Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 571

‫"‪ ...

‬أعتقد أهنا أغرب مذكرات‬


‫نشرت ُب ىذا القرف"‪.‬‬
‫الكاتب‪ :‬ؿبفوظ عبد الرضبن‬

‫اع ػَبافػػات حػػافظ نػ ػجػػيب‬


‫مغامرات جريئة مدىشة وقعت ُب نصف قرف‬

‫تقدَل ودراسة وإعداد للنشر‪:‬‬

‫مػمػػدوح الػشػ ػيػخ‬

‫‪1‬‬
‫الكتاب‪ :‬اعَبافات حافظ قبيب‬
‫مغامرات جريئة مدىشة وقعت ُب نصف قرف‬
‫تقدَل ودراسة وإعداد للنشر‪ :‬مػمػػدوح الػشػ ػيػخ‬
‫الطبعة األوىل ‪ – 1996‬مصر‬
‫الطبعة الثانية ‪ 2002‬بّبوت‬

‫‪2‬‬
‫تقدَل‬
‫بسمميحرلا نمحرلا هللا ‬

‫لنشر ىذه االعَبافات قصة أحب أف يعرفها القارئ‪ ،‬فقبل‬


‫ما يقرب من عشرين عاماً تعرفت عن طريق الباحث الفلسفي‬
‫اؼبتميز الصديق العزيز األستاذ الدكتور "صبلح الدين عبد هللا"‪،‬‬
‫على مؤرخ أديب وانقد من طراز خاص ىو األستاذ "أضبد حسْب‬
‫الطماوي" (رضبو هللا رضبة واسعة)‪ ،‬وكاف خبّباً بتاريخ الثقافة‬
‫اؼبصرية ُب أواخر القرف التاسع عشر وأوائل القرف العشرين‪ .‬وىو‬
‫تلميذ من أقبب تبلميذ األستاذ عباس ؿبمود العقاد الذين تلقوا‬
‫عنو حب اؼبعرفة والدأب الشديد‪ ،‬وُب لقاء من لقاءاٌب مع األستاذ‬
‫أضبد حسْب الطماوي ُب منزلو عرفت للمرة األوىل اس "حافظ‬
‫قبيب"‪ ،‬وظبعت منو جانباً من قصتو‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ومرت السنوات واالس عالق بذاكرٌب‪ ،‬دوف أف أتوقع أو‬
‫حٌب أزبيل‪ ،‬اقتناء الرواية‪ ،‬لكنِب دبجرد اقتنائها قررت إعادة‬
‫نشرىا‪ ،‬فكانت الكتاب الوحيد الذي نشرتو على نفقٍب اػباصة‪،‬‬
‫وذلك عاـ ‪ .1996‬وقبل ما يقرب من عاـ (أي ُب العاـ ‪)2002‬‬
‫أخربٍل صديق صحاُب أف اؼبمثل اؼبعروؼ دمحم صبحي يػُػعد‬
‫مسلسبلً تلفزيونياً "فارس ببل جواد" مأخوذ عن الرواية‪ ،‬وآثرت‬
‫شر معلومات كافية عن اؼبسلسل‪ ،‬فإذا ابلدنيا‬
‫االنتظار حٌب ت ػُػن َ‬
‫تنشغل انشغاالً ىستّبيً ابلعمل‪ ،‬ويصبح موضوع مطالبات‬
‫وضغوط دولية من الكياف الصهيوٍل والواليت اؼبتحدة األمريكية‬
‫تستهدؼ منع عرضو‪ .‬ونفدت النسخ الٍب بقيت من الطبعة األوىل‬
‫سريعاً‪ ،‬فقررت إعادة نشره ُب دار "االنتشار العريب" لثقٍب ُب‬
‫قدرهتا على تقديبو للقارئ العريب الذي ينتظر بشوؽ معرفة السّبة‬
‫اغبقيقية للمغامر "حافظ قبيب"‪.‬‬

‫وُب ىذه الطبعة (الثالثة) إعادة كتابة شاملة للدراسة اؼبلحة‬


‫ابلرواية‪.‬‬

‫وقد ترددت كثّباً ُب ربديد الشكل النهائي ؽبذا الكتاب‬


‫وخباصة أف بو الكثّب من األحداث والشخصيات والتساؤالت الٍب‬

‫‪4‬‬
‫ربت وجود دراسة تساعد ُب إضاءة زواي ىذا العمل اؼبثّب‪ ،‬كما أف‬
‫الراحل حافظ قبيب دوف مذكراتو حٌب عاـ ‪ 1909‬وتوُب عاـ‬
‫‪ ،1946‬وبْب ىذين التارىبْب كثّب من األحداث مل يدوهنا‪ ،‬وىي‬
‫أحداث ال نريد أف هبهلها القارئ‪ ،‬وخباصة أف هبا مفاجآت ال تقل‬
‫روعة عن مفاجآت اعبزء الذي دونو حافظ قبيب بنفسو‪.‬‬

‫وؼبا كاف التعرض ؼبا ُب اعَبافاتو من قضاي ىامة البد أف‬


‫يؤدي إىل استباؽ القراءة وإضاعة فرصة الدىشة على القارئ فإف‬
‫كل ما يبكن التعليق بو على ىذه االعَبافات ىو موضوع دراسة‬
‫ملحقة هبا‪.‬‬

‫واآلف عزيزي القارئ ‪...‬‬

‫أدعوؾ لقراءة اعَبافات حافظ قبيب‪:‬‬

‫الضابط‪،‬‬
‫اعباسوس‪،‬‬
‫رجل األعماؿ‪،‬‬
‫احملتاؿ‪،‬‬
‫اؼبدرس‪،‬‬
‫الكاتب اؼبسرحي‪،‬‬

‫‪5‬‬
‫الراىب‪،‬‬
‫ابئع حلوى األطفاؿ‪،‬‬
‫الباروف‪،‬‬
‫الفيلسوؼ‪.‬‬
‫وأوالً وقبل أي وصف …‪ ..‬اإلنساف‬

‫فبػ ػػدوح ال ػشػ ػيػ ػػخ‬

‫‪1996/ 4/ 21‬‬

‫‪2002 / 11 / 15‬‬

‫‪2017 / 12 /15‬‬

‫‪6‬‬
‫الباعث‬

‫أرغمت األستاذ حافظ قبيب على نشر اعَبافاتو ُب حياتو‪،‬‬


‫بدالً من نشرىا بعد فباتو‪ ،‬ألمكن الناس من تكذيب ما ال‬
‫يصدقونو‪ ،‬وألم ِّكنو من الرد عليو فبل ينهشوف غبمو وىو جثة‪ ،‬كما‬
‫انلوا منو بنشر األكاذيب واػبرافات واػبرافات وىو ُمط ػَػارد عاجز‬
‫عن الدفاع عن نفسو‪.‬‬

‫إف جلجلة صوت اغبق تدمغ الباطل وتفزع اعبباف‪.‬‬

‫دبلوـ اؼبعهد العايل‬


‫سعدية اعببايل‬
‫تربية بدنية‬

‫‪7‬‬
8
‫اإلىداء‬

‫إىل ابنٍب العزيزة احملَبمة سعدية اعببايل‬

‫مل أهنج ُب تربيتك مناىج الناس‪ ،‬فل تسمعي مِب إرشاداً‬


‫بصوت األمر‪ ،‬ومل أقيد حرية عقلك وسلوكك‪ ،‬وإمبا تركت لك‬
‫االستقبلؿ التاـ فأصغيت لنصائحي بدافع من الرغبة‪ ،‬وأطعت‬
‫إرشادي بباعث من الثقة وحسن الظن ‪.. ..‬‬

‫وىا أنت صبية انضجة العقل اتمة اإلدراؾ‪ ،‬وبليك األدب‬


‫ويبيزؾ على الغّب عزة النفس‪ ،‬واحملافظة على الكرامة‪ ،‬ويزيد ُب‬
‫قدرؾ صفاء القلب وتنبو الضمّب وحسن اػبلق‪ ،‬وربميك حصوف‬
‫من اإليباف والتقوى واحَباـ التقاليد‪ .‬فإذا ربدثت إليك فإمبا أذبو‬
‫إىل عقلك ال إىل عاطفتك‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫وانزيل إىل أعماؽ صدرؾ‪ ،‬وارجعي إىل لوح ذىنك وفتشي‬
‫عما تركتو فيهما معاشرٌب من األثر‪ ،‬فإذا مل ذبدي ُب اؼبخبأين ما‬
‫يدعو للمحاسبة وللتربـ‪ ،‬فسيتدع حكمك على مسبباً دبا ظبعت‬
‫أذنك من لساٍل ورأت عينك من فعايل‪ٍ ،‬ب قارٍل معرفتك اؼبسببة‬
‫دبا تسمعْب عِب من الناس يتيسر لك إدراؾ حقيقة وزٍل ووصفي‪،‬‬
‫وأينا كاف الظامل واؼبظلوـ‪.‬‬

‫لقد بلغ حناٍل عليك حداً كنت أشعر معو بذوابف فؤادي‬
‫وأان أرى ابتسامتك أو أظبع صوتك‪ ،‬وبتأثّب ىذه اغباؿ العاطفية‬
‫اؼبستمرة زماانً طويبلً‪ ،‬صارت يل حاسة سادسة‪ ،‬وربولت ُب نظري‬
‫إىل مبلؾ أقدسو‪.‬‬

‫زالت من نفسي صبيع اؼبؤثرات فيها السارة والضارة‪ ،‬ألهنا‬


‫امتؤلت بك وحدؾ ومل يبق فيها مكاف إال للحناف عليك‬
‫واالنشراح بك‪.‬‬

‫وقد وجهِب ىذا النوع من اغبصر لبلعتصاـ ألكتسب‬


‫احَبامك وصداقتك‪ ،‬وألمؤل قلبك ابالطمئناف ونفسك سأسباب‬
‫االرتياح‪ .‬وحْب أموت فلن آسف على اغبياة وما اشتملت عليو‬

‫‪10‬‬
‫من أسباب حب البقاء‪ ،‬وإمبا سيموف أتؼبي لفكرة تركك ُب خض‬
‫اغبياة ؿبروـ من صداقٍب وإخبلصي‪.‬‬

‫******‬

‫ومن مستودع األرواح "أين نكوف" ستطل روحي ويرؼ‬


‫حولك حناٍل‪ ،‬وأابركك وأسأؿ لك من اػببلؽ الكرَل الرحي‬
‫اؽبناءة ُب اغبياة‪ ،‬والعافية ُب البدف والوقاية من شرور الناس‪.‬‬

‫والدؾ ‪ -‬أو صديقك‬

‫حافظ قبيب‬

‫‪1946 - 4 - 12‬‬

‫‪11‬‬
12
‫كلمة صروبة‬

‫لكل إنساف مقياس ووزف ُب مقاييس الناس‪ ،‬ولكن‬


‫موازينه تطفف حٌب ُب كتػابة التاريخ‪ ،‬أما وزف اإلنساف نفسو وىو‬
‫ُب خلوة فإنو التقدير الصحيح لقيمتو الذاتية‪.‬‬

‫وقد خلوت إىل نفسي وذاكرٌب مرات وعرضت على العقل‬


‫والضمّب حياٌب اؼباضية وما مر يب من األحداث‪ ،‬فاقتنعت سأنِب‬
‫بددت اغبياة ُب سفو‪ ،‬وضيعت ما كاف هبب أف يكوف ؽبا من‬
‫الثمرات‪ ،‬ومكنت الناس من ىدر كرامٍب‪ .‬ومن اؼبغاالة ُب القوؿ‬
‫علي حٌب بنشر اػبرافات عِب‪ ،‬فخلقوا ابلكذب واؼبغاالة‬
‫والتخريف شخصية خيالية ثبتت ُب أذىاف الناس‪ ،‬واستقر فيها‬
‫الوصف اػبيايل على أنو الصورة الصادقة للمخلوؽ‪.‬‬

‫والشهرة الٍب ذاعت ؽبذا اإلنساف الشاذ اػبراُب أعظ فبا‬


‫أستحق‪ ،‬ألنِب وثقت ُب وزٍل الصحيح أنو دوـ ما يرضى بو الفرد‬
‫العادي‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وُب ماضي كثّب من األخطاء وقليل ال يشرؼ ذكره وال‬
‫يفيد الناس عرضو‪ ،‬وحب الذات يقتضي كتمانو ونسيانو وؿبوه من‬
‫ألسنة الناس دبرور الزمن‪ ،‬ولكن أوالدي يلحوف علي لكتابة‬
‫اعَبافاٌب‪.‬‬

‫وقد عصيت ىذا اإلغباح زماانً طويبلً ألنِب أنفر من نبش‬


‫اؼباضي‪ ،‬ولكن اإلغباح اؼبتكرر وصل إىل حد الضغط الشديد‬
‫واإلكراه‪ٍ ،‬ب عبأوا إىل شٌب الوسائل إلرغامي‪ ،‬ومنها غمري حبناف‬
‫واضح‪ ،‬فذاب جلدي من حرارة العطف‪ ،‬وتبلشت قوة اإلرادة‪،‬‬
‫فخضعت وأطعت‪.‬‬

‫وليس يهمِب رأي الناس إذا عرفوا اغبقيقة‪ ،‬ألنِب قسوت‬


‫على نفسي حبكمي‪ ،‬وألف ىؤالء الناس ضلوا ُب وصفي وضللوا‬
‫مدى نصف قرف‪ ،‬فلما يعطلِب ما أذاعوه عن شق طريقي ُب اغبياة‬
‫العملية الشريفة‪ .‬ومل سبنعِب الشهرة السيئة عن امتصاص الرزؽ‬
‫اغببلؿ من بْب ـبالب الوحوش وأسناف األفاعي‪.‬‬

‫استخففت برأي اعبماعة وأان ُب اغبياة وُب حاجة إىل‬


‫الناس‪ ،‬فمن البدىي أنِب ال أحسب حساابً آلرائه حْب أفقد‬
‫الشعور واغبس واغبياة‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫ولست أكتب اعَبافاٌب ؽبؤالء‪ ،‬إمبا أكتبها ألوالدي إجابة‬
‫لرغبته ‪ ،‬وليتقوا األخطاء الٍب ضيعت حياٌب وشبراهتا‪ .‬ألف التجارب‬
‫دروس تعل اإلنساف‪ ،‬ولكنها قاسية يدفع اجملرب شبنها من حياتو‬
‫وىنائو‪ ،‬وردبا بلغت شدهتا حداً يسوئ اغبظ ووبط اؼبستقبل‬
‫واغبياة ذاهتا‪ ،‬فمن العقل إذف اإلفادة من ذبارب الغّب‪ ،‬بدالً من‬
‫التضحية للحصوؿ على اؼبعرفة اؼبكتسبة من االختبار‪.‬‬

‫أسأؿ هللا ألوالدي التوفيق والسبلمة طوؿ شوط اغبياة‬


‫ليكونوا انفعْب ألنفسه وللجماعة‪ ،‬وليَبكوا وراءى ذكرا أفضل فبا‬
‫تركت‪.‬‬

‫حافظ قبيب‬ ‫‪1946 - 3 - 29‬‬

‫‪15‬‬
16
‫أب ػػي وأم ػػي‬

‫‪1‬‬
‫كاف جدي لوالدي ا‪٢‬باج حسن السداوي اتجراً‪ ،‬وكانت لو‬
‫دكانة ُب شارع العقادين(‪ )1‬يبيع فيها ا‪٢‬برير ا‪٤‬بصبوغ والقباطْب‪ ،‬وكاف لو‬
‫ولد صغّب يدهلل فيأخذه معو إذل دكانتو‪ ،‬فيقضي الصغّب الوقت ابللعب‬
‫أمامها ُب الشارع ا‪٤‬بزدحم اب‪٤‬بارين‪ ،‬كاف يلعب بنحلتو يوما فطاحت منو‬
‫إذل وسط الشارع‪ ،‬فأسرع إليها ليتناو‪٥‬با ُب غّب ‪٧‬باذرة فوقع على األرض‪،‬‬
‫وكادت تدوسو عربة وجيو تركي كاف عائداً هبا من صبلة ا‪١‬بمعة‪ ،‬وقفت‬

‫(‪ )1‬دبنطقة األزىر ابلقاىرة القديبة‪.‬‬


‫‪17‬‬
‫العربة‪ ،‬وأنقذ الصيب من بْب أرجل ا‪٣‬بيل‪ ،‬فاستشاط الَبكي غضباً من‬
‫إٮباؿ ا‪١‬بهلة أوالدىم‪ ،‬وأمر خادمو فحمل الصيب إذل العربة‪.‬‬

‫ورأى أصحاب الدكاكْب ا‪٢‬بادثة فصاحوا ينبهوف ا‪٢‬باج حسن‬


‫إذل خطف الَبكي ابنو الصغّب‪ ،‬وكانت العربة قد وصلت إذل "سبيل‬
‫العقادين" وال تزاؿ ظاىرة قبل انعطافها إذل اليمْب‪ ،‬فأسرع الوالد ٯبرى‬
‫خلفها يريد اللحاؽ هبا‪ ،‬وكاف يصرخ بكل قوتو‪" ،‬ي تركي سيب الواد"‪.‬‬

‫كاف قصر الباشا بعد حي السيدة زينب (بعد مطاحن الرمارل‬


‫ا‪٤‬بوجودة اآلف(‪ ))2‬سرااي من طابقْب فقط‪ ،‬ووراء البناء حديقة كبّبة غناء‬
‫هبا صنوؼ من أشجار الفاكهة‪ ،‬وأماـ السراي خندؽ عليو قنطرة‬
‫متحركة ترفع ابلسبلسل ‪٤‬بنع العبور عليها وترد إذل مكااها عند الضرورة‪،‬‬
‫وكاف الفضاء من ىذا ا‪٤‬بكاف إذل حي "ف اػبليج" صحراء جرداء ليس‬
‫هبا بناء سوى ضريح صغّب واقع أماـ السراي‪ ،‬وقد بقيت آاثر ىذا‬
‫القصر إذل ‪ 1905‬ألنِب رأيت أنقاضو تػُػنقػَل ُب ذلك ا‪٢‬بْب‪.‬‬

‫وصلت عربة الباشا الَبكي وهبا الغبلـ إذل القنطرة فعربهتا‬


‫واختفت داخل السراي ٍب ُرفػِعت القنطرة‪ ،‬ووصل ا‪٢‬باج حسن السداوي‬
‫ومعو بعض ذوى العطف وا‪٤‬بروءة إذل ا‪٣‬بندؽ أماـ ابب السراي والرجل‬
‫يصرخ بطلب ولده والناس يضجوف معو‪ .‬ووصلت الضجة وأصوات‬

‫(‪ )2‬نشرت الرواية للمرة األوىل عاـ ‪.1946‬‬


‫‪18‬‬
‫الصراخ إذل ‪٠‬بع الباشا الَبكي‪ ،‬وسأؿ خدمو عن السبب فأبلغوه إليو‪،‬‬
‫فأمر ابستدعاء والد الصيب ا‪٤‬بخطوؼ مثلما ُب حضرتو سقط على‬
‫قدمي الباشا يغمرىا بقببلتو ‪..‬‬

‫وجعل يتوسل إليو لّبد لو ولده وترجم رد الباشا عليو قائبلً‪:‬‬


‫"أنت أنبلت ُب اغبرص على سبلمة ولدؾ الصغّب‪ ،‬وعرضو اإلنباؿ‬
‫إىل الوقوع ربت حوافر عربٍب‪ ،‬فأنت مل ربسن االحتفاظ ابلنعمة الٍب‬
‫من هللا هبا عليك‪ ،‬وسيكوف عقابك اغبرماف من ولدؾ إىل حْب‪ .‬لقد‬
‫ّ‬
‫أخذتو ألعلمو وأربيو ليصّب شاابً قادراً على العمل‪ ،‬انفعاً ُب اؽبيئة‬
‫االجتماعية‪ ،‬فيعود إليك رجبلً‪ ،‬ومن حقك أف تزوره ىنا كل يوـ‬
‫صبعة إذا أردت"‪.‬‬

‫ودل يقتنع ا‪٢‬باج حسن ٗبا ‪٠‬بع‪ ،‬واستفزه الغضب بسبب خطف‬
‫ولده و‪٧‬باولة الباشا الَبكي استبقاءه ُب قصره‪ ،‬فتحوؿ من التوسل إذل‬
‫الصراخ ٍب إذل التهديد ابلشكوى إذل أفندينا (ا‪٣‬بديوي إ‪٠‬باعيل) وأاثر‬
‫الصراخ غيظ الَبكي وغضبو فأمر خدمة فألقوا ا‪٢‬باج حسن السداوي‬
‫على األرض‪ ،‬وضربوه اب‪١‬بريد حٌب أغمى عليو‪ٍ ،‬ب طػُِرد ونسى ا‪١‬بميع‬
‫أمره‪.‬‬

‫ونشأ دمحم الصغّب ُب رعاية الباشا‪ ،‬و‪٠‬بوه ُب ا‪٤‬بدرسة (دمحم‬


‫‪٪‬بيب) بدالً من دمحم حسن السداوي‪ ،‬و‪٠‬بحوا لو ٗبقابلة والده ُب السراي‬
‫‪19‬‬
‫بْب حْب وآخر‪ٍ ،‬ب أذنوا لو بعد شهور بقضاء ليلة ا‪١‬بمعة ُب بيت أىلو‪،‬‬
‫وأ‪٢‬بق الشاب بعد دراسة قصّبة اب‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية‪ ،‬و‪ٛ‬بت ترقيتو إذل رتبة‬
‫ا‪٤‬ببلزـ اثشل وأ‪٢‬بق ٕبرس ا‪٣‬بديوي إ‪٠‬باعيل ٍب عقد لو الباشا على ابنتو‬
‫الصغرى ملك ىازل‪ ،‬وأقاـ معها ُب جناح خاص بسراي والدىا‪.‬‬

‫ودل يطل عمر ىذه ا‪٤‬بعيشة ألف الفٌب أخطأ خطأً عظيماً دل يكن‬
‫ُب ا‪٤‬بقدور مغفرتو‪ ،‬أاثر ‪ٞ‬باتو فاستدعت ا‪٣‬بدـ وطردتو من السراي‪،‬‬
‫وقبل ظهر النهار الثاشل أبُعِد إذل السوداف‪ ،‬فبقي فيو ستة أعواـ ودل يؤذف‬
‫فيها ابلعودة إذل مصر‪ ،‬ودل يتمكن من العودة إال بعد موت الباشا‪.‬‬

‫و‪٩‬با يؤسف لو أف ملك ىازل كانت حامبلً ُب شهورىا األوذل‪،‬‬


‫ودل يكن لوالدىا الباشا أي رأى ُب إدارة البيت أو تصريف شئونو‪،‬‬
‫وكانت السلطة ا‪٤‬بطلقة ‪٢‬برمو ا‪٥‬بازل الكبّبة وبسبب حنق ىذه الدكتاتورة‬
‫على دمحم ‪٪‬بيب زوج أبنتها قررت إسقاط ا‪٢‬بامل‪ ،‬فكانت تضرب على‬
‫بطنها أحياانً وتوضع عليها الرحى‪ ،‬وتعذب عذاابً طويبلً منوعاً على‬
‫ىذه الصورة بدوف ر‪ٞ‬بة من األـ‪ ،‬فكانت تدأب ُب خلوهتا على البكاء‬
‫ا‪٢‬بار من أتثّب األ‪٤‬بْب‪:‬‬

‫األدل من التعذيب‪.‬‬

‫واألدل من فراؽ الزوج الذي ‪ٙ‬ببو‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫وشاء هللا أال يتم اإلجهاض فاستعصى ا‪١‬بنْب على شٌب وسائل‬
‫التعذيب حٌب ‪ٛ‬بت شهور ا‪٢‬بمل‪ٍ ،‬ب وضعت ا‪٢‬بامل ا‪٤‬بعذبة طفلها‬
‫(حافظ) سليماً مكتمل الصحة والعافية‪ ،‬فصدؽ ا‪٤‬بثل ا‪٤‬بشهور‪" :‬عمر‬
‫الشقي بقي"‪.‬‬

‫وبلغت القسوة حدىا األقصى عقب الوضع‪ ،‬فانتزع الطفل من‬


‫أمو وسلم إذل جارية سوداء إلرضاعو‪ ،‬وعزؿ عن أىل البيت ووضع ُب‬
‫مسكن ا‪٣‬بدـ وصدرت أوامر ا‪٥‬بازل الكبّبة بعدـ اتصاؿ ابنتها اببن‬
‫الفبلح إطبلقاً‪ ،‬أرادت أف تبلشى حناف األمومة من فؤاد األـ بعز‪٥‬با عن‬
‫فلذة كبدىا‪ .‬ولكن الطبيعة اإلنسانية حولت ىذا التصرؼ الوحشي إذل‬
‫عكس الغرض منو‪ ،‬فزاد حنْب األـ إذل طفلها‪ ،‬وضاعف التأدل وا‪٢‬بزف‬
‫قطرات دموعها‪ ،‬فلم تكن تػُػَرى إال ابكية‪ ،‬وزاد غضب ا‪٥‬بازل على ابنتها‬
‫بسبب بكائها على الطفل وفراؽ أبيو‪ ،‬فجلدهتا وجردهتا من مركزىا ُب‬
‫العائلة كابنة‪ ،‬وأمرت رئيسة ا‪٣‬بدـ ٗبعاملتها كجارية فتؤدي عمل ا‪٣‬بدـ‪،‬‬
‫وترتدي ثياهبن‪ ،‬وتناـ ُب القسم ا‪٤‬بخصص ‪٥‬بن‪.‬‬

‫كاف التعذيب يصب على بدف تلك ا‪٤‬بسكينة وعلى نفسها‪،‬‬


‫وشدة األدل تدفعها إذل التفريج عن النفس ا‪٤‬بكروبة ابلبكاء وإرساؿ‬
‫الدموع الغزيرة‪ ،‬فبقيت على ىذه ا‪٢‬بالة من ا‪٤‬بذلة والشقاء وا‪٢‬بزف‬
‫والدأب على البكاء حٌب فقدت بصرىا‪ ،‬ودل يبعث العمى ا‪٥‬بازل الكبّبة‬

‫‪21‬‬
‫على اإلشفاؽ على ابنتها أو الرفق هبا بل زاد ُب حنقها وغضبها‪ ،‬وأمرت‬
‫أبف توكل إذل الضريرة عملية تغذية مواقد الطبخ اب‪٣‬بشب‪.‬‬

‫وتوالت األعواـ وملك ىازل ُب ىذا الوضع القاسي‪ ،‬وولدىا بْب‬


‫ا‪٣‬بدـ‪ ،‬حكم عليو ابلبقاء على الدواـ مع البستاشل وأوالده ُب اهاية‬
‫ا‪٢‬بديقة‪ ،‬وحدث مرة أف الػُمعذبة ‪ٛ‬بكنت من مقابلة زوجة البستاشل‬
‫فار‪ٛ‬بت على قدميها ابكية منسحقة النفس‪ ،‬وتوسلت إليها أ‪ٛ‬بكنها من‬
‫مقابلة ولدىا حافظ‪ ،‬فدفعت الر‪ٞ‬بة ا‪٤‬برأة إذل ‪٨‬بالفة أمر ا‪٥‬بازل الكبّبة‬
‫فحملت الغبلـ إذل أمو ومكنتها من ضمو إذل صدرىا‪ ،‬ومن َغم ِره ٕبنااها‬
‫ودموعها‪.‬‬

‫وشاء ا‪٢‬بظ السيئ أف ترى ىذا ا‪٤‬بشهد ا‪٤‬بؤثر جارية‪ ،‬فنقلت‬


‫ا‪٣‬برب إذل موالهتا تبتغى التقرب إليها ونيل ا‪٢‬بظوة عندىا‪ ،‬فاستشاطت‬
‫ا‪٥‬بازل غيظاً و‪ٞ‬بلها الغضب على اإلسراع اب‪٤‬بعاقبة‪ ،‬سيقت إليها العمياء‬
‫الشقية وولدىا‪ ،‬فطرحت األـ ابنتها على األرض وجلدهتا خادـ‬
‫ابلسوط‪ ،‬بينما كانت الدكتاتورة تضرب الغبلـ بيدىا وتركلو بقدمها‬
‫وصياحو يتعاذل مع استمرار عملية التعذيب‪ ،‬وا‪٥‬بازل ال تسمع االستغاثة‬
‫وال ترحم ا‪٤‬بعذبْب إ٭با كاف التأدل والصراخ يزيداف الغضب والعناد فتزيد ُب‬
‫التعذيب‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫وأراد هللا إنقاذ الغبلـ وأمو من ىذا العذاب فوصلت األصوات‬
‫الصارخة إذل ‪٠‬بع الباشا فحضر‪ ،‬فطأطأت حرمو رأسها وىدأ غضبها‬
‫احَباماً للزوج ا‪٥‬بادئ الساكن‪ ،‬ا‪٢‬بليم‪ ،‬وكف ا‪٢‬باضروف عن عملية‬
‫التعذيب‪.‬‬

‫‪23‬‬
24
‫‪2‬‬
‫كاف أىل القاىرة يعنوف عناية عظيمة اب‪٤‬بولد‪ ،‬وكاف الباشا ر‪ٞ‬بو‬
‫هللا يعُب مثلهم ٗبولد النيب (صلعم) وٗبولد السيدة زينب‪ ،‬فيقيم حفبلت‬
‫دينية يقرأ فيها القرآف‪ ،‬ويطعم الناس ويوزع الصدقات ‪٢‬بوماً وخبزاً وكساء‬
‫ونقوداً تػُػنثػَر على الرؤوس ُب الليلة ا‪٣‬بتامية للمولد‪.‬‬

‫وُب أحد ىذه ا‪٤‬برات ُب ا‪٢‬بفلة ا‪٣‬بتامية ‪٤‬بولد السيدة زينب‬


‫كانت ملك ىازل ُب ا‪٤‬بطبخ تغذى نّباف ا‪٤‬بواقد اب‪٣‬بشب‪ ،‬وحدث‬
‫مفاجأة‪ ،‬علت الضجة لقدوـ موكب االحتفاؿ فَبؾ ا‪٣‬بادمات ا‪٤‬بطبخ‬
‫وأسرعن إذل النوافذ ليمتعن عيواهن برؤية الطبوؿ واألعبلـ وتركن العمياء‬
‫ُب ا‪٤‬بطبخ‪ ،‬وأرادت قدرة هللا أف تضع حداً لعذاهبا‪ ،‬فعلقت النار بثوهبا‬
‫وأكلت بطنها وفخذيها‪ ،‬فصرخت الشقية من آالـ االحَباؽ‪ ،‬ولكن‬
‫صوهتا دل يصل إذل اآلذاف‪ ،‬فانطرحت على األرض و‪ٛ‬برغت ‪ٙ‬باوؿ إ‪ٟ‬باد‬
‫اللهب‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫و‪٢‬بقها ا‪٣‬بدـ قبل أف تلفظ الروح‪ ،‬فحملت إذل غرفة وألقيت‬
‫على حشية فوؽ سجادة‪ ،‬وبلغ النبأ إذل الباشا فأمر ابستدعاء طبيب‬
‫عسى أف ينفذ احملَبقة‪ ،‬وطلبت البائسة رؤية ولدىا‪ ،‬فأمر الباشا ٕبملي‬
‫إليها ‪..‬‬

‫دخلت غرفة أمي احملَبقة فوجدهتا ملقاة فوؽ ا‪٢‬بشية وجسمها‬


‫تغطيو الضمادات البيضاء فوؽ قطن كثّب‪ ،‬وأخذشل ا‪٣‬بوؼ من ىذا‬
‫ا‪٤‬بشهد‪ ،‬وكنت أعرؼ أاها أمي‪ ،‬وأنو ‪٧‬بكوـ على وعليها بعدـ االجتماع‬
‫لسبب ال أعرفو ويعجز عقلي عن إدراكو‪ ،‬و‪٠‬بعت صواتً صادراً من ىذا‬
‫ا‪١‬بسم ا‪٤‬بطروح على ا‪٢‬بشية‪ ،‬كاف صواتً رقيقاً جداً إ٭با لو صوت‬
‫موسيقى روحية جذبتِب إذل صاحبتو‪ ،‬فاستقويت على ا‪٣‬بوؼ ودنوت‬
‫منها وحاولت ا‪١‬بلوس عػند رأسػها‪ ،‬فجػذبتِب إليها وقبلتِب‪ ،‬ولكنها أنّت‬
‫من التأدل الناشئ من ا‪٢‬بركة‪.‬‬

‫أذكر أنِب أشفقت على ا‪٤‬بتأ‪٤‬بة‪ ،‬وسالت دموعي ُب صمت‪،‬‬


‫وحدثتِب ولكُب ال أذكر ما قالت وكاف انفعاؿ نفسي وإشفاقي وحّبٌب‬
‫‪ٙ‬بوؿ بيِب وبْب فهم ما أ‪٠‬بع‪ ،‬وطلبت إذل أف أدنو من فمها فأطعت‪،‬‬
‫فسمعتها تقوؿ بصوت خافت‪" :‬ىل تعرؼ ُب اغبديقة مكاف شجر‬
‫الربتقاؿ "‬

‫قلت‪" :‬نع "‪.‬‬


‫‪26‬‬
‫قالت‪" :‬أسرع ‪ ..‬وأحضر يل برتقالة ألف لساٍل جاؼ"‪.‬‬

‫فأسرعت إذل ا‪٢‬بديقة وأحضرت ‪٥‬با الربتقالة‪ ،‬وطلبت سكيناً‬


‫فأطعت‪ ،‬وشققت الربتقالة ‪ .‬وطلبت أف أعصرىا ُب فمها‪ ،‬ففعلت ‪..‬‬
‫فتململت وأنّت‪ٍ ،‬ب قالت رل‪:‬‬

‫"ىذه انرقبة ي حافظ ‪ ..‬شجر الربتقاؿ أبعد قليبلً من ىذه‬


‫الشجرة"‪.‬‬

‫فنزلت مسرعاً وأحضرت الربتقالة وشققتها‪ ،‬وفتحت فمها‬


‫فعصرت نصف الربتقالة فيو‪ ،‬وسقط مع العصّب قطرات من دموعي‪،‬‬
‫وُب ىذه اللحظة جذبتِب أمي إذل صدرىا وضمتِب إليو‪ٍ ،‬ب سكنت‬
‫حركتها وأان الصق بذلك الصدر‪.‬‬

‫وجاءت جارية ورأت ذلك ا‪٤‬بشهد‪ ،‬فانتزعتِب من صدر أمػي‪.‬‬


‫و‪٠‬بعتها تػقػوؿ‪:‬‬

‫"ماتت اؼبسكينة" ‪..‬‬

‫وصل ا‪٣‬برب إذل جدٌب فحضرت ُب مثل تعاظمها العادي‪،‬‬


‫ووقفت أماـ ا‪١‬بثة صامتة ‪ٙ‬بدؽ فيها‪ٍ ،‬ب رأيتها بعد برىة تسقط جاثية‬
‫وتنحِب على ابنتها تضمها إذل صدرىا ودموعها تسيل غزيرة‪ ،‬و‪٤‬با‬
‫اهضت من مكااها بقيت واقفة حٌب غطيت ا‪٤‬بتوفاة بغطاء من ا‪٢‬برير‬

‫‪27‬‬
‫األبيض‪ٍ ،‬ب ‪ٞ‬بلتِب بْب ذراعيها وىي تذرؼ الدمع ُب صمت‪ ،‬وا٘بهت‬
‫إذل جدي حٌب وصلت إليو ُب قاعة فسيحة‪ ،‬وكاف جالساً على كرسي‬
‫فوضعتِب ٕبناف على ركبتيو‪ ،‬وتكلمت معو ابلَبكية‪ ،‬ودل أفهم ما قالت‪.‬‬

‫وضمِب الشيخ الوقور إذل صدره وأسند رأسو على كتفي‬


‫وسالت عرباتو صامتة ىادئة‪ ،‬فلزمت السكوف بْب الذراعْب النحيلْب‬
‫واطمأننت للحناف البادي من ىؤالء الذين اعتدت ا‪٣‬بوؼ منهم والفرار‬
‫عند ‪٠‬باع أصواهتم فرار األرانب ‪٧‬باذرة ورعباً من كل طارؽ جديد عليو‪.‬‬
‫لست أذكر كيف نقلت إذل فراش جدٌب‪ ،‬إ٭با رأيتها ُب الصباح حْب‬
‫استيقظت تضمِب إذل صدرىا وتغمرشل ابلقببلت ودموعها جارية‪.‬‬

‫و‪ٞ‬بلوشل إذل جدي ُب ا‪٢‬بديقة‪ ،‬كاف جالساً على كرسيو وجهو‬


‫إذل الباب ا‪٣‬بارجي‪ ،‬والباب ا‪٤‬بؤدي من مدخل السراي إذل تلك ا‪٢‬بديقة‬
‫مفتوح كلو‪ ،‬ورأيت ُب الفسحة الٍب تلي الباب ا‪٣‬بارجي خلقاً كثّبين من‬
‫أصحاب العمائم‪ ،‬كانوا الفقهاء الذين سيتقدموف النعش ابلقراءة‪،‬‬
‫وأجلسِب جدي ُب حجرة‪ ،‬وا‪٫‬بُب على ُب حناف يضمِب إليو ويغمرشل‬
‫ابلقببلت‪ ،‬وشجعِب االطمئناف على التحقق من وجو ىذا الشيخ الوقور‬
‫ألوؿ مرة‪.‬‬

‫كاف شيخاً قصّباً يرتدى ثوابً أسود‪ ،‬ولو ‪٢‬بيو بيضاء طويلة‬
‫الشعر مرسلة على صدره‪ ،‬وكانت دموعو تنحدر على وجهو وتبلل ىذه‬
‫‪28‬‬
‫اللحية‪ ،‬دل يتكلم ولزـ السكوف بينما كانت ا‪٤‬بيتة ٘بهز ‪٢‬بملها ُب النعش‪.‬‬
‫ورأيت حركات القوـ زادت سرعة‪ٍ ،‬ب اهض ا‪١‬بالسوف احَباماً للنعش‬
‫الذي ظهر من ابب ا‪٢‬برصل‪ ،‬ولكن جدي دل يتحرؾ من مكانو كاف‬
‫يضمِب إذل صدره ورأسو مسنود على كتفي‪ ،‬وجاء أفندي طويل وا‪٫‬بُب‬
‫أمامو وحدثو‪ ،‬ودل تبد من الشيخ حركة فاجَبأ األفندي وىزه ٍب صرخ‬
‫يقوؿ‪:‬‬

‫"مات الباشا"!‬

‫نزلت من حجر ذلك الشيخ الوقور الذي دل أعرفو إال من ليلة‬


‫واحدة وضعت بْب ا‪٤‬بتزا‪ٞ‬بْب‪ ،‬و‪٠‬بعت ُب شٌب أ‪٫‬باء القصر الصراخ‬
‫والعويل‪ٍ ،‬ب رأيت ا‪٥‬بازل الكبّبة أتٌب من ابب ا‪٢‬برصل مسرعة بقدر ما ‪٠‬بح‬
‫‪٥‬با جسمها البدين ا‪٤‬بَبىل‪ ،‬كانت تصرخ وتندب‪ٍ ،‬ب ار‪ٛ‬بت على جسد‬
‫زوجها فاقدة الوعي‪ .‬كانت الضجة عالية والصراخ يتواذل واالرتباؾ‬
‫شديداً‪ ،‬وجاءت جارايت سود فألقْب غطاء أبيض على ا‪٥‬بازل و‪ٞ‬بلت‬
‫إذل الطابق الثاشل‪ ،‬ورأيت النعش ا‪٤‬بزين ابلزىور وفيو ترقد أمي‪ُ ،‬ملقى‬
‫داخل ابب ا‪٢‬برصل منسياً من ا‪١‬بميع ألف الكارثة ا‪١‬بديدة طغت على ما‬
‫سبقها‪.‬‬

‫مرت يب ا‪٢‬بوادث تباعاً من مغرب مشس النهار السابق بدوف أف‬


‫أدرؾ قسوهتا على وال تعليل ما وقع‪ ،‬وأخذتِب الضجة والصياح من كل‬
‫‪29‬‬
‫النواحي فتوالشل الذىوؿ واالنكماش والكآبة وا‪٢‬بّبة‪ ،‬ورأيت ‪ٝ‬بيع من‬
‫يقع عليهم بصري يبكوف ويولولوف‪ ،‬فبكيت معهم بكاءً أخرس‪ٍ ،‬ب‬
‫أخذشل النوـ فنمت‪.‬‬

‫واستيقظت ُب عصر ذلك النهار على صرخات كثّبة داوية‪،‬‬


‫ورأيت نساء كثّبات يلطمن ا‪٣‬بدود يودعن ابلصراخ نعشاً جديداً ٱبرج‬
‫‪٧‬بموالً من ابب ا‪٢‬برصل‪ٍ ،‬ب ‪ٞ‬بل األوؿ وراء الثاشل وانطلق بو حاملوه إذل‬
‫الباب ا‪٣‬بارجي‪ .‬حاولت ا‪٣‬بروج مع ا‪٣‬بارجْب ابلنعشْب‪ ،‬ولكن واحداً‬
‫من أوالد البستاشل جذبِب من يدي وساقِب إذل ا‪٢‬بديقة فتلقتِب أمو وىي‬
‫ابكية‪ ،‬فاحتضنتِب واستبقتِب مع أوالدىا ُب ا‪٤‬بسكن ا‪٢‬بقّب الذي عشت‬
‫فيو إذل ذلك اليوـ‪.‬‬

‫قضيت النهار كلو بدوف طعاـ فشعرت اب‪١‬بوع‪ ،‬وشكوت أمري‬


‫إذل تلك ا‪٤‬برأة الطيبة الٍب ألفت مناداهتا بلفظ "خالٍب" فأطعمتِب ودمعها‬
‫ينحدر ُب صمت‪ ،‬وكانت من برىة إذل اثنية تنحِب علي وتضمِب إذل‬
‫صدرىا وتقبلِب ُب عطف وحناف‪ٍ ،‬ب تتبع دالئل عطفها بعبارات ‪ٙ‬بدث‬
‫هبا أوالدىا علق بذىِب منها إذل اآلف كلمة‪" :‬يتي من األب واألـ"‪ ،‬ودل‬
‫أعرؼ معُب عباراهتا حينذاؾ‪.‬‬

‫وكانت ا‪٤‬برأة تعتقد كغّبىا من ساكِب تلك الدار أف والدي قتل‬


‫ُب السوداف‪ ،‬وىي إشاعة أذاعتها ا‪٥‬بازل الكبّبة نكاية ُب أمي لتزيد ُب‬
‫‪30‬‬
‫آالمها‪ ،‬فأخذت ىذه الكذبة لدى ا‪١‬بميع قوة ا‪٢‬بقيقية حٌب ُب اعتقاد‬
‫أمي كما علمت بعد زمن غّب قصّب‪ .‬دل أرد لداخل السراي تلك الليلة‬
‫فنمت حيث كنت‪ ،‬و‪٤‬با استيقظت ُب الصباح رأيت نفسي ُب فراش‬
‫ا‪٥‬بازل الكبّبة‪.‬‬

‫‪31‬‬
32
‫‪3‬‬
‫ظلت دار ا‪٢‬برصل ُب حداد طويل‪ ،‬يلبس ا‪١‬بميع الثياب السوداء‪،‬‬
‫وظلت ا‪٥‬بازل الكبّبة تبلزمِب وتعُب بنفسها بكل شؤوشل‪ ،‬تطعمِب بيدىا‪،‬‬
‫و‪ٙ‬بنو على حناانً واضحاً حٌب كانت ترغمِب على النوـ ُب حجرىا إذا‬
‫غلبِب النعاس ابلنهار‪ ،‬وكانت أتخذشل معها ُب العربة كل صباح إذل‬
‫مقربة هبا قرباف متجاوراف‪ٍ ،‬ب تشّب إذل القربين وتقوؿ رل‪:‬‬

‫"نينتك انيبة ىنا صبّح عليها ‪"..‬‬

‫وكانت ٘بثو عند كل قرب وتذرؼ الدموع غزيرة‪ ،‬واحتضنت‬


‫مرات شاىد القرب الذي ترقد فيو أمي‪ ،‬وقالت ابلَبكية ما تر‪ٝ‬بتو‪:‬‬

‫"أان الٍب قتلتك جبنوٍل بسبب الفبلح قليل األدب"‪.‬‬

‫وكنا نعود إذل السراي بعد ىذه الزايرة تدأب ا‪٥‬بازل الكبّبة على‬
‫كنت إذل جانبها تتوذل‬
‫البكاء طوؿ النهار‪ ،‬وال تكف عنو إال إذا ُ‬
‫إطعامي أو قضاء حاجة من حاجاٌب‪ .‬وكنت حْب أانـ على حجرىا‬

‫‪33‬‬
‫تغُب رل ابلَبكية فبل أفهم معاشل الغناء‪ ،‬ولست أدرى إذل اآلف أكاف غناءً‬
‫أـ ندابً‪ ،‬وكل ما استبقتو ذاكرٌب أف صوهتا كاف حسناً وخافتاً ولو نغمات‬
‫موسيقية مؤثرة كانت تدفعِب إذل االرتياح ٍب إذل النوـ العميق‪ .‬كنت أحن‬
‫للحديقة ولزوجة البستاشل فأقضي مع عائلٍب الٍب نشأت فيها ساعات‬
‫قبل الظهر وأخرى بعده‪.‬‬

‫و‪٢‬بظت حينذاؾ أف ىناؾ غرفتْب متجاورتْب على يسار الداخل‬


‫من الباب ا‪٣‬بارجي للسراي‪ ،‬األوذل كبّبة أعدت الستقباؿ كبار الزائرين‪.‬‬
‫أما الثانية فكانت قبل الفاصل الكبّب ا‪٤‬بصنوع من ا‪٣‬بشب والزجاج‬
‫ا‪٤‬بلوف ليفصل الردىة عن ا‪٢‬بديقة‪ ،‬وكانت ىذه الغرفة للجلوس‪ .‬رأيت ُب‬
‫ىذه الغرفة بعد موت الباشا فقيهْب أيتياف من أوؿ النهار لتبلوة القرآف‬
‫ابلتناوب‪ ،‬وأحدٮبا ىو الذي ذكر رل أف والدي مات ُب السوداف‪ .‬ودل‬
‫ٰبزشل ىذا اإلسرار ألنِب دل اعرؼ معُب "والد" دل أره أبداً ودل ا‪٠‬بع عنو‬
‫ّ‬
‫شيئاً إطبلقاً إال بعد الكوارث الٍب توالت على أىل ىذا القصر‪ ،‬فكنت‬
‫أصغى ‪٢‬بديث الفقيو األعمى الثراثر كأنو يقص علي "حدوتة"‪.‬‬

‫دامت حياٌب على ىذا ا‪٤‬بنواؿ زمناً ال أعرؼ مداه‪ ،‬ولكنِب أذكر‬
‫اآلف أنو الزمن ا‪٤‬بفرد الذي ‪ٛ‬بتعت فيو ٕبناف ا‪٥‬بازل الكبّبة ورعايتها‬
‫وتدليلها‪ .‬وكنت بعد تناوؿ طعاـ العشاء ال أستطيع النوـ إال إذا‬

‫‪34‬‬
‫جلست إذل جانيب ُب الفراش وجعلت ‪ٛ‬بر بيدىا على جسمي وتغِب رل‬
‫بصوهتا ا‪٤‬بوسيقى ا‪٢‬بنوف سواء أكاف ما تلحنو غناءً أف ندابً‪.‬‬

‫‪35‬‬
36
‫‪4‬‬
‫كنت جالساً بعد ظهر أحد األايـ إذل جانب ا‪٥‬بازل الكبّبة‬
‫على مشربية تطل نوافذىا على ا‪٢‬بديقة‪ ،‬وكانت كعادهتا ا‪٤‬بألوفة ترسل‬
‫الدموع وىى تغُب بصوت ضعيف تكاد األذف ال تسمع منو سوى‬
‫نغماتو‪ .‬و‪٠‬بعنا فجأة صواتً جهورايً يرتفع إلينا من فجوة السلم الكبّب‬
‫ا‪٤‬بؤدى إذل الطابق الثاشل‪ ،‬وداـ الصوت العارل يرسل عبارات دل أفهمها‬
‫ودل تفهمها ا‪٥‬بازل أيضاً‪ ،‬فاستدعت جارية وأمرهتا أف تسأؿ صاحب ىذا‬
‫الصوت عن سبب صياحو‪.‬‬

‫وعادت ا‪١‬بارية بعد برىة‪ ،‬وقالت ‪٤‬بوالهتا إف الذي يصيح رسوؿ‬


‫من بيت القاضي يعلنها اب‪٢‬بضور أماـ احملكمة الشرعية "بيت القاضي"‬
‫ُب حي النحاسْب لتسمع ا‪٢‬بكم عليها برد الغبلـ حافظ ابن دمحم ‪٪‬بيب‬
‫أفندي من ملك ىازل إذل والده‪ ،‬ألف عمره ٘باوز سبع سنوات‪ ،‬أصغت‬
‫ا‪٥‬بازل ‪٥‬بذا البياف فتحوؿ وجهها من وداعة ا‪٢‬بزف إذل غضب ىز جسمها‬
‫ىزاً ُب رعشة عنيفة‪ ،‬و‪ٙ‬بوؿ صوهتا الناعم ا‪٢‬بنوف إذل صوت أجش‪،‬‬
‫‪37‬‬
‫وظهرت ُب عينيها القسوة الوحشية ا‪٤‬بكبوتة‪ .‬وصدر منها إذل ا‪١‬بارية أمر‬
‫قصّب موجز‪" :‬أحضروا ىذا الرسوؿ"‪.‬‬

‫وظهر الرسوؿ أمامنا بعد برىة مسوقاً إذل حضرة ا‪٥‬بازل ‪ ..‬كاف‬
‫رجبلً ‪٫‬بيفاً طويبلً يرتدى جلباابً أزرؽ‪ ،‬وُب يده عصا طويلة تكاد تقرب‬
‫من ارتفاع كتفيو‪ ،‬وُب رأسها ‪٨‬بروط من النحاس األصفر‪ .‬دل تعرؼ‬
‫محضر الذي‬
‫احملاكم الشرعية ُب ذلك ا‪٢‬بْب اإلعبلف ا‪٤‬بكتوب وال الػُ َ‬
‫رسل إذل البيوت لتبلغ‬
‫يعلن اإلعبلانت ألصحاهبا‪ ،‬فكانت الرسل تػُ َ‬
‫ابلنداء تلك اإلعبلانت ألصحاهبا‪.‬‬

‫سألت ا‪٥‬بازل الرسوؿ عن سبب دخولو بيتها وصياحو فيو بصوتو‬


‫ا‪٤‬بنكر وتر‪ٝ‬بت عباراهتا إذل الرسوؿ فأجاب ٗبثل ما نقلتو ا‪١‬بارية إذل‬
‫ا‪٥‬بازل‪ ،‬وتر‪ٝ‬بت ‪٥‬با إجابتو‪ .‬فصدر منها فحيح كفحيح األفعى‪ ،‬وقالت‪:‬‬

‫"الفبلح ‪ ..‬قليل األدب ‪ ..‬عاوز ابنو! ‪ ..‬عاوز اؽباًل قداـ‬


‫القاضي! ‪ ..‬قلة أدب ‪ ..‬مافيش تربية ‪ ...‬فبلح ‪ ..‬فبلح بدوف عقل‬
‫‪ ..‬بدوف أدب"‪.‬‬

‫وبلغ الغضب حده األقصى فتناولت ا‪٢‬بصاف ا‪٣‬بشب الذي‬


‫كنت ألعب بو وألقتو بعنف من النافذة إذل ا‪٢‬بديقة ‪ ..‬وجذبتِب بقسوة‬

‫‪38‬‬
‫وحشية فألقتِب على األرض ‪ٙ‬بت ا‪٤‬بشربية وقالت للرسوؿ بصوت مثل‬
‫زئّب اللبؤة‪" :‬خد ابن الفبلح ‪ ..‬ارميو ألبيو ‪ ...‬اعبميع إىل جهن ‪"..‬‬

‫ورفض الرسوؿ استبلمي‪ ،‬وشرح للهازل أنو منوط بو تبليغ‬


‫اإلعبلف ال أخذ الغبلـ‪ ،‬فزاد غضبها وىياجها ‪ ..‬وصاحت ُب جارية‬
‫سوداء تقوؿ ‪٥‬با‪" :‬مرجانة ‪ ..‬كرابج"‬

‫ومرجانة ىي ا‪١‬بارية الٍب تتوذل جلد الٍب ‪ٚ‬بطئ وأتمر ا‪٥‬بازل‬


‫ٔبلدىا ‪ ..‬والكرابج ال يفارؽ يدىا‪ ،‬فأطاعت أمر ا‪٥‬بازل ونفذتو بسرعة‬
‫الربؽ‪ ،‬فبدأ الكرابج يلهب ظهر الرسوؿ ‪ ..‬فوجئ الرجل آبالـ الضرب‬
‫فسد الطريق ُب وجهو‪ ،‬وقالت‬
‫ابلكرابج فصرخ من األدل وحاوؿ ا‪٥‬بروب ُ‬
‫ا‪٥‬بازل‪" :‬الكرابج ‪ ..‬أو أتخذ ابن الفبلح للقاضي اجملنوف ‪."..‬‬

‫دل يطق الرسوؿ آالـ الضرب فحملِب على كتفو وخرج من‬
‫السراي إذل غّب عودة ‪ ..‬و‪٤‬با صار ُب الشارع واطمأف إذل النجاة من‬
‫أيدي أولئك اجملانْب ألقاشل إذل األرض وأمسك بيدي وجرشل من أقصى‬
‫حي السيدة زينب إذل ا‪١‬بمالية‪ ،‬كنا قريبْب من الغروب‪ ،‬وبيت القاضي‬
‫مغلق‪ ،‬فقادشل إذل القسم وقص على ا‪٤‬بعاوف قصتو وشكواه‪ٍ ،‬ب تركِب‬
‫ىناؾ وانصرؼ‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫٭بت من أتثّب التعب على األرض ‪ٙ‬بت ا‪٢‬براسة‪ ،‬وأيقظوشل ُب‬
‫الليل ٍب سلمِب ا‪٤‬بعاوف إذل ضابط قصّب‪ ،‬فخرج يب من القسم وامتطى‬
‫جوادا أشهب كاف ُب حراسة جندي من الزنوج‪ٍ ،‬ب ‪ٞ‬بلِب ا‪١‬بندي‬
‫ووضعِب أماـ الضابط على صهوة ا‪١‬بواد‪.‬‬

‫كاف ذلك الضابط القصّب ا‪٤‬ببلزـ دمحم أفندي ‪٪‬بيب والدي‬


‫الذي سبب ما ذاقتو أمي من عذاب وما لقيتو أان من ىواف ُب بيت‬
‫ا‪١‬بدين‪ ،‬وكاف أيضاً السبب ُب طردي أخّباً من النعيم الذي كنا فيو‪ٍ ،‬ب‬
‫ُب عذاب ا‪١‬بحيم الذي توالشل ُب بيت والده ا‪٢‬باج حسن السداوي‬
‫بشارع الدراسة ُب سفح جبل ا‪٤‬بقطم ‪..‬‬

‫رحم هللا ا‪١‬بميع ‪ ..‬وسا‪٧‬بهم ‪ ..‬وغفر ‪٥‬بم ‪..‬‬

‫دعاء حار من أعماؽ صدري ‪ ..‬ألف أخطاء ا‪٤‬بخطئْب أدرؾ‬


‫اآلف‪ ،‬وأان انضج العقل‪ ،‬أاها كانت مع حسن النية وبتأثّب ا‪١‬بهل‬
‫وا‪٢‬بماقة ‪..‬‬

‫اثرت ا‪٥‬بازل الكبّبة على زوج أبنتها ألنو عاد ليلة إذل السراي‬
‫‪٨‬بموراً و‪٨‬بدراً ودخل بدوف وعى ا‪١‬بناح ا‪٣‬باص ابلباشا وحرمو‪ ،‬واعَبضتو‬
‫جارية فعربد‪ ،‬فاستيقظت ا‪٥‬بازل ورأت ذلك ا‪٤‬بشهد ا‪٤‬بستهجن فأمرت‬
‫برده ابلقوة إذل مسكنو فاعتدى عليها وأوقعها على األرض‪ .‬عربدة دل تر‬

‫‪40‬‬
‫مثلها طوؿ حياهتا‪ ،‬فغضبت واثرت واستدعت ا‪٣‬بدـ وأمرهتم ٕبملو‬
‫وطرده وإلقائو ُب الطريق‪ ،‬ففعلوا‪.‬‬

‫و‪ٞ‬بلها التأدل من ا‪٢‬بادث على ا‪١‬بزـ بقطع كل عبلقة لو ببيتها‬


‫وأىلو‪ ،‬ودل ٯبرؤ أحد على ‪٧‬باولة تلطيف غضبها أو مناقشة حكمها‬
‫فصار اهائياً نفذتو ابلوسائل الٍب بعثها عليها غضب بلغ حد القسوة‬
‫الوحشية على ابنتها‪ ،‬ألاها خالفت قرارىا وأظهرت عطفها ا‪٢‬بار على‬
‫زوجها ا‪٤‬بغضوب عليو‪ ،‬وكانت النتيجة فقدىا البصر ٍب ا‪٢‬بياة‪ ،‬فماتت‬
‫شهيدة اإلخبلص ‪٤‬بن ال يستحقو‪.‬‬

‫وحْب فوجئت ا‪٥‬بازل برسوؿ احملكمة الشرعية ليعلنها اب‪٤‬بثوؿ أماـ‬


‫القاضي لتسمع ا‪٢‬بكم بتسليم الغبلـ إذل والده األ‪ٞ‬بق‪ ،‬رأت ُب ىذا‬
‫التصرؼ اجَباء جديداً عليها‪ ،‬وقررت ‪ٙ‬بت أتثّب الغضب والثورة النفسية‬
‫تسليم الغبلـ لوالده ُب ا‪٢‬باؿ لتقطع ‪ٝ‬بيع األسباب الٍب تصل ذلك‬
‫الرجل هبا‪ ،‬فضحت ابلغبلـ مع حنااها عليو ألف احتقارىا للوالد أعظم‬
‫من حنااها على الولد‪ ،‬وألف رغبتها ُب احملافظة على كرامتها أقوى من‬
‫رغبتها ُب االحتفاظ ابلغبلـ اليتيم لتفصلو ابلَببية عن الوسط الذي نشا‬
‫فيو والده‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫وبلغ أتثرىا من الكوارث الٍب توالت عليها بسبب ىذا الرجل‬
‫أاها ىجرت قصرىا وانتقلت إذل اآلستانة مع ابنة ‪٥‬با ترملت‪ ،‬فانقطعت‬
‫صلتها ٗبصر وٗبن فيها‪ ،‬وانقطع خربىا عن أىل ىذا البلد إذل اآلف‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪5‬‬
‫غلبِب النوـ وأان ُب حضن ذلك الضابط على ظهر ا‪١‬بواد‪،‬‬
‫واستيقظت ُب الصباح بْب ‪ٝ‬باعة من الناس دل أر وجوىهم من قبل‪ ،‬ودل‬
‫يكن الضابط بينهم ألنو ذىب إذل عملو مبكراً‪ .‬جلست ٔبواري جارية‬
‫حبشية طويلة بدينة‪ ،‬عرفت ٍ‬
‫وقتئذ أف ا‪٠‬بها حبيبة‪ ،‬وتولت خدمتنا جارية‬
‫سوداء قصّبة ا‪٠‬بها حليمة‪ ،‬جاء هبما والدي من السوداف‪ ،‬فكانت‬
‫األوذل زوجة شرعية والثانية خادمة ملكاً لو‪.‬‬

‫ونزلت امرأة جدي من الطابق الثالث لَبى ابن "قبيب أفندي"‬


‫ودار حورل أوالدىا ا‪٣‬بمسة‪ ،‬ثبلثة غلماف وطفلتاف‪ :‬توفيق‪ ،‬وعلي‪ ،‬وعبد‬
‫الر‪ٞ‬بن‪ ،‬وفاطمة‪ ،‬وأمينة‪ .‬كانت ا‪٤‬برأة فارعة ُب الطوؿ بدينة إذل حد‬
‫يدعو إذل العجب‪ ،‬وىي زوج جدي أليب ا‪٢‬باج حسن السداوي وليست‬
‫أـ والدي‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫دل تكن ىذه ا‪١‬بماعة ُب ا‪٤‬بستوى ا‪٣‬بلقي لكل من عاشرت ُب‬
‫سراي الباشا‪ ،‬حٌب زوجة البستاشل وصغارىا فهؤالء كانوا أوضح وأحسن‬
‫خلقاً وأعظم اعتصاماً ُب التصرفات‪ .‬كاف الصغار ُب مثل قذارة أوالد‬
‫الشوارع وأخبلقهم‪ ،‬فكانوا كقطيع من ا‪٤‬باعز حركاهتم جري ووثب‬
‫وصراخ ومشاجرات وبكاء‪ ،‬وضحك‪ ،‬وأمهم مسَبسلة ُب حديثها مع‬
‫ا‪١‬باريتْب الىية عن أوالدىا األشقياء‪ ،‬راضية عن كل ما ٰبدث منهم‬
‫رضا الٍب تعتقد أبف ىذه التصرفات طبيعية ال تنتقد‪.‬‬

‫ودفعتِب الوحشة والسآمة إذل االشَباؾ معهم ُب اللعب والعبث‬


‫فتشبهت هبم وعدتِب أخبلقهم وعشت معهم كأحدىم‪ ،‬وكنا نناـ ‪ٝ‬بيعاً‬
‫على حشيتْب فوؽ حصّب ٍب أذىب من الغلماف ُب الصباح إذل الكتّاب‬
‫‪ .‬وكاف الكتاب ُب طابق أرضى ٗبنزؿ بشارع أـ الغبلـ أماـ ضرٰبها‪،‬‬
‫نتناوؿ فطوران ُب البيت ٍب يعطى لنا ا‪٣‬ببز ونصف قرش (لنا ‪ٝ‬بيعاً)‬
‫لطعاـ الغداء‪.‬‬

‫وىكذا أيٌب كل صىب ومعو خبزه وقرش خردة‪ ،‬فيستلم سيدان‬


‫كل ما يصل إذل الكتاب من ا‪٣‬ببز والنقود‪ ،‬فيضع ا‪٣‬ببز ُب مقطف إذل‬
‫جانبو ويرسل النقود إذل جيب القفطاف‪ ،‬وكنا ‪٪‬بلس على حصر ابلية‬
‫على أرض ا‪٢‬بجرة إذل جانب جدرااها‪ ،‬ومن يزيد من الصبياف عن ىذا‬
‫احمليط ٯبلسوف صفوفاً وسط ا‪٤‬بكاف‪ ،‬ويعاوف سيدان ُب التعليم عريف‬

‫‪44‬‬
‫لكل عشرة ‪ .‬فيجلس أماـ كل غبلـ ويسمع منو ما حفظو على اللوح‬
‫الصفيح‪ ،‬فإذا انتهى منو يكتب لو اللوح ا‪١‬بديد ويقرأه لو مرات ٍب ينتقل‬
‫إذل الصيب الذي يليو حٌب يتم دورتو على العشرة‪.‬‬

‫فإذا انتهى من ىذه العملية يعود لتكرارىا على صورة جديدة‪.‬‬


‫فيجلس أماـ الصيب األوؿ ويضع يده على قفاه‪ ،‬فيتأرجح الغبلـ وىو‬
‫يتلو ما ُب اللوح بصوت مرتفع ليحفظو عن ظهر قلبو‪ٍ ،‬ب ينتقل العريف‬
‫من غبلـ إذل غبلـ حٌب ينتهي من ‪ٝ‬بيع صبيانو‪ ،‬ويذىب بعد ىذا كلو‬
‫إذل سيدان فيقرأ لو عن ظهر قلب كما حفظو ُب النهار السابق‪ .‬ويعلو‬
‫صياح الغلماف وىم ٰبفظوف‪ ،‬وسيدان ُب ‪٦‬بلسو العارل على دكة يراقب‬
‫ا‪١‬بميع‪ ،‬فإذا ‪٤‬بح غبلماً ال يتأرجح‪ ،‬أو ظن أنو غّب نشيط ُب صياحو‬
‫يضربو ٔبريدة طويلة تبلغ إذل أقصى حدود الغرفة‪.‬‬

‫فإذا جاء الظهر يقف بعض ا‪٤‬بقربْب إذل جانب سيدان ويقطعوف‬
‫بعض ا‪٣‬ببز ُب قصعتْب من ا‪٣‬بشب حٌب يتم امتبلؤٮبا إذل ا‪٢‬بافة‪ٍ ،‬ب‬
‫ٰبمل القصعتْب غبلماف كبّباف ويرافقهما ثبلثة أو أربعة من الصبياف‬
‫للحراسة‪ ،‬ويقصد ا‪١‬بميع إذل ا‪٤‬بسمط فيصب صاحبو ا‪٤‬برؽ من وعاء‬
‫كبّب ماؤه ُب حاؿ الغلياف حٌب يغمر ا‪٣‬ببز غمراً‪ٍ ،‬ب يعود ‪ٞ‬بلة القصاع‬
‫وحراسهم ابلثريد(‪ )3‬إذل الكتاب‪ .‬وٯبلس سيدان إذل قصعة ويدور حو‪٥‬با‬

‫(‪ )3‬الثريد‪ :‬الفتة‪.‬‬


‫‪45‬‬
‫الغلماف جلوساً على األرض‪ ،‬وٯبلس العريف األوؿ إذل القصعة الثانية‬
‫ومعو ا‪١‬بماعة‪ ،‬ويفتتح سيدان الغداء بقولو‪" :‬بسمميحرلا نمحرلا هللا "‪،‬‬
‫ويصيح الصبياف بتبلوة البسملة ُب نشاط ٍب ‪ٛ‬بتد أيديهم إذل الثريد‬
‫وينقلوف ما ُب القصعة إذل بطواهم متعجلْب بسبب ما يشعروف بو من‬
‫ا‪١‬بوع‪.‬‬

‫وٱبتتم سيدان الغداء ٕبمد هللا ويردد ا‪١‬بميع عبارتو‪ٍ ،‬ب ٱبرجوف‬
‫إذل شارع أـ الغبلـ للراحة أو للعب ساعة‪ٍ ،‬ب يعودوف ‪٤‬با كانوا عليو ُب‬
‫الصباح حٌب يتم حفظ اللوح‪ ،‬وينصرفوف إذل بيوهتم بعد صبلة العصر‪.‬‬
‫وُب يوـ ا‪٣‬بميس ٰبمل كل صىب إذل سيدان نصف قرش أو قرشاً كامبلً‬
‫وىو أجر التعليم ُب األسبوع‪ ،‬وكلما انتهى الغبلـ من حفظ سورة ٲبتحنو‬
‫سيدان بتبلوهتا أمامو‪ ،‬فإذا اقتنع أباها حفظت جيدا تكتب خا‪ٛ‬بتها على‬
‫لوح من ا‪٣‬بشب ا‪٤‬بدىوف ابلطبلء األبيض ‪ٙ‬بت رسم ابللوف األ‪ٞ‬بر أو‬
‫األخضر‪ ،‬وٰبمل الصيب ىذا اللوح إذل أىلو ليفرحوا بنشاط أبنهم‪ٍ ،‬ب‬
‫يردونو ُب الصباح ومعو ما ٯبودوف من النقود لسيدان احملَبـ من ا‪١‬بميع‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫‪6‬‬
‫أبليت الثوب ا‪٤‬بفرد الذي كاف يسَبشل حْب طردت من سراي‬
‫ا‪٥‬بازل الكبّبة فعوضِب منو والدي جبلبيب من الغزؿ‪ ،‬ورأيت أعمامي‬
‫يلعبوف ُب الشارع وُب ا‪٢‬بارة بدوف نعاؿ فأٮبلت نعلي وألفت ا‪٢‬بفاء‬
‫مثلهم‪ ،‬وكنا نرى عربة تسّب ُب الشارع ترشو اب‪٤‬باء فكنا نتعرى إذل‬
‫الفخذين و‪٪‬برى خلفها نتلقى ا‪٤‬باء ا‪٤‬برسل من أانبيبها على أفخاذان‪،‬‬
‫وندوس ُب الوحل ُب مرح‪ٍ ،‬ب نعود للعب ُب الَباب إذل غروب الشمس‪.‬‬
‫وٰبْب وقت العشاء فنصعد إذل البيت ونتناوؿ طعاـ العشاء جلوساً حوؿ‬
‫طبلية من ا‪٣‬بشب اختفي سطحها ‪ٙ‬بت بقااي الطبيخ الذي يتساقط‬
‫عليها منا‪ٍ ،‬ب ٯبف بدوف غسلها‪ ،‬فإذا انتهينا من الطعاـ ننتقل إذل‬
‫حيث نناـ ‪٫‬بن الستة على ا‪٢‬بشيتْب‪.‬‬

‫وكنت أرى والدي اندراً‪ ،‬بل أىرب من مقابلتو بسبب قسوتو‬


‫على‪ ،‬فكاف أمري كلو موكوالً إذل زوجتو حبيبة ا‪٢‬ببشية‪ ،‬فكانت تعُب يب‬
‫‪47‬‬
‫على مثاؿ عناية زوجة جدي أبوالدىا‪ ،‬فتَبكِب أ‪٥‬بو وألعب معهم حافياً‬
‫ٍب أانـ وعلى قدمي الوحل ا‪١‬باؼ‪.‬‬

‫لست أدرى كم من الوقت قضيت ُب ىذا البيت‪ٍ ،‬ب انتقل‬


‫والدي إذل قنا عضواً ُب ‪٦‬بلس القرعة فانتقلنا معو‪ ،‬وىناؾ دخلت‬
‫مدرسة أىلية أنشأىا ا‪٤‬برحوـ ا‪٣‬بواجة بسادة ليتعلم فيها أوالده وأوالد‬
‫اخوتو‪ .‬وكانت ا‪٤‬بدرسة حجرة واحدة متسعة مستطيلة الشكل‪ ،‬ومقاعد‬
‫التبلميذ مرصوصة ٔبانب ا‪١‬بدراف‪ ،‬و‪٥‬با معلم واحد طويل‪ ،‬فينتقل ا‪٤‬بعلم‬
‫طوؿ النهار من فصل إذل فصل يعلم التبلميذ القراءة والكتابة وا‪٢‬بساب‬
‫ومبادئ اللغة الفرنسية‪ .‬وزاملت ُب ىذا ا‪٤‬بكتب ‪ٞ‬بدي سيف النصر‬
‫(ابشا)‪ ،‬ألف والده كاف رئيس ‪٦‬بلس القرعة برتبة صاغ‪ ،‬وكاف والدي‬
‫برتبة مبلزـ أوؿ‪.‬‬

‫انتهى ا‪٤‬برحوـ عمى حسن كامل من دراسة ا‪٢‬بقوؽ‪ ،‬وعْب ُب‬


‫قنا بوظيفة مساعد نيابة فأقاـ معنا ُب البيت ُب جناح خاص‪ ،‬والذي‬
‫أدؿ عليو بكلمة جناح غرفتاف متجاوراتف إحداٮبا بدوف نوافذ ودل تعرؼ‬
‫إطبلقاً ضوء الشمس وال ا‪٥‬بواء النقي ا‪٤‬بتجدد‪ ،‬واقَبف عمى اببنة خالتو‬
‫وأحضرىا إذل قنا وسكنت ذلك ا‪١‬بناح احملبوس‪ ،‬ألف حجرتو األوذل تطل‬
‫على فناء البيت‪ .‬وألوؿ مرة رأيت من ٰبنو على بعد انتقارل إذل رعاية‬
‫والدي‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫كانت عطلة ا‪٤‬بدرسة ُب يوـ األحد فكنت أذىب مع والدي‬
‫إذل الغرفة الٍب يسميها مكتبو‪ ،‬وىى إذل جانب مركز البوليس وُب‬
‫مستواه‪ ،‬وأماـ ىذا البناء الطويل يقوـ بناء ا‪٤‬بديرية وبْب البناءين ميداف‬
‫فسيح بو أشجار اللنج العالية ذات الظل الوارؼ‪ ،‬فكنت ألعب أحياانً‬
‫ُب ظل ىذه األشجار‪.‬‬

‫ودل تعرؼ ُب ذلك ا‪٢‬بْب وظيفة "مأمور اؼبركز" إ٭با يرأس قسم‬
‫البوليس ضابط برتبة يوزابشي لو لقب معاوف البوليس‪ ،‬فّبتدى ىذا‬
‫ا‪٤‬بوظف ثوب ضابط من ا‪١‬بوخ أو الصوؼ األزرؽ‪ ،‬وعلى كتفيو‬
‫األزبليطة الٍب ترص فوقها النجوـ الدالة على الرتبة‪ ،‬وحوؿ ىذه األزبليطة‬
‫شريط من النسيج ا‪٤‬بقصب ذات لوف ذىيب‪ ،‬وعلى جانيب البنطلوف‬
‫شريطاف من ىذا النسيج الزاىي اللوف‪ .‬وكاف طوؿ الزماف وا‪٤‬بؤثرات‬
‫ا‪١‬بوية تؤثر ُب ىذا النسيج الرباؽ فتصدأ أجزاء منو وتبقى غّبىا زاىية‬
‫المعة فيتشوه مشهد الثوب غّب ا‪١‬بديد‪.‬‬

‫وحدث مرة ُب الشتاء أنِب رأيت مشهداً عجباً على‬


‫الدرجات القليلة الٍب ترتفع من األرض إىل بناء اؼبركز‪ ،‬رأيت حضرة‬
‫اؼبعاوف بثوبو الرظبي جالساً على أحد ىذه الدرجات ورأسو ُب حجر‬
‫عسكري‪ ،‬وطربوشو فوؽ طربوش اعبندي‪ ،‬وىذا يبحث إبصبعو ُب‬
‫شعر حضرة اؼبعاوف ليصطاد القمل ٍب يقتلو بظفره على ببلط الدرج‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫مشهد كاف مألوفاً ُب ذلك اغبْب البعيد‪ ،‬ولكنو ال يزاؿ على لوح‬
‫ذىِب يتجدد تصوره كلما دخلت فناء قنا‪ .‬ومل نكن نعرؼ اؼبشط ُب‬
‫ذلك الزمن‪ ،‬وكاف القمل يسكن رؤوسنا‪ ،‬وكانت اغببشية زوجة أيب‬
‫تدىن شعري ابلبَبوؿ‪ ،‬وتبقيِب ُب الشمس اغبارة وقتا ما ليتأمل القمل‬
‫من البَبوؿ ٍب من أتثّب حرارة الشمس فيو‪ ،‬فيحاوؿ اؽبرب من ـبابئو‬
‫ُب جذور الشعر ويسرح إىل ما حولو من الفضاء‪ ،‬فيظهر لعْب‬
‫اغببشية فتصطاده بسهولة وتقتلو‪.‬‬

‫وحدث مرة أهن جاءوا حبمّب كثّبة فركبناىا من فناء اؼبديرية‬


‫وقصدان إىل النيل‪ ،‬وكاف الركب خليطاً من كبار اؼبوظفْب وأعضاء‬
‫ؾبلس القرعة‪ ،‬فلما بلغنا شاطئ النهر نزلنا إىل سفينة "دىبية" ونزلنا‬
‫فريقاً بعد فريق لنفاجأ برؤية اؼبصباح الذي ال يدخن‪ ،‬منعت الدخاف‬
‫زجاجة للمصباح‪ ،‬ومل يكن الناس يعرفوهنا إىل ذلك اغبْب‪ ،‬فقد كاف‬
‫ُب كل حجرة من حجر البيت فجوة يوضع فيها مصباح من الصفيح‬
‫تنّب ذابلتو ويتصاعد‪ ،‬منها دخاف وببسو سقف الفجوة‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫‪7‬‬
‫كاف "ؾبلس القرعة" ينتقل ُب مراكز ا‪٤‬بديرية إل‪ٛ‬باـ عملية‬
‫االقَباع‪ ،‬ويقيم ُب كل مركز وقتا يطوؿ أحياانً أو يقصر‪ ،‬فإذا كانت‬
‫اإلقامة طويلة تنتقل عائبلت أعضاء اجمللس معو‪ ،‬وكاف بْب الضباط‬
‫أعضاء اجمللس ضابط سكندري يدعى دمحم أفندي دسوقي وعملو أثناء‬
‫االقَباع قياس ا‪٤‬بقَبعْب‪ ،‬وكاف جريئاً ومرحاً على الدواـ وكانت لو زوجة‬
‫وابنة منها تدعى ‪ٝ‬بيلة‪ ،‬وكنا نسكن متقاربْب‪ ،‬فكنت أراتح ‪٥‬بذه الفتاة‬
‫ألاها كانت ٘بود على ابلسكر األ‪ٞ‬بر أو بعيداف القصب أو بقدح من‬
‫الشرابت كلما قصدت إذل بيت والدىا أللعب معها‪.‬‬

‫كانت وديعة وظريفة وتغمرشل ٕبنااها‪ ،‬كانت ُب بعض األحياف‬


‫تتأرجح معي ُب مرجيحة مصنوعة من حباؿ مربوطة ُب شرائح النخل‬
‫الٍب تسقف مدخل البيت‪ٍ ،‬ب تربط طرُب ا‪٢‬ببلْب ُب كرسي قصّب جداً‬

‫‪51‬‬
‫من ا‪٣‬بشب فتجعلو مقعداً للمرجيحة كنت أبتهج جد االبتهاج هبذه‬
‫التسلية ا‪١‬بديدة الٍب دل أعرفها من قبل‪ .‬وكنت أحن على الدواـ لزايرة‬
‫ىذا البيت ألتلذذ ٗبا يعطى رل من ا‪٢‬بلوى وٗبا يتجدد من أنواع اللعب‪.‬‬
‫كذلك كانت أـ الفتاة تتودد إذل حبيبة ا‪٢‬ببشية زوج والدي‪ ،‬وكانت‬
‫ىذه ا‪١‬بارية وديعة ىادئة قليلة الكبلـ وال ‪ٙ‬بسن النطق ابللغة ا‪٤‬بصرية‬
‫كجاريتها حليمة ألاهما عاشا الشطر األوؿ من حياهتما ُب السوداف‬
‫ا‪١‬بنويب ُب ا‪١‬بهة الشرقية منو حٌب اشَباٮبا والدي وجاء هبما إذل مصر‪.‬‬

‫سألِب والدي يوماً عن ست ‪ٝ‬بيلة‪ ،‬سألِب عن طو‪٥‬با وعن‬


‫جسمها وعن لواها وعن أجزاء وجهها‪ :‬العينْب واألنف والفم‪ ،‬فكنت‬
‫أجيبو إجاابت يطمئن ‪٥‬با ويراتح ويكافئِب من ا‪٢‬بلوى‪ ،‬وكنت أذكر‬
‫لصديقٍب الكبّبة أسئلة والدي وإجاابٌب عليها فتضحك وتزيد فيما هتديو‬
‫إذل من ا‪٢‬بلوى أو الشراب ا‪٤‬بسكر‪ ،‬ورفعتِب مرة إذل صورة مثبتة ُب‬
‫ا‪٢‬بائط ‪٢‬بسناء ‪٫‬بيلة وسألتِب‪:‬‬

‫"ىل بيِب وبْب ىذه الصنيورة شبو "‬

‫فوكدت ‪٥‬با أف الشبو بينهما اتـ‪ .‬دل أكن أكذب أو أداجي إ٭با‬
‫كنت أعتقد أنِب أصدؽ ُب ا‪٢‬بكم‪ ،‬وكاف الشبو بْب االثنْب موجوداً إ٭با‬
‫ُب النحافة وحدىا!!‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫وكانت ُب بيتناً مثل ىذه الصورة‪ ،‬ألف ‪ٝ‬بيع أعضاء اجمللس‬
‫اشَبوا من نوعها ُب وقت واحد من قنا من ابئع واحد‪ ،‬ويظهر أنِب‬
‫كنت على يقْب من والدي أنو يراتح لكل ما يذكر عن الست ‪ٝ‬بيلة‬
‫وخاصة عن وصفها‪ ،‬ورأيت مرة ُب يده علبة من ا‪٣‬بشب األ‪ٞ‬بر الرقيق‬
‫مؤلى ٕبلوى تسمى ملنب أعطاشل منها قطعة واحدة‪ ،‬ولكنِب كنت‬
‫أطمع أبكثر منها‪ ،‬وكاف انئماً ُب القيلولة على سجادة وأان أروح لو‪،‬‬
‫والصورة مثبتة فوؽ رأسينا‪ ،‬فهداشل شيطاشل لبلنتفاع هبذه الصورة ألرضي‬
‫والدي وأستخلص منو شيئاً من ا‪٤‬بلنب فقلت لو‪:‬‬

‫"اباب ‪ ..‬شايف الصورة اؼبعلقة فوؽ رأسك "‬

‫فقاؿ‪" :‬ماؽبا ي واد" (ونظر إذل الصورة)‪.‬‬

‫فقلت‪" :‬تيزة صبيلة زيها سباـ"‪.‬‬

‫فنهض والدي من ضجعتو وأمعن النظر ُب الصورة برىة‪ٍ ،‬ب‬


‫‪ٞ‬بلِب على ذراعو وسألِب‪:‬‬

‫"صحيح ي حافظ ‪ ..‬ىي تشبو للصورة دي "‪.‬‬

‫فقلت‪" :‬زيها سباـ ي اباب ‪."..‬‬

‫وكانت ىذه العبارة طلسماً فتح علبة ا‪٤‬بلنب فأخذت منها أكثر‬
‫من قطعة‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫خطبت تيزة ‪ٝ‬بيلة إذل والدي وًب العقد وجاءت ليلة الزفاؼ ُب‬
‫مدينة دشنا ‪ ..‬فرصت أماـ منزؿ العروس دكك من ا‪٣‬بشب ‪ٝ‬بعت من‬
‫الدور‪ ،‬وصنع الصيواف من برد النساء‪ ،‬وعلقت ُب سقف الصيواف‬
‫الصغّب فوانيس بداخلها ا‪٤‬بصابيح الكبّبة ذات الدخاف‪ .‬والربدة نسيج‬
‫من غزؿ الصوؼ تسَب بو ا‪٤‬برأة كل جسمها‪ ،‬وتطرح جزءًا منها فوؽ‬
‫رأسها ينزؿ إذل صدرىا‪ ،‬وتَبؾ شقا صغّباً بْب حافتيها ترسل منها‬
‫نظراهتا إذل الطريق‪ ،‬و‪ٚ‬بفي ىذه الفرجة بسرعة إذا صادفت أمامها رجبلً‬
‫مقببلً لناحيتها‪ ،‬وتتدذل الربدة إذل األرض لتخفي القدمْب‪ ،‬وٯبرى ذيلها‬
‫على الطريق كمكنسة فيثّب وراءه الغبار‪.‬‬

‫جلس ا‪٤‬بدعووف على ىذه األرائك‪ ،‬أما ا‪٤‬بدعوات فكن ُب‬


‫ا‪٢‬برصل يستمعن إذل طبلة تطبل عليها امرأة ‪٧‬بَبفة لَبقص على نغماهتا‬
‫راقصة من أىل الصعيد ٍب تتعاذل الزغاريد‪ .‬غلبِب النوـ من طوؿ السهر‬
‫فنمت على حشية ُب غرفة نوما عميقاً‪ ،‬ونبهتِب من النوـ ا‪٢‬ببشية زوجة‬
‫أىب ألنو كاف يلح ُب طليب‪ ،‬فقادوشل إليو يغلبِب النعاس‪ .‬ورش والدي‬
‫على وجهي ماءً لينبهِب ٍب سألِب‪:‬‬

‫"ىل عند كوبيا ضبرا "‬

‫‪54‬‬
‫وأخذشل إذل بيتنا فسلمتو صندوقاً من الصفيح فيو الكوبيا الٍب‬
‫يسأؿ عنها‪ ،‬ففرح بو وجرشل من يدي إذل ٍ‬
‫فناء مسوٍر بو ا‪٤‬بواقد الٍب‬
‫يطهى عليها الطعاـ‪ ،‬وسلم الصندوؽ إذل الطاىي وقاؿ لو‪:‬‬

‫"أدى الكوبيا اغبمراء ي أسطى‪ِّ ،‬‬


‫لوف هبا البالوظة أحسن‬
‫دىبية اؼبدير رست ُب البلد ‪ .. ..‬وعرؼ أف فيو حفلة زفاؼ‬
‫ابلع َجل(‪.")4‬‬
‫وسيشرفنا اآلف ‪ .. ..‬فاعمل البالوظة اؼبلونة َ‬
‫ومن ىذا الوصف ا‪٤‬بوجز تدرؾ نوع حضارة ا‪٤‬بوظفْب‪ ،‬أرقى‬
‫طباؽ ا‪٤‬بصريْب ُب ذلك الزمن ‪..‬‬

‫أقامت العروس مع العريس أسبوعاً ُب منزؿ والدىا ٍب انتقلت‬


‫إذل بيتنا‪ ،‬وخصصت ‪٥‬با أحسن الغرفتْب اللتْب يتكوف منهما الطابق‬
‫الثاشل من البيت وجعلت الغّبة تدب ُب الزوجة ا‪٢‬ببشية‪ ،‬ودلت عليها‬
‫مرات دالالت واضحة كانت تؤدي إذل ثورة والدي عليها ‪ ..‬و‪٤‬با عدان‬
‫إذل قنا بِب على السطح غرفة فسيحة لزوجتو ا‪١‬بديدة ليعز‪٥‬با عن األوذل‪،‬‬
‫ولكن ىذه العزلة دل ‪ٛ‬بنع ا‪٢‬ببشية من االستمرار على الغّبة الشديدة‪ ،‬وكنا‬
‫‪٪‬بتمع عادة بعد العشاء ُب غرفة فسيحة من ا‪١‬بناح ا‪٤‬بخصص للحبشية‪،‬‬
‫عمى وزوجو ووالدي وزوجتاه ٍب يوزع علينا ما أحضره من الفاكهة أو‬
‫البندؽ أو اللوز أو التْب اجملفف أو ا‪٤‬بلنب‪.‬‬

‫(‪ )4‬أي بسرعة‪ ،‬من التعجل‪.‬‬


‫‪55‬‬
‫أما ‪٫‬بن فيأكل كل منا نصيبو‪ ،‬وأما ‪ٝ‬بيلة ىازل فبل أتكل وتَبؾ‬
‫نصيبها إذل جانبها على الدواـ‪ ،‬وتنصرؼ إذل النوـ دوف أف أتخذه‬
‫معها‪ .‬ووالدي يبلحظ عليها أاها ال أتكل‪ .‬وفضحت ا‪٢‬ببشية سر ىذه‬
‫القناعة مرات‪ .‬كانت تصعد إذل السطح بعد نوـ ا‪١‬بميع أو ُب الفجر‬
‫و‪ٙ‬بضر قشوراً كثّبة ‪٤‬بثل ما أكلنا بعد العشاء وتلقيها أماـ عمي وزوجتو‬
‫وتقوؿ‪:‬‬

‫"شوُب ي كوي ‪ ...‬اللى بيقوؿ عليها مش بتاكل!" ‪....‬‬

‫وكانت نتيجة ىذه الغّبة أاها طلقت وأرسلت إذل القاىرة وأان‬
‫معها أللتحق اب‪٤‬بدرسة القربية(‪ ،)5‬وفرض لنا للمعيشة ‪ 150‬قرشاً كل‬
‫شهر منها أجرة السكن‪.‬‬

‫(‪ )5‬أحد األحياء القديبة دبدينة القاىرة‪.‬‬


‫‪56‬‬
‫‪8‬‬
‫أُلػ ِحقت ابلسنة الثالثة وكنت ُب سن أو ُب رعونة ال هتديِب اآلف‬
‫إذل ُّ‬
‫تذكر من كانوا زمبلئي ُب تلك ا‪٤‬بدرسة مدى عاـ دراسي كامل‪.‬‬
‫سكنا ُب غرفة ٗبنزؿ ُب حارة بّبجواف‪ ،‬غرفة على سلم البيت مظلمة ال‬
‫يدخلها نور الشمس وال منفذ ‪٥‬با لتجديد ا‪٥‬بواء سوى الباب‪ ،‬وكاف النور‬
‫ليبلً ينبعث ضئيبلً من مصباح لو زجاجة‪ ،‬ألف العادل عرؼ زجاج‬
‫ا‪٤‬بصابيح ‪ .‬أذىب صباحاً للمدرسة ُب جلباب‪ ،‬ومعي لطعاـ الغداء‬
‫رغيف من ا‪٣‬ببز ونصف قرش لشراء اإلداـ‪ ،‬فكاف على الدواـ طوؿ‬
‫العاـ‪ :‬سلطة وطعمية ‪ .‬ولست أذكر أنِب استذكرت دروسي ُب البيت‬
‫إطبلقاً‪ ،‬ألف الغرفة ضيقة ال تتسع إال للسرير‪ ،‬ومائدة الطعاـ‪ :‬الطبلية‪،‬‬
‫وُب رعاية دادا حبيبة عرفتِب النظافة والشدة ُب منعي من اللعب ُب‬
‫ا‪٢‬بارة ومن الغياب عن البيت‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫ولكن جدي ا‪٢‬باج حسن دل يكن راضياً عن وجودي بعيداً عن‬
‫بيتو‪ ،‬وكاف يسعى ُب إصرار لنقلي إذل رعايتو ال بتأثّب العطف على أو‬
‫الرغبة ُب العناية يب‪ ،‬إ٭با للحصوؿ على الػ ‪ 150‬قرشاً الٍب ترسل للدادة‬
‫من والدي ُب كل شهر‪ ،‬وعاونت زوج أيب (‪ٝ‬بيلة ىازل) ذلك ا‪١‬بد‬
‫لتحقيق رغبتو‪ ،‬فأطاع والدي مشورهتا وأمر بنقلي إذل منزؿ جدي فاختل‬
‫نظاـ حياٌب من جديد‪ ،‬وعدت إذل اللعب حافياً وإذل القذارة العامة ُب‬
‫ذلك البيت‪.‬‬

‫وبلغ يب األمر إذل حد الغياب عن ا‪٤‬بدرسة أايما كثّبة متوالية‪،‬‬


‫فآخذ الرغيف وأودع الكتب ُب دكاف ابئع‪ٍ ،‬ب أنطلق إذل الكوبري‬
‫األعمى(‪ )6‬غرب كوبري قصر النيل‪ ،‬فأقضي النهار ُب االستحماـ ُب‬
‫‪٦‬برى ا‪٤‬باء الذي يقوـ عليو ذلك ا‪١‬بسر‪ ،‬وألعب مع أمثارل من ا‪٥‬باربْب‬
‫من ا‪٤‬بدارس أو الدكاكْب الٍب يتعلموف فيها الصناعة‪ ،‬فإذا قرب موعد‬
‫ا‪٣‬بروج من ا‪٤‬بدرسة أكر راجعاً إذل البيت‪ ،‬ماراً من شارع الغوري‪ ،‬وىو‬
‫الشارع ا‪٤‬بوصل بْب ا‪٤‬بدرسة وطريق البيت‪.‬‬

‫دل تسأؿ ا‪٤‬بدرسة عن غيايب بسب اضطراب النظاـ ُب ذلك‬


‫العهد ودل ينكشف سر ىرويب ا‪٤‬بزمن إال مصادفة‪ ،‬كنت مارا بشارع‬

‫(‪ )6‬اآلف‪" :‬كوبري اعببلء" بْب منطقة اعبزيرة دبدينة القاىرة ومنطقة الدقي‬
‫دبدينة اعبيزة‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫الغورية(‪ ،)7‬متجهاً إذل شارع السكة ا‪١‬بديدة ألصل منو إذل ا‪٤‬بدرسة‬
‫الذي يقوـ البيت ُب اهايتو‪.‬‬

‫وبينما كنت ُب الطريق وأماـ الدرب ا‪٤‬بؤدي إذل حي الكحكيْب‬


‫فوجئت بيد تقبض علي عنقي بعنف وبصوت يقوؿ رل‪" :‬جاي منْب ي‬
‫واد؟"‪ ،‬لقد أخطأت ُب تقدير وقت انصراؼ التبلميذ من ا‪٤‬بدرسة‪،‬‬
‫وتصادؼ مرور جدي ُب ذلك ا‪٤‬بكاف وقت مروري منو‪ ،‬فعجب‬
‫‪٣‬بروجي من ا‪٤‬بدرسة قبل موعد االنصراؼ وأدرؾ أنِب تغيبت عنها ذلك‬
‫النهار‪ .‬كانت ا‪٤‬بفاجأة مزعجة وخيمة العاقبة وىي علقة حامية طبعاً‪،‬‬
‫فهيأ رل ا‪٣‬ببث أف أضلل ذلك الشيخ بصورة تبعثو على الشك ُب‬
‫شخصيٍب‪ ،‬خطرت رل الفكرة ُب سرعة ونفذهتا ٔبرأة‪.‬‬

‫صرخت ُب وجو جدي قلت لو‪" :‬مالك ي ع ! ‪ ..‬عاوز مِب‬


‫إيو "‬

‫واستشاط الشيخ غضبا وااهاؿ على بيديو يضربِب ُب غّب‬


‫‪٧‬باذرة‪ :‬فصرخت من األدل فاجتمع حولنا الناس‪ ،‬كعادهتم ُب‬

‫(‪ )7‬دبنطقة األزىر أحد أقدـ أحياء القاىرة‪.‬‬


‫‪59‬‬
‫التػكػأكػؤ(‪ )8‬على مكاف كل حادث‪ ،‬فػقػلػت‪" :‬حوشوٍل ي انس الراجل‬
‫ده ظباوي وعاوز ىبطفِب"‪.‬‬

‫تكررت حوادث اختفاء بعض الغلماف‪ ،‬وكاف ا‪١‬بهاؿ ينسبوف‬


‫غيبة الغائبْب ألحد سببْب‪:‬‬

‫اػبطف بواسطة السماوي‬

‫أو بواسطة اليهود ليعجنوا فطّبى بدـ الغبلـ اؼبخطوؼ‪.‬‬

‫وصدؽ ا‪٢‬باضروف دعواي وااهالوا على جدي تقريعاً‪ ،‬وامتدت‬


‫أيدي ا‪٤‬بتحمسْب إلينا ‪ٙ‬باوؿ إنقاذي من يدي جدي ودل يصدقوا دفاعو‬
‫وأنِب ابن ولده‪ ،‬وقاؿ أحدىم‪" :‬من اؼبستحيل أف تكوف جده ألنو‬
‫ينكرؾ ويتهمك دبحاولة خطفو‪ ،‬فأنت السماوي صحيح"‪.‬‬

‫وأ‪٫‬بل شاؿ عمامة ا‪١‬بد ا‪٤‬بسكْب‪ ،‬وتكاثر عليو ا‪٣‬بلق ليسوقوه‬


‫إذل قسم البوليس وىو مستميت ُب تبلبييب ويداه تستعصياف على‬
‫ا‪٤‬بنقذين‪ ،‬وفجأة جاء الشيخ حسن حبيشة التاجر ابلغورية‪ ،‬ودكانو‬
‫قريب جداً من موضع ا‪٢‬بادثة فشق الناس ووصل إلينا وألسنة الناس‬
‫تصيح‪" :‬ظباوي أىو ده السماوي ودوه القس ‪ ،‬جروه"‪.‬‬

‫(‪ )8‬التجمع وااللتفاؼ‪.‬‬


‫‪60‬‬
‫والشيخ حسن حبيشة معروؼ ُب ذلك ا‪٤‬بكاف‪ ،‬وىو زوج لبنت‬
‫جدي (عمٍب) فصاح ُب الناس‪" :‬ظباوي إيو ي صباعة‪ ،‬الواد ده شقي‬
‫وىو ابن قبيب أفندي ابن اغباج حسن ده‪ .‬وأان زوج بنتو" ‪..‬‬

‫ونزؿ على صدغي بكفيو وعجب اجملتمعوف ‪١‬برأٌب وإنكاري‬


‫جدي‪ ،‬وحنقوا على‪ ،‬فصاح أحدىم يقوؿ‪" :‬أما واد ؾبرـ صحيح ده‬
‫الزـ علقة تدوب رجليو"‪.‬‬

‫وجرشل جدي إذل البيت وىو ُب غيظ مِب وغضب على‪ ،‬وصاح‬
‫بزوجتو يطلب منها حببلً‪ ،‬فكتفاشل وأان طريح‪ ،‬واستحاؿ الغضب إذل‬
‫عملية ضرب‪ ،‬وبلغ الغيظ حد ا‪١‬بنوف فجعل الرجل يعضِب أبسنانو‪ ،‬فلم‬
‫يؤ‪٤‬بِب العض وار‪ٙ‬بت لو‪ ،‬فجعلت اصرخ واسَبحم الثائر فقلت لو‪" :‬عض‬
‫وال تضربش"‬

‫فضلت العض على الضرب ألف جدي بدوف أسناف!!‪.‬‬

‫‪61‬‬
62
‫‪9‬‬
‫نػُػ ِقل والدي من قوة ا‪١‬بيش إذل البوليس وعْب بوظيفة معاوف‬
‫بوليس طهطا‪ ،‬وعْب عمي حسن كامل قاضياً ٗبحكمة أسيوط األىلية‪،‬‬
‫وحضر والدي إذل القاىرة أايماً بسبب ظروؼ العمل‪ ،‬وكانت معو زوجو‬
‫‪ٝ‬بيلة ىازل‪ ،‬فرأت نوع معيشٍب والفوضى الٍب أعيش فيها‪ ،‬ورأت ما على‬
‫من الثياب البالية والقذارة الٍب تغطيها‪ ،‬فأشارت على والدي بنقلي‬
‫معهم إذل طهطا‪ ،‬وتن ّفذ الرأي‪ ،‬فقضيت ا‪٤‬بدة الباقية من العاـ الدراسي‬
‫ُب "مدرسة الفرير" بطهطا‪ٍ ،‬ب انتقلت بعدىا إذل منزؿ عمي أبسيوط‪،‬‬
‫وأُ‪٢‬بقت ابلسنة الرابعة اب‪٤‬بدرسة األمّبية‪.‬‬

‫كنت صغّباً إذل جانب زمبلئي الكبار‪ ،‬وكاف التعليم يرتكز‬


‫على الشدة وعلى الضرب اب‪٣‬بيزراف‪ ،‬وانلِب نصيب كبّب من لكمات‬
‫مدرس اللغة العربية "الشيخ عوض" ومن ضابط ا‪٤‬بدرسة بطرس أفندي‪،‬‬

‫‪63‬‬
‫إسرائيلي(‪ )9‬كاف يعلمنا اللغة الفرنسية‪ .‬وحدث أثناء ذلك العاـ‬
‫الدراسي أف والدي رغب ُب مشاىدٌب‪ ،‬فسافرت إذل طهطا لقضاء‬
‫يومي ا‪٣‬بميس وا‪١‬بمعة‪ ،‬وغمرت ُب اليومْب أبنواع من ا‪٢‬بلوى وبكميات‬
‫من البلح السيوي ا‪١‬باؼ‪ٍ ،‬ب أعدت إذل أسيوط مزوداً هبدية منو‪.‬‬

‫دل ترتح نفسي للعودة‪ ،‬وصرت قلقاً ال يقر رل قرار‪ ،‬أطمع‬


‫ابلبقاء ُب طهطا حيث ا‪٢‬بلوى وأنواع البلح ا‪٤‬بختارة‪ ،‬وأحن ألصدقائي‬
‫الذين ار‪ٙ‬بت للعب معهم أثناء وجودي ٗبدرسة الفرير‪ ،‬وقوى عزمي على‬
‫تنفيذ ىذا الرأي فخرجت صباحاً للذىاب إذل ا‪٤‬بدرسة ومعي الرغيف‬
‫والطعاـ للغداء‪ ،‬ولكنِب دل أذىب إذل ا‪٤‬بدرسة وقصدت إذل شريط السكة‬
‫ا‪٢‬بديد فاعتمدت عليو للبلوغ إذل طهطا سّباً على األقداـ‪ .‬كاف الشوط‬
‫طويبلً على صيب‪ ،‬ولكِب احتملت عناء السّب ألبلغ إذل غايٍب فوصلت‬
‫إذل منزؿ والدي بعد العشاء‪ ،‬و‪٢‬بسن حظي كاف‪ ،‬والدي غائباً ُب دوارية‬
‫ليلية‪ ،‬فأكلت و٭بت‪.‬‬

‫قبيل طلوع النهار أيقظِب والدي ُب غضب‪ ،‬واستقبل يقظٍب‬


‫بعلقة أ‪٥‬ببت جسمي وقدمي‪ ،‬وردشل ُب الصباح إذل أسيوط فدخلت‬

‫(‪ )9‬يقصد الكاتب أنو "يهودي" الدينة وكاف ىذاف اللفظاف‪" :‬يهودي"‬
‫و"إسرائيلي" يستخدماف كمَبادفْب‪ ،‬وخباصة قبل أف ينشأ الكياف الصهيوٍل‪ .‬وقد كرر‬
‫حافظ قبيب استخدامو ابؼبعُب نفسو ُب مواضع عديدة من اعَبافاتو‪.‬‬
‫‪64‬‬
‫البيت ُب خزي وانكسار‪ ،‬وقد شكوت لوالدي من ا‪٤‬بعاملة الٍب ألقاىا‬
‫ُب بيت عمي‪ ،‬ولكنِب كنت كاذابً ُب كل ما شكوت منو‪ ،‬ألف عمي‬
‫كانت لو أخبلؽ رضية كرٲبة‪ ،‬وكاف منزىاً عن كل عيب ينسب إذل‬
‫األخبلؽ أو الرجولة أو العقل أو الوصف كرب أسرة ىادئة تعيش ُب‬
‫اطمئناف وىناء ‪.. ..‬‬

‫أما ا‪٤‬برحومة زوجة عمي فكانت مبلكاً ُب جسم إنساف‪ ،‬كانت‬


‫ا‪٤‬بثل األعلى للمرأة الشريفة ا‪٤‬بتزنة الوديعة ربة البيت ا‪٤‬بنظم كانت ‪ٙ‬بنو‬
‫علي وترضيِب ‪ٙ‬بقق رغباٌب ا‪٤‬بعقولة وتشملِب على الدواـ ابلرعاية‬
‫والعناية‪.‬‬

‫وُب أسيوط تعلمت السباحة‪ ،‬ألف البيت كاف ُب "اؼبنشية" ولو‬


‫ابب آخر يؤدي إذل ا‪٤‬بزارع‪ ،‬وُب زمن الفيضاف تغمرىا مياه النيل‪ ،‬وكاف‬
‫على القرب من البيت فجوة عميقة تبقى مليئة اب‪٤‬باء بعد زواؿ مياه‬
‫الفيضاف عن األرض‪ ،‬وُب ىذه الربكة الفسيحة تعلمت السباحة‪.‬‬

‫وكاف من عادة العقبلء‪ُ ،‬ب ذلك الزمن قضاء كل أوقات الفراغ‬


‫ُب بيوهتم‪ ،‬وُب الليل يتزاوروف ُب ىذه البيوت ُب ا‪٤‬بنادر(‪ ،)10‬وكاف من‬
‫أصدقاء عمي الذين يزورونو من حْب آلخر ٍ‬
‫قاض ا‪٠‬بو "مصطفي‬

‫(‪ ) 10‬صبع " مندرة " وىي كلمة كانت تطلق على غرفة استقباؿ الضيوؼ ُب‬
‫اؼبنازؿ الريفية حٌب وقت قريب‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫حلمي" وأرجو أف ٰبتفظ قارئ اعَبافاٌب هبذا االسم وبنوع صلتو بعمي‪،‬‬
‫ألف لو شأانً معي بعد أعواـ ستثبتو ىذه السّبة‪.‬‬

‫وغاب عمي عن أسيوط ُب إجازة طويلة قضاىا ابإلسكندرية‪،‬‬


‫وترؾ لصديقو القاضي مصطفي حلمي واجب اإلشراؼ على البيت‬
‫فكاف ا‪٣‬بادـ "دمحم" يلجأ إليو ُب كل شأف ىاـ تقضي الظروؼ ابلرجوع‬
‫إليو فيو‪.‬‬

‫وحاف موعد امتحاف الشهادة االبتدائية ُب عاـ ‪ ،1892‬وكاف‬


‫ىذا االمتحاف جديداً على الطلبة فتحدثوا عنو برواايت كثّبة بقي ُب‬
‫ذىِب منها من ‪ٚ‬بريف التبلميذ‪ ،‬أف كل داخل لبلمتحاف تقطر لو ُب‬
‫عينيو قطرة حامية قبل الدخوؿ‪ٍ ،‬ب ٲبتحن وىو يتأدل من القطرة‪ ،‬وكانت‬
‫زوجة عمي تقطر رل ُب عيِب قطرة نَبات الفضة‪ ،‬فكانت ا‪١‬بارية صباح‬
‫تضع رأسي ُب حجرىا وتقيد ذراعي بيديها القويتْب لتمكن سيدهتا من‬
‫صب قطرات القطرة ُب عيِب‪ ،‬فكنت أصرخ وأرقص ويطوؿ بكائي إذل‬
‫وقت غّب قصّب بعد تلك العملية‪.‬‬

‫وقد توالشل الفزع من حكاية وضع القطرة ُب العيوف قبل دخوؿ‬


‫مقر ‪١‬بنة االمتحاف‪ ،‬وقضيت الليل ُب التفكّب ُب وسيلة تنفذشل من أدل‬
‫ىذه العملية فلم أىتد لشيء سوى ا‪٥‬برب من االمتحاف وقبيل إشراؽ‬
‫الشمس تسللت من الفراش وابرحت البيت ومعي رغيف وقطعة من‬
‫‪66‬‬
‫ا‪١‬بنب وانطلقت من الباب ا‪٣‬بلفي إذل ا‪٤‬بزارع فقطعتها إذل جسر‬
‫اإلبراىيمية واختبأت ىناؾ‪ ،‬وفوجئ أىل البيت ابختفائي وتركي ثوب‬
‫ا‪٤‬بدرسة‪ .‬فأرسلوا ا‪٣‬بادـ يبلغ ا‪٣‬برب إذل ا‪٤‬برحوـ مصطفي بك حلمي‪،‬‬
‫فخرج اب‪١‬بلباب و‪ٝ‬بع فريقاً من خدـ ا‪٤‬بنازؿ اجملاورة وانطلق هبم ُب ا‪٤‬بزارع‬
‫للبحث عِب حٌب اىتدوا إذل‪.‬‬

‫ضربِب القاضي و‪ٞ‬بلِب ا‪٣‬بدـ إذل ا‪٤‬بدرسة مقر ‪١‬بنة االمتحاف‪،‬‬


‫وكاف رئيسها ا‪٤‬برحوـ أمْب بك سامي (ابشا بعد ذلك) انظر مدرسة‬
‫ا‪٤‬ببتدايف(‪ .)11‬وكاف انظر ا‪٤‬بدرسة حينذاؾ ا‪٤‬برحوـ السيد أفندي وفائي‪،‬‬
‫فرأى مصطفي بك حلمي ُب جلبابو البيض ورأى ا‪٣‬بدـ ٰبملونِب‬
‫ابلقوة‪ ،‬فعرؼ رئيس اللجنة ابلقاضي‪ ،‬وقص عليو ىذا ما عرفو مِب عن‬
‫سبب ىرويب‪.‬‬

‫دل ٰبرمِب رئيس اللجنة من دخوؿ االمتحاف‪ ،‬وطمأنِب واستدعى‬


‫ابئع حلوى على ابب ا‪٤‬بدرسة فأحضر رل شيئاً ‪٩‬با يبيعو من ا‪٢‬بلوى‬
‫ا‪٤‬بطبوخة‪ٍ ،‬ب سألِب ىل أستطيع أف أؤدي االمتحاف كزمبلئي مع أاهم‬
‫دخلوا قبل وصورل بربع ساعة‪ ،‬فوكدت لو أنِب أستطيع تػأدية االمتحاف‬
‫فأخذشل إذل الفصل الذي بو زمبلئي وأجلسِب ُب ا‪٤‬بكاف الذي كاف‬

‫(‪ )11‬حبي السيدة زينب ابلقاىرة‪.‬‬


‫‪67‬‬
‫معيناً رل‪ ،‬وأعطاشل ورقة أسئلة ا‪٢‬بساب والورؽ األبيض وأدوات الكتابة‪،‬‬
‫ودل يَبكِب إال بعد اطمئنانو على أنِب استمررت ُب حل ا‪٤‬بسألة األوؿ‪.‬‬

‫وانتهيت من اإلجابة قبل زمبلئي وخرجت‪ ،‬فتلقاشل ا‪٤‬برحوـ‬


‫رئيس اللجنة وسألِب عما فعلت فعرضت عليو ا‪٤‬بسودة وعليها ا‪٢‬بلوؿ‬
‫واإلجاابت فانشرح صدره وأدخلِب غرفة الناظر فارتديت ثويب الذي‬
‫تركتو ُب البيت‪ ،‬وشجعِب اثنياً بكمية من ا‪٢‬بلوى‪ ،‬وًب االمتحاف‪ٍ ،‬ب‬
‫ظهرت النتيجة فكنت الثاشل ُب الَبتيب‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫‪10‬‬
‫قبيل امتحاف الشهادة االبتدائية نُقل والدي إذل قليوب‪،‬‬
‫فانتقلت إليها بعد االمتحاف والنجاح وعشت ُب ذلك البيت كما‬
‫يعيشوف‪ ،‬وكنت أتسلل ُب الضحى وأذىب إذل ترعة صيفية خارج ا‪٤‬بدينة‬
‫ألتلهى ابلسباحة‪ ،‬وكاف والدي ينهاشل عن ذلك ويضربِب‪ ،‬ولكن النهي‬
‫والضرب دل ٲبنعاشل من ا‪٤‬بداومة على ىذه التسلية‪.‬‬

‫وحدث مرة أنِب كنت أسبح ُب الَبعة فرأيت والدي آتياً على‬
‫جسرىا من ضبط واقعة‪ ،‬كاف على جواد وخلفو اثناف من العساكر‪،‬‬
‫ففزعت وخشيت من غضبو فهداشل ا‪٣‬بوؼ إذل خاطر سريع يسَبشل منو‬
‫فنفذتو بسرعة‪ ،‬دىنت جسمي كلو ووجهي ابلطْب ووقفت مع بعض‬
‫الصبياف على جسر الَبعة نلعب و‪٪‬بري‪ ،‬فمر بنا حضرة ا‪٤‬بعاوف و‪٠‬بعتو‬
‫يقوؿ ألحد ا‪١‬بنديْب‪" :‬أىو الشقي حافظ بيعمل زي دوؿ ‪"...‬‬

‫فحماشل ىذا التنكر من العلقة الٍب كانت ‪٧‬بتمة لو رآشل‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫وحل موعد دخوؿ ا‪٤‬بدارس فأُ‪٢‬بقت اب‪٤‬بدرسة ا‪٣‬بديوية ‪٦‬باانً‬
‫ابلقسم ا‪٣‬بارجي بسبب تفوقي ُب امتحاف الشهادة االبتدائية‪ ،‬وسكنت‬
‫مع الست نفيسة خالة زوجة أيب‪ ،‬كانت ا‪٤‬برأة سيدة ىادئة الطبع متزنة‬
‫تقيم ُب مسكن صغّب ُب َربع موقعو ُب حارة السنانْب‪ ،‬وُب فرع من‬
‫شارع أمّب ا‪١‬بيوش الرباشل يوصل بْب ىذا الشارع وحي ا‪١‬بمالية‪ ،‬وكاف‬
‫أمي لو عادات العامة وأخبلقهم‬
‫زوجها ُب مثل ىدوئها وعقلها‪ ،‬وكبلٮبا ّ‬
‫مع طيبة‪.‬‬

‫كنت أخرج ُب الصباح ألذىب إذل ا‪٤‬بدرسة فاقطع الطريق من‬


‫الربع ا‪٢‬باشد ٗبئات من السكاف إذل درب ا‪١‬بماميز ُب ساعة تقريباً‪.‬‬
‫ىذا َ‬
‫وكاف ضابط ا‪٤‬بدرسة‪" ،‬سيد أفندي عاطف" يتوذل تنظيم الطلبة على‬
‫ا‪٤‬بوائد وقت الغداء‪ .‬دل تعْب رل مائدة معينة كغّبي‪ ،‬فكاف الضابط بعد‬
‫استقرار الطلبة على ا‪٤‬بوائد يبحث عن أماكن الغائبْب ويضعِب والبؤساء‬
‫أمثارل ُب تلك األماكن ا‪٣‬بالية‪ ،‬فكرب على أف أوضع كل يوـ على مائدة‬
‫أكوف بْب أصحاهبا غريباً عليهم‪ ،‬فاستقر رأيي على عدـ تناوؿ طعاـ‬
‫الغداء ٍب نفذت ىذه الفكرة‪ ،‬وصرت أقضي وقت تناوؿ الطعاـ ُب‬
‫حديقة ا‪٤‬بدرسة‪.‬‬

‫كاف مرتب معاوف البوليس حينذاؾ ‪ 9‬جنيهات ُب الشهر‬


‫فصار يدفع منو للست نفيسة جنيها واحداً ُب كل شهر مقابل السكن‬

‫‪70‬‬
‫وطعاـ العشاء‪ ،‬وىو مبلغ قليل ال يكفي نفقاٌب‪ ،‬فبل ٲبكن أف يدفع منو‬
‫مليم واحد لنفقات جييب وكل صيب ٰبتاج إذل شيء من النقود إلرضاء‬
‫رغباتو‪ ،‬وزاد على ىذا ا‪٢‬برماف عدـ تناوؿ طعاـ الغداء ُب ا‪٤‬بدرسة‪،‬‬
‫فكنت أشعر اب‪١‬بوع من منتصف النهار‪ ،‬و٘بذب نظري ُب كل خطوة‬
‫ُب الطريق ذىاابً وإايابً مناظر ا‪٢‬بلوى ا‪٤‬بمنوعة والفاكهة وشٌب ا‪٤‬بغرايت‪.‬‬

‫‪ٞ‬بلتِب ىذه األسباب على البحث لبلىتداء إذل حيلة‬


‫الستكماؿ ىذا النقص‪ ،‬فصرت أبيع كتيب واحداً بعد اآلخر إذل اتجر‬
‫ُب ا‪٤‬بوسكي ا‪٠‬بو أمْب ىندية‪ ،‬وطبعا كاف الشاري يدفع رل أٖبس‬
‫األ‪ٜ‬باف‪ ،‬و‪ٛ‬بكنت هبذه الوسيلة من إمتاع نفسي ابلبليلة أو الفاكهة عند‬
‫عودٌب وحْب الغداء‪ ،‬واب‪٢‬بصوؿ على ما يسيل لو لعايب من ا‪٢‬بلوى ُب‬
‫الصباح‪ ،‬وبشراء خبز من ا‪٤‬بدرسة‪.‬‬

‫بعت الكتب كلها‪ ،‬ودل أعن إطبلقاً ابلتنبو للدروس وال اب‪٤‬براجعة‬
‫ليبل لبلستذكار‪ ،‬وعوضت نفسي عن ا‪٤‬بذاكرة بسماع "اغبواديت" ليبلً‬
‫الربع(‪ )12‬من الصبياف أمثارل والبنات حٌب ٰبْب موعد الست نفيسة‬
‫ُب َ‬
‫للنوـ‪ ،‬فتناديِب من طرقات الربع ألانـ كما تفعل ىي وزوجها‪.‬‬

‫(‪ )12‬يقصد اغبي السكِب‪ ،‬والتعبّب يطلقو غالباً أىل اغبي الشعيب على‬
‫مكاف سكناى ‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫دل أ‪٪‬بح طبعاً ُب اهاية العاـ الدراسي وحرمت من اجملانية‪ٍ ،‬ب‬
‫أ‪٢‬بقِب والدي ُب العاـ الدراسي ا‪١‬بديد ابلقسم الداخلي اب‪٤‬بصروفات‪،‬‬
‫واتفق مع إدارة ا‪٤‬بدرسة على دفع شهراً بشهر من مرتبو‪ ،‬ولكنو عجز عن‬
‫الدفع بعد ثبلثة شهور‪ ،‬وتراكمت عليو ديوف بسبب ضآلة مرتبة‬
‫فحجزشل ُب البيت بقليوب‪.‬‬

‫وكاف وجودي بدوف عمل ُب البيت فرصة طيبة للجميع‬


‫فاغتنموىا‪ ،‬ونيط يب ‪ٞ‬بل أخٍب الصغّبة هبية وتسليتها لتتفرغ ‪ٝ‬بيلة ىازل‬
‫لقضاء أعماؿ البيت اليومية‪ ،‬فضيعت عاماً على ىذه الصورة‪ ،‬وكانت‬
‫العادة السماح رل اب‪٣‬بروج للعب بعد عصر النهار‪ ،‬فتعطيِب تيزة ‪ٝ‬بيلة‬
‫ىازل مليماً وتطلب مِب العودة قبل الغروب‪ ،‬فكنت أنطلق كالسهم‬
‫وألعب مع الصغار ُب ميداف ٔبانب البيت يسمى ميداف‪" :‬سيدي‬
‫عواد"‪.‬‬

‫ٱبل ىذا الزمن من ا‪٤‬بنغصات ومن العلق ا‪٢‬بامية إذا غضب‬


‫ودل ُ‬
‫والدي على وأسباب الغضب كانت كثّبة طبعاً‪ .‬حدث مرة أف الست‬
‫أـ ‪ٝ‬بيلة ىازل كانت تعجن وأمامها خادـ تروح على ا‪٤‬باجور لتمنع‬
‫الذابب من السقوط ُب العجْب‪ ،‬فوقفت بعيداً عن الست وجعلت‬
‫أرقص على صوت ضرابت العجن‪ ،‬وأقوؿ على وزف تلك النقرات‪:‬‬

‫سن – سن – سن‬
‫‪72‬‬
‫غضبت الست من عنادي وصرخت بصوت مزعج‪ ،‬ضربت‬
‫ابلصوت‪ ،‬وشقت جلباهبا‪ ،‬ففزعت ‪ٝ‬بيلة ىازل من صياح أمها وأطلت‬
‫عليها من الطابق الثاشل وسألت عن ا‪٣‬برب‪ ،‬فاندفعت أمها تشكو مِب‪،‬‬
‫وتدعى أنِب كنت أقوؿ ابلسم ابلسم فكانت النتيجة ثورة عالية‬
‫الضجيج‪.‬‬

‫وأدركت ‪٩‬با حدث مقدار ما سيكوف عليو غضب والدي‪ ،‬ألف‬


‫جرٲبٍب ُب ىذه ا‪٤‬برة جناية اعتداء على ‪ٞ‬باتو‪ ،‬فحملِب ا‪٣‬بوؼ من‬
‫الضرب ا‪٤‬بنتظر على ا‪٥‬برب من البيت ‪ ...‬ليس رل ملجأ سوى بيت‬
‫جدي ألف جدٌب ألمي ابعت ما ‪ٛ‬بلك ورحلت إذل اآلستانة‪ ،‬فقصدت‬
‫إذل القاىرة ماشياً ٔبانب شريط السكة ا‪٢‬بديد‪ ،‬فوصلت عند الغروب‬
‫إذل جسر فوؽ ترعة ‪ٛ‬بر عليو القطارات‪ ،‬فأردت اجتيازه فمنعِب حارس‬
‫كاف يتوضأ قريباً منو‪ ،‬وأشار على اب‪٤‬برور فوؽ جسر آخر ُب الناحية‬
‫الغربية من ذلك ا‪٤‬بكاف ويبعد عنو كثّباً ٍب أرتد إذل شاطئ الَبعة ىذه‬
‫ا‪٤‬بسافة نفسها ألعود إذل شريط السكة ا‪٢‬بديد‪ ،‬فشق على األمر ألف‬
‫ا‪١‬بسر احملرـ ا‪٤‬برور عليو ال يزيد طولو عن عشرين مَباً أستطيع قطعها ُب‬
‫دقيقة فبكيت‪.‬‬

‫وأشفق على الرجل وسألِب عن وجهٍب فقصصت عليو أمري وما‬


‫سببو رل ا‪٣‬بوؼ من الضرب‪ ،‬فأخذشل إذل كوخو القائم ٔبوار الَبعة وفيو‬

‫‪73‬‬
‫زوجو وعيالو‪ ،‬وحكى حكايٍب المرأتو فأشفقت على ورحبت يب‪،‬‬
‫فقضيت الليلة عندىم‪ .‬و٭بنا بعد تناوؿ طعاـ العشاء‪ ،‬ولكنِب أرقت‬
‫بسبب التعب وا‪٣‬بوؼ من نتائج اعتدائي على الست زنوبة ٍب ىرويب‪،‬‬
‫وظن الزوجاف أنِب انئم فصارا يتساراف مطمئنْب‪.‬‬

‫فسمعت ا‪٤‬برأة تعرض على رجلها فكرة استبقائي عندىم ألعاواهم‬


‫ُب ‪ٞ‬بل طفلها الصغّب فلم ٰببذ الرجل الفكرة‪ ،‬وجعل أسباب الرفض‬
‫أنِب ابن معاوف بوليس قليوب وسيبحث عِب بشٌب الوسائل‪ ،‬ومن‬
‫ا‪٤‬بصادفة ا‪٤‬بزعجة أف دورية ا‪٣‬بيالة مرت ابلكوخ ُب تلك اللحظة وعلى‬
‫رأسها والدي‪ ،‬فتلقاه حارس ا‪١‬بسر و‪ٙ‬بدث معو‪ ،‬و‪٠‬بعت والدي يسألو‬
‫ىل رأى غبلماً يقطع ا‪١‬بسر متجهاً إذل القاىرة ووصف لو الغبلـ‪،‬‬
‫وأدرؾ ا‪٢‬بارس أف والدي يسأؿ عِب فتجاىل وأنكر أنو رآشل‪.‬‬

‫شكرت ىذه العائلة ُب الصباح وقصدت إذل القاىرة ٍب إذل بيت‬


‫جدي فوجدت عمي وعائلتو ىناؾ‪ ،‬فشكوت ‪٥‬بم من قسوة والدي‪.‬‬
‫وحضر والدي وآؿ بيتو للسبلـ على أخيو‪ ،‬واقتضى ا‪٢‬باؿ التحدث ُب‬
‫موضوعي‪ٍ ،‬ب استدعيت أماـ ا‪١‬بميع فكررت الشكوى وأسهبت ُب‬
‫وصف القسوة‪ ،‬ودل يكن ‪٥‬بذه ا‪٤‬بواجهة أي أتثّب ُب والدي سوى زايدة‬
‫حنقو على بسبب جرأٌب ُب الشكوى منو ومن زوجو و‪ٞ‬باتو‪ ،‬ودل يكتمل‬

‫‪74‬‬
‫عقلي ُب تلك السن فلم أزف تصرفات ىذا الوالد معي‪ ،‬ودل أدرؾ الباعث‬
‫علي قسوتو‪.‬‬

‫وعلم والدي بعد حْب طويل وقرب اهاية العاـ الدراسي أف نظارة‬
‫ا‪٤‬بعارؼ ترغب ُب ا‪٢‬بصوؿ على طلبة ‪٤‬بدرسة "رأس التْب" األمّبية‬
‫داخلية و‪٦‬باانً‪ ،‬إ٭با على ذمة إ‪٢‬باقهم اب‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية بعد إ‪ٛ‬باـ الدراسة‬
‫الثانوية‪ .‬وكل تعليم ‪٦‬باشل يهرع إليو الناس‪ ،‬فأسرع والدي إذل تلك‬
‫النظارة وعرضِب على ا‪٤‬بستشار اإل‪٪‬بليزي فقبلِب لصغر سِب‪ ،‬ووقع‬
‫والدي على الشرط ا‪٣‬باص اب‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية‪.‬‬

‫كنا أربعة من الطلبة ا‪٤‬بقبولْب على ىذا الشرط فنقلنا إذل‬


‫اإلسكندرية يرافقنا موظف من النظارة‪ ،‬وكاف الباقي على العاـ الدراسي‬
‫شهرين‪ ،‬فلم نتعلم شيئاً‪ ،‬ورسبنا ُب االمتحاف وكرران الدراسة ابلسنة‬
‫األوذل ُب العاـ الدراسي ا‪١‬بديد‪ .‬واستمرت ُب ىذه ا‪٤‬بدرسة ثبلثة أعواـ‬
‫ووصلت إذل السنة الثالثة‪ ،‬وفوجئنا ُب أوؿ العاـ الدراسي بنظاـ جديد‬
‫يقضي ٔبعل التعليم الثانوي يتم ُب ثبلثة أعواـ فقط‪ ،‬فاجتمعنا ابلذين‬
‫نقلوا إذل السنة الرابعة وابلذين رسبوا ُب البكالوراي‪ ،‬فصار ‪٦‬بموع الطلبة‬
‫ُب الفصل اثِب عشر طالباً‪.‬‬

‫والذي بقى ُب ذاكرٌب من آاثر الزمن الذي قضيتو ُب رأس التْب‬


‫أنِب كنت رئيس فرقة كرة القدـ‪ ،‬وأف ا‪٤‬برحوـ إ‪٠‬باعيل حسنْب أفندي‬
‫‪75‬‬
‫(ابشا بعد ذلك) كاف انظر ا‪٤‬بدرسة‪ ،‬وكاف يدرس لنا علوـ الرايضة ٍب‬
‫الطبيعة والكيمياء والزلت اذكر أنِب كنت أنفر من حفظ قواعد اللغة‬
‫العربية‪ ،‬أف مدرس ىذه اللغة ا‪٤‬برحوـ إبراىيم أفندي كاف يكرر معاقبٍب‬
‫كلما سألِب الختباري‪ ،‬وتضايقت مرة من أتنيبو فقلت‪" :‬ىو إحنا‬
‫حنشتغل بعد الدراسة بضرب دمحم وقعد زيد "‬

‫وأاثرت وقاحٍب غضب ذلك ا‪٤‬بدرس ا‪٢‬بليم فانتزع النعل من قدمو‬


‫ونزؿ هبا على رأسي وعلى وجهي‪ٍ ،‬ب سجل ا‪٠‬بي ُب ورقة ا‪٤‬بعاقبة وقرر‬
‫العقاب‪" :‬خبز ببل إداـ بقية العاـ"‪.‬‬

‫ونفذ الناظر ىذا العقاب القاسي كنصو‪ ،‬فكنت أقف ُب اهاية‬


‫قاعة ا‪٤‬بائدة وقت تناوؿ الطلبة طعاـ الغداء ويعطي رل رغيف من ا‪٣‬ببز‬
‫أُرغم على أكلو أماـ ا‪١‬بميع ‪ٙ‬بت مراقبة ضابط ا‪٤‬بدرسة‪.‬‬

‫وأذكر أيضاً أنِب كنت عائداً إذل ا‪٤‬بدرسة ُب أوؿ العاـ الدراسي‬
‫الثالث وكاف والداي ُب الفيوـ‪ ،‬فأعطاشل جنيهاً واحداً ألدفع منو أجرة‬
‫السكة ا‪٢‬بديد لئلسكندرية‪ ،‬وألشَبي قميص أفر‪٪‬بي وحذاء‪ ،‬وألنفق من‬
‫الباقي طوؿ الشهر‪ .‬كانت ضآلة مرتب الرجل ٘بعلو عاجزاً عن اإلنفاؽ‬
‫على واستكماؿ حاجاٌب الضرورية‪ ،‬فقضيت طوؿ زمن الدراسة ُب عسر‬
‫وضيق‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫وطلبت إذل ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية بعد إ‪ٛ‬باـ الدراسة الثانوية على تلك‬
‫الصورة‪ ،‬و‪٪‬بحت ُب الكشف الطيب‪ ،‬وأ‪٢‬بقت اب‪٤‬بدرسة‪ ،‬فخلعت‬
‫مبلبسي ا‪٤‬بدنية وارتديت ثوب جندي عادي‪.‬‬

‫ولكن نظاـ اؼبدرسة ُب ذلك الزمن يقضي حبجز الطلبة‬


‫اؼبقبولْب شهراً كامبلً‪ ،‬ويقضي ذلك النظاـ القراقوشي بوضع ىؤالء‬
‫الطلبة ربت ضغط ٍ‬
‫عاؿ جداً لتعويدى الطاعة العمياء واالستكانة‬
‫للذؿ وفقداف الشعور ابلكرامة‪ ،‬ومن الوسائل الٍب يدربوف هبا ضباط‬
‫اؼبستقبل وضعه ربت إمرة صف ضباط من الطلبة ُب السنة النهائية‬
‫يتوىل تعذيبه بشٌب ألواف العذاب واإلىانة‪ ،‬ويعلمه بعد العشاء ُب‬
‫أحد الفصوؿ واجبات الطالب ُب اؼبدرسة‪.‬‬

‫نؤمر فتقف بعد تناوؿ طعاـ العشاء صفْب ُب وضع انتباه (زاهار‬
‫ُب ذلك ا‪٢‬بْب) ونبقى ُب ىذا الوضع ساعة أو بعض الساعة لغّب سبب‬
‫سوى التعذيب‪ ،‬والويل ‪٤‬بن يتململ عند شعوره ابلتعب‪ ،‬فإذا دخلنا‬
‫الفصل لبلستماع لدروس الواجبات مػن الػمػعػلم الػمػختار (صف ضباط)‬
‫نسمع منو أقذر عبارات الشتم والسب وا‪٤‬بعايرة و‪٫‬بن ُب صمت‬
‫األصناـ‪.‬‬

‫وكاف من ا‪٤‬بفروض على الطالب ا‪١‬بديد عدـ االختبلط بطلبة‬


‫ا‪٤‬بدرسة إطبلقاً‪ ،‬حٌب األخ ال يسمح لو ابلتحدث مع أخيو‪ ،‬فإذا‬
‫‪77‬‬
‫خولف ىذا األمر تكوف العقوبة قاسية ومن نوع األدب الذي نسمعو‬
‫من معلمنا ا‪٤‬بهذب مدرس الواجبات‪.‬‬

‫وأدركت بسهولة أف طلبة ا‪٤‬بدرسة ال يفهموف العلوـ الٍب تدرس‬


‫‪٥‬بم ألاهم ُب ا‪٤‬بعرفة دوف ا‪٢‬باصلْب على الشهادة االبتدائية‪ ،‬وألف من‬
‫العلوـ الٍب تدرس الطبوغرافيا واالستحكامات وا‪٥‬بندسة وا‪١‬برب‪ ،‬فكانوا‬
‫ٯبلسوف ُب الفصوؿ كاألصناـ ويكتفوف من التحصيل ٕبفظ ما يفرض‬
‫عليهم من النظم والقوانْب العسكرية‪ .‬وتدوـ ىذه ا‪٢‬باؿ حٌب يطلب‬
‫ا‪١‬بيش عدداً من الضباط فَبقيهم ا‪٤‬بدرسة‪ ،‬وقد يكوف ىو الفصل األوؿ‬
‫كلو أو يتمم العدد من الفصل الثاشل الذي يليو "ُب األقدمية"‪.‬‬

‫وكاف مكتب السردار (القائد العاـ) ومقره ا‪٣‬برطوـ يقذؼ ا‪٤‬بدرسة‬


‫من حْب إذل آخر بطلبة من السوداف يفرض على ا‪٤‬بدرسة فرضا قبو‪٥‬بم‪،‬‬
‫وكلمة "طلبة" بعيدة عن ا‪٢‬بقيقة كل البعد ألف أولئك كانوا جنوداً من‬
‫الفرقة السودانية من نوع‪ :‬بروجي‪ ،‬أو عسكري مراسلة لضابط إ‪٪‬بليزي‬
‫‪ٞ‬بلو الرضا عن سلوكو على الرغبة ُب ‪ٙ‬بسْب حظو وحالتو االجتماعية‪،‬‬
‫والوسيلة ا‪٤‬بفردة لتحقيق ىذه ا‪٤‬بعاونة ىي قذفو على ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية‬
‫ا‪٤‬بصرية مع األمر بقبولو‪.‬‬

‫وخصص ‪٥‬بؤالء ا‪٤‬بقذوفْب لَبقيتهم ضابطاً فصبلف يتعلموف فيها‬


‫القراءة والكتابة والنظم العسكرية‪ ،‬وكانوا على الدواـ من ذوى األخبلؽ‬
‫‪78‬‬
‫ا‪٢‬بسنة والطيبة والوداعة‪ ،‬ألاهم يدركوف أاهم دوف مستوى ا‪١‬بماعة الٍب‬
‫يعيشوف بينها ُب ‪ٝ‬بيع الصفات‪ .‬وكاف ا‪٤‬بفروض على إدارة ا‪٤‬بدرسة ترقية‬
‫أفراد منهم ُب كل مرة ٰبدث الَبقي فيها فّبقوف ابألقدمية وحدىا دوف‬
‫امتحاف‪.‬‬

‫‪79‬‬
80
‫‪11‬‬
‫كنا نستيقظ قبل إشراؽ الشمس ابألمر يوجو إذل ا‪١‬بميع بواسطة‬
‫النفّب‪ ،‬فيثب الطالب من الفراش إذل السرير يرتبو بعناية ودقة‪ٍ ،‬ب إذل‬
‫السبلح فيتم فحصو ٍب إذل سرير صف ضابط "رئيس البلوؾ" فيؤدي لو‬
‫التحية ويقوؿ‪:‬‬

‫"سباـ ي أفندـ"‬

‫أو‪" :‬ينقص كذا من مهماٌب"‪.‬‬

‫ويهبط مسرعاً إذل الطابق األرضي حيث ا‪٤‬باء ودورة ا‪٤‬بياه‪ ،‬ودل‬
‫يكن ىناؾ لبلغتساؿ سوى صنبور واحد ليغسل منو ‪ 200‬طالب‬
‫وجوىهم وأقدامهم ُب وقت واحد ال يزيد عن دقائق قليلة‪ ،‬فكانت‬
‫الضرورة تلجئ الشطر األكرب من الطلبة إذل التخلي عن غسل الوجو‬
‫والقدمْب‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫ويعود الطالب من دورة ا‪٤‬بياه إذل عنرب النوـ لّبتدي ثيابو وليتقلد‬
‫سبلحو ٍب ٯبرى جراي إذل ميداف ا‪٤‬بدرسة ُب الفناء إطاعة ألمر النفّب‪،‬‬
‫فتصطف الصفوؼ ُب كتيبتْب "بلوكْب" يتوذل قيادة كل كتيبة ضابط‬
‫برتبة مبلزـ أوؿ من ا‪١‬بيش ويتوذل القيادة العامة قومنداف ا‪٤‬بدرسة راكباً‬
‫جواده‪ ،‬ودل يكن للمدرسة ا‪٢‬بربية ُب ذلك العهد قومنداف إ٭با انئب‬
‫قومنداف برتبة صاغ‪ ،‬فيصدر األمر اب‪٤‬بسّب فتخرج قوة ا‪٤‬بدرسة إذل ميداف‬
‫الرصدخانة للتدريب ُب طابور الصباح‪.‬‬

‫وينتهي ىذا الطابور ُب الساعة الثامنة صباحاً ويعود الطلبة إذل‬


‫ا‪٤‬بدرسة ويصعدوف إذل عنابر النوـ لَبؾ السبلح ُب ا‪٤‬بكاف ا‪٣‬باص بو‪ٍ ،‬ب‬
‫ينزلوف إذل غرفة الطعاـ لتناوؿ طعاـ الفطور‪ ،‬وىو على الدواـ رغيف من‬
‫ا‪٣‬ببز وزنو ‪100‬درىم‪ٍ ،‬ب إانء بو شربة عدس يوزع على عشرة تبلميذ‬
‫على قلة ما فيو‪.‬‬

‫وأيٌب ا‪٣‬بدـ ٰبملوف على رؤوسهم "طبايل"(‪ )13‬عليها أكواب من‬


‫القهوة ا‪٤‬بخلوطة ابللنب‪ ،‬فيثب ذو ا‪١‬برأة إذل األقداح وثباً سريعاً ويتناوؿ‬
‫الطالب بيده أو بيديو ما يستطيع خطفو من ىذه األقداح‪ٍ ،‬ب يسرع إذل‬
‫مكاف بعيد ليشربو ىنيئاً‪ ،‬أما ذوو التأدب وا‪٢‬بياء فبل ينالوف شيئاً‪ .‬وُب‬

‫(‪ )13‬صبع "طبلية"‪ ،‬وىو لفظ مصري دارج يطلق على منضدة خشبية ‪-‬‬
‫غالباً مستديرة ‪ -‬منخفضة االرتفاع تستخدـ لتناوؿ الطعاـ‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫الساعة التاسعة ينادى النفّب ليذىبوا إذل الفصوؿ للدراسة‪ ،‬وتذىب فرؽ‬
‫أخرى إذل طابور الرايضة البدنية ُب مكاف خاص خارج ا‪٤‬بدرسة ‪٤‬بدة‬
‫ساعة‪ٍ ،‬ب تعود لتلقي الدروس ُب الفصوؿ إذل الظهر‪.‬‬

‫دل يكن عدس الصباح يكفي لتعذية طالب ُب طور الشباب‬


‫والفتوة يقضي طوؿ النهار ُب بذؿ ‪٦‬بهودات بدنية ُب التدريب‬
‫العسكري‪ ،‬أو ُب التدريب الرايضي‪ ،‬أو ُب تعلُّم "عل االستحكامات‬
‫العسكرية"(‪ )14‬على الطبيعة‪ ،‬ويقتضي التدريب العملي حفر خندؽ‬
‫وعمل واقيات من أكياس ‪ٛ‬بؤل ابلَباب‪ ،‬وما يشبو ىذا من شٌب‬
‫األعماؿ‪ ،‬إذف كاف ا‪١‬بوع يفرض على الطالب استكماؿ حاجتو من‬
‫الغذاء ابلفوؿ ا‪٤‬بدمس‪.‬‬

‫وىذه ا‪٢‬باجة حاضرة على الدواـ‪ ،‬ألف "خالٍب شفا" العجوز‬


‫الضريرة ٘بلس ُب ردىة إذل جانب غرفة الطعاـ وأمامها قػدر الفوؿ‬
‫الساخػن‪ ،‬وإلػى جانػبها ابنػتها الصػبية "صديقة" وإانء ‪٩‬بلوء ابلسمن‬
‫السائل ذي ا‪١‬باذبية القوية‪ٰ ،‬بمل الطالب إانء وٯبرى إذل "خالٍب شفا"‬
‫فيغرؼ من بطن القدر مغرفة واحدة من الفوؿ‪ ،‬و‪ٛ‬بؤل صديقة ا‪٢‬بسناء‬
‫مكياالً صغّباً من السمن تصبو على الفوؿ‪ ،‬وترش عليو ا‪٤‬بلح ُب نظاـ‬
‫وسرعة‪ ،‬ويدفع الطالب ثبلثْب قرشاً ُب اهاية كل شهر لبائعة الفوؿ سواء‬

‫(‪ )14‬التحصينات العسكرية‬


‫‪83‬‬
‫استوُب حقو من ىذا الغذاء أـ تعطل عن ا‪٢‬بصوؿ عليو ألي سبب‪ ،‬ألف‬
‫خالٍب شفا وابنتها ليست ‪٥‬بما دفاتر لقيد ا‪٢‬بساب ‪..‬‬

‫والذي ‪٠‬بعتو عن اتريخ "خالٍب شفا" أاها تولت ىذه التجارة‬


‫الرإبة ُب ا‪٤‬بدارس ا‪٢‬بربية زماانً طويبلً يزيد عن نصف قرف يثبت ىذا أنِب‬
‫رأيت ماىر ابشا (والد علي ماىر ابشا(‪ ،))15‬وكاف حينذاؾ ‪٧‬بافظ‬
‫مصر‪ ،‬يقف ُب الطريق مرة أثناء رايضتو وٰبنو على "خالٍب شفا"‬
‫ويتحدث إليها‪ ،‬و‪٠‬بعتو يقوؿ ‪٥‬با‪" :‬أنت لك فضل علينا كلنا ‪...‬‬
‫علفتينا وكبن شباف" ‪...‬‬

‫وتركت شفا بعد موهتا (ُب غّب زمِب) ثروة كبّبة البنتها صديقة‬
‫ا‪٢‬بسناء‪ ،‬و‪٠‬بعت أف ىذه الثروة عاونت الفتاة على االقَباف بضابط كبّب‬
‫من الذين "سبر فيه العيش واؼبلح"‪.‬‬

‫وطعاـ الغذاء دل يكن كافياً أيضاً فيزيد عليو الطالب من "كانتْب"‬


‫ا‪٤‬بدرسة السلطة لتعاونو على بلع ما يتناولو من اللحم‪ ،‬إذا صح أف‬
‫تسمى تلك ا‪٤‬بادة ا‪٤‬بتصلبة ‪٢‬بماً‪ ،‬وٱبتم الطعاـ (ابلزابدي) أو ٕبلوى‬
‫الطحينية يفتتها على الرز ا‪٤‬بسلوؽ ليستطيع تناولو ‪ ..‬و‪ٜ‬بن ىذه الزايدات‬
‫البلزمة لكل طالب تقتضي منو دفع ‪ 30‬قرشاً ُب كل شهر للكانتْب إذا‬
‫دل يشرب الدخاف أو يستهلك فاكهة أو حلوى أو شيئاً ‪٩‬با يسيل لو‬

‫(‪ )15‬أحد كبار السياسيْب اؼبصريْب قبل ‪ ،1952‬توىل رائسة الوزارة‪.‬‬


‫‪84‬‬
‫لعاب احملروـ ا‪١‬بائع‪ .‬وتنظيف السبلح ال يتم إال ابلقماش والزيت وحجر‬
‫طػَفلي ٍب بورنيش أسود لدىن ا‪١‬بلد‪ ،‬حاجات ضرورية أكثر لزوماً‬
‫للطالب ُب ذلك الزمن من الضرورايت الستكماؿ النقص ُب الغذاء‪.‬‬

‫ومن ىذا الوصف ندرؾ أف حياة الطالب كانت تستدعي أف‬


‫يتوفر لو ُب الشهر جنيو واحد على األقل للنفقات الضرورية ‪٢‬بياتو‬
‫داخل ا‪٤‬بدرسة فقط‪ ،‬بدوف احملاسبة على ا‪٢‬باجات األخرى البلزمة من‬
‫الثياب الداخلية أو نفقات الَبيض يوـ ا‪١‬بمعة يوـ العطلة‪.‬‬

‫كنت ‪٧‬بروماً من ‪ٝ‬بيع ىذه النفقات الضرورية عدا ‪ٟ‬بسْب قرشاً‬


‫كاف يرسلها رل والدي ُب أوؿ كل شهر‪ ،‬ولست أدري كيف قضيت‬
‫أايمي ُب ا‪٤‬بدرسة بدوف ا‪٢‬بصوؿ على ألزـ اللزوميات‪ ،‬إ٭با ‪ٝ‬بلة الذي‬
‫أذكره أنِب دل أابرح ا‪٤‬بدرسة إطبلقاً ُب أايـ العطلة األسبوعية بسبب عدـ‬
‫وجود نقود معي حٌب وال مبلليم لركوب الَباـ بنصف األجرة ‪ ...‬أما‬
‫عطلة األعياد فكانت مرتْب ُب العيدين‪ ،‬قضيت واحدة منها عند والدي‬
‫بسنورس (فيوـ)‪ ،‬والثانية (مرغماً) ُب منزؿ آؿ حبشية أوالد عمٍب‬
‫ابلقاىرة‪ ،‬لعدـ حصورل على أجرة السفر للفيوـ(‪.)16‬‬

‫(‪ )16‬الفيوـ ؿبافظة مصرية تقع غرب النيل‪ُ ،‬ب منخفض وبمل اظبها ُب‬
‫منطقة مصر الوسطى (حوايل ستْب كيلو مَبا جنوب القاىرة)‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫وكنت الطالب ا‪٤‬بفرد الذي يعود للمدرسة بدوف ما يزوده بو أىلو‬
‫من أنواع الطعاـ الشهي‪ .‬كاف الفقر من األسباب الٍب ‪ٞ‬بلتِب على‬
‫اعتزاؿ زمبلئي حٌب ال يشعروا ٗبا كنت فيو من ا‪٢‬برماف والعوز الشديد‪،‬‬
‫وكنت أراتح ‪٤‬بعاشرة طالب واحد ا‪٠‬بو (فريد فهمي) مسيحي ابن‬
‫قسيس كنيسة حارة السقايْب ابلقرب من حي عابدين ابلقاىرة‪ٍ ،‬ب ترؾ‬
‫حياة ا‪١‬بندية بعد وفاة والده ليحل مكانو قسيساً ُب تلك الكنيسة‪،‬‬
‫وسيكوف لو معي شأف ىاـ ُب األعواـ اآلتية بتأثّب ىذه الزمالة ُب نفسو‬
‫الطيبة‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫‪12‬‬
‫زمن الدراسة ُب ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية كاف حافبلً ٕبوادث متنوعة‪ ،‬منها‬
‫أف إدارة ا‪٤‬بدرسة كانت لناظرىا ا‪٤‬برحوـ إ‪٠‬باعيل سرىنك ابشا ورتبتو‬
‫(أمّب ٕبر)‪ ،‬ولكنِب طوؿ العاـ الدراسي دل أره ُب ا‪٤‬بدرسة سوى مرة‬
‫واحدة‪ ،‬رأيتو واقفاً على الرصيف الداخلي يشاىد الطلبة يلعبوف ُب‬
‫الفناء الفسيح الواقع وسط بناء ا‪٤‬بدرسة‪ ،‬ودل يزر ا‪٤‬بدرسة ُب ذلك العاـ‬
‫إال ىذه ا‪٤‬برة ا‪٣‬باطفة‪.‬‬

‫وكانت القيادة العسكرية والرايسة اإلدارية للمرحوـ الصاغ ‪٧‬بمود‬


‫صدقي‪ ،‬وكاف جنداي اب‪٤‬بعُب التاـ‪ ،‬ومعلما للفنوف العسكرية يدؿ تدريبو‬
‫على معرفة واطبلع وعلى قدرة على التجديد واالبتكار‪ ،‬وكاف ُب عملو‬
‫اإلداري مربياً أكثر من آلة لتنفيذ حرفية النظم العسكرية ونصوص‬
‫القانوف‪ ،‬وكانت أحكامو للتأديب ال للقسوة ُب ا‪٤‬بعاقبة‪ ،‬وكاف اهجو‬
‫قائما على الرغبة ُب استبقاء دوسيو الطالب نظيفاً خالياً من حصر‬
‫األخطاء والعقوابت لّبسل معو إذل ا‪١‬بيش عند الَبقي‪ ،‬أما الواقع فإف‬
‫‪87‬‬
‫لكل طالب دوسيهاً ‪٧‬بلياً ‪ٙ‬بصى فيو ا‪٤‬بخالفات والعقوابت الٍب نفذت‬
‫فيو بشدة أثناء الدراسة‪.‬‬

‫كاف لبعض كبار السن من الطلبة عادات سيئة‪ ،‬منها تناوؿ‬


‫"اؼبنزوؿ" ُب ا‪٤‬بدرسة بعد االنتهاء من العمل النهاري ومنها اإلسراع إذل‬
‫دور ا‪٤‬ببلىي ا‪٤‬ببتذلة ُب ليلة ا‪١‬بمعة حْب ٱبرجوف للمبيت خارج ا‪٤‬بدرسة‪،‬‬
‫وحدث مرات أف انئب القومنداف فتش بعض ا‪٤‬بشتبو ُب سلوكهم وعثر‬
‫معهم على علب صغّبة من العاج أو ا‪٤‬بعدف ‪٩‬بتثلة بػ "اؼبنزوؿ"‪ ،‬وىو‬
‫عجينة مطبوخة هبا ‪٨‬بدرات من ا‪٢‬بشيش‪ ،‬وقد عوقب كل ىؤالء الطلبة‬
‫ابلعقاب الرادع‪ ،‬ولكن الرجل الطيب القلب كاف يودع تلك العلب ُب‬
‫خزانة ا‪٤‬بدرسة وعلى كل علبة اسم صاحبها لّبدىا إليو يوـ ترقيتو كتذكار‬
‫لسلوكو ا‪٤‬بنتقد‪.‬‬

‫ووصف نصيب طلبة ا‪٤‬بدرسة ُب ذلك العهد‪ ،‬وحظهم من ‪ٙ‬بصيل‬


‫العلوـ ُب الدراسة‪ ،‬ٯبعل الضابط ُب مثل معلومات أي (ضابط صف)‬
‫ال أكثر‪ ،‬تبلغ غاية قدرتو قيادة كتيبة (بلوؾ ‪ 100‬جندي) يستطيع‬
‫‪ٙ‬بريكها وتوجيهها وتشكيلها إذل صفوؼ‪ ،‬ونشرىا و‪ٝ‬بعها‪ٍ ،‬ب يقف‬
‫عاجزاً فيما يزيد عن ىذا القدر من القيادة‪ ،‬وعلى ىذه الصورة من‬
‫نقص التعليم واإلضعاؼ كانت ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية تكوف ضباط ا‪١‬بيش‪،‬‬
‫ليبقى ‪ٙ‬بت قيادة ضباط إ‪٪‬بليز على الدواـ‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫و‪٩‬با أذكره من ا‪٢‬بوادث ا‪٤‬بتفرقة‪ ،‬أنِب كنت ُب صباح أحد األايـ‬
‫حارساً (ديده ابف) واقفاً أماـ ابب القرقوؿ ُب اهاية مدخل ا‪٤‬بدرسة‪،‬‬
‫وإذل جانيب خزانة ا‪٤‬بدرسة وعليها ا‪٤‬براسبلت الٍب جاء هبا الساعي من‬
‫مكتب الربيد‪ ،‬لتحمل إذل مكتب القومنداف بعد حضوره إذل مكتبو‬
‫عقب االنتهاء من تدريب الصباح‪.‬‬

‫وكاف الطلبة ُب ا‪٤‬بكاتب يتلقوف دروسهم ودخل ا‪٤‬برحوـ ‪٧‬بمود‬


‫أفندي صدقي انئب القومنداف فأديت لو التحية العسكرية‪ ،‬فمشى‬
‫خطوات على رصيف ا‪٤‬ببُب ٍب عاد إذل ا‪٣‬بزانة وفحص الوارد من رسائل‬
‫الربيد‪ ،‬واختار من بينها كتاابً مرسبلً إذل طالب أكتفي للداللة عليو ىنا‬
‫ٕبرؼ (ى)‪ ،‬لفت نظره غبلؼ الكتاب ألنو لوف وردي وعليو زىور‬
‫مطبوعة ابأللواف‪ٍ ،‬ب رفع الكتاب غلى أنفو ومشو وابتسم‪.‬‬

‫وفض ُب ىدوء غبلؼ الكتاب ووقف على حافة الرصيف‬


‫يفحص ما بيده‪ ،‬فأخرج من الغبلؼ الوردي آخر لو لوف أصفر فاقع‪ٍ ،‬ب‬
‫اثلث لو لوف أزرؽ ابىت‪ٍ ،‬ب الكتاب نفسو‪ ،‬كاف على رأسو رسم مبلؾ‬
‫ابأللواف الزاىية‪ ،‬وإذل جانبو خصلة صغّبة من شعر امرأة تنتشر منها‬
‫رائحة عطر‪ ،‬و‪٤‬با انتهى من قراءة الكتاب أمرشل ابلنداء على قوة القره‬
‫قوؿ للحضور ‪ٙ‬بت السبلح‪ ،‬ففعلت وأمر الربوجي (النافخ ُب النفّب)‬
‫ابستدعاء كل قوة ا‪٤‬بدرسة ابلسبلح ففعل‪ ،‬فحدثت ضجة عالية‬

‫‪89‬‬
‫واضطراب ُب مكاتب ا‪٤‬بدرسة‪ ،‬والطلبة يَبكواها سراعاً إذل العنابر ‪٢‬بمل‬
‫السبلح والنزوؿ جراي إذل ميداف ا‪٤‬بدرسة الداخلي‪.‬‬

‫اكتملت القوة ُب نظاـ‪ ،‬وشكلها القومنداف بشكل قلعة وجوه‬


‫الطلبة إذل الداخل‪ٍ ،‬ب أمر رئيس ا‪٢‬برس بنزع سبلحي وإحضاري إذل‬
‫وسط القلعة بْب حارسْب ابلسبلح‪ .‬فنفذ األمر‪ ،‬وتوسط القومنداف‬
‫القلعة وجعل ينتزع من غبلؼ ا‪٣‬بطاب ما بداخلو من الغبلفات ا‪٤‬بلونة‬
‫واحداً بعد اآلخر ببطيء وىو يقوؿ‪" :‬وردي ‪ ..‬لبِب ‪ ..‬برتقايل ‪"..‬‬

‫ٍب أخرج الكتاب ومر بو على الصفوؼ وىو يقوؿ‪" :‬خصلة من‬
‫الشعر ‪ ..‬يعِب تذكار منتزع من الرأس ‪ ...‬ومرسلة اػبطاب ؽبا صورة‬
‫مبلؾ ألصقتها عليو ‪."..‬‬

‫ٍب عاد إذل موقفو األوؿ وجعل يقرأ بصوت مرتفع نص الكتاب‪،‬‬
‫وكل ما فيو عبارات غراـ مشتعل ووعود اب‪٢‬بب ا‪١‬بارؼ‪ٍ .‬ب رفع يده‬
‫ابلكتاب وصاح ُب الطلبة‪" :‬من منك لو امرأة شعرىا أسود‪ ،‬وصورهتا‬
‫مثل ىذا اؼببلؾ‪ ،‬وبلغ هبا الغراـ إىل درجة الغلياف "‬

‫وسكت برىة قصّبة‪ٍ ،‬ب صاح بصوت يدؿ على الغضب‬


‫والتهديد‪" :‬الذي أرسل إليو ىذا اػبطاب‪ ،‬ىبرج من الصف خطوتْب‬
‫إىل األماـ"‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫فخرج الطالب (ي) وخطا ا‪٣‬بطوتْب ووقف‪ ،‬فتحولت إليو ‪ٝ‬بيع‬
‫األنظار فنالو من القومنداف نصيب كبّب من التوبيخ والتقريع‪ٍ ،‬ب طلب‬
‫إليو أف يتوب‪ ،‬ولقنو العبارة الٍب يعلن هبا توبتو‪ٍ ،‬ب ألقى على الطلبة‬
‫عظات ونصائح‪.‬‬

‫أما أان فكاف اللوـ موجها إذل ألف ا‪٣‬بطاب جاء بو فراش من‬
‫ا‪٤‬بدرسة ووضعو إذل جانيب فوؽ ا‪٣‬بزانة ليسلم للمرسل إليو‪ ،‬وخطئي أنِب‬
‫دل أتنبو لو أنو خطاب غراـ "ؿبرـ"‪ ،‬ودل أشم رائحة العطر‪ ،‬فلم أحجز‬
‫ا‪٣‬بطاب ليسلم للقومنداف‪.‬‬

‫و‪١‬بوء القومنداف إذل ىذه الوسيلة‪ ،‬للمعاقبة وإلرساؿ النصائح‪،‬‬


‫جعل للراقصة صاحبة ىذا الكتاب شهرة بْب شباف ‪٥‬بم فتوة و‪٥‬بم غريزة‬
‫حيوانية‪ ،‬و‪٥‬بم أقصى حدود االشتهاء‪ ،‬وبلغ الراقصة طبعاً نبأ ما حدث‬
‫من اإلعبلف عنها‪ ،‬وشق عليها أف يتعمد القومنداف بنصائحو وعظاتو‬
‫منع صديقها من الذىاب إليها‪ ،‬فأصرت على معارضتو ٔبر ‪ٝ‬بيع الطلبة‬
‫إذل بيتها‪.‬‬

‫كانت ‪ٙ‬بضر ُب الصباح ُب عربة مكشوفة‪ ،‬تقف عند ا‪٤‬بزلقاف‬


‫الذي يقطع شريط السكة ا‪٢‬بديد‪ ،‬وٲبكن منو الذىاب إذل ميداف‬
‫الرصدخانة‪ ،‬فيمر هبا طابور ا‪٤‬بدرسة أثناء العودة من تدريب الصباح‪،‬‬

‫‪91‬‬
‫و‪ٙ‬بملق فيها ‪ٝ‬بيع عيوف جيش الشباب ا‪٤‬بلتهبْب‪ٍ ،‬ب تصّب حديث‬
‫ا‪١‬بميع وقت اإلفطار‪.‬‬

‫وتنتقل الراقصة (ف) إذل الساحة ا‪٤‬بخصصة لؤللعاب الرايضية و‪٥‬با‬


‫سور من الطوب النيئ يبلغ ارتفاعو مَباً فقط‪ ،‬فتقف بعربتها خارج‬
‫السور تشاىد تدريب الفرقة الٍب عليها النوبة ُب األلعاب‪ ،‬فتخيل عقوؿ‬
‫الشباف‪ ،‬وتنشط رغباهتم إذل حد الشوؽ والتمِب‪ ،‬فيبذؿ كل منهم جهده‬
‫ليظهر نشاطو ومقدرتو أمامها‪ ،‬و‪٪‬بحت حيلة ا‪٤‬برأة فجذبت إذل دارىا‬
‫‪ٝ‬بيع طلبة ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية ما عدا السودانيْب‪ ،‬وعدا مصري واحد‪ .‬ىو‬
‫أان ‪ ..‬دل يكن الباعث الذي عطلِب على االشتهاء والطلب ىو ا‪٤‬بناعة‬
‫ا‪٣‬بلقية‪ ،‬أو التعفف بسبب التحصن ابألدب‪ ،‬إ٭با كاف الباعث األساسي‬
‫ا‪٤‬بفرد ىو‪ :‬الفقر‪.‬‬

‫كاف مرتيب الشهري من والدي ‪ 50‬قرشاً‪ ،‬وىي نصف النفقات‬


‫الضرورية البلزمة للطالب‪ ،‬فلم اعرؼ يوما ما أف ُب جييب أجرة الَباـ‬
‫للقصد إذل ا‪٤‬بدينة للتنزه‪ ،‬فما ابرل بنفقات سهرة مسرفة القاسية على‬
‫ا‪١‬بيوب! ‪...‬‬

‫كاف عند الست (ف) بياف أب‪٠‬باء الطلبة‪ ،‬وكانت تشطب منو‬
‫اسم كل من يسقط ُب شركها حٌب أتت على ا‪١‬بميع عداي أان‪ ،‬فشق‬
‫عليها أف ينجو طالب واحد من العقاب الذي فرضتو على القومنداف‪،‬‬
‫‪92‬‬
‫وسألت عِب كثّباً من الذين كرروا زايرهتا‪ ،‬فعرفت منهم حارل‪ ،‬فحاولت‬
‫جري إذل دارىا ابلتضحية‪.‬‬
‫ّ‬
‫وجدت ُب أحد األايـ أنِب استدعيت ‪٤‬بقابلة خادـ (عبد) طلب‬
‫مقابلٍب خارج ابب ا‪٤‬بدرسة فنوديت‪ ،‬وخرجت من الباب ووقفت ‪ٙ‬بت‬
‫أوؿ انفذة وكانت مقفلة وىي ُب غرفة نوـ ضابط الكتيبة‪ ،‬وتقدـ ا‪٣‬بادـ‬
‫حٌب اقَبب مِب‪ ،‬وذكر رل أنو موفد من الراقصة الست (ف) تدعوشل‬
‫‪٤‬بقابلتها ُب القهوة الٍب تعمل هبا ُب الساعة التاسعة مساء يوـ ا‪٣‬بميس‪،‬‬
‫فاعتذرت عن قبوؿ الدعوة‪ ،‬فقاؿ‪" :‬الست عارفة إنك حتعتذر‪،‬‬
‫وأمرتِب أف أؤكد لك أنك لن تنفق شيئاً إطبلقاً ال ُب القهوة وال ُب‬
‫البيت وأف الدعوة عزومة"‪.‬‬

‫فلم أجد مربراً لبلعتذار ووعدت ابلذىاب إذل ا‪٤‬بوعد‪.‬‬

‫وجاء يوـ ا‪٣‬بميس‪ ،‬وكادت تنتهي ا‪٢‬بصة األخّبة من حصص‬


‫الدروس‪ ،‬وكاف ضابط الكتيبة الثانية (ع‪ .‬ز) ىو ا‪٤‬بدرس‪ ،‬فخصص‬
‫ا‪١‬بزء األخّب من الوقت لفكاىات ونكات‪ ،‬وأعجبت بنكتة فضحكت‬
‫قهقهة كباقي زمبلئي وظهر الغضب على حضرة الضابط‪ ،‬وأعلن‬
‫سخطو من سوء أديب‪ ،‬وأصدر أمره ٕببسي يومي ا‪٣‬بميس وا‪١‬بمعة ‪...‬‬

‫‪93‬‬
‫طار صوايب ألنِب دل أعاقب إطبلقاً طوؿ مدة الدراسة‪ ،‬وألنِب‬
‫أ‪ٙ‬برؽ شوقاً إذل الراقصة (ف) وحبسي ُب ا‪٤‬بدرسة ليلة ا‪١‬بمعة ٰبرمِب من‬
‫التمتع الذي دعيت لو‪ ،‬فعمدت إذل ا‪٤‬ببلينة والتذلل لطلب الصفح عِب‬
‫فرفض رجائي وتنفذت العقوبة‪ ،‬فقضيت ليلة ا‪١‬بمعة أتلوى على فراشي‬
‫من األدل ومن السخط على الضابط‪ ،‬وامتؤل صدري حفيظة وغبلً وحنقاً‬
‫عليو‪.‬‬

‫واستيقظ حضرة الضابط من نومو ُب ضحى يوـ ا‪١‬بمعة‪،‬‬


‫واستدعاشل ‪٤‬بقابلتو فلما مثلت أمامو صارحِب ابلسبب الذي ‪ٞ‬بلو على‬
‫حبسي ُب ا‪٤‬بدرسة ليلة ا‪١‬بمعة‪ ،‬كاف حضرتو واقفا خلف النافذة ا‪٤‬بردودة‬
‫ٰبلق ذقنو حْب كاف خادـ الراقصة يدعوشل ‪٤‬بقابلة موالتو ويؤكد أف‬
‫العزومة ال تكلفِب شيئا وقاؿ رل‪" :‬ىب أنك لن تدفع شبن اػبمر وال‬
‫أجرة اؼببيت‪ ،‬ولكنك طبعاً ستدفع بتأثّب اػبجل أجرة العربة‬
‫وبقشيش اػبادـ ُب الصباح يعِب ريػاؿ على األقل‪ ،‬وىذا اؼببلغ‬
‫نصف ما يرسل إليك ُب كل شهر‪ ،‬فتحرـ من ألزـ اللزوميات من‬
‫حاجاتك‪ ،‬وؽبذا حبستك ألوفر عليك الريؿ واغبرماف"‪.‬‬

‫ظن أنو أرضاشل هبذه ا‪٤‬بصارحة‪ ،‬ولكن نصائحو دل تصل إذل أذشل‪،‬‬
‫وبقي ُب ذىِب أنو تعمد حبسي بدوف فكاف سبباً ُب حرماشل من مبلذ‬
‫شٌب منوعة كنت ‪٧‬بروماً منها على الدواـ‪ .‬واستمرت حفيظٍب وغلِّي‬

‫‪94‬‬
‫شهورا حٌب تعينت يوماً رئيس حرس ا‪٤‬بدرسة األوؿ مرة وكنت فخوراً‬
‫أبنِب صرت رئيس القرقوؿ‪.‬‬

‫و‪ٞ‬بلِب الغرور على حصر تصرفاٌب كلها ُب حدود األوامر‬


‫العسكرية وتنفيذىا حرفياً‪ ،‬وىذه الشدة تنفر الطلبة أفراد ا‪٢‬برس زمبلئي‬
‫ُب ذلك اليوـ‪ ،‬ولكن أحداً من الطلبة ضباط الصف ال يعِب بشعور‬
‫زمبلئو أو برأيهم فيو‪ ،‬إ٭با تتجو عنايتو إذل التشدد ُب تنفيذ األوامر تنفيذاً‬
‫دقيقاً‪ ،‬وكانوا يهونوف على أنفسهم احتماؿ ىذه القسوة بتكرار ا‪٤‬بثل‬
‫العامي‪" :‬الغرابؿ اعبديد لو شدة"‪ ،‬و"ربنا وبمينا من ؿبدث النعمة"‪.‬‬

‫ُب الساعة الثامنة من مساء ىذا اليوـ استدعيت ‪٤‬بقابلة حضرة‬


‫الضابط وكانت نوبتو ُب ا‪٣‬بدمة مع ا‪٢‬برس (ضابط النوبة للمدرسة)‬
‫وجدت حضرتو عند ابب ا‪٤‬بدرسة يرتدي ثوابً عسكرايً من ا‪١‬بوخ األزرؽ‬
‫لو شريط أبيض عريض على ا‪١‬بانب الظاىري من كل ساؽ‪ ،‬وعلى يده‬
‫معطف الشتاء‪ .‬أديت لو التحية فقاؿ رل إنو سيجلس على القهوة‬
‫اجملاورة للمدرسة إذل الساعة التاسعة‪ٍ ،‬ب يذىب إذل قهوة شفيقة القبطية‬
‫ويبقى هبا إذل آخر السهرة‪ ،‬فإذا حدث حادث ُب ا‪٤‬بدرسة يستدعى‬
‫حضوره أرسل لو الربوجي (انفخ النفّب) جرجس ابلبسكليت ألستدعيو‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫كنا نؤدي ىذه ا‪٣‬بدمة بثيابنا كاملة وعليها ا‪٤‬بعطف أيضاً بسبب‬
‫الربد‪ ،‬وكاف ا‪٢‬بارس يوقظِب كل ساعتْب ألتوذل عملية إبدالو ابلذي عليو‬
‫الدور‪.‬‬

‫والذين خدموا ُب اعبندية يعلموف أف أقسى ساعات السهر‬


‫للحارس ىي الوقت من الساعة الثانية إىل الرابعة صباحا‪ ،‬وقوة‬
‫الشباب‪ ،‬واحتماؿ العناء طوؿ النهار ُب التدريب ولعب الكرة‬
‫واأللعاب الريضية هبعل جس الشباب الفٌب ُب حاجة ماسة إىل‬
‫النوـ‪ ،‬فإذا حل وقتو يستغرؽ ُب نوـ عميق ال يعرفو اإلنساف ُب‬
‫أطوار الرجولة ويتمناه الذي بلغ الكهولة‪.‬‬

‫٭بت نوماً عميقاً كالعادة ُب كل ليلة‪ ،‬فأيقظِب ا‪٢‬بارس‪ ،‬ونبهِب‬


‫لوجود الضابط على ابب ا‪٤‬بدرسة يطلب الدخوؿ فلم أغالب أتثّب النوـ‬
‫العميق كل ا‪٤‬بغالبة‪ ،‬ولكنِب أخذت ا‪٤‬بفاتيح وا٘بهت إذل الباب‪ ،‬رفعت‬
‫العارضة ا‪٢‬بديدية وأدرت ا‪٤‬بفتاح ُب القفل‪ ،‬وٮبمت بفتح الباب ولكن‬
‫حضرة الضابط كاف متعجبلً‪ ،‬وُب حالة عصبية فدفعِب أان والباب حٌب‬
‫لصقنا اب‪٢‬بائط ودخل ومعو زميل لو يرتدي معطفا "كبود" عليو‬
‫عبلمات ا‪٤‬ببلزـ أوؿ‪.‬‬

‫ورددت الباب وقفلتو وأعدت العارضة ا‪٢‬بديدية إذل مكااها وثبتها‬


‫ابلقفل‪ٍ ،‬ب عدت إذل غرفة ا‪٢‬برس وإذل فراشي ورقدت‪ ،‬فاستغرقت ُب‬
‫‪96‬‬
‫النوـ العميق كالعادة ودل يطل ىذا االستغراؽ الوقت الذي كنت أ‪ٛ‬بناه‬
‫ألشعر ابلشبع من النوـ‪ ،‬ألف ا‪٢‬بارس أيقظِب من جديد وطلب مِب تلبيو‬
‫نداء حضرة الضابط‪ ،‬فنهضت وسرت إليو متذمراً فرأيتو من بعد واقفاً ُب‬
‫ابب غرفتو وإذل جانبو خارج الغرفة زميلو الزائر الذي جاء معو‪ ،‬فأمرشل‬
‫بفتح ابب ا‪٤‬بدرسة ليخرج صديقو‪ .‬انعطفت إذل ا‪٤‬بمر الذي يؤدي إذل‬
‫الباب‪ ،‬وكاف عرضو أقل من مَبين وطولو اكثر من ‪ٜ‬بانية أمتار‪ ،‬وأرضو‬
‫من األسفلت‪ ،‬وكنت ُب ىذه ا‪٤‬برة أسّب وخلفي حضرة الضابط الزائر‪.‬‬

‫اعتادت آذاننا ‪٠‬باع ا‪٣‬بطوات العسكرية ا‪٤‬بنظمة الٍب ألفها رجاؿ‬


‫العسكرية ‪ٝ‬بيعهم‪ ،‬وا‪٤‬بسافة بْب أوؿ ىذا الدىليز وآخره طويلة واألرض‬
‫صلبة (من األسفلت) فسمعت وقع خطوات الضابط عليها‪ ،‬كانت‬
‫خفيفة الصوت غّب منتظمة كأاها نقرات أرجل معزة و‪٤‬با وصلت إذل‬
‫الباب بدأت عملية فتح القفل الذي يثبت العارضة ا‪٢‬بديدية ٍب نزعتها‬
‫من مكااها‪.‬‬

‫وحدثت ىذه ا‪٢‬بركة بشيء من العنف فصدمت يدي صدر‬


‫الضابط ألنو وصل بعدي ووقف قريباً مِب‪ ،‬وقد تولتِب الدىشة مفاجأة‪،‬‬
‫ألف الصدمة كانت قوية ىزت الضابط وأسقطت الطربوش عن رأسو‪،‬‬
‫فتدلت من ىذا الرأس ضفائر امرأة مزحومة بقطع من الذىب‪ ،‬فقالت‬
‫الغانية‪" :‬اسَب علي ‪ ...‬ربنا يسَب عليك" ‪...‬‬

‫‪97‬‬
‫وقلت‪" :‬ليلتك سوده ‪. "...‬‬

‫عرضت احملَبفة طاعتها لكل ما أطلبو‪ ،‬وكل ما ا٘بو إليو غضيب ُب‬
‫تلك اللحظة أف أثبت ‪٢‬بضرة الضابط ا‪١‬بريء ا‪٤‬بغامر أنِب رئيس حرس‬
‫يعرؼ كيف يؤدي واجبو وكيف يعاقبو‪.‬‬

‫أخذت ا‪٤‬برأة ُب ردائها‪ ،‬وأعدت الطربوش إذل رأسها‪ ،‬وغطيتو‬


‫بزنط(‪ )17‬ا‪٤‬بعطف وسقتها إذل غرفة انظر ا‪٤‬بدرسة‪ ،‬وىي الٍب دل يدخلها‬
‫سعادتو طوؿ مدة دراسٍب‪ .‬كانت غرفة مكتب فخم‪ ،‬فَبكت الغانية هبا‪،‬‬
‫ودل أصغ لتوسبلهتا وال لنغمات صوهتا الرقيق ا‪٤‬بثّب‪ .‬وأغلقت الباب‬
‫اب‪٤‬بفتاح‪ ،‬وعدت إذل غرفة ا‪٢‬برس و٭بت إذل الفجر‪.‬‬

‫أيقظ النفّب طلبة ا‪٤‬بدرسة (بنوبة تيقظوا) ووقف ا‪٢‬براس ابلسبلح‪،‬‬


‫وقصدت إذل غرفة نوـ الضابط‪ ،‬وأديت التحية العسكرية كالعادة وبلغتو‬
‫‪ٛ‬باـ ا‪٤‬بدرسة‪ ،‬قلت‪" :‬سباـ ي أفندـ ‪ ..‬واؼبدرسة زائدة واحد"‪.‬‬

‫فقاؿ‪" :‬مْب فيك ولد "‬

‫قلت‪" :‬حضرتك ظهر أف الضابط الذي أدخلتو معك امرأة‬


‫من الراقصات"‪.‬‬

‫فجلس على السرير منزعجاً‪ ،‬وقاؿ‪" :‬والنهاية ‪ ..‬مش خرجت "‬

‫(‪ )17‬الزنط كلمة تطلق على غطاء الرأس اؼبثبت ُب معطف‪.‬‬


‫‪98‬‬
‫قلت‪" :‬ال ‪ ..‬بل حبستها ُب الزنزانة ‪"..‬‬

‫فانتصب الشاب ا‪١‬بريء ُب اضطراب وخرج ٔبلباب النوـ إذل‬


‫غرفة ا‪٢‬برس وفتح بقدمو ابيب احملبسْب فلم ٯبد هبما أحداً‪ ،‬فتحوؿ إذل‬
‫غاضباً وقاؿ‪" :‬إيو اؽبزار الوسخ ده ي أفندي"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬أان ال أمزح فتعاؿ معي ‪"...‬‬

‫أخذتو إذل غرفة الناظر وفتحت الباب فدخل ووقف أماـ ا‪٤‬برأة ُب‬
‫اضطراب وفزع‪ ،‬قلت‪" :‬ستػبقى ىذه الراقصة ؿببوسة ىنا حٌب هبئ‬
‫القومنداف ُب الصباح‪ ،‬وأبلغو اػبرب"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬ىذه جريبة ‪ ..‬وستكوف النتيجة ؿباكمٍب دبجلس‬


‫عسكري وطردي من خدمة اعبيش فهل تقبل إيذائي على ىذه‬
‫الصورة "‪.‬‬

‫زلزلِب ىذا االعَباؼ‪ ،‬وندمت على ما فعلت‪ ،‬وشق على أف يناؿ‬


‫ذلك الضابط أذى بسبيب رغم حنقي عليو‪ ،‬فقلت‪" :‬ىل ىذا اػبطأ‬
‫يعادؿ خطئي إذا ذىبت ؼبقابلة راقصة ُب بيتها بناء على دعوة منها!‬
‫… ولكنِب سأتصرؼ ألمنع األذى عنك"‪.‬‬

‫نزعت الرداء عن ا‪٤‬برأة‪ ،‬وأعطيتها معطفي ألنو بدوف عبلمات‬


‫ضابط وأتبطت ذراعها وانطلقت هبا إذل الفناء الداخلي للمدرسة خلف‬

‫‪99‬‬
‫غرفة الطعاـ‪ ،‬وكاف مزد‪ٞ‬باً ابلطلبة يتزا‪ٞ‬بوف على الصنبور ا‪٤‬بفرد ا‪٤‬بوجود‬
‫ُب مكاف ىناؾ ليتمكنوا من غسل وجوىهم‪ ،‬وكلهم الهٍ بنفسو عما‬
‫حولو‪ُ .‬ب ىذا ا‪٤‬بكاف بناء من ا‪٣‬بشب بو صفاف من ا‪٤‬براحيض بينهما‬
‫فضاء ليتمكن العامل من جر آنيات(‪ )18‬ا‪٤‬براحيض منو وتفريغها ُب‬
‫عربة تقف ُب الصباح أماـ ابب ىذا ا‪٤‬بكاف من انحية الشارع دخلت‬
‫وا‪٤‬برأة ىذا الفضاء وفتحت ‪٥‬با الباب‪ ،‬وأخذت منها ردائي والطربوش‬
‫وقلت ‪٥‬با مع السبلمة ٍب أغلقت الباب وعدت إذل حجرة ا‪٢‬برس‪.‬‬

‫وانتهت ا‪٢‬بادثة بسبلـ ‪..‬‬

‫‪18‬‬
‫جزءا من ضبامات بدائية كاف يت‬
‫( ) صبع "آنية" ويقصد هبا خزاانت كانت ً‬
‫تفريغ ما فيها من ـبلفات يوميا بسبب االفتقار لشبكة صرؼ صحي‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫‪13‬‬
‫عاد الطلبة من عطلة عيد األضحى وقد زودىم أىلهم بشيء‬
‫كثّب من اللحوـ والدجاج والديكة الرومي ‪ ..‬وخطر ألحد زعماء الطلبة‬
‫(وقد نسيت ا‪٠‬بو) أف ٯبمع زمبلءه ُب عشاء يشَبكوف فيو ما أحضروه‬
‫معهم وزادوا عليو برميبلً من النبيذ نُقل إذل داخل ا‪٤‬بدرسة من الباب‬
‫ا‪٣‬بارجي لدورة ا‪٤‬بياه‪ ،‬وتناوؿ الطلبة العشاء ُب مرح وضجة وأفرطوا ُب‬
‫األكل وُب شرب النبيذ‪ ،‬وسهروا سهرة ‪٩‬بتعة ابلرغم من نداء النفّب للنوـ‪،‬‬
‫غض ضباط الصف نظرىم عن تنفيذ األمر ألف تلك الليلة من العطلة‬
‫ا‪٤‬بدرسية‪.‬‬

‫وُب صباح اليوـ األوؿ للدراسة ‪ٚ‬بلف فريق كبّب من الطلبة عن‬
‫تدريب الصباح ألاهم مرضى‪ ،‬وعاد فريق آخر من ميداف التدريب بسبب‬
‫عجزىم عن االستمرار‪ ،‬وعرض ا‪٤‬برضى على الطبيب فتحقق من ا‪٤‬برض‬
‫أنو ‪ٞ‬بى فأرسلوا إذل ا‪٤‬بستشفي‪ .‬وقبل مرور يوـ جديد ‪٢‬بقهم فريق‬
‫اثلث‪ ،‬فازد‪ٞ‬بت أسرة ا‪٤‬بستشفي اب‪٤‬برضى من الطلبة‪ ،‬ولبثوا ىناؾ أايماً‬
‫‪101‬‬
‫للمعا‪١‬بة رغم تضجر األطباء من الزحاـ ومن شيطنة ىؤالء ا‪٤‬برضى‬
‫ا‪٣‬ببثاء‪.‬‬

‫و‪٤‬با كنا ُب دور النقاىة خطر لبعضنا خاطر شيطاشل‪ ،‬عقدان العزـ‬
‫على ا‪٥‬بروب من ا‪٤‬بستشفي ليبلً للَبيض ُب الصحراء الواقعة أمامو‪ٍ ،‬ب‬
‫الذىاب إذل كانتْب معسكر اإل‪٪‬بليز لشراء سجاير ولشرب البّبة‪ .‬ويقع‬
‫إسطبل البغاؿ ومهاـ عرابت ا‪٤‬بستشفي ُب ا‪١‬بهة الشرقية من ا‪٤‬بستشفي‪،‬‬
‫فتسللنا أربعة إذل ذلك ا‪٤‬بكاف‪ ،‬وركب أحدان كتفي آخر ووصل إذل حافة‬
‫السور احمليط بذلك الفناء‪ ،‬وحطم الزجاج ا‪٤‬بثبت فيو‪ٍ ،‬ب غطى مكاف‬
‫منابت الزجاج أبرديتنا ا‪١‬بوخ حٌب ال ‪ٛ‬بزؽ جسد من يرتقي ا‪٢‬بائط‪.‬‬
‫وركب أحدان السور فجعلنا نثب إليو واحدا بعد اآلخر وىو يعاوننا على‬
‫الصعود ٍب ا‪٥‬ببوط إذل األرض من الناحية الثانية‪ ،‬حٌب خرجنا ‪ٝ‬بيعا إذل‬
‫الفضاء‪.‬‬

‫ودل يكن من السبلمة ا‪٤‬برور أماـ ابب ا‪٤‬بستشفي ألف عليو حراساً‬
‫مسلحْب‪ .‬وألف البناء اهاية الطريق فبل يعرب منو عابر ليبلً واهاراً إال إذا‬
‫كاف يقصد ا‪٤‬بستشفي نفسو‪ ،‬فا٘بهنا إذل الشرؽ ُب الصحراء ٍب عدان‬
‫إذل الغرب على بُعد سحيق‪ ،‬و‪ٛ‬ب ّكنا هبذه ا‪٤‬بغامرة ا‪١‬بريئة من ‪ٙ‬بقيق‬
‫رغباتنا‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫وأمعنّا ُب الصحراء متجهْب إذل الشرؽ لنتجاوز ابب ا‪٤‬بستشفي‬
‫بدوف أف يشعر بنا ا‪٢‬براس‪ٍ ،‬ب تتجو بعد ذلك إذل السور الذي ‪ٚ‬بطيناه‬
‫عند ا‪٥‬بروب‪ ،‬وبينما ‪٫‬بن قريبوف من اهاية الشوط إذل الشرؽ سقط أحدان‬
‫ُب فجوة ُب األرض قاعها ا‪٤‬بمتلئ ابلرماؿ عن بعد سحيق‪ ،‬فصرخ‬
‫يستنجد بنا ‪ ..‬فعاد اثناف منا إذل السور فارتقيناه وأخذان من ‪٨‬بزف‬
‫العرابت ‪١‬بم البغاؿ وىي حباؿ غليظة طويلة‪ٍ ،‬ب ‪ٚ‬بطينا السور ووصلنا‬
‫إذل الفجوة‪ ،‬وكاف آخر واقفاً إذل جانبها يتحدث إليو ليطمئنو و‪ٛ‬ب ّكنا من‬
‫ربط ا‪٢‬بباؿ ببعضها ٍب أرسلنا طرفها إليو فربطو ُب وسطو وأمسك ا‪٢‬ببل‬
‫بذراعيو فجذبناه إلينا وأنقذانه‪ .‬وعدان إذل ا‪٤‬بستشفي مبتهجْب كأننا نلنا‬
‫الفوز ُب معركة حربية‪.‬‬

‫كنا نظن أف ىذه السياحة ‪ٛ‬بت سراً وأف أحداً لن يشعر ٗبا فعلنا‪،‬‬
‫ولكننا بسبب الرعونة تركنا ا‪٢‬بباؿ ُب الفناء مربوطة‪ .‬ودل نفكها ودل نردىا‬
‫إذل ا‪٤‬بكاف الذي أُخذت منو‪ ،‬واكتشف العماؿ ُب الصباح ىذه ا‪٢‬بباؿ‬
‫فحدثت الضجة‪.‬‬

‫وتطورت ا‪٢‬بادثة إذل الظن أبف لصوصاً سطوا على ‪٨‬بزف ا‪٤‬بهمات‬
‫للسرقة‪ٍ ،‬ب فروا قبل تنفيذ رغبتهم لسبب من األسباب‪ ،‬وقالت اإلشاعة‬
‫إف ا‪٢‬بباؿ ربطت على ىذه الصورة لَببط هبا ا‪٤‬بسروقات‪ ،‬وكشف‬
‫البحث ُب أعلى السور عن ا‪٤‬بكاف الذي حطمنا زجاجو الواقي‪،‬‬

‫‪103‬‬
‫ووجدت آاثر األقداـ ‪ٙ‬بت السور من جانبيو الداخلي وا‪٣‬بارجي‪ ،‬وعرفوا‬
‫أف ىذه اآلاثر للشباشب الٍب توزع على ا‪٤‬برضى على صورة واحدة‪،‬‬
‫ولكن الضجة عالية والظنوف كثّبة‪ ،‬فاستبعد ا‪٤‬بنطق فكرة ‪٦‬بيء لصوص‬
‫من ا‪٣‬بارج للسرقة‪ ،‬ورجحوا أف اآلاثر و‪ٙ‬بطيم الزجاج عملية ‪ٝ‬باعة‬
‫ابرحوا ا‪٤‬بستشفي ليبل لسبب من األسباب ٍب عادوا إليو‪.‬‬

‫وحار أمرىم ُب مسالة أخذ ا‪٢‬بباؿ من ا‪٤‬بخزف وربطها ببعض‪،‬‬


‫ورجح العقل أف ىذا العمل ا‪١‬بريء من فعاؿ الطلبة ال من فعاؿ ا‪١‬بنود‬
‫ا‪٤‬برضى‪ ،‬واطمأف ا‪١‬بميع ‪٥‬بذا االستنػتاج‪ .‬كاف أطباء ىذا ا‪٤‬بستشفي‬
‫‪ٝ‬بيعاً من السوريْب عدا اثنْب أو ثبلثة من ا‪٤‬بصريْب‪ ،‬وىكذا ‪ٝ‬بيع‬
‫األطباء ُب ا‪١‬بيش‪.‬‬

‫وكاف كبّب ىؤالء األطباء موسوليِب بك ر‪ٞ‬بة هللا‪ ،‬كاف طيب‬


‫القلب حسن ا‪٣‬بلق رحب الصدر‪ ،‬فلم يشأ عمل ‪ٙ‬بقيق لفضح الطلبة‬
‫ولكنو أمر بنقل ‪ٝ‬بيع ا‪٤‬برضى إذل ا‪٤‬بدرسة ليتم عبلجهم فيها‪ ،‬فتأ‪٤‬بنا من‬
‫ىذه الصدمة القاسية ألف اإلقامة ُب ا‪٤‬بستشفي راحة وتلو وتنزه ُب‬
‫ا‪٢‬بديقة الفسيحة وحرية مطلقة‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫‪14‬‬
‫انتهت ا‪٢‬برب ُب السوداف فرأى اإل‪٪‬بليز خفض قوة ا‪١‬بيش‬
‫ا‪٤‬بصري إذل أضعف حد‪ ،‬فحولوا األورط ا‪٤‬بصرية إذل ‪ 4‬كتائب بدالً من‬
‫‪ ،6‬وأحالوا إذل االستيداع عدداً كبّباً من الضباط حديثي العهد‬
‫اب‪٣‬بدمة‪ ،‬وعينوا للمدرسة قومنداانً إ‪٪‬بليزايً ومعو صاغ مصري من عادتو‬
‫التسبيح ٕبمد اإل‪٪‬بليز‪ .‬وسلم ‪٧‬بمود أفندي صدقي ا‪٤‬بدرسة ومهماهتا‬
‫الٍب ُب عهدتو‪.‬‬

‫ٍب سلم ا‪٣‬بزانة وما كاف هبا من علب ا‪٤‬بنزوؿ ا‪٤‬بضبوطة مع بعض‬
‫الطلبة‪ ،‬وصارح زميلو ٗبا كاف يفعل مع أصحاهبا‪ ،‬وسلم لو دوسيهْب‬
‫لكل طالب‪ ،‬األوؿ لتوقيع ا‪١‬بزاءات فيو‪ ،‬والثاشل نظيف لّبسل مع‬
‫الضابط ا‪١‬بديد إذل ا‪١‬بيش ليبدأ حياة جديدة‪ .‬ودل يكتم الصاغ ا‪١‬بديد‬
‫ىذا السر عن القومنداف اإل‪٪‬بليزي‪ ،‬فكتب تقريراً عن أعماؿ انئب‬
‫القومنداف ا‪٤‬بخالفة للنظم العسكرية‪ ،‬فكاف ىذا التقرير سبباً ُب إحالة‬

‫‪105‬‬
‫الصاغ صدقي أفندي الرجل الطيب إذل االستيداع ٍب إذل ا‪٤‬بعاش بعد‬
‫حْب‪.‬‬

‫وتوذل القومنداف ا‪١‬بديد عملية تصفية ُب ا‪٤‬بدرسة‪ ،‬ففصل منها‬


‫مائة طالب دوف سبب‪ ،‬وقررت نظارة ا‪٢‬بربية منع ترقي طلبة ا‪٤‬بدرسة‬
‫ا‪٢‬بربية أربعة أعواـ قضوىا ُب أشق أنواع التدريب مع اإلسراؼ ُب‬
‫القسوة عليهم‪.‬‬

‫ُب اهاية ىذا العاـ الدراسي تقريباً‪ ،‬وقبل وصوؿ القومنداف‬


‫اإل‪٪‬بليزي‪ ،‬انتدبت ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية فريقاً صغّباً من الطلبة لبلشَباؾ ُب‬
‫تقي عبد‬
‫عرض خاص ومبارايت ‪٨‬بتلفة ُب الرماية‪ ،‬وانتدبت أان وا‪٤‬برحوـ ّ‬
‫ا‪٥‬بادي للرماية‪ ،‬وأان وطالب آخر أ‪٠‬بر اللوف ال أذكر ا‪٠‬بو لسباؽ ‪100‬‬
‫مَب‪ ،‬وربع ميل‪.‬‬

‫كاف ا‪٤‬بتباروف من اإل‪٪‬بليز‪ ،‬وبعض اإليطاليْب‪ ،‬وموظفوف من‬


‫شباب اإل‪٪‬بليز ُب التلغراؼ اإل‪٪‬بليزي‪ٍ .‬ب من خليط من ىواة األلعاب‬
‫الرايضية ونلت ا‪١‬بائزة األوذل ُب الرماية ابلبندقية وا‪٤‬بسدس‪ ،‬وانؿ ا‪٤‬برحوـ‬
‫تقي عبد ا‪٥‬بادي ا‪١‬بائزة الثانية‪ ،‬كاف الضرب ابلبندقية (واقفاً) على بعد‬
‫ّ‬
‫‪ 150‬مَباً‪ ،‬وكاف الضرب مرتكزا على بعد ‪ 300‬مَب‪ ،‬وكاف الضرب‬
‫راقداً على بعد ‪ 500‬مَب‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫ومباراة أخرى ُب التنشْب ابلبندقية على فوىة أنبوبة من ا‪٢‬بديد‬
‫عليها قطعة قماش‪ ،‬موضوعو على بعد ‪ 100‬مَب‪ ،‬وكاف الضرب‬
‫ابلطبنجة على أىداؼ متحركة حركات غّب منظمة على بعد ‪ 30‬مَباً‪،‬‬
‫ومن ىذه األىداؼ كرة صغّبة من الزجاج عليها طبلء ُب لوف الزئبق‬
‫ومفرغة من ا‪٥‬بواء موضوعة على ماء ينبعث من انفورة‪ ،‬فتعلو اترة وهتبط‬
‫أخرى على مثاؿ حركة اندفاع ا‪٤‬باء ٍب تسقط عنو ليتلقاىا غّبه‪ ،‬وكاف‬
‫الضرب ابلطبنجة على بعد ‪ 20‬مَباً أيضاً على خيط معلق ُب اهايتو‬
‫ثقل لو لوف برتقارل‪ ،‬وا‪٥‬بدؼ ىو ا‪٣‬بيط‪.‬‬

‫وقد تولت سيدة إفر‪٪‬بية توزيع ا‪١‬بوائز على الفائزين‪ ،‬فاستوقفتِب‬


‫ُب ا‪٤‬برة األخّبة وقالت رل‪" :‬لو كنت أعل أنِب سأصادؼ شااب لو ىذه‬
‫اؼبهارة كنت أحضرت لو معي جائزة جديدة بسبب فوزه هبذه‬
‫اعبوائز"‪.‬‬

‫وكاف ا‪٤‬برحوـ ا‪٤‬بسَب براين كبّب مدرسي ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية إذل جانبها‬
‫فقالت لو‪" :‬أرجو أف ترسل ىذا الشاب غداً ُب الساعة الرابعة إىل‬
‫بيٍب ألعطيو جائزة"‪.‬‬

‫وكاف ا‪٤‬بسَب براين يعطف على كل العطف ويراتح لكل ما فيو‬


‫ا‪٣‬بّب رل‪ ،‬فنفذ رجاء السيدة‪ ،‬وعلمت منو أاها أمّبة من البيت ا‪٤‬بالك ُب‬
‫روسيا‪ ،‬ولكنها متزوجة من إ‪٪‬بليزي ذي منصب كبّب‪.‬‬
‫‪107‬‬
‫ذىبت إذل بيت السيدة وشربت الشاي ىناؾ‪ ،‬وتسلمت ا‪١‬بائزة‬
‫ساعة من الذىب و‪٥‬با سلسلة قصّبة تتدذل خارج ا‪١‬بيب‪ ،‬وعند انصراُب‬
‫طلبت مِب الَبدد على زايرهتا كل يوـ ‪ٝ‬بعة ُب الساعة الرابعة ألشرب‬
‫عندىا الشاي‪.‬‬

‫٘باوزت تلك السيدة العقد الرابع وقاربت اهايتو‪ ،‬ولكنها كانت‬


‫‪ٝ‬بيلة واضحة احملاسن ‪٥‬با فتنة وجاذبية قوية‪ ،‬و‪٥‬با صوت انعم يصل إذل‬
‫السمع كأنو صوت موسيقى‪ ،‬دل تكن فرعاء وال ‪٫‬بيلة ا‪١‬بسم‪ ،‬تكونت‬
‫بصورة ٘بذب إليها األنظار وتفًب القلوب وأتسر األفئدة‪ ،‬يزيد عليها‬
‫علم غزير وأدب ٍ‬
‫عاؿ‪ ،‬وشاعرية‪ .‬هتيبت تكرار الزايرة فاستدعاشل ا‪٤‬بسَب‬
‫براين ونصح رل ابلذىاب لشرب الشاي ىناؾ‪ ،‬ووكد رل أف ىذه‬
‫الشخصية ‪٥‬با احَباـ ونفوذ كبّب‪ ،‬ورٗبا أنتفع هبا ُب ا‪٤‬بستقبل‪.‬‬

‫كنت شاابً من العامة‪ ،‬نشأت بينهم وُب طبقتهم‪ ،‬ودل أصادؼ ُب‬
‫حياٌب عظماء‪ ،‬وكل أملي ُب ا‪٢‬بياة إ‪ٛ‬باـ الدراسة واالرتقاء إذل رتبة‬
‫ضابط‪ٍ ،‬ب أخدـ ُب ا‪١‬بيش كزمبلئي فتكوف رل مثل ظروفهم ومثل‬
‫حظهم‪ ،‬فبل أكوف ُب حاجة ‪٤‬بعاونة أي إنساف ولكِب أطعت ا‪٤‬بسَب‬
‫براين وكررت الزايرات لتلك السيدة احملَبمة‪ ،‬فعلمت من أحاديثها أاها‬
‫كانت تدعى قبل الزواج الربنسيس فيزنسكي‪ ،‬وأاها روسية‪ٍ ،‬ب صادفت‬
‫زوجها ُب السفارة اإل‪٪‬بليزية بربلْب وًب اقَبااها بو‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫كانت تغمرشل بعطف واضح من نوع عطف ذي الر‪ٞ‬بة على غّبه‬
‫الصغّب أو الضعيف بتأثّب اإلنسانية‪ ،‬فصرت أراتح ‪٤‬بقابلتها والتحدث‬
‫إليها وقد قالت رل مرة‪" :‬اإلنساف ىو الذي يكوف حظو ُب اغبياة‬
‫بنفسو‪ ،‬فالذي يتعل النجارة يصّب قباراً والذي يتعل الطب يصّب‬
‫طبيباً‪ ،‬والذي يتعل العلوـ العسكرية يصّب ضابطاً‪ ،‬ويصّب طوؿ‬
‫حياتو آلة صغّبة تؤمر وتوجو سأمر يصدر من الكبار"‪.‬‬

‫وقالت ُب مرة أخرى‪" :‬يتحت على اإلنساف ارتقاء السل ليصل‬


‫من األرض إىل الطابق الذي يليها‪ ،‬فكل ارتقاء البد لو من وسيلة‬
‫للصعود"‪.‬‬

‫وكنت أظن بسبب نقص ا‪٤‬بعرفة أف ىذه العبارات حديث ‪٦‬بالس‬


‫فلم تنبهِب ألمل جديد‪ ،‬ودل تنشط ُب نفسي ا‪٤‬بطامع‪ ،‬ألف غايٍب ا‪٤‬بفردة‬
‫‪٧‬بصورة ُب االنتهاء من الدراسة والوصوؿ إذل ا‪١‬بيش ككل الذين اتبعػوا‬
‫طػريقي‪ ،‬وكل الذين سيجيئوف بعدي ُب ىذا الطريق‪ .‬وفوجئنا مفاجأة ُب‬
‫ا‪٤‬بدرسة بوصوؿ القومنداف اإل‪٪‬بليزي ا‪١‬بديد والصاغ ا‪١‬بديد‪ ،‬وابلزلزاؿ‬
‫الذي أحداثه عقب تسلمهما إدارة ا‪٤‬بدرسة‪.‬‬

‫ووصلت إلينا أنباء ‪ٚ‬بفيض قوات ا‪١‬بيش وإحالة الضباط إذل‬


‫االستيداع ‪ٍ .‬ب ‪ٞ‬بلنا على اليأس والتأدل الشديد من قرار فصل الطلبة‬
‫ومنع الَبقية مدى أعواـ ‪ ..‬انتقلت للفصل النهائي ُب االمتحاف األخّب‪،‬‬
‫‪109‬‬
‫وكاف بيِب وبْب الوصوؿ إذل ا‪١‬بيش ثبلثة شهور إذا سارت األمور سّبىا‬
‫العادي‪ ،‬ولكن الطوارئ ا‪٤‬بفاجئة ىدمت ىذا األمل وعوضت منو اليأس‬
‫وا‪٢‬بسرة‪ ،‬ولقد احتملت شٌب ا‪٤‬بشقات طوؿ العاـ الذي قضيتو ُب‬
‫ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية‪ ،‬وأت‪٤‬بت من الفقر وا‪٢‬برماف بسبب حقارة النفقة الٍب‬
‫يرسلها إذل‪ ،‬فكيف تكوف حارل إذا عطلت ترقيٍب أربعة أعواـ؟‬

‫شرحت لربنسيس فيزنسكى ىذه الظروؼ‪ ،‬فكانت إجابتها‬


‫غامضة دل أدرؾ الغرض منها‪ ،‬قالت رل‪" :‬اػبط اؼبستقي أقرب بعد بْب‬
‫نقطتْب"‪.‬‬

‫وقالت‪" :‬صبيع الطرؽ توصل إىل ابريس"‪.‬‬

‫وعلمت مِب أنِب ال أقضي العطلة ا‪٤‬بدرسية ُب بيت والدي ألنو‬


‫وزوجتو ال يراتحاف لوجودي‪ ،‬فكنت أعزؿ ُب غرفة عن بقية أفراد البيت‪،‬‬
‫ال يكلمِب أحد منهم إطبلقاً حٌب والدي‪ ،‬وٲبنع األطفاؿ ابلقوة من‬
‫دخوؿ غرفٍب أو ‪٧‬باولة اللعب معي‪ ،‬وكاف ا‪٣‬بادـ ٰبضر الطعاـ إذل تلك‬
‫الغرفة ويضعو على منضدة وينصرؼ فإذا انديتو لقضاء حاجة ال ٯبيب‬
‫النداء‪.‬‬

‫أ‪١‬بأتِب ىذه ا‪٤‬بعاملة زمن الدراسة الثانوية إذل ا‪٥‬بروب منها‪ ،‬فلم‬
‫أجد ملجأ أقضي بو شهور العطلة بعيدا عن ا‪٤‬بنغصات سوى منزؿ عمي‬

‫‪110‬‬
‫أبسيوط‪ ،‬فأجد فيو االطمئناف وا‪٥‬بدوء وا‪٤‬بعيشة ا‪٤‬بنظمة‪ ،‬وعطف ا‪١‬بميع‬
‫على ‪ .‬وقالت الربنسيس‪" :‬إذا قبلت نصيحة تنفعك‪ ،‬أخذؾ معي‬
‫إلسباـ الدراسة العسكرية ُب ابريس‪ ،‬ولكن ىذه الرغبة ال تت إال إذا‬
‫مرران ابلقسطنطينية أوالً‪ ،‬فأنقذؾ من تعطيل الَبقية ُب مصر‪ ،‬وأىيئ‬
‫لك مستقببلً أحسن وأمًب"‪.‬‬

‫زالت سلطة ا‪٤‬بسَب براين ُب ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية بعد وصوؿ القومنداف‬


‫ا‪١‬بديد‪ ،‬وحصر عملو ُب اإلشراؼ على التعليم ُب ا‪٤‬بكاتب‪ ،‬وفصل‬
‫القومنداف مائة طالب من قوة ا‪٤‬بدرسة خبط عشواء‪ ،‬فزاد ىذا تذمر كبّب‬
‫ا‪٤‬بدرسْب وسخطو‪ .‬كاف الرجل يعطف على ويسندشل‪ ،‬وكنت أزوره ُب‬
‫البيت وأعطي ابنتو دروساً ُب اللغة العربية فلما زلزلت ا‪٤‬بدرسة ىذا‬
‫الزلزاؿ عرضت عليو موقفي من أىلي‪ ،‬وشرحت لو األسباب الٍب ٘بعلِب‬
‫عاجزاً عن احتماؿ تعطيل الَبقية ُب ا‪٤‬بدرسة أربعة أعواـ‪ ،‬وأسررت إليو‬
‫العرض الذي عرضتو علي الربنسيس فيزنسكي‪ ،‬فاسَباح ‪٥‬بذا االقَباح‬
‫ونشطِب لقبولو‪ ،‬قاؿ رل‪" :‬إذا التحقت (البوليتكنيك) مدرسة اؽبندسة‬
‫العسكرية ‪ .. ..‬تصل بسرعة إىل أرقى اؼبناصب"‪.‬‬

‫ودل يكتف ٗبا ‪٠‬بعو مِب‪ ،‬ورٗبا أراد توكيد األمر وتثبيت االقَباح‬
‫فتحدث ابلتليفوف مع الربنسيس فصارحتو بعزمها على تنفيذ ىذا الوعد‪،‬‬

‫‪111‬‬
‫فعاد إذل ونصح رل إبطاعة الربنسيس بدوف تردد ألاها ستكوف مستقبلي‬
‫على أساس متْب‪.‬‬

‫وأثرت ُب ىذه النصيحة فأسلمت أمري ‪٥‬بذه السيدة الٍب تظهر‬


‫العطف على واالىتماـ ٗبستقبلي بينما أجد من والدي القسوة والنفور‬
‫من وقوع نظره علي‪ ،‬وىو الذي انتزعِب من أحضاف جدٌب وكاف سبباً ُب‬
‫تعذيب ا‪٤‬برحومة والدٌب وأىاف جدٌب و‪ٞ‬بلها علي ترؾ مصر كلها‬
‫والرحيل إذل تركيا اهائياً‪ٍ ،‬ب قسا علي وقصر ُب أتدية واجب الوالد حٌب‬
‫أ‪ٛ‬بم الدراسة العا‪٤‬بية أوالً‪ٍ ،‬ب الدراسة العسكرية‪.‬‬

‫وضعت ىذه التصرفات ُب كفة ا‪٤‬بيزاف‪ ،‬ووضعت ُب الكفة الثانية‬


‫عطف ا‪٤‬بسَب براين على ورفقو يب ومعو عطف الربنسيس فيزنسكي‬
‫وحنااها الواضح‪ ،‬فرجحت ىذه الكفة فأسلمت نفسي ‪٥‬بذه السيدة‬
‫وللقدر‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫‪15‬‬
‫انتهى العاـ الدراسي ُب اهاية شهر يونيو فانطلقت من ا‪٤‬بدرسة‬
‫إذل منزؿ الربنسيس‪ ،‬فَبكتِب لوصيفة ‪٥‬با لتدربِب على التقاليد ُب مثل‬
‫ىذه البيوت و‪٢‬بظت الوصيفة أنِب ال أملك سوى ثوب واحد عسكري‪،‬‬
‫فنزلت معي إذل األسواؽ واشَبت ‪ٝ‬بيع ما ٰبتاج إليو شاب سيعيش ُب‬
‫وسط ر ٍاؽ‪ ،‬فعشت ُب ىذا ا‪١‬بو أايماً قليلة وأان ال أصدؽ أنِب ُب يقظة‪.‬‬

‫رحلنا إذل األستانة فأقمنا هبا أسبوعْب ًب فيهما التحاقي اب‪١‬بيش‬


‫الَبكي مع إرسارل بعثة إل‪ٛ‬باـ الدراسة ُب فرنسا بكلية "ساف سّب"‬
‫ا‪٢‬بربية‪ .‬لست أدري كيف ‪ٛ‬بت ىذه العملية‪ ،‬إ٭با أعرؼ أف الربنسيس‬
‫‪١‬بأت إذل السفارة الفرنسية وإذل ضابط كبّب ملحق ابلسفارة اإل‪٪‬بليزية‬
‫فذلبل ‪ٝ‬بيع العقبات‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫كاف للربنسيس ُب ىذه ا‪٤‬بدينة‪ ،‬فيبل صغّبة فخمة بديعة ُب‬
‫مدخلها حديقة منسقة بعناية‪ ،‬و‪٥‬با خيوؿ وعربة وخدـ من النساء‬
‫والرجاؿ‪ ،‬مظاىر تدؿ على الغُب وسعة الثروة‪ ،‬وسكنت ُب غرفة‬
‫خصصت رل فعش فيها ‪ٙ‬بت إشراؼ إيزابلبل اإليطالية‪ ،‬وىي عجوز‬
‫وديعة حكيمة ‪٨‬بلصة ُب خدمة الربنسيس‪ ،‬وفية ‪٥‬با كل الوفاء‪ ،‬ودلت‬
‫على ىذه الصفات ُب ‪ُ 1920‬ب القاىرة ُب ظروؼ حرج كاف خا‪ٛ‬بة‬
‫حياة الربنسيس‪.‬‬

‫استمرت إيزابلبل تدربِب على كيفية تناوؿ الطعاـ وشرب الشاي‪،‬‬


‫وعلى ارتداء الثياب‪ ،‬وحٌب على كيفية ا‪١‬بلوس ُب مقصورة ُب التياترو‪،‬‬
‫كانت تريد أف تكوف رل آداب رجل عصري ُب اجملالس واجملتمعات‪،‬‬
‫فلما اطمأنت إذل استعدادي أنو ًب ‪٠‬بحت رل الربنسيس بتناوؿ الطعاـ‬
‫على مائدهتا‪ ،‬وابلذىاب معها إذل التياترو‪ ،‬وعهدت إذل معلم رقص‬
‫بتعليمي بدروس خاصة‪ .‬وجاء أواف ابتداء الدراسة ُب كلية ساف سّب‬
‫فأُلػ ِحقت هبا‪ٍ ،‬ب نقلت بعد ثبلثة شهور إذل مدرسة البولتكنيك‪ ،‬فلبثت‬
‫هبا طوؿ مدة الدراسة حٌب أ‪ٛ‬بمتها‪ ،‬ونلت الشهادة النهائية‪.‬‬

‫كانت الربنسيس ُب تلك األايـ ُب اآلستانة العلية‪ ،‬وكاف من‬


‫عادهتا الَبدد عليها من حْب إذل حْب لتقضي هبا شهراً أو أكثر ألف‬
‫زوجها كاف ىناؾ ملحقاً عسكرايً ُب السفارة‪ .‬ودل تشأ الربنسيس أف‬

‫‪114‬‬
‫أعود إذل ا‪١‬بيش الَبكي برتبة يوزابشى ضابط أركاف حرب‪ ،‬ألف األحواؿ‬
‫ُب تركيا كانت مضطربة‪ ،‬والفًب والثورات منتشرة ُب ألبانيا وُب أمبلؾ‬
‫الدولة العلية ُب البلقاف‪.‬‬

‫فلجأت إذل مسعى جديد ٯبعلِب بعيداً عن ذلك ا‪١‬بو ا‪٤‬بضطرب‪،‬‬


‫فوصل كتاب من األستانة إذل وزارة اغبرب ُب ابريس يرجو منها قبورل‬
‫ُب الفرؽ الفرنسية األجنبية الستكماؿ ا‪٤‬براف هبا ‪٤‬بدة عاـ واحد‪،‬‬
‫وقضيت ثبلثة أعواـ ُب دراسة ا‪٥‬بندسة العسكرية وفنوف االستحكامات‪،‬‬
‫وكنت أقصد ُب بعض أوقات الفراغ إذل جامعة ابريزو أل‪٠‬بع ‪٧‬باضرات‬
‫ُب األدب كأمر الربنسيس‪.‬‬

‫وكاف اىتماـ تلك السيدة يب يزيد ُب كل وقت‪ ،‬فأقضي إذل‬


‫جانبها كل أايـ العطلة واألعياد‪ ،‬وأمضى الليارل ُب سهرات ُب بيوت‬
‫صديقاهتا فأجد فيها صنوفاً من النساء ذوات ا‪٢‬بسن والفتنة ومن‬
‫الفتيات ذوات ا‪١‬بماؿ وا‪١‬باذبية‪.‬‬

‫فاستأنس اغبيواف ‪ ..‬وربوؿ من أدمي بدائي‪ ،‬إىل إنساف لو‬


‫سبدف وثقافة وذوؽ ُب الوزف واالختيار‪.‬‬

‫كنت أظن ُب أوؿ األمر أف عناية الربنسيس يب ونشاطها ‪٤‬بعاونٍب‬


‫ولتكويِب بباعث الر‪ٞ‬بة واإلنسانية وجدٮبا‪ ،‬ولبثت على ىذا االعتقاد‬

‫‪115‬‬
‫أكثر من عاـ‪ ،‬فكنت أحَبـ تلك احملسنة الكرٲبة إذل حد اإلجبلؿ ألف‬
‫‪٥‬با كل الفضل ُب تكويِب على صورة جديدة بعيدة كل البعد عن وصف‬
‫الذين نشأت معهم أو بينهم‪ .‬وبدأ ذلك الظن يتحوؿ منذ قبلتِب األمّبة‬
‫على مائدهتا وُب سهراهتا‪ ،‬كانت ‪٥‬با تصرفات تشعرشل أبنو أكثر من‬
‫عطف برئ وكنت أعلل ذلك ‪ٙ‬بت أتثّب احَبامي ‪٥‬با تعليبلً بعيداً عن‬
‫سوء الظن‪.‬‬

‫كنا ُب حفلة ساىرة ُب قصر أرملة من الطبقة الراقية‪ ،‬وكنت ُب‬


‫ثويب العسكري واضح الشباب والقوة‪ ،‬ولست أدري كيف انصرفت‬
‫عقب انتهاء السهرة من تلك الدار‪ ،‬ألنِب استيقظت ُب الصباح‬
‫فوجدت نفسي ُب غرفة نوـ الربنسيس ‪...‬‬

‫انكشف السَب السميك عن الباعث ا‪٢‬بقيقي الذي دفع ىذه‬


‫ا‪٤‬برأة إذل االىتماـ بشاب فقّب لتعليمو وهتذيبو وتكوينو ُب صورة تناسب‬
‫مدنيتها وثقافتها وذوقها وتقاليدىا‪ ،‬لَباتح لصفاتو كما اراتحت من قبل‬
‫لشبابو وفتوتو‪.‬‬

‫اعتمدت الراقصة (ف) على األنوثة واػببلعة المتبلؾ كتائب‬


‫من الشباب اراتحت نفسها للحصوؿ عليها ‪ ...‬واعتمدت ىذه‬
‫األمّبة على العقل والصرب واؼباؿ واغبيلة لتمتلك شاابً واحداً رغبت‬
‫ُب اغبصوؿ عليو ‪..‬‬
‫‪116‬‬
‫ىدؼ اؼبرأتْب واحد‪ :‬ىو الرغبة ُب االمتبلؾ‪ ،‬والباعث واحد‪:‬‬
‫ىو االرتياح ُب االشتهاء‪ ،‬إمبا تنوعت الوسائل بسبب اختبلؼ‬
‫العقليتْب واؼبدنيتْب والثروتْب ‪ .‬يدفع كل إنساف شبن ما يرغب فيو‪ ،‬ال‬
‫بنسبة ما تساويو قيمتو الذاتية‪ ،‬إمبا بنسبة مقدار الرغبة فيو واإلصرار‬
‫على ربقيق ىذه الرغبة‪ ،‬وت ػَػص ُدؽ ىذه النظرية ُب ربديد أشباف شراء‬
‫اؼبعادف النفيسة‪ ،‬واغبجارة الكريبة‪ ،‬واغبيواف‪ ،‬واإلنساف أيضاً‪ .‬وبقدر‬
‫قوة الرغبة ُب السلعة اؼبختارة يكوف مقدار اؼبعزة والعناية ابالحتفاظ‬
‫هبا سليمة‪.‬‬

‫و‪٥‬بذا السبب نشطت األمّبة إلبعادي عن جو األستانة ا‪٤‬بضطرب‬


‫بعيداً عن مواطن الفًب والثروات وعمليات ا‪١‬بيوش للقمع‪ ،‬كاف إذف‬
‫الدافع ا‪٤‬بفرد لبلحتفاظ بسبلمٍب ىو حب الذات ال ا‪٢‬برص على حياٌب‪،‬‬
‫ولكنِب كنت ُب طور الشباب ينقصِب العقل الناضج والوزف الصحيح‬
‫للبواعث‪ ،‬فكنت أنسب ‪ٝ‬بيع التصرفات ألسباب إنسانية وبتأثّب‬
‫العطف الربيء والر‪ٞ‬بة واعتياد فعل ا‪٣‬بّب‪ ،‬فصرت ككل ‪٩‬بلوؾ بشراء‬
‫احَبـ ا‪٤‬بالكة‪ ،‬وأجلّها وأجزؿ الشكر وأبيّت ‪٥‬با اإلخبلص والرغبة ُب‬
‫االحتفاظ اب‪٤‬بعروؼ‪ .‬أدركت من تلك الليلة ا‪٤‬بشئومة نوع رغبتها فلم‬
‫أتردد ُب ا‪٣‬بضوع والطاعة‪ُ ،‬ب حياء ُب ابدئ األمر ٍب ُب جرأة ا‪٤‬بعتاد‬
‫الراغب ُب اإلرضاء‪.‬‬

‫‪117‬‬
118
‫‪16‬‬
‫ُحشرت حشراً ُب الفرقة األجنبية الفرنسية ُب قسم أركاف ا‪٢‬برب‬
‫برتبة يوزابشى‪ ،‬وكانت القيادة لؤلمّباالي جورو‪ ،‬ومكثت ُب ابريز شهوراً‬
‫ٍب قضى العمل ابنتقارل إذل ا‪١‬بزائر وا‪٣‬بدمة ُب ثغري وىراف وبلفيل‪ٍ ،‬ب ُب‬
‫قرى ُب أعماؽ الصحراء ُب توات ابلقرب من عْب صاحل وإذل الشماؿ‬
‫منها‪ ،‬وُب غات وسط الصحراء الكربى‪ٍ ،‬ب ُب غدامس ابلقرب من حدود‬
‫تونس الغربية وا‪١‬بنوبية‪.‬‬

‫وكانت ا‪٢‬بياة ُب ا‪٤‬بعسكرات كمثلها ُب ‪ٝ‬بيع مراكز ا‪١‬بيوش‪ ،‬إ٭با‬


‫كاف للجنود والضباط سهرات خاصة للتسلية خارج ا‪٤‬بعسكرات أو للتلهي‬
‫إطاعة للغريزة‪ ،‬وبعض ىذه األماكن ا‪٣‬باصة إلفر‪٪‬بيات وبعضها ألىل‬
‫الببلد‪ ،‬كما كاف ا‪٢‬باؿ ُب مصر ُب زماف ازدحامها اب‪١‬بيوش األجنبية‪.‬‬

‫بقي ُب الذاكرة لسبب غرابتو‪.‬‬


‫حادث واحد َ‬
‫قامت ثورة ُب سكاف ا‪١‬بزائر بسبب شدة الضغط عليهم والقسوة‬
‫الٍب ترىقهم وانضم إذل الثائرين ضابط مصري مغامر أظن أف ا‪٠‬بو دمحم‬
‫‪119‬‬
‫زكي‪ ،‬ولكنِب نسيت لقبو األخّب بسبب طوؿ الزمن وضعف الشيخوخة‬
‫ووقع ذلك الضابط ُب األسر‪.‬‬

‫وأسرى الثائرين يعاملوف كمتمردين فليست ‪٥‬بم ‪٩‬بيزات أسرى ا‪٢‬برب‬


‫من النظاميْب‪ ،‬فوضع ىذا ا‪٤‬بنكود ا‪٢‬بظ ُب طابية ُب ثغر وىراف أثناء‬
‫وجودي هبا‪ ،‬وكاف شاابً دمث األخبلؽ لو فتوة ومظاىر القوة‪ ،‬وكاف وديعاً‬
‫حلو ا‪٢‬بديث تراتح لو النفوس وتطمئن‪ ،‬فمتع بشيء من ا‪٢‬برية ُب‬
‫الَبيض‪.‬‬

‫وكاف لقومنداف الطابية ابنة تدعى ببلنش ‪ٝ‬بيلة رشيقة ذات جاذبية‬
‫قوية‪ ،‬فصادفت الضابط ا‪٤‬بصري فناؿ حظوة عندىا فكررت مقابلتو‬
‫والتحدث إليو‪ٍ ،‬ب وصل األمر إذل ٘باذب الروحْب وارتياح الفؤادين‬
‫واندالع ‪٥‬بيب الشوقْب ُب ا‪٣‬بفاء ‪..‬‬

‫وحدثت مفاجأة ضجة ُب الطابية ُب صباح أحد األايـ‪ ،‬اكتشف‬


‫القومنداف غياب ابنتو من غرفة نومها‪ ،‬وذاع ُب الوقت نفسو ىروب‬
‫الضابط ا‪٤‬بصري‪ ،‬وعجز التحقيق عن معرفة وسيلة ىروب الفتاة مع‬
‫الضابط إ٭با ثبت أنو ىروب ابالتفاؽ ا‪٤‬ببيت ألف ا‪٥‬باربة أخذت معها ما‬
‫‪ٛ‬بلكو من اجملوىرات القليلة وبعض الثياب الداخلية‪ ،‬أعلن ا‪٥‬بروب بكل‬
‫وسائل اإلعبلف وبلغت بو ‪ٝ‬بيع ا‪٢‬بدود القريبة والبعيدة‪ ،‬وانطلقت عدة‬

‫‪120‬‬
‫قوات صغّبة القتفاء األثر والبحث ُب ا‪٤‬بدينة والضواحي‪ ،‬فضاع أثر‬
‫ا‪٥‬باربْب وانقطعت عنهما األخبار‪.‬‬

‫ومن ‪٧‬باسن الصدؼ أنِب صادفت مرة اثنية ذلك ا‪٥‬بارب ابلغنيمة‪،‬‬
‫ال ُب ا‪١‬بزائر وال ُب الصحراء إ٭با ُب مدينة الفيوـ سنة ‪ ،1920‬وكاف‬
‫موظفاً ىناؾ وعلمت منو أنو اقَبف ابلفتاة‪ ،‬وأ‪٪‬بب منها صغّبات‪ ،‬وأاها‬
‫كتبت لعائلتها بعد أعواـ من استقرارىا ُب ا‪٢‬بياة الزوجية‪ ،‬ولكن أىلها‬
‫أنكروىا ودل يرسلوا اإلجابة على كتابتها‪.‬‬

‫وأشهد صادقاً أف ذلك الرجل صدؽ ُب حبو زوجو‪ ،‬وقدر صنيعها‬


‫معو حق التقدير فعوضها ٕبنانو ورعايتو و‪٧‬ببتو وإخبلصو فوؽ ما كانت‬
‫تغمر بو ُب بيت والدىا من العطف والرعاية وا‪٢‬بناف‪ .‬وصادفتو مرة اثلثة ُب‬
‫ا‪٤‬بنيا كهبلً ‪٧‬بطماً ظريفاً‪ ،‬وبقى ىناؾ حٌب بلغ سن ا‪٤‬بعاش فانتقل إذل‬
‫اإلسكندرية واستغل مكافأتو ُب عمل ٘باري‪.‬‬

‫‪121‬‬
122
‫‪17‬‬
‫من صفات الفرنسي اؼبستعمر الصلف والغطرسة واالستبداد‬
‫بصورة ال ىبفيها بل يعلن أهنا القاعدة الٍب هبب أف تتبع ُب صبيع‬
‫اغباالت‪ ،‬وأساس سيادتو أين حل‪ :‬سيد وعبد‪ ،‬وأمر وطاعة‪.‬‬
‫فالفرنسي مكروه ُب كل مستعمرة ومن كل الذين يعيش معه ‪ ،‬ما‬
‫عدا أىل السنجاؿ ألهن عبيد نسلوا من الرقيق احملرر‪ ،‬ؽب ذؿ العبيد‬
‫وطاعته ‪ ،‬فبل تردد ُب اػبضوع وال اعَباض ىناؾ إطبلقاً على أي‬
‫تصرؼ‪ ،‬وؽبذا السبب ذبد النظاـ العسكري الشديد ينفذ بسهولة ُب‬
‫اعبنود السنجاليْب‪ ،‬وترى ىؤالء ىبلصوف ألسيادى ‪.‬‬

‫ويؤثر الفرنسي ا‪١‬بندي السنجارل على غّبه من أىارل ا‪٤‬بستعمرات‬


‫األخرى‪ ،‬ويعتمد عليو ُب عمليات السحق الٍب يلجأ إليها الفرنسيوف‬
‫سراعاً ُب مستعمراهتم أو ُب الببلد الٍب انتدبوا للوصاية عليها‪ ،‬وأقرب‬

‫‪123‬‬
‫ا‪٢‬بوادث للذىن استخداـ فرنسا احملررة ىؤالء الوحوش ُب ا‪٢‬بوادث سوراي‬
‫ولبناف األخّبة‪.‬‬

‫وكذلك يتعاذل الضابط الفرنسي على األجنيب الذي يزاملو ُب‬


‫عملو ُب الفرؽ األجنبية‪ ،‬ولو كاف أرقى منو بصفاتو وبدرجتو العسكرية‪،‬‬
‫ولو اندفعت بتأثّب مزاجي العصيب ‪ٙ‬بت أتثّب ما ٱبلقو الضابط الفرنسي‬
‫الزميل من أسباب ا‪٤‬بشاكل لطردت من ا‪٣‬بدمة ُب ذلك ا‪١‬بيش‪.‬‬

‫كنت ا‪٤‬بصري ا‪٤‬بفرد ُب تلك الفرقة‪ ،‬وكاف عملي ُب مكتب‬


‫خاص من مكاتب القيادة‪ ،‬ورئيسي ا‪٤‬بباشر ىو األمّباالى جورو‬
‫ابلذات‪ ،‬وقد احتفظت ابلعزلة من أوؿ األمر ألاها عادة ثبتت رل أثناء‬
‫وجودي ُب ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية ا‪٤‬بصرية ٍب ُب البوليتكنيك‪ ،‬فػأفدت من ىذا‬
‫االحتياط الوقاية من ا‪٤‬بشاكل وا‪٤‬بنغصات‪ ،‬ألف الفرنسي ال يطيق رؤية‬
‫إنساف من غّب جنسو ٰبتفظ بكرامتو‪.‬‬

‫ومن ىذا الوصف اؼبوجز يدرؾ العقل نوع سياسة اؼبستعمر‬


‫ُب البلد الذي يتحك فيو ابلقوة‪ ،‬ويعرؼ اؽبدؼ الذي ترمى إليو‬
‫ىذه السياسة‪ ،‬فكل مستعمر يدعى أنو يعمل لتحضّب السكاف‬
‫ونقله من الفوضى إىل النظاـ‪ ،‬ومن اؽبمجية إىل اإلنسانية بنشر‬
‫التعلي وأسباب اغبضارة ونظ اغبك العادؿ ليمكنه من االرتقاء ٍب‬
‫من حك أنفسه والواقع بنقص ىذه الدعاوى الكاذبة‪ ،‬ويثبت أف‬
‫‪124‬‬
‫سياسة اؼبستعمر هتدؼ ؽبدـ كياف األمة الٍب تتساقط عليها‪ ،‬فتفسد‬
‫األخبلؽ‪ ،‬وتعاوف على نشر الرذائل‪ِّ ،‬‬
‫وربوؿ وسائل التعلي إىل‬
‫عمليات غّب منتجة‪ ،‬وربصر اؼبعرفة ُب حدود ضيقة‪ ،‬وتسطو على‬
‫الكرامات فتذؽبا‪ ،‬وعلى الفكر تقيده‪ ،‬وعلى اغبرية رببسها‪ ،‬وعلى‬
‫الثروة القومية فتسلبها بشٌب اغبيل االقتصادية‪ ،‬فتتحوؿ اؼبستعمرة‬
‫هبذه الوسائل إىل مزرعة للمستعمر‪ ،‬ويصّب الناس عماال أذالء ُب‬
‫ىذه اؼبستعمرة‪.‬‬

‫دل تكن رل ا‪٤‬بعرفة الٍب ‪ٛ‬بكنِب من وزف األمور وزانً صحيحاً‪ ،‬ألنِب‬
‫كنت ُب طور الشباب انقص ا‪٤‬بعرفة قليل التجارب‪ ،‬فكاف نظري قاصراً‬
‫على رؤية الوقائع احملددة والتصرفات الفردية‪ ،‬وأنواع الغطرسة والقسوة‬
‫الٍب تنصب على األفراد القريبْب من نظري‪ .‬من طبع اإلنساف النفور من‬
‫الظلم الظاىر ومن القسوة الٍب ال تربرىا أسباب واضحة‪ ،‬وىذا النفور‬
‫يؤدي إذل الشفقة على ا‪٤‬بظلوـ وا‪٤‬بغبوف الذي يقع عليو الظلم أو تسحقو‬
‫القسوة‪ ،‬فلهذا السبب أعطف على الوطنيْب حيث حللت ال بباعث ما‬
‫يسمى‪ :‬اإلنسانية إ٭با بتأثّب الطبع‪.‬‬

‫ولست أنسى يوماً رأيت فيو فريقاً من رجاؿ البادية يساقوف إذل‬
‫السجن بْب ‪ٝ‬باعة من الفرساف وخلفهم ا‪١‬باويش ىاشم على جواده ُب‬
‫مظهر غا ٍز فاز ُب ا‪٤‬بعركة‪ ،‬ورأيت ا‪٤‬بأسورين ُب حباؿ طويلة وضعت ُب‬
‫‪125‬‬
‫أعناقهم شكل "خية" رخوة ال تضايق العنق فاستخففت هبذه القيود الٍب‬
‫يسهل التخلص منها‪ .‬و‪٤‬با حانت رل فرصة ا‪٣‬بلوة اب‪١‬باويش ُب ا‪٤‬بساء‬
‫أبديت لو ىذه ا‪٤‬ببلحظة فضحك من سذاجٍب‪ ،‬ودفعو الغرور إذل‬
‫التحدث عن ا‪٣‬بية وعن خطرىا العظيم الذي دل أفطن إليو‪.‬‬

‫قاؿ إف ا‪٣‬بية الرخوة حوؿ العنق مشنقة اب‪٤‬بعُب الكامل‪ ،‬ويكفي‬


‫أف يسقط رجل من ا‪١‬بماعة أثناء سّبىم ُب الطريق فيشنق نفسو‪،‬‬
‫وسقوط جسمو يشد ا‪٢‬ببل فيشنق ُب الوقت نفسو واحداً أو أكثر من‬
‫الذين أمامو أو الذين خلفو‪ ،‬وتستمر عملية ا‪٣‬بنق إذا دل يسرع ا‪٢‬براس‬
‫‪٤‬بنع ضغط ا‪٢‬ببل ا‪٤‬بشدود عن األعناؽ‪.‬‬

‫وقاؿ عن الرجاؿ إاهم من البادية مر هبم ضابط فرنسي ذكر ا‪٠‬بو‬


‫فداعب فتاة من بناهتم فصرخت تستغيث أبىلها؛ فهرعوا إليها وأىانوا‬
‫الضابط واعتدوا عليو فلجأ إذل ا‪٥‬بروب إلنقاذ حياتو‪ ،‬و‪٤‬با عاد الضابط‬
‫اختارشل بْب زمبلئي لوثوقو من بسالٍب ومن سعة حيلٍب ودلِب على‬
‫ا‪٤‬بكاف الذي بو خياـ تلك ا‪١‬بماعة من البدو‪ ،‬فاخَبت عدداً من ا‪١‬بنود‬
‫أثق هبم وقصدت إذل تلك ا‪٣‬بياـ ُب الصحراء‪.‬‬

‫فاجأت فريقاً منهم ‪٦‬بتمعْب ُب خيمة فَبجلت عن ا‪١‬بواد وكذلك‬


‫فعل أصحايب ودخلنا ا‪٣‬بيمة‪ ،‬دل نتكلم إ٭با أطلقنا بنادقنا على الرجاؿ‬
‫فتوالىم الذعر وانطلقوا ىاربْب ُب الصحراء اتركْب القتلى وا‪١‬برحى على‬
‫‪126‬‬
‫األرض‪ ،‬و‪٠‬بع النساء صوت إطبلؽ النار فأسرعن إذل ا‪٣‬بيمة‪ ،‬ورأين‬
‫ا‪١‬بثث على األرض فولولن وصرخن‪.‬‬

‫وبدأت ا‪٤‬بعركة بيننا وبْب النساء وسبلحهن ا‪٢‬بجارة والزلط‬


‫الكبّب‪ ،‬وأصابِب حجر ُب كتفي أت‪٤‬بت منو فسللت سيفي وطعنت بو‬
‫امرأة ُب صدرىا فشقو ونفذ من ظهرىا؛ ففزع النساء وتفرقن بعيداً عن‬
‫ا‪٤‬بكاف وصراخهن يزيد؛ ولكننا ‪ٛ‬بكنا من القبض على ثبلث منهن‬
‫وتظاىران أبخذىن معنا ُب طريق العودة ودل يطق الرجاؿ مشهد النساء‬
‫نسبيهن منهم فعادوا إلينا أذالء خاضعْب الفتداء النساء‪ ،‬فوضعناىم ُب‬
‫ا‪٢‬بباؿ كما رأيت وعدان هبم إذل ىنا ‪ ...‬إ٭با مات بعضهم ُب الطريق‬
‫بفعل ىذه ا‪٣‬بيات‪ ،‬فطرحنا ا‪١‬بثث وقصران ا‪٢‬بباؿ‪ ،‬ومضينا ُب طريقنا‬
‫بسبلـ ووصلنا إليكم‪.‬‬

‫وقد اكتفيت بذكر ما ‪٠‬بعت من ا‪١‬باويش ىاشم‪ ،‬وال أزيد شيئاً‬


‫للتعليق على ىذا ا‪٢‬بادث الذي يتكرر كثّب من نوعو طوؿ زماف خضوع‬
‫مشاؿ أفريقيا للمستعمرين ‪ ...‬إ٭با أزيد عليو وصف ا‪١‬باويش ىاشم بطل‬
‫ىذه ا‪٤‬بأساة‪.‬‬

‫فقد نشأ نشأة شيطانية‪ ،‬كاف نشاالً وىو صيب‪ ،‬ولصاً وىو‬
‫شاب‪ ،‬وقاطع طريق وىو بْب الشباب والرجولة‪ ،‬وسجيناً بعد ذلك‪،‬‬
‫ٍب انتقل إىل تركيا وخدـ جنديً ُب اعبيش‪ ،‬وىرب منو إىل اعبزائر‬
‫‪127‬‬
‫والتحق ابلفرقة األجنبية ىناؾ‪ ،‬وقد كونت لو ذبارب اؼباضي الطويل‬
‫قدرة على شق طريقو ُب اغبياة‪ ،‬وعلى إرضاء ضابطو ابإلخبلص لو‬
‫والتفاٍل ُب خدمة أغراضو‪ ،‬فاطمأف لو وعاونو على االرتقاء‪ ،‬فصار‬
‫من أقسى آالت اؼبستعمرين ُب التعذيب والتنكيل بكل من يسلط‬
‫عليه ‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫‪18‬‬
‫قضيت عاماً ُب ا‪١‬بزائر دل آنس فيو بفرنسي واحد سوى ا‪١‬بنراؿ‬
‫جورو‪ ،‬كاف يعتقد أنِب ضابط عسكري اب‪٤‬بعُب الكامل أؤدي الواجب‬
‫بدقة كما ىو مفروض على‪ ،‬وكاف يراتح ‪٤‬ببلحظاٌب الفنية ُب ا‪٤‬بناقشات‬
‫الٍب ‪ٙ‬بدث بْب الضباط الكبار‪ ،‬وكنت أخرج من ىذه ا‪١‬بلسات وأان‬
‫على يقْب من أنِب مكروه ومنفور مِب‪ ،‬بسبب اعَباضي على كل رأى ال‬
‫يقره الفن وا‪٤‬بنطق‪ ،‬ولو كاف ىذا الرأي ألكرب ضباط ُب الفرقة‪.‬‬

‫وُب عصر أحد األايـ خرج ا‪١‬بنراؿ من مكتبة وأان معو‪ ،‬وحييتو‬
‫النصرؼ فطلب مِب أف أتبعو فسرت ُب إثره حٌب وصلنا إذل حقل‬
‫منبسط مزورع‪ ،‬فاستند على عكاز ذي شعبتْب يركز بينهما ساعده‬
‫ويتكئ فيسَبيح ٍب أسر إذل أبنِب ُرقيت وصدر األمر بنقلي إرل ا‪٤‬بكتب‬
‫الثاشل بوزارة ا‪٢‬برب بباريز‪ .‬وىنأشل على ىذه ا‪٣‬بطوة ألاها فا‪ٙ‬بة مستقبل‬
‫زاىر‪ ،‬وقاؿ رل ليس من ا‪٤‬بيسور قبوؿ كل إنساف بْب موظفي ىذا‬
‫‪129‬‬
‫ا‪٤‬بكتب ألف ‪ٝ‬بيع أعمالو من اخطر أسرار وزارة ا‪٢‬برب‪ ،‬وقد حدث‬
‫االعَباض على اختيارؾ ‪٥‬بذا ا‪٤‬بكتب ألنك أجنيب ال فرنسي وكانت‬
‫إجابٍب على ىذا االعَباض‪ :‬أف الدولة ‪ٚ‬بتار ا‪١‬بواسيس الصا‪٢‬بْب للعمل‬
‫من شٌب األجناس إذا وجدت األسباب الٍب ‪ٙ‬بمل على الثقة هبم‪،‬‬
‫والذي يزكى ىذا الضابط لقبولو بذلك ا‪٤‬بكتب ىو ثقٍب بو بعد‬
‫االختيار‪.‬‬

‫وأمرشل ابالستعداد للسفر على أوؿ ابخرة تعود ‪٤‬برسيليا‪ ،‬وأخرج‬


‫من جيبو غبلفاً ‪٨‬بتوما أعطاه رل وقاؿ‪" :‬عند وصولك إىل وزارة اغبرب‬
‫تقدـ نفسك ؼبدير اؼبكتب وتسلمو ىذا اػبطاب"‪.‬‬

‫شكرت ا‪١‬بنراؿ على حسن ظنو يب وعلى رغبتو ُب معاونٍب‪ ،‬ودل‬


‫أعَبض على نقلي إذل ابريز ألنِب رغم عطفو على كنت متذمراً من‬
‫وجودي بْب ضباط تلك الفرقة الفرنسيْب بسبب الغرور الذي ٰبملهم‬
‫على الصلف والغطرسة وعلى ازدراء كل أجنيب كيف تكوف صفاتو‬
‫وأخبلقو‪ .‬وكنت قوى الرغبة ُب مفارقة أولئك ا‪٤‬بتغطرسْب فأعددت‬
‫نفسي للسفر‪ ،‬وودعت ا‪١‬بنراؿ وحده‪ ،‬ورحلت إرل مرسيليا‪ ،‬ومنها ركبت‬
‫القطار إذل ابريز فعدت طبعاً إذل دار الربنسيس وىو ا‪٤‬بأوى ا‪٤‬بفروض‬
‫على اللجوء إليو‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫وعلمت من األمّبة أاها ىي الٍب سعت بواسطة بعض أصدقائها‬
‫لنقلي إذل ا‪٤‬بكتب الثاشل بوزارة ا‪٢‬برب ألعيش إذل جانبها بباريز فشكرهتا‬
‫طبعاً على اىتمامها أبمري‪ ،‬ودللت على إخبلصي ‪٥‬با ابإلطاعة وتنفيذ‬
‫كل رغباهتا‪ .‬دل أكن أعرؼ إذل ىذه اللحظة شيئاً عن اؼبكتب الثاٍل‬
‫التابع لوزارة ا‪٢‬برب‪ ،‬وأردت أف أعرؼ ألكوف على بصّبة وألىيئ نفسي‬
‫للعمل ا‪١‬بديد‪ ،‬فشرحت رل األمّبة كل ما ٱبتص هبذه الناحية شرحاً‬
‫وافياً كأاها من أركاف ذلك ا‪٤‬بكتب ا‪٣‬بطّب‪..‬‬

‫تتكوف إدارة التجسس الفرنسية العامة من عدة إدارات فرعية‬


‫اتبعة لوزارات ‪٨‬بتلفة فمنها‪:‬‬

‫اؼبكتب الثاٍل ‪ ..‬ويتبع مباشرة وزارة اغبرب‪.‬‬ ‫‪-1‬‬


‫اؼبكتب الثاٍل ‪ ..‬ويتبع وزارة البحرية‪.‬‬ ‫‪-2‬‬
‫اؼبكتب اػباص ‪ ..‬التابع لوزارة اػبارجية‪.‬‬ ‫‪-3‬‬
‫اؼبكتب اػباص ‪ ..‬التابع إلدارة األمن العاـ‪.‬‬ ‫‪-4‬‬
‫‪ -5‬اؼبكتب اػباص ‪ ..‬التابع لوزارة اؼبستعمرات‪.‬‬
‫ىذا ا‪٤‬بكتب بناء خاص ُب الزاوية القائمة على شارعي‪ :‬ساف‬
‫جرمْب واالونيفرسيتيو‪ ،‬ولو مدخل خاص عليو حرس متنبو‪ ،‬وكل زائر‬
‫يلتمس الدخوؿ يفحص أمره فحصاً دقيقاً ٍب ينقل ‪ٙ‬بت ا‪٢‬براسة إذل‬
‫غرفة انتظار تغلق عليو إذل أف يتم الفصل ُب موضوع الزايرة ابلقبوؿ أو‬

‫‪131‬‬
‫الرفض‪ .‬ولكل خزانو من خزائن ىذا ا‪٤‬بكتب مفتاحاف يكوف أحدٮبا مع‬
‫ا‪٤‬بوظف ا‪٤‬بختص والثاشل مع رئيس القسم التابع لو ىذا الضباط‪ ،‬وال‬
‫ٯبوز فتح ا‪٣‬بزانة إال بعد معرفة السبب وإقرار العمل من الرئيس‪.‬‬

‫ذىبت إذل ا‪٤‬بكتب الثاشل ومررت بغرفة االنتظار والفحص‪ٍ ،‬ب أذف‬
‫رل ٗبقابلة الرئيس‪ :‬الكلونيل سيكست‪ ،‬وقدمت لو ا‪٣‬بطاب ا‪٤‬برسل إليو‬

‫من ا‪١‬بنراؿ جورو ِّ‬


‫فتمهل ُب قراءتو ٍب دؽ ا‪١‬برس‪ ،‬فلباه ضابط كبّب‬
‫يدعى الكلونيل ليفلو فسلمِب لو ليدربِب على العمل ا‪١‬بديد ُب القسم‬
‫الذي يتوذل رائستو‪.‬‬

‫وضعت اؼبادة ربت الضغط‪ ،‬وحشر اإلنساف ُب الفرف العايل‬


‫اغبرارة ليت صهره‪ ،‬وربركت آالت التفريغ لتنتزع من اإلنساف‬
‫إنسانيتو وعاطفتو وعقلة وحٌب غريزتو لتضع مكاف العقل العادي‬
‫غّبه يصلح للعمل اؼبختار لو‪ ،‬ولتستبدؿ اإلنسانية ابلوحشية‪،‬‬
‫والعاطفة ابلقسوة‪ ،‬والغريزة الٍب تتجو لنداء امرأة واحدة بتأثّب‬
‫اعباذبية إىل غريزة حيوانية غّب مستقرة تنطلق إىل كل النواحي بدوف‬
‫اختيار‪.‬‬

‫طاؿ زمن التدريب إىل عاـ قضيتو ُب مدرسة الشياطْب الٍب‬


‫يتوىل إدارهتا الكلونيل ليلفو‪ ،‬والدروس عملية ربت اإلشراؼ الدقيق‬
‫والضغط العايل من صبيع اعبوانب‪ ،‬فتحولت إىل أدمى جديد لو‬
‫‪132‬‬
‫صفات زبالف صبيع صفات البشر وطبائعه إمبا لو ميزة واحدة تدؿ‬
‫على انو جرد من اإلنسانية‪ ،‬فصرت صاغباً للعمل ؿبصناً من مؤثرات‬
‫ص ِهرت ُب حرارة أعلى من‬
‫العاطفة والشفقة واعباذبية واؼباؿ‪ ،‬ألنِب ُ‬
‫أي حرارة ستصادفِب ُب اغبياة فبل تقوى على التأثّب ُب عاطفٍب‪.‬‬

‫من ا‪٤‬بتعذر على ا‪٤‬بوظف ُب إدارة التجسس معرفة ‪ٝ‬بيع الذين‬


‫يعلموف معو ُب اؼبكتب الثاٍل‪ ،‬ألف كثّبا منهم موزعوف ُب شٌب أ‪٫‬باء‬
‫األرض وحٌب ُب مدينة ابريس نفسها لبلصطياد‪ ،‬بعضهم ُب زي خدـ‬
‫أو طهارة أو سائقي عرابت أو موظفْب ُب الفنادؽ‪ ،‬وبعضهن عامبلت‬
‫ُب احملبلت التجارية أو راقصات أو مغنيات أو ‪٩‬بثبلت أو ‪٩‬برضات أو‬
‫وصيفات‪.‬‬

‫وقد تنكر الكلونيل ليلفو مرة ُب صورة رئيس خدـ ا‪٤‬بائدة ُب‬
‫حفلة عشاء ساىرة ُب دار سفّب دولة‪ ،‬و‪ٛ‬بكن ُب غفلة من ا‪١‬بميع من‬
‫التسلل إذل غرفة السفّب وسرؽ من خزانتو ا‪٣‬باصة كتاب الشفرة فنقل‬
‫منو األٔبدية وبعض االصطبلحات‪ٍ ،‬ب رده إذل مكانو كما كاف فلم‬
‫يكتشف أحد فعلتو‪ ،‬وكافأتو ادارة اؼبكتب الثاٍل بسبب ‪٪‬باحو ولكن‬
‫مدير ا‪٤‬بكتب نصح لو بعدـ اجملازفة بشخصو مرة اثنية ُب مثل ىذه‬
‫العملية ‪٧‬باذرة من اكتشاؼ أمره‪ ،‬فتنشأ من فضح شخصيتو مسئولية‬
‫خطّبة للدولة‪ ،‬أشار عليو ابالعتماد ُب ىذه األمور على شخصيات من‬

‫‪133‬‬
‫النكرات ذوات ا‪٤‬بقدرة وا‪٤‬براف الطويل‪ ،‬لتتمكن ا‪٢‬بكومة من إنكار ما‬
‫ينسب إليها من االشَباؾ مع الفاعل ا‪٤‬بفضوح‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫‪19‬‬
‫ُد ِّربت على ‪ٛ‬بثيل شاب أخرس ال يسمع وال يتكلم إال أبصوات‬
‫تشبو أصوات ذوي ا‪٣‬برس‪ ،‬وأرغمت على االحتفاظ هبذه الصفة وقتاً‬
‫طويبلً‪ٍ ،‬ب ‪ٝ‬بعوشل بسيدة ىولندية شابو من ذوات ا‪١‬بماؿ النادر‪ ،‬عرفت‬
‫أاها زوجة أ‪٤‬باشل ٲبلك ضيعة كبّبة ُب ضاحية و‪٥‬بلمسهافن‪ ،‬ولكنها ُب‬
‫الوقت نفسو من التابعات إلدارة التجسس ُب اؼبكتب الثاٍل‪ ،‬وعملها‬
‫ا‪٤‬بفرد أاها "صندوؽ"‪ ،‬والصندوؽ ُب اصطبلح التجسس‪:‬‬

‫"إنساف تودع عنده الرسائل اػباصة ابعبواسيس اؼبعروفْب منها‬


‫اتمة‪ ،‬فتسلمه الرسائل اؼبرسلة إليه أو تتلقى منه الرسائل الٍب‬
‫يراد إرساؽبا إىل اإلدارة بواسطة اعبواسيس عماؿ الربيد‪ ،‬أو يستدرج‬
‫إنساانً آخر ليتمكن اعباسوس اؼبنتدب من االلتقاء بو ُب ذلك‬
‫الصندوؽ"‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫لفت نظري ‪ٝ‬باؿ و‪٥‬بلمْب ووداعتها‪ ،‬وار‪ٙ‬بت للسفر معها ألكوف‬
‫خادماً ُب بيتها ُب الضيعة ولو أنِب ‪٧‬بكوـ على اب‪٣‬برس‪ ،‬ويكفي ا‪٤‬برء ما‬
‫تراتح لو العْب من مشاىدة ا‪١‬بماؿ والتأثر بفتنتو‪ ،‬والبقاء إذل جانب‬
‫حسناء ‪٣‬بدمتها أفضل من ‪٦‬باورة عجوز دميمة تنفر النفس منها‪.‬‬

‫حضر زوج ىذه الفتانة إذل ابريز ألعماؿ خاصة بتجارتو الواسعة‪،‬‬
‫فعرضت عليو رغبتها ُب ا‪٢‬بصوؿ على خادـ أخرس فضحك الرجل‬
‫لغرابة الطلب ولكنو دل يرفضو‪ ،‬وىذه عادة كل كهل يقَبف بشابة ألنو‬
‫ٰباوؿ اسَبضاءىا ٔبميع الوسائل ا‪٤‬بمكنة عسى أف يعوضها ‪٩‬با حرمت‬
‫منو من بواعث اختيار ا‪٤‬برأة الشباب‪.‬‬

‫وأشارت عليو ابلتحدث ابلتليفوف مع ا‪٤‬بكاتب الٍب تورد ا‪٣‬بدـ‬


‫ففعل‪ ،‬ولكن ا‪٤‬بطلوب كاف اندراً ُب تلك ا‪٤‬بكاتب فلم تلب الطلب‬
‫مدى شهر كامل حٌب كادت تنتهي أايـ الزوج ُب فرنسا وٰبْب موعد‬
‫عودتو إذل ضيعتو ُب أ‪٤‬بانيا‪ .‬أ‪٢‬بت عليو الزوجة ا‪٢‬بسناء للبحث عن‬
‫ا‪٣‬بادـ‪ ،‬وكرر الرجل توصية ا‪٤‬بكاتب مرات مع الوعد ٗبكافأة كبّبة ‪٤‬بن‬
‫يتمكن من استحضار ا‪٣‬بادـ األخرس‪.‬‬

‫وحضر إذل الفندؽ أحد أصحاب ا‪٤‬بكاتب وقابل الزوج ونبأه‬


‫بوجود خادـ من ىذا النوع ُب ليوف ولكنو يعمل ُب بيت أرملة عجوز‬
‫من ذات الثروة‪ ،‬وذكر لو أف ُب استطاعتو إغراء ا‪٣‬بادـ بَبؾ مكاف عملو‬
‫‪136‬‬
‫إذا ُوجدت ا‪٤‬بغرايت‪ ،‬واشَبكت و‪٥‬بلمْب ُب الرأي وسخت اب‪٤‬بغرايت‬
‫وبنفقات سفر صاحب ا‪٤‬بكتب إذل ليوف إلغواء ا‪٣‬بادـ وإلحضاره معو‪.‬‬

‫ونفذ الرجل رغبو السيدة السخية وسافر إذل ليوف وعاد اب‪٣‬بادـ‬
‫األخرس‪ ،‬وفحص الزوج أوراؽ الشخصية والشهادات الٍب ٰبملها ا‪٣‬بادـ‬
‫للداللة على أمانتو فاطمأف ‪٥‬با‪ ،‬وقبل األخرس ليخدـ ُب بيتو‪.‬‬

‫ٍب رحلنا إذل و‪٥‬بلمسهافن ووصلنا إذل الضيعة وبدأت أعمل‬


‫كخادـ خاص للحسناء الفاتنة‪ ،‬وبذلت ا‪١‬بهد ُب ا‪٣‬بدمة ألانؿ رضا‬
‫سيدٌب بتأثّب ارتياحي ‪١‬بما‪٥‬با ال بدافع األمانة ُب أتدية عملي كجاسوس‬
‫ينتظر الفرص النتهازىا ولتأدية الواجب ا‪٤‬بطلوب منو‪ .‬ودل تعن و‪٥‬بلمْب‬
‫إبدراؾ ما ُب نفسي من الشوؽ والرغبة‪ ،‬ألاها دل تكن معي امرأة ‪٥‬با‬
‫شعور إ٭با آلة تنفذ ما صنعت لو ال أكثر‪ ،‬فحملت ىذا التغافل على‬
‫حرماشل من لساشل الذي يعرب عما ُب نفسي‪ ،‬وعلى قلة ما وىبتِب‬

‫الطبيعة من مغرايت ا‪٤‬برأة ا‪٢‬بسناء‪ ،‬فاكتفيت ٗبا ِّ‬


‫عْب رل من ا‪٣‬بدمة‬
‫واب‪٢‬بسرة ا‪٤‬بستمرة‪.‬‬

‫وزاد ُب ا‪٤‬بنغصات أف و‪٥‬بلمْب كانت تستقبل ُب بيتها بعض‬


‫ضباط ا‪٢‬بامية ا‪٤‬بوجودة ُب و‪٥‬بلمسهافن ومنهم القائد‪ ،‬كاف برتبو قائد‬
‫فرقة بلغ العقد ا‪٣‬بامس من العمر ولكنو احتفظ ابلصحة والعافية‬
‫وبشباب القلب‪ ،‬وكانت و‪٥‬بلمْب ‪ٙ‬بسن استقبالو وتعُب إبكرامو ابىتماـ‬
‫‪137‬‬
‫واضح دل يغب عن عْب الرجل‪ ،‬فعلل األسباب كما شاء الغرور‪،‬‬
‫وشجعتو وداعة ا‪٢‬بسناء على الطمع أبكثر من اإلكراـ‪.‬‬

‫وقد الحظت أف الزوج يشَبؾ مع زوجو ُب ا‪٢‬بفاوة ابلقائد أثناء‬


‫الزايرات ا‪٤‬بتقطعة و‪ٙ‬بَبمو أجل احَباـ‪ ،‬كما الحظت أف ىذه الزايرات‬
‫تكثر أثناء غياب زوج و‪٥‬بلمْب ُب أعمالو الٍب تستدعى السفر‪ .‬لعبت‬
‫ا‪٤‬برأة دورىا مع القائد العسكري ٗبهارة صائدة الرجاؿ احملَبفة‪ ،‬كانت‬
‫تظهر االرتياح ‪٢‬بديثة و‪٦‬بامبلتو‪ ،‬وتلْب بتأثّب عباراتو ليتوىم أنو ابلغ إذل‬
‫الفوز فيزيد شوقو ويقوى طعمو‪ ،‬ولكنها كانت ‪ٙ‬بسن التصرؼ لوقف‬
‫االجَباء عند حد معْب‪.‬‬

‫سر بزايرات الضباط من الشباب وتنشط نشاطاً صادقاً‬


‫وكانت تػُ ُّ‬
‫ُب الَبفيو عنهم بلعب التنس أو الَبيض ُب ا‪٢‬بديقة الفسيحة أو بتوقيعها‬
‫على البيانو‪ ،‬فيقضي ا‪١‬بميع وقت الزايرة ُب ائتناس وحبور‪ .‬وموقع‬
‫الضيعة ابلقرب من ذلك ا‪٤‬بعسكر ا‪٢‬باشد ابلضباط كاف يغري ا‪١‬بميع‬
‫ابلتعريف اب‪٢‬بسناء صاحبة األرض والقصر وا‪١‬بماؿ قوى ا‪١‬باذبية‪،‬‬
‫وشجعتهم ا‪٤‬برأة أبدهبا ودال‪٥‬با وفتنتها على تكرار الزايرات ُب أوقات‬
‫الفراغ‪ .‬وُب نفوس ‪ٝ‬بيع الشباف حافز للتمتع من قرب ٗبشاىدة ا‪٢‬بسن‬
‫ُب ‪٦‬بلس ا‪٤‬برأة ا‪١‬بميلة وبسماع حديثها ا‪٢‬بلو‪ ،‬وابلتأثر ٔباذبيتها القوية‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫كنت أمثل دور ا‪٣‬بادـ األخرس ٗبهارة فبل أ‪٠‬بع العبارات الغرامية‬
‫ا‪٤‬بستورة الٍب ٱبتارىا القائد ألذف الفتانة الٍب وقع ُب شركها‪ ،‬دل يكن‬
‫ٰبَبس مُب أثناء وجودي لقضاء حاجة ‪٥‬بما ألنو علم من ربو الدار أنِب‬
‫أخرس واألخرس أصم ال يسمع‪ .‬كانت و‪٥‬بلمْب أتمرشل ابإلشارة ابحملافظة‬
‫على جواد الزائر وابلعناية إذا كاف وقت الزايرة سيطوؿ ُب يوـ األحد‪ ،‬أو‬
‫حْب تكوف الزايرة بسبب دعوة من الزوج لتناوؿ الغذاء أو العشاء‪.‬‬

‫اطمأف رل الضابط الكبّب ‪٤‬با آنس مُب االىتماـ ٔبواده‬


‫واالبتهاج بزايرتو‪ ،‬فعوضِب من شعوري شعوراً ابلشفقة على يدؿ عليها‬
‫ابالبتساـ‪ ،‬وزاد ُب ارتياحو اىتمامي ابلسّب وراء ا‪١‬بواد حٌب يتجاوز‬
‫حدود الضيعة إذل الطريق العاـ ا‪٤‬بوصل إذل ا‪٤‬بعسكر‪ .‬ودائما يزداد شوؽ‬
‫الرجل إذل ا‪٤‬برأة الٍب تستهويو ما داـ دل يبلغ إليها وال يسأـ من التدلل‬
‫والتمنع بل ٯبدد ُب عزـ بذؿ ا‪١‬بهود للتمكن من ‪ٙ‬بقيق الرغبة‪ .‬وىكذا‬
‫كاف حاؿ ذلكم األ‪٤‬باشل ا‪٤‬بتغطرس‪ ،‬زاد ولعو اب‪٤‬بستعصية عليو وتضاعف‬
‫نشاطو لنيل أمنيتو‪ ،‬وكلما أحس ارتياحها لو وتوددىا إليو ُب ظرؼ‬
‫وقوي أملو بقرب الوصوؿ إليها‪ ،‬فكاف لعبة ُب‬
‫ولدالؿ اشتد طمعو هبا َ‬
‫يد ا‪٤‬برأة‪.‬‬

‫اطمأف حٌب صرت أرافقو إذل حدود ا‪٤‬بنطقة احملرمة بعد انصرافو‬
‫من تناوؿ الشاي ُب الضيعة‪ ،‬و‪ٞ‬بلو الولع على استخدامي مرة ُب ‪ٞ‬بل‬

‫‪139‬‬
‫كتاب مغلف إذل موالٌب أشار إذل اب‪٢‬برص على ىذا السر‪ ،‬وكاف‬
‫الكتاب أوؿ مكاشفة ٗبا ُب نفسو من العاطفة الٍب كبتها زمناً زاد عن‬
‫حد االحتماؿ‪.‬‬

‫ودل تنفر ا‪٥‬بولندية من ىذا االعَباؼ ألاها قرأت الكتاب ُب‬


‫ارتياح ٍب أعطتو رل ألطلع عليو‪ ،‬فكانت ىذه الوثبة بداية التوفيق ُب‬
‫الغرض الذي نتضامن للبلوغ إليو‪ .‬دل ٘بب ا‪٣‬ببيثة على كتاب العاشق‬
‫ابلكتابة‪ ،‬وتريثت حٌب حضر زوجها ودعاه للغذاء ُب يوـ أحد‪ ،‬فلقي‬
‫منها ا‪٢‬بفاوة وغلواً ُب وسائل التكرصل‪ ،‬فاطمأف ‪٥‬با أاها دل تنفر من‬
‫مكاشفتو ا‪١‬بريئة‪ .‬واستمر على عاداتو ُب تكرار الزايرات حٌب عرؼ عند‬
‫ا‪١‬بميع أبنو صديق ىذه األسرة‪.‬‬

‫استبقت ا‪٢‬بسناء القائد مرة إذل وقت متأخر من الليل ٍب أمرتِب‬


‫ٗبرافقتو حٌب يصل إذل مقره‪ .‬كاف ا‪٤‬بطر رذاذ فارتدينا أردية ا‪٤‬بطر ووصلنا‬
‫إذل ابب القلعة سا‪٤‬بْب بفضل سر الليل الذي يعرفو‪ ،‬وشق عليو أف أعود‬
‫وحدي إذل الضيعة بسبب ا‪٤‬بطر الذي أخذ ينهمر‪ ،‬فدخلت معو القلعة‬
‫و٭بت ُب القسم ا‪٣‬باص بو‪.‬‬

‫وجرأتو ىذه ا‪٢‬بادثة على اإلذف رل بدخوؿ القلعة حْب ترسلِب‬


‫موالٌب إليو ألي سبب وكانت ا‪٤‬برأة ‪ٚ‬بلق ىذه األسباب ُب أوقات‬
‫متقطعة‪ ،‬فعرفت ُب ا‪٤‬بعسكر وذللت رل العقبات الٍب ‪ٙ‬برـ دخوؿ القلعة‪،‬‬
‫‪140‬‬
‫وظهر ارتياحي للرجل وابتهاجي ٖبدمتو فزاد عطفو على فصرت أكثر‬
‫من البقاء عنده كلما جد ما يدعو ‪٤‬بقابلة لشأف ٱبتص ٗبواالٌب‪ .‬ودل ٯبد‬
‫ا‪١‬بنود وال الضباط سبباً للنفور مُب‪ ،‬وألفوا رؤيٍب ُب معسكرىم‪ ،‬كذلك‬
‫صادقِب كلب القائد واراتح ‪٤‬بداعباٌب‪.‬‬

‫لبثت شهورا على ىذه األمانة حٌب اطمأف ا‪١‬بميع ٍب بدأت‬


‫عملية التجسس ا‪٤‬بنوطة يب كضابط ُب ا‪٤‬بكتب الثاشل‪ .‬وتذكرت مرات‬
‫لوحة رايتها ُب مكتب الكلونيل سيكست مكتوبة عليها ىذه العبارة‪:‬‬
‫"دفع مليوف جنيو للحصوؿ على ضابط أركاف حرب من األعداء‬
‫صفقة راحبة"‪.‬‬

‫كاف ا‪٤‬بفروض على ا‪٢‬بصوؿ على أسرار خاصة ٗبدافع ثقيلة‬


‫جديدة‪ ،‬وقد وضعت بعض ىذه ا‪٤‬بدافع ُب و‪٥‬بلمسهافن‪ ،‬فلم تكن‬
‫العملية سهلة بل دقيقة ‪٤‬بعرفة أجزاء ا‪٤‬بدفع ووزف القذيفة‪ ،‬ومقاييس شٌب‬
‫ٍب مدى الرماية‪ .‬ودأبت على ‪ٝ‬بع ىذه ا‪٤‬بعلومات جزءاً بعد جزء بعد‬
‫فَبات من الزمن‪ ،‬وكنت أبلغ رئيسي أوالً أبوؿ ما حصلت عليو‪ .‬كانت‬
‫الكتابة طبعا اب‪٢‬برب السري وبشفرة خاصة‪ ،‬وكانت و‪٥‬بلمْب صندوؽ‬
‫الربيد فهي الٍب تتوذل تسليم الكتب للجاسوس الربيد‪.‬‬

‫اغَبرت ابلنجاح الذي وصلت إليو وكاف ىذا الغرور سبباً قلل‬
‫من االحتياط ويسر رل االطمئناف فكشفت ا‪٤‬بصادفة أمري ووقعت ُب‬
‫‪141‬‬
‫ا‪٤‬بأزؽ ا‪٢‬برج‪ ،‬وا‪٤‬بأزؽ ا‪٢‬برج لكل جاسوس ىو القبض عليو متلبساً ٔبرٲبة‬
‫التجسس والعقوبة ا‪٤‬بعروفة ‪٢‬بالة التلبس‪ :‬ىي اإلعداـ ‪..‬‬

‫مللت طوؿ اإلقامة إذل جانب و‪٥‬بلمْب الفتانة ألاها دل تشعر‬


‫إطبلقاً أبنِب شاب مبصر يرى ا‪٢‬بسن ويشعر بتأثّب الفتنة ُب نفسو‪ ،‬ودل‬
‫‪ٛ‬بكنِب حصانتها من التودد إليها كإنساف فرض عليها أف تقبلِب ُب بيتها‬
‫خادماً أخرس فوضعتِب ُب ىذا الوضع ودل تتحوؿ عنو‪ .‬وقد غاظِب منها‬
‫ىذا ا‪١‬بمود‪ ،‬وزاد ُب حنقي ما كنت أراه من نشاطها ُب ‪٦‬باملة القائد‬
‫ومبلطفتو إذل أقصى حدود اإلغراء والتشجيع‪ ،‬حٌب أمامي‪.‬‬

‫كانت تفَبض عدـ وجودي ألاها تعلم يقينا أنِب آلة ليس ‪٥‬با‬
‫حس وال شعور وال غريزة وال حقي ُب االشتهاء والرغبة‪ .‬وقد عمدت‬
‫إذل البصر واالحتماؿ ما استطعت إذل أف رأيتها مرة ُب غرفة االستقباؿ‬
‫بْب ذراعي القائد فالتهبت من الغّبة وغلى دمى من شدة الغيظ وامتؤل‬
‫صدري ابلغل‪ ،‬فنفد الصرب وتبلشت قوة االحتماؿ‪ ،‬وعزمت على‬
‫التخلص بسرعة من ىذا التعذيب ألنو فوؽ الطاقة‪ ،‬ٯبب أف أًب عملي‬
‫إذل النهاية أل‪ٛ‬بكن من مبارحة الضيعة والعودة إذل ابريس‪ ،‬فأصررت على‬
‫النشاط لبلنتهاء بسرعة ال يربرىا ا‪٢‬برص‪ ،‬فاندفعت ‪ٙ‬بت أتثّب الولع‬
‫والغيظ والغّبة اندفاع األ‪ٞ‬بق فقد وعيو‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫مكثت ُب القلعة ُب النهار الثاشل وقتاً طويبلً‪ ،‬وغامرت بدوف‬
‫احتياط فجمعت بقية ا‪٤‬بطلوب مُب‪ ،‬وكانت الرسوـ واألرقاـ كثّبة ال‬
‫ٲبكن أف ‪ٙ‬بتفظ هبا الذاكرة كما كنت أفعل من قبل ُب أخذ البياانت‬
‫عن جزء واحد من األجزاء‪ ،‬فر‪٠‬بت على ورقة وكتبت األرقاـ ُب غفلة‬
‫من ا‪١‬بميع وبينما كنت أطوي الورقة ألخفيها ىا‪ٝ‬بِب كلب القائد‬
‫ليداعبِب فخطف الورقة وجرى هبا وركضت خلفو ُب فزع الستخلصها‬
‫منو‪ ،‬فانفتح ابب مصادفة وظهر منو ضابط فرأى الورقة ُب فم الكلب‬
‫ورآشل أج ّد وراءه فصوب مسدسو إذل رأسي وصاح يب‪" :‬ارفع يديك إىل‬
‫رأسك" ‪...‬‬

‫ما أخطر ىذا األمر ا‪١‬بازـ!‬

‫إنو هتديد ابلقتل إذا دل ينفذ بسرعة الربؽ‪ ،‬فرفعت يدي ٕبركة ال‬
‫شعورية‪ ،‬فكانت اإلطاعة من األدلة على أنِب أ‪٠‬بع فثبت ثبواتً قاطعاً‬
‫أنِب لست أصم وال أخرس‪ ،‬والنتيجة ا‪٤‬بنطقية ‪٥‬بذه الفضيحة ثبوت‬
‫تنكري هبذه ا‪٢‬بيلة للتجسس‪ .‬صف ػر الضابط وأان ‪ٙ‬بت ر‪ٞ‬بة مسدسو‬
‫فهرع إليو بعض زمبلئو خرجوا من حجراهتم وقبضوا على‪ ،‬ورأيت الكلب‬
‫رابضاً على خطوات منا والورقة ا‪٣‬بطّبة ُب فمو‪ ،‬فاستخلصها أحد‬
‫الضباط و‪ٙ‬بقق ‪٩‬با فيها ٍب سلمها للضابط األوؿ‪ ،‬فأمر بنقلي إرل سجن‬
‫القلعة فألقيت ُب دىليز ا‪٤‬بوت ‪..‬‬

‫‪143‬‬
‫أدلة اإلثبات ضدي قوية واضحة ال تَبؾ منفذا للشك ُب‬
‫اإلدانة وقد ًب ‪ٝ‬بعها بسرعة‪ ،‬وليس ُب مقدوري ادعاء ا‪٣‬برس والصمم‬
‫وجهل القراءة والكتابة ألف الدفاع على ىذه الصورة عمل صبياشل‪ ،‬وُب‬
‫مقدور احملققْب إرغامي على النطق ابلتعذيب‪ ،‬والعقوبة على جرٲبٍب الٍب‬
‫اكتشفت ُب حالة التلبس عقوبتها اإلعداـ حتماً‪ ،‬وليس على ظهر‬
‫األرض قوة تستطيع إنقاذي من ىذه الورطة‪.‬‬

‫ستنكرشل فرنسا إذا اعَبفت أبنِب أ٘بسس ‪٥‬با‪ ،‬وستدعى و‪٥‬بلمْب‬


‫عند سؤا‪٥‬با أاها خدعت وأاها ال تعرؼ عن حقيقٍب‪ ،‬ولن يكوف لدى‬
‫االهتاـ أي دليل يثبت عليها االشَباؾ معي ُب ا‪١‬برٲبة‪ ،‬وسينتهي األمر‬
‫إبعدامي‪ ،‬وٗبعاقبة القائد بسبب غفلتو الٍب مكنتِب من دخوؿ القلعة‬
‫والبقاء فيها ُب حرية بدوف الشك ُب أمري‪.‬‬

‫ولكن احملقق ال يكتفي إبعدامي إ٭با يريد أف يسمع اعَباُب بكل‬


‫ما فعلت ؤبميع ما حصلت عليو من األسرار‪ ،‬فأصر على ا‪٢‬بصوؿ‬
‫على ىذا االعَباؼ و‪١‬بأ إذل شٌب ا‪٢‬بيل لئلغراء منها وعود سخية مع‬
‫العفو عُب واستخدامي ُب مكاتب ٘بسسهم‪ ،‬والطمع اب‪٢‬بياة ابلنجاة من‬
‫ا‪٤‬بوت احملقق من أقوى ا‪٤‬بؤثرات ُب نفس شاب دل يشبع من ا‪٢‬بياة‬
‫ويرغب ُب البقاء‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫ولكنِب كنت على يقْب من الوعود أاها كاذبة وأاها ‪٦‬برد وسيلة‬
‫‪٤‬بعرفة األسرار الٍب وفقت للحصوؿ عليها‪ .‬وكاف اعتقادي الراسخ أف‬
‫جرٲبٍب البد من العقاب عليها اب‪٤‬بوت‪ ،‬وما داـ اإلعداـ ىو النهاية‬
‫احملتمة‪ ،‬فلماذا أم ِّكن القوـ من معرفة ما يريدوف ؟ و‪٤‬باذا ال أموت وتدفن‬
‫أسراري معي انتقاماً منهم؟‬

‫أعجبتِب ىذه ا‪٣‬بواطر بعد وزاها فأصررت على عدـ االعَباؼ‪،‬‬


‫قلت جمللس التحقيق‪" :‬لقد ذبسست وًب القبض على وأان متلبس‬
‫ابعبريبة‪ ،‬وال مناص من اعبزاء‪ ،‬وكل اعَباؼ ال يلطف من العقوبة‬
‫الٍب استحقها بسبب ضباقٍب وعدـ احَبازي من الفضيحة‪ ،‬فافعلوا يب‬
‫ما تريدوف ألنِب عاجز عن النجاة وعن الدفاع عن حياٌب"‪.‬‬

‫دل ييأس احملقق من ‪ٞ‬بلي على االعَباؼ التاـ‪ ،‬وزاراشل ُب‬


‫السجن أمّب من ىوىنزولرف وأقسم بشرفو أف أ‪٤‬بانيا ستعفو عُب‬
‫وتستخدمِب إذا اعَبفت بكل ما حصلت عليو من األسرار‪ ،‬وابلدولة‬
‫الٍب ٘بسست ‪٥‬با‪ ،‬وابلوسائل الٍب اعتمدت عليها لتوصيل رسائلي‪ٍ ،‬ب‬
‫ٗبكاف الشفرة الٍب نتخاطب هبا‪ .‬دل أصدؽ ٲبْب األمّب واستنتجت من‬
‫االىتماـ ابألمر أف ا‪٤‬بطاولة ُب التحقيق ‪ٙ‬بمل عليها الرغبة القوية ُب‬
‫معرفة مدى ما عرفت من األسرار‪ٍ ،‬ب ا‪٢‬بصوؿ على الشفرة‪ ،‬و‪٤‬باذا أم ِّكن‬
‫قوما عزموا على قتلى ‪٩‬با يهمهم معرفتو مِب؟‬

‫‪145‬‬
146
‫‪20‬‬
‫كاف السجن ُب قاع القلعة‪ ،‬وىو عبارة عن حجرتْب ُب‬
‫إحداٮبا ابب من قضباف ا‪٢‬بديد السميك يوصل للثانية وىى السجن‪،‬‬
‫األوذل ٯبلس فيها ا‪٢‬بارس ا‪٤‬بسلح ووجهو لباب السجن للسهر على‬
‫ا‪٤‬بسجوف و‪٤‬ببلحظة ‪ٝ‬بيع حركاتو‪ ،‬والسلم الذي ينزؿ إذل ىذا القاع‬
‫ينتهي أعبله بباب من ا‪٢‬بديد يوصد من سطح األرض‪ ،‬وال يفتح إال‬
‫عند حضور ضابط الستبداؿ ا‪٢‬بارس بغّبه عند انتهاء نوبتو‪ .‬وىذا‬
‫الوصف البسيط يثبت استحالة ا‪٥‬بروب من القرب احملصن‪.‬‬

‫وقد سئلت و‪٥‬بلمْب ُب التحقيق فذكرت أاها ‪١‬بأت إذل مكتب‬


‫توريد ا‪٣‬بدـ ُب ابريز وأف أحدىم ىو الذي قدمِب ‪٥‬با ولزوجها‪ ،‬واعَبفت‬
‫أباها طلبت خادماً اخرس ألف ا‪٣‬برس والصمم اضمن وسيلة ‪٤‬بنع ا‪٣‬بادـ‬
‫من السماع ومن نقل أسرار البيت‪ ،‬وقدمت للمحقق أوراؽ شخصيٍب‬
‫والشهادات الٍب كانت معي وكانت سبباً ُب اقتناعها أبنِب أمْب صاحل‬
‫للخدمة ُب بيت كبّب‪.‬‬
‫‪147‬‬
‫وسئل زوجها األ‪٤‬باشل عِب فأمن على إجابة زوجتو ووكد أاها‬
‫ذكرت ا‪٢‬بقيقة كاملة‪ ،‬وأاها كانت حسنة النية وخالية الذىن من ا‪٢‬بيلة‬
‫الٍب خدعت هبا وضللت ا‪١‬بميع‪ ،‬وفتشت الضيعة لبلىتداء إذل الشفرة‬
‫أو إذل رسائل خاصة ٗبوضوع التجسس فلم يعثروا على أي شئ‪ ،‬ألف‬
‫و‪٥‬بلمْب أحرقت الشفرة الٍب اعتمدان عليها كبلان‪ .‬دل ٯبد التحقيق ما‬
‫يثبت اشَباؾ ا‪٢‬بسناء ُب جرٲبة التجسس‪ ،‬ولكن عدـ وجود األدلة دل‬
‫ٲبنع الشك‪ ،‬كذلك دل يفت تلك ا‪٤‬برأة الداىية إدراؾ ما ُب نفوس األ‪٤‬باف‬
‫من انحيتها‪.‬‬

‫أحدثت ىذه الواقعة زلزاالً ُب الناحية كلها‪ ،‬وٖباصة ُب‬


‫و‪٥‬بلمسهافن وُب ضيعة و‪٥‬بلمْب‪ ،‬وصار ا‪٤‬بوضوع حديث الناس ‪ٝ‬بيعاً‪،‬‬
‫بينما كاف التحقيق يتم ُب ابريز سراً ليتمكن احملقق من العثور على أي‬
‫تناقض ٲبكن من اهتاـ ا‪٥‬بولندية الفتانة‪.‬‬

‫وبينما كنت مستغرقاً ُب النوـ ُب إحدى الليارل فوجئت بضابط‬


‫أ‪٤‬باشل شاب ينبهِب من نومي فاستيقظت‪ ،‬وأمرشل ٖبلع ثيايب وارتداء ثوب‬
‫ا‪١‬بندي الذي يتوذل حراسٍب وجدت الرجل ‪٩‬بدداً على أرض ا‪٢‬بجرة‬
‫ا‪٣‬بارجية بدوف حركة فنظرت إذل الضابط ُب دىشة‪ ،‬فكرر أمره وزاد عليو‬
‫كلمة "أسرع" فخلعت ثويب واستبدلتو بثوب ا‪١‬بندي وردائو وحذائو‬
‫وقبعتو‪ ،‬و‪ٞ‬بل الضابط ا‪١‬بندي ووضعو ُب سريري وأدخلو ُب ثويب ٍب‬

‫‪148‬‬
‫غطاه‪ .‬أشار على فتبعتو ومعي سبلح ا‪٤‬بسكْب الذي ال أدري أكاف‬
‫مقتوالً أـ ‪٨‬بدراً‪.‬‬

‫كنت أمشى خلف الضابط ٖبطوة عسكرية وكلما مرران ٕبارس‬


‫يرد الضابط على ندائو بكلمة سر الليل فيَبكنا ٭بر‪ ،‬حٌب وصلنا إذل ابب‬
‫يؤدى إذل البحر فاجتزانه ونزلنا على سلم حٌب وصلنا إذل ا‪٤‬باء‪ .‬كاف‬
‫‪ٙ‬بت السلم زورؽ ٖباري وبو سائقو فركبناه وانطلق بنا إذل ا‪١‬بهة الغربية‪،‬‬
‫فمرران على قرقوالت خارجية ُب البحر‪ ،‬فأدركت من عملية الضابط أنو‬
‫ُب النوبة ومن واجبو ا‪٤‬برور على ىذه األماكن‪.‬‬

‫وانطلق الزورؽ إذل الغرب حٌب صار على بُعد سحيق‪ ،‬وكاف‬
‫جلوسنا خلف السائق وظهره إلينا ففاجأان الضابط مفاجأة مزعجة‪،‬‬
‫ثبت فوىة ا‪٤‬بسدس ُب مؤخر الرأس وأطلق رصاصة قضت على ا‪١‬بندي‬
‫ُب ا‪٢‬باؿ‪ ،‬فتولتِب الدىشة وخشيت أف يكوف حظي كحظ ذلك‬
‫أح ِدث حركةً وال صواتً‪ ،‬وتنبهت لنفسي ُب ‪٧‬باذرة‪.‬‬
‫ا‪٤‬بنكود‪ ،‬ولكنِب دل ُ‬
‫جلس القاتل مكاف ا‪٤‬بقتوؿ وأدى عملو ٗبهارة فلبثنا ُب ىذه‬
‫السياحة قريباً من ساعتْب‪ ،‬وكاف الزورؽ يقَبب من الشاطئ فبلح لنا ُب‬
‫األفق ضوء مصباح يظهر برىة ويغيب أخرى‪ ،‬فقصد الزورؽ لناحيتو‬
‫حٌب كدان نلمس الرب وأخذ الضابط من بطن الفلك أثقاالً من ا‪٢‬بديد‬

‫‪149‬‬
‫لف هبا جثة ا‪٤‬بقتوؿ‪ٍ ،‬ب ألقاه ُب البحر ليغوص أبثقالو‪ ،‬و‪٤‬با رسوان على‬
‫الرب أُمرت ابلنزوؿ‪.‬‬

‫وخلع الرجل ثيابو ألقاىا إذل جانيب ٍب أبعد ابلزورؽ إذل خضم‬
‫البحر‪ ،‬وىناؾ نسفو بعد االحتياط لنفسو ابالبتعاد عنو قبل حدوث‬
‫االنفجار‪ ،‬وعاد لناحيٍب سإباً‪ ،‬وبدأ ضوء النهار يعود إذل الكوف فمكننا‬
‫من رؤية الطريق الذي انطلقنا فيو حٌب بلغنا كوخاً ُب مزرعة فدخلناه‪،‬‬
‫فزلزلتِب ا‪٤‬بفاجأة الثالثة ألنِب رأيت أمامي و‪٥‬بلمن‪ ،‬رأيتها تر‪ٛ‬بي ُب‬
‫أحضاف الضابط القاتل‪ .‬دل أر ىذا الشاب إال مرات قليلة ُب الضيعة مع‬
‫بعض زمبلئو‪ ،‬ودل أالحظ إطبلقاً حركة تدؿ على أية عبلقات عاطفية‬
‫بينو وبْب ا‪٢‬بسناء فاتنة ا‪١‬بميع‪ ،‬وإذا هبما يكشفاف فجأة وبدوف هتيب‬
‫حباً طاغياً‪.‬‬

‫من احملقق أف اكتشاؼ ىرويب من القلعة وجثة ا‪١‬بندي وغياب‬


‫ضابط النوبة واختفاء الزورؽ وسائقو حوادث خطّبة ‪ٙ‬بدث رجة ىناؾ‪،‬‬
‫وستطلق ‪ٝ‬باعات من ا‪١‬بنود ومن ا‪١‬بواسيس ُب إثرى للبحث عُب ُب‬
‫كل انحية ُب الرب والبحر‪ ،‬ومن ا‪٤‬برجح أف ا‪٤‬بطاردين سيصلوف إذل ىذا‬
‫الكوخ‪.‬‬

‫سئمت ا‪٢‬بياة وأان ُب السجن مهدد ابإلعداـ ُب كل ‪٢‬بظة‬


‫وكنت أ‪ٛ‬بُب التخلص من ا‪٢‬بياة بسرعة بتأثّب اليأس واستمرار الفزع من‬
‫‪150‬‬
‫ا‪٤‬بوت‪ ،‬وأما وقد ‪٪‬بوت من السجن ومن عقوبة اإلعداـ فقد ٘بدد أملي‬
‫ابستبقاء ا‪٢‬بياة وعزت على الروح‪ ،‬فصرت قلقاً من بقائي ُب ىذا الكوخ‬
‫نفسو‪.‬‬

‫نزلنا ‪٫‬بن الثبلثة من فجوة إذل سرداب إذل حجرة فسيحة ُب‬
‫جوؼ األرض تصلح للبقاء فيها وخلفنا وراءان صاحب ا‪٤‬بزرعة الصغّبة‬
‫ليزيل من ارض ا‪٤‬بكاف كل أثر يدؿ على مدخل ىذا ا‪٤‬بخبأ الذي عزلنا‬
‫عن عادل األحياء‪ .‬أقمنا ُب ىذا القرب الفسيح ا‪٤‬بنظم أسبوعْب لتضليل‬
‫ا‪٤‬بطاردين عن اال٘باه الذي سران فيو‪ٍ ،‬ب انتقلنا منو إذل مزرعة أخرى تبعد‬
‫عن األوذل ‪ 12‬ميبلً قطعناىا طوؿ الليل‪ ،‬واختبأان ىناؾ ُب ملجأ يشبو‬
‫األوؿ ‪٨‬ببوء ‪ٙ‬بت إسطبل‪.‬‬

‫وُب إحدى الليارل ا‪٤‬بمطرة خرجنا إذل ظهر األرض وافَبقنا‪.‬‬


‫تسلمِب رجل لّبافقِب إذل ا‪٢‬بدود‪ ،‬وبقيت و‪٥‬بلمْب مع خليلها وُب‬
‫عزمهما ا‪٥‬بروب من أ‪٤‬بانيا من طريق أخر ال أعرفو‪ ،‬فانقطعت أخباران عن‬
‫بعض مدى تسعة أعواـ‪.‬‬

‫كنت ُب القاىرة متنكراً ابسم ا‪٣‬بواجا غارل جرجس واسكن‬


‫أوتيل انسيوانؿ بشارع سليماف ابشا ُب الغردقة ‪ ،23‬وكاف من عادٌب‬
‫قضاء بعض السهرة ُب قاعة البلياردو أو ُب البار‪ .‬وكنت أتناوؿ طعامي‬
‫على الدواـ ُب حجرة خاصة يب ُب الطابق األرضي‪ ،‬وبينما كنت أدخل‬
‫‪151‬‬
‫البار ُب إحدى الليارل فوجئت برؤية و‪٥‬بلمْب وخليلها األ‪٤‬باشل ُب زاوية‬
‫ا‪٤‬بكاف يشرابف قدحاً من الويسكي‪ ،‬عرفتها ‪٫‬بيفة ‪٥‬با روعة ا‪٣‬بياؿ‬
‫فمؤلت ا‪٥‬بناءة بداها صحة وعافية‪ ،‬وتشربت نضارة الوجو الصبوح لوف‬
‫الورد‪ ،‬وخػطر رل بػسرعة رأى طربت لو‪.‬‬

‫عزمت على الرد على ا‪٤‬بفاجآت الٍب مرت يب ُب سجن القلعة‬


‫وُب الزورؽ ٗبفاجأة مزعجة من نوعها‪ ،‬فدنوت من السائحْب وجلست‬
‫معهما بدوف هتيب‪ ،‬وقلت‪" :‬لقد تشرفت القاىرة بزيدة السيدة‬
‫وؽبلمْب"‪.‬‬

‫فظهرت آاثر الدىشة وا‪٣‬بوؼ على العاشقْب‪ ،‬وقطب الرجل‬


‫جبينو ونظر إذل شزراً ولكُب دل أابؿ هبذه النظرة القاسية وقلت‪" :‬يلوح يل‬
‫أف عيوف أؼبانيا مل هتتد إىل ضابط النوبة اؽبارب من وؽبلمسهافن"‪.‬‬

‫فبدا االضطراب واضحاً على الوجهْب‪ ،‬وظهر الغضب الشديد‬


‫على األ‪٤‬باشل‪ ،‬ولكنو استقوى عليو فأسكتو‪ ،‬وسألِب‪" :‬من أنت ‪ ..‬وماذا‬
‫تريد "‬

‫ورأيت وقف ا‪٤‬بداعبة عند ىذا ا‪٢‬بد فقلت‪" :‬أان اعباسوس‬


‫الذي أنقذتو من السجن"‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫فنهضت و‪٥‬بلمْب وأمسكتِب من كتفي ُب حركة عصبية وقبلتِب‬
‫ُب جبيِب‪ ،‬وقالت‪" :‬مفاجأة سارة جداً" …‬

‫واهض األ‪٤‬باشل وصافحِب مصافحة حارة‪ ،‬وقاؿ‪" :‬لست آسفاً‬


‫على ترؾ وطِب وال على خيانٍب‪ ،‬لقد عوضت فبا ضحيت أعظ‬
‫سعادة ُب اغبياة"‪.‬‬

‫لقد مات زوج و‪٥‬بلمْب من زمن بعيد فتزوجها‪ ،‬اشَبؾ االثناف‬


‫ُب إنقاذ حياٌب ببواعث دل أعرفها‪ ،‬ولكنهما جازفا إلنقاذ ىذه ا‪٢‬بياة‪،‬‬
‫فأان مدين ‪٥‬بما هبا فكاف لقاؤان بعد ذلك الزمن الطويل ابعثاً على ا‪٤‬بسرة‬
‫فقضينا سهرة متعة‪.‬‬

‫قضيت ثبلثة شهور أتنقل من بلد إذل آخر حٌب ‪ٛ‬بكنت من‬
‫العودة إذل ابريز فلم أجد هبا مسكِب ا‪٣‬باص وال حاجاٌب‪ ،‬وعلمت من‬
‫حارسة الباب أف بعض أقاريب حضروا مع قومسّب البوليس ودفعوا ما‬
‫على من األجرة وأخذوا ا‪٢‬باجات فلم أحل ُب االستفهاـ‪.‬‬

‫و‪١‬بأت إذل فندؽ قابلت الكولونيل ليفلو ُب النهار الثاشل فسمع‬


‫قصٍب‪ٍ ،‬ب تركِب ُب حجرة موصدة ساعات نقلت بعدىا إذل مكتب‬
‫الرئيس سيكست فقاؿ رل‪" :‬لقد أسأت التصرؼ ُب أوؿ عمل نيط‬
‫بك‪ ،‬وسبب القبض عليك عدة مشاكل مكدرة‪ ،‬واهتُمت فرنسا‬

‫‪153‬‬
‫سأنك كنت تتجسس غبساهبا‪ ،‬وظهورؾ ىنا سيؤيد ىذا االهتاـ‪،‬‬
‫والعمل ُب ىذا اؼبكتب هبب أف يت اػبفاء وبدوف إحداث ضجة‪،‬‬
‫فلهذه األسباب يتحت خروجك من األراضي الفرنسية صبيعها‪،‬‬
‫وسيتوىل الكولونيل ليلفو تنفيذ ىذا القرار"‪.‬‬

‫ودؽ ا‪١‬برس فلباه الكولونيل فأشار لو برأسو إشارة خفيفة‬


‫فساقِب الرجل إذل السجن ا‪٣‬باص فقضيت بو أايماً قليلة‪ٍ ،‬ب نقلت ‪ٙ‬بت‬
‫حراسة خاصة إذل مرسيليا فوضعوشل ُب قاع ابخرة أوصلتِب إذل‬
‫اإلسكندرية‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫فػػي مػػنزؿ والػػدي ‪...‬‬

‫‪1‬‬
‫كاف والدي ُب ذلك ا‪٢‬بْب معاوف بوليس طوخ ولو من زوجتو‬
‫أربعة أوالد صبياف وصغّباف ولكنِب ‪١‬بأت إذل بيتو الستجم بعد‬
‫ا‪٤‬بزعجات الٍب زلزلت أعصايب وُب نيٍب البحث عن أي عمل أرتزؽ منو‪،‬‬
‫ودل أقابل ُب ذلك البيت مقابلة تشجع على البقاء بْب أىلو‪ ،‬فعزلت ُب‬
‫غرفة‪ ،‬ومنع األطفاؿ من االتصاؿ يب وقاطعِب والدي وزوجو مقاطعة‬
‫اتمة‪ .‬فإذا جاء وقت الطعاـ ٰبملو ا‪٣‬بادـ إذل غرفٍب ومعو ا‪٣‬ببز وإانء‬
‫ا‪٤‬باء فيضع ا‪١‬بميع على منضدة وٱبرج‪ ،‬وإذا انديتو لقضاء حاجة ال‬
‫ٯبيب النداء‪ ،‬وىذا التصرؼ جعلِب ُب وضع ال أجد فيو أحداً أ‪ٙ‬بدث‬
‫معو‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫وحدث مرات أنِب كنت أحتاج لشيء ُب غياب ا‪٣‬بادـ ُب‬
‫السوؽ أو للَبيض مع الصغار فأقف على ابب ا‪٢‬بجرة الٍب هبا زوجة‬
‫والدي وأطلب ىذا الشيء‪ ،‬فبل ترد مباشرة إ٭با تقوؿ‪" :‬ي كرسي‬
‫الصابونة ُب اؼبطبخ" ‪..‬‬

‫وإذا كانت ُب ا‪٤‬بطبخ تقوؿ‪" :‬ي حلة خذي الفوطة من‬


‫الدوالب" ‪..‬‬

‫دل أعرؼ سبباً ‪٥‬بذه ا‪٤‬بقاطعة فأدركت أف الباعث عليها عدـ‬


‫ارتياح الزوجْب لوجودي معهم ُب البيت ولكنِب دل أتذمر ودل أحقد على‬
‫أحد‪ ،‬الف والدي رأى ُب ىذا التصرؼ وسيلة إلرضاء زوجتو‪ ،‬وألنو ىو‬
‫الذي شجعها على ا‪٤‬بقاطعة ألتضايق فأرحل من البيت‪ .‬وأشهد أف ىذه‬
‫السيدة األمية كانت تغمر أوالدىا ٕبناف عظيم وتعُب بتعليمهم رغم‬
‫حقارة مرتب زوجها‪ ،‬كانت تقتصد من ذلك ا‪٤‬برتب الضئيل لتقضي‬
‫حاجات األوالد‪ ،‬ولو تركوا لوالدي لعجزوا ‪ٝ‬بيعا عن إ‪ٛ‬باـ الدراسة‪.‬‬

‫وقد قابلتها مرات بعد وفاة والدي‪ ،‬فكنت أجثو على األرض‬
‫وأقبِّل يدىا ابحَباـ وأان ُب أوؿ العقد السادس من عمري‪ ،‬و‪٤‬با تكررت‬
‫ىذه العملية مِب قالت رل يوماً‪" :‬أنت زبجلِب هبذا االحَباـ ي‬
‫حافظ!" ‪..‬‬

‫‪156‬‬
‫كانت تريد أف تذ ّكِرشل اب‪٤‬باضي وتصرفاهتا معي فيو‪ ،‬قلت ‪٥‬با‪:‬‬
‫"أان ال احَبمك وال أقبِّل يدؾ ألنك زوجة والدي إمبا أرى أنك‬
‫تستحقْب ىذا االحَباـ ألنك عنيت بَببية اخوٌب‪ ،‬كونته انفعْب‬
‫وانفعات ُب اجملتمع"‪.‬‬

‫ولكنِب أالحظ ىنا أف نوع ىذه الَببية وا‪٤‬بقاطعة ا‪٤‬بستمرة‬


‫حوالشل ُب نظر ىؤالء االخوة إذل إنساف غريب عن عائلتهم‪ ،‬فاستمر‬
‫البعد بيننا والقطيعة إذل اهاية حياٌب‪ .‬والحظت أيضاً أف ىؤالء األوالد‬
‫الذكور والبنات‪ ،‬وىم رجبلف وست بنات‪ ،‬ٯبتمعوف على الدواـ حوؿ‬
‫والدهتم ويقاطعوف والدىم الشيخ‪ ،‬مع أنو عاش معهم ُب البيت حٌب‬
‫انتهت حياتو‪ ،‬وسبب ىذا ا‪١‬بفاء شعور األوالد ‪ٝ‬بيعاً ٗبا كانت تغمرىم‬
‫بو الوالدة من ا‪٢‬بناف والشفقة وا‪٤‬بعزة فلم يراتحوا ألحد غّبىا‪.‬‬

‫ىذا وصف موجز لبيت ىذه األسرة ولنوع التصرفات فيها معي‬
‫ومع بعضهم‪ ،‬ولكنِب أثناء إقامٍب ُب طوخ كنت مرغماً على االحتماؿ‬
‫ألنِب بدوف عمل وبدوف مأوى سوى ىذا البيت ‪ .‬وكنت أفرج عن‬
‫ا‪٤‬بوجود ُب ىذه‬ ‫نفسي بعد العصر كل يوـ اب‪١‬بلوس ُب ا‪٤‬بقهى ا‪٤‬بفرد‬
‫القرية وقتذاؾ‪ ،‬وىناؾ أطالع ما أجده من الصحف مع بعض ا‪١‬بالسْب‪.‬‬

‫وقرأت مصادفة ُب إحدى الصحف نبا عودة األمّبة فيزنسكى‬


‫إذل القاىرة‪ ،‬فهزشل ىذا ا‪٣‬برب ألف أخباري انقطعت عنها منذ رحلت إذل‬
‫‪157‬‬
‫و‪٥‬بلمسهافن‪ ،‬وألاها كانت غائبة عن ابريز حْب عدت إليها‪ٍ ،‬ب أبعدت‬
‫عن فرنسا كلها‪ .‬سررت لظهور األمّبة اثنياً فأخذت من زوج والدي‬
‫عشرين قرشاً وسافرت إذل القاىرة بدعوى البحث عن عمل‪ ،‬وطرت إذل‬
‫منزؿ األمّبة فأحسنت لقائي وقالت‪" :‬دع اؼباضي فبل فائدة من‬
‫التحدث عنو‪ ،‬أردت لك رفعة سريعة فعاكستك الظروؼ فمن‬
‫التعقل أف نبدأ الشوط من جديد بعيدا عن اغبياة اعبندية‪ ،‬وُب‬
‫ميادين األعماؿ اغبرة فرص كثّبة يفيد منها من هبيد انتهازىا"‪.‬‬

‫وقالت‪" :‬كل عمل وبتاج إىل رأس اؼباؿ وسأعاونك دبا وبتاج‬
‫إليو العمل مع إرشادؾ على الدواـ حٌب ال زبطئ فتنالك اػبسارة"‪.‬‬

‫كنت ُب حاجة للمأوى فوجدتو ومعو العطف وا‪٢‬بناف والسخاء‬


‫والرغبة القوية ُب توجيهي ُب ا‪٢‬بياة ‪٧‬بوطاً بكل ما يضمن رل النجاح‪،‬‬
‫فنعمت هبذه ا‪٢‬بياة وىجرت بيت والدي بدوف أسف عليو‪.‬‬

‫ضاربت ُب البورصة اب‪٠‬بي وأان ال اعرؼ شيئاً عن جو‬


‫ا‪٤‬بضارابت ولكنِب كنت أُوجو فأطيع فأربح رٕباً وافراً‪ .‬وصار رل مكتب‬
‫ألعمل القومسيوف وبو إدارة وموظفوف‪ ،‬ونفوذ األمّبة وتوصيتها تزيد ُب‬
‫الثقة يب وُب كسيب‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫ومرضت األمّبة وأرغمتها الظروؼ على اإلقامة ابإلسكندرية‬
‫ُب فيبل على شاطئ البحر‪ ،‬فكونت رل بيتاً فخماً ُب القاىرة‪ ،‬وكنت‬
‫أزورىا مرة كل أسبوع واقضي عندىا يومْب وكانت إذا حضرت إذل‬
‫القاىرة لعمل ال أتنف من زايرٌب ُب بيٍب ا‪٤‬بتواضع‪.‬‬

‫اشَبيت عربة وخيبلً وصار رل إسطبل‪ ،‬وكونت من الربح رصيداً‬


‫كبّباً ُب بعض ا‪٤‬بصارؼ‪ ،‬وأسرفت ُب اإلنفاؽ للتظاىر وكاف من عادة‬
‫الشباف أبناء الذوات ُب ذلك العهد التزين ابألحجار الكرٲبة‪ ،‬فتزينت‬
‫ابلربلنت والزمرد والياقوت‪ ،‬وجعلت اللؤلؤ بدالً من أزرار القميص‪.‬‬

‫دل يكن رل ُب مصر أصدقاء ألف زمبلئي ُب زمن الدراسة‬


‫العسكرية صاروا ضباطاً ُب ا‪١‬بيش ومقر عملهم السوداف‪ ،‬وألف زمبلء‬
‫الدراسة الثانوية دل تستقر صداقتهم بسبب صغر سِب أايـ ا‪٤‬بدرسة‪.‬‬
‫ولكن ا‪٤‬باؿ إذا ظهر ُب يد إنساف ٯبذب إليو األنظار وا‪٤‬بطامع‪ ،‬فعرفت‬
‫رجلْب أحدٮبا موظف ُب ‪٧‬بل ٘بارى إفر‪٪‬بي يدعى حسن حلمي‪ ،‬الثاشل‬
‫كاف انظر مدرسة أمّبية وفصل من وظفتو فصار مدرساً ُب مدرسة أىلية‬
‫ا‪٠‬بو دمحم ربيع‪ ،‬كنت اكتفي ُب بدء ىذه ا‪٢‬بياة ا‪١‬بديدة بنزىة إذل ا‪٥‬برـ‬
‫ُب عربٍب أو على دوكاري‪ ،‬وبتناوؿ طعاـ العشاء ُب مطعم فخم‪ٍ ،‬ب أعود‬
‫إذل بيٍب فأقضي وقتاً ُب ا‪٤‬بطالعة ٍب أانـ‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫فلما عرفت الصديقْب ا‪١‬بديدين كنت أصطحب ا‪٤‬بدرس ُب‬
‫العربة للنزىة ويرافقِب إذل ا‪٤‬بطعم للعشاء وىناؾ يوافينا حسن حلمي‬
‫عقب انصرافو من عملو فيشرب ويتناوؿ طعامو معنا ٍب ‪٬‬برج للسهر‪.‬‬
‫بدأت ىذه السهرات ُب قهوة ا‪٤‬بصرية "كافيو إجبسياف" وكاف هبا فرقة‬
‫موسيقى وترية من فتيات ذوات حسن و‪ٝ‬باؿ ال يقل عددىن عن اثنٍب‬
‫عشرة حسناء‪ ،‬وكن ‪ٙ‬بت رقابة رئيس الفرقة ٯبئن معو إذل مكاف العمل‬
‫ٍب يعدف معو ُب الليل إذل البيت ا‪٤‬بستأجر لسكن فرقة البنات‪ ،‬أما‬
‫الرجاؿ فلهم بيت آخر‪.‬‬

‫جالست ىؤالء البنات مرات كثّبة فاراتحت نفسي جملالسة‬


‫النساء أحسست نشاطاً يدفعِب ‪٤‬بثل ىذه اجملالس‪ ،‬وشكوت للزميلْب‬
‫من قسوة النظاـ ا‪٤‬بتبع ُب ىذه الفرقة فأراد الصديقاف تسليٍب ُب غّب ىذا‬
‫ا‪٤‬بكاف‪ ،‬فقاداشل ألوؿ مرة إذل االلدرادو القدصل ُب حي األزبكية‪.‬‬

‫وجدت ا‪٤‬بكاف مزد‪ٞ‬باً برواده وىم خليط من ا‪٣‬بلق ىذا يدخن‬


‫الشيشة أخر يشرب ا‪٣‬بمر وغّبه جالس وسط ا‪٤‬بكاف مع راقصة‬
‫يسكراف ُب غّب هتيب من النقد‪ ،‬ورأيت الراقصات منتشرات بْب‬
‫ا‪١‬بمهور ىذه تبحث عن صديق قدصل وتلك عن صديق جديد ورأيت‬
‫على ا‪٤‬بسرح أريكة مستندة إذل ا‪٢‬بائط ٘بلس عليها ا‪٤‬بغنية وإذل جانبها‬
‫الراقصة الٍب عليها النوبة للرقص‪ .‬وعلى كراسي متجاورة أفراد التخت‬

‫‪160‬‬
‫ينصت البعض لغناء ا‪٤‬بغنية‪ ،‬وتعلوا أصوات البعض ُب ا‪٢‬بديث مع‬
‫الراقصات ا‪١‬بالسات معهم للمؤانسة‪ ،‬وكل امرأة من أولئك ا‪٤‬بستهَبات‬
‫حلى من الذىب الثقيل‪،‬‬
‫ُب ثوب فاقع اللوف يغطى صدرىا ومرفقيها ّ‬
‫حٌب الشعر ا‪٤‬برسل إذل ا‪٣‬بلف جدائل كانت بو حلى‪.‬‬

‫مشهد جديد دل أره من قبل ولكل جديد أتثّب ُب العْب‬


‫والنفس‪ .‬وجاء ا‪٣‬بادـ فطلبنا ‪ٟ‬براً‪ ،‬ومرت بنا راقصة تتمايل تدلُّبل فنادىا‬
‫حسن أفندي فوزنتنا بنظرة فاحصة فرأت ُب صدري دبوسا من الربلنت‬
‫وُب يدي خا‪ٛ‬باً من نوعو فاطمأنت وجلست‪ ،‬وجاء ُب إثرىا ا‪٣‬بادـ‬
‫يسأ‪٥‬با عما تريد أف تشرب فقالت‪" :‬دستة بّبة ‪"...‬‬

‫والدستة ‪ 12‬زجاجة‪ ،‬وكاف ‪ٜ‬بن الزجاجة خارج قهوة الغناء‬


‫قرشْب‪ ،‬و‪ٜ‬بنها ُب قهاوي الغناء عشرة قروش‪ .‬وأحضر ا‪٣‬بادـ دستة البّبة‬
‫قدمي الراقصة وانتزع منو زجاجة صب‬
‫ُب قفص من ا‪١‬بريد ووضعو عند ّ‬
‫ما فيها ُب أقداحنا الثبلثة‪ٍ ،‬ب ‪ٞ‬بل قفصو وعاد بو‪ ،‬ولكننا سندفع ‪ٜ‬بن‬
‫الدستة كاملة ألاها طلب الست‪.‬‬

‫كانت ا‪٤‬برأة أمية جاىلة ولكنها ثراثرة ٘بيد ا‪٢‬بديث الفارغ‬


‫والقهقهة‪ ،‬وتبدى التدلل ٕبركات واضحة ال صلة بينها وبْب الدالؿ‬
‫الذي يدؿ عليو معُب الكلمة‪ ،‬ومنت على برتبة بك بدوف براءة الرتبة‬
‫وكانت طوؿ السهرة تكثر من تكرارىا‪" :‬اتفضل ي بيو … وعلشاف‬
‫‪161‬‬
‫خاطرى الكاس ده يبيو وسيجارة من فضلك ي بيو‪ ،‬وىات ريػاؿ‬
‫بقشيش للجرسوف ي بيو وكماف ريػاؿ ػبدامي ي بيو" ‪..‬‬

‫وقدح البّبة يشرب ُب دقائق وٖباصة إذا تعجلت الست ‪ٝ‬باعة‬


‫الشاربْب‪ ،‬فإذا خلت األقداح تصفق فيحضر ا‪١‬برسوف وأتمر الست‬
‫بدستة بّبة من جديد فيحضرىا ا‪٣‬بادـ ونشرب منها زجاجة واحدة‬
‫كالنظاـ ا‪٤‬بتبع مع ا‪٤‬بغفلْب‪.‬‬

‫شربت أقداحاً من البّبة الساخنة خجبلً من الست أو ‪٦‬باملة‬


‫‪٥‬با ودفعت ‪ٜ‬بن الدستة الٍب أمرت هبا الست ودفعت كل ما طلب من‬
‫البقشيش وقمنا لبلنصراؼ فشيعتنا الراقصة إذل الباب ا‪٣‬بارجي حٌب‬
‫‪ٙ‬بضر العربة الٍب طلبناىا‪ ،‬وكاف على مقربة من الباب وُب وسط الشارع‬
‫الضيق القذر عسكري من البوليس فأسرت ا‪٤‬برأة ُب أذشل ىذه الػعبػارة‪:‬‬
‫"من فضلك نص ريؿ للجاويش ده راجل طيب وبكرة ىبدمك"‪.‬‬

‫وطلب الست ال ٯبوز رفضو فتناولت مِب قطعة النقود وأشارت‬


‫للعسكري فخطا إلينا ُب كربايء وانولتو ا‪٤‬برأة البقشيش خفية ُب مصافحة‬
‫وقالت لو‪" :‬ربنا يطوؿ عمر البيو"‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫وجاءت العربة فحملتِب إذل البيت و‪ٞ‬بلت بعدى حسن وربيع‬
‫إذل داريهما‪ ،‬فانتهت الليلة األورل ُب عادل الفساد هبز كتفي استخفافاً‬
‫بكل ما رأيت ومن شاىدت‪.‬‬

‫بدأت السهرة ُب الليلة ُب مطعم سانٍب داخل حديثة األزبكية‪،‬‬


‫وأظهرت عدـ رغبٍب ُب الذىاب إذل االلدارادو القدصل فقاؿ حسن‪:‬‬
‫"ببلش القدَل ي سيدي نروح اعبديد"‪.‬‬

‫وقصدان إذل ا‪١‬بديد ُب شارع وجو الربكة كاف الشارع ُب ذلك‬


‫العهد من أنظف الشوارع ُب حي األزبكية‪ ،‬على جانبيو مطاعم فخمة‬
‫تغمر أنوارىا الشوارع‪ ،‬وبو ‪٧‬ببلت ٘بارية كبّبة‪ ،‬وُب اهايتو ابر فخم جدا‬
‫رأيت أمراء ٯبلسوف فيو‪ .‬وُب الشارع االلدرادو ا‪١‬بديد‪ ،‬ا‪٤‬بدخل نظيف‬
‫ومنظم وفيو على ٲبْب الداخل البار‪ٍ ،‬ب يسّب الزائر ُب ‪٩‬بر فسيح يوصل‬
‫إذل ابب يسبقو حاجز من ا‪٣‬بشب ا‪٤‬بعشق من نوع ما كاف يسمى‪:‬‬
‫"مشربية"‪.‬‬

‫والقاعة الٍب هبا ا‪٤‬بسرح مستطيلة فسيحة رصت فيها ا‪٤‬بناضد‬


‫صفوفاً متوازية‪ ،‬وُب ا‪٤‬بكاف ‪ٝ‬بهور يلوح للعْب أنو أرقى من الذين كانوا‬
‫ُب االلدرادو القدصل‪ .‬أما نظاـ الغناء والرقص ابلصاجات على نغمات‬
‫الدربكة‪ ،‬وانتشار الراقصات بْب ا‪١‬بمهور فكانت صورة طبق األصل‬

‫‪163‬‬
‫لبللدرادو القدصل فجلسنا ُب اهاية القاعة بعيداً عن الزحاـ‪ ،‬وعلمت من‬
‫ربيع أفندي أف ىذه عادة الذين ٲبيزوف أنفسهم على الباقْب‪.‬‬

‫وبدأت عملية االستشارة بْب الرجلْب حٌب استقر الرأي على‬


‫راقصة معينة‪ ،‬فاستدعى حسن أفندي ا‪١‬برسوف وطلب منو استدعاءىا‪،‬‬
‫ولكن الست دل ‪ٙ‬بضر ألاها فضلت ا‪١‬بلوس مع غّبان إذل جانب ا‪٢‬بائط‬
‫فسبلان ربيع أفندي ابلكونياؾ حٌب تنتهي الست من الصفقة األوذل ٍب‬
‫تشرؼ ‪٦‬بلسنا‪.‬‬

‫ولكنها دل تشرؼ وظهر الغضب على الزميلْب طاؿ ا‪٤‬بكث ُب‬


‫ا‪٤‬بقهى و‪٫‬بن على ىذه ا‪٢‬باؿ من االستهتار والسفو‪ ،‬وانتهى وقت السهر‬
‫وبدا ا‪٤‬بكاف يوصد أبوابو فدفعت ‪ٜ‬بن ما قدـ لنا‪ ،‬واهضنا لبلنصراؼ فلما‬
‫قطعنا ا‪٤‬بمر ا‪٤‬بؤدى للباب ا‪٣‬بارجي ووصلنا إذل ابب البار‪ ،‬ظهر ا‪٣‬بواجا‬
‫واستوقفنا ليكلمنا‪ ،‬ولكنو جعل ٯبذبِب إذل داخل البار ‪٧‬باذرة على من‬
‫الزحاـ قاؿ‪" :‬أان زعلت الست شفيقة كتّب خالص علشاف سعادتك‬
‫‪ ..‬وىى متأسف كتّب وعاوز تعتذر للبهوات ‪ ..‬معلش علشاف‬
‫خاطرى"‪.‬‬

‫ويقتضي ا‪٢‬باؿ وصف العصر الذي عشت فيو واألسباب الٍب‬


‫أثرت ُب حياٌب وتصرفاٌب وأدت إذل نتائج ىدمت بعض نواحي ىذه‬
‫ا‪٢‬بياة‪ ،‬كانت ا‪٤‬بفاسد الظاىرة وا‪٤‬بستورة أقل بكثّب ‪٩‬با ُب العصر‬
‫‪164‬‬
‫ا‪٢‬باضر(‪ ،)19‬وكانت التقاليد والغّبة على األعراض واضحة ُب كل أسرة‬
‫فرضت ‪ٞ‬باية ا‪٤‬برأة من شٌب البواعث على االستهتار أو التفريط أو‬
‫‪٨‬بالفة العادات والتقاليد‪.‬‬

‫كاف للبغاء حي ضيق ‪٧‬بدود وللبغاء السري بيوت قليلة‬


‫متباعدة عن بعضها‪ ،‬وكاف ُب القاىرة عدد قليل من قهاوي الغناء‬
‫والرقص ا‪٣‬بليع منتشرة ُب حي األزبكية ال يزيد عددىا عن ستة‪ ،‬وكل‬
‫من فيها من الراقصات ذوات ا‪٣‬ببلعة ال يزيد عددىن عن دستتْب من‬
‫النساء‪ ،‬يتنافس ُب التودد إليهن الفاسقوف من أ‪٫‬باء القطر كلها‪.‬‬

‫يبيع القروي الثرى قطنو فتتحوؿ جهوده ودخلو إذل كمية من‬
‫النقود الذىب فينطلق إذل حي األزبكية لينفقها ُب شرب ا‪٣‬بمر وللتودد‬
‫المرأة ‪٨‬بتارة من ىؤالء الساقطات يغدؽ عليو مالو ُب سخاء يبلغ حد‬
‫ا‪١‬بنوف‪ .‬يشرب الرجل أقداحاً من ا‪٣‬بمر‪ ،‬ويتناوؿ عشاءه ُب مطعم مع‬
‫رفاؽ من نوعو‪ٍ ،‬ب يقصد إذل قهوة الغناء ال ليسمع الغناء وإ٭با ليجلس‬
‫مع ا‪٤‬برأة ا‪٤‬بختارة ويطلب ‪٥‬با ما أتمر بو من زجاجات البّبة‪.‬‬

‫وصاحب ىذه القهوة يكوف عادة سورايً أو يواننياً‪ ،‬وكبلٮبا‬


‫يطلب الكسب ٔبميع الوسائل ومنها فرض عملية ا‪٣‬بمر اب‪١‬بملة على‬

‫(‪ )19‬يقصد اؼبقارنة بْب الفَبة الٍب وبكي عنها‪ ،‬السنوات األوىل من القرف‬
‫العشرين‪ ،‬والسنوات الٍب دوف فيها مذكراهتا ونشرىا‪ ،‬وىي سنوات األربعينات‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫كل راقصة تعمل عنده وتزيد ‪٦‬باملتو لكل من تسرؼ ُب ىذه العملية‬
‫لسلب نقود من يلقيو غرامو الطائش ُب شركها‪ ،‬فتندفع النساء بدوف‬
‫ر‪ٞ‬بة ُب تنفيذ رغبة ا‪٣‬بواجا لنيل الرضا منو‪ ،‬وال تكتفي ا‪٤‬برأة برجل واحد‬
‫ُب السهرة البتزاز ما لو إ٭با تنتقل بْب ا‪١‬بمهور لتصطاد من ا‪٤‬بغفلْب من‬
‫يسهل عليو تنفيذ مطامعها‪ ،‬وهبذه الوسيلة يزيد دخل ا‪٣‬بواجا ‪٩‬با يدفع‬
‫‪ٜ‬بنا للخمر‪.‬‬

‫وكاف من أشهر الراقصات ُب ذلك الزمن "شفيقة القبطية"‪ ،‬دل‬


‫تكن ‪ٝ‬بيلة وال رشيقة إ٭با كانت خليعة وراقصة مقتدرة فكونت لنفسها‬
‫شهرة‪ ،‬والشهرة على الدواـ من أسباب اإلقباؿ على البضاعة ا‪٤‬بعلن‬
‫عنها‪ ،‬و‪٥‬بذا انصرؼ األغنياء من ا‪٤‬بغفلْب لناحية ىذه ا‪٣‬بليعة‪ ،‬وتنافسوا‬
‫ُب التودد إليها وأسرفت ىي ُب سلب أموا‪٥‬بم فخربت بيواتً وبددت‬
‫ثروات وصلت ُب النهاية إذل جيوب أصحاب تلك القهاوي عن‬
‫طريقها‪.‬‬

‫غالت ىذه الراقصة ُب ‪ٝ‬بيع ا‪٤‬بظاىر الٍب تلفت النظر فصارت‬


‫‪٥‬با أمبلؾ من العقار وعربة فخمة وخيوؿ وخدـ سخت ُب اإلنفاؽ‬
‫عليهم‪ ،‬ولكن ىذا العز دل يدـ إذل األبد فانتهت حا‪٥‬با إذل الفقر بعد‬
‫زواؿ شباهبا‪ ،‬و‪١‬بأت إذل قهوة قذرة ُب أحط أحياء الدعارة لتعمل فيها‬
‫خادمة ومتسولة‪ٍ ،‬ب ماتت ابئسة ‪٧‬برومة من ‪ٝ‬بيع ضرورايت ا‪٢‬بياة‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫مثلت ىذه ا‪٤‬برأة دورىا ا‪٤‬بألوؼ معي كما مثلتو مع مئات من‬
‫أبناء الذوات والعمد واألعياف‪ ،‬واستمرت على ا‪١‬بلوس معنا ‪٫‬بن الثبلثة‬
‫طوؿ السهرة ُب ا‪٤‬بقهى وأكثرت من طلب زجاجات البّبة ُب األقفاص‬
‫ومن الكونياؾ للشرب‪ ،‬السَبضاء ا‪٣‬بواجا‪ .‬أما البيت فكانت نفقاتو‬
‫بدوف حساب ويزيد عليها من آف آلخر حساب ٘بار األقمشة‪.‬‬

‫كانت تشَبى لنفسها األنواع ابلعشرات وتبتاع أيضاً لكل‬


‫الذين ُب خدمتها من النساء والرجاؿ واألىل وا‪٢‬باشية‪ِّ ،‬‬
‫و‪ٙ‬بوؿ ىذه‬
‫ا‪٤‬ببالغ على ألدفعها‪ .‬وحدث مرة أننا خرجنا بعد سهرة إذل نزىة بشارع‬
‫ا‪٥‬برـ ُب عربتها وعدان مع طلوع النهار‪ ،‬فصادفنا بْب كوبري قصر النيل‬
‫والكوبري األعمى (كوبري اإل‪٪‬بليز اآلف)‪ ،‬قطيعاً من ا‪٣‬براؼ يسوقو‬
‫صاحباه لناحية ا‪٤‬بدينة فاستوقفت الرجلْب واختارت من القطيع ‪ٜ‬بانية‬
‫رؤوس من الغنم مرة واحدة‪ ،‬ووكلت إذل سائق العربة نقلها إذل البيت ٍب‬
‫حلت ىي مكاف السائق لقيادة العربة‪.‬‬

‫خطر ‪٥‬با عند رؤية قطيع ا‪٣‬براؼ فكرة عمل "زار"‪ ،‬فاشَبت‬
‫نصف القطيع لتنفذ ىذه الفكرة‪ ،‬و‪٤‬با استيقظت من النوـ بعد ظهر‬
‫ذلك النهار أرسػلت ُب طلب الكودية "شيخة الزار"‪ ،‬وكتبت بياانً ٗبا‬
‫‪ٙ‬بتاج لو ا‪٢‬بفلة من ا‪٤‬بعدات ٍب بدأت عملية التنفيذ‪ ،‬وبدأت أدفع أ‪ٜ‬باف‬

‫‪167‬‬
‫ىذه ا‪٢‬باجات‪ ،‬و‪ٝ‬بعت ا‪٢‬بفلة صنوفاً من الراقصات وا‪٣‬بليعات وحٌب‬
‫من رابت البيوت والفتيات‪.‬‬

‫وتوذل عملية طهي الطعاـ ‪٥‬بذا ا‪١‬بيش بعض الطهارة وجلست‬


‫وصاحباي ُب الػنوافذ ا‪٤‬بطلة على فناء البيت ‪٤‬بشاىدة ما دار ُب ا‪٢‬بفلة‬
‫من حركػات رقصػات الػزار على نغػمات "الزار" ا‪٤‬بزعجة ‪ .‬ظنت ىذه‬
‫ا‪٤‬بخربة أنِب مغفل وأنِب بسبب غفلٍب أدفع ما ‪ٙ‬باوؿ سلبو مُب بدوف‬
‫وعى وال حساب‪ ،‬وا‪٢‬بقيقة أنِب دل أأتثر إطبلقاً أبنوثة ىذه ا‪٤‬برأة وال‬
‫ٖببلعتها‪ ،‬وكنت أعرؼ يقينا أاها ‪ٛ‬بثل دور عاشقة ُب الظاىر ودور‬
‫سبلبة ُب الواقع‪ ،‬وكنت أدفع ‪ٜ‬بن التسلية ُب ىذا ا‪١‬بو ا‪٤‬بضطرب ألف‬
‫لكل شئ من الرغبات ‪ٜ‬بنو‪ ،‬فكذلك التسلية‪.‬‬

‫دل تدـ طبعاً ىذه ا‪٢‬باؿ ألف النفس تسأـ االستمرار على وتّبة‬
‫واحدة ال تبدؿ فيها وال جديد عليها فتحوؿ ا‪٤‬بلل إذل رغبة ُب التجديد‪،‬‬
‫وإذل دور جديدة للغناء والرقص للبحث عن وجو جديد‪ .‬وا‪٢‬بياة على‬
‫ىذه الصورة تؤدي حتماً إذل عدـ العناية ابلعمل‪ ،‬فكنت أذىب إذل‬
‫مكتيب وأقضي فيو أقل من ساعة‪ ،‬وكذلك كاف يفعل الوكيبلف حسن‬
‫حلمي وربيع‪ٍ ،‬ب ‪٬‬برج ‪٫‬بن الثبلثة للَبويح عن النفس بسهرة جديدة ُب‬
‫بؤر الفساد‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫وكنت أدفع لبلثنْب مرتبات تزيد كثّباً عما كاان ٰبصبلف عليو‬
‫ُب عملهما األسبق وكنت أدفع نفقات البيتْب ُب سخاء ألف ا‪٤‬بوظف‬
‫الذي يتوذل شراء حاجات بيٍب يشَبي ثبلثة كميات متساوية من كل‬
‫نوع ويوزعها على البيوت الثبلثة‪ ،‬كذلك الثياب وشٌب حاجات السَب‬
‫يتم ا‪٢‬بصوؿ عليها على ىذا النظاـ‪ ،‬أما نفقات السهر والسفر إذل‬
‫اإلسكندرية للَبيض ولتنوع ا‪٤‬بروحات فكانت تدفع من جييب مباشرة‪،‬‬
‫فيتوفر مرتب الرجلْب ألاهما ال ينفقاف منو شيئاً‪.‬‬

‫بدأ دخل ا‪٤‬بكتب من األرابح يقل بسبب إٮباؿ العمل‪ ،‬ولكن‬


‫الرصيد السابق ا‪٢‬بصوؿ عليو كاف كبّباً‪ .‬وحانت الفرصة لشراء عقار‬
‫فاشَبيت مدرسة الفرير على انصيٍب شارعي الساحة وأبو السباع‬
‫واشَبيت أيضا عمارة كورونيل اجملاورة ‪٥‬با عمارة الربنس ابتنربج مدير‬
‫شركة قناؿ السويس التالية ‪٥‬با ُب نفس شارع أبو السباع‪ .‬ورغم حياة‬
‫الشطط والسفو كنت أحتفظ ابلنظاـ ا‪٤‬بفروض على عبلقٍب ابألمّبة‬
‫فيزنسكى أقابلها كل أسبوع ُب اإلسكندرية وتقابلِب ُب القاىرة‪ .‬ولكنِب‬
‫كنت أشعر ابنقباض الصدر ُب تلك ا‪٤‬بقاببلت الطويلة بسبب ظهور‬
‫ا‪٥‬برـ على ا‪٤‬برأة وبسبب ملذات اللهو الٍب ألفتها وا‪٫‬بصرت فيها رغباٌب‪.‬‬

‫‪169‬‬
170
‫‪2‬‬
‫عرؼ ‪ٝ‬بيع الراقصات العبلقة الٍب بيِب وبْب شفيقة القبطية‬
‫ووصل إذل علمهن مقدار سفهي وتبذيري ُب اإلنفاؽ‪ ،‬وقد ٘باوزت‬
‫شفيقة حينذاؾ ا‪٢‬بلقة الرابعة من عمرىا وفقدت ا‪٤‬بغرايت الٍب ٘بذب‬
‫إليها الطامعْب ُب األنوثة ا‪١‬بذابة‪ ،‬ودل يبق ‪٥‬با من أسباب الشهرة ا‪٤‬باضية‬
‫سوى الرقص والتبذير والقدرة على االبتزاز والسلب‪.‬‬

‫وُب ذلك ا‪١‬بو الذي تعيش فيو الراقصات لبل٘بار ابألنوثة‬


‫وا‪٣‬ببلعة تتجو رغبة كل واحدة منهن لصيد أضخم ‪٠‬بكة أو أشهر سفيو‬
‫مغفل وكنت وقتذاؾ ا‪٤‬بغفل الكبّب ا‪٤‬بطموح ُب ا‪٢‬بصوؿ عليو بسبب‬
‫‪٩‬بيزٌب ا‪٤‬بغرية‪ :‬الشباب وا‪٤‬باؿ والسفو‪ .‬وغمزت سنارة راقصة تدعى‬
‫‪ٞ‬بيدة‪ ،‬وجذبتها وفيها السمكة ا‪٤‬بشتهاة‪ :‬حافظ صديق شفيقة فكاف‬
‫انتصاراً عظيماً للراقصة على منافستها القديرة‪ ،‬ولكنها خافت شر‬
‫شفيقة ا‪١‬بريئة فامتنعت عن العمل ولزمت البيت‪ .‬وظلت ا‪٢‬بياة ُب ىذا‬
‫البيت شهوراً على وتّبة واحدة كانت مسلية ُب أوؿ األمر ٍب تدرجت‬
‫‪171‬‬
‫إذل ا‪٤‬بلل منها‪ :‬نستيقظ عند منتصف النهار ونشرب البّبة مع تناوؿ‬
‫الغذاء ونفرط ُب الشرب حٌب تدور رؤوسنا فنعود للنوـ ونتنبو ُب ا‪٤‬بساء‬
‫لنَبيض ُب شارع ا‪٥‬برـ‪.‬‬

‫وكاف ُب ا‪١‬بيزة ُب مكاف كوبري عباس حانة داخلة ُب النيل‬


‫قائمة على أعمدة غرفة واحدة كبّبة ولكنها منظمة وتطل نوافذىا‬
‫العريضة على ‪٦‬برى النهر‪ ،‬فصران نقضي بعض السهرة ُب ىذا ا‪٤‬بكاف‬
‫نشرب ا‪٣‬بمر ونسمر ٍب نتمم السكر ُب البيت حٌب يغلبنا النوـ‪ ،‬والذي‬
‫يتوذل ا‪٣‬بدمة ُب ىذا عجوز ظهر بعد حْب أاها أـ ‪ٞ‬بيدة‪ ،‬وصبية اتضح‬
‫أاها أخت الست‪ ،‬وخادـ فتوة عرفت بعد فوات األواف أنو شقيق ‪ٞ‬بيدة‪.‬‬

‫السهر ُب قهاوى الغناء سهرات مكشوفة ‪ٛ‬بكن العيوف من رؤية‬


‫السفهاء وما يفعلوف‪ ،‬وبْب الناس متظرفوف ينتهزوف الفرص للتعرؼ‬
‫ابلسفهاء ٍب يتظرفوف معهم الكتساب الود وٯبدوف لتوثيق ىذا التعارؼ‬
‫ليتحوؿ إذل صداقة ترتفع بعدىا ا‪٢‬بواجز وتزوؿ الكلفة‪ ،‬فيعيش الطفيلي‬
‫على أكتاؼ السفيو‪ ،‬كما تعيش الطفيليات على غّبىا من النبات‪.‬‬

‫تعرؼ إلينا شاب سوري من ىذا النوع يدعى جورج طنوس‪،‬‬


‫كاف لبقاً وأنيساً ومتظرفاً‪ ،‬ومكنت لو صفاتو أتثّبىا ُب نفسي حٌب صار‬
‫ضرورة من ضرورايت ‪٦‬بالس السهرات‪ ،‬بل صرت أوثره على زميلي‬
‫التابعْب رل‪ .‬وعرفت أنو يعمل كمحرر ُب جريدة "الوطن" لصاحبها‬
‫‪172‬‬
‫جندي بك إبراىيم‪ .‬و‪٤‬با بلغت الثقة هبذا الشاب حدىا األقصى صارت‬
‫لو قدرة على االختيار وعلى التوجيو‪ ،‬فحملِب على التسلل مرات من‬
‫مبلزمة حسن حلمي وربيع أفندي لنضل ُب الظلمات وُب أعماؽ عوادل‬
‫جديدة‪ ،‬كاف يصفها أباها ٘بديد ُب ا‪٤‬بروحات عن النفس‪.‬‬

‫وكانت ُب الواقع سهرات خاصة ‪٩‬بتعة تراتح ‪٥‬با النفس وتصبو‬


‫إذل غّبىا‪ ،‬وفاجأشل مرة ُب بيت ‪ٞ‬بيدة مفاجأة سارة أثناء غياب الست‬
‫عند ا‪٣‬بياطة وقاؿ رل إنو يستطيع إعداد سهرة اندرة ا‪٤‬بثاؿ ُب ‪٦‬بلس فتاة‬
‫تركية ال تزاؿ عذراء‪ ،‬ولكن والدهتا تشَبط أف تناؿ مائة جنيو لتمكننا‬
‫من ىذا السهرة مع الفتاة‪.‬‬

‫وألنو ظن أف دفع ىذا ا‪٤‬ببلغ مرة واحدة صفقة ‪ٙ‬بتاج لئل‪٢‬باح‬


‫لتسّب الدفع فجعل يصف ‪٧‬باسن الَبكية العذراء وصف ا‪٣‬بيارل ُب‬
‫الرواايت وكانت اإلجابة على ىذا العرض قصّبة جدا وضعت ُب يده‬
‫ورقة ذات مائة جنيو وُب مساء ىذا النهار نفسو تسللت من ا‪١‬بميع‪.‬‬

‫وقابلت جورج ُب مقهى عينو رل ُب الفجالة فأخذشل إذل بيت‬


‫ُب أحد الشوارع ا‪٤‬بتفرعة من الشارع العمومي فقابلِب أىلو ابلَبحيب‬
‫أشار جورج إذل عجوز وقاؿ إاها أمو وإذل شاب صرح رل أبنو أخوه‬
‫وصناعتو خياط‪ ،‬وإذل صىب آخر وعرفت أنو أخوه الصغّب‪ٍ ،‬ب قاؿ‪:‬‬
‫"ىذه عائلٍب وأان عائلها اؼبفرد‪ ،‬ومرتيب ال يكفي النفقات الضرورية‬
‫‪173‬‬
‫فبل بد يل من عمل جدي إضاُب أفيد منو رحبا الستكماؿ النقص ُب‬
‫دخلي‪ ،‬وقد اختلقت القصة الٍب قصصتها عليك ألجرؾ إىل ىذا‬
‫البيت فَبى بعينك أىلي ولتعرؼ أمري‪ ،‬وىا ىي الورقة الٍب أخذهتا‬
‫منك ابغبيلة أردىا إليك فإذا اقتنعت سأنك تراتح ؼبعاونٍب تصّب ىذه‬
‫الورقة رأس اؼباؿ الذي يبكنِب من إظهار ؾبلة أدبية ابس "األقبلـ"‪،‬‬
‫فأربح منها ما يكفي حاجات ىذه العائلة الشريفة"‪.‬‬

‫وقاؿ‪" :‬إف ىذا اؼببلغ تنفق أضعافو ُب سهرات تزوؿ مؤثراهتا‬


‫مع طلوع النهار‪ ،‬أما إنفاقها للمعاونة ُب عمل شريف ؼبعاونة رب‬
‫عائلة شريفة فإنو من اػبّب بدافع من اإلنسانية"‪.‬‬

‫أعجبتِب الوسيلة الٍب اختارىا جورج إلقناعي بضرورة معاونتو‪،‬‬


‫أثرت صراحتو ُب نفسي أتثّباً ار‪ٙ‬بت لو وأدركت ُب تلك الربىة الفارؽ‬
‫العظيم بْب البؤر الٍب أبذر فيها ا‪٤‬باؿ‪ ،‬وىذه ا‪٢‬بياة الشريفة احملَبمة‬
‫وقدرت الباعث على طلب ا‪٤‬بعاونة حق قدره ولكنِب أخذت الورقة‬
‫ورددهتا إذل جييب وأخذتو وانصرفت‪ ،‬ظن ا‪١‬بميع أنِب ٖبلت إبعطاء ىذا‬
‫ا‪٤‬ببلغ‪ ،‬ولكنِب حْب بلغت الشارع قدمت للشاب الذي أرغمِب على‬
‫احَبامو ورقتْب وصارحتو أبف ىذا أحسن عمل اراتحت لو نفسي‬
‫ومؤلىا ابتهاجاً ومسرة‪ ،‬وصارحتو أبنِب دل أشأ أف اقدـ لو ىذه ا‪٤‬بعاونة‬

‫‪174‬‬
‫أماـ ا‪٢‬باضرين حٌب ال أغمر بعبارات الشكر فَبقرؽ الدمع ُب عيِب‬
‫الصديق وعانقِب‪ ،‬فصران من تلك الربىة ُب مثل آصرة أخوين ‪..‬‬

‫‪175‬‬
176
‫‪3‬‬
‫اعتدت السفر لئلسكندرية مرة كل أسبوع خضوعاً لنظاـ‬
‫الربنسيس فيزنسكى فقابلت عندىا مصادفة سيدة سورية أدبية ‪٥‬با ‪ٝ‬باؿ‬
‫ىادئ وجاذبية صامتة ووداعة وعرفت أاها السيدة ألكسندرا أفّبينو‬
‫صاحبة ‪٦‬بلة "أنيس اعبليس"(‪ ،)20‬كنت ُب نشوة الصبا وفورة الغريزة‬

‫(‪ )20‬أسست ىذه اجمللة الكسندرا مليتادي أفّبينو (‪.)1927 – 1872‬‬


‫فتاة بّبوتية من آؿ اػبوري‪ ،‬ىاجرت مع والدىا قسطنطْب اىل االسكندرية‪ .‬تعلمت ُب‬
‫مدرسة الراىبات وجيئت سأستاذ علمها العربية‪ .‬تزوجت مهاجراً إيطالياً ي ػُدعى ملتيا دي‬
‫افّبينو‪ .‬قامت برحبلت إىل أوراب وتركيا وإيراف‪ .‬وأنشأت دبصر‪ ،‬مع ؾبلتها العربية‪ ،‬ؾبلة‬
‫(اللوتس)) ‪ Lotus‬ابلفرنسية‪ .‬بعد زواجها أصبحت تدعى (الربنسيس ألكسندرة دي‬
‫أفّبينوه فيزينوسكا) ومنحت أوظبة كثّبة من حكومات وصبعيات ـبتلفة‪ .‬وفتحت ؽبا‬
‫زوارىا واؼبعجبْب هبا واؼبؤازرين ؽبا‬
‫أبواب القصور السلطانية ُب مصر وغّبىا‪ .‬وكاف من ّ‬
‫ُب (ؾبلتها)‪ :‬إظباعيل صربي‪ .‬قويت صلتها ابػبديوي عباس حلمي وابإلنكليز‪ ،‬فلما‬
‫خلع وانقضت اغبرب العامة األوىل‪ ،‬وىو مقي ُب (سويسرة) حامت شبهة اؼبلك فؤاد‬
‫ُب مصر حوؽبا‪ ،‬ففتش بيتها وصودرت أوراقها وأمرت ابػبروج من مصر‪ ،‬فرحلت إىل‬
‫انكلَبة وتوفيت ُب لندف‪.‬‬
‫مثّلت مصر ُب مؤسبر السل العاـ الذي ترأستو األمّبة فيزينوسكا االيطالية‪.‬‬
‫وخبلؿ اؼبؤسبر أعجبت األخّبة سألكسندرا‪ ،‬ونشأت بينهما صداقة عميقة‪ ،‬اىل درجة أف‬
‫األمّبة اإليطالية اؼبسنّة ابتت تعترب الصبية البلمعة دبنزلة ابنتها‪ ،‬خصوصاً أهنا مل ترزؽ‬
‫‪177‬‬
‫دبولودة‪ .‬وعندما توفيت‪ ،‬اكتشف زوجها األمّب فيزينوسكا أف وصيتها األخّبة تقضي‬
‫ابنتقاؿ لقب اإلمارة إىل ألكسندرا وعائلتها‪ .‬وسرعاف ما ص ّدؽ ملك إيطاليا فيكتور‬
‫عمانوئيل على مضموف الوصية‪ ،‬فغدت السيدة البّبوتية اؼبتمصرة أمّبة إيطالية‪.‬‬
‫صدر العدد األوؿ من اجمللة ُب ‪ 31‬يناير ‪1898‬ـ ابإلسكندرية‪ ،‬وىي‬
‫مطبوعة نسائية علمية أدبية فكاىية تصدر ُب آخر كل شهر‪ .‬وقد كتب على غبلؼ‬
‫عددىا األوؿ بيتاف من الشعر للتدليل على ىويتها‪ ،‬ونبا‪:‬‬
‫ظباع جليس ال يبل نفوساً‬ ‫إذا ما مللت من جليس ورمت‬
‫يكوف لك منها األنيس جليساً‬ ‫فدونك ىذه اجمللة أهنا‬
‫افتتحت اجمللة صفحات عددىا األوؿ إبىداء يتماشى سباماً مع توجهها‬
‫النسائي حيث كاف موجهاً لؤلمّبتْب أمينة خاًل أفندي وإقباؿ خاًل أفندي بوصفهما من‬
‫نساء األسرة اغباكمة آنذاؾ‪ .‬كما يضمن اإلىداء هتنئة اػبديوي عباس دبناسبة عيد‬
‫جلوسو‪ .‬اتبعت اجمللة مواد التحرير دبقالة عن اؼبرأة ُب الشرؽ ومقارنة وضعها بنظّبهتا‬
‫ُب الغرب‪ ،‬مع أتكيد أف الرجل ُب أورواب عندما كاف يرتقي مراتب العل والثقافة أخذ‬
‫بيد اؼبرأة حٌب ارتقيا سويً‪ ،‬وانلت أورواب حنيئذ حظها من اجملد والقوة والتقدـ وأف‬
‫اجملتمع الشرقي ال يزاؿ متخلفاً عن ركب اغبضارة بسبب إنبالو للمرأة والنظر إليها‬
‫بوصفها وعاء للمتعة اعبسدية‪ .‬كما وجهت اجمللة وافر الشكر واالمتناف إىل السلطاف‬
‫األعظ عبد اغبميد خاف بوصفو الداع األوؿ واألبرز للنهوض ابؼبرأة الشرقية عرب‬
‫فتحو للعديد من اؼبدارس النسائية ُب الدير الَبكية والدير العربية‪ .‬أحد اؼبقاالت‬
‫اؼبنشورة ُب ىذا العدد تناوؿ وضع اؼبرأة ُب عامل القراءة عندما ذكر أف عدد سكاف‬
‫الببلد بلغ عشرة مبليْب نفس‪ ،‬وأف عدد البنات والصبياف غّب اؼبتعلمْب بلغ أربعة‬
‫مبليْب‪ ،‬واؼببليْب الستة الباقية من الذكور واإلانث‪ ،‬نصيب اؼبرأة منها حوايل ثبلثة‬
‫مبليْب‪ ،‬لتنتهي اإلحصائية إىل أ ف كل مليوف امرأة يوجد عشرة آالؼ قارئة وىو رق‬
‫كارثي ابلنسبة لكاتب اؼبقاؿ الذي ألقى ابلبلئمة على اؼبسؤولْب وأولياء األمور وقاؿ‬
‫إف ىذا التقوَل التعليمي والقرائي لو كاف موجوداً ُب إحدى دوؿ أورواب لقامت الدنيا‬
‫وانتصب اؼبيزاف ألهن يغاروف على أوطاهن ‪.‬‬
‫اؼبصادر‪:‬‬
‫‪178‬‬
‫ُب الشباب‪ ،‬فلم يكن وزف ا‪٤‬برأة ُب نظري ٗبواىبها وال أبدهبا وال‬
‫أبخبلقها إ٭با أبنوثتها واب‪٤‬بغرايت الٍب تلفت النظر إليها وتنبو الشوؽ‬
‫ا‪٢‬بار‪.‬‬

‫وقد أحدثت النظرة األوذل للسيدة أفّبنيو التفاعل العاطفي ُب‬


‫فؤادي‪ .‬بدأ األمر ابرتياح فعقدت العزـ على االحتياؿ لتحويل ىذه‬
‫ا‪٤‬بصادفة إذل معرفة وثيقة‪ ،‬ودل يكن األمر صعباً‪ ،‬ألف ا‪٤‬برأة صحافية‬
‫ويسرىا أف ٘بد جمللتها مشَبكْب‪ ،‬ومن ىذا الباب أستطيع االتصاؿ هبا‪،‬‬
‫فوضعت ا‪٣‬بطة ُب الليل ونفذهتا ُب النهار بدوف تردد‪.‬‬

‫كاف حسن حلمي معي ُب اإلسكندرية ويقيم ُب فندؽ "أابت"‬


‫أعظم الفنادؽ ُب ذلك الزمن‪ ،‬فقابلتو ىناؾ ُب الضحى وحجزت لنفسي‬
‫غرفة ألنتقل إليها عقب اإلذف رل ابلعودة إذل القاىرة‪ ،‬وحدثت السيدة‬

‫‪ ‬دوريت الزمن القدَل – "أنيس اعبليس" ؾبلة تطلق صفحاهتا ؼبخاطبة‬


‫النساء – مقاؿ – ؾبدي أبوزيد (ابلتعاوف مع مركز صبعة اؼباجد للثقافة‬
‫والَباث) – جريدة البياف اإلمارتية – ‪ 8‬أكتوبر ‪ – 2005‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.albayan.ae/sports/2005-10-08-‬‬
‫‪1.983666‬‬
‫‪ ‬ؾبلة "أنيس اعبليس" االسكندرية لؤلمّبة ألكسندرا أفّبينوه – مقاؿ –‬
‫جاف داية – جريدة اغبياة – ‪ 22‬سبتمرب ‪ – 2001‬رق العدد‪:‬‬
‫‪ – 14069‬ص ‪.21‬‬
‫‪ ‬األعبلـ – خّب الدين الزركلي – دار العل للمبليْب – لبناف – الطبعة‪:‬‬
‫اػبامسة عشرة – مايو ‪ – 2002‬اعبزء ‪ – 2‬ص ‪.8‬‬
‫‪179‬‬
‫أفّبنيو ابلتليفوف أرجو منها ‪ٙ‬بديد وقت لزايرهتا ألنِب أعجبت بػ "أنيس‬
‫اعبليس"‪ ،‬و‪ٝ‬بعت ‪٥‬با بعض ا‪٤‬بشَبكْب من ذوى الثقافة ا‪٤‬بنصرفْب إذل‬
‫األدب‪ ،‬فلم تَبدد ُب إجابة االلتماس وحددت الساعة الرابعة للزايرة‪.‬‬

‫كانت جالسة ُب شرفة تطل على الشارع فوقفت العربة أماـ‬


‫الباب ونزلت ومعي حسن أفندي‪ ،‬وجاءت ا‪٢‬بسناء بعد جلوسنا ُب‬
‫قاعة االستقباؿ ُب اتزاف أكثر ‪٩‬با عرفتو ‪٥‬با ُب بيت األمّبة وزادت عليو‬
‫كرباً يلطف من مظهره دالؿ ال تريد أف تكوف ُب وضوح ‪ .‬حصران‬
‫ا‪٢‬بديث ُب األدب والصحافة ألنو السبب األساسي للزايرة‪ .‬أعطيت‬
‫قريباً ‪٥‬با عناوين عشرة من معارُب ودفعت قيمة االشَباؾ حفنة من‬
‫الذىب فلم يفت ا‪٤‬برأة كثّبة االختبار والتجارب أنِب انتحلت السبب‬
‫للزايرة وأف الباعث ا‪٢‬بقيقي اختفي وراء الظاىر‪.‬‬

‫وقاـ الدليل عندىا على صدؽ ظنها من حفنة الذىب الٍب‬


‫تركتها ُب يد الوكيل‪ ،‬ودل تظهر ا‪٤‬برأة النفور ٗبا اىتدت إليو‪ ،‬ودل يظهر ما‬
‫يدؿ على ارتياحها فاستمرت ُب اتزااها وكربىا مع ظرؼ ُب ا‪٢‬بديث‬
‫تتخللو ابتسامات خفيفة تكشف للعْب جزءاً من ثناايىا‪ ،‬و‪٤‬با حاف‬
‫وقت االنصراؼ ودعتِب هبذه العبارة‪:‬‬

‫‪180‬‬
‫"من عادة إدارة اجمللة دفع ‪ % 20‬مكافأة للمندوب الذي‬

‫ِّ‬
‫وبصل قيمة االشَباكات‪ ،‬فمن حقك طلب ىذا النصيب ُب أي‬
‫وقت تشاء" ‪..‬‬

‫أدركت أف ىذه العبارة دل تػُرسػ ػَل اعتباطاً‪ ،‬قيلت تعمداً لتؤدى‬


‫معناىا الظاىر للتظرؼ ُب الشكر ولتشّب إذل معُب آخر يدؿ على عدـ‬
‫نفورىا من تكرار الزايدة مدعمة بسبب‪ .‬و‪٤‬با عدت إذل اإلسكندرية ُب‬
‫األسبوع الثاشل حدثت السيدة ابلتليفوف أنذرىا أبنِب ال أ‪ٚ‬بلى عن‬
‫نصييب ُب قيمة االشَباكات الٍب ‪ٝ‬بعتها و‪٤‬بت اإلدارة على إٮبا‪٥‬با رد‬
‫ا‪٢‬بق إذل صاحبو وانتهى األمر بتحديد وقت للزايرة ا‪١‬بديدة‪ ،‬فذىبت‬
‫‪٥‬بذه ا‪٤‬بقابلة وحدي‪ .‬استمر ىذا التعارؼ أربعة أعواـ فقط تتخللها‬
‫الزايرات كلما ذىبت إذل اإلسكندرية‪ .‬وكنت أرجو أف تدوـ إذل اهاية‬
‫ا‪٢‬بياة‪ ،‬ولكن ا‪٢‬بظ العاثر تدخ ػ ػل ُب األمر وحولو إذل خصومة وعداء ُب‬
‫ضجة عالية‪.‬‬

‫من وسائل التودد اختيار ىدااي لئلىداء ُب مناسبات ففعلت‪،‬‬


‫أسرفت وعرضت علي ُب إحدى الزايرات ‪٦‬بموعة صور مشسية ‪٥‬با‬
‫وسألتِب أيها األقرب للطبيعة فاخَبت صورة منها ودللتها عليها فانتزعتها‬
‫من اجملموعة وأىدهتا رل فوضعتها ُب البيت ُب أقرب مكاف يقع عليو‬
‫نظري على الدواـ‪ ،‬دل يكن ُب مقدوري أف أىدي صورٌب ألاها متزوجة‪،‬‬

‫‪181‬‬
‫فعهدت إذل أشهر رساـ ُب القاىرة عمل صورة زيتية ُب ا‪٢‬بجم الطبيعي‬
‫نقبلً عن ىذه ا‪٥‬بدية وأجاد الرجل عملو ٍب اخَبت يوـ عيد ميبلدىا‬
‫لتصل إليها الصورة فيو‪.‬‬

‫وقد عرفت من كثّبين أف ‪٥‬بذه السيدة ا‪٢‬بسناء عبلقة تعارؼ‬


‫بشخصيات كبّبة وجهات عالية وانلت من السلطات عبد ا‪٢‬بميد‬
‫نيشاف الشفقة وثبلثة نياشْب أخري من دوؿ ال أعرفها‪ ،‬وأشاعوا أف أمّباً‬
‫إيطالياً أوصى ‪٥‬با بوراثة لقبو بعد موتو فمات و‪ٞ‬بلت بعده لقب برنسيس‬
‫‪..‬‬

‫‪182‬‬
‫‪4‬‬
‫كاف من عادة الربنسيس قضاء شهور من الصيف ُب أوراب‬
‫فكنت أرافقها ُب رحبلهتا طوعاً أو كرىاً ٍب أعود إذل القاىرة واذل حياة‬
‫الَبؼ والسفو‪ ،‬واليوماف اللذاف أقضيهما ُب اإلسكندرية كل أسبوع ٮبا‬
‫فَبة الراحة واالستجماـ من أتثّب مرىقات ا‪٢‬بياة ا‪٤‬بضطربة‪ .‬وحدث ُب‬
‫مارس ‪ 1905‬أف السيدة أفّبينو أرسلت رل بواسطة الربيد صندوقاً‬
‫صغّباً بو النياشْب األربعة لتنظيفها عند اتجر جواىر يدعى التنس‬
‫فسلمتو النياشْب ٍب اسَبددهتا بعد أسبوع‪.‬‬

‫وذىبت ابلصندوؽ إذل ا‪٤‬بنزؿ الذي أعددتو ‪٢‬بميدة الراقصة‬


‫لتناوؿ طعاـ الغذاء ومعي حسن حلمي ودمحم ربيع وفتحت ‪ٞ‬بيدة‬
‫الصندوؽ ‪٤‬بشاىدة ما فيو ٍب أودعتو خزانة ثياهبا وىى على الدواـ غّب‬
‫موصدة اب‪٤‬بفتاح‪ .‬أكثران ُب ذلك النهار من شرب البّبة‪ٍ ،‬ب ٭بنا ‪ٝ‬بيعا ُب‬
‫ذلك البيت ألنِب وزميبلي على موعد السهرة ُب فندؽ الكونتنننتاؿ مع‬
‫فتيات فرنسيات‪.‬‬
‫‪183‬‬
‫‪٠‬بعت من كثّبين ُب قهاوي الغناء أف ‪٢‬بميدة معشوقاً تتفاسل ُب‬
‫حبو وتدفع لو ‪ٝ‬بيع نفقاتو‪ ،‬ولكنِب دل أره إطبلقاً‪ ،‬ودل أ‪٠‬بع أية كلمة عنو‬
‫ُب بيتها‪ ،‬فظننت ما ينقل رل من ا‪٢‬بديث عنو دسا للتفريق بيِب وبْب‬
‫‪ٞ‬بيدة بدافع من الغّبة أو رغبة ُب الكيد ليتم الفراؽ ولتعود الراقصة إذل‬
‫عملها‪.‬‬

‫عدت بعد تلك السهرة الطويلة إذل البيت ومعي مفتاح الباب‬
‫ا‪٣‬بارجي للمسكن ا‪٣‬باص بنا فدخلت والقوـ نياـ وأان ُب أقصى درجات‬
‫السكر حاولت فتح ابب غرفة النوـ فوجدتو موصداً من الداخل‬
‫فقصدت إذل الغرفة اجملاورة غرفة االستقباؿ الف ‪٥‬با ابابً آخر يؤدى إذل‬
‫غرفة النوـ فوجدتو موصداً ىو اآلخر‪ ،‬فعدت إذل الباب األوؿ وجعلت‬
‫أدقو ألنبو النائمة لتفتح الباب‪ ،‬ولكنها لزمت الصمت برىة طويلة‪.‬‬

‫كاف رأسي يدور من أتثّب ا‪٣‬بمر وطوؿ السهر وكنت ُب حاجة‬


‫شديدة للنوـ ُب ا‪٢‬باؿ فزدت الطرؽ شدة وعنفاً فأظهرت ا‪٤‬برأة الغضب‬
‫والعناد وجعلت تؤنب بصوت مرتفع جداً بسبب سهري الطويل خارج‬
‫البيت وتركها وحدىا‪ ،‬أيقظت ىذه الضجة العالية أمها وأختها فجعلتا‬
‫تلحاف عليها ُب لطف لطلب ا‪٤‬بغفرة وللسماح رل اب‪٤‬ببيت ُب البيت‪ .‬ودل‬
‫تلن العنيدة للتوسبلت بسهولة‪ ،‬فانػقضى وقت طويل بْب وصورل إذل‬
‫البيت وبْب فتح الباب‪ .‬دل ينبهِب تصرؼ ا‪٤‬برأة ا‪٣‬ببيثة لوجوب الشك ُب‬

‫‪184‬‬
‫الباعث ا‪٢‬بقيقي عليو‪ ،‬فاكتفيت ابلدخوؿ و٘بردت من ثيايب بسرعة‬
‫وانطرحت على السرير وغططت ُب النوـ إذل عصر النهار الثاشل‪.‬‬

‫جاء حسن حلمي كالعادة فارتديت ثويب ونزلت معو وتذكران‬


‫صندوؽ النياشْب و‪٫‬بن على السلم فطلبتو فأرسلتو إذل ‪ٞ‬بيدة مع أختها‪،‬‬
‫وأراد حسن أفندي االطمئناف على النياشْب أاها موجودة ُب الصندوؽ‬
‫ففتحو وعد ا‪٤‬بوجود فيو فظهر أف نيشاف الشفقة قد اختفي منو‪ .‬وعدان‬
‫إذل ا‪٤‬بسكن وٕبثنا عن النيشاف ا‪٤‬بفقود ُب كل مكاف فلم ‪٪‬بده ابلرغم من‬
‫دقة التفتيش الذي ًب ُب كل انحية من ا‪٤‬بسكن ‪ٝ‬بيعو حٌب ثياب الذين‬
‫فيو‪ ،‬وأنكر ا‪١‬بميع علمهم بوجود الصندوؽ ُب خزانة الثياب‪.‬‬

‫قطعت ىذه ا‪٢‬بادثة الصلة بيِب وبْب ‪ٞ‬بيدة ودل استطع التبليغ‬
‫عن ضياع النيشاف ألف من الفضيحة أف أودع ُب بيت راقصة ‪٧‬بَبفة‬
‫نياشْب سيدة ‪٧‬بَبمة ‪٥‬با مركزىا البارز ُب ا‪٥‬بيئة االجتماعية‪ ،‬وغُلبت على‬
‫أمري وظهرت رل نتيجة االستهتار واالطمئناف المرأة ُب أحط دركات‬
‫الرذيلة واال‪٫‬بطاط‪ ،‬ودل أجد بداً عن الكتابة إذل السيدة أفّبينو فرددت ‪٥‬با‬
‫الناشْب الباقية ونبأهتا بضياع النيشاف الرابع‪ ،‬وعرضت عليها دفع كل ما‬
‫تطلبو للتعويض عن ا‪٣‬بسارة‪.‬‬

‫وظهرت السيدة احملَبمة كرٲبة ا‪٣‬بلق واضحة النبل ألاها كتبت‬


‫إذل هتوف األمر على ووكدت أف ُب مقدورىا ا‪٢‬بصوؿ على النيشاف من‬
‫‪185‬‬
‫مصدرة ألنو اثبت ‪٥‬با ‪ٞ‬بلو‪ ،‬وأف ا‪٤‬بسألة ال تعدو دفع ‪ٜ‬بن ا‪٢‬بلية ال‬
‫أكثر‪ .‬انتهى األمر عند ىذا ا‪٢‬بد ولكنِب دل أحتفظ اب‪٣‬بطاب لعظم ثقٍب‬
‫بصاحبتو‪ ،‬وألنِب دل أجد ابعثاً ٰبدوشل لبلحَباس منها ُب ا‪٤‬بستقبل‬
‫بسبب االطمئناف إليها واالستخفاؼ ٔبميع أحداث العادل‪ .‬وجاء أواف‬
‫السفر ألوراب فسافرت قبل الربنسيس و‪٢‬بقت يب ُب روما ٍب انتقلنا إرل‬
‫ابريز ومنها إذل سويسرا فقضينا فيها إذل ‪ 20‬يوليو ‪ٍ 1905‬ب عدان إذل‬
‫مصر واتبعت سفري إذل القاىرة آمناً مطمئناً‪.‬‬

‫حدثت أحداث أثناء ىذه الغيبة أدت إذل مصادمات كبلمية‬


‫بْب جورج طنوس صديقي العزيز وبْب حسن حلمي يسنده زميلو ربيع‬
‫أفندي‪ ،‬ووصلت ا‪٣‬بصومة إذل حد طرده من ا‪٤‬بكتب والتنبيو على ا‪٣‬بادـ‬
‫بعدـ السماح لو ابلدخوؿ مرة اثنية‪ ،‬وأظهر جورج العدد ا‪١‬بديد من ‪٦‬بلة‬
‫"األقبلـ" وهبا رسالة ‪ٙ‬بت عنواف‪" :‬إفساد األخبلؽ" وصف فيها حياٌب‬
‫ا‪٣‬باصة ونوع استهتاري وسفهي وتبذيري‪ ،‬ونسب ذلك إذل وقوعي ُب‬
‫شرؾ رجلْب من فاسدي األخبلؽ يتصرفاف ُب عملي وينحدراف يب إذل‬
‫أعماؽ ىوى الرذيلة بسبب طيبة قليب وسذاجٍب وثقٍب ابلزميلْب‪ٍ ،‬ب‬
‫أرسل الرسالة مؤشراً عليها اب‪٢‬برب األ‪ٞ‬بر إذل الربنسيس فيزنسكى وإذل‬
‫السيدة أفّبينو‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫غضبت طبعاً ‪٥‬بذه ا‪١‬برأة وسندت زميلي ُب حنقهما على‬
‫الصديق ا‪٣‬بائن‪ ،‬وزاد ىذا التصرؼ ُب شر جورج طنوس فنشر ُب العدد‬
‫الثاشل نبأ ضياع نيشاف الشفقة‪ ،‬ووكد أف النيشاف دل يفقد كما ادعيت‬
‫ولكنِب أىديتو لراقصة من الساقطات‪ ،‬وأاها زينت صدرىا بو كحلية‬
‫ورقصت بو على مسرح أماـ ا‪١‬بمهور ‪ ..‬أرسل اجمللة إذل السيدتْب مؤشراً‬
‫على قصة النياشْب ابأل‪ٞ‬بر‪.‬‬

‫حْب كنا أصدقاء ذىبت مع ‪ٞ‬بيدة وجورج إذل ا‪٥‬برـ‪ ،‬وجلسنا‬


‫على حجر وأخذت رل صورة و‪ٞ‬بيدة تسند رأسها إذل صدري‪ ،‬فأرسل‬
‫جورج ىذه الصورة أيضاً إذل األمّبة وإذل ألكسندرة أفّبينو‪ .‬دل يصل قبل‬
‫اآلف إذل علم الربنسيس أي نبأ عن حياة االستهتار والتهتك الٍب‬
‫انطلقت لبل‪٫‬بدار إليها‪ ،‬ففوجئت أبنباء ىذه ا‪٢‬بياة القذرة ُب الرسائل‬
‫الٍب أرسلت إليها‪ ،‬ولكنها دل تتعجل ُب الغضب على فأرسلت سراً‬
‫تستدعى حسن حلمي وربيع أفندي‪ ،‬ووعدهتما اب‪٤‬بكافأة وإبسناد أعماؿ‬
‫ا‪٤‬بكتب إليهما إذا صدقا ُب وصف ا‪٢‬بياة الٍب أحياىا ُب القاىرة‪.‬‬

‫وطمع الرجبلف ُب ا‪٤‬بركز الذي أغرهتما بو األمّبة فقصا عليها‬


‫قصٍب كاملة‪ ،‬وزادا عليها ما يؤيد دعوى جورج طنوس أبنِب أىديت‬
‫النيشاف إذل الراقصة ‪ٞ‬بيدة بدافع من ولعي هبا وبسبب إ‪٢‬باحها‬
‫للحصوؿ على تلك ا‪٢‬بلية‪ ،‬إف حسن حلمي قرر أنو دخل مرة بيت‬

‫‪187‬‬
‫‪ٞ‬بيدة بعد إذاعة نبا ضياع النيشاف أبايـ كثّبة فرآشل جالساً أطالع جريدة‬
‫ورأى النيشاف على صدر الراقصة‪ ،‬وقرر دمحم ربيع أنو رأى الراقصة بعد‬
‫انفصارل عنها ترقص على ا‪٤‬بسرح والنيشاف ا‪٤‬برصع على صدرىا والناس‬
‫يظنونو حلية‪ ،‬وزاد على ىذا االفَباء أنو أراد شراء النيشاف من ‪ٞ‬بيدة‬
‫ليمكنِب من رده إذل صاحبتو فرفضت الراقصة بيعو أبي ‪ٜ‬بن وصرحت‬
‫أباها سَبقص بو على الدواـ نكاية ُب ‪..‬‬

‫سببت ىذه االعَبافات الكذابة ُب موضوع النيشاف ىياج‬


‫األمّبة وغضبها‪ ،‬وقصت ما ظنتو ا‪٢‬بقيقة على السيدة أفّبينو وحرضتها‬
‫على أف تبلغ النيابة لتتهمِب بتبديد النيشاف‪ ،‬فاستشاطت األخرى غضباً‬
‫وقدمت الببلغ فألقي القبض على ُب مصر‪ ،‬ون ػ ػُِقلت إذل اإلسكندرية‪،‬‬
‫وعرضت على رئيس النيابة دمحم بك ‪٧‬بفوظ‪ ،‬فأمر ٕببسي احتياطياً‬
‫وأرسلِب إذل سجن ا‪٢‬بضرة‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫‪5‬‬
‫ذىبت إذل السجن ُب عربة مع جاويش ٰبرسِب فسلمِب ‪٢‬بارس‬
‫الباب ومعي أمر النيابة ا‪٢‬ببس االحتياطي‪ ،‬فبقيت واقفاً خلف الباب‬
‫حٌب دؽ ا‪١‬برس يعلن انتهاء الراحة وقت الغداء‪ ،‬فنشطت ا‪٢‬بركة داخل‬
‫السجن وظهر السجانوف وا‪٤‬بوظفوف انشطْب ‪٤‬بباشرة أعما‪٥‬بم‪ .‬ورأيت من‬
‫وراء الباب فريقاً كبّبا من الفبلحْب جئ هبم لتنفيذ األحكاـ الٍب‬
‫صدرت ضدىم ولكنهم كانوا جلوساً على األرض ألاهم يلبسوف‬
‫ا‪١‬ببلبيب أما أان فاستندت إذل ا‪٢‬بائط لبلرتكاز بسبب طوؿ الوقوؼ‪.‬‬

‫وظهر ُب الفناء ا‪٣‬بارجي للسجن موظف شاب وخلفو سجاف‬


‫ُب يده كيس من القماش السميك‪ ،‬وصدر األمر للجميع ابلوقوؼ‬
‫فأطاعوا فصفوىم صفاً واحداً ٍب رفع ا‪٤‬بوظف صوتو يقوؿ ‪٥‬بم‪" :‬كل‬
‫واحد معو فبنوعات سجاير أو دخاف أو كربيت أو طعاـ يلقيو على‬
‫األرض أمامو‪ ،‬وكل واحد معو نقود يسلمها يل لتوضع ُب األماانت‬
‫غبسابو وسَبدد إليو وقت اإلفراج عنو"‪.‬‬
‫‪189‬‬
‫ٍب قاؿ‪" :‬وسنفتش اعبميع بعد ذلك‪ ،‬فإذا وجدان شيئاً فإنو‬
‫يعاقب عليو عقاابً شديداً"‪.‬‬

‫ألقى الرجاؿ ما كاف معهم على األرض‪ٍ ،‬ب مر ا‪٤‬بوظف األوؿ‬


‫ُب الصف فسلمو ما معو من النقود فتناو‪٥‬با السجاف ووضعها ُب الكيس‬
‫وسجلها الكاتب ُب ورقة بيده‪ٍ ،‬ب ‪ٛ‬بطى وصفع الرجل صفعة راننة قبل‬
‫االنتقاؿ إذل الذي يليو‪ ،‬وتكرر العمل والصفع إذل النهاية‪ .‬وأصررت ُب‬
‫سري على ضرب الكاتب إذا خطر لو أف يودعِب بصفعة كما فعل مع‬
‫غّبي‪ ،‬ولكنو تلطف معي وسألِب عن التهمة ا‪٤‬بنسوبة إذل ٍب ىز رأسو‬
‫أسفاً‪.‬‬

‫دل تكن معي نقود إطبلقاً ألف ما كاف ُب جييب أخذه البوليس‬
‫مُب بعد القبض على وأرسلو إذل النيابة مع ما كنت أتزين بو من ا‪٤‬باس‪،‬‬
‫ونُفذ ُب نظاـ السجوف القاسي فخلعت ثويب وارتديت ثوب السجن‪،‬‬
‫وجاء مسجوف آبلة قص الشعر فأجراىا على رأسي‪ ،‬ودخلت ا‪٢‬بماـ‬
‫فصب ا‪٤‬باء على جسدي لتطهّبه من األقذار‪ٍ ،‬ب قادوشل إذل زنزانة هبا‬
‫حصّب وبطانية واغلق على الباب‪ .‬ومن نظاـ السجن تبخّب ‪ٝ‬بيع ثياب‬
‫الذين يدخلوف السجن اتقاء العدوى من األمراض‪ ،‬ولكن الكاتب ‪ٞ‬بى‬
‫ثويب من التبخّب ألنو يتلفو ٍب رده إذل ضحى النهار الثاشل سليماً‬
‫فحمدت لو ىذا ا‪٤‬بعروؼ‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫دل أكن أدري حكاية استدعاء وكيلي حسن حلمي ودمحم ربيع‬
‫‪٤‬بقابلة الربنسيس ُب اإلسكندرية ودل أعرؼ ما حداثىا بو عُب‪ ،‬وكاف‬
‫إٯبار مكتيب مكتوابً ابسم رئيس خدـ األمّبة‪ ،‬ألنو استأجره رل ُب‬
‫غيايب‪ ،‬فلما ًب القبض علي سافر إذل مصر وأغلق ا‪٤‬بكتب‪ .‬دل يصل إذل‬
‫علمي شئ من ىذه التصرفات ألنِب عزلت عزالً اتماً عن العادل فكتبت‬
‫إذل ا‪٤‬بكتب أطلب إرساؿ نقود اب‪٠‬بي للسجن لتوكيل ‪٧‬باـ للدفاع عِب‪.‬‬

‫أُرسل ا‪٣‬بطاب إذل قسم البوليس بعابدين ولكن اإلجابة دل تصل‬


‫إرل‪ ،‬صرحوا رل بكتابة خطاب ٍ‬
‫اثف ُب األسبوع ا‪١‬بديد كنظاـ السجن‬
‫فلحق أخاه ُب عادل الظبلـ ورجوت من الشاب إرساؿ برقية لعنواف‬
‫حسن حلمي اب‪٤‬بكتب ففعل ولكن اإلجابة عليها دل تصل‪.‬‬

‫وكاف من اإلجراءات القانونية معارضٍب ُب أمر ا‪٢‬ببس‬


‫االحتياطي الصادر من النيابة ولكُب دل أفعل فتكرر أمر ا‪٢‬ببس وانقطعت‬
‫عن الناس ‪ٝ‬بيعاً ودل اتصل أبي إنساف سوى رئيس النيابة حْب يدعوشل‬
‫للتحقيق معي‪ ،‬قررت ا‪٢‬بقيقة كاملة ُب التحقيق‪ ،‬وكنت أظن أف ‪ٞ‬بيدة‬
‫أىلها سيقرواها أيضا فيثبت ضياع النيشاف من خزانة الثياب ُب بيتها‬
‫فتهدـ هتمة التبديد‪.‬‬

‫ولكن ا‪٤‬برأة جئ هبا لئلسكندرية مقبوضاً عليها فأنكرت حادثة‬


‫النيشاف ُب بيتها ووكدت أنِب أخذت منها الصندوؽ بعد فحصو‬
‫‪191‬‬
‫ووثوقي من النياشْب ‪ٝ‬بيعها أاها فيو‪ ،‬ولكن النيابة أبقتها ُب السجن‬
‫مقبوضاً عليها حٌب يوـ جلسة احملاكمة‪.‬‬

‫وانتقل رئيس النيابة وكاتبو إذل القاىرة وفتش البيت وا‪٤‬بكتب‬


‫فوجد ُب أحد األدراج بياانت من احملبلت التجارية اب‪٢‬بلي الٍب اشَبيتها‬
‫للهدااي فأمر بنقلي إذل القاىرة وعرضِب ُب موكب على أصحاب تلك‬
‫احملبلت ليسأ‪٥‬بم عن النيشاف ىل عرضتو عليهم للبيع فكانت اإلجاابت‬
‫سلبية‪ ،‬ووجد ُب مكتيب خطاابت أو بطاقات زايرة أب‪٠‬باء سيدات من‬
‫عائبلت شريفة‪ ،‬فقادشل إذل بيوهتن ليسأ‪٥‬بن عن عبلقاهتن يب وعن‬
‫النيشاف ىل رأينو معي‪ ،‬قضينا ُب القاىرة أايماً لتتم ىذه الفضيحة ُب‬
‫ركب لو ضجة وأان مقيد اب‪٢‬بديد‪.‬‬

‫يتكوف الركب من ثبلث عرابت‪ :‬األوذل هبا يوزابشي من‬


‫البوليس السري وثبلثة من رجالو‪ ،‬والثانية‪ ،‬هبا رئيس النيابة وكاتبو‬
‫وا‪٢‬باجب‪ ،‬والثالثة‪ ،‬هبا ا‪٤‬بقبوض عليو بْب اثنْب من ا‪١‬بنود‪ .‬انتهى ٕبث‬
‫النيابة ُب القاىرة بدوف نتيجة فردوشل إذل سجن ا‪٢‬بضرة وبعد يومْب‬
‫ساقوشل إذل غرفة رئيس النيابة فوجدت هبا الربنسيس فيزنسكى جالسة‬
‫و‪ٞ‬بيدة واقفة يستجوهبا احملقق‪ٍ ،‬ب أعدان للسجن قبل انصراؼ األمّبة‬
‫ا‪١‬بريئة‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫التهمة ضدي جرٲبة تبديد النيشاف‪ ،‬وىى أوذل التهم فهي جرٲبة‬
‫عادية ال تستحق الضجة الٍب أحدثتها النيابة والصحافة‪ ،‬فلما جاء اليوـ‬
‫احملدد للجلسة أماـ احملكمة ا‪١‬بزئية‪ ،‬وضعت ُب قفص ا‪٤‬بتهمْب إذل‬
‫جانب ‪ٞ‬بيدة فرأيت القاعة حاشدة اب‪١‬بالسْب وحو‪٥‬بم زحاـ من الواقفْب‬
‫ورأيت وكيل نظػارة ا‪٢‬بقانية جالساً ُب ا‪١‬بلسة إذل جانب النيابة‪ .‬وسألِب‬
‫القاضي فقصصت قصة ضياع النيشاف كما حدثت ودل أهتم أحداً‬
‫وسألِب القاضي ابىتماـ عن عبلقٍب ابلسيدة أفّبينو ودل يكن الغرض‬
‫معرفة الواقع‪ ،‬إ٭با ا‪٢‬بصوؿ على اعَباؼ منػِّي أبف ا‪٤‬بعرفة كانت بعيدة عن‬
‫ا‪٤‬بظاف‪ ،‬ودل يكن ُب وسعي سوى التصريح على ىذه الصورة‪.‬‬

‫وجاء دور الشهود حسن حلمي ودمحم ربيع‪ ،‬فشهدا ضدي ٗبا‬
‫قرراه أماـ الربنسيس فيزنسكى فتولتِب الدىشة وسألِب القاضي‪٤ :‬باذا‬
‫يشهد ىذا الرجبلف ىذه الشهادة ضدي وٮبا موظفاف ُب مكتيب‬
‫وصديقاف يبلزماشل ُب سهراٌب طوؿ الليل‪ ،‬يريد أف الشهادة صادقة ال‬
‫يتناو‪٥‬با الشك وال الطعن فيها‪ ،‬فكاف جوايب‪" :‬أتىب النفس اػببيثة أف‬
‫زبرج من الدنيا قبل أف تسئ إىل من أحسن إليها"‪.‬‬

‫دل أستطع إثبات سرقة النيشاف مِب‪ ،‬ألف الشاىدين قررا أاهما‬
‫رأاي النيشاف على صدر ‪ٞ‬بيدة بعد ذيوع نبأ ضياعو‪ ،‬فثبتت ضدي هتمة‬
‫التبديد ألشل استلمتو ابعَباُب ودل أرده‪ ،‬وتوذل رئيس النيابة القضية وإثبات‬

‫‪193‬‬
‫التهمة فصدر ا‪٢‬بكم ضدي اب‪٢‬ببس ثبلثة أعواـ‪ .‬ا‪١‬برٲبة جنحة تبديد‬
‫وىى األوذل ضدي وليست رل سوابق‪ ،‬وكل جرٲبة من ىذا النوع ٰبكم‬
‫فيها عادة اب‪٢‬ببس شهراً أو اثنْب أو ثبلثة‪ ،‬ولكن اجملِب عليها ىي‬
‫السيدة أفّبنيو وا‪١‬باشل شاب أحدث اهتامو ضجة عالية بواسطة‬
‫الصحف ووراء ىذه الضجة نفوذ الربنسيس فيزنسكى‪ٍ ،‬ب حظي السيئ‪.‬‬
‫واستأنفت ا‪٢‬بكم فعدلت احملكمة ا‪٢‬بكم إذل ستة شهور مع الشغل ‪...‬‬

‫كاف مأمور السجن إ‪٪‬بليزايً يػُدعى ا‪٤‬بسَب بوب وىو رجل طيب‬
‫القلب نشيط ُب عملو ‪٠‬بع عن قصٍب مع الضجة الٍب أثّبت حو‪٥‬با‬
‫وصّبهتا حديثاً ُب اجملالس فأظهر عطفو على بسبب ىذه ا‪٤‬بأساة‬
‫والقتناعو أبنِب ضحية ‪ .. .‬وحدث مفاجأة أنو مر على السجن ُب‬
‫الليل ٍب فتح زنزانٍب الٍب انعزلت فيها عن بقية زمبلئي ا‪٤‬بسجونْب‬
‫وأيقظِب من النوـ‪ ،‬وقاؿ‪" :‬ستحضر الربنسيس فيزنسكى غداً قبل‬
‫الظهر لزيرة السجن‪ ،‬فيحسن أف تغيب عن نظرىا‪ ،‬والوسيلة لذلك‬
‫ىي ادعاؤؾ اؼبرض فتعرض على الطبيب فتوفر على نفسك التأمل من‬
‫مشاتتها بك"‪.‬‬

‫وكاف الطبيب رجبلً صا‪٢‬باً كثّب التقوى طيب القلب‪ ،‬فلما‬


‫ُعرضت عليو أمر رل اب‪٤‬بعا‪١‬بة ُب مستشفي السجن مع عزرل ُب غرفة‬
‫انفرادية ونُفذ األمر ُب ا‪٢‬باؿ‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫وحضرت األمّبة ومعها زميبلف ‪٥‬با من األجانب فرافقها ا‪٤‬بأمور‬
‫ُب الزايرة فمر هبا على ا‪٤‬بصانع وا‪٤‬بغسل وا‪٤‬بطبخ وعاد هبا إذل الفناء‬
‫متجها إذل مكتبو‪ ،‬ولكنها طلبت رؤية بقية ا‪٤‬بسجونْب فجمعوا الذين‬
‫ٱبدموف ُب عنابر السجن وعرضهم ا‪٤‬بأمور عليها ٍب صرفوىم فطلبت‬
‫زايرة ا‪٤‬بستشفي فنفذت رغبتها‪ ،‬فسألت ا‪٤‬بأمور ُب جرأة ‪٤‬باذا دل تر حافظ‬
‫‪٪‬بيب بْب الذين عرضوا عليها‪ ،‬فكانت اإلجابة أنو مريض وقد عزؿ ُب‬
‫غرفة انفرادية بسبب شك الطبيب ُب مرضو‪ ،‬فسألت ومٌب ظهر ومٌب‬
‫عزلو الطبيب؟‬

‫وأدرؾ ا‪٤‬بأمور أاها جريئة متحدية وال ‪ٙ‬باوؿ إخفاء رغبتها ُب‬
‫رؤية ا‪٤‬بسجوف للشماتة بو فقادىا إذل الغرفة الٍب عزلت فيها وفتحها ٍب‬
‫قاؿ‪" :‬ىا ىو حافظ قبيب"‪.‬‬

‫كانت الغرفة صغّبة فوقفت ُب فتحة الباب وأان جالس على‬


‫السرير وجعلت ‪ٛ‬بعن النظر ُب وتفحصِب من قمة الرأس إذل القدمْب ٍب‬
‫سألتِب‪" :‬ما مقدار مدى اغبك الصادر ضدؾ "‬

‫ونظاـ السجن ٰبتم على التأدب مع ا‪١‬بميع فقلت مرغماً‪:‬‬


‫"ستة شهور"‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫فقالت‪" :‬ىذه اػبطوة األوىل ‪ ..‬ولكن‪ ،‬أبرئ أنت أـ ارتكبت‬
‫اعبريبة الٍب نسبت إليك "‪.‬‬

‫قلت‪" :‬لقد صدر اغبك ضدي ألف احملكمة اقتنعت إبدانٍب‬


‫والقانوف يفرض على كل إنساف احَباـ ىذا اغبك ولو كاف خاطئاً"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬وىل أنت فبن وبَبموف القانوف "‪.‬‬

‫قلت‪" :‬مفروض على عدـ ـبالفتو حبالة يقوـ عليها دليل"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬ولكن الذي يسقط ووبك ضده ويدخل السجن‬


‫يعتاد اإلجراـ"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬ال زلت أجهل ما سيجيء بو اؼبستقبل"‬

‫قالت‪" :‬وىل ُب نيتك التوبة "‪.‬‬

‫قلت‪" :‬ال ‪ ..‬إنِب مل أتعمد االعتداء على أحد‪ ،‬فل أفعل ما‬
‫هبب الندـ عليو والتوبة ألهنا نوع من االعَباؼ ابػبطأ"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬أمل تكن خائناً أال يندـ اإلنساف على اػبيانة "‪.‬‬

‫قلت‪" :‬قاؿ اؼبسيح‪ :‬من كاف منك بدوف خطيئة فليتقدـ‬


‫أوالً ويرصبها"‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫فنظرت إذل نظرة عميقة أدركت منها أاها للتهديد ولكنِب دل‬
‫أغض من نظري فهزت رأسها وانصرفت يتبعها ا‪١‬بميع‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫‪6‬‬
‫انتهت الشهور الستة وحاف يوـ اإلفراج عِب‪ ،‬وقد جرت العادة‬
‫أف يفتح ابب السجن للمفرج عنهم ُب الظهر ‪ٛ‬باماً‪ ،‬ففتح رل الباب‬
‫وخرجت إذل الفضاء الواسع إذل ا‪٢‬برية ‪ ...‬إذل ا‪٢‬بياة‪ .‬قطعت الشارع‬
‫ا‪٤‬بؤدى من السجن إذل وابور ا‪٤‬بياه‪ ،‬ومررت بعربة كانت واقفة ىناؾ هبا‬
‫امرأاتف إحداٮبا عجوز تركية‪ ،‬واذل جانب العربة جندي من رجاؿ‬
‫البوليس وأفندي آخر انداشل اب‪٠‬بي‪ ،‬وتقدـ لناحيٍب فوقفت فقاؿ‪:‬‬
‫"حضرتك مطلوب للقس " ‪..‬‬

‫فسألتو عن السبب فأنكر معرفتو وصرح رل أبنو منوط بو‬


‫إحضاري للقسم أبمر حضرة ا‪٤‬بأمور فسرت مع الرجلْب و‪ٙ‬بركت العربة‬
‫وانطلقت بنا‪ ،‬و‪٤‬با وصلت إذل القسم وضعوشل ُب سجنو إذل ا‪٤‬بساء ٍب‬
‫نقلت منو إذل احملافظة‪ .‬أماـ مأمور الضبط رأيت العجوز الَبكية‬
‫وزميلتها جالستْب ُب ذلك ا‪٤‬بكتب فأسا‪٥‬بما ا‪٤‬بأمور‪" :‬ىل ىذا ىو‬
‫الرجل الذي تشكواف منو "‬
‫‪198‬‬
‫فقالت العجوز‪" :‬نع "‪.‬‬

‫ودؽ ا‪١‬برس فدخل ا‪١‬بندي حارس ابب ا‪٤‬بكتب فقاؿ لو‪:‬‬


‫"ىات العرجبي اللى واقف بره"‪.‬‬

‫ودخل الرجل فسألو‪" :‬ىل ىذا ىو الرجل الذي تشكو‬


‫منو "‪.‬‬

‫فقاؿ‪" :‬نع ىو بعينو"‪.‬‬

‫فاستدعى ا‪٤‬بأمور كاتباً وفتح ‪٧‬بضراً فيو شكوى الشاكْب وبداً‬


‫التحقيق ا‪١‬بديد‪.‬‬

‫ادعت ا‪٤‬برأة أنِب دخلت بيتها ُب إحدى الليارل منذ شهور‬


‫وطلبت منها شراء ‪ٟ‬بر وفاكهة فشربت وسكرت و٭بت ُب البيت مع‬
‫زميلتها‪ ،‬وىربت قبل طلوع النهار بدوف أف يشعر يب أحد‪ ،‬قاؿ الشاكي‬
‫الثاشل إنِب ركبت عربتو منذ شهور وعطلتها معي ساعات وطلبت منو‬
‫شراء علبة سجاير فدفع ‪ٜ‬بنها‪ٍ ،‬ب وقفتو أماـ ابب منزؿ وىربت من‬
‫الباب الثاشل‪ ،‬وسئلت فأنكرت التهمتْب ووكدت أنِب دل أر ىذه الوجوه‬
‫إال ُب ىذه اللحظة ودل يفد اإلنكار فألقوشل ُب سجن احملافظة تلك‬
‫الليلة‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫وأُرسلت ُب الصباح إذل النيابة فحولتِب إذل سجن ا‪٢‬بضرة من‬
‫جديد‪ ،‬وصدر حكماف ُب القضيتْب أبمر حبس احتياطي و‪٤‬با ‪ٙ‬بددت‬
‫جلسة احملاكمة صدر ا‪٢‬بكم ٕببسي سنة ونصفاً‪ ،‬وأيد االستئناؼ ا‪٢‬بكم‬
‫االبتدائي فقضيت العقوبة ُب السجن ‪...‬‬

‫ادعت الربنسيس أف مكتب أعمارل ‪٥‬با خاصة وأنِب وكيل عنها‬


‫ُب ذلك ا‪٤‬بكتب‪ ،‬وأدلتها أف ا‪٤‬بكتب مستأجر ‪٢‬بساهبا ابسم وكيلها‪،‬‬
‫وأاها الضامنة ُب ‪ٝ‬بيع األعماؿ ا‪٤‬بالية وصدر ا‪٢‬بكم لصا‪٢‬بها ُب غيايب‬
‫واستأنفت ا‪٢‬بكم فأيده االستئناؼ‪ ،‬ألنِب دل أجد من يدافع عِب أماـ‬
‫احملكمة ودل يؤذف رل ابلذىاب أماـ احملكمة مدنية‪ ،‬و‪ٛ‬بكنت األمّبة من‬
‫االستيبلء على ا‪٤‬بكتب وما فيو وصفت ا‪٢‬بساب كما تريد‪ .‬وطالبتِب‬
‫بدخل ا‪٤‬بكتب من األرابح من بداية العمل‪.‬‬

‫صدر ا‪٢‬بكم لصا‪٢‬بها فحجزت على أمبلكي وابعتها فجردتِب‬


‫من كل ما وفرت وكونت‪ .‬و‪٤‬با انتهت مدة العقوبة وأفرج عُب خرجت‬
‫إذل العادل ال أملك سوى الثوب الذي دخلت بو السجن ألف الكاتب‬
‫الظريف احتفظ بو ُب ا‪٤‬بخزف رغم نظاـ السجن‪.‬‬

‫وعرفت ُب السجن جاويشاً كاف يعمل مع والدي ُب دمياط‪،‬‬


‫ىو الذي دفع رل أجرة السفر إذل القاىرة فعدت إليها معدماً وبدوف‬
‫مأوى‪ ،‬ولست أذكر كيف قضيت األايـ األوذل بعد عودٌب‪ ،‬إ٭با أذكر‬
‫‪200‬‬
‫أنِب عينت مدرساً للرايضة اب‪٤‬بدرسة التحضّبية بدرب ا‪١‬بماميز ٗبرتب ‪3‬‬
‫جنيهات‪ .‬وعينت مدرساً اب‪٤‬بدرسة اإلسرائيلية ٗبرتب ‪ٟ‬بسة جنيهات‬
‫ألعمل فيها بعد الظهر‪ .‬ووجدت غرفة لسكِب بفندؽ ا‪٤‬بقطم ٕبارة شق‬
‫الثعباف بشارع كلوت بك أبجرة شهرية ‪ 150‬قرشا‪ ،‬واشَبكت ُب مطعم‬
‫سوري ٔبانب الفندؽ ٗببلغ ‪ 150‬قرشاً ُب الشهر‪ ،‬فنظمت حياٌب على‬
‫ىذه الصورة ردحاً من الزمن‪ ،‬ولكن القدر دل يغفل عِب‪.‬‬

‫اعتربتِب الربنسيس خائناً ألنِب تناسيت عطفها على ورفقها‬


‫يب ومعاونتها ابؼباؿ لتعليمي وتثقيفي ٍب لتكويِب ُب اغبياة‪ ،‬ظنت أهنا‬
‫ؽبذه األسباب القوية قد اشَبتِب وصرت ملكاً خاصاً ؽبا‪ ،‬ولكنها‬
‫نسيت أنِب ُب طور الشباب وأهنا وصلت إىل الكهولة ومل أنكر ُب‬
‫أي وقت أفضاؿ تلك السيدة وال ما غمرتِب بو من أنواع اإلحساف‪.‬‬
‫ولكن االحتفاظ ابؼبعروؼ ال يؤدى إطبلقاً إىل حاؿ سبنع العْب من‬
‫رؤية احملاسن وال من التأثر ابعباذبية‪ ،‬وال من االنطبلؽ مع اؽبوى‪،‬‬
‫فدفعِب نزؽ الشباب إىل كل انحية ظننت فيها متعة للنفس‬
‫واستجابة لنداء الغريزة‪.‬‬

‫لقد حطمتِب بقوهتا وبنفوذىا بتأثّب ا‪٢‬بنق على‪ ،‬ولكنِب دل اقرر‬


‫لآلف بعد انقضاء أربعْب عاماً على تلك ا‪٤‬بآسي‪ ،‬ىل كاف من حقها أف‬

‫‪201‬‬
‫تقسو على إذل ىذا ا‪٢‬بد؟ أو كاف من العقل اللجوء إذل ا‪٤‬بعاقبة بوسائل‬
‫أقل قسوة ‪٩‬با فعلت‪.‬‬

‫كانت ىذه األفكار تَبدد على كلما خلوت إذل نفسي وكنت‬
‫أأتدل أ‪٤‬باً شديداً كلما تذكرت ما كنت فيو من اليسر وما وصلت إليو من‬
‫العسر‪ ،‬فكنت أفر من الوحدة إذل عادل الضجة لطرد األفكار ومؤثراهتا‬
‫العنيفة ُب النفس‪ .‬أين يذىب الشاب الذي فقد األىل واألصدقاء‬
‫والثروة واالعتبار‪ ،‬إف ُب ا‪٤‬بقاىي وا‪٢‬باانت متسعاً لكل عاطل ولكل‬
‫‪٧‬بزوف‪ ،‬وُب ىذه األماكن ٯبد معارؼ بدوف أسباب تعارؼ وٯبد ا‪٣‬بمر‬
‫أب‪ٜ‬باف رخيصة‪ ،‬كاف ‪ٜ‬بن زجاج الكونياؾ ‪ 15‬قرشا‪ ،‬و‪ٜ‬بن الكأس قرشاف‬
‫وُب ا‪١‬بيب ‪ٟ‬بسة جنيهات تزيد على ‪ٜ‬بن الطعاـ وأجرة ا‪٤‬بسكن فمن‬
‫السهل إنفاقها للتسلي‪.‬‬

‫عرفت ُب ا‪٤‬بدرسة التحضّبية خليل حداد مدرس اللغة‬


‫اإل‪٪‬بليزية‪ ،‬كاف رجبلً طيب القلب عاقبلً متزانً فقرب بيننا البؤس‪ ،‬وصران‬
‫‪٪‬بتمع بعد وقت الدراسة عند حلواشل ُب ميداف األوبرا نقضي وقتاً ُب‬
‫السمر ٍب نفَبؽ فكانت ىذه ا‪٤‬بعاشرة سبباً ُب اتزاشل ُب سهراٌب وجادت‬
‫على الظروؼ ا‪٢‬بسنة بدورس ُب بيوت عائبلت إسرائيلية غنية زادت‬
‫على دخلي األوؿ ستة جنيهات‪ ،‬فاستأجرت مسكناً بو غرفة واحدة‬
‫ومطبخ صغّب ودورة مياه نظيفة فأثثت البيت وجعلتو عشاً ىادائً للطّب‬

‫‪202‬‬
‫ا‪٢‬بزين وجعلت أدخر من القليل قليبلً حٌب اجتمع رل ُب درج مكتيب‬
‫مائة جنيو ذىباً‪.‬‬

‫وفرحت هبا ا‪٤‬باؿ الذي كنت أنفقو ُب أسبوع بدوف أسف عليو‪،‬‬
‫والنظاـ الذي جعلتو أساس تصرفاٌب ُب ىذه ا‪٢‬بياة ا‪٥‬بادئة كاف منو أنِب‬
‫أمتع نفسي مرة واحدة ُب الشهر بعشاء وأقداح من ا‪٣‬بمر وسهرة طويلة‪،‬‬
‫بشرط أال تزيد نفقاٌب عن جنيو واحد‪ٍ ،‬ب أصوـ إذل أوؿ الشهر الثاشل‪.‬‬

‫اكتملت ُب أوؿ الشهر ا‪٤‬بائة جنيو بعد دفع حساب ا‪٤‬بطعم‬


‫وأجرة ا‪٤‬بسكن وقسط ا‪٣‬بياط‪ ،‬أخذت ا‪١‬بنيو األوؿ بعد ا‪٤‬بائة وقصدت‬
‫إذل األزبكية ألمتع نفسي بسهرة الشهر فشربت أقداحاً من الكونياؾ‬
‫و‪٠‬بعت ا‪٤‬بوسيقى ُب قهوة ا‪٤‬بصرية ٍب تناولت العشاء‪ ،‬وقضيت بقية‬
‫السهرة حيث قادتِب قدماي فبقي من ا‪١‬بنيو ‪ٟ‬بسة قروش وفرهتا لدفع‬
‫أجرة العربة الٍب تردشل إذل البيت‪ .‬نزلت من العربة ُب سكوف الليل‬
‫فوجدت الشارع مغموراً اب‪٤‬بياه‪ ،‬وٕبثت عن البيت فوجدتو أنقاضاً‪،‬‬
‫احَبؽ البيت أثناء غيايب فاحَبؽ معو مسكِب وثيايب وضاعت ا‪٤‬بائة‬
‫جنيو!‬

‫توالشل الذىوؿ أوالً ٍب ا‪٢‬بزف على ما فقدت واحَبت ُب أمري‬


‫ألنِب ال أملك أجرة النوـ حٌب ُب فندؽ رخيص‪ ،‬ودل أجد فائدة من‬
‫إطالة الوقوؼ إذل جانب األنقاض للبكاء فا٘بهت اثنية لناحية‬
‫‪203‬‬
‫األزبكية‪ ،‬وطرأ على خاطري خليل حداد‪ ،‬وتذكرت حديثو أنو يسكن‬
‫ُب كنيسة ا‪٤‬بوارنة بدرب ا‪١‬بنينة‪ ،‬فلم أتردد ُب البحث عن الكنيسة حٌب‬
‫بلغت إليها بعد جهد وطرقت الباب مرات فلم يسمعِب أحد فزدت ُب‬
‫الطرؽ العنيف‪ ،‬فأطل خليل حداد من انفذتو فكلمتو‪ ،‬فنزؿ إرل‬
‫وصعدت معو إذل مسكنو‪.‬‬

‫كانت القاعة الٍب دخلناىا فسيحة جداً ينّبىا مصباح صغّب‬


‫يضاء ابلبَبوؿ‪ ،‬وكل ما فيها من األاثث سرير من ا‪١‬بريد عليو فراش‬
‫النوـ‪ ،‬وكرسي واحد عليو حصّب واحد من اللباد‪ .‬ترؾ رل خليل سريره‬
‫ولف ا‪٢‬بصّب حوؿ جسمو مرات فجعل منها حشية وغطاء‪ٍ ،‬ب غط ُب‬
‫النوـ وتركِب أتقلب على السرير فريسة للبق أقاتلو وأزىق أرواحاً كثّبة منو‬
‫ولكنو أيىب االاهزاـ يتجمع كتائب جديدة ويعدو على من جديد‪،‬‬
‫فدامت ا‪٤‬بعركة بيننا حٌب أشرقت الشمس وشكوت إذل خليل ما انلِب‬
‫فقاؿ‪" :‬إف من عادة ىذه اغبشرات أهنا تكرـ الضيف ألهنا ذبد ُب‬
‫دمو غذاء جديداً ينبو الشهية"‪.‬‬

‫ٍب ىبط ٔبلبابو إذل الشارع وعاد ٰبمل طعاـ الفطور فوالً وزيتاً‬
‫وبصبلً‪ ،‬فأكلنا وخرجنا للعمل‪ .‬وفتح الرجل كيسو ُب الطريق وأعطاشل‬
‫نصف ما معو‪ ،‬وعزاشل على كارثٍب بعبارة لطيفة ىونت على التأدل منها‬
‫قاؿ‪" :‬نزلت إىل الدنيا من بطن أمك عاريً وضعيفاً ليس لك حوؿ‬

‫‪204‬‬
‫وال قوة‪ ،‬أما اآلف فإنك تدخل اغبياة اعبديدة كاسياً قادراً على العمل‬
‫وعلى االحتماؿ‪ ،‬فعبلـ إذف التأمل واألسف "‪.‬‬

‫‪٤‬با استيقظت ُب مسكن خليل حداد وجدت على أرض الغرفة‬


‫بساطاً من الَباب تركتو األعواـ ألف أحداً ال يتوذل كنس ا‪٢‬بجرة بسبب‬
‫عدـ ا‪٢‬باجة إليها‪ ،‬وعلل عدـ عنايتو بكنس ما ‪ٝ‬بعتو السنْب أبنو رأى‬
‫كثّبين يناموف على األرض فتشبو هبم استعداداً للرقاد األخّب‪ .‬دل يكن‬
‫ُب مقدوري العمل ُب ذلك النهار فقصدت إذل فندؽ ا‪٤‬بقطم اثنياً‬
‫واستأجرت فيو غرفٍب األوذل فعادت رٲبة ‪٢‬بجرهتا القدٲبة‪.‬‬

‫اكتسب خليل صداقٍب من تلك الليلة ٗبا غمرشل بو من سخائو‬


‫ألنو نزؿ رل عن نصف مالو ُب ابتهاج ومسرة‪ ،‬كانت النقود ال تزيد عن‬
‫‪ 150‬قرشاً‪ ،‬ولكنها إعانة انفعة ُب وقت ا‪٢‬باجة فاحتفظت لو اب‪٤‬بعروؼ‬
‫طوؿ حياتو وشاركتو مارل كما شاركِب فيما كاف ٲبلك فدامت الصداقة‬
‫واإلخبلص بيننا إذل ‪ 25‬يونيو ‪ٍ ،1909‬ب اختفي ودل أعرؼ مكانو إذل‬
‫اآلف وا‪٤‬برجح أنو مات‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫‪7‬‬
‫كتبت رواية ‪ٛ‬بثيلية ومثلتها ‪ٝ‬بعية بتياترو فرح بشارع عبد العزيز‬
‫فرٕبت منها ودخلت حانواتً ألشَبي ساعة فخرجت منها ابلساعة‬
‫وبصداقة زوجة التاجر‪ ،‬كاف زوجها غائباً وكانت إسرائيلية فرنسية لعوابً‬
‫‪٥‬با ‪ٝ‬باؿ وجاذبية وكياسة وظرؼ ا‪٠‬بها فرنسْب‪ ،‬وكنت شاابً قوايً وزوجها‬
‫شيخ ىزيل مريض‪ ،‬فتحدثنا طويبلً بدعوى عرض البضاعة ٍب للمساومة‪.‬‬
‫وانتهى األمر إذل موعد فلقاء فسبلـ فاتفاؽ على ا‪٤‬بصادقة‪.‬‬

‫وشاركتِب مرة على ورقة نصيب بقرش ودفعت رل بعد السحب‬


‫‪ 20‬جنيهاً ادعت أاها نصف الربح ألف الورقة رٕبت ‪ 40‬جنيها وادعت‬
‫بعد أسبوع أاها ستشاركِب ُب صفقة ساعات جديدة‪ ،‬وأخذت مُب كل‬
‫ما أملكو وكاف ‪ 50‬جنيها ذىبياً ودفعت رل بعد شهر ‪ 200‬جنيو‬

‫‪206‬‬
‫ذىباً قالت إاها نصييب من الربح ألاها اشَبت الكمية وابعتها صفقات‪،‬‬
‫وأىدت إذل ُب العيد ساعة من الذىب وسلسلتها وُب عيد األضحى‬
‫خا‪ٛ‬باً من ا‪٤‬باس فار‪ٙ‬بت لظرؼ ىذه ا‪٢‬بسناء وأخلصت ‪٥‬با الود‪ ،‬ولكنها‬
‫كانت تغيب عُب على الدواـ ليلة السبت والنهار كلو فبل أراىا إال ُب‬
‫مساء األحد فأأتدل من الوحدة ويضيق صدري ُب البيت‪ ،‬فأخرج لَبويح‬
‫النفس‪.‬‬

‫أردت التلهي والَبويح عن النفس‪ ،‬فكنت أقضي سهرة ليلٍب‬


‫السبت واألحد ُب االلدرادو ا‪١‬بديد ألف شفيقة القبطية رحلت عنو‪،‬‬
‫وكانت السهرة على الدواـ بريئة وتسليٍب قاصرة على ‪٠‬باع الغناء‬
‫ومشاىدة الرقص ٍب أعود إذل البيت‪ ،‬وحدث مرة أنِب خرجت من ابب‬
‫القهوة الداخلي إذل الدىليز الذي يؤدى للباب ا‪٣‬بارجي ففوجئت بطلق‬
‫انري أصاب رصاصتو الطربوش على بعد قليل من رأسي‪.‬‬

‫رأيت الضارب عند الباب ا‪٤‬بؤدي إذل البار قبيل الباب‬


‫ا‪٣‬بارجي‪ ،‬ورأيتو يطلق النار للمرة الثانية‪ ،‬ورأيت امرأة خلف الضارب‬
‫خرجت من البار وطوقتو بذراعيها القويتْب فسقط ا‪٤‬بسدس من يده إذل‬
‫األرض وتناولتو ا‪٤‬برأة بسرعة وبقيت ‪٩‬بسكة ابلرجل‪ ،‬كانت ا‪٤‬برأة طويلة‬
‫بدنية قوية عرفت بعد ذلك أف ا‪٠‬بها "اغبصرية"‪ ،‬فلم يتمكن الرجل من‬
‫اإلفبلت منها‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫واجتمع الناس ُب مكاف ا‪٢‬بادث جاءوا من الطريق ومن داخل‬
‫ا‪٤‬بقهى وحضر عسكري الدورية من الشارع وقبض على الرجل‪ ،‬أما‬
‫الضارب فكاف خواجا يلوح عليو أنو من أشقياء اإلفرنج يستأجر لؤلذى‬
‫دل أره من قبل‪ ،‬فتعمدت أف أركب معو ُب العربة الٍب نقلتنا إذل قسم‬
‫األزبكية فصار بيِب وبْب ا‪١‬بندي القابض عليو‪.‬‬

‫أما ا‪٢‬بصرية فرفضت تسليم ا‪٤‬بسدس للعسكري أصرت على‬


‫تسليمو بيدىا ُب القسم ألاها ىي الٍب انتزعتو من ا‪٣‬بواجا وألاها شاىدة‬
‫رؤية وإثبات‪ .‬حدثت الرجل ابلفرنسية أثناء الطريق فظهر رل أنو إيطارل‬
‫يتكلم الفرنسية برطانة إيطالية قلت لو‪" :‬لقد أردت قتلى ولكنِب‬
‫سأنقذؾ بشرط أف تدفع يل الثمن"‪.‬‬

‫وعلمتو ما ٯبب أف يقوؿ ُب احملضر‪ ،‬وقبل الرجل شروطي‪ ،‬و‪٤‬با‬


‫سئلت ُب التحقيق قررت أنِب رأيت الضارب الذي أطلق على النار وىو‬
‫شاب يرتدي ثوابً أبيض‪ ،‬ورأيت ىذا ا‪٣‬بواجا ينتزع ا‪٤‬بسدس من يد‬
‫الضارب وُب نفس اللحظة طوقتو الراقصة بذراعيها وأخذت ا‪٤‬بسدس‬
‫بعد سقوطو على األرض وىى ‪٩‬بسكة بو فظنتو اجملرـ الذي أطلق‬
‫الرصاص‪ ،‬فاستولت الدىشة على ا‪٢‬بصرية‪ .‬وسئل ا‪٣‬بواجا فقرر ُب‬
‫إجابتو ما ذكرت ُب إجابٍب فتهدـ االهتاـ‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫ولكُب عرفت اسم ا‪٣‬بواجا وعنوانو‪ ،‬وخرجنا بعد انتهاء التحقيق‬
‫فتحدثنا كأصدقاء ٍب جلسنا على مقهى بلبلفيستا ُب ميداف ابب‬
‫ا‪٢‬بديد‪ ،‬وصرح رل الرجل أبنو مستأجر لقتلي‪ ،‬وأف احملرض رجل ذكر رل‬
‫ا‪٠‬بو ووصفو رل وصفاً دقيقاً أدركت منو أنو من اتباع الربنسيس‬
‫فيزنسكى‪ .‬تركتِب ا‪٤‬برأة كل ذلك الزمن حراً طليقاً آمناً ألاها كانت متغيبة‬
‫عن مصر فلما عادت وضعتِب ‪ٙ‬بت مراقبة أحد رجا‪٥‬با ٍب دبرت رل ىذه‬
‫ا‪٢‬بادثة‪.‬‬

‫ىل الربنسيس فيزنسكى ‪٦‬برمة؟‬

‫‪٤‬باذا تلجأ إذل اإلجراـ لبلنتقاـ مِب؟‬

‫الربنسيس امرأة رغم بلوغها سن الكهولة ‪٥‬با غريزة وعاطفة ألف‬


‫قلب اإلنساف ال يشيخ واغبب ُب أفئدة الشيوخ أعظ رسوخاً وأقوى‬
‫اشتعاالً منو ُب قلوب الشباب‪ ،‬فكذلك الصدؽ واػبيانة أو الغدر‬
‫تَبؾ أثرىا ُب الشيوخ عمقاً حاداً وبوؿ العاطفة من اغبب الراسخ‬
‫العنيف إىل كراىية وبغض ورغبة قوية ُب السحق‪.‬‬

‫كل خيبة ُب اغبب تبعث ُب النفس األمل‪ ،‬وُب األعصاب‬


‫زلزلة وُب العقل ما يثّب الغضب الشديد واغبنق‪ ،‬ولكن ىذه اغباؿ‬
‫يزوؿ أتثّبىا عند الشباب بسرعة وتدوـ ُب الشيوخ كما يدوـ اغبب‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫وبب الشاب حباً خاطفاً يتأثر ابغبسن أو اعباذبية فيندفع إىل‬
‫حد الولع ابألنثى الٍب أحدثت ُب فؤاده ىذا التأثّب‪ ،‬فإذا ارتوى‬
‫الظمأ بنيل األمنية تفَب فورة الشوؽ وتقل الرغبة حٌب تتبلشى‪ ،‬ألف‬
‫قوة اغبيوية ونشاط العاطفة يبعثاف على التوثب ال على االستقرار‬
‫على قياس رعونة الصغار ونشاط الشباب وبطئ حركات الكهل أو‬
‫الشيخ‪ ،‬فاغبالة العاطفية ُب الشباب والشيوخ سباثل اغبالة البدنية من‬
‫النشاط واؽبدوء ذاهتا‪ ،‬وغاية اغبب عند الشباب اؼبتعة‪ ،‬ولكنها عند‬
‫الشيوخ غاية اغبياة وهناية األمل‪ ،‬ألف الشيخ يركز فيها بقية حياتو‬
‫وكل أمانيو فإذا صدمتو اػبيبة تصدـ مع عاطفتو حياتو‪.‬‬

‫واغبب اػباطف الذي هبئ مصادفة أو بتأثّب رؤية ؿباسن‬


‫ليست لو قوة اغبب الذي تغذيو الرغبة ُب زماف طويل ابؼبعاشرة‬
‫والعناية والرعاية واالعتياد آلف جذوره تتغلغل ُب الفؤاد جذور‬
‫الشجرة ُب األرض مع طوؿ الزمن واطراد النبات‪.‬‬

‫وىكذا كاف حاؿ الربنسيس‪ ،‬كونت شاابً على الصورة الٍب‬


‫تريدىا‪ ،‬تولتو ابلرعاية والعناية وألفتو وظنت أاها امتلكتو خاصة لنفسها‬
‫فند عنها وىدـ أملها‪ ،‬ا‪٤‬بركز أو غاية حياهتا الباقية فأحدثت الصدمة‬
‫أتثّبىا العنيف ُب نفسها وحو‪٥‬با من اإلشفاؽ والعطف إذل الرغبة ُب‬
‫ا‪٤‬بعاقبة بكل وسائل االنتقاـ للسحق‪ ،‬وعلى ىذا األساس يكوف اندفاع‬
‫‪210‬‬
‫الربنسيس فيزنسكى لبلنتقاـ مِب تصرفاً لو بواعث نفسية‪ .‬ولست أنكر‬
‫أف ‪٥‬با ا‪٢‬بق ُب الغضب وُب ‪٧‬باولة معاقبٍب على العقوؽ ونكراف‬
‫ا‪٤‬بعروؼ‪ ،‬ولكن من حقي أيضاً ‪٧‬باولة ا‪٥‬برب من األذى والدفاع عن‬
‫نفسي حباً ُب السبلمة‪ ،‬بشرط أف ال أقابل الشر ابلشر‪.‬‬

‫فشلت ‪٧‬باولة قتلى ابلرصاص ولكن ا‪٢‬بادثة نبهتِب لوجوب‬


‫االحَباس التاـ فامتنعت عن الذىاب إذل ا‪٤‬بقاىي ُب مواعيد منظمة‬
‫زايدة ُب احملاذرة ولكن ا‪٢‬بذر ال ٲبنع القدر‪ .‬بدلت مكاف التسلية بغّبه‪،‬‬
‫فإذا انؿ مِب ضيق الصدر أثناء غياب فرنسْب اإلسرائيلية أقصد إذل قهوة‬
‫غناء ا‪٣‬بواجا إلياس بشارع كلوت بك فأ‪٠‬بع الغناء وانصرؼ ُب ىدوء‬
‫بدوف أف أشعر أحداً بوجودي‪ ،‬ابلرغم من وجود شفيقة القبطية ُب تلك‬
‫القهوة‪.‬‬

‫وأراد القدر أف يلعب لعبتو ُب غفلة مُب فهيأ رل ُب ليلة مقابلة‬


‫ضابط ُب ا‪١‬بيش كاف من زمبلئي ُب ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية فسررت هبذا اللقاء‬
‫ودعوتو لتناوؿ العشاء معي وشربنا كثّباً من ا‪٣‬بمر‪ ،‬فجره السمر إذل‬
‫التحدث عن حادثة غرامة بصديقو لو تدعى منتهى األمريكية وىى‬
‫راقصة ُب قهوة إلياس‪ٙ .‬بدث عن حبو ووصف ما يعانيو منو وذكر أنو‬
‫حضر من السوداف ُب إجازة لرغبتو ُب قضاء األايـ معها‪ ،‬ولكن بينهما‬
‫سوء تفاىم ال يريد أف يكوف البادئ ٗبحاولة إزالتو وطلب مِب معاونتو‬

‫‪211‬‬
‫برأيي‪ ،‬فاقَبحت أف اسبقو إذل القهوة وأطلب منتهى لتشرب معي ما‬
‫تشاء فبل تستطيع الرفض‪ ،‬ألف طلب ا‪٣‬بمر ىو صناعتها وعملها‬
‫ا‪٤‬بفروض عليها ٍب ٰبضر ىو فأانديو كأنِب دل أره من قبل‪ ،‬أحتفي بقدومو‬
‫بسبب الزمالة القدٲبة وطوؿ الفراؽ‪ ،‬أحل عليو للجلوس معنا كأنِب أجهل‬
‫العبلقة الٍب بينو وبْب الراقصة‪ ،‬وُب ىذا اجمللس ‪ٙ‬بمل ظروفو الصديقْب‬
‫على الصلح‪.‬‬

‫أعجب االقَباح صديقي وابدرت ابلتنفيذ فقصدت إذل ا‪٤‬بقهى‬


‫وجلست قليبلً ٍب طلبت الراقصة فحضرت دل يكن بيننا تعارؼ‪ ،‬ولكنها‬
‫علمت من ا‪٣‬بادـ أنِب كنت صديق شفيقة و‪ٞ‬بيدة وأنِب أنفقت عليهما‬
‫ماالً كثّباً فاطمأنت للزبوف ا‪١‬بديد أنو صيد دسم فجاءت على فمها‬
‫ابتسامو عريضة وُب عزمها ‪٧‬باولة االقتناص‪ ،‬ولكن زميلي دل ٰبضر‬
‫فظننت أف طارائً عطلو ولكنو سيحضر‪ ،‬ورأيت من الضروري استبقاء‬
‫الراقصة إذل جانيب حٌب ال أضيع الفرصة الٍب ىيأهتا إل‪ٛ‬باـ ا‪٤‬بصا‪٢‬بة‪،‬‬
‫حٌب حاف وقت انصراؼ ا‪١‬بمهور وإغبلؽ القهوة‪ ،‬فأ‪٢‬بت على منتهى‬
‫لنتم السهرة ُب بيتها فقبلت‪.‬‬

‫اهضت من الفراش ُب النهار الثاشل وعزمت على االنصراؼ‬

‫فوضعت على منضدة شيئاً من النقود أجرة ا‪٤‬ببيت فأظهرت ا‪٤‬برأة استياءً‬
‫وأصرت على رفض النقود‪ ،‬ورأيت من الكياسة أف أقابل ظرفها‪ ،‬وعزمت‬

‫‪212‬‬
‫على تعويضها من النقود ىدية تساوى ضعف ما كنت أريد دفعو‬
‫فرجوت منها أف ‪ٚ‬برج معي للتسلي بنزىة قصّبة‪ ،‬فلبت رجائي وخرجت‬
‫معي ُب عربة و‪٤‬با وصلنا إذل ميداف العتبة ا‪٣‬بضراء (ميداف ا‪٤‬بلكة فريدة‬
‫اآلف) طلبت من السائق دخوؿ شارع ا‪٤‬بوسكي‪ٍ ،‬ب نزلنا أماـ ‪٧‬بل ٘بارى‬
‫ا‪٠‬بو ‪ la belle jardinière‬لصاحبو ا‪٣‬بواجا أسايس ‪..‬‬

‫رجوت منها أف ‪ٚ‬بتار معطفاً أو ثوابً ليكوف ا‪٥‬بدية األوذل مِب‪،‬‬


‫فامتنعت أوالً‪ ،‬فأ‪٢‬بحت عليها حٌب قبلت فصعدان إذل الطابق األوؿ‪،‬‬
‫وبدأ العماؿ يعرضوف عليها البضاعة وأخذت ‪ٚ‬بتار وتقيس‪ ،‬وتنبهت‬
‫شهيتها إذل ا‪٢‬بد الذي أزعجِب‪ ،‬دفعها الطمع إذل أقصى ا‪٢‬بدود حٌب‬
‫كومت ركاماً من البضائع ا‪٤‬بختارة‪ .‬كاف ُب عزمي أف أدفع مبلغاً ال يزيد‬
‫عن عشرة جنيهات‪ ،‬فبلغ ما كومتو رقماً زاد على مائٍب جنيو‪ ،‬ودل يكن‬
‫ُب مقدوري دفع ىذا القدر من ا‪٤‬باؿ‪ ،‬فأصررت ُب سرى على عدـ‬
‫الدفع وعلى ا‪٥‬بروب من ىذا ا‪٤‬بأزؽ فَبكتها ‪ٚ‬بتار ما تشاء من كل جديد‬
‫من ا‪٤‬بغرايت‪ ،‬وابرحت ا‪٤‬بكاف بدعوى أنِب ذاىب الستحضار ساعة رل‬
‫ُب دكاف قريب‪.‬‬

‫بعدت عن الشارع كلو وكلمت ا‪٣‬بواجا أسايس ابلتليفوف‬


‫ونبهت عليو بعدـ تسليم أي شئ للسيدة حٌب أحضر وأدفع الثمن‪ٍ ،‬ب‬
‫أرسلت لو بعد الساعة ا‪٣‬بامسة كتاابً قلت فيو إنِب لن اشَبى ما‬

‫‪213‬‬
‫اختارت ألنو كثّب دفعها الطمع إذل الرغبة ُب ا‪٢‬بصوؿ عليو‪ ،‬وأرسلت‬
‫مع الكتاب اثنْب جنيو تعويضاً عن الوقت الذي ضاع ُب عملية عرض‬
‫البضائع‪ .‬ىذا التصرؼ ٲبنع كل الشك وٯبعل ا‪٢‬بادثة بعيدة كل البعد‬
‫عن أي فكرة إجرامية‪ ،‬ولكن ا‪٣‬بواجا أسايس رفع شكوى إذل النيابة‬
‫يتهمِب ٗبحاولة االحتياؿ عليو‪.‬‬

‫وقدـ ا‪٣‬بواجا إلياس صاحب ا‪٤‬بقهى الذي ترقص فيو "منتهى"‬


‫ببلغاً يدعى فيو أنِب شربت ‪ٟ‬براً مع الراقصة ُب ا‪٤‬بقهى حٌب سكرت‬
‫وفقدت صواهبا‪ٍ ،‬ب نزعت من يديها سواراً من الذىب أماـ شفيقة‬
‫القبطية وأمامو وٕبضور اثنْب من ا‪٣‬بدـ‪ ،‬مع الوعد ابستبداؿ السوار‬
‫آبخر مرصع اب‪٤‬باس‪ .‬وانضم إذل الشهود رجل آخر ادعى أنو كاف ٯبلس‬
‫معنا ُب اجمللس ويشرب معنا ا‪٣‬بمر‪.‬‬

‫أُلقي القبض علي وتولت النيابة التحقيق ُب الببلغْب فقررت‬


‫ُب دفاعي ُب حادثة أسايس أاها ليست جرٲبة نصب وال شروع فيو‪ ،‬ألف‬
‫عرض البضائع واالمتناع عن الشراء عملية عادية ‪ٙ‬بدث بْب كل شاري‬
‫وابئع‪ ،‬ألف ا‪٣‬بواجا دل يدع أنِب حاولت اخذ البضائع أو نقلها من ‪٧‬بلو‬
‫التجاري‪ ،‬وألنو اعَبؼ أبنِب نبهت عليو بعدـ تسليم أي شئ ‪٤‬بنتهى‬
‫قبل حضوري ودفع الثمن‪ ،‬ودفعت االهتاـ الثاشل أبف االدعاء على ىذه‬
‫الصورة غّب معقوؿ‪ ،‬ألف الذي يريد سلب سوار من يد امرأة سكرى ال‬

‫‪214‬‬
‫ينفذ رغبتو ُب مقهى مزدحم ابلناس وال أماـ ا‪٣‬بواجا وخدمة وراقصة‬
‫أخرى‪ ،‬أنكرت أف اثلثاً كاف معنا ُب ‪٦‬بلس وسط الزحاـ‪ ،‬ولكن النيابة دل‬
‫تقتنع هبذا الدفاع ا‪٤‬بنطقي‪ ،‬واعتربت ا‪٢‬بادثة جرٲبة نصب‪ ،‬وحادثة‬
‫أسايس شروع ُب نصب‪ ،‬وأمرت ٕببسي احتياطياً‪ ،‬فأرسلت إذل‬
‫السجن‪.‬‬

‫واستدعيت مرة اثنية للنيابة لتسمع ُب حضوري شهادة الشاىد‬


‫الذي ادعى أنو كاف ُب ‪٦‬بلسنا أان والراقصة فاستولت علي الدىشة حْب‬
‫رأيت وجو الرجل ألنو من أتباع الربنسيس فيزنسكي رايتو ُب اإلسكندرية‬
‫ُب بيتها مرات‪ ،‬ولكنِب دل أ‪٠‬بع ا‪٠‬بو النعداـ الصلة بيِب وبْب أتباعها‪.‬‬
‫شهد الشاىد أبنو كاف ُب ‪٦‬بلسنا ألنو صديقي‪ ،‬ووكد أنو رآشل أحل على‬
‫الراقصة لئلكثار من شرب ا‪٣‬بمر ورآشل وأان أنزع السوار من يدىا مع‬
‫الوعد ابستبدالو آبخر من ا‪٤‬باس‪.‬‬

‫أدركت ُب ا‪٢‬باؿ أف اليد ا‪٣‬بفية الزالت تعمل ُب ا‪٣‬بفاء لتحضّب‬


‫وسائل االنتقاـ وأيقنت أبف ا‪٢‬بكم ضدي سيكوف شديداً‪ ،‬ألف األحكاـ‬
‫األوذل الٍب صدرت ضدي أحدىا سنة‪ ،‬وىذه السوابق ِّ‬
‫‪ٙ‬بوؿ االهتاـ‬
‫ا‪١‬بديد من جنحة إذل جناية‪ ،‬فيجوز للمحكمة أف ‪ٙ‬بكم ابألشغاؿ‬
‫الشاقة لغاية ‪ٟ‬بس أعواـ‪ ،‬لقد رضخت لؤلحكاـ الثبلثة األوذل احَباماً‬
‫‪٥‬با مع أنِب ا‪٤‬بفرد الذي يعرؼ حقيقة التهم الٍب أُسنِدت إرل‪ ،‬والف‬

‫‪215‬‬
‫القضاء مرغم على تنفيذ حرفية القوانْب بعد ‪٠‬باع شهادة الشهود‪ ،‬ولكن‬
‫االستمرار ُب الرضوخ لنظرية احَباـ األحكاـ معناىا إضاعة سِب عمري‬
‫بسبب التهم الٍب تكاؿ رل وصدور أحكاـ ضدي بسببها‪ .‬من حق كل‬
‫إنساف الدفاع عن حياتو واالحتفاظ ابلسبلمة‪.‬‬

‫ففي مقدوري عدـ ‪٨‬بالفة القانوف‪ ،‬ولكن ليس ُب مقدوري دفع‬


‫اهتاـ ابطل تدبر أسبابو و٘بمع اليد ا‪٣‬بفية الشهود الزور إلثبات اإلدانة‪،‬‬
‫فصار من احملتم على أف أ‪ٞ‬بي حياٌب من خصومي‪ ،‬والوسيلة ا‪٤‬بفردة‬
‫للتمكن من ا‪٢‬بماية ىي عدـ تنفيذ ما يصدر ضدي من األحكاـ‪،‬‬
‫وىذه النظرية والوسائل الٍب ‪١‬بأت إليها لتنفيذىا ىي الٍب خلقت شهرة‬
‫حافظ ‪٪‬بيب ‪...‬‬

‫‪216‬‬
217
‫‪8‬‬
‫دل تَبكِب فرنسْب أثناء ىذه احملنة‪ ،‬جازفت بكرامتها وحضرت‬
‫إذل فناء ‪٧‬بكمة ا‪٤‬بوسكي ا‪١‬بزئية ُب النهار احملدد للتحقيق األخّب معي‪،‬‬
‫وصلت مبكرة حٌب قبل نقلي من السجن إذل بناء احملكمة حيث ‪ٙ‬بقق‬
‫النيابة قضيٍب‪ ،‬و‪٤‬با أودعت غرفة السجن ىناؾ رأيت لتلك الغرفة انفذة‬
‫مفتوحة عليها قضباف ا‪٢‬بديد‪ ،‬ولكنها انفذة عادية فاستطعت التحدث‬
‫مع صديقٍب ساعتْب قبل استدعائي للتحقيق‪.‬‬

‫أحضرت ا‪٤‬برأة ا‪٤‬بخلصة معها طعاماً شهياً‪ ،‬فتناولتو من بْب‬


‫القضباف ووضعتو على حافة النافذة من الداخل وبدأت عمليٍب األكل‬
‫والكبلـ‪ ،‬قلت‪" :‬أان ال أشك ُب طيبة قلبك وصدؽ إخبلصك ي‬
‫عزيزٌب‪ ،‬ولكنِب ُب حاجة ألكثر من الطيبة واإلخبلص‪ ،‬فهل ُب‬
‫استطاعٍب االعتماد على عقلك وعلى جرأتك"‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫قالت‪" :‬بل اعتمد على كل ما أملك‪ :‬اإلخبلص‪ ،‬والعقل‪،‬‬
‫والعاطفة‪ ،‬واعبرأة واؼباؿ‪ ،‬وسأحبث من اليوـ عن ؿباـ قادر ليتوىل‬
‫الدفاع عنك"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬ال حاجة يل ابحملامي ألنِب قررت العدوؿ هنائياً عن‬


‫الدفاع عن نفسي أماـ القضاء‪ ،‬ويل وسيلة أخرى للخبلص‪ ،‬يتعذر‬
‫أف تت بدوف معاونتك اعبدية"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬تكل ‪ ،‬سأنفذ كل ما ترجوه بدوف تردد"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬ما سأعرضو عليك مغامر جريئة جداً‪ ،‬ولكنها السبيل‬


‫اؼبفرد لنجاٌب من اػبطر الذي ألقيت فيو‪ ،‬ومن حقي أف أشك ُب‬
‫قدرة سيدة على تعريض نفسها للضرر بسبب دقة ما أطلب وصعوبة‬
‫التنفيذ"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬إذا كنت واثقاً من النجاة بدوف أي شك ذبدٍل‬


‫مستعدة للمغامرة مهما بلغت خطورهتا"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬أان على يقْب من اػببلص إذا نفذت خطٍب حرفياً"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬سأنفذىا حرفياً رغ صبيع العقبات والطوارئ‪ ،‬فتكل‬


‫بسرعة قبل فوات الوقت وضياع ىذه الفرصة"‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫طلبت إليها تقريب أذاها مِب وتوجيو وجهها للفناء ففعلت‪،‬‬
‫فأسررت إليها إسراراً‪ ،‬و‪٠‬بعت ‪٥‬با ا‪٣‬بطة الٍب أعددهتا للهروب‪ .‬أما ىي‬
‫فكانت تصغي إذل ابنتباه اتـ حٌب انتهيت‪ ،‬وطلبت تكرار بعض‬
‫العبارات فكررهتا‪.‬‬

‫قالت‪" :‬سأكتب اآلف مذكرة موجزة دبا ظبعت ؿباذرة من‬


‫النسياف‪ ،‬وأعدؾ بتنفيذ رغبتك حرفياً كما رظبها خيالك وكما ظبعتها‬
‫منك فاطمئن"‪.‬‬

‫وًب التحقيق أماـ وكيل النيابة ٍب أعدت للسجن بعد الظهر‪،‬‬


‫فلما خلوت إذل نفسي ُب الزنزانة‪ ،‬جعلت أفكر ُب ا‪٣‬بطة وما ‪ٙ‬بتاج إليو‬
‫من العناية البلزمة ومن الدقة ُب التنفيذ‪ٍ ،‬ب توالشل انقباض الصدر‬
‫والكآبة‪ ،‬ألنِب رجحت عدـ النجاح بسبب الدقة الٍب ٰبتاج إليها التنفيذ‬
‫بينما يكوف االعتماد كلو على سيدة ليس ‪٥‬با مراف ُب مثل ىذه األعماؿ‬
‫‪..‬‬

‫مكثت أكثر من أسبوع وأان ُب ضيق شديد ال يفارقِب القلق‬


‫وضيق الصدر‪ ،‬ودل يكن من ا‪٢‬برص الواجب أف أحاوؿ التحدث إليها‬
‫ُب كتاب أسلمو لسجاف أعده أبجر كبّب‪ ،‬ألنِب هبذا التصرؼ السيئ‬
‫أعرض نفسي وأعرضها للفضيحة فآثرت الصمت والصرب رغم حالٍب‬
‫النفسية ا‪٤‬بضطربة‪.‬‬
‫‪220‬‬
‫‪٠‬بعت ُب ابكورة أحد األايـ جاويش الطابق الذي كنت فيو‬
‫ينادي ا‪٠‬بي للذىاب إذل نيابة شربا فانتفض جسمي من أتثّب ما‬
‫‪٠‬بعت‪ ،‬أدركت أف ا‪٣‬بطوة األوذل من خطٍب بدأهتا فرنسْب ُب جرأة‬
‫و‪٪‬بحت‪ ،‬كل التدبّب الذي ر‪٠‬بتو ‪٥‬با‪ :‬أف تذىب سيدة ‪ٝ‬بيلة أنيقة إذل‬
‫وكيل نيابة شربا وتبلغو شفوايً ىذا الببلغ عرفت شاابً ا‪٠‬بو إبراىيم أفندي‬
‫‪٧‬بسن يدعى أنو ‪٠‬بسار ووكيل أشغاؿ‪ ،‬وقد اعتادت أف تكل إليو شراء‬
‫بعض حاجاهتا من احملبلت التجارية وُب بعض األحياف من الصاغة‪،‬‬
‫ولكن ما تساويو ىذه األشياء كاف زىيداً ال يغري ابلطمع للحصوؿ‬
‫عليو‪.‬‬

‫واستمرت ىذه العملية البسيطة أكثر من عاـ حٌب اطمأنت‬


‫للشاب ووثقت بو وحدثت مفاجأة أف قرطاً ‪٥‬با من الربلنت يساوي‬
‫‪ 300‬جنيو انفصل جزؤه األعلى عن األسفل‪ ،‬وكانت ‪ٙ‬بتاج إلصبلحو‬
‫بسرعة ألاها ستتحلى بو ُب ا‪٤‬بساء لتذىب إذل حفلة عائلية‪ ،‬فعزمت‬
‫على ا‪٣‬بروج والقصد إذل صائغ ليصلح القرط‪ ،‬يضع لو حلقة صغّبة بدالً‬
‫من الٍب كسرت أو يلحم ا‪٤‬بكسورة‪ ،‬وتقوؿ‪" :‬إف الصدفة جعلت‬
‫إبراىي أفندي ؿبسن يزورىا ُب تلك اللحظة ليسأؽبا ىل تطلب‬
‫قضاء حاجة "‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫قالت‪" :‬فسررت هبذه الصدفة وأعطيتو القرط اؼبكسور‬
‫وطلبت منو إصبلحو ُب اغباؿ ألنِب ُب حاجة إليو ُب نفس النهار‪.‬‬
‫فوعدٍل برده ُب عصر اليوـ‪ ،‬ولكنو طلب الفردة الثانية حٌب يت‬
‫اإلصبلح مع حفظ مقياس طوؿ الفردتْب‪ ،‬فسلمتو القرط كلو بدوف‬
‫تردد وال شك بسبب الثقة الٍب اكتسبها والٍب ضبلتِب على‬
‫االطمئناف"‪.‬‬

‫وقالت‪" :‬ولكن إبراىي أفندي غاب طبسة شهور ومل يرد يل‬
‫القرط ومل أر وجهو من تلك اغبادثة فأدركت أنو ؿبتاؿ خبيث‪ ،‬ضبلِب‬
‫بنشاطو وسأمانتو على الثقة بو ليغتن فرصة سبكنو من اختبلس شيء‬
‫لو قيمة‪ .‬وقد ظبعت من حكايت الناس أف اغبكومة ألقت القبض‬
‫على ؿبتاؿ مشهور يدعى حافظ قبيب‪ ،‬ورجحت بعض صديقاٌب أف‬
‫يكوف ىذا الشقي ىو الذي ظبى نفسو كذابً إبراىي أفندي ؿبسن‬
‫وسبكن ابغبيلة من أخذ قرطي ‪"....‬‬

‫ٍب ختمت السيدة التبليغ هبذه العبارة‪" :‬وأان ألتمس من النيابة‬


‫عرض ىذا احملتاؿ على فردبا يكوف حافظ قبيب ىو إبراىي ؿبسن‬
‫سالب القرط"‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫فاستدعائي لنيابة شربا معناه أف فرنسْب نفذت ىذه ا‪٣‬بطة‪ ،‬وأف‬
‫سيدة ذىبت إذل وكيل النيابة وبلغت على ىذه الصورة فأرغمت نيابة‬
‫شربا على طلب حضوري من السجن لعرضي على الشاكْب ُب ذلك‬
‫النهار‪.‬‬

‫كنت أرقص من الفرح ألف بيِب وبْب ا‪٥‬بروب من السجن دقائق‬


‫قليلة إذا ‪٪‬بحت فرنسْب ُب تنفيذ ا‪١‬بزء الباقي من التدبّب‪ ،‬وىو األىم‬
‫الذي ٰبتاج للمهارة وا‪١‬برأة والدقة ُب التنفيذ كاف ا‪٤‬بتبع ُب ذلك ا‪٢‬بْب‬
‫أف كاتب السجن يكتب بياانً أب‪٠‬باء ا‪٤‬بسجونْب ا‪٤‬بطلوب نقلهم من‬
‫السجن إذل النياابت أو إذل ا‪١‬بلسات‪ ،‬ويسلم ىذا البياف إذل رئيس‬
‫السجانْب ُب عصر النهار ليسلم ا‪٤‬بسجونْب ُب الصباح إذل ا‪٢‬براس الذين‬
‫يقودواهم فرادى أو أزواجاً أو ‪ٝ‬باعات إذل ا‪١‬بهات الٍب طلبت‬
‫إحضارىم‪.‬‬

‫ترسل ادارة السجن بياانً آخر إذل ‪٧‬بافظة مصر لتطلب جنوداً‬
‫من أقساـ البوليس يتولوف نقل كل مسجوف إذل ا‪٤‬بكاف ا‪٤‬بطلوب إرسالو‬
‫إليو وترسل احملافظة ىذا البياف إذل ا‪٤‬بأمور ا‪٤‬بعْب من بعد ظهر النهار إذل‬
‫صباح النهار التارل لو‪ ،‬وٰبوؿ ا‪٤‬بأمور ىذا البياف إذل عامل تليفوف‬
‫احملافظة لينبو على كل قسم بوليس إبرساؿ ا‪١‬بندي أو ا‪١‬بنود ا‪٤‬بطلوبْب‬
‫منو مع ذكر عنواف النيابة أو احملكمة ا‪٤‬بطلوب نقل ا‪٤‬بسجوف إليها‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫وكاف من النظاـ ا‪٤‬بتبع أف يُطلػَب جندي واحد إذا كاف ا‪٤‬بطلوب‬
‫حراستو مسجوانً واحد أو اثنْب فيوضعاف ُب قيد واحد من ا‪٢‬بديد‬
‫ويكفي للحراسة‪ ،‬ويطلب اثناف من ا‪١‬بنود ‪٤‬با يزيد عن اثنْب‪ ،‬أما إذا كاف‬
‫العدد كبّباً فتطلب لو عربة السجن‪.‬‬

‫دل تكن جلسة ‪٧‬بكمة شربا ُب اليوـ الذي استدعتِب فيو النيابة‬
‫لعرضي على السيدة الشاكية إذف‪ ،‬سيطلب جندي واحد ‪٢‬براسٍب‪ ،‬لكن‬
‫أحداً ال يعلم من ىو ا‪١‬بندي ومن أي قسم سيطلب‪ ،‬فيتحتم معرفة ُب‬
‫مساء ىذا النهار ابلوسيلة اآلتية‪:‬‬

‫يدخل ا‪١‬باسوس من ابب احملافظة فيمر ُب قبو على ٲبينو‬


‫حجراتف األوذل هبا ا‪١‬بنود ا‪٤‬بعنيوف للحراسة على مدخل سراي احملافظة‪،‬‬
‫والثانية هبا آلة التليفوف والعامل الذي يؤدى عملو هبا‪ ،‬فإذا انتهى من‬
‫القبو ووصل لنهاية الغرفة الثانية ٯبد أمامو فناء احملافظة وعلى اليمْب‬
‫متسع من الفضاء يؤدى إذل ابب بو سلم يصعد إذل الطابق الرابع من‬
‫بناء سجن االستئناؼ ويسكن ذلك الطابق ُب ذلك ا‪٢‬بْب جنود من‬
‫بلوؾ النظاـ‪ ،‬فإذا ا‪٫‬برؼ الداخل إذل ىذه ا‪١‬ببهة من اهاية حجرة‬
‫التليفوف ٯبد ُب ضلعها ا‪٤‬بطل على ىذه الناحية انفذة كبّبة مردودة ‪.‬‬
‫ووراءىا يقع موضع التليفوف والعامل ا‪١‬بالس أماـ اآللة‪ ،‬فإذا تكلم ُب‬
‫اآللة يسمعو الواقف ٔبانب النافذة من ا‪٣‬بارج‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫ُب ىذا ا‪٤‬بكاف احملدد وقف الذي اختارتو فرنسْب لتنفيذ ا‪٣‬بطة‬
‫ا‪٤‬برسومة ‪٥‬با‪ ،‬فسمع عامل التليفوف يبلغ األقساـ األمر إبرساؿ ا‪١‬بنود‬
‫ا‪٤‬بطلوبْب ‪٢‬براسة ا‪٤‬بسجونْب الذين سينقلوف إذل شٌب ا‪١‬بهات ُب الساعة‬
‫السابعة من صباح النهار الثاشل كاف ا‪٤‬بطلوب منو ‪٠‬باع اسم قسم‬
‫البوليس الذي يناط بو إرساؿ ا‪٢‬برس لنيابة شربا فأصغى لؤلوامر حٌب‬
‫قاؿ العامل‪" :‬ي قس الدرب األضبر ‪ ..‬ي قس الدرب األضبر ‪ ..‬خد‬
‫اإلشارة دي‪ .‬مطلوب إرساؿ عسكري واحد لسجن االستئناؼ‬
‫الساعة ‪ 7‬صباحاً لتوصيل مسجوف واحد لنيابة شربا‪ ،‬واإلمضاء‬
‫اؼبأمور النوبتجي"‪.‬‬

‫وتبدأ العملية الثانية بعد ذلك ُب قسم الدرب األ‪ٞ‬بر نفسو‬


‫وىى مراقبة توزيع العمل على العساكر‪ ،‬بعضهم للدورية وبعضهم للنوبة‬
‫وبعضهم ‪٢‬براسة القسم أو ‪ ...‬أو‪ٍ ...‬ب توزع األعماؿ ا‪٣‬بارجية ومنها‪:‬‬
‫العسكري عبد الكرصل عبد هللا (مثبلً) لسجن االستئناؼ لتوصيل‬
‫مسجوف لنيابة شربا‪.‬‬

‫يعرؼ ا‪١‬باسوس اسم العسكري ا‪٤‬بنتدب ويرى وجهو ويلبث‬


‫بَبقبو حٌب ٱبرج يريد العودة إذل بيتو فيسّب ُب إثره حٌب البيت ويعود إليو‬
‫ُب الفجر ويَببص لو حٌب ٱبرج من البيت ويذىب إرل القسم وينتظره‬

‫‪225‬‬
‫حٌب أيخذ القيد ا‪٢‬بديد من الداخل ويتجو إذل الشارع الذي يوصلو إذل‬
‫احملافظة وهبا سجن االستئناؼ فيسّب خلفو‪.‬‬

‫والغرض من ىذا االحتياط احملاذرة من استبداؿ ا‪١‬بندي بغّبه‬


‫لسبب طارئ كا‪٤‬برض ُب الليل أو ا‪٤‬بوت مثبل فيقتضي ا‪٢‬برص والدقة ُب‬
‫التنفيذ مراقبة ا‪١‬بندي حٌب ينشط لتأدية ا‪٤‬بطلوب منو‪ ،‬ويسّب ا‪٤‬براقب‬
‫خلف ا‪١‬بندي وعلى قرب منو حٌب يصل إذل الشارع ‪ٙ‬بت الربع‪ ،‬وىناؾ‬
‫يرى زميبلً لو آتياً من ا‪١‬بهة ا‪٤‬بقابلة‪ ،‬فيشّب إليو بيده يدلو على ا‪١‬بندي ٍب‬
‫تنتهي عمليتو وينصرؼ‪.‬‬

‫أما الزميل ا‪١‬بديد فيكوف ُب ثوب بلدي وقفطاف وعباءة وُب‬


‫يده منديل كبّب بو طعاـ فيقابل ا‪١‬بندي ُب بشبشة وابتهاج ويقوؿ لو‪:‬‬
‫"صباح اػبّب ي جاويش عبد الكرَل"‪.‬‬

‫ٍب يصافحو كأنو يعرفو فيظن ا‪١‬بندي أف الرجل رآه ُب القسم أو‬
‫ماراً أماـ ‪٧‬بل ٘بارتو وىو ُب الدورية فعرفو ‪ ..‬ويرغم ا‪١‬باويش على مقابلة‬
‫التحية ٗبثلها فيسألو احملتاؿ‪" :‬خّب إف شاء هللا ‪ ..‬على فْب العزـ"‬

‫ويقوؿ ا‪١‬بندي‪" :‬إف شاء هللا على سجن االستئناؼ"‪.‬‬

‫ويقوؿ احملتاؿ‪" :‬وحياة والدؾ ي جاويش تساؿ عن اعباويش‬


‫اللي رايح نيابة شربا وتعطيو النصف ريػاؿ ده ‪( ..‬يعطيو قطعة‬

‫‪226‬‬
‫النقود) وتوصيو على اؼبسجوف ‪ ..‬يركبو الَباـ ويسقيو شاي ُب‬
‫النيابة ‪ ..‬أصلو قرييب ومطلوب منو كفالة اثنْب جنيو ‪..‬وأان رايح افتح‬
‫الدكاف ٍب أروح النيابة ادفع لو الكفالة"‪.‬‬

‫ًب تنفيذ ىذه ا‪٣‬بطة حرفياً‪ ،‬وفرح ا‪١‬بندي بقطعة النقود ألنو‬
‫سيدفع منها قرش صاغ واحد للَباـ والشاي ويصّب الباقي حبلالً لو‬
‫فابتسم للتاجر وقاؿ‪" :‬ده أان نفسي اللى رايح نيابة شربا مع اؼبسجوف‬
‫بتاعك"‪.‬‬

‫فضحك احملتاؿ وقاؿ‪" :‬اغبمد هلل ‪ ..‬تعاىل ‪ ..‬خد ويؾ‬


‫فطورك ‪ ..‬وهللا ي جاويش عبد الكرَل ضباتك بتحبك ‪ ...‬أصل‬
‫عمٍب تعز ابنها وعاملة فطور عاؿ بتاع هبوات"‪.‬‬

‫وأتبط ذراع ا‪١‬بندي وسار بو إذل قهوة بلدي على الطريق وفتح‬
‫ا‪٤‬بنديل أمامو وأخرج من جيبو جريدة نشرىا على الدكة‪ ،‬وتناوؿ ‪٩‬با ُب‬
‫ا‪٤‬بنديل فطّباً شهياً وجبناً وحلوى وضعها على ا‪١‬بريدة وأحل على‬
‫العسكري ليفطر فتنبهت شهيتو للطعاـ اللذيذ وجعل أيكل والتاجر‬
‫ٰبدثو عن ا‪٤‬بسجوف قاؿ‪" :‬عمٍب خايفة على ابنها مع إف اؼبسالة‬
‫بسيطة جداً ‪ ..‬النيابة ماداـ طلبت ‪ 2‬جنيو بس كفالة يعُب رأيها إف‬

‫‪227‬‬
‫اغبكاية فالصو ويبكن ربفظ الشكوى وتفرج عنو النهارده‪ ،‬ولكن‬
‫البد من االحَباس والذىاب للنيابة لدفع اؼببلغ"‪.‬‬

‫فقاؿ العسكري‪" :‬اغبرص واجب على كل حاؿ ‪ ..‬وأنت‬


‫سيد العارفْب"‪.‬‬

‫وتناوؿ احملتاؿ كمية اثنية من الفطّب وضعها أماـ ا‪١‬بندي وأحل‬


‫عليو أيكل واستطاب الرجل الطعاـ الشهي فأطاع بدوف تردد بل‬
‫ابشتهاء ‪..‬‬

‫وفكر احملتاؿ ‪٢‬بظة ٍب قاؿ‪" :‬وهللا ي جاويش عبد الكرَل أان‬


‫مشغوؿ النهارده قوى ‪ ..‬ووراي دفع كمبيالتْب للتجار ‪ ..‬فإذا كنت‬
‫تعمل معروؼ أتخذ معاؾ االثنْب جنيو‪ ،‬وؼبا تروح النيابة زبلي ابن‬
‫عمٍب يدفع الكفالة ويوفر علي اؼبشوار"‪.‬‬

‫وفتح احملتاؿ الكيس بسرعة ووضع ُب يد العسكري ‪ 2‬جنيو‬


‫ذىباً ومعهما نصف ريػاؿ آخر وقاؿ‪" :‬اغبتة أـ عشرة دى كنت‬
‫حاصرفها ُب اؼبشوار أضيع النهار على نفسي ‪ ...‬فاتفضل اصرفها‬
‫أنت بدايل" ‪.‬‬

‫وزاد ابتهاج العسكري ابلرزؽ ا‪٢‬ببلؿ الذي ساقو هللا إليو بدوف‬
‫عناء وبدوف أف يطلب من شئ يظنو ‪٨‬بافة تضره‪ ،‬وطلب احملتاؿ لسي‬

‫‪228‬‬
‫عبد الكرصل قهوة تعمّبة‪ ،‬وقاؿ لو‪" :‬الوقت لسو بدرى‪ ،‬النيابة‬
‫مبتشتغلشى قبل الساعة ‪ 9‬وحكاية اعبدع كلها يروح يدفع الكفالة‬
‫ويفرج عنو" ‪..‬‬

‫اطمأف العسكري ألف ُب جيبو مقدار الكفالة وريػاؿ كامل رزؽ‬


‫من عند هللا ا‪٤‬بسجوف سهلة‪ :‬دفع الكفالة لئلفراج عنو‪ ،‬فجعل أيكل‬
‫بتمهل وشرب القهوة وحبس ابلتعمّبة ‪ٍ ..‬ب استأذف من التاجر الكرصل‬
‫ليذىب إذل السجن‪ ،‬فصاحبو احملتاؿ وانصرؼ‪.‬‬

‫من ابكورة النهار يصف السجاف ا‪٤‬بسجونْب ا‪٤‬بطلوبْب للنياابت‬


‫أو ا‪١‬بلسات احملاكم ُب فناء السن ٯبلسوف القرفصاء ٔبنب ا‪٢‬بائط‬
‫وينادى عليهم ابأل‪٠‬باء من البياف ا‪٤‬بكتوب‪ :‬فبلف جلسة عابدين ‪..‬‬
‫وفبلف نيابة ا‪٤‬بوسكي ‪ ..‬وحافظ ‪٪‬بيب نيابة شربا ‪ ..‬ويصل ا‪٤‬بنتدبوف‬
‫للحراسة فرادى ُب فَبات متقطعة‪ ،‬يدؽ القادـ جرس الباب فيفتح‬
‫جاويش البوابة انفذة صغّبة من الباب يطل منها لّبى الطارؽ ٍب يفتح‬
‫الباب ويدخل العسكري ويقوؿ‪ :‬نيابة عابدين مثبلً ‪..‬‬

‫ويكرر ا‪١‬باويش العبارة بصوت مرتفع فينهض ا‪٤‬بسجوف ويقَبب‬


‫من جاويش البوابة وا‪١‬بندي الذي حضر الستبلمو‪ ،‬يقدـ ا‪٤‬بسجوف يديو‬
‫للقيد ا‪٢‬بديد فيقيده ا‪٢‬بارس وىو ٯبيب على أسئلة جاويش البواب‪:‬‬
‫ا‪٠‬بك إيو؟ ٭برتك كاـ؟ من أي قسم؟ ويسجل ا‪١‬باويش ىذه البياانت‬
‫‪229‬‬
‫ُب سجل الباب ٍب يطلب ختم العسكري ليختم بو ُب السجل اعَبافاً‬
‫منو ابستبلـ ا‪٤‬بسجوف‪ ،‬ويفتح لو ابب السجن فيخرج ومعو ا‪٤‬بقبوض‬
‫عليو‪.‬‬

‫ودؽ جرس الباب ودخل عسكري وقاؿ‪ :‬نيابة شربا ‪..‬‬


‫فحضرت ووضعت يداي ُب القيد‪ ،‬وسئل ا‪١‬بندي عن ا‪٠‬بو كالعادة‬
‫ا‪٤‬بتبعة وسلم ختمو للجاويش فختم بو ُب السجل‪ٍ ،‬ب فتح ابب السجن‬
‫فخرجنا منو إذل فناء احملافظة!‬

‫وقطعنا الفناء وأان أتوىم أف الثواشل الٍب ‪ٛ‬بر أعواـ طويلة واجتزان‬
‫القبو ووصلنا إذل ميداف ابب ا‪٣‬بلق ٍب ا٘بهنا ُب شارع دمحم على حٌب‬
‫بلغنا دار الكتب‪ ،‬وإذل جانب الرصيف رأيت عربة ُب االنتظار وفيها‬
‫فرنسْب فركبت إذل جانبها وانولت ا‪١‬بندي الذي لعب دوره ‪ 10‬جنيو‬
‫ذىباً فانصرؼ‪ ،‬وانطلقت بنا العربة إذل ا‪٤‬بسكن الذي أعدتو رل لبلختباء‬
‫فيو!‬

‫كانت فرنسْب ُب ثياب ا‪٢‬بداد وعرفت منها أف زوجها مات‬


‫ألنو كاف يشكو من ربو مزمن ومن علة ُب القلب فعزيتها فقالت‪:‬‬
‫"اؼبصيبة فادحة‪ ،‬فل يعد يل ُب الدنيا صديق سواؾ‪ ،‬وأنت عاجز‬
‫عن معونٍب ألنك ىارب تطاردؾ اغبكومة"‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫قلت‪" :‬ال تتونبي أف اؼبطاردة ستكوف سبباً ُب عجزي عن‬
‫التمتع بكل حريٍب‪ ،‬إهن سيطاردوف حافظ قبيب‪ ،‬ولكنِب سأترؾ ؽب‬
‫ذاؾ االس الذي يلوثونو والصورة الٍب خلقها هللا وسأربوؿ إىل إنساف‬
‫جديد وبمل اظباً نكرة ووجهاً كاذابً‪ ،‬فاختفي عن العيوف ُب ظبلـ‬
‫التنكر‪ ،‬ولكنِب سأعيش بْب ظبع الناس وأبصارى أمتع نفسي بكل‬
‫ما على ظهر األرض من اؼبلذات"‪.‬‬

‫وقلت‪" :‬ىوٍل عليك األمر فلن تكتشف اغبكومة نبأ ىرويب‬


‫إال بعد أسبوع وقبيل الظهر ُب مثل ىذا اليوـ من األسبوع‪ ،‬وحينذاؾ‬
‫تبدأ اؼبطاردة‪ ،‬إذف أمامنا سبعة أيـ كاملة تكفي ػبلق اإلنساف‬
‫اعبديد واالس الكاذب وإلهباد اؼبسكن الظاىر الذي يبكنِب‬
‫االختفاء فيو ظاىراً للعيوف بدوف أف تكشف أمري أو هتتدي إىل‬
‫سري"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬أظنك سبزح "‬

‫قلت‪" :‬بل ىي اغبقيقة ‪ .. ..‬وىي الوسيلة الٍب تربك‬


‫خصمي العنيد فيعجز عن تدبّب وسائل االنتقاـ مِب ابلكيد أو‬
‫القتل‪ ،‬ألنو لن يعرؼ مكاٍل"‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫دل يصل حافظ ‪٪‬بيب إذل نيابة شربا ودل ‪ٙ‬بضر أيضاً السيدة الٍب‬
‫شكتو فلم يعبأ وكيل النيابة ابألمر وأجل التحقيق أسبوعا ألنِب ُب‬
‫اعتباره مسجوف لسبب آخر‪ ،‬وأمر إبعبلف الشاكية ابلعنواف الذي ذكرتو‬
‫ُب ‪٧‬بضر التحقيق لتحضر ىي األخرى ُب نفس اليوـ الذي حدده‬
‫الستحضاري من السجن لعرضي عليها‪ .‬ووصل كتاب من النيابة إلدارة‬
‫السجن أيمر إبرسارل لنيابة شربا ُب ذلك التاريخ فأودع الكتاب ُب درج‬
‫الكاتب ا‪٤‬بختص لينفذه ُب ا‪٤‬بوعد احملدد‪.‬‬

‫أما جاويش الطابق الذي فيو ‪٧‬ببسي فإنو ‪ٛ‬بم على ا‪٤‬بسجونْب‬
‫الذين ُب عهدتو وثبت لو أنِب أرسلت ُب الصباح إذل النيابة شربا‪ ،‬ودل‬
‫أرد اثنياً للسجن فبلغ األمر إذل الباشسجاف عند النداء عليو قاؿ‪" :‬سباـ‬
‫ي أفندـ ما عدا واحد مسجوف ُب نيابة شربا"‪.‬‬

‫واستمرت عملية "التماـ" على ىذه الصورة طوؿ األسبوع‪:‬‬


‫السجن انقص واحد على ذمة نيابة شربا‪.‬‬

‫وجاء عصر يوـ االثنْب الذي سبق الثبلاثء احملدد إلرسارل‬


‫للنيابة‪ ،‬فسجل الكاتب ا‪٠‬بي مع ا‪٤‬بطلوبْب للنياابت أو ا‪١‬بلسات‬
‫واستلمو الباشسجاف كالنظاـ ا‪٤‬بتبع أبقاه ُب مكتبة إذل صباح يوـ‬
‫الثبلاثء‪ٍ ،‬ب أعطاه ‪١‬باويش الطابق الذي احبس فيو فنادى على األ‪٠‬باء‬

‫‪232‬‬
‫وأشر أماـ ا‪٠‬بي أبنِب غّب موجود ُب السجن وأنِب ُب نيابة شربا من‬
‫أسبوع ‪..‬‬

‫وجاء دوري أماـ وكيل النيابة فسأؿ عن الشاكية ونودي عليها‬


‫وأثبت أاها دل ‪ٙ‬بضر‪ ،‬وطػُلػِب الػُمدعى عليو فقيل لو إف السجن دل يرسلو‬
‫كما حدث ُب ا‪٤‬برة السابقة‪ ،‬فاستاء من تعطيل العمل وطلب مأمور‬
‫السجن ابلتليفوف وسألو عن سبب عدـ إرساؿ حافظ ‪٪‬بيب لنيابة شربا‪،‬‬
‫ال ُب ىذا النهار وال ُب األسبوع ا‪٤‬باضي‪ ،‬مع وصوؿ خطاب من النيابة‬
‫للسجن أتمره إبرساؿ ا‪٤‬بتهم إل‪ٛ‬باـ التحقيق‪ ،‬وطلب مأمور السجن‬
‫الباشسجاف وسألو بدوره عن سبب عدـ إرسارل للنيابة‪ ،‬فأظهر الرجل‬
‫التعجب ووكد للمأمور أنِب أُرسػِلت مع عسكري حرس إذل نيابة شربا‬
‫منذ أسبوع‪ ،‬ولكن النيابة دل تردشل اثنياً للسجن‪.‬‬

‫ونبأ ا‪٤‬بأمور وكيل النيابة إبجابة الباشسجاف‪ ،‬وأنكرت النيابة‬


‫ووصل ا‪٤‬بسجوف إليها فانكشفت ا‪٢‬بقيقة ابلتحقيق‪ .‬رجعوا إذل سجل‬
‫ابب السجن الذي يُسج ػ ػل فيو الوارد والصادر من ا‪٤‬بسجونْب وا‪١‬بهات‬
‫الٍب يرسلوف إليها أو العائدين منها‪ ،‬فثبت أنِب ُسل ػِّػمت ُب التاريخ األوؿ‬
‫للعسكري مرسى دمحم ٭برة ‪ 274‬من قوة قسم عابدين وطلبت نيابة مصر‬
‫(الٍب تولت التحقيق ُب حادثة اختفائي) من قسم عابدين إرساؿ‬
‫العسكري ا‪٤‬بذكور للمثوؿ بْب يدي احملقق‪ ،‬فكانت إجابة القسم أف ىذا‬

‫‪233‬‬
‫االسم غّب موجود بْب عساكر القسم وكذلك النمرة ‪ ..‬فحدث االرتباؾ‬
‫وبلغ نبأ ىرويب حملافظة مصر‪ ،‬وىذه بلغتو إذل رجاؿ البوليس السري وإذل‬
‫أقساـ البوليس‪ٍ ،‬ب نػُ ِشػر نبأ ا‪٥‬بروب ُب النشرة اإلدارية الٍب تظهرىا نظارة‬
‫الداخلية وانطلق رجاؿ البوليس السري يبحثوف عن ا‪٥‬بارب ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫دل يعجبِب ا‪٤‬بسكن اختارتو فرنسْب الختبئ فيو‪ ،‬ألاها تعمدت‬
‫أف يكوف ُب درب داخل حارة يصل إليها من أزقة ملتوية مضللة‪ ،‬ظنت‬
‫أف مثل ىذا ا‪٤‬بكاف يدعو لبلطمئناف فنبهتها للخطأ‪ ،‬ألف حصري على‬
‫ىذه الصورة على مثاؿ حصر الفار ُب ا‪٤‬بصيدة وألف أسلم وسيلة‬
‫لبلختفاء ىي الظهور بْب الناس وعدـ االختفاء‪ .‬ودل تَبدد السيدة طيبة‬
‫القلب ا‪٤‬بخلصة ُب تنفيذ رغبٍب وٕبثت ٔبد حٌب اىتدت لبيت يطل على‬

‫‪234‬‬
‫ميداف الظاىر اببو من شارع فرعى‪ ،‬بو مسكناف خالياف ُب طابق واحد‪،‬‬
‫فاستأجرت لنفسها أحدٮبا واستأجرت الثاشل اب‪٠‬بي ا‪٤‬بستعار‪ ،‬فكنا‬
‫منفصلْب أماـ السكاف متصلْب على الدواـ ُب غفلة من ا‪١‬بميع‪.‬‬

‫تنكرت ُب زي رجل ٘باوز ا‪٢‬بلقة الرابعة من العمر وكاف العصر‬


‫عصر اللحى فعاونتِب الشوارب الصناعية على إبداؿ مبلمح الوجو بغّبىا‬
‫غريبة عن صورٌب األوذل وا‪ٚ‬بذت لنفسي قميصاً ذا طبقتْب من القماش‬
‫بينهما كيس من ا‪٤‬بطاط ٲببل ابلنفخ فيو اب‪٥‬بواء فّبتفع ُب شكل كرش من‬
‫ذوى ا‪١‬باه العظيم‪ ،‬يصل ا‪٥‬بواء إذل جوؼ الكيس بواسطة أنبوبة طويلة‬
‫من ا‪٤‬بطاط ترتفع إذل الكتف ٍب تنثِب لناحية الذراع و‪ٛ‬بتد على طولو‬
‫و‪ٚ‬بتفي ‪ٙ‬بت سوار شديد الضغط عليها وعلى الذراع نفسو فيمنع ىذا‬
‫الضغط الشديد تسرب ا‪٥‬بواء‪ ،‬فإذا خلعت األنبوبة من مكااها وزاؿ‬
‫الضغط الذي كاف عليها وإذا أزيلت الصمامة الٍب على فوىتها ينطلق‬
‫ا‪٥‬بواء من جوؼ الكيس إذل الفضاء بصوت يسمع‪.‬‬

‫كنت ‪٫‬بيفاً ال يزيد وزسل عن ‪ 60‬كيلو فضخمت اب‪٥‬بواء‬


‫احملبوس بطِب وفخذاي فصار رل مظهر رجل بدين قصرت البدانة من‬
‫طوؿ فاصبح من العسّب على النظر التقريب بْب ىذا ا‪١‬بسم الضخم‬
‫وجسمي النحل الطويل‪ ،‬حٌب فرنسْب دل تعرفِب عندما فاجأهتا ألوؿ مرة‬
‫هبذا التنكر‪ .‬كانت الكافيو إجبسياف أرقى مقهى ُب القاىرة وىى قاعة‬

‫‪235‬‬
‫مستطيلة فسيحة نظيفة مرتبة أحسن ترتيب‪ ،‬ومن النظاـ ُب ىذا ا‪٤‬بقهى‬
‫الراقي الرقابة على الوافدين عليو فبل يسمح ابلبقاء فيو إال ‪٤‬بن ‪٥‬بم مظهر‬
‫الوجاىة والعقل واألدب‪.‬‬

‫جلست وحدي ُب إحدى الليارل ُب النصف األوؿ أسامر فتاة‬


‫من فرقة ا‪٤‬بوسيقى فرأيت رئيس البوليس السري ا‪٤‬بسيو كارتييو يدخل‬
‫ا‪٤‬بقهى وٯبلس إذل ا‪٤‬بنضدة على ٲبيِب معو يوزابشى إيتارل يدعى رنده‪،‬‬
‫جلسا يتحداثف بصوت وصل إذل ‪٠‬بعي واضحاً‪ٙ ،‬بداث ُب شؤوف شٌب ٍب‬
‫أنتقل ا‪٢‬بديث إذل حافظ ‪٪‬بيب فسأؿ كارتييو زميلة ىل نفذ أوامره‬
‫فقاؿ‪" :‬نع "‪.‬‬

‫وذكر أ‪٠‬باء رجاؿ البوليس السري الذين وزعهم على أماكن‬


‫الغناء والرقص ٍب قاؿ‪" :‬الليلة يبدأ العاـ اعبديد وغبافظ ولع ابؼبقامرة‬
‫ُب ىذه الليلة‪ ،‬ومن اؼبرجح أنو سيذىب إىل الَبوكاديرو لتجربة‬
‫حظو‪ ،‬وسنذىب معاً إىل ىذا النادي قبيل نصف الليل عسى أف‬
‫يساعدان اغبظ فنلقي القبض عليو"‪.‬‬

‫نبهِب ىذا ا‪٢‬بديث إذل ا‪١‬بهد الذي يبذلو رجاؿ البوليس السري‬
‫للتمكن من القبض على بسبب غرابة ىرويب من السجن‪ ،‬وخطر رل ُب‬
‫تلك اللحظة أف أداعب رئيس البوليس مداعبة تثبت لو انو ساذج قصّب‬
‫النظر ونفذت الفكرة ُب ا‪٢‬باؿ‪.‬‬
‫‪236‬‬
‫أمرت ا‪١‬برسوف ابستدعاء سائق عربة فحضر‪ ،‬فقلت لو‪" :‬إنِب‬
‫سأركب معو وقتاً طويبلً‪ ،‬ولكنِب سأدفع األجرة حبساب أجرة‬
‫الساعة"‪.‬‬

‫وقبل الرجل وًب االتفاؽ على دفع ‪ 12‬قرشاً لكل ساعة‪،‬‬


‫وانتظرت حٌب انصرفت الفتاة لعملها ودفعت ‪ٜ‬بن ما شربت وخرجت‬
‫من القهوة وركبت العربة إذل األوبرا فقط‪ ،‬ودخلت مقهى ىناؾ‪ ،‬وطلبت‬
‫ورقاً وكتبت ابلفرنسية كتاابً إذل رئيس البوليس السري ىذه تر‪ٝ‬بتو‪:‬‬

‫"كنت إىل جانبك اآلف ُب الكافية إجبسياف ومعي فرقة‬


‫اؼبوسيقى وظبعتك تتحدث مع اليوزابشي رنده على الوسائل الٍب‬
‫عبأسبا إليها للبحث عِب وآخرىا ذىابكما إىل الَبوكاديرو‪ ،‬فكنت ي‬
‫سيدي على مثاؿ العامل الذي كاف يبحث ُب السماء عن كوكب‬
‫جديد دبنظاره الكبّب وىو ذاىل عن طفلو الذي وببو عند قدميو‬
‫فداسو‪ ،‬وعجزؾ عن معرفٍب وأان إىل جانبك وقتاً يبعث ُب نفسي‬
‫االطمئناف ؽبذا العجز‪ ،‬وهبعلِب اراتح لتهنئتك حبلوؿ عاـ جديد "‪.‬‬

‫حافظ قبيب‬

‫غلّفت الكتاب وكتبت عنواف رئيس البوليس السري واستدعيت‬


‫سائق العربة فذكرتو اب‪٤‬بكاف الذي رآشل فيو ووصفت لو ا‪٤‬بنضدة الٍب‬

‫‪237‬‬
‫كانت إذل ٲبيِب‪ ،‬وقلت ىناؾ ستجد اثناف خواجات أحدٮبا يدعى‬
‫ا‪٤‬بسيو كارتييو تسلمو ىذا ا‪٣‬بطاب ٍب تعود إرل ابإلجابة عليو‪ ،‬ودفعت‬
‫لو ريػاؿ من ا‪٢‬بساب فاطمأف وعاد إذل ا‪٤‬بقهى وسلم ا‪٣‬بطاب إذل رئيس‬
‫البوليس ولست أدري كيف كاف أتثّب ا‪٤‬بداعبة ُب نفسو ولكنِب ‪ٚ‬بيلتها‪.‬‬

‫بلغت البوليس شفوايً أبنِب حضرت إذل مسكِب ُب منتصف‬


‫النهار فوجدت الباب مفتوحاً ولكنو مردود ووجدت خزانة الثياب‬
‫مفتوحة ‪ٙ‬بطم قفلها وضاع منها ثوابف وقميصاف ومناديل وصندوؽ‬
‫صغّب بو‪ :‬ساعة‪ ،‬وسلسلة من الذىب‪ ،‬ودبوس بو حجر من الربلنت‬
‫وزنو ‪ 6‬قراريط‪ ،‬وخاًب بو حجر من الربلنت وزنو ‪ 4‬قراريط‪ ،‬و‪ 54‬جنيهاً‬
‫من الذىب‪.‬‬

‫أثبت أقوارل ُب احملضر وانتقل ا‪٤‬بأمور إذل ا‪٤‬بسكن ومعو كارتييو‬


‫رئيس البوليس السري للمعاينة وإلثبات ا‪٢‬بالة ٍب قيدت القضية ضد‬
‫‪٦‬بهوؿ‪ ،‬وقد عاونت ا‪٤‬بسيو كارتييو ُب تعليل كيفية دخوؿ اللص ا‪٤‬بسكن‬
‫أثناء غيايب‪ ،‬ونصح رل بوضع مزالؽ من داخل الباب يثبتو فبل يتمكن‬
‫أحد من فتحو من ا‪٣‬بارج زايدة ُب ا‪٢‬برص واالطمئناف ليبلً‪ ،‬ما دمت‬
‫أعيش وحدي‪ .‬واطمأننت أان ‪٥‬بذا ا‪٤‬بسكن وصاحبو أاهما سيكوانف‬
‫بعيداً عن مظاف رئيس البوليس السري وعن إٔباثو ا‪٣‬باصة ٕبافظ ‪٪‬بيب‬
‫فعشت فيو ُب ىدوء اتـ ‪...‬‬

‫‪238‬‬
‫وتكهرب فجأة ىذا ا‪١‬بو ا‪٥‬بادئ ٗبرض خطّب فاجأ ىذه السيدة‬
‫ا‪٤‬بخلصة الوفية وأمر الطبيب بنقلها إذل ا‪٤‬بستشفي ففعلت‪ٍ ،‬ب أجريت ‪٥‬با‬
‫عملية بدأت خطّبة جداً‪ ،‬ولكنها آلت إذل الشفاء بعد قضاء أكثر من‬
‫شهر ُب ا‪٤‬بستشفي الفرنساوي‪.‬‬

‫وقرأت يوما ُب الصحف نبأً جديداً عن اهتاـ حافظ ‪٪‬بيب‬


‫ابالحتياؿ على رجل إسرائيلي لسلب ساعتو وأف التحقيق ًب وأحيلت‬
‫القضية إذل قاضي اإلحالة لتحويلها إذل ‪٧‬بكمة ا‪١‬بناايت ‪ ..‬فأدركت أف‬
‫اليد ا‪٣‬بفية ال تزاؿ ُب غيايب تكدس القضااي لتصدر فيها أحكاـ ستنفذ‬
‫ُب إذا ‪ٛ‬بكن البوليس من القبض على‪ ،‬و‪ٙ‬بدد للمحاكمة اتريخ معْب‬
‫فحضرت ا‪١‬بلسة مع ا‪٢‬باضرين أل‪ٛ‬بكن من رؤية الرجل الذي وجو إذل‬
‫ىذه التهمة فحلف اليمْب وشهد أبنو صديق قدصل رل وأنو غاب عن‬
‫مصر زمناً طويبلً‪ ،‬فلم يسمع شيئاً من حوادثي الٍب وقعت أثناء ىذه‬
‫الغيبة‪.‬‬

‫وقاؿ إنو رآشل ليلة ُب ابر فدعاشل للجلوس معو وشربنا أقداحاً‬
‫من الكونياؾ وطلبت منو رؤية ساعتو الذىب فأعطاىا رل ففحصتها ٍب‬
‫أبقيتها ُب يدي ٍب اهضت لقضاء حاجة وتركت الطربوش ُب مكانو على‬
‫ا‪٤‬بقعد واختفيت‪ .‬وصدر ا‪٢‬بكم ٕببسي ‪ 3‬سنوات ‪...‬‬

‫‪239‬‬
‫كاف خليل حداد معي ُب ىذه ا‪١‬بلسة فثار وسألِب ‪٤‬باذا أصرب‬
‫على ىذا الرجل؟ و‪٤‬باذا ال أعاقبو؟ وقاؿ‪" :‬مادمت احملاك تقتنع بقضاي‬
‫من ىذا النوع دبجرد ظباع شهادة اؼبدعي وتصدر فيها أحكاماً‬
‫ابإلدانة وابلعقوبة‪ ،‬فمن السهل على ملفق ىذه القضية تكرار‬
‫عمليات الكيد فيجمع ضدي أحكاماً تستنفذ كل عمري" …‬

‫ولكنِب خالفت رأى صديقي وطمأنتو بشرح ما ُب نفسي وما‬


‫عقدت العزـ عليو قلت لو‪" :‬لن أنفذ أي حك من األحكاـ الٍب‬
‫ستصدر ضدي‪ ،‬سأترؾ ؽب أس حافظ قبيب يكيلوف لو اؼبته‬
‫ويصدروف عليو األحكاـ كما يشاء خصومي‪ ،‬سأختفي من العامل‬
‫جبسمي وأترؾ ؽب أظبي‪ ،‬وسأضبل أظباء كثّبة أختارىا للظروؼ‬
‫اؼبتنوعة واؼبناسبات فيعجزوف عن االىتداء إىل ويتعذر عليه تنفيذ‬
‫األحكاـ"‪.‬‬

‫ونشرت ُب الصحف ا‪٤‬بصرية رسالة شرحت فيها ما شاىدتو ُب‬


‫جلسة احملاكمة ووكدت عزمي على عدـ تنفيذ أي حكم يصدر ضد‬
‫حافظ ‪٪‬بيب‪.‬‬

‫جعلت رل مقراً اثنياً ُب قصر الشوؽ بْب حي ا‪١‬بمالية وكفر‬


‫الطماعْب‪ ،‬غرفة واحدة أرضية يسكنها "ع دؤدؤ"‪ ،‬رجل ٘باوز‬
‫األربعْب يرتدي جلباابً أزرؽ يشد وسطو حزاـ من ا‪١‬بلد القدصل وينتعل‬
‫‪240‬‬
‫بلغة ولو ‪٢‬بية ‪٧‬بنية خفيفة وعلى رأسو طاقية يلف حو‪٥‬با شد أ‪ٞ‬بر (نوع‬
‫من القماش) وصناعتو اتجر لؤلطفاؿ‪.‬‬

‫وإذل جانب مسكنو األرضي ا‪٤‬بظلم احملروـ من ا‪٥‬بواء ومن نور‬


‫الشمس مصطبة منخفضة من الطْب يضع عليها مقاطف ‪٩‬بلوءة ابلتنب‬
‫يغطيو ا‪٣‬بيش ويضع فوؽ ىذا السطح ُب كل مقطف بضاعتو من‬
‫ا‪٢‬بمص والفوؿ السوداشل واللب والفشار‪ ،‬ويعلق ُب حبل مثبت ُب‬
‫ا‪٢‬بائط حلوى تسمى‪" :‬خد البنت"‪ ،‬وىي شريط من الورؽ ا‪٤‬بلوف‬
‫الصقة بو سلسلة من قطع ا‪٢‬بلوى خفيفة الوزف‪ ،‬يعرض بضاعتو ُب‬
‫األوقات الٍب يكثر فيها لعب األطفاؿ ُب ا‪٢‬بارة يبيع ‪٥‬بم ما يشاءوف‬
‫اب‪٤‬ببلليم وأنصافها مع ‪٧‬باولة إرضاء زبوف‪.‬‬

‫ولكن طبع "ع دؤدؤ" ٯبعلو قليل الثقة ابلزابئن فبل يبيع ‪٥‬بم‬
‫إال نقداً‪ ،‬ولو مزاج مضطرب‪ ،‬فتارة يعرض بضعتو كل يوـ‪ ،‬واترة أخرى‬
‫يغيب أايماً يدعي أف يقضيها ُب زايرة شيخو السيد البدوي وغّبه من‬
‫أولياء هللا الصا‪٢‬بْب‪ ،‬كنت أتسلى هبذه العملية حْب ال يدعوشل العمل‬
‫إذل مبارحة ىذا ا‪٤‬بكاف فليس ُب مقدوري االنسحاب طوؿ اليوـ ُب غرفة‬
‫مظلمة يضيق فيها الصدر‪ ،‬فجعلت البيع للصغار تسلية ومظهر عمل‬
‫يرغمِب على البقاء داخل البيت ا‪٤‬بزدحم ابلسكاف‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫وكنت أترؾ ىذا ا‪٤‬بقر إذل غّبه ُب شارع الشنواشل وىو مسكن‬
‫أرضي ُب بيت لو ابابف واحد منهما ُب حارة تؤدي إذل الشارع والثاشل‬
‫يؤدي إذل حارة ملتوية توصل إذل قرب األزىر‪ ،‬وُب ىذا ا‪٤‬بسكن جارية‬
‫خرساء أتوذل اإلنفاؽ عليها‪ ،‬فإذا رغبت ُب التنكر بصورة جديدة أ‪ٙ‬بوؿ‬
‫ُب ىذا ا‪٤‬بسكن إذل زي مناسب أخرج بو إذل مسكِب ُب ميداف الظاىر‪،‬‬
‫وىناؾ أ‪ٙ‬بوؿ إذل التنكر الذي أغشى بو اجملالس العامة وا‪٤‬بقاىي أو‬
‫ا‪٤‬بكاتب الٍب يستدعى األمر اللجوء إليو‪ ،‬ويقتضي ا‪٢‬باؿ ا‪٤‬برور على ىذه‬
‫ا‪٤‬بساكن ابلتوارل لتعود رل شخصية ع دؤدؤ ا‪٥‬بادئ الوديع‪.‬‬

‫وفوجئت يوماً بدعوة ‪٤‬بقابلة ا‪٤‬برحوـ إ‪٠‬باعيل بك الشيمي ُب‬


‫مكتبو فكاف من الضروري الوصوؿ أوالً إذل مسكن بشارع الشنواشل‪،‬‬
‫ولكن الطريق من اهاية شارع أـ الغبلـ إذل ميداف سيدان ا‪٢‬بسْب كاف‬
‫مزد‪ٞ‬باً جداً ُب تلك األايـ بسبب ا‪٤‬بولد فبلبد إذف من شيء جديد‬
‫يغطي ع دؤدؤ‪ .‬زايدة ُب التحصن أحضرت طبلية وضعت عليها‬
‫حلوى ا‪٤‬بولد‪ :‬مآذف من ا‪٢‬بلوى‪ ،‬وخيوؿ‪ ،‬وعرائس‪ ،‬وسفن‪ ،‬وكلها ‪ٞ‬براء‬
‫وبيضاء كما يفعل ابعة ىذه األنواع من ا‪٢‬بلوى‪ ،‬فغطت الطبلية رأسي‬
‫ودائرة كبّبة حولو فاطمأننت وانطلقت ُب الطريق وأان واثق من العيوف‬
‫أاها ستستقر على ا‪٢‬بلوى ا‪٤‬بلونة ال على وجهي‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫وصلت من قصر الشوؽ إذل شارع أـ الغبلـ الضيق الطويل‪،‬‬
‫و٘باوزت ا‪٫‬بناء ُب الطريق ٍب اعتدؿ الشارع مفاجأة فإذا يب أرى على‬
‫بعد أمتار قليلة مِب كارتييو رئيس البوليس السري ومأمور القسم‬
‫وعسكري واثنْب من البوليس السري ُب ثياب بلدي‪.‬‬

‫أثرت ُب ا‪٤‬بفاجأة ودل يكن ُب مقدوري العودة ألف أنظارىم‬


‫كانت متجو إذل انحيٍب وكانوا على رأس حارة يعاينوف منزالً على‬
‫انصيتها حدثت فيو حادثة ىامة‪ ،‬وكاف من ا‪٤‬بفروض على أف أستقر‬
‫بسرعة على رأي بدوف الكف عن السّب ُب اال٘باه الذي كنت أسّب فيو‬
‫‪ ..‬وجدت علي مفاجأة جديدة مزعجة دل أكن أنتظرىا …‬

‫سقطت اللحية ا‪٤‬بستعارة والشارب على صدري وتدحرجا إذل‬


‫األرض‪ ،‬وثبت رل أف كارتييو رأى ا‪٢‬بادثة ألنو ابتسم وحوؿ رأسو إذل‬
‫انحية أخرى ليوٮبِب بعكس الواقع وليزيد ُب اطمئناشل‪ ،‬وكاف غرضو أف‬
‫يصرب على حٌب أصل إليو فيطوقِب بذراعيو ويلقي القبض علي‪ ،‬ليكشف‬
‫شخصية ىذا ا‪٤‬بتنكر العبيط الذي تسقط منو ‪٢‬بيتو بدوف مربر ُب‬
‫الشارع‪.‬‬

‫دل يبق بيِب وبْب ىؤالء الناس سوى خطوات ولكن كارتييو دل‬
‫ينبو الذين معو ألمري عاقداً العزـ على مفاجأتنا ‪ٝ‬بيعا بتطويقي‪ ،‬أدركت‬
‫كل ىذا وأصررت على عدـ ‪ٛ‬بكينو من تنفيذ خطتو‪ .‬حوؿ رأسو‬
‫‪243‬‬
‫لناحيٍب ليقيس مقدار ب ػُعدي عن ذراعيو‪ ،‬فاغتنمت ىذه الفرصة‬
‫السائحة وقذفت الطبلية لناحية وجهو بشدة فأصبت وجهو وصدمت‬
‫حافتها أنفو فصرخ من األدل‪.‬‬

‫وفوجئ ا‪١‬بميع هبذه ا‪٢‬بادثة وتوالىم الذىوؿ ‪٢‬بظة ولكنها‬


‫كانت كافية للتخلص من "البلغة"(‪ )21‬الٍب كانت تثقل خطواٌب‬
‫واالنطبلؽ أبقصى سرعٍب ُب الشارع الضيق كثّب االلتواء‪ .‬وانطلق ورائي‬
‫العسكري ٕبذائو الثقيل ورجاؿ البوليس السري وا‪٤‬بأمور ولكنِب بعدت‬
‫عنهم كثّباً وصار البعد يزيد عن ‪ٟ‬بسْب مَباً ‪ .. ..‬وكنت أخشى‬
‫االنعطاؼ لناحية الزحاـ فّبى الناس ا‪٥‬بارب وا‪٤‬بطاردين فيسدوف ُب‬
‫وجهي طريق النجاة ويلقوف القبض علي وجاءت الصدفة ابلفرج القريب‬
‫‪..‬‬

‫رأيت أمامي ابب ‪ٞ‬باـ أعرفو منذ الطفولة ألف لو اباب يؤدي إذل‬
‫طريق ضيق جداً يلتوي مرات ٍب يصل إذل صحن ا‪٢‬بماـ‪ ،‬فإذا ٘باوزتو‬
‫أصل إذل ابب آخر للحماـ ومنو إذل حارة توصل إذل شارع الشنواشل‪ .‬دل‬
‫أتردد طبعاً ُب االندفاع من الباب إذل السرداب وُب قدمي شراب(‪)22‬‬
‫من الصوؼ البلدي (شغل يد) يقيِب خشونة األرض‪.‬‬

‫(‪ )21‬حذاء من اعبلد يلبسو الفقراء مفتوح من انحية الكعبْب‪.‬‬


‫(‪ )22‬جورب‪.‬‬
‫‪244‬‬
‫ووصلت إذل صحن ا‪٢‬بماـ مندفعاً أبقصى سرعٍب وإذا يب أفاجأ‬
‫بنساء عارايت صرخن عند رؤيٍب‪ ،‬غلبهن ا‪٢‬بياء ُب أوؿ األمر واختبأ‬
‫بعضهن وراء الفسقية (النافورة) ليستَبف وصياحهن يتعاذل‪ ،‬فاغتنمت‬
‫فرصة االرتباؾ وقطعت الصحن‪ ،‬ووصلت إذل الباب الثاشل للحماـ ُب‬
‫الوقت الذي وصل فيو ا‪٤‬بطاردوف للمدخل ا‪٤‬بؤدي للصحن ا‪٢‬باشد‬
‫ابلنساء‪.‬‬

‫فوجئ رجاؿ البوليس ٗبشهد أبداف النساء العارايت فتوالىم‬


‫االرتباؾ ‪٢‬بظة وصرخ فيهم ا‪٤‬بأمور أيمرىم ابالنطبلؽ ُب إثري ولكن‬
‫النساء غضنب أشد الغضب من جرأة الرجاؿ الوقحاء فعمدف إذل‬
‫القباقيب(‪ )23‬يضربن هبا رؤوس ا‪١‬بماعة وأسرع بعضهن إذل ماء النافورة‬
‫ٰبملن منو ُب الطاسات ويرششن هبا ا‪٤‬بها‪ٝ‬بْب‪ ،‬وعبل الصراخ وارتفعت‬
‫األصوات فاستوذل الرعب على ا‪٤‬بطاردين وااهزموا أماـ كتائب النساء‬
‫العارايت ا‪٤‬بها‪ٝ‬بات وعادوا أدراجهم ساخطْب‪.‬‬

‫ونشرت بعض الصحف ُب النهار الثاشل كلمة اعتذار ‪٤‬بن كن ُب‬


‫ُ‬
‫صحن ا‪٢‬بماـ وعبارات شكر لدفعهن ا‪٤‬بطاردين وتعطيلهم عن اقتفاء‬
‫أثري‪ ،‬فصارت ا‪٢‬بادثة حديث الناس يتفكهوف هبا ُب اجملالس‪ ،‬ولكنها‬

‫(‪ )23‬أحذية خشبية كاف معتادا ُب مصر استخدامها ُب اغبمامات‪.‬‬


‫‪245‬‬
‫صارت أيضا سبباً يزيد ُب حنق رئيس البوليس السري على وُب نشاطو‬
‫للقبض علي‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫‪10‬‬
‫كاف رئيس النيابة رجبلً تقياً ولكن ذكاءه كاف ‪٧‬بدوداً‪ ،‬وكاف‬
‫عنيداً ُب تصرفاتو معي‪ ،‬اعتقد أنِب ‪٦‬برـ خطر على األمن العاـ فيجب‬
‫تطهّب ا‪٥‬بيئة االجتماعية من وجودي فيها‪ ،‬وكاف رأيي أنو غيب و‪٨‬بطئ ُب‬
‫اعتقاده فبل ٯبوز ‪ٛ‬بكينو من تنفيذ رغبتو‪ ،‬وبقدر إ‪٢‬باحو على البوليس‬
‫السري لتنشيطو للبحث عِب كاف نشاطي يزداد ‪٤‬بػداعػبة ىػؤالء الناس ‪.‬‬
‫وخطر رل أخّباً أف أداعب رئيس النيابة نفسو مداعبة لطيفة مبتكرة‪.‬‬

‫قررت أف أعمل خادماً ُب بيتو فوسطت خليل صديقي ليتفق‬


‫مع ا‪٤‬بخدـ(‪ )24‬على إغراء دسوقي خادـ رئيس النيابة ليخرج من بيت‬
‫سيده وٱبدـ عند إفر‪٪‬بية أبجر مضاعفة فنجحت ا‪٢‬بيلة‪ ،‬وخرج ا‪٣‬بادـ‬
‫وأسند إليو عملو ا‪١‬بديد وسخا خليل على ا‪٤‬بخدـ وأعطاه جنيها‪ ،‬فصار‬
‫لو مركز ‪٩‬بتاز عنده‪.‬‬

‫(‪ )24‬صاحب مكتب تشغيل اػبدـ‪.‬‬


‫‪247‬‬
‫واستدعاه ُب يوـ آخر وعرض عليو خادماً أ‪٠‬بر البشرة يقرب‬
‫لونو من الزنوج ورجا منو أف يركزه ُب بيت ‪٧‬بَبـ ألنو يعرفو من زمن طويل‬
‫ُب خدمة صديق لو مات‪ ،‬وزاد ُب قوة أتثّب التوصية جنيو من الذىب‬
‫انتقل من جيب خليل إذل يد ا‪٤‬بخدـ‪ُّ ،‬سر الرجل من تصرفات الزبوف‬
‫الكرصل وأخذشل معو إذل دكانو بشارع دمحم علي ليتوذل أمري‪ ،‬فجلست‬
‫ىناؾ أايما أنتظر فرج اإللو الكرصل فإذا جاء الليل أنصرؼ ألعود ُب‬
‫النهار الثاشل‪ .‬أرسلِب ا‪٤‬بخدـ مرتْب إذل بيتْب ألخدـ‪ ،‬ولكنِب رفضت‬
‫االستمرار ُب كل بيت منهما ألسباب اختلقها‪ ،‬ودل يطق ا‪٣‬بادـ ا‪١‬بديد‬
‫البقاء ُب منزؿ رئيس النيابة فَبكو وخرج‪.‬‬

‫وأحل الرئيس على ا‪٤‬بخدـ ليبحث لو عن خادـ عاقل يستمر ُب‬


‫خدمتو فلما حضرت للدكاف ُب الصباح أحد األايـ جرشل إذل البيت‬
‫العامر وىو قريب من الدكاف‪ .‬دخلنا من فجوة على شكل بوابة كبّبة‬
‫إذل رحب بو عدة بيوت واألوؿ منها ليمْب الداخل ىو بيت رئيس‬
‫النيابة‪ ،‬ويلي الباب ا‪٣‬بارجي ردىة كبّبة هبا غرفتاف متقابلتاف إحداٮبا‬
‫الستقباؿ الزائرين والثانية ‪٣‬بادـ ا‪٤‬بنزؿ وعرضِب ا‪٤‬بخدـ على الست ا‪٥‬بازل‬
‫فقالت ‪٩‬بتعضة‪" :‬كل اػبدامْب زي الزفت دايبا يدلعوا زي العياؿ‪،‬‬
‫واحنا غّبان اثنْب وده الثالث ُب ‪ 18‬يوـ" ‪..‬‬

‫‪248‬‬
‫وقاؿ ا‪٤‬بخدـ‪" :‬اػبداـ اعبديد ده على ضمانٍب أان‪ ،‬أصلو كاف‬
‫خداـ هبوات تقاؿ عاش عندى طوؿ عمره وىو جدع وأمْب ولسو ما‬
‫سبرمطش ‪ ..‬أىو ده إيل حيعمر وينفع سأذف هللا"‪.‬‬

‫قالت الست‪" :‬بكرة نشوؼ … قالوا اػبرب بفلوس قلنا‬


‫بكرة يبقى بببلش"‪.‬‬

‫على ٍب تركِب للبيت وانصرؼ‬


‫وكرر ا‪٤‬بخدـ عبارات الثناء ّ‬
‫وبدأت الست تسألِب فقالت‪" :‬اظبك إيو ي شاطر "‪.‬‬

‫قلت‪" :‬اظبي مربوؾ" ‪..‬‬

‫قالت‪" :‬إنشاهلل اماؿ تبقى مربوؾ علينا ‪ ..‬دخل ىدومك ُب‬


‫اؼبندرة اللي على الشماؿ‪ ،‬واغسل ببلط اغبوش أحسن اؼبنيل اللي‬
‫قبلك ما رضيش يبسحو‪."..‬‬

‫فدخلت الغرفة ا‪٤‬بخصصة لسكِب‪ ،‬فوجدت أاثثها من الببلط‬


‫القدصل وفراشي حصّب و‪٢‬باؼ و‪٨‬بدة‪ ،‬وخزانة الثياب حبل مثبت ُب زاوية‬
‫من الركن الداخلي‪ ،‬ينشر عليو ثوب ا‪٣‬بادـ إذا كاف ٲبلك أكثر ‪٩‬با يسَب‬
‫جسده‪.‬‬

‫كاف ثويب صوؼ فريسكا كحلي وبو خطوط رفيعة بيضاء‬


‫فخلعت ا‪١‬بلباب وطرحتو على ا‪٢‬ببل ونزعت النعل واستعددت للمسح‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫دخلت الفناء الداخلي فوجدتو مربعاً فسيحاً أرضو من الببلط القدصل‬
‫السميك ورأيت ُب أحد األركاف بئراً‪ ،‬فنشلت منو ماء‪ٍ ،‬ب صفقت‬
‫وطلبت مكنسة وقطعة من ا‪٣‬بيش‪ ،‬فأسعفتِب هبما زينب‪ .‬وزينب خادمة‬
‫صبية ‪٥‬با حملة ‪ٝ‬باؿ و‪٥‬با دالؿ‪ ،‬ألاها ربيت ُب ىذا البيت من صغرىا‪،‬‬
‫فشملها حناف الست وعطفها وصارت يدىا ورجلها ‪ ..‬فحصتِب الصبية‬
‫من رأسي إذل قدمي بنظرات جريئة ٍب سألتِب‪" :‬ىل أنت بربري "‬

‫فقلت‪" :‬ال ي ست ‪ ..‬أان مولد أمي سودانية وأبوى فبلح"‬


‫‪..‬‬

‫فقالت‪" :‬طيب ي مربوؾ ‪ ..‬اذبدعن وامسح اغبوش كويس‬


‫علشاف البيو ينبسط منك ؼبا يرجع من الديواف"‪.‬‬

‫فقلت‪" :‬حاضر ي ست زينب"‪.‬‬

‫وتناولت ا‪٤‬بكنسة‪ ،‬كنست هبا ا‪٢‬بوش ٍب غسلت الببلط ثبلث‬


‫مرات والرؤوس تطل على من النوافذ‪ .‬واسَبحت قليبلً ٍب غسلت الردىة‬
‫ا‪٣‬بارجية و‪ٙ‬بولت إذل غرفٍب فعنيت بنظامها‪ٍ ،‬ب انتعلت نعلي ولبست‬
‫ثويب وجلست اسَبيح خلف الباب وعاد البيو الكبّب من الديواف و‪٠‬بع‬
‫من الست عبارات الثناء على ا‪٣‬بادـ ا‪١‬بديد‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫كاف الرجل رب أسرة كبّبة غِب ابلصغار فأعتاد مبلزمة بيتو‬
‫عقب عودتو من العمل إذل صباح النهار الثاشل فصادفِب ُب طريقو وىو‬
‫خارج فقاؿ‪" :‬الست مبسوطة من شغلك ‪ ..‬فخليك نشيط على‬
‫طوؿ"‪.‬‬

‫فقلت أ‪ٛ‬بلقو‪" :‬بنفػسك ي بيو أخلي الست راضية عِب" ‪..‬‬

‫أرسلت للسوؽ لشراء اللحم وا‪٣‬بضار وبطيخة فلم أتغيب ُب‬


‫السوؽ وعدت بسرعة‪ ،‬وكررت الست عملية وزف اللحم فاطمأنت أنو‬
‫زاد عن الوزف ا‪٤‬بطلوب قليبلً‪ ،‬وأعجبت اب‪٣‬بضار ألنو طاظة وابلبطيخة‬
‫ألاها كبّبة و‪ٞ‬براء وكثّبة ا‪٢‬ببلوة ورخيصة ‪ ..‬وأطلت الست ىازل من‬
‫النافذة‪ ،‬فرأت الفناء الداخلي يغسل وٲبسح بعناية فأرسلت طعاـ الفطور‬
‫وزادت عليو قدحاً من الشاي‪.‬‬

‫داـ ا‪٢‬باؿ على ىذه الصورة شهوراً‪ ،‬نشاط ُب أتدية العمل‬


‫ا‪٤‬بطلوب مِب وأمانة ُب كل ما أشَبيو من السوؽ مع الزايدة ُب وزف‬
‫اللحم والسمك والفاكهة‪ ،‬عناية ابلصغار بعد عودهتم من ا‪٤‬بدرسة فنالِب‬
‫الرضا عِب من ‪ٝ‬بيع أفراد البيت‪ ،‬وٖباصة ألنِب أتوضأ عند البئر ألؤدي‬
‫الصبلة ُب غرفٍب‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫وكنت أشَبي الصابوف والزىرة وأغسل ثيايب بنفسي‪ ،‬وأنشرىا‬
‫على ا‪٢‬ببل ُب الغرفة وأحافظ على نظافة بدشل وثويب‪ ،‬فزاد ىذا ُب‬
‫اطمئناف ربة البيت وصارت ترسل إذل صغّبىا ا‪٤‬بفطوـ حديثاً ألداعبو‬
‫وأمنعو من الصراخ فجعلتو لعبة أتسلى هبا ُب الوحدة‪ .‬وُب كثّب من‬
‫الليارل كانت زينب أتٌب بو ألاهم عجزوا عن إسكاتو فأ‪ٞ‬بلو وأدور بو ُب‬
‫الغرفة‪ ،‬بينما ترقد ا‪٣‬بادـ الظريفة على فراشي مستسلمة للنعاس‪.‬‬

‫اكتسبت ثقة ا‪١‬بميع بسلوكي ا‪٤‬برضي عنو وابلوداعة وا‪٢‬بلم‬


‫واألمانة‪ ،‬وبلغ العطف على إذل ا‪٢‬بد الذي سوغ للست ىازل التفكّب ُب‬
‫تزوٯبي من زينب لتضمن بقائي معها ُب خدمة األسرة‪ .‬ودل تتهيب‬
‫مكاشفٍب برغبتها‪ ،‬قالت إف زينب تربت ُب البيت من الصغر‪ ،‬وأاها‬
‫مؤدبة وعاقلة وأمينة‪ ،‬فهي بنت البيت الٍب ال ٲبكن التفريط فيها وال‬
‫االستغناء عنها‪ .‬وقالت أيضاً‪" :‬وأنت رجل عاقل ومتدين ومؤدب‬
‫وأمْب‪ ،‬وتصلح زوجاً لزينب‪ ،‬فإذا قبلت الزواج منها فمن السهل‬
‫إقناع البيو الكبّب وإسباـ األمر‪ ،‬فتعيش ُب البيت كأنك من أىلو"‪.‬‬

‫وقلت‪" :‬إف رضا اؽباًل يشرفِب‪ ،‬وإف زينب تكوف أحسن‬


‫زوجة‪ ،‬ولكنِب مل أفكر ُب الزواج ألنِب خادـ وفقّب ومرتيب قليل ال‬
‫يكفي لئلنفاؽ على زوجة"‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫ودفعت ا‪٥‬بازل أبننا ال ‪٫‬بتاج إذل نفقات معيشة ألننا نعيش ُب‬
‫البيت كسائر أفراد األسرة‪ ،‬وألف مرتيب جنيو‪ ،‬ومرتب زينب يساوي‬
‫أجري فيكفينا ىذا ا‪٤‬ببلغ لقضاء ما نشتهيو خاصة‪ .‬فقلت‪" :‬ولكنِب ال‬
‫أستطيع الزواج إال بعد موافقة والدٌب‪ ،‬وسأحاوؿ إقناعها حٌب ال‬
‫تغضب"‪.‬‬

‫فاقتنعت ا‪٥‬بازل هبذا االعَباض وسألتِب عن والدٌب أين مقرىا‬


‫وعرفت مِب أنو ُب مدينة طنطا‪.‬‬

‫كانت زينب ‪٨‬بتبئة وراء انفذة تسمع ا‪٢‬بديث راضية مبتهجة‪،‬‬


‫فاعتربتِب من ذلك الوقت خطيبها فبدلت سلوكها معي واندفعت‬
‫‪٤‬بعاونٍب ُب عملي‪ .‬فإذا ذىبت لشراء حاجات البيت من السوؽ أجدىا‬
‫غسلت فناء البيت بدال مِب‪ .‬وإذا رأت على ا‪٢‬ببل ثياابً أعدت للغسيل‬
‫تغسلها قبل طلوع النهار فأراىا منشورة نظيفة‪ .‬وُب كل مرة ‪ٙ‬بمل إذل‬
‫الطعاـ أرى فيو زايدة واضحة‪ ،‬فقطعة اللحم صارت قطعتْب‪ ،‬وزادت‬
‫كمية الفاكهة وكذلك ا‪٤‬بقدار ا‪٤‬بعْب من ا‪٣‬ببز ‪..‬‬

‫وكنت من حْب آلخر أشَبي ‪٥‬با منديبلً للرأس‪ ،‬أو شراابً‬


‫رخيصاً‪ ،‬أو شيئاً من ا‪٢‬بلوى أىديو ‪٥‬با فتسر وتفرح ويظهر االرتياح ُب‬
‫نظرهتا وا‪٢‬بناف ُب ابتسامتها‪ .‬دل أعد غريباً عنها ُب نظرىا فجعلت تظهر‬

‫‪253‬‬
‫العطف على ُب وضوح تريد أف تؤثر ُب نفسي أتثّباً ٰبملِب على التعجل‬
‫إل‪ٛ‬باـ عقد الزواج‪.‬‬

‫ليس من حق أي إنساف أف يعيب عليها ىذه الرغبة‪ ،‬ألهنا‬


‫صبية بلغت العشرين من عمرىا‪ ،‬وىي فبتلئة صحة وعافية وألف‬
‫الغريزة قوة طبيعية ُب الشباب ربفزه لطلب االقَباف‪ ،‬يستوي ُب‬
‫األمر الذكر واألنثى ‪ .‬ومل ذبد أمامها رجبلً غّبي ألهنا نشأت ُب ىذا‬
‫البيت الشريف معزولة عن اػبارج وعن صبيع الرجاؿ‪ ،‬فبل سبيل‬
‫للتنفيس عن عاطفتها إال ابلزواج‪ ،‬وقد اختاروا ؽبا الزوج فبل غرابة‬
‫إذف إذا نظرت إليو على ىذا االعتبار‪ ،‬وإذا فعلت ما وبفزه إىل‬
‫اإلسراع ابلتعاقد الشرعي ليت االقَباف الفعلي‪.‬‬

‫كنت أشفق على الفتاة ألنِب على يقْب من األمر أنو لن يتم‬
‫وأف اسَبسا‪٥‬با ُب األمل ستعقبو حسرة وأدل حْب أىرب منها ومن البيت‪،‬‬
‫ألنِب دل أخدـ ىناؾ بقصد الزواج واإلشفاؽ على عاطفة متنبهة تبث‬
‫للتنفيس عن الغريزة ا‪٤‬بكبوتة‪ ،‬فصار من الضروري وقف ىذا التعذيب‬
‫اب‪٣‬بروج من البيت‪.‬‬

‫قلت للست ىازل يوماً‪" :‬أريد الذىاب إىل طنطا لرؤية والدٌب‬
‫وأرجو اإلذف يل ابلسفر"‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫وقالت‪" :‬ىل تريد أف تناؿ رضاىا ُب موضوع زواجك‬
‫بزينب "‬

‫قلت‪" :‬نع ‪ ..‬إبذف هللا ‪ ..‬فأرجو اإلذف يل ابلتغيب ‪15‬‬


‫يوماً"‪.‬‬

‫فظهر عليها االرتباؾ وقالت‪" :‬ولكن البيت ال يستغِب عن‬


‫خدمتك مثل ىذه اؼبدة"‪.‬‬

‫وىكذا كاف رأي رئيس النيابة‪ ،‬ولكنِب أصررت على رأيي وزدت‬
‫عليو أنِب طلبت شهادة من ا‪٤‬بخدوـ ‪ ..‬فانتهي األمر بقبوؿ رغبٍب‪،‬‬
‫وكتب رل الرئيس الشهادة وعدد فيها صفاٌب من حسن ا‪٣‬بلق والنشاط‬
‫واألمانة‪ .‬وأحضر ا‪٤‬بخدـ ا‪٣‬بادـ ا‪١‬بديد وقضيت معو ثبلثة أايـ أرشده‬
‫إذل ما ٯبب عملو‪ٍ ،‬ب استأذنت للسفر‪ ،‬فشددت ا‪٥‬بازل التوصية حٌب ال‬
‫أزيد ُب الغياب عن األسبوعْب‪.‬‬

‫أما زينب فناولتِب ما أعدتو رل من الطعاـ ودموعها ٘بري على‬


‫خديها ُب ىدوء وكاد قليب ينفطر ‪٥‬بذا التأدل الصامت بتأثّب ا‪٢‬بياء‪،‬‬
‫فشجعتها على الصرب وودعتها وانصرفت ُب أسف وأتدل ألف ‪ٝ‬بيع أىل‬
‫البيت الشريف غمروشل ابلعطف الربيء جزاء ارتياحهم ‪٣‬بدمٍب‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫قلت إنِب خدمت ُب بيت رئيس النيابة ألداعبو فيجب أف‬
‫أسبق الزمن (ىنا) وأثب أعواماً ألظهر نوع ىذه الدعابة وأتثّبىا ُب‬
‫الرجل‪ .‬أسلمت نفسي للقضاء ُب ‪ 1913‬لتصفية ا‪٢‬بساب بيِب وبْب‬
‫ا‪٢‬بكومة ألسباب ىامة طرأت على وبدلت إصراري األوؿ بغّبه‪،‬‬
‫والعقوابت الصادرة أبحكاـ غيابية من ‪٧‬باكم ا‪١‬بناايت تسقط ٗبجرد‬
‫القبض على احملكوـ عليو‪ ،‬فأعيدت اإلجراءات من جديد وقدمت‬
‫حملكمة ا‪١‬بناايت ُب إحدى القضااي‪ ،‬وجلس رئيس النيابة ُب كرسي‬
‫االهتاـ‪.‬‬

‫و‪٤‬با جاء دوره ‪ٞ‬بل على ‪ٞ‬بلة قاسية‪ ،‬ومن أقوالو‪" :‬إنِب ؾبرـ‬
‫ابلطبيعة‪ ،‬فاسد األخبلؽ‪ ،‬وخطر على األمن العاـ وعلى اؽبيئة‬
‫االجتماعية"‪.‬‬

‫وسالت ُب ىدوء ا‪٤‬برحوـ توفيق رفعت ابشا رئيس ا‪١‬بلسة قلت‬


‫لو‪" :‬من الذي يصفو حضرة رئيس النيابة ىذا الوصف "‬

‫قاؿ‪" :‬طبعاً أنت"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬ىل ؽبذا الرئيس رأيف أحدنبا شفوي يعلن أماـ‬


‫احملكمة‪ ،‬واآلخر كتايب ينكره بعد اعَبافو فيو "‬

‫قاؿ‪" :‬مل أدرؾ قصدؾ فبا تذكر!" ‪..‬‬

‫‪256‬‬
‫فأخرجت من حذائي ورقة أعطيتها للحاجب فسلمها لرئيس‬
‫احملكمة‪ ،‬فتناو‪٥‬با وقرأىا ُب دىشة‪ٍ ،‬ب نظر إذل نظرة استفهاـ ‪ ..‬قلت‪:‬‬
‫"ىل يعَبؼ حضرة رئيس النيابة سأف ىذه الورثة خبطة وبتوقيعو "‬

‫ووصلت الورقة إذل يد الرجل فقراىا ٍب قاؿ‪" :‬نع ىذه الورقة‬


‫خبطي‪ ،‬ولكِب أعطيتها ػبادـ كاف ُب بيٍب اظبو مربوؾ"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬أان ي سيدي خادمك مربوؾ"‪.‬‬

‫تنبو ‪ٝ‬بيع ا‪٢‬باضرين ‪٥‬بذه ا‪٤‬بفاجأة‪ ،‬وسألِب ا‪٤‬برحوـ ‪٧‬بمود أبو‬


‫النصر احملامي عن عبلقة ىذه الورقة ابلقضية‪ ،‬وكذلك رئيس احملكمة‪،‬‬
‫فقلت‪" :‬علي أف أثبت أنِب مربوؾ الذي حرر لو حضرة رئيس النيابة‬
‫ىذه الشهادة‪ ،‬فيثبت أف ما وصفِب بو ُب شهادتو الكتابية ىبالف كل‬
‫اؼبخالفة ما ذكره اآلف للمحكمة عن أخبلقي وخطري على اجملتمع"‪.‬‬

‫وقاؿ رئيس النيابة‪" :‬كاف مربوؾ أظبر اللوف من أـ زقبية ووالد‬


‫ريفي فمن اؼبستحيل أف نصدؽ أنك أنت مربوؾ"‪.‬‬

‫قلت للمحكمة‪" :‬ىل ينكر حضرة رئيس النيابة أنو عرض‬


‫على االقَباف بفتاة من بيتو "‬

‫‪257‬‬
‫فاستولت الدىشة على ا‪١‬بميع‪ ،‬وظن رئيس احملكمة أنِب أريد‬
‫النيل من رئيس النيابة‪ ،‬فقاؿ ٕبدة‪" :‬ما ىي العبلقة بْب ما تذكر‬
‫وموضوع ىذه القضية "‬

‫قلت‪" :‬إف رئيس النيابة يطعن ُب أخبلقي‪ ،‬ومن حقي ىدـ‬


‫صبيع ما تذكره النيابة ُب االهتاـ‪ ،‬وىذه الشهادة هتدـ ما ذكره عن‬
‫أخبلقي‪ ،‬فمن حقي أف أثبت أف ىذه الشهادة كتبت يل ابلذات وأان‬
‫متنكر ابس مربوؾ وأخدـ ُب بيتو"‪.‬‬

‫قالت احملكمة‪" :‬ورينا إزاي إنك مربوؾ!"‬

‫فقصصت على ا‪١‬بميع نوع حياٌب ُب بيت رئيس النيابة‪،‬‬


‫واطمئناف ا‪١‬بميع ألمانٍب وأخبلقي حٌب بلغ االرتياح إذل رغبة ُب‬
‫استبقائي ُب البيت إب‪ٛ‬باـ اقَباشل بربيبتهم (زينب)‪.‬‬

‫وسألت احملكمة رئيس النيابة‪" :‬ىل ىذا صحيح "‬

‫قاؿ‪" :‬نع "‪.‬‬

‫قلت‪" :‬ال يستطيع أي إنساف غّب مربوؾ أف يذكر ما ذكرت‬


‫عما حدث داخل ىذا البيت‪ ،‬وىذا يثبت أنِب خدعت حضرة رئيس‬
‫النيابة ألختبئ ُب بيتو أكثر من ستة شهور‪ ،‬وألقنعة عمليا بنوع‬

‫‪258‬‬
‫أخبلقي وصفاٌب فبل يلجأ إىل اػبياؿ لوصفي أماـ احملكمة دبثل ما‬
‫ذكره اليوـ"‪.‬‬

‫وحدثت ضحية عالية من ا‪٢‬باضرين‪ ،‬ورفعت ا‪١‬بلسة لبلسَباحة‬


‫ليتمكن رئيس النيابة من إسكات غضبو وهتدئو نفسو ‪ ..‬فلما أعيدت‬
‫ا‪١‬بلسة دل يظهر رئيس النيابة وحل مكانو غّبه‪ ،‬تعمدت حضور ىذه‬
‫احملاكمة وعرضت نفسي ‪٢‬بكم حضوري جملرد الرغبة ُب مداعبة ذلك‬
‫الرجل‪ ،‬فلما ًب ما أردت دل أعد إذل السجن وىربت‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫‪11‬‬
‫انقلبت العبلقة بيِب وبْب فرنسْب إذل صداقة متينة بل إذل أخوة‬
‫وزالت ‪ٝ‬بيع ا‪٢‬بواجز الٍب تفصل إنساانً عن آخر‪ ،‬وكنت ُب حاجة إذل‬
‫ا‪٤‬باؿ للمضاربة فلم تَبدد ُب تعويض كل ما ادخرت‪ ،‬ووثبت ‪٥‬بذه اجملازفة‬
‫راضية مطمئنة ُب غّب مباالة ابلنتائج وقبلت أف تكوف العملية اب‪٠‬بها‪،‬‬
‫وأف يكوف رل نصف الربح إذا ‪٪‬بحنا‪ .‬وشاء ا‪٢‬بظ ا‪٢‬بسن أف ننجح‬
‫ففرحت وصفت ٘بارهتا األوذل وقصرت عملها على ا‪٤‬بضاربة وتسليف‬
‫النقود‪ ،‬وكاف نصييب من الربح كبّباً ُب العاـ األوؿ فاستطعت بقوة ا‪٤‬باؿ‬
‫تنفيذ ‪ٝ‬بيع رغباٌب‪.‬‬

‫ُب صدري غلٌّ من ا‪٥‬بيئة االجتماعية بسبب ‪ٞ‬ببلت الصحف‬


‫على اعتباطاً لتلويث ا‪٠‬بي واعتقاد الناس صحة ما ينشر بدوف وزنو‪.‬‬
‫و‪١‬بوء ا‪١‬بميع إذل التندر هبذا االسم مع اإلسراؼ ُب ‪ٚ‬بيػُّػل حكاايت‬
‫ونوادر ينسبواها إذل كما كانوا يفعلوف ٔبحا‪ ،‬فدفعِب ىذا الغل إذل التنكر‬
‫للرأي العاـ وللهيئة االجتماعية‪ٍ ،‬ب استخففت ابلقوانْب واألخبلؽ‬
‫‪260‬‬
‫والعادات والتقاليد وتعمدت أف أعيش ُب حرية مطلقة بدوف تقيػ ػُّد بنظم‬
‫االجتماع عن نفسي‪.‬‬

‫عرؼ رجاؿ البوليس أنِب كنت متنكراً بزي ابئع حلوى وأقيم ُب‬
‫حي بلدي‪ ،‬وكانت عقيدهتم أاهم بعد االستيبلء على ‪ٝ‬بيع ما كنت‬
‫أملك‪ٙ ،‬بولت إذل مفلس فبل يكوف ُب مقدوري سوى ا‪٤‬بعيشة ُب جو‬
‫ا‪٤‬بفلسْب‪ ،‬فا٘بو البحث عِب ُب تلك النواحي بواسطة رجاؿ البوليس‬
‫السري العادي‪.‬‬

‫أما أان فاخَبت مسكِب ُب فندؽ جزيرة ابالس أوتيل ابسم‬


‫ا‪٤‬بسيو بنفيو وصناعٍب التجارة والوساطة بْب مصانع أوراب‪ ،‬ومكتب‬
‫قومسيوف مداـ فرنسْب‪ ،‬واخَبت مسكناً اثنياً ُب فندؽ سافوي ابسم‬
‫الباروف دي ماسوف‪ .‬وىو رجل ثري يهوى البحث عن اآلاثر ويضطره‬
‫العمل للغياب أايماً كثّبة وللحضور بدوف نظاـ معْب‪.‬‬

‫وحضرت مسكناً اثلثاً ‪٣‬بليل صديقي بشارع درب ا‪١‬بماميز‬


‫على مقربة من شارع دمحم علي‪ ،‬وجعلت فيو ملجأ رل لبلحتياط من‬
‫الظروؼ ا‪٢‬برجة إذا طرأت مفاجأة‪ ،‬واخَبت للخدمة ُب ىذا البيت‬
‫ز‪٪‬بية صماء لتعجز عن ‪٠‬باع أحاديثنا فبل ٘بد ما تتحدث بو عنا‪.‬‬
‫نظمت وسائل التنكر والوقاية على ىذه الصورة وانطلقت ُب مغامراٌب‬

‫‪261‬‬
‫بدوف مباالة ٔبميع أىل األرض‪ ،‬وُب عزمي أف أترؾ كل شخصية رل إذا‬
‫تعرضت للشك فيها‪ ،‬كما تركت شخصية عم دؤدؤ بدوف أسف عليها‪.‬‬

‫كنت ُب مساء أحد األايـ ُب مينا ىاوس ومعي خليل حداد‬


‫ُب جلسة ىادئة نشرب ‪ٟ‬براً‪ ،‬فرأيت سيدة شابة حسناء فتانة مع ثبلثة‬
‫من زمبلئها‪ ،‬امرأتْب ورجل‪ ،‬فلفت ‪ٝ‬با‪٥‬با نظري ونشط رغبٍب كما لفت‬
‫أنظار ‪ٝ‬بيع العيوف ا‪٤‬ببصرة‪ ،‬وكل حسن يلفت النظر‪ ،‬ولكن قوة ا‪١‬باذبية‬
‫تلهب العاطفة و٘بذب الفؤاد وتزلزؿ األعصاب‪ ،‬وىكذا فعلت يب تلك‬
‫ا‪٢‬بسناء بتأثّب ‪ٝ‬با‪٥‬با النادر وٗبا توفر ‪٥‬با من فتنة وقوة ا‪١‬باذبية ‪..‬‬

‫بلغت يب قوة االشتهاء حدا دل أعرفو من قبل ظننت أف رأسي‬


‫يدور وأف قليب ينخلع من الصدر ليطّب إليها قلت ‪٣‬بليل‪" :‬سأفقد عقلي‬
‫إذا مل أنل ىذه اغبسناء"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬لقد فقدت عقلك مرات فل يبق لك ما تفقده"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬ربقق من ؿباسن ىذه اؼبرأة لتدرؾ أف ؽبا ميزات مل‬


‫تتوفر لغّبىا"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬كل حسناء تلهب العاطفة يظن اإلنساف أهنا أصبل‬


‫نساء العامل‪ ،‬فليست العْب ميزاانً صادقاً ألنواع اعبماؿ ألف قوة‬
‫الشوؽ تطفف الوزف"‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫قلت‪" :‬لقد توالٍل الولع سواء أكاف الباعث عليو صادقاً أو‬
‫خادعاً‪ ،‬فليس لصدؽ التقدير أنبية إمبا ىي لنوع اؼبؤثر وقوة التأثّب‬
‫وفعلهما ُب العاطفة‪ ،‬فليس يهمِب شيء سوى الشعور ابلواقع‬
‫ونتيجتو ُب نفسي"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬أنت شهواٍل‪ ،‬تندفع بتأثّب االشتهاء إىل كل ما تظنو‬


‫يرضى الرغبة اعباؿبة‪ ،‬فأنت كالورقة اعبافة تطوحها الريػح فتلقيها اترة‬
‫ُب حػديقة وتػارة ُب الوحل"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬اؽبناء ىو إمتاع النفس دبا تشتهي‪ .‬وىذا اؽبناء ال‬


‫يوصف بعقل الغّب‪ ،‬إمبا بشعور اإلنساف وحده وابرتياح النفس ؼبا‬
‫تشتهيو وربصل عليو"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬ستبدد حياتك ُب االندفاع بقوة االشتهاء اؼبتجدد‪،‬‬


‫فكل حسن يبعثك على التمِب‪ ،‬وكل حسناء تنشط الرغبة فيها‬
‫فتكوف اغبماقة واعبنوف"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬إف حياٌب مبددة بسبب صبيع ظروفها‪ ،‬فليس يل ما‬


‫أحرص عليو أو أحاوؿ ضبايتو الستبقائو‪ ،‬فمحاولة إمتاع النفس سأس‬
‫ىناء وقٍب ربح أنع بو بدالً من اػبسارة اؼبستمرة"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬ىذه فلسفة سفساط"‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫قلت‪" :‬اؼبناقشة مضيعة للوقت‪ ،‬وأفضل منها ؿباولة االىتداء‬
‫إىل عنواف ىذه الفتانة‪ ،‬والوسيلة سهلة‪ ،‬نقتفي أثرىا إىل أف تستقر‬
‫لتناـ" ‪..‬‬

‫وىكذا فعلنا ‪ ..‬فتنقلت ٍب استقرت ُب جزيرة ابالس أوتيل‬


‫حيث نزلت فصار من السهل ‪ٙ‬بقيق التعارؼ ألف السائحْب‬
‫والسائحات ٘بمع بينهم زايرة اآلاثر ومعادل القاىرة‪ ،‬وموائد الطعاـ‪،‬‬
‫والسهرات العامة أو ا‪٣‬باصة‪.‬‬

‫كنت من نزالء سافوى أوتيل ابسم الباروف دى ماسوف‪،‬‬


‫فعرفتِب هبذا االسم ُب دار اآلاثر عند زايرهتا‪ ،‬توليت قيادة ا‪١‬بماعة‬
‫ىناؾ‪ ،‬وجعلت أشرح ‪٥‬بم اتريخ الفراعنة عند كل مناسبة فأصغت إذل‬
‫ابنتباه وجعلت توجو إذل األسئلة الستكماؿ الشرح‪ .‬واجتمعنا للعشاء ُب‬
‫الكونتينتاؿ وكاف موضوع السمر ا‪٢‬بديث عن مصر‪ ،‬عن ماضيها‬
‫و‪٦‬بدىا القدصل وأسباب أتخرىا‪ .‬فلحظت الفرؽ الكبّب بْب معرفٍب وبْب‬
‫ما يتحدث بو غّبي عن جهل أو عن معرفة سطحية حصل عليها من‬
‫مطالعة ما كتبو عابرو الببلد‪.‬‬

‫وأعلنت عن ابتهاجها ٗبسامرٌب وعن رغباٌب ُب زايرة اآلاثر ُب‬


‫صحبٍب‪ ،‬وأظهرت استعدادي ‪٣‬بدمتها ُب ارتياح ومسرة‪ ،‬وحددان موعداً‬
‫لزايرة األىراـ‪ ،‬راجعت التاريخ قبل البدء هبذه الزايرة‪ ،‬ورتبت األمور‬
‫‪264‬‬
‫بنظاـ ٯبعلنا ضمن عدد قليل من السائحْب والسائحات لكي ال تبعدىا‬
‫الظروؼ عن مبلزمٍب‪ ،‬فزران األىراـ وُب غرفة ا‪٤‬بلك ‪٠‬بعت مِب اتريخ‬
‫خوفو ابشل ا‪٥‬برـ األكرب‪ ،‬وكل ما نسب إليو من ا‪٤‬بظادل ُب عملية نقل‬
‫األحجار وعملية البناء‪.‬‬

‫وأغريتها ابمتطاء بعّب لزايرة بقية ا‪٤‬بنطقة‪ ،‬وأخذت ‪٥‬با صوراً شٌب‬
‫ُب أوضاع ‪٨‬بتلفة‪ ،‬جعلتها تدرؾ نشاطي ُب خدمتها بتصرفات تدؿ على‬
‫التأدب وعلى االحَباـ‪ ،‬فصارحتِب و‪٫‬بن نتناوؿ طعاـ الغذاء أباها ‪٠‬بعت‬
‫مِب ‪٧‬باضرة ُب التاريخ ُب جوؼ القرب أبسلوب أعجبت بو و‪ٞ‬بلها على‬
‫اإلكبار‪ ،‬وقالت إاها لن تتمم سياحتها ُب مصر إال إذا كنت معها طوؿ‬
‫الرحلة‪ ،‬لتعتمد على ُب شرح التاريخ على اآلاثر بدال من االعتماد على‬
‫ا‪٤‬بَب‪ٝ‬بْب من ا‪١‬بهلة‪.‬‬

‫ًب التعارؼ بيننا على أساس سليم ٰبمل الفريقْب على تبادؿ‬
‫االحَباـ وا‪٤‬بودة ا‪٥‬بادئة‪ ،‬و‪ٙ‬بولت من كربايء ا‪٢‬بسناء الفتانة إذل أخبلؽ‬
‫صديقة تراتح ألخبلؽ صديق دؿ على اإلخبلص ُب ‪ٝ‬بيع تصرفاتو‪،‬‬
‫ودؿ على حسن النية والرباءة من كل رغبة ابالبتعاد عن كل حديث‬
‫عاطفي وابختيار ا‪٤‬بعاشل واأللفاظ الواضحة‪ .‬وزران ا‪٤‬بساجد التارٱبية‬
‫فشرحت ‪٥‬با اتريخ صاحب كل مسجد‪ .‬وشرحت طويبلً حوادث التاريخ‬

‫‪265‬‬
‫الٍب سبقت مقتل ا‪٢‬بسْب بن اإلماـ علي‪ ،‬ومناشئ ا‪٣‬ببلؼ وا‪٢‬بروب‬
‫الٍب قامت بْب ا‪٣‬بليفة الرابع ومعاوية ٍب انتهيت إذل مأساة ا‪٢‬بسْب‪.‬‬

‫دل تكن ا‪٤‬برأة ُب ذلك الزمن ُب مثل تربج ا‪٤‬برأة العصرية‬


‫واستهتارىا‪ ،‬كانت صورهتا بدوف مساحيق وال ألواف تتألق ُب ثياهبا إ٭با‬
‫ُب مظاىر تدؿ على االحتشاـ‪ .‬وكانت أحاديثها متزنة ُب حدود األدب‬
‫الكامل والوقار‪ ،‬تنبو أذاها عن ا‪٥‬بنات والسخف‪ ،‬وتوجو ا‪٢‬بديث على‬
‫الدواـ إذل النواحي األدبية أو االجتماعية أو السياسية‪ ،‬وال ‪ٚ‬بلوا ‪٦‬بالس‬
‫السمر بعد العشاء من الفكاىات‪ ،‬ولكنها تكوف على الدواـ من النوع‬
‫الراقي ا‪٤‬بختار بعناية‪ .‬وامتازت تلك ا‪٢‬بسناء على غّبىا بصفات كثّبة‪.‬‬

‫كانت أرملة شابة تدعى الكونتس سيجريس‪ ،‬ترملت ودل‬


‫تتجاوز ا‪٣‬بامسة والعشرين من عمرىا‪ .‬ولدت ُب أسبانيا ونشأت فيها‪،‬‬
‫فلما صارت ُب سن الصبا حسنها ونضج ‪ٝ‬با‪٥‬با وبلغ حد اإلهبار‪،‬‬
‫فاقَبف هبا الكونت سيجريس من رجاؿ السلك الفرنسي‪ ،‬وكاف من‬
‫سبللة عائلة فرنسية نبيلة ورث ثروة ضخمة خلف شطراً كبّباً منها‬
‫لزوجتو بعد وفاتو‪.‬‬

‫عاشت الكونتيس الفتانة ُب ابريز ثبلثة أعواـ ُب قصر زوجها‬


‫فطارت شهرة حسنها على ألسنة الذين عرفوىا‪ ،‬وا‪٢‬بسن الباىر وقوة‬
‫ا‪١‬باذبية ٘بذب األنظار والرغبات إذل ا‪٤‬برأة فصارت أمنية عشاؽ احملاسن‪،‬‬
‫‪266‬‬
‫ولكن ا‪٤‬بطامع وقفت عند حد االشتهاء والتمِب‪ ،‬ألف أخبلؽ تلك‬
‫الصبية اإلسبانية وآداهبا وطهارهتا حصنتها من الشهوات ومن شراؾ‬
‫الذائب‪ .‬وزاد عدد الطامعْب هبا بعد وفاة الكونت زوجها‪.‬‬

‫ظنوا أاها لن تقوى على ا‪٢‬بياة ا‪٤‬بنفردة‪ ،‬وأف الشباب وا‪١‬بماؿ‬


‫والثروة ستكوف من األسباب الٍب تدفعها للتمتع اب‪٢‬برية واستكماؿ ما‬
‫ينقص ا‪٤‬برأة بتأثّب الغريزة‪ ،‬فحامت حو‪٥‬با األماشل والرغبات والشهوات‬
‫واحملاوالت فاستخفت بكل وسائل اإلغراء‪ ،‬واحتفظت ٕبصانتها موفورة‬
‫وبكرامتها سليمة وبسمعتها بريئة دل تنل منها الظنوف وال األلسن الثراثرة‪.‬‬
‫ولكن صيادي النساء تدفعهم قوة االشتهاء إذل الدأب ُب ا‪٤‬بطاردة و‪ٙ‬بْب‬
‫الفرص لبلنتهاز‪ ،‬فلما عقدت العزـ على قضاء الشتاء ُب سياحة ُب‬
‫مصر خف وراءىا بعض ىؤالء الطامعْب من ذوى األلقاب الضخمة‪.‬‬

‫كنت أرى بعضهم يقتفوف أثرىا ُب كل مكاف تقصد إليو‪،‬‬


‫يتوددوف كمعارؼ ويعرضوف خدماهتم كأصدقاء وٰباولوف نبل رضاىا‬
‫ٔبميع الوسائل‪ .‬عجبوا أشد العجب الرتياحها لزمالة الباروف دى‬
‫ماسوف‪ ،‬وىو عجوز ُحرـ من ضخامة االسم والشهرة ومن الشباب ومن‬
‫الثروة الكبّبة‪ ،‬شخصية تكاد تكوف نكرة أو عادية ليست ‪٥‬با ‪٩‬بيزات‬
‫تغري الصبية ا‪٢‬بسناء ابال‪٫‬بدار إليها‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫وفات ىؤالء أف الكونتس كانت تعرؼ نواايىم وأغراضهم‬
‫ومطامعهم فعقدت عزمها على التحصن منهم ال على االطمئناف ‪٥‬بم‪،‬‬
‫ووضعت الصدفة ُب طريقها الباروف دى ماسوف وقد وصل إذل الكهولة‬
‫فحصنتو من نزؽ الشباب و‪ٝ‬بوح الشوؽ وتنبو العاطفة الواثبة‪ .‬و‪٢‬بظت‬
‫عليو التأدب واالتزاف والوداعة والتواضع مع امتيازه عن غّبه اب‪٤‬بعرفة‬
‫والكياسة‪ ،‬فاطمأنت لو ُب ‪٦‬بلسو ُب مصاحبتو ُب زايرة آاثر مصر ومعادل‬
‫مدينة القاىرة‪.‬‬

‫دل تزف ذلك الكهل ٗبيزاف الناحية ا‪١‬بنسية‪ ،‬فلم يعد يهمها‬
‫الشباب وال اللقب وال الثروة إ٭با قدرتو ابلصفات واألخبلؽ واألسباب‬
‫الٍب تكوف تعارفاً بريئاً وصداقةً ال عبلقة عاطفية أو غراماً‪ .‬واطمئناف ا‪٤‬برأة‬
‫للصداقة الربيئة يدفعها إذل الثقة ابلصديق وإذل االرتياح جمللسو‪ ،‬وعلى‬
‫التوقاف إليو ُب غيابو‪ ،‬وإذل تفضيلو على غّبه ُب حاالت كثّبة‪ ،‬وىذه‬
‫ا‪٤‬بؤثرات الٍب تلوح انشئة بباعث ا‪٤‬بودة قوى خفية تقلل من ‪ٙ‬بفظ ا‪٤‬برأة‬
‫وتزيد ُب متانة الرابطة الٍب تربطها ابلصديق‪.‬‬

‫قلت إف الكونتس إسبانية بنشأهتا وتعليمها‪ ،‬رأت احملبْب ُب‬


‫ببلدىا يدوروف ُب الشوارع يناجوف ا‪٣‬بياؿ ابلغناء أبصوات مرتفعة‪ ،‬ورأت‬
‫العاشق يقف ُب جوؼ الليل قريباً من شرفة احملبوبة يلحن أ‪٢‬باف الغراـ‬
‫على آلة وترية ينادى ىواه ىواىا وتناجى عاطفتو عاطفتها‪ .‬ورأت‬

‫‪268‬‬
‫األبطاؿ من الشباب يصارعوف الثّباف‪ ،‬يغامروف اب‪٢‬بياة للتغلب على‬
‫الثور ابتغاء ا‪٢‬بصوؿ على إعجاب ا‪٤‬بشاىدين وعلى تصفيفة من يد‬
‫انعمة ‪٦‬بهولة من ا‪٣‬بلق مغمورة بْب اآلالؼ من أمثا‪٥‬با‪.‬‬

‫فاإلسبانية ‪ٙ‬بب ا‪٤‬بوسيقى والغناء والبطولة وتعجب اب‪٤‬بغامرات‬


‫وا‪٤‬بغامر ا‪١‬بريء‪ ،‬وتطالع القصص ا‪٣‬بيالية الٍب تكتب عن ىذا النوع‪،‬‬
‫فهي من طراز غريب على الرجاؿ ُب ابريز ألنو ٱبالف ما ألفوه من‬
‫عقلية ا‪٤‬برأة الفرنسية وعادهتا‪ ،‬و‪٥‬بذا السبب دل يفلح فرنسي ُب التأثّب ُب‬
‫عاطفة ا‪٢‬بسناء الشاذة‪.‬‬

‫واؼبرأة على الدواـ وُب كل زماف ومكاف ؽبا عاطفة األنثى‬


‫وغريزهتا‪ .‬إمبا تقتضي اغبكمة معرفة الوسائل الٍب تلفت نظرىا وتنبو‬
‫عاطفتها وذبردىا من ربصنها‪ ،‬فتخلع السَب العازؿ عن طبيعتها‬
‫وتعود ألنوثتها وتليب نداء القلب ُب حناف واستسبلـ‪ .‬لست أعِب‬
‫ىنا اؼبرأة اؼبستهَبة وال احملَبفة والٍب تتاجر سأنوثتها‪ ،‬إمبا أربدث عن‬
‫ذات اؼبعرفة والثقافة واألدب والكماؿ‪ ،‬عن ذات الدروع الٍب تدفع‬
‫عنها األىواء والشراؾ‪ ،‬يظن العقل العادي أهنا العصبية الٍب ند‬
‫فؤادىا عن اؼبؤثرات العاطفية‪.‬‬

‫وكاف رأيي من فجر الشباب أهنا ذات العاطفة اؼبنتبهة‬


‫واإلحساس الرقيق‪ ،‬وأهنا أكثر شعورا ابؼبؤثرات العاطفية من اتجرات‬
‫‪269‬‬
‫العواطف‪ ،‬وأهنا الطاىرة العفيفة الٍب تليب نداء الغريزة ُب اغباالت‬
‫اؼبشروعة‪ ،‬فإذا أحبت فإهنا تفِب ُب اغبب وتنسى ملذات العامل‬
‫ومبهجات اغبياة صبيعاً لتحصر عاطفتها وفؤاداىا وخياؽبا ُب دائرة‬
‫اغبب وحده‪ ،‬بو تعيش‪ ،‬ولو ربيا وفيو سبوت‪ .‬ولكن أين ىو الرجل‬
‫الذي يستحق ىذه اؼبرأة الطاىرة وذلك النوع من اغبب اعبارؼ‬
‫العفيف‬

‫تبد مِب نظرة عميقة ُب ‪٧‬باسن الكونتس الفاتنة‪ ،‬كنت أكتفي‬


‫دل ُ‬
‫بلمحة خاطفة تصورىا ُب ذىِب ٍب ٱبلو خيارل هبذه الصورة الذىنية‬
‫ليتمتع بكل جزء من أجزاء ا‪١‬بماؿ‪ ،‬فتزيدىا فتنة ابحملاسن ُب خفاء عن‬
‫العيوف وا‪٤‬بشاعر األجنبية‪ .‬وكنت أ‪٠‬بع صوت ا‪٢‬بسناء فيخيل إذل أنِب‬
‫أصغى ‪٤‬بوسيقى روحية تصل إذل من عادل األرواح‪ ،‬فاغمض عيِب‬
‫ألستوعب كل لفظ وكل عبارة وألدرؾ كل معُب واضح أو مستور‪ ،‬ودل‬
‫أحاوؿ أبدأ اغتناـ أية فرصة سا‪٫‬بة أل‪٤‬بس أي جزء من أجزاء ذلك‬
‫البدف‪ ،‬كانت لو قدسيتو ُب اعتباري وتقديري‪ ،‬فإذا ‪٤‬بست إبرادهتا يدي‬
‫ا‪٤‬بصافحة أو اعتمدت على ذراعي ٕبالة ال شعورية أبذؿ جهدي ألقوى‬
‫على احتماؿ سياؿ الكهرابء‪.‬‬

‫ووثقت ا‪٢‬بسناء من تصرفاٌب أنِب برئ من كل رغبة منفرة‪،‬‬


‫متأدب ُب ‪٦‬بلسها‪ ،‬أحَبمها عن تقدير ال للمداجاة والتغرير‪ ،‬فطمأنت‬

‫‪270‬‬
‫ودفعتها الثقة على التجرد من التكلف لتكوف ُب صلتها بصديقها‬
‫طبيعية صرٰبة راضية‪ .‬و‪٠‬بعتها مرات تعلن أف الصداقة لدى ا‪٤‬برأة العاقلة‬
‫أفضل من أية عبلقة غّبىا‪ ،‬وأف الزوج الذي يعجز عن اكتساب صداقة‬
‫امرأتو يفشل ُب حياتو الزوجية‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫‪13‬‬
‫دل تعم األبصار ُب القاىرة عن ىذا ا‪٢‬بسن ا‪١‬بذاب‪ ،‬فوثب‬
‫لبلقتناص أفراد من أعظم الطبقات االجتماعية‪ ،‬مكنتهم مراكزىم العالية‬
‫وثرواهتم الكبّبة من التعرؼ إذل الكونتس‪ ،‬ومن دعوهتا إذل رحبلت‬
‫خلوية أو إذل سهرات‪ .‬وأدرؾ ا‪١‬بميع أف ا‪٢‬بسناء كانت تعتذر عن قبوؿ‬
‫الدعوة إذا عرفت أف الباروف دى ماسوف صديقها غّب مدعو معها‪،‬‬
‫فلجأ ا‪١‬بميع لدعوة الباروف ليضمنوا قبوؿ الكونتس دعوة الداعي‪ ،‬ودل‬
‫يسء أي إنساف الظن برابطة الصداقة الٍب بْب األرملة ا‪٢‬بسناء وصديقها‬
‫الكهل‪ ،‬ألف أحداً دل ٱبطر ببالو أف وراء الشعر ا‪٤‬بلوف ا‪٤‬برسل شباابً وقوة‬
‫وفتوة‪ ،‬وأف خلف التجاعيد البادية والصدر ا‪٥‬بادئ انراً تلظى من غراـ‬
‫مشتعل وعواطف مصهورة‪ ،‬وأماشل وآماؿ وشراؾ منصوبة‪.‬‬

‫وكاف أعظم ا‪٤‬بصريْب ولعاً اب‪٢‬بسناء‪ ،‬سرحاف ابشا‪ ،‬عظيم لو‬


‫شباب وثروة ضخمة وجاه ونفوذ‪ ،‬فظن أف ىذه ا‪٤‬بميزات تكفي المتبلؾ‬
‫فؤاد ا‪٤‬برأة امتبلؾ العقار أو ا‪٣‬بيل أو الرقيق و‪١‬بأ إذل وسائل الشرقيْب ُب‬
‫‪272‬‬
‫‪٧‬باولة إغراء ا‪٤‬برأة فدعاىا إذل حفلة ساىرة بقصره الضخم الفخم‪ ،‬ودعا‬
‫معها خليطاً من عظماء ا‪٤‬بدينة والسفراء وعقيبلهتم وكبار السائحْب‬
‫والسائحات‪ ،‬وسخا ُب نفقات ىذه ا‪٢‬بفلة سخاء يصور كرمو وثروتو‬
‫وجاىو تصويراً يؤثر ُب العقوؿ‪.‬‬

‫وصلت الكونتس إذل ا‪٢‬بفلة مع الكهل الباروف دى ماسوف‪،‬‬


‫فوجدت وكيل الباشا ُب انتظارىا ليكوف ُب خدمتها خاصة‪ .‬و‪ٙ‬بولت‬
‫أنظار ا‪٢‬باضرين لناحية األسبانية الفتانة بعضها لئلعجاب اب‪٢‬بسن‬
‫والشهرة‪ ،‬وأخرى للحسد بتأثّب ا‪٢‬بقد النسائي‪ ،‬جلست الكونتس ُب‬
‫زاوية من القاعة الفسيحة ُب ىدوء بدوف مباالة ابألنظار ا‪٤‬بسلطة عليها‪،‬‬
‫وعلى حجرىا كتاب صغّب تعبث بو يدىا بدوف قصد‪ ،‬فتنبو سعيد‬
‫أفندي وكيل الباشا للكتاب فجعلو وسيلة للتحدث إذل الكونتس فقاؿ‪:‬‬
‫"يلوح يل أف ؽبذا الكتاب أنبية حٌب ضبلتو معك إىل ىذه اغبفلة " ‪..‬‬

‫ودل ترتح ا‪٢‬بسناء ‪٥‬بذه ا‪٤‬ببلحظة فعمدت إذل االستخفاؼ هبا‬


‫فقالت‪" :‬ليست ؽبذا الكتاب أية قيمة أو أنبية ألنو قصة بوليسية‬
‫للتسلى وإضاعة اؼبلل من الوقت ‪" ..‬‬

‫فقاؿ‪" :‬وىل للقصة اػبيالية اؼبوضوعة أنبية تقتضي االىتماـ‬


‫هبا حد ضبلها ُب حفلة "‬

‫‪273‬‬
‫فتضايقت الكونت من مبلحظات تلك العقلية الشرقية على‬
‫تصرفها‪ ،‬ولكنها‪ ،‬كظمت ما ُب نفسها وقالت‪" :‬صور اؼبؤلف بطل‬
‫ىذه القصة مغامراً ظريفاً‪ ،‬وجعل صبيع تصرفاتو ُب كياسة وأتدب مع‬
‫اعتماده على اؼبنطق‪ ،‬فهو مغامر جرئ جداً‪ ،‬وأان إسبانية تراتح‬
‫للبطولة واؼبغامرات الٍب تت ُب ىدوء وتعقل"‪.‬‬

‫وقاؿ الرجل‪" :‬ىذه قصة خرافية وضع حوادثها قصصي‪ ،‬أما‬


‫كبن ىنا ُب مصر فلدينا مغامر جرئ دوت شهرتو بسبب غرابة‬
‫ٍ‬
‫وماض‬ ‫حوادثو وأعاجيب حيلة‪ ،‬ولوال أنو إنساف معروؼ‪ ،‬ولو عائلة‬
‫لتونبنا أنو شخصية خرافية ‪ ..‬إنو يفلت من رجاؿ البوليس ويهرب‬
‫من السجوف بوسائل تلوح كالسحر ‪"..‬‬

‫قالت‪" :‬وأين ىو اآلف يسرٍل أف أرى رجبلً من ىذا النوع‬


‫‪"..‬‬

‫قاؿ‪" :‬ليس لو مكاف معروؼ‪ ،‬وال صورة اثبتة‪ ،‬وال أثر يدؿ‬
‫عليو‪ ،‬وال زمبلء يُهتدي هب إليو ‪ .. ..‬يفاجئ الناس حبوادثو الغريبة‬
‫الغامضة فتجرى على األلسن وتبعث على الدىشة وعلى اإلعجاب‬
‫‪ .. ..‬فهو حديث الناس ُب اؼبقاىي واجملالس واألندية"‪.‬‬

‫وقالت‪" :‬ىل لو نصيب من التعلي والثقافة "‬

‫‪274‬‬
‫قاؿ‪" :‬نع لو نصيب وافر من اؼبعرفة‪ ،‬ولو حكمة مكتسبة‬
‫من التجارب القاسية‪ ،‬ويشيع الذين عرفوه من قبل أف لو مرحاً‬
‫وكياسة وتصرفات نبيلة أو شاذة"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬وؼباذا يعجز البوليس عن القبض عليو ماداـ رجبلً‬


‫معروفاً للناس "‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬يعرؼ الناس لآلف أف اظبو "حافظ قبيب" ولكن أحداً‬


‫مل وبصل على صورتو ‪ ..‬وحٌب الصورة الطبيعية ال تفيد ُب االىتداء‬
‫إليو ألنو ال يظهر هبا إطبلقاً ويبدؽبا ابلتنكر كما يبدؿ غّبه ثيابو" ‪..‬‬

‫قالت‪" :‬زادٍل حديثك عن ىذا اؼبغامر شوقاً لرؤيتو‬


‫والتحدث إليو ‪"..‬‬

‫قاؿ‪" :‬كلنا يتمُب أف وبقق رغبات الكونتس … ولكن‬


‫الوصوؿ إىل معرفة ذلك اؽبارب اؼبطارد عملية متعذرة ألنو ؿبكوـ‬
‫عليو غيابياً بعشرات السنْب‪ ،‬فهو نشدة البوليس على الدواـ‪ ،‬وليس‬
‫من اؼبعقوؿ أنو يكشف تنكره للناس‪ ،‬ؿباذرة من اىتداء حفاظ األمن‬
‫إليو ‪" ..‬‬

‫‪275‬‬
‫قالت‪" :‬آسف كثّباً للظروؼ الٍب سبنع رؤيٍب ىذا اؼبغامر‪،‬‬
‫لقد قرأان أوصافاً ؼبغامرين خلقه اػبياؿ ولكنِب مل أصادؼ طوؿ‬
‫حياٌب مغامراً لو حيز ُب الوجود واغبياة"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬إذا كنت راغبة ُب االطبلع على قصص حوادثو‬


‫ونوادره يكوف من اؼبيسور اغبصوؿ عليها … إهنا قصص موضوعة‬
‫بعيدة عن اغبقيقة‪ ،‬ولكنها تقرب اػبياؿ من الواقع"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬وما ىي قيمة اؼبطالعة عن اؼبغامرين ‪ ..‬أان أرغب ُب‬


‫رؤية مغامر جرئ أثناء مغامرة من مغامراتو ‪"..‬‬

‫قاؿ‪" :‬فبا يؤسف لو أف اختفاء ىذا الرجل عن العيوف هبعل‬


‫من اؼبتعذر ربقيق رغبتك ‪"..‬‬

‫وقاؿ الباروف دى ماسوف‪" :‬ىل يرضيك حقيقة رؤية ىذا‬


‫اؼبغامر ُب مغامرة جريئة "‬

‫قالت‪" :‬نع … "‬

‫قاؿ‪" :‬إذف سأعرفك حبافظ قبيب اؼبغامر الذي يفر من‬


‫العدالة ويطارده رجاؿ البوليس ُب نشاط وحنق عليو ‪"..‬‬

‫‪276‬‬
‫فاستوذل العجب على سعيد أفندي وقاؿ‪" :‬ىذا بعيد‬
‫االحتماؿ ي سيدٌب الكونتس! ألف اؽبارب من العدالة واؼبطاردة ال‬
‫يكشف شخصيتو اغبقيقية ألي إنساف‪ ،‬أو يكوف أضبق سفيهاً"‪..‬‬

‫فنظرت الكونت إذل الباروف نظرة استفهاـ‪ ،‬كأاها تقوؿ لو‪" :‬ىل‬
‫ظبعت ما يقوؿ ىذا الرجل‬

‫وقاؿ الباروف يوجو حديثو للكونتس‪" :‬ليس يعنيِب رأي الناس‪،‬‬


‫إمبا يعنيِب ما أعد بو‪ ،‬وقد وعدتك بتقدَل حافظ قبيب إليك‬
‫ليتشرؼ ابلوجود ُب ؾبلسك … وأان مسئوؿ أمامك وحدؾ عن‬
‫صحة ما قلت وعن تنفيذ وعدي ‪" ..‬‬

‫وقاؿ سعيد أفندي ‪٧‬بتداً‪" :‬األقرب إىل اؼبعقوؿ أف جناب‬


‫الباروف عرؼ إنساانً عاديً ظبى نفسو حافظ قبيب‪ ،‬وليس ىو اؼبغامر‬
‫الذي يطارده رجاؿ البوليس!"‬

‫وكررت الكونت نظرهتا إذل الباروف‪ ،‬فقاؿ‪" :‬ليس من عادٌب‬


‫توكيد ما أعد بو ولكن ‪ ..‬ماداـ ؽبذا اؼبغامر أنبيتو ُب وزنك‪ ،‬وما‬
‫دمت راغبة ُب رؤيتو وؿبادثتو‪ ،‬وما داـ ىذا األمر يلوح متعذراً ُب‬
‫تقدير الناس‪ ،‬فإنِب أتعاقد معك على ربقيق رغبتك بشرط أف تدفعي‬
‫يل جزءاً من أتعايب سلفاً" ‪..‬‬

‫‪277‬‬
‫فضحكت الكونتس وقالت‪" :‬وما ىو مقدار العربوف‪ ،‬وما‬
‫نوعو "‪.‬‬

‫فقاؿ‪" :‬العربوف رغبة أرجو ربقيقها كما تريدين أنت ربقيق‬


‫رغبة لك ‪ ..‬فهل يرضيك أف تشريب معي قدحاً لبب ذلك الذي‬
‫ضيعنا الوقت ُب اغبديث عنو بدوف مناسبة "‬

‫فنهضت الكونتس من ‪٦‬بلسها وأتبطت ذراع الباروف وا٘بها إذل‬


‫ا‪٤‬بشرب ا‪٤‬بعد لتناوؿ الشراب وطلب قدحْب ولكن سعيد أفندي دل يشأ‬
‫أف ينهزـ وأف يَبكهما براحة فلحقها ُب ا‪٤‬بشرب يبتسم ُب مرح وقاؿ‪:‬‬

‫"يعجبِب ظرؼ جناب الباروف وقدرتو على انتهاز الفرص! ‪..‬‬


‫‪ ..‬ىا ىو ذا قد انؿ اغبظوة لدى الكونتيس ليشرب لبب مغامر من‬
‫اؼبستحيل أف يلقاه إذا أراد الرب بوعده!" ‪..‬‬

‫فظهر االمتعاض على وجو الباروف وقاؿ موجها حديثو‬


‫للكونتس‪" :‬يلوح يل أف ىذا الرجل يتحداٍل ويكذب وعدي لك لقد‬
‫كرر تكذيبو مرتْب ليشكك ُب صدقي‪ ،‬وىذا ٍ‬
‫ربد ال يطاؽ‪ ،‬وسبنعِب‬
‫عزة نفسي من احتمالو"‪.‬‬

‫وضرب ا‪٤‬بنضدة بيده ضرابً خفيفاً كأنو يفكر ليقرر رأايً حا‪٠‬باً‪،‬‬
‫ٍب قاؿ للكونت ُب جد وحزـ‪" :‬سأثبت لك صدقي‪ ،‬وسأنفذ وعدي‬

‫‪278‬‬
‫لك وأقدـ لو اؼبغامر اعبريء حافظ قبيب ىنا ُب ىذه اغبفلة أماـ‬
‫صبيع اغباضرين‪ ،‬إذا تنازلت وشربت معي قدحاً اثنياً ‪ ..‬لبب صاحيب‬
‫" ‪...‬‬

‫ودل تَبدد الكونتس ُب إجابة طلب الباروف فطلبت القدحْب‪،‬‬


‫كأاها عقدت العزـ على االنتصار لصديقها نكاية ُب ذلك الثقيل الذي‬
‫أزعجها ٕبماقتو‪ .‬وأحس سعيد أفندي أف جرأة الباروف ُب الرد على‬
‫‪ٙ‬بديو بلغت أقصى حدود ا‪١‬برأة وكرب عليو أف يلطم ىذه اللطمة أماـ‬
‫الكونتس‪ ،‬فأدار ‪٥‬بما ظهره ُب صمت وخرج من ا‪٤‬بشرب ُب حنق‬
‫واضح‪.‬‬

‫كاف الرجل على علم أبف ا‪٢‬بفلة ىيئت خاصة لتكرصل الكونتس‬
‫ولبهر نظرىا ٗبظاىر الثروة الضخمة وا‪١‬باه العظيم‪ ،‬وأف الباعث عليها‬
‫رغبة الباشا ُب لفت نظر تلك ا‪٢‬بسناء إليو‪ ،‬وثبت لو من تصرؼ‬
‫الكونتس مع الباروف أف رابطة الصداقة بينهما قوية‪ ،‬وأنو سيكوف عقبة‬
‫ُب طريق الباشا‪ ،‬وعز عليو أف يستخف بو الباروف وىو ضيف صاحب‬
‫القصر‪ ،‬فعقد العزـ على الدس والوقيعة‪.‬‬

‫قصد إذل الباشا ونقل إليو ما شاء حٌب نشط غضبو‪ ،‬فأسرع إذل‬
‫ا‪٤‬بشرب ُب حنق حٌب دان من الصديقْب‪ ،‬وجعل ٰبدؽ ُب وجو الباروف‬

‫‪279‬‬
‫يريد افَباسو بنظراتو ٍب قاؿ‪" :‬ظبعت أف الباروف دى ماسوف وعد أف‬
‫وبدث ُب قصري حداثً"‪.‬‬

‫فوقف ا‪٤‬بخاطب وأحُب رأسو للتحية وقاؿ‪" :‬كذبِب سعيد‬


‫أفندي مرات أماـ ىذه السيدة احملَبمة‪ ،‬فمن واجيب أف أدافع عن‬
‫كرامٍب وأثبت لو أف الرجل النبيل ال يكذب على السيدات"‪.‬‬

‫فزاد غضب الباشا وقاؿ‪" :‬يلوح يل أف اػبمر ؽبا أتثّب قوي ُب‬
‫جو ببلدان"‪.‬‬

‫وقاؿ الباروف ُب ىدوء‪" :‬كبن نشرب اػبمر مع لنب الرضاع‪،‬‬


‫فليس ؽبا أتثّب فينا ‪" ..‬‬

‫فانفجر غضب الباشا ُب وضوح وقاؿ مهدداً‪" :‬اظبع ي ابروف‬


‫‪ .. ..‬مل ىبلق لآلف الرجل الذي هبرؤ على دخوؿ بيٍب بدوف إرادٌب"‪.‬‬

‫وقاؿ الباروف ُب برود‪" :‬ىل يسمح صاحب ىذا القصر‬


‫لضيفو ابلكبلـ ُب التليفوف "‬

‫وأدرؾ الباشا أف الباروف يتحداه فكاد يتميز من الغيظ‪ٍ ،‬ب أشار‬


‫إذل واحد من أعوانو فدان منو‪ ،‬فقاؿ لو‪" :‬أرشد الباروف دى ماسوف إىل‬
‫مكاف التليفوف"‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫وترؾ ا‪٤‬بكاف ُب غضب واضح وفريق من ا‪٤‬بدعوين ُب دىشة من‬
‫‪٠‬باع ىذه ا‪٤‬بشادة وسار رجل الباشا أماـ الباروف وتبعو ىذا ُب ىدوء‬
‫كأف شيئاً دل ٰبدث ‪...‬‬

‫واهضت الكونت ُب كرب واستياء بسبب ىذا الطارئ ا‪٤‬بزعج‪،‬‬


‫وٕبثت عن صديقها حٌب اىتدت إليو وىو عائد إذل القاعة الفسيحة‬
‫فتأبطت ذراعو وقالت لو‪" :‬سيظن ىؤالء الناس اعتباطاً أنك السبب‬
‫ُب ىذه اؼبشادة‪ ،‬وأنك ذباوزت حدود اللياقة والتأدب الواجبْب ُب‬
‫اغبفبلت‪ ،‬أما وأان أعرؼ اغبقيقة وأقرر أف سعيد أفندي ىو الذي‬
‫سبب ىذه اؼبزعجات حبماقة فإنِب أشَبؾ معك ُب الدفاع عن‬
‫كرامتك وأربدى اغباضرين صبيعاً" ‪..‬‬

‫فاراتح الباروف ‪٥‬بذا اإلخبلص الواضح‪ ،‬وضغط على يد‬


‫الكونتس ضغطة خفيفة داللة على الشكر‪ٍ ،‬ب لزـ الصمت فقالت‪:‬‬
‫"وأان أقَبح عليك أف نَبؾ اغبفلة لصاحبها ونغادر ىذا القصر‬
‫احتجاجاً على االعتداء على كرامتك"‪.‬‬

‫فقاؿ الباروف‪" :‬ولكن ىذا التصرؼ يب ِّكن الباشا ووكيلو من‬


‫االعتقاد سأف انصراُب قبل تنفيذ وعدي عجز عن تنفيذ ما وعدت‬
‫بو"‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫قالت‪" :‬وماذا يهمنا من رأي الباشا وصباعتو "‬

‫قاؿ‪" :‬يهمنا أف يعل أف جاىو ونفوذه وقوة سأسو ال سبنع‬


‫رجبلً نبيبلً من تنفيذ وعده ألصبل سيدة ُب العامل"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬ولكِب أحلك من ىذا الوعد‪ ،‬لنتفادى العواقب‬


‫فليس من التعقل أف تعرض صاحبك اؽبارب اؼبطارد ػبطر االعتداء‬
‫على حياتو بسبيب لتحقيق رغبة طائشة مُب"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬ولكنِب تقيدت بوعدي مع غّبؾ ‪ ..‬وصاحيب ال‬


‫ىبشى اػبطر على حياتو‪ ،‬ويشرفو أف يقتح ىذا القصر ويظهر أماـ‬
‫ىؤالء اغبانقْب عليو وعلينا بدوف هتيب وال ؿباذرة سيتحدى القوة‬
‫إجابة لرغبتك"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬اغبقيقة أنِب مضطربة ‪" ..‬‬

‫قاؿ‪" :‬اطمئِب فإنك إىل جانب رجل ‪"..‬‬

‫دل يسكت غضب الباشا ألنو اعترب إجاابت الباروف ‪ٙ‬بداي‬


‫لعظمتو أماـ الكونتس‪ ،‬وعقد العزـ على الشر‪ ،‬فطلب من البوليس قوة‬
‫يستعْب هبا على القبض على حافظ ‪٪‬بيب إذا صح أنو ٯبرؤ على‬
‫ا‪٢‬بضور إذل القصر‪ِّ .‬‬
‫وزع رجاؿ البوليس ‪٢‬براسة منافذ القصر من ا‪٣‬بارج‬
‫‪ ،‬ووضع فريق من البوليس السري على أبواب ونوافذ غرفة ا‪٤‬بائدة‪ ،‬ونبو‬

‫‪282‬‬
‫على رئيسهم ابلقبض على ا‪٤‬بغامر إذا ظهر‪ ،‬وابالستعداد لطرد الباروف‬
‫ابلقوة إ٭با ُب سرعة ‪ٛ‬بنعو من إحداث ضجة تعكر مزاج ضيوفو ‪..‬‬

‫اراتح الباشا ‪٥‬بذه الوسائل واطمأف ألنو سيسحق كربايء الباروف‬


‫الوقح أماـ صديقتو الكونتس ا‪٢‬بمقاء‪ ،‬واستقر بعيداً عن ضيوفو ينتظر‬
‫الوقت ا‪٤‬بناسب للمعركة‪ .‬وقد حاف ىذا الوقت بعد انتظار طويل‪ ،‬دخل‬
‫ا‪٤‬بدعووف غرفة ا‪٤‬بائدة الفسيحة الفخمة‪ ،‬ودخلت معهم الكونتس ‪٩‬بسكة‬
‫بيد صديقها الكهل ٍب أجلستو إذل جانبها ونظراهتا القاسية تتحدى‬
‫‪ٝ‬بيع األنظار ا‪٤‬بسلطة عليها تعلنهم أاها تستخف ابلعادل كلو‪.‬‬

‫ووقف الباشا عند رأس ا‪٤‬بائدة وقد شبك ذراعيو على صدره‪،‬‬
‫وجعل يتفرس ُب وجو الباروف بنظرات تدؿ على الغضب وعلى‬
‫التحدي‪ٍ ،‬ب قاؿ‪" :‬كبن ُب انتظار تشريف صاحبك طريد العدالة ي‬
‫ابروف!" ‪..‬‬

‫فلم يكَبث الرجل لغضب الباشا و‪ٙ‬بديو‪ ،‬ولكنو انتصب واقفاً‬


‫ُب بطء ونظر إذل خصمو نظرة طويلة عميقة وىو يبتسم‪ٍ ،‬ب قاؿ ُب‬
‫ىدوء‪" :‬يسرٍل أال يطوؿ انتظارك لصديقي طريد العدالة ‪ ..‬إمبا من‬
‫على أف أمهد لظهوره بينك بكلمة ضرورية تضع األمور ُب‬‫ّ‬ ‫حقك‬
‫مواضعها اغبقيقية‪ ،‬ألف كثّبين من اغباضرين مل يعرفوا أسباب ىذه‬
‫اغبادثة الطارئة‪ ،‬ومن العدؿ أف يعرفوىا على حقيقتها ‪"...‬‬
‫‪283‬‬
‫"لست مشاغباً ُب حفلة يتحت فيها التأدب ومراعاة التقاليد‬
‫وواجبات الضيف ؼبضيفو العظي ‪ .‬لقد غمران الباشا بكرمو اؼبشهور‬
‫وشرفِب بدعوٌب ؽبذه اغبفلة‪ ،‬ومن واجىب كسائح االعَباؼ دبا ظبعناه‬
‫وعرفناه من ظبو أخبلؽ مضيفنا العظي الشأف"‪.‬‬

‫"ويؤؼبِب طروء ىذه اؼبشادة بْب أحد رجالو وبيُب بدوف‬


‫مناسبة‪ ،‬ولكنِب كنت اؼبعتدى على‪ ،‬كذبِب سعيد أفندي مرات أماـ‬
‫صاحبة العصمة الكونتس سيجريس‪ ،‬ومن واجيب االحتفاظ بكرامٍب‬
‫ُب كل زماف ومكاف‪ ،‬فأعبأٍل ىذا الواجب إىل الدفاع عن ىذه‬
‫الكرامة"‪.‬‬

‫"أردت أف أثبت غبضرة الكونتس أف الرجل النبيل ال‬


‫يكذب على السيدات‪ ،‬وأردت أف يعرؼ سعيد أفندي أنِب ال أعد‬
‫وعداً إال إذا كنت قادراً على تنفيذه‪ ،‬وأردت أف يرى بعينيو ربقيق‬
‫وعدى‪ ،‬ىذا ىو الذي وقع فعبلً وسبب االعتداء الثاٍل على‬
‫أخبلقي‪ ،‬فقد ظن الكثّبوف أنِب ذباوزت حدود اللياقة واألدب‬
‫بسبب اإلفراط ُب شرب اػبمر‪ ،‬وىذا الشرح يكفي لرد اعتباري"‪.‬‬

‫"لقد صدؽ سعادة الباشا حْب قاؿ مل ىبلق لآلف الرجل‬


‫الذي هبرؤ على دخوؿ قصره بدوف إرادتو‪ ...‬وأان أؤكد ىذه اغبقيقة‬

‫‪284‬‬
‫وأعلنها‪ ،‬وىكذا صديقي حافظ قبيب طريد العدالة يعرؼ ما ؽبذا‬
‫القصر من االحَباـ واإلجبلؿ‪ ،‬وال يسمح لنفسو بدخولو بدوف إذف‬
‫من صاحبو العظي ‪ ،‬فحْب وعدت الكونتس بتقدَل صديقي ؽبا كنت‬
‫على يقْب من وجوده ُب ىذه اغبفلة بدعوة أرسلت إليو‪ ،‬وكاف‬
‫غرضي أف يت التعارؼ بْب الكونتس وبينو ُب اػبفاء وبدوف ضجة‬
‫فاضحة لوال تكذييب مرات‪ ،‬اغبادث الذي أدى إىل غضب سعادة‬
‫الباشا ‪"..‬‬

‫وقاؿ الباشا ُب غضب‪" :‬ىذه كذبة جديدة ي ابروف‪ ،‬فنحن‬


‫ال ندعو اجملرمْب إىل حفبلتنا!" ‪..‬‬

‫فأحُب الباروف رأسو داللة على االحَباـ رغم اللطمة وقاؿ‪" :‬مل‬
‫ترسل الدعوة إىل صاحيب ابس حافظ قبيب ألنو ال وبمل أبداً ىذا‬
‫االس زبلى عنو‪ ،‬إمبا دعي إىل ىذه اغبفلة ابالس احملَبـ الذي اختاره‬
‫لنفسو فشرفو وضبل الغّب على احَبامو"‪.‬‬

‫فقاؿ الباشا مهدداً‪" :‬كفي سفسطة ‪ ...‬فجميع اغباضرين ىنا‬


‫شخصيات معروفة ؿبَبمة‪ ،‬ليس بينه صاحبك اجملرـ‪ ،‬ويلوح يل أنك‬
‫سَبغمِب على طردؾ من بيٍب!‪" ..‬‬

‫‪285‬‬
‫فابتسم الباروف وقاؿ‪" :‬يلوح يل أف غضب الباشا هبعلو يتعجل‬
‫األمور ‪ ..‬واغبل وسعة الصدر وبمداف ُب مثل ىذا الظرؼ الشاذ‪،‬‬
‫لقد وعدت الكونتس سيجريس سأف أقدـ ؽبا صديقي ىنا ُب ىذا‬
‫القصر رغ صبيع األخطار الٍب هتدده‪ ،‬وسأنفذ ىذا الوعد أماـ‬
‫اعبميع عسى أف تكوف غرابة اغبادث تسلية ؽب ‪ ،‬وقلت لسعادة‬
‫الباشا إف صاحيب دعي إىل ىذه اغبفلة‪ ،‬فقيل يل إنِب أكذب وىا أان‬
‫أقدـ للجميع الدليل القاطع على صدقي"‪.‬‬

‫وضع الباروف يده ُب جيبو واخرج منو بطاقة الدعوة‪ٍ ،‬ب ىزىا‬
‫بيده أماـ ا‪١‬بميع وقاؿ‪" :‬مل أكذب حْب قلت إف حافظ قبيب طريد‬
‫العدالة ُدعي إىل ىذه اغبفلة ابالس الذي يتنكر بو‪ ،‬وىذه ىي بطاقة‬
‫الدعوة الٍب أرسلت إليو من ىذا القصر ‪ ..‬ابس الباروف دى‬
‫ماسوف"‪.‬‬

‫دوى ىذا االسم دوايً ُب آذاف ا‪١‬بميع‪ ،‬فوجئوا بو فظهرت عليهم‬


‫الدىشة وتوالىم الفزع فابتعدوا عن ا‪٤‬بغامر ا‪١‬بريء‪ ،‬توٮبوا أنو بعد فضح‬
‫شخصيتو سيحدث حداث ‪ ...‬أما الكونتس سيجرس فصرخت صرخة‬
‫عالية ووثبت من مكااها ُب اضطراب‪ ،‬ال لتبتعد عن ا‪٤‬بغامر بتأثّب ا‪٣‬بوؼ‬
‫كما فعل غّبىا من الرجاؿ والسيدات إ٭با لتطوؽ الرجل بذراعها وىي‬
‫تقوؿ‪" :‬ىذا كثّب جداً ‪ ..‬ىذه جرأة جنونية"‪.‬‬
‫‪286‬‬
‫وقاؿ‪" :‬رغبت ي سيدٌب احملَبمة ُب رؤية حافظ قبيب‬
‫فحققت رغبتك بسبب إجبليل لك ‪ ..‬رغبت ُب رؤية اؼبغامر‬
‫اؼبشهور فإذا قدمتو لك كرجل ترينو إنساانً عاديً ‪ ..‬جاكتة وبنطلوف‬
‫كغّبه من خلق هللا ال يبيزه عنه شيء ‪ ..‬فتعمدت أف تعرُب حافظ‬
‫ُب مغامرة سبثل أماـ عينك ‪ ..‬إكراما لك ‪ ..‬كل كلمة قيلت ي‬
‫سيدٌب‪ ،‬وكل تصرؼ ًب ُب ىذه الليلة كاف بتدبّب يوجو الظروؼ‬
‫والناس إىل اؽبدؼ الذي أريده‪ ،‬فكل ما رأيت وظبعت كاف سبهيداً‬
‫لكشف شخصيٍب أمامك ُب ىذا اؼبوقف اغبرج" ‪..‬‬

‫قالت وىي تتنهد‪" :‬ىذا عجيب جداً وبديع ومدىش ولكنِب‬


‫أخشى عليك أف يقتلوؾ"‪.‬‬

‫وخانتها قوهتا فألقت رأسها على كتفي ‪ ..‬وٮبست ُب أذشل‬


‫ٮبسة دل أحتمل وقعها ُب نفسي فكدت أجثو عند قدميها للشكر ‪...‬‬

‫استولت الدىشة على سرحاف ابشا كما استولت على غّبه‪،‬‬


‫وزلزلو الغضب‪ ،‬ولكنو ‪ٛ‬بالك أعصابو وقاؿ لرئيس البوليس السري‪" :‬أ ِّد‬
‫الواجب ‪"..‬‬

‫وصاح الرجل أيمرشل ابلذىاب إليو ودل أحتمل ىذا التصرؼ‬


‫فثرت عليو‪ ،‬قلت‪" :‬ما شاء هللا!!! ‪ ..‬أراؾ تناديِب بصيغة األمر كأنك‬

‫‪287‬‬
‫القوى صاحب السلطاف وكأٍل الضعيف الذي ىبضع لك ويرذبف‬
‫أمامك تذكر وضعي ووضعك لقد ضللتك أعواماً وجعلتك تتخبط‬
‫ُب الظبلـ فعجزت عن االىتداء إىل‪.‬فكنت أان القوى وأنت الضعيف‬
‫العاجز ‪ ..‬وضللتك ورجالك الليلة‪ ،‬ودخلت ىذا القصر أماـ عيوف‬
‫اعبميع وىي كفيفة ال تبصر‪ ،‬فكنت الضعيف العاجز وكنت القوي‬
‫‪"..‬‬

‫"واآلف بعد أف كشفت شخصيٍب أماـ رجالك اؼبسلحْب‬


‫تونبت أنِب وقعت ُب الشرؾ وتعذر خبلصي فتظاىرت ابلقوة‬
‫وربولت إىل بطل يصدر أوامره إىل!!!‪ ..‬سأقابل إذف غطرستك دبثلها‬
‫‪ ..‬وأنذر اعبميع اآلف أنِب لن أكوف مسئوالً عما سيحدث ىنا إذا مل‬
‫تنفذ رغبٍب كما أريد ‪ ..‬لن أحاوؿ اؽبرب ‪ ..‬ولكِب أريد أف يوضع‬
‫القيد اغبديدي ُب يدي أماـ الكونتس سيجريس ‪ ...‬أو ‪"...‬‬

‫فقاؿ الباشا‪" :‬لقد ضحى ىذا الرجل تضحية غالية ‪...‬‬


‫فيحسن أف تنفذ رغبتو"‪.‬‬

‫فاقَبب رئيس البوليس السري مِب ووضع القيد ُب يدي ودموع‬


‫ا‪٢‬بسناء ٘بري غزيرة على خديها من اإلشفاؽ ‪ ...‬فرفعت يداي أمامها‬
‫وقلت‪" :‬انظري ي سيدٌب ىذه القيود اغبديدية ‪ ...‬إهنا كل ما ُب‬

‫‪288‬‬
‫استطاعة القوة أف تفعلو يب ‪ ..‬ولكنِب أستخف هبذه القيود الثقيلة‬
‫‪ ..‬وُب مقدوري التخلص منها ومن السجن الذي سألقي فيو‬
‫وأحضر ؼبقابلتك جهاراً هناراً ظاىراً للعيوف إذا رغبت ُب ىذه‬
‫اؼبقابلة" ‪..‬‬

‫فصرخت الكونتس من الفرح وقالت‪" :‬ىل ىذا صحيح ‪"..‬‬

‫قلت‪" :‬إنِب ال أكذب على سيدة … أمل يكفك الربىاف "‬

‫قالت‪" :‬إذف تعاؿ ؼبقابلٍب حْب تستطيع" …‬

‫قلت‪" :‬ال … وبسن أف ربددي بنفسك الوقت اؼبناسب‪،‬‬


‫إمبا أرجو أف تدركي مقدار ولعي ابغبصوؿ على موعد قريب" …‬

‫قالت‪" :‬ىل يناسب ظروفك أف يكوف الوعد غداً ُب جزيرة‬


‫ابالس أوتيل لشرب الشاي "‬

‫قلت‪" :‬شكراً لك ‪"..‬‬

‫و‪ٙ‬بولت لناحية ا‪٤‬بدعوين وا‪٤‬بدعوات وقلت‪" :‬اشهدوا على أنِب‬


‫أعد الكونتس سيجريس ابلذىاب إليها ُب جزيرة ابالس أوتيل ُب‬
‫الساعة الرابعة بعد الظهر ألتشرؼ بشرب الشاي على مائدهتا ‪..‬‬
‫مهما كانت العقبات واغبوائل"‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫فدوت الغرفة بتصفيق حاد من السيدات و‪٠‬بعت صوات انعماً‬
‫يقوؿ‪" :‬برافوا برافوا إنو حقا مرح وظريف وجرئ ‪"...‬‬

‫فا‪٫‬بنيت أماـ الكونتس أحييها ‪ٙ‬بية الوداع‪ٍ ،‬ب قلت لرجاؿ‬


‫البوليس‪" :‬ىا أان ذا ربت أمرك "‪.‬‬

‫فخرجنا من غرفة ا‪٤‬بائدة وأبعدان عنها‪ ،‬وبدأ رجاؿ البوليس‬


‫يتولوف عملهم ا‪٤‬بألوؼ فدفعوشل دفعاً‪ ،‬وجروشل جراً ىذا ٲبسك بذراعي‪،‬‬
‫وآخر يقبض على مؤخر عنقي‪ ،‬واثلث يقبض على ثويب‪ ،‬وليس ىذا‬
‫بعجب ألاهم يؤدوف الواجب ويدلوف على النشاط وعلى ا‪٢‬بذر من‬
‫إفبلت الشيطاف منهم ‪..‬‬

‫ُب الفناء الداخلي بسراي ‪٧‬بافظة مصر وُب ا‪١‬بهة الشرقية منو‬
‫يقوـ البناء الذي يسمى سجن االستئناؼ‪ ،‬ويسجن بو ا‪٤‬بتهموف الذين دل‬
‫يفصل ُب قضاايىم حٌب يتم الفصل فيها‪ٍ ،‬ب يرسل الذين صدرت‬
‫ضدىم أحكاـ إذل السجوف األخرى‪.‬‬

‫خرجنا من قصر سرحاف ابشا ُب عربتْب وصلتا إذل ىذا السجن‬


‫عند منتصف الليل‪ ،‬وجاء مأمور احملافظة الذي عليو النوبة فانضم إذل‬
‫ا‪٢‬براس الذين ‪ٞ‬بلوشل إذل السجن‪ ،‬وفتح الباب ا‪٣‬بارجي ُب ضجة‪ٍ ،‬ب‬
‫فتح ابب العنرب فصران ُب جوؼ السجن‪ ،‬واختاروا رل أوؿ زنزانة على‬

‫‪290‬‬
‫ٲبْب ا‪٤‬بدخل وىي خاصة ابحملكوـ عليهم ابإلعداـ ودفعوشل دفعاً فيها ٍب‬
‫أغلقوا الباب‪.‬‬

‫ٰبرس ىذا البناء من الداخل سجاف واحد مسلح‪ ،‬يسهر طوؿ‬


‫الليل‪ ،‬وٲبر كل نصف ساعة على مفاتيح الساعة ا‪٤‬بثبتة ُب ا‪٢‬بيطاف ُب‬
‫كل طابق ليؤشر اب‪٤‬بفتاح على الساعة الليلية الٍب ٰبملها‪ ،‬فيحدث‬
‫ا‪٤‬بفتاح ثقوابً ُب الورقة ا‪٤‬بثبتة على وجو الساعة ليثبت أنو قضى الليل‬
‫متيقظاً دل ينم ودل يغفل عن ا‪٤‬برور على كل طابق‪ .‬وٰبرس فناء السجن‬
‫خارج العنرب سجاف آخر يقضي الليل على مثاؿ نظاـ ا‪٢‬بارس الداخلي‪.‬‬
‫ويناـ ُب كشك وراء ابب السجن سجاف برتبة جاويش يراقب حراس‬
‫الليل من وقت إذل اآلخر‪.‬‬

‫استدعى مأمور احملافظة سجاف العنرب وا‪٠‬بو أ‪ٞ‬بد أبو طاحوف‪،‬‬


‫وقاؿ لو‪" :‬ستحرس الليلة ابب ىذه الزنزانة ألف اؼبسجوف الذي بو‬
‫شيطاف"‪.‬‬

‫فصحت من داخل الزنزانة‪" :‬ي جاويش أضبد ‪ ...‬احَبس جداً‬


‫ألنِب سأىرب الليلة‪ ،‬وإذا ىربت فإنك ستحاك ‪ ،‬فيجب أف ىبتموا‬
‫لك ابب الزنزانة ابلشمع األضبر لتسلمه األختاـ سليمة فتنجو من‬
‫احملاكمة"‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫و‪٠‬بع السجاف ىذه النصيحة ورفض استبلـ ا‪٢‬براسة على ابب‬
‫الزنزانة إال إذا ختمت ابلشمع‪ ،‬فأرغمتهم الظروؼ على تنفيذ رغبة‬
‫السجاف‪ ،‬فأحضر ا‪١‬باويش النوبتجي ‪٧‬بمود توفيق الشمع وقطعة من‬
‫القماش ومشعها ُب الباب وصدغو وختم ٖبتم مأمور احملافظ النوبتجي‪.‬‬

‫وانتقل ا‪١‬بماعة إذل فناء السجن وأمروا السجاف الثاشل ابلبقاء‬


‫‪ٙ‬بت النافذة طوؿ الليل ‪٢‬براستها ‪٧‬باذرة من ىرويب‪ .‬فقاؿ السجاف‪:‬‬
‫"النافذة ؿبروسة بقضباف من اغبديد السميك وعليها شبكة ضيقة‬
‫الفتحات ال سب ِّكن ذاببة من اػبروج منها فمن اؼبستحيل أف يفر منها‬
‫اؼبسجوف"‪.‬‬

‫وانتهت عملية وضعي ُب السجن فخرج الضابط ومعو رئيس‬


‫البوليس وأغلقوا ابب السجن وىم ُب اطمئناف على ا‪٤‬بسجوف ا‪٣‬بطّب أنو‬
‫صار ُب قبضة ا‪٢‬بكومة مع استحالة اإلفبلت من السجن الذي وضع‬
‫فيو ‪ٙ‬بت ا‪٢‬براسة القوية‪.‬‬

‫يفتح السجن ُب الصباح رئيس السجانْب و٘بئ معو قوة‬


‫السجن من السجانْب الستبلـ العمل ولكن مأمور احملافظة رافق‬
‫الباشسجاف لفتح السجن ولتسليمو ا‪٤‬بسجوف (حافظ ‪٪‬بيب) الذي توذل‬
‫وضعو ُب الزنزانة ليبلً‪ ،‬وسأؿ ا‪٤‬بأمور ا‪١‬باويش ‪٧‬بمود‪" :‬سباـ ي جاويش "‬

‫‪292‬‬
‫فقاؿ‪" :‬سباـ ي أفندـ مل وبدث شيء"‪.‬‬

‫وسأؿ السجاف ا‪٢‬بارس ‪ٙ‬بت انفذة الزنزانة نفس السؤاؿ‪،‬‬


‫فكانت اإلجابة تبعث على االطمئناف‪" :‬سباـ ي أفندـ اغبائط سلي ‪،‬‬
‫وقضباف النافذة سليمة‪ ،‬والشبكة السلك سليمة"‪ ،‬وفتحوا ابب العنرب‬
‫ووقفوا أماـ ابب الزنزانة فقاؿ ا‪٢‬بارس أ‪ٞ‬بد أبو طاحوف‪" :‬سباـ ي أفندـ‬
‫ابب الزنزانة سلي ‪ ،‬واألختاـ الشمع سليمة ُب مكاهنا ومل وبدث‬
‫شيء"‪.‬‬

‫فاقَبب ا‪٤‬بأمور من األختاـ و‪ٙ‬بقق من سبلمتها ٍب أمر‬


‫الباشسجاف بفتح ابب الزنزانة ليسلم ا‪٤‬بسجوف‪ ،‬ففتح الرجل الباب‬
‫ودخل منو ا‪٤‬بأمور ٍب صاح ُب دىشة واضطراب‪" :‬الزنزانة فاضية! فْب‬
‫اؼبسجوف ي سجاف "‬

‫واستولت الدىشة بل الذىوؿ على أ‪ٞ‬بد أبو طاحوف وجعل‬


‫يفحص الزنزانة بنظره وىو يضرب كفاً بكف‪ٍ ،‬ب قاؿ‪" :‬وأان مايل …‬
‫أان مل أكن داخل الزنزانة مع اؼبسجوف ‪ ..‬كنت خارج الباب وأحرسو‬
‫وأحرس األختاـ ‪ ..‬واغبائط سلي والباب سلي واألختاـ سلمتها‬
‫لك سليمة ‪ ..‬فأان غّب مسئوؿ عن ىروب اؼبسجوف"‪.‬‬

‫‪293‬‬
‫وقاؿ ا‪٤‬بأمور‪" :‬إزاى خرج اؼبسجوف من الزنزانة مع بقاء‬
‫حيطاهنا سليمة وسقفها وأرضها سليمة! كيف سبكن من اؽبروب وىو‬
‫مل ىبرج ال من النافذة وال من الباب ! ‪ ..‬دى حاجة ذبنن سباـ!"‪..‬‬

‫ٍب صرخ ُب السجاف‪" :‬فْب اؼبسجوف ي راجل "‬

‫فقاؿ الباشسجاف‪" :‬السجاف غّب مسئوؿ عن ىروب‬


‫اؼبسجوف ألنو مل ىبرج من الباب الذي وبرسو‪ ،‬أما الوسيلة الٍب مكنتو‬
‫من اؽبرب فالنيابة ىي الٍب ربقق اؼبوضوع لتهتدي إليها ‪." ..‬‬

‫فصاح ا‪٤‬بأمور‪" :‬ما شاء هللا! ‪ ..‬كل واحد عاوز يتخلص من‬
‫اؼبسئولية! أان وضعت اؼبسجوف ُب ىذه الزنزانة وتركتها ُب حراسة‬
‫السجانْب‪ ،‬فكيف ىرب اؼبسجوف منه الزـ أحاك اعبميع ‪" ..‬‬

‫فقاؿ الباشسجاف‪" :‬ال فائدة ي بيو من ىذه اؼبناقشة اآلف‪،‬‬


‫ألف اغبادثة خطّبة وهبب تبليغ اعبهات اؼبختصة ُب اغباؿ للمبادرة‬
‫بعمل اإلجراءات السريعة"‪.‬‬

‫فا٘بو ا‪٤‬بأمور ُب ارتباؾ إذل مكاف آلة التليفوف واتصل ٕبكمدار‬


‫بوليس مصر ‪ .‬ا‪٢‬بكمدار‪" :‬ألو ‪ ..‬اؼبأمور أان اؼبأمور النبوذبي ابحملافظة‬
‫ي سعادة الباشا ‪"..‬‬

‫ا‪٢‬بكمدار‪" :‬نع عايز إيو "‬


‫‪294‬‬
‫ا‪٤‬بأمور‪" :‬وضعنا حافظ قبيب أمس ليبلً ُب الزنزانة بسجن‬
‫االستئناؼ‪ ،‬وختمتها ابلشمع األضبر خبتمي‪ ،‬ووضعت حراسة أماـ‬
‫الباب وربت النافذة ‪ ..‬وؼبا حضرت إىل السجن ُب ىذا الصباح‬
‫لتسلي اؼبسجوف الباشسجاف وجدت حيطاف الزنزانة سليمة والنافذة‬
‫سليمة والباب واألختاـ اؼبوضوعة عليو سليمة‪ .‬ومل قبد اؼبسجوف ُب‬
‫الزنزانة"‪.‬‬

‫ا‪٢‬بكمدار‪" :‬أنت ؾبنوف ي أفندـ! أماؿ إزاي ىرب‬


‫اؼبسجوف منْب خرج "‬

‫ا‪٤‬بأمور‪" :‬أان مػش قػادر أفػه إزاي ىػرب‪ ،‬وعلشاف كده قلت‬
‫إهنا حاجة ذبنن"‪.‬‬

‫ا‪٢‬بكمدار‪" :‬بلغ اغبكاية دي لرئيس البوليس السري ‪..‬‬


‫الشمس مل تشرؽ لآلف ‪ ...‬ابعتوا عساكر رباصر جزيرة ابالس أوتيل‬
‫من انحية الرب‪ ،‬امنعوا اػبروج والدخوؿ فيها‪ ،‬أرسلوا زوارؽ رباصر‬
‫اللوكاندة من انحية النهر فتشوا اللوكاندة ‪ ..‬فتشوا كل الغرؼ‪،‬‬
‫ربققوا من شخصية كل إنساف فيها ونفذوا بسرعة ىذه األوامر‪."..‬‬

‫ونفذت أوامر ا‪٢‬بكمدار ابلسرعة الٍب أرادىا‪ ،‬فحصرت ‪ٝ‬بيع‬


‫جهات الفندؽ اب‪١‬بنود والضباط وحضر رئيس البوليس السري اإلفر‪٪‬بي‬

‫‪295‬‬
‫مع رجالو ا‪٤‬بختارين وبدأوا تفتيش اللوكاندة‪ .‬أيقظوا ا‪٣‬بدـ واستدعوا‬
‫مدير اللوكاندة واطلعوا على البياانت ا‪٣‬باصة أب‪٠‬باء النازلْب فيها وأرقاـ‬
‫حجراهتم‪ٍ ،‬ب فتشوا ا‪٢‬بجرات واحدة بعد الثانية‪ ،‬ليتحققوا من شخصية‬
‫ا‪٤‬بقيم هبا‪.‬‬

‫ودقوا ابب غرفة الكونتس سيجريس فاستيقظت من النوـ‬


‫وفتحت الباب‪ ،‬فرأت أمامها مدير الفندؽ ومعو رئيس البوليس السري‬
‫الذي رأتو ُب الليل ُب قصر سرحاف ابشا حْب وضع القيد ُب يدي‬
‫صديقها أمامها‪ ،‬فظهر على وجهها الغضب وسألت ُب جفاء‪" :‬ماذا‬
‫تريدوف "‬

‫قاؿ رئيس البوليس‪" :‬نستأذف من حضرة الكونتس لتفتيش‬


‫الغرفة!"‬

‫فقالت‪" :‬ؼباذا وسأي حق تفعلوف ىذا "‬

‫قاؿ‪" :‬ليس لنا اغبق طبعاً إال إبذف منك‪ ،‬وكبن نريد تفتيش‬
‫صبيع حجرات اللوكاندة ألف حافظ قبيب ىرب من السجن‪ ،‬وألنو‬
‫وعدؾ ابغبضور لشرب الشاي معك‪ ،‬وؽبذا السبب نريد أف نتحقق‬
‫من عدـ وجوده ُب الفندؽ لبلختباء"‪..‬‬

‫‪296‬‬
‫وظهر االرتياح على وجو ا‪٢‬بسناء‪ ،‬وقالت‪" :‬وىل تظن أنِب‬
‫أظبح لرجل ابالختباء ُب غرفٍب ىل من الكياسة ُب ىذا البلد أف‬
‫يقاؿ لسيدة ؿبَبمة مثل ىذا القوؿ "‬

‫فقاؿ رئيس البوليس‪" :‬من حقك ي سيدٌب ىذه اؼببلحظة‪،‬‬


‫ولكننا ننفذ أوامر إدارية بسبب حادث جنائي‪ ،‬فاإلجراءات ال‬
‫تراعى الكياسة ‪ ..‬وال سبيز بْب الرجل والسيدة ألف األمر يشمل‬
‫اعبميع … "‬

‫فقالت‪" :‬أدخل ‪ ..‬فتش الغرفة كما تشاء إبذٍل لتطمئنوا‬


‫لعدـ وجود اؽبارب عندي ‪"..‬‬

‫وًب التفتيش‪ ،‬وا‪٫‬بُب رئيس البوليس أماـ السيدة احَباماً ‪٥‬با‬


‫لينصرؼ‪ ،‬فقالت تشيعو ابلتهكم عليو‪" :‬ولكن ىروب اؼبسجوف اػبطّب‬
‫معناه أنو سيرب بوعده وسيحضر ليشرب الشاي معي ‪ ...‬أليس ىذا‬
‫رأيك "‬

‫فقاؿ‪" :‬لقد عودان الشيطاف اعبرأة ُب مغامراتو ومفاجآتو‬


‫الطريفة‪ ،‬ولست أظن أنو يعجز عن اغبضور ُب الوعد الذي حدده ‪..‬‬
‫ولكننا نؤدي الواجب ُب حدود مقدرتنا … أكرر معذرٌب ي سيدٌب‬

‫‪297‬‬
‫… وسيكوف رجايل ىنا طوؿ النهار‪ ،‬وى على استعداد ػبدمتك ‪..‬‬
‫"‬

‫وصدؽ الرجل ُب إنذاره ألنو عْب ابابً واحداً للدخوؿ منو‬


‫وللخروج‪ ،‬وترؾ عليو حراساً علي رأسهم ضابط إيتارل ومعهم موظف‬
‫من إدارة الفندؽ يد‪٥‬بم على شخصيات السائحْب والسائحات الذين‬
‫ٱبرجوف من الفندؽ‪ ،‬أما الغريب الذي ٯبئ للوكاندة فيوقفو البوليس‬
‫ليتحقق من شخصيتو‪.‬‬

‫استمر ا‪٢‬باؿ على ىذا النظاـ طوؿ النهار‪ ،‬وتضايقت إدارة‬


‫الفندؽ من ىذه التصرفات فقاؿ ا‪٤‬بدير لرئيس البوليس‪" :‬أسبُب عدـ‬
‫مغامرة ذلك الرجل ابغبضور لشرب الشاي‪ ،‬ألف اؼبصادمة الٍب‬
‫ربدث بْب البوليس وبينو تكوف مزعجة تبعث نزالء اللوكاندة على‬
‫االستياء وعلى التذمر‪ ،‬ألف اؼبكاف هبب أف يدوـ فيو اؽبدوء التاـ"‪.‬‬

‫وقاؿ رئيس البوليس‪" :‬كلنا ربت رضبة الظروؼ الطارئة‬


‫واؼبفاجآت"‪.‬‬

‫فقاؿ ا‪٤‬بدير‪" :‬من احملقق أف لذلك الشيطاف عيوانً ترى‬


‫اغبصار اؼبضروب على اللوكاندة وقوات اعبنود اؼبستعدة للقبض‬

‫‪298‬‬
‫عليو إذا اجَبأ على اغبضور‪ ،‬فإذا كاف لو عقل سلي فإنو يبنعو من‬
‫اغبضور حباً ُب السبلمة"‪.‬‬

‫فابتسم رئيس البوليس وقاؿ‪" :‬ليس من عادة الرجل‬


‫االصطداـ ابلقوة مع رجاؿ البوليس‪ ،‬ألنو يلجأ على الدواـ إىل اغبيلة‬
‫ُب صبيع مغامراتو‪ ،‬فبل خوؼ إذف من مصادمات ابلقوة‪ ،‬إمبا كبن‬
‫نرجح أنو سيحضر حفلة الشاي متنكراً"‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫‪14‬‬
‫حاف موعد الشاي ‪ ..‬وجلست الكونتس بْب أصدقائها‬
‫ا‪٤‬بدعوين وكانوا عدداً قليبلً من الرجاؿ والسيدات‪ ،‬و‪ٝ‬بيعهم من النازلْب‬
‫ُب الفندؽ ا‪٤‬بعروفْب من إدارتو حق ا‪٤‬بعرفة‪ ،‬ودل ٰبضر معهم أي غريب‬
‫‪ ..‬فاطمأف مدير الفندؽ بعد انتهاء ا‪٢‬بفلة ألف ا‪٤‬بغامر دل يزعج أحداً‬
‫ٕبضوره‪ ،‬ودار ا‪٢‬بديث على ا‪٤‬بائدة عن ا‪٢‬بوادث الٍب وقعت ُب قصر‬
‫سرحاف ابشا‪ ،‬وجرأة الباروف دى ماسوف عندما ‪ٙ‬بدى ا‪١‬بميع وكشف‬
‫تنكره وأعلن عن نفسو‪ ،‬وقالت إحدى السائحات‪:‬‬

‫"كاف اؼبغامر ُب صورة بطل خيايل ظريف جداً وىو‬


‫يلتمس منك ربديد موعد لشرب الشاي معك ‪ ..‬وقد دفعِب‬
‫اإلعجاب بو إىل التصفيق حبرارة‪ ،‬وقد أشهد اغباضرين على قولو‬
‫الدعوة وعلى وعده ابغبضور لشرب الشاي ‪ ...‬ولكنو مل وبضر" ‪..‬‬

‫‪300‬‬
‫وقاؿ آخر‪" :‬لقد وعد الرجل ابلتخلص من السجن‬
‫واغبراسة الشديدة وقد فعل بسرعة‪ ،‬والذي ُب مقدوره اؽبروب من‬
‫السجن ابلوصف الذي ظبعناه ال يعجز عن اغبضور لشرب‬
‫الشاي"‪.‬‬

‫وقالت الكونتس‪" :‬أال تروف أف الفندؽ ؿبصور برجاؿ‬


‫البوليس طوؿ النهار‪ ،‬وأننا اآلف ربت مراقبته ‪ ،‬فليس من العقل أف‬
‫يعرض اإلنساف نفسو ػبطر القبض عليو أو قتلو‪ ،‬لقد سرٍل كل‬
‫السرور عدـ حضوره" ‪...‬‬

‫وقاؿ أحد سكاف الفندؽ ا‪٤‬بقيمْب بو ويدعى ا‪٤‬بيسو بنفيو‪" :‬مل‬


‫أكن موجوداً ُب حفلة سرحاف ابشا أمس‪ ،‬وأسفت كثّبا لعدـ رؤية ما‬
‫حدث من اؼبغامر اعبريء ُب تلك السهرة ‪ ...‬لقد وصفت الصحف‬
‫حادثة ىروبو سأهنا غريبة ال يتصورىا العقل" ‪..‬‬

‫وقاؿ آخر‪" :‬ظبعنا من بعض ضباط البوليس أهن سجنوه ُب‬


‫غرفة ابهبا مصفح ابغبديد‪ ،‬وعلى انفذهتا قضباف ظبيكة من اغبديد‪،‬‬
‫وأهن ختموا الباب ابلشمع‪ ،‬وحرسوا الباب والنافذة‪ ،‬ولكنو سبكن‬
‫من اػبروج من ىذا القرب الضيق بدوف أف وبدث كسراً أو نقباً ال ُب‬

‫‪301‬‬
‫اغبيطاف وال ُب الباب ‪ ...‬وال تزاؿ وسيلة ىروبو ؾبهولة تبعث على‬
‫الدىشة واغبّبة واالرتباؾ" ‪...‬‬

‫واهض ا‪١‬بميع عن مائدة الشاي وتفرقوا‪ ،‬وصعدت الكونتس‬


‫درجات السلم تريد البلوغ إذل غرفتها الستبداؿ ثوب العصر بغّبه‬
‫للمساء‪ ،‬وكاف يصعد إذل جانبها ا‪٤‬بسيو بنفيو فقاؿ‪" :‬أليس من الغريب‬
‫أف ذلك اؼبغامر اعبريء يعجز عن اغبضور لشرب الشاي كما‬
‫وعدؾ "‬

‫قالت‪" :‬ال… ال مكاف للومو على عدـ اغبضور ألف‬


‫استبقاء السبلمة ُب ىذه الظروؼ أفضل من مغامرة جديدة ال فائدة‬
‫منها‪ ،‬ولكنِب على يقْب من أنو سيحاوؿ مقابلٍب …"‬

‫قاؿ‪" :‬ومن أين ىذا اليقْب "‬

‫فارتبكت الكونتس قليبلً من ىذه ا‪٤‬ببلحظة الدقيقة‪ٍ ،‬ب قالت‪:‬‬


‫"يقوؿ اؼبنطق إف الرجل اؼبطارد الذي يتحدى القوة ويكشف تنكره‬
‫ويعرض نفسو للقبض عليو ألنِب رغبت ُب رؤية مغامرة‪ ،‬مل يفعل ذلك‬
‫كلو ومل يعرض نفسو للخطر إال ربت أتثّب دافع قوي ‪ ..‬وىذا‬
‫الدافع ىو الذي قواه على اؽبروب من السجن‪ ،‬وىو الذي سيدفعو‬
‫حملاولة مقابلٍب ُب ظرؼ مناسب ال يكوف فيو خطر عليو ‪"..‬‬

‫‪302‬‬
‫فابتسم بنفيو وقاؿ‪" :‬ىذا منطق سلي يصح أف يرتكز عليو‬
‫اليقْب فأان من رأيك سباماً ي سيدٌب‪ ،‬بل أزيد على يقينك يقيناً آخر‬
‫إذا ظبحت ابإلصغاء إىل"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬تكل "‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬يقوؿ اؼبنطق إف الذي كشف تنكره إلرضاء رغبتك‪،‬‬


‫والذي ربدى القوة أمامك‪ ،‬والذي طلب منك موعداً لشرب الشاي‬
‫وُب يديو قيد اغبديد‪ ،‬والذي ىرب من السجن وىو ربت اغبراسة‬
‫القوية‪ ،‬ال يعجز إطبلقاً عن الرب بوعده واجمليء إىل مائدتك ليشرب‬
‫الشاي إىل جانبك ‪"..‬‬

‫قالت‪" :‬ولكنو مل وبضر …"‬

‫قاؿ‪" :‬أنت إذف غّب منطقية وضعيفة الثقة حبافظ قبيب‬


‫صديقك ‪ ..‬قلت إف قوة نفسية ىي الٍب دفعتو للمخاطرة حبياتو‬
‫لّبضى رغبتك‪ ،‬فهل تعمل عمل ىذه القوة العاطفية الدافعة ىل‬
‫زالت أسباب وجودىا انزيل إىل أعماؽ صدرؾ ووجهي لنفسك ىذه‬
‫األسئلة "‬

‫فقالت‪" :‬ولكنو مل وبضر ي صاحيب … وأان أبرر عدـ‬


‫حضوره بدوف الشك ُب رغبتو أو ُب قدرتو"‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫فقاؿ‪" :‬الذي يثبتو اؼبنطق ال يصح أف تنفيو اغبواس‪ ،‬واان‬
‫أؤكد عكس ما شعرت بو بعض حواسك‪ :‬بصرؾ وظبعك ‪ ...‬وأجزـ‬
‫سأف صديقك حافظ كاف معنا على مائدة الشاي ‪"...‬‬

‫فقالت‪" :‬ىذا مستحيل ‪ ..‬ألنِب أعرؼ الذين كانوا معنا‬


‫وليس حافظ أحدى "‪.‬‬

‫فقاؿ‪" :‬إذف سأقدـ لك الدليل اغباس ‪ ..‬فقومي ابستبداؿ‬


‫ثوبك وقابليِب ُب غرفة التدخْب ألف حافظ يريد مقابلتك ‪ ..‬وقد‬
‫ضبلِب ىذه الرسالة لك"‪.‬‬

‫فقالت‪" :‬أنت سبزح ي رجل!"‬

‫فقاؿ‪" :‬ال أظن رجبلً نبيبلً يسمح لنفسو ابؼبزاح مع سيدة ُب‬
‫مثل اغباؿ النفسية الٍب أنت فيها‪ ،‬سأنتظرؾ ُب غرفة التدخْب"‪.‬‬

‫كاف االثناف على مقربة من غرفة بنفيو فا‪٫‬بُب ‪٥‬با ٰبييها ودخل‬
‫غرفتو‪ ،‬وأسرعت الكونتس إذل غرفتها لتبدؿ ثوهبا وىي ُب اضطراب‬
‫نفسي وارتباؾ‪ ،‬ولكن فؤادىا كاف يشعر ابالرتياح واالطمئناف‪.‬‬

‫نزلت الغرفة التدخْب ىادئة متزنة كعادهتا فوجدت بنفيو جالساً‬


‫يدخن ُب غليونو‪ ،‬فوجهت إليو نظرة طويلة لبلستفهاـ‪ ،‬فأجاب عليها‬
‫بدؽ ا‪١‬برس يستدعى ا‪٣‬بادـ‪ ،‬وأمره إبعداد عربة ٍب قاؿ للكونتس‪" :‬ليس‬

‫‪304‬‬
‫ىذا اؼبكاف صاغباً للتحدث فيو وال مقابلة من يَببص لو رجاؿ‬
‫البوليس‪ ،‬واألسرار ال تذاع بْب اعبدراف ألف وراءىا اآلذاف‪ ،‬إمبا‬
‫االطمئناف يكوف ُب الفضاء الواسع على األرض اؼبنبسطة اؼبكشوفة‬
‫فتعاؿ نبعد عن ىذا اؼبكاف ‪ ..‬ألنو يريد أف يراؾ ‪"..‬‬

‫فنهضت ا‪٢‬بسناء مطاوعة وركبت العربة إذل جانب زميلها‪،‬‬


‫فانطلقت إذل ا‪١‬بزيرة بطيئة كما أمر بنفيو ألف الغرض ىو التنزه وإمتاع‬
‫النظر ٗبشاىد الطبيعة ُب جو ىادئ ساكن ‪ ..‬واختار الرجل ا‪٤‬بكاف‬
‫الذي يصلح للتخلص من العربة ومن آذاف السائق‪ ،‬وسار ُب الشارع‬
‫الفسيح إذل جانب الكونتس ساكتاً ىادائً كأنو ‪ٙ‬بت أتثّب سحر الطبيعة‬
‫ذات ا‪٤‬بشاىد البديعة ‪ ..‬وقطعت ا‪٢‬بسناء ىذا السكوف وقالت‪" :‬أين‬
‫ينتظران حافظ قبيب "‬

‫قاؿ‪" :‬أنت معو اآلف" ‪..‬‬

‫قالت‪" :‬ىذا مستحيل! ‪ ..‬فأنت اؼبسيو بنفيو التاجر‬


‫اؼبعروؼ ‪ ..‬وليس لك صورتو وال بدنو وال صوتو" ‪..‬‬

‫قاؿ‪" :‬وىل كنت تعرفوف أف الباروف دى ماسوف ىو حافظ‬


‫قبيب قبل أف يكشف تنكره وىل كانت صورتو وصوتو يباثبلف‬

‫‪305‬‬
‫صورة وصوت ذلك اؼبغامر فلماذا ال ىبتفي وراء اس بنفيو وبدنو‬
‫كما اختفي من قبل وراء أظباء كثّبة مزيفة "‬

‫فقالت‪" :‬ولكن ‪"..‬‬

‫فقاؿ‪" :‬ىل كنت تريدين أف وبضر حافظ حفلة الشاي ُب‬


‫صورة أجنيب غريب ليلفت إليو أنظار رجاؿ البوليس أليست صورة‬
‫بنفيو واظبو اؼبزيف من البواعث الٍب طمأنت مدير الفندؽ ورجل‬
‫البوليس السري "‬

‫قالت‪" :‬ولكن كيف تريد مِب أف أعتقد أنك ىو ‪ ..‬أين‬


‫الدليل الذي يبنع أتثّب ىذه الفوارؽ "‬

‫فقاؿ‪" :‬أنت تذكرين طبعاً كل ما حدث حْب كشف الباروف‬


‫دى ماسوف تنكره ُب قصر سرحاف ابشا ‪"..‬‬

‫قالت‪" :‬نع ‪"..‬‬

‫فقاؿ‪" :‬لقد حوطت حافظ بذراعيك ‪ ..‬وسقط رأسك على‬


‫كتفو ‪"..‬‬

‫قالت‪" :‬نع ‪"..‬‬

‫‪306‬‬
‫فقاؿ‪" :‬مل أكن معك ُب تلك اغبفلة ‪ ..‬ومل يسمع أحد ما‬
‫نبست بو ُب أذف حافظ قبيب ‪"..‬‬

‫قالت‪" :‬نع ‪"..‬‬

‫قاؿ قلت ُب ٮبسك‪" :‬دافع عن حياتك ‪ ..‬ألنِب أحبك"‪.‬‬

‫فار٘بف جسم ا‪٢‬بسناء وقبضت يديها على كتف الرجل‪،‬‬


‫وحققت النظر ُب وجهو ‪٢‬بظة ٍب ار‪ٛ‬بت على صدره ُب عناؽ طويل‬
‫وقالت‪" :‬ىذه حقاً مفاجأة! ‪ ..‬ىل أان ُب يقظة ىل أمكن أف هترب‬
‫من السجن وأف ربضر ؼبقابلٍب ىذا غريب وبديع ومدىش! من‬
‫اؼبتعذر أف يبلغ خياؿ القصصي إىل مثل ىذه اؼبغامرات! ‪." ..‬‬

‫تنبهت عاطفة ا‪٤‬برأة بتأثّب االرتياح أوالً لؤلخبلؽ الرضية‪ ،‬و‪ٙ‬بوؿ‬


‫االرتياح إذل اطمئناف ٍب إذل صداقة ومودة وائتبلؼ‪ ،‬وجاءت ا‪٤‬بغامرة‬
‫ا‪١‬بريئة ُب قصر سرحاف ابشا فحملتها على اإلعجاب اب‪٤‬بغامر‪ ،‬وعلى‬
‫ا‪٣‬بوؼ على حياتو و‪ٛ‬بُب ‪٪‬باتو و‪ٙ‬بولت كل ىذه ا‪٤‬بؤثرات النفسية بقوة‬
‫الدفع إذل إعجاب ٍب إذل عطف شديد فحب طارئ ‪...‬‬

‫مل تر اغبسناء وجو حافظ قبيب اغبقيقي ألنو مستور وراء‬


‫ومسائل التنكر والشعور اؼبستعارة والظبلؿ الٍب تدؿ على الكهولة‪،‬‬
‫فل تكن البواعث على العطف واغبب الشباب واعبماؿ والفتوة‪ ،‬إمبا‬

‫‪307‬‬
‫كانت من نوع آخر أقوى من األوؿ‪ :‬كانت ارتياحاً واطمئناانً‬
‫وصداقة ومودة‪ٍ ،‬ب إعجاب ابعبراءة وابلشجاعة ُب اؼبآزؽ اغبرجة‬
‫واؼبقدرة على اإلفبلت من األخطار‪ .‬قدرت اؼبرأة األخبلؽ واؼبعرفة‬
‫والثقافة ودالئل الرجولة‪ ،‬وزاد ُب قيمة التقدير تضحية اؼبقامر حبريتو‬
‫وحياتو إلرضاء رغبة من رغباهتا فقدرت الصفات ال اؼبوصوؼ‪،‬‬
‫والرجولة ال الرجل ‪....‬‬

‫دل أترؾ ‪٥‬با فرصة لبلحَباس من الشرؾ ا‪٤‬بنصوبة القتناص‬


‫عاطفتها واحتبلؿ فؤادىا‪ ،‬ودل أتح ‪٥‬با أسباابً ‪ٛ‬ب ِّكن العقل من التفكّب‬
‫والفحص‪ ،‬جعلتها تقع ‪ٙ‬بت مؤثرات نفسية عنيفة متوالية ‪ٝ‬بعتها لتصب‬
‫مباشرة على عاطفتها ال على عقلها‪ ،‬فتنبهت مفاجأة واندفعت ُب‬
‫السبيل الذي وجهتها إليو فاستسلمت‪ ،‬قالت‪" :‬أريد أف يكتمل‬
‫إعجايب دبعرفة الوسيلة الٍب سبكنت هبا من اؽبروب من السجن‪ ،‬يلوح‬
‫يل أهنا عجيبة ؽبا غموض السحر وروعة اػبياؿ!"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬ليس من عادٌب االرذباؿ ُب تصرفاٌب وال ترؾ الوسائل‬


‫للصدؼ‪ ،‬فكل تصرؼ وكل حركة يتحت أف تكوف بعد درس وتدبّب‬
‫وتريب يؤدي إىل النتيجة الٍب أىدؼ إليها‪ ،‬وقد دبرت عملية اؽبروب‬
‫من شٌب األماكن الٍب هبوز سجِب فيها قبل موعد اغبفلة وقد قضت‬
‫الظروؼ بوضعي ُب سجن االستئناؼ بعد القبض على ُب قصر‬
‫‪308‬‬
‫سرحاف ابشا‪ ،‬ألنو أمًب استحكاماً من غّبه‪ ،‬واغبراسة فيو أدؽ منها‬
‫ُب أي سجن آخر كما يتونبوف"‪.‬‬

‫"البوليس يطاردٍل ُب نشاط مستمر‪ ،‬فيجوز أف يوفق للقبض‬


‫على مصادفة أو بسبب خطأ ُب تصرفاٌب‪ ،‬فيجب أف أدبر وسائل‬
‫اؽبرب قبل وضعي ُب السجن وعزيل عن العامل‪ ،‬ومن ىذه الوسائل أف‬
‫يكوف يل ُب سجن االستئناؼ مثبلً واحد من السجانْب أملكو‬
‫وأعتمد عليو وأان مطمئن ألمانتو وإطاعتو العمياء‪ ،‬والسجاف الذي‬
‫اخَبتو وامتلكتو ُب ىذا السجن جاويش يدعى ؿبمود توفيق"‪.‬‬

‫"خرج ُب ظهر النهار الذي تكوف اغبفلة ُب مسائو ُب وقت‬


‫االسَباحة ليتناوؿ طعاـ الغداء‪ ،‬وسار ُب ميداف ابب اػبلق خايل‬
‫الباؿ من كل مفاجأة‪ ،‬ولكن واحداً من أعواٍل يدعى خليل حداد‬
‫كاف ُب إثره حٌب بلغ مدخل شارع درب اعبماميز‪ ،‬وىناؾ غبق بو‬
‫وقاؿ لو‪" :‬ي جاويش ؿبمود أان رسوؿ إليك من الثعلب" ‪ .‬فظهر‬
‫على الرجل االضطراب من أتثّب اؼبباغتة‪ ،‬فقاؿ خليل‪" :‬إذا مل‬
‫تصدقِب فيها ىي بطاقتو الشخصية"‪ .‬وقدـ لو قطعة مستديرة من‬
‫النحاس عليها رس ثعلب فارتبك اعباويش وتبلشت قوة إرادتو‬
‫وأظهر اػبضوع التاـ‪ ،‬وقاؿ‪" :‬أان ربت أمرؾ ي سيدي"‪ .‬فقاده خليل‬
‫إىل مسكن متواضع ُب إحدى حارات ذلك الشارع‪ ،‬وقدـ لو طعاما‬
‫‪309‬‬
‫للغداء‪ ،‬وعرض عليو األوامر الصادرة إليو لتنفيذىا ُب حالة القبض‬
‫على وحبسي ُب سجن االستئناؼ"‪.‬‬

‫"من ىذه األوامر أف يكوف اعباوش النوبتجي ُب تلك الليلة‪،‬‬


‫وىذا يستدعى أف يتفق مع اعباويش الذي عليو النوبة ؼببادلتو سأية‬
‫تضحية ومنها أف الضرورة ربت عليو أف يكوف معو مفتاح التأمْب‪،‬‬
‫ومفاتيح السجن تسحب صبيعها من السجانْب ُب آخر النهار‬
‫ولتحفظ بعيداً عن أيدي حراس الليل‪ ،‬وىذا اؼبفتاح سيصل إليو بعد‬
‫انصراؼ موظفي السجن وغلق الباب اػبارجي"‪.‬‬

‫"ومنها وسيلة إخراج اؼبسجوف من الزنزانة بدوف شعور أي‬


‫إنساف هبذه العملية وبدوف إدراؾ الوسيلة ‪ .‬وشرحها لو شرحاً وافياً‬
‫حٌب ال ىبطئ ُب التنفيذ"‪.‬‬

‫"وألقي القبض على ُب حفلة القصر وحبسوٍل ُب زنزانة خت‬


‫ابهبا ابلشمع وجعلوا أمامو حارساً وبرسو‪ ،‬ووضعوا ُب فناء السجن‬
‫الداخلي حارساً اثنياً وبرس انفذة غرفٍب الٍب تطل عليو‪ ،‬وىذا ىو‬
‫كل ما ُب مقدورى عملو ُب السجن للحراسة‪ .‬مفتاح التأمْب يفتح‬
‫أبواب حجرات صبيع السجوف اؼبصرية عدا الباب اػبارجي‬
‫للسجوف‪ ،‬وىذا اؼبفتاح يكوف عادة مع مأمور السجن‪ ،‬ومع وكيل‬

‫‪310‬‬
‫السجن‪ ،‬وآخر مع رئيس السجانْب‪ ،‬وينتقل ُب بعض الظروؼ إىل‬
‫أيدي غّبى من السجانْب‪ ،‬فمن السهل جداً أخذ بصمتو على‬
‫الشمع وعمل مفاتيح من نوعو تؤدي عملو"‪.‬‬

‫"فأرسلنا واحداً منها إىل اعباويش ؿبمود داخل رغيف ومعو‬


‫طعاـ العشاء وكاف يعل سأف العجوة الٍب مع الطعاـ ُب جزء منها‬
‫ـبدر"‪.‬‬

‫"من عمل اعباويش ُب الليل اؼبرور على السجاف اغبارس ُب‬


‫مركزه وفحص ساعتو وتنشيطو على السهر‪ ،‬وىكذا فعل وكاف ظريفاً‬
‫مع كل سجاف‪ ،‬فأعطاه قطعة من العجوة فأكلها‪ ،‬وأثر اؼبخدر ُب‬
‫الوقت احملدد لو‪ ،‬وؼبا ربقق اعباويش من السجاف األوؿ أنو ـبدر عل‬
‫لو ساعتو ابؼبفتاح اؼبثبت ُب اغبائط ليثبت أنو كاف متيقظاً طوؿ‬
‫الليل‪ ،‬وفتح ابب العنرب دبفتاح التأمْب الذي أرسلتو إليو‪ ،‬وكاف‬
‫السجاف الثاٍل أضبد أبو طاحوف ـبدراً كزميلو فعل اعباويش ساعتو‪،‬‬
‫وأوقد مصباح الكؤوؿ وسخن فوؽ اللهب موسى حبلقة لو يد‪ٍ ،‬ب‬
‫كشط اػبت بشمعو من صدغ الباب وفتح ابب الزنزانة دبفتاح‬
‫التامْب فخرجت من اغببس‪ ،‬وأغلقنا الباب وسخنا الشمع ربت‬
‫اػبت ولصقناه ُب مكانو األوؿ"‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫"وُب الفناء الكبّب داخل العنرب ابب عادي يؤدي إىل فناء‬
‫ؿبكمة االستئناؼ ففتحو اعباويش وخرجت منو وأغلقو خلفي‪،‬‬
‫واختبأت ُب ذبويف فتحة الباب ؿباذرة من عْب اغبارس الواقف ُب‬
‫كشك خشيب على سطح السور الواصل بْب بناء احملافظة وبناء‬
‫السجن‪ ،‬وىذا اؼبركز يب ِّكن اغبارس من مراقبة فناء السجن الداخلي‬
‫وفناء ؿبكمة االستئناؼ ‪ .‬كاف طوؿ ىذا السور قريبا من ‪ 30‬مَباً‪،‬‬
‫وكذلك عرض فناء دار احملكمة‪ ،‬تربصت أنتظر الفرصة الٍب تسمح‬
‫يل ابجتياز الفناء ألصل إىل الباب األخّب من الناحية الشرقية لبناء‬
‫احملكمة‪ ،‬فهناؾ عدة درجات وحوؽبا سياح من الطوب واعببس‬
‫(درابزين)"‪.‬‬

‫"فإذا سبكنت من الصعود إىل هنايتو أصّب قريباً جداً من أعلى‬


‫السور الذي يطل على شارع درب سعادة‪ ،‬وُب اعبهة الشرقية من‬
‫السجن سور يبتد من الناحية القبلية من حدود بناء السجن إىل أوؿ‬
‫بناء احملكمة‪ ،‬وطولو يبلغ تقريبا من ‪ 150‬مَباً‪ ،‬وعليو حارس مسلح‬
‫كشكو ُب الناحية القبلية من السور ولكنو ال يبصر اعبزء الذي‬
‫سأثب منو إىل ىذا السور وأىبط منو إىل الشارع"‪.‬‬

‫"انتظرت طويبلً حٌب ربرؾ اغبارس فوؽ السور األوؿ فقطعو‬


‫إىل هنايتو‪ٍ ،‬ب أدار ظهره لناحيٍب ليعود أدراجو فاغتنمت ىذه الفرصة‬
‫‪312‬‬
‫وقطعت فناء احملكمة وارتقيت الدرجات واغباجز والسور ووثبت‬
‫الشارع درب سعادة ‪ ..‬عملية بسيطة سهلة أديتها ُب خفة القرد"‪.‬‬

‫"كنت أرتدي الفراؾ بدوف معطف وال قبعة ألنِب تركتهما ُب‬
‫قصر سرحاف ابشا‪ ،‬فسرت متئداً حٌب وصلت إىل دار الكتب بشارع‬
‫دمحم علي‪ ،‬وركبت عربة إىل درب اعبماميز إىل اؼبسكن الذي يقي بو‬
‫خليل حداد‪ ،‬وىناؾ تتكوف ُب الصورة اؼبعروفة للمسيو بنفيو‬
‫وأخذت معطفاً وقبعة وعدت إىل الطريق‪ٍ ،‬ب ركبت عربة وصلت هبا‬
‫إىل فندؽ جزيرة ابالس أوتيل‪ ،‬فسرت إىل غرفٍب ومبت"‪.‬‬

‫"وربقق رئيس البوليس من شخصيٍب‪ ،‬وعرؼ من مدير‬


‫الفندؽ أنِب زبوف دائ معروؼ وموثوؽ من أخبلقي‪ ،‬فحمتِب ىذه‬
‫االحتياطات من الشك ُب أمري وطمأنت رجاؿ البوليس‪ ،‬وانصرؼ‬
‫ىؤالء غبراسو الفندؽ من اػبارج والتحقق من شخصيات من يدخلو‬
‫أو ىبرج منو"‪.‬‬

‫"ومن اؼبلح الٍب تستحق الذكر أف مدير اللوكاندة دعا رئيس‬


‫البوليس السري لتناوؿ الغداء على مائدتو الواقعة جبواري‪ ،‬وتبادلنا‬
‫اغبديث أثناء تناوؿ الطعاـ وكاف يدوف حوؿ حافظ قبيب والتساؤؿ‬

‫‪313‬‬
‫عن جرأتو‪ :‬ىل تدفعو للمخاطرة بنفسو واغبضور اغبفلة الشاي أو‬
‫يؤثر السبلمة على الوفاء بوعده لسيدة "‬

‫قالت‪" :‬كتبت الصحف عن حادثة اؽبروب أهنا عجيبة تلوح‬


‫للعقوؿ أهنا سبت بواسطة السحر‪ ،‬وشرحك هبعلها بسيطة وفبكنة!"‬

‫قلت‪" :‬تصرفات كثّبة تعجز العقوؿ عن إدراؾ أسباهبا أو‬


‫وسائلها فتتوى أهنا مدىشة أو ُب حك اؼبعجزة‪ ،‬واغبقيقة أهنا على‬
‫مثاؿ ىرويب اؼبدبر وسائلها طبيعية أو سهلة ُب مقدور كل عقل سلي‬
‫اللجوء إليها وعملها‪ ،‬وكل غرض يسهل البلوغ إذا رتبت التصرفات‬
‫الٍب تؤدي إليو‪ ،‬وإذا ن ِّفذت الوسائل بعناية ودقة وجرأة"‪.‬‬

‫وضع البوليس رقابة دقيقة على الكونتس سيجريس العتقاده أف‬


‫حافظ ‪٪‬بيب يهيم هبا‪ ،‬وقد غامر تلك ا‪٤‬بغامرات ا‪٣‬بطرة للفت نظرىا إليو‬
‫و‪ٞ‬بلها على اإلعجاب بو ومن احملقق أف الولع بتك ا‪٢‬بسناء سيدفعو‬
‫حملاولة االتصاؿ هبا متنكراً ُب شخصية جديدة‪ ،‬فإذا وضعت الكونتس‬
‫‪ٙ‬بت ا‪٤‬براقبة ٲبكنو معرفة كل من يتصل بو‪ ،‬فإذا كانت الشخصية جديدة‬
‫وغّب معروفة توضع أيضاً ‪ٙ‬بت ا‪٤‬براقبة للتحقق منها ومعرفة حقيقتها‪.‬‬

‫وعرؼ رئيس البوليس السري من ا‪٤‬براقبْب أف الكونتس تبلزـ‬


‫ا‪٤‬بسيو بنفيو وأنو يتودد إليها بصورة ظاىرة تدؿ على ولعو هبا‪ ،‬وىي ال‬

‫‪314‬‬
‫تنفر منو و‪ٚ‬بلو بو ُب غرفة التدخْب أو ُب حديقة الفندؽ ا‪٤‬بسامرة ُب‬
‫عزلة عن الناس‪ ،‬ولكن ا‪٤‬بسيو بنفيو رجل معروؼ ُب الفندؽ من زماف‬
‫بعيد ال ٯبوز الشك فيو‪ ،‬إ٭با من ا‪٢‬بكمة االعتماد عليو كعاشق ‪٤‬بعاونة‬
‫البوليس ُب مراقبة كل من ٰباوؿ االتصاؿ ابلكونتس‪ ،‬ألف أحسن‬
‫ا‪٤‬براقبْب للمرأة الرجل الذي ٰببها‪ ،‬ألف الغّبة تدفعو للشك ُب كل غريب‬
‫يدنو منها‪.‬‬

‫ودل يَبدد رئيس البوليس ُب تنفيذ خطتو فقابل ا‪٤‬بسيو بنفيو‬


‫والتمس منو معاونة العدالة ُب االىتداء إذل الشقي‪ ،‬وصارحو أبنو‬
‫سيحاوؿ االتصاؿ الكونتس سيحاوؿ إيهامها أبنو واقع ُب غرامها‬
‫ليستهويها ٍب يسلبها جواىرىا على األقل‪.‬‬

‫ُب عصر ذلك النهار انفرد ا‪٤‬بسيو بنفيو اب‪٢‬بسناء ُب حديقة‬


‫الفندؽ وحدثها ُب ىذا ا‪٤‬بوضوع حديثاً طويبلً‪ .‬فقالت‪" :‬إذف كف‬
‫البوليس عن مراقبٍب وتركها لك "‬

‫فقلت‪" :‬نع ‪..‬ووكد يل رئيس البوليس أف حافظ قبيب خطر‬


‫عليك سيحتاؿ ابس اغبب ليسلب مالك وجواىرؾ"‪.‬‬

‫قالت وىي تبتسم‪" :‬وىل ىذا صحيح "‬

‫‪315‬‬
‫فقلت‪" :‬أان على يقْب من الشقي أنو يطمع ُب أكثر من اؼباؿ‬
‫واعبواىر … يطمع ُب اغبصوؿ عليك أنت ‪"..‬‬

‫قالت‪" :‬وىل ُب مقدوره ربقيق ىذه الرغبة "‬

‫فقلت‪" :‬ليس األمر مستحيبلً ‪" ..‬‬

‫فقالت‪" :‬سنرى كيف وباوؿ إسباـ ىذه اغبيلة ‪ ..‬ولكن أال‬


‫ترى أف اعتماد البوليس عليك من أوضح األدلة على غباء أولئك‬
‫الناس "‬

‫فقلت‪" :‬فكرة واحدة خاطئة تضيع من القائد األعظ معركة‪،‬‬


‫وفكرة مراقبتك بواسطة منافس حافظ قبيب ُب اغبب فكرة صائبة‬
‫ومنطقية‪ ،‬ولكن اػبطأ كل اػبطأ جاء من الثقة ابؼبسيو بنفيو"‪.‬‬

‫ِّ‬
‫وسأعْب وقت رحيلي‬ ‫فقالت‪" :‬لقد مللت اإلقامة ُب القاىرة‪،‬‬
‫عنها‪".‬‬

‫قلت‪" :‬األى من ىذا تعيْب وقت زواجنا"‪.‬‬

‫فقالت‪" :‬لقد صارحتك سأنِب أعجب بك ‪ ..‬بل أحبك‪،‬‬


‫ولكن االقَباف بك متعذر ألف البوليس مستمر ُب مطاردتك‪ ،‬وىذه‬
‫اؼبطاردة تنغص العيش وسبنع اؽبدوء واالستقرار ُب حياة زوجية‬
‫ىادئة"‪.‬‬
‫‪316‬‬
‫فقلت‪" :‬ىل ىذه ىي العقبة اؼبنفردة الٍب تعطل االقَباف "‬

‫فقالت‪" :‬نع "‪.‬‬

‫فقلت‪" :‬وإذا كف البوليس عن اؼبطاردة بسبب زواؿ‬


‫أسباهبا‪ ،‬ىل تقبلْب االقَباف حبافظ قبيب "‬

‫فقالت‪" :‬بدوف تردد ‪ ..‬بل أجد ىناء ُب ذلك الزواج"‪.‬‬

‫فقلت‪" :‬ىل تقسمْب على ىذا "‬

‫فقالت‪" :‬أقس "‪.‬‬

‫فقلت‪" :‬لقد تفانبنا وًب االتفاؽ بيننا‪ ،‬وكل رجائي منك‬


‫االنتظار أيما قبل مغادرة مصر‪ ،‬وسأغيب عن ىذه األيـ ُب رحلة‬
‫إىل األقصر وأسواف ألف أعصايب مزلزلة بتأثّب ما تواىل على من‬
‫اؼبؤثرات العنيفة"‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫‪15‬‬
‫من الشخصيات الٍب تنكرت هبا ُب ذلك ا‪٢‬بْب نفسو شخصية‬
‫الشيخ "صاّب عبد اعبواد"‪ ،‬وىو قروي متحضر يقيم ُب مسكن‬
‫متواضع بشارع األنتيكخانة‪ ،‬تتوذل ا‪٣‬بدمة فيو جارية صماء تدعى‬
‫حليمة‪ ،‬وال يزوره ُب ىذا البيت سوى خليل حداد‪١ ،‬بأ حافظ إذل ىذا‬
‫ا‪٤‬بسكن بعد مقابلتو األخّبة للكونتس واستدعى صديقو خليل‪ ،‬فجرت‬
‫بينها ىذه احملادثة ‪.‬‬

‫قاؿ الشيخ‪" :‬جد طارئ ىاـ يستدعى مغامرة جديدة"‪.‬‬

‫قاؿ خليل‪" :‬كثرت اؼبغامرات الكثّبة بسبب ىذه الكونتس‪،‬‬


‫وليس ُب الدنيا امرأة تساوي شيئاً من ىذه اعبهود الٍب تبذؿ"‪.‬‬

‫فقاؿ الشيخ‪" :‬الذي يلعب الورؽ يتلهى‪ ،‬والذي يلعب‬


‫البلياردو يتسلى‪ ،‬فكذلك اؼبغامرات تسلية العاطل"‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫قاؿ خليل‪" :‬وما نوع اؼبغامرة اعبديدة ىل تريد السفر إىل‬
‫اؼبريخ "‬

‫قاؿ الشيخ‪" :‬ال … إمبا أريد رحلة قصّبة إىل القرب فقط"‪.‬‬

‫قاؿ خليل‪" :‬وىل عزمت على االنتحار "‬

‫قاؿ الشيخ‪" :‬الضعيف اعبباف ىو الذي يدفعو اليأس إىل‬


‫االنتحار‪ ،‬أما أان سوؼ أكتفي ابؼبوت"‪.‬‬

‫قاؿ خليل‪" :‬يلوح يل أنك أصبت ابعبنوف!‪" ..‬‬

‫قاؿ الشيخ‪" :‬سأموت‪ ،‬وسأدفن‪ٍ ،‬ب أقوـ من اؼبوت وأخرج‬


‫من القرب لكي أتزوج اإلسبانية اغبسناء"‪.‬‬

‫قاؿ خليل‪" :‬وؼباذا تبتغي اؼبوت مادمت تريد العودة إىل‬


‫اغبياة "‬

‫قاؿ الشيخ‪" :‬ألف اؼبوت ىو السبيل اؼبفرد الذي يزيل العقبة‬


‫الٍب سبنع الزواج"‪.‬‬

‫فقاؿ خليل‪" :‬أؤكد لك أنك مصاب اعبنوف"‪.‬‬

‫قاؿ الشيخ‪" :‬أؤكد لك أنك غيب … ال تقبل الكونتس‬


‫االقَباف برجل يطارده البوليس واؼبوت يسقط األحكاـ الغيابية الٍب‬

‫‪319‬‬
‫صدرت ضدي‪ ،‬ويسقط القضاي الٍب مل يت الفصل فيها‪ ،‬فيكف‬
‫البوليس عن مطاردٌب‪ ،‬فأعيش بْب الناس ُب حياة جديدة ىادئة‬
‫وأضبل اظباً جديداً ليس لو عبلقة ماضية ابلناس"‪.‬‬

‫قاؿ خليل‪" :‬خياؿ بديع! ‪ ..‬ولكن كيف سبوت وكيف تعود‬


‫إىل اغبياة وكيف تتمكن من اػبروج من القرب "‬

‫قاؿ الشيخ‪" :‬يت ىذا كلو بوسائل بسيطة سهلة ولكنها تلوح‬
‫لؤلغبياء عمبلً سحريً"‪.‬‬

‫قاؿ خليل‪" :‬أمن أجل امرأة وغراـ طارئ زائل تغامر ىذه‬
‫اؼبغامرة اعبنونية "‬

‫قاؿ الشيخ‪" :‬لكل شيء شبن يدفعو الراغب فيو‪ ،‬فكذلك‬


‫اؽبناء ابغبصوؿ على اغبسناء الٍب أشتهيها ؽبا شبن يتحت أف أدفعو"‪.‬‬

‫قاؿ خليل‪" :‬قلت لك إف ىذا التصرؼ جنوف‪ ،‬والزمن كفيل‬


‫بنسياف ىذه اؼبرأة كما نسيت كثّبات غّبىا من قبل"‪.‬‬

‫قاؿ الشيخ‪" :‬سأكوف مريضاً من ىذه اللحظة‪ ،‬وسأالزـ‬


‫الفراش إىل أف تت عملية اؼبوت ‪"..‬‬

‫ومرض الشيخ صاحل فعبلً واستدعى الطبيب ا‪٤‬بختار ‪٤‬بعا‪١‬بتو‪،‬‬


‫فقرر بعد الفحص أف القلب ضعيف‪ٍ ،‬ب كتب الدواء وأمر ابلراحة‬
‫‪320‬‬
‫التامة‪ .‬واستدعى الطبيب مرات بعد ذلك فبلحظ ُب بعضها ‪ٙ‬بسناً ُب‬
‫صحة ا‪٤‬بريض‪ ،‬والحظ بعد ذلك ىبوطاً ُب القلب ٍب استمرار ُب ا‪٥‬ببوط‪،‬‬
‫فبدؿ الدواء‪ ،‬واستمرت ىذه ا‪٤‬بخادعة أايماً حٌب حار الرجل ُب أمر ىذا‬
‫القلب الذي يقوى ٍب يضعف رغم العبلج‪.‬‬

‫وكاف الطبيب يظهر االحَباـ ‪٣‬بليل ألنو يدفع لو األجور بسخاء‬


‫يدؿ على إسراؼ و‪٤‬با ظهر االستياء على الدكتور ُب الزايرة األخّبة سألو‬
‫خليل ٕبرارة ورجا منو أف يصارحو اب‪٢‬بقيقة فقاؿ الطبيب‪" :‬اغبالة اليوـ‬
‫سيئة جداً ‪ ..‬فالقلب ضعيف جداً ‪ ..‬وؼبرضو مفاجآت ‪ ..‬وردبا‬
‫يبوت اؼبريض بعد ساعات"‪.‬‬

‫فقاؿ خليل‪" :‬ىل أستدعى أىلو من البلد "‬

‫فقاؿ الطبيب‪" :‬وبسن استدعاؤى ألف األمل ُب الشفاء‬


‫ضعيف"‪.‬‬

‫أدى الرجل الغافل واجبو ٍب أنصرؼ‪ ،‬ولكنو دل يَبؾ لشأنو سيق‬


‫ُب تلك الليلة السهرة ‪ٞ‬براء شرب فيو ا‪٣‬بمر وأفرط ُب الشرب ودل يشعر‬
‫اب‪٤‬بلل من طوؿ السهرة ألف ا‪٢‬بفلة كانت عامرة بذوات ا‪٢‬بسن من‬
‫ا‪١‬بنس الناعم والدالؿ ا‪٤‬بغري‪ ،‬فقضى السهرة حٌب انبثق ضوء الفجر‬
‫وآذف الليل ابالنصراؼ‪ ،‬وكذلك أىل ىذا اجمللس‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫وصل الطبيب إذل بيتو سكراف من الراح ومن مفاتن ا‪٤‬ببلح‪،‬‬
‫فقيل لو ُب البيت إف خليل أفندي حضر ُب الليل مرتْب الستدعائو‬
‫لعيادة الشيخ صاحل‪ ،‬فلم يعبأ السكراف اب‪٤‬بريض ألنو ‪٨‬بمور فقد االتزاف‬
‫وصار ُب حاجة إذل النوـ والراحة فآوى إذل الفراش والشمس ترسل‬
‫أشعتها على الكوف‪ .‬وُب ىذه الظروؼ الٍب قست على أعصاب‬
‫الطبيب وعلى عقلو حضر خليل أفندي وبلغو نبأ حضوره مرتْب ابلليل‬
‫للسؤاؿ عنو‪ٍ ،‬ب نبأ بوفاة الشيخ ‪...‬‬

‫كاف الطبيب مقتنعاً أبف ا‪٤‬برض ُب القلب‪ ،‬وأف الشفاء متعذر‬


‫فصار من رأيو أف ا‪٤‬بوت نتيجة طبيعية لتلك ا‪٢‬باؿ فكتب شهادة الوفاة‬
‫الٍب ‪ٛ‬بكن من دفن ا‪٤‬بيت‪ ،‬وىو ‪ٙ‬بت أتثّب اعتقاده‪ .‬و‪ٙ‬بت أتثّب ا‪٣‬بمر‬
‫والسهر الطويل والضعف والرغبة القوية ُب النوـ‪ ،‬وتيسرت األمور وثبت‬
‫موت الشيخ صاحل وبدأت عملية ٘بهيزه للدفن‪ٛ ،‬بت ىذه العملية‬
‫ٗبباشرة خليل أفندي حٌب وضعت ا‪١‬بثة ُب النعش وسارت ا‪١‬بنازة ُب‬
‫طريقها إذل القرب‪.‬‬

‫ولكن الغرض األساسي دل يتم ألف ا‪٤‬براد إثبات موت حافظ‬


‫‪٪‬بيب ال الشيخ صاحل عبد ا‪١‬بواد‪ ،‬فنبأت شخصية ‪٦‬بهولة ‪٧‬بافظة مصر‬
‫ٗبوت حافظ وىو متنكر ابسم الشيخ صاحل وأبف ا‪١‬بثة ستدفن ُب مقربة‬
‫ابجملاورين‪ ،‬واىتمت احملافظة هبذا النبأ السار وأرسلت بعض رجا‪٥‬با إذل‬

‫‪322‬‬
‫ا‪٤‬بقربة قبل وصوؿ ا‪١‬بنازة البطيئة السّب‪ ،‬وكشفوا وجو ا‪٤‬بيت قبل دفنو‬
‫و‪ٙ‬بققوا منو فاقتنعوا أبنو الشقي حافظ الذي يطاردونو‪ ،‬وثبت ‪٥‬بم الوفاة‬
‫أبمر الصحة الذي أيذف ابلدفن‪ ،‬وًب دفن ا‪١‬بثة أمامهم ُب القرب الذي‬
‫أعد ‪٥‬با من قبل‪ ،‬وأنصرؼ ا‪٤‬بشيعوف الذين ‪ٝ‬بعوا للسّب ُب ا‪١‬بنازة‪.‬‬

‫وبلغ ىؤالء الشهود احملافظة ٗبوت الشقي ودفنو مع إ‪ٛ‬باـ ‪ٝ‬بيع‬


‫إجراءات القانونية الٍب تفرضها مصلحة الصحة‪ .‬ولقي ىذا ا‪٤‬بوت‬
‫ارتياحاً من ‪ٝ‬بيع ا‪١‬بهات ا‪٢‬بكومية‪ ،‬و‪ٛ‬بموا واجبهم إبثبات ىذا ا‪٤‬بوت ُب‬
‫النشرة اإلدارية إلعبلف ا‪١‬بميع ابلكف عن البحث عن حافظ ‪٪‬بيب‬
‫بسبب وفاتو‪.‬‬

‫يقتضي ا‪٢‬باؿ وصف ا‪٤‬بقربة الٍب ىيئت لدفن حافظ ‪٪‬بيب ألاها‬
‫لعبت دوراً ىاماً ُب إثبات موتو ودفنو ٍب العودة إذل ا‪٢‬بياة وإذل ظهر‬
‫األرض‪ ،‬ومكنتو من ا‪٢‬برية ومن السعي لتحقيق غرضو‪ .‬ا‪٤‬بقربة فناء بو‬
‫قرباف متجاوراف وغرفة لبلنتظار ودورة مياه‪ ،‬وٰبيط اب‪١‬بميع سور مرتفع‬
‫لو ابب من قضباف ا‪٢‬بديد يوصل من الشارع إذل داخل ا‪٤‬بقربة‪ٍ .‬ب بناء‬
‫ىذه ا‪٤‬بقربة بسرعة وًب إعداد القرب األوؿ الستقباؿ ا‪٤‬بيت الذي رجح‬
‫أىلو أنو ُب خطر ا‪٤‬بوت‪ ،‬ودل يتم بناء القرب الثاشل ا‪٤‬ببلصق لو إ٭با بقيت‬
‫فيو وعلى حافتو مواد البناء إل‪ٛ‬باـ القرب ُب الوقت ا‪٤‬بناسب‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫ودفنت جثة ا‪٤‬بيت ُب القرب األوؿ بعد عصر يوـ ا‪٣‬بميس‬
‫وانصرؼ ا‪٤‬بشيعوف‪ ،‬أما رجاؿ البوليس فقصدوا إذل ا‪٤‬بسكن الذي كاف‬
‫مأوى ‪٥‬بذا الشقي ا‪٤‬بطارد ففتشوه فلم يهتدوا إذل شيء يهمهم‪ ،‬وسألوا‬
‫ا‪١‬بارية الصماء ُب ‪٧‬بضر ‪ٙ‬بقيق فثبت فيو أاها ال تعرؼ شيئاً عن سيدىا‬
‫سوى أف ا‪٠‬بو الشيخ صاحل‪ ،‬وأاها دل تبلحظ شيئاً سوى غيابو الطويل‬
‫عن البيت‪ ،‬وأنو لزـ البيت والفراش ُب النهاية بسبب مرضو‪ ،‬وأف الطبيب‬
‫كاف يعا‪١‬بو‪ ،‬وكانت ا‪٢‬باؿ أحياان تقتضي استدعاءه وبقى على تلك‬
‫ا‪٢‬باؿ حٌب مات ٍب نقلوه للدفن‪ .‬وكاف ىذا احملضر خا‪ٛ‬بة إجراءات‬
‫البوليس‪.‬‬

‫أما ا‪٤‬بيت فبقى ُب القرب جثة ال حراؾ هبا‪ ،‬وكاف حافظ ‪ٙ‬بت‬
‫أتثّب ‪٨‬بدر قوي جعلو ُب ‪ٝ‬بود يشبو ‪ٝ‬بود ا‪٤‬بوت‪ ،‬وزاؿ أتثّب ا‪٤‬بخدر بعد‬
‫ساعات وأخذت األعضاء تعود إذل ا‪٢‬بركة الظاىرة‪ٙ ،‬برؾ الذراع أوالً‪،‬‬
‫وغّب وضعو ٍب استقر وسكن وقتاً غّب قصّب‪ .‬وجعلت األعضاء األخرى‬
‫تتحرؾ من حْب إذل حْب‪ٙ ،‬برؾ القدـ وسكن‪ ،‬و‪ٙ‬برؾ الذراع اثنيا‬
‫واستقر‪ ،‬و‪ٙ‬برؾ الرأس ليسَبيح ُب وضع جديد‪ ،‬فساعدت ىذه ا‪٢‬بركات‬
‫على نشاط الدورة الدموية ٍب على التنبو قليبلً قليبلً وعلى التنفس‬
‫بصوت يسمع‪.‬‬

‫‪324‬‬
‫و‪ٙ‬برؾ جسم ا‪٤‬بيت كلو بعد ذلك‪ ،‬انقلب إذل اليمْب واستقر‬
‫برىة‪ ،‬و‪ٙ‬بوؿ إذل اليسار واسَباح‪ٍ ،‬ب زادت حركة الذراعْب‪ ،‬وأخّباً حاوؿ‬
‫ا‪١‬بسم النهوض فبذؿ جهداً حٌب ‪ٛ‬بكن من ا‪١‬بلوس‪ ،‬ولكنو دل يتحمل‬
‫ىذه ا‪٢‬بركة العنيفة فسقط اثنياً على األرض برىة طويلة‪ ،‬و‪٤‬با زاد نشاط‬
‫ا‪٢‬بركة الدموية عادت للجسم بعض قوتو فاستطاع ا‪١‬بلوس إ٭با ُب إعياء‬
‫شديد وحرؾ حافظ ذراعيو حركة اختبارية كأنو يدفع عنو سبب ىذا‬
‫الضعف‪ ،‬فبدأ عقلو يستيقظ وينبو الشعور‪.‬‬

‫أحس صداعاً شديداً فقبض على رأسو بيديو وقاؿ‪" :‬ما ىذا‬
‫الصداع الشديد "‪ ،‬وقاؿ بعد برىة‪" :‬وأين أان "‪ ،‬وتنبهت الذاكرة قليبلً‬
‫ٍب قاؿ‪" :‬تذكرت ‪ ..‬أان ُب القرب ‪ ...‬لقد دفنوٍل ‪ ...‬ولكن ىل نفذ‬
‫خليل صبيع توصياٌب " ‪ ...‬ومد يده إذل جانبو يبحث فاىتدت اليد إذل‬
‫الشيء الذي يبحث عنو فتناولو وضغط على زر فيو فسطع النور من‬
‫مصباح كهرابئي صغّب‪ .‬ومد يده إذل الناحية الثانية وٕبث فوجد زجاجة‬
‫صغّبة تركت إذل جانبو‪ ،‬فتناو‪٥‬با ورفع سدادهتا أبسنانو‪ٍ .‬ب رفعها إذل فمو‬
‫وصب فيو ما فيها من السائل ا‪٤‬بنبو‪ .‬أخطأ حافظ ُب ىذه العملية‪.‬‬

‫كاف من الواجب أف يتناوؿ ا‪٤‬بنبو جرعات على مرات بينها‬


‫فَبات راحة‪ ،‬فيسبب لو ا‪٣‬بطأ سرعة ُب الدورة الدموية ودواراً دل ٰبتملو‬
‫فسقط على األرض وسكن عليها وقتاً غّب قصّب حٌب زالت قوة ا‪٤‬بؤثر‬

‫‪325‬‬
‫فتبلشى الدوار‪ .‬واهض فجلس برىة يستجمع شتات أفكاره‪ٍ ،‬ب انتصب‬
‫واقفاً ومشى ُب قربه خطوات حٌب وصل إذل ركن فيو فركع وجعل يزيح‬
‫عنو الرمل حٌب كشف عن صندوؽ من ا‪٣‬بشب كاف ‪٨‬ببأ ُب فجوة ُب‬
‫األرض‪ ،‬فرفع غطاء الصندوؽ وأخرج منو مطرقة متوسطة ا‪٢‬بجم‬
‫وأجنة(‪ )25‬وكيساً فيو ثوب كامل‪.‬‬

‫وا٘بو إذل ا‪٢‬بائط الذي يفصل بْب قربه والقرب اجملاور الذي دل يتم‬
‫بناؤه‪ ،‬فثقب فيو اب‪٤‬بطرقة واألجنة ثقباً جعل يوسعو إذل ا‪٢‬بد الذي ٲبكنو‬
‫من ا‪٣‬بروج منو‪ ،‬وىكذا ‪ٛ‬بكن من مبارحة جوؼ القرب والوصوؿ إذل فناء‬
‫ا‪٤‬بقربة‪ٍ ،‬ب استَب ٔبانب السور بعيداً إذل جانب الباب وارتدى ثيابو‪،‬‬
‫وكاف ُب الثوب مفتاح يفتح ابب ا‪٤‬بقربة ففتحو وخرج‪ٍ ،‬ب أغلقو اب‪٤‬بفتاح‬
‫وسار ُب الطريق ا‪٤‬بؤدي إذل ا‪٤‬بدينة وصوت ا‪٤‬بؤذف ينبو الناس لصبلة‬
‫الفجر‪.‬‬

‫طاؿ غياب حافظ وانقطع عن االتصاؿ ابلكونتس‪ ،‬فرحلت إذل‬


‫الوجو القبلي وزارت آاثره وقضت أايما للتسلية ُب األقصر وأسواف ٍب‬
‫عادت إذل القاىرة وسألت إدارة فندؽ ا‪١‬بزيرة عن ا‪٤‬بسّب دى بنفيو فقيل‬
‫‪٥‬با إنو ال يزاؿ غائباً ُب أعمالو كعاداتو‪ .‬وعلمت ُب ا‪٤‬بساء أثناء سهرة‬

‫(‪ )25‬قطعة من اغبديد يت استخدامها ‪ -‬ابلدؽ على مؤخرهتا – للهدـ أو‬


‫إحداث فجوة ُب جدار‪.‬‬
‫‪326‬‬
‫مع بعض أصدقائها نبأ موت حافظ ‪٪‬بيب ودفنو وما نشرتو الصحف‬
‫عن ىذا ا‪٢‬بادث‪ ،‬ودل تصدؽ ما ‪٠‬بعتو أوالً‪ٍ ،‬ب ثبتت ‪٥‬با الوفاة حْب‬
‫قرأت ا‪٣‬برب ُب جريدة عرضها عليها أحد ا‪٢‬باضرين‪.‬‬

‫ودل يكن ُب مقدور ا‪٢‬بسناء إظهار حقيقة شعورىا أماـ‬


‫ا‪٢‬باضرين فكتمت نفسها‪ .‬و‪٠‬بعت ما قيل عن ذلك ا‪٤‬بغامر بعد موتو‬
‫صاغية إذل األقواؿ بدوف االشَباؾ ُب ا‪٢‬بديث‪ ،‬و‪٤‬با انتهت السهرة‬
‫صعدت إذل غرفتها منقبضة الصدر بسبب ذلك ا‪٢‬بادث فخلعت ثوهبا‬
‫واستبدلتو بقميص النوـ وذىبت إذل الفراش لتناـ‪ ،‬ورفعت الغطاء قبل‬
‫االستلقاء على السرير فرأت ‪ٙ‬بتو كتاابً مغلقاً كتب إليها بعنوااها وخبئ‬
‫ُب ذلك ا‪٤‬بكاف الذي لن تصل إليو يد إنساف إال ُب ضحى النهار الثاشل‬
‫بعد مغادرهتا الغرفة‪.‬‬

‫فضت الغبلؼ ُب قلق فوجدت بو ورقة هبا ىذه العبارة‪:‬‬

‫"سيدٌب احملَبمة‪:‬‬

‫من زمن غّب قصّب تتواىل أمامك مفاجآت متنوعة‪ ،‬وموت‬


‫حافظ قبيب ليس آخرىا ‪ ...‬فإذا خرجت ُب الساعة العاشرة صباحاً‬
‫وحدؾ وقصدت إىل مينا ىاوس منفردة ذبدين ُب انتظارؾ مفاجأة‬
‫جديدة قد تكوف سارة"‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫وكررت ا‪٢‬بسناء مطالعة الكتاب ٍب قالت‪" :‬لقد ثبت موت‬
‫حافظ ‪ ..‬فمن الذي دبقدوره أف يباغتِب دبفاجأة سارة "‬

‫وىزت كتفيها استخفافا ابألمر‪ٍ .‬ب رقدت ُب سريرىا وأطفأت‬


‫النور واستسلمت للتفكّب حٌب غلبها النوـ ‪ ..‬ولكنها تذكرت ا‪٣‬بطاب‬
‫ُب الصباح عقب تنبهها من النوـ‪ ،‬وترددت طويبلً قبل االستقرار على‬
‫رأي ٍب اسَباحت لفكرة الذىاب إذل مينا ىاوس‪ ،‬وعللت ىذه الرغبة‬
‫أباها لن ‪ٚ‬بسر شيئاً ابلذىاب إذل ذلك ا‪٤‬بوعد فإذا دل ٘بد ا‪٤‬بفاجأة الٍب‬
‫يتحدث عنها الراسل اجملهوؿ يكوف ىذا الشوط نزىة تروح عن النفس‪.‬‬

‫قضت شطراً من الصباح ُب االستحماـ وتناوؿ الفطور‪ٍ ،‬ب‬


‫ارتدت ثياابً وقصدت منفردة إذل فندؽ مينا ىاوس ُب غّب اكَباث‪،‬‬
‫ولكنها فوجئت ُب هبو ا‪٤‬بكاف برؤية ا‪٤‬بسيو ينفيو‪ ،‬فتولتها الدىشة‬
‫وار٘بفت‪ .‬ورآىا الرجل ألنو كاف ُب االنتظار فنهض من مكانو ونشط‬
‫‪٤‬بقابلتها وىو يبتسم‪ٍ ،‬ب حياىا ومدى يده ‪٤‬بصافحتها‪ ،‬فقالت‪" :‬بنفيو‬
‫‪ ...‬ىذا مستحيل! ‪ ...‬لقد مات ودفن‪ ،‬ونشرت الصحف نبأ‬
‫اؼبوت‪ ،‬فكيف يبكن أف يظهر أمامي اؼبسيو بنفيو!"‬

‫فقاؿ‪" :‬ىل أزعجتك ىذه اؼبفاجأة "‪.‬‬

‫‪328‬‬
‫فقالت‪" :‬أان مضطربة ‪ ...‬ومن حقي ‪ ..‬أف أضطرب ‪ ..‬ىل‬
‫أنت حقيقة بنفيو "‬

‫فقاؿ‪" :‬طبعاً … أان بنفيو ‪ ..‬عبدؾ …"‬

‫فقالت‪" :‬والذي نشرتو الصحف "‬

‫قاؿ‪" :‬أنباء صادقة"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬قالوا إف حافظ مات ودفن"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬نع مات ودفن‪ ،‬وأعلن اعبميع نبأ وفاتو ‪ ..‬حٌب ُب‬
‫نشرة حكومية رظبية"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬إذف مل تكن أنت حافظ قبيب!"‬

‫قاؿ‪" :‬برىنت لك من قبل فاقتنعت سأف الباروف دى ماسوف‬


‫وحافظ قبيب وبنفيو أظباء لشخص واحد ‪" ...‬‬

‫يتناوؿ ذراعها ويذىب هبا إذل مقعد فيجلساف‪ ،‬وتلبث برىة‬


‫قصّبة تدقق ُب وجهو ٍب تقوؿ‪" :‬كيف أصدؽ أنك مت ودفنت وأنت‬
‫اآلف أمامي ُب صحة وعافية "‬

‫قاؿ‪" :‬موٌب ودفِب واإلعبلف عن ذلك‪ ،‬ىي الوسيلة اؼبفردة‬


‫الٍب تسقط صبيع األحكاـ الغيابية الٍب صدرت ضدي‪ ،‬وكذلك‬

‫‪329‬‬
‫تسقط القضاي الٍب مل يفصل فيها‪ ،‬وسبنع أيضاً البوليس من مطاردٌب‬
‫والبحث عِب"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬وىل الذي يبوت ويدفن‪ ،‬يعود اثنياً إىل اغبياة "‬

‫قاؿ‪" :‬نع ‪ ..‬ألف روحو ال زالت ابقية على ظهر األرض ‪...‬‬
‫أنت روحي ‪ ...‬أنت حياٌب ‪ ...‬ولقد وعدت ابالقَباف يب إذا كف‬
‫البوليس عن مطاردٌب ‪ ..‬وىا أان ذا أمامك أسبتع ابغبياة وبكل حريٍب‬
‫‪ ...‬ومل أخسر بعملية اؼبوت والدفن سوى اس حافظ قبيب ‪...‬‬
‫االس الذي منعوٍل من ضبلو أعواماً ‪" ...‬‬

‫قالت‪" :‬رأسي يدور ‪ ...‬لقد خبلتِب ىذه اؼبفاجأة ‪ ..‬ىل‬


‫يصدؽ العقل أنك تعود إىل اغبياة بعد اؼبوت‪ ،‬وإىل ظهر األرض بعد‬
‫الدفن "‬

‫فقاؿ‪" :‬كاف اؼبوت والدفن مغامرة كسائر اؼبغامرات"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬قلت لك إنِب ُب اضطراب‪ ،‬وعقلي يعجز عن‬


‫تصديق أنباء موتك ودفنك ٍب عودتك للحياة ‪ ..‬فاشرح يل األمر‬
‫ألفه وألصدؽ وألطمئن "‬

‫قاؿ‪ُ" :‬ب مقابلتنا األخّبة أقسمت يل أنك تقبلْب االقَباف يب‬


‫إذا كف البوليس عن مطاردٌب"‪.‬‬
‫‪330‬‬
‫قالت‪" :‬ىذا صحيح"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬وقلت لك إنِب سأغيب أيماً فبل تنزعجي لغيايب"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬وىذا صحيح"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬فاأليـ الٍب غبتها عنك ىي الٍب قضيتها ُب اؼبرض‬


‫واؼبعاعبة ٍب ُب اؼبوت والدفن واػبروج من القرب‪ ،‬ألعود إليك طليقاً‬
‫حراً ليست على أحكاـ‪ ،‬وليس للبوليس سبب بدعوة ؼبطاردٌب"‪.‬‬

‫وانطلق العاشق يقص على ا‪٢‬بسناء احملبوبة ا‪٢‬بيل الٍب ‪١‬بأ إليها‬
‫للحصوؿ على حريتو ‪ ..‬قالت‪" :‬ي إؽبي ىذه مغامرة جريئة جداً!"‬

‫قاؿ‪" :‬كانت الوسائل بسيطة وسهلة‪ ،‬ولكنها أيضا مغامرة‬


‫جنونية‪ ،‬ألف أي خطأ ُب التنفيذ بعد تناوؿ اؼبخدر يؤدي إىل اؼبوت‪،‬‬
‫ولكنِب أستخف بكل خطر حٌب اؼبوت ُب سبيل الوصوؿ إليك"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬لقد غامرت حبياتك من أجلي مرات‪ ،‬وىذه‬


‫اؼبغامرات اػبطّبة أدلة تقنعِب سأنك صادؽ ُب اغبب ‪ ...‬فأنت رجل‬
‫تستحق قلب اؼبرأة الٍب رببها ‪ ...‬وسأصدؽ ُب وعدي لك ‪...‬‬
‫سأقَبف بك وسنقضي شهر العسل ُب سياحة ُب النيل"‪.‬‬

‫فا‪٫‬بُب العاشق وقبل يدىا وًب عقد القراف‪.‬‬

‫‪331‬‬
‫وانقضى شهر العسل ُب دىبية صعدت ُب النيل إذل أسواف ٍب‬
‫عادت إذل القاىرة ‪ ...‬ووجد الزوجاف ُب تلك العزلة ا‪٥‬بناء والصفاء‬
‫واالرتياح وا‪٤‬بسرة‪ ،‬ماثل الشعور ‪ ..‬ولبت العاطفة نداء العاطفة وًب‬
‫ائتبلؼ الروحْب‪ ،‬فِب أحدٮبا ُب الثاشل‪.‬‬

‫داـ ىذا الصفاء أكثر من عاـ فدب ُب نفس ا‪٤‬برأة شيء من‬
‫ا‪٤‬بلل وسئمت ا‪٢‬بياة ا‪٥‬بادئة ا‪٤‬بستقرة بسبب ‪ٛ‬باثل األايـ والليارل‬
‫والساعات‪ .‬وحٌب كؤوس الغراـ‪ ،‬دل تعد ‪٥‬با قوة تبعث على االنتشاء‬
‫وعلى تنبيو الرغبة‪ ،‬فأكثرت من السياحة واالنتقاؿ من بلد إذل بلد‪ ،‬ومن‬
‫جو إذل جو‪ ،‬طلبت التلهي ُب شٌب دور ا‪٤‬ببلىي ولكن ىذه ا‪٤‬بسليات‬
‫عجزت عن إزالة ا‪٤‬بلل وانقباض الصدر‪ ،‬وصارت صورٌب ُب نظرىا صورة‬
‫إنساف عادى ال ٲبيزه عن غّبه أي شئ‪.‬‬

‫لقد أعجبت اب‪٤‬بغامرة ا‪١‬بريء وحياة ا‪٥‬بدوء والسكينة والصفاء‬


‫منعت ا‪٤‬بغامرات فمنعت القوة على اإلعجاب‪ .‬فانكشفت ا‪٢‬بقيقة‬
‫للعْب‪ٞ :‬بل اإلعجاب ا‪٤‬برأة على حب ا‪٤‬بغامر ال على حب حافظ‬
‫‪٪‬بيب ‪ ...‬ودل تغب ىذه ا‪٢‬بقيقة عُب من أوؿ الشوط‪ ،‬ولكنِب مفتوان‬
‫اب‪٢‬بسن أريد إمتاع النفس ابمتبلكو وقتاً ما‪ ،‬طاؿ أو قصر‪ ،‬وقد حققت‬
‫رغبٍب اب‪٢‬بيلة وامتلكت الٍب استعصت على الرجاؿ‪ ،‬وشبعت من ا‪٥‬بوى‬
‫ومن ا‪٥‬بناء‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫واثرت على عزة نفسي على ا‪٤‬برأة الٍب ملت معاشرٌب‪ ،‬وانطفأت‬
‫ُب عاطفتها الشعلة الٍب تبعث فيها ا‪٢‬برارة فدلت على االحتضار اب‪٤‬بلل‬
‫والسآمة وانقباض الصدر‪ .‬فعقدت العزـ على االنفصاؿ عنها بصوره‬
‫‪ٙ‬بفظ رل عزة النفس والكرامة‪ ،‬وترغمها على احَبامي كلما ذكرت‬
‫عبلقٍب هبا وإخبلصي ‪٥‬با‪.‬‬

‫قضيت معها السهرة األخّبة أنوع ‪٥‬با ا‪٤‬بروحات‪ ،‬وأبذؿ ا‪١‬بهد‬


‫ُب الَبفيو عنها أللطف شيئاً ‪٩‬با تشعر بو من انقباض الصدر والضيق‪،‬‬
‫واغتصبت من فمها ابتسامات وضحكات‪ ،‬ولبثت ُب خدمتها حٌب‬
‫رقدت ُب فراشها وقبلتها القبلة األخّبة ىادئة وديعة صامتو كأاها ٮبس‬
‫الروح وانصرفت إذل غرفٍب اجملاورة كأشل أريد النوـ‪.‬‬

‫واستيقظت ُب الصباح ُب كآبة وضجر كعادهتا من شهر‬


‫وقضت الوقت ا‪٤‬ببكر ُب االستحماـ والتزين ًب اندت زوجها لتناوؿ‬
‫طعاـ الفطور فلم يلب النداء كعادتو‪ .‬فدخلت غرفتو من الباب الداخلي‬
‫ا‪٤‬بوصل بْب ا‪٢‬بجرتْب فلم ٘بده‪ ،‬إ٭با رأت على ا‪٤‬بنضدة كتاابً بعنوااها‬
‫فقرأت فيو ىذه العبارة‪:‬‬

‫"إخبلصي لك وبملِب على تضحية ىنائي ُب سبيل ىنائك‪،‬‬


‫وقد غبظت عليك اؼبلل من ىذه اؼبعاشرة والسآمة من كل ما‬
‫أحوطك بو ضجر من طبد الشعور ُب عاطفتو ومؤل الضيق صدره وما‬
‫‪333‬‬
‫دمت عاجزاً عن الَبويح عن نفسك وعن تلطيف أسباب ضجرؾ‬
‫من ىذه اغبياة فإنِب أنزاح عن طريقك ألرد لك حريتك كاملة عسى‬
‫أف ذبدي ارتياح نفسك وىنائها بباعث جديد‪ .‬وأسأؿ هللا لك‬
‫السبلمة واؼبسرة أين تكونْب"‪.‬‬

‫لقد اختفي حافظ من حياة تلك ا‪٢‬بسناء الفتانة‪ ،‬تركها ‪٢‬بظها‬


‫ُب ا‪٢‬بياة‪ ،‬والشى الزمن الطويل آاثر تلك النار الٍب اشتعلت ُب فؤادىا‪،‬‬
‫حو‪٥‬با إذل رماد وحوؿ الزمن الذي ‪ٛ‬بتعت فيو اب‪٥‬بناء والغبطة إذل صورة‬
‫ذىبية أشعر ابالرتياح ‪٥‬با كلما مرت ابلباؿ ونفض عنها التفكّب غبار‬
‫النسياف‪.‬‬

‫‪334‬‬
335
‫فػ ػكػػرة الػ ػػرى ػ ػبػ ػ ػنػ ػ ػ ػػة‬

‫‪1‬‬
‫‪ٞ‬بلتِب الكربايء وعزة النفس عن التخلي عن ا‪٤‬برأة الٍب ولعت هبا عندما‬
‫أيقنت من عاطفتها أاها ارتوت وتشبعت ٍب ملت وسئمت‪ .‬دل تعد ا‪٢‬بياة إذل‬
‫جانبها بدافع من الشعور ا‪٤‬بتماثل أو التجاذب العاطفي أو االئتبلؼ الروحي‬
‫بل ‪ٙ‬بولت إذل مشاركة فيها صورة إكراه‪ ،‬فاقتضى ا‪٢‬باؿ ‪ٙ‬برير السائمة من‬
‫أسباهبا لَبد إليها ا‪٢‬برية واالستقبلؿ‪.‬‬

‫كاف ىذا رأيي‪ ،‬ودل أ‪ٙ‬بوؿ عنو حٌب ُب زمن الشيخوخة‪ ،‬فضحيت‬
‫عاطفٍب لبلحتفاظ برجولٍب وليس من السهل اإلقداـ على التضحية وكبت‬

‫‪336‬‬
‫الشعور ألف التخلي عن ا‪٤‬برأة احملبوبة معناه ترؾ العاطفة ُب انر مشبوبة واألدل‬
‫ٲبزؽ الفؤاد وُب حرماف النفس من ىنائها ا‪٤‬بختار‪ ،‬تعذيب طويل ال ٰبتمل وال‬
‫يطاؽ‪.‬‬

‫لست أعرؼ نوع أتثر تلك ا‪٢‬بسناء من ىذا االفَباؽ‪ ،‬ىل أسفت‬
‫عليو أو اراتحت لو‪ ،‬دل يعد يهمِب شئ من نتائج تصرُب من تلك ا‪٢‬بسناء‬
‫ا‪٤‬بغامرة‪ ،‬وانصرؼ ٮبي إذل نفسي أحاوؿ معا‪١‬بتها بشٌب الوسائل الٍب تلطف‬
‫األدل وتؤدى إذل النسياف‪ .‬كانت صورهتا ُب ذىِب ُب كل ‪٢‬بظة من ساعات‬
‫النهار والليل‪ ،‬وكاف ا‪٢‬برماف يعيد إذل الذاكرة ما عرفت إذل جانبها من ألواف‬
‫ا‪٤‬بتعة وا‪٤‬بسرة وا‪٥‬بناء‪ ،‬فتزيد ىذه ا‪٤‬بؤثرات ُب آالـ النفس وعذاهبا‪.‬‬

‫‪١‬بأت إذل ا‪٣‬بمر أصب ُب جوُب ألفقد الذاكرة فيقل أو يزوؿ‬


‫أتثّبىا ُب الشعور وُب األعصاب فصرت أسكر حٌب أانـ ‪٨‬بموراً فإذا‬
‫استيقظت وتنبهت ذاكرٌب‪ ،‬أعدو عليها من جديد اب‪٣‬بمرة الكثّبة‪ .‬ومن‬
‫أحسن ا‪٢‬بظ أف ا‪٤‬بخدرات األوربية كالكوكايْب وأمثالو‪ ،‬دل تكن معروفو ُب‬
‫مصر ُب ذلك الزمن‪ ،‬فنجوت من خطر اللجوء إليها لنشداف النسياف‪.‬‬

‫دامت ىذه ا‪٢‬باؿ وقتاً غّب قصّب‪ ،‬فأثرت ا‪٣‬بمر ُب صحٍب وكدت‬
‫أصاب ابإلدماف‪ ،‬ومن عادة اإلنساف ‪٧‬باولة احملافظة على صحتو الستبقاء‬
‫ا‪٢‬بياة والعافية حٌب ولو كاف نصيبو ُب تلك ا‪٢‬بياة التعاسة والفقر والشفاء‪.‬‬
‫أدركت ما يؤدى إليو اإلدماف من ا‪٤‬بسكرات‪ ،‬فدفعِب ا‪٣‬بوؼ على ا‪٢‬بياة على‬
‫‪337‬‬
‫استبداؿ ىذا النوع من ا‪٤‬بعا‪١‬بة إذل البحث عن غّبه أللطف آالـ النفس‬
‫بنسياف الغراـ الذي تغلغل ُب فؤادي وعزلِب عن ‪ٝ‬بيع ملذات ا‪٢‬بياة‪.‬‬

‫استعرضت اؼباضي كلو فكاف سلسلة من أنواع الشفاء‬


‫وألواف العذاب‪ ،‬وحددت حاىل ُب اجملتمع فرأيتو صورة إلنساف ال‬
‫تربطو ابعبماعة أية رابطة من نوع ما بْب الناس وبعضه ليس يل أىل‬
‫وال أٌقارب وال أصدقاء وال عمل منظ وال عقل مركز وال ىدؼ‪ ،‬وال‬
‫استقرار‪ ،‬وال أمل‪ ،‬فما ىي قيمة اغبياة ُب نظر ىذا اإلنساف وما ىي‬
‫الضرورة الٍب ترغمو على البقاء وسط اعبماعة معزوال عنها العزلة‬

‫‪ٝ‬بيع ما أحاط يب من الظروؼ وما صادفت من شٌب ا‪٤‬بؤثرات‬


‫العنيفة‪ ،‬وكل من عاشرت من ا‪٣‬بلق‪ ،‬وكل ما رأيت ُب مسرح ا‪٢‬بياة‬
‫أسباب قوية تبعث على االستياء وعلى النفور من ىذا احمليط كلو‪،‬‬
‫ويبعث على الرغبة ُب التخلص من ىذه ا‪٢‬بياة الشقية‪ ،‬فهل أنتحر؟‬
‫االنتحار نوع من ا‪١‬بنوف‪ ،‬أو ىو فرار من ا‪٤‬بعركة بتأثّب ا‪١‬بنب‪ ،‬فثارت‬
‫كربايئي ضد ىذه ا‪٤‬بخاطر فتحولت عنو وجعلت إٔبث عن الوسيلة‬
‫تعزلِب عن اجملتمع وما فيو من أسباب الشقاء والتعذيب بدوف االنتحار‪.‬‬

‫فكرت طويبل تفكّب ا‪٤‬بضطرب مزلزؿ الفكر واألعصاب فلم‬


‫أىتد لوسيلة معقولة ‪ٙ‬بمل على السكوف إليها ُب ارتياح‪ ،‬تركت ا‪٣‬بمر‬
‫وجعلت اقتل الوقت ٗبطالعة الرواايت لتشغل الوقائع ا‪٣‬بيالية خيارل عن‬
‫‪338‬‬
‫األشجاف مسببات التأدل وانقباض الصدر‪ ،‬فصادفت قصة عاطفية بطلها‬
‫ملك لفرنسا وبطلتها عذراء ٰببها ا‪٤‬بلك وتبادلو ىذه العاطفة ُب تعقل‬
‫حداىا إذل كبت شعورىا وكتم سرىا حٌب عن العاشق‪ ،‬ودل تطق‬
‫االحتماؿ والبقاء بْب اآلدميْب فاعتزلت اجملتمع وفرت منو إذل الدير ألف‬
‫أسواره ‪ٙ‬ببس نظرىا عن كل ما ُب ا‪٢‬بياة من ا‪٤‬بشاىد وا‪٤‬بؤثرات‪ ،‬وألف‬
‫الصلوات تلهيها عما ُب نفسها من ا‪٤‬بنغصات‪ ،‬ولبلستقرار ُب قرب فسيح‬
‫يدفن فيو ا‪١‬بسد مع بقاء ا‪٢‬بياة ‪...‬‬

‫ولكن الَبىب جائز للرجل اؼبسيحي ولست نصرانياً‪ ،‬وكاف‬


‫ىذا االعَباض يصرفِب عن تنفيذ ىذه الفكرة‪ ،‬ولكن الرغبة القوية ُب‬
‫اعتزاؿ العامل ىدت العقل إىل اؼبربرات اؼبعقولة‪ .‬قلت لعقلي‪ :‬أان رجل‬
‫بدوف عقيدة وبدوف دين‪ ،‬مل تؤثر ُب الوراثة ألنِب مل أنشأ نشأة منظمة‬
‫ُب حياة عائلية تكوف أبنائها ابلَببية وتكوف سلوكه بتأثّب العادات‬
‫والتقاليد ومل تعلمِب اؼبدرسة تعليماً دينياً يثبت ُب عقيدة ويكوف يل‬
‫مبدأ‪.‬‬

‫كاف عمل اؼبدرسة إرغامي على حفظ سور من القراف ال‬


‫أفه معاٍل عباراهتا‪ ،‬فكنت أحفظها عن ظهر قلب خوفاً من الضرب‬
‫ابػبيزراف وىو العقاب الذي عرفناه ُب زماف الدراسة االبتدائية‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫واضطراب حياٌب وصبيع ظروُب على ظهر األرض مل تسنح فيها فرصة‬
‫ربدوٍل إىل اإلطبلع على كتاب ديِب‪.‬‬

‫بل صبيع ظروؼ اغبياة االجتماعية ومشاغلها تبعد اإلنساف‬


‫اؼبتحضر عن تذكر الدين أو حصر تصرفاتو ُب حدود الشريعة إال‬
‫عند عقد الزواج أو أتدية شهادة أماـ احملكمة‪ .‬وأان كسائر اػبلق ُب‬
‫ىذا اجملتمع مل يطرأ على الباعث الذي يرغمِب على التفكّب ُب‬
‫العقيدة والدين‪.‬‬

‫وقلت‪ :‬اليهودي واؼبسيحي واؼبسل كله يعبدوف اإللو‬


‫اػبالق‪ ،‬ويعَبفوف سأنو اإللو اػبالق اؼبفرد‪ ،‬وىو اإللو الذي يعبده‬
‫الرىباف ُب أي دير ألتجئ إليو‪ ،‬ومادمت عاجزاً عن اعبزـ سأي أنواع‬
‫العبادة ىي األدٌل للحقيقة‪ ،‬فلماذا ال أجعل ىذا العجز سبباً منطقيا‬
‫أستند عليو ُب عباده هللا اػبالق "وحده" الشائع ُب عقائد اليهود‬
‫والنصارى واؼبسلمْب‪.‬‬

‫سألت نفسي‪٤ :‬باذا ال يلجأ اإلنساف إذل الدير ليحيا فيو حياه‬
‫الرىباف؟ فكاف ا‪١‬بواب‪ :‬يفر اإلنساف إذل الدير لسبب من عدة أسباب‬
‫منها‪ :‬الفقرة والعجز عن العمل‪ ،‬أو عدـ احتماؿ اآلالـ وا‪٤‬بنغصات ُب‬

‫‪340‬‬
‫ا‪٢‬بياة‪ ،‬أو الطمع ُب الوصوؿ إذل منصب ديِب كبّب‪ ،‬أو الرغبة ُب العبادة‬
‫واالنصراؼ هلل‪ ،‬ويكاد السبب األخّب يكوف اندراً أو معدوماً إطبلقاً‪.‬‬

‫وقلت‪ :‬اؼبفروض أف الدير مكاف معزوؿ عن العامل ييسر‬


‫للراىب أتدية واجباتو الدينية ُب ىدوء والعبادة للتفكّب عن خطايه‬
‫الكتساب رضا هللا‪ ،‬فالذين وراء أسوار الدير ليسوا من القديسْب‬
‫األطهار وال من الصديقْب األبرار‪ ،‬إمبا ى من اآلدميْب مثلنا يتعبدوف‬
‫لبلستغفار من خطايى ‪ ،‬فأان كأي واحد منه أريد العزلة ُب الدير‬
‫ألحبس حريٍب فبل أخطئ بْب اعبماعة بسبب ظروؼ اغبياة وأمنع‬
‫نفسي من شرب اػبمر ومن التلهي ومن اإلسراؼ ُب التبذؿ ومن‬
‫تصرفات كثّبة يقولوف عنها إهنا تتنافر مع األخبلؽ اغبسنة‬
‫والفضيلة‪.‬‬

‫أقنعتِب نتيجة ىذا البحث ٔبواز القصد إذل الدير‪ ،‬بدوف أف‬
‫يكوف ُب عملي ضرر يناؿ أي إنساف أو أي مكاف أو أي دين يفرض‬
‫لو االحَباـ‪ ،‬ونشطِب لتنفيذ ىذه الرغبة خاطر جديد خبيث أوحى إذل‬
‫ابف دخوؿ الدير مغامرة جريئة من نوع جديد ‪ ...‬فابتسمت لوسوسة‬
‫ا‪٣‬ببيث وعقدت العزـ على دخوؿ الدير والَبىب وعرضت األمر على‬
‫بعض الزمبلء ا‪٤‬بشتغلْب ابلسياسة من منشئي النهضة الوطنية فحبذوا‬
‫رأيي‪ ،‬وقاؿ أحدىم‪" :‬هبوز أف يكوف الدير وسيلة لذىابك إىل اغببشة‬
‫‪341‬‬
‫ُب منصب مطراف اغببشة‪ ،‬وذلك البلد ال يزاؿ مستقبلً‪ ،‬ومنصب‬
‫اؼبطراف ىناؾ منصب عظي جداً‪ ،‬واحَباـ األحباش للجالس على‬
‫كرسي اؼبطرانية أعظ من إجبلؽب للجالس على العرش"‪.‬‬

‫وقاؿ الثاشل وىو على فراش مرضو األخّب‪" :‬وُب مقدور اؼبطراف‬
‫اؼبثقف ثقافة عالية أف ينشئ ىناؾ جيشاً يعل ضباطو ُب النمسا أو‬
‫أؼبانيا‪ ،‬فيصّب ُب مقدوره اغتصاب السوداف وإنقاذ مصر من‬
‫احملتلْب"‪.‬‬

‫وقاؿ األوؿ‪" :‬ىذا سر خطّب ‪ ..‬فاحتفظ بو لنفسك‪ ،‬وال‬


‫تيسر ألي صديق معرفتو"‪.‬‬

‫فودعت الرجلْب وانصرفت ألقصد إذل الدير‪ ،‬ولكن أي دير؟‬


‫وأين ىو الدير؟ فبلبد من االىتداء إذل ا‪٤‬بكاف‪ ،‬وإذل الوسائل الٍب ‪ٛ‬بكن‬
‫من دخوؿ الدير‪ ،‬البد من االسَبشاد برأي خبّب ‪ ...‬ومن ىو اإلنساف‬
‫الذي أ‪١‬بأ إليو واطمئن أنو كتوـ ‪٥‬بذا السر ا‪٣‬بطّب؟‬

‫‪342‬‬
343
‫‪2‬‬
‫تذكرت أف فريد فهمي كاف زميبلً رل ُب ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية ا‪٤‬بصرية‪،‬‬
‫وأف من صفاتو الوداعة وا‪٢‬بلم وحسن ا‪٣‬بلق وا‪٥‬بدوء التاـ‪ ،‬كاف بْب‬
‫الطلبة زمبلئو شبحاً يتحرؾ يسمع ويطيع وينفذ األوامر ُب صمت وكاف‬
‫الشاب أينس إذل ُب أوقات الفراغ الطويلة فنتحدث ونتناقش ونتسامر‪.‬‬

‫وعرفت منو حينذاؾ أف أابه قسيس كنيسة حارة السقايْب‬


‫ابلقرب ميداف عابدين وعلمت بعد أعواـ أف ىذا الشاب ترؾ ا‪٤‬بدرسة‬
‫ا‪٢‬بربية وتزوج بسبب وفاة والده واختياره ليحل مكانو قسيساً لتلك‬
‫الكنيسة‪ ،‬فَبؾ الشاب ا‪١‬بندية لّبتدى ثوب الكهنة وأبعد عن العمل‬
‫العسكري ليؤدى عمبلً دينياً ُب الوسط الذي نشأ فيو وألف عاداتو‬
‫وتقاليده‪ .‬تذكرت ىذا الصديق القدصل وصفاتو فلم أتردد ُب القصد إليو‬
‫ألعتمد عليو ُب إرشادي عن كل ما يتعلق ابألديرة القبطية وأماكنها‪.‬‬

‫ودل أخطئ الظن ألف (القس بطرس) دل ينس صديق فريد فهمي‬
‫وال نوع الصداقة الربيئة الٍب كانت بينهما‪ ،‬ودل تبدؿ ثقتو ابلصديق‬
‫‪344‬‬
‫حافظ ‪٪‬بيب بسبب ا‪٤‬بغامرات الٍب صورهتا الدعاية ُب صورة جرائم ضد‬
‫ا‪٥‬بيئة االجتماعية وحقوؽ الناس‪ ،‬قابلِب مقابلة حسنة‪ٞ ،‬بلتِب على‬
‫حسن الظن بقوة الصداقة القدٲبة وعلى الثقة ابلرجولة ومتانة األخبلؽ‪.‬‬

‫ومكثنا طوؿ الليل من ا‪٣‬بلوة ومن التحدث عن رغبٍب ُب‬


‫الدخوؿ الدير واعتزاؿ العادل‪ ،‬ووضع حد اهائي للحياة ا‪٤‬بضطربة الٍب‬
‫دفعتِب مرغماً ُب سبيل ا‪٤‬بغامرات‪ ،‬فخلقت رل صورة خيالية ُب أذىاف‬
‫الناس من أوصافها الذكاء النادر‪ ،‬وا‪١‬برأة ا‪١‬بنونية‪ ،‬وقوة ا‪٢‬بيلة ا‪٤‬بهارة ُب‬
‫اغتصاب أمواؿ الناس ابالحتياؿ‪ ،‬والقدرة على ا‪٥‬بروب من السجوف‬
‫بوسائل تلوح سحرية وأوصاؼ بعيدة عن ا‪٢‬بقيقة تناقلها مع ا‪٤‬ببالغة غّب‬
‫احملدودة‪ ،‬فخلقت ا‪٤‬ببالغات وا‪٣‬برافات وسفو األحبلـ شهرة داوية ‪٢‬بافظ‬
‫‪٪‬بيب خيارل‪.‬‬

‫دل تكن للقمص بطرس معرفة ابألديرة وافية القبطية ألنو قسيس‬
‫علماشل ال راىب خريج من الدير وكل ما وصلت إليو من معلومات أف‬
‫ُب برية شيهات ثبلثة أداير متباعدة عن بعضها‪ :‬دير أبو مقار‪ ،‬ودير‬
‫األنبا بشوى ٍب دير السرايف‪ ،‬ووكد رل أف الوصوؿ إليها يكوف من كفر‬
‫داود‪.‬‬

‫واكتفيت هبذه ا‪٤‬بعلومات العامة طبعاً‪ ،‬وعمدت إذل تنفيذ عزمي‬


‫من صباح النهار الثاشل‪ ،‬فأسفرت ابلقطار إذل كفر داود فوصلت إليها‬
‫‪345‬‬
‫ُب اهاية النهار‪ ،‬وٕبثت عن ‪ٝ‬بل استأجره ألقطع بو الصحراء ألصل إذل‬
‫الدير‪ ،‬وىداشل البحث إذل ا‪١‬بمل وصاحبو فقضيت الليل ُب بيتو لتبدأ‬
‫من الفجر‪ .‬وىكذا فعلنا‪ ،‬فقطعنا الصحراء حٌب وصلنا إذل دير أبو مقار‬
‫بعد العصر‪ ،‬وا‪٤‬ببُب قاعة من ا‪٢‬بجر متينة البنياف ‪ٙ‬بيط هبا تلوف من‬
‫الرماؿ على بعد منها تكاد ‪ٚ‬بفيها عن األنظار ا‪٤‬بتجهة إليها من بعض‬
‫ا‪١‬بهات‪.‬‬

‫ابلقرب من الباب حبل مرسل من أعلى السور يكاد يلمس‬


‫األرض فجذبو ا‪١‬بماؿ مرات فسمعت جرساً يدؽ ُب جوؼ الدير‪،‬‬
‫وانتظران برىة طويلة ٍب رأينا راىباً يطل من فتحو صغّبة ُب أعبل السور‪،‬‬
‫ويسأؿ الطارؽ عما يريد‪.‬‬

‫ورأى الراىب "البواب" أماـ ابب الدير إنساانً ُب ثوب أفندي‬


‫وا‪١‬بمل وا‪١‬بماؿ‪ ،‬فرد الكوة ونزؿ إذل األرض وفتح الباب واستقبلِب ُب‬
‫ترحيب فيو معُب ا‪٤‬ببالغة والدىشة والتساؤؿ‪ٍ ،‬ب قادشل وا‪١‬بماؿ إذل حجرة‬
‫ُب الطابق األوؿ ىي طبعاً ا‪٤‬بعدة ‪١‬بلوس الرىباف وقت السمر‪،‬‬
‫والستقباؿ الزائرين إذا وجد من يعُب بزايدة ىذا الدير النائي عن‬
‫العمراف‪.‬‬

‫من عادة أىل الدير إكراـ الضيف الطارئ حٌب قبل معرفتو أو‬
‫‪ٙ‬بديد زمن حضوره‪ ،‬فكل طعاـ ُب الدير يوزع على ا‪١‬بميع ابلتساوي‪،‬‬
‫‪346‬‬
‫وٱبصص جزء منو للضيف‪ ،‬فإذا حضر وجد نصيبو ينتظره‪ ،‬وإذا دل ٰبضر‬
‫أحد يوزع ىذا ا‪٤‬بقدار على الرىباف‪ .‬ويبدأ إكراـ القادـ للضيافة بغسل‬
‫قدميو اب‪٤‬باء الساخن‪ ،‬وتناوؿ القهوة ٍب الطعاـ‪ ،‬وىكذا فعلوا معي‪.‬‬
‫واجتمع فريق من الرىباف حورل بعد العشاء للسمر‪ ،‬والستطبلع السبب‬
‫ُب ىذه الزايرة الغربية‪ ،‬ودل أكتم عنهم ا‪٢‬بقيقة‪ ،‬وحدثتهم عن رغبٍب ُب‬
‫الَبىيب وقضاء بقية ا‪٢‬بياة ُب الدير‪.‬‬

‫دل يكن ىذا غريباً ألاهم ‪ٝ‬بيعاً كانوا من أىل الريف ونزحوا إذل‬
‫الدير على ىذه الصورة رغبة ُب الَبىيب وا‪٤‬بعيشة وراء أسوار الدير‪،‬‬
‫فليس االختبلؼ ُب وسيلة طلب الَبىيب إ٭با األسباب الٍب دفعت كل‬
‫واحد من ىؤالء الناس إذل طرؽ ابب الدير لبلحتماء وراء األسوار‬
‫العازلة بْب ا‪٢‬بياة ا‪٣‬بارجية وبْب سكاف ىذه ا‪٤‬بعازؿ ا‪٤‬بوحشة‪ .‬و‪٢‬بظت‬
‫أثناء وجودي ىناؾ‪ ،‬تلك الليلة أف ا‪٤‬باء ماحل يكاد كوف أجاجاً ال‬
‫يستساغ طمعو وال يروى من العطش‪ ،‬وعلمت أف القوـ يستقوف من بئر‬
‫ماؤىا ملح‪ ،‬فلم أقبل البقاء ُب الدير بسبب ملوحة مائو‪.‬‬

‫وسألت الربيتة "الرئيس احمللى للرىباف" عن الدير الذي أجد‬


‫بو ماء عذابً يصلح للشرب فدلِب على دير األنبا بشوى‪ ،‬وىو على بعد‬
‫أمياؿ من دير أبو مقار‪ ،‬فرجوت منو ا‪٤‬بعاونة ألبلغ إليو‪ ،‬ففعل‪ .‬وانتقلت‬
‫إذل الربيتة ُب دير األنبا بشوى‪ ،‬شيخ طاعن ُب السن يدعى القمص عبد‬

‫‪347‬‬
‫ا‪٤‬ببلؾ‪ ،‬طيب القلب‪ ،‬حسن النية‪ ،‬ومعو عشرة من زمبلئو ‪ٝ‬بيعهم شيوخ‬
‫ومن أرابب العاىات الٍب تعطل عن ا‪٢‬بركة‪.‬‬

‫وحدثت الربيتة عن رغبٍب ُب الَبىب والبقاء ُب الدير‪ ،‬فأظهر‬


‫االرتياح لطليب واشَبط على االنتظار بدوف رىبنة عاماً أو أقل لكي‬
‫أ‪ٙ‬بقق من نفسي ومن عزمي ىل يثبت على البقاء ُب الدير أو يتبدؿ‬
‫رأيي فأنصرؼ عن حياة الزىد وا‪٢‬برماف من ‪ٝ‬بيع مبلذ ا‪٢‬بياة‪ .‬قبلت‬
‫رأى رب البيت وخلعت ثويب وارتديت جلباابً أسود و‪ٛ‬بنطقت ٕببل‬
‫و‪ٙ‬بولت إذل طالب رىبنة ال يزاؿ ‪ٙ‬بت االختبار ونظاـ الدير وأساسو‬
‫ا‪٤‬بساواة بْب ا‪١‬بميع فتساويت مع ‪ٝ‬بيع الرىباف ُب ا‪٢‬بقوؽ والواجبات‪.‬‬

‫أعطاشل القمص عبد ا‪٤‬ببلؾ غرفة تقع كمثيبلهتا ‪ٙ‬بت سور‬


‫الدير‪ ،‬وكونت لنفسي سريراً من ا‪٣‬بشب مددتو على قاعدتْب‪ ،‬وىيأت‬
‫من ا‪٣‬بشب منضدة جعلتها للمصباح وللمطالعة‪ ،‬وزدت على ىذا ا‪٤‬بتاع‬
‫إانء من الفخار للماء‪ ،‬فاكتملت رل حاجات ا‪٤‬بعيشة ُب ىذه الغرفة‪.‬‬

‫وُب الدير حديقة كبّبة مهملة ليس هبا ما ينتفع بو سوى ‪٬‬بارت‬
‫متفرقات وساقية تدار ٕبمار بدالً من الثور‪ ،‬ولكن من النادر اللجوء إذل‬
‫الساقية لعدـ وجود نبات ُب ا‪٢‬بديقة ٰبتاج للماء‪ .‬وقضى على نظاـ‬
‫الدير ابالندماج ُب ا‪١‬بماعة لتأدية الوجبات‪ ،‬وىي الصبلة بعد العصر‬
‫‪ٝ‬باعة ُب فناء الدير‪ ،‬والصبلة ُب الكنيسة قبيل فجر ليلة األحد‪ٍ ،‬ب‬
‫‪348‬‬
‫قضاء األعماؿ اليومية الضرورية للمعيشة‪ ،‬وىي الكنس والطبخ وخبز‬
‫ا‪٣‬ببز مرة ُب كل أسبوع‪.‬‬

‫وعملية الطبخ ‪ٙ‬بتاج إذل الوقود ‪٫‬بصل عليو من الصحراء‪ ،‬و‪٤‬با‬


‫كنت الشاب ا‪٤‬بفرد السليم البدف والنظر بْب ىؤالء الرىباف ذوى‬
‫العاىات‪ ،‬فقد فرض على االحتطاب من الصحراء ومعاونة الراىب‬
‫ا‪٤‬بكلف ابلطبخ‪ ،‬وتنحصر ىذه ا‪٤‬بعاونة ُب إذكاء النار ‪ٙ‬بت اإلانء ٗبا‬
‫أ‪ٞ‬بلو للدير من الشجّبات ا‪٤‬بنتثرة ُب الصحراء‪.‬‬

‫كنت أخرج ُب الصباح إذل الفضاء على ظهر ‪ٞ‬بار الدير القوى‬
‫ا‪١‬ببار‪ ،‬ومعي البلطة فأحتطب و ِ‬
‫أ‪ٞ‬بّل ا‪٢‬بمار ‪٧‬بصوؿ النهار‪ٍ ،‬ب نعود‬
‫للدير ونقتسم العمل‪ ،‬أان للمشاركة ُب طهي العدس والفوؿ‪ ،‬وا‪٢‬بمار ُب‬
‫ا‪٢‬بديقة ا‪٤‬بخربة ليأكل ما هبا ا‪٢‬بشائش والطفيليات ُب حرية مطلقة‪.‬‬
‫علمت من أحاديث الرىباف أنِب أخطأت ُب اختيار طريقي إذل الدير‪،‬‬
‫كاف الواجب أف أصل إذل ‪٧‬بطة ا‪٣‬بطاطبة ابلسكة ا‪٢‬بديد‪ٍ ،‬ب أركب‬
‫منها قطاراً ينطلق على سكة ضيقة إذل وادي النطروف مقر شركة إ‪٪‬بليزية‬
‫ىناؾ‪ ،‬وبْب مقر الشركة والدير ثبلث كيلو مَبات ال أكثر‪ ،‬يقطعها كل‬
‫الرىباف مشياً بدوف عناء على طريق ‪٩‬بهد ىيأتو الطبيعة وسط الصحراء‪.‬‬

‫وعلمت أف ىذا القطار يصل إذل وادي النطروف مرتْب ُب‬


‫األسبوع وٰبمل معو الربيد للشركة وللعماؿ ولرىباف األداير‪ ،‬ويرسل كل‬
‫‪349‬‬
‫دير رسوالً إذل مكتب الربيد إلحضار الرسائل‪ ،‬وقد نيط يب ىذا العمل‬
‫زايدة على االحتطاب ألنِب ا‪٤‬بفرد الذي يعاونو ا‪٢‬بمار‪ .‬حقق رل ىذا‬
‫العمل رغبٍب ُب االطبلع على أنباء العادل بواسطة الصحف‪ ،‬فكنت‬
‫أحصل على جريدة الوطن وعلى اللواء مرتْب ُب األسبوع‪ ،‬والتجئ إذل‬
‫مغارة بعيدة عن الطريق ا‪٤‬بطروؽ فأطالع ا‪١‬بريدتْب ُب اطمئناف ٍب أحرقها‬
‫وأنصرؼ إذل الدير أ‪ٞ‬بل الرسائل ألىلو إذا وجدت‪.‬‬

‫كاف مصطفي كامل رئيس اغبزب الوطِب وصاحب جريدة‬


‫اللواء مريضاً يبلزـ الفراش قبل رحيلي إذل الدير‪ ،‬وقابلتو على فراش‬
‫ا‪٤‬برض للمرة األخّبة ُب النهار الذي سافرت ُب عصره إذل كفر داود‬
‫للقصد إذل الدير‪ .‬وكاف إذل جانبو وقت ىذه الزايرة األخّبة دمحم بك فريد‬
‫زميلو وعضده القوى ا‪٢‬بكيم‪ .‬وكنت وأان ُب الدير أتلهف على مطالعة‬
‫الصحف عسى أف أجد فيما تنشره ُب أحد األايـ أنباء عن صحة ذلك‬
‫الرجل الوطِب العظيم تبعث على االطمئناف ففوجئت ُب أحد األايـ‬
‫ٗبطالعة نبأ وفاتو بدالً من البشرى بشفائو ‪...‬‬

‫يعلم هللا وحده‪ ،‬مقدار أتثّب ىذه الصدمة ُب نفسي وُب‬


‫أعصايب‪ ،‬ألف أحداً دل يرشل وأان ُب ا‪٤‬بغارة أطالع النبأ ا‪٤‬بشئوـ الذي زلزلِب‬
‫وشبع صدري اب‪٢‬بزف والضيق والسخط على ا‪٢‬بياة ومفاجأة القدر‬
‫ا‪٤‬بزعجة‪ .‬تصرخ ا‪٤‬برأة من أتثّب األدل إذا صدمت مثل ىذه الصدمة‪،‬‬

‫‪350‬‬
‫وتلطم خدىا وتشق ثوهبا‪ ،‬أما الرجل فيتأدل ُب صمت و٘برى دموعو‬
‫غزيرة جهراً إذا أمكن ا‪١‬بهر‪ ،‬وُب خفاء ُب مثل الظروؼ الٍب كنت فيها‪.‬‬

‫عدت إذل الدير ‪٧‬بزوانً وقضيت النهار أؤدي بقية واجباٌب مع‬
‫الزمبلء ٍب آويت إذل غرفٌب بعد تناوؿ طعاـ العشاء أوصدت األب من‬
‫الداخل واستسلمت لبلنفعاالت النفسية الٍب سببها موت ذلك الوطِب‬
‫الواثب‪ .‬ودفعتِب ىذه االنفعاالت إذل الكتابة لتصويرىا‪ ،‬فنظمت قصيدة‬
‫ُب الراثء لست أذكر شيئاً منها اآلف‪ .‬ونظمت ُب الليلة الثانية قصيدة‬
‫أخرى‪ ،‬وخبأت القصيدتْب ُب الكتاب ا‪٤‬بقدس وىو الكتاب ا‪٤‬بفرد الذي‬
‫عندي أطالعو ُب أوقات الفراغ ألدفع عن نفسي ضيق الصدر والسآمة‬
‫ُب ذلك القرب الفسيح‪.‬‬

‫لست أنكر أنو كاف يزاملِب فيو ‪ٝ‬باعة من الرىباف ولكنهم بدوف‬
‫معرفة وبدوف قدرة على الفهم وعلى وزف أي شئ من أمور ا‪١‬بماعة ُب‬
‫ا‪٥‬بيئة االجتماعية‪ ،‬وكل معرفتهم ‪٧‬بدودة ُب تبلوة عبارات الصبلة‪،‬‬
‫وحفظ مزامّب داود‪ ،‬والتحدث ُب شئوف العمل اليومي ُب الدير‪ .‬كنت‬
‫إذف وحدي ُب خلوة مع نفسي وفكري فكنت أضِب البدف ابلعمل‬
‫الشاؽ ا‪٤‬بتنوع ُب النهار لّبغمِب اإلجهاد والتعب على النوـ ليبلً بدالً‬
‫من األرؽ وا‪٤‬بلل من ىذه الوحدة الدائمة‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫وحدث ُب أحد األايـ وصوؿ رئيس الدير "القمص بطرس"‬
‫لزايرة ديره‪ ،‬جاء ٰبمل إليو ا‪٢‬باجات الضرورية من الزيت والشموع‬
‫وا‪٢‬ببوب والسكر والشاي كعادتو من حْب إذل حْب‪ ،‬كاف الرجل مقيماً‬
‫ُب كفر داود ُب منزؿ ريفي يسميو الرىباف العزبة‪ ،‬وإذل جانبو راىب‬
‫شاب يعاونو ُب األعماؿ الزراعية وىو ُب ثياب أىل الريف ومعو ا‪٣‬بادـ‬
‫ا‪٣‬باص لذلك الرئيس‪.‬‬

‫وصل القمص بطرس إذل وداي النطروف ُب القطار الذي يقوـ‬


‫بو من ا‪٣‬بطاطبة ُب الصباح وجرت العادة أف يعود ىذا القطار نفسو إذل‬
‫ا‪٣‬بطاطبة ُب نفس النهار‪ ،‬فيتحرؾ من احملطة وادي النطروف بعد عصر‬
‫النهار وىذه الظروؼ ٘بعل زايرة الرئيس لديره زايرة خاطفة ألنو يرغم‬
‫نفسو على العودة إذل مقره الدائم ُب نفس القطار الذي جاء فيو‪.‬‬

‫كاف يعلم من القمص عبد ا‪٤‬ببلؾ اب‪٤‬بكاتبة نبأ وصوؿ غربايؿ‬


‫إبراىيم إذل الدير والبقاء بو بسبب رغبتو ُب الَبىب‪ ،‬وعلم عنو بعض‬
‫أوصافو الٍب كتبت عنو فلما وصل الدير سأؿ عن الشاب طالب الَبىب‬
‫لّباه‪ ،‬ولكن غربايؿ إبراىيم كاف غائباً ُب الصحراء لبلحتطاب‪ ،‬ودل‬
‫يسعده ا‪٢‬بظ ا‪٢‬بسن ابلعودة إذل الدير قبل رجوع الرئيس إذل العزبة بكفر‬
‫داود‪ .‬وأراد الرئيس االطمئناف على ما أعده الدير لراحة الشاب ا‪٤‬بتعلم‬
‫طالب الَبىب فقصد إذل الغرفة ا‪٤‬بخصصة لو وكانت تغلق من ا‪٣‬بارج‬

‫‪352‬‬
‫بضبة من ا‪٣‬بشب من السهل فتحها للرئيس الذي يدين لو ‪ٝ‬بيع الرىباف‬
‫ابلطاعة العمياء وابالحَباـ‪.‬‬

‫رأى السرير والفراش والسجادة الٍب تغطيو‪ ،‬الٍب تغطيو ورأى‬


‫ا‪٤‬بنضدة‪ ،‬الٍب صنعها غربايؿ من ا‪٣‬بشب ا‪٤‬بوجود ُب الدير تغطيها قطعة‬
‫من القماش األبيض ورأى الكتاب ا‪٤‬بقدس ا‪٤‬بوضوع عليها‪ ،‬إ٭با لفت‬
‫نظرة جزء من ورقة بيضاء ابرزة من بْب أوراؽ الكتاب‪ ،‬فتناو‪٥‬با ورقتْب أو‬
‫قصيدتْب ُب راثء مصطفي كامل فقيد األمة‪.‬‬

‫كاف القمص الرئيس ٰبسن القراءة والفهم‪ ،‬وكاف كغّبه من‬


‫ا‪٤‬بصريْب ُب ذلك ا‪٢‬بْب يعجب بنشاط ا‪٤‬برحوـ مصطفي كامل إلحياء‬
‫النهضة الوطنية‪ ،‬فلم يتكدر من اىتدائو إذل القصيدتْب ُب غرفة طالب‬
‫الَبىب واعتزاؿ العادل بقطع ‪ٝ‬بيع األسباب الٍب تصلو بو وابألحياء فيو‪،‬‬
‫اراتح لعثوره على القصديتْب فأخذٮبا وعاد إذل كفر داود بعد التوصية‬
‫ا‪٢‬بارة على غربايؿ إبراىيم الشاعر ‪...‬‬

‫‪353‬‬
‫‪3‬‬
‫كفر داود كانت قرية كسائر القرى ليس هبا منزؿ يصلح‬
‫االجتماع بو وقضاء السهرة فيو سوى عزبة الدير‪ ،‬ففي الطابق األرضي‬
‫مكاف يسهر فيو رئيس الدير ويزوره كل ليلة ضابط بوليس النقطة‪،‬‬
‫وانظر احملطة ووكيل التلغراؼ ألاهم ‪ٝ‬بيعاً من األقباط‪ .‬فلما عاد القمص‬
‫من زايرة الدير عرض على أصدقائو الزائرين قصيدة طالب الرىينة غربايؿ‬
‫إبراىيم‪ ،‬وأظهر إعجابو اب‪٤‬برثية وابلشاعر فشاركو ا‪١‬بماعة ُب اإلعجاب‬
‫ابلشعر وابلفٌب الشاعر الذي اختار لنفسو حياة الَبىب مع توفر نصيبو‬
‫من العلم وا‪٤‬بعرفة والقدرة على كسب الرزؽ ُب ا‪٢‬بياة‪ ،‬بدالً من طلبو ُب‬
‫األداير كعادة العاجزين والكساذل‪.‬‬

‫دل تكن الطائفة القبطية ُب ذلك ا‪٢‬بْب ‪ 1907‬قد بدأت‬


‫اهضتها للتعلم ُب جد ونشاط‪ ،‬كاف ا‪٤‬بتعلموف األقباط عدداً قليبلً ال‬
‫يتناسب مع االرتقاء الذي نبلحظو اآلف‪ .‬وكاف ‪ٝ‬بيع الرىباف ورجاؿ‬
‫الدين منهم ريفيْب ‪١‬بئوا إذل الدير بدوف علم أو معرفة أو ثقافة‪ ،‬وكاف‬
‫‪354‬‬
‫ا‪٤‬بفروض على ىؤالء ‪ٝ‬بيعاً تعلُّم القراءة والكتابة للتمكن من ا‪٤‬بطالعة‬
‫وحفظ ا‪٤‬بزامّب ابللغة العربية‪ ،‬وحفظ الَباتيل والقداس عن ظهر قلب‬
‫ابللغة العربية‪ ،‬وحفظ الَبايتل والقداس عن ظهر قلب ابللغة القبطية‪.‬‬

‫ومن ىؤالء يتم اختيار البطريرؾ وا‪٤‬بطارنة واألساقفة‪ ،‬فيصّب‬


‫الفارؽ بْب اإلكلّبوس "رجاؿ الدين" والشعب عظيماً من الناحيتْب‬
‫العلمية والفكرية‪ ،‬وكانت رغبة البارزين ُب الطائفة قوية لبلرتقاء برجاؿ‬
‫الكنيسة إذل أحد الذي يتماثل مع معرفة الناس وثقافتهم‪ ،‬وال يتم ىذا‬
‫االرتقاء إال بتعليم الشباف الرىباف تعليماً يؤدى إذل زايدة ا‪٤‬بعرفة والثقافية‬
‫لتكوين الفكر الذي يناسب مؤىبلت الشعب وحاجاتو‪.‬‬

‫وكاف اختبلؼ الوجهتْب سبباً ُب استمرار ا‪٣‬ببلؼ بْب رجاؿ‬


‫الكنيسة "من الرىباف" وبْب كبار الرجاؿ ُب الطائفة القبطية‪ .‬فلما‬
‫وصلت قصيدة غربايؿ إبراىيم طالب الَبىب لسمع ىذا الفريق من‬
‫األقباط مشلهم السرور النصراؼ شاب متعلم عن العادل ورغبتو ُب‬
‫الَبىب ليصّب يوماً ما رجبلً من رجاؿ الدين الذين إليهم الشعب‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬إف أوؿ الغيث ‪....‬‬

‫واقَبح أحد ا‪٢‬باضرين إرساؿ القصيدة إذل جريدة الوطن لنشرىا‬


‫لتكوف دليبلً على وجود متعلمْب ُب األداير عسى أف ينبو ىذا النشر‬
‫بعض ا‪٤‬بتعلمْب على الرغبة ُب الَبىب والقصد إذل األداير‪ ،‬ودل يعَبض‬
‫‪355‬‬
‫القمص بطرس على ىذا االقَباح فأرسلت القصيدة األوذل إذل جريدة‬
‫الوطن ‪ٙ‬بت عنواف‪" :‬دمعة راىب" ‪...‬‬

‫وأحدث نشر القصيدة ضجة بْب األقباط‪ ،‬عجب البعض‬


‫لوجود راىب متعلم وشاعر ُب الدير‪ ،‬وانتقد البعض جرأة الراىب غربايؿ‬
‫إبراىيم على راثء زعيم سياسى الف الرىبنة تقتضي اعتزاؿ الراىب العادل‬
‫‪ٝ‬بيعو ٗبا فيو من أحياء وأحداث‪ ،‬فمن ا‪٤‬بستنكر إذف على الراىب‬
‫الشاعر اىتمامو ٗبوت مصطفي كامل وتلهية براثئو بقصيدة ٍب ابالجَباء‬
‫على نشرىا‪.‬‬

‫ونشر واعظ من أسيوط ا‪٠‬بو حبيب رسالة ُب جريدة الوطن‬


‫‪ٙ‬بت عنواف‪( :‬من الواعظ إذل الراىب) يذىب فيها مذىب الناقدين‬
‫لتصرؼ الراىب‪ ،‬وذىب بعض أعياف الطائفة إذل البطريرؾ يسألونو ما‬
‫يعرفو عن ذلك الراىب الشاعر‪ ،‬وأرسلت جريدة الوطن مندواب إذل كفر‬
‫داود فقابل القمص بطرس رئيس الدير وسألو عن الراىب غربايؿ‬
‫إبراىيم‪ :‬ىل لو وجود حقيقي أـ ىو راثء من شاعر متنكر نشره هبذا‬
‫االسم ا‪٤‬بزيف؟ ووكد القمص ‪٤‬بندوب ا‪١‬بريدة وجود غربايؿ إبراىيم داخل‬
‫الدير‪ ،‬وأنو ىو ذاتو الذي نظم الراثء‪ ،‬وأعطاه القصيدة الثانية للداللة‬
‫على وجود الشاعر ا‪٤‬بَبىب ُب الدير‪.‬‬

‫‪356‬‬
‫فعاد ا‪٤‬بندوب إذل القاىرة ونشرت ا‪١‬بريدة القصيدة فزادت على‬
‫الدىشة األوذل ضجة وحركة عنيفة‪ُ ،‬ب دار البطريرؾ أحل ا‪١‬بميع على‬
‫غبطتو ليأمر ابستدعاء الراىب الشاعر إذل القاىرة‪ ،‬وبضرورة إرسالو إذل‬
‫أثينا ليدرس البلىوت لتكتمل ثقافتو ويصّب صا‪٢‬باً لتأدية الرسالة ُب‬
‫احمليط الصاحل للعمل‪ .‬وغضب البطريرؾ لنشر الراثء ُب الصحف وأرسل‬
‫لرئيس الدير رسالة برقية أيمره إبرساؿ الراىب غربايؿ إبراىيم إذل دار‬
‫البطريركية ‪٤‬بقابلتو‪.‬‬

‫حدث كل ىذا وأان ُب الدير ُب جوؼ الصحراء ال يصل إذل‬


‫شئ من ىذه األنباء كنت ُب غفلة اتمة عن ‪٦‬برى األحواؿ‪ ،‬وفوجئت ُب‬
‫أحد األايـ بوصوؿ راىب العزبة إذل الدير ومعو خطاب من الرئيس إذل‬
‫القمص عبد ا‪٤‬ببلؾ يطلب فيو إرسارل مع الرسل إذل العزبة بكفر داود‬
‫فاستولت على الدىشة وا‪٣‬بوؼ من نتائج ىذا االستدعاء ا‪٤‬بفاجئ بدوف‬
‫سبب معروؼ‪.‬‬

‫ولكن ا‪٣‬بطاب لو قوة األمر العسكري ٯبب أف ٱبضع لو‬


‫ا‪٤‬بأمور‪ ،‬فسافرت ُب نفس النهار مع الراىب الرسوؿ إذل مقر الرئيس ُب‬
‫تلك القرية‪ ،‬وكنت مضطرابً خشية من افتضاح سرى ومعرفة شخصيٍب‬
‫ا‪٢‬بقيقية‪ .‬وجدت القمص بطرس ُب العزبة ومعو أصدقاؤه الثبلثة‪،‬‬
‫فحدثِب عن نشر القصيدتْب ُب جريدة الوطن وعما أوجدا من الضجة‬

‫‪357‬‬
‫ُب ا‪١‬برائد القبطية وبْب كبار رجاؿ الطائفة‪ ،‬وعن الرسائل الٍب نشرت‬
‫عُب لئلعجاب ابلروح الوطنية أو لنقد تصرفاٌب بسبب وجودي ُب الدير‬
‫وزاد على ىذا الشرح قولو‪:‬‬

‫"وقد أرسل صاحب الغبطة سيدان البطريرؾ رسالة برقية‬


‫يطلب مِب إرسالك إىل القاىرة ؼبقابلتو‪ ،‬وليس ُب مقدوري عدـ‬
‫تنفيذ ىذا األمر‪ ،‬فيجب أف تسافر ؼبقابلة غبطتو‪ ،‬وسيعرضوف عليك‬
‫ىناؾ فكرة إبقائك ُب مصر إمبا إرسالك إىل أثينا إلسباـ الدراسة‬
‫الدينية‪ ،‬فتذكر أف صبيع الذين عادوا من أثينا اختلفوا مع الكنيسة‬
‫األرثوذكسية‪ ،‬وخرجوا على نظمها ومبادئها وتقاليدىا فاعتربهت‬
‫مهرطقْب وجردهت من رتبه الدينية وعزلته عن الكنيسة"‪.‬‬

‫وقاؿ‪" :‬وؽبذه األسباب وؿباذرة عليك من مثل اغباؿ الٍب‬


‫اكبدر إليها أولئك الكهنة الكبار أنصح لك برفض كل ما يعرض‬
‫عليك‪ ،‬وإبعبلف رغبتك ُب العودة إىل الدير وليس ُب سلطة أوراؽ‬
‫إنساف منعك من البقاء ُب الدير‪ ،‬وحياتك بْب زمبلئك الرىباف‬
‫ربميك من شرور العامل ومن األخطاء الٍب هتدد مستقبلك‪ ،‬ومن‬
‫احملقق أنك ستصل بعدي إىل ريسة الدير إمبا إىل كرسى اؼبطرانية ُب‬
‫أوؿ مكاف ىبلو من صاحبو"‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫أصغيت ‪٥‬بذه النصائح وأان مشتت الفكر وُب اضطراب نفسي‬
‫ألنِب ال أجرؤ على الذىاب إذل دار البطريركية ‪٤‬بقابلة البطريرؾ كطلبو‪،‬‬
‫ففي تلك الدار سأرغم على مقابلة كثّبين من األقباط يعرفونِب من قبل‬
‫معرفة اتمة أمثاؿ جندي إبراىيم صاحب جريدة الوطن‪ ،‬واألستاذ ويصا‬
‫واصف وقد كاف أستاذاً ُب مدرسة راس التْب يدرس رل الكيمياء‬
‫والطبيعة وا‪٥‬بندسة وا‪٢‬بساب وا‪١‬برب مدى ثبلثة أعواـ‪ ،‬وكذلك كثّبوف‬
‫غّبه معرفتهم يب وثيقة‪ .‬فمن ا‪١‬بنوف اجملازفة ابلذىاب ‪٤‬بقابلة البطريرؾ‬
‫ولكنِب تظاىرت اب‪٣‬بضوع وابإلطاعة‪.‬‬

‫كاف ثويب اإلفر‪٪‬بي ابقياً ُب الدير دل أحتفظ منو إال اب‪٤‬بعطف‬


‫والنعل‪ ،‬فأعطاشل رئيس الدير جلباابً أسود وطاقية وغطاء للرأس من‬
‫ا‪٢‬برير وأعطاشل جنيهاً واحداً من الذىب ألجرة السفر‪ ،‬فسافرت ُب‬
‫صباح النهار الثاشل إذل القاىرة وإذل بيت ا‪٤‬برحوـ دمحم بك فريد بدالً من‬
‫مقابلة البطريرؾ‪ .‬واستاء ا‪٤‬برحوـ من قصدي إليو‪ ،‬وأنبُب ُب غضب‬
‫شديد بسبب نشر ا‪٤‬برثيتْب ُب الصحف وبسبب ما أحدثنا من الضجة‬
‫حوؿ الراىب الشاعر‪ ،‬وقاؿ‪" :‬لقد ذىبت إىل الدير لتختفي فيو‬
‫وتعتزؿ العامل وقتا طويبلً‪ ،‬لينساؾ الناس ولتصل من الدير إىل اؽبدؼ‬
‫الذي هتدؼ إليو‪ ،‬فمن اغبماقة الٍب ال تغتفر ما فعلت ألنو أحدث‬
‫ضجة سبنعك من البقاء ُب الدير" ‪...‬‬

‫‪359‬‬
‫وزاد غضبو على بسبب ما ‪٠‬باه ‪ٞ‬باقة وطردشل من بيتو شر‬
‫طرده بدوف أف يصغي إذل ‪٢‬بظة ليسمع دفاعي عن نفسي‪.‬‬

‫ما ىو ذنيب ُب كل ما وقع ‪٩‬با ‪٠‬بوه ‪ٞ‬باقة؟ أت‪٤‬بت ‪٤‬بوت رجل‬


‫وطِب اغتصب احَباـ ا‪١‬بميع و‪٧‬ببة األمة الٍب قضى ُب الدفاع عن‬
‫حقوقها ضد الغاصب القوي صاحب السلطاف‪ ،‬ودللت على التأدل‬
‫وعلى ما شعرت بو من ا‪٣‬بسارة بقصيدتْب خبأهتما عن العادل وكشفت‬
‫الصدفة ىذا ا‪٤‬بخبأ لزائر طارئ أثناء غيايب عن غرفٍب وعن الدير كلو‪،‬‬
‫وتوذل ىذا الرجل نشر ا‪٤‬برثيتْب بدوف علمي وبدوف إرادٌب وعملو ضد‬
‫مصلحٍب‪ ،‬ولكن جهل الناس ا‪٢‬بقيقة والظلم الكامن ُب النفوس نسبا‬
‫إذل ا‪٣‬بطأ‪ ،‬و‪٠‬بى الكثّبوف ىذا ا‪٣‬بطأ ‪ٞ‬باقة …‬

‫انصرفت من بيت ذلك الزعيم الوطِب ا‪٢‬بكيم مطروداً مهاانً‬


‫بدوف سبب‪ ،‬وكاف الواجب أف يؤثر فشلي ُب عزمو فيهدمو‪ ،‬أو تَبؾ‬
‫اإلىانة أثرىا ُب نفسي فتحملِب على الذلة وقبوؿ ا‪٥‬بواف مع اليأس‬
‫ولكنِب‪ ،‬ألفت انصباب النكبات على رأسي وقرعتِب الكوارث عشرات‬
‫ا‪٤‬برات فعودتِب ا‪٤‬بقارعة ُب صرب وعناد وصار من طبعي ا‪٤‬بقاومة ُب حرارة‬
‫تدفعِب حملاولة ‪ٙ‬بقيق غرضي والبلوغ إذل ىدُب‪.‬‬

‫فأبعدت عن دار الغضباف الطارد وُب عزمي العودة إذل الدير‬


‫ابسم جديد ولكن أي دير؟ من ا‪٤‬بستحيل عودٌب إذل أحد األداير ُب‬
‫‪360‬‬
‫برية شيهات ألاها متجاورة و‪ٝ‬بيع الرىباف فيها يعرفوف اسم غربايؿ‬
‫ووجهو وقد بلغت إليهم كافتهم حادثتو‪ ،‬فبلبد رل من اللجوء إذل دير‬
‫جديد بعيد عن تلك الصحراء النائية‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫‪4‬‬
‫دفعِب ا‪٢‬بنق والعناد إذل منزؿ القمص بطرس ٕبارة الساقيْب مرة‬
‫اثنية ألسالو عن دير جديد‪ .‬ودل ير‪ٞ‬بِب ىذا الصديق والمِب على ا‪٢‬بماقة‬
‫الٍب دفعتِب لنشر ا‪٤‬براثي ُب الصحف‪ .‬فصارت نتيجتها خروجي من‬
‫الدير مشرداً مطارداً‪ .‬ولكن القمص كاف أرحب صدراً من غّبه‪ ،‬فسمع‬
‫دفاعي‪ ،‬أدرؾ أف ا‪٢‬بظ السيئ ىو سبب ما ‪٠‬بوه خطأ مُب و‪ٞ‬باقة‬
‫ورغب ُب معاونٍب مرة اثنية‪ ،‬فدلِب على مكاف الدير احملرؽ‪ .‬وعرفت منو‬
‫أف القصد إليو يكوف من ديروط‪ ،‬فأخطأ ُب الداللة على الطريق القصّب‬
‫كما أخطأ ُب ا‪٤‬برة األوذل‪.‬‬

‫وكتبت ُب القاىرة ردى على واعظ أسيوط وأرسلتو ‪١‬بريدة‬


‫الوطن ابلربيد‪ ،‬وجعلت عنواف الرسالة‪" :‬من راىب إىل واعظ" ونشرت‬
‫ا‪١‬بريدة الرسالة‪ ،‬إ٭با بعد وصورل للدير احملرؽ‪ ،‬وا‪١‬برائد تصل إذل ىذا‬
‫الدير‪ ،‬فطولعت الرسالة على مسمع مِب وعلقوا عليها ٕبسب ظنواهم‪،‬‬
‫وُب غفلة عن الكاتب أنو بينهم‪ .‬وقصدت ُب قطار الليل إذل ديروط‬
‫‪362‬‬
‫وقضيت بقية الليلة ُب احملطة‪ ،‬وركبت ُب الصباح الباكر ‪ٞ‬باراً إذل الدير‬
‫فقطعت على ظهر ا‪٢‬بمار قريباً من ‪ 25‬كيلو مَباً ولو وصلت إذل ‪٧‬بطة‬
‫نزاذل جانوب لصار بيِب وبْب الدير نصف ىذه ا‪٤‬بسافة الطويلة‪.‬‬

‫وصلت إذل الدير بعد الظهر النهار متعباً ‪٧‬بطماً وسألِب حارس‬
‫الباب عن سبب حضوري للدير فصارحتو أبنِب جئت أبتغي الَبىب‪،‬‬
‫فَبؾ الباب وسار معي إذل ما يسمونو‪" :‬الوسية" وىو ا‪٤‬ببُب ا‪٣‬باص‬
‫إبدارة الدير ومسكن األسقف و‪٨‬بزف ا‪٤‬بؤنة‪ .‬كاف الراىب الشيخ ُب‬
‫ابتهاج وفرح واضحْب فلما وصل إذل الوسية قابل راىباً قصّباً يدعى‬
‫القس اتدرس يسألِب عن بلدي وعن صناعٍب وعن سبب رغبٍب ُب‬
‫الرىينة‪.‬‬

‫واجتمع حورل ‪ٝ‬باعة من الشباب الريفيْب ُب ثياب قذرة حفاة‬


‫األقداـ وقالوا إاهم جاءوا إذل الدير مثلى للَبىب وعجبوا للجلباب الذي‬
‫أرتديو وللمعطف الثمْب وللنعل ا‪١‬بديد ا‪٤‬بتينة‪ ،‬فجعلوا يلمسوف أبيديهم‬
‫ثيايب ليتحققوا من نوعها‪ ،‬كانوا من ا‪١‬بهل وسذاجة البدائيْب ال ٰبجموف‬
‫عن أي تصرؼ‪.‬‬

‫ودخل الفناء ثبلثة رىباف ُب ثياب حريرية فاقعة األلواف وعليها‬


‫عباءات من ا‪١‬بوخ أو الصرؼ إو ا‪٢‬برير األسود تسمى فراجيات‪ ،‬وعلى‬
‫رؤوسهم عمامات سوادء نظيفة منظمة الوضع وا‪٢‬ببك‪ ،‬تقدـ الثبلثة‬
‫‪363‬‬
‫واحد منهم ٱبتاؿ ُب مشيتو وُب إٲبانو وحٌب ُب حديثو‪ ،‬لفت نظره‬
‫معطفي وحذائي ‪ ...‬فسأؿ القس اتدرس وكيل الوسية عِب‪ ،‬قاؿ‪" :‬من‬
‫ىذا اؼبسيو "‬

‫فانتصب الراىب أمامو ُب خشوع وأجاب أبنِب طارؽ جئت‬


‫إذل الدير ابتغي الَبىب‪ ،‬فتحوؿ إذل وسألِب‪" :‬اظبك إيو ي مسيو "‪.‬‬

‫فقلت‪" :‬إف اظبي غايل جرجس" …‬

‫قاؿ‪" :‬من أي بلد "‬

‫قلت‪" :‬من مدينة القاىرة" …‬

‫فقاؿ الراىب‪" :‬التعب واضح على الضيف‪ ،‬وىو جائع‬


‫ابلطبع فأعطو غذاء جيداً ليأكل" ‪...‬‬

‫وا٘بو إذل الباب ا‪٤‬بؤدى للسلم وتبعو زميبله فعدت إذل ‪٦‬بلسي‬
‫على ا‪٤‬بقعد ا‪٣‬بشيب‪ ،‬وانصرفت القس اتدرس ليحضر رل طعاـ الغداء‬
‫كما أمر‪ ،‬فمرت برىة طويلة نزؿ إذل بعدىا خادـ شاب ا‪٠‬بو زكى‬
‫وطلب مُب الذىاب معو ‪٤‬بقابلة القس سيداروس فأطعت‪ .‬صعدت إذل‬
‫الطابق األوؿ فوجدت الرىباف الثبلثة الذين سبقوشل ‪٦‬بتمعْب على مائدة‬
‫الطعاـ‪ ،‬وىى صينية من النحاس فوؽ منضدة من الصاج‪ ،‬وألواف‬
‫الطعاـ‪ :‬عدس وفوؿ انبت ولفت ‪٨‬بلل‪.‬‬

‫‪364‬‬
‫وعرفت بعد ذلك أف أ‪٠‬باء الرىباف الثبلثية‪ :‬سيداروس وىو‬
‫ا‪٤‬بقرب من أسقف الدير ويتوذل رائسة الدير بصفة غّب ر‪٠‬بية ويستمد‬
‫سلطتو غّب احملدودة من عطف األسقف عليو‪ ،‬والثاشل ا‪٠‬بو القمص‬
‫سبلمة‪ ،‬وىو اآلف وكيل ا‪٤‬بطرانية ُب ا‪٣‬برطوـ‪ ،‬ورشح نفسو يوماً ‪٤‬بنصب‬
‫البطريق ُب القاىرة ودل ينجح ُب ‪٧‬باولتو‪ ،‬واسم الثالث القمص بطرس‬
‫وىو اآلف مطراف سوىاج وأ‪ٟ‬بيم‪ ،‬وكاف معهم على ا‪٤‬بائدة أفندي علمت‬
‫بعد ذلك أنو وكيل الدير ُب األعماؿ الزراعية وا‪٠‬بو اتوضروس ميخائيل‪.‬‬

‫وقفت ُب أتدب أماـ ا‪١‬بماعة‪ ،‬فسألِب سيداروس‪" :‬ىل تعرؼ‬


‫القراءة والكتابة "‬

‫قلت‪" :‬نع …"‬

‫فأشار إذل منضدة عليها كتب دينية وقاؿ‪" :‬ىات كتاابً من‬
‫ىذه الكتب"‪.‬‬

‫فتناولت كتاابً فإذا بو الكتاب ا‪٤‬بقدس ُب حجم كبّب‪ ،‬فقاؿ‪:‬‬


‫"افتحو‪ ...‬واقرأ‪"...‬‬

‫ففتحت الكتاب وقرأت سطوراً كثّبة‪ ،‬فقاؿ‪" :‬ىل فهمت معُب‬


‫ما قرأت "‬

‫قلت‪ " :‬نع "…‬

‫‪365‬‬
‫فقاؿ‪" :‬اشرح لنا ما فهمت‪"...‬‬

‫وقع حظي عندما فتحت الكتاب على صفحة من رسائل‬


‫الرسوؿ بولس‪ ،‬وعباراهتا أبسلوب فلسفي‪ ،‬فشرحت ما فهمتو ‪٩‬با قرأت‬
‫وكاف القمص سبلمة أكرب ا‪١‬بميع معرفة‪ ،‬فهز رأسو وقاؿ‪" :‬أنت تعرؼ‬
‫اكثر من القراءة والكتابة"‪.‬‬

‫وقاؿ سيداروس‪" :‬اجلس معنا على اؼبائدة"‪.‬‬

‫فجلست وأكلت‪ ،‬وقصصت عليهم ما قاسيت من التعب ُب‬


‫رحلٍب من ديروط إذل الدير على ظهر ا‪٢‬بمار البطيء ا‪٢‬بركة العنيد‪ ،‬وقاؿ‬
‫سيداروس ‪٣‬بادمو زكى وىو ُب طريقو الغرفة نومو اجملاورة لغرفة ا‪٤‬بائدة‪:‬‬
‫"خذ ىذا الضيف إىل غرفة نوـ هبا سرير واحد ليناـ وليسَبيح فإنو‬
‫متعب ‪"..‬‬

‫وسرت ُب إثر ا‪٣‬بادـ إذل غرفة تقابل غرفة ا‪٤‬بائدة واستلقيت‬


‫على السرير فغلبِب النوـ ودل استيقظ إال وقت الغروب‪ ،‬وكاف خادـ‬
‫القس ُب انتظار تنبهي من النوـ ومعو طست وإبريق كبّب بو ماء ساخن‬
‫فاغتسلت وذىبت ‪٤‬بقابلة سيداروس كما طلب‪.‬‬

‫وجدت القس الراىب ُب حديقة صغّبة خاصة بو وُب يده‬


‫‪٦‬برفة ثقيلة من ا‪٣‬بشب يهوى هبا على ثعباف ليقتلو‪ ،‬فما انتهى من عملو‬

‫‪366‬‬
‫حٌب سار يب شوطاً طويبلً‪ ،‬حٌب خرجنا من ابب الدير إذل ا‪٣‬ببلء‪،‬‬
‫وجلسنا ُب مزرعة بطيخ‪ ،‬قاؿ‪" :‬سأكوف معك صروباً ألنِب أريد أف‬
‫أصطفيك صديقاً ألنِب ُب أشد اغباجة إىل صديق بْب زمبلئي‬
‫الرىباف"‪.‬‬

‫وقاؿ‪" :‬قد تعجب ألنِب أصارحك ىذه اؼبصارحة مع أنك‬


‫عابر سبيل ؾبهوؿ جاء يبتغى الرىبة لسبب قوى ؾبهوؿ‪ ،‬ولكنِب‬
‫غبظت أف تعليمك ومعرفتك أعظ فبا يظهره ثوبك ىذا اؼبزيف"‪.‬‬

‫قلت مبتسماً‪" :‬وؼباذا ىو اؼبزيف "‬

‫قاؿ‪" :‬ألف اؼبعطف الغايل الثمن وىذه النعل اؼبختارة بعناية‬


‫خبّب ال يتفقاف مع ىذا اعبلباب األسود والطاقية‪ ،‬فأنت إذف من‬
‫طبقة أرقى بكثّب من البسي اعببلبيب‪ ،‬أزيد على ىذا أف مطالعتك‬
‫ُب الكتاب اؼبقدس وتفسّبؾ فلسفة بولس الرسوؿ جعلتِب أدرؾ أف‬
‫لك نصيباً كبّباً من التعلي واؼبعرفة"‪.‬‬

‫ٍب قاؿ‪" :‬لقد استدعيتك إىل ىذا اػببلء لنكوف بعيدين عن‬
‫أذاف الرىباف فقد عزمت على مكاشفتك ببعض أسرار اإلدارة ُب‬
‫الدير لتبدأ حياتك فيو وأنت ُب نور ‪"...‬‬

‫‪367‬‬
‫"ُب الدير اآلف فريقاف من الرىباف الفريق األوؿ الرىباف‬
‫الذين عاشوا ىنا وترىبنوا من زمن قبل تعيْب األنبا ابخوميوس أسقفاً‬
‫للدير‪ ،‬فألفوا الفوضى وعدـ التقيد دبا وبد من حريته كأفراد ال‬
‫كرىباف‪ :‬يقتضي نظاـ الرىبنة عزؿ الراىب وراء أسوار الدير عن‬
‫العامل اػبارجي لتقل اؼبؤثرات النفسية ُب عقلو وعاطفتو وغريزتو‪،‬‬
‫ولكنه خالفوا زمناً طويبلً ىذا النظاـ‪ ،‬فكانوا ىبرجوف من الدير‬
‫لبلتصاؿ ابلعامل اػبارجي دبا فيو من مؤثرات مادية وعاطفية بدوف أف‬
‫رباسبه رائسة الدير على ىذه الفوضى اػبلقية الف الرائسة كانت‬
‫من نوعه "‪.‬‬

‫"وزاد الطْب بلة أف الرائسة القديبة مل سبنع دخوؿ النساء‬


‫الدير فتغلغلن بْب الرىباف ُب صوامعه ‪ ،‬وصارت ـبازف أولئك‬
‫النساء تلك الصوامع زبزف كل واحدة حاجاهتا القليلة ُب صومعة‬
‫الراىب الصديق‪ ،‬فتدخل الصومعة وزبرج منها كيف تشاء وحْب‬
‫تشاء بدوف مباالة عياانً بياانً‪ ،‬جهاراً وهناراً‪ ،‬ألف اعبميع ُب الفوضى‬
‫اػبلقية سواء"‪.‬‬

‫وكاف ىناؾ مولد تقاـ ساحتو خارج أسوار الدير فتجمع الطبوؿ‬
‫والزمور الراقصات ُب القهاوي وينطلق ا‪١‬بميع الرجاؿ والنساء لشرب‬
‫ا‪٣‬بمر وعرض شٌب أنواع الرذائل ُب غّب هتيب وال حياء‪ .‬فلما توذل األنبا‬
‫‪368‬‬
‫ابخوميوس رائسة الدير كأسقف منع ىذه الفوضى منعاً اتماً‪ ،‬حبس‬
‫الرىباف داخل الدير‪ ،‬ومنع خروجهم منو إال لسبب مشروع‪ ،‬وحرـ‬
‫دخوؿ النساء الدير ومنع إقامة ا‪٤‬بولد ‪ٙ‬بت أسوار الدير وعاقب الرىباف‬
‫على شرب ا‪٣‬بمور عقاابً شديداً فحرـ ا‪١‬بميع من الفوضى الٍب ألفوىا‬
‫زماانً طويبلً‪.‬‬

‫فسبب ىذا ا‪٢‬برماف آالماً ُب النفوس الٍب اعتادت ابلقوة على‬


‫كبت العاطفة غّب ا‪٤‬بقيدة ٕببس البدف والنظر عن ا‪٤‬بؤثرات فيها فضاقت‬
‫الصدور بسبب ا‪٢‬برماف‪ ،‬واثرت النفوس على ا‪٤‬بنظم والنظاـ‪ ،‬و‪ٙ‬بولت‬
‫الثورة النفسية إذل ‪ٛ‬برد بعض األحياف‪ .‬والفريق الثاشل يتكوف من الشباف‬
‫الذين ترىبوا أثناء وجود الرائسة فبدأوا حياة الرىبنة خاضعْب للنظاـ‬
‫ا‪٤‬بوضوع‪ ،‬خضعوا لو ُب إطاعة واحَباـ‪ ،‬وىؤالء يريد األسقف تكوينهم‬
‫ابلتعليم والَببية وابلثقافة العصرية الٍب تناسب عقلية الشعب و٘بارى‬
‫مؤىبلتو العلمية والفكرية‪ ،‬ألف األساقفة وا‪٤‬بطارنة سينتخبوف بعد زماف‬
‫طويل أو قصّب من ىؤالء الناشئْب وقاؿ‪:‬‬

‫"أنت شاب متعل وقد حضرت إىل الدير تطلب الَبىب‬


‫ألسباب ال يصح أف أسألك عنها‪ ،‬ومصلحتك تقتضي أف نكوف‬
‫أصدقاء‪ ،‬وؽبذا حدثتك ىذا اغبديث لتطمئن إىل صداقٍب وإىل‬
‫الظروؼ الٍب سنعيش فيها معا ُب الدير"‪.‬‬

‫‪369‬‬
‫أعجبت هبذه الصراحة وعقدت العزـ ُب سرى على اإلخبلص‬
‫‪٥‬بذا الراىب وتوثيق عرى الصداقة بيننا إذل أقصى ا‪٢‬بدود‪ ،‬و٭بت بعد‬
‫السهرة نوماً عميقاً ىادائً بسبب االرتياح الذي شع ُب النفس من‬
‫االىتداء إذل رجل ينشد الصداقة‪.‬‬

‫توالشل سيداروس ُب النهار برعايتو‪ ،‬أرسل رل ثياابً داخلية‬


‫وخادمو ا‪٣‬باص ليهيئ رل وسائل االستحماـ‪ ،‬فصران أصدقاء نبلزـ‬
‫بعضنا طوؿ الوقت وال ننفصل إال عند النوـ‪ .‬كاف األسقف غائباً عن‬
‫الدير فحضر بعد أايـ‪ ،‬وخرج الرىباف ابألعبلـ والدفوؼ الستقبالو عند‬
‫وصولو إذل ابب الدير‪ ،‬وخرجت معهم طبعاً ونبو على سيداروس‬
‫ابالشَباؾ ُب حفلة االستقباؿ إبلقاء كلمة صغّبة بْب يدي األسقف‪.‬‬

‫ووصل األنبا ابخوميوس إذل ابب الدير وإذل جانبو على جواد‬
‫ضيف من كبار األعياف ُب مدينة أسيوط يدعى ا‪٣‬بواجا سيدىم إلياس‬
‫‪...‬‬

‫فتوالٍل الفزع من رؤية الرجل !!!‬

‫‪370‬‬
371
‫‪5‬‬
‫كاف عمي قاضى ا‪١‬بناايت ُب أسيوط سنو ‪ ،1892‬وكاف‬
‫والدي معاوف بوليس طهطا ودل تكن اب‪٤‬بدينة مدارس أمّبية حينذاؾ‬
‫فأبقاشل عند عمى أل‪ٛ‬بم الدراسة االبتدائية ٗبدرسة أسيوط‪ ،‬وكاف ا‪٣‬بواجا‬
‫سيدىم إلياس وأخوه انشد وحبيب زمبلئي من طلبة السنة الرابعة ‪..‬‬

‫وقد عرفت الرجل من أوؿ نظره وسيعرفِب طبعاً كما عرفتو وقد‬
‫‪٠‬بع الضجات العالية الٍب قامت حوؿ اسم حافظ ‪٪‬بيب‪ ،‬فماذا يفعل‬
‫حْب يراشل ُب الدير ابسم غارل جرجس طالب الَبىب‪ ،‬من ا‪٤‬برجح أنو‬
‫سيعلن ا‪٢‬بقيقة لؤلسقف ُب مواجهٍب أو سراً عند ا‪٣‬بلوة بو ‪..‬‬

‫زلزلتِب ىذه ا‪٤‬بفاجأة ا‪٤‬بزعجة وتركتِب ُب اضطراب وخوؼ‪،‬‬


‫فصرت أ‪ٙ‬برؾ وراء صفوؼ الرىباف ‪ٙ‬برؾ احملكوـ عليو ابإلعداـ وىو‬
‫يساؽ إذل ا‪٤‬بشنقة‪ ،‬وكانت أصوات الدفوؼ وترتيل الرىباف عالية‪،‬‬

‫‪372‬‬
‫ولكنها وصلت إذل أذشل كطنْب الذابب ألنِب فقدت كل قواي ومعها‬
‫الشعور‪.‬‬

‫وصل ا‪٤‬بوكب إذل فناء‪ ،‬وىو فناء مكشوؼ واقع بْب بنائْب‬
‫يتصبلف ُب الطابق الثاشل بغرفة نوـ سيداروس وبغرفة ا‪٤‬بائدة‪ ،‬وجلس‬
‫األسقف على كرسيو قبل اهاية الفناء إذل جانبو ا‪٣‬بواجا سيدىم إلياس‪.‬‬
‫وانشطر الرىباف إذل شطرين أحدٮبا وقف إذل ٲبْب الفناء والثاشل إذل‬
‫يساره واستمروا ُب الَبتيلة األخّبة حٌب انتهت‪ ،‬فجاء دور خطب‬
‫االستقباؿ والَبحيب‪ ،‬فبدأ ىذا الدور القمص يوحنا سبلمة فألقى‬
‫خطبتو‪ ،‬وتبعو القس سيداروس ٍب القمص بطرس‪ٍ ،‬ب أشار إذل‬
‫سيداروس أيمرشل إبلقاء كلمٍب ‪...‬‬

‫دل يقع على نظر ا‪٣‬بواجا سيدىم وأان بْب الرىباف ألننا ‪ٝ‬بيعاً ُب‬
‫ثياب سوداء ليس فيها ما يلفت النظر‪ ،‬ولكنو رآشل حْب خرجت من‬
‫الصف ووقفت ُب منتصف الفناء‪ ،‬و‪٠‬بعت األسقف أيمرشل ابالقَباب‬
‫منو فأطعت‪ ،‬رأيت عيِب ا‪٣‬بواجا سيدىم ‪ٙ‬بدقاف ُب وجهي‪ ،‬و‪٢‬بظت‬
‫عبلمات الدىشة ترتسم على وجهو فصرت أترقب صرخة تصدر منو‬
‫رغم إرادتو تفضح سري وتطلق على نعاؿ أولئك الرىباف ‪.‬‬

‫‪373‬‬
‫ولكن الصرخة دل ‪ٚ‬برج من الرجل إ٭با انتصب وقاؿ لؤلسقف‪:‬‬
‫"لقد تعبت من طوؿ الشوط وأشعر ابغباجة إىل الراحة وسأصعد إىل‬
‫االسَباحة ألسَبيح حٌب تنتهي من ىذه اغبفلة"‪.‬‬

‫وا٘بو الرجل مستنداً إذل البناء الذي على ٲبْب مدخل الوسية‬
‫ليصعد إذل القسم ا‪٣‬باص ابألسقف‪ ،‬فالتفت األنبا ابخوميوس إذل‬
‫وقاؿ‪" :‬تكل " ‪...‬‬

‫عاد إذل بعض االطمئناف بعد انصراؼ الضيف الذي أزعجِب‪،‬‬


‫فألقيت كلمة رحبت فيها بعودة األسقف‪ ،‬فصفق ‪٥‬با طويبلً ٍب استدعاشل‬
‫ابلقرب منو وأظهر رل عطفو على وابتهاجو ٕبضوري إذل الدير‪ .‬فقضيت‬
‫الليل ُب اضطراب وقلق ال أدري ما سيفعلو ا‪٣‬بواجا سيدىم ٍب غلبِب‬
‫النوـ فنمت ومر الليل بسبلـ وكذلك النهار الثاشل‪.‬‬

‫وسافر ا‪٣‬بواجا عائداً إذل بلده بدوف أف يظهر ما يشّب إذل‬


‫افتضاح أمري فاطمأننت وعاد رل ا‪٥‬بدوء والتفكّب ُب إعداد وسائل‬
‫راحٍب ُب ىذا ا‪٤‬بكاف الذي صار مستقرا رل ‪ ..‬ولكن ىل عرفِب ا‪٣‬بواجا‬
‫سيدىم إلياس وسكت عن فضح سري؟ ىل غاب وجهي عن ذاكرتو؟‬
‫… ىذا ىو الواقع …‬

‫‪374‬‬
‫خصصت رل غرفة ُب الوسية ُب الطابق األرضي ‪ٙ‬بت القسم‬
‫ا‪٣‬باص ابألسقف فاستحضرت من ‪٧‬بل صيدانوى بساطاً‪ ،‬وصنعت‬
‫مكتباً‪ ،‬واشَبيت من مكاتب مصر كتباً‪ ،‬و‪ٝ‬بعت من صيدلية ومن ‪٨‬بازف‬
‫األدوية ُب القاىرة ما ٰبتاج إليو ساكن القفر من العقاقّب الطبية‬
‫الضرورية‪ .‬وسَبت النوافذ بسَب من القماش األبيض‪ ،‬وىيأت فراشي‬
‫بصورة ترضى العْب وتريح البدف‪ ،‬فاكتملت رل ا‪٢‬باجات البلزمة إلقامة‬
‫طويلة‪.‬‬

‫ونظمت وقٍب حٌب أفيد منو‪ ،‬تركت األوقات ا‪٤‬بخصصة للصبلة‬


‫ُب الكنيسة على حا‪٥‬با ألنِب ال املك سلطة الستبدا‪٥‬با بغّبىا‪ ،‬وتصرفت‬
‫ُب بقية الوقت كمقتضى ا‪٢‬باؿ‪ .‬خصص األسقف عريفاً ضريراً ليعلمِب‬
‫القداس عن ظهر قلب‪ ،‬وآخر ليعلمِب مطالعة اللغة القبطية أل‪ٛ‬بكن من‬
‫القراءة‪ ،‬وتعلم ىذه اللغة أسهل األمور على الذي يعرؼ لغة إفر‪٪‬بية‬
‫لقرب الشبو بْب ا‪٢‬بروؼ القبطية وا‪٢‬بروؼ اإلفر‪٪‬بية ُب الشكل وبعضها‬
‫ُب النطق مع ‪ٙ‬بريف بسيط‪ ،‬فتعلمت القراءة ُب أايـ فساعدتِب على‬
‫حفظ القداس‪.‬‬

‫وتعجل األسقف عملية الَبىب‪ ،‬فذىبت إذل الكنيسة مع‬


‫‪ٝ‬باعة من الشباب فحضران الصلوات العادية حٌب ‪ٛ‬بت‪ٍ ،‬ب رقدان على‬
‫األرض ُب ضجعة األموات وصلى علينا القس سيداروس صبلة ا‪٤‬بوتى‪،‬‬

‫‪375‬‬
‫ومعُب ىذا أننا متنا كأفراد بْب الناس وانقطعت صلتنا ابلعادل ووقفنا ُب‬
‫الدير لنحيا فيو ابلروح وحدىا‪.‬‬

‫وما داـ ا‪٤‬بفروض أف ا‪٤‬بوت قد ًب فتكوف النتيجة أف يصحب‬


‫الوفاة ا‪١‬بسدية االسم الذي كاف ٰبملو ُب العادل صاحب ا‪١‬بسد الذي‬
‫انلو ا‪٤‬بوت‪ٍ ،‬ب ٱبتار الدير ا‪٠‬باً جديداً للراىب ا‪١‬بديد الذي انتقل من‬
‫عادل إذل آخر ومن حياة إذل حياة جديدة‪ ،‬فاختاروا رل ا‪٠‬باً أطلق على‬
‫فصرت بو الراىب فيلواثؤس‪.‬‬

‫ونظاـ الدير يقتضي اجتماع الرىباف ُب الكنيسة كل ليلة عند‬


‫الساعة الثانية بعد منتصف الليل لبلشَباؾ ُب الصبلة‪ ،‬وتنتهي عادة‬
‫قبيل إشراؽ الشمس‪ٍ ،‬ب أعود إذل غرفٌب فأانـ إذل الساعة التاسعة‪،‬‬
‫فأنتقل إذل ا‪٤‬بدرسة ألعلِّم زمبلئي ا‪١‬بدد ُب الرىبنة‪ :‬ا‪٤‬بطالعة والكتابة‬
‫وا‪٢‬بساب والتاريخ من الكتاب ا‪٤‬بقدس (التوراة)‪.‬‬

‫كنت ا‪٤‬بدرس ا‪٤‬بفرد ُب تلك ا‪٤‬بدرسة الصغّبة‪ .‬أتناوؿ طعاـ‬


‫الغداء مع القس سيداروس وزمبلئو ُب أوقات غّب منظمة تنتهي عادة‬
‫عند الساعة الثانية‪ ،‬واسَبيح إذل الرابعة‪ٍ ،‬ب اذىب إذل حديقة كبّبة‬
‫مهملة داخل الدير فأصلح فيها جزءاً ىيأتو لزراعة بعض أنواع ا‪٣‬بضر‪،‬‬
‫وعنيت كثّباً هبذه الزراعة ألنِب دل أحتمل أكل العدس والفوؿ والبصارة‬
‫ٕباؿ مستمرة فصران ‪٪‬بد على ا‪٤‬بائدة ىذه ا‪٣‬بضر مطبوخة ابلزيت‪.‬‬
‫‪376‬‬
‫ومكنتِب ا‪٣‬بلوة بنفسي ُب أوقات الفراغ الطويلة من ا‪٤‬بطالعات‬
‫واإلفادة منها‪ ،‬واستحضرت من القاىرة أدوات التصوير ابلزيت فصرت‬
‫أتلهى هبا فر‪٠‬بت صورة للبطريرؾ األنبا كرلس وأخرى لؤلب انطونيوس‬
‫أيب الرىباف من زماف بعيد‪.‬‬

‫طابت رل ىذه ا‪٢‬بياة ا‪٥‬بادئة ووجدت أنواع التسلية ُب مصادقة‬


‫القس سيداروس والقمص بطرس‪ ،‬وُب ا‪٤‬بدرسة وا‪٢‬بديقة ٍب ُب ا‪٤‬بطالعة‪،‬‬
‫وكنت دائباً على حفظ القداس ُب عجلة بسبب رغبة األسقف ُب ترقيٍب‬
‫إذل درجة قس‪ ،‬ولكن ىذه ا‪٢‬بياة كانت تتخللها مزعجات متنوعة ال‬
‫يدرؾ غّبي أاها مزعجات تبعثِب على الفزع ‪ .‬كاف األسقف فخورا‬
‫بوجود شاب متعلم من نوعى بْب رىباف ديره‪ ،‬فطاب لو أف يعرضِب‬
‫على كل زائر وجيو يزور الدير أل‪ٙ‬بدث إليو‪.‬‬

‫زار سيد بك خشبة الدير مرة (ا‪٤‬برحوـ سيد ابشا خشبة بعد‬
‫ذلك)‪ ،‬فحدثو األسقف عن وجود رىباف ُب الدير متعلمْب ٯبيدوف‬
‫اللغة العربية‪ ،‬واستدعاشل ‪٤‬بقابلة الزائر الوجيو وجعل سيد خشبة يسألِب‬
‫ُب قواعد اللغة العربية‪ :‬مٌب تكسر إف ومٌب تفتح ٮبزة القطع فيها‪،‬‬
‫وسألِب عن نوف التوكيد‪ ،‬وعن حروؼ العلة وما يطرأ عليها بعد‬
‫النواصب وا‪١‬بوازـ‪ ...‬و‪ ...‬و ‪ ...‬و ‪ ...‬فكنت مرغماً على اإلجابة مع‬
‫ضيق صدري من ىذا التصرؼ‪.‬‬

‫‪377‬‬
‫وحدث مرة أف حضر إذل الدير ابمشهندس التنظيم ‪٤‬بعاينة عملية‬
‫ُب بناء القصر الذي يشيده األسقف ُب الدير‪ ،‬وانط يب مرافقة الرجل‪،‬‬
‫واستدعى ا‪٢‬باؿ أف أعدؿ شيئاً ُب مبلحظاتو ألاها خاطئة‪ ،‬فحدثت بيننا‬
‫مناقشة ‪١‬بأت فيها لعلم ا‪٥‬بندسة إلقناعو برأيي فاقتنع‪ ،‬ولكنو ‪ٞ‬بلق ُب‬
‫وجهي يتحقق منو ٍب قاؿ‪" :‬من اؼبدىش حقا أف تكوف راىباً"‪.‬‬

‫فتذكرت أنِب أخطأت ألف مثل ىذه اجملادلة رٗبا تكوف سبباً ُب‬
‫كشف سرى و‪٤‬بت نفسي على اندفاعي ُب ىذا السبيل ونسياف حقيقة‬
‫أمري والظروؼ الٍب تقضي على ابلتحصن من كل مظهر يفضح حارل‪.‬‬
‫ا‪٤‬بعروؼ عن الرىباف أاهم ُب ذلك الزماف من طبق تنقصو ا‪٤‬بعرفة‪ ،‬فكاف‬
‫الواجب أف أبقى على مثا‪٥‬بم وأحبس لساشل ُب حلقي‪.‬‬

‫ودل يكتف الرجل ٗبا قالو رل فكرره لؤلبناء ابخوميوس وجعل‬


‫يسأؿ أين تعلمت؟ وكيف رغبت ُب دفن نفسي ُب الدير مع ما رل من‬
‫ا‪٤‬بعرفة؟ أحل ُب السؤاؿ عن األسباب ا‪٥‬بامة الٍب حدت يب للجوء إذل‬
‫الدير ‪...‬‬

‫وحدث مرة أف ىيئة ‪٧‬بكمة ا‪١‬بناايت انتقلت إذل قرية ‪٦‬باورة‬


‫للدير للمعاينة ُب جرٲبة قتل‪ ،‬ودل يسمح ‪٥‬با الوقت ابلعودة إذل أسيوط‬
‫بسبب نقص وسائل ا‪٤‬بواصبلت ا‪٤‬برٰبة حينذاؾ فأرغمت على ا‪٤‬ببيت ُب‬

‫‪378‬‬
‫الدير وىو ا‪٤‬بكاف ا‪٤‬بفرد الصاحل السَباحة ىذه ا‪١‬بماعة فجاءوا إذل الدير‬
‫ضيوفاً لليلة‪ .‬وكاف بْب ا‪٤‬بستشارين قبطي ينتهي ا‪٠‬بو بلقب ‪٠‬بيكة‪.‬‬

‫ورأى األسقف زايدة ُب تكرصل ضيوفو دعوهتم لزايرة الكنيسة ُب‬


‫الليل ‪٤‬بشاىدة كيفية عبادة الرىباف وصلواهتم فلبوا الدعوة ُب ارتياح‬
‫وانتقلوا إذل الكنيسة‪ ،‬وجلسوا بعيدا عمن الرىباف على كراسي أعدت‬
‫‪٥‬بم‪ .‬توالشل القلق منذ وصوؿ ىذه ا‪٥‬بيئة القضائية إذل الدير ‪٧‬باذرة من أف‬
‫يكوف بينهم من يعرفِب‪ .‬فعقدت العزـ على االحَباس من الظهور‬
‫أمامهم‪ .‬لزمت غرفٍب وفراشي بدعوى ا‪٤‬برض‪ ،‬وىذا العذر يقبلو كل عقل‬
‫سليم مربراً لعدـ ترؾ الفراش والذىاب للكنيسة‪ .‬وكاف ىدؼ األسقف‬
‫من دعوة ىيئة احملكمة إذل الكنيسة رغبتو ُب ‪ٞ‬بلهم على ‪٠‬باع وعظ‬
‫الراىب فيلواثؤس ا‪٣‬بطيب القدير ليقتنع ا‪٤‬بستشار القبطي أبف بْب‬
‫الرىباف متعلمْب من نوع ما ُب الطائفة من ا‪٤‬بثقفْب‪.‬‬

‫ولكنو فوجئ ٗبرض ذلك الراىب الواعظ‪ .‬ولكن ا‪٤‬برض ُب‬


‫اعتبار األسقف صاحب السلطة ا‪٤‬بطلقة ليس عذراً ٲبنع ا‪٤‬بريض من‬
‫تنفيذ رغبتو والذىاب إذل الكنيسة والوعظ أماـ الضيوؼ‪ ،‬فأرسل‬
‫سيداروس ليبلغ إذل أمر األنبا ابخوميوس‪ .‬وصاحيب ىذا شاب درس ُب‬
‫مدرسة األقباط ابلقاىرة حٌب كاد يتم الدراسة الثانوية‪ ،‬وكوف االختبار‬
‫عقلو تكويناً ٲبكنو من الفهم والوزف وصدؽ ا‪٢‬بكم ُب حدود معينة‪.‬‬

‫‪379‬‬
‫وقلت لو إنِب مريض أأتدل أ‪٤‬باً حاداً من الكلية‪ ،‬فكيف أقوى‬
‫على عدـ الشعور ابألدل أل‪ٛ‬بكن من إلقاء موعظة؟ … ىل تريدوف مُب‬
‫أف اقطع الوعظ ُب الكنيسة أماـ الضيوؼ ٍب أتوذل من شدة األدل‬
‫وأصرخ‪ ،‬واقتنع القس سيداروس بوجاىة اعتذاري‪ ،‬ولكن األسقف دل‬
‫يقنع فنزؿ إذل ووقف جانب فراشي وقاؿ‪" :‬سبلمتك ي بوان فلتاؤوس‬
‫‪."...‬‬

‫واضطررت للجلوس ُب الفراش احَباماً لؤلسقف ا‪١‬بليل ومثلت‬


‫ُب جلسٍب دور ا‪٤‬بوجوع ا‪٤‬بتأدل ولكنو دل يعبأ أب‪٤‬بي وقاؿ‪" :‬عندان ضيوؼ‬
‫ؿبَبمْب ي بوان فلتاؤوس‪ .‬وفيه مستشار مسيحي زينا وعاوزين‬
‫نفهمو إف الدير عمار واف بْب الرىباف كهنة متعلمْب زى الشعب‬
‫واكثر فبا ُب الشعب ‪ ...‬فيجب أف تتوىل الوعظ ُب ىذه الليلة ‪."...‬‬

‫قلت‪" :‬فبا يؤسف لو ويزعجِب أنِب مريض واؼبغص الكلوي‬


‫سبب يل آالماً ال تطاؽ‪ ،‬فليساؿبِب سيدي األسقف إذا اعتذرت عن‬
‫تليبة أمره ألف آالمي الشديدة ىي الٍب سبنعِب من أتدية ىذا‬
‫الواجب"‪.‬‬

‫فلم يتحوؿ الرجل عن رأيو وقاؿ‪" :‬اؼبسيح سيباركك ويقويك‬


‫على احتماؿ األمل حٌب الوعظ"‪.‬‬

‫‪380‬‬
‫قلت‪" :‬اؼبسيح اغبكي الرحي ال ينكر نوع أتثّب اآلالـ الٍب‬
‫ال تطاؽ جملرد الرغبة ُب إلقاء موعظة أماـ ضيوؼ‪ ،‬لقد عجز اؼبسيح‬
‫نفسو عن احتماؿ األمل وىو يعذب وأتوه وغاب عن صوابو"‪.‬‬

‫قاؿ ُب إصرار‪" :‬آالمك من اؼبغص الكلوي ال تضارع آالـ‬


‫اؼبسيح على خشبة الصليب‪ ،‬وأان على يقْب من أف اؼبسيح سيقويك‬
‫على احتماؿ األمل ألنك ستؤدى عمبلً ػبدمة الكنيسة وخداـ‬
‫يسوع"‪.‬‬

‫أدركت أنِب بْب أمرين أحدٮبا مر فإما أف أصر على مبلزمة‬


‫الفراش بسبب مرضى فأخالف أمر ىذا الرئيس الديكتاتور وأنفره مِب‪.‬‬
‫وإما أف أ‪ٙ‬بامل على نفسي وأذىب إذل الكنيسة وألقى العظة ُب ‪٦‬بازفة‬
‫قد تكوف سبباً ُب فضح سري‪ .‬ورأيت األسقف يتناوؿ فراجيٌب من‬
‫ا‪٤‬بشجب وٲبد يده هبا إذل مع ابتسامة حلوة صادرة من نفس طيبة وقلب‬
‫نقي ليس فيو من العيوب سوى سبلمة النية والصفاء‪.‬‬

‫خذلت بتأثّب ىذه الطيبة الصادقة وقبلت يد الكاىن الكبّب‬


‫للداللة على أتثري بعطفو وارتديت ثويب‪ ،‬ولففت رأسي بلفافة سوداء‬
‫من ا‪٢‬برير "شاؿ" وسرت إذل جانب األنبا ابخيوموس إذل الكنيسة‬
‫فا‪٫‬برؼ ىو إذل ا‪٤‬بكاف الذي بو الضيوؼ وسرت إذل مكاف الرىباف‬
‫وجلست بينهم‪.‬‬
‫‪381‬‬
‫كانت الكنيسة القدٲبة مفروشة اب‪٢‬بصر فنجلس عليها‪ ،‬وكانت‬
‫مضاءة بقناديل يغذيها الزيت‪ ،‬فكاف ضوءىا ضعيفاً ُب ذلك الفناء‬
‫الكبّب‪ ،‬وكاف الرىباف ‪ٝ‬بيعاً ُب ثياب سوداء متماثلة فبل ٲبكن التميز‬
‫بينهم إال برؤية الوجوه أو ‪٠‬باع األصوات‪ ،‬فمن ا‪٤‬بتعذر على عْب الغريب‬
‫أف ‪ٛ‬بيز حافظ ‪٪‬بيب ا‪٤‬بتنكر بْب زمبلئو الرىباف‪ ،‬ألف ‪ٛ‬باثل الثياب ُب‬
‫الشكل واللوف ٯبعل ا‪٤‬بشهد قطيعاً تتماثل غنمو ُب العْب‪.‬‬

‫ولكن تنبو ا‪٤‬بتهيب احملاذر يسلط عينو على الوجوه الغريبة‬


‫ليتحقق منها رغبة ُب االطمئناف من انحيتهما إذا ثبت لو أاها ال تعرفو‪،‬‬
‫وىكذا فعلت‪ .‬قضيت برىة ‪ٚ‬بَبؽ أشعة عيِب الظلمة ا‪٣‬بفيفة ُب الركن‬
‫الذي جلس فيو الضيوؼ ألفحص وجوىهم‪ ،‬فكانت النتيجة الفزع‬
‫األكرب ‪...‬‬

‫‪382‬‬
383
384
‫‪6‬‬
‫رأيت إذل جانب ا‪٤‬بستشارين رئيس النيابة مصطفي بك حلمي‬
‫فعرفتو رغم مرور أعواـ طويلة على آخر مرة تبلقينا فيها‪ ،‬كاف عمى‬
‫ا‪٤‬برحوـ حسن كامل قاضياً ُب ‪٧‬بكمة أسيوط الكلية‪ ،‬وكاف مصطفي بك‬
‫حلمي زميبلً لو ويسكن ٔبواه‪ ،‬وكاف القضاة ُب ذلك الزمن من ذوي‬
‫األخبلؽ ا‪٢‬بسنة واالتزاف ومن احملافظْب على اآلداب العامة والتقاليد‬
‫فكانوا يزوروف بعضهم بعضاً ُب ا‪٤‬بساء ويقضوف وقت الزايرة ُب منادر‪.‬‬

‫وكاف مصطفي بك ىذا يزور عمي وأجلس معهما طوؿ السهرة‬


‫ُب ا‪٤‬بندرة ‪ .‬وقد عرفت الرجل من أوؿ نظرة‪ ،‬فهل تعجز ذاكرتو عن أف‬
‫تعرفِب من أوؿ نظرة؟ والرجل رئيس نيابة من ذوي الشرؼ واألمانة ُب‬
‫أتدية واجبات عملو‪ .‬وقد حلف اليمْب ومن واجبو إلقاء القبض على‬
‫إذا رآشل وعرفِب‪ .‬فهل يتذكر صداقتو لعمي ويهمل واجبو إكراماً لتلك‬
‫الصداقة؟ أو يضحي ابلصداقة ُب سبيل الواجب ؟ ليس ُب مقدوري‬

‫‪385‬‬
‫ترجيح أحد األمرين على اآلخر ألف تصرؼ رئيس النيابة سيكوف بتأثّب‬
‫عقلو ىو وبتأثّب ا‪٤‬بؤثرات ا‪٤‬بتباينة ُب نفسو‪.‬‬

‫وال مناص من صعودي إذل ا‪٤‬بنصة إللقاء العظة ا‪٤‬بفروضة على‪،‬‬


‫وا‪٤‬بنصة تنصب عليها أضواء مشوع كثّبة تبدد الظبلـ وتنّب كل ما حوؿ‬
‫الواعظ و‪ٛ‬بكنو من ‪٤‬بطالعة من إذا شاء الرجوع إذل الكتاب ا‪٤‬بقدس لقراءة‬
‫بعض اآلايت لتعلن بنصها الثابت ُب التوراة أو اإل‪٪‬بيل‪ .‬وكثرة الضوء‬
‫‪ٛ‬بكن رئيس النيابة من رؤية وجو الواعظ‪ ،‬وذاكرتو ال ٲبكن أف ‪ٚ‬بونو‬
‫فتنسيو الوجو الذي انطبع من زماف على لوحة ذىنو‪ ،‬فموقفي إذف خطّب‬
‫ومهدد بنتائج سيئة‪ ،‬ولكن ال مفر منو وال وسيلة لئلفبلت‪.‬‬

‫وحاف وقت الوعظ وصعد فليواثؤس إذل ا‪٤‬بنصة ا‪٤‬بوضوعة إذل‬


‫يسار ا‪٢‬بجاب الذي يعزؿ ا‪٥‬بيكل عن فناء الكنيسة حيث ٯبلس‬
‫ا‪٤‬بصلوف‪ ،‬صعد الراىب متمهبلً وىو ‪ٙ‬بت أتثّب ىذه ا‪٤‬بؤثرات الٍب تبعث‬
‫على الرعب‪ ،‬ولكنو استجمع قواه وبدا خطبتو‪ ،‬وتعمد أف يلفت إليو‬
‫أولئك القضاة فجعل موضوع العظة‪ :‬مبادئ الدين ا‪٤‬بسيحي ىي مبادئ‬
‫"الثورة الفرنسية"‪" :‬حرية – مساواة – إخاء"‪ ،‬وضمن ا‪٤‬بوضوع بعض‬
‫آايت من الكتاب ا‪٤‬بقدس‪.‬‬

‫‪ٙ‬بوؿ نظر رئيس النيابة إذل وجو الواعظ كما فعل غّبه من‬
‫ا‪٢‬باضرين‪ ،‬و‪٠‬بعو يلقى عظتو أو ٱبطب بصوت وديع أوال ٍب عبل ىذا‬
‫‪386‬‬
‫الصوت شيئا فشيئاً‪ ،‬وانتصب رئيس النيابة ووقف برىة يصغي إذل‬
‫ا‪٣‬بطيب وىو متكئ على ظهر الكرسي‪ٍ ،‬ب حدث ‪ٝ‬باعتو بصوت‬
‫خافت وخرج من الكنيسة وعْب الواعظ ال تفارقو و‪ٙ‬بصى عليو حركاتو‪.‬‬

‫قاؿ حافظ ‪٪‬بيب ُب سره‪" :‬من احملقق أف الرجل عرفِب"‪.‬‬

‫وقد جعلتو الدىشة ينتصب واقفاً‪ ،‬بتأثّب االرتباؾ والرغبة ُب‬


‫استقرار عقلو على حاؿ واحدة‪ :‬ىل ىو رئيس نيابة؟ ىل ىو صديق‬
‫ا‪٤‬برحوـ حسن كامل؟‬

‫كاف عقل حافظ منصرفاً إذل النزاع القائم بْب الواجب والصداقة‬
‫ُب نفس رئيس النيابة‪ ،‬بينما لساف الواعظ تتدفق منو العبارات بليغة‬
‫وا‪٤‬بعاشل واضحة سامية‪ ،‬وبينما اآلذاف تصغي لنوع جديد من الوعظ‬
‫العصري يلقى من منصة رجل دين راىب ُب دير أىلو ُب عزلة عن العادل‬
‫وعن األحياء وعن السياسة والساسة‪ .‬زاد فزع حافظ بعد خروج رئيس‬
‫النيابة‪ ،‬وجعل يعلل الدافع الذي دفعو لَبؾ زمبلئو مبارحة الكنيسة أثناء‬
‫وعظ الواعظ القادر ا‪١‬باد ُب خطبتو‪ .‬ىل خرج ليجمع قوة من ا‪٣‬بفراء‬
‫ليلقى القبض على الشقي ا‪٥‬بارب من العدالة ا‪٤‬بتنكر من زى راىب؟ ىل‬
‫ٰبضر القوة وٰبصر الكنيسة‪ٍ ،‬ب ينتظر خروج الرىباف بعد إ‪ٛ‬باـ الصبلة‬
‫ليتمكن من القبض على الشقي خارج الباب؟ ‪ ..‬ىل؟ وىل؟ وىل؟‬

‫‪387‬‬
‫تتواذل ىذه ا‪٤‬بشاغل على فكر حافظ بينما الواعظ يوارل عظاتو‬
‫وتتدفق معانيو وعباراتو حٌب انتهى من خطبتو ونزؿ من ا‪٤‬بنصة يريد‬
‫ا‪١‬بلوس بْب زمبلئو الرىباف‪ ،‬ولكن خادماً ا‪٫‬بُب على أذنو وأسر إليو أمراً‬
‫من األسقف يدعوه للحضور ‪٤‬بقابلتو‪ .‬البد من اإلطاعة ُب ا‪٢‬باؿ وتنفيذ‬
‫األمر‪ ،‬فذىب الراىب ‪٤‬بقابلة رئيسو األسقف وىو إذل جانب ضيوفو‪،‬‬
‫فقابلوه مقابلة حسنة‪ ،‬وأظهروا إعجاهبم ابلنظرايت وا‪٤‬ببادئ الٍب ذكرت‬
‫ُب العظة الٍب ألقاىا‪.‬‬

‫نفذ األسقف رغبتو ُب إ‪٠‬باع ضيوفو عظة الراىب الواعظ‪ ،‬و‪٠‬بع‬


‫منهم الثناء عليو‪ ،‬لقد أثبت ‪٥‬بؤالء ا‪٤‬بثقفْب أف ُب األداير متعلمْب‬
‫ومثقفْب‪ ،‬فلم يعد ىناؾ حاجة لبقائو معهم ُب الكنيسة فدعاىم‬
‫لبلنتقاؿ إذل مسكنو ا‪٣‬باص‪.‬‬

‫وأرغمت ابألمر على مرافقتهم لتناوؿ الطعاـ معهم وظنوا أف‬


‫ىذا تكرصل رل‪ ،‬أما أان فزادت ‪٨‬باوُب من نتيجة ىذا التصرؼ بسبب‬
‫وجود رئيس النيابة‪ ،‬ألف الظروؼ ستجيء بو إذل ىذا اجمللس و٘بمعو بو‬
‫ولو على ا‪٤‬بائدة‪ .‬وسأؿ ا‪٤‬بستشاروف عن زميلهم فقاؿ ‪٥‬بم ا‪٣‬بادـ إنو انـ‬
‫بسبب التعب وأوصى بعدـ إيقاظو ألي سبب‪ ،‬فاطمأننت وىدأ‬
‫اضطرايب‪ ،‬وعلمت ُب الصباح بعد تيقظي من النوـ أف ا‪١‬بميع رحلوا عن‬
‫الدير مبكرين ‪...‬‬

‫‪388‬‬
‫وحدث أف ‪ٝ‬باعة من الرىباف ا‪١‬بزويت زاروا الدير ُب يوـ قائظ‬
‫فناط يب األسقف مرافقتهم ‪٤‬بشاىدة الكنيستْب والربج وسائر ما يريدوف‬
‫رؤيتو فسرت معهم كدليل وكاف بينهم من ٯبيد اللغة العربية فجعل‬
‫ٰبدثِب هبا كلما أرادوا االستفهاـ عن شئ‪ .‬كنت ترى الرىباف يتكلموف‬
‫القبطي فاعتقدوا انو ال يوجد بينهم من يعرؼ لغة من اللغات فلجأ‬
‫بعضها إذل اللغة العربية وىى ا‪٤‬بفردة الٍب ٯبوز أف أفهمها‪ ،‬وصرت أجيب‬
‫على األسئلة بنفس اللغة فسلطوا ألسنتهم ُب مبلحظات صادقة على ما‬
‫تقع عليو عيواهم ‪٩‬با ال يوصف أبنو نظافة أو نظاـ‪ ،‬و‪٠‬بعت أحدىم‬
‫يقوؿ‪" :‬أان شديد الظمأ ‪ .. ..‬ولكنِب أفضل اؼبوت ظمأ على شرب‬
‫قدح ماء من ىذا اؼبكاف القذر"‪.‬‬

‫و‪٤‬با انتهى الطواؼ عدت اب‪١‬بماعة إذل الوسية وفتحت ‪٥‬بم ابب‬
‫غرفٍب ا‪٣‬باصة فاستولت عليهم الدىشة ألاها كانت عظيمة ومنظمة‬
‫واندفعوا إذل آنية ا‪٤‬باء ا‪٤‬بربد فشربوا منو أقداح نظيفة‪.‬‬

‫والحت من أحدىم لفتة إذل ا‪٤‬بكتب فرأى عليو كتاابً ابللغة‬


‫الفرنسية مفتوحاً ومثبتاً بثقل من البلور فتناوؿ الكتاب و‪ٙ‬بقق منو قاؿ‬
‫لزمبلئو ُب تعجب‪" :‬كتاب ُب البلىوت ابللغة الفرنسية"‪.‬‬

‫ٍب سألِب‪" :‬ؼبن ىذا الكتاب "‬

‫‪389‬‬
‫قلت‪" :‬يل"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬وىل تعرؼ الفرنسية "‬

‫قلت‪" :‬نع "‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬وقد ظبعت كل مبلحظاتنا عن عدـ النظافة إذف كبن‬


‫نعتذر ألننا كنا قبهل أنك تفه حديثنا" ‪...‬‬

‫قلت‪" :‬لقد كانت اؼببلحظات وصفاً صادقاً ؼبا وقعت عليو‬


‫العيوف‪ ،‬وقائل اغبق ال يفرض عليو االعتذار ولو كاف للحق مرارة"‪.‬‬

‫فجعلوا ينظروف إذل بعضهم كأاهم يتشاوروف ٍب أشار إليهم‬


‫أحدىم بيده وجلس فجلسوا ‪ٝ‬بيعاً مَببصْب ‪٤‬با سيكوف بيِب وبْب‬
‫زميلهم من ا‪٢‬بديث‪ .‬كاف الرجل ُب أوؿ ا‪٢‬بلقة ا‪٣‬بامسة صبوح الوجو ذا‬
‫عينْب صافيتْب براقتْب ولو ‪٢‬بية خفيفة ظللت ذقنو وصدغيو‪ .‬ولو صوت‬
‫عذب واضح لو موسيقى تدؿ على الرجولة وعلى قوة العزـ‪.‬‬

‫نظر إذل وجهى طويبلً يتحقق منو ٍب قاؿ‪" :‬أنت‬


‫أورثوذكسي "‪.‬‬

‫قلت‪" :‬نع "‪.‬‬

‫‪390‬‬
‫قاؿ‪" :‬كيف يتمكن العقل من إدراؾ ما قررتو الدينة‬
‫اؼبسيحية من أف األب واالبن والروح القدس ثبلثة أقاني ُب جوىر‬
‫واحد ىو هللا "‬

‫قلت‪" :‬كاف هللا موجوداً من األزؿ قبل وجود الكوف‬


‫والكائنات وىو الذي خلق ويدلوف على هللا ُب ىذه الفَبة بكلمة‬
‫أب … فأب يقصد هبا اإللو اػببلؽ‪ .‬وجاء االبن للتفكّب عن‬
‫خطيئة اإلنساف ليستحق الغفراف والرضبة فعمل االبن وصفو الرضبة‪،‬‬
‫وصفة االبن أنو الرحي "‪.‬‬

‫"وؼبا اكتمل خلق الكوف والكائنات والقوانْب الطبيعية صار‬


‫عمل اإللو ُب ىذا الكوف اغبكمة ووصفو أنو اغبكي الرحي ‪...‬‬
‫فهذه الصفات للجوىر الواحد ال أجزاء ؾبتمعو ُب ىذا اعبوىر"‪.‬‬

‫أصغى إذل الرجل ُب انتباه اتـ وسكوف‪ ،‬فلما انتهيت من‬


‫اإلجابة على سؤالو ‪ٞ‬بلق ُب وجهي وىز رأسو ٍب قاؿ‪" :‬يلوح يل انك‬
‫تفكر بعقيدة اؼبسلمْب" ‪...‬‬

‫قلت‪" :‬ىذا ما يقرره العقل واؼبنطق ويقرب الذىن إىل فكرة‬


‫الوحدانية الٍب يسل هبا اعبميع"‪.‬‬

‫‪391‬‬
‫وانصرؼ الزائروف بدوف مقابلة األسقف فحمدت هللا ألف‬
‫إجابٍب ا‪٤‬بنطقية قد ال ترضى أحداً إذا شرحت لغّب ذي معرفة أو حرية‬
‫ُب التفكّب‪ ،‬وعلمت بعد ذلك أف الذي وجو إذل ىذا السؤاؿ ىو األب‬
‫كرتيو رئيس ا‪١‬بزويت ‪...‬‬

‫‪392‬‬
‫‪7‬‬
‫خرجت يوماً مع األسقف إذل الفضاء الواقع أماـ ابب الدير‪،‬‬
‫فجعل يتحدث عن الرماؿ الٍب ٘بئ هبا الرايح من الصحراء فتغطى ىذا‬
‫الفضاء الفسيح وتعطل االنتفاع بو‪ ،‬قاؿ‪" :‬لو أمكن منع الرماؿ من‬
‫تغطيو ىذه األرض يكوف ُب اؼبقدور غسلها وإزالة الطبقة الرملية‬
‫السطحية عنها فتنكشف األرض وتصلح للزراعة وتستثمر وربسن‬
‫مدخل الدير "‬

‫قلت‪" :‬األمر سهل جداً"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬ىل يبكن وقف الريح الٍب ربمل الرماؿ "‬

‫قلت‪" :‬إمبا يبكن منع الرماؿ من الوصوؿ إىل ىذا اؼبكاف"‪.‬‬

‫فضحك الرجل وقاؿ‪" :‬ىل تريد تثبيت الرماؿ ُب أماكنها فبل‬


‫تنقلها الريح "‪.‬‬

‫‪393‬‬
‫قلت‪" :‬ال إمبا يبكن منع الرماؿ اؼبكتسحة من غمر ىذا‬
‫الفضاء من األرض بعملية بسيطة يقاـ سور من الطوب النيئ على‬
‫ارتفاع قليل على طوؿ الضلع الغريب لؤلرض‪ ،‬فإذا ضبلت الريح‬
‫الرماؿ ذبد أمامها ىذا السد فتقف عنده"‪.‬‬

‫فوقف الرجل يفكر برىة ُب صمت وسكوف ٍب عاد إذل الدير‪،‬‬


‫وُب النهار الثالث ‪٥‬بذه ا‪٢‬بادثة رأيت كتيبة من العماؿ والبناءين يتولوف‬
‫بناء السور فأدركت أف األسقف ا‪١‬بليل رجل عمل حازـ قوى اإلرادة‪.‬‬

‫وسافر القمص سيداروس إذل أسيوط ‪٤‬بعا‪١‬بة أنفو ٍب انتقل إذل‬


‫القاىرة‪ ،‬وكتبت إليو مرات ألطمئن على صحتو فلم يعن ابإلجابة على‬
‫كتيب وكتب لغّبي فاستأت من استخفافو يب‪ ،‬وعاد بعد أايـ من سفره‬
‫فخرج الرىباف الستقبالو ابألعبلـ والدفوؼ والَباتيل كما يفعلوف ُب‬
‫استقباؿ األسقف نفسو ودل أكن على علم ٗبوعد حضوره للدير‪ ،‬وكنت‬
‫ُب ا‪٢‬بماـ وقت وصولو فلم تتح رل فرصة ا‪٣‬بروج معهم الستقبالو فتوىم‬
‫أنِب قصرت فيما يظنو واجباً على لو‪.‬‬

‫وحاولت مقابلتو ُب ذلك النهار مرات فلم ٲبكنِب من ذلك‬


‫حٌب ‪ٝ‬بعتنا الصدفة ُب النهار الثاشل فاعتذرت وسببت اعتذاري‪ ،‬ولكن‬
‫األسباب الٍب ظننتها معقولة دل ‪ٛ‬بح من نفسو أت‪٤‬بو ‪٩‬با يعده ترفعاً مُب‬
‫وتعالياً عليو‪ ،‬فلم أعبأ بو ‪ ...‬وبدأت ا‪٤‬بعاكسة ُب اضطراب مواعيد‬
‫‪394‬‬
‫تناوؿ الطعاـ على ا‪٤‬بائدة الٍب ٘بمعنا‪ ،‬أدركت أنو يتعمد ذلك‪ ،‬فنظمت‬
‫مطبخي ومواعيدي وصرت أتناوؿ غذائي ُب غرفٍب‪ ،‬فزاد ىذا التصرؼ‬
‫ُب ا‪٢‬بنق على‪.‬‬

‫واستحضرت من العاصمة أجراساً كهرابئية أل‪ٛ‬بكن من استدعاء‬


‫خادمي أو الطاىي بدوف السعي إليهم وأرغمتِب الكياسة على وضع‬
‫مثلها ُب حجرات األسقف والقمص سيداروس والقمص يوحنا سبلمة‬
‫وُب غرفة الكتبة ليدعوىم األسقف حْب يشاء‪.‬‬

‫وجعلت البطارايت ُب زاوية من غرفٍب ودل يرض سيداروس عن‬


‫ىذا التصرؼ وطلب مُب أف أضع ىذه البطارايت ُب القسم ا‪٣‬باص بو‪.‬‬
‫وصارحِب أبنو ٱبشى أف أعطل أجراسو إذا حدث بيننا خبلؼ‪ ،‬فكانت‬
‫ىذه ا‪٤‬بصارحة الوقحة سبباً ُب امتناعي عن تنفيذ رغبتو‪ ،‬وزاد االمتناع‬
‫ُب حنقو‪.‬‬

‫ظهرت ُب تلك األايـ رسالة الشيخ عبد العزيز جاويش‬


‫"اإلسبلـ غريب ُب ببلده" فزلزلت البلد وتركت أثرىا السيئ ُب نفوس‬
‫‪ٝ‬بيع األقباط وانفض شيوخهم وشباهبم عن اغبزب الوطِب‪ ،‬وانقسمت‬
‫األمة إذل فريقْب يتجافياف بل يتخاصماف‪ ،‬فاشتدت ا‪٤‬بعركة ورأيت من‬
‫التعقل أف ألطف من غضب الشيخ عبد العزيز واندفاعو ُب ىذا السبيل‬

‫‪395‬‬
‫الذي يهدـ وحدة األمة‪ ،‬فكتبت إليو بتوقيع الراىب فيلتاءوس ألطف‬
‫من ثورة نفسو وأنبهو إذل نتائج ىذه ا‪٢‬بملة القاسية‪.‬‬

‫وفعلت كتيب ُب نفسو فعل ا‪٤‬برطبات‪ ،‬اراتح لؤلسلوب اللْب‬


‫اللطيف ووزف األسباب الٍب ذكرهتا ليكوف مقتضاىا وقف ا‪٤‬بخاصمة‬
‫ونشر الرسائل القاسية الٍب تفعل النار ُب ا‪٥‬بشيم ‪ .‬وكتب إذل الرجل وىو‬
‫ال يدرى أنِب حافظ ‪٪‬بيب أحد معارفو ا‪٤‬بعجبْب بقلمو وخطبو عليو بعد‬
‫خروجو من وزارة ا‪٤‬بعارؼ مغصوابً عليو‪ ،‬كتب إذل ُب لْب ورفق وتعقل‪،‬‬
‫ورددت عليو مرات فتوثقت مودة جديدة بْب الراىب ُب ديره والكاتب‬
‫ُب جريدتو‪ .‬ونشر "اللواء" ‪٨‬بتارات من تلك الكتب الٍب تدعوا للسبلـ‬
‫واالئتبلؼ‪.‬‬

‫أما السياسة الداخلية ُب الدير فقد وجهها القمص سيداروس‬


‫إذل انحية عدائية رأى ‪ٝ‬باعات من الزائرين ٰبضروف إذل الدير من نواحي‬
‫شٌب لرؤية الراىب فليواتؤوس ألف اإلشاعات وا‪٤‬ببالغات صورتو أنو‬
‫يشفي من األمراض ‪ ...‬وسبب ىذا الوىم أنِب كنت أملك أنواعاً من‬
‫القطرة وا‪٤‬براىم وا‪٤‬بلينات وبعض العقاقّب الطبية الضرورية ألنِب معزوؿ عن‬
‫العادل فإذا ‪١‬بأ إذل من ٰبتاج للقطرة لو ُب عينو أو من ٰبتاج للملْب‬
‫سهلت لو حاجتو‪ ،‬أو ‪ ...‬أو ‪...‬‬

‫‪396‬‬
‫فضاعفت اإلشاعة ىذه اإلسعافات البسيطة وحولتها إذل‬
‫معجزات تشفي ا‪٤‬برضى من أدواء مزمنة ‪ ...‬وكنت أغلى ا‪٤‬باء ٍب أرشحو‬
‫ألشربو فحولت اإلشاعة ىذه العملية الغريبة على ا‪١‬بهلة والساذجْب إذل‬
‫أعماؿ كيميائية للحصوؿ على الذىب ‪ ...‬ووجدوا بعد خروجي من‬
‫الدير كؤوساً مدرجة وأانبيب اختبار ومربداً بردت بو بعض ا‪٤‬بعادف‪،‬‬
‫فقالوا إنِب أبرد بو ذىباً أخلطو ابلرمل ٍب أستخرجو منو ألوىم رائسة‬
‫الدير أبنِب اكتشفت الذىب ُب الصحراء‪.‬‬

‫كاف ا‪١‬بهل يعلل تصرفاٌب الطبيعية ُب حدود إدراكو ا‪٣‬باطئ‬


‫ويطلق ىذا التعليل إشاعة‪ ،‬وتولت السذاجة أو ا‪٣‬ببث ىذه اإلشاعات‬
‫فضاعفتها أرسلتها خرافات ‪٥‬با عند األغبياء وانقصي ا‪٤‬بعرفة قوة ا‪٢‬بقائق‪.‬‬
‫أان رجل متعلم أعرؼ أف الذىب ال يوجد برادة ُب الرمل إ٭با يوجد ُب‬
‫بطن األرض ويستخرج بوسائل عملية معروفة لكل متعلم تثقف فليس‬
‫من ا‪٤‬بعقوؿ أف أ‪١‬بأ إذل خلط ذرات الذىب ُب الرمل ألخدع العقوؿ‬
‫أبنِب اكتشفت الذىب‪.‬‬

‫كنت أعلم يقيناً أف األسقف على اتصاؿ ابألستاذ توفيق دوس‬


‫ؤبماعة من كبار رجاؿ األقباط ا‪٢‬باصلْب على ا‪٤‬بعرفة والثقافة‪ ،‬لو‬
‫حاولت خدعو ٕبيلة يتحتم أف أختارىا عملية مدعمة بكل ما يؤيد‬

‫‪397‬‬
‫صحتها حٌب ال ٘بد اعَباضاً عليها من العقوؿ السليمة يكشفها ويفضح‬
‫أمرىا أاها خدعة أو حيلة‪.‬‬

‫فا‪١‬بهل ىو الذي خلق إشاعة حكاية خلط برادة الذىب‬


‫ابلرمل الستخراجو لئليهاـ أبنو اكتشاؼ دل يدع األسقف ىذا االدعاء‬
‫ُب حياتو‪ ،‬وكذب تكذيباً قاطعاً ىذه ا‪٣‬برافة ونفي عِب أية ‪٧‬باولة‬
‫للحصوؿ على نقود من الدير سوى الرايؿ الذي يصرفو رل كمرتب‬
‫شهري‪ .‬ولكن تكذيب األسقف للذين سألوه ُب ‪٦‬بالسو ا‪٣‬باصة دل ينشر‬
‫ُب الصحف الٍب نشرت حكاية الذىب وابلغت فيو وُب غّبىا من‬
‫االهتامات الباطلة‪.‬‬

‫غاب األسقف عن الدير واستقر ُب القاىرة أايما طويلة بدار‬


‫البطريركية بسبب مرضو وحاجتو للعبلج‪ .‬وبدأ القمص سيدراوس‬
‫تصرفات متنوعة لتنغيص حياٌب فاستخففت بو وبوسائلو الريفية‬
‫ا‪٤‬بكشوفة‪ .‬ألنِب على يقْب من مركزي ُب الدير وأنو قوي ال تؤثر فيو‬
‫الصبيانيات‪.‬‬

‫وكنت أتصل اب‪١‬بهة السياسية الٍب نصحت رل ابللجوء إذل‬


‫الدير اب‪٤‬براسلة‪ ،‬أرسل كتيب بعنواف رجل مسيحي كاتب ٗبكتب إ‪٠‬باعيل‬
‫الشيمي احملامي‪ ،‬وكانت اإلجاابت ترسل إذل وعليها توقيع عمٍب‬
‫ا‪٤‬بسيحية‪ ،‬ولكن مكتب الربيد موجود ُب القوصية وىى على بعد ‪10‬‬
‫‪398‬‬
‫كيلو مَباً تقريباً من الدير‪ ،‬فيقصد إليو الساعي موفداً من القمص‬
‫سيداروس ليسلم ا‪٤‬براسبلت‪ ،‬فتوضع ُب كيس لو مفتاحاف أحدٮبا ُب‬
‫الدير والثاشل ُب مكتب الربيد فيستلم سيداروس ‪ٝ‬بيع الرسائل ويوزعها‬
‫على الرىباف‪.‬‬

‫ولو خطر ‪٥‬بذا ا‪٣‬بصم ا‪٢‬بانق إخفاء رسالة من رسالٍب وفضها‬


‫يكوف ُب مقدوره االطبلع على أسرار غاية ُب ا‪٣‬بطورة ألاها ُب األايـ‬
‫األخّبة كانت تلح على بَبؾ الدير والعودة إذل القاىرة لتنفيذ أغراض‬
‫سياسية لتلك ا‪١‬بهة‪ .‬اختمرت ُب رأسي فكرة اختياري مطراانً للحبشة‬
‫وكاف من ا‪٤‬بيسور ‪ٙ‬بقيق ىذه األمنية‪ ،‬إذا خبل ذلك الكرسي من‬
‫صاحبو الشيخ الطاعن ُب السن وكانت ‪ٝ‬بيع ظروُب تؤىلِب ‪٥‬بذا ا‪٤‬بنصب‬
‫الديِب الكبّب‪ ،‬ورل سند قوي من نفوذ األنبا ابخوميوس أسقف الدير‬
‫احملرؽ ورغبتو ُب االرتقاء يب إذل أ‪٠‬بى منصب ٱبلو كرسيو من صاحبو‪.‬‬

‫وقد شق على ترؾ الدير والعودة إذل خضم ا‪٢‬بياة ا‪٤‬بضطربة بعد‬
‫ا‪٥‬بدوء الذي ألفتو ُب عزلٍب وراء أسوار الدير‪ ،‬وبعد ا‪١‬بهود الٍب بذلتها‬
‫أثناء إقامٍب ىناؾ ‪٢‬بمل ا‪١‬بميع على االعتقاد أبنِب راىب زاىد ُب الدنيا‬
‫على جانب عظيم من التقوى والصبلح أتعبد حباً ُب العبادة الكتساب‬
‫رضا اإللو‪ ،‬ال رغبو ُب اإلعبلف عن النفس وال طمعاً ُب ا‪٤‬براتب‬
‫الكهنوتية‪.‬‬

‫‪399‬‬
‫وقد عارضت ا‪١‬بهة الٍب تطلب مُب قطع صلٍب هبذه ا‪٢‬بياة‬
‫ا‪٥‬بادئة والعودة إذل العادل ا‪٤‬بضطرب ا‪٢‬بافل بشٌب األخطار وا‪٤‬بنغصات‪،‬‬
‫وصارحت تلك ا‪١‬بهة أبنِب ىانئ ُب عزلٍب وقد أفدت منها االطمئناف‬
‫والسكوف و‪ٙ‬بررت من أنواع الضعف ا‪٣‬بلقي والغريزي الٍب كانت تدفعِب‬
‫لشرب ا‪٣‬بمر وإذل شٌب مزالق اال‪٫‬بدار‪.‬‬

‫وحدث ُب أحد تلك األايـ أنِب أرسلت خادمي ا‪٣‬باص‬


‫ليشَبى حاجات مطبخي من القرية فلما عاد من السوؽ منعو بواب‬
‫الدير من الدخوؿ أبمر القمص سيداروس‪ ،‬فحرمِب من طعاـ ذلك‬
‫النهار‪ .‬وأرسلت اتوضروس أفندي ميخائيل وكيل الدير الزراعي‬
‫لسيداروس يسألو عن سبب ىذا التصرؼ فأىب‪ ،‬فصرت أماـ حالْب فإما‬
‫أف أخضع لديكتاتورية راىب ليس لو سلطة ر‪٠‬بية يستغل غياب‬
‫األسقف لينغص حياٌب‪.‬‬

‫وإما أف أثور على سيداروس أقابل ‪ٙ‬بديو ٗبثلو واحدث ثورة ُب‬
‫الدير ابالستعانة عليو ٖبصومو من الرىباف وىو مكروه من ا‪١‬بميع‪ .‬كاف‬
‫إذل جانيب ُب غرفٍب ُب ذلك الوقت القس بطرس (مطراف سوىاج اآلف)‬
‫فجعل يلطف من غضىب ويضرب األمثاؿ بتصرفات سيداروس مع غّبي‬
‫وصرب ا‪١‬بميع على استبداده وغطرستو‪.‬‬

‫‪400‬‬
‫ولكن ىذه النصائح دل تكف إلسكات غضىب ألنِب كنت فورة‬
‫الشباب العصيب ا‪٤‬بزاج اثئراً على كل تصرؼ ظادل‪ ،‬فعقدت العزـ على‬
‫ترؾ الدير ُب ا‪٢‬باؿ‪ ،‬أغلقت غرفٍب ا‪٣‬باصة وودعت صديقي القس‬
‫بطرس وقصدت إذل الباب ا‪٣‬بارجي للدير‪ ،‬وصادفت ُب طريقي صبياً‬
‫من ا‪٣‬بدـ يدعى مرقص راكباً فرساً‪ ،‬فركبت الفرس وابرحت الدير متجهاً‬
‫على ا‪١‬بسر لناحية القوصية‪.‬‬

‫دل يعلم أحد من أىل ا‪٤‬بكاف اب‪٤‬بشادة الٍب حدثت بيِب وبْب‬
‫سيداروس‪ ،‬ولو علموا ‪٤‬بنعوشل من ا‪٣‬بروج مداجاة للمتغطرس‪ ،‬ولكن‬
‫ا‪٣‬برب وصل إليو بعد انصراُب بوقت قصّب‪ ،‬فأرسل ُب إثري خفّباً يدعى‬
‫"بسل" مشهوراً ابلقوة والفتوة ومعو ‪ٝ‬باعة من أنصاره ٰبملوف النبابيت‪،‬‬
‫‪٢‬بق يب ا‪٤‬بطاردوف وبسل على ظهر فرس سريعة فاعَبضت طريقهم على‬
‫سطح قنطرة فوؽ ا‪١‬بسر الذي يفصل بْب ا‪٤‬بزارع ا‪٤‬بنخفضة‪.‬‬

‫سألت ا‪١‬بماعة عما يطلبوف‪ .‬وتوذل اإلجابة عنهم ا‪٣‬بفّب بسل‪،‬‬


‫قاؿ إنو أبمر القس سيداروس رئيس الدير أيمرشل ابلعودة معهم بدوف‬
‫مقاومة‪ ،‬وكاف اعَباضي‪ :‬أف القس ا‪٤‬بذكور ليس رئيساً للدير‪ ،‬وانو راىب‬
‫ككل الرىباف ليس من حقو األمر وليست علينا الطاعة‪ ،‬فقاؿ‪" :‬إذف‬
‫سنأخذؾ إليو ابلقوة"‪.‬‬

‫‪401‬‬
‫وىم اب‪٥‬بجوـ على وىو يشرع نبوتو الطويل‪ ،‬ولكنو فوجئ‬
‫ٗبسدسي يصوب لناحيتو و‪٠‬بع صوٌب ٰبذره من االقَباب مُب أو أطلق‬
‫عليو النار‪ ،‬فكبح ‪ٝ‬باح فرسو وارتبك ‪ ...‬عقدت العزـ على إطبلؽ النار‬
‫على كل من ٰباوؿ االقَباب مُب ألف من عادة أولئك الريفيْب االعتداء‬
‫بعصيهم الغليظة ُب كل معركة‪ ،‬ودل يكن ُب مقدوري احتماؿ ضربة‬
‫واحدة من أي نبوت‪ ،‬فإطبلقي النار ‪٢‬بماية النفس تصرؼ مشروع‪،‬‬
‫فقاؿ بسل الشجاع‪" :‬أنت إذف وشانك‪ ،‬إمبا هبب أف ترد لنا الفرس‬
‫ألهنا ملك الدير"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬سأركب الفرس حٌب أصل إىل نقطة البوليس‬


‫ابلقوصية ٍب أتركها ىناؾ فَبد إىل الدير‪ ،‬أو ترافقِب على فرسك إىل‬
‫نقطو البوليس فأسلمك الفرس ىناؾ"‪.‬‬

‫ومر بنا ُب تلك اللحظة الشيخ حنا منصور عمدة السراقنة‬


‫فوقف دابتو وحاوؿ إقناعي ابلعودة إذل الدير فرفضت فأشار إذل ا‪٣‬بفّب‬
‫ٗبرافقٍب إذل احملطة بنزاذل جانوب واستبلـ الفرس ىناؾ‪ ،‬وخضع ا‪٣‬بفّب‬
‫‪٥‬بذه ا‪٤‬بشورة مرغماً وصرؼ ‪ٝ‬باعتو‪ ،‬ولكنِب رفضت أف يسّب خلفي‬
‫وأمرتو ابلسّب أمامي ألتقى غدره وأذى نبوتو‪.‬‬

‫وصلنا إذل القوصية فوجدت ضابط البوليس ‪٧‬بمود أفندي‬


‫الشناوي جالساً مع بعض أصدقائو أماـ ابب نقطة البوليس‪ ،‬فسلمت‬
‫‪402‬‬
‫الفرس للخفّب فعاد هبا إذل الدير‪ .‬وقصصت األمر على الضابط‬
‫فأضافِب ُب بيتو تلك الليلة‪ ،‬وسافرت اهاراً إذل القاىرة‪.‬‬

‫قصدت إذل دار البطريركية حيث يقيم األسقف كنت أريد أف‬
‫يعلم السبب الذي حداشل إذل ترؾ الدير ‪٧‬باذرة من تشويو ا‪٢‬بقيقة عندما‬
‫يروى لو ا‪٢‬بادث‪ ،‬ولكنو عمد إذل منع اتصارل بو منفرداً‪ .‬كاف ٱبلو‬
‫بنفسو ُب القسم ا‪٣‬باص بو ويكتفي ابستدعائي وقت تناوؿ الطعاـ‬
‫فأجد على مائدتو غّبه رجاؿ الكنيسة وكاف ينصرؼ عنا قبل انتهائنا‬
‫من تناوؿ الطعاـ فبل أ‪ٛ‬بكن من ‪٧‬بادثتو‪.‬‬

‫كاف غرضو من ىذا التصرؼ انتظار كتاب سيداروس يشرح فيو‬


‫سبب ‪٪‬بوعي عن الديػر‪ ،‬فػحملِب ىذا التصػرؼ ٗبكاشفتو على ا‪٤‬بائدة‬
‫برغبٍب ُب ترؾ الدير والرىبنة‪ ،‬قاؿ‪" :‬وبسن أف تنتظر حٌب يت عبلجي‬
‫فنعود معا إىل الدير ألفحص ىذه اغبادثة بنفسي"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬إنِب ُب ضيق من بقائي كل الوقت ؿببوساً ُب غرفة‬


‫ضيقة ُب ىذه الدار"‪.‬‬

‫قاؿ‪ُ" :‬ب مقدورؾ الذىاب إىل دير األنبا أنطونيوس بناحية‬


‫بوش والبقاء بو‪ ،‬وسأدعوؾ بكتاب ؼبرافقٍب ُب السفر يوـ عودٌب إىل‬
‫الدير"‪.‬‬

‫‪403‬‬
‫وكنت أخشى أف يراشل أحد معارُب ُب دار البطريركية فيفتضح‬
‫أمري‪ ،‬ار‪ٙ‬بت لفكرة االختفاء ُب دير بوش بعيداً عن األنظار‪ ،‬وتعجلت‬
‫ُب القصد إذل ذلك الدير‪ ،‬فرحب يب األنبا مرقص األسقف وأضافِب ُب‬
‫القسم ا‪٣‬باص بو‪ .‬ودل تكن للرجل أخبلؽ األنبا ابخوميوس وال حزمو إ٭با‬
‫كاف رجبلً طيب القلب إذل أقصى حدود الطيبة‪ ،‬فَبؾ الرىباف يعيشوف‬
‫ُب الدير كما يعيش كل قروي ُب ضيعة من ضياع كبار ا‪٤‬ببلؾ ُب مسكن‬
‫خاص بو ‪ٝ‬بيع حاجات ا‪٤‬بعيشة الريفية‪.‬‬

‫وجاء موعد الصبلة ُب الكنيسة ُب فجر يوـ األحد‪ ،‬والكنيسة‬


‫خارج الدير إذل جانبو‪ ،‬وكانت للجميع للرىباف ولؤلىارل من أبناء‬
‫الطائفة فأمرت أبف أتوذل الوعظ إذل ذلك النهار ففعلت‪ .‬أدرؾ‬
‫السامعوف أنِب أعظ أبسلوب يغاير ما ألفوه من حافظي اآلايت‪،‬‬
‫وأضمن كلمٍب شيئاً عن األخبلؽ والفضيلة وأىدؼ إذل غايتو فهرعوا إذل‬
‫األسقف يرجوف منو استبقائي ُب الدير‪ ،‬واندفع األسقف لتحقيق رغبو‬
‫ا‪١‬بماىّب فكتب رسالة إذل االنبا ابخوميوس أسقف الدير احملرؽ ينبئو‬
‫بعزمو على ترقيٍب لدرجة قمص ورجا منو أف يشرؼ بوش بزايرتو ليحضر‬
‫حفل رسامٍب‪.‬‬

‫واثر غضب أسقف الدير احملرؽ ألنو حريص على استبقائي ُب‬
‫ديره فشكا إذل البطريرؾ من اعتداء األنبا مرقص عليو و‪٧‬باولتو اغتصاب‬

‫‪404‬‬
‫الراىب فليواثؤس منو‪ ،‬وصاحب الغبطة البطريرؾ ٰبَبـ األنبا ابخوميوس‬
‫كل االحَباـ فأرسل رسالة برقية إذل أسقف بوش أيمره إبرساؿ الراىب‬
‫إذل البطريركية ُب أوؿ قطار‪ ،‬واستاء الرجل من تصرؼ زميلو أسقف‬
‫الدير احملرؽ‪ ،‬ولكن أمر البطريرؾ ٯبب أف يطاع فأمروشل ابلعودة إذل‬
‫مصر لتتم ىذه ا‪٤‬بقابلة ففعلت مكرىا‪.‬‬

‫وقابلت البطريق‪ .‬رأيتو رجبلً طاعناً ُب السن ىدمت الشيخوخة‬


‫بدنو‪ ،‬توجز صفاتو ُب كلمات قليلة‪ :‬كاف رجبلً طيب القلب‪ ،‬حسن‬
‫النية‪ ،‬صا‪٢‬باً‪ ،‬ونسب إليو ا‪٤‬بعجبوف بو أنو كاف من أصحاب الكرامات‬
‫‪...‬‬

‫أرسل الرجل الصاحل بعض الكهنة إذل أثينا لدراسة البلىوت‪،‬‬


‫وعينهم ُب مناصب كبّبة بعد عودهتم‪ ،‬ولكن الغرور حدا أبحدىم إذل‬
‫نشر أفكار وآراء دينية ‪ٚ‬بالف عقيدة األرثوذكس أو ظنها البعض ىرطقة‬
‫فغضب عليو البطريرؾ وجرده من رتبو الدينية الكبّبة وفصلو من الكنيسة‬
‫وتركت ىذه ا‪٢‬بادثة أثرىا ُب نفس األنبا كرلس‪ ،‬فصار حانقاً على أي‬
‫راىب لو نصيب من ا‪٤‬بعرفة والثقافة‪ ،‬ألنو اعتقد أف التعليم يفسد العقيدة‬
‫وٰبوؿ اإلنساف ا‪٤‬بتعلم عن مبادئ الدين ا‪٤‬بسلم هبا وعن العقيدة الٍب‬
‫يتحتم اإلٲباف هبا دوف ٕبث وال فهم وال اقتناع‪.‬‬

‫‪405‬‬
‫وضعِب البطريرؾ ُب صف الذين ٰبنق عليهم ألنو ‪٠‬بع أف رل‬
‫نصيباً من ا‪٤‬بعرفة والثقافة والقدرة على الوعظ بصورة ‪ٞ‬بلت ا‪١‬بميع على‬
‫اإلعجاب‪ ،‬فقابلِب مقابلة خشنة‪ ،‬وفاجأشل هبذه العبارة قاؿ‪" :‬انت ي‬
‫مسيو تعرؼ فرنساوى واقبليزى وغلباوى ‪ .. ..‬ال يدخل الراىب‬
‫ملكوت هللا ابلغلبة إمبا ابإليباف والصبلح ومن اؼبستحيل أف تناؿ‬
‫منصباً دينياً كبّباً وأان على رأس الكنيسة األرثوذكسية ‪ .. ..‬امش ي‬
‫مسيو اخرج من قدامى"‪.‬‬

‫فخرجت من غرفة الرجل ومن دار البطريركية‪ ،‬وعقدت العزـ‬


‫على التجرد من ثوب الرىبنة ُب ا‪٢‬باؿ ألف الضجة الٍب حدثت بسبب‬
‫مشادة األسقفْب لفتت إذل األنظار ومركزي ا‪٢‬برج يستدعى االختفاء‬
‫والتسَب وعدـ الظهور‪.‬‬

‫‪406‬‬
‫‪7‬‬
‫ظننت أف خلع ثياب الرىبنة واستبدا‪٥‬با ٗببلبس عادية أمر سهل‬
‫ميسور‪ ،‬فلما صرت ُب الطريق تولتِب ا‪٢‬بّبة ألف ثوب الرىبنة ٰبرمِب من‬
‫ا‪١‬بلوس ُب القهاوى‪ ،‬وٲبنعِب من النوـ ُب الفنادؽ‪ ،‬ويلفت إذل النظر إذا‬
‫تناولت الطعاـ ُب مطعم ‪٧‬بَبـ‪ .‬وليس ُب ا‪٤‬بقدور دخورل ‪٧‬بل ٘بارى‬
‫لشراء مبلبس إفر‪٪‬بية وخلع ثياب الرىبنة ُب ذلك ا‪٤‬بكاف ألف العملية‬
‫تبعث على الشك ُب صاحب ىذا الثوب‪.‬‬

‫دل تبعثِب مطاردات البوليس على ا‪٢‬بّبة واالرتباؾ ُب أي حْب‬


‫ولكن حّبشل ذلك الثوب األسود ا‪٤‬بفروض لو االحَباـ وعليو القيود‬
‫والتقاليد الٍب تستبقى لو ىذا االحَباـ بْب الناس‪ .‬وأخّباً ركبت القطار‬
‫إذل ا‪٤‬بنيا‪ ،‬فصادفِب ُب عربٍب ‪٧‬باـ شاب من األقباط ا‪٠‬بو عازر جرباف‬
‫‪ ...‬وعرفت منو أنو يقيم ُب مغاغة ‪( ..‬ىو األستاذ عازر جرباف عضو‬
‫‪٦‬بلس الشيوخ اآلف)‪.‬‬

‫‪407‬‬
‫تبادلنا ا‪٢‬بديث فأظهر تعجبو من وجود راىب مثقف ُب األديرة‬
‫القبطية‪ ،‬وعجبت من ىذا التعجب‪ .‬قلت‪" :‬من اؼبستحيل استغناء‬
‫الطائفة القبطية عن رجاؿ الدين ورؤساء الكنائس‪ ،‬فلماذا ال تنشط‬
‫اؽبمة لتعلي ىذه الفئة وترقية مدراكها ابؼبعرفة والثقافة لتصّب يوما ما‬
‫ُب مستوى ثقافة الشعب "‪.‬‬

‫وكاف جوابو‪" :‬ىذه أمنية اعبميع ولكن األديرة القبطية‬


‫مستقلة يتوىل إدارهتا مطارنة أو أساقفة ال يروف ىذا الرأي بسبب‬
‫نقص اؼبعرفة وعدـ إدراؾ وجوب االرتقاء ابلتعلي ‪ ،‬فه العقبة‬
‫الكأداء ُب ترقية رجاؿ الدين بينما الشعب انىض ُب نشاط إىل‬
‫ربصيل العلوـ واؼبعرفة لبلرتقاء‪ ،‬فنشأ من ىذا اػبطأ الفارؽ العظي‬
‫بْب اإلكلّبوس والشعب"‪.‬‬

‫ودل ٱبف ارتياحو ال٘باه أمثارل ا‪٤‬بثقفْب إذل الرىبنة‪ ،‬وزاؿ ىذا‬
‫االرتياح عندما صارحتو برغبٍب ُب ترؾ الرىبنة بسبب التصرفات ا‪٣‬بلقية‬
‫الٍب نغصت حياٌب ُب الدير‪ ،‬ووكدت لو أنِب قاصد إذل ا‪٤‬بنيا ‪٣‬بلع ثوب‬
‫الرىبنة ورده إذل الدير‪ ،‬فنزلنا ُب فندؽ واحد‪ ،‬وجاء لزايرتو ىناؾ سكرتّب‬
‫نيابة ا‪٤‬بنيا وىو قبطي فاستعنت بو على شراء مبلبس إفر‪٪‬بية‪ ،‬وعلى‬
‫استدعاء شياؿ من احملطة سلمناه ثوب الرىبنة والعمامة وأرسلناه إذل‬
‫الدير ليسلم ا‪٤‬ببلبس إذل القمص سيداروس‪.‬‬
‫‪408‬‬
‫وأرسلت رسالة إذل جريدة الوطن شرحت فيها األسباب‬
‫الكاذبة الٍب دفعتِب لدخوؿ الدير واألسباب الصحيحة الٍب أرغمتِب‬
‫على ترؾ الدير والرىبنة‪ ،‬وذكرت هبا أسفي ‪٢‬برماشل من رعاية األسقف‬
‫وعطفو‪ ،‬ومن الرىبنة الٍب ظننتها سبيبلً الطمئناف النفس وارتياحها ُب‬
‫عزلو عن العادل وعما فيو من ا‪٤‬بنغصات‪.‬‬

‫واستغل جندي إبراىيم ىذه الرسالة فأعلن عنها قبل نشرىا‬


‫ليناؿ شيئاً من ماؿ األسقف‪ ،‬وظن ىذا الرجل الطيب أنِب بتأثّب أت‪٤‬بي‬
‫من سيداروس ومن تصرفاتو كتبت ما يسوئ ‪٠‬بعو الدير‪ ،‬فساوـ‬
‫صاحب جريدة الوطن لبلطبلع على الرسالة قبل نشرىا‪ ،‬وأسف على‬
‫ما دفعو ألنِب كتبت ما تراتح لو كل نفس حٌب نفس سيداروس ‪...‬‬

‫تركت رسائل الشيخ عبد العزيز جاويش أثرىا السيئ ُب رجاؿ‬


‫الطائفة القبطية فانفصلوا على ا‪٢‬بزب الوطِب ‪ ...‬واستاء رئيس ا‪٢‬بزب‬
‫من ىذه النتيجة ألف ذلك الزعيم الوطِب النزيو كاف أوؿ مصري فكر ُب‬
‫دل مشل األقباط وا‪٤‬بسلمْب ُب ا‪ٙ‬باد ‪٢‬بمتو ا‪١‬بنسية ا‪٤‬بصرية والروح الوطنية‪،‬‬
‫ودل يكن من ا‪٢‬بكمة ُب ذلك ا‪٢‬بْب معارضة الشيخ عبد العزيز جاويش‬
‫لعدة أسباب منها‪ :‬أنو كاف احملرر األوؿ ُب جريدة اللواء وأنو أشد الناس‬
‫سخطاً على وزارة ا‪٤‬بعارؼ بسبب فصلو من عملو فيها‪.‬‬

‫‪409‬‬
‫وأنو بسبب ‪ٞ‬ببلتو الشديدة على ا‪٢‬بكومة ‪ٛ‬بكن من اكتساب‬
‫ثقة الرجاؿ وإعجاب الشباب فصار معبود ا‪١‬بماىّب والوطِب األوؿ ُب‬
‫اعتبار ا‪١‬بميع‪ ،‬فا‪٤‬بعارضة الٍب تسبب غضب الشيخ تؤدى إذل خروجو‬
‫من ا‪٢‬بزب الوطِب ونفور أنصاره‪ ،‬فتكوف النتيجة انقساـ ا‪٢‬بزب وضعفو‬
‫بدال من تقويتو ليجمع الشطر األعظم من األمة إذل صفوفو‪ .‬أراد الزعيم‬
‫الرشيد تفادى ىذه النتيجة‪ ،‬وتلطيف ثورة الشيخ جاويش اب‪٤‬ببلينة‬
‫واكتساب مودة األقباط وثقتهم اب‪٢‬بزب الوطِب والرضا عن أىدافو‪ ،‬فعمد‬
‫إذل حيلة‪.‬‬

‫طغى على اسم راىب الدير احملرؽ فحماشل من السؤاؿ عن‬


‫عائلٍب وبلدي وكانت الصحف القبطية هتاجم ُب عنف األديرة القبطية‬
‫بسبب خروجي من الدير فصار اسم الراىب حديث ا‪١‬بميع‪ .‬واستغل‬
‫دمحم بك فريد ىذه الضجة فدفع رل ماالً ألنفق منو لتحضّب حفلة عشاء‬
‫أدعو إليها ‪ٝ‬باعة من عظماء الطائفة القبطية ورئيس ا‪٢‬بزب الوطِب‬
‫والشيخ عبد العزيز‪ ،‬فتمت ا‪٢‬بفلة ُب فندؽ نسيوانؿ بتاريخ ‪ 2‬ديسمرب‬
‫‪ ،1908‬وكاف من بْب ا‪٤‬بدعوين ا‪٤‬برحومْب األستاذين مرقص حنا وويصا‬
‫واصف‪.‬‬

‫لفت‬
‫خطبت أرحب ابلزعيم الكبّب وابلشيخ جاويش الكاتب و ُّ‬
‫نظر ا‪١‬بميع إذل التضحية ُب سبيل الوطن فالواجب يقتضي التآلف‬

‫‪410‬‬
‫وا‪٤‬بؤازرة وٮبا ال يتوافراف إال ُب ا‪١‬بو ا‪٥‬بادئ وُب إخبلص النفوس الطبية‬
‫ا‪٤‬بطهرة من كل بواعث االستياء والتذمر‪ .‬ووضعت أماـ الشيخ جاويش‬
‫قدراً كبّباً من ا‪٤‬باؿ وصارحتو أبنو إعانة مِب كقبطي للمعاونة ُب‬
‫مشروعي عْب زمزـ وتقوية ا‪١‬بيش العثماشل وكاف يتوذل ‪ٝ‬بع اإلعاانت‬
‫للمشروعْب ‪...‬‬

‫كاف الشيخ جاويش سريع الغضب ولكنو طيب القلب‪ ،‬فأثرت‬


‫فيو ىذه اجملاملة وانطلق ٱبطب بدافع االنفعاؿ النفسي‪ ،‬فذكر األسباب‬
‫الٍب أرغمتو على كتابة رسالتو‪" :‬اإلسبلـ غريب ُب ببلده" دفاعاً عن‬
‫الدين اإلسبلمي الذي عدا على كرامتو كاتب صحفي من األقباط‪ٍ ،‬ب‬
‫قاؿ‪" :‬إف سكوت الغضب وىدوء األعصاب جعلو يعترب ذلك‬
‫االعتداء قد وقع من فرد واحد‪ ،‬كاتب نكرة مل يشاركو ُب ضباقتو‬
‫غّبه من أبناء الطائفة الشقيقة‪ ،‬فهو إذف يعتذر لؤلبريء من ذلك‬
‫اعبرـ ويصافح الراىب فليواثؤس أو اػبواجا غايل جرجس داللة على‬
‫التسامح والرغبة ُب تقويو بْب شطري األمة"‪.‬‬

‫ونشر الشيخ احملَبـ ُب جريدة اللواء بتاريخ ‪ 22‬ديسمرب سنة‬


‫‪ٙ 1908‬بت عنواف‪" :‬الرجاؿ ابألعماؿ" كلمة عن ا‪٣‬بواجا غارل‬
‫جرجس وعن روح التسامح الٍب دفعتو كقبطي لبلشَباؾ ُب معاونة‬
‫مشروعي‪" :‬عْب زبيدة" وا‪١‬بيش العثماشل‪ ،‬و‪٪‬بح دمحم فريد ُب خطتو‬
‫‪411‬‬
‫وبدأت عبلقات ودية جديدة بْب بعض إخواننا األقباط ا‪٤‬بثقفْب وا‪٢‬بزب‬
‫الوطِب‪ ،‬وىدأت األفكار الثائرة واألقبلـ ا‪١‬با‪٧‬بة على صفحات ا‪١‬برائد‪.‬‬

‫لقد مات دمحم فريد العظيم مشرداً بعيداً عن وطنو‪ ،‬ولست‬


‫أعرؼ أحداً من أىلو‪ ،‬ومن حق ذلك الوطِب الصادؽ الوطنية أف أعلن‬
‫عن رأيي فيو أبعلى صوت‪:‬‬

‫"عشت بعد اإلدراؾ التاـ والتمييز نصف قرف سبّب يب‬


‫األحداث ويزف ميزاٍل اؼبستقل تصرفات الذين ظهروا ُب عامل‬
‫السياسة طوؿ ذلك الزمن‪ ،‬ولكنِب مل أجد بينه من تصح مقارنتو‬
‫دبحمد فريد‪ ،‬ال ُب األخبلؽ‪ ،‬وال ُب الرجولة‪ ،‬وال ُب النبل وال ُب‬
‫الوطنية الربيئة‪ ،‬فاؼبقارنة بينو وبْب أي إنساف آخر فيها غنب على‬
‫ذلك الوطِب العظي من هللا عليو برضبتو ‪...‬‬

‫‪412‬‬
‫‪8‬‬
‫كاف جندي إبراىيم صاحب "جريدة الوطن" صحفياً يكاد‬
‫يكوف أمياً‪ ،‬ولكنو كاف جريئاً ومغامراً‪ ،‬فشق عليو أف يتربع ا‪٣‬بواجة غارل‬
‫جرجس ببعض ا‪٤‬باؿ ‪٤‬بشروعي عْب زبيدة وا‪١‬بيش العثماشل‪ ،‬وتوىم أنِب‬
‫سفيو ٲبكن استدرار ا‪٤‬باؿ منو بسهولة كما يستدره من رؤساء األداير‬
‫فعقد العزـ على االتصاؿ يب بدفاع من الغباء والطمع‪.‬‬

‫كاف يعرؼ أف خليل حداد صديقي ويتصل يب فحاوؿ الوصوؿ‬


‫إذل عن طريقو‪ ،‬وخليل علي يقْب من استحالة األمر ألف جندي إبراىيم‬
‫يعرفِب معرفة شخصية دامت طويبلً‪ ،‬فصارح الرجل بتعذر ىذه ا‪٤‬بقابلة‬
‫ألنِب كراىب ترؾ الدير ارفض بتااتً االتصاؿ برجاؿ الصحافة ‪٧‬باذرة‬
‫نشرىم ما ال أريد نشره حرصاً على كرامة رجاؿ الدين من اعتداء األقبلـ‬
‫السفيهة‪.‬‬

‫‪413‬‬
‫ولكن الطمع دل يقنع هبذا العذر فعمد إذل مضايقٍب ُب فندؽ‬
‫انسيوانؿ‪ ،‬كاف ٰبضر مرات ُب اليوـ الواحد يطلب مُب ىذه ا‪٤‬بقابلة‪،‬‬
‫ويلح على ا‪٣‬بدـ ليعرؼ منهم مواعيد خروجي أو حضوري ليتمكن من‬
‫مقابلٍب مفاجأة‪ ،‬فذىبت مساعيو ىباء‪ ،‬بسبب حرصي منو‪.‬‬

‫عدت إذل ا‪٢‬بياة الصاخبة متحرراً من ثوب الرىبنة ومن حبس‬


‫ا‪٢‬برية‪ ،‬فامتد بصري إذل ما ُب ا‪٢‬بياة من ا‪٤‬بشاىد البديعة وأنواع ا‪٢‬بسن‬
‫ا‪٤‬بعروض لؤلنظار فصادفت فتاة يواننية شريكة دجاؿ فرنسي يدعى أنو‬
‫منوـ مغناطيسي‪ ،‬كانت حسناء رشيقة ‪٥‬با جاذبية فار‪ٙ‬بت جملالستها‪،‬‬
‫وسافرت مع الدجاؿ إذل الصعيد فرحلت معها حٌب أسيوط‪ ،‬فكنا ال‬
‫نفَبؽ إال ُب وقت ا‪٤‬بخصص لعملها‪.‬‬

‫وكنت أطلب إذل ا‪٤‬بنوـ تنوٲبها ُب غرفٍب ألسا‪٥‬با عن أسرار‬


‫خاصة يب‪ٍ ،‬ب اغتنم فرصة نومها الكاذب ألسا‪٥‬با عن أسرار فؤادىا ونوع‬
‫عاطفتها فتجيب إجاابت تدعى أاها صادقة صرٰبة وأجزـ ُب سري أاها‬
‫كاذبة لبلحتياؿ والسلب‪ ،‬ولكنِب كنت راضياً عن دفع ‪ٜ‬بن ا‪٤‬بسرات الٍب‬
‫أشعر هبا ُب مؤانستها‪.‬‬

‫وحدث ُب سهرة أننا كنا ‪٫‬بن الثبلثة ُب مقهى على مقربة من‬
‫احملطة نشرب ‪ٟ‬براً وألعب البلياردو مع زوجها‪ ،‬وكاف بْب دكتور على‬
‫إبراىيم حيكمباشى مستشفي أسيوط (على ابشا إبراىيم) وبعض وكبلء‬
‫‪414‬‬
‫النيابة واحملامْب يشاىدوف اللعب‪ ،‬فدخل ا‪٣‬بواجا مَبى بشارة أحد‬
‫األعياف‪ ،‬وكاف ُب انتشاء ٘باوز حد احتماؿ العقل فاندفع بيننا يبعث‬
‫بكرات البلياردو وقتاً غّب قصّب يتعمد منعنا من االستمرار ُب اللعب‪.‬‬

‫ونبهتو إذل تصرفو أنو ٘باوز حدود األدب والدعابة الٍب ‪ٙ‬بتمل‬
‫من سكراف‪ ،‬فحدثت بيننا مشادة كبلمية انتهى أتثّبىا إذل األعصاب‬
‫فظهرت ا‪٤‬بسدسات لتتكلم بدالً من األلسن‪ ،‬واهض بعض ا‪١‬بالسْب إذل‬
‫ا‪٣‬بواجا مَبى يلطفوف من ثورتو‪ ،‬ونشط إذل بعضهم يعتذر عنو أبنو‬
‫سكراف‪ ،‬وحدث ُب ىذه اللحظة أف مَبى بشارة انفلت من الذين حولو‬
‫و‪ٞ‬بلق ُب وجهي وقاؿ‪" :‬أان اعرؼ الوش ده ‪ ...‬أان عارفك سباـ ‪...‬‬
‫عارؼ الوش ده من غّب دقن"‪.‬‬

‫وىذا صحيح فا‪٣‬بواجا مَبي بشارة كاف زميلي ُب مدرسة‬


‫أسيوط األمّبية سنة ‪ ،1892‬وكنا متبلزمْب ُب أوقات الفراغ نلعب معاً‬
‫لعبة اسيوطية ابلكره وا‪٤‬بضرب تسمى "اللق " وقد عرفتو من اللحظة‬
‫األوذل فليس من ا‪٤‬بستغرب أف يعرفِب‪ ،‬ولكن السكر‪ ،‬واللحية ضلبله‬
‫عُب وقتاً قصّباً ٍب تنبهت ذاكرتو واستخرجت الصورة من تبلفيف‬
‫ا‪٤‬باضي البعيد ٍب أعجزه فقداف الوعي الكامل عن إضافة ا‪٠‬بي إذل الوجو‬
‫الذي اىتدى إليو وعرفو‪.‬‬

‫‪415‬‬
‫وخشيت أف يتذكر بقية اجملهوؿ من شخصي‪ ،‬وعقدت العزـ‬
‫على االنصراؼ بسرعة أل‪ٙ‬باشى ا‪٣‬بطر الذي يهددشل ابلفضيحة‪،‬‬
‫فأخذت زميبلي وانصرفت ال من ا‪٤‬بقهى وحده إ٭با من أسيوط كلها‪،‬‬
‫ألنِب حاذرت من تنبّو ذاكرة مَبى بشارة ُب الصباح فيتذكر اسم‬
‫صاحب الوجو الذي قرر ُب حالة السكر أنو يعرفو ‪..‬‬

‫كاف على ابشا إبراىيم زميبلً رل ُب ا‪٤‬بدرسة ا‪٣‬بديوية وكاف ُب‬


‫تلك الليلة ُب ا‪٤‬بقهى فشاىد ا‪٢‬بادث بدوف االشَباؾ ُب الضجة الٍب‬
‫حدثت‪ ،‬ولكنِب عرفت منو أُب سنة ‪ 1930‬أنو عرفِب ُب تلك الليلة ‪..‬‬

‫‪416‬‬
‫‪9‬‬
‫يقولوف إف ا‪١‬باشل ٰبوـ بدافع نفسي حوؿ ا‪٤‬بكاف الذي ارتكب‬
‫فيو ا‪١‬برٲبة ويلوح رل ىذا الرأي قريب من ا‪٢‬بقيقة‪ ،‬ألف رغبة قوية كانت‬
‫تدفعِب لزايرة النواحي الٍب فيها الدير‪ ،‬فسافرت إذل نزارل جانوب وزرت‬
‫ا‪٤‬برحوـ ا‪٣‬بواجا حنا شحاتو ُب قريتو التمساحية وبت ليلة ىناؾ‪.‬‬
‫والتمساحية ٘باور الدير‪ ،‬وأىديت ا‪١‬بميع ىدااي متنوعة تناسب حاؿ‬
‫كل واحد منهم ومزاجو‪ .‬فكاف نصيب الضابط مهمازاً وعصا‪ ،‬ووكيل‬
‫الربيد الكتاب ا‪٤‬بقدس ‪٦‬بلداً ٘بليداً فخما‪ ،‬وا‪٣‬بواج حنا شحاتو صندوؽ‬
‫كونياؾ واتوضروس أفندي ميخائيل خا‪ٛ‬باً مرصعاً ابلربلنت والزمرد‪.‬‬

‫كنت ‪٧‬بتفظا على الدواـ ابلغرفة ‪ 23‬بفندؽ انسيوانؿ ُب‬


‫القاىرة من سبتمرب ‪ 1908‬إذل ‪ 18‬يناير ‪ ،1909‬وىى ا‪٤‬بخصصة‬
‫للمكتب والستقباؿ الزائرين‪ ،‬وكانت الغرفة ‪ 22‬للمائدة‪ ،‬و‪ 24‬للنوـ‪،‬‬
‫وكنت معرضاً ُب كل ‪٢‬بظة ‪٣‬بطر اىتداء البوليس إذل مصادفة أو ٖبطأ‬
‫من أخطائي ‪ ،‬فصار من واجيب ‪ٙ‬بصْب ىذا القسم ا‪٣‬باص ىب ‪ٙ‬بصينا‬
‫‪417‬‬
‫ٲبكنِب عند الضرورة من دفع ا‪٣‬بطر الفجائي‪ ،‬وكاف من عادٌب ا‪٣‬بروج‬
‫من الفندؽ عند منتصف الليل مع ا‪٥‬بر ىرجر صاحب الفندؽ للتمتع ٗبا‬
‫ُب الليل من مسرات ومتع‪.‬‬

‫وىرجر كاف ضابطاً أ‪٤‬بانياً من قبل لو جسم رايضي قوى وقوة‬


‫ونشاط وجرأة اندرة ا‪٤‬بثاؿ‪ ،‬ولو ذكاء خطر على قليل من ا‪٢‬بذر ودقة‬
‫ا‪٤‬ببلحظة‪ ،‬درست الرجل ووزنت ‪ٝ‬بيع نواحيو فعرفتو وحرصت منو كل‬
‫ا‪٢‬برص‪ ،‬أدركت أف عملية ‪ٙ‬بصْب حجراٌب يكشفها ذكاؤه إذا بدأت هبا‬
‫أثناء وجوده ُب الفندؽ‪ ،‬فعقدت العزـ على إبعاده عن القاىرة أايماً أًب‬
‫فيها عملي سراً‪.‬‬

‫عرفت أف الرجل من عشاؽ احملاسن فإذا وجدت ا‪٢‬بسن الذي‬


‫يلفت نظره وينبو رغبتو أجعلو وسيلة إلقصائو معو إذل أقصى األرض‪،‬‬
‫فجعلت إٔبث ُب كل مكاف عن ىذا حٌب اىتديت إليو ‪ ...‬كانت‬
‫الفتاة فرنسية إسرائيلية سائحة كل ثروهتا حسنها‪.‬‬

‫واغبسن عملة صعبة ينفق منها صاحبها ُب كل مكاف‪ ،‬بدوف‬


‫ؿباذرة وبدوف اػبوؼ من نقص الرصيد‪.‬‬

‫عرفتها وغمرهتا بكل أنواع اإلجبلؿ وبتقدصل الذابئح والقرابْب‬


‫بوسائل جعلتها تنسب إذل العبط أو السفو وتزيد فيها قوة الطمع‬
‫والرغبة ُب االستغبلؿ الطامع على ا‪٤‬ببلنية وا‪٤‬بطاوعة‪ ،‬كانت تطمع ُب‬
‫‪418‬‬
‫رحلة إذل أسواف على النيل واعتذرت بكثرة أعمارل ُب القاىرة‪ ،‬وعرضت‬
‫عليها ‪ٙ‬بقيق ىذه الرغبة على نفقٍب بشرط أف أضع إذل جانبها صديقاً‬
‫رل ليتوذل خدمتها أثناء الرحلة بسبب عجزي عن أتدية ىذا الواجب‪،‬‬
‫فقبلت االقَباح راضية مبتهجة‪.‬‬

‫وعرضت األمر على ىرجر مع صورة ا‪٢‬بسناء‪ ،‬صارحتو أبننا‬


‫أخواف ُب السراء والضراء وقد نلت نصييب منها‪ ،‬ولكن صاحبٍب تطمع‬
‫ُب رحلة إذل أسواف ُب النيل وسأدفع نفقات الرحلة إذا قبل مرافقتها‬
‫ليناؿ نصيبو ‪٩‬با نلت ‪ .‬وفحػص ىػرجر مػحػاسن "روجْب"‪ ،‬ووزف قوة‬
‫أتثّب ا‪١‬باذبية على نفسو ٍب قبل االقَباح شاكراً‪ ،‬فهيأت ‪٥‬بما ‪ٝ‬بيع‬
‫وسائل السفر‪ ،‬وودعتهما على ظهر الباخرة‪ .‬وعدت إذل الفندؽ ُب‬
‫ارتياح وىدوء ألًب عملي ُب غيبة ذلك الصديق ا‪٣‬بطر‪.‬‬

‫أخطأت مرات وروجْب معي ُب القاىرة‪ ،‬ذىبت معها مرة إذل‬


‫األىراـ‪ ،‬وركبنا ‪ٝ‬بلْب ألاها رغبت ُب ٘بربة ركوب اإلبل ُب الصحراء‪،‬‬
‫وضايقنا األعراب ضيقاً شديداً فنشط عسكري بوليس لدفع ىؤالء‬
‫الفضوليْب عنا فبذؿ ‪٦‬بهوداً والقى عناء‪ .‬ورغبت ا‪٢‬بسناء ُب عمل صورة‬
‫مشسية ‪٥‬با وىى إذل جانب أيب ا‪٥‬بوؿ فصورهتا ىناؾ وتركت عنواشل بفندؽ‬
‫انسيوانؿ لَبسل إذل الصور ورافقنا العسكرى حٌب ركبنا السيارة فتذكرت‬

‫‪419‬‬
‫ما القاه بسببنا من التعب والعناء وأردت مكافأتو فأعطيتو جنيهْب من‬
‫الذىب "عملة ذلك الزماف" وكاف ىذا التصرؼ خطأ لو نتائجو ‪..‬‬

‫حضر إذل مدير الفندؽ بعد يومْب ونبأشل أبف ضابطاً إيتالياً من‬
‫‪٧‬بافظة مصر حضر وطلب اإلذف لو ٗبقابلٍب فلم أتردد ُب استقبالو ُب‬
‫الغرفة ‪ 23‬ألف من ا‪٢‬بماقة التهرب من ىذه ا‪٤‬بقابلة‪ ،‬كنت مرتبكاً‬
‫أخشى نتائج ىذه الزايرة أحاوؿ تعليل سببها فلم اىتد إليو‪ ،‬ولكنِب‬
‫أعددت وسائل الدفاع عن نفسي إذا احتاج إليها األمر‪ .‬ودخل الرجل‬
‫ُب أتدب‪ ،‬وذكر رل أف العسكري الذي كاف ُب األىراـ يوـ زايرتنا بلغ‬
‫ضابط نقطو بوليس ا‪٥‬برـ أنِب منحتو اثنْب جنيو‪ ،‬وبلغ الضابط مأمور‬
‫القسم‪ ،‬وىذا بلغ سعادة ا‪٢‬بكمدار ليستأذف منو ُب قبوؿ ىذه ا‪٤‬بنحة‬
‫‪...‬‬

‫وسألِب اليوزابشى "رنده" عن سبب منح العسكري ىذا القدر‬


‫من النقود‪ ،‬فذكرت لو ما الحظتو من ا‪١‬بهود الٍب بذ‪٥‬با الرجل ُب ‪ٞ‬بايتنا‬
‫من وقاحة األعراب و‪ٞ‬بايتنا من مضايقاهتم‪ ،‬والشوط الطويل الذي قطعو‬
‫إذل جانبنا و‪٫‬بن على ظهور ا‪١‬بماؿ‪ ،‬فكاف من الواجب على الشكر‬
‫ومكافأة العسكري على حسن صنيعو معنا‪ .‬وشكرشل الضابط على‬
‫اعَباُب ٗبا بذلو العسكري من ا‪١‬بهد ُب أتدية الواجب‪ ،‬وصرح أبنو دل‬

‫‪420‬‬
‫يكن ُب مقدوره قبوؿ ا‪٤‬بكافأة بدوف إذف من رئيسو‪ ،‬وأنو اقتنع اآلف أبف‬
‫السبب الذي ذكرتو يربر اإلذف العسكري بقبوؿ مكافأة‪.‬‬

‫كاف تصرُب خطأ أدى إذل ‪ٙ‬برؾ البوليس للسؤاؿ عن شخصي‬


‫من إدارة الفندؽ وسبب ‪ٙ‬برؾ البوليس للسؤاؿ عن شخصي من إدارة‬
‫الفندؽ وسبب طلب مقابلٍب وسؤارل‪ ،‬وكاف من ا‪١‬بائز كشف تنكري‬
‫واالىتداء إذل لوال غباء ذلك اإليتارل ‪ ..‬لقد أسفت علي ىذا ا‪٣‬بطأ‬
‫ولكنِب دل أمنع نفسي من الوقوع ُب غّبه بسبب استهتاري أو بسبب‬
‫الرعونة‪.‬‬

‫كاف معي ُب الفندؽ سائح أجنيب ىادئ طيب القلب وديع‬


‫ُب بساطة‪ ،‬وكنا ‪٪‬بتمع قبيل تناوؿ طعاـ العشاء ُب قاعة البلياردو‬
‫فنجلس للمسامرة أو للمطالعة‪ ،‬وعلمت من حديثو أنو يشكو من رئتيو‬
‫وأف الشتاء ُب مصر يفيد صحتو‪ ،‬عرفت أف أ‪٠‬بو ماير وأنو من السويد‪،‬‬
‫ورأيتو مرات إذل جانب ا‪٤‬بوقد يطالع أكثر من مرة كتباً وصلت إليو من‬
‫زوجو الٍب تقيم بواشنطوف‪ ،‬وكاف يقبل صورة ابنتو الصغّبة وولده‬
‫وُب‬
‫ويلصقهما على صدره فتبدو عليو دالئل الراحة‪ ،‬فأدركت أنو زوج ّ‬
‫ووالد لو حناف‪.‬‬

‫وسعل ُب ليلة سعاالً حاداً وبصق دماء ووىنت قواه‪ ،‬فطلبت‬


‫من الفندؽ استدعاء طبيب‪ ،‬وحضر الرجل وأسعف ا‪٤‬بريض ونصح بنقلو‬
‫‪421‬‬
‫ُب ا‪٢‬باؿ إذل ا‪٤‬بستشفي فتوليت ىذه العملية ألاها واجب إنساشل مع‬
‫أجنيب غريب عن الببلد‪ ،‬وزرتو ُب النهار الثاشل ألطمئن على صحتو‪،‬‬
‫فصارحِب أبف العلة ستقضي عليو حتماً وأف من الواجب عليو كتابة‬
‫وصيتو وىو ُب وعيو ‪٢‬بماية زوجو وأوالده من خصومهم بعد وفاتو‪.‬‬

‫وعلمت منو أنو ٰبمل لقب ابروف وأف لو ثروة كبّبة ومراكب‬
‫صيد وٱبتاً ورصيداً كبّباً ُب ا‪٤‬بصارؼ‪ ،‬ولكنو تعس وشقا ُب ا‪٢‬بياة ألنو‬
‫بتأثّب ا‪٢‬بب الطاغي تزوج مغنية فرنسية عرؼ السعادة وا‪٥‬بناء إذل‬
‫جانبها‪ ،‬وأ‪٪‬ببت لو ولدين وقد ًب ذلك الزواج ُب ابريز حيث أقاـ مع‬
‫زوجو وطرأت عليو ظروؼ خطّبة تستدعى اقَبانو بفتاة من العائلة‬
‫ا‪٤‬بالكة ُب السويد‪ ،‬وًب ىذا القراف ىناؾ زواجاً دينياً‪ ،‬ألف أحداً ال يعلم‬
‫ابلزواج األوؿ فكاف األوؿ بدافع ا‪٢‬بب والثاشل بدافع ا‪٤‬بصلحة‪.‬‬

‫وفضحت الظروؼ سر الزواج األوؿ ووجدت األدلة الٍب تثبت‬


‫صحتو‪ ،‬فصار الزواج الثاشل الشرعي ابطبلً ُب اعتبار الكنيسة فألغوه‬
‫واثرت ثورة العائلة ا‪٤‬بالكة على الباروف فوجهت إليو ا‪٢‬بكومة هتمة الزواج‬
‫ابثنْب‪ ،‬وأتجلت احملاكمة بسبب مرضو‪ ،‬وطلبت الزوجة الثانية التعويض‬
‫‪٥‬با بسبب ا‪٣‬بدعة الٍب صارت فريسة ‪٥‬با‪ ،‬وبسبب التضحية الٍب ضحتها‬
‫كزوجة شرعية‪ٍ ،‬ب ظهر بطبلف ذلك العقد الشرعي فخسر كثّباً جداً ‪..‬‬
‫وسيحكم ‪٥‬با ابلتعويض مع ا‪٤‬ببالغة ُب أرقامو نكاية فيو‪ ،‬فلهذه األسباب‬

‫‪422‬‬
‫يرى من الواجب عليو كتابة وصيتو ُب ا‪٢‬باؿ لينفذ ثروتو من الضياع‬
‫وليوفر لزوجتو الوفية ولولديو‪.‬‬

‫عرفت الرجل مؤدابً وديعاً لو كياسة األمراء وظرؼ األدابء‪،‬‬


‫ورأيت بعيِب مقدار ولعو بكتب زوجتو وبصورة ولديو‪ ،‬فاكتسب احَبامي‬
‫لو كزوج وُب وكوالد لو حناف‪ .‬وزاد عطفي عليو بسبب مرضو ا‪٣‬بطّب‬
‫وابتعاده عن مقر أسرتو احملبوبة حيث ٰباط اب‪٢‬بناف والرعاية‪ .‬و‪ٙ‬بت أتثّب‬
‫ىذه الظروؼ عقدت العزـ على معاونتو لكتابة الوصية ُب ا‪٢‬باؿ بوسيلة‬
‫مشروعة ‪ٛ‬بنع كل اعَباض عليها ُب ا‪٤‬بستقبل‪.‬‬

‫وقابلت ُب عجلة احملامي ا‪٤‬بشهور األستاذ فاتيكا وذكرت لو‬


‫الظروؼ الٍب تستدعي اإلسراع ‪٧‬باذرة من طروء ما يفقد ا‪٤‬بريض وعيو أو‬
‫قدرتو على الكتابة‪ .‬وأدى األستاذ احملامي واجبو كرجل قانوف فجمع ُب‬
‫ا‪٢‬باؿ الشخصيات الر‪٠‬بية لتكتب الوصية أمامهم‪ ،‬انتدبت ىذه ا‪١‬بماعة‬
‫اثنْب من كبار األطباء للكشف على الباروف ا‪٤‬بريض فشهدا كتابةً أبنو‬
‫ٲبلك بدنو وعقلو سليمْب‪ ،‬وشهد ا‪١‬بميع أبنو ُب نفس ىذه الظروؼ‬
‫كتب الوصية ٖبطة وإبرادتو ا‪٤‬بطلقة بدافع من رغبتو وبدوف وجود أي‬
‫مؤثر أجنيب ُب نفسو‪.‬‬

‫كتبت الوصية ٖبط ا‪٤‬بريض من صورتْب وقع عليهما الشهود‬


‫‪ٝ‬بيعاً ٍب انصرفوا فسلمِب إحدى الوصيتْب ورجا مِب أف أسلمها لزوجتو‬
‫‪423‬‬
‫يداً بيد‪ ،‬إذ قدر لو أف ٲبوت وكتب إذل إدارة الفندؽ لتسلمِب حاجاتو‬
‫الٍب تركها ُب غرفتو وزرت ا‪٤‬بريض ُب النهار الثاشل وكاف ُب حالة ضعف‪،‬‬
‫فصارحتو أبف الضرورة تقتضي أف يكتب رل كتاابً ٖبطو أيذف رل فيو‬
‫بعمل ‪ٝ‬بيع الوسائل الٍب ‪ٛ‬بكنِب من استخبلص ثروتو أو بعضها‬
‫ألسلمها ‪٥‬با مع الوصية للتمكن من استخبلص ا‪٤‬بّباث فكتب العبارات‬
‫الٍب أمليتها عليو ووقع الكتاب‪.‬‬

‫ولست أدري كيف أصغى ‪٤‬بشورٌب وكتبها ُب غّب احَباس‪ ،‬ألف‬


‫األايـ القليلة الٍب عاشرتو فيها دل تكن كافية ‪٢‬بملو على الثقة يب كرجل‬
‫غريب ال يعرفو حق ا‪٤‬بعرفة‪ٍ ،‬ب عللت ىذا التصرؼ غّب ا‪٢‬بكيم أبنو ًب‬
‫والرجل ُب حالة ضعف أثرت ُب عقلو أتثّباً منعو من وزف األمر بعناية‬
‫قبل كتابة الكتاب ا‪٣‬بطّب‪.‬‬

‫ومات الرجل بعد ثبلثة أايـ من زايراٌب األخّبة لو‪ ،‬ونبأشل‬


‫ا‪٤‬بستشفي ٗبوتو فدفنت ا‪١‬بثة ‪ٙ‬بمل االسم الذي تنكر بو وساح سياحتو‬
‫األخّبة‪ ،‬ألنِب أردت أف ٘بهل حكومتو نبأ موتو حٌب تصل الوصية إذل‬
‫زوجتو‪ ،‬وعدت من ا‪٤‬بقربة بعد دفن ا‪١‬بثة ألبدأ مغامرة جديدة ففتحت‬
‫حقائب ا‪٤‬بيت وفحصت ‪ٝ‬بيع أوراقو ألستعْب ببعضها عند الضرورة‪،‬‬
‫فوجدت بْب ىذه األوراؽ ما عاونِب على تنفيذ ا‪٣‬بطة ا‪١‬بريئة الٍب‬
‫وضعت تصميمها‪.‬‬

‫‪424‬‬
‫نزلت ُب مينا ىاوس ابسم الباروف شنيدر وىو‪ ،‬االسم ا‪٢‬بقيقي‬
‫للمرحوـ ا‪٤‬بسيو ماير‪ ،‬وأرسلت رسالة برقية إذل مصرؼ كبّب ُب كرستيانيا‬
‫آمره بدفع مبلغ إذل قومنداف ٱبٍب الابلْب ورد ا‪٤‬بصرؼ على رسالٍب‬
‫برسالة برقية بعنواشل يقوؿ فيها‪" :‬كرر الطلب"‪.‬‬

‫وغرض ا‪٤‬بصرؼ من ىذه الرسالة االطمئناف على الرسالة األوذل‬


‫أاها صادرة مِب‪ ،‬فنفذت رغبة البنك وأرسلت ُب الوقت نفسو رسالة‬
‫برقية إذل قبطاف اليخت آمره ابستبلـ ذلك ا‪٤‬ببلغ من ا‪٤‬بصرؼ ٍب السفر‬
‫إذل لندف بيختو وانتظار أوامري ىناؾ‪ ،‬وقصد القبطاف رل البنك فلم‬
‫يَبدد ُب صرؼ ا‪٤‬ببلغ لو كأمري ا‪٤‬بكرر‪ ،‬وزاد ُب االطمئناف أنو يسلم ا‪٤‬باؿ‬
‫إذل شخص معروؼ للبنك ابلذات ولو معو معامبلت‪ ،‬وانتقل اليخت‬
‫إذل لندف ونبئت بوصولو‪ ،‬فأمرت القبطاف ابلكشف على الباخرة ُب‬
‫ا‪٢‬بوض وتقوية مواضع الضعف فيها ٍب دىنها ابللوف األبيض‪ ،‬فإذا انتهى‬
‫من ىذه العملية ينتقل ابليخت إذل مرسيليا أكرب ثغر فرنسي ُب البحر‬
‫األبيض ا‪٤‬بتوسط‪.‬‬

‫دل يكن ُب مقدوري ركوب ىذا اليخت ألف قبطانو يعرؼ وجو‬
‫الباروف معرفة اتمة وكذلك الشطر األعظم من ا‪٤‬بوظفْب وا‪٤‬ببلحْب‪،‬‬
‫وألنِب ال أعرؼ كلمة واحدة من لغة السويد‪ ،‬فبلبد من حيلة ‪ٛ‬بكنِب من‬
‫إبعاد ا‪١‬بميع من الباخرة واستبدا‪٥‬بم بغّبىم‪ ،‬قابلت سفّب فرنسا ُب مصر‬

‫‪425‬‬
‫مسّب البونيّب ابسم ا‪٣‬بواجا غارل جرجس انئباً عن الباروف شنيدر‪،‬‬
‫وأبلغتو رغبة الباروف ُب اختيار قبطاف ليختو "ال ابلْب" من رجاؿ البحرية‬
‫الفرنسية ٍب يَبؾ لو ا‪٢‬برية ُب استبداؿ ‪ٝ‬بيع موظفي الباخرة وعما‪٥‬با‬
‫بغّبىم من الفرنسيْب بسبب العزـ على سياحة حوؿ العادل‪.‬‬

‫وقبل الرجل ىذا الرجاء ابرتياح وكتب إذل وزير البحرية ُب ابريز‬
‫ينبئو برجائي ويفوض لو اختيار القبطاف الصاحل ‪٥‬بذه األسفار واختيار‬
‫ا‪٤‬ببلحْب وا‪٤‬بهندسْب و‪ٝ‬بيع ا‪٤‬بوظفْب الذين يراتح ‪٥‬بم القبطاف ا‪١‬بديد‪.‬‬

‫‪426‬‬
‫‪9‬‬
‫دل ييأس جندي بك إبراىيم من مقابلٍب فلبث يَبدد على فندؽ‬
‫انسيوانؿ مرات كثّبة ُب كل أسبوع‪ ،‬يسأؿ عن موعد عودٌب إذ غبت‬
‫ويطلب اإلذف لو اب‪٤‬بقابلة إذ علم بوجودي ُب مصر‪ ،‬فخشيت ىذه‬
‫ا‪٤‬بطاردة ألاها رٗبا تبعث على الشك ُب أمري وخاصة من صحاُب جرئ‪،‬‬
‫فعقدت العزـ على التخلص من ىذا ا‪٤‬بتنطع ا‪٣‬بطر أردت أف استدعيو‬
‫‪٤‬بقابلٍب ُب الفندؽ ألتفق معو على طبع ‪٦‬بلة ُب مطبعتو‪ ،‬وأدفع لو سلفاً‬
‫قدراً من النقود يصرؼ لو قبيل خروجو من مكتب مدير الفندؽ إبذف‬
‫كتايب‪ ،‬فينصرؼ عامر ا‪١‬بيب قوي األمل ُب استغبلؿ عبطي‪ ،‬فيصادفو‬
‫القدر ُب الطريق ‪..‬‬

‫واعتمدت على زميلي خليل حداد ُب التمهيد ‪٥‬بذا االتفاؽ‬


‫لتحديد وقت ا‪٤‬بقابلة‪ ،‬ظن جندي بك أف صيده قارب الوقوع ُب‬
‫الشرؾ‪ ،‬فقبل الشروط الٍب عرضت عليو وحضر صورٌب العقد‪ ،‬وحددت‬
‫لو اتريخ ا‪٤‬بقابلة ووقتها‪ .‬أرسلت خليل قبيل ذلك الوقت بقليل ‪٤‬برافقة‬
‫‪427‬‬
‫جندي بك إذل غرفٍب ابلفندؽ‪ .‬وىنا بدأت ا‪٢‬بماقة هتدـ كل ما بنيت‬
‫لتكوين شخصية ا‪٣‬بواجا غارل جرجس‪.‬‬

‫وتوىم األ‪ٞ‬بق أنِب سأكشف حقيقة شخصيٍب لذلك الصحفي‬


‫كثّب الطمع‪ ،‬واعتقد أف اتفاقو معي سينيلو شيئاً من ا‪٤‬باؿ‪ ،‬ورغبة ُب‬
‫االنتفاع ترغمو على السكوت وعدـ فضح حافظ ‪٪‬بيب ا‪٤‬بتنكر ُب‬
‫شخصية غارل جرجس ‪ ..‬وارتقى خياؿ األ‪ٞ‬بق إذل أكثر من ىذا ا‪٢‬بد‪،‬‬
‫فبُب على ىذه ا‪٤‬بقدمة ا‪٣‬باطئة نتيجتها ا‪٣‬باطئة‪ ،‬ظن أف ظنونو ىي‬
‫ا‪٢‬بقيقة الٍب البد من وقوعها‪ ،‬سيعرؼ غارل جرجس جندي إبراىيم‬
‫حقيقة شخصيتو عند ا‪٤‬بقابلة‪ ،‬فما الضرر من كشف ىذه ا‪٢‬بقيقة لو قبل‬
‫ذىابو ‪٤‬بقابلة حافظ ‪٪‬بيب؟ ‪..‬‬

‫دل يكن خليل حداد صديقاً خائناً ولكنو كاف يقدر نفسو فوؽ‬
‫قدرىا فيمتلئ ابلغرور والزىو ولكن الغرور ُب ىذه ا‪٤‬برة دفعو إذل تصرؼ‬
‫خاطئ خطّب‪ .‬أتبط ذراع جندي إبراىيم واستقر بو ُب خلوة وجلسا‬
‫يشرابف منبهات للشهية‪ ،‬ومدار ا‪٢‬بديث ُب ذلك اجمللس راىب الدير‬
‫احملرؽ األب فيلواثؤوس ٍب شخصيتو ا‪١‬بديدة‪ :‬غارل جرجس ‪..‬‬

‫لعبت ا‪٣‬بمر برأس خليل ألنو قليل االحتماؿ‪ .‬وكاف يعتقد أف‬
‫صاحبو صحاُب يكاد يكوف أمياً ألف تعليمو دل يتعد معرفة القراءة‬
‫والكتابة‪ ،‬ولكنو مغرور وجرئ يعتمد على جريدتو كسبلح لبلستغبلؿ‪،‬‬
‫‪428‬‬
‫فها‪ٝ‬بة خليل ليناؿ من غروره قاؿ‪" :‬لقد نشرت راثء راىب الدير ُب‬
‫جريدتك‪ ،‬فهل تعتقد أف بْب الرىباف األقباط شعراء "‬

‫وقاؿ‪" :‬وقد ظبعت عن نصيب الراىب فليواثؤوس من‬


‫اؼبعرفة والثقافة‪ ،‬وعن مقدرتو ُب الوعظ واػبطابة‪ ،‬فهل تصدؽ أف‬
‫بْب الرىباف من لو ىذا النصيب من التعلي واإلطبلع "‪.‬‬

‫وأدرؾ جندي إبراىيم أف وراء تلك األ‪٠‬باء أسرار‪ ،‬وأف ا‪٣‬بمر‬


‫أدارت رأس رفيقو وأطلقت لسانو‪ ،‬ورأى من مصلحتو كصحاُب اهاز‬
‫للفرص أف يدفع للسكراف دفعا لبلعَباؼ فتحرش بو وقاؿ‪" :‬عندان‬
‫الدليل الواضح على وجود رىباف متعلمْب ُب األديرة‪ ،‬أمل يكن‬
‫الراىب فيلواثؤوس واحداً منه "‬

‫فضحك خليل مقهقهاً وقاؿ‪" :‬اذكر اس واحد غّب ىذا‬


‫الذي تفخروف بو!"‬

‫فقاؿ جندي بك‪" :‬عندان كثّبوف من نوعو ووزنو‪ ،‬ولكن حياة‬


‫الَبىب سبنع الرىباف من الداللة على معرفته ابإلعبلف عن النفس"‪.‬‬

‫وقاؿ ‪٧‬بتداً‪" :‬أؤكد لك أنك واى فل يَبىب متعل مثقف‬


‫ثقافة عالية سوى الراىب فيلواثؤس ومع ىذا فليس الشاب مسيحياً‬

‫‪429‬‬
‫وال قبطياً وال راىباً ‪ ...‬وىذا الذي فخرًب بو أيها الغيب ىو حافظ‬
‫قبيب صديقك القدَل ‪ ...‬وسَباه الليلة بعينك"‪...‬‬

‫فوجئ جندي بك مفاجأة مزعجة هبذا النبأ‪ ،‬وأدرؾ ُب ا‪٢‬باؿ‬


‫أف دعوتو لتناوؿ العشاء مع ا‪٣‬بواجا غارل جرجس "حافظ قبيب" ‪ٚ‬بفي‬
‫وراءىا خطراً ‪٦‬بهوالً‪ ،‬دل ٱبف الرجل اضطرابو‪ ،‬ودل يتحكم ُب أعصابو‬
‫ألنو أسرع إذل التليفوف وبلغ احملافظة بصوت مرتفع أبف ا‪٣‬بواجا غارل‬
‫جرجس ا‪٤‬بقيم ُب فندؽ انسيوانؿ ىو طريد البوليس والعدالة حافظ‬
‫‪٪‬بيب‪.‬‬

‫أدرؾ خليل حداد أنو أخطأ‪ ،‬وقللت الصدمة من أتثّب ا‪٣‬بمر ُب‬
‫رأسو فخاؼ على أف يدٮبِب البوليس مفاجأة وأان ُب غفلة ال ‪ٛ‬بكنِب من‬
‫الدفاع عن نفسي أو اإلفبلت قبل وقوعي ُب الشرؾ‪ ،‬فركب عربة وجاء‬
‫‪٤‬بقابلٍب وإلنذاري ‪...‬‬

‫وُب ‪ 18‬يناير ‪ 1909‬قابلت سفّب فرنسا ُب غرفة استقباؿ‬


‫خاصة ُب السفارة‪ ،‬فنبأشل أبف وزير البحرية ا‪٤‬بسيو دلكاسيو وفق الختيار‬
‫القبطاف‪ ،‬فأرسلت رسالة برقية إذل قبطاف اليخت آمره ٗبقابلة وزير ٕبرية‬
‫فرنسا وتنفيذ كل ما أيمره بو‪ .‬وكتب السفّب للوزير يشرح لو تصرفات‬
‫القبطاف ا‪١‬بديد‪.‬‬

‫‪430‬‬
‫يستدعى الوزير قبطاف ٱبٍب وأيمره بتسليم ا‪٣‬بزانة واليخت‬
‫للقبطاف الفرنسي‪ ،‬وأيخذ من ا‪٤‬بودع عنده مرتب سنة مكافأة لو ويعود‬
‫غلى السويد ليتوذل قيادة مراكب صيد السمك وا‪٢‬بيتاف بزايدة ُب ا‪٤‬برتب‬
‫ويصرؼ من ذلك ا‪٤‬باؿ مرتب ثبلثة شهور ‪١‬بميع موظفي اليخت‬
‫وعمالو مكافأة ‪٥‬بم‪ٍ ،‬ب يتوذل توزيعهم على مراكب الصيد مع زايدة‬
‫ا‪٤‬برتبات‪ ،‬ودل يَبدد القبطاف ُب تسليم اليخت وخزانة ا‪٤‬باؿ ألف الذي‬
‫يتوذل عملية االستبلـ وزير ٕبرية دولة كبّبة ال رجل من الطريق ‪ .‬وزاد ُب‬
‫اطمئنانو وارتياحو ‪٤‬با كوفئ بو من ا‪٤‬باؿ ىو ورجاؿ اليخت ٍب زايدة‬
‫ا‪٤‬برتبات ُب مراكب الصيد‪.‬‬

‫‪ٛ‬بت ىذه اإلجراءات بسهولة بوسائل تلوح لكل عقل سليم أاها‬
‫مشروعة فشكرت السفّب على ىذه ا‪٤‬بعاونة وانصرفت ‪٤‬بقابلة زائر آخر‬
‫حددت ‪٤‬بقابلتو الساعة الرابعة بعد الظهر ُب فندؽ انسيوانؿ‪ .‬و‪ٛ‬بت ىذه‬
‫ا‪٤‬بقابلة ُب غرفة استقباؿ خاصة ُب الطابق األرضي‪ ،‬وبينما ‪٫‬بن ُب ىذه‬
‫ا‪٣‬بلوة فتح الباب بدوف استئذاف ودخل خليل حداد ُب عجلة واضطراب‬
‫واضحْب‪ ،‬وفوجئ ذلك الزائر معي فارتبك ‪٢‬بظة ٍب سألِب‪" :‬ىل يعرؼ‬
‫صاحبك اللغة العربية "‬

‫فقلت‪" :‬ال ‪ ..‬تكل ‪"..‬‬

‫‪431‬‬
‫قاؿ‪" :‬لقد عرؼ جندي إبراىي كل السر‪ ،‬وبلغ النبأ‬
‫للمحافظة ابلتلفوف"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬اصعد إىل الغرفة رق ‪ 23‬وانتظر هبا"‪.‬‬

‫فأطاع بدوف تردد وانصرؼ‪ ،‬ولكن الزائر الحظ ُب صمت على‬


‫تصرفات خليل أنو خالف األدب بسبب دخولو بدوف استئذاف‪ ،‬والحظ‬
‫أنو كاف ُب حالة تدؿ على االضطراب‪ ،‬فصار لزاماً على االعتذار عن‬
‫سوء تصرؼ الرجل وتعليل سبب اضطرابو تعليبلً ٯبعلو نتيجة حتمية‬
‫‪٢‬بالة نفسية طارئة‪ ،‬وٯبب أف أختلق سبباً ٰبدوشل لَبؾ الزائر ُب ا‪٢‬باؿ‬
‫قبل وصوؿ رجاؿ البوليس إذل الفندؽ للقبض على‪.‬‬

‫فقلت‪" :‬لقد كاف الرجل الذي جاء ؼبقابلٍب ُب اضطراب‬


‫شديد أنساه االستئذاف قبل الدخوؿ‪ .‬لقد جاء وبمل نبأ وفاة عمي‬
‫ابلسكتة القلبية‪ ،‬وىذا النبأ اؼبزعج يرغمِب على االستئذاف لَبكك‬
‫اآلف لكي أسرع لتأدية الواجب ولَبحيل اعبثة"‪.‬‬

‫فبادر الرجل لتعزيٍب‪ ،‬وتركتو حيث كاف ليتمم شرب الشاي‬


‫وانصرفت ورددت الباب‪ ،‬وقد رأيت من النافذة‪ ،‬وأان واقف أ‪٠‬بع عبارة‬
‫التعزية‪ ،‬رجاؿ البوليس من الفرساف ينتشروف ُب الشارع الذي يفصل‬
‫الفندؽ من الناحية القبلية عن اندي سّبوس (شارع كذا)‪.‬‬

‫‪432‬‬
‫خلوت بنفسي ُب الردىة وفكرت ُب الوسيلة الٍب ‪ٛ‬بكنِب من‬
‫الوصوؿ إذل الغرفة ‪ُ 23‬ب الطابق الثالث بدوف تعريض نفسي ألنظار‬
‫ا‪٤‬بطاردين قلت لنفسي‪ :‬سيحصر رجاؿ البوليس الفندؽ من ا‪٣‬بارج‬
‫ليمنعوا الذين فيو من ا‪٣‬بروج‪ ،‬وٰبتلوف ا‪٤‬بصعد والسلم ٍب يبدأوف التفتيش‬
‫على‪ ،‬ولكنهم لن يفكروا ُب احتبلؿ السلم ا‪٣‬باص اب‪٣‬بدـ‪ ،‬فهو إذف‬
‫آمن وسيلة للصعود إذل غرفٍب‪.‬‬

‫دخلت غرفة التدخْب انتقلت منها إذل غرفة ا‪٤‬بائدة واجتزهتا إذل‬
‫غرفة تليها كانت معدة لتحضّب أدوات ا‪٤‬بائدة فاستولت الدىشة على‬
‫الذين هبا من ا‪٣‬بدـ‪ ،‬ولكنِب عربت مسرعا إذل الردىة فإذل السلم‬
‫وصعدت إذل القسم ا‪٣‬باص يب ُب الطابق الثاشل‪ ،‬كانت الغرفة ‪33‬‬
‫خاصة ‪٤‬بائدٌب‪ ،‬و‪ 23‬للمكتب ولبلستقباؿ ‪ 24‬للنوـ ‪ .‬والغرفة ‪ُ 22‬ب‬
‫اهاية الضلع الواصل من الناحية البحرية إذل الناحية القبلية‪ ،‬وتبدأ الغرفة‬
‫‪ 23‬الضلع الواصل من الغرب إذل الشرؽ‪ ،‬وبسبب وجودىا إذل الزاوية‬
‫صارت مساحتها مساحة غرفتْب‪ ،‬و‪٥‬با ثبلث أبواب‪ ،‬األوؿ على ا‪٤‬بمشى‬
‫والثاشل يؤدي من الداخل إذل الغرفة ‪ ،22‬والثالث يوصل من الداخل إذل‬
‫الغرفة ‪ ،24‬و‪٥‬بذه ابب آخر على ا‪٤‬بمشى‪.‬‬

‫ذكرت من قبل أنِب رحلت ا‪٥‬بر ىرجر صاحب الفندؽ إذل‬


‫أسواف على ظهر ابخرة واغتنمت فرصة غيابو الطويل وحصنت الغرفة‬

‫‪433‬‬
‫الثبلث ا‪٣‬باصة يب فصارت معقبلً صا‪٢‬باً للدفاع والستقباؿ من يها‪ٝ‬بِب‬
‫علي‪.‬‬
‫للقبض ّ‬
‫الغرفة ‪ 23‬طو‪٥‬با ‪ 8‬أمتار وعرضها ‪ 4‬مَب‪ ،‬و‪٥‬با ُب الناحية‬
‫الغربية انفذة تطل على شارع خاص بْب عمارٌب روايؿ ىاوس وفندؽ‬
‫انسيوانؿ وىذا الشارع موصد من الناحية البحرية ببناء كل ملكا‬
‫للمرحوـ عفيفي بك الربيري‪ ،‬ولو من الناحية القبلية سور مرتفع من‬
‫ا‪٢‬بديد وقد ترؾ أصحاب العقارات ىذا الفضاء إلضاءة مبانيهم ابلنهار‬
‫وللتهوية‪ .‬و‪٥‬بذه الغرفة انفذاتف أيضاً تطبلف من الناحية القبلية على‬
‫الشارع "كذا" الذي كاف بو اندي سّبوس‪.‬‬

‫و‪ٝ‬بيع نوافذ الفندؽ ترفع وهتبط ٔبهاز كهرابئي خاص وكاف‬


‫مكتيب ُب الزاوية الغربية القبلية وُب وسط الغرفة منضدة كبّبة عليها أواشل‬
‫الزىور والكتب واجملبلت الٍب أطالعها وإذل جانبها أربعة مقاعد ال أكثر‬
‫وقد وضعت ا‪٤‬بنضدة ٕبيث ٲبتد طو‪٥‬با من الناحية الغربية إذل الشرقية‬
‫متجهة مع طوؿ الغرفة‪ .‬فلما وصلت إذل قلعٍب احملصنة بغرفة ‪ 23‬لعبت‬
‫لعبة صغّبة ُب الباب ٍب تركتو يرتد وحده‪ ،‬وعاونِب خليل حداد فوضعنا‬
‫ا‪٤‬بنضدة بعرض الغرفة ورأسها الصق ٕبائط الغرفة ‪ ،22‬وأسدؿ الستار‬
‫السميك‪ ،‬القطيفة على الباب الذي يوصل غلى الغرفة ‪ 22‬واختفي‬
‫وراءه خليل ليؤدي عملو عند الضرورة‪.‬‬

‫‪434‬‬
‫‪10‬‬
‫دؽ ابب الغرفة ‪ٍ 23‬ب فتح ودخل منو حكمدار البوليس‬
‫وا‪٤‬بسيو كارتييو رئيس البوليس السري‪ ،‬وجرباف بك مسكات مأمور‬
‫الضبط‪ ،‬و‪٧‬بمود أفندي دمحم مأمور قسم عابدين وا‪٥‬بر ىرجر صاحب‬
‫الفندؽ ‪ ..‬وظن ا‪١‬بميع أاهم فاجأوشل‪ ،‬ووضع ا‪٤‬بنضدة ُب ذلك الوضع‬
‫قطع الطريق إذل ا‪٤‬بكتب إال من الناحية القبلية وتقدـ ا‪١‬بماعة خطوات‬
‫وا‪٢‬بكمدار يهز رأسو للتهديد أو للشماتة أو كاف يعرب هبذه ا‪٥‬بزات‬
‫البطيئة عن معُب كلمة‪" :‬وقعت ي شاطر"‪ ،‬توىم ا‪١‬بميع أف الفأر صار‬
‫داخل ا‪٤‬بصيدة وال سبيل إلفبلتو من الشرؾ‪ ،‬ففوجئوا بصوت انفجار‬
‫شديد فوؽ رؤوسهم بعثهم على الرعب ‪٢‬بظة‪ ،‬وكانت ىي اللحظة الٍب‬
‫أردت استغبل‪٥‬با ‪٤‬بضاعفة أتثّب الرعب ُب نفوسهم‪.‬‬

‫‪٠‬بعوا صواتً عالياً أيمرىم برفع أيديهم ُب ا‪٥‬بواء‪.‬‬

‫"‪." Vos bras en I'air‬‬

‫‪435‬‬
‫فرفعوا أيديهم ألاهم يعرفوف يقيناً أف ‪٨‬بالفة ىذا األمر يتبعها‬
‫إطبلؽ النار‪ ،‬ووجهوا أنظارىم لناحيٍب فوجدوشل منتصباً إذل جانب‬
‫ا‪٤‬بكتب وُب يدي قنبلة مصوبة لناحيتهم‪ ،‬وقلت‪" :‬حٌب لو أطلقت علي‬
‫النار سنموت صبيعاً ‪"..‬‬

‫ووزنت العقوؿ ا‪٤‬بضطربة عبارٌب وأدركت أاها ا‪٢‬بقيقة‪ ،‬ألف‬


‫سقوط القنبلة على األرض ٰبدث االنفجار واإلصاابت وا‪٤‬بوت‪ ،‬فاقتنع‬
‫ا‪١‬بميع بوجوب عدـ ا‪٤‬بها‪ٝ‬بة وعدـ ا‪٤‬بقاومة إلنقاذ خطر ا‪٤‬بوت ‪ ..‬وخرج‬
‫خليل حداد من وراء السَب وجعل يفتشهم واحداً بعد اآلخر وٰبمل إذل‬
‫مسدساً بعد مسدس ويضعها على سطح ا‪٤‬بكتب‪ ،‬فلما اطمأف ‪٣‬بلو‬
‫ا‪١‬بميع من السبلح قلت لو‪" :‬من عادة اؽبر ىرجر ضبل مسدسْب ُب‬
‫سهراتنا الليلية‪ ،‬واحد منهما يضعو ُب جيبو كعادة الناس‪ ،‬وىبفي‬
‫الثاٍل عند بطن ساقو اليسرى ‪ ..‬ففتش السائقْب ؿباذرة من ىذا‬
‫الشجاع اغبريص"‪..‬‬

‫ونفذ خليل اآلمر ولكنو دل ٯبد ا‪٤‬بسدس الثاشل ‪ ..‬فأمرت ا‪١‬بميع‬


‫ابلوقوؼ صفاً واحداً ٔبانب ا‪٢‬بائط فأطاعوا‪ ،‬واستند ىرجر غليو ويداه‬
‫خلف ظهره وىو ينظر إذل نظرات فيها دالالت الدىشة والغضب‬
‫والرغبة ُب االفَباس‪ ،‬فلم أعبأ بو وا‪٢‬بقيقة أنِب دل أحوؿ نظري عنو ألنو‬

‫‪436‬‬
‫الرجل ا‪٤‬بفرد الذي كنت أخشاه بْب ىذه ا‪١‬بماعة بسبب قوتو ونشاطو‬
‫وخفو حركتو وجرأتو‪ .‬قلت‪" :‬لقد اقتحمت غرفٍب ‪ ..‬فماذا تريدوف "‬

‫وىم مأمور عابدين ابلكبلـ فمنعو جرباف بك ‪٧‬باذرة من فلتات‬


‫ّ‬
‫اللساف وتوذل ىو احملادثة معي قائبلً‪" :‬لقد عرفنا أنك حافظ قبيب‬
‫الصادرة ضده أحكاـ غيابية ال اػبواجا غايل جرجس كما تدعى‪،‬‬
‫وقد جئنا للقبض عليك ‪"..‬‬

‫قلت‪" :‬وأان أعَبؼ سأنِب حافظ قبيب وىا أان ذا أمامك‬


‫فتقدموا للقبض علي ‪ ..‬أدوا الواجب اؼبطلوب منك إذا استطعت "‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬أنت مسلح بقنبلة قد ربميك دقائق منا ولكنها لن‬


‫ربميك من بقية القوة الٍب معنا‪ .‬الفندؽ ؿبصور وصبيع منافذ النجاة‬
‫موصدة ُب وجهك"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬وكيف تستنجد بتلك القوة لتحميك من سبلحي‬


‫ولتمكنك من القبض علي "‬

‫قاؿ‪" :‬إذا طاؿ عليه غيابنا هبيئوف"‪..‬‬

‫قلت‪" :‬لقد تركت ابب الغرفة مفتوحاً كما كاف‪ ،‬وأان أظبح‬
‫لك ابػبروج لبلتصاؿ ابلقوة الٍب هتددٍل هبا ‪ ...‬أخرج وال خوؼ‬
‫عليك"‪.‬‬
‫‪437‬‬
‫وا٘بو الرجل إذل الباب يريد النجاة من ا‪٣‬بطر ا‪٤‬بفاجئ الذي دل‬
‫يفكر فيو‪ ،‬فوصل إليو وحاوؿ فتحو فوجده موصداً اب‪٤‬بفتاح‪ ،‬فقاؿ ُب‬
‫ارتياب‪" :‬لقد تركنا الباب مفتوحاً‪ ،‬وىا ىو اآلف موصد‪ ،‬وىذا دليل‬
‫على أف غبافظ قبيب شركاء أغلقوا الباب من اػبارج!"‪..‬‬

‫قلت‪" :‬أمامك النوافذ فافتح واحدة منها واتصل‬


‫برجالك"‪...‬‬

‫فقاؿ ىرجر‪" :‬إنو ال يعرؼ كيف يرفع النوافذ"‪...‬‬

‫قلت‪" :‬اذىب أنت وأفعل ما شئت"‪.‬‬

‫فا٘بو ىرجر لناحية النافذة بدوف اكَباث‪ٍ ،‬ب حاوؿ فتحها‬


‫ابلوسيلة الٍب يعرفها فوجد ا‪١‬بهاز الكهرابئي ال يؤدي عملو وبقيت‬
‫النافذة موصدة‪ ،‬فعض على شفتو من الغيظ وعاد إذل مكانو األوؿ‬
‫ٔبانب ا‪٢‬بائط‪ ،‬وقاؿ‪" :‬لقد أتلف اعبهاز الذي يرفع غطاء النافذة"‪..‬‬

‫قلت‪" :‬وأزيدؾ علماً ي سيدي سأنك اآلف فوؽ ألغاـ تكفي‬


‫لنسف الفندؽ‪ ،‬مل يكن من العقل مهاصبٍب ُب معقلي حيث أقمت‬
‫شهورا ألنِب أعددت فيو وسائل الدفاع عن نفسي ضد كل قوة‬
‫تقتح علي ىذا العرين ‪ ..‬اسألوا اؽبر ىرجر ينبئك سأنِب سكنت ُب‬
‫ىذا الطابق زوايه األربع‪ ،‬وقد أعدت ُب كل مكاف حللت فيو لغماً‬

‫‪438‬‬
‫يتصل هبذه الغرفة ‪ ..‬انظروا إىل ىذا الزر اؼبثبت ُب اغبائط ‪ ..‬إف‬
‫ضغطة واحدة عليو تطلق األلغاـ وتنسف البناء صبيعو ‪ ..‬تقولوف إف‬
‫لك ُب الشارع جنوداً حوؿ الفندؽ‪ ،‬ولك حراس ُب الداخل‪.‬‬
‫وأقوؿ لك إف ُب الفندؽ خدماً نصفه اآلف ُب اػبدمة‪ ،‬والنصف‬
‫اآلخر ُب غرؼ النوـ استعداداً الستبلـ عمله ُب الليل ‪ ..‬وأقوؿ إف‬
‫ُب الفندؽ شبانْب سائحاً وسائحة الشطر األعظ منه اآلف ُب‬
‫الفندؽ يتناولوف الشاي ‪"..‬‬

‫"فإذا نسفت الفندؽ يبوت ىذا العدد الكبّب من اػبلق‬


‫وسبوتوف معه وأان معك ‪ ،‬فيكوف شبن حياٌب عشرات من الرجاؿ‬
‫والسيدات ألرسلك صبيعاً إىل العامل الثاٍل ‪ ..‬لو كانت لك حكمة‬
‫ُب تصرفاتك كنت تَببصوف يل بعيدا عن ىذه القلعة الصغّبة‪ ،‬أما‬
‫اقتحامها على فإنو خطأ بعث عليو الغرور واالستخفاؼ‪ ،‬وستدفعوف‬
‫اآلف شبن ىذا اػبطأ ‪"..‬‬

‫"سأموت معك ‪ .‬ولكنِب ال آسف علي اغبياة الٍب تبددوهنا‬


‫مِب دبا تكرر من أخطائك وأخطاء غّبك ‪ ،‬فهل فيك رجل يستطيع‬
‫أف يستخف حبياتو ويضحيها ُب سبيل االنتقاـ كما سأفعل اآلف "‬

‫‪439‬‬
‫بُب جرباف بك مسكات عمارات ُب شارع وجو الربكة! كانت‬
‫تؤجر غرفاً مفردة لؤلرتيست أبجور مرتفعة فصار دخلها رقماً كبّباً‪،‬‬
‫وقارب الرجل سن اإلحالة على ا‪٤‬بعاش فلم يبق بينو وبْب الراحة سوى‬
‫شهور قليلة‪ ،‬وحياة الغُب ا‪٤‬بمتع أقل عنده من الفقّب البائس الساخط‬
‫على ا‪٣‬بط والبيئة والناس‪ ،‬فشق على حضرة مأمور الضبط أف تضيع‬
‫حياتو ىباء بيد مغامر جرئ أو ‪٦‬بنوف‪.‬‬

‫فذكر أف لو زوجة وأوالداً وماالً موفوراً ودخبلً ‪٧‬بَبماً ومرتباً كبّباً‬


‫ٰبل لو بعد إحالتو على ا‪٤‬بعاش‪ ،‬وستضيع ‪ٝ‬بيع ىذه النعم بضغط ا‪٤‬بغامر‬
‫اجملنوف على زر قريب من إصبعهم‪ٙ .‬بوؿ الرجل ‪ٙ‬بت أتثّب ا‪٤‬بوقف ا‪٢‬برج‬
‫الذي زج فيو إذل والد ورب أسرة ضنْب ٕبياتو‪ ،‬ونسى أنو مأمور الضبط‬
‫الذي جاء مع رئيسو و‪ٝ‬باعة من رجاؿ البوليس إللقاء القبض على‬
‫الشقي ا‪٣‬بطّب الذي تطارده العدالة‪.‬‬

‫ظن أف ا‪٤‬بسألة تتم بسهولة ٗبجرد حصر حافظ ُب غرفتو‬


‫فانقلبت إذل معركة خاطفة جعلت قوة ا‪٥‬بجوـ تقع ُب الشرؾ ا‪٤‬بهيأ ‪٥‬با‬
‫من زمن بعيد‪ ،‬وقد يدفع اليأس وا‪٢‬بماقة ذلك الشيطاف إذل تصرفات‬
‫أكثر جرأة وخطورة‪ ،‬فبلبد إذف من اللجوء إذل ا‪٤‬ببلينة وا‪٢‬بكمة بدالً من‬
‫التهديد ابلقوة رجبلَ يثور ابلعنف والقوة ضد القوة‪ .‬فقاؿ‪" :‬ليس من‬

‫‪440‬‬
‫اؼبعقوؿ ي حافظ تضحية العاقل اؼبتزف حبياتو بتأثّب الغضب‪ ،‬ماداـ‬
‫اؼبقدور إنقاذ ىذه اغبياة"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬ليس للحياة قيمة ُب اعتباري"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬صبيع األحكاـ الٍب صدرت ضدؾ غيابية تسقط‬


‫دبجرد القبض عليك ٍب تعاد إجراءات احملاكمة من جديد‪ .‬وُب‬
‫مقدورؾ الدفاع عن نفسك واغبصوؿ على الرباءة فَببح حياتك‬
‫وحريتك"‪.‬‬

‫قلت‪ُ" :‬ب مقدورك إصدار أحكاـ ضدي‪ ،‬ولكن ليس ُب‬


‫مقدور أية قوة تنفيذ ىذه األحكاـ‪ ،‬فلمػاذا إذف أزعػج نفسػي‬
‫إبجراءات احملاكمة وابستجداء الرباءة واغبرية "‬

‫قاؿ‪ُ" :‬ب مقدورؾ أف تقاوـ وقتا ما‪ .‬وأف تفلت فبن يريدوف‬
‫القبض عليك مرات‪ ،‬ولكن قوة اؼبفرد أضعف من قوة اعبماعة‪ ،‬أذف‬
‫سيجيء اليوـ الذي تعجز فيو عن اؼبقاومة وعن اإلفبلت من الذين‬
‫يطاردونك ُب جد ونشاط"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬لن تصل إىل القوة وأان حي ‪ ..‬ولكنِب سأتقاضى شبن‬


‫حياٌب غالياً وأقرب األمثلة الٍب تقنع العقل الوضع الذي كبن فيو‬
‫اآلف كبن ؿبصوروف ُب ىذه الغرفة‪ ،‬أنت تريدوف القبض علي وأان‬

‫‪441‬‬
‫سأدافع عن نفسي وعن حريٍب أماـ ىذه القوة ‪ ..‬وستكوف النتيجة‬
‫عجز اعبميع عن النجاة من النتائج احملتومة الٍب ينتهي إليها ىذا‬
‫الوضع"‪..‬‬

‫قاؿ‪" :‬ىذا دليل علي اليأس واليأس اعَباؼ ابلضعف‬


‫والعجز‪ .‬وقد ألقى القبض عليك مرات ولكنك سبكنت من اؽبروب‬
‫بوسائل تدعو إىل العجب والدىشة‪ ،‬فلماذا تيأس من إمكاف اؽبروب‬
‫إذا قبض عليك ىذه اؼبرة!"‬

‫قلت‪" :‬لست عاجزاً عن تكرار اؽبروب مرات أخرى من أي‬


‫سجن ومن أية حراسة‪ ،‬ولكنِب سئمت اغبياة فليس فيها ما تراتح لو‬
‫النفس‪ ،‬فلن أمكنك من القبض على اآلف للتخلص من ىذه اغبياة‬
‫الٍب تبعث علي اؼبلل والسآمة"‪.‬‬

‫"وأان أسبُب ُب ىذه اللحظة أف تبدر من أحدك كلمة انبية أو‬


‫حركة مريبة تبعثِب علي الغضب أو على الدفاع عن نفسي فتخت‬
‫اؼبأساة‪ ،‬ستلقي القنبلة على األرض فيحدث انفجارىا انفجار األلغاـ‬
‫فينسف الفندؽ وننتقل صبيعاً إىل العامل اعبديد اجملهوؿ"‪..‬‬

‫قاؿ‪" :‬مل تكن طوؿ حياتك رجبلً يسفك الدماء‪ ،‬بل كانت‬
‫حوادثك شبو مداعبات تبعث علي اإلعجاب وتفكو الناس‪ ،‬وليس‬

‫‪442‬‬
‫ُب تصرفاتنا اليوـ معك ما يعترب اعتداء عليك أنت رجل ؿبكوـ‬
‫عليك يطاردؾ البوليس‪ ،‬وقد أخطأت ُب تصرفاتك فمكنت رجاؿ‬
‫العدالة من معرفة شخصيتك واؼبكاف الذي زبتبئ فيو‪ ،‬فجاء ىؤالء‬
‫الر جاؿ لتأدية واجبه اؼبفروض عليه ‪ ،‬لقد أخطأت واػباطئ‬
‫يتحت عليو دفع شبن خطئو‪ ،‬فاغبكمة تقتضي أف تذعن ؼبقتضى‬
‫الظروؼ الٍب وضعت نفسك فيها بدال من اؼبقاومة الٍب تؤدي إىل‬
‫مأساة وخاسبة دموية"‪.‬‬

‫فقلت‪ُ" :‬ب قولك تعق ػ ػل وحكمة‪ ،‬وقد نشطت رغبٍب‬


‫الستبقاء اغبياة‪ ،‬ولطلب حريٍب من جديد ابؽبروب من اؼبطاردين‪،‬‬
‫فأضيف إىل اؼبداعبات اؼباضية مداعبة جديدة تكوف حديث الناس‬
‫وتسليته على حسابنا وقتاً ما"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬لقد زاؿ عنك أتثّب الغضب واليأس وعدت إىل‬


‫الصواب‪ ،‬والعودة إىل حك العقل قد وفرت لك حياتك وردبا تيسر‬
‫لك اغبرية اؼبنشودة أيضاً‪ ،‬فيحسن أف زبضع ؼبقتضى الظروؼ‬
‫وتسل نفسك لرجاؿ العدالة"‪.‬‬

‫‪443‬‬
‫حولت نظري ألحد ا‪٢‬باضرين وتظاىرت أباها النظرة األوذل‬
‫إليو‪ ،‬وقلت لو‪" :‬ىل من األدب أف تبقي قبعتك على رأسك وأنت ُب‬
‫غرفٍب "‬

‫كانت أمامي مسدسات ا‪١‬بماعة ا‪٤‬بوضوعة علي مكتيب ولكنِب‬


‫دل أحاوؿ ‪٤‬بسها وأخرجت من جييب مسدساً سددتو إذل رأس حامل‬
‫القبعة وقلت لو بصوت األمر‪" :‬أرفع ىذه القبعة عن رأسك أو أطلق‬
‫عليك النار ‪"..‬‬

‫ودل يَبدد الرجل ُب اإلطاعة ووضع القبعة على ا‪٤‬بنضدة الٍب‬


‫كانت إذل جانبو ُب صمت وُب حنق مكبوت‪ ،‬فقلت ‪٤‬بأمور الضبط‪:‬‬
‫" يلوح يل أنك أعقل ىؤالء الناس فقد أقنعِب بوجوب تسلي نفسي‬
‫وسأفعل‪ ،‬إمبا هبب رفع اللغ اؼبوجود ُب أرض ىذه الغرفة قبل‬
‫التسلي ؿباذرة من انفجار خبطأ ـبطئ"‪.‬‬

‫قاؿ‪" :‬سيتوىل ىذه العملية رجل أخصائي طبعاً"‪.‬‬

‫قلت‪" :‬بل يتحت رفع اللغ ُب اغباؿ دبعرفٍب أان فليست يل‬
‫ثقة سأي إنساف‪ .‬فاذىبوا صبيعاً إىل هناية الغرفة لَبفعوا البساط‬
‫وتكشفوا األرض" ‪..‬‬

‫‪444‬‬
‫كانت األرض ُب الغرفة ‪ 23‬يغطيها بساط من النوع السميك‪،‬‬
‫وحوافو مثبتة ٔبانب ا‪١‬بدراف ٗبسامّب طويلة من النحاس يتكوف كل‬
‫مسمار من جزأين ذكر وأنثى‪ .‬أما األنثى فثابتة ُب خشب األرضية‪.‬‬
‫ويدخل الذكر ُب كبسولة ُب البساط نفسو وٲبر منها إذل فجوة األنثى‬
‫فيحشر فيها إذل عمق ‪ 7‬أو ‪ 8‬سنتيمَب ضاغطا علي طرُب البساط‬
‫فيلتصق ابألرض‪ .‬قلت ‪٥‬برجر‪" :‬عل اعبماعة كيف ينزعوف اؼبسامّب"‪..‬‬

‫فا‪٫‬بُب الرجل لينزع ا‪٤‬بسمار األوؿ أمامهم‪ ،‬وُب ىذه اللحظة‬


‫نفسها ‪٠‬بعوا صواتً غريباً ُب الزاوية الٍب كنت فيها ‪ ..‬ضغط على الزر‬
‫الذي أوٮبتهم أبنو ٰبدث انفجار اللغم‪ ،‬فأنفتح ابب من الصاج كاف‬
‫‪٨‬بتفياً وراء الورؽ ا‪٤‬بصلق على ا‪٢‬بائط الغريب‪ ،‬وحركة الباب عند فتحو‬
‫مزقت الورؽ على شكل زاوية قائمة ٗبقدار عرض الباب وطولو ‪٠ ..‬بع‬
‫القوـ صوت ‪ٛ‬بزيق الورؽ فرأوا الباب السري مفتوحاً واندفاعي وراء خليل‬
‫حداد ُب تلك الفجوة‪ ،‬ورد الباب من الداخل ٗبزالجْب من ا‪٢‬بديد‬
‫السميك‪ ،‬فتمت ىذه العملية بسرعة‪.‬‬

‫ورأى ىرجر ىذا ا‪٢‬بادث الفجائي فوثب ُب خفة النمر لناحية‬


‫الباب ليحاوؿ فتحو فاستعصى عليو‪ ،‬فتناوؿ مسدساً من سطح ا‪٤‬بكتب‬
‫وجعل يطلق الرصاص على ا‪٢‬بائط الصناعي الذي فصل ُب غيبتو جزءاً‬
‫قليبلً من مساحة الغرفة عن الشطر الباقي منها ‪ ..‬ركبت ىذا ا‪٢‬بائط‬

‫‪445‬‬
‫ا‪٤‬بصنوع من الصاج وغطيت ا‪٢‬بيطاف ‪ٝ‬بيعها بورؽ جديد ألخفي ىذا‬
‫ا‪٢‬بائط‪ ،‬وتركت السَب مسدوالً علي ا‪٤‬بكاف الذي ٯبب أف تكوف فيو‬
‫النافذة‪ ،‬ودل يلحظ أحد ىذا التصرؼ ألنِب ال أ‪٠‬بح ألحد من خدـ‬
‫الفندؽ بدخوؿ القسم ا‪٣‬باص يب وتركت ا‪٣‬بدمة فيها ‪٣‬بادـ خاص من‬
‫أتباعي‪.‬‬

‫ولكنِب دل أجرب من قبل مقدار احتماؿ ىذا الصاج للرصاص‬


‫الذي يطلق عليو‪ ،‬فلما دخلت ىذا القسم الضيق ا‪٤‬بعزوؿ عن الغرفة‬
‫ورقدت على األرض ومعي صديقي خليل ‪٧‬باذرة من الرصاص أف ينفذ‬
‫من ا‪٢‬بائط ويصيبنا‪ ،‬فقاوـ الصاج الرصاص الذي ينهاؿ من ا‪٤‬بسدسات‬
‫فاطمأنت وبدأت عملية ا‪٥‬بروب من الفندؽ ‪ٝ‬بيعو ‪ ..‬فتحت النافذة‬
‫ا‪٤‬بطلة على الشارع ا‪٣‬باص الذي يفصل بْب بناء الفندؽ والروايؿ‬
‫ىاوس‪ ،‬وتناولت من ‪ٙ‬بت النافذة سلكاً رفيعاً كاف مثبتاً ُب مسمار‬
‫وجذبت السلك حٌب انتهى فجر إذل سلكاً أخر أقوى منو‪.‬‬

‫فثبت طرفو‬
‫وجر السلك الثاشل اثلثاً متيناً ‪٠‬بيكاً " ‪ُّ "Cable‬‬
‫ُب ا‪٤‬بكاف الذي أعددتو لو ُب قلعٍب الصغّبة بعد أف وضعت عليو‬
‫بكرتْب كبّبتْب من ا‪٢‬بديد‪ُ ،‬ب اهاية كل بكرة من االثنْب "ُب مركزىا"‬
‫سلسلتاف ‪ٛ‬بسكاف مقعداً ليناً من ا‪١‬بلد ا‪٤‬بتْب‪ ،‬وعلى ىذا ا‪٤‬بقعد ‪ٛ‬بكنت‬
‫من اال‪٫‬بدار بسرعة إذل ا‪٤‬بسكن ا‪٤‬بقابل لغرفٍب ُب بناء الروايؿ ىاوس‪،‬‬

‫‪446‬‬
‫وقد وجد ىذا اال‪٫‬بدار ألف طبقات فندؽ الناسيوانؿ ترتفع عما يقابلها‬
‫ُب البناء اآلخر ‪٫‬بو مَب‪.‬‬

‫‪ٙ‬بركت البكرة ٰبملها بسرعة فوؽ ا‪٢‬ببل "السلك" بسبب‬


‫اال‪٫‬بدار‪ ،‬وكانت انفذة ذلك ا‪٤‬بسكن مفتوحة ليبلً واهاراً للوصوؿ منها‬
‫إذل الروايؿ ىاوس‪ٍ ،‬ب نزعت ا‪٢‬ببل من ا‪٤‬بكاف ا‪٤‬بثبت فيو ألمنع غّبي‬
‫من االنتفاع بو ونزلت مع خليل إذل ابب البناء‪ ،‬وكانت ىناؾ سيارة‬
‫تنتظر علي الدواـ وصوؿ ا‪٥‬باربْب إليها‪.‬‬

‫كاف رجاؿ البوليس ا‪٣‬بيالة منتشرين ُب ىذا الشارع بْب اندي‬


‫سّبوس وفندؽ الناسيوانؿ يراقبوف ابنتباه نوافذ الفندؽ ‪٧‬باذرة من خروج‬
‫الشقي منها‪ ،‬وليست ‪٥‬بم أية عبلقة ابلذين ٱبرجوف من الروايؿ ىاوس‬
‫فأفسحوا الطريق للسيارة‪ ،‬اندفعت بينهم ووصلت إذل شارع سليماف‬
‫ابشا‪ ،‬فا٘بهت إذل حيث أريد ‪ ..‬كتبت ُب ‪٨‬ببئي األخّب كتاابً إذل ‪٧‬بافظ‬
‫مصر قلت فيو‪:‬‬

‫"حضرة صاحب السعادة‬

‫انتقلت قوة من البوليس إىل فندؽ انسيوانؿ للقبض علي‬


‫ألهن عرفوا أنِب أقي ىناؾ ُب اغبجرات ‪ ،24 – 23 – 22‬وقد‬
‫دنبوٍل ُب الغرفة ‪ ،23‬ولكنِب سبكنت من حجزى فيها واؽبروب‬

‫‪447‬‬
‫منه بوسائل ستعرفها من ؿبضر التحقيق‪ .‬واعبماعة ؿببوسوف اآلف‬
‫ُب تلك الغرفة ويتونبوف أف القنبلة الٍب تركتها على اؼبكتب قنبلة‬
‫زمنية ستنفجر بعد زمن معْب ولكنها قنبلة فارغة هبا آلة متحركة‬
‫لقياس الزمن فبل خطر منها على اإلطبلؽ‪ .‬واألبواب الثبلثة والنوافذ‬
‫موصدة فليس من مقدورى االتصاؿ ابػبارج وقد أفلت منه فبل‬
‫ضرورة لبقائه ىناؾ‪ .‬وىا أان ذا أرسل إليك ُب جوؼ ىذا الغبلؼ‬
‫مفتاح الغرفة ‪ 23‬لتفتحها ؽب وأرجو أف أتمر ابالحتفاظ دبسدسي‬
‫الذي نسيتو فوؽ اؼبكتب ألنو من نوع اندر وىدية من عزيز من‬
‫الواجب عدـ التفريط فيها‪ ،‬ويسرٍل أف أجده حْب أحتاج إليو"‪.‬‬

‫كما أرجو التكرـ بقبوؿ احَباـ اؼبخلص‪.‬‬

‫‪ 18‬يناير ‪1909‬‬

‫حافظ قبيب‬

‫غلفت الكتاب وعنونتو وانتقلت ابلسيارة إذل منزؿ احملافظ‬


‫وسلمت الكتاب إذل ابتشاويش كاف جالساً على الباب فأوصلو إليو‪،‬‬
‫ودل أنتظر اإلجابة على كتايب طبعاً انصرفت ‪ ..‬وصل ا‪٣‬بطاب وا‪٤‬بفتاح‬
‫إذل احملافظ فظن أنِب أمزح معو‪ ،‬فساؿ احملافظة ابلتليفوف فعلم أف‬

‫‪448‬‬
‫ا‪٢‬بكمدار وقوة من الضباط وا‪١‬بنود ٰباصروف فندؽ انسيوانؿ للقبض‬
‫على شقي ىناؾ‪.‬‬

‫وسأؿ إدارة الفندؽ على ا‪٢‬بكمدار فقيل لو إنو ُب الغرفة ‪23‬‬


‫مع بعض رجالو وصاحب الفندؽ‪ ،‬فوثق ‪٩‬با ُب كتايب أنو جد ال مداعبة‬
‫فركب إذل الفندؽ ووصل إذل الغرفة ‪ 23‬وفتح ابهبا اب‪٤‬بفتاح ودخل ‪..‬‬
‫ورأت ا‪١‬بماعة احملافظ يدخل الغرفة فصاحوا بو يطلبوف منو االبتعاد‬
‫خوفاً عليو من القنبلة الزمنية الٍب ستنفجر‪ ،‬ولكنو دل يصغ للنصيحة ألنو‬
‫على يقْب من أنِب دل أخدعو‪ ،‬وصل إذل ا‪٤‬بكتب وتناوؿ القنبلة وىزىا ُب‬
‫يده ٍب ألقاىا على األرض فتدحرجت حٌب استقرت‪ٍ .‬ب جلس على‬
‫كرسي ا‪٤‬بكتب ُب دىشة ألنو رأى القوـ راقدين على األرض حوؿ‬
‫ا‪٤‬بكتب!‬

‫وقاؿ أحدىم يفسر لو السبب أبف القنبلة حْب تنفجر تطّب‬


‫شظاايىا بقوة دفع البارود فتحدث بْب مكاف االنفجار وموضع سقوط‬
‫ا‪٤‬بقذوات زاوية تسمى الزاوية ا‪٤‬بتينة‪ ،‬والبقاء ُب ىذه الزاوية ٰبمي من‬
‫اإلصابة‪.‬‬

‫زاؿ ا‪٣‬بوؼ من خطر القنبلة فبدأ رجاؿ البوليس كتابة احملضر‪،‬‬


‫و‪ٙ‬بديد التهم الٍب توجو إرل بسبب تصرفاٌب ُب ىذا ا‪٢‬بادث ىدهتم‬
‫ابلقنبلة فثبت أاها خالية من البارود وا‪٤‬بقذوفات فالتهديد ال يكوف‬
‫‪449‬‬
‫جرٲبة‪ ،‬ولكنهم وجودا مسدسي على ا‪٤‬بكتب ‪٧‬بشواً ابلرصاص‪ ،‬وقد‬
‫ىددت بو أحدىم هتديداً مصحوابً بطلب فعملي إذف جرٲبة وصفها أاها‬
‫جناية‪ ،‬فوضعوا الرصاصات الست ُب حرز وختموه ابلشمع‪ ،‬وىكذا‬
‫فعلوا اب‪٤‬بسدس‪ .‬وثبت من الفحص أف االنفجار الذي حدث فوؽ‬
‫رؤسهم مباغتة نشأ من وصوؿ ىواء مضغوط إذل كيس من ا‪٤‬بطاط‬
‫السميك كاف ‪٨‬ببأ ‪ٙ‬بت غطاء النجفة ا‪٤‬بدالة وسط الغرفة؛ ووجدوا اآللة‬
‫الٍب كاف هبا ا‪٥‬بواء ا‪٤‬بضغوط وراء سَب ابب الغرفة‪ .‬وزاؿ العجب من‬
‫إيصاد ابب الغرفة ‪ 23‬اب‪٤‬بفتاح بعد دخو‪٥‬بم منو‪ ،‬تركوه وراءىم مردودا‬
‫ٍب وجودوه موصداً‪.‬‬

‫فكشفت ا‪٤‬بعاينة السر ُب ىذه العملية الٍب الحت ‪٥‬بم شاذة‬


‫عجيبة ٍب ظهرت بسيطة سهلة‪ ،‬استبدلت قفل الباب آبخر من نوع قفل‬
‫أي ابب من أبواب السجوف ‪ُ ..‬ب ذلك القفل من مظاىره زر ‪٠‬بيك‬
‫انتئ‪ ،‬فإذا ارتد الباب بقوة أي دفع يضغط صدغ الباب على ىذه الزر‬
‫فيحرؾ اللساف فيدخل ُب الفجوة ا‪٤‬بوجودة ُب ا‪٤‬بكاف ا‪٤‬بخصص لو ُب‬
‫حلق الباب‪ .‬ودل يتحرؾ اللساف قبل دخو‪٥‬بم من الباب ألنِب وضعت بينو‬
‫وبْب الفجوة ا‪٤‬بخصصة لدخولو قطعة معدنية رقيقة حجزت اللساف من‬
‫الولوج ُب الثقب ا‪٤‬بفتوح‪ ،‬فلما فتحوا الباب سقطت القطعة ا‪٤‬بعدنية‬
‫ا‪٤‬بلونة ابللوف األ‪ٞ‬بر على البساط ا‪٤‬بلوف هبذا اللوف فلم يسمع ‪٥‬با صوت‪.‬‬

‫‪450‬‬
‫ودل ينتبو ‪٥‬با أحد ألف رؤوسهم خالية ال تفكر ُب ىذا النوع من االحتياط‬
‫وا‪٢‬بيلة‪.‬‬

‫وعرضت ىذه القضية ُب سنة ‪ 1913‬على ‪٧‬بكمة ا‪١‬بناايت‬


‫دائرة كانت برائسة ا‪٤‬برحوـ دمحم توفيق رفعت ابشا وٕبضوري وكاف ‪٩‬بثل‬
‫النيابة ا‪٤‬برحوـ دمحم زكي اإلبراشي أفندي حينذاؾ (الباشا بعد ذلك)‬
‫وبشهادة الشهود ثبت أنِب ىددت اب‪٤‬بسدس احملشو ابلرصاص واحداً‬
‫من رجاؿ البوليس‪ ،‬والتهديد كاف مصحواب بطلب ‪ ..‬فهو جناية ‪ٛ‬بت‬
‫أركااها ‪ٝ‬بيعاً ‪ ..‬فتحتم اإلدانة والعقاب‪.‬‬

‫وكاف احملامي الذي تطوع للدفاع عِب حينذاؾ ُب ىذه القضية‬


‫وغّبىا ا‪٤‬برحوـ ‪٧‬بمود بك أبو النصر‪ ،‬فبُب دفاعو على تصرُب أنو كاف‬
‫لئليهاـ إبطبلؽ النار مع عدـ وجود النية على التنفيذ ُب حالة عصياف‬
‫أمري ورأيت احملكمة غّب مقتنعة هبذا الدفاع ألف القانوف يعاقب على‬
‫التهديد نفسو ال على النية ا‪٤‬بستوردة اجملهولة من الذي وقع عليو‬
‫التهديد‪ ،‬فالتمست من احملكمة اإلذف رل ابلدفاع عن نفسي فأذنت رل‬
‫بشرط عدـ تكرار ما ذكر ُب دفاع احملامي‪.‬‬

‫قلت إف جسم ا‪١‬برٲبة ىو ا‪٤‬بسدس والرصاصات الٍب كانت فيو‪،‬‬


‫ومن حقي أف أرى ا‪٤‬بسدس ألعَبؼ أبنو ىو الذي كاف معي أو استبدؿ‬
‫بغّبه‪ ،‬ففتشوشل قبل تسليم ا‪٤‬بسدس‪ ،‬ففحصتو ٍب رددتو للمحكمة‬
‫‪451‬‬
‫اعَبفت أبنو مسدسي‪ .‬وطلبت فحص الرصاصات فسلمت رل‬
‫ففحصتها فحصاً دقيقا ٍب رددهتا وقلت‪" :‬اؼبسدس والرصاصات ىي‬
‫الٍب كانت معي وىددت هبا رجل البوليس ولكن دفاعي عن نفسي‬
‫سيكوف بعيداً عن اعبريبة وارتكاهبا‪ ،‬ألنِب أعتمد ُب الدفاع على‬
‫أساس يهدـ اعبريبة وصبيع أركاهنا ‪ .‬أنِب رجل عمل ‪ ..‬ضعوا‬
‫الرصاص ُب اؼبسدس وأطلقوه علي ‪ ..‬فتهدـ اعبريبة"‪.‬‬

‫وظن رئيس احملكمة أنِب قد فقدت صوايب‪ ،‬فقاؿ‪" :‬ىذا‬


‫مستحيل ألف إطبلؽ الرصاص عليك يسبب القتل فتنهدـ اعبريبة‬
‫بسبب موتك!!"‪.‬‬

‫فقلت‪" :‬ال إف إطبلؽ النار من ىذا اؼبسدس هبذه‬


‫الرصاصات ال يسبب اؼبوت فهذه الرصاصات صبيعها خالية من‬
‫البارود الذي وبدث عند النهاية فعل اؼبقذوؼ‪ ،‬فإذا ثبت ابلتجربة‬
‫أف الرصاص ال ينطلق من اؼبسدس تكوف جريبة فتكو ابلغّب‬
‫مستحيلة فينهدـ االهتاـ اؼبوجو إىل من أساسو ويصدر اغبك ابلرباءة‬
‫السػتحالة اعبريبة"‪.‬‬

‫‪452‬‬
‫كاف الدفاع غريباً بعيداً عن عقوؿ ا‪٢‬باضرين وتفكّبىم وأمرت‬
‫احملكمة إبخراج الرصاص من ظروفو النحاسية فثبت ‪٥‬با أاها خالية من‬
‫البارود إطبلقاً‪ ،‬واقتنعت احملكمة ابستحالة ا‪١‬برٲبة وصدر ا‪٢‬بكم ابلربأة‪.‬‬

‫‪453‬‬
‫‪11‬‬
‫تركت فندؽ انسيوانؿ ىارابً قبل ا‪٤‬بغرب يوـ ‪ 18‬يناير ‪1909‬‬
‫أرغمت علي ىذا ا‪٥‬بروب إرغاماً إلنقاذ نفسي من طاليب القبض على‬
‫فبل يسلم أي عقل سليم أبف الذي ىرب ُب مثل تلك الظروؼ يكوف‬
‫ُب مقدوره العودة إذل ذلك الفندؽ ألي سبب وقد خسرت هبذا ا‪٥‬برب‬
‫‪ٝ‬بيع حاجاٌب الٍب كانت ُب حجرٌب نومي ومكتيب وخسرت شخصية‬
‫ا‪٣‬بواجا غارل جرجس بعد إنفاقي لتكوينها جهوداً وماالً كثّباً‪ ،‬وخسرت‬
‫مع غارل جرجس شخصية راىب الدير احملرؽ األب فيلواتؤس وعرؼ‬
‫ا‪١‬بميع أنو حافظ ‪٪‬بيب‪.‬‬

‫ولكن إدارة الفندؽ دل تعترب ىرويب إعبلانً ‪٥‬با بقطع عبلقٍب‬


‫ابلفندؽ فادعت أاها دل ‪ٚ‬بل الغرؼ الثبلث فظلت على حسايب أايماً‬
‫بعد ىرويب وكونت حساابً دل يدفع بعد ‪ 18‬يناير ٍب قدمت الشكوى‬
‫للنيابة ونسبت إذل هتمة االحتياؿ بتنكري بشخصية غارل جرجس الثري‬
‫الوجيو فكونت النيابة جرٲبة احتياؿ سأ‪ٙ‬بدث عنها ُب ا‪٤‬بكاف ا‪٤‬بناسب‬
‫‪454‬‬
‫‪٥‬با ُب ىذا الكتاب ليعرؼ الناس حقيقة االهتامات الٍب أسندت إذل‬
‫جرائم االحتياؿ الكثّب‪.‬‬

‫تركت مرغماً الشخصيات الٍب عرفها البوليس والناس وتنكرت‬


‫ُب شخصيات جديدة منها شخصية ا‪٤‬بسيو توندور وانتقلت من شارع‬
‫سليماف ابشا خطوات فصرت ُب شارع قصر النيل وسكنت ُب عمارة‬
‫الكونتنتاؿ القدٲبة مع ىارُب ابشا وكاف مفتشا ُب وزارة الداخلية ُب ذلك‬
‫ا‪٢‬بْب‪.‬‬

‫قالوا‪" :‬قليل البخت يلقي العض ُب الكرشة"‪ ،‬وقد وجدت‬


‫ُب البنسيوف عضمة خشنة جداً صورهتا الطبيعة ُب صورة حسناء فتانة‬
‫‪ٙ‬بوـ حو‪٥‬با ‪ٝ‬باعة من الشباب ا‪٤‬بثقفْب وبعض رجاؿ ا‪٤‬باؿ وكاف ‪٥‬با شأف‬
‫خطّب ُب حياٌب ألاها خلقت رل مغامرة جديدة سأحدث الناس عنها ُب‬
‫الكتاب الثاٍل من اعَبافاٌب إبذف هللا‪ ،‬ألف ا‪٢‬بوادث ا‪٣‬بطّبة توالت على‬
‫بسرعة بعد ‪ 18‬يناير ‪ 1909‬ودفعتِب بعنف ُب خضم األخطار‪.‬‬

‫انتهى‬

‫‪455‬‬
‫اعَبافات حافظ ‪٪‬بيب‪:‬‬
‫زوااي نظر‪.....‬‬

‫دراسة‪٩ :‬بدوح الشيخ‬

‫‪456‬‬
457
‫الزاوية األوىل‪:‬‬

‫‪ُ .. ..‬ب أدب االعَباؼ‬

‫أين تقع الرواية من أدب االعَباؼ العريب؟‬

‫رغم أف فن السّبة ليس جنساً واحداً‪ ،‬إ٭با ىو اسم عاـ ينطوي‬


‫ُب داخلو على أنواع متعددة من السّب‪ ،‬إال أننا ٲبكننا أف ٭بيز منو بعض‬
‫األنواع البارزة‪ ،‬فهنالك‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬السّبة غّب الذاتية‪ ،‬وىو ما يعرؼ ُب الثقافة الغربية بػ‬


‫"‪ ،"Biography‬ويكتبها كاتب عن شخصية اجتماعية أو سياسية أو‬
‫فكرية أو اجتماعية أو اقتصادية أو فنية‪.‬‬

‫اثنياً‪ :‬السّبة الذاتية "‪ ،"Autobiography‬ويكتبها فناف أو‬


‫أديب أو سياسي عن نفسو‪ ،‬ويؤرخ هبا حياتو‪ ،‬وعبلقاتو‪ ،‬واألحداث الٍب‬
‫مر هبا‪.‬‬

‫اثلثاً‪ :‬ا‪٤‬بذكرات "‪ "Memory‬وتنطوي على تدوين ‪٤‬بذكرات‬


‫شخصية مع أحداث اترٱبية واجتماعية معينة‪ ،‬وتتضمن ا‪٤‬بذكرات أيضا‬

‫‪458‬‬
‫ما يعرؼ ابليوميات "‪ "Diaries‬وىو تدوين يومي وكرونولوجي ألحداث‬
‫شخصية مع ما تتضمنو من أحداث اترٱبية واجتماعية‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬أدب االعَبافات "‪ ،"Confession‬وىو نوع من الكتابة‬


‫األدبية الٍب تتضمن اعَبافات شخصية ومناجيات دينية وأتمبلت فكرية‬
‫تتضمن الكثّب من الصراحة‪)26(.‬‬

‫عرؼ القاصة والروائية سلوى بكر‪" ،‬أدب االعَباؼ"‪ ،‬على‬ ‫وتُ ِّ‬
‫ِ‬
‫للكاتب أو جانباً منها‪ ،‬بسلبياهتا‬ ‫قدـ الصورةَ ا‪٢‬بقيقيةَ‬
‫أديب يُ ُ‬
‫أنو لو ٌف ٌ‬
‫وإٯبابياهتا‪ ،‬وال بد أف تكوف القضية متعلقة ابلكاتب أو السارد‪،‬‬
‫وتكشف عن ضعف ما ُب شخصيتو‪ ،‬أكثر من ا‪١‬بوانب اإلٯبابية أو‬

‫(‪ )26‬اهنيار فبلكة اػبياؿ وصعود حطاـ الواقع – علي بدر – جريدة‬
‫الدستور األردنية – ‪ – 2009/ 3/ 13‬الرابط‪:‬‬
‫‪https://www.addustour.com/articles/474592-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%86%D9%87%D9%8A%D8%A7%‬‬
‫‪D8%B1-‬‬
‫‪%D9%85%D9%85%D9%84%D9%83%D8%A9-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%‬‬
‫‪D9%84-‬‬
‫‪%D9%88%D8%B5%D8%B9%D9%88%D8%AF-‬‬
‫‪%D8%AD%D8%B7%D8%A7%D9%85-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%A7%D9%82%‬‬
‫‪D8%B9‬‬
‫‪459‬‬
‫النجاحات‪ ،‬وىذا ما ٯبعل "أدب االعَباؼ" ‪٨‬بتل ًفا عن أدب السّبة‬
‫الذاتية‪ .‬وتضيف‪" :‬ىذا النوع من األدب يكشف جوانب وبواطن‬
‫اجملتمع‪ ،‬وليس الكاتب نفسو فقط‪ ،‬فيمكن أف يشتمل على حيلة‬
‫أدبية ؼبواجهة اجملتمع بسلبياتو أو خفايه‪ ،‬كما أنو دبقدور القارئ أف‬
‫يستنبط وحده‪ ،‬حقيقة ما يعنيو الكاتب‪ ،‬من دوف اغباجة إىل‬
‫االعَباؼ سأف ما كتبو أيٌب ربت خانة وتصنيف "أدب االعَباؼ" من‬
‫عدمو‪ ،‬وذاؾ حٌب لو غلفها الكاتب ببعض "اػبياؿ" أو الوقائع غّب‬
‫اغبقيقية"‪)27(.‬‬

‫وقد طرحت كاثرين غودنز ُب ‪٦‬بلة لوموند أغسطس ‪1998‬‬


‫فكرة مهمة هبذا ا‪٣‬بصوص‪ ،‬وىي فكرة‪" :‬هناية الفحل" ُب الثقافات‬
‫الغربية بشكل عاـ‪ ،‬كما أاها تناولت مفهوـ السّبة واالعَبافات مع‬
‫صعود ظاىرة تعري الرجاؿ ٗبناسبة ‪٪‬باح فيلم‪" :‬ذي فوؿ ماونٍب"‬

‫(‪ )27‬تعمر بو موائد األدب واإلبداع ُب الغرب ويعاٍل شحاً ُب بلداننا‪" :‬أدب‬
‫االعَباؼ"‪ ..‬قيود اجتماعية رباصره عربياً – أمنية عادؿ ‪ -‬جريدة البياف اإلماراتية –‬
‫‪ – 2014 /6 /6‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.albayan.ae/books/from-‬‬
‫‪.arab-library/2014-06-06-1.2139176‬‬
‫‪460‬‬
‫الربيطاشل‪ )28(.‬وُب دراستو ا‪٤‬بهمة ُب صحيفة "الغارديف"‪ ،‬تساءؿ بليك‬
‫موريسوف عن السبب الذي ٯبعل بعض الكتّاب يعَبفوف أبكثر أسرارىم‬
‫إيبلماً؛ كتحطم الزواج وإدماف ا‪٤‬بخدرات واالنتهاؾ ا‪١‬بنسي‪ ،‬مؤكداً ُب‬
‫الوقت نفسو أف "اؼبذكرات االعَبافية مزرية"‪ ،‬وأف "النرجسية جزء‬
‫أصيل فيها"‪ .‬وُب الوقت الذي يتم منح القارئ امتياز الوصوؿ إذل‬
‫حقائق شخصية عن الكاتب وعائلتو‪ ،‬فإف الكاتب‪ٕ ،‬بسب رأي جورج‬
‫أورويل ُب الكتاابت الذاتية‪ ،‬ٲبارس نوعاً من "األاننية اؼبطلقة" فيها‪.‬‬
‫ويعرفها أباها "الرغبة ُب أف تبدو ذكياً‪ ،‬من أجل أف يت اغبديث‬
‫عنك‪ ،‬وأف تكوف مذكوراً بعد اؼبوت"‪)29(.‬‬

‫(‪ )28‬اهنيار فبلكة اػبياؿ وصعود حطاـ الواقع – علي بدر – مصدر سبق‬
‫ذكره‪.‬‬
‫(‪ )29‬أدب االعَباؼ بْب ثقافتْب ‪ -‬موفق ملكاوي – جريدة الغد‬
‫األردنية – ‪ – 2017 / 9/ 22‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.alghad.com/articles/1842082-‬‬
‫‪%D8%A3%D8%AF%D8%A8-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D8%AA%‬‬
‫‪D8%B1%D8%A7%D9%81-‬‬
‫‪%D8%A8%D9%8A%D9%86-‬‬
‫‪%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%AA%‬‬
‫‪D9%8A%D9%86‬‬
‫‪461‬‬
‫وأدب االعَباؼ الذي يتخلل ا‪٤‬براسبلت واليوميات والسّب ليس‬
‫جديداً‪ .‬القديس أوغسطْب ورنيفوف وقيصر تركوا كتاابت مقنعة فيها‬
‫البطل أو الكاتب ىو الذي يقوؿ ما عنده‪ .‬ىنا ا‪٤‬بتّ ِهم وا‪٤‬بتػ َهم شخصية‬
‫واحدة ىي الٍب تروي‪ .‬القادة ا‪٤‬بنتصروف‪ ،‬جنراالت حرب أو مؤسسو‬
‫امرباطورايت أو مبشروف بعقائد‪ ،‬يهمهم أف يرووا للناس ما ٱبفى عليهم‪.‬‬
‫كما أف القادة ا‪٤‬بندحرين والسياسيْب ا‪٤‬بدانْب وا‪٤‬بتهمْب ابلكفر أو‬
‫الزاندقة والكافرين حقاً‪ ،‬ىؤالء أيضاً ٰبتاجوف إلعبلف دفاعاهتم أو‬
‫قناعاهتم أو مواجهاهتم وما رأوه وتواروا عنو‪ .‬بعض ا‪٤‬بعَبفْب عشاؽ‬
‫وأصحاب آماؿ كبّبة‪ ،‬بعضهم فقراء ال يعرفهم أحد‪ ،‬تركوا لنا شيئاً نقرؤه‬
‫عنهم وغادروا‪ ،‬وبعد غياهبم عرفناىم!(‪)30‬‬

‫(‪ )30‬عن ذلك العامل اػبفي‪..‬مبلحظات فػي أدب االعَباؼ – يسْب طو‬
‫حافظ – جريدة اؼبدى العراقية – ‪ – 2017 /6 /18‬رق العدد‪ – 3952 :‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://almadapaper.net/ar/news/531767/%D8%B9%‬‬
‫‪D9%86-%D8%B0%D9%84%D9%83-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%‬‬
‫‪D9%85-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%81%D9%8A%‬‬
‫‪D9%85%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%B8%D‬‬
‫‪8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%80%D9%8A-‬‬
‫‪%D8%A3%D8%AF%D8%A8-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D8%AA‬‬
‫‪462‬‬
‫وٲبكن اإلفادة أيضاً من مثاؿ أندريو جيد‪ ،‬فهو مثل روسو كاف‬
‫طهرانياً بيوراتنياً‪ ،‬يعيش ُب ‪٧‬بيط كاثوليكي‪ ،‬وىو يقوؿ ُب مقدمتو‪ُ" :‬ب‬
‫الصورة الٍب رظبتها لنفسي‪ ،‬ثقب‪ ،‬حفرة صغّبة‪ ،‬ىي مكاف القلب!"‪.‬‬
‫واالعَبافات أعماؿ فنية ابلنسبة لؤلدب ومراجع وكشوفات ابلنسبة‬
‫لدراسة اإلنساف واجملتمع‪ ،‬وا‪١‬بدوى كبّبة ُب االثنْب‪ُ .‬ب األخّب ال ٲبكن‬
‫إغفاؿ النزوع الشديد والدائم للناس ُب معرفة ما ٱبفى‪ ،‬أسراراً وعبلقات‬
‫وأسباب ‪٦‬بهولة‪)31(.‬‬

‫ودشن فن السّبة األدبية عربياً طو حسْب بكتابو‪" :‬األيـ"‪،‬‬


‫وقد تبلحقت إصدارات ىذا الفن ُب الثقافة العربية‪ ،‬فهنالك‪" :‬أوراؽ‬
‫العمر" للويس عوض‪" ،‬وواحات العمر" حملمد عناشل‪ ،‬وسّبة دمحم مهدي‬
‫ا‪١‬بواىري‪ ،‬وسّبة شكري عياد‪ ،‬ومذكرات أمْب الرٰباشل‪ ،‬وسّبة ‪٪‬بيب‬
‫‪٧‬بفوظ‪ ،‬وسّبة ميخائيل نعيمة‪ ،‬وسّبة عبد الوىاب ا‪٤‬بسّبي‪ ،‬ومذكرات‬
‫عبد الستار انصر‪ ،‬ومذكرات فاضل العزاوي‪ ،‬ومذكرات عبد الر‪ٞ‬بن‬
‫بدوي‪ ،‬ومذكرات إحساف عباس‪ ،‬وسّبة عبد القادر ا‪١‬بنايب‪ ،‬ومذكرات‬
‫فدوى طوقاف‪ ،‬ومذكرات فاطمة ا‪٤‬برنيسي‪ ،‬وعبد الكبّب ا‪٣‬بطييب‪ .‬وُب‬
‫الواقع دل تظهر السّبة الكاشفة ُب الثقافة العربية إال مع دمحم شكري ُب‬

‫(‪ )31‬عن ذلك العامل اػبفي‪..‬مبلحظات فػي أدب االعَباؼ – يسْب طو‬
‫حافظ – مصدر سبق ذكره‪.‬‬
‫‪463‬‬
‫سّبتو ا‪٤‬بروية "اػببز اغباُب" وىي تقليد لسّبة جاف جينيو الفرنسي‪ ،‬وُب‬
‫الوقت الذي اعترب جاف جينيو بسبب صراحة مذكراتو ومكاشفاهتا‬
‫ابلقديس‪ ،‬فإف سّبة دمحم شكري استقبلت ُب العادل العريب بشكل آخر‪،‬‬
‫ال ابلرفض فقط إ٭با ابلتكذيب أيضاً‪ .‬وقد كتب الناقد ا‪٤‬بصري فؤاد‬
‫قنديل عنها أاها ‪٦‬بانبة للحقيقة‪ ،‬وأف "مذكراتو األكثر مبيعاُ واؼبشهورة‬
‫بذكريتو عن سرقات ونزوات جنسية فجة ربتاج لعشرة ؾبرمْب"‪)32(.‬‬

‫وال أحد يستطيع وصف حياة امرئ افضل منو إذا ابح‪ .‬وال‬
‫أحد يعرؼ ا‪٤‬بخفي أفضل ‪٩‬بن رآه‪ .‬ا‪٢‬بقائق الدفينة‪ ،‬العواطف العميقة‪،‬‬
‫أو ا‪٤‬بنحرفة‪ ،‬الوطنية ا‪٤‬بتطرفة أو تلك ا‪٣‬بائنة الٍب دل تظهر‪٪ ،‬بدىا ُب ثنااي‬
‫اليوميات او ا‪٤‬براسبلت و‪٪‬بدىا أكثر وضوحاً وأرسخ شكبلً ُب كتاابت‬
‫السّبة‪ .‬وا‪٢‬بياة الشخصية‪" ،‬الداخل اغبقيقي"‪ ،‬لشخص ما معروؼ لو‬
‫وحده‪ ،‬فإذا كشفها‪ ،‬فهو إما لكي يدينها من بعد‪ ،‬كما فعل جات‬
‫جاؾ روسو الذي قاؿ لنا بعد أف رواىا‪" :‬أان اآلف أكرىها"‪ ،‬وذلك إما‬
‫ألنو أحس ابرتكاب اخطاء‪ ،‬وإما ليحافظ من بعد على حسن سّبتو ‪٤‬با‬
‫تبقى من سِب عمره‪ ،‬و‪٤‬با لو من عبلقات اجتماعية ومصاحل‪ .‬لكن ُب‬
‫ىذا افتقاد للحرية إذا دل يكن نضجاً ثقافياً و‪ٙ‬بوالت فكرية‪ .‬ا‪٤‬بهم روسو‬

‫(‪ )32‬اهنيار فبلكة اػبياؿ وصعود حطاـ الواقع – علي بدر – جريدة‬
‫الدستور األردنية – مصدر سبق ذكره‪.‬‬
‫‪464‬‬
‫بعملو ىذا وصف حياتو وىو يعيشها ٍب ‪ٙ‬بدث عنها وىو يراىا من بعد‪.‬‬
‫وصف نفسو وأراد أال يُرى!(‪)33‬‬
‫فهو‪ُ ،‬ٯبمل العملْب‪َ ،‬‬
‫وٕبسب الناقد العراقي علي بدر فإف‪ُ" :‬ب الواقع ال وجود لفن‬
‫‪ُ "Autobiographical‬ب العامل‬ ‫‪Confession‬‬ ‫"السّبة االعَباُب‬
‫العريب ‪ ،‬ال سيما ىذا الفن الذي دشنتو اعَبافات القديس أوغسطْب‬
‫(‪ 354‬ـ)‪ ،‬أو اعَبافات جاف جاؾ روسو (‪ُ )1778‬ب الغرب‪،‬‬
‫فهذا االنكشاؼ يعرض اؼبرء ُب اإلطار الثقاُب واالجتماعي إىل نوع‬
‫من اإلذالؿ أو الفضيحة‪ ،‬ولذا نشاىد أف صعود الرواية ُب العامل‬
‫العريب ُب بداية القرف اؼباضي ىو نوع من التغطية على التفاصيل‬
‫واؼبعلومات واغبياة الشخصية‪ ،‬وىي ىنا‪ ،‬طاؼبا الرواية تعادؿ التخييل‬
‫‪ ،Fiction‬قناع خارجي يت من خبللو تغطية اغبياة الشخصية‬
‫للكاتب‪ ،‬وىي حجاب لؤلفكار‪ ،‬ولبلستيهامات اعبنسية‪ ،‬وصبيع‬
‫النوازع العاطفية األخرى والٍب ال يسمح ابلكشف عنها‪ ،‬أو التنفيس‬
‫عنها‪ ،‬أو إطبلقها ؼبفهوـ الَببية القومية والذي شرعت بو الدولة‬
‫الوطنية ُب إطار ما أطلق عليو ذلك الوقت بػ "التثقيف القومي"‬
‫واستعادة الروح الذكورية والبطولية للَباث العريب الوسيط‪ ،‬وال الَببية‬

‫(‪ )33‬عن ذلك العامل اػبفي‪..‬مبلحظات فػي أدب االعَباؼ – يسْب طو‬
‫حافظ – مصدر سبق ذكره‪.‬‬
‫‪465‬‬
‫الدينية الٍب تعادؿ مفهوـ االعَباؼ واالنكشاؼ ابلتابو واغبراـ‬
‫وذبعل من إطبلؽ النوازع العاطفية مكافئاً لتجاوز اغبدود"‪)34(.‬‬

‫سمى أبدب االعَبافات‪ ،‬أو أدب السّبة الذاتية‬ ‫وطريق ما يُ ّ‬


‫ليست ابلطريق السالكة أو ا‪٤‬بعبّدة أماـ الكاتب‪ ،‬بل إاها كثّباً ما تكوف‬
‫شاقة وعرة عسّبة عليو‪ ،‬فقد قامت القيامة على الدكتور سهيل إدريس‬
‫صاحب "اآلداب" بعد إصداره ا‪١‬بزء األوؿ من مذكراتو وكاف بعنواف‪:‬‬
‫"ذكريت األدب واغبب" ألنو كشف ُب ىذا الكتاب بعضاً من أسرار‬
‫أسرتو ‪٩‬با ال ٯبوز بنظرىا أف يذاع‪ ،‬وكانت النتيجة حظر ىذه األسرة‬
‫على بقية أجزاء ا‪٤‬بذكرات وا‪٢‬بؤوؿ ابلتارل بينها وبْب الطباعة‪)35(.‬‬
‫وكشفت الكاتبة السورية كوليت خوري‪ ،‬خفااي عبلقتها ابلشاعر نزار‬
‫أيضا‪)36(.‬‬
‫قباشل ُب كتاهبا‪" :‬أيـ معو"‪ ،‬ودل تسلم من االنتقاد ً‬
‫أما رئيس ا‪٢‬بكومة اللبنانية األسبق صائب سبلـ فكاف حظو‬
‫مع مذكراتو الٍب تتناوؿ سّبتو الذاتية وجوانب من ا‪٢‬بياة السياسية‬

‫(‪ )34‬اهنيار فبلكة اػبياؿ وصعود حطاـ الواقع – علي بدر – جريدة‬
‫الدستور األردنية – مصدر سبق ذكره‪.‬‬
‫(‪ )35‬ىل لدينا أدب اعَبافات – جهاد فاضل – مقاؿ – جريدة الريض‬
‫السعودية – ‪ – 2013 /12 /15‬رق العدد‪.16610 :‬‬
‫(‪ )36‬تعمر بو موائد األدب واإلبداع ُب الغرب ويعاٍل شحاً ُب بلداننا‪" :‬أدب‬
‫االعَباؼ"‪ ..‬قيود اجتماعية رباصره عربياً – مصدر سبق ذكره‪.‬‬
‫‪466‬‬
‫اللبنانية‪ ،‬أسوأ من مصّب مذكرات سهيل إدريس‪ ،‬ذلك أف القيّمْب على‬
‫أمر ىذه ا‪٤‬بذكرات وجدوا أف من ا‪٢‬بكمة عدـ إصدارىا ُب الوقت الراىن‬
‫لسبب أو آلخر‪ ،‬لكن "الوقت الراىن" تراخى حوارل ربع قرف دوف أف‬
‫ٰبْب الوقت ا‪٤‬بناسب للنشر!(‪)37‬‬

‫واستناداً إذل ىاتْب الواقعتْب يبدو أف "النظاـ العاـ" االجتماعي‬


‫أو السياسي أو الثقاُب ُب بعض بلداننا العربية ىو الذي ٰبوؿ ُب أكثر‬
‫االحياف بْب ازدىار ىذا الفرع األديب ا‪٤‬بشوؽ والناجح والكثّب االنتشار‬
‫ُب البلداف االجتماعية‪ .‬وما نقصده بػ "النظاـ العاـ‪٦ :‬بموعة العادات‬
‫والتقاليد واإلعراؼ وا‪٤‬بواضعات السائدة ُب اجملتمع الٍب ‪٥‬با قوة القانوف‬
‫أحياانً‪ ،‬و‪ٙ‬بوؿ دوف أف تفقد دفقات القلب والوجداف عند الكاتب‬
‫سبيلها إذل القارئ‪ ،‬فكثّباً ما تشمل احملظورات وا‪٤‬بمنوعات ُب بلداننا ما‬
‫ال يلتفت إليو‪ ،‬أو إذل منعو‪ ،‬أحد ُب الغرب‪ ،‬فهناؾ ابستطاعة الكاتب‬
‫فيعري ىذه النفس تعرية اتمة‬
‫أف يبسط أماـ قارئو كل جوانب نفسو‪ّ ،‬‬
‫دوف رقيب عليو من أحد‪ ،‬يسلّط األضواء عليها‪ ،‬وينزع كل أقنعتها‬
‫ويروي سّبهتا بكل شفافية وبعيداً عن ا‪٤‬بساحيق‪ ،‬كما لو أنو يروي سّبة‬
‫أديب من زمن غابر‪ ،‬ىكذا فعل ما ال ُٰبصى من الكتاب واألدابء‬

‫(‪ )37‬ىل لدينا أدب اعَبافات – جهاد فاضل – مقاؿ – مصدر سبق‬
‫ذكره‪.‬‬
‫‪467‬‬
‫الغربيْب دوف خوؼ أو رعب من أحد‪ ،‬فالقانوف ال يعاقب أبداً وال‬
‫ٰبجر على حرية الفكر سواء طرقت ىذه ا‪٢‬برية ىذا الباب أو ذاؾ من‬
‫الفكر‪ ،‬والنظاـ العاـ ال يهمو ُب شيء إذا روى ىذا الكاتب أو الفناف‬
‫أو السياسي أو سواىم لواعج قلبو‪ ،‬أو ابح أبسراره‪ ،‬ا‪٤‬بهم أف تنجح ىذه‬
‫السّبة وأف ٘بد ‪٥‬با إقباالً عند الناس‪ ،‬وليس ا‪٤‬بهم التزاـ الكاتب هبذا‬
‫الضابط أو الوازع أو ذاؾ‪ ،‬بل إف الكاتب كلما أمعن ُب الغوص إذل‬
‫مطاوي نفسو‪ ،‬وروى سلبياهتا وسقطاهتا‪ ،‬و‪٪‬بح كتابو أكثر وأوَب بكل‬
‫التزاماتو ٘باه فن السّبة الذاتية أو أدب االعَباؼ‪)38(.‬‬

‫ُب أدبنا العريب القدصل ليس عسّباً علينا أف اهتدي إذل ٭باذج‬
‫كثّبة انجحة من أدب البوح وا‪٤‬بكاشفة واالعَباؼ ىذا‪ .‬ومن أدابء‬
‫الَباث الكبار الذين وىبوا أدب االعَبافات صفحات خالدة‪ :‬أبو حياف‬
‫التوحيدي الذي ما تزاؿ نفثاتو وخلجات روحو تنبض إذل اليوـ وىو‬
‫يروي لقارئو ما عاانه من شقاء وجوع وفقر ال يوصف وىو يطلب من‬
‫بعض أصدقائو أف يغيثوه وٲب ّدوا أيديهم إليو‪ ،‬وىو ما ال مثيل لو ُب‬
‫صراحتو وشفافيتو حٌب ُب أدب االعَباؼ الغريب‪ .‬فإذا وصلنا إذل األدب‬
‫العريب ا‪٤‬بعاصر وا‪٢‬بديث دل ‪٪‬بد ٭باذج ذات شأف أفرغ فيها أصحاهبا كل‬

‫(‪ )38‬ىل لدينا أدب اعَبافات – جهاد فاضل – مقاؿ – مصدر سبق‬
‫ذكره‪.‬‬
‫‪468‬‬
‫ما صادفوه ُب حياتو‪ ،‬فهم يتحفظوف‪ ،‬ويرووف ما ٯبدوف أف من ا‪٤‬بمكن‪،‬‬
‫أو من ا‪٢‬بكمة والتعقل‪ ،‬روايتو‪ ،‬ولعل مبدأ "األخذ ابألحوط"‪ ،‬ىو ا‪٤‬ببدأ‬
‫السائد ُب كتاابهتم‪ .‬فهم ٰبتاطوف ويؤثروف السبلمة ويرواها ُب الصمت‬
‫صرؼ هبا‪ ،‬ال ُب الرواية ا‪٢‬برة الطلقة‪ .‬وكأف‬ ‫أو ُب الرواية ا‪٤‬بع ّدلة ا‪٤‬بتُ ِّ‬
‫االعَباؼ ينبغي أف ٱبضع ٍ‬
‫لرقابة ما قبل البوح بو‪ ،‬وكأف ما ٯبوز البوح بو‬
‫ىو ما ينبغي إخضاعو ‪١‬بملة معايّب وضوابط‪ ،‬فاألخبلقيات السائدة ُب‬
‫ىذه الكتاابت مستلّة من أخبلقيات القرية أو من أخبلقيات ‪٦‬بتمعات‬
‫بدائية أو زراعية‪ ،‬وعندما يكوف األمر على ىذه الصورة‪ ،‬وال تكوف ىذه‬
‫الكتاابت حرة وطلقة‪ ،‬تفقد قيمتها ا‪٢‬بقيقية وتنعدـ أي صلة ‪٥‬با مع‬
‫أدب االعَباؼ أو أدب السّبة الذاتية‪)39(.‬‬

‫ويرى كثّبوف أف أدب االعَباؼ ُب الثقافة العربية منذ نشأهتا‬


‫إذل اليوـ أدب دل ‪٫‬بسن وفادتو‪ ،‬ودل اهتم بو االىتماـ البلزـ‪ ،‬فقلّما ‪٪‬بد‬
‫عمبلً أدبياً كبّباً حاوؿ فيو صاحبو أف يروي قصة حياتو ونفسو و٘باربو‬
‫بصدؽ ودوف خوؼ أو ‪ٙ‬بفػُّػظ أو خجل ‪٩‬با قد تكشفو ىذه القصة من‬
‫تعودان أف ‪٬‬باؼ ُب ا‪٤‬بكاشفة وا‪٤‬بصارحة واالعَباؼ‬
‫أخطاء وعيوب‪ ،‬فقد ّ‬
‫أبخطائنا أو جوانب ضعفنا أماـ اآلخرين‪ ،‬ولو أننا راجعنا ما كتبو كبار‬

‫(‪ )39‬ىل لدينا أدب اعَبافات – جهاد فاضل – مقاؿ – مصدر سبق‬
‫ذكره‪.‬‬
‫‪469‬‬
‫أدابئنا عن حياتو‪ ،‬لوجدان أنفسنا أماـ ىذه الظاىرة بوضوح‪ ،‬فهذا ما‬
‫‪٪‬بده ُب اعَبافات العقاد الٍب عنوااها‪" :‬أان"‪ ،‬وُب اعَبافات توفيق ا‪٢‬بكيم‬
‫ا‪٤‬بتعددة ُب‪" :‬زىرة العمر" إذل "سجن العمر" إذل "عصفور من‬
‫الشرؽ"‪ ،‬كل ذلك ابستثناء بعض الصفحات عند ىذا الكاتب الكبّب‪،‬‬
‫يغلب فيها الصدؽ وا‪٤‬بكاشفة والرغبة ُب التصريح والبوح على كل ‪ٙ‬بفظ‬
‫أو خوؼ من اآلخرين‪ ،‬على أف ىذه اللحظات كلها تظل قليلة و‪٧‬بدودة‬
‫ابلقياس إذل الصفحات األخرى ا‪٤‬بغلفة ابلكتماف‪ ،‬وا‪٥‬بروب من تعرية‬
‫يهز النفس والضمّب‪ ،‬ويثّب ُب‬
‫الذات وكشفها على حقيقتها ُب عمل ّ‬
‫اجملتمع ما قد يدفعو إذل تغيّب موقفو من بعض األمور الٍب قد‬
‫تواجهو‪)40(.‬‬

‫وىذا األدب (أدب االعَباؼ) يُفَبض أف يفتح فيو األديب‬


‫ذاتو للحرية ‪ٛ‬باماً كما يفتح نوافذ وأبواب غرفتو أو بيتو للشمس والريح‪.‬‬
‫أخل بشرط جوىري‬
‫فإذا فتح ربع أو نصف فتحة ىذه النوافذ واألبواب ّ‬
‫من شروط ىذا األدب ا‪٤‬بنذور للحرية والطبلقة‪ُ .‬ب ىذا األدب إما أف‬
‫يقوؿ الكاتب كل شيء‪ ،‬بصراحة وببل مراجعة وببل ‪ٙ‬بفػُّػظ‪ ،‬وإما أف‬
‫يصمت‪ ،‬والكثّبوف ابلطبع يهابوف ويراجعوف ويتحفظوف وأسباب ذلك‬

‫(‪ )40‬ىل لدينا أدب اعَبافات – جهاد فاضل – مقاؿ – مصدر سبق‬
‫ذكره‪.‬‬
‫‪470‬‬
‫عائدة إذل "حساابت" ٰبسبها الكاتب‪ ،‬وكذلك إذل "النظاـ العاـ" ُب‬
‫بلده‪ ،‬ولكن األدب من طبعو التمرد والعصياف وليس ا‪٤‬بصانعة واإلذعاف‪.‬‬
‫واألدب العريب ا‪٤‬بعاصر دل يقتصر ُب موضوع االعَبافات على الكتب‬
‫الٍب أشران‪ ،‬فثمة كتب ال يكتمل البحث ُب ىذا ا‪٤‬بوضوع إال إذا أشران‬
‫إليها‪ .‬وُب طليعتها كتاب‪" :‬سبعوف" ‪٤‬بيخائيل نعيمة وىو كتاب جليل‬
‫ُب أدب االعَباؼ حاوؿ فيو نعيمة‪ ،‬ما أمكنو ذلك‪ ،‬قيادة قارئو ‪٫‬بو‬
‫دىايز ذاتو وإضاءة جوانبها ا‪٣‬بفية أو ا‪٤‬بسكوت عنها‪ ،‬أو عن مثلها‪،‬‬
‫أحياانً كثّبة‪ ،‬وال ريب أنو توفق ُب رحلتو ىذه إذل ح ّد بعيد‪ .‬ومن ىذه‬
‫الكتب أيضاً‪" :‬سّبة حياٌب" لعبدالر‪ٞ‬بن بدوي الٍب أحدثت ضجة كبّبة‬
‫قبل سنوات لصراحتها الفجة إذ تناوؿ فيها بدوي من تناو‪٥‬بم بقسوة‬
‫ابلغة‪ ،‬ومن تناو‪٥‬بم ىم بعرؼ الناس زىرة األدب والفكر والسياسة ُب‬
‫مصر ُب القرف العشرين‪ ،‬ولكن ما ُٰبمد لبدوي أنو كتب بصراحة وببل‬
‫‪ٙ‬بفظ أو خوؼ ما كتب‪ ،‬وحاوؿ ما أمكنو أف يق ّدـ نفسو للقارئ‬
‫ببساطة وعفوية ودوف تقدصل قرابْب وىدااي ‪٦‬بانية ‪٥‬بذه النفس‪ ،‬فتوفق‬
‫حيناً وكبا حيناً آخر‪)41(.‬‬

‫(‪ )41‬ىل لدينا أدب اعَبافات – جهاد فاضل – مقاؿ – مصدر سبق‬
‫ذكره‪.‬‬
‫‪471‬‬
‫الزاوية الثانية‬

‫صاحب االعَبافات‬
‫ُب تقدٲبو لكتاب "صعاليك الزمن اعبميل" يقوؿ كامل‬
‫زىّبي‪" :‬اعتقد يوسف الشريف أف النوـ عادة ضارة‪ ،‬فانطلق إىل‬
‫خفاي القاىرة األخرى‪ ..‬وتردد على ؾبالس الظرفاء وأوكار الفكاىة‪،‬‬
‫من الفيشاوي إىل النيل ىيلتوف‪ ،‬وتنق ػ ػػل يوسف الشريف من ظريف‬
‫إىل ظريف‪ ،‬بْب كامل الشناوي وعبد الرضبن اػبميسي إىل عبد‬
‫اغبميد الديب ومدحت عاص ‪ ،‬إىل ؿبمود السعدٍل إىل سيد مكاوي‬
‫وحافظ قبيب‪ ،‬ودمحم عودة"‪ ،‬وُب الكتاب فصل عن‪" :‬مصطفى ضباـ‬
‫"فاسوخة" ثورة ‪ ،1919‬ومدحت عاص ‪ ،‬واللص الشريف حافظ‬
‫قبيب"‪)42(.‬‬

‫وحافظ ‪٪‬بيب ا‪٢‬بائر ‪/‬احملّب‪ ،‬الظادل‪ /‬ا‪٤‬بظلوـ‪ ،‬لو وجوه كثّبة –‬


‫كما أشران ُب التقدصل الذي سبق الكتاب – ومن ىذه الوجوه الكثّبة‬
‫وجو بدا دائماً أنو دل يصبح جزءاً من حياتو إال ُب ا‪٤‬برحلة األخّبة من‬

‫(‪ )42‬إصدارات صعاليك الزمن اعبميل‪ ..‬السعدٍل ومكاوي والشناوي‬


‫وغّبى – ؿبمود حريب – جريدة القبس الكويتية – ‪ 8‬سبتمرب‪ – 2005 ،‬الكتاب من‬
‫إصدار دار الشروؽ وصدرت الطبعة االوىل عاـ ‪ 2005‬ويقع ُب ‪ 338‬صفحة من‬
‫القطع اؼبتوسط‪.‬‬
‫‪472‬‬
‫حياتو‪ ،‬وأعِب بذلك‪" :‬وجو الصحاُب"‪ ،‬لكن ما نشر ُب اإلعبلـ العريب‬
‫عن الرجل بعد قيامي بنشر مذكراتو (‪ ،)1996‬وبعد الضجة الٍب‬
‫أحدثها ‪ٙ‬بويلو إذل مسلسل تلفزيوشل (‪ )2002‬أماط اللثاـ عما دل يرد‬
‫ُب مذكراتو‪ ،‬وٖباصة السنوات الٍب تلت الفَب الٍب تناو‪٥‬با حافظ ‪٪‬بيب‪.‬‬

‫وعلى سبيل ا‪٤‬بثاؿ‪ ،‬كتبت الباحثة رنيم العفيفي عن صلة بْب‬


‫حافظ ‪٪‬بيب والسيدة روز اليوسف‪ ،‬ففي عاـ ‪ُ 1917‬ب ‪٧‬بل حلواسل‬
‫ا‪٠‬بو‪" :‬كساب" ٗبنطقة وسط البلد جلست روز اليوسف مع عدد من‬
‫أصدقائها‪" ،‬حٌب أقبل عليه صديق اَخر وىو الصحفى "حافظ‬
‫قبيب" ليضع أمامه صحيفتو الٌب يصدرىا ابس ‪" :‬الواحة" وَب‬
‫صدرىا ىجوـ على اؼبمثبلت واؼبمثلْب عندىا تساءلت "روز" ؼبا ال‬
‫يوجد ؾبلة فنية تدافع عن ىؤالء اؼبمثبلت واؼبمثلْب؟!"(‪)43‬‬

‫(‪" )43‬أسطورة روز اليوسف"‪..‬فيل يرفع النقاب عن الوجوه األخرى لسيدة‬


‫الصحافة اؼبصرية – رني العفيفي – موقع وؽبا وجوه أخرى – ‪– 2015/4 /26‬‬
‫الرابط‪:‬‬
‫‪https://wlahawogohokhra.org/924/%D8%A3‬‬
‫‪%D8%B3%D8%B7%D9%88%D8%B1%D8%A9-‬‬
‫‪%D8%B1%D9%88%D8%B2-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D8%B3%‬‬
‫‪D9%81-%D9%81%D9%8A%D9%84%D9%85-‬‬
‫‪%D9%8A%D8%B1%D9%81%D8%B9-‬‬
‫‪473‬‬
‫وتبدأ النسخة األصلية من‪" :‬اعَبافات حافظ قبيب" بكلمة‬
‫قصّبة بتوقيع سعدية ا‪١‬ببارل تقوؿ فيها‪" :‬أرغمت األستاذ حافظ قبيب‬
‫على نشر اعَبافاتو ُب حياتو بدالً من نشرىا بعد فباتو ألمكن الناس‬
‫من تكذيب ما ال يصدقونو‪ ،‬وألمكنو من الرد عليه ‪ ،‬فبل ينهشوف‬
‫غبمو وىو جثة‪ ،‬كما انلوا منو بنشر األكاذيب واػبرافات وىو مطارد‬
‫عاجز عن الدفاع عن نفسو‪ .‬وإف جلجلة صوت اغبق تدفع الباطل‬
‫وتفزع اعبباف"‪.‬‬

‫وال يتوفر من معلومات عن سعدية ا‪١‬ببارل سوى أاها خرٯبة‬


‫كلية الَببية الرايضية (البدنية) وكاف وقت نشر االعَبافات "معهد‬
‫عايل"‪ .‬و‪ٙ‬بت عنواف‪" :‬اإلىداء" كتب حافظ ‪٪‬بيب بعد ذلك مباشرة‪:‬‬
‫"إىل ابنٍب العزيزة احملَبمة سعدية اعببايل مل أهنج ُب تربيتك مناىج‬
‫الناس فل تسمعي مِب إرشاداً بصوت األمر‪ ،‬ومل أقيد حرية عقلك‬
‫وسلوكك إمبا تركت لك االستقبلؿ التاـ فأصغيت لنصائحي بدافع‬
‫من الرغبة وأطعت إرشادي بباعث من الثقة وحسن الظن"‪.‬‬

‫وتفيض ا‪٤‬بقدمة الرقيقة بعبارات يكسوىا حناف أبوي ظاىر‬


‫ٯبعلنا ٭بيل إذل أف عبلقة إنسانية وثيقة وطويلة نشأت بْب "حافظ"‬

‫‪%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%82%D8%A7%‬‬
‫‪/D8%A8-%D8%B9‬‬
‫‪474‬‬
‫و"سعدية" كاف فيها ُب موقع األستاذ واألب وكانت ىي ُب موضع‬
‫التلميذة واالبنة‪ .‬وقد سطر حافظ ىذا اإلىداء ُب ‪1946/ 4/ 12‬‬
‫وفارؽ ا‪٢‬بياة ُب ‪ 1946/ 11/ 21‬وقبل ظهور الكتاب للنور‪ .‬وقد‬
‫دوف حافظ ‪٪‬بيب ُب اعَبافاتو ما مر بو أحداث حٌب مطلع عاـ ‪1909‬‬
‫أي حٌب سن ا‪٣‬بامسة والعشرين‪ ،‬ألنو حسب منشور الوزارة الداخلية‬
‫وزع سنة ‪ 1916‬كاف سنو ‪ 33‬سنة‪.‬‬

‫أي أنو سافر لَبكيا وفرنسا وىولندا‪ ،‬وقبلها ا‪١‬بزائر‪ ،‬وعمل‬


‫ابلتجارة‪ ،‬ودخل إذل الدير وخرج منو‪ ،‬كل ىذا وىو دوف ا‪٣‬بامسة‬
‫والعشرين‪ .‬وقد وافتو ا‪٤‬بنية وىو ُب الثالثة والستْب ‪ .‬وقد احتفظ معو‬
‫أبحداث أخرى مثّبة أشار إليها ُب اهاية اعَبافاتو عاقداً النية على نشرىا‬
‫ُب جزء ٍ‬
‫اثف‪ ،‬وىو ما دل ٲبهلو القدر إل‪ٛ‬بامو‪.‬‬

‫وإذا كاف من معلومات عنو غّب ما سجل ُب اعَبافاتو‪ ،‬فإننا‬


‫نذكر مقاالً ىاماً نشرتو ‪٦‬بلة "اؽببلؿ" القاىرية عدد شهر أغسطس‬
‫‪ 1994‬للكاتب األستاذ أ‪ٞ‬بد حسْب الطماوي جاء فيو‪" :‬حافظ‬
‫قبيب كاف مثقفاً وشاعراً ومتفلسفا فصيحاً‪ ،‬انفذاً إىل النفوس‪ ،‬عارفاً‬
‫ابألديف‪ ،‬ولديو القدرة على إرساؿ نظرات فاحصة ُب عديد من‬
‫اؼبوضوعات‪ ،‬وُب ىذا اؼبقاؿ نستعرض شخصيتو ُب كل أطوارىا‪،‬‬
‫والكتابة عن حافظ قبيب ال تعِب سبجيد االحتياؿ واجملرمْب‪ ،‬وإمبا‬
‫‪475‬‬
‫هتدؼ إىل الكشف عن فصل طريف ُب األدب‪ ،‬وعن رجل مزدوج‬
‫الشخصية لو وجهاف‪ :‬وجو فيلسوؼ أخبلقي صاحب مؤلفات‪،‬‬
‫ووجو ؿبتاؿ أفاؽ"‪.‬‬

‫"وىو ليس صورة مفردة ُب اترىبنا األديب أو االجتماعي‪ .‬بل‬


‫لو نظراء وأشباه‪ ،‬فصعاليك اعباىلية كانوا لصوصاً وشعراء ونوابغ‪،‬‬
‫ومن الدارسْب من أىت سأمثاؿ ىؤالء ؼبا خلفوه من آاثر أدبية ومنه‬
‫من صرؼ عنايتو إىل دراسة ظاىرة التلصص واالحتياؿ من منظور‬
‫اجتماعي"‪.‬‬

‫"وبعض الكتاب العرب وجو اىتمامو إىل ىؤالء وصبيع‬


‫نوادرى وأفانينه فتجمعت لدينا عدة كتب ربكي أخبارى‬
‫وأسرارى ورموزى منها كتاب‪" :‬اللصوص" للجاحظ‪" ،‬والفتوة"‬
‫البن اؼبعمار‪" ،‬والفرج بعد الشدة" للتنوخي‪ ،‬الذي تضمن صبلة من‬
‫أفانْب اللصوص‪ ،‬وغّبىا من كتب األدب والتاريخ الٍب حوت‬
‫حكايت الشطار والعيارين واحملتالْب والعيار الذي يعوقوف الطرؽ"‪.‬‬

‫"وقد يظن بعضنا أف اللصوص واحملتالْب جهبلء ابلعلوـ‬


‫واآلدب‪ ،‬ويعتمدوف على ذكائه الفطري فقط‪ ،‬واغبقيقة أف منه‬
‫اؼبثقف اؼبتبحر ُب العل ‪ ،‬وقد نقل الشيخ عبد الغِب النابلسي ُب‪:‬‬

‫‪476‬‬
‫"الرحلة الطرابلسية" عن الشيخ السبكي ُب طبقاتو ؿباورة ُب صمي‬
‫الفقو بْب قاض ولص‪ ،‬ورجحت فيها كفة اللص"‪.‬‬

‫ويتعرض الطماوي ُب مقالو ‪١‬بانب مهم جداً من حياة حافظ‬


‫‪٪‬بيب دل يرد ذكره ُب اعَبافاتو فيقوؿ ُب مقالو سالف الذكر‪،‬‬
‫"الفيلسوؼ احملتاؿ"‪:‬‬

‫"ففي األيـ األوىل من عاـ ‪ 1912‬تقدـ رجل مسن انئباً‬


‫عن سيدة تدعى‪ :‬وسيلة دمحم‪ ،‬إىل قبيب مَبي صاحب دار اؼبعارؼ‪،‬‬
‫وعرض عليو ـبطوط كتاب ترصبتو السيدة اؼبذكورة عن شارؿ وانّب‬
‫وبمل عنواف‪" :‬روح االعتداؿ"‪ ،‬وطلب منو النظر ُب نشره‪ ،‬ومل يبض‬
‫وقت طويل حٌب وقػ ػ ػ ػع صاحب دار اؼبعارؼ مع وكيل السيدة وسيلة‬
‫عقد نشر الكتاب لتعذر حضورىا‪ .‬وطبع الكتاب عاـ ‪1912‬‬
‫والقى قباحاً كبّباً‪ ،‬وأقبل عليو طبلب اؼبدارس وعلقت عليو‬
‫الصحافة واجملبلت"‪.‬‬

‫و‪٩‬با قالتو جريدة "احملروسة" ُب ‪" :1912 /3 /27‬بْب‬


‫اإلفراط والتفريط درجة ىي االعتداؿ واؼبثل يقوؿ‪ :‬خّب األمور‬
‫الوسط ‪ ..‬فبل غرو أف االعتداؿ فضيلة وحسنة ‪ ..‬ولذلك ترى‬
‫اجملتمع اإلنساٍل يتذمر من حالو ألف ىذه اغبسنة قليلة بْب أفراده‪،‬‬

‫‪477‬‬
‫سواء ُب ذلك أىل الشرؽ والغرب‪ ،‬وقد رأى ذلك الكاتب‬
‫االجتماعي شارؿ وانّب‪ ،‬فألف كتاابً ربدث فيو عن روح االعتداؿ‪،‬‬
‫فأبدع أجاد‪ ،‬وىدى أفاد‪ ،‬فأرادت حضرة السيدة وسيلة دمحم أف ال‬
‫ُوبرـ أبناء الشرؽ من جِب شبار االنتفاع من روض ذلك السفر‬
‫النفيس‪ .‬فألبستو من العربية ثوابً أنيقاً بسيطاً‪ ،‬وزاىراً ُب وقت واحد‬
‫‪."..‬‬

‫وقالت عنو ‪٦‬بلة "اؼببلجئ العباسية ومكارـ األخبلؽ‬


‫اإلسبلمية" عدد ‪ٝ‬بادى الثانية ‪ .133‬ىػ ػ ػ (‪" :)1912‬كتاب روح‬
‫االعتداؿ ‪ .. ..‬أثبت أخّباً أف لروح االعتداؿ نفوذاً قويً وسلطاانً‬
‫فعاالً ُب تقوَل األخبلؽ‪ ،‬وتلطيف األمزجة اغبادة‪ ،‬والطباع الغليظة‪،‬‬
‫وُب إوباد السبلـ بْب األانـ‪ ،‬والكتاب يقع ُب كبو ‪ 160‬صفحة‪،‬‬
‫متْب األسلوب عايل التعبّب فبا يدلنا على مقدار غزارة اؼبادة عند‬
‫حضرة اؼبعربة وقد اعتمدان ُب وصف مضموف الكتاب على أقواؿ‬
‫الصحف واجملبلت‪ ،‬لعدـ وقوفنا عليو بدار الكتب"‪.‬‬

‫ويكمل الناقد ا‪٤‬بؤرخ األستاذ أ‪ٞ‬بد حسْب الطماوي رسم مبلمح‬


‫ىذا ا‪١‬بانب من حياة حافظ ‪٪‬بيب يقوؿ‪" :‬وقد شجع ىذا قبيب مَبى‬
‫على طبع الكتاب الثاٍل‪" :‬غاية اإلنساف" اؼبنسوب إىل الفيلسوؼ‬
‫جاف فينوت وتعريب وسيلة دمحم‪ ،‬وقد أمكنِب اغبصوؿ على ىذا‬
‫‪478‬‬
‫الكتاب اؼبصنف بدار الكتب ربت رق ‪ – 466‬فلسفة‪ ،‬والكتاب‬
‫يدخل إىل اندي الفلسفة بنفس البطاقة الٍب تدخل هبا الكتب الٍب‬
‫تتناوؿ الفلسفة اػبلقية‪ ،‬إذ يتحدث عن اغبق والواجب واغبرية‬
‫واألاننية والفضيلة والقي من خبلؿ "غاية اإلنساف" من اغبياة ُب‬
‫ىذه الدنيا وىي السعادة"‪.‬‬

‫"ويقرر اؼبؤلف أف السعادة موجودة ُب اغبياة وأف عدـ‬


‫إدراكها ال يعِب عدـ وجودىا‪ ،‬يقوؿ‪ :‬إف ؿبو الرابطة بْب اغباؿ‬
‫ومقتضاه ؿباؿ‪ ،‬قد يوجد اغباؿ وال يت مقتضاه‪ ،‬ولكن الرابطة بينهما‬
‫موجودة بوجود االقتضاء‪ ،‬وقد توجد الرغبة ُب السعادة ومقتضاىا‬
‫السعادة فيتحقق وجود الرغبة فيها ليس دليبلً على عدـ وجودىا‪،‬‬
‫وإمبا على وجود السبب اؼبانع من ربقيق الرغبة‪ ،‬وأداف الفلسفات‬
‫الٍب سبعن ُب تشويو صباؿ اغبياة وزبفض من قيمتها"‪.‬‬

‫"وينفي اؼبقوالت الذاىبة إىل أف إغفاؿ اؽبناءة ُب اغبياة‬


‫الدنيوية وبقق السعادة ُب الدار اآلخرة"‪ ،‬وُب ىذا يقوؿ‪" :‬ولست‬
‫أدري ما الذي يؤدي اإلنساف إذا ىو انؿ السعادة ُب الدارين‪ ،‬وال‬
‫الذي يضّب األديف إذا اغتبط اؼبخلوؽ على األرض‪ ،‬وُب الدار‬
‫اآلخرة ما داـ وبرص على مبادئ الفضيلة واإليباف"‪ .‬ويبضي ُب‬
‫ترسيخ اؼببادئ اػبلقية واغبد من الشطط اإلنساٍل فيقوؿ‪" :‬األساس‬
‫‪479‬‬
‫الثابت لنيل السعادة ىو تسلط العقل على العواطف"‪ ،‬ويربط‬
‫السعادة الٍب يتوؽ اؼبرء إليو دبعرفة كل شخص غبدود حريتو‬
‫الشخصية وحقوقو من اؼبنافع كبو نفسو وكبو اعبماعة‪ .‬وكل ىذا‬
‫وغّبه يبْب أف السعادة الٍب يتحدث عنها اؼبؤلف وينشدىا اإلنساف‬
‫ال هبب أف ربقق على حساب الدين واجملتمع"‪.‬‬

‫"ىذاف الكتاابف اللذاف نسب األوؿ منهما إىل شارؿ وانّب‬


‫والثاٍل إىل جاف فينوت‪ ،‬ونسبت ترصبتهما إىل وسيلة دمحم‪ ،‬كاان ُب‬
‫اغبقيقة ؼبؤلف اشتهر ُب ذلك الوقت ابلنصب واالحتياؿ ىو "حافظ‬
‫قبيب"‪ ،‬وقد أخفى اظبو ألنو مطارد من الشرطة"‪.‬‬

‫"والسؤاؿ احملّب ىو ىل ازبذ قبيب مَبى قرار طبع الكتابْب‬


‫دبفرده أو أنو أشرؾ معو مواطنيو من اللبنانْب مثل خليل مطراف‬
‫وأنطوف اعبميل وشبلى مشيل وفرح أنطوف وطانيوس عبده وغّبى‬
‫فبن يعرفوف اآلداب والفلسفات الفرنسية ؟ ٍب إنو كيف تقرظ جريدة‬
‫احملروسة كتاب "روح االعتداؿ" وكاف يتوالىا حينئذ إلياس زيدة ومعو‬
‫ابنتو مي زيدة‪ ،‬إنو حٌب بعد تكشف األمر مل يقل أحد أف أفكار‬
‫الكتابْب مسروقة أو مقتبسة؟ فلقد استطاع حافظ قبيب أف ىبدع‬
‫الوسط الثقاُب والصحاُب كلو"‪.‬‬

‫‪480‬‬
‫"كاف حافظ قبيب قد قاـ‪ ،‬منذ هناية القرف التاسع عشر أو‬
‫مستهل القرف العشرين‪ ،‬سأعماؿ نصب واحتياؿ على أفراد وىيئات‬
‫منها الفرنسيسكاف‪ ،‬واستحوذ على أمواؿ بطرائق غّب مشروعة‬
‫وحررت ضده احملاضر والببلغات ُب أقساـ الشرطة‪ ،‬وقبض عليو‬
‫مراراً وسجن‪ .‬وُب كل مرة يعلن توبتو‪ ،‬وبعد خروجو من السجن يعود‬
‫إىل االحتياؿ‪ ،‬وقد أوتى قدرات عجيبة ُب سبويو شخصيتو‪ ،‬وإخفاء‬
‫نفسو بوسائلو الذكية‪ ،‬وحيلو البارعة‪ .‬ومن ىذه اغبيل أنو عمل‬
‫خادماً عند أحد وكبلء النيابة والشرطة جادة ُب البحث عنو‪ ،‬وكانت‬
‫وزارة الداخلية تذكر أوصافو ُب نشراهتا اإلدارية ليساعدىا اعبمهور‬
‫ُب القبض عليو"‬

‫"تقوؿ إحدى ىذه النشرات عنو‪:‬‬


‫مسل‬
‫مصري اعبنسية من رعاي اغبكومة احمللية‬
‫صناعتو ‪ :‬مدرس‬
‫إقامتو ‪ :‬عابدين‬
‫عمره ‪ 33 :‬سنة‬
‫متوسط القامة واعبس‬
‫قمحي اللوف‬
‫أسود الشعر‬
‫‪481‬‬
‫مستطيل الوجو‬
‫متوسط اعببهة‬
‫مفتوح اغباجبْب‬
‫عسلي العينْب سليمهما‬
‫كبّب األنف‬
‫واسع الف‬
‫خفيف الشارب‬
‫حليق اللحية‬
‫ُب وجهو آاثر اعبدري‬
‫ُب شفتو العليا من اعبهة اليمُب أثر النحاـ‬
‫(جريدة احملروسة ُب ‪- 4 – 9‬‬
‫‪)1916‬‬

‫"وما كاف أيسر على حافظ قبيب من أف يغّب من ىذه‬


‫األوصاؼ‪ .‬على أف الصحف انتقدت ىذه النشرة‪ ،‬وقالت إف عمره‬
‫أكثر من ذلك‪ ،‬وأنو تغّب ُب كل شيء"‪.‬‬

‫"وكاف حافظ قبيب مادة صحفية خصبة‪ ،‬إذ تسابقت‬


‫الصحف ُب تتبع أخباره وتسجيل حوادثو‪ ،‬وإجراء التحقيقات‬
‫الصحفية معو عند القبض عليو‪ ،‬وعقد موازانت بينو وبْب احملتالْب‬
‫‪7/ 14‬‬ ‫العاؼبيْب مثل النصاب الباريسي اؼباير (احملروسة ُب‬

‫‪482‬‬
‫‪ ،)9.19/‬وىناؾ من طالب بتشديد عقوبة اؼبادة (‪ )293‬من‬
‫القانوف لردع النصابْب"‪.‬‬

‫"وردبا طوؿ الصحفيوف وىولوا ونسبوا إليو ما مل يفعلو‪ ،‬فما‬


‫من حادثة نصب وقعت إال وقرف هبا اس حافظ قبيب‪ ،‬ووصل األمر‬
‫إىل حد أف الصحفي اللبناٍل جورج طنوس وضع عنو كتاابً أطلق‬
‫عليو‪" :‬الراىب اؼبسل " صدر عاـ ‪ 1910‬صبع فيو نوادره وأشارت‬
‫إليو ؾبلة اؽببلؿ عدد يوليو ‪ 1910‬ص ػ ‪."607‬‬

‫"وُب عاـ ‪ 1912‬وىو عاـ نشر ىذين الكتابْب‪ ،‬كاف يسكن‬


‫دبصر القديبة‪ ،‬وكانت ترعاه سيدة اظبها‪" :‬وسيلة دمحم" أثناء مرضو‪،‬‬
‫وتطور األمر فتزوج منها‪ ،‬وكاف قد اشتهر ُب ىذه الناحية ابلتقوى‬
‫والورع‪ ،‬وأطلق غبيتو وضبل اس الشيخ عبد هللا اؼبنوُب‪ .‬وىذه‬
‫السيدة ىي الٍب ضبلت أظبي كتابيو اؼبشار إليهما‪ ،‬وكاف ىناؾ كتاب‬
‫اثلث ربت الطبع عنوانو‪" :‬الناشئة" مل يظهر النور"‪.‬‬

‫"والسبب ُب ذلك أف أحد عارفيو وشى بو عند الشرطة‪،‬‬


‫فجاء الضابط كارتيو وربدث إليو وعندما ربقق منو ألقى القبض‬
‫عليو‪ ،‬وسبت مساءلتو ومساءلة زوجتو‪ ،‬وتكشف أمر الكتب الٌب‬
‫طبعت أو الٍب قيد الطبع‪ ،‬وعرؼ الناس اغبقيقة‪ ،‬أما قبيب مَبى‬

‫‪483‬‬
‫فقد أدىل حبديث صحفي جمللة عدد ‪ 1912 / 12 /15‬شرح فيو‬
‫ظروفو ومبلبسات طباعو الكتابْب‪ ،‬وذكر أنو بذؿ عدة ؿباوالت‬
‫ليلتقى بوسيلة دمحم فل يستطيع وعند تسلي حقوؽ اؼبؤلف أو‬
‫اؼبعرب حضرت إليو وسيلة دمحم نفسها مدعية أهنا من طرفها‪.‬‬

‫وقد اعَبؼ حافظ ‪٪‬بيب نفسو بتأليف ىذه الكتب وذلك أثناء‬
‫حديث صحفي‪:‬‬

‫* ظبعت أنك أصدرت كتابْب ابس وسيلة دمحم‬

‫* نع ‪.‬‬

‫* الناشئة‬

‫* وىل أنت الذي كتبت الكتابْب اؼباضيْب‬

‫نع ألنِب كتبت ما أعتقد‪)44(.‬‬

‫وُب مقاؿ مهم نشر بعد تصاعد الضجة الٍب أخذت بعد دولياً‬
‫حوؿ مسلسل "فارس ببل جواد" ا‪٤‬بقتبس عن‪" :‬اعَبافات حافظ‬
‫قبيب" كشف الصحاُب ا‪٤‬بصري ا‪٤‬بعروؼ األستاذ صبلح عيسى عن‬
‫جانب غّب معروؼ من حياة حافظ ‪٪‬بيب فقاؿ بعد استعراض سريع‬
‫حملتوى الرواية‪" :‬وبفضل ذلك كلو أصبح حافظ قبيب شخصية شهّبة‬

‫(‪ )44‬جريدة احملروسة ‪.1912 / 12 /3‬‬


‫‪484‬‬
‫يتداوؿ الناس اظبها‪ ،‬ويضيفوف إليها من خياؽب وقائع نصب واحتياؿ‬
‫وجرائ سرقة مل ربدث حٌب زبلقت صورتو ُب ذىن اعبيل الذي عاش‬
‫خبلؿ العقدين األولْب من القرف اؼباضي ابعتباره نصااب عاؼبياً"‪.‬‬

‫ويستطرد صبلح عيسى‪" :‬وظل اغباؿ كذلك‪ ،‬إىل أف قرر‬


‫حافظ قبيب ُب عاـ ‪ 1913‬أف وبس موقفو وأف يسل نفسو‬
‫للشرطة ليصفي ما تراك ضده من أحكاـ غيابية ابغببس ُب قضاي‬
‫لفقتها لو األمّبة الروسية"‪ ،‬و"اؼبؤكد أنو قد عاود الظهور على شاشة‬
‫اغبياة اؼبصرية العامة منذ بداية العشرينات ليحاوؿ إعادة بناء حياتو‬
‫مستثمراً شهرتو اؼبدوية‪ ،‬فأنشأ فرقة مسرحية كانت تتجوؿ ُب‬
‫األقالي ‪ ،‬وصحيفة أسبوعية استمرت تصدر أربع سنوات‪ ،‬وشارؾ ُب‬
‫ربرير غّبىا‪ .‬بل أصدر سلسلة روايت بوليسية ابس ‪":‬روايت حافظ‬
‫قبيب"‪ ،‬كاف يتخذ من نفسو بطبلً ؽبا‪ ،‬وينسب لنفسو ُب سياقها‬
‫أعماالً خارقةً ُب مقاومتو الشرطة وُب فضح اعبواسيس‪ ،‬مقلداً بذلك‬
‫الشخصيات الشهّبة الٍب قامت ببطولة الروايت البوليسية مثل‬
‫شرلوؾ ىوؼبز"‪.‬‬

‫ويصف صبلح عيسى ىذه الرواايت بقولو‪" :‬ولعلها من‬


‫األعماؿ الرائدة الٍب ال تزاؿ بعيدة عن اىتماـ دارسي تطور الرواية‬
‫العربية‪ ،‬وقد وجدت منها ُب مكتبٍب واحدة منها بعنواف‪" :‬كنوز‬
‫‪485‬‬
‫السلطاف عبد اغبميد" صدرت ُب عاـ ‪ 1937‬يشّب إىل أهنا‬
‫السادسة من السلسة ذاهتا‪ ،‬الٍب يبدو أهنا كانت تصدر أسبوعية أو‬
‫نصف شهرية"‪)45(.‬‬

‫وعلى صفحات "جريدة البياف" اإلماراتية كتب ا‪٤‬بؤلف الدرامي‬


‫ا‪٤‬بعروؼ األستاذ ‪٧‬بفوظ عبد الر‪ٞ‬بن مقاالً من حلقات ثبلث بعنواف‪:‬‬
‫"حافظ قبيب الذي ال يعرفو أحد"‪ ،‬مر فيو على قضااي عديدة ُب‬
‫سّبتو‪ ،‬وتناوؿ جوانب من شخصيتو ابلتحليل‪ .‬و‪٩‬با جاء فيو‪" :‬كنت‬
‫دائماً أشاكس الدكتور يوانف لبيب رزؽ أستاذ التاريخ اغبديث‬
‫وأرفض رفضو لفكرة أف التاريخ يعيد نفسو‪ ،‬وأظن أف كلينا على‬
‫حق‪ .‬من ذلك كلو أرى التاريخ بناءً ىائبلً ترى منو حسب اؼبوقع‬
‫الذي تقف فيو‪ ،‬ولقد لفت نظري بعض (التواريخ) إذا صح التعبّب‬
‫الٍب تكوف ملء السمع والبصر‪ٍ ،‬ب تذوب مع الوقت فبل يبقى‬
‫منها"‪.‬‬

‫"وردبا كانت ىذه اؼبقدمة مدخبلً ألحدثك عن حافظ قبيب‪،‬‬


‫وال تقل يل إنك تعرؼ حافظ قبيب‪ ،‬فهذا سيصيبِب بدىشة كبّبة‪،‬‬
‫فلقد ذكرت اظبو حٌب بْب بعض اؼبهتمْب ابلتاريخ‪ ،‬فل يذكره من بْب‬

‫(‪ )45‬جريدة القاىرة ‪ -‬مقاؿ‪ :‬التاريخ على واحدة ونص ‪ -‬بقل ‪ :‬صبلح‬
‫عيسى ‪ -‬العدد ‪ - 2002 - 11 - 12 - 135‬ص ‪.24‬‬
‫‪486‬‬
‫العشرات إال قلة أحدى صاح قائبلً‪ :‬لقد كاف صديقا لوالدي‪،‬‬
‫وآخر قاؿ لقد ظبعت حسن أماـ عمر يتكل عنو‪ ،‬واثلث قاؿ‪ :‬لقد‬
‫مر اظبو علي مرات وأان أعد كتاابً عن اتريخ الشرطة‪ .‬ومل يكن اغباؿ‬
‫ىكذا منذ سنوات‪ ،‬أذكر أف والدي أخذٍل معو ُب زيرة إىل إحدى‬
‫القرى‪ ،‬ال أذكر اظبها‪ ،‬وأظن أنِب كنت ُب العاشرة أو بعدىا بعاـ‪،‬‬
‫وكانت اعبلسة كلها عن حافظ قبيب‪ ،‬وال أذكر من ىذه النزىة إال‬
‫اس حافظ قبيب"‪.‬‬

‫ويستطرد ‪٧‬بفوظ عبد الر‪ٞ‬بن‪" :‬سألت والدي عن حافظ قبيب‬


‫فقاؿ يل إبعجاب إنو أعظ من آرسْب لوبْب‪ .‬وكنت أعرؼ أرسْب‬
‫لوبْب وعرفتو أكثر فيما بعد‪ ،‬لقد كاف البطل الشعيب ُب زماننا‪ ،‬اللص‬
‫الشريف الذي يسرؽ من أجل اػبّب‪ ،‬ووبقق العدالة ويقوـ دبغامرات‬
‫ال يصدقها العقل‪ .‬ومل يكن ينافس أرسْب لوبْب إال شرلوؾ ىوؼبز‪،‬‬
‫وىو شخص ذكي يكشف أصعب اعبرائ "‪" ،‬اؼبه أف حافظ قبيب‬
‫غاب من الذاكرة العامة حٌب اختفي سباماً بعد أف كاف ينافس ارسْب‬
‫لوبْب ُب الشهرة‪ ،‬وقد يدىشك أف تعرؼ أف حافظ قبيب كاف أيضاً‬
‫انشراً ومَبصباً‪ ،‬أي انو كاف سهبلً عليو نشر كتاب‪)46(.‬‬

‫(‪ )46‬جريدة البياف اإلماراتية ‪ 8‬مارس ‪.1998‬‬


‫‪487‬‬
‫وىو يقارف ُب ا‪٢‬بلقة الثانية من مقالو بْب حافظ ‪٪‬بيب و"سفاح‬
‫اللص والكبلب" ‪٧‬بمود أمْب سليماف‪ ،‬فيقوؿ‪" :‬لقد كنت متابعاً‬
‫ألحداث من ظبي ُب زمنو ابلسفاح‪ ،‬وكاف اظبو ؿبمود أمْب سليماف‬
‫وقيل إنو ادعى ُب فَبة من الفَبات أنو ؿبمود أمْب العامل الناقد‬
‫واؼبفكر الكبّب‪ ،‬وىناؾ ما هبعلنا نصدؽ ىذا فلقد كاف ؿبمود أمْب‬
‫(السفاح)‪ ،‬انشراً قبل أف يصبح سفاحاً‪ ،‬وال أدري العبلقة بْب‬
‫اؼبهنتْب ! وكاف مكتبو ُب بناية شهّبة ُب وسط القاىرة تسمى (عمارة‬
‫سَباند)‪ ،‬وكاف جمللة (الشهر)‪ ،‬الٍب عملت فيها فَبة مكتب ُب ىذه‬
‫البناية‪ ،‬فأصبحت جاراً عبّباف ؿبمود أمْب سليماف وبكوف يل عنو‬
‫وعن أخباره‪ ،‬وتشاء الصدفة أف يكوف ذلك مع بدء مغامرات ؿبمود‬
‫أمْب سليماف وكيف أنو سطا على ىذا القصر فتصرؼ كأي‬
‫جنتلماف"‪.‬‬

‫"وكيف أنو اقتح ىذا اؼبكاف رغ اغبراسة اؼبشددة عليو‪.‬‬


‫وكيف أنو ىرب من قصر العيِب رغ حصاره‪ .‬كيف أف الشرطة‬
‫وصلت إىل مقره فعبلً‪ ،‬فأخذت بعض مبلبسو ووضعتها أماـ أنوؼ‬
‫الكبلب البوليسية‪ ،‬لكي تتابعو حيث ىو‪ ،‬لكنو أفشل ىذا العمل‬
‫قبل أف يبدأ‪ ،‬ذلك أنو أغرؽ مبلبسو قبل اؽبرب ابلعطور فبا ضلل‬
‫الكبلب‪ .‬وألف رئيس ربرير ؾبلة (الشهر) وصاحبها كاف سعد الدين‬
‫‪488‬‬
‫وىبة‪ ،‬وكاف آنئذ قريب عهد بعملو ُب الشرطة‪ ،‬فكاف على اتصاؿ‬
‫ابلداخلية ؼبعرفة أخباره‪ ،‬وكلما عرفنا أنو ؿباصر أصابنا االنزعاج‬
‫الشديد‪ ،‬وكلما عرفنا أنو ىرب من اغبصار‪ ،‬أحسسنا ابلراحة‪ ،‬ولقد‬
‫أدىشتِب ىذه األحاسيس"‪.‬‬

‫ويستطرد‪" :‬وردبا كانت ألننا كنا نرى ُب ؿبمود أمْب سليماف‬


‫البطل الذي وبتج ابظبنا‪ ،‬ومل يفسد ىذه الصورة أبداً‪ ،‬فل يعتد على‬
‫ضعيف‪ ،‬ومل يستغل أية فرصة‪ ،‬ومل يسرؽ أكثر من حاجتو‪ ،‬وأحياانً‬
‫أكثر من حقو‪ ،‬وكاف أذكى من مطارديو‪ ،‬وأكثر جرأة‪ .‬ويوـ طاردت‬
‫الشرطة ؿبمود أمْب سليماف إىل مغارات الصحراء‪ٍ ،‬ب قتلتو‬
‫ابلرصاص‪ ،‬بكينا صبيعاً‪ ،‬وفيما بعد كتب عنو قبيب ؿبفوظ "اللص‬
‫والكبلب"‪ ،‬ونشرت "أخبار اليوـ" اػبرب ُب مانشيت يقوؿ‪" :‬مصرع‬
‫السفاح"‪ ،‬أما اؼبانشيت الثاٍل فكاف ربتو مباشرة وىو "عبد الناصر‬
‫ُب الباكستاف"‪ ،‬فأصبح اؼبانشيت كما لو كاف‪ :‬مصرع السفاح عبد‬
‫الناصر ُب الباكستاف!!"‬

‫وىو كذلك يقارف بينو وبْب "فتوة اغبسينية" فيقوؿ‪" :‬وإذا كاف‬
‫الشيء ابلشيء يذكر‪ ،‬فلقد استمتعت دبذكرات أمبلىا يوسف أبو‬
‫حجاج "فتوة اغبسينية" ُب الفَبة نفسها الٍب يتحدث عنها حافظ‬
‫قبيب تقريباً‪ ،‬وقد حكى فيها يوسف أبو حجاج بْب ما حكى‬
‫‪489‬‬
‫مشاركتو ُب ثورة ‪ 1919 ،‬وىذا يذكران حبديث حافظ قبيب عن‬
‫دوره ُب اغبزب الوطِب وخلطو ىذا الدور دبغامراتو‪ ،‬فهل كانت ىذه‬
‫اؼبغامرات احتجاجاً فرديً على االستعمار الربيطاٍل !"‬

‫أما ٘بربة دخوؿ الدير فيصفها قائبلً‪" :‬مغامرة حافظ قبيب ُب‬
‫دخوؿ الدير وعدـ كشفو أكرب مغامرة قرأت عنها"‪ ،‬ورغم اضطراره‬
‫لَبؾ حياة الرىبنة‪" :‬ولكن تفكّبه ُب ىذا‪ ،‬وؿباولتو‪ ،‬هبعبلنو ُب الصف‬
‫األوؿ من اؼبغامرين"‪.‬‬

‫وعندما يصل إذل ‪٧‬بطة زواجو من الكونتيس سيجريس يسجل‬


‫‪٧‬بفوظ عبد الر‪ٞ‬بن مبلحظة ذكية ىي أاها‪" :‬اؼبرة الوحيدة الٍب يشّب‬
‫فيها حافظ قبيب إىل الزواج ُب مذكراتو الٍب أعتقد أهنا أغرب‬
‫مذكرات نشرت ُب ىذا القرف"‪ ،‬وىو ينتقل من مضموف االعَبافات‬
‫لطبيعة أسلوب كاتبها‪ ،‬فيقوؿ ‪٧‬بفوظ‪" :‬وحافظ قبيب كاتب ليس لو‬
‫منطق ؿبدد‪ ،‬فأحياانً يروي أدؽ التفاصيل عن البيت الذي يعيش فيو‬
‫أقاربو‪ ،‬وأحياانً يفعل ذلك ُب كيفية ىروبو من السجن‪ ،‬أو خداعو‬
‫لوكيل النائب العاـ‪ ،‬ولكنو ُب اؼبقابل يلخص األحداث تلخيصاً‬
‫ـببلً"‪.‬‬

‫‪490‬‬
‫ويرصد أيضاً مبلمح نفسية للكاتب من خبلؿ استنطاؽ سطور‬
‫النص فيعلق على ما كتبو بعد وفاة الزعيم الوطِب مصطفي كامل قائبلً‪:‬‬
‫"وتبػكي مػصر كلها ىذا الشاب الوطِب‪ .‬وألوؿ مرة قبد حافظ قبيب‬
‫يصف مشاعره‪ .‬فيما قبل كاف يقوؿ ‪:‬أعجبت‪ ،‬تضايقت‪ ،‬أحببت‪.‬‬
‫أما اآلف فهو يكشف عن مشاعره ابلتفصيل‪ .‬بل كتب قصيدة راثء‬
‫للزعي الوطِب"‪)47(.‬‬

‫‪2016/20/10‬‬

‫وكاف لنجيب ‪٧‬بفوظ ُب صغره أربع ىواايت‪ ،‬لعب الكرة ُب‬


‫الشارع‪ ،‬و‪٠‬باع اسطواانت سيد درويش وسبلمة حجازي ومنّبة ا‪٤‬بهدية‬
‫وىواية القراءة جعلتو يلتهم كل ما كتب "حافظ قبيب" ‪.... ....‬‬
‫"أصلو‪ ،‬وال مؤاخذة‪،‬كاف يعِب‪ ،‬وال مؤاخذة زي ما تقويل كده‪ ،‬كاف‬
‫حرامي‪ ،‬حرامي مثقف‪ ،‬ابرع‪ ،‬عبقري‪ ،‬دوخ اغبكومة حٍب عقدت‬
‫معاه صلح عشاف تراتح منو علي شرط إنو يتوب‪ ،‬وفعبل اتب وصار‬
‫أشهر مؤلف قصص بوليسية‪ ،‬ومن أشهر مؤلفاتو‪" :‬جونسوف"‪،‬‬

‫(‪ )47‬جريدة البياف اإلماراتية ‪ 22‬مارس ‪.1998‬‬


‫‪491‬‬
‫و"ىيلتوف توب"‪ ،‬و"مغامرات حافظ قبيب"!(‪ )48‬وُب حوار اندر‬
‫للكاتب الكبّب ‪٪‬بيب ‪٧‬بفوظ مع األديب توفيق ا‪٢‬بكيم‪ٙ ،‬بدث فيو عن‬
‫سبب تسميتو ابسم "قبيب ؿبفوظ" وىو على اسم الطبيب الذي ولّد‬
‫أمو‪ ،‬ويتذكر ‪٧‬بفوظ أف ىناؾ رواية ‪٠‬بعها من والدتو أبف ا‪٠‬بو كاف‬
‫"حافظ قبيب" على اسم أشهر لص ُب القاىرة ُب ذلك الوقت‪)49(.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫بنسب إذل "حافظ قبيب" ذلك ّ‬
‫اللص السجْب‪،‬‬ ‫ين ‪٪‬بيب ‪٧‬بفوظ‬ ‫ويَد ُ‬
‫‪٨‬بادع الشرطة ا‪٤‬بشهور‪ ،‬ومؤلّف اثنتْب وعشرين رواية بوليسية حيث كاف‬
‫أوؿ ا‪٤‬بؤثّرات األدبية عليو‪ .‬وقد قرأ ‪٪‬بيب ‪٧‬بفوظ‪ُ ،‬ب عمر العاشرة‪ ،‬وىو‬
‫صغّب‪ ،‬رواية حافظ ‪٪‬بيب "ابن جونسوف"‪ ،‬بتوصية من زميل دراسة ُب‬
‫غّبت ىذه التجربة‪ ،‬ابعَباؼ ‪٪‬بيب ‪٧‬بفوظ‬ ‫ا‪٤‬برحلة االبتدائية‪ ،‬ولقد ّ‬
‫سجلها مع دمحم سلماوي‪،‬‬
‫نفسو‪٦ ،‬برى حياتو ‪ُ( .‬ب أحد حواراتو‪ ،‬الٍب ّ‬

‫(‪ )48‬ؿبفوظ‪ :‬أعظ قاص بوليسي التهمت كتاابتو‪ ..‬طلع المؤاخذة حرامي!‬
‫– ؾبلة "صباح اػبّب" – ‪ – 1957 /10/ 24‬نقبلً عن اؼبوقع اإلخباري عبريدة‬
‫األخبار اؼبصرية – الرابط‪:‬‬
‫‪https://akhbar.akhbarelyom.com/newdetails.‬‬
‫‪aspx?id=293808‬‬
‫(‪ )49‬ابلصوت‪ ..‬ؿبفوظ‪ :‬اظبي كاف "حافظ قبيب" على اس أشهر لص ُب‬
‫القاىرة – تقرير‪ :‬مي عبد الرضبن – جريدة فيتو اؼبصرية – ‪ – 2013 /8 30‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.vetogate.com/555863‬‬
‫‪492‬‬
‫كتااب ُب عل اغبشرات‪ ،‬ردبا تش ّك َل‬
‫قاؿ ‪٧‬بفوظ‪" :‬أضبد هللا أهنا مل تكن ً‬
‫مستقبلي بطريقة أخرى")‪)50(.‬‬

‫وُب حواره ا‪٤‬بنشور بكتاب‪" :‬بيت حافل ابجملانْب" الذي تر‪ٝ‬بو‬


‫وقدـ لو أ‪ٞ‬بد شافعي (صدر عن ا‪٥‬بيئة العامة للكتاب‪ )2016 ،‬تقدـ‬
‫احملاورة ‪٢‬بديثها مع ‪٪‬بيب ‪٧‬بفوظ أبنو كاف يعترب "حافظ قبيب" اللص‬
‫الشهّب والسجْب الذي دوخ الشرطة "البوليس اؼبصري" وألف اثنتْب‬
‫وعشرين رواية بوليسية ىو صاحب أوؿ أتثّب أديب عليو‪ .‬ومن يراجع‬
‫معظم ا‪٢‬بوارات واألحاديث الٍب أدذل هبا ‪٪‬بيب ‪٧‬بفوظ ُب مناسبات‬
‫متعددة و‪٨‬بتلفة‪ ،‬وىي تعد ابلعشرات‪ ،‬سيجد ُب كثّب منها استدعاءات‬
‫‪٤‬بشاىد خاصة ُب طفولتو وسنوات نشأتو األوذل‪ ،‬وفيها كلها أشار ‪٪‬بيب‬
‫‪٧‬بفوظ بكثّب من االحَباـ وا‪٢‬بنْب إذل أتثره الشديد هبذه الشخصية ا‪٤‬بثّبة‬
‫وشغفو ابلقراءة ‪٥‬با وعنها‪)51(.‬‬

‫(‪ُ )50‬ب حوار نشرتو "ابريس ريفيو" ابلفرنسية عاـ ‪ – 1992‬قبيب ؿبفوظ‪:‬‬
‫تعلمت من سبلمة موسى اإليباف ابلعل واالشَباكية والتسامح – ‪– 2013/11/25‬‬
‫الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/01f571dc- -‬‬
‫‪6eb5-49f9-9f51-‬‬
‫‪bfb99a35a4c4#sthash.O68g1awC.dpuf‬‬
‫(‪ )51‬اللص الذي أحبو قبيب ؿبفوظ (‪ )1‬إيهاب اؼببلح – مقاؿ – ‪/8 /3‬‬
‫‪ – 2016‬جريدة اليوـ اعبديد اؼبصرية – الرابط‪:‬‬
‫‪493‬‬
‫ويضيف الكاتب إيهاب ا‪٤‬ببلح تفاصيل أكثر ثراء فيما يتصل‬
‫ٕبياة حافظ ‪٪‬بيب قائبلً‪" :‬حينما كنت أعد كتايب عن (دار اؼبعارؼ ػ‬
‫‪ 125‬عاماً من الثقافة) فوجئت بورود اس األستاذ حافظ قبيب‬
‫ضمن قائمة كبار مؤلفي (مطبعة اؼبعارؼ ومكتبتها) الذين تعاونوا‬
‫معها وأخرجوا كتبه فيها‪ ،‬وجاء التعريف بو والتنويو سأثره ُب القائمة‬
‫اؼبذكورة كما يلي‪" :‬ىو ذلك األديب الذي دارت بينو وبْب الدىر‬
‫دوي شديد‪ ،‬ومدى بعيد‪ ،‬وحديث طويل‬ ‫معارؾ ىائلة‪ ،‬كاف ؽبا ّ‬
‫عريض‪ ،‬لو خاض غمارىا ِسواه من ذوي اغبيلة الضيقة لسقط ساعتو‬
‫الفجر‬
‫ُ‬ ‫خائر العزـ متحط القوى‪ ،‬ولكنو خرج منها بدىائو كما ىبرج‬
‫من جوؼ الليل وبْب أانملو قل األديب البارع والصحاُب اؼباىر‬
‫والكاتب االجتماعي القدير‪ .‬أما أسلوبو ُب اإلنشاء فهو األسلوب‬
‫الراقي العذب‪ .‬ومن آاثر قلمو طائفةٌ قيمةٌ من الكتب ُب موضوعات‬
‫شٌب اجتماعية وأخبلقية‪ ،‬تن عن شعور رقيق ‪ ... ...‬ولو ُب‬
‫الصحف واجملبلت مباحث وجوالت تشهد لو ابلرباعو وحدة‬
‫الذكاء""‪)52(.‬‬

‫‪http://www.elyomnew.com/articles/57318‬‬
‫(‪ )52‬اللص الذي أحبو قبيب ؿبفوظ (‪ )1‬إيهاب اؼببلح – مقاؿ – مصدر‬
‫سبق ذكره‪.‬‬
‫‪494‬‬
‫كاف الفتا ابلنسبة رل أف تكوف الكتب ا‪٣‬بمسة األىم الٍب‬
‫نشرىا حافظ ‪٪‬بيب قد صدرت كلها عن (مطبعة ا‪٤‬بعارؼ ومكتبتها‬
‫ابلفجالة)‪ُ ،‬ب ذلك التوقيت الباكر من رحلة النشر والطباعة ُب مصر‬
‫والعادل العريب‪.‬‬

‫وجدت من ضمن ما وجدت عن سّبتو ا‪٤‬بثّبة‬


‫ُ‬ ‫ويضيف ا‪٤‬ببلح‪،‬‬
‫ما أوردتو ‪٦‬بلة "الزىور" (واحدة من أعرؽ اجملبلت الثقافية ُب الربع‬
‫ائعا‬
‫تلخيصا ر ً‬
‫ً‬ ‫األوؿ من القرف العشرين) ُب عدد من أعدادىا الثرية‪،‬‬
‫لسّبتو‪ ،‬وكشفت السر وراء شهرتو‪ ،‬والظروؼ الٍب ربطت بينو وبْب‬
‫(مطبعة ا‪٤‬بعارؼ ومكتبتها)‪ ،‬والسبب ُب إطبلقها عليو لقب‪" :‬النابغة ُب‬
‫االحتياؿ"‪ .‬كتب ‪٧‬برر ‪٦‬بلة "الزىور" يقوؿ‪" :‬ؼبا سألنا قراءان ىذه‬
‫السنة عن النوابغ ُب مصر‪ ،‬أجابنا كثّبوف منه ذاكرين حافظ قبيب‬
‫فذ ُب ِ‬
‫اببو‪ ،‬يُػ َعد أرسْب‬ ‫النابغة ُب االحتياؿ‪ .‬واغبق يُقاؿ أنوُ لنابغةٌ ٌّ‬

‫لوبْب واللص الشريف وسائر أبطاؿ روايت البوليس السري عياالً‬


‫ِ‬
‫الهتامو‬ ‫عليو‪ .‬كانت احملاك قد حكمت ِ‬
‫عليو ثبلثة أحكاـ غيابية‬ ‫ِ‬
‫ابلنصب واالحتياؿ ُب حوادث غريبة الوقائع‪ ،‬وحكمت ِ‬
‫عليو مرة‬
‫ِ‬
‫سجنو ُب ‪ 27‬دظبرب سنة‬ ‫حضوريً‪ ،‬ولكنوُ سبكػ ػن من الفرار من‬ ‫حكماً‬
‫ّ‬
‫‪ ،1907‬وظل طبس سنوات يتنقل ُب القطر اؼبصري والبوليس‬
‫ين ّقب عنُو وىو يواصل أعمالو الغريبة‪ .‬ذىب إثر ىربو من السجن‬

‫‪495‬‬
‫إىل الوجو البحري؛ ودخل ُب دير أشواري‪ ،‬وادعى أنوُ راىب واظبوُ‬
‫غربيؿ جرجس وبقي ىناؾ بضعة شهور اكتسب ُب خبلؽبا ثقة‬
‫اعبميع‪ ،‬حٌب أصبح صاحب الكلمة اؼبسموعة وحي ٍ‬
‫نئذ احتاؿ على‬
‫احملرؽ‬
‫رئيس الدير وأخذ مبلغ ستمئة جنيو واختفى‪ٍ .‬ب قصد دير ّ‬
‫متخذاً اس الراىب غايل جرجس‪ ،‬وراسل من ىناؾ بعض صحف‬
‫العاصمة‪ ،‬وكاف لو كتاابت تُذكر ُب موضوع اػببلؼ الذي كاف قائماً‬
‫ُب ذلك العهد بْب اعبرائد اإلسبلمية واعبرائد القبطية‪ .‬وؼبا افتضح‬
‫أمره‪ ،‬غادر الدير واختفى أثرهُ‪ ،‬إىل أف كاف اليوـ العاشر من شهر‬
‫أكتوبر اؼباضي‪ .‬فقد بلغ البوليس أف حافظاً موجود ُب دائرة قس‬
‫متنكر وبَبؼ حرفة درويش يعطي عهوداً فهاصبتوُ‬
‫مصر القديبة‪ ،‬وىو ٌ‬
‫قوة من رجاؿ البوليس‪ ،‬فوجدوه ؿباطاً بعدد كبّب من الدراويش ُب‬
‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬
‫عاؿ هللا! هللا!‬ ‫حلقة ذكر‪ ،‬وؼبا رآى مقبلْب ِ‬
‫إليو‪ ،‬أخذ يكرب‬
‫عليو‪ ،‬ادعى أنوُ الشيخ عبد هللا إبراىي من اؼبنوفية‪ ،‬وأف‬‫وؼبا قبضوا ِ‬

‫إدعاءه ىذا مل ُهب ِده نفعاً‪ ،‬وسيق‬


‫َ‬ ‫ىبلق من الشبو أربعْب‪ .‬على أ ّف‬
‫هللا ُ‬
‫إىل السجن‪ .‬وكاف مدة إقامتو ُب مصر العتيقة قد اقَبف إبحدى‬
‫اتو ‪ -‬وىي ذبهل حقيقة أمره ‪ -‬ورزؽ منها ابنة ظباىا "عزيزة"‬ ‫جار ِ‬

‫وىي اآلف ُب حوؽبا الثاٍل‪ .‬ىذا شيءٌ قليل من نوادر ىذا الرجل‬

‫‪496‬‬
‫الغريبة‪ .‬وما كنا لنشغل هبا قراء شبرات اؼبطابع لوال أف الرجل كاتب‬
‫بليغ‪ ،‬ولو مصنّفات نفيسة"‪)53(.‬‬

‫وقد قرر حافظ – عاـ ‪ – 1913‬أف يتحدى االهتامات الٌب‬


‫وجهها إليو خصومو‪ ،‬وأف يكف عن ا‪٤‬بداعبات الٍب كاف يقوـ هبا معهم‪،‬‬
‫على نسق ا‪٤‬بداعبات الٍب كاف يقوـ هبا "آرسْب لوبْب" مع رجاؿ الشرطة‬
‫ُب سلسلة الرواايت الٍب ألفها الكاتب الفرنسي "موريس لببلف" وأف‬
‫يظهر بشخصيتو ا‪٢‬بقيقية‪ ،‬بعد أف ظل لسنوات يستخدـ أ‪٠‬باء تنكرية‪،‬‬
‫ويتفرغ للكتابة والصحافة والَب‪ٝ‬بة‪ ،‬وىو ما فعلو على امتداد أكثر من‬
‫ثبلثْب عاماً تلت ذلك‪ ،‬وحٌب وفاتو عاـ ‪ .. 1946‬فأصدر ُب النصف‬
‫األوؿ من العشرينيات ‪٦‬بلتْب أسبوعيتْب ٮبا‪" :‬الراوي" و"العاؼبْب"‬
‫وسلسلة رواايت بعنواف‪" :‬روايت حافظ قبيب"‪)54(.‬‬

‫الزاوية الثالثة‪:‬‬

‫مبلحظات عابرة على الرواية‬

‫(‪ )53‬اللص الذي أحبو قبيب ؿبفوظ (‪ )1‬إيهاب اؼببلح – مقاؿ – مصدر‬
‫سبق ذكره‪.‬‬
‫(‪ )54‬مصر واغببشة‪ :‬اؼبغامر والزعي واؼبطراف! – صبلح عيسي – مقاؿ ‪-‬‬
‫جريدة األيـ البحرينية ‪ -‬العدد ‪.2015 /1 /22 – 9419‬‬
‫‪497‬‬
‫ُب حياة حافظ ‪٪‬بيب ‪٧‬بطات ال مفر من الوقوؼ عندىا‪ ،‬فالكتاابف‬
‫اللذاف ألفهما ُب الفلسفة يدفع إذل القبوؿ بنسبتهما إليو أف اعَبافاتو مليئة‬
‫اب‪٤‬ببلحظات الٍب ال تصدر إال عن ذىن متأمل متفلسف وإف جنت عليها‬
‫الطبيعة ا‪٤‬بثّبة لبلعَبافات‪ .‬ففي كلمة تسبق االعَبافات ‪ٙ‬بمل عنواف "كلمة‬
‫صروبة" يقوؿ‪:‬‬

‫"ُب ماضي كثّب من األخطاء وقليل ال يشرؼ ذكره وال يفيد الناس‬
‫عرضو وحب الذات يقتضي كتمو ونسيانو"‪.‬‬

‫وىو يقارف بْب الراقصة الٍب يرمز ‪٥‬با برمز (ف) ُب رغبتها امتبلؾ طبلب‬
‫ا‪٤‬بدرسة ا‪٢‬بربية وامتبلؾ الربنسيس فيزنسكي إايه فيقوؿ‪:‬‬

‫"اعتمدت الراقصة (ف) على األنوثة واػببلعة المتبلؾ كتائب‬


‫من الشباب اراتحت نفسها للحصوؿ عليها ‪ ...‬واعتمدت ىذه‬
‫األمّبة على العقل والصرب واؼباؿ واغبيلة لتمتلك شاابً واحداً رغبت‬
‫ُب اغبصوؿ عليو ‪"..‬‬

‫"ىدؼ اؼبرأتْب واحد‪ :‬ىو الرغبة ُب االمتبلؾ‪ ،‬والباعث واحد‪:‬‬


‫ىو االرتياح ُب االشتهاء‪ ،‬إمبا تنوعت الوسائل بسبب اختبلؼ‬
‫العقليتْب واؼبدنيتْب والثروتْب‪ .‬يدفع كل إنساف شبن ما يرغب فيو‪ ،‬ال‬

‫‪498‬‬
‫بنسبة ما تساويو قيمتو الذاتية‪ ،‬إمبا بنسبة مقدار الرغبة فيو واإلصرار‬
‫على ربقيق ىذه الرغبة‪ ،‬وتصدؽ ىذه النظرية ُب ربديد أشباف شراء‬
‫اؼبعادف النفيسة‪ ،‬واغبجارة الكريبة‪ ،‬واغبيواف‪ ،‬واإلنساف أيضاً‪ .‬وبقدر‬
‫قوة الرغبة ُب السلعة اؼبختارة يكوف مقدار اؼبعزة والعناية ابالحتفاظ‬
‫هبا سليمة"‪.‬‬

‫وٰبلل عبلقة ا‪٢‬بب ‪ٙ‬بليبلً يثّب اإلعجاب ‪٤‬با فيو من معرفة بطبيعة‬
‫النفس اإلنسانية‪ ،‬فهو يقارف بْب حب الشباب وحب الكهوؿ فيقوؿ‪" :‬كل‬
‫خيبة ُب اغبب تبعث ُب النفس األمل‪ ،‬وُب األعصاب زلزلة‪ ،‬وُب العقل ما‬
‫يثّب الغضب الشديد واغبنق‪ ،‬ولكن ىذه اغباؿ يزوؿ أتثّبىا عند الشباب‬
‫بسرعة‪ ،‬وتدوـ ُب الشيوخ كما يدوـ اغبب"‪.‬‬

‫"وبب الشاب حباً خاطفاً يتأثر ابغبسن أو اعباذبية فيندفع‬


‫إىل حد الولع ابألنثى الٍب أحدثت ُب فؤاده ىذا التأثّب‪ ،‬فإذا ارتوى‬
‫الظمأ بنيل األمنية تفَب فورة الشوؽ وتقل الرغبة حٌب تتبلشى‪ ،‬ألف‬
‫قوة اغبيوية ونشاط العاطفة يبعثاف على التوثب ال على االستقرار‬
‫على قياس رعونة الصغار ونشاط الشباب وبطئ حركات الكهل أو‬
‫الشيخ فاغبالة العاطفية ُب الشباب والشيوخ سباثل اغبالة البدنية من‬
‫النشاط واؽبدوء ذاهتا وغاية اغبب عند الشباب اؼبتعة ولكنها عند‬

‫‪499‬‬
‫الشيوخ غاية اغبياة وهناية األمل ألف الشيخ يركز فيها بقية حياتو‬
‫وكل أمانيو‪ ،‬فإذا صدمتو اػبيبة تصدـ مع عاطفتو حياتو"‪.‬‬

‫"واغبب اػباطف الذي هبئ مصادفة أو بتأثّب رؤية ؿباسن ليست‬


‫لو قوة اغبب الذي تغذيو الرغبة ُب زماف طويل ابؼبعاشرة والعناية والرعاية‬
‫واالعتياد آلف جذوره تتغلغل ُب الفؤاد جذور الشجرة ُب األرض مع‬
‫طوؿ الزمن واط ػراد النبات"‪.‬‬

‫‪......‬‬

‫و‪٩‬با يلفت النظر أيضاً ُب االعَبافات حديث حافظ ‪٪‬بيب الغامض‬


‫عن ا‪١‬بهة السياسية الٍب أمرتو بتنفيذ خطة بعينها ُب حياتو داخل الدير‪،‬‬
‫ومراسبلت كانت تتم بينو وبينها من خبلؿ وسيط وىو السر الذي ال‬
‫تكشف عنو االعَبافات‪ .‬ومن ا‪٤‬بؤكد أف الضجة الٍب أثّبت حولو كمحتاؿ‬
‫ىارب قد غطت على ىذا ا‪٤‬بوضوع ا‪٤‬بهم‪ .‬وىناؾ حديث صريح عن عبلقة‬
‫خاصة ربطتو بزعماء اغبزب الوطِب‪ ،‬وٖباصة مصطفي كامل ودمحم فريد‪.‬‬

‫وإذا كاف من مبلحظة أخّبة على ىذا العمل ا‪٤‬بمتع فهي صعوبة‬
‫التأريخ الدقيق‪ ،‬ففي ا‪٤‬براحل األوذل بصفة خاصة تتكرر عبارات مثل‪:‬‬

‫"دامت حياٌب على ىذا اؼبنواؿ زمناً ال أعرؼ مداه"‪.‬‬

‫"ولست أدري ك من الوقت ‪".. ..‬‬

‫‪500‬‬
‫فلم تبدأ األرقاـ تتحد بشكل قريب من الدقة إال عندما أصبح‬
‫مشهوراً ُمطػَارداً‪.‬‬

‫الزاوية الرابعة‪:‬‬

‫معركة "فارس ببل جواد"‬

‫أاثر مسلسل‪" :‬فارس ببل جواد" التلفزيوشل جدالً قبل بدء عرضو‪،‬‬
‫ابعَباضات من بينها اعَباض الوالايت ا‪٤‬بتحدة واسرائيل على عرضو‪،‬‬
‫وما زاؿ يثّب جدالً بْب القائمْب عليو والنقاد ومنظمات حقوقية‪.‬‬

‫وعندما فوجيء صبحي برسالة مفتوحة إذل وزير اإلعبلـ نشرهتا‬


‫"اغبياة اللندنية" تكشف السّبة ا‪٢‬بقيقية ‪٢‬بافظ ‪٪‬بيب بدأ ُب اإلدالء‬
‫بتصرٰبات متناقضة حوؿ ا‪٤‬بسلسل وبطلو‪ ،‬فمثبلً‪ ،‬قاؿ صبحي‪:‬‬

‫‪" ‬إف فكرة تقدَل ىذا اؼبسلسل تعود إىل عاـ ‪ ،1979‬وأنو‬
‫حْب عرض األمر على الصحاُب الراحل مصطفى أمْب نبهو‬
‫إىل أف حافظ قبيب شخصية خبلفية‪ ،‬مل يتفق اؼبؤرخوف على‬
‫ما إذا كاف يكتب مغامراتو على طريقة آرسْب لوبْب ويتخفى‬
‫مثل شارلوؾ ىوؼبز‪ ،‬وُب ىذا النوع من الكتابة تتداخل‬
‫‪501‬‬
‫اغبقيقة ابػبياؿ‪ ،‬وىذا ما جعله يظنوف كتاابتو ومغامراتو‬
‫اترىباً‪ .‬وأضاؼ‪" :‬أف أوؿ لقطة ُب التَبات تسجل أف ىذه‬
‫األحداث منها ما ىو حقيقي ومنها ما ىو خياؿ ومنها ما‬
‫نتوقع حدوثو‪ ،‬وال يهمِب تقدَل سّبة ذاتية غبافظ قبيب بقدر‬
‫ما أريد مناقشة قضية اؼبصّب العريب اآلف"‪)55(.‬‬
‫‪ ‬وقاؿ صبحى إف اتريخ ا‪٤‬بسلسل يعود إذل ‪" 1978‬عندما قرأ‬
‫كتاب "حافظ قبيب"‪ ،‬ووقتها احتار َب توصيف بطل القصة‬
‫"حافظ" ىل ىو إرىاىب أـ ؿبارب أـ مقاتل أـ مناضل أـ‬
‫فدائى‪ ،‬وأضاؼ صبحى أنو ذىب ؼبقابلة الكاتب الراحل‬
‫مصطفى أمْب َب مكتبو ليعرض عليو رغبتو َب تقدَل ىذه‬
‫الشخصية َب مسلسل‪ ،‬وخباصة أف مصطفى أمْب تعايش مع‬
‫ىذه الشخصية‪ ،‬وأكد لو أمْب وقتها أف ىذه الشخصية‬
‫أاثرت جدالً كبّباً وعليها بعد اإلشكاليات‪ ،‬ونصح صبحى‬
‫سأف يضع نفسو مكاف البطل َب كل شخصية قاـ ابنتحاؽبا‬

‫(‪" )55‬فارس ببل جواد"‪ :‬جدؿ مستمر ُب مصر بْب اؼبثقفْب والسياسيْب ودمحم‬
‫صبحي يدافع عن بطل القصة ضد اهتامات ابلتخوين – تقرير – الشرؽ األوسط‬
‫اللندنية – الرابط‪:‬‬
‫‪http://archive.aawsat.com/details.asp?issueno‬‬
‫‪=8435&article=137756#.Wk11DVWWbIU‬‬
‫‪502‬‬
‫ليعرؼ حقيقة ىذه الشخصية‪ .‬وأوضح صبحى أنو مل يستطع‬
‫تنفيذ اؼبسلسل بعد ذلك‪ ،‬ودارت السنوف حٌب وقع َب يده‬
‫كتاب "بروتوكوؿ حكماء صهيوف"‪ ،‬وقاؿ صبحى إنو رغ‬
‫خطورة ىذا الكتاب إال أنو فوجئ سأنو ؿبظور من البيع‬
‫‪56‬‬
‫بعدىا قرر صبحى دمج الكتابْب َب عمل واحد"‪)(.‬‬

‫وُب عاـ ‪ 2018‬قاؿ‪:‬‬

‫(‪ )56‬دمحم صبحى‪":‬التحرير" حررت "فارس ببل جواد" بعد ‪ 10‬سنوات‬


‫بسجن ماسبّبو – تقرير‪ :‬دينا األجهورى – جريدة اليوـ السابع اؼبصرية – ‪/3 /13‬‬
‫‪ – 2012‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.youm7.com/story/2012/3/13/%D9‬‬
‫‪%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-‬‬
‫‪%D8%B5%D8%A8%D8%AD%D9%89-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B1‬‬
‫‪%D9%8A%D8%B1-‬‬
‫‪%D8%AD%D8%B1%D8%B1%D8%AA-‬‬
‫‪%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3-‬‬
‫‪%D8%A8%D9%84%D8%A7-‬‬
‫‪%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%AF-‬‬
‫‪%D8%A8%D8%B9%D8%AF-10-‬‬
‫‪%D8%B3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%AA/6‬‬
‫‪25330‬‬
‫‪503‬‬
‫‪" ‬ىذا العمل حل راودٍل على مدى ‪ 18‬عاماً وحقق إضافة‬
‫كبّبة يل فاؼبوضوع لو قيمة كبّبة ويبثل إضافة للدراما‬
‫التلفزيونية خاصة األعماؿ التارىبية والوطنية‪ ،‬ويعترب إضافة‬
‫لفن التمثيل واؼبكياج واؼببلبس"‪)57(.‬‬

‫ى‬‫فأي التواريخ نصدؽ؟‬

‫وأتى جدؿ بشأف ا‪٤‬بسلسل التلفزيوشل من كتاب ونقاد عرب‬


‫ومصريْب ابنتقادات تتعلق ابلتناوؿ التارٱبي والرؤية التلفزيونية‪ ،‬عبلوة‬
‫على اعَباض اؼبنظمة اؼبصرية غبقوؽ اإلنساف بقو‪٥‬با إنو "رغ إيباهنا‬
‫التاـ حبرية التعبّب‪ ،‬فإهنا ترفض إساءة استخداـ أشكاؿ التعبّب‬
‫للَبويج ألحداث قد تثّب الكراىية على أساس الدين أو العرؽ أو‬
‫اعبنس"‪ ،‬و"ما يسمى بربوتوكوالت حكماء صهيوف وثيقة أكد‬
‫ا‪٤‬بتخصصوف أاها ملفقة‪.‬‬

‫من جانبو‪ ،‬استنكر دمحم صبحي االنتقادات للتناوؿ التارٱبي والرؤية‬


‫التلفزيونية للمسلسل واهتامات قاؿ إاها تناؿ من وطنية بطلو حافظ‬

‫(‪ )57‬دمحم صبحي الشهّب بػ "حافظ قبيب" يرد على االنتقادات‪ :‬الضجة الٍب‬
‫أثّبت حوؿ "فارس ببل جواد" تضر العمل وال تفيده – جريدة اليوـ السعودية – ‪/18‬‬
‫‪ – 2002 /12‬ص ‪ = 3‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.alyaum.com/article/1038936‬‬
‫‪504‬‬
‫‪٪‬بيب‪ .‬وقاؿ صبحي‪" :‬إف السيدة ملك قبيب ابنة حافظ قبيب‬
‫أرسلت إليو من اؼبملكة العربية السعودية رسالة ابلفاكس أبدت فيها‬
‫استياءىا من اآلراء الٍب حاولت التشكيك ُب وطنية والدىا"‪ .‬ورداً‬
‫على سؤاؿ حوؿ ما أثّب آنذاؾ عن احتياؿ حافظ ‪٪‬بيب وعمالتو لبعض‬
‫أجهزة االستخبارات أجاب صبحي‪" :‬مل أقدـ حافظ قبيب كما فعل‬
‫معظ اؼبسرحيْب ُب العامل مع أبطاؿ شكسبّب‪ ،‬حيث كانت معاعبة‬
‫ىذه اؼبسرحيات تتلوف ابذباىات اؼبخرج الفنية والفكرية‪ ،‬والتزمت ُب‬
‫اغبلقات اػبمس األوىل حبياة حافظ قبيب‪ ،‬أما اغبلقات التالية فهي‬
‫جهد الكتابة واؼبعاعبة والرؤية‪ ،‬قرأت السيدة ملك قبيب السيناريو‪،‬‬
‫كما حضرت تصوير اغبلقات اػبمس االوىل وأبدت اعجاهبا الشديد‬
‫ابؼبسلسل"‪.‬‬

‫وكانت التحريفات الٍب أدخلها دمحم صبحي على سّبة حافظ‬


‫‪٪‬بيب‪ ،‬وىي ‪ٙ‬بريفات حولتو إذل مناضل يطارد "بروتوكوالت حكماء‬
‫صهيوف"‪ ،‬وفتحت ىذه التحريفات الباب واسعاً ‪٤‬بناقشة قضية‬
‫الربوتوكوالت‪ ،‬فقاؿ الدكتور رشاد الشامي أستاذ ورئيس قسم اللغة‬
‫العربية إف ا‪٤‬بسلسل ‪٧‬باولة دل ‪ٚ‬بل من أخطاء فنية واترٱبية‪ ،‬ومشّباً إذل‬
‫خطأ إظهار اليهود ُب ا‪٤‬بسلسل ابعتبارىم حاخامات ابلطواقي التقليدية‬
‫والضفائر الٍب دل تكن من ‪٠‬بات يهود مصر‪ .‬وأضاؼ‪" :‬إذا كانت‬

‫‪505‬‬
‫األحداث تدور ُب مصر فبل يصح تصويرى على أهن القائموف‬
‫ابللعبة‪ ،‬واؼبعروؼ أف وسائل االتصاؿ ُب ذلك العصر مل تكن تسمح‬
‫ؽب ابلضلوع ُب اؼبؤامرة‪ ،‬وقد نتج ىذا التصور عن اؼبنظور الذىِب‬
‫لليهود ُب ببلد اخرى ليس من بينها مصر‪ ،‬ولكن اؼبسلسل ضبل‬
‫يهود مصر ما مل يكونوا مسؤولْب عنو بوجود نسخة من الربوتوكوالت‬
‫معه ُب ذلك الوقت"‪)58(.‬‬

‫وُب حوار مع الباحث الفلسطيِب صقر أبو فخر قاؿ‪" :‬معظ اؼبؤرخْب‪،‬‬
‫وخباصة القوميْب العرب استندوا ُب فهمه للتاريخ اؼبعاصر للمنطقة‬
‫إىل ما يسمى "تقرير كامبل بنرمن"‪ ،‬الذي وبمل اس وزير خارجية‬
‫اقبلَبا سنة ‪ .1907‬والرواية تقوؿ إف الرجل صبع عدداً كبّباً من‬
‫اؼبستشارين واػبرباء ووزير اؼبستعمرات‪ ،‬وعقدوا مؤسبراً أقروا خبللو‬
‫أهن كي يبنعوا النهضة العربية الصاعدة هبب فصل اعبزء اآلسيوي‬
‫عن اإلفريقي من اؼبنطقة العربية (أي فلسطْب) وزرع كياف غريب ُب‬
‫تلك اؼبنطقة (أي اليهود) ىذا ما ترج الحقاً من خبلؿ سياسة‬
‫بريطانية معينة ضد الدولة العثمانية وتوج بػ سايكس بيكو ووعد‬
‫بلفور‪ .‬ويبِب اؼبؤرخوف على ىذه الرواية منلطقات طويلة عريضة‪.‬‬

‫(‪" )58‬فارس ببل جواد"‪ :‬جدؿ مستمر ُب مصر بْب اؼبثقفْب والسياسيْب ودمحم‬
‫صبحي يدافع عن بطل القصة ضد اهتامات ابلتخوين – مصدر سبق ذكره‪.‬‬
‫‪506‬‬
‫وقبد ُب بطوف الكتب الكثّب من ىذه االستشهادات‪ .‬ولكن حينما‬
‫أتسس "مركز األحباث الفلسطيِب" وجاء على رأسو أنيس صايغ‪،‬‬
‫وكاف من مهمة اؼبركز منذ البدء َصبْع كل الواثئق الٍب زبص فلسطْب‪.‬‬
‫ذىب الرجل إىل اقبلَبا وحبث ُب اؼبتحف الربيطاٍل‪ ،‬ومكتبة الواثئق‪،‬‬
‫وُب جامعة كامربيدج‪ ،‬وُب األوراؽ اػباصة ؽبنري كامبل بنرمن اؼبودعة‬
‫ُب إحدى اؼبكتبات‪ ،‬ومل هبد أي أثر ؽبذا التقرير‪ .‬فراجع جريدة‬
‫"التايبز" سنة ‪ 1906‬و‪ 1907‬و‪ ،1908‬ومل هبد أي خرب ولو‬
‫صغّب عن ىذا اؼبؤسبر‪ .‬إذف‪ ،‬العقل العلمي ماذا يقوؿ ال بد أف ىذا‬
‫اؼبؤسبر مل يوجد‪ ،‬وعلمنا الحقاً أف القصة كانت قد اختلقت على‬
‫الشكل التايل‪ :‬ىناؾ صحاُب فلسطيِب يدعى أنطواف سلي كنعاف‪،‬‬
‫كاف مسافراً إىل اقبلَبا ابلطائرة‪ ،‬وإىل جانبو رجل ىندي بقي ؾبهوؿ‬
‫االس (وكانت إقبلَبا ما تزاؿ ربت االستعمار الربيطاٍل)‪ .‬وقد أخرب‬
‫ىذا اؽبندي كنعاف سأف العرب سيتلقوف ضربة ساحقة ألف مؤسبراً قد‬
‫عقد برائسة بنرمن وتقرر خبللو ما ذكرانه سابقاً‪ .‬والقصة مل تنتو ىنا‬
‫ألف كنعاف كتب اػبرب وعقد ندوة صحافية ُب دمشق أذاع خبلؽبا‬
‫معلوماتو حوؿ اؼبؤسبر‪ ،‬وبدأ اعبميع يتناقل ىذه الرواية‪ ،‬وشاعت‪،‬‬
‫دوف أف يفكر أحد ُب التحقق من صحتها‪ .‬بطبيعة اغباؿ"‪.‬‬

‫‪507‬‬
‫وُب تعليقو على ا‪١‬بدؿ حوؿ ا‪٤‬بسلسل قاؿ أبو فخر‪"" :‬اؼبنظمة‬
‫اؼبصرية غبقوؽ اإلنساف" رفضت واستنكرت استناد اؼبسلسل إىل‬
‫الربوتوكوالت‪ ،‬وحسب ما علمت فإف نص اؼبسلسل ىو عبارة عن‬
‫مزج بْب الربوتوكوالت وقصة حافظ قبيب الذي جعل منو اؼبسلسل‬
‫بطبلً وطنياً‪ .‬لكن ابلعودة اىل مذكرات حافظ قبيب الٍب نشرت ربت‬
‫عنواف "اعَبافات حافظ قبيب" وأمبلىا بنفسو على أحدى عاـ‬
‫‪ 1946‬على شكل حوارات‪ ،‬ونشرت ُب القاىرة عاـ ‪ 1996‬يتبْب‬
‫بوضوح أف الرجل أفا ٌؽ‪ ،‬ـبابراٌب وأنو ليس رجبلً وطنياً‪ ،‬بل اشتغل ُب‬
‫اعباسوسية والعمالة اؼبزدوجة"‪)59(.‬‬

‫وعلى خلفية ا‪١‬بدؿ ا‪٤‬بتصاعد دولياً حوؿ ا‪٤‬بسلسل‪ ،‬كتب‬


‫الدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس مقاالً عنوانو‪" :‬اغبقيقة واألسطورة‬
‫‪ُ -‬ب معػػاداة السػامية والربوتػوكوالت واالضطهاد النازي‬
‫واؽبولوكوست (احملرقة)"‪ .‬يقوؿ الباز‪:‬‬

‫(‪ )59‬شخص مريب وكتاب خراُب صبعهما "فارس ببل جواد" – الباحث‬
‫الفلسطيِب صقر أبو فخر‪" :‬بروتوكوالت حكماء صهيوف" كتاب مبتذؿ والَبويج لو‬
‫يعطي نتائج سلبية ‪ -‬أجرت اغبوار‪ :‬سوسن األبطح – جريدة الشرؽ األوسط اللندنية‬
‫– الرابط‪:‬‬
‫‪http://archive.aawsat.com/details.asp?section=28&a‬‬
‫‪rticle=141493&issueno=8783#.Wlapya6WbIU‬‬
‫‪508‬‬
‫"شهد اتريخ اجملتمعات األوروبية ُب القروف الثبلثة اؼباضية‬
‫ظواىر وأحدااثً معينة أفرزت مفاىي ابلغة اػبصوصية‪ ،‬يتعذر علي‬
‫غّب األوروبيْب أف يفهموىا فهماً صحيحاً ويدركوا مضموهنا العقلي‬
‫واالجتماعي واألخبلقي‪ ،‬وأبعادىا ونتائجها ُب ىذا السياؽ التارىبي‬
‫الذي ال يعرب إال عن الروح األوروبية ُب حقبة زمنية ؿبددة"‪.‬‬

‫"وألف شعوب األمة العربية ومنطقة الشرؽ األوسط كانت‬


‫بعيدة سباما عن ىذه األحداث‪ ،‬ليس من انحية اؼبكاف وحسب‪ ،‬وإمبا‬
‫أيضاً من انحية رؤيتها لطبائع البشر وظروفه االجتماعية والنفسية‪،‬‬
‫فإهنا مل تدرؾ حٍب اليوـ حقيقة تلك األحداث وجوىرىا‪ ،‬بل إهنا‬
‫وجدت صعباً عليها أف ربيط ابؼبناخ الذي كاف سائداً ُب اجملتمع‬
‫األورويب ُب تلك اغبقبة الزمنية الٍب شهدت عدة ثورات وعمليات‬
‫ربوؿ قلقة‪ ،‬بقدر ما شهدت من مظاىر التقدـ واإلبداع‪ ،‬غّب اهنا –‬
‫أي القارة األوروبية – شهدت عدة فبارسات يسيطر عليها التعصب‬
‫األعمي والشعور الكاذب غّب اؼبربر ابلتفوؽ علي الغّب‪ ،‬وىو شعور‬
‫قاـ ُب بعض األحياف علي إحساس طاغ سأف غّبى ىو ابلضرورة‬
‫متخلف وغّب متمدف‪ ،‬جملرد أنو ـبتلف عن األوروبيْب‪ ،‬وانعكس كل‬
‫ىذا ُب الظاىرة االستعمارية اإلمربيلية‪ ،‬كل ىذا ُب الوقت الذي كاف‬
‫وعصر‬ ‫‪enlightenment‬‬ ‫فيو األوروبيوف يفاخروف فيو بثورة االستنارة‬
‫‪509‬‬
‫النهضة‪ ،‬واإلقبازات الفلسفية والفكرية والعملية الٍب حققت‬
‫لئلنساف قدراً ىائبلً من التقدـ العلمي الذي كاف نتاجا لعقل متميز‬
‫متفوؽ"‪.‬‬

‫ويضيف الباز‪" :‬وكاف من اؼببلمح اؼبميزة لتلك اغبالة‬


‫ادا – نظرة ٍ‬
‫تعاؿ وشك‬ ‫األوروبية النظرة لليهود – صباعات وأفر ً‬
‫وارتياب‪ ،‬جملرد أهن ـبتلفوف عن غّبى ُب الدينة والشكل والطباع‪،‬‬
‫فبا أدي إيل انتشار اؼبمارسات اؼبعادية لديه ‪ ،‬الٍب قصد هبا ترويعه‬
‫وإهباد اؼبربر الضطهادى ‪ ،‬إيل حد وصل إيل ؿباولة تصفيته‬
‫والقضاء عليه ‪ ،‬وانتشرت تلك الظاىرة ُب كثّب من أكباء القارة‬
‫األوروبية شرقاً وغرابً‪ ،‬فنجد أف روسيا القيصرية شهدت ىجمات‬
‫صباعية علي اعبماعات اليهودية‪ ،‬أطلق عليها اس "البوجروـ"‪،‬‬
‫ووقعت تلك اؽبجمات ُب وقت مقارب ؼبا كاف وبدث ُب وسط‬
‫القارة األوروبية‪ ،‬وبلغ ذروتو ُب اغبقبة النازية ُب أؼبانيا والدوؿ الٍب‬
‫احتلتها ُب شرؽ وغرب القارة ‪ُ ... ...‬ب حْب أف ابقي القارات‬
‫كانت بعيداً عن تلك األفكار واؼبمارسات الظبلمية اؽبمجية غّب‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وبعبارة أخري فإف أورواب صبعت ُب تلك الفَبة بْب التقدـ‬
‫اؼبادي والعلمي والصناعي واغبضاري وبْب الكثّب من صور التخلف‬

‫‪510‬‬
‫والَبدي اؼبعنوي واألخبلقي‪ ،‬دوف أف يتنبو األوروبيوف إيل وجوب‬
‫القضاء علي ىذا التناقض اؼبشْب أو علي األقل تضييق دائرتو"‪.‬‬

‫"وُب ذروة ىذه األحداث – ُب عاـ ‪ 1879‬ابلتحديد –‬


‫أصدر الصحفي األؼباٍل اليهودي فيلهيل مار كتاابً بعنواف‪" :‬انتصار‬
‫اليهودية علي األؼبانية" من منظور غّب ديِب‪ ،‬استخدـ فيو ألوؿ مرة‬
‫وكاف مدلوؿ ىذا التعبّب‪،‬‬ ‫‪antisemitism‬‬ ‫تعبّب معاداة السامية‬
‫حسبما استخدمو اؼبؤلف‪ ،‬ىو الشعور اؼبعادي لليهود ابلذات‪ ،‬دوف‬
‫غّبى من الشعوب أو اعبماعات غّب اليهودية الٍب تندرج ُب عداد‬
‫اعبنس السامي من الناحية العلمية‪ ،‬كالعرب وغّبى من اعبماعات‬
‫البشرية الٍب عاشت ُب الشرؽ‪ .‬ولكي نفه مدلوؿ ىذا التعبّب‪،‬‬
‫هبب أف نتذكر أف الكتاب اؼبشار إليو صدر بعد اؼبضارابت الٍب‬
‫أعقبت اغبرب الفرنسية‪ /‬الربوسية (‪ )1871‬الٍب أدت إيل إفبلس‬
‫كثّب من األثريء األؼباف‪ ،‬الذي ألقوا ابللوـ علي اليهود واعتربوى‬
‫مسئولْب عن ىذا اإلفبلس‪ ،‬ومل تكن ىذه التطورات مقصورة علي‬
‫بروسيا (وىي منطقة أؼبانية) وفرنسا وحدىا‪ ،‬بل اهنا انتثرت ُب كثّب‬
‫من األحياف ُب شرؽ ووسط أورواب‪ ،‬حٍب تصور البعض أهنا ظاىرة‬
‫عامة‪ ،‬وىكذا ذاعت النظريت واؼبفاىي الٍب حاولت أف ذبد تفسّبا‬

‫‪511‬‬
‫ؽبذا السقوط‪ ،‬حٍب إذا كاف تفسّباً عنصريً ال يستند إيل أساس‬
‫علمي أو أخبلقي"‪.‬‬

‫وٕبسب الدتور أسامة الباز ُب ا‪٤‬بقاؿ‪" :‬تنب ػو بعض اؼبفكرين‬


‫األوروبيْب إيل التمييز بْب معاداة اليهودية ومعاداة السامية‪ ،‬فاألويل‬
‫سبثل عداءً دينياً ؿبضاً للعقيدة اليهودية ذاهتا ألف اليهود مل يؤمنوا‬
‫ابلسيد اؼبسيح بل إهن مسئولوف عن إيذائو وصلبو‪ ،‬أما الثانية‬
‫فكانت حركة ضد اعبماعات ذات ظبات وطبائع وسلوكيات معينة‬
‫الترتبط مباشرة ابؼبعتقدات الدينية‪ ،‬أي أف التعبّب استخدـ للداللة‬
‫علي معاداة الشعب ذاتو كجماعة بشرية ‪ volk‬ابألؼبانية أو‪folk‬‬
‫ابإلقبليزية‪ ،‬أي أنو أصبح يستخدـ للتعبّب عن العداء لليهود‬
‫بوصفه عرقاً أو جنساً‪ ،‬وبعبارة أخري فإف ىذا التعبّب يشّب إيل‬
‫عداء علماٍل وليس دينياً أو عقائديً‪ ،‬ونتيجة ؽبذا اؼبعِب‪ ،‬كانت‬
‫معاداة اليهودية تزوؿ إذا ربوؿ اليهودي إيل اؼبسيحية‪ ،‬أما "معاداة‬
‫السامية" فتظل تطارد الشخص بصرؼ النظر عن دينتو‪ ،‬طاؼبا أهنا‬
‫مسألة عرقية عنصرية"‪.‬‬

‫"وؼبا كانت معاداة السامية مفهوماً علمانياً غّب دائ علي‬


‫أساس االنتماء للدينة اليهودية‪ ،‬فكاف طبيعياً أف يبحث أنصارىا عن‬
‫أسانيد معينة ليثبتوا هبا نظريته ورؤيته ‪ ،‬وكاف من تلك األسانيد‬
‫‪512‬‬
‫الٍب شاع استخدامها "بروتوكوالت حكماء صهيوف"‪ ،‬ورواية فطّبة‬
‫الدـ وما إيل ذلك‪ ،‬وظلوا يرددوف تلك الروايت ويروجوف ؽبا ُب‬
‫ؾبتمعات ـبتلفة رغ أنو مل تثبت صحتها‪ ،‬غّب أف شيوعها أاثر علي‬
‫اانس أشرار متآمروف‬ ‫اليهود الكراىية والبغضاء دبقولة إهن‬
‫وـبادعوف‪ ،‬فبا ولد عند شعوب أخري اػبوؼ من اليهود والرغبة ُب‬
‫االنتقاـ منه واغبد من شرورى "‪.‬‬

‫و"من يطالع ىذه الربوتوكوالت اؼبزيفة سوؼ يكتشف‬


‫للوىلة األويل أف مؤلفيها يتطوعوف بوصف اليهود ػ أي وصف‬
‫أنفسه ػ سأحقر الصفات وأدانىا‪ ،‬فيقولوف ُب الربوتوكوؿ األوؿ‬
‫مايلي‪ :‬من خبلؿ الصحافة اكتسبنا نفوذان‪ ،‬وبقينا كبن وراء الستار‪،‬‬
‫وبفضل الصحافة كدسنا الذىب‪ ،‬ومل نكَبث ألف ذلك تسبب ُب‬
‫أهنار من الدـ‪ ،‬ويصعب علي أي عاقل أف يصدؽ أف كبار رجاؿ‬
‫الدين – أي دين – يتطوعوف إبلصاؽ ىذه الته سأنفسه وبشعبه‬
‫وتسجيلها ػ اترىبيا ػ علي أنفسه وعلي اخواهن ُب الدين"‪.‬‬

‫"وإذا انتقلنا إيل اغبركة النازية‪ ،‬فسوؼ قبد أف بعض الكتاب‬


‫واؼبعلقْب احملدثْب وبعض ىؤالء الذين البرطوا ُب نشاط صباعات‬
‫سياسية تنسب نفسها إيل االسبلـ ُب الوطن العريب يبدوف أحياانً‬
‫تعاطفاً فجاً مع النازية ويدافعوف عنها وعن أعماؽبا‪ ،‬انسْب أنو ليس‬
‫‪513‬‬
‫ىناؾ علي اإلطبلؽ ما يربط بْب النازية والعرب أو اؼبسلمْب‪ ،‬وأف‬
‫فلسفة النازية تقوـ علي رؤية عنصرية عرقية متعصبة‪ ،‬تستند إيل‬
‫تفوؽ اعبنس اآلري علي ما عداه‪ ،‬وتعطي نفسها اغبق ُب إابدة‬
‫اآلخرين‪ ،‬عن طريق اللجوء إيل اغبل النهائي للقضاء علي اليهود‬
‫بتصفيته جسديً علي كبو منهجي منظ وصارـ‪ ،‬ومل يكن اليهود ى‬
‫الفئة الوحيدة الٍب لقيت ىذه اؼبعاملة الوحشية‪ ،‬بل خضع ؽبا الغجر‬
‫والسبلفيوف والعجزة واؼبعوقوف واؼبتسولوف ‪ ... ... ...‬وقد "ظل‬
‫الشعب األؼباٍل يدفع شبن سياسات ىتلر وفبارساتو مدة ذباوزت‬
‫أربعْب عاما‪ ،‬ويكفي أف نذكر ُب ىذا الصدد أف اؼبستشار األؼباٍل‬
‫شرودر أعلن منذ أيـ أف حكومتو قررت تقدَل ؾبموعات من‬
‫صواريخ ابتريوت الٍب تصنعها طبقاً التفاؽ عقدتو مع أمريكا‪ ،‬كما‬
‫أهنا تدرس بكل جدية إمكانية تقدَل مساعدات عسكرية إضافية‬
‫إلسرائيل‪ ،‬ومن اعبدير ابؼببلحظة أف شرودر ذكر بعد اجتماع مع‬
‫الرئيس اإلسرائيلي كاتساؼ ُب برلْب أف ببلده ملتزمة دبساعدة‬
‫إسرائيل انطبلقاً من مسئولية أؼبانيا اترىبياً وأخبلقياً"‪.‬‬

‫و"سجلت بعض وقائع تلك احملرقة ُب أفبلـ سينمائية ُب‬


‫وقت مل تكن فيو السينما قد تطورت إيل حد اػبدع السينمائية‬
‫والفربكة الٍب أصبحت شائعة ىذه األيـ ابستخداـ أجهزة الكمبيوتر‬
‫‪514‬‬
‫ووسائل ؿباكاة الواقع ‪ ،simulators‬حبيث إنو ال يبكن القوؿ إف‬
‫مسألة اإلابدة اعبماعية لليهود كانت أكذوبة‪ .‬وصحيح أف بعض‬
‫الكتاب األوروبيْب وغّبى قد شككوا ُب صحة أرقاـ اليهود الذي‬
‫سبت إابدهت علي أيدي الفرؽ النازية‪ ،‬غّب أف ىذا ال يهمنا ُب قليل‬
‫أو كثّب‪ ،‬فاؼبه ىو اؼببدأ وليس اغبج اغبقيقي للكارثة‪ ،‬كما أف‬
‫بعض الكتاب اليهود – مثل نورماف فينكلستْب ‪ -‬قد ذكر ُب كتابو‬
‫صناعة اؽبلوكوست الذي نشر ُب عاـ‪ 2000‬أف منظمات صهيونية‬
‫ىي الٍب جنت أكرب قدر من االستفادة ابلتعويضات الٍب دفعتها‬
‫أؼبانيا تكفّبا عن جرائ النازية‪ ،‬وذلك علي حساب ضحاي احملرقة‬
‫ومن عانوا من ىبلؾ ذويه ُب تلك اؼبعركة الرببرية"‪)60(.‬‬

‫(‪ُ )60‬ب معػػاداة السػامية والربوتػوكوالت واالضطهاد النازي واؽبولوكوست(‬


‫احملرقة) ‪ -‬مقاؿ ‪ -‬دكتور أسامة الباز ‪ -‬األىراـ ‪ -3003 /23 /34 -‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://www.ahram.org.eg/Archive/2002/12/23/‬‬
‫‪OPIN3.HTM‬‬
‫‪515‬‬
‫مبلحق‬

‫‪516‬‬
517
‫اسَباحة "البياف" حافظ قبيب الذي ال يعرفو أحد(‪)61‬‬

‫يكتبها اليوـ‪ :‬ؿبفوظ عبد الرضبن‬

‫التاريخ‪ 08 :‬مارس ‪1998‬‬

‫ملت على صاحيب واقَبحت عليو اقَباحاً بدا رل حسنا عند قولو‪،‬‬
‫ولقى االقَباح ىوى ُب نفسو‪ ،‬واف استصعب تنفيذه‪ ،‬ومضت بضعة أايـ وإذا‬
‫بو و‪٫‬بن جالسوف ُب اجتماع يقوؿ إف جهات عليا اتصلت بو ُب اقَباح ىو‬
‫كذا وكذا‪ ،‬وكاف ما قالو ىو نفس االقَباح الذي ٮبست لو بو ودل أعد متحمساً‬
‫لو‪ ،‬ولكن ىا ىو صاحيب ٰبكي كيف عرضوا عليو االقَباح‪ ،‬وكيف انقشهم‬
‫فيو‪ ،‬وكيف اعَبض عليو‪ ،‬وىا ىو اآلف يقدـ لنا موقفو لنبدي رأينا فيو‪.‬‬

‫وأخفى األصحاب الدىشة‪ ،‬رٗبا لظنهم أف مثل ىذا االقَباح ال أيٌب‬


‫من جهات عليا‪ ،‬أما أان فكنت أكثرىم دىشة‪ ،‬فلقد تبدؿ اقَباحي وتكور‬
‫واستطاؿ ليتحوؿ إذل قصة أخرى‪ .‬وُب يقيِب أف أحداً دل يتحدث معو سواي‪،‬‬
‫ولكن يبدو أف النسياف لعب دوره ُب سلخ االقَباح من صاحبو‪ ،‬أما ما لعب‬

‫(‪ )61‬جريدة البياف اإلماراتية – الرابط‪:‬‬


‫‪http://www.albayan.ae/five-senses/1998-03-‬‬
‫‪08-1.1030750‬‬
‫‪518‬‬
‫دوراً أكرب من النسياف‪ ،‬فهو الغرور الذي دفع صاحيب إذل نسج قصة أخرى بدا‬
‫فيها مهماً!‬

‫وقلت لنفسي‪ :‬أليس ىذا ما يقولونو عن (التاريخ)؟‬

‫إف كبلً منا ٰبكيو من وجهة نظره‪ ،‬وابلتارل فبل حقيقة متفق عليها‪،‬‬
‫لكنِب أيضا كنت أرد عليهم أبف التاريخ ىو ما فعلتو اإلنسانية‪ ،‬وألاها فعلتو‬
‫فهو واقع مؤكد‪ ،‬حٌب يظل قاببلً للمناقشة‪ ،‬ولكن ذلك ألف ا‪٢‬بقيقة ليست‬
‫كاملة أبداً على ىذه األرض‪ .‬وكنت دائماً أشاكس الدكتور يوانف لبيب رزؽ‬
‫أستاذ التاريخ ا‪٢‬بديث‪ ،‬وأرفض رفضو لفكرة أف التاريخ يعيد نفسو‪ ،‬وأظن أف‬
‫كلينا على حق‪ .‬من ذلك كلو أرى التاريخ بناءً ىائبلً ترى منو حسب ا‪٤‬بوقع‬
‫الذي تقف فيو‪ ،‬ولقد لفت نظري بعض (التواريخ)‪ ،‬إذا صح التعبّب‪ ،‬الٍب‬
‫تكوف ملء السمع والبصر ٍب تذوب مع الوقت فبل يبقى منها شيء‪.‬‬

‫وكاف من الذين اىتممت هبم ‪٩‬بن ضاعوا ُب التاريخ ضابط ا‪٠‬بو أ‪ٞ‬بد‬
‫بك ا‪٣‬بازندار لن ٘بد ا‪٠‬بو ُب وثيقة‪ ،‬ولن ٘بده على رأس مقالة‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فأنت تستطيع أف ‪ٙ‬بس أٮبيتو‪ ،‬فلقد كاف مقرابً من ا‪٣‬بديوي إ‪٠‬باعيل‪ ،‬وكاف‬
‫شخصاً ‪٩‬بيزاً ُب سلوكو ومكان تو‪ ،‬ىذا كما قلت ال تقرأه ٗبوضوع‪ ،‬بل ٘بده ُب‬
‫شذرات مبعثرة‪ ،‬ويبدو ىذا مفهوماً‪ ،‬ألف أ‪ٞ‬بد ا‪٣‬بازندار ظهر وقتل ُب عصر‬
‫إ‪٠‬باعيل‪ ،‬وكاف مصرعو ألسباب نسائية‪.‬‬

‫‪519‬‬
‫فلماذا يكتب عنو أحد من معاصريو‪ ،‬خاصة أنو دل يكن انظراً (أي‬
‫وزيراً)‪ ،‬وال مؤلفاً لكتاب يبقى بعده‪ .‬والبد أف ا‪٣‬بازندار كاف معروفاً جداً ُب‬
‫عصره‪ ،‬يدؿ على ذلك دخولو اذل وجداف الناس‪ ،‬ففي رواية عن مقتل ا‪٠‬باعيل‬
‫صديق ابشا الذي كاف أخاً للخديوي ُب الرضاعة‪ ،‬ولكن ا‪٣‬بديوي انقلب عليو‬
‫ألسباب يطوؿ شرحها‪ ،‬أرسلو على مركب إذل الصعيد حيث دبر الغتيالو‪،‬‬
‫فلما بدأ القتل – ولو رواايت عديدة – استنجد ا‪٠‬باعيل صديق ٗبن حولو‪،‬‬
‫فقاؿ لو أحد ا‪١‬بنود أنسيت ما فعلتو أب‪ٞ‬بد بك ا‪٣‬بازندار؟‬

‫‪٫‬بن ىنا أماـ شخصية ُب وجداف الناس‪ ،‬لكنهم ال يستطيعوف التأريخ‬


‫‪٥‬با‪ ،‬ألف السلطة ا‪٤‬بطلقة كانت ُب يد من أمر بقتلو‪ ،‬ومضى وقت طويل جداً‬
‫قبل أف ٱبطر على ابؿ أحد أف يؤرخ لو‪ ،‬فلم ٯبده ُب وجداف الناس‪ ،‬ودل ٯبد‬
‫من الواثئق ما يعتمد عليو‪ٍ ،‬ب ىناؾ كثّبوف أسهل ُب التأريخ ‪٥‬بم‪.‬‬

‫ورٗبا كانت ىذه ا‪٤‬بقدمة الطويلة مدخبلً ألحدثك عن حافظ ‪٪‬بيب‪،‬‬


‫وال تقل رل إنك تعرؼ حافظ ‪٪‬بيب فهذا سيصيبِب بدىشة كبّبة‪ ،‬فلقد ذكرت‬
‫ا‪٠‬بو حٌب بْب بعض ا‪٤‬بهتمْب ابلتاريخ‪ ،‬فلم يذكره من بْب العشرات إال قلة‬
‫أحدىم صاح قائبلً‪ :‬لقد كاف صديقاً لوالدي‪ ،‬وآخر قاؿ‪ :‬لقد ‪٠‬بعت حسن‬
‫إماـ عمر يتكلم عنو‪ ،‬واثلث قاؿ‪ :‬لقد مر ا‪٠‬بو علي مرات وأان أعد كتاابً عن‬
‫اتريخ الشرطة‪.‬‬

‫‪520‬‬
‫ودل يكن ا‪٢‬باؿ ىكذا منذ سنوات‪ ،‬أذكر أف والدي اخذشل معو ُب‬
‫زايرة إذل إحدى القرى‪ ،‬ال أذكر ا‪٠‬بها‪ ،‬وأظن أنِب كنت ُب العاشرة أو بعدىا‬
‫بعاـ‪ ،‬وكانت ا‪١‬بلسة كلها عن حافظ ‪٪‬بيب‪ ،‬وال أذكر من ىذه النزىة إال اسم‬
‫حافظ ‪٪‬بيب‪ ،‬واكتشاُب ا‪٤‬بذىل أف ركوب ا‪٣‬بيل ٰبتاج إذل تعليم‪ ،‬فلقد أركبوشل‬
‫حصاانً‪ ،‬وأان أظن أف ركوبو ال ٰبتاج إال لدفعة ‪٩‬بن ىو أطوؿ‪ ،‬ولكن ا‪٤‬بعاانة‬
‫الٍب أصابتِب ُب ىذا اليوـ ال تنسي‪ .‬ومنذ ذلك ا‪٢‬بْب إذل بضعة سنوات ‪ٚ‬بليت‬
‫‪ٛ‬باما عن فكرة الفروسية‪ ،‬حٌب اضطررت أف أركب حصاانً ُب مدينة بَبا‬
‫األردنية‪ ،‬ولقد قاـ صديقي عباس أرانؤوط بتصويري‪ ،‬وأرسل الصور مع جورج‬
‫سيدىم الذي كلما قابلِب قاؿ إنو نسى الصور‪ ،‬وانتهى األمر بكارثة إذ فقد‬
‫ذاكرتو نفسها‪ ،‬شفاه هللا‪.‬‬

‫وكاف عباس يعرض الصور على األصدقاء‪ ،‬فلم يتعرؼ علي أحد‬
‫منهم‪ ،‬ذلك ألنِب كنت ُب حالة من الذعر يبدو أاها قادرة على تغيّب ا‪٤‬ببلمح!‬

‫ا‪٤‬بهم أنِب عندما كنت عائداً من ىذه النزىة ‪٩‬بتطيا صهوة ا‪١‬بواد‪،‬‬
‫سألت والدي عن حافظ ‪٪‬بيب فقاؿ رل ابعجاب إنو أعظم من أرسْب لوبْب‪.‬‬
‫وكنت أعرؼ آرسْب لوبْب وعرفتو أكثر فيما بعد‪ ،‬لقد كاف البطل الشعيب ُب‬
‫زماننا‪ ،‬اللص الشريف الذي يسرؽ من أجل ا‪٣‬بّب‪ ،‬وٰبقق العدالة ويقوـ‬
‫ٗبغامرات ال يصدقها العقل‪.‬‬

‫‪521‬‬
‫ودل يكن ينافس آرسْب لوبْب إال شرلوؾ ىو‪٤‬بز‪ ،‬وىو شخص ذكي‬
‫يكشف أصعب ا‪١‬برائم‪ .‬ولكن شارلوؾ ىو‪٤‬بز دل يستطع أف ينافس آرسْب لوبْب‬
‫ُب جيلي على األقل‪ ،‬رٗبا ألنو كاف أقرب إذل العقل والتفكّب‪ُ ،‬ب حْب كاف‬
‫لوبْب أقرب إذل روح ا‪٤‬بغامرة‪ ،‬ولصديق رل تفسّب أغرب من ىذا‪ ،‬فهو يقوؿ إف‬
‫(ىو‪٤‬بز) بريطاشل ينتمي إذل الثقافة السكسونية‪ُ ،‬ب حْب أف (لوبْب) فرنسي‬
‫ينتمي إ ذل الثقافة البلتينية‪ ،‬وكنت آنئذ مع فرنسا ضد بريطانيا الٍب كانت ‪ٙ‬بتل‬
‫الببلد‪ ،‬وىو تفسّب كما ترى ال يصدقو أحد‪ ،‬ألننا ُب الصبا دل نكن نعرؼ أف‬
‫ىذا فرنسي‪ ،‬وأف ذاؾ بريطاشل‪.‬‬

‫ولقد قرأت رواايت آرسْب لوبْب الٍب كانت ثقافة سامية ‪١‬بيلي مثل‬
‫مصطفى لطفي ا‪٤‬بنفلوطي‪ ،‬ولكن بطريقة عكسية‪ ،‬فلقد كانت القراءة تبدأ‬
‫أبرسْب لوبْب وتتطور إذل الثقافة ا‪٢‬بقيقية‪ ،‬أما أان فلقد بدأت بقراءة أ‪ٞ‬بد‬
‫شوقي وا‪٤‬بازشل وفريد أبو حديد‪ٍ ،‬ب قرأت رواايت آرسْب لوبْب من ابب‬
‫الفضوؿ‪.‬‬

‫وُب عطلة صيفية قرأت مئات من ىذه الرواايت‪ ،‬ودل أعد إليها واآلف‬
‫أصعب القراءات علي الرواايت البوليسية‪ .‬ا‪٤‬بهم أف حافظ ‪٪‬بيب غاب من‬
‫الذاكرة العامة‪ ،‬حٌب اختفى ‪ٛ‬باماً بعد أف كاف ينافس آرسْب لوبْب ُب الشهرة‪،‬‬
‫وُب زماننا كاف آرسْب لوبْب أكثر شهرة من كلينتوف ومايكل جاكسوف وكاظم‬
‫الساىر ُب ىذا الزمن‪.‬‬

‫‪522‬‬
‫وقررت أف إٔبث عن حافظ ‪٪‬بيب‪ ،‬وبعد جهد كبّب وجدت ما بْب‬
‫يدي بعض ىذا الرجل‪ .‬وأىم ما وقع ُب يدي كتاب ‪ٙ‬بت عنواف‪" :‬اعَبافات‬
‫حافظ قبيب" صدر ُب عاـ ‪ 1946‬ولكن االحداث تتوقف فيو عند أوؿ عاـ‬
‫‪ ،1909‬وُب صدر الكتاب وصف لو (أبنو مغامرات جريئة مدىشة وقعت ُب‬
‫نصف قرف) وىكذا يطرح الكاتب عدة تساؤالت‪ .‬وأىم ىذه التساؤالت عن‬
‫ا‪١‬بزء الثاشل الذي أشار إذل أنو سيصدره‪ ،‬وىو ما دل ٰبدث على حد علمي‪.‬‬

‫وأتوىم أف ىذا ا‪١‬بزء دل يصدر أبداً‪ ،‬فلقد ٕبثت ابىتماـ كبّب عنو وىو‬
‫شيء غريب‪ ،‬ألف ا‪١‬بزء األوؿ لقى رواجاً كبّباً‪ ،‬وقد يدىشك أف تعرؼ أف‬
‫حافظ ‪٪‬بيب كاف أيضاً انشراً ومَب‪ٝ‬باً‪ ،‬أي أنو كاف سهبلً عليو نشر كتاب‪.‬‬

‫وبداية الكتاب لغز آخر فهو من تقدصل سعدية ا‪١‬ببارل الٍب صدرت هبا‬
‫الكتاب ويقوؿ ُب ذلك "إىل ابنٍب العزيزة احملَبمة سعدية اعببايل‪ "..‬وتظن أف‬
‫‪٨‬باطبتها ابالبنة ىنا ‪٦‬برد تودد‪ ،‬فاال‪٠‬باف ‪٨‬بتلفاف ‪ٛ‬باماً‪ ،‬لكنو يقوؿ ُب نفس‬
‫رشادا بصوت‬
‫االىداء‪" :‬مل أ هنج ُب تربيتك مناىج الناس فل تسمعي مِب إ ً‬
‫األمر‪ ،‬ومل أقيد عقلك وسلوكك‪ ،‬وامبا تركت لك االستقبلؿ التاـ فاصغيت‬
‫لنصائحي بدافع من الرغبة‪ ،‬وأطعت إرشادي بباعث من الثقة وحسن‬
‫الظن"‪ .‬وبغض النظر عن رقي ىذا األسلوب ُب الَببية الذي يعلو عن عصره‪،‬‬
‫اإلشارة واضحة إذل أنو رابىا‪ ،‬فهل تكوف ابنتو فعبلً؟ أو رٗبا كانت فتاة رابىا‪،‬‬
‫لظروؼ ما واعتربىا كابنتو‪.‬‬

‫‪523‬‬
‫خاطر آخر ىو أف حافظ ‪٪‬بيب غيػر ا‪٠‬بو ُب مغامراتو‪ ،‬وُب وقت من‬
‫األوقات كاف يسكن فندؽ ميناىاوس وقصراً ُب الزمالك وبيتاً ُب حي ابب‬
‫الشعرية‪ ،‬وكاف لو ُب كل واحد منها ا‪٠‬بو‪ ،‬بل اضطر أف يغّب ا‪٠‬بو بعد أف‬
‫(مات)‪ .‬وذلك أنو ضاؽ ٕبصار الشرطة لو و‪ٙ‬بويل مغامراتو إذل قضية سياسية‬
‫– ورٗبا كانت كذلك ُب بعض جوانبها – فقرر أف ٲبوت‪ ،‬ووضعوه ُب النعش‬
‫ودفنوه‪ٍ ،‬ب أخرجو أصدقاؤه بعد دفنو‪.‬‬

‫وقد ا‪ٚ‬بذ شكبلً جديداً وا‪٠‬باً جديداً‪ ،‬فهل كاف (ا‪١‬ببارل) أحد ا‪٠‬بائو‪.‬‬

‫لكن يثار ىنا تساؤؿ‪٤ :‬باذا دل يغّب ا‪٠‬بها بعد أف استقرت لو االمور ُب‬
‫عاـ ‪ ،1946‬إذل حد أنو نشر اعَبافاتو‪ ،‬وكاف تغيّب األ‪٠‬باء سهبلً ُب ذلك‬
‫الوقت‪ .‬ابإلضافة إذل ىذا الكتاب‪ ،‬حصلت أيضاً على مطبوعات دار النشر‬
‫الٍب انشأىا‪ ،‬وىي من رواايت العصر ليس فيها ما ٲبيزىا عن غّبىا‪ ،‬وأيضاً –‬
‫وكاف ذلك بشق األنفس – صفحات ‪٩‬با كانت تنشره الصحف ُب زمانو عن‬
‫مغامراتو‪ ،‬وكيف مثبلً‪ ،‬أنو يتحدى حكمدار البوليس أنو سيحضر ا‪٢‬بفلة ا‪٤‬بدعو‬
‫‪٥‬با الليلة‪ ،‬رغم أنو ىارب ومطلوب من الشرطة ٍب ٰبضر ا‪٢‬بفلة متنكراً‪ ،‬ولكن‬
‫مغامرات حافظ ‪٪‬بيب ‪ٙ‬بتاج اذل حديث آخر‪.‬‬

‫‪524‬‬
‫اسَباحة البياف‪ :‬حافظ قبيب‪ ...‬ىذا اؼبغامر اجملهوؿ! (‪- 2‬‬
‫‪)62()3‬‬

‫بقل ‪ :‬ؿبفوظ عبد الرضبن‬

‫التاريخ‪ 15 :‬مارس ‪1998‬‬

‫لو أنك دل تتابع ما كتبتو عن حافظ ‪٪‬بيب ُب ىذا ا‪٤‬بكاف ُب األسبوع‬


‫ا‪٤‬باضي‪٤ ،‬با أزعجِب ىذا‪ ،‬فا‪٤‬بتابعة الدقيقة أصبحت من ‪٠‬بات زمن مضى‪،‬‬
‫وزحاـ ما نقرأ وما نرى جعلنا ال نتعامل مع الواحد الصحيح‪ ،‬يقوؿ صديق‪:‬‬
‫ىل رأيت فيلم األمس ُب قناة كذا؟ وابلصدفة قد تكوف رأيتو‪ ،‬واألغرب أنو قد‬
‫يكوف رآه آخروف‪ ،‬فتتحدثوف عن الفيلم وما فيو‪ ،‬وتبدوف اإلعجاب واالستياء‪،‬‬
‫حدا منكم دل يره كامبلً‪ ،‬فهذا بدأ منذ أف فعل البطل (كذا) ‪،‬‬
‫ٍب تكتشفوف أف أ ً‬
‫وىذا أتتو مكا‪٤‬بة من فبلف فأبعده عن الفيلم ربع ساعة أو أكثر‪.‬‬

‫ورحم هللا أايماً كنا نذىب إذل دور السينما قبل أف يبدأ العرض‬
‫بساعة‪ ،‬وما زالت ىذه العادة القدٲبة مَبسبة ُب وجداف بعض الناس‪ ،‬وأان من‬
‫الذين يذىبوف إذل ا‪٤‬بسرح قبل العرض بساعة‪ ،‬واذا أتخرت فيكوف وصورل قبل‬

‫‪http://www.albayan.ae/five-senses/1998-‬‬ ‫(‪)62‬‬
‫‪03-15-1.1030787‬‬
‫‪525‬‬
‫نصف ساعة‪ ،‬ودائماً ما أجد من أراه‪ ،‬وىذا يدؿ على أننا إما أف نذىب مبكراً‬
‫جداً‪ ،‬أو متأخراً جداً!‬

‫وُب ا‪٤‬بسارح األوروبية يصيبِب الفزع عندما أصل إذل ا‪٤‬بسرح قبل ا‪٤‬بوعد‬
‫بساعة أو ‪٫‬بوىا‪ ،‬فبل أجد شخصاً واحداً‪ ،‬فهذا يعِب رل أاهم أغلقوا ا‪٤‬بسرح ُب‬
‫ىذه الليلة‪ ،‬ورٗبا ذىبت وسألت فّبدوف علي – ُب كل مرة – أف موعد فتح‬
‫ا‪٤‬بسرح دل ٰبن بعد‪ ،‬وٲبضي الوقت ثقيبلً‪ ،‬ويزداد القلق عندما ال يبقى من الزمن‬
‫سوى ربع ساعة‪ ،‬ودل أيت أح ٌد بعد‪ٍ ،‬ب فجأة أيٌب الناس ‪ٝ‬بيعاً‪ ،‬فبل ينفرج‬
‫الستار إال وا‪٤‬بقاعد كلها ‪٩‬بتلئة!‬

‫ىذا من بقااي زماف مضى‪ ،‬أما اآلف فاألمور تغّبت كثّباً‪ُ .‬ب إحدى‬
‫الندوات التلفزيونية ‪ٙ‬بدث انقد‪ ،‬أبنو من الصعوبة أو رٗبا كاف مستحيبلً أف يرى‬
‫ا‪٤‬بسلسل كامبلً ليكتب عنو‪ ،‬وكانت ا‪٤‬بفاجأة أف كاتب ا‪٤‬بسلسل وىو مؤلف‬
‫كبّب‪ ،‬قاؿ إنو دل ير حٌب اآلف مسلسبلً كامبلً من مسلسبلتو الثبلثْب‪ .‬أرأيتم إذل‬
‫أي ح ٍّد وصلت ا‪٤‬بتابعة؟‬

‫فإذا قلت رل إنك دل تقرأ ما كتبتو عن حافظ ‪٪‬بيب ُب األسبوع‬


‫ا‪٤‬باضي‪ ،‬سأرى ىذا جزءًا من الظاىرة العامة‪ .‬أحد الذين قرأوا ما كتبتو ُب‬
‫األسبوع ا‪٤‬باضي ضحك كثّباً‪ ،‬وقاؿ إنِب مبالغ‪ ،‬قلت لو‪ :‬إذا ‪ٙ‬بدثنا عن مغامر‬
‫مثل آرسْب لوبْب لو أفعاؿ مدىشة‪ ،‬فبلبد أف تكوف ىناؾ مبالغات فهذه‬
‫طبيعة االشياء‪ .‬ولقد كنت متابعاً ألحداث من ُ‪٠‬بي ُب زمنو ابلسفاح‪ ،‬وكاف‬

‫‪526‬‬
‫ا‪٠‬بو ‪٧‬بمود أمْب سليماف‪ ،‬وقيل إنو ادعى ُب فَبة من الفَبات أنو ‪٧‬بمود امْب‬
‫العادل الناقد وا‪٤‬بفكر الكبّب‪.‬‬

‫وىناؾ ما ٯبعلنا نصدؽ ىذا فلقد كاف ‪٧‬بمود أمْب (السفاح)‪ ،‬انشراً‬
‫قبل أف يصبح سفاحاً‪ ،‬وال أدري العبلقة بْب ا‪٤‬بهنتْب؟! وكاف مكتبو ُب بناية‬
‫شهّبة ُب وسط القاىرة تسمى‪" :‬عمارة سَباند" وال أدري من أين أتى ىذا‬
‫االسم؟ وغالب الظن أاها بنيت مكاف سينما سَباند‪ ،‬وكانت – أو ما زالت –‬
‫عمارة ٘بارية كئيبة‪ ،‬وكاف جمللة "الشهر"‪ ،‬الٍب عملت فيها فَبة مكتب ُب ىذه‬
‫البناية‪ ،‬فأصبحت جاراً ‪١‬بّباف ‪٧‬بمود أمْب سليماف ٰبكوف رل عنو وعن أخباره‪،‬‬
‫وتشاء الصدفة أف يكوف ذلك مع بدء مغامرات ‪٧‬بمود أمْب سليماف‪ ،‬وكيف‬
‫أنو سطا على ىذا القصر فتصرؼ كأي جنتلماف‪.‬‬

‫وكيف أنو اقتحم ىذا ا‪٤‬بكاف رغم ا‪٢‬براسة ا‪٤‬بشددة عليو‪ .‬وكيف أنو‬
‫ىرب من قصر العيِب رغم حصاره‪ .‬كيف أف الشرطة وصلت إذل مقره فعبلً‪،‬‬
‫فأخذت بعض مبلبسو ووضعتها أماـ أنوؼ الكبلب البوليسية‪ ،‬لكي تتابعو‬
‫حيث ىو‪ ،‬لكنو أفشل ىذا العمل قبل أف يبدأ‪ ،‬ذلك أنو أغرؽ مبلبسو قبل‬
‫ا‪٥‬برب ابلعطور ‪٩‬با ضلل الكبلب‪ .‬وألف رئيس ‪ٙ‬برير ‪٦‬بلة "الشهر" وصاحبها‬
‫كاف سعد الدين وىبة‪ ،‬وكاف آنئذ قريب عهد بعملو ُب الشرطة‪ ،‬فكاف على‬
‫اتصاؿ ابلداخلية ‪٤‬بعرفة أخباره‪.‬‬

‫‪527‬‬
‫وكلما عرفنا أنو ‪٧‬باصر أصابنا االنزعاج الشديد‪ ،‬وكلما عرفنا أنو ىرب‬
‫من ا‪٢‬بصار‪ ،‬أحسسنا ابلراحة‪ ،‬ولقد أدىشتِب ىذه األحاسيس‪ ،‬ورٗبا كانت‬
‫ألننا كنا نرى ُب ‪٧‬بمود أمْب سليماف البطل الذي ٰبتج اب‪٠‬بنا‪ ،‬ودل يفسد ىذه‬
‫الصورة أبداً‪ ،‬فلم يعتد على ضعيف‪ ،‬ودل يستغل أية فرصة‪ ،‬ودل يسرؽ أكثر من‬
‫حاجتو‪ ،‬وأحياانً أكثر من حقو‪ ،‬وكاف أذكى من مطارديو‪ ،‬وأكثر جرأة‪.‬‬

‫ويوـ طاردت الشرطة ‪٧‬بمود أمْب سليماف إذل مغارات الصحراء‪ٍ ،‬ب‬
‫قتلتو ابلرصاص‪ ،‬بكينا ‪ٝ‬بيعاً‪ ،‬وفيما بعد كتب عنو ‪٪‬بيب ‪٧‬بفوظ "اللص‬
‫والكبلب"‪ ،‬ونشرت "أخبار اليوـ" ا‪٣‬برب ُب مانشيت يقوؿ‪" :‬مصرع‬
‫السفاح"‪ ،‬أما ا‪٤‬بانشيت الثاشل فكاف ‪ٙ‬بتو مباشرة وىو‪" :‬عبد الناصر ُب‬
‫الباكستاف"‪ ،‬فأصبح ا‪٤‬بانشيت كما لو كاف‪" :‬مصرع السفاح عبد الناصر ُب‬
‫الباكستاف!!‬

‫ويقاؿ إف ىذه كانت ا‪٣‬بطوة األوذل ُب ضيق ‪ٝ‬باؿ عبد الناصر من‬
‫األخوين علي ومصطفى أمْب‪ ،‬والٍب انتهت بكارثة لؤلخوين‪ ،‬ويقاؿ إف‬
‫مصطفى أمْب كاف أقرب الصحفيْب – ُب تلك الفَبة – إذل ‪ٝ‬باؿ عبد الناصر‬
‫حٌب كاف ىذا ا‪٤‬بانشيت‪ .‬وُب يقيِب – عكس كل ما كتبو ا‪١‬بميع – أف ىذا‬
‫التلميح دل يكن مقصوداً حقاً‪ ،‬فمصطفى أمْب صحاُب كبّب وال يقع ُب ىذا‬
‫ا‪٣‬بطأ‪ ،‬ولكن الوقوع فيو – من وجهة نظري – أليس من تصور مصطفى أمْب‬

‫‪528‬‬
‫أنو يستطيع القضاء على ‪ٝ‬باؿ عبد الناصر ٗبانشيت ُب صحيفة! يفهمو واحد‬
‫ويستغلق فهمو على عشرة‪.‬‬

‫وكنت أرى فيما ٰبكى عن ‪٧‬بمود أمْب سليماف مبالغة‪ ،‬ورٗبا شاركت‬
‫فيها دوف قصد‪ ،‬وىذا طبيعي‪ ،‬وكذلك األمر ُب حافظ ‪٪‬بيب الذي كاف آرسْب‬
‫لوبْب عصره‪ ،‬قبل أف يصبح ارسْب لوبْب معروفاً بْب الناس‪.‬‬

‫ورغم اتفاقنا على أنو قد تكوف ىناؾ مبالغات ُب مغامرات حافظ‬


‫‪٪‬بيب‪ ،‬لكن ىناؾ دالئل بْب أيدي الناس‪ ،‬مثبلً‪ ،‬خرب وفاتو وحضور مسيو‬
‫كارتييو رئيس البوليس السياسي ُب وقتو ومندويب الصحف للتأكد من أف‬
‫ا‪٤‬بتوَب ىو حافظ ‪٪‬بيب‪ ،‬وأاها ليست لعبة أخرى من آالعيبو‪ .‬ولقد حكى ىو‬
‫نفسو عن دفنو‪ٍ ،‬ب استيقاظو من النوـ ُب ا‪٤‬بقربة‪ ،‬وكيف ٕبث عن اآلالت الٍب‬
‫أخفاىا‪ ،‬وفتح هبا ا‪٤‬بقربة‪ ،‬وعاش بعد ذلك أب‪٠‬باء اخرى‪ٍ .‬ب كيف عاد إذل اسم‬
‫حافظ ‪٪‬بيب وسوى قضاايه مع ا‪٢‬بكومة‪ ،‬وكتب مذكراتو ‪ٙ‬بت عنواف‪:‬‬
‫"اعَبافات حافظ قبيب"‪ ،‬وكاف (‪ٝ‬بع) ا‪٢‬بروؼ أيخذ وقتاً طويبلً ُب ىذه‬
‫االايـ‪ ،‬فلما وصل (ا‪١‬بمع)‪ ،‬إذل قصة موت حافظ ‪٪‬بيب ا‪٤‬بصطنع‪ ،‬مات فعبلً‬
‫حافظ ‪٪‬بيب‪ُ .‬ب صفحة ‪ 210‬من ا‪٤‬بذكرات الٍب وصلت إذل ‪ 288‬صفحة‬
‫نشرت سعدية ا‪١‬ببارل نعي مؤلف الكتاب‪ ،‬وما زلت ُب حّبٌب‪ :‬من ىي سعدية‬
‫ا‪١‬ببارل ابلنسبة للكاتب ا‪٤‬بغامر؟ ففي ا‪٤‬بقدمة كما قلت من قبل ٱباطبها اببنٍب‬
‫ويتحدث إليها قائبلً‪" :‬كما ربيتك"‪.‬‬

‫‪529‬‬
‫وُب ا‪٤‬بقدمة الٍب كتبتها سعدية ا‪١‬ببارل دل تشر إذل أف حافظ ‪٪‬بيب ىو‬
‫أبوىا‪ ،‬بل قالت‪" :‬أرغمت االستاذ حافظ قبيب على نشر اعَبافاتو ُب‬
‫حياتو بدال من نشرىا بعد فباتو"‪ ... ،‬وُب الصفحة ‪ 210‬الٍب أشران إليها‬
‫تتوقف سعدية ا‪١‬ببارل لتنشر نعي حافظ ‪٪‬بيب‪ ،‬فنرى ُب الصفحة اليمُب صورة‬
‫لو‪ ،‬ومن الصورة أظنو أقرب إذل القصر واالمتبلء‪ ،‬وعلى وجهو ابتسامة تستحق‬
‫دراسة مستفيضة‪ ،‬فلقد اختلط فيها الذكاء اب‪٤‬بكر ابلطيبة ابلبلمباالة‪ ...‬اخل‪.‬‬

‫ٍب نقرأ نعي سعدية ا‪١‬ببارل! ىنا نقف ‪٢‬بظة حداد‪ ،‬فقد سطا ا‪٤‬بوت‬
‫على والدي ا‪٤‬برحوـ االستاذ حافظ ‪٪‬بيب‪ ،‬إذل ىنا أفل ‪٪‬بم تلك الشخصية‬
‫ا‪١‬ببارة‪ ،‬والعقل الفذ ا‪٤‬بكتمل‪ٍ ،‬ب تقوؿ‪" :‬ومن أحكاـ القدر أف يبوت اثناء‬
‫طبع ىذا اعبزء من اعَبافاتو وىو كيف دفن وعاد إىل اغبياة"‪ُ .‬ب النعي‬
‫تقوؿ‪" :‬والدي"‪ ،‬فهل ىو والدىا أـ ال!؟‬

‫وازدادت حّبٌب‪ ،‬ودفعِب اليأس إذل ‪٧‬باولة البحث‪ ،‬اتصلت ابلسيدة‬


‫ليلى ا‪١‬ببارل‪ ،‬وىي كاتبة متميزة‪ ،‬و‪٥‬با اتريخ صحاُب متفوؽ‪ ،‬وال أدري دل ال‬
‫تواصل الطريق‪ ،‬رٗبا كاف كسل الفناف‪ ،‬ورٗبا كاف اإلحساس بعدـ جدوى‬
‫األشياء‪ ،‬وإف قالت رل إاها عكفت على عدة مشروعات‪ ،‬وأنو سيصدر ‪٥‬با‬
‫كتاب جديد‪.‬‬

‫وسألتها عن سعدية ا‪١‬ببارل الٍب رٗبا تكوف اآلف فوؽ السبعْب‪ ،‬إذا‬
‫كانت على قيد ا‪٢‬بياة‪ ،‬وٕبثت السيدة ليلى ا‪١‬ببارل‪ ،‬وقالت رل إنو ليس ُب‬

‫‪530‬‬
‫العائلة حياً أو ميتاً‪ ،‬ما ٲبكن أف يكوف سعدية ا‪١‬ببارل الٍب أقصدىا؟‪ .‬وكانت‬
‫السيدة ليلى ا‪١‬ببارل أيضاً ‪٩‬بن أشار إذل ا‪٤‬ببالغات ُب اتريخ حافظ ‪٪‬بيب‪ ،‬فقلت‬
‫‪٥‬با ما رأيك ُب دخولو الدير كراىب ومقابلتو للبااب ورؤساء الكنيسة‪ ،‬وىو ما‬
‫‪ٙ‬بدثوا بو‪ ،‬ونشر ُب الصحف ُب حينو‪ .‬ولكن تلك قصة أخرى‪.‬‬

‫‪531‬‬
‫اسَباحة البياف‪ :‬الراىب اؼبغامر ‪)63(3 – 3‬‬

‫يكتبها اليوـ ‪ -‬ؿبفوظ عبد الرضبن‬

‫التاريخ‪ 22 :‬مارس ‪1998‬‬

‫أعترب أكرب مغامرة ُب حياٌب أنِب كنت ُب أحد ا‪٤‬بكاتب‪ ،‬فتقدـ مِب‬
‫أحدىم وقاؿ رل‪ :‬أدل نتقابل من قبل؟ وىو سؤاؿ تسمعو أحياانً‪ ،‬و‪٤‬با كنت‬
‫أعرؼ صاحبنا أجبتو ابإلٯباب‪ ،‬فضرب جبهتو سعيداً‪ :‬اللواء فبلف!‬

‫وأعجبتِب اللعبة خاصة وأنو كاف ىناؾ ‪ٝ‬بهور‪ ،‬وإذا بصاحبنا كاف‬
‫ضابط احتياط مع ىذا "اللواء" فأخذان نستعيد ذكرايتنا ألكثر من نصف‬
‫ساعة‪ ،‬وافَبقنا على أف نتواصل فيما بعد‪ ،‬ضحكنا بشدة ورأيت نفسي مغامراً‬
‫رىيباً!‬

‫ولكننا كنا أماـ مغامر يغّب ا‪٠‬بو ومهنتو ُب كل يوـ‪ ،‬بل يغّب مبل‪٧‬بو‬
‫وجنسيتو‪ ،‬بل (ٲبوت) والعياذ ابهلل‪ ،‬وأيٌب الطبيب ليكتب شهادة وفاتو‪،‬‬
‫وا‪٢‬بانوٌب ليعده للقاء ابرئو‪ ،‬وأيٌب رئيس البوليس السياسي ليتأكد من وفاتو‪ ،‬إذ‬

‫(‪http://www.albayan.ae/five-senses/1998-03- )63‬‬
‫‪22-1.1030827‬‬
‫‪532‬‬
‫يستميت ُب كل ما يفعل وأيٌب مندوبو الصحف لينشروا على الناس خرب وفاة‬
‫ا‪٤‬بغامر الرىيب‪ :‬حافظ ‪٪‬بيب!‬

‫ورغم غرابة ا‪٤‬بغامرة إال أنِب صدقتها بسرعة‪ ،‬فشهادة مندويب الصحف‬
‫موثقة ُب صحفهم‪ ،‬ومغامرة وفاة حافظ ‪٪‬بيب ودفنو ٍب عودتو إذل ا‪٢‬بياة مرة‬
‫أخرى كانت أماـ احملاكم فيما بعد‪ .‬أما ما وجدت صعوبة ُب تصديقو ىو‬
‫دخولو الدير‪ ...‬كراىب‪ ،‬ولنبدأ القصة من أو‪٥‬با‪ ،‬وليس ىناؾ اتريخ واضح‬
‫ألوؿ القصة‪ ،‬لكنِب أتوقع أف يكوف حوؿ ‪ ،1907‬أو قبل ذلك بقليل‪ .‬وكاف‬
‫حافظ ‪٪‬بيب يعيش عادة ُب ثبلثة أماكن بثبلث شخصيات ‪٨‬بتلفة‪ ،‬وكانت‬
‫إحدى تلك الشخصيات الباروف دي ماسوف‪ ،‬وىذا ابلطبع شيء غريب‪ ،‬فمن‬
‫السهل أف يتنكر اإلنساف ُب شخصية ابئع حلوايت أو اتجر ثري أو عمدة‬
‫ريفي‪ ،‬ولكن التنكر ُب شخصية ابروف فرنسي أمر شديد الصعوبة‪.‬‬

‫ووقع حافظ ‪٪‬بيب ُب حب سائحة ىي الكونتيس سيجريس‪ ،‬ويذكر‬


‫حافظ ُب مذكراتو أف النساء كن نقطة ضعفو‪ ،‬ونعتقد أنو كاف يبالغ ُب ىذا‪،‬‬
‫ورٗبا كاف ىو نفسو يدرؾ ذلك فيجعل ىذا االهتاـ على ألسنة أصحابو‪،‬‬
‫وأعتقد أف حافظ ‪٪‬بيب كاف ‪٧‬بباً للنساء‪ ،‬لكنو دل يقع ُب ا‪٢‬بب أبداً‪ ،‬أرى ىذا‬
‫على األقل ُب مذكراتو‪ ،‬وأاها كانت تتناوؿ فَبة قصّبة من حياتو‪ ،‬فلقد مات‬
‫قبل كتابة األجزاء األخرى أو رٗبا قبل نشرىا‪.‬‬

‫‪533‬‬
‫فالنساء الكثّبات البلئي يذكرىن حافظ ىن ‪٦‬برد ا‪٠‬باء‪ ،‬وىو ال‬
‫يستعمل كلمة‪" :‬اغبب" أبداً أنو يقوؿ‪ :‬رأيتها فاعجبت هبا!‬

‫ا‪٤‬بهم أنو رأى الكونتيس سيجريس فأعجب هبا‪ ،‬وابلتأكيد كانت‬


‫تستحق اإلعجاب‪ ،‬فلقد كانت رائعة ا‪١‬بماؿ من أصل إسباشل‪ ،‬وكانت زوجة‬
‫لدبلوماسي فرنسي مات بسرعة فورثت عنو ثروة كبّبة ولقب الكونتيس‪ .‬وأتت‬
‫سائحة إذل مصر‪ ،‬ودل تكن السياحة ُب ذلك الوقت مثلها اآلف‪ ،‬فلقد كانت‬
‫‪ٛ‬بتد إذل شهور فلقد كانت االنتقاالت صعبة‪ ،‬وال ٲبكن أف يذىب شخص إذل‬
‫بلد آخر ليسيح فيو ثبلثة أايـ أو أربعة‪ ،‬على أي حاؿ أتت الكونتيس إذل‬
‫مصر لتقضي فيها فصل الشتاء كامبلً‪ ،‬وىناؾ قابلت الكونت دي ماسوف أو‬
‫حافظ ‪٪‬بيب‪.‬‬

‫ودخلت الكونتيس ا‪١‬بميلة الٍب ‪ٙ‬بس اب‪٤‬بلل إذل عادل ا‪٤‬بغامر ا‪٤‬بثّب‬
‫فأعجبت بو‪ ،‬وأراد الرجل كسب إعجاهبا‪ ،‬فكشف نفسو ُب مغامرة مذىلة‪،‬‬
‫وابلطبع أمسكت بو الشرطة‪ ،‬ألنو كاف قد ٘باوز ا‪٢‬بدود‪ .‬ويعلن للصحافيْب أنو‬
‫سيهرب من السجن ُب ىذه الليلة‪ ،‬ويتم ذلك فعبلً‪ ،‬و‪٥‬بذا تطارده الشرطة ُب‬
‫عنف‪ ،‬فيضطر للخبلص من ذلك ابدعاء موتو‪ ،‬وىي القصة الٍب أشران ‪٥‬با من‬
‫قبل‪.‬‬

‫وبعد أف ٱبرج من قربه يذىب إذل الكونتيس الٍب تعجب ٗبا فعلو من‬
‫أجلها ويتزوجاف‪ ،‬وىي ا‪٤‬برة الوحيدة الٍب يشّب فيها حافظ ‪٪‬بيب إذل الزواج ُب‬

‫‪534‬‬
‫مذكراتو الٍب أعتقد أاها أغرب مذكرات نشرت ُب ىذا القرف‪ ،‬وإذا كاف الشيء‬
‫ابلشيء يذكر فلقد استمتعت ٗبذكرات أمبلىا يوسف أبو حجاج فتوة ا‪٢‬بسينية‬
‫ُب الفَبة نفسها الٍب يتحدث عنها حافظ ‪٪‬بيب تقريباً‪ ،‬وقد حكى فيها يوسف‬
‫أبو حجاج بْب ما حكى مشاركتو ُب ثورة ‪ ،1919‬وىذا يذكران ٕبديث حافظ‬
‫‪٪‬بيب عن دوره ُب ا‪٢‬بزب الوطِب وخلطو ىذا الدور ٗبغامراتو‪.‬‬

‫فهل كانت ىذه ا‪٤‬بغامرات احتجاجاً فردايً على االستعمار الربيطاشل؟!‬

‫وحافظ ‪٪‬بيب كاتب ليس لو منطق ‪٧‬بدد‪ ،‬فأحياانً يروي أدؽ‬


‫التفاصيل عن البيت الذي يعيش فيو أقاربو‪ ،‬وأحياانً يفعل ذلك ُب كيفية ىروبو‬
‫من السجن‪ ،‬أو خداعو لوكيل النائب العاـ‪ ،‬ولكنو ُب ا‪٤‬بقابل يلخص األحداث‬
‫تلخيصاً ‪٨‬ببلً‪ ،‬فهو ىنا يقوؿ إف الكونتيس سيجريس (ودل يذكر ا‪٠‬بها األوؿ وال‬
‫مرة) أصاهبا ا‪٤‬بلل ُب ىذا الزواج‪ ،‬ويلمح إذل أاها تعرفت عليو ُب مغامرات ال‬
‫تصدؽ‪ ،‬لكنو كف عن ا‪٤‬بغامرات بعد الزواج‪.‬‬

‫ويَبؾ حافظ لنا ا‪٣‬بياؿ لنرسم بو صورة ‪٥‬بذا الزوج‪ :‬إنو رجل مطارد‪،‬‬
‫حقاً يتعامل مع اجملتمع كرجل مات ودفن‪ ،‬ولكنو ٱبشى أف يقابل من يتذكره‬
‫ولقد حدث ىذا فعبلً ُب مرحلة اتلية فتعرؼ عليو – رغم خرب موتو – من‬
‫حفظ سره‪ ،‬ومن وشى بو‪ ،‬إنو ال ٱبرج إال للضرورة‪ ،‬ال يفتح الباب بنفسو‬
‫أبداً‪ ،‬يطمئن على إغبلؽ األبواب والنوافذ‪ ،‬يتكلف ُب حضور اآلخرين ال‬

‫‪535‬‬
‫يصدؽ ُب أحاديثو وذكرايتو‪ ،‬ال يقوؿ ألحد مقاس حذائو‪ ،‬كما قاؿ رل ٰبٓب‬
‫حقي عن مغامر آخر ىو عبد ا‪٢‬بي كّبه‪.‬‬

‫إاها حياة تفتقد الصدؽ‪ ،‬وترجم ىو ذلك بقولو إاها أحست اب‪٤‬بلل‪.‬‬
‫وقرر ىو أف يػُػنهي عاماً من ا‪٢‬بياة الزوجية‪ .‬وٱبرج إذل ا‪٢‬بياة ليجد إاها قد‬
‫ضاقت أكثر‪ .‬ويبدو أنو شارؾ اغبزب الوطِب ُب هبائو ُب ذلك الوقت‪ ،‬ألنو‬
‫اضطر للهروب بعيداً‪.‬‬

‫وفيما قبل يقوؿ لنا حافظ إنو اعَبض على مسكن دبرتو لو صديقتو‬
‫ألنو بعيد عن الناس‪ .‬ويقوؿ إف أفضل األماكن لبلختباء ىو ما كاف ُب وسط‬
‫الناس‪ ،‬ولكن بشرط أف تكوف لو طرؽ آمنة للهروب‪.‬‬

‫أما اآلف فهو ٱبتار أكثر األماكن انعزاالً‪ :‬الدير‪ .‬ولكن ا‪٤‬بشكلة ليست‬
‫ُب العزلة‪ .‬ولكن ُب اقتحاـ ىذا العادل الغريب‪ .‬إنك تستطيع أف تدعي أنك‬
‫لست أنت‪ ،‬وتستطيع أف ‪ٚ‬بدعِب وتقوؿ إنك‪" :‬لواء" أو "صحفي" أو‬
‫"طبيب"‪.‬‬

‫ولكن من يستطيع إقناع أصحاب داينة أخرى أنو منهم؟‬

‫لكل داينة طقوس واصطبلحات‪ .‬و٘بربٍب مثاؿ على ىذا‪ ،‬فلقد‬


‫نشأت ُب ‪٦‬بتمع فيو أقباط كثّبوف‪ .‬وذات مرة كنا نسكن النصف القبطي ُب‬
‫قرية مقسمة بْب األقباط وا‪٤‬بسلمْب‪ .‬وقرأت العهد القدَل واعبديد ُب وقت‬
‫مبكر‪ .‬ودرستو بعد ذلك‪ .‬وُب أايـ الصبا شجعِب الصديق الراحل فيليب‬

‫‪536‬‬
‫جبلب وقبطي آخر أذكر أف ا‪٠‬بو األوؿ كاف فايز‪ ،‬على أف أعمل مراجعاً جمللة‬
‫"الراعي الصاّب" القبطية‪ .‬ودل يكن تشجيعهما إال ألف النقود الٍب كنت‬
‫أحصل عليها كنا ننفقها معاً‪ ،‬كعادة الشباب ُب ىذه السن!‬

‫ولكنِب ذات مرة وجدت نفسي أماـ عبارة تقوؿ‪" :‬األب اؼبتنيح"‪ ،‬ودل‬
‫أفهم معُب كلمة‪" :‬متنيح" وأعدت الكلمة إذل أصلها "انح" فلم يستقم ا‪٤‬بعُب‪،‬‬
‫وقلبت ا‪٤‬بعُب ُب ذىِب مرات فلم أصل إذل شيء‪ .‬فأغلقت أوراقي‪ .‬وانصرفت‬
‫ودل أعد أبداً‪ .‬أقصد من ىذا أف ُب كل داينة "رموز" من ا‪٤‬بستحيل على من‬
‫كاف ال ينتمي إليها أف يستوعبها كلها‪.‬‬

‫ولذلك فأان أرى مغامرة حافظ ‪٪‬بيب ُب دخوؿ الدير وعدـ كشفو‬
‫أكرب مغامرة قرأت عنها‪ .‬ويقدـ حافظ لدخولو الدير ٗبقدمة مهمة جداً‪،‬‬
‫تكشف رغم تلخيصها كثّباً من ا‪٢‬بقائق‪ ،‬فيقوؿ‪" :‬وعرضت االمر على بعض‬
‫الزمبلء اؼبشتغلْب ابلسياسة من منشئي النهضة الوطنية فحبذوا رأيي"‪.‬‬

‫إف حافظ يتكلم – رغم أنو ال ٰبدد تواريخ – عن العقد األوؿ ُب‬
‫ىذا القرف‪ ،‬وابلتارل فهؤالء الذين يقصدىم ىم أعضاء اغبزب الوطِب‪ .‬بل‬
‫ويقوؿ ُب تلميح حاد "وقاؿ الثاٍل"‪" ،‬يقصد اثٍل اؼبتحدثْب من أعضاء‬
‫النهضة الوطنية"‪" ،‬وىو على فراش مرضو األخّب"!!‬

‫إف ىذا التلميح ىو تصريح واضح‪ ،‬ألنو ال ينطبق إال على شخص‬
‫واحد ىو مصطفى كامل ابشا‪ .‬الشاب الذي بدأ يكشف سوءات االحتبلؿ‪،‬‬

‫‪537‬‬
‫وسافر ليشرح القضية الوطنية‪ٍ .‬ب مات وىو ُب ريعاف الشباب‪ .‬ويبدو من‬
‫حديث االثنْب – طبعاً كاف الشخص األوؿ ىو دمحم فريد – إنو كاف لديهما‬
‫خطة‪ ،‬وإاهما كاان يثقاف ُب قدرة حافظ ‪٪‬بيب ُب الوصوؿ إذل منصب ا‪٤‬بطراف‪،‬‬
‫حيث يستطيع أف يعد النقبلب على االحتبلؿ‪.‬‬

‫وال أستطيع أف ادعي أف رواية حافظ ‪٪‬بيب صحيحة‪ ،‬ألاها لو كانت‬


‫صحيحة‪ ،‬فهذا يعِب أف مصطفى كامل ودمحم فريد دل يكوان مقتنعْب ابلكفاح‬
‫السلمي الذي كاان يقودانو‪ .‬ورٗبا كانت ا‪٣‬بطة الٍب يشّب حافظ إذل أاها كانت‬
‫خطة دمحم فريد "كما أوحى"‪ ،‬أو خطة مصطفى كامل كما يلمح بشدة‪ ،‬رٗبا‬
‫كانت خطة حافظ ‪٪‬بيب نفسو‪.‬‬

‫على أي حاؿ‪ ،‬ىذا يدؿ على اختبلط ا‪٣‬باص ابلعاـ ُب تلك الفَبة‪،‬‬
‫وأف الناس ‪ٝ‬بيعاً كاف يشغلهم ما ٰبدث ُب الوطن‪ .‬ويدخل حافظ ‪٪‬بيب الدير‬
‫وىذا ُب رأيي قمة ا‪٤‬بغامرة‪ .‬وأثناء وجوده ُب الدير ٲبوت مصطفى كامل وىو ُب‬
‫أوج شبابو‪ ،‬وتبكي مصر كلها ىذا الشاب الوطِب‪.‬‬

‫وألوؿ مرة ‪٪‬بد حافظ ‪٪‬بيب يصف مشاعره‪ .‬فيما قبل كاف يقوؿ‪:‬‬
‫أعجبت‪ ،‬تضايقت‪ ،‬أحببت‪ .‬أما اآلف فهو يكشف عن مشاعره ابلتفصيل‪ .‬بل‬
‫كتب قصيدة راثء للزعيم الوطِب ويدعي حافظ أف القصيدة وصلت إذل جريدة‬
‫"الوطن" القبطية عن غّب طريقو‪ ،‬فنشرهتا ‪ٙ‬بت عنواف‪" :‬دمعة راىب"‪،‬‬
‫والراىب طبعاً ىو حافظ ‪٪‬بيب أو غربايؿ إبراىيم‪.‬‬

‫‪538‬‬
‫‪ٙ‬بوؿ األمور‪ .‬فلقد لقيت االستحساف من‬
‫وكانت القصيدة سبباً ُب ُّ‬
‫األغلبية‪ ،‬ولكن بعض رجاؿ الدين ساءىم أف يتدخل راىب ُب السياسة‪.‬‬
‫وتصاعد ا‪٤‬بوقف ٕبيث أصبح مطلوابً من الراىب ا‪٤‬ببتدىء أف يقابل البااب‬
‫"البطريرؾ"‪ .‬ولكن قبل ذلك ذىب إذل دمحم فريد رٗبا ليستشّبه‪ .‬لكن فريد‬
‫غضب بشدة ألف حضوره يفسد ا‪٣‬بطة‪ .‬على أي حاؿ‪ ،‬كاف للَبىب أف‬
‫ينتهي‪ ،‬وما كاف يسّباً أف يصل حافظ ‪٪‬بيب إذل منصب مطراف‪ .‬ولكن تفكّبه‬
‫ُب ىذا‪ ،‬و‪٧‬باولتو‪ ،‬ٯبعبلنو ُب الصف األوؿ من ا‪٤‬بغامرين‪.‬‬

‫‪539‬‬
‫جياد ببل فرساف(‪)64‬‬

‫سامي عبد اللطيف النصف‬

‫قد يكوف أحد أسباب توجو شباب أمتينا‪ :‬العربية واإلسبلمية‬


‫للعنف غّب ا‪٤‬بشروع (اإلرىاب) ىو إخفاؽ األمتْب ُب ساحات العنف‬
‫ا‪٤‬بشروع (ا‪٢‬بروب) منذ قروف من الزمن حفلت أب‪٠‬باء ألبطاؿ كبار‪،‬‬
‫‪ٛ‬بخض غبار ا‪٤‬بعارؾ عنهم وىم أو جنودىم إما مأسوروف أو مقتولوف أو‬
‫مشردوف أ و منفيوف‪٩ ،‬با جعل تعطشنا للنصر يدفع ببعض ساستنا‬
‫ومفكرينا وإعبلميينا لتحويل ىزائمنا الكثّبة والكبّبة إذل انتصارات كاذبة‪،‬‬
‫ومن ٍب حفز رجالنا وشبابنا للقياـ ٗبا يرفضو وٲبجو العادل‪ ،‬من خطف‬
‫للطائرات‪ ،‬وتدمّب للمباشل والسفارات‪ ،‬وترويع وقتل لبلبرايء من األطفاؿ‬
‫والنساء‪ ،‬مستخدمْب مبدأ نيقوال مكيافللي الشهّب أبف "الغاية تربر‬
‫الوسيلة"‪ ،‬وال مانع توازايً مع تلك األفعاؿ من استخداـ الكذب ُب‬
‫وسائط األعبلـ‪ ،‬وا‪٥‬برب من ا‪٤‬بعارؾ‪ ،‬كما حدث ُب كابوؿ‪ ،‬و‪ٛ‬بجيد من‬

‫(‪ )64‬جياد ببل فرساف – سامي عبد اللطيف النصف – مقاؿ – جريدة الشرؽ‬
‫األوسط اللندنية – ‪ 21‬نوفمرب ‪ – 2002‬العدد ‪.875‬‬
‫&‪http://archive.aawsat.com/leader.asp?section=3‬‬
‫‪issueno=8759&article=137077#.WlbBda6WbIU‬‬
‫‪540‬‬
‫يقوموف بتلك األعماؿ ا‪٣‬باطئة‪ ،‬بدءًا من وديع حداد وجبهتو ُب‬
‫السبعينات‪ ،‬وانتهاءً اببن الدف وقاعدتو ُب التسعينات‪.‬‬

‫وقد يكوف أحد االستثناءات القليلة ُب ىزائمنا ا‪٤‬برة أماـ ا‪٤‬بستعمر‬


‫بطل مسلم أخرجناه ألسباب سياسية من ملة اإلسبلـ‪ ،‬استطاع بقدراتو‬
‫وشجاعتو أف يهزـ جيوش أورواب ‪٦‬بتمعة ومعها جيوش اسَباليا ونيوزيلندا‪ ،‬وأف‬
‫ٱبرجهم ابلقوة من ببلده الٍب اقتسموىا كحاؿ أوطاننا العربية واإلسبلمية وقد‬
‫ضجت وفرحت شعوب الشرؽ كافة ابنتصاراتو آنذاؾ‪ ،‬حٌب دعاه ا‪٥‬بنود‬
‫والروس واألفغاف وأىل إيراف للتحالف معهم لطرد احملتلْب‪ ،‬وفيو قاؿ أمّب‬
‫الشعراء أ‪ٞ‬بد شوقي‪:‬‬

‫هللا أكرب ك ُب الفتح من عجب‬

‫ي خالد الَبؾ ج ِّدد خالد العرب‬

‫واالستثناء ىو "بطل غاليبويل" و"بطل الدردنيل" و"بطل السخاري"‬


‫و"ؿبرر القفقاس" الغازي‪ ،‬والذئب األغرب مصطفى كماؿ أاتتورؾ‪ ،‬الذي ‪ٙ‬بتاج‬
‫سّبتو إذل زايرة جديدة تعيد االعتبار لو ُب داير اإلسبلـ‪.‬‬

‫وىذه األايـ يعرض مسلسل على الفضائيات العربية أاثر ضجة حولو‪،‬‬
‫وىو مسلسل‪" :‬فارس ببل جواد"‪ ،‬الذي يروي كما نشاىد قصة بطل آخر من‬
‫عرفو‬
‫أبطاؿ األمة ىو حافظ ‪٪‬بيب‪ .‬وا‪٢‬بقيقة ا‪١‬بلية ت ػ ػُظهر أف ا‪٤‬بذكور كما ّ‬
‫كاتب مذكراتو‪٩ ،‬بدوح الشيخ‪ ،‬ىو ‪٧‬بتاؿ وجاسوس وماجن ونصاب مطلوب‬
‫‪541‬‬
‫للعدالة‪ .‬وتلك ا‪٤‬بذكرات كتبت عن الفَبة الٍب انتهت عاـ ‪ ،1908‬وال دخل‬
‫‪٥‬با من قريب أو بعيد بػ "بروتوكوالت حكماء صهيوف"‪ ،‬وليست معادية‬
‫لليهود‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬ففي أكثر من مكاف ُب ا‪٤‬بذكرات يظهر حافظ‬
‫أفضا‪٥‬بم عليو‪ ،‬كما أف صاحبها توُب عاـ ‪ ،1946‬أي دل يشهد عاـ نكبة‬
‫فلسطْب كما يدعي ا‪٤‬بسلسل‪.‬‬

‫ولقد ولد حافظ الب ا‪٠‬بو ‪٪‬بيب اختطفو ابشا تركي وزوجو ابنتو‬
‫"ملك"‪ٚ .‬برج من كلية ساف سّب الفرنسية‪ .‬وخدـ ُب ا‪١‬بزائر ‪ٙ‬بت قيادة ا‪١‬بنراؿ‬
‫الشهّب غورو‪ٍ ،‬ب جنده اؼبكتب الثاٍل الفرنسي للقياـ بدور خادـ أخرس‬
‫وح ِكم عليو ابإلعداـ‪ ،‬إال أنو‬
‫للتجسس على ضابط أ‪٤‬باشل كبّب‪ ،‬وكشف أمره ُ‬
‫‪٪‬با أبعجوبة‪ ،‬وعاد إذل حياة اجملوف واالحتياؿ ُب مصر‪ ،‬وصادؽ وىو الشاب‬
‫الصغّب الراقصة الشهّبة شفيقة القبطية ُب كربىا‪ .‬اشتهر بقدرتو الفائقة ُب‬
‫التنكر‪ ،‬وخطط إلعبلف موتو ودفن جثتو‪ٍ .‬ب ‪١‬بأ إذل أحد األديرة وادعى أنو‬
‫راىب قبطي ا‪٠‬بو جرجس غارل‪ .‬وقد كتب كراىب شعراً ُب الثناء على الشيخ‬
‫عبد العزيز جاويش‪ ،‬صاحب جريدة "اللواء" أاثر ضجة والقى استحساف‬
‫الزعيم الوطِب دمحم فريد‪.‬‬

‫وُب عاـ ‪ 1912‬اشتهر ُب مصر كتاابف ٮبا‪" :‬غاية اإلنساف"‪،‬‬


‫و"روح االعتداؿ" بزعم أاهما من أتليف فبلسفة فرنسيْب ٍب اتضح أاهما من‬
‫أتليف طريد العدالة حافظ ‪٪‬بيب‪ .‬وقد أصدر عنو الصحاُب اللبناشل جورج‬

‫‪542‬‬
‫طنوس كتاابً ا‪٠‬باه‪" :‬الراىب اؼبسل " عاـ ‪ ،1910‬وجاء ُب كتاب مذكراتو أف‬
‫الصحف العا‪٤‬بية كانت تتسابق لنشر أخباره وعقد ا‪٤‬بقارانت بينو وبْب ا‪٤‬بغامرين‬
‫واحملتالْب العا‪٤‬بيْب أمثاؿ الفرنسي "اؼباير" الذي قيل إنو ابع برج إيفل مرتْب‪.‬‬

‫ا‪٤‬بصري حافظ ‪٪‬بيب‪ ،‬ومثلو الرحالة اللبناشل أمْب الرٰباشل‪ ،‬والعراقي‬


‫يونس ٕبري‪ُ ،‬ب حاجة ‪٤‬بن ينفض الغبار عن سّبة حياهتم ا‪٢‬بافلة اب‪٤‬بغامرات‬
‫ويعرضها علينا عرب أفبلـ أو مسلسبلت تلتزـ الصدؽ‪ ،‬وال ‪ٚ‬بلق لنا فرساانً على‬
‫الورؽ يعوضوننا عن األبطاؿ ا‪٢‬بقيقيْب الذين نفتقدىم منذ قروف ُب ساحات‬
‫الوغى!‬

‫‪543‬‬
‫اعَبافات(‪)65‬‬
‫‪ٝ‬بيل مطر‬

‫‪ 26‬يناير ‪2016‬‬

‫تلح علينا أحياانً الرغبة َب أف نعَبؼ‪ .‬نعَبؼ ٖبطأ ارتكبناه أو خطيئة‬


‫مارسناىا‪ .‬ىذه الرغبة‪َ ،‬ب حد ذاهتا‪ ،‬ليست جديدة بْب الرغبات‪ ،‬فا‪٤‬بيل‬
‫لبلعَباؼ بْب اثنْب أو َب نطاؽ ‪٧‬بدود موجود منذ القدـ‪ .‬ا‪١‬بديد ىو ىذا‬
‫اإلقباؿ الشديد على ‪٩‬بارسة االعَباؼ العلُب‪ ،‬أى َب حضور ‪ٝ‬باعة أو على‬
‫مرأى ومسمع من مئات ورٗبا آالؼ ومبليْب الناس‪.‬‬

‫***‬

‫يوميا نقرأ اعَبافات على صفحات الفيسبوؾ والتويَب‪ ،‬ونشاىد‬


‫مشاىّب َب برامج كبلـ تليفزيوسل يتنافسوف على اإلدالء طوعياً ابعَبافات‪،‬‬
‫بعضها ٱبدش ا‪٢‬بياء أو الكرامة وأكثرىا يقع ‪ٙ‬بت طائلة القانوف لو جاء َب‬
‫رواية أو عمل أدىب‪ .‬ىناؾ أيضاً ما يعرؼ بسينما ومسلسبلت الواقع وجلسات‬

‫(‪ )65‬اعَبافات ‪ -‬صبيل مطر ‪ -‬مقاؿ ‪ -‬جريدة الشروؽ اؼبصرية ‪/1 /26 -‬‬
‫‪.2016‬‬
‫‪544‬‬
‫العبلج النفسى ا‪١‬بماعى‪ .‬وقبل ىذا وذاؾ أكواـ من كتب ومقاالت يتسابق‬
‫مؤلفوىا على سرد تفاصيل خاصة وشخصية جدا ٯبرى تصنيفها ‪ٙ‬بت عنواف‬
‫أدب االعَبافات‪.‬‬

‫***‬

‫ٰبكوف إنو َب األزمنة القدٲبة كاف االعَباؼ يتم علناً أماـ أىل‬
‫العشّبة‪ٍ ،‬ب انتقلت ىذه ا‪٤‬بمارسة إذل الكنائس فكانت تقاـ أماـ ا‪٤‬بصلْب قبل‬
‫أف تصبح إجراءً ثنائياً بْب القس وطالب االعَباؼ‪.‬‬

‫كاف القديس أوجستْب من أشد ا‪٤‬بتحمسْب لبلعَباؼ ا‪١‬بماعى‪ٗ ،‬بعُب‬


‫االعَباؼ أماـ ‪ٝ‬بهرة ا‪٤‬بصلْب‪ .‬قاؿ َب عظة لو‪ ،‬إف ا‪٤‬بغفرة تتطلب االعَباؼ‬
‫لآلخرين وال يكفيها االعَباؼ سرا هلل‪ .‬كاف ىو نفسو ٭بوذجاً حْب كتب ثبلثة‬
‫عشر ‪٦‬بلداً بْب عامى ‪ ٧٩٣‬و‪ٙ ٠٤٤‬بت عنواف‪" :‬اعَبافات"‪ .‬كاف فيها‬
‫صرٰباً للغاية وصادقاً حسب رأى بعض النقاد وا‪٤‬بؤرخْب‪ .‬كاف يقوؿ َب عظاتو‬
‫إف ا‪٣‬بطأ الذى يرتكبو اإلنساف ويبقيو سراً‪ ،‬سوؼ يسرى َب جسده كالسم‬
‫الذى ٯبرى َب العروؽ‪ ،‬كبلٮبا يتعْب طرده من ا‪١‬بسم‪ .‬وبعد قروف جاء جاف‬
‫جاؾ روسو‪ ،‬ليكتب ‪ٙ‬بت العنواف ذاتو اعَبافاتو ولكن ليؤكد أف اجملتمع يشارؾ‬
‫َب مسئولية ا‪٣‬بطأ الذى يرتكبو اإلنساف‪.‬‬

‫***‬

‫‪545‬‬
‫أميل إذل اعتناؽ الرأى القائل أبف االعَباؼ ٖبطأ أو خطيئة ىو أحد‬
‫األعمدة الضرورية الكتماؿ صحة الفرد النفسية‪.‬‬

‫يعرؼ كل منا مدى ثقل مسئولية ‪ٞ‬بل سر من األسرار لفَبة طويلة أو‬
‫قصّبة‪ .‬بل إف كثّبا من األطفاؿ والبسطاء من الكبار يكشفهم االرتباؾ إف ‪٫‬بن‬
‫كلفناىم بسر ليكتمونو‪ ،‬فما ا‪٢‬باؿ إذا كاف ىذا السر يتعلق ٖبطأ أو خطيئة‪.‬‬
‫ا‪٤‬بسئولية ىنا تصبح أكرب وأخطر‪.‬‬

‫االعَباؼ ٰبرر اإلنساف من عبء ثقيل إف دل ٱبلصو من سم أليم‪،‬‬


‫حسب وصف القديس أوجستْب‪ ،‬ٱبلصو من عذاب ضمّب‪ ،‬وأحياانً ٲبثل‬
‫ألطراؼ أخرى رسالة اعتذار عن خطأ ارتكبو االنساف َب حقهم‪ .‬قيل أيضا َب‬
‫حسنات االعَباؼ أنو ٲبكن أف ٱبلق ‪ٞ‬بيمية دل تكن موجودة َب العبلقة بْب‬
‫ا‪٤‬بعَبؼ وا‪١‬بمهور ا‪٤‬بتلقى لبلعَباؼ‪ .‬أعرؼ ابلتجربة وا‪٤‬بتابعة عن عبلقات‬
‫‪ٞ‬بيمة بدرجات شٌب نشأت بتأثّب اعَباؼ إنساف أماـ إنساف آخر‪.‬‬

‫ٰبدث ىذا َب كل مرة يعَبؼ الطفل ابرتكاب ذنب‪ ،‬فإف خلصت‬


‫النوااي يسود لسبلـ بعد اعَبافو وترفرؼ السعادة وهتدأ النفوس‪ٰ .‬بدث أيضا َب‬
‫ا‪٤‬بدرسة عندما يعَبؼ تلميذ أماـ زمبلئو أبنو مارس الغش فحصل على درجات‬
‫أعلى ‪٩‬با حصلوا عليو‪ ،‬أو أنو مارس الوشاية مع مدرس الفصل أو انظر‬
‫ا‪٤‬بدرسة‪ .‬بل ٰبدث كذلك حْب يعَبؼ الزوج طواعية وليس ‪ٙ‬بت القسر أو‬
‫االنكشاؼ‪ ،‬فيستعيد البيت صفاءه وسعادتو‪ ،‬ورٗبا عاد الصفاء أكثر عمقاً‪.‬‬

‫‪546‬‬
‫أقوؿ يعَبؼ الزوج وال أقوؿ تعَبؼ الزوجة‪ ،‬فا‪٤‬برأة َب الغالب‪ ،‬وٖباصة الزوجة‪،‬‬
‫وحسب رأى بعض علماء النفس ال ‪ٙ‬بب االعَباؼ أبخطائها لعائلتها وإف‬
‫كانت ال ‪ٛ‬بانع من ‪٩‬بارسة االعَباؼ أماـ من ‪ٚ‬بتارىم من األصدقاء وأحياانً‬
‫الغرابء والقساوسة‪.‬‬

‫***‬

‫كثّبوف ٰبذروف من سلبيات االعَباؼ‪ .‬يسود الظن أبف الناس ال‬


‫تغفر بسهولة‪ٗ .‬بعُب آخر قد يؤدى االعَباؼ َب حاالت معينة إذل فقداف‬
‫عبلقات وصداقات قدٲبة‪ٰ .‬بتار اإلنساف ا‪٤‬بخطئ بْب صعوبة التعايش مع خطأ‬
‫دل يعد يتحملو‪ ،‬وا‪٣‬بوؼ من فقداف من ٰببو أو خيبة أمل أىلو وعشّبتو‪ .‬ىناؾ‬
‫من يعتقد أف استعادة عبلقة ‪ٞ‬بيمة أو االقَباب األوثق من شخص أو‬
‫أشخاص نتيجة االعَباؼ قد يشكل خطرا‪ ،‬ابعتبار أف إقامة العبلقات ا‪٢‬بميمة‬
‫واحملافظة عليها عادة ما تتطلب ‪ٜ‬بنا غاليا وتضحيات كبّبة من الطرفْب‪.‬‬

‫***‬

‫نعرؼ من ٘بارب ا‪٢‬بياة أف اعَبافا قد ٯبر َب ركابو اعَبافات آخرين‬


‫ليست ابلضرورة صادقة أو بريئة ولدينا ٭باذج عديدة َب موجة االعَبافات‬
‫التليفزيونية‪ .‬تكمن ا‪٣‬بطورة ىنا َب احتماؿ أف يتشجع الشباب ا‪٤‬بشاىد‬
‫فيمارس األخطاء الٌب يعَبؼ هبا ا‪٤‬بشاىّب الذين يبالغوف عادة َب ٘بميلها وإبراز‬
‫‪٧‬باسنها‪ .‬ىكذا تتحوؿ االعَبافات إذل أداة لَبويج األخطاء والتقليل من أٮبية‬

‫‪547‬‬
‫عواقبها‪ .‬يزيد من خطورة ىذا النوع من االعَبافات حجم الكذب وا‪٤‬ببالغة‬
‫واستخداـ ا‪٣‬بياؿ لسرد رواايت مصطنعة‪.‬‬

‫***‬

‫أتصور أف ىناؾ صلة ما تربط بْب موجة االعَبافات العلنية أو‬


‫ا‪١‬بماعية وحاجة الشعوب ا‪٤‬بتزايدة إذل ا‪٤‬بشاركة‪ .‬الناس َب كل مكاف‪ ،‬وليس‬
‫فقط َب بلدان‪ ،‬تريد ا‪٤‬بشاركة‪ .‬حاولت أف تشارؾ ابلتظاىر واالعتصاـ‪ .‬أقامت‬
‫حفبلت غناء اب‪٤‬بيادين‪ .‬انغمست حٌب أذنيها َب الفيسبوؾ والتويَب‪ ،‬وىى اآلف‬
‫‪ٙ‬باوؿ أف تشارؾ اب‪٤‬بشاطرة أبسرارىا وأدؽ خصوصياهتا‪ .‬تريد أف يسمعها‬
‫آخروف حٌب لو كاف ما تدذل بو اعَبافا ٖبطأ أو ٖبطيئة تؤاخذ عليهما‪.‬‬

‫أتساءؿ‪ ،‬وأظن أف أغلبنا يتساءؿ‪ ،‬عن تفسّب معقوؿ ‪٥‬بذا القبوؿ العاـ‬
‫من جانب معظم الناس لطغياف الدولة َب كل مكاف‪َ ،‬ب أمريكا كما َب روسيا‬
‫والصْب وا‪٥‬بند‪ ،‬على أسرار ا‪٤‬بواطنْب من خبلؿ الرقابة على ‪ٝ‬بيع أدوات‬
‫االتصاؿ‪ .‬نعرؼ ونتأفف ولكن ال نعَبض بشدة‪.‬‬

‫***‬

‫يلعب الكذب وا‪٣‬بياؿ دوراً كبّباً َب موجة االعَبافات العلنية الراىنة‬


‫كما لعباه َب القرنْب الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،‬عصر ازدىار االعَبافات‪.‬‬
‫وقتها خرجت إذل ا‪٤‬بكتبات مئات الكتب ‪ٙ‬بوى اعَبافات لنساء أقمن عبلقات‬
‫مع رجاؿ من طبقتهن‪ .‬أعطت بعض ىذه االعَبافات انطباعاً ابلصدؽ‬

‫‪548‬‬
‫واألمانة‪ ،‬ويعتقد بعض مؤرخى األدب‪ ،‬أاها أدت بكفاءة وظيفة النقد‬
‫االجتماعى ‪٢‬باؿ اجملتمع االرستقراطى الربيطاسل‪ .‬اعَبافات أخرى استخدمت‬
‫ىذه ا‪٤‬بؤلفات ا‪١‬بادة والصادقة مظلة ‪ٚ‬بتفى ‪ٙ‬بتها كتب عديدة قائمة على كثّب‬
‫من الكذب وا‪٣‬بياؿ‪ ،‬وبعضها بغرض التشهّب‪.‬‬

‫***‬

‫كل منا لديو ما ٱبفيو‪ ،‬وكثّبوف بيننا يتوقوف إذل صدر حنوف وكتوـ‬
‫يتسع ألسرارىم‪ .‬السر إذا كاف ٱبفى خطأ أو خطيئة يبقى سيفاً مسلطاً على‬
‫عنق السبلـ النفسى لئلنساف‪ .‬ا‪٢‬بل الوحيد ىو الكشف عنو وتعريتو ابالعَباؼ‬
‫اب‪٣‬بطأ أو ا‪٣‬بطيئة‪ .‬االحتفاظ ابلسر مكتوماً لو خطورتو وكذلك االعَباؼ‬
‫اب‪٣‬بطأ أو ا‪٣‬بطيئة‪ ،‬ولكن تبقى ا‪٢‬بقيقة واضحة وىى أف خطورة االحتفاظ‬
‫ابلسر تظل مسلطة طوؿ العمر‪ ،‬أما ا‪٣‬بطورة النا‪ٝ‬بة عن االعَباؼ فوقتية وقابلة‬
‫لتجاوزىا والتغلب عليها‪ ،‬بل ونسيااها‪.‬‬

‫‪549‬‬
‫حافظ قبيب يهدد اؼبلك فؤاد ُب "اغباوي"‪..‬‬

‫وجبللتو يغلق اجمللة ابلضبة واؼبفتاح(‪)66‬‬

‫أضبد حسْب الطماوي‬

‫حافظ ‪٪‬بيب رجل قوي ا‪٢‬بيلة‪ ،‬وا‪٢‬بيلة ىي قدرة الذىن علي‬


‫التصرؼ ُب ا‪٤‬بواقف ا‪٤‬بعقدة ٗبا يناسب‪ ،‬وىي عنده فطرة ٭بتها ٘باربو‬
‫وثقافاتو‪ ،‬وقد يضطر إذل تنفيذىا اب‪٤‬بغامرة احملسوبة‪ ،‬وا‪٣‬بطة احملبوكة‪ ،‬فكثّب‬
‫من ا‪٤‬بعضبلت الٍب واجهتو أوجد ‪٥‬با حلوالً ٕبيلو ا‪٤‬برسومة‪ ،‬وقد عرؼ عنو‬
‫النصب واالحتياؿ ُب مقتبل عمره‪ ،‬واستطاب ا‪٢‬بياة معهما ألنو قادر علي‬
‫النفاد إرل سريرة ا‪٤‬برء‪ ،‬وإدراؾ مواضع الغفلة فيو‪ ،‬وعجزه عن ‪ٛ‬بحيص ما‬
‫يقاؿ لو‪.‬‬

‫ولكن ىذا العقل دل ينصرؼ ‪ٛ‬باماً إرل الشر‪ ،‬وإ٭با ُب كثّب من‬
‫األحياف يغلب عليو الفكر والفن‪ ،‬فينتج أدابً وفكراً اجتماعياً‪ ،‬وىو ابلرغم‬
‫من ا‪٫‬برافو أحد صناع الثقافة إذ أنو شاعر وقاص وروائي ومَبجم وكاتب‬
‫مسرحي‪ ،‬و‪٩‬بثل مسرحي‪ ،‬وواعظ ديِب وصحفي حرر ‪٦‬بلتْب‪.‬‬

‫(‪ )66‬حافظ قبيب يهدد اؼبلك فؤاد ُب "اغباوي"‪ ..‬وجبللتو يغلق اجمللة‬
‫ابلضبة واؼبفتاح – أضبد حسْب الطماوي – مقاؿ جريدة القاىرة – ‪.2012 /2 / 21‬‬
‫‪550‬‬
‫وحافظ ‪٪‬بيب رجل ‪٦‬برب متدرب علي أعماؿ متنوعة و‪٧‬بيط‬
‫ٗبستلزمات كل منها وملم اب‪٤‬بؤثرات الٍب تؤثر علي النفس وتلوف الفكر‪،‬‬
‫ومثلو ال ‪ٚ‬بدعو بوادي الناس عن دخائلو وال مظاىر ا‪٢‬بياة عن خفاايىا‪ .‬د‬

‫فقد كاف ضابطاً وجاسوساً ومدرساً و‪٩‬بثبلً وراىباً ُب أديرة‬


‫النصاري وصدر عنو كتاب‪" :‬الراىب اؼبسل " وواعظاً مسلماً يعظ‬
‫ا‪٤‬بسجونْب وىو أحد السجناء‪ ،‬وكاف عاشقاً ومعشوقاً و‪٧‬بتاالً‪ ،‬وُب كل ىذا‬
‫كانت تناجيو نفسو ٗبا ير٘بيو‪ ،‬وإذا اطلنا التأمل ُب ىذا أدركنا مدي اتساع‬
‫ذىنو واستشفافو لروح األشياء‪ ،‬وإ‪٤‬بامو بطبيعة العصر الذي وجد فيو وألواف‬
‫النفوس ومعايّب الناس ُب عيار األمور إرل جانب ثقافتو وقراءتو‪.‬‬

‫وىو ُب رواايتو الٍب ابتدعها ال أقوؿ إنو ٲبيل إرل الغرائب‬


‫والغوامض وا‪٢‬بوادث ا‪٤‬بثّبة ا‪٤‬بدىشة وا‪٢‬بيل العجيبة وا‪٢‬بذر وا‪٤‬براقبة والَببص‬
‫والتنكر إرل آخره وإ٭با أذىب إذل أنو من صناع ىذه األشياء الٍب تعد من‬
‫مفردات حياتو وأعمالو الفنية‪ ،‬فهو ال يري أف القصة أعماؿ تقع ُب نطاؽ‬
‫ا‪٢‬بياة اليومية‪ ،‬وشخوص يتصرفوف ٗبا يناسب البيئة والزمن‪ ،‬وإ٭با ىي تزخر‬
‫ابلدسائس وا‪٤‬براوغات واالستخفاء والتمويو‪ ،‬واالنتقاـ‪ ،‬واألخطار ا‪٤‬بتبلحقة‬
‫إرل جانب ا‪٤‬بغالبة وا‪٤‬بغالطة لذلك فإف روايتو ال تنطفئ وقدهتا‪ ،‬وإ٭با تظل‬
‫فاعلة متحركة مع اتساع دائرة الصراع فيها‪ ،‬والبطل وىو حافظ ‪٪‬بيب‬
‫يكوف غازايً ظافراً ٰبقق رغباتو مرة اب‪٢‬بيلة‪ ،‬وأخري ابلقوة الٍب ىدت إليها‬
‫ا‪٢‬بيلة‪ ،‬والبطل ليس ‪٨‬برجاً وظا‪٤‬باً‪ ،‬وإ٭با ىو منقذ النفوس من ختل اآلخرين‬
‫‪551‬‬
‫وغشهم‪ ،‬أي أف ا‪٤‬بؤلف وىو بعينو البطل يصور األفكار ا‪١‬بميلة‪ ،‬ويعزز‬
‫القيم النبيلة وىو ما ‪٪‬بده ُب كثّب من القصص البوليسية‪ ،‬كما أف ىذا‬
‫اللوف يناسبة وٯباري حياتو ‪٤‬با عرؼ عنو من ٘بسس ومطاردة ومفاجأة‪،‬‬
‫وتدويخ الشرطة اب‪٢‬بيل وىي قواـ القصص البوليسية‪.‬‬

‫وىو كاتب يتعمق ا‪٤‬بواقف ويتأملها وٯبيد ‪ٙ‬بليل النفوس ويستبطن‬


‫أعماقها من أقوا‪٥‬با ويستشعر القارئ ىذا ُب شخوص بدائعو الروائية‪،‬‬
‫و‪٢‬بافظ نظرية ُب العواطف بثها ُب روايتو‪" :‬اغبب واغبيلة" ومفادىا أف‬
‫حب الفتاة ُب الصبا طيش‪ ،‬تندفع فيو بتأثّب عمرىا الصغّب‪ ،‬وغالباً ما أيٌب‬
‫مصادفة أو علي أثر نظرة لذلك يسهل عليها مقاومتو‪ ،‬ويزوؿ أثره ٗبرور‬
‫األايـ‪ ،‬أما حب ا‪٤‬برأة بعد بلوغها سن النضوج فإنو القوة الٍب ينخلع هبا‬
‫فؤادىا ينغرس ُب القلب ويتأصل فيو ليثبت ويقوي ويَبعرع‪ ..‬ويدوـ ىذا‬
‫النوع من ا‪٢‬بب‪ ،‬إنو ا‪٢‬بب ا‪٢‬بكيم يشَبؾ ُب وجوده العقل والقلب وأيٌب‬
‫بعد تردد واختيار‪.‬‬

‫وقد تكوف نظرتو صحيحة ألف للمرأة الناضجة تقديراً ‪٤‬بن تراه‬
‫جديراً هبا‪ ،‬فهي ال تعشق نتيجة انفعاؿ طارئ‪ ،‬وإ٭با بعد تبىّن األسباب‬
‫الدافعة والبحث ُب األسباب عمل عقلي كثّبا ما تؤيده العواطف‪ ،‬أما‬
‫ا‪٢‬بب غّب ا‪٤‬بسبب فهو حب طائف طائر‪ ،‬وموازنة حافظ بْب ا‪٢‬بب‬
‫التلقائي الذي يكوف نتيجة مصادفة أو ‪٧‬بادثة أو ‪٩‬بازحة وا‪٢‬بب االرادي‬

‫‪552‬‬
‫ا‪٤‬بسبب أبسباب والذي أيٌب نتيجة تفكّب وتدبّب واقتناع‪ ،‬فيها نظر ولكن‬
‫انتصاره للحب اإلرادي ٯبد من يؤيده‪.‬‬

‫والظاىر رل أننا ال نعرؼ طبيعة ا‪٢‬بب معرفة واضحة ابلرغم من‬


‫أف الناس مروا بتجربة ا‪٢‬بب‪ ،‬وعند انقضاء زمن ا‪٢‬بب يبدو للعشاؽ أنو دل‬
‫يستطع أف يتفهم نفسية اآلخر أو طبيعة حبو‪ ،‬وعندي أف ا‪٢‬بب ليست لو‬
‫طبيعة واحدة‪ ،‬وإف تشاهبت أشكالو وتقاربت أحبلمو وكل ما نعرفو أننا‬
‫‪٫‬بب ونتعذب ونفَبؽ‪ ،‬وىذا ُب معظم األحواؿ‪ ،‬ومن روافد نظرية ا‪٢‬بب‬
‫اإلرادي عنده أف ا‪٢‬بب ليس ابلضرورة أف يكوف ابلقلب واإلحساس‪ ،‬وإ٭با‬
‫قد يكوف اب‪٢‬بيلة أي إبثبات اإلخبلص والعطف والتضحيات وا‪٤‬بخاطرة‬
‫ابلنفس و‪ٚ‬بليص احملبوب من مشكلة وقع فيها لذلك ‪٠‬بي روايتو‪" :‬اغبب‬
‫واغبيلة"‪.‬‬

‫أعمالو‬

‫رواية "اغبب واغبيلة" الٍب أشران إليها واحدة من سلسلة رواايت‬


‫حافظ ‪٪‬بيب ا‪٤‬بؤلفة‪ ،‬ومن ابداعاتو األخري ُب حقل الرواية‪" :‬كنوز‬
‫السلطاف عبد اغبميد" الٍب صدرت عن "ؾبلة اؼبرصد" وقاـ فيها بدور‬
‫مراسل صحفي يواُب صحيفتو أبخبار ا‪٢‬برب البلغارية‪ /‬العثمانية عاـ‬
‫‪ ،1913‬وكاف قد أحب إيفاان وبعد أىواؿ وأخطار يتزوجها ُب اهاية‬
‫الرواية‪.‬‬

‫‪553‬‬
‫ونذكر كذلك روايتو "اعباسوس اؼبصري" الصادرة ُب سلسلة‪:‬‬
‫"مسامرات الشعب" ‪ ،‬وقاـ فيها بدور خادـ عبيط عند ‪٩‬بثلة شهّبة ‪٥‬با‬
‫عبلقات بعظماء أورواب واستخدـ حيلة ُب ا‪٢‬بصوؿ علي معلومات مهمة‬
‫وىو ُب كنفها وتقع أحداثها ُب أ‪٤‬بانيا‪ ،‬وغّبىا من الرواايت البوليسية أو‬
‫شبو البوليسية والٍب يصل عددىا إرل عشر‪ ،‬وكاف ٯبب أف تكوف عندان‬
‫دراسة وافية واسعة عن الرواية البوليسية تتناوؿ نشأهتا وتطورىا ُب مصر‪،‬‬
‫وأتخذ ُب اعتبارىا رواايت حافظ ‪٪‬بيب ا‪٤‬ببكرة وا‪٤‬بؤلفة‪.‬‬

‫ولكن لؤلسف أٮبل الدارسوف ىذه الرواايت‪ ،‬أو كما قاؿ األستاذ‬
‫صبلح عيسي "ولعلها من األعماؿ الرائدة الٍب ال تزاؿ بعيدة عن‬
‫اىتماـ دارسي تطور الرواية العربية " (ج القاىرة ‪12/ 11/ 2002‬ـ)‪.‬‬

‫وُب عدد ‪ 19‬يناير ‪ 1926‬من ‪٦‬بلتو "اغباوي" رد حافظ ‪٪‬بيب‬


‫ابستعزاز علي شخص يدعي "البحراوي" يقيم ُب االسكندرية يقوؿ‪:‬‬

‫"من حافظ قبيب وؿبرر اغباوي ومَبج روح االعتداؿ غاية‬


‫اإلنساف النشائة دعائ األخبلؽ‪ ،‬مناىج اغبياة‪ ،‬الغرور‪ ،‬وعدد ‪22‬‬
‫رواية جونسوف‪ ،‬وعدد ‪ 8‬ملتوف وعدد ‪ 4‬معرابت حافظ قبيب وعدد‬
‫‪ 10‬روايت حافظ قبيب‪ ،‬ومَبج الغرفة الصفراء وسر اعبريبة‪،‬‬
‫والشيخ اؼبخيف""‪.‬‬

‫‪554‬‬
‫والكتاابف األوالف‪" ،‬روح االعتداؿ"‪ ،‬و"غاية اإلنساف" نسب‬
‫تر‪ٝ‬بتها إرل "وسيلة دمحم"‪ .‬وىي زوجتو وال صلة ‪٥‬با هبما وكاف وقت تر‪ٝ‬بتها‬
‫مطارداً من الشرطة و‪٨‬بتبئ وال يستطيع أف يظهر ا‪٠‬بو عليهما‪ ،‬وألجل‬
‫تغزير مادتو الكتابية نضيف إرل ما قالو ُب رواية كتبها وىو ُب سجن‬
‫ا‪٢‬بضرة نشرىا "جورج طنوس" ُب كتاب "انبغة احملتالْب ‪ -‬حافظ‬
‫قبيب"‪.‬‬

‫ويضم ىذا الكتاب ‪٦‬بموعة من أشعاره إرل جانب ‪٦‬بموعة أشعار‬


‫أخري نشرهتا ‪٦‬بلة "األقبلـ" سنة ‪ 1906‬وقصص قصّبة أخري ورواية‬
‫"ثورة العواطف" وىي مؤلفة‪ ،‬ومنشورة ُب عدد خاص من ‪٦‬بلتو "اغباوي"‬
‫ُب مايو ‪.1926‬‬

‫وختم حياتو بكتاب‪" :‬اعَبافات حافظ قبيب" الذي ظهر بعيد‬


‫وفاتو بقليل‪ .‬وقد روي فيو ذكرايتو واألحداث الٍب مر هبا حٍب يناير‬
‫‪ . 1909‬ىذا إضافة إرل أنو حرر ‪٦‬بلتْب اسبوعيتْب كاف يكتب الغالبية‬
‫العظمي من موادٮبا أي أف ‪٦‬بموع أعمالو ‪ٛ‬بؤل رفاً كامبلً ُب مكتبة‪ ،‬وىو‬
‫إنتاج كبّب دل تكتب عنو دراسة وافية موضوعية ‪ٙ‬بليلة تقيمو وتضعو ُب‬
‫مكانتو الٍب يستحقها‪.‬‬

‫"العاؼبْب"‬

‫‪555‬‬
‫وكاف حافظ ‪٪‬بيب قد حقق شهرة واسعة وصار حديث اجملالس‬
‫وا‪١‬برائد ُب الربع األوؿ من القرف العشرين نتيجة الرواايت والكتب الٍب‬
‫تر‪ٝ‬بها وألفها‪ ،‬وما كتبتو عنو ‪٨‬بتلف الصحف عن حوادثو مع الشرطة وما‬
‫جري معو ُب ساحات احملاكم‪ ،‬وُب شهر مايو ‪ 1922‬أصدر عبد القوي‬
‫ا‪٢‬بليب ‪٦‬بلة "العاؼبْب" واستكتب فيها عدداً من الكتّاب منهم كامل كيبلشل‬
‫وطنطاوي جوىري ودمحم يونس القاضي‪ .‬ومع ذلك تعثرت ودل يكتب ‪٥‬با‬
‫الرواج‪ ،‬وُب عامها الثاشل وسع صاحبها من مساحة صفحتها‪ ،‬وأكثر من‬
‫صورىا وزودىا بعدد آخر من الكتّاب‪ ،‬وجعل "علي اغبمراوي" مديرىا‬
‫ا‪٤‬بارل‪ ،‬وحافظ ‪٪‬بيب رئيس قسم التحرير فيها‪ ،‬أو رئيساً للتحرير كما نقوؿ‬
‫اليوـ‪ ،‬وجاء ىذا واضحاَ ترويسة اجمللة‪.‬‬

‫وبعيد توليو رائسة التحرير كتب ُب افتتاحية عدد‬


‫‪ 12/10/1922‬يقوؿ‪" :‬مبدأان فيو أف تكوف صحيفة أدب تلتقي فيها‬
‫بدائع ما أخرجتو حضارة الغرب دبا يتنزؿ علي أفئدة كبار كتابنا ُب‬
‫إصبلح شئوننا‪ ،‬واالجداء علي هنضتنا‪ ،‬وبث اؼبيادين اعبديدة الٍب‬
‫ىزت اليوـ أركاف اإلنسانية اؼبتحضرة وتقريب النظريت العلمية‬
‫الطريفة الٍب أحدثت ثورهتا الكربي ُب عناصر اؼبدنية وغّبت وجو‬
‫اإلنسانية وسنل فيها بشئوننا االجتماعية‪ ،‬فنتناوؽبا ابلدرس وأنخذىا‬
‫إيل اجملهر فنلمس وقائعها‪ ،‬وموضع العلل فيها ونعاِب وصف أقبح‬
‫األدوية للخبلص من سوء أثرىا حٍب تكوف صحيفتنا معرض صور‬
‫‪556‬‬
‫مصرية ومرآة تَباءي فيها نفسية ىذه األمة وتنعكس عنها أخبلقها‬
‫وتطورىا‪ ،‬وننظر إيل اغبياة‪ ،‬وإسهامها ُب حركة التقدـ اإلنساٍل‬
‫وسنحشد جبانب ذلك خواطر ُب النقد األديب فنستعرض ما بصدد من‬
‫التأليف وما ىبرج للناس من األسفار اعبديدة فنثِب علي عنصر اػبّب‬
‫فيها‪ ،‬وننتقد مواضع الزلل منها‪ ،‬وال نقع ُب أعراض الناس وال نتخذ‬
‫ىذه الصحيفة احتكاراً فنجعلها صورة ذىننا"‪.‬‬

‫وىي خطة عمل جيدة مَبمية األبعاد ُب ميادين الثقافة ا‪٤‬بتنوعة‬


‫وتستمسك اب‪٤‬بعايّب الصحيحة للصحف الٍب توطد مكانتها عند القراء‪.‬‬
‫وحسب ما برع فيو حافظ ‪٪‬بيب‪ ،‬ومعرفتو أبف الرواايت والقصص رائجة‪،‬‬
‫وأاها توسع من انتشار الصحف‪ ،‬فقد عمل إرل تر‪ٝ‬بة رواية‪" :‬الغرفة‬
‫الصفراء" وغّبىا ليبلحق القارئ "العاؼبْب" ويتابع أحداث الرواية‪ ،‬ىذا إرل‬
‫جانب نشر "قصة األسبوع" وىي قصص قصّبة ومنها قصة "غراـ‬
‫انطواف دوريو" ابلفتاة "أليس"‪ ،‬وعندما قبض عليو وحوكم أخرب القاضي‬
‫أبنو سيهرب لبللتقاء بفتاتو‪ ،‬وابلفعل استطاع اإلفبلت وىذه القصة وقعت‬
‫أحداثها مع حافظ مع السائحة "سيجريس" وقبض عليو ُب قصر‬
‫"سرحاف ابشا" وىو إرل جوارىا و‪٤‬با طلبت منو أف تراه مرة أخري جعلها‬
‫ىي الٍب ‪ٙ‬بدد ا‪٤‬بكاف والزماف الذي سيلقاىا فيها وعندما وضعت القيود ُب‬

‫‪557‬‬
‫يديو قاؿ لرئيس البوليس إنو سيفلت من السجن فشددوا عليو ا‪٢‬براسة‪،‬‬
‫ومع ذلك فتحت الزنزانة صباحاً فإذا هبا خالية من "حافظ قبيب"‪.‬‬

‫وحسب ما جاء ُب "االعَبافات" لقيها ُب نفس الزماف وا‪٤‬بكاف‬


‫اللذين حددهتما فقصة "غراـ انطواف" فيها روح قصة حافظ الطويلة مع‬
‫"سيجريس"‪ ،‬أو ىي حادث من حوادثها‪ ،‬وقد شرح ُب اعَبافاتو كيف‬
‫أفلت من الزنزانة وىو عندما كتب القصة الفنية اختار حادثة من القصة‬
‫ا‪٢‬بقيقية أمؤل ابإلاثرة‪.‬‬

‫وُب قصة "فيلواثؤس" ٰبكي حكاية "غايل جرجس" الذي‬


‫ترىب ُب دير احملرؽ أبسيوط واختار لو الدير اسم فيلواثؤس وىو بعينو‬
‫"حافظ قبيب"‪ ،‬وإذا شق علي القارئ الذىاب إرل دار الكتب لقراءة ىذه‬
‫القصة ُب ‪٦‬بلة "العاؼبْب" فيمكنو قراءهتا ُب "اعَبافات حافظ قبيب" وىذا‬
‫يبْب أف قصصو ا‪٤‬ببتدعة مأخوذة من واقع حياتو مع تغيّب وتبديل ُب ا‪٤‬بواقع‬
‫واأل‪٠‬باء ولكن مسار القصة وا٘باىها ىو‪ ..‬ىو ولكن ال ننسي قدراتو ُب‬
‫‪ٝ‬باؿ العرض والتصوير‪.‬‬

‫الغرور‬

‫وكاف حافظ ‪٪‬بيب من الكتاب القبلئل الذين تناولوا بعض‬


‫كتاابت "ماكس نوردو" ُب "العاؼبْب" وكاف األستاذ العقاد كتب عنو‬
‫مقالتْب عاـ ‪ُ 1912‬ب ‪٦‬بلة "البياف" الٍب أنشأىا الشيخ عبد الر‪ٞ‬بن‬

‫‪558‬‬
‫الربقوقي‪ٍ ،‬ب عاد وكتب عنو ثبلث مقاالت ُب جريدة "الببلغ" ُب مطلع‬
‫عاـ ‪ ،1922‬و‪ٝ‬بعها ُب كتابو‪" :‬مراجعات ُب الكتب واغبياة" كذلك‬
‫كتب عنو األستاذ ا‪٤‬بازشل مقالتْب ُب جريدة "األخبار" عاـ ‪1923‬‬
‫و‪ٝ‬بعهما ُب كتابو‪" :‬حصاد اؽبشي " وكاف سبب كتابة ىذه ا‪٤‬بقاالت موت‬
‫"نوردو" ُب يناير ‪ ،1922‬ورٗبا لنفس السبب ترجم حافظ ‪٪‬بيب فصوؿ‬
‫كتابو عن ا‪٤‬بدنية ا‪٢‬باضرة وأكاذيبها‪ٍ .‬ب ‪ٝ‬بعها ُب كتاب أطلق عليو‪:‬‬
‫"الغرور" وقاؿ أنو "عُ ِّرب بتصرؼ اتـ" ومع حافظ ‪٪‬بيب حق ُب الَب‪ٝ‬بة‬
‫بتصرؼ كثّب‪ ،‬ألف "نوردو" كاف مارقاً كلفاً ابلتحرر من أحكاـ الدين ومن‬
‫ىنا جرد كتاب نوردو من اآلراء ا‪١‬بريئة ا‪٤‬بنحرفة‪ ،‬ومن معايب ا‪٤‬بدنية الٍب‬
‫نعايشها أكاذيب الزواج الٍب تبسط نفوذىا ُب اجملتمع‪ ،‬وخلل االقتصاد‬
‫ا‪٤‬بتفشي وما يقود السياسة من تضليل‪ ،‬وغّب ذلك والكتاب كلو ليس‬
‫ىدماً وازدراء‪ ،‬وإ٭با كاف مؤلفو أيمل ُب التقدـ‪ ،‬ويتطلع إرل حياة مشرقة ُب‬
‫الزمن القادـ يتآزر فيها الناس لتحقيق السعادة‪ .‬وابلرغم من أف ‪٢‬بافظ‬
‫مقاالت أخري جيدة فإف ما أحسن ما لو ُب "العاؼبْب" ىو الفصوؿ‬
‫ا‪٤‬بَب‪ٝ‬بة بتصرؼ كبّب من "نوردو"‪.‬‬

‫وىا‪ٝ‬بت اجمللة رجاؿ البعثات العلمية إرل أورواب ألاهم عادوا ودل‬
‫ٰبدثوا "انقبلابً" ُب مادة العلم لدينا أو غّبوا وجهة األدب عندان‪ ،‬أو أاثروا‬
‫اهضة اجتماعية كربي أو خلدوا ا‪٠‬باءىم وأرسلوىا مع الشمس وىو قوؿ‬

‫‪559‬‬
‫فيو جور‪ ،‬ألف ىؤالء الذين تعلموا ُب أورواب كاف ‪٥‬بم دورىم وتغيّب وجو‬
‫األدب‪.‬‬

‫والنهوض ابجملتمع وا‪٢‬بياة ال أيٌب ُب يوـ وليلة والبد أف ٲبضي‬


‫زمن لتظهر آاثر العلم ُب ‪٦‬بتمع تقليدي‪ .‬وكتبت اجمللة مقاالت عن ا‪٤‬برأة‬
‫فيها تشجيع ‪٥‬با ولكنها انتقدهتا ُب أمور منها تعجلها ُب إصدار األحكاـ‪،‬‬
‫ورأي حافظ أاها قليلة التبصر‪ ،‬وهتتم اب‪١‬بديد الطارئ دوف النظر ُب اخطاره‬
‫ا‪١‬بسيمة‪ ،‬وكانت ا‪٤‬برأة ُب العشرينات من القرف العشرين ُب مرحلة انتقالية‬
‫قد تتخبط فيها اآلراء وتتباين‪ ،‬وأ‪٫‬بت اجمللة ابلبلئمة علي اختيار "زكي‬
‫عكاشة " للحكم ُب ا‪٤‬بسرحيات الٍب تقدـ من أجل ‪ٛ‬بثيلها وذكرت‬
‫األسباب الٍب تطعن ُب صبلحيتو‪ ،‬ومنها أنو غّب مثقف ودل يقرأ ُب يوـ‬
‫كتاابً‪.‬‬

‫وحفلت "العاؼبْب" ٗبادة فكاىية مضحكة‪ ،‬تكشف عن قراءة‬


‫واسعة ‪٢‬بافظ ُب الَباث العريب القدصل واحتوت علي طائفة من األشعار‬
‫لسيد إبراىيم "اػبطاط" ومصطفي ‪ٞ‬باـ و‪٧‬بمود عماد وغّبىم‪ ،‬ىذا إرل‬
‫جانب ما نشرتو من مواد علمية وحفزت القراء علي شرائها ٔبوائز وصلت‬
‫قيمتها ‪ 29‬جنيها توزع علي عددين ومع كل ىذا كانت تتعثر‪ ،‬وضاؽ‬
‫حافظ من عدـ رواجها ولكن شكواه دل تنشط القراء القتنائها فتوقفت بعد‬
‫صدور عدد ‪. 22/9/1924‬‬

‫‪560‬‬
‫اغباوي‬

‫ودل يكن حافظ راضياً عن انتكاسة "العاؼبْب" فرفض ا‪٥‬بزٲبة وسعي‬


‫إرل إصدار ‪٦‬بلة أخري يكوف ىو صاحبها‪ ،‬وُب ‪ 14‬من يوليو ‪1925‬‬
‫صدرت ‪٦‬بلتو ا‪١‬بديدة "اغباوي" وكتب عليها شعار اجمللة احملجوبة "أدبية‬
‫علمية مصورة" وأبواهبا‪ ،‬تقريباً‪ ،‬ىي أبواب اجمللة القدٲبة‪ .‬و"اغباوي" كما‬
‫ىو معروؼ لنا شخص يقف ُب الطريق وٱبرج من جرابو أشياء كثّبة‬
‫متنوعة‪ ،‬وُب أوؿ غبلؼ جمللة "اغباوي" ‪٪‬بد ر‪٠‬باً لرجل ىو "اغباوي" ٱبرج‬
‫من جرابو أشياء مكتوب عليها "أحباث اجتماعية ‪ ،‬فكاىات‪ ،‬ألعاب‬
‫ريضية‪ ،‬ألعاب بيتية‪ ،‬فوائد منزلية‪ ،‬قصة األسبوع‪ ،‬رواية مسلسلة ‪،‬‬
‫أسئلة وأجوبة‪ ،‬اؼبسرح ‪ ،‬النقد ‪ ،‬اكتشافات حديثة‪ ،‬األدب اؼبختار"‪،‬‬
‫وىي أبواب ‪٦‬بلة "اغباوي" وكاف أبو ا‪٣‬بّب ‪٪‬بيب مديراً إلدارهتا‪ ،‬وصدرت‬
‫من شارع مصر القدٲبة ٍب من الدرب الواسع بكلوت بيك‪ ،‬أما إدارهتا‬
‫فكانت ُب شارع الساحة‪ ،‬وقد افتتح حافظ العدد األوؿ قائبلً‪" :‬انقطعنا‬
‫عاما عن الكتابة مكرىْب‪ ..‬أكرىنا بوسائل غّب شريفة علي وقف ظهور‬
‫ؾبلة العاؼبْب وقد كاف كما يعرؼ القراء‪ ،‬فلما امتدت يد القدرة اإلؽبية‬
‫فطهرت الوجود من السبب الذي حداان لبلمتناع عن إظهار اجمللة عدان‬
‫إيل عامل الصحافة‪ ،‬ستكوف ؾبلة "اغباوي" فريدة ُب نوعها تبحث ُب‬
‫مواد متعددة وسننشر ما زبتاره من الصور الٍب هبد منها القارئ تسلية‬

‫‪561‬‬
‫أو فائدة‪ ،‬فيجد ؾبلة تقرأ ُب أيـ ٍب ربفظ ال وريقة يتصفحها القارئ‬
‫دقيقة ٍب تطرح"‪.‬‬

‫وقد رحب هبا ا‪١‬بمهور وأرسلوا اشعارا منها‪:‬‬

‫"قاؿ الراوي‬
‫ظهر ا‪٢‬باوي‬
‫فكاىاتو أدبية‬
‫ـ العصرية‬
‫ألعابو البيتية‬
‫حلوة مسلية‬
‫واحملرر أبو ‪٪‬بيب‬
‫كاتب أديب"‪.‬‬

‫مباحث اجتماعية‬

‫وقد حفلت "اغباوي" ابألٕباث االجتماعية الٍب كاف يتناوؿ فيها‬


‫كثّباً من القضااي ويناقشها ويدرل فيها ابآلراء القوٲبة‪ ،‬فيحدثنا ُب مقاؿ‬
‫عن النظاـ ويري أنو ضروري للحاكم واحملكوـ‪ ،‬ومن ىنا ال يصح أف‬
‫نتخلص من قيوده بدعوي حب ا‪٢‬برية‪ ،‬و‪٤‬با تعددت األحزاب السياسية ُب‬
‫مصر ُب عشرينات القرف العشرين عرض ‪٤‬بشكلة التحزب وبْب أف ا‪٢‬بزبية‬
‫تعمل علي ٘بزئة اجملتمع وتصادـ ا‪٤‬ببادئ‪ ،‬وتقضي علي التضامن‬

‫‪562‬‬
‫االجتماعي‪ ،‬و٘بعل ا‪٤‬برء يري فضائل غّب رذائل‪ ،‬و‪ٙ‬بمل الشخص علي‬
‫البحث عن أخطاء غّبه‪ ،‬ويتناوؿ قضية "البدع" ويذىب إرل أاها تتسرب‬
‫إرل العائبلت ُب زي ا‪٤‬بدنية ا‪٢‬بديثة‪ ،‬فيأخذ الشخص ُب تغيّب كل قدصل‬
‫ويبدأ بتبديل األاثث‪ ،‬ويتبعو ابلعادات والفضائل‪ ،‬وعندما تنتقل العائلة من‬
‫بيئتها إرل وسط جديد‪ ،‬تتبلشي العادات القومية‪ ،‬وتنشر ا‪٤‬بدنية ا‪٤‬بوىومة‬
‫مراعاة ‪٤‬بقتضيات التمدف ا‪٢‬بديث‪.‬‬

‫وُب أحد ٕبوثو يدعو إرل "الثبات" وترويض ا‪٤‬برء لنفسو علي‬
‫ا‪١‬بلد واستثمار قدراتو العقلية لينجز عمبلً‪ ،‬وٰبث اإلنساف علي عدـ‬
‫التنقل من عمل إرل عمل حٍب ال تتجزأ قواه‪ ،‬وال يبلغ غرضو وحافظ دقيق‬
‫ا‪٤‬ببلحظة فيما قالو‪ ،‬فبل ‪ٜ‬برة بدوف الصرب وال فائدة بدوف ‪٩‬بارسة العمل‬
‫ا‪٤‬بوصولة والثبات ُب العمل فيو راحة والتنقل من عمل آلخر فيو صعوبة‪.‬‬

‫ومن ا‪٤‬بواد االجتماعية ُب "اغباوي" ما يكشف عن البوف الشاسع‬


‫بْب حياة حافظ وكتاابتو‪ ،‬فإذا كاف اشتهر ابالحتياؿ فإنو ُب قصة "جِب‬
‫علي نفسو" ىاجم الدجالْب واحملتالْب‪ ،‬وإذا كنا نعرؼ من اعَبافاتو أف من‬
‫أسباب شقائو عشقو للنساء األوروبيات السافرات مثل فيزنسكي‪ ،‬فإنو ُب‬
‫"اغباوي" ينتصر للحجاب وينتقد "منّبة اثبت" الٍب ‪ٙ‬بض علي السفور‬
‫ويقوؿ‪ " :‬إذا كانت اؼبرأة وىي ؿبجبة علي ىذا اغباؿ من اػببلعة‪،‬‬
‫فكيف تكوف إذا ىدمت اغبجاب ومزقت النقاب‪ ،‬وانفتح ؽبا الباب"‪.‬‬

‫‪563‬‬
‫وحافظ الذي كاف يتنقل بْب الراقصات ويستغرؽ ُب ا‪٤‬بلذات‬
‫وينفق ا‪٤‬باؿ ارضاء ‪٤‬بزاجو ٰبارب ُب "اغباوي" "اإلسراؼ ُب اؼبطالب"‬
‫ويقوؿ‪ " :‬لو قارف كل فرد دبن ىو دونو ُب الغِب واعباه‪ ،‬ونظر إليو كيف‬
‫يرضي ويسر ابلضروريت إف حصل عليها الستطاع أف يردع النفس‬
‫عن غيها‪ ،‬وقوي علي كبح صباحها‪ ،‬وأرضاىا دبا يرضي القنوع الراضي"‬
‫وإذا كاف حافظ قبيب أمضي عمره منذ أوائل القرف العشرين إيل كبو‬
‫‪ 1920‬من غّب عمل واضح ينتسب إليو ويذكر بو‪ ،‬فإنو ُب حبث‬
‫اجتماعي عن العمل يري أف اإلنساف إذا كف طويبلً عن العمل عدا‬
‫إليو االكببلؿ‪ ،‬ألنو "من دعائ اجملتمع اإلنساٍل والعامل النافع ُب ىذا‬
‫اجملتمع أفضل من كل أغنياء العامل غّب العاملْب"‪ .‬ويضرب أمثلة تبْب أف‬
‫"العاطل أتتيو عوامل الفناء ‪ ..‬فَبس علي وجهو كآبة اؼبوت"‪.‬‬

‫ومقاالتو من ىذا النوع كثّبة وإذا تتبعناىا ألفيناىا تتجاوب مع‬


‫دولة عصرية حديثة‪ ،‬فكبلمو عن النظاـ يتماشي مع دولة مدنية منظمة‬
‫تتمتع ٕبرية وتنفر من الفوضي وتستوجب طاعة القانوف‪ ،‬وحديثو عن‬
‫العمل يقوي أواصر اجملتمع ويوطد استقراره‪ ،‬وأقوالو عن الثبات تعمل علي‬
‫ا‪٪‬باز األعماؿ‪ ،‬وتوفّب ا‪٤‬بنتجات وىكذا تدرؾ أف ىذه ا‪٤‬بقاالت تسعي إرل‬
‫ىدؼ‪ ،‬وتعمل علي النهوض ٗبجتمع‪ ،‬وىذا النوع من ا‪٤‬بقاالت ٯبعل‬
‫الصحيفة صحيفة رأي ومادهتا جادة تعرب عن وجهة نظر ُب موضوع‬
‫تتناولو من نواح ‪٨‬بتلفة مع الربط احملكم بْب ىذه النواحي‪ ،‬إضافة إرل‬
‫‪564‬‬
‫حسن األسلوب وجزالتو وطبلوتو‪ ،‬ىذا إرل جانب ضرب األمثلة ا‪٤‬بوضحة‬
‫وروعة االستهبلؿ‪ ،‬وتضمينو حكاايت شائقة دالة مبينة‪.‬‬

‫حافظ يهدد اؼبلك ويهاصبو‬

‫ومقاالت "اغباوي" الصحفية واألدبية يسيطر عليها العقل وتتسم‬


‫اب‪٥‬بدوء واالعتداؿ‪ ،‬و‪ٙ‬باذر من السلطة وتنأي عن السياسية ما أمكن‪،‬‬
‫لكن حافظ خرج عن ا‪٣‬بطة وخاطب ا‪٤‬بلك فؤاد ُب مقاؿ ابطنو العنف‬
‫والشدة‪ ،‬وظاىره النصح وطلب الر‪ٞ‬بة عنوانو‪" :‬ربية وضراعة" جاء فيو‪:‬‬
‫"شعبك ي صاحب اعببللة ُب ضائقة ‪ ،‬يضرع إليك‪ ..‬من ضيق ومن‬
‫قهر‪ ،‬يستغيث ال عن عجز‪ ،‬وال عن مكر‪ ،‬ففي القرف العشرين‪ُ ،‬ب‬
‫عصر اؼبدنية والنور يربط شعب علي اػبسف ويراض علي الضي ‪،‬‬
‫ويساؽ كاؼباشية‪ ،‬أو يطرح ُب الشاوية"‪" .‬يصاحب اعببللة" انتزعت‬
‫من الشعب إرادتو‪ ،‬وسلخت منو حريتو‪ ،‬وأحيط بو ابغبديد‪ ،‬وُب كل‬
‫يوـ ارىاؽ جديد ‪ ..‬سبلح شعبك ي موالي اغبق واللساف‪ ،‬وسبلح‬
‫مرىقيو القوة واغبديد‪ ،‬ولوال وداعة الشعب وحكمتو ولوال لطف هللا‬
‫ورضبتو ؼبا صمدت القوة وال استعصي اغبديد"‪.‬‬

‫وٰبذر ا‪٤‬بلك من الثورة ويقوؿ‪" :‬طبيعة الشعب ُب كل زمن‬


‫ومكاف كطبيعة اغبلي الوديع يصرب ُب استكانة ووبتمل الضي واإلىانة‬
‫إيل حْب‪ ،‬فإذا أحرجتو اؼبصائب‪ ،‬وإذا نفدت قوة االحتماؿ‪ ،‬فهو‬

‫‪565‬‬
‫البحر ُب ىياجو‪ ،‬والعاصفة ُب ثورهتا‪ ،‬وشدة األمل تسوؽ إيل اعبنوف‪..‬‬
‫يصاحب اعببللة ‪ ..‬الشعب ُب كل مكاف عاطفة ال عقل ومن‬
‫اؼبستحيل أف تبيد أمة ليحيي فرد‪ ،‬اعبميع ي موالي من شعبك والكل‬
‫يتضرعوف إيل جبللتك بضراعة ليست ظلماً وليست ضباقة يطلبوف‬
‫اغبرية ‪ ..‬واؼبساواة يطلبوف العدؿ‪ ،‬والعدؿ أساس اؼبلك ‪ ..‬احملرر"‪.‬‬

‫وليس ىذا ىو صوت حافظ ‪٪‬بيب ٗبفرده‪ ،‬ولكنو صوت الشعب‬


‫ا‪٤‬بصري عندما تسلب منو إرادتو وحريتو‪ ،‬ويشعر ابلظلم وغّب ذلك ‪٩‬با يثّب‬
‫األىواء ويبعث علي الثورة والنقمة ويدفع إرل ا‪٢‬بركات ا‪٤‬بضادة مثل ما‬
‫حدث ُب عامي ‪ 1881:1882‬وُب عاـ ‪ ،1919‬وعاـ ‪ 1952‬وُب‬
‫‪ 25‬من يناير ‪2011‬ـ‪ .‬وقد جاء خطاب حافظ ‪٪‬بيب ىذا ُب افتتاحية‬
‫آخر عدد صدر من أعداد ‪٦‬بلة "اغباوي" وال أدري ىل احتجبت بسبب‬
‫ىذا ا‪٣‬بطاب أو ألسباب أخري؟ وإف كاف كبلـ حافظ كافياً إلغبلقها‬
‫ابلضبة وا‪٤‬بفتاح‪ ،‬وال أعرؼ ُكتاابً ‪ٙ‬بدوا ا‪٤‬بلك فؤاد‪ ،‬خاطبوه بصوت جهّب‬
‫يسمعو بوضوح وىو ُب قصر عابدين سوي اثنْب ٮبا‪ :‬العقاد وحافظ‬
‫‪٪‬بيب‪ ،‬األوؿ ىدده ابلقتل‪ ،‬والثاشل حذره من الثورة‪ ،‬أما ال ُكتاب اآلخروف‬
‫بدوف ذكر ا‪٠‬باء فقد كانوا وادعْب‪.‬‬

‫ولد حافظ ابلقاىرة ‪٫‬بو عاـ ‪ ،1879‬وحصل علي الشهادة‬


‫االبتدائية ٍب التحق اب‪٤‬بدرسة العسكرية ابإلسكندرية‪ ،‬وىناؾ تعرفت عليو‬

‫‪566‬‬
‫أمّبة روسية تدعي فيزنسكي وعشقتو و‪ٞ‬بلتو علي الذىاب معها إرل ابريس‬
‫ليستكمل تعليمو العسكري‪ ،‬فرحل معها و‪ٚ‬برج ضابطاً‪ ،‬وسافر إرل ا‪١‬بزائر‬
‫بصفتو ضابطاً فرنسياً‪ٍ ،‬ب عاد إرل ابريس ٗبساعي فيزنسكي وعمل‬
‫جاسوساً فرنسياً ضد أ‪٤‬بانيا‪ ،‬و‪٤‬با اكتشفو األ‪٤‬باف عاد إرل مصر‪ ،‬ونتيجة‬
‫أعماؿ يطوؿ شرحها‪ ،‬حكم عليو ابلسجن وأفرج عنو ليغامر ويراوغ واهتم‬
‫ُب قضااي نصب واحتياؿ‪ ،‬وأمضي فَبة من عمره ُب السجوف‪ ،‬وُب الوقت‬
‫نفسو كاف يؤلف ويَبجم الكتب‪ ،‬ويصدر الصحف‪ .‬وُب نوفمرب ‪1946‬‬
‫لقي وجو ربو ر‪ٞ‬بو هللا‪.‬‬

‫‪567‬‬
‫روابط موضوعات منشورة عن حافظ ‪٪‬بيب‬

‫حقيقة اؼباضي السري للمغامر اؼبصري حافظ قبيب بطل مسلسل‪" :‬فارس‬
‫ببل جواد"‪.‬‬

‫‪ ‬الرابط‪:‬‬

‫‪ ‬جريدة الوفد اؼبصرية – ‪ /13‬يناير‪:3013 /‬‬


‫‪https://alwafd.org/%D9%85%D9%84%D9%81%D8%A7%‬‬
‫‪D8%AA-‬‬
‫‪%D9%85%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%A9/148093-‬‬
‫‪%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B6%D9%8A-‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D9%8A-‬‬
‫‪%D9%84%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%A7%D9%85%D8%B‬‬
‫‪1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A-‬‬
‫‪%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%B8-‬‬
‫‪%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8-‬‬
‫‪%D8%A8%D8%B7%D9%84-‬‬
‫‪%C2%AB%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3-‬‬
‫‪%D8%A8%D9%84%D8%A7-‬‬
‫‪%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%AF%C2%BB‬‬
‫‪ ‬رؤية ربليلية لصفات حافظ قبيب بناء على اعَبافاتو‪.‬‬
‫‪ ‬الرابط‪:‬‬
‫‪568‬‬
http://www.maioz.com/%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8
%A9-
%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%
A9-%D9%84%D8%B5%D9%81%D8%A7%D8%AA-
%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%B8-
%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8-
%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1-
/%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A5
.‫ حافظ قبيب الشاعر‬
:‫ الرابط‬
http://www.maioz.com/%D8%AD%D8%A7%D9%81%D
8%B8-%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8-
/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1
.‫ حافظ قبيب الروائي‬
:‫ الرابط‬
http://www.maioz.com/%D8%AD%D8%A7%D9%81%D
8%B8-%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8-
%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%8
/9
.‫ حافظ قبيب اؼبسرحي‬
:‫ الرابط‬
http://www.maioz.com/%D8%AD%D8%A7%D9%81%D
8%B8-%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8-
%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%B1%D8%AD%D9%8
/9
.‫ رواية ؿبور السياسة غبافظ قبيب‬
:‫ الرابط‬

569
http://www.maioz.com/%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9
%8A%D8%A9-%D9%85%D8%AD%D9%88%D8%B1-
%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%
A9-%D9%84%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%B8-
/%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8
.‫ حافظ قبيب الكاتب االجتماعي‬
:‫ الرابط‬
http://www.maioz.com/%D8%AD%D8%A7%D9%81%D
8%B8-%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8-
%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-
%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%
/A7%D8%B9%D9%8A
.‫ حافظ قبيب الصحفي‬
:‫ الرابط‬
http://www.maioz.com/%D8%AD%D8%A7%D9%81%D
8%B8-%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8-
/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%81%D9%89
.‫ رواية اغبب واغبيلة غبافظ قبيب‬
:‫ الرابط‬
http://www.maioz.com/%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9
%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8-
%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D9%84%D8%
A9-%D9%84%D8%AD%D8%A7%D9%81%D8%B8-
/%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8
... "‫ البطل والفيلسوؼ واحملتاؿ "حافظ قبيب‬..‫ لصوص لكن ظرفاء‬
:‫ الرابط‬
/https://www.sasapost.com/hafez-najib

570
‫‪ ‬اؼبوقع اإلليكَبوٍل عبريدة اؼبصري اليوـ يستعرض الرواية ُب ‪ 5‬حلقات‬
‫‪ ‬الرابط‪:‬‬
‫‪http://lite.almasryalyoum.com/tag/%D8%AD%D8%A7%D‬‬
‫‪/9%81%D8%B8-%D9%86%D8%AC%D9%8A%D8%A8‬‬
‫أسرار حياة "فارس ببل جواد" اغبقيقي‪ :‬ماتت والدتو بْب يديو وطردتو جدتو‬
‫من القصر (ح‪ – )1‬اكسَبا ‪ ،13‬ديسمرب‪.2017 ،‬‬
‫أسرار حياة "فارس ببل جواد" اغبقيقي‪ :‬فَبة االلتحاؽ إبدارة التجسس‬
‫الفرنسية (ح‪ – )2‬اكسَبا ‪ ،14‬ديسمرب‪.2017 ،‬‬
‫ادعى أنو أخرس لتنفيذ مهمة‬
‫أسرار حياة "فارس ببل جواد" اغبقيقي‪ّ :‬‬
‫جاسوسية غبساب فرنسا (ح‪ – )3‬اكسَبا ‪ ،17‬ديسمرب‪.2017 ،‬‬
‫أسرار حياة "فارس ببل جواد" اغبقيقي‪ :‬كاف على عبلقة بشفيقة القبطية‬
‫(ح‪ – )4‬اكسَبا ‪ ،18‬ديسمرب‪.2017 ،‬‬
‫أسرار حياة "فارس ببل جواد" اغبقيقي‪ :‬أقاـ عبلقة مع سيدة إسرائيلية‬
‫وتنكر ُب ىيئة رجل بدين (ح‪ – )5‬اكسَبا ‪ ،19‬ديسمرب‪.2017 ،‬‬

‫‪571‬‬

You might also like