Professional Documents
Culture Documents
الجاحظ
الجاحظ
[]2
ي المعروف بِا ْلج ِ
َاح ِظ وب ب ْْن فَ َز َ
ارة اَللَّ ْيثِي اَ ْل ِكنَانِي اَ ْلبَص َِر َّ ان ع َْم ُرو ب ْْن بَحْ ْر ب ْْن َمحْ بُ ْ -هـ (159أَبُو ُ
عثْ َم ْ
وتوفي كان من كبار أئمة األدب في العصر العباسي ،ولد في البصرة عربي أديب )هـ 255
أنا رجل من بني «[ ]6[]5[]4[]3[: ]7وفي رسالة الجاحظ التي اشتهرت عنه مدح فيها نفسه حيث قال.فيها
»كنانة ،وللخالفة قرابة ،ولي فيها شفعة ،وهم بعد جنس وعصبة
كان ثمة نتوء واض ٌح في حدقتيه فلقب بالحدقي ولكنَّ اللقب الذي التصق به أكثر وبه طارت شهرته في
اآلفاق هو الجاحظ .ع ّمر الجاحظ نحو تسعين عا ًما وترك كت ًبا كثيرة يصعب عدها ،وإن كان البيان
أشهر هذه الكتب ،كتب في علم الكالم واألدب والمحاسن واألضداد والبخالء وكتاب الحيوان والتبيين
.والسياسة والتاريخ واألخالق والنبات والحيوان والصناعة وغيرها
الفلسفة هي أداة الضمائر وآلة الخواطر ونتائج العقل وأداة لمعرفة األجناس والعناصر وعلم «
».األعراض والجواهر وعلل األشخاص والصور واختالف األخالق والطبائع والسجايا والغرائز
وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا « :عند الكالم على علم األدب قال ابن خلدون
للمبرد ،كتاب البيان والتبيين البن قتيبة ،كتاب الكامل أدب الكاتب :الفن وأركانه أربعة كتب هي
».ألبي علي القالي ،وما سوى هذه األربعة فتبع لها وفروع منها للجاحظ ،وكتاب األمالي
المولد والنشأة
فقيرا ،وكان دمي ًما قبي ًحا جاحظ العينين عرف عنه خفة الروح وميله إلى
ً ولد في مدينة البصرة[ ]8نشأ
الهزل والفكاهة ،ومن ثم كانت كتاباته على اختالف مواضيعها ال تخلو من الهزل والتهكم .طلب العلم
في سن مبكّرة ،فقرأ القرآن ومبادئ اللغة على شيوخ بلده ،ولكن اليتم والفقر حال دون تفرغه لطلب
الوراقين في الليل فكان يقرأ منها ما
ّ العلم ،فصار يبيع السمك والخبز في النهار ،ويكتري دكاكين
.يستطيع قراءته
سنة 150هـ وقيل 159هـ وقيل 163ثالث الخلفاء العباسيين كانت والدة الجاحظ في خالفة المهدي
سنة 255هجرية ،فعاصر بذلك 12خليفة عباسيًا هـ ،وتوفي في خالفة المهتدي باهلل
وال والمستعين والمنتصر والمتوكل والواثق والمعتصم والمأمون واألمين والرشيد والهادي المهدي :هم
.والمهتدي باهلل ،وعاش القرن الذي كانت فيه الثقافة العربية في ذروة ازدهارها معتز
الراوية مؤلف كتاب نقائض جرير والفرزدق ،واألصمعي أخذ علم اللغة العربية وآدابها على أبي عبيدة
،وعلم الكالم على ]؟[وأبي زيد األنصاري ،ودرس النحو على األخفش المشهور صاحب األصمعيات
.يد ابراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري
كان متصال -باإلضافة التصاله بالثقافة العربية -بالثقافات غير العربية كالفارسية واليونانية
والهندية ،عن طريق قراءة أعمال مترجمة أو مناقشة المترجمين أنفسهم ،كحنين بن
دون في كتابه المحاسن واألضداد إسحق بعض وسلمويه ،وربما كان يُجيد اللغة الفارسية ألنه ّ
[ ]9توجه إلى بغداد ،وفيها تميز وبرز ،وتصدّر للتدريس ،وتولّى ديوان .النصوص باللغة الفارسية
.الرسائل للخليفة المأمون
ثقافته
ع عار ٌم إلى القراءة والمطالعة َحتَّى ض َِج َرتْ أ ُ ُّمهُ كان للجاحظ منذ نعومة أظفاره مي ٌل واض ٌح ونزو ٌ
وتبرأت منه .وظ َّل هذا الميل مالزما ً له طيلة عمره ،حتَّى إنَّه فيما اشت ُ ِه َر عنه لم يكن يقنع أو يكتفي َّ
الوراقين ويبيت فيها للقراءة والنَّظر. َّ بقراءة الكتاب والكتابين في اليوم الواحد ،بل كان يكتري دكاكين
قوال ألبي هفَّان ـ وهو من معاصريه ـ ما يد ُّل على مدى نَه َِم الجاحظ بالكتب ،ويورد ياقوت الحموي ً
أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ ،فإنَّه لم يقع بيده كتاب قَ ُّ
ط إال َّ ط وال سمعت من يقول فيه« :لم أر ق ُّ
مرات عدَّة في كتبه، صفحات ِ ّ
الطوال َّ َب إذ ذاك في أن يُ ْف ِرد ال َّ استوفى قراءته كائنًا ما كان وال َ
عج َ
ق أنَّه كان أشبه بآلة مص ّ ِور ٍة ،فليس هناك شي ٌء للحديث عن فوائد الكتب وفضائلها ومحاسنها .والح ُّ
.يقرأه إال ويرتسم في ذهنه ،ويظ ُّل في ذاكرته آمادًا متطاولة
صةً أنَّ ذلك عادةٌ مذمومةٌ فيما أخبرنا
ولكن الجاحظ لم يقصر مصادر فكره ومعارفه على الكتب ،وخا َّ
كثير من
ق ال يؤخذ إال عن معلم ،فتتلمذ على أيدي ٍ هو ذاته وأخبرنا كثيرون غيره ،إذ العلم الح ُّ
المعلمين العلماء واغتنى فكره من اتصاله بهم ،وهو وإن لم يتَّفق مع بعضهم أو لم يرض عن فكرهم
مرارا بين طيات كتبه
ً أقر بفضل الجميع ونقل عنهم وذكرهم ».فإنَّهُ َّ
تكو َنتْ لدى الجاحظ ثقافةٌ هائلةٌ ومعارف طائلةٌ عن طريق التحاقه بحلقات العلم المسجد َّية التي لقد َّ
الرجال عل ًما في تلك
وواسع من األسئلة ،وبمتابعة محاضرات أكثر ِ ٍّ كبير
كانت تجتمع لمناقشة عد ٍد ٍ
صل األستاذيَّة الحقيقيَّة في اللغة العربيَّة
شّعر ،وسرعان ما ح َّاأليَّام ،في فقه اللغة وفقه النَّحو وال ِ
.بوصفها ثقافةً تقليديَّة ،وقد َمكنَّهُ ذكاؤُه الحا ُّد من ولوج حلقات المعتزلة المهت ّمين بعلم الكالم
صفَهُ ابن يزداد
ونظرا لسعة علمه وكثرة معارفه َو َ
ً بقوله :هو نسيج َوحْ ِد ِه في جميع العلوم؛ علم
.الكالم ،واألخبار ،والفتيا ،والعربيَّة ،وتأويل القرآن ،وأيَّام العرب ،مع ما فيه من الفصاحة
وإن كان معاصرو الجاحظ من العلماء ،على موسوع َّية ثقافتهم ،أقرب إلى التَّخصص بالمعنى المعاصر،
فإن «تردُّد الجاحظ على حلقات التَّدريس المختلفة قد ن َّجاه من عيب معاصريه ذوي االختصاص
ق .فهو بدرسه العلوم النقليَّة قد ارتفع فوق مستوى ال ُكتَّاب ذوي الثَّقافة األجنبيَّة في أساسها ال َّ
ضيِّ ِ
القليلة النَّصيب من العرب َّية وغير اإلسالم َّية البتَّة» ،ولذلك «لم يكتف بالتردُّد على أوساطٍ مع َّين ٍة بغية
التَّعمق في مادَّة اختارها بل الز َم ك َّل المجامع ،وحضر جميع الدُّروس ،واشترك في مناقشات العلماء
المسجديين ،وأطال الوقوف في المربد ليستمع إلى كالم األعراب ،ونضيف إلى جانب هذا التكوين،
الذي لم يعد له طابع مدرسي محدود ،المحادثات التي جرت بينه وبين معاصريه وأساتذته في مختلف
.المواضيع» وكان من أفضل الكتاب في ذلك الوقت
أساتذة الجاحظ
أما أساتذة الجاحظ الذي تتلمذ على ايديهم َو َر َوى عنهم في مختلف العلوم والمعارف فهم كثيرون جدًا،
إبَّان حياته ،المظنون أنَّ الجاحظ لم ينقطع عن حضور حلقاتهم .ولكنَّ وهم معظم علماء البصرة
مترجميه يكتفون بقائم ٍة صغير ٍة منهم غالبًا ما تقتصر على العلماء األ َ ِجلَّة المشهورين .ومهما يكن من
:أمر ،وبنا ًء على بعض المصادر ،نستطيع القول :إنَّ أه َّم هؤالء األساتذة هم
• والرواية وأبو معمر بن المثنَّى واألصمعي أبو عبيدة :ـ في ميدان علوم اللغة واألدب وال ِ
شّعر ِ ّ
وأبو عمرو الشَّيباني وأبو وخلف األحمر ومحمد بن زياد بن األعرابي زيد بن أوس األنصاري
وزيد بن كثوة التميمي[ ]10وعلي بن محمد المدائني ]؟[الحسن األخفش
• والسري ويزيد بن هارون أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي :ـ في علوم الفقه والحديث
الذي الزمه بن عبدويه والح َّجاج بن محمد بن حماد بن سلمه باإلضافة إلى ثمامة بن األشرس
.الجاحظ في بغداد
• وضرار بن ومويس بن عمران والنظام أبو الهذيل العالف :ـ في االعتزال وعلم الكالم
(17).وثمامة بن أشرس النُّميري وبشر بن المعتمر الهاللي والكندي عمرو
.وثَ َّمةَ علماء ومفكرون آخرون ال تق ُّل ِ ّ
أهميَّتهم عن هؤالء ،والجاحظ ذاته لم يَغفل عن ذكر معظمهم
وإذا ما أضفنا إلى ذلك أصالة الجاحظ ونبوغه وألمعيَّته واتِّقاد قريحته ،وجليل إسهامه وإبداعاته
ت ساحر ٍة ق بجدار ٍة كامل ٍة ك َّل ما قاله فيه مريدوه ومح ُّبوه والمعجبون به من تقريظا ٍ وجدناه يستح ُّ
طلع على آثار الجاحظ وحياته وفكره أنَّها محض مبالغات .ومما أورده ياقوت باهر ٍة ،تكاد تبدو لمن لم ي َّ
خطيب
ُ رشيق قوله« :أبو عثمان الجاحظ، ٍ وتعبير
ٍ أنيق
ٍ الحموي ،ويوجز فيه لنا ما سبق بلفظٍ
والمتأخرين .إن تكلَّم حكى سحبان في البالغة ،وإن ِّ المسلمين ،وشي ُخ المتك ِلّمين ،و َمد َْرهُ المتقدمين
ظام في الجدال ،وإن ج َّد خرج في مسك عامر بن عبد قيس ،وإن َه َز َل زاد على مزبد، ناظر ضارع النَّ َّ
رياض زاهرةٌ ،ورسائله أفنانٌ ٌ األرواح ،وشيخ األدب ،ولسان العرب ،كتبه حبيب القلوب ،ومزاج َّ
منقوص إال قدَّم له التَّواضع استبقا ًء .الخلفاء ٌ تعرض له ع إال رشاه أنفاً ،وال َّ مثمرةٌ ،ما نازعه مناز ٌ
صة تس ِّلم له ،والعا َّمة تحبُّهَ .ج َم َع بَ ْينَ
تعرفه ،واألمراء تصافيه وتنادمه ،والعلماء تأخذ عنه ،والخا َّ
اللسان والقلم ،وبَ ْينَ الفطنة والعلم ،وبين الرأي واألدب ،وبين النثر والنظم ،وبين الذكاء والفهم ،طال
الرجال عقبه ،وتهادوا أدبه ،وافتخروا باالنتساب إليه .عمره ،وفشت حكمته ،وظهرت خلَّته ،ووطئ ِ ّ
منهجه العلمي
ط ودقيقٌ،ي مضبو ٌ ث علم ٍّظ في كتبه ورسـائله أسلوبًا بحثيًا أق ُّل ما يقال فيه إنَّهُ منه ُج بح ٍ انتـهج الجاح ُ
ي بنـزوع واقع ٍّ
ٍ ويمر باالسـتقراء على طريق التَّعميم والشُّـمول ُّ يبدأ بالشَّك ِليُ ْع َرضَ على النَّقد،
ي ،وهو في تجربته وعيانه وسماعه ونقده وش ِكّه وتعليله كان يطلع علينا في صور ِة العالم وعقالن ٍّ
سه أن يصبغ على بحثه الذي يُ ْع ِم ُل عقله في البحث عن الحقيقة ،ولكنه مع ذلك ،استطاع برهافة ح ِ ّ
يرف بأجنحته المهفهفة ُّ ظرافة، صبغة أدب َّيةً جمال َّية تُضفي على المعارف العلم َّية روا ًء من الحسن وال َّ
رفرفة العاطف الحاني على معطيات العلم في قوالبها الجافية ،ليسيغها في األذهان ويحببها إلى
.القلوب ،وهذه ميزة قلَّت نظيراتها في التُّراث اإلنساني
الشك
وأهميَّته
ِّ ي بل ع ََرضَ ِل َمكانة الشَّك لم يكتف أبو عثمان بالشَّك أساسا ً من أسس منهجه في البحث العلم ِّ
كثير من مواضع كتبه ،ومن أهم ما قاله في ذلك « :واعرف مواضع الشَّك من النَّاحية النَّظر َّية في ٍ
وحاالتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحاالت الموجبة لـه ،وتعلَّم الشَّك في المشكوك فيه
تعرف التَّوقُّف ث ُ َّم التَّثبُّت ،لقد كان ذلك مما يُحتاج إليه .ث َّم اعلم أنَّ الشَّكَّ
تعلُّماً ،فلو لم يكن في ذلك إال ُّ
ت عند جميعهم ،ولم يُجمعوا على أنَّ اليقين طبقات في َّ
القوة والضَّعف ».في طبقا ٍ
تتبيَّنُ لنا من ذلك مجموعةٌ من النِّقاط المه َّمة التي تفصح عن أصالة الجاحظ وتجلو ملمحا ً من مالمح
أمر على ح ٍ ّد عبقر َّيته ،فهو لم يرد الشَّكَّ لمحض الشَّك ،وال يقبل أن يكون الشَّكُّ كيفما اتَّفق وال في ك ِ ّل ٍ
ي عند ي ،بهذا المعنى ،ال يختلف البتة عن الشَّك المنهج ِّ سواءٍ وال بالطريقة ذاتها؛ إن الشَّك الجاحظ َّ
،فك ُّل منهم أراد الشَّكَّ طلبا ً René Descartesوالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت اإلمام الغزالي
.للحقيقة؛ الحقيقة الجلية الواضحة ،التي ال تقبل تفاوتا ً في الدَّرجات
النقد
يكشف لنا عن عقليَّة نقديَّ ٍة بارعةٍ؛ نقديَّ ٍة بالمعنى االصطالحي المنهجي
ُ إنَّ تتبـ ُّ َع كتب الجاحظ ورسائله
ساخرة التيوبالمعنى الشَّائع لالنتقاد ،فنقده بالمعنى الشَّائع يتجلَّى أكثر ما يتجلَّى في تهكُّمه وتعليقاته ال َّ
ئ أمامه أو واص ٌل إليه خبره ،ومن ذلك مثالً تهكُّمه جانب من جوانب المعرفة وال مخط ٌ ٌ لم يسلم منها
ومذهب
ٌ بالخليل بن أحمد الفراهيدي من خالل علم العروض الذي قال فيه« :العروض عل ٌم مردود،
».مرفوض ،وكالم مجهول ،يستك ُّد العقول ،بمستفعل ومفعول ،من غير فائدة وال محصول
ي فما أكثر ما تجلَّى في كتبه ورسائله في تعامله مع مختلف الموضوعات المعرفيَّة؛ أما نقده المنهج ُّ
سابقين ،والشَّواهد
العلم َّية واألدب َّية ،ومن ذلك نقده لعلماء عصره ومح ِدّثيه ورواته وفقهائه والعلماء ال َّ
.على ذلك ج ِ ّد كثيرة ،تجعلنا حقًا في حيرة أمام اختيار واحد منها
طبيعية بالعناية وال ِدّراسة فقال« :لو كان بد ُل ال َّن ِ
ظر انتقد بعضهم اتجاه علماء الكالم نحو األمور ال َّ
ظر في التَّوحيد ،وفي نفي التَّشبيه ،وفي الوعد والوعيد ،وفي التَّعديل والتَّجويد ،وفي تصحيح فيهما النَّ َ
طبائع واالختيار ،لكان أصوب .فر َّد عليه الجاحظ ناقدا ً ادعاءه بقوله: األخبار ،والتَّفضيل بَ ْينَ علم ال َّ
ج لما وصفت، َب أنَّك عمدت إلى رجا ٍل ال صناعة لهم وال تجارة إال الدُّعا ُء إلى ما ذكرت ،واالحتجا ُ ال َعج ُ
مجاز إالَّ عليه وإليه؛
ٌ مذهب وال
ٌ وإالَّ وضع الكتب فيه والواليةُ والعداوةُ فيه ،وال لهم لذَّة وال ه ٌّم وال
بالحصص ،ويَ ْعدِلوا بين الك ِ ّل بإعطاء ك ِ ّل شيءٍ نصيبهَ ،حتَّى يقع سطوا بَ ْينَ الجميع ِ فحين أرادوا أن يق ِ ّ
ي من الحكم ،والمستور من التَّدبير ،اعترضتَ التَّعدي ُل شامالً ،والتَّقسيط جامعاً ،ويظهر بذلك الخف ُّ
أديب ،وشايعك ٌ صوب رأيكطرت الكالم ،وأطلت الخطب ،من غير أن يكون َّ بالتعنُّت والتَّع ُّجب ،وس َّ
».حكي ٌم
وبنظر ٍة عجلى في آثار الجاحظ «فإنك تراهُ وهو يطلق العنان لقلمه في ج ِ ّل كتبه ـ يزيِّف الخرافات
كثير
ٌ والت ُّ َّرهات في عصره وقبل عصره ،ويورد عليك نقداته ومباحثاته ،فيقطع في نَ ْفسك أنَّه لو جاء
سخافات ،إذ إنَّ الجاحظ نفسه يقول :ومما ال أكتبه لك مثله في عقالء العلماء لخلت كتب األقدمين من ال َّ
من األخبار العجيبة التي ال يجسر عليها إال ك ُّل وقاح أخبار ولذلك ما أكثر ما كان يستفتح األخبار
ونظر
ٍ راجح،
ٍ ب بتحليله ونقده «بعق ٍلالمغلوطة أو األسطورية بقوله زعم فالن ،وزعموا ،ث ُ َّم يُعَ ِّق ُ
دقيق فكهٍَ ،يتَتَ َّب ُع المعنى ويق ِّلبُه على وجوهه المختلفة ،وال يزال ٍ ع ب سه ٍل ع َْذ ٍ
ب متن ّ ِو ٍ ب ،وأسلو ٍ
صائ ٍ
»يو ِلّده َحتَّى ال يترك فيه قوالً لقائل
التجريب والمعاينة
إذا كان النَّقد هو الخطوة الالحقة على الش َِّّك فإنَّ المعاينة والتَّجريب هي الخطوةُ المقترنة بالنَّقد
طبيعي ،والجاحظ لم ينس هذه الخطوة ولم يتناسها بل صةً في مسائل العلم ال َّ والمتالزمة معه ،وخا َّ
جعلها عمادا ً الزما ً من أعمدة منهجه البحثي ،وقد بدا ذلك في اتجاهين؛ أولهما قيامه هو ذاته بالمعاينة
.والتَّجريب ،وثانيهما نقل تجارب أساتذته ومعاصريه
سميت تي ُمنًا به فوهة صدمية
[.]11على سطح كوكب عطاردُ ،
ت كثيرةً للتَّثبُّت من معلوم ٍة وصلت إليه ،أو لنفي ٍ
خبر وقـد أجرى الجاحظ كما أخبرنا تجارب ومعاينا ٍ
تناهى إلى سمعه ولم يستسغه عقله ،واألمثلة على ذلك ج ُّد كثيرة نذكر منها تجربته في زراعة شجرة
زجاج ُو ِضع فيها طويلة معها للتَّأكُّد مما قيل عن تكاثر الذَّ ِ ّر عليها ويصف لنا بُرن َّيةَ
صته ال َّ
اآلراك وق َّ
ٍ
طبيب،
ٌ عشرون فأرا ً مع عشرين عقرب ،وما فعلته العقارب بالفئران وكذلك عندما أجمع أناس ،بينهم
جزار أن يأتيه على أنَّ الجمل إذا نُ ِحر ومات والتمست خصيته وشقشقته فإنهما ال توجدان ،فأرسل إلى َّ
بالخصية والشقشقة إذا نحر جمالً ،ففعل ،فلم يكتف بذلك ،فبعث إليه رسوالً يقول« :ليس يشفيني إال
المعاينة» ففعل ودحض هذا االدعاء ولجأ أيضا ً إلى تجريب بعض المواد الكيماويَّة في الحيوان ليعلم
ظام عندما مبلغ تأثيرها فيها ،وليتأكَّد مما قيل في ذلك ومما أورده من تجارب غيره تجربة أستاذه النَّ َّ
جرب على عد ٍد بنوع واح ٍد بل َّ ٍ سقى الحيوانات خمرا ً ليعرف كيف يؤثِّر الخمر في الحيوان ،ولم يكتف
سنانير والحيَّات والظباء والكالب وال َّ ِّ كبير من الحيوانات كاإلبل والبقر والجواميس والخيل والبراذين ٍ
.وغيرها
أما عن منهجه في معرفة الحالل والحرام فيقول « :إنما يعرف الحالل والحرام بالكتاب الناطق،
وبالسنة المجمع عليها ،والعقول الصحيحة ،والمقاييس المعينة» رافضًا بذلك أن يكون اتفاق أهل
المدينة على شيء دليالً على حله أو حرمته؛ ألن عظم حق البلدة ال يحل شيئا وال يحرمه ،وألن أهل
».المدينة لم يخرجوا من طباع اإلنس إلى طبائع المالئكة «وليس كل ما يقولونه حقًا وصوابًا
في زمانه ،فرفع لواء العقل وجعله الحكم األعلى في كل شيء ،فقد كان الجاحظ لسان حال المعتزلة
ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء،
.سواء من ينقلون علم أرسطو ،أو بعض من ينقلون الحديث النبوي
موقف التلميذ المصدق لكل ما يقوله فإذا كان بعض فالسفة الشرق والغرب فد وقفوا أمام أرسطو
األستاذ فإن الجاحظ وقف أمام أرسطو عقال لعقل؛ يقبل منه ما يقبله عقله ،ويرد عليه ما يرفضه عقله،
حتى إنه كان يسخر منه أحيانا ..ففي كتابه الحيوان يقول الجاحظ عن أرسطو وهو يسميه صاحب
المنطق« :وقال صاحب المنطق :ويكون بالبلدة التي تسمى باليونانية» طبقون« ،حية صغيرة شديدة
»!اللدغ إال أنها تُعالج بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك ،-ولم أفهم هذا ول َم كان ذلك؟
ويقول الجاحظ« :زعم صاحب المنطق أن قد ظهرت حية لها رأسان ،فسألت أعراب ًيا عن ذلك فزعم أن
ذلك حق ،فقلت له :فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال :فأما السعي فال
تسعى؛ ولكنها تسعى على حاجتها بالتقلب كما يتقلب الصبيان على الرمل ،وأما األكل فإنها تتعشى بفم
».وتتغذى بفم ،وأما العض فأنها تعض برأسيها م ًعا .فإذا هو أكذب البرية
وفاته
وقد جاوز على التسعين سنة .هـ 255الموافق لسنة م868ويتحدّث كتّاب السير عن وفاته في عام
وله مقالة في أصول الدين وإليه تنسب الجاحظية .وقد هدّه شلل أقعده وشيخوخة صالحة ،عندما كان
جالسا في مكتبته يطالع بعض الكتب المحببة إليه ،فوقع عليه صف من الكتب أردته ميتاً ،لقد مات
.الجاحظ مدفونا بالكتب والمجلدات ،مخلفا ً وراءه كتبا ً ومقاالت وأفكارا ً ما زالت خالدةً حتى اآلن
مؤلفاته
.صنف الجاحظ ما يقارب 360مؤلفا في موضوعات متنوعة
.كتاب الزرع والنخل
.كتاب المعرفة
كتاب الفضيلة المعتزلة.