Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 6

‫الجاحظ‬

‫[‪]2‬‬
‫ي المعروف بِا ْلج ِ‬
‫َاح ِظ‬ ‫وب ب ْْن فَ َز َ‬
‫ارة اَللَّ ْيثِي اَ ْل ِكنَانِي اَ ْلبَص َِر َّ‬ ‫ان ع َْم ُرو ب ْْن بَحْ ْر ب ْْن َمحْ بُ ْ‬ ‫‪-‬هـ ‪(159‬أَبُو ُ‬
‫عثْ َم ْ‬
‫وتوفي كان من كبار أئمة األدب في العصر العباسي‪ ،‬ولد في البصرة عربي أديب )هـ ‪255‬‬
‫أنا رجل من بني «[‪ ]6[]5[]4[]3[: ]7‬وفي رسالة الجاحظ التي اشتهرت عنه مدح فيها نفسه حيث قال‪.‬فيها‬
‫»كنانة‪ ،‬وللخالفة قرابة‪ ،‬ولي فيها شفعة‪ ،‬وهم بعد جنس وعصبة‬
‫كان ثمة نتوء واض ٌح في حدقتيه فلقب بالحدقي ولكنَّ اللقب الذي التصق به أكثر وبه طارت شهرته في‬
‫اآلفاق هو الجاحظ‪ .‬ع ّمر الجاحظ نحو تسعين عا ًما وترك كت ًبا كثيرة يصعب عدها‪ ،‬وإن كان البيان‬
‫أشهر هذه الكتب‪ ،‬كتب في علم الكالم واألدب والمحاسن واألضداد والبخالء وكتاب الحيوان والتبيين‬
‫‪.‬والسياسة والتاريخ واألخالق والنبات والحيوان والصناعة وغيرها‬
‫الفلسفة هي أداة الضمائر وآلة الخواطر ونتائج العقل وأداة لمعرفة األجناس والعناصر وعلم «‬
‫»‪.‬األعراض والجواهر وعلل األشخاص والصور واختالف األخالق والطبائع والسجايا والغرائز‬
‫وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا « ‪:‬عند الكالم على علم األدب قال ابن خلدون‬
‫للمبرد‪ ،‬كتاب البيان والتبيين البن قتيبة‪ ،‬كتاب الكامل أدب الكاتب ‪ :‬الفن وأركانه أربعة كتب هي‬
‫»‪.‬ألبي علي القالي‪ ،‬وما سوى هذه األربعة فتبع لها وفروع منها للجاحظ‪ ،‬وكتاب األمالي‬

‫المولد والنشأة‬
‫فقيرا‪ ،‬وكان دمي ًما قبي ًحا جاحظ العينين عرف عنه خفة الروح وميله إلى‬
‫ً‬ ‫ولد في مدينة البصرة[‪ ]8‬نشأ‬
‫الهزل والفكاهة‪ ،‬ومن ثم كانت كتاباته على اختالف مواضيعها ال تخلو من الهزل والتهكم‪ .‬طلب العلم‬
‫في سن مبكّرة‪ ،‬فقرأ القرآن ومبادئ اللغة على شيوخ بلده‪ ،‬ولكن اليتم والفقر حال دون تفرغه لطلب‬
‫الوراقين في الليل فكان يقرأ منها ما‬
‫ّ‬ ‫العلم‪ ،‬فصار يبيع السمك والخبز في النهار‪ ،‬ويكتري دكاكين‬
‫‪.‬يستطيع قراءته‬
‫سنة ‪ 150‬هـ وقيل ‪ 159‬هـ وقيل ‪ 163‬ثالث الخلفاء العباسيين كانت والدة الجاحظ في خالفة المهدي‬
‫سنة ‪ 255‬هجرية‪ ،‬فعاصر بذلك ‪ 12‬خليفة عباسيًا هـ‪ ،‬وتوفي في خالفة المهتدي باهلل‬
‫وال والمستعين والمنتصر والمتوكل والواثق والمعتصم والمأمون واألمين والرشيد والهادي المهدي ‪:‬هم‬
‫‪.‬والمهتدي باهلل‪ ،‬وعاش القرن الذي كانت فيه الثقافة العربية في ذروة ازدهارها معتز‬
‫الراوية مؤلف كتاب نقائض جرير والفرزدق‪ ،‬واألصمعي أخذ علم اللغة العربية وآدابها على أبي عبيدة‬
‫‪ ،‬وعلم الكالم على ]؟[وأبي زيد األنصاري‪ ،‬ودرس النحو على األخفش المشهور صاحب األصمعيات‬
‫‪.‬يد ابراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري‬
‫كان متصال ‪ -‬باإلضافة التصاله بالثقافة العربية ‪ -‬بالثقافات غير العربية كالفارسية واليونانية‬
‫والهندية‪ ،‬عن طريق قراءة أعمال مترجمة أو مناقشة المترجمين أنفسهم‪ ،‬كحنين بن‬
‫دون في كتابه المحاسن واألضداد إسحق‬ ‫بعض وسلمويه‪ ،‬وربما كان يُجيد اللغة الفارسية ألنه ّ‬
‫[‪ ]9‬توجه إلى بغداد‪ ،‬وفيها تميز وبرز‪ ،‬وتصدّر للتدريس‪ ،‬وتولّى ديوان ‪.‬النصوص باللغة الفارسية‬
‫‪.‬الرسائل للخليفة المأمون‬
‫ثقافته‬
‫ع عار ٌم إلى القراءة والمطالعة َحتَّى ض َِج َرتْ أ ُ ُّمهُ‬ ‫كان للجاحظ منذ نعومة أظفاره مي ٌل واض ٌح ونزو ٌ‬
‫وتبرأت منه‪ .‬وظ َّل هذا الميل مالزما ً له طيلة عمره‪ ،‬حتَّى إنَّه فيما اشت ُ ِه َر عنه لم يكن يقنع أو يكتفي‬ ‫َّ‬
‫الوراقين ويبيت فيها للقراءة والنَّظر‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫بقراءة الكتاب والكتابين في اليوم الواحد‪ ،‬بل كان يكتري دكاكين‬
‫قوال ألبي هفَّان ـ وهو من معاصريه ـ ما يد ُّل على مدى نَه َِم الجاحظ بالكتب‪ ،‬ويورد ياقوت الحموي‬ ‫ً‬
‫أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ‪ ،‬فإنَّه لم يقع بيده كتاب قَ ُّ‬
‫ط إال‬ ‫َّ‬ ‫ط وال سمعت من‬ ‫يقول فيه‪« :‬لم أر ق ُّ‬
‫مرات عدَّة في كتبه‪،‬‬ ‫صفحات ِ ّ‬
‫الطوال َّ‬ ‫َب إذ ذاك في أن يُ ْف ِرد ال َّ‬ ‫استوفى قراءته كائنًا ما كان وال َ‬
‫عج َ‬
‫ق أنَّه كان أشبه بآلة مص ّ ِور ٍة‪ ،‬فليس هناك شي ٌء‬ ‫للحديث عن فوائد الكتب وفضائلها ومحاسنها‪ .‬والح ُّ‬
‫‪.‬يقرأه إال ويرتسم في ذهنه‪ ،‬ويظ ُّل في ذاكرته آمادًا متطاولة‬
‫صةً أنَّ ذلك عادةٌ مذمومةٌ فيما أخبرنا‬
‫ولكن الجاحظ لم يقصر مصادر فكره ومعارفه على الكتب‪ ،‬وخا َّ‬
‫كثير من‬
‫ق ال يؤخذ إال عن معلم‪ ،‬فتتلمذ على أيدي ٍ‬ ‫هو ذاته وأخبرنا كثيرون غيره‪ ،‬إذ العلم الح ُّ‬
‫المعلمين العلماء واغتنى فكره من اتصاله بهم‪ ،‬وهو وإن لم يتَّفق مع بعضهم أو لم يرض عن فكرهم‬
‫مرارا بين طيات كتبه‬
‫ً‬ ‫أقر بفضل الجميع ونقل عنهم وذكرهم‬ ‫‪».‬فإنَّهُ َّ‬
‫تكو َنتْ لدى الجاحظ ثقافةٌ هائلةٌ ومعارف طائلةٌ عن طريق التحاقه بحلقات العلم المسجد َّية التي‬ ‫لقد َّ‬
‫الرجال عل ًما في تلك‬
‫وواسع من األسئلة‪ ،‬وبمتابعة محاضرات أكثر ِ ّ‬‫ٍ‬ ‫كبير‬
‫كانت تجتمع لمناقشة عد ٍد ٍ‬
‫صل األستاذيَّة الحقيقيَّة في اللغة العربيَّة‬
‫شّعر‪ ،‬وسرعان ما ح َّ‬‫األيَّام‪ ،‬في فقه اللغة وفقه النَّحو وال ِ‬
‫‪.‬بوصفها ثقافةً تقليديَّة‪ ،‬وقد َمكنَّهُ ذكاؤُه الحا ُّد من ولوج حلقات المعتزلة المهت ّمين بعلم الكالم‬
‫صفَهُ ابن يزداد‬
‫ونظرا لسعة علمه وكثرة معارفه َو َ‬
‫ً‬ ‫بقوله‪ :‬هو نسيج َوحْ ِد ِه في جميع العلوم؛ علم‬
‫‪.‬الكالم‪ ،‬واألخبار‪ ،‬والفتيا‪ ،‬والعربيَّة‪ ،‬وتأويل القرآن‪ ،‬وأيَّام العرب‪ ،‬مع ما فيه من الفصاحة‬
‫وإن كان معاصرو الجاحظ من العلماء‪ ،‬على موسوع َّية ثقافتهم‪ ،‬أقرب إلى التَّخصص بالمعنى المعاصر‪،‬‬
‫فإن «تردُّد الجاحظ على حلقات التَّدريس المختلفة قد ن َّجاه من عيب معاصريه ذوي االختصاص‬
‫ق‪ .‬فهو بدرسه العلوم النقليَّة قد ارتفع فوق مستوى ال ُكتَّاب ذوي الثَّقافة األجنبيَّة في أساسها‬ ‫ال َّ‬
‫ضيِّ ِ‬
‫القليلة النَّصيب من العرب َّية وغير اإلسالم َّية البتَّة»‪ ،‬ولذلك «لم يكتف بالتردُّد على أوساطٍ مع َّين ٍة بغية‬
‫التَّعمق في مادَّة اختارها بل الز َم ك َّل المجامع‪ ،‬وحضر جميع الدُّروس‪ ،‬واشترك في مناقشات العلماء‬
‫المسجديين‪ ،‬وأطال الوقوف في المربد ليستمع إلى كالم األعراب‪ ،‬ونضيف إلى جانب هذا التكوين‪،‬‬
‫الذي لم يعد له طابع مدرسي محدود‪ ،‬المحادثات التي جرت بينه وبين معاصريه وأساتذته في مختلف‬
‫‪.‬المواضيع» وكان من أفضل الكتاب في ذلك الوقت‬

‫أساتذة الجاحظ‬
‫أما أساتذة الجاحظ الذي تتلمذ على ايديهم َو َر َوى عنهم في مختلف العلوم والمعارف فهم كثيرون جدًا‪،‬‬
‫إبَّان حياته‪ ،‬المظنون أنَّ الجاحظ لم ينقطع عن حضور حلقاتهم‪ .‬ولكنَّ وهم معظم علماء البصرة‬
‫مترجميه يكتفون بقائم ٍة صغير ٍة منهم غالبًا ما تقتصر على العلماء األ َ ِجلَّة المشهورين‪ .‬ومهما يكن من‬
‫‪:‬أمر‪ ،‬وبنا ًء على بعض المصادر‪ ،‬نستطيع القول‪ :‬إنَّ أه َّم هؤالء األساتذة هم‬
‫•‬ ‫والرواية‬ ‫وأبو معمر بن المثنَّى واألصمعي أبو عبيدة ‪:‬ـ في ميدان علوم اللغة واألدب وال ِ‬
‫شّعر ِ ّ‬
‫وأبو عمرو الشَّيباني وأبو وخلف األحمر ومحمد بن زياد بن األعرابي زيد بن أوس األنصاري‬
‫وزيد بن كثوة التميمي[‪ ]10‬وعلي بن محمد المدائني ]؟[الحسن األخفش‬
‫•‬ ‫والسري ويزيد بن هارون أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي ‪:‬ـ في علوم الفقه والحديث‬
‫الذي الزمه بن عبدويه والح َّجاج بن محمد بن حماد بن سلمه باإلضافة إلى ثمامة بن األشرس‬
‫‪.‬الجاحظ في بغداد‬
‫•‬ ‫وضرار بن ومويس بن عمران والنظام أبو الهذيل العالف ‪:‬ـ في االعتزال وعلم الكالم‬
‫‪ (17).‬وثمامة بن أشرس النُّميري وبشر بن المعتمر الهاللي والكندي عمرو‬
‫‪.‬وثَ َّمةَ علماء ومفكرون آخرون ال تق ُّل ِ ّ‬
‫أهميَّتهم عن هؤالء‪ ،‬والجاحظ ذاته لم يَغفل عن ذكر معظمهم‬
‫وإذا ما أضفنا إلى ذلك أصالة الجاحظ ونبوغه وألمعيَّته واتِّقاد قريحته‪ ،‬وجليل إسهامه وإبداعاته‬
‫ت ساحر ٍة‬ ‫ق بجدار ٍة كامل ٍة ك َّل ما قاله فيه مريدوه ومح ُّبوه والمعجبون به من تقريظا ٍ‬ ‫وجدناه يستح ُّ‬
‫طلع على آثار الجاحظ وحياته وفكره أنَّها محض مبالغات‪ .‬ومما أورده ياقوت‬ ‫باهر ٍة‪ ،‬تكاد تبدو لمن لم ي َّ‬
‫خطيب‬
‫ُ‬ ‫رشيق قوله‪« :‬أبو عثمان الجاحظ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وتعبير‬
‫ٍ‬ ‫أنيق‬
‫ٍ‬ ‫الحموي‪ ،‬ويوجز فيه لنا ما سبق بلفظٍ‬
‫والمتأخرين‪ .‬إن تكلَّم حكى سحبان في البالغة‪ ،‬وإن‬ ‫ِّ‬ ‫المسلمين‪ ،‬وشي ُخ المتك ِلّمين‪ ،‬و َمد َْرهُ المتقدمين‬
‫ظام في الجدال‪ ،‬وإن ج َّد خرج في مسك عامر بن عبد قيس‪ ،‬وإن َه َز َل زاد على مزبد‪،‬‬ ‫ناظر ضارع النَّ َّ‬
‫رياض زاهرةٌ‪ ،‬ورسائله أفنانٌ‬ ‫ٌ‬ ‫األرواح‪ ،‬وشيخ األدب‪ ،‬ولسان العرب‪ ،‬كتبه‬ ‫حبيب القلوب‪ ،‬ومزاج َّ‬
‫منقوص إال قدَّم له التَّواضع استبقا ًء‪ .‬الخلفاء‬ ‫ٌ‬ ‫تعرض له‬ ‫ع إال رشاه أنفاً‪ ،‬وال َّ‬ ‫مثمرةٌ‪ ،‬ما نازعه مناز ٌ‬
‫صة تس ِّلم له‪ ،‬والعا َّمة تحبُّه‪َ .‬ج َم َع بَ ْينَ‬
‫تعرفه‪ ،‬واألمراء تصافيه وتنادمه‪ ،‬والعلماء تأخذ عنه‪ ،‬والخا َّ‬
‫اللسان والقلم‪ ،‬وبَ ْينَ الفطنة والعلم‪ ،‬وبين الرأي واألدب‪ ،‬وبين النثر والنظم‪ ،‬وبين الذكاء والفهم‪ ،‬طال‬
‫الرجال عقبه‪ ،‬وتهادوا أدبه‪ ،‬وافتخروا باالنتساب إليه‬ ‫‪.‬عمره‪ ،‬وفشت حكمته‪ ،‬وظهرت خلَّته‪ ،‬ووطئ ِ ّ‬

‫منهجه العلمي‬
‫ط ودقيقٌ‪،‬‬‫ي مضبو ٌ‬ ‫ث علم ٍّ‬‫ظ في كتبه ورسـائله أسلوبًا بحثيًا أق ُّل ما يقال فيه إنَّهُ منه ُج بح ٍ‬ ‫انتـهج الجاح ُ‬
‫ي‬ ‫بنـزوع واقع ٍّ‬
‫ٍ‬ ‫ويمر باالسـتقراء على طريق التَّعميم والشُّـمول‬ ‫ُّ‬ ‫يبدأ بالشَّك ِليُ ْع َرضَ على النَّقد‪،‬‬
‫ي‪ ،‬وهو في تجربته وعيانه وسماعه ونقده وش ِكّه وتعليله كان يطلع علينا في صور ِة العالم‬ ‫وعقالن ٍّ‬
‫سه أن يصبغ على بحثه‬ ‫الذي يُ ْع ِم ُل عقله في البحث عن الحقيقة‪ ،‬ولكنه مع ذلك‪ ،‬استطاع برهافة ح ِ ّ‬
‫يرف بأجنحته المهفهفة‬ ‫ُّ‬ ‫ظرافة‪،‬‬ ‫صبغة أدب َّيةً جمال َّية تُضفي على المعارف العلم َّية روا ًء من الحسن وال َّ‬
‫رفرفة العاطف الحاني على معطيات العلم في قوالبها الجافية‪ ،‬ليسيغها في األذهان ويحببها إلى‬
‫‪.‬القلوب‪ ،‬وهذه ميزة قلَّت نظيراتها في التُّراث اإلنساني‬
‫الشك‬
‫وأهميَّته‬
‫ِّ‬ ‫ي بل ع ََرضَ ِل َمكانة الشَّك‬ ‫لم يكتف أبو عثمان بالشَّك أساسا ً من أسس منهجه في البحث العلم ِّ‬
‫كثير من مواضع كتبه‪ ،‬ومن أهم ما قاله في ذلك ‪« :‬واعرف مواضع الشَّك‬ ‫من النَّاحية النَّظر َّية في ٍ‬
‫وحاالتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحاالت الموجبة لـه‪ ،‬وتعلَّم الشَّك في المشكوك فيه‬
‫تعرف التَّوقُّف ث ُ َّم التَّثبُّت‪ ،‬لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه‪ .‬ث َّم اعلم أنَّ الشَّكَّ‬
‫تعلُّماً‪ ،‬فلو لم يكن في ذلك إال ُّ‬
‫ت عند جميعهم‪ ،‬ولم يُجمعوا على أنَّ اليقين طبقات في َّ‬
‫القوة والضَّعف‬ ‫‪».‬في طبقا ٍ‬
‫تتبيَّنُ لنا من ذلك مجموعةٌ من النِّقاط المه َّمة التي تفصح عن أصالة الجاحظ وتجلو ملمحا ً من مالمح‬
‫أمر على ح ٍ ّد‬ ‫عبقر َّيته‪ ،‬فهو لم يرد الشَّكَّ لمحض الشَّك‪ ،‬وال يقبل أن يكون الشَّكُّ كيفما اتَّفق وال في ك ِ ّل ٍ‬
‫ي عند‬ ‫ي‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬ال يختلف البتة عن الشَّك المنهج ِّ‬ ‫سواءٍ وال بالطريقة ذاتها؛ إن الشَّك الجاحظ َّ‬
‫‪ ،‬فك ُّل منهم أراد الشَّكَّ طلبا ً ‪ René Descartes‬والفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت اإلمام الغزالي‬
‫‪.‬للحقيقة؛ الحقيقة الجلية الواضحة‪ ،‬التي ال تقبل تفاوتا ً في الدَّرجات‬
‫النقد‬
‫يكشف لنا عن عقليَّة نقديَّ ٍة بارعةٍ؛ نقديَّ ٍة بالمعنى االصطالحي المنهجي‬
‫ُ‬ ‫إنَّ تتبـ ُّ َع كتب الجاحظ ورسائله‬
‫ساخرة التي‬‫وبالمعنى الشَّائع لالنتقاد‪ ،‬فنقده بالمعنى الشَّائع يتجلَّى أكثر ما يتجلَّى في تهكُّمه وتعليقاته ال َّ‬
‫ئ أمامه أو واص ٌل إليه خبره‪ ،‬ومن ذلك مثالً تهكُّمه‬ ‫جانب من جوانب المعرفة وال مخط ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫لم يسلم منها‬
‫ومذهب‬
‫ٌ‬ ‫بالخليل بن أحمد الفراهيدي من خالل علم العروض الذي قال فيه‪« :‬العروض عل ٌم مردود‪،‬‬
‫‪».‬مرفوض‪ ،‬وكالم مجهول‪ ،‬يستك ُّد العقول‪ ،‬بمستفعل ومفعول‪ ،‬من غير فائدة وال محصول‬
‫ي فما أكثر ما تجلَّى في كتبه ورسائله في تعامله مع مختلف الموضوعات المعرفيَّة؛‬ ‫أما نقده المنهج ُّ‬
‫سابقين‪ ،‬والشَّواهد‬
‫العلم َّية واألدب َّية‪ ،‬ومن ذلك نقده لعلماء عصره ومح ِدّثيه ورواته وفقهائه والعلماء ال َّ‬
‫‪.‬على ذلك ج ِ ّد كثيرة‪ ،‬تجعلنا حقًا في حيرة أمام اختيار واحد منها‬
‫طبيعية بالعناية وال ِدّراسة فقال‪« :‬لو كان بد ُل ال َّن ِ‬
‫ظر‬ ‫انتقد بعضهم اتجاه علماء الكالم نحو األمور ال َّ‬
‫ظر في التَّوحيد‪ ،‬وفي نفي التَّشبيه‪ ،‬وفي الوعد والوعيد‪ ،‬وفي التَّعديل والتَّجويد‪ ،‬وفي تصحيح‬ ‫فيهما النَّ َ‬
‫طبائع واالختيار‪ ،‬لكان أصوب‪ .‬فر َّد عليه الجاحظ ناقدا ً ادعاءه بقوله‪:‬‬ ‫األخبار‪ ،‬والتَّفضيل بَ ْينَ علم ال َّ‬
‫ج لما وصفت‪،‬‬ ‫َب أنَّك عمدت إلى رجا ٍل ال صناعة لهم وال تجارة إال الدُّعا ُء إلى ما ذكرت‪ ،‬واالحتجا ُ‬ ‫ال َعج ُ‬
‫مجاز إالَّ عليه وإليه؛‬
‫ٌ‬ ‫مذهب وال‬
‫ٌ‬ ‫وإالَّ وضع الكتب فيه والواليةُ والعداوةُ فيه‪ ،‬وال لهم لذَّة وال ه ٌّم وال‬
‫بالحصص‪ ،‬ويَ ْعدِلوا بين الك ِ ّل بإعطاء ك ِ ّل شيءٍ نصيبه‪َ ،‬حتَّى يقع‬ ‫سطوا بَ ْينَ الجميع ِ‬ ‫فحين أرادوا أن يق ِ ّ‬
‫ي من الحكم‪ ،‬والمستور من التَّدبير‪ ،‬اعترضتَ‬ ‫التَّعدي ُل شامالً‪ ،‬والتَّقسيط جامعاً‪ ،‬ويظهر بذلك الخف ُّ‬
‫أديب‪ ،‬وشايعك‬ ‫ٌ‬ ‫صوب رأيك‬‫طرت الكالم‪ ،‬وأطلت الخطب‪ ،‬من غير أن يكون َّ‬ ‫بالتعنُّت والتَّع ُّجب‪ ،‬وس َّ‬
‫‪».‬حكي ٌم‬
‫وبنظر ٍة عجلى في آثار الجاحظ «فإنك تراهُ وهو يطلق العنان لقلمه في ج ِ ّل كتبه ـ يزيِّف الخرافات‬
‫كثير‬
‫ٌ‬ ‫والت ُّ َّرهات في عصره وقبل عصره‪ ،‬ويورد عليك نقداته ومباحثاته‪ ،‬فيقطع في نَ ْفسك أنَّه لو جاء‬
‫سخافات‪ ،‬إذ إنَّ الجاحظ نفسه يقول‪ :‬ومما ال أكتبه لك‬ ‫مثله في عقالء العلماء لخلت كتب األقدمين من ال َّ‬
‫من األخبار العجيبة التي ال يجسر عليها إال ك ُّل وقاح أخبار ولذلك ما أكثر ما كان يستفتح األخبار‬
‫ونظر‬
‫ٍ‬ ‫راجح‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ب بتحليله ونقده «بعق ٍل‬‫المغلوطة أو األسطورية بقوله زعم فالن‪ ،‬وزعموا‪ ،‬ث ُ َّم يُعَ ِّق ُ‬
‫دقيق فكهٍ‪َ ،‬يتَتَ َّب ُع المعنى ويق ِّلبُه على وجوهه المختلفة‪ ،‬وال يزال‬ ‫ٍ‬ ‫ع‬ ‫ب سه ٍل ع َْذ ٍ‬
‫ب متن ّ ِو ٍ‬ ‫ب‪ ،‬وأسلو ٍ‬
‫صائ ٍ‬
‫»يو ِلّده َحتَّى ال يترك فيه قوالً لقائل‬
‫التجريب والمعاينة‬
‫إذا كان النَّقد هو الخطوة الالحقة على الش َِّّك فإنَّ المعاينة والتَّجريب هي الخطوةُ المقترنة بالنَّقد‬
‫طبيعي‪ ،‬والجاحظ لم ينس هذه الخطوة ولم يتناسها بل‬ ‫صةً في مسائل العلم ال َّ‬ ‫والمتالزمة معه‪ ،‬وخا َّ‬
‫جعلها عمادا ً الزما ً من أعمدة منهجه البحثي‪ ،‬وقد بدا ذلك في اتجاهين؛ أولهما قيامه هو ذاته بالمعاينة‬
‫‪.‬والتَّجريب‪ ،‬وثانيهما نقل تجارب أساتذته ومعاصريه‬
‫سميت تي ُمنًا به فوهة صدمية‬
‫[‪.]11‬على سطح كوكب عطارد‪ُ ،‬‬
‫ت كثيرةً للتَّثبُّت من معلوم ٍة وصلت إليه‪ ،‬أو لنفي ٍ‬
‫خبر‬ ‫وقـد أجرى الجاحظ كما أخبرنا تجارب ومعاينا ٍ‬
‫تناهى إلى سمعه ولم يستسغه عقله‪ ،‬واألمثلة على ذلك ج ُّد كثيرة نذكر منها تجربته في زراعة شجرة‬
‫زجاج ُو ِضع فيها‬ ‫طويلة معها للتَّأكُّد مما قيل عن تكاثر الذَّ ِ ّر عليها ويصف لنا بُرن َّيةَ‬
‫صته ال َّ‬
‫اآلراك وق َّ‬
‫ٍ‬
‫طبيب‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عشرون فأرا ً مع عشرين عقرب‪ ،‬وما فعلته العقارب بالفئران وكذلك عندما أجمع أناس‪ ،‬بينهم‬
‫جزار أن يأتيه‬ ‫على أنَّ الجمل إذا نُ ِحر ومات والتمست خصيته وشقشقته فإنهما ال توجدان‪ ،‬فأرسل إلى َّ‬
‫بالخصية والشقشقة إذا نحر جمالً‪ ،‬ففعل‪ ،‬فلم يكتف بذلك‪ ،‬فبعث إليه رسوالً يقول‪« :‬ليس يشفيني إال‬
‫المعاينة» ففعل ودحض هذا االدعاء ولجأ أيضا ً إلى تجريب بعض المواد الكيماويَّة في الحيوان ليعلم‬
‫ظام عندما‬ ‫مبلغ تأثيرها فيها‪ ،‬وليتأكَّد مما قيل في ذلك ومما أورده من تجارب غيره تجربة أستاذه النَّ َّ‬
‫جرب على عد ٍد‬ ‫بنوع واح ٍد بل َّ‬ ‫ٍ‬ ‫سقى الحيوانات خمرا ً ليعرف كيف يؤثِّر الخمر في الحيوان‪ ،‬ولم يكتف‬
‫سنانير والحيَّات‬ ‫والظباء والكالب وال َّ‬ ‫ِّ‬ ‫كبير من الحيوانات كاإلبل والبقر والجواميس والخيل والبراذين‬ ‫ٍ‬
‫‪.‬وغيرها‬
‫أما عن منهجه في معرفة الحالل والحرام فيقول ‪« :‬إنما يعرف الحالل والحرام بالكتاب الناطق‪،‬‬
‫وبالسنة المجمع عليها‪ ،‬والعقول الصحيحة‪ ،‬والمقاييس المعينة» رافضًا بذلك أن يكون اتفاق أهل‬
‫المدينة على شيء دليالً على حله أو حرمته؛ ألن عظم حق البلدة ال يحل شيئا وال يحرمه‪ ،‬وألن أهل‬
‫‪».‬المدينة لم يخرجوا من طباع اإلنس إلى طبائع المالئكة «وليس كل ما يقولونه حقًا وصوابًا‬
‫في زمانه‪ ،‬فرفع لواء العقل وجعله الحكم األعلى في كل شيء‪ ،‬فقد كان الجاحظ لسان حال المعتزلة‬
‫ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء‪،‬‬
‫‪.‬سواء من ينقلون علم أرسطو‪ ،‬أو بعض من ينقلون الحديث النبوي‬
‫موقف التلميذ المصدق لكل ما يقوله فإذا كان بعض فالسفة الشرق والغرب فد وقفوا أمام أرسطو‬
‫األستاذ فإن الجاحظ وقف أمام أرسطو عقال لعقل؛ يقبل منه ما يقبله عقله‪ ،‬ويرد عليه ما يرفضه عقله‪،‬‬
‫حتى إنه كان يسخر منه أحيانا‪ ..‬ففي كتابه الحيوان يقول الجاحظ عن أرسطو وهو يسميه صاحب‬
‫المنطق‪« :‬وقال صاحب المنطق‪ :‬ويكون بالبلدة التي تسمى باليونانية» طبقون«‪ ،‬حية صغيرة شديدة‬
‫»!اللدغ إال أنها تُعالج بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك‪ ،-‬ولم أفهم هذا ول َم كان ذلك؟‬
‫ويقول الجاحظ‪« :‬زعم صاحب المنطق أن قد ظهرت حية لها رأسان‪ ،‬فسألت أعراب ًيا عن ذلك فزعم أن‬
‫ذلك حق‪ ،‬فقلت له‪ :‬فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال‪ :‬فأما السعي فال‬
‫تسعى؛ ولكنها تسعى على حاجتها بالتقلب كما يتقلب الصبيان على الرمل‪ ،‬وأما األكل فإنها تتعشى بفم‬
‫‪».‬وتتغذى بفم‪ ،‬وأما العض فأنها تعض برأسيها م ًعا‪ .‬فإذا هو أكذب البرية‬

‫وفاته‬
‫وقد جاوز على التسعين سنة‪ .‬هـ ‪255‬الموافق لسنة م‪868‬ويتحدّث كتّاب السير عن وفاته في عام‬
‫وله مقالة في أصول الدين وإليه تنسب الجاحظية‪ .‬وقد هدّه شلل أقعده وشيخوخة صالحة‪ ،‬عندما كان‬
‫جالسا في مكتبته يطالع بعض الكتب المحببة إليه‪ ،‬فوقع عليه صف من الكتب أردته ميتاً‪ ،‬لقد مات‬
‫‪.‬الجاحظ مدفونا بالكتب والمجلدات‪ ،‬مخلفا ً وراءه كتبا ً ومقاالت وأفكارا ً ما زالت خالدةً حتى اآلن‬

‫مؤلفاته‬
‫‪.‬صنف الجاحظ ما يقارب ‪ 360‬مؤلفا في موضوعات متنوعة‬
‫‪.‬كتاب الزرع والنخل‬
‫‪.‬كتاب المعرفة‬
‫كتاب الفضيلة المعتزلة‪.‬‬

You might also like