Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 177

‫ص لسلسلة ِ‪:‬‬

‫خ ٌ‬
‫تفر ي ٌغ م ُل َ ّ ِ‬

‫ِيراث الن ّب ُو ّة ِ"‬


‫ْهاج م ِن م ِ‬ ‫ِ‬
‫"شرح المِن ِ‬
‫للشيخ| أحمد بن يُوسُف السيد‬
‫‪-‬حفظه الل ّه‪-‬‬
‫المحاضرة الأولى‪ :‬م ُق ّدِمة ُ السلسلة‪ ،‬ومرجعي ّة ُ الوح ِيّ‬
‫م ُق ّدِمة ُ السلسلة ِ‪:‬‬
‫ل بطر يق‬
‫ن في الحديث‪ ،‬انتقيتُ فيه من الأبواب التي تعني المسلم ُ المنشغ ُ‬
‫‪-‬متنُ المنهاج من ميراث الن ّب ُو ّة هو مت ٌ‬
‫ل ه ِ ّم الدين والعمل له‪ .‬وهذا شروعٌ في شرح الكتاب شرح ًا مفصل ًا‪ ،‬فقد تناولت ‪-‬سابق ًا‪-‬‬
‫الإصلاح وحم ِ‬
‫ح بعض الحلقات للجيل الصاعد شرح ًا مُجمل ًا في بيان بعض مقاصد الأبواب‪.‬‬
‫شر َ‬

‫ِ‬
‫الشرح‪:‬‬ ‫منهجية ُ‬
‫‪ -١‬سأتحدثُ في الباب باعتبار؛ تفصيل عنوانه‪ ،‬و بحث مقاصده‪ ،‬وما يتعل ّق به من فوائد‪.‬‬
‫ل شواهد َ الباب؛ الآيات ثم الأحاديث؛ بتفسير الآية وشرح الحديث‪ ،‬وبيان أهم الفوائد‬
‫‪ -٢‬سأتناو ُ‬
‫المستخرجة منهما فيما له علاقة بالباب‪.‬‬
‫تنبيـه‪ :‬بالنسبة للأحاديث‪ :‬إذا كان الحديثُ خار َ‬
‫ج الصحيحين؛ فقد أتكل ّم عن إسناده وما يتعل ّق به إن‬
‫كانت الحاجة ُ تدعو إلى ذلك‪.‬‬
‫ْ‬

‫التسليم لل ّه ِ ولرسولِه ِ ﷺ‬
‫ِ‬ ‫الوحي وشموليتِه ِ ومركز ية ِ‬
‫ِ‬ ‫باب في مرجعي ّة ِ‬
‫ٌ‬
‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ل عنوا ِ‬
‫تفصي ُ‬
‫‪-‬يحتوي عنوانُ الباب على أربعة ِ أمو ٍر؛ وهي‪:‬‬
‫ن الوحي َ مرجعي ّة ُ المؤمن‪.‬‬
‫‪ -١‬أ ّ‬
‫باب دون آخر‪.‬‬
‫ل الأبواب؛ فهي ليست في ٍ‬
‫وصف لهذه المرجعية؛ بأ ّنها شاملة ٌ لك ّ ِ‬
‫ٌ‬ ‫‪-٢‬‬
‫‪ -٣‬الدعوة ُ إلى التسليم لل ّه ولرسوله ﷺ‪.‬‬
‫أمر مركزيّ في الدين؛ وهذا سيظهر ُ من خلال محتو يات الباب‪.‬‬
‫ن هذا التسليم َ ٌ‬
‫‪ -٤‬بيانُ أ ّ‬

‫ل على ثمان آيات وخمسة أحاديث؛ الآياتُ فيه أكثر ُ من الأحاديث‪ ،‬فالمتنُ وإن كان متن ًا‬
‫‪-‬هذا البابُ يشتم ُ‬
‫ن العناية َ فيه بكتاب الل ّه ‪-‬تعالى‪ -‬عناية ٌ كبيرة ٌ؛ و(هذه طر يقة ٌ مهمة ٌ لمن يتعامل مع الحديث‬
‫في الحديث إلا أ ّ‬
‫الن ّبوِ ّي؛ بأ ْن يأتي َ بالآيات التي تشهد للأحاديث في الباب‪ ،‬وكذلك إذا تناول كتابَ الل ّه؛ عليه أ ْن يأتي َ‬
‫ل الإمام ُ البخاريّ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬هذه الطر يقة َ في صحيحه؛ فهو وإ ْن‬
‫بالأحاديث المُبي ِّنة للآيات)؛ وقد استعم َ‬
‫كان كتاب ًا في الحديث إلا أن ّه يأتي َ ببعض الآيات التي تشهد لمعنى الباب‪.‬‬
‫‪-2-‬‬
‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫مقاصد ُ‬
‫‪-‬وهي خمسة ُ أمو ٍر مطلوبة ٍ من المسلم تُجاه َ مرجعي ّة الوحي؛ وهي‪( :‬تعظيم ُ مرجعي ّة الوحي‪ ،‬والتسليم ُ لمرجعي ّة‬
‫الوحي‪ ،‬وتحكيم ُ مرجعي ّة الوحي‪ ،‬وتقديم ُ مرجعي ّة الوحي‪ ،‬والاستغناء ُ والاستبشار ُ بمرجعي ّة الوحي)‪.‬‬

‫سـؤال‪ :‬لماذا تم ّ البدء ُ بباب مرجعي ّة الوحي؟‬


‫ن أمّة ٌ دين ُها الإسلام؛ والإسلام ُ معناه الاستسلام ُ لل ّه ‪-‬تعالى‪ ،-‬وهذا الاستسلام ُ إن ّما يكون لأمره‪،‬‬
‫=نح ُ‬
‫وأمرُ الل ّه نعرِف ُه ُ بالوحي‪ ،‬ولذا؛ حين نقول‪( :‬مرجعي ّة الوحي ومركز ي ّة التسليم)؛ فنحن نتحدثُ عن أعظم ما‬
‫تجاه َ ما أنزله الل ّه من أمره على رسله صلوت الل ّه وتسليماته عليهم‪.‬‬
‫يمكن أ ْن يعمل َه الإنسان ُ‬

‫ج أ ْن نؤكد َ على معنى مرجعي ّة الوحي؛ وذلك بالاحتكام والتفعيل‬


‫ن في مثل هذا الواقع؛ نحتا ُ‬
‫=ونح ُ‬
‫سن ّة رسوله ﷺ علاقة ً مباشرة ً‪ ،‬ولا يعني ذلك‬
‫والاستغناء والاهتداء؛ بحيث تكون علاقة ُ المسلم بكتاب الل ّه و ُ‬
‫ن وجود َ هؤلاء الأئمة لا يلغي علاقتنا‬
‫ألا يتكأ الإنسانُ في فهمه لنصوص الوحي على فهم أئمة المسلمين‪ ،‬فإ ّ‬
‫المباشرة بكتاب الل ّه وسُن ّة رسوله ﷺ؛ فهي لا تقتصر ُ على مجر ّد الأحكام الفقهية التي تتعل ّق باجتهاد هؤلاء‬
‫ل مسلم ٍ‪.‬‬
‫مطلوب من ك ّ ِ‬
‫ٌ‬ ‫أمر‬
‫سن ّة رسوله ﷺ ٌ‬
‫الأئمة‪ ،‬بل هي أوس ُع من ذلك بكثيرٍ؛ فالاهتداء ُ بكتاب الل ّه و ُ‬

‫يعيش الإنسانُ‬
‫َ‬ ‫سك والاعتصام بمرجعي ّة الوحي‪( :‬الهداية)؛ بأ ْن‬
‫ل نتيجة َ التم ّ‬ ‫فاـئدة‪ :‬من أعظم ما ُ‬
‫يحصّ ُ‬
‫ل وهو يتغيى ما يحبه الل ّه‬
‫على نو ٍر من الل ّه؛ يعلم م َن هو‪ ،‬وما الذي يريده الل ّه منه في نفسه وأهله وأمّته‪ ،‬فيعم ُ‬
‫و يرضاه‪ ،‬و يقتدي في ذلك بالنماذج البشر ية وهم الأنبياء‪.‬‬

‫ْس بِ خَار ٍِج‬


‫ات لَي َ‬ ‫س كَم َن مّثَلُه ُ فِي ال ّ‬
‫ظلُم َ ِ‬ ‫جع َل ْنَا لَه ُ نُور ًا يَمْش ِي بِه ِ فِي الن ّا ِ‬
‫ن مَي ْتًا ف َأحْ يَي ْنَاه ُ و َ َ‬
‫‪-‬قال تعالى‪" :‬أوَم َن ك َا َ‬
‫ن م َا ك َانُوا يَعْم َلُونَ"؛ ومن ذلك‪ :‬أن ّك ترى ‪-‬اليوم‪ -‬كثير ًا مم َن تق ّدموا في الحياة‬
‫ن لِلْك َافِرِي َ‬
‫ك ز ُي ِ ّ َ‬
‫مِّنْهَا كَذََٰل ِ َ‬
‫المادية من حيث الصناعات التقنية والاختراعات‪ ،‬قد وصلوا إلى درجة ٍ من الانحطاط الأخلاقي أبش َع مما‬
‫العيش‬
‫َ‬ ‫ن في استطاعتهم‬
‫وصل إليه قوم ُ لوطٍ ؛ ذلك لأ ّنهم فقدوا نور َ الهداية من الل ّه ‪-‬تعالى‪ ،-‬حين ظنوا أ ّ‬
‫وهم مستغنون عن الل ّه‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ل و َأول ِي الْأ ْمر ِ م ِنك ُ ْم ف َِإن تَنَازَعْتُم ْ‬ ‫ن آم َن ُوا أطِيع ُوا الل ّه َ و َأطِيع ُوا الر ّسُو َ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫ن ت َأْ وِ يل ًا"‪:‬‬‫ك خَيْر ٌ و َأحْ س َ ُ‬ ‫ل ِإن كُنتُم ْ تُؤْم ِن ُونَ ب ِالل ّه ِ و َالْيَو ْ ِم الْآ ِ‬
‫خر ِ ذََٰل ِ َ‬ ‫فِي شَيْء ٍ ف َرُدّوه ُ ِإلَى الل ّه ِ و َالر ّسُو ِ‬

‫ضا‪.‬‬
‫ج هذه ُ الآية ُ تحتَ مقصد التحكيم لمرجعي ّة الوحي ‪-‬في الأساس‪ ،-‬ومقصد التقديم لها أي ً‬
‫‪-‬تندر ُ‬

‫‪-3-‬‬
‫ن‬
‫اختلف العلماء ُ في تفسير (أولي الأمر) على قولين؛ إمّا الأمراء ُ الحكام وإمّا العلماء ُ‪ ،‬وفي الآية بيانُ أ ّ‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫مرجعي ّة َ الوحي مق ّدمة ٌ على مرجعي ّة أولي الأمر‪ ،‬كما يقول الإمام الطبري في تفسيره للآية‪( :‬فإ ْن اختلفتم‪،‬‬
‫أ ّيها المؤمنون‪ ،‬في شيء ٍ من أمر دينكم‪ :‬أنتم فيما بينكم‪ ،‬أو أنتم وولاة ُ أمركم‪ ،‬فاشتجرتم فيه =فردوه إلى الل ّه‬
‫ل على التحكيم من جهة ٍ أخرى‪.‬‬
‫ل على التقديم من جهة ٍ‪ ،‬ويد ّ‬
‫والر ّسول)؛ وهذا يد ّ‬

‫ن الردّ إلى رسوله ﷺ؛ هو الردّ إلى شخصه في‬ ‫ن الردّ إلى الل ّه؛ هو الردّ إلى كتابه‪ ،‬وأ ّ‬
‫‪-‬وقد أجم َع العلماء ُ على أ ّ‬
‫استنبط العلماء ُ من الآية حُ جي ّة َ الإجماع‪.‬‬
‫َ‬ ‫سن ّته بعد مماته ﷺ‪ ،‬وأيضًا‬ ‫حياته وإلى ُ‬

‫بعض الثمرات الحسنة لعاقبة‬


‫ن من الهدي الرباني في تشر يع الأحكام؛ أ ْن ت ُذكر َ ُ‬
‫‪-‬ومما يؤخذ ُ من الآية‪ :‬أ ّ‬
‫ن الل ّه َ ‪-‬تعالى‪ -‬في هذه الآية جم َع بين ثلاثة ِ أمو ٍر في التوجيه إلى التحكيم لكتابه‬
‫الالتزام بهذه الأحكام؛ فإ ّ‬
‫سن ّة رسوله ﷺ عند َ التنازع؛ وهم‪:‬‬
‫و ُ‬
‫ل"‪.‬‬
‫ن آم َن ُوا أطِيع ُوا الل ّه َ و َأطِيع ُوا الر ّسُو َ‬
‫الأوّل‪ :‬الأمرُ المباشر ُ؛ فقال تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫ق الردِّ إلى مرجعي ّة الوحي على الإيمان؛ فقال تعالى‪ِ " :‬إن كُنتُم ْ تُؤْم ِن ُونَ ب ِالل ّه ِ و َال ْيَو ْ ِم الْآ ِ‬
‫خر ِ"؛‬ ‫الثانـي‪ :‬تعلي ُ‬
‫ن مقتضىَ الإيمان‬
‫ل وإشكالٌ؛ لأ ّ‬
‫ن م َن لا يعتبر ُ مرجعي ّة الوحي عند َ التنازع =ففي إيمانه خل ٌ‬
‫ومعنى ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫هو التقديم ُ والتحكيم والتسليم لمرجعي ّة الوحي‪.‬‬
‫ن‬
‫ك خَيْر ٌ و َأحْ س َ ُ‬
‫سن ّة رسوله ﷺ؛ وذلك في قوله تعالى‪" :‬ذََٰل ِ َ‬
‫الثالث‪ :‬بيانُ العاقبة الحسنة للردِّ إلى كتاب الل ّه و ُ‬
‫ت َأْ وِ يل ًا"‪ ،‬والمقصود ُ بالتأو يل في الآية‪ :‬المآل والعاقبة‪.‬‬

‫ح في خطابه الدعوي؛ بأ ْن يذكر َ الثمرات الحسنة والمآلات الصالحة للالتزام بدين‬


‫‪-‬وهذا يستفيد ُ منه المصل ُ‬
‫ك‬
‫الل ّه‪ ،‬اقتضاء ً بالأنبياء والمرسلين أ ّنهم يبشرون وينذرون‪ .‬قال الإمام ُ الطبريّ في تفسير قوله تعالى‪" :‬ذََٰل ِ َ‬
‫ن ت َأْ وِ يل ًا"‪( :‬أي‪ :‬فردّ ما تنازعتم فيه من شيء ٍ إلى الل ّه والر ّسول =خير ٌ لـكم عند الل ّه في معادكم‪،‬‬
‫خَيْر ٌ و َأحْ س َ ُ‬
‫ن ت َأْ وِ يل ًا" يعني‪ :‬وأحمد ُ‬
‫ن ذلك يدعوكم إلى الألفة‪ ،‬وترك التنازع والف ُرقة‪" ،‬و َأحْ س َ ُ‬
‫ح لـكم في دنياكم‪ ،‬لأ ّ‬
‫وأصل ُ‬
‫ل عاقبة ً)‪.‬‬
‫مَو ْئل ًا ومغب ّة ً‪ ،‬وأجم ُ‬

‫ن‬
‫ات أ ّ‬
‫ن يَعْم َلُونَ الصّ الِ ح َ ِ‬
‫ن يَهْدِي لِل ّتِي هِي َ أق ْوَم ُ و َيُبَش ِّر ُ ال ْمُؤْم ِنِينَ ال ّذ ِي َ‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬
‫ن هََٰذ َا الْقُر ْآ َ‬
‫خرَة ِ أعْتَدْن َا لَه ُ ْم عَذ َاب ًا ألِيماً"‪:‬‬
‫ن ل َا يُؤْم ِن ُونَ ب ِالْآ ِ‬
‫ن ال ّذ ِي َ‬
‫جر ًا كَب ِير ًا * و َأ ّ‬
‫لَه ُ ْم أ ْ‬

‫ج هذه الآية ُ تحتَ مقصد التعظيم؛ وذلك بإدراك الجوانب العظيمة في كتاب الل ّه من الهداية والبشارة‬
‫‪-‬تندر ُ‬
‫ن‬
‫ن كتابَ الل ّه يهدي للسبيل الأقوم‪ ،‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫ج تحتَ مقصد الاستغناء؛ لأ ّ‬
‫للمؤمنين‪ ،‬وكذلك تندر ُ‬
‫الإنسانَ باتباعه للقرآن =يستغني عن دواعي السبل الأخرى‪.‬‬

‫‪-4-‬‬
‫ِيم‬
‫ل مّ ِنْ حَك ٍ‬
‫ل م ِن بَيْنِ يَد َيْه ِ وَل َا م ِنْ خ َل ْفِه ِ تَنزِي ٌ‬ ‫الآية الثالثة‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َِإن ّه ُ لَكِت َ ٌ‬
‫اب عَز ِيز ٌ * لّا ي َأْ تيِه ِ الْبَاطِ ُ‬
‫حَم ِيدٍ"‪:‬‬
‫ن القرآنَ‬
‫عزة القرآن؛ منها‪ :‬أ ّ‬ ‫ج هذه الآية ُ تحتَ مقصد التعظيم للوحي؛ وقد ذكر َ المفسرون وجوه ًا من ّ‬ ‫‪-‬تندر ُ‬
‫ل‪.‬‬
‫ف أو يب ّد َ‬
‫ن أعلى من أن ي ّشوه َ أو يحر ّ َ‬
‫لا يؤتى بمثله؛ فهو عزيز ٌ في مكانته وشأنه‪ ،‬وهو في مكا ٍ‬

‫ل م َن‬
‫لكتاب عزيز ٌ بإعزاز الل ّه إياه‪ ،‬وحفظه من ك ّ ِ‬
‫ٌ‬ ‫ن هذا الذكر َ‬
‫‪-‬قال الإمام ُ الطبريّ في تفسيره للآية‪( :‬وإ ّ‬
‫ن ماردٍ)؛ ومما ي ُعضد ُ هذا التفسير ُ؛‬
‫ي وجن ٍيّ وشيطا ٍ‬
‫أراد له تبديل ًا أو تحر يف ًا أو تغيير ًا من إنس ٍ ّ‬
‫ن‬
‫ن ل َا ي َأْ تُونَ بِمِثْلِه ِ و َلَو ْ ك َا َ‬
‫ل هََٰذ َا الْقُر ْآ ِ‬
‫نس و َالْج ِنّ عَلَى أن ي َأْ تُوا بِمِث ْ ِ‬
‫َت ال ِْإ ُ‬
‫‪ -١‬قوله تعالى‪" :‬قُل ل ّئِنِ اجْ تَمَع ِ‬
‫ض َظه ِير ًا"‪.‬‬
‫بَعْضُه ُ ْم لِبَعْ ٍ‬

‫خ ٱلل ّه ُ‬
‫ن فِی أمۡن ِی ّتِه ِۦ فَیَنسَ ُ‬
‫شیۡط ََٰ ُ‬
‫ك م ِن رّسُولࣲ وَل َا نَبِ ٍ ّی ِإلّا ِإذ َا تَم َن ّى ألۡقَى ٱل ّ‬ ‫‪ -٢‬وقوله تعالى‪" :‬وَم َا أ ۡرسَل ۡنَا م ِن قَب ۡل ِ َ‬
‫یحۡكِم ُ ٱلل ّه ُ ءَایََٰتِهِۦۗ و َٱلل ّه ُ عَل ِیم ٌ حَكِیمࣱ"‪.‬‬
‫ن ث ُم ّ ُ‬
‫شیۡط ََٰ ُ‬
‫م َا یلُۡقِی ٱل ّ‬

‫اب عَز ِيز ٌ"؛ ومن ذلك‪:‬‬


‫ل المفسرين في قوله "و َِإن ّه ُ لَكِت َ ٌ‬
‫تنوعت أقوا ُ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬وقد‬
‫ل شيء ٍ من معانيه عما هو به‪ ،‬وذلك هو‬
‫ل تغيير َه بكيده‪ ،‬وتبدي َ‬
‫‪ -١‬قال الإمام ُ الطبريّ ‪( :‬لا يستطي ُع ذو باط ٍ‬
‫الإتيانُ من بين يديه‪ ،‬ولا إلحاقَ ما ليس منه فيه‪ ،‬وذلك إتيان ُه ُ من خلفه)‪.‬‬
‫ن كثيرٍ‪( :‬أي‪ :‬مني ُع الجناب لا ي ُرام أ ْن يأتي َ أحدٌ بمثله)‪.‬‬
‫‪ -٢‬قال الإمام ُ اب ُ‬
‫ج‬
‫ن حُ ج َ‬
‫ن)؛ يقصد أ ّ‬
‫ج القُر ْآ ِ‬
‫ك حُ ج َ ُ‬
‫‪ -٣‬قال الإمام ُ الطاهر ُ ابن عاشور‪( :‬والعَزِيز ُ‪ :‬ال ّذ ِي يَغْل ِبُ ولا يُغْلَبُ ‪ ،‬وكَذَل ِ َ‬
‫تغلب ولا ت ُغلب؛ فهو عزيز ٌ في مضمونه ودلائله وحججه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ن‬
‫القرآ ِ‬

‫ك‬
‫ن ال ْعِلْم ِ م َا ل َ َ‬ ‫الآية الرابعة‪ :‬قال تعالى‪" :‬وَكَذََٰل ِ َ‬
‫ك أنزَلْنَاه ُ ح ُكْ مًا ع َرَب ًّيِ ّا و َلئَِنِ ات ّبَعْتَ أه ْوَاءَه ُم بَعْدَم َا ج َاءَك َ م ِ َ‬
‫ق"‪:‬‬‫ن الل ّه ِ م ِن و َل ِ ٍيّ وَل َا و َا ٍ‬
‫مِ َ‬
‫ج هذه الآية ُ تحتَ مقصد التعظيم للوحي؛ ومما يضاف إلى جوانب تعظيم القرآن‪ :‬تنو ّع ُ الصفات التي‬
‫‪-‬تندر ُ‬
‫ل صفة ٍ أعظم من الأخرى‪.‬‬
‫بصفات متعددة ٍ‪ ،‬وك ّ‬
‫ٍ‬ ‫وصفه الل ّه بها؛ فقد وصفه‬

‫ن‬
‫ج الآية ُ تحتَ مقصد الاستغناء؛ وذلك لقوله تعالى‪" :‬و َلئَِنِ ات ّبَعْتَ أه ْوَاءَه ُم بَعْدَم َا ج َاءَك َ م ِ َ‬ ‫‪-‬وأيضًا تندر ُ‬
‫ل الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪ -‬بين الحق والباطل؛ بأ ْن يكونَ الحقّ مستندًا إلى‬ ‫ال ْعِلْم ِ"؛ والمقصود ُ بالعلم هنا‪ :‬القرآن‪ ،‬فهنا قاب َ‬
‫العلم وأن يكون ما سواه من الباطل هو الهوى؛ وهذا من أعظم ما يجعل الإنسانُ يستمسك بمقتضى الوحي‬
‫وهو (العلم)‪.‬‬

‫‪-‬ومن المفارقات‪ :‬أن ّنا نجد ‪-‬اليوم‪ -‬في كثيرٍ من السياقات الدراسية إذا ذُك ِر َ (العلم) مجر ّد ًا =فلا ي ُفهم منه إلا‬
‫‪-5-‬‬
‫العلم الطبيعي‪ ،‬بينما العلم الذي ينبغي أ ْن ي ُسمّى علم ًا هو العلم ُ المتصل بالوحي؛ ذلك العلم الذي ينفع الناس في‬
‫يكشف لهم عن غاية وجودهم‪ ،‬وينفعهم في مآلهم الذي ينبغي أن يعملوا له‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حياتهم؛ حيث‬

‫ك أنزَلْنَاه ُ ح ُكْ مًا ع َرَب ًّيِ ّا"؛ منها‪ :‬الحكمة؛ أي‪:‬‬


‫‪-‬ذكر َ المفسرونُ وجوه ًا في دلالة كلمة "ح ُكْ مًا" في قوله تعالى‪" :‬وَكَذََٰل ِ َ‬
‫حكيم ًا‪ ،‬والإحكام والإتقان؛ أي‪ :‬محكمًا‪ ،‬والحاكمية؛ أي‪ :‬حاكم ًا؛ ومن ذلك‪:‬‬
‫ن كثير‪( :‬وكما أرسلنا قبلك المرسلين‪ ،‬وأنزلنا عليهم الـكتب من السماء‪ ،‬كذلك أنزلنا عليك‬
‫‪ -١‬قال الإمام ُ اب ُ‬
‫القرآن محكم ًا معرب ًا‪ ،‬شرفناك به وفضلناك على م َن سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي)‪.‬‬
‫ن سعدي‪( :‬أي‪ :‬ولقد أنزلنا هذا القرآن والكتاب حكم ًا‪ ،‬عربي ًا أي‪ :‬محكم ًا متقن ًا)‪.‬‬
‫‪ -٢‬قال الإمام ُ اب ُ‬
‫‪ -٣‬قال الإمام ُ الطاهر ُ بن عاشور‪( :‬والح ُ ْكم ُ‪ :‬ه ُنا بِمَعْنى الح ِ ْ‬
‫كمَة ِ كَما في قَو ْلِه ِ‪" :‬وآتَي ْناه ُ الح ُ ْكمَ صَب ًِّي ّا"؛ والمُراد ُ أن ّه ُ‬
‫ح ْ‬
‫كمَة ٍ)‪.‬‬ ‫أي ِ‬
‫ذ ُو ح ُ ْكمٍ‪ْ ،‬‬

‫فاـئدة‪ :‬حين يأتي المفسرون لتفسير الآيات التي تبدأ بـ(وكذلك أو كما)؛ فإ ّنهم يرجعون إلى ما قبلها من‬
‫طابيّ في كتابه (بيان إعجاز القرآن)‬
‫ل الإمام ُ الخ ّ‬
‫الآيات و يحاولون أن يبحثوا عن العلاقة والرابط بينهما‪ ،‬كما فع َ‬
‫ن‬
‫ن فَرِ يق ًا مّ ِ َ‬
‫ق و َِإ ّ‬
‫ك ب ِالْح َ ّ ِ‬
‫ك م ِن بَي ْت ِ َ‬ ‫ك ر َب ّ َ‬‫خرَج َ َ‬ ‫ل الل ّه تعالى‪" :‬كَمَا أ ْ‬
‫ن قو َ‬
‫في الردِّ على إشكالات الزنادق في أ ّ‬
‫َات عِند َ‬ ‫ح ًّ ّقا ل ّه ُ ْم دَرَج ٌ‬ ‫ك هُم ُ ال ْمُؤْم ِن ُونَ َ‬ ‫ال ْمُؤْم ِنِينَ لَك َارِه ُونَ" ليس له علاقة ٌ بما قبله وهو قوله تعالى‪" :‬أولََٰئ ِ َ‬
‫ر َ ّبِه ِ ْم وَمَغْف ِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَر ِيم ٌ"‪.‬‬
‫ل‬
‫ل قُ ِ‬
‫ن الْأنف َا ِ‬
‫ك عَ ِ‬
‫ارتباط وعلاقة ٌ بقوله تعالى في أوّل سورة الأنفال‪" :‬يَسْألُون َ َ‬
‫ٌ‬ ‫ن الآية َ لها‬
‫طابيّ أ ّ‬
‫=فذكر َ الخ ّ‬
‫ل لِل ّه ِ و َالر ّسُو ِ‬
‫ل فَات ّق ُوا الل ّه َ و َأصْ لِحُوا ذ َاتَ بَي ْنِك ُ ْم و َأطِيع ُوا الل ّه َ وَرَسُولَه ُ ِإن كُنتُم مّؤْم ِنِينَ"؛ ثم بي ّن وجه َ‬ ‫الْأنف َا ُ‬
‫ن كراهت َهم لما فعلته في الغنائم ككراهتهم في الخروج معك وقد حمدوا عاقبته ‪-‬‬
‫هذا الارتباط بقوله‪( :‬يريد أ ّ‬
‫أي‪ :‬حمدوا عاقبة ما فعلته في الغنائم‪ -‬فليصبروا في هذا ‪-‬أي‪ :‬في الخروج‪ -‬وليسلموا ويحمدوا عاقبته كذلك)‪.‬‬

‫ك هُم ُ الْك َاف ِر ُونَ"‪:‬‬


‫ل الل ّه ُ ف َأولََٰئ ِ َ‬ ‫الآية الخامسة‪ :‬قال تعالى‪" :‬وَم َن ل ّ ْم َ‬
‫يحْك ُم بِمَا أنز َ َ‬
‫ضا مقصد التسليم والتقديم‪.‬‬
‫ج هذه الآية ُ تحتَ مقصد التحكيم لمرجعي ّة الوحي‪ ،‬وأي ً‬
‫‪-‬تندر ُ‬

‫‪-‬و يظهر ُ في هذه الآية التعظيم ُ الواضح للوحي الذي إذا لم يسلـكْه ُ الإنسانُ فإن ّه يكون كافر ًا؛ بمعنى أن تعاملنا‬

‫ن الل ّه َ‬‫مع مرجعي ّة الوحي وتحكيمه ليست قضية ً من عامّة الأوامر‪ ،‬وإنما هي من قضايا الإسلام الـكبرى؛ فإ ّ‬
‫ك ل َا يُؤْم ِن ُونَ حَت ّى يُحَكِّم ُوك َ ف ِيم َا‬
‫أنزل هذا الوحي ليكون قائد ًا‪ ،‬ولذلك قال الل ّه ُ في الآية التي تليها‪" :‬فَلَا وَر َب ِّ َ‬
‫ضي ْتَ و َيُس َل ِّم ُوا تَسْلِيم ًا"؛ وربما هذه الآية أوضُ ح آية ٍ في قضية‬ ‫شَ ج َر َ بَيْنَه ُ ْم ث ُم ّ ل َا َ‬
‫يجِد ُوا فِي أنفُسِه ِ ْم حَرَج ًا مِّم ّا ق َ َ‬
‫خاص‪.‬‬
‫ّ ٍ‬ ‫ل‬
‫ل عا ٍمّ ولسُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ بشك ٍ‬
‫التسليم لمرجعي ّة الوحي بشك ٍ‬

‫‪-6-‬‬
‫سن ّة رسوله ﷺ‪ ،‬وفي‬
‫ل بينها وبين الح ُكم بكتاب الل ّه و ُ‬
‫يحا َ‬
‫ن من أعظم ما ابتُليت به الأمّة ُ‪ :‬أ ْن ُ‬
‫‪-‬وعلى ذلك؛ فإ ّ‬
‫توصيف قضية الحاكمية بأ ّنها من القضايا السياسية‪ ،‬في ذلك التوصيف نوعٌ من الإبعاد والتهميش لقضية ٍ‬
‫كبرى من قضايا الإسلام‪.‬‬

‫ن لَهُم ُ الْخ ِيَرَة ُ‬ ‫الآية السادسة‪ :‬قال تعالى‪" :‬وَم َا ك َانَ لم ُِؤْم ِ ٍ‬
‫ن وَل َا مُؤْم ِنَة ٍ ِإذ َا ق َض َى الل ّه ُ وَرَسُولُه ُ أم ًْرا أن يَكُو َ‬
‫ل ضَلَال ًا مّب ِينًا"‪:‬‬ ‫ض ّ‬ ‫ص الل ّه َ وَرَسُولَه ُ فَق َ ْد َ‬
‫م ِنْ أ ْمرِه ِ ْم وَم َن يَعْ ِ‬
‫ل ما يقضيه الل ّه ورسوله ﷺ؛ وذلك لما احتوته الآية ُ من أعلى صيغ العموم؛‬
‫لك ّ‬
‫‪-‬هذه الآية عامّة ٌ؛ تشم ُ‬
‫قال تعالى‪ِ " :‬إذ َا ق َض َى الل ّه ُ وَرَسُولُه ُ أم ًْرا"؛ "أم ًْرا"‪ :‬يعني‪ :‬أيّ أمر ٍ‪.‬‬

‫ل ال ْمُؤْم ِنِينَ ِإذ َا دُع ُوا ِإلَى الل ّه ِ وَرَسُولِه ِ لِيَحْكُمَ بَيْنَه ُ ْم أن يَق ُولُوا سَمِعْنَا‬
‫الآية السابعة‪ :‬قال تعالى‪ِ " :‬إن ّمَا ك َانَ قَو ْ َ‬
‫ك هُم ُ ال ْمُفْلِحُونَ"‪.‬‬
‫طعْنَا و َأولََٰئ ِ َ‬
‫و َأ َ‬

‫َي الل ّه ِ وَرَسُولِه ِ"‪:‬‬ ‫الآية الثامنة والأخيرة‪ :‬قال تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫ن آم َن ُوا ل َا تُق َ ّدِم ُوا بَيْنَ يَد ِ‬
‫ل بها على مركز ي ّة مرجعي ّة الوحي والتسليم والإنقياد له‪ ،‬وتقديمها على‬
‫‪-‬هذه الآية ُ من أهم الآيات التي ي ُستد ُ‬
‫غيرها؛ وهذه الآية ُ هي محور ُ كتاب (الفرقان بين الحق والبطلان) لشيخ الإسلام ابن تيمية ‪-‬رحمه الل ّه‪-‬؛‬
‫ن درجة َ إنحرافهم كانت بمقدار البعد عن‬
‫لأصناف من الطوائف؛ فبي ّن أ ّ‬
‫ٍ‬ ‫سي َر التار يخية‬
‫استعرض ال ِ‬
‫َ‬ ‫حيث‬
‫هذه الآية‪ ،‬وعدم تقديمهم لمرجعي ّة الوحي على غيرها‪.‬‬

‫ل‬ ‫ن الن ّبيّ ﷺ قال عن القرآن‪" :‬ك ِتابُ الل ّه ِ هو َ‬


‫حب ْ ُ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن زيدٍ بن أرق ٍم ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ن علَى ضَلَالَة ٍ"؛ أخرجه مسلم ٌ‪.‬‬ ‫الل ّهِ‪ ،‬م َ ِ‬
‫ن ات ّبَع َه ُ كانَ علَى الهُد َى‪ ،‬وَم َن ت َرَك َه ُ كا َ‬
‫فاـئدة‪ :‬لهذا الحديث قصة ٌ طو يلة ٌ فيها عدد ٌ من الفوائد‪ ،‬ولذا؛ يحس ُ ُ‬
‫ن الرجوع ُ إليها‪.‬‬

‫حث على اتباعه مع ذكر‬


‫صة ً كتاب الل ّه‪ ،‬وفيه ال ّ‬
‫ج هذا الحديثُ تحتَ مقصد التعظيم لمرجعي ّة الوحي؛ خا ّ‬
‫‪-‬يندر ُ‬
‫ل الل ّه ِ"؛ الحبل هو العهد؛ أي‪ :‬كتاب‬ ‫عاقبته‪ ،‬وعاقبة ِ م َن ترك اتباعه أيضًا؛ يقول الن ّبيّ ﷺ‪" :‬كِتابُ الل ّه ِ هو َ‬
‫حب ْ ُ‬
‫الل ّه هو العهد ُ بيننا وبين الل ّه ‪-‬تعالى‪.-‬‬

‫ن الهداية َ من أعظم‬
‫ن ات ّبَع َه ُ كانَ علَى الهُد َى‪ ،‬وَم َن ت َرَك َه ُ كانَ علَى ضَلَالَة ٍ"؛ فيه إثباتُ أ ّ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬م َ ِ‬
‫سا في حياته‪.‬‬
‫ل المسلم ُ اتباعَ كتاب الل ّه أسا ً‬
‫ثمرات اتباع مرجعي ّة الوحي‪ ،‬ولذا؛ يجبُ أ ْن يجع َ‬

‫خط ِيبًا بمَاء ٍ ي ُ ْدعَى‬


‫ل الل ّه ِ ﷺ يَوْم ًا ف ِينَا َ‬
‫‪-‬في رواية الإمام مسلم؛ قال زيدٍ بن أرق ٍم ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬قَام َ ر َسو ُ‬
‫اس‪ ،‬فإن ّما أن َا بَشَر ٌ‬ ‫خ ًُّم ّا بيْنَ مَك ّة َ و َال ْمَدِينَة ِ‪ ،‬فَحَمِد َ الل ّه َ و َأث ْن َى عليه‪ ،‬وَوَع ََظ وَذَك ّر َ‪ ،‬ث ُم ّ قا َ‬
‫ل‪" :‬أمّا بَعْد ُ‪ ،‬أل َا أ ّيهَا الن ّ ُ‬
‫‪-7-‬‬
‫ل ر َب ِ ّي ف َأجِيبَ ‪ ،‬و َأن َا ت َارِك ٌ ف ِيك ُ ْم ثَق َلَيْنِ‪ :‬أوّلُه ُما ك ِتَابُ الل ّهِ‪ ،‬فيه الهُد َى و َالن ّور ُ‪ ،‬فَخُذ ُوا‬
‫ك أ ْن ي َأْ تِي َ ر َسو ُ‬ ‫ش ُ‬‫يُو ِ‬
‫ل بَي ْتي‪ ،‬أذَك ِّرُكُم ُ الل ّه َ في أه ْ ِ‬
‫ل‬ ‫اب الل ّه ِ وَرَغّبَ ف ِيه ِ‪ ،‬ث ُم ّ قا َ‬
‫ل‪ :‬و َأه ْ ُ‬ ‫ث علَى كِت َ ِ‬ ‫سكُوا به‪ ،‬فَح َ ّ‬ ‫اب الل ّهِ‪ ،‬و َاسْ تَم ْ ِ‬
‫بكِت َ ِ‬
‫ل بَيْتِي‪ ،‬أذَك ِّر ُكُم ُ الل ّه َ في أه ْ ِ‬
‫ل بَي ْتي")؛ هذه هي الرواية الصحيحة الثابتة عن الن ّب ِيّ‬ ‫بَيْتِي‪ ،‬أذَك ِّرُكُم ُ الل ّه َ في أه ْ ِ‬
‫ﷺ‪.‬‬
‫‪-‬وفي رواية ٍ أخرى؛ عن زيدٍ بن أرق ٍم ‪-‬رضي الل ّه عنه‪-‬؛ قال الن ّبيّ ﷺ‪ِ " :‬إن ِ ّي ت َارِك ٌ ف ِيكُم ُ الث ّق َلَيْنِ‪ :‬كِتَابَ الل ّهِ‪،‬‬
‫ظ ِم ُها الشيعة‬
‫ْض"؛ هذه رواية ٌ ضعيفة ٌ‪ ،‬وهذا الرواية ُ يع ّ‬
‫ل بَيْتِي‪ ،‬و َِإ ّنهُم َا لَنْ يَتَف َر ّقَا حَت ّى يَرِد َا عَلَيّ الْحَو َ‬
‫و َأه ْ َ‬
‫كثير ًا؛ لما فيها من أمر الن ّب ِيّ ﷺ باتباع كتاب الل ّه وعترته ﷺ ‪-‬أهل بيته‪ -‬وجعلهما على حدٍ سواءٍ في الاتباع‪،‬‬
‫بينما الثابت أن ّه ﷺ أوصى بثقلين؛ كتاب الل ّه من جهة الاتباع‪ ،‬وأهل البيت من جهة رعاية حقهم‬
‫والإحسان إليهم‪.‬‬

‫وصف الن ّبيّ ﷺ ما تركه بالثقلين؟‬


‫َ‬ ‫سـؤال‪ :‬لماذا‬
‫ل العلماء ُ‪ :‬سُم ِّيا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما‪ ،‬وقيل‪ :‬لثقل العمل‬ ‫=قال الإمام ُ النوويّ ‪-‬رحمه الل ّه‪( :-‬قا َ‬
‫ل شيء ٍ‬‫ك قَوْل ًا تَق ِيل ًا"‪ ،‬وكذلك؛ كانت العربُ تقول لك ّ ِ‬
‫بهما)‪ ،‬كما قال تعالى عن القرآن‪ِ " :‬إن ّا سَنُلْقِي عَلَي ْ َ‬
‫س (ثقيل ًا)‪.‬‬
‫نفي ٍ‬

‫فـوائد جانبيـة‪:‬‬
‫‪-‬كان الصحابة ُ ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬يحتاطون في الرواية عن الن ّب ِيّ ﷺ تعظيم ًا لشأن الحديث عنه ﷺ وخوفًا‬
‫من أن ينسبوا للن ّب ِيّ ﷺ ما لم يقله؛ ومن شواهد ذلك‪:‬‬

‫يح ّدِثَ عن الن ّب ِيّ ﷺ وهو كبير ٌ في السن؛ قال‪( :‬و َالل ّه ِ لق َ ْد كَبِر ْ‬
‫َت سِن ِ ّي‪،‬‬ ‫ل زيد بن أرقم أ ْن ُ‬ ‫‪ -١‬أن ّه لما سُئ ِ َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬فَما ح َ ّدث ْتُك ُ ْم فَاق ْبَلُوا‪ ،‬و َما ل َا فلا‬
‫كن ْتُ أعِ ي م ِن ر َسو ِ‬
‫ْض ال ّذي ُ‬
‫و َقَدُم َ ع َ ْهدِي‪ ،‬و َنَسِيتُ بَع َ‬
‫تُك َلِّف ُونيِه ِ)‪.‬‬
‫س‪ ،‬فإذا قال‪ :‬سمعتُ رسول الل ّه ﷺ‬
‫ل خمي ٍ‬
‫ل‪( :‬كنت آتي ابن مسعود ك ّ‬
‫‪ -٢‬روي عن عمرو بن ميمون قا َ‬
‫انتفخت أوداج ُه ُ‪ ،‬ثم قال‪ :‬أو دون ذلك‪ ،‬أو فوق ذلك‪ ،‬أو قريب ذلك‪ ،‬أو شبيه ذلك‪ ،‬أو كما قال)‪،‬‬
‫ْ‬
‫أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪.-‬‬
‫وأيضًا؛ روي ذلك عن ٍ‬

‫ن الن ّارِ"‪ ،‬وذلك‬


‫‪ -٣‬توارد َ عدد ٌ من الصحابة على رواية حديث‪" :‬م َن كَذ َبَ عَلَيّ م ُتَعَمِّدًا‪ ،‬فَل ْيَتَبَو ّأْ م َ ْقعَدَه ُ م ِ َ‬
‫ق صحيحة‪.‬‬
‫من وجوه ٍ متعددة ٍ وطُر ُ ٍ‬

‫‪-8-‬‬
‫‪-‬كان كلام ُ الن ّب ِيّ ﷺ قليل ًا مختصر ًا؛ كما قالت عائشة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬لما سمعت أبا هريرة يسرد ُ الحديثَ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ ل َ ْم يَكُنْ يَسْرُد ُ الحَدِيثَ كَسَرْدِك ُ ْم)‪ ،‬وفي رواية ٍ؛ قالت‪( :‬إن ّما كانَ الن ّبيّ ﷺ‬
‫ن ر َسو َ‬
‫سرد ًا‪( :‬إ ّ‬
‫يُح َ ّدِثُ حَدِيثًا‪ ،‬لو ع َ ّده ُ الع َادّ لأحْ صَاه ُ)‪.‬‬
‫ل عنه ُ)‪ ،‬وكان كلام ُه ُ ﷺ مح ّدد ًا؛ ومنه قوله ﷺ‪:‬‬
‫‪-‬وكان من هديه ﷺ أن ّه (كان يُع ِيد ُ الكَل ِمة َ ثَلاث ًا لِتُعْق َ َ‬
‫ن"‪ ،‬ثم يح ّدِد ُ ﷺ هذه الثلاثة‪ ،‬وقوله ﷺ‪" :‬أرْب َ ٌع م َن كُنّ فيه كانَ‬
‫ثلاث م َنْ كُنّ فيه وجَد َ حلاوَة َ الإيما ِ‬
‫ٌ‬ ‫"‬
‫حفظ الس ُن ّة على الصحابة‪.‬‬
‫َ‬ ‫م ُنَافِق ًا خ َال ِصً ا"‪ ،‬ثم يحدد ﷺ هذه الأربعة؛ وهكذا‪ .‬وهذا كل ّه مما سهّل‬

‫ٍ‬
‫رافع ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قال‪" :‬لا أل ْف ِي َ ّن أحدَك ُ ْم متكئًا على أر يكتِه ِ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن أبي‬
‫كتاب الل ّه ِ اتبعناه ُ"‪ ،‬أخرجه أبو داود‬ ‫ِ‬ ‫ل‪ :‬لا أدرِي‪ .‬ما وجدن َا في‬‫أمر مما أمرتُ به ِ أو نهيتُ عنه ُ فيقو ُ‬
‫يأتيه ِ ٌ‬
‫والترمذيّ وأحمد ورواه الشافعيّ بإسنادٍ ص ٍ‬
‫حيح‪.‬‬

‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬لا أل ْف ِي َ ّن"‪ :‬فيه تحذير ٌ لأصحابه وأمّته ألا يجد فيهم م َن ينكرون سُن ّته ﷺ‪ ،‬وفي رواية أخرى من‬
‫ك‬
‫ش ُ‬ ‫حديث المقدام ابن معدي كرب ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬فيها الإخبار بق ُرب حدوث ذلك‪ ،‬قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬يو ِ‬
‫ل‪ :‬بينَنَا وبينَك ُ ْم كتابُ الل ّهِ‪ ،‬فما وجدْنا‬ ‫ل م ُت ّكِئًا على أرِ يكَتِه ِ‪ ،‬يُح َ ّدثُ ب ٍ‬
‫حديث م ِنْ حديثي‪ ،‬فيقو ُ‬ ‫أ ْن يقعُد َ الرج ُ‬
‫ل الل ّه ِ مث َ‬
‫ل ما حرّم َ الل ّه ُ"‪،‬‬ ‫ن ما حرّم َ رسو ُ‬
‫ل اسْ تَحْلَل ْناه ُ‪ ،‬وما وجد َنا فيه م ِنْ حرا ٍم حرّمْناه ُ‪ ،‬أل َا ِوإ ّ‬‫فيه م ِنْ حلا ٍ‬
‫ن بس ُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ الذي أخبر َ بوقوع مثل هذا‬ ‫ن وجود َ منكري السُن ّة في ح ّدِ ذات ِه ِ‪ ،‬فيه يقي ٌ‬ ‫وعلى ذلك؛ فإ ّ‬
‫الحدث‪.‬‬

‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬م ُت ّكِئًا على أرِ يكَتِه ِ"‪ :‬لا ينحصر ُ في الصورة الحسية للاتكاء‪ ،‬يقول الإمام ُ الخ ّ‬
‫طابيّ‪( :‬وأراد بهذه‬
‫الصفة ِ أصحابَ الترف ّه ِ والد ّع َة‪ ،‬الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم َ‪ ،‬ولم يغدوا له‪ ،‬ولم يروحوا في طلبه في‬
‫صف لحال منكري السُن ّة ‪-‬اليوم‪ -‬من فقدانهم لأصول العلم وأبجدياته‪.‬‬
‫مظان ِّه واقتباسه من أهله)؛ وهذا و ٌ‬

‫فاـئدة‪ :‬ي ُع ّد الإمام ُ الخ ّ‬


‫طابيّ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬من أفضل الش ّر ّاح المتق ّدِمين لأحاديث الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬لـكنه غير‬
‫لاصات مهمة‪ ،‬ومن أشهر شروحه‪( :‬أعلام الحديث) في شرح صحيح‬ ‫ٍ‬ ‫متوس ٍع في الشرح إنما يُعطي خ ُ‬ ‫ِّ‬
‫سن َن أبي داود‪.‬‬
‫البخاري‪ ،‬و(معالم الس ُنَن) في ُ‬

‫استعدادات مبكرة ٌ لها‪ ،‬ومن جهل‬


‫ٌ‬ ‫‪-‬كان الن ّبيّ ﷺ يح ّذِر ُ أصحابه وأمّته من الفتن المستقبلية؛ ليكونَ لديهم‬
‫منكري الس ُن ّة (أ ّنهم يستدلون بالأحاديث التي فيها أمور ٌ غيبية ٌ على إبطال الس ُن ّة؛ لأن ّه لا يعلم الغيبَ إلا الل ّه)‬
‫ل فاـسدٌ؛ إذ ما ورد َ في السُن ّة من أمو ٍر غيبية ٍ هي من وحي الل ّه ‪-‬تعالى‪ -‬لنبي ِّه ﷺ؛ قال تعالى‪:‬‬
‫وهذا استدلا ٌ‬

‫‪-9-‬‬
‫ل"؛ وفي هذا ز يادة ُ يقينٍ في الس ُن ّة!‬
‫ن ارْتَض َى م ِنْ رَسُو ٍ‬ ‫"عَالِم ُ الْغَي ِ‬
‫ْب فَلا ي ُ ْظه ِر ُ عَلَى غَي ْبِه ِ أحَدًا ِإلا م َ ِ‬

‫الحديث الثالث‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قال‪" :‬م َن أطَاعَنِي فق َ ْد أطَاعَ الل ّهَ‪ ،‬وم َن‬
‫عَصَانِي فق َ ْد ع َص َى الل ّه َ"‪ ،‬أخرجه البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ن قضية َ‬ ‫صة ً الس ُن ّة‪ ،‬وبالرغم من وضوح أ ّ‬ ‫ج تحتَ مقصد التعظيم لمرجعي ّة الوحي؛ خا ّ‬ ‫‪-‬هذا الحديثُ يندر ُ‬
‫(طاعة الرسول ﷺ من طاعة الل ّه) قضية ٌ قرآنية ٌ مؤسّ سة ٌ في كتاب الل ّه "مّن يُط ِِع الر ّسُو َ‬
‫ل فَق َ ْد أطَاع َ الل ّه َ"‪ ،‬إلا‬
‫ل البشر في منزلة‬ ‫ن في اتباع الر ّسول ﷺ شرك ًا بالل ّه بجع ِ‬ ‫أ ّنها تغيب عن كثيرٍ من منكري السُن ّة؛ إذ يدّعون أ ّ‬
‫الل ّه‪ ،‬بينما في هذا الحديث الجوابُ البدهيّ على ذلك الادِّعاء‪.‬‬

‫ل في الخطبة ِ‪" :‬أمّا‬ ‫ل ﷺ يقو ُ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن جابر بن عبد الل ّه ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬كانَ الر ّسو ُ‬
‫ل بدْعَة ٍ ضَلَالَة ٌ")‪،‬‬ ‫ديث كِتَابُ الل ّهِ‪ ،‬وَخَي ْر ُ الهُدَى هُد َى مُحَم ّدٍ‪ ،‬و َشَر ّ الأم ُورِ ُ‬
‫محْد َث َاتُهَا‪ ،‬وَك ُ ّ‬ ‫ن خَيْر َ الح َ ِ‬
‫بَعْد ُ؛ فإ ّ‬
‫أخرجه مسلم ٌ‪.‬‬
‫ج هذا الحديثُ تحت مقصد التقديم لمرجعي ّة الوحي‪ ،‬وأيضًا الاستغناء بها؛ فإن ّك متى نظرتَ إلى كتاب‬
‫‪-‬يندر ُ‬
‫ن هذا من أدعى ما يجعلك تستغني‬ ‫سن ّة الن ّب ِيّ ﷺ على أ ّنها خير ُ الهدي =فإ ّ‬
‫الل ّه على أن ّه خير ُ الحديث‪ ،‬وإلى ُ‬
‫ن من معاني الحديث‪ :‬إعادة َ‬
‫بهما عن الاتجاهات المعرفية التي تزعم أ ّنها ت ُغني البشر وتملأ عقولهم‪ .‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫تعظيم ومركزة الوحي في نفوسنا‪.‬‬

‫ِيث ك ِتَاب ًا مّتَش َابِهًا مّثَانِي َ"؛‬


‫ن الْحَد ِ‬ ‫ديث كِتَابُ الل ّه ِ"‪ :‬يشهد له قوله تعالى‪" :‬الل ّه ُ نَز ّ َ‬
‫ل أحْ س َ َ‬ ‫ن خَيْر َ الح َ ِ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬فإ ّ‬
‫ن الس ُن ّة َ جاءت بالتعظيم لكتاب الل ّه‪ ،‬على غير ما يزعمون‬ ‫وفي هذا فائدة ٌ مهمة ٌ في منازعة منكري الس ُن ّة؛ إذ أ ّ‬
‫بأ ّنها جاءت لمفارقته ومقاطعته‪.‬‬
‫فاـئدة‪ :‬هذا الحديثُ في ص ِ‬
‫حيح مسلمٍ من طر يق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪،-‬‬
‫وجعفر هو‪ :‬جعفر الملقب بـ(جعفر الصادق)‪ ،‬بن محمد الملقب بـ(الباقر)‪ ،‬بن علي الملقب بـ(زين العابدين)‬
‫بن الحسين بن علي بن أبي طالب ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ ،-‬وهذه السلسلة ُ يروي بها الإمام ُ مسلم ٌ أحاديثَ معروفة ً‬
‫عن جابر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪.-‬‬

‫ل البيت ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬كانوا يروون هذه الأحاديث التي فيها تقديم ٌ‬
‫سادات أه ِ‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫‪-‬وفي هذه لطيفة ٌ‪( :‬أ ّ‬
‫ن لتعظيم أهل البيت لشأن كتاب الل ّه وسُن ّة رسوله‬
‫سن ّة رسوله ﷺ على غيرهما)؛ وفي هذا بيا ٌ‬
‫لكتاب الل ّه و ُ‬
‫ن كلام َ الأئمة يمكن أ ْن يوازيَ أو يُق ّدم َ‬
‫بعض الفرق الضالة في أ ّ‬
‫ُ‬ ‫ﷺ‪ ،‬وذلك يختلف كثير ًا عما تعتقده‬
‫أحيان ًا على ما جاء عن رسول الل ّه ﷺ‪.‬‬

‫‪- 01 -‬‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ "لِل ّه ِ ما‬ ‫الحديث الخامس والأخير‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬لَم ّا ن َزَل َ ْ‬
‫ت علَى ر َسو ِ‬
‫سبْك ُ ْم به الل ّه ُ فَيَغْف ِر ُ لم َِن يَشاء ُ و يُع َ ّذِبُ‬
‫تخْف ُوه ُ يُحا ِ‬
‫سك ُ ْم أ ْو ُ‬‫ض وإ ْن تُبْد ُوا ما في أنْف ُ ِ‬ ‫ماوات وما في الأ ْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫س‬
‫في ال ّ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ ث ُم ّ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬فأتَو ْا ر َسو َ‬ ‫حاب ر َسو ِ‬ ‫أص ِ‬ ‫ك علَى ْ‬ ‫ل‪ :‬فاشْ ت َ ّد ذل َ‬ ‫ل شيء ٍ قَدِير ٌ"‪ ،‬قا َ‬
‫م َن يَشاء ُ والل ّه ُ علَى ك ُ ّ ِ‬
‫والصيام َ والْج ِهاد َ والصّ د َق َة َ‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ل ما نُط ِيقُ‪ ،‬الصّ لاة َ‬ ‫ن الأعْما ِ‬ ‫ل الل ّهِ‪ ،‬ك ُلِّفْنا م ِ َ‬
‫أي ر َسو َ‬
‫َب‪ ،‬فقالوا‪ْ :‬‬ ‫ب َرَكُوا علَى الر ّك ِ‬
‫ل الكِتابَيْنِ م ِن‬
‫ل أه ْ ُ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪" :‬أتُر ِيد ُو َ‬
‫ن أ ْن تَق ُولوا كما قا َ‬ ‫ل ر َسو ُ‬
‫ك هذِه الآيَة ُ ولا نُط ِيق ُها‪ ،‬قا َ‬
‫ت عَلَي ْ َ‬
‫وق ْد أنْز ِل َ ْ‬
‫ك ر َب ّنا‬
‫طعْنا غُفْران َ َ‬
‫ك المَصِ ير ُ"‪ ،‬قالوا‪ :‬سَمِعْنا وأ َ‬
‫ك ر َب ّنا وإلَي ْ َ‬
‫طعْنا غُفْران َ َ‬
‫صي ْنا؟ بَلْ قُولوا‪ :‬سَمِعْنا وأ َ‬
‫قَب ْل ِـك ُ ْم سَمِعْنا وع َ َ‬
‫ل إلَيْه ِ م ِن ر َبِّه ِ‬‫ل بما أنْز ِ َ‬
‫ن الر ّسُو ُ‬
‫ل الل ّه ُ في إثْر ِها‪" :‬آم َ َ‬
‫ت بها ألْسِنَتُهُمْ‪ ،‬فأن ْز َ َ‬
‫ك المَصِ ير ُ‪ ،‬فَلَم ّا اق ْتَر َأها القَوْم ُ‪ ،‬ذ َل ّ ْ‬‫وإلَي ْ َ‬
‫ك‬
‫طعْنا غُفْران َ َ‬ ‫ن بالل ّه ِ وم َلائِكَتِه ِ وكُتُبِه ِ ورُسُلِه ِ لا نُف َرِّقُ بيْنَ أحَدٍ م ِن رُسُلِه ِ وقالُوا سَمِعْنا وأ َ‬ ‫ل آم َ َ‬ ‫وال ْمُؤْم ِن ُونَ ك ُ ّ‬
‫ل‪" :‬لا يُك َل ّ ُِف الل ّه ُ ن َ ْفسًا إلّا و ُسْ ع َها‬
‫عز وج ّ‬ ‫ل الل ّه ُ ّ‬ ‫ك نَسَخَها الل ّه ُ ت َعالَى‪ ،‬فأن ْز َ َ‬ ‫ك المَصِ ير ُ"‪ ،‬فَلَم ّا فَع َلُوا ذل َ‬
‫ر َب ّنا وإلَي ْ َ‬
‫ل‪ :‬نَع َ ْم‪" ،‬ر َب ّنا ولا تَحْم ِلْ علي ْنا إصْر ًا‬ ‫خذْنا إ ْن نَسِينا أ ْو أخْ ط َأْ نا" قا َ‬ ‫كسَب َْت وعليها ما اكْ تَسَب َْت ر َب ّنا لا تُؤا ِ‬ ‫لها ما َ‬
‫ْف ع َن ّا واغْفِر ْ لنا‬ ‫ل‪ :‬نَع َ ْم‪" ،‬ر َب ّنا ولا تُح َم ِّل ْنا ما لا طاق َة َ لنا به ِ" قا َ‬
‫ل‪ :‬نَع َ ْم‪" ،‬واع ُ‬ ‫ن م ِن قَب ْلِنا" قا َ‬
‫كما حَمَل ْت َه ُ علَى ال ّذ ِي َ‬
‫ل‪ :‬نَع َ ْم)‪ ،‬أخرجه مسلم ٌ‪.‬‬
‫ن" قا َ‬
‫وا ْرحَم ْنا أن ْتَ مَو ْلانا فان ْصُرْنا علَى القَو ْ ِم الكافِرِي َ‬

‫بعض الفوائد؛ منها‪:‬‬


‫ج هذا الحديثُ تحت مقصد التسليم لمرجعي ّة الوحي والتسليم؛ وجاء في الحديث ُ‬
‫‪-‬يندر ُ‬

‫‪ -١‬فائدة ٌ في طبيعة تلقي الصحابة ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬لكتاب الل ّه ‪-‬تعالى‪-‬؛ إذ كانوا يتلقون آياته بحساسية‬
‫ن الآية َ التي تنزل هي من كلام الل ّه؛ في ُعونها وينتبهون لدلالتها وما تستلزمه أو تقتضيه‪.‬‬
‫عالية؛ يستشعرون أ ّ‬

‫سبْك ُ ْم" =عم ِل َت في نفوسهم ما‬


‫تخْف ُوه ُ يُحا ِ‬
‫سك ُ ْم أ ْو ُ‬
‫ل عليهم قول ُه ُ تعالى‪" :‬وإ ْن تُبْد ُوا ما في أنْف ُ ِ‬
‫‪-‬ولذلك؛ لما نز َ‬
‫ل لكتاب الل ّه من التعظيم‬
‫عملت‪ ،‬ولذلك؛ (إذا أردنا أ ْن نقتديَ بهدي أصحاب رسول الل ّه ﷺ =علينا أ ْن نجع َ‬
‫المتعل ّ ِق بمقتضى ما في آياته من أمرٍ ونهي وح ٍّد‪ ،‬ما كان عند أصحاب رسول الل ّه ﷺ)‪.‬‬

‫جاءت فاطمة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬تطلبُ ميراثها من أبي بكر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪-‬؛ شعر َ أمامها‬
‫ْ‬ ‫‪-‬ومن ذلك أيضًا‪ :‬لما‬
‫ن معشر َ الأنبياء ِ‬
‫نص نبويّ لا يستطيع أ ْن يتجاوز َه ُ وهو قوله ﷺ‪" :‬نح ُ‬
‫بالحرج الشديد‪ ،‬ولـكن كان أمام َ عينيه ّ‬
‫لا نور َثُ ما ترَكناه ُ فهو صدقة ٌ"‪.‬‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ يَعْم َ ُ‬
‫ل به إلّا عَم ِل ْتُ به‪ ،‬فإن ِ ّي‬ ‫‪-‬ولذا؛ قال أبو بكر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬لَسْتُ ت َارِك ًا شيئًا‪ ،‬كانَ ر َسو ُ‬
‫النص‬
‫ّ ِ‬ ‫أخْ ش َى إ ْن ت َرَكْ تُ شيئًا م ِن أ ْمرِه ِ أ ْن أزِ ي َغ)؛ فخاف ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ْن يضل ّه الل ّه ُ بسبب تركه لهذا‬
‫َاب أل ِيم ٌ"‪.‬‬
‫ن يُخَالِف ُونَ ع َنْ أ ْمرِه ِ أن تُصِ يبَه ُ ْم فِت ْن َة ٌ أ ْو يُصِ يبَه ُ ْم عَذ ٌ‬
‫الواضح‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪" :‬فَل ْيَحْذَرِ ال ّذ ِي َ‬

‫‪- 00 -‬‬
‫والصيام َ‬
‫ِّ‬ ‫ل ما نُط ِيقُ‪ ،‬الصّ لاة َ‬
‫ن الأعْما ِ‬
‫ل الصحابة ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪( :-‬ك ُلِّفْنا م ِ َ‬
‫‪ -٢‬من فوائد الحديث‪ :‬قو ُ‬
‫ك هذِه الآيَة ُ ولا نُط ِيق ُها)‪ :‬أي‪ :‬أ ّنهم تحملوا هذه الأعمال على ما فيها من‬
‫ت عَلَي ْ َ‬
‫والْج ِهاد َ والصّ د َق َة َ‪ ،‬وق ْد أنْز ِل َ ْ‬
‫ل‪ ،‬لـكنهم لا يتحملون أن يحاسبوا على ما تهم به نفوسهم من الخواطر؛ وفي هذا درجة ٌ عالية ٌ في الإيمان‬
‫ث ِق ٍ‬
‫والصدق ومعرفة النفس‪.‬‬

‫ن من‬‫صي ْنا؟"‪ :‬فيه إفادة ٌ أ ّ‬


‫ل الكِتابَيْنِ م ِن قَب ْل ِـك ُ ْم سَمِعْنا وع َ َ‬
‫ل أه ْ ُ‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬أتُر ِيد ُونَ أ ْن تَق ُولوا كما قا َ‬
‫‪ -٣‬قو ُ‬
‫ن من الفقه في الدين‪:‬‬ ‫أخطر صور التشب ّه بأهل الكتاب‪ :‬عدم َ الانقياد والتسليم لمرجعي ّة الوحي‪ ،‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫ل التي ذمّ الل ّه عليها أهل الكتاب في كتابه؛ إذ جاءت لمخاطبتهم واستصلاحهم‪ ،‬ثم‬
‫أ ْن يفقه َ المسلم ُ الأعما َ‬
‫لتحذير المؤمنين من التشب ّه بهم‪.‬‬
‫ن من عدم الفقه‪ :‬أ ْن يتم ّ التركيز ُ في قضية التشب ّه بالـكفار على الأعمال الظاهرة؛‬
‫‪-‬وبعكس ذلك؛ فإ ّ‬
‫كطر يقة اللباس وقص الشعر ‪-‬وهي بلا شك داخلة ٌ في التشب ّه المذموم‪ ،-‬دونَ التركيز على التشب ّه بهم فيما‬
‫ل القلبية المتعل ِّقة بقضايا الإيمان؛ كالانقياد والتسليم‪.‬‬
‫هو أعظم ُ من ذلك وهي الأعما ُ‬

‫درجات متفاوتة ٍ في الذ ِمّ)‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫‪-‬وعلى ذلك؛ (يجبُ على المسلم أ ْن يفقه َ مقامات التشب ّه بالـكفار؛ وأ ّنها على‬
‫حيم)‬
‫حاب الج ِ‬
‫المستقيم لمخالفة ِ أص ِ‬
‫ِ‬ ‫خ الإسلام ابن تيمية ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في كتابه (اقتضاء ُ الصراطِ‬ ‫ولذلك؛ تتب ّ َع شي ُ‬
‫كثير ًا من مواطن التشب ّه بالـكفار التي ورد الذمّ عليها في الشر يعة‪ ،‬ثم ّ ركز َ على الجوانب القلبية‪ ،‬ومما أورده‪:‬‬
‫ش ّد‬
‫ي ك َالْ حِجَارَة ِ أ ْو أ َ‬
‫ك فَه ِ َ‬
‫َت قُلُوبُك ُم مّ ِن بَعْدِ ذََٰل ِ َ‬
‫(التشب ّه بأهل الكتاب في قسوة القلب)‪ ،‬لقوله تعالى‪" :‬ث ُم ّ قَس ْ‬
‫قَسْوَة ً"‪.‬‬
‫‪-‬وفي الحديث‪ :‬يح ّذِر ُ الن ّبيّ ﷺ أصحابه من التشب ّه بأهل الكتاب في قضية ٍ مركز ية ٍ وهي (عدم التسليم)؛ فقال‬
‫طعْنا"‪ ،‬كما جاء‬
‫صي ْنا؟ بَلْ قُولوا‪ :‬سَمِعْنا وأ َ‬
‫ل الكِتابَيْنِ م ِن قَب ْل ِـك ُ ْم سَمِعْنا وع َ َ‬
‫ل أه ْ ُ‬
‫ن أ ْن تَق ُولوا كما قا َ‬
‫ﷺ‪" :‬أتُر ِيد ُو َ‬
‫طور َ خُذ ُوا م َا آتَي ْنَاكُم بِقُو ّة ٍ‬
‫في سورة البقرة عن أهل الكتاب؛ قال تعالى‪" :‬و َِإ ْذ أخَذْن َا م ِيثَاقَك ُ ْم وَر َفَعْنَا فَوْقَكُمُ ال ّ‬
‫ف في مخالفة‬
‫صي ْنَا" وفي هذا تطر ّ ٌ‬
‫صي ْنَا"؛ فلم يقولوا عصينا فقط‪ ،‬بل قالوا‪" :‬سَمِعْنَا وَع َ َ‬
‫و َاسْم َع ُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَع َ َ‬
‫مرجعي ّة الوحي‪.‬‬
‫صي ْنَا‬
‫ن ه َاد ُوا يُح َرِّف ُونَ الْكَل ِم َ ع َن مّوَاضِعِه ِ و َيَق ُولُونَ سَمِعْنَا وَع َ َ‬
‫ن ال ّذ ِي َ‬
‫ضا في سورة النساء؛ قال تعالى‪" :‬مّ ِ َ‬ ‫‪-‬وأي ً‬
‫صف الل ّه ُ المؤمنين بانقيادهم وتسليمهم؛ فقال‬ ‫سم ٍَع وَر َاعِنَا ل ًَّي ّا ب ِألْسِنَتِه ِ ْم و َ َطعْنًا فِي الد ِّي ِن"‪ ،‬بينما و َ‬
‫و َاسْم َعْ غَيْر َ م ُ ْ‬
‫ك المَصِ ير ُ"‪.‬‬
‫ك ر َب ّنا وإلَي ْ َ‬
‫تعالى‪" :‬وقالُوا سَمِعْنا وأ َطعْنا غُفْران َ َ‬

‫ن فيها أيضًا تشب ّه ٌ بأهل الكتاب‪،‬‬


‫‪-‬إذن؛ قضية ُ عدم التسليم لمرجعي ّة الوحي غير أ ّنها مذمومة ٌ في ذاتها‪ ،‬إلا أ ّ‬
‫ج الل ّه ُ به على أهل الكتاب في دعواهم أ ّنهم يريدون أن يحكِّموا الر ّسول ﷺ؛‬
‫ولذلك؛ كان من جملة ما احت َ‬
‫‪- 02 -‬‬
‫ك‬‫ك وَم َا أولََٰئ ِ َ‬ ‫ن م ِن بَعْدِ ذََٰل ِ َ‬ ‫ك وَعِند َهُم ُ الت ّوْر َاة ُ ف ِيهَا ح ُ ْكم ُ الل ّه ِ ث ُم ّ يَت َوَل ّو ْ َ‬ ‫ْف يُحَكِّم ُون َ َ‬ ‫كي َ‬
‫كما قال تعالى‪" :‬و َ َ‬
‫اب الل ّه ِ لِيَحْكُمَ بَيْنَه ُ ْم ث ُم ّ‬
‫اب ي ُ ْدعَوْنَ ِإلَى ك ِت َ ِ‬ ‫ن الْكِت َ ِ‬ ‫ن أوتُوا نَصِ يبًا مّ ِ َ‬ ‫ب ِال ْمُؤْم ِنِينَ"‪ ،‬وقوله تعالى‪" :‬أل َ ْم ت َر َ ِإلَى ال ّذ ِي َ‬
‫ظ ِموا الكتاب ولم يتبعوه‬
‫ق مِّنْه ُ ْم و َه ُم مّعْرِضُونَ"؛ وهكذا يذكر ُ الل ّه ُ عن أهل الكتاب أ ّنهم لم يع ّ‬
‫يَت َو َل ّى فَرِي ٌ‬
‫النص الواضح من اتباعهم في قولهم‪.‬‬
‫ّ ِ‬ ‫فيجعلونه حكم ًا ومرجعي ّة ً‪ ،‬ثم يح ّذِرنا الن ّبيّ ﷺ بهذا‬

‫بعض الأحكام لاختبار قضية التسليم؛ مثل تحو يل القبلة‬


‫َ‬ ‫ن الل ّه َ ‪-‬تعالى‪ -‬قد ي ُشرِّع‬
‫‪ -٤‬من فوائد الحديث‪ :‬أ ّ‬
‫جع َل ْنَا ال ْقِبْلَة َ ال ّتِي كُنتَ عَلَيْهَا ِإلّا لِنَعْلَم َ م َن‬
‫ضا؛ قال تعالى في أمر ِ تحو يل القبلة‪" :‬وَم َا َ‬
‫وهي في سورة البقرة أي ً‬
‫ن قضية َ التسليم‬
‫ن هَد َى الل ّه ُ" ولذا؛ (فإ ّ‬
‫ل مِم ّن يَنق َل ِبُ عَلَى ع َق ِبَيْه ِ و َِإن ك َان َْت لـَكَب ِيرَة ً ِإلّا عَلَى ال ّذ ِي َ‬
‫يَت ّب ِ ُع الر ّسُو َ‬
‫ن مركز ية َ قصة البقرة ‪-‬التي كانت سببًا في تسمية‬ ‫جلي ّا في أ ّ‬ ‫من أعظم مركز يات سورة البقرة)؛ ونجد ذلك ًّ‬
‫النص بالأسئلة التعنوتية كما جاء في آيات القصة‪.‬‬
‫ّ ِ‬ ‫السورة‪ ،-‬مركز ية َ هذه القصة في التسليم وعدم معارضة‬

‫ك المَصِ ير ُ"‪ ،‬قال أبو‬


‫ك ر َب ّنا وإلَي ْ َ‬
‫طعْنا غُفْران َ َ‬
‫‪-‬ولذلك لما أرشد َ الن ّبيّ ﷺ الصحابة َ بقوله‪" :‬بَلْ قُولوا‪ :‬سَمِعْنا وأ َ‬
‫ل الل ّه ُ في‬
‫ت بها ألْسِنَتُهُمْ‪ ،‬فأن ْز َ َ‬
‫ك المَصِ ير ُ‪ ،‬فَلَم ّا اق ْتَر َأها القَوْم ُ‪ ،‬ذ َل ّ ْ‬
‫ك ر َب ّنا وإلَي ْ َ‬
‫طعْنا غُفْران َ َ‬
‫هريرة‪( :‬قالوا‪ :‬سَمِعْنا وأ َ‬
‫ن بالل ّه ِ وم َلائِكَتِه ِ وكُتُبِه ِ ورُسُلِه ِ لا نُف َرِّقُ بيْنَ أحَدٍ‬
‫ل آم َ َ‬
‫ل إلَيْه ِ م ِن ر َبِّه ِ وال ْمُؤْم ِن ُونَ ك ُ ّ‬
‫ل بما أنْز ِ َ‬
‫ن الر ّسُو ُ‬
‫إثْر ِها‪" :‬آم َ َ‬
‫ل الل ّه ُ ‪-‬‬
‫ك نَسَخَها الل ّه ُ ‪-‬تَعالَى‪ ،-‬فأن ْز َ َ‬
‫ك المَصِ ير ُ"؛ فَلَم ّا فَع َلُوا ذل َ‬
‫ك ر َب ّنا وإلَي ْ َ‬
‫طعْنا غُفْران َ َ‬
‫م ِن رُسُلِه ِ وقالُوا سَمِعْنا وأ َ‬
‫ل‪" :-‬لا يُك َل ّ ُِف الل ّه ُ ن َ ْفسًا إلّا و ُسْ ع َها")؛ فهذا كان اختبار ًا لقضية التسليم في نفوس أصحاب رسول‬
‫عز وج ّ‬
‫ّ‬
‫الل ّه ﷺ‪.‬‬

‫‪ -٥‬من فوائد الحديث‪ :‬أن ّه يمكن إدراك ُ مركز ية ِ معنى التسليم لمرجعي ّة الوحي من تعظيم الوحي لـ(أواخر سورة‬
‫البقرة) المتضمنة لمعنى التسليم؛ ومن ذلك التعظيم ما يلي‪:‬‬

‫ل قَاعِدٌ عِنْد َ الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬سَم ِ َع نَق ِيضًا م ِن‬‫جبْرِي ُ‬


‫أ‪ -‬ما رواه مسلم ٌ عن ابن عباس ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪( :‬بي ْن َما ِ‬
‫ل‪ :‬هذا‬ ‫ل منه م َل َكٌ ‪ ،‬ف َقا َ‬ ‫سم َاء ِ فُت ِ َ‬
‫ح اليوم َ ل َ ْم يُفْت َحْ ق َّط إلّا الي َوم َ‪ ،‬فَنَز َ َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫َاب م ِ َ‬
‫ل‪ :‬هذا ب ٌ‬
‫فَو ْقِه ِ‪ ،‬ف َر َف َ َع ر َأْ سَه ُ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫ل‪ :‬أب ْشِرْ بن ُور َي ْ ِن أوتِيتَه ُما ل َ ْم يُؤْتَه ُما نَبِ ّي قَب ْل َ َ‬
‫ك‪ :‬فَاتِ ح َة ُ‬ ‫ض ل َ ْم يَنْزِلْ ق َّط إلّا الي َوم َ‪ ،‬فَسَل ّم َ‪ ،‬و َقا َ‬
‫ل إلى الأ ْر ِ‬
‫م َل َكٌ ن َز َ َ‬
‫ْف منهما إلّا أ ْعط ِيت َه ُ)‪.‬‬
‫اب‪ ،‬وَخَوَات ِيم ُ سُورَة ِ البَق َرَة ِ‪ ،‬لَنْ تَقْرَأ بحَر ٍ‬
‫الكِت َ ِ‬

‫خر ِ‬
‫ن م ِن آ ِ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ قال‪" :‬الآيَتا ِ‬
‫ب‪ -‬ما رواه البخاريّ عن أبي مسعودٍ عقبة بن عمرو ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫كف َتاه ُ"‪.‬‬
‫سُورَة ِ البَق َرَة ِ‪ ،‬م َن ق َرَأهُما في لَيْلَة ٍ َ‬

‫ن مركز ية َ هذه الآيات تب ٌع ‪-‬والل ّه أعلم‪ -‬لموضوعها المركزي وهو الإيمان والانقياد والتسليم وما فيه بعد‬
‫جـ‪ -‬أ ّ‬
‫ذلك من التخفيف من الل ّه ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫‪- 03 -‬‬
‫منهاج الن ّب ُو ّة ِ‬
‫ِ‬ ‫ن على‬
‫المحاضرة الثانية‪ :‬تلقي القرآ ِ‬
‫ل بِه ِ وتدب ّرِه ِ والاستهداء ِ‬‫منهاج الن ّب ُو ّة ِ؛ وتقدي ِم مقصدِ العم ِ‬ ‫ن على‬
‫باب في تلقي القرآ ِ‬‫ٌ‬
‫ِ‬
‫ن المقاصدِ الشر يفة ِ‬ ‫والاستغناء ِ بِه ِ وتحكيمِه ِ وز يادة ِ الإيما ِ‬
‫ن بِه ِ على غير ذلك م ِ َ‬
‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫عنوانُ‬
‫ل ضمن الهدف الأساسي لفكرة كتاب المنهاج؛ وهي جم ٌع لنصوص الوحي التي ته ّم المسلم‬
‫‪-‬هذا البابُ داخ ٌ‬
‫ح ينبغي أ ْن يبدأ من الجذور؛ ومن أهم‬
‫ح في واقعه‪ ،‬وهذا الإصلا ُ‬
‫الذي يريد ُ أ ْن يثب ُتَ على دينه وأ ْن ي ُصل َ‬
‫هذه الجذور‪ :‬جذر ُ تلقي القرآن‪.‬‬
‫ن كثير ًا من جوانب النقص التي تعتري عدد ًا كبير ًا من سياقات الحلقات القرآنية ‪-‬اليوم‪ ،-‬يُمكن أ ْن‬
‫‪-‬إ ّ‬
‫النصوص ما ينبغي أ ْن ي ُعتنى به في تلقي‬
‫ُ‬ ‫ضبط بمراجعة النصوص الواردة في هذا الباب؛ إذ ت ُبي ِّنُ هذه‬
‫تُ َ‬
‫تكشف عن طبيعة العلاقة مع القرآن في قاموس الوحي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫القرآن‪ ،‬وأيضًا‬

‫تنبـيه‪ :‬ق ّدمتُ ‪-‬سابق ًا‪ -‬مادّة ً في هذا السياق ضمن سلسلة (مركز يات الإصلاح) في شك ِ‬
‫ل مظل ّة ٍ شمولية ٍ لمعالم‬

‫اختلاف من جهة تناولها؛‬


‫ٌ‬ ‫ن فيها‬
‫تلقي القرآن على منهاج الن ّب ُو ّة‪ ،‬أمّا هذه المادّة ‪-‬وإ ْن كانت مشابهة ً لها‪ -‬إلا أ ّ‬
‫ففيها قدر ٌ من التفصيل؛ وذلك بالدخول في تفاصيل النصوص المتعل ِّقة بهذا الباب‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫اب"‪:‬‬
‫ك م ُبَارَك ٌ لِّي َ ّدب ّر ُوا آي َاتِه ِ و َلِيَتَذَك ّر َ أولُو الْألْب َ ِ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬ك ِت َ ٌ‬
‫اب أنزَلْنَاه ُ ِإلَي ْ َ‬
‫ن التدب ّر َ من المقاصد الغائية لإنزال القرآن‪ ،‬ومن هذه المقاصد ‪-‬‬
‫‪-‬تُبي ِّنُ الآية ُ مركز ية َ التدب ّر لكتاب الل ّه؛ ذلك أ ّ‬
‫اب"؛‬
‫ل التذك ّر به؛ وهو إزالة ُ الغفلة والاتعاظ والاستقامة‪ ،‬كما قال تعالى‪" :‬و َلِيَتَذَك ّر َ أولُو الْألْب َ ِ‬
‫أيضًا‪ :-‬حصو ُ‬
‫ل عبر َ بوابة ِ التدب ّر والت ّدارس‪.‬‬
‫ص ُ‬
‫وهذا التذك ّر ُ يح ُ‬

‫ت قُلُو بُه ُ ْم و َِإذ َا تلُِي َْت عَلَيْه ِ ْم آي َاتُه ُ ز َادَتْه ُ ْم‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪ِ " :‬إن ّمَا ال ْمُؤْم ِن ُونَ ال ّذ ِي َ‬
‫ن ِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَجِل َ ْ‬
‫ِإ يمَان ًا و َعَلَى ر َ ّبِه ِ ْم يَت َوَكّلُونَ"‪.‬‬
‫ن آم َن ُوا ف َزَادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا‬
‫ل أي ّك ُ ْم ز َاد َت ْه ُ هََٰذِه ِ ِإ يمَان ًا ف َأمّا ال ّذ ِي َ‬
‫ت سُورَة ٌ فمَِنْه ُم مّن يَق ُو ُ‬
‫‪-‬وقال تعالى‪" :‬و َِإذ َا م َا أنز ِل َ ْ‬
‫و َه ُ ْم يَسْتَبْشِر ُونَ"‪:‬‬

‫‪- 04 -‬‬
‫يحسنون تلقي القرآن والتعامل معه على مقياس‬
‫‪-‬هاتان الآيتان تبي ِّنان ماهية َ المؤمنين الح ّقة؛ وهم الذين ُ‬
‫الوحي؛ ومن أهم محددات هذا المقياس‪ :‬ز يادة ُ الإيمان‪ ،‬كما قال تعالى‪" :‬و َِإذ َا تلُِي َْت عَلَيْه ِ ْم آي َاتُه ُ ز َادَتْه ُ ْم‬
‫ن آم َن ُوا ف َزَادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا"‪.‬‬
‫ِإ يمَان ًا"‪" ،‬ف َأمّا ال ّذ ِي َ‬
‫ل على الإشكال فيها‪ ،‬وحينئذ لا بُدّ أ ْن ي ُعاد َ‬
‫‪-‬فإذا كانت طبيعة ُ تلقي القرآن لا تُثمر ُ ز يادة َ الإيمان؛ فهذا يد ّ‬
‫ن عين ُه ُ على ثمرة ز يادة الإيمان‬
‫مركزة ُ هذا التلقي بطر يقة ٍ أخرى‪( ،‬وهذا ي ُفيد ُ المربي في بث ّ ِه ِ للقرآن أ ْن تكو َ‬
‫ن في اختبار طر يقة تلقي نفسه للقرآن)‪.‬‬
‫ن طر يقت َه ُ‪ ،‬وكذلك يستفيد ُ منه المؤم ُ‬
‫ليمتح َ‬
‫ل جندب بن عبد الل ّه ‪-‬رضي الل ّه‬
‫‪-‬ولمعنى ز يادة الإيمان من تلقي القرآن شاهدٌ من هدي الن ّب ِيّ ﷺ؛ وهو قو ُ‬
‫ل أ ْن نتعل ّم َ القرآنَ ثم ّ تعل ّمنا القرآنَ فازددنا ب ِه إيمان ًا)‪.‬‬
‫عنه‪( :-‬فتعل ّمنا الإيمانَ قب َ‬

‫الآية الثالثة‪ :‬قال ‪-‬تعالى‪ -‬في أربعة ِ مواض َع في سورة القمر‪" :‬و َلَق َ ْد يَس ّرْن َا الْقُر ْآنَ لِلذِّكْر ِ فَه َلْ م ِنْ م ُ ّدكِرٍ"‪:‬‬
‫‪-‬قال الإمام ُ الطبريّ ‪( :‬ولقد سهّلنا القرآنَ وهو ّناه لمن أراد َ التذك ّر به والاتعاظ؛ "فَه َلْ م ِنْ م ُ ّدكِرٍ" يقول‪ :‬فهل‬
‫ن من غايات تلقي القرآن؛ أ ْن يُتلقى بطر يقة ٍ تقود ُ إلى التذك ّر والاعتبار‬
‫من متعظٍ ومنزجر ٍ بآياته)؛ وعليه؛ فإ ّ‬
‫والاتعاظ‪.‬‬

‫ن‬
‫يخْشَو ْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ِيث كِتَاب ًا مّتَش َابِهًا مّثَانِي َ ت َ ْقش َع ِر ّ مِن ْه ُ ج ُلُود ُ ال ّذ ِي َ‬
‫ن الْحَد ِ‬ ‫ل أحْ س َ َ‬ ‫الآية الرابعة‪ :‬قال تعالى‪" :‬الل ّه ُ نَز ّ َ‬

‫ل الل ّه ُ فَمَا لَه ُ م ِنْ‬‫ك هُد َى الل ّه ِ يَهْدِي بِه ِ م َن يَش َاء ُ وَم َن يُضْ ل ِ ِ‬ ‫ر َ ّبه ُ ْم ث ُم ّ تلَِينُ ج ُلُود ُه ُ ْم و َقُلُو بُه ُ ْم ِإلَى ذِكْر ِ الل ّه ِ ذََٰل ِ َ‬
‫ه َادٍ"‪:‬‬
‫يحدِثُ في الإنسان حالة ً من الخشوع والإخبات‬
‫‪-‬تُبيِّنُ الآية ُ أثر َ التفاعل الإيماني مع القرآن؛ فالقرآنُ ُ‬
‫ل على أن ّه يتلقى القرآن ًّ‬
‫تلقي ّا صحيح ًا؛ فيزداد ُ به إيمان ًا‪.‬‬ ‫والخشية والإنابة‪ ،‬وهذه يد ّ‬

‫ق وَل َا يَكُونُوا‬
‫ن الْح َ ّ ِ‬ ‫تخْشَ َع قُلُو بُه ُ ْم لِذِكْر ِ الل ّه ِ وَم َا ن َز َ َ‬
‫ل مِ َ‬ ‫ن آم َن ُوا أن َ‬ ‫الآية الخامسة‪ :‬قال تعالى‪" :‬أل َ ْم ي َأْ ِ‬
‫ن لِل ّذ ِي َ‬
‫سق ُونَ"‪:‬‬
‫َت قُلُو بُه ُ ْم وَكَث ِير ٌ مِّنْه ُ ْم فَا ِ‬
‫ل عَلَيْهِم ُ الْأمَد ُ فَقَس ْ‬
‫ل فَطَا َ‬
‫م ِن قَب ْ ُ‬ ‫ن أوتُوا الْكِتَابَ‬
‫ك َال ّذ ِي َ‬
‫ق من تلقي القرآن؛ والتي ينبغي أ ْن تكونَ‬
‫‪-‬وهذا الأثر ُ ‪-‬خشوع القلب‪ -‬من صور ز يادة الإيمان التي تتح ّق ُ‬
‫نُصبَ عين ْي م َن يتعامل مع القرآن‪.‬‬

‫ن"‪:‬‬ ‫الآية السادسة‪ :‬قال تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬


‫ن فِي هََٰذ َا لَبَلَاغًا لِّقَو ْ ٍم عَابِدِي َ‬
‫ن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا مح ُم ّدٍ ﷺ لبلاغ ًا‪ :‬يعني لمنفعة ً وكفاية ً‬
‫أي‪ :‬إ ّ‬
‫ن كثير‪ْ ( :‬‬
‫‪-‬قال الإمام ُ اب ُ‬
‫ل إلى ر ّبِهم)‪.‬‬
‫ن سعدي‪( :‬أي‪ :‬يتبل ّغون ب ِه ِ في الوصو ِ‬
‫خ اب ُ‬
‫لقو ٍم عابدين)‪ ،‬قال الشي ُ‬
‫‪- 05 -‬‬
‫ل الـكفاية والاستغناء َ به‪ ،‬والاكتفاء ُ بالقرآن لا يتأتى إلا‬
‫ن من مقاصد تلقي القرآن‪ :‬حصو َ‬
‫‪-‬هذة الآية ُ تُبيِّنُ أ ّ‬
‫لمَن يستحضر ُ ر ب ّاني ّت َه وعظمته وشموليته والاحتياج إلى العلم من خلاله‪ ،‬وليس معنى الاكتفاء بالقرآن هو‬
‫عدم ُ الرجوع إلى الس ُن ّة أو إلى العلوم المتعل ِّقة بالقرآن‪ ،‬وإن ّما المقصود ُ‪ :‬الاكتفاء ُ به من حيث المرجعي ّة‪.‬‬

‫ل و َِإلَى أول ِي الْأ ْمر ِ‬


‫‪-‬ومن خلال القرآن‪ ،‬تتبي ّنُ قيمة ُ المرجعي ّات الأخرى؛ قال تعالى‪" :‬و َلَو ْ رَدّوه ُ ِإلَى الر ّسُو ِ‬
‫ن يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْه ُ ْم"؛ هنا يعطي القرآنُ قدر ًا من المرجعي ّة لأولي الأمر؛ وهم العلماءُ‪ ،‬كما قال‬
‫مِنْه ُ ْم لَع َل ِم َه ُ ال ّذ ِي َ‬
‫ت هذِه الآيَة ُ‪" :‬و َِإذ َا‬
‫عمر بن الخطاب ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن نفسه في حديث اعتزال الن ّب ِيّ ﷺ نسائه‪( :‬و َن َزَل َ ْ‬
‫ن‬
‫ل و َِإلَى أول ِي الْأ ْمر ِ مِنْه ُ ْم لَع َل ِم َه ُ ال ّذ ِي َ‬ ‫ْف أذ َاع ُوا بِه ِ و َلَو ْ رَدّوه ُ ِإلَى الر ّسُو ِ‬
‫ن أوِ الْخَو ِ‬ ‫ن الْأ ْم ِ‬
‫ج َاءَه ُ ْم أم ٌْر م ِ َ‬
‫ل‪ -‬آيَة َ الت ّخْ ي ِيرِ)‪.‬‬
‫ل الل ّه ُ ‪-‬ع َّز وَج َ ّ‬
‫ك الأمْرَ‪ ،‬و َأن ْز َ َ‬
‫يَسْتَن ْبِط ُونَه ُ مِنْه ُ ْم"‪ ،‬فَكُن ْتُ أن َا اسْ تَن ْبَطْتُ ذل َ‬

‫الآية السابعة‪ :‬قال تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬


‫ن هََٰذ َا الْقُر ْآنَ يَهْدِي لِل ّتِي هِي َ أق ْوَم ُ"‪ ،‬وقال تعالى‪" :‬فَق َالُوا ِإن ّا سَمِعْنَا قُر ْآن ًا عَجَبًا *‬

‫يَهْدِي ِإلَى الر ّشْ دِ ف َآم َن ّا بِه ِ"‪:‬‬


‫ن من مقاصد تلقي القرآن‪ :‬الاهتداء َ به‪ ،‬وهذا ما أدركت ْه ُ الجنّ حين سمعوه؛ فقالوا‬ ‫نأ ّ‬ ‫‪-‬هاتان الآيتان في بيا ِ‬
‫ل‬
‫مباشرة ً‪ِ " :‬إن ّا سَمِعْنَا قُر ْآن ًا عَجَبًا * يَهْدِي ِإلَى الر ّشْ دِ"‪ ،‬وفي سورة الأحقاف‪" :‬قَالُوا ي َا قَوْم َنَا ِإن ّا سَمِعْنَا كِتَاب ًا أنز ِ َ‬
‫ق مّسْت َق ٍِيم"‪.‬‬
‫ق و َِإلَى َطرِي ٍ‬
‫ص ّدِقًا لِّمَا بَيْنَ يَد َيْه ِ يَهْدِي ِإلَى الْح َ ّ ِ‬
‫م ِن بَعْدِ م ُوس َى م ُ َ‬

‫ل المتلقي له يتلقاه بعين المستهدي ‪-‬الطالب للهداية‪ ،-‬أمّا‬


‫ن إدراك َ مقصد الهداية في القرآن يجع ُ‬
‫‪-‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫يفوت عليه كثير ٌ من هدايات القرآن‪.‬‬
‫ْ‬ ‫يفوت عليه إدراك ُ هذا المقصد؛ فإن ّه‬
‫ْ‬ ‫م َن‬

‫الآية الثامنة‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َلََٰكِن كُونُوا ر َب ّانيِِّينَ بِمَا كُنتُم ْ تُع َل ِّم ُونَ الْكِتَابَ و َبِمَا كُنتُم ْ ت َ ْدرُسُونَ"‪:‬‬
‫ل إلى غاية الر ب ّاني ّة إن ّما يكونُ عبر َ وسيلة تعل ّم القرآن وتعليمه ومدارسته؛ وهذا التعل ّم ُ‬
‫ن الوصو َ‬
‫‪-‬تُبيِّنُ الآية ُ أ ّ‬
‫ضا‪.‬‬
‫أوس ُع من أ ْن يكونَ تعل ّم ًا لحروفه فقط‪ ،‬وإنما هو تعل ّم ٌ لحدوده أي ً‬

‫جه َاد ًا كَب ِير ًا"‪:‬‬ ‫الآية التاسعة‪ :‬قال الل ّه ‪-‬تعالى‪" :-‬فَلَا تُط ِِع الْك َافِرِي َ‬
‫ن وَج َاهِدْه ُم بِه ِ ِ‬
‫ن‬
‫ن من مقاصد القرآن‪ :‬مدافعة َ الباطل من خلاله؛ وهذا مما يجبُ أ ْن يستحضر َه ُ الم ُصلح؛ إذ أ ّ‬
‫‪ -‬تُبيِّنُ الآية ُ أ ّ‬
‫خطاب عامّ له ﷺ ولورثته من بعده‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫خطابَ الل ّه لنبيه ﷺ "وَج َاهِدْه ُم بِه ِ" ليس خا ًّ ّ‬
‫صا بالن ّب ِيّ ﷺ وإن ّما هو‬

‫حق وتوضيحه‪ ،‬ففيه مضامينُ في هدم الباطل ومدافعته‪ ،‬لذا؛ ينبغي‬


‫ن في القرآن مضامينَ في بناء ال ّ ِ‬
‫‪-‬فكما أ ّ‬
‫على المصلح في تعامله مع القرآن أ ْن يفقه َ هاتين الدائرتين حتى يسير َ بطر يقة ٍ منهجية ٍ متزنة ٍ‪.‬‬
‫‪- 06 -‬‬
‫شف َاء ٌ لِّمَا فِي الصّ د ُورِ و َهُدًى‬ ‫الآية العاشرة‪ :‬قال تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا الن ّ ُ‬
‫اس ق َ ْد ج َاءَتْك ُم مّوْعِظ َة ٌ مّ ِن رّ بِّك ُ ْم و َ ِ‬
‫وَرَحْم َة ٌ لِّلْمُؤْم ِنِينَ"‪:‬‬
‫ن شفاء ً‪ ،‬والمقصود؛ الشفاء ُ المعنويّ مما يق ُع في الصدور‬
‫ق من خلال القرآن‪ :‬أ ْن يكو َ‬
‫‪-‬من المقاصد التي تتح ّق ُ‬
‫من التساؤلات والشكوك‪.‬‬
‫ن تلقي القرآن بعين المستهدي من أعظم ما‬
‫‪-‬ومن ألصق مقاصد القرآن بمقصد الشفاء‪ :‬مقصد ُ الاستهداء؛ فإ ّ‬
‫ن من صور الهداية‪ :‬الهداية َ بشفاء ِ التساؤلات‬
‫ي ُعينُ على تحقيق مقصد الشفاء من خلاله؛ ذلك أ ّ‬
‫ج في الصدور‪.‬‬
‫والإشكالات التي تختل ُ‬

‫فاـئدة‪ :‬ينبغي أ ْن يُقارنَ المسؤو ُ‬


‫ل عن الحلقات القرآنية بينَ هذه المقاصد الغائية لإنزال القرآن‪ ،‬وبينَ‬

‫ل بناء ً على تلك المقاصد الغائية‪.‬‬


‫ص وخل ٍ‬
‫طر يقة التعامل مع القرآن في واقع الحلقات؛ فيُكمل ُ ما فيها من نق ٍ‬

‫الحديث الأوّل‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪( :‬لقد عِشْنا ب ُرهة ً م ِن دَهْرِنا‪ ،‬وإ ّ‬
‫ن أحدَنا‬
‫سورة ُ على م ُحم ّدٍ ﷺ‪ ،‬فيت َعل ّم ُ حلالَها وح َرامَها‪ ،‬وما ين ْب َغي أ ْن يُوق ََف عند َه‬
‫ل ال ّ‬
‫ل الق ُرآنِ‪ ،‬وتنزِ ُ‬
‫يُؤ ْتَى الإيمانَ قب َ‬
‫فيها كما تَعل ّمونَ أنتم الق ُرآنَ‪ ،‬ثم ّ قال‪ :‬لقد رأي ْتُ رِجال ًا يُؤ ْتَى أحد ُهم الق ُرآنَ‪ ،‬فيقرَأ ما بين فاتحت ِه إلى خاتمت ِه ما‬
‫ل)‪ ،‬أخرجه الحاكم ُ والبيهقيّ‬
‫جر ُه‪ ،‬ولا ما ين ْب َغي أ ْن يُوق ََف عنده منه‪ ،‬ينث ُر ُه نثْر َ الد ّق َ ِ‬
‫ي َدري ما أمْرُه ولا زا ِ‬
‫واللفظ له‪.‬‬
‫ل)‪ :‬هو الر ّديء ُ م ِن التمّرِ وما لا فائدة َ فيه‪.‬‬
‫‪(-‬الد ّق َ ِ‬

‫فاـئدة ٌ منهجي ّة ٌ‪:‬‬


‫بعض المعاني المرتبطة بالآيات في باب (تلقي القرآن)‪ ،‬وهذا الوجه ُ من‬
‫‪-‬تأتي الأحاديثُ فت ُكمل ُ وت ُعزز ُ وت ُبي ِّنُ َ‬
‫ل الأكمل ُ؛ وذلك باستقراء ما ورد َ في الباب من مجموع النصوص؛ من‬
‫التعامل مع نصوص الوحي هو التعام ُ‬
‫كتاب الل ّه‪ ،‬ومن أحاديث رسوله ﷺ‪.‬‬

‫ل الاستقرائيّ لنصوص الوحي على موضوعات الأحكام فقط ‪-‬إذ لا يفتي المجتهد ُ في‬
‫‪-‬ولا يقتصر ُ هذا التعام ُ‬
‫بنص آخر‬
‫ق في القرآن و يقي ّد ُ ّ ٍ‬
‫نص مطل ٌ‬
‫مسألة ٍ حت ّى ينظر َ في مجموع ما ورد َ في بابها من النصوص؛ فقد يرِدّ ّ‬
‫بنص آخر في القرآن أو الس ُن ّة؛ كما جاء في ح ُكم‬
‫ص ّ ٍ‬
‫يخصّ ُ‬
‫نص عامّ في القرآن و ُ‬
‫في القرآن أو الس ُن ّة‪ ،‬وقد يأتي ّ‬
‫ل في كاف ّة ِ موضوعات الشر يعة‪.‬‬
‫قطع يد السارق‪ ،‬وحكم الميراث‪ ،-‬بل ينبغي أ ْن يكونَ هذا التعام ُ‬

‫‪- 07 -‬‬
‫ن ‪...‬إلخ‪ ،‬ثم ّ قال‪ :‬لقد رأي ْتُ رِجال ًا‬
‫ل الق ُرآ ِ‬
‫ن أحد َنا يُؤ ْتَى الإيمانَ قب َ‬
‫ن عمرٍ ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪( :-‬وإ ّ‬
‫‪-‬يقول اب ُ‬
‫بقلوب ي ُبنى فيها الإيمان؛‬
‫ٍ‬ ‫ن عمرٍ طر يقة َ استعداد الصحابة لتلقي لقرآن؛‬
‫يُؤ ْتَى أحد ُهم الق ُرآنَ ‪...‬إلخ)؛ يبيِّنُ اب ُ‬
‫ل تلقي القرآن فيم َن جاؤوا بعد جيل الصحابة‪ .‬وعلى‬
‫فيملؤها بالتعظيم والتقدير للقرآن‪ ،‬ثم ينتقد ُ استسها َ‬
‫ن من جملة ما يجبُ الاعتناء ُ به في حلقات التحفيظ؛ أ ْن يُبدأ بالدروس المتعل ِّقة بأعمال القلوب‬
‫ذلك؛ فإ ّ‬
‫والإيمان‪.‬‬
‫سورة ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫يرتبط بهذا الحديث من مقاصد تلقي القرآن؛ مقصد ُ الر ب ّاني ّة في قول ابن عمر‪( :‬وتنزِ ُ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬من أبرز ما‬
‫على م ُحم ّدٍ ﷺ‪ ،‬فيت َعل ّم ُ حلالَها وح َرامَها‪ ،‬وما ين ْب َغي أ ْن يُوق ََف عند َه)؛ وهذا التعل ّم ُ والمدراسة ُ قريبٌ من قوله‬
‫تعالى‪" :‬و َلََٰكِن كُونُوا ر َب ّانيِِّينَ بِمَا كُنتُم ْ تُع َل ِّم ُونَ الْكِتَابَ و َبِمَا كُنتُم ْ ت َ ْدرُسُونَ"‪ ،‬وكذلك مقصد ُ التذك ّر والاتعاظ‬
‫جر ُه) وهذا مصداقًا لقوله تعالى‪" :‬و َلَق َ ْد يَس ّرْن َا الْقُر ْآنَ لِلذِّكْر ِ فَه َلْ م ِن مّ ّدكِرٍ"‪.‬‬
‫في قول ابن عمر‪( :‬ما أمْرُه ولا زا ِ‬

‫ن حزاورة ٌ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن جندب بن عبد الل ّه ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬كن ّا م َع الن ّب ِيّ ﷺ ونح ُ‬
‫ن فتيا ٌ‬
‫ن ماجه‪.‬‬
‫ل أن نتعل ّم َ القرآنَ ثم ّ تعل ّمنا القرآنَ فازددنا ب ِه إيمان ًا)‪ ،‬أخرجه اب ُ‬
‫فتعل ّمنا الإيمانَ قب َ‬
‫‪-‬يعتبر ُ هذا الحديثُ تطبيق ًا عمليًا على مقصد ز يادة الإيمان من خلال تلقي القرآن؛ فقد كان الن ّبيّ ﷺ‬
‫شرف على طر يقة تلقي القرآن المح ّق ِقة ِ لز يادة الإيمان‪.‬‬
‫يُ ُ‬

‫ُوت‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قال‪" :‬و َما اجْ ت َمع قَوْم ٌ في بَي ٍ‬
‫ْت م ِن بُي ِ‬
‫ح ّفتْهُم ُ المَلَائِك َة ُ‪،‬‬
‫سكِين َة ُ‪ ،‬وَغَشِيَتْهُم ُ الر ّحْم َة ُ‪ ،‬و َ َ‬ ‫الل ّهِ‪ ،‬يَت ْلُونَ كِتَابَ الل ّهِ‪ ،‬و َيَتَد َارَسُونَه ُ بيْنَهُمْ؛ ِإلّا ن َزَل َ ْ‬
‫ت عليه ِم ال ّ‬
‫وَذَك َر َهُم ُ الل ّه ُ ف ِيم َن عِنْدَه ُ"‪ ،‬أخرجه مسلم ٌ‪.‬‬
‫شق التلاوة‪ ،‬وإن ّما ي ُشف ُع‬
‫وقف عند َ ّ ِ‬
‫‪-‬يُؤكد ُ هذا الحديثُ على قضية تلاوة وتدارس القرآن مع ًا؛ إذ ينبغي ألا ي ُ َ‬
‫بشقّ الت ّدارس‪.‬‬

‫َث‬
‫ن ابْع ْ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن أنس بن مالك ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ج َاء َ ن َ ٌ‬
‫اس إلى الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬ف َقالوا‪ :‬أ ِ‬

‫ل له ْم‪ :‬الق ُر ّاءُ‪ ،‬فيهم خ َال ِي‬


‫ن الأنْصَارِ‪ ،‬يُق َا ُ‬
‫سب ْعِينَ رَج ُل ًا م ِ َ‬
‫سن ّة َ‪ ،‬فَبَع َثَ إليه ِم َ‬
‫معنَا رِج َال ًا يُع َل ِّم ُون َا القُر ْآنَ و َال ّ‬
‫ل يَتَع َل ّم ُونَ)‪ ،‬أخرجه مسلم ٌ‪.‬‬‫حَر َام ٌ‪ ،‬يَقْرَؤ ُونَ القُر ْآنَ‪ ،‬و َيَتَد َار َسونَ بالل ّي ْ ِ‬

‫فاـئدة‪ :‬نجد أ ّ‬
‫ن م ُسمّى (الس ُن ّة) موجود ٌ في زمن الن ّب ِيّ ﷺ؛ وهذا مما يستفاد ُ به في سياق الردِّ على المنكرين‬

‫والحداثيين الذين ينازعون في هذه التسمية‪ ،‬أو هذا الاسم‪.‬‬

‫‪- 08 -‬‬
‫أنس بن مالك ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬مجموعة ً من خيار الصحابة بـ(الق ُر ّاء)؛ وذلك لانشغالهم الدائم‬
‫ُ‬ ‫يصف‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ل يَتَع َل ّم ُونَ)‪ ،‬إذن؛ قضية ُ الت ّدارس من الأمور الأساسية المتعل ِّقة‬
‫بالقرآن (يَقْرَؤ ُونَ القُر ْآنَ‪ ،‬و َيَتَد َار َسونَ بالل ّي ْ ِ‬
‫جالس تدارس القرآن من أعظم ما يكونُ من الت ّصحيح في طر يقة تلقي‬
‫ن إحياء َ م َ‬
‫بتلقي القرآن‪ ،‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫القرآن‪.‬‬

‫الحديث الخامس‪ :‬عن أبي عبد الرحمن ال ّ‬


‫سلمي ‪-‬أحد ُ أكبر القر ّاء‪ ،‬وهو الذي روى عن عثمان بن عفان‬

‫حديث‪" :‬خَيْر ُك ُ ْم م َن تَعَل ّم َ القُر ْآنَ وعَل ّم َه ُ" وكان مشهور ًا بتعليم القرآن‪ -‬قال‪( :‬ح ّدثَنا م َن كان يُقرِئُنا من‬
‫آيات‪ ،‬فلا يأخ ُذونَ في العَشْرِ الأخرى حتى‬
‫ٍ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ عَشْر َ‬
‫حاب الن ّب ِيّ ﷺ أ ّنهم كانوا يَقتَرِئونَ من رسو ِ‬
‫أص ِ‬
‫ل)‪ .‬وعن ابن مسعودٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪:‬‬
‫ل‪ ،‬قالوا‪ :‬فتعل ّم ْنا الع ِلم َ والعَم َ َ‬
‫ن الع ِلم ِ والعَم َ ِ‬
‫يَعلَموا ما في هذه م َ‬
‫ل بهنّ )‪ ،‬أخرجهما الطبريّ في‬
‫آيات لم يجاوزه ُنّ حتى يعرف معانيه ُنّ ‪ ،‬والعم َ‬
‫ٍ‬ ‫(كانَ الرجل م ِن ّا إذا تعل ّم عَش ْر‬
‫تفسيره بإسنادٍ جيدٍ‪.‬‬
‫‪-‬هذان نصّ ان مركز يان في طر يقة تلقي القرآن على زمن الن ّب ِيّ ﷺ؛ فيهما معيار ٌ ينبغي أ ْن ي ُعاد َ تفعيل ُه ُ وتحقيق ُه ُ‬
‫ن‬
‫آيات هو‪( :‬حتى يَعلَموا ما في هذه م َ‬
‫ٍ‬ ‫في حلقات تلقي القرآن‪ ،‬والمعنى المركزيّ في تجزئة تلقي القرآن لعشر‬
‫ل)‪.‬‬
‫الع ِلم ِ والعَم َ ِ‬

‫ن عَبْد َ الل ّه ِ ب ْ َ‬
‫ن ع ُم َر َ مَكَثَ عَلَى‬ ‫الحديث السادس‪ :‬عن مالكٍ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬صاحب (الموطأ)‪( :‬أن ّه ُ بلََغ َه ُ أ ّ‬

‫سُورَة ِ ال ْبَق َرَة ِ ثَمَانِي سِنِينَ يَتَع َل ّمُه َا)‪:‬‬


‫ن‬
‫تح ْق ِر ُو َ‬
‫ج ف ِيك ُ ْم قَوْم ٌ َ‬
‫يخ ْر ُ ُ‬
‫ج الإمام ُ مالك هذا الأثر َ بعد سياقه لحديث الخوارج؛ قال الن ّب ِيّ ﷺ‪َ " :‬‬
‫‪-‬أخر َ‬
‫جر َه ُ ْم‬
‫ن الْقُر ْآنَ وَل َا يُجَاوِز ُ حَنَا ِ‬ ‫صَلَاتَك ُ ْم م َ َع صَلَاتِه ِ ْم وَصِيَامَك ُ ْم م َ َع صِيَامِه ِ ْم و َأعْمَالـَك ُ ْم م َ َع أعْمَالِه ِ ْم يَقْر َءُو َ‬
‫شي ْئًا‬
‫ْح فَلَا ت َر َى َ‬ ‫شي ْئًا و َتَنْظ ُر ُ فِي ال ْقِد ِ‬
‫ل فَلَا ت َر َى َ‬ ‫يَم ْر ُقُونَ م ِنْ الد ِّي ِن م ُرُوقَ الس ّ ْه ِم م ِنْ الر ّم ِي ّة ِ تَنْظ ُر ُ فِي الن ّصْ ِ‬
‫ل للإمام مالكٍ ؛ إذ فيه‬
‫ق"؛ وهذا الترتيبُ فيه فقه ٌ متق ّدِم ٌ عا ٍ‬
‫شي ْئًا و َتَتمََار َى فِي الْف ُو ِ‬
‫ِيش فَلَا تَر َى َ‬
‫و َتَنْظ ُر ُ فِي الر ّ ِ‬
‫مقارنة ٌ بين حالتين في تلقي القرآن؛ حالة ٍ من الإكثار في التلاوة لا تُح ّق ِق مقاصد القرآن‪ ،‬وحالة ٍ من التأني في‬
‫ق مقاصد القرآن‪.‬‬
‫التلقي تُح ّق ِ ُ‬

‫ل الل ّه ﷺ‪،‬‬
‫يدي رسو ِ‬
‫ْ‬ ‫الحديث السابع‪ :‬عن أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ك َانَ رج ٌ‬
‫ل يكتبُ بينَ‬
‫ل إذا ق َر َأ البقرة َ وآل عمران ي ُع َ ّد ف ِينا عظيم ًا)‪ ،‬أخرجه أحمد‪.‬‬
‫ق َ ْد ق َر َأ البقرة َ وآل عمران؛ وك َانَ الرج ُ‬

‫‪- 09 -‬‬
‫‪-‬يبيِّنُ الحديثُ طر يقة ً من طرائق تلقي الصحابة للقرآن؛ وذلك عن طر يق أخْذِ الأداء بمعرفة طر يقة التلاوة‪،‬‬
‫ن أخْذ َ سورتي البقرة وآل‬
‫حفظ للآيات‪ ،‬ثم تعل ّم َ ما فيها من العلم والعمل؛ وهذا يعني أ ّ‬
‫ن ال َ‬
‫وهذا يتضم ُ‬
‫ل =له معن ًى كبير ٌ ج ًّ ّدا‪.‬‬
‫عمران وما فيهما من أحكا ٍم وع ِب َرٍ وعم ٍ‬
‫ن م َن يحفظ القرآن كامل ًا و يأخذ فيه الإجازات؛ كأن ّه أنهى رحلته العلمية‬
‫‪-‬لـكن واقعنا ‪-‬اليوم‪ :-‬نجد أ ّ‬
‫مرتبط بمرحلة الأداء والحفظ فقط‪ ،‬وليس هذا هو القدر ُ الكافي في تلقي‬
‫ٌ‬ ‫ل هذا‬
‫المتعل ِّقة بكتاب الل ّه‪ ،‬بينما ك ّ‬
‫القرآن‪.‬‬
‫خذ ُ عشرة َ أجزاء ‪-‬مثل ًا‪ ،-‬وما فيها من العلم والعمل؛ بالوقوف‬
‫‪-‬أمّا الطر يقة ُ المنهجية ُ في تلقي القرآن هي‪ :‬أ ْ‬
‫عند الحلال والحرام والآمر والزاجر‪ ،‬ثم ّ عشرة َ أجزاء‪ ،‬ثم ّ عشرة َ أجزاء‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫خـلاصة ُ‬
‫ُ‬
‫ق عبر َ مجموعة ٍ من الوسائل في طر يقة ومنهج‬ ‫ن أ ٌنز ِ َ‬
‫ل لمقاصد ينبغي أ ْن تتح ّق َ‬ ‫ن القرآ َ‬
‫‪-‬كان هذا البابُ في بيان أ ّ‬
‫ّقت هذه المقاصد ُ عبر َ وسائلها تطبيق ًا ًّ‬
‫عملي ّا في زمن الن ّب ِيّ ﷺ كما ورد معنا في النصوص‬ ‫تلقي القرآن‪ ،‬وقد طُب ِ ْ‬
‫السابقة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫واقع بعيدٍ ج ًّ ّدا عن تحقيق تلك المقاصد‪ ،‬وعن السير على وسائلها التي جاءت في المنهج‬ ‫‪-‬ونحن ‪-‬اليوم‪ -‬أمام َ‬
‫بوي في تلقي القرآن‪.‬‬
‫الن ّ ّ ِ‬
‫ن أعظم هذه الجذور هو الجذر ُ‬
‫ق الإصلاح يجبَ أ ْن يبدأ من الجذور؛ فإ ّ‬
‫ن طر ي َ‬
‫‪-‬وما دمنا نتحدثُ عن أ ّ‬
‫ق المقاصد‬
‫ق بتلقي القرآن لي ُحق َ‬
‫سن ّة رسوله ﷺ‪ ،‬فإذا أصلحنا ما يتعل ّ ُ‬
‫المرتبط بمرجعي ّة الوحي؛ من كتاب الل ّه و ُ‬
‫ُ‬
‫قت عند َ م َن يتلقى القرآن في زمن الن ّب ِيّ ﷺ =كان ذلك من أهم الإصلاح في الجذور؛ التي إذا‬ ‫التي تح ّق ْ‬
‫ج عنها‪ ،‬وإذا لم ت ُصْ ل َحْ =ستستمر ْ عجلة ُ حلقات القرآن في تخريج أعدادٍ‬
‫حت =يصل ُحْ من خلالها ما ينت ُ‬‫صل َ ْ‬
‫ثمرات ومقاصد تلقي القرآن‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ق من‬
‫يح ّق َ‬
‫ق ما ينبغي أ ْن ُ‬
‫تح ّق ِ َ‬
‫هائلة ٍ من ح ّفاظ القرآن لـكن دون أ ْن ُ‬

‫‪- 21 -‬‬
‫المحاضرة الثالثة‪ :‬تعظيم ُ حدودِ الل ّه‬
‫تعظيم حدودِ الل ّهِ‪ ،‬والتحذير ِ م ِن مخالفة ِ أمرِه ِ وأمر ِ رسوله ﷺ‬
‫ِ‬ ‫باب في‬
‫ٌ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫ن واحدة ً من الأمور‬
‫ل بين هذا الباب‪ ،‬وبينَ باب (مرجعي ّة الوحي)؛ ووجه ُ الت ّرابط أ ّ‬
‫ارتبط واتصا ٌ‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬هناك‬
‫صة ٍ؛ وذلك من‬
‫بتعظيم مرجعي ّة الوحي بصورة ٍ خا ّ‬
‫ِ‬ ‫ق‬
‫الواجبة تُجاه مرجعي ّة الوحي‪ :‬التعظيم‪ ،‬فهذا البابُ متعل ّ ِ ٌ‬
‫جهتين‪ :‬جهة تعظيم حدود الل ّه؛ وهذه الحدود ُ تُعلَم ُ من مرجعي ّة الوحي‪ ،‬وجهة التحذير من مخالفة أمر الل ّه‬
‫ق بمرجعي ّة الوحي‪.‬‬
‫وأمر رسوله ﷺ؛ وهذا متعل ّ ِ ٌ‬
‫جالات أساسية ٍ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬هذا التعظيم ُ له ثلاثة ُ م‬
‫ل‬
‫أساس لك ّ ِ‬
‫ٌ‬ ‫الأوّل‪ :‬تعظيم ُ الل ّه ‪-‬تعالى‪ :-‬فتعظيم ُ الوحي فرعٌ عن تعظيم الذي أنزله ‪-‬سبحانه‪-‬؛ وتعظيم ُ الل ّه هو‬
‫ق بالشر يعة‪.‬‬
‫تعظيم متعل ّ ِ ٍ‬
‫ٍ‬
‫ل في عامّة ما جاءت به الشر يعة ُ‪.‬‬
‫ل لكتاب الل ّه ولس ُن ّة رسوله ﷺ‪ :‬ويتمث ُ‬
‫الثانـي‪ :‬التعظيم ُ المجم ُ‬
‫نفس الدرجة من‬
‫َ‬ ‫ل ما جاء فيها‬
‫ظمت ْه ُ الشر يعة ُ‪ :‬فلم ْ تُعطِ الشر يعة ُ لك ّ ِ‬
‫خاص لما ع ّ‬
‫الثالث‪ :‬التعظيم ُ التفصيليّ ال ّ‬
‫ن من أعظم صور الفقه في‬
‫جاءت الأمور ُ في الشر يعة متفاوتة ً في درجة تعظيمها‪ ،‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫ْ‬ ‫التعظيم‪ ،‬وإنما‬
‫ًّ‬
‫تفصيلي ّا‬ ‫ظمها الل ّه ورسوله ﷺ؛ سواء ً كان تعظيم ًا مجُمل ًا عا ًّمّا‪ ،‬أو‬
‫ظم َ الأمور ُ الشرعية بقدر ما ع ّ‬
‫الدين أ ْن تُع ّ‬
‫صا؛ كتعظيم الأماكن والأزمنة والأعمال المعينة‪.‬‬ ‫خا ًّ ّ‬

‫أصناف‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫اس في الت ّعامل مع النصوص الشرعية ومرجعي ّة الوحي على ثلاثة ِ‬
‫‪-‬الن ّ ُ‬
‫ل الامتثال‪ ،‬وهو الأعلى‪.‬‬ ‫قلبي ّا خا ًّ ّ‬
‫صا قب َ‬ ‫ظ ِم أوامرها تعظيم ًا ًّ‬
‫ل للشر يعة‪ ،‬و يع ّ‬
‫الأوّل‪ :‬م َن يمتث ُ‬
‫خاص لها الأمرُ الكافي‪.‬‬
‫ل للشر يعة بأداء فروضها‪ ،‬ولا يكونُ في قلبه من التعظيم ال ّ ِ‬
‫الثانـي‪ :‬م َن يمتث ُ‬
‫ظِم ُها‪.‬‬
‫ل للشر يعة ولا يع ّ‬
‫الثالث‪ :‬م َن لا يمتث ُ‬

‫ل‬
‫ختلف أداؤه لأوامرها عن أداء م َن يمتث ُ‬ ‫قلبي ّا خا ًّ ّ‬
‫صا ي ْ‬ ‫ظ ِ ْم أوامر الشر يعة تعظيم ًا ًّ‬
‫َ‬ ‫ن م َن يع ّ‬
‫‪-‬وعلى ما تق ّدم‪ :‬فإ ّ‬
‫شع َائ ِر َ الل ّه ِ‬
‫ظ ِ ْم َ‬
‫ك وَم َن يُع َ ّ‬
‫مستصحب لهذه الدرجة من التعظيم‪ ،‬ولذلك؛ قال تعالى‪" :‬ذََٰل ِ َ‬
‫ٍ‬ ‫أوامرها وهو غير ُ‬
‫ن ذلك التسمينَ ليس‬
‫ن الصحابة َ كانوا يُسمِّنون الأضاحي‪ ،‬مع أ ّ‬
‫وب"؛ ومن ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫ف َِإ ّنهَا م ِن تَقْو َى الْق ُل ُ ِ‬
‫مطلوب ًا في الأضحية؛ لـكنهم كانوا يفعلونه من باب تعظيم شعائر الل ّه‪.‬‬
‫‪- 20 -‬‬
‫ل وهو‬
‫ل عليه؛ فيمتث ُ‬
‫ل لأوامرها يكونُ أسه َ‬
‫ن الامتثا َ‬ ‫‪-‬فإذا رُزِقَ الإنسان تعظيم الشر يعة تعظيم ًا خا ًّ ّ‬
‫صا؛ فإ ّ‬
‫ن في أدائها‪ ،‬أمّا م َن لا يستصحبُ هذا‬
‫س َ‬
‫ل على العبادة وقد وجد َ ما يدفع ُه ُ لأ ْن يُح ِّ‬
‫ح الن ّفس وم ُقب ٌ‬
‫منشر ُ‬
‫خاص من التعظيم؛ يكونُ غاية ُ أدائه للعبادة إبراء َ ذمته بإسقاط الفرض الذي عليه‪ ،‬وهذا وإ ْن كان‬
‫المعنى ال ّ‬
‫ن الفرقَ بينهما كبير ٌ في الدرجة‪.‬‬
‫فيه جزء ٌ من التعظيم ‪-‬بلا شك‪ ،-‬إلا أ ّ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ت قُلُو بُه ُ ْم و َِإذ َا تلُِي َْت‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى في سورة الأنفال‪ِ " :‬إن ّمَا ال ْمُؤْم ِن ُونَ ال ّذ ِي َ‬
‫ن ِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَجِل َ ْ‬
‫ن عَلَى م َا‬
‫ت قُلُو بُه ُ ْم و َالصّ ابِر ِي َ‬
‫ن ِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَجِل َ ْ‬
‫عَلَيْه ِ ْم آي َاتُه ُ ز َادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا"‪ ،‬وفي سورة الحج؛ قال تعالى‪" :‬ال ّذ ِي َ‬
‫أصَابَه ُ ْم و َال ْمُق ِيمِي الصّ لَاة ِ وَمِم ّا رَزَق ْنَاه ُ ْم يُنفِق ُونَ"‪:‬‬
‫تكشف عن معنى‬
‫ُ‬ ‫تكشف عن صورة التعظيم‪ :‬أ ْن تنظر َ في الصورة المضادّة لها؛ التي‬
‫ُ‬ ‫‪-‬من أهم المعاني التي‬
‫آيات التعظيم الآنف ذكرها‪ ،‬وكذلك أورد َ الصورة َ المضادّة َ لها؛‬
‫الاستهانة‪ ،‬وقد أبرز َ القرآنُ الصورتين؛ فذكر َ ِ‬
‫ومن ذلك‪:‬‬
‫َاب أل ٍِيم"‪.‬‬ ‫‪ -١‬قوله تعالى‪" :‬و َِإذ َا تُت ْلَى عَلَيْه ِ آي َاتُنَا و َل ّى مُسْت َ ْكبِر ًا ك َأن ل ّ ْم ي َ ْسمَعْه َا ك َأ ّ‬
‫ن فِي أذ ُنَيْه ِ و َق ْرًا فَبَش ِّرْه ُ بِعَذ ٍ‬
‫خرَة ِ"‪.‬‬
‫ن ل َا يُؤْم ِن ُونَ ب ِالْآ ِ‬
‫ت قُلُوبُ ال ّذ ِي َ‬
‫‪ -٢‬قوله تعالى‪" :‬و َِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَحْدَه ُ اشْم َأزّ ْ‬
‫ق الل ّه َ أخَذ َت ْه ُ ال ْع ِز ّة ُ ب ِال ِْإ ْث ِم"؛ وهي أوضح ُ آية ٍ في الدلالة على صورة الاستهانة؛ إذ‬
‫ل لَه ُ ات ّ ِ‬
‫‪ -٣‬قوله تعالى‪" :‬و َِإذ َا ق ِي َ‬
‫ِف بالل ّه =يخاف‪ ،‬وبعكس ذلك‪ :‬من علامات‬
‫خو ّ َ‬
‫من أظهر علامات المؤمن‪ :‬أن ّه إذا ذُك ِّر َ بالل ّه =تذك ّر‪ ،‬وإذا ُ‬
‫ك‬
‫ن م ِن َ‬
‫ت ِإن ِ ّي أع ُوذ ُ ب ِالر ّحْمََٰ ِ‬
‫خافت مريم ُ ‪-‬عليها السلام‪" -‬قَال َ ْ‬
‫ْ‬ ‫جر َ بالل ّه =لا ينزجر‪ ،‬ولذلك؛ لم ّا‬
‫المنافق‪ :‬أن ّه إذا ز ُ ِ‬
‫ِإن كُنتَ تَق ًِّي ّا"‪.‬‬
‫ق الل ّه)؛ فكونه‬
‫ل للإنسان (ات ِ‬
‫ت قُلُو بُه ُ ْم"‪ :‬الوجل‪ :‬أي الخوف؛ فإذا قي َ‬
‫ن ِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَجِل َ ْ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬ال ّذ ِي َ‬
‫ن لهذه‬
‫ل المؤم ُ‬
‫ل قلبه فهذه درجة ٌ أعلى؛ فإذا وص َ‬
‫ف بوج ِ‬
‫ف عن معصية الل ّه =هذه درجة ٌ‪ ،‬وكونه يتوق ّ ُ‬
‫يتوق ّ ُ‬
‫الدرجة =فهو أسعد ُ الن ّاس بامتثال أوامر الل ّه‪ ،‬وأش ّد الن ّاس ابتعاد ًا عم ّا حرّم الل ّه‪.‬‬

‫‪-‬وليس بالضرورة أ ْن يكونَ ذكر ُ الل ّه المؤدي إلى وجل القلب‪ ،‬هو الذكر ُ بالل ّ ِسان فقط (الذكر المسموع)‪ ،‬بل‬
‫حشَة ً أ ْو‬
‫ن ِإذ َا فَع َلُوا فَا ِ‬
‫قد يؤدي الذكر ُ في داخل الن ّفس (الذكر الداخلي) إلى وجل القلب؛ قال تعالى‪" :‬و َال ّذ ِي َ‬
‫ظَلَم ُوا أنْف ُسَه ُ ْم ذَك َر ُوا الل ّه َ فَاسْ تَغْف َر ُوا لِذُنُو بِه ِ ْم وَم َنْ يَغْف ِر ُ الذ ّنُوبَ ِإلا الل ّه ُ"؛ ومعنى ذكر الل ّه هنا‪ :‬هو الذكر ُ‬
‫الداخليّ‪ ،‬التذك ّر؛ أي‪ :‬أ ّنهم تذك ّروا الل ّه‪.‬‬

‫‪- 22 -‬‬
‫القلب عند َ ذِكر ِ الل ّهِ؟‬
‫ِ‬ ‫ل‬
‫ل الإنسانُ إلى درجة ِ وج ِ‬
‫كيف يص ُ‬
‫َ‬ ‫سـؤال‪:‬‬
‫يخ ْش َى‬
‫=يصل إلى ذلك بالعلم بالل ّه؛ فكل ّما ازداد َ الإنسانُ علمًا بالل ّه =ازداد َ تأه ّل ًا للخشية منه؛ قال تعالى‪ِ " :‬إن ّمَا َ‬
‫ل القلب من ذكر الل ّه هي صورة ٌ من صور الخشية‪ ،‬وللعلم بالل ّه سبلٌ؛ منها‪:‬‬
‫الل ّه َ م ِنْ عِبَادِه ِ ال ْع ُلَمَاء ُ"‪ ،‬ووج ُ‬
‫ل ما ذكره الل ّه عن نفسه فيه‪.‬‬
‫‪ -١‬تدب ّر ُ كتاب الل ّه‪ ،‬وتأمّ ُ‬
‫‪ -٢‬التفك ّر ُ في مخلوقات الل ّه ‪-‬تعالى‪.-‬‬

‫ت قُلُو بُه ُ ْم" بباب تعظيم حدود الل ّه والتحذير من مخالفة أمره وأمر‬
‫ن ِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَجِل َ ْ‬
‫ق قولُه ُ تعالى‪" :‬ال ّذ ِي َ‬
‫‪-‬يتعل ّ ُ‬
‫ن امتثالَه ُ لأمر الل ّه وابتعاده عم ّا حرّم =من‬
‫رسوله ﷺ من وجه أن ّه إذا كان القلبُ وجل ًا من ذكر الل ّه؛ فإ ّ‬
‫المقتضيات الأساسية لمثل هذا الوجل والتعظيم‪.‬‬

‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬و َِإذ َا تلُِي َْت عَلَيْه ِ ْم آي َاتُه ُ ز َادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا"‪ :‬فز يادة ُ الإيمان من أعظم الثمرات التي ينبغي أ ْن يح ّقِق َها‬
‫ل أي ّك ُ ْم ز َاد َت ْه ُ هََٰذِه ِ ِإ يمَان ًا‬
‫ت سُورَة ٌ فمَِنْه ُم مّن يَق ُو ُ‬
‫ن في علاقته بكتاب الل ّه؛ كما قال تعالى‪" :‬و َِإذ َا م َا أنز ِل َ ْ‬
‫المؤم ُ‬
‫ن آم َن ُوا ف َزَادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا و َه ُ ْم يَسْتَبْشِر ُونَ"‪.‬‬
‫ف َأمّا ال ّذ ِي َ‬

‫شع َائ ِر َ الل ّه ِ ف َِإ ّنهَا م ِن تَقْو َى الْق ُل ُ ِ‬


‫وب"‪:‬‬ ‫ظ ِ ْم َ‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قوله تعالى‪" :‬ذََٰل ِ َ‬
‫ك وَم َن يُع َ ّ‬

‫ارتباط واضح ٌ بتعظيم حدود الل ّه‪ ،‬ففي الآية‪ :‬عملٌ؛ وهو التعظيم لشعائر الل ّه‪ ،‬وفيها أيضًا‪ :‬بيانُ‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬في ألفاظ الآية‬
‫ظ ِم لهذه الشعائر‪.‬‬
‫سبب هذا العمل؛ وهو التقوى الكامنة في قلب المؤمن المع ّ‬

‫بعض المفسرين في شعائر معينة في الحج‪،‬‬


‫ُ‬ ‫وردت الآية ُ في سياق ما يتعل ّق بالحج‪ ،‬ولذلك؛ يحصر ُها‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ل شعائر َ الل ّه عامّة ً في الحج‬
‫وبعضهم يُعمِّم ُها في مختلف شعائر الحج‪ ،‬وبعض ُهم يأخذ ُ الآية َ على ظاهرها؛ فيجع ُ‬
‫وغيره‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫ك كل ّها)؛ ومما‬
‫ن سعدي ‪-‬رحمه الل ّه‪( :-‬المراد ُ بالشعائر‪ :‬أعلام ُ الدي ِن الظاهرة ِ‪ ،‬ومنها‪ :‬المناس ُ‬
‫ل الشيخ اب ُ‬
‫‪ -١‬يقو ُ‬
‫ل في أعلام الدين الظاهرة‪ :‬الشعائر المكانية؛ كالمسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى‪،‬‬
‫يدخ ُ‬
‫والشعائر الزمانية؛ كشهر رمضان وليلة القدر وعشر ذي الحجة و يوم عرفة و يوم النحر‪.‬‬

‫شع ُورِ‪،‬‬
‫ن ال ّ‬ ‫الواضح ُ مُشْت َ ّقة ٌ م ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫شعائ ِر ُ‪ :‬جَم ْ ُع شَع ِيرَة ٍ‪ :‬المَعْلَم ُ‬ ‫ل الإمام ُ الطاهر ُ ابن عاشور ‪-‬رحمه الل ّه‪( :-‬ال ّ‬ ‫‪ -٢‬يقو ُ‬
‫أي‪ :‬مُعْل ِمَة ٍ بِما ع َي ّن َه ُ الل ّه ُ)‪.‬‬
‫ل ْ‬ ‫وشَعائ ِر ُ الل ّه ِ‪ :‬لَق ٌ‬
‫َب لم َِناسِكِ الح َ ِجّ ‪ ،‬جَم ْ ُع شَع ِيرَة ٍ بِمَعْنى‪ :‬مُشْع ِرَة ٍ ب ِصِ يغَة ِ اس ْ ِم الفاع ِ ِ‬

‫‪- 23 -‬‬
‫ل بعض ُهم‪( :‬شعائر ُ الل ّه ِ هي ال ْب ُ ْدنُ)؛ الب ُ ْدنُ التي يسوقها‬ ‫أخص من ذلك؛ فيقو ُ‬ ‫ّ‬ ‫‪ -٣‬وفي كلام المفسرين ما هو‬
‫ل في شعائر الل ّه‪ :‬الصفا‬ ‫شع َائِر ِ الل ّه ِ"‪ ،‬ومما يدخ ُ‬ ‫جعَل ْنَاه َا لـَك ُ ْم م ِنْ َ‬
‫الحاجّ في الهدي‪ ،‬كما قال تعالى‪" :‬و َال ْب ُ ْدنَ َ‬
‫شع َائِر ِ الل ّه ِ"‪ ،‬وكذلك في سورة المائدة‪" :‬ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫ن آم َن ُوا ل َا‬ ‫ن الصّ ف َا و َال ْمَرْوَة َ م ِن َ‬
‫والمروة؛ كما قال تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬
‫شع َائ ِر َ الل ّه ِ وَل َا الش ّهْر َ الْحَرَام َ وَل َا ال ْهَدْيَ وَل َا الْق َلَائِد َ"‪.‬‬
‫تح ِل ّوا َ‬
‫ُ‬

‫َات الل ّه ِ فَه ُو َ خَيْر ٌ ل ّه ُ عِند َ‬


‫ظ ِ ْم حُرُم ِ‬
‫ك وَم َن يُع َ ّ‬
‫ل الل ّه تعالى في سورة الحج‪" :‬ذََٰل ِ َ‬
‫ل في الباب أيضًا‪ :‬قو ُ‬
‫‪-‬مما يدخ ُ‬
‫ل‬
‫َت الشعائر ُ بما يتعل ّق بشعائر الحج‪ ،‬ولذلك؛ يقو ُ‬
‫صة ً إذا فُس ِّر ْ‬
‫ر َبِّه ِ"؛ وحرمات الل ّه أوس ُع من شعائر الل ّه؛ خا ّ‬
‫ن‬
‫سه ِ)؛ يجم ُع اب ُ‬
‫جتنب معاصيه ومحارم َه ُ و يكون ارتكابُها عظيم ًا في نف ِ‬
‫ن كثير في تفسير الآية‪( :‬أي‪ :‬وم َن ي ْ‬
‫اب ُ‬
‫كثيرٍ هنا بينَ الامتثال للشر يعة وبين التعظيم لها‪.‬‬

‫َاب أل ِيم ٌ"‪:‬‬ ‫الآية الثالثة‪ :‬قوله تعالى‪" :‬فَل ْيَحْذَرِ ال ّذ ِي َ‬


‫ن يُخَالِف ُونَ ع َنْ أ ْمرِه ِ أن تُصِ يبَه ُ ْم فِت ْن َة ٌ أ ْو يُصِ يبَه ُ ْم عَذ ٌ‬

‫بعض قوله أ ْن يق َع في قلبِه ِ‬


‫َ‬ ‫ل الإمام ُ أحمد ‪-‬رحمه الل ّه‪( :-‬أتدري ما الفتنة ُ؟ =الفتنة ُ‪ :‬الشرك ُ؛ لعل ّه إذا ردّ‬ ‫‪-‬قا َ‬
‫ن المخالفة َكفر ٌ وشرك ٌ‪ ،‬وإنما من جهة ما يترت ّبُ على المخالفة‬ ‫يغ فَيَهلكْ )‪ ،‬فليس هذا من جهة أ ّ‬ ‫ن الز ِ‬
‫شيء ٌ م ِ َ‬
‫من العقاب وهو أ ْن يز ي َغ قلبُ المخال ِف؛ فكل ّما ازداد َ المسلم ُ امتثال ًا واستقامة ً وقرب ًا =ازداد َ خوفُه ُ من أنْ‬
‫ق‬
‫ل خوفُه ُ مما يلح ُ‬
‫يُفتنَ في دينه بسبب تركه لبعض الأوامر‪ ،‬وكل ّما ازداد َ المسلم ُ تهاون ًا وعصيان ًا وابتعاد ًا =ق ّ‬
‫القلبَ من الفتنة نتيجة َ الب ُعد عن امتثال الأوامر‪.‬‬

‫ظمت ْه ُ الشر يعة ُ؟‬


‫خاص لمَا ع ّ‬
‫التعظيم التفصيل ِيّ ال ّ ِ‬
‫ِ‬ ‫ل المسلم ُ إلى‬
‫كيف يص ُ‬
‫َ‬ ‫سـؤال‪:‬‬
‫حتف به في‬
‫=بمعرفة ِ مقام ومركز ية الأوامر والنواهي والحدود في الشر يعة‪ ،‬وذلك من خلال طبيعة ما ي ُ‬
‫الخطاب الشرعي؛‬
‫ظمٌ من جهة الأمر؛ ومثال ذلك‪ :‬الذكر ُ الاستثنائيّ لصلاة‬
‫ثواب مكرر ٌ استثنائيّ =فهذا مع ّ‬
‫ٌ‬ ‫احتف به‬
‫َ‬ ‫‪ -١‬فإ ْن‬
‫ات و َالصّ لَاة ِ ال ْو ُسْ ط َى و َقُوم ُوا لِل ّه ِ قَانتِيِنَ"؛ ولذا ينبغي أ ْن يكونَ عند َ‬
‫العصر في قوله تعالى‪" :‬ح َافِظ ُوا عَلَى الصّ لَو َ ِ‬
‫المسلم قدر ٌ من التعظيم الخاص لصلاة العصر أكثر ُ من غيرها‪.‬‬

‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪:‬‬


‫ظمٌ من جهة النهي؛ ومثال ذلك‪ :‬قو ُ‬
‫احتف به عقوبة ٌ مغلظة ٌ أو مضاعفة ٌ =فهذا مع ّ‬
‫َ‬ ‫‪ -٢‬وإ ْن‬
‫"م َن ت َرَك َ صَلَاة َ العَصْرِ فق َ ْد حَب َِط ع َمَلُه ُ"‪ ،‬وقوله ﷺ‪" :‬الذي تَف ُوتُه ُ صَلَاة ُ العَصْرِ‪ ،‬ك َأن ّما و ُت ِر َ أه ْلَه ُ وم َالَه ُ"‪ ،‬وقوله‬
‫ف علَى سِلْعَة ٍ لق َ ْد أ ْعط َى بهَا أكْ ثَر َ مم ّا‬
‫ل ح َل َ َ‬
‫ﷺ‪" :‬ثَلَاثَة ٌ لا يُكَل ِّمُهُم ُ الل ّه ُ يَوم َ الق ِيَامَة ِ‪ ،‬وَل َا يَنْظ ُر ُ ِإلَيْه ِ ْم‪ :‬رَج ُ ٌ‬

‫‪- 24 -‬‬
‫ل م َن َ َع‬
‫سلِمٍ‪ ،‬وَرَج ُ ٌ‬
‫ل مُ ْ‬
‫ل رَج ُ ٍ‬
‫ف علَى يَميِنٍ ك َاذِبَة ٍ بَعْد َ العَصْرِ؛ لِيَقْتَط ِ َع بهَا م َا َ‬
‫ل ح َل َ َ‬
‫ِب‪ ،‬وَرَج ُ ٌ‬
‫أ ْعط َى‪ ،‬و َهو ك َاذ ٌ‬
‫ل ما ل َ ْم تَعْم َلْ يَد َاك َ"‪.‬‬
‫ك ف َضْ ل ِي كما م َنَعْتَ ف َضْ َ‬ ‫ل م َاءٍ‪ ،‬في َقو ُ‬
‫ل الل ّه ُ‪ :‬اليوم َ أمْنَع ُ َ‬ ‫ف َضْ َ‬

‫َص م َا بَعْد َ‬
‫ل الإمام ُ النووي في شرح الحديث‪( :‬و َأمّا الْحَال ُِف ك َاذِب ًا بَعْد َ الْعَصْرِ فَمُسْتَحِقّ هَذ َا ال ْوَعِيد َ وَخ ّ‬ ‫‪-‬يقو ُ‬
‫ك)‪.‬‬ ‫ل و َالنّهَارِ و َغَيْرِ ذَل ِ َ‬ ‫الْعَصْرِ ل ِشَر َفِه ِ بِس َب َِب اجْ تِم ِ‬
‫َاع م َلَائِكَة ِ الل ّي ْ ِ‬

‫باب في تعظيم الزنا‪ ،‬بابُ ما جاء في تعظيم اليمين عند‬


‫ظمة في أبواب كُت ُب الس ُن ّة‪ٌ ( :‬‬
‫‪-‬ومن أمثلة الأمور المُع ّ‬
‫باب في تعظيم قتل المؤمن‪ ،‬بابُ تعظيم الـكذب على رسول الل ّه ﷺ‪ ،‬بابُ تعظيم السرقة)‪.‬‬
‫منبر الن ّب ِيّ ﷺ‪ٌ ،‬‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ يَعْم َ ُ‬
‫ل‬ ‫ن ر َسو ُ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬قو ُ‬
‫ل أبي بكر الصديق ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬لَسْتُ ت َارِك ًا شيئًا كا َ‬

‫به‪ ،‬إلّا عَم ِل ْتُ به‪ ،‬إن ِ ّي أخْ ش َى إ ْن ت َرَكْ تُ شيئًا م ِن أ ْمرِه ِ أ ْن أزِ ي َغ)‪ ،‬أخرجه البخاريّ ‪.‬‬

‫ج الجام ُع بينَ اجتناب النهي (الامتثال)‪ ،‬وبينَ استصحاب الخشية والخوف من عاقبة هذا‬
‫‪-‬هذا هو النموذ ُ‬
‫ل الذي ينبغي أ ْن يحتذيَ به المؤمن‪.‬‬
‫ج هو المثا ُ‬
‫النهي (التعظيم)‪ ،‬وهذا النموذ ُ‬

‫ل أبي بكر‪( :‬إن ِ ّي أخْ ش َى إ ْن ت َرَكْ تُ شيئًا م ِن أ ْمرِه ِ أ ْن أزِ ي َغ)‪ :‬خشِيَ أبو بكر أ ْن يترك َ ولو شيئًا واحدًا من‬
‫‪-‬قو ُ‬
‫ل أبي بكرٍ في حروب الردة‪( :‬والل ّه ِ ل َأقَاتِلَنّ م َن ف َر ّقَ بيْنَ الصّ لَاة ِ‬ ‫أمر الن ّب ِيّ ﷺ؛ ومن شواهد هذا المعنى‪ :‬قو ُ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ لَق َاتلَْتُه ُ ْم علَى مَن ْعِه َا)‪.‬‬
‫ن الز ّك َاة َ حَقّ المَالِ‪ ،‬والل ّه ِ لو م َن َع ُونِي ع َنَاقًا ك َانُوا يُؤَدّونَهَا إلى ر َسو ِ‬
‫والز ّك َاة ِ‪ ،‬فإ ّ‬

‫ل المهوِّنة ُ من أساس الدين وأوامر الشر يعة‪ ،‬وقد تأث ّر َ كثير ٌ‬


‫ن كث ُرت فيه الوسائ ُ‬
‫نعيش في زم ٍ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬نحن ‪-‬اليوم‪-‬‬
‫ن من القضايا المهمة للمربين في السياقات التربو ية‪:‬‬
‫من المسلمين ببعض صور هذا التهوين‪ ،‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫حرص على غرس تعظيم شعائر الدين في نفوس طلابهم على نفس درجة تعظيم الشر يعة؛ فتكونُ للصّ لوات‬
‫ال َ‬
‫الخمس قيمة ٌ عالية ٌ ج ًّ ّدا في نفوس الطلاب فلا يكونُ لفر يضة ٍ أخرى من الفرائض العملية قدر ٌ أعلى من‬
‫خوف وخشية ٌ عالية ٌ ج ًّ ّدا من المحر ّمات المغل ّظة في الشر يعة‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن هذا من أعظم‬ ‫ٌ‬ ‫الصّ لاة‪ ،‬وأ ْن يكونَ لديهم‬
‫المؤشرات في نجاح التربية‪.‬‬

‫‪-‬ومن الإشكال في كثيرٍ من السياقات التربو ية‪ :‬أ ْن يسو ّى بينَ المحر ّمات في درجاتها؛ فلا يستطي ُع الطالبُ‬
‫ظت الشر يعة ُ في تحريمه‪ ،‬وهذه‬
‫أ ْن يُفرِّقَ بينَ الأمر المختلف في حكمه بين الـكراهية والحرمة‪ ،‬وبين ما غل ّ ْ‬
‫التسو ية ُ من قلة الفقه في الدين‪.‬‬

‫‪- 25 -‬‬
‫الحديث الثاني‪ :‬عن عائشة َ ‪-‬رضي الل ّه عنها‪( -‬أ ّ‬
‫ن قُر َيْشًا أهَم ّه ُ ْم شَأْ نُ المَر ْأة ِ المخَ ْز ُوم ِي ّة ِ ال ّتي سَر َق َْت‪ ،‬ف َقالوا‪:‬‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬فَكَل ّم َه ُ‬
‫ِب ر َسو ِ‬
‫ن ز َيْدٍ‪ ،‬ح ّ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ؟‪ ،‬ف َقالوا‪ :‬وم َن َ‬
‫يج ْتَر ِئ ُ عليه إلّا أسَام َة ُ ب ُ‬ ‫وم َن يُك َل ِ ّم ُ ف ِيهَا ر َسو َ‬
‫ن‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪" :‬أت َ ْشف َ ُع في ح َ ٍّد م ِن حُد ُودِ الل ّه ِ"‪ ،‬ث ُم ّ قَام َ فَاخْ تَطَبَ ‪ ،‬ث ُم ّ قا َ‬
‫ل‪" :‬إن ّما أه ْل َكَ ال ّذ ِي َ‬ ‫ل ر َسو ُ‬ ‫أسَام َة ُ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫ِيف أقَام ُوا عليه الح َ ّد‪ ،‬وايْم ُ الل ّه ِ لو‬‫ِيف ت َرَكُوه ُ‪ ،‬وإذ َا سَر َقَ ف ِيهِم ُ الضّ ع ُ‬ ‫قَب ْلـَكُمْ‪ ،‬أ ّنه ُ ْم ك َانُوا إذ َا سَر َقَ ف ِيهِم ُ الش ّر ُ‬
‫ن فَاطِم َة َ بن ْتَ مُحَم ّدٍ سَر َق َْت لَقَطَعْتُ يَد َه َا")‪ ،‬أخرجه البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫أ ّ‬
‫ن من أهم‬
‫ل فيه حدٌ من عند الل ّه؛ فإ ّ‬
‫ن ما نز َ‬
‫يرتبط هذا الحديثُ ارتباطًا مباشر ًا بالباب؛ وذلك من جهة أ ّ‬
‫‪ُ -‬‬
‫لأي اعتبا ٍر كان‪ ،‬سواء ً الأنساب أو الاعتبارات الاجتماعية‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ل للتعطيل‬
‫صور تعظيمه‪ :‬أ ْن يكونَ غير َ قاب ٍ‬

‫ن من بطون العرب‪ ،‬وهذه المرأة ُ ابنة ُ ٍ‬


‫أخ لأبي سلَمة بن‬ ‫أي‪ :‬من بني مخزوم؛ وهي بط ٌ‬
‫‪(-‬المَر ْأة ِ المخَ ْز ُوم ِي ّة ِ)‪ْ :‬‬
‫ج أ ِمّ سلَمة‪ ،‬الذي بعد أ ْن تُوف ِ ّي َ عنها تزوّجَها الن ّبيّ ﷺ‪ ،‬هذه المرأة ُ‬
‫عبد الأسد المخزومي ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬زو ُ‬
‫ن لمسألة الاعتبارات‬ ‫قطع يديها وهي امرأة ٌ شر يفة ٌ؛ لما كان عندهم من شأ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫سرقت؛ أه َ ّم قريش شأنَ‬
‫ْ‬ ‫لم ّا‬
‫الاجتماعية وشرف القبيلة‪.‬‬
‫ل أح ًّ ّدا في حدود الل ّه؛ لذلك لم يفكروا في الذهاب إليه مباشرة ً‪ ،‬فأتوا أسامة بن زيد‬
‫‪-‬ولم يكن الن ّبيّ ﷺ يُجام ُ‬
‫ِب الن ّب ِيّ ﷺ‬
‫ن زيد ًا كان ح ّ‬
‫‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬حت ّى يكل ِ ّم َ الن ّبيّ ﷺ‪ ،‬ليدخلوا إلى الن ّب ِيّ ﷺ من باب المحبة ‪-‬لأ ّ‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ مع أسامة بن زيد تعامّلًا فيه ش ّدة ٌ‬
‫وابن حِب ِّه زيد بن حارثة رضي الل ّه عنهما‪ ،-‬ومع ذلك؛ تعام َ‬
‫وعتاب؛ فقال ﷺ‪" :‬أت َ ْشف َ ُع في ح َ ٍّد م ِن حُد ُودِ الل ّه ِ"‪ ،‬ثم ّ بي ّن ﷺ خطورة َ أ ْن يكونَ هناك مثل هذه‬
‫ٌ‬ ‫ح‬
‫ووضو ٌ‬
‫ل بأبعد ما يُمكن أ ْن يُتصو ّر َ فقال ﷺ‪" :‬وايْم ُ الل ّه ِ لو أ ّ‬
‫ن فَاطِم َة َ بن ْتَ مُحَم ّدٍ سَر َق َْت‬ ‫الاستثناءات؛ فضربَ المث َ‬
‫أشرف نسبًا من تلك المرأة المخزومية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫لَقَطَعْتُ يَد َه َا"؛ وفاطمة ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬هي‬

‫ًّ‬
‫تعظيمي ّا كبير ًا لحدود الل ّه‪ ،‬وهذا ما ينبغي أ ْن يُحتذى به‬ ‫‪-‬ترك َ هذا الأسلوبُ الن ّبويّ في نفوس الصحابة أثر ًا‬
‫في السياق التربوي والإصلاحي‪.‬‬

‫ن‬
‫ن ب ِن حُذ َيْف َة َ ب ِ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن عبد الل ّه بن عباس ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪( :‬قَدِم َ ع ُيَي ْن َة ُ ب ُ‬
‫ن حِصْ ِ‬
‫أصحَابَ‬
‫ن يُدْن ِيه ِ ْم ع ُم َر ُ‪ ،‬وكانَ الق ُر ّاء ُ ْ‬
‫ن الن ّفَرِ ال ّذ ِي َ‬
‫ن‪ ،‬وكانَ م ِ َ‬
‫س ب ِن حِصْ ٍ‬
‫ل علَى اب ْ ِن أخِيه ِ الحُرِ ّ ب ِن قَي ْ ِ‬
‫ب َ ْدرٍ‪ ،‬فَنَز َ َ‬
‫ك وجْه ٌ عِنْد َ هذا‬
‫ن أخِي‪ ،‬هلْ ل َ‬
‫ل ع ُيَي ْن َة ُ ل ِاب ْ ِن أخِيه ِ‪ :‬يا اب ْ َ‬
‫كه ُول ًا ك َانُوا أ ْو شُب ّان ًا‪ ،‬ف َقا َ‬
‫س ع ُم َر َ ومُشَاوَر َتِه ِ‪ُ ،‬‬
‫مج ْل ِ ِ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ل‪ :‬يا اب ْ َ‬
‫س‪ :‬فَاسْ ت َأْ ذَنَ لِع ُيَي ْن َة َ‪ ،‬فَلَم ّا دَخَلَ‪ ،‬قا َ‬
‫ن ع َب ّا ٍ‬
‫ل اب ُ‬
‫ك عليه‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪ :‬سَأسْ ت َأْ ذِنُ ل َ‬
‫الأم ِيرِ فَتَسْت َأْ ذِنَ لي عليه؟ قا َ‬
‫ل الحُر ّ‪ :‬يا‬ ‫اب‪ ،‬والل ّه ِ ما تُعْط ِينَا الجَزْلَ‪ ،‬وما َ‬
‫تحْكُم ُ بي ْنَنَا بالع َ ْدلِ‪ ،‬فَغ َضِ بَ ع ُم َر ُ‪ ،‬حت ّى ه َ ّم بأ ْن يَق َ َع به‪ ،‬ف َقا َ‬ ‫ط ِ‬‫الخ َ ّ‬
‫‪- 26 -‬‬
‫ن‬
‫ن هذا م ِ َ‬
‫ن الجا َه ِلِينَ"‪ ،‬وإ ّ‬
‫ِض ع َ ِ‬
‫ْف وأ ْعر ْ‬‫ل لِنَب ِيِّه ِ ﷺ‪" :‬خُذِ العَفْو َ وأْ م ُْر بالعُر ِ‬
‫ن الل ّه َ تَع َالَى قا َ‬
‫أم ِير َ المُؤْم ِنِينَ‪ ،‬إ ّ‬
‫اب الل ّه ِ)‪ ،‬أخرجه البخاريّ ‪.‬‬ ‫الجا َه ِلِينَ‪ ،‬ف َوَالل ّه ِ ما ج َاوَز َه َا ع ُم َر ُ حِينَ تَلَاه َا عليه‪ ،‬وكانَ وق ّافًا عِنْد َ كِت َ ِ‬

‫قف عندها بالن ّظر‬


‫جلس عمر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬مليئًا بالحكمة والمواقف النافعة التي ينبغي أ ْن يُتو ّ َ‬
‫‪-‬كان م ُ‬

‫ن عباسٍ‪( :‬وكانَ الق ُر ّاء ُ‬


‫والتأمّل‪ ،‬ومن جُملة ذلك‪( :‬معيارُه ُ في اختيار المداومين على مجلسه)؛ كما قال اب ُ‬
‫ن حجرٍ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في شرح الحديث‪( :‬الق ُر ّاءُ‪:‬‬
‫كه ُول ًا ك َانُوا أ ْو شُب ّان ًا)؛ قال اب ُ‬
‫س ع ُم َر َ ومُشَاوَر َتِه ِ‪ُ ،‬‬
‫مج ْل ِ ِ‬
‫أصحَابَ َ‬
‫ْ‬
‫أي‪ :‬العلماء الع ُب ّاد)‪ ،‬وهذا المعنى للفظة (الق ُر ّاء) مشهور ُ الاستعمال في القرون الأولى‪ ،‬ومن شواهد هذا‬
‫الاستعمال‪:‬‬
‫ل حذيفة بن اليمان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬يا مَعْشَر َ الق ُر ّاء ِ اسْ ت َق ِيم ُوا فق َ ْد سَبَقْتُم ْ َ‬
‫سبْق ًا بَع ِيدًا‪ ،‬فإ ْن أخ َ ْذتُم ْ‬ ‫‪ -١‬قو ُ‬

‫ُ‬ ‫ن حجرٍ في شرحه‪( :‬قوله‪ :‬يا مَعْشَر َ الق ُر ّاءِ؛ أي‪ :‬العلماء‬ ‫حافظ اب ُ‬
‫يَمِينًا وشِمال ًا‪ ،‬لق َ ْد ضَلَل ْتُم ْ ضَلال ًا بَع ِيدًا)‪ ،‬قال ال ُ‬
‫ن والس ُن ّة ِ‪ ،‬الع ُب ّاد ُ)‪.‬‬
‫بالقرآ ِ‬
‫ن الأنْصَارِ‪ ،‬ك ُن ّا‬
‫ل أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬في مقتل الق ُر ّاء في بئر معونة‪( :‬فأم َ ّده ُ ْم بسَب ْعِينَ م ِ َ‬
‫‪ -٢‬قو ُ‬
‫ل‪ ،‬حت ّى ك َانُوا ببِئْرِ م َع ُونَة َ قَتَلُوه ُ ْم وغَدَر ُوا‬
‫يح ْتَط ِب ُونَ بالنّهَارِ‪ ،‬و يُصَل ّونَ بالل ّي ْ ِ‬
‫نُسَمِّيهِم ُ الق ُر ّاء َ في زَم َانِهِمْ‪ ،‬ك َانُوا َ‬
‫به ِ ْم)‬

‫اب الل ّه ِ)‪ :‬أي‪ :‬حيثما جاءه ّ‬


‫نص من‬ ‫‪-‬قوله‪( :‬ف َوَالل ّه ِ ما ج َاوَز َه َا ع ُم َر ُ حِينَ تَلَاه َا عليه‪ ،‬وكانَ وق ّافًا عِنْد َ ك ِت َ ِ‬
‫جاءت به الشر يعة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫=وقف عنده‪ ،‬وهذا فرعٌ عن التعظيم المُجمل لما‬
‫َ‬ ‫كتاب الل ّه‬
‫بالنص الشرع ِيّ على داعي الن ّفس الدافع له بسبب هو ًى‬
‫ّ ِ‬ ‫ن‬
‫‪-‬معنى الوقوف‪ :‬هو استطاعة ُ المؤمن أ ْن يُهيم َ‬
‫طابيّ‬
‫بنص من كتاب الل ّه أو من سُن ّة رسوله ﷺ‪ ،‬كما قال الإمام ُ الخ ّ‬
‫بوقف نفسه عن مرادها ّ ٍ‬
‫ِ‬ ‫معي ّنٍ‪ ،‬وذلك‬
‫س وبينَ مضمراتِها وعقائد َها الراسخة ِ فيها)؛ وهنا ميدانُ‬
‫ل بينَ الن ّف ِ‬
‫‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في وصف القرآن‪( :‬يحو ُ‬
‫الإثبات العملي لتعظيم الوحي‪.‬‬

‫‪-‬قوله‪( :‬فَغ َضِ بَ ع ُم َر ُ‪ ،‬حت ّى ه َ ّم بأ ْن يَق َ َع به)‪ :‬أي‪ :‬ه ّم عمر أ ْن يضربَ عيينة لِما في كلامه من جرأة ٍ وادعاء ٍ‬

‫الموقف دونَ‬
‫َ‬ ‫حق أحدٍ من عامّة الن ّاس لما رَضِيَ أ ْن يمرر َ‬
‫كاذب في وصفه لعمر‪ ،‬ولو كان هذا الكلام ُ في ّ ِ‬
‫ٍ‬
‫ل بينَ نفسه وبينَ أ ْن تأخذ َ حقها؛‬
‫أ ْن يأخذ َ لنفسه حقها‪ ،‬لـكن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬استطاع أ ْن يحو َ‬
‫ن الجا َه ِلِينَ"؛ وفي هذا غاية ُ التعظيم‬
‫ِض ع َ ِ‬
‫ْف وأ ْعر ْ‬
‫فأوقف غضبه لم ّا سَم ِ َع قوله تعالى‪" :‬خُذِ العَفْو َ وأْ م ُْر بالعُر ِ‬
‫َ‬
‫ل إليه المؤمن‪.‬‬ ‫الذي ينبغي أ ْن يص َ‬

‫‪- 27 -‬‬
‫ن نفسه في مثل هذه المواطن‪ ،‬التي تعارضُه ُ فيها رغباتُ نفسه؛ فإ ْن‬
‫‪-‬وعلى ذلك؛ ينبغي أ ْن يختبر َ المؤم ُ‬
‫استطاعَ أ ْن يتغل ّبَ على نفسه بحدود الشر يعة =كان هذا من أشرف الأعمال التي يمكن أ ْن يعمل َها‪.‬‬

‫ل ذلك‪:‬‬
‫مثاـ ُ‬
‫‪-‬حديثُ عبد الل ّه بن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬في الثلاثة الذين انسد َ عليهم الغار ُ؛ فأخذوا يدعون الل ّه بصالح‬
‫كانت لي ابنة ُ‬
‫ْ‬ ‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬وقال الآخر ُ‪ :‬الله ّم إنه‬
‫ج الل ّه ُ عنهم‪ ،‬والشاهد ُ من الحديث‪ :‬قو ُ‬
‫أعمالهم حت ّى يفرِ ّ َ‬
‫بت حتى آتيها بمائة ِ دينارٍ‪ ،‬فتعبتُ حتى‬ ‫ل النساءَ‪ ،‬وطلبتُ إليها نفس َها فأ ْ‬ ‫ُحب الرجا ُ‬‫ع ّمٍ‪ ،‬أحببتُها كأش ّدِ ما ي ّ‬
‫ِ‬
‫تفتح الخات َم َ إلا بح ّق ِه‪،‬‬ ‫قالت‪ :‬يا عبد َ الل ّه ِ ّ ِ‬
‫اتق الل ّه َ ولا‬ ‫ْ‬ ‫جمعتُ مائة َ دينارٍ‪ ،‬فجئتُها بها‪ ،‬فلم ّا وقعتُ بين رجْلَيْها‪،‬‬
‫فقمتُ عنها"‪.‬‬
‫اتق الل ّه َ" =فقام َ من ذلك المقام‪،‬‬ ‫قالت له المرأة ُ‪" :‬يا عبد َ الل ّه ِ ّ ِ‬
‫ْ‬ ‫َت به نفس ُه ُ لهذا الفعل‪،‬‬
‫‪-‬فبعد َ أ ْن انطلق ْ‬
‫اتق الل ّه َ"‪،‬‬ ‫أرادت الانطلاقَ إليه‪ ،‬لا لشيء ٍ إلا لأن ّه قي َ‬
‫ل له‪ِ ّ " :‬‬ ‫ْ‬ ‫ك بزمام نفسه وقادها إلى عكس ما‬ ‫وأمس َ‬
‫بسيف من زواجر ِ الشر يعة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ل بينَ نفسه وبينَ انطلاق إراداتها‬
‫فكان من أفضل الأعمال التي عملها‪ :‬أ ْن يحو َ‬
‫ل إلى الل ّه به كما أشار عليهم أحد ُ ثلاثتهم بقوله‪" :‬إن ّه لا ي ُ ْنج ِيك ُ ْم م ِن هذِه الصّ خْ رَة ِ إلّا أ ْن ت َ ْدع ُوا‬ ‫ولذلك؛ توسّ َ‬
‫ن عملَه هذا من أفضل الأعمال‬ ‫ل ذلك أ ّ‬ ‫بعض الشيء =د ّ‬ ‫انفرجت عنهم الصخرة ُ َ‬
‫ْ‬ ‫الل ّه َ بصَالِ ِح أعْمَالـِك ُ ْم"‪ ،‬فل ّما‬
‫التي عملها‪.‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫ح المعاييرِ‬
‫المحاضرة الرابعة‪ :‬معيار ُ الوحي وتصحي ُ‬
‫س النظرِ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وتصحيح الن ّب ِيّ ﷺ لمقايي ِ‬ ‫الوحي‪،‬‬
‫ِ‬ ‫باب في ضبطِ الأفها ِم على معيارِ‬
‫ٌ‬
‫أسباب الضّ لال‪ :‬ردّ الحقّ ِ بمعايير ِ نظرٍ خاطئة ٍ‬
‫ِ‬ ‫ن م ِن‬
‫وأ ّ‬
‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫‪-‬هذا البابُ يتحدثُ عن أمرين اثنين‪:‬‬
‫الأوّل‪ :‬معايير ُ الن ّاس‪ :‬فما من أمّة ٍ ولا بيئة ٍ إلا وتتكوّنُ لديها معايير ُ معينة ٌ؛ إمّا من خلال الثقافة أو التاريخ‬
‫ن التعليم َ العامّ في البلدان جزء ٌ مما يُسهم ُ في تكوين بعض‬
‫ل ذلك ‪-‬اليوم‪ :-‬نجد أ ّ‬ ‫أو مكوِ ّنات اله ُو ية‪ ،‬ومثا ُ‬
‫صة ً متعل ِّقة ً بانتماءات معينة‪.‬‬
‫المعايير العامّة‪ ،‬وأيضًا؛ قد نجد ُ معايير َ خا ّ‬
‫ك بسهولة ٍ‪ ،‬بينما يع ّد المعيار ُ‬
‫ن أ ْن يُفك َ‬
‫‪-‬ومفهوم ُ المعايير أخطر ُ من أفراد التصو ّرات الجزئية؛ إذ التصو ّر يُمك ُ‬
‫ل الأفكار والمعلومات أو تردّها‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬أن ّه قد يكون هناك معيار ٌ في الذي يُص ّدر ُ في‬
‫ل دخو َ‬
‫بوابة ً؛ تقب ُ‬
‫ن‪ ،‬هذه كلها معايير‪.‬‬
‫الن ّاس‪ ،‬بأ ْن يكونَ لديه شهادة ٌ علمية ٌ أو خلفية ٌ اجتماعية ٌ معينة ٌ أو انتماء ٌ معي ٌ‬

‫ن المعيار َ هو إطار ٌ واس ٌع‬


‫أمر مركزيّ في الإصلاح؛ ذلك أ ّ‬
‫ح المعايير ٌ‬‫ح الوحي للمعايير‪ :‬تصحي ُ‬
‫الثانـي‪ :‬تصحي ُ‬
‫ل مع أفراد القضايا الجزئية فحسب‪ ،‬بل يجم ُع بينَ‬ ‫ل تحته جملة ٌ من القضايا‪ ،‬ومن فقه المصلح‪ :‬ألا يتعام َ‬
‫يدخ ُ‬
‫إصلاح المعايير والأطُر وبينَ إصلاح أفراد القضايا والمعلومات الجزئية‪.‬‬

‫وظف هذه‬
‫معلومات كثيرة ٌ صحيحة ٌ‪ ،‬ثم بمعيا ٍر واحدٍ خاطئ‪ ،‬ت ُ ُ‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬من الإشكالات ‪-‬اليوم‪ -‬أن ّه قد تُبنى‬
‫معلومات صحيحة ً‪ ،‬لـكن بمعيا ٍر‬
‫ٍ‬ ‫ل خاطئ؛ ومن ذلك‪( :‬تجد طلبة َ العلم يتلقون‬
‫المعلوماتُ الصحيحة ُ في مجا ٍ‬
‫ل خاط ٍئ؛ كن ُصرة م َن لا يستحق أو في الخصومات والطعن في‬
‫المعلومات في مجا ٍ‬
‫ِ‬ ‫معي ّنٍ؛ قد يوظفون هذه‬
‫العلماء وإسقاطهم)‪ ،‬وعليه؛ يجب على المصلح أ ْن يفقه َ مفهوم َ تصحيح المعايير وضبطها من خلال الوحي‪.‬‬

‫نصوص الباب تعود ُ إلى أمرين‪:‬‬


‫َ‬ ‫ن‬
‫‪-‬وعلى ما تق ّدم؛ فإ ّ‬
‫حقِ‪ ،‬أو عند َ المسلمين؛ وهي المتعل ِّقة ُ‬
‫الأوّل‪ :‬ذكر ُ المعايير الخاطئة‪ :‬سواء ً عند َ الكافرين؛ وهي المتعل ِّقة ُ بردِّ ال ّ‬
‫ببعض التصو ّرات المعيار ية الخاطئة‪.‬‬
‫ح المعايير الخاطئة‪ :‬وسيكونُ التركيز ُ على هذا الأمر أكثر في المحاضرة‪.‬‬
‫الثانـي‪ :‬تصحي ُ‬

‫‪- 29 -‬‬
‫أوّل ًا‪ :‬الآيات‪:‬‬
‫‪-‬بعثَ الل ّه ُ الأنبياء َ إلى أم ٍم لديهم معايير‪ ،‬فكانوا يحاكمون أنبياء َهم إلى تلك المعايير؛ ومن شواهد ذلك ما يلي‪:‬‬
‫ك الْأ ْرذ َلُونَ"‪ ،‬هنا معيار ُ الاتباع من ع ِلية الن ّاس‪.‬‬
‫ك و َات ّبَع َ َ‬
‫ن لَ َ‬
‫‪ -١‬قوله تعالى‪" :‬قَالُوا أنُؤْم ِ ُ‬
‫ل و َِإن ّا لَنَر َاك َ ف ِينَا ضَع ِيف ًا"‪ ،‬هنا معيار ُ القو ّة‪.‬‬
‫شعَي ْبُ م َا ن َ ْفق َه ُ كَث ِير ًا مِّم ّا تَق ُو ُ‬
‫‪ -٢‬قوله تعالى‪" :‬قَالُوا ي َا ُ‬
‫ل"‪ ،‬هنا معيار ُ‬
‫ن ال ْمَا ِ‬ ‫ن أحَقّ ب ِال ْمُل ْكِ مِن ْه ُ و َل َ ْم يُؤ ْتَ َ‬
‫سع َة ً مّ ِ َ‬ ‫نح ْ ُ‬
‫ك عَلَي ْنَا و َ َ‬
‫‪ -٣‬قوله تعالى‪" :‬قَالُوا أن ّى يَكُونُ لَه ُ ال ْمُل ْ ُ‬
‫المال‪.‬‬
‫ل ِإلَيْه ِ م َل َكٌ فَيَكُونَ مَع َه ُ‬
‫ق لَوْل َا أنز ِ َ‬
‫طع َام َ و َيَمْش ِي فِي الْأسْ وَا ِ‬
‫ل ال ّ‬
‫ل ي َأْ ك ُ ُ‬
‫ل هََٰذ َا الر ّسُو ِ‬
‫‪ -٤‬قوله تعالى‪" :‬و َقَالُوا م َا ِ‬
‫نَذِير ًا"‪.‬‬
‫‪ -٥‬قوله تعالى‪" :‬فَلَوْل َا ألْقِ َي عَلَيْه ِ أسْ وِرَة ٌ مّ ِن ذ َه ٍَب أ ْو ج َاء َ مَع َه ُ ال ْمَلَائِك َة ُ مُقْتَرِنِينَ"‪ ،‬هنا معيار ُ المال‪ ،‬والشاهد‪.‬‬
‫ض يَنب ُوعًا"‪.‬‬
‫ن الْأ ْر ِ‬
‫ك حَت ّى ت َ ْفجُر َ لَنَا م ِ َ‬
‫ن لَ َ‬
‫‪ -٦‬قوله تعالى‪" :‬و َقَالُوا لَن ن ّؤْم ِ َ‬

‫ج هذه الآياتُ تحتَ ذكر ِ المعايير الخاطئة؛ وقد ذُك ِر َْت هذه الآياتُ عن أقوا ٍم مختلفين؛ منهم‪ :‬قوم ُ نوح‬
‫‪-‬تندر ُ‬
‫وقوم ُ شعيب وبني إسرائيل‪ ،‬ومشركي قريش‪ ،‬وقوم فرعون‪ ،‬ولـكنهم متقاربين في معاييرهم الباطلة وإ ْن‬
‫ن م ِن‬
‫ل ال ّذ ِي َ‬
‫ك قَا َ‬
‫ن ل َا يَعْلَم ُونَ لَوْل َا يُكَل ِّمُنَا الل ّه ُ أ ْو ت َأْ تِينَا آي َ ٌۗة كَذََٰل ِ َ‬
‫ل ال ّذ ِي َ‬
‫ت أزمنت ُهم؛ كما قال تعالى‪" :‬و َقَا َ‬
‫اختلف َ ْ‬
‫ن الحقّ واحدٌ؛ متى ابتعد َ‬
‫ل قَو ْلِه ِ ْم تَش َابَه َْت قُلُو بُه ُ ْم"؛ وهذا التشابه ُ في معايير أهل الباطل بسبب أ ّ‬
‫قَبْلِه ِم مِّث ْ َ‬
‫ختلف صور ُ هذه الهوى في نفوسهم من حيث‬
‫اس عنه؛ فإ ّنهم يشتركون في أصل اتباع الهوى‪ ،‬ثم ّ ت ُ‬
‫الن ّ ُ‬
‫الإشكالات والمعايير الخاطئة‪.‬‬

‫ج تحتَ تصحيح المعايير؛ منها‪:‬‬


‫‪-‬وأمّا الآياتُ التي تندر ُ‬
‫كحُوا‬
‫َات حَت ّى يُؤْم ِنّ وَل َأمَة ٌ مّؤْم ِن َة ٌ خَيْر ٌ مّ ِن مّشْرِكَة ٍ و َلَوْ أعْجَبَتْك ُ ْم وَل َا تُن ِ‬
‫كحُوا ال ْمُشْرِك ِ‬
‫‪ -١‬قوله تعالى‪" :‬وَل َا تَن ِ‬
‫ك ي َ ْدع ُونَ ِإلَى الن ّارِ و َالل ّه ُ ي َ ْدع ُو ِإلَى الْجنَ ّة ِ‬
‫ك و َلَو ْ أعْجَبَك ُ ْم أولََٰئ ِ َ‬
‫ن خَيْر ٌ مّ ِن مّشْر ِ ٍ‬
‫ال ْمُشْرِكِينَ حَت ّى يُؤْم ِن ُوا و َلَعَبْدٌ مّؤْم ِ ٌ‬
‫و َال ْمَغْف ِرَة ِ ب ِِإذْنِه ِ"‪.‬‬
‫ن الت ِّج َارَة ِ‬ ‫‪ -٢‬قوله تعالى‪" :‬و َِإذ َا ر َأوْا ِتجَارَة ً أ ْو لَه ْو ًا انف َضّ وا ِإلَيْهَا و َت َرَكُوك َ قَائِمًا ق ُلْ م َا عِند َ الل ّه ِ خَيْر ٌ مّ ِ َ‬
‫ن الل ّ ْهوِ وَم ِ َ‬
‫و َالل ّه ُ خَي ْر ُ الر ّازِق ِينَ"‪.‬‬
‫‪ -٣‬قوله تعالى‪" :‬م َا عِند َك ُ ْم يَنفَد ُ وَم َا عِند َ الل ّه ِ ب َا ٍ‬
‫ق"‪.‬‬

‫ن الل ّه َ اصْ طَف َاه ُ عَلَيْك ُ ْم وَز َادَه ُ ب َ ْسطَة ً فِي ال ْعِلْم ِ و َالْجِس ْ ِم"‪.‬‬
‫ل ِإ ّ‬
‫‪ -٤‬قوله تعالى‪" :‬قَا َ‬
‫‪- 31 -‬‬
‫ثانيًا‪ :‬الأحاديث‪:‬‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ و َهو م ُضْ طَ ِ‬
‫ج ٌع علَى حَصِ يرٍ‪،‬‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن عمر َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬فَدَخ َل ْتُ علَى رَسُو ِ‬
‫ل‬
‫خز َانَة ِ رَسُو ِ‬
‫جن ْبِه ِ‪ ،‬فَنَظَر ْتُ بب َصَرِي في ِ‬ ‫َليس عليه غَي ْرُه ُ‪ ،‬وإذ َا الحَصِ ير ُ ق ْد أث ّر َ في َ‬
‫فَجل ََسْتُ ‪ ،‬فأدْنَى عليه ِإز َارَه ُ و َ‬
‫ل‪:‬‬
‫ق مُع َل ّقٌ‪ ،‬قا َ‬‫اع‪ ،‬وَمِثْلِه َا ق َرَظًا في نَاحِيَة ِ الغُر ْفَة ِ‪ ،‬وإذ َا أف ِي ٌ‬ ‫نحْوِ الصّ ِ‬ ‫الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬ف َِإذ َا أن َا بقَب ْ َ‬
‫ضة ٍ م ِن شَع ِيرٍ َ‬
‫اب؟"‪ ،‬قُلتُ ‪ :‬يا نَبِ ّي الل ّهِ‪ ،‬و َما لي لا أبْكِي و َهذا الحَصِ ير ُ ق ْد أث ّر َ‬
‫ط ِ‬‫ن الخ َ ّ‬
‫ك يا اب ْ َ‬
‫ل‪" :‬ما يُبْكِي َ‬
‫َت عَي ْنَايَ ‪ ،‬قا َ‬
‫فَاب ْتَدَر ْ‬
‫ل‬
‫كسْر َى في الثِمّا َرِ و َالأنْهَارِ‪ ،‬و َأن ْتَ رَسُو ُ‬
‫ك لا أر َى ف ِيهَا ِإلّا ما أر َى‪ ،‬وَذ َاك َ قَي ْصَر ُ و َ ِ‬
‫خز َانَت ُ َ‬
‫جن ْبِكَ‪ ،‬و َهذِه ِ‬
‫في َ‬
‫خرَة ُ و َلَهُم ُ الد ّن ْيَا؟"‪،‬‬
‫ن لَنَا الآ ِ‬
‫اب‪ ،‬أل َا تَرْض َى أ ْن تَكُو َ‬
‫ط ِ‬‫ن الخ َ ّ‬
‫ل‪" :‬يا اب ْ َ‬
‫ك! ف َقا َ‬
‫خز َانَت ُ َ‬ ‫الل ّه ِ ﷺ و َ َ‬
‫صفْوَتُه ُ‪ ،‬و َهذِه ِ‬
‫قُلتُ ‪ :‬بلََى)‪ ،‬أخرجه البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫خرَة ُ‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬أل َا تَرْض َى أ ْن تَكُونَ لَنَا الآ ِ‬
‫ج هذا الحديثُ تحتَ تصحيح المعايير؛ وشاهد ُ ذلك‪ :‬قو ُ‬
‫‪-‬يندر ُ‬
‫و َلَهُم ُ الد ّن ْيَا؟"‪.‬‬
‫نحْوِ الصّ ِ‬
‫اع‪ ،‬وَمِث ْلِه َا ق َرَظًا)‪ :‬القرظ‪ :‬هو ورقُ شجرٍ ي ُدب ُغ به جلد ُ‬ ‫ضة ٍ م ِن شَع ِيرٍ َ‬
‫ل عمر َ‪( :‬ف َِإذ َا أن َا بقَب ْ َ‬
‫‪-‬قو ُ‬
‫خلاف كبير ٌ بين الفقهاء في طهارة جلود الميتة)‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫الحيوانات حت ّى يطه ُر َ؛ (وهناك‬
‫سالت بالدموع‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أي‪:‬‬
‫َت عَي ْنَايَ )‪ْ :‬‬
‫أي‪ :‬جلد‪ ،‬و(فَاب ْتَدَر ْ‬
‫ق)‪ :‬أفيق‪ْ :‬‬
‫ق مُع َل ّ ٌ‬
‫ل عمر َ‪( :‬وإذ َا أف ِي ٌ‬
‫‪-‬قو ُ‬
‫حديث‪:‬‬
‫فوائد ُ ال ِ‬
‫وصفت أمّ المؤمنين عائشة ‪-‬رضي‬
‫ْ‬ ‫يعيش حياة ً غير َ م ُترفة ٍ؛ كما‬
‫ُ‬ ‫‪ -١‬فائدة ٌ في حال الن ّب ِيّ ﷺ؛ فقد كان ﷺ‬
‫ت في السنة السابعة للهجرة‬ ‫ح ْ‬ ‫ن التمّْرِ)‪ ،‬وقد فُت ِ َ‬
‫خي ْب َر ُ‪ ،‬قُل ْنا‪ :‬الآنَ نَشْب َ ُع م ِ َ‬
‫َت َ‬ ‫الل ّه عنها‪ -‬ذلك بقولها‪( :‬لَم ّا فُتِح ْ‬
‫وقالت أيضًا‪( :‬إ ْن ك ُن ّا لَنَنْظ ُر ُ إلى الهِلَالِ‪ ،‬ث ُم ّ الهِلَالِ‪،‬‬
‫ْ‬ ‫سنوات وشيء ٍ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وما بق َي من ع ُم ُرِ الن ّب ِيّ ﷺ إلا ثلاثة ُ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ ن َار ٌ)‪ ،‬ومع هذا الضيق في ذات اليد؛ كان‬ ‫ات ر َسو ِ‬
‫َت في أب ْي َ ِ‬ ‫ثَلَاثَة َ أه ِل ّة ٍ في شَهْر َيْنِ؛ وما أوقِد ْ‬
‫ق بدلائل الن ّب ُو ّة‪.‬‬
‫أمر متعل ّ ِ ٌ‬
‫ح الصدر‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫ل الل ّه ﷺ صابر ًا محتسبًا منشر َ‬ ‫رسو ُ‬
‫ق بأمر الدعوة‪ ،‬ومنها ما‬
‫بأنواع من الابتلاءات والشدائد مختلفة ِ المصادر؛ منها ما يتعل ّ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫‪ -٢‬مرور ُ الن ّب ِيّ ﷺ‬
‫مر بها الن ّبيّ ﷺ بسبب‬
‫ق بالابتلاءات التي ّ‬
‫ق بأبياته؛ وهذا الحديثُ يتعل ّ ُ‬‫ق بأصحابه‪ ،‬ومنها ما يتعل ّ ُ‬
‫يتعل ّ ُ‬
‫ل بيوته ﷺ؛ حت ّى اعتزلهم ﷺ‪.‬‬ ‫مشكلات داخ َ‬
‫ٍ‬
‫ل الصحابة ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬مع الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬وحرص ُهم الشديد أ ْن يكونوا بقربه؛ ومن ذلك‪ :‬تأث ّر ُ عمر َ ‪-‬‬
‫‪ -٣‬حا ُ‬
‫ل عمر َ في بعض روايات الحديث‪( :‬لأقولنّ شيئًا أضحك به‬
‫رضي الل ّه عنه‪ -‬وبكائ ُه ُ لحال الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬وأيضًا؛ قو ُ‬
‫ضلوا به على غيرهم‪.‬‬
‫النبي ﷺ)‪ ،‬وهذا القربُ من الصحابة للن ّب ِيّ ﷺ هو مما ف ُ ِّ‬
‫‪- 30 -‬‬
‫ل‬
‫‪ -٤‬أثر ُ مركز ية الآخرة في نفس المسلم على صبره وزهده؛ مما يجعل ُه ُ يستعلي على النقص الدنيوي؛ ومنه قو ُ‬
‫خرَة ُ و َلَهُم ُ الد ّن ْيَا؟"‪.‬‬
‫ن لَنَا الآ ِ‬
‫الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬أل َا تَرْض َى أ ْن تَكُو َ‬
‫فيعيش في رغدٍ من‬
‫ُ‬ ‫ن الل ّه َ قد يؤتي الكافر َ الدنيا؛‬
‫ح الن ّب ِيّ ﷺ لمعيار الدنيا والآخرة؛ والمعنى‪ :‬أ ّ‬
‫‪ -٥‬إصلا ُ‬
‫العيش مع كفره‪ ،‬وقد يمن ُع عن المؤمن الدنيا ابتلاءً؛ لي ّدخر َ له الآخرة مثوبة ً وأجر ًا على الصبر‪.‬‬

‫ن وجن ّة ُ ال ْكافرِ"‪،‬‬ ‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬الد ّنيا سج ُ‬


‫ن المؤم ِ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫أخرجه مسلم ٌ‪.‬‬
‫ن محل ًا لثواب‬ ‫‪-‬يُحدِثُ هذا الحديثُ انقلاب ًا معيار ًّي ّا فيم َن يتدب ّر ُه ُ ويتفك ّر ُ فيه؛ إذ لم يخل ِ‬
‫ق الل ّه ُ الدنيا لتكو َ‬
‫يعيش في سعادة ٍ بعيدًا عن الابتلاءات طالما أن ّه طائ ٌع لل ّه‪،‬‬
‫َ‬ ‫ن أن ّه يجبَ أ ْن‬
‫المؤمنين‪ ،‬فلا ينبغي أ ْن يظنّ المؤم ُ‬
‫إذ لا ب ُدّ أ ْن يُختبر َ ويُبتلى في حقيقة إيمانه‪.‬‬

‫ل هو‬
‫ن"؛ ليس في مجر ّد الابتلاءات فقط‪ ،‬بل المقصود ُ الأوّ ُ‬ ‫‪-‬والمعنى في قوله ﷺ‪" :‬الد ّنيا سج ُ‬
‫ن المؤم ِ‬
‫ن سجي ٌ‬
‫ن ومقيد ُ الحر ية تُجاه رغباته وأهواءه ‪-‬التي ركّ بها الل ّه فيه‪ -‬بمجموعة ٍ من‬ ‫التكاليف الشرعية؛ إذ المؤم ُ‬
‫ُ‬
‫حب القي ْد َ في‬
‫ي ّ‬‫بات في الد ِّي ِن)‪ ،‬وكان الن ّبيّ ﷺ ُ‬
‫ل‪ :‬القَيْد ُ ث َ ٌ‬
‫تكاليف الشرع‪ ،‬وقد ورد َ في البخاري‪( :‬و يُقا ُ‬
‫المنام‪.‬‬
‫ات‬
‫ن الش ّه َو َ ِ‬
‫ن مَم ْن ُوعٌ فِي الد ّن ْيَا م ِ َ‬
‫سجُو ٌ‬
‫ن مَ ْ‬
‫ل مُؤْم ِ ٍ‬
‫ن كُ ّ‬
‫‪-‬قال الإمام ُ النوويّ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في شرحه للحديث‪( :‬أ ّ‬
‫ح م ِنْ هَذ َا‪ ،‬و َانْق َلَبَ ِإلَى م َا أع َ ّد الل ّه ُ ‪-‬‬
‫شاق ّة ِ‪ ،‬ف َِإذ َا م َاتَ اسْ تَر َا َ‬
‫ات ال ّ‬
‫طاع َ ِ‬
‫ل ال ّ‬
‫ف ب ِفِعْ ِ‬
‫ال ْمُحَر ّمَة ِ و َال ْمَك ْر ُوهَة ِ‪ ،‬مُك َل ّ ٌ‬
‫ح معياريّ في نفس المؤمن؛‬
‫ن)؛ وفي ذلك تصحي ٌ‬
‫ن الن ّ ْقصَا ِ‬
‫ن الن ّع ِِيم الد ّا ِئمِ‪ ،‬و َالر ّاح َة ُ الْخَالِصَة ُ م ِ َ‬
‫تَع َالَى‪ -‬لَه ُ م ِ َ‬
‫شاقة بالصّ بر؛ كالصيام في الحر والوضوء‬
‫يجعله نفسيًا مستعدًا لمخالفة الهوى‪ ،‬ولتلقي قيود التكاليف الشرعية ال ّ‬
‫في أوقات المكاره‪ ،‬والاستيقاظ من النوم لصلاة الفجر‪.‬‬
‫ن‬
‫‪-‬أمّا الكافر ُ؛ فجنت ُه ُ في الدنيا باعتبار أن ّه غير ُ مقي ّدٍ‪ ،‬إلا مما قي ّد َ به نفسَه ُ من الأمور الدنيو ية؛ قال تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬
‫كف َر ُوا يَتمََت ّع ُونَ و َي َأْ ك ُلُونَ كَمَا‬
‫ن َ‬
‫تحْتِهَا الْأنْهَار ُ و َال ّذ ِي َ‬
‫تجْرِي م ِن َ‬
‫ات َ‬
‫ات جَن ّ ٍ‬
‫ن آم َن ُوا و َعَم ِلُوا الصّ الِ ح َ ِ‬
‫ل ال ّذ ِي َ‬
‫خ ُ‬
‫الل ّه َ ي ُ ْد ِ‬
‫ل الْأنْع َام ُ و َالن ّار ُ مَث ْو ًى ل ّه ُ ْم"‪.‬‬
‫ت َأْ ك ُ ُ‬

‫شديد ُ بالص ّر َعَة ِ‪ ،‬إن ّما‬


‫ليس ال ّ‬
‫ل الل ّه ﷺ قال‪َ " :‬‬
‫ن رسو َ‬
‫الحديث الثالث‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫َضب"‪ ،‬أخرجه البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ك نفسَه عند َ الغ ِ‬
‫شديد ُ ال ّذي يمل ِ ُ‬
‫ال ّ‬
‫ن وجن ّة ُ ال ْكافرِ" تصـحيح ًا معـيار ًّي ّا في التصـو ّرات العامّة‪ ،‬فهذا الحـديثُ‬ ‫‪-‬إذا كان حـديثُ ‪" :‬الد ّنيا سج ُ‬
‫ن المؤم ِ‬

‫‪- 32 -‬‬
‫ن مفهوم َ‬
‫صة الداخلية للمسلم؛ وبيانُ ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫من أوضح الأحاديث في التصحيح المعياري للتصو ّرات الخا ّ‬
‫الإنسان القوي ليس ذاك الذي لا يستطي ُع أحدٌ أ ْن يصرع َه ُ ‪-‬وإن كان هذا المعنى هو الأقربُ لغة ً وعرفًا‬
‫وحت ّى في تصو ّرات الن ّاس‪ -‬وإن ّما مفهوم ُ القو ّة الح ّقة هو في سيطرة الإنسان على مشاعره الداخلية؛ ومن‬
‫أقوى تلك المشاعر‪ :‬الغضبُ ؛ فإذا استطاعَ أ ْن يتغل ّبَ على مقتضى هذا الشعور‪ ،‬كان هو القويّ ح ًّ ّقا‪.‬‬

‫ضيف إليها الإسلام ُ‬


‫ل خارجية ٍ ظاهرة ٍ‪ ،‬قد ي ُ ُ‬
‫وصف أفعا ٍ‬
‫ِ‬ ‫ل في‬
‫بعض الألفاظ التي تُستعم ُ‬
‫َ‬ ‫فاـئدة‪ :‬أ ّ‬
‫ن‬
‫ن الإسلام َ وسّ َع من مفهوم‪ /‬معيار (العبودية)؛‬
‫مكونات داخلية ٍ؛ ومن ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫ٍ‬ ‫وصف‬
‫ِ‬ ‫استعمال ًا آخر في‬
‫ِس عبد ُ الد ِّينَارِ"؛ هذا التصو ّر ُ‬
‫ق إلى معن ًى أدنى منه‪ ،‬وهو عبودية ُ المال؛ قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬تَع َ‬
‫من معنى الر ِ ّ ِ‬
‫لمعنى العبودية لم يكن موجود ًا‪ ،‬ومن ذلك أيضًا‪ :‬اتساع ُ مفهوم‪ /‬معيار الش ّدة (القو ّة) كما جاء في الحديث‪.‬‬

‫شرف كبير ٌ لسلوك القو ّة الذي هو مخالفة ُ الهوى‪ ،‬والقدرة ُ على التحكّم بالن ّفس ومنعها عن‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬وفي الحديث‬
‫سكَتَ ع َن‬
‫داع داخليّ يدفع الإنسان كالغضب‪ ،‬ولذلك؛ قال تعالى‪" :‬و َلَم ّا َ‬ ‫صة ً إن كان هناك ٍ‬
‫رغباتها خا ّ‬
‫ل الإنسان تُحدث ُه ُ وتدفع ُه ُ‪.‬‬
‫نفس داخ َ‬
‫ن الغضبَ هو ٌ‬
‫ح"؛ والمعنى‪ :‬كأ ّ‬
‫مّوس َى الْغَضَبُ أخَذ َ الْأل ْوَا َ‬

‫ل الل ّه ﷺ‪"( :‬ما تع ُ ّدونَ الر ّقوبَ‬


‫الحديث الرابع‪ :‬عن عبد الل ّه بن مسعود ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ن ال ّذي لا يُق ّدِم ُ م ِن ولد ِه شيئًا")‪،‬‬
‫قوب ولـك ِ‬
‫فيكم؟"‪ ،‬قال‪ :‬قلُ ْنا‪ :‬ال ّذي لا يولَد ُ له‪ ،‬قال ﷺ‪" :‬ليس ذلك بالر ّ ِ‬
‫أخرجه مسلم ٌ‪.‬‬
‫‪(-‬الر ّقوبُ ) في الل ّغة‪ :‬الذي لم يُولَدْ له؛ فليس له أبناء ٌ يعقبونه‪ ،‬لـكن الن ّبيّ ﷺ أراد َ أ ْن يصوِّبَ هذا المعيار َ في‬
‫نفوس الصحابة؛ فقال‪" :‬ولـكن ّه ال ّذي لَم يُق ّدِ ْم م ِن وَلد ِه شيئًا"‪ ،‬أي‪ :‬لم ْ‬
‫يمت له ولد ٌ في حياته‪ ،‬فيحتسب َه ُ‪،‬‬
‫ن هذا الذي أصيبَ بفقد‬
‫و يُكتبُ له ثوابُ مصيبته به وصبره عليه‪ ،‬و يكونُ له فرطًا‪ ،‬في ّدخر َه ُ في الآخرة؛ لأ ّ‬
‫يمت له ولد ٌ‪ ،‬فيفقد َ في الآخرة‬
‫عوض عن ذلك من الثواب‪ ،‬وأمّا م َن لم ْ‬
‫أولاده في الدنيا ينجبر ُ في الآخرة بما ي ُ ُ‬
‫ثوابَ ف َ ْقدِ الولد‪ ،‬فهو أحقّ باسم الر ّقوب من الأوّل‪.‬‬

‫صو ُر رفع الأمانة من‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن حذيفة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ في حديثه الطو يل عن ُ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ حَدِيثَيْنِ‪ ،‬ر َأي ْتُ أحَد َهُما وأن َا أن ْتَظ ِر ُ الآخَر َ‪:‬‬
‫قلوب الناس بصورة ٍ تدر يجية ٍ؛ قال‪( :‬ح َ ّدثَنَا ر َسو ُ‬
‫سن ّة ِ وح َ ّدثَنَا عن ر َف ْعِه َا‬
‫ن ال ّ‬
‫ن القُر ْآنِ‪ ،‬ث ُم ّ عَل ِم ُوا م ِ َ‬
‫وب الر ِ ّج َالِ‪ ،‬ث ُم ّ عَل ِم ُوا م ِ َ‬
‫ت في ج َ ْذرِ قُل ُ ِ‬
‫ن الأم َانَة َ ن َزَل َ ْ‬
‫ح َ ّدثَنَا‪ :‬أ ّ‬
‫ت‪ ،‬ث ُم ّ يَنَام ُ الن ّوْم َة َ فَتُقْب َُض فَيَبْقَى‬
‫ل أثَر ِ الوَكْ ِ‬
‫ل أث َر ُه َا مِث ْ َ‬
‫ل الن ّوْم َة َ فَتُقْب َُض الأم َانَة ُ م ِن قَل ْبِه ِ‪ ،‬فَيَظ َ ّ‬
‫ل‪" :‬يَنَام ُ الر ّج ُ ُ‬
‫قا َ‬

‫‪- 33 -‬‬
‫اس‬‫ح الن ّ ُ‬ ‫يس فيه شيءٌ‪ ،‬و يُصْ ب ِ ُ‬ ‫ك فَنَف َِط‪ ،‬فَتَر َاه ُ مُن ْتَبِر ًا ول َ‬
‫حر َجْ ت َه ُ علَى رِجْل ِ َ‬‫ل‪ ،‬كَج َ ْم ٍر د َ ْ‬
‫ل أثَر ِ المجَ ْ ِ‬
‫ف ِيهَا أث َر ُه َا مِث ْ َ‬
‫ل‪ :‬ما أ ْعق َلَه ُ وما‬ ‫ل لِلر ّج ُ ِ‬
‫ن رَج ُل ًا أم ِينًا‪ ،‬و يُق َا ُ‬ ‫ن في بَنِي فُلَا ٍ‬ ‫ل‪ :‬إ ّ‬
‫يَتَبَايَع ُونَ‪ ،‬فلا يَك َاد ُ أحَدٌ يُؤَدِّي الأم َانَة َ‪ ،‬فيُق َا ُ‬
‫ن"‪ ،‬ولق َ ْد أتَى عَلَيّ زَم َانٌ‪ ،‬ول َا أب َال ِي أي ّك ُ ْم ب َايَعْتُ ‪،‬‬
‫ل م ِن إيمَا ٍ‬
‫ل حَب ّة ِ خ َ ْرد َ ٍ‬
‫أظْ ر َف َه ُ وما أجْلَدَه ُ‪ ،‬وما في قَل ْبِه ِ مِثْق َا ُ‬
‫لئَ ِ ْن كانَ مُسْل ِمًا رَدّه ُ عَلَيّ الإسْ لَام ُ‪ ،‬وإ ْن كانَ نَصْر َان ًّيِ ّا رَدّه ُ عَلَيّ سَاعِيه ِ‪ ،‬وأمّا الي َوم َ‪ :‬فَما ُ‬
‫كن ْتُ أب َاي ِ ُع إلّا فُلَان ًا‬
‫وفُلَان ًا)‪ ،‬أخرجه البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫ج‬
‫ل"‪ :‬أي‪ :‬وهو الن ّ ّفاخاتُ التي تَخر ُ‬
‫ت"‪ :‬أي‪ :‬الأثر ُ الي َسير ُ كالن ّقطة ِ‪ ،‬وقوله ﷺ‪" :‬أثَر ِ المَج ْ ِ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬أثَر ِ الوَكْ ِ‬
‫حر َجْ ت َه ُ على رِجْلِك‪ ،‬فنف ََط‪ ،‬فت َراه م ُنتَبِر ًا وليس‬
‫ل بنحوِ الفأسِ‪ ،‬وقوله ﷺ‪" :‬كج َ ْمرٍ د َ ْ‬
‫في الأيدي عند َ كثرة ِ العم ِ‬
‫ل أثَر ِ الجمرِ الذي يُقل ّبُ ويُدار ُ على الق َد ِم؛ في ُخَل ّ ُِف انتفاخ ًا فيه ماء ٌ فاسدٌ‪.‬‬
‫فيه ش َيء ٌ"‪ :‬أي‪ :‬أثر ُ ذلك مث ُ‬

‫ِيث هِي َ الْأم َانَة ُ ال ْم َ ْذكُورَة ُ فِي قَو ْلِه ِ تَع َالَى " ِإن ّا‬
‫ل صَاحِبُ الت ّحْ رِير ِ‪ :‬الْأم َانَة ُ فِي الْحَد ِ‬ ‫‪-‬قال الإمام ُ النوويّ ‪( :‬و َقَا َ‬
‫ْب الْعَبْدِ قَام َ حِينَئِذٍ ب ِأد َاء ِ الت ّك َال ِ ِ‬
‫يف و َاغْت َنَم َ م َا‬ ‫ن ف َِإذ َا اسْ تَمْكَن َِت الْأم َانَة ُ م ِنْ قَل ِ‬
‫ع َرَضْ نَا الْأم َانَة َ" وَهِي َ عَيْنُ ال ِْإ يمَا ِ‬
‫ضه ُ الل ّه ُ على عباده‪.‬‬
‫التكاليف الشرعية مما افتر َ‬
‫ُ‬ ‫يَرِد ُ عَلَيْه ِ مِنْهَا وَج َ ّد فِي ِإقَامَتِهَا و َالل ّه ُ أع ْلَم ُ)؛ فالأمانة ُ هي‬

‫ل‪ :‬ما أ ْعق َلَه ُ وما أظْ ر َف َه ُ وما أجْلَدَه ُ‪،‬‬


‫ل لِلر ّج ُ ِ‬
‫‪-‬وشاهد ُ الحديث في تصحيح المعايير الخاطئة هو قول ُه ُ ﷺ‪" :‬و يُق َا ُ‬
‫ل عَقْلِه‪،‬‬
‫ل بمعايير خاطئة؛ ككما ِ‬
‫اس يقي ِّمون الرج َ‬
‫ن الن ّ َ‬
‫ن"؛ والمعنى أ ّ‬
‫ل م ِن إيمَا ٍ‬
‫ل حَب ّة ِ خ َ ْرد َ ٍ‬
‫وما في قَل ْبِه ِ مِثْق َا ُ‬
‫ح للتقييم هو ق ُو ّة ُ إيمانه‪ ،‬وغزارة ُ علمه النافع وعمله‬
‫وظرافة ِ حالِه‪ ،‬وجَلَد ِ بَد َن ِه‪ ،‬وقُو ّة ِ بِن ْيَت ِه‪ ،‬بينما المعيار ُ الصحي ُ‬
‫الصالح‪.‬‬

‫الحديثان السادس والسابع‪:‬‬


‫ل‪" :‬ما تَق ُولونَ في‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬ف َقا َ‬‫ل علَى ر َسو ِ‬
‫‪-‬عن سهل بن سعد الساعدي ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬م َّر رَج ُ ٌ‬
‫سكَتَ ‪ ،‬فَم َر ّ‬
‫ل‪ :‬ث ُم ّ َ‬
‫ل أ ْن يُسْتَمَعَ‪ ،‬قا َ‬
‫شف َ َع أ ْن يُش َ ّفعَ‪ ،‬وإ ْن قا َ‬
‫خطَبَ أ ْن يُنْكَحَ‪ ،‬وإ ْن َ‬
‫هذا؟"‪ ،‬قالوا‪ :‬حَر ِيّ إ ْن َ‬
‫شف َ َع أ ْن‬
‫خطَبَ أ ْن لا يُنْكَحَ‪ ،‬وإ ْن َ‬ ‫ل م ِن فُق َرَاء ِ المُسْل ِمِينَ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫ل‪" :‬ما تَق ُولونَ في هذا؟"‪ ،‬قالوا‪ :‬حَر ِيّ إ ْن َ‬ ‫رَج ُ ٌ‬
‫ل هذا")‪ ،‬أخرجه‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪" :‬هذا خَيْر ٌ م ِن م ِلْ ء ِ الأ ْر ِ‬
‫ض مِث ْ َ‬ ‫ل ر َسو ُ‬
‫ل أ ْن لا يُسْتَمَعَ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫لا يُش َ ّفعَ‪ ،‬وإ ْن قا َ‬
‫البخاريّ ‪.‬‬
‫ْواب لو أق ْسَم َ علَى الل ّه ِ‬ ‫ُب أشْ ع َثَ ‪ ،‬مَدْف ُ ٍ‬
‫وع بالأب ِ‬ ‫ل الل ّه ﷺ قال‪" :‬ر ّ‬
‫ن رسو َ‬
‫‪-‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫لأبَر ّه ُ"‪ ،‬أخرجه مسلم ٌ‪.‬‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ أسلـوبَ‬
‫ل التصــو ّرات الإسلامية‪ ،‬استعم َ‬
‫ج هذان الحديثان تحتَ التصحيح المعياري داخ َ‬
‫‪-‬يندر ُ‬
‫‪- 34 -‬‬
‫ن أيّ يَو ٍم هذا؟ ‪ ..‬أيّ‬
‫السؤال ‪-‬في الحديث الأوّل‪ -‬للتنبيه‪ ،‬كما في حديث خطبة الوداع قال ﷺ‪" :‬أت َ ْدر ُو َ‬
‫ش َ ْهرٍ هذا؟ ‪ ..‬أيّ بلََدٍ هذا؟"‪ ،‬وفي هذا الأسلوب إثارة ٌ واستحضار ٌ للمعلومة والتصو ّر في ذهن المتلقي‪ ،‬فقال‬
‫ل الصحابة َ يعرضون تصوراتهم؛ فلم ّا عرضوها =صح ّحها لهم الن ّبيّ ﷺ‪.‬‬
‫ﷺ‪" :‬ما تَق ُولونَ في هذا؟" حت ّى يجع َ‬

‫ظر في مكانة‬ ‫ْواب لو أق ْسَم َ علَى الل ّه ِ لأبَر ّه ُ"‪ :‬تصحي ٌ‬


‫ح معياريّ للن ّ ّ‬ ‫ُب أشْ ع َثَ ‪ ،‬مَدْف ُ ٍ‬
‫وع بالأب ِ‬ ‫‪-‬وفي قوله ﷺ‪" :‬ر ّ‬
‫ن عند الل ّه؛ لو أقسم َ‬
‫ُب الأشعث الذي الذي لا يُسم ُع لحديثه ولا يُلتفت لشفاعته‪ ،‬أ ْن يكونَ بمكا ٍ‬
‫الن ّاس؛ فر ّ‬
‫ن الل ّه َ ‪-‬تعالى‪ -‬ل َا ينظر ُ إلى صُوَرِك ُ ْم و َأمْوالـِكُمْ‪ ،‬ولـكنْ‬
‫ل بقوله ﷺ‪ِ " :‬إ ّ‬
‫عليه لأبر َ له قسم َه ُ وأنفذ َه ُ‪ ،‬وهذا متص ٌ‬
‫ِإن ّما ينظر ُ إلى قلوب ِكم وأعمالـِكم"‪.‬‬
‫ِس عبد ُ الد ِّينَارِ‪ ،‬وَعَبْد ُ الدِّرْهَمِ‪،‬‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ قال‪" :‬تَع َ‬
‫الحديث الثامن‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫َش‪ ،‬طُوبَى لِعَب ْ ٍد‬
‫ك فلا ان ْتَق َ‬
‫َس‪ ،‬وإذ َا شِي َ‬
‫ِس و َان ْتَك َ‬ ‫ي رَضِيَ‪ ،‬وإ ْن ل َ ْم يُع َ‬
‫ْط سَ خ َِط‪ ،‬تَع َ‬ ‫صة ِ‪ ،‬إ ْن أ ْعط ِ َ‬
‫وَعَبْد ُ الخم َِي َ‬
‫سة ِ‪ ،‬وإ ْن‬ ‫ل الل ّهِ‪ ،‬أشْ ع َثَ ر َأْ سُه ُ‪ ،‬مُغْبَر ّة ٍ قَدَم َاه ُ‪ ،‬إ ْن كانَ في الح ِرَا َ‬
‫سة ِ‪ ،‬كانَ في الح ِرَا َ‬ ‫سه ِ في سَبي ِ‬
‫ن ف َر َ ِ‬
‫خذٍ بع ِنَا ِ‬
‫آ ِ‬
‫شف َ َع ل َ ْم يُش َ ّفعْ "‪ ،‬أخرجه البخاريّ ‪.‬‬
‫ن اسْ ت َأْ ذَنَ ل َ ْم يُؤْذ َ ْن له‪ ،‬وإ ْن َ‬
‫ساقَة ِ‪ ،‬إ ِ‬
‫ساقَة ِ كانَ في ال ّ‬
‫كانَ في ال ّ‬
‫ل العبد الذي لا يبالي بمكانه؛ سواء ٌ في العمل أو عند الن ّاس طالما أن ّه في سبيل الل ّه‪.‬‬
‫ح الن ّبيّ ﷺ حا َ‬
‫‪-‬امتد َ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫خـلاصة ُ‬
‫ُ‬
‫ن من أهم أسباب ردِّ الحق‪ :‬وجود َ المعايير الخاطئة‪ ،‬وهذا مذكور ٌ في‬
‫اس لديهم معايير دائمًا‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن الن ّ َ‬
‫‪-‬أ ّ‬
‫صور التصحيح التي جاء به الأنبياء ‪-‬والتي ينبغي على أتباع الأنبياء أ ْن‬
‫ن من أعظم ُ‬
‫الأمم السابقة‪ ،‬وأ ّ‬
‫ح المعيار أه ّم بكثيرٍ من تصحيح التصو ّرات الجزئية‪.‬‬
‫ن تصحي َ‬
‫ح المعايير‪ ،‬وأ ّ‬
‫ي ُفع ّ ِلوها‪ :-‬تصحي َ‬

‫ح في المعايير الخاطئة؛ إذ نحن الآن في زمن من أكثر‬


‫ن من أعظم صور الإصلاح ‪-‬اليوم‪ :-‬الإصلا َ‬
‫‪-‬أ ّ‬
‫صارت سُن ّة ً لهم؛ كما قال ابن مسعود ‪-‬‬
‫ْ‬ ‫أخذت وقت َها بينَ الن ّاس‬
‫ْ‬ ‫الأزمنة التي تُبنى فيها المعايير الخاطئة‪ ،‬فإذا‬
‫اس سُن ّة ً‪،‬‬
‫رضي الل ّه عنه‪( :-‬كيف أنت إذا لب ِستك ُ ْم فتنة ٌ؛ يهرَم ُ فيها الـكبير ُ‪ ،‬وي َربو فيها الصّ غير ُ‪ ،‬وي ّتخذ ُها الن ّ ُ‬
‫ت‬
‫ُرت قر ّاؤ ُكم‪ ،‬وقل ّ ْ‬
‫ن؟!‪ ،‬قال‪ :‬إذا كث ْ‬
‫ل‪ :‬متى ذلك يا أبا عبد َ الر ّحم ِ‬
‫سن ّة ُ!‪ ،‬قي َ‬
‫ِرت ال ّ‬
‫َت‪ ،‬قالوا‪ :‬غُي ّ ِ‬
‫فإذا غُيِّر ْ‬
‫ل الآخرة ِ‪ ،‬وتف ُ ّق ِه َ لغيرِ الد ِّي ِن)‪.‬‬
‫ِست الد ّنيا بعم ِ‬
‫ت أمناؤ ُكم‪ ،‬والتم ُ ِ‬
‫ُرت أمراؤ ُكم‪ ،‬وقل ّ ْ‬
‫فقهاؤ ُكم‪ ،‬وكث ْ‬
‫حق بناء ً على هذه‬
‫أساس ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫ح في المعايير المتعل ِّقة بالـكفار ‪-‬الذين يردون‬
‫‪-‬وليس بالضرورة أ ْن يكونَ الإصلا ُ‬
‫ج أيضًا إلى الإصلاح في المعايير الجزئية داخل التصو ّرات الإسلامية التي قد تؤثر ُ في‬ ‫المعايير‪-‬؛ وإن ّما نحتا ُ‬
‫طبيعة الإصلاح‪.‬‬

‫‪- 35 -‬‬
‫هي والخبرِ‬
‫المحاضرة الخامسة‪ :‬تفاوتُ مراتبَ الدي ِن في الأمر ِ والنّ ِ‬
‫هي والخبر ِ‪،‬‬
‫ن على مراتبَ متفاوتة ٍ في الأمر ِ والنّ ِ‬
‫ن الدي َ‬
‫باب في أ ّ‬
‫ٌ‬
‫ك هذه المراتب‬
‫ن تب ٌع لإدرا ِ‬
‫ن الفقه َ في الدي ِ‬
‫وأ ّ‬
‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ل عنوا ِ‬
‫تفصي ُ‬
‫ن من أولى ما يُفس ّر ُ به لفظة ُ (الدين) من حيث المحتوى الداخلي في قول الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬م َن يُرِدِ الل ّه ُ به خَيْر ًا‬
‫‪-‬إ ّ‬
‫ل‬
‫ل عن الإسلام والإيمان والإحسان‪ ،‬ثم قا َ‬
‫يُف َ ّقِهْه ُ في الد ِّي ِن"‪ ،‬هو حديثُ (جبر يل الطو يل) الذي فيه السؤا ُ‬
‫ل أتاك ُ ْم يُع َل ِّمُك ُ ْم دِينَك ُ ْم"‪ ،‬فجع َ‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ الإسلام والإيمان والإحسان جميع ًا من‬ ‫جبْرِي ُ‬
‫الن ّبيّ ﷺ‪" :‬فإن ّه ِ‬
‫ن المطالب والموضوعات تحتَ هذه العناوين مختلفة ٌ ومتفاوتة ٌ؛ ففيها‪ :‬أمور ٌ عملية ٌ‬
‫الدين؛ على الرغم من أ ّ‬
‫بدنية ٌ‪ ،‬وأمور ٌ نظر ية ٌ اعتقادية ٌ قلبية ٌ‪ ،‬وأمور ٌ سلوكية ٌ نفسية ٌ روحية ٌ‪.‬‬

‫هي والخبرِ)‪ :‬الدين يحتوي على أمرين؛ إمّا أخبار‪ ،‬وإمّا أوامر‬
‫ن على مراتبَ متفاوتة ٍ في الأمر ِ والنّ ِ‬
‫‪(-‬الد ِّي ُ‬
‫أي‪ :‬صدقًا في الأخبار‪ ،‬وعدل ًا في الأحكام من‬
‫صدْقًا و َع َ ْدل ًا"‪ْ :‬‬
‫ك ِ‬
‫ت كَل ِم َتُ ر َب ِّ َ‬
‫ونواهي؛ قال تعالى‪" :‬و َتَم ّ ْ‬
‫هي والخبرِ ليست على مستو ًى واحدٍ‪ ،‬بل هي متفاوتة ٌ في أهميتها‬
‫الأمر والنهي‪ ،‬ومراتبُ الدين في الأمر ِ والنّ ِ‬
‫وفضلها‪.‬‬
‫ن الفقه َ في الدين تب ٌع لإدراك مراتبه؛ من حيث‬
‫ن الفقه َ في الدي ِن تب ٌع لإدراك هذه المراتب)‪ :‬يعني أ ّ‬
‫‪(-‬وأ ّ‬
‫العمل على ضوء هذا الإدراك‪ ،‬وهذه الجملة ُ من جُملة ِ ما يُفس ّر ُ به حديثُ ‪" :‬م َن يُرِدِ الل ّه ُ به خَيْر ًا يُف َ ّقِهْه ُ في‬
‫ل في تعر يف الفقه في الدين‪ :‬إدراك ُ تفاوت مراتب الأمر والنهي والخبر‪،‬‬
‫ن من أهم ما يدخ ُ‬
‫الد ِّي ِن"؛ فإ ّ‬
‫ل على ضوء هذه التفاوت من حيث الأهمية والتقدير‪.‬‬
‫والعم ُ‬

‫النصوص في هذا الباب على أحدِ أمرين‪:‬‬


‫ُ‬ ‫‪-‬تأتي‬
‫الأوّل‪ :‬إثباتُ التفاوت بينَ مراتب الدين‪.‬‬
‫ن الفقه َ في الدين تب ٌع لإدراك تفاوت مراتبه‪.‬‬
‫الثانـي‪ :‬أهمية ُ العمل على ضوء هذا التفاوت؛ ذلك أ ّ‬

‫=أضاف‬
‫َ‬ ‫تنبـيه‪ :‬ذَك َر َ الشي ُ‬
‫خ أحمد ‪-‬حفظه الل ّه‪ -‬آية ً واحدة ً في هذا الباب‪ ،‬ثم في شرحه على نصوص الباب‬
‫بعض الآيات والأحاديث التي لم يذكرها في أصل متن (المنهاج من ميراث الن ّب ُو ّة)‪.‬‬
‫‪-‬كعادته في الشرح‪َ -‬‬

‫‪- 36 -‬‬
‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ِش ِإلّا الل ّمَم َ"‪:‬‬
‫يج ْتَن ِب ُونَ ك َبَائ ِر َ ال ِْإ ْث ِم و َالْف َوَاح َ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قوله تعالى‪" :‬ال ّذ ِي َ‬
‫ن َ‬
‫ن المنهيات متفاوتة ٌ؛ منها‪ :‬كبائر ُ الإثم‬
‫ل الآية ُ على إثبات التفاوت بينَ مراتب النهي في الدين؛ وذلك بأ ّ‬
‫‪-‬تد ّ‬
‫ل الآية ُ ‪-‬أيضًا‪ -‬على أهمية العمل على ضوء هذا التفاوت؛‬
‫والفواحش‪ ،‬ومنها‪ :‬الل ّم َم ُ (صغائر ُ الإثم)‪ ،‬وتد ّ‬
‫ظ ِم الكبائر من جهة الخوف والرهبة؛ فيبتعد ُ عنها‪.‬‬
‫وذلك في الامتداح لم َن يع ّ‬

‫ك لم َِن يَش َاء ُ"‪:‬‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قوله تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬
‫ن الل ّه َ ل َا يَغْف ِر ُ أن يُشْرَك َ بِه ِ و َيَغْف ِر ُ م َا د ُونَ ذََٰل ِ َ‬
‫ن الشرك من الكبائر‬
‫‪-‬تُبيِّن الآية ُ تفاوتَ ما نهى الل ّه عنه؛ فهناك الشرك ُ؛ وهو ما لا يغفر ُه ُ الل ّه‪ ،‬وهناك ما دو َ‬
‫والمعاصي؛ وهو تحتَ مشيئة الل ّه؛ إ ْن شاء َ غفر‪ ،‬وإ ْن شاء َ ع ّذب‪.‬‬

‫الآية الثالثة‪ :‬قوله تعالى في سورة النساء‪ِ " :‬إن َ‬


‫تج ْتَن ِب ُوا ك َبَائ ِر َ م َا تُنْهَوْنَ عَن ْه ُ نُكَ ّفِر ْ ع َنك ُ ْم سَي ِّئَاتِك ُ ْم"‪:‬‬

‫‪-‬تُثبتُ الآية ُ التفاوتَ في المنهيات؛ فهناك كبائر وهناك سيئات‪.‬‬


‫ن الفقه َ في الدين تب ٌع لإدراك تفاوت مراتب الدين؛ إذ من الأقوال المشهورة في‬
‫‪-‬وفي الآية إشارة ٌ إلى أ ّ‬
‫حرص‬
‫الذنوب)‪ ،‬ولذا؛ ينبغي أ ْن ي َ‬
‫ِ‬ ‫تفسير الآية‪( :‬إذا اجتنبتم ْ كبائر َ الآثا ِم التي نُهيتم عنها =ك ّفرنا عنكم صغائر َ‬
‫ن على اجتناب الكبائر لما في ذلك من تكفيرٍ للذنوب والسيئات‪.‬‬
‫المؤم ُ‬

‫الحديث الأوّل‪ :‬عن أب َ ْي بن كعب ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬قال رسو ُ‬
‫ل ﷺ‪" :‬يا أبا المُنْذِرِ‪ ،‬أت َ ْدرِي أيّ آيَة ٍ‬
‫ِتاب الل ّه ِ‬
‫ل‪" :‬يا أبا المُنْذِرِ أت َ ْدرِي أيّ آيَة ٍ م ِن ك ِ‬‫ك أ ْعظَم ُ؟"‪ ،‬قُلتُ ‪ :‬الل ّه ُ ور َسولُه ُ أع ْلَم ُ‪ .‬قا َ‬ ‫ِتاب الل ّه ِ مع َ‬
‫م ِن ك ِ‬
‫ل‪" :‬والل ّه ِ لِيَه ْن ِ َ‬
‫ك العِلْم ُ أبا‬ ‫ص ْدرِي‪ ،‬وقا َ‬
‫ي الْق َي ّوم ُ"‪ ،‬ف َضَر َبَ في َ‬
‫ك أ ْعظَم ُ؟"‪ ،‬قُلتُ ‪" :‬الل ّه ُ ل َا ِإلَه َ ِإلّا ه ُو َ الْح َ ّ‬‫مع َ‬
‫ق بإدراك أعلى الآيات القرآنية مرتبة ً‪.‬‬
‫ح هنا‪ :‬هو العلم ُ المتعل ّ ِ ُ‬
‫المُنْذِرِ")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ؛ والعلم ُ الممتد ُ‬

‫ن الفقه َ في الدين تب ٌع لإدراك تفاوت مراتب الدين‪ ،‬وبطبيعة الحال؛‬


‫‪-‬في الحديث دلالة ٌ واضحة ٌ في إثبات أ ّ‬
‫الحديث متضمنًا لإثبات هذا التفاوت‪.‬‬

‫ل معرفة َ أعظم آية ٍ قرآنية ٍ‪ ،‬وقوله ﷺ‪" :‬أت َ ْدرِي أيّ آيَة ٍ‬
‫ن الحديثُ إثبات ًا للتفاوت في الخبر؛ إذ يتناو ُ‬
‫‪-‬يتضم ُ‬
‫ِتاب الل ّه ِ مع َ‬
‫ك أ ْعظَم ُ؟"؛ في لفظة "أ ْعظَم ُ" دلالة ٌ صر يحة ٌ في إثبات التفاضل والتفاوت بين آيات‬ ‫م ِن ك ِ‬
‫القرآن من حيث العظمة‪.‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫كعب على علمه‪ ،‬وموجبُ هذه التهنئة‪ :‬أن ّه استطاعَ‬
‫ٍ‬ ‫ن الن ّبيّ ﷺ هنأ أبَي َ بن‬
‫‪-‬موض ُع الشاهد في الحديث‪ :‬أ ّ‬
‫ن آية َ الـكرسي أعظم ُ آية ٍ في القرآن؛ وذلك بما تلقاه ‪-‬مع الصحابة‪ -‬من تربية الن ّب ِيّ ﷺ لمعنى‬
‫يستنبط أ ّ‬
‫َ‬ ‫أ ْن‬
‫ن موضوعَ العلم بالل ّه هو‬
‫المركز يات والتفاوت بينَ مقامات الدين‪ ،‬ومن أفراد معنى المركز يات‪ :‬أن ّه ترب ّى على أ ّ‬
‫أشرف الموضوعات‪.‬‬
‫َ‬ ‫ن آية َ الـكرسي أعظم ُ الآيات لتناولها‬
‫فاستنبط من ذلك أ ّ‬
‫َ‬ ‫أشرف الموضوعات‪،‬‬
‫ُ‬

‫ل‬
‫جدِ‪ ،‬فَد َعانِي ر َسو ُ‬
‫س ِ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن أبي سعيد بن المُعَل ّى ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ُ ( :‬‬
‫كن ْتُ أصَل ِّي في الم َ ْ‬
‫ل ِإذ َا‬‫ل الل ّه ُ‪" :‬اسْ تَجِيب ُوا لِل ّه ِ وَلِلر ّسُو ِ‬ ‫ل‪" :‬أل َ ْم يَق ُ ِ‬ ‫ل الل ّهِ‪ ،‬إن ِ ّي ُ‬
‫كن ْتُ أصَل ِّي‪ ،‬فقا َ‬ ‫الل ّه ِ ﷺ فَل َ ْم أ ِ‬
‫جب ْه ُ‪ ،‬فَق ُلتُ ‪ :‬يا ر َسو َ‬
‫جدِ"‪.‬‬ ‫س ِ‬‫ن الم َ ْ‬
‫ج مِ َ‬ ‫تخ ْر ُ َ‬
‫ل أ ْن َ‬‫ن قَب ْ َ‬‫سوَرِ في القُر ْآ ِ‬ ‫ك سُورَة ً هي أ ْعظَم ُ ال ّ‬
‫ل ل ِي‪" :‬ل َأعَل ِّمَن ّ َ‬ ‫د َعَاك ُ ْم لم َِا ُ‬
‫يح ْي ِيكُمْ"؟"‪ ،‬ث ُم ّ قا َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫يخ ْرُجَ‪ ،‬قُلتُ له‪ :‬أل َ ْم تَق ُلْ ‪ :‬ل َأعَل ِّمَن ّ َ‬
‫ك سُورَة ً هي أ ْعظَم ُ سُورَة ٍ في القُر ْآنِ؟ قا َ‬ ‫ث ُم ّ أخَذ َ بيَدِي‪ ،‬فَلَم ّا أراد َ أ ْن َ‬
‫سب ْ ُع المَثانِي‪ ،‬والقُر ْآنُ العَظ ِيم ُ الذي أوتِيت ُه ُ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬ ‫""ا ْلحم َْد ُ لِل ّه ِ ر ِّ‬
‫َب الْع َالم َي ِنَ" هي ال ّ‬
‫ل معرفة َ أعظم سورة في القرآن‪.‬‬
‫ج هذا الحديثُ تحتَ إثبات التفاوت في الأخبار؛ إذ يتناو ُ‬
‫‪-‬يندر ُ‬

‫ن الحديثُ جملة ً من الفوائد؛ منها‪ :‬فوائد ُ تربو ية ٌ في تعامل الن ّب ِيّ ﷺ مع أصحابه وطر يقته في التعليم‪،‬‬ ‫‪-‬و يتضم ُ‬
‫ومنها‪ :‬فائدة ٌ أصولية ٌ في دلالات الألفاظ في قوله تعالى‪" :‬اسْ تَجِيب ُوا لِل ّه ِ و َلِلر ّسُو ِ‬
‫ل ِإذ َا د َعَاك ُ ْم"‪ ،‬ومنها‪ :‬فائدة ٌ في‬
‫سب ْ َع المَثانِي) هي الفاتحة ُ‪.‬‬
‫ن (ال ّ‬
‫ل بها المفس ِّرون على ترجيح قول أ ّ‬
‫التفسير؛ فهو من أشهر الأحاديث التي يستد ّ‬

‫ن أعظم َ سورة ٍ فيه هي سورة ُ‬


‫متفاوت في العظمة؛ وأ ّ‬
‫ٌ‬ ‫ن القرآنَ‬
‫يرتبط من فوائد الحديث بالباب‪ :‬إثباتُ أ ّ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬ما‬
‫الفاتحة‪.‬‬

‫ل أساليبَ غير اعتيادية في إيصال الرسالة المتعل ِّقة بمفهوم المعاني‬ ‫فاـئدة‪ :‬أ ّ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ ‪-‬غالبًا‪ -‬ما يستعم ُ‬
‫أى‪ :‬الأساليب‪ -‬قصدًا واضحًا للتنبيه إلى هذه المعاني؛ ومن أمثلة ذلك‪:‬‬
‫المركز ية في الدين‪ ،‬قصدها ‪ْ -‬‬
‫ض‬
‫شدِيد ُ بَيا ِ‬
‫ل َ‬
‫‪ -١‬حديث جبر يل الطو يل؛ وفيه قول عمر بن الخطاب ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬إ ْذ طَل َ َع علي ْنا رَج ُ ٌ‬
‫سفَرِ‪ ،‬ولا يَعْرِفُه ُ م ِن ّا أحَدٌ)؛ فمجر ّد ُ الدخول بهذه الهيئة والحالة‬
‫شعَرِ‪ ،‬لا ي ُر َى عليه أث َر ُ ال ّ‬
‫شدِيد ُ سَوادِ ال ّ‬
‫ِياب‪َ ،‬‬
‫الث ّ ِ‬
‫ق به هذا القدوم ُ من بيان أركان الإسلام والإيمان والإحسان‪.‬‬
‫لفت كبير ٌ للانتباه‪ ،‬وذلك لما يتعل ّ ُ‬
‫ٌ‬ ‫فيه‬

‫خطَبَنَا الن ّبيّ‬


‫‪ -٢‬قوله ﷺ في خطبة الوداع من حديث أبو بكرة نفيع بن الحارث ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪َ "( :‬‬
‫ن أيّ يَو ٍم هذا؟"‪ ،‬قلُ ْنَا‪ :‬الل ّه ُ ور َسولُه ُ أع ْلَم ُ‪ ،‬فَسَكَتَ حت ّى ظَنَن ّا أن ّه سَيُسَمِّيه ِ بغيرِ‬
‫ل‪" :‬أت َ ْدر ُو َ‬
‫ﷺ يَوم َ الن ّحْ رِ‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪" :‬أيّ ش َ ْهرٍ هذا؟"‪ ،‬قُل ْنَا‪ :‬الل ّه ُ ور َسولُه ُ أع ْلَم ُ‪ ،‬فَسَكَتَ حت ّى ظَنَن ّا‬
‫أليس يَوم َ الن ّحْ رِ؟" قُل ْنَا‪ :‬بلََى‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪َ " :‬‬
‫اسْمِه ِ‪ ،‬قا َ‬

‫‪- 38 -‬‬
‫ل‪" :‬أيّ بلََدٍ هذا؟"‪ ،‬قُل ْنَا‪ :‬الل ّه ُ ور َسولُه ُ أع ْلَم ُ‪،‬‬
‫أليس ذ ُو الحجَ ّة ِ؟"‪ ،‬قُل ْنَا‪ :‬بلََى‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪َ " :‬‬
‫أن ّه سَيُسَمِّيه ِ بغيرِ اسْمِه ِ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫ن دِم َاءَك ُ ْم‬
‫ل‪" :‬فإ ّ‬
‫َت بالبلَْدَة ِ الحَرَا ِم؟"‪ ،‬قُل ْنَا‪ :‬بلََى‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪" :‬أليس ْ‬
‫فَسَكَتَ حت ّى ظَنَن ّا أن ّه سَيُسَمِّيه ِ بغيرِ اسْمِه ِ‪ ،‬قا َ‬
‫وأمْوَالـَك ُ ْم علَيْك ُم حَر َام ٌ‪ ،‬كَحُرْمَة ِ يَومِك ُ ْم هذا‪ ،‬في ش َ ْهرِك ُ ْم هذا‪ ،‬في بلََدِك ُ ْم هذا‪ ،‬إلى يَو ِم تلَْقَوْنَ ر َب ّكُمْ‪ ،‬أل َا هلْ‬
‫شاهِد ُ الغ َائ ِبَ ‪ ،‬ف َر ُّب م ُبَل ّ ٍغ أ ْوعَى م ِن سَام ٍِع‪ ،‬فلا تَرْجِع ُوا‬
‫ل‪" :‬الل ّه ُ ّم اشْهَدْ‪ ،‬فَل ْيُب َ ِّلــ ِغ ال ّ‬
‫بلَ ّغْتُ ؟"‪ ،‬قالوا‪ :‬نَعَمْ‪ ،‬قا َ‬
‫ض")؛ ق ّدم َ الن ّبيّ ﷺ بهذا الأسلوب المختلف للفت انتباه الصحابة‬
‫ضك ُ ْم رِقَابَ بَعْ ٍ‬
‫ك ّفار ًا‪ ،‬يَضْرِبُ بَعْ ُ‬
‫بَعْدِي ُ‬
‫ل ِعظ ِم ما سيبلغ ُهم به ﷺ‪.‬‬

‫ن"‪ ،‬فَحَشَد َ م َن‬ ‫‪ -٣‬قوله ﷺ من حديث أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪"( :-‬احْ شُد ُوا؛ فإن ِ ّي سَأق ْرَأ علَيْك ُم ثلُُثَ القُر ْآ ِ‬
‫ض‪ :‬إن ِ ّي أر َى هذا خ َبَر ٌ‬ ‫ل بَعْضُنا لِبَعْ ٍ‬ ‫ج نَبِ ّي الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬فَق َرَأ‪" :‬قُلْ ه ُو َ الل ّه ُ أحَدٌ"‪ ،‬ث ُم ّ دَخَلَ‪ ،‬فقا َ‬ ‫حشَد َ‪ ،‬ث ُم ّ خَر َ َ‬‫َ‬
‫ل‪" :‬إن ِ ّي قُلتُ لـَك ُ ْم سَأق ْرَأ علَيْك ُم ثلُُثَ‬ ‫ج نَبِ ّي الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬فقا َ‬ ‫سماءِ‪ ،‬ف َذاك َ الذي أ ْدخَلَه ُ‪ ،‬ث ُم ّ خَر َ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫جاءَه ُ م ِ َ‬
‫ن")؛ وفي هذا الأسلوب إثارة ٌ لانتباه وتركيز المتلقي لأهمية ومركز ية ما‬ ‫ل ثلُُثَ القُر ْآ ِ‬
‫القُر ْآنِ‪ ،‬أل َا إ ّنها تَعْدِ ُ‬
‫سيتلقاه‪.‬‬

‫فاـئدة ٌ منهجي ّة ٌ‪ :‬ينبغي على المُصلح أ ْن ي َ‬


‫حافظ على قيمة المركز يات في نفوس المتربين‪ ،‬وذلك بانتقاء وتخي ّر‬
‫أسلوب التلقي المناسب مع مركزة وأهمية هذه المركز يات‪.‬‬

‫ل أو أيّ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ أيّ الأعما ِ‬


‫ل أفض ُ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬سُئ ِل رسو ُ‬

‫ن بالل ّه ِ ورسولُه"‪ ،‬قيل‪ :‬ثم ّ أيّ ‪ ،‬قال‪" :‬الجهاد ُ سِنام ُ العم ِ‬


‫ل"‪ ،‬قيل‪ :‬ثم ّ أيّ ‪ ،‬قال‪" :‬ثم ّ‬ ‫ل خير ٌ‪ ،‬قال‪" :‬إيما ٌ‬
‫الأعما ِ‬
‫حج ّ مبرور ٌ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ل في الشر يعة على قسمين‪:‬‬
‫نص صريح ٌ على إثبات التفاضل بينَ الأعمال وبعضها؛ والتفاض ُ‬
‫‪-‬في الحديث ّ‬
‫ل في درجة ٍ معينة ٍ من الأعمال‪ :‬مثل‪ :‬أركان الإسلام بمجموعها على ما دونها‪.‬‬
‫الأوّل‪ :‬تفاض ُ‬
‫تفاوت فيما بينها‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ل في الدرجة الأولى نفسها‪ :‬وهي الأعمال المركز ية أو المحُكمات الـكبرى ففيها‬
‫الثانـي‪ :‬تفاض ُ‬

‫ل متفاضلة ٌ ومتفاوتة ٌ‪ ،‬ولذلك؛ يكث ُر ُ في كلام‬


‫ن الأعما َ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ رب ّى أصحابه على أ ّ‬
‫‪-‬في الحديث فائدة ٌ أ ّ‬
‫حافظ على هذا النوع من‬
‫ل عن أفضل العمل وأحبه إلى الل ّه‪ ،‬ومما ينبغي على المُصلح أ ْن ي َ‬
‫الصحابة السؤا ُ‬
‫الأسئلة عند َ المتربين‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أنواع معينة ٍ من الأسئلة‪ ،‬وكان ﷺ يعذر ُ الأعرابَ في تلك‬ ‫‪-‬وأيضًا؛ قد رب ّى الن ّبيّ ﷺ أصحابه على كراهية‬
‫الأسئلة؛ ومن شواهد ذلك‪:‬‬
‫‪- 39 -‬‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ عن شيءٍ‪ ،‬ف َكانَ يُعْجِبُنا أ ْن‬
‫ل ر َسو َ‬
‫‪ -١‬حديثُ أنس بن مالك ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬نُهِينا أ ْن نَسْأ َ‬
‫ن ن َ ْسم َ ُع)‪.‬‬
‫نح ْ ُ‬
‫ل البادِيَة ِ العاقِلُ‪ ،‬فَيَسْألَه ُ‪ ،‬و َ‬
‫ل م ِن أه ْ ِ‬
‫يج ِيء َ الر ّج ُ ُ‬
‫َ‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ بالمَدِينَة ِ سَن َة ً ما يَم ْن َعُنِي م ِ َ‬


‫ن‬ ‫‪ -٢‬حديثُ النواس بن سمعان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬أقَم ْتُ مع رَسُو ِ‬
‫َالإ ْثمِ‪،‬‬
‫ن البِرِّ و ِ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ عن شيءٍ‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪ :‬فَس َأل ْت ُه ُ ع َ ِ‬ ‫ن أحَد ُن َا إذ َا ه َاجَر َ ل َ ْم يَسْألْ رَسُو َ‬
‫اله ِجْ رَة ِ إلّا المَسْألَة ُ‪ ،‬كا َ‬
‫اس")‪.‬‬
‫طلــِ َع عليه الن ّ ُ‬
‫سكَ‪ ،‬وَكَرِه ْتَ أ ْن ي َ ّ‬
‫َالإثْم ُ ما ح َاك َ في ن َ ْف ِ‬
‫ن الخُلُقِ‪ ،‬و ِ‬
‫س ُ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪" :‬البِر ّ ُ‬
‫ح ْ‬ ‫ل رَسُو ُ‬
‫ف َقا َ‬

‫س‪:‬‬
‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬بُنِي َ الإسْ لَام ُ علَى خَم ْ ٍ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن ابن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ل الل ّهِ‪ ،‬وإقَا ِم الصّ لَاة ِ‪ ،‬وإيتَاء ِ الز ّك َاة ِ‪ ،‬والح َ ِجّ ‪ ،‬و َ‬
‫صو ْ ِم رَمَضَانَ"‪،‬‬ ‫ن مُحَم ّدًا ر َسو ُ‬
‫شَه َادَة ِ أ ْن لا إلَه َ إلّا الل ّه ُ وأ ّ‬
‫أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ن الإسلام بُنِي َ عليها‪،‬‬
‫ل على غيرها لأ ّ‬
‫إثبات لأمو ٍر مركز ية ٍ من الدين؛ هذه الأمور ُ تُفضّ ُ‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬في هذا الحديث‬
‫ح العلماء ُ على تسميتها بـ(أركان الإسلام)؛ لـكونه بُنِي َ عليها‪.‬‬
‫وقد اصطل َ‬

‫ن الن ّبيّ ﷺ كثير ًا ما يستعمل الأساليب التقريبية فيما فيه أعداد ٌ؛ وهذا مما ي ُعينُ على‬
‫‪-‬وفي الحديث فائدة ٌ أ ّ‬
‫ثلاث م َن كُنّ "‪" ،‬آية ُ‬
‫ٌ‬ ‫ن من أمر ِ الجاهلية"‪" ،‬‬ ‫الضبط والحفظ‪ ،‬ومن شواهد ذلك‪ :‬قول الن ّب ِيّ ﷺ‪"( :‬اثنا ٌ‬
‫س"‪،‬‬‫ك م ِن هؤلاء ِ الأربع"‪" ،‬بُنِي َ الإسلام ُ على خم ٍ‬
‫ق ثلاث"‪" ،‬أرب ٌع م َن كُنّ فيه"‪" ،‬اللهم إن ِ ّي أعوذ ُ ب ِ َ‬
‫المناف ِ‬
‫"سبعة ٌ يُظلهم الل ّه في ظله"‪" ،‬اجتنبوا السبع الموبقات")‪.‬‬

‫فاـئدة‪ :‬ينبغي أ ْن يكونَ الاقتداء ُ بالن ّب ِيّ ﷺ اقتداء ً‬


‫ق بالبيان؛ بأ ْن يُق ّدم َ‬ ‫ًّ‬
‫شمولي ّا؛ ومن ذلك‪ :‬الاقتداء ُ المتعل ّ ِ ُ‬

‫بوضوح وسهولة ٍ إلى نفوس المتلقين‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ل‬


‫الخطابُ الدعويّ بطر يقة ٍ تُعب ِّر ُ عما في نفس المتحدث‪ ،‬وتص ُ‬

‫ل على ما سواها‬
‫ض ُ‬
‫ن الصّ لاة َ تف ُ‬
‫ن أهمها هذه الخمسة‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن لتفاوت الأعمال في الدين؛ وأ ّ‬
‫‪-‬وفي الحديث بيا ٌ‬
‫ن بيْنَ‬
‫التغليظ الاستثنائيّ في الشر يعة في ترك الصّ لاة؛ ومن ذلك‪ :‬قول الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬إ ّ‬ ‫ُ‬ ‫منهم؛ ولذلك جاء َ‬
‫ك وال ْـكُ ْفرِ تَرْك َ الصّ لاة ِ"‪ ،‬وقال عبد الل ّه بن شقيق ‪-‬رحمه الل ّه‪( :-‬كان أصحابُ مُحم ّدٍ ﷺ لا‬‫ر ِ‬
‫ل وبيْنَ الش ِّ ْ‬
‫الر ّج ُ ِ‬
‫ن‬
‫ن في أ ّ‬
‫كفْر ٌ غير َ الصّ لاة ِ)‪ ،‬وفي تفضيل الصلاة على الأركان الأربع بيا ٌ‬
‫ير َ ْونَ شيئًا م ِن الأعمال تَرْك ُه ُ‬
‫ل موجود ٌ حت ّى بينَ أعلى الأعمال في الدين‪.‬‬
‫التفاوتَ والتفاض َ‬

‫ل‪ :‬م َن عاد َى لي‬ ‫ن الل ّه َ قا َ‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬إ ّ‬
‫ل عَبْدِي يَتَق َر ّبُ‬ ‫ْب‪ ،‬وما تَق َر ّبَ إلَيّ عَبْدِي بشَيء ٍ أح ّ‬
‫َب إلَيّ مم ّا اف ْتَر َضْ تُ عليه‪ ،‬وما ي َزا ُ‬ ‫و َل ًِّي ّا فق َ ْد آذَن ْت ُه ُ بالحَر ِ‬

‫‪- 41 -‬‬
‫ِش‬‫كن ْتُ سَمْع َه ُ ال ّذي ي َ ْسم َ ُع به‪ ،‬وبَصَرَه ُ ال ّذي يُبْصِر ُ به‪ ،‬ويَدَه ُ ال ّتي يَبْط ُ‬ ‫ل حت ّى أحِب ّه ُ‪ ،‬فإذا أحْ بَب ْت ُه ُ‪ُ ،‬‬
‫إلَيّ بالن ّواف ِ ِ‬
‫بها‪ ،‬ورِجْلَه ُ ال ّتي يَمْش ِي بها‪ ،‬وإ ْن سَألَنِي ل َأ ْعط ِيَن ّه ُ‪ ،‬ولئَِنِ اسْ ت َعاذَنِي ل َأعِيذ َن ّه ُ‪ ،‬وما ت َرَدّدْتُ عن ش َيء ٍ أنا فاع ِلُه ُ‬
‫ن؛ يَك ْرَه ُ المَوْتَ ‪ ،‬وأنا أكْرَه ُ م َساءَتَه ُ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫س المُؤْم ِ ِ‬
‫ت َرَدّدِي عن ن َ ْف ِ‬

‫‪-‬يشتهر ُ هذا الحديثُ عند َ بعض العلماء ِ بـ(حديث الأولياء)‪ ،‬وهذا الحديثُ من أد ّ ِ‬
‫ل الأحاديث في إثبات‬
‫ل إليه‬
‫ص ُ‬
‫ل إليه بما لا تو ِ‬ ‫ص ُ‬‫عبادات تو ِ‬
‫ٍ‬ ‫ل منها‬ ‫ن الل ّه َ لم ّا شر ّع َ العبادات للتقر ّب إليه‪ ،‬جع َ‬
‫التفاوت؛ ذلك أ ّ‬
‫ل ذلك‪ :‬قوله تعالى‪" :‬وما تَق َر ّبَ إلَيّ عَبْدِي بشَيء ٍ أح ّ‬
‫َب إلَيّ مم ّا اف ْتَر َضْ تُ عليه"؛‬ ‫غيرها من العبادات؛ ودلي ُ‬
‫ل إبراء ِ الذ ِّمّة وأداء ِ التكليف (فهذه درجة ٌ دنيا)‪ ،‬بل‬
‫ل المؤمن مع الفرائض تعام َ‬
‫ن تعام ُ‬
‫ولذا؛ ينبغي ألا يكو َ‬
‫ظِم َ هذه‬
‫ل ما يتقر ّبُ به إلى الل ّه (فهذه درجة ٌ عليا)؛ ومقتضى ذلك‪ :‬هو أ ْن يُع ّ‬
‫ل معها على أ ّنها أفض ُ‬
‫يتعام ُ‬
‫ن في أدائها‪.‬‬
‫س َ‬
‫الفرائض و يُح ِ‬

‫ِقات‪ ،‬قالوا‪ :‬يا‬ ‫الحديث السادس‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قال‪" :‬اجْ تَن ِب ُوا ال ّ‬
‫سب ْ َع المُوب ِ‬
‫ل‬
‫ك ُ‬
‫ل الر ِّبا‪ ،‬وأ ْ‬
‫ك ُ‬
‫س ال ّتي حَرّم َ الل ّه ُ إلّا بالح َ ّقِ‪ ،‬وأ ْ‬
‫ل الن ّ ْف ِ‬ ‫ل‪ :‬الش ِّرْك ُ بالل ّهِ‪ ،‬وال ّ‬
‫سِحْ ر ُ‪ ،‬وقَت ْ ُ‬ ‫ل الل ّه ِ وما ه ُنّ ؟ قا َ‬
‫ر َسو َ‬
‫ِلات"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ِنات الغاف ِ‬
‫َنات المُؤْم ِ‬
‫ْف المحُْص ِ‬
‫ف‪ ،‬وقَذ ُ‬
‫ل اليَت ِِيم‪ ،‬والت ّو َل ِّي يَوم َ الز ّحْ ِ‬
‫ما ِ‬

‫ن‪ ،‬وفي هذه‬


‫ن هناك سبع ًا من الموبقات؛ هنّ من أولى وأشد ما ينبغي أ ْن يجتنب َه ُ المؤم ُ‬
‫‪-‬ي ُبيِّنُ الن ّبيّ ﷺ أ ّ‬
‫ن لإثبات التفاوت في مراتب الدين من جهة النهي‪.‬‬
‫الح ِزمة ُ المغلظة ُ من المنهيات بيا ٌ‬

‫ن م ِن أكْ بَر ِ‬
‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬إ ّ‬
‫الحديث السابع‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمرو ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬

‫ُب‬
‫ل‪ :‬يَس ّ‬
‫ل والِدَيْه ِ؟‪ ،‬قا َ‬
‫ن الر ّج ُ ُ‬
‫وكيف يلَْع َ ُ‬
‫َ‬ ‫ل الل ّهِ‪،‬‬
‫ل‪ :‬يا ر َسو َ‬
‫ل والِدَيْه ِ‪ .‬قي َ‬
‫ن الر ّج ُ ُ‬
‫الك َبائِر ِ أ ْن يلَْع َ َ‬
‫ُب أمّه ُ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ُب أباه ُ‪ ،‬ويَس ّ‬
‫ل‪ ،‬فَيَس ّ‬
‫ل أبا الر ّج ُ ِ‬
‫الر ّج ُ ُ‬

‫حرمات المؤكدة َ المغلظة َ متفاوتة ٌ فيما بينها؛ فعندنا‪ :‬الكبائر‪،‬‬


‫ِ‬ ‫ن الم‬
‫إثبات لأمر التفاوت؛ ذلك أ ّ‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬في الحديث‬
‫وأكبر الكبائر‪.‬‬

‫فاـئدة ٌ منهجي ّة ٌ‪:‬‬


‫‪-‬ينبغي أ ْن ي ُربي َ طالبُ العلم في نفسه معني التفاوت في تعظيم مراتب الدين في الخبر والأمر والنهي‪ ،‬ومن ثم‬
‫ظِم ُ الالتزام العملي بقدر التعظيم القلبي؛ فهذا من أعظ ِم الفقه في الدين‪.‬‬
‫يع ّ‬

‫‪- 40 -‬‬
‫بعض‬
‫ُ‬ ‫ظم َ‬
‫الدعوي على غير هذا المقتضى؛ بأ ْن تُع ّ‬
‫ِّ‬ ‫‪-‬ومن صور الخلل الموجودة في الواقع‪ :‬إقامة ُ الخطاب‬
‫َت في الشر يعة‪ ،‬وكذلك في الأوامر والأخبار‪ ،‬ولأجل ذلك‪ :‬ينبغي‬
‫ظِم ْ‬
‫المنهيات على حساب المنهيات التي ع ُ ّ‬
‫ن على مراتبَ متفاوتة ٍ)‪.‬‬
‫ن الد ِّي َ‬
‫على المصلح أ ْن يُقيم َ خطاب َه ُ الدعويّ على تلك القاعدة الـكبرى‪( :‬أ ّ‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ لم ُِع َاذِ ب ِن جَب َ ٍ‬


‫ل‬ ‫الحديث الثامن‪ :‬عن عبد الل ّه بن عباس ‪-‬رضي الل ّه عنه‪-‬؛ قال‪"( :‬قا َ‬
‫ل ر َسو ُ‬

‫جئْتَهُمْ‪ ،‬فَا ْدعُه ُ ْم إلى أ ْن يَشْهَد ُوا أ ْن لا إلَه َ إلّا الل ّهُ‪،‬‬
‫اب‪ ،‬ف َِإذ َا ِ‬
‫ل كِت َ ٍ‬
‫ك سَت َأْ تي قَوْم ًا أه ْ َ‬
‫ن‪" :‬إن ّ َ‬
‫حِينَ بَع َث َه ُ إلى اليم َ َ ِ‬
‫ل‬
‫ات في ك ُ ّ ِ‬ ‫ْس صَلَو َ ٍ‬‫ن الل ّه َ ق ْد ف َر ََض عليهم خَم َ‬ ‫ك بذلكَ‪ ،‬فأخْبِرْه ُ ْم أ ّ‬ ‫ل الل ّهِ‪ ،‬فإ ْن ه ُ ْم أطَاع ُوا ل َ‬ ‫ن مُحَم ّدًا ر َسو ُ‬ ‫وأ ّ‬
‫صد َق َة ً تُؤْخَذ ُ م ِن أغْنِيَائِه ِ ْم فَتُرَدّ علَى‬
‫ن الل ّه َ ق ْد ف َر ََض عليهم َ‬
‫ك بذلكَ‪ ،‬فأخْبِرْه ُ ْم أ ّ‬
‫يَو ٍم ولَيْلَة ٍ‪ ،‬فإ ْن ه ُ ْم أطَاع ُوا ل َ‬
‫ليس بي ْن َه ُ وبيْنَ الل ّه ِ‬
‫ق دَعْوَة َ المَظْلُو ِم؛ فإن ّه َ‬
‫ك بذلكَ‪ ،‬ف َِإ ي ّاك َ وك َرَائِم َ أمْوَالِهِمْ‪ ،‬وات ّ ِ‬
‫فُق َرَائِهِمْ‪ ،‬فإ ْن ه ُ ْم أطَاع ُوا ل َ‬
‫َاب")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ِحج ٌ‬
‫ناقش قضية َ مراعاة الأولو يات في الخطاب الإصلاحي بناء ً على إدراك‬ ‫‪-‬هذا الحديثُ من الأحاديث التي ت ُ ُ‬
‫مطالب بأمرين‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ح‬
‫ن المُصل َ‬
‫تفاوت مراتب الدين‪ ،‬إذن؛ بعد إدراك التفاوت في الأمر والنهي والخبر؛ فإ ّ‬
‫ل بناء ً على هذا التفاوت‪.‬‬
‫ن على ضوء هذا التفاوت في مراتبه؛ ومن ثم يعم ُ‬
‫ظِم َ الدي َ‬
‫الأوّل‪ :‬أ ْن يُع ّ‬
‫ظم ُ ما‬
‫الثانـي‪ :‬أ ْن يُقيم َ خطابَه ُ الإصلاحيّ بناء ً على إثبات التفاوت في حقائق الدين من جهة الأولو ية؛ في ُع ّ‬
‫ظمه الل ّه ورسوله ﷺ من جهة الأوامر أو النواهي أو الأخبار‪.‬‬ ‫ع ّ‬

‫ل‬
‫قالت أمّ المؤمنين عائشة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪( :-‬إن ّما ن َز َ َ‬ ‫ْ‬ ‫‪-‬ولقد جاء َ الوحي بمراعاة أولو يات الخطاب‪ ،‬ولذلك؛‬
‫ل‬‫ل الحلََا ُ‬ ‫اس إلى الإسْ لَا ِم ن َز َ َ‬
‫ل‪ ،‬ف ِيهَا ذِك ْر ُ الجن َ ّة ِ والن ّارِ‪ ،‬حت ّى إذ َا ث َابَ الن ّ ُ‬
‫ن المُف َصّ ِ‬
‫ل منه سُورَة ٌ م ِ َ‬
‫ل ما ن َز َ َ‬
‫أوّ َ‬
‫ل ش َيء ٍ‪ :‬لا تَشْر َبُوا الخم َ ْر َ‪ ،‬لَقالوا‪ :‬لا نَدَع ُ الخم َ ْر َ أبَد ًا‪ ،‬ولو ن َز َ َ‬
‫ل‪ :‬لا تَزْنُوا‪ ،‬لَقالوا‪ :‬لا نَدَع ُ الز ِّنَا‬ ‫ل أوّ َ‬
‫والحَرَام ُ‪ ،‬ولو ن َز َ َ‬
‫وربط الن ّاس‬
‫ُ‬ ‫ن من أعظم أولو يات الخطاب الإصلاح ِيّ‪ :‬تعظيم ُ الل ّه والعلم ُ به‪،‬‬
‫أبَد ًا)؛ وعلى ذلك‪ :‬فإ ّ‬
‫ج لـكثيرٍ من مشكلات الواقع‪،‬‬
‫بتسليم؛ وفي هذا علا ٌ‬
‫ٍ‬ ‫ح القلوب لتتلقى حقائق الأمر والنهي‬
‫بالآخرة‪ ،‬وفت ُ‬
‫حقِ‪.‬‬
‫ل بينَ الن ّاس وبينَ اتباع ال ّ‬
‫وسقوط لـكثيرٍ من العقبات التي تحو ُ‬
‫ٌ‬

‫‪-‬أمّا م َن يتبعون في خطابهم الإصلاح ِيّ طر يقة َ صد ِم الن ّاس بحقائق الدين؛ مثل‪( :‬مخاطبة إمرأة ٍ تنهج‬
‫الاتجاه النسوي بقوله تعالى‪" :‬و َالل ّاتِي تَخَاف ُونَ نُش ُوز َه ُنّ ف َعِظ ُوه ُنّ و َاهْ ج ُر ُوه ُنّ فِي ال ْمَضَاج ِِع و َاضْر ِبُوه ُنّ ")؛ فإ ّ‬
‫ن‬
‫خالف لهدي الأنبياء في معالجة قضايا أقوامهم‪.‬‬
‫منكوس م ٌ‬
‫ٌ‬ ‫خطاب‬
‫ٌ‬ ‫هذا الخطابَ‬

‫‪- 42 -‬‬
‫القلوب‬
‫ِ‬ ‫ل‬
‫المحاضرة السادسة‪ :‬أهمي ّة ُ الت ّزكية ِ وأعما ِ‬
‫ِ‬
‫الفلاح‬ ‫ن عليهما مدار َ‬
‫القلوب وفضلِه ِما‪ ،‬وأ ّ‬
‫ِ‬ ‫ل‬
‫باب في مركز ية الت ّزكية ِ وأعما ِ‬
‫ٌ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫نصوص هذا الباب على الت ّزكية وأعمال القلوب؛ من حيث الأهمية والآثار المترتبة عليهما‪ ،‬وهذا في‬
‫ُ‬ ‫‪-‬تدور ُ‬
‫سياق التنشئة الإصلاحية للمؤمن بميراث الوحي؛ فقد اعتنى الوحي ُ بقضية الت ّزكية وأعمال القلوب عناية ً‬
‫صة ً أكثر َ من غيرها من القضايا‪.‬‬
‫خا ّ‬
‫‪-‬يقوم ُ معنى الت ّزكية على أمرين‪:‬‬
‫الأوّل‪ :‬التطهير ُ والتخلي لأمراض القلوب وأدواء النفوس‪ :‬ومن ذلك‪ :‬نهي ُ الن ّفس عن الهوى‪ ،‬والتخل ّص‬
‫كبر والنفاق والر ياء‪.‬‬
‫من الع ُجب والـ ِ‬
‫الثانـي‪ :‬الز يادة ُ والنماء ُ من الأعمال الصالحة‪ :‬التي يتزك ّي الإنسانُ بسببها؛ ومنه قوله تعالى‪" :‬ال ّذ ِي يُؤْتِي م َالَه ُ‬
‫وأساس ومركز ُ العمل في‬ ‫ُ‬ ‫أي‪ :‬يتزك ّى بالعمل الصالح وهو الصدقة‪ ،‬فيزيد ُ إيمان ُه ُ بز يادة العمل‪،‬‬ ‫يَتَز َك ّى"؛ ْ‬
‫ل الجوارح‪.‬‬
‫القلب؛ كالمحبة لل ّه والخشية له والتقوى والإنابة واليقين وغيرها من أعمال القلوب التي تُثمر ُ أعما َ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬ق َ ْد أفْل َ َ‬
‫ح م َنْ زَكّاه َا"‪:‬‬
‫س و َضُ ح َىهَا * و َٱلۡقَمَرِ ِإذ َا‬
‫ش ۡم ِ‬‫‪-‬هذه الآية ُ هي جوابُ القس ِم الذي أقسم َ الل ّه ُ به في أوّل سورة الشمس‪" :‬و َٱل ّ‬
‫سو ّىهَا‬
‫ۡس وَم َا َ‬ ‫طحَىهَا * و َنَف ࣲ‬ ‫ض وَم َا َ‬‫سم َا ء ِ وَم َا بَن َىهَا * و َٱلۡأ ۡر ِ‬
‫ل ِإذ َا یَغۡش َىهَا * و َٱل ّ‬
‫تلََىهَا * و َٱلنّهَارِ ِإذ َا ج َل ّىهَا * و َٱل ّی ۡ ِ‬
‫* ف َأل ۡهَمَه َا فُجُور َه َا و َتَقۡو َىهَا"؛ هذا كل ّه ُ قسمٌ؛ قسمٌ بالشمس وقسمٌ بضحاها وقسمٌ بالنهار وقسمٌ بالليل إلى آخر‬
‫الآيات‪ ،‬أقسم َ الل ّه ُ بهذه الأشياء كلها على شيئين‪:‬‬
‫ل ذلك‪:‬‬ ‫ح م َن ي ُزك ِ ّي نفسه‪" :‬ق َ ْد أفْل َ َ‬
‫ح م َنْ زَكّاه َا"‪ :‬الهاء في كلمة "زَكّاه َا" تعود ُ على الن ّفس؛ ودلي ُ‬ ‫الأوّل‪ :‬فلا ُ‬
‫ح م َنْ زَكّاه َا"‪.‬‬
‫سو ّىهَا * ف َأل ۡهَمَه َا فُجُور َه َا و َتَقۡو َىهَا * ق َ ْد أفْل َ َ‬
‫ۡس وَم َا َ‬
‫قوله تعالى‪" :‬و َنَف ࣲ‬
‫س نفسه‪" :‬و َق َ ْد خ َابَ م َن د َسّ اه َا"‪ :‬أي دن ّسها‪.‬‬
‫الثانـي‪ :‬خيبة ُ م َن دن ّ َ‬

‫ن الل ّه َ ق ّدم َ لها بكل هذه الأقسام المتتالية‪ ،‬وفي هذا‬


‫أفادت الآية ُ مركز ية َ تزكية الن ّفس في الإسلام؛ ذلك أ ّ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫أمر عظيم ٌ ج ًّ ّدا‪.‬‬
‫ن المُقس َم َ عليه ٌ‬
‫دلالة ٌ على أ ّ‬
‫‪- 43 -‬‬
‫ك جَز َاء ُ م َن ت َز َك ّى"‪:‬‬
‫ن ف ِيهَا وَذََٰل ِ َ‬
‫تحْتِهَا الْأنْهَار ُ خ َالِد ِي َ‬
‫تجْرِي م ِن َ‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬جَن ّاتُ ع َ ْد ٍ‬
‫ن َ‬
‫ل‬
‫ن الل ّه َ لما ذكر َ الجن ّة‪ ،‬واختصر َ سببَ دخولها في عم ٍ‬
‫أفادت الآية ُ مركز ية َ تزكية الن ّفس في الإسلام؛ فإ ّ‬ ‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ن الت ّزكية َ من أهم الأعمال التي يُمكن أ ْن يُتقربَ بها إلى‬ ‫ك جَز َاء ُ م َن ت َز َك ّى"؛ كان هذا بيان ًا أ ّ‬
‫معي ّن "وَذََٰل ِ َ‬
‫الل ّه‪.‬‬

‫ل الل ّه ِ عَلَيْك ُ ْم وَرَحْمَت ُه ُ م َا ز َكَى م ِنك ُم مّ ِنْ أحَدٍ أبَد ًا و َلََٰكِنّ الل ّه َ ي ُز َك ِّي م َن‬
‫الآية الثالثة‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َلَوْل َا ف َضْ ُ‬
‫ن الوسيلة َ الأساسية َ لتحصيل الت ّزكية هي أ ْن‬
‫ج هذه الآية ُ تحتَ عنوان وسائل الت ّزكية؛ ذلك أ ّ‬
‫يَش َاء ُ"‪ :‬تندر ُ‬
‫يم ُنّ الل ّه ُ بها على عبده‪.‬‬

‫الآية الرابعة والخامسة‪ :‬قال تعالى‪" :‬ه ُو َ ال ّذ ِي بَع َثَ فِي الْأمّ ِيِّينَ رَسُول ًا مِّنْه ُ ْم يَت ْلُو عَلَيْه ِ ْم آي َاتِه ِ و َي ُز َ ّ‬
‫كِيه ِ ْم"‪،‬‬

‫كِيك ُ ْم"‪.‬‬
‫وقال تعالى‪" :‬كَمَا أ ْرسَل ْنَا ف ِيك ُ ْم رَسُول ًا مّ ِنك ُ ْم يَت ْلُو عَلَيْك ُ ْم آي َاتنَِا و َي ُز َ ّ‬
‫وظائف رسوله ﷺ التي بُع ِث‬
‫َ‬ ‫وصف الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫َ‬ ‫‪-‬هاتان الآيتان يندرجان تحتَ عنوان مركز ية الت ّزكية؛ فقد‬
‫ل الت ّزكية َ أساسًا فيها‪ ،‬وهذا المعنى مكرر ٌ في القرآن‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫بها‪ ،‬فجع َ‬
‫كِيه ِ ْم"‪.‬‬ ‫ك و َيُع َل ِّمُهُم ُ الْكِتَابَ و َالْح ِ ْ‬
‫كم َة َ و َي ُز َ ّ‬ ‫َث ف ِيه ِ ْم رَسُول ًا مِّنْه ُ ْم يَت ْلُو عَلَيْه ِ ْم آي َات ِ َ‬
‫‪ -١‬قوله تعالى‪" :‬ر َب ّنَا و َابْع ْ‬
‫كِيه ِ ْم"‪.‬‬
‫‪ -٢‬قوله تعالى‪" :‬لَق َ ْد م َنّ الل ّه ُ عَلَى ال ْمُؤْم ِنِينَ ِإ ْذ بَع َثَ ف ِيه ِ ْم رَسُول ًا مّ ِنْ أنفُسِه ِ ْم يَت ْلُو عَلَيْه ِ ْم آي َاتِه ِ و َي ُز َ ّ‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ‬
‫ن ر َسو ُ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن زيد بن أرقم ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ل َا أق ُو ُ‬
‫ل لـَك ُ ْم إلّا كما كا َ‬
‫َاب القَبْرِ‪ ،‬الل ّه ُ ّم‬
‫ل‪ ،‬و َال ْه َر َ ِم‪ ،‬و َعَذ ِ‬
‫ل‪ ،‬و َالْجب ُْنِ و َالْبُخْ ِ‬
‫ن الع َجْ زِ و َال ْـكَس َ ِ‬
‫ك مِ َ‬
‫ل‪" :‬الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب َ‬
‫يقولُ؛ كانَ يقو ُ‬
‫كه َا أن ْتَ خَي ْر ُ م َن زَكّاه َا‪ ،‬أن ْتَ و َلِيّهَا وَمَوْل َاه َا")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫آت ن َ ْفس ِي تَقْوَاه َا‪ ،‬وَز َ ّ ِ‬
‫ِ‬

‫ل الل ّه ِ عَلَيْك ُ ْم وَرَحْمَت ُه ُ م َا ز َكَى م ِنك ُم مّ ِنْ أحَدٍ أبَد ًا‬


‫‪-‬هذا الحديثُ قريبُ المعنى من قوله تعالى‪" :‬و َلَوْل َا ف َضْ ُ‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ رب ّه أ ْن ي ُزك ِ ّي‬
‫كه َا أن ْتَ خَي ْر ُ م َن زَكّاه َا"؛ هنا يسأ ُ‬‫و َلََٰكِنّ الل ّه َ ي ُز َك ِّي م َن يَش َاء ُ"‪ ،‬لقوله ﷺ‪" :‬وَز َ ّ ِ‬
‫ن الت ّزكية َ إن ّما تكونُ من عند الل ّه‪.‬‬ ‫نفسه‪ ،‬لعلمه ﷺ أ ّ‬

‫حديث‪:‬‬
‫فـوائد ُ ال ِ‬
‫ن الذي ي ُزك ِ ّي النفوس و يطهرها هو الل ّه‪.‬‬
‫‪ -١‬الإيمانُ بأ ّ‬
‫ن الدعاء َ بالت ّزكية من أهم وسائل تحصيلها‪.‬‬
‫‪ -٢‬أ ّ‬
‫ص الن ّب ِيّ ﷺ على الدعاء بالت ّزكية‪.‬‬
‫‪ -٣‬يبيِّن الحديثُ أهمية َ الت ّزكية من جهة حر ِ‬

‫‪- 44 -‬‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ كان يدعو‬
‫ل دائمٍ؛ لأ ّ‬
‫ل محافظًا على قضية الدعاء بالت ّزكية بشك ٍ‬
‫‪ -٤‬أن ّه ينبغي على المُصلح أ ْن يظ ّ‬
‫بالت ّزكية‪ ،‬وللمصلح أسوة ٌ في الن ّب ِيّ ﷺ‪.‬‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ كان‬
‫ق الت ّزكية َ وت ُنقص ُها؛ ذلك أ ّ‬
‫ل من الأمراض التي تُعي ُ‬
‫ل والجبنَ والبخ َ‬
‫ن العجز َ والـكس َ‬
‫‪ -٥‬أ ّ‬
‫ل‬ ‫ل صبا ٍح ومساءٍ‪ ،‬خا ّ‬
‫صة ً الـكسل؛ كان يستعيذ ُ منه الن ّبيّ ﷺ بشك ٍ‬ ‫يستعيذ ُ بالل ّه من هذه الأمراض في ك ّ ِ‬
‫ن كسولٍ‪.‬‬
‫ل للدين ون ُصرت ُه ُ لا يستقيم ُ لإنسا ٍ‬
‫مكر ٍر؛ إذ العم ُ‬

‫فاـئدة ٌ منهجي ّة ٌ‪ :‬من وسائل التف ّقه في الدين‪ :‬التنب ّه والت ّف ّقه لمعاني العبودية في الأذكار اليومي ّة؛ ومن ذلك‪:‬‬
‫‪ -١‬التف ّقه ُ في تشر يع ذكر ِ (لا إله إلا الل ّه) عدد ًا كبير ًا في اليوم على سبيل الوجوب والاستحباب؛ بدءًا من‬
‫أذكار الصباح والمساء‪ ،‬ثم الأذان والترديد خلف المؤذن‪ ،‬ثم الذكر بعد الوضوء‪ ،‬ثم أذكار الصلاة وما بعدها‪،‬‬
‫ودعاء كفارة المجلس‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫‪ -٢‬الت ّف ّقه ُ في سُن ّة تكرار الاستعاذة اليومي ّة في الصباح والمساء من الـكسل‪.‬‬

‫ن حزاورة ٌ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن جندب بن عبد الل ّه ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬كن ّا م َع الن ّب ِيّ ﷺ ونح ُ‬
‫ن فتيا ٌ‬
‫ن ماجه‪.‬‬
‫ل أن نتعل ّم َ القرآنَ ثم ّ تعل ّمنا القرآنَ فازددنا ب ِه إيمان ًا)‪ ،‬أخرج َه ُ اب ُ‬
‫فتعل ّمنا الإيمانَ قب َ‬
‫‪-‬قوله‪( :‬حزاورة ٌ)‪ :‬جمع الحزْو َر؛ وهو الغلام ُ الذي قاربَ البلوغ‪.‬‬

‫ل الت ّزكية َ في مدرسة الن ّب ِيّ ﷺ هي المبتدأ والمنتهى‪ ،‬لقوله‪:‬‬


‫يرتبط هذا الحديثُ بباب الت ّزكية؛ وذلك أن ّه جع َ‬
‫‪ُ -‬‬
‫ل أن نتعل ّم َ القرآنَ)؛ فالمبتدأ الت ّزكية ُ وأعمال القلوب؛ كالإخلاص والخشية والخوف‬
‫(فتعل ّمنا الإيمانَ قب َ‬
‫ت سُورَة ٌ فم َِنْه ُم مّن‬
‫والإنابة‪ ،‬والمنتهى ز يادة ُ الإيمان بتعل ّم القرآن‪ ،‬ومن شواهد ذلك‪ :‬قوله تعالى‪" :‬و َِإذ َا م َا أنز ِل َ ْ‬

‫ن ِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ‬


‫ن آم َن ُوا ف َزَادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا"‪ ،‬وقوله تعالى‪ِ " :‬إن ّمَا ال ْمُؤْم ِن ُونَ ال ّذ ِي َ‬
‫ل أي ّك ُ ْم ز َاد َت ْه ُ هََٰذِه ِ ِإ يمَان ًا ف َأمّا ال ّذ ِي َ‬
‫يَق ُو ُ‬
‫ت قُلُو بُه ُ ْم و َِإذ َا تلُِي َْت عَلَيْه ِ ْم آي َاتُه ُ ز َادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا و َعَلَى ر َ ّبِه ِ ْم يَت َوَكّلُونَ"‪.‬‬
‫وَجِل َ ْ‬

‫فاـئدة ٌ منهجي ّة ٌ‪ :‬ينبغي أ ْن ي َ‬


‫حرص طالبُ العلم في شرح الأحاديث الن ّبو ي ّة على أ ْن يأتي َ بشواهد َ لها من‬

‫القرآن؛ فهذا مما يُعزز ُ المعاني و يُعضد ُها‪.‬‬

‫الحديث الثالث والرابع والخامس‪:‬‬


‫ص ْدرِه ِ ثَلاثَ‬
‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬الت ّقْو َى هاه ُنا؛ ويُشِير ُ إلى َ‬
‫‪-‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ات"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫م َّر ٍ‬

‫‪- 45 -‬‬
‫ن الل ّه َ تعالى ل َا ينظر ُ إلى صُوَرِك ُ ْم و َأمْوالـِكُمْ‪،‬‬
‫ل الل ّه ﷺ‪ِ " :‬إ ّ‬
‫‪-‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ولـكنْ ِإن ّما ينظر ُ إلى قلوب ِكم وأعمالـِكم"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ن في الجَسَدِ م ُضْ غ َة ً‪ :‬إذ َا‬
‫ل الل ّه ﷺ يقول‪" :‬أل َا وإ ّ‬
‫‪-‬عن النعمان بن بشير ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬سمعتُ رسو َ‬
‫َت فَسَد َ الجَسَد ُ كُل ّه ُ‪ ،‬أل َا وهي الق َل ْبُ "‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ح الجَسَد ُ كُل ّه ُ‪ ،‬وإذ َا فَسَد ْ‬
‫َت صَل َ َ‬
‫صَلَح ْ‬

‫مقامات أربع‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬توضح هذه الأحاديثُ الثلاثة ُ مركز ية َ عمل القلب في الشر يعة‪ ،‬وللت ّربية على الأعمال‬
‫الأوّل‪ :‬الت ّربية على الاهتمام بالأعمال القلبية وعلى الأعمال الظاهرة؛ وهي أعمال الجوارح‪ ،‬والذي يترب ّى‬
‫على هذا المعنى؛ فإن ّه يترب ّى تربية ً مواف ِقة ً لمنهاج الن ّب ُو ّة‪.‬‬
‫الثانـي‪ :‬الت ّربية على الاهتمام بالأعمال الظاهرة؛ كالصلاة والزكاة‪ ،‬دونَ التركيز على الأعمال القلبية‪ ،‬والذي‬
‫يترب ّى على هذا المعنى؛ فهو وإ ْن ترب ّى على خيرٍ‪ ،‬إلا أن ّه لم يترب ّى على الخير التا ِمّ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬الت ّربية على الاهتمام بالأعمال الظاهرة ولـكن بدون تركيز على مركز ياتها وإن ّما على بعض الس ُنَن‬
‫والمظاهر الشرعية مع إهمال ما هو آكد ُ منها من الأعمال الظاهرة‪ ،‬ومع إهمال الأعمال القلبية‪.‬‬
‫الـرابع‪ :‬الت ّربية على الاهتمام بالأعمال الباطنة والتركيز عليها‪ ،‬مع إهمال الأعمال الظاهرة‪.‬‬

‫ن الت ّربية َ الصحيحة َ ينبغي أ ْن يكونَ التركيز ُ فيها على الأعمال الباطنة؛ وذلك بالنظر إلى ما في‬
‫‪-‬وعلى ذلك؛ فإ ّ‬
‫ن‬
‫ق ومحبة ٍ وخشية ٍ وغير ذلك‪ ،‬فإذا قام َ المسلم ُ بتنمية تلك الأعمال في نفسه =فإ ّ‬
‫ص وصد ٍ‬
‫القلب من إخلا ٍ‬
‫النتيجة َ المباشرة َ على ذلك‪ ،‬هي سرعة ُ استجابته للأعمال الظاهرة؛ كالجهاد والصلاة والصدقة والصيام‪.‬‬

‫خالفات ظاهرة ٌ كثيرة ٌ؛ وهذه المخالفاتُ إن ّما‬


‫ٌ‬ ‫‪-‬نحن ‪-‬اليوم‪ -‬في أش ّدِ الحاجة لهذا النوع من الت ّربية؛ إذ عندنا م‬
‫ج وغر ِقَ وأصيبَ بج ُ ٍ‬
‫رح غائر ٍ في‬ ‫ن إنسان ًا ق ْد ضر َب َه ُ المو ُ‬
‫إنعكاس لضمو ٍر إيمان ٍيّ قلب ٍيّ داخلي‪( ،‬كما لو أ ّ‬
‫ٌ‬ ‫هي‬
‫يتنفس بعد ُ وقلب ُه ُ‬
‫ُ‬ ‫ق لا‬
‫ل الطبيبُ بعلاج الجرح الخارجي الغائر‪ ،‬وهذا الغر ي ُ‬
‫جسده‪ ،‬فلا يصحّ أ ْن ينشغ َ‬
‫متوقف)‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ح في معالجة المخالفات الظاهرة يكونُ باستنهاض القلب‪ ،‬بع ّدة وسائل‬
‫ج التربويّ الصحي َ‬
‫ن المنه َ‬
‫‪-‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫ختلف عن معالجة الإشكالات الظاهرة‪ ،‬من هذه الوسائل‪ :‬ز يادة ُ الجرعات الإيمانية المكثفة المتعل ِّقة بتعظيم‬
‫ت ُ‬
‫وربط الإنسانُ بحقائق الوحي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ق الإنسانُ لأجلها‪،‬‬
‫الل ّه‪ ،‬والمتعل ِّقة بالتذكير بالغايات التي خ ُل ِ َ‬

‫يستيقظ الإنسانُ لصلاة الفجر ينبغي أ ْن يتخذ َ ع ّدة َ وسائل معينة؛ كأ ْن ينام َ مبكرًا‪،‬‬
‫َ‬ ‫ل ذلك‪ :‬لـكي‬
‫مثاـ ُ‬
‫والأساس الذي‬
‫ُ‬ ‫ل‬
‫بأس بها‪ ،‬لـكن الأص ُ‬
‫ل لا َ‬
‫يضبط منبهًا‪ ،‬هذه كل ّها وسائ ُ‬
‫َ‬ ‫و يأخذ َ ق ِسطًا من القيلولة‪ ،‬و‬
‫‪- 46 -‬‬
‫ينبغي أ ْن يسبق َها هو يقظة ُ القلب بتعظيم أمر الصلاة‪ ،‬هذه اليقظة ُ هى التي تدف ُع الإنسانَ إلى المجاهدة‬
‫للاستيقاظ إلى صلاة الفجر‪.‬‬

‫الحديث السادس‪ :‬عن ابن مسعودٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ما كانَ بيْنَ إسْ لَام ِنَا وبيْنَ أ ْن عَاتَبَنَا الل ّه ُ بهذِه‬

‫تخْشَ َع قُلُو بُه ُ ْم لِذِكْر ِ الل ّه ِ" إلّا أ ْر ب َ ُع سِنِينَ)‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ن آم َن ُوا أ ْن َ‬ ‫الآيَة ِ‪" :‬أل َ ْم ي َأْ ِ‬
‫ن لِل ّذ ِي َ‬

‫ل وصبرٍ‪ ،‬ومع‬
‫ن مسعودٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن المرحلة المكية وما فيها من اضطهادٍ وتضحية ٍ وبذ ٍ‬
‫‪-‬يتكل ّم اب ُ‬
‫ي لجماعة ٍ من المؤمنين بأ ْن يعتنوا بهذا المعنى القلبي وهو الخشوع‪ ،‬وجاء فيه‬
‫ل فيها هذا العتابُ الإله ّ‬
‫ذلك؛ ينز ُ‬
‫ق وَل َا يَكُونُوا‬
‫ن الْح َ ّ ِ‬ ‫تخْشَ َع قُلُو بُه ُ ْم لِذِكْر ِ الل ّه ِ وَم َا ن َز َ َ‬
‫ل مِ َ‬ ‫ن آم َن ُوا أن َ‬ ‫النص على القلب؛ فقال تعالى‪" :‬أل َ ْم ي َأْ ِ‬
‫ن لِل ّذ ِي َ‬ ‫ّ‬
‫ن"‪.‬‬
‫سق ُو َ‬
‫َت قُلُو بُه ُ ْم وَكَث ِير ٌ مِّنْه ُ ْم فَا ِ‬
‫ل عَلَيْهِم ُ الْأمَد ُ فَقَس ْ‬
‫ل فَطَا َ‬
‫ن أوتُوا الْكِتَابَ م ِن قَب ْ ُ‬
‫ك َال ّذ ِي َ‬

‫ل العهد بينَ الإنسان وبينَ مرجعي ّة الوحي‪ ،‬كما‬


‫‪-‬هذه الآية ُ فيها تحذير ٌ من وسيلة ٍ إلى قسوة القلب؛ وهي طو ُ‬
‫ن من‬
‫ت قلو بُه ُم‪ ،‬ونتيجة ً لذلك؛ فإ ّ‬
‫كت ُب ربهم =ف َق َسَ ْ‬
‫ل الأمد ُ بينَ الذين أوتوا الكتاب وبينَ أنبيائهم و ُ‬
‫طا َ‬
‫أعظم أسباب الوقاية من قسوة القلب‪ :‬دوام َ الاتصال بالوحي‪.‬‬

‫ن‬
‫ل منه سُورَة ٌ م ِ َ‬ ‫ل ما ن َز َ َ‬ ‫الحديث السابع‪ :‬عن عائشة َ أ ِمّ المؤمنين ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬قالت‪( :‬إن ّما ن َز َ َ‬
‫ل أوّ َ‬

‫ل ش َيء ٍ‪:‬‬ ‫ل أوّ َ‬


‫ل والحَرَام ُ‪ ،‬ولو ن َز َ َ‬ ‫ل الحلََا ُ‬ ‫اس إلى الإسْ لَا ِم ن َز َ َ‬
‫ل‪ ،‬ف ِيهَا ذِك ْر ُ الجنَ ّة ِ والن ّارِ‪ ،‬حت ّى إذ َا ث َابَ الن ّ ُ‬
‫المُف َصّ ِ‬
‫ل بمَك ّة َ علَى مُحَم ّدٍ‬
‫ل‪ :‬لا تَزْنُوا‪ ،‬لَقالوا‪ :‬لا نَدَع ُ الز ِّن َا أبَد ًا‪ ،‬لق َ ْد ن َز َ َ‬
‫لا تَشْر َبُوا الخم َ ْر َ‪ ،‬لَقالوا‪ :‬لا نَدَع ُ الخم َ ْر َ أبَد ًا‪ ،‬ولو ن َز َ َ‬
‫ت سُورَة ُ البَق َرَة ِ والنِّس َاء ِ إلّا وأن َا‬
‫ساع َة ُ أ ْده َى و َأم َّر"‪ ،‬وما ن َزَل َ ْ‬
‫ساع َة ُ مَوْعِد ُه ُ ْم و َال ّ‬
‫ل ال ّ‬
‫ﷺ وإن ِ ّي لَجا َرِ يَة ٌ ألْع َبُ ‪" :‬ب َ ِ‬
‫عِنْدَه ُ)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫حديث‪:‬‬
‫فـوائد ُ ال ِ‬
‫‪ -١‬بيانُ أثر ِ استصلاح القلب وتذك ّر ِ الآخرة على استعداد الن ّفس للاستجابة للأمر والنهي‪.‬‬

‫حرص‬
‫اس للأمر والنهي =فلي َ َ‬
‫‪ -٢‬من جهة الخطاب الدعوي‪ :‬ينبغي على المُصلح إذا أراد َ أ ْن يستجيبَ الن ّ ُ‬
‫ي لـكثرة التفر يط‬
‫ن السببَ الأساس ّ‬
‫على أ ْن يزيد َ من مستوى إيمانهم القلبي الداخلي واستحضارهم الآخرة‪ ،‬فإ ّ‬
‫في الاستجابة للأمر والنهي يعود ُ إلى السبب الباطني المتعلِّق بمرض القلب‪ ،‬وذلك بقلة تذك ّر الآخرة‪.‬‬

‫‪ -٣‬أهمية ُ دوام التذكير بالجن ّة والن ّار وبمركز ية الآخرة؛ لأ ّنها من أعظم ما يُجدد ُ الإيمانُ في القلب؛ في َعظُم ُ في‬
‫ل ذلك إلى الجوارح من جهة الزجر من ارتكاب الذنوب‪ ،‬والمحاذرة منها‪.‬‬
‫خوف والخشية ُ‪ ،‬ثم يتنق ُ‬
‫القلب ال ُ‬
‫‪- 47 -‬‬
‫شرف العلم ِ الن ّ ِ‬
‫افع وفضلِه ِ‬ ‫ُ‬ ‫المحاضرة السابعة‪:‬‬
‫شرف العلم ِ الن ّ ِ‬
‫افع وفضلِه ِ وذ ِمّ م َن لم يعملْ بعلمِه ِ‬ ‫ِ‬ ‫بابُ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫ن أبوابَ متن المنهاج متعل ِّقة بسو ية المؤمن وسلوكه وما يحتاج ُه ُ في طر يقه الإصلاحي؛ ومن‬
‫‪-‬بي ّنا ‪-‬سابق ًا‪ -‬أ ّ‬
‫ق بالبناء العلمي للمصلح من جهة ما جاء في مرجعي ّة‬
‫جُملة ما يحتاجه‪ :‬العلم؛ وهذا البابُ في ضبطِ ما يتعل ّ ُ‬
‫الوحي‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ل عنوا ِ‬
‫تفصي ُ‬
‫شرف العلم ِ الن ّ ِ‬
‫افع)‪ :‬فيها فائدتان‪ :‬إشارة ٌ إلى مكانة العلم وأهميته‪ ،‬وإشارة ٌ إلى صفة ٍ مقي ّدة ٍ للعلم وهي‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬قوله‪(:‬‬
‫أ ْن يكونَ هذا العلم ُ نافع ًا‪.‬‬
‫ن العلم َ إنما ي ُراد ُ للعمل به؛ فم َن عَل ِم َ ولم ْ يعملْ =فهو مذموم ٌ‪.‬‬
‫‪-‬قوله‪( :‬وذ ِمّ م َن لم يعملْ بعلمِه ِ)‪ :‬إشارة ٌ إلى أ ّ‬
‫نصوص الباب ثلاثَ قضايا؛ هم‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ل‬
‫‪-‬تتناو ُ‬
‫شرف العلم وبيانُ فضله‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪-١‬‬
‫‪ -٢‬بيانُ أهمية أ ْن يكونَ العلم ُ نافع ًا‪.‬‬
‫‪ -٣‬أهمية ُ العمل بالعلم وذ ِمّ م َن لم يعملْ بعلمه‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫الآية الأولى‪ :‬قوله تعالى‪" :‬و َقُلْ ر ِّ‬
‫َب زِ ْدنِي ع ِل ْمًا"‪:‬‬
‫بطلب الازدياد من العلم‪ ،‬والعلم ُ المقصود ُ‬
‫ِ‬ ‫ل العلم وشرفه؛ إذ فيها أمرُ الل ّه للن ّب ِيّ ﷺ‬
‫تكشف الآية ُ عن فض ِ‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫في هذه الآية‪ :‬هو العلم ُ بالوحي‪ ،‬ومما يبيِّن ذلك‪:‬‬
‫ك و َحْ ي ُه ُ‬
‫ل أن يُقْض َى ِإلَي ْ َ‬
‫ن م ِن قَب ْ ِ‬
‫ك الْحَقّ وَل َا تَعْج َلْ ب ِالْقُر ْآ ِ‬
‫‪ -١‬قوله تعالى في مطـلع الآيــة‪" :‬فَتَع َالَى الل ّه ُ ال ْمَل ِ ُ‬
‫ل في تلـقي الـوحي؛ وهذا توجـيه ٌ في طر يقة التلقي‪،‬‬
‫ب زِ ْدنِي ع ِلْمًا"؛ أي‪ :‬أمرَ الل ّه ُ نبي ّه ﷺ ألا يعج َ‬
‫و َقُل رّ ِّ‬
‫وليس نهيًا عن الازدياد من العلم والسعي فيه‪.‬‬
‫ن ال ْعِلْم ِ‬
‫ن الل ّه َ يُسمِّي القرآنَ علمًا؛ ومن ذلك‪ :‬قوله تعالى‪" :‬و َلئَِنِ ات ّبَعْتَ أه ْوَاءَه ُم مّ ِن بَعْدِ م َا ج َاءَك َ م ِ َ‬ ‫‪ -٢‬أ ّ‬
‫ظالِمِينَ"‪.‬‬
‫ن ال ّ‬
‫ك ِإذ ًا ل ّم ِ َ‬
‫ِإن ّ َ‬
‫‪- 48 -‬‬
‫ن من أهم وسائل تحصيل العلم‪ :‬الدعاءَ‪ ،‬فالعلم ُ له وسائلُه ُ ومنهجياتُه ُ وطُر ُقُه ُ المعروفة‪،‬‬ ‫‪-‬ومن فوائد الآية‪ :‬أ ّ‬
‫ل طالبُ العلم عن الدعاء لتحصيل العلم‪.‬‬
‫ولـكن ينبغي ألا يغف َ‬

‫ن ل َا يَعْلَم ُونَ"‪:‬‬ ‫الآية الثانـية‪ :‬قوله تعالى‪" :‬قُلْ ه َلْ يَسْتَوِي ال ّذ ِي َ‬


‫ن يَعْلَم ُونَ و َال ّذ ِي َ‬

‫‪-‬ذ ْ‬
‫كرت الآية ُ أمرَ عبا ٍد صالحين؛ عَر ِفوا ما ينفعهم في الآخرة فأمضوا ليلهم سجدًا وقيام ًا‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ن‬
‫ن يَعْلَم ُونَ و َال ّذ ِي َ‬
‫خرَة َ و َيَرْجُو رَحْم َة َ ر َبِّه ِ قُلْ ه َلْ يَسْتَوِي ال ّذ ِي َ‬
‫يحْذَر ُ الْآ ِ‬
‫جدًا و َقَائِمًا َ‬
‫ل سَا ِ‬
‫"أمّنْ ه ُو َ قَان ِتٌ آن َاء َ الل ّي ْ ِ‬
‫ن العلم َ الذي يدف ُع إلى قيام الليل وحذَرِ‬
‫ن"‪ ،‬أي‪ :‬يعلمون علمًا نافع ًا مثمرًا وباعثًا للعمل‪ ،‬ولا شك أ ّ‬
‫ل َا يَعْلَم ُو َ‬
‫ل بهذه المعاني (علم الوحي)‪.‬‬
‫الآخرة هو العلم ُ المتص ُ‬

‫ينعكس على حامله بالخشية من الل ّه وحذَرِ‬


‫َ‬ ‫ن من ثمرات العلم الصحيح‪ :‬أ ْن‬
‫‪-‬وفي هذه الآية إشارة ٌ إلى أ ّ‬
‫الآخرة‪ ،‬وأ ْن يكونَ لهذا الانعكاس أثر ٌ عمليّ؛ ومن جُملة هذا الأثر‪ :‬قيام الليل؛ ولقيام الليل ع ّدة نوافذ؛ منها‪:‬‬
‫ل‪ ،‬والنّهارِ ذَك َرَه ُ‪،‬‬
‫ن فَق َرَأه ُ بالل ّي ْ ِ‬
‫‪ -١‬نافذة ٌ لتثبيت القرآن ومراجعته؛ قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬وإذا قام َ صاحِبُ القُر ْآ ِ‬
‫وإذا ل َ ْم يَق ُ ْم به نَسِي َه ُ"‪.‬‬
‫‪ -٢‬وسيلة ٌ لاستصلاح القلب بالمعالجة الإيمانية؛ من خلال الأنس بالل ّه ومناجاته‪.‬‬

‫ن قيام َ الليل من أهم ما يعصِم ُ الإنسانَ من الفتن في الدنيا؛ ودليله‪ :‬حديثُ أ ِمّ المؤمنين‬
‫باعث للخوف؛ لأ ّ‬
‫ٌ‬ ‫‪-3‬‬
‫ن‬ ‫سب ْح َانَ الل ّهِ‪ ،‬م َاذ َا أن ْز َ َ‬
‫ل الل ّه ُ م ِ َ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ لَيْلَة ً فَزِعًا‪ ،‬يقو ُ‬
‫ل‪ُ " :‬‬ ‫أ ِمّ سلَمة َ ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬قالت‪"( :‬اسْ تَيْق ََظ ر َسو ُ‬
‫ُب ك َاسِيَة ٍ في‬
‫ات ‪-‬يُر ِيد ُ أ ْزو َاج َه ُ لـِك َ ْي يُصَلِّينَ‪ -‬ر ّ‬
‫ن الف ِتَنِ‪ ،‬م َن يُوق ُِظ صَوَاحِبَ الحجُُر َ ِ‬
‫ل مِ َ‬
‫الخَزَائِنِ‪ ،‬وم َاذ َا أنْز ِ َ‬
‫خرَة ِ")‪ .‬وكذلك؛ يقي قيام ُ الليل الإنسانَ من المخاوف الأخرو ية؛ ودليل ذلك‪ :‬قوله تعالى‬
‫الد ّن ْيَا عَارِ يَة ٍ في الآ ِ‬
‫جهَن ّم ََۖ"‪.‬‬
‫ِف ع َن ّا عَذ َابَ َ‬ ‫ن یَب ِیت ُونَ ل ِر َ ّبِه ِ ۡم سُ ج ّدࣰا و َق ِیََٰم ًا * و َٱل ّذ ِی َ‬
‫ن یَق ُولُونَ ر َب ّنَا ٱصۡر ۡ‬ ‫في سورة الفرقان‪" :‬و َٱل ّذ ِی َ‬

‫خرَة َ و َيَرْجُو رَحْم َة َ ر َبِّه ِ"‪ ،‬ثم ذي ّل ذلك‬


‫يحْذَر ُ الْآ ِ‬
‫جدًا و َقَائِمًا َ‬
‫ل سَا ِ‬
‫‪-‬قال الل ّه ‪-‬تعالى‪" :-‬أمّنْ ه ُو َ قَان ِتٌ آن َاء َ الل ّي ْ ِ‬
‫ن أعظم َ صور العلم النافع‪:‬‬
‫ن إلى أ ّ‬
‫ن ل َا يَعْلَم ُونَ"؛ وفي هذا بيا ٌ‬
‫ن يَعْلَم ُونَ و َال ّذ ِي َ‬
‫بقوله تعالى‪" :‬قُلْ ه َلْ يَسْتَوِي ال ّذ ِي َ‬
‫هو العلم ُ بالل ّه والعلم بالآخرة‪ ،‬ذلك العلم الباعث على العمل والخوف والخشية والرجاء‪.‬‬

‫الآية الثالثة‪ :‬قوله ‪-‬تعالى‪ِ " :-‬إن ّمَا َ‬


‫يخ ْش َى الل ّه َ م ِنْ عِبَادِه ِ ال ْع ُلَمَاء ُ"‪:‬‬
‫ل إليها‬
‫ن أ ْن يص َ‬
‫تكشف الآية ُ عن ثمرة العلم النافع‪ ،‬وهي الخشية؛ وهي من أشرف الدرجات التي يمك ُ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ل الإنذار َ والادكار َ والاعتبار َ لأهل الخشية؛ فقال تعالى‪:‬‬
‫ن الل ّه َ جعلها مرتبطة ً بالعلماء‪ ،‬وجع َ‬
‫المؤمنُ؛ لأ ّ‬

‫‪- 49 -‬‬
‫ن الخشية َ صفة ٌ مركز ية ٌ في إمكان‬
‫يخْشَاه َا"‪ ،‬وعلى ذلك؛ فإ ّ‬
‫يخ ْش َى"‪ ،‬وقال‪ِ " :‬إن ّمَا أنتَ م ُنذِر ُ م َن َ‬
‫"سَي َ ّذك ّر ُ م َن َ‬
‫الإستفادة والاعتبار والاتعاظ والادكار‪ ،‬والسبيل إلى الخشية؛ إن ّما يكونُ بالعلم‪.‬‬

‫الحديث الأوّل‪ :‬عن معاو ية َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬سَمِعْتُ الن ّبيّ ﷺ يقو ُ‬
‫ل‪" :‬م َن يُرِدِ الل ّه ُ به خَيْر ًا يُف َ ّقِهْه ُ‬

‫في الد ِّي ِن")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬


‫ن أ ْن يشير َ إلى قضية العلم النافع‪.‬‬
‫شرف العلم وفضله في الأساس‪ ،‬ويمك ُ‬
‫ِ‬ ‫ج هذا الحديثُ تحتَ‬
‫‪-‬يندر ُ‬

‫أي‪( :‬م َن لا ي ُردِ الل ّه ُ به خير ًا =لا يُف َ ّقِهْه ُ في الدين)‪ ،‬وهذا‬
‫حديث مقصود ٌ؛ ْ‬
‫ن مفهوم َ ال ِ‬
‫بعض العلماء بأ ّ‬
‫ُ‬ ‫ل‬
‫‪-‬قا َ‬
‫ج إلى قد ٍر من التحرير والضبط‪ ،‬ولـكن ينبغي أ ْن يُن ْتَبه َ إلى مثل هذا المعنى‪.‬‬
‫المفهوم ُ يحتا ُ‬

‫ص الشرعيّ في علم الفقه‪ ،‬وإن ّما المقصود ُ به‪ :‬الفقه العامّ في الدين‪،‬‬
‫‪-‬ليس المقصود ُ بـ(الفقه في الدين) التخصّ َ‬
‫ل أصوله وفروعه ومجموع حقائقه‪ ،‬ومن الأمور الكاشفة عن معنى الدين‪ :‬حديث (جبر يل‬
‫والدين‪ :‬كلمة ٌ تشم ُ‬
‫انصرف؛ قال‬
‫َ‬ ‫ق بها‪ ،‬فلم ّا‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وما يتعل ّ ُ‬
‫الطو يل) لما سأ َ‬
‫ل أتاك ُ ْم يُع َل ِّمُك ُ ْم دِينَك ُ ْم"؛ فسمّى الن ّبيّ ﷺ هذه المقامات كلها وما يتعل ّ ُ‬
‫ق بها دينًا‪.‬‬ ‫جبْرِي ُ‬
‫الن ّبيّ ﷺ‪" :‬فإن ّه ِ‬

‫باب‬
‫‪-‬وكلمة ُ (الفقه) في خطاب الوحي وما ورد عن أهل العلم‪ ،‬هي كلمة ٌشر يفة‪ ،‬وهي أكبر ُ من أ ْن تُحصر َ ٍ‬
‫مقامات ثلاث؛ وهم كالتالي‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ن الفقه َ على‬
‫من أبواب الدين؛ وبيانُ ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫ي‬
‫ل في مقامات الفقه‪ ،‬وحت ّى لو سُم ِّ َ‬
‫يف؛ لـكنه لا يدخ ُ‬
‫حفظ العلم وتبليغه‪ :‬وهذا مقام ٌ شر ٌ‬
‫ُ‬ ‫المقام الأوّل‪:‬‬
‫فقه ًا بالاعتبار العام فهو في أدنى درجات الفقه؛ لقول الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬نض ّر َ الل ّه ُ امرأ ً سم ِ َع من ّا حديثًا فحفِظَه ُ حت ّى‬
‫ل فقه ٍ إلى من هو َ أفق َه ُ منه ُ"‪.‬‬
‫ُب حام ِ‬
‫ليس بف َقيه ٍ ور ّ‬
‫ل فقه ٍ َ‬
‫يبلِّغ َه ُ غيرَه ُ فر ُّب حام ِ‬

‫‪-‬ومن المهم وجود هذه الطبقة في العلم؛ وهي الطبقة ُ الناقلة ُ للعلم دونَ التحقيق فيه‪ ،‬كما جاء في قول الن ّب ِيّ‬
‫ْث الـكَث ِيرِ أصابَ أ ْرضًا‪،‬‬ ‫ن الهُد َى والعِلْم ِ‪ ،‬كَمَث َ ِ‬
‫ل الغَي ِ‬ ‫ل ما بَع َثَنِي الل ّه ُ به م ِ َ‬
‫ﷺ عن القلوب التي تتلقى العلم‪" :‬م َث َ ُ‬

‫َت الماءَ‪ ،‬فَنَف َ َع الل ّه ُ‬ ‫ت الماءَ‪ ،‬فأن ْبَت َِت الك َلَأ والعُشْبَ الـكَث ِير َ‪ ،‬وكان َْت مِنْها أجادِبُ ‪ ،‬أ ْمسَك ِ‬ ‫فَكانَ مِنْها نَق ِي ّة ٌ‪ ،‬قَبِل َ ِ‬
‫ك ماء ً ولا تُن ْب ِتُ ك َلَأً‪،‬‬ ‫س ُ‬‫ن لا تُم ْ ِ‬ ‫خر َى‪ ،‬إن ّما هي ق ِيعا ٌ‬ ‫سقَوْا وزَرَع ُوا‪ ،‬وأصاب َْت مِنْها طائِف َة ً أ ْ‬ ‫اس‪ ،‬ف َشَرِبُوا و َ‬ ‫بها الن ّ َ‬
‫ك ر َأْ سًا‪ ،‬ول َ ْم يَقْب َلْ‬‫ل م َن ل َ ْم يَرْف َعْ بذل َ‬‫ل م َن فَق ُه َ في دِي ِن الل ّهِ‪ ،‬ونَفَع َه ُ ما بَع َثَنِي الل ّه ُ به فَعَل ِم َ وعَل ّم َ‪ ،‬وم َث َ ُ‬ ‫ك م َث َ ُ‬ ‫ف َذل َ‬
‫أمسكت الماء َ ولم تُخرجْه ُ على صورةٍ أخرى فيها‬
‫ْ‬ ‫هُد َى الل ّه ِ الذي أ ْرسِل ْتُ به ِ"‪ ،‬والشاهد ُ هنا في الأرض التي‬
‫حفظ العلم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قدر ٌ من المعالجة وإن ّما حفظته كما هو‪ ،‬حت ّى يأتي َ م َن يستخرجه‪ ،‬وكذلك‬

‫‪- 51 -‬‬
‫ق بفهم الدين‬
‫ق بالناحية العلمي ّة النظر ي ّة‪ :‬وهو ما يتعل ّ ُ‬
‫المقام الثاني من مقامات الفقه‪ :‬الفقه ُ المتعل ّ ِ ُ‬
‫والاستنباط فيه والجمع بين نظائر العلم وردِّ المتشابه إلى المحكم وتحقيق العلم وما إلى ذلك‪ ،‬وهذا من صميم ما‬
‫ل في الفقه في الدين؛ إذ أن ّه راج ٌع إلى فه ِم مراتب العلم والقدرة ِ على حل مشكلاته واستنباط حقائقه‪،‬‬
‫يدخ ُ‬
‫ي من الفقه؛ إلا أن ّه‬
‫ق بذلك من كشف الأمور المرتبطة بفهم الدين على حقيقته‪ ،‬فهذا جزء ٌ أساس ّ‬
‫وما يتعل ّ ُ‬
‫ليس أعلى مقام ًا في الفقه‪.‬‬
‫والأشرف في الفقه؛ إذ فيه الجم ُع بينَ الفهم‬
‫ُ‬ ‫ل على وفق الفقه‪ :‬وهو المقام ُ الأعلى‬
‫المقام الثالث‪ :‬إجراء ُ العم ِ‬
‫ن إجراء َ العمل على مقتضى العلم يُسمّى فقه ًا‪ ،‬فتجد ُ الفقيه َ عالمًا بحقائق‬
‫والاستنباط والمعرفة وبينَ العمل‪ ،‬فإ ّ‬
‫مرتبط بتعر يف العلماء للحكمة بـ(إصابة ِ‬ ‫ٌ‬ ‫الدين على المستوى النظري‪ ،‬وعامل ًا بها على المستوى العملي‪ ،‬وهذا‬
‫حق وإجراء ِ العم ِ‬
‫ل على هذه الإصابة)‪ ،‬وبعضهم يقولُ‪( :‬الحكمة ُ هي الفقه ُ في الدين)‪.‬‬ ‫ال ّ ِ‬

‫ل الل ّه ﷺ قال‪ِ " :‬إذ َا م َاتَ الإنْس َانُ انْقَطَ َع عن ْه‬ ‫ن رسو َ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫صد َقَة ٍ ج َارِ يَة ٍ‪ ،‬أ ْو عِلْمٍ يُن ْتَف َ ُع بِه ِ‪ ،‬أ ْو وَلَدٍ صَالِ ٍح ي َ ْدع ُو له"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ع َمَلُه ُ ِإلّا م ِن ثَلَاثَة ٍ‪ِ :‬إلّا م ِن َ‬
‫ل بالعمل الذي يجري عليه‬
‫ق الل ّه ُ العبد َ لأ ْن يعم َ‬
‫ن من أعظم الفقه في الدين‪ :‬أ ْن يُوف ِّ ِ‬
‫‪-‬في الحديث بيانُ أ ّ‬
‫الحسنات بعد موته‪.‬‬
‫ل شيء اكتسبه في الحياة‪ ،‬قال‬
‫ل يتخلى الإنسانُ فيه ‪-‬رغمًا عنه‪ -‬عن ك ّ ِ‬
‫‪-‬يخبرنا الن ّبيّ ﷺ عن لحظة ٍ فيها انتقا ٌ‬
‫ق الإيغال‬
‫ب فيها فرح ًا)‪ ،‬فهذه الدنيا لا تستح ُ‬
‫ك لذي ل ُ ٍّ‬
‫ح الموتُ الدنيا؛ فلم يتر ْ‬
‫ض َ‬
‫الإمام الحسن البصري‪( :‬ف َ َ‬
‫ن الل ّه َ أودعَ في الإنسان غريزة َ الشعور بأن ّه لن يغادر الد ّنيا؛ قال الن ّبيّ ﷺ ‪:‬‬
‫فيها‪ ،‬ومن جملة الإبتلاءات‪ :‬أ ّ‬
‫ل العُمُرِ"‪.‬‬
‫ُب المَالِ‪ ،‬وطُو ُ‬
‫ن‪ :‬ح ّ‬
‫ن آدَم َ و يَكْب َر ُ معه ُ اث ْنَا ِ‬
‫"يَكْب َر ُ اب ُ‬

‫ن من أعظم العلوم وأشرفها‪ :‬العلم ُ الذي يكتسبُ به‬


‫ُخطط لهذه الانتقال مبكرًا‪ ،‬ولذا؛ فإ ّ‬
‫‪-‬والفقيه ُ هو الذي ي ُ‬
‫ل إلى درجة المستوحش الذي يرغبُ‬
‫ل به الحا ُ‬
‫ل إلى الآخرة بأمانٍ‪ ،‬بل ق ْد يص ّ‬
‫الإنسانُ القدرة َ على أ ْن ينتق َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ ج َل ََس علَى المنِ ْبَرِ‬
‫ن ر َسو َ‬
‫خدري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬أ ّ‬
‫ِّ‬ ‫في الانتقال‪ ،‬كما في حديث أبي سعيدٍ ال‬
‫ن عَبْدًا خَي ّرَه ُ الل ّه ُ بيْنَ أ ْن يُؤ ْتيِ َه ُ م ِن زَه ْرَة ِ الد ّن ْيا ما شاءَ‪ ،‬وبيْنَ ما عِنْدَه ُ‪ ،‬فاخْ تار َ ما عِنْدَه ُ"‪ .‬فَب َك َى أبو‬
‫ل‪" :‬إ ّ‬
‫فقا َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ عن‬ ‫شي ِْخ؛ ُ‬
‫يخ ْب ِر ُ ر َسو ُ‬ ‫اس‪ :‬انْظ ُر ُوا إلى هذا ال ّ‬
‫ل الن ّ ُ‬
‫جب ْنا له‪ ،‬وقا َ‬ ‫ل‪ :‬فَدَي ْناك َ بآبائِنا وأمّهاتِنا‪ ،‬فَع َ ِ‬ ‫بَكْرٍ وقا َ‬
‫ل‬
‫ل‪ :‬فَدَي ْناك َ بآبائِنا وأمّهاتِنا! ف َكانَ ر َسو ُ‬
‫عَبْدٍ خَي ّرَه ُ الل ّه ُ بيْنَ أ ْن يُؤْتيِ َه ُ م ِن زَه ْرَة ِ الد ّن ْيا‪ ،‬وبيْنَ ما عِنْدَه ُ‪ ،‬وهو يقو ُ‬
‫الل ّه ِ ﷺ هو المخَُي ّر َ‪ ،‬وكانَ أبو بَكْرٍ هو أع ْلَمَنا به)؛ وهذا هو العلم ُ باعتبار إدراك المعاني والحقائق‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫ل في أمورٍ؛‬
‫بوابات من الخير في تأمين مستقبله الأخرى؛ هذه البوابات تتمث ُ‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬يرشد ُ هذا الحديثُ الإنسانَ إلى‬
‫منها‪:‬‬
‫الأوّل‪ :‬الصدقة ُ الجار ية ُ‪ :‬وهي التي يستمر ُ الانتفاع ُ بها؛ كالوقف‪ ،‬وحفر آبار المياة‪ ،‬وبناء المساجد‪.‬‬
‫حث على الن ّفع بالعلم؛‬
‫ٌ‬ ‫الثانـي‪ :‬العلم ُ الذي يُنتف ُع به‪ :‬وهو بوابة ٌ عظيمة ٌ من بوابات الحسنات‪ ،‬وفي الحديث‬
‫من حيث تبليغه ونقله لمَن بعده؛ فكل ّما كانَ العلم ُ الذي يترك ُه ُ المرء ُ أكثر َ نفع ًا واستمرار ًا =كان أكثر َ جر يان ًا‬
‫حرص طالبُ العلم على أ ْن يترك َ‬
‫بالحسنات‪ ،‬إذا كانَ صاحب ُه ُ مخلصً ا مبتغيًا به وجه الل ّه‪ ،‬لذلك؛ ينبغي أ ْن ي َ‬
‫شيئًا من العلم ينتف ُع به بعد َ موته‪.‬‬
‫ن الدعاء َ من الولد‬
‫حث على تنشأة الأبناء على الصلاح؛ فإ ّ‬
‫ّ‬ ‫الثالـث‪ :‬الولد ُ الصالح ُ الذي يدعو له‪ :‬وهذا فيه‬
‫يتصف بالصلاح‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الصالح غير ُ الدعاء ِ مم ّن لا‬

‫ك م ِن عِلْم ٍ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن زيدٍ بن أرقم ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ كان يقولُ‪" :‬الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب َ‬

‫س لا تَشْبَعُ‪ ،‬وَم ِنْ دَعْوَة ٍ لا يُسْتَج َابُ لَهَا" أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫يخْشَعُ‪ ،‬وَم ِنْ ن َ ْف ٍ‬
‫لا يَنْفَعُ‪ ،‬وَم ِنْ قَل ٍْب لا َ‬

‫ل‬
‫ل لـَك ُ ْم إلّا كما كانَ ر َسو ُ‬ ‫‪-‬هذا الحديثُ مختصر ٌ؛ وأصل ّه‪ :‬عن زيدٍ بن أرقم ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ل َا أقُو ُ‬
‫َاب‬
‫ل‪ ،‬و َال ْه َر َ ِم‪ ،‬و َعَذ ِ‬
‫ل‪ ،‬و َالْجب ُْنِ و َال ْبُخْ ِ‬
‫ن الع َجْ زِ و َال ْـكَس َ ِ‬
‫ك مِ َ‬
‫ل‪" :‬الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب َ‬ ‫الل ّه ِ ﷺ يقولُ؛ كا َ‬
‫ن يقو ُ‬
‫ك م ِن عِلْم ٍ‬
‫كه َا أن ْتَ خَي ْر ُ م َن زَكّاه َا‪ ،‬أن ْتَ و َلِيّهَا وَمَوْل َاه َا‪ ،‬الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب َ‬
‫آت ن َ ْفس ِي تَقْوَاه َا‪ ،‬وَز َ ّ ِ‬
‫القَبْرِ‪ ،‬الل ّه ُ ّم ِ‬
‫س لا تَشْبَعُ‪ ،‬وَم ِنْ دَعْوَة ٍ لا يُسْتَج َابُ لَهَا")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫يخْشَعُ‪ ،‬وَم ِنْ ن َ ْف ٍ‬
‫لا يَنْفَعُ‪ ،‬وَم ِنْ قَل ٍْب لا َ‬

‫ن لوجود العلم الذي لا ينف ُع صاحب َه ُ؛ فقد يكونُ‬


‫ك م ِن عِلْم ٍ لا يَنْف َ ُع"‪ :‬فيه بيا ٌ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب َ‬
‫العلم ُ ‪-‬أحيان ًا‪ -‬سببًا لاغترار صاحبه وضلاله‪ ،‬وقد يكونُ العلم ُ علمًا مضل ًا في ذاته؛ فيتعل ّم ُ الإنسانُ فيه ما‬
‫يضر ّه ُ؛ ومن شواهد ذلك‪ :‬قوله تعالى‪" :‬و َيَتَع َل ّم ُونَ م َا يَضُر ّه ُ ْم وَل َا يَنف َعُه ُ ْم"‪ ،‬وقوله تعالى‪" :‬فَلَم ّا ج َاءَتْه ُ ْم رُسُلُه ُم‬
‫ل ِإن ّمَا أوتِيت ُه ُ عَلَى عِلْم ٍ‬‫ن ال ْعِلْم ِ وَح َاقَ بِه ِم مّا ك َانُوا بِه ِ ي َ ْستَهْزِئُونَ"‪ ،‬وقوله تعالى‪" :‬قَا َ‬
‫ات فَرِحُوا بِمَا عِند َه ُم مّ ِ َ‬
‫ب ِالْبَي ِّن َ ِ‬
‫ل ع َن‬
‫ش ّد مِن ْه ُ قُو ّة ً و َأكْ ث َر ُ جَمْع ًا وَل َا يُسْأ ُ‬
‫ن م َنْ ه ُو َ أ َ‬
‫ن الْق ُر ُو ِ‬
‫ك م ِن قَبْلِه ِ م ِ َ‬ ‫عِندِي أو َل َ ْم يَعْل َ ْم أ ّ‬
‫ن الل ّه َ ق َ ْد أه ْل َ َ‬
‫ن"‪.‬‬
‫ذ ُنُو بِهِم ُ ال ْم ُجْ رِم ُو َ‬
‫‪-‬إذن؛ ليس الشأنُ أ ْن يتعل ّم َ الإنسانُ (مطلق التعل ّم)‪ ،‬وإن ّما الشأنُ أ ْن يتعل ّم َ ما ينفع ُه ُ (قيد ُ العلم الن ّافع)‪،‬‬
‫شرف العلم وفضله في نفع صاحبه‪ ،‬ثم ذكر َ‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫ولذلك قي ّد َ الن ّبيّ ﷺ الاستعاذة َ من العلم بقيد عدم النفع؛ فإ ّ‬
‫القلب وقي ّده بالخشوع‪ ،‬ثم ذكر َ الن ّفس وقي ّدها بالقناعة‪ ،‬ثم ذكر َ الدعاء وقي ّده بالاستجابة أو السمع‪.‬‬
‫‪- 52 -‬‬
‫س يُقْض َى يَوم َ‬
‫ل الن ّا ِ‬
‫ن أوّ َ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬سمعتُ رسو َ‬
‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬إ ّ‬
‫ك حت ّى‬
‫ل‪ :‬قاتلَ ْتُ ف ِي َ‬
‫ل‪ :‬فَما عَم ِل ْتَ فيها؟ قا َ‬
‫ل اسْ تُشْهِد َ‪ ،‬ف َأتِي َ به فَع َر ّف َه ُ نِعَم َه ُ فَع َر َف َها‪ ،‬قا َ‬
‫الق ِيامَة ِ عليه رَج ُ ٌ‬
‫ل‪ :‬جَر ِيءٌ‪ ،‬فق َ ْد قيلَ‪ ،‬ث ُم ّ أم ِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْ هِه ِ حت ّى‬ ‫ك قاتلَ ْتَ لأ ْن يُقا َ‬ ‫ل‪ :‬كَذَب ْتَ ‪ ،‬ولـَكِن ّ َ‬ ‫اسْ تُشْهِدْتُ ‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪:‬‬
‫ل‪ :‬فَما عَم ِل ْتَ فيها؟ قا َ‬
‫ل تَعَل ّم َ العِلْم َ‪ ،‬وعَل ّم َه ُ وق َرَأ القُر ْآنَ‪ ،‬ف َأتِي َ به فَع َر ّف َه ُ نِعَم َه ُ فَع َر َف َها‪ ،‬قا َ‬
‫ألْقِ َي في الن ّارِ‪ ،‬ورَج ُ ٌ‬
‫ل‪ :‬عالِم ٌ‪ ،‬وق َرأْ َ تَ القُر ْآ َ‬
‫ن‬ ‫ك تَع َل ّم ْتَ العِلْم َ لِي ُقا َ‬
‫ل‪ :‬كَذَب ْتَ ‪ ،‬ولـَكِن ّ َ‬
‫ك القُر ْآنَ‪ ،‬قا َ‬
‫تَع َل ّم ْتُ العِلْم َ‪ ،‬وعَل ّم ْت ُه ُ وق َرأْ َ تُ ف ِي َ‬
‫ل وسّ َع الل ّه ُ عليه‪،‬‬ ‫ل‪ :‬هو قارِئٌ‪ ،‬فق َ ْد قيلَ‪ ،‬ث ُم ّ أم ِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْ هِه ِ حت ّى ألْقِ َي في الن ّارِ‪ ،‬ورَج ُ ٌ‬ ‫لِي ُقا َ‬
‫ل‬
‫ل‪ :‬ما ت َرَكْ تُ م ِن سَب ِي ٍ‬ ‫ل‪ :‬فَما عَم ِل ْتَ فيها؟ قا َ‬
‫ل كُلِّه ِ‪ ،‬ف َأتِي َ به فَع َر ّف َه ُ نِعَم َه ُ فَع َر َف َها‪ ،‬قا َ‬
‫ناف الما ِ‬
‫وأعْطاه ُ م ِن أصْ ِ‬
‫ل‪ :‬هو جَواد ٌ‪ ،‬فق َ ْد قيلَ‪ ،‬ث ُم ّ أم ِرَ به‬
‫ك فَعَل ْتَ لِي ُقا َ‬
‫ل‪ :‬كَذَب ْتَ ‪ ،‬ولـَكِن ّ َ‬
‫ق فيها إلّا أنْفَقْتُ فيها لَكَ‪ ،‬قا َ‬
‫ِب أ ْن يُنْف َ َ‬
‫تح ّ‬
‫ُ‬
‫فَسُحِبَ علَى وجْ هِه ِ‪ ،‬ث ُم ّ ألْقِ َي في الن ّارِ"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬

‫ن أبا هريرة ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬لما ح ّدثَ بهذا الحديث‪:‬‬


‫باعث على الخوف؛ ففي لفظ الترمذي أ ّ‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬هذا الحديثُ‬
‫ل‪ :‬ل َأح َ ّدِثَن ّك ُ ْم‬ ‫ق ش َ ْهق َة ً‪ ،‬فَخَر ّ مَغْش ًِّي ّا عَلَيْه ِ‪ ،‬فَمَكَثَ عَلَيْه ِ قَلِيل ًا ث ُم ّ أفَاقَ وَمَسَ َ‬
‫ح و َجْ ه َه ُ فَق َا َ‬ ‫ي شَه ِ َ‬
‫(نَش َ َغ ن َ ْشغ َة ً‪ ،‬أ ْ‬
‫ح و َجْ ه َه ُ) ثم ح ّدثَ بالحديث؛‬
‫طوِيل ًا ث ُم ّ أفَاقَ وَمَسَ َ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ ث ُم ّ نَش َ َغ أ ْ‬
‫خر َى فَمَكَثَ َ‬ ‫ِيث ح َ ّدثَن ِيه ِ رَسُو ُ‬
‫بِ حَد ٍ‬
‫ن الحديثَ ليس في أهل الفسق والفجور‪ ،‬وإن ّما فيم َن اشتغلوا بأعلى الأعمال وأفضلها؛ الجهاد والعلم‬
‫ذلك لأ ّ‬
‫ل عملهم لهذه الأعمال؟!‬
‫والقرآن والنفقة؛ كيف كانت نياتُهم حا َ‬

‫‪-‬ولم ّا كانَ العلم ُ من جملة المسؤول عنه؛ كان هذا الشاهد ُ في موضوع الباب (ذمّ م َن لم يعملْ بعلمه)؛‬
‫ل الإنسانُ عن وجه عمله فيها؛ هل أتى بها على‬
‫ل هذه من النعم التي سي ُسأ ُ‬
‫فالجهاد والعلم والقرآن والمال؛ ك ّ‬
‫ل إلا بها (الإخلاص)؟‪ ،‬ولذلك؛‬
‫ن أ ْن تُقب َ‬
‫وجهها الذي يرضاه الل ّه‪ ،‬أم أتى بها فاقدة ً لروحها التي لا يُمك ُ‬
‫ل الإنسانُ عملَه ُ ابتغاء َ وجه الل ّه‪.‬‬
‫ل)؛ بأ ْن يجع َ‬
‫ح العم ِ‬
‫الإخلاص رو ُ‬
‫ُ‬ ‫جاء في الأثر‪( :‬‬

‫ل الإنسانُ في المسيرة العملية‪ ،‬تأتيه‬


‫الإخلاص إلى مجاهدة وتربية وترو يض للن ّفس؛ لأن ّه حين يدخ ُ‬
‫ُ‬ ‫ج‬
‫‪-‬و يحتا ُ‬
‫ن‬
‫العوائق والمشتتات والمغر يات والملهيات التي تُشت ِت ُه ُ وتُبعِدُه ُ عن أ ْن يجم َع قلب َه ُ على الإخلاص‪ ،‬وذلك لأ ّ‬
‫ورغبات‪ ،‬قد تتعاظم ُ ‪-‬أحيان ًا‪ -‬حت ّى تكونَ كالفرس الجامحة التي لم تروض؛ فإذا رَكِبَ عليها‬
‫ٌ‬ ‫شهوات‬
‫ٌ‬ ‫للن ّفس‬
‫الإنسانُ ‪-‬ولو كان قويّ البنية‪ -‬لما استطاعَ قيادتَها فضل ًا عن السيطرة عليها‪ ،‬لـكن لو اعتنى الإنسانُ بهذه‬
‫أمر‬
‫ن قيادتَها والسيطرة َ عليها ٌ‬
‫ل بينه وبينها من التفاهم ولغة الإشارة؛ لوجد أ ّ‬
‫الفرس‪ ،‬فروّضها وه ّذبها‪ ،‬وجع َ‬
‫يسير‪.‬‬
‫‪- 53 -‬‬
‫فس في رغباتها؛ فإ ْن عو ّد َ الإنسانُ نفسَه على الإخلاص لل ّه وأ ْن يقط َع شتاتَ نفسِه ورغباتها‬
‫‪-‬وهكذا الن ّ ُ‬
‫ج مسلوك ٌ ومتب ٌع بـ(أ ْن يمن َع الإنسانُ نفسَه ُ م ِن أشياء َ م ِن المباحات ترو يضًا‬
‫حتى في المباح أحيان ًا؛ وهذا منه ٌ‬
‫ن قدرتَه على قيادة نفسه وتوجيهها‬ ‫وتدريبًا لا تحريمًا)؛ فم َن يتعو ّ ْد على هذا المنهج السلوكي =سيج ْد أ ّ‬
‫ل الإنسانُ إلى أن ّه‬‫أمر ليس بالصعب‪ ،‬بل قد يص ُ‬‫والسيطرة عليها وأطرها أطرًا على السير فيما يرضي الل ّه‪ ،‬هو ٌ‬
‫ل إلى درجة ٍ أعلى من ذلك؛ وهي أن ّه لا يجد ُ أنس َه ُ وراحته‬
‫بعد َ أ ْن كانَ يجاهد ُ نفسَه ُ على الإخلاص‪ ،‬يص ُ‬
‫وطمأنينته واستقرار قلبه وقرة عينه إلا بإخلاص عمله لل ّه‪.‬‬

‫ل الأعمال ثم لم يح ّق ِقوا الإخلاص فيها؛ أ ْن ابتغوا بها وجوه َ الن ّاس‬


‫ن هؤلاء الثلاثة حين عملوا أفض َ‬
‫‪-‬ولذا؛ فإ ّ‬
‫الإخلاص لل ّه م ِن أعظم ما‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫ل على أ ّ‬
‫َت أعماله ُم فوضعت في الن ّار‪ ،‬وهذا يد ّ‬
‫خذ ْ‬
‫ولم يبتغوا بها وجه الل ّه =أ ِ‬
‫يُكرَم ُ به الإنسانُ في الآخرة‪ ،‬ولذا؛ ينبغي للإنسان قبل أ ْن يتعبَ في العمل الظاهر؛ كالعلم والمدارسة والجهاد‬
‫ق من إخلاصه ونيته بأ ْن يبتغي بها وجه الل ّه ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫والإنفاق =عليه أوّل ًا أ ْن يتح ّق َ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫خُـلاصة ُ‬
‫ن العلم َ هو ما أنزله الل ّه؛ وهو العلم ُ بكتاب الل ّه وبس ُن ّة ِ رسول الل ّه ﷺ‪ ،‬وما تضمنته من حقائق الدين المبي ّن‬
‫‪-‬أ ّ‬
‫ل في اس ِم الدين المبي ّن في‬
‫في حديث (جبر يل الطو يل) في أمر ِ الإسلام والإيمان والإحسان‪ ،‬وما يدخ ُ‬
‫حديث معاو ية َ‪" :‬م َن يُرِدِ الل ّه ُ به خَيْر ًا يُف َ ّقِهْه ُ في الد ِّي ِن"‪.‬‬

‫ح مقي ّدٌ؛ ومن جملة القيود‬


‫ن هذا الامتدا َ‬
‫ن هذا العلم َ من الأمور الشر يفة التي امتدحها الل ّه في كتابه‪ ،‬وأ ّ‬
‫‪-‬وأ ّ‬
‫ح الل ّه ُ به الذين يقومون الليل حذر َ الآخرة‬
‫لهذا الامتداح‪ :‬أ ْن يكونَ العلم ُ باعثًا على العمل؛ وهذا ما امتد َ‬
‫وصف الل ّه ُ به العلماء َ فقالَ‪ِ " :‬إن ّمَا‬
‫َ‬ ‫الوصف الذي‬ ‫ُ‬ ‫ورجاء َ رحمة الل ّه‪ ،‬امتدحهم ووصفهم بأ ّنهم يعلمون‪ ،‬وهذا‬
‫يخ ْش َى الل ّه َ م ِنْ عِبَادِه ِ ال ْع ُلَمَاء ُ"‪ ،‬ومن جملة قيود العلم‪ :‬أ ْن يكونَ هذا العلم ُ نافع ًا‪.‬‬
‫َ‬

‫مقامات ثلاثة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ن الفقه َ الوارد َ في حديث معاو ية َ‪" :‬م َن يُرِدِ الل ّه ُ به خَيْر ًا يُف َ ّقِهْه ُ في الد ِّي ِن" على‬
‫‪-‬وأ ّ‬
‫ن هذا التبلي َغ المجر ّد َ أدنى درجات الفقه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تبليغ الدين دونَ ف ِ ْقه ِ حقائقه ومحكماته‪ ،‬وأ ّ‬ ‫الأوّل‪ :‬مقام ُ‬
‫ل في الفقه؛ إلا أن ّه ليس أعلى مقام ًا‬
‫الثانـي‪ :‬مقام ُ الفهم والاستنباط والتأمّل‪ ،‬وهذا المقام ُ من أولى ما يدخ ُ‬
‫في الفقه‪.‬‬

‫ن إجراء َ‬
‫الثالث‪ :‬وهو المقام ُ الأعلى في الفقه؛ إذ فيه الجم ُع بينَ الفهم والاستنباط والمعرفة وبينَ العمل‪ ،‬فإ ّ‬
‫العمل على مقتضى العلم يُسمّى فقه ًا‪.‬‬
‫‪- 54 -‬‬
‫ل‬
‫المحاضرة الثامنة‪ :‬تربية ُ الن ّب ِيّ ﷺ أصحابَه ُ على العم ِ‬
‫ل‪ ،‬وإبعادِه ِ إ ي ّاهم عن‬
‫باب في تربية ِ الن ّب ِيّ ﷺ أصحابَه ُ على العم ِ‬
‫ٌ‬
‫ل‬
‫ل وكثرة ِ السؤا ِ‬
‫ل والقا ِ‬
‫الق ِي ِ‬
‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫عنوانُ‬
‫ل‬
‫ل)؛ لما يشتم ُ‬
‫ل) أوفى صياغة ً من قول‪( :‬أمرُ الن ّب ِيّ ﷺ أصحابَه ُ بالعم ِ‬
‫‪-‬قوله‪( :‬تربية ُ الن ّب ِيّ ﷺ أصحابَه ُ على العم ِ‬
‫مفهوم ُ التربية على الموارد التي أسّ ست في الصحابة مركز ية العمل‪ ،‬وهذا أبعد ُ من مجر ّد الأمر المباشر‪،‬‬
‫ل الصالح ُ الذي يُق ّدم ُ على ضوء العلم‪.‬‬
‫والمقصود ُ بالعمل‪ :‬العم ُ‬
‫‪-‬ومما يُثبتُ هذه التربية َ ‪-‬غير نصوص الباب‪ :-‬القدوة ُ العملية ُ للن ّب ِيّ ﷺ؛ فقد كانت حياتُه ُكل ّها عمل ًا‪ ،‬فكان‬
‫يقف مع سيرة الن ّب ِيّ‬ ‫ن م َن ْ‬ ‫في مجر ّدِ التزا ِم الصحابة ِ مرافقته ﷺ تربية ٌ على أهمية العمل‪ ،‬وبناء ً على ذلك‪ :‬فإ ّ‬
‫ل الصحابة َ بمصاحبتهم المباشرة للن ّب ِيّ ﷺ‪.‬‬
‫قبس من النور الذي نا َ‬
‫ﷺ بالدراسة والتأمّل والتعظيم =فإن ّه ينالْه ُ ٌ‬

‫ل في التربية؛ ولم يكن هذا‬


‫ل)‪ :‬هذا الإبعاد ُ داخ ٌ‬
‫ل وكثرة ِ السؤا ِ‬
‫ل والقا ِ‬
‫‪-‬قوله‪( :‬وإبعادِه ِ إ ي ّاهم عن الق ِي ِ‬
‫ل ببعض المواقف العملية‪.‬‬ ‫ًّ‬
‫لفظي ّا من الن ّب ِيّ ﷺ فحسب‪ ،‬بل كان فيه اتصا ٌ‬ ‫ًّ‬
‫تأسيسي ّا‬ ‫الإبعاد ُ‬

‫ل هو المبدأ؛ فينظر ُ‬
‫ي في الباب هو التربية ُ على العمل؛ بأ ْن يكونَ العم ُ‬
‫ل الأساس ّ‬
‫ن المعنى الأ ّو َ‬
‫‪-‬وعلى ذلك؛ فإ ّ‬
‫ل‪ -‬هو النّهي ُ عن‬
‫أمر ونهيّ واجبُ الامتثال‪ ،‬والمعنى الثاني ‪-‬الذي يحمي المعنى الأ ّو َ‬
‫المسلم ُ إلى الد ِّين على أن ّه ٌ‬
‫الأمور التي تخالفه؛ ومن جملتها‪ :‬النّهي ُ عن كثرة السؤال‪ ،‬وعن القيل والقال‪ ،‬وعن الاختلاف‪ ،‬وعن‬
‫ف ما لا يعلم ُه ُ الإنسان‪.‬‬
‫تكل ّ ِ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫ن آم َن ُوا ل َا تَسْألُوا ع َنْ أشْ يَاء َ ِإن تُبْد َ لـَك ُ ْم تَسُؤْك ُ ْم و َِإن تَسْألُوا عَنْهَا حِينَ‬
‫ل الْقُر ْآنُ تُبْد َ لـَك ُ ْم عَف َا الل ّه ُ عَنْهَاۗ و َالل ّه ُ غَف ُور ٌ ح َل ِيم ٌ"‪.‬‬
‫يُنَز ّ ُ‬
‫ن بالأسئلة وتوليدُه ُ إ ي ّاها دون التنب ّه إلى ما‬
‫ل على أن ّه ليس من المحمود ول ُع الإنسا ِ‬
‫‪-‬في هذه الآية استدلا ٌ‬
‫ل عما لم‬
‫ف البعض السؤا َ‬
‫جاءت الآية ُ في سياق تكل ّ ِ‬
‫ْ‬ ‫الإعراض عنه؛ فقد‬
‫ُ‬ ‫الذي ينبغي في السؤال؛ طرح ُه ُ أم‬
‫ل الوحي ُ بتحريم الشيء المسؤول عنه بسبب هذا السؤال‪.‬‬
‫ينزلْ فيه الوحي ُ بالمنع؛ فقد ينز ُ‬

‫‪- 55 -‬‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ غضِ بَ مرة ً بسبب كثرة الإلحاح في السؤال؛ ومن ذلك‪:‬‬
‫ل بعمومها؛ ذلك أ ّ‬
‫‪-‬وهذه الآية ُ تُستعم ُ‬
‫ْس‪ ،‬فَصَل ّى له ْم‬
‫شم ُ‬
‫َت ال ّ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬خَر َ َ‬
‫ج حِينَ ز َاغ ِ‬ ‫ن ر َسو َ‬
‫‪ -١‬حديثُ أنس بن مالك ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( -‬أ ّ‬
‫َب أ ْن‬
‫ن قَبْلَه َا أم ُور ًا عِظ َام ًا‪ ،‬ث ُم ّ قالَ‪ :‬م َن أح ّ‬
‫ساع َة َ‪ ،‬وَذَك َر َ أ ّ‬
‫سل ّم َ ق َام َ علَى المنِ ْبَرِ‪ ،‬فَذَك َر َ ال ّ‬
‫ظ ْهرِ‪ ،‬فَلَم ّا َ‬
‫صَلَاة َ ال ّ‬
‫يَسْألَنِي عن شيءٍ فَل ْيَسْألْنِي عن ْه‪ ،‬ف َو َ الل ّه ِ لا تَسْألُونَنِي عن شيء ٍ إلّا أخْبَرْتُك ُ ْم به‪ ،‬ما دُمْتُ في مَق َا ِمي هذا‪ .‬قا َ‬
‫ل‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ أ ْن يَق ُولَ‪:‬‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬و َأكْ ثَر َ ر َسو ُ‬‫ك م ِن ر َسو ِ‬ ‫اس البُك َاء َ حِينَ سَم ِع ُوا ذل َ‬ ‫ن م َال ِكٍ ‪ :‬فأكْ ثَر َ الن ّ ُ‬ ‫سب ُ‬ ‫أن َ ُ‬
‫ل الل ّهِ‪ ،‬قالَ‪ :‬أبُوك َ حُذ َاف َة ُ)‪.‬‬
‫ن حُذ َاف َة َ ف َقالَ‪ :‬م َن أبِي؟ يا ر َسو َ‬ ‫سَلُونِي فَق َام َ عبد ُ الل ّه ِ ب ُ‬
‫ت أمّ عبدِ الل ّه ِ ب ِن حُذ َاف َة َ‪ ،‬لِعَبْدِ الل ّه ِ ب ِ‬
‫ن‬ ‫ن عبدِ الل ّه ِ ب ِن عُت ْب َة َ‪ ،‬قالَ‪( :‬قال َ ْ‬
‫َاب‪ :‬أخْبَر َنِي ع ُبَيْد ُ الل ّه ِ ب ُ‬
‫ن شِه ٍ‬
‫ل اب ُ‬
‫‪-‬قا َ‬
‫ل‬
‫ِف نِس َاء ُ أه ْ ِ‬
‫ْض ما تُق َار ُ‬
‫ك ق ْد قَار َف َْت بَع َ‬
‫حُذ َاف َة َ‪ :‬ما سَمِعْتُ باب ْ ٍن ق َّط أع َقّ مِنْكَ؟‪ ،‬أأمِن ْتَ أ ْن تَكُونَ أمّ َ‬
‫ن حُذ َاف َة َ‪ :‬و َالل ّه ِ لو ألْحَقَنِي بعَبْدٍ أسْ وَد َ لَلَح ِقْت ُه ُ)‪.‬‬
‫ل عبد ُ الل ّه ِ ب ُ‬
‫حه َا علَى أع ْيُنِ الن ّاسِ؟‪ ،‬قا َ‬
‫ض َ‬
‫الجا َه ِل ِي ّة ِ‪ ،‬فَت َ ْف َ‬

‫ن ع ُو َي ْمِرًا أتَى عاصِم َ‬


‫البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬أ ّ‬
‫ِّ‬ ‫‪ -٢‬وفي صحيح الإما ِم‬
‫ل وجَد َ مع امْرَأتِه ِ رَج ُل ًا؛ أيَقْتلُُه ُ فَتَقْتُلُونَه ُ‪ ،‬أ ْم‬
‫كيف تَق ُولونَ في رَج ُ ٍ‬
‫َ‬ ‫ن‪ -‬فقالَ‪:‬‬
‫ِي ‪-‬وكانَ سَيِّد َ بَنِي عَج ْلا َ‬
‫ن عَد ّ ٍ‬
‫ب َ‬
‫ل الل ّهِ‪ ،‬ف َكَرِه َ ر َسو ُ‬
‫ل‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ عن ذلكَ‪ ،‬فأتَى عاصِمٌ الن ّبيّ ﷺ‪ ،‬فقالَ‪ :‬يا ر َسو َ‬ ‫كيف يَصْ نَعُ؟ سَلْ لي ر َسو َ‬ ‫َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ كَرِه َ المَسائ ِ َ‬
‫ل وعابَها)‪.‬‬ ‫ن ر َسو َ‬ ‫الل ّه ِ ﷺ المَسائ ِ َ‬
‫ل‪ ،‬فَس َألَه ُ ع ُو َيْمِر ٌ‪ ،‬فقالَ‪ :‬إ ّ‬

‫ن ال ْمُتَك َل ّ ِف ِينَ"‪.‬‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قوله تعالى‪" :‬قُلْ م َا أسْ ألـُك ُ ْم عَلَيْه ِ م ِنْ أ ْ‬
‫جر ٍ وَم َا أن َا م ِ َ‬
‫ل مسروق ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬دخلنا على عبد الل ّه بن مسعود فقال‪ :‬يا أ ّيها‬
‫ارتباط الآية بالباب‪ :‬قو ُ‬
‫َ‬ ‫‪-‬مما يبيِّنُ‬
‫ل لم َِا لا يعلَم ُ‪:‬‬
‫ل الر ّج ُ ُ‬
‫ن م ِن العلم ِ أ ْن يقو َ‬ ‫اس م َن عل ِم شيئًا فل ْيق ُلْ به وم َن ل َ ْم يعل َ ْم شيئًا فل ْيق ُ ِ‬
‫ل‪ :‬الل ّه ُ أعلَم ُ؛ فإ ّ‬ ‫الن ّ ُ‬
‫أي‪:‬‬
‫ن ال ْمُتَك َل ّ ِف ِينَ") ْ‬
‫جر ٍ وَم َا أن َا م ِ َ‬
‫ل وعلا‪ -‬قال لنبي ِّه ﷺ‪" :‬قُلْ م َا أسْ ألـُك ُ ْم عَل َيْه ِ م ِنْ أ ْ‬
‫ن الل ّه َ ‪-‬ج ّ‬
‫لا أعلَم ُ‪ ،‬فإ ّ‬
‫وما أنا من المتكل ّ ِفين لما لا أعلم ُ؛ وهذا فيه نهيّ عن التكل ّف والجدل فيما لا يعلم ُ الإنسانُ حقيقت َه ُ‪ ،‬ولو‬
‫ت موارد ُ الخلاف والن ِّزاع بينَ الن ّاس‪.‬‬
‫سكت م َن لا يعلم ُ =لقل ّ ْ‬
‫ْ‬

‫الحديث الأوّل‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أن ّه سم ِ َع رسو َ‬
‫ل الل ّه ﷺ يقولُ‪" :‬ما نَهَي ْتُك ُ ْم عن ْه‬
‫كثْرَة ُ م َسَائِلِهِمْ‪ ،‬و َاخْ ت ِلَافُه ُ ْم‬
‫ن م ِن قَبْل ِـكُمْ‪َ ،‬‬
‫ك ال ّذ ِي َ‬
‫فَاجْ تَن ِب ُوه ُ‪ ،‬و َما أم َْرتُك ُ ْم به فَافْع َلُوا منه ما اسْ تَطَعْتُم ْ‪ ،‬فإن ّما أه ْل َ َ‬
‫علَى أن ْب ِيَائِه ِ ْم"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫ل للأوامر والمنهيات؛ وهــذه الأوامرُ والمنهياتُ على نوعين؛ إمّا‬


‫ل وامتثا ٌ‬
‫ن عم ٌ‬
‫ن الدي َ‬
‫‪-‬في الحديث تأكيدٌ على أ ّ‬

‫‪- 56 -‬‬
‫سك‬
‫فيحرص المسلم ُ على التم ّ‬
‫ُ‬ ‫متشابهات يكث ُر فيها الخلاف والن ِّزاع‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ل للخلاف فيها‪ ،‬أو‬
‫حات لا مح َ‬
‫مات واض ٌ‬
‫محك ٌ‬
‫ُ‬
‫ل عنها والجدل فيها‪.‬‬
‫ف السؤا َ‬
‫بالمحكمات والعمل بها‪ ،‬وأ ْن يترك َ المسائل الخلافية والمتشابهات‪ ،‬وألا يتكل ّ َ‬

‫يناقش في بعض‬
‫ْ‬ ‫وجدت م َن يُقصِّرْ في الفرائض ويتساهلْ في المحر ّمات (المحكمات)‪ ،‬ثم‬
‫ْ‬ ‫‪-‬ولذلك؛ إذا‬
‫صة ً إذا ظهر َ في كلامه معنى‬
‫المسائل الخلافية؛ فاعلم ْ أن ّه ق ْد وقعْ في عينِ الذي نهي عنه الن ّبيّ ﷺ‪ ،‬خا ّ‬
‫ل‬
‫ح للم ُصلح‪ :‬ألا يردّ على سؤاله‪ ،‬وأ ْن يوجه َه ُ إلى التزام ما ينفع ُه ُ‪ ،‬ومثا ُ‬
‫الموقف الصحي ُ‬
‫ُ‬ ‫الجدل‪ .‬وقد يكونُ‬
‫ل إلى التسليم والعمل؛ ومن ذلك قوله ﷺ‪:‬‬
‫ل في القدر؛ وج ّه َ الن ّبيّ ﷺ السائ َ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ لم ّا سُئ ِ َ‬
‫ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫ص ّدقَ بالحُسْن َى"‪ ،‬إلى قَو ْلِه ِ "فَس َنُيَس ِّرُه ُ‬
‫ق له ث ُم ّ ق َرَأ‪" :‬ف َأمّا م َن أ ْعطَى و َات ّقَى‪ ،‬و َ َ‬
‫ل م ُيَس ّر ٌ لِما خ ُل ِ َ‬
‫"اعْمَل ُوا‪ ،‬فَك ُ ّ‬
‫لِل ْعُسْر َى"‪.‬‬
‫َت قُلُوبُكُمْ‪ ،‬فإذا اخْ تَلَفْتُم ْ فَق ُوم ُوا عن ْه"؛ فالفقه ُ في الد ِّين أ ْن يلتزم َ‬
‫‪-‬وقال الن ّبيّ ﷺ‪ " :‬اق ْرَؤ ُوا القُر ْآنَ ما ائ ْتَلَف ْ‬
‫ف السؤال عن الأمور الخلافية أو المسكوت عنها‪.‬‬
‫ل بمقتضى الأمر والنهي‪ ،‬وألا يتكل ّ َ‬
‫المسلم ُ العم َ‬

‫ن من أبواب‬
‫كثْرَة ُ مَس َائِلِهِمْ‪ ،‬و َاخْ ت ِلَافُه ُ ْم علَى أن ْب ِيَائِه ِ ْم"؛ فيه بيانُ أ ّ‬
‫ن م ِن قَب ْل ِـكُمْ‪َ ،‬‬
‫ك ال ّذ ِي َ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬فإن ّما أه ْل َ َ‬
‫ل والاعتبار َ بالأمم السابقة وأحوالهم مع أنبيائهم‪ ،‬فإن ّما ذكرها الل ّه لنا للتحذير من التشب ّه‬
‫التف ّقه في الد ِّين‪ :‬التأمّ َ‬
‫حاب‬
‫المستقيم لمخالفة ِ أص ِ‬
‫ِ‬ ‫ن تيمية ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في كتابه (اقتضاء ِ الصراطِ‬
‫خ الإسلام اب ُ‬
‫بهم‪ ،‬كما بي ّنَ ذلك شي ُ‬
‫حيم)؛ فقد تتب ّ َع فيه ما أوردَه ُ الل ّه عن أهل الكتاب‪ ،‬ثم بي ّنَ كيفية َ حدوث المشابهة بهم؛ ومن ذلك‪ :‬قولُه ُ‬
‫الج ِ‬
‫ن تيمية عن قسوة القلوب التي قد تحد ُثُ‬
‫َت قُلُو بُه ُ ْم"؛ فتكل ّم َ اب ُ‬
‫ل عَلَيْهِم ُ الْأمَد ُ فَقَس ْ‬
‫تعالى عن اليهود‪" :‬فَط َا َ‬
‫ل سفيان بن عيينة ‪-‬رحمه الل ّه‪( :-‬م َنْ فَسَد َ م ِنْ علمائنَِا ففيه‬
‫لبعض أهل العلم في هذه الأمّة‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬قو ُ‬
‫شَب َه ٌ م ِنْ اليهود‪ ،‬وم َنْ فَسَد َ م ِنْ ع ُب ّادِن َا ففيه شَب َه ٌ م ِنْ الن ّصارى)‪.‬‬

‫‪-‬ومن جملة ما ذمّ الن ّبيّ ﷺ به الأمم السابقة‪ :‬أ ّنهم يكثرون من المسائل و يختلفون على أنبيائهم؛ وفي الحديث‬
‫ل‪ ،‬قد فر ََض‬ ‫عز وج ّ‬ ‫ن الل ّه َ ّ‬
‫اس فقالَ‪" :‬إ ّ‬‫ل الل ّه ِ ﷺ الن ّ َ‬
‫عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬خطبَ رسو ُ‬
‫ل عا ٍم؟‪ ،‬فسَكَتَ عنه ُ حت ّى أعادَه ُ ثلاث ًا فقالَ‪" :‬لَو قُلتُ نع َم لوَجَب َْت‪ ،‬ولَو‬
‫ل رجلٌ‪ :‬في ك ّ ِ‬
‫عليكم ُ الحَجّ "‪ ،‬فقا َ‬
‫وَجَب َْت ما قمتُم ْ بِها ذ َروني ما ترَكْ تُك ُم‪ ،‬فإن ّما هل َكَ م َنْ كانَ قبلـَك ُم بِكَثرة ِ سؤالِه ِم واختلافِه ِم علَى أنبيائِه ِم‪ ،‬فإذا‬
‫أمرتُك ُم بالش ّيء ِ فخُذوا به ِ ما است َطعتُم ْ‪ ،‬وإذا نَهَيتُك ُم عن شيء ٍ فاجتَنبوه ُ")؛ فالمقصود ُ أ ّ‬
‫ن كثرة َ الاختلاف‬
‫ق بها العملُ‪ ،‬ليس إشكالُه ُ أن ّه مذموم ٌ فقط‪ ،‬وإن ّما إشكالُه ُ أن ّه من‬
‫سك بالخلافات النظر ية التي لا يتعل ّ ُ‬
‫والتم ّ‬
‫أسباب الهلاك‪.‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫الحديث الثاني‪ :‬عن كاتب المُغيرة بن شعبة‪ ،‬قال‪ :‬كتبَ معاو ية َ إلى المُغيرة بن شعبة أ ْن اكت ُْب إليّ بشيءٍ‬

‫ل و َقالَ‪ ،‬وإضَاع َة َ‬
‫ن الل ّه َ كَر ِه َ لـَك ُ ْم ثَلَاث ًا‪ :‬قي َ‬
‫سمعته من الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬فكت َبَ إليه‪ ،‬سمعتُ الن ّبيّ ﷺ يقول‪" :‬إ ّ‬
‫ل" أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫سؤَا ِ‬
‫كثْرَة َ ال ّ‬
‫المَالِ‪ ،‬و َ َ‬

‫ل إلى أمو ٍر‬


‫ل به هذا الفع ُ‬
‫ل بما قيل وقال غالبًا ما يص ُ‬
‫ن الإنسانَ الذي ينشغ ُ‬
‫أي‪ :‬أ ّ‬
‫ل"‪ْ :‬‬
‫ل و َقا َ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬قي َ‬
‫محر ّمة ٍ‪ ،‬ولذلك كرهها الل ّه ‪-‬تعالى‪ ،-‬وهذا بخلاف م َن يجعلْ (قيل وقال) في أمو ٍر محددة ٍ استثنائية ٍ؛ في َسل َ ْم‬
‫من الإثم‪.‬‬
‫ل"‪ :‬حملَها العلماء ُ على صورتين؛ الأولى‪ :‬سؤال المال؛ وقد ورد عن الن ّب ِيّ ﷺ منع‬ ‫سؤَا ِ‬
‫كثْرَة َ ال ّ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬و َ َ‬
‫ك‬
‫سؤال المال إلا من بعض الاستثناءات‪ ،‬والثانية‪ :‬سؤال المسائل؛ كما ورد َ في الحديث السابق‪" :‬فإن ّما أه ْل َ َ‬
‫كثْرَة ُ مَس َائِلِه ِ ْم"‪.‬‬
‫ن م ِن قَبْل ِـكُمْ‪َ ،‬‬
‫ال ّذ ِي َ‬

‫ن بالل ّه ِ وال ْي َو ِم الآ ِ‬


‫خر ِ فَل ْيَق ُلْ‬ ‫ن الن ّبيّ ﷺ قال‪" :‬م َنْ كانَ يُؤْم ِ ُ‬
‫‪-‬وفي الحديث عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫حث‬
‫ّ‬ ‫ن‪-‬‬
‫ن ما يمتلـك ُه ُ المؤم ُ‬
‫ُت"؛ وفي هذا التذكير المؤك ّد بمخاطبة أساس الإيمان ‪-‬باعتباره أثم ُ‬
‫خَيْر ًا‪ ،‬أ ْو لِيصْ م ْ‬
‫اصمت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫كنت مؤمنًا =فقلْ خير ًا أو‬
‫ْ‬ ‫على الامتثال؛ أي‪ :‬إ ْن‬

‫‪ -‬وهذا المعنى ينبغي أ ْن ي ُزاد َ فيه التذكير ُ في زمن شبكات التواصل؛ لما تقوم ُ عليه فكرتُها من كثرة الكلام‬
‫والحديث‪ ،‬ونظرًا لطبيعة هذه الشبكات من زوال كثيرٍ مما يخشاه ُ الإنسانُ من حديثه في الواقع؛ مما يسببُ‬
‫ل التي يكرهُه َا الل ّه ُ لنا‪.‬‬
‫ل والقا َ‬
‫ز يادة َ شهوة الكلام والقي َ‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ بالمَدِينَة ِ سَن َة ً ما‬


‫الحديث الثالث‪ :‬عن النواس بن سمعان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬أقَم ْتُ مع رَسُو ِ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ عن شيءٍ‪ ،)،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬ ‫ن اله ِجْ رَة ِ إلّا المَسْألَة ُ‪ ،‬كانَ أحَد ُن َا إذ َا ه َاجَر َ ل َ ْم يَسْألْ رَسُو َ‬
‫يَم ْن َعُنِي م ِ َ‬

‫ن لتربية الن ّب ِيّ ﷺ للصحابة ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬بألا ينشغلوا عن العمل بكثرة السؤال‪،‬‬
‫‪-‬وفي هذا الحديث بيا ٌ‬
‫ج المدينة ولم يسمعوا منه ﷺ ولم يبلغهم‬
‫فكان ﷺ يكره ُكثرة َ السؤال إلا من الأعراب؛ الذين كانوا خار َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ عن شيءٍ‪،‬‬
‫ل ر َسو َ‬
‫ل أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬نُهِينا أ ْن نَسْأ َ‬
‫كثير ًا من القرآن‪ ،‬ولذلك يقو ُ‬
‫ن ن َ ْسم َ ُع)‪.‬‬
‫نح ْ ُ‬
‫ل البادِيَة ِ العاقِلُ‪ ،‬فَيَسْألَه ُ‪ ،‬و َ‬
‫ل م ِن أه ْ ِ‬
‫يج ِيء َ الر ّج ُ ُ‬
‫ف َكانَ يُعْجِبُنا أ ْن َ‬

‫الأساس عند َ الإنسان هو‬


‫ُ‬ ‫ن‬
‫ق السؤال‪ ،‬وإن ّما النّهي ُ عن أ ْن يكو َ‬
‫‪-‬وليس في هذا الحديث نهيّ عن مطل ِ‬
‫نص ما‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬حديث عبد‬
‫أمر أو ّ‬
‫ل عليهم ٌ‬
‫السؤالُ‪ ،‬وإلا فقد كانَ الصحابة ُ يسألون الن ّبيّ ﷺ إذا أشكِ َ‬

‫‪- 58 -‬‬
‫ك‬‫ن آم َن ُوا و َل َ ْم يلَ ْبِس ُوا ِإ يمَانَه ُ ْم بِظُلْم ٍ"‪ ،‬شَقّ ذل َ‬
‫ت هذِه الآي َة ُ‪" :‬ال ّذ ِي َ‬ ‫الل ّه بن مسعود ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬لَم ّا ن َزَل َ ْ‬
‫ل‬
‫ليس كما تَظ ُن ّونَ؛ إن ّما هو كما قا َ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪َ " :‬‬ ‫ل ر َسو ُ‬ ‫حاب الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬وقالوا‪ :‬أي ّنا ل َ ْم ي َ ْظلِم ْ ن َ ْفسَه ُ؟!‪ ،‬فقا َ‬
‫أص ِ‬‫علَى ْ‬
‫ك ب ِالل ّه ِ ِإ ّ‬
‫ن الش ِّرْك َ لَظُلْم ٌ عَظ ِيم ٌ"")‪ ،‬ومن ذلك أيضًا‪ :‬المسائل الفقهية التي كانت‬ ‫لُقْمانُ ل ِاب ْنِه ِ‪" :‬ي َا بُن َ ّي ل َاتُشْر ِ ْ‬
‫أمهات المؤمنين‪ ،‬ثم يعرضوهنّ على الن ّب ِيّ ﷺ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِض للصحابيات فيسألنّ فيها‬
‫تعر ُ‬

‫وس ُع فيه‪ ،‬وفي وقت‪:‬‬


‫وقت‪ :‬ي ُ ّ ِ‬
‫ٍ‬ ‫ح مفهوم َ كثرة السؤال نسبيًا؛ ففي‬
‫ل المُصل ُ‬
‫‪ -‬وفي واقعنا الحالي‪ :‬ينبغي أ ْن يجع َ‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ مع المهاجرين؛ حين منعهم من‬
‫ل والمقام ُ والزمانُ‪ ،‬كما فع َ‬
‫ق فيه بحسب بما يقتضيه الحا ُ‬
‫يُضي ِّ ُ‬
‫السؤال حت ّى لا ينشغلوا به عن العمل‪ ،‬أمّا الأعراب الذين يأتون من البادية ‪-‬خارج المدينة‪-‬؛ فقد كان ﷺ‬
‫يُجيبُهم بما لم يعلموا به حت ّى يعملوا به‪.‬‬

‫ل الذي لا‬ ‫الخـلاصة‪ :‬أ ّ‬


‫ن الن ّبيّ ﷺ لم يكنْ يحبُ لأصحابه أ ْن ينشغلوا عن العمل بكثرة السؤال‪ ،‬أمّا السؤا ُ‬
‫ل‬
‫ل مه ٍم حو َ‬ ‫يتعارض مع العمل‪ ،‬كأ ْن يكونَ طالبُ علم ٍ ذي بناء ٍ معرف ٍيّ منظ ٍم ولديه سؤا ٌ‬
‫ل في محل إشكا ٍ‬ ‫ُ‬
‫بأس به‪ ،‬أمّا م َن يُكثر ُ من الأسئلة‬
‫جواب هذا السؤال إلى العمل =فهذا لا َ‬
‫ِ‬ ‫ق على إثر ِ‬
‫بنائه المعرفي؛ ليَنطل َ‬
‫ل =فهذا مما يكره ُه ُ الل ّه ورسوله ﷺ‪ ،‬وهذا التوليد ُ للأسئلة قد يكونُ من‬
‫النظر ية التي لا يقوم ُ عليها العم ُ‬
‫ق كَذ َا؟‪ ،‬حت ّى يَق ُولَ‪:‬‬ ‫شيْط َانُ أحَدَكُمْ‪ ،‬في َقولُ‪ :‬م َن خ َل َ َ‬
‫ق كَذ َا؟‪ ،‬م َن خ َل َ َ‬ ‫الشيطان لقول الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬ي َأْ تي ال ّ‬
‫ق ر َب ّكَ؟؛ ف َِإذ َا بَلَغ َه ُ فَل ْيَسْت َع ِ ْذ بالل ّه ِ ول ْيَن ْتَه ِ"‪.‬‬
‫م َن خ َل َ َ‬

‫ل ف ِتَنًا كَقِط َِع‬


‫ل الل ّه ﷺ قال‪" :‬ب َادِر ُوا بالأعْمَا ِ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ن رسو َ‬
‫ن‬
‫ض مِ َ‬
‫ح ك َاف ِرًا‪ ،‬يَب ِي ُع دِين َه ُ بع َر َ ٍ‬
‫ل مُؤْم ِنًا و َيُمْس ِي ك َاف ِرًا‪ ،‬أ ْو يُمْس ِي مُؤْم ِنًا و َيُصْ ب ِ ُ‬
‫ح الر ّج ُ ُ‬
‫ل الم ُ ْظلِمِ‪ ،‬يُصْ ب ِ ُ‬
‫الل ّي ْ ِ‬
‫الد ّن ْيَا"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ل أوقات السَع َة والانطلاق‬
‫ق هو الذي يستغ ُ‬
‫ل المو َف ّ َ‬
‫ن العاق َ‬
‫حث على العمل؛ ذلك أ ّ‬
‫ن لل ِّ‬
‫‪-‬هذا الحديثُ فيه بيا ٌ‬
‫ن طبيعة َ الحياة متغيرة ٌ خاصة ً في آخر الزمان؛ فقد تتغير ُ الأمور ُ تغي ّر ًا يُمن ُع فيه الإنسانُ من‬
‫فيملؤها بالعمل‪ ،‬لأ ّ‬
‫العمل‪.‬‬
‫ن‬
‫ل على أ ّ‬ ‫كقِط َِع الل ّي ْ ِ‬
‫ل الم ُ ْظل ِ ِم"؛ وفي هذا دلي ٌ‬ ‫بعض هذه الموانع؛ ومن جملتها‪" :‬ف ِتَنًا َ‬
‫َ‬ ‫‪-‬وقد ذكر الن ّبيّ ﷺ‬
‫ِ‬
‫بقطع الليل المظلم لـكونها‬ ‫ل الن ّاس بالفتن‪ ،‬وقد صو ّرها الن ّبيّ ﷺ‬
‫ل عادّة ً في أوقات الفتن؛ لانشغا ِ‬
‫ل يق ّ‬
‫العم َ‬
‫ح‬
‫ل مُؤْم ِنًا و َيُمْس ِي ك َاف ِرًا‪ ،‬أ ْو يُمْس ِي مُؤْم ِنًا و َيُصْ ب ِ ُ‬
‫ح الر ّج ُ ُ‬
‫فتنًا مخيفة ً‪ ،‬تكثر ُ فيها التقل ّباتُ كما قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬يُصْ ب ِ ُ‬
‫ن الد ّن ْيَا"‪.‬‬
‫ك َاف ِرًا‪ ،‬يَب ِي ُع دِين َه ُ بع َر َضٍ م ِ َ‬

‫‪- 59 -‬‬
‫اس‬
‫ل الن ّ ُ‬
‫ن في عامّة أوقات الهرج والفتنة؛ ينشغ ُ‬
‫كه ِجْ رَة ٍ إلَيّ"؛ لأ ّ‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ‪" :‬ال ْع ِبادَة ُ في الهَر ِْج َ‬
‫‪-‬ولذلك؛ قا َ‬
‫عن العبادة‪ ،‬فم َن يعبدِ الل ّه في تلك الأوقات =يكنْ أجرُه ُ بمثابة الهجرة إلى الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬والعبادة ُ وقتَ الفتن‬
‫ل‪ ،‬كما ثبت في الصحيح‬
‫مات عملية ٍ تعبدية ٍ سابقة ٍ للوقاية من هذه الفتن؛ ومن أهمها‪ :‬قيام ُ اللي ِ‬
‫ج إلى مقد ٍ‬
‫تحتا ُ‬
‫سب ْح َانَ الل ّهِ‪،‬‬
‫قالت‪) :‬اسْ تَيْق ََظ الن ّبيّ ﷺ ذ َاتَ لَيْلَة ٍ فَق َالَ‪ُ :‬‬
‫ْ‬ ‫من حديث أ ِمّ المؤمنين أ ِمّ سلَمة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪-‬‬
‫ات الحجَُرِ‪ ،‬ف َر ُّب ك َاسِيَة ٍ في الد ّن ْيَا عَارِ يَة ٍ في‬
‫ن الخَزَائِنِ‪ ،‬أيْقِظ ُوا صَوَاحِب َ ِ‬
‫ح مِ َ‬
‫ن الف ِتَنِ‪ ،‬وم َاذ َا فُت ِ َ‬
‫ل الل ّيْلَة َ م ِ َ‬
‫م َاذ َا أنْز ِ َ‬
‫خرَة ِ)‪.‬‬
‫الآ ِ‬

‫حث على العمل‬


‫ل أ ْن تأتي َ الفتنُ؛ وسببُ هذا ال ّ‬
‫ل قب َ‬
‫ل ف ِتَنًا"‪ :‬أي‪ :‬ق ّدِموا الأعما َ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬ب َادِر ُوا بالأعْمَا ِ‬
‫أمران‪:‬‬
‫سبب للوقاية والنجاة من الفتن‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ل الصالحة َ‬
‫ن الأعما َ‬
‫الأوّل‪ :‬أ ّ‬
‫ل أ ْن يُمن َع الإنسانُ من استثمار الوقت‪.‬‬
‫ل أكبر قد ٍر من أوقات الإمكان والمُتاح قب َ‬
‫الثانـي‪ :‬استغلا ُ‬

‫ن الفتنة َ‬
‫ن لإثبات سرعة التحو ّل من الإيمان إلى الـكفر‪ ،‬ولذا؛ فإ ّ‬ ‫كقِط َِع الل ّي ْ ِ‬
‫ل الم ُ ْظل ِ ِم"‪ :‬فيه بيا ٌ‬ ‫‪-‬قوله ﷺ‪َ " :‬‬
‫وصف بها الفتنة ُ التي حصلت في تاريخ الأمّة (يقصد‪ :‬الفتنة بين علي ومعاو ية ‪-‬‬
‫المقصودة َ في الحديث لا ت ُ ُ‬
‫وحث على الاعتزال‪ ،‬بينما‬
‫ٍّ‬ ‫حق والباطل‪،‬‬
‫س في معرفة ال ّ ِ‬
‫رضي الل ّه عنهما‪)-‬؛ لما كان في هذه الفتنة من التبا ٍ‬
‫وصف بها الفتنة ُ في زماننا هذا؛ لما فيه من سرعة التأث ّر بالاتجاهات والإشكالات الفكر ية‬
‫ح أ ْن ت ُ َ‬
‫قد يص ُ‬
‫والشبهات العقدية والإلحاد وإنكار الدين وثوابته‪.‬‬

‫ل س ًِّت ّا‪ :‬طُلُوع َ‬


‫ل الل ّه ﷺ قالَ‪" :‬بادِر ُوا بالأعْما ِ‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ن رسو َ‬
‫صة َ أحَدِكُمْ‪ ،‬أ ْو أمْرَ العامّة ِ"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫س م ِن مَغْرِ بِها‪ ،‬أوِ الد ّخانَ‪ ،‬أوِ الد ّج ّالَ‪ ،‬أوِ الد ّاب ّة َ‪ ،‬أ ْو خا ّ‬
‫ش ْم ِ‬
‫ال ّ‬
‫ِض للإنسان‪.‬‬
‫ن من الن ّب ِيّ ﷺ لمجموعة ٍ من الفتن التي قد تعر ُ‬
‫‪-‬في الحديث تعيي ٌ‬
‫ق‬
‫ل ألا تنفعَ؛ لما في طلوع الشمس من غل ٍ‬
‫أي‪ :‬بادروا بالأعمال قب َ‬
‫س م ِن مَغْرِ بِها"‪ْ :‬‬
‫ش ْم ِ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬طُلُوع َ ال ّ‬
‫لباب التوبة‪.‬‬
‫صة َ أحَدِك ُ ْم"‪ :‬فس ّرها العلماء ُ بالموت‪ ،‬أو بما يُشغ ِ ُ‬
‫ل الإنسانُ من أموره حياته؛ في أهله وولده‬ ‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬خا ّ‬
‫وماله‪.‬‬
‫اس عامّة ً؛ ومن‬
‫ل الن ّ ُ‬
‫ن أ ْن يُشغ ِ َ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬أمْرَ العامّة ِ"‪ :‬فس ّرها العلماء ُ بالقيامة‪ ،‬أو بالأمر العا ِمّ الذي يُمك ُ‬
‫ل مرحلة السيادة‪،‬‬ ‫ل أ ْن تُسو ّدوا)؛ أي‪ :‬تف ّقهوا قب َ‬ ‫ل عمر بن الخطاب ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬تَف َ ّقهوا قب َ‬ ‫ذلك قو ُ‬

‫‪- 61 -‬‬
‫ن‬
‫وهذا كل ّه ُ من تربية الن ّب ِيّ ﷺ أصحابه على أهمية الاستعداد للمستقبل وعدم الاغترار باللحظة الراهنة‪ ،‬فإ ّ‬
‫الإنسانَ قد يظنّ وهو في طر يق الاستقامة وطلب العلم ثباتَ هذا الحال؛ متى أراد َ طلبَ العلم =وجدَه ُ‬
‫وطلب َه ُ‪ ،‬بينما كانَ الن ّبيّ ﷺ يربي أصحابَه ُ ‪-‬على ما كانوا فيه من حالة ٍ إيمانية ٍ عالية ٍ‪ -‬يربيهم ﷺ على الاستعداد‬
‫لأزمنة التغي ّرات؛ من الفتن والش ّدة والانشغالات وغير ذلك‪.‬‬

‫ل حدوثُ‬
‫خط ِبَ به الصحابة ُ إلا أن ّه عامّ للأمّة‪ ،‬فالأص ُ‬
‫‪-‬وهذا مما ينبغي أ ْن يتنب ّه َ له الإنسانُ‪ ،‬فالحديثُ وإ ْن ُ‬
‫المتغي ِّرات؛ خاصّ ة ً في نفس الإنسان بكثرة المشاغل والصوارف والعوارض والعوائق؛ فمن الطبيعي أ ّن ّه كل ّما‬
‫=ازدادت مهماتُه ُ وانشغالاتُه ُ؛ وعلى ذلك‪ :‬ينبغي أ ْن يتزوّد َ الإنسانُ في حال الرخاء‬
‫ْ‬ ‫ازداد َ عمر ُ الإنسان‬
‫ل الرخاء فرصة ً استثنائية ً للاستثمار‬
‫ل حا َ‬
‫والممكن والمتاح لحال الش ّدة والعجز والانشغال؛ وأ ْن يجع َ‬
‫الحقيقي؛ سواء ٌ في المستقبل القريب (الدنيا)‪ ،‬أو المستقبل البعيد (الآخرة)‪.‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫المحاضرة التاسعة‪ :‬صِدقُ النِّي ّة ِ‬
‫ل هو‬
‫ل المقبو َ‬
‫ن العم َ‬
‫ق الن ِّي ّة ِ وأ ّ‬
‫باب فِي صِد ِ‬
‫ٌ‬
‫ما اِب ْتُغِي َ بِه ِ وجه ُ الل ّه ِ ‪-‬تعالى‪ -‬وَو َاف َ‬
‫ق السُن ّة َ‬
‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫الآية‪ :‬قوله تعالى‪" :‬فَم َن ك َانَ يَرْجُو لِق َاء َ ر َبِّه ِ فَل ْيَعْم َلْ ع َمَل ًا صَالِ حاً وَل َا يُشْرِ ْ‬
‫ك ب ِع ِبَادَة ِ ر َبِّه ِ أحَدًا"‪:‬‬
‫ن هذه الآية َ تُذك َر ُ في مقام الشوق إلى الل ّه؛‬
‫بعض العلماء يفس ِّرون لفظة َ "يَرْجُو" بالخوف‪ ،‬إلا أ ّ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬وإن كان‬
‫يشتاق للقاء ِ الل ّه ِ =فليستع ْد لذلك بالعمل؛ ثم قي ّد َ الل ّه ُ هذا العمل بصفتين؛ إذا اجتمعتا في‬
‫ْ‬ ‫ن م َن‬
‫بمعنى أ ّ‬
‫العمل كان هذا العمل من أهم ما يُدّخر ُ للقائه ‪-‬سبحانه‪-‬؛ وهاتان الصفتان هما‪:‬‬
‫ن فيهما بيانَ العمل الصالح‪.‬‬
‫سن ّة رسول الل ّه ﷺ؛ لأ ّ‬
‫أي‪ :‬فيه اتباعٌ لكتاب الل ّه و ُ‬
‫الأولى‪ :‬أ ْن يكــونَ صالحًا‪ْ :‬‬
‫أي‪ :‬يُبت َغى به وجه ُ الل ّه ‪-‬تعالى‪.-‬‬
‫الـثانـية‪ :‬أ ْن يكونَ خالصً ا‪ْ :‬‬

‫ات وإن ّما‬


‫ل بالن ِّي ّ ِ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن عمر َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬سمعتُ رسو َ‬
‫ل الل ّه ﷺ يقولُ‪" :‬إن ّما الأعما ُ‬

‫ل امرئٍ ما نوى؛ فم َن كانت هجرتُه ُ إلى الل ّه ِ ورسولِه ِ ف َهجرتُه ُ إلى الل ّه ِ ورسولِه ِ‪ ،‬وم َنْ كانت هجرتُه ُ إلى دنيا‬
‫ل ِك ّ ِ‬
‫يصيبُها أو امرأة ٍ ين ْكحُها ف َهجرتُه ُ إلى ما هاجر َ إليْه ِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫ل الإمام ابن حجر ‪-‬‬


‫ق الأئمة ُ على تعظيم شأن هذا الحديث‪ ،‬وأن ّه من مركز يات الإسلام؛ و بيانُ ذلك‪ :‬قو ُ‬
‫‪-‬اتف َ‬
‫ق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي ‪-‬فيما نقله البو يطي عنه‪ -‬وأحمد بن حنبل وعلي بن‬
‫رحمه الل ّه‪( :-‬واتف َ َ‬
‫المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أن ّه ثلثُ الإسلام)‪.‬‬
‫ل المتربي إلى أ ْن يقرأ الشر يعة‬
‫ص ُ‬
‫ن من أهم مؤشرات نتائج التربية الصحيحة‪ ،‬أ ّنها ت ُو ِ‬
‫‪-‬وفي هذه الجملة فائدة ٌ‪ :‬أ ّ‬
‫قراءة ً ت ُضيء ُ من خلالها النصوص؛ في ُدرِك ُ المحكمات والكليات والمركز يات لي َستطي َع أ ْن يبني َ عليها القواعد‬
‫الـكبرى‪ ،‬وم ِن ثم ّ يردّ إليها المتشابهات والجزئيات‪.‬‬

‫أشق الأعمال على النفوس‪ ،‬وهو (اله ِجْ ر َة)؛ وشأنُ المشقة في الهجرة ليس‬
‫ِّ‬ ‫ل م ِن‬
‫ل بعم ٍ‬
‫‪-‬ضربَ الن ّبيّ ﷺ المث َ‬
‫في السفر فقط‪ ،‬وإن ّما في المفارقة لما اعتاد َ الإنسانُ الإطمئنانَ إليه من الأهل والمسكن والمال‪ ،‬ولذلك؛‬
‫ح أصحابُ رسول الل ّه ﷺ بوصف الهجرة؛ فصاروا يلقبون بالمهاجرين‪.‬‬
‫امت ُدِ َ‬

‫‪- 62 -‬‬
‫ل التعب والنصب الذي في الهجرة؛ فهو لا يشف ُع لصاحبه إذا لم تكن نيت ُه ُ لل ّه؛ فلا يؤجر ُ‬
‫‪-‬وعلى الرغم من ك ّ ِ‬
‫ل الإنسانُ‬
‫ن شأنَ العمل إن ّما هو في نِّية الإنسان وليس فيما يتكب ّد فيه من مشقة ٍ‪ ،‬فق ْد يعم ِ‬
‫عليها؛ ذلك أ ّ‬
‫=فيكتب الل ّه ُ له أجره‪ ،‬كما جاء في قول الن ّب ِي ّ‬ ‫ِ‬ ‫ف فيه من المشقة شيئًا‪ ،‬لـكنه يبتغي به وجه الل ّه‬ ‫عمل ًا لا يتكل ّ ُ‬
‫حافظ‬
‫ك"؛ يقول ال ُ‬ ‫ل في ف َ ِم امْرَأت ِ َ‬
‫تجْع َ ُ‬‫جرْتَ عَلَيْهَا‪ ،‬حت ّى ما َ‬ ‫ق نَفَق َة ً تَب ْتَغ ِي بهَا وجْه َ الل ّه ِ إلّا أ ِ‬
‫ك لَنْ تُن ْف ِ َ‬
‫ﷺ‪" :‬إن ّ َ‬
‫ن و َضْ ع الل ّ ْقم َة فِي‬‫ق الْحَقّ ل َا ي َ ْقد َح فِي ثَوَابه ل ِأ ّ‬
‫ن الْح َ ّظ ِإذ َا و َاف َ َ‬
‫ن حجرٍ ‪-‬رحمه الل ّه‪( :-‬و َاسْ تَن ْب ََط مِن ْه ُ الن ّوَوِيّ أ ّ‬ ‫اب ُ‬
‫ك ِإذ َا وَج ّه َ الْق َصْ د فِي‬
‫ك م َ ْدخ َل ظَاه ِر‪ .‬وَم َ َع ذَل ِ َ‬
‫فِي الز ّ ْوج َة يَق َع غَالِبًا فِي ح َالَة ال ْمُد َاع َب َة‪ ،‬و َل ِشَهْوَة ِ الن ّفْس فِي ذَل ِ َ‬
‫ل الل ّه)‪.‬‬
‫ل لَه ُ بِف َضْ ِ‬
‫ص َ‬ ‫ك الْحَالَة ِإلَى اِب ْتِغ َاء الث ّوَاب = َ‬
‫ح َ‬ ‫تِل ْ َ‬

‫رجب ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬إشارة ً‬


‫ٍ‬ ‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬فم َن كانت هجرتُه ُ إلى الل ّه ِ ورسولِه ِ ف َهجرتُه ُ إلى الل ّه ِ ورسولِه ِ"‪ :‬أشار َ اب ُ‬
‫ن‬
‫اب الشرط على‬ ‫ن الن ّبيّ ﷺ لم يذكر ْ ثوابَ م َن كانت هجرت ٌه ٌ إلى الل ّه ورسوله‪ ،‬واقتصر َ في جو ِ‬ ‫لطيفة ً في كون أ ّ‬
‫إعادته بلفظه؛ فقال‪( :‬فَم َنْ ه َاجَر َ ِإلَى د َارِ ال ِْإسْ لَا ِم ح ًُّب ّا لِل ّه ِ وَرَسُولِه ِ‪ ،‬وَرَغْب َة ً فِي تَعَل ّم ِ دِي ِن ال ِْإسْ لَا ِم‪ ،‬و َِإظْ ه َارِ‬
‫كف َاه ُ شَر َفًا وَفَخ ْرًا أن ّه ُ‬ ‫جر ُ ِإلَى الل ّه ِ وَرَسُولِه ِ َ‬
‫ح ًّ ّقا‪ ،‬و َ َ‬ ‫ركِ‪ ،‬فَهَذ َا ه ُو َ ال ْمُه َا ِ‬ ‫حي ْثُ ك َانَ يَعْجِز ُ عَن ْه ُ فِي د َارِ الش ِّ ْ‬
‫دِينِه ِ َ‬
‫ل لَه ُ م َا نَوَاه ُ م ِنْ هِ ج ْرَتِه ِ ِإلَى الل ّه ِ وَرَسُولِه ِ‪ .‬و َلِهَذ َا ال ْمَعْن َى اق ْت َصَر َ فِي جَو َ ِ‬
‫اب هَذ َا الش ّرْطِ عَلَى ِإعَاد َتِه ِ بِل َ ْفظِه ِ؛‬ ‫ص َ‬
‫ح َ‬
‫َ‬
‫خرَة ِ)‪.‬‬
‫وب فِي الد ّن ْيَا و َالْآ ِ‬
‫ل م َا نَوَاه ُ بِه ِجْ رَتِه ِ نِهَايَة ُ ال ْمَطْل ُ ِ‬
‫حصُو َ‬
‫ن ُ‬
‫ل ِأ ّ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬ف َهجرتُه ُ إلى ما هاجر َ إليْه ِ"‪ :‬فيه تحقير ٌ لمآل العمل الذي لا يُبتغى به وجه الل ّه‪.‬‬

‫ل الل ّه ُ تَبارَك َ وتَعالَى‪ :‬أنا‬


‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬قا َ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬

‫ل ع َمَل ًا أشْرَك َ فيه مَع ِي غيرِي‪ ،‬ت َرَكْ ت ُه ُ وشِرْك َه ُ"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬ ‫أغْن َى الش ّرَكاء ِ ع َ ِ‬
‫ن الش ِّرْكِ‪ ،‬م َن عَم ِ َ‬

‫ن واحدٍ من أهم البواعث على تحقيق الإخلاص؛ وهو قوله تعالي‪" :‬أنا أغْن َى الش ّرَكاء ِ‬
‫‪-‬هذا الحديثُ في بيا ِ‬
‫الإخلاص؛‬
‫َ‬ ‫ق‬
‫يح ّق ِ َ‬
‫ن أ ْن يبعثَ الإنسانُ على أ ْن ُ‬
‫ن معرفة َ الل ّه ‪-‬تعالى‪ -‬من أعظم ما يمك ُ‬
‫ك"؛ بمعنى أ ّ‬
‫ن الش ِّرْ ِ‬
‫عَ ِ‬
‫ازدادت معرفة ُ الإنسان بالل ّه سواء ٌ كونه غني ًا أو غيرها من صفاته ‪-‬تعالى‪ -‬كالعظمة والـكمال وغيرهما‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فكل ّما‬
‫صا لل ّه في عمله‪.‬‬
‫ازدادت هذه المعرفة عند َ الإنسان =كل ّما كان أش ّد إخلا ً‬
‫ْ‬ ‫كل ّما‬

‫ن قُ ِ‬
‫بح الشرك؛ فقال تعالى‪" :‬ضَر َبَ الل ّه ُ م َثَل ًا رّج ُل ًا ف ِيه ِ‬ ‫‪-‬ولذلك؛ كر ّر َ الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪ -‬ضرْبَ الأمثال في بيا ِ‬
‫سك ُ ْم ه َل ل ّـك ُم‬
‫ن م َثَل ًا"‪ ،‬وقال‪" :‬ضَر َبَ لـَك ُم مّثَل ًا مّ ِنْ أنف ُ ِ‬
‫ل ه َلْ يَسْتَوِي َا ِ‬
‫كس ُونَ وَرَج ُل ًا سَلَمًا ل ّ ِرَج ُ ٍ‬
‫شُرَك َاء ُ م ُتَشَا ِ‬
‫َت أيْمَانُك ُم مّ ِن شُرَك َاء َ فِي م َا رَز َق ْنَاك ُ ْم ف َأنتُم ْ ف ِيه ِ سَوَاء ٌ تَخَاف ُونَه ُ ْم كَخ ِيف َتِك ُ ْم أنفُسَك ُ ْم"؛ وهذا المعنى‬
‫مّ ِن مّا م َلـَك ْ‬

‫‪- 63 -‬‬
‫البخاري من حديث عبد الل ّه بن عمر ‪-‬رضي الل ّه‬
‫ِّ‬ ‫ي ُدرك ُه ُ صاحبُ الفطرة السليمة‪ ،‬ولذلك؛ ثبتَ في ص ِ‬
‫حيح‬
‫سم َاء ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ل لَهَا م ِ َ‬
‫شاة ُ خ َلَقَه َا الل ّهُ‪ ،‬وأن ْز َ َ‬
‫ل‪ :‬ال ّ‬
‫ْش ذ َب َائِ حَهُمْ‪ ،‬و يقو ُ‬ ‫ن عَمْرٍو كانَ يَع ِيبُ علَى قُر َي ٍ‬ ‫ن ز َيْد َ ب َ‬‫عنهما‪( :-‬أ ّ‬
‫ك وإ ْعظَام ًا له)‪.‬‬ ‫ن الأ ْرضِ‪ ،‬ث ُم ّ ت َ ْذبَح ُونَهَا علَى غيرِ اس ْ ِم الل ّه ِ! إنْك َار ًا لِذل َ‬‫المَاءَ‪ ،‬وأن ْب َتَ لَهَا م ِ َ‬

‫ق نَفَق َة ً تَب ْتَغ ِي‬


‫ك لَنْ تُن ْف ِ َ‬
‫ل‪" :‬إن ّ َ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن سعد بن أبي وقاص ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ قا َ‬

‫ك"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬


‫ل في ف َ ِم امْرَأت ِ َ‬
‫تجْع َ ُ‬ ‫بهَا وجْه َ الل ّه ِ إلّا أ ِ‬
‫جرْتَ عَلَيْهَا‪ ،‬حت ّى ما َ‬

‫ف‬
‫ن جم َع القلب على الن ِّية واستحضار َ الإخلاص في الأعمال اليسيرة المألوفة ‪-‬التي لا تكل ّ َ‬
‫‪-‬يبيِّنُ الحديثُ أ ّ‬
‫ل استحضار ُ‬
‫ج إلى مشقة ٍ ومجاهدة ٍ؛ إذ يسه ُ ُ‬
‫فيها‪ -‬أصعبُ على نفس الإنسان منها في الأعمال الشاقة التي تحتا ُ‬
‫ن جمع‬
‫ق كالحج مثل ًا‪ .‬بينما قد يطغى الاعتياد ُ في الأعمال اليسيرة المعتادة على إمكا ِ‬
‫دي شا ٍ‬
‫الن ِّية في أمر ٍ تعب ّ ّ ٍ‬
‫ل أقربَ للتعب ّد المحض والمشقة =فهو أدعى‬
‫القلب على استحضار الإخلاص فيها؛ فكل ّما كان العم ُ‬
‫ف والعادة =كان استحضار ُ الن ِّية فيه أصعبَ ‪.‬‬
‫للإل ْ ِ‬
‫ل وأقربَ ِ‬
‫ل أسه َ‬
‫لاستحضار الن ِّية‪ ،‬وكل ّما كان العم ُ‬

‫ل منه إلا ما‬


‫ل مألوف ًا ومتصل ًا بالعادة =لا ي ُقب ُ‬
‫‪-‬ولقد أتى تنبيه ُ الشر يعة على كلا الأمرين؛ فحتى لو كان العم ُ‬
‫كان ي ُبتغى به وجه الل ّه؛ ومن النصوص الدالة على ذلك‪:‬‬

‫س وَم َن‬ ‫ُوف أ ْو ِإصْ ل َ ٍ‬


‫اح بَيْنَ الن ّا ِ‬ ‫صد َقَة ٍ أ ْو مَعْر ٍ‬
‫‪ -١‬قوله تعالى‪" :‬لّا خَيْر َ فِي كَث ِيرٍ مّ ِن نّ ج ْوَاه ُ ْم ِإلّا م َنْ أم َرَ ب ِ َ‬
‫جر ًا عَظ ِيم ًا"‪.‬‬
‫ْف نُؤْتيِه ِ أ ْ‬‫َات الل ّه ِ فَسَو َ‬
‫ك اب ْتِغ َاء َ م َْرض ِ‬
‫ي َ ْفع َلْ ذََٰل ِ َ‬

‫ك"؛ وفي‬
‫ل في ف َ ِم امْرَأت ِ َ‬
‫تجْع َ ُ‬ ‫ق نَفَق َة ً تَب ْتَغ ِي بهَا وجْه َ الل ّه ِ إلّا أ ِ‬
‫جرْتَ عَلَيْهَا‪ ،‬حت ّى ما َ‬ ‫ك لَنْ تُن ْف ِ َ‬
‫‪ -٢‬قوله ﷺ‪" :‬إن ّ َ‬
‫يحتسبَ فيه كمصد ٍر من مصادر الأجر‬
‫ن أ ْن ُ‬
‫ل المعتاد َ (الإنفاق على الأهل) يمك ُ‬
‫ن العم َ‬
‫هذا بيانُ أ ّ‬
‫ل‬
‫ل الإنسانُ إلى حالة ٍ من الر ب ّاني ّة؛ في َستحضر َ نوم َه بالليل لي ُكتبَ له به عم ٌ‬
‫ن أ ْن يص َ‬
‫الأخروي‪ ،‬بل يمك ُ‬
‫صالح ٌ؛ كما قال معاذ ٌ لأبي موسى ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬عندما سأله عن طر يقته في قراءة القرآن‪( :‬أمّا أن َا فأن َام ُ‬
‫ح في النوم للتز ّود والاستعانة به على العمل‬
‫وأقُوم ُ‪ ،‬فأحْتَسِبُ نَوْم َتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتِي)؛ والمعنى‪ :‬هو الارتيا ُ‬
‫الصالح‪ ،‬وفي استحضار ُ واحتسابُ النوم بهذه الصورة أجر ٌ ومثوبة‪.‬‬

‫جلس الإنسانُ في بيته و يُكتبُ‬


‫ل الحقيقيّ بين العباد يوم القيامة يكون بالن ِّيات؛ فقد ي ُ‬
‫ن التفاض َ‬
‫‪-‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫ق‬
‫له أجر ُ المهاجر المجاهد في سبيل الل ّه‪ ،‬إ ْن حبس َه ُ العذر ُ ومنعَت ْه ُ الاستطاعة ُ‪ ،‬وذلك بما عقد َ في قلبه من صاد ِ‬
‫العز ِم والن ِّية ِ؛ ومن شواهد ذلك‪:‬‬
‫‪- 64 -‬‬
‫ن بالمَدِينَة ِ لَرِج َال ًا ما سِرْتُم ْ مَسِير ًا‪ ،‬وَل َا قَطَعْتُم ْ و َادِي ًا‪ ،‬إلّا ك َانُوا معكُمْ؛‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ في غزوة تبوك‪" :‬إ ّ‬
‫‪ -١‬قو ُ‬
‫َض‪ .‬وفي رواية‪ :‬إلّا شَرِكُوك ُ ْم في الأ ْ‬
‫جر ِ"‪.‬‬ ‫ح َب َسَهُم ُ المَر ُ‬

‫ل الل ّه ِ وَل َا‬


‫اب أن يَتَخَل ّف ُوا ع َن رّسُو ِ‬ ‫ن الْأعْرَ ِ‬ ‫حو ْلَه ُم مّ ِ َ‬
‫ل ال ْمَدِينَة ِ وَم َنْ َ‬
‫ل الل ّه ‪-‬تعالى‪" :-‬م َا ك َانَ ل ِأه ْ ِ‬ ‫‪ -٢‬قو ُ‬
‫ل الل ّه ِ وَل َا يَطَئ ُونَ مَوْطِئًا‬ ‫ظم َأ ٌ وَل َا نَص ٌ‬
‫َب وَل َا مَخ ْمَصَة ٌ فِي سَب ِي ِ‬ ‫ك ب ِأ ّنه ُ ْم ل َا يُصِ يبُه ُ ْم َ‬
‫سه ِ ذََٰل ِ َ‬
‫يَرْغ َب ُوا ب ِأنفُسِه ِ ْم ع َن ن ّ ْف ِ‬
‫جر َ ال ْم ُحْ سِنِينَ * وَل َا‬
‫ن الل ّه َ ل َا يُضِ ي ُع أ ْ‬
‫ل صَالِ ح ٌ ِإ ّ‬
‫ن م ِنْ عَد ُ ٍّو ن ّي ْل ًا ِإلّا كُت ِبَ لَه ُم بِه ِ ع َم َ ٌ‬
‫ِيظ ال ْـكُ ّفار َ وَل َا يَنَالُو َ‬
‫يَغ ُ‬
‫ن م َا ك َانُوا يَعْم َلُونَ"‪.‬‬
‫يُنفِق ُونَ نَفَق َة ً صَغ ِيرَة ً وَل َا كَب ِيرَة ً وَل َا ي َ ْقطَع ُونَ و َادِي ًا ِإلّا كُت ِبَ لَه ُ ْم لِي َجْ زِ يَهُم ُ الل ّه ُ أحْ س َ َ‬

‫الأحاديث؛ الرابع والخامس والسادس والسابع‪:‬‬


‫ل‪ :‬لا إلَه َ إلّا‬
‫ن الل ّه َ ق ْد حَرّم َ علَى الن ّارِ م َن قا َ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ قال‪" :‬فإ ّ‬
‫‪-‬عن عِت ْب َان بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ك وجْه َ الل ّه ِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫الل ّهُ‪ ،‬يَب ْتَغ ِي بذل َ‬

‫ل الل ّه ِ من أسعد ُ الن ّا ِ‬


‫س بشفاعت ِك يوم َ القيامة ِ فقال‬ ‫‪-‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أن ّه قال‪( :‬قلتُ يا رسو َ‬
‫ك لما رأيتُ من حرصِك على‬
‫حديث أحدٌ أولى من َ‬
‫الن ّبيّ ﷺ‪" :‬لقد ظننتُ يا أبا هريرة َ أن لا يسألُني عن هذا ال ِ‬
‫سه ِ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫س بشفاعتي يوم َ القيامة ِ‪ :‬م َن قال لا إله َ إلّا الل ّه ُ خالصً ا من نف ِ‬
‫حديث؛ أسعد ُ الن ّا ِ‬
‫ال ِ‬

‫ن مُحَم ّدًا‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ قال‪" :‬ما م ِن أحَدٍ يَشْهَد ُ أ ْن لا إلَه َ إلّا الل ّه ُ وأ ّ‬ ‫‪-‬عن أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ل الل ّهِ‪ِ ،‬‬
‫صدْقًا م ِن قَل ْبِه ِ‪ ،‬إلّا حَرّم َه ُ الل ّه ُ علَى الن ّارِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬ ‫ر َسو ُ‬

‫ن النّهارِ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ قال في حديث سيد الاستغفار‪" :‬وم َن قالَها م ِ َ‬
‫‪-‬عن شداد بن أوس ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ل‬
‫ن بها‪ ،‬فَماتَ قَب ْ َ‬
‫ل وهو م ُوق ِ ٌ‬
‫ن الل ّي ْ ِ‬
‫ل الجنَ ّة ِ‪ ،‬وم َن قالَها م ِ َ‬
‫ل أ ْن يُمْسِيَ‪ ،‬ف َهو م ِن أه ْ ِ‬
‫م ُوق ِنًا بها‪ ،‬فَماتَ م ِن يَومِه ِ قَب ْ َ‬
‫ل الجنَ ّة ِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫أ ْن يُصْ بِحَ‪ ،‬ف َهو م ِن أه ْ ِ‬

‫النصوص الشرعية في إبراز الأثر المترتب على قول (لا إله إلا الل ّه)؛ سواء ٌ الأثر الدنيوي أو‬
‫ُ‬ ‫افرت‬
‫ْ‬ ‫‪-‬قد تض‬
‫الأخروي؛ ومن شواهد ذلك‪:‬‬

‫ل الل ّهِ‪ ،‬و يُق ِيم ُوا‬


‫ن مُحَم ّدًا ر َسو ُ‬
‫اس حت ّى يَشْهَد ُوا أ ْن لا إلَه َ إلّا الل ّهُ‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ل الن ّ َ‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬أم ِْرتُ أ ْن أقَات ِ َ‬ ‫‪ -١‬قو ُ‬
‫حسَابُه ُ ْم علَى‬ ‫صم ُوا م ِن ِ ّي دِم َاءَه ُ ْم وأمْوَالَه ُ ْم إلّا بح ّ َِق الإسْ لَا ِم‪ ،‬و ِ‬
‫ك عَ َ‬ ‫الصّ لَاة َ‪ ،‬و يُؤْتُوا الز ّك َاة َ‪ ،‬ف َِإذ َا فَع َلُوا ذل َ‬
‫الل ّه ِ"‪.‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫كبْرِي َائِي وعَظَم َتي‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ في حديث الشفاعة الطو يل‪" :‬فيقول الل ّه ‪-‬تعالى‪ :-‬وع ِّزتي وج َلَال ِي‪ ،‬و ِ‬
‫‪ -٢‬قو ُ‬
‫ل لا إلَه َ إلّا الل ّه ُ"‪.‬‬
‫خرِجَنّ منها م َن قا َ‬
‫ل َأ ْ‬
‫ل لا إلَه َ إلّا الل ّهُ‪ ،‬وأدْناها‬
‫شعْب َة ً‪ ،‬فأفْضَلُها قَوْ ُ‬
‫سب ْع ُونَ‪ ،‬أ ْو بضْ ٌع وسِت ّونَ‪ُ ،‬‬
‫الإ يمانُ بضْ ٌع و َ‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪ِ " :‬‬
‫‪ -٣‬قو ُ‬
‫ن"‪.‬‬
‫ن الإيما ِ‬
‫شعْب َة ٌ م ِ َ‬
‫طرِ يقِ‪ ،‬والْحَياء ُ ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫إماطَة ُ الأذ َى ع َ ِ‬

‫‪-‬إذن؛ فكلمة ُ (لا إله إلا الل ّه) مركز ية ٌ في الد ِّين‪ ،‬ومع هذه المركز ية والفضل والأثر المترت ّ ِب عليها؛ إلا أن ّه ق ْد‬
‫ل مهما كان معظم ًا في الشر يعة =فإن ّما‬
‫جاء َ التنبيه ُ إلى أهمية الإخلاص فيها بأ ْن يُبتغى بها وجه الل ّه‪ ،‬فالعم ُ‬
‫ن معيار َ الاستقامة والتقوى هو ما‬
‫ي ُرف ُع بالن ِّي ّة الصالحة؛ ولأجل ذلك‪ :‬ينبغي على المؤمن أ ْن يربي َ نفسه على أ ّ‬
‫ل عمله‪ ،‬ولذلك؛ قال أبو هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال الن ّبيّ ﷺ‪"( :‬الت ّقْو َى‬
‫يحو يه قلب ُه ُ من إخلاصٍ لل ّه في ك ّ ِ‬
‫ات)‪.‬‬
‫ص ْدرِه ِ ثَلاثَ م َّر ٍ‬
‫هاه ُنا"؛ ويُشِير ُ إلى َ‬

‫ل الل ّهِ‪ ،‬اب ُ‬


‫ن جُدْعانَ كانَ‬ ‫الحديث الثامن‪ :‬عن أ ِمّ المؤمنين عائشة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬قالت‪( :‬قُلتُ ‪ :‬يا ر َسو َ‬
‫ل‪" :‬لا يَنْف َع ُه ُ‪ ،‬إن ّه ل َ ْم يَق ُلْ يَوْم ًا‪ :‬ر ِّ‬
‫َب اغْفِر ْ لي‬ ‫سكِينَ‪ ،‬ف َهلْ ذاك َ ناف ِع ُه ُ؟ قا َ‬
‫حم َ‪ ،‬و يُطْعِم ُ الم ِ ْ‬
‫ل الر ّ ِ‬
‫في الجاه ِلِي ّة ِ يَصِ ُ‬
‫خط ِيئَتي يَوم َ الد ِّي ِن")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫َ‬

‫ج لهذا الحديث في مثل هذا الزمن الذي تطغى فيه معيار ية ُ الأعمال الإنسانية؛ كالإحسان إلى الن ّاس‬
‫‪-‬يُحتا ُ‬
‫وس ّدِ احتياجاتهم من المسكن والملبس والطعام‪ ،‬وهذه تع ّد من أفضل الأعمال في ميزان الشر يعة‪ ،‬لـكنها‬
‫ليست معتبرة ً في ذاتها من جهة النفع الأخروي إلا بشرطين؛ إذا كانت مصحوبة ً بتوحيد الل ّه‪ ،‬وكان يُبت َغى‬
‫بها وجه ُ الل ّه‪.‬‬

‫ل‪" :‬أح ّدِثُكم حديثًا‬ ‫الحديث التاسع‪ :‬عن أبي كبشة الأنماري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أن ّه سم ِ َع رسو َ‬
‫ل الل ّه ﷺ يقو ُ‬
‫ل فيه ِ رحم َه ُ و يعلم ُ‬
‫ل‪ :‬إن ّما الد ّنيا لأربعة ِ نفرٍ؛ عبدٍ رزق َه ُ الل ّه ُ مال ًا وعلمًا ف َهو َ يت ّقي رب ّه ُ فيه ِ و يص ُ‬
‫فاحفظوه ُ؛ فقا َ‬
‫ن لي مال ًا‬
‫ل لو أ ّ‬
‫ل‪ ،‬وعبدٍ رزق َه ُ الل ّه ُ علمًا ولم يرزق ْه ُ مال ًا ف َهو َ صادقُ الن ِّي ّة ِ يقو ُ‬ ‫لل ّه ِ فيه ِ ح ًّ ّقا؛ ف َهذا بأفض ِ‬
‫ل المناز ِ‬
‫خبط في مالِه ِ بغيرِ علم ٍ لا‬ ‫ن؛ ف َهو َ بني ّتِه ِ فأجر ُهما سواء ٌ‪ ،‬وعبدٍ رزق َه ُ الل ّه ُ مال ًا ولم يرزق ْه ُ علمًا ي ُ‬
‫ل فلا ٍ‬‫لعملتُ بعم ِ‬
‫ل‪ ،‬وعبدٍ لم يرزق ْه ُ الل ّه ُ مال ًا ولا علمًا‬ ‫ل فيه ِ رحم َه ُ ولا يعلم ُ لل ّه ِ فيه ِ ح ًّ ّقا؛ فهو بأخب َِث المناز ِ‬‫يت ّقي فيه ِ رب ّه ُ ولا يصِ ُ‬
‫ن؛ ف َهو َ بني ّتِه ِ فوزر ُهما سواء ٌ"‪ ،‬أخرج َه ُ الترمذيّ ‪.‬‬
‫ل فلا ٍ‬
‫ن لي مال ًا لعملتُ فيه ِ بعم ِ‬
‫ل لو أ ّ‬
‫ف َهو َ يقو ُ‬

‫ق بالس ُن ّة؛ وهي‪:‬‬


‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬أح ّدِثُكم حديثًا فاحفظوه ُ" فيه دلالة ٌ على أمو ٍر تتعل ّ ُ‬
‫‪-‬قو ُ‬

‫‪- 66 -‬‬
‫ل الس ُن ّة وإبلاغها وأ ْن يعتني َ الصحابة ُ بها؛ وذلك عن طر يق التنبيه العا ِمّ‬
‫حرص الن ّب ِيّ ﷺ على نق ِ‬
‫ُ‬ ‫الأوّل‪:‬‬
‫خاص على ذلك؛ ومن شواهد هذين التنبيهين‪:‬‬
‫وال ّ ِ‬
‫‪ -١‬قولُه ُ ﷺ في التنبيه العا ِمّ‪" :‬نض ّر َ الل ّه ُ امرأ ً سَم َع من ّا ح َديثًا فبل ّغ َه ُ‪ ،‬فر ُّب م ُبل ّ ٍغ أحف َُظ م ِن سام ٍِع"‪.‬‬
‫خاص في الحديث الوارد معنا وشاهده قولُه ُ ﷺ‪" :‬أح ّدِثُكم حديثًا فاحفظوه ُ"‪.‬‬
‫‪ -٢‬قولُه ُ ﷺ في التنبيه ال ّ ِ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ لما أوصى وفْد َ‬
‫خاص من رواية عبد الل ّه بن عباس ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬أ ّ‬
‫‪ -٣‬قولُه ُ ﷺ في التنبيه ال ّ ِ‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ لهم‪" :‬احْ فَظ ُوه ُنّ وأخْبِر ُوا به ِنّ م َن‬
‫وعرفهم بالحلال والحرام وأركان الإسلام؛ قا َ‬
‫ّ‬ ‫س‬
‫عبدِ القَي ْ ِ‬
‫وراءَك ُ ْم"‪.‬‬
‫حث الن ّب ِيّ ﷺ على العناية بحفظ السُن ّة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الثانـي‪:‬‬

‫ن عدالة َ المبل ّ ِغ؛ وهم الصحابة ُ ‪-‬رضوان الل ّه عليهم‪.-‬‬ ‫ِ‬


‫الإبلاغ يتضم ُ‬ ‫حث الن ّب ِيّ ﷺ على‬
‫ّ‬ ‫ن‬
‫الثالث‪ :‬أ ّ‬

‫ي في أمر الن ِّي ّة كما في قول الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬ف َهو َ بني ّتِه ِ"؛ ففي‬
‫‪-‬هذا الحديثُ عظيم ٌ وفيه فوائد ُ كثيرة ٌ‪ ،‬وشأن ُه ُ الأساس ّ‬
‫ق نيته‪.‬‬
‫حصل َها الإنسانُ من خلال صد ِ‬
‫ن أ ْن ي ِّ‬
‫ن لأهمية ِ الن ِّي ّة ومقدارِ الأجورِ التي يمك ُ‬
‫الحديث بيا ٌ‬

‫ن بالمَدِينَة ِ لَرِج َال ًا ما سِرْتُم ْ مَسِير ًا‪ ،‬وَل َا قَطَعْتُم ْ‬


‫‪-‬كما يؤكد ُ هذا الحديثُ على المعنى المذكور في قوله ﷺ‪" :‬إ ّ‬
‫ن قد يبل ُغ بنيته‬
‫ن الإنسا َ‬ ‫و َادِي ًا‪ ،‬إلّا ك َانُوا معكُمْ؛ ح َب َسَهُم ُ المَر َُض‪ .‬وفي رواية‪ :‬إلّا شَرِكُوك ُ ْم في الأ ْ‬
‫جر ِ"؛ إذ أ ّ‬
‫ن للإنسان أ ْن يبل ُغ َها؛ كصاحب‬
‫الصادقة ما يبلغ ُه ُ أصحابُ الإمكانات ‪-‬في الأعمال الصالحة‪ -‬التي لا يمك ُ‬
‫ن لي مال ًا لعملتُ‬
‫ك المال؛ فقال‪" :‬لو أ ّ‬
‫صدق م َن لا يمتل ُ‬
‫ْ‬ ‫ن فيه وينفق ُه ُ في وجوه الخير‪ ،‬فإذا‬
‫س ُ‬
‫المال الذي يُح ِ‬
‫ن ‪-‬المنفق ماله‪ "-‬لكانَ له ‪-‬بنيته الصادقة‪ -‬أجر ُ المنفق ماله‪ ،‬كما جاء في الحديث‪ :‬قال الن ّبيّ ﷺ‪:‬‬
‫ل فلا ٍ‬
‫بعم ِ‬
‫ل الش ّهداء ِ وإن ماتَ علَى فراشِه"‪.‬‬
‫ل الل ّه َ الش ّهادة َ صادقًا بل ّغ َه الل ّه ُ مناز َ‬
‫"م َن سأ َ‬

‫ن المقصود َ هو‬
‫ن رجب ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في معنى اشتراك العبدين في أجر الإنفاق‪( :‬أ ّ‬
‫‪-‬وقد أشار َ الإمام ُ اب ُ‬
‫ف للثاني‬
‫ض اع َ ُ‬
‫ل ما لا ي ُ َ‬
‫ق وبذ َ َ‬
‫ف في الأجر ِ للأ ّول الذي أنف َ‬
‫ض اع َ ُ‬
‫س الأجر؛ لـكن قد ي ُ َ‬
‫الإشتراك ُ في أسا ِ‬
‫سب ْ َع‬ ‫ل الل ّه ِ كَمَث َ ِ‬
‫ل حَب ّة ٍ أنبَت َْت َ‬ ‫ن يُنفِق ُونَ أمْوَالَه ُ ْم فِي سَب ِي ِ‬
‫ل ال ّذ ِي َ‬
‫الذي أخ َذ َ الأجر َ بنيت ِه ِ)؛ كما في قوله تعالى‪" :‬مّث َ ُ‬
‫س ٌع عَل ِيم ٌ"‪.‬‬
‫ِف لم َِن يَش َاء ُ و َالل ّه ُ و َا ِ‬
‫ل سُنبلَُة ٍ مّ ِائَة ُ حَب ّة ٍ و َالل ّه ُ يُضَاع ُ‬
‫ل فِي ك ُ ّ ِ‬
‫سَنَاب ِ َ‬

‫ل كي يكونَ‬
‫ن العلم َ م ِن أه ِم الأمور التي يوجّه ُ بها العم ُ‬
‫ل؛ ذلك أ ّ‬
‫‪-‬يفيد ُ الحديثُ أهمية َ العلم ِ بالنسبة ِ للعام ِ‬
‫ح في الحديث‪ :‬وجود َ المال والعلم؛ كما قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬ف َهو َ يت ّقي‬
‫ل الممتد ُ‬
‫مقبول ًا عند َ الل ّه‪ ،‬ولذا؛ كانَ المثا ُ‬

‫‪- 67 -‬‬
‫ل فيه ِ رحم َه ُ و يعلم ُ لل ّه ِ فيه ِ ح ًّ ّقا"‪ ،‬ولذلك؛ قا َ‬
‫ل عمر ُ بن الخطاب ‪-‬رضيَ الل ّه ُ عنه ُ‪( :-‬لا يبي ُع في‬ ‫رب ّه ُ فيه ِ و يص ُ‬
‫ن البيع والشراء‪.‬‬
‫سوق ِنا هذا إلّا م َن تف ّقه َ في الد ِّي ِن)؛ حت ّى يحملَه التف ّقه ُ في الد ِّين على حُس ِ‬

‫ن رجب الحنبلي ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬على‬


‫‪ -‬ومن التنبيهات المنهجية في إدراك النصوص الشرعية؛ ينبه ُ الإمام ُ اب ُ‬
‫ن الفقهاء َ ركزوا على معن ًى معي ّنٍ في استعمال لفظ الن ِّي ّة ليس هو المعنى المقصود في‬ ‫استعمال لفظ الن ِّية‪( :‬أ ّ‬
‫كلام السلف؛ وهو ما يترت ّبُ على الن ِّي ّة فيما يجزئ ُ وما لا يجزئ ُ في العبادات؛ كن ِّي ّة الوضوء والغ ُسل‬
‫ق بالإخلاص لل ّه)‪.‬‬
‫أساس ذكر ِ الن ِّي ّة في الشر يعة وفي كلام السلف هو فيما يتعل ّ ُ‬
‫ُ‬ ‫والصّ لاة‪ ،‬وإ ْن كانَ‬

‫ليس ف ِيه ِ‪،‬‬


‫ل‪" :‬م َن أحْد َثَ في أ ْمر ِن َا هذا ما َ‬ ‫الحديث العاشر‪ :‬عن عائشة َ ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬أ ّ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ قا َ‬

‫ف َهو رَدّ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫ارتباط بقول الل ّه ‪-‬تعالى‪" :-‬فَم َن ك َانَ يَرْجُو‬


‫ٌ‬ ‫‪-‬هذا الحديثُ من الأحاديث المركز ية في الإسلام‪ ،‬ولهذا الحديث‬
‫ن صواب ًا؛‬
‫ك ب ِع ِبَادَة ِ ر َبِّه ِ أحَدًا"‪ ،‬وم ِن أهم معايير العمل الصالح‪ :‬أن يكو َ‬
‫لِق َاء َ ر َبِّه ِ فَل ْيَعْم َلْ ع َمَل ًا صَالِ حاً وَل َا يُشْرِ ْ‬
‫أي‪:‬‬
‫ليس ف ِيه ِ‪ ،‬ف َهو رَدّ"‪ْ ،‬‬
‫أي‪ :‬موافق ًا لما كان عليه الن ّبيّ ﷺ‪ ،‬ولذا؛ قال ﷺ‪" :‬م َن أحْد َثَ في أ ْمر ِن َا هذا ما َ‬
‫ْ‬
‫ل خالصً ا لل ّه‪.‬‬
‫ن هذا العم ُ‬
‫مردود ٌ على صاحبه حت ّى لو كا َ‬

‫ل به مخلصً ا‪ ،‬ثم تبي ّنَ أن ّه مخطئ ٌ‬


‫‪-‬وهذا بخلاف الذي يجتهد ُ فيما بل َ َغ فيه ع ِل ْم ُه ُ ولم يُقصِّرْ في اجتهاده‪ ،‬فَعَمِ َ‬
‫=فق ْد يؤج ْر على عملِه ِ هذا‪ ،‬أمّا م َن لم يتبعْ في عمله هديَ الن ّب ِيّ ﷺ؛ فهو المقصود بقوله‪" :‬م َن أحْد َثَ في‬
‫ليس ف ِيه ِ‪ ،‬ف َهو رَدّ"؛ وفي ذلك بيانُ مكانة ِ هديه ﷺ؛ فكل ّما ازداد َ الإنسانُ علم ًا بهدي الن ّب ِيّ ﷺ‬
‫أ ْمر ِن َا هذا ما َ‬
‫=ازداد َ تأه ّل ًا للقرب من الل ّه‪ ،‬ولذا؛ قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬م َن يُرِدِ الل ّه ُ به خَيْر ًا يُف َ ّقِهْه ُ في الد ِّي ِن"؛ فم َن تف ّقه ْ في‬
‫ق هديَ الن ّب ِيّ ﷺ‪،‬‬
‫ل الصالح َ صواب ًا على ما يواف ُ‬
‫الد ِّين؛ فَعَل ِم َ مراتبه ومركز ياته =كان أدعى أ ْن يق ّدِم َ العم َ‬
‫وهذا من أعظم صور إرادة الخير بالإنسان‪.‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫المحاضرة العاشرة‪ :‬أهمية ُ استحضارِ الغاية ِ‬
‫بابُ أهمية ِ استحضارِ الغاية ِ‪ ،‬والحذرِ م ِن‬
‫بالمطالب الدنيئة ِ‬
‫ِ‬ ‫الغايات الشر يفة ِ‬
‫ِ‬ ‫مزاحمة ِ‬
‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫عنوانُ‬
‫ق‬
‫ل هو ما ابتُغِي َ به وجه ُ الل ّه وَو َاف َ‬
‫ل المقبو َ‬
‫ن العم َ‬‫ق الن ِّية وأ ّ‬
‫بباب (صد ِ‬
‫ِ‬ ‫وارتباط واضح ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ق‬
‫‪-‬لهذا الباب تعل ّ ٌ‬
‫نوع الغايات التي تُبتغى‪ ،‬وإلى المطالب الدنيئة التي‬ ‫الس ُن ّة)‪ ،‬ولـكن المقصود ُ في هذا الباب‪ :‬الإشارة ُ إلى ِ‬

‫حمَ الغايات الشر يفة‪.‬‬


‫ن أ ْن ت ُزا ِ‬
‫ي ُمك ُ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫َات الل ّه ِ"؛ يشري‪ :‬أي‪ :‬يبيع‪.‬‬
‫س م َنْ يَشْرِي ن َ ْفسَه ُ اب ْتِغ َاء َ م َْرض ِ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قول تعالى‪" :‬وَم ِ َ‬
‫ن الن ّا ِ‬

‫ك قَو ْلُه ُ فِي الْحي ََاة ِ الد ّن ْيَا و َيُشْهِد ُ الل ّه َ‬


‫س م َن يُعْجِب ُ َ‬
‫ن الن ّا ِ‬
‫جاءت هذه الآية ُ في سورة البقرة بعد قوله تعالى‪" :‬وَم ِ َ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ل و َالل ّه ُ ل َا‬
‫س َ‬
‫ك الْحَر ْثَ و َالن ّ ْ‬
‫سد َ ف ِيهَا و َيُه ْل ِ َ‬
‫ض لِي ُ ْف ِ‬
‫سع َى فِي الْأ ْر ِ‬
‫عَلَى م َا فِي قَل ْبِه ِ و َه ُو َ ألَد ّ الْخِصَا ِم * و َِإذ َا تَو َل ّى َ‬
‫ن لحال‬
‫ْس الْمِه َاد ُ"؛ وهذا بيا ٌ‬
‫جهَن ّم ُ و َلَبِئ َ‬
‫ق الل ّه َ أخَذ َت ْه ُ ال ْع ِز ّة ُ ب ِال ِْإ ْث ِم فَحَسْب ُه ُ َ‬
‫ل لَه ُ ات ّ ِ‬
‫ِب الْفَسَاد َ * و َِإذ َا ق ِي َ‬
‫يح ّ‬
‫ُ‬
‫ل‪.‬‬
‫خالف حقيقة َ ما يأتون به من أعما ٍ‬
‫المنافقين الذين يدعون بألسنتهم أمور ًا ت ُ‬

‫َات الل ّه ِ"؛ فهو في بيان حال الصادقين؛ الذين‬


‫س م َنْ يَشْرِي ن َ ْفسَه ُ اب ْتِغ َاء َ م َْرض ِ‬
‫ن الن ّا ِ‬
‫‪-‬أمّا قوله تعالى‪" :‬وَم ِ َ‬
‫ن ما يملـكون‪ -‬رخيصة ً غاية َ وابتغاء َ مرضات الل ّه‪ ،‬ووجه ُ الشاهد من الآية على الباب‪:‬‬ ‫يبذلون أنفس َهم ‪-‬أثم َ‬
‫َات الل ّه ِ"؛ ففيه بيا ٌ‬
‫ن لما يُبتغى من الأعمال الصالحة؛ وهو رضوانُ الل ّه‪ ،‬فم َن يستحضرْ‬ ‫قوله تعالى‪" :‬اب ْتِغ َاء َ م َْرض ِ‬
‫ن‬
‫ل مهما كان غاليًا؛ لأ ّ‬ ‫ص الشيء َ المبذو َ‬
‫هذا المعنى في عمله الصالح =ته ُنْ عليه مشقة ُ العمل‪ ،‬ويسترخ ِ‬
‫المطلوبَ أغلى وهو مرضاتُ الل ّه‪.‬‬

‫ن‬
‫ك ّف ِر َ ّ‬
‫خرِجُوا م ِن دِي َارِه ِ ْم و َأوذ ُوا فِي سَب ِيل ِي و َقَاتَلُوا و َقُت ِلُوا ل َأ َ‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قوله تعالى‪" :‬فَال ّذ ِي َ‬
‫ن ه َاجَر ُوا و َأ ْ‬
‫تحْتِهَا الْأنْهَار ُ ثَوَاب ًا مّ ِنْ عِندِ الل ّه ِ"‪:‬‬
‫تجْرِي م ِن َ‬
‫ات َ‬
‫عَنْه ُ ْم سَي ِّئَاتِه ِ ْم وَل َأ ْدخِلَنّه ُ ْم جَن ّ ٍ‬

‫ن غايت َهم من الهجرة والخروج وتحم ّل الأذى‪:‬‬


‫أي أ ّ‬
‫‪-‬وجه ُ الشاهد في الآية‪ :‬قوله تعالى‪" :‬و َأوذ ُوا فِي سَب ِيل ِي"‪ْ :‬‬
‫ك به حت ّى لا يفتنهم المشركون في دينهم‪.‬‬
‫س ُ‬
‫إقامة ُ الد ِّين والثباتُ عليه والتم ّ‬
‫‪- 69 -‬‬
‫ل‪ :‬يا‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن أبي موسى الأشعري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ج َاء َ رَج ُ ٌ‬
‫ل إلى الن ّب ِيّ ﷺ ف َقا َ‬
‫ل‪ :‬وما ر َف َ َع‬
‫ل حَم ِي ّة ً‪ ،‬ف َر َف َ َع إلَيْه ِ ر َأْ سَه ُ‪ ،‬قا َ‬
‫ل غَضَبًا‪ ،‬و يُق َات ِ ُ‬ ‫ل الل ّهِ؟‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن أحَد َن َا يُق َات ِ ُ‬ ‫ل الل ّهِ‪ ،‬ما الق ِتَا ُ‬
‫ل في سَبي ِ‬ ‫ر َسو َ‬

‫ل الل ّه ِ ّ‬
‫عز‬ ‫ل لِتَكُونَ كَل ِم َة ُ الل ّه ِ هي العُل ْيَا‪ ،‬ف َهو في سَبي ِ‬
‫ل ﷺ‪" :‬م َن قَات َ َ‬
‫ن قَائِمًا‪ ،‬ف َقا َ‬
‫إلَيْه ِ ر َأْ سَه ُ إلّا أن ّه كا َ‬
‫ل")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫وج ّ‬
‫ن في أعماله‪،‬‬
‫نوع من أشرف الن ِّيات والغايات التي ينبغي أ ْن يستحضر َها المؤم ُ‬‫يكشف هذا الحديثُ عن ٍ‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ت هذه الغاية ُ من أهم‬
‫وهي غاية ُ السعي لأ ْن تكونَ كلمة ُ الل ّه هي العليا‪ ،‬ومما يزيد ُ هذه الغاية َ شرفًا؛ أ ْن جُعِل َ ْ‬
‫غايات الجهاد في سبيل الل ّه‪.‬‬
‫ل‬
‫ن أحَد َن َا يُق َات ِ ُ‬
‫ل الرجل‪( :‬فإ ّ‬
‫بالمطالب الدنيئة ِ؛ قو ُ‬
‫ِ‬ ‫الغايات الشر يفة ِ‬
‫ِ‬ ‫حديث في الحذرِ م ِن مزاحمة ِ‬
‫‪-‬وشاهد ُ ال ِ‬
‫ل لِتَكُونَ كَل ِم َة ُ‬
‫ل حَم ِي ّة ً) فهذه مطالبُ دنيئة ٌ في مقابل الغاية الشر يفة في قول الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬م َن قَات َ َ‬
‫غَضَبًا‪ ،‬و يُق َات ِ ُ‬
‫الل ّه ِ هي العُل ْيَا"؛ فالغضبُ شعور ٌ يتول ّد ُ في الإنسان عند َ الاعتداء على ما يخصّ ه أو يمتلـكه‪ ،‬وهذا الغضبُ ليس‬
‫مذموم ًا في ذاته‪ ،‬لـكنه لا يقارنُ أو يزاحم ُ بالغاية الشر يفة في الجهاد في سبيل الل ّه‪.‬‬

‫ل‪ :‬أرأيتَ‬
‫ل إلى الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬فقا َ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن أبي أمامة َ الباهلي ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪( :‬جاء َ رج ٌ‬

‫ل‬
‫ات‪ ،‬يقو ُ‬ ‫مر ٍ‬ ‫ل رسو ُ ِ‬
‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬لا شيء َ لَه ُ" فأعاد َها ثلاثَ ّ‬ ‫يلتمس الأجر َ والذِّكر َ‪ ،‬ما لَه ُ؟‪ ،‬فقا َ‬
‫ُ‬ ‫رجل ًا غزا‬
‫ل إلّا ما كانَ لَه ُ خالصً ا ‪ ،‬وابتغي َ بِه ِ‬
‫ن العم ِ‬
‫ل م َ‬‫ن الل ّه َ لا يقب ُ‬
‫ل‪" :‬إ ّ‬ ‫ل الل ّه ِ‪" :‬لا شيء َ لَه ُ"‪ ،‬ثم ّ قا َ‬
‫لَه ُ رسو ُ‬
‫رجب‪ :‬إسنادُه ُ جيدٌ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ن‬
‫ل اب ُ‬
‫وجه ُه ُ")‪ ،‬أخرج َه ُ النسائيّ وقا َ‬
‫ل شجاعٌ‪.‬‬
‫ل بط ٌ‬
‫‪(-‬الذِّكر)‪ :‬يعني الس ُمعة َ بينَ الن ّاس؛ أ ْن يقولوا عنه أن ّه مقات ٌ‬
‫ل إلّا ما كانَ لَه ُ خالصً ا ‪ ،‬وابتغي َ بِه ِ‬
‫ن العم ِ‬
‫لم َ‬
‫ن الل ّه َ لا يقب ُ‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬إ ّ‬
‫‪-‬موض ُع الشاهدِ في الحديث هو قو ُ‬
‫وجه ُه ُ"‪.‬‬

‫ل الل ّه ُ لم َِن جاهَد َ في‬


‫ل الل ّه ﷺ قال‪" :‬تَكَ ّف َ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ن رسو َ‬
‫ج‬
‫سكَنِه ِ الذي خَر َ َ‬
‫جع َه ُ إلى م َ ْ‬
‫ق كَل ِماتِه ِ‪ ،‬بأ ْن ي ُ ْدخِلَه ُ الجن َ ّة َ‪ ،‬أ ْو يَرْ ِ‬
‫يخْرِج ُه ُ إلّا الج ِهاد ُ في سَبيلِه ِ وتَصْ دِي ُ‬
‫سَبيلِه ِ‪ ،‬لا ُ‬
‫جر ٍ أ ْو غ َن ِيمَة ٍ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ل م ِن أ ْ‬
‫منه‪ ،‬مع ما نا َ‬

‫ل‬
‫ل المجَُاهِدِ في سَبي ِ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬سمعتُ رسو َ‬
‫ل الل ّه ﷺ يقول‪" :‬م َث َ ُ‬
‫ل الل ّه ُ لِلْم ُج َاهِدِ في سَبيلِه ِ بأ ْن يَت َو َف ّاه ُ أ ْن ي ُ ْدخِلَه ُ‬ ‫الل ّه ِ ‪-‬والل ّه ُ أع ْلَم ُ بم َن يُجَاهِد ُ في سَبيلِه ِ‪ -‬كَمَث َ ِ‬
‫ل الصّ ا ِئ ِم الق َا ِئمِ‪ ،‬وتَوَكّ َ‬
‫جر ٍ أ ْو غ َن ِيمَة ٍ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫جع َه ُ سَالم ًِا مع أ ْ‬
‫الجن َ ّة َ‪ ،‬أ ْو يَرْ ِ‬
‫‪- 71 -‬‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬والل ّه ُ أع ْلَم ُ بم َن يُجَاهِد ُ في سَبيلِه ِ"‪ :‬فيه إشارة ٌ أن ّه قد يُجاهد ُ المرء ُ ولا تكونُ نيت ُه ُ خالصة ً لل ّه؛‬
‫‪-‬قو ُ‬
‫ن الل ّه َ ‪-‬تعالى‪ -‬مطل ٌع على الن ِّيات وخفايا النفوس‪.‬‬ ‫ذلك أ ّ‬

‫جع َه ُ سَالم ًِا‬


‫ل الل ّه ُ لِلْم ُج َاهِدِ في سَبيلِه ِ بأ ْن يَت َو َف ّاه ُ أ ْن ي ُ ْدخِلَه ُ الجنَ ّة َ‪ ،‬أ ْو يَرْ ِ‬ ‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬كَمَث َ ِ‬
‫ل الصّ ا ِئ ِم الق َا ِئمِ‪ ،‬وتَوَكّ َ‬
‫ن الجهاد َ حين يكونُ خالصً ا؛ فإن ّه من أفضل الأعمال‪ ،‬ودلالة ُ ذلك‬
‫جر ٍ أ ْو غ َنِيمَة ٍ"‪ :‬يبيِّنُ هذا الثوابُ أ ّ‬
‫مع أ ْ‬
‫ل الل ّه ِ ع َّز وَج َ ّ‬
‫ل؟‪،‬‬ ‫ل الجِه َاد َ في سَبي ِ‬
‫ل للن ّب ِيّ ﷺ‪ :‬ما يَعْدِ ُ‬
‫أيضًا‪ :‬حديثُ أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ق ِي َ‬
‫ل في الث ّالِثَة ِ‪:‬‬
‫ل‪" :‬لا تَسْتَط ِيع ُونَه ُ"‪ ،‬و َقا َ‬
‫ك يقو ُ‬
‫ل ذل َ‬
‫ل‪ :‬فأعَاد ُوا عليه م َّرتَيْنِ‪ ،‬أ ْو ثَلَاث ًا ك ُ ّ‬
‫ل‪" :‬لا تَسْتَط ِيع ُونَه ُ"‪ ،‬قا َ‬
‫قا َ‬
‫َات الل ّهِ‪ ،‬لا يَفْت ُر ُ م ِن صِيَا ٍم‪ ،‬وَل َا صَلَاة ٍ‪ ،‬حت ّى‬ ‫ل الل ّه ِ كَمَث َ ِ‬
‫ل الصّ ا ِئ ِم الق َا ِئ ِم الق َان ِِت بآي ِ‬ ‫ل المجَُاهِدِ في سَبي ِ‬
‫"م َث َ ُ‬
‫ل الل ّه ِ تَع َالَى")‪.‬‬
‫ج َع المجَُاهِد ُ في سَبي ِ‬
‫يَرْ ِ‬

‫ن‬
‫ن جائعا ِ‬
‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬ما ذِئبا ِ‬ ‫ل رسو ُ‬ ‫ل‪ :‬قا َ‬‫الحديث الخامس‪ :‬عن كعب ابن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬

‫ل‪ :‬حديثٌ‬‫َف لدينِه ِ"‪ ،‬أخرج َه ُ الترمذيّ ؛ وقا َ‬ ‫ص المَرء ِ علَى الما ِ‬
‫ل والش ّر ِ‬ ‫أ ْرسِلا في غن َ ٍم ‪ ،‬بأفسد َ لَها من حِر ِ‬
‫ح‪.‬‬
‫ن صحي ٌ‬
‫حس َ ٌ‬
‫َ‬
‫ل من جملة‬
‫ن الأمثا َ‬
‫ب الأمثال كثير ًا؛ وذلك لأ ّ‬
‫ل الوحي ُ ‪-‬كتابُ الل ّه وسُن ّة ُ رسوله ﷺ‪ -‬أسلوبَ ضرْ ِ‬
‫‪-‬استعم َ‬
‫ما يقرِّبُ المعاني إلى الأذهان‪ ،‬لذا؛ ينبغي على المُصلح أ ْن يسلـكَها في الدعوة إلى الل ّه؛ إمّا بتقريب أمثال‬
‫ل المدعوين‪ ،‬ومن أهمية‬
‫ل يقرِ ّبُ بها حقائق الشر يعة مع مناسبتها لحا ِ‬
‫القرآن والس ُن ّة‪ ،‬وإمّا بإنشاء أمثا ٍ‬
‫سخ ُ بصورة ٍ معينة ٍ في الذاكرة ولا تُنسى فكرتها‪.‬‬
‫الأمثال‪ :‬أ ّنها ترْ ُ‬

‫راع أو حارس يمنع ُهما من فتكِ الذئاب؛‬ ‫ل بذئبين جائعين قد أرسلا في غنم بلا ٍ‬ ‫‪-‬يضربُ الن ّبيّ ﷺ المث َ‬
‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫قطيع من الغنم فلا يكتفي بالشاة‬ ‫ل الذئبُ الواحد ُ على‬
‫والذئبُ شديد ُ الشراسة ِ والفتكِ بالأغنام؛ فق ْد يدخ ُ‬
‫ن‬ ‫ٍ‬
‫مانع؛ فإ ّ‬ ‫غنم بلا‬
‫ك بها و يقتل ُها‪ ،‬فإذا كانا ذئبين جائعين في ٍ‬
‫ل على بقية القطيع يفت ُ‬
‫التي يأكل ُها‪ ،‬بل يدخ ُ‬
‫حجم َ الفساد والفتك الذي سي ُحدِثُهما في هذه الغنم يكونُ عظيم ًا‪.‬‬

‫ن ثمة َ صورة ٍ من الفساد هي أعظم ُ من فساد هذين الذئبين الجائعين في الغنم؛ وهي صورة ُ‬
‫‪-‬يُبيِّنُ الن ّبيّ ﷺ أ ّ‬
‫إفسادِ دين الإنسان بسبب حرصِه على المال والشرف؛ هذا الإفساد ُ ليس بكبائر الذنوب إن ّما بأمو ٍر قد تكونُ‬
‫ق فيها معنى الحرص والتشب ّث والاندفاع‪،‬‬
‫مباحة ً في بعض درجاتها فلا ينتب ّه ُ الإنسانُ إليها‪ ،‬ولـكن لم ّا تح ّق َ‬
‫صار فيهما ‪-‬أي‪ :‬في الحرص على المال والشرف‪ -‬باب ًا من أبواب فساد دين المرء‪.‬‬

‫‪- 70 -‬‬
‫‪-‬في بعض الأحيان؛ قد يكونُ السير ُ في طر يق الد ِّين سببًا لانفتاح باب الشرف أو المال على الإنسان؛‬
‫ل لدينه من أبواب الفساد؛‬
‫ن أ ْن يتسل َ‬
‫ولأجل ذلك‪ :‬يجبُ أ ْن يكونَ هناك يقظة ٌ دائمة ٌ عند َ المسلم مما ي ُمك ُ‬
‫وهذا مما يبيِّنُ أهمية َ وضرورة َ العناية بمعرفة أبواب الفساد والإشكالات‪ ،‬كما في حديث حذيفة بن اليمان ‪-‬‬
‫مخَاف َة َ أ ْن‬
‫ن الش ّر ِّ َ‬
‫كن ْتُ أسْ ألُه ُ ع َ ِ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ ع َ ِ‬
‫ن الخيَْرِ‪ ،‬و ُ‬ ‫اس يَسْألُونَ ر َسو َ‬
‫رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬كانَ الن ّ ُ‬
‫كنِي)‪.‬‬
‫ي ُ ْدرِ َ‬

‫حرص المرء ِ على‬


‫َ‬ ‫ن‬
‫‪-‬للإما ِم اب ِن رجب الحنبلي ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬رسالة ٌ مفر َدة ٌ في شرح هذا الحديث‪ ،‬ذك َر َ فيها (أ ّ‬
‫صه ِ على المال)‪ ،‬كما جاء َ في حديث أبي ذر الغفاري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪:‬‬
‫الشرف أش ّد إفساد ًا لدينه من حر ِ‬
‫ِ‬
‫َب الـكَعْبَة ِ"‪،‬‬
‫ن ور ِ ّ‬
‫َب الـكَعْبَة ِ‪ ،‬هُم ُ الأخْ سَر ُو َ‬
‫ل‪" :‬هُم ُ الأخْ سَر ُونَ ور ِّ‬
‫ل الـكَعْبَة ِ‪ ،‬يقو ُ‬
‫(انْتَهَي ْتُ إلَيْه ِ وهو في ظِ ّ ِ‬
‫شانِي ما‬‫قُلتُ ‪ :‬ما شَأْ نِي؟! أي ُر َى فِيّ شَيْءٌ؟ ما شَأْ نِي؟! فَجل ََسْتُ إلَيْه ِ وهو يقولُ‪ ،‬فَما اسْ تَطَعْتُ أ ْن أسْ كُتَ ‪ ،‬وتَغ َ ّ‬
‫ل هَك َذا‪ ،‬وهَك َذا‪،‬‬ ‫ن أمْوال ًا‪ ،‬إلّا م َن قا َ‬ ‫ل الل ّهِ؟ قا َ‬
‫ل‪" :‬الأكْ ث َر ُو َ‬ ‫شاء َ الل ّهُ‪ ،‬فَق ُلتُ ‪ :‬م َن ه ُ ْم بأبِي أن ْتَ وأمِّي يا ر َسو َ‬
‫ق عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه في وجوه الخير‪.‬‬
‫أي‪ :‬إلا م َن أنف َ‬
‫وهَك َذا")؛ ْ‬

‫ن من المحترزات التي يطه ُر ُ بها الإنسانُ من المفسدات المالية‪ :‬كثرة َ الإنفاق؛ وفي قول الن ّب ِيّ ﷺ‪:‬‬ ‫‪-‬ولذا؛ فإ ّ‬
‫ن للتفر يق بينَ‬ ‫َف لدينِه ِ" بيا ٌ‬ ‫ص المَرء ِ علَى الما ِ‬
‫ل والش ّر ِ‬ ‫ن أ ْرسِلا في غن َ ٍم ‪ ،‬بأفسد َ لَها من حِر ِ‬
‫ن جائعا ِ‬‫"ما ذِئبا ِ‬
‫جمع المال والاستفادة منه في وجوه الخير والمباح‪ ،‬وبينَ الحرص الشديد المُهلِك لصاحبه‪.‬‬

‫حرص على المكانة والشرف قد يكونُ ممتدح ًا‬


‫ن ال َ‬
‫رجب الحنبلي ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في شرحه أ ّ‬
‫ٍ‬ ‫ن‬
‫حافظ اب ُ‬
‫‪-‬وقد ذكر َ ال ُ‬
‫ِيظ‬
‫حف ٌ‬‫ض ِإن ِ ّي َ‬
‫ل اجْ عَلْنِي عَلَى خَز َائ ِ ِن الْأ ْر ِ‬
‫حين يكونُ لإقامة الد ِّين؛ كما في قول يُوسُف ‪-‬عليه السلام‪" :-‬قَا َ‬
‫حرص المرء على الشرف مذموم ٌ؛ كما في قول الن ّب ِيّ‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫لأ ّ‬
‫ج إلى موازنة؛ فالأص ُ‬
‫عَل ِيم ٌ"‪ ،‬لـكن هذه القضية ُ تحتا ُ‬
‫ك إ ْن أوتِيتَها عن‬
‫ل الإمارَة َ؛ فإن ّ َ‬
‫ن سَم ُرَة َ‪ ،‬لا تَسْأ ِ‬
‫نب َ‬
‫ﷺ لعبد الرحمن بن سم ُرة ‪-‬رضي الل ّه عنه‪" :-‬يا عَبْد َ الر ّحْم َ ِ‬
‫مَسْألَة ٍ وُكِل ْتَ إلَيْها‪ ،‬وإ ْن أوتِيتَها م ِن غيرِ مَسْألَة ٍ أعِن ْتَ عليها"‪.‬‬

‫َت الفاطِم َة ُ"‪،‬‬


‫ضع َة ُ وبِئْس ِ‬
‫‪-‬وقال ﷺ‪" :‬إن ّك ُ ْم سَت َحْ رِصُونَ علَى الإمارَة ِ‪ ،‬وسَتَكُونُ ن َدام َة ً يَوم َ الق ِيامَة ِ‪ ،‬فَنِعْم َ المُر ْ ِ‬
‫ك للمحر ّمات‪.‬‬
‫وفي أخبار التاريخ ما ينبؤنا عن آثار الحرص على الإمارة والشرف من سفكٍ للدماء وانتها ٍ‬

‫حرص على الشرف في صورة الحرص على جاه ٍ معي ّنٍ أو مكانة ٍ اجتماعية ٍ معينة ٍ‪ ،‬يتشبثُ بها‬
‫ل ال ُ‬
‫‪-‬وقد يتمث ُ‬
‫ل‬
‫ح لمَن يعم ُ‬
‫خاف و يحز ُنُ ويهتم ُ ويرضى و يغضبُ لهذه المكانة‪ ،‬ولذا؛ جاء َ الامتدا ُ‬
‫المرء ُ وتتمحور ُ حيات ُه ُ عليها؛ ي ُ‬

‫‪- 72 -‬‬
‫ل الل ّهِ‪،‬‬
‫سه ِ في سَبي ِ‬
‫ن ف َر َ ِ‬
‫خذٍ بع ِنَا ِ‬
‫ملتفت لمكانته؛ كما قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬طُوبَى لِعَبْدٍ آ ِ‬
‫ٍ‬ ‫ل أو‬
‫في سبيل الل ّه غير مبا ٍ‬
‫ساقَة ِ"‪.‬‬
‫ساقَة ِ كانَ في ال ّ‬
‫سة ِ‪ ،‬وإ ْن كانَ في ال ّ‬
‫سة ِ‪ ،‬كانَ في الح ِرَا َ‬
‫أشْ ع َثَ ر َأْ سُه ُ‪ ،‬مُغْبَر ّة ٍ قَدَم َاه ُ‪ ،‬إ ْن كانَ في الح ِرَا َ‬

‫ن هذه من المعاني العالية التي تصع ُبُ على كثيرٍ من النفوس‪ ،‬لـكنّها تهونُ على م َن يستحضر َ‬
‫‪-‬ولا شكّ أ ّ‬
‫هانت عليه المطالب الدنيئة‪ ،‬وتنب ّه ْ لما قد يكدِّر ُ صفاء َ ني ّت ِه وتطل ّب ِه لتلك‬
‫الغايات الشر يفة؛ فم َن استحضرْها = ْ‬
‫لوث المطالب الدنيئة‪ ،‬بينما م َن ضع َُف استحضارُه ُ للن ِّي ّة الصالحة وتطل ّب ُه للغايات‬
‫ِ‬ ‫الغايات الشر يفة من‬
‫ن من السهل على المطالب الدنيئة أ ْن ت ُزاحم َ الغايات الشر يفة لديه‪.‬‬
‫الشر يفة =فإ ّ‬

‫غلبت المطالبُ الدنيئة ُ على الغايات الشر يفة؛ فلا تسلْ عن حجم الهلـكة والفساد حت ّى يكونَ إفساد ُها‬
‫ْ‬ ‫‪-‬فإذا‬
‫ص كانوا في‬ ‫لدين المرء أش ّد من إفساد ذئبين جائعين في غنم بلا ٍ‬
‫راع‪ ،‬ولذلك؛ قد تتفاجأ ‪-‬أحيان ًا‪ -‬بأشخا ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ل إليهم ما يُفسد ُ عليهم دينهم مما يجعل ُهم يتآكلون و ي ُ ْفر َغون‬
‫طر يق الاستقامة والإصلاح‪ ،‬ثم بعد َ فترة ٍ يتسل ُ‬
‫فرغت دواخل ُه ُم من الإيمان وفقدوا استحضار َ الغايات الشر يفة =ظهر ْ انعكاساتُ ذلك‬
‫ْ‬ ‫من دواخلهم‪ ،‬فإذا‬
‫ل الانتكاس المختلفة‪.‬‬
‫على ظاهرهم من أشكا ِ‬

‫ن أ ْن‬
‫‪-‬وعلى ذلك؛ كل ّما كان استحضار ُ الغايات الشر يفة أكبر ّ =كل ّما كان تنب ّه ُ المرء للمفسدات التي ي ُمك ُ‬
‫ل إلى‬
‫ل إلى دينه أكبر ّ‪ ،‬فإذا ضع ُْف استحضار ُ الغايات الشر يفة =سه ُلْ على مصادر المفسدات أ ْن تتسل َ‬
‫تتسل َ‬
‫دين المرء فتفسده مهما كانت درجة ُ صلاحه؛ لأن ّه لم يكن يقظًا على ما ق ْد ي ُفسد ُ عليه دينه‪.‬‬

‫ل على معنى الدوام‬ ‫فاـئدة‪ :‬معنى الاستحضارِ أكبر ُ من مجر ّدِ إنشاء ِ الن ِّي ّة؛ فإ ّ‬
‫ن معنى الاستحضارِ يشتم ُ‬
‫والمشاهدة والتذك ّر والحضور‪.‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫س وال ْغ َيرِ‬
‫يف تُجاه َ الن ّف ِ‬
‫ل مسؤولية ِ الت ّ ْكل ِ ِ‬
‫المحاضرة الحادية عشر‪ :‬تحم ّ ُ‬
‫سه ِ وغ َيرِه ِ‬
‫تجاه َ نف ِ‬
‫يف ُ‬
‫ل الفردِ مسؤولية َ الت ّ ْكل ِ ِ‬
‫باب فِي تحم ّ ِ‬
‫ٌ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫سا وتمهيدًا وقاعدة ً للانطلاق منها‪ ،‬وهذا البابُ أشبه ُ ما يكونُ بالواصلة بينَ هذه‬
‫‪-‬تُعتبر ُ الأبوابُ السابقة ُ أسا ً‬
‫القاعدة وبينَ المنطلق المتعل ّ ِق بواجبات ومسئوليات الإصلاح‪.‬‬

‫بدأت هذه القاعدة ُ من تعزيز مرجعية الوحي وتعظيمها‪ ،‬ثم تعظيم حدود الل ّه‪ ،‬ثم موضعة مرجعية الوحي في‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ل القلوب عليها مدار ُ الفلاح‪ ،‬ثم بيان‬
‫ن أعما َ‬
‫موضعها الصحيح وضبطها للأفهام والمعايير‪ ،‬ثم تزكية القلب وأ ّ‬
‫يعيش الإنسانُ عامل ًا مطبق ًا لما أمره‬
‫َ‬ ‫أهمية العلم وأن ّه ي ُراد ُ للعمل وبيان العلم الن ّافع‪ ،‬ثم بيان مبدأ العمل؛ بأ ْن‬
‫الل ّه‪ ،‬ثم التنبيه على قضية الن ِّي ّة ودوام استحضار الغايات الشر يفة والخشية من مزاحمتها بالمطالب الدنيئة‪.‬‬

‫‪-‬بعد هذه التهيئة نبدأ في هذا الباب بالواجبات والمسؤوليات الواجبة على الفرد تُجاه نفسه أساسًا‪ ،‬ثم تُجاه‬
‫تجاه الإسلام‬
‫غيره تبع ًا؛ والغير ُ هم الدوائر ُ الأقربُ منه؛ كالأسرة‪ ،‬ثم في الباب التالي‪ :‬مسئولية الفرد العامّة ُ‬
‫والمسلمين‪ ،‬وهذا الترتيبُ مقصود ٌ؛ وفيه أمران‪:‬‬
‫ل للإسلام هو مسئولية ٌ على الفرد في ذاته يجبُ أ ْن يتحمل َها‪.‬‬
‫ن العم َ‬
‫الأوّل‪ :‬أ ّ‬
‫تجاه نفسه‪.‬‬
‫يصرف اهتمام ُ الفرد بالمسئولية العامّة عن مسؤوليته المطالب بها ُ‬
‫َ‬ ‫الثانـي‪ :‬أن ّه لا ينبغي أ ْن‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ض ال ْمُؤْم ِنِينَ"‪:‬‬
‫ك وَحَرّ ِ ِ‬ ‫ل الل ّه ِ ل َا تُك َل ّ ُ‬
‫ف ِإلّا ن َ ْفسَ َ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال الل ّه ‪-‬تعالى‪" :-‬فَق َات ِلْ فِي سَب ِي ِ‬
‫ك م ِن جهادِ عدوِه ِ وعدوِك َ‪ ،‬إلا ما حم ّلك‬
‫ض علي َ‬
‫ك الل ّه ُ فيما فر َ َ‬
‫ل الإمام ُ الطبريّ ‪-‬رحمه الل ّه‪( :-‬لا يكلف ُ َ‬
‫‪-‬قا َ‬
‫أي‪ :‬أن ّك إن ّما تُت ّبع بما اكتسبته دونَ ما اكتسب َه ُ غير ُك َ‪ ،‬وإن ّما عليك ما‬
‫م ِن ذلك دونَ ما حم ّل غير َك َ منه‪ْ ،‬‬
‫ك ُل ّ ِفت َه ُ دونَ ما ك ُل ّ ِفه غير َك َ)‪.‬‬

‫ل الل ّه ِ"‪ ،‬لـكن وجه ُ إيراد‬


‫تجاه الإسلام والمسلمين "فَق َات ِلْ فِي سَب ِي ِ‬
‫وردت الآية ُ في سياق المسئولية العامّة ُ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ك"‪،‬‬
‫ف ِإلّا ن َ ْفسَ َ‬
‫تجاه المسئوليات العامّة "ل َا تُك َل ّ ُ‬
‫ن فيها مسئولية ٌ فردية ٌ ُ‬
‫صة أ ّ‬
‫الآية في باب المسؤولية الخا ّ‬

‫‪- 74 -‬‬
‫ن الل ّه َ‬
‫ل امرئٍ في نفسه‪ ،‬ذلك أ ّ‬
‫التكليف ‪-‬من بعده ﷺ‪ -‬على ك ّ ِ‬
‫ُ‬ ‫ف هنا رسول الل ّه ﷺ‪ ،‬ثم ينصبُ‬
‫والمكل ّ ُ‬
‫صة‪.‬‬
‫ن هذه الآية َ تجم ُع بين باب ْي المسئولية؛ العامّة والخا ّ‬
‫يحاسبُ عبدَه ُ على ما كل ّفه به‪ ،‬وعلى ذلك؛ فإ ّ‬

‫ق المؤمنين بك‪ ،‬لـكن المسؤولية ُ عليك وحدك؛ وكان‬


‫ح َ‬
‫أي‪ :‬حاول أ ْن تلُ ِ‬
‫ض ال ْمُؤْم ِنِينَ"‪ْ :‬‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬وَحَرّ ِ ِ‬
‫اس عنه‬‫ق من هذا المبدأ في تنفيذ أوامر الل ّه؛ ومن شواهد ذلك‪ :‬ثباتُ النب ِيّ يوم َ أ ْن فر ّ الن ّ ُ‬ ‫الن ّبيّ ﷺ ينطل ُ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪،‬‬
‫ل ف ِيه ِنّ ر َسو ُ‬
‫ك الأي ّا ِم ال ّتي قات َ َ‬
‫ض تِل َ‬ ‫البخاري‪( :‬ل َ ْم يَب ْ َ‬
‫ق مع الن ّب ِيّ ﷺ في بَعْ ِ‬ ‫ِّ‬ ‫يوم َ أح ُد؛ كما جاء في‬
‫قت الصفوف عنك؛ عليك المسؤولية وحدك "ل َا‬
‫اس أو تفر ّ ْ‬
‫انصرف الن ّ ُ‬
‫َ‬ ‫سعْدٍ)‪ ،‬والشاهد ُ أن ّه مهما‬
‫غَي ْر ُ طَلْح َة َ و َ‬
‫ك"‪.‬‬
‫ف ِإلّا ن َ ْفسَ َ‬
‫تُك َل ّ ُ‬

‫ف ﷺ‪ ،‬والثاني‪ :‬أن ّه نب ّي م ُبل ّ ٌغ‪ ،‬كما قال‬


‫ق في حياته باعتبارين؛ الأوّل‪ :‬أن ّه عبدٌ مكل ّ ٌ‬
‫‪-‬كان الن ّبيّ ﷺ ينطل ُ‬
‫ن ال ْمُشْرِكِينَ * قُلْ‬‫تعالى‪" :‬قُلْ ِإن ّنِي هَد َانِي ر َب ِ ّي ِإلَى صِر َاطٍ مّسْت َق ٍِيم دِينًا ق ِيَم ًا مّ ِل ّة َ ِإ ب ْر َاه ِيم َ حَن ِيفًاۚ وَم َا ك َانَ م ِ َ‬
‫أي‪:‬‬
‫ل ال ْمُسْل ِمِينَ"؛ ْ‬
‫ك أم ِْرتُ و َأن َا أوّ ُ‬ ‫ك لَه ُ و َبِذََٰل ِ َ‬ ‫َب الْع َالم َي ِنَ * ل َا شَرِ ي َ‬ ‫مح ْيَايَ و َمَمَاتِي لِل ّه ِ ر ِّ‬
‫ن صَلَاتِي و َنُسُكِي و َ َ‬ ‫ِإ ّ‬
‫ف في‬ ‫ل الممتثلين المستسلمين لل ّه القائمين بموجب العبودية‪ ،‬فقد كان الن ّبيّ ﷺ يستشعر ُ أن ّه عبدٌ مكل ّ ٌ‬ ‫وأنا أ ّو ُ‬
‫ن م َْري َم َ؛ فإن ّما أن َا عَبْدُه ُ‪ ،‬فَق ُولوا‪ :‬عبد ُ‬
‫ل أحواله‪ ،‬كما جاء في قوله ﷺ‪" :‬ل َا تُطْر ُونِي كما أطْ ر َِت الن ّصَار َى اب ْ َ‬ ‫ك ِّ‬
‫الل ّه ِ وَرَسُولُه ُ"‪.‬‬

‫ل الن ّب ِيّ ﷺ وأصحاب ِه في الحديبية؛ قال‬


‫وأعدت الجموع َ لقتا ِ‬
‫ْ‬ ‫منعت قريش الن ّبيّ ﷺ وأصحابَه الع ُمرة َ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬وكذلك لما‬
‫ت بهِمْ‪ ،‬فإ ْن‬
‫ن قُر َيْشًا ق ْد نَهِكَتْهُم ُ الحَر ْبُ وأضَرّ ْ‬
‫جئ ْنَا مُعْتَمِرِينَ‪ ،‬وإ ّ‬
‫ل أحَدٍ‪ ،‬ولَكِن ّا ِ‬ ‫الن ّبيّ ﷺ‪" :‬إن ّا ل َ ْم َ‬
‫نج ِئ ْ ل ِق ِتَا ِ‬
‫اس‬
‫ل فيه الن ّ ُ‬
‫شَاؤ ُوا م َاد َ ْدتُه ُ ْم م ُ ّدة ً‪ ،‬و يُخَل ّوا بَيْنِي وبيْنَ الن ّاسِ‪ ،‬فإ ْن أظْ هَر ْ‪ :‬فإ ْن شَاؤ ُوا أ ْن ي َ ْدخ ُلُوا ف ِيما دَخ َ َ‬
‫فَع َلُوا‪ ،‬وإلّا فق َ ْد جَم ّوا‪ ،‬وإ ْن ه ُ ْم أبَو ْا‪ ،‬ف َوَال ّذ ِي ن َ ْفس ِي بيَدِه ِ ل َأقَاتِلَنّه ُ ْم علَى أ ْمر ِي هذا حت ّى تَنْفَرِد َ سَالِفَتِي‪،‬‬
‫ن الل ّه ُ أمْرَه ُ"‪.‬‬
‫ولَيُن ْفِذ َ ّ‬
‫ن لقوله ﷺ‪" :‬تَنْفَرِد َ سَالِفَتِي" معنيان؛ إمّا حت ّى تُقط َع رقبتي‪ ،‬وإمّا حت ّى لو بقيت وحيدًا في‬
‫‪-‬ذكر َ العلماء ُ أ ّ‬
‫مقاتلتهم‪.‬‬

‫ك" في السياقات الإصلاحية؛ فم َع كثرة الثغور وقلة‬


‫ف ِإلّا ن َ ْفسَ َ‬
‫ج أ ْن نستحضر َ قول َه تعالى‪" :‬ل َا تُك َل ّ ُ‬
‫‪-‬نحتا ُ‬
‫يسقط عنك‬
‫ُ‬ ‫ك أ ْن ت ُغي ِّر َ الواق َع كل ّه‪ ،‬لـكن لا‬
‫ن الل ّه َ ‪-‬تعالى‪ -‬لا ي ُكل ّ ِف ُ َ‬
‫العاملين وكثرة الفتن والشهوات؛ فإ ّ‬
‫ل بها‪.‬‬
‫التكليف والمسؤولية التي في استطاعتك أ ْن تعم َ‬

‫‪- 75 -‬‬
‫يستأنس‬
‫ُ‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال الل ّه ‪-‬تعالى‪" :-‬وَك ُل ّه ُ ْم آتيِه ِ يَوْم َ ال ْق ِيَامَة ِ فَرْد ًا"‪ :‬ق ْد ترك ّز َ في فطرة ِ الإنسا ِ‬
‫ن أن ّه‬
‫صة ً أن ّه سيكونُ‬
‫ن فكرة َ أ ْن يكونَ الإنسانُ وحيدًا صعبة ُ التصو ّر‪ ،‬خا ّ‬
‫و يعتضد ُ ويتقو ّي بم َن حوله‪ ،‬لذلك؛ فإ ّ‬
‫ج فيه إلى م َن حوله‪.‬‬
‫وحدَه ُ في اليوم الذي يحتا ُ‬

‫ل الفردِ مسؤولية َ‬
‫ن في تحم ّ ِ‬
‫شي ْئًا"‪ :‬هذا بيا ٌ‬
‫س َ‬
‫ْس ع َن ن ّ ْف ٍ‬ ‫الآية الثالثة‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َات ّق ُوا يَوْم ًا لّا َ‬
‫تجْزِي نَف ٌ‬

‫تجاه نفسه‪.‬‬
‫يف ُ‬
‫التكل ِ‬

‫ل الل ّه ُ‪" :‬و َأنْذِ ْر‬‫ل الل ّه ِ ﷺ حِينَ أن ْز َ َ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬قَام َ ر َسو ُ‬
‫ن الل ّه ِ شيئًا‪ ،‬يا‬ ‫نح ْو َه َا‪ -‬اشْ تَر ُوا أنْفُسَكُمْ؛ لا أ ْغنِي عَنْك ُ ْم م ِ َ‬
‫ْش ‪-‬أ ْو كَل ِم َة ً َ‬
‫ل‪" :‬يا مَعْشَر َ ق ُر َي ٍ‬
‫ك الْأق ْر َبِينَ"‪ ،‬قا َ‬
‫عَشِيرَت َ َ‬
‫ن الل ّه ِ شيئًا‪ ،‬وي َا‬
‫ك مِ َ‬
‫طل ِِب‪ ،‬لا أ ْغنِي عَن ْ َ‬
‫ن عبدِ الم ُ ّ‬ ‫ن الل ّه ِ شيئًا‪ ،‬يا ع َب ّ ُ‬
‫اس ب َ‬ ‫اف‪ ،‬لا أ ْغنِي عَنْك ُ ْم م ِ َ‬
‫بَنِي عبدِ م َن َ ٍ‬
‫ن الل ّه ِ شيئًا‪ ،‬وي َا فَاطِم َة ُ بن ْتَ مُحَم ّدٍ‪ ،‬سَلِينِي ما شِئ ِ‬
‫ْت م ِن م َال ِي‪ ،‬لا‬ ‫ل الل ّهِ‪ ،‬لا أ ْغنِي عَن ْكِ م ِ َ‬
‫صَف ِي ّة ُ ع َم ّة َ ر َسو ِ‬
‫ن الل ّه ِ شيئًا")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫أ ْغنِي عَن ْكِ م ِ َ‬

‫تجاه إنقاذ نفسه في عشيرته وأهل بيته من بداية زمن الن ّب ُو ّة‬
‫تأسيس الن ّب ِيّ ﷺ لمسؤولية الإنسان ُ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬في الحديث‬
‫سقط حقّ الل ّه في التكليف والمسؤولية؛ وشاهد ُ ذلك‪:‬‬‫ن قرابتَهم من الن ّب ِيّ ﷺ لا ت ُ ُ‬
‫أي أ ّ‬
‫ل؛ ْ‬‫وذلك بنداء ٍ مفصّ ٍ‬
‫يستجب لرسالته ﷺ =كان من أهل الن ّار‪.‬‬
‫ْ‬ ‫لهب حين لم‬
‫ن ع ّم الن ّب ِيّ ﷺ أبا ٍ‬
‫أ ّ‬

‫‪-‬قول ﷺ‪" :‬اشْ تَر ُوا أنْفُسَك ُ ْم"‪ :‬فيه معنى البذل والحرص على العمل ك ْي ينقذ َ الإنسانُ نفسه من عذاب الل ّه‪.‬‬

‫ل الله ﷺ يقول‪" :‬ك ُل ّـك ُ ْم ر ٍ‬


‫َاع‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪ :‬سمعتُ رسو َ ّ‬
‫ل عن رَعِي ّتِه ِ‪،‬‬ ‫َاع وهو مَسْؤ ُو ٌ‬ ‫ل في أه ْلِه ِ ر ٍ‬
‫ل عن رَعِي ّتِه ِ‪ ،‬والر ّج ُ ُ‬ ‫ل عن رَعِي ّتِه ِ؛ فَالإم َام ُ ر ٍ‬
‫َاع وهو مَسْؤ ُو ٌ‬ ‫ومَسْؤ ُو ٌ‬
‫ِ‬
‫ل عن‬ ‫َاع وهو مَسْؤ ُو ٌ‬ ‫ل سَيِّدِه ِ ر ٍ‬‫جه َا ر َاعِي َة ٌ وهي مَسْؤ ُولَة ٌ عن رَعِي ّتِهَا‪ ،‬والخا َدِم ُ في م َا ِ‬
‫ْت ز َ ْو ِ‬‫والمَر ْأة ُ في بَي ِ‬
‫رَعِي ّتِه ِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫ن استرعاه الل ّه ُ على أمر ٍ ما‪ ،‬وتزداد ُ هذه المسؤولية ُ‬


‫ل إنسا ٍ‬
‫ينص الحديثُ على معنى المسؤولية الشامل لك ّ ِ‬
‫‪ّ -‬‬
‫ل تحتها؛ كمسؤولية الإمام‪ ،‬والقائم على أمانة الد ِّين وتبليغه‪ ،‬ولذا؛‬
‫وتعظُم ُ بقدر التكاليف التفصيلية التي تدخ ُ‬
‫باب إلى الجن ّة‪ ،‬وآخر ُ‬
‫ح بابان يقلان أ ْن يُفتحا لغير صاحب المسؤولية العظيمة؛ ٌ‬
‫ُمت المسؤولية ُ =انفت َ‬
‫إذا عظ ْ‬
‫إلى الن ّار‪.‬‬

‫‪- 76 -‬‬
‫وصف الن ّبيّ ﷺ أصحاب الأموال بالأخسرين‪ ،‬كما‬
‫َ‬ ‫ل؛ ولذلك‬
‫ل عنها‪ :‬الما ُ‬
‫‪-‬من المسؤوليات الـكبرى التي ي ُغف َ ُ‬
‫َب‬
‫ل‪" :‬هُم ُ الأخْ سَر ُونَ ور ِّ‬
‫ل الـكَعْبَة ِ‪ ،‬يقو ُ‬
‫قال أبو ذر الغفاري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬انْتَهَي ْتُ إلَيْه ِ وهو في ظِ ّ ِ‬
‫َب الـكَعْبَة ِ"‪ .‬قُلتُ ‪ :‬ما شَأْ نِي؟! أي ُر َى فِيّ شَيْءٌ؟ ما شَأْ نِي؟! فَجل ََسْتُ إلَيْه ِ وهو‬ ‫الـكَعْبَة ِ‪ ،‬هُم ُ الأخْ سَر ُونَ ور ِّ‬
‫ل الل ّهِ؟ قا َ‬
‫ل‪:‬‬ ‫شانِي ما شاء َ الل ّهُ‪ ،‬فَق ُلتُ ‪ :‬م َن ه ُ ْم بأبِي أن ْتَ وأمِّي يا ر َسو َ‬
‫يقولُ‪ ،‬فَما اسْ تَطَعْتُ أ ْن أسْ كُتَ ‪ ،‬وتَغ َ ّ‬
‫ق في وجوه الخير‪.‬‬
‫أي‪ :‬إلا م َن أنف َ‬
‫ل هَك َذا‪ ،‬وهَك َذا‪ ،‬وهَك َذا")؛ ْ‬
‫"الأكْ ثَر ُونَ أمْوال ًا‪ ،‬إلّا م َن قا َ‬

‫ن‬
‫مح ْب ُوسُونَ‪ ،‬غير َ أ ّ‬
‫صحابُ الج َ ّدِ َ‬
‫باب الجنَ ّة ِ‪ ،‬ف َكانَ عامّة َ م َن دَخ َلَها المَساكِينُ‪ ،‬وأ ْ‬
‫‪-‬وقال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬قُم ْتُ علَى ِ‬
‫باب الن ّارِ‪ ،‬فإذا عامّة ُ م َن دَخ َلَها الن ِّساء ُ"‪ ،‬أصحاب الجد‪ :‬هم‬
‫أصحابَ الن ّارِ ق ْد أم ِرَ به ِ ْم إلى الن ّارِ‪ ،‬وقُم ْتُ علَى ِ‬
‫ْ‬
‫الأغنياءُ؛ محبوسون لما عليهم من مسؤوليات مالية يُسألون عنها‪.‬‬
‫‪-‬وعلى ذلك؛ ينبغي أ ْن ينظر َ الإنسانُ إلى ما استرعاه الل ّه ُ فيه من أمو ٍر نظرة َ المسؤول عن القيام بحقها أمام َ‬
‫الل ّه ‪-‬تعالى‪.-‬‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ الد ّج ّا َ‬
‫ل ذ َاتَ غَد َاة ٍ‪،‬‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن النواس بن سمعان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ذَك َر َ رَسُو ُ‬

‫ل‪" :‬ما شَأْ نُكُمْ؟" قلُ ْنَا‪ :‬يا‬ ‫ك ف ِينَا‪ ،‬ف َقا َ‬ ‫ف ذل َ‬ ‫ل‪ ،‬فَلَم ّا ر ُحْ نَا ِإلَيْه ِ ع َرَ َ‬
‫ض فيه وَر َف ّعَ‪ ،‬حت ّى ظَنَن ّاه ُ في طَائِفَة ِ الن ّخْ ِ‬ ‫فَخ َ ّف َ‬
‫ل‬
‫ل‪" :‬غَي ْر ُ الد ّج ّا ِ‬ ‫ل‪ ،‬ف َقا َ‬
‫ل غَد َاة ً‪ ،‬فَخ َ ّفضْ تَ فيه وَر َف ّعْتَ ‪ ،‬حت ّى ظَنَن ّاه ُ في طَائِفَة ِ الن ّخْ ِ‬ ‫ل الل ّهِ‪ ،‬ذَكَر ْتَ الد ّجّا َ‬
‫رَسُو َ‬

‫سه ِ‪ ،‬و َالل ّه ُ‬


‫ج ن َ ْف ِ‬
‫يخ ْر ُجْ و َلَسْتُ ف ِيكُمْ‪ ،‬فَامْرُؤ ٌ حَ ج ِي ُ‬
‫يخ ْر ُجْ و َأن َا ف ِيكُمْ‪ ،‬فأن َا حَ ج ِيج ُه ُ د ُونَكُمْ‪ ،‬وإ ْن َ‬
‫أخْ و َفُنِي علَيْك ُم‪ ،‬إ ْن َ‬
‫سل ِ ٍم")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ل مُ ْ‬
‫خ َلِيف َتي علَى ك ُ ّ ِ‬

‫يكشف الحديثُ عن أسلوب الن ّب ِيّ ﷺ البيان ِيّ في إيضاح القضايا وإعطائها حقها من البيان؛ فكان الصحابة ُ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬يستحضرون ويستشعرون الأمور َ الغيبية التي يتلقونها عن رسول الل ّه ﷺ وكأ ّنهم يرونها‬
‫ل الل ّه ِ‬
‫اب رسو ِ‬ ‫سي ْديّ ‪-‬وكان م ِن ك ُت ّ ِ‬ ‫حنْظَلة َ الأ َ‬ ‫ن َ‬ ‫بأعينهم؛ ومن ذلك‪ :‬حديثُ حنظلة ‪-‬رضي الل ّه عنه‪"( :-‬أ ّ‬
‫سب ْح َانَ الل ّه ِ! ما تَق ُولُ؟‬
‫ل‪ُ :‬‬
‫حنْظَلَة ُ‪ ،‬قا َ‬
‫ق َ‬ ‫ل‪ :‬قُلتُ ‪ :‬ن َاف َ َ‬
‫حنْظَلَة ُ؟ قا َ‬
‫كيف أن ْتَ يا َ‬
‫َ‬ ‫ل‪:‬‬
‫ﷺ‪ -‬قال‪ :‬لَق ِيَنِي أبُو بَكْرٍ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ يُذَك ِّر ُن َا بالن ّارِ و َالْجنَ ّة ِ حت ّى ك َأن ّا ر َأْ يُ عَيْنٍ‪ ،‬ف َِإذ َا خَر َجْ نَا م ِن عِندِ رَسُو ِ‬
‫ل‬ ‫ل‪ :‬قُلتُ ‪ :‬نَكُونُ عِنْد َ رَسُو ِ‬
‫قا َ‬
‫ل هذا‪،‬‬ ‫ل أبُو بَكْرٍ‪ :‬ف َوَالل ّه ِ إن ّا لَنَلْقَى مِث ْ َ‬
‫َات‪ ،‬فَنَسِينَا كَث ِير ًا‪ ،‬قا َ‬ ‫ج و َالأ ْول َاد َ و َالضّ يْع ِ‬ ‫الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬عَافَسْنَا الأ ْزو َا َ‬
‫ل الل ّه ِ‬ ‫ل رَسُو ُ‬ ‫ل الل ّهِ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫حنْظَلَة ُ‪ ،‬يا رَسُو َ‬ ‫ق َ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬قُلتُ ‪ :‬ن َاف َ َ‬ ‫فَانْطَلَقْتُ أن َا و َأبُو بَكْرٍ حت ّى دَخ َل ْنَا علَى رَسُو ِ‬
‫ل الل ّهِ‪ ،‬نَكُونُ عِنْدَك َ‪ ،‬تُذَك ِّر ُن َا بالن ّارِ و َالْجنَ ّة ِ حت ّى ك َأن ّا ر َأْ يُ عَيْنٍ‪ ،‬ف َِإذ َا خَر َجْ نَا‬
‫ﷺ‪" :‬و َما ذ َاك َ؟"‪ ،‬قُلتُ ‪ :‬يا رَسُو َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪" :‬و َال ّذ ِي ن َ ْفس ِي بيَدِه ِ‪،‬‬
‫ل رَسُو ُ‬
‫َات‪ ،‬نَسِينَا كَث ِير ًا‪ ،‬ف َقا َ‬
‫ج و َالأ ْول َاد َ و َالضّ يْع ِ‬
‫م ِن عِندِك َ‪ ،‬عَافَسْنَا الأ ْزو َا َ‬
‫‪- 77 -‬‬
‫شك ُ ْم وفي طُر ُقِكُمْ‪ ،‬و َلـَكِنْ يا‬
‫إ ْن لَو ْ تَد ُوم ُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي وفي الذِّكْر ِ‪ ،‬لَصَافَحتَْكُم ُ المَلَائِك َة ُ علَى فُر ُ ِ‬
‫كشف لآثار مجالس الن ّب ِيّ ﷺ على قلوب الصحابة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ات")‪ ،‬وفي هذا‬
‫حنْظَلَة ُ سَاع َة ً وَسَاع َة ً‪ ،‬ثَلَاثَ م َّر ٍ‬
‫َ‬

‫ل المرء ُ‬
‫ح على مجالس العلم والذكر التي ت ُزيد ُ الإيمانَ وت ُذك ِّر ُ بالجن ّة والن ّار؛ فيص َ‬‫حرص المُصل ُ‬ ‫ولذلك؛ ينبغي أ ْن ي َ‬
‫إلى مقام المسؤولية ومراقبة الل ّه في جميع أحواله‪.‬‬

‫‪-‬كان الن ّبيّ ﷺ خبير ًا في التعامل مع النفوس؛ فلما رأى في وجوه أصحابه الفزعَ بعد َ خبر الدجال =أراد َ ﷺ‬
‫يخ ْر ُجْ و َأن َا‬
‫ل أخْ و َفُنِي علَيْك ُم‪ ،‬إ ْن َ‬
‫يحدِثُ في أنفسهم قدر ًا من الموازنة؛ فقال ﷺ‪" :‬غَيْر ُ الد ّج ّا ِ‬
‫ُخفف عنهم و ُ‬
‫أ ْن ي َ‬
‫سل ِ ٍم"‪.‬‬
‫ل مُ ْ‬
‫سه ِ‪ ،‬و َالل ّه ُ خ َلِيف َتي علَى ك ُ ّ ِ‬
‫ج ن َ ْف ِ‬
‫يخ ْر ُجْ و َلَسْتُ ف ِيكُمْ‪ ،‬فَامْرُؤ ٌ حَ ج ِي ُ‬
‫ف ِيكُمْ‪ ،‬فأن َا حَ ج ِيج ُه ُ د ُونَكُمْ‪ ،‬وإ ْن َ‬

‫سه ِ في فتنة ٍ‬
‫ج نف ِ‬
‫سه ِ" هو موض ُع الشاهد المتعل ّ ِق بباب المسؤولية‪ ،‬فإ ْن كانَ المرء ُ حجي َ‬
‫ج ن َ ْف ِ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬فَامْرُؤ ٌ حَ ج ِي ُ‬
‫عظيمة ٍ كفتنة الدجال التي ح ّذر َ منها الأنبياء ُ أقوامهم ‪-‬كما قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬ما م ِن نَبِ ٍ ّي إلّا وق ْد أنْذَرَه ُ قَوْم َه ُ‪،‬‬
‫سه ِ فيما دونَ الدجال من الفتن والشهوات‪.‬‬ ‫ج نف ِ‬
‫ن المرء ُ حجي َ‬
‫باب أولى أ ْن يكو َ‬
‫ح قَوْم َه ُ"‪-‬؛ فمن ِ‬
‫لق َ ْد أنْذَرَه ُ نُو ٌ‬

‫الحديث الرابع‪ :‬عن ع ُدي بن حات ٍم ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬ما منكم م ِن أحدٍ إلا‬
‫ن منه‪ ،‬فلا يرى إلا ما ق ّدم‪ ،‬وينظر ُ أشأم َ منه‪،‬‬
‫سي ُكل ِّم ُه الل ّه ُ يوم َ القيامة ِ‪ ،‬ليس بينه وبينه ت َرجمانُ‪ ،‬فينظر ُ أيْم َ‬
‫ِق تمرة ٍ‪ ،‬ولو بكلمة ٍ‬
‫فلا يرى إلا ما ق ّدم‪ ،‬وينظر ُ بين يد َيه‪ ،‬فلا يرى إلا الن ّار َ تِلقاء َ وجه ِه‪ ،‬فات ّقوا الن ّار َ‪ ،‬ولو بش ّ ِ‬
‫طيِّبة ٍ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫تجاه نفسه في موقفه الأخير (مشهد القيامة)‪ ،‬وفيه توجيه ُ الن ّب ِيّ‬
‫‪-‬يؤكد ُ الحديثُ معنى تحم ّل الإنسان المسؤولية ُ‬
‫بشق التمرة؛ وفي الحديث؛ يقول الن ّبيّ ﷺ‪" :‬م َن‬ ‫ِّ‬ ‫ﷺ للعمل اتقاء َ الن ّار؛ فَذَك َر َ الصدقة َ بما يستطيع ُه ُ المرء ُ ولو‬
‫ن الل ّه َ يَتَق َب ّلُه َا بيمَِينِه ِ‪ ،‬ث ُم ّ ي ُر َب ّ ِيهَا لِصَاحِبِه ِ‪ ،‬كما‬
‫طي ِّبَ ‪ ،‬وإ ّ‬
‫ل الل ّه ُ إلّا ال ّ‬
‫ْب طَي ّ ٍِب‪ ،‬ول َا يَقْب َ ُ‬
‫كس ٍ‬
‫ل تَم ْرَة ٍ م ِن َ‬
‫ص ّدقَ بع َ ْد ِ‬
‫تَ َ‬
‫ل"‪ ،‬والفلو‪ :‬هو صغير ُ الخيل‪.‬‬
‫ل الجب َ َ ِ‬ ‫ي ُر َب ِ ّي أحَد ُك ُ ْم فَلُو ّه ُ‪ ،‬حت ّى تَكُو َ‬
‫ن مِث ْ َ‬

‫‪- 78 -‬‬
‫المحاضرة الثانية عشر‪ :‬المسؤولية ُ العامّة ُ تُجاه َ الإسلا ِم والمسلمين‬
‫باب في المسئوولية ِ العامّة ِ تُجاه َ الإسلا ِم والمسلمين‬
‫ٌ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫ح في بنائ ِه الإيماني‬
‫ن الأحاديث المنتقاة في متن (المنهاج من ميراث الن ّبُو ّة) هي فيما يحتاج ُه ُ المُصل ُ‬
‫‪-‬ذكرنا أ ّ‬
‫والمعرفي‪ ،‬ومن أصول الإسلام‪ :‬تعظيم ُ مرجعية الوحي؛ كتاب الل ّه وسُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ ودوام الدوران في‬
‫ن لهما أثر ٌ في حياته من حيث الاستدلال والاستنارة والاهتداء‬
‫فلـكهما؛ فم َن تراه ُ محتفيًا بالكتاب والس ُن ّة وأ ّ‬
‫حظ من‬
‫ٌ‬ ‫بهما =فهذه من مؤشرات الخير والتوفيق بإذن الل ّه ‪-‬تعالى‪ ،-‬لذلك؛ ينبغي للمسلم أ ْن يكونَ له‬
‫الاهتداء المباشر بنور القرآن والس ُن ّة من جهة التدب ّر والت ّدارس‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ل عنوا ِ‬
‫تفصي ُ‬
‫ن بابَ المسئوولية العامّة للفرد تُجاه نُصرة الإسلام والمستضعفين من المسلمين والموالاة‬
‫البعض أ ّ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬قد يظنّ‬
‫ل في الكتاب والس ُن ّة‪ ،‬وبالتالي؛ يتم ّ التزهيد ُ فيه‬
‫باب ليس له أص ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بينهم والاهتمام بقضايا الأمّة وشؤونها‪،‬‬
‫ل منه‪ ،‬بينما هذا البابُ من صميم عقيدة الإسلام‪.‬‬
‫والتقلي ٌ‬

‫ل في‬
‫ن هذا البابَ من الأمور السياسية الحركية وليس داخ ٌ‬
‫‪-‬وأيضًا من باب التلبيس‪ :‬قد تجد ُ م َن يزعم ُ أ ّ‬
‫ل فيه الاهتمام بقضايا الأمّة‬ ‫ن من أصول العقيدة‪ :‬الولاء َ والبراءَ؛ فالولاء ُ يدخ ُ‬
‫أمور العقيدة‪ ،‬بينما نج ْد أ ّ‬
‫ق بالـكُ ّفار‬
‫ل فيه التبرؤ مما يتعل ّ ُ‬
‫ونُصرة المستضعفين والارتباط والمحبة والتعاون بين المسلمين‪ ،‬والبراء ُ يدخ ُ‬
‫شق البراء فقط‪ ،‬مع إغفال‬
‫ل أصل الولاء والبراء من خلال ّ ِ‬
‫ل أن ّه أحيان ًا يتم ّ تناو ُ‬
‫والمنافقين‪ .‬ولـكن الإشكا ُ‬
‫شق الولاء‪.‬‬
‫ِّ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫نصوص الباب عن مركز ية قضية اهتمام المؤمن بقضايا الأمّة وشؤونها‪ ،‬وأ ّنها من القضايا الـكبرى‬
‫ُ‬ ‫تكشف‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫تهميش هذه القضية من التحر يف للد ِّين‪ ،‬وهذا‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫ق بالعقيدة‪ ،‬لذا؛ فإ ّ‬
‫ارتباط وثي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ن لها‬
‫في الد ِّين‪ ،‬وأ ّ‬
‫العقدي‬
‫ِّ‬ ‫ل هذه الإشكالاتُ في الانتكاس‬
‫إشكالات عقدية ٌ في باب الولاء والبراء؛ تتمث ُ‬
‫ٌ‬ ‫التهميش تترت ّبُ عليه‬
‫ُ‬
‫بموالاة أعداء الأمّة‪ ،‬وتبني أفكارهم المنحرفة المتعل ِّقة بقضايا الأمّة‪.‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫ل و َالنِّس َاء ِ‬
‫ن الر ِ ّج َا ِ‬ ‫ل الل ّه ِ و َال ْمُسْت َضْ ع َف ِينَ م ِ َ‬
‫ن فِي سَب ِي ِ‬‫الآية الأولى‪ :‬قال الل ّه ‪-‬تعالى‪" :-‬وَم َا لـَك ُ ْم ل َا تُق َاتِلُو َ‬
‫ظال ِ ِم أه ْلُه َا و َاجْ ع َل ل ّنَا م ِن ل ّدُن َ‬
‫ك و َل ًِّي ّا و َاجْ ع َل ل ّنَا م ِن‬ ‫خر ِجْ نَا م ِنْ هََٰذِه ِ الْقَر ْيَة ِ ال ّ‬
‫ن يَق ُولُونَ ر َب ّنَا أ ْ‬
‫ن ال ّذ ِي َ‬
‫و َالْوِلْد َا ِ‬
‫ك نَصِ ير ًا"‪:‬‬
‫ل ّدُن َ‬
‫ل وجهادِ المسلمين‪ ،‬وبالرغم‬
‫أي‪ :‬بعد َ عم ِ‬
‫أتت هذه الآية ُ في سورة النساء المدنية ‪-‬يعني‪ :‬نزلت بعد َ الهجرة‪-‬؛ ْ‬
‫‪ْ -‬‬
‫حض والتأكيد على أهمية العمل في سبيل المستضعفين‪.‬‬
‫من ذلك؛ جاء َ فيها مزيد ٌ من ال ّ ِ‬
‫والذب‬
‫ِّ‬ ‫باب القتال‬
‫خ السعديّ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره للآية‪( :‬فصار َ جهاد ُكم على هذا الوجه من ِ‬
‫ل الشي ُ‬
‫‪-‬يقو ُ‬
‫ل‬
‫عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم‪ ،‬لا م ِن باب الجهاد الذي هو الطم ُع في الـكفار‪ ،‬فإن ّه وإ ْن كانَ فيه فض ٌ‬
‫المتخلف عنه أعظم َ اللوم‪ ،‬فالجهاد ُ الذي فيه استنقاذ ُ المستضعفين منكم أعظم ُ أجر ًا وأكبر ُ‬
‫ُ‬ ‫عظيم ٌ و يُلام ُ‬
‫ل قد‬
‫ن العم َ‬
‫ن للمفاضلة في غايات العمل‪ ،‬فإ ّ‬ ‫ِ‬
‫دفع الأعداء)؛ وهذا فيه بيا ٌ‬ ‫فائدة ً‪ ،‬بحيث يكونُ من باب‬
‫ل ذلك‪( :‬طلبُ‬
‫تكونُ فيه نِّية ٌ واحدة ٌ من حيث القصد‪ ،‬لـكن تتفاوتُ المقاصد ُ التي تتغيى من خلاله؛ ومثا ُ‬
‫ل تحتَ هذه الن ِّي ّة؛ منها‪ :‬مقصد ُ رفع‬
‫العلم)؛ تكونُ الن ِّي ّة فيه لل ّه‪ ،‬لـكن تتفاوتُ مقاصدُه ُ المعينة التي تدخ ُ‬
‫الجهل عن الن ّفس والغير‪ ،‬ومقصد ُ مقاومة أعداء الدين بالعلم والفكر‪ ،‬وهذا مقصدٌ أعلى‪.‬‬

‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َِإ ِ‬


‫ن اسْ تَنصَر ُوك ُ ْم فِي الد ِّي ِن فَعَلَيْكُم ُ الن ّصْر ُ ِإلّا عَلَى قَو ْ ٍم بَي ْنَك ُ ْم و َبَيْنَه ُم مّ ِيثَاقٌ "‪:‬‬

‫ن آم َن ُوا و َه َاجَر ُوا وَج َاهَد ُوا ب ِأمْوَالِه ِ ْم و َأنفُسِه ِ ْم‬


‫ن ال ّذ ِي َ‬
‫جاءت هذه الآية ُ في سورة الأنفال بعد َ قوله تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫جر ُوا م َا لـَك ُم مّ ِن وَل َايَتِه ِم‬ ‫ن آم َن ُوا و َل َ ْم يُهَا ِ‬‫ض و َال ّذ ِي َ‬
‫ك بَعْضُه ُ ْم أوْلِيَاء ُ بَعْ ٍ‬
‫ن آو َوا وّنَصَر ُوا أولََٰئ ِ َ‬ ‫ل الل ّه ِ و َال ّذ ِي َ‬
‫فِي سَب ِي ِ‬
‫ن اسْ تَنصَر ُوك ُ ْم فِي الد ِّي ِن فَعَلَيْكُم ُ الن ّصْر ُ ِإلّا عَلَى قَو ْ ٍم بَي ْنَك ُ ْم و َبَيْنَه ُم مّ ِيثَاقٌ و َالل ّه ُ بِمَا‬ ‫مّ ِن شَيْء ٍ حَت ّى يُهَا ِ‬
‫جر ُوا و َِإ ِ‬
‫تَعْم َلُونَ بَصِ ير ٌ"‪.‬‬
‫ن الل ّه َ ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫تأسيس لمعنى من معاني المسؤولية العامّة تُجاه المسلمين وهو معنى النصر والولاء؛ فإ ّ‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬في الآية‬
‫س لعقد الولاء بينَ المؤمنين؛ أبرز َ من صفاتهم أمور ًا؛ منها‪ :‬الإيمان والهجرة والجهاد والن ُصرة‪.‬‬
‫لم ّا أسّ َ‬
‫‪-‬وحت ّى الذين آمنوا ولم يهاجروا؛ فمع تقصيرهم في عمل الهجرة إلا أ ّنهم لم ي ُ ْسق َْط عقد ُ ولايتهم أو واجبُ‬
‫نصرتهم‪ ،‬ولـكن تكونُ نُصرتُهم بدرجة ٍ أدنى متمثلة ٍ في الاستثناء في قوله تعالى‪ِ " :‬إلّا عَلَى قَو ْ ٍم بَي ْنَك ُ ْم و َبَيْنَه ُم‬
‫الـكف عن القتال‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ق مع الـكُ ّفار في‬
‫ل هو واجبُ النصرة لهم‪ ،‬إلا في حالة ِ وجودِ إتفا ٍ‬
‫أي‪ :‬الأص ُ‬
‫مّ ِيثَاقٌ "؛ ْ‬

‫الآية الثالثة‪ :‬قا َ‬


‫ل الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪ -‬ذا ًّمّا بني إسرائيل‪" :‬ك َانُوا ل َا يَتَنَاه َوْنَ ع َن مّنكَر ٍ فَع َلُوه ُ"‪ ،‬وفي م ُقابل هذا؛ قا َ‬
‫ل‬
‫ن ال ْمُنكَر ِ"‪:‬‬
‫ُوف و َتَنْهَوْنَ ع َ ِ‬
‫ن ب ِال ْمَعْر ِ‬
‫س ت َأْ م ُرُو َ‬
‫َت لِلن ّا ِ‬
‫خرِج ْ‬
‫‪-‬سبحانه‪ -‬ممتدح ًا أمّة الإسلام‪" :‬كُنتُم ْ خَيْر َ أمّة ٍ أ ْ‬
‫‪- 81 -‬‬
‫ِس الآية ُ لمعن ًى آخر َ من معاني المسؤولية العامّة تُجاه المسلمين؛ وهو معنى الدعوة والنصيحة من خلال‬
‫تؤس ُ‬
‫‪ّ -‬‬
‫وسيلة الأمر المعروف والنهي عن المنكر التي هي من سِمات خير ية وتشر يف هذه الأمّة على سائر الأمم‪.‬‬

‫ل القا ِئ ِم علَى حُد ُودِ الل ّه ِ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن النعمان بن بشير ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قال‪" :‬م َث َ ُ‬
‫ن في أسْ ف َل ِها‬
‫سف ِينَة ٍ‪ ،‬فأصابَ بَعْضُه ُ ْم أع ْلاها وبَعْضُه ُ ْم أسْ ف َلَها‪ ،‬ف َكانَ ال ّذ ِي َ‬ ‫والواق ِ ِع فيها‪ ،‬كَمَث َ ِ‬
‫ل قَو ْ ٍم اسْ تَهَم ُوا علَى َ‬
‫ن الماء ِ م َّروا علَى م َن فَو ْقَهُمْ‪ ،‬فقالوا‪ :‬لو أن ّا خَرَق ْنا في نَصِ يب ِنا خَرْقًا ول َ ْم نُؤْذِ م َن فَو ْقَنا‪ ،‬فإ ْن‬ ‫إذا اسْ تَقَو ْا م ِ َ‬
‫يَت ْرُكُوه ُ ْم وما أراد ُوا هَلـَكُوا جَم ِيع ًا‪ ،‬وإ ْن أخَذ ُوا علَى أيْدِيه ِ ْم نَجَوْا‪ ،‬ونَجَو ْا جَم ِيع ًا"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬

‫زادت أهميت ُه ُ ومركزيت ُه ُ‬


‫ْ‬ ‫ل المتعلِّق بها؛‬ ‫ِ‬
‫الصالح وأنواع ُ الفض ِ‬ ‫ل‬
‫شرف العم ِ‬
‫ِ‬ ‫فاـئدة‪ :‬كل ّما كث ْ‬
‫ُرت وجوه ُ‬
‫ل ذلك‪ :‬ذكر ُ الل ّه‪ ،‬والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫وقيمت ُه ُ في الدين؛ ومثا ُ‬

‫يكشف الحديثُ عن وجه ٍ من وجوه شرف وفضل القيام على حدود الل ّه بالأمر بالمعروف والنهي عن‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫المنكر؛ وهذا الوجه ُ باعتبار النجاة وهو‪ :‬النجاة ِ العامّة ِ (عامّة الن ّاس) من العذاب‪ ،‬وهناك وجه ٌ آخر باعتبار‬
‫صة (للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر)؛ كما قال تعالى‪" :‬فَلَم ّا نَس ُوا م َا‬
‫النجاة ‪-‬أيضًا‪ -‬وهو‪ :‬النجاة الخا ّ‬
‫سوء ِ"‪.‬‬
‫ن ال ّ‬
‫ن يَنْهَوْنَ ع َ ِ‬
‫ذُك ِّر ُوا بِه ِ أنجَي ْنَا ال ّذ ِي َ‬
‫سبب في خير ية هذه الأمّة؛ كما قال‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬أيضًا‪ :‬من وجوه شرف وفضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ :‬أن ّه‬
‫ن ال ْمُنكَر ِ"‪.‬‬
‫ُوف و َتَنْهَوْنَ ع َ ِ‬
‫س ت َأْ م ُرُونَ ب ِال ْمَعْر ِ‬
‫َت لِلن ّا ِ‬
‫خرِج ْ‬
‫الل ّه ‪-‬تعالى‪" :-‬كُنتُم ْ خَيْر َ أمّة ٍ أ ْ‬

‫ٍ‬
‫أنواع معينة ٍ من المنكرات دونَ غيرها؛‬ ‫ل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في‬
‫‪-‬ومن الخلل‪ :‬أ ْن يتم ّ اختزا ُ‬
‫ن من المنكرات الـكبرى التي تُسب ِبُ العذابَ‬
‫كالمجون والانحلال الأخلاقي أو حت ّى في بعض البدع‪ ،‬بل إ ّ‬
‫العامّ‪ :‬وجود َ الظلم بدون إنكار‪.‬‬
‫ن في بعض صور إنكار المنكر‪ :‬ينبغي الأخذ ُ على يدِ‬ ‫نأ ّ‬ ‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬وإ ْن أخَذ ُوا علَى أيْدِيه ِ ْم نَجَو ْا"‪ :‬فيه بيا ٌ‬
‫‪-‬قو ُ‬
‫حِبًا أو مقتنع ًا بما تقولُه ُ له‪.‬‬ ‫فاعله بشيء ٍ من الحزم؛ فليس بالضرورة أ ْن تجد َ ك ّ‬
‫ل م َنْ تُنكر ُ عليه مر ّ‬

‫الحديث الثاني‪ :‬عن أبي سعيدٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬سمعتُ رسو ُ‬
‫ل الل ّه ﷺ يقول‪" :‬م َن ر َأى م ِنك ُم مُن ْك َرًا‬
‫ن"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫َف الإيما ِ‬ ‫فَل ْيُغَيِّرْه ُ بيَدِه ِ‪ ،‬فإ ْن ل َ ْم يَسْتَط ِعْ فَبِل ِسانِه ِ‪ ،‬فإ ْن ل َ ْم يَسْتَط ِعْ فَبِق َل ْبِه ِ‪ ،‬وذل َ‬
‫ك أضْ ع ُ‬

‫يكشف الحديثُ عن وجه ٍ من وجوه أهمية الأمر المعروف والنهي على المنكر‪ :‬وهو الأمرُ المباشر من الن ّب ِيّ‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫جاءت صفت ُه ُ في الشر يعة على أن ّه منكر ٌ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ﷺ بتغيير المنكر‪ ،‬الذي‬

‫‪- 80 -‬‬
‫‪-‬يبيِّنُ الن ّبيّ ﷺ أحوال إنكار المرء للمنكر باعتبار الاستطاعة؛ إمّا باليد أو باللسان أو بالقلب‪ ،‬وق ْد أوْضح َ هذا‬
‫ن الأمرَ بالمعروف والنهي َ عن المنكر يتطل ّبُ فقه ًا؛ وهذا الفقه ُ يكتسب ُه ُ المرء ُ من خلال طر يقين‪:‬‬
‫الحديثُ أ ّ‬

‫ن المرء ُ بسيرة الأنبياء أفقه َ‪ ،‬كان أحرى أ ْن‬


‫الأوّل‪ :‬التف ّقه ُ في هدي الأنبياء في الدعوة إلى الل ّه؛ فكل ّما كا َ‬
‫يُصيبَ الحقّ والحكمة َ والفقه َ في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫الثانـي‪ :‬الاهتمام ُ والعناية ُ بمصنفات العلماء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ سواء ٌ الـكتب‬
‫الجامعة؛ مثل كتاب (جامع العلوم والحكم) للحافظ ابن رجب الحنبلي ‪-‬رحمه الل ّه‪ ،-‬أو الـكتب والرسائل‬
‫المفر َدة في الأمر المعروف والنهي عن المنكر وفقهه‪.‬‬

‫الناس إن ّكم تَقر َءونَ هذه الآية َ‪" :‬ي َا‬


‫ُ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن أبي بكر الصديق ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬يا أ ّيها‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ يقولُ‪" :‬إن‬
‫ل ِإذ َا اه ْتَد َي ْتُم ْ"‪ ،‬وإني سم ِعتُ رسو َ‬ ‫ن آم َن ُوا عَلَيْك ُ ْم أنْفُسَك ُ ْم ل َا يَضُر ّك ُ ْم م َنْ َ‬
‫ض ّ‬ ‫أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫ِقاب منه")‪ ،‬أخرج َه ُ الإمام ُ أحمد في مسنده‪.‬‬
‫ك أن يعمّهم ُ الل ّه ُ بع ٍ‬
‫ش َ‬
‫اس الظالم َ فلم يأخ ُذوا على يدِه أو َ‬
‫رأى الن ّ ُ‬

‫حديث في مسند الإمام أحمد ‪-‬رحمه الل ّه‪-‬؛ حيثُ بدأ مسندَه ُ بمسند‬
‫ٍ‬ ‫فاـئدة ٌ حديثية ٌ‪ :‬هذا الحديثُ أ ّو ُ‬
‫ل‬
‫حديث في مسند أبي بكر‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ل‬
‫العشرة المبشرين بالجن ّة؛ وأوّلهم أبي بكرٍ الصديق ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ ،-‬وهذا أ ّو ُ‬
‫ختلف فيه على وجهين‪ :‬هل هو‬
‫ح الإسناد إلى أبي بكر الصديق ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ ،-‬ولـكنه م ٌ‬
‫وهذا الحديثُ صحي ُ‬
‫موقوف على أبي بكر؟‪ ،‬أم هو مرفوعٌ للن ّب ِيّ ﷺ؟‪ ،‬وق ْد رجّ ح َ الإمام ُ الداراقطني الوجهين‪.‬‬
‫ٌ‬

‫ك المنكر‬
‫يكشف الحديثُ عن وجه ٍ من وجوه قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهو‪ :‬خطورة ُ تر ِ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ل‬
‫ج عن ذلك من العقاب الإلهي العا ِمّ للن ّاس جميع ًا؛ ومن أمثلة هذا العقاب‪ :‬زوا ُ‬
‫والظلم بلا نكير وما ينت ُ‬
‫الأمن وتقل ّبُ الأحوال؛ كما قال تعالى‪" :‬و َضَر َبَ الل ّه ُ م َثَل ًا قَر ْيَة ًك َان َْت آم ِن َة ً مّ ْطم َئ ِن ّة ً ي َأْ ت ِيهَا رِزْقُه َا ر َغَدًا مّ ِن‬
‫ْف بِمَا ك َانُوا يَصْ ن َع ُونَ"‪.‬‬ ‫وع و َالْخَو ِ‬ ‫اس الْج ُ ِ‬‫ن فَكَف َر َْت ب ِأن ْع ُ ِم الل ّه ِ ف َأذ َاقَه َا الل ّه ُ لِب َ َ‬
‫ل مَك َا ٍ‬
‫ك ُ ِّ‬

‫ن آم َن ُوا‬
‫يكشف أبو بكرٍ الصديق ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬الش ُبهة َ التي ق ْد تشتبه ُ على م َن يقرأ قوله تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ل على إسقاط الأمر بالمعروف والنهي عن‬
‫ل ِإذ َا اه ْتَد َي ْتُم ْ"؛ فيظنّ أ ّنها تد ّ‬ ‫عَلَيْك ُ ْم أنْفُسَك ُ ْم ل َا يَضُرّك ُ ْم م َنْ َ‬
‫ض ّ‬
‫ل عند َ‬
‫ص ُ‬
‫الالتباس الذي ق ْد يح ُ‬
‫َ‬ ‫ك‬
‫ف من أبي بكر ينبغي أ ْن يكونَ نبراسًا للم ُصلح؛ بأ ْن يف َ‬
‫المنكر‪ ،‬وهذا التصر ّ ُ‬
‫حديث أو أثر‪ ،-‬أو محاولة فهمِها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بعض الن ّاس عند َ قراءة ِ بعض النصوص الشرعية ‪-‬آية ٍ أو‬

‫‪- 82 -‬‬
‫استدلالات كثيرة ٍ من أبي بكر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫لاحظ في جيل الصحابة ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬أ ّنهم لم يكونوا يحتاجون إلى‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬ي ُ‬
‫اس إلى شيءٍ من البسط‬ ‫ج الن ّ ُ‬
‫اختلفت الأفهام ُ فيم َن بعد َ جيل الصحابة؛ احتا َ‬
‫ْ‬ ‫لإبطال هذه الشبهة‪ ،‬بينما لم ّا‬
‫ل العلم على مر التاريخ‪.‬‬
‫ل أه ُ‬
‫في الاستدلال كما فع َ‬

‫ن الن ّو ْ ِم مُح ْم ًَّر ّا‬


‫قالت‪( :‬اسْ تَيْق ََظ الن ّبيّ ﷺ م ِ َ‬
‫ْ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن ز ينب بن جحش ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬أ ّنها‬
‫ل‬
‫ج مِث ْ ُ‬
‫ج وم َأْ جُو َ‬
‫ح اليوم َ م ِن ر َ ْد ِم ي َأْ جُو َ‬
‫ل لِلْع َر َِب م ِن شَرٍّ قَدِ اق ْتَر َبَ ‪ ،‬فُت ِ َ‬ ‫وجْ ه ُه ُ يقولُ‪" :‬لا إلَه َ إلّا الل ّهُ‪ ،‬و ي ْ ٌ‬
‫ك وفينَا الصّ الِ حُونَ؟ قالَ‪" :‬نَعَمْ‪ ،‬إذ َا كَثُر َ الخبَ َثُ ")‪ ،‬أخرج َه ُ‬ ‫سفْيَانُ ت ِ ْسعِينَ أ ْو م ِئ َة ً قيلَ‪ :‬أنَه ْل ِ ُ‬
‫هذِه"‪ ،‬وعَقَد َ ُ‬
‫البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ن لوجه ٍ من‬
‫كاشف عن وجه ٍ من وجوه قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬إ ْذ فيه بيا ٌ‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬هذا الحديثُ‬
‫ن من أهم ما ينبغي‬
‫ط الأعداء الذين يكث ُر ُ بهم الخبثُ ‪ ،‬ومما يُستفاد ُ من هذا‪ :‬أ ّ‬
‫وجوه الهلاك العا ِمّ؛ وهو تسل ّ ُ‬
‫سبب للعذاب والعقوبة العامّة الذي لا يدفع ُه ُ‬
‫ٌ‬ ‫أ ْن يستفز َ الصالحين و يؤرقَ مضاجعهم‪ :‬كثرة َ الخبث؛ إ ْذ فيه‬
‫حت ّى وجود الصالحين في الأمّة‪.‬‬

‫ل المؤمنين في‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن النعمان بن بشير ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬مث ُ‬
‫ل الجسَدِ إذا اشتك َى من ْه ُ عضو ٌ تد َاعَى لَه ُ سائ ِر ُ الجسَدِ بالس ّهَرِ وا ْلحم ُ ّى"‪،‬‬
‫تَوادِّهم ‪ ،‬وت َر َاحُمِه ِم ‪ ،‬وتعاطُفِه ِ ْم ‪ .‬مث ُ‬
‫أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ن‬
‫ِس هذا الحديثُ لمسؤولية الفرد تُجاه العمل للإسلام ونصرة المسلمين والتعاطف مع قضاياهم؛ وأ ّ‬
‫يؤس ُ‬
‫‪ّ -‬‬
‫موجبَ هذا التعاطف والتواد والتراحم هو الأخو ّة ُ الإيمانية‪ ،‬وق ْد أٌبرِز ْ‬
‫َت هذه الأخو ّة ُ الإيمانية ُ في أعلى‬
‫صورة ٍ لها؛ صورة الجسد الواحد‪ ،‬وهذا أبل ُغ في تأسيس عقد الموالاة والمحبة والتعاطف والتراحم والتواد بينَ‬
‫ن اشْ ت َك َى عَي ْن ُه ُ‪ ،‬اشْ ت َك َى كُل ّه ُ‪،‬‬
‫حدٍ‪ ،‬إ ِ‬
‫ل وا ِ‬
‫المؤمنين وقضاياهم؛ كما جاء َ في رواية الإمام مسلم ٍ‪" :‬ال ْمُسْل ِم ُونَ ك َرَج ُ ٍ‬
‫ن اشْ ت َك َى ر َأْ سُه ُ‪ ،‬اشْ ت َك َى كُل ّه ُ"‪.‬‬
‫وإ ِ‬

‫التعاطف والتناصر ُ والتراحم ُ مع قضايا الأمّة ‪-‬أحيان ًا‪ -‬بشيء ٍ من التزهيد والتقليل في القيمة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وصف‬
‫‪-‬قد ي ُ ُ‬
‫ن من‬
‫نصوص الوحي بتأسيسه بينَ المؤمنين‪ ،‬ولذا؛ فإ ّ‬
‫ُ‬ ‫جاءت‬
‫ْ‬ ‫ل إيمانيّ؛‬
‫أساس عقديّ وأص ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بينما هو‬
‫المنكرات العظمى في زماننا هذا‪ :‬محاربة َ وتشو يه َ مفهو ِم الأخو ّة الإيمانية والانتماء ِ للأمّة ونُصرة ِ قضاياها‪،‬‬
‫وتقديم َ الانتماء الوطني على الانتماء للأمّة؛ بينما الأولى تقديم ُ الأخو ّة الإيمانية‪ ،‬ولذا من أولو يات الإصلاح‬
‫الـكبرى اليوم‪ :‬المحافظة ُ على مبدأ الولاء والمحبة وإقامة ُ واجب التناصر والتعاطف والتراحم بينَ المؤمنين‪.‬‬

‫‪- 83 -‬‬
‫المحاضرة الثالثة عشر‪ :‬مركز ية ُ ات ّ ِ ِ‬
‫باع هدي الأنبياء ِ‬
‫بابُ مركز ية ِ ات ّ ِ ِ‬
‫باع هدي الأنبياءِ‪ ،‬وأهميتِه ِ للم ِ‬
‫ُصلح فِي عبادتِه ِ ودعوتِه ِ وصبرِه ِ‬
‫م ُقدِّمة ٌ‪:‬‬
‫هدف متن المنهاج؛ وهو جم ُع مجموعة ٍ من النصوص التي ته ّم الذي يريد ُ أ ْن يسير َ في طر يق‬
‫َ‬ ‫‪-‬يبرز ُ هذا البابُ‬
‫ق بهدي‬
‫الإصلاح؛ فهذا المتنُ أشبه ُ ما يكونُ بالزاد على هذا الطر يق‪ ،‬ومن جُملة ذلك الزاد‪ :‬البابُ المتعل ّ ِ ُ‬
‫ن مما ينبغي أ ْن تتوجه َ إليه عناية ُ السائر ِ في طر يق الإصلاح‪ :‬العناية َ بما جاء عن الأنبياء ‪-‬عليهم‬
‫الأنبياء؛ فإ ّ‬
‫سلام‪ -‬في عبادتهم ودعوتهم وصبرهم‪ ،‬واستحضار َ ذلك في طر يقه الإصلاحي‪.‬‬
‫الصّ لاة وال ّ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ل م َا نُثَب ِّتُ بِه ِ فُؤَادَك َ وَج َاءَك َ فِي هََٰذِه ِ الْحَقّ‬ ‫ك م ِنْ أنبَاء ِ الر ّ ُ‬
‫س ِ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬وَك ُلًّ ّا ن ّق ّ‬
‫ُص عَلَي ْ َ‬
‫وَمَوْعِظَة ٌ وَذِك ْر َى لِلْمُؤْم ِنِينَ"‪:‬‬
‫جاءت هذه الآية ُ في سورة هود بعد ذكر ِ مجموعة ٍ من قصص الأنبياء؛ منهم‪ :‬نوح وهود وصالح وإبراهيم‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫سلام‪ -‬بهذا الترتيب؛ وكان في ذكر ِ أخبار هؤلاء الأنبياء وما‬
‫ولوط وشعيب وموسى ‪-‬عليهم الصّ لاة وال ّ‬
‫ض له من أذى قومه‪،‬‬
‫تثبيت لفؤاد الن ّب ِيّ ﷺ لما يتعر ّ ُ‬
‫ٌ‬ ‫تعر ّضوا له من البلاء والش ّدة والتكذيب والاستهزاء؛‬
‫فيكونَ له فيهم الاقتداء ُ والأسوة ُ؛ في َصبر َ كما صبروا‪.‬‬

‫‪-‬وليس هذا الخطابُ خا ًّ ّ‬


‫صا بالن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬وإن ّما هو عامّ لمَن اتبعه مم ّن يسير ُ على طر يق الإصلاح؛ فإن ّه في‬
‫مواقف في طر يق‬
‫ٍ‬ ‫حاجة ٍ إلى التثبيت؛ وذلك بالاستحضار الدائم لهدي الأنبياء وأحوالهم وما تعر ّضوا له من‬
‫الدعوة‪.‬‬

‫ل وَل َا تَسْتَعْجِل ل ّه ُ ْم ك َأ ّنه ُ ْم يَوْم َ ي َر َ ْونَ م َا‬


‫س ِ‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬فَاصْ بِرْ كَمَا صَبَر َ أولُو الْعَز ْ ِم م ِ َ‬
‫ن الر ّ ُ‬

‫سق ُونَ"‪:‬‬ ‫يُوعَد ُونَ ل َ ْم يلَ ْبَث ُوا ِإلّا سَاع َة ً مّ ِن ّنهَا ٍر بَلَاغٌ فَه َلْ يُه ْل َ ُ‬
‫ك ِإلّا الْقَوْم ُ الْف َا ِ‬

‫إيناس‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬يأمرُ الل ّه ُ نبي ّه ﷺ أ ْن يقتديَ بم َن قبله من أولي العزم من الر ّسُل؛ في َصبر َ كما صبروا‪ ،‬وهذا أيضًا فيه‬
‫وخطاب عامّ لمَن يتب ُع الن ّبيّ ﷺ في السير على طر يق الإصلاح؛ بأ ْن يصبر َ كما صبر الأنبياء فيما تعر ّضوا له‬
‫ٌ‬
‫في طر يق دعوتهم‪.‬‬
‫‪- 84 -‬‬
‫ن الل ّه ِ وَم َا أنَا‬
‫سب ْح َا َ‬ ‫الآية الثالثة‪ :‬قال تعالى‪" :‬قُلْ هََٰذِه ِ سَب ِيل ِي أ ْدع ُو ِإلَى الل ّه ِ عَلَى بَصِ يرَة ٍ أن َا وَم َ ِ‬
‫ن ات ّبَعَنِي و َ ُ‬
‫ن ال ْمُشْرِكِينَ"‪:‬‬
‫مِ َ‬
‫ن الصفة‬
‫تكشف الآية ُ عن هدي الأنبياء؛ بإبراز معالم السبيل الذي سلـكوه؛ وهو الدعوة ُ إلى الل ّه‪ ،‬ثم بيا ِ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫تأسيس لمركز ية اتِّباع‬
‫ٌ‬ ‫ن ات ّبَعَنِي"‪ ،‬ولذا؛ ففي الآية‬
‫الممي ِّزة لهذا السبيل؛ وهي البصيرة ُ "عَلَى بَصِ يرَة ٍ أن َا وَم َ ِ‬
‫ك الحُجة‪ ،‬وأ ْن يكونَ على بينة ٍ و يقينٍ من أمره؛ لـكي‬
‫الأنبياء؛ إذ لا بُدّ للمصلح أ ْن يكونَ على بصيرةٍ؛ في َمتل َ‬
‫َات‬
‫سم َاو ِ‬
‫ك نُر ِي ِإ ب ْر َاه ِيم َ م َلـَكُوتَ ال ّ‬
‫يصبر َ على ما سيلقاه في طر يق إصلاحه للن ّاس‪ ،‬كما قال تعالى‪" :‬وَكَذََٰل ِ َ‬
‫وثبات في مواجهة مصاعب الطر يق‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ن ال ْم ُوق ِنِينَ"‪ ،‬حت ّى يكونَ على يقينٍ‬
‫ض و َلِيَكُونَ م ِ َ‬
‫و َالْأ ْر ِ‬

‫بصحة ما‬ ‫ج إلى بناء ٍ علم ٍ ّ‬


‫ي حت ّى يكونَ متضلع ًا ِّ‬ ‫ح على بصيرة ٍ وبينة ٍ من أمره؛ فإن ّه يحتا ُ‬
‫‪-‬ولـكي يكونُ المصل ُ‬
‫يدعو إليه‪.‬‬

‫جر ًا ِإ ْن ه ُو َ ِإلّا‬
‫ن هَدَى الل ّه ُ فَبِهُد َاهُم ُ اق ْتَدِهْ ق ُل لّا أسْ ألـُك ُ ْم عَلَيْه ِ أ ْ‬ ‫الآية الرابعة‪ :‬قال تعالى‪" :‬أولََٰئ ِ َ‬
‫ك ال ّذ ِي َ‬
‫ذِك ْر َى لِلْع َالم َي ِنَ"‪:‬‬
‫جاءت هذه الآية ُ في سورة الأنعام بعد ذكر ِ أسماء ِ مجموعة ٍ من الأنبياء؛ قال تعالى‪" :‬و َتِل ْ َ‬
‫ك حُ ج ّتُنَا آتَي ْنَاه َا‬ ‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ك حَكِيم ٌ عَل ِيم ٌ * وَو َهَب ْنَا لَه ُ ِإ ْسحَاقَ و َيَعْق ُوبَ ك ُلًّ ّا هَدَي ْنَا و َنُوح ًا‬
‫ن ر َب ّ َ‬
‫َات مّن ن ّش َاء ُ ِإ ّ‬
‫ِإ ب ْر َاه ِيم َ عَلَى قَوْمِه ِ نَرْف َ ُع دَرَج ٍ‬
‫نجْزِي ال ْم ُحْ سِنِينَ *‬ ‫ك َ‬‫ُف وَم ُوس َى و َه َار ُونَ وَكَذََٰل ِ َ‬ ‫ل وَم ِن ذُرِّ ي ّتِه ِ د َاو ُود َ وَسُلَيْم َانَ و َأي ّوبَ و َيُوس َ‬
‫هَدَي ْنَا م ِن قَب ْ ُ‬
‫س و َلُوطًا وَك ُلًّ ّا ف َضّ ل ْنَا عَلَى‬
‫ل و َال ْيَسَ َع و َيُون ُ َ‬
‫ن الصّ الِ حِينَ * و َِإسْمَاعِي َ‬
‫ل مّ ِ َ‬
‫اس ك ُ ّ‬
‫يح ْي َى وَع ِيس َى و َِإلْي َ َ‬
‫وَزَكَر ِ ي ّا و َ َ‬
‫وصف الأنبياء بهداية‬
‫ِ‬ ‫الْع َالم َي ِنَ"‪ ،‬ثم أمرَ الل ّه ُ نبي ّه ﷺ أ ْن يقتديَ بهدي هؤلاء الأنبياء الذين هداهم الل ّه؛ وفي‬
‫ن لقيمة ِ الهداية‪ ،‬وهذا الخطابُ للن ّب ِيّ ﷺ ولأمّته من بعده‪.‬‬ ‫الل ّه لهم بيا ٌ‬

‫ل الاقتداء ِ‬
‫ن لأهمية معرفة هدي الأنبياء والعناية بمنهجهم وطر يقهم؛ إ ْذ في هذا سبي ُ‬
‫‪-‬وفي الآية ‪-‬أيضًا‪ -‬بيا ٌ‬
‫بهديهم‪.‬‬

‫الآية الخامسة‪ :‬قال تعالى‪" :‬قُلْ ِإن ّنِي هَد َانِي ر َب ِ ّي ِإلَى صِر َاطٍ مّسْت َق ٍِيم دِينًا ق ِيَم ًا مّ ِل ّة َ ِإ ب ْر َاه ِيم َ حَن ِيف ًا وَم َا ك َا َ‬
‫ن‬

‫ن ال ْمُشْرِكِينَ"‪:‬‬
‫مِ َ‬
‫ن لقيمة استحضار المُصلح لهدي‬
‫ج الأنبياء في طر يق دعوته؛ وفي هذا بيا ٌ‬
‫‪-‬كان الن ّبيّ ﷺ يستحضر ُ منه َ‬
‫الأنبياء ومنهجهم وطر يقتهم في طر يقه الإصلاحي‪.‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫الحديث الأوّل‪ :‬عن عبد الل ّه مسعود ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ك َأن ِ ّي أنْظ ُر ُ إلى الن ّب ِيّ ﷺ َ‬
‫يحْكِي نَب ًِّي ّا م ِ َ‬
‫ن‬
‫ل‪ :‬الل ّه ُ ّم اغْفِر ْ لِقَوْمِي؛ فإ ّنه ُ ْم لا يَعْلَم ُونَ)‪،‬‬ ‫الأن ْب ِيَاء ِ ضَر َبَه ُ قَوْم ُه ُ فأ ْدمَوْه ُ‪ ،‬وهو يَمْسَ ُ‬
‫ح الد ّم َ عن وجْ هِه ِ و يقو ُ‬
‫أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫‪ِّ -‬‬
‫يوضح ُ الحديثُ استحضار َ الن ّب ِيّ ﷺ لهدي الأنبياء في حياته التفصيلية كي يتصب ّر َ من خلالها على ما يلقاه من‬
‫ل نب ٍ ّي من الأنبياء‪ ،‬وقد ضربه قومه‬
‫يصف حا َ‬
‫ُ‬ ‫ن مسعودٍ أن ّه رأى الن ّبيّ ﷺ‬
‫أذى قومه‪ ،‬وفي الحديث يُخبر اب ُ‬
‫ل هذا للن ّب ِيّ ﷺ في غزوة أحُدٍ‪.‬‬
‫ح الدم َ عن وجهه‪ ،‬وقد وق َع مث ُ‬
‫ل منه الدم ُ‪ ،‬فأخذ َ يمس ُ‬
‫حت ّى سا َ‬

‫مواقف‬
‫َ‬ ‫مر به الن ّبيّ ﷺ والأنبياء ُ من قبله في‬
‫‪-‬ولذلك؛ ينبغي على المصلح أ ْن يكونَ دائم َ الاستحضار لما ّ‬
‫ِ‬
‫المصلح‬ ‫سلام‪ -‬الصبر َ والثبات‪ ،‬واستحضار ُ‬ ‫الش ّدة والابتلاء‪ ،‬في َستمد َ من هدي الأنبياء ‪-‬عليهم الصّ لاة وال ّ‬
‫حق الذي يدعو إليه‪،‬‬
‫ج إلى قو ّة ِ اليقين بال ّ ِ‬
‫صعب؛ يحتا ُ‬
‫ٍ‬ ‫ن‬
‫ل امتحا ٍ‬
‫لمثل هذه الحقائق في أوقات الشدائد مح ُ‬
‫وقو ّة اليقين بكمال هدي الأنبياء‪ ،‬ثم تمام التوكّل على الل ّه في تحقيق هذا الاهتداء العملي‪.‬‬

‫ن‬
‫ل رَجُلٌ‪ِ :‬إ ّ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن عبد الل ّه بن مسعود ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ق َسَم َ الن ّبِيّ ﷺ ق َ ْ‬
‫سم ًا؛ فَق َا َ‬
‫سم َة ٌ م َا أرِيد َ بِهَا وَجْه ُ الل ّهِ‪ ،‬ف َأتَي ْتُ الن ّبِيّ ﷺ ف َأخْبَرْتُه ُ؛ فَغ َضِ بَ حَت ّى ر َأي ْتُ الْغَضَبَ فِي و َجْ هِه ِ‪ ،‬ث ُم ّ‬
‫هَذِه ِ لَق ِ ْ‬
‫حم ُ الل ّه َ م ُوس َى ق َ ْد أوذِيَ ب ِأكْ ثَر َ م ِنْ هَذ َا فَصَبَر َ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ مسلم ٌ‪.‬‬
‫قَالَ‪" :‬يَرْ َ‬

‫‪-‬كان الن ّبيّ ﷺ أنموذج ًا في الصّ بر على أنواع الأذى التي لاقاها من قومه‪ ،‬انفاذ ًا لما وصاه الل ّه به "فَاصْ بِرْ كَمَا‬
‫ض له الن ّبيّ ﷺ من أذ ًى‪ :‬الأذى الذي تلقاه مم ّن دخلوا‬
‫ل"؛ وكان من ج ُملة ما تعر ّ َ‬
‫س ِ‬
‫ن الر ّ ُ‬
‫صَبَر َ أولُو الْعَز ْ ِم م ِ َ‬
‫ن الإيمانُ من قلوبهم؛ وكان عامّتُه ُم من الأعراب‪.‬‬
‫ك ِ‬
‫الإسلام‪ ،‬ولـكن لم يتم ّ‬

‫سم َة ٌ م َا أرِيد َ بِهَا وَجْه ُ الل ّه ِ)‪ :‬وهذا الأذى قد يكونُ‬


‫ن هَذِه ِ لَق ِ ْ‬
‫تمثلت صورة ُ هذا الأذى في قول الرجل‪ِ ( :‬إ ّ‬
‫‪ْ -‬‬
‫ن في أمانته وصدقه ﷺ‪،‬‬
‫ض لها؛ لما فيه من تشكيكٍ وطع ٍ‬
‫شدائد التي تعر ّ َ‬
‫أش ّد على الن ّب ِيّ ﷺ من كثيرٍ من ال ّ‬
‫سلام‪-‬؛‬
‫ض له نب ّي الل ّه موسى ‪-‬عليه الصّ لام وال ّ‬
‫فما كان من الن ّب ِيّ ﷺ إلا تصب ّر َ باستحضار الأذى الذي تعر ّ َ‬
‫حم ُ الل ّه َ م ُوس َى ق َ ْد أوذِيَ ب ِأكْ ثَر َ م ِنْ هَذ َا فَصَبَر َ"‪.‬‬
‫فقال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬يَرْ َ‬

‫خ أحمد السيد ‪-‬حفظه الل ّه‪ -‬في محاضرة (الهم والحُزن) من سلسلة (سو ية المؤمن) عن‬
‫تكل ّم َ الشي ُ‬ ‫فاـئدة‪:‬‬
‫ل تفصيل ٍيّ‪.‬‬
‫أنواع الابتلاءات والمصاعب والتحديات التي واجهها الن ّبيّ ﷺ في حياته وذلك بشك ٍ‬

‫‪- 86 -‬‬
‫الصيا ِم‬
‫أحب ِّ‬
‫ّ‬ ‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمرو ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪ :‬قا َ‬
‫ل لي رسو ُ‬

‫وأحب الصّ لاة ِ إلى الل ّه ِ ‪ّ -‬‬


‫عز‬ ‫ّ‬ ‫سلام ُ‪ ،-‬كانَ يَصوم ُ يوم ًا و يُفط ِر ُ يوم ًا‪،‬‬
‫ل‪ -‬صيام ُ داود َ ‪-‬علَيه ِ ال ّ‬ ‫إلى الل ّه ِ ‪ّ -‬‬
‫عز وج ّ‬
‫سدُسَه ُ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ‬
‫ل‪ ،‬و يقوم ُ ثلُث َه ُ‪ ،‬ويَنام ُ ُ‬
‫نصف الل ّي ِ‬
‫َ‬ ‫سلام ُ‪ ،-‬كانَ يَنام ُ‬
‫ل‪ -‬صلاة ُ داود َ ‪-‬علَيه ِ ال ّ‬
‫وج ّ‬
‫ومسلم ٌ‪.‬‬
‫‪-‬هذا الحديثُ في بيان أهمية هدي الأنبياء في عبادتهم؛ ففيه يُبيِّنُ الن ّبيّ ﷺ هديَ نب ِ ّي الل ّه داود ‪-‬عليه‬
‫الصيام والصّ لاة‪ ،‬ويدعو أمته إلى اتباعه‪ ،‬وفي هذا الهدي ‪-‬صيام يوم وإفطار يوم‪ ،‬وقيام ثلث‬
‫سلام‪ -‬في ِّ‬
‫ال ّ‬
‫ل ليلِه ِ؛ إذ مسألة ُ الأجر ليست متعل ِّقة ً بالتعب‬
‫الليل‪ -‬أعلى الدرجات مما لو صام َ المرء ُ طيلة َ أيام ع ُمُرِه ِ وقام َ ك ّ‬
‫الأحب إلى الل ّه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ق‬
‫والنصب‪ ،‬وإن ّما متعلقة ٌ بما واف َ‬

‫َاج الن ّب ِيّ ﷺ‪،‬‬


‫ُوت أ ْزو ِ‬
‫‪-‬ومن ذلك حديث أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ج َاء َ ثَلَاثَة ُ رَه ْطٍ إلى بُي ِ‬
‫ن الن ّب ِيّ ﷺ؟! ق ْد غ ُف ِر َ له ما‬
‫ن مِ َ‬
‫نح ْ ُ‬
‫ن َ‬
‫يَسْألُونَ عن عِبَادَة ِ الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬فَلَم ّا أخْب ِر ُوا ك َأ ّنه ُ ْم تَق َال ّوه َا‪ ،‬ف َقالوا‪ :‬وأي ْ َ‬
‫ل آخَر ُ‪ :‬أن َا أصُوم ُ الد ّه ْر َ ول َا أفْط ِر ُ‪،‬‬
‫ل أبَد ًا‪ ،‬وقا َ‬
‫ل أحَد ُه ُ ْم‪ :‬أمّا أن َا فإن ِ ّي أصَل ِّي الل ّي ْ َ‬
‫خر َ‪ ،‬قا َ‬
‫تَق َ ّدم َ م ِن ذَن ْبِه ِ وما ت َأ ّ‬
‫ن قُلتُم ْ كَذ َا وكَذ َا؟!‬
‫ل‪" :‬أن ْتُم ُ ال ّذ ِي َ‬‫ل الل ّه ِ ﷺ إليه ِم‪ ،‬ف َقا َ‬ ‫ج أبَد ًا‪ ،‬فَجَاء َ ر َسو ُ‬
‫ل النِّس َاء َ فلا أت َزَوّ ُ‬ ‫ل آخَر ُ‪ :‬أن َا أع ْتَزِ ُ‬ ‫وقا َ‬
‫ج النِّس َاءَ‪ ،‬فم َن رَغِبَ عن‬ ‫أم َا والل ّه ِ إن ِ ّي ل َأخْ ش َاك ُ ْم لِل ّه ِ وأتْق َاك ُ ْم له‪ ،‬لـَكِن ِ ّي أصُوم ُ وأفْط ِر ُ‪ ،‬وأصَل ِّي وأرْقُد ُ‪ ،‬وأت َزَوّ ُ‬
‫فليس م ِن ِ ّي")‪ ،‬أخرج َه ُ البخارّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫َ‬ ‫سُن ّتي‬

‫ل في العبادة؛ حت ّى يستطي َع الواحد ُ منهم المداومة َ على و ْردِ‬


‫‪-‬كان من ج ُملة ِ تربية ِ الن ّب ِيّ ﷺ لأصحابه‪ :‬الاعتدا ُ‬
‫رت ظروفُه ُ‪ ،‬وكذلك ترك ُ الز يادة في العبادة التي قد تضر ّ بصاحبها في حال كِبَر ِ سنِه ِ‪ ،‬ومن‬
‫عبادتِه ِ مهما تغي ّ ْ‬
‫ذلك ما جاء في تتمة هذا الحديث؛ يقول عبد الل ّه بن عمرو ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪:-‬‬

‫ل؛‬
‫ل م ِن رَج ُ ٍ‬
‫ل‪ :‬نِعْم َ الر ّج ُ ُ‬
‫َب‪ ،‬ف َكانَ يَتَع َاهَد ُ كَن ّت َه ُ‪ ،‬فَيَسْألُهَا عن بَعْلِه َا‪ ،‬فَتَق ُو ُ‬
‫حس ٍ‬
‫حنِي أبِي امْرَأة ً ذ َاتَ َ‬
‫ك َ‬
‫‪(-‬أن ْ َ‬
‫ل‪ :‬الْقَنِي به‪ ،‬فَلَق ِيت ُه ُ‬
‫ك عليه ذَك َر َ للن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬ف َقا َ‬ ‫ل َ ْم يَط َأْ لَنَا ف ِرَاشًا‪ ،‬ول َ ْم يُف َت ّ ِْش لَنَا كَنَف ًا مُنْذ ُ أتَي ْنَاه ُ‪ ،‬فَلَم ّا طَا َ‬
‫ل ذل َ‬
‫ل ش َ ْه ٍر‬
‫م في ك ُ ّ ِ‬
‫ل‪" :‬ص ُ ْ‬
‫ل لَيْلَة ٍ‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪ :‬ك ُ ّ‬
‫تخْت ِم ُ؟"‪ ،‬قا َ‬
‫وكيف َ‬
‫َ‬ ‫ل‪" :‬‬
‫ل يَو ٍم‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪ :‬ك ُ ّ‬
‫كيف تَصُوم ُ؟"‪ ،‬قا َ‬
‫َ‬ ‫ل‪" :‬‬
‫بَعْد ُ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫م ثَلَاثَة َ أي ّا ٍم في الجم ُُعَة ِ"‪ ،‬قُلتُ ‪:‬‬
‫ل‪" :‬ص ُ ْ‬
‫ق أكْ ثَر َ م ِن ذلكَ‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪ :‬قُلتُ ‪ :‬أطِي ُ‬ ‫ثَلَاثَة ً‪ ،‬واق ْرَأ ِ القُر ْآنَ في ك ُ ّ ِ‬
‫ل ش َ ْهرٍ"‪ ،‬قا َ‬
‫ل‬
‫ض َ‬
‫م أف ْ َ‬
‫ل‪" :‬ص ُ ْ‬
‫ق أكْ ثَر َ م ِن ذلكَ‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪ :‬قُلتُ ‪ :‬أطِي ُ‬
‫م يَوْم ًا"‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪" :‬أفْطِر ْ يَوم َيْنِ وص ُ ْ‬
‫ق أكْ ثَر َ م ِن ذلكَ‪ ،‬قا َ‬
‫أطِي ُ‬
‫ل الل ّه ِ‬ ‫سب ِْع لَيَا ٍ‬
‫ل م َّرة ً"‪ .‬فَلَي ْتَنِي قَبِل ْتُ ر ُخْ صَة َ ر َسو ِ‬ ‫ل َ‬ ‫صوْم َ د َاوُد َ‪ :‬صِيَام َ يَو ٍم‪ ،‬وإفْطَار َ يَو ٍم‪ ،‬واق ْرأْ َ في ك ُ ّ ِ‬
‫الصّ و ْ ِم َ‬
‫ن بالنّهَارِ‪ ،‬والذي يَقْرَؤُه ُ يَعْرِضُه ُ‬ ‫ن القُر ْآ ِ‬
‫سب ْ َع م ِ َ‬
‫ض أه ْلِه ِ ال ّ‬ ‫ن يَقْرَأ علَى بَعْ ِ‬ ‫ﷺ؛ وذ َاك َ أن ِ ّي كَبِرْتُ وضَعُفْتُ ‪ ،‬ف َكا َ‬
‫‪- 87 -‬‬
‫ل‪ ،‬وإذ َا أر َاد َ أ ْن يَتَقَو ّى أفْطَر َ أي ّام ًا وأحْ ص َى‪ ،‬وصَام َ مِثْلَه ُنّ ك َرَاهية َ أ ْن‬
‫َف عليه بالل ّي ْ ِ‬
‫ن النّهَارِ؛ لِي َكونَ أخ ّ‬
‫مِ َ‬
‫يَتْرُك َ شيئًا فَار َقَ الن ّبيّ ﷺ عليه)‪.‬‬

‫ن الن ّبيّ ﷺ وجّه َ عبد الل ّه بن عمرو ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬باستحضار هدي نب ٍ ّي من‬
‫‪-‬الشاهد ُ من الحديث أ ّ‬
‫حرص عليه المؤمنُ؛ وهو استحضار ُ هديَ‬
‫الأنبياء فجعله أنموذج ًا ومعيار ًا في العبادة‪ ،‬وهذا مما ينبغي أ ْن ي َ‬
‫الأنبياء في مختلف أحواله وشؤونه‪ ،‬ومن الوسائل التي تُعزز قيمة َ هدي الأنبياء في نفس المؤمن‪ :‬عنايت ُه ُ‬
‫ق بهما من علو ٍم‪.‬‬
‫بالوحي؛ كتاب الل ّه وسُن ّة رسوله ﷺ وما يتعل ّ ُ‬

‫الصيام والذكر والقيام يسير ًا في يومه وليلته؛ حت ّى يستطي َع‬


‫ن و ْرد ُ المؤمن من ِّ‬
‫‪-‬ومما يستفاد ُ من الحديث أ ْن يكو َ‬
‫رت ظروف ُه ُ الاجتماعية والصحية‪ ،‬وكل ّما اعتنى‬
‫ل الحياة وتقل ّباتُها‪ ،‬ومهما تغي ّ ْ‬
‫المداومة َ عليه مهما شغلت ْه ُ شواغ ُ‬
‫المصلح بالمعاني الإيمانية التزكو ية والعلوم المرتبطة بالوحي وبإحياء الهمم والعزائم في نفوس المتربين =كل ّما‬
‫ل هذه‬
‫ج فيه إلى مث ِ‬
‫ل إلى حدٍ يُحتا ُ‬
‫انعكس هذا على ز يادة المستوى الإيماني عند َ المتربين‪ ،‬الذي قد يص ّ‬
‫َ‬
‫تضبط أمرَ الغلو ‪-‬الز يادة المضرة‪ -‬في العبادة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫المنهجيات التي‬

‫‪- 88 -‬‬
‫ِ‬
‫الإصلاح والدعوة ِ‬ ‫ل‬
‫المحاضرة الرابعة عشر‪ :‬فض ُ‬
‫ُب م َنْ هَذِه ِ صفت ُه ُ‬
‫بابُ القدوة ِ فِي الدي ِن وح ِّ‬
‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ل عنوا ِ‬
‫تفصي ُ‬
‫حث على أ ْن يكونَ‬
‫‪-‬يُقصد ُ بهذا الباب أمران‪ :‬الأوّل‪ :‬إثباتُ وجود القدوات والأئمة في الد ِّين‪ ،‬والثاني‪ :‬ال ّ‬
‫الإنسانُ قدوة ً في الد ِّين‪.‬‬
‫‪-‬والقدوة ُ في الد ِّين على أحدِ قسمين‪:‬‬
‫الأوّل‪ :‬القدوة ُ الشمولية ُ؛ أ ْن يكونَ الإنسانُ قدوة ً في عامّة شأنه؛ هديه وصلاته وأخلاقه وعلمه وغير ذلك‪،‬‬
‫وهذه القدوة ُ ليست قدوة ً مطلقة ً إلا في شأن الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬أمّا سواه ُ فالاقتداء ُ به مقي ّدٌ بموافقة هدي الن ّب ِيّ‬
‫ٍ‬
‫واسع بميراث الن ّب ِيّ ﷺ‪.‬‬ ‫لصاحب علم ٍ‬
‫ِ‬ ‫ﷺ‪ ،‬وهذه القدوة ُ لا تكونُ إلا‬
‫شترط في صاحبها العلم ُ الواس ُع الشموليّ‪.‬‬
‫باب معي ّنٍ؛ وهذه القدوة ُ لا ي ُ ُ‬
‫الثانـي‪ :‬القدوة ُ الجزئية ُ في ٍ‬

‫محبًا لأهل‬
‫ن ُ‬
‫أي‪ :‬إذا لم ْ يتيسرْ للإنسان أ ْن يكونَ قدوة ً‪ ،‬فلا يفوتن ّه ُ أ ْن يكو َ‬
‫ُب م َنْ هَذِه ِ صفت ُه ُ)‪ْ :‬‬
‫‪-‬قوله‪( :‬وح ِّ‬
‫العلم والقدوة في الد ِّين‪.‬‬
‫‪-‬ويكونُ الاقتداء ُ في الد ِّين بأمرين‪:‬‬
‫اس بذلك‪.‬‬
‫حث على الخير؛ في َقتديَ الن ّ ُ‬
‫أي‪ :‬بالدعوة وال ِّ‬
‫الأوّل‪ :‬الاقتداء ُ بالقول؛ ْ‬
‫الثانـي‪ :‬الاقتداء ُ بالعمل؛ أ ْن يكونَ الإنسانُ قدوة ً بعمله‪ ،‬فيتب َع الن ّاس خُطاه وهديه‪.‬‬
‫شاطبيّ ‪-‬‬
‫‪-‬والأكمل ُ هو الجم ُع بين الأمرين؛ بأ ْن يكونَ الإنسانُ إمام ًا في الد ِّين بقوله وبعمله‪ ،‬وقد بي ّنَ الإمام ُ ال ّ‬
‫منتصب لهم بقول ِه ِ وفعل ِه ِ‪ ،‬فإن ّه وارثُ الن ّب ِيّ ﷺ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ن الد ِّي ِن‬
‫س في بيا ِ‬
‫رحمه الل ّه‪ -‬ذلك؛ فقالَ‪( :‬المنتصبُ للن ّا ِ‬
‫الموروث)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫والن ّبيّ ﷺ كان مبينًا بقول ِه ِ وفعل ِه ِ؛ فكذلك الوارثُ لا ب ُدّ أ ْن يقوم َ مقام َ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ن ال ْمُسْل ِمِينَ"‪:‬‬
‫ل ِإن ّنِي م ِ َ‬ ‫ن قَوْل ًا مِّم ّن د َعَا ِإلَى الل ّه ِ و َعَم ِ َ‬
‫ل صَالِ حاً و َقَا َ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬وَم َنْ أحْ س َ ُ‬
‫ت الآية ُ مقام ًا من مقامات القدوة في الد ِّين؛ وهو مقام ُ الدعوة إلى الل ّه‪ ،‬ومفهوم ُ الدعوة إلى الل ّه‬
‫‪-‬ذكر ْ‬
‫ل فيه أيضًا‬
‫وحث المسلمين على الخير‪ ،‬ويدخ ُ‬
‫ّ‬ ‫ل فيه دعوة ُ غير المسلمين‪ ،‬ودعوة ُ‬
‫مفهوم ٌ واس ٌع في دلالته؛ يدخ ُ‬
‫قضية ُ الإمامة والقدوة؛ بأ ْن يكونَ الإنسانُ رأسًا في الخير‪.‬‬
‫‪- 89 -‬‬
‫ن‬
‫أي‪ :‬لا أحد َ أحس ُ‬
‫خ السعديّ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره للآية‪( :‬هذا استفهام ٌ بمعنى النفي المتقرر؛ ْ‬ ‫ل الشي ُ‬
‫‪-‬يقو ُ‬
‫بتعليم الجاهلين‪ ،‬وو ْعظِ الغافلين والمعرضين‪ ،‬ومجادلة ِ‬
‫ِ‬ ‫أي‪ :‬كلام ًا وطر يقة ً وحالة ً "مِم ّنْ د َعَا ِإلَى الل ّه ِ"‬‫قول ًا؛ ْ‬
‫حث عليها‪ ،‬وتحسينها مهما أمكن‪ ،‬والزجر عما نهى الل ّه عنه‪،‬‬
‫المبطلين‪ ،‬بالأمر بعبادة الل ّه‪ ،‬بجميع أنواعها‪،‬وال ِّ‬
‫جبُ ترك َه ُ‪ ،‬خصوصًا من هذه‪ :‬الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسين ُه ُ‪ ،‬ومجادلة‬
‫ق ي ُو ِ‬
‫ل طر ي ٍ‬
‫وتقبيحه بك ّ ِ‬
‫أعدائه بالتي هي أحسن‪ ،‬والنهي عما يضاد ُه ُ من الـكفر والشرك‪ ،‬والأمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ .‬ومن‬
‫ل رحمته‪ ،‬وذكر ِ أوصاف كماله‪،‬‬
‫سع َة ِ جوده‪ ،‬وكما ِ‬
‫الدعوة إلى الل ّه‪ :‬تحبيب ُه ُ إلى عباده‪ ،‬بذكر ِ تفاصيل نعمه‪ ،‬و َ‬
‫سن ّة رسوله ﷺ)‬
‫ونعوت جلاله‪ .‬ومن الدعوة إلى الل ّه‪ :‬الترغيبُ في اقتباس العلم واله ُدى من كتاب الل ّه و ُ‬
‫ن أ ْن يكونَ فيها‬
‫سعة َ الأبواب التي ي ُمك ُ‬
‫ولذا؛ إذا فَهِم َ الإنسانُ مفهوم َ الدعوة إلى الل ّه بهذه الشمولية‪ ،‬أدرك َ ِ‬
‫قدوة ً في الدين‪.‬‬
‫ل فيها القدوة ُ العملية ُ؛ أ ْن يكونَ‬
‫ن ال ْمُسْل ِمِينَ"‪ :‬صورة ٌ من صورِ الاعتزازِ‪ ،‬ويدخ ُ‬
‫ل ِإن ّنِي م ِ َ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬و َقَا َ‬
‫الإنسانُ قدوة ً بعمله‪.‬‬
‫ن ال ْمُسْل ِمِينَ" فهو ثناء ٌ على‬
‫ل ِإن ّنِي م ِ َ‬
‫‪-‬قال الإمام ُ الطاهر ُ ابن عاشور ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره‪( :‬وأمّا‪" :‬و َقَا َ‬
‫ل‬
‫المسلمين بأ ّنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بينَ المشركين ولم يتستروا بالإسلام‪ ،‬والاعتزاز ُ بالد ِّين عم ٌ‬
‫ووضحوا أحكام َ الشر يعة واجتهدوا‬
‫ّ‬ ‫صالح ٌ‪ ،‬وفي هذه الآية ِ منزعٌ عظيم ٌ لفضيلة ِ علماء الد ِّين؛ الذين بي ّنوا الس ُن َنَ‬
‫ل إلى مرادِ الل ّه ِ)‪.‬‬
‫ص ِ‬
‫في التو ّ‬
‫ف‬‫ل" م ُؤَكِّد ًا عِنْد َ المُخال ِ ِ‬
‫أي‪" :‬وقَا َ َ‬‫ن ال ْمُسْل ِمِينَ"‪ْ :‬‬
‫ل ِإن ّنِي م ِ َ‬
‫‪-‬قال الإمام ُ الب ِقاعيّ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره‪"( :‬و َقَا َ‬
‫ك لا‬ ‫صفَة ِ الإسْ لا ِم م ُت َظاه ِرًا بِذَل ِ َ‬‫أي‪ :‬الرّاسِ خ ِينَ في ِ‬ ‫ن المُسْل ِمِينَ"‪ْ :‬‬ ‫ِف قاطِع ًا لِطَم َِع الم ُ ْف ِ‬
‫سدِ ف ِيه ِ‪" :‬إن ّنِي م ِ َ‬ ‫والمُؤال ِ‬
‫َخاف في الل ّه ِ لَوْم َة َ لا ِئ ٍم)‪.‬‬
‫ي ُ‬

‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َ َ‬


‫جعَل ْنَا مِنْه ُ ْم أئِم ّة ً يَهْد ُونَ ب ِأ ْمر ِن َا لَم ّا صَب َر ُوا وَك َانُوا ب ِآي َاتنَِا يُوق ِن ُونَ"‪:‬‬

‫صل إلى منزلة الإمامة؛ وهو الصّ بر‬


‫‪-‬تُبيِّنُ هذه الآية ُ ع ّدة َ أمورٍ؛ منها‪ :‬أحوال الأئمة القدوات‪ ،‬والطر يق الم ُو ِ‬
‫واليقين‪ ،‬ودور الإمام؛ وهو هداية ُ الن ّاس بالإرشاد والتوجيه والدلالة على الخير‪ ،‬ومرجعية الإمام؛ وهي‬
‫الوحي‪.‬‬
‫مرتبط بالصّ بر واليقين ارتباطًا وثيق ًا؛ ومن ذلك قول‬
‫ٌ‬ ‫ن العلم َ‬
‫‪-‬وفي الطر يق الموصِل لمنزلة الإمامة؛ نج ْد أ ّ‬
‫السعدي في تفسيره‪( :‬وإن ّما نالوا هــذه الدرجة َ العاـلية َ بالصّ ــبر على التعل ّم والتعليم‪ ،‬والدعــوة إلى اللّه‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫الشيخ‬

‫‪- 91 -‬‬
‫والأذى في سبيله‪ ،‬وكفوا أنفس َهم عن جماحها في المعاصي‪ ،‬واسترسالها في الشهوات‪.‬‬
‫أي‪ :‬وصلوا في الإيمان بآيات اللّه‪ ،‬إلى درجة ِ اليقين‪ ،‬وهو العلم ُ التامّ‪،‬‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬وَك َانُوا ب ِآي َاتنَِا يُوق ِن ُونَ"‪ْ :‬‬
‫ل عن أدلتها المفيدة‬
‫الموجبُ للعمل‪ ،‬وإن ّما وصلوا إلى درجة ِ اليقين‪ ،‬لأ ّنهم تعلموا تعل ّمًا صحيح ًا‪ ،‬وأخذوا المسائ َ‬
‫لليقين)‪.‬‬

‫الآية الثالثة‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َاجْ ع َل ْنَا لِل ْمُت ّق ِينَ ِإم َام ًا"‪:‬‬

‫أي‪ :‬أ ْوصِل ْنا يا ر ب ّنا إلى هذه الدرجة العالية؛ درجة ِ‬
‫خ السعديّ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره‪ْ ( :‬‬
‫‪-‬يقول الشي ُ‬
‫كم ّل من عباد الل ّه الصالحين‪ ،‬وهي درجة ُ الإمامة في الد ِّين‪ ،‬وأ ْن يكونوا قدوة ً للمت ّقين في‬
‫الصديقين والـ ُ‬
‫ل الخير خلف َهم‪ ،‬في َهدون ويهتدون‪ .‬ومن‬ ‫أقوالهم وأفعالهم‪ ،‬يُقتدى بأفعالهم و ي ُطمئ ّن لأقوالهم ويسير ُ أه ُ‬
‫ببلوغ شيء ٍ دعاء ٌ بما لا يتم ّ إلا ّ به‪ ،‬وهذه الدرجة ُ ‪-‬درجة الإمامة في الد ِّين‪ -‬لا تتم ّ إلا ّ‬‫ِ‬
‫ن الدعاء َ‬
‫المعلوم أ ّ‬

‫بالصّ بر واليقين؛ كما قال تعالى‪" :‬وجعلناهم أئِم ّة ً يهدونَ بأمر ِنا لم ّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنونَ"‪ :‬فهذا الد ّعاء ُ‬
‫ل صاحِب َه‬
‫ص ُ‬
‫يستلزم ُ من الأعمال والصّ بر على طاعة ِ الل ّه وعن معصيتِه ِ وأقدارِه ِ المؤلمة ومن العلم التا ِمّ الذي ي ُو ِ‬
‫سل)‪.‬‬
‫ق بعد الر ّ ُ‬
‫درجات الخَل ْ ِ‬
‫ِ‬ ‫ن من‬
‫إلى درجة ِ اليقين خير ًا كثير ًا وعطاء ً جز يل ًا‪ ،‬وأ ْن يكونوا في أعلى ما ي ُمك ُ‬

‫ن‬
‫ل الل ّه ﷺ قال‪" :‬م َن د َعا إلى هُدًى‪ ،‬كانَ له م ِ َ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ن رسو َ‬

‫ن الإ ْث ِم‬
‫ن عليه م ِ َ‬
‫ك م ِن أجُورِه ِ ْم شيئًا‪ ،‬وم َن د َعا إلى ضَلالَة ٍ‪ ،‬كا َ‬
‫ُص ذل َ‬
‫ل أجُورِ م َن تَبِع َه ُ‪ ،‬لا يَنْق ُ‬
‫جر ِ مِث ْ ُ‬
‫الأ ْ‬
‫ك م ِن آثامِه ِ ْم شيئًا"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ُص ذل َ‬
‫ل آثا ِم م َن تَبِع َه ُ‪ ،‬لا يَنْق ُ‬
‫مِث ْ ُ‬

‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬م َن سَنّ في الإسْ لَا ِم‬ ‫الحديث الثانـي‪ :‬عن جرير بن عبد الل ّه ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬قا َ‬
‫ل رسو ُ‬
‫ُص م ِن أجُورِه ِ ْم ش َيءٌ‪ ،‬وَم َن سَنّ في‬ ‫ل بهَا بَعْدَه ُ‪ ،‬م ِن غيرِ أ ْن يَنْق َ‬ ‫جر ُ م َن عَم ِ َ‬‫جر ُه َا و َأ ْ‬
‫حسَن َة ً‪ ،‬فلََه ُ أ ْ‬
‫سُن ّة ً َ‬
‫ُص م ِن أ ْوز َارِه ِ ْم ش َيء ٌ"‪،‬‬
‫ل بهَا م ِن بَعْدِه ِ‪ ،‬م ِن غيرِ أ ْن يَنْق َ‬
‫الإسْ لَا ِم سُن ّة ً سَي ِّئ َة ً‪ ،‬كانَ عليه وِ ْزر ُه َا وَوِ ْزر ُ م َن عَم ِ َ‬
‫أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ق القدوة في الد ِّين ولو لم يكنْ واس َع العلم‪،‬‬
‫ن القدوة الجزئية؛ إ ْذ يفتحان للمسلم أف َ‬
‫‪-‬هذان الحديثان في بيا ِ‬
‫اس إلى فعلها؛ كما جاء‬ ‫َن سُن ّة ً في الخير؛ فيُبادر ُ الن ّ ُ‬‫ل للإنسان بأ ْن يوفق َه ُ الل ّه ُ إلى س ّ ِ‬ ‫ن أ ْن يحص َ‬ ‫فالاقتداء ُ يُمك ُ‬
‫ل‪ :‬فَجَاءَه ُ‬‫ص ْدرِ النّهَارِ‪ ،‬قا َ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ في َ‬ ‫في تتمة حديث جرير بن عبد الل ّه ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ك ُن ّا عِنْدَ ر َسو ِ‬
‫ُوف‪ ،‬عَامّتُه ُ ْم م ِن م ُضَر َ‪ ،‬بَلْ ك ُل ّه ُ ْم م ِن م ُضَر َ‪ ،‬فَتَمَع ّر َ‬ ‫مج ْتَابِي النِمّا َرِ أوِ الع َبَاءِ‪ ،‬م ُتَق َلِّد ِي ال ّ‬
‫سي ِ‬ ‫حف َاة ٌ ع ُرَاة ٌ‪ُ ،‬‬
‫قَوْم ٌ ُ‬
‫خطَبَ‬
‫ل ث ُم ّ خَرَجَ‪ ،‬فأم َرَ بلَال ًا فأذّنَ و َأقَام َ‪ ،‬فَصَل ّى ث ُم ّ َ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ لِما ر َأى به ِ ْم م ِ َ‬
‫ن الف َاقَة ِ‪ ،‬فَدَخ َ َ‬ ‫وَجْه ُ ر َسو ِ‬

‫‪- 90 -‬‬
‫ن الل ّه َ ك َانَ عَلَيْك ُ ْم‬
‫خر ِ الآيَة ِ‪ِ " ،‬إ ّ‬
‫حدَة ٍ" إلى آ ِ‬
‫س و َا ِ‬
‫اس ات ّق ُوا ر َب ّكُم ُ ال ّذ ِي خ َلَقَك ُ ْم م ِنْ ن َ ْف ٍ‬
‫ل‪"( :‬ي َا أ ّيهَا الن ّ ُ‬
‫ف َقا َ‬
‫ل م ِن دِينَارِه ِ‪،‬‬ ‫ص ّدقَ رَج ُ ٌ‬‫َت لِغَدٍ و َات ّق ُوا الل ّه َ"‪ ،‬ت َ َ‬ ‫ْس م َا ق َ ّدم ْ‬
‫ر َق ِيبًا"‪ ،‬و َالآيَة َ ال ّتي في الحَشْرِ‪" :‬ات ّق ُوا الل ّه َ و َل ْتَنْظُر ْ نَف ٌ‬
‫ن‬‫ل مِ َ‬ ‫ل‪ :‬فَجَاء َ رَج ُ ٌ‬‫ِق تَم ْرَة ٍ"‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪" :‬ولو بش ّ ِ‬ ‫َاع تَمْرِه ِ")‪ ،‬حت ّى قا َ‬ ‫َاع بُرِّه ِ‪ ،‬م ِن ص ِ‬ ‫م ِن دِرْهَمِه ِ‪ ،‬م ِن ثَو ْبِه ِ‪ ،‬م ِن ص ِ‬

‫طع َا ٍم‬
‫كوْم َيْنِ م ِن َ‬ ‫اس‪ ،‬حت ّى ر َأي ْتُ َ‬ ‫ل‪ :‬ث ُم ّ تَتَاب َ َع الن ّ ُ‬‫ك ّفه ُ تَعْجِز ُ عَنْهَا‪ ،‬بَلْ ق ْد عَجَز َْت‪ ،‬قا َ‬ ‫َت َ‬
‫الأنْصَارِ بصُر ّة ٍ ك َاد ْ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪" :‬م َن سَنّ في الإسْ لَا ِم‬
‫ل ر َسو ُ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ يَتَهَل ّ ُ‬
‫ل ك َأن ّه ُ مُذْه َب َة ٌ‪ ،‬ف َقا َ‬ ‫اب‪ ،‬حت ّى ر َأي ْتُ وَجْه َ ر َسو ِ‬
‫و َثيِ َ ٍ‬
‫ُص م ِن أجُورِه ِ ْم ش َيءٌ‪ ،‬وَم َن سَنّ في‬ ‫ل بهَا بَعْدَه ُ‪ ،‬م ِن غيرِ أ ْن يَنْق َ‬ ‫جر ُ م َن عَم ِ َ‬
‫جر ُه َا و َأ ْ‬
‫حسَن َة ً‪ ،‬فلََه ُ أ ْ‬
‫سُن ّة ً َ‬
‫ُص م ِن أ ْوز َارِه ِ ْم‬
‫ل بهَا م ِن بَعْدِه ِ‪ ،‬م ِن غيرِ أ ْن يَنْق َ‬
‫الإسْ لَا ِم سُن ّة ً سَي ِّئ َة ً‪ ،‬كانَ عليه وِ ْزر ُه َا وَوِ ْزر ُ م َن عَم ِ َ‬
‫ش َيء ٌ")‪.‬‬

‫ل‬
‫حث على الدعوة إلى الل ّه؛ لما في ذلك من أعما ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ل أجُورِ م َنْ تَبِع َه ُ"‪ :‬فيه‬
‫جر ِ مِث ْ ُ‬
‫ن الأ ْ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬ك َانَ لَه ُ م ِ َ‬
‫ح نائمًا أو منشغل ًا بشيء ٍ من أمور حياته‪،‬‬
‫ضاف إلى صحيفة المُصلح؛ فقد يكونُ المُصل ُ‬ ‫صالحة ٍ وأجو ٍر عظيمة ٍ ت ُ ُ‬
‫اس إلى الخير‪ ،‬فاقتدوا بما أرشدهم إليه من دروب الخير‪.‬‬
‫وتجري كتابة ُ الحسنات في صحيفته مما أرشد َ به الن ّ َ‬

‫ن الل ّه َ لا‬
‫ل الل ّه ﷺ يقول‪" :‬إ ّ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمرو ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪ :‬سمعتُ رسو َ‬

‫اس‬ ‫ض الع ُلَمَاءِ‪ ،‬حت ّى إذ َا ل َ ْم يُب ْ ِ‬


‫ق عَالم ًِا اتّ خَذ َ الن ّ ُ‬ ‫ِض العِلْم َ بقَب ْ ِ‬
‫ن الع ِبَادِ‪ ،‬ولـَكِنْ يَقْب ُ‬
‫ِض العِلْم َ ان ْتِز َاعًا يَن ْتَزِع ُه ُ م ِ َ‬
‫يَقْب ُ‬
‫جهّال ًا‪ ،‬فَسُئ ِلُوا فأف ْتَو ْا بغيرِ عِلْمٍ‪ ،‬فَضَل ّوا وأضَل ّوا"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫رُؤ ُوسًا ُ‬

‫سا ليقودونهم في الد ِّين؛ سواء ٌ كانوا من‬


‫ج إلى أ ْن يتخذوا رؤو ً‬
‫س الاحتيا َ‬
‫ن الن ّا ِ‬
‫ن من شأ ِ‬
‫‪-‬يُبيِّنُ هذا الحديثُ أ ّ‬
‫أهل العلم أو الجهل‪ ،‬لذا؛ كان من أكبر حالات الفتنة في الأمّة‪ :‬غيابُ العلم ِ بموت حملته؛ وهم العلماءُ‪،‬‬
‫س رؤوسهم من أهل الجهل؛ يسألونهم فيفتونهم بغير علم ٍ؛ في ُضلوا أنفسهم‬
‫فيترت ّبُ على ذلك اتخاذ ُ الن ّا ِ‬
‫ن لخطورة منزلة العلماء والأئمة لما فيها من رعاية ٍ وصيانة ٍ وحماية ٍ لشأن الد ِّين‪.‬‬
‫اس‪ ،‬وفي هذا بيا ٌ‬
‫و يضلون الن ّ َ‬

‫ل‪ :‬م َت َى‬


‫ساعَة ِ‪ ،‬فَق َا َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ل النبيّ ﷺ ع َ ِ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( -‬أ ّ‬
‫ن رَج ُل ًا سَأ َ‬
‫ل‪" :‬أن ْتَ مع م َن‬
‫ِب الل ّه َ ور َسوله ﷺ‪ ،‬فَق َا َ‬‫ل‪ :‬لا شيءَ‪ ،‬إلّا أن ِ ّي أح ّ‬ ‫ل‪" :‬وم َاذ َا أعْدَدْتَ لَهَا؟"‪ .‬قَا َ‬‫ساع َة ُ؟‪ ،‬قَا َ‬
‫ال ّ‬
‫ِب‬
‫ل أن ٌَس‪ :‬فأن َا أح ّ‬ ‫ل النب ِيّ ﷺ‪ :‬أن ْتَ مع م َن أحْ بَب ْتَ ‪ ،‬قَا َ‬‫ل أن ٌَس‪ :‬فَما فَرِحْ نَا بشيءٍ‪ ،‬ف َرَحَنَا بقَو ْ ِ‬
‫أحْ بَب ْتَ "‪ .‬قَا َ‬
‫ن معه ُ ْم بح ُب ِ ّي إ ي ّاهُمْ‪ ،‬وإ ْن ل َ ْم أعْم َلْ بمِث ْ ِ‬
‫ل أعْمَالِه ِ ْم)‪ ،‬أخرج َه ُ‬ ‫النبيّ ﷺ‪ ،‬وأب َا بَكْرٍ‪ ،‬وع ُم َر َ‪ ،‬وأ ْرجُو أ ْن أكُو َ‬
‫البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫‪- 92 -‬‬
‫ل من الأعراب عن‬
‫ل إلى ما ينفع ُه ُ؛ فلما سألَه ُ رج ٌ‬
‫جّه السائ َ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ كان في إجابته يو ِ‬
‫‪-‬يُفيد الحديثُ أ ّ‬
‫موعد الساعة ‪-‬وقد تكر ّر َ هذا السؤال من الأعراب لقلة ِ علمهم‪ ،-‬لم يُجب ْه ُ الن ّبيّ ﷺ وإن ّما أرشدَه ُ إلى ما ينفع ُه ُ؛‬
‫وهو الاستعداد ُ لها‪.‬‬
‫ل أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬فَما فَرِحْ نَا بشيءٍ‪ ،‬ف َرَحَنَا بقَوْ ِ‬
‫ل النب ِيّ ﷺ‪ :‬أن ْتَ مع م َن أحْ بَب ْتَ )‪ :‬فيه‬ ‫‪-‬قو ُ‬
‫ل الأعمال التي يرجوها عند الل ّه‪ ،‬هو حب ّه لل ّه‬ ‫ن من أج ّ ِ‬ ‫ن المرء َ مهما كان عابد ًا عامل ًا‪ ،‬إلا أ ّ‬
‫دلالة ٌ على أ ّ‬
‫ِب النبيّ ﷺ‪ ،‬وأب َا بَكْرٍ‪ ،‬وع ُم َر َ‪ ،‬وأ ْرجُو أ ْن‬
‫ولرسوله ﷺ ولمَن اتب َع هديه‪ ،‬ولذلك قال أنس مباشرة ً‪( :‬فأن َا أح ّ‬
‫حب القدوات من الأئمة‬
‫ِّ‬ ‫ن لمنزلة‬ ‫أكُونَ معه ُ ْم بح ُب ِ ّي إ ي ّاهُمْ‪ ،‬وإ ْن ل َ ْم أعْم َلْ بمِث ْ ِ‬
‫ل أعْمَالِه ِ ْم)‪ ،‬وهذا بيا ٌ‬
‫ن لمكانة أبي بكرٍ وعمر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬بينَ أصحاب رسول الل ّه ﷺ‪.‬‬
‫والصالحين‪ ،‬وبيا ٌ‬

‫عازب ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ أن ّه قال‪" :‬الأن ْصار ُ لا‬
‫ٍ‬ ‫الحديثان الخامس والسادس‪ :‬عن البراء بن‬
‫حبّه ُ ْم أحَب ّه ُ الل ّهُ‪ ،‬وم َن أبْغ َضَه ُ ْم أبْغَضَه ُ الل ّه ُ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ‬
‫يحِبّه ُ ْم إلّا مُؤْمِنٌ‪ ،‬ولا يُب ْغ ِضُه ُ ْم إلّا م ُنافِقٌ‪ ،‬فم َن أ َ‬
‫ُ‬
‫ق‬
‫ُب الأنْصَارِ‪ ،‬وآيَة ُ النِّف َا ِ‬
‫نح ّ‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ‪" :‬آيَة ُ الإيمَا ِ‬
‫ومسلم ٌ‪ ،‬وعن أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قالَ‪ :‬قا َ‬
‫ْض الأنْصَارِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫بُغ ُ‬

‫ن‬
‫جر ِي َ‬
‫ن ال ْمُه َا ِ‬
‫سابِق ُونَ الْأوّلُونَ م ِ َ‬
‫‪-‬سم ّى الل ّه ُ الأنصار َ ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬بهذا المُسمّى؛ فقال تعالى‪" :‬و َال ّ‬
‫حب الأنصار‪ ،‬ومن علامة الن ِّفاق‪ :‬بغض َهم؛ وسببُ‬
‫ّ‬ ‫ل الن ّبيّ ﷺ من علامات الإيمان‪:‬‬
‫و َالْأنصَارِ"‪ ،‬وجع َ‬
‫ذلك هو نُصرتُهم لل ّه ورسوله ﷺ؛ فإن ّما لا تكونُ الإضافة ُ إلى مكونات اله ُو ية الأساسية للمرء ِ إلا بالأمر ِ‬
‫ل له ُو ية هذه الثُلة من صحابة الن ّب ِيّ ﷺ‪.‬‬
‫يف الأوّ ُ‬
‫عاش لأجلِه ِ‪ ،‬لذا؛ كان م ُسمّى (الأنصار) التعر ُ‬
‫الذي َ‬

‫ن أولى م َن ينبغي أ ْن يُحبوا من القدوات‪ :‬هم م َن يتصفون بن ُصرة ِ الل ّه ورسوله ﷺ العاملين‬
‫‪-‬وعلى ذلك؛ فإ ّ‬
‫حب هؤلاء القدوات المصلحين من‬
‫ّ‬ ‫ن‬
‫ح أ ْن يُقالَ‪ :‬أ ّ‬
‫يص ُ‬
‫ل أمانة الد ِّين ومسؤولية الإصلاح‪ ،‬ولذا؛ ِّ‬
‫على حم ِ‬
‫علامات الإيمان‪ ،‬وكذلك؛ يُخشى على م َن يبغض ُهم أ ْن يكونَ فيه من علامات الن ِّفاق‪.‬‬

‫باب عمليّ؛ فقد تميزوا بعمل الن ُصرة لل ّه ورسوله ﷺ‪ ،‬وفي‬


‫ن بابَ القدوة التي تمي ّز َ به الأنصار ُ هو ٌ‬
‫لاحظ أ ّ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬ن ُ‬
‫ن التجديد َ في الد ِّين يكونُ بالعلم‬
‫ل ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫ن أ ْن يكونَ قدوة ً في الد ِّين بعمله؛ ومثا ُ‬
‫ن المرء َ يُمك ُ‬
‫نأ ّ‬
‫هذا بيا ٌ‬
‫ل مجدد ٌ في الإسلام بعمله‪ ،‬فلم يكن مم َن تفر ّغوا للتعليم‬
‫والعمل؛ فعمر بن عبد العزيز ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬هو أوّ ُ‬
‫الن ّاس وتدريسهم‪.‬‬

‫‪- 93 -‬‬
‫المحاضرة الخامسة عشر‪ :‬صفاتُ المُصلحينِ‬
‫صفات المُصلحينِ؛ وما ينبغي عليه العاملون للإسلا ِم‬
‫ِ‬ ‫بابُ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫صة ً محاضرة‪( :‬مركز ية صناعة الحم َل ََة والمصلحين)‪،‬‬
‫ل بسلسلة (مركز يات الإصلاح)؛ خا ّ‬
‫‪-‬هذا البابُ متص ٌ‬
‫وهذا البابُ في بيان صفاتهم‪ ،‬وهذا أحد ُ أهداف متن (المنهاج من ميراث الن ّبُو ّة)؛ وهو بيانُ طر يق‬
‫الإصلاح والن ّفع للد ِّين من هدي الن ّب ِيّ ﷺ‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫يح ِب ّونَه ُ‬
‫يحِبّه ُ ْم و َ ُ‬
‫ْف ي َأْ تِي الل ّه ُ بِقَو ْ ٍم ُ‬ ‫الآية الأولي‪ :‬قال تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫ن آم َن ُوا م َن يَرْتَدّ م ِنك ُ ْم ع َن دِينِه ِ فَسَو َ‬
‫ل الل ّه ِ يُؤ ْتيِه ِ‬ ‫ل الل ّه ِ وَل َا يَخَاف ُونَ لَوْم َة َ ل َا ِئ ٍم ذََٰل ِ َ‬
‫ك ف َضْ ُ‬ ‫ن فِي سَب ِي ِ‬
‫ن يُجَاهِد ُو َ‬
‫أذِل ّة ٍ عَلَى ال ْمُؤْم ِنِينَ أع ِّزة ٍ عَلَى الْك َافِرِي َ‬
‫س ٌع عَل ِيم ٌ"‪:‬‬
‫م َن يَش َاء ُ و َالل ّه ُ و َا ِ‬
‫نت الآية ُ صفاتَ‬
‫ق نصرة َ دينه على وجود م َن يحمله‪ ،‬وكذلك بي ّ ْ‬
‫ن من سُن ّة ِ الل ّه ‪-‬تعالى‪ :-‬أن ّه يُعل ّ ِ ُ‬
‫‪-‬تُفيد ُ الآية ُ أ ّ‬
‫َت هذه الصفاتُ واستقام َ عليا المصلحون =أتاهم عونُ الل ّه ومددُه ُ‬
‫جد ْ‬
‫هؤلاء الحم َل ََة المصحلين‪ ،‬فإذا ما و ِ‬
‫ت عليهم التحدياتُ والإشكالاتُ ‪.‬‬
‫َت لهم العقباتُ ‪ ،‬وسُهّ ِل َ ْ‬
‫وبصيرتُه ُ؛ فمُهّ ِد ْ‬

‫صة في زماننا هذا‪ -‬ليس الن ّظر َ في حجم التحديات والإشكالات‪ ،‬وإن ّما‬
‫ل الإصلاح ‪-‬خا ّ‬
‫ن سبي َ‬
‫‪-‬ولذا؛ فإ ّ‬
‫ل الإصلاح هو الاهتمام ُ بصناعة المصلحين وتهيئتُه ُم لاتباع سُنَنِ الأنبياء وسلوك طر يق المصلحين‪.‬‬
‫سبي ُ‬

‫يح ِب ّونَه ُ"‪ ،‬كما جاء َ في قول الن ّب ِيّ‬‫يحِبّه ُ ْم و َ ُ‬


‫تكشف الآية ُ عن أوّل صفات المصلحين؛ وهي صفة ُ المحبة لل ّه‪ُ " :‬‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬ثم‬

‫يح ِب ّه ُ الل ّه ُ‬
‫ِب الل ّه َ ور َسولَه‪ ،‬و ُ‬
‫يح ّ‬‫ح الل ّه ُ علَى يَد َيْه ِ‪ُ ،‬‬ ‫ﷺ في غزوة خيبر‪" :‬ل َأ ْعط ِي َ ّن هذِه الر ّايَة َ غَدًا رَج ُل ًا يَفْت َ ُ‬
‫ن‬
‫الظاهري لقدراتهم ومهاراتهم فحسب‪ ،‬بل إ ّ‬
‫ِّ‬ ‫ن صناعة َ المصلحين لا تكونُ بالإعداد‬
‫ور َسولُه ُ"‪ ،‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫صناعتَه ُم تكونُ ابتداء ً بالإعداد الباطني القلبي؛ فإ ْن لم تكنْ مركز ية ُ الت ّزكية حاضرة ً في بناء المصلحين ‪-‬من‬
‫ن هذا البناء َ يكونُ ناقصً ا وذا نتائج َ مشوهة ٍ‪ .‬وعلى ذلك؛ ينبغي أ ْن يُعتنى بسبيل‬
‫بداية الطر يق إلى آخره‪ ،-‬فإ ّ‬
‫يف تح ّدثَ عنه العلماء ُ المهتمون بقضية السلوك‪.‬‬
‫باب شر ٌ‬
‫الوصول إلى محبة الل ّه؛ وهذا ٌ‬

‫ل تحت َه ُ الصفاتُ القلبية؛ من الت ّزكية والإخبات والرجاء وغير ذلك‪.‬‬


‫يح ِب ّونَه ُ"‪ :‬تدخ ُ‬
‫يحِبّه ُ ْم و َ ُ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪ُ " :‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫جاءت صفاتُ المصلحين في سياق الاستبدال الإلهي لمَن ارتدوا عن دينهم‪ ،‬بم َن ينصرون دين‬
‫ْ‬ ‫فاـئدة‪:‬‬
‫صفات مركز ية ٌ في المصلحين؛ إ ْذ عليها شأنُ ومدار ُ نُصرة الد ِّين‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ن هذه الصفات‬
‫الل ّه‪ ،‬ولذلك؛ فإ ّ‬

‫ن للصفة الثانية من صفات المصلحين؛ وهي الجم ُع‬


‫ن"‪ :‬فيه بيا ٌ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬أذِل ّة ٍ عَلَى ال ْمُؤْم ِنِينَ أعِ ّزة ٍ عَلَى الْك َافِرِي َ‬
‫بينَ صفة الرحمة وخفض الجناح للمؤمنين‪ ،‬وبينَ صفة العز ّة والش ّدة على الكافرين‪ ،‬والمُوجبُ لهذه الصفة ‪-‬‬
‫ولغيرها من صفات المصلحين‪ -‬هو مبدأ العبودية ِ لل ّه ‪-‬تعالى‪ -‬ومحبة ُ ما يحب ُه ُ ويرضاه‪.‬‬

‫يكشف عن الصفة الثالثة والرابعة من صفات‬


‫ُ‬ ‫ل الل ّه ِ وَل َا يَخَافُونَ لَوْم َة َ"‪:‬‬
‫ن فِي سَب ِي ِ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬يُجَاهِد ُو َ‬
‫ل الن ّفس في سبيل الل ّه‪ ،‬وعدم ُ الخوف من لوم اللائمين أو كلام المغرضين‪.‬‬
‫المصلحين؛ وهما‪ :‬بذ ُ‬

‫الخـلاصة‪ :‬من أهم الدوافع المنشئة لصفات المصلحين والمُعينة على الثبات عليها ‪-‬بإذن الل ّه‪ :-‬المحبة ُ لل ّه ‪-‬‬
‫تعالى‪-‬؛ تلك المحبة المُحركة للم ُصلح والدافعة له لن ُصرة دينه والعمل والتضحية والصّ بر في سبيله‪ ،‬وليست المحبة َ‬
‫ف بحالات الهُيام والخواطر الروحية‪ ،‬والتي تدعو إلى الع ُزلة وترك العمل للد ِّين‪.‬‬
‫التي تُعر ّ ُ‬

‫ش ّداء ُ عَلَى ال ْـكُ ّفارِ رُحَمَاء ُ بَيْنَه ُ ْم ت َر َاه ُ ْم رُكّ ع ًا سُ ج ّدًا‬ ‫ل الل ّه ِ و َال ّذ ِي َ‬
‫ن مَع َه ُ أ ِ‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪ " :‬م ّحَم ّدٌ رّسُو ُ‬
‫ك م َثَلُه ُ ْم فِي الت ّوْر َاة ِ وَم َثَلُه ُ ْم فِي‬ ‫سجُودِ ذََٰل ِ َ‬ ‫ن الل ّه ِ وَرِضْ وَان ًا سِيم َاه ُ ْم فِي وُجُوهِه ِم مّ ِنْ أثَر ِ ال ّ‬ ‫ن ف َضْ ل ًا مّ ِ َ‬
‫يَب ْت َغ ُو َ‬

‫ِيظ بِه ِم ُ ال ْـكُ ّفار َ و َعَد َ الل ّه ُ‬


‫ظ فَاسْ ت َو َى عَلَى سُوقِه ِ يُعْجِبُ الز ّرّاع َ لِي َغ َ‬ ‫شطْأه ُ ف َآزَرَه ُ فَاسْ تَغْل َ َ‬ ‫ج َ‬ ‫ل ك َزَر ٍْع أ ْ‬
‫خر َ َ‬ ‫ال ِْإنج ِي ِ‬
‫جر ًا عَظ ِيم ًا"‪:‬‬
‫ات مِنْه ُم مّغْف ِرَة ً و َأ ْ‬ ‫ن آم َن ُوا و َعَم ِلُوا الصّ الِ ح َ ِ‬ ‫ال ّذ ِي َ‬
‫تكشف الآية ُ عن صفة ٍ من صفات المصلحين ‪-‬وهي مرتبطة ٌ أيضًا بالمحبة لل ّه‪-‬؛ وهي صفة ُ صلاح القلب‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ن الصيغة َ العملية َ عن فيضان‬ ‫وتزكيته وخشوعه؛ في قوله تعالى‪ " :‬ت َر َاه ُ ْم رُكّ ع ًا سُ ج ّدًا"؛ وفي ذلك بيا ٌ‬
‫ن إلى أ ّ‬
‫القلب بمحبة الل ّه لا يُعب ِّر ُ عنها إلا السجود‪ ،‬ولذلك؛ من أعظم صور إثبات المحبة‪ :‬الإكثار ُ من الصّ لاة ابتغاء َ ما‬
‫ل الجن ّة‪.‬‬ ‫عند َ الل ّه من الفضل والرضوان؛ وهو دخو ُ‬
‫ظ فَاسْ ت َو َى عَلَى سُوقِه ِ"‪ :‬فيه تشبيه ٌ لحال‬
‫شطْأه ُ ف َآزَرَه ُ فَاسْ تَغْل َ َ‬‫ج َ‬ ‫خر َ َ‬‫ل ك َزَر ٍْع أ ْ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬وَم َثَلُه ُ ْم فِي ال ِْإنج ِي ِ‬
‫ُحيط به صغارُه ُكي يآزرونَه ُ و يكث ِّرونَه ُ؛ في َقوى‬
‫الصحابة ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬في نُصرتهم للن ّب ِيّ ﷺ بالزرع الذي ي ُ‬
‫بهم‪.‬‬

‫ن اسْ ت َأْ جَرْتَ الْقَوِيّ الأم ِينُ"‪:‬‬ ‫الآية الثالثة‪ :‬قال تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬
‫ن خَيْر َ م َ ِ‬
‫ل فيها‪:‬‬ ‫‪ِّ -‬‬
‫توضح ُ الآية ُ صفة ً أخرى من صفات المصلحين؛ وهي صفة ُ القو ّة؛ ويدخ ُ‬

‫‪- 95 -‬‬
‫ن الل ّه َ اصْ طَف َاه ُ عَلَيْك ُ ْم وَز َادَه ُ ب َ ْسطَة ً فِي ال ْعِلْم ِ و َالْجِس ْ ِم"‪.‬‬
‫‪ -١‬القو ّة الماديـــة؛ كقو ّة البدن‪ ،‬كما قال الل ّه تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬
‫ن‬ ‫َب إلى الل ّه ِ م ِ َ‬
‫ن المُؤْم ِ ِ‬ ‫ن القَوِيّ خَيْر ٌ و َأح ّ‬
‫‪ -٢‬القو ّة المعنو ية؛ كقو ّة القلب‪ ،‬كما قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬ال ْمُؤْم ِ ُ‬
‫س‬
‫ِيف"؛ قال الإمام ُ النوويّ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في شرحه على الحديث‪( :‬و َال ْم ُرَاد ُ ب ِالْقُو ّة ِ ه ُنَا عَز ِيم َة ُ الن ّ ْف ِ‬
‫الضّ ع ِ‬
‫ف أكْ ثَر َ ِإقْد َام ًا عَلَى الْعَدُوِّ فِي الْجِه َادِ‪ ،‬و َأسْرَع َ خُر ُوج ًا‬
‫خرَة ِ‪ ،‬فَيَكُونُ صَاحِبُ هَذ َا ال ْو َصْ ِ‬
‫و َالْقَرِ يح َة ُ فِي أم ُورِ الْآ ِ‬
‫ل‬
‫ن ال ْمُن ْكَر ِ‪ ،‬و َالصّ بْرِ عَلَى الْأذ َى فِي ك ُ ّ ِ‬ ‫ُوف و َالنّهْ ِي ع َ ِ‬
‫ش ّد عَز ِيم َة ً فِي الْأ ْمر ِ ب ِال ْمَعْر ِ‬
‫ِإلَيْه ِ‪ ،‬وَذ َه َاب ًا فِي طَلَبِه ِ‪ ،‬و َأ َ‬
‫َات‪،‬‬ ‫َات الل ّه ِ ‪-‬تَع َالَى‪ ،-‬و َأ ْرغ َبَ فِي الصّ لَاة ِ و َالصّ و ْ ِم و َالْأ ْذك َارِ وَسَائِر ِ ال ْع ِبَاد ِ‬ ‫َاق فِي ذ ِ‬ ‫ل ال ْمَش ّ ِ‬
‫ذَلِكَ‪ ،‬و َاحْ تِم َا ِ‬
‫ك)‪.‬‬
‫نح ْو َ ذَل ِ َ‬
‫محَافَظَة ً عَلَيْهَا‪ ،‬و َ َ‬
‫و َأنْش ََط طَلَبًا لَهَا‪ ،‬و َ ُ‬

‫ض ِإن ِ ّي‬ ‫الآية الرابعة‪ :‬قال ‪-‬تعالى‪ -‬على لسان نبيه يُوسُف ‪-‬عليه السلام‪" :-‬قَا َ‬
‫ل اجْ عَلْنِي عَلَى خَز َائ ِ ِن الْأ ْر ِ‬
‫ِيظ عَل ِيم ٌ"‪:‬‬
‫حَف ٌ‬
‫حفظ لما سيتحملُه ُ‬
‫ل الأمانة َ وال َ‬
‫كرت الآية ُ صفتين من صفات المصلحين؛ وهما‪ :‬صفة ُ الحفظ؛ وتشتم ُ‬
‫‪-‬ذ ْ‬
‫ل فيه المُصلحُ‪.‬‬
‫ن المعرفة َ المتعل ِّقة َ بالسياق الذي سيعم ُ‬
‫ح من مسؤوليات‪ ،‬وصفة ُ العلم؛ وتتضم ُ‬
‫المُصل ُ‬

‫الآية الخامسة‪ :‬قال تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬


‫ن الل ّه َ اصْ طَف َاه ُ عَلَيْك ُ ْم وَز َادَه ُ ب َ ْسطَة ً فِي ال ْعِلْم ِ و َالْجِس ْ ِم"‪:‬‬
‫‪-‬تُؤكد ُ الآية ُ على ضرورة مركز ية صفت ْي القو ّة والعلم في السياق الإصلاحي‪.‬‬

‫ل الل ّه ِ وَم َا‬ ‫الآية السادسة‪ :‬قال تعالى‪" :‬وَك َأي ِّن مّ ِن ن ّبِ ٍ ّي قَات َ َ‬
‫ل مَع َه ُ رِ ب ّيِ ّونَ كَث ِير ٌ ف َمَا و َه َن ُوا لم َِا أصَابَه ُ ْم فِي سَب ِي ِ‬
‫ن"‪:‬‬
‫ِب الصّ ابِر ِي َ‬
‫يح ّ‬
‫ضَعُف ُوا وَم َا اسْ تَك َانُوا و َالل ّه ُ ُ‬

‫ن هذا‬
‫وردت فيه‪ ،‬وإ ّ‬
‫ْ‬ ‫فاـئدة ٌ منهجية ٌ‪ :‬من الضروري قب َ‬
‫ل الولوج في دراسة الآية‪ :‬استحضار ُ السياق التي‬

‫الطبري ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬بناء ً‬


‫ِّ‬ ‫ن جرير‬
‫ن الإمام َ اب َ‬ ‫الاستحضار َ مه ّم في ترجيح الأقوال عند َ المفسرين؛ ومن ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫ل مَع َه ُ رِ ب ّيِ ّونَ كَث ِير ٌ"‪ ،‬ثم أتى الاجتهاد ُ التفسيريّ ؛ هل‬
‫ق غزوة أحُدٍ؛ رجّ ح َ قراءة َ‪" :‬وَك َأي ِّن مّ ِن ن ّبِ ٍ ّي قَات َ َ‬
‫على سيا ِ‬
‫ل ربيِّين كثيرٍ مع نبيهم؟‬
‫ل نبيهم‪ ،‬أم المقصود؛ قَت ْ ُ‬
‫ل نب ٍ ّي‪ ،‬ومعه ربيِّون كثير ٌ فما وهنوا لخبر ِ مقت ِ‬
‫المقصود؛ قَت ْ ُ‬

‫جيش المسلمين بحالة ٍ من‬


‫ُ‬ ‫وردت الآياتُ في سياق غزوة أح ُد‪ ،‬بعدما أشي َع خبر ُ وفاة ِ الن ّب ِيّ ﷺ وأصيبَ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫اشتملت الآية ُ على ع ّدة فوائد؛ منها‪ :‬أهمية ُ معرفة واستحضار واستذكار‬
‫ْ‬ ‫التشت ّت والاضطراب والفرار؛ وقد‬
‫ن هذه الآيات نزلت في‬
‫قصص الأنبياء وحَمَلَة ِ الد ِّين الثابتين قبلنا والتأسي بهم عند َ الأزمات والشدائد؛ لأ ّ‬
‫سياق العتاب للمؤمنين الذي اضطربوا وتشتتوا وفروا يوم َ أح ُد‪.‬‬

‫‪- 96 -‬‬
‫ل الدم ُ على وجهه يوم َ أحُدٍ؛ استحضر َ ﷺ ما حدثَ لنب ٍيّ قبله؛ كما في حديث‬ ‫‪-‬ولم ّا أصيبَ الن ّبيّ ﷺ وسا َ‬
‫ن الأن ْب ِيَاء ِ ضَر َبَه ُ قَوْم ُه ُ‬
‫يحْكِي نَب ًِّي ّا م ِ َ‬
‫عبد الل ّه بن مسعود ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ك َأن ِ ّي أنْظ ُر ُ إلى الن ّب ِيّ ﷺ َ‬
‫ح الد ّم َ عن وجْ هِه ِ و يقولُ‪ :‬الل ّه ُ ّم اغْفِر ْ لِقَوْمِي؛ فإ ّنه ُ ْم لا يَعْلَم ُون)‪ ،‬فكان هذا الاستحضار ُ‬
‫فأ ْدمَوْه ُ‪ ،‬وهو يَمْس َ ُ‬
‫ل م َا نُثَب ِّتُ‬ ‫ك م ِنْ أنبَاء ِ الر ّ ُ‬
‫س ِ‬ ‫معينًا للن ّب ِيّ ﷺ على الصّ بر والثبات؛ كما قال الل ّه تعالى له ﷺ‪" :‬وَك ُلًّ ّا ن ّق ّ‬
‫ُص عَلَي ْ َ‬
‫بِه ِ ف ُؤَادَك َ وَج َاءَك َ فِي هََٰذِه ِ الْحَقّ وَمَوْعِظَة ٌ وَذِك ْر َى لِل ْمُؤْم ِنِينَ"‪.‬‬

‫‪-‬وعلى ذلك؛ فمن المهم‪ :‬إبقاء ُ سُن ّة ِ الاقتداء ِ بم َن قبلنا من الأنبياء ِ والمصلحين‪ ،‬واستحضار ُ أحوالهم حا َ‬
‫ل‬
‫الابتلاء‪ ،‬والن ّظر ُ في صفاتهم من الثبات والتماسك والصّ بر‪ ،‬والعمل على تطبيقها وغرسها في أنفسنا‪.‬‬

‫الآية السابعة‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َ َ‬


‫جع َل ْنَا مِنْه ُ ْم أئِم ّة ً يَهْد ُونَ ب ِأ ْمر ِن َا لَم ّا صَب َر ُوا وَك َانُوا ب ِآي َاتنَِا يُوق ِن ُونَ"‪:‬‬
‫ن منزلة َ القدوة والإمامة في الد ِّين لا تتأتى بدون توطينٍ دائ ٍم للن ّفس على الصّ بر؛ ومن‬
‫‪-‬تُؤكد ُ الآية ُ على أ ّ‬
‫ْض لِل ّه ِ يُورِثُهَا م َن يَش َاء ُ م ِنْ عِبَادِه ِ‬ ‫ل م ُوس َى لِقَوْمِه ِ اسْ ت َع ِين ُوا ب ِالل ّه ِ و َاصْ ب ِر ُوا ِإ ّ‬
‫ن الْأر َ‬ ‫شواهد ذلك‪ :‬قوله تعالى‪" :‬قَا َ‬
‫صِلة لهذه الإمامة‬ ‫ن الل ّه ُ لبني إسرائيل في الأرض؛ ذك َر َ خ ُلاصة َ الطر يق المو ّ‬ ‫ك َ‬ ‫و َالْع َاق ِب َة ُ لِل ْمُت ّق ِينَ"‪ ،‬ثم بعد َ أ ْن م ّ‬
‫ت‬
‫ض وَمَغ َارِ بَهَا ال ّتِي ب َارَكْناَ ف ِيهَا و َتَم ّ ْ‬
‫ن ك َانُوا ي ُ ْست َضْ عَف ُونَ مَش َارِقَ الْأ ْر ِ‬
‫والوراثة؛ فقال تعالى‪" :‬و َأ ْورَث ْنَا الْقَوْم َ ال ّذ ِي َ‬
‫ل بِمَا صَب َر ُوا"‪.‬‬
‫ك الْحُسْن َى عَلَى بَنِي ِإسْر َائيِ َ‬
‫كَل ِم َتُ ر َب ّ ِ َ‬
‫ح على طول مراحل الإصلاح‪.‬‬
‫ن الصّ بر َ من أهم الصفات التي ينبغي أ ْن تُصاحبَ المُصل َ‬
‫‪-‬ولذلك؛ فإ ّ‬

‫س كُونُوا عِبَاد ًا‬ ‫الآية الثامنة‪ :‬قال تعالى‪" :‬م َا ك َانَ لِب َشَرٍ أن يُؤ ْتيِ َه ُ الل ّه ُ الْكِتَابَ و َالْح ُ ْكم َ و َالن ّبُو ّة َ ث ُم ّ يَق ُو َ‬
‫ل لِلن ّا ِ‬
‫ن الل ّه ِ و َلََٰكِن كُونُوا ر َب ّانيِِّينَ بِمَا كُنتُم ْ تُع َل ِّم ُونَ الْكِتَابَ و َبِمَا كُنتُم ْ ت َ ْدر ُ ُ‬
‫سونَ"‪:‬‬ ‫ل ِّي م ِن د ُو ِ‬

‫ِس الآية ُ للمنهج الذي سار َ عليه الأنبياء ُ في صناعة المُصلحين؛ إ ْذ في الآية خطابُ الأنبياء إلى أتباعهم‬ ‫ؤس ُ‬
‫‪-‬ت ُ ّ‬
‫المؤمنين لي َكونوا ر ب ّانيين‪ ،‬والمعنى في لفظة (الر ّب ّاني ّة) معن ًى متعدٍ متجاوز ٌ للشخص في نفسه‪ ،‬إ ْذ الر ّب ّانُ هو‬
‫الذي يقود ُ غيره‪.‬‬

‫ل الإمام ُ الطبريّ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره‪( :‬فـ"الر ب ّانيِّون" إذ ًا‪ ،‬هم عماد ُ الن ّاس في الفقه والعلم وأمور‬
‫‪-‬كما قا َ‬
‫ل لهم‪ :‬كونوا‪ ،‬أ ّيها الن ّاس‪ ،‬سادة الن ّاس‪ ،‬وقادتهم في أمر دينهم‬
‫الد ِّين والدنيا‪ ،‬فمعنى الآية‪ :‬ولـكن يقو ُ‬
‫وندب‪ ،‬وسائر ما حواه ُ من‬
‫ٍ‬ ‫ض‬
‫ل وحرا ٍم‪ ،‬وفر ٍ‬
‫ودنياهم‪ ،‬ر ب ّانيِّين بتعليمكم إ ي ّاهم كتاب الل ّه وما فيه من حلا ٍ‬
‫معاني أمور دينهم‪ ،‬وبتلاوتكم إ ي ّاه ُ ودراسَت ِكموه)‪.‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫ن العلم َ والتعليم َ والدراسة َ تُوجبُ كوْنَ‬
‫ت الآية ُ على أ ّ‬
‫خ ص ّديق حسن خان في تفسير الآية‪( :‬فَد َل ّ ْ‬
‫ل الشي ُ‬
‫‪-‬قا َ‬
‫الإنسانُ ر ب ّان ًّي ّا؛ فم َنْ اشتغ َ‬
‫ل بذلك لا لهذا المقصودِ =فَق َ ْد ضاعَ علم ُه ُ وخ َاَبَ سعي ُه ُ)‪.‬‬

‫نج ْرانَ إلى‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن حذيفة َ بن اليمان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬جاء َ العاق ِبُ وال ّ‬
‫سيِّد ُ صاحِبا َ‬
‫ل أحَد ُهُما ل ِصاحِبِه ِ‪ :‬لا ت َ ْفع َلْ ؛ ف َوالل ّه ِ لئَ ِ ْن كانَ نَب ًِّي ّا فَلاع َن ّا‪ ،‬لا‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ ‪ ،‬يُر ِيدا ِ‬
‫ن أ ْن يُلاعِناه ُ‪ ،‬قالَ‪ :‬فقا َ‬ ‫ر َسو ِ‬
‫َث معنا إلّا‬
‫َث معنا رَج ُل ًا أم ِينًا‪ ،‬ولا تَبْع ْ‬
‫ك ما سَأل ْتَنا‪ ،‬وابْع ْ‬
‫ن ولا عَق ِبُنا م ِن بَعْدِنا‪ ،‬قالا‪ :‬إن ّا نُعْط ِي َ‬
‫نح ْ ُ‬
‫ح َ‬
‫نُفْل ِ ُ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬فقالَ‪" :‬ق ُ ْم يا أبا‬
‫أصحابُ ر َسو ِ‬
‫ف له ْ‬
‫أم ِينًا‪ ،‬فقالَ‪" :‬ل َأبْع َث َ ّن معك ُ ْم رَج ُل ًا أم ِينًا حَقّ أم ِينٍ"‪ ،‬فاسْ تَشْر َ َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪" :‬هذا أم ِينُ هذِه الأمّة ِ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ل ر َسو ُ‬ ‫ن الجَر ّ ِ‬
‫اح"‪ ،‬فَلَم ّا قام َ‪ ،‬قا َ‬ ‫ع ُبَيْدَة َ ب َ‬

‫بعض المصلحين على غيرهم؛ وهي صفة ُ‬


‫ُ‬ ‫ف بها المُصلحُ‪ ،‬وي ُرجّ ح ُ بها‬
‫‪-‬أبرز َ الحديثُ صفة ً من الصفات التي يُكل ّ ُ‬
‫لصفات أصحابِه ِ‪ ،‬وبالتالي؛ كان ﷺ يكل ّفُه ُم بالمهام بناء ً على‬
‫ِ‬ ‫ن الن ّبيّ ﷺ كان منتبهًا ومدرك ًا‬
‫الأمانة‪ ،‬ذلك أ ّ‬
‫صفات‪ ،‬ومتى فُقِد َ معنى الانتباه لصفات وقُدرات المتربين والطلاب في السياقات‬
‫ٍ‬ ‫ما يعلم ُه ُ فيهم من‬
‫أساس من أركان بناء المصلحين وتفعيلهم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ن‬
‫التربو ية =فَق َ ْد فُقِد َ رك ٌ‬

‫فاـئدة‪ :‬هذا المعنى من الانتباه لصفات وقُدرات الطلاب لن يتأتى إلا في بيئة ٍ تربو ية ٍ تقوم ُ على المشاركة‬
‫والتفاعل والصُحبة والق ُرب بينَ الشيخ المُربي وبينَ طلابه المتربين‪.‬‬

‫الحديث الثاني‪ :‬عن سهل بن سعدٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬


‫ن رسول الل ّه ﷺ قال يوم َ خيبر‪"( :‬ل َأ ْعط ِي َ ّن هذِه‬
‫اس يَد ُوكُونَ‬ ‫يح ِب ّه ُ الل ّه ُ ور َسولُه ُ"‪ ،‬قالَ‪ :‬فَبَاتَ الن ّ ُ‬
‫ِب الل ّه َ ور َسولَه‪ ،‬و ُ‬
‫يح ّ‬
‫ح الل ّه ُ علَى يَد َيْه ِ‪ُ ،‬‬ ‫الر ّايَة َ غَدًا رَج ُل ًا يَفْت َ ُ‬
‫ن‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ ك ُل ّه ُ ْم يَرْجُو أ ْن يُعْط َاه َا‪ ،‬ف َقالَ‪" :‬أي ْ َ‬
‫ن عَلِيّ ب ُ‬ ‫اس غَدَوْا علَى ر َسو ِ‬
‫ح الن ّ ُ‬ ‫لَي ْلَتَهُمْ‪ :‬أ ّيه ُ ْم يُعْط َاه َا؟ فَلَم ّا أصْ ب َ َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‬ ‫ق ر َسو ُ‬ ‫ص َ‬‫ل الل ّه ِ‪ -‬يَشْتَكِي عَي ْنَيْه ِ‪ ،‬قالَ‪" :‬فأ ْرسَلُوا إلَيْه ِ"‪ .‬ف َأتِي َ به فَب َ َ‬
‫أبِي طَال ٍِب؟"‪ ،‬فق ِيلَ‪ :‬هو ‪-‬يا ر َسو َ‬
‫ل الل ّهِ‪ ،‬أقَاتِلُه ُ ْم حت ّى‬‫ل عَلِيّ‪ :‬يا ر َسو َ‬ ‫في عَي ْنَيْه ِ ود َع َا له‪ ،‬فَبَر َأ حت ّى ك َأ ْن ل َ ْم يَكُنْ به و َ‬
‫جعٌ‪ ،‬فأ ْعط َاه ُ الر ّايَة َ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫يج ِبُ عليهم‬
‫حتِهِمْ‪ ،‬ث ُم ّ ا ْدعُه ُ ْم إلى الإسْ لَا ِم‪ ،‬وأخْبِرْه ُ ْم بما َ‬
‫ل بس َا َ‬
‫ك حت ّى تَنْزِ َ‬
‫يَكونُوا مِث ْلَنَا؟ ف َقالَ‪" :‬انْف ُ ْذ علَى رِسْ ل ِ َ‬
‫ك حُم ْر ُ الن ّع َ ِم")‪ ،‬أخرج َه ُ‬
‫ك م ِن أ ْن يَكونَ ل َ‬
‫حدًا‪ ،‬خَيْر ٌ ل َ‬ ‫َق الل ّه ِ ف ِيه ِ؛ ف َوَالل ّه ِ ل َأ ْن يَهْدِيَ الل ّه ُ ب َ‬
‫ك رَج ُل ًا وا ِ‬ ‫م ِن ح ّ ِ‬
‫البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫ن‬
‫ن من أبرزِ صفات المصلحين‪ :‬صفة َ المحبة لل ّه ورسوله ﷺ؛ كما قال تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫‪-‬يُؤكد ُ الحديثُ على أ ّ‬
‫يح ِب ّونَه ُ"‪.‬‬
‫يحِبّه ُ ْم و َ ُ‬
‫ْف ي َأْ تِي الل ّه ُ بِقَو ْ ٍم ُ‬
‫آم َن ُوا م َن يَرْتَدّ م ِنك ُ ْم ع َن دِينِه ِ فَسَو َ‬

‫‪- 98 -‬‬
‫ل إلا‬
‫ل الإنسانُ بصفة ٍ ‪-‬لا يُفضّ ُ‬
‫‪-‬كان الذين لم يُعطوا الراية مم َن يحبون الل ّه ورسوله ﷺ‪ ،‬ولـكن حينما يُفضّ ُ‬
‫ن عليًا‬
‫أي أ ّ‬
‫ك غيرِه ِ معه في نفس الصفة‪ ،‬فالمقصود ُ ‪-‬والل ّه أعلم‪ -‬هو الدرجة ُ في هذه الصفة؛ ْ‬
‫بها‪ -‬مع اشترا ِ‬
‫بن أبي طالب ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬كان مح ّقِق ًا للدرجة العالية من محبة الل ّه ورسوله ﷺ‪.‬‬

‫ن اليهود َ كانوا يسرفون في عداء الن ّب ٍيّ‬


‫ح حاصلٌ‪ ،‬وعلى الرغم من أ ّ‬
‫ن الفت َ‬
‫‪-‬على الرغم من إخبار الن ّب ِيّ ﷺ بأ ّ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ أوصى ًّ‬
‫علي ّا ‪-‬رضي الل ّه عنه‪-‬‬ ‫ﷺ وكانوا يحرضون قريش على البطش بالن ّب ٍيّ ﷺ وأصحابه؛ إلا أ ّ‬
‫َق‬
‫يج ِبُ عليهم م ِن ح ّ ِ‬
‫حتِهِمْ‪ ،‬ث ُم ّ ا ْدعُه ُ ْم إلى الإسْ لَا ِم‪ ،‬وأخْبِرْه ُ ْم بما َ‬
‫ل بس َا َ‬
‫ك حت ّى تَنْز ِ َ‬
‫فقال ﷺ‪" :‬انْف ُ ْذ علَى رِسْ ل ِ َ‬
‫ن المسلمين‬ ‫الل ّه ِ ف ِيه ِ"؛ والمعنى هنا أ ّنهم إذا أسلموا =يك َ‬
‫ُف عن قتالهم وتبقى لهم خيبر بخيراتها وثمراتها‪ ،‬مع أ ّ‬
‫ق العبودية لل ّه‪.‬‬
‫في حاجة ٍ وفاقة ٍ شديدة ٍ وقتئذ‪ ،‬وهذا من علامات ر ب ّاني ّة هذا الد ِّين؛ فالمقصد ُ هو تحقي ُ‬

‫أي‪:‬‬
‫ك حُم ْر ُ الن ّع َ ِم"؛ ْ‬
‫ك م ِن أ ْن يَكونَ ل َ‬‫حدًا‪ ،‬خَيْر ٌ ل َ‬‫ك رَج ُل ًا وا ِ‬
‫‪-‬ثم قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬ف َوَالل ّه ِ ل َأ ْن يَهْدِيَ الل ّه ُ ب َ‬
‫ل من الغنائم‪ ،‬وهذا المعنى‬ ‫ُحص َ‬
‫ن أ ْن ت ِّ‬‫ل ما يُمك ُ‬ ‫ليكنْ في قلبك محبة ُ أ ْن يستجيبوا لدعوتك فهو خير ٌ لك من ك ّ ِ‬
‫ل الفتحُ‪ ،‬وصُل ِحوا على ثمار النخل‬
‫ص َ‬
‫ح َ‬
‫يُبرز ُ مقصد َ تحقيق العبودية لل ّه‪ ،‬ومع ذلك لم يدخلوا في الإسلام و َ‬
‫وبقيت‬
‫ْ‬ ‫فكانت تذهبُ إلى المدينة‪ ،‬وبعد ذلك‪ :‬أجلاهم عمر بن الخطاب ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬من خيبر‪،‬‬
‫ْ‬
‫ديار ُه ُم إلى اليوم‪.‬‬
‫ل‬
‫صا بخيبر فقط؛ كما جاء َ في حديث بريد ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬كانَ ر َسو ُ‬ ‫‪-‬لم يكنْ شأنُ وصية القتال خا ًّ ّ‬
‫صتِه ِ بتَقْو َى الل ّهِ‪ ،‬وَم َن معه ُ م ِ َ‬
‫ن المُسْل ِمِينَ خَي ْر ًا‪ ،‬ث ُم ّ‬ ‫ش‪ ،‬أ ْو سَر ِي ّة ٍ‪ ،‬أ ْوصَاه ُ في خ َا ّ‬ ‫الل ّه ِ ﷺ إذ َا أمّرَ أم ِير ًا علَى جَي ْ ٍ‬
‫كف َر َ بالل ّهِ‪ ،‬اغ ُْزوا وَل َا تَغ ُل ّوا‪ ،‬وَل َا تَغْدِر ُوا‪ ،‬وَل َا تُمَث ِّلُوا‪ ،‬وَل َا‬
‫ل الل ّهِ‪ ،‬قَاتِلُوا م َن َ‬ ‫قالَ‪" :‬اغ ُْزوا باس ْ ِم الل ّه ِ في سَبي ِ‬
‫ل‪ -‬فأي ّتُه ُنّ ما أج َابُوك َ‬
‫ل ‪-‬أ ْو خِلَا ٍ‬
‫صا ٍ‬
‫خ َ‬
‫اث ِ‬
‫ن المُشْرِكِينَ‪ ،‬فَا ْدعُه ُ ْم إلى ثَل َ ِ‬
‫تَقْتُلُوا و َلِيدًا‪ .‬وإذ َا لَق ِيتَ عَدُوّك َ م ِ َ‬
‫ُف عنْه ْم")‪.‬‬
‫ُف عنْهمْ‪ ،‬ث ُم ّ ا ْدعُه ُ ْم إلى الإسْ لَا ِم‪ ،‬فإ ْن أج َابُوك َ‪ ،‬فَاق ْب َلْ منهمْ‪ ،‬وَك ّ‬
‫فَاق ْب َلْ منهمْ‪ ،‬وَك ّ‬

‫ل طائفة ٌ من أمّتي‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن معاو ية َ ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬قال‪ :‬سمعتُ رسو َ‬
‫ل الل ّه ﷺ يقول‪" :‬لا ت َزا ُ‬
‫قائمة ً بأمر ِ الل ّهِ‪ ،‬لا يَضُرّهم م َن خذلهم‪ ،‬ولا م َن خالفهم‪ ،‬حت ّى يأتى َ أمرُ الل ّهِ‪ ،‬وهم ظاه ِر ُونَ على الن ّا ِ‬
‫س"‪،‬‬
‫أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫ح بالخ ِذلان‬
‫ل المُصل ُ‬
‫ن من صفات المصلحين‪ :‬الثباتَ والاستمرار َ على أمر الإصلاح مهما قُوب ِ َ‬
‫‪-‬يُبيِّنُ الحديثُ أ ّ‬
‫ك بما جاء َ في كتاب الل ّه وسُن ّة رسوله ﷺ‪.‬‬
‫س ُ‬
‫ل على الل ّه‪ ،‬والتم ّ‬
‫أو المُخالفة‪ ،‬وكذلك الاعتماد ُ والتوكّ ُ‬

‫‪- 99 -‬‬
‫الحديث الرابع‪ :‬عن جابر بن عبد الل ّه ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪ :‬سمعتُ الن ّبيّ ﷺ يقول‪" :‬لا ت َزا ُ‬
‫ل طائِف َة ٌ م ِن‬
‫ل‬
‫ص ِّ‬
‫ل َ‬
‫ل أم ِير ُهُمْ‪ :‬تَعا َ‬
‫ن م َْري َم َ ﷺ‪ ،‬في َقو ُ‬
‫ل ع ِيس َى اب ُ‬
‫ن إلى يَو ِم الق ِيامَة ِ‪ ،‬قالَ‪ :‬فَيَنْزِ ُ‬
‫ق ظاهِرِي َ‬
‫أمّتي يُقاتِلُونَ علَى الح َ ّ ِ‬
‫ض أم َراء ُ تَكْرِم َة َ الل ّه ِ هذِه الأمّة َ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ضك ُ ْم عل َى بَعْ ٍ‬
‫ن بَعْ َ‬
‫لَنا‪ ،‬في َقولُ‪ :‬لا‪ ،‬إ ّ‬

‫ن‪-‬‬
‫طالت فتراتُ ضعفها ونكباتها؛ كما قال اب ُ‬
‫ْ‬ ‫ن هذه الأمّة َ لن يُقضى عليها مهما‬
‫‪-‬هذا الحديثُ من المبشرات أ ّ‬
‫ثبات طائفة ٍ من أمّته على‬
‫ِ‬ ‫ل ه ّم م َنْ غَاَظَه ُ الحقّ )؛ فق ْد بش ّر َ الن ّبيّ ﷺ باستمرار‬
‫حز ٍم رحمه الل ّه‪( :-‬لَق َ ْد طَا َ َ‬
‫الد ِّين‪ ،‬قائمين بأمر الل ّه‪ ،‬مدافعين للباطل إلى آخر الزمان‪ ،‬يصطفيهم الل ّه ُ لسلوك طر يق الأنبياء وأتباعهم في‬
‫العمل لهذا الد ِّين والإصلاح‪.‬‬

‫ل يَوْم َ‬
‫ل الل ّه ﷺ قال‪" :‬يجاء ُ بالرج ُ ِ‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن أسامة بن زيد ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬أ ّ‬
‫ن رسو َ‬
‫ل النارِ‪،‬‬
‫ِيف بِه ِ أه ُ‬
‫ق أقتابُه ُ‪ ،‬فيدور ُ بها في النارِ‪ ،‬كما يدور ُ الحمار ُ برحاه ُ‪ ،‬فيُط ُ‬
‫القيامَة ِ فيُلْقَى في النارِ‪ ،‬فتَنْذ َل ِ ُ‬
‫ن المنكَر ِ؟‪ ،‬فيقولُ‪ :‬بلَى‪ ،‬ق َ ْد كنتُ آمرُكُم‬
‫بالمعروف وتنهانا ع ِ‬
‫ِ‬ ‫فيقولونَ‪ :‬يا فلانُ! ما أصابَكَ؟‪ ،‬ألم تكنْ تأمرُنا‬
‫بالمعروف ول َا آتيِه ِ‪ ،‬وأنهاكُم ع َ ِ‬
‫ن المنكَر ِ وآتيِه ِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪-‬يبرز ُ الحديثُ صفة ً من أهم صفات المصلحين‪ :‬وهي صفة ُ العمل بالعلم‪ ،‬وألا تكونَ الدعوة ُ إلى الل ّه مجر ّد َ‬
‫ح على نيته في سائر دعوته‬
‫حافظ المُصل ُ‬
‫ن الابتلاء َ الحقيقيّ في أ ْن ي َ‬
‫وظيفة ٍ أو عادّة ٍ يعتاد ُها المُصلحُ‪ ،‬ولذا؛ فإ ّ‬
‫وطر يق إصلاحه‪.‬‬
‫وصف تفصيليّ من‬ ‫ٌ‬ ‫عقاب فاعله‬ ‫ِ‬ ‫ل‪ ،‬والذي جاء َ في‬ ‫ح من القول بلا عم ٍ‬ ‫‪-‬كذلك؛ ينبغي أ ْن يحذر َ المُصل ُ‬
‫ق أقتابُه ُ‪ ،‬فيدور ُ بها في‬
‫ل يَوْم َ القيامَة ِ فيُلْقَى في النارِ‪ ،‬فتَنْذ َل ِ ُ‬
‫عذاب الن ّار؛ كما في قول الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬يجاء ُ بالرج ُ ِ‬
‫النارِ‪ ،‬كما يدور ُ الحمار ُ برحاه ُ"‪.‬‬
‫ن أ ْن يَزِع َ به الإنسانُ نفسَه عن محارم الل ّه‪ :‬استحضار َ الدار الآخرة؛‬
‫ن من أهم ما يُمك ُ‬
‫يكشف الحديثُ أ ّ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫س من الموحدين الن ّار بسبب‬
‫ل أنا ٍ‬
‫ن م ِنْ عقيدة أهل الس ُن ّة والجماعة‪ :‬دخو َ‬
‫وما فيها من الحساب والعقاب‪ ،‬وأ ّ‬
‫ذنوب وكبائر‪ ،‬ثم يخرجون منها بالشفاعة؛ كما في حديث أبي سعيدٍ الخدري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪-‬‬
‫ٍ‬ ‫ما ارتكبوا من‬
‫ل‬
‫ل الل ّهُ‪ :‬م َن كانَ في قَل ْبِه ِ مِث ْقا ُ‬ ‫ل الن ّارِ الن ّار َ‪ ،‬يقو ُ‬
‫ل الجن َ ّة ِ الجنَ ّة َ‪ ،‬وأه ْ ُ‬
‫ل أه ْ ُ‬
‫ل الل ّه ﷺ قال‪"( :‬إذا دَخ َ َ‬ ‫ن رسو َ‬ ‫أ ّ‬
‫حش ُوا وعاد ُوا حُمَم ًا‪ ،‬فيُلْقَوْنَ في نَهَرِ الحَياة ِ‪ ،‬فَيَن ْب ُت ُونَ كما‬ ‫ن قَدِ امْت ُ ِ‬ ‫خرِجُوه ُ‪ ،‬فَي َخْ رُجُو َ‬
‫ن فأ ْ‬
‫ل م ِن إيما ٍ‬
‫حَب ّة ٍ م ِن خ َ ْرد َ ٍ‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ‪" :‬أل َ ْم ت َرَوْا أ ّنها تَن ْب ُتُ َ‬
‫صفْراء َ م ُل ْتَوِ يَة ً")‪.‬‬ ‫ل‪ ،"-‬وقا َ‬
‫سي ْ ِ‬
‫ل ‪-‬أ ْو قالَ‪ :‬حَم ِي ّة ِ ال ّ‬
‫سي ْ ِ‬
‫ل ال ّ‬
‫تَن ْب ُتُ الح ِب ّة ُ في حَم ِي ِ‬

‫‪- 011 -‬‬


‫ل المجرمينِ‬
‫المحاضرة السادسة عشر‪ :‬أهمية ُ الوعي بسبي ِ‬
‫ل المجرمينِ والحذرِ م ِنْ أعداء ِ الإسلا ِم‬
‫بابُ أهمية ِ الوعي بسبي ِ‬
‫وكيدِهم والتنب ّه ِ م ِنْ مكر ِ المنافقينِ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫ح في بنائه من جهة التحمّل‪ ،‬ولا في طر يقه الإصلاحي من جهة الأداء؛ إ ْذ‬
‫باب لا يستغني عنه الم ُصل ُ‬
‫‪-‬هذا ٌ‬
‫من أهم المعاني التي رب ّى الن ّبيّ ﷺ أصحابَه ُ عليها هي الوعي ُ واليقظة ُ والحذر ُ من الأعداء‪ ،‬والمعرفة ُ بمعالم سبيل‬
‫المجرمين‪.‬‬
‫ج المصلحون فيه إلى تأكيد هذا المعنى؛ لما في هذا الزمن من تطو ٍر لوسائل‬
‫ن‪ :‬يحتا ُ‬
‫‪-‬ونحن ‪-‬اليوم‪ -‬في زم ٍ‬
‫ن‬
‫أعداء الد ِّين بصورة ٍ لا ت ُقارنُ بالماضي‪ ،‬وكثير ًا ما ي ُؤتى المصلحون من غفلتهم عن هذا الباب‪ ،‬ولذا؛ فإ ّ‬
‫ًّ‬
‫تكميلي ّا وإن ّما هو مقصدٌ من مقاصد الوحي في كتاب الل ّه وسُن ّة رسوله‬ ‫بابَ الوعي بسبيل المجرمين ليس باب ًا‬
‫ﷺ‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ل ال ْم ُجْ رِم ِينَ"‪:‬‬
‫َات و َلِتَسْتَبِينَ سَب ِي ُ‬
‫ل الْآي ِ‬
‫َص ُ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬وَكَذََٰل ِ َ‬
‫ك نُف ِّ‬

‫يلتبس بسبيل المؤمنين؛ إ ْذ من المعاني‬


‫َ‬ ‫ل المجرمين بي ْن ًا واضً حا حت ّى لا‬
‫ن سبي ُ‬
‫ن الل ّه َ يريد ُ أ ْن يكو َ‬ ‫‪-‬ت ُ ِ ّ‬
‫وضح ُ الآية ُ أ ّ‬
‫ل‪ ،‬ولذا؛ يكث ُر ُ التحذير ُ في كتاب الل ّه من قضية ِ‬
‫حق بالباط ِ‬
‫س ال ّ ِ‬
‫الـكبرى التي جاء َ الوحي ُ لمعالجتها‪ :‬معنى التبا ِ‬
‫صة ً عند َ الحديث عن أهل الكتاب‪.‬‬
‫حق بالباطل خا ّ‬
‫لبس ال ّ ِ‬

‫ن سبيل المجرمين؛ قال تعالى‪" :‬و َلِتَسْتَبِينَ‬


‫اعتنت السورة ُ بمقصدِ بيا ِ‬
‫ْ‬ ‫وردت هذه الآية ُ في سورة الأنعام‪ ،‬وقد‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫طر ُق ِهم ومبادئهم ومآلات أقوالهم‬
‫ل ال ْم ُجْ رِم ِينَ"‪ ،‬وق ْد بي ّنَ الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪ -‬فيها كثير ًا من أحوال المشركين و ُ‬
‫سَب ِي ُ‬
‫ل أ ْول َادِه ِ ْم شُرَك َاؤ ُه ُ ْم لِيُرْد ُوه ُ ْم‬
‫ن ال ْمُشْرِكِينَ قَت ْ َ‬
‫ن لـِكَث ِيرٍ مّ ِ َ‬
‫ك ز َي ّ َ‬
‫الفاسدة؛ ومن ذلك‪ :‬قوله تعالى‪" :‬وَكَذََٰل ِ َ‬
‫و َلِيَل ْبِس ُوا عَلَيْه ِ ْم دِينَه ُ ْم"‪.‬‬

‫حتَه ُ ْم‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َِإذ َا كُنتَ ف ِيه ِ ْم ف َأقَم ْتَ لَهُم ُ الصّ لَاة َ فَل ْتَق ُ ْم طَائِف َة ٌ مِّنْه ُم مّع َ َ‬
‫ك و َلْي َأْ خُذ ُوا أسْ ل ِ َ‬
‫حتَه ُ ْم‬
‫ح ْذر َه ُ ْم و َأسْ ل ِ َ‬ ‫خر َى ل َ ْم يُصَل ّوا فَل ْيُصَل ّوا مَع َ َ‬
‫ك و َلْي َأْ خُذ ُوا ِ‬ ‫ف َِإذ َا سَ جَد ُوا فَل ْيَكُونُوا م ِن وَر َائِك ُ ْم و َل ْت َأْ ِ‬
‫ت طَائِف َة ٌ أ ْ‬
‫‪- 010 -‬‬
‫ح عَلَيْك ُ ْم ِإن ك َانَ‬
‫حدَة ً وَل َا جُنَا َ‬
‫كف َر ُوا لَو ْ تَغْف ُلُونَ ع َنْ أسْ لِحَتِك ُ ْم و َأمْتِع َتِك ُ ْم فَيَمِيلُونَ عَلَيْك ُم مّيْلَة ً و َا ِ‬
‫ن َ‬
‫وَدّ ال ّذ ِي َ‬
‫ن عَذ َاب ًا مّهِينًا"‪:‬‬ ‫ح ْذرَك ُ ْم ِإ ّ‬
‫ن الل ّه َ أع َ ّد لِلْك َافِرِي َ‬ ‫بِك ُ ْم أذ ًى مّ ِن مّطَرٍ أ ْو كُنتُم مّ ْرض َى أن تَضَع ُوا أسْ لِحَتَك ُ ْم وَخُذ ُوا ِ‬

‫ل أدائهم‬
‫أتت الآية ُ بتكرار الأمر الإلهي للمؤمنين بالحذر واليقظة في وقت قتالهم للـكفار‪ ،‬حت ّى وهم في شُغ ُ ِ‬
‫‪ْ -‬‬
‫للصّ لاة‪.‬‬

‫كفْرًا و َت َ ْفرِيقًا بَيْنَ ال ْمُؤْم ِنِينَ و َِإ ْرصَاد ًا لِّم َنْ ح َار َبَ‬
‫جدًا ضِر َار ًا و َ ُ‬
‫س ِ‬ ‫الآية الثالثة‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َال ّذ ِي َ‬
‫ن اتّ خَذ ُوا م َ ْ‬
‫ل و َلَيَحْلِف ُنّ ِإ ْن أرَدْن َا ِإلّا الْحُسْن َى و َالل ّه ُ يَشْهَد ُ ِإ ّنه ُ ْم لَك َاذِبُونَ"‪:‬‬
‫الل ّه َ وَرَسُولَه ُ م ِن قَب ْ ُ‬

‫ل الآية ُ على توعية ِ الل ّه ِ لعباده المؤمنين بألا يغتروا بالأساليب التي ظاهرها الصّ لاح‪ ،‬وأ ْن يتبي ّنوا مقاصد‬
‫‪-‬تشتم ُ‬
‫ن المنافقين اتخذوا وسيلة ً من‬
‫كشف لحال المنافقين الداخلي‪ ،‬ذلك أ ّ‬
‫ٌ‬ ‫الأعمال؛ إ ْذ في هذا التبي ّن للمقاصد‬
‫أعظم وسائل الإصلاح في ظاهرها؛ وهي (بناء المسجد)‪ ،‬لـكن هذا الاتخاذ ُ كان له في دواخلهم مقاصد‬
‫كانت مقاصد ُه ُ‬
‫ْ‬ ‫ل والأدواتَ الصالحة َ لا تشف ُع لصاحبها إذا‬ ‫أٌخرى فيها إضرار ٌ بالمؤمنين‪ ،‬ولذا؛ (فإ ّ‬
‫ن الوسائ َ‬
‫فاسدة ً)‪.‬‬

‫أبرزت الآية ُ تربية َ الل ّه ِ لعباده المؤمنين على الوعي واليقظة والحذر‪ ،‬وهذا ما يفقدُه ُ كثير ٌ من المصلحين في‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫الأدوات‬
‫ِ‬ ‫زماننا هذا؛ إ ْذ يغفلون عن إبصارِ حقيقة ِ المقاصدِ التي ي ُريد ُ أعداء ُ الد ِّين الوصول إليها‪ ،‬وحقيقة ِ‬
‫ل التي يستعملونها في سبيل تحقيق كيدهم بالمسلمين‪.‬‬
‫والوسائ ِ‬

‫‪-‬ثم ي ُبي ِّنُ الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪ -‬الوسيلة َ المساعدة َ التي استعملها المنافقون ز يادة ً على (بناء المسجد)؛ فقال تعالى‪:‬‬
‫"و َلَيَحْلِف ُنّ ِإ ْن أرَدْن َا ِإلّا الْحُسْن َى"‪ ،‬وهذه عادّة ُ المنافقين؛ كما قال تعالى في صفاتهم‪" :‬اتّ خَذ ُوا أيْمَانَه ُ ْم جُن ّة ً‬
‫ن للوصول إلى مآربَ فاسدة ٍ؛ كما قال‬‫ل الل ّه ِ ِإ ّنه ُ ْم سَاء َ م َا ك َانُوا يَعْم َلُونَ"؛ فهم يتخذون الأيما َ‬
‫ص ّدوا ع َن سَب ِي ِ‬
‫فَ َ‬
‫تعالى‪" :‬و َالل ّه ُ يَشْهَد ُ ِإ ّنه ُ ْم لَك َاذِبُونَ"؛ وفي هذا تنبيه ٌ للحذر من الاغترار بأيمانهم وقولهم‪.‬‬

‫عرض قوله على عمله؛ فإذا كان عملُه ُ بعيدًا أو مناقضًا‬


‫ُ‬ ‫حالف بالل ّه‪:‬‬
‫قاس بها صدقُ ال ِ‬
‫‪-‬ومن المؤشرات التي ي ُ ُ‬
‫ك قَو ْلُه ُ‬
‫س م َن يُعْجِب ُ َ‬
‫ن الن ّا ِ‬
‫ل ذلك‪ :‬قوله تعالى‪" :‬وَم ِ َ‬
‫لما يحل ُِف عليه ويتكل ّم ُ به =فهذا من علامات كذبه؛ ودلي ُ‬
‫ك‬
‫سدَ ف ِيهَا و َيُه ْل ِ َ‬
‫ض لِي ُ ْف ِ‬
‫سع َى فِي الْأ ْر ِ‬
‫فِي الْحيََاة ِ الد ّن ْيَا و َيُشْهِد ُ الل ّه َ عَلَى م َا فِي قَل ْبِه ِ و َه ُو َ ألَد ّ الْخِصَا ِم * و َِإذ َا تَو َل ّى َ‬
‫ِب الْفَسَاد َ"‪.‬‬
‫يح ّ‬
‫ل و َالل ّه ُ ل َا ُ‬
‫س َ‬
‫الْحَر ْثَ و َالن ّ ْ‬

‫‪- 012 -‬‬


‫ن ب ِالل ّه ِ لـَك ُ ْم ِإذ َا انق َلَب ْتُم ْ ِإلَيْه ِ ْم لِتُعْرِضُوا عَنْه ُ ْم ف َأ ْعرِضُوا عَنْه ُ ْم ِإ ّنه ُ ْم رِجْ ٌ‬
‫س‬ ‫الآية الرابعة‪ :‬قال تعالى‪" :‬سَيَحْلِف ُو َ‬
‫جهَن ّم ُ جَز َاء ً بِمَا ك َانُوا ي َ ْكسِب ُونَ"‪:‬‬
‫وَم َأْ و َاه ُ ْم َ‬
‫‪-‬هذه الآية ُ في تبيان أساليب وأدوات ومقولات المنافقين؛ وذلك تحقيق ًا للمقصد الشرعي وهو بيانُ سبيل‬
‫المجرمين‪ ،‬حت ّى يكونَ المؤمنون على حالة ٍ من اليقظة والتنب ّه لأعدائهم‪.‬‬

‫ن مما يُتقر ّبُ به إلى الل ّه‪ :‬العناية َ بدراسة الفنون‬


‫‪-‬ومن التمث ّلات العملية الواقعية لمعنى التي ّقظ والتنب ّه‪ :‬أ ّ‬
‫ل به‪ ،‬وتُو َ ِّعي بأهم مشكلاته وقضاياه‪ ،‬وكذلك العناية َ بمعرفة حال‬
‫والـكُت ُب التي تُعنى بدراسة الواقع وما يتص ُ‬
‫المفسدين ودراسة أفكارهم وأدواتهم وطُر ُقهم في الفساد‪.‬‬

‫حدٍ‬
‫ن م ِن جُ حْرٍ وا ِ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ أن ّه ق َا َ َ‬
‫ل‪" :‬لا يلُْدَغ ُ المُؤْم ِ ُ‬
‫م َّرتَيْنِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ل من الغفلة‬
‫ن على حا ٍ‬
‫ن المؤم ُ‬
‫ربط الن ّبيّ ﷺ بينَ اليقظة والتنب ّه والحذر وبينَ الإيمانِ؛ إ ْذ لا ينبغي أ ْن يكو َ‬
‫‪َ -‬‬
‫بحيث ي ُلدغ ُ من جُ حرٍ واحدٍ مرتين‪.‬‬
‫ن الأمرَ)؛‬
‫ج على صورة ِ خبرٍ؛ إلّا أن ّه يتضم ُ‬‫ن الحديثَ وإ ْن خ َر َ َ‬ ‫طابيّ في شرحه للحديث‪( :‬أ ّ‬ ‫ل الإمام ُ الخ ّ‬‫‪-‬يقو ُ‬
‫أمرا من الن ّب ِيّ ﷺ للمؤمن بألّا ي ُلدغَ من جُ حرٍ واحدٍ مرتين‪.‬‬
‫ن في الحديث ً‬ ‫أي أ ّ‬
‫ْ‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ قَل ّما يُر ِيد ُ غ َْزوَة ً يَغْز ُوه َا‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن كعب بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬كا َ‬
‫ن ر َسو ُ‬
‫سف َرًا بَع ِيدًا‬
‫ل َ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ في حَرٍّ َ‬
‫شدِيدٍ‪ ،‬واسْ تَقْب َ َ‬ ‫إلّا ورّى بغَيْرِه َا‪ ،‬حت ّى ك َان َْت غ َْزوَة ُ تَب ُوك َ‪ ،‬فَغ َزَاه َا ر َسو ُ‬
‫ل غ َْزو َ عَد ُ ٍوّ كَث ِيرٍ‪ ،‬فَجل َ ّى لِلْمُسْل ِمِينَ أمْرَهُمْ‪ ،‬لِيَت َأه ّب ُوا أه ْب َة َ عَدُوِّهِمْ‪ ،‬وأخْبَر َه ُ ْم بو َجْ هِه ِ الذي‬
‫ومَف َاز ًا‪ ،‬واسْ تَقْب َ َ‬
‫يُر ِيد ُ)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫‪-‬كان من أسلوب الن ّب ِيّ ﷺ عند َ الغزو أ ْن يُورِّيَ بوجهة ٍ غير َ المكان الذي يريد ُ أ ْن يتجه َ إليه‪ ،‬حت ّى لا يتسرّبَ‬
‫خبر ُ الغزو إلى أعدائه في َفقد َ عنصر َ المفاجأة والمباغتة‪ ،‬وهذا من الوعي واليقظة والحذر واتخاذ الأسباب‪،‬‬
‫صة ٍ‪ ،‬ولذا؛ أخبر َ الن ّبيّ ﷺ الصحابة َ عن وجهته‬
‫كانت تتطل ّب ُه ُ من ظروف استعدادٍ خا ّ‬
‫ْ‬ ‫باستثناء غزوة تبوك لما‬
‫فيها‪.‬‬

‫ل م ِن بَنِي‬
‫ل رَج ُ ٌ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن الم ِ ْ‬
‫سو َر ابن مْ خر َمة ٍ ومروان في قصة الحديبية الطو يلة؛ وفيها‪( :‬ف َقا َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪" :‬هذا فُلَانٌ‪ ،‬وهو‬
‫ل ر َسو ُ‬
‫صحَابِه ِ‪ ،‬قا َ‬
‫َف علَى الن ّب ِيّ ﷺ وأ ْ‬
‫كِنَانَة َ‪ :‬دَع ُونِي آتيِه ِ‪ ،‬ف َقالوا‪ :‬ائ ْتِه ِ‪ ،‬فَلَم ّا أشْر َ‬

‫‪- 013 -‬‬


‫سب ْح َانَ الل ّه ِ!‬
‫ل‪ُ :‬‬
‫ك قا َ‬‫اس يلَُب ّونَ‪ ،‬فَلَم ّا ر َأى ذل َ‬ ‫ظِم ُونَ الب ُ ْدنَ‪ ،‬فَابْع َث ُوه َا له"‪ ،‬فَب ُع ِث َْت له‪ ،‬واسْ تَقْبَلَه ُ الن ّ ُ‬‫م ِن قَو ْ ٍم يُع َ ّ‬
‫َت وأشْ ع ِر َْت‪ ،‬فَما‬ ‫ل‪ :‬ر َأي ْتُ الب ُ ْدنَ ق ْد قلُِّد ْ‬
‫أصحَابِه ِ‪ ،‬قا َ‬
‫ج َع إلى ْ‬ ‫ْت‪ ،‬فَلَم ّا ر َ َ‬
‫ن البَي ِ‬‫ص ّدوا ع َ ِ‬ ‫ما يَن ْبَغ ِي لِه َؤُل َاء ِ أ ْن ي ُ َ‬
‫ْت)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫ن البَي ِ‬
‫ص ّدوا ع َ ِ‬
‫أر َى أ ْن ي ُ َ‬

‫ن الوافد َ عليه من أجل‬


‫كانت قريش تص ّد الن ّبيّ ﷺ وأصحابَه ُ عن البيت (الـكعبة)؛ فلما عَل ِم َ الن ّبيّ ﷺ أ ّ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ظ ِمون الب ُ ْدنَ (وهي الإبل والبقر) =بعثها لهم ك ْي تكونَ وسيلة ً في تيسير أمر‬
‫المفاوضات من قو ٍم يع ّ‬
‫ن‬
‫ص ّدوا ع َ ِ‬
‫َت وأشْ ع ِر َْت‪ ،‬فَما أر َى أ ْن ي ُ َ‬
‫التفو يض؛ فلما رجع الرجل إلى قريش قال‪( :‬ر َأي ْتُ الب ُ ْدنَ ق ْد قلُِّد ْ‬
‫ْت)‪.‬‬
‫البَي ِ‬

‫ل قبيلة ٍ‪ ،‬حت ّى يتخذ َ‬


‫‪-‬يُبرز ُ هذا الموضع من الحديث تنب ّه َ الن ّب ٍيّ ﷺ للخصائص والاعتبارات الع ُرفية المتعل ِّقة بك ّ ِ‬
‫ق المصلحة ُ الشرعية ُ‪ ،‬وهذه درجة ٌ‬
‫يح ّق ِ ُ‬
‫ل الأساليب التي تتناسبُ مع أعراف القبائل فيما ُ‬
‫القرارات ويستعم َ‬
‫ح في السياق الإصلاحي‪.‬‬ ‫عالية ٌ ج ًّ ّدا في الوعي ينبغي أ ْن ي َ‬
‫حرص عليها المُصل ُ‬

‫‪-‬وأيضًا هذا من ج ُملة الأساليب التي ينبغي على المُصلح أ ْن يمتلـكَها في دعوته للن ّاس؛ وهي مراعاة‬
‫الخصائص والاعتبارات الع ُرفية المختلفة فيهم‪ ،‬وأ ْن يتخذ َ الأساليب المناسبة في تأليف ومدارات الن ّاس‬
‫بحسب خصائصهم وأعرافهم‪.‬‬

‫قالت‪( :‬و َاسْ ت َأْ جَر َ الن ّبيّ ﷺ‪ ،‬وأبُو‬


‫ْ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن أ ِمّ المؤمنين عائشة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬في قصة الهجرة؛‬
‫خرّ ِيتًا ‪-‬الخ ِرِّيتُ ‪ :‬المَاه ِر ُ بالهِد َايَة ِ‪ -‬ق ْد غ َم ََس يَمِينَ‬
‫ِي ه َادِي ًا ِ‬
‫ل‪ ،‬ث ُم ّ م ِن بَنِي عبدِ ب ِن عَد ّ ٍ‬
‫بَكْرٍ رَج ُل ًا م ِن بَنِي الد ِّي ِ‬
‫ْش‪ ،‬فأم ِنَاه ُ‪ ،‬فَد َفَع َا إلَيْه ِ ر َاحِلَتَيْهِم َا‪ ،‬وو َاعَد َاه ُ غَار َ ثَو ْ ٍر‬
‫ك ّفارِ قُر َي ٍ‬
‫ل‪ ،‬وهو علَى دِي ِن ُ‬
‫ص ب ِن وائ ِ ٍ‬
‫ل الع َا ِ‬
‫ْف في آ ِ‬
‫حِل ٍ‬
‫ل‬
‫ن فُهَيْرَة َ‪ ،‬والد ّلِي ُ‬
‫ق معه ُما عَام ِرُ ب ُ‬
‫اث‪ ،‬فَا ْرتَحَلَا وانْطَل َ َ‬
‫ل ثَل َ ٍ‬‫اث لَيَالٍ‪ ،‬فأت َاهُما بر َاحِلَتَيْه ِما صَب ِيح َة َ لَيَا ٍ‬ ‫بَعْد َ ثَل َ ِ‬
‫ل)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬ ‫ح ِ‬‫سا ِ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫طرِي ُ‬‫ل مَك ّة َ‪ ،‬وهو َ‬ ‫الد ِّيلِيّ‪ ،‬فأخَذ َ به ِ ْم أسْ ف َ َ‬

‫ق في هذه المرحلة الحرجة من بعثة الن ّب ِيّ‬


‫ج من مكة إلى المدينة يتطل ّبُ الحذر َ الشديد َ في الطر ي ِ‬
‫‪-‬كان الخرو ُ‬
‫ن معرفة َ‬
‫ن في ذلك الخروج بم َن يُتق ُ‬
‫ﷺ‪ ،‬ولذا؛ كان من باب الحذر واليقظة واتخاذ الأسباب‪ :‬أن يُستعا َ‬
‫الط ُر ُق والاتجاهات‪ ،‬ولذلك؛ لم ّا لم يج ْد الن ّبيّ ﷺ وأبو بكرٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬دليل ًا ماهرًا في أمر الط ُر ُق إلا‬
‫قريش (مشرك ًا)؛ استأجر َاه لي َكونَ دليل ًا لهم في سلوك الطر يق‪ ،‬وفي ذلك درجة ٌ عظيمة ٌ في‬
‫ٍ‬ ‫رجل ًا على دين‬
‫الحذر والوعي واتخاذ الأسباب المح ّق ِقة للمصلحة الشرعية‪.‬‬

‫‪- 014 -‬‬


‫بالشباب‬
‫ِ‬ ‫المحاضرة السابعة عشر‪ :‬العناية ُ‬
‫بالشباب‪ ،‬وتقدي ِم ذوي العلم ِ منهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بابُ العناية ِ‬
‫ل للإسلا ِم‬
‫ل أدوارِه ِم للعم ِ‬
‫وتفعي ِ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫مرتبط بمرجعية الوحي؛ إ ْذ اعتنى الكتابُ والس ُن ّة ُ‬
‫ٌ‬ ‫بالشباب ليس باب ًا تربو ًّي ّا فقط‪ ،‬بل هو ٌ‬
‫باب‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬بابُ العناية ِ‬
‫بقيمة بالشباب‪ ،‬وأهمية دورهم في حمل رسالة الإصلاح‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ق ِإ ّنه ُ ْم فِت ْي َة ٌ آم َن ُوا ب ِر َ ّبِه ِ ْم وَزِدْن َاه ُ ْم هُدًى"‪:‬‬
‫ك نَب َأه ُم ب ِالْح َ ّ ِ‬
‫ُص عَلَي ْ َ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬نّ ح ْ ُ‬
‫ن نَق ّ‬
‫ل للاقتداء والتأسي‪ ،‬كانوا فتية ً شباب ًا ثبتوا على دينهم أمام َ موجات‬
‫‪-‬في الآية ذكر ٌ لأئمة في الد ِّين هم مح ٌ‬
‫الشرك والفتن‪ ،‬فأحد َثَ الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪ -‬لهم كرامة ً عظيمة ً‪ ،‬وخل ّد َ ذكراهم في كتابه العزيز‪.‬‬

‫حقِ‪،‬‬
‫ل لل ّ‬
‫ن كثيرٍ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسير الآية‪( :‬ذَك َر َ تعالى أ ّنهم فتية ٌ ‪-‬وهم الشبابُ ‪ -‬وهم أقب ُ‬
‫ل الإمام ُ اب ُ‬
‫‪-‬يقو ُ‬
‫وأهدى للسبيل من الشيوخ‪ ،‬الذين ق ْد عتوا وعسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر ُ المستجيبين لل ّه ولرسوله‬
‫ﷺ شباب ًا‪ .‬وأمّا المشايخ ُ من قريش‪ ،‬فعامّتهم بقوا على دينهم‪ ،‬ولم ي ُ ْسلِم ْ منهم إلا القليلُ‪ .‬وهكذا أخبر َ ‪-‬تعالى‪-‬‬
‫ن مادّة النهضة والإصلاح في الد ِّين‬
‫عن أصحاب الـكهف أ ّنهم كانوا فتية ً شباب ًا)؛ ومما يستفاد ُ به في واقعنا‪ :‬أ ّ‬
‫ينبغي أ ْن تقوم َ على الشباب‪.‬‬

‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬قَالُوا سَمِعْنَا ف َت ًى ي َ ْذك ُر ُه ُ ْم يُق َا ُ‬


‫ل لَه ُ ِإ ب ْر َاه ِيم ُ"‪:‬‬
‫حق متوكّ ِلًا على الل ّه في مواجهة قومه‪ ،‬وعلى الشاب‬
‫‪-‬كان نب ّي الل ّه إبراهيم ‪-‬عليه السلام‪ -‬شاب ًا ثابتًا على ال ّ ِ‬
‫محفزًا له على الاقتداء بالأنبياء والمصلحين في سن الشباب‪.‬‬ ‫المُصلح أ ْن يعتز َ بهذه الآية و يجد َ فيها أًنس ًا و ُ‬

‫ْف مّ ِن فِرْعَوْنَ وَم َلَئِه ِ ْم أن يَفْتِنَه ُ ْم"‪:‬‬


‫خو ٍ‬ ‫الآية الثالثة‪ :‬قال تعالى‪" :‬فَمَا آم َ َ‬
‫ن لم ُِوس َى ِإلّا ذُرِّ ي ّة ٌ مّ ِن قَوْمِه ِ عَلَى َ‬
‫شباب من بني إسرائيل‪ ،‬صبروا على الخوف‪ ،‬لم ّا‬
‫ٌ‬ ‫أي‪:‬‬
‫خ السعديّ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره للآية‪ْ ( :‬‬
‫ل الشي ُ‬
‫‪-‬قا َ‬
‫ن الذر ية َ والشبابَ ‪،‬‬
‫ن لموسى إلا ذر ية ٌ من قومه‪ ،‬أ ّ‬
‫ثبتَ في قلوبهم الإيمانُ‪ ،‬والحكمة ُ ‪-‬والل ّه أعلم‪ -‬بكونه ما آم َ‬
‫حقِ‪ ،‬وأسرع ُ له انقياد ًا‪ ،‬بخلاف الشيوخ ونحوهم‪ ،‬مم ّن ترب ّى على الـكفر فإ ّنهم ‪-‬بسبب ما مكثَ في‬
‫ل لل ّ‬
‫أقب ُ‬

‫‪- 015 -‬‬


‫ح الحقيقيّ يجبُ أ ْن‬
‫ن الإصلا َ‬
‫ل على أ ّ‬
‫حق من غيرهم)؛ وهذا يد ّ‬
‫قلوبهم من العقائد الفاسدة‪ -‬أبعد ُ من ال ّ ِ‬
‫يكونَ متصل ًا بالشباب؛ فهم أسرع ُ انقياد ًا له‪ ،‬وأكثر ُ قو ّة ً على حمل رسالته‪.‬‬

‫ن حزاورة ٌ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن جندب بن عبد الل ّه ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قالَ‪( :‬كن ّا م َع الن ّب ِيّ ﷺ ونح ُ‬
‫ن فتيا ٌ‬
‫ن ماجة ٍ‪.‬‬
‫ل أن نتعل ّم َ القرآنَ ثم ّ تعل ّمنا القرآنَ فازددنا ب ِه إيمان ًا)‪ ،‬أخرج َه ُ اب ُ‬
‫فتعل ّمنا الإيمانَ قب َ‬

‫مقامات كثيرة ٍ؛ منها‪ :‬مقام ُ تعليمهم‬


‫ٍ‬ ‫يكشف الحديثُ عن عناية الن ّب ِيّ ﷺ بالشباب‪ ،‬واهتمامِه ِ ﷺ به في‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫الإيمان والقرآن‪ ،‬ومنها مقام ُ الجهاد؛ وفيه‪ :‬إمارة ُ أسامة بن زيدٍ ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬على الجيش‪ ،‬واستشهاد ُ‬
‫عمير بن أبي وقاص ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬في غزوة بدر‪ ،‬وكلاهما كانا في سن الشباب‪.‬‬

‫الحديث الثاني‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قال‪َ " :‬‬
‫سبْع َة ٌ يُظ ِل ّهُم ُ الل ّه ُ يَوم َ الق ِيَامَة ِ في ظِلِّه ِ‪،‬‬
‫َت عَي ْنَاه ُ‪،‬‬‫ل ذَك َر َ الل ّه َ في خ َلَاء ٍ فَف َاض ْ‬ ‫َاب نَش َأ في عِبَادَة ِ الل ّهِ‪ ،‬وَرَج ُ ٌ‬ ‫ل ِإلّا ظِل ّهُ‪ِ :‬إم َام ٌ عَادِلٌ‪ ،‬وَش ّ‬ ‫يَوم َ لا ظِ ّ‬
‫ل إلى ن َ ْفسِه َا‪،‬‬‫ب وَجَمَا ٍ‬ ‫ل دَعَت ْه ُ امْرَأة ٌ ذ َاتُ مَن ْصِ ٍ‬ ‫ن تَحَاب ّا في الل ّهِ‪ ،‬وَرَج ُ ٌ‬
‫جدِ‪ ،‬وَرَج ُلَا ِ‬
‫س ِ‬
‫ق في الم َ ْ‬ ‫ل قَل ْب ُه ُ مُع َل ّ ٌ‬
‫وَرَج ُ ٌ‬
‫َت يَمِين ُه ُ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ‬
‫صد َقَة ٍ فأخْ ف َاه َا حت ّى لا تَعْلَم َ شِمَالُه ُ ما صَنَع ْ‬
‫ص ّدقَ ب ِ َ‬
‫ل تَ َ‬
‫َاف الل ّهَ‪ ،‬وَرَج ُ ٌ‬
‫قالَ‪ :‬إن ِ ّي أخ ُ‬
‫ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ل يوم القيامة وأحداثَها وش ّدة َ‬
‫ل عظيم ٌ‪ ،‬لا ي ُ ْدرِك ُ قيمت ُه ُ إلا الذين يستحضرون أهوا َ‬
‫‪-‬في هذا الحديث فض ٌ‬
‫ل آدم بن أبي إياس عند احتضاره‪( :‬بحبي لكَ‪ ،‬إلّا رفقْتَ‬
‫الحاجة في ذلك اليوم إلى الأمان؛ ومن ذلك‪ :‬قو ُ‬
‫ك لهذا اليوم‪ ،‬كنتُ أرجوك َ‪ ،‬لا إله إلا الل ّه)‪ ،‬ثم مات ‪-‬رحمه الل ّه‪.-‬‬
‫بي في هذا المصرع‪ ،‬كنتُ أؤمّ ِل ُ َ‬

‫ل إلا‬
‫ن في ظل الل ّه ‪-‬تعالى‪ -‬يوم َ لا ظ ّ‬
‫ل الإنسانَ لأ ْن يكو َ‬ ‫ن واحدة ً من الخصال التي تُؤه ُ‬
‫‪-‬يبيِّنُ الن ّبيّ ﷺ أ ّ‬
‫َاب نَش َأ في عِبَادَة ِ الل ّه ِ"؛ وفي هذا بيا ٌ‬
‫ن لمراعاة الشر يعة وإبرازها‬ ‫صة ٌ بالشباب؛ فقال ﷺ‪" :‬وَش ّ‬‫ظل ّه ُ هي خا ّ‬
‫لحال الشباب الذي يتغل ّبُ على نفسه فيُنشؤها في عبادة الل ّه؛ إذ شأنُ الشباب أ ْن تقود َهم أهواؤهم إلى غير‬
‫عبادة الل ّه‪.‬‬

‫َاب ف َشَر ِبَ منه‪ ،‬وع َنْ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ أتِي َ بشَر ٍ‬ ‫ن ر َسو َ‬ ‫ل بن سعدٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( -‬أ ّ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن سه ٍ‬
‫ل‬ ‫ي ه َؤُل َاءِ؟"‪ ،‬فَق َا َ‬
‫ل الغ ُلَام ُ‪ :‬والل ّه ِ يا ر َسو َ‬ ‫ل لِل ْغ ُلَا ِم‪" :‬أت َأْ ذَنُ لي أ ْن أ ْعط ِ َ‬
‫يَمِينِه ِ غُلَام ٌ‪ ،‬وع َنْ يَس َارِه ِ الأشْ يَاخُ‪ ،‬فَق َا َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ في يَدِه ِ)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬ ‫ك أحَدًا‪ ،‬قَالَ‪ :‬فَتَل ّه ُ ر َسو ُ‬ ‫الل ّهِ‪ ،‬لا أوث ِر ُ بن َصِ يبِي مِن ْ َ‬

‫‪- 016 -‬‬


‫‪-‬ي ُ ِ ّ‬
‫وضح ُ الحديثُ القيمة َ الاعتبار ية َ والمكانة َ للشباب في مدرسة ِ الن ّب ِيّ ﷺ؛ فكانوا يحضرون مجالسه ﷺ‬
‫مرة ٍ‪ -‬جاء َ إناء ٌ به شراب‪ ،‬وكان من هديه ﷺ التيامن ‪-‬البدء ُ باليمين‪-‬؛ لم‬
‫و يُجلس ُهم عن يمينه ﷺ‪ ،‬فلم ّا ‪-‬ذات ّ‬
‫ي‬
‫يلغ الن ّبيّ ﷺ حقّ الغلام ‪-‬الذي عن يمينه‪ -‬في أولو ية الشرب لـكونه عن يمينه‪ ،‬فاستأذنه ﷺ أ ْن يعط َ‬ ‫ِ‬

‫الإناء َ للشيوخ؛ لـكونهم عن يساره وكون العربُ يعتبرون بمسألة التقديم ‪-‬بم َن يبدؤوا‪ ،-‬لـكن الغلام ُ كان‬
‫نبيهًا؛ فلم يُؤثرْ بنصيبه من الشرب بعد الن ّب ِيّ ﷺ أحدًا؛ فأعطاه ُ الن ّبيّ ﷺ الإناء‪.‬‬
‫‪-‬يبرز ُ الحديثُ النفسية َ التي يترب ّى عليها الشبابُ في مجالس الن ّب ِيّ ﷺ؛ حيث يشعر ُ بقيمته وبمكانته فعل ًا‪ ،‬وهذا‬
‫مما ينبغي أ ْن يُقتدىَ به في السياقات والمجالس التربو ية‪.‬‬

‫الحديث الرابع‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪( :‬بَع َثَ الن ّبيّ ﷺ بَعْثًا‪ ،‬وأمّرَ عليهم أسام َة َ ب َ‬
‫ن‬
‫كن ْتُم ْ ت َ ْطع ُن ُونَ في إمارَة ِ أبيِه ِ‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ‪ " :‬أ ْن تَطْع ُن ُوا في إمار َتِه ِ‪ ،‬فق َ ْد ُ‬
‫س في إمار َتِه ِ‪ ،‬فقا َ‬
‫ْض الن ّا ِ‬
‫ن بَع ُ‬
‫ز َيْدٍ‪ ،‬فَطَع َ َ‬
‫س إلَيّ‬
‫َب الن ّا ِ‬
‫ن هذا لم َِنْ أح ِّ‬
‫س إلَيّ‪ ،‬وإ ّ‬ ‫م ِن قَبْلُ‪ ،‬وايْم ُ الل ّهِ‪ ،‬إ ْن كانَ لَخل َِيق ًا لِل ِْإمارَة ِ‪ ،‬وإ ْن كانَ لم َِنْ أح ِّ‬
‫َب الن ّا ِ‬
‫بَعْدَه ُ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪ ،‬وقد كان أسامة حينها شاب ًا دونَ العشرين من ع ُم ُره‪.‬‬

‫يكشف الحديثُ عن عناية ِ الن ّب ِيّ ﷺ بالشباب؛ فكان ﷺ يكلِّف ُهم بالمهام التي تُناسبُ سماتهم وقدراتهم‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫وإمكاناتهم؛ ومن ذلك‪ :‬تعين ُه ُ ﷺ لأسامة بن زيد ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قائد ًا للجيش‪ ،‬وتقديم ُه ُ ﷺ له على م َن‬
‫هم أكبر ُ سنًا وسبق ًا في الإسلام‪.‬‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ ف َقالَ‪" :‬أخْب ِر ُونِي‬


‫الحديث الخامس‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪( :‬ك ُن ّا عِنْد َ ر َسو ِ‬
‫ن ع ُم َرَ‪:‬‬
‫ل اب ُ‬
‫ل حِينٍ"‪ ،‬قا َ‬
‫ات ور َقُه َا‪ ،‬ول َا‪ ،‬ول َا‪ ،‬ول َا‪ ،‬تُؤ ْتي أكْلَه َا ك ُ ّ‬
‫سل ِ ِم لا يَتَح َ ّ‬
‫ل الم ُ ْ‬
‫بشَجَرَة ٍ تُشْب ِه ُ أوْ‪ :‬ك َالر ّج ُ ِ‬
‫ف َو َق َ َع في ن َ ْفس ِي أ ّنهَا الن ّخْلَة ُ‪ ،‬ور َأي ْتُ أب َا بَكْر ٍ وع ُم َر َ لا يَتَكَل ّمَانِ‪ ،‬ف َكَرِه ْتُ أ ْن أتَك َل ّم َ‪ ،‬فَلَم ّا ل َ ْم يَقولوا شَيئًا‪ ،‬قا َ‬
‫ل‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪" :‬هي الن ّخْلَة ُ"‪ ،‬فَلَم ّا قُم ْنَا قُلتُ ل ِعُم َرَ‪ :‬يا أبَتَاه ُ‪ ،‬والل ّه ِ لق َ ْد كانَ وق َ َع في ن َ ْفس ِي أ ّنهَا الن ّخْلَة ُ‪ ،‬ف َقالَ‪ :‬ما‬
‫ر َسو ُ‬
‫َب‬
‫ن قُلْتَهَا‪ ،‬أح ّ‬
‫ل ع ُم َرُ‪ :‬ل َأ ْن تَكُو َ‬ ‫ك أ ْن تَك َل ّم َ؟‪ ،‬قالَ‪ :‬ل َ ْم أر َك ُ ْم تَكَل ّم ُونَ‪ ،‬ف َكَرِه ْتُ أ ْن أتَك َل ّم َ أ ْو أق ُو َ‬
‫ل شيئًا‪ ،‬قا َ‬ ‫م َنَع َ َ‬
‫إلَيّ م ِن كَذ َا وكَذ َا)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫لأسلوب مه ٍ ّم من أساليب الن ّب ِيّ ﷺ التعليمية‪ :‬وهو أسلوبُ طرح السؤال‪ ،‬وفيه ‪-‬أيضًا‪-‬‬
‫ٍ‬ ‫ن‬
‫‪-‬في الحديث بيا ٌ‬
‫ح لغيرهم حت ّى لو في بعض المسائل‬
‫ح عليهم في العلم ما لا يُفت ُ‬
‫ل الاهتمام بالعلم؛ فق ْد يُفت َ ُ‬
‫ن الشبابَ مح ُ‬
‫بيانُ أ ّ‬
‫الفرعية على الأقل‪.‬‬

‫‪- 017 -‬‬


‫ن شَبَبَة ٌ‬ ‫الحديث السادس‪ :‬عن مالكٍ بن الحويرة ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬أتَي ْنا إلى النب ِيّ ﷺ و َ‬
‫نح ْ ُ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ رَحِيم ًا ر َف ِيق ًا‪ ،‬فَلَم ّا ظَنّ أن ّا قَدِ اشْ تَهَي ْنا أه ْلَنا ‪-‬‬
‫ن ر َسو ُ‬
‫ن يَوْم ًا ولَيْلَة ً‪ ،‬وكا َ‬
‫م ُت َقارِبُونَ‪ ،‬فأقَم ْنا عِنْدَه ُ عِشْر ِي َ‬
‫سألَنا ع َم ّنْ ت َرَكْنا بَعْد َنا‪ ،‬فأخْبَرْناه ُ‪ ،‬قالَ‪" :‬ا ْرجِع ُوا إلى أه ْلِيكُمْ‪ ،‬فأق ِيم ُوا فيهم وعَل ِّم ُوه ُ ْم وم ُرُوه ُ ْم ‪-‬‬
‫أ ْو قَدِ اشْ تَقْنا‪َ -‬‬
‫َت الصّ لاة ُ فَل ْي ُؤَذِّ ْن لـَك ُ ْم أحَدُك ُمْ‪،‬‬
‫وذَك َر َ أشْ ياء َ أحْ فَظ ُها أ ْو لا أحْ فَظ ُها‪ -‬وصَل ّوا كما ر َأيْتم ُُونِي أصَل ِّي‪ ،‬فإذا حَضَر ِ‬
‫ول ْي َؤُمّك ُ ْم أكْ ب َرُك ُ ْم")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫‪-‬يبرز ُ الحديثُ عناية َ الن ّب ِيّ ﷺ بالشباب؛ من حيث الاهتمام والاستقبال والتهيئة لأ ْن يُقيموا عنده ﷺ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ اعتنى بها عناية ً‬
‫عشرين ليلة ً‪ ،‬ثم العناية بهم من حيث التعليم والقرب منه ﷺ؛ لأن ّه من الواضح أ ّ‬
‫صة ً أه ّلتهم لأ ْن يكونوا قدوة ً لقومهم في العلم والعمل؛ فينقلوا لهم ما تعل ّموه من قول وفعل الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬ثم‬
‫خا ّ‬
‫العناية بهم من حيث الانتباه لأحوالهم ونفسياتهم‪.‬‬

‫ق العلم حت ّى يبدأ بالن ّفع والدعوة والتعليم‪ ،‬بل ينبغي‬


‫‪-‬يُبيِّنُ الحديثُ أن ّه ليس بالضرورة أ ْن يُكمل َ الطالبُ طر ي َ‬
‫ل الطالبُ إلى مرحلة ٍ يتفر ّغ ُ فيها‬
‫حرص على تعليم الن ّاس شيئًا مما تعل ّمه ولو كان يسير ًا‪ ،‬أمّا أ ْن يص َ‬
‫أ ْن ي َ‬
‫كن والتخصّ ص‪.‬‬
‫ل من التأصيل والبناء والتم ّ‬
‫ق طو ي ٍ‬
‫ج إلى طر ي ٍ‬
‫لتدريس العلم =فهذا يحتا ُ‬

‫كن ْتُ خ َل َْف الن ّب ِ ِيّ ﷺ يَوْم ًا فَق َالَ‪" :‬ي َا غُلَام ُ ِإن ِ ّي‬ ‫الحديث السابع‪ :‬عن ابن عبا ٍ‬
‫س ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪ُ ( :‬‬
‫ل الل ّهَ‪ ،‬و َِإذ َا اسْ تَعَن ْتَ‬ ‫تج ِ ْده ُ تُجَاهَكَ‪ِ ،‬إذ َا سَأل ْتَ فَاسْ أ ِ‬ ‫يحْف َ ْظكَ‪ ،‬احْ ف َظِ الل ّه َ َ‬ ‫ات‪ :‬احْ ف َظِ الل ّه َ َ‬ ‫ك كَل ِم َ ٍ‬ ‫أعَل ِّم ُ َ‬
‫ن‬
‫ك و َِإ ِ‬‫َت عَلَى أ ْن يَنْف َع ُوك َ ب ِشَيْء ٍ ل َ ْم يَنْفَع ُوك َ ِإلّا ب ِشَيْء ٍ ق َ ْد كَتَب َه ُ الل ّه ُ ل َ َ‬ ‫فَاسْ ت َع ِنْ ب ِالل ّهِ‪ ،‬و َاع ْل َ ْم أ ّ‬
‫ن الْأمّة َ لَوِ اجْ تَمَع ْ‬
‫ُف")‪،‬‬
‫ت الصّ ح ُ‬
‫ج ّف ِ‬ ‫اجْ تَم َع ُوا عَلَى أ ْن يَضُر ّوك َ ل َ ْم يَضُرّوك َ ِإلّا ب ِشَيْء ٍ ق َ ْد كَتَب َه ُ الل ّه ُ عَلَيْكَ‪ ،‬ر ُفِع ِ‬
‫َت الْأق ْلَام ُ و َ َ‬
‫ن صحيحٌ‪.‬‬
‫حس َ ٌ‬
‫أخرج َه ُ الترمذيّ ؛ وقال‪ :‬هذا حديثٌ َ‬

‫ض الوصايا والنصائح‪ ،‬كما ي ُ ِ ّ‬


‫وضح ُ‬ ‫ص بعض ِهم ببع ِ‬
‫‪-‬يُصوِ ّر ُ الحديثُ كيفية َ عناية ِ الن ّب ِيّ ﷺ بتعليم الفتيان‪ ،‬واختصا ِ‬
‫ق القلب بالل ّه كما جاء في كلمات‬
‫ن من أهم المواد التي توج ّه ُ للفتيان‪ :‬هي مادّة ُ العبودية لل ّه ‪-‬تعالى‪ ،-‬وتعل ّ ُ‬
‫أ ّ‬
‫س في هذا الحديث‪ ،‬وكما جاء في حديث جندب ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬كن ّا م َع الن ّب ِيّ ﷺ‬
‫الن ّب ِيّ ﷺ لابن عبا ٍ‬
‫ل أن نتعل ّم َ القرآنَ ثم ّ تعل ّمنا القرآنَ فازددنا ب ِه إيمان ًا)‪.‬‬
‫ن حزاورة ٌ فتعل ّمنا الإيمانَ قب َ‬
‫ن فتيا ٌ‬
‫ونح ُ‬

‫ص ْدرِه ِ‪ ،‬وقالَ‪" :‬الل ّه ُ ّم عَل ِ ّم ْه ُ‬ ‫الحديث الثامن‪ :‬عن ابن عبا ٍ‬


‫س ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪( :‬ضَم ّنِي الن ّبيّ ﷺ إلى َ‬
‫الح ِ ْ‬
‫كم َة َ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬

‫‪- 018 -‬‬


‫ن الفتيان كانوا محل ًا لاهتمام ورعاية وتقريب‬
‫وحب الن ّب ِيّ ﷺ لابن عباسٍ‪ ،‬وأ ّ‬
‫ِّ‬ ‫لتقريب‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫‪-‬في الحديث بيا ٌ‬
‫وحب الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬ومحل ًا لتعليمه ودعائه ﷺ‪.‬‬
‫ِّ‬

‫س بتعل ّم ِ الحكمة دعاء ً‬


‫‪-‬يفيد ُ الحديثُ أهمية َ الدعاء للمتعلمين من الفتيان‪ ،‬وقد كان دعاء ُ الن ّب ِيّ ﷺ لابن عبا ٍ‬
‫ن لأهمية الانتباه لمواطن التمي ّز والفطنة في المتربين؛‬ ‫ن عباس بعد ذلك‪ ،‬وفي ذلك‪ :‬بيا ٌ‬ ‫مناسبًا لما تمي ّز َ به اب ُ‬
‫في ُدعى لهم بما يناسبُهم‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ قُلتُ ل ِرَج ُ ٍ‬


‫ل مِ َ‬ ‫الحديث التاسع‪ :‬عن ابن عبا ٍ‬
‫س ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪( :‬لَم ّا تُوفي رسو ُ‬
‫اس‬
‫ن عباس‪ ،‬أت ُرى الن ّ َ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬فإ ّنهُم ُ اليوم َ كثير ٌ‪ ،‬فقالَ‪ :‬واعجبًا! ل َ‬
‫ك يا اب َ‬ ‫ل أصحابَ رسو ِ‬
‫الأنصارِ‪ :‬ه َلُمّ نسأ ُ‬
‫سلام ُ‪ -‬م َنْ ترى؟‪ ،‬فَتَرَك َ ذَلِكَ‪ ،‬وأق ْبَل ْتُ على المسألة ِ‪،‬‬
‫حاب الن ّب ِيّ ‪-‬عليه ال ّ‬
‫س م ِنْ أص ِ‬
‫يحتاجونَ إليكَ‪ ،‬وفي الن ّا ِ‬
‫سفِي الر ِّيح ُ عليّ الترابَ ‪،‬‬
‫ل فأتوسّ د ُ ردائِي على بابِه ِ‪ ،‬فَت َ ْ‬
‫ل فآتيه وه ُو َ قائ ٌ‬
‫ن الر ّج ُ ِ‬
‫فإ ْن كانَ لَيبلُغني الحديثُ ع ِ‬
‫ل الل ّه ِ ألا أرسلتَ إليّ فآتيِكَ؟‪ ،‬فأقولُ‪ :‬أنا أحقّ أ ْن آتي َ َ‬
‫ك فأسألَكَ‪.‬‬ ‫ن ع ِ ّم رسو ِ‬
‫ل‪ :‬يا اب َ‬
‫ج فيَر َانِي‪ ،‬فيقو ُ‬
‫فيخر ُ‬
‫ل م ِن ِ ّي)‪ ،‬أخرج َه ُ الدارميّ‪.‬‬
‫اس عليّ‪ ،‬فقالَ‪ :‬هذا الفتى أعق ُ‬
‫ل حتى رآني وق ْد اجتم َع الن ّ ُ‬
‫قالَ‪ :‬فبقِ َي الر ّج ُ ُ‬

‫أحدثت العناية ُ الن ّبو ي ّة ُ في ابن عباس من الحالة النفسية والقلبية من حيث الاهتمام‬
‫ْ‬ ‫‪-‬يُبيِّنُ الحديثُ كيف‬
‫ي‬
‫ح النفس ّ‬
‫والإقبال والشغف والحرص والصّ بر على طلب العلم؛ إذ من أهم ما يحتاج ُه ُ الشبابُ هو الاستصلا ُ‬
‫س عليه‬
‫س الاستعداد َ للصّ بر والبذل والتحمّل والعطاء والفهم؛ وهذا ما أسّ َ‬
‫ل في الن ّف ِ‬
‫والت ّزكويّ الذي يجع ُ‬
‫اس إليه‪.‬‬
‫س الطر يقَ‪ ،‬حت ّى صار َ إمام ًا يجتم ُع الن ّ ُ‬
‫ن عبا ٍ‬
‫ن عباسٍ‪ ،‬ثم أكمل َ اب ُ‬
‫الن ّبيّ ﷺ اب َ‬

‫ن بَعْضَه ُ ْم‬ ‫س رضي الله ‪-‬عنهما‪ -‬قال‪( :‬كانَ ع ُم َر ُ ي ُ ْدخِلُني مع أشْ ي َ ِ‬


‫اخ ب َ ْدرٍ‪ ،‬فَك َأ ّ‬ ‫الحديث العاشر‪ :‬عن ابن عبا ٍ‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫ل ع ُم َرُ‪ :‬إن ّه م َن ق ْد عَلِم ْتُم ْ‪ ،‬فَد َعَاه ُ ذ َاتَ يَو ٍم‬‫ل هذا معنَا ولَنَا أب ْنَاء ٌ مِثْلُه ُ؟!‪ ،‬ف َقا َ‬ ‫سه ِ‪ ،‬ف َقالَ‪ :‬لِم َ ت ُ ْد ِ‬
‫خ ُ‬ ‫وجَد َ في ن َ ْف ِ‬
‫ل الل ّه ِ تَع َالَى‪ِ " :‬إذ َا ج َاء نَصْر ُ الل ّه ِ‬
‫فأ ْدخَلَه ُ معهُمْ‪ ،‬فَما ر ُئِيتُ أن ّه د َعَانِي يَوم َئذٍ إلّا لِيُرِ يَهُمْ‪ ،‬قالَ‪ :‬ما تَق ُولونَ في قَو ْ ِ‬
‫َ‬
‫سكَتَ بَعْضُه ُ ْم ف َل َ ْم يَق ُلْ شيئًا‪،‬‬ ‫ل بَعْضُهُمْ‪ :‬أم ِْرن َا أ ْن نَحْمَد َ الل ّه َ ونَسْتَغْف ِرَه ُ إذ َا نُصِرْن َا وفُت ِ َ‬
‫ح عَلَي ْنَا‪ ،‬و َ‬ ‫ح"؟‪ ،‬ف َقا َ‬ ‫و َالْفَت ْ ُ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ أع ْلَم َه ُ له‪،‬‬ ‫ل ر َسو ِ‬‫ن ع َب ّاسٍ؟‪ ،‬فَق ُلتُ ‪ :‬ل َا‪ ،‬قالَ‪ :‬فَما تَق ُولُ؟‪ ،‬قُلتُ ‪ :‬هو أج َ ُ‬ ‫ل يا اب ْ َ‬
‫ل ل ِي‪ :‬أكَذ َاك َ تَق ُو ُ‬‫ف َقا َ‬
‫ل‬
‫ك و َاسْ تَغْفِرْه ُ ِإن ّه ُك َانَ تَو ّاب ًا"‪ ،‬ف َقا َ‬
‫ك عَلَام َة ُ أج َلِكَ‪" ،‬فَسَب ِّحْ ب ِحَمْدِ ر َب ّ ِ َ‬ ‫قالَ‪ِ " :‬إذ َا ج َاء َ نَصْر ُ الل ّه ِ و َالْفَت ْ ُ‬
‫ح"‪ ،‬وذل َ‬
‫ل)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫ع ُم َرُ‪ :‬ما أع ْلَم ُ منها إلّا ما تَق ُو ُ‬

‫‪- 019 -‬‬


‫جلس‬
‫صة ً عنايت َه ُ ﷺ بابن عباسٍ‪ ،‬وكان م ُ‬
‫‪-‬أخذ َ عمر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬هديَ الن ّب ِيّ ﷺ في العناية بالشباب‪ ،‬خا ّ‬
‫ل ابن عباس مجلسَه ُ وهو‬
‫عمر مجلسًا مهيبًا؛ يحضرُه ُكبار الصحابة وأهل العلم المشورة‪ ،‬ومع ذلك كان عمر يُدخ ُ‬
‫ل عن سبب إدخاله إياه؛ بي ّن عمر ذلك؛ فقال‪( :‬إن ّه م َن ق ْد عَلِم ْتُم ْ)؛ أي‪ :‬ليس فقط لأن ّه‬
‫فت ًى صغير ٌ‪ ،‬فلم ّا سُئ ِ َ‬
‫س ‪-‬رضي الل ّه‬
‫ل على ذلك‪ :‬حديثُ ابن عبا ٍ‬
‫ن ع ِ ّم رسول الل ّه ﷺ‪ ،‬ولـكن لعلمه وفقه بكتاب الل ّه‪ ،‬ومما يد ّ‬
‫اب ُ‬
‫ن لموجب‬
‫كه ُول ًا ك َانُوا أ ْو شُب ّان ًا)؛ وفي ذلك بيا ٌ‬
‫س ع ُم َر َ ومُش َاوَر َتِه ِ‪ُ ،‬‬
‫مج ْل ِ ِ‬
‫أصحَابَ َ‬
‫عنهما‪ -‬قال‪( :‬وكانَ الق ُر ّاء ُ ْ‬
‫استحقاق الشباب لمجلس عمر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪-‬؛ وهو ما لديهم من العلم‪ ،‬كما جاء َ في شرح الحافظ اب ِن حجرٍ‬
‫ن‪( :‬الق ُر ّاء هنا هم م َن جمعوا بينَ العلم والعمل)‪ ،‬وهذا المعنى الذي جاء َ في عنوان الباب‪:‬‬
‫على هذا الحديث أ ّ‬
‫أي‪ :‬تقديم ُ ذوي العلم من الشباب في المجالس والمهمات‬
‫بالشباب وتقدي ِم ذوي العلم منهم )؛ ْ‬
‫ِ‬ ‫(بابُ العناية ِ‬
‫الإصلاحية‪.‬‬

‫سعْدٌ يُعَل ِ ّم ُ بَن ِيه ِ ه َؤُل َاء ِ الكَل ِم َ ِ‬


‫ات‬ ‫الحديث الحادي عشر‪ :‬عن سعدٍ بن أبي قاس ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬كانَ َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ كانَ يَتَعَو ّذ ُ منهنّ د ُب ُر َ الصّ لَاة ِ‪ :‬الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب َ‬
‫ك‬ ‫ن ر َسو َ‬
‫كما يُعَل ِ ّم ُ المُعَل ِ ّم ُ الغ ِلْمَانَ الكِتَابَة َ و يقولُ‪ :‬إ ّ‬
‫َاب القَبْرِ)‪،‬‬
‫ك م ِن عَذ ِ‬
‫ك م ِن فِت ْنَة ِ الد ّن ْيَا‪ ،‬وأع ُوذ ُ ب َ‬
‫ل العُمُرِ‪ ،‬وأع ُوذ ُ ب َ‬
‫ك أ ْن أرَدّ إلى أ ْرذ َ ِ‬
‫ن الجب ُْنِ‪ ،‬وأع ُوذ ُ ب َ‬
‫مِ َ‬
‫أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬

‫صة ً ذوي القربى؛ ومنهم‪ :‬الأبناء‪ ،‬اتباعًا لهدي الن ّب ِيّ‬ ‫بالصغار؛ خا ّ‬
‫ِّ‬ ‫‪-‬في الحديث عناية ُ أصحاب رسول الل ّه ﷺ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪،‬‬‫ﷺ في العناية بتعليم الفتيان‪ ،‬كما جاء في حديث ابن مسعودٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬عَل ّمَنِي ر َسو ُ‬
‫ك‬‫سلَام ُ عَلَي ْ َ‬ ‫ن القُر ْآنِ‪ :‬الت ّحِي ّاتُ لِل ّهِ‪ ،‬والصّ لَو َاتُ وال ّ‬
‫طيِّبَاتُ ‪ ،‬ال ّ‬ ‫سور َة َ م ِ َ‬
‫ك ّفيْه ِ‪ ،‬الت ّشَهّد َ‪ ،‬كما يُع َل ِّمُنِي ال ّ‬ ‫ك ّفِي بيْنَ َ‬
‫و َ‬
‫سلَام ُ عَلَي ْنَا وعلَى عِبَادِ الل ّه ِ الصّ الِ حِينَ‪ ،‬أشْهَد ُ أ ْن لا إلَه َ إلّا الل ّهُ‪ ،‬وأشْهَد ُ أ ّ‬
‫ن‬ ‫أ ّيها النبيّ ورَحْم َة ُ الل ّه ِ وب َرَك َاتُه ُ‪ ،‬ال ّ‬
‫سلَام ُ ‪-‬يَعْنِي‪ -‬علَى الن ّب ِيّ ﷺ)‪.‬‬ ‫ظهْرَانَي ْنَا‪ ،‬فَلَم ّا قُب َِض قلُ ْنَا‪ :‬ال ّ‬ ‫مُحَم ّدًا عَبْدُه ُ ور َسولُه ُ وهو بيْنَ َ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫خـلاصة ُ‬
‫‪-‬يُبيِّنُ البابُ قيمة َ الشباب بأ ْن يكونوا محل ًا للاهتمام والعناية‪ ،‬وألا يُهمشوا ويُبعدوا عن المهمات‬
‫أمس الحاجة في المشار يع الإصلاحية إلى العناية بالشباب عناية ً بالغة ً‪ ،‬وأ ْن‬
‫ّ ِ‬ ‫الإصلاحية؛ فنحن ‪-‬اليوم‪ -‬في‬
‫س ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪.-‬‬
‫صة ً ابن عبا ٍ‬
‫تكونَ العناية ُ بهم عناية ً شمولية ًكما اعتنى الن ّبيّ ﷺ بالفتيان؛ خا ّ‬

‫ن فيه العناية ُ بالشباب‪ :‬هو تعليم ُ الإيمان؛ المتمثل في مادّة العبودية لل ّه ‪-‬‬
‫ن من أولى ما ينبغي أن تكو َ‬
‫‪-‬وأ ّ‬
‫تعالى‪ ،-‬وتعل ّق القلب بالل ّه‪.‬‬
‫‪- 001 -‬‬
‫المحاضرة الثامنة عشر‪ :‬د ْور ُ المرأة ِ‬
‫بث العلم ِ ونُصرة ِ الإسلام‬
‫بابُ د ْورِ المرأة ِ في ِّ‬
‫ل بها‬
‫خيرات ومسارعتِها إلى العم ِ‬
‫بأبواب ال ِ‬
‫ِ‬ ‫وفِي عنايتِهَا‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫باب للمرأة‪ ،‬وأ ْن‬
‫‪-‬حين يس ّر َ الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪ -‬جم َع متنِ (المنهاج من ميراث الن ّبُو ّة)؛ حرصتُ على أ ْن يكونَ فيه ٌ‬
‫صة ً الشباب‪ -‬بمادّة ِ من‬
‫يكونَ هذا البابُ متسق ًا مع المعنى الذي لأجله جُم ِ َع المتنُ؛ وهو تزويد ُ المسلم ‪-‬خا ّ‬
‫مرجعية الوحي‪ ،‬تكونُ ‪-‬بإذن الل ّه‪ -‬هادية ً ومنيرة ً له في طر يق الإصلاح‪ ،‬ولذا؛ ينبغي أ ْن تكونَ موضوعاتُ‬
‫س بينَ النساء‪.‬‬
‫ل اهتما ٍم وتدار ُ ٍ‬
‫هذا الباب مح َ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ن ال ْمُنكَر ِ‬
‫ُوف و َيَنْهَوْنَ ع َ ِ‬
‫ن ب ِال ْمَعْر ِ‬ ‫ض ي َأْ م ُرُو َ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َال ْمُؤْم ِن ُونَ و َال ْمُؤْم ِنَاتُ بَعْضُه ُ ْم أوْلِيَاء ُ بَعْ ٍ‬
‫ن الل ّه َ عَز ِيز ٌ حَكِيم ٌ"‪:‬‬‫ك سَيَرْحَمُهُم ُ الل ّه ُ ِإ ّ‬‫ن الز ّك َاة َ و َيُط ِيع ُونَ الل ّه َ وَرَسُولَه ُ أولََٰئ ِ َ‬
‫ن الصّ لَاة َ و َيُؤ ْتُو َ‬
‫و َيُق ِيم ُو َ‬

‫ل في الولاء‪ :‬المحبة ُ والن ُصرة ُ بينَ المؤمنين‬


‫ِس الآية ُ لأواصرِ الولاء بينَ المؤمنين والمؤمنات؛ ومما يدخ ُ‬
‫تؤس ُ‬
‫‪ّ -‬‬
‫ِس الآية ُ لدور المرأة الإصلاحي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫تؤس ُ‬
‫سواء ً كان ذكرًا أو أنثى‪ ،‬ثم ّ‬

‫َب اب ْ ِن ل ِي عِندَك َ بَي ْتًا فِي‬


‫ت ر ِّ‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َضَر َبَ الل ّه ُ م َثَل ًا لِّل ّذ ِي َ‬
‫ن آم َن ُوا امْرَأتَ فِرْعَوْنَ ِإ ْذ قَال َ ْ‬
‫ظالِمِينَ"‪:‬‬‫ن الْقَو ْ ِم ال ّ‬ ‫الْجن َ ّة ِ وَنَج ِّنِي م ِن فِرْعَوْنَ و َع َمَلِه ِ وَنَج ِّنِي م ِ َ‬
‫ل‬
‫‪-‬تُؤكد ُ الآية ُ على مكانة وشرف المرأة في أ ْن تُتخذ َ قدوة ٌ للمؤمنين؛ فضربَ الل ّه ُ للمؤمنين –رجال ًا ونساء ً‪ -‬المث َ‬
‫نشأت فيها‪.‬‬
‫ْ‬ ‫صبرت ولم تتأثرْ بالبيئة الفاسدة التي‬
‫ْ‬ ‫الثبات بفعل امرأة فرعون؛ كونها‬
‫ِ‬ ‫ج في‬ ‫والأنموذ َ‬

‫ك‬
‫قالت النِّس َاء ُ للن ّب ِيّ ﷺ‪ :‬غَلَبَنَا عَلَي ْ َ‬
‫خدري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ِ ( :‬‬ ‫ِّ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن أبي سعيدٍ ال‬
‫ل لهنّ ‪" :‬ما‬ ‫سكَ‪ ،‬ف َو َعَد َه ُنّ يَوْم ًا لَقِيَه ُنّ ف ِيه ِ‪ ،‬ف َوَعَظَه ُنّ وأم َرَه ُنّ ‪ ،‬ف َكانَ ف ِيما قَا َ‬‫الر ِ ّج َالُ‪ ،‬فَاجْ ع َلْ لَنَا يَو ْم ًا م ِن ن َ ْف ِ‬
‫َقالت امْرَأة ٌ‪ :‬واث ْنَتَيْنِ؟‪ ،‬فَق َالَ‪" :‬واث ْنَتَيْنِ")‪،‬‬
‫ن الن ّارِ"‪ ،‬ف ِ‬
‫ن لَهَا ِحج َاب ًا م ِ َ‬
‫مِنْكُنّ امْرَأة ٌ تُق َ ّدِم ُ ثَلَاثَة ً م ِن ولَد ِه َا‪ ،‬إلّا كا َ‬
‫أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ن الصحابيات حرصنّ على ألا يفوتهنّ نصيبهن‬ ‫ن المرأة َكانت حاضرة ً في سيرة الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬وأ ّ‬
‫‪-‬يُبيِّنُ الحديثُ أ ّ‬
‫من الن ّب ِيّ ﷺ في الن ُصح والتوجيه والموعظة وشيء ٍ من العلم؛ فبادر ّ‬
‫ن إلى تحصيل ذلك الخير بسؤال الن ّب ِيّ ﷺ‬

‫‪- 000 -‬‬


‫ل لهنّ يوم ًا من نفسه ﷺ‪.‬‬
‫أ ْن يجع َ‬
‫تأسيس للدعاة أ ْن‬
‫ٌ‬ ‫موقف‪ ،‬وفي هذا‬
‫ٍ‬ ‫ل‬
‫حرص على موعظة المؤمنات في ك ّ ِ‬ ‫‪-‬وقد كان من هدي الن ّب ِيّ ﷺ‪ :‬ال ُ‬
‫حث على العمل‬ ‫يف من عذاب الل ّه وال ّ‬
‫ن من أهم ما تُخاطبُ به المرأة ُ‪ :‬الموعظة ُ والتذكير ُ بالآخرة والتخو ُ‬
‫يكو َ‬
‫الصالح‪.‬‬
‫ِف مرارة َ هذا‬ ‫وعظ به الن ّب ِيّ ﷺ‪ :‬الصّ بر ُ على فقدان الأولاد‪ ،‬ثم ّ ذكر َ الن ّبيّ ﷺ ما يُخ ّف ُ‬ ‫َ‬ ‫‪-‬كان من ج ُملة ما‬
‫ن الن ّارِ"‪،‬‬
‫الف ْقدِ و يُعينهنّ على الصّ برِ؛ فقال ﷺ‪"( :‬ما مِنْكُنّ امْرَأة ٌ تُق َ ّدِم ُ ثَلَاثَة ً م ِن ولَد ِه َا‪ ،‬إلّا كانَ لَهَا ِحج َاب ًا م ِ َ‬
‫الت امْرَأة ٌ‪ :‬واث ْنَتَيْنِ؟‪ ،‬فَق َالَ‪" :‬واث ْنَتَيْنِ")‪.‬‬
‫ف َق ِ‬

‫قالت‪( :‬نِعْم َ النِّس َاء ُ نِس َاء ُ الأنْصَارِ ل َ ْم يَكُنْ يَم ْن َعُه ُنّ الْحي ََاء ُ أ ْن‬
‫ْ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن عائشة ‪-‬رضي الل ّه تعالى‪-‬‬
‫ن فِي الد ِّي ِن)‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫يَتَف َ ّق ْه َ‬
‫ن الخصائص والصفات التي تتمي ّز ُ بها المرأة ُ عن الرجل؛ كالحياء‪ ،‬لا ينبغي أ ْن تكونَ حاجز ًا‬
‫‪-‬يُبيِّنُ الحديثُ أ ّ‬
‫صة ِ بالن ِّساء‪،‬‬
‫ل واستفتاء ُ الن ّب ِيّ ﷺ عن الأمورِ الخا ّ‬
‫يمنع ُها من التف ّقه في الد ِّين؛ ومن صور هذا التف ّقه‪ :‬سؤا ُ‬
‫وكذلك؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫ل الل ّه ِ‬
‫الحديث الثالث‪ :‬عن أبي موسى الأشعري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قالَ‪( :‬ما أشك َل علينا ‪-‬أصحابَ رسو ِ‬
‫ح‬
‫ن صحي ٌ‬
‫حس َ ٌ‬
‫قط فسأل ْنا عائشة َ إلّا وجَدْنا عند َها منه ع ِل ْمًا)‪ ،‬أخرج َه ُ الترمذيّ ؛ وقال‪ :‬حديثٌ َ‬
‫ﷺ‪ -‬حديثٌ ّ‬
‫غريبٌ ‪.‬‬
‫لت أمّ المؤمنين عائشة َ ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ علمًا كثير ًا؛ وذلك بالتنب ّه واليقظة لأفعال الن ّب ِيّ‬
‫‪-‬حصّ ْ‬
‫سنوات قضتْها معه ﷺ‪ ،‬وهذا مما يُبيِّنُ ما‬ ‫ٍ‬ ‫ل عليها طيلة َ عشر ِ‬
‫ﷺ‪ ،‬ثم بسؤال واستفتاء الن ّب ِيّ ﷺ عم ّا أشكِ َ‬
‫ل من شأن‬ ‫كانت عليه ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬من الحرص والوعي واتقاد الذهن‪ ،‬ومما يُستفاد ُ من هذا‪ :‬ألا يُقل َ‬
‫المرأة ولا يُستهانَ بها في جانب التعل ّم والتف ّقه والفهم وحفظ الد ِّين‪.‬‬

‫ق‬
‫كانت عائشة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬من المكثرين في الرواية عن الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬وقد تلقى عنها العلم والحديث خل ْ ٌ‬‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫كثير ٌ؛ ومم ّن تلقوا عنها العلم َ من محارمها‪ :‬عروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪-‬؛ وقد‬
‫ْت‬
‫ل مرو يات عروة بن الزبير عن عائشة؛ حت ّى قال‪( :‬لق ْد رأيت ُني قبل مو ِ‬
‫وكانت ج ّ‬
‫ْ‬ ‫كانا من أئمة الإسلام؛‬
‫حديث عند َها إلا وقد وَعَي ْت ُه ُ)‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ماتت اليوم َ ما ندمتُ على‬
‫ِ‬ ‫عائشة بأربع أو خم ْس حجج‪ ،‬وأنا أقول‪" :‬لو‬

‫‪-‬وممن تلقوا عنها العلم َ من غير محارمها‪ :‬أبو سلَمة بن عبد الرحمن بن عوف ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬فكان من‬
‫المكثرين في سؤالها والرواية عنها‪ ،‬وكذلك؛ الأسود وعلقمة ومسروق وهم تلاميذ ُ عبد الل ّه بن مسعود‪ ،‬بل‬

‫‪- 002 -‬‬


‫ل عليه شيء ٌ في‬
‫ن عبد َ الل ّه بن الزبير لم ّا أشكِ َ‬
‫حصل ْه ُ أحدٌ مثلُه ُ‪ ،‬حت ّى أ ّ‬
‫ل عن عائشة علمًا لم ي ِّ‬
‫ن الأسود َ حصّ َ‬
‫إ ّ‬
‫ل الأسود َ عن قول عائشة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬فيه‪.‬‬
‫مسألة ٍ =سأ َ‬
‫َذت عن عائشة العلم َ والفقه َ‪ ،‬وكانت سببًا في نقلهما‪ :‬التابعية عَم ْر َة بنت عبد الرحمن ‪-‬‬
‫‪ -‬وم ِن أشهر م َن أخ ْ‬
‫خ الإمام مالك ومن أئمة‬
‫رحمها الل ّه‪ -‬وهي من رواة الـكتب الستة‪ ،‬ومن شيوخ الإمام الزهري؛ وهو شي ُ‬
‫دارت عليهم الرواية ُ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫الس ُن ّة الذين‬
‫كانت فقيهة ً‪ ،‬وعلى علم ٍ بل ّغة العرب‬
‫ْ‬ ‫‪-‬ولم تكن عائشة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬متميزة ً في الرواية والحديث فقط؛ بل‬
‫ج عائشة ‪-‬رضي الل ّه‬
‫والشعر والأنساب‪ .‬وعلى ذلك؛ ينبغي على المصلحين أ ْن يُبرزوا في مخاطبة النساء نموذ َ‬
‫ن تقتديَ بها‪.‬‬
‫عنها‪ -‬في تحقيق الفقه والعلم والحديث‪ ،‬ولذا؛ حريّ بالمرأة المؤمنة أ ّ‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ :‬ن َ ْسقِي القَوْم َ‬


‫الحديث الرابع‪ :‬عن الر ّبَي ْع بنت مُعَو ْذ ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬قالت‪( :‬ك ُن ّا نَغْز ُو مع ر َسو ِ‬
‫نخْدُمُهُمْ‪ ،‬ون َرُدّ القَت ْلَى والجَرْحَى إلى المَدِينَة ِ)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫و َ‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ َ‬
‫سب ْ َع‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن أ ِمّ عطية الأنصار ية ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬قالت‪( :‬غ ََزوْتُ مع ر َسو ِ‬
‫طع َام َ‪ ،‬و َأد َاوِي الجَرْحَى‪ ،‬و َأقُوم ُ علَى المَر ْض َى)‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫َات؛ أخْلُفُه ُ ْم في رِح َالِهِمْ‪ ،‬فأصْ ن َ ُع لهم ُ ال ّ‬
‫غ ََزو ٍ‬

‫ل الل ّهِ‪ ،‬ن َر َى الجِه َاد َ‬


‫قالت‪( :‬ي َا ر َسو َ‬
‫ْ‬ ‫ل بالجهادِ؛ كما في حديث عائشة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪-‬‬
‫ت الشر يعة ُ الرجا َ‬
‫‪-‬خصّ ْ‬
‫ن الجهاد َ بالنسبة للمرأة هو‬
‫أي‪ :‬أ ّ‬
‫ل الجِه َادِ حَ ج ّ مَب ْر ُور ٌ")؛ ْ‬
‫ض َ‬
‫ل‪ ،‬أفلا نُجَاهِد ُ؟ قالَ‪" :‬ل َا‪ ،‬لـَكِنّ أف ْ َ‬
‫ل العَم َ ِ‬
‫ض َ‬
‫أف ْ َ‬
‫ق مع قدراتهم وسماتهم الجسدية والنفسية‪.‬‬
‫ج المبرور ُ‪ ،‬فالجهاد ُ لم يُشْر َ ْع للنساء؛ لأن ّه لا يتواف ُ‬
‫الح ُ‬

‫‪-‬ومع ذلك؛ لم تكن المرأة ُ في زمن الن ّب ِيّ ﷺ غائبة ً عن المشاركة في تقديم الدعم والمساندة في باب الجهاد؛‬
‫ومن أوجه ذلك‪ :‬العناية ُ بالرحال‪ ،‬وإعداد ُ الطعام‪ ،‬والمشاركة ُ في مداواة المرضى والجرحي‪ ،‬ولم يكن ذلك في‬
‫حالات استثنائ ًّي ّة ٍ من الن ِّساء‪ ،‬بل كان عا ًّمّا فيهن؛ ففي حديث الر ّبَي ْع بنت مُعَو ْذ قالت‪( :‬ك ُن ّا نَغْز ُو مع ر َسو ِ‬
‫ل‬ ‫ٍ‬
‫َات)‪.‬‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ َ‬
‫سب ْ َع غ ََزو ٍ‬ ‫الل ّه ِ ﷺ)‪ ،‬وفي حديث أ ِمّ عطية الأنصار ية قالت‪( :‬غ ََزوْتُ مع ر َسو ِ‬

‫ل في‬
‫ض"؛ فأوّل ما يدخ ُ‬
‫ارتباط بقول الل ّه تعالى‪" :‬و َال ْمُؤْم ِن ُونَ و َال ْمُؤْم ِنَاتُ بَعْضُه ُ ْم أوْلِيَاء ُ بَعْ ٍ‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬وهذا المعنى فيه‬
‫الولاء هو الن ُصرة ُ بالمشاركة في مثل هذه الحالات الحرجة (الجهاد)‪.‬‬

‫ن أ ْن‬
‫‪-‬ومما يُستفاد ُ من الحديث في واقعنا الحالي‪ :‬أن ّه ينبغي على النساء المشاركة ُ في قضايا الأمّة بما يُمك ُ‬
‫خاص‬
‫ّ‬ ‫ل‬
‫ن الاهتمام َ بقضايا الأمّة مجا ٌ‬
‫يشاركنّ به؛ سواء ٌ بالتوعية أو التربية أو الدعم المالي‪ ،‬ولا يقال‪ :‬أ ّ‬
‫ن في حمل قضايا الأمّة‪.‬‬‫بالرجال؛ بل يشاركنّ بما يستطع َ‬

‫‪- 003 -‬‬


‫وس في بَي ْتِنَا في‬
‫ن يَوْم ًا ج ُل ُ ٌ‬ ‫الحديث السادس‪ :‬عن عائشة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪ -‬في قصة الهجرة قالت‪( :‬فَبي ْنَا َ‬
‫نح ْ ُ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ مُقْب ِل ًا م ُتَق َنِّع ًا‪ .‬في سَاعَة ٍ ل َ ْم يَكُنْ ي َأْ تِين َا ف ِيهَا‪ ،‬قا َ‬
‫ل أبو‬ ‫ل لأبِي بَكْر ٍ‪ :‬هذا ر َسو ُ‬
‫ل قَائ ِ ٌ‬
‫ظه ِيرَة ِ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫نحْرِ ال ّ‬
‫َ‬
‫ك أبِي وأمِّي‪ ،‬والل ّه ِ إ ْن ج َاء َ به في هذِه ال ّ‬
‫ساعَة ِ إلّا ل ِأ ْمر ٍ‪ ،‬فَجَاء َ الن ّبيّ ﷺ فَاسْ ت َأْ ذَنَ‪ ،‬فأذِنَ له فَدَخَلَ‪،‬‬ ‫بَكْر ٍ‪ :‬فِدًا ل َ‬
‫ل الل ّهِ‪ .‬قالَ‪" :‬فإن ِ ّي ق ْد‬
‫ك بأبِي أن ْتَ يا ر َسو َ‬
‫خر ِجْ م َن عِنْدَك َ"‪ ،‬قالَ‪ :‬إن ّما ه ُ ْم أه ْل ُ َ‬
‫ل لأبِي بَكْر ٍ‪" :‬أ ْ‬
‫ل حِينَ دَخ َ َ‬
‫ف َقا َ‬
‫ل الل ّهِ؟‪ ،‬قالَ‪" :‬نَع َ ْم"‪ .‬قالَ‪ :‬فَخ ُ ْذ ‪-‬بأبِي أن ْتَ يا‬ ‫ُوج"‪ ،‬قالَ‪ :‬فَالصّ حْ ب َة ُ بأبِي أن ْتَ وأمِّي يا ر َسو َ‬ ‫أذِنَ لي في الخُر ِ‬
‫سفْرَة ً‬
‫ضعْنَا لهما ُ‬
‫َث الجِه َازِ؛ و َ‬
‫ت‪ :‬فَجَهّز ْن َاهُما أح ّ‬
‫ن"‪ .‬قال َ ْ‬ ‫ل الل ّه ِ‪ -‬إحْد َى ر َاحِلَتَيّ ه َاتَيْنِ‪ ،‬قا َ‬
‫ل الن ّبيّ ﷺ‪" :‬بالثمّ َ ِ‬ ‫ر َسو َ‬
‫ك ك َان َْت تُسَمّى ذ َاتَ‬
‫ت به الج ِرَابَ ‪ ،‬ولِذل َ‬
‫َت أسْمَاء ُ بن ْتُ أبِي بَكْر ٍ ق ِ ْطع َة ً م ِن نِط َاقِه َا‪ ،‬فأ ْوك َأ ْ‬
‫َاب‪ ،‬فَقَطَع ْ‬
‫جر ٍ‬‫في ِ‬
‫ق)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬‫النِّطَا ِ‬

‫قامت به أسماء بنت‬


‫ْ‬ ‫ل ذلك في الدور الذي‬
‫‪-‬يُؤكد ُ الحديثُ على دور المرأة ومشاركتها في نُصرة الد ِّين؛ ويتمث ُ‬
‫ِف في ه ُويتها الشخصية؛ فقيل‪( :‬ذاتَ النطاقين)؛ إذ‬
‫أبي بكر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬مما تسب ّبَ في إضافة م ُعر ّ ٍ‬
‫ت نطاق َها؛‬
‫من حرصها الشديد على المشاركة والبذل؛ لم تتوانَ أو تُفكِّر ْ كثير ًا‪ ،‬بل ببداهة ٍ سر يعة ٍ ش ّق ْ‬
‫َربط به الجراب الذي يُوض ُع فيه الزاد ُ‪.‬‬
‫فاستعملت نصف َه ُ لِت َحتجبَ به‪ ،‬والآخر لِت َ‬
‫ْ‬

‫‪ -‬يُفيد ُ الحديثُ إئتمانَ المرأة على الأسرار؛ إ ْذ ق ْد تكونُ المرأة ُ على قد ٍر من المسؤولية والفهم والحفظ والصون؛‬
‫خر ِجْ م َن عِنْدَك َ"‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ج الخبر ُ للمشركين فقال ﷺ لأبي بكرٍ‪" :‬أ ْ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ كان حر يصً ا على ألا يخر َ‬
‫لأ ّ‬
‫ل الل ّه ِ)؛ فتكل ّم َ الن ّبيّ ﷺ بالخبر على مسامع النساء الحاضرات‪.‬‬
‫ك بأبِي أن ْتَ يا ر َسو َ‬
‫(إن ّما ه ُ ْم أه ْل ُ َ‬

‫الأضح َى‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ج يَوم َ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬كانَ َ‬
‫يخ ْر ُ ُ‬ ‫ن ر َسو َ‬
‫خدري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( -‬أ ّ‬
‫ِّ‬ ‫الحديث السابع‪ :‬عن أبي سعيدٍ ال‬
‫وس في مُصَل ّاهُمْ‪ ،‬فإ ْن‬
‫ل علَى الن ّاسِ‪ ،‬و َه ُ ْم ج ُل ُ ٌ‬
‫سل ّم َ‪ ،‬قَام َ فأق ْب َ َ‬
‫و َيَوم َ الف ِ ْطرِ‪ ،‬فَيَبْد َأ بالصّ لَاة ِ‪ ،‬ف َِإذ َا صَل ّى صَلَاتَه ُ و َ َ‬
‫ص ّدق ُوا‪،‬‬
‫ْث‪ ،‬ذَك َرَه ُ لِلن ّاسِ‪ ،‬أ ْو ك َان َْت له ح َاج َة ٌ بغير ِ ذلكَ‪ ،‬أم َرَه ُ ْم بهَا‪ ،‬وَكانَ يقولُ‪" :‬ت َ َ‬ ‫كانَ له ح َاج َة ٌ ببَع ٍ‬
‫ص ّدقُ النِّس َاء ُ)‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ص ّدق ُوا"‪ ،‬وَكانَ أكْ ثَر َ م َن يَت َ َ‬‫ص ّدقُوا‪ ،‬ت َ َ‬
‫تَ َ‬

‫‪ -‬يُبيِّنُ الحديثُ جانبًا من مشاركة المرأة في وجوه الخير التي من شأنها التظافر بينَ المؤمنين؛ وهي الصدقة ُ‪،‬‬
‫وينبغي أ ْن يُنظر َ إلى الصدقة باعتبارين‪:‬‬
‫الأوّل‪ :‬اعتبار ُ س ّدِ الحاجة تعاطف ًا ورحمة ً بالمحتاجين‪.‬‬
‫ن الصدقة َ تدف ُع عذابَ الل ّه؛ كما قال الن ّبيّ ﷺ‪:‬‬
‫الثانـي‪ :‬اعتبار ُ الاحتياج الحقيقي للمُتصدق لأ ْن يتصدقَ ؛ لأ ّ‬
‫ن الكلمة َ الطيبة َ =صدقة ٌ‪.‬‬
‫ِق تمرة ٍ فإ ْن لم تج ِدوا فبكلمة ٍ طي ِّبة ٍ"؛ ذلك أ ّ‬
‫"ات ّقوا الن ّار ولو بش ّ ِ‬

‫‪-‬وكل ّما استطاـع َ المتصدقُ أ ْن يجم َع بين الاعتباـرين فهو أكمل؛ فيتصدقُ لن ُصرة الضعفاـء وس ّدِ احتياجهم‪،‬‬
‫‪- 004 -‬‬
‫ج إذا استحضرْه ُ =يقيْه ِ من‬
‫ج إلى التص ّدق لِي َدف َع به عذاب الل ّه‪ ،‬وهذا الاحتيا ُ‬
‫وكذلك يتصدقُ لأن ّه يحتا ُ‬
‫شعورِه ِ بالمنِ ّة على م َن يتص ّدقُ عليه‪.‬‬

‫‪-‬كان الن ّبيّ ﷺ في حث ِّه للنساء على الصدقة‪ ،‬يرُكز ُ على اعتبار احتياجهنّ للصدقة للنجاة من عذاب الل ّه‪ ،‬كما‬
‫ل الن ّارِ"‪ ،‬ولذلك؛‬ ‫جاء َ في قوله ﷺ‪" :‬يا م َعشر َ الن ِّساء ِ تص ّدقنَ‪ ،‬وأكْ ث ِرنَ م َ‬
‫ن الاستغفارِ‪ ،‬فإن ِ ّي رأيتُكُنّ أكْ ثر َ أه ْ ِ‬
‫س ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬فَصَل ّى‪،‬‬ ‫ن وأسرعنّ لامتثال أمر الن ّب ِيّ ﷺ؛ وفي رواية أخرى من حديث ابن عبا ٍ‬ ‫بادر ّ‬
‫ن بأيْدِيه ِنّ ي َ ْقذِف ْن َه ُ‬
‫خط َبَ ‪ ،‬ث ُم ّ أتَى النِّس َاء َ ومعه ُ بلَالٌ‪ ،‬ف َوَعَظَه ُنّ ‪ ،‬وذَك ّر َه ُنّ ‪ ،‬وأم َرَه ُنّ بالصّ د َقَة ِ‪ ،‬ف َرَأيْتُه ُنّ يَهْوِي َ‬
‫ث ُم ّ َ‬
‫ق المرأة بالزينة التي تلبسها دلالة ٌ على سرعة‬ ‫ل إلى بَي ْتِه ِ)؛ وفي تص ّد ِ‬ ‫ق هو وبِلَا ٌ‬ ‫ْب بلَالٍ‪ ،‬ث ُم ّ انْطَل َ َ‬ ‫في ثَو ِ‬
‫الاستجابة والامتثال‪ ،‬وهذه من الحالات المركز ية التي ينبغي إعادة ُ إحيائها في نفوس المؤمنين والمؤمنات‪.‬‬

‫اتجاه النِسْو ي ّة‪:‬‬


‫فوائد عن إشكالي ّة ِ ّ‬
‫‪-‬يُفيد ُ الحديثُ عن دور المرأة في نُصرة الد ِّين ‪-‬فيما يُناسبُ طبيعتها‪ -‬في مقاومة اتجاه النِسْو ية وإشكالاته؛‬
‫ق فقط‪ ،‬وليس‬
‫ل المرأة َ كائنًا لا ينظر ُ إلا بعينِ الحقوق فقط؛ فترى أ ّنها مظلومة ٌ دائمًا وأ ّنها تستح ُ‬
‫التي تجع ُ‬
‫ل كبير ٌ ج ًّ ّدا‪.‬‬
‫ي إلا أ ْن تُعطى؛ وفي هذا إشكا ٌ‬
‫ل لها‪ ،‬ولا أ ْن تُعط َ‬
‫ل إلا أ ْن يبذ َ‬
‫عليها أ ْن تبذ َ‬

‫ن على واجباتها ومسؤولياتها؛ من العبودية لل ّه ونُصرة الد ِّين‬


‫ن مما يجبُ على المرأة؛ أ ْن تنظر َ بعينين‪ :‬عي ٌ‬
‫‪-‬بل إ ّ‬
‫ن أخرى على ما ينبغي أ ْن‬
‫والاهتمام بقضايا الأمّة بحسب استطاعتها وواجب الزوج والبيت والأبناء‪ ،‬وعي ٌ‬
‫ضعف وحاجة ٍ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫تُكرم َ به وما تأخذَه ُ وتنالَه ُ من حقوقها؛ وذلك بأ ْن تكونَ محل ًا للمراعاة والعناية لما فيها من‬

‫ل من‬
‫ل عينُ الواجبات والمسؤليات‪ ،‬ويُنظر َ بعين الحقوق فقط‪ ،‬وهذا الإشكا ُ‬
‫ل في أ ْن تُهم َ َ‬
‫ن الإشكا ُ‬
‫‪ -‬و يكم ُ‬
‫طروحات‬
‫ٌ‬ ‫أكثر الروافد التي تُغذي اتجاه النِسْو ية وأطروحاته التي تغتر ُ بها كثير ٌ من النساء‪ ،‬وهي في الحقيقة أ‬
‫ل شيءٍ‪ ،‬أو أن ّه لمجر ّد كونك رجل ًا فأنت‬ ‫فأنت تستحقينَ ك ّ‬ ‫ِ‬ ‫وهمية ٌ؛ فلا حقيقة َ أن ّه لمجر ّدِ كونكِ إمرأة ً‬
‫صة ٌ على الرجل والمرأة‪.‬‬‫ومسؤوليات عامّة ٌ وخا ّ‬
‫ٌ‬ ‫واجبات‬
‫ٌ‬ ‫ل شيءٍ‪ ،‬وإن ّما هناك‬ ‫قك ّ‬‫تستح ُ‬

‫ل قضية المطالبات والحقوق‪ ،‬بينما يكمُل ُ ح ّقه َا‬


‫أعز م ِن أ ْن تُؤسر َ في ذ ُ ّ ِ‬
‫ل المرأة َ ّ‬
‫‪-‬هذه النظرة ُ الواسعة ُ تجع ُ‬
‫وتزداد ُ مكانتُها بقدرِ امتثالها للواجبات وأدائها لها‪ ،‬وبذلك ينبغي أ ْن يكونَ لها من المراعاة ما هو أكبر ُ من‬
‫عز ِها وكرامتها‪.‬‬
‫المراعاة الأساسية الواجبة‪ ،‬وفي هذا غاية ُ ّ‬

‫‪- 005 -‬‬


‫المحاضرة التاسعة عشر‪ :‬الثباتُ على الاستقامة ِ‬
‫س‬
‫ن الانتكا ِ‬
‫الثبات على الاستقامة ِ‪ ،‬والحذرِ م ِ َ‬
‫ِ‬ ‫بابُ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫حقِ‪ ،‬والثاني‪ :‬الثباتُ على ما هُدِيَ إليه من‬
‫ن أمران؛ الأوّل‪ :‬الاهتداء ُ إلى طر يق ال ّ‬
‫ل المؤم َ‬
‫‪-‬ينبغي أ ْن يُشغ َ‬
‫الطر يق‪ ،‬وكلا الأمرين يرتبطان ببعضهما؛ إ ْذ من أسباب الانتكاس‪ :‬فصلُهما عن بعضهما‪ ،‬وألا تكونَ مسألة ُ‬
‫ن أمرَ الثبات على الد ِّين كان حاضر ًا في‬
‫الثبات والخوف من الانتكاس حاضرة ً عند َ المؤمن‪ ،‬ولذا؛ تجد ُ أ ّ‬
‫ِ‬
‫نفوس الأنبياء والراسخين في العلم والصالحين‪ ،‬ولذلك؛ كان معن ًى مركزي ًا في اهتمامهم ودعائهم‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ك أنتَ ال ْوَه ّابُ "‪:‬‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬ر َب ّنَا ل َا تُز ِ ْغ قُلُوبَنَا بَعْد َ ِإ ْذ هَد َي ْتَنَا و َه َْب لَنَا م ِن ل ّدُن َ‬
‫ك رَحْم َة ً ِإن ّ َ‬

‫اب و َأخَر ُ‬
‫ات ه ُنّ أمّ الْكِت َ ِ‬
‫كم َ ٌ‬
‫َات ّمح ْ َ‬
‫ك الْكِتَابَ مِن ْه ُ آي ٌ‬
‫ل عَلَي ْ َ‬
‫جاءت هذه الآية ُ بعد قوله تعالى‪" :‬ه ُو َ ال ّذ ِي أنز َ َ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ن فِي قُلُو بِه ِ ْم ز َي ْ ٌغ فَيَت ّب ِع ُونَ م َا تَش َابَه َ مِن ْه ُ اب ْتِغ َاء َ ال ْفِت ْنَة ِ و َاب ْتِغ َاء َ ت َأْ وِ يلِه ِ وَم َا يَعْلَم ُ ت َأْ وِ يلَه ُ ِإلّا‬
‫ات ف َأمّا ال ّذ ِي َ‬
‫م ُتَش َابِه َ ٌ‬
‫اب * ر َب ّنَا ل َا تُز ِ ْغ قُلُوبَنَا بَعْد َ ِإ ْذ‬ ‫الل ّه ُ و َالر ّاسِ خ ُونَ فِي ال ْعِلْم ِ يَق ُولُونَ آم َن ّا بِه ِك ُ ّ‬
‫ل مّ ِنْ عِندِ ر َب ّنَِا وَم َا يَذّك ّر ُ ِإلّا أولُو الْأل ْب َ ِ‬
‫ن حت ّى الراسخين في العلم مع ما بلغوا‬
‫نأ ّ‬
‫ك أنتَ ال ْوَه ّابُ "؛ وفي هذا بيا ٌ‬
‫ك رَحْم َة ً ِإن ّ َ‬
‫هَد َي ْتَنَا و َه َْب لَنَا م ِن ل ّدُن َ‬
‫من درجة ٍ في العلم والد ِّين‪ ،‬فإ ّنهم يشغلَهم و يقلق َهم شأنَ الاستقامة والثبات على الد ِّين حت ّى صار َ معن ًى‬
‫ومطلبًا أساسيًا في دعائهم‪.‬‬
‫سبب للز يغ والانتكاس‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬وفي الآية ٌ تحذير ٌ من اتباع المتشابه وترك المحُكمات من آيات الل ّه؛ إ ْذ في ذلك الاتِّباع‬
‫بعد َ الهداية والاستقامة‪.‬‬

‫ن‬
‫ن الْغ َاوِي َ‬
‫شيْط َانُ فَك َانَ م ِ َ‬
‫خ مِنْهَا ف َأت ْبَع َه ُ ال ّ‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َات ْ ُ‬
‫ل عَلَيْه ِ ْم نَب َأ ال ّذ ِي آتَي ْنَاه ُ آي َاتنَِا فَانس َل َ َ‬
‫ض و َات ّب َ َع ه َوَاه ُ"‪:‬‬
‫* و َلَو ْ شِئ ْنَا لَرَفَعْنَاه ُ بِهَا و َلََٰكِن ّه ُ أخْلَد َ ِإلَى الْأ ْر ِ‬

‫ن م ِن أ ْن يُسلبَ نعمة َ الإيمان؛‬


‫ل في مقامات الهداية والعلم‪ ،‬فإن ّه غير ُ آم ٍ‬‫ن المرء َ مهما وص َ‬‫‪-‬تُبيِّنُ الآية ُ أ ّ‬
‫خالفات شرعية ٍ؛ ومن ذلك‪ :‬الركونُ إلى‬‫ٍ‬ ‫أمرا قدر ًّي ّا يُعاقبُ به العبد ُ على ما أتى من م‬
‫س قد يكونُ ً‬ ‫فالانتكا ُ‬

‫الدنيا واتِّباع الهوى‪ ،‬ومن شواهد ذلك‪ :‬قولُه ُ تعالى‪" :‬ف َأ ْعقَبَه ُ ْم نِف َاقًا فِي قُلُو بِه ِ ْم ِإلَى يَو ْ ِم يلَْقَو ْنَه ُ بِمَا أخْلَف ُوا الل ّه َ‬
‫م َا و َعَد ُوه ُ و َ بِمَا ك َانُوا يَكْذِبُونَ"‪ ،‬وقولُه ُ تعالى‪" :‬و َنُق َل ِّبُ أف ْئِدَتَه ُ ْم و َأبْصَار َه ُ ْم كَمَا ل َ ْم يُؤْم ِن ُوا بِه ِ أ ّو َ‬
‫ل م َّرة ٍ و َنَذَر ُه ُ ْم‬
‫طغْيَانِه ِ ْم يَعْمَه ُونَ"‪.‬‬
‫فِي ُ‬
‫‪- 006 -‬‬
‫نح ْب َه ُ وَمِنْه ُم مّن‬
‫صد َقُوا م َا عَاهَد ُوا الل ّه َ عَلَيْه ِ فم َِنْه ُم مّن ق َض َى َ‬
‫ل َ‬ ‫الآية الثالثة‪ :‬قال تعالى‪" :‬مّ ِ َ‬
‫ن ال ْمُؤْم ِنِينَ رِج َا ٌ‬
‫يَنتَظ ِر ُ وَم َا بَدّلُوا تَبْدِيل ًا"‪:‬‬
‫‪-‬في الآية ِ ذكر ٌ لثلُة ٍ مؤمنة ٍ ثبتوا أمام َ فتنة ِ مجيء الأحزاب وحصارِهم للمدينة؛ فأثنى الل ّه ُ على ثباتهم وخل ّد َ‬
‫ذكراهم في القرآن‪ ،‬حت ّى يكونوا مثل ًا وقدوة ً في الثبات؛ في َحتذيَ بهم المؤمنون من بعدهم‪.‬‬
‫ت م ِن قَبْلِه ِ‬
‫ل ق َ ْد خ َل َ ْ‬
‫وصف الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪ -‬الثباتَ بأن ّه شكر ٌ له ‪-‬سبحانه‪-‬؛ فقال تعالى‪" :‬وَم َا مُحَم ّدٌ ِإلّا رَسُو ٌ‬
‫َ‬ ‫‪-‬وق ْد‬

‫شي ْئًا وَسَي َجْ زِي الل ّه ُ‬


‫ل انق َلَب ْتُم ْ عَلَى أ ْعق َابِك ُ ْم وَم َن يَنق َل ِْب عَلَى عَق ِبَيْه ِ فَلَن يَضُر ّ الل ّه َ َ‬
‫ل أف َِإن مّاتَ أ ْو قُت ِ َ‬ ‫س ُ‬‫الر ّ ُ‬
‫ن الشاكرين ‪-‬بمعنى الثابتين‪ -‬في مقابل الذين انقلبوا على أعقابهم‪.‬‬ ‫أي‪ :‬أ ّ‬
‫ن"؛ ْ‬ ‫شاكِر ِي َ‬‫ال ّ‬

‫ن الثباتَ مما يحب ّه ُ الل ّهُ؛ فهو من وسائل شكر ِ ن ِع ِم الل ّه‪،‬‬
‫‪-‬تتعدد ُ الأسبابُ التي تدف ُع الإنسانَ للثبات؛ منها‪ :‬أ ّ‬
‫ومن هذه الأسباب أيضًا‪ :‬كثرة ُ الفتن والابتلاءات التي تدف ُع الإنسانَ إلى المعاصي؛ كنوازع الن ّفس‬
‫ووساوس الشيطان‪.‬‬

‫ك أسْ لَم ْتُ ‪،‬‬


‫ل الل ّه ﷺ؛ كان يقولُ‪" :‬الل ّه ُ ّم ل َ‬
‫ن رسو َ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن ابن عبا ٍ‬
‫س ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬أ ّ‬
‫ك ‪-‬لا إلَه َ إلّا أن ْتَ ‪ -‬أ ْن‬
‫صم ْتُ ‪ ،‬الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ بع ِز ّت ِ َ‬
‫ك خ َا َ‬
‫ك أنَب ْتُ ‪ ،‬و َب ِ َ‬
‫ك تَوَكّل ْتُ ‪ ،‬وإلَي ْ َ‬
‫ك آمَن ْتُ ‪ ،‬و َعَلَي ْ َ‬
‫و َب ِ َ‬
‫ْس يَمُوتُونَ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫َالإن ُ‬
‫ي ال ّذي لا يَم ُوتُ ‪ ،‬و َالْج ِنّ و ِ‬
‫تُضِ ل ّنِي‪ ،‬أن ْتَ الح َ ّ‬
‫يف أهمية الثبات والخوف م ِن الضلال في قلب المؤمن؛ ففي استعاذة الن ّب ِيّ ﷺ‬
‫ن وتعر َ‬
‫‪-‬يُعيد ُ الحديثُ بيا َ‬
‫ن‬
‫ل طر يق الاستقامة‪ ،‬وألا يغتر َ المؤم ُ‬
‫ن لأهمية دوام استحضار أمر الثبات طو َ‬
‫بربه ‪-‬سبحانه‪ -‬من الضلال بيا ٌ‬
‫حث للاقتداء بالن ّب ِيّ ﷺ في دعائه ربه‬
‫ّ‬ ‫ن من الانتكاس‪ ،‬وفي الحديث‬
‫بسلوكه لطر يق الإصلاح أن ّه صار َ بمأم ٍ‬
‫أ ْن يعيذَه ُ من الضلال‪.‬‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ إذ َا سَاف َر َ يَتَعَو ّذ ُ م ِن‬


‫ن ر َسو ُ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن عبدِ الل ّه بن سرجس ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قالَ‪( :‬كا َ‬
‫ل)‪ ،‬أخرج َه ُ‬ ‫ب‪ ،‬و َالْحَوْرِ بَعْد َ الـكَوْرِ‪ ،‬وَدَعْوَة ِ المَظْلُو ِم‪ ،‬وَسُوء ِ المَنْظَرِ في الأه ْ ِ‬
‫ل و َال ْمَا ِ‬ ‫وَعْثَاء ِ ال ّ‬
‫سفَرِ‪ ،‬وَك َآبَة ِ المُنْق َل َ ِ‬
‫مسلم ٌ‪ ،‬وفس ّر َ الترمذيّ وغيرُه ُ (الْحَو ْر بَعْد َ الـكَوْرِ)‪ :‬بالرجوع من الطاعة إلى المعصية‪.‬‬

‫أي‪ :‬لفها وإحكامها‪ ،‬و(الْحَو ْر)‪ :‬هو إعادة ُ نقضها بعد َ إحكا ِم لفها‬
‫‪(-‬الـكَو ْر)‪ :‬مأخوذ ٌ من كوْرِ العمامة؛ ْ‬
‫ل وجهدٍ؛ وفي هذا التشبيه تبشي ٌع لقضية الانتكاس بعد َ الاستقامة‪ ،‬كما قال‬
‫ج إلى عم ٍ‬
‫وطيها‪ ،‬وهذا يحتا ُ‬
‫َت غ َْزلَهَا م ِن بَعْدِ قُو ّة ٍ أنك َاث ًا"‪.‬‬
‫تعالى‪" :‬وَل َا تَكُونُوا ك َال ّتِي نَقَض ْ‬

‫ل الثبات والاستعاذة من‬


‫ن سؤا َ‬
‫‪-‬يُبرز ُ الحديثُ الاهتمام َ الن ّبويّ بقضية الثبات والتحذير من الانتكاس‪ ،‬وأ ّ‬
‫الانتكاس كان مركز ًّي ّا مكرر ًا في دعاء الن ّب ِيّ ﷺ‪.‬‬
‫‪- 007 -‬‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ الد ّج ّا َ‬
‫ل ذ َاتَ غَد َاة ٍ‪،‬‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن الن ّواس بن سمعان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ذَك َر َ رَسُو ُ‬
‫ك ف ِينَا‪ ،‬ف َقالَ‪" :‬ما شَأْ نُكُمْ؟"‪ ،‬قُل ْنَا‪:‬‬ ‫ف ذل َ‬ ‫ل‪ ،‬فَلَم ّا ر ُحْ نَا ِإلَيْه ِ ع َرَ َ‬
‫ض فيه وَر َف ّعَ‪ ،‬حت ّى ظَنَن ّاه ُ في طَائِفَة ِ الن ّخْ ِ‬ ‫فَخ َ ّف َ‬
‫ل‬
‫ل‪ ،‬ف َقالَ‪" :‬غَي ْر ُ الد ّج ّا ِ‬
‫ل غَد َاة ً‪ ،‬فَخ َ ّفضْ تَ فيه وَر َف ّعْتَ ‪ ،‬حت ّى ظَنَن ّاه ُ في طَائِفَة ِ الن ّخْ ِ‬ ‫ل الل ّهِ‪ ،‬ذَكَر ْتَ الد ّج ّا َ‬
‫يا رَسُو َ‬

‫سه ِ‪ ،‬و َالل ّه ُ‬


‫ج ن َ ْف ِ‬
‫يخ ْر ُجْ و َلَسْتُ ف ِيكُمْ‪ ،‬فَامْرُؤ ٌ حَ ج ِي ُ‬ ‫يخ ْر ُجْ و َأن َا ف ِيكُمْ‪ ،‬فأن َا حَ ج ِيج ُه ُ د ُونَكُمْ‪ ،‬وإ ْن َ‬
‫أخْ و َفُنِي علَيْك ُم‪ ،‬إ ْن َ‬
‫ن‪ ،‬فم َن أ ْدرَك َه ُ م ِنكُمْ‪،‬‬ ‫شبِّه ُه ُ بعَبْدِ الع ُز ّى ب ِن قَط َ ٍ‬
‫َاب قَط ٌَط‪ ،‬عَي ْن ُه ُ طَاف ِئ َة ٌ‪ ،‬ك َأن ِ ّي أ َ‬
‫سلِمٍ‪ ،‬إن ّه ش ّ‬ ‫ل مُ ْ‬
‫خ َلِيف َتي علَى ك ُ ّ ِ‬
‫شأْ ِم و َال ْع ِرَاقِ‪ ،‬فَع َاثَ يَمِينًا و َعَاثَ شِمَال ًا‪ ،‬يا عِبَاد َ الل ّه ِ‬
‫ج خَل ّة ً بيْنَ ال ّ‬
‫ْف‪ ،‬إن ّه خ َارِ ٌ‬ ‫فَل ْي َقْرأْ َ عليه ف َو َ ِ‬
‫اتح َ سُورَة ِ الـكَه ِ‬
‫فَاث ْبُت ُوا")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬

‫وضح ُ طر يقة َ الن ّب ِيّ ﷺ البياني ّة؛ فقد كان ﷺ يعتني بالبيان عناية ً‬ ‫ل)‪ :‬ي ُ ِ ّ‬
‫‪-‬قوله‪( :‬حت ّى ظَنَن ّاه ُ في طَائِفَة ِ الن ّخْ ِ‬
‫ل الل ّهِ‪ ،‬نَكُونُ عِنْدَك َ‪ ،‬تُذَك ِّر ُن َا بالن ّارِ و َالْجنَ ّة ِ حت ّى ك َأن ّا ر َأْ يُ‬
‫شديدة ً؛ كما قال حنظلة ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( :-‬يا رَسُو َ‬
‫عَيْنٍ)‪.‬‬

‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬يا عِبَاد َ الل ّه ِ فَاث ْبُت ُوا"‪ :‬فيه نداء ُ الن ّب ِيّ ﷺ لأصحابه وأمّته للثبات أمام َ فتنة الد ّج ّال وأمام َ ك ّ ِ‬
‫ل فتنة ٍ؛‬
‫فمن الأسباب الداعية للثبات‪ :‬استصحابُ المرء ِ لهذه الوصية الن ّبو ي ّة بالثبات أمام َ الفتن والابتلاءات‪.‬‬

‫ْف"‪ :‬لما في هذه الآيات من العجائب والمعجزات؛ فم َن ع َل ِم َهما لا‬ ‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬فَل ْيَقْرأْ َ عليه ف َو َ ِ‬
‫اتح َ سُورَة ِ الـكَه ِ‬
‫ل عليه الصّ بر ُ والثباتُ ‪ ،‬ومن أهم أسباب الثبات التي تُغذي قلب‬
‫يستغربُ أمرَ الد ّج ّال‪ ،‬ولا يُفتتنُ به ويسه ُ ُ‬
‫الإنسان بالإيمان واليقين‪ ،‬في َكونَ مستغنيًا عن دواعي الانتكاس‪ :‬القرآنُ؛ من حيث التعل ّق به وتلاوته‬
‫وتفعيله في يوم الإنسان‪.‬‬

‫ل وأسوة ٌ حين تكثُر ُ أمام َه ُ الفتنُ‪ ،‬فيَتذكر َ هذا‬ ‫‪-‬ينبغي أ ْن يكونَ للم ِ‬
‫ُصلح في ثبات أصحاب الـكهف مث ٌ‬
‫َستأنس بخبرهم ويستمد َ منهم الثباتَ والصّ بر َ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ج في الثبات والصّ بر؛ في‬
‫الأنموذ َ‬

‫ن قُلُوبَ بَنِي‬‫ل الل ّه ﷺ يقولُ‪"( :‬إ ّ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمرو ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬أن ّه سم َع رسو َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪:‬‬‫ل رَسُو ُ‬
‫حي ْثُ يَش َاء ُ"‪ ،‬ث ُم ّ قا َ‬
‫حدٍ‪ ،‬يُصَر ِّفُه ُ َ‬
‫كق َل ٍْب و َا ِ‬
‫ن‪َ ،‬‬ ‫آدَم َ ك ُل ّه َا بيْنَ ِإصْ بَع َيْنِ م ِن أصَاب ِِع الر ّحْم َ ِ‬
‫ك")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬ ‫ِف قُلُوبَنَا علَى طَاع َت ِ َ‬ ‫وب صَر ّ ْ‬
‫ِف الق ُل ُ ِ‬ ‫"الل ّه ُ ّم م ُصَر ّ َ‬

‫ن قلب ّه ُ ليس بيده‪،‬‬


‫ل على أساسها؛ وهي أ ّ‬
‫ن لحقيقة ٍ عقدية ٍ ينبغي أ ْن يفقه َها الإنسانُ ليعم َ‬
‫‪-‬في الحديث بيا ٌ‬
‫ن هذه الإرادة َ محكومة ٌ بإرادة الل ّه ‪-‬تعالى‪ ،-‬ولذلك؛ قال‬ ‫فالإنسانُ وإ ْن كان له اختيار ٌ وإرادة ٌ حقيقية ٌ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل بَيْنَ ال ْمَر ْء ِ و َقَل ْب ِه ِ و َأن ّه ُ ِإلَيْه ِ ُ‬
‫تح ْشَر ُونَ"‪.‬‬ ‫ن الل ّه َ يَح ُو ُ‬
‫تعالى‪" :‬و َاع ْلَم ُوا أ ّ‬

‫‪- 008 -‬‬


‫ن الإيمانَ هبة ٌ من الل ّه‬
‫ل ضعفه وحاجته‪ ،‬وأ ّ‬
‫ِف حا َ‬
‫‪-‬في تدب ّر ِ الحديث فوائد َ ع ّدة ٌ؛ منها‪ :‬أ ْن يتواض َع العبد ُ و يعر َ‬
‫الأسباب حت ّى يُكرم َه ُ الل ّه ُ بالثبات والاستقامة؛ كما قال تعالى‪" :‬و َلَو ْ شِئ ْنَا ل َرَفَعْنَاه ُ بِهَا‬
‫ِ‬ ‫ل‬
‫‪-‬تعالى‪ ،-‬وعلى العبد بذ ُ‬
‫ض و َات ّب َ َع ه َوَاه ُ"‪.‬‬
‫و َلََٰكِن ّه ُ أخْلَد َ ِإلَى الْأ ْر ِ‬

‫ِف‬
‫سبب من أهم أسباب الثبات؛ وهو الدعاء ُ في قول الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬الل ّه ُ ّم م ُصَر ّ َ‬ ‫ٍ‬ ‫يكشف الحديثُ عن‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬ثم‬
‫ك"‪ ،‬وباعثُ العبد على الدعاء بالثبات هو دوام ُ استحضارِ قلبه للخوف من‬ ‫ِف قُلُوبَنَا علَى طَاع َت ِ َ‬
‫وب صَرّ ْ‬
‫الق ُل ُ ِ‬
‫خوف من أهم صم ّامات الأمان في الآخرة؛ إذ فيه دف ٌع وأز ٌ للعبدِ على العمل‪ ،‬كما قال‬ ‫ن مقام َ ال ِ‬ ‫الل ّه؛ فإ ّ‬
‫طمَع ًا وَمِم ّا رَز َق ْنَاه ُ ْم يُنفِق ُونَ"‪.‬‬ ‫ن ال ْمَضَاج ِِع ي َ ْدع ُونَ ر َ ّبه ُ ْم َ‬
‫خو ْفًا و َ َ‬ ‫تعالى‪" :‬تَتَجَافَى جُن ُو بُه ُ ْم ع َ ِ‬

‫اث م َن كُنّ فيه وجَد َ‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قال‪" :‬ثَل َ ٌ‬
‫يح ِب ّه ُ إلّا لِل ّهِ‪ ،‬وأ ْن يَك ْرَه َ أ ْن‬
‫ِب المَر ْء َ لا ُ‬
‫يح ّ‬
‫َب إلَيْه ِ مم ّا سِوَاهُمَا‪ ،‬وأ ْن ُ‬
‫ح َلَاوَة َ الإيمَانِ‪ :‬أ ْن يَكونَ الل ّه ُ ور َسولُه ُ أح ّ‬
‫َف في الن ّارِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬ ‫يَع ُود َ في الـكُ ْفرِ كما يَك ْرَه ُ أ ْن ي ُ ْقذ َ‬

‫يعش حلاة َ الإيمان لن ينتبه َ إلى‬


‫ن من أهم أسباب الثبات‪ :‬الشعور َ بحلاوة الإيمان‪ ،‬وم َن لم ْ‬
‫‪-‬يُبرز ُ الحديثُ أ ّ‬
‫مرارة الـكفر‪ ،‬ولذا؛ ينبغي أ ْن يفقه َ الإنسانُ أن ّه ليس مطلوب ًا منه أ ْن يؤديَ العبادات فحسب‪ ،‬بل من المهم‬
‫أ ْن يسعى إلى الوصول إلى حلاوة الإيمان ثم المحافظة عليها في قلبه‪.‬‬

‫ل إبراهيم ابن أدهم ‪-‬رحمه الل ّه‪( :-‬لوْ يعلم ْ‬


‫‪ -‬لحلاوة الإيمان طعمٌ لا يعرف ُه ُ إلا م َن ذاق َه ُ وعاشَه ُ؛ ومن ذلك‪ :‬قو ُ‬
‫أوقات‬
‫ٌ‬ ‫ن فيه من الن ّعيم لجالدونا عليه بالسيوف)‪ ،‬وقال بعض ُهم‪( :‬إن ّه لتم َُر َ بالقلب‬ ‫الملوك ُ وأبناء ُ الملوك ما نح ُ‬
‫طيب)‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ش‬
‫ل هذا إ ّنهم لفي عي ْ ٍ‬
‫ل الجن ّة في مث ِ‬
‫ل إ ْن كان أه ُ‬
‫يرقص فيها طرب ًا‪ ،‬حت ّى أقو َ‬
‫ُ‬

‫ن الل ّه ُ ور َسولُه ُ‬
‫ق الموصِلة ِ إلى حلاوة الإيمان؛ أوّلُها في قوله ﷺ‪" :‬أ ْن يَكو َ‬ ‫‪-‬ي ُ ِ ّ‬
‫وضح ُ الحديثُ ثلاث ًا من الط ُر ُ ِ‬
‫ق متولدة ٍ عنه‬ ‫الأساس وما بعدَه ُ من الط ُر ُ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ق ‪-‬محبة الل ّه ورسوله ﷺ‪ -‬هو‬ ‫َب إلَيْه ِ مم ّا سِوَاهُمَا"؛ وهذا الطر ي ُ‬
‫أح ّ‬
‫يح ِب ّه ُ إلّا لِل ّهِ‪ ،‬وأ ْن يَك ْرَه َ أ ْن يَع ُود َ في الـكُ ْفرِ كما يَك ْرَه ُ أ ْن‬
‫ِب المَر ْء َ لا ُ‬
‫يح ّ‬
‫ولازمة ٍ له؛ وهما في قوله ﷺ‪" :‬وأ ْن ُ‬
‫َف في الن ّارِ"‪.‬‬ ‫ي ُ ْقذ َ‬

‫ق الشعور القلبي بمحبة ِ الل ّه ورسوله ﷺ يكونُ تصديق ًا بالعمل الذي غالبًا ما يكونُ فيه‬
‫ن تحقي َ‬
‫‪-‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫ن واختبار ٌ لمحبة الل ّه ورسوله ﷺ في قلب العبد عند َ تزاحم المحاب‬ ‫حبوبات أخرى‪ ،‬وفي هذا امتحا ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫تضحية ٌ بم‬
‫فيه؛ كما قال تعالى‪" :‬ق ُلْ ِإن ك َانَ آب َاؤ ُك ُ ْم و َأب ْنَاؤ ُك ُ ْم و َِإخْ وَانُك ُ ْم و َأ ْزو َاجُك ُ ْم وَعَشِيرَتُك ُ ْم و َأمْوَا ٌ‬
‫ل اق ْتَرَف ْتُم ُوه َا‬
‫ن الل ّه ِ وَرَسُولِه ِ و َ ِ‬
‫جه َادٍ فِي سَب ِيل ِه ِ فَتَر َب ّصُوا حَت ّى ي َأْ تِي َ‬ ‫َب ِإلَيْك ُم مّ ِ َ‬
‫ضوْنَهَا أح ّ‬
‫ن تَرْ َ‬
‫ك ُ‬
‫كس َاد َه َا وَمَس َا ِ‬
‫تخْشَوْنَ َ‬
‫و َتِ جَارَة ٌ َ‬
‫الل ّه ُ ب ِأ ْمرِه ِ و َالل ّه ُ ل َا يَهْدِي الْقَوْم َ الْف َاسِق ِينَ"‪.‬‬
‫‪- 009 -‬‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪" :‬ق ُ ِ‬
‫ل‪ :‬الل ّه ُ ّم‬ ‫الحديث السادس‪ :‬عن علي بن أبي طالب ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قالَ‪( :‬قا َ‬
‫ل لي ر َسو ُ‬
‫سد َاد َ الس ّ ْه ِم")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫سد َادِ َ‬
‫طرِ يقَ‪ ،‬و َال ّ‬
‫ك ال ّ‬
‫س ّدِ ْدنِي‪ ،‬و َا ْذكُر ْ بالهُد َى هِد َايَت َ َ‬
‫اهْدِنِي و َ َ‬

‫‪-‬يع ّد هذا الحديثُ ‪-‬على اختصاره‪ -‬من أركان الثبات على الاستقامة؛ إ ْذ فيه تعليم ُ الن ّب ِيّ ﷺ لعلي بن أبي‬
‫لسبب من أسباب إجابة الدعاء؛ وهو‬ ‫ٍ‬ ‫جه َه ُ الن ّب ِيّ ﷺ‬
‫سداد َ‪ ،‬ثم و ّ‬
‫طالب أ ْن يدعو الل ّه َ ويسألَه ُ الهداية َ وال ّ‬
‫(استحضار ُ معاني الدعاء في قلب الداعي أثناء َ دعائه)‪.‬‬

‫أي‪ :‬وأنت تدعو بهذا الدعاء أ ْن يكونَ‬


‫سد َاد َ الس ّ ْه ِم"‪ْ :‬‬
‫سد َادِ َ‬
‫طرِ يقَ‪ ،‬و َال ّ‬
‫ك ال ّ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬و َا ْذكُر ْ بالهُد َى هِد َايَت َ َ‬
‫حرف عنه‬
‫ق فَال ْتَب ََس عليه؛ فإذا هُدِيَ إليه فإن ّه لا ين ُ‬
‫ن المطلوبَ هداية ٌكهداية م َن مشى في طر ي ٍ‬
‫في خاطرك أ ّ‬
‫سداد َ الذي تدعو به يكونُ كسداد الس ّهم في سرعة وصوله وإصابته للهدف‪،‬‬
‫ن ال ّ‬
‫ل إلى غايته‪ .‬وأ ّ‬
‫حت ّى يص َ‬
‫سداد والثباتَ على الاستقامة‪.‬‬
‫فتكونُ في سؤالك طالبًا غاية َ الهدى ونهاية َ ال ّ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫خُـلاصة ُ‬
‫ن مسألة َ الثبات على الاستقامة ليست قضية ً ترفية ً‪ ،‬بل هي قضية ٌ مركز ي ّة ٌ في حياة المؤمن‪ ،‬لذا؛ ينبغي أ ْن‬
‫‪-‬أ ّ‬
‫ن مقام َ الخوف من المقامات التي تدف ُع وتُحرِ ّك ُ العبد َ تُجاه َ العمل والدعاء بالهداية‬
‫خاف من الانتكاس؛ فإ ّ‬
‫ي َ‬
‫والثبات على الاستقامة‪.‬‬

‫‪- 021 -‬‬


‫ن الغلو ِ‬
‫ل في الدي ِن والحذر ُ م ِ َ‬
‫المحاضرة العشرون‪ :‬الاعتدا ُ‬
‫ل في الدي ِن والتيسير ِ فيه‪،‬‬
‫حث على الاعتدا ِ‬
‫باب في ال ِّ‬
‫ٌ‬
‫س أو الغير ِ‬
‫ن الغلو ِ والتشديدِ على الن ّف ِ‬
‫والتحذير ِ م ِ َ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫ن لر ب ّاني ّة هذا الد ِّين؛ وذلك من جهتين‪:‬‬
‫‪-‬هذا البابُ من محاسن الد ِّين باعتبار ما فيه من بيا ٍ‬
‫الأولى‪ :‬تربية ُ الن ّفس على القصد والتوسّ ط والاعتدال في إقبالها على شرائع الد ِّين؛ وهذا من أعظم أسباب‬
‫الثبات على الد ِّين‪.‬‬

‫الثانــية‪ :‬تهذيبُ الن ّفس بمنعها من الغلو ‪-‬وهو‪ :‬مجاوزة ِ الح ّدِ‪ -‬والتشديد؛ لما في ذلك من الانتكاس وعدم‬
‫الثبات على الد ِّين؛ وللغلو صور ٌ متعددة ٌ منها‪:‬‬
‫‪ -١‬الغلو ُ في الأشخاص‪ :‬أولئك الذين يُعتقد ُ فيهم الصّ لا ُ‬
‫ح وأ ّنهم وسيلة ٌ إلى الل ّه ‪-‬تعالى‪-‬؛ كالغلو في الأنبياء‬
‫والصالحين‪ ،‬وقد ح ّذر َ الن ّبيّ ﷺ من الغلو في شخصه فقال ﷺ‪" :‬ل َا تُطْر ُونِي كما أطْ ر َِت الن ّصَار َى اب ْ َ‬
‫ن م َْري َم َ؛‬
‫ك إذ َا‬
‫ن أولَئ ِ َ‬ ‫فإن ّما أن َا عَبْدُه ُ‪ ،‬فَق ُولوا‪ :‬عبد ُ الل ّه ِ وَرَسُولُه ُ"‪ ،‬وقال ﷺ ُ‬
‫مح ّذِر ًا من مشابهة أهل الكتاب في الغلو‪" :‬إ ّ‬
‫ق عِنْد َ‬
‫ك شِر َار ُ الخَل ْ ِ‬
‫ك الصّ وَر َ‪ ،‬ف َأولَئ ِ َ‬
‫صو ّر ُوا فيه تِل َ‬
‫جدًا‪ ،‬و َ‬
‫س ِ‬
‫ل الصّ الِ ح ُ فَمَاتَ ‪ ،‬بَنَو ْا علَى قَبْرِه ِ م َ ْ‬
‫كانَ ف ِيهِم ُ الر ّج ُ ُ‬
‫الل ّه ِ يَوم َ الق ِيَامَة ِ"‪.‬‬
‫‪ -٢‬الغلو ُ المتعلِّق بالعبادة‪ :‬وذلك من جهتين‪:‬‬
‫أ‪ -‬من جهة الاستكثار الزائد عن الح ّدِ؛ الذي من شأنه أ ْن يعود َ على الن ّفس بالفتور والانتكاس‪.‬‬
‫ب‪ -‬من جهة منع الن ّفس عن كثيرٍ مما أحل ّه الل ّه ُ بن ِّي ّة العبادة‪.‬‬
‫‪ -٣‬الغلو ُ في الحكم على الآخرين‪.‬‬
‫‪ -٤‬الغلو ُ في التشديد على الآخرين في شرائع الد ِّين من العبادات‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫اب ل َا تَغْلُوا فِي دِينِك ُ ْم وَل َا تَق ُولُوا عَلَى الل ّه ِ ِإلّا الْحَقّ "‪:‬‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬ي َا أه ْ َ‬
‫ل الْكِت َ ِ‬
‫ن الغلو في الأشخاص‪ ،‬وقد غلا أه ُ‬
‫ل الكتاب في العبادة من جهة منع أنفسهم عم ّا أحل ّه‬ ‫جاءت الآية ُ في بيا ِ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬

‫الل ّهُ؛ كامتناع المتدينين منهم عن الزواج؛ كما قال تعالى‪" :‬وَرَه ْبَانيِ ّة ً اب ْتَدَع ُوه َا م َا كَتَب ْنَاه َا عَلَيْه ِ ْم ِإلّا اب ْتِغ َاء َ‬
‫ن الل ّه ِ فَمَا رَعَو ْه َا حَقّ رِعَايَتِهَا"‪.‬‬
‫رِضْ وَا ِ‬
‫‪- 020 -‬‬
‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬فَاسْ ت َق ِ ْم كَمَا أم ِْرتَ وَم َن ت َابَ مَع َ َ‬
‫ك وَل َا ت َ ْطغَو ْا"‪:‬‬
‫خطاب للن ّب ِيّ ﷺ بالاستقامة‪ ،‬وعدم الإفراط والز يادة عن الح ّدِ في العبادة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫‪-‬في الآية ِ‬

‫ن يُسْر ٌ‪ ،‬ولَنْ يُش َادّ‬


‫ن الد ِّي َ‬‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬إ ّ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ن الد ّلْجَة ِ"‪ ،‬أخرج َه ُ‬ ‫ن أحَدٌ إلّا غَلَب َه ُ‪ ،‬فَسَ ّدِد ُوا وقَارِبُوا‪ ،‬وأب ْشِر ُوا‪ ،‬واسْ ت َع ِين ُوا بالغ َ ْدوَة ِ والر ّ ْوحَة ِ وشيء ٍ م ِ َ‬
‫الد ِّي َ‬
‫البخاريّ ‪.‬‬
‫ل‬
‫ن الل ّه َ ‪-‬تعالى‪ -‬جع َ‬
‫ن لقاعدة ٍ كبرى من قواعد الشر يعة؛ وهي أ ّ‬‫‪-‬هذا الحديثُ أمّ في هذا الباب؛ إ ْذ فيه بيا ٌ‬
‫ج هذا الحديثُ تحتَ ِ‬
‫نوع الغلو في العبادة‪.‬‬ ‫دين َه ُ سهل ًا م ُيسر ًا في عقائده وشرائعه‪ ،‬ويندر ُ‬

‫ن =غلب َه ُ وقطع َه ُ‪.‬‬


‫ن لا ي ُؤخذ ُ بالمغالبة؛ فم َن شادّ الد ِّي َ‬
‫ن الد ِّي َ‬
‫أي‪ :‬أ ّ‬
‫ن أحَدٌ إلّا غَلَب َه ُ"‪ْ :‬‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬ولَنْ يُش َادّ الد ِّي َ‬

‫سديد؛ بمعنى‪ :‬إصابة العمل بالقصد والتوسّ ط‬ ‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬فَسَ ّدِد ُوا وقَارِبُوا‪ ،‬وأب ْشِر ُوا"‪ :‬فيه توصية ُ الن ّب ِيّ ﷺ بالت ْ‬
‫سداد َ في العمل‬
‫سداد لا يكونُ إلا بالعلم‪ ،‬ثم وصى ﷺ بالمقاربة؛ بمعنى‪ :‬إ ْن لم تستطيعوا ال ّ‬ ‫في العبادة‪ ،‬وال ّ‬
‫والأخْذ َ بالأكمل فيه‪ ،‬فاعملوا بما ي َ ْقر ُبُ منه‪ ،‬ثم بش ّر َ الن ّبيّ ﷺ العاملين بالث ّواب على هذا العمل‪.‬‬

‫سداد‬ ‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬واسْ ت َع ِين ُوا بالغ َ ْدوَة ِ والر ّ ْوحَة ِ وشيء ٍ م ِ َ‬
‫ن الد ّلْجَة ِ"‪ :‬فيه إرشاد ٌ من الن ّب ٍيّ ﷺ لما يُساعد ُ على ال ّ‬
‫والمقاربة وذلك بالاستعانة بأوقات النشاط والإقبال؛ وفي ذلك تشبيه ٌ للإنسان في حال عبادته بالمسافر‪ ،‬أمّا‬
‫سير ُ آخر َ الل ّيل؛ وقال ﷺ‪" :‬وشيء ٍ م ِ َ‬
‫ن الد ّلْجَة ِ"‪:‬‬ ‫خر ُ النّهار‪ ،‬والد ّلجة ُ‪ :‬هي َ‬
‫ل النّهار‪ ،‬والر ّوحة ُ‪ :‬آ ِ‬
‫الغ َدوة ُ‪ :‬فهي أوّ ُ‬
‫تخفيف ًا على الن ّفس لمشقة ِ عمل الل ّيل إذ هو من مساحات الراحة؛ فسير ُ آخر ِ الل ّيل محمود ٌ في سير القلوب إلى‬
‫الل ّه بالأعمال التي يتبل ّ ُغ بها العبد ُ المنزلة َ عند َ الل ّه‪.‬‬
‫ل أوقاتها على العمل؛ لما في‬
‫ل نفسَه ُ في ك ّ ِ‬
‫‪-‬وعلى ذلك؛ ينبغي أ ْن يقصِ د َ العبد ُ ويتوسّ ط في عبادته؛ فلا يحم ُ‬
‫ل أوقات نشاطها في التعب ّد‪ ،‬وأخذِ الشيء من أوقات‬
‫ذلك من هلاكها وانتكاسها وإملالها‪ ،‬بل عليه استغلا ِ‬
‫راحتها ‪-‬قليل ًا أو كثير ًا‪ -‬بحسب استطاعته‪.‬‬

‫ل لأخِيه ِ‪ :‬يا‬
‫ل قا َ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رسو ُ‬
‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬أي ّما رَج ُ ٍ‬
‫كاف ِر ُ‪ ،‬فق َ ْد باء َ بها أحَد ُهُما"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫نوع الغلو في الحكم على الن ّاس‪ ،‬ولم ّا كان بابُ الأخو ّة ِ بينَ المؤمنين من مركز يات‬ ‫ِ‬ ‫ج الحديثُ تحتَ‬ ‫‪-‬يندر ُ‬
‫=كانت المخالفة ُ فيه ‪-‬بإطلاق المؤمن وصف الـكفر على أخيه‪ -‬مخالفة ً عظيمة ً "فق َ ْد باء َ بها أحَد ُهُما"‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫الد ِّين‬
‫ن إطلاقَ الـكفر على أعلى درجات‬ ‫كفْر ٌ"؛ فإ ّ‬
‫سل ِ ِم فُس ُوقٌ ‪ ،‬وق ِتَالُه ُ ُ‬
‫ومن شواهد ذلك‪ :‬قوله ﷺ‪" :‬سِبَابُ الم ُ ْ‬
‫ل بينَ المؤمنين‪ ،-‬إن ّما جاء َ من عِظ َ ِم باب علاقة الأخو ّة بينَ المؤمنين في الشر يعة‪.‬‬
‫المخالفة ‪-‬وهي القتا ُ‬
‫‪- 022 -‬‬
‫أردت أ ْن تفقه َ باب ًا من أبواب محكمات الشر يعة؛ عليك أ ْن تنظر َ فيما ورد َ في الشر يعة مما‬
‫ْ‬ ‫فاـئدة‪ :‬إذا‬
‫حث على‬
‫تأت للنصوص التي ت ّ‬
‫أردت أ ْن تفقه َ مكانة َ باب الأخو ّة في الد ِّين؛ فلا ِ‬
‫ْ‬ ‫ضه ُ و يضادّه ُ‪ ،‬فمثل ًا‪ :‬إذا‬
‫يناق ُ‬
‫يناقض ذلك‪ ،‬وما جاء َ فيها من قدرِ‬
‫ُ‬ ‫الأخو ّة فحسب‪ ،‬بل يجبُ أ ْن تنظر َ أيضًا في النصوص الواردة فيما‬
‫التشديد على مخالفتها‪.‬‬
‫ل عَلَيّ‬‫سدٍ‪ ،‬فَدَخ َ َ‬ ‫قالت‪( :‬ك َان َْت عِندِي امْرَأة ٌ م ِن بَنِي أ َ‬ ‫ْ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن عائشة َ ‪-‬رضي الل ّه عنها‪-‬‬
‫ل‪" :‬مَه ْ علَيْك ُم ما‬
‫ل‪ ،‬فَذُك ِر َ م ِن صَلَاتِهَا‪ ،‬ف َقا َ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫ل‪" :‬م َن هذِه؟"‪ ،‬قُلتُ ‪ :‬فُلَانَة ُ لا تَنَام ُ بالل ّي ْ ِ‬ ‫ر َسو ُ‬
‫ل حت ّى تَمَل ّوا")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ن الل ّه َ لا يَم َ ّ‬
‫ن الأعْمَالِ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن مِ َ‬
‫تُط ِيق ُو َ‬

‫‪-‬يؤكد ُ الحديثُ على ر ب ّانية هذا الد ِّين؛ وذلك في نهي الن ّب ِيّ ﷺ عن الغلو في العبادة في أوّل زمن الن ّب ُو ّة‪ ،‬إ ْذ‬
‫ن‬ ‫آلت بالمؤمن إلى الانقطاع والفتور‪ ،‬وإن ّما من ر ب ّانية الد ِّين‪ :‬أ ّ‬
‫لم يكن ثمة ُ تجرِبة ٍ عملية ٍ في الز يادة في التعب ّد ْ‬
‫س عباده‪ ،‬ولذا؛ أوحى إلى نبيه ﷺ أ ْن يأمرَ أصحابه بالاعتدال؛ بأ ْن يأتوا من الأعمال ما‬ ‫الل ّه َ عليم ٌ بنفو ِ‬
‫ل بالن ّفس إلى الهلاك والضجر والانتكاس‪.‬‬‫يطيقون‪ ،‬وأ ْن ينهاهم عن الغلو الذي يؤو ُ‬

‫ن الل ّه َ يجاز يه عليها ولا‬


‫ل العبد ُ من أعمالٍ؛ فإ ّ‬
‫ل حت ّى تَمَل ّوا"‪ :‬في بيانُ أن ّه مهما عَم ِ َ‬ ‫ن الل ّه َ لا يَم َ ّ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬فإ ّ‬
‫ل العبد ُ من العمل‪.‬‬ ‫ل من مثوبة ِ عبدِه ِ حت ّى يم ّ‬ ‫ن الل ّه َ لا يم ّ‬‫يقط ُع عنه ثواب َه ُ‪ ،‬فإ ّ‬

‫َاج الن ّب ِيّ ﷺ‪،‬‬


‫ُوت أ ْزو ِ‬
‫أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ج َاء َ ثَلَاثَة ُ رَه ْطٍ إلى بُي ِ‬
‫ِ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن‬
‫ن الن ّب ِيّ ﷺ؟! ق ْد غ ُف ِر َ له ما‬
‫ن مِ َ‬
‫نح ْ ُ‬
‫ن َ‬
‫يَسْألُونَ عن عِبَادَة ِ الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬فَلَم ّا أخْب ِر ُوا ك َأ ّنه ُ ْم تَق َال ّوه َا‪ ،‬ف َقالوا‪ :‬وأي ْ َ‬
‫ل آخَر ُ‪ :‬أن َا أصُوم ُ الد ّه ْر َ ول َا أفْط ِر ُ‪،‬‬
‫ل أبَد ًا‪ ،‬وقا َ‬
‫ل أحَد ُه ُ ْم‪ :‬أمّا أن َا فإن ِ ّي أصَل ِّي الل ّي ْ َ‬
‫خر َ‪ ،‬قا َ‬
‫تَق َ ّدم َ م ِن ذَن ْبِه ِ وما ت َأ ّ‬
‫ن قُلتُم ْ كَذ َا وكَذ َا؟!‬
‫ل‪" :‬أن ْتُم ُ ال ّذ ِي َ‬‫ل الل ّه ِ ﷺ إليه ِم‪ ،‬ف َقا َ‬ ‫ج أبَد ًا‪ ،‬فَجَاء َ ر َسو ُ‬
‫ل النِّس َاء َ فلا أت َزَوّ ُ‬ ‫ل آخَر ُ‪ :‬أن َا أع ْتَزِ ُ‬ ‫وقا َ‬
‫ج النِّس َاءَ‪ ،‬فم َن رَغِبَ عن‬ ‫أم َا والل ّه ِ إن ِ ّي ل َأخْ ش َاك ُ ْم لِل ّه ِ وأتْق َاك ُ ْم له‪ ،‬لـَكِن ِ ّي أصُوم ُ وأفْط ِر ُ‪ ،‬وأصَل ِّي وأرْقُد ُ‪ ،‬وأت َزَوّ ُ‬
‫فليس م ِن ِ ّي")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫سُن ّتي‬

‫ف‬‫ل ألّا يتكل ّ َ‬ ‫ِ‬


‫نوع الغلو من جهة منع الن ّفس عم ّا أحل ّه الل ّه ُ بن ِّي ّة العبادة‪ ،‬والأص ُ‬ ‫ج الحديثُ تحتَ‬ ‫‪-‬يندر ُ‬
‫ق من العبادة‪ ،‬وأ ْن يبتعد َ عن الغلو؛ إذ القضية ُ ليست في كثرة التعب ّد‪ ،‬ولـكن في مدى‬ ‫الإنسانُ ما لا ي ُطي ُ‬
‫الموافقة والات ّ ِباع لهدي الن ّب ِيّ ﷺ‪.‬‬

‫سك بس ُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ‬


‫ل جانبَ التفر يط؛ بمعنى عدم التم ّ‬ ‫فليس م ِن ِ ّي"‪ :‬يشم ُ‬
‫َ‬ ‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬فم َن رَغِبَ عن سُن ّتي‬
‫ل جانبَ الإفراط؛ بمعنى الغلو ومجاوزة ح ّدِ الس ُن ّة والز يادة عليها‪ ،‬أمّا خير ُ الهدي فيكونُ‬ ‫والزهد فيها‪ ،‬ويشم ُ‬

‫‪- 023 -‬‬


‫بموافقة هدي الن ّب ِيّ ﷺ؛ وهذه الموافقة ُ لا تكونُ إلا بالعلم‪ ،‬ومن أشرف أبواب العلم‪ :‬العلم ُ بس ُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ؛‬
‫ل إجمال ٍيّ شمول ٍيّ كما في كُت ُِب السِي َر والمغازي‪.‬‬
‫ل تفصيل ٍيّ كما في كُت ُِب الحديث‪ ،‬أو بشك ٍ‬
‫إمّا بشك ٍ‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ غداة َ العقبة ِ و َهو َ على‬


‫ل لي رسو ُ‬
‫ل‪( :‬قا َ‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن ابن عبا ٍ‬
‫س ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قا َ‬
‫ل‬
‫ذف‪ ،‬فلم ّا وضعتُهنّ في يدِه‪ ،‬قال‪" :‬بأمثا ِ‬ ‫حصيات هنّ حصى الخ َ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫هات الق ِْط لي"‪ ،‬فلقطتُ لَه ُ‬ ‫راحلت ِه‪ِ " :‬‬
‫هؤلاءِ‪ ،‬وإي ّاكم والغلو ّ في الد ِّين‪ ،‬فإن ّما أهل َ َ‬
‫ك من كان قبلـَكم ُ الغلو ّ في الد ِّي ِن")‪ ،‬أخرج َه ُ النسائيّ‪.‬‬

‫صة ً من جهة عنايته الـكبيرة بطر يقة انتقاء‬ ‫فاـئدة حديثية‪ :‬ينبغي الاعتناء ُ بس ُنَنِ الإمام النسائ ِيّ خا ّ‬
‫ل‬
‫الأحاديث الصحيحة فيها؛ وذلك بأسلوب التحري وذكر العلل‪ ،‬أمّا الأحاديثُ التي لم يذكر ْ لها عللًا؛ فالأص ُ‬
‫ل منها متنازع فيه‪.‬‬
‫الصحة إلا في قلي ٍ‬
‫فيها ِّ‬
‫غرض العبادة‪،‬‬
‫َ‬ ‫ل هؤلاء ِ"‪ْ :‬‬
‫أي‪ :‬ارموا الجمرات بأمثال هؤلاء الحصيات في الحجم التي تؤدي‬ ‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬بأمثا ِ‬
‫ن القصدَ ليس كسر َ الشاخص (عمود الرمي) وإن ّما أداء ُ العبادة‪،‬‬ ‫ولا تبالغوا فترموا بحجارة ٍ كبيرة ٍ؛ لأ ّ‬

‫يت وبالصّ فا والمَر ْوة ِ‪ ،‬ورَمْي ُ الجِمارِ‪ ،‬لإقامة ِ ذِكر ِ الل ّه ِ ‪ّ -‬‬
‫عز‬ ‫واف بالب َ ِ‬
‫ط ُ‬ ‫ل ال ّ‬
‫ولذلك؛ قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬إن ّما جُع ِ َ‬
‫ل‪."-‬‬
‫وج ّ‬
‫ن المجاوزة َ في الح ّدِ‬
‫أي أ ّ‬
‫ك من كان قبلـَكم ُ الغلو ّ في الد ِّي ِن"‪ْ :‬‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬وإي ّاكم والغلو ّ في الد ِّين‪ ،‬فإن ّما أهل َ َ‬
‫سبب من أسباب الهلاك‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫والتش ّدد َ في الد ِّين بالإفراط في العبادات‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ وهو‬ ‫ن عِنْد َ ر َسو ِ‬ ‫نح ْ ُ‬


‫خدري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬بي ْن َما َ‬ ‫ِّ‬ ‫الحديث السادس‪ :‬عن أبي سعيدٍ ال‬
‫ك! وم َن‬
‫ل‪" :‬و يْل َ َ‬‫ل الل ّهِ‪ ،‬اعْدِلْ ‪ ،‬ف َقا َ‬‫ل‪ :‬يا ر َسو َ‬
‫يم‪ -‬ف َقا َ‬
‫ل م ِن بَنِي تَم ِ ٍ‬‫سم ًا‪ ،‬أت َاه ُ ذ ُو الخُو َيْصِرَة ِ ‪-‬وهو رَج ُ ٌ‬
‫ي َ ْقسِم ُ ق َ ْ‬
‫ل الل ّهِ‪ ،‬ائْذ َ ْن لي فيه‬‫ل ع ُم َر ُ‪ :‬يا ر َسو َ‬ ‫خسِرْتَ إ ْن ل َ ْم أكُنْ أعْدِ ُ‬
‫ل"‪ .‬ف َقا َ‬ ‫خب ْتَ و َ‬ ‫ل إذ َا ل َ ْم أعْدِلْ ؟! ق ْد ِ‬
‫يَعْدِ ُ‬
‫يح ْق ِر ُ أحَد ُك ُ ْم صَلَاتَه ُ مع صَلَاتِهِمْ‪ ،‬وصِيَام َه ُ مع صِيَامِهِمْ‪،‬‬
‫صحَاب ًا َ‬
‫ن له أ ْ‬‫ل‪" :‬دَع ْه ُ‪ ،‬فإ ّ‬
‫فأضْرِبَ ع ُنُق َه ُ؟‪ ،‬ف َقا َ‬
‫ن الر ّم ِي ّة ِ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ن الد ِّي ِن كما يَم ْر ُقُ الس ّ ْهم ُ م ِ َ‬
‫يَقْرَؤ ُونَ القُر ْآنَ لا يُجَاوِز ُ ت َر َاقِيَهُمْ‪ ،‬يَم ْر ُقُونَ م ِ َ‬

‫ج بعد َه ُ‬
‫‪-‬ي ُ ْذكر ُ هذا الحديثُ في باب دلائل الن ّبو ّة؛ إ ْذ ذكر َ فيه الن ّبيّ ﷺ ‪-‬من الأمور الغيبية‪ -‬أن ّه سيخر ُ‬
‫خوارج يقاتلون أهل الإسلام‪ ،‬ثم ذكر ﷺ صفاتهم وعلاماتهم؛ قال أبو سعيدٍ الخدري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪:-‬‬

‫ن أبِي طَال ٍِب قَاتلََه ُ ْم وأن َا معه ُ‪ ،‬فأم َرَ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬وأشْهَد ُ أ ّ‬
‫ن عَلِيّ ب َ‬ ‫(فأشْهَد ُ أن ِ ّي سَمِعْتُ هذا الحَدِيثَ م ِن ر َسو ِ‬
‫ْت الن ّب ِيّ ﷺ الذي نَع َت َه ُ)‪.‬‬
‫ل‪ ،‬فَالْتم ُ َِس ف َأتِي َ به‪ ،‬حت ّى نَظَر ْتُ إلَيْه ِ علَى نَع ِ‬
‫ك الر ّج ُ ِ‬
‫بذل َ‬

‫ن فهم َ طبيعة التش ّدد والغلو يُعينُ على فهم الن ّفس البشر ية وفهم الس ُنَن الإلهية في الهداية‬
‫‪-‬يبي ِّنُ الحديثُ أ ّ‬
‫والضلال؛ ومن ذلك‪ :‬غلو ُ فرقة الخوارج؛ فقد كانوا يتش ّددون في تقييم أنفسهم ز يادة ً مما هي عليه من جهة‬
‫‪- 024 -‬‬
‫حقِ‪ ،‬وكذلك يغالون في تقييم الآخرين ا نقاصًا مما هم عليه من الفضل والعلم‪ ،‬وز يادة ً في إسقاطهم‬
‫إصابة ال ّ‬
‫حق حت ّى فعلوا ذلك مع الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬ومن إشكاليات الخوارج ‪-‬أيضًا‪ -‬ما يلي‪:‬‬
‫من جهة عدم إصابة ال ّ ِ‬

‫‪ -١‬أ ّنهم لا يبصرون حسنات الآخرين ونفعهم للن ّاس إذا لم يوافقوهم في الجزئية التي يؤمنون بها‪.‬‬
‫‪ -٢‬أ ّنهم يتجرأون على حدود الد ِّين المحكمة؛ كعصمة دم المسلم‪ ،‬والأخو ّة بينَ المؤمنين‪ ،‬وتكفير المسلمين‪.‬‬
‫‪ -٣‬أ ّنهم يجهلون بس ُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ ولا يأخذونها بشمولية ٍ؛ ولديهم انعدام ٌ في الن ّظر الشمولي للفقه في الد ِّين‪.‬‬

‫ل على اعتدال أهل الس ُن ّة‪ :‬أن ّه مع ما ورد َ في الخوارج من النصوص الصحيحة‬
‫‪-‬ومن المفارقات التي تد ّ‬
‫بعض المبتدعة‬
‫َ‬ ‫ن جماهير أهل العلم يقولون بعدم كفرهم‪ ،‬وفي المقابل‪ :‬قد تجد ُ‬
‫الصر يحة في الوعيد‪ ،‬إلا أ ّ‬
‫نص صريح ٌ أو وعيدٌ شديد ٌ‪ ،‬بل يكفرونهم لمجر ّد الخطأ أو الالتباس في مسألة ٍ ما؛‬
‫يكفرون أناسًا لم ير ْد فيهم ّ‬
‫قاموا بتقليد بعض أهل العلم فيها‪.‬‬

‫ن كثرة َ العمل مع اختلال العقيدة لا تحمي صاحبها‬


‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬يَقْرَؤ ُونَ القُر ْآنَ لا يُجَاوِز ُ ت َر َاقِيَه ُ ْم"‪ :‬فيه بيانُ أ ّ‬
‫من سخط الل ّه‪ ،‬وكذلك؛ أ ّ‬
‫ن مبدأ علاقة العبد بالقرآن ليس في كثرة تلاوته وحفظه فحسب‪ ،‬بل المبدأ‬
‫ي من العلاقة بالقرآن‪ :‬هو الاهتداء ُ به من جهة العلم والعمل كما كانت تربية ُ الن ّب ِيّ ﷺ لأصحابه؛ ومن‬
‫الأساس ّ‬
‫شواهد ذلك ما يلي‪:‬‬
‫ل الْقُر ْآنِ‪،‬‬
‫‪ -١‬قال عبد الل ّه بن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪( :-‬لَق َ ْد عِشْنَا بُرْه َة ً م ِنْ دَهْرٍ و َأحَد ُن َا ي َر َى ال ِْإ يمَانَ قَب ْ َ‬
‫جر َه َا‪ ،‬وَم َا يَن ْبَغ ِي أ ْن نُوق ََف عِنْدَه ُ مِنْهَا‪ ،‬كَمَا‬ ‫سورَة ُ عَلَى مُحَم ّدٍ ﷺ فَنَتَعَل ّم ُ ح َلَالَهَا وَحَر َامَهَا‪ ،‬و َأمْرَه َا وَز َا ِ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫و َتَنْزِ ُ‬
‫ل ال ِْإ يمَانِ‪ ،‬فَيَقْرَأ م َا بَيْنَ فَاتِ حَتِه ِ ِإلَى‬
‫تَع َل ّم ُونَ أن ْتُم ُ ال ْيَوْم َ الْقُر ْآنَ‪ ،‬ث ُم ّ لَق َ ْد ر َأي ْتُ ال ْيَوْم َ رِج َال ًا يُؤْتَى أحَد ُهُم ُ الْقُر ْآنَ قَب ْ َ‬
‫ل)‪.‬‬
‫جرُه ُ‪ ،‬وَل َا م َا يَن ْبَغ ِي أ ْن يَق َِف عِنْدَه ُ مِن ْه ُ و َيَن ْث ُرُه ُ نَثْر َ الد ّق ِ‬
‫خ َاتِمَتِه ِ‪ ،‬وَل َا ي َ ْدرِي م َا أمْرُه ُ وَل َا ز َا ِ‬

‫لفظ القرآن ومعناه‪،‬‬


‫س الل ّه روحه‪( :-‬الصحابة ُ أخذوا عن الر ّسول ﷺ َ‬
‫ن تيمية ‪-‬ق ّد َ‬
‫خ الإسلام اب ُ‬
‫‪ -٢‬قال شي ُ‬
‫بل كانوا يأخذون عنه المعاني مجر ّدة ً عن ألفاظِه بألفاظٍ أخ َر‪ ،‬كما قال جُندب بن عبد الل ّه البَجَلي وعبد الل ّه‬
‫بن عمر‪ :‬تعل ّمنا الإيمانَ ثم تعل ّمنا القرآن‪ ،‬فازددنا إيمان ًا‪ .‬فكان ﷺ يُعل ِّمهم الإيمانَ‪ ،‬وهو المعاني التي نزل بها‬
‫ل من‬
‫اظ القرآن كانوا أق ّ‬
‫ح ّف َ‬
‫ن ُ‬
‫القرآن من المأمور به والمخب َر عنه المتل ّقى بالطاعة والتصديق‪ ،‬وهذا حقّ ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل به‪ ،‬فإ ْن لم تكنْ هذه هِم ّة َ حافظه‬
‫عموم المؤمنين)‪ ،‬وقال أيضًا‪( :‬المطلوبُ من القرآن هو فهم ُ معانيه‪ ،‬والعم ُ‬
‫لم يكنْ من أهل العلم والدين)‪.‬‬

‫ن عبد البر ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في كتابه (التمهيد)‪( :‬وكان الصحابة ُ ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬وهم الذين‬
‫‪ -٣‬قال الإمام اب ُ‬
‫ل‪ ،‬منهم‪:‬‬
‫حفظ القرآنَ كل ّه و يكْ م ِل ُه ُ على عهد رسول الل ّه ﷺ إلا قلي ٌ‬
‫خُوطبوا بهذا الخطاب‪ ،‬لم يكن منهم م َن ي ُ‬

‫‪- 025 -‬‬


‫أبي بن كعب‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬ومعاذ بن جبل‪ ،‬وأبو زيد الأنصاري‪ ،‬وعبد الل ّه بن مسعود‪ ،‬وكل ّهم كان‬
‫العارف منهم أحكام ًا‬
‫ُ‬ ‫ف‬
‫حفظ أحكام َه ُ‪ ،‬وربما عر ِ َ‬
‫ف تأو يل َه ُ‪ ،‬و ي ُ‬
‫حفظ منه‪ ،‬و يعرِ ُ‬
‫َ‬ ‫يقف على معانيه ومعاني ما‬
‫ُ‬
‫سور َها‪ ،‬قال حذيفة بن اليمان‪ :‬تعل ّمنا الإيمانَ قبل أ ْن نتعل ّم َ القرآنَ‪ ،‬وسيأتي‬
‫حفظ ُ‬
‫من القرآن كثيرة ً وهو لم ي ْ‬
‫ل الإيمان‪.‬‬
‫قوم ٌ في آخر الزمان يتعل ّمون القرآنَ قب َ‬
‫أي‪ :‬يعملون به حقّ عمل ِه ِ‪،‬‬ ‫ل‪" :-‬يَت ْلُونَه ُ حَقّ تِلاو َتِه ِ"‪ْ :‬‬
‫عز وج ّ‬ ‫خلاف بينَ العلماء في تأو يل قول الل ّه ‪ّ -‬‬‫َ‬ ‫‪-‬ولا‬
‫أي‪ :‬ت َب ِع َها)‪.‬‬
‫ل‪" :-‬و َالْقَمَرِ ِإذ َا تَلاه َا"‪ْ :‬‬
‫عز وج ّ‬ ‫ويتبعون ّه حقّ ات ّ ِباعه‪ ،‬قال عكرمة‪ :‬ألم تستمعْ إلى قول الل ّه ‪ّ -‬‬

‫‪-‬الخ ُلاصة ُ من هذه النصوص‪ :‬أ ْن نفقه َ حقيقة َ تربية الن ّب ِيّ ﷺ لأصحابه على التعامل مع القرآن؛ لنتأسى بها‬
‫ونُفعّ ِل ُها في أنفسنا ومعاهدنا؛ إذ من أهم الأمور المركز ية في الإصلاح‪ :‬إعادة ُ تعر يف المُصلحين للعلاقة‬
‫بالقرآن في نفوس المتربين بما كانت عليه طبيعة تلك العلاقة في تربية الن ّب ِيّ ﷺ‪.‬‬

‫ن عَبْدَ الل ّه ِ ب ْ َ‬
‫ن ع ُم َر َ مَكَثَ عَلَى سُورَة ِ ال ْبَق َرَة ِ‬ ‫ج الإمام ُ مالك ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في (الموطأ)‪( :‬أن ّه ُ بلََغ َه ُ أ ّ‬
‫‪-‬ولق ْد أخر َ‬
‫تح ْق ِر ُونَ‬
‫ج ف ِيك ُ ْم قَوْم ٌ َ‬
‫يخ ْر ُ ُ‬
‫ثَمَانِي سِنِينَ يَتَع َل ّمُه َا)‪ ،‬أورد َ الإمام ُ مالك هذا الأثر بعد سياقه لقول الن ّب ِيّ ﷺ‪َ " :‬‬
‫جر َه ُ ْم‬
‫ن الْقُر ْآنَ وَل َا يُجَاوِز ُ حَنَا ِ‬
‫صَلَاتَك ُ ْم م َ َع صَلَاتِه ِ ْم وَصِيَامَك ُ ْم م َ َع صِيَامِه ِ ْم و َأعْمَالـَك ُ ْم م َ َع أعْمَالِه ِ ْم يَقْر َءُو َ‬
‫ل متق ّدِم ٌ للإمام مالك؛ إ ْذ فيه مقارنة ٌ‬ ‫ن م ِنْ الد ِّي ِن م ُرُوقَ الس ّ ْه ِم م ِنْ الر ّم ِي ّة ِ"؛ وهذا الترتيبُ فيه فقه ٌ عا ٍ‬ ‫يَم ْر ُقُو َ‬
‫ق مقاصد القرآن من الاهتداء به‪ ،‬وحالة ٍ من‬
‫بينَ حالتين في تلقي القرآن؛ حالة ٍ من الإكثار في التلاوة لا تُح ّق ِ ُ‬
‫ق‬
‫ن من أهم أسباب العصمة من الضلال ‪-‬فيما يتعل ّ ُ‬
‫ق مقاصد القرآن (وفي ذلك‪ :‬بيانُ أ ّ‬
‫التأن ِ ّي في التلقي تُح ّق ِ ُ‬
‫ن الأخذِ للقرآن)‪.‬‬
‫بالغلو في الد ِّين تحديد ًا‪ -‬حُس َ‬

‫ُف نَهَرٍ إذا‬ ‫الحديث السابع‪ :‬عن الأزرق ابن قيس قال‪( :‬ك ُن ّا بالأه ْوَازِ نُق َات ِ ُ‬
‫ل الحَر ُورِ ي ّة َ‪ ،‬فَبي ْنَا أن َا علَى جُر ِ‬
‫ي‪-‬‬ ‫شعْب َة ُ‪ :‬هو أبو بَرْزَة َ الأسْ لَم ِ ّ‬‫ل ُ‬
‫ل يَت ْب َعُه َا ‪-‬قا َ‬
‫جع َ َ‬
‫ت الد ّاب ّة ُ تُنازِع ُه ُ و َ‬
‫ل يُصَل ِّي‪ ،‬وإذا لِ جا َم ُ داب ّتِه ِ بيَدِه ِ‪ ،‬فَجَعَل َ ِ‬‫رَج ُ ٌ‬
‫ل‪ :‬إن ِ ّي سَمِعْتُ قَو ْلـَكُمْ‪ ،‬وإن ِ ّي‬ ‫شيْخُ‪ ،‬قا َ‬
‫َف ال ّ‬ ‫شي ِْخ‪ ،‬فلَم ّا ان ْصَر َ‬
‫ل‪ :‬الل ّه ُ ّم افْع َلْ بهذا ال ّ‬ ‫ِج يقو ُ‬ ‫ن الخَوَار ِ‬ ‫ل مِ َ‬
‫ل رَج ُ ٌ‬
‫فَجَع َ َ‬
‫كن ْتُ أ ْن‬ ‫َات‪ -‬وثَم َانِي َ وشَهِدْتُ تَيْسِيرَه ُ‪ ،‬وإن ِ ّي إ ْن ُ‬ ‫سب ْ َع غ ََزو ٍ‬ ‫َات ‪-‬أ ْو َ‬ ‫ِت غ ََزو ٍ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ س ّ‬ ‫غ ََزوْتُ مع ر َسو ِ‬
‫ج ُع إلى م َأْ لَفِه َا فَيَش ُقّ عَلَيّ)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫َب إلَيّ م ِن أ ْن أدَعَه َا تَرْ ِ‬
‫ج َع مع د َاب ّتي أح ّ‬
‫أر َا ِ‬

‫ن أحد منهجيات فهم الد ِّين؛ وهي الن ّظر ُ الشموليّ في هدي الن ّب ِيّ ﷺ؛ ثم اتخاذ المظل ّات‬
‫‪-‬هذا الحديثُ في بيا ِ‬
‫منه وإسقاطها على أفراد الحوادث الجزئية‪ ،‬ومن تلك المظل ّات‪ :‬التيسير ُ‪ ،‬كما قال أبو بَرْزة َ‪( :‬وشَهِدْتُ‬
‫خفيف؛ فكان ما فعَلَه ُ في منازعة دابته أثناء َ صلاته‬
‫َ‬ ‫أي‪ :‬رأىَ من هدي الن ّب ِيّ العا ِمّ‪ :‬التيسير َ والت ّ‬
‫تَيْسِيرَه ُ)؛ ْ‬
‫يأت أهلَه إلّا بالل ّيل‪.‬‬
‫ن منزلَه ُ كان بعيدًا‪ ،‬فلو تركها وصل ّى لم ِ‬
‫أحب وأيسر َ من أ ْن يترك َ دابته ترجع لمنزله؛ لأ ّ‬
‫ّ‬
‫‪- 026 -‬‬
‫‪-‬الخوارج‪ :‬س ُموا الحَر ُورِ ي ّة لخروجهم من بلدة حَر ُوراء َ بق ُرب الـكوفة؛ وهم م َن أنكروا على عل ٍيّ ‪-‬رضي الل ّه‬
‫عنه‪ -‬التحكيم َ في قتاله مع معاو ية َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ ،-‬ثم قاتلوه‪ ،‬وك ّفروا المسلمين واستحل ّوا دماءَهم‪.‬‬

‫ل أبي بَرْزة َ حين تق ّدم َ إلى دابته وهو في الصّ لاة‪ ،‬فأخذها ورج َع إلى موضع‬ ‫ل من الخوارج فع َ‬ ‫‪-‬لما رأىَ رج ٌ‬
‫أي‪ :‬دعا عليه وسب ّه‪ ،‬وهذا‬ ‫ش ِ‬
‫يخ)؛ ْ‬ ‫صلاته قال م ُش ّدِد ًا عليه في أ ْن يترك َ داب ّته تذهب‪( :‬الل ّه ّم افع َلْ بهذا ال ّ‬
‫من جهل الخوارج بس ُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ وانعدام الن ّظرة الشمولية لديهم‪ ،‬وعدم قدرتهم على عمل الموازنات بينَ‬
‫ل الإما ِم أبي حنيفة ‪-‬رحمه الل ّه‪.)-‬‬
‫المصلحة والمفسدة؛ ومن التمث ّلات المعاصرة لفكر الخوارج‪( :‬تضلي ُ‬

‫ل‪" :‬يَس ِ ّر ُوا ولا تُعَس ِّر ُوا‪ ،‬وبَش ِ ّر ُوا‪ ،‬ولا‬ ‫الحديث الثامن‪ :‬عن أنس بن مالكٍ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ قا َ‬
‫تُن َ ّف ِر ُوا"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ل له ولمعاذ بن جبل لم ّا أرسلهما إلى‬ ‫الحديث التاسع‪ :‬عن أبي موسى ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( -‬أ ّ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ قا َ‬
‫اليمن‪" :‬يَس ِّرا ولا تُعس ِّرا‪ ،‬وبَش ِّرا ولا تُن ّف ِرا‪ ،‬وتطاوعا ولا تختلفا")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫‪-‬يُبيِّنُ الحديثان شيئًا من المنهج الإصلاحي للن ّب ِيّ ﷺ؛ وهو استصحابُ التيسير وعدم التعسير أثناء َ دعوة‬
‫ح في المسائل باعتبار ذلك‪.‬‬ ‫الن ّاس‪ ،‬وأن يكونَ الترجي ُ‬
‫ل الذي يؤدي إلى التنفير من‬
‫‪-‬التبشير ُ هو تحبيبُ النفوس في الد ِّين‪ ،‬وهو مقصدٌ من مقاصد الد ِّين؛ إذ العم ُ‬
‫الد ِّين من أعظم ما حرّمت ْه ُ الشر يعة ُ‪ ،‬والتنفير ُ بخلاف الإنذار والترهيب بالن ّار والعذاب‪ ،‬وقد يكونُ الداعي‬
‫م ُنف ِرًا بوضعه لأشياء َ من الد ِّين في غير مقامها ولا مقتضى الفقه فيها‪.‬‬

‫ل‬
‫ن من عناوين العمل الجماعي في الإصلاح؛ والتطاوع ُ يُمث ُ‬
‫ن لعنوا ٍ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬وتطاوعا ولا تختلفا"‪ :‬فيه بيا ٌ‬
‫أي‪ :‬لا تختلفا في الناحية‬
‫خلاف‪ ،‬و"ولا تختلفا"‪ْ :‬‬
‫ن أ ْن يُسببَ ال َ‬
‫حالة ً من التنازل وعدم الإصرار على ما ي ُمك ُ‬
‫العملية المترت ّ ِبة على الاختلاف في الرأي والن ّظر‪.‬‬

‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬أعظم ُ المسلمينَ في‬


‫ل رسو ُ‬ ‫الحديث العاشر‪ :‬عن سعد بن أبي وقاص ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬
‫ل مسألتِه ِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫س م ِنْ أج ِ‬
‫ل عم ّا لم يُحر ّم فحُرِ ّم َ على الن ّا ِ‬
‫المسلمينَ ج ُرم ًا م َن سأ َ‬

‫ل عن‬
‫‪-‬ي ُؤكد ُ الحديثُ على مركز ية َ التيسير وعدم التشديد في الشر يعة؛ ومن صور التشديد المذمومة‪ :‬السؤا ُ‬
‫ل الوحي بإقراره أو تحريمه بسبب السؤال‬
‫الشيء المسكوت عن إقراره أو تحريمه في نصوص الوحي؛ في َنز َ‬
‫ن آم َن ُوا ل َا تَسْألُوا ع َنْ أشْ يَاء َ ِإن تُبْد َ لـَك ُ ْم تَسُؤ ْك ُ ْم و َِإن تَسْألُوا عَنْهَا حِينَ يُنَز ّ ُ‬
‫ل‬ ‫عنه؛ كما قال تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫الْقُر ْآنُ تُبْد َ لـَك ُ ْم عَف َا الل ّه ُ عَنْهَا و َالل ّه ُ غَف ُور ٌ ح َل ِيم ٌ"‪.‬‬

‫‪- 027 -‬‬


‫يأت تحريم ُه ُ في الشر يعة‪.‬‬
‫ل في معنى الحديث الشمولي‪ :‬م َن يُش ّدِد ُ على المسلمين؛ في ُحرِ ّم ُ عليهم ما لم ِ‬
‫‪-‬ويدخ ُ‬

‫كن ْتُ أصُوم ُ الد ّه ْر َ و َأق ْرَأ القُر ْآنَ‬ ‫الحديث الحادي عشر‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمرو ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قا َ‬
‫ل‪ُ ( :‬‬
‫ل ل ِي‪" :‬أل َ ْم أخْبَرْ أن ّ َ‬
‫ك تَصُوم ُ الد ّه ْر َ و َتَقْرَأ‬ ‫ل إلَيّ فأتَي ْت ُه ُ‪ ،‬ف َقا َ‬
‫س َ‬‫ل‪ :‬ف َِإمّا ذُكِر ْتُ للنب ِيّ ﷺ‪ ،‬وإمّا أ ْر َ‬ ‫ل لَيْلَة ٍ‪ ،‬قا َ‬‫كُ ّ‬
‫ل‬‫ك أ ْن تَصُوم َ م ِن ك ُ ّ ِ‬ ‫ن بحَسْب ِ َ‬‫ل‪" :‬فإ ّ‬ ‫ك إلّا الخيَْر َ‪ ،‬قا َ‬ ‫ل لَيْلَة ٍ؟"‪ ،‬فَق ُلتُ ‪ :‬بلََى‪ ،‬يا نَبِ ّي الل ّهِ‪ ،‬و َل َ ْم أرِ ْد بذل َ‬
‫القُر ْآنَ ك ُ ّ‬
‫ح ًّ ّقا‪ ،‬و َل ِز َ ْورِك َ‬
‫ك َ‬‫ك عَلَي ْ َ‬ ‫ج َ‬‫ن ل ِز َ ْو ِ‬
‫ل‪" :‬فإ ّ‬
‫ل م ِن ذلكَ‪ ،‬قا َ‬ ‫ض َ‬ ‫ش َ ْهرٍ ثَلَاثَة َ أي ّا ٍم"‪ ،‬قُلتُ ‪ :‬يا نَبِ ّي الل ّهِ‪ ،‬إن ِ ّي أطِي ُ‬
‫ق أف ْ َ‬
‫ل قُلتُ ‪:‬‬ ‫س"‪ ،‬قا َ‬ ‫صوْم َ د َاوُد َ نَبِ ِ ّي الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬فإن ّه كانَ أعْبَد َ الن ّا ِ‬‫م َ‬ ‫ح ًّ ّقا"‪ ،‬قا َ‬
‫ل‪" :‬ف َص ُ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ح ًّ ّقا‪ ،‬و َلِ جَسَدِك َ عَلَي ْ َ‬
‫ك َ‬
‫عَلَي ْ َ‬
‫ل‬
‫ل ش َ ْهرٍ"‪ ،‬قا َ‬ ‫ل‪" :‬و َاق ْرَأ ِ القُر ْآنَ في ك ُ ّ ِ‬
‫ل‪" :‬كانَ يَصُوم ُ يَوْم ًا و َي ُ ْفط ِر ُ يَوْم ًا"‪ ،‬قا َ‬‫صوْم ُ د َاوُد َ؟‪ ،‬قا َ‬‫يا نَبِ ّي الل ّهِ‪ ،‬و َما َ‬
‫ل قُلتُ ‪ :‬يا نَبِ ّي الل ّهِ‪ ،‬إن ِ ّي‬ ‫ن"‪ ،‬قا َ‬ ‫ل عِشْرِي َ‬‫ل‪" :‬فَاق ْرأْ َ ه ُ في ك ُ ّ ِ‬ ‫ل م ِن ذلكَ‪ ،‬قا َ‬ ‫ض َ‬ ‫قُلتُ ‪ :‬يا نَبِ ّي الل ّهِ‪ ،‬إن ِ ّي أطِي ُ‬
‫ق أف ْ َ‬
‫ل‪:‬‬
‫ل م ِن ذلكَ‪ ،‬قا َ‬ ‫ض َ‬ ‫ق أف ْ َ‬‫ل قُلتُ ‪ :‬يا نَبِ ّي الل ّهِ‪ ،‬إن ِ ّي أطِي ُ‬ ‫ل عَشْرٍ"‪ ،‬قا َ‬ ‫ل‪" :‬فَاق ْرأْ َ ه ُ في ك ُ ّ ِ‬
‫ل م ِن ذلكَ‪ ،‬قا َ‬ ‫ض َ‬
‫ق أف ْ َ‬ ‫أطِي ُ‬
‫ح ًّ ّقا‪ ،‬و َلِ جَسَدِك َ عَلَي ْ َ‬
‫ك‬ ‫ك َ‬‫ح ًّ ّقا‪ ،‬و َل ِز َ ْورِك َ عَلَي ْ َ‬
‫ك َ‬
‫ك عَلَي ْ َ‬‫ج َ‬ ‫سب ٍْع‪ ،‬وَل َا تَز ِ ْد علَى ذلكَ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن ل ِز َ ْو ِ‬ ‫ل َ‬‫"فَاق ْرأْ َ ه ُ في ك ُ ّ ِ‬
‫ل‪:‬‬
‫ك عُم ْر ٌ"‪ .‬قا َ‬
‫لب َ‬
‫ك يَط ُو ُ‬
‫ك لا ت َ ْدرِي لَع َل ّ َ‬
‫ل لي النبيّ ﷺ‪" :‬إن ّ َ‬
‫ل‪ :‬و َقا َ‬ ‫ح ًّ ّقا"‪ .‬قا َ‬
‫ل‪ :‬فَش َ ّددْتُ ‪ ،‬فَش ُ ّدِد َ عَلَيّ‪ .‬قا َ‬ ‫َ‬
‫كن ْتُ قَبِل ْتُ ر ُخْ صَة َ نَبِ ِ ّي الل ّه ِ ﷺ)‪ ،‬أخرج َه ُ‬
‫ل لي النبيّ ﷺ‪ ،‬فَلَم ّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أن ِ ّي ُ‬
‫فَصِرْتُ إلى الذي قا َ‬
‫البخاريّ ومسلم ٌ واللفظ له‪.‬‬

‫‪-‬ي ُبيِّنُ الحديثُ وجه ًا من تربية الن ّب ِيّ ﷺ لأصحابه؛ وهو ممارسة ُ التربية ممارسة ً عملية ً فعلية ً‪ ،‬وهذا مما ينبغي أ ْن‬
‫البلاغ القولي؛ كما يقول الشاطبي ‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫حرص المُصلح على الاقتداء به في دعوته للن ّاس‪ ،‬ولا يقتصر ُ على مجر ّد‬ ‫ي َ‬
‫ب لَه ُ ْم بِقَو ْلِه ِ و َفِعْلِه ِ؛ ف َِإن ّه ُ و َارِثُ‬
‫ن الد ِّي ِن مُن ْت َصِ ٌ‬
‫س فِي بَيَا ِ‬
‫ن ال ْمُن ْت َصِ بَ لِلن ّا ِ‬
‫رحمه الل ّه‪ -‬في كتابه (الموافقات)‪( :‬أ ّ‬
‫ُوث‪ ،‬و َِإلّا ل َ ْم يَكُنْ‬ ‫ك ال ْوَارِثُ ل َا بُدّ أ ْن يَق ُوم َ مَق َام َ ال ْمَوْر ِ‬ ‫الن ّب ِ ِيّ ﷺ‪ ،‬و َالن ّبِيّ ﷺ ك َانَ م ُبَي ِّنًا بِقَو ْلِه ِ و َفِعْلِه ِ؛ فَكَذَل ِ َ‬
‫ن الْأحْك َام َ م ِنْ أق ْوَالِه ِ و َأفْع َالِه ِ‬ ‫ن الصّ ح َابَة َ ‪-‬رِضْ وَانُ الل ّه ِ عَلَيْه ِ ْم‪ -‬ك َانُوا يَتَل َ ّقو ْ َ‬ ‫و َارِث ًا عَلَى الْحَق ِيقَة ِ‪ ،‬وَمَعْلُوم ٌ أ ّ‬
‫ل؛‬ ‫ح ّفظِ فِي الْقَو ْ ِ‬ ‫ل كَمَا فِي الت ّ َ‬
‫ح ّفظِ فِي ال ْفِعْ ِ‬ ‫ن فِي الت ّ َ‬ ‫ك ال ْوَارِثُ ‪ ،‬ف َِإ ْن ك َا َ‬ ‫ِيع أحْ وَالِه ِ؛ فَكَذَل ِ َ‬ ‫سكُوتِه ِ وَجَم ِ‬‫و َِإق ْرَار َاتِه ِ و َ ُ‬
‫اف ال ْهُد َى‪ ،‬لـَكِنْ‬ ‫ن ات ّبَع َه ُ عَلَى خِل َ ِ‬ ‫ك صَار َ م َ ِ‬ ‫اف ذَل ِ َ‬ ‫ن ات ّبَع َه ُ عَلَى هُدًى‪ ،‬و َِإ ْن ك َانَ عَلَى خِل َ ِ‬ ‫ك وَصَار َ م َ ِ‬ ‫فَه ُو َ ذَل ِ َ‬
‫بِس َبَبِه ِ)‪.‬‬
‫ل إلى الانقطاع؛‬
‫‪-‬ي ُبرز ُ الحديثُ توجيه َ الن ّب ِيّ ﷺ لأصحابه على الاعتدال في العبادة وعدم التشديد الذي يؤو ُ‬
‫ن مركز ية َ العبودية وأفضلية َ درجاتها في المداومة على العمل‪.‬‬‫لأ ّ‬

‫‪- 028 -‬‬


‫ق في حياة ِ المسلم ِ‬
‫ن الخُل ِ‬
‫المحاضرة الحادية والعشرون‪ :‬مركز ية ُ حُس ِ‬
‫ن في حياة ِ المسلم ِ‬
‫ق والبر ِ والإحسا ِ‬
‫ن الُخل ِ‬
‫باب في مركز ية ِ حُس ِ‬
‫ٌ‬

‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫ن بابَ الأخلاق من الأبواب التكميلية‪ ،‬بينما م َن يقرأ في نصوص الوحي رابطًا بينَ‬
‫البعض أ ّ‬
‫ُ‬ ‫ن‬
‫‪-‬قد يظ ُ‬
‫ي مركزيّ في الشر يعة‪،‬‬
‫باب أساس ّ‬
‫ٌ‬ ‫ن بابَ الأخلاق‬
‫ج المقاصد الكلية؛ سيجد أ ّ‬
‫النصوص الجزئية ل ِي َستخر َ‬
‫نصوص الباب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وهذا الذي ستُبي ِّن َه ُ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ن الْف َحْ ش َاء ِ و َال ْمُنكَر ِ‬
‫ن و َِإيتَاء ِ ذِي الْقُر ْبَى و َيَنْهَ ى ع َ ِ‬
‫ل و َال ِْإحْ س َا ِ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬
‫ن الل ّه َ ي َأْ م ُرُ ب ِالْع َ ْد ِ‬
‫ن"‪:‬‬
‫و َالْبَغ ِْي ۚ يَعِظُك ُ ْم لَعَل ّـك ُ ْم تَذَك ّر ُو َ‬
‫جاءت‬
‫ْ‬ ‫ل الأخلاق؛ ولأجل ذلك‪:‬‬
‫جمعت خِصا َ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬تُبيِّنُ الآية ُ قيمة َ هذه الأعمال من الأوامر والنواهي التي‬
‫ل على عظمة ِ هذه الأعمال عند َ‬
‫أسلوب الأمر الغير مباشر ‪-‬وهي صيغة ٌ غير متكررة ٍ في القرآن‪ -‬لِت َد ّ‬
‫ِ‬ ‫صيغة ُ‬
‫الل ّه‪.‬‬

‫ن ب ِالل ّه ِ‬
‫ِب و َلََٰكِنّ ال ْبِر ّ م َنْ آم َ َ‬
‫ق و َال ْمَغْر ِ‬
‫ل ال ْمَشْر ِ ِ‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬ل ّي َ‬
‫ْس ال ْبِر ّ أن تُوَل ّوا وُجُوهَك ُ ْم ق ِب َ َ‬
‫ل‬
‫سب ِي ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫ل عَلَى حُبِّه ِ ذَوِي الْقُر ْبَى و َال ْيَت َام َى و َال ْمَس َاكِينَ و َاب ْ َ‬
‫اب و َالن ّب ِيِّينَ و َآتَى ال ْمَا َ‬
‫خر ِ و َال ْمَلَائِكَة ِ و َالْكِت َ ِ‬
‫و َال ْيَو ْ ِم الْآ ِ‬
‫ن فِي الْب َأْ سَاء ِ‬
‫ن بِع َ ْهدِه ِ ْم ِإذ َا عَاهَد ُوا َۖ و َالصّ ابِر ِي َ‬‫اب و َأقَام َ الصّ لَاة َ و َآتَى الز ّك َاة َ و َال ْم ُوفُو َ‬ ‫سائِلِينَ و َفِي الر ِّق َ ِ‬ ‫و َال ّ‬
‫ن"‪:‬‬‫ك هُم ُ ال ْمُت ّق ُو َ‬ ‫صد َقُوا َۖ و َأولََٰئ ِ َ‬
‫ن َ‬
‫ك ال ّذ ِي َ‬
‫س ۗ أولََٰئ ِ َ‬‫و َالض ّر ّاء ِ وَحِينَ ال ْب َأْ ِ‬
‫ل‬
‫‪-‬في الآية ِ ذكر ٌ لجوامع الد ِّين مربوطة ٍ باسم البر؛ ومنها‪ :‬الأمور ُ المتعل ِّقة ُ بدوائر الإحسان والصلة‪ ،‬وهذا مما يد ّ‬
‫على مركز ية الأخلاق في الد ِّين‪.‬‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ ع َ ِ‬
‫ن البِرِّ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن النواس بن سمعان الأنصاري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪( :‬سَأل ْتُ رَسُو َ‬
‫اس")‪ ،‬أخرج َه ُ‬
‫طلــِ َع عليه الن ّ ُ‬
‫سكَ‪ ،‬وَكَرِه ْتَ أ ْن ي َ ّ‬
‫َالإثْم ُ ما ح َاك َ في ن َ ْف ِ‬
‫ن الخُلُقِ‪ ،‬و ِ‬
‫س ُ‬
‫ح ْ‬
‫َالإ ْثمِ‪ ،‬ف َقالَ‪" :‬البِر ّ ُ‬
‫و ِ‬
‫مسلم ٌ‪.‬‬
‫ن اسم َ البر ر ُب َِط‬
‫ل عن البر جاء َ في مقابل الإثم‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن السؤا َ‬
‫حسن الخلق؛ خاصّ ة ً أ ّ‬‫‪-‬يُؤكد ُ الحديثُ على مركز ية ُ‬
‫في الآية السابقة بأركان الإيمان‪.‬‬

‫‪- 029 -‬‬


‫ل الل ّه ِ‪ ،‬م َا خَي ْر ُ م َا أ ْعط ِ َ‬
‫ي‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن أسامة بن شر يك ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪( :‬قَالُوا‪ :‬ي َا رَسُو َ‬
‫ن ماجه وأحمد‪.‬‬
‫ن")‪ ،‬أخرج َه ُ اب ُ‬
‫حس َ ٌ‬
‫ق َ‬
‫الْعَبْد ُ؟‪ ،‬قَالَ‪" :‬خ ُل ُ ٌ‬

‫ن‬
‫ن المؤم ِ‬ ‫ل‪" :‬ما م ِن شيء ٍ أثق ُ‬
‫ل في ميزا ِ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن أبي الدرداء ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ قا َ‬
‫الفاحش البذيء َ"‪ ،‬أخرج َه ُ أبو داود والترمذيّ ؛ وقال‪ :‬هذا‬
‫َ‬ ‫بغض‬
‫ن الل ّه َ ي ُ ُ‬
‫ن وإ ّ‬
‫ق حس ٍ‬
‫يوم َ القيامة ِ من خ ُل ٍ‬
‫ح‪.‬‬‫ن صحي ٌ‬
‫حس َ ٌ‬
‫حديثٌ َ‬
‫حسن الخلق وأهميته في الد ِّين‪.‬‬
‫حديث دلالة ٌ واضحة ٌ على مركز ية ُ‬
‫‪-‬في ال ِ‬

‫الحديث الرابع‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قال‪" :‬المسلم ُ من َ‬
‫سل ِم َ المسلمونُ من‬
‫لسانه ِ ويَدِه ِ‪ ،‬والمهاجر ُ من هَج َر َ ما نهى الل ّه ُ عنه ُ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ربط لتعر يف المسلم بكونه الجامع لهذه الخ ِصال الحسنة‬
‫ٌ‬ ‫ن الخلق في الد ِّين؛ إذ فيه‬
‫‪-‬يُبرز ُ الحديثُ مركز ية َ حُس ِ‬
‫من الأخلاق؛ وهي‪ :‬عدم ُ إيذاء المسلمين بقولٍ؛ كالـكذب والغيبة والفري في الأعراض ‪-‬لاسيما أعراض‬
‫ل؛ كالضرب والبطش والسرقة والقتل‪.‬‬
‫العلماء والأئمة‪ -‬والسباب والزور‪ ،‬أو بفع ٍ‬

‫ل لأخِيه ِ‪:‬‬ ‫س ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قال‪( :‬لَم ّا بلَ َ َغ أب َا ذ َ ٍرّ مَبْع َثُ الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬قا َ‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن ابن عبا ٍ‬
‫سم َاءِ‪ ،‬واسْم َعْ م ِن‬
‫ن ال ّ‬
‫ل الذي يَزْعُم ُ أن ّه نَبِ ّي‪ ،‬ي َأْ تيِه ِ الخبَ َر ُ م ِ َ‬
‫َب إلى هذا الوَادِي‪ ،‬فَاع ْل َ ْم لي عِلْم َ هذا الر ّج ُ ِ‬
‫ا ْرك ْ‬
‫ل له‪ :‬ر َأي ْت ُه ُ ي َأْ م ُرُ بمَك َارِ ِم‬
‫ج َع إلى أبِي ذ َ ٍرّ ف َقا َ‬
‫خ حت ّى قَدِم َه ُ‪ ،‬وسَم ِ َع م ِن قَو ْلِه ِ‪ ،‬ث ُم ّ ر َ َ‬ ‫ق الأ ُ‬
‫قَو ْلِه ِ ث ُم ّ ائْتِنِي‪ ،‬فَانْطَل َ َ‬
‫شعْرِ)‪ ،‬أخرج َه البخاريّ ‪.‬‬ ‫الأخْلَاقِ‪ ،‬وك َلَام ًا ما هو بال ِّ‬

‫الحديث السادس‪ :‬عن ابن عبا ٍ‬


‫س ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬في قصة هرقل أنه قال لأبي سفيان يسأله عن الن ّب ِيّ‬
‫قلت‪ :‬يقول‪ :‬اعبد ُوا الل ّه و َحد َه لا َ تُشرِكُوا بِه ِ شَيئًا‪ ،‬و َاترُكُوا ما يَق ُول آب َاؤ ُكُم‪ ،‬وي َأم ُرُن َا‬
‫ﷺ‪( :‬ماذا ي َأم ُرُكُم؟ ْ‬
‫والصلَة)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫والصدق‪ ،‬والعَف َاف‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ب ِالصّ لاَة‪،‬‬

‫ن‬
‫كن ْتُ و َأن َا في الجا َه ِلِي ّة ِ أظُنّ أ ّ‬ ‫سلَم ِ ِ ّي ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ُ ( :‬‬ ‫الحديث السابع‪ :‬عن عَم ْر ُو ب ِن عَبَس َة َ ال ّ‬
‫يخ ْب ِر ُ أخْ بَار ًا‪ ،‬فَقَعَدْتُ‬ ‫اس علَى ضَلَالَة ٍ‪ ،‬و َأ ّنه ُ ْم لَيْس ُوا علَى شيء ٍ و َه ُ ْم يَعْبُد ُونَ الأوْث َانَ‪ ،‬فَسَمِعْتُ برَج ُ ٍ‬
‫ل بمَك ّة َ ُ‬ ‫الن ّ َ‬
‫طفْتُ حت ّى‬ ‫ل الل ّه ِ صَل ّى الل ّه ُ عليه و َ َ‬
‫سل ّم َ مُسْت َخْ ف ِيًا جُر َآء ُ عليه قَوْم ُه ُ‪ ،‬فَتَل َ ّ‬ ‫علَى ر َاحِلَتِي‪ ،‬فَقَدِمْتُ عليه‪ ،‬ف َِإذ َا ر َسو ُ‬
‫ي ش َيءٍ‬‫دَخ َل ْتُ عليه بمَك ّة َ‪ ،‬فَق ُلتُ له‪ :‬ما أن ْتَ ؟ قالَ‪ :‬أن َا نَبِ ّي‪ ،‬فَق ُلتُ ‪ :‬و َما نَبِ ّي؟ قالَ‪ :‬أ ْرسَلَنِي الل ّهُ‪ ،‬فَق ُلتُ ‪ :‬و َب ِأ ّ ِ‬
‫ك‬
‫كسْر ِ الأوْث َانِ‪ ،‬و َأ ْن يُوَح ّد َ الل ّه ُ لا يُشْرَك ُ به ش َيءٌ‪ ،‬قُلتُ له‪ :‬فم َن مع َ‬
‫أ ْرسَلَكَ؟ قالَ‪ :‬أ ْرسَلَنِي بصِ لَة ِ الأ ْرح َا ِم‪ ،‬و َ َ‬
‫علَى هذا؟ قالَ‪ :‬حُرّ وَعَبْدٌ)‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬

‫‪- 031 -‬‬


‫ل أناسٍ غير‬
‫فردات من مكارم الأخلاق ع ُّر ِف َْت بها الرسالة ُ الن ّبو ي ّة ُ من ق ِب َ ِ‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬تجتم ُع هذه الأحاديثُ على ذكرٍ لم ُ‬
‫والعفاف‪ ،‬وفي هذا دلالة ٌ على مركز ية الأخلاق في الد ِّين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مسلمين؛ منها‪ :‬الصدقُ وصلة ُ الأرحام‬

‫ل العلم بباب الأخلاق والآداب؛ ومن أوجه هذه العناية‪:‬‬


‫‪-‬ولقد اعتنى أه ُ‬
‫‪ -١‬أ ّنهم كانوا يضمنونه لأبواب علوم الشر يعة؛ ككتاب (الأدب) في (صحيح البخاري) وكتاب (البر‬
‫والصلة والآداب) في (صحيح مسلم)‪.‬‬

‫‪ -٢‬أ ّنهم كانوا يفردونه بالتأليف؛ ككتاب (الأدب المفرد) للإمام البخاري‪.‬‬
‫‪ -٣‬أ ّنهم كانوا يفردون التأليف في ٍ‬
‫نوع معي ّنٍ من باب الأخلاق والآداب؛ ككتاب (التبيان في آداب حملة‬
‫القرآن) للإمام النووي‪ ،‬وكتاب (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) للخطيب البغدادي‪.‬‬

‫‪ -٤‬أ ّنهم كانوا يضمنون بابَ الأخلاق والآداب في بعض أبواب الـكتب المتخصصة في بعض العلوم‬
‫ن باب ْي (آداب المح ّدِث)‪ ،‬و(آداب طالب‬
‫الشرعية؛ ككتاب (علوم الحديث) لابن الصلاح؛ حيثُ تضم َ‬
‫الحديث)‪.‬‬

‫ن العلماء َ أدركوا قيمة َ باب الأخلاق والآداب والسلوك؛ فاعتنوا به وجعلوا له تأصيلات‬ ‫‪-‬والخلاصة ُ أ ّ‬
‫الطالب للعلم وبينَ تحقيقه‬
‫ِ‬ ‫ل بينَ تحقيق‬
‫ل من قيمته أو الفص ُ‬
‫وتصانيف‪ ،‬ولذا؛ لا ينبغي التزهيد ُ والتقلي ُ‬
‫للأخلاق والآداب والسلوك‪.‬‬

‫حسن الخلق؛ حديثًا ودراسًا ومدارسة ً‬


‫‪-‬وفي واقعنا المعاصر‪ :‬تشتد ُ الحاجة ُ إلى التأكيد على أهمية الأدب و ُ‬
‫ن‬
‫سياقات‪ ،‬تأسيًا بدعاء الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬و َاهْدِنِي لأحْ س َ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ق بها من‬ ‫صة ً في بيئات طلاب العلم وما يتعل ّ ُ‬ ‫وعناية ً خا ّ‬
‫ِف ع َن ِ ّي سَي ِّئَهَا إلّا أن ْتَ "‪.‬‬
‫ِف ع َن ِ ّي سَي ِّئَهَا‪ ،‬لا يَصْر ُ‬‫الأخْلَاقِ‪ ،‬لا يَهْدِي لأحْ سَنِهَا إلّا أن ْتَ ‪ ،‬و َاصْر ْ‬

‫يض‬
‫ل بمكارم الأخلاق ليس بالأمر اليسير على الن ّفس؛ إذ فيه مكابدة ٌ وترو ٌ‬
‫ق بالآداب والامتثا ُ‬
‫‪-‬والتخل ّ ُ‬
‫للن ّفس‪ ،‬وقبل ذلك الاستعانة بالل ّه وابتغاء وجهه بهذا العمل‪.‬‬

‫‪- 030 -‬‬


‫ح الهداية ِ والبصيرة ِ‬
‫المحاضرة الثانية والعشرون‪ :‬مفاتي ُ‬
‫احتياج المسلم ِ إلى الهداية ِ الربانية ِ‬ ‫ِ‬
‫مفاتيح الهداية ِ والبصيرة ِ ودوا ِم‬ ‫بابُ‬
‫ِ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫ن من أعظم‬
‫ح على طول طر يق الإصلاح؛ ذلك أ ّ‬
‫‪-‬هذا البابُ من الأبواب المركز ية التي يحتاجُها المُصل ُ‬
‫كهم لمركز ية مطلب الهداية كونه أعظم َ ما‬
‫الأمور الفارقة في الدرجات والمقامات الإيمانية بينَ الن ّاس‪ :‬إدرا َ‬
‫ل يو ٍم‬
‫ن الل ّه َ ‪-‬تعالى‪ -‬أوجبَ على عباده أ ْن يسألوه الهداية َ في ك ّ ِ‬
‫ينبغي أ ْن يتطل ّب َه ُ الإنسانُ؛ ومن دلالة ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫ن مطلوبَه ُ الأعظم‬ ‫َاط ال ْمُسْت َق ِيم َ"؛ فإذا استحضر َ العبد ُ أ ّ‬
‫مرة ً في سورة الفاتحة "اهْدِن َا الصِّر َ‬ ‫وليلة ٍ بض َع عشرة َ ّ‬
‫عظيم في طر يق الخير‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫حق ويُبصرَه ُ به =فق ْد أخذ َ بزما ٍم‬ ‫ق ال ّ ِ‬
‫واحتياج َه ُ اليومي هو أ ْن يهديَه ُ الل ّه ُ طر ي َ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ل عنوا ِ‬
‫تفصي ُ‬
‫ي متكر ٍر في يومه؛ في ُرشد ُ البابُ‬ ‫واحتياج أساس ٍ ّ‬
‫ٍ‬ ‫مطلب‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬يأتي هذا البابُ بعدما يُدرك ُ الإنسانُ قيمة َ الهداية ك‬
‫ك ل َا‬
‫ل شأنُه ُ‪ِ " :-‬إن ّ َ‬
‫ن الهداية َ من الل ّه كما قال ‪-‬ج ّ‬
‫صّلة إليها؛ إذ أ ّ‬ ‫ِ‬
‫لمواضع الهداية ومفاتيحها وأسبابها المو ِ‬ ‫الإنسانَ‬
‫ك كَت َبَ فِي قُلُو بِهِم ُ‬
‫ن"‪ ،‬وقال أيضًا‪" :‬أولََٰئ ِ َ‬ ‫تَهْدِي م َنْ أحْ بَب ْتَ و َلََٰكِنّ الل ّه َ يَهْدِي م َن يَش َاء ُ ۚ و َه ُو َ أع ْلَم ُ ب ِال ْمُهْتَدِي َ‬
‫صِلة‬‫البحث عن المفاتيح والأسباب المو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ِْإ يمَانَ"‪ ،‬أمّا المطلوبُ من العبدِ‪ :‬فهو إدراك ُ قيمة تطل ّب الهداية‪ ،‬ثم ّ‬
‫إليها‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬وَم َن يَعْتَص ِم ب ِالل ّه ِ فَق َ ْد هُدِيَ ِإلَى صِر َاطٍ مّسْت َق ٍِيم"‪:‬‬
‫اس‬‫مفتاح من مفاتيح الهداية؛ وهو الاعتصام ُ بالل ّه ‪-‬سبحانه‪-‬؛ كما قال تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا الن ّ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫تكشف الآية ُ عن‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ن آم َن ُوا ب ِالل ّه ِ و َاعْت َ َ‬
‫صم ُوا بِه ِ فَسَي ُ ْدخِلُه ُ ْم فِي رَحْمَة ٍ‬ ‫ق َ ْد ج َاءَكُم بُرْه َا ٌ‬
‫ن مّ ِن رّ بِّك ُ ْم و َأنزَلْنَا ِإلَيْك ُ ْم نُور ًا مّب ِينًا * ف َأمّا ال ّذ ِي َ‬
‫يض الأمر إليه‬ ‫ل و َيَهْدِيه ِ ْم ِإلَيْه ِ صِر َاطًا مّسْتَق ِيم ًا"‪ ،‬والاعتصام ُ هو الاحتماء ُ بالل ّه والالتجاء ُ وتفو ُ‬ ‫مِّن ْه ُ و َف َضْ ٍ‬
‫وأساس الاعتصا ِم هو القلبُ ‪ ،‬ولا يكونُ الاعتصام ُ إلا بتما ِم التوحيدِ في قلب‬
‫ُ‬ ‫والتوكّل عليه والاستعانة ُ به‪،‬‬
‫العبد‪.‬‬

‫ل م َن يَش َاء ُ و َيَهْدِي ِإلَيْه ِ م َنْ أن َابَ "‪:‬‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬قُلْ ِإ ّ‬
‫ن الل ّه َ يُضِ ّ‬

‫الآية الثالثة‪ :‬قال تعالى‪" :‬الل ّه ُ َ‬


‫يج ْتَبِي ِإلَيْه ِ م َن يَش َاء ُ و َيَهْدِي ِإلَيْه ِ م َن يُن ِيبُ "‪:‬‬

‫‪- 032 -‬‬


‫ل قلبيّ؛ فيها توحيد ُ‬
‫ق الهداية‪ ،‬والإنابة ُ صفة ٌ قلبية ٌ وعم ٌ‬
‫ن من ثمراتها تحقي َ‬
‫ل الإنابة‪ ،‬وأ ّ‬
‫‪-‬هاتان الآيتان في فض ِ‬
‫يب"‪ ،‬وفي الإنابة معنى دوام‬ ‫ْب مّن ِ ٍ‬
‫ْب وَج َاء َ بِق َل ٍ‬
‫ن ب ِالْغَي ِ‬
‫خشِيَ الر ّحْمََٰ َ‬
‫الوجهة والقصد؛ قال تعالى‪" :‬مّنْ َ‬
‫حث على الاستزادة من‬‫الرجوع إلى الل ّه والإقبال عليه؛ إذ هي من أعظم المحرِ ّكات إلى الخير؛ سواء ٌ بال ِّ‬
‫بدفع العبد إلى التوبة من الذنوب والمعاصي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الأعمال الصالحة‪ ،‬أو‬

‫ن الل ّه َ ل َم َ َع ال ْم ُحْ سِنِينَ"‪:‬‬ ‫الآية الرابعة‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َال ّذ ِي َ‬


‫ن ج َاهَد ُوا ف ِينَا لَنَهْدِيَنّه ُ ْم سُبُلَنَا ۚ و َِإ ّ‬
‫سبب من الأسباب الجالبة للهداية؛ وهو المجاهدة ُ في الل ّه؛ ومنها‪ :‬مجاهدة ُ الن ّفس‬ ‫ٍ‬ ‫تكشف الآية ُ عن‬
‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫وإشكالات وفتنٍ وأهواءٍ‪ ،‬والمجاهدة ُ‬
‫ٍ‬ ‫حديات‬
‫ٍ‬ ‫ق بالواقع من ت‬
‫ومجاهدة ُ شياطين الإنس والجن‪ ،‬ومجاهدة ُ ما يتعل ّ ُ‬
‫فيها معنى المغالبة والمدافعة‪.‬‬
‫ح الهداية؛ ومن آثار تلك‬
‫‪-‬ومما يق ُع على أثر المجاهدة‪ :‬أ ْن يكونَ للمجاهدِ جُن ّة ٌ ووقاية ٌ مما يجاهدُه ُ‪ ،‬وأ ْن يُمن َ‬
‫ق بالن ّفس والشيطان؛‬
‫صة ً فيما يتعل ّ ُ‬
‫ل أمر ِها شديدة ً على نفس المجاهد خا ّ‬
‫الهداية‪ :‬أ ْن تكونَ المجاهدة ُ في أ ّو ِ‬
‫ك المجاهدة الخالصة لل ّه في‬
‫ن الإنسانَ إذا سَل َكْ مسل َ‬
‫ُلت عليه المجاهدة ُ؛ ذلك أ ّ‬
‫نزلت الهداية ُ في قلبه =سه ْ‬
‫ْ‬ ‫فإذا‬
‫ل به الابتعاد‬
‫ن الل ّه َ يمنحه من الهداية والإيمان في قلبه ما يستسه ُ‬
‫المعاصي التي يجد َ صعوبة ً في تجاوزها =يج ْد أ ّ‬
‫عن تلك المعاصي‪.‬‬

‫الآية الخامسة‪ :‬قال تعالى‪" :‬قُلْ هََٰذِه ِ سَب ِيل ِي أ ْدع ُو ِإلَى الل ّه ِ ۚ عَلَى بَصِ يرَة ٍ أن َا وَم َ ِ‬
‫ن ات ّبَعَنِي"‪:‬‬
‫ن من أسباب الهداية‪ :‬اتِّباع َ الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬ومن شواهد ذلك‪ :‬قولُه تعالى‪ " :‬و َِإن تُط ِيع ُوه ُ تَه ْتَد ُوا"‪،‬‬ ‫‪-‬ت ُ ِ ّ‬
‫وضح ُ الآية ُ أ ّ‬

‫يقذف بها الل ّه ُ‬‫ُ‬ ‫ن هذا الاتِّباع َ يُع ّد من الأسباب التي‬


‫نت الآية ُ أ ّ‬
‫وقوله تعالى‪" :‬و َات ّبِع ُوه ُ لَع َل ّـك ُ ْم تَه ْتَد ُونَ"‪ ،‬كما بي ّ ْ‬
‫نور َ البصيرة في قلب العبد‪.‬‬

‫س ّدِ ْدنِي‪،‬‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪" :‬ق ُ ِ‬


‫ل‪ :‬الل ّه ُ ّم اهْدِنِي و َ َ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن عل ٍيّ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬قا َ‬
‫ل لي ر َسو ُ‬
‫سد َاد َ الس ّ ْه ِم")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫سد َادِ َ‬
‫طرِيقَ‪ ،‬و َال ّ‬
‫ك ال ّ‬
‫و َا ْذكُر ْ بالهُد َى هِد َايَت َ َ‬
‫ن أئمة َ الصالحين وساداتهم يُوصيهم الن ّبيّ ﷺ بها‪.‬‬
‫‪-‬أفاد َ الحديثُ أهمية َ مطلب الهداية؛ حت ّى أ ّ‬

‫ًّ‬
‫إضافي ّا على مجر ّد‬ ‫أمرا‬ ‫ن الدعاء َ بالهداية من أعظم أسباب تحصيلها‪ ،‬ثم بي ّنَ الحديثُ‬ ‫‪-‬وأفاد َ الحديثُ ‪-‬أيضًا‪ -‬أ ّ‬
‫ً‬
‫ك‬
‫الدعاء؛ وهو الاستحضار ُ والتذك ّر ُ وحضور ُ القلب أثناء َ الدعاء بالهداية؛ في قوله ﷺ‪" :‬و َا ْذكُر ْ بالهُد َى هِد َايَت َ َ‬
‫سد َاد َ الس ّ ْه ِم"‪.‬‬
‫سد َادِ َ‬
‫طرِ يقَ‪ ،‬و َال ّ‬
‫ال ّ‬

‫الحديث الثاني‪ :‬عن عبد الل ّه بن مسعود ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ أن ّه كان يقول‪" :‬الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أسْ أل ُ َ‬
‫ك‬
‫َاف و َال ْغ ِن َى"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫الهُد َى و َالت ّقَى‪ ،‬و َالْعَف َ‬
‫‪- 033 -‬‬
‫أمرا متكرر ًا باستمرا ٍر في دعاء الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬وهذا ظاهر ٌ في دلالة قول ابن‬
‫ن الدعاء َ بالهداية كان ً‬ ‫‪-‬ي ُ ِ ّ‬
‫وضح ُ الحديثُ أ ّ‬
‫ن لمركز ية مطلب الهداية‪.‬‬
‫ل)؛ وفي هذا بيا ٌ‬
‫مسعودٍ‪( :‬كانَ يقو ُ‬

‫ي ش َيء ٍ‬
‫ْف‪ ،‬قالَ‪( :‬سَأل ْتُ عَائِش َة َ أمّ المُؤْم ِنِينَ‪ :‬بأ ّ ِ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن أبي سَلَم َة َ ب ِن عبدِ الر ّحْم َ ِ‬
‫ن ب ِن عَو ٍ‬
‫َب‬
‫ح صَلَاتَه ُ‪" :‬الل ّه ُ ّم ر ّ‬
‫ل اف ْتَت َ َ‬
‫ن الل ّي ْ ِ‬
‫ت‪ :‬كانَ إذ َا قَام َ م ِ َ‬‫ل؟‪ ،‬قال َ ْ‬
‫ن الل ّي ْ ِ‬ ‫كانَ نَبِ ّي الل ّه ِ ﷺ يَفْتَت ِ ُ‬
‫ح صَلَاتَه ُ إذ َا قَام َ م ِ َ‬
‫تحْكُم ُ بيْنَ عِبَادِك َ‬ ‫ْب و َالش ّه َادَة ِ‪ ،‬أن ْتَ َ‬ ‫ات و َالأ ْرضِ‪ ،‬عَالِم َ الغَي ِ‬
‫سم َو َ ِ‬ ‫جبْر َائيِلَ‪ ،‬وَم ِيك َائيِلَ‪ ،‬وإسْر َاف ِيلَ‪ ،‬فَاطِر َ ال ّ‬ ‫ِ‬
‫ك تَهْدِي م َن تَش َاء ُ إلى صِر َاطٍ مُسْت َق ٍِيم")‪،‬‬
‫ق بإذْنِكَ؛ إن ّ َ‬
‫ن الح َ ّ ِ‬
‫يخ ْتَلِف ُونَ‪ ،‬اهْدِنِي لِما اخْ تُل َِف فيه م ِ َ‬
‫ف ِيما ك َانُوا فيه َ‬
‫أخرج َه ُ مسلم ٌ أبو داود واللفظ له‪.‬‬

‫‪-‬يُبيِّنُ الحديثُ باب ًا عظيم ًا من أبواب العبودية لل ّه؛ فالن ّبيّ ﷺ مع كونه الهادي ‪-‬هداية الدلالة والإرشاد‪-‬‬
‫والداعي إلى الخير‪ ،‬إلا أن ّه ُ ﷺ يستحضر ُ احتياج َه ُ إلى هداية سيده ومولاه‪ ،‬وفي هذا تأكيدٌ على أهمية‬
‫ن من أعظم وسائلها‪ :‬الدعاء َ بها مع الاستحضار وحضور القلب‪.‬‬
‫مطلب الهداية ومركزيتها‪ ،‬وعلى أ ّ‬

‫=ازدادت قيمة ُ الهداية في نفسه‪ ،‬وعَظُم َ حرصُه ُ على‬


‫ْ‬ ‫ِقات واسعة ً؛ متى أدركها الإنسانُ‬
‫ن للهداية متعل ّ ٍ‬
‫‪-‬إ ّ‬
‫تحصيل وسائها‪ ،‬ومن هذه المتعل ِّقات ما يلي‪:‬‬
‫‪ -١‬الهداية ُ من الضلال والـكفر إلى الهدى والإيمان‪.‬‬
‫ق المعاصي إلى الاستقامة على أمر الل ّه‪.‬‬
‫طر ُ ِ‬
‫‪ -٢‬الهداية ُ من ُ‬
‫‪ -٣‬الهداية ُ إلى الثبات على الإيمان والطاعة‪.‬‬
‫حق والبصيرة في المتشابهات ومسائل الاجتهاد والخلاف والتفر ّق‪.‬‬
‫‪ -٤‬الهداية ُ إلى ال ّ ِ‬
‫ن الأخْلَاقِ‪ ،‬لا‬
‫‪ -٥‬الهداية ُ إلى أحسن الأخلاق وخير السلوك؛ كما في قول الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬و َاهْدِنِي لأحْ س َ ِ‬
‫ِف ع َن ِ ّي سَي ِّئَهَا إلّا أن ْتَ "‪.‬‬
‫ِف ع َن ِ ّي سَي ِّئَهَا‪ ،‬لا يَصْر ُ‬
‫يَهْدِي لأحْ سَنِهَا إلّا أن ْتَ ‪ ،‬و َاصْر ْ‬
‫شدِ أ ْمر ِي"‪.‬‬
‫ك ل ِأ ْر َ‬
‫‪ -٦‬الهداية ُ إلى أفضل مراتب العمل؛ كما في قول الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬الله ّم إن ِ ّي أسْ تَهْدِي َ‬
‫طر ُق ووسائل الن ّفع والإصلاح في معالجة المشكلات والتحديات‪ ،‬كما قال نبي الل ّه موسى‬
‫‪ -٧‬الهداية ُ إلى ُ‬
‫سيَهْدِي ِن"‪.‬‬
‫ن مَعِي َ ر َب ِ ّي َ‬
‫ﷺ في قوله تعالى‪" :‬ك َلا ِإ ّ‬

‫الغفاري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ فيما روى عن الل ّه ‪-‬تبارك وتعالى‪-‬‬
‫ِّ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن أبي ذر‬
‫مح َر ّم ًا‪ ،‬فلا تَظ َالَم ُوا‪ ،‬يا عِبَادِي‪ ،‬ك ُل ّـك ُ ْم‬
‫جع َل ْت ُه ُ بي ْنَك ُ ْم ُ‬
‫ظلْم َ علَى ن َ ْفس ِي‪ ،‬و َ َ‬
‫أن ّه قال‪" :‬يا عِبَادِي‪ ،‬إن ِ ّي حَرّمْتُ ال ّ‬
‫ل إلّا م َن هَدَي ْت ُه ُ‪ ،‬فَاسْ تَهْد ُونِي أهْدِك ُ ْم"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ضَا ّ‬

‫ن الدعاء َ وسيلة ٌ للهداية‪ ،‬كما ي ُرشد ُ الحديثُ إلى مقدارِ افتقارِ واحتياج العبد إلى الهداية‪.‬‬
‫‪-‬يُؤكد ُ الحديثُ على أ ّ‬
‫‪- 034 -‬‬
‫المحاضرة الثالثة والعشرون‪ :‬أهمية ُ الصُحبة ِ الصالحة ِ‪ ،‬وخطورة ُ التفر ّق‬
‫ب في الل ّه ِ‪،‬‬ ‫ل الح ُ ِّ‬
‫بابُ أهمية ِ الصُحبة ِ الصالحة ِ وفض ُ‬
‫واختلاف الكلمة ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والتنازع‬ ‫ق‬
‫وخطورة ِ التفر ّ ِ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫خو ّة والتعاون والتآلف بينَ المؤمنين والتحذير من التفر ّق والشتات فيما بينهم‪،‬‬
‫‪-‬هذا البابُ في مركز ية ِ الأ ُ‬
‫وهذا مما يحتاج ُه ُ المسلمون وطلابُ العلم والمُصلحون في السياق الدعوي والإصلاحي‪ ،‬وهذه المركز ية ُ من‬
‫موقف‬
‫ُ‬ ‫مركز يات الشر يعة المؤكدة في كتاب الل ّه وسُن ّة رسوله ﷺ القولية وسيرته العملية؛ ومن شواهد ذلك‪:‬‬
‫المؤاخاة بينَ المهاجرين والأنصار‪.‬‬
‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ي يُر ِيد ُونَ و َجْ ه َه ُ"‪.‬‬
‫ن ي َ ْدع ُونَ ر َ ّبه ُم ب ِالْغَد َاة ِ و َالْعَش ِ ِ ّ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َاصْ بِرْ ن َ ْفس َ َ‬
‫ك م َ َع ال ّذ ِي َ‬
‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪ِ " :‬إن ّمَا ال ْمُؤْم ِن ُونَ ِإخْ وَة ٌ ف َأصْ لِحُوا بَيْنَ أخَو َيْك ُ ْم"‪.‬‬
‫يح ِب ّونَه ُ‬
‫يحِبّه ُ ْم و َ ُ‬
‫ْف ي َأْ تِي الل ّه ُ بِقَو ْ ٍم ُ‬ ‫الآية الثالثة‪ :‬قال تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫ن آم َن ُوا م َن يَرْتَدّ م ِنك ُ ْم ع َن دِينِه ِ فَسَو َ‬
‫ن"‪.‬‬
‫أذِل ّة ٍ عَلَى ال ْمُؤْم ِنِينَ أع ِّزة ٍ عَلَى الْك َافِرِي َ‬
‫ش ّداء ُ عَلَى ال ْـكُ ّفارِ رُحَمَاء ُ بَيْنَه ُ ْم"‪.‬‬ ‫ل الل ّه ِ ۚ و َال ّذ ِي َ‬
‫ن مَع َه ُ أ ِ‬ ‫الآية الرابعة‪ :‬قال تعالى‪" :‬م ّحَم ّدٌ رّسُو ُ‬
‫الآية الخامسة‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َال ْمُؤْم ِن ُونَ و َال ْمُؤْم ِنَاتُ بَعْضُه ُ ْم أوْلِيَاء ُ بَعْ ٍ‬
‫ض"‪.‬‬
‫‪-‬تُبرز ُ الآياتُ تكرار َ ذكر ِ الل ّه لمفهوم الولاء والموالاة بينَ المؤمنين؛ وذلك لإثبات وترسيخ هذا المعنى في قلوب‬
‫والتآلف والتعاونُ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ل تحتَ هذا المفهوم‪ :‬المحبة ُ والن ُصرة ُ‬
‫المؤمنين‪ ،‬ومن أهم ما يدخ ُ‬

‫ن‬
‫ن لِل ْمُؤْم ِ ِ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن أبي موسى الأشعري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قال‪"( :‬إ ّ‬
‫ن المُؤْم ِ َ‬
‫ك أصَابِع َه ُ)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ن يَش ُ ّد بَعْضُه ُ بَعْضًا"‪ ،‬وشَب ّ َ‬
‫ك َال ْبُن ْيَا ِ‬

‫ن إقامة َ الولاء والتآزر من مقتضيات الإيمان‪ ،‬وتزداد ُ أهمية ُ هذه الإقامة؛ إذا ضع َُف جزء ٌ‬ ‫‪-‬يُؤكد ُ الحديثُ أ ّ‬
‫والتآلف‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ل حدوث الوحدة ِ الش ّدِ والتناصر ِ‬
‫من البناء‪ ،‬فهنا ينبغي التقارّبُ بينَ لبناته من أج ِ‬

‫سل ِم َ‬
‫سل ِم ُ م َن َ‬
‫يرتبط هذا البابُ باسم الإيمان فحسب‪ ،‬بل ر ُب َِط باسم الإسلام أيضًا؛ فقال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬الم ُ ْ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬ولم‬
‫ن لقيمة ِ الباب ومركزيت ِه ِ وأهميت ِه ِ في الد ِّين‪.‬‬
‫سل ِم ُونَ م ِن لِسَانِه ِ ويَدِه ِ"‪ ،‬وفي هذا الربط بيا ٌ‬
‫الم ُ ْ‬

‫‪- 035 -‬‬


‫سل ِ ِم لا‬
‫سل ِم ُ أخُو الم ُ ْ‬
‫ل الل ّه ﷺ قال‪" :‬الم ُ ْ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬أ ّ‬
‫ن رسو َ‬
‫ج الل ّه ُ عن ْه‬
‫سل ِ ٍم كُر ْبَة ً‪ ،‬ف َر ّ َ‬
‫ج عن م ُ ْ‬
‫يَظْل ِم ُه ُ ول َا يُسْل ِم ُه ُ‪ ،‬وم َن كانَ في ح َاجَة ِ أخِيه ِكانَ الل ّه ُ في ح َاجَتِه ِ‪ ،‬وم َن ف َر ّ َ‬
‫َات يَو ِم الق ِيَامَة ِ‪ ،‬وم َن سَتَر َ مُسْل ِمًا سَتَرَه ُ الل ّه ُ يَوم َ الق ِيَامَة ِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫كُر ْبَة ً م ِن ك ُر ُب ِ‬

‫‪-‬يُؤكد ُ الحديثُ على قضية الأخو ّة الإيمانية؛ وفي تضافرِ نصوص الوحي على تأكيد وتثبيت هذا المعنى دلالة ٌ‬
‫ق بفقه الموازنات بينَ المصالح والمفاسد؛ ومن ذلك‪ :‬وجوبُ‬‫على مركزيته في الشر يعة‪ ،‬وهذه المركز ياتُ تتعل ّ ُ‬
‫يتوقف‬
‫ُ‬ ‫تقدي ِم مصلحة ِ جَم ْ ِع كلمة المؤمنين والألفة فيما بينهم وعدم تفر ّقهم‪ ،‬على غيرها من المصالح التي لا‬
‫ل من أصول الإسلام‪ ،‬أو صحة ُ فر يضة ٍ من فرائضه‪.‬‬
‫عليها أص ٌ‬

‫يحامي عنه‪.‬‬
‫أي‪ :‬لا ي ُ ْسل ِم ُه ُ إلى عدوِّه ِ؛ فلا يترك ُه ُ صيدًا سهل ًا له‪ ،‬بل ي ُداف ُع و ُ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬ول َا يُسْل ِم ُه ُ"‪ْ :‬‬

‫جش ُوا‪،‬‬
‫سد ُوا‪ ،‬ولا تَنا َ‬ ‫ل الل ّه ﷺ‪"( :‬لا تَحا َ‬ ‫ل رسو ُ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬
‫سلِمِ‪ ،‬لا‬ ‫ضك ُ ْم علَى بَي ِْع بَعْضٍ‪ ،‬وكُونُوا عِباد َ الل ّه ِ إخْ وان ًا‪ .‬الم ُ ْ‬
‫سل ِم ُ أخُو الم ُ ْ‬ ‫ولا تَباغَضُوا‪ ،‬ولا ت َداب َر ُوا‪ ،‬ولا يَبِعْ بَعْ ُ‬
‫ن الش ّر ِّ أ ْن‬
‫ْب ا ْمر ِئٍ م ِ َ‬
‫ات‪" .‬بحَس ِ‬
‫ص ْدرِه ِ ثَلاثَ م َّر ٍ‬
‫يح ْق ِرُه ُ‪ .‬الت ّقْو َى هاه ُنا"‪ ،‬ويُشِير ُ إلى َ‬
‫يخْذُلُه ُ‪ ،‬ولا َ‬
‫يَظْل ِم ُه ُ‪ ،‬ولا َ‬
‫سل ِ ِم ح َرام ٌ؛ دَم ُه ُ‪ ،‬ومالُه ُ‪ ،‬وع ِْرضُه ُ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫سل ِ ِم علَى الم ُ ْ‬
‫ل الم ُ ْ‬
‫سل ِم َ‪ .‬ك ُ ّ‬
‫يح ْق ِر َ أخاه ُ الم ُ ْ‬
‫َ‬

‫‪-‬يُؤكد ُ الحديثُ على أهمية الأخو ّة الإيمانية وتحقيق الولاء والنصيحة للمؤمنين؛ وذلك بذكر الصور المخالفة‪.‬‬

‫ن‬
‫أي‪ :‬يكفي المرء ُ خصلة َ احتقار المسلم فقط لي َكو َ‬
‫سل ِم َ"‪ْ :‬‬
‫يح ْق ِر َ أخاه ُ الم ُ ْ‬
‫ن الش ّر ِّ أ ْن َ‬
‫ئ مِ َ‬
‫ْب ا ْمر ِ ٍ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬بحَس ِ‬
‫ن لمقدار الش ّر في بعض الاتجاهات التي تقوم ُ ‪-‬‬
‫ل الش ّر‪ ،‬وفي هذا صيانة ٌ لمقام الأخو ّة الإيمانية‪ ،‬وبيا ٌ‬
‫من أه ِ‬
‫في أساسها‪ -‬على الطعن في المسلمين بالتخطئة والتكفير‪.‬‬

‫ي لذكر ِ أخطاء المؤمنين‬


‫ن يكونَ العنوانُ الأساس ّ‬
‫ح والأمرُ بالمعروف‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ل بينَ المؤمنين هو الن ّص ُ‬‫‪-‬بينما الأص ُ‬
‫هو تطل ّبُ الهداية والن ّفع وليس التتب ّع والتصي ّد لها والحكم على مرتكبيها بالتفسيق والتبديع‪.‬‬

‫فاـئدة‪ :‬ينبغي لم َن كان عنده محبة ٌ لل ّه ورسوله ﷺ أ ْن يستم َع إلى هذه النصوص استماع ًا صادق ًا؛ حت ّى يُثمر َ‬
‫تجاه َ إخوانه المسلمين‪.‬‬
‫ل الش ّر ُ‬
‫لديه الرغبة َ الحقيقة َ في تصحيح ومعالجة ما بداخل نفسه من خِصا ِ‬

‫سل ِم َ المُسْل ِم ُونَ م ِن‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمرو ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قالَ‪" :‬الم ُ ْ‬
‫سل ِم ُ م َن َ‬
‫جر ُ م َن هَج َر َ ما نَهَ ى الل ّه ُ عن ْه"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫لِس َانِه ِ ويَدِه ِ‪ ،‬والمُه َا ِ‬

‫‪- 036 -‬‬


‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬لا ت َ ْدخ ُلُونَ الجنَ ّة َ حت ّى‬ ‫ل رسو ُ‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪ :‬قا َ‬
‫سلام َ بي ْنَك ُ ْم"‪ ،‬أخرج َه ُ‬ ‫تُؤْم ِن ُوا‪ ،‬ولا تُؤْم ِن ُوا حت ّى تَحاب ّوا‪ ،‬أو َلا أدُل ّـك ُ ْم علَى شيء ٍ إذا فَعَل ْتُم ُوه ُ تَحابَب ْتُم ْ؟ أفْش ُوا ال ّ‬
‫مسلم ٌ‪.‬‬

‫ن أحَد ُكُمْ‪،‬‬
‫‪-‬يُبرز ُ الحديثُ العلاقة َ بينَ المحبة بينَ المؤمنين وبينَ الإيمان؛ كما جاء َ في قول الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬ل َا يُؤْم ِ ُ‬
‫سلام‪.‬‬ ‫ن من وسائل المحبة بين المؤمنين‪ :‬إفشاء َ ال ّ‬ ‫سه ِ"‪ ،‬ثم بي ّنَ الن ّبيّ ﷺ أ ّ‬
‫ِب لِن َ ْف ِ‬
‫يح ّ‬
‫ِب لأخِيه ِ ما ُ‬
‫يح ّ‬
‫حت ّى ُ‬

‫ل يَوم َ الق ِيامَة ِ‪:‬‬


‫ن الل ّه َ يقو ُ‬
‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬إ ّ‬
‫ل رسو ُ‬ ‫الحديث السادس‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬
‫ل إلّا ظِل ِّي"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ن المُت َحاب ّونَ بجَلال ِي؟ اليوم َ أظِل ّه ُ ْم في ظِل ِّي‪ ،‬يَوم َ لا ظِ ّ‬
‫أي ْ َ‬
‫سبْع َة ٌ‬ ‫يكشف الحديثُ عن الفضل والثواب المترت ّ ِب على المحبة في الل ّه‪ ،‬ومما يشهد ُ لهذا المعنى‪ :‬حديثُ ‪َ " :‬‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫ن تَحَاب ّا في الل ّه ِ اجْ ت َمعا عليه وتَف َر ّقَا‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬ورَج ُلَا ِ‬
‫ل إلّا ظِل ّه ُ"؛ وفيه قو ُ‬
‫يُظ ِل ّهُم ُ الل ّه ُ في ظِلِّه ِ‪ ،‬يَوم َ لا ظِ ّ‬
‫عليه"‪.‬‬
‫الحديث السابع‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قالَ‪" :‬أ ّ‬
‫ن رَج ُل ًا زار َ أخ ًا له في قَر ْيَة ٍ‬
‫ن تُر ِيد ُ؟ قالَ‪ :‬أرِيد ُ أخ ًا لي في هذِه القَر ْيَة ِ‪،‬‬‫صد َ الل ّه ُ له علَى م َ ْدرَجَتِه ِ م َلَك ًا‪ ،‬فَلَم ّا أتَى عليه‪ ،‬قالَ‪ :‬أي ْ َ‬
‫خر َى‪ ،‬فأ ْر َ‬
‫أ ْ‬
‫ل الل ّه ِ إل َي ْ َ‬
‫ك‬ ‫ل‪ ،‬قالَ‪ :‬فإن ِ ّي ر َسو ُ‬ ‫ك عليه م ِن نِعْمَة ٍ ت َر ُ ّبها؟ قالَ‪ :‬لا‪ ،‬غير َ أن ِ ّي أحْ بَب ْت ُه ُ في الل ّه ِ ّ‬
‫عز وج ّ‬ ‫قالَ‪ :‬هلْ ل َ‬
‫ك كما أحْ بَب ْت َه ُ ف ِيه ِ"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ن الل ّه َ ق ْد أحَب ّ َ‬
‫بأ ّ‬
‫يكشف الحديثُ وجه ًا آخر من وجوه فضل المحبة في الل ّه؛ كونها سببًا لمحبة الل ّه للعبد‪ ،‬كما جاء َ في موطأ‬ ‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫محب ّتي للمُتحابِّينَ فيّ"‪.‬‬
‫ل‪ :-‬وَجَب َْت َ‬
‫عز وج ّ‬
‫ل الل ّه ُ ‪ّ -‬‬
‫الإمام مالك عن الن ّب ِيّ ﷺ قال‪" :‬قا َ‬

‫اث م َن كُنّ فيه وجَد َ‬ ‫الحديث الثامن‪ :‬عن أنس بن مالك ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قال‪" :‬ثَل َ ٌ‬
‫يح ِب ّه ُ إلّا لِل ّهِ‪ ،‬وأ ْن يَك ْرَه َ أ ْن‬
‫ِب المَر ْء َ لا ُ‬
‫يح ّ‬
‫َب إلَيْه ِ مم ّا سِوَاهُمَا‪ ،‬وأ ْن ُ‬
‫ح َلَاوَة َ الإيمَانِ‪ :‬أ ْن يَكونَ الل ّه ُ ور َسولُه ُ أح ّ‬
‫َف في الن ّارِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬ ‫يَع ُود َ في الـكُ ْفرِ كما يَك ْرَه ُ أ ْن ي ُ ْقذ َ‬
‫ُرت ثمراتُ المحبة في الل ّه‪،‬‬
‫سبب لحلاوة الإيمان‪ ،‬وعلى ما تق ّدم؛ فقد كث ْ‬
‫ٌ‬ ‫ن المحبة َ في الل ّه‬
‫‪-‬يُبيِّنُ الحديثُ أ ّ‬
‫باب محكم ٌ مركزيّ في الشر يعة‪ ،‬وبالتالي؛‬
‫وهذه الـكثرة ُ والاجتماع ُ على فعل المحبة في الل ّه فيه تأكيدٌ على أ ّنها ٌ‬
‫صة ً في واقع الاستضعاف الذي تحياه الأمّة ُ والذي‬
‫وتتضاعف العقوبة ُ على م َن يستهينُ بهذا الباب؛ خا ّ‬
‫ُ‬ ‫ظ‬
‫تُغل ّ ُ‬
‫يُوجبُ المحبة َ والألفة َ والجمعَ‪ ،‬لا البغضاء َ والـكراهية َ والتفر ّقَ ‪.‬‬

‫الحديث التاسع‪ :‬عن جرير بن عبد الل ّه ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ قال في حَ ج ّة ِ الوداع‪" :‬لا تَرْجِع ُوا‬
‫ض"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ضك ُ ْم رِقَابَ بَعْ ٍ‬
‫ك ّفار ًا‪ ،‬يَضْرِبُ بَعْ ُ‬
‫بَعْدِي ُ‬
‫‪- 037 -‬‬
‫كفْر ٌ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫سل ِ ِم فُس ُوقٌ ‪ ،‬وق ِتَالُه ُ ُ‬
‫‪-‬وقال الن ّبيّ ﷺ‪ " :‬سِبَابُ الم ُ ْ‬

‫ل لأخِيه ِ‪ :‬يا كاف ِر ُ‪ ،‬فق َ ْد باء َ بها أحَد ُهُما"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ل قا َ‬
‫‪-‬وقال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬أي ّما رَج ُ ٍ‬
‫نوع من المخالفة في باب الأخو ّة الإيمانية‬ ‫ق وصف الـكفر على ٍ‬ ‫اجتمعت الأحاديثُ السابقة ُ على إطلا ِ‬ ‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ج من الملة‪ ،‬ولـكنه في منزلة (كفرٍ دون‬
‫وموجبات ها‪ ،‬وليس المقصود ُ بالـكفر في الأحاديث الـكفر َ المخُرِ َ‬
‫ك هُم ُ‬
‫ل الل ّه ُ ف َأولََٰئ ِ َ‬ ‫س ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬في قوله تعالى‪" :‬وَم َن ل ّ ْم َ‬
‫يحْك ُم بِمَا أنز َ َ‬ ‫ن عبا ٍ‬
‫كفر)؛ كما قال اب ُ‬
‫ن كفر‪ ،‬وقال أيضًا‪ :‬إن ّه ليس بالـكفر الذي يذهبون إليه‪ ،‬إنه ليس كفرًا ينقل عنه‬
‫الْك َاف ِر ُونَ"؛ (كفر ٌ دو َ‬
‫الملة)‪.‬‬
‫وصف الـكفر على المخالفة في باب الأخو ّة الإيمانية وموجباتها لع ِظَ ِم شأن ومركز ية هذا الباب‬
‫ُ‬ ‫ق‬
‫‪-‬وقد أطل ِ َ‬
‫في الشر يعة‪.‬‬

‫‪-‬هناك شواهد ُ أخرى متعل ِّقة ٌ بهذا الباب ‪-‬فيما يُؤكد ُ على علاقة الأخو ّة بينَ المؤمنين‪ -‬لم تُذكر ْ في المتن؛ منها‪:‬‬
‫ل بالجارِ‪ ،‬حت ّى ظَنَن ْتُ أن ّه سَي ُوَرِّثُه ُ"‪.‬‬
‫جبْر ِي ُ‬
‫ل يُوصِينِي ِ‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬ما زا َ‬
‫‪ -١‬قو ُ‬

‫ل الل ّهِ؟ قالَ‪ :‬الذي لا‬


‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬والل ّه ِ لا يُؤْمِنُ‪ ،‬والل ّه ِ لا يُؤْمِنُ‪ ،‬والل ّه ِ لا يُؤْمِنُ‪ .‬قيلَ‪ :‬وم َن يا ر َسو َ‬
‫‪ -٢‬قو ُ‬
‫ن جارُه ُ بَوايِق َه ُ"‪.‬‬
‫ي َأْ م َ ُ‬
‫خر ِ‬‫ن بالل ّه ِ والي َو ِم الآ ِ‬
‫خر ِ فلا يُؤْذِ جارَه ُ‪ ،‬وم َن كانَ يُؤْم ِ ُ‬ ‫ن بالل ّه ِ والي َو ِم الآ ِ‬ ‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬م َن كانَ يُؤْم ِ ُ‬ ‫‪ -٣‬قو ُ‬
‫ن بابَ الأخو ّة‬ ‫ُت"؛ وفي ذلك بيانُ أ ّ‬ ‫ن بالل ّه ِ والي َو ِم الآ ِ‬
‫خر ِ ف َل ْيَق ُلْ خَيْر ًا أ ْو لِي َصْ م ْ‬ ‫ن يُؤْم ِ ُ‬
‫ضيْف َه ُ‪ ،‬وم َن كا َ‬
‫فَل ْيُكْر ِ ْم َ‬
‫ل إيمانيّ مركزيّ في الدين‪ ،‬وليس من باب مكارم الأخلاق فحسب‪.‬‬
‫الإيمانية هو أص ٌ‬

‫َت أيْمَانُك ُ ْم"‪،‬‬


‫ن عَقَد ْ‬
‫جع َل ْنَا م َوَالِي َ"‪ ،‬قال‪( :‬ورثة)‪" ،‬و َال ّذ ِي َ‬
‫ل َ‬
‫‪ -٤‬عن ابن عباسٍ ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قالَ‪"( :‬و َلِك ُ ّ ٍ‬
‫قال‪ :‬كان المهاجرون لم ّا قدِموا المدينة َ يرثُ المهاجر ُ الأنصاريّ دونَ ذوي رحمه‪ ،‬للأخو ّة التي آخى الن ّبيّ ﷺ‬
‫َت أيْمَانُك ُ ْم" إلا النصر‪ ،‬والرفادة‪،‬‬
‫ن عَقَد ْ‬
‫ت‪ ،‬ثم قال‪" :‬و َال ّذ ِي َ‬
‫خ ْ‬
‫جعَل ْنَا م َوَالِي َ" ن ُ ِس َ‬
‫ل َ‬
‫نزلت‪" :‬و َلِك ُ ّ ٍ‬
‫ْ‬ ‫بينهم‪ ،‬فلما‬
‫ض فِي‬
‫ل قوله تعالى‪" :‬و َأولُو الْأ ْرح َا ِم بَعْضُه ُ ْم أوْلَى ببَِعْ ٍ‬
‫أي‪ :‬لم ّا نز َ‬
‫والنصيحة‪ ،‬وقد ذهبَ الميراثُ ‪ ،‬و يوصي له)؛ ْ‬
‫اب الل ّه ِ" نس َ‬
‫خ الميراثُ من آية الموالي والمعاقدة‪ ،‬واستُثنِي َ النصر ُ والنصيحة ُ والوصية ُ بالمعاقدة من الأحكام‬ ‫كِت َ ِ‬
‫المق ّدرة في الآية المنسوخة‪.‬‬

‫خطورة الف ُرقة بينَ المؤمنين‬


‫‪-‬من أهم ثمرات المحاضرة‪ :‬الدعوة ُ إلى تأسيس الأخو ّة الإيمانية والتحذير ُ من ُ‬
‫خ هذه المبادئ وتفعيلها في‬
‫ح لأحوال المسلمين دونَ أ ْن يتم ّ ترسي ُ‬
‫وإلا فمن الصعب أ ْن يكونَ هناك صلا ٌ‬
‫الواقع‪.‬‬

‫‪- 038 -‬‬


‫المحاضرة الرابعة والعشرون‪ :‬الحذر ُ من الفتنِ‬
‫س فيها‬
‫بابُ الحذرِ من الفتنِ‪ ،‬وما يُخشى على الصالحينِ م ِنْ فتنة ِ الد ّنيا والتناف ُ ِ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫ختص بأهل‬
‫ن الفتنَ لا ت ُ‬
‫‪-‬يُركز ُ هذا البابُ على الحذر من الفتن عموم ًا وليس فتنة الد ّنيا فحسب‪ ،‬وفيه بيانُ أ ّ‬
‫ن دخول َه ُ في طر يق‬
‫ختص بالصالحين أيضًا‪ ،‬وبالتالي؛ ينبغي على المؤمن أ ْن يتنبه َ إلى أ ّ‬
‫الفساد‪ ،‬وإن ّما ت ُ‬
‫ن من صفات طر يق الإستقامة‪ :‬وجود َ‬
‫ن من الس ُنَن الإلهية أ ّ‬
‫ن الوصول؛ لأ ّ‬
‫ضم ِ َ‬
‫الإستقامة لا يعني أن ّه قد َ‬
‫الفتن والابتلاءات والتحديات والعقبات والأمور المتشابهات الملتبسة‪ ،‬وفي ذلك اختبار ٌ لصدق أهل هذا‬
‫الطر يق‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫طي ّ ِِب وَم َا‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬مّا ك َانَ الل ّه ُ لِيَذَر َ ال ْمُؤْم ِنِينَ عَلَى م َا أنتُم ْ عَلَيْه ِ حَت ّى يَمِيز َ الْخبَ ِيثَ م ِ َ‬
‫ن ال ّ‬
‫ْب"‪:‬‬
‫ك َانَ الل ّه ُ لِيُطْلِعَك ُ ْم عَلَى الْغَي ِ‬
‫جاءت هذه الآية ُ في سورة آل عمران بعد َ الآيات المتعل ِّقة بأمور غزوة أح ُد؛ وقد كان من أبرز سمات‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫غزوة أح ُد‪ :‬الفتنة ُ والاختبار ُ والابتلاء ُ وعاقبة ُ مخالفة أمر الل ّه ورسوله ﷺ‪ ،‬ومن هذه الآيات ما يلي‪:‬‬
‫سك ُ ْم"؛ قوله تعالى‪:‬‬
‫صب ْتُم مِّثْل َيْهَا قلُ ْتُم ْ أن ّى هََٰذ َا قُلْ ه ُو َ م ِنْ عِندِ أنف ُ ِ‬
‫‪ -١‬قوله تعالى‪" :‬أو َلَم ّا أصَابَتْك ُم مّصِ يب َة ٌ ق َ ْد أ َ‬
‫صب ْتُم مِّث ْلَيْهَا"‪ :‬يعني‪ :‬يوم َ بدر‪.‬‬
‫"أو َلَم ّا أصَابَتْك ُم مّصِ يب َة ٌ"‪ :‬يعني‪ :‬يوم َ أحُدٍ‪ ،‬قوله تعالى‪" :‬ق َ ْد أ َ‬

‫ن الل ّه ِ و َلِيَعْلَم َ ال ْمُؤْم ِنِينَ"‪.‬‬


‫ن فَبِإ ْذ ِ‬
‫‪ -٢‬قوله تعالى‪" :‬وَم َا أصَابَك ُ ْم يَوْم َ الْتَقَى ا ْلجم َْع َا ِ‬

‫كسَب ُوا َۖو َلَق َ ْد عَف َا الل ّه ُ‬


‫ض م َا َ‬
‫شيْطَانُ ببَِعْ ِ‬
‫ن ِإن ّمَا اسْ تَزَل ّهُم ُ ال ّ‬
‫ن تَوَل ّو ْا م ِنك ُ ْم يَوْم َ ال ْتَقَى ا ْلجم َْع َا ِ‬‫ن ال ّذ ِي َ‬ ‫‪ -٣‬قوله تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬
‫ن الل ّه َ غَف ُور ٌ ح َل ِيم ٌ"‪.‬‬
‫عَنْه ُ ْم ۗ ِإ ّ‬

‫صا بغزوة أح ُد‬ ‫ن معنى وسياقَ الآية ليس خا ًّ ّ‬ ‫أي أ ّ‬


‫‪-‬يُفيد ُ مجيء ُ الآية بعد آيات غزوة أح ُد دلالة َ العموم؛ ْ‬
‫حقيقيّ ي ُمي ِّز ُ به المؤمن‬
‫ٍ‬ ‫ن الل ّه َ لم يكنْ لي َذر َ المؤمنين دونَ ابتلاء ٍ واختبا ٍر‬
‫سن ّة ٌ إلهية ٌ عامّة ٌ‪ ،‬والمعنى أ ّ‬
‫وإن ّما هو ُ‬
‫صادق الإيمان من المنافق مدعي الإيمان‪.‬‬

‫ن ذلك من‬
‫أي‪ :‬أن ّكم لن تصلوا إلى تمييز المؤمن والمنافق؛ لأ ّ‬
‫ْب"‪ْ :‬‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬وَم َا ك َانَ الل ّه ُ لِيُطْلِعَك ُ ْم عَلَى الْغَي ِ‬
‫تكشف لـكم الخبيث من الطيب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫علم الغيب‪ ،‬لـكن الل ّه ‪-‬تعالى‪ -‬يأتيكم بالاختبارات والفتن والمِحن التي‬

‫‪- 039 -‬‬


‫ولذلك؛ ينبغي أ ْن يتهيء َ المؤمنون الذين يسيرون في طر يق الاستقامة والإصلاح لهذه الاختبارات والفتن‬
‫سقط على إثر هذه الابتلاءات والاختبارات‬
‫ل وتختبر ُ الحالة الإيمانية والصدق الإيماني؛ في َ َ‬
‫والمِحن الت ّي تنخ ُ‬
‫ل النفاق والخبث ومدعو الإيمان‪.‬‬
‫أه ُ‬
‫تماس الجميع؛ الصالحين والمنافقين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫صة ً‪ ،‬بل هي فتنة ٌ عامّة ٌ‬
‫ن هذه الفتنة َ لم توج ّه للمنافقين خا ّ‬
‫‪-‬وبالتالي؛ فإ ّ‬
‫ل هؤلاء‬
‫صة ً إذا وص َ‬
‫ولذا؛ قد يأتي الابتلاء ُ للمؤمنين الذين لم يرتكبوا ذنبًا لِتمييز الخبيث من الطيب‪ ،‬خا ّ‬
‫ن الل ّه َ ي ُريد ُ بهم الخير والرفعة ون ُصرة الإسلام وإحياءه‪.‬‬
‫المؤمنون إلى درجة أ ّ‬

‫ل‬
‫ق ن ُصرة الد ِّين؛ فإ ّنهم قد تجاوزوا الفتنة َ‪ ،‬بينما الأص ُ‬
‫‪-‬قد يُظنّ أن ّه إذا أراد َ الل ّه ُ بالمؤمنين الخير َ فسلـكوا طر ي َ‬
‫ل للمؤمنين من الاستقامة والصدق والإقبال على الل ّه والإصلاح‬ ‫في الس ُنَن الإلهية أن ّك إذا رأيتَ هذا الحا َ‬
‫محص المؤمنين وتُميِّز َ الخبيثَ من الطيب‪.‬‬
‫ن الفتنَ قادمة ٌ لت ُ َ‬
‫والعمل لن ُصرة الد ِّين؛ فاعلم أ ّ‬

‫صة ً"‪:‬‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال سبحانه‪" :‬و َات ّق ُوا فِت ْن َة ً لّا تُصِ يب َ ّن ال ّذ ِي َ‬
‫ن ظَلَم ُوا م ِنك ُ ْم خ َا ّ‬
‫ن‬
‫‪-‬تأتي الآية ُ في سياق تحذير الن ّاس عامّة؛ الصالحين والظالمين‪ ،‬وقد توارد َ عن غيرِ واحدٍ من المفسرين أ ّ‬
‫ل هذه الفتنة‬
‫ن مجا َ‬
‫اس أو يحاولوا تغييرَه ُ‪ ،‬ولذا؛ فإ ّ‬
‫ن أ ْن ينكر َه الن ّ ُ‬
‫سببَ هذه الفتنة هو انتشار ُ الظلم والمنكر دو َ‬
‫ليس لتمييز الخبيث من الطيب‪ ،‬وإن ّما يكونُ عقاب ًا ليس لمَن بغى وظلم فحسب‪ ،‬بل عقاب ًا يع ّم الجميعَ‪.‬‬

‫اس أن يُتْرَكُوا أن يَق ُولُوا آم َن ّا و َه ُ ْم ل َا يُفْتَن ُونَ"‪:‬‬ ‫الآية الثالثة‪ :‬قال سبحانه‪" :‬أ َ‬
‫حسِبَ الن ّ ُ‬
‫جاءت هذه الآية ُ في سياق‬
‫ْ‬ ‫‪-‬بينما كانتا الآيتان الماضيتان متعلقتين بالفتنة العامّة المتعل ِّقة بمجموع الن ّاس‪،‬‬
‫سن ّة الن ّب ِيّ ﷺ‬
‫خاص؛ فمهما كان العبد ُ مؤمنًا مستقيم ًا على أمر الل ّه ‪-‬تعالى‪ -‬و ُ‬
‫ل العامّ وال ّ‬
‫الفتنة التي تشم ُ‬
‫صة ً إ ْن كان مستغرقًا في طر يق الذنوب والمعاصي ثم تابَ الل ّه ُ عليه فالتزم َ طر يق الاستقامة‪ ،‬فلا بُدّ أ ْن‬
‫خا ّ‬
‫يُختبر َ بالابتلاءات والفتن والعقبات‪.‬‬

‫بعض التائبين أن ّه لمجر ّد توبته وتركه لطر يق المعاصي والتزامه طر يق الاستقامة‪ ،‬أن ّه لن يواجه َ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬قد يتوهم ُ‬
‫طمأنينة القلب‬
‫ق التوبة من ُ‬
‫تحديات وصعوبات ومشاكل؛ وهذا خطا ٌ ووهمٌ‪ ،‬نعم يكونُ للمؤمن صاد ِ‬
‫وسكينة الن ّفس وانشراح الصدر ما لا يملـك ُه ُ العاصي‪ ،‬وأيضًا يُعطيه الل ّه ُ من القو ّة والصّ بر والعزيمة ما يستطي ُع‬
‫يختبر َ بالفتن‬
‫أ ْن يتجاوز َ به هذه العقبات والتحديات والمشاكل‪ ،‬لـكن في الأخير؛ لا بُدّ أ ْن ي ُبتلى و ُ‬
‫والابتلاءات‪.‬‬
‫ن فتنته‪ ،‬وليس بالضرورة أ ْن تكونَ الفتنة ُ بالابتلاءات والبلايا العظيمة؛ كأ ْن يوض َع‬
‫ل إنسا ٍ‬
‫ن لك ّ ِ‬
‫‪-‬ولذا؛ فإ ّ‬
‫السيف على رقبة الإنسان‪ ،‬بل قد تكونُ الفتنة ُ بالعافية والنعم والرخاء والرزق؛ كما جاء َ على نبي الل ّه سليمان‬

‫‪- 041 -‬‬


‫ن م ِن قَب ْلِه ِ ْم َۖ فَلَيَعْلَم َنّ‬
‫ل ر َب ِ ّي لِيَب ْلُوَنِي أأشْ ك ُر ُ أ ْم أكْ ف ُر ُ"‪ ،‬وقال تعالى‪" :‬و َلَق َ ْد فَتَن ّا ال ّذ ِي َ‬
‫ل هََٰذ َا م ِن ف َضْ ِ‬
‫ﷺ‪" :‬قَا َ‬
‫صد َقُوا و َلَيَعْلَم َنّ الْك َاذِبِينَ"‪.‬‬
‫ن َ‬
‫الل ّه ُ ال ّذ ِي َ‬

‫ن‬ ‫جد َ ف َِإذ َا عبد ُ الل ّه ِ ب ُ‬


‫ن عَمْرِو ب ِ‬ ‫س ِ‬
‫رب الـكعبة قال‪( :‬دَخ َل ْتُ الم َ ْ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن عبد الرحمن بن عبدِ ِّ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‬
‫مج ْتَمِع ُونَ عليه‪ ،‬فأتَيْتُه ُ ْم فَجل ََسْتُ إلَيْه ِ‪ ،‬ف َقالَ‪ :‬ك ُن ّا مع ر َسو ِ‬
‫اس ُ‬
‫ل الـكَعْبَة ِ‪ ،‬و َالن ّ ُ‬
‫ص ج َال ٌِس في ظِ ّ ِ‬
‫الع َا ِ‬
‫ح خِبَاءَه ُ‪ ،‬وَم ِن ّا م َن يَن ْت َضِ لُ‪ ،‬وَم ِن ّا م َن هو في جَشَرِه ِ‪ ،‬إ ْذ ن َاد َى م ُنَادِي‬ ‫سفَرٍ‪ ،‬فَنَزَل ْنَا مَنْزِل ًا؛ فم َ ِن ّا م َن يُصْ ل ِ ُ‬
‫في َ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬ف َقالَ‪" :‬إن ّه ل َ ْم يَكُنْ نَبِ ّي قَب ْل ِي إلّا كانَ َ‬
‫ح ًّ ّقا‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ :‬الصّ لَاة َ ج َامِع َة ً‪ ،‬فَاجْ تَمَعْنَا إلى ر َسو ِ‬ ‫ر َسو ِ‬
‫ل عَاف ِيَتُهَا في أوّلِهَا‪،‬‬
‫جع ِ َ‬
‫ن أمّتَك ُ ْم هذِه ُ‬
‫ل أمّت َه ُ علَى خَيْر ِ ما يَعْلَم ُه ُ لهمْ‪ ،‬و َيُنْذِر َه ُ ْم شَرّ ما يَعْلَم ُه ُ لهمْ‪ ،‬وإ ّ‬
‫عليه أ ْن يَد ُ ّ‬
‫ل المُؤْمِنُ‪ :‬هذِه‬ ‫تج ِيء ُ الفِت ْن َة ُ في َقو ُ‬‫ق بَعْضُه َا بَعْضًا‪ ،‬و َ َ‬
‫تج ِيء ُ فِت ْن َة ٌ في ُر َق ِّ ُ‬
‫خر َه َا بَلَاءٌ‪ ،‬و َأم ُور ٌ تُنْك ِر ُونَهَا‪ ،‬و َ َ‬
‫وَسَي ُصِ يبُ آ ِ‬
‫ل‬
‫ن الن ّارِ و َي ُ ْدخ َ َ‬‫ح عَ ِ‬‫حز َ َ‬ ‫َب أ ْن ي ُز َ ْ‬‫ل المُؤْمِنُ‪ :‬هذِه هذِه‪ ،‬فم َن أح ّ‬ ‫تج ِيء ُ الفِت ْن َة ُ‪ ،‬في َقو ُ‬ ‫ِف و َ َ‬‫مُه ْل ِـكَتِي‪ ،‬ث ُم ّ تَنْكَش ُ‬
‫ِب أ ْن يُؤ ْتَى إلَيْه ِ‪ ،‬وَم َن ب َاي َ َع إم َام ًا‬
‫يح ّ‬
‫س ال ّذي ُ‬
‫ت إلى الن ّا ِ‬ ‫ن بالل ّه ِ و َالْي َو ِم الآ ِ‬
‫خر ِ‪ ،‬و َلْي َأْ ِ‬ ‫الجن َ ّة َ‪ ،‬فَل ْت َأْ تِه ِ م َن ِي ّت ُه ُ و َهو يُؤ ْم ِ ُ‬
‫ق الآخَر ِ")‪ ،‬أخرج َه ُ‬
‫ن اسْ تَط َاع َ‪ ،‬فإ ْن ج َاء َ آخَر ُ يُنَازِع ُه ُ فَاضْر ِبُوا ع ُن ُ َ‬
‫ص ْفق َة َ يَدِه ِ‪ ،‬و َثَم َرَة َ قَل ْبِه ِ؛ فَل ْيُطِعْه ُ إ ِ‬
‫فأ ْعط َاه ُ َ‬
‫مسلم ٌ‪.‬‬
‫ح الخي َْم َة ُ وما يُشْبهها؛ يَع ُ ّدها و يُهي ِّئُها للر ّاحة ِ‪.‬‬
‫س م َن يُصْ ل ِ ُ‬
‫أي‪ :‬كان م ِن الن ّا ِ‬
‫ح خِبَاءَه ُ)‪ْ :‬‬
‫‪-‬قوله‪( :‬فم َ ِن ّا م َن يُصْ ل ِ ُ‬
‫أي‪ :‬أي‪ :‬ي َرمي بالس ِّها ِم ت َدرّ ب ًا من أجل الحماية في السفر‪.‬‬
‫ل)‪ْ :‬‬
‫‪-‬قوله‪( :‬وَم ِن ّا م َن يَن ْت َضِ ُ‬
‫واب ال ّتي ت ُرعى ثم ّ تَب ِيتُ في م َكانِها‪ ،‬يُر ِيد أ ّنهم أخر َجوا د َوا ّبه ُم‬
‫‪-‬قوله‪( :‬وَم ِن ّا م َن هو في جَشَرِه ِ)‪ :‬وهي‪ :‬الد ّ ّ‬
‫ن ال ّذ ِي ن َزلوه لِت َرعى‪.‬‬
‫ن المكا ِ‬
‫م َ‬
‫‪-‬قوله‪( :‬الصّ لَاة َ ج َامِع َة ً)‪ :‬هو نداء ٌ استثنائيّ فيه دلالة ٌ على منزلة الصّ لاة في مجتمع الصحابة كونها محل ًا لجمع‬
‫الن ّاس‪.‬‬
‫ل ما بعده ُ من الفتن‪.‬‬
‫ق بَعْضُه َا بَعْضًا"‪ :‬يعني‪ :‬يَصير ُ بعض ُها وأوّلُها خَفيف ًا بالن ِّسبة ِ لعِظَ ِم وه َو ِ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬فيُر َق ِّ ُ‬

‫شترط أ ْن تكونَ آخر ُ أمّة ٍ ‪-‬التي سي ُصيبُها البلاء والمنكرات والفتن‪ -‬هي الأمّة التي تكون عند َ قيام‬
‫‪-‬لا ي ُ ُ‬
‫الساعة‪ ،‬بل نحن الآن نع ّد في آخر الأمّة نسبيًا؛ ولذا فنحن أولى بالتركيز والاهتمام بهذا الحديث‪.‬‬

‫بعض الضمانات من الفتن‬


‫ن المراحل الأولى من ع ُم ُر الأمّة فيها خير ية ٌ و ُ‬
‫‪-‬في الحديث بيانُ الن ّبيّ ﷺ أ ّ‬
‫والشر؛ ومن ذلك البيان أيضًا‪:‬‬

‫صحَابِي‪ ،‬ف َِإذ َا ذ َهَب ْتُ‬ ‫سم َاءِ‪ ،‬ف َِإذ َا ذ َه َب َِت الن ّجُوم ُ أتَى ال ّ‬
‫سم َاء َ ما تُوعَد ُ‪ ،‬و َأن َا أم َن َة ٌ لأ ْ‬ ‫‪ -١‬قوله ﷺ‪" :‬الن ّجُوم ُ أم َن َة ٌ لِل ّ‬
‫صحَابِي أتَى أمّتي ما يُوعَد ُونَ"‪.‬‬
‫صحَابِي أم َن َة ٌ ل ِأمّتِي‪ ،‬ف َِإذ َا ذ َه َبَ أ ْ‬
‫صحَابِي ما يُوعَد ُونَ‪ ،‬و َأ ْ‬
‫أتَى أ ْ‬

‫‪- 040 -‬‬


‫ل ِعم ْرانُ بن الحصين‪ :‬لا أ ْدرِي‪ :‬ذَك َر َ‬
‫ن يَلُونَه ُ ْم ‪-‬قا َ‬ ‫‪ -٢‬قوله ﷺ‪"( :‬خَي ْرُك ُ ْم قَرْنِي‪ ،‬ث ُم ّ ال ّذ ِي َ‬
‫ن يَلُونَهُمْ‪ ،‬ث ُم ّ ال ّذ ِي َ‬
‫ن ولا يُسْتَشْهَد ُونَ‪،‬‬
‫يج ِيء ُ قَوْم ٌ‪ ،‬يَنْذِر ُونَ ولا يَف ُونَ‪ ،‬و يَخ ُونُونَ ولا يُؤ ْتَمَن ُونَ‪ ،‬ويَشْهَد ُو َ‬
‫ثِن ْتَيْنِ أ ْو ثَلاث ًا بَعْد َ قَر ْنِه ِ‪ -‬ث ُم ّ َ‬
‫ن")‪.‬‬
‫سم َ ُ‬
‫و ي َ ْظه َر ُ ف ِيهِم ُ ال ِّ‬
‫ن إلّا الذي بَعْدَه ُ شَر ّ منه‪ ،‬حت ّى تلَْقَو ْا ر َب ّك ُ ْم"؛ وفي ذلك دلالة ٌ على أن ّه‬
‫‪ -٣‬قوله ﷺ‪" :‬فإن ّه لا ي َأْ تي علَيْك ُم زَم َا ٌ‬
‫لفترات من الخير‬
‫ٍ‬ ‫استثناءات‬
‫ٌ‬ ‫ن هذا ليس قاعدة ً مضطردة ً؛ بل فيها‬
‫زادت الفتنُ‪ ،‬إلّا أ ّ‬
‫ْ‬ ‫ن‬
‫خر الزم ُ‬
‫كل ّما تأ ّ‬
‫ل أو الأسو َأ ِ مسألة ٌ إجمالي ّة ٌ؛ فإ ّ‬
‫ن مجموع َ‬ ‫ض ِ‬
‫ن الأف َ‬
‫بعض أهل العلم‪( :‬مسألة ُ الز ّما ِ‬
‫ُ‬ ‫تتوسط أزمنة الشر‪ :‬كما قال‬

‫ل ع َصرٍ أفراد ٌ فيهم الخير ُ والحَقّ ‪ ،‬و يوجَد ُ الع ُلَماء ُ‬ ‫ُص الخَير ُ عِند َهم بمرورِ الز ّمانِ‪ ،‬لـكِنْ يُوجَد ُ في ك ُ ّ ِ‬ ‫س ينق ُ‬‫الن ّا ِ‬
‫ل ع َصرٍ)‪.‬‬‫المستقيم‪ ،‬ولا ينقَط ِ ُع الخ َير ُ في ك ُ ّ ِ‬
‫ِ‬ ‫ق‬
‫طر ي ِ‬
‫الذين يجعَلُهم الل ّه ُ ه ِداية ً للعالَمينَ‪ ،‬وحُ ج ّة ً لل ّ‬

‫‪-‬يجتم ُع هذا الحديثُ مع الأحاديث التالية في بيان حرص الن ّب ِيّ ﷺ على أمّته وتحذير ِه ِ إ ي ّاهم وتنبيه ِهم مبكر ًا‬
‫لأنواع من الفتن ستعترض طر يقهم ؛ من هذه الفتن ما وقع في زمن الصحابة‪ ،‬ومنها ما وقع بعد َ زمانهم‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫ومنها ما لم يقعْ إلّا في زماننا هذا؛ كالتغي ّرات التي تُصاحبُ أشراط الساعة‪ ،‬وغير ذلك من جُملة الفتن‪.‬‬

‫ق الاستقامة‪ ،‬وإن ّما ينبغي أ ْن يتنبه َ للعوائق التي‬


‫ن من ذلك‪ :‬أن ّه لا يكفي أ ْن يلزم َ طر ي َ‬
‫‪-‬ومما يستفيدُه ُ المؤم ُ‬
‫ق الفتن‪ ،‬وهذا التنب ّه ُ ضروريّ ج ًّ ّدا في الثبات على طر يق‬
‫تعترض ذلك الطر يق؛ ومنها‪ :‬عوائ ُ‬
‫َ‬ ‫ن أ ْن‬
‫ي ُمك ُ‬
‫خطوات ثابتة راسخة إلّا بإداراك أ ّ‬
‫ن الفتنَ لا بُدّ‬ ‫ٍ‬ ‫ن في هذا الطر يق ب‬
‫الاستقامة والإصلاح؛ فلا يسير ُ المؤم ُ‬
‫واقعة ً‪ ،‬لذلك؛ ينبغي عليه الاستعداد والتهيئ لها‪ ،‬والخوف والمحاذرة منها وعدم الضمان‪.‬‬

‫ل‬
‫ل الل ّه ﷺ بعد أ ْن قدِم َ أبو عبيدة بما ٍ‬
‫ل رسو ُ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬
‫عوف ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ٍ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن عمرو بن‬
‫من البحرين‪" :‬فأب ْشِر ُوا وأمّ ِلُوا ما يَسُر ّكُمْ‪ ،‬ف َوَالل ّه ِ لا الفَقْر َ أخْ ش َى علَيْك ُم‪ ،‬ولـَكِنْ أخَش َى علَيْك ُم أ ْن تُبْس َ‬
‫َط عَلَي ْكُمُ‬
‫َت علَى م َن كانَ قَبْلـَكُمْ‪ ،‬فَتَنَافَس ُوه َا كما تَنَافَس ُوه َا وتُه ْل ِـكَك ُ ْم كما أه ْلـَكَتْه ُ ْم"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ‬
‫الد ّن ْيَا كما ب ُ ِسط ْ‬
‫ومسلم ٌ‪.‬‬
‫خ بذكر موضع الشاهد من الحديث على الباب‪ ،‬فهذا الحديثُ مختصر ٌ؛ وقصت ُه ُ أن ّه جاء َ أبو عبيدة‬ ‫‪-‬اكتفى الشي ُ‬
‫سم ُه ُ بينهم‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ سي ُق ِّ‬
‫ل من الفقر الشديد‪ ،‬ففرحوا حين رأوا المال؛ لعلمهم أ ّ‬
‫بمالٍ‪ ،‬وكان الصحابة ُ في حا ٍ‬
‫فحرصوا على هذا المال؛ فلما رأى الن ّبيّ ﷺ حرص َهم =أرشدهم وبي ّنَ لهم بهذا البيان‪.‬‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ :‬علَى قَت ْلَى أحُدٍ‪ ،‬ث ُم ّ صَعِد َ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن ع ُقبة َ بن عامر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬صَل ّى ر َسو ُ‬
‫ن ع َْرضَه ُكما بيْنَ أيْلَة َ إلى الجحُْفَة ِ‪ ،‬إن ِ ّي‬ ‫طك ُ ْم علَى الحَوْضِ‪ ،‬وإ ّ‬ ‫المنِ ْبَر َ ك َال ْم ُوَدّ ِِع لِلأحْ يَاء ِ و َالأمْو َ ِ‬
‫ات‪ ،‬ف َقالَ‪" :‬إن ِ ّي ف َر َ ُ‬
‫لَسْتُ أخْ ش َى علَيْك ُم أ ْن تُشْرِكُوا بَعْدِي‪ ،‬و َلـَكِن ِ ّي أخْ ش َى عَلَيْكُم ُ الد ّن ْيَا أ ْن تَنَافَس ُوا ف ِيهَا‪ ،‬و َتَقْتَت ِلُوا‪ ،‬فَتَه ْل ِـكُوا‪ ،‬كما‬

‫‪- 042 -‬‬


‫ل الل ّه ِ ﷺ علَى المنِ ْبَرِ)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ‬
‫خر َ ما ر َأي ْتُ ر َسو َ‬
‫ل عُقْب َة ُ‪ :‬فَك َان َْت آ ِ‬
‫ك م َن كانَ قَب ْلـَك ُ ْم"‪ .‬قا َ‬
‫هَل َ َ‬
‫ومسلم ٌ‪.‬‬
‫رب و َفات ِه ﷺ‪-‬؛ وكأن ّه‬
‫ض ‪-‬وفيه إشارة ٌ إلى ق ُ ِ‬
‫أي‪ :‬أنا سابِق ُكم إلى الحَو ِ‬
‫ض"‪ْ :‬‬
‫طك ُ ْم علَى الحَو ْ ِ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬إن ِ ّي ف َر َ ُ‬
‫ل للصحابة ولمَن جاء َ بعدهم مم َن لم يلتقي بهم ﷺ‪ :‬اثبتوا واصبروا حت ّى نلتقي يوم َ القيامة‪.‬‬
‫ﷺ يقو ُ‬

‫ل‪"( :‬إذا‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمرو بن العاص ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬عن رسو ِ‬
‫ل الل ّه ﷺ أن ّه قا َ‬
‫ل الل ّه ِ‬
‫ل ر َسو ُ‬ ‫ل كما أم َرَنا الل ّهُ‪ ،‬قا َ‬
‫ْف‪ :‬نَق ُو ُ‬
‫ن عَو ٍ‬‫نب ُ‬ ‫ل عبد ُ الر ّحْم َ ِ‬ ‫ِس والر ّوم ُ‪ ،‬أيّ قَو ْ ٍم أنتُم ْ؟"‪ ،‬قا َ‬ ‫َت علَيْك ُم فار ُ‬
‫فُتِح ْ‬
‫نح ْو َ ذلكَ‪ ،‬ث ُم ّ تَنْط َلِق ُونَ في‬
‫سد ُونَ‪ ،‬ث ُم ّ تَت َداب َر ُونَ‪ ،‬ث ُم ّ تَتَباغَضُونَ‪ ،‬أ ْو َ‬‫ﷺ‪" :‬أ ْو غير َ ذلكَ‪ ،‬تَتَنافَس ُونَ‪ ،‬ث ُم ّ تَتَحا َ‬
‫ض")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ِقاب بَعْ ٍ‬
‫جر ِينَ‪ ،‬فَت َجْ ع َلُونَ بَعْضَه ُ ْم علَى ر ِ‬
‫م َساكِينِ المُها ِ‬

‫فارس والر ّوم ُ مَم ْلـكتينِ ع َظيمتينِ حينئذ؛ من حيث عراقة التاريخ والقصور وقو ّة الجيوش وأعداد‬
‫ُ‬ ‫‪-‬كانَتا‬
‫الجنود‪.‬‬
‫ك م ِن ر َخاء ِ الع َي ِ‬
‫ش والغ ِنى بعد هذا الفتح‬ ‫أي‪ :‬ما يَكونُ ح َالـ ُكم إذا ح َدثَ ذَل َ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬أيّ قَو ْ ٍم أنتُم ْ؟"‪ْ :‬‬
‫ل الل ّه‬
‫ل من الاستقامة‪ ،‬أم ست ُفتنون بالـكنوز والمال والغنائم؟‪ ،‬ثم بي ّنَ رسو ُ‬
‫العظيم؛ هل ستكونون على حا ٍ‬
‫ل هذه الأحداث؛‬
‫ض لها قلوب الصحابة وم َن بعدهم إذا واجهوا مث َ‬
‫ن أ ْن تتعر ّ َ‬
‫ﷺ بعضًا من الفتن التي يُمك ُ‬
‫من كثرة المال وانفتاح الدنيا‪.‬‬

‫ن أكْ ثَر َ م َا‬


‫ل الل ّه ﷺ (" ِإ ّ‬
‫ل رسو ُ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬
‫خدري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ِّ‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن أبي سعيد ال‬
‫ل‪" :‬زَه ْرَة ُ الد ّن ْيَا")‪،‬‬
‫ض‪ ،‬قَا َ‬
‫ل‪ :‬وَم َا ب َرَك َاتُ الْأ ْر ِ‬
‫ض"‪ ،‬ق ِي َ‬
‫َات الْأ ْر ِ‬
‫ج الل ّه ُ لـَك ُ ْم م ِنْ ب َرَك ِ‬
‫يخْرِ ُ‬
‫َاف عَلَيْك ُ ْم م َا ُ‬
‫أخ ُ‬
‫أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫‪-‬الابتلاءاتُ متنوعة ٌ؛ منها ما يكون بالشر؛ كالأمراض وتسل ّط الأعداء‪ ،‬ومنها ما يكون بالخير؛ كفتنة انفتاح‬
‫الدنيا‪ ،‬وهذا الابتلاء ُ هو أش ّد ما خاف َه ُ الن ّبيّ ﷺ على أصحابه‪ ،‬ولأجل ذلك‪ :‬إذا رأيتَ شباب ًا قد استقاموا على‬
‫الد ِّين وحرصوا على العلم والإصلاح‪ ،‬ثم وجدتَ لديهم نقصً ا في المكتسبات الدنيو ية =فلا تحز ْن عليهم‪ ،‬بل‬
‫تنافس على شيء ٍ كبيرٍ؛ فكل ّما ْ‬
‫قلت‬ ‫ٌ‬ ‫ًّ‬
‫أساسي ّا من عناصر التفر ّق‪ ،‬إذ لا يوجد ُ لديهم‬ ‫اعلم ْ أ ّنهم قد فقدوا عنصر ًا‬
‫فرص التفر ّق والحسد والتنافس‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قلت‬
‫المكتسباتُ الدنيو ية ُ = ْ‬

‫صا و بُخل ًا وجشع ًا على المال‪ ،‬ولذلك قال‬


‫ت أموالُه =كل ّما ازداد َ حر ً‬
‫ن كل ّما كثر ُ ْ‬
‫ن الإنسا َ‬
‫‪-‬ومن فتنة الدنيا؛ أ ّ‬
‫ل‬
‫َب الـكَعْبَة ِ‪ ،‬إلّا م َن قا َ‬
‫َب الـكَعْبَة ِ‪ ،‬هُم ُ الأخْ سَر ُونَ ور ِّ‬
‫ن ور ِ ّ‬
‫ن أمْوال ًا‪" :‬هُم ُ الأخْ سَر ُو َ‬
‫الن ّبيّ ﷺ عن الأكْ ث َري َ‬
‫ق بينَ يديه وعن يمينه وعن شماله في وجوه الخير‪.‬‬
‫أي‪ :‬إلّا م َن أنف َ‬
‫هَك َذا‪ ،‬وهَك َذا‪ ،‬وهَك َذا"؛ ْ‬

‫‪- 043 -‬‬


‫‪-‬وقد خشِي َ الن ّبيّ ﷺ فتنة َ الدنيا على أصحابه‪ ،‬مع أ ّنهم كانوا يعيشون في حالة ٍ بسيطة ٍ من الدنيا‪ ،‬ولـكن الن ّبيّ‬
‫ل‬
‫كنْز َ آ ِ‬
‫ن المُؤْم ِنِينَ‪َ ،‬‬
‫ن المُسْل ِمِينَ‪ ،‬أ ْو م ِ َ‬
‫ن الفتوحات آتية ٌ؛ كما في قوله ﷺ‪" :‬لَتَفْتَحَنّ عِصابَة ٌ م ِ َ‬
‫ﷺ يعلم ُ أ ّ‬
‫ن لشفقة وحرص الن ّب ِيّ ﷺ على أمّته‪.‬‬
‫ض"‪ ،‬وفي هذا التحذير ِ المستقبل ِيّ بيا ٌ‬
‫كسْر َى الذي في الأب ْي َ ِ‬
‫ِ‬

‫‪-‬من أهم ما يستفيدُه ُ المصلحون من الأحاديث السابقة‪ :‬أهمية ُ تنبيه الشباب المستقيم على التحديات والمخاطر‬
‫ق مزهرٍ‪ ،‬بل يجب‬
‫تعترض طر يقهم؛ ولا ينبغي أبد ًا أ ْن يمني الدعاة ُ والمصلحون الشبابَ بطر ي ٍ‬
‫َ‬ ‫ن أ ْن‬
‫التي ي ُمك ُ‬
‫عليهم أ ْن يوضحوا لهم صعوبة َ الطر يق ومخاطرَه ُ وتحدياته وابتلاءاته‪ ،‬وفي نفس الوقت‪ :‬عليهم أ ْن يبشروهم‬
‫برحمة الل ّه وفضله وتوفيقه ومعونته لعبده المؤمن المستقيم‪.‬‬

‫ن الصالحين قد يصبرون على الشدائد واللأواء‪ ،‬ثم ّ لا يصبرون على النعم والرخاء‪ ،‬مع‬
‫‪-‬ومن الفوائد أيضًا‪ :‬أ ّ‬
‫ن‬
‫ليست الأصعبَ في ميزان الاستقامة؛ لأ ّ‬
‫ْ‬ ‫ن فتنَ الشدائد هي الأصعب على النفس‪ ،‬لـكنها‬
‫أن ّه قد يُتصور ُ أ ّ‬
‫سك والثبات والتصب ّر‪ ،‬وهذه من أعلى‬
‫ل الإنسانَ في حالة ٍ من الافتقار إلى الل ّه والتم ّ‬
‫فتنَ الشدائد أحيان ًا تجع ُ‬
‫ل الإنسانَ في حالة ٍ من الانفلات والجزع قليل ًا‪.‬‬
‫درجات الإيمان‪ ،‬أمّا فتن الرخاء؛ فقد تجع ُ‬

‫ل الل ّه ِ ﷺ ي َ ْذك ُر ُ‬
‫الحديث السادس‪ :‬عن حذيفة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬كن ّا عِنْد َ ع ُم َر َ‪ ،‬فقالَ‪ :‬أي ّك ُ ْم سَم ِ َع ر َسو َ‬
‫ك‬
‫ل في أه ْلِه ِ وجارِه ِ؟ قالوا‪ :‬أج َلْ ‪ ،‬قالَ‪ :‬تِل َ‬
‫ن سَمِعْناه ُ‪ ،‬فقالَ‪ :‬لَعَل ّـك ُ ْم تَعْن ُونَ فِت ْن َة َ الر ّج ُ ِ‬
‫نح ْ ُ‬
‫ل قوْم ٌ‪َ :‬‬
‫الف ِتَنَ؟ فقا َ‬
‫ن المُن ْكَر ِ‪ ،-‬ولـَكِنْ أي ّك ُ ْم سَم ِ َع‬
‫عروف والنّهْ ي ُ ع َ ِ‬
‫ِ‬ ‫والصيام ُ والصّ د َق َة ُ ‪-‬وفي رواية ٍ أخرى‪ :‬والأمْرُ بالم َ‬
‫ِّ‬ ‫تُكَ ّف ِر ُها الصّ لاة ُ‬
‫ل حُذ َيْف َة ُ‪ :‬فأسْ كَتَ القَوْم ُ‪ ،‬فَق ُلتُ ‪ :‬أنا‪ ،‬قالَ‪ :‬أن ْتَ لِل ّه ِ أبُوك َ‪ .‬قا َ‬
‫ل‬ ‫ج الب َحْ رِ؟ قا َ‬
‫ج مَو ْ َ‬
‫النبيّ ﷺ ي َ ْذك ُر ُ ال ّتي تَم ُو ُ‬
‫ْب أشْر ِ بَها‪،‬‬
‫وب كالْحَصِ يرِ ع ُود ًا ع ُود ًا‪ ،‬فأيّ قَل ٍ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ يقولُ‪" :‬تُعْر ُ‬
‫َض الف ِتَنُ علَى الق ُل ُ ِ‬ ‫حُذ َيْف َة ُ‪ :‬سَمِعْتُ ر َسو َ‬
‫ل‬
‫ض مِث ْ ِ‬ ‫سو ْداءُ‪ ،‬وأيّ قَل ٍْب أن ْك َر َها‪ ،‬نُكِتَ فيه ن ُ ْكت َة ٌ بَي ْضاءُ‪ ،‬حت ّى تَصِ ير َ علَى قَل ْبَيْنِ‪ ،‬علَى أب ْي َ َ‬ ‫نُكِتَ فيه ن ُ ْكت َة ٌ َ‬
‫ِف‬‫مج َّخِيًا لا يَعْر ُ‬‫ْض‪ ،‬والآخَر ُ أسْ وَد ُ م ُْربا ًّدّا كال ْـكُوزِ‪ُ ،‬‬ ‫سم َواتُ والأر ُ‬ ‫َت ال ّ‬ ‫الصّ فا فلا تَضُر ّه ُ فِت ْن َة ٌ ما دام ِ‬
‫مَعْر ُوفًا‪ ،‬ولا يُنْك ِر ُ مُن ْك َرًا‪ ،‬إلّا ما أشْر ِبَ م ِن ه َواه ُ")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬

‫ن الصالحين مهما بلغوا من المنزلة ‪-‬وإ ْن كانوا في منزلة عمر‪ -‬إلّا أ ّنهم يخافون الفتنَ‬
‫‪-‬يفيد ُ الحديثُ أ ّ‬
‫وينشغلون بها وت ُقلقهم ح ّد الأرق‪.‬‬

‫ن الصحابة َ ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬كانوا يسمون‬


‫ل في أه ْلِه ِ وجارِه ِ؟)‪ :‬فيه بيانُ أ ّ‬
‫‪-‬قوله‪( :‬لَعَل ّـك ُ ْم تَعْن ُونَ فِت ْن َة َ الر ّج ُ ِ‬
‫الصعوبات والنزاعات اليومية المعتادة التي قد لا يصبر ُ عليها الإنسانُ؛ فيظلم و يغضب ويسب ويبطش‪ ،‬كانوا‬
‫يسمونها فتنًا‪ ،‬وهذه الفتن ت ُك ّف ِر ُها الصّ لاة والصّ يام والصّ دقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫‪- 044 -‬‬


‫ن‬
‫ن لاختصاص حذيفة بن اليمان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬بموضوع الفتنة؛ وذلك لأ ّ‬ ‫‪-‬قوله‪( :‬أن ْتَ لِل ّه ِ أبُوك َ)‪ :‬فيه بيا ٌ‬
‫ل الل ّه ِ ﷺ‬
‫اس يَسْألُونَ ر َسو َ‬
‫الن ّبيّ ﷺ كان يخصّ ه ُ بأحاديث متعل ِّقة ٍ بالفتن‪ ،‬كما جاء في قول حذيفة‪( :‬كانَ الن ّ ُ‬
‫كنِي)‪.‬‬
‫مخَاف َة َ أ ْن ي ُ ْدرِ َ‬
‫ن الش ّر ِّ َ‬
‫كن ْتُ أسْ ألُه ُ ع َ ِ‬
‫ن الخيَْر ِ‪ ،‬و َ ُ‬
‫عَ ِ‬

‫ح أ ْو يُكْسَر ُ؟ قالَ‪ :‬يُكْسَر ُ‪،‬‬


‫ك ب َاب ًا مُغْلَق ًا‪ ،‬قالَ‪ :‬فيُفْت َ ُ‬
‫ن د ُونَ ذل َ‬
‫ل حذيفة‪ :‬وإ ّ‬
‫‪-‬في بعض روايات الحديث‪( :‬قا َ‬
‫ن البَابُ ؟‪ ،‬فَس َألَه ُ ف َقالَ‪:‬‬
‫ن ع ُم َر ُ يَعْلَم ُ م َ ِ‬
‫ق إلى يَو ِم الق ِيَامَة ِ‪ ،‬فَق ُل ْنَا لم َِسْر ُوقٍ‪ :‬سَل ْه ُ أكا َ‬
‫قالَ‪ :‬ذ َاك َ أجْدَر ُ أ ْن لا يُغْل َ َ‬
‫ن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬كان يعلم أن ّه هو البابُ الحاجز ُ عن الفتن‪،‬‬
‫أي‪ :‬أ ّ‬
‫ن د ُونَ غَدٍ الل ّيْلَة َ)؛ ْ‬
‫نَعَمْ‪ ،‬كما يَعْلَم ُ أ ّ‬
‫بدأت الفتنُ في الأمّة ولم تنته ِ إلى اليوم‪.‬‬
‫ْ‬ ‫وبالفعل لم ّا استشهد َ عمر =‬

‫ل متراك ٍم‪ ،‬ولذلك؛ قد يبدأ الإنسانُ‬


‫ل في القلوب مرة ً واحدة ً‪ ،‬وإن ّما بشك ٍ‬
‫ص ُ‬
‫ن الفتنة َ لا تح ُ‬ ‫‪-‬ي ُ ِ ّ‬
‫وضح ُ الحديثُ أ ّ‬
‫ك أمرَ قلبه‪ ،‬فيتشربُ فتنة ً على إثر فتنة ٍ على إثر فتنة ٍ؛ فتنة شبهات مرة ً‪،‬‬ ‫يتهاونُ في بعض الفتن و يظنّ أن ّه يمل ُ‬
‫ك‬
‫وفتنة شهوات مرة ً‪ ،‬وفتنة انحرافات فكر ية ومنهجية مرة ً‪ ،‬يتشر ّبُ الفتنَ شيئ ًا فشيئ ًا حت ّى يسودّ قلب ُه ُ ولا يمل ُ‬
‫ن من أعظم أسباب نور القلب‪ :‬تجاوز ُ الفتن وعدم الوقوع فيها‪.‬‬
‫بعد ذلك قرار َه ُ‪ ،‬ولذا؛ فإ ّ‬

‫ل ف ِتَنًا كَقِط َِع‬


‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬ب َادِر ُوا بالأعْمَا ِ‬
‫ل رسو ُ‬ ‫الحديث السابع‪ :‬عن أبي هريرة ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬
‫ن‬
‫ض مِ َ‬
‫ح ك َاف ِرًا‪ ،‬يَب ِي ُع دِين َه ُ بع َر َ ٍ‬
‫ل مُؤْم ِنًا و َيُمْس ِي ك َاف ِرًا‪ ،‬أ ْو يُمْس ِي مُؤْم ِنًا و َيُصْ ب ِ ُ‬
‫ح الر ّج ُ ُ‬
‫ل الم ُ ْظلِمِ‪ ،‬يُصْ ب ِ ُ‬
‫الل ّي ْ ِ‬
‫الد ّن ْيَا"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ل"‪ :‬يعني‪ :‬اتخذوا من مساحة العافية وأوقات الرخاء وأزمنة السعة وسنوات‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬ب َادِر ُوا بالأعْمَا ِ‬
‫ل التي تعملُه ُ اليوم له أثر ٌ في وقايتك من‬
‫ن هذا العم َ‬
‫المُمكن والمُتاح فاستغلوها واستثمروها في العمل‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل على الإنسان‪ ،‬ومهما كانت بيئة ُ المرء غير‬
‫ن في أوقات الفتن يصع ُبُ العم ُ‬
‫الفتن المستقبلية في الغد؛ لأ ّ‬
‫ن‬
‫ن هناك لـكثيرٍ من الن ّاس مساحة َ ممك ٍ‬
‫ق وخناقٌ ؛ فإ ّ‬
‫الظروف من حوله فيها تضيي ٌ‬
‫ُ‬ ‫صالحة ٍ ومهما كانت‬
‫للعمل‪.‬‬
‫صة ً قيام الليل‬
‫أتت لفظة ُ الأعمال عامّة و يُقصد ُ بها الأعمال التعب ّدية؛ خا ّ‬
‫ل"‪ْ :‬‬
‫‪-‬وفي قوله ﷺ‪" :‬ب َادِر ُوا بالأعْمَا ِ‬
‫والذكر وقراءة القرآن‪ ،‬وغيرهم من الأعمال الصالحة‪.‬‬
‫ن الذي لا يكونُ له رصيدٌ من العمل والاستقامة في أوقات السعة والرخاء‬
‫‪-‬ومن فوائد الحديث أيضًا‪ :‬أ ّ‬
‫ك‬
‫ن ما يمل ُ‬
‫ل به الحال إلى أ ْن يبي َع أثم َ‬
‫والمتاح‪ ،‬قد تأتي عليه أوقاتُ الفتن؛ في َتقل ّبَ فيها تقل ّب ًا سر يع ًا حت ّى يص ّ‬
‫ض لا قيمة َ له من الدنيا‪.‬‬
‫‪-‬وهو دينه‪ -‬بع َر َ ٍ‬
‫ح ك َاف ِرًا"‪ :‬فيه دلالة ٌ على كثرة وسرعة‬
‫ل مُؤْم ِنًا و َيُمْس ِي ك َاف ِرًا‪ ،‬أ ْو يُمْس ِي مُؤْم ِنًا و َيُصْ ب ِ ُ‬
‫ح الر ّج ُ ُ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬يُصْ ب ِ ُ‬
‫ل على اشتباك الفتن وكثرتها وخطورتها‪ ،‬لذا؛ يجبُ على المؤمن أ ْن يتقي َها بالعمل‪.‬‬
‫التن ّقل؛ وهذا دلي ٌ‬
‫‪- 045 -‬‬
‫قالت‪( :‬اسْ تَيْق ََظ الن ّبيّ ﷺ ذ َاتَ لَيْلَة ٍ فَق َالَ‪:‬‬‫ْ‬ ‫الحديث الثامن‪ :‬عن أ ِمّ المؤمنين أم سلمة ‪-‬رضي الل ّه عنها‪-‬‬
‫ُب ك َاسِيَة ٍ في‬ ‫ات الحجَُرِ‪ ،‬ف َر ّ‬
‫ن الخَزَائِنِ‪ ،‬أيْقِظ ُوا صَوَاحِب َ ِ‬
‫ح مِ َ‬
‫ن الف ِتَنِ‪ ،‬وم َاذ َا فُت ِ َ‬ ‫سب ْح َانَ الل ّهِ‪ ،‬م َاذ َا أنْز ِ َ‬
‫ل الل ّيْلَة َ م ِ َ‬ ‫" ُ‬
‫خرَة ِ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫الد ّن ْيَا عَارِ يَة ٍ في الآ ِ‬

‫ح‬
‫ن الفتنَ من أقدار الل ّه‪ ،‬وهذا يجبُ ألّا يغيبَ عن ذهن المؤمن‪ ،‬ومما يستفيدُه ُ المُصل ُ‬
‫‪-‬في الحديث إثباتُ أ ّ‬
‫ن حر يصً ا على أهله اتباع ًا للن ّب ِيّ ﷺ سيد المصلحين؛ حيثُ أمرَ أوّل شيء بإيقاظ‬ ‫من الحديث‪ :‬أ ْن يكو َ‬
‫ن قيام َ الليل من أهم أسباب الوقاية من الفتن‪.‬‬ ‫زوجاته لقيام الليل‪ ،‬وفي هذا دلالة ٌ على أ ّ‬

‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬ال ْع ِبادَة ُ في الهَر ِْج‬ ‫الحديث التاسع‪ :‬عن معقل بن يسار ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قالَ‪ :‬قا َ‬
‫ل رسو ُ‬
‫كه ِجْ رَة ٍ إلَيّ"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫َ‬
‫كه ِم فيه‪ ،‬ولذا؛ كان ثوابُ‬
‫س في ف َسادِ الد ّنيا وانهما ِ‬
‫‪-‬الهَر ِْج هو‪ :‬وقتُ الف ِتَنِ واخت ِلاطِ الأمورِ وتَخب ّطِ الن ّا ِ‬
‫ن مثل هذه الأوقات ليست أوقات‬
‫كه ِجْ رَة ٍ إلَيّ"؛ لأ ّ‬
‫العبادة في مثل هذه الأوقات بهذا الفضل والمثوبة " َ‬
‫عبادة لعامّة الناس‪ ،‬ولذلك؛ م َن يستطيع أ ْن يواظبَ على العبادة في تلك الأحوال =يكونُ أجر ُه ُ عند َ الل ّه‬
‫عظيم ًا‪.‬‬
‫الحديث العاشر‪ :‬عن زيد بن ثابت ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬بَي ْنَم َا الن ّبِيّ ﷺ فِي ح َائ ِطٍ لِبَنِي الن ّج ّارِ عَلَى بَغْلَة ٍ‬
‫ل‬
‫َت تلُْق ِيه ِ‪ ،‬و َِإذ َا أق ْب ُر ُ سِت ّة ٍ أ ْو خَمْسَة ٍ‪ ،‬أ ْو أرْبَعَة ٍ ‪-‬قَالَ‪ :‬ك َذ َا ك َانَ يَق ُو ُ‬
‫َت بِه ِ فَك َاد ْ‬
‫ن مَع َه ُ‪ِ ،‬إ ْذ ح َاد ْ‬
‫نح ْ ُ‬
‫لَه ُ‪ ،‬و َ َ‬
‫ل رَجُلٌ‪ :‬أن َا‪ ،‬قَالَ‪" :‬فَم َت َى م َاتَ ه َؤُل َاءِ؟"‪ ،‬قَالَ‪:‬‬ ‫صحَابَ هَذِه ِ الْأق ْبُرِ؟"‪ ،‬فَق َا َ‬ ‫ِف أ ْ‬ ‫ل ﷺ‪" :‬م َنْ يَعْر ُ‬ ‫الْجَرِير ِيّ ‪ -‬فَق َا َ‬
‫ن هَذِه ِ الْأمّة َ تُب ْتَلَى فِي قُب ُورِه َا‪ ،‬فَلَوْل َا أ ْن ل َا تَد َافَن ُوا‪ :‬لَدَعَو ْتُ الل ّه َ أ ْن ي ُ ْسمِعَك ُ ْم م ِنْ‬ ‫ك‪ ،‬فَق َالَ‪ِ " :‬إ ّ‬ ‫م َاتُوا فِي ال ِْإشْر َا ِ‬
‫َاب الن ّارِ"‪ ،‬قَالُوا‪ :‬نَع ُوذ ُ ب ِالل ّه ِ‬‫ل عَلَي ْنَا ب ِو َجْ هِه ِ؛ فَق َالَ‪" :‬تَعَو ّذ ُوا ب ِالل ّه ِ م ِنْ عَذ ِ‬‫َاب الْقَبْرِ‪ ،‬ال ّذ ِي أسْم َ ُع مِن ْه ُ"‪ ،‬ث ُم ّ أق ْب َ َ‬
‫عَذ ِ‬
‫َاب الْقَبْر ِ"‪ ،‬قَالُوا‪ :‬نَع ُوذ ُ ب ِالل ّه ِ م ِنْ عَذ ِ‬
‫َاب الْقَبْرِ‪ ،‬قَالَ‪" :‬تَعَو ّذ ُوا‬ ‫َاب الن ّارِ‪ ،‬فَق َالَ‪" :‬تَعَو ّذ ُوا ب ِالل ّه ِ م ِنْ عَذ ِ‬ ‫م ِنْ عَذ ِ‬
‫ن‪ ،‬قَالَ‪" :‬تَعَو ّذ ُوا ب ِالل ّه ِ‬
‫ظه َر َ مِنْهَا وَم َا بَط َ َ‬ ‫ن"‪ ،‬قَالُوا‪ :‬نَع ُوذ ُ ب ِالل ّه ِ م ِ َ‬
‫ن ال ْف ِتَنِ م َا َ‬ ‫ظه َر َ مِنْهَا وَم َا بَط َ َ‬ ‫ب ِالل ّه ِ م ِ َ‬
‫ن ال ْف ِتَنِ م َا َ‬
‫ل"‪ ،‬قَالُوا‪ :‬نَع ُوذ ُ ب ِالل ّه ِ م ِنْ فِت ْنَة ِ الد ّج ّا ِ‬
‫ل)‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬ ‫م ِنْ فِت ْنَة ِ الد ّج ّا ِ‬

‫ن أ ْن يزلوا و يقعوا بسببها؛ ومن‬ ‫‪-‬يُبيِّنُ الحديثُ شفقة َ الن ّب ِيّ ﷺ وحرصَه ُ على أ ْن ي ُبي ِّنَ لأمته الأمور َ التي يُمك ُ‬
‫جملتها‪ :‬أمور ُ الفتن عامّة ً‪ ،‬ووسائل اتقائها‪ ،‬ووسيلة الاتقاء في الحديث هي الاستعاذة بالل ّه‪ ،‬وكان من هدي‬
‫َاب‬
‫ك م ِن عَذ ِ‬ ‫أربع؛ يقول‪( :‬الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب ِ َ‬ ‫ٍ‬ ‫الن ّب ِيّ ﷺ في الصّ لاة بعد التشهد الأخير أ ْن يستعيذ َ بالل ّه من‬
‫ل)‪ ،‬فكان ﷺ يُعل ِ ّم ُ أمّته أن‬ ‫س ِ‬
‫يح الد ّج ّا ِ‬ ‫َات‪ ،‬وَم ِنْ شَر ِّ فِت ْنَة ِ الم َ ِ‬
‫َاب القَبْرِ‪ ،‬وَم ِنْ فِت ْنَة ِ المحَ ْيَا و َال ْمَم ِ‬
‫جهَن ّم َ‪ ،‬وَم ِنْ عَذ ِ‬
‫َ‬
‫كاف في إدراك خطورة الفتن وأهمية الاستعاذة منها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ل صلاة ٍ؛ وهذا‬
‫يستعيذوا من هذه الفتن في ك ّ ِ‬

‫‪- 046 -‬‬


‫ضعف المسلمين‬
‫ِ‬ ‫أسباب‬
‫ِ‬ ‫المحاضرة الخامسة والعشرون‪ :‬فهم ُ‬
‫ل أحوالِهم‪،‬‬
‫ضعف المسلمين‪ ،‬واختلا ِ‬
‫ِ‬ ‫أسباب‬
‫ِ‬ ‫باب فِي فه ِم‬
‫ٌ‬
‫وإخبارِ الن ّب ِيّ ﷺ عن ذلك‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫اختيرت آياته‬
‫ْ‬ ‫‪-‬هذا البابُ مهمٌ ج ًّ ّدا بالنسبة لموضوع متن (المنهاج من ميراث الن ّبُو ّة)؛ لـكون هذا المتنُ قد‬
‫ح أ ْن يكونَ م ُصلح ًا‪،‬‬
‫وأحاديثه لِت َكونَ منهاج ًا ونبراسًا للمسلم الذي ي ُريد ُ أ ْن يثبتَ على دينه وينف َع أمّته و يطم َ‬
‫ح‬
‫ن المُصل َ‬
‫كأ ّ‬
‫يعرف شيئًا من أسباب ضعف المسلمين‪ ،‬ولا ش َ‬
‫َ‬ ‫ولذلك؛ من المُهّ ِمات لمَن ي ُريد ُ الإصلاح أ ْن‬
‫ل مع مشكلات وتحديات؛ إمّا مشكلة الثبات على الاستقامة‪ ،‬أو إشكالية الأعداء وغير‬
‫لا بُدّ وأ ْن يتعام َ‬
‫باب واسعٌ‪.‬‬
‫ح ٌ‬ ‫ذلك من المشكلات‪ ،‬إذ الإصلا ُ‬
‫‪-‬وقد كان من تمام بيان الن ّب ِيّ ﷺ وحرصه وشفقته على أمّته أن ّه ﷺ بي ّنَ لهم خير َ ما يعلم ُه ُ لهم وح ّذر َهم شر ّ‬
‫ل ‪-‬بإذن الل ّه‪ -‬مجموعة ً من الآيات والأحاديث المتعل ِّقة بهذا المعنى‪.‬‬ ‫ما يعلم ُه ُ لهم‪ ،‬وفي هذا الباب‪ :‬سنتناو ُ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ن‬
‫سك ُ ْم ِإ ّ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬أو َلَم ّا أصَابَتْك ُم مّصِ يبَة ٌ ق َ ْد أ َ‬
‫صب ْتُم مِّث ْل َيْهَا قلُ ْتُم ْ أن ّى هََٰذ َا َۖقُلْ ه ُو َ م ِنْ عِندِ أنف ُ ِ‬
‫ل شَيْء ٍ قَدِير ٌ"‪:‬‬
‫الل ّه َ عَلَى ك ُ ّ ِ‬
‫صب ْتُم مِّثْلَيْهَا"‪،‬‬
‫أتت الآية ُ في سياق غزوة أحُدٍ‪ ،‬فبعد َ أ ْن نصر َ الل ّه المؤمنين نصر ًا عظيم ًا في غزوة بدر "ق َ ْد أ َ‬ ‫‪ْ -‬‬
‫ل‪ -‬بهذا الابتلاء والمصيبة يوم َ أحُدٍ "أو َلَم ّا أصَابَتْك ُم مّصِ يب َة ٌ"‪ ،‬فأخذ َ الصحابة ُ ‪-‬رضي الل ّه‬ ‫عز وج ّ‬‫أصابهم الل ّه ‪ّ -‬‬
‫سك ُ ْم"‪.‬‬
‫عنهم‪ -‬يتساءلون "أنا هذا"؛ يعني‪ :‬لم َ حد َثَ هذا وما سبب ُه ُ؟‪ ،‬فقال الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪" :-‬ق ُلْ ه ُو َ م ِنْ عِندِ أنف ُ ِ‬

‫أتت من جهة‬
‫ن الل ّه ‪-‬تعالى‪ -‬ي ُريد ُ من عباده أ ْن يلتفتوا إلى الأسباب الداخلية للمصائب التي ْ‬
‫‪-‬تُفيد ُ الآية ُ أ ّ‬
‫جاءت من المشركين؛ فه ُم الذين حاصروا المدينة‪ ،‬وقتلوا خيرة َ الصحابة ومنهم‬
‫ْ‬ ‫الخارج؛ فالمصيبة ُ يوم َ أحُدٍ‬
‫سك ُ ْم"‪.‬‬
‫حمزة ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬وفعلوا غير ذلك‪ ،‬ومع ذلك؛ يقول الل ّه ‪-‬تعالى‪" :-‬ق ُلْ ه ُو َ م ِنْ عِندِ أنف ُ ِ‬

‫واقع مليءٍ بابتلاءات وتحديات آتية من الخارج؛ من الكافرين أعداء المسلمين ومن‬
‫ٍ‬ ‫نعيش في‬
‫ُ‬ ‫‪-‬ونحن اليوم‬
‫فتش في‬
‫المنافقين‪ ،‬ولـكن لا ينبغي أ ْن نض َع الإشكالية كلها على هذا السبب الخارجي‪ ،‬وإن ّما يجبُ علينا أ ْن ن ُ َ‬
‫النقص والخلل الداخلي لدينا‪ ،‬وأ ْن نُركز َ على القيام بالدور والمسؤولية التي علينا؛ ومنها‪ :‬مسؤولية الإصلاح‬
‫ومسؤولية الأمر بالمعروف وإنكار المنكر ومسؤولية اجتماع كلمة المسلمين‪ ،‬وغير ذلك من المسؤوليات‪.‬‬
‫‪- 047 -‬‬
‫ن الل ّه َ ل َا يُغَيِّر ُ م َا بِقَو ْ ٍم حَت ّى يُغَيِّر ُوا م َا ب ِأنفُسِه ِ ْم ۗو َِإذ َا أر َاد َ الل ّه ُ بِقَو ْ ٍم سُوءًا فَلَا‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬
‫ل"‪:‬‬ ‫م َرَدّ ل َه ُ ۚوَم َا لَه ُم مّ ِن د ُونِه ِ م ِن و َا ٍ‬

‫ل ما أعطاهم من العافية والأمن والرزق إلى‬


‫ن الل ّه َ ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬لا ي ُغي ِّر ُ على أمّة حا َ‬
‫أفادت الآية ُ أ ّ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫نقيض ذلك الحال من البلاء والخوف والشتات والتمزق إلّا بتغييرهم لشيء ٍ في داخلهم؛ إمّا من جهة‬

‫استقامتهم وثباتهم على على دين الل ّه‪ ،‬أو من جهة كفرهم وجحودهم لنعم الل ّه‪ ،‬كما قال تعالى‪" :‬و َضَر َبَ الل ّه ُ‬
‫اس الْج ُ ِ‬
‫وع‬ ‫كف َر َْت ب ِأن ْع ُ ِم الل ّه ِ ف َأذ َاقَه َا الل ّه ُ لِب َ َ‬
‫ن فَ َ‬
‫ل مَك َا ٍ‬
‫م َثَل ًا قَر ْيَة ًك َان َْت آم ِن َة ً مّ ْطم َئ ِن ّة ً ي َأْ ت ِيهَا رِزْقُه َا ر َغَدًا مّ ِن ك ُ ّ ِ‬
‫ْف بِمَا ك َانُوا يَصْ نَع ُونَ"‪ ،‬ولذا؛ يجبُ في فهم ومعالجة إشكالية ضعف المسلمين واختلال أحوالهم‪ ،‬أ ْن‬
‫و َالْخَو ِ‬
‫ننظر َ في داخل أنفسنا؛ ماذا أحدثنا وما غيرنا؟‪ ،‬فنبدأ به في عملية الإصلاح‪.‬‬

‫ك الأمم ُ أ ْن تداعَى عليكم‬


‫ش ُ‬
‫ل رسول الل ّه ﷺ‪"( :‬يُو ِ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن ثوبان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬

‫كما تداعَى الأكَلة ُ إلى قصعتِها"‪ ،‬فقال قائلٌ‪ :‬ومن قل ّة ٍ نحن يومئذٍ؟‪ ،‬قال‪" :‬بل أنتم يومئذٍ كثير ٌ‪ ،‬ولـكن ّكم غ ُثاء ٌ‬
‫ن"‪ ،‬فقال قائلٌ‪ :‬يا‬ ‫ل‪ ،‬ولينز ِعنّ الل ّه ُ من صدورِ عدوِّكم المهابة َ منكم‪ ،‬وليقذِف َنّ الل ّه ُ في قلوب ِكم الوه ْ َ‬ ‫كغ ُثاء ِ ال ّ‬
‫سي ِ‬
‫الموت")‪ ،‬أخرج َه ُ أبو داود وأحمد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ُب الد ّنيا وكراهية ُ‬ ‫ل الل ّه ِ! وما الوه ْ ُ‬
‫ن؟‪ ،‬قال‪" :‬ح ّ‬ ‫رسو َ‬

‫وصف مشكلة الأمّة الإسلامية اليوم؛ ففي الحديث جم ٌع بينَ‬


‫ِ‬ ‫‪-‬هذا الحديث من أعجب الأحاديث وأدقها في‬
‫المشكلة الخارجية وبينَ السبب الداخلي الذي لأجله ترس ْ‬
‫خت تلك المشكلة الخارجية‪.‬‬

‫ناس‬
‫‪-‬يتحدثُ الن ّبيّ ﷺ عن حالة ٍ من الضعف والاستهانة‪ ،‬تتداعى فيها الأمم ُ على أمّة المسلمين كما يتداعى أ ٌ‬
‫ط علينا بدرجة ٍ من‬
‫جائعون إلى قصعة ٍ يأكلون منها‪ ،‬فكذلك ستتداعى علينا الأمم ُ؛ تنهبُ خيراتنا وتتسل ّ ُ‬
‫الاستهانة وكأن ّنا لسنا أمّة ً مهابة ً؛ لا يُخشى من بأسها إذا اعت ُديَ عليها‪.‬‬

‫ن زماننا هذا‬
‫ق لحالنا اليوم؛ فإ ّ‬
‫توصيف دقي ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ك الأمم ُ أ ْن تداعَى عليكم"‪ :‬لفظة "الأمم" فيها‬
‫ش ُ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬يُو ِ‬
‫هو أولى ما يُصْ د ُقُ عليه هذا الحديث‪ ،‬إذ مشكلت ُنا اليوم ليست من أمّة ٍ واحدة ٍ‪ ،‬وإن ّما من أمم‪ ،‬بل حت ّى في‬
‫مسميات الصروح والمنظمات الـكبرى لأعداء المسلمين؛ تسمى بلفظة (الأمم)‪.‬‬

‫‪-‬قوله‪( :‬ومن قل ّة ٍ نحن يومئذٍ؟)‪ :‬والمعنى‪ :‬أن ّه لم ّا رب ّى الن ّبيّ ﷺ الصحابة َ ‪-‬رضوان الل ّه عليهم‪ -‬في ميادين الجهاد‬
‫تستوعب عقولُهم تلك الحالة التي يصور ُها لهم الن ّب ِيّ ﷺ من الخنوع‬
‫ْ‬ ‫والعز ّة والثبات والصّ بر والمقاومة‪ ،‬لم‬
‫والضعف والذل والاستهانة‪ ،‬إلا في حالة ٍ أ ْن يكونَ المسلمون حينئذٍ في غاية القلة؛ فلا يستطيعون المقاومة‬
‫والدفع لقلة عددهم وكثرة أعداد أعدائهم‪.‬‬

‫‪- 048 -‬‬


‫يكتف الن ّبيّ ﷺ بنفي قلة المسلمين بل أثبتَ‬
‫ِ‬ ‫ل"‪ :‬لم‬ ‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬بل أنتم يومئذٍ كثير ٌ‪ ،‬ولـكن ّكم غ ُثاء ٌ كغ ُثاء ِ ال ّ‬
‫سي ِ‬
‫ن لوجود كثرة ٍ حقيقية ٍ للمسلمين في هذا الزمن‪.‬‬
‫الـكثرة‪ ،‬وهذا بيا ٌ‬

‫ل"‪ :‬يعني‪ :‬ما يحمل ُه ُ السيل‬ ‫وصف الن ّبيّ ﷺ هذه الـكثرة لأعداد المسلمين بقوله‪" :‬ولـكن ّكم غ ُثاء ٌ كغ ُثاء ِ ال ّ‬
‫سي ِ‬ ‫َ‬ ‫‪-‬ثم‬
‫فوقه عند اندفاعه من الأشياء المتفرقة التي لا قيمة َ لها‪ ،‬وكذلك هذه الأعداد الـكثيرة لـكم‪ ،‬لا قيمة َ ولا‬
‫ل قوام الإنسان‪.‬‬
‫معنى لها‪ ،‬فاقدة ً لله ُو ية الحقيقية التي هي من أهم ما يشكِّ ُ‬

‫أمس الحاجة لإعادة اله ُو ية والقيمة‪ ،‬ولتثبيت الجذور والمرجعية (مرجعية الوحي)‪،‬‬
‫ّ ِ‬ ‫‪-‬لذلك؛ نحن اليوم في‬
‫ولتثبيت الإيمان في النفوس‪ ،‬ولإعادة صناعة وبناء الشخصية المسلمة من جديدٍ‪ ،‬وهذا من أهم الأسباب ‪-‬‬
‫بإذن الل ّه‪ -‬في إعادة بناء قوام الأمّة الإسلامية‪.‬‬

‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬ولينز ِعنّ الل ّه ُ من صدورِ عد ّوِكم المهابة َ منكم"‪ :‬وهذا على نقيض الحال التي كان عليها الن ّبيّ ﷺ‬
‫كف َر ُوا الر ّعْبَ بِمَا أشْرَكُوا ب ِالل ّه ِ م َا ل َ ْم يُنَز ِّلْ بِه ِ سُلْط َان ًا"‪ ،‬وكما‬
‫ن َ‬
‫وب ال ّذ ِي َ‬
‫وأصحابه‪ ،‬كما قال تعالى‪" :‬سَنُلْقِي فِي قُل ُ ِ‬
‫أي‪ :‬بالرعب الذي يجعل ُه ُ الل ّه في صدور أعداء المسلمين؛ وهذا‬
‫ْب مَسِيرَة َ ش َ ْهرٍ"؛ ْ‬
‫رتُ بالر ّع ِ‬
‫قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬نُص ِ ْ‬
‫من جملة النصر‪ :‬بأ ْن تكونَ للمسلمين هيبة ٌ في صدور أعدائهم منهم‪ ،‬فإذا هابَ الأعداء ُ المسلمين ‪-‬لو كانت‬
‫ت الهيبة ُ والرهبة ُ من‬
‫موازين القو ّة في صالح الأعداء‪-‬؛ فإ ّنهم قد يتأخرون عن الـكيد بالمسلمين‪ ،‬بينما إذا ن ُز ِع َ ْ‬
‫صدور أعداء المسلمين؛ فإ ّنهم يسارعون ويتداعون إلى الأذى والإضرار والتسل ّط وحت ّى الاحتلال المباشر‬
‫لبلاد المسلمين‪.‬‬

‫ت الهيبة ُ والمهابة ُ من صدور الأعداء تجاهكم‪،‬‬


‫أي‪ :‬بقدرِ ما ن ُز ِع َ ْ‬
‫ن"‪ْ :‬‬‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬وليقذِف َنّ الل ّه ُ في قلوب ِكم الوه ْ َ‬
‫َف في قلوبكم من الضعف والوهن‪.‬‬ ‫بقدر ما يُقذ ُ‬

‫ل الل ّهِ! وما الوهْنُ؟)‪ :‬السؤا ُ‬


‫ل هنا ليس عن معنى مفردة الوهن من حيث دلالتها‬ ‫‪-‬قوله‪( :‬فقال قائلٌ‪ :‬يا رسو َ‬
‫ل عن نوع هذا الوهن الذي سي ُصيبُ قلوبَ المسلمين آنذاك‪.‬‬
‫الل ّغو ية‪ ،‬وإن ّما السؤا ُ‬

‫أي‪ :‬متى وجدتَ المسلمين قد اثاقلوا إلى الأرض وركنوا إلى‬


‫الموت"‪ْ :‬‬
‫ِ‬ ‫ُب الد ّنيا وكراهية ُ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬ح ّ‬
‫زخرف الحياة الدنيا ولم يكونوا على استعدادٍ للتضحية والبذل والتخلي عن المكتسبات الدنيو ية في سبيل‬
‫ط فيها أعداء ُ المسلمين عليهم‪ ،‬أمّا إذا تسلطوا عليهم وقلو بُهم‬ ‫ل تلك الحال التي يتسل ّ ُ‬
‫ن مث َ‬
‫ن ُصرة الد ِّين؛ فاعلم ْ أ ّ‬
‫ن أعداء َهم وإ ْن أتوا و بثوا ما بثوا‬
‫امتلأت حب ًا لل ّه ولرسوله ولدينه؛ فإ ّ‬
‫ْ‬ ‫واستقبلت الآخرة و‬
‫ْ‬ ‫استدبرت الدنيا‬
‫ْ‬ ‫قد‬
‫ل‬
‫ل هذه الفتن‪ ،‬وقد حص َ‬
‫صا يواجه ُ مث َ‬
‫من الإشكالات والشبهات والسموم؛ فإ ّنهم سيجدون بنيان ًا مرصو ً‬
‫هذا على مر تاريخ الأمّة‪.‬‬
‫‪- 049 -‬‬
‫سنوات‬
‫ٌ‬ ‫س‬
‫ل الل ّه ﷺ‪"( :‬سي َأتي علَى الن ّا ِ‬
‫ل رسو ُ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬
‫ق فيها‬
‫ن و يُخو ّنُ فيها الأمينُ وينط ِ ُ‬
‫ن فيها الخائ ُ‬
‫خ ّداعاتُ يص ّدقُ فيها الكاذِبُ و يُكَذ ّبُ فيها الصّ ادِقُ و يُؤتَم ُ‬
‫ن ماجه‪.‬‬
‫ل الت ّاف ِه ُ في أمر ِ العامّة ِ")‪ ،‬أخرج َه ُ أحمد واب ُ‬
‫ل‪" :‬الر ّج ُ‬
‫ل وما الر ّو َي ْبضة ُ؟‪ ،‬قا َ‬
‫الر ّو َي ْبضة ُ"‪ ،‬قي َ‬

‫ل سنينَ خ ّداعة ً"‪ ،‬وفي‬‫ن أمام َ الد ّج ّا ِ‬


‫‪-‬وقد رُوِيَ هذا الحديث بأكثر من رواية؛ ففي رواية أنس بن مالك‪" :‬إ ّ‬
‫ِ‬
‫وقوع هذا‬ ‫ن‬
‫خر زم ِ‬
‫ساعَة ِ سِنِينَ خ َ ّداع َة ً"‪ ،‬وفي هذا دلالة ٌ على تأ ّ‬
‫َي ال ّ‬
‫ن بين يَد ِ‬
‫رواية عوف بن مالك‪ِ " :‬إ ّ‬
‫الإخبار وأن ّه في آخر هذه الأمّة‪.‬‬
‫فاـئدة حديثية‪ :‬وإ ْن كانَ في بعض أسانيد الحديث شيء ٌ من الضعف؛ إلّا أن ّه في بعض أسانيده شيء‬
‫طر ُق ِه ِ ‪-‬رواياته‪ -‬يرقى إلى درجة ٍ تكونُ صالحة ً للاستشهاد والاعتبار به والاستفادة‬ ‫من القو ّة‪ ،‬ولعله بم ِ‬
‫جموع ُ‬
‫ل لما هو أكثر من ذلك‪.‬‬
‫منه‪ ،‬وقد تص ّ‬

‫ل‬
‫توصيف واقع المسلمين اليوم‪ ،‬وذلك في اللفظ الذي استعمل َه ُ الن ّبيّ ﷺ‪" :‬الر ّج ُ‬
‫ِ‬ ‫جيب في‬
‫‪-‬هذا الحديث ع ٌ‬
‫ن من أشد ما نعاني من الإشكاليات‪ :‬قضية ُ التفاهة؛ فكأنك وأنتَ تقرأ‬
‫الت ّاف ِه ُ في أمر ِ العامّة ِ"‪ ،‬إذ نجد ُ اليوم أ ّ‬
‫ل وتتقافز ُ أمام َ عينيك صور التافهين الذين تصدروا في كثيرٍ من المجتمعات والوسائل‬
‫هذا الحديث يتخاي ُ‬
‫ومناطق صُنع القرار؛ فصاروا يرسمون للن ّاس معايير التفاهة‪ ،‬و يبينون لهم قضايا السفه والانحطاط‪ ،‬حت ّى‬
‫يخو ّن‪.‬‬
‫ن والأمينُ ُ‬
‫ن ي ُؤتم ُ‬
‫ت المعاني؛ الصادقُ ي ُكذ ّبُ والكاذبُ ي ُص ّدقُ والخائ ُ‬
‫تب ّدل َ ْ‬

‫ل البصير يرى مقدار َ‬ ‫ل على زماننا نزول ًا تا ًّمّا؛ إلّا أ ّ‬


‫ن المتأم َ‬ ‫ن هذا الحديثَ ينز ُ‬
‫‪-‬قد لا يقط ُع الإنسانُ بأ ّ‬
‫التطابق بينَ هذا الحديث وبينَ واقعنا الحالي‪.‬‬

‫ن من الحديث‪ :‬أ ْن يأخذ َ الحيطة َ والحذر َ‪ ،‬ويزداد َ وعي ًا ولا يغتر بانتشار معايير ومفاهيم‬
‫‪-‬مما يستفيدُه ُ المؤم ُ‬
‫التفاهة وتكالب كثيرٍ من الن ّاس عليها‪ ،‬فقد حذرنا الن ّبيّ ﷺ من انقلاب المعايير‪ ،‬وبي ّنَ لنا أهمية َ ضبط‬
‫يضبط المعايير َ‬
‫َ‬ ‫المعايير على معيار الوحي‪ ،‬ومتى فقد َ الإنسانُ المرجعية َ الحقيقية َ التي يستطي ُع من خلالها أ ْن‬
‫يقيس الأشياء َ التي ت َر ِد ُ عليه على ميزان هذه المرجعية‪ ،‬فإن ّه يكونُ ع ُرضة ً لاختلال المعايير وللتأث ّر‬
‫َ‬ ‫و يحاكم َ و‬
‫ن إمكانية َ تأثيرِه ِ تزداد ُ على الإنسان الخالي‬
‫طرف آخر أعلى صوت ًا‪ ،‬فإ ّ‬
‫ٌ‬ ‫بالـكثرة وعلو الصوت؛ فكل ّما كان هناك‬
‫من المرجعية‪.‬‬
‫ل في جملة الاستفادة من ميراث الن ّب ُو ّة‪ :‬وهو التحذير ُ المسبق والتنب ّه ُ المستقبلي لمثل‬
‫‪-‬وهذا من أهم ما يدخ ُ‬
‫ل الوقوع فيها‪ ،‬وطرقُ المعالجة لمَن وق َع فيها‪ ،‬إذ ليست‬
‫هذه الإشكاليات والعقبات‪ ،‬وكيفية ُ الوقاية منها قب َ‬
‫الاستفادة ُ من ميراث الن ّب ُو ّة مقتصرة ً على الأحكام العملية والس ُن َن فحسب‪.‬‬

‫‪- 051 -‬‬


‫ل الل ّه ﷺ يقول‪" :‬إذا تبايعت ُم بالعينة ِ‬ ‫ل‪ :‬سمعتُ رسو َ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن ابن عمر ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قا َ‬
‫ط الل ّه ُ علي ْكم ًّ‬
‫ذلا ّ لا َ ينزع ُه ُ حت ّى ترجعوا إلى دينِك ُم"‪،‬‬ ‫وأخذتم أذنابَ البقرِ‪ ،‬ورضيتُم بالز ّ ِ‬
‫رع وترَكتم ُ الج ِهاد َ سل ّ َ‬
‫أخرج َه ُ أبو داود‪.‬‬
‫‪-‬في الحديث تحذير ُ الن ّب ِيّ ﷺ من حالة ِ الركون إلى الدنيا والاستغراق فيها والتعل ّق القلب ِيّ بها‪.‬‬

‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬إذا تبايعتُم بالعينة ِ"‪ :‬يصوّر ُ الن ّب ِيّ ﷺ حالة َ الركون الدنيوي في صورة ٍ من صور البيوع المحر ّمة الذي‬
‫يظهر ُ فيها ش ّدة ُ الحرص على المال ومقدار ُ الجشع في تحصيله؛ وهو (بيع العينة)؛ ومعناه‪ :‬أ ْن يبي َع ش ٌ‬
‫خص‬
‫ن أقل معج ّل‪ ،‬كأ ْن يبيع َها له بمائة ألف مؤج ّلة ويشتر يَها بتسعين‬
‫ل ثم يشتريها منه بثم ٍ‬
‫ن مؤج ّ ٍ‬
‫لآخر سلعة ً بثم ٍ‬
‫ألف معج ّلة‪.‬‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬وأخذتم أذنابَ البقرِ‪ ،‬ورضيتُم بالز ّ ِ‬
‫رع"‪ :‬ليس المقصود ُ ذمّ أو تحريم َ الاشتغال بالزراعة وأعمالها‪،‬‬
‫ل بهذه الأعمال الدنيو ية رغبة ً في الدنيا‬
‫وإن ّما المقصود ُ هو أ ْن يكونَ انشغالـ ُكم وهم ُكم الوحيد هو الانشغا ُ‬
‫وركون ًا إليها وابتعاد ًا عن الجهاد وترك ًا للتضحية والبذل في سبيل الل ّه؛ فإذا اجتم َع هذان الأمران في الأمّة‬
‫ج َع‬
‫ط الل ّه على الأمّة ذُل ًا لا ي ُرفَعْه ُ عنها حت ّى ت َر ِ‬
‫ل بالدنيا والركون إليها وترك ُ الجهاد والتضحية‪-‬؛ سل ّ َ‬
‫‪-‬الانشغا ُ‬
‫إلى دِينِها‪.‬‬

‫ل الإنسانُ بالأعمال الدنيو ية من السعي على الرزق والتجارة والزراعة إلى نحو ذلك‪ ،‬و يكون له في‬
‫‪ -‬وقد يشتغ ُ‬
‫ك أغْن ِيَاء َ خَيْر ٌ م ِن أ ْن تَذَر َه ُ ْم عَالَة ً‬
‫تلك الأعمال ني ّة ٌ صالحة ٌ في ُؤجر َ عليها؛ فقد قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬أ ْن تَدَع َ ور َثَت َ َ‬
‫ك"‪ ،‬وقال‬
‫ل في فِي امْرَأت ِ َ‬
‫تجْع َ ُ‬ ‫ق نَفَق َة ً تَب ْتَغ ِي بهَا وجْه َ الل ّه ِ إلّا أ ِ‬
‫جرْتَ عَلَيْهَا‪ ،‬حت ّى ما َ‬ ‫اس‪ ،‬ولَنْ تُن ْف ِ َ‬
‫ك ّفف ُونَ الن ّ َ‬
‫يَت َ َ‬
‫ظ ْهرِ غِن ًى‪ ،‬وم َن يَسْتَعْف ِْف‬
‫سفْلَى‪ ،‬وابْد َأْ بم َن تَع ُولُ‪ ،‬وخَي ْر ُ الصّ د َقَة ِ عن َ‬
‫ن اليَدِ ال ّ‬
‫أيضًا ﷺ‪" :‬اليَد ُ العُل ْيَا خَيْر ٌ م ِ َ‬
‫ن يُغْنِه ِ الل ّه ُ"؛ يعني‪ :‬اليد العليا التي تعطي وتتصدق وتُنفق خير ٌ من اليد السفلى التي‬
‫يُع ِ ّفه ُ الل ّهُ‪ ،‬وم َن يَسْتَغْ ِ‬
‫ق إلا بالاشتغال ببعض الأعمال الدنيو ية لـكسب المال‪.‬‬
‫ل وتحتاجُ؛ وهذا لن يتحق َ‬ ‫تأخذ ُ وتسأ ُ‬

‫ل الانشغال‬
‫‪-‬أمّا الصورة المذمومة الت ّي يحذرنا منها الن ّبيّ ﷺ فهي حالة ُ الإخلاد إلى الأرض بالتموضع داخ َ‬
‫في الأعمال الدنيو ية‪ ،‬وفي نفس الوقت‪ :‬عدم المسارعة إلى التضحية والبذل في سبيل الل ّه ونُصرة دينه‪ ،‬ومما‬
‫بعض الن ّاس ببعض الأمور الصالحة؛ كالمحافظة على الفرائض أو غير ذلك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ل‬
‫ل في ذلك‪ :‬أن ّه قد ينشغ ُ‬
‫يدخ ُ‬
‫ثم ّ تجده ُ منغمسًا غاية َ الانغماس في الأمور الدنيو ية‪ ،‬أمّا في المواطن التي تتطل ّبُ قدر ًا من التضحية والبذل؛‬
‫كالصدع بالحق أو إنكار المنكر فضل ًا عن الوقوف على ثغرٍ من ثغور الد ِّين أو بذل الن ّفس في سبيل الل ّه‬
‫ل فيها بشيء ٍ من الصّ بر والبذل والتضحية‪.‬‬
‫=تجده منكفئًا عن هذه المجالات مع إمكانه واستطاعته أ ْن يعم َ‬

‫‪- 050 -‬‬


‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫خـلاصة ُ‬
‫ُ‬
‫ن كثير ًا من الأسباب تعود إلى دواخل أنفسنا‬
‫تكالب من الأعداء؛ فإ ّ‬
‫ٌ‬ ‫ل خارجيّ و‬
‫‪-‬أن ّه مهما كان هناك إشكا ٌ‬
‫ل لـَكُم ُ انف ِر ُوا فِي‬
‫ن آم َن ُوا م َا لـَك ُ ْم ِإذ َا ق ِي َ‬
‫وتعل ّقنا بالدنيا والركون إليها والرضا بها؛ كما قال تعالى‪" :‬ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ‬
‫ل"‪،‬‬
‫خرَة ِ ِإلّا قَلِي ٌ‬
‫خرَة ِ ۚ فَمَا م َتَاع ُ الْحي ََاة ِ الد ّن ْيَا فِي الْآ ِ‬
‫ن الْآ ِ‬ ‫ل الل ّه ِ اث ّاقَل ْتُم ْ ِإلَى الْأ ْر ِ‬
‫ض ۚ أرَضِيتُم ب ِالْحي ََاة ِ الد ّن ْيَا م ِ َ‬ ‫سَب ِي ِ‬
‫ن * و َلَوْ شِئ ْنَا‬
‫ن الْغ َاوِي َ‬
‫شيْط َانُ فَك َانَ م ِ َ‬
‫خ مِنْهَا ف َأت ْبَع َه ُ ال ّ‬
‫ل عَلَيْه ِ ْم نَب َأ ال ّذ ِي آتَي ْنَاه ُ آي َاتنَِا فَانس َل َ َ‬
‫وكما قال تعالى‪" :‬و َات ْ ُ‬
‫ض و َات ّب َ َع ه َوَاه ُ"‪.‬‬
‫لَرَفَعْنَاه ُ بِهَا و َلََٰكِن ّه ُ أخْلَد َ ِإلَى الْأ ْر ِ‬

‫‪-‬تصن ُع حياتنا المعاصرة في الإنسان حالة ً من الهلع والقلق المتعل ّ ِق بالدنيا؛ بداية ً من القلق والتوتر المجتمعي‬
‫حيط بالأبناء في المراحل المتوسطة من أجل دخول كلية معينة أو أخذ شهادة جامعية‬
‫والأسري الذي ي ُ‬
‫معينة وإلا ضاعَ مستقبله‪ ،‬حت ّى لو تخلى عن كثير من الأولو يات والثوابت والمبادئ في سبيل تحقيق ذلك‪.‬‬

‫ل الدنيا ‪-‬مهما بلغت‪ -‬في حدودٍ معينة ٍ لا‬


‫َحرص أ ْن يجع َ‬
‫َ‬ ‫‪-‬ولذلك؛ ينبغي أ ْن يتنبه َ الإنسانُ لمثل هذا؛ في‬
‫ل الإنسان في التعل ّق بهذه الأمور‬‫ل حياتَه متمحورة ً حول الأمور الدنيو ية؛ وبيانُ حا ِ‬ ‫يتجاوزها‪ ،‬وألّا يجع َ‬
‫دنيوي معي ّنٍ‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫منفع‬ ‫ق‬
‫ل تحقي ِ‬
‫ط من المسل ّمات والثوابت والأولو يات في سبي ِ‬
‫الدنيو ية؛ يكونُ بمقدار ما ي ْسق ِ ُ‬

‫ي الذي يدور ُ في فلـكه و يغلبُ على سائر‬


‫ل الدنيا الإطار َ الأساس ّ‬
‫‪-‬وعلى ما تق ّدم؛ ينبغي على الإنسان ألّا يجع َ‬
‫حياته وعمله‪ ،‬بل ينظر ُ إلى ما هو أعلى وأولى من ذلك؛ وهو السعي ُ إلى رضا الل ّه ‪-‬سبحانه وتعالى‪ ،-‬ومن‬
‫ل لدينه‬
‫ل في طاعة الل ّه؛ هو العم ُ‬
‫الأسباب الجالبة لرضا الل ّه ‪-‬تعالى‪ :-‬هي طاعة ُ الل ّه؛ ومن أعظم ما يدخ ُ‬
‫وخدمة ُ أمّة ِ نبيه ﷺ‪ ،‬وغير ذلك من وجوه الخير‪.‬‬

‫‪- 052 -‬‬


‫سنَنُ الإلهية ُ‬
‫المحاضرة السادسة والعشرون‪ :‬ال ّ‬
‫ِ‬
‫الإصلاح‬ ‫سنَنِ الإلهية ِ وأهمية ِ موافقتِها فِي‬
‫بابُ ال ّ‬
‫س ودعوتِهم‬
‫وإقامة ِ الد ِّي ِن وسياسة ِ الن ّا ِ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫سن َن الإلهية في هذه المحاضرة؛ فقد تناولتها سابق ًا في محاضرة‬
‫‪-‬لن أتناول القواعد الكلية والمق ّدِمات المتعل ِّقة بال ّ‬
‫ن الرجوع ُ إليها؛ فهي بمثابة ِ مق ّدِمة ٍ لهذه‬
‫ن سلسلة (مركز يات الإصلاح)‪ ،‬في ُمك ُ‬
‫سنَنِ الإلهية ِ) ضم َ‬
‫(الوعي بال ّ‬
‫المحاضرة‪.‬‬
‫باب عظيم ٌ‪ ،‬وقضية ٌ قرآنية ٌ مح ْك َمة ٌ؛ تح ّدثَ الل ّه ُ ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬عنها كثير ًا في كتابه‪ ،‬وهو‬
‫سن َن الإلهية ٌ‬
‫‪-‬بابُ ال ّ‬
‫ن إقامة َ الد ِّين والنهضة َ به وقضايا‬
‫من أهم القضايا الت ّي ينبغي على مصلحي زماننا أ ْن يعتنوا بها؛ إذ أ ّ‬
‫ن أ ْن يسير َ على‬
‫سن َن =لا ي ُمك ُ‬
‫سن َن الإلهية؛ فم َن لا يراعي هذه ال ّ‬
‫ن أ ْن يكونوا على غيرِ قانون ال ّ‬
‫الإصلاح لا ي ُمك ُ‬
‫باب من أبواب الفقه في الد ِّين أيضًا‪.‬‬ ‫حيح‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫ق إصلاح ٍيّ ص ٍ‬ ‫طر ي ٍ‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫تجِد َ لِس ُن ّة ِ الل ّه ِ تَبْدِيل ًا"‪.‬‬
‫ل و َلَن َ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬سُن ّة َ الل ّه ِ ف ِي ال ّذ ِي َ‬
‫ن خ َلَو ْا م ِن قَب ْ ُ‬
‫ت الل ّه ِ‬ ‫ت الل ّه ِ تَبْدِيل ًا و َلَن َ‬
‫تجِد َ لِس ُن ّ ِ‬ ‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬فَه َلْ يَنظ ُر ُونَ ِإلّا سُن ّتَ الْأوّلِينَ ۚفَلَن َ‬
‫تجِد َ لِس ُن ّ ِ‬
‫تحْوِ يل ًا"‪.‬‬
‫َ‬
‫ك يَنف َعُه ُ ْم ِإ يمَانُه ُ ْم لَم ّا ر َأوْا ب َأْ سَنَا َۖ سُن ّتَ الل ّه ِ ال ّتِي ق َ ْد خ َل َ ْ‬
‫ت فِي عِبَادِه ِ‬ ‫الآية الثالثة‪ :‬قال سبحانه‪" :‬فَل َ ْم ي َ ُ‬
‫ن"‪.‬‬
‫ك الْك َاف ِر ُو َ‬
‫خس ِر َ ه ُنَال ِ َ‬
‫وَ َ‬

‫آيات قرآنية ٍ مْ حك َمة ٍ في قضية ِ ال ّ‬


‫سنَن الإلهية؛ تشترك ُ في بيان سُن ّة الل ّه في إهلاك المكذبين‬ ‫ٍ‬ ‫‪-‬هذه ثلاثُ‬
‫سن ّة ِ‬
‫ختلف‪ ،‬نفهم ُ منه معن ًى معي ّنًا في قضية ِ ُ‬
‫قم ٍ‬ ‫الآيات في سيا ٍ‬
‫ِ‬ ‫ل واحدة ٍ من هذه‬
‫سيقت ك ّ‬
‫ْ‬ ‫والظالمين‪ ،‬وق ْد‬
‫الل ّه ِ في إهلاك الظالمين؛ وفيما يلي بيانُ ذلك‪:‬‬

‫وردت في سورة‬
‫ْ‬ ‫جاءت الآية ُ الأولى في بيان حال المنافقين وتمردهم وتسليط الل ّه للمؤمنين عليهم‪ ،‬وقد‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ك‬
‫جف ُونَ فِي ال ْمَدِينَة ِ لَنُغْرِيَن ّ َ‬ ‫ض و َال ْمُر ْ ِ‬
‫ن فِي قُلُو بِه ِم مّرَ ٌ‬ ‫الأحزاب بعد قوله تعالى‪" :‬ل ّئِن ل ّ ْم يَنتَه ِ ال ْمُنَافِق ُونَ و َال ّذ ِي َ‬
‫ن خ َلَو ْا م ِن‬ ‫خذ ُوا و َقُت ِّلُوا تَقْتِيل ًا * سُن ّة َ الل ّه ِ ف ِي ال ّذ ِي َ‬
‫ك ف ِيهَا ِإلّا قَلِيل ًا * مّل ْع ُونِينَ َۖأيْنمََا ثُقِف ُوا أ ِ‬
‫بِه ِ ْم ث ُم ّ ل َا يُجَاوِر ُون َ َ‬
‫ك عليهم‪.‬‬
‫أي‪ :‬لن ُسل ِّطَن ّ َ‬ ‫تجِد َ لِس ُن ّة ِ الل ّه ِ تَبْدِيل ًا"؛ قوله تعالى‪" :‬لَنُغْرِيَن ّ َ‬
‫ك بِه ِ ْم"‪ْ :‬‬ ‫ل و َلَن َ‬
‫قَب ْ ُ‬
‫‪- 053 -‬‬
‫‪-‬والمعنى‪ :‬أن ّه إ ْن لم ينته ِ المنافقين عم ّا يقومون به من الـكيد والأذى للمؤمنين خاصّ ة ً للمؤمنات‪ ،‬إ ْن لم ينتهوا‬
‫ط نبيه ﷺ وم َن معه من المؤمنين عليهم‪.‬‬
‫ن الل ّه َ سي ُسل ِّ ُ‬
‫عن ذلك =فإ ّ‬
‫اختلف المفس ِّرون في بيان عدم نزول ووقوع هذا الوعيد بالمنافقين؛ إمّا أ ّنهم لم ّا سمعوا هذه الآية؛ انتهوا‬
‫َ‬ ‫‪-‬وقد‬
‫إخلاف هذا الوعيد من باب الـكرم الإلهي‪ ،‬لـكن الأرجح ُ في‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫ورجعوا إلى كتمانهم وإسرارهم‪ ،‬وإمّا أ ّ‬
‫ل قتادة ‪-‬رضي الل ّه عنه‪.-‬‬
‫القولين‪ :‬هو القول الأ ّول؛ وهو قو ُ‬

‫سن ّت ُه ُ في المنافقين إذا تمر ّدوا على نفاقهم‬


‫أي‪ :‬هذه ُ‬
‫ن كثيرٍ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسير الآية‪ْ ( :‬‬
‫ل الإمام ُ اب ُ‬
‫‪-‬قا َ‬
‫ل الإيمان يسل ّطون عليهم و يقهرونهم)‪.‬‬
‫ن أه َ‬
‫وكفرهم ولم يرجعوا عم ّا هم فيه‪ ،‬أ ّ‬

‫ن الإنسان حين يرى‬


‫جرعات من الأمل والتفاؤل واليقين؛ ذلك أ ّ‬
‫ٌ‬ ‫ن فيها‬
‫سن َن الإلهية‪ :‬أ ّ‬
‫‪-‬من فوائد وأهمية ال ّ‬
‫ل؛‬
‫ل ولا تحو ّ ُ‬
‫سن َن الل ّه الت ّي لا ت ُب ّد ُ‬
‫واقع ًا سيئ ًا مظلم ًا مليئ ًا بالـكيد والظلم والاعتداء على المسلمين‪ ،‬ثم ّ ينظر ْ في ُ‬
‫آت بس ُنَن الل ّه وقدره‪ ،‬تنقلبُ فيه الموازين لـكفة‬
‫ن هناك يوم ًا ٍ‬
‫ن بالل ّه‪ ،‬و يعلم ْ أ ّ‬
‫ظ َ‬
‫ن ال ّ‬
‫يحس ِ‬
‫فإن ّه يتفائلْ و ُ‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫ل" على قولين؛‬ ‫اختلف المفس ِّرون في تفسير قوله تعالى‪" :‬سُن ّة َ الل ّه ِ فِي ال ّذ ِي َ‬
‫ن خ َلَو ْا م ِن قَب ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫ن الل ّه َ ن َص َر َ نبيه ﷺ يوم َ بد ٍر‬
‫أي‪ :‬كما أ ّ‬
‫القول الأوّل‪ :‬أ ّنهم هم الذين خلوا من قبل من أعداء الن ّب ِيّ ﷺ‪ْ ،‬‬
‫وسل ّطَه ُ على المشركين‪ ،‬ون َص َر َه ُ يوم َ قر يظة وسل ّطَه ُ على اليهود؛ فكذلك سي ُسل ِّطَه ُ على هؤلاء المنافقين‪ ،‬يعني‪:‬‬
‫ط الل ّه عليهم نبيه ﷺ والمؤمنين‪.‬‬
‫ل من إخوانهم الذين سل ّ َ‬
‫سن ّة ُ الل ّه في الذين خلوا من ق َب ْ ُ‬
‫هذه ُ‬

‫ط‬
‫ن الل ّه َ ي ُسل ِّ ُ‬ ‫سن ّة ُ الل ّه ِ في الذين خلوا من قب ُ‬
‫ل من الأمم السابقة‪ ،‬وأ ّ‬ ‫ن المعنى عامّ؛ يعني‪ :‬هذه ُ‬
‫القول الثاني‪ :‬أ ّ‬
‫أولياء َه ُ المؤمنين على أعدائ ِه ِ في مثل هذه الأحوال‪.‬‬
‫أمر‬
‫ن فهم َها وفقه َها ٌ‬
‫سن ّة َ الل ّه ‪-‬سبحانه وتعالى‪-‬؛ فهذا يعني أ ّ‬
‫ن الل ّه َ يذك ُر ُ أ ّنها سُن ّت ُه ُ؛ فكونها ُ‬
‫‪-‬والخُلاصة ُ المهمة ُ أ ّ‬
‫ضروريّ بالنسبة للمؤمن من جهة يقينه وإيمانه وثباته‪.‬‬

‫وردت الآية في سورة فاطر بعد قوله‬


‫ْ‬ ‫جاءت الآية ُ الثانية ُ في بيان حال الـكُ ّفار من مشركي قريش‪ ،‬وقد‬
‫ْ‬ ‫‪-‬ثم ّ‬
‫ج ْهد َ أيْمَانِه ِ ْم لئَِن ج َاءَه ُ ْم نَذِير ٌ ل ّيَكُونُنّ أهْد َى م ِنْ ِإحْد َى الْأم َ ِم فَلَم ّا ج َاءَه ُ ْم نَذِير ٌ مّا‬ ‫تعالى‪" :‬و َأقْسَم ُوا ب ِالل ّه ِ َ‬
‫سيِ ّئ ُ ِإلّا ب ِأه ْلِه ِ ۚفَه َلْ يَنظ ُر ُونَ ِإلّا سُن ّتَ‬
‫ق ال ْمَك ْر ُ ال ّ‬
‫يح ِي ُ‬
‫سيِ ّئِ ۚوَل َا َ‬
‫ض وَمَك ْر َ ال ّ‬
‫ز َاد َه ُ ْم ِإلّا نُف ُور ًا * اسْ تِكْباَر ًا فِي الْأ ْر ِ‬
‫ت الل ّه ِ َ‬
‫تحْوِيل ًا"‪.‬‬ ‫ت الل ّه ِ تَبْدِيل ًا و َلَن َ‬
‫تجِد َ لِس ُن ّ ِ‬ ‫تجِد َ لِس ُن ّ ِ‬
‫الْأ ّولِينَ ۚفَلَن َ‬

‫ل‬
‫ن كلمة َ "اسْ تِكْباَر ًا" هنا تُعْر َبُ بدل ًا من كلمة "نُف ُور ًا"‪ ،‬وبعضهم قال‪ :‬أ ّنها مفعو ٌ‬
‫بعض أهل الل ّغة أ ّ‬
‫ُ‬ ‫‪-‬قال‬
‫لأجله؛ يعني‪ :‬كان ذلك لأجل أ ّنهم مستكبرون‪.‬‬

‫‪- 054 -‬‬


‫سن ّة ُ الل ّه في إهلاك المكذبين الذين جاء ْته ُم البيناتُ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪ۚ" :‬فَه َلْ يَنظ ُر ُونَ ِإلّا سُن ّتَ الْأ ّولِينَ"‪ :‬يعني‪ُ :‬‬
‫ل بم َن قبلهم‬
‫ل بهم ما نز َ‬
‫والح ُجج؛ فرفضوها وكذ ّبوا بها‪ ،‬يعني‪ :‬يا م ُحم ّد هل ينظر ُ هؤلاء الذين كذبوك إلّا أ ْن ينز َ‬
‫من العذاب والإهلاك‪.‬‬

‫ل المنافقين الذي استوجبوا به الإنذار بس ُن ّة تسليط الل ّه لنبيه ﷺ والمؤمنين‪ ،‬من‬


‫نت الآية ُ الأولى حا َ‬
‫‪-‬كما بي ّ ْ‬
‫التمر ّد والنفاق وأذى المؤمنين‪ ،‬جاءت الآية ُ الثانية مبي ِّنة ً لحال الـكُ ّفار من مشركي قريش الذي استوجبوا به‬
‫حق والاستكبار ومكر‬
‫الإنذار بس ُن ّة الل ّه في إهلاك المكذبين‪ ،‬من الإعراض بعد الحجُ ّة والنفور بعد سماع ال ّ ِ‬
‫السيء‪.‬‬
‫ل ليس خا ًّ ّ‬
‫صا بالأنبياء‪ ،‬بل عامّ في أمر المُصلحين‪ ،‬ولذا؛ إذا وجد َ المُصلحون ‪-‬في سبيل دعوتهم‬ ‫‪-‬وهذا الحا ُ‬
‫وإصلاحهم للن ّاس‪ -‬حالة ً من الإعراض عنهم وتكذيبهم والتحر يض والحرب والعداء عليهم والأذى بهم‬
‫سن َن الل ّه كما نزل بم َن‬
‫سن ّة ٍ من ُ‬
‫ل ُ‬
‫جبُ نزو ُ‬
‫ن هذه الحالة َ ت ُو ِ‬
‫والاستكبار والمكر السيء بهم؛ فلي ُعلم ْ وليُتنب ّه إلى أ ّ‬
‫سبقهم من أمثالهم‪.‬‬
‫سيِ ّئ ُ ِإلّا ب ِأه ْلِه ِ"‪ :‬فهذه قاعدة ٌ عامّة ٌ في التعامل عموم ًا مع أهل الباطل‬
‫ق ال ْمَك ْر ُ ال ّ‬
‫يح ِي ُ‬
‫‪-‬أمّا قوله تعالى‪" :‬وَل َا َ‬
‫ل ذلك إلا عليهم أنفسهم دونَ غيرهم‪.‬‬ ‫والمكر؛ والمعنى هو‪ :‬وما يعود ُ وبا ُ‬

‫سنَن؛ إذ في بعض‬
‫سن َن الإلهية بطر يقة الفهم الشمولي لمجموع ال ّ‬ ‫فاـئدة‪ :‬يجبُ أ ْن يكونَ تناو ُ‬
‫ل قواعد ال ّ‬
‫ل الإنسان‪ :‬طالما‬
‫ل واحدٍ؛ ومن ذلك‪ :‬عند َ كثرة الظلم والبغي؛ قد يقو ُ‬
‫سن ّة ٍ في مح ٍ‬
‫الأحيان‪ :‬قد يأتي أكثر ُ من ُ‬
‫ل‬
‫ل يستوجبُ سُن ّة الإهلاك‪ ،‬بينما قد يستوجبُ هذا الحا ُ‬
‫ن هذا الحا َ‬
‫أن ّه كثر َ الظلم والبغي ولم ينكره أحدٌ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ل واحد‪ ،‬وهنا تستبينُ‬
‫سنَن الإلهية في حا ٍ‬
‫سُن ّة الإمهال والاستدراج للظالمين‪ ،‬وهكذا؛ قد تجتمعا سُن ّتان من ال ّ‬
‫سنن الإلهية بمنظور النظر والفهم الشمولي لمجموعها‪.‬‬
‫أهمية ُ النظر في باب ال ّ‬

‫جاءت الآية ُ الثالثة في سورة غافر بعد قوله تعالى‪" :‬فَلَم ّا ر َأوْا ب َأْ سَنَا قَالُوا آم َن ّا ب ِالل ّه ِ وَحْدَه ُ و َ َ‬
‫كفَر ْن َا بِمَا ك ُن ّا‬ ‫ْ‬ ‫‪-‬ثم ّ‬
‫ك‬
‫خسِر َ ه ُنَال ِ َ‬ ‫ك يَنف َعُه ُ ْم ِإ يمَانُه ُ ْم لَم ّا ر َأوْا ب َأْ سَنَا َۖ سُن ّتَ الل ّه ِ ال ّتِي ق َ ْد خ َل َ ْ‬
‫ت فِي عِبَادِه ِ و َ َ‬ ‫بِه ِ مُشْرِكِينَ * فَل َ ْم ي َ ُ‬
‫الْك َاف ِر ُونَ"‪.‬‬
‫البأس والعذابُ والهلاك ُ‪ ،‬فلا ينف ُع وقتئذٍ الإيمانُ؛ كما‬
‫ُ‬ ‫أي‪ :‬أن ّه إذا جاء َ‬
‫ق هذه الآية ُ بس ُن ّة الإهلاك؛ ْ‬‫‪-‬تتعل ّ ُ‬
‫ل لفرعون وجنوده‪ .‬والإهلاك ُ ينقسم ُ إلى نوعين‪:‬‬ ‫حص َ‬

‫أي‪ :‬يكونُ‬ ‫سن َن الـكونية)؛ ْ‬


‫النوع الأوّل‪ :‬الإهلاك ُ بالآيات الظاهرة‪ :‬و يكونُ هذا الإهلاك ُ بخرق العادة (ال ّ‬
‫سنن الـكونية؛ مثل ما حصل مع قوم ٍ‬
‫نوح؛ كما قال تعالى‪" :‬فَف َت َحْ نَا‬ ‫الإهلاك ُ بشيء ٍ لا يجري على عادة ال ّ‬

‫‪- 055 -‬‬


‫سم َاء ِ بِمَاء ٍ مّنْهَمِرٍ * وَفَج ّر ْن َا الْأر َ‬
‫ْض ع ُي ُون ًا فَالْتَقَى ال ْمَاء ُ عَلَى أ ْمر ٍ ق َ ْد قُدِر َ"‪ ،‬ومثل ما حصل مع‬ ‫أب ْوَابَ ال ّ‬
‫عقوبات قوم عادٍ وثمود ولوط المتكرر ذكرها في القرآن‪.‬‬

‫سلام‪-‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬الإهلاك ُ بالآيات الخفية‪ :‬و يكونُ هذا الإهلاك ُ بتسليط الل ّه ُ لأنبيائه ‪-‬عليهم الصّ لاة وال ّ‬
‫حق والباطل‪.‬‬
‫وم َن معهم من المؤمنين على الظالمين في سياق التدافع بينَ ال ّ ِ‬

‫ق‬
‫ِقاب الخارِ ِ‬ ‫ن عاشور ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره للآية‪( :‬وه َذا ح ُ ْكم ُ الل ّه ِ في الب َأْ ِ‬
‫س بِمَعْنى الع ِ‬ ‫‪-‬قال الإمام ُ اب ُ‬
‫ْف ال ّذ ِي‬‫سي ِ‬ ‫س ال ّ‬ ‫َذاب ب َأْ ِ‬
‫لع ِ‬ ‫س ال ّذ ِي هو مُعْتاد ٌ وال ّذ ِي هو آيَة ٌ خَف ِي ّة ٌ مِث ْ ُ‬ ‫لِل ْعادَة ِ وال ّذ ِي هو آيَة ٌ بَي ِّن َة ٌ‪ ،‬ف َأمّا الب َأْ ُ‬
‫ْب حِينَ ر َأى‬ ‫سفْيانَ ب ْ ِن حَر ٍ‬‫ل أبِي ُ‬ ‫ن عِنْد َ رُؤْيَتِه ِ مِث ْ َ‬ ‫ن م َن يُؤْم ِ ُ‬ ‫نَصَر َ الل ّه ُ بِه ِ رَسُولَه ُ يَوْم َ ب َ ْد ٍر و يَوْم َ فَت ِْح مَك ّة َ‪ ،‬فَإ ّ‬
‫ل‬
‫ل مِث ْ َ‬‫ْف عَنْهم‪ ،‬فَإيمان ُه ُكام ِ ٌ‬ ‫سي ِ‬ ‫ْش يَوْم َ الفَت ِْح بَعْد َ رَف ِْع ال ّ‬ ‫ن ق ُر َي ٍ‬ ‫ل إيما ِ‬ ‫ْش الفَت ِْح‪ ،‬أ ْو بَعْد َ أ ْن يَنْجُو َ م ِنه ُ مِث ْ َ‬ ‫جَي َ‬
‫ْح بَعْد َ‬‫ن أبِي سَر ٍ‬ ‫طل ِِب‪ ،‬وعَبْدِ الل ّه ِ ب ْ ِن َ‬
‫سعْدِ ب ْ ِ‬ ‫ِث ب ْ ِن عَبْدِ الم ُ ّ‬ ‫سفْيانَ ب ْ ِن الحار ِ‬ ‫ن الوَلِيدِ‪ ،‬وأبِي ُ‬ ‫ن خالِد ِ ب ْ ِ‬ ‫إيما ِ‬
‫ارْتِدادِه ِ‪.‬‬

‫ن ع َذابَ‬
‫ْف أ ّ‬
‫سي ِ‬
‫س ال ّ‬
‫ل ب َأْ ِ‬
‫ن عِنْد َ ن ُز ُو ِ‬
‫ل الإيما ِ‬
‫ل وقَب ُو ِ‬
‫َذاب ال ِاسْ تِئ ْصا ِ‬
‫لع ِ‬ ‫ن عِنْد َ ح ُلُو ِ‬
‫ل الإيما ِ‬
‫‪-‬ووَجْه ُ عَد َ ِم قَب ُو ِ‬
‫جاب‬
‫ل المَقْصِ د ُ م ِن إي ِ‬
‫ص ُ‬
‫يح ْ ُ‬ ‫ُوج م ِن عال َِم الد ّن ْيا فَإيقاع ُ الإيما ِ‬
‫ن عِنْدَه ُ لا َ‬ ‫ك والخُر ِ‬
‫ل م ُشار َف َة ٌ لِلْه َلا ِ‬
‫ال ِاسْ تِئ ْصا ِ‬
‫حزْب ًا وأن ْصار ًا لِد ِينِه ِ وأن ْصار ًا ل ِرُسُلِه ِ‪ ،‬وماذا يُغْنِي إيمانُ قَو ْ ٍم ل َ ْم يَب ْ َ‬
‫ق ف ِيه ِ ْم إلّا‬ ‫ن وهو أ ْن يَكُونَ المُؤْم ِن ُونَ ِ‬
‫الإيما ِ‬
‫ل تَعالى‬
‫ل‪ ،‬قا َ‬
‫َت ساع َة َ ع َم َ ٍ‬
‫ل الحَشْر ِ بِذ ُنُو بِه ِ ْم ولَيْس ْ‬
‫ِراف أه ِ ِ‬
‫ِيف م ِن حَياة ٍ‪ ،‬فَإيمانُهم حِينَئِذٍ بِمَنز ِلَة ِ اع ْت ِ‬
‫ق ضَع ٌ‬
‫رَم َ ٌ‬
‫ن المُسْل ِمِينَ *‬
‫ل وأنا م ِ َ‬
‫ل آم َنتُ أن ّه ُ لا إلَه َ إلّا ال ّذ ِي آم َن َْت بِه ِ بَن ُو إس ْرائيِ َ‬
‫ن فِرْعَوْنَ‪" :‬فَلَم ّا أ ْدرَك َه ُ الغ َر َقُ قا َ‬
‫في شَأْ ِ‬
‫ل تَعالى‪:‬‬
‫ك عِصْ يانِه ِ وإف ْسادِه ِ‪ ،‬وقا َ‬
‫ْت ل ِاسْ تِدْرا ِ‬
‫ق وق ٌ‬
‫أي فَل َ ْم يَب ْ َ‬
‫ن" ‪ْ ،‬‬
‫سدِي َ‬
‫ن الم ُ ْف ِ‬
‫كن ْتَ م ِ َ‬
‫لو ُ‬
‫صي ْتَ قَب ْ ُ‬
‫ن وق َ ْد ع َ َ‬
‫آلْآ َ‬
‫كسَب َْت في إيمانِها خَيْر ًا"‪ ،‬ف َأشار َ‬ ‫ل أ ْو َ‬ ‫ك لا يَنْف َ ُع ن َ ْفسًا إيمانُها ل َ ْم تَكُنْ آم َن َْت م ِن قَب ْ ُ‬
‫آيات ر َب ّ ِ َ‬
‫ِ‬ ‫ْض‬
‫"يَوْم َ ي َأْ تِي بَع ُ‬
‫س‬‫ل بِقَو ْ ِم يُون ُ َ‬ ‫كمَة ِ عَد َ ِم ان ْت ِ ِ‬
‫فاع أحَدٍ ب ِإيمانِه ِ ساع َتَئِذٍ‪ .‬وإن ّما كانَ ما ح َ ّ‬ ‫ح ْ‬
‫كسَب َْت في إيمانِها خَيْر ًا" إلى ِ‬ ‫قَو ْلُه ُ‪" :‬أ ْو َ‬
‫س)‪.‬‬
‫ظه ُورِ عَلاقاتِه ِكَما بَي ّن ّاه ُ في سُورَة ِ يُون ُ َ‬
‫شع ُورِ بِه ِ عِنْد َ ُ‬
‫س وبَيْنَ ال ّ‬
‫ظه ُورِ الب َأْ ِ‬
‫حال ًا وسِيطًا بَيْنَ ُ‬

‫ل فيه توبة ُ‬ ‫ِ‬


‫النوع الأوّل من الإهلاك؛ وهذا النوع لا تُقب ُ‬ ‫ن الآية َ من‬
‫‪-‬والخُلاصة ُ في كلام ابن عاشو ٍر أ ّ‬
‫وقت‬
‫ٌ‬ ‫ق لهؤلاء المكذبين‬
‫ن عاشور سببَ عدم قبول توبتهم أن ّه لم يب َ‬
‫ل بهم العذابُ ‪ ،‬ثم بي ّنَ اب ُ‬
‫المكذبين الذين ينز ُ‬
‫لاستدراك عصيانهم وإفسادهم بإحسان العمل وتصحيح المسار‪.‬‬

‫وقت ومتس ٌع للتوبة‬


‫ٌ‬ ‫ل فيه التوبة ُ؛ لـكون هناك‬
‫ن أ ْن تقب َ‬
‫‪-‬أمّا إذا كان الإهلاك ُ من النوع الثاني؛ في ُمك ُ‬
‫ط الل ّه نبيه ﷺ والمؤمنين على الكافرين‪ ،‬ثم بعد َ‬
‫والتدارّك وإحسان العمل كما حصل في غزوة بدر لم ّا سل ّ َ‬
‫ن عاشو ٍر في تفسيره‪.‬‬
‫ناس منهم ورجعوا وصاروا من كبار الصحابة كما بي ّنَ ذلك اب ُ‬
‫ذلك تابَ أ ٌ‬

‫‪- 056 -‬‬


‫صة ٌ بغزوة بدر‪ ،‬كما قال الإمام ُ الزمخشري ‪-‬رحمه الل ّه‪-‬‬
‫‪-‬وللعلماء عند تناولهم لس ُن ّة إهلاك الكافرين عناية ٌ خا ّ‬

‫ن المكر َ السيئ َ‬
‫أي‪ :‬أ ّ‬
‫سیِ ّئ ُ ِإلّا ب ِأه ۡلِه ِ"‪( :‬ولق ْد حاقَ بهم يوم َ بد ٍر)؛ ْ‬
‫ق ٱل ۡمَك ۡر ُ ٱل ّ‬
‫یح ِی ُ‬
‫في تفسير قوله تعالى‪" :‬وَل َا َ‬
‫الذي كانوا يمكرونه بالمؤمنين طيلة َ ثلاثة عشر عام ًا في مكة‪ ،‬حاق بهم في عذاب يوم َ بدرٍ‪.‬‬

‫ِش ال ْب َ ْطشَة َ ال ْـكُبْر َى"‪ ،‬قال‪( :‬البطشة ُ‬


‫ن مسعود ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬في قوله تعالى‪" :‬يَوْم َ نَبْط ُ‬
‫‪-‬وكذلك قال اب ُ‬
‫الـكبرى يوم َ بد ٍر)؛ وكان ذلك بتسليط الل ّه لنبيه ﷺ والمؤمنين على الكافرين وتأييده لنبيه ﷺ والمؤمنين في‬
‫ل سادات المشركين وقُط ِ َع دابر ُهم‪ ،‬وكان يوم ًا عظيم ًا من أيام الل ّه‪.‬‬
‫بألف من الملائكة‪ ،‬حت ّى قُت ِ َ‬
‫ٍ‬ ‫قتالهم‬

‫فاـئدة ٌ استطرادية ٌ عن غزوة ِ بدرٍ‪:‬‬


‫ن جمع ًا من البدر يين ‪-‬الذين شهدوا‬
‫حافظ الذهبي ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في كتابه (سير أعلام النبلاء) أ ّ‬
‫‪-‬ذَك َر َ الإمام ُ ال ُ‬
‫ل معركة ً جديدة ً؛‬
‫غزوة بدر قد ق ُتلوا يوم َ غزوة اليمامة ‪ ،‬فيَا ت ُرى كيف كان شعور ُ م َن شهد َ بدر ًا وهو يدخ ُ‬
‫ل المشركين كما جاء في‬
‫ن المؤمنين كانوا يسمعون صوتَ الملائكة وهي تقت ُ‬
‫بعدما رأى تأييد الل ّه في بدر حت ّى أ ّ‬
‫ن المُشْرِكِينَ‬
‫ل مِ َ‬
‫ن المُسْل ِمِينَ يَوم َئذٍ يَشْت َ ّد في أثَر ِ رَج ُ ٍ‬
‫ل مِ َ‬
‫س ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬بي ْن َما رَج ُ ٌ‬
‫حديث ابن عبا ٍ‬
‫ك‬
‫س يقولُ‪ :‬أقْدِ ْم حَيْز ُوم ُ ‪-‬اسم فرسه‪ ،-‬فَنَظَر َ إلى المُشْرِ ِ‬
‫صو ْتَ الف َارِ ِ‬
‫سو ْطِ فَو ْق َه ُ و َ َ‬
‫أم َام َه ُ‪ ،‬إ ْذ سَم ِ َع ضَرْبَة ً بال ّ‬
‫ك أجْمَعُ‪،‬‬
‫سو ْطِ ‪ ،‬ف َاخْ ضَر ّ ذل َ‬ ‫خطِم َ أنْف ُه ُ‪ ،‬وَشُقّ و َجْ ه ُه ُ‪ ،‬كَضَرْبَة ِ ال ّ‬
‫أم َام َه ُ‪ ،‬فَخَر ّ مُسْتَلْق ِيًا‪ ،‬فَنَظ َر َ إلَيْه ِ ف َِإذ َا هو ق ْد ُ‬
‫سم َاء ِ الث ّالِثَة ِ)‪.‬‬‫ك م ِن مَدَدِ ال ّ‬ ‫صد َق ْتَ ؛ ذل َ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬ف َقالَ‪َ :‬‬ ‫ك ر َسو َ‬ ‫فَجَاء َ الأنْصَارِيّ ‪ ،‬فَح َ ّدثَ بذل َ‬

‫ن أ ْن تتكرر َ في غيرها من المواقف؛ كمقدار‬


‫وقعت في نفوس البدر يين لا ي ُمك ُ‬
‫ْ‬ ‫ن هناك معاني‬
‫‪-‬والمقصود أ ّ‬
‫ن ثابت بن قيس‬ ‫ل في نفوسهم من رؤيتهم لنصر ومعية الل ّه للمؤمنين وإهلاكه للكافرين‪ ،‬حت ّى أ ّ‬ ‫اليقين التي نز َ‬
‫وتزحزح للمسلمينَ‪( :‬هَكَذ َا عن وُجُوه ِنَا حت ّى‬ ‫ٍ‬ ‫وقعت بوادر ُ هزيمة ٍ‬
‫ْ‬ ‫ل في غزوة اليمامة وقد‬ ‫‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫أي‪ :‬افس َحوا لنا حت ّى‬ ‫ْس ما عَو ّ ْدتُم ْ أق ْرَانَك ُ ْم)؛ ْ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ ،‬بئ َ‬
‫ل مع ر َسو ِ‬
‫نُضَارِبَ القَوْم َ‪ ،‬ما هَكَذ َا ك ُن ّا ن َ ْفع َ ُ‬
‫ئس ما عَو ّدت ُم‬ ‫ص ًّ ّفا لا يَنحَر ُ‬
‫ِف عن م َوضِع ِه‪ ،‬ثم قال‪( :‬ب ِ َ‬ ‫نُضارِبَ القوم َ‪ ،‬وذكر َ أ ّنهم كانوا يُقاتِلونَ مع الن ّب ِيّ ﷺ َ‬
‫أي‪ :‬عَو ّدت ُم نُظ َراءَكم في القُو ّة ِ م ِن عَدُوِّكم الف ِرار َ منهم‪ ،‬حت ّى‬
‫خ المُنهزِمينَ‪ْ ،‬‬‫أقرانَكم)‪ ،‬أراد َ بهذا الك َلا ِم تَوبي َ‬
‫ل حت ّى است ُشهِد َ‪.‬‬
‫طمِع َوا فيكم‪ ،‬فت َق ّدم َ ‪-‬ر َضي َ الل ّه ُ عنه‪ -‬وقات َ َ‬
‫َ‬

‫أي أن ّه‬
‫ن أ ْن تتكرر َ بنوعها لا بدرجتها؛ ْ‬
‫س الدرجة‪ ،‬إلّا أن ّه ي ُمك ُ‬
‫ت غير َ متكررة ٍ على نف ِ‬
‫‪-‬وهذه المعاني وإ ْن كان ْ‬
‫ق‬
‫كل ّما رأىَ الإنسانُ بعينيه نصر َ الل ّه ومدد َه ُ؛ فإن ّه يكونُ لديه من اليقين والقو ّة والثبات والصّ بر ما لا يتح ّق ُ‬
‫لغيره‪ ،‬وهذا لا يكونُ إلّا لمَن شارك َ في ن ُصرة الد ِّين والعمل له والصّ بر في سبيل الل ّه على ما ينال ُه ُ من‬
‫الأذى‪.‬‬

‫‪- 057 -‬‬


‫الآية الرابعة‪ :‬قال تعالى‪" :‬أ ُ‬
‫ك ّفار ُك ُ ْم خَيْر ٌ مّ ِنْ أولََٰئِك ُ ْم"‪:‬‬
‫ل‬
‫سنَن؛ فليس ك ّ‬
‫سن َن الإلهية بغير لفظ ال ّ‬
‫نوع من الأدلة القرآنية يشير ُ إلى ال ّ‬ ‫أتت الآية ُ في الباب للإشارة ِ إلى ٍ‬ ‫‪ْ -‬‬
‫ل‬
‫ن اتّ خَذ ُوا ال ْعِجْ َ‬
‫ن ال ّذ ِي َ‬
‫ف من النصوص الشرعية باللفظ الصريح؛ ومن ذلك‪ :‬قوله تعالى‪ِ " :‬إ ّ‬
‫سن َن الإلهية ت ُعر َ ُ‬
‫ال ّ‬
‫نجْزِي‬
‫ك َ‬
‫ن"؛ فقوله تعالى‪" :‬وَكَذََٰل ِ َ‬
‫نجْزِي ال ْمُفْتَر ِي َ‬
‫ك َ‬
‫َب مّ ِن رّ ّبِه ِ ْم وَذِل ّة ٌ فِي الْحي ََاة ِ الد ّن ْيَا ۚوَكَذََٰل ِ َ‬
‫سَيَنَالُه ُ ْم غَض ٌ‬
‫ظالِمِينَ"‪.‬‬
‫نجْزِي ال ّ‬
‫ك َ‬
‫سنَن الإلهية المذكورة في الآية‪ ،‬ومثل ذلك‪ :‬قوله تعالى‪" :‬وَكَذََٰل ِ َ‬
‫ن"‪ ،‬يُشير ُ إلى ال ّ‬
‫ال ْمُفْتَرِي َ‬

‫جاءت هذه الآية ُ في سورة القمر‪ ،‬بعد َ أ ْن ذكر َ الله إهلاك َ قو ِم ٍ‬


‫نوح ثم ّ عادٍ ثم ّ ثمودٍ ثم ّ لوطٍ ثم فرعون؛ ثم ّ‬ ‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ّ ُ‬
‫سيُه ْزَم ُ‬
‫ن جَم ِي ٌع مّنتَصِر ٌ * َ‬ ‫ك ّفار ُك ُ ْم خَيْر ٌ مّ ِنْ أولََٰئِك ُ ْم أ ْم لـَك ُم ب َر َاءَة ٌ فِي الز ّبُر ِ * أ ْم يَق ُولُونَ َ‬
‫نح ْ ُ‬ ‫بعدها قال تعالى‪" :‬أ ُ‬
‫جرت‬
‫ْ‬ ‫سن ّة الل ّه الت ّي‬
‫ق ُ‬ ‫ن يوم َ بد ٍر كان يوم ُ تح ّق ِ‬ ‫ا ْلجم َ ْ ُع و َيُوَل ّونَ الد ّب ُر َ"؛ وكان ذلك في غزوة بدر‪ ،‬وهذا يُبيِّنُ أ ّ‬
‫ط الل ّه ُ نبيه ﷺ والمؤمنين على المشركين؛ فهزموهم وقطعوا دابرهم‪.‬‬
‫على الأمم السابقة؛ بأ ْن سل ّ َ‬

‫جرت عليهم سُن ّة ُ إهلاك الل ّه لهم‪ ،‬ومن‬


‫ْ‬ ‫ج من الآية الصفات الت ّي إ ْن توفرت في أٌناسٍ ؛‬
‫ن أ ْن نستخر َ‬
‫‪-‬يُمك ُ‬
‫حق مع وجود الحجُ ّة‬
‫هذه الصفات‪ :‬الـكفر مع الاستكبار والمكر السيء‪ ،‬والتكذيب والنفور والإعراض عن ال ّ ِ‬
‫والرسالة والدعوة‪.‬‬
‫سن ّة الإلهية وما‬ ‫باب واس ٌع ج ًّ ّدا من جهة متعلقاته؛ إ ْذ يُمك ُ‬
‫ن البحثُ في ال ّ‬ ‫سنَن الإلهية ٌ‬ ‫فاـئدة‪ :‬إ ّ‬
‫ن بابَ ال ّ‬
‫ج من‬
‫ن أ ْن ت ُستخر َ‬
‫ل نصٍ ومتعلقاتها‪ ،‬والضوابط التي ي ُمك ُ‬
‫ل بها من النصوص الشرعية‪ ،‬وما هو سياقُ ك ّ ِ‬
‫يتص ُ‬
‫هذه النصوص‪.‬‬

‫ن عَاق ِب َة ُ ال ْمُكَذِّبِينَ"‪:‬‬
‫كي َْف ك َا َ‬
‫ض فَانظ ُر ُوا َ‬
‫ن فَسِير ُوا فِي الْأ ْر ِ‬ ‫الآية الخامسة‪" :‬ق َ ْد خ َل َ ْ‬
‫ت م ِن قَب ْل ِـك ُ ْم سُن َ ٌ‬
‫سنَن الإلهية من جهة المؤمنين؛ من حيث شعورهم ونظرهم وتأمّلهم ومراعاتهم لهذه‬
‫ن ال ّ‬
‫أتت الآية ُ في بيا ِ‬
‫‪ْ -‬‬
‫سن َن وتنبههم حت ّى لا ييأسوا ولا يقنطوا‪.‬‬
‫ال ّ‬

‫ت م ِن قَب ْل ِـك ُ ْم‬


‫وردت في سورة آل عمران؛ قال تعالى‪" :‬ق َ ْد خ َل َ ْ‬
‫ْ‬ ‫جاءت الآية ُ في سياق غزوة أح ُد‪ ،‬وقد‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫س و َهُدًى وَمَوْعِظ َة ٌ لِّل ْمُت ّق ِينَ *‬
‫ن لِّلن ّا ِ‬
‫ن عَاق ِب َة ُ ال ْمُكَذِّبِينَ * هََٰذ َا بَيَا ٌ‬
‫كي َْف ك َا َ‬
‫ض فَانظ ُر ُوا َ‬
‫ن فَسِير ُوا فِي الْأ ْر ِ‬
‫سُن َ ٌ‬
‫ك‬
‫ح مِّثْلُه ُ ۚ و َتِل ْ َ‬
‫ح فَق َ ْد م َّس الْقَوْم َ قَر ْ ٌ‬
‫سك ُ ْم قَر ْ ٌ‬
‫تح ْزَنُوا و َأنتُم ُ الْأع ْلَوْنَ ِإن كُنتُم مّؤْم ِنِينَ * ِإن يَمْس َ ْ‬
‫وَل َا تَهِن ُوا وَل َا َ‬
‫ظالِمِينَ"‪.‬‬
‫ِب ال ّ‬
‫يح ّ‬
‫ن آم َن ُوا و َي َ ّتخِذ َ م ِنك ُ ْم شُهَد َاء َ و َالل ّه ُ ل َا ُ‬
‫س و َلِيَعْلَم َ الل ّه ُ ال ّذ ِي َ‬
‫الْأي ّام ُ نُد َاوِلُهَا بَيْنَ الن ّا ِ‬

‫جاءت الآية ُ في بيان عاقبة المكذبين بس ُن ّة الإهلاك‪ ،‬وجاء َ ذلك في سياق غزوة أح ُد بمثابة تعز ية ٍ للمؤمنين‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫لما أصابهم من الهزيمة وفقدان الرموز الـكبرى من صحابة الن ّب ِيّ ﷺ؛ كحمزة ومصعب وغيرهما ‪ -‬رضي الل ّه‬
‫سنَن الإلهية والعاقبة‪ ،‬وليس بنتيجة هذه الجولة‪.‬‬
‫عنها‪ ،-‬بأ ْن ينظروا في أمر الهزيمة بال ّ‬
‫‪- 058 -‬‬
‫ت م ِن قَب ْل ِـك ُ ْم‬
‫ن جرير الطبري ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره للآية‪( :‬يعني بقوله تعالى ذكر ُه ُ‪" :‬ق َ ْد خ َل َ ْ‬
‫ل الإمام ُ اب ُ‬
‫‪-‬قا َ‬
‫حاب مح ُم ّدٍ وأهل الإيمان به‪ ،‬من نحوِ قو ِم عادٍ‬
‫وسلفت منى فيمن كان قبلـكم‪ ،‬يا معشر َ أص ِ‬
‫ْ‬ ‫مضت‬
‫ْ‬ ‫ن" ‪،‬‬
‫سُن َ ٌ‬
‫سي ْر َ بها فيهم‬
‫ن"‪ ،‬يعني‪ :‬مثُلات ِ‬
‫وثمودٍ وقو ِم هودٍ وقو ِم لوطٍ ‪ ،‬وغيرهم م ِن سُلاف الأمّم قبلـكم‪" = ،‬سُن َ ٌ‬
‫ل التكذيب بهم‪ ،‬واستدراجي إ ي ّاهم‪ ،‬حت ّى بل َغ‬
‫وفيمن كذ ّبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم‪ ،‬بإمهالي أه َ‬
‫الكتابُ فيهم أجل ّه ُ الذي أج ّلت ُه ُ لإدالة أنبيائهم وأهل الإيمان بهم عليهم‪ ،‬ثم أحللتُ بهم عقوبتي‪ ،‬وأنـزلتُ‬
‫بساحتهم نِق َمي‪ ،‬فتركتهم لمن بعدهم أمثال ًا وعبر ًا‪.‬‬

‫ن إدالتي م َنْ‬
‫ْف ك َانَ عَاق ِب َة ُ ال ْمُكَذِّبِينَ"‪ ،‬يقول‪ :‬فسيروا ‪-‬أيها الظان ّون‪ ،‬أ ّ‬
‫كي َ‬
‫ض فَانظ ُر ُوا َ‬
‫="فَسِير ُوا فِي الْأ ْر ِ‬
‫وخالف‬
‫َ‬ ‫استدراج مني لم َن أشرك َ بي‪ ،‬وكفر َ برسلي‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫أدلتُ من أهل الشرك يوم أحُدٍ على م ُحم ّدٍ وأصحابه‪ ،‬لغيرِ‬
‫أمري‪ -‬فسيروا في ديار الأمّم الذين كانوا قبلـكم‪ ،‬مم ّن كان على مثل الذي عليه هؤلاء المكذبون برسولي‬
‫ِب خلافهم أمري‪،‬‬
‫ل إليه غ ّ‬
‫والجاحدون وحدانيتي‪ ،‬فانظروا كيف كان عاقبة ُ تكذيبهم أنبيائي‪ ،‬وما الذي آ َ‬
‫ن إدالتي م َن أدلتُ من المشركين على نبيي م ُحم ّدٍ وأصحابه بأح ُدٍ‪ ،‬إن ّما‬
‫وإنكارهم وحدانيتي‪ ،‬فتعلموا عند َ ذلك أ ّ‬
‫ل‬
‫ل إليه حا ُ‬
‫ل حاله ُم إلى مثل ما آ َ‬
‫ل لي َبل ُ َغ الكتابُ أجل ّه ُ الذي أجلتُ لهم‪ .‬ثم إمّا أ ْن يؤو َ‬
‫ج وإمها ٌ‬
‫هي استدرا ٌ‬
‫الأمّم الذين سلفوا قبلهم‪ :‬من تعجيل العقوبة عليهم‪ ،‬أو ينيبوا إلى طاعتي واتباع رسولي)‪.‬‬

‫سن ّة‬
‫ج عن ُ‬
‫ن هذا خار ٌ‬
‫ل يوم َ أح ُدٍ من علو المشركين‪ ،‬يا م َن يظنّ أ ّ‬
‫ن ما حص َ‬
‫ن يا م َن يظنّ أ ّ‬
‫‪-‬والمقصد‪ :‬أ ّ‬
‫ل وما يعقبُها من سُن ّة الإهلاك‪ ،‬يا م َن يظنّ هذا الظنَ؛ سيروا في الأرض‬
‫ق بها من إمها ٍ‬
‫الاستدراج وما يتعل ّ ُ‬
‫فانظروا كيف كان عاقبة ُ الذين كذ ّبوا من قبل‪.‬‬

‫فاـئدة‪ :‬عن يونس بن عبد الأعلى قال‪( :‬ما رأيتُ أحدًا ل َقِ َي من ال ِ‬
‫سق َ ِم ما ل َقِ َي الشافعيّ‪ ،‬فدخلتُ عليه‬
‫ك تُبَوِ ّئ ُ‬
‫يوم ًا‪ ،‬فقال لي‪ :‬يا أبا موسى! اقرأ عليّ ما بعدَ العشرين والمائة من آل عمران‪" :‬و َِإ ْذ غَدَوْتَ م ِنْ أه ْل ِ َ‬
‫وأخف القراءة َ‪ ،‬ولا ت ُثقلْ ‪ .‬فقرأتُ عليه‪ ،‬فلما‬ ‫ْ‬ ‫ل و َالل ّه ُ سَم ِي ٌع عَل ِيم ٌ" إلى آخر السورة‪،‬‬
‫ال ْمُؤْم ِنِينَ مَق َاعِد َ لِل ْق ِتَا ِ‬
‫مكروب)‪ .‬قال يونس‪( :‬ع َن َى َ الشافعيّ بقراءتي بعد َ العشرين والمائة‬
‫ٌ‬ ‫أردتُ القيام َ‪ ،‬قال‪ :‬لا تغفلْ عني‪ ،‬فإن ِ ّي‬
‫ما ل َقَ َى الن ّبيّ ﷺ وأصحاب ُه ُ أو نحوه؛ لي َتأسى بهم‪ ،‬والإنسانُ ي َتصب ّر ُ بما حدثَ للن ّب ِيّ ﷺ والصحابة الـكرام في‬
‫غزوة أح ُدٍ)‪.‬‬

‫ك فَصَب َر ُوا عَلَى م َا كُذِّبُوا و َأوذ ُوا حَت ّى أت َاه ُ ْم‬


‫ل مّ ِن قَب ْل ِ َ‬ ‫الآية السادسة‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َلَق َ ْد كُذِّب َْت ر ُ ُ‬
‫س ٌ‬
‫ات الل ّه ِ ۚو َلَق َ ْد ج َاءَك َ م ِن ن ّب َِإ ال ْمُرْسَلِينَ"‪:‬‬
‫ل لِكَل ِم َ ِ‬
‫نَصْر ُن َا ۚوَل َا م ُب َ ّدِ َ‬

‫‪- 059 -‬‬


‫ن سُن ّة ِ الل ّه ِ في إهلاك المكذبين‪ ،‬وفي سياق تثبيت الن ّب ِيّ ﷺ وم َن معه من المؤمنين؛‬ ‫جاءت هذه الآية ُ في بيا ِ‬ ‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ق بس ُن َن ِه ِ وقانون ِه ِ‬ ‫وفي الآية إخبار ُ الل ّه ِ ‪-‬تعالى‪ -‬أ ّ‬
‫ن ما أجراه ُ على الأمم السابقة ليس مختصً ا بهم‪ ،‬وإن ّما هو متعل ّ ِ ٌ‬
‫ن جار ية ٌ بلا تغييرٍ ولا‬
‫سنَنَ سُن َ ٌ‬
‫ن هذه ال ّ‬ ‫ٍ‬
‫موضع من كتابه أ ّ‬ ‫يجر يه على الخلق‪ ،‬وقد أكد َ الل ّه ُ في غير ما‬
‫الذي ُ‬
‫تثبيت للن ّب ِيّ ﷺ وم َن معه من المؤمنين‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ل‪ ،‬وفي هذا النوع من السياق والألفاظ‬ ‫ل ولا تحو ي ٍ‬
‫تبدي ٍ‬

‫ك و َلََٰكِنّ‬
‫ك ال ّذ ِي يَق ُولُونَ َۖف َِإ ّنه ُ ْم ل َا يُكَذِّبُون َ َ‬
‫وردت الآية ُ في سورة الأنعام؛ فقال تعالى‪" :‬ق َ ْد نَعْلَم ُ ِإن ّه ُ لَي َحْ زُن ُ َ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ك فَصَب َر ُوا عَلَى م َا كُذِّبُوا و َأوذ ُوا حَت ّى أت َاه ُ ْم‬
‫ل مّ ِن قَب ْل ِ َ‬
‫س ٌ‬
‫يج ْحَد ُونَ * و َلَق َ ْد كُذِّب َْت ر ُ ُ‬ ‫َات الل ّه ِ َ‬ ‫ظالِمِينَ ب ِآي ِ‬ ‫ال ّ‬
‫سنَن‬ ‫ات الل ّه ِ ۚو َلَق َ ْد ج َاءَك َ م ِن ن ّب َِإ ال ْمُرْسَلِينَ"‪ ،‬وموض ُع الشاهد في الآية على قضية ال ّ‬ ‫ل لِكَل ِم َ ِ‬
‫نَصْر ُن َا وَل َا م ُب َ ّدِ َ‬
‫ات الل ّه ِ"‪.‬‬
‫ل لِكَل ِم َ ِ‬
‫الإلهية هو قوله تعالى‪" :‬وَل َا م ُب َ ّدِ َ‬

‫ن‬ ‫ن لِلن ّبِيء ِ ﷺ ب ِأ ّ‬


‫ن الل ّه َ يَن ْصُرُه ُكَما نَصَر َ م َن قَبْلَه ُ م ِ َ‬ ‫ل الإمام ُ الطاهر بن عاشور في تفسيره‪( :‬وه َذا ت َ ْطمِي ٌ‬ ‫‪-‬يقو ُ‬
‫ن إه ْلاك َ المُكَذِّبِينَ‬ ‫أي أ ّ‬‫ل‪ ،‬و يَج ُوز ُ أ ْن تَكُونَ كَل ِماتُ الل ّه ِ ما كَتَب َه ُ في أزَلِه ِ وق َ ّدرَه ُ م ِن سُنَنِه ِ في الأمَمِ‪ْ ،‬‬
‫س ِ‬‫الر ّ ُ‬
‫يَق َ ُع كَما وق َ َع إه ْلاك ُ م َن قَبْلَهم)؛ يعني‪ :‬المقصود بكلمات الل ّه في الآية هي سُنَن ُه ُ التي يجر يه على خلقه‪.‬‬

‫ن الل ّه َ لي َم ُْل ِي‬ ‫ل الل ّه ﷺ‪"( :‬إ ّ‬ ‫ل رسو ُ‬ ‫ل‪ :‬قا َ‬ ‫الأشعري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬ ‫ِّ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن أبي موسى‬
‫ن أخْذَه ُ‬ ‫ك ِإذ َا أخَذ َ الْق ُر َى وَهِي َ ظَالم َِة ٌ ِإ ّ‬ ‫لِلظّالِمِ‪ ،‬حت ّى إذا أخَذَه ُ ل َ ْم يُفْلِت ْه ُ"‪ ،‬قالَ‪ :‬ث ُم ّ ق َرَأ‪" :‬وَكَذَل ِ َ‬
‫ك أخْذ ُ ر َب ّ ِ َ‬
‫شدِيد ٌ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫أل ِيم ٌ َ‬

‫ن عَاق ِب َة ُ‬
‫ْف ك َا َ‬
‫كي َ‬
‫ض فَانظ ُر ُوا َ‬
‫ن فَسِير ُوا فِي الْأ ْر ِ‬
‫يرتبط الحديثُ بقول الل ّه ‪-‬تعالى‪" :-‬ق َ ْد خ َل َْت م ِن قَب ْل ِـك ُ ْم سُن َ ٌ‬
‫‪ُ -‬‬
‫ق بس ُن ّة الاستدراج والإمهال والإملاء‬ ‫ال ْمُكَذِّبِينَ"؛ وقد جاء َ في تفسير الإمام الطبري ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬لها ما يتعل ّ ُ‬
‫سن َن والتي تُعْق َبُ بس ُن ّة الإهلاك‪،‬‬
‫ن هذه ال ّ‬ ‫ل ضم َ‬‫ن علو الكافرين والظالمين في الدنيا داخ ٌ‬
‫للظالمين وغيرهم‪ ،‬وأ ّ‬
‫ن"‪.‬‬
‫كيْدِي م َتِي ٌ‬
‫ن َ‬
‫وقد تكر ّر َ ذكر ُ سُن ّة الإملاء في القرآن؛ ومنه‪ :‬قوله تعالى‪" :‬و َأمْل ِي لَه ُ ْم ۚ ِإ ّ‬

‫ل مع أبي سفيان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪-‬‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن عبدِ الل ّه بن عبا ٍ‬
‫س ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬في قصّ ة ه ِر َق َ‬
‫ل له‪( :‬وسَألْتُكَ‪ :‬هلْ قَاتلَ ْتُم ُوه ُ ف َز َعَم ْتَ أن ّك ُ ْم قَاتلَ ْتُم ُوه ُ‪ ،‬فَتَكُونُ الحَر ْبُ بي ْنَك ُ ْم وبي ْن َه ُ سِ جَال ًا يَنَا ُ‬
‫ل‬ ‫حين قال ه ِر َق ُ‬
‫ل تُب ْتَلَى ث ُم ّ تَكُونُ لهم ُ الع َاق ِب َة ُ)‪ ،‬أخرج َه البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫س ُ‬
‫ك الر ّ ُ‬
‫م ِنك ُم وتَنَالُونَ منه‪ ،‬وك َذل َ‬

‫ل تُب ْتَلَى ث ُم ّ تَكُونُ لهم ُ الع َاق ِب َة ُ)‪،‬‬


‫س ُ‬
‫ك الر ّ ُ‬
‫سنن الإلهية؛ وذلك في قول ه ِر َقلَ‪( :‬وك َذل َ‬
‫‪-‬يُبيِّنُ الحديثَ قضية َ ال ّ‬
‫ل وفقهها من ميراث أنوار الأنبياء الت ّي لديهم‪.‬‬
‫نمت إلى ه ِر َق َ‬
‫وهذه الكلمة ُ العجيبة قد ْ‬

‫‪- 061 -‬‬


‫ل الل ّه ِ ‪-‬صَل ّى الل ّه ُ عليه‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن خب ّاب بن الأرت ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قالَ‪َ ( :‬‬
‫شكَو ْن َا إلى ر َسو ِ‬
‫ل‬
‫ل الـكَعْبَة ِ‪ ،‬قُل ْنَا له‪ :‬أل َا تَسْتَنْصِر ُ لَنَا؟ أل َا ت َ ْدع ُو الل ّه َ لَنَا؟ قالَ‪" :‬كانَ الر ّج ُ ُ‬ ‫وسل ّم َ‪ -‬وهو م ُت َو ّ َِسدٌ بُرْدَة ً له في ظِ ّ ِ‬
‫ص ّده ُ‬‫سه ِ فيُش َقّ باث ْنَتَيْنِ‪ ،‬وما ي َ ُ‬
‫ض ُع علَى ر َأْ ِ‬
‫ل ف ِيه ِ‪ ،‬في ُج َاء ُ بالمنِْش َارِ في ُو َ‬
‫يحْف َر ُ له في الأ ْرضِ‪ ،‬في ُجْ ع َ ُ‬ ‫ف ِيم َن قَبْلـَك ُ ْم ُ‬
‫ك عن دِينِه ِ‪ ،‬والل ّه ِ‬
‫ص ّده ُ ذل َ‬
‫ب‪ ،‬وما ي َ ُ‬
‫ص ٍ‬
‫َط بأ ْمش َاطِ الحَدِيدِ ما د ُونَ لَحْمِه ِ م ِن ع َ ْظ ٍم أ ْو ع َ َ‬
‫ك عن دِينِه ِ‪ ،‬ويُمْش ُ‬
‫ذل َ‬
‫اف إلّا الل ّهَ‪ ،‬أوِ الذِّئ ْبَ علَى غ َنَمِه ِ‪،‬‬
‫حضْرَمَو ْتَ ‪ ،‬لا يَخ َ ُ‬
‫صنْع َاء َ إلى َ‬
‫لَيُتِمّنّ هذا الأمْرَ‪ ،‬حت ّى يَسِير َ الر ّاكِبُ م ِن َ‬
‫ولـَكِن ّك ُ ْم تَسْتَعْجِلُونَ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬

‫سنن الإلهية‪ ،‬ليس باللفظ المباشر‪ ،‬ولـكن بربط الن ّب ِيّ ﷺ لحال المؤمنين في زمنه‬
‫‪-‬يؤكد ُ الحديثُ على باب ال ّ‬
‫ل م َن‬
‫وحال م َن سبقوهم من المؤمنين؛ فإ ّنهم يبتلون كما ابتُلي َ م َن سبقوهم على هذا الطر يق؛ فليس هم أ ّو ُ‬
‫ن ذلك من سُنَنِ الل ّه الجار ية التي لا تتغي ّر ولا تتب ّدل‪.‬‬
‫يصابون على هذا الطر يق بل حصل ذلك لغيرهم؛ لأ ّ‬

‫سلام‪ -‬ولمَن معهم من المؤمنين الثابتين على‬


‫ن العاقبة َ تكونُ لأنبياء الل ّه ‪-‬عليهم الصّ لاة وال ّ‬
‫‪-‬ثم بي ّنَ الن ّبيّ ﷺ أ ّ‬
‫ل لأبي سفيان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪.-‬‬
‫دينهم‪ ،‬وقد جاء َ ذلك معنا في مقولة ه ِر َق َ‬

‫سنَنِ الإلهي ّة في‬


‫كانت سيرة ُ الن ّب ِيّ ﷺ كل ّها موافقة ً لل ّ‬
‫ْ‬ ‫الشاهد الأخير‪ :‬قال المُصن ّ ُِف ‪-‬حفظه الل ّه‪( :-‬وقد‬
‫الد ّعوة‪ ،‬وإقامة الحجُ ّة‪ ،‬وم ُدافعة الباطل‪ ،‬والابتلاء‪ ،‬والصّ بر على أذى الـكُ ّفار‪ ،‬ثم ّ جهادهم‪ ،‬ثم ّ إهلاكهم‪،‬‬
‫ح)‪.‬‬
‫حت ّى جاء َ نصر ُ الل ّه والفت ُ‬

‫سن َن الإلهية في‬


‫خ أحمد السيد حفظه الل ّه‪ -‬إلى أن ّه ليس بالضرورة أ ْن تبحثَ عن ال ّ‬
‫‪-‬يُشير ُ المُصن ّ ُِف ‪-‬وهو الشي ُ‬
‫سن َن‪ ،‬وفي ذلك‬
‫أتت كل ّها موافقة ً لهذه ال ّ‬
‫ن سيرة َ الن ّب ِيّ ﷺ ْ‬
‫مجر ّد مجموعة معينة من النصوص والشواهد‪ ،‬إ ْذ أ ّ‬
‫سنن الإلهية‪.‬‬ ‫ل السيرة ِ الن ّبو ي ّة؛ فهو يع ّد من أهم المصادر في معرفة ال ّ‬
‫ن تأمّ َ‬
‫توجيه ٌ إلى أ ّ‬

‫‪- 060 -‬‬


‫ن العاقبة ِ والتمكينِ بعد َ البلاء ِ‬
‫س ُ‬
‫ح ْ‬
‫المحاضرة السابعة والعشرون‪ُ :‬‬
‫ن العاقبة ِ والتمكينِ بعد َ البلاء ِ‬
‫س ِ‬
‫ح ْ‬
‫باب في ُ‬
‫ٌ‬
‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫ن وتصو ّرِ طر يق الإصلاح من الثبات على دين الل ّه وتبليغه‪ ،‬وما في ذلك من‬
‫‪-‬يأتي هذا البابُ في بيا ِ‬
‫بعض المفاهيم المتعل ِّقة بس ُن ّة ِ الل ّه‬
‫َ‬ ‫ح‬
‫مواجهة أعداء الل ّه والصّ بر على أذاهم؛ إ ْذ من الضروري أ ْن يتصور َ المُصل ُ‬
‫سن َنَ الل ّه؛ فإن ّه ق ْد يق ُع في حالة ٍ من‬
‫ن الذي لا يفهم ُ ُ‬
‫‪-‬تعالى‪ -‬في أوليائه الذين يحملون دينه ويبلغونه‪ ،‬والمؤم ُ‬
‫سن َنِ الل ّه‪.‬‬
‫اليأس والإحباط أو الانتكاس والفتور بسبب عدم ف ِ ْقه ِه ِ وإدراك ِه ِ ل ّ‬

‫ن صفاتها الأساسية‪ :‬الثباتُ‬


‫سن َن الإلهية الت ّي من شأ ِ‬
‫ل اتصال ًا وثيقًا بال ّ‬
‫ن هذا البابَ متص ٌ‬
‫‪-‬ولذلك؛ فإ ّ‬
‫والاستمرار ية‪ ،‬وعدم التبديل أو التحو يل‪.‬‬

‫سنَنُ تأتي على نوعين‪:‬‬


‫ق سُنَنُ الل ّه بأمو ٍر مختلفة؛ وهذه ال ّ‬
‫‪-‬تتعل ّ ُ‬
‫ق بنظام الـكون وتركيبه؛ كتعاقب الليل والنهار‪ ،‬وإرسال‬
‫سنَن الـكونية‪ :‬وهي آيات الل ّه التي تتعل ّ ُ‬
‫‪ -۱‬ال ّ‬
‫سنَنُ في القرآن عادّة ً كلمة (آيات)‪ ،‬كما‬
‫ق على هذه ال ّ‬
‫الر ياح‪ ،‬وسقوط الإمطار‪ ،‬والزلازل وغير ذلك‪ ،‬و يُطل ُ‬
‫ق و َفِي أنفُسِه ِ ْم حَت ّى يَتَبَي ّنَ لَه ُ ْم أن ّه ُ الْحَقّ "‪.‬‬
‫قال تعالى‪" :‬سَنُر ِيه ِ ْم آي َاتنَِا فِي الْآفَا ِ‬

‫يجريها الل ّه على عباده؛ وتنقسم إلى‪:‬‬


‫سنن التي ُ‬
‫سنَن الشرعية‪ :‬وهي ال ّ‬
‫‪ -۲‬ال ّ‬
‫ن متعل ِّقة ٌ بعامّة البشر؛ ومنها‪ :‬الخلق والرزق والموت وغير ذلك‪.‬‬
‫سن َ ٌ‬
‫أ‪ُ -‬‬
‫ن متعل ِّقة ٌ‬
‫سن َ ٌ‬
‫ن متعل ِّقة ٌ بالظالمين والمفسدين‪ ،‬وهناك ُ‬
‫سن َ ٌ‬
‫بفئات معينة ٍ من البشر؛ فهناك ُ‬
‫ٍ‬ ‫ن متعل ِّقة ٌ‬
‫ب‪ -‬سُن َ ٌ‬
‫بالصالحين والمصلحين‪.‬‬

‫سن َنَ في مواضع كثيرة ٍ من كتابه؛ ومن ذلك‪ :‬في سورة آل عمران بعد َ‬ ‫‪-‬يُبيِّنُ لنا الل ّه ُ ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬هذه ال ّ‬
‫سنَنَ الإلهية َ كثي ًرا ما ت ُذك َر ُ‬
‫ن ال ّ‬
‫ح" إذ أ ّ‬
‫أ ْن ذكر َ الل ّه م ُصابَ وابتلاء َ المؤمنين يوم َ أح ُدٍ "م ِن بَعْدِ م َا أصَابَهُم ُ الْقَر ْ ُ‬
‫سن ّة ٍ إلهية ٍ؛ ومن ذلك‪ :‬قوله تعالى في‬
‫حق والباطل‪ ،‬ذكر َ الل ّه ‪-‬بعد ذلك‪ -‬أكثر َ من ُ‬
‫في سياق الصراع بينَ ال ّ ِ‬
‫س‬
‫ك الْأي ّام ُ نُد َاوِلُهَا بَيْنَ الن ّا ِ‬
‫ح مِّثْلُه ُ ۚ و َتِل ْ َ‬
‫ح فَق َ ْد م َّس الْقَوْم َ قَر ْ ٌ‬
‫سك ُ ْم قَر ْ ٌ‬
‫بداية الحديث عن غزوة أحُدٍ‪ِ " :‬إن يَمْس َ ْ‬
‫ظالِمِينَ"‪ ،‬وهذه سُن ّة ٌ إلهية ٌ‪ ،‬وقوله تعالى في ختام‬ ‫ِب ال ّ‬ ‫يح ّ‬ ‫ن آم َن ُوا و َي َ ّتخِذ َ م ِنك ُ ْم شُهَد َاء َ ۗ و َالل ّه ُ ل َا ُ‬
‫و َلِيَعْلَم َ الل ّه ُ ال ّذ ِي َ‬

‫طي ّ ِِب وَم َا ك َانَ الل ّه ُ‬


‫ن ال ّ‬
‫ن الل ّه ُ لِيَذَر َ ال ْمُؤْم ِنِينَ عَلَى م َا أنتُم ْ عَلَيْه ِ حَت ّى يَمِيز َ الْخبَ ِيثَ م ِ َ‬ ‫الحديث عنها‪" :‬مّا ك َا َ‬
‫يج ْت َبِي م ِن رّسُلِه ِ م َن يَش َاء ُ"‪ ،‬وهذه سُن ّة ٌ إلهية ٌ‪.‬‬
‫ْب و َلََٰكِنّ الل ّه َ َ‬
‫لِيُطْلِعَك ُ ْم عَلَى الْغَي ِ‬

‫‪- 062 -‬‬


‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ل عنوا ِ‬
‫تفصي ُ‬
‫سن َن الإلهية الت ّي‬ ‫ن العاقبة ِ والتمكينِ بعد َ البلاء ِ)‪ ،‬هذه ُ‬
‫سن ّة ٌ من ال ّ‬ ‫س ِ‬
‫ح ْ‬
‫باب في ُ‬
‫‪-‬قال المُصن ِّف ‪-‬حفظه الل ّه‪ٌ ( :-‬‬
‫ق‬
‫ن من سُن ّة الل ّه أ ْن يكون طر ي ُ‬
‫يُجريها الل ّه على عباده المُصلحين الذين يحملون ه ّم دينه ويبلغونه؛ ذلك أ ّ‬
‫هؤلاء المُصلحين إلى التمكين طر يق ًا محفوفًا بالابتلاءات‪ ،‬وليس طر يق ًا مسهّل ًا سالمًا من المصائب والمحن‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫مقاصد ُ‬
‫‪ -۱‬العلم ُ بالل ّه ِ‪ :‬إ ْذ من جملة العلم بالل ّه‪ :‬العلم ُ والمعرفة ُ ببعض سُنَنه؛ سواء ٌ في أحوال الـكون أو في أحوال‬
‫العباد‪.‬‬
‫ح بالصّ بر ِ‪ ،‬ويتهيأ للبلاء ِ‪ :‬فلا ييأس أو يفتر لما يراه ُ من المصاعب والابتلاءات الت ّي‬
‫‪ -۲‬أ ْن يتزود َ المُصل ُ‬
‫يُصابُ بها المسلمون‪ ،‬وأ ْن يستبشر َ خير ًا في عاقبة ذلك البلاء بالتمكين والنصر والاستخلاف‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬

‫ي م َن ن ّش َاء ُ‬
‫ل وَظَن ّوا أ ّنه ُ ْم ق َ ْد كُذِبُوا ج َاءَه ُ ْم نَص ْر ُن َا فَن ّ ُِج َ‬
‫س ُ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬حَت ّى ِإذ َا اسْ تَي ْأ َ‬
‫س الر ّ ُ‬
‫ن الْقَو ْ ِم ال ْم ُجْ رِم ِينَ"‪:‬‬
‫وَل َا ي ُرَدّ ب َأْ سُن َا ع َ ِ‬

‫سلام‪ -‬أنموذج ًا لس ُن ّة التمكين بعد َ البلاء الشديد؛ إذ كان البلاء ُ‬


‫سف ‪-‬عليه ال ّ‬ ‫جاءت هذه الآية ُ في سورة ي ُو ُ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ن نهايت َه ُ ستؤول إلى‬
‫البشري أ ّ‬
‫ِّ‬ ‫سلام‪ -‬لا يُتوق ُع بحسابات التحليل‬ ‫مر به نبي ُ الل ّه يُوسُف ‪-‬عليه ال ّ‬
‫الذي ّ‬
‫س ل َا يَعْلَم ُونَ"؛ وسببُ ذلك‬
‫ل الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪" :-‬و َالل ّه ُ غَال ٌِب عَلَى أ ْمرِه ِ و َلََٰكِنّ أكْ ثَر َ الن ّا ِ‬
‫التمكين؛ ولـكن قا َ‬
‫أمران‪:‬‬
‫ش ّده ُ‪.‬‬
‫سلام‪ -‬في بلاء البئر‪ ،‬حت ّى أ ْن بل َغ أ ُ‬
‫ل زمان هذا البلاء بداية ً من صِغرِ يُوسُف ‪-‬عليه ال ّ‬ ‫الأوّل‪ :‬طو ُ‬
‫ل في أخرى؛ ابتداء ً من‬ ‫ج من صورةٍ إلا ويدخ َ‬ ‫الثانـي‪ :‬تنو ّع ُ صور هذا البلاء بلاء ً على إثر بلاءٍ؛ فما أ ْن يخر َ‬
‫حسد إخوته له وتدبيرهم لإلقائه في البئر‪ ،‬ثم ّ ابتلاء بيعه ليكونَ مملوك ًا للعزيز وامرأته بعد َ أ ْن كان حُر ًا‪ ،‬ثم ّ‬
‫بلاءات قهر ية ٌ ليس له فيها قدرة ٌ على المقاومة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ابتلاء مراودة إمرأة العزيز‪ ،‬ثم ّ ابتلاء السجن وما فيه‪ ،‬وكل ّها‬
‫فلا ي ُتوق ُع أ ْن تكونُ عاقبة ُ تلك الابتلاءات هو التمكين‪.‬‬

‫سن ّت َه ُ؛ وأراد َ أ ْن ي ُع ِز ّه ُ و ي ُعْل ِي َ‬


‫عت صورُه ُ‪ ،‬ثم ّ أمضى الل ّه ُ ُ‬
‫سلام‪ -‬وتنو ّ ْ‬
‫ل زمانُ الابتلاء على يُوسُف ‪-‬عليه ال ّ‬
‫‪-‬طا َ‬
‫ل وَظَن ّوا أ ّنه ُ ْم ق َ ْد كُذِبُوا‬
‫س ُ‬
‫س الر ّ ُ‬
‫ل ‪-‬تعالى‪ -‬بعد أ ْن ذكر َ قصت َه ُ‪" :‬حَت ّى ِإذ َا اسْ تَي ْأ َ‬
‫سلام‪ ،-‬فقا َ‬
‫كلمت َه ُ ‪-‬عليه ال ّ‬
‫صصِه ِ ْم عِبْرَة ٌ لّ ِأول ِي‬
‫ن الْقَو ْ ِم ال ْم ُجْ رِم ِينَ * لَق َ ْد ك َانَ فِي ق َ َ‬
‫ي م َن ن ّش َاء ُ َۖوَل َا ي ُرَدّ ب َأْ سُنَا ع َ ِ‬
‫ج َاءَه ُ ْم نَص ْر ُن َا فَن ّ ُِج َ‬
‫اب"‪.‬‬‫الْأل ْب َ ِ‬

‫‪- 063 -‬‬


‫ي م َن ن ّش َاء ُ"‪ :‬ليس خا ًّ ّ‬
‫صا‬ ‫ل وَظَن ّوا أ ّنه ُ ْم ق َ ْد كُذِبُوا ج َاءَه ُ ْم نَص ْر ُن َا فَن ّ ُِج َ‬
‫س ُ‬
‫س الر ّ ُ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬حَت ّى ِإذ َا اسْ تَي ْأ َ‬
‫سلام‪ ،-‬إن ّما هي عامّة ٌ في جميع الر ّسُل وم َن تبعهم في طر يق الإصلاح وحمل الد ِّين‬ ‫بنبي الل ّه يُوسُف ‪-‬عليه ال ّ‬
‫وتبليغه‪ ،‬فهذه آية ٌ تأسيسية ٌ لس ُن ّة الل ّه في ابتلاء المُصلحين العاملين لدينه؛ يبتليهم ابتلاء ً شديد َ البأس لتربيتهم‬
‫ل الواحد ُ منهم إلى‬
‫ق الأثر في الن ّفس حت ّى يص َ‬
‫ل الم ُ ّدة لاختبار صبرهم وجلدهم‪ ،‬وعمي َ‬
‫وتمحصيهم‪ ،‬وطو ي َ‬
‫ل إليها المُصلحون في طر يقهم‪.‬‬
‫ييأس فيها‪ ،‬وهذه المرحلة لا بُدّ أ ْن يص َ‬
‫َ‬ ‫مرحلة ٍ يكاد َ أ ْن‬

‫ل"‪ :‬فس ّرَه ُ كثير ٌ من المفسرين بأ ّنهم استيأسوا من إيمان أقوامهم بهم‪.‬‬
‫س ُ‬
‫س الر ّ ُ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬حَت ّى ِإذ َا اسْ تَي ْأ َ‬

‫اختلف فيه المفسرون؛ وذهبَ كثير ٌ منهم إلى أن ّه راج ٌع إلى أتباع‬
‫َ‬ ‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬و َظَن ّوا أ ّنه ُ ْم ق َ ْد كُذِبُوا"‪:‬‬
‫سل ‪.‬‬
‫أي‪ :‬أ ّنهم ظنوا أ ّنهم قد ك ُذِبوا فيما وع ِدوا فيه من الر ّ ُ‬
‫سل ؛ ْ‬
‫الر ّ ُ‬

‫ستْهُم ُ ال ْب َأْ سَاء ُ‬


‫ن خ َلَوْا م ِن قَبْل ِـك ُم َۖمّ ّ‬ ‫ل ال ّذ ِي َ‬‫سب ْتُم ْ أن ت َ ْدخ ُلُوا الْجن َ ّة َ و َلَم ّا ي َأْ تِك ُم مّث َ ُ‬ ‫ح ِ‬‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬أ ْم َ‬
‫ن نَصْر َ الل ّه ِ قَرِيبٌ "‪:‬‬ ‫ن آم َن ُوا مَع َه ُ م َت َى نَصْر ُ الل ّه ِ ۗأل َا ِإ ّ‬ ‫ل و َال ّذ ِي َ‬‫ل الر ّسُو ُ‬
‫و َالض ّر ّاء ُ وَز ُلْزِلُوا حَت ّى يَق ُو َ‬

‫ق بالأمراض والأسقام‪،‬‬
‫ق بالفقر وقلة ذات اليد‪ ،‬وقوله‪" :‬و َالض ّر ّاء ُ"‪ :‬يتعل ّ ُ‬
‫ستْهُم ُ ال ْب َأْ سَاء ُ"‪ :‬يتعل ّ ُ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬مّ ّ‬
‫ق بتسل ّط الأعداء والحروب‪.‬‬ ‫وقوله‪" :‬وَز ُلْزِلُوا"‪ :‬يتعل ّ ُ‬

‫أمر متكرر ٌ‬
‫ن أمرَ الابتلاء ٌ‬ ‫جاءت الآية ُ في بيان تنو ّع أشكال الابتلاء وصورِه ِ‪ ،‬و يُفهم ُ من سياق الآية‪ :‬أ ّ‬ ‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ن ما أنتم عليه‬
‫ن الل ّه َ يُخاطبُ المتأخرين من الأمم وهم أمّة مُحم ّدٍ ﷺ فيقول لهم‪ :‬أ ّ‬
‫ل ب ّسن َن الل ّه؛ إذ أ ّ‬
‫دائم ٌ متص ٌ‬
‫ل ما أصابَ م َن قبلـكم‬
‫من الاب تلاء والمصائب والمحن وما سينالـكم من أشكال البلاء المتنوعة‪ ،‬إن ّما هو مث ُ‬
‫سن َة الإلهية‪.‬‬
‫مم ّن حملوا رسالة الد ِّين وقاموا بتبليغ رسالات الل ّه‪ ،‬وهذا معنى ال ّ‬

‫ن دخول الجن ّة بغير الابتلاء بصنوفه وأشكاله‬


‫سب ْتُم ْ"‪ :‬فيه تبديد ٌ لوهم م َن يظنّ أن ّه يُمك ُ‬
‫ح ِ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬أ ْم َ‬
‫المتعددة والمتنوعة الت ّي ذكرها الل ّه في الآية؛ من الفقر وقلة ذات اليد والأمراض وبأس ومكر الأعداء وغير‬
‫ذلك‪.‬‬
‫أي بعد َ ثلاثة عشر عام ًا من‬
‫جاءت هذه الآية ُ في سورة البقرة المدنية ‪-‬نزلت في أوّل المرحلة المدنية‪ْ ،-‬‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ل الل ّغة‬
‫سب ْتُم ْ أن ت َ ْدخ ُلُوا الْجن َ ّة َ و َلَم ّا ي َأْ تِك ُم"‪ ،‬يقول أه ُ‬
‫ح ِ‬
‫البلاء الشديد في مكة‪ ،‬ثم يقول الل ّه ‪-‬تعالى‪ -‬لهم‪" :‬أ ْم َ‬
‫ن لفظة (لم ّا) تأتي لما يُن ْت َظر ُ وقوع ُه ُ؛ والمعنى‪ :‬أن ّه لم يأتكم البلاء ُ بعد ُ الذي أصابَ الذين من قبلـكم‪ ،‬وأن ّه ُ آتيكم‬
‫أ ّ‬
‫قريب‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عم ّا‬
‫ن آم َن ُوا مَع َه ُ م َت َى نَصْر ُ الل ّه ِ"‪ :‬يبي ّنُ حا َ‬
‫ل المؤمنين في مكة‪ ،‬كما جاء َ في‬ ‫ل و َال ّذ ِي َ‬
‫ل الر ّسُو ُ‬
‫‪-‬قوله تعالى‪" :‬حَت ّى يَق ُو َ‬
‫خباب بن الأرت ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬حين قال للن ّب ِيّ ﷺ‪( :‬أل َا تَسْتَنْصِر ُ لَنَا؟‪ ،‬أل َا ت َ ْدع ُو الل ّه َ لَنَا؟)‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫حديث‬
‫‪- 064 -‬‬
‫ل هذه المراحل (ثلاثة عشر عام ًا في مكة) من البلاء الشديد والصّ بر المُر؛ يأتي أيضًا قوله تعالى‪:‬‬
‫‪-‬ثم بعد َ ك ّ ِ‬
‫ساء و َالض ّر ّاء وَز ُلْزِلُوا"‪ ،‬وكذلك قوله تعالى‪" :‬و َلَنَب ْلُوَن ّك ُم ب ِشَيْء ٍ‬
‫ُ‬ ‫ستْهُم ُ ال ْب َأْ َ ُ‬
‫ن خ َلَو ْا م ِن قَبْل ِـك ُم َۖمّ ّ‬‫ل ال ّذ ِي َ‬ ‫"و َلَم ّا ي َأْ تِك ُم مّث َ ُ‬
‫ن للفرق بينَ تربية‬ ‫ن"‪ ،‬وفي هذا بيا ٌ‬
‫ات ۗ و َبَش ِ ّر ِ الصّ ابِر ِي َ‬
‫س و َالثمَّر َ ِ‬
‫ل و َالْأنف ُ ِ‬ ‫ن الْأمْوَا ِ‬ ‫ص مّ ِ َ‬‫وع و َن َ ْق ٍ‬‫ْف و َالْج ُ ِ‬‫ن الْخَو ِ‬ ‫مّ ِ َ‬
‫الن ّب ِيّ ﷺ وأصحابه‪ ،‬وبينَ التربية الت ّي تقوم ُ على إعطاء وعودٍ بالتبشيرات الزائفة الموهومة؛ أن ّه مت ّى التزم َ‬
‫وابتلاءات‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫حديات‬
‫ٌ‬ ‫مصاعب أو ت‬
‫ٌ‬ ‫ق الإستقامة والإصلاح =فإن ّه لن يواجه َه ُ‬
‫الإنسانُ طر ي َ‬

‫ل الل ّه ُ هذه الآية في بداية المرحلة المدنية الت ّى كان من أهم سماتها وعناوينها الـكبرى‪ :‬المغازي والجهاد‬ ‫‪-‬أنز َ‬
‫كانت الفائدة ُ من‬
‫ْ‬ ‫في سبيل الل ّه حت ّى اشتُه ِر َْت السيرة ُ النبو ي ّة ُ في كُت ُب التاريخ بكتاب (المغازي)‪ ،‬ولذا؛‬
‫كانت هذه الفائدة ُ متمثلة ً في قوله تعالى‪" :‬و َلَم ّا ر َأى‬
‫ْ‬ ‫نزول هذه الآية في المرحلة المدنية المختصة بالجهاد‪،‬‬
‫صد َقَ الل ّه ُ وَرَسُولُه ُ"‪.‬‬
‫حز َابَ قَالُوا هََٰذ َا م َا و َعَد َن َا الل ّه ُ وَرَسُولُه ُ و َ َ‬
‫ال ْمُؤْم ِن ُونَ الْأ ْ‬

‫س وقتادة‪:‬‬
‫ن عبا ٍ‬
‫حز َابَ "‪( :‬قال اب ُ‬
‫ن كثيرٍ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسير آية‪" :‬و َلَم ّا ر َأى ال ْمُؤْم ِن ُونَ الْأ ْ‬
‫‪-‬يقول الإمام ُ اب ُ‬
‫ستْهُم ُ‬
‫ن خ َلَو ْا م ِن قَبْل ِـك ُم َۖمّ ّ‬
‫ل ال ّذ ِي َ‬
‫سب ْتُم ْ أن ت َ ْدخ ُلُوا الْجنَ ّة َ و َلَم ّا ي َأْ تِك ُم مّث َ ُ‬
‫ح ِ‬
‫ي َعْن ُون قوله تعالى في سورة البقرة‪" :‬أ ْم َ‬
‫ن نَصْر َ الل ّه ِ قَرِيبٌ "؛ ْ‬
‫أي‪ :‬هذا‬ ‫ن آم َن ُوا مَع َه ُ م َت َى نَصْر ُ الل ّه ِ ۗأل َا ِإ ّ‬
‫ل و َال ّذ ِي َ‬
‫ل الر ّسُو ُ‬
‫الْب َأْ سَاء ُ و َالض ّر ّاء ُ وَز ُلْزِلُوا حَت ّى يَق ُو َ‬

‫صد َقَ الل ّه ُ‬


‫ما وعدنا الل ّه ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعق ُب ُه ُ النصر ُ القريبُ ؛ ولهذا قال‪" :‬و َ َ‬
‫وَرَسُولُه ُ")‪.‬‬

‫ل‬
‫ل قا َ‬
‫ن ه ِر َق َ‬
‫ن أبا سفيان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أخبر َه ُ أ ّ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن ابن عبا ٍ‬
‫س ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬أ ّ‬
‫ل تُب ْتَلَى ث ُم ّ تَكُونُ لهم ُ‬
‫س ُ‬
‫ك الر ّ ُ‬ ‫ن الحَر ْبَ سِ جَا ٌ‬
‫ل ودُوَلٌ‪ ،‬فَك َذل َ‬ ‫كيف كانَ ق ِتَالـُك ُ ْم إ ي ّاه ُ؟‪ ،‬ف َز َعَم ْتَ أ ّ‬
‫َ‬ ‫ك‬
‫له‪( :‬و َسَأل ْت ُ َ‬
‫الع َاق ِب َة ُ)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬

‫شا ِم‪ ،‬وكان‬


‫ن ‪-‬رَضِيَ الل ّه ُ عنه‪ -‬أن ّه بَي ْن َما كان في رِحْلة ِ ِتجارة ٍ ببِِلادِ ال ّ‬
‫سفْيا َ‬
‫ديث يَحكي أبو ُ‬
‫‪-‬في قصة هذا الح َ ِ‬
‫حو ْلَه‬
‫ل‪ ،‬و َ‬
‫وأصحابُه بِه ِر َق ْ َ‬
‫ْ‬ ‫سفْيانَ‬
‫ك الر ّو ِم يَطلُبُ م ُقابَلت َه‪ ،‬فاجتَم َ َع أبو ُ‬
‫ل م َل ِ ُ‬
‫ل إليه ه ِر َق ْ ُ‬
‫س َ‬
‫ل إسلام ِه‪ ،‬أ ْر َ‬
‫ذلك قب ْ َ‬
‫ل إلى تَرْجُمان ِه‪ ،‬فقال الت ّرج ُمانُ‪ :‬أي ّك ُم أقر َبُ ن َس َبًا بهذا‬
‫س َ‬
‫ل الد ّوْلة ِ‪ ،‬ث ُم ّ أدْناه ُم م ِنه‪ ،‬وأر َ‬
‫عُلماء ُ الن ّصار َى وكِبار ُ رِجا ِ‬
‫ق م ِن أخبارِه‪ ،‬وي َزيد َ م ِن م َعرفت ِه به‬
‫ل أن ّه أراد أن يَستوث ِ َ‬
‫ل ه ِر َق ْ َ‬
‫ل ال ّذي ي َزعُم ُ أن ّه نَب ّي؟‪ ،‬و يَظه َر ُ م ِن سؤا ِ‬
‫الر ّج ُ ِ‬
‫ن بَني هاش ِ ٍم وبَني أمي ّة َ أب ْناء ُ ع ُمومة ٍ‪،‬‬
‫سفْيانَ‪ :‬أنا أق ْر َبُهم نَس َبًا‪ ،‬وهو الواقِعُ؛ لأ ّ‬
‫ك‪ ،‬فأجابَ أبو ُ‬
‫كما هي عادة ُ الملو ِ‬
‫مجلِسِه لي َسألَه عن النب ِيّ صل ّى الل ّه ُ عليه وسل ّم َ‪.‬‬
‫سفْيانَ م ِنه‪ ،‬وأدْناه ُ م ِن َ‬
‫َقريب أبي ُ‬
‫ِ‬ ‫ل بت ِ‬
‫فأم َرَ ه ِر َق ْ ُ‬

‫ل تُب ْتَلَى ث ُم ّ تَكُونُ لهم ُ الع َاق ِب َة ُ)‪ :‬هذه كلمة ٌ عجيبة ٌ متعل ِّقة ٌ بس ُن ّة ٍ إلهية ٍ‪ ،‬وقد ف َه ِم َها‬
‫س ُ‬
‫ك الر ّ ُ‬
‫ل‪( :‬فَك َذل َ‬
‫‪-‬قول ه ِر َق ِ‬
‫ل وف َق ِه َها من آثار الن ّب ُو ّة التي لديهم‪.‬‬
‫ه ِر َق ُ‬

‫‪- 065 -‬‬


‫ل الل ّه ِ صَل ّى الل ّه ُ عليه وسل ّم َ‬
‫شكَو ْن َا إلى ر َسو ِ‬
‫خباب بن الأرت ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪َ ( :‬‬
‫ٍ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن‬
‫ل ف ِيم َن‬
‫ل الـكَعْبَة ِ‪ ،‬قُل ْنَا له‪ :‬أل َا تَسْتَنْصِر ُ لَنَا؟ أل َا ت َ ْدع ُو الل ّه َ لَنَا؟ قالَ‪" :‬كانَ الر ّج ُ ُ‬ ‫وهو م ُت َو ّ َِسدٌ بُرْدَة ً له في ظِ ّ ِ‬
‫ك‬
‫ص ّده ُ ذل َ‬ ‫سه ِ فيُش َقّ باث ْنَتَيْنِ‪ ،‬وما ي َ ُ‬
‫ض ُع علَى ر َأْ ِ‬
‫ل ف ِيه ِ‪ ،‬في ُج َاء ُ بالمنِْش َارِ في ُو َ‬
‫يحْف َر ُ له في الأ ْرضِ‪ ،‬في ُجْ ع َ ُ‬ ‫قَب ْلـَك ُ ْم ُ‬
‫ك عن دِينِه ِ‪ ،‬والل ّه ِ لَيُتِمّنّ‬
‫ص ّده ُ ذل َ‬
‫َب‪ ،‬وما ي َ ُ‬
‫َط بأ ْمش َاطِ الحَدِيدِ ما د ُونَ لَحْمِه ِ م ِن ع َ ْظ ٍم أ ْو عَص ٍ‬
‫عن دِينِه ِ‪ ،‬ويُمْش ُ‬
‫اف إلّا الل ّهَ‪ ،‬أوِ الذِّئ ْبَ علَى غ َنَمِه ِ‪،‬‬
‫حضْرَمَو ْتَ ‪ ،‬لا يَخ َ ُ‬
‫صنْع َاء َ إلى َ‬
‫هذا الأمْرَ‪ ،‬حت ّى يَسِير َ الر ّاكِبُ م ِن َ‬
‫ولـَكِن ّك ُ ْم تَسْتَعْجِلُونَ")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬
‫نقتبس من خ ُلاصاتها ما يلي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫‪-‬في هذا الحديث عدد ٌ من الع ِب َر العظيمة والفوائد الـكثيرة؛ ومما‬
‫ن لش ّدة ِ ما لاقى الن ّبيّ ﷺ وأصحاب َه ُ في المرحلة المكية من صور الابتلاء المتنوعة‪ ،‬وهذا يظهر ُ في قول‬
‫‪ -۱‬بيا ٌ‬
‫خباب بن الأرت ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬للن ّب ِيّ ﷺ‪( :‬أل َا تَسْتَنْصِر ُ لَنَا؟ أل َا ت َ ْدع ُو الل ّه َ لَنَا؟) من الوصول إلى حالة ٍ‬
‫من الصّ بر الشديد حت ّى كاد َ أ ْن ينفد َ ما في قلوبهم من هذا الصّ بر‪.‬‬

‫‪ -٢‬أهمية ُ قصص وأحوال والأنبياء والصالحين في توليد حالة الثبات في الأزمات المتجددة؛ كما قال الل ّه ‪-‬‬
‫كف َر ُوا‬
‫ن َ‬
‫ل ال ّذ ِي َ‬
‫ل م َا نُثَب ِّتُ بِه ِ ف ُؤَادَك َ"‪ ،‬وقال تعالى‪" :‬و َقَا َ‬ ‫ك م ِنْ أنبَاء ِ الر ّ ُ‬
‫س ِ‬ ‫تعالى‪ -‬لنبيه ﷺ‪" :‬وَك ًُّل ّا ن ّق ّ‬
‫ُص عَلَي ْ َ‬
‫ك لِنُثَب ِّتَ بِه ِ فُؤَادَك َ"؛ والمعنى‪ :‬هو تثبيتُ فؤاد الن ّب ِيّ ﷺ بما في القرآن‬
‫حدَة ً ۚكَذََٰل ِ َ‬
‫ل عَلَيْه ِ الْقُر ْآنُ جُم ْلَة ً و َا ِ‬
‫لَوْل َا نُز ِّ َ‬
‫ابتلاءات‪ ،‬ولذلك؛ قال الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪ -‬في سورة الأحقاف لنبيه ﷺ‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫مروا به من‬ ‫من قصص الأنبياء وما ّ‬
‫ك فَصَبَر ُوا‬
‫ل مّ ِن قَبْل ِ َ‬
‫س ٌ‬
‫ل"‪ ،‬وقال تعالى في سورة الأنعام‪ " :‬و َلَق َ ْد كُذِّب َْت ر ُ ُ‬
‫س ِ‬
‫ن الر ّ ُ‬
‫"فَاصْ بِرْ كَمَا صَبَر َ أولُو الْعَز ْ ِم م ِ َ‬
‫ات الل ّه ِ ۚو َلَق َ ْد ج َاءَك َ م ِن ن ّب َِإ ال ْمُرْسَلِينَ"‪.‬‬
‫ل لِكَل ِم َ ِ‬
‫عَلَى م َا كُذِّبُوا و َأوذ ُوا حَت ّى أت َاه ُ ْم نَصْر ُن َا ۚوَل َا م ُب َ ّدِ َ‬

‫ل لم َن قبلهم من الثابتين على الد ِّين‪ ،‬وهذا ي ُذك ِّر ُ بما‬


‫‪-‬وفي الحديث‪ :‬يُصبِّر ُ الن ّبيّ ﷺ خباب ًا وم َن معه بما حص َ‬
‫شي َع‬
‫بعض الصحابة ‪-‬رضوان الل ّه عليهم‪ -‬بعدما أ ِ‬ ‫ق بغزوة أح ُدٍ؛ لم ّا فر ّ ُ‬
‫ذكر َه ُ الل ّه ُ في سورة آل عمران فيما يتعل ّ ُ‬
‫ن كَث ِير ٌ"‪ ،‬وفي‬
‫ل مَع َه ُ رِ ب ّيِ ّو َ‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬فقال الل ّه ‪-‬تعالى‪ -‬تعليق ًا على هذا الحدث‪" :‬وَك َأي ِّن مّ ِن ن ّبِ ٍ ّي قَات َ َ‬ ‫مقت ُ‬
‫ل الل ّه ِ وَم َا ضَعُف ُوا وَم َا اسْ تَك َانُوا‬
‫ل مَع َه ُ رِ ب ّيِ ّونَ كَث ِير ٌ فَمَا و َه َن ُوا لم َِا أصَابَه ُ ْم فِي سَب ِي ِ‬
‫قراءة ٍ‪" :‬وَك َأي ِّن مّ ِن ن ّبِ ٍ ّي ق ُت ِ َ‬
‫ن"‪.‬‬
‫ِب الصّ ابِر ِي َ‬
‫يح ّ‬
‫و َالل ّه ُ ُ‬
‫ل‪ -‬إن ّما عاتبَ بهذه الآية والآيات‬ ‫عز وج ّ‬ ‫ن الل ّه َ ‪ّ -‬‬ ‫ن جرير ٍ الطبري ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره‪( :‬أ ّ‬ ‫‪-‬قال الإمام ُ اب ُ‬
‫ن ج َاهَد ُوا مِنْك ُ ْم" الذين انهزموا يوم أح ُد‪،‬‬‫سب ْتُم ْ أ ْن ت َ ْدخ ُلُوا الْجنَ ّة َ و َلَم ّا يَعْلَم ِ الل ّه ُ ال ّذ ِي َ‬
‫ح ِ‬
‫التي قبلها من قوله‪" :‬أ ْم َ‬
‫ل‪ .‬فعذلهم الل ّه على فرارهم وتركهم القتال فقال‪:‬‬
‫ن محمدًا قد ق ُت ِ َ‬
‫ح‪ :‬إ ّ‬
‫وتركوا القتال‪ ،‬أو سمعوا الصائح َ يصي ُ‬
‫ل‪ ،‬أ ّيها المؤمنون‪ ،‬ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم؟‪ ،‬ثم أخبرهم عم ّا كان من‬
‫أفائن ماتَ م ُحم ّدٌ أو ق ُت ِ َ‬
‫ل الفضل والعلم من أتباع الأنبياء قبلـكم‬
‫ل كثيرٍ من أتباع الأنبياء قبلهم‪ ،‬وقال لهم‪ :‬هل ّا فعلتم كما كان أه ُ‬
‫فع ِ‬

‫‪- 066 -‬‬


‫ل نبيهم =من المضي على منهاج نبيهم‪ ،‬والقتال على دينه أعداء َ دين الل ّه‪ ،‬على نحو ما كانوا‬ ‫يفعلونه إذا ق ُت ِ َ‬
‫يضعف الذين كانوا قبلـكم من أهل العلم والبصائر من أتباع‬
‫ِ‬ ‫يقاتلون مع نبيهم‪= ،‬ولم تهنوا ولم تضعفوا‪ ،‬كما لم‬
‫ل نبيهم‪ ،‬ولـكنهم صَبروا لأعدائهم حت ّى حكم َ الل ّه بينهم وبينهم)‪.‬‬
‫الأنبياء إذا ق ُت ِ َ‬

‫‪ -‬وفي هذا البيان توجيه ٌ للمؤمن الحر يص على الثبات على أمر دينه وطر يق الإصلاح أ ْن يعتني َ بالقراءة‬
‫والبحث والتدار ُس للقصص الصحيحة الثابتة عن الأنبياء وسِيَر ِ الصالحين؛ وأهمها ما ورد َ في القرآن والس ُن ّة؛‬
‫فهي من أعظم أسباب الثبات‪.‬‬

‫ن سُن ّة َ الطغاة والمجرمين من محاربي الد ِّين وطر يق الإصلاح واحدة ٌ؛ فهم على نفس‬
‫‪ -٣‬من فوائد الحديث‪ :‬أ ّ‬
‫ن لَوْل َا‬
‫ن ل َا يَعْلَم ُو َ‬
‫ل ال ّذ ِي َ‬
‫ل والط ُر ُقُ ؛ كما قال تعالى في سورة البقرة‪" :‬و َقَا َ‬
‫اختلفت الوسائ ُ‬
‫ْ‬ ‫القلوب والأفكار وإ ْن‬
‫ل قَو ْلِه ِ ْم ۘ تَش َابَه َْت قُلُو بُه ُ ْم"‪ ،‬وأيضًا قال تعالى في‬ ‫ن م ِن قَبْلِه ِم مِّث ْ َ‬
‫ل ال ّذ ِي َ‬‫ك قَا َ‬ ‫يُكَل ِّمُنَا الل ّه ُ أ ْو ت َأْ تِينَا آيَة ٌ ۗ كَذََٰل ِ َ‬
‫صو ْا ب ِه ِ ۚ بَلْ ه ُ ْم‬
‫ن * أتَوَا َ‬
‫مج ْن ُو ٌ‬
‫حر ٌ أ ْو َ‬
‫ل ِإلّا قَالُوا سَا ِ‬
‫ن م ِن قَب ْلِه ِم مّ ِن رّسُو ٍ‬ ‫ك م َا أتَى ال ّذ ِي َ‬ ‫سورة الذار يات‪" :‬كَذََٰل ِ َ‬
‫ن هذا‬ ‫قَوْم ٌ طَاغ ُونَ"؛ فحينما يرى الإنسانُ حالة ً من الفساد الشرسة في محاربة الد ِّين والمصلحين‪ ،‬فلا يظنّ أ ّ‬
‫ٍ‬
‫انقطاع ولا‬ ‫ف ولا‬‫مرة ٍ‪ ،‬وإن ّما هذا من سُن ّة التدافع والابتلاء الت ّي يُجريها الل ّه على عباده بلا توق ّ ٍ‬
‫ل ّ‬‫يحدثُ لأوّ َ‬
‫ل‪.‬‬
‫تغييرٍ ولا تبدي ٍ‬
‫ن هذا الحديثَ من دلائل الن ّب ُو ّة؛ فقد ذكرَه ُ الن ّبيّ ﷺ في مرحلة ٍ مبكرة ٍ في مكة‪،‬‬
‫‪ -٤‬ومن فوائد الحديث‪ :‬أ ّ‬
‫ض الواقع؛ ومع ذلك يُبش ِّر ُ بتمام أمر الد ِّين؛ فيقول ﷺ‪:‬‬
‫ولم تكنْ فيها بوادر ُ للنصر ‪ ،‬فلا يوجد ُ مستندٌ في أر ِ‬
‫ل في ذلك فيقول ﷺ‪" :‬والل ّه ِ لَيُتِمّنّ هذا الأمْرَ‪ ،‬حت ّى يَسِير َ الر ّاكِبُ م ِن‬ ‫"والل ّه ِ لَيُتِمّنّ هذا الأمْرَ"‪ ،‬ثم ي ُ ِّ‬
‫فص ُ‬
‫اف إلّا الل ّه َ‪ ،‬أوِ الذِّئ ْبَ علَى غ َنَمِه ِ"؛ وفي هذا دلالة ٌ على حالة ٍ متق ّدِمة ٍ في‬‫حضْرَمَو ْتَ ‪ ،‬لا يَخ َ ُ‬
‫صنْع َاء َ إلى َ‬ ‫َ‬
‫باب الأمن والاستقرار‪.‬‬
‫استت ِ‬

‫ل الل ّه ِ صَل ّى الل ّه ُ عَلَيْه ِ‬


‫خباب بن الأرت ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬ه َاجَرْن َا م َ َع رَسُو ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن‬
‫شي ْئًا ‪ -‬مِنْه ُ ْم م ُصْ ع َبُ‬ ‫جر ُن َا عَلَى الل ّهِ‪ ،‬فمَ ِن ّا م َنْ م َاتَ و َل َ ْم ي َأْ ك ُلْ م ِنْ أ ْ‬
‫جرِه ِ َ‬ ‫ِس وَجْه َ الل ّه ِ تَع َالَى‪ ،‬ف َو َق َ َع أ ْ‬
‫سل ّم َ نلَ ْتَم ُ‬
‫وَ َ‬
‫َت لَه ُ ثَم َرَتُه ُ فَه ُو َ يَهْدِبُهَا)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬
‫ن ع ُمَيْرٍ‪ ،‬وَم ِن ّا م َنْ أي ْنَع ْ‬
‫بْ ُ‬

‫ح الل ّه ُ عليهم من الفتوحات وما ترت ّبَ عليها من‬ ‫أي‪ :‬يقطف ُها و يجنيها؛ و ي ُقصد ُ بذلك ما فت َ‬ ‫‪-‬قوله‪( :‬يَهْدِبُهَا)‪ْ :‬‬
‫ت أيام ُ البلاء‬
‫سِعة والر ّخاء بعدما تصر ّم َ ْ‬
‫ل إلى العافية وال ّ‬
‫الخيرات والغنى بعد َ الفقر والذ ِّلة والفاقة‪ ،‬وتحو ّل الحا ِ‬
‫ش ّدة في المرحلة المكية‪ ،‬هو‬
‫ن خباب ًا الذي كان يشتكي البلاء وال ِّ‬
‫ت أيام ُ الش ّدة‪ ،‬واللطيف في الأمر‪ :‬أ ّ‬
‫ض ْ‬
‫وانق َ‬
‫سِعة والر ّخاء‪ ،‬وعلو كلمة المؤمنين‪.‬‬
‫نفس ُه ُ الذي يروي خبر َ العافية وال ّ‬

‫‪- 067 -‬‬


‫الحديث الرابع‪ :‬عن عدي بن حاتم ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قال‪( :‬بي ْنَا أن َا عِنْد َ الن ّب ِيّ صَل ّى الل ّه ُ عليه وسل ّم َ‪ ،‬إ ْذ أت َاه ُ‬
‫ل‪ ،‬فَق َالَ‪" :‬يا عَدِيّ ‪ ،‬هلْ ر َأي ْتَ الح ِيرَة َ؟"‪ ،‬قُلتُ ‪ :‬ل َ ْم‬ ‫سب ِي ِ‬
‫ل فَشَك َا إلَيْه ِ الف َاق َة َ‪ ،‬ث ُم ّ أت َاه ُ آخَر ُ فَشَك َا إلَيْه ِ ق َ ْط َع ال ّ‬
‫رَج ُ ٌ‬
‫ُوف بالـكَعْبَة ِ‪،‬‬
‫ن الح ِيرَة ِ حت ّى تَط َ‬
‫ل مِ َ‬
‫تح ِ ُ‬
‫ظع ِين َة َ تَرْ َ‬
‫ك حَيَاة ٌ‪ ،‬لَتَر َيَنّ ال ّ‬
‫تب َ‬
‫أر َه َا‪ ،‬وق ْد أن ْبِئ ْتُ عَنْهَا‪ ،‬قَالَ‪" :‬فإ ْن طَال َ ْ‬
‫سع ّر ُوا الب ِلَاد َ؟!‪" -‬ولئَ ِ ْن‬‫ن ق ْد َ‬
‫ن دُع ّار ُ طَيِ ّئٍ ال ّذ ِي َ‬
‫اف أحَدًا إلّا الل ّه َ" ‪-‬قُلتُ ف ِيما بَيْنِي وبيْنَ ن َ ْفس ِي‪ :‬فأي ْ َ‬ ‫لا تَخ َ ُ‬
‫ت‬ ‫ن هُرْم َُز‪ ،‬ولئَ ِ ْن طَال َ ْ‬
‫كسْر َى ب ِ‬
‫كسْر َى ب ِن هُرْم َُز؟ قَالَ‪ِ " :‬‬ ‫كسْر َى"‪ ،‬قُلتُ ‪ِ :‬‬ ‫ك حَيَاة ٌ لَتُفْتَحَنّ كُن ُوز ُ ِ‬
‫تب َ‬ ‫طَال َ ْ‬
‫يجِد ُ أحَدًا يَقْبَلُه ُ‬
‫ك ّفِه ِ م ِن ذ َه ٍَب أ ْو ف ِضّ ة ٍ‪ ،‬ي َ ْط لُبُ م َن يَقْبَلُه ُ منه‪ ،‬فلا َ‬
‫ج م ِلْ ء َ َ‬
‫يخْرِ ُ‬
‫ل ُ‬
‫ك حَيَاة ٌ‪ ،‬لَتَر َيَنّ الر ّج ُ َ‬
‫ب َ‬
‫ك ر َسول ًا‬ ‫جم ُ له‪ ،‬فَلَيَق ُولَنّ له‪ :‬أل َ ْم أبْع ْ‬
‫َث إلَي ْ َ‬ ‫ن يُتَرْ ِ‬
‫وليس بي ْن َه ُ وبي ْن َه ُ تَرْج ُمَا ٌ‬
‫َ‬ ‫منه‪ ،‬ولَيَلْق َي َ ّن الل ّه َ أحَدُك ُ ْم يَوم َ يلَْق َاه ُ‪،‬‬
‫فيُبَلِّغَكَ؟ في َقولُ‪ :‬بلََى‪ ،‬في َقولُ‪ :‬أل َ ْم أ ْعط ِ َ‬
‫ك م َال ًا وأف ْضِ لْ عَلَيْكَ؟ في َقولُ‪ :‬بلََى‪ ،‬فَيَنْظ ُر ُ عن يَمِينِه ِ فلا ي َر َى إلّا‬
‫ل عَدِيّ ‪ :‬سَمِعْتُ النبيّ صَل ّى الل ّه ُ عليه وسل ّم َ يقولُ‪" :‬ات ّق ُوا الن ّار َ‬
‫جهَن ّم َ"‪ .‬قَا َ‬
‫جهَن ّم َ‪ ،‬ويَنْظ ُر ُ عن يَس َارِه ِ فلا ي َر َى إلّا َ‬
‫َ‬
‫ُوف‬
‫ن الح ِيرَة ِ حت ّى تَط َ‬
‫ل مِ َ‬
‫تح ِ ُ‬
‫ظع ِين َة َ تَرْ َ‬
‫ل عَدِيّ ‪ :‬ف َرَأي ْتُ ال ّ‬
‫ش ّقة َ تَم ْرَة ٍ فَبِكَل ِمَة ٍ طَي ِّبَة ٍ"‪ .‬قَا َ‬ ‫ولو ب ِش ّقة ِ تَم ْرَة ٍ‪ ،‬فم َن ل َ ْم َ‬
‫يج ِ ْد ِ‬
‫ن ما‬
‫ت بك ُ ْم حَيَاة ٌ‪ ،‬لَتَرَو ُ ّ‬
‫كسْر َى ب ِن هُرْم َُز‪ ،‬ولئَ ِ ْن طَال َ ْ‬
‫ح كُن ُوز َ ِ‬‫ن اف ْتَت َ َ‬‫كن ْتُ ف ِيم َ ِ‬
‫اف إلّا الل ّهَ‪ ،‬و ُ‬ ‫بالـكَعْبَة ِ‪ ،‬لا تَخ َ ُ‬
‫ك ّفِه ِ)‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ‪.‬‬ ‫ج م ِلْ ء َ َ‬ ‫يخْرِ ُ‬ ‫ل الن ّبيّ أبو الق َاس ِ ِم صَل ّى الل ّه ُ عليه وسل ّم َ‪ُ :‬‬
‫قَا َ‬

‫أي‪ :‬كيف تمُر ّ المَرأة ُ‬


‫طر يقِ‪ْ ،‬‬
‫طاع ُ ال ّ‬
‫أي‪ :‬المَرأة ُ في اله َود َِج‪ ،‬وقول‪( :‬دُع ّار ُ طَيِ ّئٍ )‪ :‬وهم ق ُ ّ‬
‫ظع ِين َة َ"‪ْ :‬‬
‫‪-‬قوله ﷺ "ال ّ‬
‫سادة ِ لي َحمي َه‪.‬‬
‫مر عليهم بغ َير ِ جِوا ٍر وع َهدٍ من أحدِ ال ّ‬
‫ق على م َن ّ‬
‫طر ي َ‬
‫م ِن طيِ ّئٍ غير َ خائفة ٍ وهم يَقط َعونَ ال ّ‬

‫خص‬
‫ج هذا الحديثُ تحتَ باب دلائل الن ّب ُو ّة‪ ،‬و يأتي أيضًا في سياق بيان التمكين بعد َ البلاء؛ إذ يلُ ّ ُ‬
‫‪-‬يندر ُ‬
‫وبلاءات وأيام ش ّدة ٍ؛ فيصبرون ويتقون‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ل‬
‫مروا به أحوا ٍ‬ ‫حياة َ الن ّب ِيّ ﷺ وصحابته ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬وما ّ‬
‫حت ّى أتم ّ الل ّه ُ دينه؛ فأنزل قوله تعالى‪" :‬الْيَوْم َ أكْ مَل ْتُ لـَك ُ ْم دِينَك ُ ْم و َأتْمَمْتُ عَلَيْك ُ ْم نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لـَكُم ُ ال ِْإسْ لَام َ‬
‫ت الابتلاءات في الأمّة؛ بدءًا من ارتداد عامّة جزيرة العرب إلى‬ ‫دِينًا"‪ ،‬فما لب ِثَ أ ْن تُوف ِ ّي َ الن ّبيّ ﷺ‪ ،‬ثم تج ّدد َ ْ‬
‫غير ذلك من الابتلاءات حت ّى وقتنا هذا‪ .‬وقد بل َغ الأمرُ تمام َه ُ في زمن الن ّب ِيّ ﷺ بتمام نزول الوحي واكتمال‬
‫الرسالة وعلو كلمة الد ِّين وظهوره على ما سواه من الادعاءات الباطلة‪ ،‬ودخول الن ّاس في دين الل ّه أفواج ًا‪،‬‬
‫بلغت البشارة الن ّبو ي ّة ذروتها عند َ فتح فارس والروم‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ثم ّ‬

‫الباب‪ :‬يؤص ُ‬
‫ل هذا البابُ للقاعدة الأساسية في فهم الابتلاءات‪ ،‬ومواقف الهزيمة والنصر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫خُـلاصة ُ‬
‫ل هذا‪ .‬وق ْد جاء َ هذا البابُ بمثابة التقدمة‬
‫والتبشير بالعاقبة والتمكين بعد الابتلاء‪ ،‬و بيان الح ِك َمِ الإلهية في ك ّ ِ‬
‫باب في المبشرات بالتمكين وصلاح أحوال المسلمين في آخر الزمان بعد َ‬ ‫والتوطئة والتمهيد للباب التالي وهو‪ٌ ( :‬‬
‫ق بمستقبل هذه الأمّة في آخر الزمان؛ لوجود المبشرات في صلاح‬
‫الشدائد والفتن)‪ ،‬وهذا البابُ متعل ّ ِ ٌ‬
‫أحوال المسلمين في هذه الحقبة‪.‬‬
‫‪- 068 -‬‬
‫ن‬
‫المحاضرة الثامنة والعشرون‪ :‬المُبشراتُ بالتمكينِ في آخر ِ الزما ِ‬
‫بعد َ الشدائدِ والفتنِ‬
‫ن‬
‫ل المسلمين في آخر ِ الزما ِ‬ ‫ِ‬
‫وصلاح أحوا ِ‬ ‫باب في الم ُبشراتُ بالتمكينِ‬
‫ٌ‬
‫بعد َ الشدائدِ والفتنِ‬

‫م ُق ّدِمة ٌ‪:‬‬
‫ن‬
‫‪-‬في هذا الباب حديثٌ ع ّما ستستقبل ُه ُ الأمّة م ِن الخيرِ‪ ،‬بعدما توالت عليها الابتلاءات والمصائب لقرو ٍ‬
‫طو يلة ٍ‪ ،‬حت ّى أصيبَ كثير ٌ من الن ّاس باليأس والإحباط تجاه َ هذا الواقع الأليم للأمّة وهذا خطأٌ‪ ،‬وقد‬
‫فصّ لتُ في بيان طر يقة التعامل مع مشكلة اليأس والإحباط في كتاب (بوصلة المصلح)؛ ومن ذلك‪:‬‬
‫ن هذه‬
‫بعض الن ّاس بأ ّ‬
‫ل من زمانها‪ ،‬بخلاف ما يظن ّه ُ ُ‬
‫ن لهذه الأمّة ِ جولة ٌ عظيمة ٌ فيما ي ُستقب ُ‬
‫الاستبشار ُ بأ ّ‬
‫تنهض من كبوتها‪.‬‬
‫َ‬ ‫الأمّة َ لن‬

‫بعض الن ّاس يتعاملون مع هذه النصوص المُبش ِّرة بشيء ٍ من المبالغة‪ ،‬فيتكئون‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫‪-‬وأيضًا من الخلل المنهجي‪ :‬أ ّ‬
‫والاستخلاف وعلو َ هذه الأمّة سيكونُ في آخر الزمان‪،‬‬
‫َ‬ ‫ن التمكينَ‬
‫و يعوِّلون عليها؛ أن ّه طالما ق ّدر الل ّه ُ ‪-‬تعالى‪ -‬أ ّ‬
‫ل العاملون أو للبذل والجهد والإصلاح في هذا الواقع‪ ،‬و يظنون أ ّنهم غير ُ مطالبين بالعمل‪،‬‬
‫ل إذ ًا لعَم َ ِ‬
‫فلا سبي َ‬
‫كانت تحديات الواقع‬
‫ْ‬ ‫وهذا خطأ ٌ ووهمٌ‪ ،‬وصوابُ ذلك هو الاقتداء ُ بالن ّب ِيّ ﷺ على طر يق الإصلاح مهما‬
‫ومشكلاته‪.‬‬

‫الباب‪:‬‬
‫ِ‬ ‫شواهد ُ‬
‫ض كَمَا‬
‫ات لَي َسْتَخْلِفَنّه ُ ْم فِي الْأ ْر ِ‬ ‫الآية الأولى‪ :‬قال تعالى‪" :‬و َعَد َ الل ّه ُ ال ّذ ِي َ‬
‫ن آم َن ُوا م ِنك ُ ْم و َعَم ِلُوا الصّ الِ ح َ ِ‬
‫خو ْفِه ِ ْم أمْنًا يَعْبُد ُونَنِي ل َا‬
‫كِن َ ّن لَه ُ ْم دِينَهُم ُ ال ّذ ِي ارْتَض َى لَه ُ ْم و َلَيُب َ ّدِلَنّه ُم مّ ِن بَعْدِ َ‬
‫ن م ِن قَبْلِه ِ ْم و َلي َم ُ َ ّ‬
‫ف ال ّذ ِي َ‬
‫اسْ تَخْل َ َ‬
‫سق ُونَ"‪:‬‬
‫ك هُم ُ الْف َا ِ‬
‫ك ف َأولََٰئ ِ َ‬
‫كف َر َ بَعْد َ ذََٰل ِ َ‬
‫شي ْئًا وَم َن َ‬
‫يُشْرِكُونَ بِي َ‬

‫صة ٌ بزمن الن ّب ِيّ ﷺ فحسب‪ ،‬ومن شواهد ذلك‪:‬‬


‫جاءت هذه الآية ُ عامّة ً؛ فهي ليست خا ّ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬

‫ل الأمرُ إلى قيام الساعة‪ ،‬مهما قاموا بالإيمان‬


‫ن سعدي ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره‪( :‬ولا يزا ُ‬ ‫خ اب ُ‬
‫ل الشي ُ‬
‫‪ -١‬قا َ‬
‫ط عليهم الـكفار َ والمنافقين‪ ،‬ويديلهم في بعض‬ ‫والعمل الصالح‪ ،‬فلا ب ُدّ أ ْن يوجد َ ما وعدهم الل ّه‪ ،‬وإن ّما ي ُسل ِّ ُ‬
‫ل المسلمي ِن بالإيمان والعمل الصالح)‪.‬‬
‫بسبب إخلا ِ‬
‫ِ‬ ‫الأحيان‪،‬‬
‫‪- 069 -‬‬
‫نزلت هذه الآية ُ عامّة ً لأمّة م ُحم ّدٍ ﷺ)‪.‬‬
‫ن عطية ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره‪ْ ( :‬‬
‫ل الإمام ُ اب ُ‬
‫‪ -٢‬قا َ‬
‫خاص بالصّ حابة ِ؛ ولا وجه َ لذلك)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ل الإمام ُ الشوكاني ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في تفسيره‪( :‬وقيل‪ :‬هو‬
‫‪ -٣‬قا َ‬

‫ن آم َن ُوا م ِنك ُ ْم و َعَم ِلُوا‬


‫جاءت في الآية البشرى المشروطة ُ المعل ّقة ُ على العمل؛ قال تعالى‪" :‬و َعَد َ الل ّه ُ ال ّذ ِي َ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫ب‬
‫شع َ ِ‬
‫ل ُ‬
‫ل لك ّ ِ‬
‫وصف شام ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ات"‪:‬‬
‫ض"؛ وقوله‪" :‬آم َن ُوا م ِنك ُ ْم و َعَم ِلُوا الصّ الِ ح َ ِ‬
‫ات لَيَسْتَخْلِفَنّه ُ ْم فِي الْأ ْر ِ‬
‫الصّ الِ ح َ ِ‬
‫الإيمان وأنواع العمل الصالح؛ سواء ٌ العمل الصالح في الالتزام الذاتي أو العمل الصالح المتعدي للغير فيما‬
‫حق والصّ بر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫ق بالتواصي بال ّ ِ‬
‫يتعل ّ ُ‬

‫الآية الثانية‪ :‬قال تعالى‪" :‬وَك َانَ َ‬


‫ح ًّ ّقا عَلَي ْنَا نَصْر ُ ال ْمُؤْم ِنِينَ"‪:‬‬
‫جد َ ‪-‬في‬
‫ن من سُن ّة الل ّه أن ّه ينصر ُ دين َه ُ وأولياء َه ُ إذا قاموا بما يجبُ عليهم‪ ،‬وأن ّه كل ّما و ُ ِ‬
‫نأ ّ‬
‫جاءت الآية ُ في بيا ِ‬
‫ْ‬ ‫‪-‬‬
‫جد َ المؤمنون العاملون الذين يسيرون على‬ ‫ن من الأزمان‪ -‬حالة ٌ من الإشكال والظلام والفساد؛ ثم و َ ِ‬ ‫زم ٍ‬
‫ن وعد َ الل ّه ِ ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬بالنصر‬
‫سبيل الأنبياء و يقومون بما يُمكنُهم من شمولية الإيمان والعمل الصالح؛ فإ ّ‬
‫والتأييد يصْ د ُقُ عليهم‪.‬‬

‫ل مع أنبياء ِ الل ّه ِ عامّة ً؛ ومنهم نبينا ﷺ‪ ،‬فقد كانت المبشراتُ تأتيه في بداية زمن الن ّب ُو ّة؛ كما قال‬ ‫‪-‬كما حص َ‬
‫سم َاء ِ ث ُم ّ ل ْي َ ْقطَعْ فَل ْيَنْظُر ْ ه َلْ‬
‫خرَة ِ فَل ْي َ ْمد ُ ْد بِس َب ٍَب ِإلَى ال ّ‬
‫تعالى‪" :‬م َنْ ك َانَ يَظ ُنّ أ ْن لَنْ يَن ْصُرَه ُ الل ّه ُ فِي الد ّن ْيَا و َالْآ ِ‬
‫ِيظ"‪ ،‬ومع هذه المبشرات؛ لم يكن الن ّبيّ ﷺ متكئ ًا عليها‪ ،‬قاعدًا ينتظر تحقيقها‪ ،‬وإن ّما كان‬
‫كيْدُه ُ م َا يَغ ُ‬
‫ي ُ ْذه ِب َ ّن َ‬
‫وارتدت‬
‫ْ‬ ‫ل الن ّاس فيه أفواج ًا‪ ،‬ثم ّ ت ُوف ِ ّي َ الن ّبيّ ﷺ‬
‫عامل ًا باذ ًلا مضحي ًا هو وصحابته حت ّى أتم ّ الل ّه ُ دينه ودخ َ‬
‫ل ه ِ ّم الد ِّين؛ يعملون ويبذلون لإقامته وحمايته وتبليغه؛‬ ‫العربُ ؛ فقام َ الصحابة ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪ -‬بحم ِ‬
‫فاستحقوا هذا الوعد من الل ّه بالنصر والمؤازة والتأييد‪.‬‬

‫ن الد ّهْرِ إلا ّ يَوْم ٌ‬


‫ق مِ َ‬ ‫الحديث الأوّل‪ :‬عن علي بن أبي طالب‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬عن الن ّب ِيّ ﷺ قا َ‬
‫ل‪" :‬لَو ْ ل َ ْم يَب ْ َ‬
‫جوْر ًا"‪ ،‬أخرج َه ُ أبو داود‪.‬‬
‫ل بَيْتِي يَم ْلَؤ ُه َا ع َ ْدل ًا كَمَا م ُلِئ َْت َ‬
‫لَبَع َثَ الل ّه ُ رَج ُل ًا م ِنْ أه ْ ِ‬

‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬لا تذهبُ الد ّنيا حت ّى‬


‫ل رسو ُ‬ ‫الحديث الثاني‪ :‬عن عبد الل ّه بن مسعود ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬
‫ح‪.‬‬
‫ن صحي ٌ‬
‫حس َ ٌ‬
‫ل‪ :‬حديثٌ َ‬
‫ل بَيتي يواطئ ُ اسم ُه ُ اسمي"‪ ،‬أخرج َه ُ الترمذيّ ؛ وقا َ‬
‫ل من أه ِ‬
‫ك العربَ رج ٌ‬
‫يمل َ‬

‫المهدي إسناد ًا)‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫خ أحمد السيد‪( :-‬وهذان الحديثان م ِن أجودِ ما ورد َ في‬
‫‪-‬قال المُصن ّ ُِف ‪-‬الشي ُ‬

‫فوائد ُ حديثية ٌ‪:‬‬


‫ن هناك ما هو أجود ُ‬
‫بأس بإسناده‪ ،‬إلّا أ ّ‬
‫ن التعقيبُ به على جملة المُصن ِّف‪ :‬وإ ْن كانَ حديثُ عل ٍيّ لا َ‬
‫‪-‬مما يُمك ُ‬
‫‪- 071 -‬‬
‫منه إسناد ًا؛ وهو حديثُ أخرج َه ُ الإمام ُ أحمد في مسنده عن طر يق محمد بن جعفر عن عوف بن أبي جميلة‬
‫الأعرابي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪-‬؛ وسيأتي معنا في الأحاديث‪.‬‬

‫حديث أبي سعيد‪ ،‬وهذا الحديثُ مدار ُه ُ على‬


‫ِ‬ ‫‪-‬أمّا حديثُ عبد الل ّه بن مسعود ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬فهو أشهر ُ من‬
‫عاصم بن أبي النجود ‪-‬القارئ المعروف‪ -‬عن زر بن حبيش عن عبد الل ّه بن مسعود‪ ،‬وقد اشت ُه ِر َ هذا‬
‫يادات مختلفة ٍ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الحديثُ عن عاصم ورواه عنه جماعة ٌكثيرة ٌ بألفاظٍ وز‬

‫‪-‬ينبغي التأكيد ُ والتركيز ُ على قضية ِ الأسانيد في باب (تبشير الن ّب ِيّ ﷺ بالمهدي)؛ لأن ّه من الأبواب الت ّي وق َع‬
‫فيها إنكار ٌ من بعض المتأخرين؛ ومن أسباب هذا الإنكار‪ :‬هو كثرة ُ التعامل الخاطئ مع هذا الباب على مر‬
‫بعض الن ّاس إلى‬
‫ُ‬ ‫وقعت الأمّة في مرحلة ٍ من مراحل النكبة والاستضعاف؛ يتطل ّ ُع‬
‫ْ‬ ‫التاريخ؛ بحيث أن ّه كل ّما‬
‫استعجال الخلاص والنصر‪ ،‬و يكونُ ذلك بالمبالغة في تنز يل قضية المهدي على الواقع‪ ،‬وهذا له شواهد كثيرة‬
‫ًّ‬
‫داخلي ّا له لقضية إنكار هذا الباب‪.‬‬ ‫بعض المتأخرين هذا المعنى وكان هذا محرِ ّك ًا‬
‫لاحظ ُ‬
‫َ‬ ‫في التاريخ‪ ،‬لذلك؛‬

‫فاـئدة‪ :‬قضية ُ (تبشير الن ّب ِيّ ﷺ بالمهدي) قضية ٌ ثابتة ٌ في ُ‬


‫سن ّة ِ الن ّب ِيّ ﷺ‪ ،‬وما ورد َ عنه ﷺ في هذه القضية‬
‫على قسمين‪:‬‬
‫البخاري ومسلم ٍ‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الأوّل‪ :‬ما كان بالنصوص الصر يحة؛ ولا يوجد ُ لهذا القسم أحاديثٌ في الصحيحين؛‬

‫الثانـي‪ :‬ما كان بالنصوص العامّة؛ ذات الدلالة غير الصر يحة (دلالتها غير مباشرة)‪ ،‬ولـكن يحمل ُها العلماء ُ‬
‫ل عا ٍم‪ ،‬بالإضافة إلى ما‬ ‫على هذا الباب‪ ،‬ولهذا القسم أحاديثٌ في الصحيحين‪ ،‬وهذا مما يقوي البابُ بشك ّ ٍ‬
‫ورد َ عن المتق ّدِمين في تثبيت هذا الباب؛ سواء ٌ من أصحاب الن ّب ِيّ ﷺ أو من التابعين ‪-‬رضي الل ّه عنهم‪.-‬‬

‫ن الل ّه َ ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬لن يترك َ هذه الأمّة َ في حالة الاستضعاف‬ ‫‪-‬هذا البابُ من المبشرات العظيمة بأ ّ‬
‫والضعف واشتداد الظلم والتسل ّط الشديد‪ ،‬وإن ّما سيهيئ ُ لها ‪-‬كما هيئ َ لها على مر الأزمان‪ -‬سيهيئ ُ لها م َن يقوم ُ‬
‫بشأنها‪.‬‬
‫ن هذه التهيئة َ ‪-‬بتغيير حال الأمّة وصلاح المسلمين‬
‫ض الن ّاسِ‪ :‬أ ّنهم يظنون أ ّ‬
‫‪-‬ومن التصورات الخاطئة عند َ بع ِ‬
‫ن ذلك لا يكونُ في‬
‫وعلو شأنهم‪ -‬تأتي فجأة ً من باب المعجزات والـكرامات‪ ،‬وهذا من الوهم والخطأ؛ لأ ّ‬
‫ل من العمل والبذل؛‬
‫ح لا يأتي فجأة ً‪ ،‬وإن ّما يأتي بعد َ مراح ٍ‬
‫ن التغيير َ والإصلا َ‬
‫سُنَن الل ّه؛ إ ْذ من سُنَن الل ّه‪ :‬أ ّ‬
‫ل الأنبياء ُ وم َن تبعهم من المصلحين؛ ومن ذلك‪:‬‬
‫كما فع َ‬

‫ل ثلاثة عشر عام ًا في مكة يُبل ّ ُغ الرسالة و يصن ُع حَمَلَتها من صحابته المؤمنين‪ ،‬ثم ّ‬
‫‪ -١‬لم ّا بعثَ الل ّه ُ نبيه ﷺ‪ ،‬ظ ّ‬
‫ق الد ِّين شيئًا فشيئًا وغ ُ ّذي َْت القلوبُ بها‪ ،‬ثم قاموا بالدعوة ِ إلى الل ّه والصّ بر على الأذى في سبيله‪،‬‬
‫نزلت حقائ ُ‬
‫ْ‬
‫‪- 070 -‬‬
‫جاءت معركة بدر وأيدهم الل ّه بجنده‪ ،‬ثم ّ توالى العمل والبذل من الن ّب ِيّ‬
‫ْ‬ ‫ثم ّ هاجروا إلى المدينة‪ ،‬ثم ّ بعد ذلك‬
‫ﷺ إلى أ ْن أتم َ الل ّه ُ دينه بعد َ ثلاثة وعشرين عام ًا من العمل والبذل‪.‬‬

‫ح بدأ عند َ صلاح الدين‪ ،‬وهذا‬


‫ن هذا الفت َ‬
‫بعض الن ّاس أ ّ‬
‫ُ‬ ‫‪ -٢‬معركة حطين وفتح بيت المقدس‪ :‬قد يظنّ‬
‫خطأٌ؛ بل بدأ قبله بعقو ٍد طو يلة من العمل والبذل مه ّ ْ‬
‫دت لهذا الفتح‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬قتال الزنكيين للصليبين في‬
‫ح عماد الدين زنكي (الر ّها) سنة َ (‪٥٣٩‬هـ)‪.‬‬
‫حروب طو يلة حت ّى فت َ‬
‫ٍ‬

‫ل في سلسلة ٍ طو يلة في قتال‬


‫‪-‬ثم ّ جاء َ صلاح الدين في مصر وبدأ قتال الفاطميين حت ّى قضى عليهم ثم دخ َ‬
‫سنوات طو يلة ٌ‬
‫ٌ‬ ‫الصليبين‪ ،‬حت ّى معركة حطين سنة َ (‪٥٨٣‬هـ)‪ ،‬وما بينَ عماد الدين وصلاح الدين؛ كانت‬
‫من العمل والج ّدِ والاجتهاد والبذل‪.‬‬

‫ح في أحوال المسلمين ‪-‬على مر الزمان‪ -‬لا يأتي فجأة ً ولا‬


‫ن التغيير َ والإصلا َ‬ ‫الخُـلاصة ُ‪ :‬أ ّ‬
‫ن من سُنَن الل ّه‪ :‬أ ّ‬
‫ل‬
‫ح الل ّه ُ بها أحوا َ‬
‫مضت فيمن كان قبلنا‪ ،‬والت ّي ي ُصل ُ‬
‫ْ‬ ‫سنَنِ الإلهية الت ّى‬
‫ن ال ّ‬
‫يأتي بالمعجزات‪ ،‬وإن ّما يأتي ضم َ‬
‫ح ينبغي أ ْن يكونَ بالمق ّدِمات والج ّدِ والعمل والبذل كما فعل الأنبياء وم َن تبعهم‪.‬‬ ‫الخلق‪ ،‬فالإصلا ُ‬

‫‪-‬وكما جاء َ في هذه الأحاديث بشارة ٌ عظيمة ٌ لهذه الأمّة ِ‪ ،‬فقد جاء َ أيضًا إخبار ٌ ضمنيّ بانتشار الجور والعدوان؛‬
‫الأرض؛ فلا‬
‫َ‬ ‫جوْر ًا"؛ فإذا رأيتَ الجور َ والعدوان قد ملأ‬
‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬يَم ْلَؤ ُه َا ع َ ْدل ًا كَمَا م ُلِئ َْت َ‬
‫وذلك في قو ِ‬
‫الأرض‬
‫ُ‬ ‫ن الل ّه ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬لن يترك َ دين َه ُ‪ ،‬بل سيبعثُ له م َن يقيم ُ دعائمه و يج ّدِدَه ُ حت ّى تمتلئ َ‬
‫تيأس‪ ،‬فإ ّ‬
‫امتلأت جور ًا‪.‬‬
‫ْ‬ ‫عدل ًا كما‬

‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬م ِنْ خُلَفائِك ُ ْم خ َلِيف َة ٌ‬


‫ل رسو ُ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬
‫خدري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ِّ‬ ‫الحديث الثالث‪ :‬عن أبي سعيد ال‬
‫حث ْيًا‪ ،‬لا يَع ُ ّده ُ عَدَد ًا"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫ل َ‬
‫يح ْث ُو الما َ‬
‫َ‬
‫الأحاديث غير ُ الصر يحة ِ في باب البشارة بالمهدي‪ ،‬لـكن حمل َه ُ العلماء ُ على ذلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬هذا الحديثُ من‬

‫ل‬
‫ك أه ْ ُ‬
‫ش ُ‬
‫ل فهم ُ هذه الرواية من الحديث في روايته الثانية؛ عن جابر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قالَ‪( :‬يُو ِ‬
‫‪-‬يكتم ُ‬
‫ن ذ َاك َ‪ ،‬ث ُم ّ قالَ‪:‬‬
‫جمِ‪ ،‬يَم ْن َع ُو َ‬
‫ل الع َ َ‬
‫ن ذ َاك َ؟ قالَ‪ :‬م ِن ق ِب َ ِ‬
‫يج ْب َى إليه ِم قَف ِيز ٌ وَل َا دِرْهَمٌ‪ ،‬قُل ْنَا‪ :‬م ِن أي ْ َ‬
‫ق أ ْن لا ُ‬
‫الع ِرَا ِ‬
‫سكَتَ‬
‫ل الر ّو ِم‪ ،‬ث ُم ّ َ‬
‫ن ذ َاك َ؟ قالَ‪ :‬م ِن ق ِب َ ِ‬
‫يج ْب َى إليه ِم دِينَار ٌ وَل َا مُدْيٌ ‪ ،‬قلُ ْنَا‪ :‬م ِن أي ْ َ‬
‫شأْ ِم أ ْن لا ُ‬
‫ل ال ّ‬
‫ك أه ْ ُ‬
‫ش ُ‬
‫يُو ِ‬
‫حث ْيًا‪ ،‬لا يَع ُ ّده ُ‬
‫ل َ‬
‫يحْثِي المَا َ‬
‫خر ِ أمّتي خ َلِيف َة ٌ َ‬ ‫ل الل ّه ِ صَل ّى الل ّه ُ عليه و َ َ‬
‫سل ّم َ‪" :‬يَكونُ في آ ِ‬ ‫ل رَسُو ُ‬ ‫ه ُنَي ّة ً‪ ،‬ث ُم ّ قالَ‪ :‬قا َ‬
‫عَدَد ًا")‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬

‫ل تقريب ًا نحو َ (‪ ٢٥‬كيلو جرام ًا تقريبًا)‪.‬‬


‫ل الع ِراقِ‪ ،‬وهو ‪١٢‬صاعًا‪ ،‬و يُعادِ ُ‬
‫َعروف لأه ِ‬
‫ٌ‬ ‫لم‬
‫‪-‬القفيز‪ :‬هو م ِكيا ٌ‬

‫‪- 072 -‬‬


‫امتدت دولة الإسلام واتسعت بالفتوحات والجهاد‪ ،‬كان يُجبى إليها الأموال والثمار عن طر يق الجز ية‬
‫ْ‬ ‫‪-‬لم ّا‬
‫ن هذه الجباية وهذه الخيرات ستم ُنع عن الأمّة؛ ومن ذلك‪ :‬ما‬
‫والخراج‪ ،‬وفي هذا الحديث‪ :‬يُخبر ُ الن ّبيّ ﷺ أ ّ‬
‫َت الع ِراقُ‬
‫ل الل ّه ﷺ‪"( :‬م َنَع ِ‬
‫ل رسو ُ‬
‫أخرج َه ُ الإمام ُ مسلم ٌ من رواية أبي هريرة ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قالَ‪ :‬قا َ‬
‫حي ْثُ بَد َأْ تُم ْ‪،‬‬
‫َت مِصْر ُ إ ْرد َ ّبها ودِينار َها‪ ،‬وع ُ ْدتُم ْ م ِن َ‬
‫شأْ م ُ م ُ ْديَها ودِينار َها‪ ،‬وم َنَع ْ‬
‫َت ال ّ‬
‫دِرْهَم َها وق َف ِيز َها‪ ،‬وم َنَع ِ‬
‫ك لَحْم ُ أبِي ه ُر َي ْرَة َ ودَم ُه ُ)‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬
‫حي ْثُ بَد َأْ تُم ْ"‪ ،‬شَهِد َ علَى ذل َ‬
‫حي ْثُ بَد َأْ تُم ْ‪ ،‬وع ُ ْدتُم ْ م ِن َ‬
‫وع ُ ْدتُم ْ م ِن َ‬

‫‪-‬تجتم ُع هذه الرواياتُ على الإخبار الضمني بتغي ّر حال المسلمين في آخر الزمان؛ من الهيمنة وعلو الكلمة حت ّى‬
‫أنهم سيمنعون من جباية وجز ية الأموال وخراج الخيرات‪ ،‬وفي رواية الإمام البخاري‪ :‬قال الن ّبيّ ﷺ‪" :‬فَيَش ُ ّد‬
‫ل الذِّمّة ِ‪ ،‬فَيَمْن َع ُونَ ما في أيْدِيه ِ ْم"‪.‬‬
‫ل‪ -‬قُلُوبَ أه ْ ِ‬
‫عز وج ّ‬
‫الل ّه ُ ‪ّ -‬‬

‫ن المقصود َ‬
‫حث ْيًا‪ ،‬لا يَع ُ ّده ُ عَدَد ًا"‪ :‬حملَه ُ طائفة ٌ من العلماء أ ّ‬
‫ل َ‬
‫يحْثِي المَا َ‬
‫خر ِ أمّتي خ َلِيفَة ٌ َ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬يَكونُ في آ ِ‬
‫بهذا هو المهدي‪ ،‬وفيه أيضًا بشارة ٌ ضمنية ٌ بأن ّه سيكونُ للمسلمين خليفة يقوم ُ على شأنهم و يحكم ُ فيهم بشرع الل ّه‪.‬‬

‫خدري ‪-‬رضي الله عنه‪ -‬من ِ‬


‫أصح ّ الأحاديث في باب المهدي؛ وقد رويَ من‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫‪-‬و يع ّد حديثُ أبي سعيد ال‬
‫ق كثيرٍ؛ كطر يق أبي نضرة‪ ،‬وطر يق أبي الصديق الناجي الذي رواه عنه جماعة ٌ كبيرة ٌ منهم‪ :‬م ُعل ّى بن‬
‫طُر ُ ٍ‬
‫ادات في الألفاظ؛ منها ذكر ٌ لصفات المهدي؛ ومنها أن ّه يعطي‬
‫ٌ‬ ‫ز ياد وغيره‪ ،‬وفي هذه الروايات الـكثيرة‪ :‬ز ي‬
‫الأموال؛ وفي هذا بشارة ٌ ضمنية ٌ بتغي ّر حال المسلمين بعد َ ما منعوا جباية الأموال والخراج والخيرات كما جاء‬
‫في حديث جابر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪، -‬وهذا كل ّه ُ من المبشرات العامّة للأمّة‪.‬‬

‫ل الل ّه ﷺ‪" :‬تَكُونُ الن ّبُو ّة ُ ف ِيك ُ ْم م َا‬


‫ل رسو ُ‬ ‫الحديث الرابع‪ :‬عن حذيفة َ بن اليمان ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬
‫اج الن ّبُو ّة ِ‪ ،‬فَتَكُونُ م َا شَاء َ الل ّه ُ أ ْن‬ ‫شَاء َ الل ّه ُ أ ْن تَكُونَ‪ ،‬ث ُم ّ يَرْف َعُه َا ِإذ َا شَاء َ أ ْن يَرْفَعَه َا‪ ،‬ث ُم ّ تَكُونُ خِلَافَة ٌ عَلَى مِنْه َ ِ‬
‫ضا‪ ،‬فَيَكُونُ م َا شَاء َ الل ّه ُ أ ْن يَكُونَ‪ ،‬ث ُم ّ يَرْف َعُه َا ِإذ َا‬ ‫تَكُونَ‪ ،‬ث ُم ّ يَرْف َعُه َا ِإذ َا شَاء َ الل ّه ُ أ ْن يَرْفَعَه َا‪ ،‬ث ُم ّ تَكُونُ م ُلْك ًا عَا ًّ ّ‬
‫شَاء َ أ ْن يَرْفَعَه َا‪ ،‬ث ُم ّ تَكُونُ م ُلْك ًا جَبْرِي ّة ً‪ ،‬فَتَكُونُ م َا شَاء َ الل ّه ُ أ ْن تَكُونَ‪ ،‬ث ُم ّ يَرْف َعُه َا ِإذ َا شَاء َ أ ْن يَرْفَعَه َا‪ ،‬ث ُم ّ تَكُونُ‬
‫اج نُبُو ّة ٍ"‪ ،‬أخرج َه ُ أحمد‪.‬‬
‫خِلَاف َة ٌ عَلَى مِنْه َ ِ‬
‫بعض العلماء ُ على عمر بن عبد العزيز ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ ،-‬حت ّى أن ّه لم ّا تول ّى عمر بن عبد العزيز‬
‫‪-‬هذا الحديث نز ّلَه ُ ُ‬
‫ل إليه بشير بن سعد بهذا الحديث فاستبشر َ وس ُر ّ به‪ ،‬ولـكن اشتُهر َ عند َ العلماء المتأخرين ‪-‬منهم‬ ‫الخلافة َ‪ ،‬أرس َ‬
‫ل على عمر بن عبد العزيز؛ لأن ّه لم تمر ْ بينَ فترة الخلفاء‬
‫ن الحديثَ لا ينز ُ‬
‫الشيخ الألباني ‪-‬رحمه الل ّه‪( :-‬بأ ّ‬
‫العاض)‪،‬‬
‫ّ ِ‬ ‫مرت فترة الملك‬
‫ْ‬ ‫العاض والملك الجبري‪ ،‬وإن ّما‬
‫ّ ِ‬ ‫الراشدين وفترة عمر بن عبد العزيز فترت ْي الملك‬
‫حث ْيًا‪ ،‬لا يَع ُ ّده ُ عَدَد ًا"‪.‬‬
‫ل َ‬
‫يح ْث ُو الما َ‬
‫ق مع حديث أبي سعيد‪" :‬م ِنْ خُلَفائِك ُ ْم خ َلِيف َة ٌ َ‬
‫ل هذا الحديثُ يتف ُ‬
‫ولع ّ‬

‫‪- 073 -‬‬


‫ق تفكيرٍ صحيحة ٍ متفقة ٍ من‬
‫‪-‬وفي هذه النصوص مساحة ٌ قابلة ٌ للاجتهاد من أهل العلم الذين ينظرون فيها بط ُر ُ ِ‬
‫ن مثل هذه الطر يقة‬
‫سُنَن الل ّه في الإصلاح‪ ،‬وليس بطر يقة الذين ينتظرون المعجزات لتغيير واقع الأمّة؛ فإ ّ‬
‫حدث يحدثُ ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ل‬
‫الخاطئة في التفكير ستول ِ ّد ُ إشكال ًا مع ك ّ ِ‬
‫ن من علاماته المهدي الت ّي ذكرها الن ّبيّ ﷺ‪" :‬أن ّه يملأ‬
‫ل المهدي؛ لأ ّ‬
‫‪-‬ولا تكونُ الخلافة ُ على منهاج الن ّبُو ّة قب َ‬
‫الأرض ظلمًا وعدوان ًا مع وجود‬
‫ُ‬ ‫ت ظُلمًا وجَور ًا"‪ ،‬ولا يستقيم ُ أ ْن تمتلأ‬
‫الأرض ق ِسطًا وعدل ًا‪ ،‬كما م ُل ِئ َ ْ‬
‫َ‬
‫الخلافة الراشدة على منهاج الن ّبُو ّة قبلها‪ ،‬وهذا الذي يبدوا والل ّه أعلم‪.‬‬

‫ل‬
‫ل‪" :‬لا تقوم ُ الساعة ُ حت ّى يقات َ‬ ‫ل ﷺ الل ّه قا َ‬ ‫ن رسو َ‬ ‫الحديث الخامس‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬أ ّ‬
‫ل الحجر ُ أو الشجر ُ‪ :‬يا‬ ‫المسلمون اليهود َ‪ ،‬فيقتلُهم المسلمون‪ ،‬حت ّى يختبيء َ اليهوديّ م ِن وراء ِ الحجرِ و الشجرِ‪ ،‬فيقو ُ‬
‫مسلم ُ يا عبد َ الل ّه ِ هذا يهوديّ خلفي‪ ،‬فتعا َ‬
‫ل فاق ْتل ْه‪ ،‬إلا الغَر ْقَد َ‪ ،‬فإن ّه من شجرِ اليهودِ"‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ ‪.‬‬

‫‪-‬هذا الحديثُ من المبشرات الت ّي تبعث على التفاؤل والأمل؛ ففي الحديثُ إخبار ٌ ضمنيّ باجتماع شأن اليهود‬
‫حدث على مر التاريخ؛ إ ْذ اليهود ُ يعيشون حالة ٍ من التشت ّت والتفر ّق‬
‫جيش وقو ّة ٌ‪ ،‬وهذا لم ي ْ‬
‫ٌ‬ ‫وأن ّه سيكونُ لهم‬
‫ن أغلبَ حروب المسلمين مع النصاري الصليبين‪.‬‬
‫والضعف‪ ،‬كما أ ّ‬

‫شترط أ ْن يكونَ هذا الانتصار‬


‫ل قتال المسلمين واليهود هو انتصار ُ المسلمين‪ ،‬ولا ي ُ ُ‬
‫ن مآ َ‬
‫‪-‬ثم ّ يبش ِّر ُ الحديثُ أ ّ‬
‫من الجولة الأولى؛ بل قد يكونُ في مرحلة ٍ أخيرة ٍ من القتال يسبق ُها مراحل من الش ّدة والتسل ّط والبأس‬
‫لليهود على المسلمين‪.‬‬

‫ل‬
‫ل رسو ِ‬ ‫ن حو َ‬‫ل‪( :‬بينما نَح ُ‬‫الحديث السادس‪ :‬عن عبد الل ّه بن عمرو بن العاص ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قا َ‬
‫ل الل ّه ِ‬
‫ل رسو ُ‬ ‫ل الل ّه ِ ﷺ‪ :‬أيّ المدينَتينِ تُفت َ ُ‬
‫ح أ ّول ًا‪ :‬ق ُسطنطيني ّة ُ أو رومي ّة ُ ؟‪ ،‬فقا َ‬ ‫الل ّه ِ ﷺ نَكْتبُ إذ سُئ ِ َ‬
‫ل رسو ُ‬
‫ح أوّل ًا"‪ ،‬يَعني قُسطَنطيني ّة َ)‪ ،‬أخرج َه ُ أحمد‪.‬‬
‫ل تُفت َ ُ‬
‫ﷺ‪" :‬م َدينة ُ هرق َ‬

‫فاـئدة حديثية‪ :‬أخر َ‬


‫ج الإمام ُ أحمد ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬هذا الحديث عن يحيي بن إسحاق عن يحيي بن أيوب‬
‫الغافقي عن أبي ق َبيل عن عبد الل ّه بن عمرو بن العاص ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ ،-‬وهذا الإسناد ُ إسناد ًا جيدًا‪،‬‬
‫بعض العلماء الكبار‪ ،‬ولا أعلم ُ حقيقة ً حديث ًا آخر صحيح ًا فيه إشارة ٌ إلى ذكر رومية غير هذا الحديث‪.‬‬
‫وصح ّح َه ُ ُ‬

‫‪-‬هذا الحديثُ من جملة المبشرات بإعلاء كلمة الإسلام في ع ُقرِ ديار النصارى (رومية) في آخر الزمان؛‬
‫قريب أو‬
‫ٍ‬ ‫ل‬
‫ح القسطنطينية المبش ّر ُ به في الحديث سيكونُ في مستقب ٍ‬
‫قال الشيخ أحمد شاكر ‪-‬رحمه الل ّه‪( :-‬فت ُ‬
‫ح لها حين يعود ُ المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه‪ ،‬وأمّا‬
‫ح الصحي ُ‬
‫ل‪ ،-‬وهو الفت ُ‬
‫عز وج ّ‬
‫بعيدٍ يعلم ُه ُ الل ّه ‪ّ -‬‬

‫‪- 074 -‬‬


‫ل عصرنا هذا فإن ّه كان تمهيدًا للفتح الأعظم‪ ،‬ثم هي خرجت بعد ذلك من أيدي‬
‫ح الترك الذي كان قب َ‬
‫فت ُ‬

‫وعاهدت الـكُ ّفار َ أعداء َ‬ ‫ْ‬ ‫أعلنت حكومت ُهم هناك أ ّنها حكومة ٌ غير ُ إسلامية ٍ وغير ُ دينية ٍ‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫المسلمين منذ‬
‫ح الإسلاميّ لها إ ْن شاء َ الل ّه كما بش ّر َ به‬ ‫وحكمت أمّتها بأحكا ِم القوانين الوثنية الكافرة‪ ،‬وسيعود ُ الفت ُ‬
‫ْ‬ ‫الإسلام‪،‬‬
‫ل الل ّه ﷺ)‪.‬‬
‫رسو ُ‬

‫ل طائِف َة ٌ م ِن‬
‫ل‪" :‬لا ت َزا ُ‬ ‫الحديث السابع‪ :‬عن جابر بن عبد الل ّه ‪-‬رضي الل ّه عنهما‪ -‬قا َ‬
‫ل‪ :‬سمعتُ الن ّبيّ ﷺ يقو ُ‬
‫ل‬
‫ن م َْري َم َ صَل ّى الل ّه ُ عليه وسل ّم َ‪ ،‬في َقو ُ‬
‫ل ع ِيس َى اب ُ‬ ‫ن إلى يَو ِم الق ِيامَة ِ‪ ،‬قالَ‪ :‬فَيَنْز ِ ُ‬‫ق ظاهِرِي َ‬‫أمّتي يُقاتِلُونَ علَى الح َ ّ ِ‬
‫ض أم َراء ُ تَكْرِم َة َ الل ّه ِ هذِه الأمّة َ"‪ ،‬أخرج َه ُ مسلم ٌ‪.‬‬ ‫ضك ُ ْم علَى بَعْ ٍ‬‫ن بَعْ َ‬‫ل لَنا‪ ،‬في َقولُ‪ :‬لا‪ ،‬إ ّ‬ ‫ص ِّ‬
‫ل َ‬
‫أم ِير ُهُمْ‪ :‬تَعا َ‬

‫ل الل ّه ﷺ‪"( :‬و َال ّذ ِي ن َ ْفس ِي بيَدِه ِ‪،‬‬


‫ل رسو ُ‬ ‫الحديث الثامن‪ :‬عن أبي هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل‪ :‬قا َ‬
‫ل‬
‫ِيض المَا ُ‬
‫ض َع الج ِز ْيَة َ‪ ،‬و َيَف َ‬
‫ل الخِنْز ِير َ‪ ،‬و َي َ َ‬
‫كمًا ع َ ْدل ًا‪ ،‬فَي َ ْكسِر َ الصّ لِيبَ ‪ ،‬و َيَقْت ُ َ‬
‫ن م َْري َم َ ح َ َ‬
‫ل ف ِيكُم ُ اب ُ‬
‫شكَنّ أ ْن يَنْزِ َ‬
‫لَي ُو ِ‬
‫ل أبُو ه ُر َي ْر َة َ‪ :‬و َاق ْرَؤ ُوا إ ْن‬
‫ن الد ّن ْيَا و َما ف ِيهَا"‪ ،‬ث ُم ّ يقو ُ‬
‫حدَة ُ خَيْر ًا م ِ َ‬
‫سجْدَة ُ الوَا ِ‬
‫حت ّى لا يَقْبَلَه ُ أحَدٌ‪ ،‬حت ّى تَكُونَ ال ّ‬
‫ل مَو ْتِه ِ و َيَوْم َ ال ْق ِيَامَة ِ يَكُونُ عَلَيْه ِ ْم شَه ِيدًا")‪ ،‬أخرج َه ُ البخاريّ‬
‫اب ِإلّا لَيُؤْم ِن َ ّن بِه ِ قَب ْ َ‬
‫ل الْكِت َ ِ‬
‫شئ ْتُم ْ‪" :‬و َِإ ْن م ِنْ أه ْ ِ‬
‫ِ‬
‫ومسلم ٌ‪.‬‬

‫‪-‬هذان الحديثان من جملة الأحاديث الثابتة ثبوت ًا قطعيًا يقينيًا عن الن ّب ِيّ ﷺ في الإخبار بنزول عيسى ‪-‬عليه‬
‫سلام‪ -‬في آخر الزمان‪ ،‬وهي أعلى ثبوت ًا من الأحاديث الواردة في المهدي‪ ،‬وقد روي َْت الأحاديث الواردة‬
‫ال ّ‬
‫ل مختلفة ٍ‪ ،‬ولا شكّ أ ّنها متواترة ٌ في معناها العا ِمّ‪ ،‬ومن هذه‬ ‫سلام‪ -‬من وجوهٍ وأحوا ٍ‬ ‫في نزول عيسى ‪-‬عليه ال ّ‬
‫ن م َْري َم َ بف َِجّ الر ّ ْوح َاءِ‪ ،‬ح َا ًّج ّا‪ ،‬أ ْو مُعْتَمِرًا‪ ،‬أ ْو‬
‫الأحاديث أيضًا‪ :‬قول الن ّبيّ ﷺ‪" :‬و َال ّذ ِي ن َ ْفس ِي بيَدِه ِ‪ ،‬لَيُهِل ّنّ اب ُ‬
‫لَيَث ْن ِيَنّهُم َا"‪.‬‬
‫ن‬ ‫ًّ‬
‫قطعي ّا يقيني ًا لا شكّ فيه‪ ،‬ولذا؛ فإ ّ‬ ‫سلام‪ -‬هو ثابتٌ ثبوت ًا‬
‫ق بنزول عيسى ‪-‬عليه ال ّ‬
‫ن ما يتعل ّ ُ‬
‫‪-‬وعلى ذلك؛ فإ ّ‬
‫إنكاره هو إنكار ٌ لقطع ٍيّ من قطعيات الد ِّين‪ ،‬وقد وق َع ذلك من بعض متفلسفة ِ زماننا‪ ،‬بل هناك منهم م َن‬
‫ل خطير ٌ ج ًّ ّدا‪.‬‬
‫ي ُنكر ُ ما هو أش ّد منه ثبوت ًا وهو خروج الدجال‪ ،‬وهذا فيه إشكا ٌ‬

‫ل على طائفة ٍ عاملة ٍ باذلة ٍ من هذه الأمّة‪ ،‬وهذه الطائفة‬


‫سلام‪ -‬سينز ُ‬
‫ن عيسى ‪-‬عليه ال ّ‬
‫لأ ّ‬ ‫‪ِّ -‬‬
‫يوضح ُ الحديثُ الأوّ ُ‬
‫لا يُقصد ُ بهم مجموعة ٍ معينة‪ ،‬وإن ّما هي طائفة ٌ ممتدة ٌ ومستمرة ٌ عبر َ الزمن في العمل لهذا الد ِّين والاعتزاز به‬
‫وإظهار كلمته‪.‬‬

‫ن‬ ‫ضك ُ ْم علَى بَعْضٍ أم َراء ُ تَكْرِم َة َ الل ّه ِ هذِه الأمّة َ"‪ :‬فيه بيا ٌ‬
‫ن لما يذكر ُه ُ العلماء ُ أ ّ‬ ‫ن بَعْ َ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬في َقولُ‪ :‬لا‪ ،‬إ ّ‬
‫ل في َحكم ُ بشر يعة الإسلام‪.‬‬
‫ل بشر يعة ٍ جديدة ٍ؛ وإن ّما ينز ُ‬
‫سلام‪ -‬لا ينز ُ‬
‫عيسى ‪-‬عليه ال ّ‬
‫‪- 075 -‬‬
‫ن الجز ية َ في‬ ‫ض َع الجِز ْيَة َ" مع أ ّ‬‫ل قائلٌ‪ :‬كيف يحكم بشر يعة الإسلام وفي حديث أبي هريرة َ‪" :‬و َي َ َ‬ ‫‪-‬فإذا قا َ‬
‫خ بإخبارِ الن ّب ِيّ ﷺ أن ّه‬ ‫وضع الجز ية قد شُرِّعَ ون ُ ِس َ‬‫ِ‬ ‫ن‬
‫ن ليس ثمة ُ تعارضٍ؛ لأ ّ‬ ‫شر يعة الإسلام؟ =الجواب‪ :‬أ ّ‬
‫ل‪ ،‬وهذه من الطائف الت ّي يذكرها الأصوليون في باب النسخ‪.‬‬‫ص ُ‬
‫سيح ُ‬

‫سلام‪ -‬مع أهل الكتاب‪ :‬يهوديهم ونصرانيهم؛ أمّا يهوديهم‪ :‬فسيكونُ في‬
‫‪-‬سيكونُ أعظم ُ شأن عيسى ‪-‬عليه ال ّ‬
‫سلام‪ -‬للدجال وأكثر أتباع الدجال من اليهود‪ ،‬وأمّا نصرانيهم‪ :‬فسيكونُ بكسر الصليب؛‬
‫قتل عيسى ‪-‬عليه ال ّ‬
‫ل‬
‫اب ِإلّا لَيُؤْم ِن َ ّن بِه ِ قَب ْ َ‬
‫ل الْكِت َ ِ‬
‫ربط أبو هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬هذا الحديثَ بقوله تعالى‪" :‬و َِإن مّ ِنْ أه ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ولذلك‬
‫مَو ْتِه ِ َۖو َيَوْم َ ال ْق ِيَامَة ِ يَكُونُ عَلَيْه ِ ْم شَه ِيدًا"‪.‬‬

‫ف المفسرون في تفسير ضمير الهاء في كلمة‬ ‫ل مَو ْتِه ِ"‪ :‬اختل َ‬


‫اب ِإلّا لَيُؤْم ِن َ ّن بِه ِ قَب ْ َ‬
‫ل الْكِت َ ِ‬
‫‪ -‬قوله تعالى‪" :‬و َِإن مّ ِنْ أه ْ ِ‬
‫سلام‪-‬؟‪ ،‬وفي الحديث‪ :‬يحملُها أبو هريرة َ ‪-‬رضي الل ّه عنه‪-‬‬ ‫"مَو ْتِه ِ"؛ هل تعود على الكتاب أم على عيسى ‪-‬عليه ال ّ‬
‫ن أهل الكتاب الذين يعيشون في آخر الزمان سيؤمنون‬
‫سلام‪ -‬فيكون المعنى‪ :‬أ ّ‬
‫على موت عيسى ‪-‬عليه ال ّ‬
‫ل موته‪.‬‬
‫سلام‪ -‬قب َ‬
‫بعيسى ‪-‬عليه ال ّ‬

‫ل الإمام ُ النوويّ ‪-‬رحمه الل ّه‪ -‬في شرح‬


‫ن الد ّن ْيَا و َما ف ِيهَا"‪ :‬يقو ُ‬
‫حدَة ُ خَيْر ًا م ِ َ‬
‫سجْدَة ُ الوَا ِ‬
‫‪-‬قوله ﷺ‪" :‬حت ّى تَكُونَ ال ّ‬
‫ْب ال ْق ِي َامَة ِ‬
‫ات ل ِق ِصَر ِ آم َالِه ِ ْم بِقُر ِ‬
‫طاع َ ِ‬
‫اس تَكْث ُر ُ رَغْبَتُه ُ ْم فِي الصّ لَاة ِ وَسَائِر ِ ال ّ‬
‫ن الن ّ َ‬
‫هذا النص‪( :‬فَمَعْنَاه ُ و َالل ّه ُ أع ْلَم ُ أ ّ‬
‫اض ‪-‬رَحِم َه ُ الل ّه ُ‪-‬‬ ‫ل الْق َاض ِي عِي َ ٌ‬ ‫يث و َقَا َ‬
‫ظاه ِر ُ م ِنْ مَعْن َى الْحَدِ ِ‬‫و َقِل ّة ِ رَغْبَتِه ِ ْم فِي الد ّن ْيَا لِعَد َ ِم الْحا َجَة ِ ِإلَيْهَا و َهَذ َا ه ُو َ ال ّ‬
‫شحِّ و َقِل ّة ِ الْحا َجَة ِ ِإلَيْه ِ‬
‫ل حِينَئِذٍ و َقِل ّة ِ ال ّ‬‫ض ال ْمَا ُ‬
‫صد َقَتِه ِ ب ِالد ّن ْيَا وَم َا ف ِيهَا لِفَي ْ ِ‬
‫جر َه َا خَيْر ٌ لم ُِصَل ِّيهَا م ِنْ َ‬ ‫ن أ ْ‬ ‫مَعْنَاه ُ أ ّ‬
‫ن الصّ لَاة ِ و َالل ّه ُ أع ْلَم ُ)‪.‬‬
‫سجْدَة ُ بِعَيْنِهَا أ ْو تَكُونُ عِبَارَة ً ع َ ِ‬
‫سجْدَة ُ هِي َ ال ّ‬
‫ل و َال ّ‬
‫لِلن ّفَقَة ِ فِي الْجِه َادِ قَا َ‬

‫ن الجز ية َ ت ُأخذ ُ من أهل الكتاب فقط‪ ،‬ولا‬


‫اختلف العلماء ُ في َمن ت ُأخذ ُ منه الجز ية‪ ،‬فذهب كثير ٌ منهم إلى أ ّ‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫ف عن قتال‬
‫ن ع ُمر ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬توق ّ َ‬
‫ت ُأخذ ُ من أهل الأوثان؛ فإمّا الإسلام أو القتال‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬أ ّ‬
‫هج َر ْ)‪ ،‬وقد‬
‫ي َ‬
‫ن الن ّبيّ ﷺ أخ َذ َ الجز ية َ م ِنْ مجوس ْ‬
‫المجوس حت ّى شه ِد َ عبد الرحمن عوف ‪-‬رضي الل ّه عنه‪( -‬أ ّ‬
‫جوس عند َهم‬
‫ن الم َ‬
‫وقف العلماء ُ عند هذا الحديث بالنظر والتأمّل؛ ما وجه ُ أخذِ الجز ية من المجوس؟ =فقالوا أ ّ‬
‫َ‬
‫كتاب‪.‬‬
‫ل الأوثان ليس عند َهم شبهة ُ ٍ‬
‫ت منهم الجز ية ُ‪ ،‬بينما أه ُ‬
‫خذ َ ْ‬
‫كتاب؛ فألحقوهم بأهل الكتاب فأ ِ‬
‫شبهة ُ ٍ‬

‫ل الشبهة ُ عن النصارى حت ّى يكونوا‬


‫سلام‪ :-‬تزو ُ‬
‫‪-‬والربط العجيب هنا‪ :‬هو أن ّه في وقت عيسى ‪-‬عليه ال ّ‬
‫ل منهم الجز ية ُ؛ فإمّا الإسلام أو القتال‪.‬‬
‫كعابدي الأوثان؛ فلا ت ُقب ُ‬

‫ل‪"( :‬لَيَب ْلُغ َنّ هذا الأمرُ‬ ‫ل الل ّه ﷺ يقو ُ‬ ‫ل‪ :‬سمعتُ رسو َ‬ ‫الحديث التاسع‪ :‬عن تميم الداري ‪-‬رضي الل ّه عنه‪ -‬قا َ‬
‫ل؛ ع ًّ ِّزا‬
‫ل ذ َلي ٍ‬
‫ل والنّهار ُ‪ ،‬ولا يَترُك ُ الل ّه ُ بَيتَ مَد َ ٍر ولا و َبَر ٍ إلّا أدخَلَه الل ّه ُ هذا الد ِّينَ‪ ،‬بع ِزِ ّ ع َزيز ٍ أو ب ِذ ُ ّ ِ‬
‫ما بل َ َغ الل ّي ُ‬
‫‪- 076 -‬‬
‫ل بَي ْتي؛ لقد‬ ‫يُع ِز ّ الل ّه ُ به الإسلام َ‪ ،‬وذ ُ ًّلّا يُذِ ّ‬
‫ل الل ّه ُ به الـكُفر َ"‪ ،‬وكان تَميم ٌ الد ّاريّ يقولُ‪ :‬قد عرَف ْتُ ذلك في أه ْ ِ‬
‫ل والصّ غار ُ والجِز ْية ُ)‪،‬‬
‫رف والع ِز ّ‪ ،‬ولقد أصاب م َن كان منهم كاف ِرًا الذ ّ ّ‬ ‫أصاب م َن أسلَم َ م ِنهم ُ الخَير ُ والش ّ ُ‬
‫أخرج َه ُ الإمام أحمد‪.‬‬

‫ل‬
‫ت كثير ٌ من آثاره في التاريخ والواقع؛ أمّا التاريخ ُ‪ :‬بوصو ِ‬
‫‪-‬يق ُع هذا الحديث في المبشرات النبو ية‪ ،‬وقد تح ّقق َ ْ‬
‫كتائب الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها‪ ،‬وعلو كلمة الد ِّين‪ ،‬وأمّا الواقع‪ :‬بانتشار الد ّعوة إلى الل ّه‬
‫صعب مليء ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ودخول كثيرٍ من الن ّاس في هذا الد ِّين بأعدادٍ عجيبة ٍ من مختلف أقطار الأرض‪ ،‬وفي واقع‬
‫وواقع مليء ٍ بحملات التشو يه والتسليط ومحاربة المسلمين‬
‫ٍ‬ ‫بالفتن والإشكالات والأزمات في بلاد المسلمين‪،‬‬
‫بالتضييق والفقر والحروب وغير ذلك‪.‬‬

‫ل والنّهار ُ‪ ،‬ولا يَترُك ُ الل ّه ُ بَيتَ مَد َ ٍر ولا و َبَر ٍ إلّا‬


‫ل الن ّب ِيّ ﷺ‪" :‬لَيَبْلُغ َنّ هذا الأمرُ ما بل َ َغ الل ّي ُ‬‫‪-‬وهذا مصداقٌ لقو ِ‬
‫ل وما إلى ذلك‪،‬‬ ‫ن"؛ "بَيتَ مَد َ ٍر"‪ :‬هو الطينُ؛ إشارة ٌ إلى المدن‪" ،‬و َبَر ٍ"‪ :‬هو الخيام ُ المتنق ُ‬ ‫أدخَلَه الل ّه ُ هذا الد ِّي َ‬
‫جاءت في الباب للمؤمن؛ يأخذ ُ فيها نفحة ً من الأمل‪ ،‬ولا يقعد ُ بسببها عن‬ ‫ْ‬ ‫وهذا من جملة المبشرات الت ّي‬
‫العمل‪.‬‬

‫‪- 077 -‬‬

You might also like