Professional Documents
Culture Documents
S. Institutions Section 3-Converti
S. Institutions Section 3-Converti
.3الفـ ـ ــرد.
تمهيد:
ال يقتصر التحليل املؤسساتي على دراسة املجاميع الجماعية وتراصفاتها التركيبية فقط؛
فتموقعها هنا قد يغفل من التحليل بعد أساسيا للمؤسسة االجتماعية ،أال وهو االنتماء إلى الحقل
الفردي ( .)le champ individuelتشكل املؤسسة االجتماعية واألفراد واقعين متالزمين غير قابلين
للفصل أحدهما عن اآلخر ومتحدين رمزيا :كما يوضح لنا رونار ،Renardأنه إذا كانت املؤسسات
االجتماعية غير قادرة على الوجود دون املشاركة الفاعلة لألفراد الذين يشكلونها وينشطونها
(يصنعون حيويتها) ،فإن األفراد ال يستطيعون العيش خارج إطار املؤسسات االجتماعية التي
تشكل هيكل الحياة االجتماعية .هناك في نفس الوقت ،وجود لألفراد داخل األشكال املمأسسة
(املمارسات املؤسساتية) ،وهناك وجود للمؤسسات االجتماعية في قلب النفسية البشرية لألفراد.
عندما نطبق التحليل املؤسساتي على مستوى األفراد نستهدف إيجاد الجذور ،والكشف عن
طرائق وأشكال اندماجهم في النظام االجتماعي .يمكن أن يبدأ هذا الكشف من الرجوع إلى مؤسسة
اجتماعية معينة :أي أن نحاول إظهار نوع العالقة مع املؤسسة االجتماعية ودرجة استبطان
(استيعاب) اإلكراهات املؤسساتية .ولكن يمكن كذلك الذهاب أبعد من ذلك عندما نحاول األخذ
في الحسبان أفقية االنتماءات :أي أننا نحاول من خالل عمل دؤوب أن نعيد تشكيل الخريطة
الخاصة للهويات وااللتزامات املؤسساتية ،بتحديد مبادئ الترابط وتحديد نقاط العطب املحتملة.
يمكن لهذا العمل أن يتم باالستعانة فيه بعدة تقنيات ممكنة :كالتحليل النفس ي ،التحليل النفس ي
االجتماعي ،التحليل االجتماعي ،أو حتى تحليل الفصام النفس ي1؛ والتي تكشف لنا أن تقاطع
عبها
الت يمر ر
يج لألقاليم وإعادة تشكيل األقاليم التصورية ي
النفس" هو "التفكيك التدر ر ي
ي 1الهدف األول "لتحليل الفصام
الفاعل خالل تاريخه الفردي".
1
املؤسسات في املجتمع الكلي يتوافق تجانسيا مع تشابك املؤسسات االجتماعية على مستوى
األفراد.
• تنتج عالقة الفرد مع املؤسسة االجتماعية من وراء عوامل معقدة يرتبط بعضها
بشخصية الفرد والتعلمات املؤسساتية الذي حدثت معه ،ويرتبط البعض اآلخر بمالمح
املؤسسة وبتقنيات التطبيع املستخدمة من طرفها.
• ليس الفاعلون املنتمون إلى املؤسسة االجتماعية عجينة رطبة حيث تترسخ بصمة
املؤسسة كما هي بشكلها األصلي :فلكل واحد منهم شخصيته الخاصة التي تشكلت على مدى
التجارب املؤسساتية ،2والتي تهيكلت ً
بناء على االنتماءات املؤسساتية املوازية؛ ويرتبط
السلوك تجاه املؤسسة بشكل ضيق بطبيعة ذلك املاض ي وذلك املعاش املؤسساتي .فكل
مؤسسة كما أسلفنا تتعامل مع زبائن متراتبين مسبقا ويستجيبون في قبولهم للضوابط التي
تفرضها معايير املؤسسة بشكل غير متساو.
• من جهة أخرى ،ال يمكن أبدا تشبيه املؤسسات االجتماعية بعضها ببعض ،فتواجدها في
أقاليم متمايزة وحيازتها على مواقع متفاوتة في املنظومة املؤسساتية يجعلها تحظى بوسائل
فعل (تأثير) مختلفة.
• يفسر التوفيق بين كل هذه العوامل كيف أن عمل التطبيع املؤسساتي يمكن أن يؤدي إلى
أصناف عديدة ممكنة للعالقات بين املؤسسات االجتماعية ومواطنيها أو رعاياها:
)1أوال العالقة مع املؤسسة االجتماعية هي االسم اآلخر للعالقة مع القانون (:3)la Loi
املؤسسات االجتماعية هي في األساس أدوات تطبيع تحاول قدر اإلمكان ،في حدود نطاق
تأثيرها ،أن تحصل على أصناف معينة من السلوكات .إذ تحدد كل مؤسسة اجتماعية
2يتواجد هذا التنوع منذ بداية التنشئة االجتماعية يف إطار المؤسسات األولية كاألرسة :دون الحديث عن اختالفات الباث
الداخل عند قدوم أعضاء
ي يتغب توازنها
غب متشابهة ،تبعا لكونها تجري يف خاليا خاصة ر
ه يف الواقع ر
اث ،فالتجارب األرسية ي
الور ي
جدد.
ممعب ( un قانوث، ه متخيالت تأسست عل اخباع وتكرار خطاب 3
ر ي بالنسبة لـ P. Legendreالمؤسسات االجتماعية ي
) Pouvoirs, op.cit., p 12،«Le malentendu»( .)discours juridique normalisant
2
ملواطنيها الواجبات ( )les obligationsالتي ينبغي عليهم احترامها والقواعد التي يجب عليهم
اتباعها.
)2ينتج عن هذا تعارض ّبين ،ثنائي بين ما هو مطابق ( )conformeوما هو متعارض مع
املعايير املؤسساتية ،وبالنتيجة بين من يخضعون ومن يعصون املعايير :حيث ينثني (يمتثل)
األوائل بمحض إرادتهم لألوامر وللقانون ويلجؤون تحت حمايته وأمانه؛ أما اآلخرون
العصاة -الخارجون عن املعايير أو املنحرفون -فيبتعدون عن الطريق املستقيم خارقين
املمنوعات ،ويتموقعون بهذا خارج الحدود التي حددتها املؤسسة االجتماعية.
)3يجب إذن على السلطان في املؤسسة االجتماعية أن ينكب عليهم من أجل تذكيرهم
بالنظام وجذبهم إذا اقتض ى األمر بالقوة تحت تأثير أو وطأة قوانين أو معايير النظام
املمأسس ( .)l’ordre instituéلكن تجب اإلشارة إلى أن حجم التأثير املطبق على الرعايا
يتوقف على ظروف وكيفية تكوين وتبليغ ( )formulationاملعايير املؤسساتية.
)1يمكن للمؤسسة االجتماعية أن تتصرف بسلبية عنما تكتفي بتحديد حقل املسموح
وحقل املمنوعات التي تستوجب عقوبات ثقيلة" :إذا كانت املؤسسات االجتماعية ترسم
حدود الدائرة التي بداخلها يحدث التجريد األولي ،فهي تترك مواطنيها أحرارا في تصرفاتهم
طاملا كانت تجري داخل هذه الدائرة :العالقة مع املعايير هنا ليست تطابقا بل توافقا.
• يوجد هذا التطبيع السلبي من خالل املنع والتحريم املوجود أصال في قاعدة أي تنظيم
اجتماعي :ال تستطيع أي مؤسسة اجتماعية أو مجتمع أن يضمن بقاءه دون أن يفرض كبت
النزوات الغريزية.
• أكبر عمل تقوم به املؤسسة االجتماعية هو تقليص (كبح) الرغبة ،أو على األقل اقصاء
بعض أنواع املمارسة أو االستثمار من طرف الفاعلين.
• تلعب املؤسسة االجتماعية أوال وقبل كل ش يء دور جهاز رقابة ( )censureوقمع لألنا األعلى
اليقظ الذي يعطي لنفسه الحق في الحرمان من إشباع بعض الرغبات وأن يدفع الفاعلين
إلى التخلي عنها بشكل طوعي وعفوي :هذا البتر أو اإلخصاء (- )imputation et castration
الضروري حسب فرويد Freudمن أجل نمو الحضارة -ال يجب أن ُينظر إليه أو ُي َحس
3
ّ
كذلك (أي أنه بتر وإخصاء) ،وإال أدى ذلك إلى تسهيل عودة املكبوت الحقا؛ ولكن يجب
تقبل ذلك بل واملطالبة به من طرف الفاعلين.
• تحريف الرغبة عن هدفها األصلي وغير الشرعي ،يجعلها تتجه نحو االنصياع للقانون وأن
تستثمر في التماهي مع املؤسسة االجتماعية ،التي تصبح من هذا املنظور ليس فقط
موضوعا للخشية وإنما موضوعا للحب.
)2في مقابل نموذج التطبيع هذا ،املبني على املمنوعات والثني أو الصد ،يحاول نموذج آخر
أن يحل محله (تطبيع إيجابي) ،يتميز بتأثير مؤسساتي مختلف تماما ،ينبني على رقابة كاملة
على السلوكات.
• تتميز املعايير املؤسساتية بإيجابية جديدة :فهلي ال تملي على الفاعلين املنتمين إليها ما هو
ممنوع ،بل تملي عليهم ما هو مطلوب منهم ُوم ِلزم لهم ،حتى يكون الفاعل في وضعية سوية
تجاه املؤسسة االجتماعية ويتجنب غضبها عليه ،ال يكفيه فقط االمتناع عن ارتكاب
محرماتها ،بل يجب عليه كذلك أن يتبنى مواقف وممارسات ،ويقوم باألفعال التي تفرضها
املؤسسة االجتماعية :العالقة مع املعايير ليست فقط توافقا بل تطابقا تاما للسلوكات مع
املعايير.
• هذا الفرض يجعل املؤسسة االجتماعية تنغمس دائما أكثر فأكثر في أعماق حميمية
مواطنيها :من جهة يجب أن تكون املراقبة مستمرة ،وتمارس من أجل الحصول على سلوكات
متطابقة؛ من جهة أخرى ،يجب أن تكون شبكة املعايير أكثر كثافة ودقة حتى تكون
مستعدة للتصدي ألي طارئ محتمل.
ّ
• يدفع منطق اإليجابية في هذا النموذج املؤسسة االجتماعية إلى أال تترك شيئا يخص
ُ
مواطنيها يفلت منها (من مراقبتها ورقابتها) ،بحيث ت َن ْم ِذج طرق التفكير والفهم واإلحساس
والفعل :الهدف هنا هو ضمان انخراط كامل في املؤسسة االجتماعية بالقضاء نهائيا على كل
إمكانيات االبتعاد أو االنسحاب من رقابة املؤسسة االجتماعية.
4
• تستهدف املؤسسة االجتماعية من خالل االستحواذ على جسد ورغبات الفاعلين ترويض
الجسد الذي يعتبر أول حلقات إرساء تقنية السلطة هذه بتعبير ميشيل فوكو ،4الذي
أوضح كيف تم اكتشاف الجسد كموضوع وهدف للسلطة في العهد الكالسيكي :سوف
ينحت الجسد في تفاصيله من طرف املؤسسات االجتماعية التي تمارس عليه ضغطا
(إكراها) مستمرا .وهي كذلك فعل "التشريح السياس ي" ( )anatomie politiqueالتي ظهرت
مع التخصصات التي كانت تبحث عن صنع أجساد خاضعة ،منصاعة مطواعة من خالل
الرقابة الدقيقة على كل حركاتها وأفعالها وبتسييج الزمن ،والفضاء والحركة.
• في نفس الوقت يتم توجيه الرغبة ( )Le désirإلى أنماط اإلشباع املناسبة والضرورية والتي
تتحول وظيفية اجتماعيا :ال يتم فقط قمعها (الرغبة) ولكن تقنينها وتوجيهها إلى بعض
املواضيع التي يمكن أن تستثمر فيها من أجل أن تتحقق.
• ال تفرض املؤسسة االجتماعية في هذا النموذج الكبت ولكنها تفرض اإلشباع
(اإلرضاء )assouvissementفي األشكال وبالطرائق التي حددتها مسبقا.
.3الفرد.
يتراوح الفرد أمام املؤسسة االجتماعية بين حركتين متعارضتين :الجاذبة واملنفرة (الطاردة).
• فمن جهة أولى ،املؤسسة االجتماعية هي رمز الحماية واألمن واألمان ،فهي تخمد القلق
عندما تتكفل بمواطنيها ،وتدمج أقدارهم العارضة واملؤقتة والهاربة في إطار مشروع جماعي
دائم ومستديم يعطيهم معنى ووجودا واستمرارية...
• من جهة ثانية هي أداة (فاعل) تفرض تضغط وتقمع وتكبت ،وهي بهذا تنتج القلق عندما
تمارس الرقابة (القمعية) وتهدد وتنشر الخوف (الخشية).
• التراوح أو البين-بين ( )l’ambivalenceإذن موجود في قلب العالقة مع املؤسسات
االجتماعية ،وهو يتجسد في سلم مواقف يعكس درجة قوية لتقبل الضوابط املؤسساتية.
• في أدنى املستويات تتواجد سلوكات رفض املؤسسة االجتماعية وخرق املعايير
املؤسساتية :حيث يفصح تجاوز الحدود التي وضعتها املؤسسة االجتماعية ،والقفز على
املمنوعات واحتقار األوامر عن رفض النظام املؤسساتي ونفي قيمه ّ
املؤسسة التي يتأسس
ِ
عليها.
• إذا كان الرفض طوعيا ومنتظما للضوابط املؤسساتية فإنه يعتبر عرضا من أعراض
االنحراف يستوجب معالجة خاصة مناسبة :عندما ينزلق الفاعل املنحرف (املعتبر كذلك)
خارج إقليم املؤسسة االجتماعية التي ينتمي إليها ،فإنه يدخل في في اختصاص مؤسسة
اجتماعية أخرى تستخدم معه وسائل تطبيع أكثر تطورا أو أكثرة صرامة وحدة.
6
• ولكن خرق املعايير ليس في الغالب سوى جزئيا وعارضا أو مناسباتيا :وهو بهذا ال يعبر عن
رفض بل عن جهل بسيط بأهمية القواعد املؤسساتية :فعدم التوافق ال يصحبه دائما عدم
االعتقاد (اإليمان).
• ُينظر إلى الفرق بين السلوك املمارس والسلوك املطلوب على أنه خطأ (خطيئة أحيانا)
ويحفز شعورا مؤملا بالذنب ،ويكفي الضغط املؤسساتي إلعادة بناء النظام املخروق مؤقتا.
• دون الوصول إلى االنحراف يمكن أن يبحث الفاعلون عن طرق التحايل على املؤسسة
بتحويرها عن أهدافها وتشويه معناها املبدئي .ال ينتج عن هذا التحريف ( )perversionعلى
عكس التخريب ( ،)subversionالرفض أو االحتجاج على الضوابط املؤسساتية:
فالسلطان املؤسساتي مقبول ومعترف به رسميا ،وتطبق املعايير املؤسساتية بحذافيرها.
• ولكن هذه الطاعة هنا ربما ليست سوى واجهة خالصة (مزيفة أو نفاق اجتماعي) ،تقص ي
اإليمان العميق بفضائل املؤسسة االجتماعية ،وتحجب تلك الرغبة في استغاللها
واستعمالها للصالح الخاص :أي أن األمر يتعلق بتملك الفرد للمؤسسة االجتماعية دون أن
يكون ملكا لها.
• يمكن بهذا أن تفرغ املؤسسة االجتماعية من محتواها لتتحول إلى قوقعة فارغة ال
تستطيع أن تفرض قانونها على مواطنيها ،بل تخدم إستراتيجياتهم املتنافسة (املتعارضة
األهداف).
• تعتبر هذه السلوكات املنحرفة أو املارقة استثناءات ،فاملؤسسة االجتماعية تحصل
عموما على انصياع كبير من قبل مواطنيها .يمكن أن يكون هذا االنصياع سلبيا
( :)passifفالخضوع يعبر عن استسالم جبري أمام السلطان املؤسساتي املنظور إليه
كش يء حتمي صعب التجاوز.
• عند العجز عن التملص منها وخوفا من الوقوع تحت وطأة عقوباتها ،ينحني الفاعلون
لها مع تقليص إسهاماتها إلى الحد األدنى .بتواجدنا ضمن حقل اختصاص املؤسسة
االجتماعية نخضع لسلطانها دون أن يكون هناك انخراط فعلي؛ وتبقى العالقة مع
املؤسسة االجتماعية مبنية على التباعد والسطحية.
7
ال يقنع هذا القبول السلبي املؤسسة االجتماعية وال تكتفي به ألنها تطلب أكثر من •
جمهور غير متبلور وجسد هالمي يصعب تحريكه وجعله ديناميكيا ،فتضطر إلى
إنفاق جهد أكبر بالضغط املتواصل على الرعايا من أجل دفعهم إلى التحرك والفعل.
ما تتمناه املؤسسة االجتماعية هو أن يتحرك املواطنون من تلقاء أنفسهم .تفترض •
ّ
هذه املعادلة أن يستبطن الفاعلون املعايير املؤسساتية ،ولهذا يجب الحرص على أال
تبقى املعايير بعيدة وخارجية عن األفراد ،بل يجب أن ترسم في نفسية األفراد.
بهذا الشكل تتحول الضغوطات واإلكراهات إلى شكلها الالمرئي ،صعبة التمييز وغير •
متوقعة ألنها تدخل في قلوب الفاعلين وتستطيع العمل بشكل دائم ومستمر وبطريقة
آلية تماما .فكل فرد سوف يتكفل بقمع ذاته ،ويكبح غرائزه ،ويتبنى السلوك املنتظر
من طرف املؤسسة.
وسعت املؤسسة االجتماعية من عمق تأثيرها على يصبح هذا االستبطان سهال كلما َّ •
األفراد .يحدث هنا االستحواذ والتملك من طرف املؤسسة االجتماعية ( prise de
:)possession institutionnelleحيث تتسرب املؤسسة االجتماعية في قلب ذاتية كل
فرد ،وتغرس جهازا جزيئيا للمراقبة والرقابة الذاتية يضمن ديمومتها.
• هناك استدماج ( )introjectionواسقاط داخلي لصورة املؤسسة االجتماعية التي
يتم دمجها كجهاز رقابة وقمع في األنا األعلى ،حيث تعمل بهذا على تدعيم واسناد
صورة األب :ويتم الحفاظ على رابط التبعية الطفلية ونقلها من األب إلى املؤسسة
االجتماعية؛ حيث تحتل املؤسسة االجتماعية املكانة الرمزية لألب وتركز على نفسها
كل املواقف العاطفية الخاصة باملؤسسة األبوية.
• يمكن للمؤسسة االجتماعية أن تلعب دور األب القاس ي الذي يعاقب على خرق
أوامره ،كما يمكنها أن تلعب دور األب الطيب الذي يكافئ على الطاعة؛ فتمزج بهذا بين
أحاسيس الخوف والخشية وأحاسيس االمتنان املحاطة دائما بهالة من الحب.
• تمر العالقة مع املؤسسة االجتماعية كما العالقة مع األب عبر تحويل االحساس
البدائي املعادي إلى ارتباط إيجابي يحمل كل مواصفات التماهي (.)identification
8
• عندما ينصهر الفاعلون في قالب املؤسسة االجتماعية يجعلون من أقدارهم متصلة
غير منفصلة بقدر املؤسسة االجتماعية .يطمح كل فرد إلى بناء هويته داخل هذا
الكائن الجماعي ،لكي يضمن ديمومته الخاصة ويحصل على مزايا الخلود.
• يأتي مباشرة بعد حركة استدماج املؤسسة االجتماعية حركة االسقاط النفس ي داخل
املؤسسة االجتماعية .تكون صيرورة التماهي قوية لدى أعوان املؤسسة االجتماعية
الذين يسقطون على أنفسهم قوة وسطوة املؤسسة االجتماعية التي يمثلونها ،والتي
يظهر من خاللها بعد أساس ي آخر للعالقة مع املؤسسة االجتماعية ،أال وهو البعد
الشهواني (.)la dimension libidinale
• فكما أوضح فرويد ،S. Freudال يمكن للمؤسسة االجتماعية أن يبقى وتستمر دون
أن تتكلم "لغة الشهوة" ،دون أن تأسر الفاعلين عاطفيا باستعمال أداة الخيال
الجنس ي ( ،)le levier du fantasmeحيث يفسر هذا البعد صعوبة االفالت من تأثير
وسطوة املؤسسة االجتماعية.
9
املحاضرة التاسعة :تابع
.3الفرد.
• ينتج تعدد االنتماء املؤسساتي عن تقسيم الفضاء االجتماعي إلى مؤسسات اجتماعية
منفصلة ونواتية .ليس الفرد مواطنا أو عضوا في مؤسسة اجتماعية واحدة ،فهو يخضع
ملجموعة من الترتيبات التي تراقب مختلف جوانب وجوده .في مقابل تسييج النسق
االجتماعي يوجد كذلك تسييج للجسد الفردي -كمساحة كتابة تلتصق بها وترسم عليها
مختلف أجزاء املؤسسات االجتماعية .فكل فرد يتميز بشبكة كثيفة من االنتماءات
واالرتباطات املؤسساتية التي تشكل إقليمه الشخص ي.
• تتشكل هذه الشبكة بشكل فاعل وكامن في نفس الوقت :فعند تنقلهم داخل الفضاء
االجتماعي وخالل تطورهم الشخص ي يمر األفراد من اختصاص مؤسسة اجتماعية إلى
اختصاص مؤسسة اجتماعية أخرى.
• دون أن يكون تنقلهم هذا حرا (أو عشوائيا) ،فإنه مقنن وموجه ومحدد بعناية :فبعض
املمرات إجبارية ال يمكن االفالت منها (األسرة ،املدرسة.)...
• يجب أن يتم تفكيك هذه الشبكة على مخطط متزامن ومتتالي :يجب أن نكشف عن
جينيالوجيتها ( )généalogieبإعادة بناء مراحل تشكلها بتعيين األماكن املؤسساتية التي تم
العبور منها -التي تركت آثارا راسخة؛ كما يجب أن نرسم خريطة املؤسسات االجتماعية
بعناصرها املكونة لها مع تحديد نقاط التالقي وأنظمة الترابط بينها.
• لن نكتفي بهذا التحليل ،ألن عالقة الفرد بمختلف املؤسسات االجتماعية التي يتعامل
معها مختلفة ومتباينة؛ وليس هناك انسجام تام بين املؤسسات االجتماعية ،ألن التعلمات
املتعلمة في مؤسسة اجتماعية معينة تخلق دون شك بعض االستعدادات وتؤثر من خالل
خاصية النفاذية على التعامل مع مؤسسات اجتماعية أخرى.
10
• الحقل الفردي كما الحقل االجتماعي هما مجموع تترابط وتتراكب أجزاؤه؛ وبهذا تكون
السلوكات تجاه املؤسسات االجتماعية متضامنة بشكل ما :فلكل فرد صنف من ردود
األفعال تجاه السلطان املؤسساتي ،بحسب معاشه املؤسساتي الشخص ي -حتى ولو أن رد
الفعل هذا يصبح خاصا تبعا للتجارب امللموسة.
• هناك إذن أنماط مهيمنة أو سائدة (االنحراف ،الطاعة والخضوع ،االنخراط) تميز عالقة
الفرد مع املؤسسات االجتماعية.
• توجد عالقة مع املنظومة املؤسساتية في كليتها ،وهذه العالقة هي التي تحدد العالقات
الفردية املنفردة (.)les rapports singuliers
• لكن هذا االنسجام نسبيا ،هناك تغيرات من مؤسسة اجتماعية إلى أخرى ،والقبول العام
ُ ْ
للنظام امل َمأ َسس ال يقص ي تفاوت واختالف درجات االنخراط التي تتوقف على مكانة
الفاعل كعون ( )agentالتي تسهل التماهي ،أو مكانته كزبون ( )clientالتي تتكافؤ مع ابتعاد
أكبر.
• ولكن حتى في حالة الوضعية كزبون ،يمكن للضوابط املؤسساتية أن تستبطن أحيانا بقوة
(مثال في األسرة والتدين) ،وأحيانا أخرى يتم َت ُّ
حضم ُل عبئها بسلبية (مثال في مؤسسة العمل
أو في الخدمة العسكرية).
• نفس الش يء يحدث مع االنحراف الذي يعتبر نتاجا حتميا ومتجددا لصيرورة تطبيع
يشتغل على نمط "االدماج/االقصاء" ( processus de normalisation qui fonctionne
)par inclusion/exclusion؛ حيث ال يأخذ ما هو َس ِو ّي (عادي) معناه إال بالتضاد مع ما
هو غير َس ِو ّي (غير عادي) ،وال يمكن تأكيد ما هو مألوف إال بظهور ما هو مغاير.
• تظهر صورة املنحرف كضرورة تضمن انسجام النسق املؤسساتي الكلي؛ فكل مؤسسة
اجتماعية تزيح إلى الهامش بعض الفئات من زبائنها الذين لم تستطع تطبيعهم والتحكم
فيهم.
• في نفس الوقت ليس هذا االنحراف سوى جزئيا ومؤقتا ،فسرعان ما يتم التكفل بالفئات
الهامشية ،حيث تسترجع وتعالج من طرف مؤسسة اجتماعية أخرى من أجل ضمان دمجها
11
في النظام االجتماعي .وهكذا تتم معالجة االنحراف من خالل تمريره من مؤسسة إلى أخرى،
حيث يسهم تنوع وتعدد املنظومة املؤسساتية في حصر انتشاره والتقليص من تأثيره.
• يتم تعويض االنحراف الجزئي بالخضوع أو التماهي مع مؤسسات اجتماعية أخرى .ولكن
قد يحدث أن تتعطل ميكانزمات التصحيح الذاتي؛ إذ يتجه االنحراف إلى التوسيع من
دائرته والتنوع في أشكاله دون التمكن من تصحيحه بطريقة مناسبة.
• عندما تستنفذ كل الوسائل املؤسساتية في عالج املنحرفين ،يتم استبعادهم من املجتمع
ويحبسون في مؤسسات مكلفة بعزلهم وإعادة تربيتهم من خالل اإلكراه (،)la contrainte
فيدخلون في اختصاص السجن أو مستشفى األمراض العقلية ،تبعا ملا إذا كان تصرفهم
غير املتطابق مصنفا ضمن االضطرابات النفسية.
• يختفي هنا تعدد الروابط املؤسساتية الذي بات غير ذي نفع تاركا مكانه النتماء واحد
مفروض بالقوة؛ حيث يجري التطبيع في إطار مؤسسة اجتماعية خاصة ذات نمط قهري.
• ال تستخدم فضاءات العزل هذه إال في الحاالت القصوى (امليؤوس منها) كآخر حل؛ حيث
يتجه اإلجراء نحو اإلفراج عنهم مع مزاوجة ميكانزمات رقابة وادماج أكثر مرونة مع اللعب
على عدة مستويات مؤسساتية.
• يأتي هذا النمط من التأثير املؤسساتي في إطار جماعة انتماء واحدة بإيضاءات جديدة
حول ظاهرة التعدد املؤسساتي ،فمن أول نظرة ،يبدو أن كمال واتقان التسييج املؤسساتي
يتيح الحصول على رقابة مرتفعة على السلوكات ويقلص مخاطر االنحراف :فإحاطة الفرد
بشبكة كثيفة ومتماسكة من املؤسسات االجتماعية ال تتيح له االفالت من التأثير
ُ ْ
االجتماعي ،وتجعله مرتبطا مع النظام امل َمأ َسس ببعض الخيوط أو األلياف.
• في الواقع ،لهذه الكثافة والتنوع بعض اآلثار املبهمة وذات الوجهين .فعلى الرغم من تظافر
جهود املؤسسات االجتماعية فإن ذلك ال يضمن أبدا ضبطا كامال لألفراد؛ حيث يظهر في
مناطق تمفصل األشكال املمأسسة ممارسات مبتدعة وسلوكات منحرفة.
• تتحرك في الفجوات التي تفصل العناصر الصلدة واملتصلبة للنظام املمأسس تدفقات
ُ ّ
قوضه ،وتجعله يضطرب ويتآكل .تبحث املؤسسات االجتماعية على تثبيت وتحديد
جزيئية ت ِ
12
أقاليم التدفق الهامشية هذه من أجل القضاء عليها أو تقليص حجم تأثيرها .ولكن هذه
األخيرة تفلت منها من خالل الهروب وتغيير املكان لتظهر في مواطن ونقاط تمفصل أخرى.
• ال يتوصل العمل املثبط للمؤسسات الذي يبحث من خالل التدريب العملي عن الصمت
والسكون أبدا إلى كسر الديناميكية الحيوية وخنق القدرات الخالقة لألفراد.
• من جهة أخرى ،يتسبب التعقيد املتزايد للجهاز املؤسساتي في العديد من سوء الفهم وعدم
التوافق والفوارق والتشوهات التي يستطيع األفراد اللعب عليها من أجل اكتساب هامش
معين من االستقاللية أو فضاء من الحرية.
• بهذا يصبح تنوع املؤسسات االجتماعية التي تراقب األفراد عامل تحرير أكثر من أي ش يء
آخر .فبالعكس ،يضع نظام تراص الوحدات هذا ،املؤسسات املكلفة بحراسة االنحراف في
وضعية تبعية ،على الرغم من أنها َّتدعي الرقابة على األفراد في جميع أبعادهم.
• إذا كانت كل مؤسسة شمولية بالتعريف ألنها تستهدف احتالل كل الفضاء االجتماعي،
فإنه يبدو أن التعدد املؤسساتي هو الوحيد الكفيل بالحد من طموح كل واحدة منها في
السيطرة الكاملة.
• يبين لنا هذا االستنتاج أن النظام املؤسساتي ال ُي َس ِّي ُج الحقل االجتماعي والحقل الفردي
سوى سطحيا ،وأنه ال يتمكن أبدا من التوقيف النهائي لسير التدفقات الكثيفة بين األشكال
َُ املُ َم َ
أسسة والقوى املؤ ِ ّسسة ،فهناك عالقات تبادل دائمة وجدلية.
• يتيح أخذ هذا الجانب في االعتبار دفع التحليل إلى األمام مع إستدماج وتجاوز مستويات
التحليل السابقة.
13