والفكــر‪ ،‬وأن اللفــظ‬
‫ليس إال السطح الظاهري لبنية الفكر الخفية‪ ،‬وأن معاني النحو إذ تؤسس قاعــدة كــل‬
‫كالم عادي أو بليغ تجعل كـل إبـداع فـني إنمـا يتم في وصـاية العقـل‪ ،‬فليس "الغـرض‬
‫بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق‪ ،‬بل أن تناسقت داللتها وتالقت معانيها على‬
‫الوجه الذي اقتضاه العقل"(‪.)163‬‬

‫‪- 203 -‬‬


‫ومــادام كــل كالم ال يتم إال بمراعــاة معــاني النحــو أي ال يتــأتى إال في وضــوح‬
‫فع ــل العق ــل‪ ،‬وأن فع ــل العق ــل في ص ــوغ الكالم غ ــير مت ــواتر الدرج ــة والق ــوة‪ ،‬أمكن‬
‫التسـليم مبـدئيًا بـأن إجهـاد العقـل في نضـد الكالم يتماشـى مـع المقاصـد السـامية فيـه‪،‬‬
‫وهــذا يشــكل قاعــدة أولى إلحــداث خصوصــية في الكالم ويمثــل شــرطًا أولي ـًا لبلــوغ‬
‫الغايـة الفنيـة فيـه‪ .‬ويتجسـد هـذا المبـدأ في قـول عبـد القـاهر معـددًا أصـناف القـول في‬
‫بحثه السرقات حاصرًا نمطها الذي يخّو ل لصاحبه السبق والتفرد‪ ،‬ويكون ذلك فيما‬
‫"ينتهي إليه المتكلم بنظر وتدّبر ويناله بطلب واجتهاد ولم يكن كاألول (يقصد عموم‬
‫الغرض والمشترك وإ ن كان ذا خصوصية)‪ ،‬في حضوره إياه‪ ...‬بل كــان من دونــه‬
‫حجــاب‪ ...‬نعم إذا كــان هــذا شــأنه‪ ،‬وههنــا مكانــه‪ ،‬وبهــذا الشــرط يكــون إمكانــه‪ ،‬فهــو‬
‫الــذي يجــوز أن يــدعي فيــه االختصــاص والســبق والتقــدم واألولويــة وأن يجعــل فيــه‬
‫ســلف وخلــف ومفيــد ومســتفيد‪ ،‬وأن يقضــي بين القــائلين فيــه بالتفاضــل والتبــاين وأن‬
‫أح ــدهما في ــه أكم ــل من اآلخ ــر وأن الث ــاني زاد على األول ونقص عن ــه وتـ ـرَّقى إلى‬
‫غاية أبعد من غايته‪ ،‬أو انحدر إلى منزلة هي دون منزلته"(‪.)164‬‬
‫فالكالم الذي يتحقق بالتدبر والنظر واالجتهاد سيتخصص بمزايا تفرده عن‬
‫المشترك والمتداول‪ .‬والشك أن هذا األساس القاعدي المتجسد في أساس اإلبداع‬
‫ال يعمل في فراغ‪ ،‬بل يتفاعل مع ما توفره أنماط التراكيب من إمكانات لصوغ‬
‫الغرض المقصود‪ ،‬ذلك أن المزية ال تعود إلى مراعاة الوجوه والفروق اللغوية‬
‫المختلفة‪ ،‬بل تتجسد في االنتقاء الواعي للنمط المالئم للغرض المقصود‪ ،‬هذا‬
‫االنتقاء الذي يتمثل في التوظيف المالئم للوجوه والفروق المختارة في مواضعها‬
‫المحددة‪ ،‬وهنا يكون التصرف في هذه الوجوه بما يخدم األغراض تحقيقًا لبالغة‬
‫القول حيث يتم للمعنى أن يتشكل في صورة الئقة‪ ،‬ذلك أنه "إذا عرفت أن مدار‬
‫أمر النظم على معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه‬
‫فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرة ليس لها غاية تقف عندها‪ ،‬ونهاية ال تجد لها‬
‫ازديادًا بعدها‪ ،‬ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على‬
‫اإلطالق ولكن تعرض بسبب المعاني واألغراض التي يوضع لها الكالم ثم بحسب‬
‫موقع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض تفسير ذلك أنه ليس إذا راقك‬
‫التنكير في "سؤدد"‪ ،‬من قوله "تثقل في خلقي سؤدد" وفي "دهر" من قوله "فلو إذ‬
‫نبا دهر"‪ ،‬فإنه يجب أن يروقك أبدًا وفي كل شيء‪ .‬وال إذا استحسنت لفظ ما لم يسم‬
‫فاعله في قوله "وأنكر صاحب" فإنه ينبغي أن ال تراه في مكان إال أعطيته مثل‬
‫استحسانك هنا‪ .‬بل ليس من فضل ومزية إال بحسب الموضع‪ ،‬وبحسب المعنى‬
‫الذي تريد والغرض الذي تؤم"(‪ .)165‬مما سلف يتحقق المبدأ الثاني المعتمد في‬
‫‪- 204 -‬‬
‫إخراج القول البليغ‪ ،‬والمعلل لظاهرة الكالم الفني باعتباره فنًا متميزًا ضمن الكالم‬
‫عمومًا‪ ،‬ويتفرع من هذا المبدأ شروط تتمثل في إحداث التالؤم بين البنية اللغوية‬
‫من جهة والغرض من جهة أخرى‪ ،‬مع ضبط التوافق بين عناصر القول المختلفة‬
‫ضمن مواضعها المنقاة‪.‬‬
‫إذا أضفنا إلى ما سلف أن هيئات التأليف توّفر لمستعمل الكالم إمكان إحداث‬
‫خصوصيات بليغة في القول‪ ،‬مما يخرج عن نطاق مراعاة القواعد الحرفية‬
‫للوظائف النحوية أو قواعد االستعمال اللغوي‪ ،‬ويتحقق ذلك في وجوه التأليف التي‬
‫تحدث في الكالم بمراعاة التكرار أو الحذف‪ ،‬أو التقديم أو التأخير‪ ،‬وغيرها أمكن‬
‫ضبط هذا المبدأ الثالث المهيئ إلخراج القول غير مخرج العادة‪ ،‬ذلك "أن المزية‬
‫لو كانت تجب من أجل اللغة والعلم بأوضاعها وما أراده الواضع فيها لكان ينبغي‬
‫أن ال تجب إال بمثل الفرق بين الفاء وثم وإ ن وإ ذا وما أشبه ذلك‪ ،‬مما يعِّبر عنه‬
‫وضع لغوي فكانت ال تجب في الفصل وترك العطف وبالحذف والتكرار والتقديم‬
‫والتأخير وسائر ماهو هيئة يحدثها لك التأليف ويقتضيها الغرض الذي تؤّم‬
‫والمعنى الذي تقصد‪ ،‬وكان ينبغي أن ال تجب المزية بما يبتدئه الشاعر والخطيب‬
‫في كالمه من استعارة اللفظ للشيء لم يستعر لـه‪ ،‬وأن ال تكون الفضيلة إال في‬
‫استعارة قد ُع رفت في كالم العرب وكفى بذلك جهًال"‪.)166(.‬‬
‫فإذا أضفنا إلى ما سبق حديثه عن االبتداع في وجوه المجاز المتمثلة في‬
‫التشبيه واالستعارة خاصة باعتبارها من مسّو غات السبق كما أشير إلى ذلك في‬
‫آخر النص السابق‪ ،‬علمًا بأن فهمه لهذه الوجوه البالغية إنما يتأسس على اعتبارها‬
‫من مقتضيات النظم‪ ،‬ألنه بدون مراعاة السياق واألحكام الحادثة بين الكلم ال يمكن‬
‫إحداث هذه الوجوه "ألنه ال يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم‬
‫يتوّخ فيما بينها حكم من أحكام النحو"(‪.)167‬إذا ضممنا إلى ما سبق هذه الوجوه‬
‫البالغية قام بموجبها المبدأ الرابع‪ ،‬وبه تكمل حلقات المبادئ المجسمة للمسالك‬
‫الموصلة إلى الكالم البليغ‪ ،‬وكل اقتراب من تحقيق هذه المبادئ في القول اقتراب‬
‫من تحقيق السبق في حدود الكالم البليغ نفسه‪.‬‬
‫وخالصة القول إن مواجهة النص بمفاتيح تزدوج فيها الرؤية بين اللفظ‬
‫والمعنى والنظم كان الغالب على دارسي اإلعجاز قبل عبد القاهر‪ ،‬ثم استحالت‬
‫هذه المفاتيح عنده نظرية متماسكة تراهن على مبادئ لغوية وتعتمد السياق لتعليل‬
‫وحدة عناصره المتفاعلة باالعتماد على معاني النحو‪.‬‬

‫‪- 205 -‬‬


‫‪‬‬

‫‪ ‬هوامش الفصل الرابع‪:‬‬


‫(‪)1‬ـ الرماني‪ ،‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ضمن ثالث رسائل في إعجاز القرآن‪.111 :‬‬
‫(‪)2‬ـ الخطابي‪ ،‬بيان إعجاز القرآن‪ ،‬ضمن ثالث رسائل في إعجاز القرآن‪.35 :‬‬
‫(‪)3‬ـ الباقالني‪ ،‬إعجاز القرآن‪.95 ،‬‬
‫(‪)4‬ـ نفسه‪ .‬ينظر‪:‬التمهيد‪.‬‬
‫(‪)5‬ـ القاضي عبد الجبار‪ ،‬المغني في أبواب التوحيد والعدل‪ ،‬ج‪ ،16‬في إعجاز القرآن‪:‬‬
‫‪.197‬‬
‫(‪)6‬ـ نفسه‪ .225 :‬وكذا‪.321-216 :‬‬
‫(‪)7‬ـ الرماني‪ ،‬النكت‪.94 :‬‬
‫(‪)8‬ـ نفسه‪.96 :‬‬
‫(‪)9‬ـ نفسه‪.82 :‬‬
‫(‪)10‬ـ نفسه‪.107 :‬‬
‫(‪)11‬ـ الخطابي‪ ،‬بيان‪.36 :‬‬
‫(‪)12‬ـ نفسه‪.27 :‬‬
‫(‪)13‬ـ نفسه‪.36 :‬‬
‫(‪)14‬ـ نفسه‪.29 :‬‬
‫(‪)15‬ـ نفسه‪.51-50 :‬‬
‫(‪)16‬ـ الباقالني‪ ،‬إعجاز القرآن‪.36 :‬‬
‫(‪)17‬ـ نفسه‪.37 :‬‬
‫(‪)18‬ـ الرماني‪ ،‬النكت‪.75 :‬‬
‫(‪ )19‬ـ نفسه‪.85 :‬‬
‫(‪ )20‬ـ نفسه‪.88 :‬‬
‫(‪ )21‬ـ نفسه‪.97 :‬‬
‫(‪ )22‬ـ نفسه‪.99-98 :‬‬
‫(‪ )23‬ـ نفسه‪.76 :‬‬
‫(‪ )24‬ـ نفسه‪.80-79 :‬‬
‫(‪ )25‬ـ الخطابي‪ ،‬بيان‪.27 :‬‬
‫(‪ )26‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪ )27‬ـ نفسه‪.36 :‬‬

‫‪- 206 -‬‬


‫(‪ )28‬ـ نفسه‪.37 :‬‬
‫(‪ )29‬ـ نفسه‪.26 :‬‬
‫(‪ )30‬ـ نفسه‪.63 :‬‬
‫(‪ )31‬ـ نفسه‪.44 :‬‬
‫(‪ )32‬ـ الباقالني‪ :‬إعجاز القرآن‪.286 :‬‬
‫(‪ )33‬ـ نفسه‪.119 :‬‬
‫(‪ )34‬ـ نفسه‪.42 :‬‬
‫(‪ )35‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪ )36‬ـ نفسه‪.58 :‬‬
‫(‪ )37‬ـ نفسه‪.61 :‬‬
‫(‪ )38‬ـ نفسه‪.119 :‬‬
‫(‪ )39‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪ )40‬ـ نفسه‪.90:‬‬
‫(‪ )41‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪ )42‬ـ القاضي عبد الجبار‪ ،‬المغني‪ ،‬ج‪.197 :16‬‬
‫(‪ )43‬ـ إعجاز القرآن‪.276 :‬‬
‫(‪ )44‬ـ نفسه‪.112 :‬‬
‫(‪ )45‬ـ الباقالني‪ ،‬التمهيد‪.151 :‬‬
‫(‪ )46‬ـ سورة النمل‪ ،‬اآلية‪.6 :‬‬
‫(‪ )47‬ـ الباقالني‪ ،‬إعجاز القرآن‪.189 :‬‬
‫(‪ )48‬ـ سورة النمل‪ ،‬اآلية‪.8 :‬‬
‫(‪ )49‬ـ الباقالني‪ ،‬إعجاز القرآن‪.190 :‬‬
‫(‪ )50‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪ )51‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪ )52‬ـ نفسه‪.209-208 :‬‬
‫(‪ )53‬ـ سورة النساء‪ :‬اآلية‪.23 :‬‬
‫(‪ )54‬ـ الباقالني‪ ،‬إعجاز القرآن‪.208:‬‬
‫(‪ )55‬ـ نفسه‪.207 :‬‬
‫(‪ )56‬ـ نفسه‪.194-193 :‬‬
‫(‪ )57‬ـ نفسه‪ 160 :‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪- 207 -‬‬


‫(‪ )58‬ـ نفسه‪.222 :‬‬
‫(‪ )59‬ـ نفسه‪ 159 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )60‬ـ شكري عّياد‪ ،‬المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العربية‪ .‬األقالم‪.9 :‬‬
‫(‪ )61‬ـ حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.493 :‬‬
‫(‪ )62‬ـ القاضي عبد الجبار‪ ،‬المغني ‪.207-16‬‬
‫(‪ )63‬ـ نفسه‪.214 :‬‬
‫(‪)64‬ـ نفسه‪.199 :‬‬
‫(‪ )65‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪ )66‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪ )67‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪ )68‬ـ نفسه‪.200-199:‬‬
‫(‪ )69‬ـ نفسه‪.200:‬‬
‫(‪ )70‬ـ نفسه‪.224:‬‬
‫(‪ )71‬ـ نفسه‪.282:‬‬
‫(‪ )72‬ـ نفسه‪.357:‬‬
‫(‪ )73‬ـ نفسه‪.381:‬‬
‫(‪ )74‬ـ ينظر‪ :‬الفصل السابق‪.‬‬
‫(‪ )75‬ـ ينظر‪ :‬ابن المنير‪ ،‬هامش الكشاف ‪ .586-310-292 :1‬ج‪.163-40 :3‬‬
‫(‪ )76‬ـ ينظر‪ :‬اإلمتاع والمؤانسة‪....107 :1 :‬‬
‫(‪ )77‬ـ مصطفى ناصف‪ ،‬نظرية المعنى في النقد العربي‪.21 :‬‬
‫(‪ )78‬ـ نفسه‪.23 :‬‬
‫(‪ )79‬ـ عبد القاهر‪ ،‬أسرار البالغة‪.253 :‬‬
‫(‪ )80‬ـ نفسه‪.241 :‬‬
‫(‪ )81‬ـ شكري عّياد‪ ،‬كتاب أرسطو طاليس في الشعر‪.259 :‬‬
‫(‪ )82‬ـ إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.437 :‬‬
‫(‪ )83‬ـ ينظر‪ :‬الفصل السابق‪.‬‬
‫(‪ )84‬ـ صحيح أن هناك من المتكلمين ـ كالرماني ـ من اعتبر الصورة البالغية من وجوه‬
‫اإلعجاز‪ ،‬وخالفه عبد القاهر‪ ،‬وسبقه الباقالني إلى ذلك‪ ،‬ولكن المسألة هنا تتجاوز مجرد‬
‫رفض االعتماد علىعنصر جزئي كالصورة في تعليل اإلعجاز‪ ،‬إلى دفع فكرة التخييل‬
‫نفسها نظرًا لقيامها على أساس واٍه ‪.‬‬
‫(‪ )85‬ـ عبد القاهر‪ ،‬األسرار‪.242 ،‬‬

‫‪- 208 -‬‬


‫(‪ )86‬ـ نفسه‪.248:‬‬
‫(‪ )87‬ـ نفسه‪.262 :‬‬
‫(‪ )88‬ـ نفسه‪. 295:‬‬
‫(‪ )89‬ـ نفسه‪.251:‬‬
‫(‪ )90‬ـ نفسه‪.253 :‬‬
‫(‪ )91‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪ )92‬ـ اإلمتاع والمؤانسة‪ .115 :1 ،‬ولكن هذا ال يعني أن المعاني التخييلية تنفلت من إسار‬
‫النحو‪ ،‬صياغة ومقاربة‪ ،‬إنما القصد أنها متهافتة من منظور المعيار‪.‬‬
‫(‪ )93‬ـ الدالئل‪.416 :‬‬
‫(‪ )94‬ـ نفسه‪.320:‬‬
‫(‪ )95‬ـ نفسه‪.43:‬‬
‫(‪ )96‬ـ نفسه‪.44:‬‬
‫(‪ )97‬ـ حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.466 :‬‬
‫(‪ )98‬ـ ورأي عبد القاهر في الموضوع مطروق في كثير من كتابات الباحثين‪ ،‬وقد أفدنا في‬
‫الموضوع من‪ :‬درويش الجندي‪ ،‬نظرية عبد القاهر في النظم‪ ....91 :‬عبد القادر‬
‫المهيري‪ ،‬مساهمة في التعريف بآراء عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬في اللغة والبالغة‪ ،‬ضمن‬
‫حوليات الجامعة التونسية‪ ،‬عدد ‪ ،11‬السنة ‪ ...110 :1974‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير‬
‫البالغي‪ ....467 :‬علمًا بأن عبد القاهر قد دفع حجج من ال يرى للفصاحة والبالغة أكثر‬
‫من الصحة اللغوية أو يعادلها بتمام آلة البيان‪ ،‬أو يسوي بينها وبين أصناف الدالالت‬
‫المختلفة‪ .‬ينظر‪ :‬الدالئل‪ .353-352 ....45 :‬والمراجع السابقة على التوالي‪:35 :‬‬
‫‪.....461 :109-108‬‬
‫(‪ )99‬ـ الدالئل‪.320 :‬‬
‫(‪ )100‬ـ نفسه‪.319:‬‬
‫(‪ )101‬ـ نفسه‪.42-41:‬‬
‫(‪ )102‬ـ نفسه‪.38:‬‬
‫(‪ )103‬ـ نفسه‪ .285 :‬ينظر أيضًا‪.284-283 :‬‬
‫(‪ )104‬ـ نفسه‪.200 :‬‬
‫(‪ )105‬ـ عبد القاهر‪ ،‬األسرار‪.10-5 :‬‬
‫(‪ )106‬ـ الدالئل‪.206 :‬‬
‫(‪ )107‬ـ عبد القاهر‪ ،‬األسرار‪.4 :‬‬
‫(‪ )108‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الدالئل‪.352-351 :‬‬
‫(‪ )109‬ـ نفسه‪.36 :‬‬
‫‪- 209 -‬‬
‫(‪ )110‬ـ نفسه‪.50 :‬‬
‫(‪ )111‬ـ نفسه‪ .36 :‬ينظر أيضًا‪ :‬األسرار‪.5-4 :‬‬
‫(‪ )112‬ـ حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.470 :‬‬
‫(‪ )113‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الدالئل‪.196 :‬‬
‫(‪ )114‬ـ سورة فّصلت‪ :‬اآلية‪.34 :‬‬
‫(‪ )115‬ـ عبد القاهر‪ ،‬األسرار‪.244 ،‬‬
‫(‪ )116‬ـ نفسه‪.25 :‬‬
‫(‪ )117‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الرسالة الشافية‪ ،‬ضمن ثالث رسائل في إعجاز القرآن‪.123 :‬‬
‫(‪ )118‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الدالئل‪.389 :‬‬
‫(‪ )119‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪ )120‬ـ نفسه‪.202-201 :‬‬
‫(‪ )121‬ـ نفسه ‪.197-196 :‬‬
‫(‪ )122‬ـ ينظر‪ :‬درويش الجندي‪ ،‬نظرية عبد القاهر في النظم‪.74 :‬‬
‫(‪ )123‬ـ الدالئل‪.201 :‬‬
‫(‪ )124‬ـ نفسه‪.368-367 :‬‬
‫(‪ )125‬ـ نفسه‪.327 :‬‬
‫(‪ )126‬ـ نفسه‪.385 :‬‬
‫(‪ )127‬ـ نفسه‪.370-369 :‬‬
‫(‪)128‬ـ عبد القاهر‪ ،‬األسرار‪.314-313 :‬‬
‫(‪ )129‬ـ نفسه‪.315 :‬‬
‫(‪)130‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الدالئل‪.329 ،‬‬
‫(‪)131‬ـ نفسه‪.78 :‬‬
‫(‪)132‬ـ نفسه‪.204 :‬‬
‫(‪)133‬ـ نفسه‪.‬‬
‫(‪)134‬ـ نفسه‪.205 :‬‬
‫(‪)135‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الدالئل‪.373 :‬‬
‫(‪)136‬ـ نفسه‪.415 :‬‬
‫(‪)137‬ـ عبد القاهر‪ ،‬األسرار‪ .3 :‬وتغنينا بعض اإلشارات إلى األصول اللغوية لنظرية عبد‬
‫القاهر في النظم‪ ،‬إذ شكل موضوع اللغة والكالم عنده حضورًا في كثير من األعمال‪،‬‬
‫ذلك أنه يكشف وجهًا معاصرًا في فكره‪ ،‬ينظر على سبيل المثال‪ :‬عبد القادر المهيري‪،‬‬
‫مساهمة‪ ...96 :...‬حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪...50 :‬‬

‫‪- 210 -‬‬


‫(‪)138‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الدالئل‪.57 :‬‬
‫(‪)139‬ـ نفسه‪.314 :‬‬
‫(‪)140‬ـ نفسه‪.316 :‬‬
‫(‪)141‬ـ نفسه‪.302 :‬‬
‫(‪ )142‬ـ نفسه‪.23 :‬‬
‫(‪)143‬ـ ينظر ‪ :‬عبد القادر المهيري‪ ،‬مساهمة‪ .101 :...‬البدراوي زهران‪ ،‬عالم اللغة عبد‬
‫القاهر الجرجاني‪.184 :‬‬
‫(‪)144‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الرسالة الشافية‪.141 :‬‬
‫(‪)145‬ـ نفسه‪.140 :‬‬
‫(‪)146‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الدالئل‪.45 :‬‬
‫(‪)147‬ـ نفسه‪.300 :‬‬
‫(‪)148‬ـ نفسه‪.283 :‬‬
‫(‪)149‬ـ نفسه‪.405 :‬‬
‫(‪ )150‬ـ نفسه‪.65-64 :‬‬
‫(‪ )151‬ـ لطفي عبد البديع‪ ،‬التركيب اللغوي لألدب‪.7 :‬‬
‫(‪)152‬ـ حمادي صمود‪ ،‬التفكير البالغي‪.515 :‬‬
‫(‪)153‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الدالئل‪.74 :‬‬
‫(‪)154‬ـ التفكير البالغي‪.518 :‬‬
‫(‪)155‬ـ نفسه‪.517 :‬‬
‫(‪)156‬ـ الدالئل‪.41-40 :‬‬
‫(‪)157‬ـ نفسه‪.67-66-65 :‬‬
‫(‪)158‬ـ كتاب أرسطو طاليس في الشعر‪.272-271 :‬‬
‫(‪)159‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الدالئل‪.278 :‬‬
‫(‪)160‬ـ عبد السالم المسدي‪ ،‬التفكير اللساني في الحضارة العربية‪.330 :‬‬
‫(‪ )161‬ـ الدالئل‪.373 :‬‬
‫(‪)162‬ـ عبد القاهر‪ ،‬األسرار‪.21 :‬‬
‫(‪)163‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الدالئل‪.41-40 :‬‬
‫(‪)164‬ـ عبد القاهر‪ ،‬األسرار‪.315-314 :‬‬
‫(‪)165‬ـ عبد القاهر‪ ،‬الدالئل‪.70-69 :‬‬
‫(‪)166‬ـ نفسه‪.193 :‬‬

‫‪- 211 -‬‬


‫(‪)167‬ـ نفسه‪.301-300 :‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 212 -‬‬


‫الفصل الخامس‪:‬‬
‫حازم القرطاجني‬
‫وانصهار النظم والتخييل‪.‬‬

‫يشبه موقف حازم القرطاجّني موقف عبد القاهر الجرجاني في ما ينبغي أن‬
‫يتخذه ذو الذهن الكبير من ثقافات عصره من مواقف‪ ،‬وفي حسم ما يكون قد‬
‫وصله من قناعات وآراء تأخذ صبغة المبادئ في الحقول المعرفية التي يتعاطاها‪.‬‬
‫غير أن الشبه بينهما ال يعدو هذا المنطلق‪ ،‬بل يمكن اإلقرار بأن حصيلة موقفيهما‬
‫أقرب ما تكون إلى التباين‪ ،‬علمًا بأن هذا التباين لم يمنع حازمًا من اإلفادة من عبد‬
‫القاهر‪.‬‬
‫وأصول هذا التباين أو االختالف تمتد إلى خصام النحو والمنطق باعتبارهما‬
‫عالمتين مميزتين لمنحيين في التفكير يرفد كًال منهما مصدر مغاير لآلخر‪ ،‬فاألول‬
‫يتمثل في الثقافة العربية اإلسالمية في حدود أصالتها من منظور علماء اإلسالم‬
‫وعلماء اللغة خصوصًا‪ ،‬وما يتفرع من ذلك من شعب تتأسس على مسلمات قائمة‬
‫على أساس من الشرع أو الفكر اللغوي العربي األصيل الذي لم يكن إال حاشية‬
‫على علوم القرآن‪ ،‬أما الثاني فيتجسد في الفكر الفلسفي ذي األصول اليونانية‬
‫خاصة‪ ،‬هذا التفكير الذي اعتبر ـ عند أقطابه ـ أّس األسس في كل معرفة تبتغي‬
‫بلوغ اليقين‪.‬‬
‫من هنا اعتمدوه منطلقًا فيصًال في ضبط مناهج البحث في المعارف وتأسيس‬
‫دروب التفكير العقلي الصحيح‪ .‬وتم له أن يطول خصوصيات في الثقافة العربية‬
‫اإلسالمية كالشعر والخطابة‪ ،‬خاصة في أعمال شراح أرسطو من الفالسفة‬

‫‪- 213 -‬‬


‫اإلسالميين‪ .‬فكان له أن ينّظر لهذه الحقول التي تمثل في ذهن العربي أصًال من‬
‫أصول ثقافته‪ ،‬باحثًا في حقيقتها مؤسسًا على هذا التصور غاية لها تندرج ضمن‬
‫حدود التفكير الفلسفي عامة‪ ،‬مفرعًا القول في تحديد خصائص األداة الفنية‪ ،‬ومن‬
‫هنا تحدد للفالسفة تصور للخطابة والشعر ضمن جملة المنطق‪.‬‬
‫وقد بدا لنا ضمن هذا الجدال في مستوى التصور النقدي والبالغي تشكل‬
‫منظورين في سياق الثقافة الواحدة‪ ،‬يهتمان ببالغة النص األدبي ضمن إطار من‬
‫التصور الشامل لماهية األدب عمومًا وغايته‪ :‬هما مفهوم التخييل ومفهوم النظم‪،‬‬
‫وقد بدا لنا أن اعتماد عبد القاهر النحو لوضع ضوابط رأيه في بنية النص مؤسس‬
‫على موقف عقائدي يبتغي‪ ،‬باإلضافة إلى التدليل على اإلعجاز‪ ،‬إيجاد البديل‬
‫لنظرية التخييل القائمة على أسس من المنطق‪ .‬والواقع أن هذا االختالف يمتد إلى‬
‫المناحي المعرفية المختلفة التي شهدتها الحضارة العربية اإلسالمية عمومًا وإ ن‬
‫تشكل بطابع العلم المدروس‪ .‬وتواصل هذا الصدام منِّو عًا مرافعاته إلى آخر عقول‬
‫هذه الحضارة الكبيرة‪ ،‬من مثل ابن رشد والقرطاجني وابن خلدون‪...‬‬
‫وليس مصادفًة أن يتحاور العقل و النقل في فلسفة ابن رشد لينتهي إلى ضبط‬
‫حدود فعالية كل طرف‪ ،‬ثم إحداث التصالح بحسب المنظور الرشدي وليس‬
‫التخاصم بين الشريعة والفلسفة‪ ،‬لتنتهي المسألة بابن خلدون الذي شّك لت مناحي‬
‫المعرفة السابقة بكل تفرعاتها اللغوية والدينية والكالمية والفلسفية‪ ،‬ضمن إطار‬
‫من التاريخ الشامل منطلقاته في استنباط النواميس الضابطة لسير الحضارة‬
‫عمومًا‪ ،‬بحسب تصوره‪ ،‬واإلسالمية خصوصًا‪ .‬وقد تم ذلك أيضًا من خالل تفاعل‬
‫ذهن كبير مع إشكال الفلسفة والنحو‪ ،‬أو ثقافة األسالف األصيلة "وثقافة األسالف‬
‫الطارئة"‪ ،‬ليؤسس هو نفسه تأليفًا يلحم هذه الفعاليات ضمن تكامل دقيق يتأسس‬
‫من وجهة نظرنا على التخييل ويستفيد من النظم أيضًا في إطار من تخصصه في‬
‫النقد والبالغة‪.‬‬
‫كان بين يدي حازم القرطاجني‪ ،‬تراث في البالغة والنقد يستقطبه منظوران‬
‫يتمثالن في فكرة التخييل ومفهوم النظم‪ ،‬والشك أن عوامل شتى جعلت حازمًا‬
‫أميل إلى رأي الفالسفة‪ ،‬باعتداده حفيدًا مخلصًا في حقل النقد والتنظير لنظرية‬
‫التخييل‪ ،‬وقد يعود ذلك إلى ثقافته الفلسفية‪ ،‬ذلك أنه تلميذ لتلميذ ابن رشد‪ ،‬أبي علي‬
‫الشلوبين‪ ،‬وقد يكون وراء امتهان التفلسف‪ ،‬دوافع أملتها وقائع حضارة توشك أن‬
‫تأفل‪ ،‬فكان من مستلزمات تعليل قوانين هذا األفول في المسرح الحضاري العام أو‬
‫في أي حقل من حقول المعرفة‪ ،‬االستعانة بالفلسفة إذ بوساطتها يمكن تأسيس القول‬

‫‪- 214 -‬‬


‫على منطلقات عقلية أو مسلمات منهجية‪ ،‬ومن هنا يبدو التكامل بين روافد الثقافة‬
‫العربية اإلسالمية عمومًا في نتاج ابن رشد‪ ،‬وحازم القرطاجني‪ ،‬وابن خلدون‪.‬‬
‫ومن هنا نعتقد أن موقف القرطاجني في تبني نظرية التخييل لتأسيس تصور‬
‫للشعر‪ ،‬لم يكن ليمنعه من استغالل نظرية النظم‪ ،‬إذ نجد حضورًا فاعًال لبعض‬
‫عناصر هذه النظرية في مفاصل دقيقة من نظرية حازم‪ ،‬كما نجد أيضًا تأويًال‬
‫لكثير من مسلمات هذه النظرية وتفسيرًا جديدًا لمعطيات مختلفة من نتاجها‪.‬‬
‫طعن عبد القاهر في األساس العقلي للتخييل‪ ،‬وهو يؤسس مفهومه للنظم‬
‫العتبارات مختلفة عرضنا لها في الفصل السابق‪ ،‬وافتعل القرطاجني موقفًا غير‬
‫طيب من المتكلمين لينصر نظرية التخييل‪ .‬ولم يكن مصادفًة أن عرض حازم إلى‬
‫المتكلمين وهو يضبط ماهية الشعر‪ ،‬في حدود مفهوم التخييل في المنهج الثالث من‬
‫القسم الثاني من الكتاب‪ .‬هذا المنهج المخصص لبحث هذا الموضوع‪ ،‬خاصة أن‬
‫البحث في المسألة قام على الدفاع عن الصدق في الشعر‪ ،‬وإ زاحة ما علق به من‬
‫تصورات توهن من قدره وتعتبره كذبًا‪ ،‬ولم يكن رأي عبد القاهر في التخييل إال‬
‫كونه قياسًا خادعًا‪.‬‬
‫وأّس س حازم دفاعه عن الشعر معتمدًا على استشهادات من الفارابي وابن‬
‫سينا خصوصًا(‪ ،)1‬منطلقًا أساسًا من أن الخاصية المميزة للشعر هي كونه تخييًال‪،‬‬
‫وأن ال معتبر إذ ذاك بالمعنى في ذاته‪ ،‬إذ العبرة بالبنية والخواص الشكلية التي‬
‫يتلّبس بها المعنى‪ ،‬من هنا ندرك مقدار قسوته على المتكلمين‪ ،‬إذ يقول‪":‬وإ نما غلط‬
‫في هذا ـ فظن أن األقاويل الشعرية ال تكون إال كاذبة ـ قوم من المتكلمين لم يكن‬
‫لـهم علم بالشعر‪ ،‬ال من جهة مزاولته وال من جهة الطرائق الموصلة إلى معرفته‪،‬‬
‫وال معرج على ما يقوله في الشيء من ال يعرفه‪ ،‬وال التفات إلى رأيه فيه‪ .‬فإنما‬
‫يطلب الشيء من أهله‪ ،‬وإ نما يقبل رأي المرء فيما يعرفه‪.)2(.‬‬
‫وقد يكون وراء هذا الموقف وقائع شهدها حازم من معاصريه ولم يكن‬
‫موقف كثير من علماء األندلس ومفكريها من الشعر في صالحه(‪ ،)3‬وقد يكون من‬
‫مالبسات هذا الرأي المستوى المتّد ني الذي بلغه الشعر في نظر الجمهور عمومًا‪،‬‬
‫وعند كثير من متعاطي الشعر عن غير دراية بموالجه خصوصًا‪ .‬يظهر ذلك في‬
‫شكوى حازم المتكررة من معاصريه‪ ،‬ونعيه هوان الشعر على أيديهم‪ ،‬إذ يرى أن‬
‫التفاعل مع الخطاب الشعري‪ ،‬إنما يقوم على استعداد مزدوج يظهر نوعه األول‬
‫في أن "تكون للنفس حال وهوى قد تهيأت بهما ألن يحركها قول ما بحسب شدة‬
‫موافقته لتلك الحال والهوى‪ ..‬واالستعداد الثاني هو أن تكون النفوس معتقدة في‬

‫‪- 215 -‬‬


‫الشعر أنه حكم وأنه غريم يتقاضى النفوس الكريمة اإلجابة إلى مقتضاه بما أسلبها‬
‫من هّز ة االرتياح لحسن المحاكاة"(‪ ،)4‬فإذا كان االستعداد األول موجودًا عند كثير‬
‫من الناس في كثير من األحوال‪ ،‬فإن االستعداد الثاني "الذي يكون بأن يعتقد فضل‬
‫قول الشاعر وصدعه بالحكمة فيما يقوله فإنه معدوم بالجملة في هذا الزمان‪ ،‬بل‬
‫كثير من أنذال العالم‪ ،‬و ما أكثرهم‪ ،‬يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة"(‪.)5‬‬
‫غير أننا نعتقد أن خلف هذا الموقف أيضًا رأيًا حاسمًا من المتكلمين عمومًِا ‪،‬‬
‫ومن عبد القاهر الجرجاني خصوصًا‪ ،‬وبالتحديد ما خص به عبد القاهر بحث‬
‫التخييل في أسرار البالغة من صحائف طوال تقوم على مسلمة خالصتها أن‬
‫التخييل قياس خادع‪ ،‬وإ ن اعترف لـه بالخالبة والرونق(‪.)6‬فإذا كان‪" :‬يبدو أن‬
‫حازمًا عرف الجرجاني"(‪ ،)7‬فإن هذه المعرفة تولد منها تدعيم نظرية التخييل‬
‫واعتمادها في ضبط تصور للشعر‪ ،‬يظهر ذلك في أمور ومواقف عديدة‪ :‬أولها أنه‬
‫عرض للمتكلمين وهو يبحث في القسم المخصص للتخييل‪ ،‬ونحن نعلم أنه في هذا‬
‫القسم أيضًا من أسرار البالغة‪ ،‬درس عبد القاهر التخييل وبّين رأيه فيه‪.‬‬
‫ويظهر ثانيها في مواصلة حازم تعليل جهل المتكلمين بالشعر من حيث أن‬
‫بحثهم فيه خارج عن اختصاصهم‪ ،‬ذلك أن "الذي يوّر طهم في هذا أنهم يحتاجون‬
‫إلى الكالم في إعجاز القرآن‪ ،‬فيحتاجون إلى معرفة ماهية الفصاحة والبالغة من‬
‫غير أن يتقَّد م لهم علم بذلك‪ ،‬فيفزعون إلى مطالعة ما تيسر لهم من كتب هذه‬
‫الصناعة فإذا فَّر ق أحدهم بين التجنيس والترديد‪ ،‬ومّيز االستعارة من اإلرداف‪،‬‬
‫ظن أنه قد حصل على شيء من هذا العلم‪ ،‬فأخذ يتكلم في الفصاحة بما هو محض‬
‫الجهل بها"(‪.)8‬‬
‫وتجريد حازم المتكلمين من كل جهود في البحث البالغي مدعاة إلى وصف‬
‫موقفه بالعاطفي المتحيز‪ ،‬ذلك أن المتكلمين‪ ،‬عمومًا‪ ،‬من مؤسسي البحث البالغي‬
‫عند العرب‪ ،‬ويكفي أن ندرك ما لمجهودات المعتزلة في حقل المجاز من تأصيل‪،‬‬
‫وما لألشاعرة من اإلنجازات في تأسيس بالغة القول على مسلمة الكالم النفسي‪،‬‬
‫مما يستدعي تنزيل جهودهم البالغية في تيار مستقل خاص(‪ ،)9‬لنتأكد من باعهم‬
‫في هذا الحقل المعرفي‪.‬‬
‫فإذا كان في مثل هذا الموقف من حازم ما يدعو إلى وسمه بالتحّيز‪ ،‬فإن في‬
‫تعداده ـ ساخرًا ـ تفريق أحدهم بين التجنيس والترديد‪ ،‬وتمييزه االستعارة من‬
‫اإلرداف‪ ،‬ما قد يدل على اعتماد "أسرار البالغة"‪ ،‬في تحديد هذه المباحث التي‬
‫ذكرها حسب الترتيب السابق‪ ،‬ذلك أن عبد القاهر بدأ البحث في "أسرار البالغة"‬

‫‪- 216 -‬‬


‫بالتجنيس والسجع ليخلص إلى االستعارة ومنها إلى التشبيه بفروعه‪ ،‬فالتخييل‪ ،‬وال‬
‫نظن أن الترتيب الذي اعتمده حازم‪ ،‬وهو ينطبق على فهرست عبد القاهر‪ ،‬كان‬
‫مصادفة‪ ،‬باإلضافة إلى ما سبق تتردد اصطالحات مصدرها أعمال عبد القاهر‬
‫لدى حازم‪ ،‬من مثل‪ :‬النظم‪ ،‬وصور المعاني وهيئتها‪ ،‬والمعاني األوائل والمعاني‬
‫الثواني‪ ،‬بل سيعتمد حازم في آخر المطاف‪ ،‬على النحو في ضبط بنية العبارة‪،‬‬
‫علمًا بأن توظيفه هذه المصطلحات لم يكن لمجرد الترديد أو النسخ بل فَّر ع منها‬
‫الجديد‪ ،‬وضخم بعضها لتمتد إلى أفق أشمل مما كانت لدى عبد القاهر‪ ،‬من هنا‬
‫يمكننا اإلقرار بأن إفادة حازم من عبد القاهر أكيدة‪ ،‬كما نقدمها فرضية في مدخل‬
‫هذا الفصل‪ ،‬غير أنه أخفى مصدره في اعتماد بعض أصول نظرية النظم‪ ،‬وأبدى‬
‫موقفًا ناقدًا للمتكلمين ليعيد إلى التخييل اعتباره‪ ،‬وليخفي ـ كما يبدو لنا ـ اعتماده‬
‫على مبادئ مستقاة من إنجاز عبد القاهر‪ ،‬وإ خفاء حازم مصادره ليس جديدًا فقد‬
‫استفاد من ابن رشد‪ ،‬في مواضع كثيرة‪ ،‬من نظريته‪ ،‬بل وصل به األمر أحيانًا إلى‬
‫حد نسخ بعض آرائه(‪ ،)10‬وهو أستاذ أستاذه‪ ،‬ولم يشر إليه ولو مرة واحدة في‬
‫المنهاج‪ ،‬علمًا بأنه رَّد د ذكر الفارابي وابن سينا واقتطع نصوصًا من شروحهما فن‬
‫الشعر األرسطي في أكثر من موضع من الكتاب‪.‬‬

‫اللفظ والمعنى عند حازم القرطاجني‬


‫يهمنا في بحثنا نظرية حازم في الشعر وآراءه في البالغة‪ ،‬ما يخدم هذا‬
‫البحث ويتفاعل مع منهجه‪ ،‬من هنا تكون قضايا البحث في الشعر‪ :‬حقيقته‬
‫ووظيفته وأسس كل ذلك الممتدة إلى أصول فلسفية عامة‪ ،‬ونفسية خاصة‪ ،‬وكذا‬
‫اجتماعية تؤطر للقيمة‪ ،‬خارجًا عن حقل هذا البحث‪ ،‬وإ ن كنا سنستغل من هذه‬
‫المفاهيم ما يخدم غرضنا‪ .‬ذلك أن جسر التحرك عندنا هو انتظام بنية النص في‬
‫مستوياته المتعددة‪ ،‬في وحدة متفاعلة أو متراكمة والقواعد المؤسسة لهذا التصور‪،‬‬
‫حيث تتفرع هذه المستويات من محوري التأسيس لكل قول وهما اللفظ والمعنى‪،‬‬
‫من هنا يكون اإللمام بتصور حازم للفظ والمعنى في مستوى مبدئي ضرورة‬
‫يفرضها البحث‪.‬‬
‫والواقع أن حازمًا أسس كتابه انطالقًا من فكرته في اللفظ والمعنى‪ ،‬ذلك أن‬
‫أقسام الكتاب األربعة ليست إال تردادًا متكررًا للفظ والمعنى في مستوى بسيط أو‬
‫مستوى مركب‪ .‬فالقسم األول الضائع من الكتاب يبحث في األلفاظ‪ ،‬ويختص‬
‫الثاني بالمعاني ليتضخم بحث األلفاظ في قسم ثالث أسماه النظم‪ ،‬ولتستحيل المعاني‬

‫‪- 217 -‬‬


‫إلى قسم رابع مرّك ب أيضًا هو األسلوب‪ .‬وتقسيم الكتاب بهذا الشكل بقدر ما‬
‫يكشف عن أثر قدامة بن جعفر في ضبط شكله ظاهرًا‪ ،‬وقدامة حاضر في كثير من‬
‫مباحث الكتاب‪ ،‬بقدر ما يدل على المنطلق المؤسس لثنائية اللفظ والمعنى عند‬
‫حازم‪ ،‬وتسليمه المبدئي بكون القصيدة تركيبًا متناسبًا من مستويات متنوعة‪ ،‬ترتد‬
‫إلى معان وأساليب مصوغة في ألفاظ تتالحم في نظام جامع لشتات مركب من‬
‫أغراض‪.‬‬
‫واألساس الفلسفي الذي يؤّس س منهج الكتاب وتفريعات موضوعه ويحصر‬
‫تصور حازم المعنى واللفظ‪ ،‬يمتد إلى رأيه في الداللة عمومًا وفي طابعها العائد‬
‫إلى فالسفة اإلسالم حيث تترتب مستويات الداللة في تدرج نوعي يبدأ من الوجود‬
‫الشخصي العيني‪ ،‬فالذهني‪ ،‬لتتقمص أثره المدلوالت جسم األلفاظ‪ ،‬هذه المدلوالت‬
‫التي يمكنها ـ في رأيه ـ أن تستقر في رسم حروف تدل على ألفاظ‪ ،‬ذلك "أن‬
‫المعاني هي الصور الحاصلة في األذهان عن األشياء الموجودة في األعيان‪ .‬فكل‬
‫شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما‬
‫أدرك منه‪ ،‬فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن اإلدراك أقام اللفظ‬
‫المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم‪ .‬فصار للمعنى‬
‫وجود آخر من جهة داللة األلفاظ‪ ،‬فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على‬
‫األلفاظ من لم يتهيأ له سمعها من المتلفظ بها صارت رسوم الخط تقيم في األفهام‬
‫هيئات األلفاظ فتقوم بها‪ ،‬في األذهان صور المعاني‪ ،‬فيكون لها أيضًا وجود من‬
‫جهة داللة الخط على األلفاظ الدالة‬
‫عليها"‪.)11(.‬‬
‫فعندما يتوفر للذهن إدراك الشيء‪ ،‬تكون محصلة اإلدراك صورة ذهنية لما‬
‫أدرك من هذا الشيء‪ ،‬تنطبع في الذات المدركة حسب مالبسات اإلدراك وحاالته‪،‬‬
‫وإ ذا كان حازم ال يشير هنا إلى ما يلحق الشيء المدرك من تأثر ذاتي‪ ،‬فإن هذا ال‬
‫يعني أن ما أدرك يحتفظ بخصوصيته في وجوده العيني‪ ،‬من هنا ال يكون اإلدراك‬
‫إال بتفاعل ذات وموضوع(‪ .)12‬والشك أن صورة الشيء الذهنية التي يكون للفظ‬
‫القدرة على رسمها عند التعبير ستتشكل طبيعتها بحسب صورة اللفظ‪ ،‬الذي‬
‫يمّك نها من أن تغادر حدود الذات إلى فسحة الخطاب‪ ،‬وليس من المستبعد أن رسم‬
‫الخط للهيئة اللفظية الحاملة للمعنى‪ ،‬يشكل في حد ذاته داللة مرنة ستتعاطى كل‬
‫ذات قراءتها وفق ما يحيط بالقراءة وتكوين الذات القارئة من عوامل‪ .‬وعلى كل‪،‬‬
‫فهذه المراتب تضبط مستويات البحث في البالغة لدى حازم‪ ،‬فوجود المعنى في‬

‫‪- 218 -‬‬


‫الشيء خارج الذات الذي يمكن أن يشمل كل ما يدرك من الوقائع والحقائق‬
‫واألشياء التي تشكل حدود القول الشعري‪ ،‬يحدد أصل المعاني في وجودها‬
‫"الواقعي" مما يمّك ن عند ممارسة النقد من مقابلة الشيء في تجّس ده الحقيقي‪ ،‬وفي‬
‫تحوالته الشعرية مثلما يظهر في مبحث الممكن والواجب والممتنع وكذا رسم‬
‫المعنى في حدوده الحقيقية وغيرها‪...‬‬
‫هذا المستوى يمثل المرجع للمعنى المستخلص ذهنيًا ليستحيل أخيرًا إلى‬
‫تضام للمدلول الذهني مع صورته اللفظية الدالة‪ ،‬ذلك أن النظر في صناعة البالغة‬
‫يتحدد "من جهة مايكون عليه اللفظ الدال على الصور الذهنية في نفسه ومن جهة‬
‫ما يكون عليه بالنسبة إلى موقعه من النفوس من جهة هيئته وداللته‪ ،‬ومن جهة ما‬
‫تكون عليه تلك الصور الذهنية في أنفسها‪ ،‬ومن جهة مواقعها من النفوس من حيث‬
‫هيئاتها ودالالتها على ما خارج الذهن‪ ،‬ومن جهة ما تكون عليه في أنفسها األشياء‬
‫التي تلك المعاني الذهنية صور لها وأمثلة دالة عليها‪ ،‬ومن جهة مواقع تلك األشياء‬
‫من النفوس"(‪.)13‬‬
‫فهذا الفصل الحاسم بين حقول البحث البالغي لدى حازم يؤكد األساس‬
‫"الواقعي" للشعر المتجسد في أصله الحيوي‪ ،‬وفعاليته المتمثلة فيكونه خطابًا يحمل‬
‫إلى متلٍّق ‪ ،‬حيث يشكل هذا األخير حضورًا رئيسيًا في تصور حازم فعالية الشعر‪،‬‬
‫إذ تقوم على المنظور الوظيفي المتأتي من كون الشعر تخييًال وإ يهامًا بخطاب‬
‫تتجسد خصوصيته في كونه تأثيرًا في النفس(‪ .)14‬ومن هنا تشكل بنيته في‬
‫مستوى أول استجابة للوظيفة المسندة إليه أساسًا‪ .‬هذا الفصل إذ فرضه التناول‬
‫المنهجي لموضوعات البحث البالغي والنقدي‪ ،‬حيث تتبدى في انسجام التوزيع‬
‫الظاهري للموضوعات لفظًا ومعنى ونظمًا وأسلوبًا‪ ،‬والمفهوم الخفي للداللة في‬
‫وجود المعنى في اللفظ‪ ،‬وفي الصورة الذهنية القائمة على الوجود العيني‪ ،‬يكشف‬
‫عن فهم لعالقة اللفظ والمعنى ذي مستويات متشابكة‪ ،‬ال يمتنع فيها مبدئيًا التمييز‬
‫بينهما وإ ن تحددت أوجه االتصال والتالحم بينهما في عالقات دقيقة‪ ،‬ذلك أن بحث‬
‫اللفظ في ذاته ومن جهة هيئته وموقعه من النفوس يقوم أيضًا على بحث داللته‬
‫على المعنى‪ ،‬هذا المعنى الذي يتناول ضمن ما يتناول في مستوى صوره‬
‫المتفرعة من أوجه التناسب بين أنماطه‪.‬‬
‫يقدم حازم في مستوى التمييز بين المعنى واللفظ فهمًا بسيطًا ال يعدو أن‬
‫يكون اجترارًا لمفاهيم شائعة يبدو فيها اللفظ كالوعاء المحتوي للشيء‪ ،‬فيصف‬
‫رغبة الشعراء في رسم صورة ألحبابهم المقيمين في بيوت الّش عر‪ ،‬حيث يقصدون‬

‫‪- 219 -‬‬


‫في األقاويل التي يودعونها المعاني المخّي لة ألحبابهم‪ ،‬المقيمة في األذهان صورًا‬
‫هي أمثلة لهم وألحوالهم‪ ،‬أن تكون مرتبة ترتيبًا يتنزل من جهة موقعه من السمع‬
‫منزلة ترتيب أحويتهم وبيوتهم‪ ،‬فيكون اشتمال األقاويل على تلك المعاني مشتبهًا‬
‫الشتمال األبيات المضروبة على من قصد تمثيله بها وأن تجعل تذكرة له‪ ،‬ويكون‬
‫مابين المعنى والقول من المالبسة مثل ماكان بين الساكن والمسكن‪.)15(.‬‬
‫ويتأكد مفهوم الوعاء الذي يحتوي المعنى كالساكن والمسكن في موقفه من‬
‫السرقات الذي ينحو فيه منحًى تقليديًا أيضًا‪ ،‬حيث يظل المعنى في هذا الفهم ساكنًا‬
‫خاضعًا لتعدد اإلخراج الذي ال يكاد يغير جوهره‪ ،‬ناهيك أنه يمكن أن تتفاوت‬
‫عبارتان في الفصاحة وهما تعّبران عن معنى واحد‪ ،‬لم يستطع حازم في هذه‬
‫المسألة أن يستفيد من عبد القاهر الذي أداه فهمه لصورة المعنى إلى رفض‬
‫السرقات مبدئيًا‪ ،‬باستثناء االعتراف بهامش ضيق يظهر في االحتذاء الذي يكون‬
‫في األسلوب الذي هو الطريقة في النظم‪ ،‬ذلك أن كل معنى يصاغ في صورة ما‬
‫يملك الخصوصية والتفرد ويشكل تفريعًا من أصل الغرض‪.‬‬
‫يقسم حازم المعاني إلى مشترك شائع ونادر ومنعدم النظير وأوسط بينهما‬
‫تبعًا الرتسام درجة كل نوع من الفكر‪ ،‬إذ إن من المعاني ما يوجد مرتسمًا في كل‬
‫فكر‪ ،‬ومنه ما يرتسم في بعض الخواطر دون بعض‪ ،‬ومنه ما ال ارتسام له في‬
‫خاطر‪ ،‬وإ نما يتهَّد ى إليه بعض األذهان في النادر من األحيان‪ ،‬وينتفي اّد عاء‬
‫السرقة من النوع األول إذ ال فضل فيه ألحد على أحد‪ "،‬إال بحسن تأليف اللفظ فإذا‬
‫تساوى تأليفا الشاعرين في ذلك فإنه يسمى االشتراك‪ ،‬وإ ن فضلت فيه عبارة‬
‫المتأخر عبارة المتقدم فذلك االستحقاق ألنه استحق نسبة المعنى إليه بإجادة نظم‬
‫العبارة عنه"(‪ .)16‬هذا النوع األول من المعاني المرتسمة في كل خاطر تبدو‬
‫كالمكتملة وإ دراكها يتم في حدود هذا االكتمال‪ ،‬فهي ثابتة وارتسامها سواء في‬
‫الخواطر‪ ،‬ومن هنا تكون مزية تعاطي هذه المعاني في تحسين تأليف اللفظ فقط‪،‬‬
‫وهذا التحسين المضاف إلى معنى منته إقرار بالتفاوت بين المعنى واللفظ‪ ،‬حيث‬
‫يتأكد هذا اإلقرار في رأيه في‪" :‬القسم الثاني‪ ،‬وهي المعاني التي قّلت في أنفسها أو‬
‫باإلضافة إلى كثرة غيرها فماكان بهذه الصفة فال تسامح في التعرض إلى شيء‬
‫منه إال بشروط‪ :‬منها أن يركب الشاعر على المعنى معنى آخر‪ ،‬ومنها أن يزيد‬
‫عليه زيادة حسنة‪ ،‬ومنها أن ينقله إلى موضع أحق به من الموضع الذي هو فيه‪،‬‬
‫ومن ذلك أن يقلبه ويسلك به ضد ما سلك األول‪ ،‬ومن ذلك أن يركب عليه عبارة‬
‫أحسن من األولى"(‪.)17‬‬

‫‪- 220 -‬‬


‫لم يستطع حازم أن يوظف مفاهيمه في المحاكاة والتخييل باعتبارهما تناوًال‬
‫خاصًا للمعنى يتحقق في تشكيل نوعي لمادة تستوفي خصائصها في الصورة‬
‫المشكلة لها‪ .‬ولو اعتمد هذا األصل الذي يقوم عليه فهمه للشعر الستطاع أن‬
‫يضبط فهمًا لتداول المعاني أنضج مما فعل‪ ،‬ولما تمادى في تمييزه بين المعنى‬
‫واللفظ في تصوره للقسم الثالث النادر‪ ،‬إذ يرى أن "من أبرز المعنى النادر في‬
‫عبارة أشرف من األولى فقد قاسم األول الفضل‪ ،‬إذ الفضل هو اختراع المعنى‬
‫للمتقدم‪ ،‬والفضل في تحسين العبارة للمتأخر‪ .‬والقول الثاني الذي حسنت فيه‬
‫العبارة بال شك أفضل من األول‪ ،‬ألن المعنى ال يؤثر فيه التقدم وال التأخر شيئًا‪،‬‬
‫وإ نما ترجع فضيلة التقدم إلى القائل ال المقول فيه‪ ،‬فإن زاد المتأخر على المتقدم‬
‫زيادة في المعنى مع تحسين اللفظ فقد استحق المعنى عليه"(‪ ،)18‬وهكذا يمكن‬
‫للتمييز أن يتوزع بين سبق معنوي وتحسين لفظي منفصلين أو مجتمعين‪.‬‬
‫فتوزيع حازم مادة الكتاب وما يتصوره مبحثًا في الداللة ورأيه في السرقات‬
‫الشعرية ليست إال أدلة لفكر يمّيز المعنى عن اللفظ‪ ،‬والشك أن روافد حازم‬
‫القرطاجني المتنوعة التي شملت محصلة نتائج النقاد والفالسفة والمتكلمين قبله في‬
‫حقل البالغة والنقد‪ ،‬أّد ت دورًا حاسمًا في اعتماد هذا الموقف‪ ،‬إال أن هذا ال يطول‬
‫كل إنجاز حازم‪ .‬وبالتالي يظل له رأي في العالئق التي يمكن أن تجمع‬
‫العنصرين‪ ،‬فهناك اقتراب يكاد يلحمها في بنية تتضام فيها العناصر مجتمعة عندما‬
‫يكون الموضوع رصدًا لفعالية التناول اللفظي للمعنى‪ ،‬أو تفريع القول في أشكال‬
‫التناسب التي تنسج للمعاني امتدادات متفرعة كثيرة‪ ،‬خاصة عند االقتراب من‬
‫حدود النظم في معناه النحوي عند تعليل وحدة العبارة‪ ،‬دون أن نغفل إلحاح حازم‬
‫على أشكال التناسب بين مستويات القصيدة معاني وألفاظًا وأساليب ونظمًا‬
‫وأوزانًا‪.‬‬
‫الخصائص التشكيلّية لفعل المحاكاة والتخييل‪.‬‬
‫وكما أشرنا آنفًا فإنه ال يهمنا من البحث في مفهوم الشعر سوى ما تعلق‬
‫بخاصيته التخييلية النوعية‪ ،‬كما تتجسد في المستوى الفني ذي الطابع التشكيلي‬
‫الذي يكسب المادة المعنوية صبغة خاصة‪ ،‬وتتجسد الخصائص المحيلة للقول‬
‫شعرًا في مستويات النص المختلفة‪ ،‬في نسيج الداللة وفي هيئة العبارة المتعلقة‬
‫أساسًا بما أسماه حازم باالستجداد والتأنق‪ ،‬إذ االستجداد يعطي محور االستبدال‬
‫ويتعلق باختيار المادة اللغوية في ذاتها‪ ،‬في حين يختص التأنق بالتركيب الرائق‪،‬‬
‫وهذان المصطلحان ليسا إال امتدادًا لما أسماه الفالسفة التحسينات والهيئات اللفظية‬

‫‪- 221 -‬‬


‫والمعنوية(‪ .)19‬من هنا ينحت للشعر حده في أنه "كالم مخيل موزون‪ ،‬مختص‬
‫في لسان العربية بزيادة التقفية إلى ذلك"(‪.)20‬‬
‫فالبحث في المادة نفسها من منظور صدق المعنى وكذبه أو قيمته الوظيفية‬
‫المتأتية من اشتراط المعاني الجمهورية‪ ،‬أو ضبط حدود التحرك الشعري ضمن‬
‫مدارج الممكن والممتنع والمستحيل‪ ،‬وغيرها من عناصر البحث في المعنى‬
‫الشعري في ذاته‪ ،‬وإ ن كانت من مستلزمات البحث في القيمة المؤسسة لمهمته‪ ،‬إال‬
‫أن التحديد النوعي للشعر المؤسس على الصياغة المخصصة لهذه المادة هي‬
‫جوهره‪" ،‬فلذلك كان الرأي الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة وتكون‬
‫كاذبة‪ ،‬ليس ُيعُّد شعرًا من حيث هو صدق وال من حيث هو كذب بل من حيث هو‬
‫كالم مخّي ل"(‪ ،)21‬ذلك أن "التخييل هو المعتبر في صناعته‪ ،‬ال كون األقاويل‬
‫صادقة أو كاذبة"(‪.)22‬‬
‫فإذا كان ضبط المعنى المؤدي إلى تحقيق وظيفة الشعر األخالقية ضمن‬
‫حدود المعنى الجمهوري الذي يستسيغه الجمهور‪ ،‬وإ زاحة مايمكن أن يعلق به من‬
‫معنى علمي ضرورة يستدعيها تأكيد مهمة الشعر في المجتمع‪ ،‬فإن المعتبر من‬
‫منظور النوعية إنما هو المحاكاة والتخييل‪ ،‬فأما النظر إلى حقيقة الشعر فال فرق‬
‫بين ما انفرد به الخاصة دون العامة وبين ما شاركوهم فيه‪ ،‬وال ميزة بين ما‬
‫اشتدت عالقته باألغراض المألوفة وبين ما ليس لـه كبير عالقة إذا كان التخييل في‬
‫جميع ذلك على حد واحد‪ ،‬إذ المعتبر في حقيقة الشعر إنما هو التخييل والمحاكاة‬
‫في أي معنى اتفق ذلك"(‪.)23‬‬
‫وتتأكد هذه الخاصية التخييلية المميزة للشعر في مستوى الصياغة كتشكيل نوعي لمعنى ما في‬
‫المقابلة بين الخطابة والشعر‪ ،‬إذ هما "يشتركان في مادة المعاني ويفترقان بصورتي التخييل واإلقناع"(‬
‫‪ .)24‬فليست صورة التخييل أو اإلقناع مجرد انطباع صوري‪ ،‬أو صياغة القول وفق القياس الخطابي‬
‫الذي يعضده االستغالل النسبي للصور المجازية مع اإلبقاء على المادة في وضع محايد‪ ،‬إنما هو تشكيل‬
‫لهذه المادة تستحيل إثره شعرًا أو خطابة من خالل تفاعلها مع عناصر بنيتها الجديدة‪ .‬ويظهر ذلك في‬
‫مثال يضربه حازم يكشف التحام الفعل الشعري والخطابي النوعيين عندما يصوغان مادة معًا‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬
‫"وأكثر ما يستدل في الشعر بالتمثيل الخطابي‪ ،‬وهو الحكم على جزئي بحكم موجود في جزئي آخر‬
‫يماثله‪ ،‬نحو قول حبيب‪:‬‬

‫والنار قد تنتضي من ناضر السلم‬ ‫أخرجتموه بكره من سجيته‬


‫فاألقاويل التي بهذه الصفة خطابية بما يكون فيها من إقناع‪ ،‬شعرية بكونها‬
‫متلبسة بالمحاكاة والخياالت"(‪ ،)25‬وهنا يبدو تالحم الخطابة والشعر في صوغ‬
‫المعنى‪ ،‬فخطابية البيت مصدرها االستدالل المؤسس على التمثيل الذي يشكل‬

‫‪- 222 -‬‬


‫إحدى وسيلتي اإلقناع الخطابي‪ ،‬في حين يحقق الثانية القياس المضمر‪ ،‬فقد التبس‬
‫القول القائم على االستدالل التمثيلي بالصورة المتجسدة في التشبيه الضمني‬
‫المبطن في معنى البيت‪ ،‬فكان تحقيق اإلقناع معاضدًا للبنية الصورية المؤسسة‬
‫على محاكاة تشبيهية‪ -‬حسب اصطالح حازم‪ -‬وهذه النوعية هي التي تهب الشعر‬
‫خصوصيته‪ -‬حسب رأيه أيضًا‪ -‬وليس المعتبر في ذلك المادة سواء أكانت هذه‬
‫المادة صدقًا أم كذبًا‪ ،‬مؤسسة على مقدمات برهانية أو جدلية أو خطابية إنما‬
‫المعتبر هو طريقة تشكيل المعنى‪.‬‬
‫ويتأكد االقتراب من فهم البنية النوعية الصورية للمعنى من خالل االستمرار‬
‫في المقابلة بين الخطابة والشعر‪ ،‬ذلك أنه إذا كانت هاتان الصناعتان متآخيتين‬
‫التفاق المقصد والغرض فيهما مما يسّو غ لهما تبادل الخصائص النوعية لكل‬
‫منهما‪ ،‬فإن ذلك ال بد أن ينضبط وفق حدود كل نوع‪ ،‬لذلك نجد الخطيب أو الشاعر‬
‫إذا تجاوز‪" :‬حد التساوي في كلتيهما‪ ،‬فجعل عامة األقاويل الشعرية خطابية‪،‬‬
‫وعامة األقاويل الخطابية شعرية‪ ،‬كان قد أخرج كلتا الصناعتين عن طريقتهما‪،‬‬
‫وعدل بها عن سواء مذهبها‪ ،‬ووجب رد قوله‬
‫(‪ ،)26()...‬ولنسبة كالمه إلى ما ذهب به من المذاهب المعنوية ال إلى ما هيأه به‬
‫من الهيئات اللفظية‪ ،‬وأن تعد الخطابة في ذلك شعرًا والشعر خطابة‪ ،‬فيكون ظاهر‬
‫الكالم وباطنه متدافعين‪ ،‬وهو مذهب مذموم في الكالم"(‪.)27‬‬
‫فالمذاهب المعنوية ال الهيئات اللفظية هي المحددة لنوع الكالم‪ ،‬وعليه‬
‫فالخاصية التخييلية للشعر إنما تكمن في المعنى‪ ،‬ولعل هذا قد يثير التباسًا‪ ،‬ذلك أن‬
‫االعتبار‪ -‬كما رأينا‪ -‬هو في التخييل وليس في المعنى‪ ،‬والمسألة إذن هي في‬
‫ضبط داللة المعنى في المستويين‪ ،‬ذلك أن ال اعتبار له عندما يتعادل مع المادة‬
‫المحايدة‪ ،‬أو يبحث في ذاته كقيمة مستقلة‪ ،‬ولكنه يستحيل شعرًا بتشكله وفق‬
‫المحاكاة‪ .‬فالحديث عنه في هذا المستوى إنما هو بحث في المحاكاة والتخييل‪ ،‬ذلك‬
‫أن المحاكاة ملتبسة بالمعنى من حيث تشكيله وفق خصوصية معينة‪ ،‬وحسب‬
‫طرائق التناسب الواقعة في بنائه‪ .‬وعليه فالهيئات اللفظية التي تنضبط هنا‬
‫بالمستوى الصوتي للكالم من حيث اختيار اللفظ أو إحداث الترتيب المنسجم على‬
‫مستوى تعاضد الكالم المؤدي إلى إحداث الوزن واإليقاع الشعريين‪ ،‬ليست صانعة‬
‫للشعر وإ ن كانت تؤلف تحسينات له من شأنها أن تؤكد فعل التخييل في النفس "ألن‬
‫المحاكاة الحسنة في األقوال الصادقة وحسن إيقاع االقترانات والنسب بين المعاني‬
‫مثل التأليف الحسن في األلفاظ الحسنة المستعذبة"(‪ .)28‬فالمعنى المحاكى والمنظم‬

‫‪- 223 -‬‬


‫وفق النسب الواقعة بين أقسامه هو المحدد لنوعية الخطاب يعضده على مستوى‬
‫العبارة‪ ،‬الدالة طبعًا على المستوى األول‪ ،‬تأليف حسن به يتكامل القول ويتدعم‬
‫التخييل‪ ،‬غير أنه كاإلضافة التي بها تكتمل البنية دون أن ينتج عنها‪ -‬أساسًا‪-‬‬
‫تحديد نوعيتها‪ ،‬ذلك أنه قد يتسنى رص عبارات منتقاة وفق تناسب موسيقي‬
‫موزون‪ ،‬دون أن يكون لمدلول هذه العبارات صفة المحاكاة فيكون الناتج قوًال‬
‫منظومًا وليس شعرًا(‪ .)29‬فأساس الشعر هو خاصيته التخييلية القائمة على‬
‫المحاكاة‪ ،‬ذلك أنه ال تتحقق له وظيفته التأثيرية في النفس وإ حداث السلوك المبتغى‬
‫إال "بما يتضمن من حسن تخييل له‪ ،‬ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن‬
‫هيئة تأليف الكالم‪ ،‬أو قوة صدقه أو قوة شهرته‪ ،‬أو بمجموع ذلك"(‪.)30‬‬
‫وتنبني الخاصية النوعية للشعر في تعاضد المحاكاة مع الهيئة اللفظية التي‬
‫تتلبسها المحاكاة‪ .‬ويتحدد المستوى هنا بخصائص في النص يتولد منها معنى‬
‫مشكل وفق شروط الوظيفة المهيأ لها‪ ،‬محتوى ضمن هيئة تحسينية فالمعنى هنا‬
‫ناتج عن لفظ مسبوك وفق بنية الشعر‪" ،‬ألن االعتبار في الشعر إنما هو التخييل في‬
‫أي مادة اتفق‪ ،‬ال يشترط في ذلك صدق وال كذب‪ ،‬بل أيهما ائتلفت األقاويل المخيلة‬
‫منه فبالعرض‪ ،‬ألن صنعة الشاعر هي جودة التأليف وحسن المحاكاة‪،‬‬
‫وموضوعها األلفاظ وما تدل عليه"(‪ .)31‬فالتأليف الحسن وجودة المحاكاة‬
‫موضوعهما األلفاظ وما تدل عليه‪ ،‬فبؤرة المحاكاة تكمن في الداللة‪ ،‬أما جودة‬
‫التأليف فمصدرها اللفظ في ذاته‪ ،‬وغير هذا عرض‪ .‬من هذا المستوى يتحدد‬
‫خطان في بحث بنية الخطاب الشعري لدى حازم‪ ،‬وينضبط أولهما في مدلول‬
‫األلفاظ الذي هو المعنى‪ ،‬ويدرس في ذاته وأشكال تناسبه ومختلف الصور الناتجة‬
‫عن ذلك‪ ،‬ويتحدد الثاني في مستوى األلفاظ حيث تنضبط معاينته وفق المادة‬
‫اللفظية في ذاتها على المستوى اإلفرادي وعلى مستوى التأليف‪ .‬هذان الخّطان‬
‫المؤّس سان لبنية النص سيكون بحثهما في ذاتهما تناوًال نقديًا بالغيًا يدلل على‬
‫الشروط النصية المؤسسة لوظيفة التأثير الشعري‪.‬‬
‫فعلى الرغم من المنطلق الوظيفي في تحديد خواص الشعر ومفهومه عند‬
‫حازم متأثرًا في ذلك بالفالسفة اإلسالميين‪ ،‬فإن األمر عندما يتعلق برصد تالحم‬
‫العناصر في النص ودرسها في ذاتها وتحديد فعاليتها النوعية يغدو ضروريًا إبعاد‬
‫كل ما يمكن أن يعلق بها من أعراض‪ ،‬وتدقيق الخط الفاصل بين الجوهر‬
‫واللواحق المساعدة‪ ،‬ذلك أن "الصدق والكذب والشهرة والظن أشياء راجعة إلى‬
‫المفهومات التي هي شطر الموضوع‪ ،‬فنسبتها إلى المدلوالت التي هي المعاني‬

‫‪- 224 -‬‬


‫كنسبة العمومية والحوشية والحال الوسطى بينهما والغرابة إلى األدلة التي هي‬
‫األلفاظ‪ .‬وكل هذه األصناف من األلفاظ تقع في الشعر‪ .‬وصناعة الشاعر فيها‬
‫حسن التأليف والهيئة‪ .‬كما أن كل تلك المواد تقع فيه‪ ،‬وصناعة الشاعر فيها حسن‬
‫المحاكاة والنسب واالقترانات الواقعة بين المعاني"(‪.)32‬‬
‫يميز حازم بدءًا من التصور السابق بين مستوى المحاكاة والنسب‬
‫واالقترانات الواقعة في المعاني وبين الهيئة اللفظية المتأتية من حسن التأليف‬
‫المقابلة للمستوى األول‪ .‬وهذا المستوى في حدود خاصيته التخييلية وأشكال‬
‫التالحم والنسب الواقعة بين عناصره ليس إال مدلوًال للهيئة اللفظية الدالة‪ ،‬هذه‬
‫الهيئة التي سيتميز بحثها في خطين‪ :‬مستوى المدلول الراجع إلى المحاكاة‬
‫والمعنى‪ ،‬ومستوى التأليف المنضبط وفق خصائص شكلية تطول العبارة في‬
‫مرتبة الحروف والكلم المتعاضدة وفق مواصفات الفصاحة وشروطها الشائعة‪،‬‬
‫وهذا التناول يستوعب في مرتبة أولى بنية العبارة ثم يتضخم في مستوى مركب‬
‫يستحيل إثره المعنى المحاكى إلى أسلوب‪ ،‬وهيئة األلفاظ إلى نظم ليتسنى احتواء‬
‫القصيدة كاملة في طبقاتها المتناسبة‪ :‬أسلوبًا باعتباره هيئة متشكلة من االستمرار‬
‫في المعاني‪ ،‬ونظمًا هو خالصة لتأليف األلفاظ في كيان قصيدة كاملة‪ ،‬ويتفرع من‬
‫مستوى تناسبه الصوتي الوزن والقافية‪ ،‬فتكون طبقات متعاضدة متناسبة تحيل‬
‫طبعًا إلى أشياء محاكاة خارج كيان القصيدة‪ ،‬وإ لى شاعر صانع في حوزته قوى‬
‫تمّك ن من رسم هذا الكون المتعاضد وتشير إلى متلٍّق ‪ ،‬ومرجع يحدد أو يملي‬
‫ضوابط اجتماعية وثقافية تحصر قنوات القول الشعري في تقاليد راسخة تراعي‬
‫العرف والمقام‪ .‬إال أن هذه االعتبارات وإ ن شكلت عناصر حافة بالخطاب‬
‫الشعري فإن المعتبر في التناول البنيوي لكيان القول لفظًا ومعنًى هو النص في‬
‫مستوياته اللغوية ومدلوالتها‪ ،‬وهو اقتطاع يفرضه كذلك موضوع بحثنا أساسًا‪،‬‬
‫دون أن نغفل اإلطار األشمل الذي يتنزل فيه الخطاب‪.‬‬
‫ويتحقق رصد هذه المستويات المولدة لكيان القصيدة بضبط مراحل والدتها‪،‬‬
‫وكيفية التضام الحادث في هذه المستويات في طور التكوين‪ ،‬فبوساطتها ندرك‬
‫كيف تتالحم هذه المستويات عند المرور بمراحل الوضع الشعري‪ .‬ولكن هل تولد‬
‫القصيدة كيانًا مركبًا دفعة واحدة تمتنع مراحله عن الضبط‪ ،‬أم أن للعقل القدرات‬
‫على تفتيت مراحل تلك الوالدة ومن ثم رصد أوجه التالحق والتتالي ثم التناسب‬
‫بين مستويات المعاني واأللفاظ واألساليب والنظم واألوزان؟ وذلك يسعف على‬
‫تدقيق رأي حازم في عالئق المعنى واللفظ ثم األسلوب والنظم‪ ،‬هذه المستويات‬

‫‪- 225 -‬‬


‫المؤسسة لكيان القصيدة‪.‬‬

‫مراحل وضع القصيدة‬


‫يسّلم حازم بداية بانحصار عملية إبداع القصيدة مذ تكون فكرة إلى آخر‬
‫مراحل التنقيح في أربعة مواطن هي‪-1" :‬موطن قبل الشروع في النظم‪-2 .‬‬
‫وموطن في حال الشروع‪-3 .‬وموطن عند الفراغ‪ ،‬يبحث فيه عما هو راجع إلى‬
‫النظم‪-4 .‬وموطن بعد ذلك متراٍخ عن زمان القول‪ ،‬يبحث فيه عن معاٍن خارجة‬
‫عما وقع في النظم لتكمل بها المعاني الواقعة في النظم وتستوفى بها أركان‬
‫األغراض ويكمل التئام القصائد‪ .‬فأما الموطن األول فالغناء فيه لقدرة التخيل‪.‬‬
‫والموطن الثاني الغناء فيه للقوة الناظمة‪ ،‬ويعينها حفظ اللغة وحسن التصرف‬
‫والموطن الثالث الغناء فيه للقوة المالحظة كل نحو من األنحاء التي يمكن أن يتغير‬
‫الكالم إليها ويعينها حفظ اللغة أيضًا وجودة التصرف والبصيرة بطرائق اعتبار‬
‫بعض األلفاظ والمعاني من بعض‪ .‬والموطن الرابع الغناء للقوة المستقصية‬
‫الملتفتة‪ ،‬ويعينها حفظ المعاني والتواريخ وضروب المعارف"(‪.)33‬‬
‫هذه القوى النفسية تتداخل وتتعاضد بشكل آخر‪ ،‬إذ إن اكتمال القول الشعري‬
‫ال يكون على الوجه المختار‪ -‬كما يرى حازم‪" -‬إال بأن تكون له قوة حافظة وقوة‬
‫مائزة وقوة صانعة"(‪ .)34‬وتبعًا لمراحل التالحق في مستويات القصيدة من‬
‫مستوى التصور الكلي لكيانها ثم التحكم في مستوياتها المعنوية واللفظية إلى حد‬
‫اكتمالها كائنًا‪ ،‬يكون لكل مرحلة من هذه المراحل قوة خاصة تتولى إنجاز ما علق‬
‫بها من وظيفة‪ ،‬ويظهر إذ ذاك تمايز القوى التي يفصل بين فعاليتها نوع ما أنيط‬
‫بها من مرحلة في تكوين القصيدة‪ .‬وأمر هذه القوى العشر‪ ..‬ال يهمنا تدقيقًا وإ نما‬
‫يكفي اإلشارة إلى أنها تتتابع بدءًا من القوة على التشبيه فيما ال يصدر عن قريحة‬
‫بما يصدر عنها‪ ،‬والقدرة على تصور كليات الشعر والمقاصد الواقعة فيها‪ ،‬والقوة‬
‫على تصور صورة للقصيدة كاملة والقوة على تخيل المعاني واجتالبها من جميع‬
‫الجهات وكذا مالحظة الوجوه التي بها يقع التناسب بين المعاني‪ ،‬ثم التهّد ي إلى‬
‫العبارات الحسنة الوضع والتأليف والداللة على تلك المعاني‪ ،‬وهكذا إلى القدرة‬
‫على استخالص الوزن وتحسين وصل بعض الفصول ببعض وكذا األبيات وتمييز‬
‫الكالم بالنظر إلى حسنه والموضع الموقع فيه‪ ")35(...‬وال جدال في أن مثل ذلك‬
‫التقسيم يقوم على افتراض مؤّد اه أن العملية اإلبداعية تتم على درجات متفاوتة‬
‫ومراحل متباينة تخضع في كل منها لقوة نفسية أو ملكة متاميزة عن غيرها‪ .‬وهذا‬

‫‪- 226 -‬‬


‫ما يصعب قبوله‪ ،‬ألننا أميل إلى أن نفهم فاعلية العملية اإلبداعية باعتبارها وحدة‬
‫متكاملة ال تتجزأ إلى عناصر‪ ..‬أو مراحل متباينة أو متعاقبة"(‪.)36‬‬
‫غير أن ما يهمنا في موضوعنا هو كيفية تصور حازم عملية تتابع المعنى‬
‫واللفظ في الصياغة‪ ،‬بحسب ما حددناه سابقًا من مستويات وخطوط تميز بين‬
‫حقول التقصي والرصد‪ ،‬إذ بموجب إقراره بانفصال القوى الصانعة للقصيدة‬
‫وتميز كل مرحلة بخاصية االنفصال عن السابقة والالحقة‪ ،‬وكونها إفرازًا نوعيًا‬
‫لقوة معينة‪ ،‬يترتب ضبطه العالقات التي يمكن أن تشكل لحمة المعنى واللفظ‪،‬‬
‫وكذا األسلوب والنظم مع اإلقرار بوالدتها المتتابعة‪ .‬فهل هذا االنفصال الذي أكده‬
‫تحرك حازم في حدود تصور الفالسفة لقوى النفس يطول تصور القصيدة في كل‬
‫مستوى من مستوياتها أم أن حازمًا استطاع أن يلحم المستويات المعنوية واللفظية‬
‫خصوصًا في بعض مواقف التحليل والتدقيق؟‬
‫نحاول االقتراب من اإلجابة بداية بتثبيت هذا النص الطويل الذي يتعقب فيه‬
‫حازم والدة القصيدة ليتأكد لنا عقبه رؤيته لعالقات مستوياتها المختلفة‪ .‬يقول‪" :‬إن‬
‫للمتخيلين في التخييالت التي يحتاجون إليها في صناعتهم أحواًال ثمانية‪ ،‬لكل‬
‫واحدة منها في زمان مزاولة النظم مرتبة ال تتعداها‪.‬‬
‫الحال األولى‪ :‬يتخيل فيها الشاعر مقاصد غرضه الكلية التي يريد إيرادها في‬
‫نظمه أو إيرد أكثرها‪.‬‬
‫الحال الثانية‪ :‬أن يتخيل لتلك المقاصد طريقة وأسلوبًا أو أساليب متجانسة أو‬
‫متخالفة ينحو بالمعاني نحوها ويستمر بها على ما هي عليها‪.‬‬
‫الحال الثالثة‪ :‬أن يتخيل ترتيب المعاني في تلك األساليب‪ ،‬ومن أهم هذه‬
‫التخييالت موضع التخلص واالستطراد‪.‬‬
‫الحال الرابعة‪ :‬أن يتخيل تشكل تلك المعاني وقيامها في الخاطر في عبارات‬
‫تليق بها ليعلم ما يوجد في تلك العبارات‪ ،‬من الكلم التي تتوازن وتتماثل مقاطعها‬
‫ما يصلح أن يبنى الروي عليه‪ .‬وفي هذه الحال أيضًا يجب أن يالحظ ما يحق أن‬
‫يجعل مبدأ ومفتتحًا للكالم‪ ،‬وربما لحظ في هذه الحال موضع التخلص‬
‫واالستطراد‪ .‬فهذه أربعة أحوال في التخاييل الكلية‪.‬‬
‫والحال الخامسة‪ :‬وهي أول حال من التخاييل الجزئية‪ :‬أن يشرع الشاعر في‬
‫تخيل المعاني معنى معنى بحسب غرض الشعر‪.‬‬
‫الحال السادسة‪ :‬أن يتخيل ما يكون زينة للمعنى وتكميًال له‪ ،‬وذلك يكون‬

‫‪- 227 -‬‬


‫بتخيل أمور ترجع إلى المعنى من جهة حسن الوضع واالقترانات والنسب الواقعة‬
‫بين بعض أجزاء المعنى‪ ،‬وبأشياء خارجة عنه مما يقترن به ويكون عونًا له على‬
‫تحصيل المعنى المقصود به‪.‬‬
‫والحال السابعة‪ :‬أن يتخيل لما يريد أن يضمنه في كل مقدار من الوزن الذي‬
‫قصد‪ ،‬عبارة توافق نقل الحركات والسكنات فيها ما يجب في ذلك الوزن في العدد‬
‫والترتيب بعد أن يخيل في تلك العبارات ما يكون محسنًا لموقعها من النفوس‪.‬‬
‫الحال الثامنة‪ :‬أن يتخيل‪ ،‬في الموضع الذي تقصر فيه عبارة المعنى عن‬
‫االستيالء على جملة المقدار المقفى‪ ،‬معنى يليق أن يكون ملحقًا بذلك المعنى‪،‬‬
‫وتكون عبارة المعنى الملحق طبقًا لسد الثلمة التي لم يكن لعبارة الملحق به وفاء‬
‫بها"(‪.)37‬‬
‫وتقسيم حازم التخييالت التي يحتاجها الشعراء في صناعتهم إلى قسمين‬
‫كبيرين يحتوي كل قسم على أربعة احوال حيث يتمحور القسمان الكبيران في ما‬
‫أسماه التخاييل الكلية‪ ،‬والتخاييل الجزئية‪ ،‬انعكاس لمنظوره المزدوج إلى القصيدة‬
‫كاملة وإ لى عناصرها الجزئية المتشكلة منها التي هي المعاني في مستواها‬
‫الجزئي‪ ،‬وهذا المنظور هو الذي تحّك م في توزيع مادة الكتاب نفسها‪ ،‬فإذ يتوافق‬
‫القسمان األوالن وهما بحث األلفاظ والمعاني مع قسم التخاييل الجزئية‪ ،‬يكون‬
‫انسجام القسمين الثالث والرابع من الكتاب المرصودين لبحث النظم واألسلوب مع‬
‫قسم التخييالت الكلية‪ ،‬هذا من جهة ومن جهة أخرى يكشف هذا التقسيم عن حدود‬
‫البحث في كل مستوى وطبيعة الصلة بين المستويين‪ ،‬حيث يتوافق قسم التخاييل‬
‫الجزئية مع رصد معاني الجهات في مستواها الجزئي‪ ،‬وضبط هيئات العبارة في‬
‫حدود اللفظ وكذا التأليف الذي ال يتعدى الجملة أو الجمل المتعاضدة في حدود‬
‫ضيقة‪ ،‬تمامًا كرصده هنا مستوى التحسينات العالقة بالمعاني المتأتية من‬
‫االقترانات والنسب الواقعة بين بعضها بعض‪.‬‬
‫ولن يكون البحث في التخاييل الكلية إال تضخيمًا للمستوى السالف‪ ،‬ذلك أنها‬
‫ستكون محور تصور مقاصد األغراض الكلية وانتقاء األسلوب المالئم للمعاني‬
‫المتخيرة ليتسنى تهيئة االنتقال بين بعضها بعض‪ ،‬وكذا رصد المستوى اللفظي‬
‫الذي يعلق به تضام الفصول واستخالص المبادئ والتخلص والمقاطع مع انسجام‬
‫األصوات في تناغم موسيقي يشكل انتظامه وزن القصيدة‪.‬‬
‫ويكشف مستويا النظر هنا تصور حازم القصيدة في شكل تكرار لمعاني‬
‫جزئية‪ ،‬وتضخيم لدوائر منتهية مكتملة‪ ،‬تعاضدت هيئاتها المعنوية واللفظية في‬

‫‪- 228 -‬‬


‫نسب وتحسينات منسجمة ليؤدي تراكمها وتتاليها إلى تكوين القصيدة‪ ،‬من هنا يباح‬
‫تعدد معاني الجهات وكذا تنوع فصول األغراض‪ ،‬فاختالف األغراض في ما‬
‫يسميه حازم بالقصيدة المركبة التي هي أفضل من القصيدة البسيطة‪.‬‬
‫فتصور حازم لمادة كتابه ولفصول البحث في كل موضع من مواضعه دقيق‬
‫يتوافق مع ضبطه كيان القصيدة‪ ،‬لذلك ينتظم مراحل وضع القصيدة الخيط الناظم‬
‫لعالقات المعاني واأللفاظ واألسلوب والنظم‪ ،‬فصلة المعنى باللفظ في مراحل‬
‫وضع القصيدة وكذلك صلة النظم باألسلوب تكثيف لصلة هذه العناصر في‬
‫وجودها الفاعل في كيان القصيدة المكتمل‪ ،‬وهاتان صورتان متطابقتان‪ ،‬وإ ن أباح‬
‫التقصي في كل مستوى عند تحليله على حدة تدقيق البحث في مسائله فرادى‬
‫وجماعات‪.‬‬
‫وتتحقق صلة المعنى باللفظ في قوله السالف "أن يتخيل تشكل تلك المعاني‬
‫وقيامها في الخاطر في عبارات تليق بها"‪ ،‬وهذه مرحلة الحقة لمرحلة تضبط فيها‬
‫المعاني وفق األسلوب المنتقى‪ .‬وإ ذا كانت هذه الكيفية ال تزيح إمكان تصور تمييز‬
‫بين المعاني واأللفاظ‪ ،‬فإن حازمًا استطاع في بعض مراحل البحث أن يحدث‬
‫بينهما التالحم التام‪ ،‬خاصة عندما يوظف النحو‪ .‬أما في قوله السالف فإن في‬
‫تأكيده تخيل المعاني المتصورة بداية في عبارات وألفاظ الئقة ما قد يخفف من‬
‫غلواء التمييز‪ ،‬خاصة أن من هذه األلفاظ المنتقاة يتحدد الوزن والقافية ويتأكد ذلك‬
‫في قوله في موضع آخر‪ ،‬إذ يرى أنه حقيق على الشاعر "إذا قصد الروية أن‬
‫يحصر مقصده في خياله وذهنه والمعاني التي هي عمدة له بالنسبة إلى غرضه‬
‫ومقصده‪ ،‬ويتخيلها تتبعًا بالفكر في عبارات بدد‪ ،‬ثم يلحظ ما وقع في جميع تلك‬
‫العبارات أو أكثرها طرفًا أو مهيئًا ألن يصير طرفًا من الكلم المتماثلة المقاطع‬
‫الصالحة ألن تقع في بناء قافية واحدة‪ .‬ثم يضع الوزن والروي بحسبها لتكون‬
‫قوافيه متمكنة تابعة للمعاني ال متبوعة لها"(‪.)38‬‬
‫وعلى كِّل تبدو أصالة حازم الحقيقية "في تحليله للقوى اإلبداعية وبحثه في‬
‫االنتقاالت الخاطرية التي تتكون منها القصيدة‪ ،‬وكتابه من هذه الناحية ثمرة‬
‫ناضجة لالتجاه النفسي الذي نحا نحوه النقد العربي بتأثير علم الكالم"(‪ .)39‬وهذا‬
‫بقدر ما يؤكد استفادته من أعمال المتكلمين في نقده وبالغته بقدر ما يكشف عن‬
‫التكامل الدقيق بين مستويات البحث في نقد القرطاجني‪ ،‬وإ ن إلحاحه على العقل‬
‫وضرورة حضوره الطاغي في صناعة القصيدة إذ يكاد يكون وضعها فعًال واعيًا‪،‬‬
‫ليس إال انعكاسًا لالعتماد الكلي عليه في ضبط المنهاج‪ .‬ومكانة العقل في أعمال‬

‫‪- 229 -‬‬


‫عبد القاهر راسخة‪.‬‬
‫فعلى الرغم من أن حازمًا يرى "أن خير الشعر ما صدر عن فكر ولع بالفن‬
‫والغرض الذي القول فيه "فإنه يعقب إثر قوله السالف بأنه" قد توجد لبعض النفوس‬
‫قوة تتشبه بها في ما جرت فيه من نسيب وغير ذلك على غير السجية بما جرى فيه‬
‫على السجية من ذلك‪ ،‬فال تكاد تفرق بينهما النفوس وال يماز المطبوع فيها من‬
‫المتطبع"(‪ .)40‬وتتنوع درجة هذه القوة من شاعر إلى آخر في مستويات مختلفة ال‬
‫يهمنا أمرها في موضوعنا(‪ ،)41‬ولكن في اإلمكان كسب مهارة القول الشعري‬
‫وترسيخ مفهوم الصنعة وآلية التأليف‪ ،‬فإذا كان لألفكار تفاوت في تصرفها في‬
‫ضروب المعاني وضروب تركيبها فإنه "يتقوى على ذلك بالطبع الفائق والفكر النافذ‬
‫الناقد الرائق‪ ،‬وبالمعرفة بجميع ما يحتاج إلى معرفته في هذه الصناعة من حفظ‬
‫الكالم والقوانين البالغية"(‪ .)42‬ويتعاضد هذا المنظور مع طرائق اقتباس المعاني‬
‫واستثارتها المؤسسة على الخيال وبحث الفكرة وعلى االعتماد على ما سلف من‬
‫نظم أو نثر وغيرهما‪ ،‬وذلك كله محكوم بتصور لذاكرة تحفظ ما أدرك في شكل‬
‫انتظام العقد الذي يسعف الشاعر عند مزاولة النظم المتوزع كما أشرنا في قوة‬
‫حافظة وقوة مائزة وقوة صانعة(‪.)43‬‬
‫ولكن الذي يعنينا في موضوع بحثنا هو صلة المعاني باأللفاظ في مستوى‬
‫العبارة‪ ،‬وفي مستوى القصيدة كاملة إذ يستحيالن أسلوبًا ونظمًا انسجامًا مع‬
‫مرحلتي‪ :‬التخاييل الجزئية‪ ،‬والتخاييل الكلية‪ .‬من هنا سيوزع حازم بحثه اللفظ‬
‫والمعنى في مستوى أول عندما يرصد عالئق األلفاظ والمعاني في مستوى معاني‬
‫جهة واحدة‪ ،‬حيث ال يكاد البحث يتجاوز حدود العبارة‪ ،‬وفي مستوى كلي عندما‬
‫يبحث تفاعل المعاني مع المعاني في الهيئة المؤلفة لها‪ ،‬والنظام الشامل للقصيدة‬
‫في ما أسماه النظم ويكشف هذا التوزيع عن الكيفيات التي استقام بها لحازم تحديد‬
‫موقفه من المعاني واأللفاظ‪.‬‬
‫االستجداد والتأنق‪:‬‬
‫تكامل محوري االستبدال والتركيب‬
‫يتحرك حازم في هذا المستوى األول من بحث األلفاظ والمعاني في حدود‬
‫فاصلة بين ما أسماه اللفظ وهيئته التأليفية وداللته على المعنى‪ ،‬والمعنى في ذاته‬
‫وأشكال تناسبه‪ ،‬وهذا الفصل اقتضاه المنظور المنهجي في تناول العنصرين‪،‬‬
‫ومحاولة ضبط خصائص كل طرف مع اإلقرار بتعاضدهما في إحداث الوظيفة‬
‫التخييلية‪ ،‬وكذلك تأسيس وحدة النص القائمة أساسًا على التناسب دون أن يغيب‬

‫‪- 230 -‬‬


‫عن البال تمييز حازم بعض المستويات العالقة بأحد العنصرين عن مجرى بنية‬
‫النص الدالة عمومًا‪ ،‬كالشأن مع المستوى الصوتي لأللفاظ‪.‬‬
‫والمنطلق في هذا البحث إيمان حازم باكتمال الفعل الشعري بالمحاكاة المحددة‬
‫لنوعيته التي تتجسد في التشكيل النوعي للمعنى‪ ،‬غير أن هذا ال يمنع من "تبيين ما‬
‫للمحاكاة من حسن موقع من النفوس من جهة اقترانها بالمحاسن التأليفية والصيغ‬
‫المستحسنة البالغية"(‪ .)44‬ومحاسن المحاكاة التأليفية التي تتعلق أساسًا بأوجه‬
‫التناسب بين المعاني تتقابل مع صيغ األلفاظ المتوافقة المحدثة للتحسين البالغي‪.‬‬
‫ذلك أن "األقاويل الشعرية يحسن موقعها من النفوس من حيث تختار مواد اللفظ‬
‫وتنتقي أفضلها وتركب التركيب المتالئم المتشاكل وتستقصي بأجزاء العبارات التي‬
‫هي األلفاظ الدالة على أجزاء المعاني المحتاج إليها حتى تكون حسنة إعراب الجملة‬
‫والتفاصيل عن جملة المعنى وتفاصيله"(‪.)45‬‬
‫إن بناء العبارة يتعاضد فيه اختيار اللفظ وفق مقاييس الفصاحة المعروفة‪ ،‬ثم‬
‫يتكامل في هيئة تأليفية جامعة لخصائص فصاحة المركب‪ ،‬وكل هذا يسير في خط‬
‫أفقي شامل للبنية الصوتية للفظ‪ .‬ويوازي هذا الخط مسار يتقصى الداللة التي هي‬
‫إفراز للخط األول‪ ،‬وهنا تكون اللحمة التي يذوب فيها كيان المعنى واللفظ معًا في‬
‫مستوى داللي تركيبي يتبدى أساسًا في المحاكاة وأوجه التناسب العالقة بالمعاني‪.‬‬
‫ويعتمد حازم في وصف خصائص األلفاظ والمعاني من حيث تطّلب التميز‬
‫في استخدامهما مصطلح االستجداد‪ ،‬وبمصطلح التأنق يبحث في العنصرين من‬
‫منظور الترتيب والوضع إذ يرى أن "من أصحاب الروّية من يجهد في استجداد‬
‫العبارات(‪ )46()...‬والتأنق فيها من جهة الوضع والترتيب‪ .‬ومنهم من ال يستجد‬
‫وال يتأنق‪ .‬ومنهم من يستجد العبارة دون المعنى أو المعنى دون العبارة‪ ،‬ومن‬
‫يتأنق في العبارة دون المعنى أوالمعنى دون العبارة‪ .‬فأما من ال يستجد وال يتأنق‬
‫فيه فليس يصدر عن مطبوع بروية‪ .‬وأعني باالستجداد الجهد في أال يواطئ من‬
‫قبله في مجموع عبارة أو جملة معنى‪ ،‬وبالتأنق طلب الغاية القصوى من اإلبداع‬
‫في وضع بعض أجزاء العبارات والمعاني من بعض وتحسين هيئات الكالم في‬
‫جميع ذلك‪ .‬فإن العبارة إذا استجدت مادتها وتأّنق الناظم في تحسين الهيئة التأليفية‬
‫فيها وقعت من النفوس أحسن موقع‪ .‬وكذلك الحال في المعاني"(‪ .)47‬فتكامل‬
‫الحسن في العبارة الفصيحة عنده‪ ..‬يكون باعتماد االختيار على مستوى المواد‬
‫اللغوية ألفاظًا ومعاني مما اصطلح على تسميته باالستجداد‪ ،‬واعتماد أشكال رائقة‬
‫في الترتيب تكون بمراعاة المواضع الالئقة وفق موقع العبارات والمعاني بعضها‬

‫‪- 231 -‬‬


‫من بعض مما أسماه بالتأنق‪ .‬والحق أن وصف عملية تعاضد الوحدات اللفظية‬
‫والمعنوية في السياق ووجوب مراعاة االنسجام في ذلك يبين عن إحساس ببالغة‬
‫التركيب التي تقوم هنا على كماالت جزئية أيضًا تظهر في انتقاء المواد أفرادًا‪.‬‬
‫ويعتمد حازم التمييز بين حقل األلفاظ والمعاني لضبط مراتب االستجداد‬
‫والتأنق في كل حقل على حدة مع مراعاة خصائص كل طرف دون أن يغفل‬
‫مستوى التحام العنصرين‪ .‬فهو يبدأ الرصد على مستوى اللفظ بمدخل شارح‬
‫لخصائص التكامل بين بالغة العبارة وبالغة التأليف في هذه المقارنة المقابلة بين‬
‫الكالم البليغ والرسم يقول‪" :‬واعلم أن منزلة حسن اللفظ المحاكى به وإ حكام تأليفه‬
‫من القول المحاكى به ومن المحاكاة بمنزلة عتاقة األصباغ وحسن تأليف بعضها‬
‫إلى بعض وتناسب أوضاعها من الصور التي يمثلها الصانع‪ .‬وبما أن الصورة إذا‬
‫كانت أصباغها رديئة وأوضاعها متنافرة وجدنا العين نابية عنها غير مستلذة‬
‫لمراعاتها‪ ،‬وإ ن كان تخطيطها صحيحًا‪ ،‬فكذلك األلفاظ الردئية والتأليف المتنافر‪،‬‬
‫وإ ن وقعت بها المحاكاة الصحيحة‪ ،‬فإنا نجد السمع يتأّذ ى بمرور تلك األلفاظ‬
‫القبيحة التأليف عليها‪ ،‬يشغل النفس تأذي السمع عن التأثر لمقتضى المحاكاة‬
‫والتخييل‪ .‬فلذلك كانت الحاجة في هذه الصناعة إلى اختيار اللفظ وإ حكام التأليف‬
‫أكيدة جدًا"(‪.)48‬‬
‫ونجد حازمًا يقابل بين اللفظ وتأليفه وموضوع المحاكاة من جهة‪ ،‬واألصباغ‬
‫وحسن تأليفها والصورة التي تتركب منها من جهة أخرى‪ ،‬وهذا بقدر ما يذكر بعبد‬
‫القاهر وما درج عليه من إجراء المقارنة بين بنية العبارة وتأليف الصورة(‪،)49‬‬
‫بقدر ما يكشف إمكان تجاوز هذين الشرطين المتجسدين في انتقاء المواد اللفظية‬
‫واعتماد التأليف الحسن في ترتيبها‪ ،‬إذ يمكن للقول أن يخلو منهما مع توفره على‬
‫صحة تخطيط المحاكاة‪ ،‬وهذا يدل على أنهما من مرتبة التحسينات المضافة إلى‬
‫داللة سليمة يشهد بذلك تأكيد سالمة الصورة المرسومة وصحة خطوطها مع‬
‫اإلقرار برداءة األصباغ وتنافر األوضاع‪ ،‬حيث تنسجم المقارنة في اعتماد الحس‬
‫في اإلدراك‪ ،‬إذ يكون تأّذ ي البصر من رؤية فساد الصورة المرسومة متطابقًا مع‬
‫تأذي السمع من جّر اء تنافر الكلم المحاكى بها‪.‬‬
‫وعلى الرغم من ضياع القسم األول من الكتاب المخصص لبحث األلفاظ‪،‬‬
‫فإن نصًا نادرًا يختصر بحث حازم األلفاظ يورده في موضع الحق في الكتاب‪،‬‬
‫يوثق لنا مقصوده الدقيق من انتقاء اللفظ وإ حداث التأليف الرائق‪ ،‬وإ ن كان يجمل‬
‫المبحثين معًا إال أنه يمكن تلمس ما يخص به المواد اللفظية أفرادًا في قوله محددًا‬

‫‪- 232 -‬‬


‫الجهات التي تمّك ن الشاعر من التهّد ي إلى العبارات الحسنة المتمثلة في "اختيار‬
‫المواد اللفظية أوًال من جهة ما تحسن في مالفظ حروفها وانتظامها وصيغها‬
‫ومقاديرها واجتناب ما يقبح في ذلك وقد تقدم‪ .‬واختيارها أيضًا من جهة ما يحسن‬
‫منها بالنظر إلى االستعمال وتجنب ما يقبح النظر إلى ذلك‪ .‬واختيارها بحسب ما‬
‫يحسن منها باعتبار طريق من الطرائق العرفية وتجنب ما يقبح باعتبار ذلك"(‬
‫‪ .)50‬ويبدو اعتماد حازم هنا على ما حددته مباحث الفصاحة في مستوى المفرد‬
‫عند السابقين‪ ،‬إذ يخص هنا شروطًا تتمثل في انتقاء اللفظ وفق الشيوع واالستعمال‬
‫ومسايرة العرف‪ ،‬وكذلك مراعاة الحسن في بنية اللفظ مما يعود إلى انسجام مادته‬
‫الصوتية‪ ،‬وانتظام صيغته وفق قواعد الفصاحة عمومًا‪ .‬ويسد حازم بهذه الشروط‬
‫التي تراعي بنية األلفاظ وخصائص صيغها وفاء بمقتضيات الرصد الشامل لكل‬
‫مستويات البنية الثغرة في إنجاز عبد القاهر الجرجاني في النظم‪ ،‬إذ كان غياب‬
‫مبحث األلفاظ في مستواها الصوتي واعتماد المعنى المؤسس على التركيب أساسًا‬
‫في بحث بنية العبارة اختزاًال لمساحة البحث التي تتعلق بالمستويات الشاملة‬
‫الحادثة في كل سياق مفيد‪.‬‬
‫ثم ينتقل حازم إلى رصد مستوى التأليف في مرتبة المواد اللفظية أفرادًا‬
‫ومركبة‪ ..‬مكمًال حصر الحسن في العبارة‪ ،‬إذ يرى أنه "من ذلك حسن التأليف‬
‫وتالؤمه‪ .‬والتالؤم يقع في الكالم على أنحاء‪ :‬منها أن تكون حروف الكالم بالنظر‬
‫إلى ائتالف بعض حروف الكلمة مع بعضها وائتالف جملة كلمة مع جملة كلمة‬
‫تالصقها منتظمة في حروف مختارة متباعدة المخارج مترتبة الترتيب الذي يقع‬
‫فيه خفة وتشاكل ما‪ ،‬ومنها أال تتفاوت الكلم المؤتلفة في مقدار االستعمال‪ ..‬فتكون‬
‫الواحدة في نهاية االبتذال واألخرى في نهاية الحوشية وقلة االستعمال‪ ،‬ومنها أن‬
‫تتناسب بعض صفاتها مثل أن تكون إحداها مشتقة من األخرى‪ ..‬مع تغاير‬
‫المعنيين من جهة أو جهات أو تتماثل أوزان الكلم أو تتوازن مقاطعها‪ ،‬ومنها أن‬
‫تكون كل كلمة قوية الطلب لما يليها من الكلم أليق بها من كل ما يمكن أن يوضع‬
‫موضعها"(‪.)51‬‬
‫ويرصد حازم في هذا القسم من ضبط أشكال االنسجام في التأليف اللفظي‬
‫صفات عرفتها مباحث الفصاحة قبله‪ ..‬تتحدد هنا في ضرورة إحداث االنسجام‬
‫بين حروف الكلمة الواحدة والكلم المتعددة بمراعاة ما عرف من اعتماد تباعد‬
‫المخارج وانتقاء اللفظ أو األلفاظ‪ ..‬وفق االنسجام الصوتي المتالئم الذي ال يسبب‬
‫على مستوى التلفظ توعرًا أو صعوبة‪ ،‬ليؤكد ضرورة إحداث التالؤم وفق الداللة‬

‫‪- 233 -‬‬


‫بمراعاة عدم التناقض في حشد المبتذل بجوار الحوشي‪ ،‬أو ضرورة إحداث‬
‫التناغم بمراعاة التجنيس أو االشتقاق أو السجع أو المزدوج‪ .‬والحق أن هذه‬
‫المستويات الموسيقية في اللفظ تؤكد شمول فعل المحاكاة في نظر حازم إذ ال يكون‬
‫التحسين اللفظي إال رافدًا يرسخ الفعل التخيلي‪.‬‬
‫ثم يرتقي حازم في مبحث التأليف إلى مزيد من التدقيق في رصد مواقع الكلم وضرورة مراعاة‬
‫التأليف بينها‪ ،‬هذا التأليف الذي يوجده طلب بعضها بعض وفق التالؤم العائد إلى الصيغة أو الموقع‪،‬‬
‫وتحقيق السهولة في نسق الكالم مع تزيينه باعتماد المؤاخاة فيه‪ ..‬حيث يظهر ذلك مفصًال في شروط‬
‫جماعها ضرورة مراعاة "التسّهل في العبارات وترك التكلف‪ .‬والتسهل يكون بأن تكون الكلم غير‬
‫متوعرة المالفظ والنقل من بعضها إلى بعض‪ ...‬والتكلف يقع إما بتوعر المالفظ أو ضعف تطالب الكلم‬
‫أو بزيادة ما ال يحتاج إليه أو نقص ما يحتاج‪ ،‬وإ ما بتقديم وتأخير‪ ،‬وإ ما بقلب‪ ،‬وإ ما بعدل صيغة هي‬
‫أحق بالموضع منها‪ ،‬وإ ما بإبدال كلمة مكان كلمة هي أحسن موقعًا في الكالم منها‪ ..‬وإ ما بتكرار‪ ،‬وإ ما‬
‫بالحيدة عن معنى تقصر العبارة عنه إلى معنى مؤد عن مثل تأديته تطول العبارة عنه‪ .‬ومن ذلك إيثار‬
‫حسن الوضع والمبني وتجنب ما يقبح من ذلك‪ .‬فمن حسن الوضع اللفظي أن يؤاخي في الكالم بين كلم‬
‫تتماثل في مواد لفظها أو في صيغها أو مقاطعها فتحسن بذلك ديباجة الكالم‪ .‬وربما دل بذلك في بعض‬
‫المواضع أو الكالم على آخره‪ .‬ومن ذلك وضع اللفظ إزاء اللفظ‪ ..‬الذي بين معنييهما تقارب وتناظر من‬
‫جهة ما ألحدهما إلى اآلخر انتساب‪ ..‬ولـه به علقة‪ ،‬وحمله عليه في الترتيب‪ .‬فإن هذا الوضع في تأليف‬
‫األلفاظ يزيد الكالم بيانًا وحسن ديباجة واستدالًال بأوله على آخره‪ .‬ومن قبح الوضع والتأليف أن تكون‬
‫األلفاظ مع عدم تراخيها بعيدة أنحاء التخاطب‪ ..‬شتيتة النظم متخاذًال بعضها عن بعض كما قال‪:‬‬

‫فانثنت نحو عزف نفس ذهول(‬ ‫لم يضرها‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬شيء‬
‫‪)52‬‬

‫واجتماع هذه المواصفات الواجب مراعاتها في بناء العبارة من ضرورة‬


‫تحسين المفرد والمركب ينتج عنه صفات وخصائص في النص‪ ،‬ورغم أن هذه‬
‫المادة يترجمها إحساس المتذوق‪ ،‬فإن التدليل على هذه األحساسيس بكيفيات تشكل‬
‫المادة توثيق لالنطباع الذي توجده هذه الخصائص في النفس‪ ،‬ذلك أن "بقوة التهدي‬
‫إلى العبارات الحسنة يجتمع في العبارات أن تكون مستعذبة جزلة ذات طالوة‪.‬‬
‫فاالستعذاب فيها حسن المواد والصيغ واالئتالف واالستعمال المتوسط‪ .‬والطالوة‬
‫تكون بائتالف الكلم من حروف مصقولة وتشاكل يقع في التأليف ربما خفي سببه‬
‫وقصرت العبارة عنه‪ .‬والجزالة تكون بشدة التطالب بين كلمة وما يجاورها‬
‫ويتقارب أنماط الكلم في االستعمال وسائرها يتعلق باأللفاظ المفردة من الشروط‬
‫المذكورة التي تطرد الكلم بوجودها فيها أحسن‬
‫إطراد"(‪ .)53‬فالعذوبة عالقة بالمادة في مستوى الصيغة وحسن حروفها‬
‫واستعمالها‪ .‬والطالوة تحدثها الحروف المصقولة المتآلف منها الكلم‪ ،‬ثم يكون عن‬
‫تطالب الكلم وصف الجزالة‪ ،‬وتضام هذه الدوائر وتداخلها‪ ..‬إحداث لطبقات من‬

‫‪- 234 -‬‬


‫الحسن تتعاضد في تشكيل محسنات النص في مرتبة تناسب كلماته أفرادًا وتراكيب‬
‫ضمن سياق طبقاتها المختلفة‪.‬‬
‫وإ ذا كان ما سلف يتعلق ببحث األلفاظ في ذاتها وهيئاتها فإن من خصائص‬
‫درس األلفاظ ضبط عالئقها بالمعنى في مستوى ثان في ما أسماه حازم بداللتها‪.‬‬
‫فضمن الشروط السابقة يخص هذا الموضوع بقوله‪" :‬وأن يكون اللفظ طبقًا للمعنى‬
‫تابعًا له جارية العبارة من جميع أنحائها على أوضح مناهج البيان والفصاحة‪ .‬هذا‬
‫إذا لم يكن المقصد إغماض المعاني"(‪.)54‬‬
‫وقد خص حازم مشكلة غموض المعاني بوقفات تتيح لنا فهم عالقة اللفظ‬
‫بالمعنى عندها يعالج عوامل الغموض ووسائل توضحيه‪ ،‬ذلك أنه يرى "أن اشتكال‬
‫المعاني وغموضها من جهة ما يرجع إليها أو إلى عباراتها يكون ألمور راجعة‬
‫إلى مواد المعنى أو مواد العبارة أو إلى ما يكون عليه إجراؤهما من وضع‬
‫وترتيب أو إلى مقادير ما ترتب من ذلك أو إلى أشياء مضمنة فيهما أو أشياء‬
‫خارجة عنهما"(‪.)55‬‬
‫ومعالجة الكيفيات التي يحدث عنها بيان المعاني مما يرجع إلى المعنى أو‬
‫اللفظ ال تخدم غرضنا وإ ن كانت ستبّين أساليب إزالة أسباب الغموض العائدة إلى‬
‫األلفاظ والمعاني‪ ،‬إذ ليست هذه الكيفيات إال وسائل اإلبانة والفصاحة عن هذا‬
‫الغموض‪ ،‬كأن يعتمد تسهيل العبارة إليضاح المعنى الدقيق واللطيف والخفي‪.‬‬
‫"أما ما يرجع إلى اللفظ مما يوقع في المعاني غموضًا واشتكاًال‪ ..‬فمن ذلك أن‬
‫تكون األلفاظ الدالة على المعنى أو اللفظة الواحدة منها حوشية أو غريبة فيتوقف‬
‫فهم المعنى عليها‪ ...‬ومن ذلك أن تكون اللفظة أو األلفاظ مشتركة فتدل على‬
‫معنيين‪ ..‬أو أكثر ال في حال واحدة‪ ...‬ومن ذلك أن تكون كلمة قد وصلت بحرف‬
‫أو حذف منها حرف فتتصل بكلمة يحتمل لفظها أن يكون الحرف الموصول‬
‫باألول داخًال عليها أو من جملة حروفها‪ ،‬أو يكون قد أدخل على الثانية حرف‬
‫يخيل لك أنه صلة لألولى أو تتمة لما نقص منها فيعرض من هذا فهم الكالم على‬
‫غير وجهه"(‪.)56‬‬
‫ويتحدد مما سلف غموض المعنى بصفات تعلق باللفظ مما يجعل الداللة‬
‫شركة بينهما‪ ،‬إذ يكون الخط المدروس هنا وصلة اللفظ بالمعنى‪ ،‬مما سيبيح لحازم‬
‫عند بحث المعاني التي هي مدلول األلفاظ‪ ..‬ضبط تنوع الصور المعنوية التي‬
‫يحدثها السياق الالحم بين مستويات المعاني ونسبها المختلفة‪ ،‬والهيئات اللفظية‬
‫الدالة‪.‬‬

‫‪- 235 -‬‬


‫وينتقل حازم في نص تاٍل إلى رصد عوامل الغموض المترتبة على اللفظ في مستوى التأليف‪،‬‬
‫فيرى أن من أسباب الغموض "اإلخالل بوضع الكالم وإ زالة ألفاظه من مراتبها‪ ..‬حتى يصير المتأخر‬
‫متقدمًا والمتقدم متأخرًا فتتداخل األلفاظ بعضها ببعض فتشكل العبارة وال يتحقق نظامها قبل التقديم‬
‫والتأخير‪ ..‬وال يعلم كيف كان (‪ )57( )...‬وهذا المذهب رديء جدًا في الكالم‪ .‬وكان همام بن غالب‬
‫الفرزدق يكثر من هذا النوع ‪-‬كأنه كان يقصده‪ -‬ومنه قوله‪:‬‬

‫أبو أمه حي أبوه يقاربه(‪)58‬‬ ‫وما مثله في الناس إال مملكًا‬


‫وتمثيله بالبيت السابق ‪-‬الشائع كمثال للتعقيد اللفظي في المركب‪ -‬لغموض‬
‫المعنى المتأتي من التأليف اللفظي‪ ،‬مع التدليل على أن مركز الغموض عائد إلى‬
‫بنية العبارة إلى اإلخالل بوضعها‪ ،‬واشتراط تحقيق النظام بإحداث تغيير يتعلق‬
‫بالتقديم والتأخير‪ ،‬اقتراب من تناول عبد القاهر البيت نفسه حيث رأى سبب فساده‬
‫اإلخالل بمعاني النحو مرة‪ ،‬وبالتضاد بين بنية العبارة الظاهرة وبنية الفكر الخفية‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫أما ما يراه حازم متعلقًا بالمعنى من أسباب الغموض فهو "أن يكون المعنى‬
‫في نفسه دقيقًا لطيفًا يحتاج إلى تأمل وفهم‪ ،‬ومنها أن يكون المعنى قد أخل ببعض‬
‫أجزائه ولم تستوف أقسامه‪ ،‬ومن ذلك أن يكون المعنى مرتبًا على معنى آخر‪ ..‬ال‬
‫يمكن فهمه وتصوره إال به‪ ،‬ومنه أن يكون منحرفًا بالكالم وغرضه عن مقصده‬
‫الواضح معدوًال إليه عما هو أحق بالمحل منه"(‪ .)59‬وترجع بعض أسباب عالج‬
‫الغموض في المعنى إلى اللفظ حيث تتحقق بتسهيله‪ ،‬وبعضها إلى المعنى نفسه‪،‬‬
‫كمحاولة اإلبانة عنه بأن يقرن به ما يناسبه ويقرب منه من المعاني الواضحة‬
‫ليكون في وضوحها نفي إلبهام ذلك المعنى‪ ،‬وهي تفسح لنا المجال إلى االنتقال‬
‫إلى العالئق التي يمكن أن تضبط المعاني في قنواتها‪ ،‬وهو مبحث يتعادل مع قسم‬
‫اللفظ‪ ،‬إذ سيكون بحق المعنى في نفسه موزعًا بين جوهره المتحقق في المحاكاة‪،‬‬
‫وأعراضه التي تتمثل في أنماط النسب والعالقات التي تنظم المعاني‪.‬‬
‫والحق أن مبحث المعنى يحتل ركنًا مكينًا في نظرية القرطاجني في الشعر‬
‫عمومًا وبنية النص خصوصًا‪ ،‬فمن منظور كمِّي خص المعنى بقسم من أقسام‬
‫الكتاب األربعة‪ ،‬ثم لم يكن القسم الرابع الذي أفرده لبحث طرائق الشعر وأغراضه‬
‫واألساليب والمنازع إال تفخيمًا لمبحث المعاني نفسه‪ ..‬بإقرار حازم‪ ،‬يضاف إلى‬
‫ذلك أن القسم الثالث من الكتاب الذي أسماه النظم وعالج األوزان الشعرية التي‬
‫تعتبر من مستلزمات موسيقى األلفاظ‪ ،‬دون أن يغفل التعرض إلى التوافق‬
‫واالحتواء بين الوزن الشعري والغرض‪ ،‬تعرض فيه أيضًا لقواعد الصناعة‬
‫النظمية وهي خالصة صناعة القصيدة معاني وألفاظًا وأساليب ونظمًا‪ .‬فإذا أضفنا‬

‫‪- 236 -‬‬


‫إلى ذلك أن منهجًا من مناهج هذا القسم الخاص بالنظم خلص إلى درس وحدة‬
‫القصيدة وفصولها‪ ،‬وهو مبحث يرصد التحام المعاني واأللفاظ‪ ،‬أمكن اعتبار أن‬
‫أغلب مادة الكتاب‪ ،‬باستثناء القسم األول الضائع الخاص باللفظ‪ ،‬خالصة لبحث‬
‫المعنى‪ ،‬علمًا بأن من موضوعات القسم الضائع ما يبحث صلة األلفاظ بالمعاني‪.‬‬
‫وعلى الرغم من اإلقرار بقيمة اللفظ الذاتية المتعلقة بمستواه الصوتي‪،‬‬
‫والتنويه بأهمية اختيار المادة اللفظية في ذاتها‪ ،‬ثم اعتبار هيئة اللفظ التحسينية في‬
‫مستوى انسجامها الصوتي عضدًا للمحاكاة العالقة بالمعنى‪ ،‬وهي عناصر تسد‬
‫الثغرة في إنجاز عبد القاهر الذي تجاهل أو كاد مستوى األلفاظ الصوتي‪ ،‬أقول‬
‫رغم كل ذلك فإن المعنى حظي بالقسم الوافر من العناية‪ ،‬وليس من المستبعد أن‬
‫يكون ذلك صدى لعبد القاهر ومفهومه للنظم‪ ،‬ذلك أنه رغم المراهنة في النظم‬
‫على السياق المؤسس للداللة حسب ما يوفره التركيب‪ ،‬فإن القصد هو المعنى‬
‫المتولد من ذلك‪ ،‬لذلك لم يكن بٌّد لحازم من أن يؤسس مبحثه في المعاني على‬
‫مسلمة ُتخّو له تأكيد فكرة التفريع الحادثة عن تضام المعاني في سياق أوجه‬
‫التناسب المختلفة‪.‬‬
‫يشير حازم القرطاجني إلى ما يسميه بجهات األقاويل الشعرية التي "هي ما‬
‫يكون الكالم منوطًا به من األشياء المقصود وصفها أو اإلخبار عنها" ويرى أنها‬
‫ضربان "ضرب يقع في الكالم مقصودًا لنفسه‪ ،‬وهو ما كان له بالغرض المقول فيه‬
‫علقة وله إليه انتساب بوجه يوجب ذكره‪ .‬والصنف الثاني ما لم يكن له بالغرض‬
‫علقة‪ ..‬ولكن لـه علقة ببعض الجهات المتعلقة بالغرض‪ ،‬فيذكر تابعًا لما ذكر‬
‫معتمدًا على جهة إحالة أو محاكاة أو غير ذلك‪ ،‬وقد يكون لـه بالغرض علقة إال أنه‬
‫لم يذكر‪ ..‬إال من حيث ما هو تابع لغيره ومتعلق‬
‫به"(‪ .)60‬وهو بذلك يضع أساسًا لضبط عالئق جهات المعاني من حيث الصلة‬
‫بالغرض الرئيسي ومن حيث الصلة ببعض جهات الغرض بنسبة ما‪ .‬وستستحيل‬
‫الجهات الرئيسية أوائل واألخرى ثواني‪ ،‬وتفاوت الشعراء في الثواني أكثر " ألن‬
‫الجهات األولى يمكن حصرها في كل فن‪ ،‬وأما الجهات الثواني فقلما يتأتى‬
‫حصرها لكثرة ما يمكن أن يستطرد من الشيء إليه أو‬
‫يحال به عليه أو يحاكى به أو يعلق على الجملة به لنسبة في المعنى تقتضي ذلك"‪.‬‬
‫(‪)61‬‬
‫إن حازمًا يبحث عن المركز المتحكم في ثراء المعاني وغناها في النص‪ ،‬وال‬
‫يملك هنا أن يراهن على معاني النحو إنما يبحث عن البديل‪ ،‬فمعاني النحو إذ‬

‫‪- 237 -‬‬


‫تؤسس منطلقها في التركيب بمراعاة معاني الفاعلية والمفعولية والحالية‪...‬‬
‫ووظائفها في إحداث الداللة ووحدة المفهوم الناتج عن السياق‪ ،‬فهي تتأسس على‬
‫مسلمة مفادها أن األبنية النظرية للتركيب تمثل األصول التي بموجبها تحدث‬
‫طرائق التركيب المختلفة؛ وليست الوجوه والفروق المرتبطة بمعاني النحو سوى‬
‫أبنية سطحية كثيرة تتفرع من أصولها اللغوية لتتوافق في كل سياق مع الغرض‬
‫المبتغى‪ ،‬من هنا يرى عبد القاهر أنها تعز على الحصر‪ ،‬وقد استغل حازم هذا‬
‫األساس الذي سيتأكد لنا مع مسار هذا الفصل‪ ..‬ليوجد البديل لنظرية النظم على‬
‫مستوى العبارة‪ ،‬ثم على مستوى نظم القصيدة كاملة‪ .‬فكان جوهر فكره المعلل‬
‫لظاهرة التناسب الحاصل بين عناصر المعاني ال يقوم في المنطلق على المعاني‬
‫النحوية‪ ،‬وإ نما يتأسس على المحاكاة ووفق كل أشكال التضام التي يمكن أن تحدثها‬
‫علقة معنى بآخر من تماثل وتشابه وتناظر وتقابل‪ ..‬وقد اقتضاه ذلك االستعانة‬
‫بفكرة راسخة في بالغة عبد القاهر‪ ،‬وهي المعاني األوائل والمعاني الثواني‪ ،‬يعتمد‬
‫حازم هذا االصطالح في وصف صالة الجهات األوائل والثواني ثم في وصف‬
‫معاني الجهات األوائل والثواني في قوله‪" :‬والمعاني الشعرية منها ما يكون‬
‫مقصودًا في نفسه بحسب غرض الشعر ومعتمدًا إيراده ومنها ما ليس بمعتمد‬
‫إيراده ولكن يورد على أن يحاكى به ما اعتمد من ذلك أو يحال به عليه أو غير‬
‫ذلك‪ ،‬ولنسِّم المعاني التي تكون من متن الكالم ونفس غرض الشعر المعاني‬
‫األوائل‪ ،‬ولنسم المعاني التي ليست من متن الكالم ونفس الغرض‪ ،‬ولكنها أمثلة‬
‫لتلك أو استدالالت عليها أو غير ذلك ال موجب إليرادها في الكالم غير محاكاة‬
‫المعاني األوائل بها‪ ،‬أو مالحظة وجه يجمع بينهما على بعض الهيئات التي تتالقى‬
‫عليها المعاني‪ ،‬أو يصار من بعضها إلى بعض المعاني الثواني فتكون معاني‬
‫الشعر منقسمة إلى أوائل وثوان"(‪.)62‬‬
‫واعتماد حازم مصطلح المعاني األوائل والثواني الذي رغم األصول‬
‫الفارابية التي يتضمنها‪ ..‬فإن المصطلح نفسه يذّك ر بعبد القاهر الجرجاني"(‪)63‬‬
‫وهو يخفي األساس الدقيق الذي تنبني عليه فكرته‪ ..‬في الصلة بين المعاني‬
‫عمومًا‪ ،‬من هنا يحدث االنسجام بين فكرته في أوجه التناسب بين المعاني‬
‫المستفيدة من رأي الفالسفة اإلسالميين في الموضوع نفسه"(‪ ،)64‬واصطالح‬
‫المعاني األوائل والثواني الذي ال يعني به‪" :‬مستويين متفاوتين في التعبير‪ ،‬وإ نما‬
‫يعني معاني متساندة يوضح تاليها سابقها"(‪.)65‬‬
‫يتنزل مصطلح المعنى ومعنى المعنى عند عبد القاهر ضمن تناول داللي‬

‫‪- 238 -‬‬


‫للصورة المجازية‪ ..‬حيث يستحيل المدلول األول المباشر إلى دال يحيل إلى‬
‫المدلول المقصود‪ .‬فالمنظور العمودي لطبقات الداللة استوجب استغالل‬
‫االصطالح ليخدم هذه الحقيقة‪ ..‬تمشيًا مع تعليل عبد القاهر التحوالت الداللية‬
‫الحاصلة في السياق‪..‬‬
‫إثر استغالل الصور البالغية‪ ،‬وهذا يتوافق مع موقفه المغاير لموقف‬
‫البالغيين‪ ..‬في التدليل على أن الصور المجازية تكون في المعنى وليست نقًال‬
‫للفظ‪ ،‬دون أن ننسى تنزيله هذه الصور ضمن بناء العبارة إذ يراها من مقتضيات‬
‫النظم‪.‬‬
‫أما حازم القرطاجني فإنه يوظف االصطالح ليخدم به رأيه في الفصل بين‬
‫المعاني األوائل والثواني من منظور أفقي‪ ،‬إن صح الوصف‪ ،‬حيث إن المسألة‬
‫تتعلق بمعان جوهرية في الغرض تنسب إليها معان أخرى ثانوية بشكل من أشكال‬
‫النسبة‪ ،‬ولما كانت هذه طارئة قد تثبت أو تسقط‪ ،‬ولكنها تزيد في جمال المحاكاة‪،‬‬
‫أسماها ثواني ولكنه إذ يؤكد أن هذه الثواني تعز على الحصر‪ ..‬وأن قوة الشعراء‬
‫تتفاوت في هذه الثواني أكثر من تفاوتها في األوائل‪ ،‬يذكر برأي عبد القاهر في‬
‫الفروق والوجوه الحادثة عن النظم وأنها ال نهائية‪ ،‬فإذا أضفنا إلى ذلك أن تصوره‬
‫النسب الواقعة بين المعاني‪ ..‬يخول له االمتداد بنظريته إلى أن تغطي القصيدة‬
‫كاملة‪ ،‬بخالف نظرية النظم التي ال تتجاوز حدود العبارة‪ ،‬وإ ذا استحضرنا‬
‫األساس الذي تقوم عليه فكرته القائمة على النسبة الحاصلة بين معنى ومعنى التي‬
‫تعود أساسًا إلى محاكي ومحاكى‪ ،‬وما يتفرع من ذلك من أوجه النسب‪ ،‬وأن موقفه‬
‫من المتكلمين كما بدا في مطلع الفصل سيرسخ إيجاد البديل لنظرية المتكلمين‬
‫األساسية كما تبدو في النظم‪ ،‬واالعتماد في إيجاد هذا البديل على مفهوم التخييل أو‬
‫المحاكاة وهو أساس نظرية حازم‪ ،‬أمكن إدراك العوامل التي جعلت حازمًا يفتت‬
‫من معاني النحو فكرته في النسب الحادثة بين المعاني‪ ،‬غير أن أمره ينطلي‬
‫وشيكًا‪ ..‬حين يضطر إلى مواجهة ما أسماه هو أيضًا بصور المعاني (‪.)66‬‬
‫وتقوم أسس التفريعات الحادثة بين المعاني على مبادئ متنوعة محكومة‬
‫بقاعدة منطقية‪ ،‬وبأساس من التخاطب ذلك‪" ،‬أن المعاني صنفان‪ :‬وصف أحوال‬
‫األشياء التي فيها القول‪ ،‬ووصف أحوال القائلين أو المقول على ألسنتهم‪ ،‬وأن هذه‬
‫المعاني تلتزم معاني أخر‪ ..‬تكون متعلقة بها وملتبسة بها‪ ،‬وهي كيفيات مآخذ‬
‫المعاني ومواقعها من الوجود أو الفرض وغير ذلك ونسب بعضها إلى بعض‪،‬‬
‫ومعطيات تحديداتها وتقديراتها‪ ،‬ومعطيات األحكام واالعتقادات فيها‪ ،‬ومعطيات‬

‫‪- 239 -‬‬


‫كيفيات المخاطبة"(‪.)67‬‬
‫وإ ذا كان أصل المعاني وصف جهات األشياء التي لها علقة رئيسية بالغرض‬
‫وكذا أحوال الواصف‪ ..‬فإن لمعاني الجهات الرئيسية صالت بغيرها تتبدى في‬
‫تفريعات معنوية تكون من جهة ما له بها نسبة‪ ،‬أو ما يكون من جراء التعريف‬
‫والتحديد للمعاني واألحكام‪ ..‬التي تصدر في شأنها وكذا كيفيات المخاطبة‪ ،‬ثم‬
‫ضبطها من منظور الحقيقة إن كانت واقعية أو متخيلة في إطار ما يربطها بغيرها‬
‫في المكان والزمان‪ .‬وهكذا يكمن خلف هذه التفريعات كل قول شعري‪ ،‬ذلك أن‬
‫على كل قاصد للقول الشعري‪ ،‬مريد لتحسين المعاني "أن يعرف وجوه انتساب‬
‫بعضها إلى بعض‪ .‬فيقول‪ :‬إنه قد يوجد لكِّل معنى من المعاني التي ذكرتها‪..‬‬
‫معنى أو معان تناسبه أو تقاربه ويوجد له أيضًا معنى أو معان تضاده وتخالفه‪.‬‬
‫وكذلك يوجد لمضاده في أكثر األمر معنى أو معان تناسبه‪ .‬ومن المتناسبات ما‬
‫يكون تناسبه بتجاور الشيئين واصطحابهما واتفاق موقعيهما من النفس‪ ،‬ومنه ما‬
‫تكون المناسبة باشتراك الشيئين في كيفية‪ ،‬وال يشترط فيها التجاور وال االتفاق في‬
‫الموقع من هوى النفس‪ ،‬وما جعل فيه أحد المتناسبين على هذه الصفة مثاًال لآلخر‬
‫ومحاكيًا له فهو تشبيه"(‪.)68‬‬
‫وتفسر وجوه التناسب السابقة بما يمكن أن يعرف بإحداث التماثل بين‬
‫المعاني عندما يناظر بينها‪ ..‬فيوضع أحدها في حيز يقابل حيز اآلخر‪ ،‬أو تحقيق‬
‫المناسبة عندما يقترن المعنى بما يناسبه‪ ،‬أو إيجاد مقابلة أو مطابقة عند إحداث‬
‫التضاد في المعاني أو إيجاد أوجه االقتران الحادثة بين المتشابهين مما ينتج عنه‬
‫التشبيه واالستعارة‪ .‬وللمعاني صور أخرى كالتكرار‪ ،‬ذلك أن المعاني ضربان‬
‫"صور متكررة وصور غير متكررة‪ .‬والتكرار ال يجب أن يقع في المعاني إال‬
‫بمراعاة اختالف ما في الحيزين اللذين وقع فيهما التكرار من الكالم‪ .‬فال يخلو أن‬
‫يكون ذلك إما لمخالفة في الوضع‪ :‬بأن يقدم في أحد الحيزين ما أُّخ ر في اآلخر‪ ،‬أو‬
‫بأن تختلف جهات التعلق في الحيزين‪ ،‬أو بأن يفهم المعنى أوًال من جهة اإلبهام ثم‬
‫يورد مفسرًا من الجهة التي وقع فيها اإلبهام‪ ،‬أو بأن يجمل ثم يفصل‪ -‬وهذا يجتمع‬
‫مع ما قبله من جهة ويفارقه من جهة‪ -‬أو بأن يفصل ثم يجمل الضرب من‬
‫المقاصد‪ ،‬أو بأن يورد على صورة من الجمع والتفريق كما يقال‪ :‬أنت وزيد‬
‫بحران تكون أنت للعذوبة وذلك للزعوقة‪ ..‬أو بأن تبان الجهتان اللتان تواخى بهما‬
‫الضدان على الشيء كقوله‪:‬‬
‫(‪ )...( )...‬يخشى ويّتقى‪ ..‬يرّج ى الحيا منه وتخشى الصواعق‪.‬‬

‫‪- 240 -‬‬


‫فعلى هذه األنحاء وما ناسبها يقع التكرار في المعاني فيستحسن‪.‬‬
‫وكثيرًا ما تقع التفصيالت والتفسيرات والتقسيمات في المعاني التي تكون من هذا‬
‫القبيل"(‪.)69‬‬
‫ويتكيف رأي حازم ودعوته إلى ضرورة التنويع في مسالك الكالم والتقاذف‬
‫فيه إلى شتى أنواع النسب واالقترانات‪ ،‬مع منظوره لوظيفة الشعر المؤسسة على‬
‫إحداث التأثير في المتلقي‪ ..‬وذلك يتحقق وفق صياغة الئقة‪ ،‬ذلك وإ ن كان األساس‬
‫في إخراج الصياغة وفق أنماط التناسب والتشاكل العالقة بالمستويات المعنوية‬
‫واللفظية إقرارًا بخصوصيات تشكيلية عالقة بالنص‪ ،‬مما يقتضي فض أسرارها‬
‫واعتماد العقل والتمييز والمران‪ ،‬إال أنها محكومة بالمنظور الوظيفي أساسًا‪..‬‬
‫الرتباطها بوظيفة التعجب الحاصلة في النفس‪ ،‬ذلك أنه "يجب أال يسلك بالتخييل‬
‫مسلك السذاجة في الكالم‪ ،‬ولكن يتقاذف بالكالم في ذلك إلى جهات من الوضع‬
‫الذي تتشافع فيه التركيبات المستحسنة والترتيبات واالقترانات والنسب‪ ..‬الواقعة‬
‫بين المعاني‪ .‬فإن ذلك مما يشد أزر المحاكاة ويعضدها‪ ،‬ولهذا نجد المحاكاة أبدًا‬
‫يتضح حسنها‪ ..‬في األوصاف الحسنة التناسق‪ ،‬المتشاكلة االقتران‪ ،‬المليحة‬
‫التفصيل‪ ،‬وفي القصص الحسن االطراد‪ ،‬وفي االستدالل بالتمثيالت والتعليالت‪،‬‬
‫وفي التشبيهات واألمثال والحكم‪ ،‬ألن هذه أنحاء من الكالم‪ ..‬قد جرت العادة في‬
‫أن يجهد في تحسين هيئات األلفاظ والمعاني وترتيباتها فيها"(‪.)70‬‬
‫ويدل اإللحاح على تحسين هيئات األلفاظ والمعاني وترتيباتها فيها الناتجة‬
‫عن أشكال التقاذف بين المعاني المتناسبة واأللفاظ الدالة عليها‪ ..‬على تدقيق حازم‬
‫رؤيته صالت المعنى باللفظ‪ ،‬إذ تبدو صلة التالحم بينهما إفرازًا ألنماط العالئق‬
‫المختلفة‪ ...‬وهنا يتحدد لحازم خط يشقه في حقل مشترك بين لفظ دال ومدلول‪،‬‬
‫حيث سيؤول مفتاح التدقيق الراصد لعالئق العنصرين إلى اصطالح صور‬
‫المعاني المشار إليه‪ ..‬في النص ما قبل السابق‪ .‬وهذا االصطالح إذ يشكل ركنًا‬
‫في نظرية عبد القاهر في النظم‪ -‬رغم اإلقرار بحضوره في أعمال السابقين‪-‬‬
‫يزيدنا تدليًال على االقتراب الحاصل بين الرجلين‪ ،‬هذا االقتراب المتبدي في‬
‫استثمار حازم لمعطيات نظرية النظم ومزجها بأصوله الراسخة في أعمال فالسفة‬
‫اإلسالم إلحداث ائتالف متناغم‪.‬‬

‫وينتج عن أوجه التناسب‪ ،‬المؤكدة في مواقف شتى لحازم‪ ،‬بين المعاني‪،‬‬


‫صور للمعاني‪ ،‬ذكر بعضها كإقرار بشتى العالئق الرابطة بين المعاني في ما‬

‫‪- 241 -‬‬


‫أسماه صلة الزمان والمكان‪ ،‬وأنماط التحديدات وأوجه التخاطب وكذا أشكال‬
‫المحاكاة وغيرها‪ ،‬ولكن ما يكتنف المعاني من مالبسات وما يحيط بها من صالت‬
‫يفرز صورًا أخرى جديدة‪ ،‬فإذا ما حددنا الصالت الزمانية والمكانية للمعاني فقط‬
‫نرى أنه "يتركب من هذه األحوال صور شتّى من الكالم‪ ،‬وتكون المعاني الواقعة‬
‫بهذه االعتبارات بحسب ما قدمته من تعدد األفعال وتعدد مرفوعاتها ومنصوباتها‬
‫أو اتحاد جميع ذلك أو اتحاد بعض من ذلك وتعدد بعض‪ ،‬فتتضاعف صور‬
‫المعاني بذلك تضاعفًا يعز إحصاؤه‪ .‬والتركيبات التي تتنوع بها هيئات العبارات‬
‫وما تحتها من المعاني من جهة مواقع بعض المعاني من بعض‪ ،‬في األزمنة‬
‫واألمكنة على ما تقدم راجعة إلى المعاني التي تقدم التعريف بأنها تقع تحديدات في‬
‫األزمنة واألمكنة‪ .‬وكثيرًا ما يتأتى في هذه التركيبات تقسيم الكالم وتفصيله إلى‬
‫مقادير متعادلة متناسبة"(‪.)71‬‬
‫وتزداد صور الكالم المختلفة المتأتية أساسًا من التفريعات العالقة بالمعاني‬
‫المترتبة على ما يكتنفها في الزمان والمكان من وقائع وحاالت ثراء بصور‬
‫التكرار‪ ..‬الناتجة عن تعدد المفعوالت والفواعل واألفعال‪ ،‬وهذا تأكيد خاصية‬
‫التكاثر في هذه الصور‪ ..‬التي يعز إحصاؤها‪ ،‬حيث تتلبس بهيئات العبارات وما‬
‫تحتها من المعاني‪ ،‬وهو إقرار بتكامل التوالد بين العنصرين‪ ،‬المحكوم أساسًا‬
‫بجوهر هذه التنويعات المحدثة لكل هذه الصور‪ ..‬المتمثل في المعاني‪ .‬ويمكننا أن‬
‫نضيف لتأكيد ذلك رأيًا آخر لحازم في أشكال من الصور األخرى‪ ..‬التي يحدثها‬
‫أساس آخر تقوم عليه المعاني متمثًال في تحديداتها من العموم والخصوص أو‬
‫الكلية والجزئية وكذا األحكام الواقعة فيها‪ ،‬وكيفيات التخاطب "فإن هذه األشياء‬
‫أيضًا مما تتضاعف بها الصيغ والعبارات عن تلك المعاني فيؤدي تنوع صور‬
‫المعاني والعبارات‪ ،‬بجميع ذلك وبما قد ذكر أيضًا في غير هذا الموضع من هذا‬
‫الكتاب مما تتكاثر به صور المعاني‪ ،‬إلى وقوع المعاني على هيئات وصور يعز‬
‫حصرها وال يتأتى استقصاؤها لكثرتها"(‪.)72‬‬
‫إن حازمًا أراد أن يجد أساسًا آخر‪ -‬غير معاني النحو‪ -‬يؤسس عليه فكرته‬
‫في صلة المعاني باأللفاظ‪ ،‬ويدلل بواسطته على أشكال التوليدات المختلفة في‬
‫المعاني المرتبطة بأسس واحدة‪ ،‬ويكون منطلقه في بحث بنية القصيدة الكلية‪،‬‬
‫ولكن في قاعدة هذا التصور‪ ..‬ما قد يقترب من معاني النحو‪ ،‬ذلك أن الفروق‬
‫والوجوه المتعددة الناتجة عن مختلف التنويعات في األبنية األساسية في النحو‬
‫كالتفريعات عن الحال والمبتدأ والخبر وغيرها‪ ،‬تتيح للبليغ إمكانية التعبير عن‬

‫‪- 242 -‬‬


‫شتى المواقف مع إحداث التطابق بين كل بنية متفرعة من بنية نواه وغرضه‬
‫المقصود‪ ،‬وهي تمثل معتمد عبد القاهر في تشخيص بالغة النص وفنيته‪ .‬أما‬
‫المقابل عند حازم لوجوه النظم وفروقه فهو صور المعاني المتفرعة من أصول‬
‫تؤسس قواعد تنتظم صالت المعاني مطلقًا‪ ،‬ضبطت هذه األصول وفق تحديدات‬
‫منطقية وحيوية ولغوية‪ ،‬من هذه األصول مثًال حدود المعاني أو عالئقها بالزمان‬
‫والمكان‪ ،‬إذ يمكن انطالقًا من هذين األسين ووفق أشكال الترابط التي يمكن أن‬
‫تنتظم معنى وآخر‪ ،‬تفريع ُص وٍر شتى يبدو فيها التعاضد تامًا بين الهيئة التأليفية‬
‫اللفظية التي يتلبسها المعنى‪ ،‬والمعنى نفسه‪ ،‬فإذا أضفنا إلى ذلك أن أساس هذا‬
‫التنويع الحادث في هذه الصور إنما هو المعاني‪ ،‬مثلما تحدد في نظرية النظم لدى‬
‫عبد القاهر‪ ،‬من أن كل قصد للكالم إنما يتم بتوخي معاني النحو في معاني الكلم‪،‬‬
‫وأن كل قصد للترتيب وتوخي معاني النحو في الكلم إحداث لصورة تمامًا كتشكل‬
‫صور المعاني لدى حازم‪ ..‬من جّر اء تنويعات النسب بين المعاني‪ ،‬أمكن التقريب‬
‫بين النظريتين وإ ن تمايزت المناهج المعتمدة في كل نظرية‪.‬‬
‫ولكن استغالل حازم لنظرية النظم(‪ )73‬ال يلبث أن يبين عن نفسه صريحًا‬
‫عندما يتمادى في محاصرة صور المعاني التي تتنوع مصادرها‪ ..‬وإ ن انقسمت‬
‫حسب وجودها إلى ما لها وجود خارج الذهن أو إلى التي جعلت بالفرض بمنزلة‬
‫ما لها من وجود خارج الذهن‪ ،‬وإ لى ما ليس لها" وجود خارج الذهن أصًال‪ ،‬وإ نما‬
‫هي أمور ذهنية‪ ..‬محصولها صور تقع في الكالم بتنوع طرائق التأليف في‬
‫المعاني واأللفاظ الدالة عليها والتقاذف بها إلى جهات من الترتيب واإلسناد‪ ،‬وذلك‬
‫مثل أن تنسب الشيء على جهة وصفه به أو اإلخبار به أو تقديمه عليه في‬
‫الصورة المصطلح على تسميتها فعًال أو نحو ذلك‪ .‬فاالتباع والجر وما جرى‬
‫مجراها معان ليس لها خارج الذهن وجود‪ ،‬ألن الذي خارج الذهن هو ثبوت نسبة‬
‫شيء إلى شيء أو كون الشيء ال نسبة له إلى الشيء‪ .‬فأما أن يقّد م عليه أو يؤّخ ر‬
‫عنه أو يتصرف في العبارة عنه نحو من هذه التصاريف فأمور ليس وجودها إال‬
‫في الذهن خاصة"(‪ .)74‬فالنسب الحادثة بين المعاني القائمة على أشكال اإلسناد‬
‫والترتيب التي تحدثها خصائص بينها مردها صلة وصف أو خبر أو فعل أو‬
‫غيرها كالتقديم والتأخير‪ ،‬هي محصلة فاعلية النحو في الكالم‪ ،‬ومن ثمة فهي نتاج‬
‫فعل الذهن في مادة اللغة‪ ،‬وهي نتيجة تماثل ما يسنده عبد القاهر إلى العقل إذ‬
‫يعتبره الفاعل األول واألساسي في صياغة الكالم البليغ‪.‬‬
‫وقد خلص لحازم أيضًا من رأيه في صور المعاني قوانين ضابطة ألصول‬

‫‪- 243 -‬‬


‫هذه المعاني تنسحب على كل صنف منها‪ ،‬يتأكد إدراكها وإ دراك تفصيالتها‬
‫بالفكر‪ ،‬يقول‪" :‬وإ نما يعرف صحتها من خللها أو حسنها من قبحها بالقوانين الكلية‬
‫التي تنسحب أحكامها على صنف منها‪ ،‬ومن ضروب بيانها‪ .‬ويعلم من تلك الجمل‬
‫كيفية التفصيل‪ ،‬وال بد مع ذلك من الذوق الصحيح والفكر المائز بين ما يناسب وما‬
‫ال يناسب وما يصح وما ال يصح باالستناد إلى تلك القوانين على كل جهة من‬
‫جهات االعتبار في ضروب التناسب وغير ذلك مما يقصد تحسين الكالم به"(‪.)75‬‬
‫فإذا أضفنا إلى ضرورة اعتماد العقل في إدراك ما يالئم من هذه الصور وما‬
‫ال يالئم يعاضده الذوق الصحيح‪ ،‬وجوب االحتكام في ذلك إلى القوانين الكلية‬
‫الضابطة لهذه األصناف التي بواسطتها يعرف صحيح هذه الصور وفاسدها‪،‬‬
‫ويمّيز الحسن من القبيح‪ ،‬تمامًا كإسناد عبد القاهر هاتين الوظيفتين إلى معاني‬
‫النحو‪ ،‬تأكدت لنا الخطوط الخفية التي تسربت منها أسس نظرية النظم إلى آراء‬
‫حازم‪ ،‬ويزيد ذلك إبانة تأكيده "أن الطباع أحوج إلى التقويم في تصحيح المعاني‬
‫والعبارات عنها من األلسنة إلى ذلك في تصحيح مجاري أواخر الكلم"(‪ .)76‬فهذا‬
‫التأكيد يشبه إلحاح عبد القاهر على أن معاني النحو هي بمعزل عن أشكال‬
‫الحركات اإلعرابية الظاهرة إذ ال مزية في إدراك ذلك بين مدرك ومدرك‪ ،‬إنما‬
‫االعتبار للكيفيات التي تعمل وفقها معاني النحو في الكلم‪ ،‬وتلك وظيفة الطباع‬
‫والعقل وليست بذات صلة باللسان‪.‬‬

‫النظم واألسلوب أو شكل الشكل وشكل المضمون‬


‫ليس النظم واألسلوب إال تزيينات الحقة بجوهر الفعل التخيلي الذي يتحقق‬
‫في تخاييل المعاني من جهة األلفاظ‪ ،‬حتى الهيئات اللفظية وأشكال االقترانات بين‬
‫المعاني المسببة صورًا مختلفة من نوع التحسينات الملحقة‪ ،‬ذلك أن التخاييل تنقسم‬
‫"بالنسبة إلى الشعر قسمين‪ :‬تخييل ضروري‪ ،‬وتخييل ليس بضروري‪ ،‬ولكنه أكيد‬
‫أو مستحب‪ ،‬لكونه تكميًال للضروري وعونًا له على ما يراد من إنهاض النفس إلى‬
‫طلب الشيء أو الهرب منه‪ .‬والتخاييل الضرورية هي تخاييل المعاني من جهة‬
‫األلفاظ‪ .‬واألكيدة والمستحبة تخاييل اللفظ في نفسه وتخاييل األسلوب وتخاييل‬
‫األوزان والنظم‪ ،‬وآكد ذلك تخييل األسلوب"(‪.)77‬‬
‫فالمنظور الوظيفي لفعل المحاكاة هو الذي حدد التمايز بين أصناف‬
‫التخييالت‪ ،‬وذلك في انعكاس الغاية التخييلية المتمثلة في وظيفة التأثير على‬
‫خواص النص البنيوية‪ .‬من هنا يعتمد حازم اصطالح األوائل والثواني مرة أخرى‬

‫‪- 244 -‬‬


‫ليفرق بين صنفي التخييالت "فالتخييل األول يجري مجرى تخطيط الصور‬
‫وتشكيلها‪ .‬والتخييالت الثواني تجري مجرى النقوش في الصور والتوشية في‬
‫األثواب والتفصيل في فرائد العقود وأحجارها"(‪ ،)78‬لذلك يتنزل النظم واألسلوب‬
‫ضمن التوشية المزّينتين لفعل المحاكاة المكتمل بمحاكاة المقول فيه بالقول تمامًا‬
‫كهيئات اللفظ التحسينية‪ ،‬أو أشكال التناسب الحادثة بين المعاني من جّر اء أنماط‬
‫االقترانات بينها‪.‬‬
‫ووظائف التحسين تتراكم وفق هذا التصور كأعراض على جوهر يتحقق في‬
‫محاكاة المعنى باأللفاظ‪ ،‬ويكبر في دائرة أولى تظهر في هيئات األلفاظ والمعاني‬
‫لتتضخم في أسلوب ونظم‪ ،‬إذ "األسلوب هيئة تحصل عن التأليفات المعنوية‪،‬‬
‫والنظم هيئة تحصل عن التأليفات اللفظية"(‪ .)79‬ومن هنا يكون مسار البحث في‬
‫عالقات المعاني باأللفاظ على مستوى األسلوب تركيبًا أو تضخيمًا لما سلف من‬
‫تناول العنصرين في مستوى المعنى الجزئي‪ ،‬كما انعكس ذلك أيضًا في ما أسماه‬
‫حازم‪ ..‬عند ضبط قواعد الصناعة النظمية بالتخاييل الجزئية‪ ،‬والتخاييل الكلية‪.‬‬
‫فيكون بحث األسلوب تقصيًا للمعنى عندما يمتد ليشمل جهات عدة وأغراضًا عدة‪،‬‬
‫علمًا بأن دراسته في ذاته هنا كهيئة متشكلة من معاني جهات عدة قائمة على‬
‫حضوره في النص ضمن كيان النص المركب بغض النظر عن كونه محصلة‬
‫تشكل معاني لها وجه قيمي وأخالقي‪ .‬ويكون بحث النظم تأكيدًا لمسار بحث‬
‫األلفاظ في ذاتها على مستوى التحسين الصوتي‪ ،‬أو الداللة على المعنى‪ ،‬إذ ليس‬
‫النظم إال تراكمًا أللفاظ يشكل انسجامها وفق التنظيم اإليقاعي ألصواتها موسيقى‬
‫القصيدة‪ ،‬وتتحدد بدالالت الفصول المركبة منها المعاني المحاكاة‪ ،‬حيث يؤول‬
‫تركيب اللفظ في مستوييه إلى صلة بين فصول القصيدة‪ ،‬ومن ثم وحدتها المركبة‪.‬‬
‫ويتأسس المدخل التعريفي الذي يرصد المصطلحين وداللتهما على تقابل‬
‫صورتيهما الحاصلتين في المعاني واأللفاظ‪ ،‬لذلك "وجب أن تكون نسبة األسلوب‬
‫إلى المعاني كنسبة النظم إلى األلفاظ‪ ،‬ألن األسلوب يحصل عن كيفية االستمرار‬
‫في أوصاف جهة من جهات غرض القول وكيفية االطراد من أوصاف جهة إلى‬
‫جهة‪ .‬فكان بمنزلة النظم في األلفاظ الذي هو صورة كيفية االستمرار‪ ..‬في األلفاظ‬
‫والعبارات والهيئة الحاصلة عن كيفية النقلة من بعضها إلى بعض وما يعتمد فيها‬
‫من ضروب الوضع وأنحاء الترتيب"(‪.)80‬‬
‫ولما كان األسلوب هو هيئة حادثة في المعاني من جراء االنتقال بين معاني‬
‫الجهات المخيلة وفق الغرض أو األغراض‪ ..‬اقتضى ذلك التلطف في االنتقال‬

‫‪- 245 -‬‬


‫ومراعاة حسن االطراد والتناسب بين مقصد ومقصد‪ ،‬وتأكد بذلك ربط األسلوب‬
‫في تنوعه‪" :‬بحسب مسالك الشعراء في كل طريقة من طرائق الشعر‪ ،‬وبحسب‬
‫تصعيد النفوس فيها إلى حزونة الخشونة أو تصويبها إلى سهولة الرقة أو سلوكها‬
‫مذهبًا وسطًا‪ ،‬بين ما الن وما خشن من ذلك‪ .‬فإن الكالم منه ما يكون موافقًا‬
‫ألغراض النفوس الضعيفة الكثيرة اإلشفاق مما ينوبها أو ينوب غيرها‪ ،‬ومنه ما‬
‫يكون موافقًا ألغراض النفوس الخشنة القليلة المباالة باألحداث‪ ،‬ومنه ما يكون‬
‫موافقًا للنفوس المقبلة على ما يبسط أنسها"(‪ .)81‬والتفريعات الحادثة عن أشكال‬
‫التركيبات بين هذه األساليب الثالثة كثيرة ال يهمنا ذكرها‪ ،‬إنما المؤكد أن األسلوب‬
‫هيئة تحصل وفق االنسجام الحادث بين المسلك المتبع الموافق للطريقة الشعرية أو‬
‫الغرض الشعري‪ ،‬والحالة النفسية لقاصد القول المحددة بميل إلى الخشونة أو‬
‫الرقة أو التوسط بينهما‪ ،‬إذ يبدو كل موقف من هذه المواقف مالئمًا للغرض‬
‫المنتقى أو األغراض العديدة التي يمكن أن تنضوي تحت سلطان نمط من هذه‬
‫األنماط األسلوبية الرئيسية أو أحد تفريعاتها‪.‬‬
‫وإ ذا كان األسلوب هيئة ناتجة عن تلطف في االنتقال بين المعاني وهو ال‬
‫يعدو أن يشكل دائرة أوسع تحوي دوائر كثيرة تحدثها هيئات المعاني وصورها‬
‫الحادثة عن أشكال تناسبها‪ ،‬فإن النظم امتداد للفظ‪ ،‬ويجسد هذا االمتداد في جوهره‬
‫القائم على العالئق بينهما قول حازم "اعلم أن األبيات بالنسبة إلى الشعر المنظوم‬
‫نظائر الحروف المقطعة من الكالم المؤلف‪ ،‬والفصول المؤلفة من األبيات نظائر‬
‫الكلم المؤلفة من الحروف‪ .‬والقصائد المؤتلفة من الفصول‪ ..‬نظائر العبارات‬
‫المؤلفة من األلفاظ‪ .‬فكما أن الحروف إذا حسنت حسنت الفصول المؤلفة منها إذا‬
‫رتبت على ما يجب ووضع بعضها من بعض على ما ينبغي كما أن ذلك في الكلم‬
‫المفردة كذلك‪ .‬وكذلك يحسن نظم القصيدة من الفصول الحسان كما يحسن ائتالف‬
‫الكالم من األلفاظ الحسان إذا كان تأليفها منها على ما يجب‪ .‬وكما أن الكلم لها‬
‫اعتباران‪ :‬اعتبار راجع إلى مادتها وذاتها‪ ،‬واعتبار بالنسبة إلى المعنى الذي تدل‬
‫عليه‪ ،‬كذلك الفصول تعتبر في أنفسها وما يتعلق بهيئاتها ووضعها‪ ،‬وتعتبر بحسب‬
‫الجهات التي تضمنت الفصول واألوصاف المتعلقة بها"(‪ .)82‬وهكذا يعتمد حازم‬
‫مصطلح النظم في وصف بنية القصيدة كاملة هيئات شكلية ومعاني مدلوًال عليها‬
‫بالفصول المنتظمة لأللفاظ‪ .‬والحق أن حازمًا إذ يعتمد اصطالح النظم في بحث‬
‫بنية القصيدة يكيفه ليشمل مستوياتها المعنوية واللفظية في تفاعلها في أبيات‬
‫الفصول لتتطابق كلها مع الغرض المقصود‪ ،‬ذلك أن "المنحى الشعري نسيبًا كان‬
‫أو مدحًا أو غير ذلك‪ ..‬فإن نسبة الكالم المقول فيه إليه نسبة القالدة إلى الجيد‪ ،‬ألن‬
‫‪- 246 -‬‬
‫األلفاظ والمعاني كالآللئ‪ ،‬والوزن كالسلك والمنحى الذي هو مناط الكالم وبه‬
‫اعتالقه كالجيد لـه‪ .‬فكما أن الحلي يزداد حسنه في الجيد الحسن‪ ،‬فكذلك النظم إنما‬
‫يظهر حسنه في المنحى الحسن"(‪.)83‬‬
‫ومن هنا يتسع مفهوم النظم ليشمل مستويات القصيدة موسيقى وألفاظًا‬
‫ومعاني‪ .‬وما بحث قواعد الصناعة النظمية لدى حازم إال تأكيد ذلك‪ ،‬إذ بها تحدد‬
‫رأيه في صناعة القصيدة وفق منهج في النظم تتعاضد فيه مستوياتها في األسلوب‬
‫والنظم واألوزان والمعاني واأللفاظ‪ .‬وهو إذ يمتد بالنظم ليشمل بنية القصيدة كاملة‬
‫ال يغادر حدود عبد القاهر الجرجاني مطلقًا‪ ،‬وإ ن استطاع بالفك بين مستويي‬
‫المعاني واأللفاظ واألسلوب والنظم أن يستغل نظرية عبد القاهر بوضوح في‬
‫ضبط بالغة العبارة‪ ،‬لكنه أدرك أن معاني النحو ال تطول القصيدة كاملة إذ‬
‫يأسرها النحو في حدود الجملة‪ ،‬فكان عليه اعتماد اصطالح يسع بنية القصيدة‬
‫كاملة وليس أفضل من اعتماد النظم‪ ،‬إذ به يتحقق لحازم أمران‪ :‬إيجاد البديل‬
‫لمفهوم عبد القاهر في النظم الذي ال يتجاوز حدود العبارة‪ ،‬ومحاولة إلحام هذا‬
‫المفهوم الواسع للنظم بمفهوم الشعر المتجسد أساسًا في كونه تخييًال‪ ،‬وبذلك يتم‬
‫احتواء النظم ضمن هذا المفهوم األخير حيث ال يعدو أن يكون واألسلوب من‬
‫التخاييل الثواني‪.‬‬
‫استطاع حازم باعتماد النظم أن يبحث القصيدة معاني وألفاظًا وأن يفرع من‬
‫مبحث األلفاظ رصد موسيقى القصيدة‪ ،‬وهكذا اكتمل لـه احتواء مستوياتها الصوتية‬
‫والداللية كلها‪ .‬ونجتزئ في التدليل على ذلك ببضع مواقع البحث‪ ،‬منها درسه‬
‫قوانين انتظام الفصول حيث يرى أن "الكالم فيما يرجع إلى ذوات الفصول وإ لى‬
‫ما يجب في وضعها وترتيب بعضه من بعض يشتمل على أربعة قوانين‪ :‬القانون‬
‫األول‪ :‬في استجادة مواد الفصول وانتقاء جوهرها‪ .‬القانون الثاني‪ :‬في ترتيب‬
‫الفصول والمواالة بين بعضها البعض‪ .‬الثالث‪ :‬في ترتيب ما يقع في الفصول‪،‬‬
‫الرابع‪ :‬في ما يجب أن يقدم في الفصول وما يجب أن يؤخر فيها وتختم به"(‪.)84‬‬
‫ويتضح في القانون األول الذي يعرض لمواد الفصول ويؤكد ضرورة استجادة‬
‫هذه المواد وانتقاء جوهرها مستوى البحث في البنية العامة‪ ،‬إذ يجب أن تكون هذه‬
‫المواد "متناسبة المسموعات والمفهومات‪ ،‬حسنة االطراد غير متخاذلة النسج‪ ،‬غير‬
‫متميز بعضها عن بعض التمييز الذي يجعل كل بيت كأنه منحاز بنفسه ال يشمله‬
‫وغيره من األبيات بنية لفظية أو معنوية يتنزل بها منه منزلة الصدر من العجز أو‬
‫العجز من الصدر"(‪.)85‬‬

‫‪- 247 -‬‬


‫ويتأكد هذا المنحى الكلي في موقع آخر هو القانون الثالث الخاص بتأليف‬
‫بعض بيوت الفصل إلى بعض‪ ،‬حيث من مقتضياته وجوب إرداف "البيت األول‬
‫من الفصل بما يكون الئقًا به من باقي معاني الفصل‪ ..‬مثًال أن يكون مقابًال له‬
‫على جهة من جهات التقابل أو بعضه مقابًال لبعضه‪ ،‬أو يكون مقتضى له مثل أن‬
‫يكون مسببًا عنه‪ ،‬أو تفسيرًا له‪ ،‬أو محاكى بعض ما فيه ببعض ما في اآلخر‪ ،‬أو‬
‫غير ذلك من الوجوه التي تقتضي ذكر شيء بعد شيء آخر‪ .‬وكذلك الحكم في ما‬
‫يتلى به الثاني والثالث إلى آخر الفصل"(‪.)86‬‬
‫فإذا أدركنا أن هذه القوانين هي نفسها التي تنظم العالئق الحادثة بين المعاني‬
‫وأنها تطول هنا بنية النص كامًال‪ ،‬وهي نفسها المحدثة للهيئة األسلوبية الحادثة عن‬
‫طرائق االنتقال اللطيف بين معاني الجهات التي تؤسس مجموعة منها فصًال‬
‫واحدًا‪ ،‬أمكن ضبط هذا الخط الذي يلتحم فيه مستوى البحث األسلوبي العالق‬
‫بالمعنى بمستوى البحث اللفظي في درجته الثانية‪ ،‬التي هي داللة أبيات القصيدة‬
‫على المعاني‪ ..‬ويمتزج المستويان ويتالحمان في سبك عناصر القصيدة اللفظية‬
‫والمعنوية‪ ،‬هذا السبك الذي ينجر عنه توليد الداللة‪ ،‬ويترتب عليه تعاضد األبيات‬
‫والفصول بحسب األشكال المختلفة للتالحم والتناسب‪ .‬وإ ذ يتأكد اقتراب النظم من‬
‫األسلوب إذ ينبغي "مالحظة الوجوه التي تجعلهما معًا مخيلين للحال الذي يريد‬
‫تخيلها الشاعر‪ ..‬من رقة أو غلظة أو غير ذلك"(‪ .)87‬يكون االنتقال ميسورًا إلى‬
‫بحث المنازع الشعرية التي في ثناياها يبدو التالحم كأقوى ما يكون‪ ،‬بين بنية‬
‫النص اللفظية وبنيته المعنوية وال يتحقق ذلك إال بالمراهنة على معاني النحو‪.‬‬

‫المنزع الشعري‬
‫وتآلف العناصر الشكلية والمضمونية‬
‫"والمنازع هي الهيئات الحاصلة عن كيفيات مآخذ الشعراء في أغراضهم‬
‫وأنحاء اعتماداتهم فيها‪ ،‬وما يميلون بالكالم نحوه أبدًا‪ ،‬ويذهبون به إليه‪ ،‬حتى‬
‫يحصل بذلك للكالم صورة تقبلها النفس أو تمتنع من قبولها‪ .‬والذي تقبله النفس من‬
‫ذلك ما كانت المآخذ فيه لطيفة‪ ،‬والمقصد فيه مستطرفًا‪ ،‬وكان للكالم به حسن‬
‫موقع من النفس"(‪ .)88‬وعلى الرغم من أن المنزع يكاد يتعادل بهذا التحديد مع‬
‫الطريقة أو المنحى الذي ينتحيه شاعر ما في الكالم أبدًا حتى يعرف به‪ ،‬وإ ذ‬

‫‪- 248 -‬‬


‫ينحصر في نوع األسلوب المعتمد في الغرض المنتقى فإن درجة التحديد‬
‫المفهومي في هذه المقاربة األولى تعلق بالمستوى المعنوي من البنية‪ ،‬لذلك ال يجد‬
‫حازم بدًا من مزيد من التدقيق ومحاصرة الحد‪ ،‬إذ يرى أنه "قد يعني بالمنزع أيضًا‬
‫كيفية مأخذ الشاعر في بنية نظمه وصيغة عباراته وما يتخذه أبدًا كالقانون في ذلك‬
‫كمأخذ أبي الطيب في توطئة صدور الفصول للحكم التي يوقعها في نهاياتها‪ ،‬فإن‬
‫ذلك كله منزع اختص به أو اختص باإلكثار منه واالعتناء به‪ .‬وقد يعني بالمنزع‬
‫غير ذلك إال أنه راجع إلى معنى ما تقدم‪ ،‬فإنه أبدًا لطف مأخذ في عبارات أو معان‬
‫أو نظم أو أسلوب"(‪.)89‬‬
‫ومن هنا يستحيل المنزع وصفًا للمنحنى المعتمد في القول الشعري على‬
‫مستوى البنية المتضامة كلها‪ ،‬إذ ال يمكن ضبط الطريقة المعتمدة لدى شاعر إال‬
‫بمالحظة تعاضد عناصر الصياغة جميعًا‪ .‬من هنا يمكن اعتبار المنزع الصورة‬
‫المخصوصة المميزة لمنحى شاعر ما في الشعر‪ ،‬ولذلك ينبغي تحديد أنماط‬
‫التآلفات المتناسبة معاني وألفاظًا‪ ،‬المفرزة لخصوصية الصورة التي تكون محصلة‬
‫تفاعل بين مقصد نفسي وألوان من تلك التآلفات‪ ،‬إذ ال يخلو المأخذ في المنزع من‬
‫أن يكون‪-1" :‬من جهة تبديل‪-2 ،‬أو تغيير‪-3 ،‬أو اقتران بين شيئين‪-4 ،‬أو نسبة‬
‫بينهما‪-5 ،‬أو نقلة من أحدهما إلى اآلخر‪-6 ،‬أو تلويح به إلى جهة وإ شارة به‬
‫إليه"(‪.)90‬‬
‫وتمارس هذه األنحاء الستة من التصرف فعاليتها في المعاني الذهنية‪ ،‬إذ ال‬
‫يخلو أن تكون متعلقة "بالتصورات منها‪ ،‬أو بالنسبة الواقعة بين بعضها وبعض‪،‬‬
‫أو باألحوال المنوطة بها‪ ،‬أو بجهة األحكام فيها‪ .‬أو بالمحددات لها‪ ،‬أو بأنحاء‬
‫التخاطب المتعلق بها"(‪ ،)91‬وبتفاعل مآخذ المنازع ومسالكها بالمادة المعنوية‬
‫المتعلقة بمشمول ما يفرزه الذهن وما له به صلة يتشكل مسلك تعبيري متميز‬
‫فريد‪ ،‬إذ ستقود المقاصد النفسية الشاعر أو المعبر إلى أنحاء معينة من االعتمادات‬
‫من شأن تفاعلها مع أغراضه أن يوّلد أسلوبه الخاص‪ ،‬وال يكون ذلك إال باإلقرار‬
‫بالتالؤم التام بين المعنى وأشكال صياغته‪ .‬وهذه النتيجة قادت حازمًا إلى النحو‬
‫للتدليل على لطف المنزع‪ ،‬يقول‪" :‬وحسن المآخذ‪ ،‬في المنازع التي ينزع بالمعاني‬
‫واألساليب نحوها‪ ،‬يكون بلطف المذهب في االستمرار على األساليب واالطراد‬
‫في المعاني واإلثالج إلى الكالم من مدخل لطيف‪ .‬فتوجد للكالم بذلك طالوة‬
‫وحسن موقع من النفس ال توجد مع وضعه على خالف تلك الهيئة واإلثالج إليه‬
‫من غير ذلك المدخل‪ .‬وهذا النوع من الكالم ال يكاد يميزه إال الناقد البصير الجيد‬

‫‪- 249 -‬‬


‫الطبع‪ .‬ولك أن تعتبر حسن المأخذ في المعاني والعبارات عنها بقول أبي تمام‪:‬‬
‫يا بعد غاية دمع العين إن بعدوا‬
‫فلو أخلى المعنى من التعجب واقتصر على إيجاب بعد غاية الدمع لبعدهم لم‬
‫يكن له من حسن الموقع ما له في هذه العبارة التي أورده فيها‪ ،‬وكذلك أيضًا لو‬
‫عبر عن معنى التعجب بغير هذه العبارة فقال‪" :‬ما أبعد غاية دمع العين إن بعدوا"‬
‫لم يكن له من حسن الموقع ما له في هذه العبارة التي أورده فيها باقتران التعجب‬
‫بالمعنى في صورة النداء حسن منزع في الكالم ولطف مأخذ فيه"(‪.)92‬‬
‫فحسن وقع المعنى في النفس تترجمه صورة معناه الناتجة عن الصياغة المميزة لغرض الشاعر‬
‫المقصود‪ ،‬وهو "إيجاب بعد غاية الدمع لبعدهم" إذ تشكل هذا الغرض في صورة مخصوصة أوجدها‬
‫تفاعله مع معنى التعجب‪ ،‬هذا المعنى الذي أدي بصيغة النداء‪ ،‬فكان تعاضد مقصد الشاعر مع البنية‬
‫النحوية للعبارة في صيغة النداء التي انحرفت عن أداء معناها األصلي إلى معنى التعجب‪ ،‬هو السر في‬
‫جمال العبارة ومن ثمة في حسن موقعها في النفس‪ .‬ومن هنا يكون كل تغيير للبنية التي يوجدها تفاعل‬
‫النحو مع معاني الكلم أو غرض الشاعر ذهابًا لفضل الكالم ومزيته‪ ،‬وليس هذا الموقف إال استغالًال‬
‫لعبد القاهر‪ .‬ثم يعمد حازم إلى رصد هذه المزية باستثمار فكرة الوضع والصيغة‪ ،‬وليس ذلك إال‬
‫تشخيصًا للظاهرة من خالل وصف ما يترتب على وظائفها‪ ،‬إذ يرى أنه "قد يرد من حسن المأخذ ما ال‬
‫يقدر أن يعبر عن الوجه الذي من أجله حسن وال يعرف كنهه‪ ،‬غير أنه يعرف أنه مأخذ حسن في‬
‫العبارة‪ ..‬من حيث أنك إذا حاولت تغيير العبارة عن وضعها واإلثالج إليها من غير المهيع الذي منه‬
‫أثلج واضعها وجدت حسن الكالم زائًال بزوال ذلك الوضع والدخول إليه من غير ذلك المدخل‪ ،‬واعتبر‬
‫ذلك بقول أبي سعيد املخزومي‪:‬‬

‫إذا مشى الليث فيها مشى مختتل‬ ‫ذنبي إلى الخيل كّر ي في جوانبها‬
‫فإنك لو غيرت صيغة هذا البيت وأزلتها عن موضعها‪ ،‬فقلت مثًال‪" :‬كم‬
‫أذنبت إلى الخيل بكّر ي في جوانبها"‪ ،‬أو غيرته غير هذا التغيير لم تجد له من‬
‫حسن الموقع من النفس‪ ،‬ما لـه في صيغته ووضعه الذي وضعه عليه المخزومي"(‬
‫‪.)93‬‬
‫فعلى الرغم من تجنب حازم التدليل على حسن البيت باعتماد وجه نحوي‬
‫صريح فإن تعليل ذلك بالرجوع إلى وضعه وصيغته تحرك في حقل المفهوم العام‬
‫المترتب على النظم‪.‬‬
‫والخالصة إن حازمًا استطاع أن يؤلف من محصول آراء النقاد قبله في‬
‫النص وبخاصة الفالسفة وعبد القاهر تركيبة متماسكة‪ ،‬انصهر في أتونها "التخييل‬
‫والنظم" فولدا نظرية بالقدر الذي بحثت الشعر من جوانب عناصره الكلية التي‬
‫تحّد د مفهومه وغايته‪ ،‬بقدر ما كيفت أداته للغاية والمفهوم‪ ،‬فتجسدت بنيته اللغوية‬
‫في تالحم المعاني واأللفاظ في مراتب دائرية‪ ،‬تبدأ بمركز يترسخ في لحمة المعنى‬

‫‪- 250 -‬‬


‫المحاكى باللفظ‪ ،‬ليتسع قليًال في أشكال التأليفات والهيئات التي تنسج للجوهر‬
‫بعض االمتداد التحسيني األول‪ ،‬ثم تتضخم في كمال القصيدة في امتداد األسلوب‬
‫والنظم اللذين يشكالن بينتها التي تشمل أغراضًا شتى‪ ،‬ويلتحمان في ثنايا النسيج‬
‫في تعاضد المعاني مع صياغاتها المخصوصة‪.‬‬

‫‪‬‬
‫‪ ‬هوامش الفصل الخامس‬
‫(‪-)1‬أشار المحقق إلى مواضع عديدة يستعين فيها حازم بالفيلسوفين في الهامش‪ ،‬مثل ما ورد‬
‫في‪ 165 :‬هامش ‪ .1‬و‪ 63 :‬هامش ‪ .1‬و‪ 69 :‬هامش‪.3-1 -‬‬
‫(‪-)2‬نفسه‪.86 :‬‬
‫(‪-)3‬ينظر‪ :‬ابن حازم‪ ،‬التقريب لحد المنطق‪ .206 :‬الرسائل ‪ ،389 :1‬جـ‪.164-163 :3‬‬
‫(‪-)4‬حازم‪ ،‬المنهاج‪.122-121 :‬‬
‫(‪-)5‬نفسه‪.124 :‬‬
‫(‪-)6‬ينظر الفصل السابق‪.‬‬
‫(‪-)7‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.370 :‬‬
‫(‪-)8‬حازم‪ ،‬المنهاج‪.87 :‬‬
‫(‪-)9‬ينظر‪ :‬شوقي ضيف‪ ،‬البالغة تطور وتاريخ‪ ..32 :‬جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية‪.123 :‬‬
‫(‪-)10‬ينظر مثًال‪ :‬المنهاج‪ .135 :‬وكتاب الشعر‪.228 :‬‬
‫(‪-)11‬نفسه‪.19-18 :‬‬
‫(‪-)12‬ينظر‪ :‬جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪.305 :‬‬
‫(‪-)13‬حازم‪ ،‬المنهاج‪.17 :‬‬
‫(‪-)14‬وحازم بهذا يتأثر بالفالسفة اإلسالميين‪ .‬ينظر‪ :‬جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪.237 :‬‬
‫األخضر جمعي‪ ،‬نظرية الشعر‪.43-27 :‬‬
‫(‪-)15‬حازم‪ ،‬المنهاج‪.250-249 :‬‬
‫(‪-)16‬نفسه‪.193 :‬‬
‫(‪-)17‬نفسه‪.‬‬
‫(‪-)18‬نفسه‪.196-195 :‬‬
‫(‪-)19‬ينظر‪ :‬الفصل الخاص بالفالسفة‪.‬‬
‫(‪-)20‬حازم‪ ،‬المنهاج‪.89 :‬‬
‫(‪-)21‬نفسه‪.63 :‬‬

‫‪- 251 -‬‬


‫(‪-)22‬نفسه‪.71 :‬‬
‫(‪-)23‬نفسه‪.21 :‬‬
‫(‪-)24‬نفسه‪.19 :‬‬
‫(‪-)25‬نفسه‪.67 :‬‬
‫(‪-)26‬بياض بمقدار كلمتين باألصل‪ .‬المحقق‪.‬‬
‫(‪-)27‬حازم‪ ،‬المنهاج‪.362 :‬‬
‫(‪-)28‬نفسه‪.84 :‬‬
‫(‪-)29‬نفسه‪.72 :‬‬
‫(‪-)30‬نفسه‪.71 :‬‬
‫(‪-)31‬نفسه‪.81 :‬‬
‫(‪-)32‬نفسه‪.‬‬
‫(‪-)33‬نفسه‪.214 :‬‬
‫(‪-)34‬نفسه‪.42 :‬‬
‫(‪-)35‬نفسه‪.200-199 :‬‬
‫(‪-)36‬جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪.63 :‬‬
‫(‪-)37‬حازم‪ ،‬المنهاج‪.110-109 :‬‬
‫(‪-)38‬نفسه‪.204 :‬‬
‫(‪-)39‬شكري عياد‪ ،‬المؤثرات الفلسفية‪.11 :...‬‬
‫(‪-)40‬حازم‪ ،‬المنهاج‪.341 :‬‬
‫(‪-)41‬نفسه‪ 342 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪-)42‬نفسه‪.36 :‬‬
‫(‪-)43‬ينظر‪ :‬المنهاج‪.43-42 ،39 -38 -37 :‬‬
‫إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.557 :‬‬
‫جابر عصفور‪ ،‬الصورة الفنية‪.89 :‬‬
‫(‪-)44‬نفسه‪.118 :‬‬
‫(‪)45‬نفسه‪.119 :‬‬
‫(‪-)46‬بياض مقدار كلمة‪ .‬المحقق‪.‬‬
‫(‪-)47‬حازم‪ ،‬المنهاج‪.216-215 :‬‬
‫(‪-)48‬نفسه‪.129 :‬‬
‫(‪-)49‬ينظر الفصل السابق‪.‬‬

‫‪- 252 -‬‬


‫(‪-)50‬نفسه‪.222 :‬‬
‫(‪-)51‬نفسه‪.‬‬
‫(‪-)52‬نفسه‪.224-223 :‬‬
‫(‪-)53‬نفسه‪.225 :‬‬
‫(‪-)54‬نفسه‪.223 :‬‬
‫(‪-)55‬نفسه‪.175 :‬‬
‫(‪-)56‬نفسه‪.186-185-184 :‬‬
‫(‪-)57‬بياض باألصل مقداره ثالث كلمات‪ .‬المحقق‪.‬‬
‫(‪-)58‬حازم‪ ،‬المنهاج‪.187 :‬‬
‫(‪-)59‬نفسه‪.177 :‬‬
‫(‪-)60‬نفسه‪.216 :‬‬
‫(‪-)61‬نفسه‪.117-116 :‬‬
‫(‪-)62‬نفسه‪.23 :‬‬
‫(‪-)63‬جابر عصفور‪ ،‬مفهوم الشعر‪.350 :‬‬
‫(‪-)64‬ينظر الفصل الخاص بالفالسفة في الموضع الذي تعقب أشكال الترتيبات العالقة باأللفاظ‬
‫والمعاني‪.‬‬
‫(‪-)65‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي‪.570 :‬‬
‫(‪-)66‬دون أن ننسى اإلشارة إلى أن في مصادر الفالسفة ما يشكل منطلقات اعتمدها حازم أيضًا‬
‫في تأسيس الرأي في صور المعاني‪ .‬ينظر مثًال ابن رشد‪ .‬تلخيص الخطابة‪-547 :‬‬
‫‪.548‬‬
‫(‪-)67‬المنهاج‪.14 :‬‬
‫(‪-)68‬نفسه‪.‬‬
‫(‪-)69‬نفسه‪.37-36 :‬‬
‫(‪-)70‬نفسه‪.91-90 :‬‬
‫(‪-)71‬نفسه‪.35-34 :‬‬
‫(‪-)72‬نفسه‪.35 :‬‬
‫(‪-)73‬والحق أن النقاد والبالغيين المتأخرين لم يشذ أغلبهم من هذه القاعدة‪ ،‬إذ نجد في مؤلفاتهم‬
‫صدى نظرية النظم‪ ،‬وفهم عبد القاهر لعالقة اللفظ بالمعنى‪ .‬ينظر‪ :‬القزويني‪ .‬اإليضاح‬
‫‪ .106-105 ،82-81-80 :1‬الزمخشري‪ .‬الكشاف ‪ .146 ،24-23 :1‬ابن األثير‪،‬‬
‫الجامع الكبير‪ .64 :‬المثل السائر ‪ .230-229 ،213 ،116-115 :1‬ابن الزملكاني‪،‬‬
‫التبيان‪ .195 ،154-153 ،147 ،89 ،32 :‬العلوي‪ ،‬الطراز‪ ،157 ،181 :‬جـ‪:2‬‬
‫‪.225-224 ،167-166‬‬

‫‪- 253 -‬‬


‫(‪-)74‬نفسه‪.16-15 :‬‬
‫(‪-)75‬نفسه‪.35 :‬‬
‫(‪-)76‬نفسه‪.26 :‬‬
‫(‪-)77‬نفسه‪.89 :‬‬
‫(‪-)78‬نفسه‪.93 :‬‬
‫(‪-)79‬نفسه‪.364 :‬‬
‫(‪-)80‬نفسه‪.363 :‬‬
‫(‪-)81‬نفسه‪.354 :‬‬
‫(‪-)82‬نفسه‪.287 :‬‬
‫(‪-)83‬نفسه‪.342 :‬‬
‫(‪-)84‬نفسه‪.288 :‬‬
‫(‪-)85‬نفسه‪ .288 :‬وقد عرض لطرق الشعر العائدة إلى طريق الجد وطريق الهزل‪ 320 :‬وما‬
‫ينبغي أن تختص به كل طريقة‪ ،‬وكذا ضرورة مراعاة االنسجام بين معاني كل غرض‬
‫شعري وألفاظه على حدة كأن ينسجم لفظ المدح ومعناه‪ ،351 :‬وفق خصوصية الغرض‪.‬‬
‫وبحث الوزن الشعري وتالؤمه مع المعنى‪ .266-265 :‬ثم مستوى األغراض في‬
‫القصيدة الواحدة وكيفيات نظم القصائد المركبة‪ .319-318 :‬وكذا مواقع محددة في‬
‫القصائد كالمطالع والمقاطع والمبادئ وطرق الخروج والوصل‪.309-303-282 :‬‬
‫(‪-)86‬نفسه‪.290 :‬‬
‫(‪-)87‬نفسه‪.364 :‬‬
‫(‪-)88‬نفسه‪.365 :‬‬
‫(‪-)89‬نفسه‪.366 :‬‬
‫(‪-)90‬نفسه‪.367 :‬‬
‫(‪-)91‬نفسه‪.‬‬
‫(‪-)92‬نفسه‪.371 :‬‬
‫(‪-)93‬نفسه‪.372-371 :‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 254 -‬‬


‫خاتمة‬

‫إنه يمكننا اإلقرار في ختام هذه الرحلة بأن وعي النقاد العرب القدماء بمشكلة‬
‫اللفظ والمعنى‪ ،‬ووجوه التناول التي أفرزتها محاوالت استقصائهم الموضوع‪،‬‬
‫تتجاوز مجرد االنتصار لهذا الشق أو ذاك‪ ،‬إلى محاولة حصر منطقة التالحم بين‬
‫العنصرين؛ ذلك أن الوعي ظل في جوهره مشدودًا إلى أشكال التآلف التي يمكن‬
‫أن تلحمهما‪ ،‬أو التفاعل دون أن يغيب عن البال اهتمام أولئك أيضًا بمختلف‬
‫المعاني‪ ..‬التي استخدم فيها المصطلحان‪ ،‬ولكن البحث إذ ضبط منطقة استقصاء‬
‫واحدة هي عالئق الطرفين‪ ،‬أزاح ما عداها إال بالقدر الذي تمليه شروط القراءة‪.‬‬
‫من هنا يمكننا اإلقرار بأن أشكال العالئق التي تنتظم المعنى واللفظ في وعي النقد‬
‫العربي القديم‪ ..‬تقوم على مراهنات تبدأ من ضرورة تحقيق تطابقهما إلى مستوى‬
‫أعمق تبلغ فيه الصلة بين الطرفين مرحلة التفاعل الذي يكاد يحيلهما كًال واحدًا‪،‬‬
‫خاصة حين تمتد المعاينة لتعانق عبارة كاملة أو نصًا باالستناد إلى مفاتيح متطورة‬
‫مثل معاني النحو‪.‬‬
‫وإ ذ نقر أيضًا بأن دعوى التآلف بين العنصرين أو تفاعلهما‪ ،‬إذ تبدأ من‬
‫معاينة التجسد الفعلي لهذه الخاصية في مستوى إفرادي يلحم داًال ومدلوًال‪ ،‬تنتهي‬
‫إلى مسار معقد تتكامل فيه دوال عدة في بنية عبارة‪ ،‬أو تأتلف في فصول خطاب‬
‫في بنية كلية‪ ،‬دون أن يغيب عن الرصد معاينة مستويات الخطاب المؤتلفة أو‬
‫المتفاعلة دالليًا وتركيبيًا وصوتيًا‪ ،‬وإ ن تفاوتت عدسات الرؤية المعاينة للظاهرة‬
‫بين ناقد وناقد واتجاه وآخر‪.‬‬
‫فلقد قدر لمقاربة الجاحظ مشكلة اللفظ والمعنى‪ ،‬والنظم‪ ،‬أن تحوي أغلب‬
‫البذور التي استثمرتها المحاوالت التالية‪ ،‬إذ إن إلحاحه على ضرورة تحقيق‬
‫تطابقهما‪ ..‬ووعيه الحاد بلحمة عناصر النص في الخطاب الشعري خاصة‬

‫‪- 255 -‬‬


‫وتشكلها في نسيج متماسك‪ ،‬باإلضافة إلى ما أرهص به في بحث نظم القرآن‬
‫وحسن تأليفه وتركيبه من إلماحات‪ ،‬شكلت محاور االستقصاء المتجدد مع كل‬
‫دورة نقدية فاحصة لألشكال‪.‬‬
‫وعلى الرغم أن من جاء بعد الجاحظ من النقاد يظل مدينًا إلنجازه بالكثير‪،‬‬
‫فإن تنوع ما طرح في البيئات الثقافية الالحقة من قضايا‪ ،‬أملى شروطه على النقاد‬
‫الالحقين‪ ،‬فانطبع البحث في موضوع اللفظ والمعنى بخصوصية القضايا‬
‫المطروحة‪ ،‬إذ ارتبط بأشكال الموازنة بين الشعراء وتداخل مع ثنائية الفصاحة‬
‫والبالغة‪ ،‬وشد إلى مقابلة الشعر بالنثر‪ ،‬ومع ذلك ظلت مباشرة النقاد القضية‬
‫شاملة للطرفين‪ ،‬تقوم على مسلمة يقينية خالصتها ضرورة تطابقهما وتآلفهما‪.‬‬
‫ولقد ازداد مسار البحث خصوصية واقترابًا من وعي البناء المتمّيز للخطاب‬
‫األدبي عامة مع الفالسفة اإلسالميين‪ ..‬إذ مع اإلقرار بأن اهتمامهم بالشعر‬
‫والخطابة‪ ..‬لم تمله إال مقتضيات إكمال البحث في المنطق‪ ،‬إال أن تكييف النص‬
‫األدبي عمومًا والشعري خصوصًا بمقتضى وظيفته التخييلية‪ ،‬انعكس في وعي‬
‫عميق ببنيته اللغوية المتميزة التي تقوم على تالحم بنية الداللة مع األصوات‪ ،‬في‬
‫إطار من التأليف التركيبي المجسد في الهيئات التأليفية‪ ،‬من هنا كان التناول‬
‫الشعري لمعاني الحكمة مشروطًا بإخراجها وفق خصوصية الصياغة النوعية‬
‫للشعر‪ ،‬ومع ذلك لم يتولد من هذا اإلنجاز النوعي في قراءة النص الشعري إيمان‬
‫باستقالله المعرفي التام‪ ..‬إذ ظل كالحاشية على الحكمة‪ ،‬لذلك لم يكن لبنيته اللغوية‬
‫المتميزة أن تفرز داللتها المتفردة‪ ،‬أو أن تفسح المجال أللوان من التأويالت‪ ،‬وكأن‬
‫القضية ظلت أسيرة ثنائية الحقيقة المصوغة شعرًا‪.‬‬
‫من هنا يمكننا الجزم بأن نظرية النظم كما وصلتنا في طورها الناضج عند‬
‫عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬تمثل محاولة عميقة عرفها التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬تجلو‬
‫بمفاتيح متطورة إشكال اللفظ والمعنى والبنية العامة‪ ،‬إذ باعتمادها في تعليل‬
‫الظاهرة على قاعدة تفاعل معاني النحو مع معاني الكلم‪ ،‬وضعت اليد على نبض‬
‫دقيق وملموس يشخص الدقائق في تجسدها الفاعل‪ ،‬مدللة بذلك على أن تعليل‬
‫وحدة المفهوم الناتج عن تفاعل الوحدات الدالة قابل ألن يؤسس‪.‬‬
‫وعلى الرغم مما جوبهت به هذه النظرية من مآخذ كانحسارها في بنية‬
‫العبارة الواحدة‪ ،‬وإ غفالها مستوى البنية الصوتي‪ ..‬إذ انحسر بحثها في حدود‬
‫العبارة تركيبيًا ودالليًا بالخصوص‪ ،‬فإن تنزيلها في إطارها التاريخي قد يشفع‬
‫لكثير من تلك المآخذ‪ .‬هذه المآخذ التي يمكن التقليل من أهميتها أيضًا عند اإلشارة‬

‫‪- 256 -‬‬


‫إلى منطلقات هذه النظرية وأسسها القائمة على وعي دقيق باللغة‪ ،‬انطالقًا من‬
‫استغاللها ثنائية اللغة والكالم‪ ،‬ومستويات الكالم‪ ،‬وكذا الفهم المتطور للصورة‬
‫الشعرية المنزلة ضمن شمول النظم‪ ،‬وغير ذلك من العناصر الطريفة‪.‬‬
‫ثم تفاعلت قواعد التخييل الفلسفية مع أسس النظم الجرجانية عند حازم‬
‫القرطاجني في محاولة جادة اهتمت بالتنظير للشعر عمومًا‪ ..‬وأّر قها انتظام‬
‫عناصر الخطاب خصوصًا‪ ،‬فكان تحسس مشكالت اللفظ والمعنى واألسلوب‬
‫والنظم قواعد القرطاجني في مباشرة الظاهرة‪ ..‬إذ أّر قه إنجاز عبد القاهر الكبير‬
‫المعتمد على النحو‪ ،‬وجذبه الميل الفلسفي إلى "التخييل" الذي يبحث في الشعر‬
‫ويلح على جدواه‪ ،‬فكان أن انقدح من تشابك المنظورين رأي طريف بحيث فتق‬
‫وعي القرطاجني‪ُ ،‬م وِّلدًا جديدًا يضبط به صور التناسل المفرعة للمعاني وأشكال‬
‫تناسبها‪ ،‬وكذا هيئات العبارات وأنماط تآلفها ثم ينتهي إلى قراءة تأويلية للنظم‪ ،‬إذ‬
‫استحال بنية شاملة لقصيدة مؤتلفة من أغراض‪ .‬وهكذا التحم النقد العربي القديم‬
‫في مجرى انصهار أخير‪ ..‬تفاعلت في بوتقته عناصر فكرية أفرزها النقاد‬
‫وصقلها الفالسفة وأرسى قواعدها مؤسس النظم‪ ،‬ثم شاء لها مجرى األمور‪ ..‬أن‬
‫يؤّلف بينها القرطاجني في عصر لم يكن عنوانه إال التفكك واالنحالل‪.‬‬
‫وإ ذا كان في التراث النقدي والبالغي العربي اإلسالمي من زخم األفكار‬
‫وتنوع المصطلحات ما يستدعي القراءة المتجددة والتأويل‪ ،‬فإن في حيوية المناهج‬
‫الحديثة ما يكفل الكشف عن مناطق خفية في هذا التراث أو غامضة‪ ،‬أو يعيد تأويل‬
‫ما استقر له معنى في الكتابات والقناعات‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 257 -‬‬


‫المصادر والمراجع‬

‫‪-1‬المصادر والمراجع القديمة‬


‫اآلمدي (الحسن بن بشر)‪:‬‬
‫‪ -‬الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري‪ ،‬تحقيق السيد أحمد صقر‪ ،‬دار المعارف بمصر‪،‬‬
‫القاهرة‪1961 ،‬م‪1965 -‬م‪.‬‬
‫اآلمدي (سيف الدين)‪:‬‬
‫‪ -‬غاية المرام في علم الكالم‪ ،‬تحقيق حسن محمود عبد اللطيف‪ ،‬المجلس األعلى للشؤون‬
‫اإلسالمية‪ ،‬لجنة إحياء التراث‪ ،‬القاهرة‪1391 ،‬هـ‪1971 -‬م‪.‬‬
‫ابن أبي األصبع المصري‪:‬‬
‫‪ -‬تحرير التحبير‪ ،‬تحقيق حفني محمد شرف‪ ،‬لجنة إحياء التراث اإلسالمي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1383‬هـ‪1963 -‬م‪.‬‬
‫ابن أبي الحديد‪:‬‬
‫‪ -‬الفلك الدائر على المثل السائر‪ ،‬تحقيق أحمد الحوفي‪ ،‬وبدوي طبانة‪ ،‬دار نهضة مصر‪،‬‬
‫القاهرة‪1962 ،‬م‪.‬‬
‫ابن األثير‪:‬‬
‫‪ -‬الجامع الكبير‪ ،‬تحقيق مصطفى جواد وجميل سعيد‪ ،‬مطبعة المجمع العلمي العراقي‪،‬‬
‫‪1375‬هـ‪1956 -‬م‪.‬‬
‫‪ -‬المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر‪ ،‬تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة‪ ،‬دار نهضة‬
‫مصر‪ ،‬القاهرة‪1962 -1960 ،‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫ابن باجة‪:‬‬
‫‪ -‬رسائل ابن باجة اإللهية‪ ،‬تحقيق ماجد فخري‪ ،‬دار النهار للنشر‪ ،‬بيروت‪1968 ،‬م‪.‬‬
‫كتاب النفس‪ ،‬تحقيق محمد صغير حسن المعصومي‪ ،‬مطبوعات المجمع العلمي‬ ‫‪-‬‬
‫العربي‪ ،‬دمشق‪1379 ،‬هـ‪1960 -‬م‪.‬‬
‫ابن جعفر قدامة‪:‬‬
‫‪ -‬جواهر األلفاظ‪ ،‬تحقيق محمد محي الدين‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪1350 ،‬هـ‬
‫‪1932 -‬م‪.‬‬

‫‪- 258 -‬‬


‫‪ -‬نقد الشعر‪ ،‬تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫ابن جني‪:‬‬
‫‪ -‬الخصائص‪ ،‬تحقيق محمد علي النجار‪ ،‬دار الهدى للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪1952 ،‬م‪ ،‬ط‬
‫‪.2‬‬
‫ابن حزم‪:‬‬
‫‪ -‬التقريب لحد المنطق‪ ،‬تحقيق إحسان عباس‪ ،‬منشورات دار مكتبة الحياة‪ ،‬بيروت‪ ،‬م‪:‬‬
‫‪1959‬م‪.‬‬
‫ابن رشيد‪:‬‬
‫‪ -‬تلخيص الخطابة‪ ،‬تحقيق محمد سليم سالم‪ ،‬المجلس األعلى للشؤون اإلسالمية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1387‬هـ‪1967 -‬م‪.‬‬
‫‪ -‬تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر‪ ،‬ضمن كتاب فن الشعر ألرسطو‪ ،‬تحقيق عبد‬
‫الرحمن بدوي‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪1973 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫‪ -‬تلخيص كتاب النفس‪ ،‬تحقيق أحمد فؤاد األهواني‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ ،1950‬ط‪.1‬‬
‫‪ -‬تلخيص ما بعد الطبيعة‪ ،‬تحقيق عثمان أمين‪ ،‬البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪1958 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬تلخيص منطق أرسطو‪ ،‬العبارة‪ ،‬البرهان‪ ،‬الجدل‪ ،‬المغالطة‪ .‬تحقيق جيرار جهامي‪،‬‬
‫منشورات الجامعة اللبنانية‪ ،‬بيروت‪1982 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من االتصال‪ ،‬تحقيق محمد عمارة‪ ،‬المؤسسة‬
‫العربية للدراسة والنشر‪ ،‬بيروت‪1981 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫‪ -‬مناهج األدلة في عقائد الملة‪ ،‬تحقيق محمود قاسم‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1969‬م‪ ،‬ط‪.3‬‬
‫ابن رشيق‪:‬‬
‫‪ -‬العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده‪ ،‬تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد‪ ،‬المكتبة‬
‫التجارية‪ ،‬القاهرة‪1964 -1963 ،‬م‪ ،‬ط‪.3‬‬
‫‪ -‬قراضة الذهب في نقد أشعار العرب‪ ،‬تحقيق الشاذلي بويحي‪ ،‬الشركة التونسية للتوزيع‪،‬‬
‫تونس‪1972 ،‬م‪.‬‬
‫ابن الزملكاني‪:‬‬
‫‪ -‬التبيان في علم البيان‪ ،‬تحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي‪ ،‬مطبعة العاني‪ ،‬بغداد‪1383 ،‬هـ‪-‬‬
‫‪1964‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫ابن سينا‪:‬‬
‫‪ -‬اإلشارات والتنبيهات‪ ،‬أقسام المنطق والطبيعيات واإللهيات‪ ،‬تحقيق سليمان دنيا‪ ،‬دار‬
‫المعارف بمصر‪ ،‬القاهرة‪1971 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫‪ -‬اإللهيات من كتاب الشفاء‪ ،‬تحقيق األب قنواتي وسعيد زايد‪ ،‬الهيئة العامة لشؤون المطابع‬

‫‪- 259 -‬‬


‫األميرية‪ ،‬القاهرة‪1380 ،‬هـ‪1960 -‬م‪.‬‬
‫‪ -‬البرهان من كتاب الشفاء‪ ،‬تحقيق عبد الرحمن بدوي‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1954‬م‪.‬‬
‫‪ -‬تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات‪ ،‬مطبعة الجوائب‪ ،‬قسطنطينية‪1298 ،‬هـ‪1880 -‬م‪،‬‬
‫ط‪.1‬‬
‫‪ -‬التعليقات‪ ،‬تحقيق عبد الرحمن بدوي‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪1973 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬جوامع علم الموسيقى‪ ،‬تحقيق زكريا يوسف‪ ،‬وزارة التربية والتعليم‪ ،‬القاهرة‪1376 ،‬هـ‪-‬‬
‫‪1956‬م‪.‬‬
‫‪ -‬رسالة في إثبات النبوات‪ ،‬تحقيق ميشال مرمورة‪ ،‬دار النهار للنشر‪ ،‬بيروت‪1968 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬رسالة في ماهية العشق‪ ،‬نشر أحمد آتش‪ ،‬مطبعة إبراهيم خروز‪ ،‬استانبول‪1953 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬العبارة من كتاب الشفاء‪ ،‬تحقيق محمود الخضيري‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للتأليف‬
‫والنشر‪ ،‬القاهرة‪1390 ،‬هـ‪1970 -‬م‪.‬‬
‫‪ -‬عيون الحكمة‪ ،‬تحقيق عبد الرحمن بدوي‪ ،‬منشورات المعهد العلمي الفرنسي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1954‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ -‬فن الشعر‪ ،‬من كتاب الشفاء ضمن فن الشعر ألرسطو‪ ،‬تحقيق عبد الرحمن بدوي‪ ،‬دار‬
‫الثقافة‪ ،‬بيروت‪1973 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫‪ -‬القياس من كتاب الشفاء‪ ،‬تحقيق سعيد زايد‪ ،‬المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة‬
‫والنشر‪ ،‬القاهرة‪1384 ،‬هـ‪1964 -‬م‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب المجموع أو الحكمة العروضية في معاني كتاب الشعر‪ ،‬تحقيق محمد سليم سالم‪،‬‬
‫مطبعة دار الكتب‪ ،‬القاهرة‪1969 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬مجموع (رسائل ابن سينا)‪ ،‬مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد‪ ،‬الدكن‪1953 ،‬م‪،‬‬
‫ط‪.1‬‬
‫‪ -‬المدخل من كتاب الشفاء‪ ،‬تحقيق األب قنواتي ومحمود الخضيري وفؤاد األهواني‪ ،‬وزارة‬
‫المعارف العمومية‪ ،‬اإلدارة العامة للثقافة‪ ،‬القاهرة‪1952 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬منطق المشرقيين‪ ،‬تقديم شكري النجار‪ ،‬دار الحداثة‪ ،‬بيروت‪1982 ،‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ -‬النجاة وهو في الحكمة المنطقية والطبيعية واإللهية‪ ،‬مطبعة السعادة‪ ،‬القاهرة‪1331 ،‬هـ‪.‬‬
‫ابن شرف القيرواني‪:‬‬
‫‪ -‬أعالم الكالم‪ ،‬تصحيح وضبط عبد العزيز أمين الخانجي‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1344‬هـ‪1926 -‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫ابن طباطبا‪:‬‬
‫‪ -‬عيار الشعر‪ ،‬تحقيق طه الحاجري ومحمد زغلول سالم‪ ،‬المكتبة التجارية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1956‬م‪.‬‬
‫ابن طفيل‪:‬‬

‫‪- 260 -‬‬


‫‪ -‬حي بن يقظان‪ ،‬تحقيق أحمد أمين‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1952 ،‬م‪.‬‬
‫ابن عباد الصاحب‪:‬‬
‫‪ -‬الكشف عن مساوئ المتنبي‪ ،‬ملحق باإلبانة عن سرقات المتنبي للعميدي‪ ،‬تحقيق إبراهيم‬
‫الدسوقي البساطي‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1961 ،‬م‪.‬‬
‫ابن عبد ربه‪:‬‬
‫‪ -‬العقد الفريد‪ ،‬تحقيق أحمد الزين وأحمد أمين وإ براهيم األبياري‪ ،‬دار الكتاب العربي‪،‬‬
‫بيروت‪1403 ،‬هـ‪1983 -‬م‪.‬‬
‫ابن فارس‪:‬‬
‫‪ -‬الصاحبي في فقه اللغة‪ ،‬تحقيق مصطفى الشويمي‪ ،‬مؤسسة أ‪ .‬بدران للطباعة والنشر‪،‬‬
‫بيروت‪1383 ،‬هـ‪1964 -‬م‪.‬‬
‫ابن قتيبة‪:‬‬
‫‪ -‬تأويل مشكل القرآن‪ ،‬تحقيق السيد أحمد صقر‪ ،‬عيسى الحلبي‪ ،‬القاهرة‪1373 ،‬هـ‪-‬‬
‫‪1954‬م‪.‬‬
‫‪ -‬الشعر والشعراء‪ ،‬تحقيق أحمد محمد شاكر‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1966 ،‬م‪1967 -‬م‪،‬‬
‫ط‪.2‬‬
‫‪ -‬عيون األخبار‪ ،‬دار الكتب المصرية‪ ،‬القاهرة‪1346 ،‬هـ‪1928 -‬م‪ ،‬ط‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب المعاني الكبير‪ ،‬مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن‪ ،‬الهند‪،‬‬
‫‪1368‬هـ‪1949 -‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫ابن القيم الجوزية‪:‬‬
‫‪ -‬مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة‪ ،‬مكتبة الرياض الحديثة‪ ،‬الرياض‪.‬‬
‫ابن المدبر‪:‬‬
‫‪ -‬الرسالة العذراء في موازين البالغة‪ ،‬ضمن رسائل البلغاء‪ ،‬اختيار وتصنيف محمد كرد‬
‫علي‪ ،‬لجنة التأليف والترجمة والنشر‪ ،‬القاهرة‪1365 ،‬هـ‪1946 -‬م‪ ،‬ط‪.3‬‬
‫ابن مسكويه‪:‬‬
‫‪ -‬كتاب الفوز األصغر‪ ،‬طبع في بيروت‪1319 ،‬هـ‪.‬‬
‫ابن منقذ أسامة‪:‬‬
‫‪ -‬البديع في نقد الشعر‪ ،‬تحقيق أحمد أحمد بدوي وحامد عبد المجيد‪ ،‬البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1380‬هـ‪1960 -‬م‪.‬‬
‫ابن المنير‪:‬‬
‫‪ -‬االنتصاف فيما تضمنه الكشاف من االعتزال‪ ،‬بهامش الكشاف للزمخشري‪ ،‬مصطفى‬
‫البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪1367 ،‬هـ‪1948 -‬م‪.‬‬
‫ابن وهب‪:‬‬

‫‪- 261 -‬‬


‫‪ -‬البرهان في وجوه البيان‪ ،‬تحقيق أحمد مطلوب‪ ،‬وخديجة الحديثي‪ ،‬مطبعة العاني‪ ،‬بغداد‬
‫‪1387‬هـ‪1967 -‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫أبو عبيدة‪:‬‬
‫‪ -‬مجاز القرآن‪ ،‬تحقيق محمد فؤاد سزكين‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪1401 ،‬هـ‪1981 -‬م‪،‬‬
‫ط‪.2‬‬
‫إخوان الصفا‪:‬‬
‫‪ -‬رسائل إخوان الصفا وخالن الوفاء‪ ،‬تصحيح خير الدين الزركلي‪ ،‬المكتبة التجارية‪،‬‬
‫القاهرة‪1347 ،‬هـ‪1928 -‬م‪.‬‬
‫األشعري‪:‬‬
‫‪ -‬مقاالت اإلسالميين‪ ،‬تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد‪ ،‬دار الحداثة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1405‬هـ‪1985 -‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫األصفهاني (أبو القاسم عبد اهلل بن عبد الرحمن)‪:‬‬
‫‪ -‬الواضح في مشكالت شعر المتنبي‪ ،‬تحقيق محمد الطاهر بن عاشور‪ ،‬الدار التونسية‬
‫للنشر‪ ،‬تونس‪1968 ،‬م‪.‬‬
‫الباقالني‪:‬‬
‫‪ -‬إعجاز القرآن‪ ،‬تحقيق السيد أحمد صقر‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1981 ،‬م‪ ،‬ط‪.5‬‬
‫‪ -‬اإلنصاف‪ ،‬تحقيق محمد زاهد بن الحسن الكوثري‪ ،‬مؤسسة الخانجي للطباعة والنشر‪،‬‬
‫القاهرة‪1382 ،‬هـ‪1963 -‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫‪ -‬التمهيد‪ ،‬تحقيق األب رتشرد يوسف مكارثي اليسوعي‪ ،‬منشورات جامعة الحكمة في‬
‫بغداد‪ ،‬بيروت‪1957 ،‬م‪.‬‬
‫البغدادي (أبو طاهر محمد بن حيدر)‪:‬‬
‫‪ -‬قانون البالغة في نقد النثر والشعر‪ ،‬تحقيق محسن غاض عجيل‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪،‬‬
‫بيروت ‪1401‬هـ‪1981 -‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫التوحيدي (أبو حيان)‪:‬‬
‫‪ -‬البصائر والذخائر‪ ،‬تحقيق أحمد أمين والسيد أحمد صقر‪ ،‬لجنة التأليف والترجمة والنشر‪،‬‬
‫القاهرة‪1373 ،‬هـ‪1953 -‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ -‬البصائر والذخائر‪ ،‬تحقيق إبراهيم الكيالني‪ ،‬مكتبة أطلس ومطبعة اإلنشاء‪ ،‬دمشق‪ ،‬بدون‬
‫تاريخ‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب اإلمتاع والمؤانسة‪ ،‬تحقيق أحمد الزين وأحمد أمين‪ ،‬لجنة التأليف والترجمة‬
‫والنشر‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬بيروت‪ -‬صيدا‪1373 ،‬هـ‪1953 -‬م‪.‬‬
‫‪ -‬مثالب الوزيرين‪ ،‬تحقيق إبراهيم الكيالني‪ ،‬دار الفكر بدمشق‪1961 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬المقابسات‪ ،‬تحقيق حسن السندوبي‪ ،‬المكتبة التجارية الكبرى‪ ،‬القاهرة‪1347 ،‬هـ‪-‬‬
‫‪1929‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬

‫‪- 262 -‬‬


‫‪ -‬الهوامل والشوامل‪ ،‬نشر أحمد أمين والسيد أحمد صقر‪ ،‬لجنة التأليف والترجمة والنشر‪،‬‬
‫القاهرة‪1370 ،‬هـ‪1951 -‬م‪.‬‬
‫الجاحظ‪:‬‬
‫‪ -‬البيان والتبيين‪ ،‬تحقيق عبد السالم محمد هارون‪ ،‬لجنة التأليف والترجمة والنشر‪،‬‬
‫القاهرة‪1348 ،‬هـ‪1961 -‬م‪.‬‬
‫‪ -‬رسائل الجاحظ‪ ،‬تحقيق عبد السالم محمد هارون (دون نص)‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1965 -1964‬م‪.‬‬
‫‪ -‬العثمانية‪ ،‬تحقيق عبد السالم محمد هارون‪ ،‬مكتبة الخانجي بمصر‪ ،‬ومكتبة المثنى ببغداد‪،‬‬
‫‪1374‬هـ‪1955 -‬م‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب التربيع والتدوير‪ ،‬تحقيق شارل بالت‪ ،‬المعهد الفرنسي بدمشق للدراسات العربية‪،‬‬
‫دمشق‪1955 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب الحيوان‪ ،‬تحقيق عبد السالم محمد هارون‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1388‬هـ‪1969 -‬م‪ ،‬ط‪.3‬‬
‫‪ -‬مجموعة رسائل (ساسي)‪ ،‬مطبعة السعادة‪ ،‬القاهرة‪1324 ،‬هـ ‪1907‬م‪ .‬ط‪.1‬‬
‫‪ -‬مجموع رسائل الجاحظ‪ ،‬تحقيق محمد طه الحاجري (بنص) دار النهضة العربية‪،‬‬
‫بيروت‪.1983 ،‬‬
‫الجرجاني (عبد القاهر)‪:‬‬
‫‪ -‬أسرار البالغة‪ ،‬تحقيق هـ‪ .‬ريتر‪ ،‬مطبعة وزارة المعارف‪ ،‬استانبول‪1954 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬تحقيق السيد محمد رشيد رضا‪ ،‬دار المعرفة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1398‬هـ‪1978 -‬م‪.‬‬
‫‪ -‬الرسالة الشافية‪ ،‬ضمن ثالث رسائل في إعجاز القرآن‪ ،‬تحقيق محمد خلف اهلل ومحمد‬
‫زغلول سالم‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1387 ،‬هـ‪1968 -‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫الجرجاني (علي بن عبد العزيز)‪:‬‬
‫‪ -‬الوساطة بين المتنبي وخصومه‪ ،‬تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي‪،‬‬
‫مطبعة عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪1386 ،‬هـ‪1966 -‬م‪ ،‬ط‪.4‬‬
‫الجمحي (ابن سالم)‪:‬‬
‫‪ -‬طبقات فحول الشعراء‪ ،‬تحقيق محمود محمد شاكر‪ ،‬مطبعة المدني‪1974 ،‬م‪.‬‬
‫الحاتمي‪:‬‬
‫‪ -‬الرسالة الموضحة‪ ،‬تحقيق محمد يوسف نجم‪ ،‬دار صادر‪ ،‬دار بيروت‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1385‬هـ‪1965 -‬م‪.‬‬
‫الخطابي‪:‬‬
‫‪ -‬بيان إعجاز القرآن‪ ،‬ضمن ثالث رسائل في إعجاز القرآن‪ ،‬تحقيق محمد خلف اهلل ومحمد‬
‫زغلول سالم‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1387 ،‬هـ‪1968 -‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬

‫‪- 263 -‬‬


‫الخفاجي (ابن سنان)‪:‬‬
‫‪ -‬سر الفصاحة‪ ،‬تحقيق عبد المتعال الصعيدي‪ ،‬مطبعة محمد علي صبيح‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1389‬هـ‪1969 -‬م‪.‬‬
‫الخوارزمي‪:‬‬
‫‪ -‬مفاتيح العلوم‪ ،‬تصحيح ونشر ح‪ .‬فان فلوتن‪ ،‬مطبعة بريل‪ ..‬ليدن‪1895 ،‬م (طبعة‬
‫مصورة عن الطبعة األولى‪1349 ،‬هـ‪1930 -‬م‪.‬‬
‫الرماني‪:‬‬
‫‪ -‬النكت في إعجاز القرآن‪ ،‬ضمن ثالث رسائل في إعجاز القرآن‪ ،‬تحقيق محمد خلف اهلل‬
‫ومحمد زغلول سالم‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1387 ،‬هـ‪1968 -‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫الزركشي‪:‬‬
‫‪ -‬البرهان في علوم القرآن‪ ،‬تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1376‬هـ‪1957 -‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫الزمخشري‪:‬‬
‫‪ -‬تفسير الكشاف‪ ،‬تحقيق محمد موسى عامر‪ ،‬دار المصحف‪ ،‬القاهرة‪1397 ،‬هـ‪-‬‬
‫‪1977‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫السكاكي‪:‬‬
‫‪ -‬مفتاح العلوم‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬
‫سيبويه‪:‬‬
‫‪ -‬الكتاب‪ ،‬تحقيق عبد السالم محمد هارون‪ ،‬جـ‪ ،1‬دار القلم‪ ،‬القاهرة‪1966 ،‬م‪ ،‬جـ‪ ،2‬دار‬
‫الكتاب العربي‪ ،‬القاهرة‪1968 ،‬م‪.‬‬
‫السيوطي‪:‬‬
‫‪ -‬المزهر في علوم اللغة وأنواعها‪ ،‬تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي‬
‫ومحمد أحمد جاد المولى‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬
‫الشهرستاني‪:‬‬
‫‪ -‬الملل والنحل‪ ،‬تحقيق محمد سيد كالني‪ ،‬دار المعرفة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1395‬هـ‪1975 -‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫‪ -‬نهاية اإلقدام في علم الكالم‪ ،‬تصحيح الفرد جيوم‪ ،‬مكتبة المثنى ببغداد‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬
‫الصولي‪:‬‬
‫‪ -‬أخبار أبي تمام‪ ،‬تحقيق صالح األشتر‪ ،‬دار الفكر بدمشق‪1384 ،‬هـ‪1964 -‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫عبد الجبار (القاضي أبو الحسن)‪:‬‬
‫‪ -‬إعجاز القرآن‪ ،‬الجزء السادس عشر من المغني في أبواب التوحيد والعدل‪ ،‬تحقيق أمين‬
‫الخولي‪ ،‬دار الكتب‪ ،‬القاهرة‪1380 ،‬هـ‪1960 -‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬

‫‪- 264 -‬‬


‫‪ -‬قضية القرآن‪ ،‬الجزء السابع من المغني‪ ...‬قوم نصه إبراهيم األبياري‪ ،‬الشركة العربية‬
‫للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪1380 ،‬هـ‪1961 -‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫العسكري (أبو هالل)‪:‬‬
‫‪ -‬ديوان المعاني‪ ،‬مكتبة القدسي‪ ،‬القاهرة‪1352 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب الصناعتين‪ ،‬تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬عيسى البابي‬
‫الحلبي‪ ،‬القاهرة‪1971 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫العلوي‪:‬‬
‫‪ -‬كتاب الطراز المتضمن ألسرار البالغة وعلوم حقائق اإلعجاز‪ ،‬مطبعة المقتطف‪،‬‬
‫القاهرة‪1332 ،‬هـ‪1914 -‬م‪.‬‬
‫الغزالي‪:‬‬
‫‪ -‬قواعد العقائد‪ ،‬تحقيق سعيد زايد‪ ،‬القاهرة‪1960 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب االقتصاد في االعتقاد‪ ،‬تصحيح مصطفى القباني‪ ،‬الطبعة األدبية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬بدون‬
‫تاريخ‪.‬‬
‫‪ -‬المقصد األسنى في شرح أسماء اهلل الحسنى‪ ،‬تحقيق فضلة شحادة‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1971‬م‪.‬‬
‫‪ -‬منطق تهافت الفالسفة المسمى معيار العلم‪ ،‬تحقيق سليمان دنيا‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1969‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫الفارابي‪:‬‬
‫‪ -‬إحصاء العلوم‪ ،‬تحقيق عثمان أمين‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪1949 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫‪ -‬رسالة في قوانين صناعة الشعراء‪ ،‬ضمن كتاب فّن الشعر ألرسطو‪ ،‬تحقيق عبد الرحمن‬
‫بدوي‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪1973 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫‪ -‬رسالة للفارابي في الرد على يحيى النحوي في الرد على أرسطوطاليس‪ ،‬ضمن رسائل‬
‫فلسفية للكندي والفارابي وابن باجة وابن عدي‪ ،‬تحقيق عبد الرحمن بدوي‪ ،‬دار‬
‫األندلس‪ ،‬بيروت‪1983 ،‬م‪ ،‬ط‪.3‬‬
‫‪ -‬شرح لكتاب أرسطوطاليس في العبارة‪ ،‬نشر ولهلم كوتش اليسوعي وستانلي مارو‬
‫اليسوعي‪ ،‬المطبعة الكاثوليكية‪ ،‬بيروت‪1960 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬فصول منتزعة‪ ،‬تحقيق فوزي متري نجار‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪1971 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬فلسفة أرسطوطاليس وأجزاء فلسفته ومراتب أجزائها والموضوع الذي منه ابتدأ وإ ليه‬
‫انتهى‪ ،‬تحقيق محسن مهدي‪ ،‬دار مجلة شعر‪ ،‬بيروت‪1961 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة‪ ،‬تحقيق ألبير نصري نادر‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1982‬م‪ ،‬ط‪.4‬‬

‫‪ -‬كتاب األلفاظ المستعملة في المنطق‪ ،‬تحقيق حسن مهدي‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪،‬‬

‫‪- 265 -‬‬


‫‪1968‬م‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب الحروف‪ ،‬تحقيق محسن مهدي‪ ،‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪1970 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات‪ ،‬تحقيق فوزي متري نجار‪ ،‬المطبعة‬
‫الكاثوليكية‪ ،‬بيروت‪1964 ،‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ -‬كتاب الشعر‪ ،‬تحقيق محسن مهدي‪ ،‬مجلة شعر‪ ،‬المجلد الثالث‪ ،‬العدد ‪ ،12‬بيروت‪،‬‬
‫‪1959‬م‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب في المنطق‪ ،‬العبارة‪ ،‬تحقيق محمد سليم سالم‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫القاهرة‪1976 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬كتاب الموسيقى الكبير‪ ،‬تحقيق غطاس عبد الملك خشبة‪ ،‬دار الكتاب العربي للطباعة‬
‫والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬
‫الفراء‪:‬‬
‫‪ -‬معاني القرآن‪ ،‬تحقيق محمد علي النجار‪ ،‬أحمد يوسف نجاتي‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1403‬هـ‪1981 -‬م‪ ،‬ط‪.3‬‬
‫القرطاجني (حازم)‪:‬‬
‫‪ -‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪،‬‬
‫بيروت‪1981 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫القزويني (محمد بن عبد الرحمن المعروف بالخطيب)‪:‬‬
‫‪ -‬اإليضاح في علوم البالغة‪ ،‬تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي‪ ،‬دار الكتاب اللبناني‪،‬‬
‫بيروت‪1395 ،‬هـ‪1975 -‬م‪ ،‬ط‪.4‬‬
‫الكندي (يعقوب بن إسحاق)‪:‬‬
‫‪ -‬رسائل الكندي الفلسفية‪ ،‬تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1950‬م‪.‬‬
‫المبرد‪:‬‬
‫‪ -‬الكامل‪ ،‬تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاته‪ ،‬مطبعة نهضة مصر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬م‪:‬‬
‫‪1376‬هـ‪1956 -‬م‪.‬‬
‫المرتضى (الشريف علي بن الحسين)‪:‬‬
‫‪ -‬أمالي المرتضى‪ ،‬تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1387‬هـ‪1967 -‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫‪ -‬الشهاب في الشيب والشباب‪ ،‬مطبعة الجوائب قسطنطينية‪1302 ،‬هـ‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ -‬طيف الخيال‪ ،‬تحقيق حسن كامل الصيرفي‪ ،‬عيسى البابي الحلبي‪ ،‬القاهرة‪1381 ،‬هـ‪-‬‬
‫‪1962‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫المرزوقي‪:‬‬
‫‪ -‬شرح ديوان الحماسة‪ ،‬تحقيق أحمد أمين وعبد السالم هارون‪ ،‬لجنة التأليف والترجمة‬

‫‪- 266 -‬‬


‫والنشر‪ ،‬القسم األول‪ ،‬القاهرة‪1371 ،‬هـ‪1951 -‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫النواجي (شمس الدين محمد بن حسن)‪:‬‬
‫‪ -‬مقدمة في صناعة النظم والنثر‪ ،‬تحقيق محمد بن عبد الكريم‪ ،‬دار مكتبة الحياة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -2‬المراجع الحديثة‬
‫إبراهيم طه أحمد‪:‬‬
‫‪ -‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪1405 ،‬هـ‪1985 -‬م‪،‬‬
‫ط‪.1‬‬
‫انيس إبراهيم‪:‬‬
‫‪ -‬داللة األلفاظ‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬القاهرة‪1963 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫البشير المجدوب‪:‬‬
‫‪ -‬تحليل نقدي لمفهوم النثر الفني عند القدامى‪ ،‬ضمن قضايا األدب العربي‪ ،‬نشر مركز‬
‫الدراسات واألبحاث االقتصادية واالجتماعية بتونس‪1978 ،‬م‪.‬‬
‫جمعي األخضر‪:‬‬
‫‪ -‬نظرية الشعر عند الفالسفة اإلسالميين‪ ،‬مخطوط بمكتبة جامعة الجزائر‪.‬‬
‫الجندي درويش‪:‬‬
‫‪ -‬نظرية عبد القاهر في النظم‪ ،‬مكتبة نهضة مصر‪ ،‬القاهرة‪1960 ،‬م‪.‬‬
‫الحاج صالح عبد الرحمن‪:‬‬
‫‪ -‬مدخل إلى علم اللسان الحديث‪ ،‬مجلة اللسانيات‪ ،‬معهد العلوم اللسانية والصوتية‪ ،‬جامعة‬
‫الجزائر‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬عدد‪ ،1971 ،1‬عدد ‪ ،1971 ،2‬المجلد الثاني‪ ،‬عدد ‪،1‬‬
‫‪ ،1972‬العدد ‪.1974 -1973 ،4‬‬
‫الحاج كمال يوسف‪:‬‬
‫‪ -‬في فلسفة اللغة‪ ،‬دار النهار للنشر‪ ،‬بيروت‪1967 ،‬م‪.‬‬
‫راضي عبد الحكيم‪:‬‬
‫‪ -‬النقد اللغوي في التراث العربي‪ ،‬مجلة فصول‪ ،‬المجلد السادس‪ ،‬العدد ‪ ،2‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1986‬م‪.‬‬
‫الروبي ألفت كمال‪:‬‬
‫‪ -‬نظرية الشعر عند الفالسفة المسلمين‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪1983 ،‬م‪ ،‬ط‬
‫‪.1‬‬
‫زهران البدراوي‪:‬‬
‫‪ -‬عالم اللغة عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫زيدان محمود فهمي‪:‬‬

‫‪- 267 -‬‬


‫‪ -‬في فلسفة اللغة‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬بيروت‪1405 ،‬هـ‪1985 -‬م‪.‬‬
‫سالم محمد زغلول‪:‬‬
‫‪ -‬تاريخ النقد العربي إلى القرن الرابع الهجري‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1964 ،‬م‪.‬‬
‫صمود حمادي‪:‬‬
‫‪ -‬التفكير البالغي عند العرب‪ ،‬أسسه وتطوره إلى القرن السادس‪ ،‬منشورات الجامعة‬
‫التونسية‪ ،‬السلسلة السادسة‪ ،‬الفلسفة واآلداب‪ ،‬مجلد عدد ‪ ،21‬تونس‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬مالحظات حول مفهوم الشعر عند العرب‪ ،‬ضمن قضايا األدب العربي‪ ،‬نشر مركز‬
‫الدراسات واألبحاث االقتصادية واالجتماعية بتونس‪1978 ،‬م‪.‬‬
‫ضيف شوقي‪:‬‬
‫‪ -‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪1965 :‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫عاصي ميشال‪:‬‬
‫‪ -‬مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ‪ ،‬مؤسسة نوفل‪ ،‬بيروت‪1981 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫عباس إحسان‪:‬‬
‫تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪1404 ،‬هـ‪1983 -‬م‪ ،‬ط‪.4‬‬ ‫‪-‬‬
‫عبد البديع لطفي‪:‬‬
‫‪ -‬التركيب اللغوي لألدب‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬القاهرة‪1970 ،‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫عصفور جابر‪:‬‬
‫‪ -‬الصورة الفنية في التراث النقدي والبالغي عند العرب‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر‪،‬‬
‫بيروت‪1983 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫‪ -‬مفهوم الشعر‪ ،‬المركز العربي للثقافة والعلوم‪1982 ،‬م‪.‬‬
‫عياد شكري‪:‬‬
‫‪ -‬كتاب أرسطو طاليس في الشعر‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬القاهرة‪1967 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬المؤثرات الفلسفية والكالمية في النقد العربي والبالغة العربية‪ ،‬مجلة األقالم‪ ،‬العدد ‪،11‬‬
‫السنة الخامسة عشرة‪ ،‬بغداد‪1980 ،‬م‪.‬‬
‫غرنباوم غوستاف فون‪:‬‬
‫‪ -‬دراسات في األدب العربي‪ ،‬ترجمة‪ :‬إحسان عباس وآخرين‪ ،‬دار مكتبة الحياة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪.1959‬‬
‫فاخوري عادل‪:‬‬
‫‪ -‬علم الداللة عند العرب‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪1985 ،‬م‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫كوربان هنري‪:‬‬
‫‪ -‬تاريخ الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬ترجمة‪ :‬نصيرة مروة‪ ،‬حسن قبيسي منشورات عويدات‪،‬‬
‫بيروت‪1983 ،‬م‪ ،‬ط‪.3‬‬

‫‪- 268 -‬‬


‫المسدي عبد السالم‪:‬‬
‫‪ -‬البيان والتبيين بين منهج التأليف ومقاييس األسلوب‪ ،‬ضمن قراءات مع الشابي والمتنبي‬
‫والجاحظ وابن خلدون‪ ،‬الشركة التونسية للتوزيع‪ ،‬تونس‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬التفكير اللساني في الحضارة العربية‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬ليبيا‪ -‬تونس‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -‬اللسانيات وأسسها المعرفية‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬المؤسسة الوطنية للكتاب‪ ،‬تونس‪-‬‬
‫الجزائر‪1986 ،‬م‪.‬‬
‫المهيري عبد القادر‪:‬‬
‫‪ -‬مساهمة في التعريف بآراء عبد القاهر الجرجاني في اللغة والبالغة‪ ،‬ضمن حوليات‬
‫الجامعة التونسية‪ ،‬العدد ‪1974 ،11‬م‪.‬‬
‫موهوب مصطفاي‪:‬‬
‫‪ -‬المثالية في الشعر العربي‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر‪1982 ،‬م‪.‬‬
‫ناصف مصطفى‪:‬‬
‫‪ -‬دراسة األدب العربي‪ ،‬دار األندلس‪ ،‬بيروت‪1401 ،‬هـ‪1981 -‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫‪ -‬نظرية المعنى في النقد العربي‪ ،‬دار األندلس‪ ،‬بيروت‪1401 ،‬هـ‪1981 -‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬
‫النشار علي سامي‪:‬‬
‫‪ -‬المنطق الصوري منذ أرسطو حتى عصورنا الحاضرة‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1971‬م‪ ،‬ط‪.5‬‬
‫‪ -‬مناهج البحث عند مفكري اإلسالم‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪1367 ،‬هـ‪1947 -‬م‪ ،‬ط‬
‫‪.1‬‬
‫يونس عبد الحميد‪:‬‬
‫‪ -‬األسس الفنية للنقد األدبي‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬القاهرة‪1966 ،‬م‪ ،‬ط‪.2‬‬

‫المراجع األجنبية‬
‫‪BEN CHEIKH Jamal Eddine:‬‬
‫‪- Poétique Arabe, ed. Antropos, Paris, 1975.‬‬
‫‪BENVENISTE Emile:‬‬
‫‪- Problèmes de linguistique Générale, t.2, Gallimard, 1974.‬‬
‫‪CHAUCHARD Paul:‬‬
‫‪- Le langage et la pensée, P.U.F., Paris, 1968, 7éme ed.‬‬
‫‪COHEN Jean:‬‬
‫‪- Structure du langage poétique, flammarion, Paris, 1966.‬‬
‫‪DE SAUSSURE Ferdinand:‬‬
‫‪- Cours de linguistique générale, publié par charles Bally et Albert‬‬
‫‪Sechehaye, ed. Critique preparée par de Mauro, Payot, Paris,‬‬

‫‪- 269 -‬‬


1981.
DUCROT Oswald, Todorov TZVETAN:
- Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage, ed. Seuil,
Paris, 1972.
JAKOBSON Roman:
- Essais de linguistique générale, t1, ed. de Minuit, Paris, 1963.
- Six leçons sur le son et le sens, ed. de Minuit, Paris, 1976.
MADKOUR Ibrahim:
- l’ Organon d’Aristote dans le monde Arabe, librairie
philosophique, Paris, 1969, 2éme ed.
MARTINET André:
- Eléments de linguistique générale, Librairie Armand Colin, Paris,
1970.
MOUNIN Georges:
- Clefs pour la singuistique, ed. Seghers, Paris, 1971.
- La linguistique du 20éme siecle, P.U.F, 1972.
KRISTEVA Julia:
- Le langage cet inconnu, ed. du seuil, Paris, 1981.
LEROY Maurice:
- Les grands courants de la linguistique modérne, ed. de
l’Université de Bruxelles, 1980, 2éme ed.
SCHAFF Adam:
- Langage et connaissance, traduit du polonais par claire Brendel,
ed. Anthropos, 1969.
TRABULSI Amjad:
- La critique poétique des Arabes jusqu’ au 5éme siécle do l’hégire,
Institut Francais de Damas, 1955.



- 270 -
‫المحتويات‬
‫اإلهداء ‪5...........................................................................‬‬
‫مقدمة ‪7............................................................................‬‬
‫مدخل اللغة بين أصناف الدالالت ‪13..............................................‬‬
‫عالقة اللغة بالفكر‪17............................................ :‬‬
‫قضية الكالم النفسي وأثرها في اللفظ والمعنى‪23...................‬‬
‫مفهوم الهيولى والصورة وإ شكال اللفظ والمعنى‪25.................‬‬
‫أثر المجاز في بحث اللفظ والمعنى‪28.............................‬‬
‫‪ ‬هوامش المدخل‪30...................................................... :‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬بنية النص األدبي من الجاحظ إلى قدامة بن جعفر‪37...........‬‬
‫الجاحظ وتطابق اللفظ والمعنى‪37.................................‬‬
‫ابن قتيبة وابن طباطبا والمنظور الثنائي في فهم النص األدبي‪57. .:‬‬
‫قدامة بن جعفر وائتالف عناصر النص‪67.........................‬‬
‫‪ ‬هوامش الفصل األول‪74................................................ :‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬النص األدبي بين ثنائية اللفظ والمعنى والفصاحة والبالغة حتى‬
‫ابن رشيق ‪81................................................................‬‬
‫اللفظ والمعنى عند أصحاب الموازنات‪82..........................‬‬
‫النص األدبي وإ شكال الفصاحة والبالغة‪94........................‬‬
‫ائتالف اللفظ والمعنى عند نقاد القرن الخامس الهجري‪114........‬‬
‫‪ ‬هوامش الفصل الثاني‪121................................................‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الشعر بين المحتوى والشكل عند الفالسفة اإلسالميين‪129......‬‬
‫الكالم العادي والكالم األدبي‪130..................................‬‬
‫المستوى المعني للمحاكاة والخاصية النوعية للشعر‪139............‬‬
‫التحسينات اللفظية والتحسينات المعنوية‪149.......................‬‬
‫تحلي ـ ــل الطراغوذي ـ ــا (الم ـ ــديح الش ـ ــعري) والمص ـ ــادرة علىالمض ـ ــمون‬
‫والشكل ‪161.....................................................‬‬

‫‪- 271 -‬‬


‫هوامش الفصل الثالث‪164.......................................:‬‬
‫الفصل الرابع المتكلمون بين ثنائّية اللفظ والمعنى والنظم‪169...................‬‬
‫النص األدبي في دراسات اإلعجاز قبل عبد القاهر‪169.............‬‬
‫عبد القاهر وجدل النظم والتخييل ‪184.............................‬‬
‫عبد القاهر وإ شكال اللفظ والمعنى‪188.............................‬‬
‫صورة المعنى عند عبد القاهر‪194................................‬‬
‫النظم عند عبد القاهر الجرجاني‪198..............................‬‬
‫‪ ‬هوامش الفصل الرابع‪210.............................................. :‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬حازم القرطاجني وانصهار النظم والتخييل‪217................‬‬
‫اللفظ والمعنى عند حازم القرطاجني‪221..........................‬‬
‫الخصائص التشكيلّية لفعل المحاكاة والتخييل‪226..................‬‬
‫مراحل وضع القصيدة ‪230.......................................‬‬
‫االستجداد والتأنق‪ :‬تكامل محوري االستبدال والتركيب‪235.......‬‬
‫النظم واألسلوب أو شكل الشكل وشكل المضمون‪249..............‬‬
‫المنزع الشعري وتآلف العناصر الشكلية والمضمونية‪254.........‬‬
‫‪ ‬هوامش الفصل الخامس‪256..............................................‬‬
‫خاتمة‪261.........................................................................‬‬
‫المصادر والمراجع‪264.............................................................‬‬
‫‪-1‬المصادر والمراجع القديمة‪264................................‬‬
‫‪ -2‬المراجع الحديثة ‪273.........................................‬‬
‫المراجع األجنبية ‪275............................................‬‬
‫المحتويات ‪277..................................................‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 272 -‬‬


‫رقم اإليداع في مكتبة األسد الوطنية‬

‫‪ :‬دراسة‪/‬‬ ‫اللفظ والمعنى في التفكير النقدي والبالغي عند العرب‬


‫األخضر جمعي– دمشق‪ :‬اتحاد الكتاب العرب‪– 2002 ،‬‬
‫‪ 278‬ص؛ ‪ 25‬سم‪.‬‬

‫‪ 414 -1‬ج م ع ل‬

‫‪ 810.9 -2‬ج م ع ل‬

‫‪ -4‬جمعي‬ ‫‪ -3‬العنوان‬

‫مكتبة األسد‬ ‫ع‪2002/1140/7 -‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 273 -‬‬


‫هذا الكتاب‬

‫دراسة جادة ومهمة في بابها وذلك من حيث تتبعها لألصول اللغوية‬


‫والفكرية التي أثرت في قضية اللفظ والمعنى‪ ،‬مثل عالقة اللغة بالفكر‪،‬‬
‫وتعالق الصورة بالهيولى‪.‬‬
‫الدراسة موجهة إلى تحليل البنية الداللية للنصوص األدبية عند‬
‫الجاحظ‪ ،‬وقدامة بني جعفر‪ ،‬وبيان مؤدى الظواهر األدبية‪ ،‬والوقف على‬
‫نظرية النظم‪ ،‬وتجليات البالغة العربية‪ ،‬وعالقة النصوص التراثية‬
‫بالنصوص الموجودة في التراث اإلنساني كاليوناني والروماني‪.‬‬
‫والدراسة‪ ،‬بعد هذا‪ ،‬تتعقب أهم المحطات المنارة في النقد العربي‬
‫القديم‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪- 274 -‬‬

You might also like