Professional Documents
Culture Documents
BFARC - Volume 30 - Issue العدد 30 الجزء2 - Pages 427-478
BFARC - Volume 30 - Issue العدد 30 الجزء2 - Pages 427-478
BFARC - Volume 30 - Issue العدد 30 الجزء2 - Pages 427-478
تأليف
د .نادي عبد هللا محمد
أستاذ الحديث الشريف وعلومه المساعد
بكلية الدراسات االسالمية والعربية للبنين بالقاهرة
-427-
-428-
مقدمة
الحمد هلل والصالة والسالم على سيدنا رسول هللا وعلى آله وصحبه ومن
وااله.
وبعد:
فإن الماء هو أصل الحياة وعمادها ،وبه تحيا جميع الكائنات ،قال هللا تعالى:
َّللاُ َخ َلقَ " َو َجعَ ْلنَا ِمنَ ْال َم ِ
اء ُك َّل ش ْ
َيء َحي" (سورة األنبياء ،)30 :وقال تعالىَ " :و َّ
ُك َّل َدابَّة ِمن َّماء" (سورة النور.)45 :
والماء مخلوق رباني ،وهو النعمة الكبرى ،والمنة العظمى التي أنعم هللا بها
على بني البشر ،قال تعالى( :أَفَ َرأ َ ْيت ُ ُم ْال َما َء الَّذِي ت َ ْش َربُونَ ( )68أَأ َ ْنت ُ ْم أ َ ْنزَ ْلت ُ ُموهُ مِنَ
ْال ُم ْز ِن أ َ ْم نَحْ ُن ْال ُم ْن ِزلُونَ (())69سورة الواقعة68 :ـ.)69
وقد أورد هللا ذكر الماء في القرآن الكريم في آيات عديدة وفي مواضيع
متعددة ،ولقد كرم هللا هذا المخلوق وشرفه ،ومما يدل على تشريف القرآن الكريم
لهذا المخلوق أن نجده في آيات منه مقترنًا بعرش الرحمن.
ت َواأل َ ْر َ
ض كما جاء في سورة هود في قوله تعالىَ ":و ُه َو الَّذِي َخلَقَ ال َّ
س َم َوا ِ
ع َم ًال "(آية .)7 س ُن َ علَى ْال َم ِ
اء ِل َي ْبلُ َو ُك ْم أَيُّ ُك ْم أَحْ َ ِفي ِست َّ ِة أَيَّام َو َكانَ َ
ع ْر ُ
شهُ َ
في مسلم()1 وهذه منزلة وتشريف من هللا تعالى ،وفي الحديث الذي رواه
س ْرح ع ْم ِرو ب ِْن َ ع ْب ِد َّ ِ
َّللا ب ِْن َ ع ْم ِرو ب ِْن َ صحيحه قالَ :ح َّدثَنِى أَبُو َّ
الطا ِه ِر أَحْ َم ُد ب ُْن َ
الرحْ َم ِن ْال ُحبُ ِل ِى َ
ع ْن َع ْب ِد ع ْن أ َ ِبى َ
ع ْب ِد َّ ى ََح َّدثَنَا اب ُْن َو ْهب أ َ ْخبَ َرنِى أَبُو هَانِئ ْالخ َْوالَنِ ُّ
َّللاُ َمقَاد َ
ِير َب َّ َّللا -ﷺَ -يقُو ُل « َكت َ سو َل َّ ِ اص قَا َل َس ِم ْعتُ َر ُ ع ْم ِرو ب ِْن ْال َع ِ
َّللا ب ِْن َ َّ ِ
( )1صحيح مسلم ك القدر باب حجاج آدم وموسي عليهما السالم (.)6919
-429-
علَى
شهُ َ سنَة -قَا َل َ -و َ
ع ْر ُ ض بِخ َْمسِينَ أ َ ْل َ
ف َ ت َواأل َ ْر َ
س َم َوا ِ ْال َخالَئِ ِ
ق قَ ْب َل أ َ ْن يَ ْخلُقَ ال َّ
اء ». ْال َم ِ
ويؤيد هذا ما رواه البخاري()1عن عمران بن حصين قال :قال أهل اليمن
لرسول هللا ﷺ جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا األمر فقال" :كان هللا
ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء.
كما جعل هللا الماء أحد أنواع النعيم ألهل الجنة حيث يقول تعالىَ (:مث َ ُل ْال َجنَّ ِة
ط ْع ُمهُ الَّتِي ُو ِع َد ْال ُمتَّقُونَ فِي َها أ َ ْن َهار ِم ْن َماء َ
غي ِْر آ ِسن َوأ َ ْن َهار ِم ْن لَبَن لَ ْم يَتَغَي َّْر َ
ى َولَ ُه ْم ِفي َها ِم ْن ُك ِل الث َّ َم َرا ِ
ت صف ًسل ُم َ ع َار ِبينَ َوأ َ ْن َهار ِم ْن َ
ش َِوأ َ ْن َهار ِم ْن خ َْمر َل َّذة ِلل َّ
ط َع أ َ ْمعَا َء ُه ْم)(سورة سقُوا َما ًء َح ِمي ًما فَقَ َّ َو َم ْغ ِف َرة ِم ْن َربِ ِه ْم َك َم ْن ُه َو خَا ِلد فِي النَّ ِ
ار َو ُ
محمد آية.)15:
كما جعل سبحانه وتعالى الماء أحد أنواع العذاب في النار ألهل معصيته
سقُوا َما ًء َح ِمي ًما فَقَ َّ
ط َع أ َ ْم َعا َء ُه ْم (سورة محمد.)15: حيث يقول تعالى ( َو ُ
وزيادة في إبراز أهمية الماء من منظور اإلسالم ،نبه الحق سبحانه إلى ما قد
يصيب اإلنسان والحياة من هالك ،إذا هو لم ينزله ،أو لو أنزله "أُجاجا" غير
صالح لالستعمال.
كما جعلت السنة النبوية -وعلي هدى من القرآن العظيم – الماء الطهور أداة
الطهارة األولى والرئيسية في التشريع اإلسالمي ،وأعلت من شأن الطهارة
ور وحثت عليها إلى الدرجة التي ترقى إلى معادلة نصف اإليمان ،قال ﷺُّ " :
الط ُه ُ
ان"(.)2
اإلي َم ِ ش ْ
َط ُر ِ
( )1صحيح البخاري ك التوحيد باب وكان عرشه على الماء (.)6982
( )2أخرجه مسلم في صحيحه ك الطهارة باب فضل الوضوء (.)556
-430-
واذا كانت مشاكل المياه تنحصر في التلوث واإلسراف وسوء االستخدام ،فان
هذه قضايا عالجها اإلسالم منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان بما قرره من آداب
وقواعد وأحكام للمحافظة على الماء وترشيد استهالكه ،فالماء هو مصدر الحياة،
والمحافظة عليه تعني المحافظة على الحياة بأشكالها المختلفة.
وقد قرر اإلسالم مجموعة من القيم واآلداب واألسس والقواعد للمحافظة على
الماء وحمايته من التلوث.
وإننا في هذا البحث سنتناول الماء من زاوية أكثر أهمية وواقعية ،إذ تتصل
بالسلوك اإلنساني وهي زاوية آداب التعامل واالستعمال ،وهي غالبا ما تتحدت
عنها السنة النبوية المطهرة.
وقد جاء البحث في تمهيد وخمسة مباحث وذلك علي النحو التالي:
التمهيد :ويتضمن كيف تعرضت السنة وتطرقت لكثير من المشاكل البيئية
التي يعاني منها عالم اليوم.
المبحث األول :األمن المائي في السنة النبوية وكيف أوصت االنسانية
باالعتراف بحق اإلنسان في الماء ،ال يجوز منعه أو حبسه بأي شكل من
األشكال.
المبحث الثاني :المحافظة على الماء ،وذلك من جانبين:
الجانب األول :تحذير السنة النبوية من تلويث الماء.
الجانب الثاني :التحذير من االسراف في استعمال الماء.
المبحث الثالث :ترغيب السنة النبوية وحضها على توفير الماء وسقيه لمن
يحتاجه.
المبحث الرابع :آداب شرب الماء.
-431-
المبحث الخامس :نعمة الماء بين السلب والعطاء
ثم الخاتمة والتوصيات.
صا لوجهه الكريم ،وأن يحفظ أزهرنا
هذا ،وهللا أسأل أن يجعل هذا العمل خال ً
منبرا لهداية البشرية ،وتقديم الصورة الحضارية
ً الشريف ،وأن يجعله دائ ًما
المشرقة إلسالمنا الحنيف.
د .نادي عبد هللا محمد
أستاذ مساعد في قسم أصول الدين شعبة الحديث
وعلومه
بكلية الدراسات االسالمية والعربية للبنين بالقاهرة
جامعة األزهر الشريف
-432-
متهيد
تعرضت السنة النبوية للبيئة بوجه عام ،وتطرق رسول هللا ﷺ لكثير من
المشاكل البيئية التي يعاني منها عالم اليوم ،على الرغم من أن المشاكل البيئية في
زمنه ﷺ لم تكن معقدة بهذا الشكل الذي عليه العالم اليوم.
وال شك أن البيئة التي نعيش عليها نعمة من نعم هللا تعالى ،التي سخرها هللا
ض ْال َم ْيتَةُ أَحْ يَ ْينَاهَا َوأ َ ْخ َرجْ نَا ِم ْن َها َحبا فَ ِم ْنهُ
لنا ،قال تعالىَ ":وآيَة لَ ُه ُم ْاأل َ ْر ُ
ُون()34 َيأ ْ ُكلُونَ (َ )33و َج َع ْلنَا فِي َها َجنَّات ِم ْن ن َِخيل َوأ َ ْعنَاب َوفَ َّج ْرنَا فِي َها ِمنَ ْالعُي ِ
ِليَأ ْ ُكلُوا ِم ْن ث َ َم ِر ِه َو َما َ
ع ِملَتْهُ أ َ ْيدِي ِه ْم أَفَال يَ ْش ُك ُرونَ (( ")35سورة يس33:ـ.)35
ولما كان اإلنسان مستخلف في األرض وقائم على أمرها ،كان من الواجب
ضعليه عمارتها وزينتها ورعايتها ،قال هللا تعالىُ ":ه َو أ َ ْنشَأ َ ُك ْم ِمنَ ْاأل َ ْر ِ
َوا ْست َ ْع َم َر ُك ْم فِي َها "(سورة هود.)61:
وحذره من من خرابها وإفسادها ،قال هللا تعالىَ ":والَ ت ُ ْف ِسدُواْ فِي األ َ ْر ِ
ض بَ ْع َد
صالَ ِح َها "(سورة األعراف.)56:
ِإ ْ
وقد خلق هللا األرض بأحسن حال ،وهي مسخرة لالنسان قال تعالى ":أَلَ ْم
ظا ِه َرة ً ض َوأ َ ْسبَ َغ َ
علَ ْي ُك ْم نِ َع َمهُ َ ت َو َما فِي ْاأل َ ْر ِ س َّخ َر لَ ُك ْم َما ِفي ال َّ
س َم َاوا ِ ت ََر ْوا أ َ َّن َّ َ
َّللا َ
َّللاِ ِبغَي ِْر ِع ْلم َو َال ُهدًى َو َال ِكت َاب ُم ِنير"(سورة اطنَةً َو ِمنَ النَّ ِ
اس َم ْن يُ َجا ِد ُل ِفي َّ َو َب ِ
لقمان.)20:
وجعلها تفي بحاجات اإلنسان ،وأي نقص أو خلل يصيبها فهو بفعل اإلنسان،
ض ت أ َ ْيدِي النَّ ِ
اس ِليُذِيقَ ُه ْم َب ْع َ سا ُد ِفي ْال َب ِر َو ْال َبحْ ِر ِب َما َك َ
سبَ ْ ظ َه َر ْالفَ َ
قال تعالىَ ":
ع ِملُوا لَعَلَّ ُه ْم يَ ْر ِجعُونَ " (سورة الروم.)41:
الَّذِي َ
-433-
عا من اإلفساد،
ومن ثم كان إلحاق الضرر ألي عنصر من عناصر البيئة نو ً
سواء كان باإلفراط في استخدامها ،أو اإلساءة في استعمالها.
كما نجد رسولنا الكريم يدعونا في نصوص عديدة إلى إحياء األرض،
سا أ َ ْو وتعميرها ،والقيام بزراعتها وإصالحها ،فيقول ﷺَ ":ما ِم ْن ُم ْس ِلم َي ْغ ِر ُ
س غ َْر ً
ص َدقَة"(.)1 سان أ َ ْو بَ ِهي َمة ِإالَّ َكانَ لَهُ بِ ِه َ عا فَيَأ ْ ُك ُل ِم ْنهُ َ
طيْر أ َ ْو ِإ ْن َ يَ ْز َر ُ
ع زَ ْر ً
كما يحثنا ﷺ ويرغبنا في المحافظة على موارد البيئة ،فيقول ﷺَ ":م ْن أَحْ َيا
أ َ ْر ً
ضا َم ْيتَةً ،فَ ِه َ
ي لَهُ "(.)2
وال أدل على الحض على استثمار األرض واغتنام الحياة من هذا الحديث عن
عةُ َوبِيَ ِد أ َ َح ِد ُك ْم فَ ِسيلَة فَإِ ْن
سا َ أنس رضي هللا عنه عن النبي ﷺ قال ":إِ ْن قَا َم ْ
ت ال َّ
س َها فَ ْليَ ْف َع ْل"(.)3 ع أ َ ْن َال يَقُ َ
وم َحتَّى يَ ْغ ِر َ ا ْست َ َ
طا َ
وفي البيئة التي كان يعيش فيها سيدنا رسول هللا ﷺ يُعد الماء مرادفًا للحياة،
فهو نعمة من هللا تعالى بل هو أصل الحياة.
صا عديدة للحديث عن الماء ،وسلوك
ومن هنا أفردت السنة النبوية نصو ً
المسلم في التعامل مع هذه النعمة الربانية.
ولم يقتصر األمر عند هذا الحد بل عند مطالعتنا للسنة النبوية الكريمة نجد
اهتمام النبي ﷺ بكل ما يوجد في البيئة من حيوانات وأزهار وأشجار.
( )1صحيح البخاري ك المزارعة باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه ( )2195ومسلم ك
المساقاة باب فضل الغرس والزرع (.)4055
( )2سنده صحيح :أخرجه أبو داود في سننه ك الخراج باب في إحياء الموات ( )3075من طريق
هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد مرفوعًا ،وسنده رجاله ثقات.
( )3سنده صحيح :أخرجه أحمد في مسنده (191/3ح )13004من طريق حماد عن هشام بن زيد
عن أنس مرفوعًا ،وسنده رجاله ثقات.
-434-
والحقيقة أن سيدنا رسول هللا ﷺ كانت تعاليمه شاملة للبيئة بكل جوانبها
ومكوناتها.
وهو بذلك يدعو أن ينسجم االنسان مع البيئة التي يعيش فيها ،وحين تم
التجاهل بين هذه النصوص والواقع الذي نعيشه واجهتنا هذه المشكالت.
والحقيقة التي يجب أن يعرفها االنسان أن هللا تعالى وحده خالق الكون بكل
ما فيه ومالكه ،وأن االنسان مسئول أمام هللا تعالى ،ومن ثم كانت اإلساءة إلى أى
مصدرا من مصادر االحياة،
ً مخلوق من مخلوقاته تعالى ،سواء كان كائنًا حيًا أو
َذ ْنبًا من الذنوب يجازَ ى اإلنسان عليه ،وأن جميع مخلوقات هللا متساوية أمامه
سبحانه ،وأن الحيوانات ،وكذلك األرض والغابات وينابيع المياه ،لها حقوق
تُحْ ت ََرم.
***
-435-
املبحث األول :األمن املائي
الماء هو شريان الحياة ،ولذلك فهو حق للجميع ،ال يجوز ألحد أن يمنعه عن
أحد أو يحتكره لنفسه ،ألن الماء ليس من صنع أحد من البشر ،إنما هو هبة من
هللا تعالى خالق البشر جميعًا ،وإذا كان الناس يشتركون في حق اإلنسانية ،فال
يجوز أن يكون االنسان سببًا في حرمان أخيه االنسان من هذه النعمة االلهية.
وإذا كانت القوانين الوضعية أوصت بضمان الماء لكل إنسان ،ألن الماء حقه
في هذه الحياة ،فإننا نرى السنة النبوية الكريمة قد سبقت الجميع بتوجيهاتها في
هذا الشأن ،فيخاطب النبي ﷺ أتباعه ،كما ورد في الحديث عن رجل من
المهاجرين من أصحاب رسول هللا ﷺ قال :غزوت مع النبي ﷺ ثالث ًا أسمعه
ش َر َكا ُء ِفي ثَالَث فِي ْال َكالَ والماء َوالنَّ ِ
ار "(.)1 يقولْ ":ل ُم ْس ِل ُمونَ ُ
ثالث)2("........: وقد ورد الحديث في رواية أخرى بلفظ " الناس شركاء في
الحديث.
وعن أبي هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا ﷺ قال ":ثَالَث الَ ي ُْمنَ ْعنَ ْال َما ُء
َو ْال َكالَ َوالنَّ ُ
ار "(.)3
وفي عون المعبود( :)4المراد المياه التي لم تحدث باستنباط أحد وسعيه،
( )1سنده صحيح :أخرجه أبو داود في سننه ك االجارة باب في منع الماء ( )3479من طريق أبي
خداش عن رجل من المهاجرين مرفوعًا ،وسنده رجاله ثقات ،والجهالة بالصحابي ال يضر.
( )2سنده ضعيف :أخرجه الحارث في مسنده (219/2ح )243من طريق أبي إسحاق عن رجل من
أهل الشام عن أبي عثمان عن أبي خداش به .وفي سنده رجل مجول ،والصحيح ما قبله.
( )3سنده صحيح :أخرجه ابن ماجة في سننه ك الرهون باب المسلمون شركاء في ثالث ()2473
من طريق أبي الزناد عن األعرج عن أبي هريرة مرفوعًا ،وسنده رجاله ثقات
( )4عون المعبود شرح سنن أبي داود (.)268/9
-436-
والقنى واآلبار ،ولم يحرز في بركة أو جدول ،مأخوذ من النهر.
وقال السندي( :)1وقد ذهب قوم إلى ظاهره ،فقالوا :إن هذه األمور الثالثة ال
تملك وال يصح بيعها ،والمشهور بين العلماء أن المراد بالكأل هو المباح الذي ال
يختص بأحد ،وبالماء ماء السماء والعيون واألنهار التي ال تملك ،وبالنار الشجر
الذي يحتطبه الناس من المباح ،فيوقدونه ،فالماء إذا أحرزه االنسان في إنائه
وملكه يجوز بيعه ،وكذا غيره.
وجاء في كتاب فقه السنة للسيد سابق( :)2مياه البحار واألنهار وما يشابهها
مباحة للناس جميعًا ،ال يختص بها أحد دون أحد ،وال يجوز بيعها ما دامت في
مقارها.
أقول :وهذه األحاديث فيها توجيه نبوي عظيم ،يعلم اإلنسانية جميعًا أن ما كان
الناس محتاجين إليه فهو حق مشترك للجميع.
يعرف في شريعتنا الغراء بالملكية العامة ،ومعنى الملكية العامة للشئ أن
يشترك الناس جميعًا في ملكية هذا الشئ ،ومن ثم يكون من حق كل منهم أن
ينتفع به ،فال يختص به فرد بعينه ،يملكه ويمنع غيره من االنتفاع به.
والذي جعل الماء ملكية عامة وال يجوز احتكاره أو حبسه من قبل األفراد أو
الجماعات ،إنما هو حاجة الناس جميعًا إليه ،فهو من المرافق العامة التي ال
يستغنى عنها.
وحين غابت هذه المعاني السامية التي أقرها االسالم ودعا إليها ،ظهرت
المشكالت واالختالفات بين الدول بسبب الماء ،وكم من دول تمزقت ،وهجر
( )1سنده صحيح :أخرجه أبو داود في سننه ك االجارة باب في بيع فضل الماء ( )3480والترمذي
في سننه ك البيوع باب بيع فضل الماء ( )1271وابن ماجة في سننه ك الرهون باب النهي عن
بيع الماء ( )2476من طريق أبي المنهال عن إياس بن عبد المزني به ،وسنده رجاله ثقات.
( )2التمهيد لما في الموطأ من المعاني واألسانيد (.)129/13
-438-
فروى البخاري( )1بسنده عن أبي هريرة رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا
ع َذاب أ َ ِليم َر ُجل َ
ع َلى َّللاُ َو َال يَ ْن ُ
ظ ُر ِإلَ ْي ِه ْم َو َال يُزَ ِكي ِه ْم َولَ ُه ْم َ ﷺ " :ث َ َالثَة َال يُ َك ِل ُم ُه ْم َّ
س ِبي ِل َو َر ُجل َبا َي َع َر ُج ًال َال يُ َبا ِيعُهُ ِإ َّال ِلل ُّد ْن َيا فَإِ ْن
ط ِريق َي ْمنَ ُع ِم ْنهُ ابْنَ ال َّ ض ِل َماء ِب َ فَ ْ
ف ص ِر َف َح َل َ س َاو َم َر ُج ًال بِ ِس ْلعَة بَ ْع َد ْالعَ ْف لَهُ َو َر ُجل َ طاهُ َما ي ُِري ُد َوفَى لَهُ َوإِ َّال لَ ْم يَ ِ أ َ ْع َ
طى بِ َها َك َذا َو َك َذا فَأ َ َخ َذهَا ". الِل لَقَ ْد أ َ ْع َ
بِ َّ ِ
وعند أبي داود( )2من حديث أبي هريرة قال رسول هللا ﷺ " :ث َ َالثَة َال يُ َك ِل ُم ُه ْم
س ِبي ِل ع َذاب أ َ ِليم َر ُجل َمنَ َع ابْنَ ال َّ َّللاُ يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة َو َال يَ ْن ُ
ظ ُر ِإلَ ْي ِه ْم َو َال يُزَ ِكي ِه ْم َو َل ُه ْم َ َّ
ض َل َماء ِع ْن َدهُ."... َف ْ
عا":
ضا مرفو ً
من حديث أبي هريرة أي ً ()3 وفي رواية أخرى عند البخاري
ض َل َماء ،فَيَقُو ُل
ظ ُر إلَ ْي ِه ْمَ .....:و َر ُجل َم َن َع فَ ْ َّللاُ يَ ْو َم ال ِقيَام ِةَ ،وال يَ ْن ُ
ثَالثَة ال يُ َك ِل ُم ُه ُم َّ
ض َل َما لَ ْم ت َ ْع َم َل َي َد َ
اك ". ت فَ ْ ض ِلي َك َما َمنَ ْع َ َّللاُْ :اليَ ْو َم أ َ ْمنَعُ َك فَ ْ
َّ
ض َل َمائِ ِه ،أ َ ْو فَ ْ
ض َل َكلَئِ ِهَ ،م ْن َعهُ عاَ ":م ْن َم َن َع فَ ْ وعن عبد هللا بن عمرو مرفو ً
ضلَهُ َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة "(.)4
َّللاُ فَ ْ
َّ
اء ِلي ُْمنَ َع بِ ِه ْال َكأل ُ "( .)5وفي ض ُل ْال َم ِ
عا ":الَ ي ُْم َن ُع فَ ْ
وعن أبي هريرة مرفو ً
( )1أخرجه مسلم في صحيحه ك الطهارة باب فضل الوضوء ( )556من حديث أبي مالك
األشعري.
( )2سنده صحيح :أخرجه أبو داود في سننه ك الطهارة باب الوضوء باب ماء البحر ( )83من
-441-
مثال عظي ًما في شأن الماء وطهارته لإلنسان من األدران، وضرب النبي ﷺ ً
ب أ َ َح ِد ُك ْم يَ ْغت َ ِس ُل فِي ِه ُك َّل يَ ْوم خ َْم ً
ساَ ،ما تَقُو ُل ذ ِل َك فقال ﷺ ":أَ َرأ َ ْيت ُ ْم لَ ْو أ َ َّن َن َه ًرا ِببَا ِ
ت ْالخ َْم ِس ش ْيئًا قَا َل :فَذ ِل َك ِمثْ ُل ال َّ
ص َلوا ِ يُ ْب ِقي ِم ْن َد َرنِ ِه قالُوا :الَ يُ ْب ِقي ِم ْن َد َرنِ ِه َ
يَ ْم ُحو هللاُ بِ ِه ْال َخ َ
طايَا "(.)1
وقد كان النبي ﷺ يأكل ما وجد وال يذم شيئ ًا ،ولكنه لم يكن يشرب من كل
ماء ،بل كان يستعذب له الماء من آبار السقيا.
ووضع البخاري بابًا في صحيحه سماه (باب استعذاب الماء) أي طلب الماء
العذب ،والمراد به الحلو.
اال ِم ْن ار بِ ْال َمدِينَ ِة َم ً
ص ِط ْل َحةَ أ َ ْكث َ َر األ َ ْن َ
وذكر فيه حديث أنس( )2قالَ :كانَ أَبُو َ
سو ُل هللاِ َت ُم ْست َ ْقبِلَةَ ْال َمس ِْجدَِ ،و َكانَ َر ُ ن َْخلَ ،و َكانَ أ َ َحبَّ أَ ْم َوا ِل ِه ِإ َل ْي ِه بَي ُْر َحا َءَ ،و َكان ْ
ت ه ِذ ِه اآل َية (لَ ْن تَنَالُوا ط ِيب؛ قَا َل أَنَس :فَلَ َّما أ ُ ْن ِزلَ ْ ب ِم ْن َماء ِفي َها َ ﷺ َي ْد ُخلُ َها َو َي ْش َر ُ
ط ْل َحةَ إِلَى َر ُ
سو ِل هللاِ ﷺ ،فَقَا َل :يَا َر ُ
سو َل هللاِ ْالبِ َّر َحتَّى ت ُ ْن ِفقُوا ِم َّما ت ُ ِحبُّونَ ) قَ َ
ام أَبُو َ
ار َك َوت َ َعالَى يَقُو ُل (لَ ْن تَنَالُوا ْالبِ َّر َحتَّى ت ُ ْن ِفقُوا ِم َّما ت ُ ِحبُّونَ ) َو ِإ َّن أ َ َحبَّ ِإ َّن َ
هللا تَبَ َ
ض ْع َها َياص َدقَة هللِ؛ أ َ ْر ُجو ِب َّرهَا َوذُ ْخ َرهَا ِع ْن َد هللاِ؛ َف َ ي َبي ُْر َحا ُءَ ،و ِإنَّ َها َأ َ ْم َوا ِلي ِإلَ َّ
سو ُل هللاِ ﷺ :بَ ْخ ذ ِل َك َمال َرابِح ،ذ ِل َك َمال اك هللاُ قَا َل :فَقَا َل َر ُْث أ َ َر َ
سو َل هللاِ َحي ُ َر ُ
ط ْل َحةَ:
تَ ،و ِإنِي أ َ َرى أ َ ْن تَجْ َع َل َها ِفي األ َ ْق َر ِبينَ فَقَا َل أَبُو َ س ِم ْعتُ َما قُ ْل َ َرا ِبحَ ،وقَ ْد َ
ع ِم ِه. ط ْل َحةَ ِفي أ َ َق ِ
ار ِب ِه َو َب ِني َ س َم َها أَبُو َ أ َ ْف َع ُل َيا َر ُ
سو َل هللاِ فَ َق َ
طريق سعيد بن أبي سلمة عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة مرفوعًا ،وسنده رجاله
ثقات.
( )1أخرجه البخار ي في صحيحه ك مواقيت الصالة باب الصلوات الخمس كفارة ( )505ومسلم
ك المساجد باب المشي إلى الصالة تمحى به الخطايا ( )1554من حديث أبي هريرة.
( )2أخرجه البخاري في صحيحه ك األشربة باب استعذاب الماء ()5288
-442-
وفي سنن أبي داود( )1من حديث عائشة رضي هللا عنها َّن النَّبِ َّ
ي ﷺ َكانَ
س ْق َيا. عذب لَهُ ْال َما ُء ِم ْن بُيُو ِ
ت ال ُّ يُ ْست َ ُ
قال قتيبة :السقيا عين بينها وبين المدينة يومان.
وقال في عون المعبود( :)2يستعذب له الماء :أي يجاء بالماء العذب وهو
الطيب الذي ال ملوحة فيه ،ألن ماء المدينة كانت مالحة.
ولما كان الماء بهذه المنزلة السامية ،والمكانة العالية ،فإن السنة النبوية
طاهرا ،ينتفع به الناس ،وذلك من وجهين:
ً حرصت على نظافته ،وبقائه نقيًا
الوجه األول :التحذير من تلويث الماء
فقد نبهت السنة الكريمة وأكدت في نصوص عديدة على المحافظة على
الماء ،وحذرت من تلويثه بأي شكل من األشكال.
فعن معاذ بن جبل رضي هللا تعالى عنه قال :قال رسول هللا ﷺ ":اتقوا
المالعن( )3الثالث :البراز في الموارد( ،)4وقارعة الطريق ،والظل(.")5
( )1سنده صحيح :أخرجه أبو داود في سننه ك األشربة باب إيكاء اآلنية ( )3737من طريق هشام
بن عروة عن أبيه عن عائشة .وسنده رجاله ثقات.
( )2عون المعبود (.)144/10
( )3المالعن :جمع ملعنة ،وهي الفعلة التي يلعن فاعلها ،كأنها مظنة للعن ومحل له ،وهي أن يتغوط
االنسان على قارعة الطريق أو ظل الشجرة أو جانب النهر ،فإذا مر بها الناس لعنوا فاعلها.
النهاية (.)511/4
( )4البراز في الموارد :الموارد:أي المجاري والطرق إلى الماء ،واحدها مورد .النهاية (.)381/5
( )5سنده حسن لغيره :أخرجه أبو داود في سننه ك الطهارة باب المواضع التي نهى النبي ﷺ عن
البول فيها ( )26وابن ماجة في سننه أول الكتاب ( )323من طريق حيوة بن شريح أن أبا
سعيد الحميري حدثه عن معاذ به ،وفي سنده انقطاع بين معاذ والحميري .ولكن الحديث له
شاهد عن ابن عباس بعده.
-443-
ث قِي َل َماعا ":اتَّقُوا ْال َم َالعِنَ الث َّ َال َوعن ابن عباس رضي هللا عنه مرفو ً
ط ِريق أ َ ْو ِفي
ظ ُّل فِي ِه أ َ ْو فِي َ
َّللا قَا َل أ َ ْن يَ ْقعُ َد أ َ َح ُد ُك ْم فِي ِظل يُ ْستَ َ ْال َم َال ِع ُن يَا َر ُ
سو َل َّ ِ
نَ ْقعِ َماء "(.)1
كما نجد النبي ﷺ يحذر مرة أخرى من التبول في الماء سواء كان راك ًدا أو
جاريًا.
فعن جابر بن عبد هللا رضي هللا تعالى عنه عن رسول هللا ﷺ أنه نَ َهى ْ
أن
الرا ِك ِد (.)2
اء َّ
يُبَا َل في ال َم ِ
ضا قال :نهى رسول هللا ﷺ أن يبال في الماء
وفي حديث آخر عن جابر أي ً
الجاري(.)3
وعن ابن عمر رضي هللا عنهما قال :نهى رسول هللا ﷺ أن يتخلى الرجل
تحت الشجرة ،ونهى أن يتخلى على ضفة نهر جار(.)4
وفي الحكمة من النهي عن التبول في الماء الجاري:
( )1سنده حسن لغيره :أخرجه أحمد في مسنده (299/1ح )2715من طريق ابن لهيعة عن ابن
هبيرة قال :أخبرني من سمع ابن عباس مرفوعًا به ،وفي سنده راو لم يسم .ولكن الحديث تقدم
له شاهد من حديث معاذ.
( )2أخرجه مسلم في صحيحه ك الطهارة باب النهي عن البول في الماء الراكد ( )681من حديث
جابر.
( )3أخرجه الطبراني في األوسط (208/2ح )1749من طريق الحارث بن عطية عن األوزاعي
عن أبي الزبير عن جابر ،قال الطبراني :لم يروه عن األوزاعي إال الحارث .قال الهيثمي في
مجمع الزوائد ( :)204/1رواه الطبراني في األوسط ورجاله ثقات .وقال المنذري في الترغيب
( :)84/1رواه الطبراني في األوسط بإسناد جيد.
( )4سنده ضعيف :أخرجه الطبراني في األوسط (36/3ح )2392من طريق الفرات بن السائب عن
ميمون ابن مهران عن ابن عمر مرفوعًا ،وفي سنده الفرات بن السائب وهو ضعيف.
-444-
قال ابن عابدين في حاشيته(:)1أنه يقذره ،وربما أدى إلى تنجيسه.
فالتبرز أو التبول في الماء من السلوكيات الخاطئة التي يجب البعد عنها،
والمعروف أن تصريف مياه المجاري في المياه النقية ال يؤدي إلى تلويثها
بالطفيليات والروائح الكريهة فحسب ،بل يتسبب في استهالك األكسجين الذائب
في المياه مما يؤثر على حياة الكائنات التي تعيش فيه ،كما أن المواد العضوية
الموجودة في مياه المجاري تؤدى إلى ازدهار أنواع عديدة من البكتيريا
والطفيليات والكائنات األولية التي تسبب تلوث الماء.
ومما يؤسف له أن بعض المرافق الخدمية تقوم بتصريف مياه المجاري
الصحية دون معالجة إلى األنهار والبحيرات ،وهذا يحدث ضررأ جسي ًما في حياة
الناس ،حيث تساعد هذه السلوكيات الخاطئة على انتشار األمراض المعدية.
ومن ثم نجد السنة النبوية اهتمت بشأن الماء وعدم تلويثه ـحتى ال يقع الضرر
بمن يستخدمه بأكثر من ذلك بكثير ،فنبهت على عدة أمور:
1ـ تغطية األواني:
وذلك لحماية الماء من الملوثات التي قد تنتقل إليه عن طريق الهواء أو
الحشرات الناقلة للجراثيم ،بما يترتب عليه ضرر باإلنسان ،فعن جابر بن عبد هللا
اإلنَا َءَ ،وأ َ ْو ُكوا ِ
السقَا َء ،فَإ ِ َّن رضي هللا عهنما أنه سمع رسول هللا ﷺ يقول(":غ ُّ
َطوا ِ
علَ ْي ِه طاء ،أ َ ْو ِسقَاء لَي َ
ْس َ علَ ْي ِه ِغ َ سنَ ِة لَ ْيلَةً يَ ْن ِز ُل فِي َها َوبَاء ،ال يَ ُم ُّر ِبإِنَاء لَي َ
ْس َ فِي ال َّ
اء) "(.)2 ِو َكاءِ ،إ َّال نَزَ َل ِفي ِه ِم ْن َذ ِل َك ْال َو َب ِ
( )1أخرجه مسلم في صحيحه ك الطهارة باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في
نجاستها في االإناء (.)665
-448-
َو َكانَ بَيْنَ َذ ِل َك قَ َوا ًما } [الفرقان.]67 :
فالوسطية الرشيدة هي مسلك المسلمين ودعوة اإلسالم ألتباعه في كل
األحوال وعموم األوقات ،وهي خير ضمان لحماية التوازن البيئي فيما يتعلق
بالماء وغيره من الموارد الطبيعية.
وألهمية الماء وضرورته للحياة وقفت الشريعة اإلسالمية ضد اإلسراف في
استهالكه ،سواء في أغراض الشرب أو الزراعة أو الصناعة ،أو حتى في مجال
العبادات ،ومن التعاليم واآلداب اإلسالمية التي وردت في هذا الشأن ما يلي:
غي ِْر ِإس َْراف ص َّدقُوا َو ْال َب ُ
سوا ِفي َ فقد قال الرسول -ﷺ ُ ( :-كلُوا َوا ْش َربُوا َوت َ َ
َو َال َم ِخيلَة)(.)1
عا من االعتداء المنهي عنه ،والذي
ولهذا كان االسراف في استخدام الماء نو ً
2
س ِم َع ابنَهُ يقولُ:نبأ به رسولنا الكريم ﷺ ،فعن أبي نعامة( ) أن عبد هللا بن مغفل َ
َّللا
س ِل َّ َ
ي َ مين ال َجنَّ ِة إذا َدخلت ُ َها ،فقالْ :
أي بُن َّ ْض عن يَ ِ اللَّ ُه َّم إني أسألُ َك القَ ْ
ص َر األبَي َ
يكون في هذه س ُ ال َجنَّةَ ،وت َ َع َّو ْذ ِب ِه من النا ِر ،فَإِني سمعتُ رسو َل هللا -ﷺ -يقولَ :
اء "(.)3
ع ِهور وال ُّد َ األ َّمة قَوم يَ ْعتَدُونَ في ُّ
الط ِ
( )1سنده حسن :أخرجه ابن ماجة في سننه ك اللباس باب لبس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة
(, )3605احمد في مسنده (181/2ح )6695من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جدهمرفوعًا .وعمرو بن شعيب عن أبيه حديثهما حسن.واللفظ ألحمد.
( )2أبو نعامة :هو قيس بن عباية بفتح أوله وتخفيف الموحدة ثم تحتانية ثقة من الثالثة مات بعد سنة
عشر ومائة .تقريب التهذيب (457/1ت)5583
( )3سنده صحيح :أخرجه أبو داود في سننه ك الطهارة باب االسراف في الوضوء ( )96وابن
ماجة في سننه ك الدعاء باب كراهية االعتداء في الدعاء ( )3864وأحمد في مسنده
(87/4ح )16847من طريق أبي نعامة به .وليس عند ابن ماجة االعتداء في الطهور ،وسنده
رجاله ثقات.
-449-
قال صاحب عون المعبود( :)1االعتداء في الطهور :بالزيادة على الثالث،
وإسراف الماء ،والمبالغة في الغسل إلى حد الوسواس ،وأجمع العلماء على النهي
عن االسراف في الماء ولو على شاطئ النهر.
وقال القاري(" :)2قوم يعتدون" بتخفيف الدال :يتجاوزون الحد الشرعي....
واالعتداء في الدعاء يكون من وجوه كثيرة ،واألصل فيه أن يتجاوز من موقف
االفتقار إلى بساط االنبساط ،ويميل إلى حد طرفي االفراط والتفريط في خاصة
نفسه ،وفي غيره إذا دعا له أو عليه.
واالعتداء في الطهور :استعماله فوق الحاجة ،والمبالغة في تحري طهوريته
حتى يفضي إلى الوساوس.
وقد كان النبي ﷺ -وهو األسوة ال ُحسنى والقدوة ال ُمثلى -أنموذ ًجا فري ًدا في
هدرا ،والحرص على ترشيده.
مجال المحافظة على الماء من الضياع ً
ولقد تعددت النماذج التربوية في السنة النبوية الشريفة التي تهدف إلى
المحافظة على الموارد البيئية وخاصة الماء ،والدعوة المتكررة من خالل القدوة
والتوجيه النبوي للحفاظ على الماء وترشيد استهالكه.
َّللا -ﷺ -يَت ََوضَّأ ُ بِ ْال ُمدَِ ,ويَ ْغت َ ِس ُل
سو ُل َ َّ ِ
فعن أنس رضي هللا عنه قالَ :كانَ َر ُ
س ِة أ َ ْم َداد (.)3
صاعِ ِإلَى خ َْم َ
بِال َّ
وقد نهى النبي ﷺ عن االسراف في الماء حتى في أغراض الوضوء
واالغتسال.
( )1سنده ضعيف :أخرجه ابن ماجة في الطهارة باب ما جاء في القصد وكراهية التعدي ( )425من
طريق ابن لهيعة عن حيي بن عبد هللا المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد هللا بن
عمرو مرفوعًا ،وفي سنده بن لهيعة وحيي بن عبد هللا وكالهما ضعيف.
( )2سنده صحيح :أخرجه أبو داود في سسننه ك الطهارة باب ما يجزئ من الماء في الوضوء
( )94من حديث أم عمارة ،وسنده رجاله ثقات.
( )3أخرجه مسلم في صحصحه ك الطهارة باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة ()756
من حديث عائشة.
( )4سنده حسن :أخرجه النسائي في سننه ك الطهارة باب العتداء في الوضوء ( )140من طريق
عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده مرفوعا ،وعمرو بن شعيب عن أبيه حديثهما حسن.
-451-
واالهدار ،فاألحرى باألمة اليوم أن تغير من سلوكها مع الماء ،وأال تهدره دون
وعي ومعرفة.
ونحن في عصرنا الحديث أحوج ما نكون إلى هذه التوجيهات النبوية
الكريمة ،التي تنهى عن االسراف في استخدام الماء ،أو عن تلويثه وإفساده،
نظرا لما تتسم به حياتنا المعاصرة من إسراف شديد في إستعمال الماء وإهدار
ً
قدر كبير منه دون فائدة.
ومثال نحتذي به ،قال هللا تعالىَ ":ل َق ْد َكانَ لَ ُك ْم فِي ً وليكن من هديه ﷺ قدوة
َّللا َو ْال َي ْو َم ْاآل ِخ َر َو َذ َك َر َّ َ
َّللا َك ِث ً
يرا " َّللا أُس َْوة َح َ
سنَة ِل َم ْن َكانَ َي ْر ُجو َّ َ سو ِل َّ ِ
َر ُ
(األحزاب:آية.)21
وال شك أننا بامتثالنا لهذه التوجيهات النبوية الكريمة سنرتقي بأخالقنا ،ونسمو
بمبادئنا وقيمنا ،ونساهم في المحافظة على مجتمعاتنا ،وعلى مقوماتها ومرافقها
العامة ـ ال سيما مرفق الماء ـ من كل تلوث يؤدي إلى األمراض واألسقام.
-452-
املبحث الثالث :الرتغيب يف سقي املاء
يُعد سقي الماء من أفضل القربات التي يتقرب بها المرء إلى هللا عز وجل،
فهو سبب من أسباب النجاة ،وباب من أبواب البر ،ولقد أراد النبي ﷺ ورغب يوم
الحج األكبر أن يقوم بسقي الماء ،لكنه تركه خشية أن يتنازع الناس.
َّللا -ﷺ- سو ُل َّ ِ
ب َر ُ ففي حديث جابر بن عبد هللا رضي هللا عنهما ....":ث ُ َّم َر ِك َ
علَى زَ ْمزَ َم ب َي ْسقُونَ َ ع ْب ِد ْال ُم َّ
ط ِل ِ صلَّى بِ َم َّكةَ ُّ
الظ ْه َر فَأَت َى َبنِى َ اض ِإلَى ْال َب ْي ِ
ت فَ َ فَأَفَ َ
علَى ِسقَا َي ِت ُك ْم لَنَزَ ْعتُ َم َع ُك ْم ب فَلَ ْوالَ أ َ ْن َي ْغ ِل َب ُك ُم النَّ ُ
اس َ ع ْب ِد ْال ُم َّ
ط ِل ِ عوا َب ِنى َ فَقَا َل « ا ْن ِز ُ
ب ِم ْنهُ"(.)1 » .فَن ََاولُوهُ َد ْل ًوا فَش َِر َ
وفي ضوء السنة النبوية الكريمة نرى أن سقي الماء وتبريد األكباد وإطفاء
حرارة الظمآن من أعظم األبواب التي تقود إلى الجنان ،ومن أسباب تكفير
الذنوب واآلثام ،كما هو باب عظيم إلذهاب األسقام ،وبه تكون الصدقة الجارية
عن النفس والوالدين والولدان.
وسوف أسوق من النصوص النبوية الكريمة ما يرغب في هذا الشأن ويؤكد
هذا المعنى:
سقي الماء سبب لتكفير الذنوب
روى البخاري ( )2بسنده من حديث أبي هريرة رضي هللا عنه :أن رسول هللا
ب ِم ْن َها ،ث ُ َّم خ ََر َج؛
ش ،فَنَزَ َل بِئْ ًرا ،فَش َِر َط ُعلَ ْي ِه ْال َع َ
ﷺ قالَ (:ب ْينَا َر ُجل َي ْم ِشي فَا ْشت َ َّد َ
ث يَأ ْ ُك ُل الث َّ َرى ِمنَ ْالعَ َ
ط ِش فَقَا َل :لَقَ ْد بَلَ َغ ه َذا ِمثْ ُل الَّذِي بَلَ َغ بِي فَإ ِ َذا ُه َو بِ َك ْلب يَ ْل َه ُ
( )1أخرجه مسلم في صحيحه ك الحج باب حجة الوداع ( )3009من حديث جابر.
( )2أخرجه البخاري في صحيحه ك المساقاة باب فضل سقي الماء ( .)2234من حديث أبي
هريرة.
-453-
سقَى ْال َك ْل َ
ب فَ َش َك َر هللاُ لَهُ فَغَ َف َر لَهُ قَالُوا :يَا فَ َمأل َ ُخفَّهُ ،ث ُ َّم أَ ْم َ
س َكهُ بِ ِفي ِه ،ث ُ َّم َرقِ َ
ي ،فَ َ
طبَة أَجْ ر). كل َك ِبد َر ْ سو َل هللاِ َو ِإ َّن لَنَا فِي ْالبَ َهائِ ِم أَجْ ًرا قَا َل :فِي ِ َر ُ
ضا من حديث أبي هريرة بل األعجب من ذلك ما ورد في الصحيح ( )1أي ً
ش، يف بِ َر ِكيَّة(َ )2كا َد يَ ْقتُلُهُ ْالعَ َ
ط ُ رضي هللا عنه قال :قال النبي ﷺ( :بَ ْينَ َما َك ْلب ي ُِط ُ
سقَتْهُ ،فَغُ ِف َر َل َها بِ ِه).
ت ُموقَ َهاَ ،ف َ إِ ْذ َرأَتْهُ بَ ِغ ٌّ
ي ِم ْن بَغَايَا بَنِي إِس َْرائِي َل ،فَـنَـزَ َع ْ
فإذا كان هذا شأن الرحمة بالحيوان في سقيها الماء تغفر ذنوب البغايا ،فإن
الرحمة باالنسان تصنع ما ال يخطر على بال.
ولذا قال بعض التابعين( :من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء) (.)3
هذا هو االسالم في رقيه وإنسانيته ورحمته بكل الكائنات.
سقي الماء من أفضل الصدقات:
يعد سقي الماء من أفضل الصدقات ،السيما لمن احتاج إلى ذلك سواء كان
إنسانًا أو حيوانًا.
سو َل روى أبو داود( )4من حديث سعد بن عبادة رضي هللا عنه نَّهُ َقا َل َيا َر ُ
ض ُل قَا َل ْال َما ُء َقا َل فَ َحفَ َر ِبئْ ًرا َوقَا َل َه ِذ ِه ِأل ُ ِم
ص َدقَ ِة أ َ ْف َ َت فَأ َ ُّ
ي ال َّ َّللاِ إِ َّن أ ُ َّم َ
س ْعد َمات ْ َّ
س ْعد. َ
( )1أخرجه البخاري في صحيحه ك االنبياء باب أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ()3280
من حديث أبي هريرة.
( )2ركية :بفتح الراء وكسر الكاف وتشديد الياء آخر الحروف وهي البئر مطوية كانت أو غير
مطوية وغير المطوية يقال لها جب وقليب وقيل الركي البئر قبل أن تطوى فإذا طويت فهي
الطوى .فتح الباري ()516/6
( )3تفسير القرطبي (.)215/7
( )4سنده ضعيف :أخرجه أبو داود في سننه ك الزكاة باب في فضل سقي الماء ( )1683من طريق
أبي إسحاق عن رجل عن سعد بن عبادة .وفي سنده رجل مجهول.
-454-
وعن أنس قال :قال سعد :يا رسول هللا ،إن أم سعد كانت تحب الصدقة،
أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال :نعم ،وعليك بالماء(.)1
علَ ْينَا اب ْال َجنَّ ِة أ َ ْن أَفِي ُ
ضواْ َ ار أ َ ْ
ص َح َ اب النَّ ِ وفي قول هللا تعالىَ ":ونَا َدى أ َ ْ
ص َح ُ
ِمنَ ْال َماء أ َ ْو ِم َّما َرزَ َق ُك ُم َّللاُ " (األعراف :آية.)50
قال القرطبي في تفسيرها :هذه األية دليل على أن سقي الماء من أفضل
األعمال(.)2
وقد أدرك الصحابة الكرام رضي اله تعالى عنهم هذه المعاني السامية،
وعلموا أن سقي الماء من أعظم األبواب التي تكفر الذنوب ،وترفع درجات
اإلنسان ،فسابقوا إلى فعلها ،فنرى هذا المشهد العظيم من سيدنا عثمان بن عفان
رضي هللا عنه حين اشترى بئر رومة ،وتصدق بها على الناس.
انعثْ َم ُ
علَ ْي ِه ْم ُ
ف َ َّار ِحينَ أ َ ْش َر َ شي ِْري ِ قَالَ َ :ش ِهدْتُ الد َ ف َع ْن ث ُ َما َمةَ ب ِْن َح ْزن ْالقُ َ
ْس بِ َها َّللا ﷺ قَد َِم ْال َمدِينَةَ َولَي َ
سو َل َّ ِاإلس َْال ِم ه َْل ت َ ْعلَ ُمونَ أ َ َّن َر ُ
الِل َو ِب ْ ِ فَقَا َل :أ َ ْن ُ
ش ُد ُك ْم ِب َّ ِ
غي َْر ِبئْ ِر ُرو َمةَ؟ فَقَا َلَ :م ْن َي ْشت َِري ِبئْ َر ُرو َمةَ فَ َيجْ َع ُل ِفي َها َد ْل َوهُ َم َع ب َ َماء يُ ْست َ ْع َذ ُ
ب َما ِلي فَ َج َع ْلتُ َد ْل ِوي
ص ْل ِ
د َِال ِء ْال ُم ْس ِل ِمينَ بِ َخيْر لَهُ ِم ْن َها فِي ْال َجنَّ ِة؟ فَا ْشت ََر ْيت ُ َها ِم ْن ُ
فِي َها َم َع د َِال ِء ْال ُم ْس ِل ِمينَ "(.)3
( )1سنده صحيح :أخرجه الطبراني في األوسط (45/5ح )1790من طريق حميد الطويل عن أنس
مرفوعا .ورجاله رجال الصحيح.
( )2الجامع ألحكام القرآن (.)215/5
( )3سنده حسن :أخرجه الترمذي في مسنده ك المناقب باب في مناقب عثمان بن عفان ( )3703من
طريق يحيى بن أبي الحجاج عن أبي مسعود الجريري عن ثمامة بن حزن .وفي سنده يحيى بن
أبي الحجاج وهو لين الحديث ،ولكن لم ينفرد به ،فقد تابعه هالل بن أبي حق كما عند أحمد في
مسنده (74/1ح )555وهو مقبول ،كما أن الحديث علقه البخاري ( )827/2بصيغة الجزم.
-455-
وكان الصحابة رضوان هللا عليهم يحفرون اآلبار لتوفير الماء ،وذكر الفاكهي
قال :ذكر اآلبار اإلسالمية :بئر أبي موسى األشعري مكة()1 في كتاب أخبار
رضي هللا عنه :على باب شعب أبي دب بالحجون ،حفرها حين انصرف من
الحكمين ،ثم اندملت( ،)2فلم تزل مدمولة حتى نثلها( )3بغا مولى أمير المؤمنين في
سنة اثنتين وأربعين ومائتين ،على يد وكيله ابن شلقان ،وبئر آل شوذب :كانت
على باب المسجد عند باب آل شيبة ،فدخلت في المسجد الحرام ،حين وسعه
المهدي في خالفته ،وهي في الزيادة األولى التي كان وليها جعفر بن سليمان في
سنة إحدى وستين ومائة ،وشوذب مولى لمعاوية رضي هللا عنه .والبرود :بفخ
أسفل من شعب المبيضة ،حفرها خراش بن أمية محرش ،ويقال :محرش الكعبي
فيما يقولون ،ولها يقول الشاعر :بين البرود وبين بلدح نلتقي وبئر بكار :بذي
طوى ،عند ممادر بكار ،وبكار رجل من أهل العراق ،كان يسكن مكة .وبئر
وردان مولى المطلب بن أبي وداعة :بذي طوى عند سقاية سراج بفخ ،وسراج
مولى لبني هاشم ،وفي هذا الموضع يقول بعض الشعراء :إلى مبيت سراج
فالبرود فما حازت بالدح ذات النخل والسدر وبئر البن هشام ببئر ميمون تدعى
الهشامية ،وراء الدار التي كانت ألم عيسى بنت سهيل ،مقابلة دار محمد بن
داود .وبئر لكثير بن الصلت في داره التي بالثنية ،وهي دار طاقة .وبئر عبد هللا
بن الزبير رضي هللا عنهما بقعيقعان .وبئر لمعاوية رضي هللا عنه على حمامه
عند دار الحمام .وبئر لعبد هللا بن عامر في شعب ابن عامر .وبئر السقيا فوق
()236/6( )1
( )2اندملت :أي جفت وطمست.
( )3نثلها :استخرج ما فيها.
-456-
مأزمي عرفة عند مسجد إبراهيم عليه الصالة والسالم من عرنة ،كانت جاهلية،
حفرتها خالصة .والياقوتة :التي بمنى حفرها أبو بكر الصديق رضي هللا عنه في
خالفته ،فعملها الحجاج بعد مقتل ابن الزبير رضي هللا عنهما فيما يزعمون،
وضرب فيها وأحكمها .وآبار عمرو بن عثمان التي بمنى في شعب عمرو ،ومنها
يشرب اليوم الناس بمنى،وبئر الشركاء بأجياد لبني مخزوم ،وبئر عكرمة بأجياد
الصغير ،في الشعب الذي يقال له األيسر ،وبئر ابن المرتفع.
وعن جابر بن عبد هللا رضي هللا عنهما أن رسول هللا ﷺ قال ":من حفر ماء
لم تشرب منه كبد حري من جن أو إنس وال طائر إال آجره هللا يوم القيامة"(.)1
وعن أنس رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا ﷺ ":سبع يجري للعبد أجرهن
بئرا ،أو للعبد من بعده وهو في قبره :من علَم عل ًما ،أو كرى ً
نهرا ،أو حفر ً
ورث مصحفًا ،أو ترك ول ًدا يستغفر له بعد غرس ً
نخال ،أو بنى مسج ًدا ،أو ً
موته"(.)2
وفي ضوء هذه األحاديث يتبين لنا مدى حرص االسالم على االهتمام
بالمرافق العامة التي يحتاجها الناس ،كتوفير المياه ونحوها ،وجعل هذه األعمال
من الصدقات الجارية التي ينتفع بها العبد بعد موته.
وعن أبي هريرة رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا ﷺِ ":إ َّن ِم َّما يَ ْل َح ُق
صا ِل ًحا ت ََر َكهُ سنَاتِ ِه بَ ْع َد َم ْوتِ ِه ِع ْل ًما َ
علَّ َمهُ َونَش ََرهُ َو َو َلدًا َ ْال ُمؤْ ِمنَ ِم ْن َ
ع َم ِل ِه َو َح َ
( )1سنده صحيح :أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (269/2ح )1292من طريق عطاء بن أبي
رباح عن جابر مرفوعا .وسنده رجاله ثقات.
( )2سنده ضعيف :أخرجه البزار في مسنده (346/2ح )7289وأبو نعيم في الحلية ()343/2
والبيهقي في شعب االيمان (248/3ح )3449من طريق محمد بن عبيد هللا العرزمي وهو
ضعيف.
-457-
سبِي ِل بَنَاهُ أ َ ْو نَ ْه ًرا أَجْ َراهُ أ َ ْو َ
ص َدقَةً ص َحفًا َو َّرثَهُ أ َ ْو َمس ِْجدًا بَنَاهُ أ َ ْو بَ ْيتًا ِالب ِْن ال َّ
َو ُم ْ
ص َّح ِت ِه َو َحيَاتِ ِه يَ ْل َحقُهُ ِم ْن بَ ْع ِد َم ْوتِ ِه "(.)1أ َ ْخ َر َج َها ِم ْن َما ِل ِه فِي ِ
ومن فضائل سقي الماء أي ً
ضا أن يكون جزاؤه أن يسقيه هللا من الرحيق
المختوم:
فعن أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه عن النبي ﷺ قال(":أَيُّ َما ُم ْس ِلم َك َ
سا
ع َلى َّللاُ ِم ْن ُخض ِْر ا َ ْل َجنَّ ِةَ ,وأَيُّ َما ُم ْس ِلم أ َ ْ
ط َع َم ُم ْس ِل ًما َ علَى ُ
ع ْري َك َساهُ َ َّ ُم ْس ِل ًما ث َ ْوبًا َ
سقَاهُ َ َّ
َّللاُ ِم ْن علَى َ
ظ َمإ َ ار ا َ ْل َجنَّ ِةَ ,وأَيُّ َما ُم ْس ِلم َ
سقَى ُم ْس ِل ًما َ ط َع َمهُ َ َّ
َّللاُ ِم ْن ثِ َم ِ ُجوع أ َ ْ
وم)"(.)2 ق ا َ ْل َم ْخت ُ ِ ا َ َّ
لر ِحي ِ
بل إن سقي الماء ينتفع به في الدنيا ،فهو سبب لعالج األمراض ،وشفاء
األسقام ـ بإذن هللا تعالى ـ
فعن بن الحسن بن شقيق قال :سمعت ابن المبارك و سأله رجل يا أبا عبد
الرحمن قرحة خرجت في ركبتي منذ سبع سنين و قد عالجت بأنواع العالج و
سألت األطباء فلم أنتفع به فقال :اذهب فانظر موضعا يحتاج الناس إلى الماء
( )1سنده حسن :أخرجه ابن ماجة في سننه في افتتاح الكتاب في االيمان وفضائل الصحابة باب
ثواب معلم الناس الخير ( )242وابن خزيمة في صحيحه (21/4ح )2490من طريق مرزوق
بن أبي الهذيل عن الزهري عن أبي عبد هللا األغر عن أبي هريرة مرفوعًا .وفي سنده مرزوق
الهذيل ،قال ابن حجر في التقريب :لين الحديث .ولكن الحديث له شاهد :أخرجه ابن ماجة نفس
الكتاب والباب ( )241من حديث أبي قتادة مرفوعًا ،وسنده صحيح.
( )2سنده ضعيف :أخرجه أبو داود في سننه ك الزكاة باب في فضل سقي الماء ( )1684من طريق
أبي خالد الذي كان ينزل في بني داالن عن نبيح عن أبي سعيد مرفوعًا .وفي سنده أبو خالد
كثيرا ويدلس .والحديث أخرجه الترمذي في الزكاة ( )2449من ً الداالني وهو صدوق يخطئ
طريق عطية العوفي عن أبي سعيد مرفوعًا ،وعطية العوفي ضعيف .قال الترمذي :هذا حديث
غريب ،وقد روي عن عطية عن أبي سعيد موقوف ،وهو أصح عندنا وأشبه.
-458-
فاحفر هناك بئرا فإني أرجو أن تنبع هناك عين و يمسك عنك الدم ففعل الرجل
فبرأ (.)1
قال البيهقي( :)2وفي هذا المعنى حكاية قرحة شيخنا الحاكم أبي عبد هللا رحمه
هللا فإنه قرح وجهه و عالجه بأنواع المعالجة فلم يذهب ،و بقي فيه قريبًا من سنة،
فسأل األستاذ اإلمام أبو عثمان الصابوني أن يدعو له في مجلسه يوم الجمعة فدعا
له و أكثر الناس التأمين فلما كان من الجمعة األخرى ألقت امرأة رقعة في
المجلس بأنها عادت إلى بيتها و اجتهدت في الدعاء للحاكم أبي عبد هللا تلك الليلة
فرأت في منامها رسول هللا ﷺ كأنه يقول لها :قولوا ألبي عبد هللا يوسع الماء
على المسلمين فجيئت بالرقعة إلى الحاكم أبي عبد هللا فأمر بسقاية الماء فيها و
في الماء و أخذ الناس في الماء فما مرت عليه أسبوع حتى ظهر الجمد()3 طرح
الشفاء وزالت تلك القروح و عاد وجهه إلى ما كان و عاش بعد ذلك سنين.
( )1أخرجه البيهقي في شعب االيمان (221/3ح )3381من طريق حاتم بن الجراح عن علي بن
الحسن بن شقيق عن ابن المبارك به .وفي سندها حاتم بن الجراح ،لم أجد له ترجمة.
( )2نفسه.
( )3الجمد :يعني الثلج.
-459-
املبحث الرابع :آداب شرب املاء
جعلت الشريعة االسالمية آدابًا لمن أراد أن يشرب الماء ،من أخذ بها نال
كثيرا ،ومن تلك
ً خيرا
الخير الكثير في الدنيا واآلخرة ،ومن تركها حرم نفسه ً
اآلداب:
1ـ تسمية هللا عند الشرب والحمد عند االنتهاء
من آداب شرب الماء البسملة في أول الشرب والحمدلة في آخره ،فإذا أراد
المسلم أن يشرب شرع له أن يسمي هللا تعالى ،وإذا انتهى حمد هللا ،لما ورد من
حديث أبي هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا ﷺ كان يشرب في ثالثة أنفاس،
إذا أدنى اإلناء إلى فيه يسمي هللا ،فإذا أخره حمد هللا ،يفعل ثالث"(.)1
وقد دل هذا الحديث الشريف على أن المسلم يُشرع له إذا أراد الشرب أن
يسمي هللا ،فإذا قطع الشرب للنفس حمد هللا ،فإذا أراد الشرب ثانية سمى هللا ،فإذا
مستحضرا نعمة هللا تعالى في
ً قطع حمد هللا،وهكذا حتى ينتهي من شربه،
تحصيل هذا الماء ،وجعله عذبًا فرات ًا ولم يجعله مل ًحا أجا ًجا.
وهذا السلوك يستجلب رضا هللا تعالى ،ويكون سببًا لدوام هذه النعمة وبقائها،
ع ِن ْال َع ْب ِد أ َ ْن َيأ ْ ُك َل َّللا لَ َي ْر َ
ضى َ َّللا -ﷺِ " -إ َّن َّ َ ع ْن أَن َِس ب ِْن َما ِلك قَا َل قَا َل َر ُ
سو ُل َّ ِ َ
ش ْر َبةَ فَ َيحْ َم َدهُ َ
علَ ْي َها "(.)2 علَ ْي َها أ َ ْو َي ْش َر َ
ب ال َّ األ َ ْكلَةَ فَ َيحْ َم َدهُ َ
كما أن للحمد بعد الشرب فلسفة أخرى ،حيث يستحضر الشارب أن هللا تعالى
( )1سنده حسن :أخرجه الطبراني في األوسط (257/1ح )840وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح
( )96/10وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ( :)84/5فيه عتيق بن يعقوب ال بأس به وبقية
رجاله رجال الصحيح.
( )2أخرجه مسلم في صحيحه ك الذكر والدعاء والتوبة باب استحباب حمد هللا تعالى بعد األكل
والشرب (.)7108
-460-
جعل لهذا الماء ـ بعد أن يستعذبه ـ مخر ًجا ،إذ لو انحبس في بطنه أو مثانته
لحدث بذلك أذى وضرر كبير.
ب ،قَا َل: َّللا ﷺ ِإ َذا أ َ َك َلَ ،و َ
ش ِر َ سو ُل َّ ِاريِ ،قَا َلَ :كانَ َر ُ ص ِ ع ْن أ َ ِبي أَي َ
ُّوب األ َ ْن َ و َ
غهَُ ،و َج َع َل لَهُ َم ْخ َر ًجا "(.)1 لِل َّالذِي أ َ ْ
ط َع َمنَاَ ،و َسقَانَاَ ،و َ
س َّو َ ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ
قال ابن القيم :للتسمية في األول والحمد في اآلخر تأثير عجيب في نفع الطعام
والشراب ودفع مضرته قال اإلمام أحمد :إذا جمع الطعام أربعًا فقد كمل إذا ذكر
هللا في أوله وحمده في آخره وكثرة األيدي عليه وكان من حل(.)2
2ـ استحباب الشرب في حال الجلوس
الر ُج ُل قَا ِئ ًما .قَا َل
ب َّفعن أنس رضي هللا عنه عن النبي ﷺ أنه نَهى أن َي ْش َر َ
قتادة :فَقُ ْلنَا ألَنَس :فاأل َ ْكلُ؟ قَا َلَ :ذ ِل َك أَش َُّر -أ َ ْو ْ
أخبَ ُ
ث (.)3
وقد ورد ما يعارض ظاهره هذا الحديث فعن ابن عباس رضي هللا عنهما
ب النَّبِ ُّ
ي ﷺ قَائِ ًما ِم ْن زَ ْمزَ َم (.)4 قال :ش َِر َ
بماء فشرب قائ ًما، الرحبة()5 وعن النزال قال :أتى علي رضي هللا عنه باب
سا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم ،وإني رأيت رسول هللا ﷺ فعل
فقال :إن أنا ً
كما رأيتموني فعلت(.)6
( )1سنده صحيح :أخرجه أبو داود في سننه ك األشربة باب ما يقول الرجل إذا طعم (.)3853
فيض القدير (.)281/5 ()2
أخرجه مسلم في صحيحه ك األشربة باب كراهية الشرب قائما ()5394 ()3
أخرجه البخاري في صحيحه ك األشربة باب الشرب قائما ()5294 ()4
باب الرحبة :الرحبة بفتح الراء والمهملة والموحدة المكان المتسع ،والمقصود :رحبة الكوفة. ()5
فتح الباري ()81/10
أخرجه البخاري في صحيحه ك األشربة باب الشرب قائ ًما (.)5292 ()6
-461-
في الجمع بين الحديثين فقال :ليس هناك تناقض ،ألن قتيبة()1 وقد وفق ابن
الحديث األول نهى أن يشرب الرجل أو يأكل ماشيًا ،يريد أن يكون شربه وأكله
ً
مستعجال في سفر أو حاجة وهو يمشي فيناله على طمأنينه ،وأال يشرب إذا كان
من ذلك شرق أو تعقد الماء في صدره ـ والعرب تقول :قم في حاجتنا ال يريدون
أن يقوم فحسب ،وإنما يريدون امش في حاجتنا ،اسع في حاجتنا ...وفي الحديث
الثاني كان يشرب وهو قائم غير ماشي ...وال بأس بذلك ،ألنه يكون على
طمأنينة فهو بمنزلة القاعد.
قال اإلمام النووي( :)2على أن هذه األحاديث أشكل معناها على بعض العلماء
ً
أقواال باطلة وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها وادعى حتى قال فيها
فيها دعاوى باطلة الغرض لنا فى ذكرها والوجه الشاعة األباطيل والغلطات في
تفسير السنن بل نذكر الصواب ويشار إلى التحذير من االغترار بما خالفه وليس
فى هذه األحاديث ـ بحمد هللا تعالى ـ اشكال والفيها ضعف بل كلها صحيحة
والصواب فيها أن النهى فيها محمول على كراهة التنزيه ،وأما شربه ﷺ قائما
فبيان للجواز فال إشكال والتعارض ،وهذا الذى ذكرناه يتعين المصير إليه ،وأما
شا ،وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان من زعم نس ًخا أو غيره فقد غلط غل ً
طا فاح ً
الجمع بين األحاديث لو ثبت التاريخ وأنى له بذلك؟ وهللا أعلم.
فان قيل كيف يكون الشرب قائ ًما مكرو ًها وقد فعله النبى ﷺ؟ فالجواب :أن
فعله ﷺ إذا كان بيانًا للجواز اليكون مكرو ًها بل البيان واجب عليه ﷺ ،فكيف
يكون مكرو ًها؟ا وقد ثبت عنه أنه ﷺ توضأ مرة مرة وطاف على بعير ،مع أن
( )1أخرجه مسلم في صحيحه ك المساجد باب قضاء الصالة الفائته واسحباب تعجيل قضائها
( .)1594من حديث قتادة.
شرح النووي على مسلم (.)189/5 ()2
دليل الفالحين (.)56/6 ()3
أخرجه مسلم في صحيحه ك األشربة باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما (.)5384 ()4
أخرجه البخاري في صحيحه ك األطعمة باب التسمية على الطعام واألكل باليمين ()5061 ()5
ومسلم في صحيحه ك األشربة باب آداب الطعام والشراب ( )5388واللفظ للبخاري.
-465-
كراهة في الشمال.
6ـ تحريم الشراب في آنية الذهب والفضة
دلت السنة النبوية الكريمة على عدم جواز استخدام آنية الذهب والفضة في
سوا الطعام والشراب لما صح من حديث حذيفة أن رسول هللا ﷺ قال " :ال ت َْل َب ُ
ص َحافِ ِه َما، ض ِة َوال ت َأ ْ ُكلُوا فِي ِ
ب َو ْال ِف َّ ْال َح ِر َ
ير َوال الدِيبَا َجَ ,وال ت َ ْش َربُوا فِي آنِيَ ِة الذَّ َه ِ
فَإِنَّ َها لَ ُه ْم ِفي ال ُّد ْن َيا َولَ ُك ْم ِفي ِ
اآلخ َر ِة (.)1
َاء سو َل هللاِ ﷺ ،قَا َل :الَّذِي يَ ْش َر ُ
ب فِي إِن ِ وحديث أ ُ ِم َ
سلَ َمةَ ،زَ ْوجِ النَّبِي ِ ﷺ ،أ َ َّن َر ُ
َار َج َهنَّ َم"(.)2 ض ِة ِإنَّ َما يُ َج ْر ِج ُر فِي َب ْ
طنِ ِه ن َ ْال ِف َّ
( )1أخرجه البخاري في صحيحه ك األشربة باب آنية الفضة ( )5310ومسلم في صحيحه ك
اللباس والزينة باب تحريم أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء
(.)5515
( )2البخاري نفس الكتاب والباب ( )5311ومسلم ()5509
-466-
املبحث اخلامس :نعمة املاء بني السلب والعطاء
من المعلوم أن نعمة الماء هبة من هللا تعالى ،يهبها من يشاء من عباده
برحمته ،ويمنعها عمن يشاء بعدله ،قال تعالىَ ":و ُه َو الَّذِي يُن َِز ُل ْالغَي َ
ْث ِم ْن بَ ْع ِد َما
ي ْال َح ِمي ُد " (سورة الشورى .)28:وقال تعالىَّ ":
َّللاُ ش ُر َرحْ َمتَهُ َو ُه َو ْال َو ِل ُّ قَنَ ُ
طوا َو َي ْن ُ
ْف يَشَا ُء َويَجْ عَلُهُ ِك َ
سفًا فَت ََرى اء َكي َ س ُ
طهُ فِي ال َّ
س َم ِ ير َس َحابًا فَيَ ْب ُ الَّذِي ي ُْر ِس ُل ِ
الريَا َح فَتُثِ ُ
اب بِ ِه َم ْن يَشَا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه ِإ َذا ُه ْم يَ ْست َ ْب ِش ُرونَ " ص َْال َو ْدقَ يَ ْخ ُر ُج ِم ْن ِخال ِل ِه فَإِ َذا أ َ َ
(سورة الروم .)48:وقال تعالىَ ":و ِم ْن آ َيا ِت ِه أ َ ْن ي ُْر ِس َل ِ
الر َيا َح ُم َب ِش َرات َو ِليُذِيقَ ُك ْم
ي ْالفُ ْلكُ بِأ َ ْم ِر ِه َو ِلت َ ْبتَغُوا ِم ْن فَ ْ
ض ِل ِه َولَعَلَّ ُك ْم ت َ ْش ُك ُرونَ " (سورة ِم ْن َرحْ َمتِ ِه َو ِلتَجْ ِر َ
الروم.)46:
وإن من أعظم االبتالء الذي يوقعه هللا تعالى على عباده ،جدب األرض
وانحباس القطر من السماء.
وقد بينت السنة النبوية المطهرة أهم أسباب منع القطر من السماء ،والتي
منها:
1ـ منع الزكاة
حيث بين النبي ﷺ أن من أعظم الذنوب التي تحبس المطر من السماء منع
الزكاة ،وعدم إخراجها لمستحقيها.
فعن عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما قال :أقبل علينا رسول هللا ﷺ .فقالَ :يا
الِلِ أ َ ْن تُد ِْر ُكو ُه َّن ،لَ ْم ت َْظ َه ِر َم ْعش ََر ْال ُم َه ِ
اج ِرينَ ،خ َْمس إِ َذا ا ْبت ُ ِليت ُ ْم بِ ِه َّنَ ،وأ َ ُ
عوذُ ِب َّ
ون َو ْاأل َ ْو َجاعُ ،الَّتِي َل ْم ع ُ الطا ُ طَ ،حتَّى يُ ْع ِلنُوا ،بِ َها ِإ َّال َفشَا فِي ِه ُم َّشةُ فِي قَ ْوم قَ ُّ ْالفَ ِ
اح َ
صوا ْال ِم ْك َيا َل َو ْال ِميزَ انَ ِ ،إ َّال أ ُ ِخ ُذوا
ض ْواَ ،ولَ ْم َي ْنقُ ُت فِي أَس َْالفِ ِه ُم الَّذِينَ َم َض ْت َ ُك ْن َم َ
-467-
علَ ْي ِه ْمَ ،و َل ْم يَ ْمنَعُوا زَ َكاة َ أَ ْم َوا ِل ِه ْم ِإ َّال ُم ِنعُوا
ان َ
ط ِس ْل َ
السنِينَ َ ،و ِش َّدةِ ْال َمئُونَ ِةَ ،و َج ْو ِر ال ُّ ِب ِ
سو ِل ِه ِإ َّال
ع ْه َد َر ُ َّللاَِ ،و َ ع ْه َد َّ
ضوا َ ط ُروا َو َل ْم َي ْنقُ ُ اءَ ،و َل ْو َال ْال َب َها ِئ ُم َل ْم ي ُْم َ
س َم ِ ْالقَ ْ
ط َر ِمنَ ال َّ
ض َما فِي أ َ ْيدِي ِه ْم َو َما لَ ْم تَحْ ُك ْم أَئِ َّمت ُ ُه ْم غي ِْر ِه ْم ،فَأ َ َخ ُذوا بَ ْع َ
عدُوا ِم ْن َ علَ ْي ِه ْم َ َّللاُ َ
ط َّسلَّ ََ
َّللاُ َبأ ْ َس ُه ْم َب ْينَ ُه ْم)(.)1 َّللاَِ ،و َيت َ َخي َُّروا ِم َّما أ َ ْنزَ َل َّ
َّللاُ ِإ َّال َج َع َل َّ ب َّ ِب ِكت َا ِ
بينما نجد أهل الصدقة يسوق هللا إليهم الماء سوقًا ،كما في حديث أبي هريرة
ق ص ْوتًا فِى َ
س َحابَة ا ْس ِ س ِم َع َ ض َف َ عن النبي ﷺ قال ":بَ ْينَا َر ُجل بِ َفالَة ِمنَ األ َ ْر ِ
غ َما َءهُ ِفى َح َّرة فَإ ِ َذا ش َْر َجة ِم ْن ِت ْل َك ِ
الش َراجِ اب فَأ َ ْف َر َ َحدِيقَةَ فُالَن ،فَتَنَ َّحى َذ ِل َك ال َّ
س َح ُ
ت َذ ِل َك ْال َما َء ُكلَّهُ فَتَتَبَّ َع ْال َما َء فَإِ َذا َر ُجل قَائِم فِى َحدِيقَتِ ِه يُ َح ِو ُل ْال َما َء عبَ ْقَ ِد ا ْست َْو َ
س َحا َب ِة َف َقا َل الس ِْم الَّذِى َ
س ِم َع فِى ال َّ َّللا َما ا ْس ُم َك قَا َل فُالَنِ .ل ِ ِب ِم ْس َحاتِ ِه فَقَا َل لَهُ َيا َ
ع ْب َد َّ ِ
ب الَّذِى َه َذا س َحا ِ ص ْوتًا فِى ال َّ س ِم ْعتُ َ ع ِن اس ِْمى فَقَا َل إِنِى َ َّللاِ ِل َم تَسْأَلُنِى َ لَهُ يَا َ
ع ْب َد َّ
ظ ُرت َه َذا فَإِنِى أ َ ْن ُ صنَ ُع فِي َها قَا َل أ َ َّما ِإ َذا قُ ْل َ
ق َحدِيقَةَ فُالَن ِالس ِْم َك فَ َما ت َ َْماؤُ هُ يَقُو ُل ا ْس ِ
صد َُّق ِبثُلُ ِث ِه َوآ ُك ُل أَنَا َو ِع َيا ِلى ثُلُثًا َوأ َ ُر ُّد ِفي َها ثُلُثَهُ "(.)2
ِإلَى َما َي ْخ ُر ُج ِم ْن َها فَأَت َ َ
2ـ عموم الذنوب والمعاصي التي تقع من بني آدم
ً
رجال وهو يقول :إن الظالم ال يضر إال فعن أبي سلمة ،قال :سمع أبو هريرة
لتموت في وكرها هزاال الحبارى()3 نفسه ،قال :فالتفت إليه فقال :بلى ،وهللا إن
( )1سنده ضعيف :أخرجه ابن ماجة في سننه ك الفتن باب العقوبات ( )4019من طريق ابن أبي
مالك عن أبيه عن عطاء بن أبي رباح عن عبد هللا بن عمر مرفوعًا .وفي سنده ابن أبي رباح
وهو خالد بن يزيد بن عبد الرحمن وهو ضعيف.
( )2أخرجه مسلم في صحيحه ك الزهد والرقائق باب الصدقة في المساكين ( )7664من حديث أبي
هريرة.
( )3الحبارى :طائر طويل العنق ،رمادي اللون على شكل األوزة في منقاره طول ،الذكر واألنثى
والجمع فيه سواء .المعجم الوسيط ()151/1
-468-
بظلم الظالم(.)1
قال ابن األثير( :)2يعني أن هللا يحبس عنها القطر بعقوبة ذنوبهم وإنما خصها
بالذكر ألنها أبعد الطير نجعة فربما تذبح بالبصرة ويوجد في حوصلتها الحبة
الخضراء وبين البصرة وبين منابتها مسيرة أيام.
وعن ابن أبي وائل قال :قال عبد هللا :إذا بخس الميزان حبس القطر"(.)3
العالج والوقاية
لما كان الماء نعمة من هللا تعالى ،فإن ما عند هللا إنما ينال بطاعته وتقواه،
آء
س َم ِ
ت ِمنَ ال َّ قال تعالىَ { :و َل ْو أ َ َّن أَ ْه َل ْالقُ َر َ
ى َءا َمنُواْ َوات َّ ْقوا لَفَتَحْ نَا َ
ع َل ْي ِهم بَ َر َكا ِ
َواأل َ ْر ِ
ض} (سورة األعراف.)96:
ومن بركات السماء المطر ،ومن بركات األرض النبات مما يأكل الناس
واألنعام.
فعلى األمة أن تتوب وترجع إلى هللا تعالى وأن تستغفره من ذنوبها فهذا هو
السبيل لمدد هللا تعالى ومعونته قال هللا تعالى " فَقُ ْلتُ ا ْست َ ْغ ِف ُروا َربَّ ُك ْم ِإنَّهُ َكانَ
ارا (َ )11ويُ ْم ِد ْد ُك ْم ِبأ َ ْم َوال َوبَنِينَ َويَجْ َع ْل َل ُك ْم
علَ ْي ُك ْم ِمد َْر ً
س َما َء َ غفَّ ً
ارا ( )10ي ُْر ِس ِل ال َّ َ
َجنَّات َويَجْ َع ْل َل ُك ْم أ َ ْن َه ً
ارا "(سورة نوح10 :ـ .)12
وعن الشعبي قال :خرج عمر بن الخطاب رضي هللا عنه يستسقي فلم يزد
على االستغفار ،حتى رجع ،فقيل له :ما رأيناك استسقيت؟ فقال :لقد طلبت المطر
( )1مجاديح السماء :المجاديح واحدها مجدح ،والياء زائدة لالشباع ،والقياس أن يكون واحدها
مجداح ،فأما مجدح فجمعه مجادح ،والمجدح نجم من النجوم ،قيل :هو البدران .وقيل :هو ثالثة
كواكب كاألثافي تشبيها بالمجدح الذي له ثالث شعب ،وهو عند العرب من األنواء الدالة على
المطر ،فجعل االستغفار مشبها باألنواء مخاطبة لهم بما يعرفونه ،ال ً
قوال باألنواء .النهاية
()700/1
( )2أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ك الصالة باب االستسقاء (87/3ح )4902وابن أبي شيبة في
مصنفه ك الدعاء باب ما يدعى به في االستسقاء (311/10ح )30099والبيهقي في السنن
الكبرى ك صالة االستسقاء باب ما يستحب من كثرة االستغفار في خطبة االستسقاء
(352/3ح )6217من طريق سفيان بن عيينة عن مطرف عن الشعبيعن عمر .وسنده رجاله
ثقات.
-470-
خامتة
الحمد هلل وبه اإلعانة بد ًء وخت ًما ،وصلى هللا علي سيدنا محمد وصفًا وذات ًا
واس ًما.
وبعد:
فإن المتتبع للسنة النبوية المطهرة ،والقارئ لنصوصها ،يستطيع أن يجزم أن
ً
كامال ألهمية البيئة التي يعيش فيها بكل عناصرها صاحبها ﷺ كان يدرك إدرا ًكا
ومكوناتها من (التراب والماء والهواء والنار).
بل كان رائ ًدا في هذا األمر الذي أصبح موضو ً
عا ها ًما ،تنادي به كل
المؤسسات والحكومات اليوم.
فنرى السنة النبوية الكريمة تدعو االنسانية إلى حق المشاركة للجميع في
الموارد البيئية ،وتؤكد على تأمين ذلك لألفراد والجماعات ،فيقول ﷺ ":المسلمون
شركاء في ثالث :في الكأل والماء والنار".
وليس الخطاب للمسلمين فحسب ،بل ورد الحديث بلفظ ":الناس شركاء في
ثالث "....الحديث.
ونظرا لهذه األهمية القصوى للماء جعله هللا -سبحانه -حقا شائعا بين البشر
جميعا ،فحق االنتفاع بالماء مكفول للجميع دون إسراف وال إفساد وال احتقار وال
تعطيل ،وهذا يعنى أن مصادر الماء ال يجوز ألحد أن يحتكرها أو يمنعها عن
اآلخرين ،ولو أدركت الشعوب والحكومات هذه التعاليم اإلسالمية النتهت
الصراعات التي تدور حول الماء وموارده المختلفة.
وال شك ان تصرفات البشر من سوء استخدام المياه العذبة واإلسراف فيها
وتلويثها قد يكون سببا لندرة المياه ،واهدار هذه النعمة الربانية ،وحدوث الفقر
-471-
المائي في بعض المناطق..
ولذلك فقد أصبحت مشكلة المياه تتصدر أولويات هموم سكان العالم خاصة
اليوم.
واذا كانت مشاكل المياه تنحصر في التلوث واإلسراف وسوء االستخدام ،فان
هذه قضايا عالجها اإلسالم منذ 14قرنا من الزمان بما قرره من آداب وقواعد
وأحكام للمحافظة على الماء وترشيد استهالكه ،فالماء هو مصدر الحياة،
والمحافظة عليه تعني المحافظة على الحياة بأشكالها المختلفة.
وقد أكدت السنة النبوية المطهرة على مجموعة من القيم واآلداب واألسس
طاهرا نقيًا ،ينتفع به
ً والقواعد للمحافظة على الماء وحمايته من التلوث ،وبقائه
االنسان كما خلقه هللا ،وحذرت من تلويثه ،بأي صورة من الصور ،حتى ال
تتحول هذه النعمة االلهية العظيمة إلى مصدر لألمراض واألوبئة.
ومن النصوص الصريحة في ذلك قوله ﷺ ":اتقوا المالعن الثالث :البراز في
الموارد ،وقارعة الطريق ،والظل".
وألهمية الماء في حياة الناس أكدت السنة النبوية على التعامل مع هذا المورد
العظيم بسلوك يتناسب مع االعتراف بهذه النعمة الربانية ،فحذرتنا من االسراف
في استخدامه ،حتى ولو كان االنسان على نهر جار ،وبينت أن االسراف في
استخدام الماء نوع من االعتداء المنهي عنه فيقول ﷺ ":إنه سيكون في هذه األمة
طهور".قوم يعتدون في ال ُ
ولما كان الماء هو شريان الحياة ،رغبت السنة النبوية الكريمة في سقيه
عا من الصدقة الجارية الباقية لإلنسان بعد
وحضت على توفيره ،وجعلت ذلك نو ً
موته.
-472-
ولألسف فإن االنسجام الذى دعا إليه االسالم وأكدته السنة النبوية المطهرة
بين اإلنسان وبيئته قد تم تجاهله فى أيامنا هذه إلى حد بعيد.
وفى الوقت الذى نواجه فيه آثار التلوث واإلسراف فى استخدام موارد
الطبيعة والتصحير وشح الماء فى بعض األماكن فى العالم مع المعاناة من
الفيضانات والعواصف فى غيرها من األماكن ،فإنه من المالئم لإلنسانية جميعا
أن تأخذ هذه التوجيهات النبوية الكريمة موضع إهتمام وتقدير ،لمواجهة األزمة
بجد وحكمة.
البيئية الحالية ِ
نسأل هللا تعالى أن يعيد لهذه األمة ماضي عزها وغابر مجدها
وصلى هللا وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
***
-473-
فهرس املصادر
1ـ بغية الباحث عن مسند الحارث للهيثمى .مركز خدمة السيرة النبوية/
المدينة المنورة.طبعة أولى.
2ـ التمهيد لما في الموطأ من المعاني واألسانيد .مؤسسة قرطبة.
3ـ تأويل مختلف الحديث البن قتيبة .دار الجيل .بيروت.
4ـ تفسير ابن جرير .مؤسسة الرسالة.
5ـ الحقائق الطبية في االسالم .دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع.
6ـ حاشية ابن عابدين .دار الفكر للطباعة والنشر .بيروت.
7ـ حلية األولياء ألبي نعيم .دار الكتاب العربي .بيروت.
8ـ جامع العلوم والحكم البن رجب .دار المعرفة .بيروت.
9ـ الجامع ألحكام القرآن .دار عالم الكتب .الرياض .المملكــة العربيـــة
السعودية.
10ـ تقريب التهذيب البن حجر .مؤسسة الرسالة
11ـ دالئل النبوة للبيهقى .دار الكتب العلمية /بيروت.
12ـ سنن الترمذى .دار الكتب العلمية/بيروت.
13ـ سنن أبو داود.دار الحديث القاهرة.
14ـ سنن ابن ماجة .دار إحياء الكتب العربية
15ـ سنن النسائى .دار الجيل /بيروت
16ـ سنن الدارمى.دار الكتب العلمية /بيروت.
-474-
17ـ شرح السنة للبغوى.المكتب االسالمى.
18ـ شرح النووى على مسلم .دار إحياء التراث العربي .بيروت.
19ـ ـ شعب االيمان للبيهقى .دار الكتب العلمية /بيروت.
20ـ صحيح البخاري .دار الجيل .بيروت.
21ـ صحيح مسلم .دار ابن كثير .اليمامة .بيروت.
22ـ صحيح ابن حبان .دار الكتب العلمية /بيروت.
23ـ صحيح ابن خزيمة .المكتب االسالمي .بيروت.
24ـ الطب النبوي البن القيم .دار الكتاب العربي .بيروت.
25ـ عون المعبود شرح سنن أبى داود .دار الكتب العلمية /بيروت.
26ـ فتح البارى .دار المعرفة ـ بيروت.
27ـ فقه السنة .موقع مكتبة المسجد النبوي الشريف.
28ـ كشف األستار عن زوائد البزارللهيثمى.مؤسسة الرسالة
29ـ مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح .موقع المشكاة االسالمية.
30ـ ـ مسند االمام أحمد .مؤسسة قرطبة.
31ـ ـ مسند أبى يعلى .دار المأمون للتراث /دمشق.
32ـ معجم األوسط للطبرانى .دار الحرمين /القاهرة.
33ـ مسند إسحاق بن راهوية .مكتبة االيمان /المدينة المنورة.
34ـ مصنف عبد الرزاق .المكتب االسالمي .بيروت.
35ـ مصنف ابن أبي شيبة .طبعة الدار السلفية الهندية.
-475-
36ـ مجمع الزوائد للهيثمى .دار الكتاب العربى /بيروت.
37ـ موطأ مالك .دار التراث العربى /بيروت.
38ـ مستدرك الحاكم .دار المعرفة /بيروت.
39ـ النهاية فى غريب الحديث البن األثير .المكتبة العلمية /بيروت.
***
-476-
فهرس موضوعات البحث
الموضوع ...................................................................الصفحة
مقدمة 379 ...........................................................................
تمهيد 382 ...........................................................................
المبحث األول :األمن المائي 385 ..................................................
المبحث الثاني :المحافظة على الماء 389 ..........................................
المبحث الثالث :الترغيب في سقي الماء 400 ......................................
المبحث الرابع :آداب شرب الماء 406 .............................................
المبحث الخامس :نعمة الماء بين السلب والعطاء 412 ............................
خاتمة 415 ...........................................................................
فهرس المصادر418 ................................................................
فهرس موضوعات البحث 421 .....................................................
***
-477-
-478-