Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 33

‫ثقافة المقاومة‬

‫في تحزيات المصطلح الصهيوني‬

‫تأليف‬
‫د‪ .‬عبدالوهاب المسريي‬
‫تحرير‪ :‬مهند الهويدي‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫حــاول الخطــاب الســيايس العــريب أن يتعامــل مــع الظاهــرة الصهيونيــة‬


‫يف تفردهـ�ا وعموميتها‪ ،‬فقـ�د كانـ�ت بالفعـ�ل ظاهــرة جديــدة كل الجــدة عـلى‬
‫الشــعب العرــيب‪ ،‬سوــاء يف فلســطني أم خارجهـ�ا‪:‬‬
‫أن تــأيت كتلــة برشيــة تحــت رايــات االســتعامر الربيطــاين وتبــدأ تدريج ًيــا‬
‫يف احتــال األرض إمــا بالقــوة العســكرية أو مــن خــال رشاء األرايض‪ ،‬إمــا‬
‫مبــارشة مــن بعــض كبــار املــاك أو بشــكل غــر مبــارش مــن خــال وســطاء‪،‬‬
‫ثــم تتحــول الكتلــة البشـــرية الغازيــة بــن يوم وليلــــة إىل دولـــة تســتويل عىل‬
‫جــزء كبــر مــن فلســطني ثــم تقــوم بطــرد الســكان األصليــن يســاندها يف‬
‫ذلــك العــامل الغــريب بــأرسه‪.‬‬
‫ورغــم أن التجربــة الصهيونيــة االســتيطانية تجربــة فريــدة يف كثــر مــن‬
‫جوانبهــا‪ ،‬إال أن هنــاك جوانــب كثــرة منهــا مشــركة مــع ظواهــر أخــرى‬
‫مامثلــة‪ ،‬أي أنهــا تنتمــي إىل منــط عــام متكــرر‪ .‬فهــي جــزء مــن الغــزوة‬
‫االســتعامرية التــي أخــذت شــكل اســتعامر عســكري مبــارش يف بعــض البلــدان‬
‫العربيــة‪ ،‬فهنــاك التجربــة املرصيــة والســودانية والعراقيــة واليمنيــة مــع‬
‫االســتعامر الربيطــاين التقليــدي‪ ،‬والتجربــة الســورية واللبنانيــة واملغربيــة‬
‫والتونســية مــع االســتعامر الفرنــي‪ ،‬والتجربــة الليبيــة والصوماليــة مــع‬
‫االســتعامر اإليطــايل‪.‬‬
‫وهــذا النــوع مــن االســتعامر يأخــذ شــكل جيــش نظامــي يغــزو بل ـ ًدا مــا‬
‫ويحتــل ويديــر هــذا البلــد بطريقــة تخــدم مصالــح الدولــة الغازيــة‪ .‬كــا‬
‫أخــذت الغــزوة االســتعامرية شــكل االســتعامر االســتيطاين الفرنــي يف‬
‫الجزائــر‪ ،‬وهــو نقــل كتلــة برشيــة مــن الغــرب وتوظيفهــا يف الــرق‪ ،‬وتؤســس‬
‫جيبًــا اســتيطانيًّا يســتوعب الفائــض البــري الغــريب ويكــون مبثابــة قاعــدة‬
‫‪3‬‬
‫عســكرية اقتصاديــة تخــدم مصالــح الوطــن األم الــذي نقل املســتوطنني وأمن‬
‫را االس��تعامر االس��تيطاين اإلحـلايل‪ .‬ففــي جنــوب‬ ‫وجودهــم‪ .‬وهناــك أخ�ي ً‬
‫الس��ودان ق��ام االس��تعامر الربيط��اين بنقـ�ل (ترانس��فري) الســودانيني املســلمني‬
‫منـ�ه حتـ�ى يجعـ�ل الجنـ�وب خال ًيا مـ�ن العـ�رب (باألملانيـ�ة‪ :‬أراب رايـ�ن �‪Arabre‬‬
‫‪ .)in‬والصهيونيــة تنتمــي لهــذا الشــكل األخــر وإن كان الشــكل مختلــف‪ ،‬ففــي‬
‫اس��تعامر اس��تيطاين إح�لايل‪ ،‬فق��د قاــم ابت�دـا ًءا بنقلــ (ترانســفري) كتلــة‬
‫برشيــة غربيــة بيضــاء (يهوديــة) مــن أوروبــا ووطّنهــا يف فلســطني‪ ،‬لتحــل‬
‫مح�لـ الس��كان األصلي�ين‪ ،‬الذيــن ت��م نقله��م (ترانس��فري) خــارج وطنهــم‪ ،‬أي‬
‫فلســطني‪.‬‬
‫وقــد أدرك الصهاينــة متا ًمــا أهميــة املصطلــح وأهميــة تســمية الظواهــر‬
‫ونجحــوا يف إشــاعة مصطلحاتهــم ومفاهيــم بــكل مــا تحمــل مــن تحيــزات‬
‫عنرصيــة مــن خــال اإلعــام الغــريب الــذي يســاند املــروع الصهيــوين‬
‫ويشــارك يف تحيزاتــه‪ .‬ولــذا نجــد أن آلــة املصطلحــات الصهيونيــة ال تكــف‬
‫عــن الــدوران وعــن إنتــاج عــدد كبــر مــن املصطلحــات لتغطيــة كل مــا‬
‫يســتجد مــن متغــرات ومواقــف‪ .‬ولــذا علينــا أن ننظــر للظواهــر ونضعهــا يف‬
‫ســياقاتها املختلفــة (التاريخيــة والثقافيــة واالقتصاديــة)‪ ،‬ثــم نســميها حســبام‬
‫رأيناهــا ورصدناهــا ودرســناها‪ ،‬فنعيــد نعريــف املصطلــح أو نســتبدله‪ .‬وفيــا‬
‫يــي بعــض املصطلحــات الصهيونيــة التــي ســادت والتــي اخرتقــت الخطــاب‬
‫الســيايس العــريب‪ ،‬مــع محاولــة تفكيكهــا إلظهــار التحيــزات الكامنــة فيهــا‪.‬‬
‫بعض المصطلحات العامة الشائعة‪:‬‬

‫‪ -1‬الصهيونية العاملية‪:‬‬
‫«الصهيوني��ة العاملي��ة» ترجم��ة للمصطل��ح اإلنجلي��زي «ورل��د زايونيـ�زم‬
‫‪ .»World Zionism‬وقــد شــاع املصطلــح يف اللغــة العربيــة‪ ،‬وهــو يفــرض‬
‫أن الصهيونيــة حركــة عامليــة‪ ،‬أي متــارس نشــاطها يف أنحــاء العــامل بــن‬
‫‪4‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫جميــع أعضــاء الجامعــات اليهوديــة يف كل البــاد‪ .‬ولنضــع هــذا املصطلــح‬


‫يف ســياقاته املختلفــة لنكتشــف أن مثــة خلـاً أساسـ ًيا فيــه يعــود إىل مــا يــي‪:‬‬
‫أ) نشــأت الصهيونيــة يف الغــرب يف البــاد االســتعامرية (الربوتســتانتية) يف‬
‫بدايــة األمــر ثــم تبناهــا يهــود العــامل الغــريب (يف رشق أوربــا وغربهــا)‬
‫ألغــراض مختلفــة)‪ ،‬فالصهيونيــة ليســت عامليــة مــن ناحيــة النشــأة‪،‬‬
‫خصوصــا وأن ‪ %90‬مــن يهــود العــامل كانــوا يوجــدون داخــل التشــكيل‬ ‫ً‬
‫الحضــاري الغــريب مــع نهايــة القــرن التاســع عــر‪ ،‬وهــي املرحلــة التــي‬
‫نشــأت فيهــا الصهيونيــة‪.‬‬
‫ب) كانــت الصهيونيــة وال تــزال جــز ًءا مــن التاريــخ االقتصــادي والســيايس‬
‫والحضــاري للغــرب‪ ،‬واإلمربياليــة الغربيــة هــي اآلليــة األساســية لتحويــل‬
‫الصهيونيــة مــن مجــرد فكــرة إىل دولــة اســتيطانية‪.‬‬
‫وعــى هــذا‪ ،‬فــإن الصهيونيــة مل تنشــأ يف العــامل ككل أو داخــل التاريــخ‬
‫العاملــي بشــكل مطلــق أو حتــى بــن كل أعضــاء الجامعــات الدينيــة واإلثنيــة‬
‫اليهوديــة املتناثــرة يف العــامل‪ ،‬وإمنــا هــي إفــراز تشــكيل حضــاري محــدد‬
‫يف لحظــة زمنيــة محــددة وال ميكــن دراســتها خــارج هــذا التشــكيل وال‬
‫ميكــن فهمهــا دون الرجــوع إىل مراحــل تطــوره وأزماتــه وطريقــة حلــه لهــذه‬
‫األزمــات‪ ،‬وإن كان هــذا ال يعنــي بطبيعــة الحــال إســقاط الســات التي تشــكل‬
‫خصوصيــة الحركــة الصهيونيــة الغربيــة‪.‬‬
‫ولعــل اإلنســان الغــريب أطلــق صفــة العامليــة عــى الصهيونيــة لألســباب‬
‫التاليــة‪:‬‬
‫أ) ينظــر الخطــاب اإلنجيــي إىل اليهــود باعتبارهــم شــع ًبا مختــا ًرا وجــز ًءا‬
‫مــن الدرامــا الكونيــة التــي يتحــرك يف إطارهــا تاريــخ العــامل والعاملــن‪،‬‬
‫والتاريــخ اليهــودي‪ ،‬حســب الرؤيــة اإلنجيليــة‪ ،‬تاريــخ مســتقل عــن تاريــخ‬

‫‪5‬‬
‫األغيــار‪ ،‬ومــع هــذا يشــكل هــذا التاريــخ الركيــزة األساســية لتاريــخ العامل‪،‬‬
‫وهــذا اخطــاب اإلنجيــي متغلغــل متا ًمــا يف الوجــدان الغــريب‪.‬‬
‫ب) بعــد أن ظهــرت الصهيونيــة بــن يهــود الغــرب قامــت بصهينة معظــم يهود‬
‫خصوصــا بعــد إنشــاء الدولــة الصهيونيــة‪ ،‬ومــن ثــم فهــي حركــة‬
‫ً‬ ‫العــامل‬
‫عامليــة بهــذا املعنــى‪ .‬والبــد أن نســارع بالقــول بــأن الغالبيــة الســاحقة مــن‬
‫يهــود العــامل توجــد اآلن إمــا داخــل التشــكيل الحضــاري الغــريب (فرنســا‬
‫– إنجلــرا – روســيا)‪ ،‬أو داخــل التشــكيل االســتعامري االســتيطاين الغــريب‬
‫(الوالي��ات املتحدــة – كندــا – أس�تراليا ونيوزيلندــا – أمريــكا الالتينيــة‬
‫– جنوــب أفريقي��ا – إرسائيــل)‪ ،‬وعــى وجــه التحديــد داخــل التشــكيل‬
‫االسـ�تعامري االسـ�تيطاين األنجلـ�و ساكسـ�وين‪.‬‬
‫ج) الحركــة اإلمربياليــة التــي حولــت الصهيونيــة إىل كيــان اســتيطاين هــي‬
‫حركــة عامليــة رغــم أصولهــا الغربيــة‪ ،‬فقــد جعلــت العــامل كلــه مجــاالً‬
‫لحركتهــا والتهامهــا وافرتاســها‪ .‬واإلمربياليــة عامليــة ال ألنهــا حركــة نشــأت‬
‫بــن كل البــر وإمنــا ألنهــا حركــة حولــت البــر كلهــم إىل مســتع ِمر أو‬
‫مســتع َمر‪ ،‬وتكتســب الصهيونيــة صفــة العامليــة مــن ارتباطهــا باإلمربياليــة‬
‫الغربيــة العامليــة‪.‬‬
‫د) يالحــظ أن األدبيــات السياســية الغربيــة الصهيونيــة وغــر الصهيونيــة‬
‫تســتخدم كلمــة «عاملــي» مبعنــى «غــريب»‪ .‬ولعــل هــذا يعــود إىل أن‬
‫اإلنســان األبيــض يف الغــرب يف القــرن التاســع عــر كان يتصــور أنــه‬
‫مركــز العــامل وقمــة رقيــه‪ ،‬وأن الحضــارات األخــرى حضــارات متخلفــة‬
‫ســتتطور لتلحــق بــه وتصــل إىل النمــوذج الحضــاري العاملــي نفســه‪.‬‬
‫ويالحــظ أن هرتــزل يتحــدث يف كتاباتــه عــن رضورة إقامــة املــروع‬
‫الصهيــوين بضــان القانــون الــدويل العــام‪ ،‬ويعنــي بذلــك «القانــون‬
‫الغــريب»؛ ولــذا والتزا ًمــا بالدقــة يجــب أن نتحــدث عــن «الصهيونيــة‬
‫‪6‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫الغربيــة‪ ،‬وميكــن أن نشــر إىل «الصهيونيــة الغربيــة التــي يقــال لهــا‬


‫عامليـ�ة»‪.‬‬
‫‪ -2‬التحدي الحضاري اإلرسائييل‪:‬‬
‫هــذا مصطلــح تغلغــل متا ًمــا يف الخطــاب الســيايس العــريب‪ ،‬بــل ويف‬
‫الوجــدان العــريب‪ ،‬وهــو يفــرض أن التجمــع الصهيــوين ميثــل كيانًــا حضاريًّــا‬
‫مســتقالً متفوقًــا عــى الكيــان الحضــاري العــريب‪ ،‬وأن هزميــة العــرب‬
‫العســكرية هــي نتيجــة تخلفهــم الحضــاري‪ ،‬وأن العــرب لــو حــذوا حــذو‬
‫الصهاينــة لحققــوا االنتصــار عليهــم‪.‬‬
‫والتحــدي الحضــاري هــو عمليــة تغطــي كل جوانــب الحيــاة‪ ،‬حيــث يطــرح‬
‫اآلخــر رؤيــة للحيــاة وأســلوبًا لتنظيمهــا يحققــان نجا ًحــا عــى جميع املســتويات‬
‫ويحققــان كل إمكانيــات اإلنســان كإنســان‪ .‬فالتحــدي الحضــاري ليــس مجــرد‬
‫إنجــاز تكنولوچــي أو تفــوق عســكري‪ ،‬وإال اضطررنــا للقــول بتفــوق التتــار‬
‫عــى العــرب ألنهــم عــروا نهــر دجلــة عــى كوبــري مــن املخطوطــات العربية‪،‬‬
‫ولقلنــا بتفــوق الربابــرة عــى الرومــان ألنهــم نجحــوا يف غــزو رومــا وتحطيــم‬
‫منجزاتهــا الحضاريــة‪.‬‬
‫ومــن ثــم‪ ،‬فمــن الصعــب قبــول مثــل هــذا املعيــار؛ ألنــه معيــار أحــادي‬
‫يتجاهــل الوجــود اإلنســاين املركــب‪ ،‬وألن التفــوق العســكري يف نهايــة األمــر‬
‫ليــس هــو التفــوق الحضــاري‪ .‬وقــد تحــول هــذا العنــر الوحيــد إىل املعيــار‬
‫األوحــد بتأثــر الحضــارة الغربيــة ذات الرؤيــة الداروينيــة الرصيحــة التــي‬
‫منحتــه مركزيــة ال يســتحقها‪.‬‬
‫وإذا نظرنــا إىل التجمــع االســتيطاين الصهيــوين الــذي ميثــل التحــدي‬
‫الحضــاري – حســب رؤيــة البعــض – لوجدنــا بالفعــل مجتمعنــا حقــق تفوقًــا‬
‫عســكريًّا ال ميكــن إنــكاره (وإن كان هــذا التفــوق العســكري أصبــح موضــع‬

‫‪7‬‬
‫تســاؤل بعــد إخفاقاتــه العســكرية املتكــررة ســواء يف االنتفاضــة األوىل‬
‫أم الثانيــة‪ ،‬وبعــد الحــرب السادســة مــع لبنــان)‪ ،‬ولكنــه تفــوق مل يحــرزه‬
‫بإمكانياتــه الذاتيــة وإمنــا بســبب الدعــم العســكري الغــريب‪ ،‬بــل إن التجمــع‬
‫الصهيــوين ككل ال يعتمــد عــى مــوارده الطبيعيــة أو اإلنســانية وإمنــا يعتمــد‬
‫عــى الدعــم املســتمر مــن الواليــات املتحــدة والــدول الغربيــة ويهــود الغــرب‪.‬‬
‫وهــذا التج ُّمــع الصهيــوين هــو مجتمــع ذو توجــه عســكري واضــح تهيمــن‬
‫عليــه املؤسســة العســكرية التــي ليــس لهــا أي وجــود ملحــوظ ال بســبب‬
‫غيابهــا وإمنــا بســبب حضورهــا الكامــل العضــوي يف كل مؤسســات التجمــع‬
‫الصهيــوين‪.‬‬
‫وهــذا التج ُّمــع االســتيطاين اإلحاليل‪ ،‬شــأنه شــأن كل الجيوب االســتيطانية‬
‫اإلحالليــة‪ ،‬مبنــي عــى الحــد األقــى مــن العنــف املوجــه ضــد اآلخريــن‬
‫وضــد الــذات‪ ،‬فهــو مبنــي عــى أكذوبــة (أرض بــا شــعب لشــعب بــا أرض)‪،‬‬
‫وهــي أكذوبــة مل يعــد يصدقهــا حتــى الصهاينــة أنفســهم‪ ،‬وهــو يحــاول أن‬
‫يكتســب رشعيــة وجــوده إمــا مــن خــال قصــص ومفاهيــم توراتيــة (ال يؤمــن‬
‫بهــا معظــم املســتوطنني الصهاينــة ذوي التوجه العلــاين الشــامل)‪ ،‬أو مفاهيم‬
‫را عــن األســاطري النازيــة العرقيــة‪،‬‬‫جيتوي��ة حلوليــة عضويــة ال تختلــف كث ـ ً‬
‫ولكنــه يكتســب رشعيــة وجــوده يف واقــع األمــر بالطريقــة الغربيــة املألوفــة‬
‫أي بقــوة الســاح‪.‬‬
‫وهــذا التج ُّمــع ال توجــد فيــه حضــارة متجانســة‪ ،‬فــكل مســتوطن أحــر‬
‫معــه مــن وطنــه األصــي خطابًــا حضاريًّــا مختل ًفــا‪ ،‬وادعــن الدولــة الصهيونيــة‬
‫أنهــا ســتمزج الجميــع يف بوتقــة يهوديــة عربانيــة جديــدة ليخرج منهــا مواطن‬
‫جديــد‪ ،‬ومــا حــدث هــو أن الخطــاب الحضــاري الجديــد املزعــوم مل يتشــكل‬
‫وظهــر بــدالً منــه واقــع حضــاري غــر متجانــس‪ ،‬وأصبــح الخطــاب الحضــاري‬
‫املهيمــن هــو خطــاب الراعــي اإلمربيــايل أي الخطــاب األمريــي‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫باختصــار شــديد التج ُّمــع الصهيــوين ليــس مجتم ًعــا‪ ،‬وإمنــا هــو «تج ُّمــع»‬
‫ُغــرس يف املنطقــة ليقــوم بــدور عســكري لصالــح الحضــارة الغربيــة‪ ،‬ومــن‬
‫ثــم فهــو يشــكل تحديًّــا عســكريًّا وحســب ال تحديًّــا حضاريًّــا‪ ،‬بــل إنــه تح ـ ٍّد‬
‫عســكري جعلنــا ننحــرف عــن االســتجابة للتحــدي الحضــاري األصــي الــذي‬
‫نؤســس مجتم ًعــا حديثًــا‬ ‫طرحتــه علينــا الحضــارة الغربيــة الحديثــة‪ ،‬وهــو كيــف ِّ‬
‫يف إطــار منظوماتنــا القيميــة والحضاريّــة‪.‬‬
‫ولعلنــا ال ن َّدعــي حــن نقــول إن التحــدي الحضــاري لألمــة التــي أنتجــت‬
‫ابــن خلــدون واملتنبــي والغــزايل وابــن رشــد ينبغــي أن يــأيت مــن شــعب أو‬
‫حضــارة أنتجــت أرســطو وماركــس وأال يهبــط إىل مســتوى بنــاء حضــاري‬
‫متخلــف تســيطر عليــه األفــكار الجيتويــة ويتزعمــه أمثــال شــارون وأ‪,‬ملــرت‬
‫ومــن قبلــه بــن جوريــون الــذي يتصــور أنــه يحــدد سياســة بــاده الخارجيــة‬
‫وتحــركات جيوشــه حســب رؤى العهــد القديــم وأقــوال التلمــود وأســاطري‬
‫األولــن بــرط أن يكونــوا مــن اليهــود؛ ولــذا ميكــن أن نقــول «التحــدي‬
‫الحضــاري املزعــوم»‪.‬‬
‫‪ -3‬املؤامرة اليهودية‪:‬‬
‫مــن املصطلحــات واملفاهيــم التــي ســادت يف الخطــاب الســيايس العــريب‬
‫مصطلــح «املؤامــرة اليهوديــة»؛ ولتفكيــك هــذا املصطلــح يجــب أن نشــر‬
‫ابتــدا ًءا إىل أن العقــل اإلنســاين‪ ،‬إن مل يجــد منوذ ًجــا تفســريًّا مالمئًــا لواقعــة‬
‫مــا‪ ،‬مييــل إىل ردهــا إىل يــد أو أيــاد خفيــة تنســب إليهــا التغيــرات واألحــداث‬
‫كافــة‪ .‬فاألحــداث – حســب هــذا املنظــور – ليســت نتيجــة تفاعــل بــن مركــب‬
‫مــن الظــروف واملصالــح والتطلعــات والعنــارص املعروفــة واملجهولــة مــن‬
‫جهــة وإرادة إنســانية مــن جهــة أخــرى‪ ،‬وإمنــا هــي نتــاج عقــل واحــد وضــع‬
‫مخططًــا جبــا ًرا وصــاغ الواقــع حســب هــواه‪ ،‬وهــو مــا يعنــي أن بقيــة البــر‬
‫إن هــم إال أدوات‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫ومــن أهــم تجليــات هــذا النمــوذج االختــزايل مــا يقــال لــه «املؤامــرة‬
‫اليهوديــة الكــرى» أو «املؤامــرة اليهوديــة العامليــة» والتــي تفــرض أن‬
‫متجانســا‪ ،‬وأن لهــم‬
‫ً‬ ‫أعضــاء الجامعــات اليهوديــة يكونــون كالًّ واحـ ًدا متكامـاً‬
‫طبيعــة واحــدة‪ ،‬وأن اليهــودي شــخص فريــد ال يخضــع للحركيــات االجتامعيــة‬
‫التــي يوجــد فيهــا وال ينتمــي إىل األمــة التــي يعيــش بــن ظهرانيهــا‪ ،‬وهــو‬
‫يقــف دامئًــا مقابــل األغيــار (غــر اليهــود) إذ أن مثــة خاصيــة مــا يف اليهــود‬
‫وخصوصيــة كامنــة فيهــم تجعــل مــن العســر عــى كل املجتمعــات اإلنســانية‬
‫دمجهــم أو اســتيعابهم‪.‬‬
‫ويتســم اليهــود (حســب منــوذج املؤامــرة الكــرى) بالــر واملكــر والرغبــة‬
‫يف التدمــر (فهــذه أمــور وجــدت يف عقولهــم بالفطــرة وهــي بُعــد أســايس‬
‫وثابــت يف طبيعتهــم)‪ ،‬وســلوكهم هــو تعبــر عــن مخطــط جبــار وضعــه العقــل‬
‫اليهــودي الــذي يخطــط ويدبــر منــذ بدايــة التاريــخ والــذي وضــع تفاصيــل‬
‫املؤامــرة الكــرى العامليــة لتخريــب األخــاق وإفســاد النفــوس حتــى تــزداد‬
‫كل الشــعوب ضع ًفــا ووه ًنــا بينــا يــزداد اليهــود قــوة‪ ،‬وذلــك بهــدف الســيطرة‬
‫عــى العــامل (ورمبــا إلنشــاء حكومــة عامليــة يكــون مركزهــا أورشــليم القــدس)‪.‬‬
‫والتاريــخ اليهــودي بــأرسه إن هــو إال تعبــر عــن هــذا النمــوذج وعــن‬
‫هــذه املؤامــرة األزليــة املســتمرة‪ ،‬واليهــود مــن ثــم هــم املســئولون يف كل‬
‫األزمنــة واألمكنــة عــن كل الــرور واملنكــرات‪ ،‬فهــم عــى ســبيل املثــال أراقــوا‬
‫دم املســيح (حســب الروايــة املســيحية)‪ ،‬وهــم الذيــن وضعــوا الســم للرســول‬
‫‪ ،e‬وهــم وراء مؤامــرة عبــد اللــه بــن ســبأ ثــم أتباعــه مــن بعــده للقضــاء عــى‬
‫دســا عــى الديــن الحنيــف‪،‬‬ ‫اإلســام‪ ،‬وهــم الذيــن قامــوا بــدس اإلرسائيليــات ًّ‬
‫بــل وينســب إليهــم ذبــح األطفــال واســتخدام دمهــم يف صنــع خبــز الفطــر‬
‫الــذي يأكلونــه يف عيــد الفصــح‪.‬‬
‫ويف العــر الحديــث يــرى التآمريــون أن اليهــود وراء أشــكال االنحــال‬
‫‪10‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫املعروفــة والعلنيــة (وغــر املعروفــة والخفيــة) يف العــامل الغــريب والعــريب‬


‫بــل ويف كل أرجــاء العــامل‪ ،‬فهــم وراء املحافــل املاســونية التــي أسســوها أداة‬
‫ملؤامراتهــم‪ ،‬وهــم وراء البهائيــة التــي تســعى إلفســاد اإلســام وكل العقائــد‪،‬‬
‫وهــم الذيــن أدوا إىل ظهــور الرأســالية بــكل بشــاعتها‪ ،‬والبلشــفية بــكل‬
‫إرهابهــا‪ ،‬واإلباحيــة بــكل تدمريهــا‪ ،‬وهــم يســيطرون عــى رأس املــال العاملــي‪،‬‬
‫والحركــة الشــيوعية‪ ،‬ويتحكمــون يف الصحافــة ووســائل اإلعــام‪ ،‬وهــم الذيــن‬
‫ضغطــوا عــى اإلمرباطوريــة اإلنجليزيــة وجعلوهــا تصــدر وعــد بلفــور‪ ،‬وهــم‬
‫الذيــن أســقطوا الدولــة العثامنيــة مــن خــال يهــود الدومنــة‪ ،‬وهــم الذيــن‬
‫يحركــون اآلن اللــويب اليهــودي الصهيــوين يف الواليــات املتحــدة األمريكيــة‪،‬‬
‫ويوجهــون اإلعــام األمريــي‪ ،‬ويجنــدون الصــوت اليهــودي وذلــك حتــى‬
‫يســخروا الواليــات املتحــدة ويرغموهــا مبــا لديهــم مــن نفــوذ وســطوة وهيمنة‬
‫عــى تحقيــق مآربهــم وتنفيــذ مصالحهــم‪ ،‬وهــم عــى اتصــال بعــامل الجرميــة‬
‫للمســاعدة يف إفســاد العــامل‪.‬‬
‫والصهيونيــة‪ ،‬وفــق هــذا املنظور‪ ،‬ليســت ظاهــرة مرتبطة بحركيــات التاريخ‬
‫والفكــر الغــريب‪ ،‬وليســت مرتبطــة بظهــور اإلمربياليــة الغربيــة وهيمنتهــا عــى‬
‫العــامل وإمنــا هــي مجــرد تعبــر عــن هــذا الــر األزيل الكامــن يف النفــس‬
‫اليهوديــة‪ ،‬الــذي يتبــدى يف الغــزو الصهيــوين لفلســطني والســوق الــرق‬
‫أوســطية… إلــخ‪ .‬ومــن أهــم إفــرازات هــذا التصــور االختــزايل الوثيقــة‬
‫املســاة بروتوكــوالت حكــاء صهيــون‪.‬‬
‫وقــد ســاعد عــى نــر التصــورات التآمرية عــن اليهــود شــعائرهم الدينية‬
‫املركبــة التــي ال يســتطيع كثــر مــن النــاس فهمهــا‪ ،‬كــا ســاهمت النـــزعة‬
‫الحلوليــة االنعزاليــة يف الديــن اليهــودي والتصــورات اليهوديــة الخاصــة‬
‫بالشــعب املختــار واملركزيــة الكونيــة والتاريخيــة التــي يضفيهــا اليهــود عــى‬
‫أنفســهم يف تعميــق شــكوك غــر اليهــود فيهــم‪ ،‬ومــا ال شــك فيــه أن وجــود‬

‫‪11‬‬
‫اليهــود بوصفهــم جامعــات وظيفيــة متفرقــة داخــل عديــد مــن املجتمعــات‬
‫الغربيــة تنتظمهــا شــبكة مــن العالقــات التجاريــة الوثيقــة التــي تحقــق مــن‬
‫را مــن النجــاح التجــاري واملــايل قــد عمــق الرؤيــة التآمرية‬‫خاللهــا قــد ًرا كبـ ً‬
‫لليهــود‪ ،‬وقــد بلغــت هــذه الشــبكة قمــة متاســكها وقوتهــا يف القــرن الســابع‬
‫عــر حــن كانــت تنتظــم يهــود األرنــدا يف رشق أوربــا ويهــود البــاط يف‬
‫وســطها وغربهــا ويهــود الســفارد يف البحــر األبيــض والدولــة العثامنيــة وشــبه‬
‫جزيــرة أيبرييــا والعــامل الجديــد‪ ،‬وخلــق هــذا الوجــود اإلحســاس بالتنســيق‬
‫فيــا بينهــم‪ .‬ومــع ضعــف املجتمعــات الغربيــة وبنائهــا القيمــي بســبب انتشــار‬
‫قيــم النفعيــة والعلامنيــة‪ ،‬ومــع تركــز اليهــود يف كثــر مــن الحــركات العلامنيــة‬
‫والفوضويــة‪ ،‬تعمــق اإلحســاس بــأن مثــة مؤامــرة يهوديــة تهــدف إىل الســيطرة‬
‫عــى العــامل كــا تهــدف إىل إفســاده‪.‬‬
‫ويف العــر الحديــث‪ ،‬قــام العــامل الغــريب‪ ،‬الــذي ي َّدعــي العلامنيــة‬
‫وفصــل الديــن عــن الدولــة‪ ،‬باملســاعدة يف تأســيس الدولــة املســاة‬
‫اليهوديــة ودعمهــا‪ .‬وتقــوم الواليــات املتحــدة بالتغــايض عــن ســلوك إرسائيــل‬
‫االســتعامري االســتيطاين‪ ،‬وعــن توســعها املســتمر‪ ،‬وعــن غزوهــا للبــاد‬
‫املجــاورة لهــا وعــن قمعهــا املتوحــش لثــورة الشــعب الفلســطيني‪ ،‬وتدخــل معهــا‬
‫يف اتفاقــات تعــاون اســراتيجي وتزودهــا بالســاح‪ ،‬وتســمح لهــا باســتخدام‬
‫األســلحة النوويــة وتســتخدم حــق الفيتــو إن حــاول مجلــس األمــن أن يفــرض‬
‫عــى إرسائيــل تنفيــذ قــرارات هيئــة األمــم املتحــدة يف الوقــت الــذي تغــزو‬
‫فيــه الــدول العربيــة بحجــة أنهــا متتلــك أســلحة دمــار شــامل وأنهــا ترفــض‬
‫تنفيــذ قــرارات هيئــة األمــم‪ .‬وازدواجيــة املعايــر هــذه تجعــل البعــض يف‬
‫العــامل العــريب يتصــورون أن «اليهــود» يهيمنــون عــى القــرار األمريــي وأن‬
‫هــذا جــزء مــن محاولــة الســيطرة عــى العــامل‪ ،‬متناســن أن االســراتيجية‬
‫اإلمربياليــة األمريكيــة ال عالقــة لهــا بإرسائيــل أو باليهــود‪ ،‬وإمنــا هــي نتيجــة‬

‫‪12‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫قــرارات اتخذهــا صنــاع الســاح وأصحــاب االحتــكارات يف الواليــات املتحدة‪.‬‬


‫إال أن الباحــث املدقــق سيكتشــف أن الرؤيــة االختزاليــة التآمريــة ال تختلف‬
‫يف أساســياتها مطلقًــا عــن الرؤيــة االختزاليــة الصهيونيــة لليهــود‪ ،‬فــكال‬
‫الفريقــن يــرى اليهــود مــن خــال رؤيــة واحديــة اختزاليــة ســاذجة تقــوم‬
‫بتبســيط دوافعهــم ووجودهــم يف التاريــخ‪ ،‬إذ أنهــا تســقط عنهــم زمنيتهــم‬
‫وتركيبيتهــم وإنســانيتهم‪ .‬فبــدالً مــن رؤيــة أعضــاء الجامعــات اليهوديــة كجــزء‬
‫مــن تواريــخ بالدهــم وحضاراتهــم‪ ،‬فإنهــا تنظــر إليهــم باعتبارهــم كيانًــا‬
‫واح ـ ًدا متامس ـكًا فري ـ ًدا يتحــرك داخــل تاريخــه اليهــودي الخــاص مبعــزل‬
‫عنــم املجتمعــات التــي يعيشــون فيهــا‪ .‬وبســبب هــذا االتفــاق بــن الفريقــن‬
‫نجــد أن كالًّ مــن التآمريــن والصهاينــة يتحدثــون عــن « الشــعب اليهــودي‬
‫عــر التاريــخ» وعــن «الشــخصية اليهوديــة يف كل العصــور» وعــن «العبقريــة‬
‫أو الجرميــة اليهوديــة» يف كل زمــان ومــكان وهكــذا‪.‬‬
‫والخــاف بــن التآمريــن والصهاينــة ال يوجــد يف التشــخيص أو يف‬
‫الوصــف أو يف املنطلقــات أو املســلامت وال حتــى يف الحــل وإمنــا يف آليــات‬
‫الحــل وحســب‪ ،‬أي أن االختــاف بينهــم اختــاف إجــرايئ بســيط وليــس‬
‫كل ًّيــا وشــامالً‪ .‬فــكال الفريقــن يطــرح ح ـاًّ بســيطًا ملشــكلة الكيــان اليهــودي‬
‫املتامســك الفريــد الــذي برفــض االندمــاج أال وهــو رضورة خــروج اليهــود‬
‫مــن أوطانهــم‪ ،‬ولكــن بينــا يــرى التآمريــون وأعــداء اليهــود أنــه ال منــاص‬
‫مــن اســتخدام العنــف‪ ،‬يف هــذه العمليــة (مــن طــرد وإبــادة)‪ ،‬فــإن الصهاينــة‬
‫يــرون أن الحركــة الصهيونيــة ميكنهــا أن تــرف عــى عمليــة الخــروج هــذه‬
‫بطريقــة منهجيــة منظمــة بحيــث ال يوجــد أي مــرر للعنــف ومــع هــذا ال‬
‫يســتبعد الصهاينــة اســتخدام العنــف كآليــة إلخــراج اليهــود مــن أوطانهــم كــا‬
‫حــدث عــام ‪1951‬م‪ ،‬حينــا ألقــى عمــاء إرسائيــل القنابــل عــى أماكــن تجمــع‬
‫أعضــاء الجامعــة اليهوديــة يف العــراق لدفعهــم للهجــرة منهــا إىل الدولــة‬

‫‪13‬‬
‫الصهيونيــة الناشــئة‪ ،‬وكــا يحــدث اآلن حينــا تضغــط الحركــة الصهيونية عىل‬
‫الواليــات املتحــدة لتغلــق أبوابهــا أمــام اليهــود الســوفييت بحيــث يضطــرون‬
‫إىل الهجــرة إىل إرسائيــل‪.‬‬
‫وفكــرة املؤامــرة أكذوبــة تالئــم معظــم األطــراف املشــركة يف الــراع‬
‫را مــن هــذا الفكــر التآمــري؛ ألنــه يضفــي‬
‫اإلرسائيــي‪ ،‬فإرسائيــل تســتفيد كثـ ً‬
‫عليهــا مــن القــوة مــا ليــس لهــا ومــن الرهبــة مــا ال تســتحق‪ ،‬وهــو يف نهايــة‬
‫األمــر يجعلهــا تكســب معــارك مل تدخلهــا قــط‪ .‬كــا أن الحكومــات األمريكيــة‬
‫املختلفــة تفــر للزعــاء العــرب عجزهــا عــن مســاعدة الحــق العــريب بتعاظم‬
‫النفــوذ الصهيــوين وهيمنــة اليهــود عــى القــرار األمريــي‪ ،‬أمــا الحكومــات‬
‫العربيــة فتفــر تخاذلهــا وهزميتهــا أمــام العــدو الصهيــوين عــى أســاس‬
‫را‬
‫األســطورة املريحــة نفســها وبالتــايل يجــد كل مــن أطــراف الــراع تفس ـ ً‬
‫يبــدو معقــوالً ومقبــوالً لوضعــه أمــام نفســه وأمــام جامهــره‪.‬‬
‫ويجــب اإلشــارة إىل أن إنــكار وجــود مؤامــرة ال يعنــي إنــكار وجــود‬
‫مخطــط‪ ،‬فاملخطــط هــو خطــة أو إســراتيجية تعــر عــن مصالــح دولــة مــا‬
‫أو مجموعــة مــن الــدول (كــا يتصورهــا أصحابهــا)‪ ،‬وهــي تتبــدى مــن خــال‬
‫أمنــاط متكــررة لهــا مســار يعــر عــن منطق داخــي ميكــن فهمه والتصــدي له‬
‫مبخطــط مضــاد‪ ،‬فأصحــاب املخطــط املعــادي لنــا بــر ونحــن بــر والحــرب‬
‫بيننــا ســجال إىل أن ينــر اللــه مــن ينــره‪ .‬أمــا املؤامــرة فهــي خطــة‬
‫رسيــة وضعهــا يف الظــام بضعــة أفــراد دوافعهــم خسيســة رشيــرة يحاولــون‬
‫قــدر طاقتهــم الحفــاظ عليهــا طــي الكتــان ويقومــون عــى تنفيذهــا‪ ،‬وألن‬
‫املؤامــرة ليســت جــز ًءا مــن منــط فإنهــا ال تتبــع مســا ًرا مفهو ًمــا وليــس لهــا‬
‫قوانينهــا الداخليــة الخاصــة والخارجيــة العامــة‪.‬‬
‫يجــب اإلشــارة إىل أن أصحــاب املخطــط ميكنهــم اســتخدام املؤامــرات‬
‫لتنفيــذ املخطــط‪ ،‬ولكــن تظــل املؤامــرات هــي اآلليــة‪ ،‬واملخطــط هــو النمــط‬
‫‪14‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫األســايس الكامــن‪.‬‬
‫مصطلحات ترمي إلى تشويه المقاومة الفلسطينية‪:‬‬

‫وميكننــا اآلن أن نتنــاول بعــض املصطلحــات التــي روجهــا الصهاينــة‬


‫لتشــويه حقيقــة املقاومــة الشــعبية لالســتعامر االســتيطاين الصهيــوين‪ ،‬وإنــكار‬
‫أساســها التاريخــي املوضوعــي وتحويلهــا إىل حالــة نفســية‪.‬‬
‫‪ -1‬ملاذا يكرهنا العرب؟‬
‫يحــاول الخطــاب الغــريب والصهيــوين أن يصــور الــراع العــريب‬
‫الصهيــوين عــى أنــه مســألة نفســية‪ ،‬وأن ســببه الحقيقــي هــو كــره العــرب‬
‫لليهــود‪ ،‬أي أن مصــدر الــراع مســألة ذاتيــة ليــس لهــا أســاس يف الواقــع‪،‬‬
‫وأن مــا تفعلــه قيــادات املقاومــة الفلســطينية هــو غــرس الكــره يف نفــوس‬
‫الجامهــر‪ ،‬وكأن وطــن الفلســطينيني مل يُســلب‪ ،‬وكأن إرسائيل مل تقم بالتوســع‬
‫غرســا يف وســط املنطقــة العربيــة‬
‫عــى حســاب الــدول العربيــة ومل تُغــرس ً‬
‫مــن خــال الســاح الغــريب ومل تقســم الوطــن العــريب إىل قســمني‪ .‬فــإن‬
‫كان هنــاك «كــره»‪ ،‬فإنــه ليــس حالــة نفســية وإمنــا لــه أســاس موضوعــي‪.‬‬
‫ومــا تفعلــه قيــادات املقاومــة هــو إذكاء روح املقاومــة يف الجامهــر وتوجيههــا‬
‫بشــكل عقــاين‪ ،‬وتنظيمهــا حتــى تحقــق النتائــج املرجــوة وليــس غــرس الكــره‬
‫يف النفــوس! ومــع هــذا يتســاءل الصهاينــة والغربيــون يف دهشــة ماكــرة‬
‫ويقولـ�ون‪« :‬ملـ�اذا يكرهنـ�ا املسـ�لمون والعـ�رب؟»‪.‬‬
‫‪ -2‬أعامل شغب وأعامل عنف‪:‬‬
‫بعــد انــدالع انتفاضــة ‪1987‬م‪ ،‬رفــض املتحدثــون الصهاينــة يف بدايــة‬
‫األمــر اســتخدام كلمــة «انتفاضــة» وبــدالً مــن ذلــك كانــوا يتحدثــون عــن‬
‫«أعمـال شغــب» و«أعمـال عنــف»‪ .‬واله��دف م��ن كل هــذه املصطلحــات هــو‬
‫إنــكار أن مــا يقــوم بــه الفلســطينيون هــو تعبــر عــن مقاومــة شــعب احتُلــت‬
‫‪15‬‬
‫أرضــه‪ ،‬وأن اإلرسائيليــن هــم قــوة احتــال‪.‬‬
‫‪ -3‬وقف العنف وضبط النفس‪:‬‬
‫مــن املصطلحــات املتواتــرة يف الخطــاب الصهيــوين واألمريــي مصطلحــا‬
‫«وق��ف العنــف» و«ضبــط النفــس»‪ ،‬وهــا عــاد ًة مــا يوجهــان إىل كل مــن‬
‫الفلســطينيني واملســتوطني الصهاينــة‪ ،‬وكأن مــا يجــري عــى أرض فلســطني‬
‫حــرب بــن جيشــن متكافئــن أو شــبه متكافئــن يحاربــان بخصــوص قطعــة‬
‫أرض متنــازع عليهــا ولــكل فريــق حقــوق متســاوية فيهــا‪ ،‬وكأنــه ال توجــد‬
‫قــرارات أصدرتهــا األمــم املتحــدة منــذ عــام ‪1949‬م تعطــي أحــد الفريقــن‬
‫حقوقًــا يف أرضــه‪ .‬إن هــذه املصطلحــات تســاوي بــن مــن يحمــل الســاح‬
‫ويدافــع عــن أرضــه وكرامتــه وإنســانيته مــن جهــة‪ ،‬ومــن جهــة أخــرى‬
‫مــن يغتصــب األرض وينــكل بأصحابهــا ويســتخدم آخــر مــا توصلــت إليــه‬
‫التكنولوجيــا العســكرية‪.‬‬
‫و«وقـ�ف العنــف» و«ضبــط النفــس» هــا مجــرد حلقــة يف سلســلة طويلــة‬
‫مــن املصطلحــات املتحيــزة ضدنــا‪ ،‬فنحــن نــرى أن وجــود القــوات اإلرسائيليــة‬
‫يف الضفــة الغربيــة هــو احتــال لــأرايض الفلســطينية وتؤيدنــا يف ذلــك‬
‫قــرارات األمــم املتحــدة‪ ،‬ولكــن إرسائيــل والواليــات املتحــدة يســتخدمون بــدالً‬
‫مــن ذلــك عبــارة «أرض متنــازع عليهــا ‪ .»disputed territory‬وقــد تحدثــوا‬
‫بع��ض الوق��ت عــن «األرض مقابــل الســام»‪ ،‬وقــد تطــور هــذا ليصبــح‬
‫«األرض مقابـ�ل األمــن» و«األمــن مقابــل األمــن» إىل أن تدهــور األمــر متا ًمــا‬
‫وأصبح��ت املس�أـلة «األرض مقاب��ل ال��كالم»‪ .‬وكل هــذه الشــعارات تهــدف إىل‬
‫فــرض املفاهيــم الصهيونيــة األمريكيــة يف الســام‪ ،‬والتــي تعنــي يف واقــع‬
‫األمــر نســيان املرجعيــات القانونيــة والدوليــة واألخالقيــة واإلنســانية العامــة‪،‬‬
‫واالستســام لألمــر الواقــع الظــامل‪ ،‬وقبــول تقســيم دولــة فلســطني إىل‬
‫كانتونــات‪ ،‬وبقــاء املســتوطنات‪ ،‬والرضــوخ للمطالــب اإلرسائيليــة يف القــدس‬
‫‪16‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫را التنــازل عــن الحــق الفلســطيني التاريخــي يف عــودة‬


‫الرشقيــة‪ ،‬وأخــ ً‬
‫الالجئــن الفلســطينيني‪.‬‬
‫‪ -4‬دائرة العنف‪:‬‬
‫هــذا املصطلــح يحــاول مــرة أخــرى أن يبــن أن الــراع العــريب‬
‫اإلرسائيــي رصاع ال ميكــن حســمه‪ ،‬فهــي «دائــرة» مــا أن تنتهــي حتــى تبــدأ‬
‫مــرة أخــرى‪ ،‬وهــي تــدور ألســباب غــر مفهومــة‪ ،‬فليــس هنــاك ســبب أو‬
‫نتيجــة‪ ،‬وألنهــا دائــرة تــدور بقــوة الدفــع الــذايت فــا ميكــن أن تتوقــف إال‬
‫بتدخــل قــوة خارجيــة‪ .‬والــراع كــا نــراه نحــن ليــس دائــرة عنــف وإمنــا‬
‫هــو ظاهــرة مفهومــة لهــا ســبب‪ ،‬وهــو قيــام الصهاينــة باغتصــاب األرض‬
‫الفلســطينية‪ ،‬والنتيجــة هــي أن أصحــاب األرض نظمــوا أنفســهم وقاومــوا‬
‫املحتــل‪ .‬وهــي ليســت دائــرة تــدور إىل مــا ال نهايــة‪ ،‬فمــن معرفتنــا بالتاريــخ‪،‬‬
‫عــاد ًة مــا تنتهــي هــذه املواجهــة بانتصــار املســتضعفني‪ ،‬كــا حــدث يف‬
‫الجزائــر وجنــوب أفريقيــا‪.‬‬
‫‪ -5‬اإلرهاب‪:‬‬
‫اســتخدم الصهاينــة وأصدقاؤهــم يف الواليــات املتحــدة مصطلــح‬
‫«اإلرهــاب» الــذي يصــور املقاومــة باعتبارهــا مجــرد إرهــاب مجنــون نتيجــة‬
‫رش متأصــل يف النفــس العربيــة‪ ،‬وكــره مفطــور فيهــا ليــس لــه أســاس قانــوين‬
‫أو أخالقــي‪ ،‬وهــذا الــر والكــره موجهــان ضــد اليهــود الذيــن يــودون‬
‫أن يعيشــوا يف أمــان وســام‪ .‬بــل يتــادى الصهاينــة بالقــول إن اإلرهــاب‬
‫العــريب ضــد املســتوطني الصهاينــة إمنــا هــو اســتمرار لظاهــرة معــاداة اليهود‬
‫واليهوديــة («معــاداة الســامية» يف املصطلــح الغــريب)‪ ،‬وامتــداد لكــره األغيــار‬
‫لليهــود عــر التاريــخ‪.‬‬
‫ومصطلــح «اإلرهــاب» هــو إفــراز للتصــور الصهيــوين واألمريــي الــذي‬

‫‪17‬‬
‫يــرى أن الوجــود الصهيــوين يف فلســطني ليــس احتــاالً وإمنــا هــو وجــود‬
‫رشعــي البــد للعــرب مــن قبولــه إن كانــوا عقالنيــن‪ ،‬أمــا إن قاومــوه فهــم‬
‫يقومــون بعمــل إرهــايب غــر عقــاين غــر مــروع‪ .‬وبطبيعــة الحــال ال يقــول‬
‫الصهاينــة أو األمريكيــون إن رشعيــة الوجــود اإلرسائيــي يف فلســطني نابعــة‬
‫مــن القــوة العســكرية وحســب‪.‬‬
‫رتهــات البــد مــن التأكيــد عــى أن الفعــل الفلســطيني‬
‫وللــرد عــى هــذه ال ّ‬
‫هــو فعــل مقاومــة‪ ،‬فالظاهــرة الصهيونيــة ليســت ظاهــرة يهودية وإمنــا ظاهرة‬
‫اســتعامرية إحالليــة‪ ،‬ومقاومــة العــرب لهــا ال تختلــف عــن مقاومــة الشــعوب‬
‫املقهــورة للمســتوطنني الغــزاة‪ .‬وتتســم الرؤيــة الصهيونيــة االســتيطانية والرؤى‬
‫االســتيطانية عــى وجــه العمــوم بأنهــا تحــاول أن تنكــر تاريــخ األرض التــي‬
‫احتلهــا املســتوطنون‪ ،‬ففلســطني – حســب تصورهــم – هــي أرض بــا شــعب‪.‬‬
‫‪ -6‬االنتحاريون‪:‬‬
‫«املنتحــر» إنســان ســقط يف اليــأس والقنــوط‪ ،‬ووصــل إىل مرحلــة‬
‫ال ميكنــه معهــا أن يفعــل شــيئًا بخصــوص الظــروف املحيطــة بــه وال يجــد‬
‫مخر ًجــا إال بــأن يفجــر نفســه‪ ،‬فاالنتحــار تعبــر عــن العدميــة‪ ،‬وعــن الكفــر‬
‫بــكل القيــم وكل اإلمكانــات‪ .‬وهــذا ينطبــق متا ًمــا عــى الجنــود اإلرسائيليــن‬
‫الذيــن انتحــروا يف جنــوب لبنــان بعــد أن تصاعــدت عمليــات حــزب اللــه‬
‫ضدهــم‪ ،‬ومل تجــد النخبــة العســكرية وســيلة للــرد املناســب عــى هــذه‬
‫العمليــات‪ ،‬وانتهــى األمــر باالنســحاب‪ .‬فــا بــن فــرة التصعيــد واالنســحاب‬
‫أدرك الجنــود اإلرسائيليــون أنــه ال مخــرج مــن وضعهــم وأن موتهــم ال معنــى‬
‫لــه‪ ،‬ففجــروا أنفســهم بــدالً مــن أن يفجرهــم استشــهاديو حــزب اللــه‪ .‬وقــد‬
‫أصبــح العــامل الغــريب‪ ،‬مــع تصاعــد معــدالت العلمنــة والتوجــه نحــو اللــذة‪،‬‬
‫را عــن رغبــة يف إنهــاء‬‫غــر قــادر عــى إدراك نبــل االستشــهاد‪ ،‬فــراه تعب ـ ً‬
‫الــذات نتيجــة ل ُعقــد نفســية‪ ،‬بــل ووصفتــه إحــدى الصحــف األمريكيــة بأنــه‬
‫‪18‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫«عبــادة املــوت‪.»Cult of death‬‬


‫ولكــن االستشــهاد هــو عكس ذلك متا ًما‪ ،‬فالشــهيد إنســان ممتلــئ باإلميان‬
‫باللــه وباألمــل وباملقــدرة عــى التصــدي للعــدو وإنهــاء الظلــم وتغيــر الواقــع‪،‬‬
‫وهــو ميــوت ليتحــول شــاه ًدا عــى أن اإلنســان ال ميكــن أن يقبــل الظلــم‪.‬‬
‫فاالستشــهاد هــو تعبــر عــن امتــاء إنســاين وعــن أنبــل الدوافــع اإلنســانية‪،‬‬
‫أي اســتعداد اإلنســان للتضحيــة بنفســه مــن أجــل القيــم التــي يؤمــن بهــا‪.‬‬
‫ويف حالــة االستشــهادي الفلســطيني فهــو يضحــي بنفســه مــن أجــل تحريــر‬
‫الوطــن وإقامــة العــدل يف األرض‪ ،‬خاص ـ ًة يف مواجهــة عــدو رشس مــزود‬
‫بأحــدث األســلحة األمريكيــة الفتاكــة‪.‬‬
‫وقــال أحــد الصحفيــن األمريكيــن إن كل فريــق يســتخدم نظــام‬
‫التوصيــل ‪ delivery system‬املتــاح لــه‪ ،‬وإذا كانــت إرسائيــل متلــك طائــرات‬
‫األباتــي والـــ ‪ ،F16‬فــإن الفلســطيني ال ميلــك إال جســده‪ .‬وال شــك يف أن‬
‫هــؤالء االستشــهاديني لــن يفجــروا أنفســهم إن حصــل الشــعب الفلســطيني‬
‫عــى حقوقــه كاملــة‪ ،‬فاالستشــهاد ليــس هوايــة‪ ،‬وإمنــا فريضــة‪ ،‬وهــو ليــس‬
‫رغبــة نفســية وإمنــا واجــب يقــوم بــه املجاهــد إن اضطــر إىل ذلــك‪.‬‬
‫‪ -7‬مصطلحات الحوار والسالم‪:‬‬
‫فقــد حــاول الصهاينــة مــن البدايــة أن يصــوروا مرشوعهــم الصهيــوين‬
‫بأنــه مــروع إنســاين إلنقــاذ اليهــود ولتطويــر العــامل العــريب‪ ،‬ولــذا كانــوا‬
‫يتحدثــون يف املــايض عــن األخــوة مــع العــرب والنهــوض بهــم ويتحدثــون‬
‫اآلن عــن الســام ورضورة الحــوار وأن مــا يبغونــه هــو األمــن وحســب وتطبيع‬
‫العالقــات مــع العــرب إىل آخــر هــذه الرتهــات‪ .‬وكــا أســلفت ال ميكــن أن‬
‫نــرك هــذه املصطلحــات يتالعــب بهــا الصهاينــة كــا يشــاءون ويخدعــون بها‬
‫العــامل وأنفســهم‪ ،‬خاص ـ ًة وأن هــذه املفــردات مــن أهــم مفــردات الخطــاب‬
‫الســيايس يف معظــم أنحــاء العــامل والبــد مــن تفكيكهــا وإعــادة تركيبهــا‬
‫‪19‬‬
‫لنفضــح املضمــون الصهيــوين ولنبــن وجهــة النظــر العربيــة باعتبارهــا وجهــة‬
‫نظــر إنســانية تبغــي العــدل‪.‬‬
‫وفيما يلي بعض هذه المصطلحات‪:‬‬

‫‪ -1‬التطبيع‪:‬‬
‫ميكــن القــول إننــا مــن دعــاة التطبيــع‪ ،‬عــى أن يكــون التطبيــع مــع‬
‫كيــان طبيعــي ال يتســم بالشــذوذ البنيــوي الــذي تتســم بــه الدولــة الصهيونيــة‪،‬‬
‫فرفضنــا للتطبيــع ليــس نتيجــة حــب للحــرب وإمنا هــو نتيجــة الشــذوذ البنيوي‬
‫الــذي تتســم بــه الدولــة الصهيونيــة التــي أسســت عــى األرض الفلســطينية‬
‫يف الوطــن العــريب‪ ،‬والتــي تــرى نفســها عــى أنهــا ليســت دولــة ملواطنيهــا‬
‫وإمنــا لــكل يهــود العــامل‪ .‬ومــن ثــم فهــي تدعــو يهــود العــامل للهجــرة إليهــا‬
‫وترفــض يف الوقــت ذاتــه الســاح ألصحــاب األرض األصليــن بالعــودة إليهــا‪.‬‬
‫وهــي دولــة تــرى نفســها عــى أنهــا امتــداد للغــرب يف الــرق العــريب وال‬
‫ميكنهــا االندمــاج فيــه؛ ولــذا فمقومــات حياتهــا ليســت مــن داخلهــا وإمنــا‬
‫مــن خارجهــا مــن خــال الدعــم العســكري واالقتصــادي والســيايس الغــريب‪،‬‬
‫واألمريــي خاص ـ ًة‪ .‬إن التطبيــع ال ميكــن أن يتــم إال مــع دولــة طبيعيــة‪.‬‬
‫‪ -2‬االعتدال والتطرف‪:‬‬
‫«االعتــدال» م��ن «ع��دل» أي «سـ�وى ب�ين الشــيئني»‪ .‬و«االعتــدال‬
‫الســيايس» هــو أن يأخــذ املــرء موق ًفــا ينـــزع نحــو املهادنــة وتقديــم التنازالت‬
‫يف ســبيل تحقيــق قــدر مــن العــدل والســام‪ .‬و«التطــرف» عــى خــاف‬
‫«االعتــدال» هــو «تجــاوز حد االعتــدال»‪ ،‬و«التطــرف» يف املصطلح الســيايس‬
‫هــو أن يتمســك املــرء مبوقفــه وبالحــد األقــى ال يحيــد عنــه وال يقبــل تقديــم‬
‫أيــة تنــازالت‪ ،‬وال يتهــاون بغــض النظــر عــن األوضــاع واملالبســات املحيطــة‬
‫بالوقــف‪ .‬ومصطلحــا «االعتــدال والتطــرف» شــائعان يف الخطــاب الســيايس‪،‬‬

‫‪20‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫فيوصــف إنســان بأنــه «متطــرف» وآخــر بأنــه «معتــدل» حســب مــا يتخذانــه‬
‫مــن مواقــف‪.‬‬
‫ولكــن مــا يغيــب عــن الكثرييــن أن التطــرف واالعتــدال يقاســان بالنســبة‬
‫إىل مرجعيــة كامنــة مــا‪ ،‬فــا هــو متطــرف مــن وجهــة نظــر مــا قــد يكــون‬
‫اعتــداالً مــن وجهــة نظــر أخــرى واألمــر يتوقــف عــى املرجعيــة‪ .‬ومــا يفــوت‬
‫مــن يســتخدمون مثــل هــذه املصطلحــات أن أســباب الــراع (يف املجــال‬
‫الســيايس واالقتصــادي) ليــس لهــا عالقــة كبــرة مبــا يســمى «العقــد النفســية‬
‫والتاريخيــة»‪ ،‬وإمنــا هــي يف العــادة أســباب بنيويــة لصيقــة بالعالقــات التــي‬
‫توجــد يف الواقــع‪ ،‬فالبنيــة الشــاذة تــؤدي إىل الــراع‪ ،‬أي أن القضيــة ليــس‬
‫لهــا عالقــة كبــرة يف كثــر مــن األحــوال مــع الحالــة النفســية أو مــع مــدى‬
‫اســتعداد أحــد أطــراف الــراع إلظهــار االعتــدال والتســامح؛ ولــذا فنحــن‬
‫نذه��ب إىل أن مصطلح��ي «االعتــدال» و«التطــرف» ليــس لهــا مقــدرة‬
‫تفســرية عاليــة يف مجــال السياســة واالقتصــاد‪.‬‬
‫را يف الــراع العريب‪/‬الصهيــوين‪ ،‬فســبب الــراع‬ ‫واألمــر ال يختلــف كثـ ً‬
‫هــو الشــذوذ البنيــوي للكيــان الصهيــوين االســتيطاين اإلحــايل الــذي تأســس‬
‫عــى الظلــم وتــم تحقيقــه مــن خــال اإلرهــاب والقمــع‪ .‬ومــا دامــت البنيــة‬
‫الصهيونيــة الشــاذة مســتمرة فالبــد أن يســتمر الــراع العــريب الصهيــوين‪،‬‬
‫ومــع هــذا تــم اســتخدام املصطلحــن بطريقــة فيهــا قــدر كبــر مــن الســيولة‬
‫وعــدم التحــدد‪ ،‬وهــذا يعــود إىل أن املرجعيــة الصهيونيــة والحــد األقــى‬
‫الصهيــوين واملســلامت النهائيــة (تأســيس الدولــة اليهوديــة الخالصــة‪ ،‬الخاليــة‬
‫مــن العــرب) أخفيــت متا ًمــا عــن األنظــار‪ ،‬وأن شــعارات مثل «أرض بال شــعب‬
‫لش��عب بلـا أرض» و«إرت��س يرسائيــل التــي متتــد مــن النيــل إىل الفــرات»‬
‫أو «ع�لى ضفت��ي األردن» و«تجميـ�ع املنفيـين يف إرتـ�س يرسائيــل» و«نفــي‬
‫(أي تصفيــة) الدياســبورا» قــد أخفيــت عــن طريــق اســتخدام الخطــاب‬

‫‪21‬‬
‫الصهيــوين املــراوغ‪ ،‬وهــو اآلليــة الصهيونيــة إلخفــاء املرجعيــة؛ ولهــذا نجــد‬
‫أن مــا يوصــف بالتطــرف يو ًمــا يوصــف باالعتــدال يو ًمــا آخــر وهكــذا‪ ،‬إىل‬
‫أن اقــرب «االعتــدال الصهيــوين» مــن املســلامت الصهيونيــة النهائيــة والحــد‬
‫األقــى الصهيــوين‪ .‬فبعــد إعــان وعــد بلفــور عــام ‪1917‬م كان الصهاينــة‬
‫الذيــن يطالبــون بإنشــاء دولــة صهيونيــة يعــدون «متطرفــن»؛ ألن الحــد‬
‫األقــى املعلــن آنــذاك هــو وطــن قومــي وحســب‪ ،‬ولكــن هــؤالء املتطرفــن‬
‫أصبحــوا معتدلــن يف األربعينيــات حينــا أصبــح الشــعار الرســمي للحركــة‬
‫الصهيونيــة هــو إنشــاء دولــة صهيونيــة وقبــول قــرار التقســيم والعيــش مــع‬
‫العــرب يف ســام! ومــن ثــم كان الحديــث عــن كامــل أرض إرسائيــل وطــرد‬
‫أرضــا‬
‫العــرب هــو عــن التطــرف الصهيــوين‪ .‬ولكــن بعــد أن قضمــت إرسائيــل ً‬
‫تتجــاوز حــدود األرض املعطــاة لهــا مبقتــى قــرار التقســيم‪ ،‬وبعــد أن تــم‬
‫طــرد العــرب أصبــح االعتــدال الصهيــوين هــو تجــاوز قــرار التقســيم والقبــول‬
‫باألمــر الواقــع والتمســك بحــدود ‪1948‬م وببقــاء الفلســطينيني خــارج ديارهــم‪.‬‬
‫وبعــد حــرب ‪1967‬م كان التطــرف الصهيــوين هــو التمســك بــكل أو بعــض‬
‫األرايض املحتلــة بعــد عــام ‪1967‬م وبإقامــة املســتوطنات فيهــا‪ ،‬وبالتدريــج‬
‫تغــر مثــل هــذا املوقــف األخــر وأصبــح االعتــدال هــو قبــول األمــر الواقــع‬
‫وتجميــد املســتوطنات مــع االســتمرار يف تســمينها (أي توســيعها)‪.‬‬
‫وينطبــق املوقــف نفســه عــى العــرب بطبيعــة الحــال‪ ،‬فاملعتــدل مــن‬
‫وجهــة النظــر الصهيونيــة هــو الــذي يقبــل املوقــف الصهيــوين املعتــدل ويتغــر‬
‫بتغــره‪ ،‬فالعــريب الــذي كان يقبــل اســتيطان الصهاينــة دون إنشــاء دولــة كان‬
‫يعــد (منــذ عــام ‪1917‬م وحتــى األربعينيــات) معتــدالً ولكنــه أصبــح متطرفًــا‬
‫بعــد ذلــك التاريــخ‪ .‬ومــن كان يقبــل إنشــاء الدولــة اليهوديــة وقــرار التقســيم‬
‫عــام ‪1948‬م كان يعــد عرب ًيــا معتــدالً ولكــن بعــد إنشــاء الدولــة أصبــح مثــل‬
‫هــذا الشــخص متطرفًــا‪ .‬وظــل األمــر كذلــك حتــى عــام ‪1967‬م‪ ،‬حيــث أصبــح‬

‫‪22‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫االعتــدال العــريب هــو الرضــوخ لحــدود إرسائيــل بعــد عــام ‪1967‬م‪ ،‬وأصبــح‬
‫تطبيــق قــرار ‪ 242‬أو حتــى إنقــاص املســتوطنات يف الضفــة الغربيــة هــو عــن‬
‫التطــرف العــريب‪.‬‬
‫ومــا يجــدر مالحظتــه أن الحفــاظ عــى أمــن إرسائيــل هــو دامئًــا‬
‫الحجــة التــي تســاق لتحديــد مفهومــي االعتــدال والتطــرف‪ ،‬وأن مواصفــات‬
‫هــذا األمــن تحــدده الدولــة الصهيونيــة دامئًــا‪ .‬ويالحــظ يف جميــع األحــوال‬
‫غيــاب مفهــوم العــدل والتــآكل التدريجــي ملفهــوم املقاومــة إىل أن أصبــح أي‬
‫شــكل مــن أشــكال «املقاومــة» شــكالً مــن أشــكال التطــرف واإلرهــاب‪.‬‬
‫بعــد تفكيــك مفهــوم «االعتــدال والتطــرف»‪ ،‬يجــب أن نــر عــى أننــا‬
‫معتدلــون وأن مرجعيتنــا هــي قــرارات هيئــة األمــم املتحــدة‪ ،‬مبــا يف ذلــك‬
‫تأكيــد حــق العــودة لالجئــن الفلســطينيني‪ ،‬وأن املتطــرف هــو مــن يرفــض‬
‫هــذه القــرارات ويــر عــى أن يتــرف عــى هــواه وحســب مصلحتــه دون‬
‫اكــراث بالرشعيــة الدوليــة اإلنســانية‪ .‬ولــذا حينــا يتحــدث الصهاينــة عــن‬
‫املتطرفــن الفلســطينيني فإنهــم يشــوهون الواقــع‪ ،‬فهــؤالء «املتطرفــون» هــم‬
‫يف واقــع األمــر مقاومــون يدافعــون عــن حقوقهــم الرشعيــة ويتحركــون‬
‫يف إطــار الرشعيــة الدوليــة‪ ،‬عــى عكــس الصهاينــة الذيــن يترصفــون يف‬
‫إطــار أهوائهــم ومصالحهــم دون أي اعتبــار ألي معايــر دوليــة أو إنســانية‪،‬‬
‫فالصهاينــة هــم املتطرفــون وهــم اإلرهابيــون‪.‬‬
‫‪ -3‬الحوار‪ ،‬والحوار النقدي‪ ،‬والحوار املسلح‪:‬‬
‫الحــوار مصطلــح يعنــي حرف ًّيــا حديثًــا يجــري بــن شــخصني‪ .‬وكلمــة‬
‫«حوار» تفــرض شــكالً مــن أشــكال النديــة واملســاواة‪ .‬ويلجــأ الصهاينــة إىل‬
‫الدعــوة إىل الحــوار والتفــاوض وج ًهــا لوجــه و«االبتعــاد عــن عقــد التاريــخ‬
‫وحساســيات الهويــة»‪ ،‬وكأن التاريــخ ليــس لــه امتــداد يف الحــارض‪ ،‬وكأن‬
‫الهويــة مجــرد زخرفــة‪ ،‬وليــس تبديًــا النتــاء عميــق للوطــن وللــذات‪ .‬ومثــل‬
‫‪23‬‬
‫هــذه الدعــوة للحــوار دون تحديــد املنطلقــات واألطــر واملرجعيــات هــي يف‬
‫واقــع األمــر دعــوة ملحــو الذاكــرة والتخــي عــن القيــم‪ ،‬ويف غيــاب النديــة‬
‫فــإن مــا يحســم الحــوار هــو الســاح‪ ،‬أي أنهــا دعــوة للتطبيــع مــن الجانــب‬
‫العــريب دون أن يقــوم الجانــب الصهيــوين بإزالــة اســتيطانيته اإلحالليــة التــي‬
‫تســبب شــذوذه البنيــوي‪.‬‬
‫ولــي يكــون الحــوار مثم ـ ًرا البــد أن يبــدأ مــن التاريــخ والقيــم ومــن‬
‫الواقــع‪ ،‬فالبــر ليســوا مثــل الفــران عقولهــم صفحــة بيضــاء‪ ،‬فنحــن كلنــا‬
‫را‪ ،‬ونحــن‬ ‫نحمــل عــبء الذاكــرة والتاريــخ واألخــاق وهــذا مــا يجعلنــا ب ـ ً‬
‫جمي ًعــا نعيــش يف الواقــع وندركــه مــن خــال تجربتنــا املتعينــة؛ ولــذا مــن‬
‫الــروري يف أي حــوار مــع اآلخــر الصهيــوين أن نبــدأ بتعريــف املشــكلة ال‬
‫أن ننســاها أو نتناســاها‪ ،‬والبــد أن نتذكــر أن هنــاك كيانًــا اســتيطان ًّيا إحالل ًّيــا‬
‫وكتلــة برشيــة غازيــة‪ ،‬وأن هنــاك «مســألة فلســطينية» متمثلــة يف شــعب فقــد‬
‫أرضــه ومل يفقــد ذاكرتــه التاريخيــة أو هويتــه املتعينــة‪ ،‬ومــن ثــم هــو متمســك‬
‫بهــا يناضــل مــن أجلهــا‪ ،‬ولــذا فاملســألة الفلســطينية ال تــزال قامئــة‪ ،‬أي أن‬
‫الحــوار البــد أن يبــدأ باالعــراف بشــذوذ إرسائيــل البنيــوي ورشعيــة املقاومــة‬
‫وبالوجــود الفلســطيني‪.‬‬
‫والبــد أن يبــدأ الحــوار مــن تقريــر اإلطــار القيمــي وأن العــدل هــو‬
‫الــذي يجــب أن يســود وأن العنرصيــة يشء بغيــض‪ ،‬ومــن ثــم البــد أن يتوجــه‬
‫الحــوار لقضيــة الظلــم الــذي حــاق بالفلســطينيني والتمييــز العنــري الــذي‬
‫يالحقهــم يف فلســطني املحتلــة قبــل وبعــد عــام ‪1967‬م‪.‬‬
‫ويجــب أن نــدرك أن الحــوار أنــواع‪ ،‬فهنــاك الحــوار بــن طرفــن يتفقــان‬
‫يف املنطلقــات واألطــر املرجعيــة واملبــادئ‪ .‬والهــدف مــن الحــوار يف هــذه‬
‫الحالــة هــو تحويــل هــذا التفاهــم العــام إىل إجــراءات محــددة‪ ،‬وهــذا هــو‬
‫أســهل أنــواع الحــوار وميكــن أن يتــم بشــكل ســلمي‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫لكــن إن كان الطرفــان غــر متفقــن يف املنطلقــات وال األطــر وال املبادئ‬
‫فيمكــن يف هــذه الحالــة إجــراء مــا يســمى «حــوا ًرا نقديًّــا»‪ ،‬وهــو حــوار‬
‫ميكــن أن يتــم عــى مائــدة املفاوضــات وعــر وســائل اإلعــام حيــث يحــاول‬
‫كل طــرف أن يبــن للطــرف اآلخــر وجهــة نظــره وعدالتهــا ويبــن عنرصيــة‬
‫اآلخــر والعقالنيتــه‪.‬‬
‫أمــا إن كان هنــاك طرفــان غــر متفقــن يف املنطلقــات واآلراء واألطــر‬
‫املرجعيــة وكان أحــد الطرفــن يرفــض أي مطلقــات أخالقيــة ومرجعيــة‬
‫ويجعــل مــن نفســه مرجعيةذاتــه مكتفيًــا بذاتــه‪ ،‬فــإن قيــام أي حــوار يعــد‬
‫أمــ ًرا مســتحيالً‪ ،‬وتســوء األمــور إن كان الطــرف الــذي نصــب مــن نفســه‬
‫املرجعيــة النهائيــة املطلقــة مســلح برؤيــة نيتشــوية داروينيــة تنطلــق مــن املبــدأ‬
‫القائــل بــأن البقــاء لألصلــح مبعنــى األقــوى‪ ،‬وأن مــا يحســم األمــور هــو القوة‬
‫العســكرية وسياســات األمــر الواقــع التــي تســتند إىل الغــزو العســكري‪ ،‬وأن‬
‫مــا ال يؤخــذ بالقــوة يؤخــذ مبزيــد مــن القــوة‪.‬‬
‫ومــع هــذا‪ ،‬ميكــن أن ينشــأ نــوع مــن الحــوار نســميه «الحــوار املســلح»‪،‬‬
‫وهــو حــن يقــوم الطــرف الــذي وقــع عليــه الظلــم باملقاومــة‪ ،‬فمــن خــال‬
‫مقاومتــه وإلحــاق األذى باآلخــر الظــامل وإرســال رســائل مســلحة لــه‪ .‬قــد‬
‫يبــدأ هــذا اآلخــر يف إدراك أن رؤيتــه للواقــع ليســت بالــرورة مطلقــة وال‬
‫نهائيــة فتنفتــح كــوة مــن الرشــد اإلنســاين يف ســحب الظلــم الكثيــف‪ ،‬ويبــدأ‬
‫اآلخــر الظــامل يف إدراك الظلــم الــذي وقــع عــى ضحيتــه ومــن ثــم قــد‬
‫يعــدل موقفــه‪ ،‬وهــذا يتطلــب رصــ ًدا ذكيًّــا ومســتم ًرا مــن جانــب الضحيــة‬
‫املقــاوم حتــى يــدرك أن اللحظــة قــد حانــت للدخــول يف التفــاوض مــع‬
‫اآلخــر الظــامل‪ .‬ولكــن هــذا ال يعنــي التوقــف عــن املقاومــة ألنــه لــو جــرى‬
‫الحــوار دون املقاومــة املســلحة فــإن هــذا اآلخــر حبيــس حواســه الخمســة‬
‫رشا عــى‬‫ورؤيتــه الداروينيــة قــد يــرى الرغبــة يف التفــاوض باعتبارهــا مــؤ ً‬

‫‪25‬‬
‫اســتعداد الضحيــة لالستســام للذبــح مــرة أخــرى‪ .‬وقــد أدرك الفيتناميــون‬
‫هــذا الوضــع فدخلــوا يف حــوار مســلح مــع األمريكيــن انتهــى بالطرفــن إىل‬
‫مائــدة املفاوضــات‪ ،‬ولكــن مل يتوقــف الفيتناميــون عــن القتــال إال بعــد انتهــاء‬
‫املفاوضــات‪ ،‬وجــاء القــوات األمريكيــة عــن ديارهــم‪.‬‬
‫وقــد كان هنــاك حــوار مســلح حقيقــي بــن املســتوطنني الصهاينــة‬
‫والفلســطينيني أثنــاء االنتفاضــة توقــف مــع اتفاقيــة أوســلو واســتؤنف مــرة‬
‫أخــرى مــع انتفاضــة األقــى‪ .‬ومــن أهــم مثــرات الحــوار املســلح أن شــارون‬
‫نفســه اســتخدم كلمــة «احتــال» لوصــف الوجــود العســكري اإلرسائيــي يف‬
‫الضفــة الغربيــة والقطــاع‪ .‬أمــا يف جنــوب لبنــان فقــد ظــل الحــوار املســلح‬
‫قامئًــا إىل أن شــعر القــادة العســكريون اإلرسائيليــون أنــه ال جــدوى مــن‬
‫االســتمرار يف هــذا النــوع مــن القتــال فاقتنعــوا بوجهــة النظــر العربيــة‬
‫وانســحبوا عــى أعقابهــم خارسيــن‪.‬‬
‫ونحــن إذن مــن دعــاة الحــوار‪ ،‬ولكنــه حــوار يســتمد مرجعيتــه مــرة‬
‫أخــرى مــن قــرارات هيئــة األمــم واألعــراف الدوليــة واإلنســانية‪ .‬والجديــر‬
‫بالذكــر أن اإلنســان الــذي تســقط خريطتــه اإلدراكيــة يتحــول يف البدايــة إىل‬
‫فرضــا عــى الواقــع‪،‬‬
‫وحــش كارس يحــاول أن يحتفــظ بخريطتــه ويفرضهــا ً‬
‫وهــذه هــي املرحلــة الشــارونية‪ ،‬ولكــن حينــا يــدرك املســتوطنون أن البطــش‬
‫مل يحقــق لهــم األمــن أو الطأمنينــة فإنهــم ســيبدأون يف البحــث عــن حلــول‪.‬‬
‫‪ -4‬السالم الشامل الدائم‪:‬‬
‫ي َّدعــي الصهاينــة أنهــم مــن دعــاة الســام‪ ،‬ولكــن كلمــة «الســام» كلمــة‬
‫مطاطــة للغايــة يختلــف مضمونهــا باختــاف الســياق الــذي تــرد فيــه‪ ،‬فقــد‬
‫تحــدث الرومــان عــن «الباكــس رومانــا ‪ ،»Pax Romana‬الــذي كان يعنــي‬
‫فــرض الهيمنــة الرومانيــة عــى العــامل‪ .‬ويف القــرن التاســع عــر‪ ،‬وبعــد أن‬
‫حطمــت قــوى االســتعامر الغــريب تجربــة محمــد عــي التحديثيــة‪ ،‬وقعــت‬
‫‪26‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫معاهــدة معــه كانــت تســمى «معاهــدة تهدئــة (فــرض الســام) عــى الشــام‬
‫‪ .»Treaty for the Pacification of the Levant‬وقــد اســتخدم األمريكيــون‬
‫نفــس مصطلــح «‪ »Pacification‬هــذا لإلشــارة إىل محاولــة غــزو فيتنــام‪،‬‬
‫وهــم اآلن يتحدثــون عــن «الباكــس أمريكانــا ‪ ،»Pax Americana‬أي فــرض‬
‫مفهــوم الســام األمريــي عــى العــامل‪.‬‬
‫أيضــا عــن «الســام اإلرسائيــي»‪ ،‬وهــو محاولــة تهدئــة‬ ‫وميكــن الحديــث ً‬
‫املنطقــة وفــرض املفهــوم اإلرسائيــي للســام عليهــا‪ .‬وتبــدأ معزوفــة الســام‬
‫اإلرسائيليــة باملنــاداة بالبعــد عــن عقــد التاريــخ وأن تتنــاىس كل دول املنطقــة‬
‫خالفاتهــا ملواجهــة الخطــر األكــر (االتحــاد الســوفيتي – اإلســام الســيايس)‪،‬‬
‫وأن نقطــة البدايــة البــد أن تكــون األمــر الواقــع‪ ،‬أي أن إرسائيــل تطبــق‬
‫إحــدى آليــات الخطــاب الصهيــوين املــراوغ وهــو فصــل النتائــج عــن األســباب‬
‫وعــن ســياقاتها التاريخــي‪ .‬واملفهــوم اإلرسائيــي للســام يفــرض أن إرسائيــل‬
‫ليســت التهديــد األكــر‪ ،‬مــع أن األمــر الواقــع الــذي يطلــب منــا أن نبــدأ منــه‬
‫يقــول عكــس ذلــك‪ ،‬فهــو أمــر واقــع مؤســس عــى العنــف ويــؤدي إىل الظلــم‬
‫والقمــع‪ ،‬وهــو ليــس ابــن اللحظــة وإمنــا هــو نتيجــة ظلــم تاريخــي ممتــد مــن‬
‫املــايض إىل الحــارض‪ ،‬وهــذا الظلــم والقمــع هــو مصــدر الــراع والحــروب‬
‫واالشــتباك‪ ،‬فاملســألة ليســت عقــ ًدا نفســية أو تاريخيــة وإمنــا بنيــة الظلــم‬
‫التــي تشــكلت يف الواقــع‪ ،‬وال ميكــن تأســيس ســام حقيقــي إال إذا تــم فكهــا‪.‬‬
‫وبعــد تنــايس عقــد التاريــخ يطالــب الصهاينــة بوقــف املقاومــة واستســام‬
‫الفدائيــن مقابــل تســليم بعــض املــدن والقــرى ال تنســحب منهــا القــوات‬
‫الغازيــة وإمنــا يعــاد نرشهــا‪ ،‬وهــذا مــا يســمونه األرض يف مقابــل الســام‪.‬‬
‫والقــوات اإلرسائيليــة ال تنســحب ألن أرض فلســطني هــي أرض الشــعب‬
‫اليهــودي والقــوات الوطنيــة ال تنســحب مــن أرض الوطــن وإمنــا يعــاد نرشهــا‬
‫وحســب‪ ،‬فالعــدو يــر عــى املرجعيــة النهائيــة ملصطلحاتــه‪ .‬ولــذا رغــم اتخــاذ‬

‫‪27‬‬
‫هــذه الخطــوة الرمزيــة اإلعالميــة فــإن االســتيطان سيســتمر عــى قدم وســاق‬
‫والقــدس ســتظل عاصمــة إرسائيــل األبديــة‪.‬‬
‫إن كل هــذه التصــورات للســام تنبــع مــن إدراك أن أرض فلســطني هــي‬
‫إرت��س يرسائيــل‪ ،‬وأن اإلرسائيليــن لهــم حقــوق مطلقــة فيهــا أمــا الحقــوق‬
‫الفلســطينية فهــي مســألة ثانويــة‪ ،‬فــاألرض يف األصــل أرض بــا شــعب‪.‬‬
‫وتتبــدى هــذه الخاصيــة بشــكل واضــح ومتبلــور يف املفهــوم اإلرسائيــي‬
‫را عــن‬‫للحكــم الــذايت‪ .‬وتصــور إرسائيــل ملســتقبل املنطقــة ال يختلــف كثــ ً‬
‫ذلــك‪ ،‬فاملركــز هــو إرسائيــل وهــي التــي متســك بــكل الخيــوط أمــا بقيــة‬
‫املنطقــة فهــي مســاحات وأســواق‪ ،‬وإســقاط عقــد التاريــخ هنــا يعنــي إســقاط‬
‫الهويــة التاريخيــة والثقافيــة بحيــث يتحــول العــرب إىل كائنــات اقتصاديــة‬
‫تحركهــا الدوافــع االقتصاديــة التــي ليــس لهــا هويــة أو خصوصيــة‪ ،‬وهنــا‬
‫تظهــر ســنغافورة كصــورة أساســية للمنطقــة وكمثــل أعــى‪ :‬بلــد ليــس لــه هويــة‬
‫واضحــة وال تاريــخ واضــح‪ ،‬نشــاطه األســايس هــو نشــاط اقتصــادي محــض‪،‬‬
‫وحينــا يتحــول العــامل العــريب إىل ســنغافورات مفتتــة متصارعــة تكــون‬
‫اإلســراتيجية االســتعامرية والصهيونيــة للســام قــد تحققــت دون مواجهــة‬
‫ومــن خــال «التفــاوض» املســتمر‪.‬‬
‫إن الســام الــذي تنــادي بــه إرسائيــل ليــس ســا ًما شــامالً دامئًــا وإمنــا‬
‫هــو ســام مؤقــت ألنــه مبنــي عــى الظلــم‪ ،‬فهــو ال يحــاول تحقيــق العــدل‬
‫مــن خــال إعــادة صياغــة بنيــة العالقــات وإمنــا هــو مجــرد ترجمــة ملوازيــن‬
‫القــوى القامئــة يف أرض املعركــة‪ ،‬ولــذا فــإن أحــد الطرفــن يقبلــه إذعانًــا‬
‫وليــس اقتنا ًعــا ويظــل يتحــن الفــرص إلعــادة تعديــل موازيــن القــوى‬
‫لصالحــه‪ ،‬كــا حــدث يف أملانيــا بعــد الحــرب العامليــة األوىل بتوقيــع معاهــدة‬
‫فرســاي‪.‬‬
‫وهــذا الســام األخــر هــو ســام مبنــي عــى الحــرب‪ ،‬ولــذا فهــو يف‬
‫‪28‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫واقعــ األم�رـ حالــة منــ الالحـ�رب والالســلم قــد يختلــف عــن وقــف إطــاق‬
‫النــار الــذي عــادة مــا يســتند إىل اتفاقيــة مؤقتــة تتيــح لألطــراف املتحاربــة‬
‫فرصــة اللتقــاط األنفــاس وإلنجــاز أمــور إنســانية أساســية‪ ،‬مثــل قضــاء عيــد‬
‫أو الســاح مبــرور معــدات طبيــة أو مــرور بعــض األطفــال‪ ،‬ولكنهــا ال تختلــف‬
‫را عــن الهدنــة التــي تســتند إىل اتفاقيــة ال ترقــى إىل مســتوى حالــة‬ ‫كثــ ً‬
‫الســام‪ ،‬فهــي فــرة يــرى فيهــا الطرفــان (أو أحدهــا) أن باإلمــكان اإلبقــاء‬
‫عــى حالــة الحــرب إىل أن تســنح فرصــة لتحقيــق انتصــار عســكري‪ ،‬والســام‬
‫الشــامل الدائــم يف الــرق األوســط البــد أن يتوجــه لــكل مــن املســألة‬
‫اإلرسائيليــة واملســألة الفلســطينية ويجــد حلــوالً لهــا‪.‬‬
‫ونحــن نذهــب إىل أن الحــل العــادل الشــامل للمســألتني اإلرسائيليــة‬
‫والفلســطينية غــر ممكــن داخــل اإلطــار الصهيــوين العنــري‪ ،‬االســتيطاين‬
‫اإلحــايل‪ ،‬فهــو إطــار يولــد الــراع بطبيعتــه ألنــه ينكــر حقــوق الفلســطينيني‬
‫الذيــن طــردوا مــن بالدهــم ويؤكــد حــق يهــود العــامل يف األرض الفلســطينية‪،‬‬
‫والحــل الوحيــد املمكــن يقــع خــارج هــذا اإلطــار حــن يقــوم أعضــاء التجمــع‬
‫االســتيطاين الصهيــوين بنــزع الصبغــة الصهيونيــة االســتيطانية‪/‬اإلحاللية‬
‫عــن الدولــة الصهيونيــة‪ .‬وحــل املســألة اإلرسائيليــة ميكــن أن يأخــذ شــكلني‬
‫متناقضــن‪ ،‬ففــي حالــة ماملــك الفرنجــة (املاملــك الصليبيــة يف املصطلــح‬
‫الغــريب) يف فلســطني وحولهــا تــم تصفيــة هــذه املاملــك بالقــوة العســكرية‬
‫ورحــل أهلهــا إىل بالدهــم بعــد أن مكثــوا حــوايل قرنــن مــن الزمــان‪.‬‬
‫أيضــا الحــل الســلمي‪ ،‬ففــي الجزائــر بعد ثــورة املليون شــهيد‬
‫ولكــن هنــاك ً‬
‫ظهــرت حكومــة قوميــة مــن ســكان البلــد األصليــن وأعطــت املســتوطنني‬
‫الفرنســيني حــق البقــاء واملواطنــة واإلســهام يف بنــاء الوطــن الجديــد‪ ،‬ولكنهم‬
‫آثــروا العــودة إىل بلدهــم األصــي أي فرنســا‪ ،‬وهنــاك كذلــك الحــل الــذي‬
‫تطرحــه جنــوب أفريقيــا إذ تــم تصفيــة الجيــب االســتيطاين العنــري دون‬

‫‪29‬‬
‫تصفيــة جســدية للعنــارص البيضــاء ذات األصــول الغربيــة التــي كانــت تهيمــن‬
‫عــى النظــام القديــم وتحافــظ عــى بنيــة االســتغالل العنرصيــة وتســتفيد‬
‫منهــا‪ ،‬ثــم عــرض عــى أعضــاء هــذه الكتلــة البرشيــة البيضــاء أن يندمجــوا‬
‫يف النظــام العــادل الجديــد املبنــي عــى املســاواة بــن األجنــاس‪ ،‬وأن يتعاونوا‬
‫معــه حتــى ميكــن االســتفادة منهــم ومــن خرباتهــم‪ ،‬وهــذا مــا فعلــه معظمهــم‪.‬‬
‫وليــس هنــاك مــا مينــع مــن تطبيــق منــوذج جنــوب أفريقيــا يف االنتقــال‬
‫الســلمي مــن حالــة الحــرب والظلــم إىل حالــة الســلم والعــدل يف فلســطني‬
‫املحتلــة‪ ،‬فهــو حــل ال يســتبعد أحــ ًدا ويعطــي كل ذي حــق حقــه‪ ،‬وقــرارات‬
‫هيئــة األمــم املتحــدة املختلفــة (الخاصــة بحــق الفلســطينيني يف العــودة إىل‬
‫وطنهــم‪ ،‬ورفــض ضــم األرايض بالقــوة) تصلــح كإطــار دويل قانــوين أخالقــي‬
‫لحــل املشــكلة‪ ،‬وهــو إطــار تقبــل بــه الجامعــة الدوليــة واملعايــر األخالقيــة‬
‫واإلنســانية‪ .‬إن تحقيــق الســام يف فلســطني ليــس مســألة مســتحيلة‪ ،‬ولكنــه ال‬
‫ميكــن أن يتــم داخــل اإلطــار العنــري الصهيــوين‪.‬‬
‫وإذا كانــت الجامعــة الدوليــة تريــد ح ًّقــا الســام فعليهــا أن تطلــب مــن‬
‫الدولــة الصهيونيــة اتخــاذ خطــوات محــددة مثــل قبــول قــرارات هيئــة األمــم‬
‫النحــدة مبــا يف ذلــك حــق العــودة للفلســطينيني ومثــل إلغــاء قانــون العــودة‬
‫الصهيــوين وكل املؤسســات الصهيونيــة األخــرى مثــل الصنــدوق القومــي‬
‫اليهــودي‪ ،‬واالنســحاب مــن الضفــة الغربيــة وغــزة‪ ،‬وبعــد ذلــك ميكــن‬
‫ألطــراف الــراع أن تجتمــع ملناقشــة املشــاكل اإلجرائيــة الناجمــة عــن الوضــع‬
‫الجديــد‪ .‬ولكــن املفاوضــات هنــا لــن تكــون بخصــوص املنطلقــات والحقــوق‬
‫غــر القابلــة للتنــازل‪ ،‬وإمنــا ســتكون بخصــوص اإلجــراءات وحســب‪.‬‬
‫‪ -5‬نزع الصبغة الصهيونية عن الدولة الصهيونية‪:‬‬
‫هــذا املصطلــح ليــس جــز ًءا مــن الخطــاب الصهيــوين‪ ،‬فالصهاينــة‬
‫يتهمــون العــرب دامئًــا بأنهــم يخططــون الرتــكاب هولوكســت (محرقــة) ضــد‬
‫‪30‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫اإلرسائيليــن وتحطيــم دولــة إرسائيــل‪ ،‬مــع أن مــا يطلبــه العــرب هــو إقامــة‬
‫العــدل وتنفيــذ قــرارات األمــم املتحــدة‪ ،‬وهــو أمــر ال ميكــن إنجــازه إال مــن‬
‫خــال «نــزع الصبغــة الصهيونيــة عــن الدولــة الصهيونيــة» (باإلنجليزيــة‪ :‬دي‬
‫زايونيـ�از ‪ .)dezionize‬وينطلــق هــذا املصطلــح مــن إدراك أن الــراع القائــم‬
‫يف الــرق األوســط اآلن ليــس نتــاج كــره عميــق وأزيل بــن العــرب واليهــود‬
‫أو بــن اليهــود واألغيــار‪ ،‬وأنــه ليــس نتيجــة العقــد التاريخيــة والنفســية (كــا‬
‫ي َّدعــي الصهاينــة)‪ ،‬وإمنــا هــو وضــع بنيــوي يولــد الــراع ونشــأ عــن تطــور‬
‫تاريخــي وســيايس وبــري محــدد‪ ،‬ومــادام هــذا الوضــع قامئًــا فســيظل‬
‫الــراع قامئًــا‪ ،‬وأنــه ال ســبيل إلنهــاء الــراع إال مــن خــال فــك بنيــة‬
‫الــراع ذاتهــا‪.‬‬
‫وال ميكــن توقــع أي ســام يف إطــار بنيــة القمــع والظلــم والعــدوان هــذه‪،‬‬
‫أي يف إطــار الدولــة الوظيفيــة الصهيونيــة االســتيطانية‪ ،‬بينــا ميكــن أن‬
‫نتحــرك نحــو قــدر معقــول مــن الســام مــن خــال نــزع الصبغــة الصهيونيــة‬
‫االســتيطانية عنهــا‪ ،‬ونــزع الصبغــة ســيؤدي بــا شــك إىل فــك الجيــب‬
‫االســتيطاين الصهيــوين‪ .‬ومثــل هــذا األمــر ليــس مخي ًفــا أو فري ـ ًدا‪ ،‬فجميــع‬
‫الجيــوب االســتيطانية األخــرى بــا اســتثناء قــد تــم فكهــا وانتهــت الظاهــرة‬
‫االســتيطانية البغيضــة إمــا برحيــل املســتوطنني الغــزاة الوافدين أو اســتيعابهم‬
‫(هــم وأبنائهــم) يف الســكان مــن أصحــاب األرض األصليــن‪.‬‬
‫ونــزع الصبغــة الصهيونيــة الــذي نقرتحــه ال يعنــي إبــادة اإلرسائيليــن أو‬
‫هــدم دولتهــم أو القضــاء عــى هويتهــم اإلرسائيليــة أةو اليهوديــة (كــا يحلــو‬
‫للبعــض أن يصــور األمــر)‪ ،‬وإمنــا يعنــي خلــق اإلطــار القانــوين والســيايس‬
‫واألخالقــي الــذي يزيــل أســباب التوتــر والصــدام‪ .‬وعــودة الفلســطينيني هــي‬
‫جــزء ال يتجــزأ مــن عمليــة نــزع الصبغــة الصهيونيــة عــن الدولــة الصهيونيــة‬
‫االســتيطانية‪ ،‬وحــق العــودة هــو حــق أســايس مــن حقــوق اإلنســان‪ .‬ويف‬

‫‪31‬‬
‫امليثــاق العاملــي لتلــك الحقــوق مــادة تنــص عــى حــق كل مواطــن يف العيــش‬
‫يف بــاده أو تركهــا أو العــودة إليهــا‪ ،‬وهــو مرتبــط بحــق امللكيــة واالنتفــاع بهــا‬
‫والعيــش يف األرض اململوكــة‪ ،‬وحــق امللكيــة ال يــزول باالحتــال‪ ،‬وهــو مرتبــط‬
‫أيضــا بحــق تقريــر املصــر الــذي اعرتفــت بــه األمــم املتحــدة كمبــدأ منــذ‬ ‫ً‬
‫عــام ‪1946‬م‪.‬‬
‫لقــد اعتــر الســاح بعــودة الالجئــن أحــد الــروط التــي وضعــت لقبــول‬
‫إرسائيــل عض ـ ًوا باألمــم املتحــدة عــام ‪1948‬م‪ ،‬ومثــة قــرار رصيــح وشــهري‬
‫أصدرتــه الجمعيــة العامــة تحــت رقــم ‪ 194‬لســنة ‪1948‬م‪ ،‬قــررت فيــه أن‬
‫الالجئــن الراغبــن يف العــودة إىل أوطانهــم والعيــش بســام مــع جريانهــم‬
‫يجــب أن يســمح لهــم بذلــك يف أول فرصــة عمليــة ممكنــة‪ ،‬وأنــه يجــب‬
‫التعويــض عــن ممتلــكات الذيــن ال يرغبــون يف العــودة ودفــع تعويــض عــن‬
‫الخســائر واألرضار التــي أصابــت املمتلــكات إلصالحهــا وإرجاعهــا مــن قبــل‬
‫الحكومــات والســلطات املســئولة بنــا ًء عــى القانــون الــدويل والعدالــة‪ .‬إن‬
‫مقولــة نســيان املــايض والتطلــع إىل املســتقبل تــزدري العقــل اإلنســاين وتهينــه‬
‫ألننــا ال نعــرف إنســانًا ميكــن أن ينــى وطنــه ملجــرد أن هنــاك مــن يدعــوه‬
‫خصوصــا إذا صــدرت‬
‫ً‬ ‫إىل شــطبه مــن ذاكرتــه‪ ،‬ويبلــغ ذلــك االزدراء ذروتــه‬
‫الدعــوة مــن الطــرف اإلرسائيــي الــذي يســتمد كل رشعيتــه مــن املــايض‬
‫ويعتــر قادتــه أن التــوراة كتــاب لتســجيل املــدن ورســم الخرائــط عــى حــد‬
‫تعبــر إســحق رابــن‪.‬‬
‫وعــاد ًة مــا يقــول الصهاينــة إن عــودة الفلســطينيني تعنــي أن الدولــة‬
‫الصهيونيــة ســتفقد طابعهــا اليهــودي‪ ،‬وهــم محقــون يف ذلــك متا ًمــا‪ .‬ولكــن‬
‫الــرد عــى ذلــك أن الدولــة التــي تُبنــى هويتهــا عــى التمييــز العنــري ال‬
‫تســتحق البقــاء‪ ،‬فالدولــة اليهوديــة هــي دولــة حرصيــة اســتبعادية تســقط‬
‫الحــق املتعــن لإلنســان الفلســطيني للعــودة إىل أرضــه ومنزلــه اللذيــن تركهام‬

‫‪32‬‬
‫ثقافة المقاومة في تحيزات المصطلح الصهيوني‬

‫منــذ عــدة ســنوات تحــت الضغــط والتهديــد وبالقــوة‪ .‬وهــي تسقـــط هــذا‬
‫الحــق ولكنـــها تتحــدث يف الوقــت ذاتــه عــن الحــق املجــرد لليهــودي للعــودة‬
‫بعــد أن تــرك فلســطني منــذ آالف الســنني‪.‬‬
‫وهــي تســقط حــق العــودة بالنســبة للفلســطينيني الذيــن يقرعــون بوابــات‬
‫وطنهــم يــودون العــودة إليــه‪ ،‬وتؤكــده بالنســبة ليهــود العــامل الذيــن يرفضــون‬
‫العــودة‪ ،‬حتــى أنــه تــم الســاح ملئــات األرس مــن اليهــود الســوفييت املشــكوك‬
‫يف يهوديتهــم ويهــود الفالشــاه الذيــن ال تربطهــم رابطــة دينيــة باليهوديــة‬
‫الحاخاميــة باالســتيطان يف فلســطني املحتلــة‪ .‬بــل إن بعــض الحاخامــات‬
‫اليهــود األرثوذكــس‪ ،‬ســعوا إىل زيــادة عــدد املســتوطنني يف الضفــة الغربيــة‪،‬‬
‫قامــوا بتهويــد بعــض الهنــود الحمــر يف بــرو‪ ،‬وبالتــايل أصبــح لهــم حــق‬
‫العــودة إىل أرض أجدادهــم ثــم قامــوا بتوطينهــم هنــاك‪.‬‬

‫والله أعلم‬

‫‪33‬‬

You might also like