Professional Documents
Culture Documents
الملف المجمع لتفريغ شرح سلسلة المنهاج من ميراث النبوة
الملف المجمع لتفريغ شرح سلسلة المنهاج من ميراث النبوة
خ ٌ
تفر ي ٌغ م ُل َ ّ ِ
ِ
الشرح: منهجية ُ
-١سأتحدثُ في الباب باعتبار؛ تفصيل عنوانه ،و بحث مقاصده ،وما يتعل ّق به من فوائد.
ل شواهد َ الباب؛ الآيات ثم الأحاديث؛ بتفسير الآية وشرح الحديث ،وبيان أهم الفوائد
-٢سأتناو ُ
المستخرجة منهما فيما له علاقة بالباب.
تنبيـه :بالنسبة للأحاديث :إذا كان الحديثُ خار َ
ج الصحيحين؛ فقد أتكل ّم عن إسناده وما يتعل ّق به إن
كانت الحاجة ُ تدعو إلى ذلك.
ْ
التسليم لل ّه ِ ولرسولِه ِ ﷺ
ِ الوحي وشموليتِه ِ ومركز ية ِ
ِ باب في مرجعي ّة ِ
ٌ
الباب:
ِ ن
ل عنوا ِ
تفصي ُ
-يحتوي عنوانُ الباب على أربعة ِ أمو ٍر؛ وهي:
ن الوحي َ مرجعي ّة ُ المؤمن.
-١أ ّ
باب دون آخر.
ل الأبواب؛ فهي ليست في ٍ
وصف لهذه المرجعية؛ بأ ّنها شاملة ٌ لك ّ ِ
ٌ -٢
-٣الدعوة ُ إلى التسليم لل ّه ولرسوله ﷺ.
أمر مركزيّ في الدين؛ وهذا سيظهر ُ من خلال محتو يات الباب.
ن هذا التسليم َ ٌ
-٤بيانُ أ ّ
ل على ثمان آيات وخمسة أحاديث؛ الآياتُ فيه أكثر ُ من الأحاديث ،فالمتنُ وإن كان متن ًا
-هذا البابُ يشتم ُ
ن العناية َ فيه بكتاب الل ّه -تعالى -عناية ٌ كبيرة ٌ؛ و(هذه طر يقة ٌ مهمة ٌ لمن يتعامل مع الحديث
في الحديث إلا أ ّ
الن ّبوِ ّي؛ بأ ْن يأتي َ بالآيات التي تشهد للأحاديث في الباب ،وكذلك إذا تناول كتابَ الل ّه؛ عليه أ ْن يأتي َ
ل الإمام ُ البخاريّ -رحمه الل ّه -هذه الطر يقة َ في صحيحه؛ فهو وإ ْن
بالأحاديث المُبي ِّنة للآيات)؛ وقد استعم َ
كان كتاب ًا في الحديث إلا أن ّه يأتي َ ببعض الآيات التي تشهد لمعنى الباب.
-2-
الباب:
ِ مقاصد ُ
-وهي خمسة ُ أمو ٍر مطلوبة ٍ من المسلم تُجاه َ مرجعي ّة الوحي؛ وهي( :تعظيم ُ مرجعي ّة الوحي ،والتسليم ُ لمرجعي ّة
الوحي ،وتحكيم ُ مرجعي ّة الوحي ،وتقديم ُ مرجعي ّة الوحي ،والاستغناء ُ والاستبشار ُ بمرجعي ّة الوحي).
يعيش الإنسانُ
َ سك والاعتصام بمرجعي ّة الوحي( :الهداية)؛ بأ ْن
ل نتيجة َ التم ّ فاـئدة :من أعظم ما ُ
يحصّ ُ
ل وهو يتغيى ما يحبه الل ّه
على نو ٍر من الل ّه؛ يعلم م َن هو ،وما الذي يريده الل ّه منه في نفسه وأهله وأمّته ،فيعم ُ
و يرضاه ،و يقتدي في ذلك بالنماذج البشر ية وهم الأنبياء.
الباب:
ِ شواهد ُ
ل و َأول ِي الْأ ْمر ِ م ِنك ُ ْم ف َِإن تَنَازَعْتُم ْ ن آم َن ُوا أطِيع ُوا الل ّه َ و َأطِيع ُوا الر ّسُو َ الآية الأولى :قال تعالى" :ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ
ن ت َأْ وِ يل ًا":ك خَيْر ٌ و َأحْ س َ ُ ل ِإن كُنتُم ْ تُؤْم ِن ُونَ ب ِالل ّه ِ و َالْيَو ْ ِم الْآ ِ
خر ِ ذََٰل ِ َ فِي شَيْء ٍ ف َرُدّوه ُ ِإلَى الل ّه ِ و َالر ّسُو ِ
ضا.
ج هذه ُ الآية ُ تحتَ مقصد التحكيم لمرجعي ّة الوحي -في الأساس ،-ومقصد التقديم لها أي ً
-تندر ُ
-3-
ن
اختلف العلماء ُ في تفسير (أولي الأمر) على قولين؛ إمّا الأمراء ُ الحكام وإمّا العلماء ُ ،وفي الآية بيانُ أ ّ
َ -
مرجعي ّة َ الوحي مق ّدمة ٌ على مرجعي ّة أولي الأمر ،كما يقول الإمام الطبري في تفسيره للآية( :فإ ْن اختلفتم،
أ ّيها المؤمنون ،في شيء ٍ من أمر دينكم :أنتم فيما بينكم ،أو أنتم وولاة ُ أمركم ،فاشتجرتم فيه =فردوه إلى الل ّه
ل على التحكيم من جهة ٍ أخرى.
ل على التقديم من جهة ٍ ،ويد ّ
والر ّسول)؛ وهذا يد ّ
ن الردّ إلى رسوله ﷺ؛ هو الردّ إلى شخصه في ن الردّ إلى الل ّه؛ هو الردّ إلى كتابه ،وأ ّ
-وقد أجم َع العلماء ُ على أ ّ
استنبط العلماء ُ من الآية حُ جي ّة َ الإجماع.
َ سن ّته بعد مماته ﷺ ،وأيضًا حياته وإلى ُ
ن
ات أ ّ
ن يَعْم َلُونَ الصّ الِ ح َ ِ
ن يَهْدِي لِل ّتِي هِي َ أق ْوَم ُ و َيُبَش ِّر ُ ال ْمُؤْم ِنِينَ ال ّذ ِي َ الآية الثانية :قال تعالىِ " :إ ّ
ن هََٰذ َا الْقُر ْآ َ
خرَة ِ أعْتَدْن َا لَه ُ ْم عَذ َاب ًا ألِيماً":
ن ل َا يُؤْم ِن ُونَ ب ِالْآ ِ
ن ال ّذ ِي َ
جر ًا كَب ِير ًا * و َأ ّ
لَه ُ ْم أ ْ
ج هذه الآية ُ تحتَ مقصد التعظيم؛ وذلك بإدراك الجوانب العظيمة في كتاب الل ّه من الهداية والبشارة
-تندر ُ
ن
ن كتابَ الل ّه يهدي للسبيل الأقوم ،ولذلك؛ فإ ّ
ج تحتَ مقصد الاستغناء؛ لأ ّ
للمؤمنين ،وكذلك تندر ُ
الإنسانَ باتباعه للقرآن =يستغني عن دواعي السبل الأخرى.
-4-
ِيم
ل مّ ِنْ حَك ٍ
ل م ِن بَيْنِ يَد َيْه ِ وَل َا م ِنْ خ َل ْفِه ِ تَنزِي ٌ الآية الثالثة :قال تعالى" :و َِإن ّه ُ لَكِت َ ٌ
اب عَز ِيز ٌ * لّا ي َأْ تيِه ِ الْبَاطِ ُ
حَم ِيدٍ":
ن القرآنَ
عزة القرآن؛ منها :أ ّ ج هذه الآية ُ تحتَ مقصد التعظيم للوحي؛ وقد ذكر َ المفسرون وجوه ًا من ّ -تندر ُ
ل.
ف أو يب ّد َ
ن أعلى من أن ي ّشوه َ أو يحر ّ َ
لا يؤتى بمثله؛ فهو عزيز ٌ في مكانته وشأنه ،وهو في مكا ٍ
ل م َن
لكتاب عزيز ٌ بإعزاز الل ّه إياه ،وحفظه من ك ّ ِ
ٌ ن هذا الذكر َ
-قال الإمام ُ الطبريّ في تفسيره للآية( :وإ ّ
ن ماردٍ)؛ ومما ي ُعضد ُ هذا التفسير ُ؛
ي وجن ٍيّ وشيطا ٍ
أراد له تبديل ًا أو تحر يف ًا أو تغيير ًا من إنس ٍ ّ
ن
ن ل َا ي َأْ تُونَ بِمِثْلِه ِ و َلَو ْ ك َا َ
ل هََٰذ َا الْقُر ْآ ِ
نس و َالْج ِنّ عَلَى أن ي َأْ تُوا بِمِث ْ ِ
َت ال ِْإ ُ
-١قوله تعالى" :قُل ل ّئِنِ اجْ تَمَع ِ
ض َظه ِير ًا".
بَعْضُه ُ ْم لِبَعْ ٍ
خ ٱلل ّه ُ
ن فِی أمۡن ِی ّتِه ِۦ فَیَنسَ ُ
شیۡط ََٰ ُ
ك م ِن رّسُولࣲ وَل َا نَبِ ٍ ّی ِإلّا ِإذ َا تَم َن ّى ألۡقَى ٱل ّ -٢وقوله تعالى" :وَم َا أ ۡرسَل ۡنَا م ِن قَب ۡل ِ َ
یحۡكِم ُ ٱلل ّه ُ ءَایََٰتِهِۦۗ و َٱلل ّه ُ عَل ِیم ٌ حَكِیمࣱ".
ن ث ُم ّ ُ
شیۡط ََٰ ُ
م َا یلُۡقِی ٱل ّ
ك
ن ال ْعِلْم ِ م َا ل َ َ الآية الرابعة :قال تعالى" :وَكَذََٰل ِ َ
ك أنزَلْنَاه ُ ح ُكْ مًا ع َرَب ًّيِ ّا و َلئَِنِ ات ّبَعْتَ أه ْوَاءَه ُم بَعْدَم َا ج َاءَك َ م ِ َ
ق":ن الل ّه ِ م ِن و َل ِ ٍيّ وَل َا و َا ٍ
مِ َ
ج هذه الآية ُ تحتَ مقصد التعظيم للوحي؛ ومما يضاف إلى جوانب تعظيم القرآن :تنو ّع ُ الصفات التي
-تندر ُ
ل صفة ٍ أعظم من الأخرى.
بصفات متعددة ٍ ،وك ّ
ٍ وصفه الل ّه بها؛ فقد وصفه
ن
ج الآية ُ تحتَ مقصد الاستغناء؛ وذلك لقوله تعالى" :و َلئَِنِ ات ّبَعْتَ أه ْوَاءَه ُم بَعْدَم َا ج َاءَك َ م ِ َ -وأيضًا تندر ُ
ل الل ّه ُ -تعالى -بين الحق والباطل؛ بأ ْن يكونَ الحقّ مستندًا إلى ال ْعِلْم ِ"؛ والمقصود ُ بالعلم هنا :القرآن ،فهنا قاب َ
العلم وأن يكون ما سواه من الباطل هو الهوى؛ وهذا من أعظم ما يجعل الإنسانُ يستمسك بمقتضى الوحي
وهو (العلم).
-ومن المفارقات :أن ّنا نجد -اليوم -في كثيرٍ من السياقات الدراسية إذا ذُك ِر َ (العلم) مجر ّد ًا =فلا ي ُفهم منه إلا
-5-
العلم الطبيعي ،بينما العلم الذي ينبغي أ ْن ي ُسمّى علم ًا هو العلم ُ المتصل بالوحي؛ ذلك العلم الذي ينفع الناس في
يكشف لهم عن غاية وجودهم ،وينفعهم في مآلهم الذي ينبغي أن يعملوا له.
ُ حياتهم؛ حيث
فاـئدة :حين يأتي المفسرون لتفسير الآيات التي تبدأ بـ(وكذلك أو كما)؛ فإ ّنهم يرجعون إلى ما قبلها من
طابيّ في كتابه (بيان إعجاز القرآن)
ل الإمام ُ الخ ّ
الآيات و يحاولون أن يبحثوا عن العلاقة والرابط بينهما ،كما فع َ
ن
ن فَرِ يق ًا مّ ِ َ
ق و َِإ ّ
ك ب ِالْح َ ّ ِ
ك م ِن بَي ْت ِ َ ك ر َب ّ َخرَج َ َ ل الل ّه تعالى" :كَمَا أ ْ
ن قو َ
في الردِّ على إشكالات الزنادق في أ ّ
َات عِند َ ح ًّ ّقا ل ّه ُ ْم دَرَج ٌ ك هُم ُ ال ْمُؤْم ِن ُونَ َ ال ْمُؤْم ِنِينَ لَك َارِه ُونَ" ليس له علاقة ٌ بما قبله وهو قوله تعالى" :أولََٰئ ِ َ
ر َ ّبِه ِ ْم وَمَغْف ِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَر ِيم ٌ".
ل
ل قُ ِ
ن الْأنف َا ِ
ك عَ ِ
ارتباط وعلاقة ٌ بقوله تعالى في أوّل سورة الأنفال" :يَسْألُون َ َ
ٌ ن الآية َ لها
طابيّ أ ّ
=فذكر َ الخ ّ
ل لِل ّه ِ و َالر ّسُو ِ
ل فَات ّق ُوا الل ّه َ و َأصْ لِحُوا ذ َاتَ بَي ْنِك ُ ْم و َأطِيع ُوا الل ّه َ وَرَسُولَه ُ ِإن كُنتُم مّؤْم ِنِينَ"؛ ثم بي ّن وجه َ الْأنف َا ُ
ن كراهت َهم لما فعلته في الغنائم ككراهتهم في الخروج معك وقد حمدوا عاقبته -
هذا الارتباط بقوله( :يريد أ ّ
أي :حمدوا عاقبة ما فعلته في الغنائم -فليصبروا في هذا -أي :في الخروج -وليسلموا ويحمدوا عاقبته كذلك).
-و يظهر ُ في هذه الآية التعظيم ُ الواضح للوحي الذي إذا لم يسلـكْه ُ الإنسانُ فإن ّه يكون كافر ًا؛ بمعنى أن تعاملنا
ن الل ّه َمع مرجعي ّة الوحي وتحكيمه ليست قضية ً من عامّة الأوامر ،وإنما هي من قضايا الإسلام الـكبرى؛ فإ ّ
ك ل َا يُؤْم ِن ُونَ حَت ّى يُحَكِّم ُوك َ ف ِيم َا
أنزل هذا الوحي ليكون قائد ًا ،ولذلك قال الل ّه ُ في الآية التي تليها" :فَلَا وَر َب ِّ َ
ضي ْتَ و َيُس َل ِّم ُوا تَسْلِيم ًا"؛ وربما هذه الآية أوضُ ح آية ٍ في قضية شَ ج َر َ بَيْنَه ُ ْم ث ُم ّ ل َا َ
يجِد ُوا فِي أنفُسِه ِ ْم حَرَج ًا مِّم ّا ق َ َ
خاص.
ّ ٍ ل
ل عا ٍمّ ولسُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ بشك ٍ
التسليم لمرجعي ّة الوحي بشك ٍ
-6-
سن ّة رسوله ﷺ ،وفي
ل بينها وبين الح ُكم بكتاب الل ّه و ُ
يحا َ
ن من أعظم ما ابتُليت به الأمّة ُ :أ ْن ُ
-وعلى ذلك؛ فإ ّ
توصيف قضية الحاكمية بأ ّنها من القضايا السياسية ،في ذلك التوصيف نوعٌ من الإبعاد والتهميش لقضية ٍ
كبرى من قضايا الإسلام.
ن لَهُم ُ الْخ ِيَرَة ُ الآية السادسة :قال تعالى" :وَم َا ك َانَ لم ُِؤْم ِ ٍ
ن وَل َا مُؤْم ِنَة ٍ ِإذ َا ق َض َى الل ّه ُ وَرَسُولُه ُ أم ًْرا أن يَكُو َ
ل ضَلَال ًا مّب ِينًا": ض ّ ص الل ّه َ وَرَسُولَه ُ فَق َ ْد َ
م ِنْ أ ْمرِه ِ ْم وَم َن يَعْ ِ
ل ما يقضيه الل ّه ورسوله ﷺ؛ وذلك لما احتوته الآية ُ من أعلى صيغ العموم؛
لك ّ
-هذه الآية عامّة ٌ؛ تشم ُ
قال تعالىِ " :إذ َا ق َض َى الل ّه ُ وَرَسُولُه ُ أم ًْرا"؛ "أم ًْرا" :يعني :أيّ أمر ٍ.
ل ال ْمُؤْم ِنِينَ ِإذ َا دُع ُوا ِإلَى الل ّه ِ وَرَسُولِه ِ لِيَحْكُمَ بَيْنَه ُ ْم أن يَق ُولُوا سَمِعْنَا
الآية السابعة :قال تعالىِ " :إن ّمَا ك َانَ قَو ْ َ
ك هُم ُ ال ْمُفْلِحُونَ".
طعْنَا و َأولََٰئ ِ َ
و َأ َ
َي الل ّه ِ وَرَسُولِه ِ": الآية الثامنة والأخيرة :قال تعالى" :ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ
ن آم َن ُوا ل َا تُق َ ّدِم ُوا بَيْنَ يَد ِ
ل بها على مركز ي ّة مرجعي ّة الوحي والتسليم والإنقياد له ،وتقديمها على
-هذه الآية ُ من أهم الآيات التي ي ُستد ُ
غيرها؛ وهذه الآية ُ هي محور ُ كتاب (الفرقان بين الحق والبطلان) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الل ّه-؛
ن درجة َ إنحرافهم كانت بمقدار البعد عن
لأصناف من الطوائف؛ فبي ّن أ ّ
ٍ سي َر التار يخية
استعرض ال ِ
َ حيث
هذه الآية ،وعدم تقديمهم لمرجعي ّة الوحي على غيرها.
ن الهداية َ من أعظم
ن ات ّبَع َه ُ كانَ علَى الهُد َى ،وَم َن ت َرَك َه ُ كانَ علَى ضَلَالَة ٍ"؛ فيه إثباتُ أ ّ
-قوله ﷺ" :م َ ِ
سا في حياته.
ل المسلم ُ اتباعَ كتاب الل ّه أسا ً
ثمرات اتباع مرجعي ّة الوحي ،ولذا؛ يجبُ أ ْن يجع َ
فـوائد جانبيـة:
-كان الصحابة ُ -رضي الل ّه عنهم -يحتاطون في الرواية عن الن ّب ِيّ ﷺ تعظيم ًا لشأن الحديث عنه ﷺ وخوفًا
من أن ينسبوا للن ّب ِيّ ﷺ ما لم يقله؛ ومن شواهد ذلك:
يح ّدِثَ عن الن ّب ِيّ ﷺ وهو كبير ٌ في السن؛ قال( :و َالل ّه ِ لق َ ْد كَبِر ْ
َت سِن ِ ّي، ل زيد بن أرقم أ ْن ُ -١أن ّه لما سُئ ِ َ
ل الل ّه ِ ﷺ ،فَما ح َ ّدث ْتُك ُ ْم فَاق ْبَلُوا ،و َما ل َا فلا
كن ْتُ أعِ ي م ِن ر َسو ِ
ْض ال ّذي ُ
و َقَدُم َ ع َ ْهدِي ،و َنَسِيتُ بَع َ
تُك َلِّف ُونيِه ِ).
س ،فإذا قال :سمعتُ رسول الل ّه ﷺ
ل خمي ٍ
ل( :كنت آتي ابن مسعود ك ّ
-٢روي عن عمرو بن ميمون قا َ
انتفخت أوداج ُه ُ ،ثم قال :أو دون ذلك ،أو فوق ذلك ،أو قريب ذلك ،أو شبيه ذلك ،أو كما قال)،
ْ
أنس بن مالكٍ -رضي الل ّه عنه.-
وأيضًا؛ روي ذلك عن ٍ
-8-
-كان كلام ُ الن ّب ِيّ ﷺ قليل ًا مختصر ًا؛ كما قالت عائشة -رضي الل ّه عنها -لما سمعت أبا هريرة يسرد ُ الحديثَ
ل الل ّه ِ ﷺ ل َ ْم يَكُنْ يَسْرُد ُ الحَدِيثَ كَسَرْدِك ُ ْم) ،وفي رواية ٍ؛ قالت( :إن ّما كانَ الن ّبيّ ﷺ
ن ر َسو َ
سرد ًا( :إ ّ
يُح َ ّدِثُ حَدِيثًا ،لو ع َ ّده ُ الع َادّ لأحْ صَاه ُ).
ل عنه ُ) ،وكان كلام ُه ُ ﷺ مح ّدد ًا؛ ومنه قوله ﷺ:
-وكان من هديه ﷺ أن ّه (كان يُع ِيد ُ الكَل ِمة َ ثَلاث ًا لِتُعْق َ َ
ن" ،ثم يح ّدِد ُ ﷺ هذه الثلاثة ،وقوله ﷺ" :أرْب َ ٌع م َن كُنّ فيه كانَ
ثلاث م َنْ كُنّ فيه وجَد َ حلاوَة َ الإيما ِ
ٌ "
حفظ الس ُن ّة على الصحابة.
َ م ُنَافِق ًا خ َال ِصً ا" ،ثم يحدد ﷺ هذه الأربعة؛ وهكذا .وهذا كل ّه مما سهّل
ٍ
رافع -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ قال" :لا أل ْف ِي َ ّن أحدَك ُ ْم متكئًا على أر يكتِه ِ الحديث الثاني :عن أبي
كتاب الل ّه ِ اتبعناه ُ" ،أخرجه أبو داود ِ ل :لا أدرِي .ما وجدن َا فيأمر مما أمرتُ به ِ أو نهيتُ عنه ُ فيقو ُ
يأتيه ِ ٌ
والترمذيّ وأحمد ورواه الشافعيّ بإسنادٍ ص ٍ
حيح.
-قوله ﷺ" :لا أل ْف ِي َ ّن" :فيه تحذير ٌ لأصحابه وأمّته ألا يجد فيهم م َن ينكرون سُن ّته ﷺ ،وفي رواية أخرى من
ك
ش ُ حديث المقدام ابن معدي كرب -رضي الل ّه عنه -فيها الإخبار بق ُرب حدوث ذلك ،قال الن ّبيّ ﷺ" :يو ِ
ل :بينَنَا وبينَك ُ ْم كتابُ الل ّهِ ،فما وجدْنا ل م ُت ّكِئًا على أرِ يكَتِه ِ ،يُح َ ّدثُ ب ٍ
حديث م ِنْ حديثي ،فيقو ُ أ ْن يقعُد َ الرج ُ
ل الل ّه ِ مث َ
ل ما حرّم َ الل ّه ُ"، ن ما حرّم َ رسو ُ
ل اسْ تَحْلَل ْناه ُ ،وما وجد َنا فيه م ِنْ حرا ٍم حرّمْناه ُ ،أل َا ِوإ ّفيه م ِنْ حلا ٍ
ن بس ُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ الذي أخبر َ بوقوع مثل هذا ن وجود َ منكري السُن ّة في ح ّدِ ذات ِه ِ ،فيه يقي ٌ وعلى ذلك؛ فإ ّ
الحدث.
-قوله ﷺ" :م ُت ّكِئًا على أرِ يكَتِه ِ" :لا ينحصر ُ في الصورة الحسية للاتكاء ،يقول الإمام ُ الخ ّ
طابيّ( :وأراد بهذه
الصفة ِ أصحابَ الترف ّه ِ والد ّع َة ،الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم َ ،ولم يغدوا له ،ولم يروحوا في طلبه في
صف لحال منكري السُن ّة -اليوم -من فقدانهم لأصول العلم وأبجدياته.
مظان ِّه واقتباسه من أهله)؛ وهذا و ٌ
-9-
ل"؛ وفي هذا ز يادة ُ يقينٍ في الس ُن ّة!
ن ارْتَض َى م ِنْ رَسُو ٍ "عَالِم ُ الْغَي ِ
ْب فَلا ي ُ ْظه ِر ُ عَلَى غَي ْبِه ِ أحَدًا ِإلا م َ ِ
الحديث الثالث :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ قال" :م َن أطَاعَنِي فق َ ْد أطَاعَ الل ّهَ ،وم َن
عَصَانِي فق َ ْد ع َص َى الل ّه َ" ،أخرجه البخاريّ ومسلم ٌ.
ن قضية َ صة ً الس ُن ّة ،وبالرغم من وضوح أ ّ ج تحتَ مقصد التعظيم لمرجعي ّة الوحي؛ خا ّ -هذا الحديثُ يندر ُ
(طاعة الرسول ﷺ من طاعة الل ّه) قضية ٌ قرآنية ٌ مؤسّ سة ٌ في كتاب الل ّه "مّن يُط ِِع الر ّسُو َ
ل فَق َ ْد أطَاع َ الل ّه َ" ،إلا
ل البشر في منزلة ن في اتباع الر ّسول ﷺ شرك ًا بالل ّه بجع ِ أ ّنها تغيب عن كثيرٍ من منكري السُن ّة؛ إذ يدّعون أ ّ
الل ّه ،بينما في هذا الحديث الجوابُ البدهيّ على ذلك الادِّعاء.
ل في الخطبة ِ" :أمّا ل ﷺ يقو ُ الحديث الرابع :عن جابر بن عبد الل ّه -رضي الل ّه عنه -قال( :كانَ الر ّسو ُ
ل بدْعَة ٍ ضَلَالَة ٌ")، ديث كِتَابُ الل ّهِ ،وَخَي ْر ُ الهُدَى هُد َى مُحَم ّدٍ ،و َشَر ّ الأم ُورِ ُ
محْد َث َاتُهَا ،وَك ُ ّ ن خَيْر َ الح َ ِ
بَعْد ُ؛ فإ ّ
أخرجه مسلم ٌ.
ج هذا الحديثُ تحت مقصد التقديم لمرجعي ّة الوحي ،وأيضًا الاستغناء بها؛ فإن ّك متى نظرتَ إلى كتاب
-يندر ُ
ن هذا من أدعى ما يجعلك تستغني سن ّة الن ّب ِيّ ﷺ على أ ّنها خير ُ الهدي =فإ ّ
الل ّه على أن ّه خير ُ الحديث ،وإلى ُ
ن من معاني الحديث :إعادة َ
بهما عن الاتجاهات المعرفية التي تزعم أ ّنها ت ُغني البشر وتملأ عقولهم .ولذلك؛ فإ ّ
تعظيم ومركزة الوحي في نفوسنا.
ل البيت -رضي الل ّه عنهم -كانوا يروون هذه الأحاديث التي فيها تقديم ٌ
سادات أه ِ
ِ ن
-وفي هذه لطيفة ٌ( :أ ّ
ن لتعظيم أهل البيت لشأن كتاب الل ّه وسُن ّة رسوله
سن ّة رسوله ﷺ على غيرهما)؛ وفي هذا بيا ٌ
لكتاب الل ّه و ُ
ن كلام َ الأئمة يمكن أ ْن يوازيَ أو يُق ّدم َ
بعض الفرق الضالة في أ ّ
ُ ﷺ ،وذلك يختلف كثير ًا عما تعتقده
أحيان ًا على ما جاء عن رسول الل ّه ﷺ.
- 01 -
ل الل ّه ِ ﷺ "لِل ّه ِ ما الحديث الخامس والأخير :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -قال( :لَم ّا ن َزَل َ ْ
ت علَى ر َسو ِ
سبْك ُ ْم به الل ّه ُ فَيَغْف ِر ُ لم َِن يَشاء ُ و يُع َ ّذِبُ
تخْف ُوه ُ يُحا ِ
سك ُ ْم أ ْو ُض وإ ْن تُبْد ُوا ما في أنْف ُ ِ ماوات وما في الأ ْر ِ ِ س
في ال ّ
ل الل ّه ِ ﷺ ث ُم ّ ل الل ّه ِ ﷺ ،فأتَو ْا ر َسو َ حاب ر َسو ِ أص ِ ك علَى ْ ل :فاشْ ت َ ّد ذل َ ل شيء ٍ قَدِير ٌ" ،قا َ
م َن يَشاء ُ والل ّه ُ علَى ك ُ ّ ِ
والصيام َ والْج ِهاد َ والصّ د َق َة َ، ِّ ل ما نُط ِيقُ ،الصّ لاة َ ن الأعْما ِ ل الل ّهِ ،ك ُلِّفْنا م ِ َ
أي ر َسو َ
َب ،فقالواْ : ب َرَكُوا علَى الر ّك ِ
ل الكِتابَيْنِ م ِن
ل أه ْ ُ ل الل ّه ِ ﷺ" :أتُر ِيد ُو َ
ن أ ْن تَق ُولوا كما قا َ ل ر َسو ُ
ك هذِه الآيَة ُ ولا نُط ِيق ُها ،قا َ
ت عَلَي ْ َ
وق ْد أنْز ِل َ ْ
ك ر َب ّنا
طعْنا غُفْران َ َ
ك المَصِ ير ُ" ،قالوا :سَمِعْنا وأ َ
ك ر َب ّنا وإلَي ْ َ
طعْنا غُفْران َ َ
صي ْنا؟ بَلْ قُولوا :سَمِعْنا وأ َ
قَب ْل ِـك ُ ْم سَمِعْنا وع َ َ
ل إلَيْه ِ م ِن ر َبِّه ِل بما أنْز ِ َ
ن الر ّسُو ُ
ل الل ّه ُ في إثْر ِها" :آم َ َ
ت بها ألْسِنَتُهُمْ ،فأن ْز َ َ
ك المَصِ ير ُ ،فَلَم ّا اق ْتَر َأها القَوْم ُ ،ذ َل ّ ْوإلَي ْ َ
ك
طعْنا غُفْران َ َ ن بالل ّه ِ وم َلائِكَتِه ِ وكُتُبِه ِ ورُسُلِه ِ لا نُف َرِّقُ بيْنَ أحَدٍ م ِن رُسُلِه ِ وقالُوا سَمِعْنا وأ َ ل آم َ َ وال ْمُؤْم ِن ُونَ ك ُ ّ
ل" :لا يُك َل ّ ُِف الل ّه ُ ن َ ْفسًا إلّا و ُسْ ع َها
عز وج ّ ل الل ّه ُ ّ ك نَسَخَها الل ّه ُ ت َعالَى ،فأن ْز َ َ ك المَصِ ير ُ" ،فَلَم ّا فَع َلُوا ذل َ
ر َب ّنا وإلَي ْ َ
ل :نَع َ ْم" ،ر َب ّنا ولا تَحْم ِلْ علي ْنا إصْر ًا خذْنا إ ْن نَسِينا أ ْو أخْ ط َأْ نا" قا َ كسَب َْت وعليها ما اكْ تَسَب َْت ر َب ّنا لا تُؤا ِ لها ما َ
ْف ع َن ّا واغْفِر ْ لنا ل :نَع َ ْم" ،ر َب ّنا ولا تُح َم ِّل ْنا ما لا طاق َة َ لنا به ِ" قا َ
ل :نَع َ ْم" ،واع ُ ن م ِن قَب ْلِنا" قا َ
كما حَمَل ْت َه ُ علَى ال ّذ ِي َ
ل :نَع َ ْم) ،أخرجه مسلم ٌ.
ن" قا َ
وا ْرحَم ْنا أن ْتَ مَو ْلانا فان ْصُرْنا علَى القَو ْ ِم الكافِرِي َ
-١فائدة ٌ في طبيعة تلقي الصحابة -رضي الل ّه عنهم -لكتاب الل ّه -تعالى-؛ إذ كانوا يتلقون آياته بحساسية
ن الآية َ التي تنزل هي من كلام الل ّه؛ في ُعونها وينتبهون لدلالتها وما تستلزمه أو تقتضيه.
عالية؛ يستشعرون أ ّ
جاءت فاطمة -رضي الل ّه عنها -تطلبُ ميراثها من أبي بكر -رضي الل ّه عنه-؛ شعر َ أمامها
ْ -ومن ذلك أيضًا :لما
ن معشر َ الأنبياء ِ
نص نبويّ لا يستطيع أ ْن يتجاوز َه ُ وهو قوله ﷺ" :نح ُ
بالحرج الشديد ،ولـكن كان أمام َ عينيه ّ
لا نور َثُ ما ترَكناه ُ فهو صدقة ٌ".
ل الل ّه ِ ﷺ يَعْم َ ُ
ل به إلّا عَم ِل ْتُ به ،فإن ِ ّي -ولذا؛ قال أبو بكر -رضي الل ّه عنه( :-لَسْتُ ت َارِك ًا شيئًا ،كانَ ر َسو ُ
النص
ّ ِ أخْ ش َى إ ْن ت َرَكْ تُ شيئًا م ِن أ ْمرِه ِ أ ْن أزِ ي َغ)؛ فخاف -رضي الل ّه عنه -أ ْن يضل ّه الل ّه ُ بسبب تركه لهذا
َاب أل ِيم ٌ".
ن يُخَالِف ُونَ ع َنْ أ ْمرِه ِ أن تُصِ يبَه ُ ْم فِت ْن َة ٌ أ ْو يُصِ يبَه ُ ْم عَذ ٌ
الواضح ،كما جاء في قوله تعالى" :فَل ْيَحْذَرِ ال ّذ ِي َ
- 00 -
والصيام َ
ِّ ل ما نُط ِيقُ ،الصّ لاة َ
ن الأعْما ِ
ل الصحابة -رضي الل ّه عنهم( :-ك ُلِّفْنا م ِ َ
-٢من فوائد الحديث :قو ُ
ك هذِه الآيَة ُ ولا نُط ِيق ُها) :أي :أ ّنهم تحملوا هذه الأعمال على ما فيها من
ت عَلَي ْ َ
والْج ِهاد َ والصّ د َق َة َ ،وق ْد أنْز ِل َ ْ
ل ،لـكنهم لا يتحملون أن يحاسبوا على ما تهم به نفوسهم من الخواطر؛ وفي هذا درجة ٌ عالية ٌ في الإيمان
ث ِق ٍ
والصدق ومعرفة النفس.
-٥من فوائد الحديث :أن ّه يمكن إدراك ُ مركز ية ِ معنى التسليم لمرجعي ّة الوحي من تعظيم الوحي لـ(أواخر سورة
البقرة) المتضمنة لمعنى التسليم؛ ومن ذلك التعظيم ما يلي:
خر ِ
ن م ِن آ ِ
ن الن ّبيّ ﷺ قال" :الآيَتا ِ
ب -ما رواه البخاريّ عن أبي مسعودٍ عقبة بن عمرو -رضي الل ّه عنه -أ ّ
كف َتاه ُ".
سُورَة ِ البَق َرَة ِ ،م َن ق َرَأهُما في لَيْلَة ٍ َ
ن مركز ية َ هذه الآيات تب ٌع -والل ّه أعلم -لموضوعها المركزي وهو الإيمان والانقياد والتسليم وما فيه بعد
جـ -أ ّ
ذلك من التخفيف من الل ّه -تعالى.-
- 03 -
منهاج الن ّب ُو ّة ِ
ِ ن على
المحاضرة الثانية :تلقي القرآ ِ
ل بِه ِ وتدب ّرِه ِ والاستهداء ِمنهاج الن ّب ُو ّة ِ؛ وتقدي ِم مقصدِ العم ِ ن على
باب في تلقي القرآ ٌِ
ِ
ن المقاصدِ الشر يفة ِ والاستغناء ِ بِه ِ وتحكيمِه ِ وز يادة ِ الإيما ِ
ن بِه ِ على غير ذلك م ِ َ
الباب:
ِ عنوانُ
ل ضمن الهدف الأساسي لفكرة كتاب المنهاج؛ وهي جم ٌع لنصوص الوحي التي ته ّم المسلم
-هذا البابُ داخ ٌ
ح ينبغي أ ْن يبدأ من الجذور؛ ومن أهم
ح في واقعه ،وهذا الإصلا ُ
الذي يريد ُ أ ْن يثب ُتَ على دينه وأ ْن ي ُصل َ
هذه الجذور :جذر ُ تلقي القرآن.
ن كثير ًا من جوانب النقص التي تعتري عدد ًا كبير ًا من سياقات الحلقات القرآنية -اليوم ،-يُمكن أ ْن
-إ ّ
النصوص ما ينبغي أ ْن ي ُعتنى به في تلقي
ُ ضبط بمراجعة النصوص الواردة في هذا الباب؛ إذ ت ُبي ِّنُ هذه
تُ َ
تكشف عن طبيعة العلاقة مع القرآن في قاموس الوحي.
ُ القرآن ،وأيضًا
تنبـيه :ق ّدمتُ -سابق ًا -مادّة ً في هذا السياق ضمن سلسلة (مركز يات الإصلاح) في شك ِ
ل مظل ّة ٍ شمولية ٍ لمعالم
الباب:
ِ شواهد ُ
اب":
ك م ُبَارَك ٌ لِّي َ ّدب ّر ُوا آي َاتِه ِ و َلِيَتَذَك ّر َ أولُو الْألْب َ ِ الآية الأولى :قال تعالى" :ك ِت َ ٌ
اب أنزَلْنَاه ُ ِإلَي ْ َ
ن التدب ّر َ من المقاصد الغائية لإنزال القرآن ،ومن هذه المقاصد -
-تُبي ِّنُ الآية ُ مركز ية َ التدب ّر لكتاب الل ّه؛ ذلك أ ّ
اب"؛
ل التذك ّر به؛ وهو إزالة ُ الغفلة والاتعاظ والاستقامة ،كما قال تعالى" :و َلِيَتَذَك ّر َ أولُو الْألْب َ ِ
أيضًا :-حصو ُ
ل عبر َ بوابة ِ التدب ّر والت ّدارس.
ص ُ
وهذا التذك ّر ُ يح ُ
ت قُلُو بُه ُ ْم و َِإذ َا تلُِي َْت عَلَيْه ِ ْم آي َاتُه ُ ز َادَتْه ُ ْم الآية الثانية :قال تعالىِ " :إن ّمَا ال ْمُؤْم ِن ُونَ ال ّذ ِي َ
ن ِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَجِل َ ْ
ِإ يمَان ًا و َعَلَى ر َ ّبِه ِ ْم يَت َوَكّلُونَ".
ن آم َن ُوا ف َزَادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا
ل أي ّك ُ ْم ز َاد َت ْه ُ هََٰذِه ِ ِإ يمَان ًا ف َأمّا ال ّذ ِي َ
ت سُورَة ٌ فمَِنْه ُم مّن يَق ُو ُ
-وقال تعالى" :و َِإذ َا م َا أنز ِل َ ْ
و َه ُ ْم يَسْتَبْشِر ُونَ":
- 04 -
يحسنون تلقي القرآن والتعامل معه على مقياس
-هاتان الآيتان تبي ِّنان ماهية َ المؤمنين الح ّقة؛ وهم الذين ُ
الوحي؛ ومن أهم محددات هذا المقياس :ز يادة ُ الإيمان ،كما قال تعالى" :و َِإذ َا تلُِي َْت عَلَيْه ِ ْم آي َاتُه ُ ز َادَتْه ُ ْم
ن آم َن ُوا ف َزَادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا".
ِإ يمَان ًا"" ،ف َأمّا ال ّذ ِي َ
ل على الإشكال فيها ،وحينئذ لا بُدّ أ ْن ي ُعاد َ
-فإذا كانت طبيعة ُ تلقي القرآن لا تُثمر ُ ز يادة َ الإيمان؛ فهذا يد ّ
ن عين ُه ُ على ثمرة ز يادة الإيمان
مركزة ُ هذا التلقي بطر يقة ٍ أخرى( ،وهذا ي ُفيد ُ المربي في بث ّ ِه ِ للقرآن أ ْن تكو َ
ن في اختبار طر يقة تلقي نفسه للقرآن).
ن طر يقت َه ُ ،وكذلك يستفيد ُ منه المؤم ُ
ليمتح َ
ل جندب بن عبد الل ّه -رضي الل ّه
-ولمعنى ز يادة الإيمان من تلقي القرآن شاهدٌ من هدي الن ّب ِيّ ﷺ؛ وهو قو ُ
ل أ ْن نتعل ّم َ القرآنَ ثم ّ تعل ّمنا القرآنَ فازددنا ب ِه إيمان ًا).
عنه( :-فتعل ّمنا الإيمانَ قب َ
الآية الثالثة :قال -تعالى -في أربعة ِ مواض َع في سورة القمر" :و َلَق َ ْد يَس ّرْن َا الْقُر ْآنَ لِلذِّكْر ِ فَه َلْ م ِنْ م ُ ّدكِرٍ":
-قال الإمام ُ الطبريّ ( :ولقد سهّلنا القرآنَ وهو ّناه لمن أراد َ التذك ّر به والاتعاظ؛ "فَه َلْ م ِنْ م ُ ّدكِرٍ" يقول :فهل
ن من غايات تلقي القرآن؛ أ ْن يُتلقى بطر يقة ٍ تقود ُ إلى التذك ّر والاعتبار
من متعظٍ ومنزجر ٍ بآياته)؛ وعليه؛ فإ ّ
والاتعاظ.
ن
يخْشَو ْ َ ن َ ِيث كِتَاب ًا مّتَش َابِهًا مّثَانِي َ ت َ ْقش َع ِر ّ مِن ْه ُ ج ُلُود ُ ال ّذ ِي َ
ن الْحَد ِ ل أحْ س َ َ الآية الرابعة :قال تعالى" :الل ّه ُ نَز ّ َ
ل الل ّه ُ فَمَا لَه ُ م ِنْك هُد َى الل ّه ِ يَهْدِي بِه ِ م َن يَش َاء ُ وَم َن يُضْ ل ِ ِ ر َ ّبه ُ ْم ث ُم ّ تلَِينُ ج ُلُود ُه ُ ْم و َقُلُو بُه ُ ْم ِإلَى ذِكْر ِ الل ّه ِ ذََٰل ِ َ
ه َادٍ":
يحدِثُ في الإنسان حالة ً من الخشوع والإخبات
-تُبيِّنُ الآية ُ أثر َ التفاعل الإيماني مع القرآن؛ فالقرآنُ ُ
ل على أن ّه يتلقى القرآن ًّ
تلقي ّا صحيح ًا؛ فيزداد ُ به إيمان ًا. والخشية والإنابة ،وهذه يد ّ
ق وَل َا يَكُونُوا
ن الْح َ ّ ِ تخْشَ َع قُلُو بُه ُ ْم لِذِكْر ِ الل ّه ِ وَم َا ن َز َ َ
ل مِ َ ن آم َن ُوا أن َ الآية الخامسة :قال تعالى" :أل َ ْم ي َأْ ِ
ن لِل ّذ ِي َ
سق ُونَ":
َت قُلُو بُه ُ ْم وَكَث ِير ٌ مِّنْه ُ ْم فَا ِ
ل عَلَيْهِم ُ الْأمَد ُ فَقَس ْ
ل فَطَا َ
م ِن قَب ْ ُ ن أوتُوا الْكِتَابَ
ك َال ّذ ِي َ
ق من تلقي القرآن؛ والتي ينبغي أ ْن تكونَ
-وهذا الأثر ُ -خشوع القلب -من صور ز يادة الإيمان التي تتح ّق ُ
نُصبَ عين ْي م َن يتعامل مع القرآن.
الآية الثامنة :قال تعالى" :و َلََٰكِن كُونُوا ر َب ّانيِِّينَ بِمَا كُنتُم ْ تُع َل ِّم ُونَ الْكِتَابَ و َبِمَا كُنتُم ْ ت َ ْدرُسُونَ":
ل إلى غاية الر ب ّاني ّة إن ّما يكونُ عبر َ وسيلة تعل ّم القرآن وتعليمه ومدارسته؛ وهذا التعل ّم ُ
ن الوصو َ
-تُبيِّنُ الآية ُ أ ّ
ضا.
أوس ُع من أ ْن يكونَ تعل ّم ًا لحروفه فقط ،وإنما هو تعل ّم ٌ لحدوده أي ً
جه َاد ًا كَب ِير ًا": الآية التاسعة :قال الل ّه -تعالى" :-فَلَا تُط ِِع الْك َافِرِي َ
ن وَج َاهِدْه ُم بِه ِ ِ
ن
ن من مقاصد القرآن :مدافعة َ الباطل من خلاله؛ وهذا مما يجبُ أ ْن يستحضر َه ُ الم ُصلح؛ إذ أ ّ
-تُبيِّنُ الآية ُ أ ّ
خطاب عامّ له ﷺ ولورثته من بعده.
ٌ خطابَ الل ّه لنبيه ﷺ "وَج َاهِدْه ُم بِه ِ" ليس خا ًّ ّ
صا بالن ّب ِيّ ﷺ وإن ّما هو
الحديث الأوّل :عن عبد الل ّه بن عمر -رضي الل ّه عنهما -قال( :لقد عِشْنا ب ُرهة ً م ِن دَهْرِنا ،وإ ّ
ن أحدَنا
سورة ُ على م ُحم ّدٍ ﷺ ،فيت َعل ّم ُ حلالَها وح َرامَها ،وما ين ْب َغي أ ْن يُوق ََف عند َه
ل ال ّ
ل الق ُرآنِ ،وتنزِ ُ
يُؤ ْتَى الإيمانَ قب َ
فيها كما تَعل ّمونَ أنتم الق ُرآنَ ،ثم ّ قال :لقد رأي ْتُ رِجال ًا يُؤ ْتَى أحد ُهم الق ُرآنَ ،فيقرَأ ما بين فاتحت ِه إلى خاتمت ِه ما
ل) ،أخرجه الحاكم ُ والبيهقيّ
جر ُه ،ولا ما ين ْب َغي أ ْن يُوق ََف عنده منه ،ينث ُر ُه نثْر َ الد ّق َ ِ
ي َدري ما أمْرُه ولا زا ِ
واللفظ له.
ل) :هو الر ّديء ُ م ِن التمّرِ وما لا فائدة َ فيه.
(-الد ّق َ ِ
ل الاستقرائيّ لنصوص الوحي على موضوعات الأحكام فقط -إذ لا يفتي المجتهد ُ في
-ولا يقتصر ُ هذا التعام ُ
بنص آخر
ق في القرآن و يقي ّد ُ ّ ٍ
نص مطل ٌ
مسألة ٍ حت ّى ينظر َ في مجموع ما ورد َ في بابها من النصوص؛ فقد يرِدّ ّ
بنص آخر في القرآن أو الس ُن ّة؛ كما جاء في ح ُكم
ص ّ ٍ
يخصّ ُ
نص عامّ في القرآن و ُ
في القرآن أو الس ُن ّة ،وقد يأتي ّ
ل في كاف ّة ِ موضوعات الشر يعة.
قطع يد السارق ،وحكم الميراث ،-بل ينبغي أ ْن يكونَ هذا التعام ُ
- 07 -
ن ...إلخ ،ثم ّ قال :لقد رأي ْتُ رِجال ًا
ل الق ُرآ ِ
ن أحد َنا يُؤ ْتَى الإيمانَ قب َ
ن عمرٍ -رضي الل ّه عنهما( :-وإ ّ
-يقول اب ُ
بقلوب ي ُبنى فيها الإيمان؛
ٍ ن عمرٍ طر يقة َ استعداد الصحابة لتلقي لقرآن؛
يُؤ ْتَى أحد ُهم الق ُرآنَ ...إلخ)؛ يبيِّنُ اب ُ
ل تلقي القرآن فيم َن جاؤوا بعد جيل الصحابة .وعلى
فيملؤها بالتعظيم والتقدير للقرآن ،ثم ينتقد ُ استسها َ
ن من جملة ما يجبُ الاعتناء ُ به في حلقات التحفيظ؛ أ ْن يُبدأ بالدروس المتعل ِّقة بأعمال القلوب
ذلك؛ فإ ّ
والإيمان.
سورة ُ
ل ال ّ
يرتبط بهذا الحديث من مقاصد تلقي القرآن؛ مقصد ُ الر ب ّاني ّة في قول ابن عمر( :وتنزِ ُ
ُ -من أبرز ما
على م ُحم ّدٍ ﷺ ،فيت َعل ّم ُ حلالَها وح َرامَها ،وما ين ْب َغي أ ْن يُوق ََف عند َه)؛ وهذا التعل ّم ُ والمدراسة ُ قريبٌ من قوله
تعالى" :و َلََٰكِن كُونُوا ر َب ّانيِِّينَ بِمَا كُنتُم ْ تُع َل ِّم ُونَ الْكِتَابَ و َبِمَا كُنتُم ْ ت َ ْدرُسُونَ" ،وكذلك مقصد ُ التذك ّر والاتعاظ
جر ُه) وهذا مصداقًا لقوله تعالى" :و َلَق َ ْد يَس ّرْن َا الْقُر ْآنَ لِلذِّكْر ِ فَه َلْ م ِن مّ ّدكِرٍ".
في قول ابن عمر( :ما أمْرُه ولا زا ِ
ن حزاورة ٌ الحديث الثاني :عن جندب بن عبد الل ّه -رضي الل ّه عنه -قال( :كن ّا م َع الن ّب ِيّ ﷺ ونح ُ
ن فتيا ٌ
ن ماجه.
ل أن نتعل ّم َ القرآنَ ثم ّ تعل ّمنا القرآنَ فازددنا ب ِه إيمان ًا) ،أخرجه اب ُ
فتعل ّمنا الإيمانَ قب َ
-يعتبر ُ هذا الحديثُ تطبيق ًا عمليًا على مقصد ز يادة الإيمان من خلال تلقي القرآن؛ فقد كان الن ّبيّ ﷺ
شرف على طر يقة تلقي القرآن المح ّق ِقة ِ لز يادة الإيمان.
يُ ُ
ُوت الحديث الثالث :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ قال" :و َما اجْ ت َمع قَوْم ٌ في بَي ٍ
ْت م ِن بُي ِ
ح ّفتْهُم ُ المَلَائِك َة ُ،
سكِين َة ُ ،وَغَشِيَتْهُم ُ الر ّحْم َة ُ ،و َ َ الل ّهِ ،يَت ْلُونَ كِتَابَ الل ّهِ ،و َيَتَد َارَسُونَه ُ بيْنَهُمْ؛ ِإلّا ن َزَل َ ْ
ت عليه ِم ال ّ
وَذَك َر َهُم ُ الل ّه ُ ف ِيم َن عِنْدَه ُ" ،أخرجه مسلم ٌ.
شق التلاوة ،وإن ّما ي ُشف ُع
وقف عند َ ّ ِ
-يُؤكد ُ هذا الحديثُ على قضية تلاوة وتدارس القرآن مع ًا؛ إذ ينبغي ألا ي ُ َ
بشقّ الت ّدارس.
َث
ن ابْع ْ الحديث الرابع :عن أنس بن مالك -رضي الل ّه عنه -قال( :ج َاء َ ن َ ٌ
اس إلى الن ّب ِيّ ﷺ ،ف َقالوا :أ ِ
فاـئدة :نجد أ ّ
ن م ُسمّى (الس ُن ّة) موجود ٌ في زمن الن ّب ِيّ ﷺ؛ وهذا مما يستفاد ُ به في سياق الردِّ على المنكرين
- 08 -
أنس بن مالك -رضي الل ّه عنه -مجموعة ً من خيار الصحابة بـ(الق ُر ّاء)؛ وذلك لانشغالهم الدائم
ُ يصف
ُ -
ل يَتَع َل ّم ُونَ) ،إذن؛ قضية ُ الت ّدارس من الأمور الأساسية المتعل ِّقة
بالقرآن (يَقْرَؤ ُونَ القُر ْآنَ ،و َيَتَد َار َسونَ بالل ّي ْ ِ
جالس تدارس القرآن من أعظم ما يكونُ من الت ّصحيح في طر يقة تلقي
ن إحياء َ م َ
بتلقي القرآن ،ولذلك؛ فإ ّ
القرآن.
حديث" :خَيْر ُك ُ ْم م َن تَعَل ّم َ القُر ْآنَ وعَل ّم َه ُ" وكان مشهور ًا بتعليم القرآن -قال( :ح ّدثَنا م َن كان يُقرِئُنا من
آيات ،فلا يأخ ُذونَ في العَشْرِ الأخرى حتى
ٍ ل الل ّه ِ ﷺ عَشْر َ
حاب الن ّب ِيّ ﷺ أ ّنهم كانوا يَقتَرِئونَ من رسو ِ
أص ِ
ل) .وعن ابن مسعودٍ -رضي الل ّه عنه -قال:
ل ،قالوا :فتعل ّم ْنا الع ِلم َ والعَم َ َ
ن الع ِلم ِ والعَم َ ِ
يَعلَموا ما في هذه م َ
ل بهنّ ) ،أخرجهما الطبريّ في
آيات لم يجاوزه ُنّ حتى يعرف معانيه ُنّ ،والعم َ
ٍ (كانَ الرجل م ِن ّا إذا تعل ّم عَش ْر
تفسيره بإسنادٍ جيدٍ.
-هذان نصّ ان مركز يان في طر يقة تلقي القرآن على زمن الن ّب ِيّ ﷺ؛ فيهما معيار ٌ ينبغي أ ْن ي ُعاد َ تفعيل ُه ُ وتحقيق ُه ُ
ن
آيات هو( :حتى يَعلَموا ما في هذه م َ
ٍ في حلقات تلقي القرآن ،والمعنى المركزيّ في تجزئة تلقي القرآن لعشر
ل).
الع ِلم ِ والعَم َ ِ
ن عَبْد َ الل ّه ِ ب ْ َ
ن ع ُم َر َ مَكَثَ عَلَى الحديث السادس :عن مالكٍ -رحمه الل ّه -صاحب (الموطأ)( :أن ّه ُ بلََغ َه ُ أ ّ
ل الل ّه ﷺ،
يدي رسو ِ
ْ الحديث السابع :عن أنس بن مالكٍ -رضي الل ّه عنه -قال( :ك َانَ رج ٌ
ل يكتبُ بينَ
ل إذا ق َر َأ البقرة َ وآل عمران ي ُع َ ّد ف ِينا عظيم ًا) ،أخرجه أحمد.
ق َ ْد ق َر َأ البقرة َ وآل عمران؛ وك َانَ الرج ُ
- 09 -
-يبيِّنُ الحديثُ طر يقة ً من طرائق تلقي الصحابة للقرآن؛ وذلك عن طر يق أخْذِ الأداء بمعرفة طر يقة التلاوة،
ن أخْذ َ سورتي البقرة وآل
حفظ للآيات ،ثم تعل ّم َ ما فيها من العلم والعمل؛ وهذا يعني أ ّ
ن ال َ
وهذا يتضم ُ
ل =له معن ًى كبير ٌ ج ًّ ّدا.
عمران وما فيهما من أحكا ٍم وع ِب َرٍ وعم ٍ
ن م َن يحفظ القرآن كامل ًا و يأخذ فيه الإجازات؛ كأن ّه أنهى رحلته العلمية
-لـكن واقعنا -اليوم :-نجد أ ّ
مرتبط بمرحلة الأداء والحفظ فقط ،وليس هذا هو القدر ُ الكافي في تلقي
ٌ ل هذا
المتعل ِّقة بكتاب الل ّه ،بينما ك ّ
القرآن.
خذ ُ عشرة َ أجزاء -مثل ًا ،-وما فيها من العلم والعمل؛ بالوقوف
-أمّا الطر يقة ُ المنهجية ُ في تلقي القرآن هي :أ ْ
عند الحلال والحرام والآمر والزاجر ،ثم ّ عشرة َ أجزاء ،ثم ّ عشرة َ أجزاء.
الباب:
ِ خـلاصة ُ
ُ
ق عبر َ مجموعة ٍ من الوسائل في طر يقة ومنهج ن أ ٌنز ِ َ
ل لمقاصد ينبغي أ ْن تتح ّق َ ن القرآ َ
-كان هذا البابُ في بيان أ ّ
ّقت هذه المقاصد ُ عبر َ وسائلها تطبيق ًا ًّ
عملي ّا في زمن الن ّب ِيّ ﷺ كما ورد معنا في النصوص تلقي القرآن ،وقد طُب ِ ْ
السابقة.
ٍ
واقع بعيدٍ ج ًّ ّدا عن تحقيق تلك المقاصد ،وعن السير على وسائلها التي جاءت في المنهج -ونحن -اليوم -أمام َ
بوي في تلقي القرآن.
الن ّ ّ ِ
ن أعظم هذه الجذور هو الجذر ُ
ق الإصلاح يجبَ أ ْن يبدأ من الجذور؛ فإ ّ
ن طر ي َ
-وما دمنا نتحدثُ عن أ ّ
ق المقاصد
ق بتلقي القرآن لي ُحق َ
سن ّة رسوله ﷺ ،فإذا أصلحنا ما يتعل ّ ُ
المرتبط بمرجعي ّة الوحي؛ من كتاب الل ّه و ُ
ُ
قت عند َ م َن يتلقى القرآن في زمن الن ّب ِيّ ﷺ =كان ذلك من أهم الإصلاح في الجذور؛ التي إذا التي تح ّق ْ
ج عنها ،وإذا لم ت ُصْ ل َحْ =ستستمر ْ عجلة ُ حلقات القرآن في تخريج أعدادٍ
حت =يصل ُحْ من خلالها ما ينت ُصل َ ْ
ثمرات ومقاصد تلقي القرآن.
ٍ ق من
يح ّق َ
ق ما ينبغي أ ْن ُ
تح ّق ِ َ
هائلة ٍ من ح ّفاظ القرآن لـكن دون أ ْن ُ
- 21 -
المحاضرة الثالثة :تعظيم ُ حدودِ الل ّه
تعظيم حدودِ الل ّهِ ،والتحذير ِ م ِن مخالفة ِ أمرِه ِ وأمر ِ رسوله ﷺ
ِ باب في
ٌ
م ُق ّدِمة ٌ:
ن واحدة ً من الأمور
ل بين هذا الباب ،وبينَ باب (مرجعي ّة الوحي)؛ ووجه ُ الت ّرابط أ ّ
ارتبط واتصا ٌ
ٌ -هناك
صة ٍ؛ وذلك من
بتعظيم مرجعي ّة الوحي بصورة ٍ خا ّ
ِ ق
الواجبة تُجاه مرجعي ّة الوحي :التعظيم ،فهذا البابُ متعل ّ ِ ٌ
جهتين :جهة تعظيم حدود الل ّه؛ وهذه الحدود ُ تُعلَم ُ من مرجعي ّة الوحي ،وجهة التحذير من مخالفة أمر الل ّه
ق بمرجعي ّة الوحي.
وأمر رسوله ﷺ؛ وهذا متعل ّ ِ ٌ
جالات أساسية ٍ:
ٍ -هذا التعظيم ُ له ثلاثة ُ م
ل
أساس لك ّ ِ
ٌ الأوّل :تعظيم ُ الل ّه -تعالى :-فتعظيم ُ الوحي فرعٌ عن تعظيم الذي أنزله -سبحانه-؛ وتعظيم ُ الل ّه هو
ق بالشر يعة.
تعظيم متعل ّ ِ ٍ
ٍ
ل في عامّة ما جاءت به الشر يعة ُ.
ل لكتاب الل ّه ولس ُن ّة رسوله ﷺ :ويتمث ُ
الثانـي :التعظيم ُ المجم ُ
نفس الدرجة من
َ ل ما جاء فيها
ظمت ْه ُ الشر يعة ُ :فلم ْ تُعطِ الشر يعة ُ لك ّ ِ
خاص لما ع ّ
الثالث :التعظيم ُ التفصيليّ ال ّ
ن من أعظم صور الفقه في
جاءت الأمور ُ في الشر يعة متفاوتة ً في درجة تعظيمها ،ولذلك؛ فإ ّ
ْ التعظيم ،وإنما
ًّ
تفصيلي ّا ظمها الل ّه ورسوله ﷺ؛ سواء ً كان تعظيم ًا مجُمل ًا عا ًّمّا ،أو
ظم َ الأمور ُ الشرعية بقدر ما ع ّ
الدين أ ْن تُع ّ
صا؛ كتعظيم الأماكن والأزمنة والأعمال المعينة. خا ًّ ّ
أصناف:
ٍ اس في الت ّعامل مع النصوص الشرعية ومرجعي ّة الوحي على ثلاثة ِ
-الن ّ ُ
ل الامتثال ،وهو الأعلى. قلبي ّا خا ًّ ّ
صا قب َ ظ ِم أوامرها تعظيم ًا ًّ
ل للشر يعة ،و يع ّ
الأوّل :م َن يمتث ُ
خاص لها الأمرُ الكافي.
ل للشر يعة بأداء فروضها ،ولا يكونُ في قلبه من التعظيم ال ّ ِ
الثانـي :م َن يمتث ُ
ظِم ُها.
ل للشر يعة ولا يع ّ
الثالث :م َن لا يمتث ُ
ل
ختلف أداؤه لأوامرها عن أداء م َن يمتث ُ قلبي ّا خا ًّ ّ
صا ي ْ ظ ِ ْم أوامر الشر يعة تعظيم ًا ًّ
َ ن م َن يع ّ
-وعلى ما تق ّدم :فإ ّ
شع َائ ِر َ الل ّه ِ
ظ ِ ْم َ
ك وَم َن يُع َ ّ
مستصحب لهذه الدرجة من التعظيم ،ولذلك؛ قال تعالى" :ذََٰل ِ َ
ٍ أوامرها وهو غير ُ
ن ذلك التسمينَ ليس
ن الصحابة َ كانوا يُسمِّنون الأضاحي ،مع أ ّ
وب"؛ ومن ذلك :أ ّ
ف َِإ ّنهَا م ِن تَقْو َى الْق ُل ُ ِ
مطلوب ًا في الأضحية؛ لـكنهم كانوا يفعلونه من باب تعظيم شعائر الل ّه.
- 20 -
ل وهو
ل عليه؛ فيمتث ُ
ل لأوامرها يكونُ أسه َ
ن الامتثا َ -فإذا رُزِقَ الإنسان تعظيم الشر يعة تعظيم ًا خا ًّ ّ
صا؛ فإ ّ
ن في أدائها ،أمّا م َن لا يستصحبُ هذا
س َ
ل على العبادة وقد وجد َ ما يدفع ُه ُ لأ ْن يُح ِّ
ح الن ّفس وم ُقب ٌ
منشر ُ
خاص من التعظيم؛ يكونُ غاية ُ أدائه للعبادة إبراء َ ذمته بإسقاط الفرض الذي عليه ،وهذا وإ ْن كان
المعنى ال ّ
ن الفرقَ بينهما كبير ٌ في الدرجة.
فيه جزء ٌ من التعظيم -بلا شك ،-إلا أ ّ
الباب:
ِ شواهد ُ
ت قُلُو بُه ُ ْم و َِإذ َا تلُِي َْت الآية الأولى :قال تعالى في سورة الأنفالِ " :إن ّمَا ال ْمُؤْم ِن ُونَ ال ّذ ِي َ
ن ِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَجِل َ ْ
ن عَلَى م َا
ت قُلُو بُه ُ ْم و َالصّ ابِر ِي َ
ن ِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَجِل َ ْ
عَلَيْه ِ ْم آي َاتُه ُ ز َادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا" ،وفي سورة الحج؛ قال تعالى" :ال ّذ ِي َ
أصَابَه ُ ْم و َال ْمُق ِيمِي الصّ لَاة ِ وَمِم ّا رَزَق ْنَاه ُ ْم يُنفِق ُونَ":
تكشف عن معنى
ُ تكشف عن صورة التعظيم :أ ْن تنظر َ في الصورة المضادّة لها؛ التي
ُ -من أهم المعاني التي
آيات التعظيم الآنف ذكرها ،وكذلك أورد َ الصورة َ المضادّة َ لها؛
الاستهانة ،وقد أبرز َ القرآنُ الصورتين؛ فذكر َ ِ
ومن ذلك:
َاب أل ٍِيم". -١قوله تعالى" :و َِإذ َا تُت ْلَى عَلَيْه ِ آي َاتُنَا و َل ّى مُسْت َ ْكبِر ًا ك َأن ل ّ ْم ي َ ْسمَعْه َا ك َأ ّ
ن فِي أذ ُنَيْه ِ و َق ْرًا فَبَش ِّرْه ُ بِعَذ ٍ
خرَة ِ".
ن ل َا يُؤْم ِن ُونَ ب ِالْآ ِ
ت قُلُوبُ ال ّذ ِي َ
-٢قوله تعالى" :و َِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَحْدَه ُ اشْم َأزّ ْ
ق الل ّه َ أخَذ َت ْه ُ ال ْع ِز ّة ُ ب ِال ِْإ ْث ِم"؛ وهي أوضح ُ آية ٍ في الدلالة على صورة الاستهانة؛ إذ
ل لَه ُ ات ّ ِ
-٣قوله تعالى" :و َِإذ َا ق ِي َ
ِف بالل ّه =يخاف ،وبعكس ذلك :من علامات
خو ّ َ
من أظهر علامات المؤمن :أن ّه إذا ذُك ِّر َ بالل ّه =تذك ّر ،وإذا ُ
ك
ن م ِن َ
ت ِإن ِ ّي أع ُوذ ُ ب ِالر ّحْمََٰ ِ
خافت مريم ُ -عليها السلام" -قَال َ ْ
ْ جر َ بالل ّه =لا ينزجر ،ولذلك؛ لم ّا
المنافق :أن ّه إذا ز ُ ِ
ِإن كُنتَ تَق ًِّي ّا".
ق الل ّه)؛ فكونه
ل للإنسان (ات ِ
ت قُلُو بُه ُ ْم" :الوجل :أي الخوف؛ فإذا قي َ
ن ِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَجِل َ ْ
-قوله تعالى" :ال ّذ ِي َ
ن لهذه
ل المؤم ُ
ل قلبه فهذه درجة ٌ أعلى؛ فإذا وص َ
ف بوج ِ
ف عن معصية الل ّه =هذه درجة ٌ ،وكونه يتوق ّ ُ
يتوق ّ ُ
الدرجة =فهو أسعد ُ الن ّاس بامتثال أوامر الل ّه ،وأش ّد الن ّاس ابتعاد ًا عم ّا حرّم الل ّه.
-وليس بالضرورة أ ْن يكونَ ذكر ُ الل ّه المؤدي إلى وجل القلب ،هو الذكر ُ بالل ّ ِسان فقط (الذكر المسموع) ،بل
حشَة ً أ ْو
ن ِإذ َا فَع َلُوا فَا ِ
قد يؤدي الذكر ُ في داخل الن ّفس (الذكر الداخلي) إلى وجل القلب؛ قال تعالى" :و َال ّذ ِي َ
ظَلَم ُوا أنْف ُسَه ُ ْم ذَك َر ُوا الل ّه َ فَاسْ تَغْف َر ُوا لِذُنُو بِه ِ ْم وَم َنْ يَغْف ِر ُ الذ ّنُوبَ ِإلا الل ّه ُ"؛ ومعنى ذكر الل ّه هنا :هو الذكر ُ
الداخليّ ،التذك ّر؛ أي :أ ّنهم تذك ّروا الل ّه.
- 22 -
القلب عند َ ذِكر ِ الل ّهِ؟
ِ ل
ل الإنسانُ إلى درجة ِ وج ِ
كيف يص ُ
َ سـؤال:
يخ ْش َى
=يصل إلى ذلك بالعلم بالل ّه؛ فكل ّما ازداد َ الإنسانُ علمًا بالل ّه =ازداد َ تأه ّل ًا للخشية منه؛ قال تعالىِ " :إن ّمَا َ
ل القلب من ذكر الل ّه هي صورة ٌ من صور الخشية ،وللعلم بالل ّه سبلٌ؛ منها:
الل ّه َ م ِنْ عِبَادِه ِ ال ْع ُلَمَاء ُ" ،ووج ُ
ل ما ذكره الل ّه عن نفسه فيه.
-١تدب ّر ُ كتاب الل ّه ،وتأمّ ُ
-٢التفك ّر ُ في مخلوقات الل ّه -تعالى.-
ت قُلُو بُه ُ ْم" بباب تعظيم حدود الل ّه والتحذير من مخالفة أمره وأمر
ن ِإذ َا ذُك ِر َ الل ّه ُ وَجِل َ ْ
ق قولُه ُ تعالى" :ال ّذ ِي َ
-يتعل ّ ُ
ن امتثالَه ُ لأمر الل ّه وابتعاده عم ّا حرّم =من
رسوله ﷺ من وجه أن ّه إذا كان القلبُ وجل ًا من ذكر الل ّه؛ فإ ّ
المقتضيات الأساسية لمثل هذا الوجل والتعظيم.
-قوله تعالى" :و َِإذ َا تلُِي َْت عَلَيْه ِ ْم آي َاتُه ُ ز َادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا" :فز يادة ُ الإيمان من أعظم الثمرات التي ينبغي أ ْن يح ّقِق َها
ل أي ّك ُ ْم ز َاد َت ْه ُ هََٰذِه ِ ِإ يمَان ًا
ت سُورَة ٌ فمَِنْه ُم مّن يَق ُو ُ
ن في علاقته بكتاب الل ّه؛ كما قال تعالى" :و َِإذ َا م َا أنز ِل َ ْ
المؤم ُ
ن آم َن ُوا ف َزَادَتْه ُ ْم ِإ يمَان ًا و َه ُ ْم يَسْتَبْشِر ُونَ".
ف َأمّا ال ّذ ِي َ
ارتباط واضح ٌ بتعظيم حدود الل ّه ،ففي الآية :عملٌ؛ وهو التعظيم لشعائر الل ّه ،وفيها أيضًا :بيانُ
ٌ -في ألفاظ الآية
ظ ِم لهذه الشعائر.
سبب هذا العمل؛ وهو التقوى الكامنة في قلب المؤمن المع ّ
شع ُورِ،
ن ال ّ الواضح ُ مُشْت َ ّقة ٌ م ِ َ ِ شعائ ِر ُ :جَم ْ ُع شَع ِيرَة ٍ :المَعْلَم ُ ل الإمام ُ الطاهر ُ ابن عاشور -رحمه الل ّه( :-ال ّ -٢يقو ُ
أي :مُعْل ِمَة ٍ بِما ع َي ّن َه ُ الل ّه ُ).
ل ْ وشَعائ ِر ُ الل ّه ِ :لَق ٌ
َب لم َِناسِكِ الح َ ِجّ ،جَم ْ ُع شَع ِيرَة ٍ بِمَعْنى :مُشْع ِرَة ٍ ب ِصِ يغَة ِ اس ْ ِم الفاع ِ ِ
- 23 -
ل بعض ُهم( :شعائر ُ الل ّه ِ هي ال ْب ُ ْدنُ)؛ الب ُ ْدنُ التي يسوقها أخص من ذلك؛ فيقو ُ ّ -٣وفي كلام المفسرين ما هو
ل في شعائر الل ّه :الصفا شع َائِر ِ الل ّه ِ" ،ومما يدخ ُ جعَل ْنَاه َا لـَك ُ ْم م ِنْ َ
الحاجّ في الهدي ،كما قال تعالى" :و َال ْب ُ ْدنَ َ
شع َائِر ِ الل ّه ِ" ،وكذلك في سورة المائدة" :ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ
ن آم َن ُوا ل َا ن الصّ ف َا و َال ْمَرْوَة َ م ِن َ
والمروة؛ كما قال تعالىِ " :إ ّ
شع َائ ِر َ الل ّه ِ وَل َا الش ّهْر َ الْحَرَام َ وَل َا ال ْهَدْيَ وَل َا الْق َلَائِد َ".
تح ِل ّوا َ
ُ
- 24 -
ل م َن َ َع
سلِمٍ ،وَرَج ُ ٌ
ل مُ ْ
ل رَج ُ ٍ
ف علَى يَميِنٍ ك َاذِبَة ٍ بَعْد َ العَصْرِ؛ لِيَقْتَط ِ َع بهَا م َا َ
ل ح َل َ َ
ِب ،وَرَج ُ ٌ
أ ْعط َى ،و َهو ك َاذ ٌ
ل ما ل َ ْم تَعْم َلْ يَد َاك َ".
ك ف َضْ ل ِي كما م َنَعْتَ ف َضْ َ ل م َاءٍ ،في َقو ُ
ل الل ّه ُ :اليوم َ أمْنَع ُ َ ف َضْ َ
َص م َا بَعْد َ
ل الإمام ُ النووي في شرح الحديث( :و َأمّا الْحَال ُِف ك َاذِب ًا بَعْد َ الْعَصْرِ فَمُسْتَحِقّ هَذ َا ال ْوَعِيد َ وَخ ّ -يقو ُ
ك). ل و َالنّهَارِ و َغَيْرِ ذَل ِ َ الْعَصْرِ ل ِشَر َفِه ِ بِس َب َِب اجْ تِم ِ
َاع م َلَائِكَة ِ الل ّي ْ ِ
ل الل ّه ِ ﷺ يَعْم َ ُ
ل ن ر َسو ُ الحديث الأوّل :قو ُ
ل أبي بكر الصديق -رضي الل ّه عنه( :-لَسْتُ ت َارِك ًا شيئًا كا َ
به ،إلّا عَم ِل ْتُ به ،إن ِ ّي أخْ ش َى إ ْن ت َرَكْ تُ شيئًا م ِن أ ْمرِه ِ أ ْن أزِ ي َغ) ،أخرجه البخاريّ .
ج الجام ُع بينَ اجتناب النهي (الامتثال) ،وبينَ استصحاب الخشية والخوف من عاقبة هذا
-هذا هو النموذ ُ
ل الذي ينبغي أ ْن يحتذيَ به المؤمن.
ج هو المثا ُ
النهي (التعظيم) ،وهذا النموذ ُ
ل أبي بكر( :إن ِ ّي أخْ ش َى إ ْن ت َرَكْ تُ شيئًا م ِن أ ْمرِه ِ أ ْن أزِ ي َغ) :خشِيَ أبو بكر أ ْن يترك َ ولو شيئًا واحدًا من
-قو ُ
ل أبي بكرٍ في حروب الردة( :والل ّه ِ ل َأقَاتِلَنّ م َن ف َر ّقَ بيْنَ الصّ لَاة ِ أمر الن ّب ِيّ ﷺ؛ ومن شواهد هذا المعنى :قو ُ
ل الل ّه ِ ﷺ لَق َاتلَْتُه ُ ْم علَى مَن ْعِه َا).
ن الز ّك َاة َ حَقّ المَالِ ،والل ّه ِ لو م َن َع ُونِي ع َنَاقًا ك َانُوا يُؤَدّونَهَا إلى ر َسو ِ
والز ّك َاة ِ ،فإ ّ
-ومن الإشكال في كثيرٍ من السياقات التربو ية :أ ْن يسو ّى بينَ المحر ّمات في درجاتها؛ فلا يستطي ُع الطالبُ
ظت الشر يعة ُ في تحريمه ،وهذه
أ ْن يُفرِّقَ بينَ الأمر المختلف في حكمه بين الـكراهية والحرمة ،وبين ما غل ّ ْ
التسو ية ُ من قلة الفقه في الدين.
- 25 -
الحديث الثاني :عن عائشة َ -رضي الل ّه عنها( -أ ّ
ن قُر َيْشًا أهَم ّه ُ ْم شَأْ نُ المَر ْأة ِ المخَ ْز ُوم ِي ّة ِ ال ّتي سَر َق َْت ،ف َقالوا:
ل الل ّه ِ ﷺ ،فَكَل ّم َه ُ
ِب ر َسو ِ
ن ز َيْدٍ ،ح ّ ل الل ّه ِ ﷺ؟ ،ف َقالوا :وم َن َ
يج ْتَر ِئ ُ عليه إلّا أسَام َة ُ ب ُ وم َن يُك َل ِ ّم ُ ف ِيهَا ر َسو َ
ن ل الل ّه ِ ﷺ" :أت َ ْشف َ ُع في ح َ ٍّد م ِن حُد ُودِ الل ّه ِ" ،ث ُم ّ قَام َ فَاخْ تَطَبَ ،ث ُم ّ قا َ
ل" :إن ّما أه ْل َكَ ال ّذ ِي َ ل ر َسو ُ أسَام َة ُ ،ف َقا َ
ِيف أقَام ُوا عليه الح َ ّد ،وايْم ُ الل ّه ِ لوِيف ت َرَكُوه ُ ،وإذ َا سَر َقَ ف ِيهِم ُ الضّ ع ُ قَب ْلـَكُمْ ،أ ّنه ُ ْم ك َانُوا إذ َا سَر َقَ ف ِيهِم ُ الش ّر ُ
ن فَاطِم َة َ بن ْتَ مُحَم ّدٍ سَر َق َْت لَقَطَعْتُ يَد َه َا") ،أخرجه البخاريّ ومسلم ٌ.
أ ّ
ن من أهم
ل فيه حدٌ من عند الل ّه؛ فإ ّ
ن ما نز َ
يرتبط هذا الحديثُ ارتباطًا مباشر ًا بالباب؛ وذلك من جهة أ ّ
ُ -
لأي اعتبا ٍر كان ،سواء ً الأنساب أو الاعتبارات الاجتماعية.
ِّ ل للتعطيل
صور تعظيمه :أ ْن يكونَ غير َ قاب ٍ
ًّ
تعظيمي ّا كبير ًا لحدود الل ّه ،وهذا ما ينبغي أ ْن يُحتذى به -ترك َ هذا الأسلوبُ الن ّبويّ في نفوس الصحابة أثر ًا
في السياق التربوي والإصلاحي.
ن
ن ب ِن حُذ َيْف َة َ ب ِ الحديث الثالث :عن عبد الل ّه بن عباس -رضي الل ّه عنهما -قال( :قَدِم َ ع ُيَي ْن َة ُ ب ُ
ن حِصْ ِ
أصحَابَ
ن يُدْن ِيه ِ ْم ع ُم َر ُ ،وكانَ الق ُر ّاء ُ ْ
ن الن ّفَرِ ال ّذ ِي َ
ن ،وكانَ م ِ َ
س ب ِن حِصْ ٍ
ل علَى اب ْ ِن أخِيه ِ الحُرِ ّ ب ِن قَي ْ ِ
ب َ ْدرٍ ،فَنَز َ َ
ك وجْه ٌ عِنْد َ هذا
ن أخِي ،هلْ ل َ
ل ع ُيَي ْن َة ُ ل ِاب ْ ِن أخِيه ِ :يا اب ْ َ
كه ُول ًا ك َانُوا أ ْو شُب ّان ًا ،ف َقا َ
س ع ُم َر َ ومُشَاوَر َتِه ُِ ،
مج ْل ِ ِ
َ
ن
ل :يا اب ْ َ
س :فَاسْ ت َأْ ذَنَ لِع ُيَي ْن َة َ ،فَلَم ّا دَخَلَ ،قا َ
ن ع َب ّا ٍ
ل اب ُ
ك عليه ،قا َ
ل :سَأسْ ت َأْ ذِنُ ل َ
الأم ِيرِ فَتَسْت َأْ ذِنَ لي عليه؟ قا َ
ل الحُر ّ :يا اب ،والل ّه ِ ما تُعْط ِينَا الجَزْلَ ،وما َ
تحْكُم ُ بي ْنَنَا بالع َ ْدلِ ،فَغ َضِ بَ ع ُم َر ُ ،حت ّى ه َ ّم بأ ْن يَق َ َع به ،ف َقا َ ط ِالخ َ ّ
- 26 -
ن
ن هذا م ِ َ
ن الجا َه ِلِينَ" ،وإ ّ
ِض ع َ ِ
ْف وأ ْعر ْل لِنَب ِيِّه ِ ﷺ" :خُذِ العَفْو َ وأْ م ُْر بالعُر ِ
ن الل ّه َ تَع َالَى قا َ
أم ِير َ المُؤْم ِنِينَ ،إ ّ
اب الل ّه ِ) ،أخرجه البخاريّ . الجا َه ِلِينَ ،ف َوَالل ّه ِ ما ج َاوَز َه َا ع ُم َر ُ حِينَ تَلَاه َا عليه ،وكانَ وق ّافًا عِنْد َ كِت َ ِ
ُ ن حجرٍ في شرحه( :قوله :يا مَعْشَر َ الق ُر ّاءِ؛ أي :العلماء حافظ اب ُ
يَمِينًا وشِمال ًا ،لق َ ْد ضَلَل ْتُم ْ ضَلال ًا بَع ِيدًا) ،قال ال ُ
ن والس ُن ّة ِ ،الع ُب ّاد ُ).
بالقرآ ِ
ن الأنْصَارِ ،ك ُن ّا
ل أنس بن مالكٍ -رضي الل ّه عنه -في مقتل الق ُر ّاء في بئر معونة( :فأم َ ّده ُ ْم بسَب ْعِينَ م ِ َ
-٢قو ُ
ل ،حت ّى ك َانُوا ببِئْرِ م َع ُونَة َ قَتَلُوه ُ ْم وغَدَر ُوا
يح ْتَط ِب ُونَ بالنّهَارِ ،و يُصَل ّونَ بالل ّي ْ ِ
نُسَمِّيهِم ُ الق ُر ّاء َ في زَم َانِهِمْ ،ك َانُوا َ
به ِ ْم)
-قوله( :فَغ َضِ بَ ع ُم َر ُ ،حت ّى ه َ ّم بأ ْن يَق َ َع به) :أي :ه ّم عمر أ ْن يضربَ عيينة لِما في كلامه من جرأة ٍ وادعاء ٍ
الموقف دونَ
َ حق أحدٍ من عامّة الن ّاس لما رَضِيَ أ ْن يمرر َ
كاذب في وصفه لعمر ،ولو كان هذا الكلام ُ في ّ ِ
ٍ
ل بينَ نفسه وبينَ أ ْن تأخذ َ حقها؛
أ ْن يأخذ َ لنفسه حقها ،لـكن عمر -رضي الل ّه عنه -استطاع أ ْن يحو َ
ن الجا َه ِلِينَ"؛ وفي هذا غاية ُ التعظيم
ِض ع َ ِ
ْف وأ ْعر ْ
فأوقف غضبه لم ّا سَم ِ َع قوله تعالى" :خُذِ العَفْو َ وأْ م ُْر بالعُر ِ
َ
ل إليه المؤمن. الذي ينبغي أ ْن يص َ
- 27 -
ن نفسه في مثل هذه المواطن ،التي تعارضُه ُ فيها رغباتُ نفسه؛ فإ ْن
-وعلى ذلك؛ ينبغي أ ْن يختبر َ المؤم ُ
استطاعَ أ ْن يتغل ّبَ على نفسه بحدود الشر يعة =كان هذا من أشرف الأعمال التي يمكن أ ْن يعمل َها.
ل ذلك:
مثاـ ُ
-حديثُ عبد الل ّه بن عمر -رضي الل ّه عنهما -في الثلاثة الذين انسد َ عليهم الغار ُ؛ فأخذوا يدعون الل ّه بصالح
كانت لي ابنة ُ
ْ ل الن ّب ِيّ ﷺ" :وقال الآخر ُ :الله ّم إنه
ج الل ّه ُ عنهم ،والشاهد ُ من الحديث :قو ُ
أعمالهم حت ّى يفرِ ّ َ
بت حتى آتيها بمائة ِ دينارٍ ،فتعبتُ حتى ل النساءَ ،وطلبتُ إليها نفس َها فأ ْ ُحب الرجا ُع ّمٍ ،أحببتُها كأش ّدِ ما ي ّ
ِ
تفتح الخات َم َ إلا بح ّق ِه، قالت :يا عبد َ الل ّه ِ ّ ِ
اتق الل ّه َ ولا ْ جمعتُ مائة َ دينارٍ ،فجئتُها بها ،فلم ّا وقعتُ بين رجْلَيْها،
فقمتُ عنها".
اتق الل ّه َ" =فقام َ من ذلك المقام، قالت له المرأة ُ" :يا عبد َ الل ّه ِ ّ ِ
ْ َت به نفس ُه ُ لهذا الفعل،
-فبعد َ أ ْن انطلق ْ
اتق الل ّه َ"، أرادت الانطلاقَ إليه ،لا لشيء ٍ إلا لأن ّه قي َ
ل لهِ ّ " : ْ ك بزمام نفسه وقادها إلى عكس ما وأمس َ
بسيف من زواجر ِ الشر يعة،
ٍ ل بينَ نفسه وبينَ انطلاق إراداتها
فكان من أفضل الأعمال التي عملها :أ ْن يحو َ
ل إلى الل ّه به كما أشار عليهم أحد ُ ثلاثتهم بقوله" :إن ّه لا ي ُ ْنج ِيك ُ ْم م ِن هذِه الصّ خْ رَة ِ إلّا أ ْن ت َ ْدع ُوا ولذلك؛ توسّ َ
ن عملَه هذا من أفضل الأعمال ل ذلك أ ّ بعض الشيء =د ّ انفرجت عنهم الصخرة ُ َ
ْ الل ّه َ بصَالِ ِح أعْمَالـِك ُ ْم" ،فل ّما
التي عملها.
- 28 -
ح المعاييرِ
المحاضرة الرابعة :معيار ُ الوحي وتصحي ُ
س النظرِ، ِ
وتصحيح الن ّب ِيّ ﷺ لمقايي ِ الوحي،
ِ باب في ضبطِ الأفها ِم على معيارِ
ٌ
أسباب الضّ لال :ردّ الحقّ ِ بمعايير ِ نظرٍ خاطئة ٍ
ِ ن م ِن
وأ ّ
الباب:
ِ شواهد ُ
-هذا البابُ يتحدثُ عن أمرين اثنين:
الأوّل :معايير ُ الن ّاس :فما من أمّة ٍ ولا بيئة ٍ إلا وتتكوّنُ لديها معايير ُ معينة ٌ؛ إمّا من خلال الثقافة أو التاريخ
ن التعليم َ العامّ في البلدان جزء ٌ مما يُسهم ُ في تكوين بعض
ل ذلك -اليوم :-نجد أ ّ أو مكوِ ّنات اله ُو ية ،ومثا ُ
صة ً متعل ِّقة ً بانتماءات معينة.
المعايير العامّة ،وأيضًا؛ قد نجد ُ معايير َ خا ّ
ك بسهولة ٍ ،بينما يع ّد المعيار ُ
ن أ ْن يُفك َ
-ومفهوم ُ المعايير أخطر ُ من أفراد التصو ّرات الجزئية؛ إذ التصو ّر يُمك ُ
ل الأفكار والمعلومات أو تردّها ،ومن ذلك :أن ّه قد يكون هناك معيار ٌ في الذي يُص ّدر ُ في
ل دخو َ
بوابة ً؛ تقب ُ
ن ،هذه كلها معايير.
الن ّاس ،بأ ْن يكونَ لديه شهادة ٌ علمية ٌ أو خلفية ٌ اجتماعية ٌ معينة ٌ أو انتماء ٌ معي ٌ
وظف هذه
معلومات كثيرة ٌ صحيحة ٌ ،ثم بمعيا ٍر واحدٍ خاطئ ،ت ُ ُ
ٌ -من الإشكالات -اليوم -أن ّه قد تُبنى
معلومات صحيحة ً ،لـكن بمعيا ٍر
ٍ ل خاطئ؛ ومن ذلك( :تجد طلبة َ العلم يتلقون
المعلوماتُ الصحيحة ُ في مجا ٍ
ل خاط ٍئ؛ كن ُصرة م َن لا يستحق أو في الخصومات والطعن في
المعلومات في مجا ٍ
ِ معي ّنٍ؛ قد يوظفون هذه
العلماء وإسقاطهم) ،وعليه؛ يجب على المصلح أ ْن يفقه َ مفهوم َ تصحيح المعايير وضبطها من خلال الوحي.
- 29 -
أوّل ًا :الآيات:
-بعثَ الل ّه ُ الأنبياء َ إلى أم ٍم لديهم معايير ،فكانوا يحاكمون أنبياء َهم إلى تلك المعايير؛ ومن شواهد ذلك ما يلي:
ك الْأ ْرذ َلُونَ" ،هنا معيار ُ الاتباع من ع ِلية الن ّاس.
ك و َات ّبَع َ َ
ن لَ َ
-١قوله تعالى" :قَالُوا أنُؤْم ِ ُ
ل و َِإن ّا لَنَر َاك َ ف ِينَا ضَع ِيف ًا" ،هنا معيار ُ القو ّة.
شعَي ْبُ م َا ن َ ْفق َه ُ كَث ِير ًا مِّم ّا تَق ُو ُ
-٢قوله تعالى" :قَالُوا ي َا ُ
ل" ،هنا معيار ُ
ن ال ْمَا ِ ن أحَقّ ب ِال ْمُل ْكِ مِن ْه ُ و َل َ ْم يُؤ ْتَ َ
سع َة ً مّ ِ َ نح ْ ُ
ك عَلَي ْنَا و َ َ
-٣قوله تعالى" :قَالُوا أن ّى يَكُونُ لَه ُ ال ْمُل ْ ُ
المال.
ل ِإلَيْه ِ م َل َكٌ فَيَكُونَ مَع َه ُ
ق لَوْل َا أنز ِ َ
طع َام َ و َيَمْش ِي فِي الْأسْ وَا ِ
ل ال ّ
ل ي َأْ ك ُ ُ
ل هََٰذ َا الر ّسُو ِ
-٤قوله تعالى" :و َقَالُوا م َا ِ
نَذِير ًا".
-٥قوله تعالى" :فَلَوْل َا ألْقِ َي عَلَيْه ِ أسْ وِرَة ٌ مّ ِن ذ َه ٍَب أ ْو ج َاء َ مَع َه ُ ال ْمَلَائِك َة ُ مُقْتَرِنِينَ" ،هنا معيار ُ المال ،والشاهد.
ض يَنب ُوعًا".
ن الْأ ْر ِ
ك حَت ّى ت َ ْفجُر َ لَنَا م ِ َ
ن لَ َ
-٦قوله تعالى" :و َقَالُوا لَن ن ّؤْم ِ َ
ج هذه الآياتُ تحتَ ذكر ِ المعايير الخاطئة؛ وقد ذُك ِر َْت هذه الآياتُ عن أقوا ٍم مختلفين؛ منهم :قوم ُ نوح
-تندر ُ
وقوم ُ شعيب وبني إسرائيل ،ومشركي قريش ،وقوم فرعون ،ولـكنهم متقاربين في معاييرهم الباطلة وإ ْن
ن م ِن
ل ال ّذ ِي َ
ك قَا َ
ن ل َا يَعْلَم ُونَ لَوْل َا يُكَل ِّمُنَا الل ّه ُ أ ْو ت َأْ تِينَا آي َ ٌۗة كَذََٰل ِ َ
ل ال ّذ ِي َ
ت أزمنت ُهم؛ كما قال تعالى" :و َقَا َ
اختلف َ ْ
ن الحقّ واحدٌ؛ متى ابتعد َ
ل قَو ْلِه ِ ْم تَش َابَه َْت قُلُو بُه ُ ْم"؛ وهذا التشابه ُ في معايير أهل الباطل بسبب أ ّ
قَبْلِه ِم مِّث ْ َ
ختلف صور ُ هذه الهوى في نفوسهم من حيث
اس عنه؛ فإ ّنهم يشتركون في أصل اتباع الهوى ،ثم ّ ت ُ
الن ّ ُ
الإشكالات والمعايير الخاطئة.
ن الل ّه َ اصْ طَف َاه ُ عَلَيْك ُ ْم وَز َادَه ُ ب َ ْسطَة ً فِي ال ْعِلْم ِ و َالْجِس ْ ِم".
ل ِإ ّ
-٤قوله تعالى" :قَا َ
- 31 -
ثانيًا :الأحاديث:
ل الل ّه ِ ﷺ و َهو م ُضْ طَ ِ
ج ٌع علَى حَصِ يرٍ، الحديث الأوّل :عن عمر َ -رضي الل ّه عنه -قال( :فَدَخ َل ْتُ علَى رَسُو ِ
ل
خز َانَة ِ رَسُو ِ
جن ْبِه ِ ،فَنَظَر ْتُ بب َصَرِي في ِ َليس عليه غَي ْرُه ُ ،وإذ َا الحَصِ ير ُ ق ْد أث ّر َ في َ
فَجل ََسْتُ ،فأدْنَى عليه ِإز َارَه ُ و َ
ل:
ق مُع َل ّقٌ ،قا َاع ،وَمِثْلِه َا ق َرَظًا في نَاحِيَة ِ الغُر ْفَة ِ ،وإذ َا أف ِي ٌ نحْوِ الصّ ِ الل ّه ِ ﷺ ،ف َِإذ َا أن َا بقَب ْ َ
ضة ٍ م ِن شَع ِيرٍ َ
اب؟" ،قُلتُ :يا نَبِ ّي الل ّهِ ،و َما لي لا أبْكِي و َهذا الحَصِ ير ُ ق ْد أث ّر َ
ط ِن الخ َ ّ
ك يا اب ْ َ
ل" :ما يُبْكِي َ
َت عَي ْنَايَ ،قا َ
فَاب ْتَدَر ْ
ل
كسْر َى في الثِمّا َرِ و َالأنْهَارِ ،و َأن ْتَ رَسُو ُ
ك لا أر َى ف ِيهَا ِإلّا ما أر َى ،وَذ َاك َ قَي ْصَر ُ و َ ِ
خز َانَت ُ َ
جن ْبِكَ ،و َهذِه ِ
في َ
خرَة ُ و َلَهُم ُ الد ّن ْيَا؟"،
ن لَنَا الآ ِ
اب ،أل َا تَرْض َى أ ْن تَكُو َ
ط ِن الخ َ ّ
ل" :يا اب ْ َ
ك! ف َقا َ
خز َانَت ُ َ الل ّه ِ ﷺ و َ َ
صفْوَتُه ُ ،و َهذِه ِ
قُلتُ :بلََى) ،أخرجه البخاريّ ومسلم ٌ.
خرَة ُ
ل الن ّب ِيّ ﷺ" :أل َا تَرْض َى أ ْن تَكُونَ لَنَا الآ ِ
ج هذا الحديثُ تحتَ تصحيح المعايير؛ وشاهد ُ ذلك :قو ُ
-يندر ُ
و َلَهُم ُ الد ّن ْيَا؟".
نحْوِ الصّ ِ
اع ،وَمِث ْلِه َا ق َرَظًا) :القرظ :هو ورقُ شجرٍ ي ُدب ُغ به جلد ُ ضة ٍ م ِن شَع ِيرٍ َ
ل عمر َ( :ف َِإذ َا أن َا بقَب ْ َ
-قو ُ
خلاف كبير ٌ بين الفقهاء في طهارة جلود الميتة).
ٌ الحيوانات حت ّى يطه ُر َ؛ (وهناك
سالت بالدموع.
ْ أي:
َت عَي ْنَايَ )ْ :
أي :جلد ،و(فَاب ْتَدَر ْ
ق) :أفيقْ :
ق مُع َل ّ ٌ
ل عمر َ( :وإذ َا أف ِي ٌ
-قو ُ
حديث:
فوائد ُ ال ِ
وصفت أمّ المؤمنين عائشة -رضي
ْ يعيش حياة ً غير َ م ُترفة ٍ؛ كما
ُ -١فائدة ٌ في حال الن ّب ِيّ ﷺ؛ فقد كان ﷺ
ت في السنة السابعة للهجرة ح ْ ن التمّْرِ) ،وقد فُت ِ َ
خي ْب َر ُ ،قُل ْنا :الآنَ نَشْب َ ُع م ِ َ
َت َ الل ّه عنها -ذلك بقولها( :لَم ّا فُتِح ْ
وقالت أيضًا( :إ ْن ك ُن ّا لَنَنْظ ُر ُ إلى الهِلَالِ ،ث ُم ّ الهِلَالِ،
ْ سنوات وشيء ٍ،
ٍ وما بق َي من ع ُم ُرِ الن ّب ِيّ ﷺ إلا ثلاثة ُ
ل الل ّه ِ ﷺ ن َار ٌ) ،ومع هذا الضيق في ذات اليد؛ كان ات ر َسو ِ
َت في أب ْي َ ِ ثَلَاثَة َ أه ِل ّة ٍ في شَهْر َيْنِ؛ وما أوقِد ْ
ق بدلائل الن ّب ُو ّة.
أمر متعل ّ ِ ٌ
ح الصدر ،وهذا ٌ
ل الل ّه ﷺ صابر ًا محتسبًا منشر َ رسو ُ
ق بأمر الدعوة ،ومنها ما
بأنواع من الابتلاءات والشدائد مختلفة ِ المصادر؛ منها ما يتعل ّ ُ ٍ -٢مرور ُ الن ّب ِيّ ﷺ
مر بها الن ّبيّ ﷺ بسبب
ق بالابتلاءات التي ّ
ق بأبياته؛ وهذا الحديثُ يتعل ّ ُق بأصحابه ،ومنها ما يتعل ّ ُ
يتعل ّ ُ
ل بيوته ﷺ؛ حت ّى اعتزلهم ﷺ. مشكلات داخ َ
ٍ
ل الصحابة -رضي الل ّه عنهم -مع الن ّب ِيّ ﷺ ،وحرص ُهم الشديد أ ْن يكونوا بقربه؛ ومن ذلك :تأث ّر ُ عمر َ -
-٣حا ُ
ل عمر َ في بعض روايات الحديث( :لأقولنّ شيئًا أضحك به
رضي الل ّه عنه -وبكائ ُه ُ لحال الن ّب ِيّ ﷺ ،وأيضًا؛ قو ُ
ضلوا به على غيرهم.
النبي ﷺ) ،وهذا القربُ من الصحابة للن ّب ِيّ ﷺ هو مما ف ُ ِّ
- 30 -
ل
-٤أثر ُ مركز ية الآخرة في نفس المسلم على صبره وزهده؛ مما يجعل ُه ُ يستعلي على النقص الدنيوي؛ ومنه قو ُ
خرَة ُ و َلَهُم ُ الد ّن ْيَا؟".
ن لَنَا الآ ِ
الن ّب ِيّ ﷺ" :أل َا تَرْض َى أ ْن تَكُو َ
فيعيش في رغدٍ من
ُ ن الل ّه َ قد يؤتي الكافر َ الدنيا؛
ح الن ّب ِيّ ﷺ لمعيار الدنيا والآخرة؛ والمعنى :أ ّ
-٥إصلا ُ
العيش مع كفره ،وقد يمن ُع عن المؤمن الدنيا ابتلاءً؛ لي ّدخر َ له الآخرة مثوبة ً وأجر ًا على الصبر.
ل هو
ن"؛ ليس في مجر ّد الابتلاءات فقط ،بل المقصود ُ الأوّ ُ -والمعنى في قوله ﷺ" :الد ّنيا سج ُ
ن المؤم ِ
ن سجي ٌ
ن ومقيد ُ الحر ية تُجاه رغباته وأهواءه -التي ركّ بها الل ّه فيه -بمجموعة ٍ من التكاليف الشرعية؛ إذ المؤم ُ
ُ
حب القي ْد َ في
ي ّبات في الد ِّي ِن) ،وكان الن ّبيّ ﷺ ُ
ل :القَيْد ُ ث َ ٌ
تكاليف الشرع ،وقد ورد َ في البخاري( :و يُقا ُ
المنام.
ات
ن الش ّه َو َ ِ
ن مَم ْن ُوعٌ فِي الد ّن ْيَا م ِ َ
سجُو ٌ
ن مَ ْ
ل مُؤْم ِ ٍ
ن كُ ّ
-قال الإمام ُ النوويّ -رحمه الل ّه -في شرحه للحديث( :أ ّ
ح م ِنْ هَذ َا ،و َانْق َلَبَ ِإلَى م َا أع َ ّد الل ّه ُ -
شاق ّة ِ ،ف َِإذ َا م َاتَ اسْ تَر َا َ
ات ال ّ
طاع َ ِ
ل ال ّ
ف ب ِفِعْ ِ
ال ْمُحَر ّمَة ِ و َال ْمَك ْر ُوهَة ِ ،مُك َل ّ ٌ
ح معياريّ في نفس المؤمن؛
ن)؛ وفي ذلك تصحي ٌ
ن الن ّ ْقصَا ِ
ن الن ّع ِِيم الد ّا ِئمِ ،و َالر ّاح َة ُ الْخَالِصَة ُ م ِ َ
تَع َالَى -لَه ُ م ِ َ
شاقة بالصّ بر؛ كالصيام في الحر والوضوء
يجعله نفسيًا مستعدًا لمخالفة الهوى ،ولتلقي قيود التكاليف الشرعية ال ّ
في أوقات المكاره ،والاستيقاظ من النوم لصلاة الفجر.
ن
-أمّا الكافر ُ؛ فجنت ُه ُ في الدنيا باعتبار أن ّه غير ُ مقي ّدٍ ،إلا مما قي ّد َ به نفسَه ُ من الأمور الدنيو ية؛ قال تعالىِ " :إ ّ
كف َر ُوا يَتمََت ّع ُونَ و َي َأْ ك ُلُونَ كَمَا
ن َ
تحْتِهَا الْأنْهَار ُ و َال ّذ ِي َ
تجْرِي م ِن َ
ات َ
ات جَن ّ ٍ
ن آم َن ُوا و َعَم ِلُوا الصّ الِ ح َ ِ
ل ال ّذ ِي َ
خ ُ
الل ّه َ ي ُ ْد ِ
ل الْأنْع َام ُ و َالن ّار ُ مَث ْو ًى ل ّه ُ ْم".
ت َأْ ك ُ ُ
- 32 -
ن مفهوم َ
صة الداخلية للمسلم؛ وبيانُ ذلك :أ ّ
من أوضح الأحاديث في التصحيح المعياري للتصو ّرات الخا ّ
الإنسان القوي ليس ذاك الذي لا يستطي ُع أحدٌ أ ْن يصرع َه ُ -وإن كان هذا المعنى هو الأقربُ لغة ً وعرفًا
وحت ّى في تصو ّرات الن ّاس -وإن ّما مفهوم ُ القو ّة الح ّقة هو في سيطرة الإنسان على مشاعره الداخلية؛ ومن
أقوى تلك المشاعر :الغضبُ ؛ فإذا استطاعَ أ ْن يتغل ّبَ على مقتضى هذا الشعور ،كان هو القويّ ح ًّ ّقا.
شرف كبير ٌ لسلوك القو ّة الذي هو مخالفة ُ الهوى ،والقدرة ُ على التحكّم بالن ّفس ومنعها عن
ٌ -وفي الحديث
سكَتَ ع َن
داع داخليّ يدفع الإنسان كالغضب ،ولذلك؛ قال تعالى" :و َلَم ّا َ صة ً إن كان هناك ٍ
رغباتها خا ّ
ل الإنسان تُحدث ُه ُ وتدفع ُه ُ.
نفس داخ َ
ن الغضبَ هو ٌ
ح"؛ والمعنى :كأ ّ
مّوس َى الْغَضَبُ أخَذ َ الْأل ْوَا َ
صو ُر رفع الأمانة من الحديث الخامس :عن حذيفة َ -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ في حديثه الطو يل عن ُ
ل الل ّه ِ ﷺ حَدِيثَيْنِ ،ر َأي ْتُ أحَد َهُما وأن َا أن ْتَظ ِر ُ الآخَر َ:
قلوب الناس بصورة ٍ تدر يجية ٍ؛ قال( :ح َ ّدثَنَا ر َسو ُ
سن ّة ِ وح َ ّدثَنَا عن ر َف ْعِه َا
ن ال ّ
ن القُر ْآنِ ،ث ُم ّ عَل ِم ُوا م ِ َ
وب الر ِ ّج َالِ ،ث ُم ّ عَل ِم ُوا م ِ َ
ت في ج َ ْذرِ قُل ُ ِ
ن الأم َانَة َ ن َزَل َ ْ
ح َ ّدثَنَا :أ ّ
ت ،ث ُم ّ يَنَام ُ الن ّوْم َة َ فَتُقْب َُض فَيَبْقَى
ل أثَر ِ الوَكْ ِ
ل أث َر ُه َا مِث ْ َ
ل الن ّوْم َة َ فَتُقْب َُض الأم َانَة ُ م ِن قَل ْبِه ِ ،فَيَظ َ ّ
ل" :يَنَام ُ الر ّج ُ ُ
قا َ
- 33 -
اسح الن ّ ُ يس فيه شيءٌ ،و يُصْ ب ِ ُ ك فَنَف َِط ،فَتَر َاه ُ مُن ْتَبِر ًا ول َ
حر َجْ ت َه ُ علَى رِجْل ِ َل ،كَج َ ْم ٍر د َ ْ
ل أثَر ِ المجَ ْ ِ
ف ِيهَا أث َر ُه َا مِث ْ َ
ل :ما أ ْعق َلَه ُ وما ل لِلر ّج ُ ِ
ن رَج ُل ًا أم ِينًا ،و يُق َا ُ ن في بَنِي فُلَا ٍ ل :إ ّ
يَتَبَايَع ُونَ ،فلا يَك َاد ُ أحَدٌ يُؤَدِّي الأم َانَة َ ،فيُق َا ُ
ن" ،ولق َ ْد أتَى عَلَيّ زَم َانٌ ،ول َا أب َال ِي أي ّك ُ ْم ب َايَعْتُ ،
ل م ِن إيمَا ٍ
ل حَب ّة ِ خ َ ْرد َ ٍ
أظْ ر َف َه ُ وما أجْلَدَه ُ ،وما في قَل ْبِه ِ مِثْق َا ُ
لئَ ِ ْن كانَ مُسْل ِمًا رَدّه ُ عَلَيّ الإسْ لَام ُ ،وإ ْن كانَ نَصْر َان ًّيِ ّا رَدّه ُ عَلَيّ سَاعِيه ِ ،وأمّا الي َوم َ :فَما ُ
كن ْتُ أب َاي ِ ُع إلّا فُلَان ًا
وفُلَان ًا) ،أخرجه البخاريّ ومسلم ٌ.
ج
ل" :أي :وهو الن ّ ّفاخاتُ التي تَخر ُ
ت" :أي :الأثر ُ الي َسير ُ كالن ّقطة ِ ،وقوله ﷺ" :أثَر ِ المَج ْ ِ
-قوله ﷺ" :أثَر ِ الوَكْ ِ
حر َجْ ت َه ُ على رِجْلِك ،فنف ََط ،فت َراه م ُنتَبِر ًا وليس
ل بنحوِ الفأسِ ،وقوله ﷺ" :كج َ ْمرٍ د َ ْ
في الأيدي عند َ كثرة ِ العم ِ
ل أثَر ِ الجمرِ الذي يُقل ّبُ ويُدار ُ على الق َد ِم؛ في ُخَل ّ ُِف انتفاخ ًا فيه ماء ٌ فاسدٌ.
فيه ش َيء ٌ" :أي :أثر ُ ذلك مث ُ
ِيث هِي َ الْأم َانَة ُ ال ْم َ ْذكُورَة ُ فِي قَو ْلِه ِ تَع َالَى " ِإن ّا
ل صَاحِبُ الت ّحْ رِير ِ :الْأم َانَة ُ فِي الْحَد ِ -قال الإمام ُ النوويّ ( :و َقَا َ
ْب الْعَبْدِ قَام َ حِينَئِذٍ ب ِأد َاء ِ الت ّك َال ِ ِ
يف و َاغْت َنَم َ م َا ن ف َِإذ َا اسْ تَمْكَن َِت الْأم َانَة ُ م ِنْ قَل ِ
ع َرَضْ نَا الْأم َانَة َ" وَهِي َ عَيْنُ ال ِْإ يمَا ِ
ضه ُ الل ّه ُ على عباده.
التكاليف الشرعية مما افتر َ
ُ يَرِد ُ عَلَيْه ِ مِنْهَا وَج َ ّد فِي ِإقَامَتِهَا و َالل ّه ُ أع ْلَم ُ)؛ فالأمانة ُ هي
الباب:
ِ خـلاصة ُ
ُ
ن من أهم أسباب ردِّ الحق :وجود َ المعايير الخاطئة ،وهذا مذكور ٌ في
اس لديهم معايير دائمًا ،وأ ّ
ن الن ّ َ
-أ ّ
صور التصحيح التي جاء به الأنبياء -والتي ينبغي على أتباع الأنبياء أ ْن
ن من أعظم ُ
الأمم السابقة ،وأ ّ
ح المعيار أه ّم بكثيرٍ من تصحيح التصو ّرات الجزئية.
ن تصحي َ
ح المعايير ،وأ ّ
ي ُفع ّ ِلوها :-تصحي َ
- 35 -
هي والخبرِ
المحاضرة الخامسة :تفاوتُ مراتبَ الدي ِن في الأمر ِ والنّ ِ
هي والخبر ِ،
ن على مراتبَ متفاوتة ٍ في الأمر ِ والنّ ِ
ن الدي َ
باب في أ ّ
ٌ
ك هذه المراتب
ن تب ٌع لإدرا ِ
ن الفقه َ في الدي ِ
وأ ّ
الباب:
ِ ن
ل عنوا ِ
تفصي ُ
ن من أولى ما يُفس ّر ُ به لفظة ُ (الدين) من حيث المحتوى الداخلي في قول الن ّب ِيّ ﷺ" :م َن يُرِدِ الل ّه ُ به خَيْر ًا
-إ ّ
ل
ل عن الإسلام والإيمان والإحسان ،ثم قا َ
يُف َ ّقِهْه ُ في الد ِّي ِن" ،هو حديثُ (جبر يل الطو يل) الذي فيه السؤا ُ
ل أتاك ُ ْم يُع َل ِّمُك ُ ْم دِينَك ُ ْم" ،فجع َ
ل الن ّبيّ ﷺ الإسلام والإيمان والإحسان جميع ًا من جبْرِي ُ
الن ّبيّ ﷺ" :فإن ّه ِ
ن المطالب والموضوعات تحتَ هذه العناوين مختلفة ٌ ومتفاوتة ٌ؛ ففيها :أمور ٌ عملية ٌ
الدين؛ على الرغم من أ ّ
بدنية ٌ ،وأمور ٌ نظر ية ٌ اعتقادية ٌ قلبية ٌ ،وأمور ٌ سلوكية ٌ نفسية ٌ روحية ٌ.
هي والخبرِ) :الدين يحتوي على أمرين؛ إمّا أخبار ،وإمّا أوامر
ن على مراتبَ متفاوتة ٍ في الأمر ِ والنّ ِ
(-الد ِّي ُ
أي :صدقًا في الأخبار ،وعدل ًا في الأحكام من
صدْقًا و َع َ ْدل ًا"ْ :
ك ِ
ت كَل ِم َتُ ر َب ِّ َ
ونواهي؛ قال تعالى" :و َتَم ّ ْ
هي والخبرِ ليست على مستو ًى واحدٍ ،بل هي متفاوتة ٌ في أهميتها
الأمر والنهي ،ومراتبُ الدين في الأمر ِ والنّ ِ
وفضلها.
ن الفقه َ في الدين تب ٌع لإدراك مراتبه؛ من حيث
ن الفقه َ في الدي ِن تب ٌع لإدراك هذه المراتب) :يعني أ ّ
(-وأ ّ
العمل على ضوء هذا الإدراك ،وهذه الجملة ُ من جُملة ِ ما يُفس ّر ُ به حديثُ " :م َن يُرِدِ الل ّه ُ به خَيْر ًا يُف َ ّقِهْه ُ في
ل في تعر يف الفقه في الدين :إدراك ُ تفاوت مراتب الأمر والنهي والخبر،
ن من أهم ما يدخ ُ
الد ِّي ِن"؛ فإ ّ
ل على ضوء هذه التفاوت من حيث الأهمية والتقدير.
والعم ُ
=أضاف
َ تنبـيه :ذَك َر َ الشي ُ
خ أحمد -حفظه الل ّه -آية ً واحدة ً في هذا الباب ،ثم في شرحه على نصوص الباب
بعض الآيات والأحاديث التي لم يذكرها في أصل متن (المنهاج من ميراث الن ّب ُو ّة).
-كعادته في الشرحَ -
- 36 -
الباب:
ِ شواهد ُ
ِش ِإلّا الل ّمَم َ":
يج ْتَن ِب ُونَ ك َبَائ ِر َ ال ِْإ ْث ِم و َالْف َوَاح َ الآية الأولى :قوله تعالى" :ال ّذ ِي َ
ن َ
ن المنهيات متفاوتة ٌ؛ منها :كبائر ُ الإثم
ل الآية ُ على إثبات التفاوت بينَ مراتب النهي في الدين؛ وذلك بأ ّ
-تد ّ
ل الآية ُ -أيضًا -على أهمية العمل على ضوء هذا التفاوت؛
والفواحش ،ومنها :الل ّم َم ُ (صغائر ُ الإثم) ،وتد ّ
ظ ِم الكبائر من جهة الخوف والرهبة؛ فيبتعد ُ عنها.
وذلك في الامتداح لم َن يع ّ
ك لم َِن يَش َاء ُ": الآية الثانية :قوله تعالىِ " :إ ّ
ن الل ّه َ ل َا يَغْف ِر ُ أن يُشْرَك َ بِه ِ و َيَغْف ِر ُ م َا د ُونَ ذََٰل ِ َ
ن الشرك من الكبائر
-تُبيِّن الآية ُ تفاوتَ ما نهى الل ّه عنه؛ فهناك الشرك ُ؛ وهو ما لا يغفر ُه ُ الل ّه ،وهناك ما دو َ
والمعاصي؛ وهو تحتَ مشيئة الل ّه؛ إ ْن شاء َ غفر ،وإ ْن شاء َ ع ّذب.
الحديث الأوّل :عن أب َ ْي بن كعب -رضي الل ّه عنه -قال( :قال رسو ُ
ل ﷺ" :يا أبا المُنْذِرِ ،أت َ ْدرِي أيّ آيَة ٍ
ِتاب الل ّه ِ
ل" :يا أبا المُنْذِرِ أت َ ْدرِي أيّ آيَة ٍ م ِن ك ِك أ ْعظَم ُ؟" ،قُلتُ :الل ّه ُ ور َسولُه ُ أع ْلَم ُ .قا َ ِتاب الل ّه ِ مع َ
م ِن ك ِ
ل" :والل ّه ِ لِيَه ْن ِ َ
ك العِلْم ُ أبا ص ْدرِي ،وقا َ
ي الْق َي ّوم ُ" ،ف َضَر َبَ في َ
ك أ ْعظَم ُ؟" ،قُلتُ " :الل ّه ُ ل َا ِإلَه َ ِإلّا ه ُو َ الْح َ ّمع َ
ق بإدراك أعلى الآيات القرآنية مرتبة ً.
ح هنا :هو العلم ُ المتعل ّ ِ ُ
المُنْذِرِ") ،أخرج َه ُ مسلم ٌ؛ والعلم ُ الممتد ُ
ل معرفة َ أعظم آية ٍ قرآنية ٍ ،وقوله ﷺ" :أت َ ْدرِي أيّ آيَة ٍ
ن الحديثُ إثبات ًا للتفاوت في الخبر؛ إذ يتناو ُ
-يتضم ُ
ِتاب الل ّه ِ مع َ
ك أ ْعظَم ُ؟"؛ في لفظة "أ ْعظَم ُ" دلالة ٌ صر يحة ٌ في إثبات التفاضل والتفاوت بين آيات م ِن ك ِ
القرآن من حيث العظمة.
- 37 -
كعب على علمه ،وموجبُ هذه التهنئة :أن ّه استطاعَ
ٍ ن الن ّبيّ ﷺ هنأ أبَي َ بن
-موض ُع الشاهد في الحديث :أ ّ
ن آية َ الـكرسي أعظم ُ آية ٍ في القرآن؛ وذلك بما تلقاه -مع الصحابة -من تربية الن ّب ِيّ ﷺ لمعنى
يستنبط أ ّ
َ أ ْن
ن موضوعَ العلم بالل ّه هو
المركز يات والتفاوت بينَ مقامات الدين ،ومن أفراد معنى المركز يات :أن ّه ترب ّى على أ ّ
أشرف الموضوعات.
َ ن آية َ الـكرسي أعظم ُ الآيات لتناولها
فاستنبط من ذلك أ ّ
َ أشرف الموضوعات،
ُ
ل
جدِ ،فَد َعانِي ر َسو ُ
س ِ الحديث الثاني :عن أبي سعيد بن المُعَل ّى -رضي الل ّه عنه -قالُ ( :
كن ْتُ أصَل ِّي في الم َ ْ
ل ِإذ َال الل ّه ُ" :اسْ تَجِيب ُوا لِل ّه ِ وَلِلر ّسُو ِ ل" :أل َ ْم يَق ُ ِ ل الل ّهِ ،إن ِ ّي ُ
كن ْتُ أصَل ِّي ،فقا َ الل ّه ِ ﷺ فَل َ ْم أ ِ
جب ْه ُ ،فَق ُلتُ :يا ر َسو َ
جدِ". س ِن الم َ ْ
ج مِ َ تخ ْر ُ َ
ل أ ْن َن قَب ْ َسوَرِ في القُر ْآ ِ ك سُورَة ً هي أ ْعظَم ُ ال ّ
ل ل ِي" :ل َأعَل ِّمَن ّ َ د َعَاك ُ ْم لم َِا ُ
يح ْي ِيكُمْ"؟" ،ث ُم ّ قا َ
ل: يخ ْرُجَ ،قُلتُ له :أل َ ْم تَق ُلْ :ل َأعَل ِّمَن ّ َ
ك سُورَة ً هي أ ْعظَم ُ سُورَة ٍ في القُر ْآنِ؟ قا َ ث ُم ّ أخَذ َ بيَدِي ،فَلَم ّا أراد َ أ ْن َ
سب ْ ُع المَثانِي ،والقُر ْآنُ العَظ ِيم ُ الذي أوتِيت ُه ُ") ،أخرج َه ُ البخاريّ . ""ا ْلحم َْد ُ لِل ّه ِ ر ِّ
َب الْع َالم َي ِنَ" هي ال ّ
ل معرفة َ أعظم سورة في القرآن.
ج هذا الحديثُ تحتَ إثبات التفاوت في الأخبار؛ إذ يتناو ُ
-يندر ُ
ن الحديثُ جملة ً من الفوائد؛ منها :فوائد ُ تربو ية ٌ في تعامل الن ّب ِيّ ﷺ مع أصحابه وطر يقته في التعليم، -و يتضم ُ
ومنها :فائدة ٌ أصولية ٌ في دلالات الألفاظ في قوله تعالى" :اسْ تَجِيب ُوا لِل ّه ِ و َلِلر ّسُو ِ
ل ِإذ َا د َعَاك ُ ْم" ،ومنها :فائدة ٌ في
سب ْ َع المَثانِي) هي الفاتحة ُ.
ن (ال ّ
ل بها المفس ِّرون على ترجيح قول أ ّ
التفسير؛ فهو من أشهر الأحاديث التي يستد ّ
ل أساليبَ غير اعتيادية في إيصال الرسالة المتعل ِّقة بمفهوم المعاني فاـئدة :أ ّ
ن الن ّبيّ ﷺ -غالبًا -ما يستعم ُ
أى :الأساليب -قصدًا واضحًا للتنبيه إلى هذه المعاني؛ ومن أمثلة ذلك:
المركز ية في الدين ،قصدها ْ -
ض
شدِيد ُ بَيا ِ
ل َ
-١حديث جبر يل الطو يل؛ وفيه قول عمر بن الخطاب -رضي الل ّه عنه( :-إ ْذ طَل َ َع علي ْنا رَج ُ ٌ
سفَرِ ،ولا يَعْرِفُه ُ م ِن ّا أحَدٌ)؛ فمجر ّد ُ الدخول بهذه الهيئة والحالة
شعَرِ ،لا ي ُر َى عليه أث َر ُ ال ّ
شدِيد ُ سَوادِ ال ّ
ِيابَ ،
الث ّ ِ
ق به هذا القدوم ُ من بيان أركان الإسلام والإيمان والإحسان.
لفت كبير ٌ للانتباه ،وذلك لما يتعل ّ ُ
ٌ فيه
- 38 -
ل" :أيّ بلََدٍ هذا؟" ،قُل ْنَا :الل ّه ُ ور َسولُه ُ أع ْلَم ُ،
أليس ذ ُو الحجَ ّة ِ؟" ،قُل ْنَا :بلََى ،قا َ
لَ " :
أن ّه سَيُسَمِّيه ِ بغيرِ اسْمِه ِ ،ف َقا َ
ن دِم َاءَك ُ ْم
ل" :فإ ّ
َت بالبلَْدَة ِ الحَرَا ِم؟" ،قُل ْنَا :بلََى ،قا َ
ل" :أليس ْ
فَسَكَتَ حت ّى ظَنَن ّا أن ّه سَيُسَمِّيه ِ بغيرِ اسْمِه ِ ،قا َ
وأمْوَالـَك ُ ْم علَيْك ُم حَر َام ٌ ،كَحُرْمَة ِ يَومِك ُ ْم هذا ،في ش َ ْهرِك ُ ْم هذا ،في بلََدِك ُ ْم هذا ،إلى يَو ِم تلَْقَوْنَ ر َب ّكُمْ ،أل َا هلْ
شاهِد ُ الغ َائ ِبَ ،ف َر ُّب م ُبَل ّ ٍغ أ ْوعَى م ِن سَام ٍِع ،فلا تَرْجِع ُوا
ل" :الل ّه ُ ّم اشْهَدْ ،فَل ْيُب َ ِّلــ ِغ ال ّ
بلَ ّغْتُ ؟" ،قالوا :نَعَمْ ،قا َ
ض")؛ ق ّدم َ الن ّبيّ ﷺ بهذا الأسلوب المختلف للفت انتباه الصحابة
ضك ُ ْم رِقَابَ بَعْ ٍ
ك ّفار ًا ،يَضْرِبُ بَعْ ُ
بَعْدِي ُ
ل ِعظ ِم ما سيبلغ ُهم به ﷺ.
ن" ،فَحَشَد َ م َن -٣قوله ﷺ من حديث أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه"( :-احْ شُد ُوا؛ فإن ِ ّي سَأق ْرَأ علَيْك ُم ثلُُثَ القُر ْآ ِ
ض :إن ِ ّي أر َى هذا خ َبَر ٌ ل بَعْضُنا لِبَعْ ٍ ج نَبِ ّي الل ّه ِ ﷺ ،فَق َرَأ" :قُلْ ه ُو َ الل ّه ُ أحَدٌ" ،ث ُم ّ دَخَلَ ،فقا َ حشَد َ ،ث ُم ّ خَر َ ََ
ل" :إن ِ ّي قُلتُ لـَك ُ ْم سَأق ْرَأ علَيْك ُم ثلُُثَ ج نَبِ ّي الل ّه ِ ﷺ ،فقا َ سماءِ ،ف َذاك َ الذي أ ْدخَلَه ُ ،ث ُم ّ خَر َ َ ن ال ّ جاءَه ُ م ِ َ
ن")؛ وفي هذا الأسلوب إثارة ٌ لانتباه وتركيز المتلقي لأهمية ومركز ية ما ل ثلُُثَ القُر ْآ ِ
القُر ْآنِ ،أل َا إ ّنها تَعْدِ ُ
سيتلقاه.
س:
ل الل ّه ﷺ" :بُنِي َ الإسْ لَام ُ علَى خَم ْ ٍ الحديث الرابع :عن ابن عمر -رضي الل ّه عنهما -قال :قال رسو ُ
ل الل ّهِ ،وإقَا ِم الصّ لَاة ِ ،وإيتَاء ِ الز ّك َاة ِ ،والح َ ِجّ ،و َ
صو ْ ِم رَمَضَانَ"، ن مُحَم ّدًا ر َسو ُ
شَه َادَة ِ أ ْن لا إلَه َ إلّا الل ّه ُ وأ ّ
أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ن الإسلام بُنِي َ عليها،
ل على غيرها لأ ّ
إثبات لأمو ٍر مركز ية ٍ من الدين؛ هذه الأمور ُ تُفضّ ُ
ٌ -في هذا الحديث
ح العلماء ُ على تسميتها بـ(أركان الإسلام)؛ لـكونه بُنِي َ عليها.
وقد اصطل َ
ن الن ّبيّ ﷺ كثير ًا ما يستعمل الأساليب التقريبية فيما فيه أعداد ٌ؛ وهذا مما ي ُعينُ على
-وفي الحديث فائدة ٌ أ ّ
ثلاث م َن كُنّ "" ،آية ُ
ٌ ن من أمر ِ الجاهلية"" ، الضبط والحفظ ،ومن شواهد ذلك :قول الن ّب ِيّ ﷺ"( :اثنا ٌ
س"،ك م ِن هؤلاء ِ الأربع"" ،بُنِي َ الإسلام ُ على خم ٍ
ق ثلاث"" ،أرب ٌع م َن كُنّ فيه"" ،اللهم إن ِ ّي أعوذ ُ ب ِ َ
المناف ِ
"سبعة ٌ يُظلهم الل ّه في ظله"" ،اجتنبوا السبع الموبقات").
ل على ما سواها
ض ُ
ن الصّ لاة َ تف ُ
ن أهمها هذه الخمسة ،وأ ّ
ن لتفاوت الأعمال في الدين؛ وأ ّ
-وفي الحديث بيا ٌ
ن بيْنَ
التغليظ الاستثنائيّ في الشر يعة في ترك الصّ لاة؛ ومن ذلك :قول الن ّب ِيّ ﷺ" :إ ّ ُ منهم؛ ولذلك جاء َ
ك وال ْـكُ ْفرِ تَرْك َ الصّ لاة ِ" ،وقال عبد الل ّه بن شقيق -رحمه الل ّه( :-كان أصحابُ مُحم ّدٍ ﷺ لار ِ
ل وبيْنَ الش ِّ ْ
الر ّج ُ ِ
ن
ن في أ ّ
كفْر ٌ غير َ الصّ لاة ِ) ،وفي تفضيل الصلاة على الأركان الأربع بيا ٌ
ير َ ْونَ شيئًا م ِن الأعمال تَرْك ُه ُ
ل موجود ٌ حت ّى بينَ أعلى الأعمال في الدين.
التفاوتَ والتفاض َ
ل :م َن عاد َى لي ن الل ّه َ قا َ الحديث الخامس :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -قال :قال رسو ُ
ل الل ّه ﷺ" :إ ّ
ل عَبْدِي يَتَق َر ّبُ ْب ،وما تَق َر ّبَ إلَيّ عَبْدِي بشَيء ٍ أح ّ
َب إلَيّ مم ّا اف ْتَر َضْ تُ عليه ،وما ي َزا ُ و َل ًِّي ّا فق َ ْد آذَن ْت ُه ُ بالحَر ِ
- 41 -
ِشكن ْتُ سَمْع َه ُ ال ّذي ي َ ْسم َ ُع به ،وبَصَرَه ُ ال ّذي يُبْصِر ُ به ،ويَدَه ُ ال ّتي يَبْط ُ ل حت ّى أحِب ّه ُ ،فإذا أحْ بَب ْت ُه ُُ ،
إلَيّ بالن ّواف ِ ِ
بها ،ورِجْلَه ُ ال ّتي يَمْش ِي بها ،وإ ْن سَألَنِي ل َأ ْعط ِيَن ّه ُ ،ولئَِنِ اسْ ت َعاذَنِي ل َأعِيذ َن ّه ُ ،وما ت َرَدّدْتُ عن ش َيء ٍ أنا فاع ِلُه ُ
ن؛ يَك ْرَه ُ المَوْتَ ،وأنا أكْرَه ُ م َساءَتَه ُ" ،أخرج َه ُ البخاريّ .
س المُؤْم ِ ِ
ت َرَدّدِي عن ن َ ْف ِ
-يشتهر ُ هذا الحديثُ عند َ بعض العلماء ِ بـ(حديث الأولياء) ،وهذا الحديثُ من أد ّ ِ
ل الأحاديث في إثبات
ل إليه
ص ُ
ل إليه بما لا تو ِ ص ُعبادات تو ِ
ٍ ل منها ن الل ّه َ لم ّا شر ّع َ العبادات للتقر ّب إليه ،جع َ
التفاوت؛ ذلك أ ّ
ل ذلك :قوله تعالى" :وما تَق َر ّبَ إلَيّ عَبْدِي بشَيء ٍ أح ّ
َب إلَيّ مم ّا اف ْتَر َضْ تُ عليه"؛ غيرها من العبادات؛ ودلي ُ
ل إبراء ِ الذ ِّمّة وأداء ِ التكليف (فهذه درجة ٌ دنيا) ،بل
ل المؤمن مع الفرائض تعام َ
ن تعام ُ
ولذا؛ ينبغي ألا يكو َ
ظِم َ هذه
ل ما يتقر ّبُ به إلى الل ّه (فهذه درجة ٌ عليا)؛ ومقتضى ذلك :هو أ ْن يُع ّ
ل معها على أ ّنها أفض ُ
يتعام ُ
ن في أدائها.
س َ
الفرائض و يُح ِ
ِقات ،قالوا :يا الحديث السادس :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ قال" :اجْ تَن ِب ُوا ال ّ
سب ْ َع المُوب ِ
ل
ك ُ
ل الر ِّبا ،وأ ْ
ك ُ
س ال ّتي حَرّم َ الل ّه ُ إلّا بالح َ ّقِ ،وأ ْ
ل الن ّ ْف ِ ل :الش ِّرْك ُ بالل ّهِ ،وال ّ
سِحْ ر ُ ،وقَت ْ ُ ل الل ّه ِ وما ه ُنّ ؟ قا َ
ر َسو َ
ِلات" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ِنات الغاف ِ
َنات المُؤْم ِ
ْف المحُْص ِ
ف ،وقَذ ُ
ل اليَت ِِيم ،والت ّو َل ِّي يَوم َ الز ّحْ ِ
ما ِ
ن م ِن أكْ بَر ِ
ل الل ّه ﷺ" :إ ّ
الحديث السابع :عن عبد الل ّه بن عمرو -رضي الل ّه عنهما -قال :قال رسو ُ
ُب
ل :يَس ّ
ل والِدَيْه ِ؟ ،قا َ
ن الر ّج ُ ُ
وكيف يلَْع َ ُ
َ ل الل ّهِ،
ل :يا ر َسو َ
ل والِدَيْه ِ .قي َ
ن الر ّج ُ ُ
الك َبائِر ِ أ ْن يلَْع َ َ
ُب أمّه ُ" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ُب أباه ُ ،ويَس ّ
ل ،فَيَس ّ
ل أبا الر ّج ُ ِ
الر ّج ُ ُ
- 40 -
بعض
ُ ظم َ
الدعوي على غير هذا المقتضى؛ بأ ْن تُع ّ
ِّ -ومن صور الخلل الموجودة في الواقع :إقامة ُ الخطاب
َت في الشر يعة ،وكذلك في الأوامر والأخبار ،ولأجل ذلك :ينبغي
ظِم ْ
المنهيات على حساب المنهيات التي ع ُ ّ
ن على مراتبَ متفاوتة ٍ).
ن الد ِّي َ
على المصلح أ ْن يُقيم َ خطاب َه ُ الدعويّ على تلك القاعدة الـكبرى( :أ ّ
جئْتَهُمْ ،فَا ْدعُه ُ ْم إلى أ ْن يَشْهَد ُوا أ ْن لا إلَه َ إلّا الل ّهُ،
اب ،ف َِإذ َا ِ
ل كِت َ ٍ
ك سَت َأْ تي قَوْم ًا أه ْ َ
ن" :إن ّ َ
حِينَ بَع َث َه ُ إلى اليم َ َ ِ
ل
ات في ك ُ ّ ِ ْس صَلَو َ ٍن الل ّه َ ق ْد ف َر ََض عليهم خَم َ ك بذلكَ ،فأخْبِرْه ُ ْم أ ّ ل الل ّهِ ،فإ ْن ه ُ ْم أطَاع ُوا ل َ ن مُحَم ّدًا ر َسو ُ وأ ّ
صد َق َة ً تُؤْخَذ ُ م ِن أغْنِيَائِه ِ ْم فَتُرَدّ علَى
ن الل ّه َ ق ْد ف َر ََض عليهم َ
ك بذلكَ ،فأخْبِرْه ُ ْم أ ّ
يَو ٍم ولَيْلَة ٍ ،فإ ْن ه ُ ْم أطَاع ُوا ل َ
ليس بي ْن َه ُ وبيْنَ الل ّه ِ
ق دَعْوَة َ المَظْلُو ِم؛ فإن ّه َ
ك بذلكَ ،ف َِإ ي ّاك َ وك َرَائِم َ أمْوَالِهِمْ ،وات ّ ِ
فُق َرَائِهِمْ ،فإ ْن ه ُ ْم أطَاع ُوا ل َ
َاب") ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ِحج ٌ
ناقش قضية َ مراعاة الأولو يات في الخطاب الإصلاحي بناء ً على إدراك -هذا الحديثُ من الأحاديث التي ت ُ ُ
مطالب بأمرين:
ٌ ح
ن المُصل َ
تفاوت مراتب الدين ،إذن؛ بعد إدراك التفاوت في الأمر والنهي والخبر؛ فإ ّ
ل بناء ً على هذا التفاوت.
ن على ضوء هذا التفاوت في مراتبه؛ ومن ثم يعم ُ
ظِم َ الدي َ
الأوّل :أ ْن يُع ّ
ظم ُ ما
الثانـي :أ ْن يُقيم َ خطابَه ُ الإصلاحيّ بناء ً على إثبات التفاوت في حقائق الدين من جهة الأولو ية؛ في ُع ّ
ظمه الل ّه ورسوله ﷺ من جهة الأوامر أو النواهي أو الأخبار. ع ّ
ل
قالت أمّ المؤمنين عائشة -رضي الل ّه عنها( :-إن ّما ن َز َ َ ْ -ولقد جاء َ الوحي بمراعاة أولو يات الخطاب ،ولذلك؛
لل الحلََا ُ اس إلى الإسْ لَا ِم ن َز َ َ
ل ،ف ِيهَا ذِك ْر ُ الجن َ ّة ِ والن ّارِ ،حت ّى إذ َا ث َابَ الن ّ ُ
ن المُف َصّ ِ
ل منه سُورَة ٌ م ِ َ
ل ما ن َز َ َ
أوّ َ
ل ش َيء ٍ :لا تَشْر َبُوا الخم َ ْر َ ،لَقالوا :لا نَدَع ُ الخم َ ْر َ أبَد ًا ،ولو ن َز َ َ
ل :لا تَزْنُوا ،لَقالوا :لا نَدَع ُ الز ِّنَا ل أوّ َ
والحَرَام ُ ،ولو ن َز َ َ
وربط الن ّاس
ُ ن من أعظم أولو يات الخطاب الإصلاح ِيّ :تعظيم ُ الل ّه والعلم ُ به،
أبَد ًا)؛ وعلى ذلك :فإ ّ
ج لـكثيرٍ من مشكلات الواقع،
بتسليم؛ وفي هذا علا ٌ
ٍ ح القلوب لتتلقى حقائق الأمر والنهي
بالآخرة ،وفت ُ
حقِ.
ل بينَ الن ّاس وبينَ اتباع ال ّ
وسقوط لـكثيرٍ من العقبات التي تحو ُ
ٌ
-أمّا م َن يتبعون في خطابهم الإصلاح ِيّ طر يقة َ صد ِم الن ّاس بحقائق الدين؛ مثل( :مخاطبة إمرأة ٍ تنهج
الاتجاه النسوي بقوله تعالى" :و َالل ّاتِي تَخَاف ُونَ نُش ُوز َه ُنّ ف َعِظ ُوه ُنّ و َاهْ ج ُر ُوه ُنّ فِي ال ْمَضَاج ِِع و َاضْر ِبُوه ُنّ ")؛ فإ ّ
ن
خالف لهدي الأنبياء في معالجة قضايا أقوامهم.
منكوس م ٌ
ٌ خطاب
ٌ هذا الخطابَ
- 42 -
القلوب
ِ ل
المحاضرة السادسة :أهمي ّة ُ الت ّزكية ِ وأعما ِ
ِ
الفلاح ن عليهما مدار َ
القلوب وفضلِه ِما ،وأ ّ
ِ ل
باب في مركز ية الت ّزكية ِ وأعما ِ
ٌ
م ُق ّدِمة ٌ:
نصوص هذا الباب على الت ّزكية وأعمال القلوب؛ من حيث الأهمية والآثار المترتبة عليهما ،وهذا في
ُ -تدور ُ
سياق التنشئة الإصلاحية للمؤمن بميراث الوحي؛ فقد اعتنى الوحي ُ بقضية الت ّزكية وأعمال القلوب عناية ً
صة ً أكثر َ من غيرها من القضايا.
خا ّ
-يقوم ُ معنى الت ّزكية على أمرين:
الأوّل :التطهير ُ والتخلي لأمراض القلوب وأدواء النفوس :ومن ذلك :نهي ُ الن ّفس عن الهوى ،والتخل ّص
كبر والنفاق والر ياء.
من الع ُجب والـ ِ
الثانـي :الز يادة ُ والنماء ُ من الأعمال الصالحة :التي يتزك ّي الإنسانُ بسببها؛ ومنه قوله تعالى" :ال ّذ ِي يُؤْتِي م َالَه ُ
وأساس ومركز ُ العمل في ُ أي :يتزك ّى بالعمل الصالح وهو الصدقة ،فيزيد ُ إيمان ُه ُ بز يادة العمل، يَتَز َك ّى"؛ ْ
ل الجوارح.
القلب؛ كالمحبة لل ّه والخشية له والتقوى والإنابة واليقين وغيرها من أعمال القلوب التي تُثمر ُ أعما َ
الباب:
ِ شواهد ُ
الآية الأولى :قال تعالى" :ق َ ْد أفْل َ َ
ح م َنْ زَكّاه َا":
س و َضُ ح َىهَا * و َٱلۡقَمَرِ ِإذ َا
ش ۡم ِ-هذه الآية ُ هي جوابُ القس ِم الذي أقسم َ الل ّه ُ به في أوّل سورة الشمس" :و َٱل ّ
سو ّىهَا
ۡس وَم َا َ طحَىهَا * و َنَف ࣲ ض وَم َا َسم َا ء ِ وَم َا بَن َىهَا * و َٱلۡأ ۡر ِ
ل ِإذ َا یَغۡش َىهَا * و َٱل ّ
تلََىهَا * و َٱلنّهَارِ ِإذ َا ج َل ّىهَا * و َٱل ّی ۡ ِ
* ف َأل ۡهَمَه َا فُجُور َه َا و َتَقۡو َىهَا"؛ هذا كل ّه ُ قسمٌ؛ قسمٌ بالشمس وقسمٌ بضحاها وقسمٌ بالنهار وقسمٌ بالليل إلى آخر
الآيات ،أقسم َ الل ّه ُ بهذه الأشياء كلها على شيئين:
ل ذلك: ح م َن ي ُزك ِ ّي نفسه" :ق َ ْد أفْل َ َ
ح م َنْ زَكّاه َا" :الهاء في كلمة "زَكّاه َا" تعود ُ على الن ّفس؛ ودلي ُ الأوّل :فلا ُ
ح م َنْ زَكّاه َا".
سو ّىهَا * ف َأل ۡهَمَه َا فُجُور َه َا و َتَقۡو َىهَا * ق َ ْد أفْل َ َ
ۡس وَم َا َ
قوله تعالى" :و َنَف ࣲ
س نفسه" :و َق َ ْد خ َابَ م َن د َسّ اه َا" :أي دن ّسها.
الثانـي :خيبة ُ م َن دن ّ َ
ل الل ّه ِ عَلَيْك ُ ْم وَرَحْمَت ُه ُ م َا ز َكَى م ِنك ُم مّ ِنْ أحَدٍ أبَد ًا و َلََٰكِنّ الل ّه َ ي ُز َك ِّي م َن
الآية الثالثة :قال تعالى" :و َلَوْل َا ف َضْ ُ
ن الوسيلة َ الأساسية َ لتحصيل الت ّزكية هي أ ْن
ج هذه الآية ُ تحتَ عنوان وسائل الت ّزكية؛ ذلك أ ّ
يَش َاء ُ" :تندر ُ
يم ُنّ الل ّه ُ بها على عبده.
الآية الرابعة والخامسة :قال تعالى" :ه ُو َ ال ّذ ِي بَع َثَ فِي الْأمّ ِيِّينَ رَسُول ًا مِّنْه ُ ْم يَت ْلُو عَلَيْه ِ ْم آي َاتِه ِ و َي ُز َ ّ
كِيه ِ ْم"،
كِيك ُ ْم".
وقال تعالى" :كَمَا أ ْرسَل ْنَا ف ِيك ُ ْم رَسُول ًا مّ ِنك ُ ْم يَت ْلُو عَلَيْك ُ ْم آي َاتنَِا و َي ُز َ ّ
وظائف رسوله ﷺ التي بُع ِث
َ وصف الل ّه ُ -تعالى-
َ -هاتان الآيتان يندرجان تحتَ عنوان مركز ية الت ّزكية؛ فقد
ل الت ّزكية َ أساسًا فيها ،وهذا المعنى مكرر ٌ في القرآن ،ومن ذلك:
بها ،فجع َ
كِيه ِ ْم". ك و َيُع َل ِّمُهُم ُ الْكِتَابَ و َالْح ِ ْ
كم َة َ و َي ُز َ ّ َث ف ِيه ِ ْم رَسُول ًا مِّنْه ُ ْم يَت ْلُو عَلَيْه ِ ْم آي َات ِ َ
-١قوله تعالى" :ر َب ّنَا و َابْع ْ
كِيه ِ ْم".
-٢قوله تعالى" :لَق َ ْد م َنّ الل ّه ُ عَلَى ال ْمُؤْم ِنِينَ ِإ ْذ بَع َثَ ف ِيه ِ ْم رَسُول ًا مّ ِنْ أنفُسِه ِ ْم يَت ْلُو عَلَيْه ِ ْم آي َاتِه ِ و َي ُز َ ّ
ل الل ّه ِ ﷺ
ن ر َسو ُ الحديث الأوّل :عن زيد بن أرقم -رضي الل ّه عنه -قال( :ل َا أق ُو ُ
ل لـَك ُ ْم إلّا كما كا َ
َاب القَبْرِ ،الل ّه ُ ّم
ل ،و َال ْه َر َ ِم ،و َعَذ ِ
ل ،و َالْجب ُْنِ و َالْبُخْ ِ
ن الع َجْ زِ و َال ْـكَس َ ِ
ك مِ َ
ل" :الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب َ
يقولُ؛ كانَ يقو ُ
كه َا أن ْتَ خَي ْر ُ م َن زَكّاه َا ،أن ْتَ و َلِيّهَا وَمَوْل َاه َا") ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
آت ن َ ْفس ِي تَقْوَاه َا ،وَز َ ّ ِ
ِ
حديث:
فـوائد ُ ال ِ
ن الذي ي ُزك ِ ّي النفوس و يطهرها هو الل ّه.
-١الإيمانُ بأ ّ
ن الدعاء َ بالت ّزكية من أهم وسائل تحصيلها.
-٢أ ّ
ص الن ّب ِيّ ﷺ على الدعاء بالت ّزكية.
-٣يبيِّن الحديثُ أهمية َ الت ّزكية من جهة حر ِ
- 44 -
ن الن ّبيّ ﷺ كان يدعو
ل دائمٍ؛ لأ ّ
ل محافظًا على قضية الدعاء بالت ّزكية بشك ٍ
-٤أن ّه ينبغي على المُصلح أ ْن يظ ّ
بالت ّزكية ،وللمصلح أسوة ٌ في الن ّب ِيّ ﷺ.
ن الن ّبيّ ﷺ كان
ق الت ّزكية َ وت ُنقص ُها؛ ذلك أ ّ
ل من الأمراض التي تُعي ُ
ل والجبنَ والبخ َ
ن العجز َ والـكس َ
-٥أ ّ
ل ل صبا ٍح ومساءٍ ،خا ّ
صة ً الـكسل؛ كان يستعيذ ُ منه الن ّبيّ ﷺ بشك ٍ يستعيذ ُ بالل ّه من هذه الأمراض في ك ّ ِ
ن كسولٍ.
ل للدين ون ُصرت ُه ُ لا يستقيم ُ لإنسا ٍ
مكر ٍر؛ إذ العم ُ
فاـئدة ٌ منهجي ّة ٌ :من وسائل التف ّقه في الدين :التنب ّه والت ّف ّقه لمعاني العبودية في الأذكار اليومي ّة؛ ومن ذلك:
-١التف ّقه ُ في تشر يع ذكر ِ (لا إله إلا الل ّه) عدد ًا كبير ًا في اليوم على سبيل الوجوب والاستحباب؛ بدءًا من
أذكار الصباح والمساء ،ثم الأذان والترديد خلف المؤذن ،ثم الذكر بعد الوضوء ،ثم أذكار الصلاة وما بعدها،
ودعاء كفارة المجلس ،وغير ذلك.
-٢الت ّف ّقه ُ في سُن ّة تكرار الاستعاذة اليومي ّة في الصباح والمساء من الـكسل.
ن حزاورة ٌ الحديث الثاني :عن جندب بن عبد الل ّه -رضي الل ّه عنه -قال( :كن ّا م َع الن ّب ِيّ ﷺ ونح ُ
ن فتيا ٌ
ن ماجه.
ل أن نتعل ّم َ القرآنَ ثم ّ تعل ّمنا القرآنَ فازددنا ب ِه إيمان ًا) ،أخرج َه ُ اب ُ
فتعل ّمنا الإيمانَ قب َ
-قوله( :حزاورة ٌ) :جمع الحزْو َر؛ وهو الغلام ُ الذي قاربَ البلوغ.
- 45 -
ن الل ّه َ تعالى ل َا ينظر ُ إلى صُوَرِك ُ ْم و َأمْوالـِكُمْ،
ل الل ّه ﷺِ " :إ ّ
-عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -قال :قال رسو ُ
ولـكنْ ِإن ّما ينظر ُ إلى قلوب ِكم وأعمالـِكم" ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
ن في الجَسَدِ م ُضْ غ َة ً :إذ َا
ل الل ّه ﷺ يقول" :أل َا وإ ّ
-عن النعمان بن بشير -رضي الل ّه عنه -قال :سمعتُ رسو َ
َت فَسَد َ الجَسَد ُ كُل ّه ُ ،أل َا وهي الق َل ْبُ " ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ح الجَسَد ُ كُل ّه ُ ،وإذ َا فَسَد ْ
َت صَل َ َ
صَلَح ْ
مقامات أربع:
ٌ -توضح هذه الأحاديثُ الثلاثة ُ مركز ية َ عمل القلب في الشر يعة ،وللت ّربية على الأعمال
الأوّل :الت ّربية على الاهتمام بالأعمال القلبية وعلى الأعمال الظاهرة؛ وهي أعمال الجوارح ،والذي يترب ّى
على هذا المعنى؛ فإن ّه يترب ّى تربية ً مواف ِقة ً لمنهاج الن ّب ُو ّة.
الثانـي :الت ّربية على الاهتمام بالأعمال الظاهرة؛ كالصلاة والزكاة ،دونَ التركيز على الأعمال القلبية ،والذي
يترب ّى على هذا المعنى؛ فهو وإ ْن ترب ّى على خيرٍ ،إلا أن ّه لم يترب ّى على الخير التا ِمّ.
الثالث :الت ّربية على الاهتمام بالأعمال الظاهرة ولـكن بدون تركيز على مركز ياتها وإن ّما على بعض الس ُنَن
والمظاهر الشرعية مع إهمال ما هو آكد ُ منها من الأعمال الظاهرة ،ومع إهمال الأعمال القلبية.
الـرابع :الت ّربية على الاهتمام بالأعمال الباطنة والتركيز عليها ،مع إهمال الأعمال الظاهرة.
ن الت ّربية َ الصحيحة َ ينبغي أ ْن يكونَ التركيز ُ فيها على الأعمال الباطنة؛ وذلك بالنظر إلى ما في
-وعلى ذلك؛ فإ ّ
ن
ق ومحبة ٍ وخشية ٍ وغير ذلك ،فإذا قام َ المسلم ُ بتنمية تلك الأعمال في نفسه =فإ ّ
ص وصد ٍ
القلب من إخلا ٍ
النتيجة َ المباشرة َ على ذلك ،هي سرعة ُ استجابته للأعمال الظاهرة؛ كالجهاد والصلاة والصدقة والصيام.
يستيقظ الإنسانُ لصلاة الفجر ينبغي أ ْن يتخذ َ ع ّدة َ وسائل معينة؛ كأ ْن ينام َ مبكرًا،
َ ل ذلك :لـكي
مثاـ ُ
والأساس الذي
ُ ل
بأس بها ،لـكن الأص ُ
ل لا َ
يضبط منبهًا ،هذه كل ّها وسائ ُ
َ و يأخذ َ ق ِسطًا من القيلولة ،و
- 46 -
ينبغي أ ْن يسبق َها هو يقظة ُ القلب بتعظيم أمر الصلاة ،هذه اليقظة ُ هى التي تدف ُع الإنسانَ إلى المجاهدة
للاستيقاظ إلى صلاة الفجر.
الحديث السادس :عن ابن مسعودٍ -رضي الل ّه عنه -قال( :ما كانَ بيْنَ إسْ لَام ِنَا وبيْنَ أ ْن عَاتَبَنَا الل ّه ُ بهذِه
تخْشَ َع قُلُو بُه ُ ْم لِذِكْر ِ الل ّه ِ" إلّا أ ْر ب َ ُع سِنِينَ) ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
ن آم َن ُوا أ ْن َ الآيَة ِ" :أل َ ْم ي َأْ ِ
ن لِل ّذ ِي َ
ل وصبرٍ ،ومع
ن مسعودٍ -رضي الل ّه عنه -عن المرحلة المكية وما فيها من اضطهادٍ وتضحية ٍ وبذ ٍ
-يتكل ّم اب ُ
ي لجماعة ٍ من المؤمنين بأ ْن يعتنوا بهذا المعنى القلبي وهو الخشوع ،وجاء فيه
ل فيها هذا العتابُ الإله ّ
ذلك؛ ينز ُ
ق وَل َا يَكُونُوا
ن الْح َ ّ ِ تخْشَ َع قُلُو بُه ُ ْم لِذِكْر ِ الل ّه ِ وَم َا ن َز َ َ
ل مِ َ ن آم َن ُوا أن َ النص على القلب؛ فقال تعالى" :أل َ ْم ي َأْ ِ
ن لِل ّذ ِي َ ّ
ن".
سق ُو َ
َت قُلُو بُه ُ ْم وَكَث ِير ٌ مِّنْه ُ ْم فَا ِ
ل عَلَيْهِم ُ الْأمَد ُ فَقَس ْ
ل فَطَا َ
ن أوتُوا الْكِتَابَ م ِن قَب ْ ُ
ك َال ّذ ِي َ
ن
ل منه سُورَة ٌ م ِ َ ل ما ن َز َ َ الحديث السابع :عن عائشة َ أ ِمّ المؤمنين -رضي الل ّه عنها -قالت( :إن ّما ن َز َ َ
ل أوّ َ
حرص
اس للأمر والنهي =فلي َ َ
-٢من جهة الخطاب الدعوي :ينبغي على المُصلح إذا أراد َ أ ْن يستجيبَ الن ّ ُ
ي لـكثرة التفر يط
ن السببَ الأساس ّ
على أ ْن يزيد َ من مستوى إيمانهم القلبي الداخلي واستحضارهم الآخرة ،فإ ّ
في الاستجابة للأمر والنهي يعود ُ إلى السبب الباطني المتعلِّق بمرض القلب ،وذلك بقلة تذك ّر الآخرة.
-٣أهمية ُ دوام التذكير بالجن ّة والن ّار وبمركز ية الآخرة؛ لأ ّنها من أعظم ما يُجدد ُ الإيمانُ في القلب؛ في َعظُم ُ في
ل ذلك إلى الجوارح من جهة الزجر من ارتكاب الذنوب ،والمحاذرة منها.
خوف والخشية ُ ،ثم يتنق ُ
القلب ال ُ
- 47 -
شرف العلم ِ الن ّ ِ
افع وفضلِه ِ ُ المحاضرة السابعة:
شرف العلم ِ الن ّ ِ
افع وفضلِه ِ وذ ِمّ م َن لم يعملْ بعلمِه ِ ِ بابُ
م ُق ّدِمة ٌ:
ن أبوابَ متن المنهاج متعل ِّقة بسو ية المؤمن وسلوكه وما يحتاج ُه ُ في طر يقه الإصلاحي؛ ومن
-بي ّنا -سابق ًا -أ ّ
ق بالبناء العلمي للمصلح من جهة ما جاء في مرجعي ّة
جُملة ما يحتاجه :العلم؛ وهذا البابُ في ضبطِ ما يتعل ّ ُ
الوحي.
الباب:
ِ ن
ل عنوا ِ
تفصي ُ
شرف العلم ِ الن ّ ِ
افع) :فيها فائدتان :إشارة ٌ إلى مكانة العلم وأهميته ،وإشارة ٌ إلى صفة ٍ مقي ّدة ٍ للعلم وهي ُ -قوله(:
أ ْن يكونَ هذا العلم ُ نافع ًا.
ن العلم َ إنما ي ُراد ُ للعمل به؛ فم َن عَل ِم َ ولم ْ يعملْ =فهو مذموم ٌ.
-قوله( :وذ ِمّ م َن لم يعملْ بعلمِه ِ) :إشارة ٌ إلى أ ّ
نصوص الباب ثلاثَ قضايا؛ هم:
ُ ل
-تتناو ُ
شرف العلم وبيانُ فضله.
ُ -١
-٢بيانُ أهمية أ ْن يكونَ العلم ُ نافع ًا.
-٣أهمية ُ العمل بالعلم وذ ِمّ م َن لم يعملْ بعلمه.
الباب:
ِ شواهد ُ
الآية الأولى :قوله تعالى" :و َقُلْ ر ِّ
َب زِ ْدنِي ع ِل ْمًا":
بطلب الازدياد من العلم ،والعلم ُ المقصود ُ
ِ ل العلم وشرفه؛ إذ فيها أمرُ الل ّه للن ّب ِيّ ﷺ
تكشف الآية ُ عن فض ِ ُ -
في هذه الآية :هو العلم ُ بالوحي ،ومما يبيِّن ذلك:
ك و َحْ ي ُه ُ
ل أن يُقْض َى ِإلَي ْ َ
ن م ِن قَب ْ ِ
ك الْحَقّ وَل َا تَعْج َلْ ب ِالْقُر ْآ ِ
-١قوله تعالى في مطـلع الآيــة" :فَتَع َالَى الل ّه ُ ال ْمَل ِ ُ
ل في تلـقي الـوحي؛ وهذا توجـيه ٌ في طر يقة التلقي،
ب زِ ْدنِي ع ِلْمًا"؛ أي :أمرَ الل ّه ُ نبي ّه ﷺ ألا يعج َ
و َقُل رّ ِّ
وليس نهيًا عن الازدياد من العلم والسعي فيه.
ن ال ْعِلْم ِ
ن الل ّه َ يُسمِّي القرآنَ علمًا؛ ومن ذلك :قوله تعالى" :و َلئَِنِ ات ّبَعْتَ أه ْوَاءَه ُم مّ ِن بَعْدِ م َا ج َاءَك َ م ِ َ -٢أ ّ
ظالِمِينَ".
ن ال ّ
ك ِإذ ًا ل ّم ِ َ
ِإن ّ َ
- 48 -
ن من أهم وسائل تحصيل العلم :الدعاءَ ،فالعلم ُ له وسائلُه ُ ومنهجياتُه ُ وطُر ُقُه ُ المعروفة، -ومن فوائد الآية :أ ّ
ل طالبُ العلم عن الدعاء لتحصيل العلم.
ولـكن ينبغي ألا يغف َ
-ذ ْ
كرت الآية ُ أمرَ عبا ٍد صالحين؛ عَر ِفوا ما ينفعهم في الآخرة فأمضوا ليلهم سجدًا وقيام ًا ،كما قال تعالى:
ن
ن يَعْلَم ُونَ و َال ّذ ِي َ
خرَة َ و َيَرْجُو رَحْم َة َ ر َبِّه ِ قُلْ ه َلْ يَسْتَوِي ال ّذ ِي َ
يحْذَر ُ الْآ ِ
جدًا و َقَائِمًا َ
ل سَا ِ
"أمّنْ ه ُو َ قَان ِتٌ آن َاء َ الل ّي ْ ِ
ن العلم َ الذي يدف ُع إلى قيام الليل وحذَرِ
ن" ،أي :يعلمون علمًا نافع ًا مثمرًا وباعثًا للعمل ،ولا شك أ ّ
ل َا يَعْلَم ُو َ
ل بهذه المعاني (علم الوحي).
الآخرة هو العلم ُ المتص ُ
ن قيام َ الليل من أهم ما يعصِم ُ الإنسانَ من الفتن في الدنيا؛ ودليله :حديثُ أ ِمّ المؤمنين
باعث للخوف؛ لأ ّ
ٌ -3
ن سب ْح َانَ الل ّهِ ،م َاذ َا أن ْز َ َ
ل الل ّه ُ م ِ َ ل الل ّه ِ ﷺ لَيْلَة ً فَزِعًا ،يقو ُ
لُ " : أ ِمّ سلَمة َ -رضي الل ّه عنها -قالت"( :اسْ تَيْق ََظ ر َسو ُ
ُب ك َاسِيَة ٍ في
ات -يُر ِيد ُ أ ْزو َاج َه ُ لـِك َ ْي يُصَلِّينَ -ر ّ
ن الف ِتَنِ ،م َن يُوق ُِظ صَوَاحِبَ الحجُُر َ ِ
ل مِ َ
الخَزَائِنِ ،وم َاذ َا أنْز ِ َ
خرَة ِ") .وكذلك؛ يقي قيام ُ الليل الإنسانَ من المخاوف الأخرو ية؛ ودليل ذلك :قوله تعالى
الد ّن ْيَا عَارِ يَة ٍ في الآ ِ
جهَن ّم ََۖ".
ِف ع َن ّا عَذ َابَ َ ن یَب ِیت ُونَ ل ِر َ ّبِه ِ ۡم سُ ج ّدࣰا و َق ِیََٰم ًا * و َٱل ّذ ِی َ
ن یَق ُولُونَ ر َب ّنَا ٱصۡر ۡ في سورة الفرقان" :و َٱل ّذ ِی َ
- 49 -
ن الخشية َ صفة ٌ مركز ية ٌ في إمكان
يخْشَاه َا" ،وعلى ذلك؛ فإ ّ
يخ ْش َى" ،وقالِ " :إن ّمَا أنتَ م ُنذِر ُ م َن َ
"سَي َ ّذك ّر ُ م َن َ
الإستفادة والاعتبار والاتعاظ والادكار ،والسبيل إلى الخشية؛ إن ّما يكونُ بالعلم.
الحديث الأوّل :عن معاو ية َ -رضي الل ّه عنه -قال( :سَمِعْتُ الن ّبيّ ﷺ يقو ُ
ل" :م َن يُرِدِ الل ّه ُ به خَيْر ًا يُف َ ّقِهْه ُ
أي( :م َن لا ي ُردِ الل ّه ُ به خير ًا =لا يُف َ ّقِهْه ُ في الدين) ،وهذا
حديث مقصود ٌ؛ ْ
ن مفهوم َ ال ِ
بعض العلماء بأ ّ
ُ ل
-قا َ
ج إلى قد ٍر من التحرير والضبط ،ولـكن ينبغي أ ْن يُن ْتَبه َ إلى مثل هذا المعنى.
المفهوم ُ يحتا ُ
ص الشرعيّ في علم الفقه ،وإن ّما المقصود ُ به :الفقه العامّ في الدين،
-ليس المقصود ُ بـ(الفقه في الدين) التخصّ َ
ل أصوله وفروعه ومجموع حقائقه ،ومن الأمور الكاشفة عن معنى الدين :حديث (جبر يل
والدين :كلمة ٌ تشم ُ
انصرف؛ قال
َ ق بها ،فلم ّا
ل الن ّبيّ ﷺ عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وما يتعل ّ ُ
الطو يل) لما سأ َ
ل أتاك ُ ْم يُع َل ِّمُك ُ ْم دِينَك ُ ْم"؛ فسمّى الن ّبيّ ﷺ هذه المقامات كلها وما يتعل ّ ُ
ق بها دينًا. جبْرِي ُ
الن ّبيّ ﷺ" :فإن ّه ِ
باب
-وكلمة ُ (الفقه) في خطاب الوحي وما ورد عن أهل العلم ،هي كلمة ٌشر يفة ،وهي أكبر ُ من أ ْن تُحصر َ ٍ
مقامات ثلاث؛ وهم كالتالي:
ٍ ن الفقه َ على
من أبواب الدين؛ وبيانُ ذلك :أ ّ
ي
ل في مقامات الفقه ،وحت ّى لو سُم ِّ َ
يف؛ لـكنه لا يدخ ُ
حفظ العلم وتبليغه :وهذا مقام ٌ شر ٌ
ُ المقام الأوّل:
فقه ًا بالاعتبار العام فهو في أدنى درجات الفقه؛ لقول الن ّب ِيّ ﷺ" :نض ّر َ الل ّه ُ امرأ ً سم ِ َع من ّا حديثًا فحفِظَه ُ حت ّى
ل فقه ٍ إلى من هو َ أفق َه ُ منه ُ".
ُب حام ِ
ليس بف َقيه ٍ ور ّ
ل فقه ٍ َ
يبلِّغ َه ُ غيرَه ُ فر ُّب حام ِ
-ومن المهم وجود هذه الطبقة في العلم؛ وهي الطبقة ُ الناقلة ُ للعلم دونَ التحقيق فيه ،كما جاء في قول الن ّب ِيّ
ْث الـكَث ِيرِ أصابَ أ ْرضًا، ن الهُد َى والعِلْم ِ ،كَمَث َ ِ
ل الغَي ِ ل ما بَع َثَنِي الل ّه ُ به م ِ َ
ﷺ عن القلوب التي تتلقى العلم" :م َث َ ُ
َت الماءَ ،فَنَف َ َع الل ّه ُ ت الماءَ ،فأن ْبَت َِت الك َلَأ والعُشْبَ الـكَث ِير َ ،وكان َْت مِنْها أجادِبُ ،أ ْمسَك ِ فَكانَ مِنْها نَق ِي ّة ٌ ،قَبِل َ ِ
ك ماء ً ولا تُن ْب ِتُ ك َلَأً، س ُن لا تُم ْ ِ خر َى ،إن ّما هي ق ِيعا ٌ سقَوْا وزَرَع ُوا ،وأصاب َْت مِنْها طائِف َة ً أ ْ اس ،ف َشَرِبُوا و َ بها الن ّ َ
ك ر َأْ سًا ،ول َ ْم يَقْب َلْل م َن ل َ ْم يَرْف َعْ بذل َل م َن فَق ُه َ في دِي ِن الل ّهِ ،ونَفَع َه ُ ما بَع َثَنِي الل ّه ُ به فَعَل ِم َ وعَل ّم َ ،وم َث َ ُ ك م َث َ ُ ف َذل َ
أمسكت الماء َ ولم تُخرجْه ُ على صورةٍ أخرى فيها
ْ هُد َى الل ّه ِ الذي أ ْرسِل ْتُ به ِ" ،والشاهد ُ هنا في الأرض التي
حفظ العلم.
ُ قدر ٌ من المعالجة وإن ّما حفظته كما هو ،حت ّى يأتي َ م َن يستخرجه ،وكذلك
- 51 -
ق بفهم الدين
ق بالناحية العلمي ّة النظر ي ّة :وهو ما يتعل ّ ُ
المقام الثاني من مقامات الفقه :الفقه ُ المتعل ّ ِ ُ
والاستنباط فيه والجمع بين نظائر العلم وردِّ المتشابه إلى المحكم وتحقيق العلم وما إلى ذلك ،وهذا من صميم ما
ل في الفقه في الدين؛ إذ أن ّه راج ٌع إلى فه ِم مراتب العلم والقدرة ِ على حل مشكلاته واستنباط حقائقه،
يدخ ُ
ي من الفقه؛ إلا أن ّه
ق بذلك من كشف الأمور المرتبطة بفهم الدين على حقيقته ،فهذا جزء ٌ أساس ّ
وما يتعل ّ ُ
ليس أعلى مقام ًا في الفقه.
والأشرف في الفقه؛ إذ فيه الجم ُع بينَ الفهم
ُ ل على وفق الفقه :وهو المقام ُ الأعلى
المقام الثالث :إجراء ُ العم ِ
ن إجراء َ العمل على مقتضى العلم يُسمّى فقه ًا ،فتجد ُ الفقيه َ عالمًا بحقائق
والاستنباط والمعرفة وبينَ العمل ،فإ ّ
مرتبط بتعر يف العلماء للحكمة بـ(إصابة ِ ٌ الدين على المستوى النظري ،وعامل ًا بها على المستوى العملي ،وهذا
حق وإجراء ِ العم ِ
ل على هذه الإصابة) ،وبعضهم يقولُ( :الحكمة ُ هي الفقه ُ في الدين). ال ّ ِ
ل الل ّه ﷺ قالِ " :إذ َا م َاتَ الإنْس َانُ انْقَطَ َع عن ْه ن رسو َ الحديث الثاني :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -أ ّ
صد َقَة ٍ ج َارِ يَة ٍ ،أ ْو عِلْمٍ يُن ْتَف َ ُع بِه ِ ،أ ْو وَلَدٍ صَالِ ٍح ي َ ْدع ُو له" ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
ع َمَلُه ُ ِإلّا م ِن ثَلَاثَة ٍِ :إلّا م ِن َ
ل بالعمل الذي يجري عليه
ق الل ّه ُ العبد َ لأ ْن يعم َ
ن من أعظم الفقه في الدين :أ ْن يُوف ِّ ِ
-في الحديث بيانُ أ ّ
الحسنات بعد موته.
ل شيء اكتسبه في الحياة ،قال
ل يتخلى الإنسانُ فيه -رغمًا عنه -عن ك ّ ِ
-يخبرنا الن ّبيّ ﷺ عن لحظة ٍ فيها انتقا ٌ
ق الإيغال
ب فيها فرح ًا) ،فهذه الدنيا لا تستح ُ
ك لذي ل ُ ٍّ
ح الموتُ الدنيا؛ فلم يتر ْ
ض َ
الإمام الحسن البصري( :ف َ َ
ن الل ّه َ أودعَ في الإنسان غريزة َ الشعور بأن ّه لن يغادر الد ّنيا؛ قال الن ّبيّ ﷺ :
فيها ،ومن جملة الإبتلاءات :أ ّ
ل العُمُرِ".
ُب المَالِ ،وطُو ُ
ن :ح ّ
ن آدَم َ و يَكْب َر ُ معه ُ اث ْنَا ِ
"يَكْب َر ُ اب ُ
- 50 -
ل في أمورٍ؛
بوابات من الخير في تأمين مستقبله الأخرى؛ هذه البوابات تتمث ُ
ٍ -يرشد ُ هذا الحديثُ الإنسانَ إلى
منها:
الأوّل :الصدقة ُ الجار ية ُ :وهي التي يستمر ُ الانتفاع ُ بها؛ كالوقف ،وحفر آبار المياة ،وبناء المساجد.
حث على الن ّفع بالعلم؛
ٌ الثانـي :العلم ُ الذي يُنتف ُع به :وهو بوابة ٌ عظيمة ٌ من بوابات الحسنات ،وفي الحديث
من حيث تبليغه ونقله لمَن بعده؛ فكل ّما كانَ العلم ُ الذي يترك ُه ُ المرء ُ أكثر َ نفع ًا واستمرار ًا =كان أكثر َ جر يان ًا
حرص طالبُ العلم على أ ْن يترك َ
بالحسنات ،إذا كانَ صاحب ُه ُ مخلصً ا مبتغيًا به وجه الل ّه ،لذلك؛ ينبغي أ ْن ي َ
شيئًا من العلم ينتف ُع به بعد َ موته.
ن الدعاء َ من الولد
حث على تنشأة الأبناء على الصلاح؛ فإ ّ
ّ الثالـث :الولد ُ الصالح ُ الذي يدعو له :وهذا فيه
يتصف بالصلاح.
ُ الصالح غير ُ الدعاء ِ مم ّن لا
ك م ِن عِلْم ٍ الحديث الثالث :عن زيدٍ بن أرقم -رضي الل ّه عنه -أ ّ
ن الن ّبيّ ﷺ كان يقولُ" :الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب َ
س لا تَشْبَعُ ،وَم ِنْ دَعْوَة ٍ لا يُسْتَج َابُ لَهَا" أخرج َه ُ مسلم ٌ.
يخْشَعُ ،وَم ِنْ ن َ ْف ٍ
لا يَنْفَعُ ،وَم ِنْ قَل ٍْب لا َ
ل
ل لـَك ُ ْم إلّا كما كانَ ر َسو ُ -هذا الحديثُ مختصر ٌ؛ وأصل ّه :عن زيدٍ بن أرقم -رضي الل ّه عنه -قال( :ل َا أقُو ُ
َاب
ل ،و َال ْه َر َ ِم ،و َعَذ ِ
ل ،و َالْجب ُْنِ و َال ْبُخْ ِ
ن الع َجْ زِ و َال ْـكَس َ ِ
ك مِ َ
ل" :الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب َ الل ّه ِ ﷺ يقولُ؛ كا َ
ن يقو ُ
ك م ِن عِلْم ٍ
كه َا أن ْتَ خَي ْر ُ م َن زَكّاه َا ،أن ْتَ و َلِيّهَا وَمَوْل َاه َا ،الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب َ
آت ن َ ْفس ِي تَقْوَاه َا ،وَز َ ّ ِ
القَبْرِ ،الل ّه ُ ّم ِ
س لا تَشْبَعُ ،وَم ِنْ دَعْوَة ٍ لا يُسْتَج َابُ لَهَا") ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
يخْشَعُ ،وَم ِنْ ن َ ْف ٍ
لا يَنْفَعُ ،وَم ِنْ قَل ٍْب لا َ
-ولم ّا كانَ العلم ُ من جملة المسؤول عنه؛ كان هذا الشاهد ُ في موضوع الباب (ذمّ م َن لم يعملْ بعلمه)؛
ل الإنسانُ عن وجه عمله فيها؛ هل أتى بها على
ل هذه من النعم التي سي ُسأ ُ
فالجهاد والعلم والقرآن والمال؛ ك ّ
ل إلا بها (الإخلاص)؟ ،ولذلك؛
ن أ ْن تُقب َ
وجهها الذي يرضاه الل ّه ،أم أتى بها فاقدة ً لروحها التي لا يُمك ُ
ل الإنسانُ عملَه ُ ابتغاء َ وجه الل ّه.
ل)؛ بأ ْن يجع َ
ح العم ِ
الإخلاص رو ُ
ُ جاء في الأثر( :
الباب:
ِ خُـلاصة ُ
ن العلم َ هو ما أنزله الل ّه؛ وهو العلم ُ بكتاب الل ّه وبس ُن ّة ِ رسول الل ّه ﷺ ،وما تضمنته من حقائق الدين المبي ّن
-أ ّ
ل في اس ِم الدين المبي ّن في
في حديث (جبر يل الطو يل) في أمر ِ الإسلام والإيمان والإحسان ،وما يدخ ُ
حديث معاو ية َ" :م َن يُرِدِ الل ّه ُ به خَيْر ًا يُف َ ّقِهْه ُ في الد ِّي ِن".
مقامات ثلاثة:
ٍ ن الفقه َ الوارد َ في حديث معاو ية َ" :م َن يُرِدِ الل ّه ُ به خَيْر ًا يُف َ ّقِهْه ُ في الد ِّي ِن" على
-وأ ّ
ن هذا التبلي َغ المجر ّد َ أدنى درجات الفقه. ِ
تبليغ الدين دونَ ف ِ ْقه ِ حقائقه ومحكماته ،وأ ّ الأوّل :مقام ُ
ل في الفقه؛ إلا أن ّه ليس أعلى مقام ًا
الثانـي :مقام ُ الفهم والاستنباط والتأمّل ،وهذا المقام ُ من أولى ما يدخ ُ
في الفقه.
ن إجراء َ
الثالث :وهو المقام ُ الأعلى في الفقه؛ إذ فيه الجم ُع بينَ الفهم والاستنباط والمعرفة وبينَ العمل ،فإ ّ
العمل على مقتضى العلم يُسمّى فقه ًا.
- 54 -
ل
المحاضرة الثامنة :تربية ُ الن ّب ِيّ ﷺ أصحابَه ُ على العم ِ
ل ،وإبعادِه ِ إ ي ّاهم عن
باب في تربية ِ الن ّب ِيّ ﷺ أصحابَه ُ على العم ِ
ٌ
ل
ل وكثرة ِ السؤا ِ
ل والقا ِ
الق ِي ِ
الباب:
ِ عنوانُ
ل
ل)؛ لما يشتم ُ
ل) أوفى صياغة ً من قول( :أمرُ الن ّب ِيّ ﷺ أصحابَه ُ بالعم ِ
-قوله( :تربية ُ الن ّب ِيّ ﷺ أصحابَه ُ على العم ِ
مفهوم ُ التربية على الموارد التي أسّ ست في الصحابة مركز ية العمل ،وهذا أبعد ُ من مجر ّد الأمر المباشر،
ل الصالح ُ الذي يُق ّدم ُ على ضوء العلم.
والمقصود ُ بالعمل :العم ُ
-ومما يُثبتُ هذه التربية َ -غير نصوص الباب :-القدوة ُ العملية ُ للن ّب ِيّ ﷺ؛ فقد كانت حياتُه ُكل ّها عمل ًا ،فكان
يقف مع سيرة الن ّب ِيّ ن م َن ْ في مجر ّدِ التزا ِم الصحابة ِ مرافقته ﷺ تربية ٌ على أهمية العمل ،وبناء ً على ذلك :فإ ّ
ل الصحابة َ بمصاحبتهم المباشرة للن ّب ِيّ ﷺ.
قبس من النور الذي نا َ
ﷺ بالدراسة والتأمّل والتعظيم =فإن ّه ينالْه ُ ٌ
ل هو المبدأ؛ فينظر ُ
ي في الباب هو التربية ُ على العمل؛ بأ ْن يكونَ العم ُ
ل الأساس ّ
ن المعنى الأ ّو َ
-وعلى ذلك؛ فإ ّ
ل -هو النّهي ُ عن
أمر ونهيّ واجبُ الامتثال ،والمعنى الثاني -الذي يحمي المعنى الأ ّو َ
المسلم ُ إلى الد ِّين على أن ّه ٌ
الأمور التي تخالفه؛ ومن جملتها :النّهي ُ عن كثرة السؤال ،وعن القيل والقال ،وعن الاختلاف ،وعن
ف ما لا يعلم ُه ُ الإنسان.
تكل ّ ِ
الباب:
ِ شواهد ُ
الآية الأولى :قال تعالى" :ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ
ن آم َن ُوا ل َا تَسْألُوا ع َنْ أشْ يَاء َ ِإن تُبْد َ لـَك ُ ْم تَسُؤْك ُ ْم و َِإن تَسْألُوا عَنْهَا حِينَ
ل الْقُر ْآنُ تُبْد َ لـَك ُ ْم عَف َا الل ّه ُ عَنْهَاۗ و َالل ّه ُ غَف ُور ٌ ح َل ِيم ٌ".
يُنَز ّ ُ
ن بالأسئلة وتوليدُه ُ إ ي ّاها دون التنب ّه إلى ما
ل على أن ّه ليس من المحمود ول ُع الإنسا ِ
-في هذه الآية استدلا ٌ
ل عما لم
ف البعض السؤا َ
جاءت الآية ُ في سياق تكل ّ ِ
ْ الإعراض عنه؛ فقد
ُ الذي ينبغي في السؤال؛ طرح ُه ُ أم
ل الوحي ُ بتحريم الشيء المسؤول عنه بسبب هذا السؤال.
ينزلْ فيه الوحي ُ بالمنع؛ فقد ينز ُ
- 55 -
ن الن ّبيّ ﷺ غضِ بَ مرة ً بسبب كثرة الإلحاح في السؤال؛ ومن ذلك:
ل بعمومها؛ ذلك أ ّ
-وهذه الآية ُ تُستعم ُ
ْس ،فَصَل ّى له ْم
شم ُ
َت ال ّ ل الل ّه ِ ﷺ ،خَر َ َ
ج حِينَ ز َاغ ِ ن ر َسو َ
-١حديثُ أنس بن مالك -رضي الل ّه عنه( -أ ّ
َب أ ْن
ن قَبْلَه َا أم ُور ًا عِظ َام ًا ،ث ُم ّ قالَ :م َن أح ّ
ساع َة َ ،وَذَك َر َ أ ّ
سل ّم َ ق َام َ علَى المنِ ْبَرِ ،فَذَك َر َ ال ّ
ظ ْهرِ ،فَلَم ّا َ
صَلَاة َ ال ّ
يَسْألَنِي عن شيءٍ فَل ْيَسْألْنِي عن ْه ،ف َو َ الل ّه ِ لا تَسْألُونَنِي عن شيء ٍ إلّا أخْبَرْتُك ُ ْم به ،ما دُمْتُ في مَق َا ِمي هذا .قا َ
ل
ل الل ّه ِ ﷺ أ ْن يَق ُولَ:
ل الل ّه ِ ﷺ ،و َأكْ ثَر َ ر َسو ُك م ِن ر َسو ِ اس البُك َاء َ حِينَ سَم ِع ُوا ذل َ ن م َال ِكٍ :فأكْ ثَر َ الن ّ ُ سب ُ أن َ ُ
ل الل ّهِ ،قالَ :أبُوك َ حُذ َاف َة ُ).
ن حُذ َاف َة َ ف َقالَ :م َن أبِي؟ يا ر َسو َ سَلُونِي فَق َام َ عبد ُ الل ّه ِ ب ُ
ت أمّ عبدِ الل ّه ِ ب ِن حُذ َاف َة َ ،لِعَبْدِ الل ّه ِ ب ِ
ن ن عبدِ الل ّه ِ ب ِن عُت ْب َة َ ،قالَ( :قال َ ْ
َاب :أخْبَر َنِي ع ُبَيْد ُ الل ّه ِ ب ُ
ن شِه ٍ
ل اب ُ
-قا َ
ل
ِف نِس َاء ُ أه ْ ِ
ْض ما تُق َار ُ
ك ق ْد قَار َف َْت بَع َ
حُذ َاف َة َ :ما سَمِعْتُ باب ْ ٍن ق َّط أع َقّ مِنْكَ؟ ،أأمِن ْتَ أ ْن تَكُونَ أمّ َ
ن حُذ َاف َة َ :و َالل ّه ِ لو ألْحَقَنِي بعَبْدٍ أسْ وَد َ لَلَح ِقْت ُه ُ).
ل عبد ُ الل ّه ِ ب ُ
حه َا علَى أع ْيُنِ الن ّاسِ؟ ،قا َ
ض َ
الجا َه ِل ِي ّة ِ ،فَت َ ْف َ
ن ال ْمُتَك َل ّ ِف ِينَ". الآية الثانية :قوله تعالى" :قُلْ م َا أسْ ألـُك ُ ْم عَلَيْه ِ م ِنْ أ ْ
جر ٍ وَم َا أن َا م ِ َ
ل مسروق -رضي الل ّه عنه( :-دخلنا على عبد الل ّه بن مسعود فقال :يا أ ّيها
ارتباط الآية بالباب :قو ُ
َ -مما يبيِّنُ
ل لم َِا لا يعلَم ُ:
ل الر ّج ُ ُ
ن م ِن العلم ِ أ ْن يقو َ اس م َن عل ِم شيئًا فل ْيق ُلْ به وم َن ل َ ْم يعل َ ْم شيئًا فل ْيق ُ ِ
ل :الل ّه ُ أعلَم ُ؛ فإ ّ الن ّ ُ
أي:
ن ال ْمُتَك َل ّ ِف ِينَ") ْ
جر ٍ وَم َا أن َا م ِ َ
ل وعلا -قال لنبي ِّه ﷺ" :قُلْ م َا أسْ ألـُك ُ ْم عَل َيْه ِ م ِنْ أ ْ
ن الل ّه َ -ج ّ
لا أعلَم ُ ،فإ ّ
وما أنا من المتكل ّ ِفين لما لا أعلم ُ؛ وهذا فيه نهيّ عن التكل ّف والجدل فيما لا يعلم ُ الإنسانُ حقيقت َه ُ ،ولو
ت موارد ُ الخلاف والن ِّزاع بينَ الن ّاس.
سكت م َن لا يعلم ُ =لقل ّ ْ
ْ
الحديث الأوّل :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -أن ّه سم ِ َع رسو َ
ل الل ّه ﷺ يقولُ" :ما نَهَي ْتُك ُ ْم عن ْه
كثْرَة ُ م َسَائِلِهِمْ ،و َاخْ ت ِلَافُه ُ ْم
ن م ِن قَبْل ِـكُمَْ ،
ك ال ّذ ِي َ
فَاجْ تَن ِب ُوه ُ ،و َما أم َْرتُك ُ ْم به فَافْع َلُوا منه ما اسْ تَطَعْتُم ْ ،فإن ّما أه ْل َ َ
علَى أن ْب ِيَائِه ِ ْم" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
- 56 -
سك
فيحرص المسلم ُ على التم ّ
ُ متشابهات يكث ُر فيها الخلاف والن ِّزاع،
ٌ ل للخلاف فيها ،أو
حات لا مح َ
مات واض ٌ
محك ٌ
ُ
ل عنها والجدل فيها.
ف السؤا َ
بالمحكمات والعمل بها ،وأ ْن يترك َ المسائل الخلافية والمتشابهات ،وألا يتكل ّ َ
يناقش في بعض
ْ وجدت م َن يُقصِّرْ في الفرائض ويتساهلْ في المحر ّمات (المحكمات) ،ثم
ْ -ولذلك؛ إذا
صة ً إذا ظهر َ في كلامه معنى
المسائل الخلافية؛ فاعلم ْ أن ّه ق ْد وقعْ في عينِ الذي نهي عنه الن ّبيّ ﷺ ،خا ّ
ل
ح للم ُصلح :ألا يردّ على سؤاله ،وأ ْن يوجه َه ُ إلى التزام ما ينفع ُه ُ ،ومثا ُ
الموقف الصحي ُ
ُ الجدل .وقد يكونُ
ل إلى التسليم والعمل؛ ومن ذلك قوله ﷺ:
ل في القدر؛ وج ّه َ الن ّبيّ ﷺ السائ َ
ن الن ّبيّ ﷺ لم ّا سُئ ِ َ
ذلك :أ ّ
ص ّدقَ بالحُسْن َى" ،إلى قَو ْلِه ِ "فَس َنُيَس ِّرُه ُ
ق له ث ُم ّ ق َرَأ" :ف َأمّا م َن أ ْعطَى و َات ّقَى ،و َ َ
ل م ُيَس ّر ٌ لِما خ ُل ِ َ
"اعْمَل ُوا ،فَك ُ ّ
لِل ْعُسْر َى".
َت قُلُوبُكُمْ ،فإذا اخْ تَلَفْتُم ْ فَق ُوم ُوا عن ْه"؛ فالفقه ُ في الد ِّين أ ْن يلتزم َ
-وقال الن ّبيّ ﷺ " :اق ْرَؤ ُوا القُر ْآنَ ما ائ ْتَلَف ْ
ف السؤال عن الأمور الخلافية أو المسكوت عنها.
ل بمقتضى الأمر والنهي ،وألا يتكل ّ َ
المسلم ُ العم َ
ن من أبواب
كثْرَة ُ مَس َائِلِهِمْ ،و َاخْ ت ِلَافُه ُ ْم علَى أن ْب ِيَائِه ِ ْم"؛ فيه بيانُ أ ّ
ن م ِن قَب ْل ِـكُمَْ ،
ك ال ّذ ِي َ
-قوله ﷺ" :فإن ّما أه ْل َ َ
ل والاعتبار َ بالأمم السابقة وأحوالهم مع أنبيائهم ،فإن ّما ذكرها الل ّه لنا للتحذير من التشب ّه
التف ّقه في الد ِّين :التأمّ َ
حاب
المستقيم لمخالفة ِ أص ِ
ِ ن تيمية -رحمه الل ّه -في كتابه (اقتضاء ِ الصراطِ
خ الإسلام اب ُ
بهم ،كما بي ّنَ ذلك شي ُ
حيم)؛ فقد تتب ّ َع فيه ما أوردَه ُ الل ّه عن أهل الكتاب ،ثم بي ّنَ كيفية َ حدوث المشابهة بهم؛ ومن ذلك :قولُه ُ
الج ِ
ن تيمية عن قسوة القلوب التي قد تحد ُثُ
َت قُلُو بُه ُ ْم"؛ فتكل ّم َ اب ُ
ل عَلَيْهِم ُ الْأمَد ُ فَقَس ْ
تعالى عن اليهود" :فَط َا َ
ل سفيان بن عيينة -رحمه الل ّه( :-م َنْ فَسَد َ م ِنْ علمائنَِا ففيه
لبعض أهل العلم في هذه الأمّة ،ومن ذلك :قو ُ
شَب َه ٌ م ِنْ اليهود ،وم َنْ فَسَد َ م ِنْ ع ُب ّادِن َا ففيه شَب َه ٌ م ِنْ الن ّصارى).
-ومن جملة ما ذمّ الن ّبيّ ﷺ به الأمم السابقة :أ ّنهم يكثرون من المسائل و يختلفون على أنبيائهم؛ وفي الحديث
ل ،قد فر ََض عز وج ّ ن الل ّه َ ّ
اس فقالَ" :إ ّل الل ّه ِ ﷺ الن ّ َ
عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -قال( :خطبَ رسو ُ
ل عا ٍم؟ ،فسَكَتَ عنه ُ حت ّى أعادَه ُ ثلاث ًا فقالَ" :لَو قُلتُ نع َم لوَجَب َْت ،ولَو
ل رجلٌ :في ك ّ ِ
عليكم ُ الحَجّ " ،فقا َ
وَجَب َْت ما قمتُم ْ بِها ذ َروني ما ترَكْ تُك ُم ،فإن ّما هل َكَ م َنْ كانَ قبلـَك ُم بِكَثرة ِ سؤالِه ِم واختلافِه ِم علَى أنبيائِه ِم ،فإذا
أمرتُك ُم بالش ّيء ِ فخُذوا به ِ ما است َطعتُم ْ ،وإذا نَهَيتُك ُم عن شيء ٍ فاجتَنبوه ُ")؛ فالمقصود ُ أ ّ
ن كثرة َ الاختلاف
ق بها العملُ ،ليس إشكالُه ُ أن ّه مذموم ٌ فقط ،وإن ّما إشكالُه ُ أن ّه من
سك بالخلافات النظر ية التي لا يتعل ّ ُ
والتم ّ
أسباب الهلاك.
- 57 -
الحديث الثاني :عن كاتب المُغيرة بن شعبة ،قال :كتبَ معاو ية َ إلى المُغيرة بن شعبة أ ْن اكت ُْب إليّ بشيءٍ
ل و َقالَ ،وإضَاع َة َ
ن الل ّه َ كَر ِه َ لـَك ُ ْم ثَلَاث ًا :قي َ
سمعته من الن ّب ِيّ ﷺ ،فكت َبَ إليه ،سمعتُ الن ّبيّ ﷺ يقول" :إ ّ
ل" أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
سؤَا ِ
كثْرَة َ ال ّ
المَالِ ،و َ َ
-وهذا المعنى ينبغي أ ْن ي ُزاد َ فيه التذكير ُ في زمن شبكات التواصل؛ لما تقوم ُ عليه فكرتُها من كثرة الكلام
والحديث ،ونظرًا لطبيعة هذه الشبكات من زوال كثيرٍ مما يخشاه ُ الإنسانُ من حديثه في الواقع؛ مما يسببُ
ل التي يكرهُه َا الل ّه ُ لنا.
ل والقا َ
ز يادة َ شهوة الكلام والقي َ
ن لتربية الن ّب ِيّ ﷺ للصحابة -رضي الل ّه عنهم -بألا ينشغلوا عن العمل بكثرة السؤال،
-وفي هذا الحديث بيا ٌ
ج المدينة ولم يسمعوا منه ﷺ ولم يبلغهم
فكان ﷺ يكره ُكثرة َ السؤال إلا من الأعراب؛ الذين كانوا خار َ
ل الل ّه ِ ﷺ عن شيءٍ،
ل ر َسو َ
ل أنس بن مالكٍ -رضي الل ّه عنه( :-نُهِينا أ ْن نَسْأ َ
كثير ًا من القرآن ،ولذلك يقو ُ
ن ن َ ْسم َ ُع).
نح ْ ُ
ل البادِيَة ِ العاقِلُ ،فَيَسْألَه ُ ،و َ
ل م ِن أه ْ ِ
يج ِيء َ الر ّج ُ ُ
ف َكانَ يُعْجِبُنا أ ْن َ
- 58 -
كن آم َن ُوا و َل َ ْم يلَ ْبِس ُوا ِإ يمَانَه ُ ْم بِظُلْم ٍ" ،شَقّ ذل َ
ت هذِه الآي َة ُ" :ال ّذ ِي َ الل ّه بن مسعود -رضي الل ّه عنه -قال( :لَم ّا ن َزَل َ ْ
ل
ليس كما تَظ ُن ّونَ؛ إن ّما هو كما قا َ ل الل ّه ِ ﷺَ " : ل ر َسو ُ حاب الن ّب ِيّ ﷺ ،وقالوا :أي ّنا ل َ ْم ي َ ْظلِم ْ ن َ ْفسَه ُ؟! ،فقا َ
أص ِعلَى ْ
ك ب ِالل ّه ِ ِإ ّ
ن الش ِّرْك َ لَظُلْم ٌ عَظ ِيم ٌ"") ،ومن ذلك أيضًا :المسائل الفقهية التي كانت لُقْمانُ ل ِاب ْنِه ِ" :ي َا بُن َ ّي ل َاتُشْر ِ ْ
أمهات المؤمنين ،ثم يعرضوهنّ على الن ّب ِيّ ﷺ.
ِ ِض للصحابيات فيسألنّ فيها
تعر ُ
- 59 -
اس
ل الن ّ ُ
ن في عامّة أوقات الهرج والفتنة؛ ينشغ ُ
كه ِجْ رَة ٍ إلَيّ"؛ لأ ّ
ل الن ّبيّ ﷺ" :ال ْع ِبادَة ُ في الهَر ِْج َ
-ولذلك؛ قا َ
عن العبادة ،فم َن يعبدِ الل ّه في تلك الأوقات =يكنْ أجرُه ُ بمثابة الهجرة إلى الن ّب ِيّ ﷺ ،والعبادة ُ وقتَ الفتن
ل ،كما ثبت في الصحيح
مات عملية ٍ تعبدية ٍ سابقة ٍ للوقاية من هذه الفتن؛ ومن أهمها :قيام ُ اللي ِ
ج إلى مقد ٍ
تحتا ُ
سب ْح َانَ الل ّهِ،
قالت) :اسْ تَيْق ََظ الن ّبيّ ﷺ ذ َاتَ لَيْلَة ٍ فَق َالَُ :
ْ من حديث أ ِمّ المؤمنين أ ِمّ سلَمة -رضي الل ّه عنها-
ات الحجَُرِ ،ف َر ُّب ك َاسِيَة ٍ في الد ّن ْيَا عَارِ يَة ٍ في
ن الخَزَائِنِ ،أيْقِظ ُوا صَوَاحِب َ ِ
ح مِ َ
ن الف ِتَنِ ،وم َاذ َا فُت ِ َ
ل الل ّيْلَة َ م ِ َ
م َاذ َا أنْز ِ َ
خرَة ِ).
الآ ِ
ن الفتنة َ
ن لإثبات سرعة التحو ّل من الإيمان إلى الـكفر ،ولذا؛ فإ ّ كقِط َِع الل ّي ْ ِ
ل الم ُ ْظل ِ ِم" :فيه بيا ٌ -قوله ﷺَ " :
وصف بها الفتنة ُ التي حصلت في تاريخ الأمّة (يقصد :الفتنة بين علي ومعاو ية -
المقصودة َ في الحديث لا ت ُ ُ
وحث على الاعتزال ،بينما
ٍّ حق والباطل،
س في معرفة ال ّ ِ
رضي الل ّه عنهما)-؛ لما كان في هذه الفتنة من التبا ٍ
وصف بها الفتنة ُ في زماننا هذا؛ لما فيه من سرعة التأث ّر بالاتجاهات والإشكالات الفكر ية
ح أ ْن ت ُ َ
قد يص ُ
والشبهات العقدية والإلحاد وإنكار الدين وثوابته.
- 61 -
ن
وهذا كل ّه ُ من تربية الن ّب ِيّ ﷺ أصحابه على أهمية الاستعداد للمستقبل وعدم الاغترار باللحظة الراهنة ،فإ ّ
الإنسانَ قد يظنّ وهو في طر يق الاستقامة وطلب العلم ثباتَ هذا الحال؛ متى أراد َ طلبَ العلم =وجدَه ُ
وطلب َه ُ ،بينما كانَ الن ّبيّ ﷺ يربي أصحابَه ُ -على ما كانوا فيه من حالة ٍ إيمانية ٍ عالية ٍ -يربيهم ﷺ على الاستعداد
لأزمنة التغي ّرات؛ من الفتن والش ّدة والانشغالات وغير ذلك.
ل حدوثُ
خط ِبَ به الصحابة ُ إلا أن ّه عامّ للأمّة ،فالأص ُ
-وهذا مما ينبغي أ ْن يتنب ّه َ له الإنسانُ ،فالحديثُ وإ ْن ُ
المتغي ِّرات؛ خاصّ ة ً في نفس الإنسان بكثرة المشاغل والصوارف والعوارض والعوائق؛ فمن الطبيعي أ ّن ّه كل ّما
=ازدادت مهماتُه ُ وانشغالاتُه ُ؛ وعلى ذلك :ينبغي أ ْن يتزوّد َ الإنسانُ في حال الرخاء
ْ ازداد َ عمر ُ الإنسان
ل الرخاء فرصة ً استثنائية ً للاستثمار
ل حا َ
والممكن والمتاح لحال الش ّدة والعجز والانشغال؛ وأ ْن يجع َ
الحقيقي؛ سواء ٌ في المستقبل القريب (الدنيا) ،أو المستقبل البعيد (الآخرة).
- 60 -
المحاضرة التاسعة :صِدقُ النِّي ّة ِ
ل هو
ل المقبو َ
ن العم َ
ق الن ِّي ّة ِ وأ ّ
باب فِي صِد ِ
ٌ
ما اِب ْتُغِي َ بِه ِ وجه ُ الل ّه ِ -تعالى -وَو َاف َ
ق السُن ّة َ
الباب:
ِ شواهد ُ
الآية :قوله تعالى" :فَم َن ك َانَ يَرْجُو لِق َاء َ ر َبِّه ِ فَل ْيَعْم َلْ ع َمَل ًا صَالِ حاً وَل َا يُشْرِ ْ
ك ب ِع ِبَادَة ِ ر َبِّه ِ أحَدًا":
ن هذه الآية َ تُذك َر ُ في مقام الشوق إلى الل ّه؛
بعض العلماء يفس ِّرون لفظة َ "يَرْجُو" بالخوف ،إلا أ ّ
ُ -وإن كان
يشتاق للقاء ِ الل ّه ِ =فليستع ْد لذلك بالعمل؛ ثم قي ّد َ الل ّه ُ هذا العمل بصفتين؛ إذا اجتمعتا في
ْ ن م َن
بمعنى أ ّ
العمل كان هذا العمل من أهم ما يُدّخر ُ للقائه -سبحانه-؛ وهاتان الصفتان هما:
ن فيهما بيانَ العمل الصالح.
سن ّة رسول الل ّه ﷺ؛ لأ ّ
أي :فيه اتباعٌ لكتاب الل ّه و ُ
الأولى :أ ْن يكــونَ صالحًاْ :
أي :يُبت َغى به وجه ُ الل ّه -تعالى.-
الـثانـية :أ ْن يكونَ خالصً اْ :
ل امرئٍ ما نوى؛ فم َن كانت هجرتُه ُ إلى الل ّه ِ ورسولِه ِ ف َهجرتُه ُ إلى الل ّه ِ ورسولِه ِ ،وم َنْ كانت هجرتُه ُ إلى دنيا
ل ِك ّ ِ
يصيبُها أو امرأة ٍ ين ْكحُها ف َهجرتُه ُ إلى ما هاجر َ إليْه ِ" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
أشق الأعمال على النفوس ،وهو (اله ِجْ ر َة)؛ وشأنُ المشقة في الهجرة ليس
ِّ ل م ِن
ل بعم ٍ
-ضربَ الن ّبيّ ﷺ المث َ
في السفر فقط ،وإن ّما في المفارقة لما اعتاد َ الإنسانُ الإطمئنانَ إليه من الأهل والمسكن والمال ،ولذلك؛
ح أصحابُ رسول الل ّه ﷺ بوصف الهجرة؛ فصاروا يلقبون بالمهاجرين.
امت ُدِ َ
- 62 -
ل التعب والنصب الذي في الهجرة؛ فهو لا يشف ُع لصاحبه إذا لم تكن نيت ُه ُ لل ّه؛ فلا يؤجر ُ
-وعلى الرغم من ك ّ ِ
ل الإنسانُ
ن شأنَ العمل إن ّما هو في نِّية الإنسان وليس فيما يتكب ّد فيه من مشقة ٍ ،فق ْد يعم ِ
عليها؛ ذلك أ ّ
=فيكتب الل ّه ُ له أجره ،كما جاء في قول الن ّب ِي ّ ِ ف فيه من المشقة شيئًا ،لـكنه يبتغي به وجه الل ّه عمل ًا لا يتكل ّ ُ
حافظ
ك"؛ يقول ال ُ ل في ف َ ِم امْرَأت ِ َ
تجْع َ ُجرْتَ عَلَيْهَا ،حت ّى ما َ ق نَفَق َة ً تَب ْتَغ ِي بهَا وجْه َ الل ّه ِ إلّا أ ِ
ك لَنْ تُن ْف ِ َ
ﷺ" :إن ّ َ
ن و َضْ ع الل ّ ْقم َة فِيق الْحَقّ ل َا ي َ ْقد َح فِي ثَوَابه ل ِأ ّ
ن الْح َ ّظ ِإذ َا و َاف َ َ
ن حجرٍ -رحمه الل ّه( :-و َاسْ تَن ْب ََط مِن ْه ُ الن ّوَوِيّ أ ّ اب ُ
ك ِإذ َا وَج ّه َ الْق َصْ د فِي
ك م َ ْدخ َل ظَاه ِر .وَم َ َع ذَل ِ َ
فِي الز ّ ْوج َة يَق َع غَالِبًا فِي ح َالَة ال ْمُد َاع َب َة ،و َل ِشَهْوَة ِ الن ّفْس فِي ذَل ِ َ
ل الل ّه).
ل لَه ُ بِف َضْ ِ
ص َ ك الْحَالَة ِإلَى اِب ْتِغ َاء الث ّوَاب = َ
ح َ تِل ْ َ
ل ع َمَل ًا أشْرَك َ فيه مَع ِي غيرِي ،ت َرَكْ ت ُه ُ وشِرْك َه ُ" ،أخرج َه ُ مسلم ٌ. أغْن َى الش ّرَكاء ِ ع َ ِ
ن الش ِّرْكِ ،م َن عَم ِ َ
ن واحدٍ من أهم البواعث على تحقيق الإخلاص؛ وهو قوله تعالي" :أنا أغْن َى الش ّرَكاء ِ
-هذا الحديثُ في بيا ِ
الإخلاص؛
َ ق
يح ّق ِ َ
ن أ ْن يبعثَ الإنسانُ على أ ْن ُ
ن معرفة َ الل ّه -تعالى -من أعظم ما يمك ُ
ك"؛ بمعنى أ ّ
ن الش ِّرْ ِ
عَ ِ
ازدادت معرفة ُ الإنسان بالل ّه سواء ٌ كونه غني ًا أو غيرها من صفاته -تعالى -كالعظمة والـكمال وغيرهما،
ْ فكل ّما
صا لل ّه في عمله.
ازدادت هذه المعرفة عند َ الإنسان =كل ّما كان أش ّد إخلا ً
ْ كل ّما
ن قُ ِ
بح الشرك؛ فقال تعالى" :ضَر َبَ الل ّه ُ م َثَل ًا رّج ُل ًا ف ِيه ِ -ولذلك؛ كر ّر َ الل ّه ُ -تعالى -ضرْبَ الأمثال في بيا ِ
سك ُ ْم ه َل ل ّـك ُم
ن م َثَل ًا" ،وقال" :ضَر َبَ لـَك ُم مّثَل ًا مّ ِنْ أنف ُ ِ
ل ه َلْ يَسْتَوِي َا ِ
كس ُونَ وَرَج ُل ًا سَلَمًا ل ّ ِرَج ُ ٍ
شُرَك َاء ُ م ُتَشَا ِ
َت أيْمَانُك ُم مّ ِن شُرَك َاء َ فِي م َا رَز َق ْنَاك ُ ْم ف َأنتُم ْ ف ِيه ِ سَوَاء ٌ تَخَاف ُونَه ُ ْم كَخ ِيف َتِك ُ ْم أنفُسَك ُ ْم"؛ وهذا المعنى
مّ ِن مّا م َلـَك ْ
- 63 -
البخاري من حديث عبد الل ّه بن عمر -رضي الل ّه
ِّ ي ُدرك ُه ُ صاحبُ الفطرة السليمة ،ولذلك؛ ثبتَ في ص ِ
حيح
سم َاء ِ
ن ال ّ
ل لَهَا م ِ َ
شاة ُ خ َلَقَه َا الل ّهُ ،وأن ْز َ َ
ل :ال ّ
ْش ذ َب َائِ حَهُمْ ،و يقو ُ ن عَمْرٍو كانَ يَع ِيبُ علَى قُر َي ٍ ن ز َيْد َ ب َعنهما( :-أ ّ
ك وإ ْعظَام ًا له). ن الأ ْرضِ ،ث ُم ّ ت َ ْذبَح ُونَهَا علَى غيرِ اس ْ ِم الل ّه ِ! إنْك َار ًا لِذل َالمَاءَ ،وأن ْب َتَ لَهَا م ِ َ
ف
ن جم َع القلب على الن ِّية واستحضار َ الإخلاص في الأعمال اليسيرة المألوفة -التي لا تكل ّ َ
-يبيِّنُ الحديثُ أ ّ
ل استحضار ُ
ج إلى مشقة ٍ ومجاهدة ٍ؛ إذ يسه ُ ُ
فيها -أصعبُ على نفس الإنسان منها في الأعمال الشاقة التي تحتا ُ
ن جمع
ق كالحج مثل ًا .بينما قد يطغى الاعتياد ُ في الأعمال اليسيرة المعتادة على إمكا ِ
دي شا ٍ
الن ِّية في أمر ٍ تعب ّ ّ ٍ
ل أقربَ للتعب ّد المحض والمشقة =فهو أدعى
القلب على استحضار الإخلاص فيها؛ فكل ّما كان العم ُ
ف والعادة =كان استحضار ُ الن ِّية فيه أصعبَ .
للإل ْ ِ
ل وأقربَ ِ
ل أسه َ
لاستحضار الن ِّية ،وكل ّما كان العم ُ
ك"؛ وفي
ل في ف َ ِم امْرَأت ِ َ
تجْع َ ُ ق نَفَق َة ً تَب ْتَغ ِي بهَا وجْه َ الل ّه ِ إلّا أ ِ
جرْتَ عَلَيْهَا ،حت ّى ما َ ك لَنْ تُن ْف ِ َ
-٢قوله ﷺ" :إن ّ َ
يحتسبَ فيه كمصد ٍر من مصادر الأجر
ن أ ْن ُ
ل المعتاد َ (الإنفاق على الأهل) يمك ُ
ن العم َ
هذا بيانُ أ ّ
ل
ل الإنسانُ إلى حالة ٍ من الر ب ّاني ّة؛ في َستحضر َ نوم َه بالليل لي ُكتبَ له به عم ٌ
ن أ ْن يص َ
الأخروي ،بل يمك ُ
صالح ٌ؛ كما قال معاذ ٌ لأبي موسى -رضي الل ّه عنهما -عندما سأله عن طر يقته في قراءة القرآن( :أمّا أن َا فأن َام ُ
ح في النوم للتز ّود والاستعانة به على العمل
وأقُوم ُ ،فأحْتَسِبُ نَوْم َتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتِي)؛ والمعنى :هو الارتيا ُ
الصالح ،وفي استحضار ُ واحتسابُ النوم بهذه الصورة أجر ٌ ومثوبة.
ن مُحَم ّدًا
ن الن ّبيّ ﷺ قال" :ما م ِن أحَدٍ يَشْهَد ُ أ ْن لا إلَه َ إلّا الل ّه ُ وأ ّ -عن أنس بن مالكٍ -رضي الل ّه عنه -أ ّ
ل الل ّهِِ ،
صدْقًا م ِن قَل ْبِه ِ ،إلّا حَرّم َه ُ الل ّه ُ علَى الن ّارِ" ،أخرج َه ُ البخاريّ . ر َسو ُ
ن النّهارِ
ن الن ّبيّ ﷺ قال في حديث سيد الاستغفار" :وم َن قالَها م ِ َ
-عن شداد بن أوس -رضي الل ّه عنه -أ ّ
ل
ن بها ،فَماتَ قَب ْ َ
ل وهو م ُوق ِ ٌ
ن الل ّي ْ ِ
ل الجنَ ّة ِ ،وم َن قالَها م ِ َ
ل أ ْن يُمْسِيَ ،ف َهو م ِن أه ْ ِ
م ُوق ِنًا بها ،فَماتَ م ِن يَومِه ِ قَب ْ َ
ل الجنَ ّة ِ" ،أخرج َه ُ البخاريّ .
أ ْن يُصْ بِحَ ،ف َهو م ِن أه ْ ِ
النصوص الشرعية في إبراز الأثر المترتب على قول (لا إله إلا الل ّه)؛ سواء ٌ الأثر الدنيوي أو
ُ افرت
ْ -قد تض
الأخروي؛ ومن شواهد ذلك:
- 65 -
كبْرِي َائِي وعَظَم َتي
ل الن ّب ِيّ ﷺ في حديث الشفاعة الطو يل" :فيقول الل ّه -تعالى :-وع ِّزتي وج َلَال ِي ،و ِ
-٢قو ُ
ل لا إلَه َ إلّا الل ّه ُ".
خرِجَنّ منها م َن قا َ
ل َأ ْ
ل لا إلَه َ إلّا الل ّهُ ،وأدْناها
شعْب َة ً ،فأفْضَلُها قَوْ ُ
سب ْع ُونَ ،أ ْو بضْ ٌع وسِت ّونَُ ،
الإ يمانُ بضْ ٌع و َ
ل الن ّب ِيّ ﷺِ " :
-٣قو ُ
ن".
ن الإيما ِ
شعْب َة ٌ م ِ َ
طرِ يقِ ،والْحَياء ُ ُ
ن ال ّ
إماطَة ُ الأذ َى ع َ ِ
-إذن؛ فكلمة ُ (لا إله إلا الل ّه) مركز ية ٌ في الد ِّين ،ومع هذه المركز ية والفضل والأثر المترت ّ ِب عليها؛ إلا أن ّه ق ْد
ل مهما كان معظم ًا في الشر يعة =فإن ّما
جاء َ التنبيه ُ إلى أهمية الإخلاص فيها بأ ْن يُبتغى بها وجه الل ّه ،فالعم ُ
ن معيار َ الاستقامة والتقوى هو ما
ي ُرف ُع بالن ِّي ّة الصالحة؛ ولأجل ذلك :ينبغي على المؤمن أ ْن يربي َ نفسه على أ ّ
ل عمله ،ولذلك؛ قال أبو هريرة َ -رضي الل ّه عنه -قال الن ّبيّ ﷺ"( :الت ّقْو َى
يحو يه قلب ُه ُ من إخلاصٍ لل ّه في ك ّ ِ
ات).
ص ْدرِه ِ ثَلاثَ م َّر ٍ
هاه ُنا"؛ ويُشِير ُ إلى َ
ج لهذا الحديث في مثل هذا الزمن الذي تطغى فيه معيار ية ُ الأعمال الإنسانية؛ كالإحسان إلى الن ّاس
-يُحتا ُ
وس ّدِ احتياجاتهم من المسكن والملبس والطعام ،وهذه تع ّد من أفضل الأعمال في ميزان الشر يعة ،لـكنها
ليست معتبرة ً في ذاتها من جهة النفع الأخروي إلا بشرطين؛ إذا كانت مصحوبة ً بتوحيد الل ّه ،وكان يُبت َغى
بها وجه ُ الل ّه.
ل" :أح ّدِثُكم حديثًا الحديث التاسع :عن أبي كبشة الأنماري -رضي الل ّه عنه -أن ّه سم ِ َع رسو َ
ل الل ّه ﷺ يقو ُ
ل فيه ِ رحم َه ُ و يعلم ُ
ل :إن ّما الد ّنيا لأربعة ِ نفرٍ؛ عبدٍ رزق َه ُ الل ّه ُ مال ًا وعلمًا ف َهو َ يت ّقي رب ّه ُ فيه ِ و يص ُ
فاحفظوه ُ؛ فقا َ
ن لي مال ًا
ل لو أ ّ
ل ،وعبدٍ رزق َه ُ الل ّه ُ علمًا ولم يرزق ْه ُ مال ًا ف َهو َ صادقُ الن ِّي ّة ِ يقو ُ لل ّه ِ فيه ِ ح ًّ ّقا؛ ف َهذا بأفض ِ
ل المناز ِ
خبط في مالِه ِ بغيرِ علم ٍ لا ن؛ ف َهو َ بني ّتِه ِ فأجر ُهما سواء ٌ ،وعبدٍ رزق َه ُ الل ّه ُ مال ًا ولم يرزق ْه ُ علمًا ي ُ
ل فلا ٍلعملتُ بعم ِ
ل ،وعبدٍ لم يرزق ْه ُ الل ّه ُ مال ًا ولا علمًا ل فيه ِ رحم َه ُ ولا يعلم ُ لل ّه ِ فيه ِ ح ًّ ّقا؛ فهو بأخب َِث المناز ِيت ّقي فيه ِ رب ّه ُ ولا يصِ ُ
ن؛ ف َهو َ بني ّتِه ِ فوزر ُهما سواء ٌ" ،أخرج َه ُ الترمذيّ .
ل فلا ٍ
ن لي مال ًا لعملتُ فيه ِ بعم ِ
ل لو أ ّ
ف َهو َ يقو ُ
- 66 -
ل الس ُن ّة وإبلاغها وأ ْن يعتني َ الصحابة ُ بها؛ وذلك عن طر يق التنبيه العا ِمّ
حرص الن ّب ِيّ ﷺ على نق ِ
ُ الأوّل:
خاص على ذلك؛ ومن شواهد هذين التنبيهين:
وال ّ ِ
-١قولُه ُ ﷺ في التنبيه العا ِمّ" :نض ّر َ الل ّه ُ امرأ ً سَم َع من ّا ح َديثًا فبل ّغ َه ُ ،فر ُّب م ُبل ّ ٍغ أحف َُظ م ِن سام ٍِع".
خاص في الحديث الوارد معنا وشاهده قولُه ُ ﷺ" :أح ّدِثُكم حديثًا فاحفظوه ُ".
-٢قولُه ُ ﷺ في التنبيه ال ّ ِ
ن الن ّبيّ ﷺ لما أوصى وفْد َ
خاص من رواية عبد الل ّه بن عباس -رضي الل ّه عنهما -أ ّ
-٣قولُه ُ ﷺ في التنبيه ال ّ ِ
ل الن ّبيّ ﷺ لهم" :احْ فَظ ُوه ُنّ وأخْبِر ُوا به ِنّ م َن
وعرفهم بالحلال والحرام وأركان الإسلام؛ قا َ
ّ س
عبدِ القَي ْ ِ
وراءَك ُ ْم".
حث الن ّب ِيّ ﷺ على العناية بحفظ السُن ّة.
ّ الثانـي:
ي في أمر الن ِّي ّة كما في قول الن ّب ِيّ ﷺ" :ف َهو َ بني ّتِه ِ"؛ ففي
-هذا الحديثُ عظيم ٌ وفيه فوائد ُ كثيرة ٌ ،وشأن ُه ُ الأساس ّ
ق نيته.
حصل َها الإنسانُ من خلال صد ِ
ن أ ْن ي ِّ
ن لأهمية ِ الن ِّي ّة ومقدارِ الأجورِ التي يمك ُ
الحديث بيا ٌ
ن المقصود َ هو
ن رجب -رحمه الل ّه -في معنى اشتراك العبدين في أجر الإنفاق( :أ ّ
-وقد أشار َ الإمام ُ اب ُ
ف للثاني
ض اع َ ُ
ل ما لا ي ُ َ
ق وبذ َ َ
ف في الأجر ِ للأ ّول الذي أنف َ
ض اع َ ُ
س الأجر؛ لـكن قد ي ُ َ
الإشتراك ُ في أسا ِ
سب ْ َع ل الل ّه ِ كَمَث َ ِ
ل حَب ّة ٍ أنبَت َْت َ ن يُنفِق ُونَ أمْوَالَه ُ ْم فِي سَب ِي ِ
ل ال ّذ ِي َ
الذي أخ َذ َ الأجر َ بنيت ِه ِ)؛ كما في قوله تعالى" :مّث َ ُ
س ٌع عَل ِيم ٌ".
ِف لم َِن يَش َاء ُ و َالل ّه ُ و َا ِ
ل سُنبلَُة ٍ مّ ِائَة ُ حَب ّة ٍ و َالل ّه ُ يُضَاع ُ
ل فِي ك ُ ّ ِ
سَنَاب ِ َ
ل كي يكونَ
ن العلم َ م ِن أه ِم الأمور التي يوجّه ُ بها العم ُ
ل؛ ذلك أ ّ
-يفيد ُ الحديثُ أهمية َ العلم ِ بالنسبة ِ للعام ِ
ح في الحديث :وجود َ المال والعلم؛ كما قال الن ّبيّ ﷺ" :ف َهو َ يت ّقي
ل الممتد ُ
مقبول ًا عند َ الل ّه ،ولذا؛ كانَ المثا ُ
- 67 -
ل فيه ِ رحم َه ُ و يعلم ُ لل ّه ِ فيه ِ ح ًّ ّقا" ،ولذلك؛ قا َ
ل عمر ُ بن الخطاب -رضيَ الل ّه ُ عنه ُ( :-لا يبي ُع في رب ّه ُ فيه ِ و يص ُ
ن البيع والشراء.
سوق ِنا هذا إلّا م َن تف ّقه َ في الد ِّي ِن)؛ حت ّى يحملَه التف ّقه ُ في الد ِّين على حُس ِ
- 68 -
المحاضرة العاشرة :أهمية ُ استحضارِ الغاية ِ
بابُ أهمية ِ استحضارِ الغاية ِ ،والحذرِ م ِن
بالمطالب الدنيئة ِ
ِ الغايات الشر يفة ِ
ِ مزاحمة ِ
الباب:
ِ عنوانُ
ق
ل هو ما ابتُغِي َ به وجه ُ الل ّه وَو َاف َ
ل المقبو َ
ن العم َق الن ِّية وأ ّ
بباب (صد ِ
ِ وارتباط واضح ٌ
ٌ ق
-لهذا الباب تعل ّ ٌ
نوع الغايات التي تُبتغى ،وإلى المطالب الدنيئة التي الس ُن ّة) ،ولـكن المقصود ُ في هذا الباب :الإشارة ُ إلى ِ
الباب:
ِ شواهد ُ
َات الل ّه ِ"؛ يشري :أي :يبيع.
س م َنْ يَشْرِي ن َ ْفسَه ُ اب ْتِغ َاء َ م َْرض ِ الآية الأولى :قول تعالى" :وَم ِ َ
ن الن ّا ِ
ن
ك ّف ِر َ ّ
خرِجُوا م ِن دِي َارِه ِ ْم و َأوذ ُوا فِي سَب ِيل ِي و َقَاتَلُوا و َقُت ِلُوا ل َأ َ الآية الثانية :قوله تعالى" :فَال ّذ ِي َ
ن ه َاجَر ُوا و َأ ْ
تحْتِهَا الْأنْهَار ُ ثَوَاب ًا مّ ِنْ عِندِ الل ّه ِ":
تجْرِي م ِن َ
ات َ
عَنْه ُ ْم سَي ِّئَاتِه ِ ْم وَل َأ ْدخِلَنّه ُ ْم جَن ّ ٍ
ل الل ّه ِ ّ
عز ل لِتَكُونَ كَل ِم َة ُ الل ّه ِ هي العُل ْيَا ،ف َهو في سَبي ِ
ل ﷺ" :م َن قَات َ َ
ن قَائِمًا ،ف َقا َ
إلَيْه ِ ر َأْ سَه ُ إلّا أن ّه كا َ
ل") ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
وج ّ
ن في أعماله،
نوع من أشرف الن ِّيات والغايات التي ينبغي أ ْن يستحضر َها المؤم ُيكشف هذا الحديثُ عن ٍ ُ -
ت هذه الغاية ُ من أهم
وهي غاية ُ السعي لأ ْن تكونَ كلمة ُ الل ّه هي العليا ،ومما يزيد ُ هذه الغاية َ شرفًا؛ أ ْن جُعِل َ ْ
غايات الجهاد في سبيل الل ّه.
ل
ن أحَد َن َا يُق َات ِ ُ
ل الرجل( :فإ ّ
بالمطالب الدنيئة ِ؛ قو ُ
ِ الغايات الشر يفة ِ
ِ حديث في الحذرِ م ِن مزاحمة ِ
-وشاهد ُ ال ِ
ل لِتَكُونَ كَل ِم َة ُ
ل حَم ِي ّة ً) فهذه مطالبُ دنيئة ٌ في مقابل الغاية الشر يفة في قول الن ّب ِيّ ﷺ" :م َن قَات َ َ
غَضَبًا ،و يُق َات ِ ُ
الل ّه ِ هي العُل ْيَا"؛ فالغضبُ شعور ٌ يتول ّد ُ في الإنسان عند َ الاعتداء على ما يخصّ ه أو يمتلـكه ،وهذا الغضبُ ليس
مذموم ًا في ذاته ،لـكنه لا يقارنُ أو يزاحم ُ بالغاية الشر يفة في الجهاد في سبيل الل ّه.
ل :أرأيتَ
ل إلى الن ّب ِيّ ﷺ ،فقا َ الحديث الثاني :عن أبي أمامة َ الباهلي -رضي الل ّه عنه -قا َ
ل( :جاء َ رج ٌ
ل
ات ،يقو ُ مر ٍ ل رسو ُ ِ
ل الل ّه ﷺ" :لا شيء َ لَه ُ" فأعاد َها ثلاثَ ّ يلتمس الأجر َ والذِّكر َ ،ما لَه ُ؟ ،فقا َ
ُ رجل ًا غزا
ل إلّا ما كانَ لَه ُ خالصً ا ،وابتغي َ بِه ِ
ن العم ِ
ل م َن الل ّه َ لا يقب ُ
ل" :إ ّ ل الل ّه ِ" :لا شيء َ لَه ُ" ،ثم ّ قا َ
لَه ُ رسو ُ
رجب :إسنادُه ُ جيدٌ.
ٍ ن
ل اب ُ
وجه ُه ُ") ،أخرج َه ُ النسائيّ وقا َ
ل شجاعٌ.
ل بط ٌ
(-الذِّكر) :يعني الس ُمعة َ بينَ الن ّاس؛ أ ْن يقولوا عنه أن ّه مقات ٌ
ل إلّا ما كانَ لَه ُ خالصً ا ،وابتغي َ بِه ِ
ن العم ِ
لم َ
ن الل ّه َ لا يقب ُ
ل الن ّب ِيّ ﷺ" :إ ّ
-موض ُع الشاهدِ في الحديث هو قو ُ
وجه ُه ُ".
ل
ل المجَُاهِدِ في سَبي ِ الحديث الرابع :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -قال :سمعتُ رسو َ
ل الل ّه ﷺ يقول" :م َث َ ُ
ل الل ّه ُ لِلْم ُج َاهِدِ في سَبيلِه ِ بأ ْن يَت َو َف ّاه ُ أ ْن ي ُ ْدخِلَه ُ الل ّه ِ -والل ّه ُ أع ْلَم ُ بم َن يُجَاهِد ُ في سَبيلِه ِ -كَمَث َ ِ
ل الصّ ا ِئ ِم الق َا ِئمِ ،وتَوَكّ َ
جر ٍ أ ْو غ َن ِيمَة ٍ" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
جع َه ُ سَالم ًِا مع أ ْ
الجن َ ّة َ ،أ ْو يَرْ ِ
- 71 -
ل الن ّب ِيّ ﷺ" :والل ّه ُ أع ْلَم ُ بم َن يُجَاهِد ُ في سَبيلِه ِ" :فيه إشارة ٌ أن ّه قد يُجاهد ُ المرء ُ ولا تكونُ نيت ُه ُ خالصة ً لل ّه؛
-قو ُ
ن الل ّه َ -تعالى -مطل ٌع على الن ِّيات وخفايا النفوس. ذلك أ ّ
ن
ن جائعا ِ
ل الل ّه ﷺ" :ما ذِئبا ِ ل رسو ُ ل :قا َالحديث الخامس :عن كعب ابن مالكٍ -رضي الل ّه عنه -قا َ
ل :حديثٌَف لدينِه ِ" ،أخرج َه ُ الترمذيّ ؛ وقا َ ص المَرء ِ علَى الما ِ
ل والش ّر ِ أ ْرسِلا في غن َ ٍم ،بأفسد َ لَها من حِر ِ
ح.
ن صحي ٌ
حس َ ٌ
َ
ل من جملة
ن الأمثا َ
ب الأمثال كثير ًا؛ وذلك لأ ّ
ل الوحي ُ -كتابُ الل ّه وسُن ّة ُ رسوله ﷺ -أسلوبَ ضرْ ِ
-استعم َ
ما يقرِّبُ المعاني إلى الأذهان ،لذا؛ ينبغي على المُصلح أ ْن يسلـكَها في الدعوة إلى الل ّه؛ إمّا بتقريب أمثال
ل المدعوين ،ومن أهمية
ل يقرِ ّبُ بها حقائق الشر يعة مع مناسبتها لحا ِ
القرآن والس ُن ّة ،وإمّا بإنشاء أمثا ٍ
سخ ُ بصورة ٍ معينة ٍ في الذاكرة ولا تُنسى فكرتها.
الأمثال :أ ّنها ترْ ُ
راع أو حارس يمنع ُهما من فتكِ الذئاب؛ ل بذئبين جائعين قد أرسلا في غنم بلا ٍ -يضربُ الن ّبيّ ﷺ المث َ
ٍ
ٍ
قطيع من الغنم فلا يكتفي بالشاة ل الذئبُ الواحد ُ على
والذئبُ شديد ُ الشراسة ِ والفتكِ بالأغنام؛ فق ْد يدخ ُ
ن ٍ
مانع؛ فإ ّ غنم بلا
ك بها و يقتل ُها ،فإذا كانا ذئبين جائعين في ٍ
ل على بقية القطيع يفت ُ
التي يأكل ُها ،بل يدخ ُ
حجم َ الفساد والفتك الذي سي ُحدِثُهما في هذه الغنم يكونُ عظيم ًا.
ن ثمة َ صورة ٍ من الفساد هي أعظم ُ من فساد هذين الذئبين الجائعين في الغنم؛ وهي صورة ُ
-يُبيِّنُ الن ّبيّ ﷺ أ ّ
إفسادِ دين الإنسان بسبب حرصِه على المال والشرف؛ هذا الإفساد ُ ليس بكبائر الذنوب إن ّما بأمو ٍر قد تكونُ
ق فيها معنى الحرص والتشب ّث والاندفاع،
مباحة ً في بعض درجاتها فلا ينتب ّه ُ الإنسانُ إليها ،ولـكن لم ّا تح ّق َ
صار فيهما -أي :في الحرص على المال والشرف -باب ًا من أبواب فساد دين المرء.
- 70 -
-في بعض الأحيان؛ قد يكونُ السير ُ في طر يق الد ِّين سببًا لانفتاح باب الشرف أو المال على الإنسان؛
ل لدينه من أبواب الفساد؛
ن أ ْن يتسل َ
ولأجل ذلك :يجبُ أ ْن يكونَ هناك يقظة ٌ دائمة ٌ عند َ المسلم مما ي ُمك ُ
وهذا مما يبيِّنُ أهمية َ وضرورة َ العناية بمعرفة أبواب الفساد والإشكالات ،كما في حديث حذيفة بن اليمان -
مخَاف َة َ أ ْن
ن الش ّر ِّ َ
كن ْتُ أسْ ألُه ُ ع َ ِ ل الل ّه ِ ﷺ ع َ ِ
ن الخيَْرِ ،و ُ اس يَسْألُونَ ر َسو َ
رضي الل ّه عنه -قال( :كانَ الن ّ ُ
كنِي).
ي ُ ْدرِ َ
ن من المحترزات التي يطه ُر ُ بها الإنسانُ من المفسدات المالية :كثرة َ الإنفاق؛ وفي قول الن ّب ِيّ ﷺ: -ولذا؛ فإ ّ
ن للتفر يق بينَ َف لدينِه ِ" بيا ٌ ص المَرء ِ علَى الما ِ
ل والش ّر ِ ن أ ْرسِلا في غن َ ٍم ،بأفسد َ لَها من حِر ِ
ن جائعا ِ"ما ذِئبا ِ
جمع المال والاستفادة منه في وجوه الخير والمباح ،وبينَ الحرص الشديد المُهلِك لصاحبه.
حرص على الشرف في صورة الحرص على جاه ٍ معي ّنٍ أو مكانة ٍ اجتماعية ٍ معينة ٍ ،يتشبثُ بها
ل ال ُ
-وقد يتمث ُ
ل
ح لمَن يعم ُ
خاف و يحز ُنُ ويهتم ُ ويرضى و يغضبُ لهذه المكانة ،ولذا؛ جاء َ الامتدا ُ
المرء ُ وتتمحور ُ حيات ُه ُ عليها؛ ي ُ
- 72 -
ل الل ّهِ،
سه ِ في سَبي ِ
ن ف َر َ ِ
خذٍ بع ِنَا ِ
ملتفت لمكانته؛ كما قال الن ّبيّ ﷺ" :طُوبَى لِعَبْدٍ آ ِ
ٍ ل أو
في سبيل الل ّه غير مبا ٍ
ساقَة ِ".
ساقَة ِ كانَ في ال ّ
سة ِ ،وإ ْن كانَ في ال ّ
سة ِ ،كانَ في الح ِرَا َ
أشْ ع َثَ ر َأْ سُه ُ ،مُغْبَر ّة ٍ قَدَم َاه ُ ،إ ْن كانَ في الح ِرَا َ
ن هذه من المعاني العالية التي تصع ُبُ على كثيرٍ من النفوس ،لـكنّها تهونُ على م َن يستحضر َ
-ولا شكّ أ ّ
هانت عليه المطالب الدنيئة ،وتنب ّه ْ لما قد يكدِّر ُ صفاء َ ني ّت ِه وتطل ّب ِه لتلك
الغايات الشر يفة؛ فم َن استحضرْها = ْ
لوث المطالب الدنيئة ،بينما م َن ضع َُف استحضارُه ُ للن ِّي ّة الصالحة وتطل ّب ُه للغايات
ِ الغايات الشر يفة من
ن من السهل على المطالب الدنيئة أ ْن ت ُزاحم َ الغايات الشر يفة لديه.
الشر يفة =فإ ّ
غلبت المطالبُ الدنيئة ُ على الغايات الشر يفة؛ فلا تسلْ عن حجم الهلـكة والفساد حت ّى يكونَ إفساد ُها
ْ -فإذا
ص كانوا في لدين المرء أش ّد من إفساد ذئبين جائعين في غنم بلا ٍ
راع ،ولذلك؛ قد تتفاجأ -أحيان ًا -بأشخا ٍ ٍ
ل إليهم ما يُفسد ُ عليهم دينهم مما يجعل ُهم يتآكلون و ي ُ ْفر َغون
طر يق الاستقامة والإصلاح ،ثم بعد َ فترة ٍ يتسل ُ
فرغت دواخل ُه ُم من الإيمان وفقدوا استحضار َ الغايات الشر يفة =ظهر ْ انعكاساتُ ذلك
ْ من دواخلهم ،فإذا
ل الانتكاس المختلفة.
على ظاهرهم من أشكا ِ
ن أ ْن
-وعلى ذلك؛ كل ّما كان استحضار ُ الغايات الشر يفة أكبر ّ =كل ّما كان تنب ّه ُ المرء للمفسدات التي ي ُمك ُ
ل إلى
ل إلى دينه أكبر ّ ،فإذا ضع ُْف استحضار ُ الغايات الشر يفة =سه ُلْ على مصادر المفسدات أ ْن تتسل َ
تتسل َ
دين المرء فتفسده مهما كانت درجة ُ صلاحه؛ لأن ّه لم يكن يقظًا على ما ق ْد ي ُفسد ُ عليه دينه.
ل على معنى الدوام فاـئدة :معنى الاستحضارِ أكبر ُ من مجر ّدِ إنشاء ِ الن ِّي ّة؛ فإ ّ
ن معنى الاستحضارِ يشتم ُ
والمشاهدة والتذك ّر والحضور.
- 73 -
س وال ْغ َيرِ
يف تُجاه َ الن ّف ِ
ل مسؤولية ِ الت ّ ْكل ِ ِ
المحاضرة الحادية عشر :تحم ّ ُ
سه ِ وغ َيرِه ِ
تجاه َ نف ِ
يف ُ
ل الفردِ مسؤولية َ الت ّ ْكل ِ ِ
باب فِي تحم ّ ِ
ٌ
م ُق ّدِمة ٌ:
سا وتمهيدًا وقاعدة ً للانطلاق منها ،وهذا البابُ أشبه ُ ما يكونُ بالواصلة بينَ هذه
-تُعتبر ُ الأبوابُ السابقة ُ أسا ً
القاعدة وبينَ المنطلق المتعل ّ ِق بواجبات ومسئوليات الإصلاح.
بدأت هذه القاعدة ُ من تعزيز مرجعية الوحي وتعظيمها ،ثم تعظيم حدود الل ّه ،ثم موضعة مرجعية الوحي في
ْ -
ل القلوب عليها مدار ُ الفلاح ،ثم بيان
ن أعما َ
موضعها الصحيح وضبطها للأفهام والمعايير ،ثم تزكية القلب وأ ّ
يعيش الإنسانُ عامل ًا مطبق ًا لما أمره
َ أهمية العلم وأن ّه ي ُراد ُ للعمل وبيان العلم الن ّافع ،ثم بيان مبدأ العمل؛ بأ ْن
الل ّه ،ثم التنبيه على قضية الن ِّي ّة ودوام استحضار الغايات الشر يفة والخشية من مزاحمتها بالمطالب الدنيئة.
-بعد هذه التهيئة نبدأ في هذا الباب بالواجبات والمسؤوليات الواجبة على الفرد تُجاه نفسه أساسًا ،ثم تُجاه
تجاه الإسلام
غيره تبع ًا؛ والغير ُ هم الدوائر ُ الأقربُ منه؛ كالأسرة ،ثم في الباب التالي :مسئولية الفرد العامّة ُ
والمسلمين ،وهذا الترتيبُ مقصود ٌ؛ وفيه أمران:
ل للإسلام هو مسئولية ٌ على الفرد في ذاته يجبُ أ ْن يتحمل َها.
ن العم َ
الأوّل :أ ّ
تجاه نفسه.
يصرف اهتمام ُ الفرد بالمسئولية العامّة عن مسؤوليته المطالب بها ُ
َ الثانـي :أن ّه لا ينبغي أ ْن
الباب:
ِ شواهد ُ
ض ال ْمُؤْم ِنِينَ":
ك وَحَرّ ِ ِ ل الل ّه ِ ل َا تُك َل ّ ُ
ف ِإلّا ن َ ْفسَ َ الآية الأولى :قال الل ّه -تعالى" :-فَق َات ِلْ فِي سَب ِي ِ
ك م ِن جهادِ عدوِه ِ وعدوِك َ ،إلا ما حم ّلك
ض علي َ
ك الل ّه ُ فيما فر َ َ
ل الإمام ُ الطبريّ -رحمه الل ّه( :-لا يكلف ُ َ
-قا َ
أي :أن ّك إن ّما تُت ّبع بما اكتسبته دونَ ما اكتسب َه ُ غير ُك َ ،وإن ّما عليك ما
م ِن ذلك دونَ ما حم ّل غير َك َ منهْ ،
ك ُل ّ ِفت َه ُ دونَ ما ك ُل ّ ِفه غير َك َ).
- 74 -
ن الل ّه َ
ل امرئٍ في نفسه ،ذلك أ ّ
التكليف -من بعده ﷺ -على ك ّ ِ
ُ ف هنا رسول الل ّه ﷺ ،ثم ينصبُ
والمكل ّ ُ
صة.
ن هذه الآية َ تجم ُع بين باب ْي المسئولية؛ العامّة والخا ّ
يحاسبُ عبدَه ُ على ما كل ّفه به ،وعلى ذلك؛ فإ ّ
- 75 -
يستأنس
ُ الآية الثانية :قال الل ّه -تعالى" :-وَك ُل ّه ُ ْم آتيِه ِ يَوْم َ ال ْق ِيَامَة ِ فَرْد ًا" :ق ْد ترك ّز َ في فطرة ِ الإنسا ِ
ن أن ّه
صة ً أن ّه سيكونُ
ن فكرة َ أ ْن يكونَ الإنسانُ وحيدًا صعبة ُ التصو ّر ،خا ّ
و يعتضد ُ ويتقو ّي بم َن حوله ،لذلك؛ فإ ّ
ج فيه إلى م َن حوله.
وحدَه ُ في اليوم الذي يحتا ُ
ل الفردِ مسؤولية َ
ن في تحم ّ ِ
شي ْئًا" :هذا بيا ٌ
س َ
ْس ع َن ن ّ ْف ٍ الآية الثالثة :قال تعالى" :و َات ّق ُوا يَوْم ًا لّا َ
تجْزِي نَف ٌ
تجاه نفسه.
يف ُ
التكل ِ
ل الل ّه ُ" :و َأنْذِ ْرل الل ّه ِ ﷺ حِينَ أن ْز َ َ الحديث الأوّل :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -قال( :قَام َ ر َسو ُ
ن الل ّه ِ شيئًا ،يا نح ْو َه َا -اشْ تَر ُوا أنْفُسَكُمْ؛ لا أ ْغنِي عَنْك ُ ْم م ِ َ
ْش -أ ْو كَل ِم َة ً َ
ل" :يا مَعْشَر َ ق ُر َي ٍ
ك الْأق ْر َبِينَ" ،قا َ
عَشِيرَت َ َ
ن الل ّه ِ شيئًا ،وي َا
ك مِ َ
طل ِِب ،لا أ ْغنِي عَن ْ َ
ن عبدِ الم ُ ّ ن الل ّه ِ شيئًا ،يا ع َب ّ ُ
اس ب َ اف ،لا أ ْغنِي عَنْك ُ ْم م ِ َ
بَنِي عبدِ م َن َ ٍ
ن الل ّه ِ شيئًا ،وي َا فَاطِم َة ُ بن ْتَ مُحَم ّدٍ ،سَلِينِي ما شِئ ِ
ْت م ِن م َال ِي ،لا ل الل ّهِ ،لا أ ْغنِي عَن ْكِ م ِ َ
صَف ِي ّة ُ ع َم ّة َ ر َسو ِ
ن الل ّه ِ شيئًا") ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
أ ْغنِي عَن ْكِ م ِ َ
تجاه إنقاذ نفسه في عشيرته وأهل بيته من بداية زمن الن ّب ُو ّة
تأسيس الن ّب ِيّ ﷺ لمسؤولية الإنسان ُ
ُ -في الحديث
سقط حقّ الل ّه في التكليف والمسؤولية؛ وشاهد ُ ذلك:ن قرابتَهم من الن ّب ِيّ ﷺ لا ت ُ ُ
أي أ ّ
ل؛ ْوذلك بنداء ٍ مفصّ ٍ
يستجب لرسالته ﷺ =كان من أهل الن ّار.
ْ لهب حين لم
ن ع ّم الن ّب ِيّ ﷺ أبا ٍ
أ ّ
-قول ﷺ" :اشْ تَر ُوا أنْفُسَك ُ ْم" :فيه معنى البذل والحرص على العمل ك ْي ينقذ َ الإنسانُ نفسه من عذاب الل ّه.
- 76 -
وصف الن ّبيّ ﷺ أصحاب الأموال بالأخسرين ،كما
َ ل؛ ولذلك
ل عنها :الما ُ
-من المسؤوليات الـكبرى التي ي ُغف َ ُ
َب
ل" :هُم ُ الأخْ سَر ُونَ ور ِّ
ل الـكَعْبَة ِ ،يقو ُ
قال أبو ذر الغفاري -رضي الل ّه عنه( :-انْتَهَي ْتُ إلَيْه ِ وهو في ظِ ّ ِ
َب الـكَعْبَة ِ" .قُلتُ :ما شَأْ نِي؟! أي ُر َى فِيّ شَيْءٌ؟ ما شَأْ نِي؟! فَجل ََسْتُ إلَيْه ِ وهو الـكَعْبَة ِ ،هُم ُ الأخْ سَر ُونَ ور ِّ
ل الل ّهِ؟ قا َ
ل: شانِي ما شاء َ الل ّهُ ،فَق ُلتُ :م َن ه ُ ْم بأبِي أن ْتَ وأمِّي يا ر َسو َ
يقولُ ،فَما اسْ تَطَعْتُ أ ْن أسْ كُتَ ،وتَغ َ ّ
ق في وجوه الخير.
أي :إلا م َن أنف َ
ل هَك َذا ،وهَك َذا ،وهَك َذا")؛ ْ
"الأكْ ثَر ُونَ أمْوال ًا ،إلّا م َن قا َ
ن
مح ْب ُوسُونَ ،غير َ أ ّ
صحابُ الج َ ّدِ َ
باب الجنَ ّة ِ ،ف َكانَ عامّة َ م َن دَخ َلَها المَساكِينُ ،وأ ْ
-وقال الن ّبيّ ﷺ" :قُم ْتُ علَى ِ
باب الن ّارِ ،فإذا عامّة ُ م َن دَخ َلَها الن ِّساء ُ" ،أصحاب الجد :هم
أصحابَ الن ّارِ ق ْد أم ِرَ به ِ ْم إلى الن ّارِ ،وقُم ْتُ علَى ِ
ْ
الأغنياءُ؛ محبوسون لما عليهم من مسؤوليات مالية يُسألون عنها.
-وعلى ذلك؛ ينبغي أ ْن ينظر َ الإنسانُ إلى ما استرعاه الل ّه ُ فيه من أمو ٍر نظرة َ المسؤول عن القيام بحقها أمام َ
الل ّه -تعالى.-
ل الل ّه ِ ﷺ الد ّج ّا َ
ل ذ َاتَ غَد َاة ٍ، الحديث الثالث :عن النواس بن سمعان -رضي الل ّه عنه -قال( :ذَك َر َ رَسُو ُ
ل" :ما شَأْ نُكُمْ؟" قلُ ْنَا :يا ك ف ِينَا ،ف َقا َ ف ذل َ ل ،فَلَم ّا ر ُحْ نَا ِإلَيْه ِ ع َرَ َ
ض فيه وَر َف ّعَ ،حت ّى ظَنَن ّاه ُ في طَائِفَة ِ الن ّخْ ِ فَخ َ ّف َ
ل
ل" :غَي ْر ُ الد ّج ّا ِ ل ،ف َقا َ
ل غَد َاة ً ،فَخ َ ّفضْ تَ فيه وَر َف ّعْتَ ،حت ّى ظَنَن ّاه ُ في طَائِفَة ِ الن ّخْ ِ ل الل ّهِ ،ذَكَر ْتَ الد ّجّا َ
رَسُو َ
يكشف الحديثُ عن أسلوب الن ّب ِيّ ﷺ البيان ِيّ في إيضاح القضايا وإعطائها حقها من البيان؛ فكان الصحابة ُ
ُ -
-رضي الل ّه عنهم -يستحضرون ويستشعرون الأمور َ الغيبية التي يتلقونها عن رسول الل ّه ﷺ وكأ ّنهم يرونها
ل الل ّه ِ
اب رسو ِ سي ْديّ -وكان م ِن ك ُت ّ ِ حنْظَلة َ الأ َ ن َ بأعينهم؛ ومن ذلك :حديثُ حنظلة -رضي الل ّه عنه"( :-أ ّ
سب ْح َانَ الل ّه ِ! ما تَق ُولُ؟
لُ :
حنْظَلَة ُ ،قا َ
ق َ ل :قُلتُ :ن َاف َ َ
حنْظَلَة ُ؟ قا َ
كيف أن ْتَ يا َ
َ ل:
ﷺ -قال :لَق ِيَنِي أبُو بَكْرٍ ،ف َقا َ
ل الل ّه ِ ﷺ يُذَك ِّر ُن َا بالن ّارِ و َالْجنَ ّة ِ حت ّى ك َأن ّا ر َأْ يُ عَيْنٍ ،ف َِإذ َا خَر َجْ نَا م ِن عِندِ رَسُو ِ
ل ل :قُلتُ :نَكُونُ عِنْد َ رَسُو ِ
قا َ
ل هذا، ل أبُو بَكْرٍ :ف َوَالل ّه ِ إن ّا لَنَلْقَى مِث ْ َ
َات ،فَنَسِينَا كَث ِير ًا ،قا َ ج و َالأ ْول َاد َ و َالضّ يْع ِ الل ّه ِ ﷺ ،عَافَسْنَا الأ ْزو َا َ
ل الل ّه ِ ل رَسُو ُ ل الل ّهِ ،ف َقا َ
حنْظَلَة ُ ،يا رَسُو َ ق َ ل الل ّه ِ ﷺ ،قُلتُ :ن َاف َ َ فَانْطَلَقْتُ أن َا و َأبُو بَكْرٍ حت ّى دَخ َل ْنَا علَى رَسُو ِ
ل الل ّهِ ،نَكُونُ عِنْدَك َ ،تُذَك ِّر ُن َا بالن ّارِ و َالْجنَ ّة ِ حت ّى ك َأن ّا ر َأْ يُ عَيْنٍ ،ف َِإذ َا خَر َجْ نَا
ﷺ" :و َما ذ َاك َ؟" ،قُلتُ :يا رَسُو َ
ل الل ّه ِ ﷺ" :و َال ّذ ِي ن َ ْفس ِي بيَدِه ِ،
ل رَسُو ُ
َات ،نَسِينَا كَث ِير ًا ،ف َقا َ
ج و َالأ ْول َاد َ و َالضّ يْع ِ
م ِن عِندِك َ ،عَافَسْنَا الأ ْزو َا َ
- 77 -
شك ُ ْم وفي طُر ُقِكُمْ ،و َلـَكِنْ يا
إ ْن لَو ْ تَد ُوم ُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي وفي الذِّكْر ِ ،لَصَافَحتَْكُم ُ المَلَائِك َة ُ علَى فُر ُ ِ
كشف لآثار مجالس الن ّب ِيّ ﷺ على قلوب الصحابة،
ٌ ات") ،وفي هذا
حنْظَلَة ُ سَاع َة ً وَسَاع َة ً ،ثَلَاثَ م َّر ٍ
َ
ل المرء ُ
ح على مجالس العلم والذكر التي ت ُزيد ُ الإيمانَ وت ُذك ِّر ُ بالجن ّة والن ّار؛ فيص َحرص المُصل ُ ولذلك؛ ينبغي أ ْن ي َ
إلى مقام المسؤولية ومراقبة الل ّه في جميع أحواله.
-كان الن ّبيّ ﷺ خبير ًا في التعامل مع النفوس؛ فلما رأى في وجوه أصحابه الفزعَ بعد َ خبر الدجال =أراد َ ﷺ
يخ ْر ُجْ و َأن َا
ل أخْ و َفُنِي علَيْك ُم ،إ ْن َ
يحدِثُ في أنفسهم قدر ًا من الموازنة؛ فقال ﷺ" :غَيْر ُ الد ّج ّا ِ
ُخفف عنهم و ُ
أ ْن ي َ
سل ِ ٍم".
ل مُ ْ
سه ِ ،و َالل ّه ُ خ َلِيف َتي علَى ك ُ ّ ِ
ج ن َ ْف ِ
يخ ْر ُجْ و َلَسْتُ ف ِيكُمْ ،فَامْرُؤ ٌ حَ ج ِي ُ
ف ِيكُمْ ،فأن َا حَ ج ِيج ُه ُ د ُونَكُمْ ،وإ ْن َ
سه ِ في فتنة ٍ
ج نف ِ
سه ِ" هو موض ُع الشاهد المتعل ّ ِق بباب المسؤولية ،فإ ْن كانَ المرء ُ حجي َ
ج ن َ ْف ِ
-قوله ﷺ" :فَامْرُؤ ٌ حَ ج ِي ُ
عظيمة ٍ كفتنة الدجال التي ح ّذر َ منها الأنبياء ُ أقوامهم -كما قال الن ّبيّ ﷺ" :ما م ِن نَبِ ٍ ّي إلّا وق ْد أنْذَرَه ُ قَوْم َه ُ،
سه ِ فيما دونَ الدجال من الفتن والشهوات. ج نف ِ
ن المرء ُ حجي َ
باب أولى أ ْن يكو َ
ح قَوْم َه ُ"-؛ فمن ِ
لق َ ْد أنْذَرَه ُ نُو ٌ
الحديث الرابع :عن ع ُدي بن حات ٍم -رضي الل ّه عنه -قال :قال رسو ُ
ل الل ّه ﷺ" :ما منكم م ِن أحدٍ إلا
ن منه ،فلا يرى إلا ما ق ّدم ،وينظر ُ أشأم َ منه،
سي ُكل ِّم ُه الل ّه ُ يوم َ القيامة ِ ،ليس بينه وبينه ت َرجمانُ ،فينظر ُ أيْم َ
ِق تمرة ٍ ،ولو بكلمة ٍ
فلا يرى إلا ما ق ّدم ،وينظر ُ بين يد َيه ،فلا يرى إلا الن ّار َ تِلقاء َ وجه ِه ،فات ّقوا الن ّار َ ،ولو بش ّ ِ
طيِّبة ٍ" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
تجاه نفسه في موقفه الأخير (مشهد القيامة) ،وفيه توجيه ُ الن ّب ِيّ
-يؤكد ُ الحديثُ معنى تحم ّل الإنسان المسؤولية ُ
بشق التمرة؛ وفي الحديث؛ يقول الن ّبيّ ﷺ" :م َن ِّ ﷺ للعمل اتقاء َ الن ّار؛ فَذَك َر َ الصدقة َ بما يستطيع ُه ُ المرء ُ ولو
ن الل ّه َ يَتَق َب ّلُه َا بيمَِينِه ِ ،ث ُم ّ ي ُر َب ّ ِيهَا لِصَاحِبِه ِ ،كما
طي ِّبَ ،وإ ّ
ل الل ّه ُ إلّا ال ّ
ْب طَي ّ ٍِب ،ول َا يَقْب َ ُ
كس ٍ
ل تَم ْرَة ٍ م ِن َ
ص ّدقَ بع َ ْد ِ
تَ َ
ل" ،والفلو :هو صغير ُ الخيل.
ل الجب َ َ ِ ي ُر َب ِ ّي أحَد ُك ُ ْم فَلُو ّه ُ ،حت ّى تَكُو َ
ن مِث ْ َ
- 78 -
المحاضرة الثانية عشر :المسؤولية ُ العامّة ُ تُجاه َ الإسلا ِم والمسلمين
باب في المسئوولية ِ العامّة ِ تُجاه َ الإسلا ِم والمسلمين
ٌ
م ُق ّدِمة ٌ:
ح في بنائ ِه الإيماني
ن الأحاديث المنتقاة في متن (المنهاج من ميراث الن ّبُو ّة) هي فيما يحتاج ُه ُ المُصل ُ
-ذكرنا أ ّ
والمعرفي ،ومن أصول الإسلام :تعظيم ُ مرجعية الوحي؛ كتاب الل ّه وسُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ ودوام الدوران في
ن لهما أثر ٌ في حياته من حيث الاستدلال والاستنارة والاهتداء
فلـكهما؛ فم َن تراه ُ محتفيًا بالكتاب والس ُن ّة وأ ّ
حظ من
ٌ بهما =فهذه من مؤشرات الخير والتوفيق بإذن الل ّه -تعالى ،-لذلك؛ ينبغي للمسلم أ ْن يكونَ له
الاهتداء المباشر بنور القرآن والس ُن ّة من جهة التدب ّر والت ّدارس.
الباب:
ِ ن
ل عنوا ِ
تفصي ُ
ن بابَ المسئوولية العامّة للفرد تُجاه نُصرة الإسلام والمستضعفين من المسلمين والموالاة
البعض أ ّ
ُ -قد يظنّ
ل في الكتاب والس ُن ّة ،وبالتالي؛ يتم ّ التزهيد ُ فيه
باب ليس له أص ٌ
ٌ بينهم والاهتمام بقضايا الأمّة وشؤونها،
ل منه ،بينما هذا البابُ من صميم عقيدة الإسلام.
والتقلي ٌ
ل في
ن هذا البابَ من الأمور السياسية الحركية وليس داخ ٌ
-وأيضًا من باب التلبيس :قد تجد ُ م َن يزعم ُ أ ّ
ل فيه الاهتمام بقضايا الأمّة ن من أصول العقيدة :الولاء َ والبراءَ؛ فالولاء ُ يدخ ُ
أمور العقيدة ،بينما نج ْد أ ّ
ق بالـكُ ّفار
ل فيه التبرؤ مما يتعل ّ ُ
ونُصرة المستضعفين والارتباط والمحبة والتعاون بين المسلمين ،والبراء ُ يدخ ُ
شق البراء فقط ،مع إغفال
ل أصل الولاء والبراء من خلال ّ ِ
ل أن ّه أحيان ًا يتم ّ تناو ُ
والمنافقين .ولـكن الإشكا ُ
شق الولاء.
ِّ
الباب:
ِ شواهد ُ
نصوص الباب عن مركز ية قضية اهتمام المؤمن بقضايا الأمّة وشؤونها ،وأ ّنها من القضايا الـكبرى
ُ تكشف
ُ -
تهميش هذه القضية من التحر يف للد ِّين ،وهذا
َ ن
ق بالعقيدة ،لذا؛ فإ ّ
ارتباط وثي ٌ
ٌ ن لها
في الد ِّين ،وأ ّ
العقدي
ِّ ل هذه الإشكالاتُ في الانتكاس
إشكالات عقدية ٌ في باب الولاء والبراء؛ تتمث ُ
ٌ التهميش تترت ّبُ عليه
ُ
بموالاة أعداء الأمّة ،وتبني أفكارهم المنحرفة المتعل ِّقة بقضايا الأمّة.
- 79 -
ل و َالنِّس َاء ِ
ن الر ِ ّج َا ِ ل الل ّه ِ و َال ْمُسْت َضْ ع َف ِينَ م ِ َ
ن فِي سَب ِي ِالآية الأولى :قال الل ّه -تعالى" :-وَم َا لـَك ُ ْم ل َا تُق َاتِلُو َ
ظال ِ ِم أه ْلُه َا و َاجْ ع َل ل ّنَا م ِن ل ّدُن َ
ك و َل ًِّي ّا و َاجْ ع َل ل ّنَا م ِن خر ِجْ نَا م ِنْ هََٰذِه ِ الْقَر ْيَة ِ ال ّ
ن يَق ُولُونَ ر َب ّنَا أ ْ
ن ال ّذ ِي َ
و َالْوِلْد َا ِ
ك نَصِ ير ًا":
ل ّدُن َ
ل وجهادِ المسلمين ،وبالرغم
أي :بعد َ عم ِ
أتت هذه الآية ُ في سورة النساء المدنية -يعني :نزلت بعد َ الهجرة-؛ ْ
ْ -
حض والتأكيد على أهمية العمل في سبيل المستضعفين.
من ذلك؛ جاء َ فيها مزيد ٌ من ال ّ ِ
والذب
ِّ باب القتال
خ السعديّ -رحمه الل ّه -في تفسيره للآية( :فصار َ جهاد ُكم على هذا الوجه من ِ
ل الشي ُ
-يقو ُ
ل
عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم ،لا م ِن باب الجهاد الذي هو الطم ُع في الـكفار ،فإن ّه وإ ْن كانَ فيه فض ٌ
المتخلف عنه أعظم َ اللوم ،فالجهاد ُ الذي فيه استنقاذ ُ المستضعفين منكم أعظم ُ أجر ًا وأكبر ُ
ُ عظيم ٌ و يُلام ُ
ل قد
ن العم َ
ن للمفاضلة في غايات العمل ،فإ ّ ِ
دفع الأعداء)؛ وهذا فيه بيا ٌ فائدة ً ،بحيث يكونُ من باب
ل ذلك( :طلبُ
تكونُ فيه نِّية ٌ واحدة ٌ من حيث القصد ،لـكن تتفاوتُ المقاصد ُ التي تتغيى من خلاله؛ ومثا ُ
ل تحتَ هذه الن ِّي ّة؛ منها :مقصد ُ رفع
العلم)؛ تكونُ الن ِّي ّة فيه لل ّه ،لـكن تتفاوتُ مقاصدُه ُ المعينة التي تدخ ُ
الجهل عن الن ّفس والغير ،ومقصد ُ مقاومة أعداء الدين بالعلم والفكر ،وهذا مقصدٌ أعلى.
ل القا ِئ ِم علَى حُد ُودِ الل ّه ِ الحديث الأوّل :عن النعمان بن بشير -رضي الل ّه عنهما -عن الن ّب ِيّ ﷺ قال" :م َث َ ُ
ن في أسْ ف َل ِها
سف ِينَة ٍ ،فأصابَ بَعْضُه ُ ْم أع ْلاها وبَعْضُه ُ ْم أسْ ف َلَها ،ف َكانَ ال ّذ ِي َ والواق ِ ِع فيها ،كَمَث َ ِ
ل قَو ْ ٍم اسْ تَهَم ُوا علَى َ
ن الماء ِ م َّروا علَى م َن فَو ْقَهُمْ ،فقالوا :لو أن ّا خَرَق ْنا في نَصِ يب ِنا خَرْقًا ول َ ْم نُؤْذِ م َن فَو ْقَنا ،فإ ْن إذا اسْ تَقَو ْا م ِ َ
يَت ْرُكُوه ُ ْم وما أراد ُوا هَلـَكُوا جَم ِيع ًا ،وإ ْن أخَذ ُوا علَى أيْدِيه ِ ْم نَجَوْا ،ونَجَو ْا جَم ِيع ًا" ،أخرج َه ُ البخاريّ .
يكشف الحديثُ عن وجه ٍ من وجوه شرف وفضل القيام على حدود الل ّه بالأمر بالمعروف والنهي عن
ُ -
المنكر؛ وهذا الوجه ُ باعتبار النجاة وهو :النجاة ِ العامّة ِ (عامّة الن ّاس) من العذاب ،وهناك وجه ٌ آخر باعتبار
صة (للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر)؛ كما قال تعالى" :فَلَم ّا نَس ُوا م َا
النجاة -أيضًا -وهو :النجاة الخا ّ
سوء ِ".
ن ال ّ
ن يَنْهَوْنَ ع َ ِ
ذُك ِّر ُوا بِه ِ أنجَي ْنَا ال ّذ ِي َ
سبب في خير ية هذه الأمّة؛ كما قال
ٌ -أيضًا :من وجوه شرف وفضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :أن ّه
ن ال ْمُنكَر ِ".
ُوف و َتَنْهَوْنَ ع َ ِ
س ت َأْ م ُرُونَ ب ِال ْمَعْر ِ
َت لِلن ّا ِ
خرِج ْ
الل ّه -تعالى" :-كُنتُم ْ خَيْر َ أمّة ٍ أ ْ
ٍ
أنواع معينة ٍ من المنكرات دونَ غيرها؛ ل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في
-ومن الخلل :أ ْن يتم ّ اختزا ُ
ن من المنكرات الـكبرى التي تُسب ِبُ العذابَ
كالمجون والانحلال الأخلاقي أو حت ّى في بعض البدع ،بل إ ّ
العامّ :وجود َ الظلم بدون إنكار.
ن في بعض صور إنكار المنكر :ينبغي الأخذ ُ على يدِ نأ ّ ل الن ّب ِيّ ﷺ" :وإ ْن أخَذ ُوا علَى أيْدِيه ِ ْم نَجَو ْا" :فيه بيا ٌ
-قو ُ
حِبًا أو مقتنع ًا بما تقولُه ُ له. فاعله بشيء ٍ من الحزم؛ فليس بالضرورة أ ْن تجد َ ك ّ
ل م َنْ تُنكر ُ عليه مر ّ
الحديث الثاني :عن أبي سعيدٍ -رضي الل ّه عنه -قال :سمعتُ رسو ُ
ل الل ّه ﷺ يقول" :م َن ر َأى م ِنك ُم مُن ْك َرًا
ن" ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
َف الإيما ِ فَل ْيُغَيِّرْه ُ بيَدِه ِ ،فإ ْن ل َ ْم يَسْتَط ِعْ فَبِل ِسانِه ِ ،فإ ْن ل َ ْم يَسْتَط ِعْ فَبِق َل ْبِه ِ ،وذل َ
ك أضْ ع ُ
يكشف الحديثُ عن وجه ٍ من وجوه أهمية الأمر المعروف والنهي على المنكر :وهو الأمرُ المباشر من الن ّب ِيّ ُ -
جاءت صفت ُه ُ في الشر يعة على أن ّه منكر ٌ.
ْ ﷺ بتغيير المنكر ،الذي
- 80 -
-يبيِّنُ الن ّبيّ ﷺ أحوال إنكار المرء للمنكر باعتبار الاستطاعة؛ إمّا باليد أو باللسان أو بالقلب ،وق ْد أوْضح َ هذا
ن الأمرَ بالمعروف والنهي َ عن المنكر يتطل ّبُ فقه ًا؛ وهذا الفقه ُ يكتسب ُه ُ المرء ُ من خلال طر يقين:
الحديثُ أ ّ
الثانـي :الاهتمام ُ والعناية ُ بمصنفات العلماء في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ سواء ٌ الـكتب
الجامعة؛ مثل كتاب (جامع العلوم والحكم) للحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الل ّه ،-أو الـكتب والرسائل
المفر َدة في الأمر المعروف والنهي عن المنكر وفقهه.
حديث في مسند الإمام أحمد -رحمه الل ّه-؛ حيثُ بدأ مسندَه ُ بمسند
ٍ فاـئدة ٌ حديثية ٌ :هذا الحديثُ أ ّو ُ
ل
حديث في مسند أبي بكر،
ٍ ل
العشرة المبشرين بالجن ّة؛ وأوّلهم أبي بكرٍ الصديق -رضي الل ّه عنه ،-وهذا أ ّو ُ
ختلف فيه على وجهين :هل هو
ح الإسناد إلى أبي بكر الصديق -رضي الل ّه عنه ،-ولـكنه م ٌ
وهذا الحديثُ صحي ُ
موقوف على أبي بكر؟ ،أم هو مرفوعٌ للن ّب ِيّ ﷺ؟ ،وق ْد رجّ ح َ الإمام ُ الداراقطني الوجهين.
ٌ
ك المنكر
يكشف الحديثُ عن وجه ٍ من وجوه قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهو :خطورة ُ تر ِ
ُ -
ل
ج عن ذلك من العقاب الإلهي العا ِمّ للن ّاس جميع ًا؛ ومن أمثلة هذا العقاب :زوا ُ
والظلم بلا نكير وما ينت ُ
الأمن وتقل ّبُ الأحوال؛ كما قال تعالى" :و َضَر َبَ الل ّه ُ م َثَل ًا قَر ْيَة ًك َان َْت آم ِن َة ً مّ ْطم َئ ِن ّة ً ي َأْ ت ِيهَا رِزْقُه َا ر َغَدًا مّ ِن
ْف بِمَا ك َانُوا يَصْ ن َع ُونَ". وع و َالْخَو ِ اس الْج ُ ِن فَكَف َر َْت ب ِأن ْع ُ ِم الل ّه ِ ف َأذ َاقَه َا الل ّه ُ لِب َ َ
ل مَك َا ٍ
ك ُ ِّ
ن آم َن ُوا
يكشف أبو بكرٍ الصديق -رضي الل ّه عنه -الش ُبهة َ التي ق ْد تشتبه ُ على م َن يقرأ قوله تعالى" :ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ
ُ -
ل على إسقاط الأمر بالمعروف والنهي عن
ل ِإذ َا اه ْتَد َي ْتُم ْ"؛ فيظنّ أ ّنها تد ّ عَلَيْك ُ ْم أنْفُسَك ُ ْم ل َا يَضُرّك ُ ْم م َنْ َ
ض ّ
ل عند َ
ص ُ
الالتباس الذي ق ْد يح ُ
َ ك
ف من أبي بكر ينبغي أ ْن يكونَ نبراسًا للم ُصلح؛ بأ ْن يف َ
المنكر ،وهذا التصر ّ ُ
حديث أو أثر ،-أو محاولة فهمِها.
ٍ بعض الن ّاس عند َ قراءة ِ بعض النصوص الشرعية -آية ٍ أو
- 82 -
استدلالات كثيرة ٍ من أبي بكر ٍ
ٍ لاحظ في جيل الصحابة -رضي الل ّه عنهم -أ ّنهم لم يكونوا يحتاجون إلى ُ -ي ُ
اس إلى شيءٍ من البسط ج الن ّ ُ
اختلفت الأفهام ُ فيم َن بعد َ جيل الصحابة؛ احتا َ
ْ لإبطال هذه الشبهة ،بينما لم ّا
ل العلم على مر التاريخ.
ل أه ُ
في الاستدلال كما فع َ
ل المؤمنين في الحديث الخامس :عن النعمان بن بشير -رضي الل ّه عنهما -قال :قال رسو ُ
ل الل ّه ﷺ" :مث ُ
ل الجسَدِ إذا اشتك َى من ْه ُ عضو ٌ تد َاعَى لَه ُ سائ ِر ُ الجسَدِ بالس ّهَرِ وا ْلحم ُ ّى"،
تَوادِّهم ،وت َر َاحُمِه ِم ،وتعاطُفِه ِ ْم .مث ُ
أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ن
ِس هذا الحديثُ لمسؤولية الفرد تُجاه العمل للإسلام ونصرة المسلمين والتعاطف مع قضاياهم؛ وأ ّ
يؤس ُ
ّ -
موجبَ هذا التعاطف والتواد والتراحم هو الأخو ّة ُ الإيمانية ،وق ْد أٌبرِز ْ
َت هذه الأخو ّة ُ الإيمانية ُ في أعلى
صورة ٍ لها؛ صورة الجسد الواحد ،وهذا أبل ُغ في تأسيس عقد الموالاة والمحبة والتعاطف والتراحم والتواد بينَ
ن اشْ ت َك َى عَي ْن ُه ُ ،اشْ ت َك َى كُل ّه ُ،
حدٍ ،إ ِ
ل وا ِ
المؤمنين وقضاياهم؛ كما جاء َ في رواية الإمام مسلم ٍ" :ال ْمُسْل ِم ُونَ ك َرَج ُ ٍ
ن اشْ ت َك َى ر َأْ سُه ُ ،اشْ ت َك َى كُل ّه ُ".
وإ ِ
التعاطف والتناصر ُ والتراحم ُ مع قضايا الأمّة -أحيان ًا -بشيء ٍ من التزهيد والتقليل في القيمة،
ُ وصف
-قد ي ُ ُ
ن من
نصوص الوحي بتأسيسه بينَ المؤمنين ،ولذا؛ فإ ّ
ُ جاءت
ْ ل إيمانيّ؛
أساس عقديّ وأص ٌ
ٌ بينما هو
المنكرات العظمى في زماننا هذا :محاربة َ وتشو يه َ مفهو ِم الأخو ّة الإيمانية والانتماء ِ للأمّة ونُصرة ِ قضاياها،
وتقديم َ الانتماء الوطني على الانتماء للأمّة؛ بينما الأولى تقديم ُ الأخو ّة الإيمانية ،ولذا من أولو يات الإصلاح
الـكبرى اليوم :المحافظة ُ على مبدأ الولاء والمحبة وإقامة ُ واجب التناصر والتعاطف والتراحم بينَ المؤمنين.
- 83 -
المحاضرة الثالثة عشر :مركز ية ُ ات ّ ِ ِ
باع هدي الأنبياء ِ
بابُ مركز ية ِ ات ّ ِ ِ
باع هدي الأنبياءِ ،وأهميتِه ِ للم ِ
ُصلح فِي عبادتِه ِ ودعوتِه ِ وصبرِه ِ
م ُقدِّمة ٌ:
هدف متن المنهاج؛ وهو جم ُع مجموعة ٍ من النصوص التي ته ّم الذي يريد ُ أ ْن يسير َ في طر يق
َ -يبرز ُ هذا البابُ
ق بهدي
الإصلاح؛ فهذا المتنُ أشبه ُ ما يكونُ بالزاد على هذا الطر يق ،ومن جُملة ذلك الزاد :البابُ المتعل ّ ِ ُ
ن مما ينبغي أ ْن تتوجه َ إليه عناية ُ السائر ِ في طر يق الإصلاح :العناية َ بما جاء عن الأنبياء -عليهم
الأنبياء؛ فإ ّ
سلام -في عبادتهم ودعوتهم وصبرهم ،واستحضار َ ذلك في طر يقه الإصلاحي.
الصّ لاة وال ّ
الباب:
ِ شواهد ُ
ل م َا نُثَب ِّتُ بِه ِ فُؤَادَك َ وَج َاءَك َ فِي هََٰذِه ِ الْحَقّ ك م ِنْ أنبَاء ِ الر ّ ُ
س ِ الآية الأولى :قال تعالى" :وَك ُلًّ ّا ن ّق ّ
ُص عَلَي ْ َ
وَمَوْعِظَة ٌ وَذِك ْر َى لِلْمُؤْم ِنِينَ":
جاءت هذه الآية ُ في سورة هود بعد ذكر ِ مجموعة ٍ من قصص الأنبياء؛ منهم :نوح وهود وصالح وإبراهيم
ْ -
سلام -بهذا الترتيب؛ وكان في ذكر ِ أخبار هؤلاء الأنبياء وما
ولوط وشعيب وموسى -عليهم الصّ لاة وال ّ
ض له من أذى قومه،
تثبيت لفؤاد الن ّب ِيّ ﷺ لما يتعر ّ ُ
ٌ تعر ّضوا له من البلاء والش ّدة والتكذيب والاستهزاء؛
فيكونَ له فيهم الاقتداء ُ والأسوة ُ؛ في َصبر َ كما صبروا.
سق ُونَ": يُوعَد ُونَ ل َ ْم يلَ ْبَث ُوا ِإلّا سَاع َة ً مّ ِن ّنهَا ٍر بَلَاغٌ فَه َلْ يُه ْل َ ُ
ك ِإلّا الْقَوْم ُ الْف َا ِ
إيناس
ٌ -يأمرُ الل ّه ُ نبي ّه ﷺ أ ْن يقتديَ بم َن قبله من أولي العزم من الر ّسُل؛ في َصبر َ كما صبروا ،وهذا أيضًا فيه
وخطاب عامّ لمَن يتب ُع الن ّبيّ ﷺ في السير على طر يق الإصلاح؛ بأ ْن يصبر َ كما صبر الأنبياء فيما تعر ّضوا له
ٌ
في طر يق دعوتهم.
- 84 -
ن الل ّه ِ وَم َا أنَا
سب ْح َا َ الآية الثالثة :قال تعالى" :قُلْ هََٰذِه ِ سَب ِيل ِي أ ْدع ُو ِإلَى الل ّه ِ عَلَى بَصِ يرَة ٍ أن َا وَم َ ِ
ن ات ّبَعَنِي و َ ُ
ن ال ْمُشْرِكِينَ":
مِ َ
ن الصفة
تكشف الآية ُ عن هدي الأنبياء؛ بإبراز معالم السبيل الذي سلـكوه؛ وهو الدعوة ُ إلى الل ّه ،ثم بيا ِ
ُ -
تأسيس لمركز ية اتِّباع
ٌ ن ات ّبَعَنِي" ،ولذا؛ ففي الآية
الممي ِّزة لهذا السبيل؛ وهي البصيرة ُ "عَلَى بَصِ يرَة ٍ أن َا وَم َ ِ
ك الحُجة ،وأ ْن يكونَ على بينة ٍ و يقينٍ من أمره؛ لـكي
الأنبياء؛ إذ لا بُدّ للمصلح أ ْن يكونَ على بصيرةٍ؛ في َمتل َ
َات
سم َاو ِ
ك نُر ِي ِإ ب ْر َاه ِيم َ م َلـَكُوتَ ال ّ
يصبر َ على ما سيلقاه في طر يق إصلاحه للن ّاس ،كما قال تعالى" :وَكَذََٰل ِ َ
وثبات في مواجهة مصاعب الطر يق.
ٍ ن ال ْم ُوق ِنِينَ" ،حت ّى يكونَ على يقينٍ
ض و َلِيَكُونَ م ِ َ
و َالْأ ْر ِ
جر ًا ِإ ْن ه ُو َ ِإلّا
ن هَدَى الل ّه ُ فَبِهُد َاهُم ُ اق ْتَدِهْ ق ُل لّا أسْ ألـُك ُ ْم عَلَيْه ِ أ ْ الآية الرابعة :قال تعالى" :أولََٰئ ِ َ
ك ال ّذ ِي َ
ذِك ْر َى لِلْع َالم َي ِنَ":
جاءت هذه الآية ُ في سورة الأنعام بعد ذكر ِ أسماء ِ مجموعة ٍ من الأنبياء؛ قال تعالى" :و َتِل ْ َ
ك حُ ج ّتُنَا آتَي ْنَاه َا ْ -
ك حَكِيم ٌ عَل ِيم ٌ * وَو َهَب ْنَا لَه ُ ِإ ْسحَاقَ و َيَعْق ُوبَ ك ُلًّ ّا هَدَي ْنَا و َنُوح ًا
ن ر َب ّ َ
َات مّن ن ّش َاء ُ ِإ ّ
ِإ ب ْر َاه ِيم َ عَلَى قَوْمِه ِ نَرْف َ ُع دَرَج ٍ
نجْزِي ال ْم ُحْ سِنِينَ * ك َُف وَم ُوس َى و َه َار ُونَ وَكَذََٰل ِ َ ل وَم ِن ذُرِّ ي ّتِه ِ د َاو ُود َ وَسُلَيْم َانَ و َأي ّوبَ و َيُوس َ
هَدَي ْنَا م ِن قَب ْ ُ
س و َلُوطًا وَك ُلًّ ّا ف َضّ ل ْنَا عَلَى
ل و َال ْيَسَ َع و َيُون ُ َ
ن الصّ الِ حِينَ * و َِإسْمَاعِي َ
ل مّ ِ َ
اس ك ُ ّ
يح ْي َى وَع ِيس َى و َِإلْي َ َ
وَزَكَر ِ ي ّا و َ َ
وصف الأنبياء بهداية
ِ الْع َالم َي ِنَ" ،ثم أمرَ الل ّه ُ نبي ّه ﷺ أ ْن يقتديَ بهدي هؤلاء الأنبياء الذين هداهم الل ّه؛ وفي
ن لقيمة ِ الهداية ،وهذا الخطابُ للن ّب ِيّ ﷺ ولأمّته من بعده. الل ّه لهم بيا ٌ
ل الاقتداء ِ
ن لأهمية معرفة هدي الأنبياء والعناية بمنهجهم وطر يقهم؛ إ ْذ في هذا سبي ُ
-وفي الآية -أيضًا -بيا ٌ
بهديهم.
الآية الخامسة :قال تعالى" :قُلْ ِإن ّنِي هَد َانِي ر َب ِ ّي ِإلَى صِر َاطٍ مّسْت َق ٍِيم دِينًا ق ِيَم ًا مّ ِل ّة َ ِإ ب ْر َاه ِيم َ حَن ِيف ًا وَم َا ك َا َ
ن
ن ال ْمُشْرِكِينَ":
مِ َ
ن لقيمة استحضار المُصلح لهدي
ج الأنبياء في طر يق دعوته؛ وفي هذا بيا ٌ
-كان الن ّبيّ ﷺ يستحضر ُ منه َ
الأنبياء ومنهجهم وطر يقتهم في طر يقه الإصلاحي.
- 85 -
الحديث الأوّل :عن عبد الل ّه مسعود -رضي الل ّه عنه -قال( :ك َأن ِ ّي أنْظ ُر ُ إلى الن ّب ِيّ ﷺ َ
يحْكِي نَب ًِّي ّا م ِ َ
ن
ل :الل ّه ُ ّم اغْفِر ْ لِقَوْمِي؛ فإ ّنه ُ ْم لا يَعْلَم ُونَ)، الأن ْب ِيَاء ِ ضَر َبَه ُ قَوْم ُه ُ فأ ْدمَوْه ُ ،وهو يَمْسَ ُ
ح الد ّم َ عن وجْ هِه ِ و يقو ُ
أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ِّ -
يوضح ُ الحديثُ استحضار َ الن ّب ِيّ ﷺ لهدي الأنبياء في حياته التفصيلية كي يتصب ّر َ من خلالها على ما يلقاه من
ل نب ٍ ّي من الأنبياء ،وقد ضربه قومه
يصف حا َ
ُ ن مسعودٍ أن ّه رأى الن ّبيّ ﷺ
أذى قومه ،وفي الحديث يُخبر اب ُ
ل هذا للن ّب ِيّ ﷺ في غزوة أحُدٍ.
ح الدم َ عن وجهه ،وقد وق َع مث ُ
ل منه الدم ُ ،فأخذ َ يمس ُ
حت ّى سا َ
مواقف
َ مر به الن ّبيّ ﷺ والأنبياء ُ من قبله في
-ولذلك؛ ينبغي على المصلح أ ْن يكونَ دائم َ الاستحضار لما ّ
ِ
المصلح سلام -الصبر َ والثبات ،واستحضار ُ الش ّدة والابتلاء ،في َستمد َ من هدي الأنبياء -عليهم الصّ لاة وال ّ
حق الذي يدعو إليه،
ج إلى قو ّة ِ اليقين بال ّ ِ
صعب؛ يحتا ُ
ٍ ن
ل امتحا ٍ
لمثل هذه الحقائق في أوقات الشدائد مح ُ
وقو ّة اليقين بكمال هدي الأنبياء ،ثم تمام التوكّل على الل ّه في تحقيق هذا الاهتداء العملي.
ن
ل رَجُلٌِ :إ ّ الحديث الثاني :عن عبد الل ّه بن مسعود -رضي الل ّه عنه -قال( :ق َسَم َ الن ّبِيّ ﷺ ق َ ْ
سم ًا؛ فَق َا َ
سم َة ٌ م َا أرِيد َ بِهَا وَجْه ُ الل ّهِ ،ف َأتَي ْتُ الن ّبِيّ ﷺ ف َأخْبَرْتُه ُ؛ فَغ َضِ بَ حَت ّى ر َأي ْتُ الْغَضَبَ فِي و َجْ هِه ِ ،ث ُم ّ
هَذِه ِ لَق ِ ْ
حم ُ الل ّه َ م ُوس َى ق َ ْد أوذِيَ ب ِأكْ ثَر َ م ِنْ هَذ َا فَصَبَر َ") ،أخرج َه ُ البخاريّ مسلم ٌ.
قَالَ" :يَرْ َ
-كان الن ّبيّ ﷺ أنموذج ًا في الصّ بر على أنواع الأذى التي لاقاها من قومه ،انفاذ ًا لما وصاه الل ّه به "فَاصْ بِرْ كَمَا
ض له الن ّبيّ ﷺ من أذ ًى :الأذى الذي تلقاه مم ّن دخلوا
ل"؛ وكان من ج ُملة ما تعر ّ َ
س ِ
ن الر ّ ُ
صَبَر َ أولُو الْعَز ْ ِم م ِ َ
ن الإيمانُ من قلوبهم؛ وكان عامّتُه ُم من الأعراب.
ك ِ
الإسلام ،ولـكن لم يتم ّ
خ أحمد السيد -حفظه الل ّه -في محاضرة (الهم والحُزن) من سلسلة (سو ية المؤمن) عن
تكل ّم َ الشي ُ فاـئدة:
ل تفصيل ٍيّ.
أنواع الابتلاءات والمصاعب والتحديات التي واجهها الن ّبيّ ﷺ في حياته وذلك بشك ٍ
- 86 -
الصيا ِم
أحب ِّ
ّ ل الل ّه ﷺ" : الحديث الثالث :عن عبد الل ّه بن عمرو -رضي الل ّه عنهما -قال :قا َ
ل لي رسو ُ
ل؛
ل م ِن رَج ُ ٍ
ل :نِعْم َ الر ّج ُ ُ
َب ،ف َكانَ يَتَع َاهَد ُ كَن ّت َه ُ ،فَيَسْألُهَا عن بَعْلِه َا ،فَتَق ُو ُ
حس ٍ
حنِي أبِي امْرَأة ً ذ َاتَ َ
ك َ
(-أن ْ َ
ل :الْقَنِي به ،فَلَق ِيت ُه ُ
ك عليه ذَك َر َ للن ّب ِيّ ﷺ ،ف َقا َ ل َ ْم يَط َأْ لَنَا ف ِرَاشًا ،ول َ ْم يُف َت ّ ِْش لَنَا كَنَف ًا مُنْذ ُ أتَي ْنَاه ُ ،فَلَم ّا طَا َ
ل ذل َ
ل ش َ ْه ٍر
م في ك ُ ّ ِ
ل" :ص ُ ْ
ل لَيْلَة ٍ ،قا َ
ل :ك ُ ّ
تخْت ِم ُ؟" ،قا َ
وكيف َ
َ ل" :
ل يَو ٍم ،قا َ
ل :ك ُ ّ
كيف تَصُوم ُ؟" ،قا َ
َ ل" :
بَعْد ُ ،ف َقا َ
م ثَلَاثَة َ أي ّا ٍم في الجم ُُعَة ِ" ،قُلتُ :
ل" :ص ُ ْ
ق أكْ ثَر َ م ِن ذلكَ ،قا َ
ل :قُلتُ :أطِي ُ ثَلَاثَة ً ،واق ْرَأ ِ القُر ْآنَ في ك ُ ّ ِ
ل ش َ ْهرٍ" ،قا َ
ل
ض َ
م أف ْ َ
ل" :ص ُ ْ
ق أكْ ثَر َ م ِن ذلكَ ،قا َ
ل :قُلتُ :أطِي ُ
م يَوْم ًا" ،قا َ
ل" :أفْطِر ْ يَوم َيْنِ وص ُ ْ
ق أكْ ثَر َ م ِن ذلكَ ،قا َ
أطِي ُ
ل الل ّه ِ سب ِْع لَيَا ٍ
ل م َّرة ً" .فَلَي ْتَنِي قَبِل ْتُ ر ُخْ صَة َ ر َسو ِ ل َ صوْم َ د َاوُد َ :صِيَام َ يَو ٍم ،وإفْطَار َ يَو ٍم ،واق ْرأْ َ في ك ُ ّ ِ
الصّ و ْ ِم َ
ن بالنّهَارِ ،والذي يَقْرَؤُه ُ يَعْرِضُه ُ ن القُر ْآ ِ
سب ْ َع م ِ َ
ض أه ْلِه ِ ال ّ ن يَقْرَأ علَى بَعْ ِ ﷺ؛ وذ َاك َ أن ِ ّي كَبِرْتُ وضَعُفْتُ ،ف َكا َ
- 87 -
ل ،وإذ َا أر َاد َ أ ْن يَتَقَو ّى أفْطَر َ أي ّام ًا وأحْ ص َى ،وصَام َ مِثْلَه ُنّ ك َرَاهية َ أ ْن
َف عليه بالل ّي ْ ِ
ن النّهَارِ؛ لِي َكونَ أخ ّ
مِ َ
يَتْرُك َ شيئًا فَار َقَ الن ّبيّ ﷺ عليه).
ن الن ّبيّ ﷺ وجّه َ عبد الل ّه بن عمرو -رضي الل ّه عنهما -باستحضار هدي نب ٍ ّي من
-الشاهد ُ من الحديث أ ّ
حرص عليه المؤمنُ؛ وهو استحضار ُ هديَ
الأنبياء فجعله أنموذج ًا ومعيار ًا في العبادة ،وهذا مما ينبغي أ ْن ي َ
الأنبياء في مختلف أحواله وشؤونه ،ومن الوسائل التي تُعزز قيمة َ هدي الأنبياء في نفس المؤمن :عنايت ُه ُ
ق بهما من علو ٍم.
بالوحي؛ كتاب الل ّه وسُن ّة رسوله ﷺ وما يتعل ّ ُ
- 88 -
ِ
الإصلاح والدعوة ِ ل
المحاضرة الرابعة عشر :فض ُ
ُب م َنْ هَذِه ِ صفت ُه ُ
بابُ القدوة ِ فِي الدي ِن وح ِّ
الباب:
ِ ن
ل عنوا ِ
تفصي ُ
حث على أ ْن يكونَ
-يُقصد ُ بهذا الباب أمران :الأوّل :إثباتُ وجود القدوات والأئمة في الد ِّين ،والثاني :ال ّ
الإنسانُ قدوة ً في الد ِّين.
-والقدوة ُ في الد ِّين على أحدِ قسمين:
الأوّل :القدوة ُ الشمولية ُ؛ أ ْن يكونَ الإنسانُ قدوة ً في عامّة شأنه؛ هديه وصلاته وأخلاقه وعلمه وغير ذلك،
وهذه القدوة ُ ليست قدوة ً مطلقة ً إلا في شأن الن ّب ِيّ ﷺ ،أمّا سواه ُ فالاقتداء ُ به مقي ّدٌ بموافقة هدي الن ّب ِيّ
ٍ
واسع بميراث الن ّب ِيّ ﷺ. لصاحب علم ٍ
ِ ﷺ ،وهذه القدوة ُ لا تكونُ إلا
شترط في صاحبها العلم ُ الواس ُع الشموليّ.
باب معي ّنٍ؛ وهذه القدوة ُ لا ي ُ ُ
الثانـي :القدوة ُ الجزئية ُ في ٍ
محبًا لأهل
ن ُ
أي :إذا لم ْ يتيسرْ للإنسان أ ْن يكونَ قدوة ً ،فلا يفوتن ّه ُ أ ْن يكو َ
ُب م َنْ هَذِه ِ صفت ُه ُ)ْ :
-قوله( :وح ِّ
العلم والقدوة في الد ِّين.
-ويكونُ الاقتداء ُ في الد ِّين بأمرين:
اس بذلك.
حث على الخير؛ في َقتديَ الن ّ ُ
أي :بالدعوة وال ِّ
الأوّل :الاقتداء ُ بالقول؛ ْ
الثانـي :الاقتداء ُ بالعمل؛ أ ْن يكونَ الإنسانُ قدوة ً بعمله ،فيتب َع الن ّاس خُطاه وهديه.
شاطبيّ -
-والأكمل ُ هو الجم ُع بين الأمرين؛ بأ ْن يكونَ الإنسانُ إمام ًا في الد ِّين بقوله وبعمله ،وقد بي ّنَ الإمام ُ ال ّ
منتصب لهم بقول ِه ِ وفعل ِه ِ ،فإن ّه وارثُ الن ّب ِيّ ﷺ،
ٌ ن الد ِّي ِن
س في بيا ِ
رحمه الل ّه -ذلك؛ فقالَ( :المنتصبُ للن ّا ِ
الموروث).
ِ والن ّبيّ ﷺ كان مبينًا بقول ِه ِ وفعل ِه ِ؛ فكذلك الوارثُ لا ب ُدّ أ ْن يقوم َ مقام َ
الباب:
ِ شواهد ُ
ن ال ْمُسْل ِمِينَ":
ل ِإن ّنِي م ِ َ ن قَوْل ًا مِّم ّن د َعَا ِإلَى الل ّه ِ و َعَم ِ َ
ل صَالِ حاً و َقَا َ الآية الأولى :قال تعالى" :وَم َنْ أحْ س َ ُ
ت الآية ُ مقام ًا من مقامات القدوة في الد ِّين؛ وهو مقام ُ الدعوة إلى الل ّه ،ومفهوم ُ الدعوة إلى الل ّه
-ذكر ْ
ل فيه أيضًا
وحث المسلمين على الخير ،ويدخ ُ
ّ ل فيه دعوة ُ غير المسلمين ،ودعوة ُ
مفهوم ٌ واس ٌع في دلالته؛ يدخ ُ
قضية ُ الإمامة والقدوة؛ بأ ْن يكونَ الإنسانُ رأسًا في الخير.
- 89 -
ن
أي :لا أحد َ أحس ُ
خ السعديّ -رحمه الل ّه -في تفسيره للآية( :هذا استفهام ٌ بمعنى النفي المتقرر؛ ْ ل الشي ُ
-يقو ُ
بتعليم الجاهلين ،وو ْعظِ الغافلين والمعرضين ،ومجادلة ِ
ِ أي :كلام ًا وطر يقة ً وحالة ً "مِم ّنْ د َعَا ِإلَى الل ّه ِ"قول ًا؛ ْ
حث عليها ،وتحسينها مهما أمكن ،والزجر عما نهى الل ّه عنه،
المبطلين ،بالأمر بعبادة الل ّه ،بجميع أنواعها،وال ِّ
جبُ ترك َه ُ ،خصوصًا من هذه :الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسين ُه ُ ،ومجادلة
ق ي ُو ِ
ل طر ي ٍ
وتقبيحه بك ّ ِ
أعدائه بالتي هي أحسن ،والنهي عما يضاد ُه ُ من الـكفر والشرك ،والأمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر .ومن
ل رحمته ،وذكر ِ أوصاف كماله،
سع َة ِ جوده ،وكما ِ
الدعوة إلى الل ّه :تحبيب ُه ُ إلى عباده ،بذكر ِ تفاصيل نعمه ،و َ
سن ّة رسوله ﷺ)
ونعوت جلاله .ومن الدعوة إلى الل ّه :الترغيبُ في اقتباس العلم واله ُدى من كتاب الل ّه و ُ
ن أ ْن يكونَ فيها
سعة َ الأبواب التي ي ُمك ُ
ولذا؛ إذا فَهِم َ الإنسانُ مفهوم َ الدعوة إلى الل ّه بهذه الشمولية ،أدرك َ ِ
قدوة ً في الدين.
ل فيها القدوة ُ العملية ُ؛ أ ْن يكونَ
ن ال ْمُسْل ِمِينَ" :صورة ٌ من صورِ الاعتزازِ ،ويدخ ُ
ل ِإن ّنِي م ِ َ
-قوله تعالى" :و َقَا َ
الإنسانُ قدوة ً بعمله.
ن ال ْمُسْل ِمِينَ" فهو ثناء ٌ على
ل ِإن ّنِي م ِ َ
-قال الإمام ُ الطاهر ُ ابن عاشور -رحمه الل ّه -في تفسيره( :وأمّا" :و َقَا َ
ل
المسلمين بأ ّنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بينَ المشركين ولم يتستروا بالإسلام ،والاعتزاز ُ بالد ِّين عم ٌ
ووضحوا أحكام َ الشر يعة واجتهدوا
ّ صالح ٌ ،وفي هذه الآية ِ منزعٌ عظيم ٌ لفضيلة ِ علماء الد ِّين؛ الذين بي ّنوا الس ُن َنَ
ل إلى مرادِ الل ّه ِ).
ص ِ
في التو ّ
فل" م ُؤَكِّد ًا عِنْد َ المُخال ِ ِ
أي" :وقَا َ َن ال ْمُسْل ِمِينَ"ْ :
ل ِإن ّنِي م ِ َ
-قال الإمام ُ الب ِقاعيّ -رحمه الل ّه -في تفسيره"( :و َقَا َ
ك لا صفَة ِ الإسْ لا ِم م ُت َظاه ِرًا بِذَل ِ َأي :الرّاسِ خ ِينَ في ِ ن المُسْل ِمِينَ"ْ : ِف قاطِع ًا لِطَم َِع الم ُ ْف ِ
سدِ ف ِيه ِ" :إن ّنِي م ِ َ والمُؤال ِ
َخاف في الل ّه ِ لَوْم َة َ لا ِئ ٍم).
ي ُ
- 91 -
والأذى في سبيله ،وكفوا أنفس َهم عن جماحها في المعاصي ،واسترسالها في الشهوات.
أي :وصلوا في الإيمان بآيات اللّه ،إلى درجة ِ اليقين ،وهو العلم ُ التامّ،
-قوله تعالى" :وَك َانُوا ب ِآي َاتنَِا يُوق ِن ُونَ"ْ :
ل عن أدلتها المفيدة
الموجبُ للعمل ،وإن ّما وصلوا إلى درجة ِ اليقين ،لأ ّنهم تعلموا تعل ّمًا صحيح ًا ،وأخذوا المسائ َ
لليقين).
الآية الثالثة :قال تعالى" :و َاجْ ع َل ْنَا لِل ْمُت ّق ِينَ ِإم َام ًا":
أي :أ ْوصِل ْنا يا ر ب ّنا إلى هذه الدرجة العالية؛ درجة ِ
خ السعديّ -رحمه الل ّه -في تفسيرهْ ( :
-يقول الشي ُ
كم ّل من عباد الل ّه الصالحين ،وهي درجة ُ الإمامة في الد ِّين ،وأ ْن يكونوا قدوة ً للمت ّقين في
الصديقين والـ ُ
ل الخير خلف َهم ،في َهدون ويهتدون .ومن أقوالهم وأفعالهم ،يُقتدى بأفعالهم و ي ُطمئ ّن لأقوالهم ويسير ُ أه ُ
ببلوغ شيء ٍ دعاء ٌ بما لا يتم ّ إلا ّ به ،وهذه الدرجة ُ -درجة الإمامة في الد ِّين -لا تتم ّ إلا ِّ
ن الدعاء َ
المعلوم أ ّ
بالصّ بر واليقين؛ كما قال تعالى" :وجعلناهم أئِم ّة ً يهدونَ بأمر ِنا لم ّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنونَ" :فهذا الد ّعاء ُ
ل صاحِب َه
ص ُ
يستلزم ُ من الأعمال والصّ بر على طاعة ِ الل ّه وعن معصيتِه ِ وأقدارِه ِ المؤلمة ومن العلم التا ِمّ الذي ي ُو ِ
سل).
ق بعد الر ّ ُ
درجات الخَل ْ ِ
ِ ن من
إلى درجة ِ اليقين خير ًا كثير ًا وعطاء ً جز يل ًا ،وأ ْن يكونوا في أعلى ما ي ُمك ُ
ن
ل الل ّه ﷺ قال" :م َن د َعا إلى هُدًى ،كانَ له م ِ َ الحديث الأوّل :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -أ ّ
ن رسو َ
ن الإ ْث ِم
ن عليه م ِ َ
ك م ِن أجُورِه ِ ْم شيئًا ،وم َن د َعا إلى ضَلالَة ٍ ،كا َ
ُص ذل َ
ل أجُورِ م َن تَبِع َه ُ ،لا يَنْق ُ
جر ِ مِث ْ ُ
الأ ْ
ك م ِن آثامِه ِ ْم شيئًا" ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
ُص ذل َ
ل آثا ِم م َن تَبِع َه ُ ،لا يَنْق ُ
مِث ْ ُ
ل الل ّه ﷺ" :م َن سَنّ في الإسْ لَا ِم الحديث الثانـي :عن جرير بن عبد الل ّه -رضي الل ّه عنه -قال :قا َ
ل رسو ُ
ُص م ِن أجُورِه ِ ْم ش َيءٌ ،وَم َن سَنّ في ل بهَا بَعْدَه ُ ،م ِن غيرِ أ ْن يَنْق َ جر ُ م َن عَم ِ َجر ُه َا و َأ ْ
حسَن َة ً ،فلََه ُ أ ْ
سُن ّة ً َ
ُص م ِن أ ْوز َارِه ِ ْم ش َيء ٌ"،
ل بهَا م ِن بَعْدِه ِ ،م ِن غيرِ أ ْن يَنْق َ
الإسْ لَا ِم سُن ّة ً سَي ِّئ َة ً ،كانَ عليه وِ ْزر ُه َا وَوِ ْزر ُ م َن عَم ِ َ
أخرج َه ُ مسلم ٌ.
ق القدوة في الد ِّين ولو لم يكنْ واس َع العلم،
ن القدوة الجزئية؛ إ ْذ يفتحان للمسلم أف َ
-هذان الحديثان في بيا ِ
اس إلى فعلها؛ كما جاء َن سُن ّة ً في الخير؛ فيُبادر ُ الن ّ ُل للإنسان بأ ْن يوفق َه ُ الل ّه ُ إلى س ّ ِ ن أ ْن يحص َ فالاقتداء ُ يُمك ُ
ل :فَجَاءَه ُص ْدرِ النّهَارِ ،قا َ ل الل ّه ِ ﷺ في َ في تتمة حديث جرير بن عبد الل ّه -رضي الل ّه عنه -قال( :ك ُن ّا عِنْدَ ر َسو ِ
ُوف ،عَامّتُه ُ ْم م ِن م ُضَر َ ،بَلْ ك ُل ّه ُ ْم م ِن م ُضَر َ ،فَتَمَع ّر َ مج ْتَابِي النِمّا َرِ أوِ الع َبَاءِ ،م ُتَق َلِّد ِي ال ّ
سي ِ حف َاة ٌ ع ُرَاة ٌُ ،
قَوْم ٌ ُ
خطَبَ
ل ث ُم ّ خَرَجَ ،فأم َرَ بلَال ًا فأذّنَ و َأقَام َ ،فَصَل ّى ث ُم ّ َ ل الل ّه ِ ﷺ لِما ر َأى به ِ ْم م ِ َ
ن الف َاقَة ِ ،فَدَخ َ َ وَجْه ُ ر َسو ِ
- 90 -
ن الل ّه َ ك َانَ عَلَيْك ُ ْم
خر ِ الآيَة ِِ " ،إ ّ
حدَة ٍ" إلى آ ِ
س و َا ِ
اس ات ّق ُوا ر َب ّكُم ُ ال ّذ ِي خ َلَقَك ُ ْم م ِنْ ن َ ْف ٍ
ل"( :ي َا أ ّيهَا الن ّ ُ
ف َقا َ
ل م ِن دِينَارِه ِ، ص ّدقَ رَج ُ ٌَت لِغَدٍ و َات ّق ُوا الل ّه َ" ،ت َ َ ْس م َا ق َ ّدم ْ
ر َق ِيبًا" ،و َالآيَة َ ال ّتي في الحَشْرِ" :ات ّق ُوا الل ّه َ و َل ْتَنْظُر ْ نَف ٌ
نل مِ َ ل :فَجَاء َ رَج ُ ٌِق تَم ْرَة ٍ" ،قا َ
ل" :ولو بش ّ ِ َاع تَمْرِه ِ") ،حت ّى قا َ َاع بُرِّه ِ ،م ِن ص ِ م ِن دِرْهَمِه ِ ،م ِن ثَو ْبِه ِ ،م ِن ص ِ
طع َا ٍم
كوْم َيْنِ م ِن َ اس ،حت ّى ر َأي ْتُ َ ل :ث ُم ّ تَتَاب َ َع الن ّ ُك ّفه ُ تَعْجِز ُ عَنْهَا ،بَلْ ق ْد عَجَز َْت ،قا َ َت َ
الأنْصَارِ بصُر ّة ٍ ك َاد ْ
ل الل ّه ِ ﷺ" :م َن سَنّ في الإسْ لَا ِم
ل ر َسو ُ ل الل ّه ِ ﷺ يَتَهَل ّ ُ
ل ك َأن ّه ُ مُذْه َب َة ٌ ،ف َقا َ اب ،حت ّى ر َأي ْتُ وَجْه َ ر َسو ِ
و َثيِ َ ٍ
ُص م ِن أجُورِه ِ ْم ش َيءٌ ،وَم َن سَنّ في ل بهَا بَعْدَه ُ ،م ِن غيرِ أ ْن يَنْق َ جر ُ م َن عَم ِ َ
جر ُه َا و َأ ْ
حسَن َة ً ،فلََه ُ أ ْ
سُن ّة ً َ
ُص م ِن أ ْوز َارِه ِ ْم
ل بهَا م ِن بَعْدِه ِ ،م ِن غيرِ أ ْن يَنْق َ
الإسْ لَا ِم سُن ّة ً سَي ِّئ َة ً ،كانَ عليه وِ ْزر ُه َا وَوِ ْزر ُ م َن عَم ِ َ
ش َيء ٌ").
ل
حث على الدعوة إلى الل ّه؛ لما في ذلك من أعما ٍ ّ ل أجُورِ م َنْ تَبِع َه ُ" :فيه
جر ِ مِث ْ ُ
ن الأ ْ
-قوله ﷺ" :ك َانَ لَه ُ م ِ َ
ح نائمًا أو منشغل ًا بشيء ٍ من أمور حياته،
ضاف إلى صحيفة المُصلح؛ فقد يكونُ المُصل ُ صالحة ٍ وأجو ٍر عظيمة ٍ ت ُ ُ
اس إلى الخير ،فاقتدوا بما أرشدهم إليه من دروب الخير.
وتجري كتابة ُ الحسنات في صحيفته مما أرشد َ به الن ّ َ
ن الل ّه َ لا
ل الل ّه ﷺ يقول" :إ ّ الحديث الثالث :عن عبد الل ّه بن عمرو -رضي الل ّه عنهما -قال :سمعتُ رسو َ
- 92 -
ل من الأعراب عن
ل إلى ما ينفع ُه ُ؛ فلما سألَه ُ رج ٌ
جّه السائ َ
ن الن ّبيّ ﷺ كان في إجابته يو ِ
-يُفيد الحديثُ أ ّ
موعد الساعة -وقد تكر ّر َ هذا السؤال من الأعراب لقلة ِ علمهم ،-لم يُجب ْه ُ الن ّبيّ ﷺ وإن ّما أرشدَه ُ إلى ما ينفع ُه ُ؛
وهو الاستعداد ُ لها.
ل أنس بن مالكٍ -رضي الل ّه عنه( :-فَما فَرِحْ نَا بشيءٍ ،ف َرَحَنَا بقَوْ ِ
ل النب ِيّ ﷺ :أن ْتَ مع م َن أحْ بَب ْتَ ) :فيه -قو ُ
ل الأعمال التي يرجوها عند الل ّه ،هو حب ّه لل ّه ن من أج ّ ِ ن المرء َ مهما كان عابد ًا عامل ًا ،إلا أ ّ
دلالة ٌ على أ ّ
ِب النبيّ ﷺ ،وأب َا بَكْرٍ ،وع ُم َر َ ،وأ ْرجُو أ ْن
ولرسوله ﷺ ولمَن اتب َع هديه ،ولذلك قال أنس مباشرة ً( :فأن َا أح ّ
حب القدوات من الأئمة
ِّ ن لمنزلة أكُونَ معه ُ ْم بح ُب ِ ّي إ ي ّاهُمْ ،وإ ْن ل َ ْم أعْم َلْ بمِث ْ ِ
ل أعْمَالِه ِ ْم) ،وهذا بيا ٌ
ن لمكانة أبي بكرٍ وعمر -رضي الل ّه عنهما -بينَ أصحاب رسول الل ّه ﷺ.
والصالحين ،وبيا ٌ
عازب -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ أن ّه قال" :الأن ْصار ُ لا
ٍ الحديثان الخامس والسادس :عن البراء بن
حبّه ُ ْم أحَب ّه ُ الل ّهُ ،وم َن أبْغ َضَه ُ ْم أبْغَضَه ُ الل ّه ُ" ،أخرج َه ُ البخاريّ
يحِبّه ُ ْم إلّا مُؤْمِنٌ ،ولا يُب ْغ ِضُه ُ ْم إلّا م ُنافِقٌ ،فم َن أ َ
ُ
ق
ُب الأنْصَارِ ،وآيَة ُ النِّف َا ِ
نح ّ
ل الن ّبيّ ﷺ" :آيَة ُ الإيمَا ِ
ومسلم ٌ ،وعن أنس بن مالكٍ -رضي الل ّه عنه -قالَ :قا َ
ْض الأنْصَارِ" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
بُغ ُ
ن
جر ِي َ
ن ال ْمُه َا ِ
سابِق ُونَ الْأوّلُونَ م ِ َ
-سم ّى الل ّه ُ الأنصار َ -رضي الل ّه عنهم -بهذا المُسمّى؛ فقال تعالى" :و َال ّ
حب الأنصار ،ومن علامة الن ِّفاق :بغض َهم؛ وسببُ
ّ ل الن ّبيّ ﷺ من علامات الإيمان:
و َالْأنصَارِ" ،وجع َ
ذلك هو نُصرتُهم لل ّه ورسوله ﷺ؛ فإن ّما لا تكونُ الإضافة ُ إلى مكونات اله ُو ية الأساسية للمرء ِ إلا بالأمر ِ
ل له ُو ية هذه الثُلة من صحابة الن ّب ِيّ ﷺ.
يف الأوّ ُ
عاش لأجلِه ِ ،لذا؛ كان م ُسمّى (الأنصار) التعر ُ
الذي َ
ن أولى م َن ينبغي أ ْن يُحبوا من القدوات :هم م َن يتصفون بن ُصرة ِ الل ّه ورسوله ﷺ العاملين
-وعلى ذلك؛ فإ ّ
حب هؤلاء القدوات المصلحين من
ّ ن
ح أ ْن يُقالَ :أ ّ
يص ُ
ل أمانة الد ِّين ومسؤولية الإصلاح ،ولذا؛ ِّ
على حم ِ
علامات الإيمان ،وكذلك؛ يُخشى على م َن يبغض ُهم أ ْن يكونَ فيه من علامات الن ِّفاق.
- 93 -
المحاضرة الخامسة عشر :صفاتُ المُصلحينِ
صفات المُصلحينِ؛ وما ينبغي عليه العاملون للإسلا ِم
ِ بابُ
م ُق ّدِمة ٌ:
صة ً محاضرة( :مركز ية صناعة الحم َل ََة والمصلحين)،
ل بسلسلة (مركز يات الإصلاح)؛ خا ّ
-هذا البابُ متص ٌ
وهذا البابُ في بيان صفاتهم ،وهذا أحد ُ أهداف متن (المنهاج من ميراث الن ّبُو ّة)؛ وهو بيانُ طر يق
الإصلاح والن ّفع للد ِّين من هدي الن ّب ِيّ ﷺ.
الباب:
ِ شواهد ُ
يح ِب ّونَه ُ
يحِبّه ُ ْم و َ ُ
ْف ي َأْ تِي الل ّه ُ بِقَو ْ ٍم ُ الآية الأولي :قال تعالى" :ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ
ن آم َن ُوا م َن يَرْتَدّ م ِنك ُ ْم ع َن دِينِه ِ فَسَو َ
ل الل ّه ِ يُؤ ْتيِه ِ ل الل ّه ِ وَل َا يَخَاف ُونَ لَوْم َة َ ل َا ِئ ٍم ذََٰل ِ َ
ك ف َضْ ُ ن فِي سَب ِي ِ
ن يُجَاهِد ُو َ
أذِل ّة ٍ عَلَى ال ْمُؤْم ِنِينَ أع ِّزة ٍ عَلَى الْك َافِرِي َ
س ٌع عَل ِيم ٌ":
م َن يَش َاء ُ و َالل ّه ُ و َا ِ
نت الآية ُ صفاتَ
ق نصرة َ دينه على وجود م َن يحمله ،وكذلك بي ّ ْ
ن من سُن ّة ِ الل ّه -تعالى :-أن ّه يُعل ّ ِ ُ
-تُفيد ُ الآية ُ أ ّ
َت هذه الصفاتُ واستقام َ عليا المصلحون =أتاهم عونُ الل ّه ومددُه ُ
جد ْ
هؤلاء الحم َل ََة المصحلين ،فإذا ما و ِ
ت عليهم التحدياتُ والإشكالاتُ .
َت لهم العقباتُ ،وسُهّ ِل َ ْ
وبصيرتُه ُ؛ فمُهّ ِد ْ
صة في زماننا هذا -ليس الن ّظر َ في حجم التحديات والإشكالات ،وإن ّما
ل الإصلاح -خا ّ
ن سبي َ
-ولذا؛ فإ ّ
ل الإصلاح هو الاهتمام ُ بصناعة المصلحين وتهيئتُه ُم لاتباع سُنَنِ الأنبياء وسلوك طر يق المصلحين.
سبي ُ
يح ِب ّه ُ الل ّه ُ
ِب الل ّه َ ور َسولَه ،و ُ
يح ّح الل ّه ُ علَى يَد َيْه ُِ ، ﷺ في غزوة خيبر" :ل َأ ْعط ِي َ ّن هذِه الر ّايَة َ غَدًا رَج ُل ًا يَفْت َ ُ
ن
الظاهري لقدراتهم ومهاراتهم فحسب ،بل إ ّ
ِّ ن صناعة َ المصلحين لا تكونُ بالإعداد
ور َسولُه ُ" ،ولذلك؛ فإ ّ
صناعتَه ُم تكونُ ابتداء ً بالإعداد الباطني القلبي؛ فإ ْن لم تكنْ مركز ية ُ الت ّزكية حاضرة ً في بناء المصلحين -من
ن هذا البناء َ يكونُ ناقصً ا وذا نتائج َ مشوهة ٍ .وعلى ذلك؛ ينبغي أ ْن يُعتنى بسبيل
بداية الطر يق إلى آخره ،-فإ ّ
يف تح ّدثَ عنه العلماء ُ المهتمون بقضية السلوك.
باب شر ٌ
الوصول إلى محبة الل ّه؛ وهذا ٌ
- 94 -
جاءت صفاتُ المصلحين في سياق الاستبدال الإلهي لمَن ارتدوا عن دينهم ،بم َن ينصرون دين
ْ فاـئدة:
صفات مركز ية ٌ في المصلحين؛ إ ْذ عليها شأنُ ومدار ُ نُصرة الد ِّين.
ٌ ن هذه الصفات
الل ّه ،ولذلك؛ فإ ّ
الخـلاصة :من أهم الدوافع المنشئة لصفات المصلحين والمُعينة على الثبات عليها -بإذن الل ّه :-المحبة ُ لل ّه -
تعالى-؛ تلك المحبة المُحركة للم ُصلح والدافعة له لن ُصرة دينه والعمل والتضحية والصّ بر في سبيله ،وليست المحبة َ
ف بحالات الهُيام والخواطر الروحية ،والتي تدعو إلى الع ُزلة وترك العمل للد ِّين.
التي تُعر ّ ُ
ش ّداء ُ عَلَى ال ْـكُ ّفارِ رُحَمَاء ُ بَيْنَه ُ ْم ت َر َاه ُ ْم رُكّ ع ًا سُ ج ّدًا ل الل ّه ِ و َال ّذ ِي َ
ن مَع َه ُ أ ِ الآية الثانية :قال تعالى " :م ّحَم ّدٌ رّسُو ُ
ك م َثَلُه ُ ْم فِي الت ّوْر َاة ِ وَم َثَلُه ُ ْم فِي سجُودِ ذََٰل ِ َ ن الل ّه ِ وَرِضْ وَان ًا سِيم َاه ُ ْم فِي وُجُوهِه ِم مّ ِنْ أثَر ِ ال ّ ن ف َضْ ل ًا مّ ِ َ
يَب ْت َغ ُو َ
ن اسْ ت َأْ جَرْتَ الْقَوِيّ الأم ِينُ": الآية الثالثة :قال تعالىِ " :إ ّ
ن خَيْر َ م َ ِ
ل فيها: ِّ -
توضح ُ الآية ُ صفة ً أخرى من صفات المصلحين؛ وهي صفة ُ القو ّة؛ ويدخ ُ
- 95 -
ن الل ّه َ اصْ طَف َاه ُ عَلَيْك ُ ْم وَز َادَه ُ ب َ ْسطَة ً فِي ال ْعِلْم ِ و َالْجِس ْ ِم".
-١القو ّة الماديـــة؛ كقو ّة البدن ،كما قال الل ّه تعالىِ " :إ ّ
ن َب إلى الل ّه ِ م ِ َ
ن المُؤْم ِ ِ ن القَوِيّ خَيْر ٌ و َأح ّ
-٢القو ّة المعنو ية؛ كقو ّة القلب ،كما قال الن ّبيّ ﷺ" :ال ْمُؤْم ِ ُ
س
ِيف"؛ قال الإمام ُ النوويّ -رحمه الل ّه -في شرحه على الحديث( :و َال ْم ُرَاد ُ ب ِالْقُو ّة ِ ه ُنَا عَز ِيم َة ُ الن ّ ْف ِ
الضّ ع ِ
ف أكْ ثَر َ ِإقْد َام ًا عَلَى الْعَدُوِّ فِي الْجِه َادِ ،و َأسْرَع َ خُر ُوج ًا
خرَة ِ ،فَيَكُونُ صَاحِبُ هَذ َا ال ْو َصْ ِ
و َالْقَرِ يح َة ُ فِي أم ُورِ الْآ ِ
ل
ن ال ْمُن ْكَر ِ ،و َالصّ بْرِ عَلَى الْأذ َى فِي ك ُ ّ ِ ُوف و َالنّهْ ِي ع َ ِ
ش ّد عَز ِيم َة ً فِي الْأ ْمر ِ ب ِال ْمَعْر ِ
ِإلَيْه ِ ،وَذ َه َاب ًا فِي طَلَبِه ِ ،و َأ َ
َات، َات الل ّه ِ -تَع َالَى ،-و َأ ْرغ َبَ فِي الصّ لَاة ِ و َالصّ و ْ ِم و َالْأ ْذك َارِ وَسَائِر ِ ال ْع ِبَاد ِ َاق فِي ذ ِ ل ال ْمَش ّ ِ
ذَلِكَ ،و َاحْ تِم َا ِ
ك).
نح ْو َ ذَل ِ َ
محَافَظَة ً عَلَيْهَا ،و َ َ
و َأنْش ََط طَلَبًا لَهَا ،و َ ُ
ض ِإن ِ ّي الآية الرابعة :قال -تعالى -على لسان نبيه يُوسُف -عليه السلام" :-قَا َ
ل اجْ عَلْنِي عَلَى خَز َائ ِ ِن الْأ ْر ِ
ِيظ عَل ِيم ٌ":
حَف ٌ
حفظ لما سيتحملُه ُ
ل الأمانة َ وال َ
كرت الآية ُ صفتين من صفات المصلحين؛ وهما :صفة ُ الحفظ؛ وتشتم ُ
-ذ ْ
ل فيه المُصلحُ.
ن المعرفة َ المتعل ِّقة َ بالسياق الذي سيعم ُ
ح من مسؤوليات ،وصفة ُ العلم؛ وتتضم ُ
المُصل ُ
ل الل ّه ِ وَم َا الآية السادسة :قال تعالى" :وَك َأي ِّن مّ ِن ن ّبِ ٍ ّي قَات َ َ
ل مَع َه ُ رِ ب ّيِ ّونَ كَث ِير ٌ ف َمَا و َه َن ُوا لم َِا أصَابَه ُ ْم فِي سَب ِي ِ
ن":
ِب الصّ ابِر ِي َ
يح ّ
ضَعُف ُوا وَم َا اسْ تَك َانُوا و َالل ّه ُ ُ
ن هذا
وردت فيه ،وإ ّ
ْ فاـئدة ٌ منهجية ٌ :من الضروري قب َ
ل الولوج في دراسة الآية :استحضار ُ السياق التي
- 96 -
ل الدم ُ على وجهه يوم َ أحُدٍ؛ استحضر َ ﷺ ما حدثَ لنب ٍيّ قبله؛ كما في حديث -ولم ّا أصيبَ الن ّبيّ ﷺ وسا َ
ن الأن ْب ِيَاء ِ ضَر َبَه ُ قَوْم ُه ُ
يحْكِي نَب ًِّي ّا م ِ َ
عبد الل ّه بن مسعود -رضي الل ّه عنه -قال( :ك َأن ِ ّي أنْظ ُر ُ إلى الن ّب ِيّ ﷺ َ
ح الد ّم َ عن وجْ هِه ِ و يقولُ :الل ّه ُ ّم اغْفِر ْ لِقَوْمِي؛ فإ ّنه ُ ْم لا يَعْلَم ُون) ،فكان هذا الاستحضار ُ
فأ ْدمَوْه ُ ،وهو يَمْس َ ُ
ل م َا نُثَب ِّتُ ك م ِنْ أنبَاء ِ الر ّ ُ
س ِ معينًا للن ّب ِيّ ﷺ على الصّ بر والثبات؛ كما قال الل ّه تعالى له ﷺ" :وَك ُلًّ ّا ن ّق ّ
ُص عَلَي ْ َ
بِه ِ ف ُؤَادَك َ وَج َاءَك َ فِي هََٰذِه ِ الْحَقّ وَمَوْعِظَة ٌ وَذِك ْر َى لِل ْمُؤْم ِنِينَ".
-وعلى ذلك؛ فمن المهم :إبقاء ُ سُن ّة ِ الاقتداء ِ بم َن قبلنا من الأنبياء ِ والمصلحين ،واستحضار ُ أحوالهم حا َ
ل
الابتلاء ،والن ّظر ُ في صفاتهم من الثبات والتماسك والصّ بر ،والعمل على تطبيقها وغرسها في أنفسنا.
س كُونُوا عِبَاد ًا الآية الثامنة :قال تعالى" :م َا ك َانَ لِب َشَرٍ أن يُؤ ْتيِ َه ُ الل ّه ُ الْكِتَابَ و َالْح ُ ْكم َ و َالن ّبُو ّة َ ث ُم ّ يَق ُو َ
ل لِلن ّا ِ
ن الل ّه ِ و َلََٰكِن كُونُوا ر َب ّانيِِّينَ بِمَا كُنتُم ْ تُع َل ِّم ُونَ الْكِتَابَ و َبِمَا كُنتُم ْ ت َ ْدر ُ ُ
سونَ": ل ِّي م ِن د ُو ِ
ِس الآية ُ للمنهج الذي سار َ عليه الأنبياء ُ في صناعة المُصلحين؛ إ ْذ في الآية خطابُ الأنبياء إلى أتباعهم ؤس ُ
-ت ُ ّ
المؤمنين لي َكونوا ر ب ّانيين ،والمعنى في لفظة (الر ّب ّاني ّة) معن ًى متعدٍ متجاوز ٌ للشخص في نفسه ،إ ْذ الر ّب ّانُ هو
الذي يقود ُ غيره.
ل الإمام ُ الطبريّ -رحمه الل ّه -في تفسيره( :فـ"الر ب ّانيِّون" إذ ًا ،هم عماد ُ الن ّاس في الفقه والعلم وأمور
-كما قا َ
ل لهم :كونوا ،أ ّيها الن ّاس ،سادة الن ّاس ،وقادتهم في أمر دينهم
الد ِّين والدنيا ،فمعنى الآية :ولـكن يقو ُ
وندب ،وسائر ما حواه ُ من
ٍ ض
ل وحرا ٍم ،وفر ٍ
ودنياهم ،ر ب ّانيِّين بتعليمكم إ ي ّاهم كتاب الل ّه وما فيه من حلا ٍ
معاني أمور دينهم ،وبتلاوتكم إ ي ّاه ُ ودراسَت ِكموه).
- 97 -
ن العلم َ والتعليم َ والدراسة َ تُوجبُ كوْنَ
ت الآية ُ على أ ّ
خ ص ّديق حسن خان في تفسير الآية( :فَد َل ّ ْ
ل الشي ُ
-قا َ
الإنسانُ ر ب ّان ًّي ّا؛ فم َنْ اشتغ َ
ل بذلك لا لهذا المقصودِ =فَق َ ْد ضاعَ علم ُه ُ وخ َاَبَ سعي ُه ُ).
نج ْرانَ إلى الحديث الأوّل :عن حذيفة َ بن اليمان -رضي الل ّه عنه -قال( :جاء َ العاق ِبُ وال ّ
سيِّد ُ صاحِبا َ
ل أحَد ُهُما ل ِصاحِبِه ِ :لا ت َ ْفع َلْ ؛ ف َوالل ّه ِ لئَ ِ ْن كانَ نَب ًِّي ّا فَلاع َن ّا ،لا ل الل ّه ِ ﷺ ،يُر ِيدا ِ
ن أ ْن يُلاعِناه ُ ،قالَ :فقا َ ر َسو ِ
َث معنا إلّا
َث معنا رَج ُل ًا أم ِينًا ،ولا تَبْع ْ
ك ما سَأل ْتَنا ،وابْع ْ
ن ولا عَق ِبُنا م ِن بَعْدِنا ،قالا :إن ّا نُعْط ِي َ
نح ْ ُ
ح َ
نُفْل ِ ُ
ل الل ّه ِ ﷺ ،فقالَ" :ق ُ ْم يا أبا
أصحابُ ر َسو ِ
ف له ْ
أم ِينًا ،فقالَ" :ل َأبْع َث َ ّن معك ُ ْم رَج ُل ًا أم ِينًا حَقّ أم ِينٍ" ،فاسْ تَشْر َ َ
ل الل ّه ِ ﷺ" :هذا أم ِينُ هذِه الأمّة ِ") ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ل ر َسو ُ ن الجَر ّ ِ
اح" ،فَلَم ّا قام َ ،قا َ ع ُبَيْدَة َ ب َ
فاـئدة :هذا المعنى من الانتباه لصفات وقُدرات الطلاب لن يتأتى إلا في بيئة ٍ تربو ية ٍ تقوم ُ على المشاركة
والتفاعل والصُحبة والق ُرب بينَ الشيخ المُربي وبينَ طلابه المتربين.
ن
ن من أبرزِ صفات المصلحين :صفة َ المحبة لل ّه ورسوله ﷺ؛ كما قال تعالى" :ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ
-يُؤكد ُ الحديثُ على أ ّ
يح ِب ّونَه ُ".
يحِبّه ُ ْم و َ ُ
ْف ي َأْ تِي الل ّه ُ بِقَو ْ ٍم ُ
آم َن ُوا م َن يَرْتَدّ م ِنك ُ ْم ع َن دِينِه ِ فَسَو َ
- 98 -
ل إلا
ل الإنسانُ بصفة ٍ -لا يُفضّ ُ
-كان الذين لم يُعطوا الراية مم َن يحبون الل ّه ورسوله ﷺ ،ولـكن حينما يُفضّ ُ
ن عليًا
أي أ ّ
ك غيرِه ِ معه في نفس الصفة ،فالمقصود ُ -والل ّه أعلم -هو الدرجة ُ في هذه الصفة؛ ْ
بها -مع اشترا ِ
بن أبي طالب -رضي الل ّه عنه -كان مح ّقِق ًا للدرجة العالية من محبة الل ّه ورسوله ﷺ.
أي:
ك حُم ْر ُ الن ّع َ ِم"؛ ْ
ك م ِن أ ْن يَكونَ ل َحدًا ،خَيْر ٌ ل َك رَج ُل ًا وا ِ
-ثم قال الن ّبيّ ﷺ" :ف َوَالل ّه ِ ل َأ ْن يَهْدِيَ الل ّه ُ ب َ
ل من الغنائم ،وهذا المعنى ُحص َ
ن أ ْن ت ِّل ما يُمك ُ ليكنْ في قلبك محبة ُ أ ْن يستجيبوا لدعوتك فهو خير ٌ لك من ك ّ ِ
ل الفتحُ ،وصُل ِحوا على ثمار النخل
ص َ
ح َ
يُبرز ُ مقصد َ تحقيق العبودية لل ّه ،ومع ذلك لم يدخلوا في الإسلام و َ
وبقيت
ْ فكانت تذهبُ إلى المدينة ،وبعد ذلك :أجلاهم عمر بن الخطاب -رضي الل ّه عنه -من خيبر،
ْ
ديار ُه ُم إلى اليوم.
ل
صا بخيبر فقط؛ كما جاء َ في حديث بريد -رضي الل ّه عنه -قال( :كانَ ر َسو ُ -لم يكنْ شأنُ وصية القتال خا ًّ ّ
صتِه ِ بتَقْو َى الل ّهِ ،وَم َن معه ُ م ِ َ
ن المُسْل ِمِينَ خَي ْر ًا ،ث ُم ّ ش ،أ ْو سَر ِي ّة ٍ ،أ ْوصَاه ُ في خ َا ّ الل ّه ِ ﷺ إذ َا أمّرَ أم ِير ًا علَى جَي ْ ٍ
كف َر َ بالل ّهِ ،اغ ُْزوا وَل َا تَغ ُل ّوا ،وَل َا تَغْدِر ُوا ،وَل َا تُمَث ِّلُوا ،وَل َا
ل الل ّهِ ،قَاتِلُوا م َن َ قالَ" :اغ ُْزوا باس ْ ِم الل ّه ِ في سَبي ِ
ل -فأي ّتُه ُنّ ما أج َابُوك َ
ل -أ ْو خِلَا ٍ
صا ٍ
خ َ
اث ِ
ن المُشْرِكِينَ ،فَا ْدعُه ُ ْم إلى ثَل َ ِ
تَقْتُلُوا و َلِيدًا .وإذ َا لَق ِيتَ عَدُوّك َ م ِ َ
ُف عنْه ْم").
ُف عنْهمْ ،ث ُم ّ ا ْدعُه ُ ْم إلى الإسْ لَا ِم ،فإ ْن أج َابُوك َ ،فَاق ْب َلْ منهمْ ،وَك ّ
فَاق ْب َلْ منهمْ ،وَك ّ
ل طائفة ٌ من أمّتي الحديث الثالث :عن معاو ية َ -رضي الل ّه عنها -قال :سمعتُ رسو َ
ل الل ّه ﷺ يقول" :لا ت َزا ُ
قائمة ً بأمر ِ الل ّهِ ،لا يَضُرّهم م َن خذلهم ،ولا م َن خالفهم ،حت ّى يأتى َ أمرُ الل ّهِ ،وهم ظاه ِر ُونَ على الن ّا ِ
س"،
أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ح بالخ ِذلان
ل المُصل ُ
ن من صفات المصلحين :الثباتَ والاستمرار َ على أمر الإصلاح مهما قُوب ِ َ
-يُبيِّنُ الحديثُ أ ّ
ك بما جاء َ في كتاب الل ّه وسُن ّة رسوله ﷺ.
س ُ
ل على الل ّه ،والتم ّ
أو المُخالفة ،وكذلك الاعتماد ُ والتوكّ ُ
- 99 -
الحديث الرابع :عن جابر بن عبد الل ّه -رضي الل ّه عنهما -قال :سمعتُ الن ّبيّ ﷺ يقول" :لا ت َزا ُ
ل طائِف َة ٌ م ِن
ل
ص ِّ
ل َ
ل أم ِير ُهُمْ :تَعا َ
ن م َْري َم َ ﷺ ،في َقو ُ
ل ع ِيس َى اب ُ
ن إلى يَو ِم الق ِيامَة ِ ،قالَ :فَيَنْزِ ُ
ق ظاهِرِي َ
أمّتي يُقاتِلُونَ علَى الح َ ّ ِ
ض أم َراء ُ تَكْرِم َة َ الل ّه ِ هذِه الأمّة َ" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ضك ُ ْم عل َى بَعْ ٍ
ن بَعْ َ
لَنا ،في َقولُ :لا ،إ ّ
ن-
طالت فتراتُ ضعفها ونكباتها؛ كما قال اب ُ
ْ ن هذه الأمّة َ لن يُقضى عليها مهما
-هذا الحديثُ من المبشرات أ ّ
ثبات طائفة ٍ من أمّته على
ِ ل ه ّم م َنْ غَاَظَه ُ الحقّ )؛ فق ْد بش ّر َ الن ّبيّ ﷺ باستمرار
حز ٍم رحمه الل ّه( :-لَق َ ْد طَا َ َ
الد ِّين ،قائمين بأمر الل ّه ،مدافعين للباطل إلى آخر الزمان ،يصطفيهم الل ّه ُ لسلوك طر يق الأنبياء وأتباعهم في
العمل لهذا الد ِّين والإصلاح.
ل يَوْم َ
ل الل ّه ﷺ قال" :يجاء ُ بالرج ُ ِ الحديث الخامس :عن أسامة بن زيد -رضي الل ّه عنهما -أ ّ
ن رسو َ
ل النارِ،
ِيف بِه ِ أه ُ
ق أقتابُه ُ ،فيدور ُ بها في النارِ ،كما يدور ُ الحمار ُ برحاه ُ ،فيُط ُ
القيامَة ِ فيُلْقَى في النارِ ،فتَنْذ َل ِ ُ
ن المنكَر ِ؟ ،فيقولُ :بلَى ،ق َ ْد كنتُ آمرُكُم
بالمعروف وتنهانا ع ِ
ِ فيقولونَ :يا فلانُ! ما أصابَكَ؟ ،ألم تكنْ تأمرُنا
بالمعروف ول َا آتيِه ِ ،وأنهاكُم ع َ ِ
ن المنكَر ِ وآتيِه ِ" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ. ِ
-يبرز ُ الحديثُ صفة ً من أهم صفات المصلحين :وهي صفة ُ العمل بالعلم ،وألا تكونَ الدعوة ُ إلى الل ّه مجر ّد َ
ح على نيته في سائر دعوته
حافظ المُصل ُ
ن الابتلاء َ الحقيقيّ في أ ْن ي َ
وظيفة ٍ أو عادّة ٍ يعتاد ُها المُصلحُ ،ولذا؛ فإ ّ
وطر يق إصلاحه.
وصف تفصيليّ من ٌ عقاب فاعله ِ ل ،والذي جاء َ في ح من القول بلا عم ٍ -كذلك؛ ينبغي أ ْن يحذر َ المُصل ُ
ق أقتابُه ُ ،فيدور ُ بها في
ل يَوْم َ القيامَة ِ فيُلْقَى في النارِ ،فتَنْذ َل ِ ُ
عذاب الن ّار؛ كما في قول الن ّب ِيّ ﷺ" :يجاء ُ بالرج ُ ِ
النارِ ،كما يدور ُ الحمار ُ برحاه ُ".
ن أ ْن يَزِع َ به الإنسانُ نفسَه عن محارم الل ّه :استحضار َ الدار الآخرة؛
ن من أهم ما يُمك ُ
يكشف الحديثُ أ ّ
ُ -
س من الموحدين الن ّار بسبب
ل أنا ٍ
ن م ِنْ عقيدة أهل الس ُن ّة والجماعة :دخو َ
وما فيها من الحساب والعقاب ،وأ ّ
ذنوب وكبائر ،ثم يخرجون منها بالشفاعة؛ كما في حديث أبي سعيدٍ الخدري -رضي الل ّه عنه-
ٍ ما ارتكبوا من
ل
ل الل ّهُ :م َن كانَ في قَل ْبِه ِ مِث ْقا ُ ل الن ّارِ الن ّار َ ،يقو ُ
ل الجن َ ّة ِ الجنَ ّة َ ،وأه ْ ُ
ل أه ْ ُ
ل الل ّه ﷺ قال"( :إذا دَخ َ َ ن رسو َ أ ّ
حش ُوا وعاد ُوا حُمَم ًا ،فيُلْقَوْنَ في نَهَرِ الحَياة ِ ،فَيَن ْب ُت ُونَ كما ن قَدِ امْت ُ ِ خرِجُوه ُ ،فَي َخْ رُجُو َ
ن فأ ْ
ل م ِن إيما ٍ
حَب ّة ٍ م ِن خ َ ْرد َ ٍ
ل الن ّبيّ ﷺ" :أل َ ْم ت َرَوْا أ ّنها تَن ْب ُتُ َ
صفْراء َ م ُل ْتَوِ يَة ً"). ل ،"-وقا َ
سي ْ ِ
ل -أ ْو قالَ :حَم ِي ّة ِ ال ّ
سي ْ ِ
ل ال ّ
تَن ْب ُتُ الح ِب ّة ُ في حَم ِي ِ
الباب:
ِ شواهد ُ
ل ال ْم ُجْ رِم ِينَ":
َات و َلِتَسْتَبِينَ سَب ِي ُ
ل الْآي ِ
َص ُ الآية الأولى :قال تعالى" :وَكَذََٰل ِ َ
ك نُف ِّ
حتَه ُ ْم الآية الثانية :قال تعالى" :و َِإذ َا كُنتَ ف ِيه ِ ْم ف َأقَم ْتَ لَهُم ُ الصّ لَاة َ فَل ْتَق ُ ْم طَائِف َة ٌ مِّنْه ُم مّع َ َ
ك و َلْي َأْ خُذ ُوا أسْ ل ِ َ
حتَه ُ ْم
ح ْذر َه ُ ْم و َأسْ ل ِ َ خر َى ل َ ْم يُصَل ّوا فَل ْيُصَل ّوا مَع َ َ
ك و َلْي َأْ خُذ ُوا ِ ف َِإذ َا سَ جَد ُوا فَل ْيَكُونُوا م ِن وَر َائِك ُ ْم و َل ْت َأْ ِ
ت طَائِف َة ٌ أ ْ
- 010 -
ح عَلَيْك ُ ْم ِإن ك َانَ
حدَة ً وَل َا جُنَا َ
كف َر ُوا لَو ْ تَغْف ُلُونَ ع َنْ أسْ لِحَتِك ُ ْم و َأمْتِع َتِك ُ ْم فَيَمِيلُونَ عَلَيْك ُم مّيْلَة ً و َا ِ
ن َ
وَدّ ال ّذ ِي َ
ن عَذ َاب ًا مّهِينًا": ح ْذرَك ُ ْم ِإ ّ
ن الل ّه َ أع َ ّد لِلْك َافِرِي َ بِك ُ ْم أذ ًى مّ ِن مّطَرٍ أ ْو كُنتُم مّ ْرض َى أن تَضَع ُوا أسْ لِحَتَك ُ ْم وَخُذ ُوا ِ
ل أدائهم
أتت الآية ُ بتكرار الأمر الإلهي للمؤمنين بالحذر واليقظة في وقت قتالهم للـكفار ،حت ّى وهم في شُغ ُ ِ
ْ -
للصّ لاة.
كفْرًا و َت َ ْفرِيقًا بَيْنَ ال ْمُؤْم ِنِينَ و َِإ ْرصَاد ًا لِّم َنْ ح َار َبَ
جدًا ضِر َار ًا و َ ُ
س ِ الآية الثالثة :قال تعالى" :و َال ّذ ِي َ
ن اتّ خَذ ُوا م َ ْ
ل و َلَيَحْلِف ُنّ ِإ ْن أرَدْن َا ِإلّا الْحُسْن َى و َالل ّه ُ يَشْهَد ُ ِإ ّنه ُ ْم لَك َاذِبُونَ":
الل ّه َ وَرَسُولَه ُ م ِن قَب ْ ُ
ل الآية ُ على توعية ِ الل ّه ِ لعباده المؤمنين بألا يغتروا بالأساليب التي ظاهرها الصّ لاح ،وأ ْن يتبي ّنوا مقاصد
-تشتم ُ
ن المنافقين اتخذوا وسيلة ً من
كشف لحال المنافقين الداخلي ،ذلك أ ّ
ٌ الأعمال؛ إ ْذ في هذا التبي ّن للمقاصد
أعظم وسائل الإصلاح في ظاهرها؛ وهي (بناء المسجد) ،لـكن هذا الاتخاذ ُ كان له في دواخلهم مقاصد
كانت مقاصد ُه ُ
ْ ل والأدواتَ الصالحة َ لا تشف ُع لصاحبها إذا أٌخرى فيها إضرار ٌ بالمؤمنين ،ولذا؛ (فإ ّ
ن الوسائ َ
فاسدة ً).
أبرزت الآية ُ تربية َ الل ّه ِ لعباده المؤمنين على الوعي واليقظة والحذر ،وهذا ما يفقدُه ُ كثير ٌ من المصلحين في
ْ -
الأدوات
ِ زماننا هذا؛ إ ْذ يغفلون عن إبصارِ حقيقة ِ المقاصدِ التي ي ُريد ُ أعداء ُ الد ِّين الوصول إليها ،وحقيقة ِ
ل التي يستعملونها في سبيل تحقيق كيدهم بالمسلمين.
والوسائ ِ
-ثم ي ُبي ِّنُ الل ّه ُ -تعالى -الوسيلة َ المساعدة َ التي استعملها المنافقون ز يادة ً على (بناء المسجد)؛ فقال تعالى:
"و َلَيَحْلِف ُنّ ِإ ْن أرَدْن َا ِإلّا الْحُسْن َى" ،وهذه عادّة ُ المنافقين؛ كما قال تعالى في صفاتهم" :اتّ خَذ ُوا أيْمَانَه ُ ْم جُن ّة ً
ن للوصول إلى مآربَ فاسدة ٍ؛ كما قالل الل ّه ِ ِإ ّنه ُ ْم سَاء َ م َا ك َانُوا يَعْم َلُونَ"؛ فهم يتخذون الأيما َ
ص ّدوا ع َن سَب ِي ِ
فَ َ
تعالى" :و َالل ّه ُ يَشْهَد ُ ِإ ّنه ُ ْم لَك َاذِبُونَ"؛ وفي هذا تنبيه ٌ للحذر من الاغترار بأيمانهم وقولهم.
حدٍ
ن م ِن جُ حْرٍ وا ِ الحديث الأوّل :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ أن ّه ق َا َ َ
ل" :لا يلُْدَغ ُ المُؤْم ِ ُ
م َّرتَيْنِ" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ل من الغفلة
ن على حا ٍ
ن المؤم ُ
ربط الن ّبيّ ﷺ بينَ اليقظة والتنب ّه والحذر وبينَ الإيمانِ؛ إ ْذ لا ينبغي أ ْن يكو َ
َ -
بحيث ي ُلدغ ُ من جُ حرٍ واحدٍ مرتين.
ن الأمرَ)؛
ج على صورة ِ خبرٍ؛ إلّا أن ّه يتضم ُن الحديثَ وإ ْن خ َر َ َ طابيّ في شرحه للحديث( :أ ّ ل الإمام ُ الخ ّ-يقو ُ
أمرا من الن ّب ِيّ ﷺ للمؤمن بألّا ي ُلدغَ من جُ حرٍ واحدٍ مرتين.
ن في الحديث ً أي أ ّ
ْ
ل الل ّه ِ ﷺ قَل ّما يُر ِيد ُ غ َْزوَة ً يَغْز ُوه َا الحديث الثاني :عن كعب بن مالكٍ -رضي الل ّه عنه -قال( :كا َ
ن ر َسو ُ
سف َرًا بَع ِيدًا
ل َ ل الل ّه ِ ﷺ في حَرٍّ َ
شدِيدٍ ،واسْ تَقْب َ َ إلّا ورّى بغَيْرِه َا ،حت ّى ك َان َْت غ َْزوَة ُ تَب ُوك َ ،فَغ َزَاه َا ر َسو ُ
ل غ َْزو َ عَد ُ ٍوّ كَث ِيرٍ ،فَجل َ ّى لِلْمُسْل ِمِينَ أمْرَهُمْ ،لِيَت َأه ّب ُوا أه ْب َة َ عَدُوِّهِمْ ،وأخْبَر َه ُ ْم بو َجْ هِه ِ الذي
ومَف َاز ًا ،واسْ تَقْب َ َ
يُر ِيد ُ) ،أخرج َه ُ البخاريّ .
-كان من أسلوب الن ّب ِيّ ﷺ عند َ الغزو أ ْن يُورِّيَ بوجهة ٍ غير َ المكان الذي يريد ُ أ ْن يتجه َ إليه ،حت ّى لا يتسرّبَ
خبر ُ الغزو إلى أعدائه في َفقد َ عنصر َ المفاجأة والمباغتة ،وهذا من الوعي واليقظة والحذر واتخاذ الأسباب،
صة ٍ ،ولذا؛ أخبر َ الن ّبيّ ﷺ الصحابة َ عن وجهته
كانت تتطل ّب ُه ُ من ظروف استعدادٍ خا ّ
ْ باستثناء غزوة تبوك لما
فيها.
ل م ِن بَنِي
ل رَج ُ ٌ الحديث الثالث :عن الم ِ ْ
سو َر ابن مْ خر َمة ٍ ومروان في قصة الحديبية الطو يلة؛ وفيها( :ف َقا َ
ل الل ّه ِ ﷺ" :هذا فُلَانٌ ،وهو
ل ر َسو ُ
صحَابِه ِ ،قا َ
َف علَى الن ّب ِيّ ﷺ وأ ْ
كِنَانَة َ :دَع ُونِي آتيِه ِ ،ف َقالوا :ائ ْتِه ِ ،فَلَم ّا أشْر َ
-وأيضًا هذا من ج ُملة الأساليب التي ينبغي على المُصلح أ ْن يمتلـكَها في دعوته للن ّاس؛ وهي مراعاة
الخصائص والاعتبارات الع ُرفية المختلفة فيهم ،وأ ْن يتخذ َ الأساليب المناسبة في تأليف ومدارات الن ّاس
بحسب خصائصهم وأعرافهم.
الباب:
ِ شواهد ُ
ق ِإ ّنه ُ ْم فِت ْي َة ٌ آم َن ُوا ب ِر َ ّبِه ِ ْم وَزِدْن َاه ُ ْم هُدًى":
ك نَب َأه ُم ب ِالْح َ ّ ِ
ُص عَلَي ْ َ الآية الأولى :قال تعالى" :نّ ح ْ ُ
ن نَق ّ
ل للاقتداء والتأسي ،كانوا فتية ً شباب ًا ثبتوا على دينهم أمام َ موجات
-في الآية ذكر ٌ لأئمة في الد ِّين هم مح ٌ
الشرك والفتن ،فأحد َثَ الل ّه ُ -تعالى -لهم كرامة ً عظيمة ً ،وخل ّد َ ذكراهم في كتابه العزيز.
حقِ،
ل لل ّ
ن كثيرٍ -رحمه الل ّه -في تفسير الآية( :ذَك َر َ تعالى أ ّنهم فتية ٌ -وهم الشبابُ -وهم أقب ُ
ل الإمام ُ اب ُ
-يقو ُ
وأهدى للسبيل من الشيوخ ،الذين ق ْد عتوا وعسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر ُ المستجيبين لل ّه ولرسوله
ﷺ شباب ًا .وأمّا المشايخ ُ من قريش ،فعامّتهم بقوا على دينهم ،ولم ي ُ ْسلِم ْ منهم إلا القليلُ .وهكذا أخبر َ -تعالى-
ن مادّة النهضة والإصلاح في الد ِّين
عن أصحاب الـكهف أ ّنهم كانوا فتية ً شباب ًا)؛ ومما يستفاد ُ به في واقعنا :أ ّ
ينبغي أ ْن تقوم َ على الشباب.
ن حزاورة ٌ الحديث الأوّل :عن جندب بن عبد الل ّه -رضي الل ّه عنه -قالَ( :كن ّا م َع الن ّب ِيّ ﷺ ونح ُ
ن فتيا ٌ
ن ماجة ٍ.
ل أن نتعل ّم َ القرآنَ ثم ّ تعل ّمنا القرآنَ فازددنا ب ِه إيمان ًا) ،أخرج َه ُ اب ُ
فتعل ّمنا الإيمانَ قب َ
الحديث الثاني :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ قالَ " :
سبْع َة ٌ يُظ ِل ّهُم ُ الل ّه ُ يَوم َ الق ِيَامَة ِ في ظِلِّه ِ،
َت عَي ْنَاه ُ،ل ذَك َر َ الل ّه َ في خ َلَاء ٍ فَف َاض ْ َاب نَش َأ في عِبَادَة ِ الل ّهِ ،وَرَج ُ ٌ ل ِإلّا ظِل ّهُِ :إم َام ٌ عَادِلٌ ،وَش ّ يَوم َ لا ظِ ّ
ل إلى ن َ ْفسِه َا،ب وَجَمَا ٍ ل دَعَت ْه ُ امْرَأة ٌ ذ َاتُ مَن ْصِ ٍ ن تَحَاب ّا في الل ّهِ ،وَرَج ُ ٌ
جدِ ،وَرَج ُلَا ِ
س ِ
ق في الم َ ْ ل قَل ْب ُه ُ مُع َل ّ ٌ
وَرَج ُ ٌ
َت يَمِين ُه ُ" ،أخرج َه ُ البخاريّ
صد َقَة ٍ فأخْ ف َاه َا حت ّى لا تَعْلَم َ شِمَالُه ُ ما صَنَع ْ
ص ّدقَ ب ِ َ
ل تَ َ
َاف الل ّهَ ،وَرَج ُ ٌ
قالَ :إن ِ ّي أخ ُ
ومسلم ٌ.
ل يوم القيامة وأحداثَها وش ّدة َ
ل عظيم ٌ ،لا ي ُ ْدرِك ُ قيمت ُه ُ إلا الذين يستحضرون أهوا َ
-في هذا الحديث فض ٌ
ل آدم بن أبي إياس عند احتضاره( :بحبي لكَ ،إلّا رفقْتَ
الحاجة في ذلك اليوم إلى الأمان؛ ومن ذلك :قو ُ
ك لهذا اليوم ،كنتُ أرجوك َ ،لا إله إلا الل ّه) ،ثم مات -رحمه الل ّه.-
بي في هذا المصرع ،كنتُ أؤمّ ِل ُ َ
ل إلا
ن في ظل الل ّه -تعالى -يوم َ لا ظ ّ
ل الإنسانَ لأ ْن يكو َ ن واحدة ً من الخصال التي تُؤه ُ
-يبيِّنُ الن ّبيّ ﷺ أ ّ
َاب نَش َأ في عِبَادَة ِ الل ّه ِ"؛ وفي هذا بيا ٌ
ن لمراعاة الشر يعة وإبرازها صة ٌ بالشباب؛ فقال ﷺ" :وَش ّظل ّه ُ هي خا ّ
لحال الشباب الذي يتغل ّبُ على نفسه فيُنشؤها في عبادة الل ّه؛ إذ شأنُ الشباب أ ْن تقود َهم أهواؤهم إلى غير
عبادة الل ّه.
َاب ف َشَر ِبَ منه ،وع َنْ ل الل ّه ِ ﷺ أتِي َ بشَر ٍ ن ر َسو َ ل بن سعدٍ -رضي الل ّه عنه( -أ ّ الحديث الثالث :عن سه ٍ
ل ي ه َؤُل َاءِ؟" ،فَق َا َ
ل الغ ُلَام ُ :والل ّه ِ يا ر َسو َ ل لِل ْغ ُلَا ِم" :أت َأْ ذَنُ لي أ ْن أ ْعط ِ َ
يَمِينِه ِ غُلَام ٌ ،وع َنْ يَس َارِه ِ الأشْ يَاخُ ،فَق َا َ
ل الل ّه ِ ﷺ في يَدِه ِ) ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ. ك أحَدًا ،قَالَ :فَتَل ّه ُ ر َسو ُ الل ّهِ ،لا أوث ِر ُ بن َصِ يبِي مِن ْ َ
الإناء َ للشيوخ؛ لـكونهم عن يساره وكون العربُ يعتبرون بمسألة التقديم -بم َن يبدؤوا ،-لـكن الغلام ُ كان
نبيهًا؛ فلم يُؤثرْ بنصيبه من الشرب بعد الن ّب ِيّ ﷺ أحدًا؛ فأعطاه ُ الن ّبيّ ﷺ الإناء.
-يبرز ُ الحديثُ النفسية َ التي يترب ّى عليها الشبابُ في مجالس الن ّب ِيّ ﷺ؛ حيث يشعر ُ بقيمته وبمكانته فعل ًا ،وهذا
مما ينبغي أ ْن يُقتدىَ به في السياقات والمجالس التربو ية.
الحديث الرابع :عن عبد الل ّه بن عمر -رضي الل ّه عنهما -قال( :بَع َثَ الن ّبيّ ﷺ بَعْثًا ،وأمّرَ عليهم أسام َة َ ب َ
ن
كن ْتُم ْ ت َ ْطع ُن ُونَ في إمارَة ِ أبيِه ِ
ل الن ّبيّ ﷺ " :أ ْن تَطْع ُن ُوا في إمار َتِه ِ ،فق َ ْد ُ
س في إمار َتِه ِ ،فقا َ
ْض الن ّا ِ
ن بَع ُ
ز َيْدٍ ،فَطَع َ َ
س إلَيّ
َب الن ّا ِ
ن هذا لم َِنْ أح ِّ
س إلَيّ ،وإ ّ م ِن قَبْلُ ،وايْم ُ الل ّهِ ،إ ْن كانَ لَخل َِيق ًا لِل ِْإمارَة ِ ،وإ ْن كانَ لم َِنْ أح ِّ
َب الن ّا ِ
بَعْدَه ُ") ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ ،وقد كان أسامة حينها شاب ًا دونَ العشرين من ع ُم ُره.
يكشف الحديثُ عن عناية ِ الن ّب ِيّ ﷺ بالشباب؛ فكان ﷺ يكلِّف ُهم بالمهام التي تُناسبُ سماتهم وقدراتهم
ُ -
وإمكاناتهم؛ ومن ذلك :تعين ُه ُ ﷺ لأسامة بن زيد -رضي الل ّه عنهما -قائد ًا للجيش ،وتقديم ُه ُ ﷺ له على م َن
هم أكبر ُ سنًا وسبق ًا في الإسلام.
لأسلوب مه ٍ ّم من أساليب الن ّب ِيّ ﷺ التعليمية :وهو أسلوبُ طرح السؤال ،وفيه -أيضًا-
ٍ ن
-في الحديث بيا ٌ
ح لغيرهم حت ّى لو في بعض المسائل
ح عليهم في العلم ما لا يُفت ُ
ل الاهتمام بالعلم؛ فق ْد يُفت َ ُ
ن الشبابَ مح ُ
بيانُ أ ّ
الفرعية على الأقل.
-يبرز ُ الحديثُ عناية َ الن ّب ِيّ ﷺ بالشباب؛ من حيث الاهتمام والاستقبال والتهيئة لأ ْن يُقيموا عنده ﷺ
ن الن ّبيّ ﷺ اعتنى بها عناية ً
عشرين ليلة ً ،ثم العناية بهم من حيث التعليم والقرب منه ﷺ؛ لأن ّه من الواضح أ ّ
صة ً أه ّلتهم لأ ْن يكونوا قدوة ً لقومهم في العلم والعمل؛ فينقلوا لهم ما تعل ّموه من قول وفعل الن ّب ِيّ ﷺ ،ثم
خا ّ
العناية بهم من حيث الانتباه لأحوالهم ونفسياتهم.
كن ْتُ خ َل َْف الن ّب ِ ِيّ ﷺ يَوْم ًا فَق َالَ" :ي َا غُلَام ُ ِإن ِ ّي الحديث السابع :عن ابن عبا ٍ
س -رضي الل ّه عنهما -قالُ ( :
ل الل ّهَ ،و َِإذ َا اسْ تَعَن ْتَ تج ِ ْده ُ تُجَاهَكَِ ،إذ َا سَأل ْتَ فَاسْ أ ِ يحْف َ ْظكَ ،احْ ف َظِ الل ّه َ َ ات :احْ ف َظِ الل ّه َ َ ك كَل ِم َ ٍ أعَل ِّم ُ َ
ن
ك و َِإ َِت عَلَى أ ْن يَنْف َع ُوك َ ب ِشَيْء ٍ ل َ ْم يَنْفَع ُوك َ ِإلّا ب ِشَيْء ٍ ق َ ْد كَتَب َه ُ الل ّه ُ ل َ َ فَاسْ ت َع ِنْ ب ِالل ّهِ ،و َاع ْل َ ْم أ ّ
ن الْأمّة َ لَوِ اجْ تَمَع ْ
ُف")،
ت الصّ ح ُ
ج ّف ِ اجْ تَم َع ُوا عَلَى أ ْن يَضُر ّوك َ ل َ ْم يَضُرّوك َ ِإلّا ب ِشَيْء ٍ ق َ ْد كَتَب َه ُ الل ّه ُ عَلَيْكَ ،ر ُفِع ِ
َت الْأق ْلَام ُ و َ َ
ن صحيحٌ.
حس َ ٌ
أخرج َه ُ الترمذيّ ؛ وقال :هذا حديثٌ َ
أحدثت العناية ُ الن ّبو ي ّة ُ في ابن عباس من الحالة النفسية والقلبية من حيث الاهتمام
ْ -يُبيِّنُ الحديثُ كيف
ي
ح النفس ّ
والإقبال والشغف والحرص والصّ بر على طلب العلم؛ إذ من أهم ما يحتاج ُه ُ الشبابُ هو الاستصلا ُ
س عليه
س الاستعداد َ للصّ بر والبذل والتحمّل والعطاء والفهم؛ وهذا ما أسّ َ
ل في الن ّف ِ
والت ّزكويّ الذي يجع ُ
اس إليه.
س الطر يقَ ،حت ّى صار َ إمام ًا يجتم ُع الن ّ ُ
ن عبا ٍ
ن عباسٍ ،ثم أكمل َ اب ُ
الن ّبيّ ﷺ اب َ
صة ً ذوي القربى؛ ومنهم :الأبناء ،اتباعًا لهدي الن ّب ِيّ بالصغار؛ خا ّ
ِّ -في الحديث عناية ُ أصحاب رسول الل ّه ﷺ
ل الل ّه ِ ﷺ،ﷺ في العناية بتعليم الفتيان ،كما جاء في حديث ابن مسعودٍ -رضي الل ّه عنه -قال( :عَل ّمَنِي ر َسو ُ
كسلَام ُ عَلَي ْ َ ن القُر ْآنِ :الت ّحِي ّاتُ لِل ّهِ ،والصّ لَو َاتُ وال ّ
طيِّبَاتُ ،ال ّ سور َة َ م ِ َ
ك ّفيْه ِ ،الت ّشَهّد َ ،كما يُع َل ِّمُنِي ال ّ ك ّفِي بيْنَ َ
و َ
سلَام ُ عَلَي ْنَا وعلَى عِبَادِ الل ّه ِ الصّ الِ حِينَ ،أشْهَد ُ أ ْن لا إلَه َ إلّا الل ّهُ ،وأشْهَد ُ أ ّ
ن أ ّيها النبيّ ورَحْم َة ُ الل ّه ِ وب َرَك َاتُه ُ ،ال ّ
سلَام ُ -يَعْنِي -علَى الن ّب ِيّ ﷺ). ظهْرَانَي ْنَا ،فَلَم ّا قُب َِض قلُ ْنَا :ال ّ مُحَم ّدًا عَبْدُه ُ ور َسولُه ُ وهو بيْنَ َ
الباب:
ِ خـلاصة ُ
-يُبيِّنُ البابُ قيمة َ الشباب بأ ْن يكونوا محل ًا للاهتمام والعناية ،وألا يُهمشوا ويُبعدوا عن المهمات
أمس الحاجة في المشار يع الإصلاحية إلى العناية بالشباب عناية ً بالغة ً ،وأ ْن
ّ ِ الإصلاحية؛ فنحن -اليوم -في
س -رضي الل ّه عنهما.-
صة ً ابن عبا ٍ
تكونَ العناية ُ بهم عناية ً شمولية ًكما اعتنى الن ّبيّ ﷺ بالفتيان؛ خا ّ
ن فيه العناية ُ بالشباب :هو تعليم ُ الإيمان؛ المتمثل في مادّة العبودية لل ّه -
ن من أولى ما ينبغي أن تكو َ
-وأ ّ
تعالى ،-وتعل ّق القلب بالل ّه.
- 001 -
المحاضرة الثامنة عشر :د ْور ُ المرأة ِ
بث العلم ِ ونُصرة ِ الإسلام
بابُ د ْورِ المرأة ِ في ِّ
ل بها
خيرات ومسارعتِها إلى العم ِ
بأبواب ال ِ
ِ وفِي عنايتِهَا
م ُق ّدِمة ٌ:
باب للمرأة ،وأ ْن
-حين يس ّر َ الل ّه ُ -تعالى -جم َع متنِ (المنهاج من ميراث الن ّبُو ّة)؛ حرصتُ على أ ْن يكونَ فيه ٌ
صة ً الشباب -بمادّة ِ من
يكونَ هذا البابُ متسق ًا مع المعنى الذي لأجله جُم ِ َع المتنُ؛ وهو تزويد ُ المسلم -خا ّ
مرجعية الوحي ،تكونُ -بإذن الل ّه -هادية ً ومنيرة ً له في طر يق الإصلاح ،ولذا؛ ينبغي أ ْن تكونَ موضوعاتُ
س بينَ النساء.
ل اهتما ٍم وتدار ُ ٍ
هذا الباب مح َ
الباب:
ِ شواهد ُ
ن ال ْمُنكَر ِ
ُوف و َيَنْهَوْنَ ع َ ِ
ن ب ِال ْمَعْر ِ ض ي َأْ م ُرُو َ الآية الأولى :قال تعالى" :و َال ْمُؤْم ِن ُونَ و َال ْمُؤْم ِنَاتُ بَعْضُه ُ ْم أوْلِيَاء ُ بَعْ ٍ
ن الل ّه َ عَز ِيز ٌ حَكِيم ٌ":ك سَيَرْحَمُهُم ُ الل ّه ُ ِإ ّن الز ّك َاة َ و َيُط ِيع ُونَ الل ّه َ وَرَسُولَه ُ أولََٰئ ِ َ
ن الصّ لَاة َ و َيُؤ ْتُو َ
و َيُق ِيم ُو َ
ك
قالت النِّس َاء ُ للن ّب ِيّ ﷺ :غَلَبَنَا عَلَي ْ َ
خدري -رضي الل ّه عنه -قالِ ( : ِّ الحديث الأوّل :عن أبي سعيدٍ ال
ل لهنّ " :ما سكَ ،ف َو َعَد َه ُنّ يَوْم ًا لَقِيَه ُنّ ف ِيه ِ ،ف َوَعَظَه ُنّ وأم َرَه ُنّ ،ف َكانَ ف ِيما قَا َالر ِ ّج َالُ ،فَاجْ ع َلْ لَنَا يَو ْم ًا م ِن ن َ ْف ِ
َقالت امْرَأة ٌ :واث ْنَتَيْنِ؟ ،فَق َالَ" :واث ْنَتَيْنِ")،
ن الن ّارِ" ،ف ِ
ن لَهَا ِحج َاب ًا م ِ َ
مِنْكُنّ امْرَأة ٌ تُق َ ّدِم ُ ثَلَاثَة ً م ِن ولَد ِه َا ،إلّا كا َ
أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ن الصحابيات حرصنّ على ألا يفوتهنّ نصيبهن ن المرأة َكانت حاضرة ً في سيرة الن ّب ِيّ ﷺ ،وأ ّ
-يُبيِّنُ الحديثُ أ ّ
من الن ّب ِيّ ﷺ في الن ُصح والتوجيه والموعظة وشيء ٍ من العلم؛ فبادر ّ
ن إلى تحصيل ذلك الخير بسؤال الن ّب ِيّ ﷺ
قالت( :نِعْم َ النِّس َاء ُ نِس َاء ُ الأنْصَارِ ل َ ْم يَكُنْ يَم ْن َعُه ُنّ الْحي ََاء ُ أ ْن
ْ الحديث الثاني :عن عائشة -رضي الل ّه تعالى-
ن فِي الد ِّي ِن) ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
يَتَف َ ّق ْه َ
ن الخصائص والصفات التي تتمي ّز ُ بها المرأة ُ عن الرجل؛ كالحياء ،لا ينبغي أ ْن تكونَ حاجز ًا
-يُبيِّنُ الحديثُ أ ّ
صة ِ بالن ِّساء،
ل واستفتاء ُ الن ّب ِيّ ﷺ عن الأمورِ الخا ّ
يمنع ُها من التف ّقه في الد ِّين؛ ومن صور هذا التف ّقه :سؤا ُ
وكذلك؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ل الل ّه ِ
الحديث الثالث :عن أبي موسى الأشعري -رضي الل ّه عنه -قالَ( :ما أشك َل علينا -أصحابَ رسو ِ
ح
ن صحي ٌ
حس َ ٌ
قط فسأل ْنا عائشة َ إلّا وجَدْنا عند َها منه ع ِل ْمًا) ،أخرج َه ُ الترمذيّ ؛ وقال :حديثٌ َ
ﷺ -حديثٌ ّ
غريبٌ .
لت أمّ المؤمنين عائشة َ -رضي الل ّه عنها -عن الن ّب ِيّ ﷺ علمًا كثير ًا؛ وذلك بالتنب ّه واليقظة لأفعال الن ّب ِيّ
-حصّ ْ
سنوات قضتْها معه ﷺ ،وهذا مما يُبيِّنُ ما ٍ ل عليها طيلة َ عشر ِ
ﷺ ،ثم بسؤال واستفتاء الن ّب ِيّ ﷺ عم ّا أشكِ َ
ل من شأن كانت عليه -رضي الل ّه عنها -من الحرص والوعي واتقاد الذهن ،ومما يُستفاد ُ من هذا :ألا يُقل َ
المرأة ولا يُستهانَ بها في جانب التعل ّم والتف ّقه والفهم وحفظ الد ِّين.
ق
كانت عائشة -رضي الل ّه عنها -من المكثرين في الرواية عن الن ّب ِيّ ﷺ ،وقد تلقى عنها العلم والحديث خل ْ ٌْ -
كثير ٌ؛ ومم ّن تلقوا عنها العلم َ من محارمها :عروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر -رضي الل ّه عنهم-؛ وقد
ْت
ل مرو يات عروة بن الزبير عن عائشة؛ حت ّى قال( :لق ْد رأيت ُني قبل مو ِ
وكانت ج ّ
ْ كانا من أئمة الإسلام؛
حديث عند َها إلا وقد وَعَي ْت ُه ُ).
ٍ ماتت اليوم َ ما ندمتُ على
ِ عائشة بأربع أو خم ْس حجج ،وأنا أقول" :لو
-وممن تلقوا عنها العلم َ من غير محارمها :أبو سلَمة بن عبد الرحمن بن عوف -رضي الل ّه عنهما -فكان من
المكثرين في سؤالها والرواية عنها ،وكذلك؛ الأسود وعلقمة ومسروق وهم تلاميذ ُ عبد الل ّه بن مسعود ،بل
ل الل ّه ِ ﷺ َ
سب ْ َع الحديث الخامس :عن أ ِمّ عطية الأنصار ية -رضي الل ّه عنها -قالت( :غ ََزوْتُ مع ر َسو ِ
طع َام َ ،و َأد َاوِي الجَرْحَى ،و َأقُوم ُ علَى المَر ْض َى) ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
َات؛ أخْلُفُه ُ ْم في رِح َالِهِمْ ،فأصْ ن َ ُع لهم ُ ال ّ
غ ََزو ٍ
-ومع ذلك؛ لم تكن المرأة ُ في زمن الن ّب ِيّ ﷺ غائبة ً عن المشاركة في تقديم الدعم والمساندة في باب الجهاد؛
ومن أوجه ذلك :العناية ُ بالرحال ،وإعداد ُ الطعام ،والمشاركة ُ في مداواة المرضى والجرحي ،ولم يكن ذلك في
حالات استثنائ ًّي ّة ٍ من الن ِّساء ،بل كان عا ًّمّا فيهن؛ ففي حديث الر ّبَي ْع بنت مُعَو ْذ قالت( :ك ُن ّا نَغْز ُو مع ر َسو ِ
ل ٍ
َات). ل الل ّه ِ ﷺ َ
سب ْ َع غ ََزو ٍ الل ّه ِ ﷺ) ،وفي حديث أ ِمّ عطية الأنصار ية قالت( :غ ََزوْتُ مع ر َسو ِ
ل في
ض"؛ فأوّل ما يدخ ُ
ارتباط بقول الل ّه تعالى" :و َال ْمُؤْم ِن ُونَ و َال ْمُؤْم ِنَاتُ بَعْضُه ُ ْم أوْلِيَاء ُ بَعْ ٍ
ٌ -وهذا المعنى فيه
الولاء هو الن ُصرة ُ بالمشاركة في مثل هذه الحالات الحرجة (الجهاد).
ن أ ْن
-ومما يُستفاد ُ من الحديث في واقعنا الحالي :أن ّه ينبغي على النساء المشاركة ُ في قضايا الأمّة بما يُمك ُ
خاص
ّ ل
ن الاهتمام َ بقضايا الأمّة مجا ٌ
يشاركنّ به؛ سواء ٌ بالتوعية أو التربية أو الدعم المالي ،ولا يقال :أ ّ
ن في حمل قضايا الأمّة.بالرجال؛ بل يشاركنّ بما يستطع َ
-يُفيد ُ الحديثُ إئتمانَ المرأة على الأسرار؛ إ ْذ ق ْد تكونُ المرأة ُ على قد ٍر من المسؤولية والفهم والحفظ والصون؛
خر ِجْ م َن عِنْدَك َ" ،فقال:
ج الخبر ُ للمشركين فقال ﷺ لأبي بكرٍ" :أ ْ
ن الن ّبيّ ﷺ كان حر يصً ا على ألا يخر َ
لأ ّ
ل الل ّه ِ)؛ فتكل ّم َ الن ّبيّ ﷺ بالخبر على مسامع النساء الحاضرات.
ك بأبِي أن ْتَ يا ر َسو َ
(إن ّما ه ُ ْم أه ْل ُ َ
الأضح َى،
ْ ج يَوم َ ل الل ّه ِ ﷺ ،كانَ َ
يخ ْر ُ ُ ن ر َسو َ
خدري -رضي الل ّه عنه( -أ ّ
ِّ الحديث السابع :عن أبي سعيدٍ ال
وس في مُصَل ّاهُمْ ،فإ ْن
ل علَى الن ّاسِ ،و َه ُ ْم ج ُل ُ ٌ
سل ّم َ ،قَام َ فأق ْب َ َ
و َيَوم َ الف ِ ْطرِ ،فَيَبْد َأ بالصّ لَاة ِ ،ف َِإذ َا صَل ّى صَلَاتَه ُ و َ َ
ص ّدق ُوا،
ْث ،ذَك َرَه ُ لِلن ّاسِ ،أ ْو ك َان َْت له ح َاج َة ٌ بغير ِ ذلكَ ،أم َرَه ُ ْم بهَا ،وَكانَ يقولُ" :ت َ َ كانَ له ح َاج َة ٌ ببَع ٍ
ص ّدقُ النِّس َاء ُ) ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
ص ّدق ُوا" ،وَكانَ أكْ ثَر َ م َن يَت َ َص ّدقُوا ،ت َ َ
تَ َ
-يُبيِّنُ الحديثُ جانبًا من مشاركة المرأة في وجوه الخير التي من شأنها التظافر بينَ المؤمنين؛ وهي الصدقة ُ،
وينبغي أ ْن يُنظر َ إلى الصدقة باعتبارين:
الأوّل :اعتبار ُ س ّدِ الحاجة تعاطف ًا ورحمة ً بالمحتاجين.
ن الصدقة َ تدف ُع عذابَ الل ّه؛ كما قال الن ّبيّ ﷺ:
الثانـي :اعتبار ُ الاحتياج الحقيقي للمُتصدق لأ ْن يتصدقَ ؛ لأ ّ
ن الكلمة َ الطيبة َ =صدقة ٌ.
ِق تمرة ٍ فإ ْن لم تج ِدوا فبكلمة ٍ طي ِّبة ٍ"؛ ذلك أ ّ
"ات ّقوا الن ّار ولو بش ّ ِ
-وكل ّما استطاـع َ المتصدقُ أ ْن يجم َع بين الاعتباـرين فهو أكمل؛ فيتصدقُ لن ُصرة الضعفاـء وس ّدِ احتياجهم،
- 004 -
ج إذا استحضرْه ُ =يقيْه ِ من
ج إلى التص ّدق لِي َدف َع به عذاب الل ّه ،وهذا الاحتيا ُ
وكذلك يتصدقُ لأن ّه يحتا ُ
شعورِه ِ بالمنِ ّة على م َن يتص ّدقُ عليه.
-كان الن ّبيّ ﷺ في حث ِّه للنساء على الصدقة ،يرُكز ُ على اعتبار احتياجهنّ للصدقة للنجاة من عذاب الل ّه ،كما
ل الن ّارِ" ،ولذلك؛ جاء َ في قوله ﷺ" :يا م َعشر َ الن ِّساء ِ تص ّدقنَ ،وأكْ ث ِرنَ م َ
ن الاستغفارِ ،فإن ِ ّي رأيتُكُنّ أكْ ثر َ أه ْ ِ
س -رضي الل ّه عنه( :-فَصَل ّى، ن وأسرعنّ لامتثال أمر الن ّب ِيّ ﷺ؛ وفي رواية أخرى من حديث ابن عبا ٍ بادر ّ
ن بأيْدِيه ِنّ ي َ ْقذِف ْن َه ُ
خط َبَ ،ث ُم ّ أتَى النِّس َاء َ ومعه ُ بلَالٌ ،ف َوَعَظَه ُنّ ،وذَك ّر َه ُنّ ،وأم َرَه ُنّ بالصّ د َقَة ِ ،ف َرَأيْتُه ُنّ يَهْوِي َ
ث ُم ّ َ
ق المرأة بالزينة التي تلبسها دلالة ٌ على سرعة ل إلى بَي ْتِه ِ)؛ وفي تص ّد ِ ق هو وبِلَا ٌ ْب بلَالٍ ،ث ُم ّ انْطَل َ َ في ثَو ِ
الاستجابة والامتثال ،وهذه من الحالات المركز ية التي ينبغي إعادة ُ إحيائها في نفوس المؤمنين والمؤمنات.
ل من
ل عينُ الواجبات والمسؤليات ،ويُنظر َ بعين الحقوق فقط ،وهذا الإشكا ُ
ل في أ ْن تُهم َ َ
ن الإشكا ُ
-و يكم ُ
طروحات
ٌ أكثر الروافد التي تُغذي اتجاه النِسْو ية وأطروحاته التي تغتر ُ بها كثير ٌ من النساء ،وهي في الحقيقة أ
ل شيءٍ ،أو أن ّه لمجر ّد كونك رجل ًا فأنت فأنت تستحقينَ ك ّ ِ وهمية ٌ؛ فلا حقيقة َ أن ّه لمجر ّدِ كونكِ إمرأة ً
صة ٌ على الرجل والمرأة.ومسؤوليات عامّة ٌ وخا ّ
ٌ واجبات
ٌ ل شيءٍ ،وإن ّما هناك قك ّتستح ُ
الباب:
ِ شواهد ُ
ك أنتَ ال ْوَه ّابُ ": الآية الأولى :قال تعالى" :ر َب ّنَا ل َا تُز ِ ْغ قُلُوبَنَا بَعْد َ ِإ ْذ هَد َي ْتَنَا و َه َْب لَنَا م ِن ل ّدُن َ
ك رَحْم َة ً ِإن ّ َ
اب و َأخَر ُ
ات ه ُنّ أمّ الْكِت َ ِ
كم َ ٌ
َات ّمح ْ َ
ك الْكِتَابَ مِن ْه ُ آي ٌ
ل عَلَي ْ َ
جاءت هذه الآية ُ بعد قوله تعالى" :ه ُو َ ال ّذ ِي أنز َ َ
ْ -
ن فِي قُلُو بِه ِ ْم ز َي ْ ٌغ فَيَت ّب ِع ُونَ م َا تَش َابَه َ مِن ْه ُ اب ْتِغ َاء َ ال ْفِت ْنَة ِ و َاب ْتِغ َاء َ ت َأْ وِ يلِه ِ وَم َا يَعْلَم ُ ت َأْ وِ يلَه ُ ِإلّا
ات ف َأمّا ال ّذ ِي َ
م ُتَش َابِه َ ٌ
اب * ر َب ّنَا ل َا تُز ِ ْغ قُلُوبَنَا بَعْد َ ِإ ْذ الل ّه ُ و َالر ّاسِ خ ُونَ فِي ال ْعِلْم ِ يَق ُولُونَ آم َن ّا بِه ِك ُ ّ
ل مّ ِنْ عِندِ ر َب ّنَِا وَم َا يَذّك ّر ُ ِإلّا أولُو الْأل ْب َ ِ
ن حت ّى الراسخين في العلم مع ما بلغوا
نأ ّ
ك أنتَ ال ْوَه ّابُ "؛ وفي هذا بيا ٌ
ك رَحْم َة ً ِإن ّ َ
هَد َي ْتَنَا و َه َْب لَنَا م ِن ل ّدُن َ
من درجة ٍ في العلم والد ِّين ،فإ ّنهم يشغلَهم و يقلق َهم شأنَ الاستقامة والثبات على الد ِّين حت ّى صار َ معن ًى
ومطلبًا أساسيًا في دعائهم.
سبب للز يغ والانتكاس
ٌ -وفي الآية ٌ تحذير ٌ من اتباع المتشابه وترك المحُكمات من آيات الل ّه؛ إ ْذ في ذلك الاتِّباع
بعد َ الهداية والاستقامة.
ن
ن الْغ َاوِي َ
شيْط َانُ فَك َانَ م ِ َ
خ مِنْهَا ف َأت ْبَع َه ُ ال ّ الآية الثانية :قال تعالى" :و َات ْ ُ
ل عَلَيْه ِ ْم نَب َأ ال ّذ ِي آتَي ْنَاه ُ آي َاتنَِا فَانس َل َ َ
ض و َات ّب َ َع ه َوَاه ُ":
* و َلَو ْ شِئ ْنَا لَرَفَعْنَاه ُ بِهَا و َلََٰكِن ّه ُ أخْلَد َ ِإلَى الْأ ْر ِ
الدنيا واتِّباع الهوى ،ومن شواهد ذلك :قولُه ُ تعالى" :ف َأ ْعقَبَه ُ ْم نِف َاقًا فِي قُلُو بِه ِ ْم ِإلَى يَو ْ ِم يلَْقَو ْنَه ُ بِمَا أخْلَف ُوا الل ّه َ
م َا و َعَد ُوه ُ و َ بِمَا ك َانُوا يَكْذِبُونَ" ،وقولُه ُ تعالى" :و َنُق َل ِّبُ أف ْئِدَتَه ُ ْم و َأبْصَار َه ُ ْم كَمَا ل َ ْم يُؤْم ِن ُوا بِه ِ أ ّو َ
ل م َّرة ٍ و َنَذَر ُه ُ ْم
طغْيَانِه ِ ْم يَعْمَه ُونَ".
فِي ُ
- 006 -
نح ْب َه ُ وَمِنْه ُم مّن
صد َقُوا م َا عَاهَد ُوا الل ّه َ عَلَيْه ِ فم َِنْه ُم مّن ق َض َى َ
ل َ الآية الثالثة :قال تعالى" :مّ ِ َ
ن ال ْمُؤْم ِنِينَ رِج َا ٌ
يَنتَظ ِر ُ وَم َا بَدّلُوا تَبْدِيل ًا":
-في الآية ِ ذكر ٌ لثلُة ٍ مؤمنة ٍ ثبتوا أمام َ فتنة ِ مجيء الأحزاب وحصارِهم للمدينة؛ فأثنى الل ّه ُ على ثباتهم وخل ّد َ
ذكراهم في القرآن ،حت ّى يكونوا مثل ًا وقدوة ً في الثبات؛ في َحتذيَ بهم المؤمنون من بعدهم.
ت م ِن قَبْلِه ِ
ل ق َ ْد خ َل َ ْ
وصف الل ّه ُ -تعالى -الثباتَ بأن ّه شكر ٌ له -سبحانه-؛ فقال تعالى" :وَم َا مُحَم ّدٌ ِإلّا رَسُو ٌ
َ -وق ْد
ن الثباتَ مما يحب ّه ُ الل ّهُ؛ فهو من وسائل شكر ِ ن ِع ِم الل ّه،
-تتعدد ُ الأسبابُ التي تدف ُع الإنسانَ للثبات؛ منها :أ ّ
ومن هذه الأسباب أيضًا :كثرة ُ الفتن والابتلاءات التي تدف ُع الإنسانَ إلى المعاصي؛ كنوازع الن ّفس
ووساوس الشيطان.
أي :لفها وإحكامها ،و(الْحَو ْر) :هو إعادة ُ نقضها بعد َ إحكا ِم لفها
(-الـكَو ْر) :مأخوذ ٌ من كوْرِ العمامة؛ ْ
ل وجهدٍ؛ وفي هذا التشبيه تبشي ٌع لقضية الانتكاس بعد َ الاستقامة ،كما قال
ج إلى عم ٍ
وطيها ،وهذا يحتا ُ
َت غ َْزلَهَا م ِن بَعْدِ قُو ّة ٍ أنك َاث ًا".
تعالى" :وَل َا تَكُونُوا ك َال ّتِي نَقَض ْ
وضح ُ طر يقة َ الن ّب ِيّ ﷺ البياني ّة؛ فقد كان ﷺ يعتني بالبيان عناية ً ل) :ي ُ ِ ّ
-قوله( :حت ّى ظَنَن ّاه ُ في طَائِفَة ِ الن ّخْ ِ
ل الل ّهِ ،نَكُونُ عِنْدَك َ ،تُذَك ِّر ُن َا بالن ّارِ و َالْجنَ ّة ِ حت ّى ك َأن ّا ر َأْ يُ
شديدة ً؛ كما قال حنظلة -رضي الل ّه عنه( :-يا رَسُو َ
عَيْنٍ).
-قوله ﷺ" :يا عِبَاد َ الل ّه ِ فَاث ْبُت ُوا" :فيه نداء ُ الن ّب ِيّ ﷺ لأصحابه وأمّته للثبات أمام َ فتنة الد ّج ّال وأمام َ ك ّ ِ
ل فتنة ٍ؛
فمن الأسباب الداعية للثبات :استصحابُ المرء ِ لهذه الوصية الن ّبو ي ّة بالثبات أمام َ الفتن والابتلاءات.
ْف" :لما في هذه الآيات من العجائب والمعجزات؛ فم َن ع َل ِم َهما لا -قوله ﷺ" :فَل ْيَقْرأْ َ عليه ف َو َ ِ
اتح َ سُورَة ِ الـكَه ِ
ل عليه الصّ بر ُ والثباتُ ،ومن أهم أسباب الثبات التي تُغذي قلب
يستغربُ أمرَ الد ّج ّال ،ولا يُفتتنُ به ويسه ُ ُ
الإنسان بالإيمان واليقين ،في َكونَ مستغنيًا عن دواعي الانتكاس :القرآنُ؛ من حيث التعل ّق به وتلاوته
وتفعيله في يوم الإنسان.
ل وأسوة ٌ حين تكثُر ُ أمام َه ُ الفتنُ ،فيَتذكر َ هذا -ينبغي أ ْن يكونَ للم ِ
ُصلح في ثبات أصحاب الـكهف مث ٌ
َستأنس بخبرهم ويستمد َ منهم الثباتَ والصّ بر َ.
َ ج في الثبات والصّ بر؛ في
الأنموذ َ
ن قُلُوبَ بَنِيل الل ّه ﷺ يقولُ"( :إ ّ الحديث الرابع :عن عبد الل ّه بن عمرو -رضي الل ّه عنهما -أن ّه سم َع رسو َ
ل الل ّه ِ ﷺ:ل رَسُو ُ
حي ْثُ يَش َاء ُ" ،ث ُم ّ قا َ
حدٍ ،يُصَر ِّفُه ُ َ
كق َل ٍْب و َا ِ
نَ ، آدَم َ ك ُل ّه َا بيْنَ ِإصْ بَع َيْنِ م ِن أصَاب ِِع الر ّحْم َ ِ
ك") ،أخرج َه ُ مسلم ٌ. ِف قُلُوبَنَا علَى طَاع َت ِ َ وب صَر ّ ْ
ِف الق ُل ُ ِ "الل ّه ُ ّم م ُصَر ّ َ
ِف
سبب من أهم أسباب الثبات؛ وهو الدعاء ُ في قول الن ّب ِيّ ﷺ" :الل ّه ُ ّم م ُصَر ّ َ ٍ يكشف الحديثُ عن ُ -ثم
ك" ،وباعثُ العبد على الدعاء بالثبات هو دوام ُ استحضارِ قلبه للخوف من ِف قُلُوبَنَا علَى طَاع َت ِ َ
وب صَرّ ْ
الق ُل ُ ِ
خوف من أهم صم ّامات الأمان في الآخرة؛ إذ فيه دف ٌع وأز ٌ للعبدِ على العمل ،كما قال ن مقام َ ال ِ الل ّه؛ فإ ّ
طمَع ًا وَمِم ّا رَز َق ْنَاه ُ ْم يُنفِق ُونَ". ن ال ْمَضَاج ِِع ي َ ْدع ُونَ ر َ ّبه ُ ْم َ
خو ْفًا و َ َ تعالى" :تَتَجَافَى جُن ُو بُه ُ ْم ع َ ِ
اث م َن كُنّ فيه وجَد َ الحديث الخامس :عن أنس بن مالكٍ -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ قال" :ثَل َ ٌ
يح ِب ّه ُ إلّا لِل ّهِ ،وأ ْن يَك ْرَه َ أ ْن
ِب المَر ْء َ لا ُ
يح ّ
َب إلَيْه ِ مم ّا سِوَاهُمَا ،وأ ْن ُ
ح َلَاوَة َ الإيمَانِ :أ ْن يَكونَ الل ّه ُ ور َسولُه ُ أح ّ
َف في الن ّارِ" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ. يَع ُود َ في الـكُ ْفرِ كما يَك ْرَه ُ أ ْن ي ُ ْقذ َ
ن الل ّه ُ ور َسولُه ُ
ق الموصِلة ِ إلى حلاوة الإيمان؛ أوّلُها في قوله ﷺ" :أ ْن يَكو َ -ي ُ ِ ّ
وضح ُ الحديثُ ثلاث ًا من الط ُر ُ ِ
ق متولدة ٍ عنه الأساس وما بعدَه ُ من الط ُر ُ ِ ُ ق -محبة الل ّه ورسوله ﷺ -هو َب إلَيْه ِ مم ّا سِوَاهُمَا"؛ وهذا الطر ي ُ
أح ّ
يح ِب ّه ُ إلّا لِل ّهِ ،وأ ْن يَك ْرَه َ أ ْن يَع ُود َ في الـكُ ْفرِ كما يَك ْرَه ُ أ ْن
ِب المَر ْء َ لا ُ
يح ّ
ولازمة ٍ له؛ وهما في قوله ﷺ" :وأ ْن ُ
َف في الن ّارِ". ي ُ ْقذ َ
ق الشعور القلبي بمحبة ِ الل ّه ورسوله ﷺ يكونُ تصديق ًا بالعمل الذي غالبًا ما يكونُ فيه
ن تحقي َ
-ولذلك؛ فإ ّ
ن واختبار ٌ لمحبة الل ّه ورسوله ﷺ في قلب العبد عند َ تزاحم المحاب حبوبات أخرى ،وفي هذا امتحا ٌ ٍ تضحية ٌ بم
فيه؛ كما قال تعالى" :ق ُلْ ِإن ك َانَ آب َاؤ ُك ُ ْم و َأب ْنَاؤ ُك ُ ْم و َِإخْ وَانُك ُ ْم و َأ ْزو َاجُك ُ ْم وَعَشِيرَتُك ُ ْم و َأمْوَا ٌ
ل اق ْتَرَف ْتُم ُوه َا
ن الل ّه ِ وَرَسُولِه ِ و َ ِ
جه َادٍ فِي سَب ِيل ِه ِ فَتَر َب ّصُوا حَت ّى ي َأْ تِي َ َب ِإلَيْك ُم مّ ِ َ
ضوْنَهَا أح ّ
ن تَرْ َ
ك ُ
كس َاد َه َا وَمَس َا ِ
تخْشَوْنَ َ
و َتِ جَارَة ٌ َ
الل ّه ُ ب ِأ ْمرِه ِ و َالل ّه ُ ل َا يَهْدِي الْقَوْم َ الْف َاسِق ِينَ".
- 009 -
ل الل ّه ِ ﷺ" :ق ُ ِ
ل :الل ّه ُ ّم الحديث السادس :عن علي بن أبي طالب -رضي الل ّه عنه -قالَ( :قا َ
ل لي ر َسو ُ
سد َاد َ الس ّ ْه ِم") ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
سد َادِ َ
طرِ يقَ ،و َال ّ
ك ال ّ
س ّدِ ْدنِي ،و َا ْذكُر ْ بالهُد َى هِد َايَت َ َ
اهْدِنِي و َ َ
-يع ّد هذا الحديثُ -على اختصاره -من أركان الثبات على الاستقامة؛ إ ْذ فيه تعليم ُ الن ّب ِيّ ﷺ لعلي بن أبي
لسبب من أسباب إجابة الدعاء؛ وهو ٍ جه َه ُ الن ّب ِيّ ﷺ
سداد َ ،ثم و ّ
طالب أ ْن يدعو الل ّه َ ويسألَه ُ الهداية َ وال ّ
(استحضار ُ معاني الدعاء في قلب الداعي أثناء َ دعائه).
الباب:
ِ خُـلاصة ُ
ن مسألة َ الثبات على الاستقامة ليست قضية ً ترفية ً ،بل هي قضية ٌ مركز ي ّة ٌ في حياة المؤمن ،لذا؛ ينبغي أ ْن
-أ ّ
ن مقام َ الخوف من المقامات التي تدف ُع وتُحرِ ّك ُ العبد َ تُجاه َ العمل والدعاء بالهداية
خاف من الانتكاس؛ فإ ّ
ي َ
والثبات على الاستقامة.
الثانــية :تهذيبُ الن ّفس بمنعها من الغلو -وهو :مجاوزة ِ الح ّدِ -والتشديد؛ لما في ذلك من الانتكاس وعدم
الثبات على الد ِّين؛ وللغلو صور ٌ متعددة ٌ منها:
-١الغلو ُ في الأشخاص :أولئك الذين يُعتقد ُ فيهم الصّ لا ُ
ح وأ ّنهم وسيلة ٌ إلى الل ّه -تعالى-؛ كالغلو في الأنبياء
والصالحين ،وقد ح ّذر َ الن ّبيّ ﷺ من الغلو في شخصه فقال ﷺ" :ل َا تُطْر ُونِي كما أطْ ر َِت الن ّصَار َى اب ْ َ
ن م َْري َم َ؛
ك إذ َا
ن أولَئ ِ َ فإن ّما أن َا عَبْدُه ُ ،فَق ُولوا :عبد ُ الل ّه ِ وَرَسُولُه ُ" ،وقال ﷺ ُ
مح ّذِر ًا من مشابهة أهل الكتاب في الغلو" :إ ّ
ق عِنْد َ
ك شِر َار ُ الخَل ْ ِ
ك الصّ وَر َ ،ف َأولَئ ِ َ
صو ّر ُوا فيه تِل َ
جدًا ،و َ
س ِ
ل الصّ الِ ح ُ فَمَاتَ ،بَنَو ْا علَى قَبْرِه ِ م َ ْ
كانَ ف ِيهِم ُ الر ّج ُ ُ
الل ّه ِ يَوم َ الق ِيَامَة ِ".
-٢الغلو ُ المتعلِّق بالعبادة :وذلك من جهتين:
أ -من جهة الاستكثار الزائد عن الح ّدِ؛ الذي من شأنه أ ْن يعود َ على الن ّفس بالفتور والانتكاس.
ب -من جهة منع الن ّفس عن كثيرٍ مما أحل ّه الل ّه ُ بن ِّي ّة العبادة.
-٣الغلو ُ في الحكم على الآخرين.
-٤الغلو ُ في التشديد على الآخرين في شرائع الد ِّين من العبادات.
الباب:
ِ شواهد ُ
اب ل َا تَغْلُوا فِي دِينِك ُ ْم وَل َا تَق ُولُوا عَلَى الل ّه ِ ِإلّا الْحَقّ ": الآية الأولى :قال تعالى" :ي َا أه ْ َ
ل الْكِت َ ِ
ن الغلو في الأشخاص ،وقد غلا أه ُ
ل الكتاب في العبادة من جهة منع أنفسهم عم ّا أحل ّه جاءت الآية ُ في بيا ِ
ْ -
الل ّهُ؛ كامتناع المتدينين منهم عن الزواج؛ كما قال تعالى" :وَرَه ْبَانيِ ّة ً اب ْتَدَع ُوه َا م َا كَتَب ْنَاه َا عَلَيْه ِ ْم ِإلّا اب ْتِغ َاء َ
ن الل ّه ِ فَمَا رَعَو ْه َا حَقّ رِعَايَتِهَا".
رِضْ وَا ِ
- 020 -
الآية الثانية :قال تعالى" :فَاسْ ت َق ِ ْم كَمَا أم ِْرتَ وَم َن ت َابَ مَع َ َ
ك وَل َا ت َ ْطغَو ْا":
خطاب للن ّب ِيّ ﷺ بالاستقامة ،وعدم الإفراط والز يادة عن الح ّدِ في العبادة. ٌ -في الآية ِ
سديد؛ بمعنى :إصابة العمل بالقصد والتوسّ ط -قوله ﷺ" :فَسَ ّدِد ُوا وقَارِبُوا ،وأب ْشِر ُوا" :فيه توصية ُ الن ّب ِيّ ﷺ بالت ْ
سداد َ في العمل
سداد لا يكونُ إلا بالعلم ،ثم وصى ﷺ بالمقاربة؛ بمعنى :إ ْن لم تستطيعوا ال ّ في العبادة ،وال ّ
والأخْذ َ بالأكمل فيه ،فاعملوا بما ي َ ْقر ُبُ منه ،ثم بش ّر َ الن ّبيّ ﷺ العاملين بالث ّواب على هذا العمل.
سداد -قوله ﷺ" :واسْ ت َع ِين ُوا بالغ َ ْدوَة ِ والر ّ ْوحَة ِ وشيء ٍ م ِ َ
ن الد ّلْجَة ِ" :فيه إرشاد ٌ من الن ّب ٍيّ ﷺ لما يُساعد ُ على ال ّ
والمقاربة وذلك بالاستعانة بأوقات النشاط والإقبال؛ وفي ذلك تشبيه ٌ للإنسان في حال عبادته بالمسافر ،أمّا
سير ُ آخر َ الل ّيل؛ وقال ﷺ" :وشيء ٍ م ِ َ
ن الد ّلْجَة ِ": خر ُ النّهار ،والد ّلجة ُ :هي َ
ل النّهار ،والر ّوحة ُ :آ ِ
الغ َدوة ُ :فهي أوّ ُ
تخفيف ًا على الن ّفس لمشقة ِ عمل الل ّيل إذ هو من مساحات الراحة؛ فسير ُ آخر ِ الل ّيل محمود ٌ في سير القلوب إلى
الل ّه بالأعمال التي يتبل ّ ُغ بها العبد ُ المنزلة َ عند َ الل ّه.
ل أوقاتها على العمل؛ لما في
ل نفسَه ُ في ك ّ ِ
-وعلى ذلك؛ ينبغي أ ْن يقصِ د َ العبد ُ ويتوسّ ط في عبادته؛ فلا يحم ُ
ل أوقات نشاطها في التعب ّد ،وأخذِ الشيء من أوقات
ذلك من هلاكها وانتكاسها وإملالها ،بل عليه استغلا ِ
راحتها -قليل ًا أو كثير ًا -بحسب استطاعته.
ل لأخِيه ِ :يا
ل قا َ الحديث الثاني :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -قال :قال رسو ُ
ل الل ّه ﷺ" :أي ّما رَج ُ ٍ
كاف ِر ُ ،فق َ ْد باء َ بها أحَد ُهُما" ،أخرج َه ُ البخاريّ .
نوع الغلو في الحكم على الن ّاس ،ولم ّا كان بابُ الأخو ّة ِ بينَ المؤمنين من مركز يات ِ ج الحديثُ تحتَ -يندر ُ
=كانت المخالفة ُ فيه -بإطلاق المؤمن وصف الـكفر على أخيه -مخالفة ً عظيمة ً "فق َ ْد باء َ بها أحَد ُهُما"، ْ الد ِّين
ن إطلاقَ الـكفر على أعلى درجات كفْر ٌ"؛ فإ ّ
سل ِ ِم فُس ُوقٌ ،وق ِتَالُه ُ ُ
ومن شواهد ذلك :قوله ﷺ" :سِبَابُ الم ُ ْ
ل بينَ المؤمنين ،-إن ّما جاء َ من عِظ َ ِم باب علاقة الأخو ّة بينَ المؤمنين في الشر يعة.
المخالفة -وهي القتا ُ
- 022 -
أردت أ ْن تفقه َ باب ًا من أبواب محكمات الشر يعة؛ عليك أ ْن تنظر َ فيما ورد َ في الشر يعة مما
ْ فاـئدة :إذا
حث على
تأت للنصوص التي ت ّ
أردت أ ْن تفقه َ مكانة َ باب الأخو ّة في الد ِّين؛ فلا ِ
ْ ضه ُ و يضادّه ُ ،فمثل ًا :إذا
يناق ُ
يناقض ذلك ،وما جاء َ فيها من قدرِ
ُ الأخو ّة فحسب ،بل يجبُ أ ْن تنظر َ أيضًا في النصوص الواردة فيما
التشديد على مخالفتها.
ل عَلَيّسدٍ ،فَدَخ َ َ قالت( :ك َان َْت عِندِي امْرَأة ٌ م ِن بَنِي أ َ ْ الحديث الثالث :عن عائشة َ -رضي الل ّه عنها-
ل" :مَه ْ علَيْك ُم ما
ل ،فَذُك ِر َ م ِن صَلَاتِهَا ،ف َقا َ ل الل ّه ِ ﷺ ،ف َقا َ
ل" :م َن هذِه؟" ،قُلتُ :فُلَانَة ُ لا تَنَام ُ بالل ّي ْ ِ ر َسو ُ
ل حت ّى تَمَل ّوا") ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ن الل ّه َ لا يَم َ ّ
ن الأعْمَالِ ،فإ ّ
ن مِ َ
تُط ِيق ُو َ
-يؤكد ُ الحديثُ على ر ب ّانية هذا الد ِّين؛ وذلك في نهي الن ّب ِيّ ﷺ عن الغلو في العبادة في أوّل زمن الن ّب ُو ّة ،إ ْذ
ن آلت بالمؤمن إلى الانقطاع والفتور ،وإن ّما من ر ب ّانية الد ِّين :أ ّ
لم يكن ثمة ُ تجرِبة ٍ عملية ٍ في الز يادة في التعب ّد ْ
س عباده ،ولذا؛ أوحى إلى نبيه ﷺ أ ْن يأمرَ أصحابه بالاعتدال؛ بأ ْن يأتوا من الأعمال ما الل ّه َ عليم ٌ بنفو ِ
ل بالن ّفس إلى الهلاك والضجر والانتكاس.يطيقون ،وأ ْن ينهاهم عن الغلو الذي يؤو ُ
صة ً من جهة عنايته الـكبيرة بطر يقة انتقاء فاـئدة حديثية :ينبغي الاعتناء ُ بس ُنَنِ الإمام النسائ ِيّ خا ّ
ل
الأحاديث الصحيحة فيها؛ وذلك بأسلوب التحري وذكر العلل ،أمّا الأحاديثُ التي لم يذكر ْ لها عللًا؛ فالأص ُ
ل منها متنازع فيه.
الصحة إلا في قلي ٍ
فيها ِّ
غرض العبادة،
َ ل هؤلاء ِ"ْ :
أي :ارموا الجمرات بأمثال هؤلاء الحصيات في الحجم التي تؤدي -قوله ﷺ" :بأمثا ِ
ن القصدَ ليس كسر َ الشاخص (عمود الرمي) وإن ّما أداء ُ العبادة، ولا تبالغوا فترموا بحجارة ٍ كبيرة ٍ؛ لأ ّ
يت وبالصّ فا والمَر ْوة ِ ،ورَمْي ُ الجِمارِ ،لإقامة ِ ذِكر ِ الل ّه ِ ّ -
عز واف بالب َ ِ
ط ُ ل ال ّ
ولذلك؛ قال الن ّبيّ ﷺ" :إن ّما جُع ِ َ
ل."-
وج ّ
ن المجاوزة َ في الح ّدِ
أي أ ّ
ك من كان قبلـَكم ُ الغلو ّ في الد ِّي ِن"ْ :
-قوله ﷺ" :وإي ّاكم والغلو ّ في الد ِّين ،فإن ّما أهل َ َ
سبب من أسباب الهلاك.
ٌ والتش ّدد َ في الد ِّين بالإفراط في العبادات
ج بعد َه ُ
-ي ُ ْذكر ُ هذا الحديثُ في باب دلائل الن ّبو ّة؛ إ ْذ ذكر َ فيه الن ّبيّ ﷺ -من الأمور الغيبية -أن ّه سيخر ُ
خوارج يقاتلون أهل الإسلام ،ثم ذكر ﷺ صفاتهم وعلاماتهم؛ قال أبو سعيدٍ الخدري -رضي الل ّه عنه:-
ن أبِي طَال ٍِب قَاتلََه ُ ْم وأن َا معه ُ ،فأم َرَ ل الل ّه ِ ﷺ ،وأشْهَد ُ أ ّ
ن عَلِيّ ب َ (فأشْهَد ُ أن ِ ّي سَمِعْتُ هذا الحَدِيثَ م ِن ر َسو ِ
ْت الن ّب ِيّ ﷺ الذي نَع َت َه ُ).
ل ،فَالْتم ُ َِس ف َأتِي َ به ،حت ّى نَظَر ْتُ إلَيْه ِ علَى نَع ِ
ك الر ّج ُ ِ
بذل َ
ن فهم َ طبيعة التش ّدد والغلو يُعينُ على فهم الن ّفس البشر ية وفهم الس ُنَن الإلهية في الهداية
-يبي ِّنُ الحديثُ أ ّ
والضلال؛ ومن ذلك :غلو ُ فرقة الخوارج؛ فقد كانوا يتش ّددون في تقييم أنفسهم ز يادة ً مما هي عليه من جهة
- 024 -
حقِ ،وكذلك يغالون في تقييم الآخرين ا نقاصًا مما هم عليه من الفضل والعلم ،وز يادة ً في إسقاطهم
إصابة ال ّ
حق حت ّى فعلوا ذلك مع الن ّب ِيّ ﷺ ،ومن إشكاليات الخوارج -أيضًا -ما يلي:
من جهة عدم إصابة ال ّ ِ
-١أ ّنهم لا يبصرون حسنات الآخرين ونفعهم للن ّاس إذا لم يوافقوهم في الجزئية التي يؤمنون بها.
-٢أ ّنهم يتجرأون على حدود الد ِّين المحكمة؛ كعصمة دم المسلم ،والأخو ّة بينَ المؤمنين ،وتكفير المسلمين.
-٣أ ّنهم يجهلون بس ُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ ولا يأخذونها بشمولية ٍ؛ ولديهم انعدام ٌ في الن ّظر الشمولي للفقه في الد ِّين.
ل على اعتدال أهل الس ُن ّة :أن ّه مع ما ورد َ في الخوارج من النصوص الصحيحة
-ومن المفارقات التي تد ّ
بعض المبتدعة
َ ن جماهير أهل العلم يقولون بعدم كفرهم ،وفي المقابل :قد تجد ُ
الصر يحة في الوعيد ،إلا أ ّ
نص صريح ٌ أو وعيدٌ شديد ٌ ،بل يكفرونهم لمجر ّد الخطأ أو الالتباس في مسألة ٍ ما؛
يكفرون أناسًا لم ير ْد فيهم ّ
قاموا بتقليد بعض أهل العلم فيها.
ن عبد البر -رحمه الل ّه -في كتابه (التمهيد)( :وكان الصحابة ُ -رضي الل ّه عنهم -وهم الذين
-٣قال الإمام اب ُ
ل ،منهم:
حفظ القرآنَ كل ّه و يكْ م ِل ُه ُ على عهد رسول الل ّه ﷺ إلا قلي ٌ
خُوطبوا بهذا الخطاب ،لم يكن منهم م َن ي ُ
-الخ ُلاصة ُ من هذه النصوص :أ ْن نفقه َ حقيقة َ تربية الن ّب ِيّ ﷺ لأصحابه على التعامل مع القرآن؛ لنتأسى بها
ونُفعّ ِل ُها في أنفسنا ومعاهدنا؛ إذ من أهم الأمور المركز ية في الإصلاح :إعادة ُ تعر يف المُصلحين للعلاقة
بالقرآن في نفوس المتربين بما كانت عليه طبيعة تلك العلاقة في تربية الن ّب ِيّ ﷺ.
ن عَبْدَ الل ّه ِ ب ْ َ
ن ع ُم َر َ مَكَثَ عَلَى سُورَة ِ ال ْبَق َرَة ِ ج الإمام ُ مالك -رحمه الل ّه -في (الموطأ)( :أن ّه ُ بلََغ َه ُ أ ّ
-ولق ْد أخر َ
تح ْق ِر ُونَ
ج ف ِيك ُ ْم قَوْم ٌ َ
يخ ْر ُ ُ
ثَمَانِي سِنِينَ يَتَع َل ّمُه َا) ،أورد َ الإمام ُ مالك هذا الأثر بعد سياقه لقول الن ّب ِيّ ﷺَ " :
جر َه ُ ْم
ن الْقُر ْآنَ وَل َا يُجَاوِز ُ حَنَا ِ
صَلَاتَك ُ ْم م َ َع صَلَاتِه ِ ْم وَصِيَامَك ُ ْم م َ َع صِيَامِه ِ ْم و َأعْمَالـَك ُ ْم م َ َع أعْمَالِه ِ ْم يَقْر َءُو َ
ل متق ّدِم ٌ للإمام مالك؛ إ ْذ فيه مقارنة ٌ ن م ِنْ الد ِّي ِن م ُرُوقَ الس ّ ْه ِم م ِنْ الر ّم ِي ّة ِ"؛ وهذا الترتيبُ فيه فقه ٌ عا ٍ يَم ْر ُقُو َ
ق مقاصد القرآن من الاهتداء به ،وحالة ٍ من
بينَ حالتين في تلقي القرآن؛ حالة ٍ من الإكثار في التلاوة لا تُح ّق ِ ُ
ق
ن من أهم أسباب العصمة من الضلال -فيما يتعل ّ ُ
ق مقاصد القرآن (وفي ذلك :بيانُ أ ّ
التأن ِ ّي في التلقي تُح ّق ِ ُ
ن الأخذِ للقرآن).
بالغلو في الد ِّين تحديد ًا -حُس َ
ُف نَهَرٍ إذا الحديث السابع :عن الأزرق ابن قيس قال( :ك ُن ّا بالأه ْوَازِ نُق َات ِ ُ
ل الحَر ُورِ ي ّة َ ،فَبي ْنَا أن َا علَى جُر ِ
ي- شعْب َة ُ :هو أبو بَرْزَة َ الأسْ لَم ِ ّل ُ
ل يَت ْب َعُه َا -قا َ
جع َ َ
ت الد ّاب ّة ُ تُنازِع ُه ُ و َ
ل يُصَل ِّي ،وإذا لِ جا َم ُ داب ّتِه ِ بيَدِه ِ ،فَجَعَل َ ِرَج ُ ٌ
ل :إن ِ ّي سَمِعْتُ قَو ْلـَكُمْ ،وإن ِ ّي شيْخُ ،قا َ
َف ال ّ شي ِْخ ،فلَم ّا ان ْصَر َ
ل :الل ّه ُ ّم افْع َلْ بهذا ال ّ ِج يقو ُ ن الخَوَار ِ ل مِ َ
ل رَج ُ ٌ
فَجَع َ َ
كن ْتُ أ ْن َات -وثَم َانِي َ وشَهِدْتُ تَيْسِيرَه ُ ،وإن ِ ّي إ ْن ُ سب ْ َع غ ََزو ٍ َات -أ ْو َ ِت غ ََزو ٍ ل الل ّه ِ ﷺ س ّ غ ََزوْتُ مع ر َسو ِ
ج ُع إلى م َأْ لَفِه َا فَيَش ُقّ عَلَيّ) ،أخرج َه ُ البخاريّ .
َب إلَيّ م ِن أ ْن أدَعَه َا تَرْ ِ
ج َع مع د َاب ّتي أح ّ
أر َا ِ
ن أحد منهجيات فهم الد ِّين؛ وهي الن ّظر ُ الشموليّ في هدي الن ّب ِيّ ﷺ؛ ثم اتخاذ المظل ّات
-هذا الحديثُ في بيا ِ
منه وإسقاطها على أفراد الحوادث الجزئية ،ومن تلك المظل ّات :التيسير ُ ،كما قال أبو بَرْزة َ( :وشَهِدْتُ
خفيف؛ فكان ما فعَلَه ُ في منازعة دابته أثناء َ صلاته
َ أي :رأىَ من هدي الن ّب ِيّ العا ِمّ :التيسير َ والت ّ
تَيْسِيرَه ُ)؛ ْ
يأت أهلَه إلّا بالل ّيل.
ن منزلَه ُ كان بعيدًا ،فلو تركها وصل ّى لم ِ
أحب وأيسر َ من أ ْن يترك َ دابته ترجع لمنزله؛ لأ ّ
ّ
- 026 -
-الخوارج :س ُموا الحَر ُورِ ي ّة لخروجهم من بلدة حَر ُوراء َ بق ُرب الـكوفة؛ وهم م َن أنكروا على عل ٍيّ -رضي الل ّه
عنه -التحكيم َ في قتاله مع معاو ية َ -رضي الل ّه عنه ،-ثم قاتلوه ،وك ّفروا المسلمين واستحل ّوا دماءَهم.
ل أبي بَرْزة َ حين تق ّدم َ إلى دابته وهو في الصّ لاة ،فأخذها ورج َع إلى موضع ل من الخوارج فع َ -لما رأىَ رج ٌ
أي :دعا عليه وسب ّه ،وهذا ش ِ
يخ)؛ ْ صلاته قال م ُش ّدِد ًا عليه في أ ْن يترك َ داب ّته تذهب( :الل ّه ّم افع َلْ بهذا ال ّ
من جهل الخوارج بس ُن ّة الن ّب ِيّ ﷺ وانعدام الن ّظرة الشمولية لديهم ،وعدم قدرتهم على عمل الموازنات بينَ
ل الإما ِم أبي حنيفة -رحمه الل ّه.)-
المصلحة والمفسدة؛ ومن التمث ّلات المعاصرة لفكر الخوارج( :تضلي ُ
ل" :يَس ِ ّر ُوا ولا تُعَس ِّر ُوا ،وبَش ِ ّر ُوا ،ولا الحديث الثامن :عن أنس بن مالكٍ -رضي الل ّه عنه -أ ّ
ن الن ّبيّ ﷺ قا َ
تُن َ ّف ِر ُوا" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ل له ولمعاذ بن جبل لم ّا أرسلهما إلى الحديث التاسع :عن أبي موسى -رضي الل ّه عنه( -أ ّ
ن الن ّبيّ ﷺ قا َ
اليمن" :يَس ِّرا ولا تُعس ِّرا ،وبَش ِّرا ولا تُن ّف ِرا ،وتطاوعا ولا تختلفا") ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
-يُبيِّنُ الحديثان شيئًا من المنهج الإصلاحي للن ّب ِيّ ﷺ؛ وهو استصحابُ التيسير وعدم التعسير أثناء َ دعوة
ح في المسائل باعتبار ذلك. الن ّاس ،وأن يكونَ الترجي ُ
ل الذي يؤدي إلى التنفير من
-التبشير ُ هو تحبيبُ النفوس في الد ِّين ،وهو مقصدٌ من مقاصد الد ِّين؛ إذ العم ُ
الد ِّين من أعظم ما حرّمت ْه ُ الشر يعة ُ ،والتنفير ُ بخلاف الإنذار والترهيب بالن ّار والعذاب ،وقد يكونُ الداعي
م ُنف ِرًا بوضعه لأشياء َ من الد ِّين في غير مقامها ولا مقتضى الفقه فيها.
ل
ن من عناوين العمل الجماعي في الإصلاح؛ والتطاوع ُ يُمث ُ
ن لعنوا ٍ
-قوله ﷺ" :وتطاوعا ولا تختلفا" :فيه بيا ٌ
أي :لا تختلفا في الناحية
خلاف ،و"ولا تختلفا"ْ :
ن أ ْن يُسببَ ال َ
حالة ً من التنازل وعدم الإصرار على ما ي ُمك ُ
العملية المترت ّ ِبة على الاختلاف في الرأي والن ّظر.
ل عن
-ي ُؤكد ُ الحديثُ على مركز ية َ التيسير وعدم التشديد في الشر يعة؛ ومن صور التشديد المذمومة :السؤا ُ
ل الوحي بإقراره أو تحريمه بسبب السؤال
الشيء المسكوت عن إقراره أو تحريمه في نصوص الوحي؛ في َنز َ
ن آم َن ُوا ل َا تَسْألُوا ع َنْ أشْ يَاء َ ِإن تُبْد َ لـَك ُ ْم تَسُؤ ْك ُ ْم و َِإن تَسْألُوا عَنْهَا حِينَ يُنَز ّ ُ
ل عنه؛ كما قال تعالى" :ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ
الْقُر ْآنُ تُبْد َ لـَك ُ ْم عَف َا الل ّه ُ عَنْهَا و َالل ّه ُ غَف ُور ٌ ح َل ِيم ٌ".
كن ْتُ أصُوم ُ الد ّه ْر َ و َأق ْرَأ القُر ْآنَ الحديث الحادي عشر :عن عبد الل ّه بن عمرو -رضي الل ّه عنهما -قا َ
لُ ( :
ل ل ِي" :أل َ ْم أخْبَرْ أن ّ َ
ك تَصُوم ُ الد ّه ْر َ و َتَقْرَأ ل إلَيّ فأتَي ْت ُه ُ ،ف َقا َ
س َل :ف َِإمّا ذُكِر ْتُ للنب ِيّ ﷺ ،وإمّا أ ْر َ ل لَيْلَة ٍ ،قا َكُ ّ
لك أ ْن تَصُوم َ م ِن ك ُ ّ ِ ن بحَسْب ِ َل" :فإ ّ ك إلّا الخيَْر َ ،قا َ ل لَيْلَة ٍ؟" ،فَق ُلتُ :بلََى ،يا نَبِ ّي الل ّهِ ،و َل َ ْم أرِ ْد بذل َ
القُر ْآنَ ك ُ ّ
ح ًّ ّقا ،و َل ِز َ ْورِك َ
ك َك عَلَي ْ َ ج َن ل ِز َ ْو ِ
ل" :فإ ّ
ل م ِن ذلكَ ،قا َ ض َ ش َ ْهرٍ ثَلَاثَة َ أي ّا ٍم" ،قُلتُ :يا نَبِ ّي الل ّهِ ،إن ِ ّي أطِي ُ
ق أف ْ َ
ل قُلتُ : س" ،قا َ صوْم َ د َاوُد َ نَبِ ِ ّي الل ّه ِ ﷺ ،فإن ّه كانَ أعْبَد َ الن ّا ِم َ ح ًّ ّقا" ،قا َ
ل" :ف َص ُ ْ ك َ ح ًّ ّقا ،و َلِ جَسَدِك َ عَلَي ْ َ
ك َ
عَلَي ْ َ
ل
ل ش َ ْهرٍ" ،قا َ ل" :و َاق ْرَأ ِ القُر ْآنَ في ك ُ ّ ِ
ل" :كانَ يَصُوم ُ يَوْم ًا و َي ُ ْفط ِر ُ يَوْم ًا" ،قا َصوْم ُ د َاوُد َ؟ ،قا َيا نَبِ ّي الل ّهِ ،و َما َ
ل قُلتُ :يا نَبِ ّي الل ّهِ ،إن ِ ّي ن" ،قا َ ل عِشْرِي َل" :فَاق ْرأْ َ ه ُ في ك ُ ّ ِ ل م ِن ذلكَ ،قا َ ض َ قُلتُ :يا نَبِ ّي الل ّهِ ،إن ِ ّي أطِي ُ
ق أف ْ َ
ل:
ل م ِن ذلكَ ،قا َ ض َ ق أف ْ َل قُلتُ :يا نَبِ ّي الل ّهِ ،إن ِ ّي أطِي ُ ل عَشْرٍ" ،قا َ ل" :فَاق ْرأْ َ ه ُ في ك ُ ّ ِ
ل م ِن ذلكَ ،قا َ ض َ
ق أف ْ َ أطِي ُ
ح ًّ ّقا ،و َلِ جَسَدِك َ عَلَي ْ َ
ك ك َح ًّ ّقا ،و َل ِز َ ْورِك َ عَلَي ْ َ
ك َ
ك عَلَي ْ َج َ سب ٍْع ،وَل َا تَز ِ ْد علَى ذلكَ ،فإ ّ
ن ل ِز َ ْو ِ ل َ"فَاق ْرأْ َ ه ُ في ك ُ ّ ِ
ل:
ك عُم ْر ٌ" .قا َ
لب َ
ك يَط ُو ُ
ك لا ت َ ْدرِي لَع َل ّ َ
ل لي النبيّ ﷺ" :إن ّ َ
ل :و َقا َ ح ًّ ّقا" .قا َ
ل :فَش َ ّددْتُ ،فَش ُ ّدِد َ عَلَيّ .قا َ َ
كن ْتُ قَبِل ْتُ ر ُخْ صَة َ نَبِ ِ ّي الل ّه ِ ﷺ) ،أخرج َه ُ
ل لي النبيّ ﷺ ،فَلَم ّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أن ِ ّي ُ
فَصِرْتُ إلى الذي قا َ
البخاريّ ومسلم ٌ واللفظ له.
-ي ُبيِّنُ الحديثُ وجه ًا من تربية الن ّب ِيّ ﷺ لأصحابه؛ وهو ممارسة ُ التربية ممارسة ً عملية ً فعلية ً ،وهذا مما ينبغي أ ْن
البلاغ القولي؛ كما يقول الشاطبي - ِ حرص المُصلح على الاقتداء به في دعوته للن ّاس ،ولا يقتصر ُ على مجر ّد ي َ
ب لَه ُ ْم بِقَو ْلِه ِ و َفِعْلِه ِ؛ ف َِإن ّه ُ و َارِثُ
ن الد ِّي ِن مُن ْت َصِ ٌ
س فِي بَيَا ِ
ن ال ْمُن ْت َصِ بَ لِلن ّا ِ
رحمه الل ّه -في كتابه (الموافقات)( :أ ّ
ُوث ،و َِإلّا ل َ ْم يَكُنْ ك ال ْوَارِثُ ل َا بُدّ أ ْن يَق ُوم َ مَق َام َ ال ْمَوْر ِ الن ّب ِ ِيّ ﷺ ،و َالن ّبِيّ ﷺ ك َانَ م ُبَي ِّنًا بِقَو ْلِه ِ و َفِعْلِه ِ؛ فَكَذَل ِ َ
ن الْأحْك َام َ م ِنْ أق ْوَالِه ِ و َأفْع َالِه ِ ن الصّ ح َابَة َ -رِضْ وَانُ الل ّه ِ عَلَيْه ِ ْم -ك َانُوا يَتَل َ ّقو ْ َ و َارِث ًا عَلَى الْحَق ِيقَة ِ ،وَمَعْلُوم ٌ أ ّ
ل؛ ح ّفظِ فِي الْقَو ْ ِ ل كَمَا فِي الت ّ َ
ح ّفظِ فِي ال ْفِعْ ِ ن فِي الت ّ َ ك ال ْوَارِثُ ،ف َِإ ْن ك َا َ ِيع أحْ وَالِه ِ؛ فَكَذَل ِ َ سكُوتِه ِ وَجَم ِو َِإق ْرَار َاتِه ِ و َ ُ
اف ال ْهُد َى ،لـَكِنْ ن ات ّبَع َه ُ عَلَى خِل َ ِ ك صَار َ م َ ِ اف ذَل ِ َ ن ات ّبَع َه ُ عَلَى هُدًى ،و َِإ ْن ك َانَ عَلَى خِل َ ِ ك وَصَار َ م َ ِ فَه ُو َ ذَل ِ َ
بِس َبَبِه ِ).
ل إلى الانقطاع؛
-ي ُبرز ُ الحديثُ توجيه َ الن ّب ِيّ ﷺ لأصحابه على الاعتدال في العبادة وعدم التشديد الذي يؤو ُ
ن مركز ية َ العبودية وأفضلية َ درجاتها في المداومة على العمل.لأ ّ
م ُق ّدِمة ٌ:
ن بابَ الأخلاق من الأبواب التكميلية ،بينما م َن يقرأ في نصوص الوحي رابطًا بينَ
البعض أ ّ
ُ ن
-قد يظ ُ
ي مركزيّ في الشر يعة،
باب أساس ّ
ٌ ن بابَ الأخلاق
ج المقاصد الكلية؛ سيجد أ ّ
النصوص الجزئية ل ِي َستخر َ
نصوص الباب.
ُ وهذا الذي ستُبي ِّن َه ُ
الباب:
ِ شواهد ُ
ن الْف َحْ ش َاء ِ و َال ْمُنكَر ِ
ن و َِإيتَاء ِ ذِي الْقُر ْبَى و َيَنْهَ ى ع َ ِ
ل و َال ِْإحْ س َا ِ الآية الأولى :قال تعالىِ " :إ ّ
ن الل ّه َ ي َأْ م ُرُ ب ِالْع َ ْد ِ
ن":
و َالْبَغ ِْي ۚ يَعِظُك ُ ْم لَعَل ّـك ُ ْم تَذَك ّر ُو َ
جاءت
ْ ل الأخلاق؛ ولأجل ذلك:
جمعت خِصا َ
ْ -تُبيِّنُ الآية ُ قيمة َ هذه الأعمال من الأوامر والنواهي التي
ل على عظمة ِ هذه الأعمال عند َ
أسلوب الأمر الغير مباشر -وهي صيغة ٌ غير متكررة ٍ في القرآن -لِت َد ّ
ِ صيغة ُ
الل ّه.
ن ب ِالل ّه ِ
ِب و َلََٰكِنّ ال ْبِر ّ م َنْ آم َ َ
ق و َال ْمَغْر ِ
ل ال ْمَشْر ِ ِ الآية الثانية :قال تعالى" :ل ّي َ
ْس ال ْبِر ّ أن تُوَل ّوا وُجُوهَك ُ ْم ق ِب َ َ
ل
سب ِي ِ
ن ال ّ
ل عَلَى حُبِّه ِ ذَوِي الْقُر ْبَى و َال ْيَت َام َى و َال ْمَس َاكِينَ و َاب ْ َ
اب و َالن ّب ِيِّينَ و َآتَى ال ْمَا َ
خر ِ و َال ْمَلَائِكَة ِ و َالْكِت َ ِ
و َال ْيَو ْ ِم الْآ ِ
ن فِي الْب َأْ سَاء ِ
ن بِع َ ْهدِه ِ ْم ِإذ َا عَاهَد ُوا َۖ و َالصّ ابِر ِي َاب و َأقَام َ الصّ لَاة َ و َآتَى الز ّك َاة َ و َال ْم ُوفُو َ سائِلِينَ و َفِي الر ِّق َ ِ و َال ّ
ن":ك هُم ُ ال ْمُت ّق ُو َ صد َقُوا َۖ و َأولََٰئ ِ َ
ن َ
ك ال ّذ ِي َ
س ۗ أولََٰئ ِ َو َالض ّر ّاء ِ وَحِينَ ال ْب َأْ ِ
ل
-في الآية ِ ذكر ٌ لجوامع الد ِّين مربوطة ٍ باسم البر؛ ومنها :الأمور ُ المتعل ِّقة ُ بدوائر الإحسان والصلة ،وهذا مما يد ّ
على مركز ية الأخلاق في الد ِّين.
ل الل ّه ِ ﷺ ع َ ِ
ن البِرِّ الحديث الأوّل :عن النواس بن سمعان الأنصاري -رضي الل ّه عنه -قا َ
ل( :سَأل ْتُ رَسُو َ
اس") ،أخرج َه ُ
طلــِ َع عليه الن ّ ُ
سكَ ،وَكَرِه ْتَ أ ْن ي َ ّ
َالإثْم ُ ما ح َاك َ في ن َ ْف ِ
ن الخُلُقِ ،و ِ
س ُ
ح ْ
َالإ ْثمِ ،ف َقالَ" :البِر ّ ُ
و ِ
مسلم ٌ.
ن اسم َ البر ر ُب َِط
ل عن البر جاء َ في مقابل الإثم ،وأ ّ
ن السؤا َ
حسن الخلق؛ خاصّ ة ً أ ّ-يُؤكد ُ الحديثُ على مركز ية ُ
في الآية السابقة بأركان الإيمان.
ن
ن المؤم ِ ل" :ما م ِن شيء ٍ أثق ُ
ل في ميزا ِ الحديث الثالث :عن أبي الدرداء -رضي الل ّه عنه -أ ّ
ن الن ّبيّ ﷺ قا َ
الفاحش البذيء َ" ،أخرج َه ُ أبو داود والترمذيّ ؛ وقال :هذا
َ بغض
ن الل ّه َ ي ُ ُ
ن وإ ّ
ق حس ٍ
يوم َ القيامة ِ من خ ُل ٍ
ح.ن صحي ٌ
حس َ ٌ
حديثٌ َ
حسن الخلق وأهميته في الد ِّين.
حديث دلالة ٌ واضحة ٌ على مركز ية ُ
-في ال ِ
الحديث الرابع :عن عبد الل ّه بن عمر -رضي الل ّه عنهما -عن الن ّب ِيّ ﷺ قال" :المسلم ُ من َ
سل ِم َ المسلمونُ من
لسانه ِ ويَدِه ِ ،والمهاجر ُ من هَج َر َ ما نهى الل ّه ُ عنه ُ" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ربط لتعر يف المسلم بكونه الجامع لهذه الخ ِصال الحسنة
ٌ ن الخلق في الد ِّين؛ إذ فيه
-يُبرز ُ الحديثُ مركز ية َ حُس ِ
من الأخلاق؛ وهي :عدم ُ إيذاء المسلمين بقولٍ؛ كالـكذب والغيبة والفري في الأعراض -لاسيما أعراض
ل؛ كالضرب والبطش والسرقة والقتل.
العلماء والأئمة -والسباب والزور ،أو بفع ٍ
ل لأخِيه ِ: س -رضي الل ّه عنهما -قال( :لَم ّا بلَ َ َغ أب َا ذ َ ٍرّ مَبْع َثُ الن ّب ِيّ ﷺ ،قا َ الحديث الخامس :عن ابن عبا ٍ
سم َاءِ ،واسْم َعْ م ِن
ن ال ّ
ل الذي يَزْعُم ُ أن ّه نَبِ ّي ،ي َأْ تيِه ِ الخبَ َر ُ م ِ َ
َب إلى هذا الوَادِي ،فَاع ْل َ ْم لي عِلْم َ هذا الر ّج ُ ِ
ا ْرك ْ
ل له :ر َأي ْت ُه ُ ي َأْ م ُرُ بمَك َارِ ِم
ج َع إلى أبِي ذ َ ٍرّ ف َقا َ
خ حت ّى قَدِم َه ُ ،وسَم ِ َع م ِن قَو ْلِه ِ ،ث ُم ّ ر َ َ ق الأ ُ
قَو ْلِه ِ ث ُم ّ ائْتِنِي ،فَانْطَل َ َ
شعْرِ) ،أخرج َه البخاريّ . الأخْلَاقِ ،وك َلَام ًا ما هو بال ِّ
ن
كن ْتُ و َأن َا في الجا َه ِلِي ّة ِ أظُنّ أ ّ سلَم ِ ِ ّي -رضي الل ّه عنه -قالُ ( : الحديث السابع :عن عَم ْر ُو ب ِن عَبَس َة َ ال ّ
يخ ْب ِر ُ أخْ بَار ًا ،فَقَعَدْتُ اس علَى ضَلَالَة ٍ ،و َأ ّنه ُ ْم لَيْس ُوا علَى شيء ٍ و َه ُ ْم يَعْبُد ُونَ الأوْث َانَ ،فَسَمِعْتُ برَج ُ ٍ
ل بمَك ّة َ ُ الن ّ َ
طفْتُ حت ّى ل الل ّه ِ صَل ّى الل ّه ُ عليه و َ َ
سل ّم َ مُسْت َخْ ف ِيًا جُر َآء ُ عليه قَوْم ُه ُ ،فَتَل َ ّ علَى ر َاحِلَتِي ،فَقَدِمْتُ عليه ،ف َِإذ َا ر َسو ُ
ي ش َيءٍدَخ َل ْتُ عليه بمَك ّة َ ،فَق ُلتُ له :ما أن ْتَ ؟ قالَ :أن َا نَبِ ّي ،فَق ُلتُ :و َما نَبِ ّي؟ قالَ :أ ْرسَلَنِي الل ّهُ ،فَق ُلتُ :و َب ِأ ّ ِ
ك
كسْر ِ الأوْث َانِ ،و َأ ْن يُوَح ّد َ الل ّه ُ لا يُشْرَك ُ به ش َيءٌ ،قُلتُ له :فم َن مع َ
أ ْرسَلَكَ؟ قالَ :أ ْرسَلَنِي بصِ لَة ِ الأ ْرح َا ِم ،و َ َ
علَى هذا؟ قالَ :حُرّ وَعَبْدٌ) ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
-٢أ ّنهم كانوا يفردونه بالتأليف؛ ككتاب (الأدب المفرد) للإمام البخاري.
-٣أ ّنهم كانوا يفردون التأليف في ٍ
نوع معي ّنٍ من باب الأخلاق والآداب؛ ككتاب (التبيان في آداب حملة
القرآن) للإمام النووي ،وكتاب (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) للخطيب البغدادي.
-٤أ ّنهم كانوا يضمنون بابَ الأخلاق والآداب في بعض أبواب الـكتب المتخصصة في بعض العلوم
ن باب ْي (آداب المح ّدِث) ،و(آداب طالب
الشرعية؛ ككتاب (علوم الحديث) لابن الصلاح؛ حيثُ تضم َ
الحديث).
ن العلماء َ أدركوا قيمة َ باب الأخلاق والآداب والسلوك؛ فاعتنوا به وجعلوا له تأصيلات -والخلاصة ُ أ ّ
الطالب للعلم وبينَ تحقيقه
ِ ل بينَ تحقيق
ل من قيمته أو الفص ُ
وتصانيف ،ولذا؛ لا ينبغي التزهيد ُ والتقلي ُ
للأخلاق والآداب والسلوك.
يض
ل بمكارم الأخلاق ليس بالأمر اليسير على الن ّفس؛ إذ فيه مكابدة ٌ وترو ٌ
ق بالآداب والامتثا ُ
-والتخل ّ ُ
للن ّفس ،وقبل ذلك الاستعانة بالل ّه وابتغاء وجهه بهذا العمل.
الباب:
ِ ن
ل عنوا ِ
تفصي ُ
ي متكر ٍر في يومه؛ في ُرشد ُ البابُ واحتياج أساس ٍ ّ
ٍ مطلب
ٍ -يأتي هذا البابُ بعدما يُدرك ُ الإنسانُ قيمة َ الهداية ك
ك ل َا
ل شأنُه ُِ " :-إن ّ َ
ن الهداية َ من الل ّه كما قال -ج ّ
صّلة إليها؛ إذ أ ّ ِ
لمواضع الهداية ومفاتيحها وأسبابها المو ِ الإنسانَ
ك كَت َبَ فِي قُلُو بِهِم ُ
ن" ،وقال أيضًا" :أولََٰئ ِ َ تَهْدِي م َنْ أحْ بَب ْتَ و َلََٰكِنّ الل ّه َ يَهْدِي م َن يَش َاء ُ ۚ و َه ُو َ أع ْلَم ُ ب ِال ْمُهْتَدِي َ
صِلةالبحث عن المفاتيح والأسباب المو ّ ّ ال ِْإ يمَانَ" ،أمّا المطلوبُ من العبدِ :فهو إدراك ُ قيمة تطل ّب الهداية ،ثم ّ
إليها.
الباب:
ِ شواهد ُ
الآية الأولى :قال تعالى" :وَم َن يَعْتَص ِم ب ِالل ّه ِ فَق َ ْد هُدِيَ ِإلَى صِر َاطٍ مّسْت َق ٍِيم":
اسمفتاح من مفاتيح الهداية؛ وهو الاعتصام ُ بالل ّه -سبحانه-؛ كما قال تعالى" :ي َا أ ّيهَا الن ّ ُ ٍ تكشف الآية ُ عن ُ -
ن آم َن ُوا ب ِالل ّه ِ و َاعْت َ َ
صم ُوا بِه ِ فَسَي ُ ْدخِلُه ُ ْم فِي رَحْمَة ٍ ق َ ْد ج َاءَكُم بُرْه َا ٌ
ن مّ ِن رّ بِّك ُ ْم و َأنزَلْنَا ِإلَيْك ُ ْم نُور ًا مّب ِينًا * ف َأمّا ال ّذ ِي َ
يض الأمر إليه ل و َيَهْدِيه ِ ْم ِإلَيْه ِ صِر َاطًا مّسْتَق ِيم ًا" ،والاعتصام ُ هو الاحتماء ُ بالل ّه والالتجاء ُ وتفو ُ مِّن ْه ُ و َف َضْ ٍ
وأساس الاعتصا ِم هو القلبُ ،ولا يكونُ الاعتصام ُ إلا بتما ِم التوحيدِ في قلب
ُ والتوكّل عليه والاستعانة ُ به،
العبد.
ل م َن يَش َاء ُ و َيَهْدِي ِإلَيْه ِ م َنْ أن َابَ ": الآية الثانية :قال تعالى" :قُلْ ِإ ّ
ن الل ّه َ يُضِ ّ
الآية الخامسة :قال تعالى" :قُلْ هََٰذِه ِ سَب ِيل ِي أ ْدع ُو ِإلَى الل ّه ِ ۚ عَلَى بَصِ يرَة ٍ أن َا وَم َ ِ
ن ات ّبَعَنِي":
ن من أسباب الهداية :اتِّباع َ الن ّب ِيّ ﷺ ،ومن شواهد ذلك :قولُه تعالى " :و َِإن تُط ِيع ُوه ُ تَه ْتَد ُوا"، -ت ُ ِ ّ
وضح ُ الآية ُ أ ّ
ًّ
إضافي ّا على مجر ّد أمرا ن الدعاء َ بالهداية من أعظم أسباب تحصيلها ،ثم بي ّنَ الحديثُ -وأفاد َ الحديثُ -أيضًا -أ ّ
ً
ك
الدعاء؛ وهو الاستحضار ُ والتذك ّر ُ وحضور ُ القلب أثناء َ الدعاء بالهداية؛ في قوله ﷺ" :و َا ْذكُر ْ بالهُد َى هِد َايَت َ َ
سد َاد َ الس ّ ْه ِم".
سد َادِ َ
طرِ يقَ ،و َال ّ
ال ّ
الحديث الثاني :عن عبد الل ّه بن مسعود -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ أن ّه كان يقول" :الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أسْ أل ُ َ
ك
َاف و َال ْغ ِن َى" ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
الهُد َى و َالت ّقَى ،و َالْعَف َ
- 033 -
أمرا متكرر ًا باستمرا ٍر في دعاء الن ّب ِيّ ﷺ ،وهذا ظاهر ٌ في دلالة قول ابن
ن الدعاء َ بالهداية كان ً -ي ُ ِ ّ
وضح ُ الحديثُ أ ّ
ن لمركز ية مطلب الهداية.
ل)؛ وفي هذا بيا ٌ
مسعودٍ( :كانَ يقو ُ
ي ش َيء ٍ
ْف ،قالَ( :سَأل ْتُ عَائِش َة َ أمّ المُؤْم ِنِينَ :بأ ّ ِ الحديث الثالث :عن أبي سَلَم َة َ ب ِن عبدِ الر ّحْم َ ِ
ن ب ِن عَو ٍ
َب
ح صَلَاتَه ُ" :الل ّه ُ ّم ر ّ
ل اف ْتَت َ َ
ن الل ّي ْ ِ
ت :كانَ إذ َا قَام َ م ِ َل؟ ،قال َ ْ
ن الل ّي ْ ِ كانَ نَبِ ّي الل ّه ِ ﷺ يَفْتَت ِ ُ
ح صَلَاتَه ُ إذ َا قَام َ م ِ َ
تحْكُم ُ بيْنَ عِبَادِك َ ْب و َالش ّه َادَة ِ ،أن ْتَ َ ات و َالأ ْرضِ ،عَالِم َ الغَي ِ
سم َو َ ِ جبْر َائيِلَ ،وَم ِيك َائيِلَ ،وإسْر َاف ِيلَ ،فَاطِر َ ال ّ ِ
ك تَهْدِي م َن تَش َاء ُ إلى صِر َاطٍ مُسْت َق ٍِيم")،
ق بإذْنِكَ؛ إن ّ َ
ن الح َ ّ ِ
يخ ْتَلِف ُونَ ،اهْدِنِي لِما اخْ تُل َِف فيه م ِ َ
ف ِيما ك َانُوا فيه َ
أخرج َه ُ مسلم ٌ أبو داود واللفظ له.
-يُبيِّنُ الحديثُ باب ًا عظيم ًا من أبواب العبودية لل ّه؛ فالن ّبيّ ﷺ مع كونه الهادي -هداية الدلالة والإرشاد-
والداعي إلى الخير ،إلا أن ّه ُ ﷺ يستحضر ُ احتياج َه ُ إلى هداية سيده ومولاه ،وفي هذا تأكيدٌ على أهمية
ن من أعظم وسائلها :الدعاء َ بها مع الاستحضار وحضور القلب.
مطلب الهداية ومركزيتها ،وعلى أ ّ
الغفاري -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ فيما روى عن الل ّه -تبارك وتعالى-
ِّ الحديث الرابع :عن أبي ذر
مح َر ّم ًا ،فلا تَظ َالَم ُوا ،يا عِبَادِي ،ك ُل ّـك ُ ْم
جع َل ْت ُه ُ بي ْنَك ُ ْم ُ
ظلْم َ علَى ن َ ْفس ِي ،و َ َ
أن ّه قال" :يا عِبَادِي ،إن ِ ّي حَرّمْتُ ال ّ
ل إلّا م َن هَدَي ْت ُه ُ ،فَاسْ تَهْد ُونِي أهْدِك ُ ْم" ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
ضَا ّ
ن الدعاء َ وسيلة ٌ للهداية ،كما ي ُرشد ُ الحديثُ إلى مقدارِ افتقارِ واحتياج العبد إلى الهداية.
-يُؤكد ُ الحديثُ على أ ّ
- 034 -
المحاضرة الثالثة والعشرون :أهمية ُ الصُحبة ِ الصالحة ِ ،وخطورة ُ التفر ّق
ب في الل ّه ِ، ل الح ُ ِّ
بابُ أهمية ِ الصُحبة ِ الصالحة ِ وفض ُ
واختلاف الكلمة ِ
ِ ِ
والتنازع ق
وخطورة ِ التفر ّ ِ
م ُق ّدِمة ٌ:
خو ّة والتعاون والتآلف بينَ المؤمنين والتحذير من التفر ّق والشتات فيما بينهم،
-هذا البابُ في مركز ية ِ الأ ُ
وهذا مما يحتاج ُه ُ المسلمون وطلابُ العلم والمُصلحون في السياق الدعوي والإصلاحي ،وهذه المركز ية ُ من
موقف
ُ مركز يات الشر يعة المؤكدة في كتاب الل ّه وسُن ّة رسوله ﷺ القولية وسيرته العملية؛ ومن شواهد ذلك:
المؤاخاة بينَ المهاجرين والأنصار.
الباب:
ِ شواهد ُ
ي يُر ِيد ُونَ و َجْ ه َه ُ".
ن ي َ ْدع ُونَ ر َ ّبه ُم ب ِالْغَد َاة ِ و َالْعَش ِ ِ ّ الآية الأولى :قال تعالى" :و َاصْ بِرْ ن َ ْفس َ َ
ك م َ َع ال ّذ ِي َ
الآية الثانية :قال تعالىِ " :إن ّمَا ال ْمُؤْم ِن ُونَ ِإخْ وَة ٌ ف َأصْ لِحُوا بَيْنَ أخَو َيْك ُ ْم".
يح ِب ّونَه ُ
يحِبّه ُ ْم و َ ُ
ْف ي َأْ تِي الل ّه ُ بِقَو ْ ٍم ُ الآية الثالثة :قال تعالى" :ي َا أ ّيهَا ال ّذ ِي َ
ن آم َن ُوا م َن يَرْتَدّ م ِنك ُ ْم ع َن دِينِه ِ فَسَو َ
ن".
أذِل ّة ٍ عَلَى ال ْمُؤْم ِنِينَ أع ِّزة ٍ عَلَى الْك َافِرِي َ
ش ّداء ُ عَلَى ال ْـكُ ّفارِ رُحَمَاء ُ بَيْنَه ُ ْم". ل الل ّه ِ ۚ و َال ّذ ِي َ
ن مَع َه ُ أ ِ الآية الرابعة :قال تعالى" :م ّحَم ّدٌ رّسُو ُ
الآية الخامسة :قال تعالى" :و َال ْمُؤْم ِن ُونَ و َال ْمُؤْم ِنَاتُ بَعْضُه ُ ْم أوْلِيَاء ُ بَعْ ٍ
ض".
-تُبرز ُ الآياتُ تكرار َ ذكر ِ الل ّه لمفهوم الولاء والموالاة بينَ المؤمنين؛ وذلك لإثبات وترسيخ هذا المعنى في قلوب
والتآلف والتعاونُ.
ُ ل تحتَ هذا المفهوم :المحبة ُ والن ُصرة ُ
المؤمنين ،ومن أهم ما يدخ ُ
ن
ن لِل ْمُؤْم ِ ِ الحديث الأوّل :عن أبي موسى الأشعري -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ قال"( :إ ّ
ن المُؤْم ِ َ
ك أصَابِع َه ُ) ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ن يَش ُ ّد بَعْضُه ُ بَعْضًا" ،وشَب ّ َ
ك َال ْبُن ْيَا ِ
ن إقامة َ الولاء والتآزر من مقتضيات الإيمان ،وتزداد ُ أهمية ُ هذه الإقامة؛ إذا ضع َُف جزء ٌ -يُؤكد ُ الحديثُ أ ّ
والتآلف.
ُ ل حدوث الوحدة ِ الش ّدِ والتناصر ِ
من البناء ،فهنا ينبغي التقارّبُ بينَ لبناته من أج ِ
سل ِم َ
سل ِم ُ م َن َ
يرتبط هذا البابُ باسم الإيمان فحسب ،بل ر ُب َِط باسم الإسلام أيضًا؛ فقال الن ّبيّ ﷺ" :الم ُ ْ
ْ -ولم
ن لقيمة ِ الباب ومركزيت ِه ِ وأهميت ِه ِ في الد ِّين.
سل ِم ُونَ م ِن لِسَانِه ِ ويَدِه ِ" ،وفي هذا الربط بيا ٌ
الم ُ ْ
-يُؤكد ُ الحديثُ على قضية الأخو ّة الإيمانية؛ وفي تضافرِ نصوص الوحي على تأكيد وتثبيت هذا المعنى دلالة ٌ
ق بفقه الموازنات بينَ المصالح والمفاسد؛ ومن ذلك :وجوبُعلى مركزيته في الشر يعة ،وهذه المركز ياتُ تتعل ّ ُ
يتوقف
ُ تقدي ِم مصلحة ِ جَم ْ ِع كلمة المؤمنين والألفة فيما بينهم وعدم تفر ّقهم ،على غيرها من المصالح التي لا
ل من أصول الإسلام ،أو صحة ُ فر يضة ٍ من فرائضه.
عليها أص ٌ
يحامي عنه.
أي :لا ي ُ ْسل ِم ُه ُ إلى عدوِّه ِ؛ فلا يترك ُه ُ صيدًا سهل ًا له ،بل ي ُداف ُع و ُ
-قوله ﷺ" :ول َا يُسْل ِم ُه ُ"ْ :
جش ُوا،
سد ُوا ،ولا تَنا َ ل الل ّه ﷺ"( :لا تَحا َ ل رسو ُ الحديث الثالث :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -قا َ
ل :قا َ
سلِمِ ،لا ضك ُ ْم علَى بَي ِْع بَعْضٍ ،وكُونُوا عِباد َ الل ّه ِ إخْ وان ًا .الم ُ ْ
سل ِم ُ أخُو الم ُ ْ ولا تَباغَضُوا ،ولا ت َداب َر ُوا ،ولا يَبِعْ بَعْ ُ
ن الش ّر ِّ أ ْن
ْب ا ْمر ِئٍ م ِ َ
ات" .بحَس ِ
ص ْدرِه ِ ثَلاثَ م َّر ٍ
يح ْق ِرُه ُ .الت ّقْو َى هاه ُنا" ،ويُشِير ُ إلى َ
يخْذُلُه ُ ،ولا َ
يَظْل ِم ُه ُ ،ولا َ
سل ِ ِم ح َرام ٌ؛ دَم ُه ُ ،ومالُه ُ ،وع ِْرضُه ُ") ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
سل ِ ِم علَى الم ُ ْ
ل الم ُ ْ
سل ِم َ .ك ُ ّ
يح ْق ِر َ أخاه ُ الم ُ ْ
َ
-يُؤكد ُ الحديثُ على أهمية الأخو ّة الإيمانية وتحقيق الولاء والنصيحة للمؤمنين؛ وذلك بذكر الصور المخالفة.
ن
أي :يكفي المرء ُ خصلة َ احتقار المسلم فقط لي َكو َ
سل ِم َ"ْ :
يح ْق ِر َ أخاه ُ الم ُ ْ
ن الش ّر ِّ أ ْن َ
ئ مِ َ
ْب ا ْمر ِ ٍ
-قوله ﷺ" :بحَس ِ
ن لمقدار الش ّر في بعض الاتجاهات التي تقوم ُ -
ل الش ّر ،وفي هذا صيانة ٌ لمقام الأخو ّة الإيمانية ،وبيا ٌ
من أه ِ
في أساسها -على الطعن في المسلمين بالتخطئة والتكفير.
فاـئدة :ينبغي لم َن كان عنده محبة ٌ لل ّه ورسوله ﷺ أ ْن يستم َع إلى هذه النصوص استماع ًا صادق ًا؛ حت ّى يُثمر َ
تجاه َ إخوانه المسلمين.
ل الش ّر ُ
لديه الرغبة َ الحقيقة َ في تصحيح ومعالجة ما بداخل نفسه من خِصا ِ
سل ِم َ المُسْل ِم ُونَ م ِن الحديث الرابع :عن عبد الل ّه بن عمرو -رضي الل ّه عنهما -عن الن ّب ِيّ ﷺ قالَ" :الم ُ ْ
سل ِم ُ م َن َ
جر ُ م َن هَج َر َ ما نَهَ ى الل ّه ُ عن ْه" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
لِس َانِه ِ ويَدِه ِ ،والمُه َا ِ
ن أحَد ُكُمْ،
-يُبرز ُ الحديثُ العلاقة َ بينَ المحبة بينَ المؤمنين وبينَ الإيمان؛ كما جاء َ في قول الن ّب ِيّ ﷺ" :ل َا يُؤْم ِ ُ
سلام. ن من وسائل المحبة بين المؤمنين :إفشاء َ ال ّ سه ِ" ،ثم بي ّنَ الن ّبيّ ﷺ أ ّ
ِب لِن َ ْف ِ
يح ّ
ِب لأخِيه ِ ما ُ
يح ّ
حت ّى ُ
اث م َن كُنّ فيه وجَد َ الحديث الثامن :عن أنس بن مالك -رضي الل ّه عنه -عن الن ّب ِيّ ﷺ قال" :ثَل َ ٌ
يح ِب ّه ُ إلّا لِل ّهِ ،وأ ْن يَك ْرَه َ أ ْن
ِب المَر ْء َ لا ُ
يح ّ
َب إلَيْه ِ مم ّا سِوَاهُمَا ،وأ ْن ُ
ح َلَاوَة َ الإيمَانِ :أ ْن يَكونَ الل ّه ُ ور َسولُه ُ أح ّ
َف في الن ّارِ" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ. يَع ُود َ في الـكُ ْفرِ كما يَك ْرَه ُ أ ْن ي ُ ْقذ َ
ُرت ثمراتُ المحبة في الل ّه،
سبب لحلاوة الإيمان ،وعلى ما تق ّدم؛ فقد كث ْ
ٌ ن المحبة َ في الل ّه
-يُبيِّنُ الحديثُ أ ّ
باب محكم ٌ مركزيّ في الشر يعة ،وبالتالي؛
وهذه الـكثرة ُ والاجتماع ُ على فعل المحبة في الل ّه فيه تأكيدٌ على أ ّنها ٌ
صة ً في واقع الاستضعاف الذي تحياه الأمّة ُ والذي
وتتضاعف العقوبة ُ على م َن يستهينُ بهذا الباب؛ خا ّ
ُ ظ
تُغل ّ ُ
يُوجبُ المحبة َ والألفة َ والجمعَ ،لا البغضاء َ والـكراهية َ والتفر ّقَ .
الحديث التاسع :عن جرير بن عبد الل ّه -رضي الل ّه عنه -أ ّ
ن الن ّبيّ ﷺ قال في حَ ج ّة ِ الوداع" :لا تَرْجِع ُوا
ض" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ضك ُ ْم رِقَابَ بَعْ ٍ
ك ّفار ًا ،يَضْرِبُ بَعْ ُ
بَعْدِي ُ
- 037 -
كفْر ٌ" ،أخرج َه ُ البخاريّ .
سل ِ ِم فُس ُوقٌ ،وق ِتَالُه ُ ُ
-وقال الن ّبيّ ﷺ " :سِبَابُ الم ُ ْ
ل لأخِيه ِ :يا كاف ِر ُ ،فق َ ْد باء َ بها أحَد ُهُما" ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ل قا َ
-وقال الن ّبيّ ﷺ" :أي ّما رَج ُ ٍ
نوع من المخالفة في باب الأخو ّة الإيمانية ق وصف الـكفر على ٍ اجتمعت الأحاديثُ السابقة ُ على إطلا ِ ْ -
ج من الملة ،ولـكنه في منزلة (كفرٍ دون
وموجبات ها ،وليس المقصود ُ بالـكفر في الأحاديث الـكفر َ المخُرِ َ
ك هُم ُ
ل الل ّه ُ ف َأولََٰئ ِ َ س -رضي الل ّه عنهما -في قوله تعالى" :وَم َن ل ّ ْم َ
يحْك ُم بِمَا أنز َ َ ن عبا ٍ
كفر)؛ كما قال اب ُ
ن كفر ،وقال أيضًا :إن ّه ليس بالـكفر الذي يذهبون إليه ،إنه ليس كفرًا ينقل عنه
الْك َاف ِر ُونَ"؛ (كفر ٌ دو َ
الملة).
وصف الـكفر على المخالفة في باب الأخو ّة الإيمانية وموجباتها لع ِظَ ِم شأن ومركز ية هذا الباب
ُ ق
-وقد أطل ِ َ
في الشر يعة.
-هناك شواهد ُ أخرى متعل ِّقة ٌ بهذا الباب -فيما يُؤكد ُ على علاقة الأخو ّة بينَ المؤمنين -لم تُذكر ْ في المتن؛ منها:
ل بالجارِ ،حت ّى ظَنَن ْتُ أن ّه سَي ُوَرِّثُه ُ".
جبْر ِي ُ
ل يُوصِينِي ِ
ل الن ّب ِيّ ﷺ" :ما زا َ
-١قو ُ
الباب:
ِ شواهد ُ
طي ّ ِِب وَم َا الآية الأولى :قال تعالى" :مّا ك َانَ الل ّه ُ لِيَذَر َ ال ْمُؤْم ِنِينَ عَلَى م َا أنتُم ْ عَلَيْه ِ حَت ّى يَمِيز َ الْخبَ ِيثَ م ِ َ
ن ال ّ
ْب":
ك َانَ الل ّه ُ لِيُطْلِعَك ُ ْم عَلَى الْغَي ِ
جاءت هذه الآية ُ في سورة آل عمران بعد َ الآيات المتعل ِّقة بأمور غزوة أح ُد؛ وقد كان من أبرز سمات
ْ -
غزوة أح ُد :الفتنة ُ والاختبار ُ والابتلاء ُ وعاقبة ُ مخالفة أمر الل ّه ورسوله ﷺ ،ومن هذه الآيات ما يلي:
سك ُ ْم"؛ قوله تعالى:
صب ْتُم مِّثْل َيْهَا قلُ ْتُم ْ أن ّى هََٰذ َا قُلْ ه ُو َ م ِنْ عِندِ أنف ُ ِ
-١قوله تعالى" :أو َلَم ّا أصَابَتْك ُم مّصِ يب َة ٌ ق َ ْد أ َ
صب ْتُم مِّث ْلَيْهَا" :يعني :يوم َ بدر.
"أو َلَم ّا أصَابَتْك ُم مّصِ يب َة ٌ" :يعني :يوم َ أحُدٍ ،قوله تعالى" :ق َ ْد أ َ
ن ذلك من
أي :أن ّكم لن تصلوا إلى تمييز المؤمن والمنافق؛ لأ ّ
ْب"ْ :
-قوله تعالى" :وَم َا ك َانَ الل ّه ُ لِيُطْلِعَك ُ ْم عَلَى الْغَي ِ
تكشف لـكم الخبيث من الطيب،
ُ علم الغيب ،لـكن الل ّه -تعالى -يأتيكم بالاختبارات والفتن والمِحن التي
ل
ق ن ُصرة الد ِّين؛ فإ ّنهم قد تجاوزوا الفتنة َ ،بينما الأص ُ
-قد يُظنّ أن ّه إذا أراد َ الل ّه ُ بالمؤمنين الخير َ فسلـكوا طر ي َ
ل للمؤمنين من الاستقامة والصدق والإقبال على الل ّه والإصلاح في الس ُنَن الإلهية أن ّك إذا رأيتَ هذا الحا َ
محص المؤمنين وتُميِّز َ الخبيثَ من الطيب.
ن الفتنَ قادمة ٌ لت ُ َ
والعمل لن ُصرة الد ِّين؛ فاعلم أ ّ
صة ً": الآية الثانية :قال سبحانه" :و َات ّق ُوا فِت ْن َة ً لّا تُصِ يب َ ّن ال ّذ ِي َ
ن ظَلَم ُوا م ِنك ُ ْم خ َا ّ
ن
-تأتي الآية ُ في سياق تحذير الن ّاس عامّة؛ الصالحين والظالمين ،وقد توارد َ عن غيرِ واحدٍ من المفسرين أ ّ
ل هذه الفتنة
ن مجا َ
اس أو يحاولوا تغييرَه ُ ،ولذا؛ فإ ّ
ن أ ْن ينكر َه الن ّ ُ
سببَ هذه الفتنة هو انتشار ُ الظلم والمنكر دو َ
ليس لتمييز الخبيث من الطيب ،وإن ّما يكونُ عقاب ًا ليس لمَن بغى وظلم فحسب ،بل عقاب ًا يع ّم الجميعَ.
اس أن يُتْرَكُوا أن يَق ُولُوا آم َن ّا و َه ُ ْم ل َا يُفْتَن ُونَ": الآية الثالثة :قال سبحانه" :أ َ
حسِبَ الن ّ ُ
جاءت هذه الآية ُ في سياق
ْ -بينما كانتا الآيتان الماضيتان متعلقتين بالفتنة العامّة المتعل ِّقة بمجموع الن ّاس،
سن ّة الن ّب ِيّ ﷺ
خاص؛ فمهما كان العبد ُ مؤمنًا مستقيم ًا على أمر الل ّه -تعالى -و ُ
ل العامّ وال ّ
الفتنة التي تشم ُ
صة ً إ ْن كان مستغرقًا في طر يق الذنوب والمعاصي ثم تابَ الل ّه ُ عليه فالتزم َ طر يق الاستقامة ،فلا بُدّ أ ْن
خا ّ
يُختبر َ بالابتلاءات والفتن والعقبات.
بعض التائبين أن ّه لمجر ّد توبته وتركه لطر يق المعاصي والتزامه طر يق الاستقامة ،أن ّه لن يواجه َ
ُ -قد يتوهم ُ
طمأنينة القلب
ق التوبة من ُ
تحديات وصعوبات ومشاكل؛ وهذا خطا ٌ ووهمٌ ،نعم يكونُ للمؤمن صاد ِ
وسكينة الن ّفس وانشراح الصدر ما لا يملـك ُه ُ العاصي ،وأيضًا يُعطيه الل ّه ُ من القو ّة والصّ بر والعزيمة ما يستطي ُع
يختبر َ بالفتن
أ ْن يتجاوز َ به هذه العقبات والتحديات والمشاكل ،لـكن في الأخير؛ لا بُدّ أ ْن ي ُبتلى و ُ
والابتلاءات.
ن فتنته ،وليس بالضرورة أ ْن تكونَ الفتنة ُ بالابتلاءات والبلايا العظيمة؛ كأ ْن يوض َع
ل إنسا ٍ
ن لك ّ ِ
-ولذا؛ فإ ّ
السيف على رقبة الإنسان ،بل قد تكونُ الفتنة ُ بالعافية والنعم والرخاء والرزق؛ كما جاء َ على نبي الل ّه سليمان
شترط أ ْن تكونَ آخر ُ أمّة ٍ -التي سي ُصيبُها البلاء والمنكرات والفتن -هي الأمّة التي تكون عند َ قيام
-لا ي ُ ُ
الساعة ،بل نحن الآن نع ّد في آخر الأمّة نسبيًا؛ ولذا فنحن أولى بالتركيز والاهتمام بهذا الحديث.
صحَابِي ،ف َِإذ َا ذ َهَب ْتُ سم َاءِ ،ف َِإذ َا ذ َه َب َِت الن ّجُوم ُ أتَى ال ّ
سم َاء َ ما تُوعَد ُ ،و َأن َا أم َن َة ٌ لأ ْ -١قوله ﷺ" :الن ّجُوم ُ أم َن َة ٌ لِل ّ
صحَابِي أتَى أمّتي ما يُوعَد ُونَ".
صحَابِي أم َن َة ٌ ل ِأمّتِي ،ف َِإذ َا ذ َه َبَ أ ْ
صحَابِي ما يُوعَد ُونَ ،و َأ ْ
أتَى أ ْ
ل ع َصرٍ أفراد ٌ فيهم الخير ُ والحَقّ ،و يوجَد ُ الع ُلَماء ُ ُص الخَير ُ عِند َهم بمرورِ الز ّمانِ ،لـكِنْ يُوجَد ُ في ك ُ ّ ِ س ينق ُالن ّا ِ
ل ع َصرٍ).المستقيم ،ولا ينقَط ِ ُع الخ َير ُ في ك ُ ّ ِ
ِ ق
طر ي ِ
الذين يجعَلُهم الل ّه ُ ه ِداية ً للعالَمينَ ،وحُ ج ّة ً لل ّ
-يجتم ُع هذا الحديثُ مع الأحاديث التالية في بيان حرص الن ّب ِيّ ﷺ على أمّته وتحذير ِه ِ إ ي ّاهم وتنبيه ِهم مبكر ًا
لأنواع من الفتن ستعترض طر يقهم ؛ من هذه الفتن ما وقع في زمن الصحابة ،ومنها ما وقع بعد َ زمانهم، ٍ
ومنها ما لم يقعْ إلّا في زماننا هذا؛ كالتغي ّرات التي تُصاحبُ أشراط الساعة ،وغير ذلك من جُملة الفتن.
ل
ل الل ّه ﷺ بعد أ ْن قدِم َ أبو عبيدة بما ٍ
ل رسو ُ
ل :قا َ
عوف -رضي الل ّه عنه -قا َ
ٍ الحديث الثاني :عن عمرو بن
من البحرين" :فأب ْشِر ُوا وأمّ ِلُوا ما يَسُر ّكُمْ ،ف َوَالل ّه ِ لا الفَقْر َ أخْ ش َى علَيْك ُم ،ولـَكِنْ أخَش َى علَيْك ُم أ ْن تُبْس َ
َط عَلَي ْكُمُ
َت علَى م َن كانَ قَبْلـَكُمْ ،فَتَنَافَس ُوه َا كما تَنَافَس ُوه َا وتُه ْل ِـكَك ُ ْم كما أه ْلـَكَتْه ُ ْم" ،أخرج َه ُ البخاريّ
الد ّن ْيَا كما ب ُ ِسط ْ
ومسلم ٌ.
خ بذكر موضع الشاهد من الحديث على الباب ،فهذا الحديثُ مختصر ٌ؛ وقصت ُه ُ أن ّه جاء َ أبو عبيدة -اكتفى الشي ُ
سم ُه ُ بينهم
ن الن ّبيّ ﷺ سي ُق ِّ
ل من الفقر الشديد ،ففرحوا حين رأوا المال؛ لعلمهم أ ّ
بمالٍ ،وكان الصحابة ُ في حا ٍ
فحرصوا على هذا المال؛ فلما رأى الن ّبيّ ﷺ حرص َهم =أرشدهم وبي ّنَ لهم بهذا البيان.
ل الل ّه ِ ﷺ :علَى قَت ْلَى أحُدٍ ،ث ُم ّ صَعِد َ الحديث الثالث :عن ع ُقبة َ بن عامر -رضي الل ّه عنه -قال( :صَل ّى ر َسو ُ
ن ع َْرضَه ُكما بيْنَ أيْلَة َ إلى الجحُْفَة ِ ،إن ِ ّي طك ُ ْم علَى الحَوْضِ ،وإ ّ المنِ ْبَر َ ك َال ْم ُوَدّ ِِع لِلأحْ يَاء ِ و َالأمْو َ ِ
ات ،ف َقالَ" :إن ِ ّي ف َر َ ُ
لَسْتُ أخْ ش َى علَيْك ُم أ ْن تُشْرِكُوا بَعْدِي ،و َلـَكِن ِ ّي أخْ ش َى عَلَيْكُم ُ الد ّن ْيَا أ ْن تَنَافَس ُوا ف ِيهَا ،و َتَقْتَت ِلُوا ،فَتَه ْل ِـكُوا ،كما
ل"( :إذا الحديث الرابع :عن عبد الل ّه بن عمرو بن العاص -رضي الل ّه عنهما -عن رسو ِ
ل الل ّه ﷺ أن ّه قا َ
ل الل ّه ِ
ل ر َسو ُ ل كما أم َرَنا الل ّهُ ،قا َ
ْف :نَق ُو ُ
ن عَو ٍنب ُ ل عبد ُ الر ّحْم َ ِ ِس والر ّوم ُ ،أيّ قَو ْ ٍم أنتُم ْ؟" ،قا َ َت علَيْك ُم فار ُ
فُتِح ْ
نح ْو َ ذلكَ ،ث ُم ّ تَنْط َلِق ُونَ في
سد ُونَ ،ث ُم ّ تَت َداب َر ُونَ ،ث ُم ّ تَتَباغَضُونَ ،أ ْو َﷺ" :أ ْو غير َ ذلكَ ،تَتَنافَس ُونَ ،ث ُم ّ تَتَحا َ
ض") ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
ِقاب بَعْ ٍ
جر ِينَ ،فَت َجْ ع َلُونَ بَعْضَه ُ ْم علَى ر ِ
م َساكِينِ المُها ِ
فارس والر ّوم ُ مَم ْلـكتينِ ع َظيمتينِ حينئذ؛ من حيث عراقة التاريخ والقصور وقو ّة الجيوش وأعداد
ُ -كانَتا
الجنود.
ك م ِن ر َخاء ِ الع َي ِ
ش والغ ِنى بعد هذا الفتح أي :ما يَكونُ ح َالـ ُكم إذا ح َدثَ ذَل َ
-قوله ﷺ" :أيّ قَو ْ ٍم أنتُم ْ؟"ْ :
ل الل ّه
ل من الاستقامة ،أم ست ُفتنون بالـكنوز والمال والغنائم؟ ،ثم بي ّنَ رسو ُ
العظيم؛ هل ستكونون على حا ٍ
ل هذه الأحداث؛
ض لها قلوب الصحابة وم َن بعدهم إذا واجهوا مث َ
ن أ ْن تتعر ّ َ
ﷺ بعضًا من الفتن التي يُمك ُ
من كثرة المال وانفتاح الدنيا.
-من أهم ما يستفيدُه ُ المصلحون من الأحاديث السابقة :أهمية ُ تنبيه الشباب المستقيم على التحديات والمخاطر
ق مزهرٍ ،بل يجب
تعترض طر يقهم؛ ولا ينبغي أبد ًا أ ْن يمني الدعاة ُ والمصلحون الشبابَ بطر ي ٍ
َ ن أ ْن
التي ي ُمك ُ
عليهم أ ْن يوضحوا لهم صعوبة َ الطر يق ومخاطرَه ُ وتحدياته وابتلاءاته ،وفي نفس الوقت :عليهم أ ْن يبشروهم
برحمة الل ّه وفضله وتوفيقه ومعونته لعبده المؤمن المستقيم.
ن الصالحين قد يصبرون على الشدائد واللأواء ،ثم ّ لا يصبرون على النعم والرخاء ،مع
-ومن الفوائد أيضًا :أ ّ
ن
ليست الأصعبَ في ميزان الاستقامة؛ لأ ّ
ْ ن فتنَ الشدائد هي الأصعب على النفس ،لـكنها
أن ّه قد يُتصور ُ أ ّ
سك والثبات والتصب ّر ،وهذه من أعلى
ل الإنسانَ في حالة ٍ من الافتقار إلى الل ّه والتم ّ
فتنَ الشدائد أحيان ًا تجع ُ
ل الإنسانَ في حالة ٍ من الانفلات والجزع قليل ًا.
درجات الإيمان ،أمّا فتن الرخاء؛ فقد تجع ُ
ل الل ّه ِ ﷺ ي َ ْذك ُر ُ
الحديث السادس :عن حذيفة َ -رضي الل ّه عنه -قال( :كن ّا عِنْد َ ع ُم َر َ ،فقالَ :أي ّك ُ ْم سَم ِ َع ر َسو َ
ك
ل في أه ْلِه ِ وجارِه ِ؟ قالوا :أج َلْ ،قالَ :تِل َ
ن سَمِعْناه ُ ،فقالَ :لَعَل ّـك ُ ْم تَعْن ُونَ فِت ْن َة َ الر ّج ُ ِ
نح ْ ُ
ل قوْم ٌَ :
الف ِتَنَ؟ فقا َ
ن المُن ْكَر ِ ،-ولـَكِنْ أي ّك ُ ْم سَم ِ َع
عروف والنّهْ ي ُ ع َ ِ
ِ والصيام ُ والصّ د َق َة ُ -وفي رواية ٍ أخرى :والأمْرُ بالم َ
ِّ تُكَ ّف ِر ُها الصّ لاة ُ
ل حُذ َيْف َة ُ :فأسْ كَتَ القَوْم ُ ،فَق ُلتُ :أنا ،قالَ :أن ْتَ لِل ّه ِ أبُوك َ .قا َ
ل ج الب َحْ رِ؟ قا َ
ج مَو ْ َ
النبيّ ﷺ ي َ ْذك ُر ُ ال ّتي تَم ُو ُ
ْب أشْر ِ بَها،
وب كالْحَصِ يرِ ع ُود ًا ع ُود ًا ،فأيّ قَل ٍ ل الل ّه ِ ﷺ يقولُ" :تُعْر ُ
َض الف ِتَنُ علَى الق ُل ُ ِ حُذ َيْف َة ُ :سَمِعْتُ ر َسو َ
ل
ض مِث ْ ِ سو ْداءُ ،وأيّ قَل ٍْب أن ْك َر َها ،نُكِتَ فيه ن ُ ْكت َة ٌ بَي ْضاءُ ،حت ّى تَصِ ير َ علَى قَل ْبَيْنِ ،علَى أب ْي َ َ نُكِتَ فيه ن ُ ْكت َة ٌ َ
ِفمج َّخِيًا لا يَعْر ُْض ،والآخَر ُ أسْ وَد ُ م ُْربا ًّدّا كال ْـكُوزُِ ، سم َواتُ والأر ُ َت ال ّ الصّ فا فلا تَضُر ّه ُ فِت ْن َة ٌ ما دام ِ
مَعْر ُوفًا ،ولا يُنْك ِر ُ مُن ْك َرًا ،إلّا ما أشْر ِبَ م ِن ه َواه ُ") ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
ن الصالحين مهما بلغوا من المنزلة -وإ ْن كانوا في منزلة عمر -إلّا أ ّنهم يخافون الفتنَ
-يفيد ُ الحديثُ أ ّ
وينشغلون بها وت ُقلقهم ح ّد الأرق.
ح
ن الفتنَ من أقدار الل ّه ،وهذا يجبُ ألّا يغيبَ عن ذهن المؤمن ،ومما يستفيدُه ُ المُصل ُ
-في الحديث إثباتُ أ ّ
ن حر يصً ا على أهله اتباع ًا للن ّب ِيّ ﷺ سيد المصلحين؛ حيثُ أمرَ أوّل شيء بإيقاظ من الحديث :أ ْن يكو َ
ن قيام َ الليل من أهم أسباب الوقاية من الفتن. زوجاته لقيام الليل ،وفي هذا دلالة ٌ على أ ّ
ل الل ّه ﷺ" :ال ْع ِبادَة ُ في الهَر ِْج الحديث التاسع :عن معقل بن يسار -رضي الل ّه عنه -قالَ :قا َ
ل رسو ُ
كه ِجْ رَة ٍ إلَيّ" ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
َ
كه ِم فيه ،ولذا؛ كان ثوابُ
س في ف َسادِ الد ّنيا وانهما ِ
-الهَر ِْج هو :وقتُ الف ِتَنِ واخت ِلاطِ الأمورِ وتَخب ّطِ الن ّا ِ
ن مثل هذه الأوقات ليست أوقات
كه ِجْ رَة ٍ إلَيّ"؛ لأ ّ
العبادة في مثل هذه الأوقات بهذا الفضل والمثوبة " َ
عبادة لعامّة الناس ،ولذلك؛ م َن يستطيع أ ْن يواظبَ على العبادة في تلك الأحوال =يكونُ أجر ُه ُ عند َ الل ّه
عظيم ًا.
الحديث العاشر :عن زيد بن ثابت -رضي الل ّه عنه -قال( :بَي ْنَم َا الن ّبِيّ ﷺ فِي ح َائ ِطٍ لِبَنِي الن ّج ّارِ عَلَى بَغْلَة ٍ
ل
َت تلُْق ِيه ِ ،و َِإذ َا أق ْب ُر ُ سِت ّة ٍ أ ْو خَمْسَة ٍ ،أ ْو أرْبَعَة ٍ -قَالَ :ك َذ َا ك َانَ يَق ُو ُ
َت بِه ِ فَك َاد ْ
ن مَع َه ُِ ،إ ْذ ح َاد ْ
نح ْ ُ
لَه ُ ،و َ َ
ل رَجُلٌ :أن َا ،قَالَ" :فَم َت َى م َاتَ ه َؤُل َاءِ؟" ،قَالَ: صحَابَ هَذِه ِ الْأق ْبُرِ؟" ،فَق َا َ ِف أ ْ ل ﷺ" :م َنْ يَعْر ُ الْجَرِير ِيّ -فَق َا َ
ن هَذِه ِ الْأمّة َ تُب ْتَلَى فِي قُب ُورِه َا ،فَلَوْل َا أ ْن ل َا تَد َافَن ُوا :لَدَعَو ْتُ الل ّه َ أ ْن ي ُ ْسمِعَك ُ ْم م ِنْ ك ،فَق َالَِ " :إ ّ م َاتُوا فِي ال ِْإشْر َا ِ
َاب الن ّارِ" ،قَالُوا :نَع ُوذ ُ ب ِالل ّه ِل عَلَي ْنَا ب ِو َجْ هِه ِ؛ فَق َالَ" :تَعَو ّذ ُوا ب ِالل ّه ِ م ِنْ عَذ َِاب الْقَبْرِ ،ال ّذ ِي أسْم َ ُع مِن ْه ُ" ،ث ُم ّ أق ْب َ َ
عَذ ِ
َاب الْقَبْر ِ" ،قَالُوا :نَع ُوذ ُ ب ِالل ّه ِ م ِنْ عَذ ِ
َاب الْقَبْرِ ،قَالَ" :تَعَو ّذ ُوا َاب الن ّارِ ،فَق َالَ" :تَعَو ّذ ُوا ب ِالل ّه ِ م ِنْ عَذ ِ م ِنْ عَذ ِ
ن ،قَالَ" :تَعَو ّذ ُوا ب ِالل ّه ِ
ظه َر َ مِنْهَا وَم َا بَط َ َ ن" ،قَالُوا :نَع ُوذ ُ ب ِالل ّه ِ م ِ َ
ن ال ْف ِتَنِ م َا َ ظه َر َ مِنْهَا وَم َا بَط َ َ ب ِالل ّه ِ م ِ َ
ن ال ْف ِتَنِ م َا َ
ل" ،قَالُوا :نَع ُوذ ُ ب ِالل ّه ِ م ِنْ فِت ْنَة ِ الد ّج ّا ِ
ل) ،أخرج َه ُ مسلم ٌ. م ِنْ فِت ْنَة ِ الد ّج ّا ِ
ن أ ْن يزلوا و يقعوا بسببها؛ ومن -يُبيِّنُ الحديثُ شفقة َ الن ّب ِيّ ﷺ وحرصَه ُ على أ ْن ي ُبي ِّنَ لأمته الأمور َ التي يُمك ُ
جملتها :أمور ُ الفتن عامّة ً ،ووسائل اتقائها ،ووسيلة الاتقاء في الحديث هي الاستعاذة بالل ّه ،وكان من هدي
َاب
ك م ِن عَذ ِ أربع؛ يقول( :الل ّه ُ ّم إن ِ ّي أع ُوذ ُ ب ِ َ ٍ الن ّب ِيّ ﷺ في الصّ لاة بعد التشهد الأخير أ ْن يستعيذ َ بالل ّه من
ل) ،فكان ﷺ يُعل ِ ّم ُ أمّته أن س ِ
يح الد ّج ّا ِ َات ،وَم ِنْ شَر ِّ فِت ْنَة ِ الم َ ِ
َاب القَبْرِ ،وَم ِنْ فِت ْنَة ِ المحَ ْيَا و َال ْمَم ِ
جهَن ّم َ ،وَم ِنْ عَذ ِ
َ
كاف في إدراك خطورة الفتن وأهمية الاستعاذة منها.
ٍ ل صلاة ٍ؛ وهذا
يستعيذوا من هذه الفتن في ك ّ ِ
الباب:
ِ شواهد ُ
ن
سك ُ ْم ِإ ّ الآية الأولى :قال تعالى" :أو َلَم ّا أصَابَتْك ُم مّصِ يبَة ٌ ق َ ْد أ َ
صب ْتُم مِّث ْل َيْهَا قلُ ْتُم ْ أن ّى هََٰذ َا َۖقُلْ ه ُو َ م ِنْ عِندِ أنف ُ ِ
ل شَيْء ٍ قَدِير ٌ":
الل ّه َ عَلَى ك ُ ّ ِ
صب ْتُم مِّثْلَيْهَا"،
أتت الآية ُ في سياق غزوة أحُدٍ ،فبعد َ أ ْن نصر َ الل ّه المؤمنين نصر ًا عظيم ًا في غزوة بدر "ق َ ْد أ َ ْ -
ل -بهذا الابتلاء والمصيبة يوم َ أحُدٍ "أو َلَم ّا أصَابَتْك ُم مّصِ يب َة ٌ" ،فأخذ َ الصحابة ُ -رضي الل ّه عز وج ّأصابهم الل ّه ّ -
سك ُ ْم".
عنهم -يتساءلون "أنا هذا"؛ يعني :لم َ حد َثَ هذا وما سبب ُه ُ؟ ،فقال الل ّه ُ -تعالى" :-ق ُلْ ه ُو َ م ِنْ عِندِ أنف ُ ِ
أتت من جهة
ن الل ّه -تعالى -ي ُريد ُ من عباده أ ْن يلتفتوا إلى الأسباب الداخلية للمصائب التي ْ
-تُفيد ُ الآية ُ أ ّ
جاءت من المشركين؛ فه ُم الذين حاصروا المدينة ،وقتلوا خيرة َ الصحابة ومنهم
ْ الخارج؛ فالمصيبة ُ يوم َ أحُدٍ
سك ُ ْم".
حمزة -رضي الل ّه عنه -وفعلوا غير ذلك ،ومع ذلك؛ يقول الل ّه -تعالى" :-ق ُلْ ه ُو َ م ِنْ عِندِ أنف ُ ِ
واقع مليءٍ بابتلاءات وتحديات آتية من الخارج؛ من الكافرين أعداء المسلمين ومن
ٍ نعيش في
ُ -ونحن اليوم
فتش في
المنافقين ،ولـكن لا ينبغي أ ْن نض َع الإشكالية كلها على هذا السبب الخارجي ،وإن ّما يجبُ علينا أ ْن ن ُ َ
النقص والخلل الداخلي لدينا ،وأ ْن نُركز َ على القيام بالدور والمسؤولية التي علينا؛ ومنها :مسؤولية الإصلاح
ومسؤولية الأمر بالمعروف وإنكار المنكر ومسؤولية اجتماع كلمة المسلمين ،وغير ذلك من المسؤوليات.
- 047 -
ن الل ّه َ ل َا يُغَيِّر ُ م َا بِقَو ْ ٍم حَت ّى يُغَيِّر ُوا م َا ب ِأنفُسِه ِ ْم ۗو َِإذ َا أر َاد َ الل ّه ُ بِقَو ْ ٍم سُوءًا فَلَا الآية الثانية :قال تعالىِ " :إ ّ
ل": م َرَدّ ل َه ُ ۚوَم َا لَه ُم مّ ِن د ُونِه ِ م ِن و َا ٍ
استقامتهم وثباتهم على على دين الل ّه ،أو من جهة كفرهم وجحودهم لنعم الل ّه ،كما قال تعالى" :و َضَر َبَ الل ّه ُ
اس الْج ُ ِ
وع كف َر َْت ب ِأن ْع ُ ِم الل ّه ِ ف َأذ َاقَه َا الل ّه ُ لِب َ َ
ن فَ َ
ل مَك َا ٍ
م َثَل ًا قَر ْيَة ًك َان َْت آم ِن َة ً مّ ْطم َئ ِن ّة ً ي َأْ ت ِيهَا رِزْقُه َا ر َغَدًا مّ ِن ك ُ ّ ِ
ْف بِمَا ك َانُوا يَصْ نَع ُونَ" ،ولذا؛ يجبُ في فهم ومعالجة إشكالية ضعف المسلمين واختلال أحوالهم ،أ ْن
و َالْخَو ِ
ننظر َ في داخل أنفسنا؛ ماذا أحدثنا وما غيرنا؟ ،فنبدأ به في عملية الإصلاح.
كما تداعَى الأكَلة ُ إلى قصعتِها" ،فقال قائلٌ :ومن قل ّة ٍ نحن يومئذٍ؟ ،قال" :بل أنتم يومئذٍ كثير ٌ ،ولـكن ّكم غ ُثاء ٌ
ن" ،فقال قائلٌ :يا ل ،ولينز ِعنّ الل ّه ُ من صدورِ عدوِّكم المهابة َ منكم ،وليقذِف َنّ الل ّه ُ في قلوب ِكم الوه ْ َ كغ ُثاء ِ ال ّ
سي ِ
الموت") ،أخرج َه ُ أبو داود وأحمد.
ِ ُب الد ّنيا وكراهية ُ ل الل ّه ِ! وما الوه ْ ُ
ن؟ ،قال" :ح ّ رسو َ
ناس
-يتحدثُ الن ّبيّ ﷺ عن حالة ٍ من الضعف والاستهانة ،تتداعى فيها الأمم ُ على أمّة المسلمين كما يتداعى أ ٌ
ط علينا بدرجة ٍ من
جائعون إلى قصعة ٍ يأكلون منها ،فكذلك ستتداعى علينا الأمم ُ؛ تنهبُ خيراتنا وتتسل ّ ُ
الاستهانة وكأن ّنا لسنا أمّة ً مهابة ً؛ لا يُخشى من بأسها إذا اعت ُديَ عليها.
ن زماننا هذا
ق لحالنا اليوم؛ فإ ّ
توصيف دقي ٌ
ٌ ك الأمم ُ أ ْن تداعَى عليكم" :لفظة "الأمم" فيها
ش ُ
-قوله ﷺ" :يُو ِ
هو أولى ما يُصْ د ُقُ عليه هذا الحديث ،إذ مشكلت ُنا اليوم ليست من أمّة ٍ واحدة ٍ ،وإن ّما من أمم ،بل حت ّى في
مسميات الصروح والمنظمات الـكبرى لأعداء المسلمين؛ تسمى بلفظة (الأمم).
-قوله( :ومن قل ّة ٍ نحن يومئذٍ؟) :والمعنى :أن ّه لم ّا رب ّى الن ّبيّ ﷺ الصحابة َ -رضوان الل ّه عليهم -في ميادين الجهاد
تستوعب عقولُهم تلك الحالة التي يصور ُها لهم الن ّب ِيّ ﷺ من الخنوع
ْ والعز ّة والثبات والصّ بر والمقاومة ،لم
والضعف والذل والاستهانة ،إلا في حالة ٍ أ ْن يكونَ المسلمون حينئذٍ في غاية القلة؛ فلا يستطيعون المقاومة
والدفع لقلة عددهم وكثرة أعداد أعدائهم.
ل" :يعني :ما يحمل ُه ُ السيل وصف الن ّبيّ ﷺ هذه الـكثرة لأعداد المسلمين بقوله" :ولـكن ّكم غ ُثاء ٌ كغ ُثاء ِ ال ّ
سي ِ َ -ثم
فوقه عند اندفاعه من الأشياء المتفرقة التي لا قيمة َ لها ،وكذلك هذه الأعداد الـكثيرة لـكم ،لا قيمة َ ولا
ل قوام الإنسان.
معنى لها ،فاقدة ً لله ُو ية الحقيقية التي هي من أهم ما يشكِّ ُ
أمس الحاجة لإعادة اله ُو ية والقيمة ،ولتثبيت الجذور والمرجعية (مرجعية الوحي)،
ّ ِ -لذلك؛ نحن اليوم في
ولتثبيت الإيمان في النفوس ،ولإعادة صناعة وبناء الشخصية المسلمة من جديدٍ ،وهذا من أهم الأسباب -
بإذن الل ّه -في إعادة بناء قوام الأمّة الإسلامية.
-قوله ﷺ" :ولينز ِعنّ الل ّه ُ من صدورِ عد ّوِكم المهابة َ منكم" :وهذا على نقيض الحال التي كان عليها الن ّبيّ ﷺ
كف َر ُوا الر ّعْبَ بِمَا أشْرَكُوا ب ِالل ّه ِ م َا ل َ ْم يُنَز ِّلْ بِه ِ سُلْط َان ًا" ،وكما
ن َ
وب ال ّذ ِي َ
وأصحابه ،كما قال تعالى" :سَنُلْقِي فِي قُل ُ ِ
أي :بالرعب الذي يجعل ُه ُ الل ّه في صدور أعداء المسلمين؛ وهذا
ْب مَسِيرَة َ ش َ ْهرٍ"؛ ْ
رتُ بالر ّع ِ
قال الن ّبيّ ﷺ" :نُص ِ ْ
من جملة النصر :بأ ْن تكونَ للمسلمين هيبة ٌ في صدور أعدائهم منهم ،فإذا هابَ الأعداء ُ المسلمين -لو كانت
ت الهيبة ُ والرهبة ُ من
موازين القو ّة في صالح الأعداء-؛ فإ ّنهم قد يتأخرون عن الـكيد بالمسلمين ،بينما إذا ن ُز ِع َ ْ
صدور أعداء المسلمين؛ فإ ّنهم يسارعون ويتداعون إلى الأذى والإضرار والتسل ّط وحت ّى الاحتلال المباشر
لبلاد المسلمين.
ل
توصيف واقع المسلمين اليوم ،وذلك في اللفظ الذي استعمل َه ُ الن ّبيّ ﷺ" :الر ّج ُ
ِ جيب في
-هذا الحديث ع ٌ
ن من أشد ما نعاني من الإشكاليات :قضية ُ التفاهة؛ فكأنك وأنتَ تقرأ
الت ّاف ِه ُ في أمر ِ العامّة ِ" ،إذ نجد ُ اليوم أ ّ
ل وتتقافز ُ أمام َ عينيك صور التافهين الذين تصدروا في كثيرٍ من المجتمعات والوسائل
هذا الحديث يتخاي ُ
ومناطق صُنع القرار؛ فصاروا يرسمون للن ّاس معايير التفاهة ،و يبينون لهم قضايا السفه والانحطاط ،حت ّى
يخو ّن.
ن والأمينُ ُ
ن ي ُؤتم ُ
ت المعاني؛ الصادقُ ي ُكذ ّبُ والكاذبُ ي ُص ّدقُ والخائ ُ
تب ّدل َ ْ
ن من الحديث :أ ْن يأخذ َ الحيطة َ والحذر َ ،ويزداد َ وعي ًا ولا يغتر بانتشار معايير ومفاهيم
-مما يستفيدُه ُ المؤم ُ
التفاهة وتكالب كثيرٍ من الن ّاس عليها ،فقد حذرنا الن ّبيّ ﷺ من انقلاب المعايير ،وبي ّنَ لنا أهمية َ ضبط
يضبط المعايير َ
َ المعايير على معيار الوحي ،ومتى فقد َ الإنسانُ المرجعية َ الحقيقية َ التي يستطي ُع من خلالها أ ْن
يقيس الأشياء َ التي ت َر ِد ُ عليه على ميزان هذه المرجعية ،فإن ّه يكونُ ع ُرضة ً لاختلال المعايير وللتأث ّر
َ و يحاكم َ و
ن إمكانية َ تأثيرِه ِ تزداد ُ على الإنسان الخالي
طرف آخر أعلى صوت ًا ،فإ ّ
ٌ بالـكثرة وعلو الصوت؛ فكل ّما كان هناك
من المرجعية.
ل في جملة الاستفادة من ميراث الن ّب ُو ّة :وهو التحذير ُ المسبق والتنب ّه ُ المستقبلي لمثل
-وهذا من أهم ما يدخ ُ
ل الوقوع فيها ،وطرقُ المعالجة لمَن وق َع فيها ،إذ ليست
هذه الإشكاليات والعقبات ،وكيفية ُ الوقاية منها قب َ
الاستفادة ُ من ميراث الن ّب ُو ّة مقتصرة ً على الأحكام العملية والس ُن َن فحسب.
-قوله ﷺ" :إذا تبايعتُم بالعينة ِ" :يصوّر ُ الن ّب ِيّ ﷺ حالة َ الركون الدنيوي في صورة ٍ من صور البيوع المحر ّمة الذي
يظهر ُ فيها ش ّدة ُ الحرص على المال ومقدار ُ الجشع في تحصيله؛ وهو (بيع العينة)؛ ومعناه :أ ْن يبي َع ش ٌ
خص
ن أقل معج ّل ،كأ ْن يبيع َها له بمائة ألف مؤج ّلة ويشتر يَها بتسعين
ل ثم يشتريها منه بثم ٍ
ن مؤج ّ ٍ
لآخر سلعة ً بثم ٍ
ألف معج ّلة.
-قوله ﷺ" :وأخذتم أذنابَ البقرِ ،ورضيتُم بالز ّ ِ
رع" :ليس المقصود ُ ذمّ أو تحريم َ الاشتغال بالزراعة وأعمالها،
ل بهذه الأعمال الدنيو ية رغبة ً في الدنيا
وإن ّما المقصود ُ هو أ ْن يكونَ انشغالـ ُكم وهم ُكم الوحيد هو الانشغا ُ
وركون ًا إليها وابتعاد ًا عن الجهاد وترك ًا للتضحية والبذل في سبيل الل ّه؛ فإذا اجتم َع هذان الأمران في الأمّة
ج َع
ط الل ّه على الأمّة ذُل ًا لا ي ُرفَعْه ُ عنها حت ّى ت َر ِ
ل بالدنيا والركون إليها وترك ُ الجهاد والتضحية-؛ سل ّ َ
-الانشغا ُ
إلى دِينِها.
ل الإنسانُ بالأعمال الدنيو ية من السعي على الرزق والتجارة والزراعة إلى نحو ذلك ،و يكون له في
-وقد يشتغ ُ
ك أغْن ِيَاء َ خَيْر ٌ م ِن أ ْن تَذَر َه ُ ْم عَالَة ً
تلك الأعمال ني ّة ٌ صالحة ٌ في ُؤجر َ عليها؛ فقد قال الن ّبيّ ﷺ" :أ ْن تَدَع َ ور َثَت َ َ
ك" ،وقال
ل في فِي امْرَأت ِ َ
تجْع َ ُ ق نَفَق َة ً تَب ْتَغ ِي بهَا وجْه َ الل ّه ِ إلّا أ ِ
جرْتَ عَلَيْهَا ،حت ّى ما َ اس ،ولَنْ تُن ْف ِ َ
ك ّفف ُونَ الن ّ َ
يَت َ َ
ظ ْهرِ غِن ًى ،وم َن يَسْتَعْف ِْف
سفْلَى ،وابْد َأْ بم َن تَع ُولُ ،وخَي ْر ُ الصّ د َقَة ِ عن َ
ن اليَدِ ال ّ
أيضًا ﷺ" :اليَد ُ العُل ْيَا خَيْر ٌ م ِ َ
ن يُغْنِه ِ الل ّه ُ"؛ يعني :اليد العليا التي تعطي وتتصدق وتُنفق خير ٌ من اليد السفلى التي
يُع ِ ّفه ُ الل ّهُ ،وم َن يَسْتَغْ ِ
ق إلا بالاشتغال ببعض الأعمال الدنيو ية لـكسب المال.
ل وتحتاجُ؛ وهذا لن يتحق َ تأخذ ُ وتسأ ُ
ل الانشغال
-أمّا الصورة المذمومة الت ّي يحذرنا منها الن ّبيّ ﷺ فهي حالة ُ الإخلاد إلى الأرض بالتموضع داخ َ
في الأعمال الدنيو ية ،وفي نفس الوقت :عدم المسارعة إلى التضحية والبذل في سبيل الل ّه ونُصرة دينه ،ومما
بعض الن ّاس ببعض الأمور الصالحة؛ كالمحافظة على الفرائض أو غير ذلك،
ُ ل
ل في ذلك :أن ّه قد ينشغ ُ
يدخ ُ
ثم ّ تجده ُ منغمسًا غاية َ الانغماس في الأمور الدنيو ية ،أمّا في المواطن التي تتطل ّبُ قدر ًا من التضحية والبذل؛
كالصدع بالحق أو إنكار المنكر فضل ًا عن الوقوف على ثغرٍ من ثغور الد ِّين أو بذل الن ّفس في سبيل الل ّه
ل فيها بشيء ٍ من الصّ بر والبذل والتضحية.
=تجده منكفئًا عن هذه المجالات مع إمكانه واستطاعته أ ْن يعم َ
-تصن ُع حياتنا المعاصرة في الإنسان حالة ً من الهلع والقلق المتعل ّ ِق بالدنيا؛ بداية ً من القلق والتوتر المجتمعي
حيط بالأبناء في المراحل المتوسطة من أجل دخول كلية معينة أو أخذ شهادة جامعية
والأسري الذي ي ُ
معينة وإلا ضاعَ مستقبله ،حت ّى لو تخلى عن كثير من الأولو يات والثوابت والمبادئ في سبيل تحقيق ذلك.
الباب:
ِ شواهد ُ
تجِد َ لِس ُن ّة ِ الل ّه ِ تَبْدِيل ًا".
ل و َلَن َ الآية الأولى :قال تعالى" :سُن ّة َ الل ّه ِ ف ِي ال ّذ ِي َ
ن خ َلَو ْا م ِن قَب ْ ُ
ت الل ّه ِ ت الل ّه ِ تَبْدِيل ًا و َلَن َ
تجِد َ لِس ُن ّ ِ الآية الثانية :قال تعالى" :فَه َلْ يَنظ ُر ُونَ ِإلّا سُن ّتَ الْأوّلِينَ ۚفَلَن َ
تجِد َ لِس ُن ّ ِ
تحْوِ يل ًا".
َ
ك يَنف َعُه ُ ْم ِإ يمَانُه ُ ْم لَم ّا ر َأوْا ب َأْ سَنَا َۖ سُن ّتَ الل ّه ِ ال ّتِي ق َ ْد خ َل َ ْ
ت فِي عِبَادِه ِ الآية الثالثة :قال سبحانه" :فَل َ ْم ي َ ُ
ن".
ك الْك َاف ِر ُو َ
خس ِر َ ه ُنَال ِ َ
وَ َ
وردت في سورة
ْ جاءت الآية ُ الأولى في بيان حال المنافقين وتمردهم وتسليط الل ّه للمؤمنين عليهم ،وقد
ْ -
ك
جف ُونَ فِي ال ْمَدِينَة ِ لَنُغْرِيَن ّ َ ض و َال ْمُر ْ ِ
ن فِي قُلُو بِه ِم مّرَ ٌ الأحزاب بعد قوله تعالى" :ل ّئِن ل ّ ْم يَنتَه ِ ال ْمُنَافِق ُونَ و َال ّذ ِي َ
ن خ َلَو ْا م ِن خذ ُوا و َقُت ِّلُوا تَقْتِيل ًا * سُن ّة َ الل ّه ِ ف ِي ال ّذ ِي َ
ك ف ِيهَا ِإلّا قَلِيل ًا * مّل ْع ُونِينَ َۖأيْنمََا ثُقِف ُوا أ ِ
بِه ِ ْم ث ُم ّ ل َا يُجَاوِر ُون َ َ
ك عليهم.
أي :لن ُسل ِّطَن ّ َ تجِد َ لِس ُن ّة ِ الل ّه ِ تَبْدِيل ًا"؛ قوله تعالى" :لَنُغْرِيَن ّ َ
ك بِه ِ ْم"ْ : ل و َلَن َ
قَب ْ ُ
- 053 -
-والمعنى :أن ّه إ ْن لم ينته ِ المنافقين عم ّا يقومون به من الـكيد والأذى للمؤمنين خاصّ ة ً للمؤمنات ،إ ْن لم ينتهوا
ط نبيه ﷺ وم َن معه من المؤمنين عليهم.
ن الل ّه َ سي ُسل ِّ ُ
عن ذلك =فإ ّ
اختلف المفس ِّرون في بيان عدم نزول ووقوع هذا الوعيد بالمنافقين؛ إمّا أ ّنهم لم ّا سمعوا هذه الآية؛ انتهوا
َ -وقد
إخلاف هذا الوعيد من باب الـكرم الإلهي ،لـكن الأرجح ُ في
َ ن
ورجعوا إلى كتمانهم وإسرارهم ،وإمّا أ ّ
ل قتادة -رضي الل ّه عنه.-
القولين :هو القول الأ ّول؛ وهو قو ُ
ط
ن الل ّه َ ي ُسل ِّ ُ سن ّة ُ الل ّه ِ في الذين خلوا من قب ُ
ل من الأمم السابقة ،وأ ّ ن المعنى عامّ؛ يعني :هذه ُ
القول الثاني :أ ّ
أولياء َه ُ المؤمنين على أعدائ ِه ِ في مثل هذه الأحوال.
أمر
ن فهم َها وفقه َها ٌ
سن ّة َ الل ّه -سبحانه وتعالى-؛ فهذا يعني أ ّ
ن الل ّه َ يذك ُر ُ أ ّنها سُن ّت ُه ُ؛ فكونها ُ
-والخُلاصة ُ المهمة ُ أ ّ
ضروريّ بالنسبة للمؤمن من جهة يقينه وإيمانه وثباته.
ل
ن كلمة َ "اسْ تِكْباَر ًا" هنا تُعْر َبُ بدل ًا من كلمة "نُف ُور ًا" ،وبعضهم قال :أ ّنها مفعو ٌ
بعض أهل الل ّغة أ ّ
ُ -قال
لأجله؛ يعني :كان ذلك لأجل أ ّنهم مستكبرون.
سنَن؛ إذ في بعض
سن َن الإلهية بطر يقة الفهم الشمولي لمجموع ال ّ فاـئدة :يجبُ أ ْن يكونَ تناو ُ
ل قواعد ال ّ
ل الإنسان :طالما
ل واحدٍ؛ ومن ذلك :عند َ كثرة الظلم والبغي؛ قد يقو ُ
سن ّة ٍ في مح ٍ
الأحيان :قد يأتي أكثر ُ من ُ
ل
ل يستوجبُ سُن ّة الإهلاك ،بينما قد يستوجبُ هذا الحا ُ
ن هذا الحا َ
أن ّه كثر َ الظلم والبغي ولم ينكره أحدٌ ،فإ ّ
ل واحد ،وهنا تستبينُ
سنَن الإلهية في حا ٍ
سُن ّة الإمهال والاستدراج للظالمين ،وهكذا؛ قد تجتمعا سُن ّتان من ال ّ
سنن الإلهية بمنظور النظر والفهم الشمولي لمجموعها.
أهمية ُ النظر في باب ال ّ
جاءت الآية ُ الثالثة في سورة غافر بعد قوله تعالى" :فَلَم ّا ر َأوْا ب َأْ سَنَا قَالُوا آم َن ّا ب ِالل ّه ِ وَحْدَه ُ و َ َ
كفَر ْن َا بِمَا ك ُن ّا ْ -ثم ّ
ك
خسِر َ ه ُنَال ِ َ ك يَنف َعُه ُ ْم ِإ يمَانُه ُ ْم لَم ّا ر َأوْا ب َأْ سَنَا َۖ سُن ّتَ الل ّه ِ ال ّتِي ق َ ْد خ َل َ ْ
ت فِي عِبَادِه ِ و َ َ بِه ِ مُشْرِكِينَ * فَل َ ْم ي َ ُ
الْك َاف ِر ُونَ".
البأس والعذابُ والهلاك ُ ،فلا ينف ُع وقتئذٍ الإيمانُ؛ كما
ُ أي :أن ّه إذا جاء َ
ق هذه الآية ُ بس ُن ّة الإهلاك؛ ْ-تتعل ّ ُ
ل لفرعون وجنوده .والإهلاك ُ ينقسم ُ إلى نوعين: حص َ
سلام-
النوع الثاني :الإهلاك ُ بالآيات الخفية :و يكونُ هذا الإهلاك ُ بتسليط الل ّه ُ لأنبيائه -عليهم الصّ لاة وال ّ
حق والباطل.
وم َن معهم من المؤمنين على الظالمين في سياق التدافع بينَ ال ّ ِ
ق
ِقاب الخارِ ِ ن عاشور -رحمه الل ّه -في تفسيره للآية( :وه َذا ح ُ ْكم ُ الل ّه ِ في الب َأْ ِ
س بِمَعْنى الع ِ -قال الإمام ُ اب ُ
ْف ال ّذ ِيسي ِ س ال ّ َذاب ب َأْ ِ
لع ِ س ال ّذ ِي هو مُعْتاد ٌ وال ّذ ِي هو آيَة ٌ خَف ِي ّة ٌ مِث ْ ُ لِل ْعادَة ِ وال ّذ ِي هو آيَة ٌ بَي ِّن َة ٌ ،ف َأمّا الب َأْ ُ
ْب حِينَ ر َأى سفْيانَ ب ْ ِن حَر ٍل أبِي ُ ن عِنْد َ رُؤْيَتِه ِ مِث ْ َ ن م َن يُؤْم ِ ُ نَصَر َ الل ّه ُ بِه ِ رَسُولَه ُ يَوْم َ ب َ ْد ٍر و يَوْم َ فَت ِْح مَك ّة َ ،فَإ ّ
ل
ل مِث ْ َْف عَنْهم ،فَإيمان ُه ُكام ِ ٌ سي ِ ْش يَوْم َ الفَت ِْح بَعْد َ رَف ِْع ال ّ ن ق ُر َي ٍ ل إيما ِ ْش الفَت ِْح ،أ ْو بَعْد َ أ ْن يَنْجُو َ م ِنه ُ مِث ْ َ جَي َ
ْح بَعْد َن أبِي سَر ٍ طل ِِب ،وعَبْدِ الل ّه ِ ب ْ ِن َ
سعْدِ ب ْ ِ ِث ب ْ ِن عَبْدِ الم ُ ّ سفْيانَ ب ْ ِن الحار ِ ن الوَلِيدِ ،وأبِي ُ ن خالِد ِ ب ْ ِ إيما ِ
ارْتِدادِه ِ.
ن ع َذابَ
ْف أ ّ
سي ِ
س ال ّ
ل ب َأْ ِ
ن عِنْد َ ن ُز ُو ِ
ل الإيما ِ
ل وقَب ُو ِ
َذاب ال ِاسْ تِئ ْصا ِ
لع ِ ن عِنْد َ ح ُلُو ِ
ل الإيما ِ
-ووَجْه ُ عَد َ ِم قَب ُو ِ
جاب
ل المَقْصِ د ُ م ِن إي ِ
ص ُ
يح ْ ُ ُوج م ِن عال َِم الد ّن ْيا فَإيقاع ُ الإيما ِ
ن عِنْدَه ُ لا َ ك والخُر ِ
ل م ُشار َف َة ٌ لِلْه َلا ِ
ال ِاسْ تِئ ْصا ِ
حزْب ًا وأن ْصار ًا لِد ِينِه ِ وأن ْصار ًا ل ِرُسُلِه ِ ،وماذا يُغْنِي إيمانُ قَو ْ ٍم ل َ ْم يَب ْ َ
ق ف ِيه ِ ْم إلّا ن وهو أ ْن يَكُونَ المُؤْم ِن ُونَ ِ
الإيما ِ
ل تَعالى
ل ،قا َ
َت ساع َة َ ع َم َ ٍ
ل الحَشْر ِ بِذ ُنُو بِه ِ ْم ولَيْس ْ
ِراف أه ِ ِ
ِيف م ِن حَياة ٍ ،فَإيمانُهم حِينَئِذٍ بِمَنز ِلَة ِ اع ْت ِ
ق ضَع ٌ
رَم َ ٌ
ن المُسْل ِمِينَ *
ل وأنا م ِ َ
ل آم َنتُ أن ّه ُ لا إلَه َ إلّا ال ّذ ِي آم َن َْت بِه ِ بَن ُو إس ْرائيِ َ
ن فِرْعَوْنَ" :فَلَم ّا أ ْدرَك َه ُ الغ َر َقُ قا َ
في شَأْ ِ
ل تَعالى:
ك عِصْ يانِه ِ وإف ْسادِه ِ ،وقا َ
ْت ل ِاسْ تِدْرا ِ
ق وق ٌ
أي فَل َ ْم يَب ْ َ
ن" ْ ،
سدِي َ
ن الم ُ ْف ِ
كن ْتَ م ِ َ
لو ُ
صي ْتَ قَب ْ ُ
ن وق َ ْد ع َ َ
آلْآ َ
كسَب َْت في إيمانِها خَيْر ًا" ،ف َأشار َ ل أ ْو َ ك لا يَنْف َ ُع ن َ ْفسًا إيمانُها ل َ ْم تَكُنْ آم َن َْت م ِن قَب ْ ُ
آيات ر َب ّ ِ َ
ِ ْض
"يَوْم َ ي َأْ تِي بَع ُ
سل بِقَو ْ ِم يُون ُ َ كمَة ِ عَد َ ِم ان ْت ِ ِ
فاع أحَدٍ ب ِإيمانِه ِ ساع َتَئِذٍ .وإن ّما كانَ ما ح َ ّ ح ْ
كسَب َْت في إيمانِها خَيْر ًا" إلى ِ قَو ْلُه ُ" :أ ْو َ
س).
ظه ُورِ عَلاقاتِه ِكَما بَي ّن ّاه ُ في سُورَة ِ يُون ُ َ
شع ُورِ بِه ِ عِنْد َ ُ
س وبَيْنَ ال ّ
ظه ُورِ الب َأْ ِ
حال ًا وسِيطًا بَيْنَ ُ
ن المكر َ السيئ َ
أي :أ ّ
سیِ ّئ ُ ِإلّا ب ِأه ۡلِه ِ"( :ولق ْد حاقَ بهم يوم َ بد ٍر)؛ ْ
ق ٱل ۡمَك ۡر ُ ٱل ّ
یح ِی ُ
في تفسير قوله تعالى" :وَل َا َ
الذي كانوا يمكرونه بالمؤمنين طيلة َ ثلاثة عشر عام ًا في مكة ،حاق بهم في عذاب يوم َ بدرٍ.
أي أن ّه
ن أ ْن تتكرر َ بنوعها لا بدرجتها؛ ْ
س الدرجة ،إلّا أن ّه ي ُمك ُ
ت غير َ متكررة ٍ على نف ِ
-وهذه المعاني وإ ْن كان ْ
ق
كل ّما رأىَ الإنسانُ بعينيه نصر َ الل ّه ومدد َه ُ؛ فإن ّه يكونُ لديه من اليقين والقو ّة والثبات والصّ بر ما لا يتح ّق ُ
لغيره ،وهذا لا يكونُ إلّا لمَن شارك َ في ن ُصرة الد ِّين والعمل له والصّ بر في سبيل الل ّه على ما ينال ُه ُ من
الأذى.
ن عَاق ِب َة ُ ال ْمُكَذِّبِينَ":
كي َْف ك َا َ
ض فَانظ ُر ُوا َ
ن فَسِير ُوا فِي الْأ ْر ِ الآية الخامسة" :ق َ ْد خ َل َ ْ
ت م ِن قَب ْل ِـك ُ ْم سُن َ ٌ
سنَن الإلهية من جهة المؤمنين؛ من حيث شعورهم ونظرهم وتأمّلهم ومراعاتهم لهذه
ن ال ّ
أتت الآية ُ في بيا ِ
ْ -
سن َن وتنبههم حت ّى لا ييأسوا ولا يقنطوا.
ال ّ
جاءت الآية ُ في بيان عاقبة المكذبين بس ُن ّة الإهلاك ،وجاء َ ذلك في سياق غزوة أح ُد بمثابة تعز ية ٍ للمؤمنين
ْ -
لما أصابهم من الهزيمة وفقدان الرموز الـكبرى من صحابة الن ّب ِيّ ﷺ؛ كحمزة ومصعب وغيرهما -رضي الل ّه
سنَن الإلهية والعاقبة ،وليس بنتيجة هذه الجولة.
عنها ،-بأ ْن ينظروا في أمر الهزيمة بال ّ
- 058 -
ت م ِن قَب ْل ِـك ُ ْم
ن جرير الطبري -رحمه الل ّه -في تفسيره للآية( :يعني بقوله تعالى ذكر ُه ُ" :ق َ ْد خ َل َ ْ
ل الإمام ُ اب ُ
-قا َ
حاب مح ُم ّدٍ وأهل الإيمان به ،من نحوِ قو ِم عادٍ
وسلفت منى فيمن كان قبلـكم ،يا معشر َ أص ِ
ْ مضت
ْ ن" ،
سُن َ ٌ
سي ْر َ بها فيهم
ن" ،يعني :مثُلات ِ
وثمودٍ وقو ِم هودٍ وقو ِم لوطٍ ،وغيرهم م ِن سُلاف الأمّم قبلـكم" = ،سُن َ ٌ
ل التكذيب بهم ،واستدراجي إ ي ّاهم ،حت ّى بل َغ
وفيمن كذ ّبوا به من أنبيائهم الذين أرسلوا إليهم ،بإمهالي أه َ
الكتابُ فيهم أجل ّه ُ الذي أج ّلت ُه ُ لإدالة أنبيائهم وأهل الإيمان بهم عليهم ،ثم أحللتُ بهم عقوبتي ،وأنـزلتُ
بساحتهم نِق َمي ،فتركتهم لمن بعدهم أمثال ًا وعبر ًا.
ن إدالتي م َنْ
ْف ك َانَ عَاق ِب َة ُ ال ْمُكَذِّبِينَ" ،يقول :فسيروا -أيها الظان ّون ،أ ّ
كي َ
ض فَانظ ُر ُوا َ
="فَسِير ُوا فِي الْأ ْر ِ
وخالف
َ استدراج مني لم َن أشرك َ بي ،وكفر َ برسلي،
ٍ أدلتُ من أهل الشرك يوم أحُدٍ على م ُحم ّدٍ وأصحابه ،لغيرِ
أمري -فسيروا في ديار الأمّم الذين كانوا قبلـكم ،مم ّن كان على مثل الذي عليه هؤلاء المكذبون برسولي
ِب خلافهم أمري،
ل إليه غ ّ
والجاحدون وحدانيتي ،فانظروا كيف كان عاقبة ُ تكذيبهم أنبيائي ،وما الذي آ َ
ن إدالتي م َن أدلتُ من المشركين على نبيي م ُحم ّدٍ وأصحابه بأح ُدٍ ،إن ّما
وإنكارهم وحدانيتي ،فتعلموا عند َ ذلك أ ّ
ل
ل إليه حا ُ
ل حاله ُم إلى مثل ما آ َ
ل لي َبل ُ َغ الكتابُ أجل ّه ُ الذي أجلتُ لهم .ثم إمّا أ ْن يؤو َ
ج وإمها ٌ
هي استدرا ٌ
الأمّم الذين سلفوا قبلهم :من تعجيل العقوبة عليهم ،أو ينيبوا إلى طاعتي واتباع رسولي).
سن ّة
ج عن ُ
ن هذا خار ٌ
ل يوم َ أح ُدٍ من علو المشركين ،يا م َن يظنّ أ ّ
ن ما حص َ
ن يا م َن يظنّ أ ّ
-والمقصد :أ ّ
ل وما يعقبُها من سُن ّة الإهلاك ،يا م َن يظنّ هذا الظنَ؛ سيروا في الأرض
ق بها من إمها ٍ
الاستدراج وما يتعل ّ ُ
فانظروا كيف كان عاقبة ُ الذين كذ ّبوا من قبل.
فاـئدة :عن يونس بن عبد الأعلى قال( :ما رأيتُ أحدًا ل َقِ َي من ال ِ
سق َ ِم ما ل َقِ َي الشافعيّ ،فدخلتُ عليه
ك تُبَوِ ّئ ُ
يوم ًا ،فقال لي :يا أبا موسى! اقرأ عليّ ما بعدَ العشرين والمائة من آل عمران" :و َِإ ْذ غَدَوْتَ م ِنْ أه ْل ِ َ
وأخف القراءة َ ،ولا ت ُثقلْ .فقرأتُ عليه ،فلما ْ ل و َالل ّه ُ سَم ِي ٌع عَل ِيم ٌ" إلى آخر السورة،
ال ْمُؤْم ِنِينَ مَق َاعِد َ لِل ْق ِتَا ِ
مكروب) .قال يونس( :ع َن َى َ الشافعيّ بقراءتي بعد َ العشرين والمائة
ٌ أردتُ القيام َ ،قال :لا تغفلْ عني ،فإن ِ ّي
ما ل َقَ َى الن ّبيّ ﷺ وأصحاب ُه ُ أو نحوه؛ لي َتأسى بهم ،والإنسانُ ي َتصب ّر ُ بما حدثَ للن ّب ِيّ ﷺ والصحابة الـكرام في
غزوة أح ُدٍ).
ك و َلََٰكِنّ
ك ال ّذ ِي يَق ُولُونَ َۖف َِإ ّنه ُ ْم ل َا يُكَذِّبُون َ َ
وردت الآية ُ في سورة الأنعام؛ فقال تعالى" :ق َ ْد نَعْلَم ُ ِإن ّه ُ لَي َحْ زُن ُ َ
ْ -
ك فَصَب َر ُوا عَلَى م َا كُذِّبُوا و َأوذ ُوا حَت ّى أت َاه ُ ْم
ل مّ ِن قَب ْل ِ َ
س ٌ
يج ْحَد ُونَ * و َلَق َ ْد كُذِّب َْت ر ُ ُ َات الل ّه ِ َ ظالِمِينَ ب ِآي ِ ال ّ
سنَن ات الل ّه ِ ۚو َلَق َ ْد ج َاءَك َ م ِن ن ّب َِإ ال ْمُرْسَلِينَ" ،وموض ُع الشاهد في الآية على قضية ال ّ ل لِكَل ِم َ ِ
نَصْر ُن َا وَل َا م ُب َ ّدِ َ
ات الل ّه ِ".
ل لِكَل ِم َ ِ
الإلهية هو قوله تعالى" :وَل َا م ُب َ ّدِ َ
ن الل ّه َ لي َم ُْل ِي ل الل ّه ﷺ"( :إ ّ ل رسو ُ ل :قا َ الأشعري -رضي الل ّه عنه -قا َ ِّ الحديث الأوّل :عن أبي موسى
ن أخْذَه ُ ك ِإذ َا أخَذ َ الْق ُر َى وَهِي َ ظَالم َِة ٌ ِإ ّ لِلظّالِمِ ،حت ّى إذا أخَذَه ُ ل َ ْم يُفْلِت ْه ُ" ،قالَ :ث ُم ّ ق َرَأ" :وَكَذَل ِ َ
ك أخْذ ُ ر َب ّ ِ َ
شدِيد ٌ") ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
أل ِيم ٌ َ
ن عَاق ِب َة ُ
ْف ك َا َ
كي َ
ض فَانظ ُر ُوا َ
ن فَسِير ُوا فِي الْأ ْر ِ
يرتبط الحديثُ بقول الل ّه -تعالى" :-ق َ ْد خ َل َْت م ِن قَب ْل ِـك ُ ْم سُن َ ٌ
ُ -
ق بس ُن ّة الاستدراج والإمهال والإملاء ال ْمُكَذِّبِينَ"؛ وقد جاء َ في تفسير الإمام الطبري -رحمه الل ّه -لها ما يتعل ّ ُ
سن َن والتي تُعْق َبُ بس ُن ّة الإهلاك،
ن هذه ال ّ ل ضم َن علو الكافرين والظالمين في الدنيا داخ ٌ
للظالمين وغيرهم ،وأ ّ
ن".
كيْدِي م َتِي ٌ
ن َ
وقد تكر ّر َ ذكر ُ سُن ّة الإملاء في القرآن؛ ومنه :قوله تعالى" :و َأمْل ِي لَه ُ ْم ۚ ِإ ّ
ل مع أبي سفيان -رضي الل ّه عنه- الحديث الثاني :عن عبدِ الل ّه بن عبا ٍ
س -رضي الل ّه عنه -في قصّ ة ه ِر َق َ
ل له( :وسَألْتُكَ :هلْ قَاتلَ ْتُم ُوه ُ ف َز َعَم ْتَ أن ّك ُ ْم قَاتلَ ْتُم ُوه ُ ،فَتَكُونُ الحَر ْبُ بي ْنَك ُ ْم وبي ْن َه ُ سِ جَال ًا يَنَا ُ
ل حين قال ه ِر َق ُ
ل تُب ْتَلَى ث ُم ّ تَكُونُ لهم ُ الع َاق ِب َة ُ) ،أخرج َه البخاريّ ومسلم ٌ.
س ُ
ك الر ّ ُ
م ِنك ُم وتَنَالُونَ منه ،وك َذل َ
سنن الإلهية ،ليس باللفظ المباشر ،ولـكن بربط الن ّب ِيّ ﷺ لحال المؤمنين في زمنه
-يؤكد ُ الحديثُ على باب ال ّ
ل م َن
وحال م َن سبقوهم من المؤمنين؛ فإ ّنهم يبتلون كما ابتُلي َ م َن سبقوهم على هذا الطر يق؛ فليس هم أ ّو ُ
ن ذلك من سُنَنِ الل ّه الجار ية التي لا تتغي ّر ولا تتب ّدل.
يصابون على هذا الطر يق بل حصل ذلك لغيرهم؛ لأ ّ
سن َنَ في مواضع كثيرة ٍ من كتابه؛ ومن ذلك :في سورة آل عمران بعد َ -يُبيِّنُ لنا الل ّه ُ -سبحانه وتعالى -هذه ال ّ
سنَنَ الإلهية َ كثي ًرا ما ت ُذك َر ُ
ن ال ّ
ح" إذ أ ّ
أ ْن ذكر َ الل ّه م ُصابَ وابتلاء َ المؤمنين يوم َ أح ُدٍ "م ِن بَعْدِ م َا أصَابَهُم ُ الْقَر ْ ُ
سن ّة ٍ إلهية ٍ؛ ومن ذلك :قوله تعالى في
حق والباطل ،ذكر َ الل ّه -بعد ذلك -أكثر َ من ُ
في سياق الصراع بينَ ال ّ ِ
س
ك الْأي ّام ُ نُد َاوِلُهَا بَيْنَ الن ّا ِ
ح مِّثْلُه ُ ۚ و َتِل ْ َ
ح فَق َ ْد م َّس الْقَوْم َ قَر ْ ٌ
سك ُ ْم قَر ْ ٌ
بداية الحديث عن غزوة أحُدٍِ " :إن يَمْس َ ْ
ظالِمِينَ" ،وهذه سُن ّة ٌ إلهية ٌ ،وقوله تعالى في ختام ِب ال ّ يح ّ ن آم َن ُوا و َي َ ّتخِذ َ م ِنك ُ ْم شُهَد َاء َ ۗ و َالل ّه ُ ل َا ُ
و َلِيَعْلَم َ الل ّه ُ ال ّذ ِي َ
الباب:
ِ مقاصد ُ
-۱العلم ُ بالل ّه ِ :إ ْذ من جملة العلم بالل ّه :العلم ُ والمعرفة ُ ببعض سُنَنه؛ سواء ٌ في أحوال الـكون أو في أحوال
العباد.
ح بالصّ بر ِ ،ويتهيأ للبلاء ِ :فلا ييأس أو يفتر لما يراه ُ من المصاعب والابتلاءات الت ّي
-۲أ ْن يتزود َ المُصل ُ
يُصابُ بها المسلمون ،وأ ْن يستبشر َ خير ًا في عاقبة ذلك البلاء بالتمكين والنصر والاستخلاف.
الباب:
ِ شواهد ُ
ي م َن ن ّش َاء ُ
ل وَظَن ّوا أ ّنه ُ ْم ق َ ْد كُذِبُوا ج َاءَه ُ ْم نَص ْر ُن َا فَن ّ ُِج َ
س ُ الآية الأولى :قال تعالى" :حَت ّى ِإذ َا اسْ تَي ْأ َ
س الر ّ ُ
ن الْقَو ْ ِم ال ْم ُجْ رِم ِينَ":
وَل َا ي ُرَدّ ب َأْ سُن َا ع َ ِ
ل" :فس ّرَه ُ كثير ٌ من المفسرين بأ ّنهم استيأسوا من إيمان أقوامهم بهم.
س ُ
س الر ّ ُ
-قوله تعالى" :حَت ّى ِإذ َا اسْ تَي ْأ َ
اختلف فيه المفسرون؛ وذهبَ كثير ٌ منهم إلى أن ّه راج ٌع إلى أتباع
َ -قوله تعالى" :و َظَن ّوا أ ّنه ُ ْم ق َ ْد كُذِبُوا":
سل .
أي :أ ّنهم ظنوا أ ّنهم قد ك ُذِبوا فيما وع ِدوا فيه من الر ّ ُ
سل ؛ ْ
الر ّ ُ
ق بالأمراض والأسقام،
ق بالفقر وقلة ذات اليد ،وقوله" :و َالض ّر ّاء ُ" :يتعل ّ ُ
ستْهُم ُ ال ْب َأْ سَاء ُ" :يتعل ّ ُ
-قوله تعالى" :مّ ّ
ق بتسل ّط الأعداء والحروب. وقوله" :وَز ُلْزِلُوا" :يتعل ّ ُ
أمر متكرر ٌ
ن أمرَ الابتلاء ٌ جاءت الآية ُ في بيان تنو ّع أشكال الابتلاء وصورِه ِ ،و يُفهم ُ من سياق الآية :أ ّ ْ -
ن ما أنتم عليه
ن الل ّه َ يُخاطبُ المتأخرين من الأمم وهم أمّة مُحم ّدٍ ﷺ فيقول لهم :أ ّ
ل ب ّسن َن الل ّه؛ إذ أ ّ
دائم ٌ متص ٌ
ل ما أصابَ م َن قبلـكم
من الاب تلاء والمصائب والمحن وما سينالـكم من أشكال البلاء المتنوعة ،إن ّما هو مث ُ
سن َة الإلهية.
مم ّن حملوا رسالة الد ِّين وقاموا بتبليغ رسالات الل ّه ،وهذا معنى ال ّ
ل الل ّه ُ هذه الآية في بداية المرحلة المدنية الت ّى كان من أهم سماتها وعناوينها الـكبرى :المغازي والجهاد -أنز َ
كانت الفائدة ُ من
ْ في سبيل الل ّه حت ّى اشتُه ِر َْت السيرة ُ النبو ي ّة ُ في كُت ُب التاريخ بكتاب (المغازي) ،ولذا؛
كانت هذه الفائدة ُ متمثلة ً في قوله تعالى" :و َلَم ّا ر َأى
ْ نزول هذه الآية في المرحلة المدنية المختصة بالجهاد،
صد َقَ الل ّه ُ وَرَسُولُه ُ".
حز َابَ قَالُوا هََٰذ َا م َا و َعَد َن َا الل ّه ُ وَرَسُولُه ُ و َ َ
ال ْمُؤْم ِن ُونَ الْأ ْ
س وقتادة:
ن عبا ٍ
حز َابَ "( :قال اب ُ
ن كثيرٍ -رحمه الل ّه -في تفسير آية" :و َلَم ّا ر َأى ال ْمُؤْم ِن ُونَ الْأ ْ
-يقول الإمام ُ اب ُ
ستْهُم ُ
ن خ َلَو ْا م ِن قَبْل ِـك ُم َۖمّ ّ
ل ال ّذ ِي َ
سب ْتُم ْ أن ت َ ْدخ ُلُوا الْجنَ ّة َ و َلَم ّا ي َأْ تِك ُم مّث َ ُ
ح ِ
ي َعْن ُون قوله تعالى في سورة البقرة" :أ ْم َ
ن نَصْر َ الل ّه ِ قَرِيبٌ "؛ ْ
أي :هذا ن آم َن ُوا مَع َه ُ م َت َى نَصْر ُ الل ّه ِ ۗأل َا ِإ ّ
ل و َال ّذ ِي َ
ل الر ّسُو ُ
الْب َأْ سَاء ُ و َالض ّر ّاء ُ وَز ُلْزِلُوا حَت ّى يَق ُو َ
ل
ل قا َ
ن ه ِر َق َ
ن أبا سفيان -رضي الل ّه عنه -أخبر َه ُ أ ّ الحديث الأوّل :عن ابن عبا ٍ
س -رضي الل ّه عنهما -أ ّ
ل تُب ْتَلَى ث ُم ّ تَكُونُ لهم ُ
س ُ
ك الر ّ ُ ن الحَر ْبَ سِ جَا ٌ
ل ودُوَلٌ ،فَك َذل َ كيف كانَ ق ِتَالـُك ُ ْم إ ي ّاه ُ؟ ،ف َز َعَم ْتَ أ ّ
َ ك
له( :و َسَأل ْت ُ َ
الع َاق ِب َة ُ) ،أخرج َه ُ البخاريّ ومسلم ٌ.
ل تُب ْتَلَى ث ُم ّ تَكُونُ لهم ُ الع َاق ِب َة ُ) :هذه كلمة ٌ عجيبة ٌ متعل ِّقة ٌ بس ُن ّة ٍ إلهية ٍ ،وقد ف َه ِم َها
س ُ
ك الر ّ ُ
ل( :فَك َذل َ
-قول ه ِر َق ِ
ل وف َق ِه َها من آثار الن ّب ُو ّة التي لديهم.
ه ِر َق ُ
-٢أهمية ُ قصص وأحوال والأنبياء والصالحين في توليد حالة الثبات في الأزمات المتجددة؛ كما قال الل ّه -
كف َر ُوا
ن َ
ل ال ّذ ِي َ
ل م َا نُثَب ِّتُ بِه ِ ف ُؤَادَك َ" ،وقال تعالى" :و َقَا َ ك م ِنْ أنبَاء ِ الر ّ ُ
س ِ تعالى -لنبيه ﷺ" :وَك ًُّل ّا ن ّق ّ
ُص عَلَي ْ َ
ك لِنُثَب ِّتَ بِه ِ فُؤَادَك َ"؛ والمعنى :هو تثبيتُ فؤاد الن ّب ِيّ ﷺ بما في القرآن
حدَة ً ۚكَذََٰل ِ َ
ل عَلَيْه ِ الْقُر ْآنُ جُم ْلَة ً و َا ِ
لَوْل َا نُز ِّ َ
ابتلاءات ،ولذلك؛ قال الل ّه ُ -تعالى -في سورة الأحقاف لنبيه ﷺ: ٍ مروا به من من قصص الأنبياء وما ّ
ك فَصَبَر ُوا
ل مّ ِن قَبْل ِ َ
س ٌ
ل" ،وقال تعالى في سورة الأنعام " :و َلَق َ ْد كُذِّب َْت ر ُ ُ
س ِ
ن الر ّ ُ
"فَاصْ بِرْ كَمَا صَبَر َ أولُو الْعَز ْ ِم م ِ َ
ات الل ّه ِ ۚو َلَق َ ْد ج َاءَك َ م ِن ن ّب َِإ ال ْمُرْسَلِينَ".
ل لِكَل ِم َ ِ
عَلَى م َا كُذِّبُوا و َأوذ ُوا حَت ّى أت َاه ُ ْم نَصْر ُن َا ۚوَل َا م ُب َ ّدِ َ
-وفي هذا البيان توجيه ٌ للمؤمن الحر يص على الثبات على أمر دينه وطر يق الإصلاح أ ْن يعتني َ بالقراءة
والبحث والتدار ُس للقصص الصحيحة الثابتة عن الأنبياء وسِيَر ِ الصالحين؛ وأهمها ما ورد َ في القرآن والس ُن ّة؛
فهي من أعظم أسباب الثبات.
ن سُن ّة َ الطغاة والمجرمين من محاربي الد ِّين وطر يق الإصلاح واحدة ٌ؛ فهم على نفس
-٣من فوائد الحديث :أ ّ
ن لَوْل َا
ن ل َا يَعْلَم ُو َ
ل ال ّذ ِي َ
ل والط ُر ُقُ ؛ كما قال تعالى في سورة البقرة" :و َقَا َ
اختلفت الوسائ ُ
ْ القلوب والأفكار وإ ْن
ل قَو ْلِه ِ ْم ۘ تَش َابَه َْت قُلُو بُه ُ ْم" ،وأيضًا قال تعالى في ن م ِن قَبْلِه ِم مِّث ْ َ
ل ال ّذ ِي َك قَا َ يُكَل ِّمُنَا الل ّه ُ أ ْو ت َأْ تِينَا آيَة ٌ ۗ كَذََٰل ِ َ
صو ْا ب ِه ِ ۚ بَلْ ه ُ ْم
ن * أتَوَا َ
مج ْن ُو ٌ
حر ٌ أ ْو َ
ل ِإلّا قَالُوا سَا ِ
ن م ِن قَب ْلِه ِم مّ ِن رّسُو ٍ ك م َا أتَى ال ّذ ِي َ سورة الذار يات" :كَذََٰل ِ َ
ن هذا قَوْم ٌ طَاغ ُونَ"؛ فحينما يرى الإنسانُ حالة ً من الفساد الشرسة في محاربة الد ِّين والمصلحين ،فلا يظنّ أ ّ
ٍ
انقطاع ولا ف ولامرة ٍ ،وإن ّما هذا من سُن ّة التدافع والابتلاء الت ّي يُجريها الل ّه على عباده بلا توق ّ ٍ
ل ّيحدثُ لأوّ َ
ل.
تغييرٍ ولا تبدي ٍ
ن هذا الحديثَ من دلائل الن ّب ُو ّة؛ فقد ذكرَه ُ الن ّبيّ ﷺ في مرحلة ٍ مبكرة ٍ في مكة،
-٤ومن فوائد الحديث :أ ّ
ض الواقع؛ ومع ذلك يُبش ِّر ُ بتمام أمر الد ِّين؛ فيقول ﷺ:
ولم تكنْ فيها بوادر ُ للنصر ،فلا يوجد ُ مستندٌ في أر ِ
ل في ذلك فيقول ﷺ" :والل ّه ِ لَيُتِمّنّ هذا الأمْرَ ،حت ّى يَسِير َ الر ّاكِبُ م ِن "والل ّه ِ لَيُتِمّنّ هذا الأمْرَ" ،ثم ي ُ ِّ
فص ُ
اف إلّا الل ّه َ ،أوِ الذِّئ ْبَ علَى غ َنَمِه ِ"؛ وفي هذا دلالة ٌ على حالة ٍ متق ّدِمة ٍ فيحضْرَمَو ْتَ ،لا يَخ َ ُ
صنْع َاء َ إلى َ َ
باب الأمن والاستقرار.
استت ِ
ح الل ّه ُ عليهم من الفتوحات وما ترت ّبَ عليها من أي :يقطف ُها و يجنيها؛ و ي ُقصد ُ بذلك ما فت َ -قوله( :يَهْدِبُهَا)ْ :
ت أيام ُ البلاء
سِعة والر ّخاء بعدما تصر ّم َ ْ
ل إلى العافية وال ّ
الخيرات والغنى بعد َ الفقر والذ ِّلة والفاقة ،وتحو ّل الحا ِ
ش ّدة في المرحلة المكية ،هو
ن خباب ًا الذي كان يشتكي البلاء وال ِّ
ت أيام ُ الش ّدة ،واللطيف في الأمر :أ ّ
ض ْ
وانق َ
سِعة والر ّخاء ،وعلو كلمة المؤمنين.
نفس ُه ُ الذي يروي خبر َ العافية وال ّ
خص
ج هذا الحديثُ تحتَ باب دلائل الن ّب ُو ّة ،و يأتي أيضًا في سياق بيان التمكين بعد َ البلاء؛ إذ يلُ ّ ُ
-يندر ُ
وبلاءات وأيام ش ّدة ٍ؛ فيصبرون ويتقون، ٍ ل
مروا به أحوا ٍ حياة َ الن ّب ِيّ ﷺ وصحابته -رضي الل ّه عنهم -وما ّ
حت ّى أتم ّ الل ّه ُ دينه؛ فأنزل قوله تعالى" :الْيَوْم َ أكْ مَل ْتُ لـَك ُ ْم دِينَك ُ ْم و َأتْمَمْتُ عَلَيْك ُ ْم نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لـَكُم ُ ال ِْإسْ لَام َ
ت الابتلاءات في الأمّة؛ بدءًا من ارتداد عامّة جزيرة العرب إلى دِينًا" ،فما لب ِثَ أ ْن تُوف ِ ّي َ الن ّبيّ ﷺ ،ثم تج ّدد َ ْ
غير ذلك من الابتلاءات حت ّى وقتنا هذا .وقد بل َغ الأمرُ تمام َه ُ في زمن الن ّب ِيّ ﷺ بتمام نزول الوحي واكتمال
الرسالة وعلو كلمة الد ِّين وظهوره على ما سواه من الادعاءات الباطلة ،ودخول الن ّاس في دين الل ّه أفواج ًا،
بلغت البشارة الن ّبو ي ّة ذروتها عند َ فتح فارس والروم.
ْ ثم ّ
الباب :يؤص ُ
ل هذا البابُ للقاعدة الأساسية في فهم الابتلاءات ،ومواقف الهزيمة والنصر، ِ خُـلاصة ُ
ل هذا .وق ْد جاء َ هذا البابُ بمثابة التقدمة
والتبشير بالعاقبة والتمكين بعد الابتلاء ،و بيان الح ِك َمِ الإلهية في ك ّ ِ
باب في المبشرات بالتمكين وصلاح أحوال المسلمين في آخر الزمان بعد َ والتوطئة والتمهيد للباب التالي وهوٌ ( :
ق بمستقبل هذه الأمّة في آخر الزمان؛ لوجود المبشرات في صلاح
الشدائد والفتن) ،وهذا البابُ متعل ّ ِ ٌ
أحوال المسلمين في هذه الحقبة.
- 068 -
ن
المحاضرة الثامنة والعشرون :المُبشراتُ بالتمكينِ في آخر ِ الزما ِ
بعد َ الشدائدِ والفتنِ
ن
ل المسلمين في آخر ِ الزما ِ ِ
وصلاح أحوا ِ باب في الم ُبشراتُ بالتمكينِ
ٌ
بعد َ الشدائدِ والفتنِ
م ُق ّدِمة ٌ:
ن
-في هذا الباب حديثٌ ع ّما ستستقبل ُه ُ الأمّة م ِن الخيرِ ،بعدما توالت عليها الابتلاءات والمصائب لقرو ٍ
طو يلة ٍ ،حت ّى أصيبَ كثير ٌ من الن ّاس باليأس والإحباط تجاه َ هذا الواقع الأليم للأمّة وهذا خطأٌ ،وقد
فصّ لتُ في بيان طر يقة التعامل مع مشكلة اليأس والإحباط في كتاب (بوصلة المصلح)؛ ومن ذلك:
ن هذه
بعض الن ّاس بأ ّ
ل من زمانها ،بخلاف ما يظن ّه ُ ُ
ن لهذه الأمّة ِ جولة ٌ عظيمة ٌ فيما ي ُستقب ُ
الاستبشار ُ بأ ّ
تنهض من كبوتها.
َ الأمّة َ لن
بعض الن ّاس يتعاملون مع هذه النصوص المُبش ِّرة بشيء ٍ من المبالغة ،فيتكئون
َ ن
-وأيضًا من الخلل المنهجي :أ ّ
والاستخلاف وعلو َ هذه الأمّة سيكونُ في آخر الزمان،
َ ن التمكينَ
و يعوِّلون عليها؛ أن ّه طالما ق ّدر الل ّه ُ -تعالى -أ ّ
ل العاملون أو للبذل والجهد والإصلاح في هذا الواقع ،و يظنون أ ّنهم غير ُ مطالبين بالعمل،
ل إذ ًا لعَم َ ِ
فلا سبي َ
كانت تحديات الواقع
ْ وهذا خطأ ٌ ووهمٌ ،وصوابُ ذلك هو الاقتداء ُ بالن ّب ِيّ ﷺ على طر يق الإصلاح مهما
ومشكلاته.
الباب:
ِ شواهد ُ
ض كَمَا
ات لَي َسْتَخْلِفَنّه ُ ْم فِي الْأ ْر ِ الآية الأولى :قال تعالى" :و َعَد َ الل ّه ُ ال ّذ ِي َ
ن آم َن ُوا م ِنك ُ ْم و َعَم ِلُوا الصّ الِ ح َ ِ
خو ْفِه ِ ْم أمْنًا يَعْبُد ُونَنِي ل َا
كِن َ ّن لَه ُ ْم دِينَهُم ُ ال ّذ ِي ارْتَض َى لَه ُ ْم و َلَيُب َ ّدِلَنّه ُم مّ ِن بَعْدِ َ
ن م ِن قَبْلِه ِ ْم و َلي َم ُ َ ّ
ف ال ّذ ِي َ
اسْ تَخْل َ َ
سق ُونَ":
ك هُم ُ الْف َا ِ
ك ف َأولََٰئ ِ َ
كف َر َ بَعْد َ ذََٰل ِ َ
شي ْئًا وَم َن َ
يُشْرِكُونَ بِي َ
ل مع أنبياء ِ الل ّه ِ عامّة ً؛ ومنهم نبينا ﷺ ،فقد كانت المبشراتُ تأتيه في بداية زمن الن ّب ُو ّة؛ كما قال -كما حص َ
سم َاء ِ ث ُم ّ ل ْي َ ْقطَعْ فَل ْيَنْظُر ْ ه َلْ
خرَة ِ فَل ْي َ ْمد ُ ْد بِس َب ٍَب ِإلَى ال ّ
تعالى" :م َنْ ك َانَ يَظ ُنّ أ ْن لَنْ يَن ْصُرَه ُ الل ّه ُ فِي الد ّن ْيَا و َالْآ ِ
ِيظ" ،ومع هذه المبشرات؛ لم يكن الن ّبيّ ﷺ متكئ ًا عليها ،قاعدًا ينتظر تحقيقها ،وإن ّما كان
كيْدُه ُ م َا يَغ ُ
ي ُ ْذه ِب َ ّن َ
وارتدت
ْ ل الن ّاس فيه أفواج ًا ،ثم ّ ت ُوف ِ ّي َ الن ّبيّ ﷺ
عامل ًا باذ ًلا مضحي ًا هو وصحابته حت ّى أتم ّ الل ّه ُ دينه ودخ َ
ل ه ِ ّم الد ِّين؛ يعملون ويبذلون لإقامته وحمايته وتبليغه؛ العربُ ؛ فقام َ الصحابة -رضي الل ّه عنهم -بحم ِ
فاستحقوا هذا الوعد من الل ّه بالنصر والمؤازة والتأييد.
-ينبغي التأكيد ُ والتركيز ُ على قضية ِ الأسانيد في باب (تبشير الن ّب ِيّ ﷺ بالمهدي)؛ لأن ّه من الأبواب الت ّي وق َع
فيها إنكار ٌ من بعض المتأخرين؛ ومن أسباب هذا الإنكار :هو كثرة ُ التعامل الخاطئ مع هذا الباب على مر
بعض الن ّاس إلى
ُ وقعت الأمّة في مرحلة ٍ من مراحل النكبة والاستضعاف؛ يتطل ّ ُع
ْ التاريخ؛ بحيث أن ّه كل ّما
استعجال الخلاص والنصر ،و يكونُ ذلك بالمبالغة في تنز يل قضية المهدي على الواقع ،وهذا له شواهد كثيرة
ًّ
داخلي ّا له لقضية إنكار هذا الباب. بعض المتأخرين هذا المعنى وكان هذا محرِ ّك ًا
لاحظ ُ
َ في التاريخ ،لذلك؛
الثانـي :ما كان بالنصوص العامّة؛ ذات الدلالة غير الصر يحة (دلالتها غير مباشرة) ،ولـكن يحمل ُها العلماء ُ
ل عا ٍم ،بالإضافة إلى ما على هذا الباب ،ولهذا القسم أحاديثٌ في الصحيحين ،وهذا مما يقوي البابُ بشك ّ ٍ
ورد َ عن المتق ّدِمين في تثبيت هذا الباب؛ سواء ٌ من أصحاب الن ّب ِيّ ﷺ أو من التابعين -رضي الل ّه عنهم.-
ن الل ّه َ -سبحانه وتعالى -لن يترك َ هذه الأمّة َ في حالة الاستضعاف -هذا البابُ من المبشرات العظيمة بأ ّ
والضعف واشتداد الظلم والتسل ّط الشديد ،وإن ّما سيهيئ ُ لها -كما هيئ َ لها على مر الأزمان -سيهيئ ُ لها م َن يقوم ُ
بشأنها.
ن هذه التهيئة َ -بتغيير حال الأمّة وصلاح المسلمين
ض الن ّاسِ :أ ّنهم يظنون أ ّ
-ومن التصورات الخاطئة عند َ بع ِ
ن ذلك لا يكونُ في
وعلو شأنهم -تأتي فجأة ً من باب المعجزات والـكرامات ،وهذا من الوهم والخطأ؛ لأ ّ
ل من العمل والبذل؛
ح لا يأتي فجأة ً ،وإن ّما يأتي بعد َ مراح ٍ
ن التغيير َ والإصلا َ
سُنَن الل ّه؛ إ ْذ من سُنَن الل ّه :أ ّ
ل الأنبياء ُ وم َن تبعهم من المصلحين؛ ومن ذلك:
كما فع َ
ل ثلاثة عشر عام ًا في مكة يُبل ّ ُغ الرسالة و يصن ُع حَمَلَتها من صحابته المؤمنين ،ثم ّ
-١لم ّا بعثَ الل ّه ُ نبيه ﷺ ،ظ ّ
ق الد ِّين شيئًا فشيئًا وغ ُ ّذي َْت القلوبُ بها ،ثم قاموا بالدعوة ِ إلى الل ّه والصّ بر على الأذى في سبيله،
نزلت حقائ ُ
ْ
- 070 -
جاءت معركة بدر وأيدهم الل ّه بجنده ،ثم ّ توالى العمل والبذل من الن ّب ِيّ
ْ ثم ّ هاجروا إلى المدينة ،ثم ّ بعد ذلك
ﷺ إلى أ ْن أتم َ الل ّه ُ دينه بعد َ ثلاثة وعشرين عام ًا من العمل والبذل.
-وكما جاء َ في هذه الأحاديث بشارة ٌ عظيمة ٌ لهذه الأمّة ِ ،فقد جاء َ أيضًا إخبار ٌ ضمنيّ بانتشار الجور والعدوان؛
الأرض؛ فلا
َ جوْر ًا"؛ فإذا رأيتَ الجور َ والعدوان قد ملأ
ل الن ّب ِيّ ﷺ" :يَم ْلَؤ ُه َا ع َ ْدل ًا كَمَا م ُلِئ َْت َ
وذلك في قو ِ
الأرض
ُ ن الل ّه -سبحانه وتعالى -لن يترك َ دين َه ُ ،بل سيبعثُ له م َن يقيم ُ دعائمه و يج ّدِدَه ُ حت ّى تمتلئ َ
تيأس ،فإ ّ
امتلأت جور ًا.
ْ عدل ًا كما
ل
ك أه ْ ُ
ش ُ
ل فهم ُ هذه الرواية من الحديث في روايته الثانية؛ عن جابر -رضي الل ّه عنه -قالَ( :يُو ِ
-يكتم ُ
ن ذ َاك َ ،ث ُم ّ قالَ:
جمِ ،يَم ْن َع ُو َ
ل الع َ َ
ن ذ َاك َ؟ قالَ :م ِن ق ِب َ ِ
يج ْب َى إليه ِم قَف ِيز ٌ وَل َا دِرْهَمٌ ،قُل ْنَا :م ِن أي ْ َ
ق أ ْن لا ُ
الع ِرَا ِ
سكَتَ
ل الر ّو ِم ،ث ُم ّ َ
ن ذ َاك َ؟ قالَ :م ِن ق ِب َ ِ
يج ْب َى إليه ِم دِينَار ٌ وَل َا مُدْيٌ ،قلُ ْنَا :م ِن أي ْ َ
شأْ ِم أ ْن لا ُ
ل ال ّ
ك أه ْ ُ
ش ُ
يُو ِ
حث ْيًا ،لا يَع ُ ّده ُ
ل َ
يحْثِي المَا َ
خر ِ أمّتي خ َلِيف َة ٌ َ ل الل ّه ِ صَل ّى الل ّه ُ عليه و َ َ
سل ّم َ" :يَكونُ في آ ِ ل رَسُو ُ ه ُنَي ّة ً ،ث ُم ّ قالَ :قا َ
عَدَد ًا") ،أخرج َه ُ مسلم ٌ.
-تجتم ُع هذه الرواياتُ على الإخبار الضمني بتغي ّر حال المسلمين في آخر الزمان؛ من الهيمنة وعلو الكلمة حت ّى
أنهم سيمنعون من جباية وجز ية الأموال وخراج الخيرات ،وفي رواية الإمام البخاري :قال الن ّبيّ ﷺ" :فَيَش ُ ّد
ل الذِّمّة ِ ،فَيَمْن َع ُونَ ما في أيْدِيه ِ ْم".
ل -قُلُوبَ أه ْ ِ
عز وج ّ
الل ّه ُ ّ -
ن المقصود َ
حث ْيًا ،لا يَع ُ ّده ُ عَدَد ًا" :حملَه ُ طائفة ٌ من العلماء أ ّ
ل َ
يحْثِي المَا َ
خر ِ أمّتي خ َلِيفَة ٌ َ
-قوله ﷺ" :يَكونُ في آ ِ
بهذا هو المهدي ،وفيه أيضًا بشارة ٌ ضمنية ٌ بأن ّه سيكونُ للمسلمين خليفة يقوم ُ على شأنهم و يحكم ُ فيهم بشرع الل ّه.
ل
ل" :لا تقوم ُ الساعة ُ حت ّى يقات َ ل ﷺ الل ّه قا َ ن رسو َ الحديث الخامس :عن أبي هريرة َ -رضي الل ّه عنه -أ ّ
ل الحجر ُ أو الشجر ُ :يا المسلمون اليهود َ ،فيقتلُهم المسلمون ،حت ّى يختبيء َ اليهوديّ م ِن وراء ِ الحجرِ و الشجرِ ،فيقو ُ
مسلم ُ يا عبد َ الل ّه ِ هذا يهوديّ خلفي ،فتعا َ
ل فاق ْتل ْه ،إلا الغَر ْقَد َ ،فإن ّه من شجرِ اليهودِ" ،أخرج َه ُ البخاريّ .
-هذا الحديثُ من المبشرات الت ّي تبعث على التفاؤل والأمل؛ ففي الحديثُ إخبار ٌ ضمنيّ باجتماع شأن اليهود
حدث على مر التاريخ؛ إ ْذ اليهود ُ يعيشون حالة ٍ من التشت ّت والتفر ّق
جيش وقو ّة ٌ ،وهذا لم ي ْ
ٌ وأن ّه سيكونُ لهم
ن أغلبَ حروب المسلمين مع النصاري الصليبين.
والضعف ،كما أ ّ
ل
ل رسو ِ ن حو َل( :بينما نَح ُالحديث السادس :عن عبد الل ّه بن عمرو بن العاص -رضي الل ّه عنهما -قا َ
ل الل ّه ِ
ل رسو ُ ل الل ّه ِ ﷺ :أيّ المدينَتينِ تُفت َ ُ
ح أ ّول ًا :ق ُسطنطيني ّة ُ أو رومي ّة ُ ؟ ،فقا َ الل ّه ِ ﷺ نَكْتبُ إذ سُئ ِ َ
ل رسو ُ
ح أوّل ًا" ،يَعني قُسطَنطيني ّة َ) ،أخرج َه ُ أحمد.
ل تُفت َ ُ
ﷺ" :م َدينة ُ هرق َ
-هذا الحديثُ من جملة المبشرات بإعلاء كلمة الإسلام في ع ُقرِ ديار النصارى (رومية) في آخر الزمان؛
قريب أو
ٍ ل
ح القسطنطينية المبش ّر ُ به في الحديث سيكونُ في مستقب ٍ
قال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الل ّه( :-فت ُ
ح لها حين يعود ُ المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه ،وأمّا
ح الصحي ُ
ل ،-وهو الفت ُ
عز وج ّ
بعيدٍ يعلم ُه ُ الل ّه ّ -
وعاهدت الـكُ ّفار َ أعداء َ ْ أعلنت حكومت ُهم هناك أ ّنها حكومة ٌ غير ُ إسلامية ٍ وغير ُ دينية ٍ، ْ المسلمين منذ
ح الإسلاميّ لها إ ْن شاء َ الل ّه كما بش ّر َ به وحكمت أمّتها بأحكا ِم القوانين الوثنية الكافرة ،وسيعود ُ الفت ُ
ْ الإسلام،
ل الل ّه ﷺ).
رسو ُ
ل طائِف َة ٌ م ِن
ل" :لا ت َزا ُ الحديث السابع :عن جابر بن عبد الل ّه -رضي الل ّه عنهما -قا َ
ل :سمعتُ الن ّبيّ ﷺ يقو ُ
ل
ن م َْري َم َ صَل ّى الل ّه ُ عليه وسل ّم َ ،في َقو ُ
ل ع ِيس َى اب ُ ن إلى يَو ِم الق ِيامَة ِ ،قالَ :فَيَنْز ِ ُق ظاهِرِي َأمّتي يُقاتِلُونَ علَى الح َ ّ ِ
ض أم َراء ُ تَكْرِم َة َ الل ّه ِ هذِه الأمّة َ" ،أخرج َه ُ مسلم ٌ. ضك ُ ْم علَى بَعْ ٍن بَعْ َل لَنا ،في َقولُ :لا ،إ ّ ص ِّ
ل َ
أم ِير ُهُمْ :تَعا َ
-هذان الحديثان من جملة الأحاديث الثابتة ثبوت ًا قطعيًا يقينيًا عن الن ّب ِيّ ﷺ في الإخبار بنزول عيسى -عليه
سلام -في آخر الزمان ،وهي أعلى ثبوت ًا من الأحاديث الواردة في المهدي ،وقد روي َْت الأحاديث الواردة
ال ّ
ل مختلفة ٍ ،ولا شكّ أ ّنها متواترة ٌ في معناها العا ِمّ ،ومن هذه سلام -من وجوهٍ وأحوا ٍ في نزول عيسى -عليه ال ّ
ن م َْري َم َ بف َِجّ الر ّ ْوح َاءِ ،ح َا ًّج ّا ،أ ْو مُعْتَمِرًا ،أ ْو
الأحاديث أيضًا :قول الن ّبيّ ﷺ" :و َال ّذ ِي ن َ ْفس ِي بيَدِه ِ ،لَيُهِل ّنّ اب ُ
لَيَث ْن ِيَنّهُم َا".
ن ًّ
قطعي ّا يقيني ًا لا شكّ فيه ،ولذا؛ فإ ّ سلام -هو ثابتٌ ثبوت ًا
ق بنزول عيسى -عليه ال ّ
ن ما يتعل ّ ُ
-وعلى ذلك؛ فإ ّ
إنكاره هو إنكار ٌ لقطع ٍيّ من قطعيات الد ِّين ،وقد وق َع ذلك من بعض متفلسفة ِ زماننا ،بل هناك منهم م َن
ل خطير ٌ ج ًّ ّدا.
ي ُنكر ُ ما هو أش ّد منه ثبوت ًا وهو خروج الدجال ،وهذا فيه إشكا ٌ
ن ضك ُ ْم علَى بَعْضٍ أم َراء ُ تَكْرِم َة َ الل ّه ِ هذِه الأمّة َ" :فيه بيا ٌ
ن لما يذكر ُه ُ العلماء ُ أ ّ ن بَعْ َ
-قوله ﷺ" :في َقولُ :لا ،إ ّ
ل في َحكم ُ بشر يعة الإسلام.
ل بشر يعة ٍ جديدة ٍ؛ وإن ّما ينز ُ
سلام -لا ينز ُ
عيسى -عليه ال ّ
- 075 -
ن الجز ية َ في ض َع الجِز ْيَة َ" مع أ ّل قائلٌ :كيف يحكم بشر يعة الإسلام وفي حديث أبي هريرة َ" :و َي َ َ -فإذا قا َ
خ بإخبارِ الن ّب ِيّ ﷺ أن ّه وضع الجز ية قد شُرِّعَ ون ُ ِس َِ ن
ن ليس ثمة ُ تعارضٍ؛ لأ ّ شر يعة الإسلام؟ =الجواب :أ ّ
ل ،وهذه من الطائف الت ّي يذكرها الأصوليون في باب النسخ.ص ُ
سيح ُ
سلام -مع أهل الكتاب :يهوديهم ونصرانيهم؛ أمّا يهوديهم :فسيكونُ في
-سيكونُ أعظم ُ شأن عيسى -عليه ال ّ
سلام -للدجال وأكثر أتباع الدجال من اليهود ،وأمّا نصرانيهم :فسيكونُ بكسر الصليب؛
قتل عيسى -عليه ال ّ
ل
اب ِإلّا لَيُؤْم ِن َ ّن بِه ِ قَب ْ َ
ل الْكِت َ ِ
ربط أبو هريرة َ -رضي الل ّه عنه -هذا الحديثَ بقوله تعالى" :و َِإن مّ ِنْ أه ْ ِ َ ولذلك
مَو ْتِه ِ َۖو َيَوْم َ ال ْق ِيَامَة ِ يَكُونُ عَلَيْه ِ ْم شَه ِيدًا".
ل"( :لَيَب ْلُغ َنّ هذا الأمرُ ل الل ّه ﷺ يقو ُ ل :سمعتُ رسو َ الحديث التاسع :عن تميم الداري -رضي الل ّه عنه -قا َ
ل؛ ع ًّ ِّزا
ل ذ َلي ٍ
ل والنّهار ُ ،ولا يَترُك ُ الل ّه ُ بَيتَ مَد َ ٍر ولا و َبَر ٍ إلّا أدخَلَه الل ّه ُ هذا الد ِّينَ ،بع ِزِ ّ ع َزيز ٍ أو ب ِذ ُ ّ ِ
ما بل َ َغ الل ّي ُ
- 076 -
ل بَي ْتي؛ لقد يُع ِز ّ الل ّه ُ به الإسلام َ ،وذ ُ ًّلّا يُذِ ّ
ل الل ّه ُ به الـكُفر َ" ،وكان تَميم ٌ الد ّاريّ يقولُ :قد عرَف ْتُ ذلك في أه ْ ِ
ل والصّ غار ُ والجِز ْية ُ)،
رف والع ِز ّ ،ولقد أصاب م َن كان منهم كاف ِرًا الذ ّ ّ أصاب م َن أسلَم َ م ِنهم ُ الخَير ُ والش ّ ُ
أخرج َه ُ الإمام أحمد.
ل
ت كثير ٌ من آثاره في التاريخ والواقع؛ أمّا التاريخ ُ :بوصو ِ
-يق ُع هذا الحديث في المبشرات النبو ية ،وقد تح ّقق َ ْ
كتائب الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها ،وعلو كلمة الد ِّين ،وأمّا الواقع :بانتشار الد ّعوة إلى الل ّه
صعب مليء ٍ
ٍ ودخول كثيرٍ من الن ّاس في هذا الد ِّين بأعدادٍ عجيبة ٍ من مختلف أقطار الأرض ،وفي واقع
وواقع مليء ٍ بحملات التشو يه والتسليط ومحاربة المسلمين
ٍ بالفتن والإشكالات والأزمات في بلاد المسلمين،
بالتضييق والفقر والحروب وغير ذلك.