صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 4

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫**************‬
‫صالحية الشريعة لكل زمان ومكان‬
‫********************‬

‫إذا َس َّلْم َنا أن الشريعة قد أَّد ْت َد ْو رها إَّباَن البعثة‪ ،‬وفيما تال ذلك من القرون األولى في صيانة المجتمع‪ ،‬والوفاِء بحاجاته‬
‫البسيطِة َيْو َم ِئ ٍذ ‪ ،‬فه ل تص لح الي وم للوف اء بحاج ات مجتمعاتن ا المعاص رة على تش اُبكها وتنُّو ِع ه ا‪ ،‬وُبلوغه ا الغاي َة في التعقي د‬
‫والتطُّو ر؟!‬
‫إَّن جوهر اإلنسان هو التغُّي ر‪ ،‬وجوهر الشريعة هو الثبات‪ ،‬فكيف للقوالب التشريعية الثابتة التي لَّبْت حاجاِت القرون‬
‫األولى أن تلِّبَي حاجاِت هذا القرن الذي َفَّج َر الَّذ َّر َة‪ ،‬وغزا الفضاء؟!‬
‫إَّن الّنص وَص الَّتش ريعيَة مح دودٌة ومتناهي ٌة‪ ،‬وحاج اِت اإلنسان متج ِّد َدٌة وغ يُر متناهي ة‪ ،‬ف أَّنى للمح دود المتن اهي أن يلِّبي‬
‫حاجاِت الالمحدود وأن يِفَي بحاجاته؟!‬
‫أليس مَن األحفظ للشريعة أن نصوَنها تراًث ا مقَّد ًس ا َن ْذ ُك ُر ه بكل اإلكبار واإلجالل؛ كظاهرة تاريخية ف َّذ ة‪ ،‬ثم ننطلق نحن‬
‫ُنقيم بناءنا التشريعَّي المعاِص َر من وحي حاجاتنا المعاصرة‪ ،‬بعي ًد ا عِن التقُّيد بهذه الظاهرة التاريخَّية؛ فنصون بذلك تراثنا‬
‫مَن الَع َبث‪ ،‬ونحِّر ر مسيرة تقُّد ِم نا مَن الُج ُم ود واَألْس ر؟!‬
‫أال تزال َم قولُة صالحية الشريعة لكل زمان ومكان تفرض ِو صاَيَتها على ُع قولنا المعاصرة‪ ،‬وَتُح ول بيننا وبين االنعتاق‬
‫التشريعِّي ‪ ،‬واالنطالقة الحرة نحو ما نصبو إليه من منجزات وطموحات؟!‪:‬‬
‫•••‬
‫ِد‬
‫• صالحية الشريعة لكل زمان ومكان من المعلوم بالضرورة من الدين‪ ،‬وق انعقد عليها إجماع السابقين والالحقين مَن‬
‫المسلمين‪ ،‬وهي تعتمد على أَّن هذه الشريعة هي الشريعة الخاتمة‪ ،‬التي نسخ اهلل بها ما قبلها مَن الشرائع‪ ،‬وأوجب الحكم‬
‫به ا والتح اُك َم إليه ا إلى أن َي ِر َث اهلل األرض وَم ن عليه ا‪ ،‬وَتَو َّج َه الخط اُب به ا إلى أه ل األرض كاَّف ًة‪َ ،‬م ن آمن منهم باهلل‬
‫والي وم اآلخ ر‪ ،‬فال ب د إًذ ا أن تك ون مَن الص الحية بحيث ُتَلِّبي حاج اِت البش رية في مختِل ف أعص ارها وأمص ارها‪ ،‬وُتَح ِّق َق‬
‫مصالحها في كل زمان ومكان‪.‬‬
‫وإ ِّني َأِع ُظُك ْم بواحدة أن تقوموا هلل مثنى وُفَر اَد ى‪ ،‬ثم تتدبروا في هذه األسئلة‪:‬‬
‫• هل ُخ ِتَم ِت الرساالت حًّقا بمحمد؟‬
‫لق د َت َو َّلى اُهلل اإلجاب ة على ذل ك بنفسه فق ال‪َ ﴿ :‬م ا َك اَن ُم َح َّم ٌد َأَب ا َأَح ٍد ِم ْن ِر َج اِلُك ْم َو َلِك ْن َر ُس وَل الَّل ِه َو َخ اَتَم الَّنِبِّييَن ﴾‬
‫[األحزاب‪.]40 :‬‬
‫• هل أوجب اهلل الحكم بشريعته‪ ،‬وحَّذ ر مَن الُعُد وِل عنها أِو التحاكم إلى غيرها؟‬
‫لقد تولى اهلل سبحانه اإلجاب َة على ذلك؛ فقال‪َ ﴿ :‬و َأِن اْح ُك ْم َبْيَنُهْم ِبَم ا َأْن َز َل الَّل ُه َو اَل َتَّتِب ْع َأْه َو اَءُهْم َو اْح َذ ْر ُهْم َأْن َيْفِتُن وَك‬
‫َعْن َبْع ِض َم ا َأْن َز َل الَّل ُه ِإَلْي َك ﴾ [المائدة‪ُ ﴿ ،]49 :‬ثَّم َج َع ْلَن اَك َع َلى َش ِر يَع ٍة ِم َن اَأْلْم ِر َفاَّتِبْع َه ا َو اَل َتَّتِب ْع َأْه َو اَء اَّل ِذ يَن ال‬
‫َيْع َلُم وَن ﴾ [الجاثية‪َ ﴿ ،]18 :‬فاَل َو َر ِّبَك اَل ُيْؤ ِم ُنوَن َح َّتى ُيَح ِّك ُم وَك ِف يَم ا َش َج َر َبْيَنُهْم ُثَّم اَل َيِج ُد وا ِفي َأْن ُفِس ِه ْم َح َر ًج ا ِم َّم ا َقَض ْيَت‬

‫‪1‬‬
‫َو ُيَس ِّلُم وا َتْس ِليًم ا ﴾ [النساء‪َ ﴿ ،]65 :‬و َيُقوُل وَن َآَم َّن ا ِبالَّل ِه َو ِبالَّر ُس وِل َو َأَطْع َن ا ُثَّم َيَت َو َّلى َفِر ي ٌق ِم ْن ُهْم ِم ْن َبْع ِد َذ ِل َك َو َم ا ُأوَلِئ َك‬
‫ِباْلُم ْؤ ِم ِنيَن ﴾ [النور‪.]47 :‬‬
‫• هل ُنسخْت هذه النصوص التي ُتلِز م بهذه الشريعة‪ ،‬وتوِج ب الحكَم بها‪ ،‬وَتْن ِفي اإليمان عَّم ن خالفها؟‬
‫ال شَّك أن الجواب على ذلك هو النفُي القاِط ُع؛ فإن النسخ ال يكون إال في زمن الَّبْع َثِة ؛ ألن هذا الحق ليس ألحد من دون‬
‫اهلل‪ ،‬وال سبيل إلي ه إال ب الوحي المعص وم‪ ،‬وق د أكم ل اهلل لن ا ال دين‪ ،‬وأتم علين ا النعم ة‪ ،‬وأحكم آيات ه‪ ،‬وتعَّب َد نا به ا إلى قي ام‬
‫الساعة‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪(( :‬تركُت فيكم ما إن َتَم َّسكتم به لن تضلوا بعدي أبًد ا؛ كتاب اهلل وُس َّنتي))‪.‬‬
‫• هل ُيَعِّنُت اهلل عباَد ُه بتكليِف هم ما ال ُيِط يقون؟ أو ُيْلِز ُم هم بما تض َطِر ُب به أمورهم؛ فُيْفَتُن ون؟ أو يتعَّب ُد هم بما يحول بينهم‬
‫وبين الَّتمكين في األرض؛ فُيْغ َلبون على أمرهم وُيقَه رون؟ َأَي ِلي ُق ب الحكيم أن ُيلِز م أولياءه بما َيْش َقْو َن ب ه في دني اهم‪ ،‬ويقُع ُد‬
‫ِع ِة‬ ‫ُّل‬ ‫ِص ٍة‬
‫عِن الوف اء بمص الحهم‪ ،‬وَيْه ِو ي بهم إلى أغواٍر َق َّي مَن التخ ف والَّتَب َّي ؟! وهو الذي أخبر عن نفسه بأن ه أرحم بهم مَن‬
‫الوالدة بولدها؛ كما أخبر المعصوم؟!‬
‫• إن الجواب على ذلك كِّل ه هو النفُي القاطع‪ ،‬الذي يجزم به كل َم ن عرف ربه‪ ،‬وُه ِد َي إلى َتَد ُّبر آياته‪ ،‬وَفِق َه عن اهلل‬
‫قوله‪َ ﴿ :‬فِإَّم ا َيْأِتَيَّنُك ْم ِم ِّني ُهًد ى َفَم ِن اَّتَبَع ُهَد اَي َفاَل َيِض ُّل َو اَل َيْشَقى ﴾ [طه‪.]123 :‬‬
‫وعن نبينا قوله‪(( :‬إِّني تركت فيكم ما إِن اعتصمت به فلن تضِّلوا بعدي أبًد ا؛ كتاب اهلل وُس َّنة نبيه))[‪.]1‬‬
‫ف إذا استقَّر ذل ك كُّل ه‪ ،‬فق ِد اسَتَقَّر ُخ ُل ود الش ريعة وص الِح َيُتها لك ِّل زم ان ومك ان‪ ،‬وأن اإليم ان به ذه الحقيق ة من جنس‬
‫اإليم ان باهلل ورسله‪ ...‬وإ َّن ِم َّم ا ُيْؤ َس ى ل ه أن يتواص ى الَع ْلَم اِنُّيون في لق اءاتهم ومنت دياتهم بم ا َس َّم ْو ُه (بالح ِّل اإليج ابي‬
‫الهجومي)‪ ،‬والذي تتمثل أبرُز عناصِر ِه في ضرب هذه الثوابت اإلسالمَّية؛ للتأثير فيما َس َّم ْو ُه باألغلبية الصامتة‪ ،‬غافليَن أو‬
‫متغافلين عن أن هذه الضربات إنما تنال مَن اإلسالم قبل أن تنال من الجماعات اإلسالمية!‬
‫ففي الن دوة ال تي عق دها ه ؤالء تحت عن وان (التط ُّر ف السياسُّي ال دينُّي ) ص َّر ح أح دهم ب أن‪ :‬أح د المرتك زات الرئيسة‬
‫للتأثير في األغلبية الصامتة (الجماهير) هو ضرب المرتكزات األساسية التي تنطلق منها هذه االتجاهات الدينية‪ ،‬وأهم هذه‬
‫المرتكزات قولهم‪ :‬إن هناك نصوًص ا ثابت ًة‪ ،‬صالحًة للَّتطبيق في كل زمان ومكان‪ ،‬فإذا ألقينا الضوء على هذه النصوص‪،‬‬
‫وبَّينا أَّنها متغِّيَر ة‪ ،‬تتغير باختالف الزمان والمكان؛ سنكون قد خطونا خطوة كبيرة[‪.]2‬‬
‫وُيَع ِّلُق عليه آَخ ُر بقوله‪ :‬من أهم عناصر الحِّل ‪ ،‬إزالُة حاجز الخوف‪ ،‬الذي ال يجعلنا ُنْفِص ح بوضوح عن مواقفنا بكاملها‬
‫تجاه هذا التيار المتطرف‪ ،‬إن بعضنا يخشى استخدام كلمة َع ْلَم اِنَّية‪ ،‬وهي ليست ُم ِخ يَف ًة‪ ...‬يجب أن نكتب بوضوح مثًال في‬
‫صالحية الشريعة اإلسالمية لكل زمان ومكان؛ أي‪ :‬أْن نقول‪ :‬إنه ليس هناك في أمور البشر قاعدة من هذا النوع[‪:]3‬‬
‫ِلَّل ِذ‬ ‫ِل‬
‫وال نم ُك أم ام ه ذه االستفزازات إال أن نص بر على م ا يقول ون‪ ،‬ون دعو اهلل لهم بالهداي ة! كم ا ق ال تع الى‪ُ ﴿ :‬قْل يَن‬
‫َآَم ُنوا َيْغ ِفُر وا ِلَّلِذ يَن اَل َيْر ُج وَن َأَّياَم الَّلِه ِلَيْج ِز َي َقْو ًم ا ِبَم ا َك اُنوا َيْك ِس ُبوَن ﴾ [الجاثية‪.]14 :‬‬
‫• ولكنك لم ُتِج ْب عِن اإلشكالية التي يطرحها ما ذكرُت ُه لك من أَّن الشريعة َج ْو َهُر ها الثبات‪ ،‬واإلنسان َج ْو َهُر ُه التغُّير‪،‬‬
‫فضًال عن محدودية النصوص وعدم محدودية الحوادث التي يفترض أن تحكمها هذه النصوص؟‬
‫• ما تذكر من أن الشريعة جوهُر ها الثباُت واإلنسان جوهُر ه التغُّي ر‪ُ ،‬يَع ُّد في الواقع تغاُفًال عن حقيقة الشريعة وحقيقة‬
‫اإلنسان؛ فال الش ريعة ثابت ة في ك ل أحواله ا‪ ،‬وال اإلنسان متغِّي ر في ك ل ش ؤونه‪ ،‬فالش ريعة منه ا م ا ه و ث ابت محَك م‪ ،‬وه و‬

‫‪2‬‬
‫القطعي ات ومواِض ُع اإلجم اع‪ ،‬ومنه ا م ا ه و متغِّي ر ِنْس ِبٌّي ‪ ،‬وه و الظنَّي ات وموارد االجتهاد؛ ب ل إن منه ا منطق ة العفو التي‬
‫أحالت فيها إلى التجربة والمصلحة‪ ،‬في إطار من قواعد الشرع الكلية ومقاصده العامة‪.‬‬
‫ولقد كان منهُج الشريعة في ذلك كِّل ه إجماَل ما يتغَّير وتفصيَل ما ال يتغير‪ ،‬ولهذا فَّص َلِت القول في باب العقائد‪ ،‬وباب‬
‫العبادات‪ ،‬وأحكام األسرة ونحوه‪ ،‬وأجمَلِت القول في كثير من المعامالت التي تتجدد فيها الحاجات‪ ،‬وتكثر فيها المتغيرات‪،‬‬
‫واكتفت فيه ا ب إيراد المب ادئ العام ة واُألُط ر الكلَّي ة‪ ،‬تارك ًة للخ برة البش رية أن تتص رف في ح دود ه ذه اُألُط ر بم ا يحق ق‬
‫المصلحة ويدفع الحاجة‪ ،‬ولهذا جعلت األصل في العقود والشروط هو اإلباح َة إال أن يأتي نٌّص بالتحريم‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫قررْت فيه أن العباداِت توقيفَّيٌة‪ ،‬وجعلِت األصل فيها هو المنَع‪ ،‬حَّتى يأتَي دليٌل يدل على المشروعية‪.‬‬
‫لقد أمرِت الشريعة َم َثًال بالُّش وَر ى وأَّك دت عليها‪ ،‬ولكَّنها أحالت في أساليبها إلى الخبرة والتجربة‪ ،‬ألن هذه األساليب ِم َّم ا‬
‫يتجَّد ُد بتجدد الزمان وتطُّو ر الحاجات‪.‬‬
‫ولق د جعلِت الش ريعة السلطة لُألَّم ة‪ُ ،‬تم ارس به ا حَّقه ا في َتْو ِلَي ة ُح َّك اِم ه ا‪ ،‬وفي الَّر َقاب ة عليهم؛ ب ل وفي َع ْز ِلِه م عن َد‬
‫االقتض اء‪ ،‬وأح الت في وسائل ذل ك إلى الخ برة والتجرب ة‪ ،‬ولم ُتلِز م بش كل معَّين ق د تتج اوزه ظ روف الزم ان والمك ان‪ ،‬فال‬
‫َيِف ي بالحاجة وال يحِّقُق الَغَر َض وهكذا‪ ،‬ولكَّنها لَّم ا أمرت بالصالة أِو الحَّج فَّص لِت القول في ذلك تفصيًال دقيًقا‪ ،‬فصَّلى النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وقال‪(( :‬صُّلوا كما رأْي ُتموِني ُأ ِّلي))‪ ،‬وحَّج أمام أصحابه وقال‪(( :‬خذوا عني َناِس َكُك ))‪ ،‬وجعل ك َّل‬
‫ْم‬ ‫َم‬ ‫َص‬
‫ُم ْح َد َثٍة في ذلك ِبْد َع ًة‪ ،‬وكَّل بدَع ٍة َض الَلًة‪ ،‬وكَّل ضاللٍة في النار!‬
‫أما ما ذكرَت من تغُّير اإلنسان‪ ،‬فإن ذلك ليس على إطالقه؛ ألن من شؤون اإلنسان ما هو ثابت‪ ،‬ومنها ما هو متغِّير‬
‫متج ِّد ٌد ؛ ف الغرائز الفطري ة والحاج ات األساسية لإلنسان ثابت ة ُم ْح َك َم ة‪ ،‬وسَيَظُّل اإلنسان م ا َبِقَي اللي ُل والنه ار‪ ،‬ومهما تغَّي ر‬
‫الزمان والمكان في حاجة إلى عقيدة يعرف بها ِس َّر وجوِد ِه واتصاله بخالقه‪ ،‬وإ لى عبادات ُتَز ِّك ي ُر وَح ه وُتَطِّه ُر قلبه‪ ،‬وإ لى‬
‫أخالق ُتَقِّو م ُس لوكه وُتَهِّذ ُب نفَس ه‪ ،‬وإ لى شرائَع ُتِقيُم َمَو اِز يَن الِقسط بينه وبين غيره؛ فاَّلذي يتغَّير من اإلنسان هو الَع َر ض ال‬
‫الجوهر‪ ،‬الصورة ال الحقيقة‪ ،‬ولقد تعاملْت نصوص الشريعة مع اإلنسان على هذا األساس؛ فَفَّص َلْت له القول في الثابت‬
‫الذي ال يتغير من حياته‪ ،‬وسكتْت أو أجملْت فيما من شأنه التغُّير والتج ُّد د‪ُ ،‬ص ْن ع اهلل الذي َأْتَقَن ك َّل شيٍء ‪ ،‬أال َيعلم َم ن َخ َل َق‬
‫وهو اللطيف الخبير؟!‬
‫ولماذا ُنجِه د أنفسنا في إثبات هذه الَبَد ِه َّية‪ ،‬وبين أيدينا شهادة الواقع العملِّي ناطقة بما نقول؟‬
‫ألم تطب ق ه ذه الش ريعة ُز ه اَء ثالث َة َع َش َر َقْر ًن ا مَن الزم ان‪ ،‬وحَّقَقْت له ذه األَّم ة في ِظ له ا أقص ى م ا تص بو إلي ه أَّم ٌة من‬
‫اُألمم في هذه الدنيا من الِع َّز ة والتمكين؟!‬
‫ألم تص بح تركي ا باإلسالم‪ ،‬وفي ظ ل تط بيق الش ريعة هي الدول َة ال تي تمأل عين ال دنيا وَس ْمَعها‪ ،‬وب اتت ُتِخ ي ُف جاَر ته ا‬
‫روسيا؛ بل وظلت ِع َّد َة قرون ُتِد يُر َر َح ى الحرب داخَل األراضي الُّر وسَّية نفسها‪ ،‬ثم َتَنَّك َر ْت لإلسالم فأصبحْت ُد َو ْي َلًة تعيش‬
‫مرعوب ًة ِف ي أق َّل من ‪ % 1‬من حدودها اُألوَلى‪ ،‬وأقص ى م ا تتطلع إلي ه أن ُتص ِبَح عض ًو ا في السوق األوروبَّي ة المش تركة‪،‬‬
‫وأوروبا َتِض ُّن عليها!‬
‫والعجيب أن ُتتهم الشريعة بالجمود وعدم الصالحية من ِق َب ل فريق من ِج ْل َد ِتنا ويتكلمون بَأْلِس َنِتنا‪ ،‬في الوقت الذي نرى‬
‫فيه من فالسفة الغرب وأصحاب الرأي فيه َم ن ُيشيد بهذه الشريعة‪ ،‬ويشهد لها بالخلود والحيوية والتفوق!‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫ففي أسبوع الفق ه اإلسالمي ال ذي عق د بب اريس‪ ،‬وق دمت في ه بعض البح وث الفقهي ة لم يلبث أح د الحض ور وك ان نقيًب ا‬
‫للمحامين أن أعلن َدْه َش َتُه وعَج َبُه قائًال‪" :‬أنا ال أعرف كيف ُأَو ِّف ق بين ما كان ُيحكى لنا عن جمود الفقه اإلسالمي‪ ،‬وعدم‬
‫صالحيته أساًس ا تشريعًّيا َيِفي بحاجات المجتمع العصري المتط ِّو ر‪ ،‬وبين ما نسمعه اآلن في المحاضرات ومناقشاتها‪ ،‬مما‬
‫يثبت خالف ذلك تماًم ا ببراهين النصوص والمبادئ!"[‪.]4‬‬
‫وفي مؤتمر القانون الدولِّي الذي ُع ِق َد بالهاي ‪ 1948‬وقدمت فيه بعض البحوث الفقهية‪ ،‬أصدر المؤتمر قراًر ا باعتبار‬
‫(أن الش ريعة اإلسالمية حي ة مرن ة‪ ،‬تص لح للتط ُّو ر م ع ال زمن‪ ،‬وُتعَتَب ُر مص دًر ا من مص ادر الق انون المق ارن‪ ،‬وأن اللغ ة‬
‫العربية قد دخلت من اآلن فصاعًد ا في عداد اللغات التي يجب أن تسمع في المؤتمر)[‪.]5‬‬
‫ولق د تف َّر َدْت ه ذه الش ريعُة بِع لم أص ول الفق ه ال ذي َد َّو َن قواِع َد ُه الش افعُّي رحم ه اهلل وأنض جه األئم ُة من بع ده‪ ،‬وه و ِع لم‬
‫يض بط عملي ة استنباط األحك ام مَن األدل ة‪ ،‬ويح ول بين اُألَّم ة وبين الجم ود من ناحي ة‪ ،‬كم ا يح ول بينه ا وبين التحُّل ل وخلع‬
‫الِّر ْب َقة من ناحية أخرى‪.‬‬
‫ومن القواعد المق َّر َر ة في ه ذا العلم‪ ،‬وال تي تمث ل عوام ل الَّس َع ِة والمرون ة في ه ذه الش ريعة‪ ،‬وَتْكُفُل وفاءه ا بمختِل ف‬
‫الحاجات المتجِّد َد ة ‪ -‬ما ذكره أهل العلم من‪:‬‬
‫• أِد َّلة التشريع فيما ال نَّص فيه؛ كاالستحسان‪ ،‬واالستصحاب والُعرف ونحِو ِه‪.‬‬
‫• ورعاية الَّضرورات واألعذار والظروف االستثنائية‪ ،‬وَتَغ ُّير الفتوى بتغير األزمنة واألمكنة واألحوال واألعراف إلى‬
‫غ ير ذل ك من قواعد الُّر ْش د والَحَيِو َّي ة في ه ذه الش ريعة الخال دة‪ ،‬على أن يِتَّم ذل ك في إط اٍر ُم ْن َض ِبط مَن االجته اد الش رعِّي‬
‫الُم ْع َتَب ر‪ ،‬وليس بإطالق الِع نان لألهواء‪ ،‬واالسترسال مع دعوات التغريب تحت ِش عار التق ُّد م والتجديد واالسِتنارة؛ حَّتى ال‬
‫ُيستباح َح َر ُم الشريعة أمام كل َد ِع ٍّي َج هول![‪]6‬‬

‫[‪ ]1‬رواه الحاكم‪.‬‬


‫[‪ ]2‬راجع مجلة "فكر" عدد (‪ )8‬ديسمبر ‪.85‬‬
‫[‪ ]3‬راجع مجلة "فكر" عدد (‪ )8‬ديسمبر ‪.85‬‬
‫[‪ ]4‬نقًال عن كتاب‪" :‬مشاكلنا في ضوء اإلسالم"‪ .‬د‪ /‬عبدالمنعم النمر‪.37 :‬‬
‫[‪ ]5‬المصدر السابق‪.39 :‬‬
‫[‪ ]6‬يقول الشهرستاني رحم ه اهلل‪" :‬وبالجملة نعلم قطًع ا ويقيًن ا‪ ،‬أن الحوادث والوقائع مم ا ال يقبل الحصر والعد‪ ،‬ونعلم‬
‫قطًع ا أيضا‪ ،‬أن لم يرد في كل حادثة نص‪ ،‬وال يتصور ذلك‪ .‬والنصوص إذا كانت متناهية‪ ،‬والوقائع غير متناهية‪ ،‬وما ال‬
‫يتناهى ال يضبطه ما يتناهى‪ ،‬علمنا قطًع ا أن االجتهاد والقياس واجب االعتبار‪ ،‬حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد‪ ،‬ثم ال‬
‫يجوز أن يكون االجتهاد مرسًال‪ ،‬خارًج ا عن ضبط الشارع‪ ،‬فإن القياس المرسل شرع‪ ،‬وإ ثبات حكم من غير مستند وضع‬
‫آخر‪ ،‬والشارع هو الواضع لألحكام" "الملل والنحل للشهرستاني‪."180/ 1 :‬‬

‫*ثبتنا اهلل على طريق الدعوة غير مضيعين وال مبدلين*‬


‫*واهلل أكبر وهلل الحمد*‬

‫‪4‬‬

You might also like