Professional Documents
Culture Documents
بالقلب غصة
بالقلب غصة
غصة
بالقلب ّ
o o
o
رواية
غصة
وتبقى بالقلب ّ
نورا سليمان
لمزيد من الكتب الحرصية
زوروا موقعنا
www.booksjuice.com
o ال ُغ َّصة األولى
«حبيب قلب ونور عني والدتك� ،أوامرك جمابة يا �صغريي ونور حياتي،
ع
دقيقة واحدة انتظرين هنا وال تتحرك».
ر ش
والتوز عي
نظيفة ،يتم�سك ب�أحد �ألعابه يهز ر�أ�سه مبوافقه لكالم املر�أة التي اختفت
خلف ذلك الباب واختفت معها ابت�سامة الطفل وغرق يف الظالم الدام�س:
«اللعنة ،ما هو اال�سم الذي ُينادى به؟ بل ما هي مالمح ذلك الطفل؟»
انق�شع الظالم وح َّل حمله ال�سواد الغا�شم الذي يرتافق مع يد غليظة
خ�شنة ووجه ي�ش ُّع كرهً ا بعينني �ضيقة ك�أنهم عيني �أفعى َت ْن ُف ُ�س �س ًّما وله ًبا،
قاوم اجل�سد ال�صغري و�صرخ طال ًبا الغوث والنجدة من امر�أة :اللعنة ،ما
اال�سم الذي كان ي�ستنجد به الطفل؟ ِ َل ال ي�ستطيع تبينه؟ ملاذا �ص َّمت
�آذانه عن �سماعه؟ �أُل ِق َي ال�صغري و�سط �أطفال ُكرث.
و�صفتهم املر�أة ذات الوجه ال�شيطاين قائل ًة« :الب�ضاعة اجلديدة».
رجل �ضخم البنية ذو وجه ممتلئ باجلروح الغائرة الب�شعة مال ُيق ِّلب
يف تلك الأج�ساد ال�صغرية وقال ب�صوت مرعب« :ب�ضاعتك هذه املرة ال
ت�ستحق ،جميعهم �أج�سادهم هزيلة».
5
�أم�سكت املر�أة بيدها القا�سية ذلك ال�صغري الذي ما زال ب�صراخه
يقاوم ،ثم ردت بفحيح خبيث ت�ساومه بتالعب« :رمبا ،ولكن تلك القطعة
ت�ستحق؛ فالنظافة ت�شع منه؛ �أي �إنه ال يحمل � ً
أمرا�ضا ،وقيمته م�ضاعفة
ت�ساوي خم�سة ممن يرافقونه� ،إن مل متنحني مبل ًغا ذا قيمة �س�أتوجه به
ملن ي�ستطع الدفع �أكرث».
بتج ُّهم �صارم قام الرجل مبعاينة ذلك اجل�سد ،وقال بح�سم�« :إذا
نف�سك خارج
ِ منك تلك النربة التهديدية مرة �أخرى؛ فاعتربي �سمعت ِ
ع
حمايتي».
ت
ليحل الظالم وال�سواد مرة �أخرى ،ومل ي�ستطع العقل
ر ش
والتوزي
�أحدهم يفح�ص اجل�سد ال�صغري مبالب�س مهلهلة ،قاوم الفتى وعافر
ع
و�صرخ وغرز �أ�سنانه يف �أحدهم فكانت ال�صفعة� ،صفعه قا�سية فنزف
ً
راف�ضا للإهانة دما ًء ،التمعت حدقتاه ال�سوداوان بنريان االنتقام
واالنك�سار.
�صوت ثقيل بنربة �شيطانية �أخرب املتعدي« :اتركه ،هذا �سيكون �أحد
الأبناء ،به ب�أ�س و�سواد بنظرته وج�سده قو ًّيا يحتاج لالهتمام� ،أنا �أجزم
�أنه �سيكون �أحد الرعية واملدافعني الأ�شداء عن الوكر».
غا�ص يف الظالم وتوقفت الوم�ضات كما توقف الزمن.
جوع يفتك بالأح�شاء� ،ضرب ي�أتي من كل �صوب ،بعد عدة �أعوام قاتلة
موجعة تفي�ض بعذاب على تلك الأح�شاء اخلاوية ثم كانت البهجة ،عينان
ع�سليتان ووجه �أبي�ض بي�ضاوي ،تلعثم احلروف لطفلة �صغرية ذات ال�ست
�أعوام خو ًفا ورع ًبا وقه ًرا�« :أين �أبي؟ كنا يف ال�سوق التجاري ال�ضخم ثم
اختفى كل �شيء».
6
تهب بثورة حمائية: عيناها دمعت ،وعينان �أخرى ملعت ،ورجولة فتية ُّ
«يا معلم حماد ،تلك تبتعد وال يقرتب منه �أحد� ،إنها �أ�صبحت �أختي».
ابت�سم معلم حماد ذو الوجه الب�شع الذي �أ�صبح �أ ًبا روح ًّيا وحماية
�إجبار ًّيا للجميع وقال« :اتركوها وال ت�أخذوها للق�سم الذي يبيع العذراوات،
تلك �ستبقى لغر�ض �آخر ،فهي تليق له».
�أحيط بالظالم ون�سي احللم والأمل ،اختلط ال�سواد �أُ ْغ ِل َقت العيون
ذات اجلمر املحرتق ثم ُف ِت َحت على �سكني حادة ُتقطع يف �أج�ساد �أ�صبحت
ع
خاوية ،الدماء ُت�سال فتملأ املكان ،ال�صراخ �أ�صبح ال ُيطاق ،ال�ضعف
ص ع
ج�سده -بالعرق من حتت مالب�سه ،رغم ارتعا�ش اجلموع �أمامه بربد
ع والتوزي
التي عانى منها على الفور ال تعود �أبدً ا �إىل الطق�س بل �إىل الربكان اخلامد
داخل �صدره الذي ُك ِت َب له �أن ينفجر �أخ ًريا ويحرق كل َمنْ حوله بال ذرة
رحمة �أو تردد ،فالغ�ضب يغذيه وال ُكره يزيد من تلك النريان كاحلطب
ليمنحه الطاقة لال�ستمرار و�أال يتوقف وال يتهاون �أبدً ا ،ك�أنه �آلة ال �إن�سان
ب�شري له حدود وطاقة و�ضعف وقوة� ،أو كائن ُب ِعثَ من اجلحيم لي�أخذ ث�أره
دون رحمة �أو �شفقة� ،أ�شباح ت�سكنه ،واملرارة والأمل واحل�سرة تغذيه.
ليوجه عينيه �إىل الوجه «�سائد» ،هتاف �أفاقه من �أفكاره امل�شتعلة ِّ
املرحب الب�شو�ش ،رجل رمبا تخطى عمره الثالثون الرجويل ال�ضاحك ِّ
بقليل ،لن ي�ستطيع �سائد اجلزم بكم يبلغ عمره حتديدً ا ،ومنذ متى علم
�أحد منهم عن عمره احلقيقي �أو حتى �أ�صله و�صفته؟ فما هم �إال زوائد
يف �أنظار املجتمع والنا�س ككالب ال�سكك �أو قطط الأزقة املظلمة ُير َكلون
بالأقدام وينا َدى بالتخل�ص منهم.
8
مرح ًبا حتى دون �أن يحاول م�سه� ،إنه يعلم ب�أ�شباح �صاحبه
اقرتب عمر ِّ
وردة فعله �إن حاول �أحد االقرتاب من تلك الهالة التي ت�شع ً
رف�ضا� ،إن
حاول �أحدهم فعلها حتى و�إن كان عمر �صديقه ورفيق دربه وكفاحه املرير.
«حمد هلل على �سالمتك� ،أنا يف انتظارك منذ وقت طويل لقد ت�أخرت
طائرتك».
تقدم �سائد بجانب عمر مي�شي نحو ما �أ�شار دون �أن يتفوه بكلمة واحدة
فقط اكتفى �أن يه َّز ر�أ�سه مبا ي�شبه �إجابة موافقة ،و�صل �إىل ال�سيارة
ع
احلديثة �سوداء اللون كما طلب وفتح بابها ،ثم �ألقى بجذعه ال�ضخم يف
ر ش
والتوز عي
احت َّل عمر املقعد املجاور لل�سائق وهو يقول بب�ساطة« :بع�ضهم
يف ال�سيارة اخللفية والبع�ض الآخر ينتظر يف ال�شركة ال�صغرية التي
داع لأن ي�أتي اجلميع ونلفت االنتباه».
افتتحناها ،مل �أجد ٍ
رد �سائد بجمود« :خ ًريا فعلت ،ال داعي لإثارة جلبة يف الوقت احلايل،
�أريد �أن يتم عملنا يف �سرية تامة وهدوء كما تتم كل العمليات القذرة».
تن َّهد عمر بغري ر�ضى وهو يب�سط ك َّفه �أمام ال�سائق وهو من رجالهم
و�أمره بالتحرك.
يعاود عمر ويلتفت �إىل �سائد وي�سلمه بع�ض الأوراق وهو يخربه« :كل
املعلومات التي طلبتها �ستجدها هنا ،مرفقة ببع�ض ال�صور لكل �شخ�ص
عليه العني حتديدً ا».
ا�ستلم منه �سائد الأوراق بروتينية يتفح�صها بتلك العينان ذات اجلمر
املحرتق ،قبل �أن تقع بيده �إحدى ال�صور التي زادت من حدة ا�شتعال عينيه
9
وحت ُّفز ج�سده ال �إراد ًّيا ،مرر يده وك�أن �شي ًئا يجربه على تلك ال�صورة التي
ال ُت ِق َطت لفتاة عفوية الت�صرفات ب�شعر �أ�سود ق�صري ملتوي اخل�صالت
وعينني وا�سعتني بلون رمادي منطفئ عك�سه هو ،ووجه خمري على �شكل
قلب ،مييل فمها ب�شبه ابت�سامة �ساخرة وهي تقف على حمطة ناقالت
عامة على ما يبدو ،ملاذا ت�سكنه احلرية؟ ب�سبب ب�ساطة مالب�سها �أو �أنها
ت�ستخدم و�سائل موا�صالت ،لقد و�صله من قبل معلومات وافية عنها،
وعلم جيدً ا ما الذي و�صلت �إليه تلك الفتاة من حياة مرفهة ناعمة �إىل
ع
احل�ضي�ض والقاع ،ما ال�سبب؟ ال يهمه يف احلقيقة ال�سبب وال يعنيه �أين
والتوزي ر
بت�شدد ،ال يجب �أن يغرق الآن يف دوامة الذكريات ،يجب �أن يحر�ص على
ع
كل تركيز وانتباه و�إن كانت حتريه تلك الأحالم التي عادت بقوة ت�شعل
يعان �سائد من �سواد عقله بوم�ضات ت�أخذه يف دوامات ،ومنذ متى مل ِ
كوابي�س ما�ضيه ولكن ما يحريه بحق ملاذا الآن؟ عادت ت�ضرب بقوة،
رمبا هو يعلم الإجابة؛ لأنه �أخ ًريا �أ�صبح بالقوة التي ُتهيئه لأخذ حقه بل
حق اجلميع ،ولكن ما يجعله يت�شتت يف وقت عا�صف كهذا تلك الوم�ضات
الغريبة التي �أ�صبحت تتكاثف عليه ،لتلك املر�أة الب�شو�شة وطفلها املدلل
�أول كابو�سهَ ،منْ هي َومنْ ذلك الطفل املقاوم ال�صارخ؟ بل ملاذا عقله كل
مرة يحجب عنه الأ�سماء ومالمح تلك الوجوه؟ وملا ميتزج كابو�سه دائ ًما
مع تلك الوم�ضات امل�شتعلة التي يتذكر بها �سبب ُغ َّ�صته التي تطعن قلبه
بخنجر �سام وترتكه منق�س ًما ل�شطرين ،ولكن ال تزيده �إال �إ�صرا ًرا على
هدفه حتى و�إن كان املوت هو نهايته.
q q q
10
َ
احل ُّر �أ�صبح ال ُي ْحتَمل يف تلك ال�شقة الكئيبة املك َّونة من غرفة واحده
تقع �أعلى �سقف عمارة قدمية يف م�سكن �شعبي ،هواء �ساخن ملأ الغرفة
بطريقة غريبة رغم برودة اجلو يف اخلارج.
حتركت دجوى من مكانها ب�ضيق ي�صاحبه امللل ترفع علبة الطعام
التي قامت ب�شرائها م�سب ًقا ومل تن�س منها �شي ًئا ف�ألقتها يف الثالجة
ال�صغرية املهرتئة ككل �شيء يف ذلك امل�سكن ،ثم حتركت بنف�س اجلمود
ورمت بج�سدها على الأريكة ،و�ضعت ك َّفيها متعانقني حتت وجنتها
و�شردت يف البعيد بعينيها الرماديتني يف منزلها الوا�سع الذي ق�ضت فيه
ريص ع
�أعوامها االثنتني والع�شرين قبل �أن ُت ْط َر َد منه هي و�أمها منذ خم�سة �أعوام
والتوز عي
با�سم القانون� ،أو ت�ستطيع القول :باخلدعة وامل�ؤامرة التي حيكت لهنَّ ،
حذر حري�ص ك�أنها وهي على يقني بذلك ،ارتفعت عيناها ارتفعت ببطء ِ
ترف�ض �أن تراقب تلك ال�صورة التي و�ضعتها على ذلك احلائط ،لتلتقي
�أخ ًريا مع وجه �أمها الأر�ستقراطي ،والتي مل تتحمل ما حدث ف�أ�صابها
املر�ض ال�شديد و�أتبعه ال�شلل بجميع �أطرافها ،لقد حاولت االعتناء بها
منف�صل ،ومت �صرفه على العالج والق�ضايا ً وباعوا كل ما كانت متلكه �أمها
واملحاكم ،رمبا ي�ستطعن �أن ي�سرتدا جز ًءا من �أمالكهنَّ التي ُ�س ِل َب ْت ،فلم
ي�ستطعن و�سط حبال املحكمة الطويلة ملدة �أربعة �أعوام ،وبعدها كانت
ال�صدمة برف�ض الق�ضية فلم تتحمل �أمها �أكرث و�س َّلمت روحها هلل الواحد
الأحد ،فهو �أحنُّ عليها من ذلك العامل الغادر ،وبقيت هي وحيدة كفرع
�شجرة تع َّرى من كل �أوراقه لي�سهل ك�سره يف مهب الريح ،دموعها زادت
غزارة حتى �ش َّو�شت الر�ؤية �أمامها ،الربد �أ�صبح ينخر يف عظامها الرقيقة
رغم ال�شعور اخلانق باحلر ،م َّدت يدها ت�سحب ذلك الغطاء الرقيق الذي
11
تلقيه على الأريكة عاد ًة تغطي نف�سها به جيدً ا (رباه هل ميكن لإن�سان �أن
يرجتف بردًا ويغلي نا ًرا يف � ٍآن واحد؟!)
�ض َّمت ذراعيها �إىل �صدرها ب�شدة وهي حتاول اغت�صاب بع�ض الغفوة
حتى ُتريح عقلها الغارق يف مرارته من دوامته ،رمبا جتد يف النوم ال�سالم،
ولكن هيهات قد ت�ست�سلم للنوم ،ولكن �أين قد تهرب من كوابي�سها ،النهاية
�آتية ال حمالة.
q q q
ريص ع
يف لفتة نادرة ،ارت�سمت عالمة ا�ستنكار باهتة على وجهه وهو يلتفت
ع
يراقب الكيان الأنثوي الذي يقف مرجت ًفا بع�ض ال�شيء ويف عينيها نظرة
خوف ،خوف يعلم جيدً ا ماهيته احلقيقية عندما قال« :وماذا قد تكون
بر�أيك؟ �إنها �سكرترية املكتب اخلا�صة».
�أعاد �سائد نظراته �إىل عينيه بربود ووجه عاد لالنغالق مبالمح ال
مبال بتلك الفتاة التي مت َّكن منها
تف�سر ،ثم خرج مبا�شر ًة من املكان غري ٍ
اخلوف ،هل تودِّع وظيفتها التي ح�صلت عليها بعد �صعوبة وعناء؟!
جل�ست متهالكة على مقعدها ودفنت وجهها يف راحتيها قبل �أن ت�سمع
أخربتك م�سب ًقا
ِ عليك يا رابحة لقد �
ال�صوت الرجويل يخربها مبت�س ًما« :ال ِ
عن ح َّدة �سائد يف التعامل».
رفعت رابحة عينيها البنيتني الوا�سعتني قائل ًة بخفوت�« :إنه لي�س حادًّا
�سيد عمر ،بل مرع ًبا �أعتقد �أنني ودعت وظيفتي».
12
مل ي�ستطع عمر منع �ضحكته وهو يت�أملها جيدً ا ،يتذكر عندما �أتت منذ
�شهور مقتحمة للمكان -وكان ما زال طور الإن�شاء -مطا ِل َبة -ال طالبة
-بوظيفة يف املكان عرب ُخطبة طويلة �ص َّماء عن عدم �شعور الأغنياء بهم
هم الكادحون ،ورف�ض �أ�صحاب ال�شركات منح وظيفة لفتاة عادية ال�شكل
واملالب�س ،م�صرة بكل تع ُّنت �أنها ت�ستحق تلك الوظيفة ،ورغم �أمر �سائد ال
�شرطه �أن يكون كل العاملني من الرجال ،مل ي�ستطع �أن يرف�ض طلبها ،بل
منحها تلك الوظيفة على الفور ،بالطبع مع �ضحكته ال�ساخرة من قولها
عدم �شعورهم بالكادحني.
q q qوالتوز عي
الهزيلة؟!»
بحركة �إ�صبع حادة كان مينع الرجال من اتباعه ،بتج ُّهم كان يتعجب
من �أفعال عمر ،لقد طلب ه�ؤالء الرجال لوقت حمدد �سي�ستعني بهم يف
خطته ال �أن يتبعوه يف كل مكان كما يحدث من الأم�س ،ا�ستقل �سيارته،
وانطلق �سري ًعا من املكان ومع ا�ستمرار ال�سيارة يف طريقها ،كانت عيناه
ال تفارق ه�ؤالء الذين يفرت�شون الر�صيف ليعر�ضوا عليه ب�ضائعهم ب�أ�سعار
زهيدة مثلهم ،وجوههم الكاحلة يرت�سم عليها اله ُّم والتح�سر واملر�ض
واجلوع الذي َي ْن َخ ُر ب�أج�سادهم دون رحمة ،تنتقل عيناه �إىل �صنف �آخر
مم�سك باملكان�س يجاورهم املت�سولون ،وهو ي�ستطيع -برباعة مكت�سبة
باخلربة لأكرث من ثمان ع�شر �سنة � -أن ي�صنفهم بني حمرتفني وهواة! ثم
وبكل جلد ذاتي كانت عيناه تبحث نحو هدفه وغ�صة قلبه ،ويف �أحد الأزقة
13
يخ ْب ظنه وقد وجدهم ينكم�شون حول بع�ضهم ك�أنهم يتلم�سون الدفء مل ِ
جدا من �أج�سادهم ال�ضعيفة ،يقت�سمون �شي ًئا ما فيما بينهم لي�سد ً
قليل ًّ
من رمق جوعهم ،ك�أن ال�سنوات الفا�صلة مل ُتغري فيهم �شي ًئا ،مالب�س قذرة
مهرتئة ال ت�سرت �شي ًئا من �أج�سادهم الهزيلة ،وجوه مغ َّربة مت�سخة تعلوها
نظرة تائهة حائرة و�ضائعة.
كاد �سائد �أن يوقف �سيارته عندما انتابته موجة �ضعف حادة ،اجتاحته
دون قدرة له على �إيقافها ،فتقب�ضت يداه بعنف على املقود وزاد من �سرعة
ع
�سيارته ك�أنه يهرب من تلك املالمح التي يعلمها عن ظهر قلب خم ًربا
ع
حاد� ،أو م�شرط عدمي الإن�سانية والرحمة.
«ال» ،هتفها لنف�سه بقوة حازمة م�سيطرة كعادته يف الأعوام اخلم�س
ع�شر املا�ضية منذ �أن هرب وهو يق�سم �أن يعود ليذيقهم من ك�أ�س عذابه.
بر�ص بع�ض املواد الغذائية على الأرفف يف ذلك (املاركت) كانت تقوم ِّ
املتو�سط ،الذي ا�ستطاعت �أن تلحق بوظيفة فيه منذ �أربع �سنوات بعد �أن
بد�أت مدخرات والدتها يف االنتهاء ،ومالمح الإرهاق والتعب نالت منها
بقوة بعد ليلة مت َّكن منها ال�سهاد ومل ت�ستطع �أن تنام حتى دقيقة واحدة،
الذكريات ال�سعيدة التي ق�ضتها �أمرية مدللة تتدفق على عقلها بق�سوة
توح�ش حياتها التي انقلبت ر� ًأ�سا
فتعود حتمد اهلل دون كلل �أو ملل ،برغم ُّ
على عقب كان رحي ًما بها �أن مينحها القوة والثبات لتُعافر وال تنج َّر
لطريق مظلم فتخ�سر نف�سها وتربيتها و�أخالقها التي كان يزرعها فيها
والدها منذ نعومة �أظافرها ،نعومة! نظرت ليديها التي �أ�صبحت خ�شنة
14
من ال�شقاء بح�سرة على مكان ،فعادت تهم�س لنف�سها بقوة« :توقفي دجوى
والدك �ستعيدينه رغم
ِ عن تذ ُّكر ما ِ
كنت عليه ،حرب مل تنت ِه بع ُد ومال
إياك».
�أنفهم وحماربتهم � ِ
عينان قا�سية حاقدة غام�ضة كانت تتابعها منذ ما يقرب �ساعة وهي
تنتقل هنا وهناك ،حتى ر�ؤيتها ذليلة بهذا ال�شكل بعد العز ورغد العي�ش
ي�شف غليل قلبه ،ومل يوقف ذلك الربكان الذي
الذي كانت تتم َّرغ فيه مل ِ
يثور مهددًا �أن يتوجه �إليها على الفور وينفذ فيها حكمه.
ص ع
انتبه لرنني هاتفه ،ف�أخرجه من جيب معط َفه ب�آلية جمي ًبا بجموده
زييا عمر،
ع و ت ل ا و
خرجت منذ �ساعات ،وقلقت �أن تكون �ضللت طريقك».
احل�س مرهف �ضحك دون مرح وهو يرد بربود�« :أنت �أ�صبحت
يبدو �أنك ن�سيت �أنني حفظت تلك البلد ب�شوارعها وحاراتها و�أزقتهاَ ،ومنْ
�أكرث مني عل ًما بخفاياها املظلمة؟!»
تبدلت مالمح عمر الو�سيمة يف حلظة وهو يقول بتجرب متجنب بروده:
«�أنت الذي تن�سى �أن ق�ضيتنا واحدة ،وبالت�أكيد �أعلم ما تقوله عن ظهر
قلب».
م�صححا ومذك ًرا« :حربنا يا عمر
ً �ش َّدد �سائد على حروفه وهو يخربه
والتي نعلم عن يقني �أننا لن نخرج منها �أبدً ا على قيد احلياة».
ال�صمت �ساد لدقائق معدودة قبل �أن يقول عمر بقوة م�ؤكدة« :حربنا
يا �سائد ،ث�أرنا الذي لن نتنازل عنه وقد بايعتك عليه».
15
�أغلق �سائد جفناه وهو يخربه« :ما الذي تفعله تلك عندك يا عمر؟ ال
أزج ب�أبرياء يف طريقي �أو ينالها الأذى �إن ُك ِ�شفْنا».
�أريد �أن � َّ
القلب الأ�سود املتحجر لديه م�شاعر �إن�سانية �أخ ًريا يعرب عنها! علم
عمر عن يقني �أن �سائد لن يف�صح عنها ل�سواه فر َّد مبواربة« :وجودها كان
�ضرور ًّيا من �أجل الواجهة االجتماعية ،كما �أن حالتها االجتماعية يف فقر
مدقع ،ف�أخربت نف�سي ِ َل ال ن�ساعدها بقليل من املال ،وبعدها ن�ستطيع
اخرتاع حجة و�إبعادها عن املكان وعنا».
ص ع
َع َّم ال�صمت مرة �أخرى بينهم قبل �أن يقول �سائد بنربة متجمدة:
ع
وعلى الفور ،ال �أريد ل�شيء �أن يعطلنا ،هل تفهم؟»
مل ير َّد عمر ،فقال �سائد دون �أن يزيح عينينه ال�سوداوين القا�سيتني
عن دجوى« :واحدة فقط من �سن�سمح لها ب�أن حترتق بذلك اجلحيم يا
عمر».
�أخذ عمر َن َف ً�سا عمي ًقا قبل �أن يخربه بهدوء متعمق كعادته يحاول �أن
ُيحجم ذلك الغ�ضب الأ�سود الذي يخرج منه عندما قال« :هي � ً
أي�ضا لي�س
لها ذنب ُي ْذ َكر يا �سائد ،لقد تعاهدنا عندما ُك ِ�ش َف كل �شيء � َّأل نح�صد
�أبرياء يف طريقنا ،فلماذا ت�صر �أن جترف يف تيارك تلك الفتاة؟»
«عمر»َ ،ه َد َر بها �سائد ُم ْنه ًيا احلوار وهو يقول بت�شدد�« :إياك �أن
تتدخل فيما ال يعنيك �أبدً ا ،هي ق�ضية �أخرى تخ�صني وحدي وبعيدة عن
متاما».
تدخلك ً
16
لطاملا كان عمر الوجه الناعم جلحيم �سائد ،ف�إن كان هو العقل
املخطط امل�سيطر ،فعمر دائ ًما هو الأداة املنفذة يف اخلفاء ،حدود و�ضعها
الآخر منذ زمن بينهم ،ويبدو �أن دجوى �أ�صبحت �إحدى اخلطوط التي لن
ي�سمح ملخلوق بتعديها؛ لذا قال عمر بهدوء متجن ًبا كل حديثهم« :جميع
حتركات ر�أ�س الأفعى �أ�صبحت بني يدينا ولي�س هذا فقط يا �سائد ،بل
وجدت ثغرة ونقطة �ضعف لهم ن�ستطيع �أن ن�صل منها �إليهم ب�سهولة».
هرما يا عمر
مل تهد�أ تعابري �سائد قط وهو يخربه ب�شرا�سة« :لته َّد ً
وت�سويه بالأر�ض ،يجب عليك �أن تبد�أ من القاع من قاعدة الهرم؛ حتى ال
ع
واحد اثنان ،ع�شرة مائة مائتان وال نتيجة ،الغ�ضب ال ُي ْح َت َمل.
والتوزي ر
يوما،
غائرة متلأ ذراعيه ،تلك الذراع بالذات التي �ض َّمها بها �إىل �صدره ً
ع
يرت�شف من رحيق ثغرها ويدخل جنان ع�شقها ،ينهل من روحها كما
ُيعطيها جز ًءا من روحه ،وقت م�سروق من الزمن كان يغرق فيه معها
بدنيا مل يعرفها �أبدً ا فيعرفها عليها ويتل َّم�سا طريقهما ب�أعمارهم التي مل
تتع َّد �سن مراهقة!
الدماء ت�سيل راقبها بق�سوة خملوطة باحلنني (�آية)
�ساحما لعقله
ً �أغم�ض عينيه ور�أ�سه ترجع للخلف ي�ستند على احلائط،
�أخ ًريا ب�أن يتذكر بهدوء تلك الأوقات امل�سروقة من الزمن واجلميع!
q q q
ا�ستيقظ يف ال�صباح الباكر وذهب �إىل احلمام مبا�شر ًة لي�أخذ ً
حماما
�سري ًعا� ،سيبد�أ خطواته الأوىل بانتقامه بعد �أن تخل�ص من �سيل الذكريات
القا�سية يف اليومني املا�ضيني ،لقد علمته حياة الغربة عدم البكاء على
18
احلليب امل�سكوب ،و�أال يتوقف �أبدً ا ويغرق يف رثاء الذات ،خرج �سري ًعا
ين�شف املاء من على جذعه ال�ضخم ،قبل �أن يرتدي ُح َّلة ريا�ضية �سوداء
اللون ،ثم توجه �إىل الأ�سفل مبا�شر ًة �إىل الرك�ض ولكن رك�ضه لن يتوقف
يف احلي الراقي الهادئ الذي اختاره ،بل يعلم يقي ًنا �أنه �سي�أخذ الطرق
اخللفية ويت�سلل �إىل تلك الأحياء الفقرية املن�سية ،عج ًبا على تلك الدولة
�شارع واحد يف�صل بني ح َّي ْ ِي من �أ�شهر �أحيائها� :أحدهما ين�ضح بال ُّرقي
والرتف والهدوء والأمان ،والآخر ميتلئ بال�سرقة والغوغاء ،ويغرق �أهله
يف احل�ضي�ض �إال َمنْ رحمه ربه!
والتوز عي
ت�أخذها خطواتها املت�سارعة لإحدى الطرق ال�ضيقة التي بالكاد مترر
�شخ�صني؛ نظ ًرا لتالحم املنازل بجانب بع�ضها ،تبعها �سائد دون تفكري
عن ُب ْع ٍد ،قبل �أن تتحفز كل ع�ضلة يف ج�سده ال�ضخم وهو يرى �آخر
يتبعها بخطوات متقاربة ،تت�سارع خطواتها ُبذعر على ما يبدو ،فتالحقها
خطوات الآخر من ورائها ،ويف �أقل من حلظة ،كان الرجل مي�سك ذراعها
خا�صا يعرف �أنه ال يحمله �إال بق�سوة يثبتها �إىل �صدره و ُيخرج �سكي ًنا ًّ
البلطجية ي�ضعه على رقبتها مبا�شرة� ،أغم�ضت دجوى عينيها م�ست�سلمة،
كانت ت�شعر �أن الأمر مل يكن جمرد تهديد ،لقد و�صلوا �إليها للخال�ص
منها ال حمالة وها هي �ست ُْذ َب ُح هنا ،ورمبا لن يتعرف على جثتها �أحد،
وا�ضحا :ف�صل ر�أ�سها عن ج�سدها ثم ت�شويه معاملها كل ًّيا.
ً فالتهديد كان
مل تعرف متى ظهر هذا الرجل من العدم ،وقال بهدوء �صقيعي
غريب خماط ًبا ذلك املجرم�« :أن�صحك �أن ترتكها وتف َّر من �أمامي ،هذا
مل�صلحتك اخلا�صة».
19
كان رد ذلك املعتدي �سباب انطلق من فمه قبل �أن يقول مهددًا« :ال
تدخل فيما ال يعينك يا هذا و�إال �ستكون �أنت ال�ضحية التالية».
�شعرت بنف�سها تندفع بعيدً ا يف حلظة ،لترتاجع بعينني متو�سعتني
غارقتني يف الدموع ويديها ترتفع تتح�س�س مكان ال�سكني الذي رمبا طال
رقبتها بجرح ب�سيط �إثر دفع ذلك الرجل لها بقوة و�سرعة متاثل �سرعة
ذئب �أ�سود.
كانت تراقب برعب املعركة التي مل تكن متكافئة باملرة ،مهاجمها
ريص ع
حاول �أن يوجه �ضربة للرجل ولكنه مل ي�ستطع ،فذلك الرجل القمحي كان
20
�سارت دجوى بجواره دون كلمة �إ�ضافية ،عندما �أفلت ذلك الل�ص
الذي ف َّر هار ًبا وبدون �أي حديث كان ي�شري لها �أن تتحرك �أمامه ،ورغم
�أنه مل يبادر بال�س�ؤال �شعرت �أنه يتوجب عليها �أن تو�ضح موقفها فنطقت
بارتباك وهي تعود تنظر له بتفح�ص رغ ًما عنها�« :أنا �أخرج كل �صباح
لعملي ،و� ِّ
أف�ضل �أخذ الطرق اجلانبية؛ حتى ال �أ�ستغرق الكثري من الوقت».
�صباح باكر وت�أخذ طريق الأزقة املرعب كل يومً � ،إذا ابنة الذوات
غبية ،ورغم مرور خم�سة �أعوام على كارثتها وحرمانها من داللها ال�سابق
ع
مل ت�ستطع الأيام القا�سية التي مرت عليها �أن متنحها بع�ض الذكاء
ريص ع
تل َّقفها �سائد بني ذراعيه ،و�س�ؤاله احلائر ما زال يرتدد �صداه يف عقله،
ع والتوزي
وحملها مغاد ًرا.
عج ًبا ،متى �أ�صبح النا�س ال يتدخلون يف �شئون بع�ضهم؟ كيف مل ي�س�أله
�أحد ِ َل يحمل فتاة فاقدة الوعي بني ذراعيه ويغادر دون �أن يوقفه �أحد،
ُغ َّ�صته تفاقمت داخل �صدره وهو يعود من نف�س الطريق الذي �أتى منه
يتذكر كل التقارير وحكاوي النا�س وحتذيراتهم على مواقع التوا�صل
االجتماعي الذي جمعها عن الطرق اجلديدة التي ابتدعها اخلاطفون،
من جتار رقيق �أبي�ض �أو مافيا اجلزارين الب�شرين خلطف البنات �أو
ال�سيدات �أو حتى �شباب و�أطفال ،مادة خفية تو�ضع لهم على مالب�سهم
ي�ستن�شقونها فيدخلون يف غيبوبة فو ًرا ،ويحمل اخلاطف �أو حتى جمموعة
من الن�ساء �ضحيتهم حتت م�سمى �أقارب �أو �أ�صدقاء وتختفي ال�ضحية
دون رجعة ،كل خمطوف ح�سب ا�ستخدامه ُي َح َّدد �سعره يف �أ�سواقهم،
فت ًّبا ملجتمع جاهل �أحمق يغ�ض ب�صره عن احلقيقة التي متاثل و�ضوح
ال�شم�س ،اللعنة على حماولتهم ن�سيان اخلطر املحدق بهم من كل جانب
22
حتت �شعار( :الدنيا بخري ،ونحن حري�صون ولن يطالنا الأذى)� ،أال يعلم
احلمقى �أن تلك الع�صابات �أ�صبحت تتكاثر ب�شكل غري طبيعي الهثني وراء
املال ،وخطرهم يتفاقم ليطول كل فرد؟
و�صل �أخ ًريا �أمام منزله� ،صعد ل�شقته ب�آخر طابق قبل �أن توقفه عي َني
احلار�س الذي ينظر له بتوج�س ولكنه مل ي�ستطع �أن يتفوه ببنت �شفة،
ت�سللت ال�سخرية لداخله عندما تراجع الرجل خو ًفا من بريق جمرتيه
املرعب.
ع
كانت عينيه معلقة على ج�سدها املمدد على فرا�شه منذ دقائق وتذكر
ش
ول حتتاجها؟ �أنت
والتوزي ر
عدت للت�صرف ببع�ض الغرابة خالل اليومني املا�ضيني».
ع
�ساد ال�صمت للحظات قبل �أن يقول �سائد بخ�شونة مت�شددة ليذكره:
«لأول مرة ت�س�أل ،منذ متى �أحتاج للتو�ضيح لتفهمني؟ ومع ذلك �أنت يجب
�أن تخاف عليها منك يا عمر ولي�س مني� ،أنت وحدك من متيل ل َّلهو مع
الن�ساء� ،أما �أنا عندما �أقول �أحتاج �إحداهنَّ ،ف�أ�سبابي تتمحور حول عمل
ما فقط».
يف حلظة تبدلت مالمح عمر لال�سرتخاء املتالعب ،ولكنه �أبدً ا مل
قائل« :وهل ي�ستحققن �أكرث ممامياثل تلك النربة القا�سية التي نطق بها ً
�أفعله بهنَّ بالفعل؟ بالنهاية َمنْ توافق على فعل عالقة يف احلرام ،ما
هي �إال غانية �ست�أتي للعامل (بلقيط) تتخل�ص منه بني مقالب القمامة،
هو وحظه ت�أكله الكالب� ،أو ميلك احلظ اجليد مثلي ويعود ليذيقهنَّ من
ك�أ�سهنَّ ».
24
�ساد ال�صمت للحظة واحدة قبل �أن ير َّد عمر على �س�ؤاله املعلق�« :أنا مل
�أظن بك �شي ًئا ،وبالطبع �أعرف �أن هناك �شي ًئا ما حدث ال�ستدعائك لها
بعد رف�ضك وجودها».
نف�سا عمي ًقا وهو يتجنب حديثه الذي يعرفه بالفعل منذ �أخذ �سائد ً
�أن ...
وتذكر عندما �أتى �أحد �صبيان الوكر بعمر من ال�شارع ،رمبا كان عمره
�آنذاك ال يتعدى الت�سع �سنوات ،ولكن املعلم حماد كان يعلم �أن ب�أ�س وذكاء
ع
كاف ليجعله ينتمي لق�سم الثعالب الناعم الذي ميتلكه عمر �أكرث من ٍ
ع
أنت تتقا�ضني رات ًبا
قائل بجفاء دون �أن يلتفت �إليهاِ �« :نطق �سائد ً
هز ر�أ�سه ي� ًأ�سا وهو يقرتب ليقف بجانب �سائد ينظر �إىل ال�شارع من ع
خلفها باملفتاح،
خلف
للباب عندما اطم�أنَّ عمر لدخولها �أخ ًريا و�سمع غلقها
الزجاج الذي ي�شمل احلائط ،قبل �أن يقول �سائد بفظاظة«َ :منْ تتعهد
بحمايتها غبية ومندفعة ال متلك ذرة عقل ،كيف تثق برجلني وتخاطر
بنف�سها �أ ًّيا كانت الأ�سباب التي �أخربتها بها؟»
ً
�ضابطا �أع�صابه كالعادة�« :إنها تو َّقع عمر هذا التعليق منهَ ،ز َف َر وقال
فقط طيبة ،ومل تتحمل فكرة وجود فتاة معك وحتتاج للم�ساعدة ،رابحة
فتاة».
قاطعه �سائد وهو يقول ب�سخرية ميتة« :حاملة»
مل يفاج�أ عمر للحقيقة من قوله ،لقد ع َّلمهم ال�شارع الكثري والكثري؛
ومنها قراءة وجوه النا�س جيدً ا حتى �أمهر من الأطباء النف�سيني �أنف�سهم،
26
لقد طوروا مهارتهم عرب ال�شحاذة وال�سرقة والن�صب وغريها الكثري،
متاما.
كيف يحددوا �ضحيتهم ومتى يهجمون ومتى يبتعدون ً
«كيف و�صلت ابنة الها�شم غرفة نومك بتلك ال�سرعة؟!»
التفت �إليه �سائد �أخ ًريا قائال بربود« :لقد وقعت بني ذراعي متو�سل ًة
الرحمة ومتو�سم ًة يف �شهامتي ،هل ت�صدِّ ق؟»
مل يبت�سم عمر ومل تتغري مالحمه املتجهمة وهو يقول« :على ما �أذكر
مل تكن خطتك نحوها بها �أي نوع من ال�شهامة ،بل عملية �سريعة منتقمة
ريص ع
وتنتهي منها لنلتفت ملا هو �أهمً � ،إذا ما الذي حدث؟»
ر ش
والتوز عي
بنكهة الذعة حارة مت�شفية عندما تدوم �أكرث وت�ستمر لوقت طويل».
نظر له عمر بهدوء قبل �أن يكرر �س�ؤاله حتى و�إن كان يتوقع الإجابة،
ولكنه يحب �أن ي�ستمع ملا يدور يف عقله ،رمبا يفهم منه ما مل ي�ستطع
�سائد تو�ضيحه بنف�سه« :كيف و�صلت لك من الأ�سا�س؟ ِ َ
ول �أنت بالذات
َمنْ تو�سمت فيك ال�شهامة؟!»
عاد �سائد ينظر من النافذ الزجاجية لل�شارع مبا�شرة ً
قائل بقتامة:
«�أردت �أن �أرقبها عن قرب فذهبت لل�شارع الذي ت�سكن فيه وبعد خروجها
يف موعدها املعتاد كما ُد ِّونَ يف تقريرك ،ر�أيتها مت�شي ب�أحد الأزقة
ال�ضيقة ،ولكن ما مل تذكره بتقريرك �أن هناك �أحدً ا ما يتتبعها ويحاول
قتلها».
عبث عمر للحظات طويلة مفك ًرا قبل �أن يقولَ « :قتْلها! هل �أنت مت�أكد؟
رمبا �أحد ما يتتبعها ل�سرقتها �أو ب�أ�سو�أ احلاالت خطفها».
27
قال �سائد ب�صرامة حازمة« :ال �أظن �أبدً ا ،لقد فكرت يف هذا عندما
تتبعت الل�ص ،ولكن الطريقة التي هجم عليها بها جتعلني �أفكر يف �شيء
واحد».
�س�أله عمر بحذر« :ما هو؟»
رد �سائد بنربة قاطعةَ « :ق ْت ُلها �أو �إرهابها حد املوت رع ًبا ،ابنة غ�سان
الها�شم تخفي �أكرث مما ُت ْظ ِهر».
بانت على عمر احلرية ،وقال كمن يراجع �شي ًئا ما يف ذاكرته« :ال
ر ش
التقزز طغى على مالمح �سائد اجلامدة قبل �أن يقولوالتو
هناك �أم ًرا ما حدث وكما تخل�صوا من والدها يحاولون التخل�ص منها
بجليد:ز
«الي يه
ع ُّم،
� ً
أي�ضا؟»
والتوز عي
«�أين �أنا؟»
�أجابتها رابحة وهي تقرتب منها متد يدها بغري حت ُّفظ تغلق لها
جت�س نب�ضها وهي تقول قمي�صها الذي فتحته يف ال�سابق حتاول �أن َّ
و�صلت �إىل
ِ بحرية« :يف بيت ال�سيد �سائد العو�ضي ،ولكن ال�س�ؤال كيف
�صلتك به؟»
هنا؟ وما ِ
عبثت دجوى يف وجه الفتاة الف�ضولية وهي تزيح يدها عنها برفق قبل
�أن تقول باخت�صار وهي ُتخ ِّمن �أنه بالت�أكيد الرجل ال�شهم الذي �أنقذها:
أنت».«ال �صلة يل به ،ومل �أعرف حتى ا�سمه� ،إال عندما ذكرتيه � ِ
هزَّت رابحة كتفيها بال اهتمام وهي تقول مرثثرة« :مزيد من الريبة
حول رئي�سي يف العمل ،ال يه ُّم».
أتركك حلظة؛وقفت من جانبها تتوجه �إىل باب الغرفة وهي تقول�« :س� ِ
إليك».
أنك بخري ثم �أعود � ِ لأخربهم � ِ
29
نظرت دجوى يف �أثرها مرتبكة َمنْ تق�صد باجلمع؟ وكيف �سمح هذا
ال�شخ�ص مهما كانت �شهامته �أن يح�ضرها �إىل منزله؟ �أمل ي�سمع ب�شيء
ُي ْد َعى م�شفى من قبل؟! حاولت النهو�ض من الفرا�ش تعدِّ ل من مالب�سها
هام�سة ب�سخرية مريرة:
بك �شي ًئا و� ِ
أنت «وهل تت�شرطني دجوى؟! احمدي اهلل �أنه مل يفعل ِ
لك امر�أة حتى و�إن كانت �إحدى فاقدة للوعي ،وكان من الرجولة �أن يوفر ِ
العاملني عنده كما �أ�شارت الفتاة الرثثارة».
ع
وعندما وقفت على قدميها �أخ ًريا �شعرت بالدوار يلفها كل ًّيا ،فعادت
ر ش
والتوزي
احل�ضي�ض بعد �أن كانت مدللة تغرق يف احلرير ،حرير ت�شعر بنعومته الآن
ع
يلفها ل ًّفا ويجعل عقلها يتوقف يف غفوة �سريعة ا�ست�سلمت لها منهكة.
ُف ِت َح الباب دون مقدمات ،فرفعت وجهها ال�شاحب تنظر له جمفلة،
وهي تراقب ج�سده ال�ضخم يقرتب منها بتم ُّهل كذئب غام�ض ،ارتبكت
دجوى وهي حتاول الوقوف م�ضطربة فاهتزت قدماها مرة �أخرى ،ومل
تتخل�ص من �أثر الدوار بع ُد مما جعله ينظر لوجهها الذي َّ
ابي�ض ف�أ�صبح
لوحا من الرخام الأبي�ض� ،شعرها الق�صري م�شعث بفو�ضوية، مياثل ً
متاما عن تلك ال�صور التي ُجمِ َعت
عيناها زائغة بغري تركيز ،تبدو خمتلفة ً
لها يف التقارير التي كانت ت�صله بانتظام� ،إذ مل ي�سبق �أن ر�أى يف عينيها
كل هذا ال�ضعف واخلوف حتى بعد �أن مت طردها من منزلها هي و�أمها،
متاما بحجة الف�ضيحة التيكما علم الح ًقا �أن كل �أقاربهم رف�ضوا دعمهم ً
نالت من �شرف والدها احلقري بعد موته ،وبالت�أكيد ال يريد �أحد �أي �صلة
بهم ُتذكر املجتمع بهم.
30
مبكانك
ِ ب�صوت مكتوم ووجه ال يف�سر �أخربها« :من الأف�ضل �أن تبقني
حتى ت�ستعيدي القليل من عافيتك».
مل تر َّد دجوى ب�شيء وهي تتبع ن�صيحته ،وعادت للفرا�ش مرة �أخرى
جتل�س على حرفه ومت�سك بكفيها طرفه بقوة ك�أنها ت�سند نف�سها من
�سقوط حمقق ،ن َّك�ست ر�أ�سها عن مراقبته ،حتاول طم�أنة نف�سها �أنها
مفتوحا
ً �آمنة معه ،فتلك الفتاة بالت�أكيد ما زالت باخلارج وهو ترك الباب
بالفعل� ،سمعت �صوت مقعد ُي ْ�س َحب ،ف�سمحت لعينيها �أن ترتفع ً
قليل
تراقبه يقرب ذلك املقعد منها ويجل�س مواج ًها لها ،ثم قطع ال�صمت وقال
ر ش
والتوز عي
متاما ،ولكن للغرابة مل ت�شعر بالتوج�س منه ،حتى و�إن كان هناك �شعورً
خوف مبهم يعتمل يف �صدرها نحوه ،حذر ال تعرف �سببه ،ا�ستطاعت �أن
جتيبه ب�صوت متزن ً
قليل رغم �ضعفه�« :أف�ضل ،و�أ�شكرك ملا فعلته معي
مرة �أخرى وعلى اهتمامك».
�أوم�أ بر�أ�سه ب�شبه �إجابة دون �أن ير َّد.
�أحاطت دجوى نف�سها بذراعيها مرغمة ،كانت ت�شعر بربد يت�سلل لكل
خلية من خالياها ،قبل �أن تقول بتوتر�« :أريد �أن �أرحل من هنا بالت�أكيد،
ت�أخرت على عملي و»...
قاطعها �سائد وهو يقول بجفاء �صارم �صريح« :قبل �أن تخرجي من
لك كان من �سبيلألك مرة �أخرى ،هل ما حدث ِ هنا �أعتقد من حقي �أن �أ�س� ِ
ال�صدفة؟ �أنا ال �أعتقد هذا ،هذا الرجل يعرف جميع حتركاتك وبالت�أكيد
اختار هذا الوقت املبكر الذي يكون فيه النا�س نيام».
31
تلعثمت دجوى وهي جتيبه كذ ًبا« :ال �أعرف� ،أنا فتاة يتيمة ب�سيطة،
�أعمل يف �أحد املتاجر ،فلماذا يريد �أي �شخ�ص �أن يتبعني؟! بالت�أكيد هو
ل�ص �أحمق لي�س �إال».
ات�سعت عيناه بالغ�ضب من كذبها املك�شوف قبل �أن ي�سيطر عليه �سري ًعا
مبهارة اكت�سبها عرب �سنوات من التدريب القا�سي ،ثم قال بب�ساطة:
«ح�س ًنا ،رمبا هو جمرد حادث عابر ولكن»
تركها معلقة عن َق�صد لدقائق ،حتى يلفت انتباهها وترفع ر�أ�سها
ص ع
تناظره بحرية منتظرة تلك الـ «لكن».
32
�أحنى �سائد ر�أ�سه وت�س َّلل له ال�ضيق املختلط بالعبو�س وت�ساءل يف نف�سه:
رباك يعرف له طري ًقا كي ت�ؤمني به وتوكلي له �أمرك؟!» «اهلل! وهل من ِ
نف�سك
زجمر وهو يقول من بني �أ�سنانه« :من الغباء يا �آن�سه �أن ترمي ِ
بيدك ،ثم تنتظرين من �أحدهم انت�شالك!» يف التهلكة ِ
تهب من الفرا�شعيناها برمادها املنطفئ انبعث منها ال�شرر وهي ُّ
قائلة بكربياء راف�ض نربته املهينة« :لقد حاورتك يا �سيد بتهذيب لفعلتك
ال�شهمة معي وجميلك الذي طوقتني به ،ولكن لي�س معنى هذا �أن �أ�سمح
ي ز
�صمت لربهة وهو يت�أمل وجهها غري املتنازل ،ثم �أردف دونعلف �أو
هادئ ومبا�شر و�صريح�« :أنا مل �أُ ِه ْن ِك� ،أنا �أو�ضح احلقيقة �أمامك».
ع
مريرة �شطرت حلقها قبل �أن تهم�س�« :أخربتك �أين يتيمة ،ت�ستطيع القول:
علي ،ال �شيء يبقى على حاله �إن هذه احلالة التي تراين فيها جديدة كل ًّيا َّ
�سيد �سائد».
�ض َّيق بني عينيه و�أدرك فج�أة �أنه مل يع ِّرفها بنف�سه ،لي�سمح لها �أن
علمت ا�سمي؟!»
تخاطبه با�سمه فقال« :كيف ِ
�أ�شارت دجوى بر�أ�سها ناحية الباب قائل ًة برتابة« :تلك الفتاة قالت:
�إنك رئي�سها ،وعرفت عنك »...
عاد يخربها بنوع من التف�سري متجن ًبا احلديث الذي طال« :ا�سمعي �أنا
عدت من اخلارج ،منذ وقت ق�صري وهناك عمل �صغري �س�أقوم بتطويره �إن ُّ
لك فيه� ،أما عن ال�سكن �س�أحل م�شكلته
كنت مهتمة� ،أ�ستطيع توفري عمل ِ ِ
أيك؟»
يف وقت ق�صري ،ما ر� ِ
34
�أغم�ضت عينيها بقوة وهي تغالب الدموع التي ملأتها فج�أة ،ما الذي
رجل عرفها منذ �ساعات لتوفري كل هذا الرتف لها دون �أي �سابق يدفع ً
معرفة وقد تخلى عنها اجلميع؟! مل ت�ستطع �أن حتجب �أفكارها فقالت
علي �أن �أرف�ضه؛ �إذ ال �أ�ستطيع �أن
بكربياء جريح�« :شك ًرا لعر�ضك ولكن َّ
�أ�ستوعب ملاذا تهتم هكذا ،وتعر�ض هذا ال�سخاء من جانبك».
هب �سائد من مكانه وقال ب�صوت غام�ض مل تتبني فحواه حقيقة: َّ
«ت�ستطيعني القول� :إنني مررت بظروف م�شابهة ملا �أخرب ِتني �إياه؛ لذا
ع
�أعر�ض م�ساعدتي ،كما �أين ال �أحب �أن �أقوم بعمل وال �أكمله للنهاية،
ر ش
والتوز عي
�سكنك ،حتزمي حاجاتك وال تعودين هناك ِ و�سي�صحبك �أحد رجايل �إىل
ِ
�أبدً ا».
لقد حجب عنها الإجابة احلقيقية لإنقاذها والتي علمها عندما ر�أى
كنت �ستتعر�ضني للأذى واالنتقام �أو حتى �أحدهم يحاول �أن ي�ؤذيها� :إن ِ
قتْل روحك �س�أبذل امل�ستحيل حتى يكون على يدي �أنا فقط.
حترك ناحية الباب ينوي املغادرة بعد �أن �ألقى بطعمه ،فالتفت لها
قرارك �أنت لن
ِ قبل ان�صرافه و�أخربها بخفوت ناعم« :باملنا�سبة� ،أ ًّيا كان
تخرجني من هنا �إال بعد تناول بع�ض الطعام الذي حت�ضره رابحة ،لقد
أنك مل تتناويل �شي ًئا منه �آن�سة».
�أخربتني � ِ
«دجوى ،دجوى الها�شم»
التوى فكه ب�شبه ابت�سامة مل ت�صل للمرح الذي مل يعرفه وجهه منذ
عاما ،وهو يومئ بر�أ�سه ب�شبه ترحيب ،قبل �أن �أكرث من خم�سة ع�شر ً
35
ي�سمعها تقول من وراء ظهره ب�صوت خمتنق متح�شرج« :هذا كرم مبالغ
ً
م�ستقبل». فيه نحوي وال �أعرف كيف �أرده لك
مل ير َّد ومل تر عيناه التي ملعت بق�سوة مظلمة وهو يهم�س لنف�سه :بل
كامل دجوى ،دون رحمة �أو �شفقة مني ،و�ستدفعني ثمن كل �شيء �سرتدينه ً
يف الوقت الذي �أقرره �أنا وحدي.
q q q
«�أنا ل�ست مطمئنة لرتك الفتاة معه� ،إن ت�صرفاته خميفة كما �أخربتك
ريص ع
�ساب ًقا».
ر ش
والتوزي
يو�صلها �إىل منزلها مبا�شرة ،النظرة التي تلقتها مع التفافه نحوها مثلت
ع
�شي ًئا مبه ًما جعلها ترتبك للحظة فوقعت علبة الع�صري التي ا�شرتاها
عمر لها فور �أن هبطوا من منزل �سائد وقدمها لها دون �سبب وا�ضح،
نف�سا عمي ًقا ك�أنه يكبح
وهي التقطتها منه دون �أدنى تردد� ،سمعته ي�أخذ ً
نف�سه �أن يرد عليها ،بل تركت �إحدى يديه مقود ال�سيارة ليلتقط بع�ض
«نظفي بقية الع�صري قائل دون �أي تعبريِّ :
املناديل من جيبه ومينحها لها ً
أن�صحك بعدم التحدث عن �سائد ب�أي �شكل �أو حتى التفكري
ِ يا رابحة ،و�
عليك االقرتاب منها ب�أي �شكل �إن
ب�أفعاله ،اعتربيه منطقة �شائكة ممنوع ِ
عملك».
كنت تريدين احلفاظ على ِ ِ
التقطت منه ما قدمه مع ابت�سامة مرتع�شة ،نظفت فمها ووجهها � ًأول،
متاما عن عمر الب�شو�ش الودود، راقبته مينحها نظرة �أخرى خمتلفة ً
نظرة حتمل �شر ًرا متطاي ًرا غا�ض ًبا� ،شعرت به يزيد �سرعة ال�سيارة
وي�سلك طري ًقا �آخر غري طريق منزلها ،مل تتحدث يف بادئ الأمر ،رمبا
مطمئنة �إليه منذ منحها عمر ذلك العمل الذي طالبت به بقوة دون �أي
36
خجل ،وهناك �شيء ما يجذبها نحوه ،ومع عملها معه �سبعة �شهور ب�شكل
يوما بعد يوم� ،إذ مل يحاول �أن ُي ْب ِدي �أي فعل
طبيعي ،كانت متنحه ثقتها ً
�سيئ معها ،بل كان يلتزم بحدود رئي�س ومر�ؤو�سة ،ودفاعه عنها �ضد
�سائد عندما �أبدى الآخر اعرتا�ضه دون �أن يتعرف عليها حتى؛ جعلها
متنحه املزيد من الثقة ،فلتعرتف لنف�سها �أنها منجذبة ب�شكل �أو ب�آخر
لعمر ،ورغم �أنها حاولت �أن ُتنحي هذا الإعجاب نحوه ولكنها مل ت�ستطع،
انتابها خوف فطري عندما �أيقنت �أن عمر ي�أخذ طري ًقا ً
منعزل نحو املدينة
ال�صحراوية اجلديدة ،وال�سيارات من حولها تقل تدريج ًّيا ،ف�س�ألته بقلق:
ي
وهذا ما فعله بال�ضبط ،وهبط فج�أة ب�سيارته ذات الدفع ع
�أن ُتدثني بهذه اللهجة ،توقف ً
حال و�أنزلني هنا».
الرباعي من
الطريق املمهد و�أخذ طري ًقا تراب ًّيا وتوقف.
ارتكبت �أخطا ًء
ِ أنت
التفت لها بوجه خميف وهو يقول بهجوم غريبِ �« :
اليوم لن تقع فيها فتاة �ساذجة بغري عقل».
يف رد فعل عفوي كانت رابحة ترتاجع والت�صقت بالباب ويدها متتد
حتاول فتحه عندما �سمعته يقول �ساخ ًرا« :الباب مغلق ،رابحة هامن».
التفتت له ببطء ،م�ستجمع ًة كل قواها ،وهي تقول م�ضطربة �شاحبة
الوجه« :ملاذا حتاول �إخافتي؟ ما الذي ُقلته �أو فعلتُه ليجعلك غا�ض ًبا
هكذا؟»
37
ه َّز ر�أ�سه را�ض ًيا مما ر�آه فيها من خوف وجزع ،قبل �أن يقولِ �« :
أنت
�ساذجة ،ف ِّكري من بداية اليوم حتى اللحظة ،ما الذي ارتكب ِت ِه من �أخطاء
أجيبك بعدها».
ِت َب ًاعا و�س� ِ
�ساد ال�صمت املختنق بينهم دقائق طويلة ،وهي ت�شعر ب�شيء مظلم
يجثم فوق قلبها ،ومل تر عينيه التي تلمعان ق�سو ًة بغريزة مت�أ�صلة فيه
حاول تهذيبها طوال حياته ،ليظهر وجه الثعلب الناعم الذي كان ي�شتهر
به و�سط �أقرانه من �أوالد ال�شوارع لي�صل ملراده ،ولكن مع رابحة حتديدً ا
ع
وملحوظة �سائد حولها التي �أدركها بالفعل ،مل ي�ستطع �أن ُي َحجمه،
ع
احلدود التي و�ضعتها لنف�سي اليوم ولكن �أنا� ،أنا»
�صمتت ومل تكمل وكبحت ل�سانها �أن تخربه عن ثقتها به و�أنها كانت
أفعالك التي
أنك تعلمني � ِ على يقني �أنه لن ي�ؤذيها ،قال بجفاف« :جيد � ِ
ُتعترب يف هذا املجتمع م�شينة ،ويف عريف �أنا غري م�سئولة وغبية ،فتاة تقدم
نف�سها فري�سة لرجلني حتت حجة واهية منحها لها �أحدهم».
ا�شتعلت نريان الغ�ضب يف عينيها الع�سليتني وهي تقول ب�صوت مكتوم:
«�أنا مل �أقدم نف�سي لأحد ،كانت هناك فتاة بالفعل يف فرا�ش هذا الرجل
معدومة القوة� ،شاحبة الوجه ،م�شو�شة وتائهة وحتتاج م�ساعدة ،هل
تعاقبني على ثقتي فيك يا عمر؟»
مل يالحظ نطقها ال�سمه جمردًا لأول مرة ،وبرقت عينيه ب�سخط
وامتدت يده لتم�سك ذراعها وهو يقول بخطورة معددًا« :بل قدم ِتها
ركبت معيدخلت �شقة رجل دون �سابق معرفةِ ، ِ فري�سة �سهلة بغباء،
38
لك حتى موقف البا�ص، رف�ضت فقط بالأم�س مرافقتي ِ ِّ أنت منال�سيارة و� ِ
ي�صطحبك يف �سيارته ،وت�أخذين منه ِ و�أخ ًريا تقبلني م�شرو ًبا من رجل
مناديل �أخرجها من جيبه لت�ضعيها على وجهك مبا�شر ًة ،بكل �سذاجة
ي�صادفك خرب واحد لطرق خطف الفتيات من �أقرب معارفهم ِ العامل� ،أمل
ثم اغت�صابهنَّ �أو بيعهنَّ رقي ًقا �أبي�ض �أو »...
قطع جملته بل�سان مفرقع� ،شحب وجهها ب�صدمة ،وانكم�شت بغريزية
يف مقعد ال�سيارة حتى �أ�صبحت كحيوان �صغري مذعور من �أثر كلماته
عدمية الرحمة ،مل جتد ما تدافع عن نف�سها به وهي تنظر حولها بهلع،
ص ع
َف َر َك وجهه الذي َك َ�س ْت ُه الظالل ،قبل �أن يقول بابت�سامة حزينة�« :آخر
ع والتوزي
جماعات �أو �أفراد ال جتمعهم حتى �صلة الدم ،فقط ق�سوة احلياة هي التي
تنه�ش يف �أج�سادهم ،يكافحون ب�أنف�سهم للبقاء ،وحني ي�أتي وقت الرحيل
ال جتدين لهم ذكرى �أو حتى حزن من جمتمع عقيم».
رفعت عينيها حتدِّ ق بعينيه الداكنتني فقر�أت الكثري من الغ�ضب،
الكثري من الوحدة ،الكثري من الأمل واملرارة ،وك�أنه اختار هذه اللحظة
بالذات ،ليع ِّري نف�سه �أمامها� ،أو ليخيفها ويبعدها عنه� ،س�ألت نف�سها
داخل ًّيا :ما عالقة �أطفال ال�شوارع ونربة احل�سرة يف �صوته بخوفه الذي
�أبداه عليها؟
كليلف ًّ
يوما غبية؛ �إذ �أدركت جيدً ا الغمو�ض الذي ُّ مل تكن رابحة ً
أعواما
من �سائد وعمر ،فالرجلني �أتيا من اخلارج بعد غربة دامت � ً
طويلة ،رجلني ُي�شاع �أنهما فقدا �أُ َ�سرهم كاملة ،ولي�س لهم �إال بع�ضهم،
وال تربطهم �أي �صلة دم غري �صداقة �أدركت عمقها من حديث عمر عنه،
40
فهم�ست دون �أن تفكر«َ :منْ �أنت يا عمر؟ وما هو ما�ضيك؟ لتحدثني بتلك
الطريقة ك�أنك جربت ق�سوة عي�شهم».
ان�سحبت الدماء من وجهه وهو يلتفت �أمامه جامد املالمح.
�أدركت رابحة فداحة �س�ؤالها ،انكم�شت غريز ًّيا منتظرة منه �أن
يغ�ضب �أو يعود لتخويفها �إال �أنه مل يفعل ،الغ�ضب الذي �أط َّل من عينيه
مل يكن �أبدً ا موج ًها نحوها عندما قال بخفوت وهو يدير حمرك ال�سيارة:
در�سك جيدً ا ،وال متنحي ِ تعلمت
ِ أعيدك ملنزلك� ،أرجو �أن تكوين «�س� ِ
ل
ِ
ل
لتنق�ض عليك
ص ع
جرما عظي ًما ويلقي بنف�سه يف التهلكة ،بيد مرتع�شة كان ال�شاب املراهق ً
والتوزي ر
عرفته على الفور هادر ًة بانفعالُ « :ق َ�ص ٌّي».
42
عندما يختلط الغ�ضب باخلوف يف دمائك ،ال يعود للمنطق مكان،
يتال�شى العقل ،وترتك لأفعالك العنان وحرية الت�صرف ،وهذا ما �شعر
به عمر ورابحة ٍّ
ولكل منهما �أ�سبابه.
كان �صدر رابحة يهبط ويعلو ب�أنفا�س متالحقة ،وهي تنظر لأخيها
أكرهك يا
قائل ب�صوت خافت�« :أنا � ِ الذي منحها كل نظرات التمرد ً
رابحة �إىل حد يفوق الو�صف» ،وبدون تردد كانت تقرتب منه ترفع يدها
وت�صفعه بقوة �صفعة جعلت قلب كليهما ينخلع خل ًعا من مكانه
ريص ع
q q q
ر ش
والتوز عي
�سنة؛ لت�ستقر يف النهاية على البوابة اخل�شبية ال�ضخمة ،وجدران عالية
حتيطها من كل مكان ،و�سقف �صغري يعلم عن يقني �أنه يحمي املعلم حماد
ورجاله من �أهوال الربد القار�ص �أو عوامل التعرية تاركني باقي املكان يف
الهواء لأج�ساد �صغرية متفاوتة الأعمار والتي ي�سيطرون عليها بقب�ضة من
حديد ونار ،مق�سمني نها ًرا �إىل جمموعات ليقوموا بالأعمال التي ي�أمر بها
حماد ما بني �سرقة ون�شل وت�سول ،وخطف وتوزيع مواد خمدرة ،وق�سمني
خمفيني مل يكن هو يعلم عنهم �شي ًئا قبل جتربته التي ك�سرت روحه و�أَ ْح َن ْت
ظهره ،املتاجرة بالأع�ضاء وبيع ال�صغريات لكل نف�س مري�ضة طامعة يف
�أج�سادهنَّ ال�صغرية وعذريتهنَّ .
�أغم�ض �سائد عينيه بقوة وهو يكتم �آهاته يف �صدره كالعادةً :
«مهل
مل ي�أت وقت االنهيار �أو احل�ساب بعدُ ،تلك �أوىل خطواتك لت�صل �إىل ما
تريده».
43
ا�شتدت قب�ضته على احلائط ووقف م�ستندً ا عليه ،والذكرى جتتاحه
ؤو�سا من حنظل ،وهنا ر�آها وحماها ق�س ًرا ،هنا ذاق املرارة وجت َّرعها ك� ً
واعتقد بغبائه وقوته الفتية �أنه قادر على النجاة بها ،عيناه �شردت لآخر
ليلة بينهم ،نظر لذلك الزقاق ال�ضيق املظلم خلف املبنى ال�شبيه ب�إ�سطبل
حيوانات �أكرث منه مكا ًنا يحوي � ً
أرواحا ب�شرية ،وهنا امتلكها متخف ًيا بها
�صك امتالكها ،و�ضع فيها من كل عني متل�ص�صة َو َ�ش َم َها با�سمه ومنحته َّ
بذرته وج�سدها تفوح منه رائحته ،كتعريف لأي طامع �أنها �أ�صبحت مل ًكا
ص ع
لذئب ،فيبعد عنها �أي حيوان �ضاري طامع يف متيزها و�سط العديد من
زيع
�شرارتها و
عادتت ل ا و
وقد ل�سنوات،
بامل�شرط الذي امتد ...
قطع �أفكاره وهو يت�أوه بحرقة �أحرقته
لالتقاد.
بتمهل كان يقرتب من الوكر ،مل ين�س بالطبع نزع تلك املالب�س املرتفة
قمي�صا
التي مل َي ْعت َْد َها جلده حتى بعد مرور �سنوات من الرتف ،مرتد ًيا ً
متاما، ً
وبنطال م�شاب ًها ً قد ًميا مهرت ًئا مفتوح الأزرار حتى منت�صف �صدره
قبل �أن يخطو �إىل املكان ،ا�ستوقفته تلك املجموعة ال�صغرية امللتفة حول
جدا منكم�ش حول نف�سه ومل ًقى بجانب احلائط ك�أنه جرذ ج�سد �صغري ًّ
�أجرب ،ابتلع �سائد غ�صته ،وهو يتذكر انكما�شه يف نف�س املكان جائ ًعا
تائ ًها و�ضائ ًعا عندما كان ي�صدر حماد �أمره ب�ضرورة عدم منحه الطعام
هو و�أمثاله ليعرف بعدها معنى اللقمة املق َّدمة لها ،وي�شحذ �أ�سنانه دون
44
رحمة حتى يحارب وي�ستطيع احل�صول عليها ،ويف لفتة �أخرى �إن�سانية
غريبة ،كان يبحث بعينيه عن �أي مكان ي�صلح لي�شرتي منه بع�ض الأطعمة.
وبعد ن�صف �ساعة مل يخب ظنه وهو يعود حم َّم ًل ب�أكيا�س بها بع�ض
الأطعمة ال�شعبية رمبا مل تكن ما �أراده حتديدً ا ،ولكنها �أكرث من وجبة
د�سمه لهم رمبا مر عليهم �أكرث من يومني كاملني مل يتذوقوا حتى قطعة
خبز ياب�سة ،ملقاة يف القمامة التي تغرق �أماكنهم.
ظله ال�ضخم الذي حجب عن ال�صغار ال�ضوء جعلهم يتفرقون يف حلظة
ريص ع
خو ًفا ورهبة �أوقفهم بنربة حملت بع�ض الطم�أنينة ،ومظهره املهرتئ
45
الذي ي�شق بطنه ناحية الكلى اليمنى مبا�شر ًة ،هم�س �سائد بوجع وهو
يحاول حمله رمبا ي�ستطيع جندته�« :أنتم �أطفال �أ�ضناكم و�أ�صابكم الي�أ�س
من الليل الطويل يف �أي �أزقة �أو حتى قمامة ُتلقوا ،رمبا حتميكم من وحو�ش
الليل وق�سوة الربد� ،أال يوجد يف قلوبهم رحمة ولو قليل؟! �أخذ كليتك من
�أجل قطعة مثلجات!»
q q q
46
o ال ُغ َّصة الثانية
ص ع
خفق قلبه ب�سرعة جمنونة ،اجتاحه خوف مبهم بطريقة غريبة ال
47
وا�ضحا للجميع منً ودب �سائد على �صدره يخربهم �أنه طفله وقد كان
الت�صاقها الدائم به� ،إنه الوحيد امل�سئول عن حملها ،ووعده ب�إمتام
زواجهما بورقة ر�سمية� ،سيمنحها لهم �أحد املحامني معدومي ال�ضمري
املتورطني مع حماد يف جرائمه املعتادة.
رجع بر�أ�سه للخلف م�ستندً ا على احلائط مغم�ض العينني يخبط
ر�أ�سه برتابة ليتذكر �صوته احلازم وهو يبعدها عنه ً
قائلُ « :ك ِّفي عن
أ�صبحت امر�أة يف �سن ال�ساد�سة ع�شر ،وتلك هي حياتنا ِ طفوليتك ،لقد �
ع
التي اعتدناها ،فما الذي َج َّد؟!»
ر ش
والتوزي
اجللدي الذي ح�صل عليه من تثبيت �أحد الأ�شخا�ص قبل �أن ي�سرق كل
ع
نف�سك جيدً ا
ما ميلكه ،ثم �ألب�سها �إياه وهو يقول بنربة �أقل حدة« :دفئي ِ
أمرك �أحدهم مبزيد من العمل، واجل�سي هنا ،ال حتاويل الظهور حتى ال ي� ِ
أنت تدورين يف الإ�شارات».
قدميك طوال اليوم و� ِ ِ يكفيك الوقوف على
ِ
قلبه متزَّق ،و�شعور العجز احلانق عاد لي�شطر حلقه ن�صفني ،فلم يعد
يدري هل مرارته من ذكرياته التي تتد َّفق عندما ي�شاهد بعني اخليال
ت�س ُّولها يف الإ�شارات م�ستغلني حملها لي�ستعطفوا قلوب النا�س� ،أم وجعه
الدائم من ذلك امل�شهد املروع الذي ر�آها فيه �آخر مرة� ،أوقف �سيل
الذكريات ،عندما �سمع �صوتًا خ�ش ًنا يقول�« :سيد �سائد ،لقد طلبتني».
�صرف �سائد جميع ذكرياته مبهارة تد َّرب عليها كث ًريا يف املا�ضي،
واعتدل ليجيب �أحد رجاله الذي تطلع �إليه وقال بنربة �صارمة« :هناك
طفل يف الداخل مع الطبيب� ،أريدك �أن جتل�س هنا تنتظره وتهتم به،
حتميه بحياتك ك�أنك حتميني �أنا».
48
تعجب �إبراهيم من هيئة رئي�سه اجلديد� ،أين املالب�س الفاخرة؟ َّ
وكيف حت َّول يف حلظة ملظهر (البلطجي) الذي �أمامه؟ ولكنه كما تع َّود مل
يتدخل ،فقال بخ�شونة عملية�« :سيد �سائد ،هل من �أوامر �أخرى؟»
حازما م�سيط ًرا قو ًّيا وحمذ ًرا« :ال ترتك الطفل معه
د َّوى �صوت �سائد ً
�أبدً ا ولو للحظة واحدة ،عندما ينتهي من جندته ترافقه كظله ،و ُي َف�ضل �أن
ت�أخذ كل تعليماته وبع�ض العالج وتذهب به من هنا».
حاول �إبراهيم �أن ي�ستو�ضح �أكرث منه عندما �س�أله« :هل الطفل يعنيك
ع
�سيدي؟ هل هو �أحد الأقارب؟»
ر ش
والتوز عي
به �إىل تلك الغرفة �أ�سفل ال�شركة التي تتجمعون بها �أنت وبقية الرجال �إىل
�أن �أعود �أنا و�س�أت�صرف».
مل ي ُر َّد �إبراهيم ب�شيء اكتفى ب�إمياءة من ر�أ�سه متذك ًرا حديث عمر
عن �سائد وحماولته التلطيف من �أفعاله احلادة ،م�ؤكدً ا لهم �أن �شخ�صيته
ال تعرف التفاهم ويكره ب�شدة امل�شاعر الإن�سانية.
«عج ًبا» ،نطقها �إبراهيم �إثر خروج �سائد الذي كان يلوم نف�سه بقوة
كيف �سمح لنف�سه �أن ي�أتي بالفتى لأحد اجلزارين الذين ي َّدعون �أنهم
مالئكة الرحمة ،وما هم �إال �شياطني وم�صا�صي دماء بالرداء الأبي�ض!
q q q
دقيقة كاملة مرت مل جتر�ؤ رابحة حتى على التقاط �أنفا�سها ،كانت
تنظر لأخيها م�صدومة وقد �صفعته ،كانت تنتف�ض من ر�أ�سها حتى �أخم�ص
قدميها ،وهي تنقل عينيها بني وجه ُق َ�ص ٍّي ال�شاحب ،وعمر الذي اقرتب
49
منهما بتح ُّفز �صامت ،وعلمت �سبب حت ُّفزه عندما خرج ُق َ�ص ٌّي من ذهوله
ورفع يده ينتوي رد �صفعتها ،راقبت ذاهل ًة عمر الذي اندفع و�أم�سك يد
�أخيها ،ثم قام بلويها خلف ظهره وهو يقول بهدوء« :حتركي �أمامي� ،أنتم
لن تكملوا �شجاركم و�سط عيون املارين الذين توقفوا لي�شاهدوا احلدث».
كانت عيناها ما زالت تتابع تفا�صيل �أخيها التي ُ�ص ِد َمت فج�أة بتغريه
اجللل وك�أنها �أول مرة تراه ،ظالل �سوداء حتدِّ د عينيه الذابلة ،وجهه
نحول ع َّما تتذكر ،امتلأت مرهق وك�أنه ال ينام لياليه ،ج�سده �أ�صبح �أكرث ً
ص ع
عيناها بالدمع قبل �أن ت�ضع يديها على فمها الذي �أخرج �شهقة مكتومة
ر ش
والتوزي
كانت عيناه املتو�سعتني تربقان ًّ
ع
غل وهو يتلوى بني قب�ضتي عمر ي�صرخ
منفعل« :ال تتحدثي بتلك الطريقة معيَ ،منْ َع َّي َن ِك الو�صية َّ
علي؟ هل ً
ي�ساعدك على �ضربي؟!»ِ بك جنون التملك �أن ت�أتي يل ببلطجيو�صل ِ
�أم�سك عمر بذراعه الآخر يثبته على �صدره وهو يدفعه �أمامه يخرب
رابحة من بني �أ�سنانه باقت�ضاب �آم ًرا« :الآن حتركي».
q q q
منذ �ساعة �أو �أكرث كان عمر ي�ستند عاقدً ا ذراعيه على �صدره على
باب �شقة متوا�ضعة احلال ،بدون تعبري ُي ْذ َكر كان يراقب الهتاف املتبادل
ب�سخط وغ�ضب حمتد و ُنواح غريب بني رابحة و�أمها ال�سيدة الكبرية يف
ال�سن مبالحمها املرهقةُ ،تلقي االتهامات والذنب كله على ابنتها التي
غفلت عن �أخيها الذي وعدت بحمايته واجن َّر لذلك الطريق� ،شاهد
ال�سيدة �أخ ًريا وقد متكن منها الإنهاك فجل�ست على �أحد املقاعد مت�سك
50
أخوك،
ر�أ�سها بني يديها ،وهي تقول بح�سرة« :حرقة قلبي عليه لقد �ضاع � ِ
كيف غفل كالنا عنه؟ اهلل وحده يعلم �إىل �أي حد مت َّكن منه هذا ال�سم».
كانت مالمح رابحة �شاحبة ب�شدة تنظر �إىل �أمها بعجز وال جتد ردًّا،
ف�أكملت �أمها بالقول الذي جعل وجه عمر ي�شحب وي�سود هذه املرة:
«اللقطاء �أوالد ال�شوارع ومن غريهم قد يقنعه بهذا ال�سم بقلوبهم احلاقدة
�أ�ضاعوا �شبابنا لينالوا هم الر�ضى عن تدمري �أوالدنا ،واملال الذي ي�أخذوه
أخيك».
من ِ�ضعاف النفو�س مثل � ِ
ص ع
مل تعرف رابحة ما الذي جعلها ترفع عينيها تنظر لوجه عمر امل�سود،
ع
فوجهيني �إىل غرفته� ،أنا �أعرف جافة« :لقد تورطت معكم وانتهى الأمرِّ ،
والتوزي ر
�إن كان �سينقذه ويجعلنا ن�سيطر عليه».
ع
اهتماما وكلماتها الطاعنة
ً مل يبادل املر�أة حتى نظرة ومل ُي ِع ْر طلبها
موجه ملنت�صف قلبه ما زالت ترتدد يف عقله قتيل كر�صا�ص َّالتي �أَ ْر َد ْت ُه ً
ب�صخبُ ،تذ ِّكره بكلمات �أخرى موجعة كان ُي ْط َعن بها يف ال�سابق من رجال
يوما التمردحماد عندما يحاولون تهذيبه �أو ال�سيطرة عليه �إن حاول ً
ليذكروه مبقداره وحجمه احلقيقي ،رمبا كان جميعهم يتماثلون يف الت�شرد
وال�ضياع ،ولكن حتى يف ذلك الوكر واحل�ضي�ض كان هناك متيز بينهم،
َمنْ هو دون �أهل �أو مت�شرد ب�سبب تفكك الأهل �أو ابن حرام ُو ِج َد �أمام باب
نف�سا عمي ًقا ي�سيطر على م�سجد �أو حتى بني القمامة مثله هو� ،أخذ عمر ً
�صي الذينف�سه ب�صعوبة ،قبل �أن يفتح الباب ويدخل مبا�شر ًة �إىل غرفة ُق ٍّ
�صرخ يف وجهه بغ�ضب وهو�س وهو يقذفه ب�أحد زجاجات املياه« :اخرج من
هنا يا هذا� ،إن كانت عدمية الأخالق تلك �سمحت لك بالتحكم يف حياتها،
ف�أنا �س�أقتلك �إن حاولت االقرتاب مني».
52
خطر كان عمر يقرتب منه وعيناه تتفح�ص �سري ًعا حالة بتمهل ِ
�صي ر� ًأ�سا على عقب �إثرالفو�ضى يف تلك الغرفة ال�ضيقة والتي قلبها ُق ٌّ
نوبة غ�ضب ،ودون مقدمات كان يقب�ض على الفتى ويل�صقه يف احلائط
ومي�سك رقبته بني يديه ك�أنه �سيخنقه ويده الأخرى تثبت يديه التي يحاول
�أن يدافع بها عن نف�سه ،كانت عينا ُق ٍّ
�صي متو�سعة رع ًبا حقيق ًّيا وهو ي�شعر
بذلك التهديد ينظر لوجه عمر املظلم ،و َب َدا الرجل �أنه قادر على دق
يرف له جفن واحد ،نطق عمر �أخ ًريا بنربة كالفحيح« :قد عنقه دون �أن َّ
�أتف َّهم مترد فتى غبي مثلك يلقي بنف�سه بني يدي جتار ال�سم الأبي�ض؛
ص ع
�صي بالعجز للحظات عندما كان الآخر كجدار �صلب ال �شعر ُق ٌّ
والتوزي ر
دفني عميق يجتاحه� ،إن كان �ضحايا ال�شوارع لهم العذر �أن ي�صبح البع�ض
ع
منهم مدمنني وجزء �آخر بلطجية حاقدين ،ما هو عذر مراهق ك ُق َ�ص ٍ ّي،
لديه عائله حتيطه باهتمام وجدران منزل يحت�ضنه بعطف ودفء؟!»
�صي ب�أنفا�س مكتومة وهو يقول« :ابتعد نربة التو�سل التي نطق بها ُق ُّ
�أرجوك و�س�أخربك ما تريد� ،أنت تقتلني».
ابتعد عنه عمر �سري ًعا مبهوتًا بوجه �شاحب وهو يراقب الفتى ينحني
على ركبتيه وي�سعل ب�شدة طال ًبا للهواء ،تخ َّلل عمر �شعره بع�صبية؛ ما الذي
يوما؟ متى من الأ�سا�س يحدث معه؟ متى خرج عن هدوئه وتعامله املاكر ً
اهتم مب�صري �أحدهم؟ ما الذي برابحة يجذبه ليهتم؟ �أغم�ض عمر عينيه
م�سيط ًرا على نف�سه� ،أزاح بع�ض الكتب واملالب�س امللقاة بفو�ضى على
�صي بخ�شونة وهو يقول �أر�ضية الغرفة ،ثم يجثو على ركبتيه مي�سك وجه ُق ٍّ
�آم ًرا�« :أنت ال تتعاطى الهروين ،تلك كانت مرتك الأوىل �أو الثانية على
�أق�صى تقدير ،ولكنك تتعاطى خمد ًرا �آخر� ،أريد �إجابة مبا�شرة».
54
�صي ي�شعر بالغ�ضب بالذل بالهوان بالك�سر� ،أغلق جفنيه قبل �أن كان ُق ُّ
يتعاىل بكا�ؤه بحرقة ك�أنه طفل تائه �ضائع ال يجد مر�سى ،مل َي ِر َّق عمر ،مل
ي�ستطع ذلك ،رغم تلك النب�ضة التي كانت ت�ضرب على �أوتاره متعاطفة مع
�ضعف الفتى ،انتظر �أن يهد�أ من نف�سه ،ومل يحاول ال�ضغط عليه باملزيد،
ثم �سمع �صوته وهو يخرج م�شو ًبا ب�شهقاته العالية« :احل�شي�ش».
م�سرتيحا بع�ض ال�شيء؛
ً نف�سا عمي ًقا
�أطبق عمر على جفنيه وهو ي�أخذ ً
لعلمه �أنه �أقل تلك املخدرات فت ًكا ،ولكنه قال مقت�ض ًبا:
ع
«ملاذا مراهق مثلك لديه درا�سته وحياته ،م�سئول عن امر�أتنيً ،
بدل
ر ش
والتوز عي
تلعثم ُق ُّ
�صي وهو يجيبه حمرت ًقا:
«�أنا رجل وهما يرف�ضان ر�ؤيتي هكذا ،رابحة تعاملني كطفل تخنقني
باحل�صار وتهني رجولتي ،تك�سرها بتحكمها املتكرر ،وحتى عندما حاولت
العمل مل�ساعدتها رف�ضت ،وذهبت ل�صاحب الور�شة تخربه �أين جمرد
طفل ،فجعلتني حمط �سخرية اجلميع».
مل ي ُر َّد عمر ب�شيء ولكنه �أدرك �أن �أ�صدقاء ال�سوء ا�ستغلوا �سخط الفتى
وتخبطه؛ لإقناعه �أن تعاطي تلك املخدرات هي من �ست�صنع منهم ً
رجال،
تلك هي م�ساحتهم اخلا�صة وحريتهم التي لن ي�ستطيع �أحد التحكم بها
�أو اكت�شافها.
عم ال�صمت لثوان قبل �أن يكرر عمر �س�ؤاله بجفاء« :كم مرة ح�صلت
على الهريوين؟»
قال ُق ٌّ
�صي بتوتر« :تلك هي املرة الثانية فقط».
55
ك َّز عمر على �أ�سنانه وهو يخربه« :والأخرية يا ُق ُّ
�صي».
�صي مرة �أخرى وهو يقول برعونة: ا�شتعلت مالمح ُق ٍّ
علي قوتك
«ومنْ �أنت لت�أمرين؟ َمنْ منحك احلق من الأ�سا�س لتفرد َّ َ
وتهاجمني؟»
بكل ذرة هدوء ا�ستدعاها عمر يف تلك اللحظة وبنف�س روحه الثعلبية
جازما« :ت�ستطيع القول:
حازما ًيوما كان يخرب ُق�ص ًّيا ً التي �أطلقوها عليه ً
�إنه يوم �سعدك� ،أنا من �س�أجعلك تنال كل ما تريده وتفر�ض رجولتك
ص ع
متاما عن طريق
احلقيقية على رابحة وغريها ،ولكن بقواعدي �أنا ،وبعيدً ا ً
والتوزي ر
ع
�صي يقول ب�صوت من َهك« :و�أنت ماذا قد ت�ستفيد حذر كان ُق ٌّ
بارتياب ِ
من م�ساعدتي؟»
«لدي حاجه عندك� ،إن مهادن قبل �أن يقولَّ : ٍ ابت�سم عمر ببطء
أثبت يل تلك الرجولة التي تطالب بها، �ساعدتك �أنا فيما تريده و� َّ
�س�أمنحك �أنا م�صدر قوة لن ي�ستطيع �أحد بعدها الوقوف يف طريقك
يوما ،و�أنت �ستمنحني حاجتي».ً
�صي ،وهو يقول« :وما هي تلك احلاجة؟ وما بان الرف�ض على مالمح ُق ٍّ
الذي يجعلني �أثق بك؟ طريقي �أعرفه ولن �أتركه».
وقف عمر على قدميه ي�ضع يداه يف جي َبي بنطاله قبل �أن ينظر له
باك يحاول لفتبا�ستخفاف ويقول م�ستف ًزّا له« :كما توقعت جمرد طفل ٍ
�أنظار �أمه و�أخته؛ لينال املزيد من االهتمام عرب اللجوء ل�شيء غبي مثله
لن يزيده �إال �ضع ًفا فتا ًكا عند نق�صان �أي جرعة لن ي�ستطيع �أن يح�صل
عليها».
56
انتف�ض ُق ٌّ
�صي وهو يهتف به« :بل �أنا رجل ،و�أعرف ما �أفعله جيدً ا».
اقرتب منه عمر يخربهً �« :إذا �أثبت واقبل ال�صفقة والتحدي الذي
�ألقيته يف وجهك».
�صي لفرتة طويلة قبل �أن يقول« :لي�س قبل �أن �أعرف ،ما هي تردد ُق ٌّ
تلك امل�صلحة التي تريدها مني ،و�أنت مل ترين �إال منذ �ساعات ق�صرية».
ملعت عينا عمر بانت�صار خفي ،وهو يقول« :عندما تنفذ �شروطي كلها
�س�أخربك ما هي حاجتي».
ريص ع
q q q
ر ش
والتوز عي
يف ذكرياته ،وقف �أمام البوابة ال�ضخمة القدمية اخل�شبية ،ثغرات كبرية
مهدمةَ ،ق َّلب نظره بني ربوع املكان الوا�سع ،نف�س القمامة امللقاة يف
كل مكان ،نف�س الأج�ساد الهزيلة املتال�صقة ب�أعداد لي�ست قليلة ،حالة
االرتباك والهياج بينهم ك�أنهم قطعان من املوا�شي ولي�سوا بب�شر ،بحثت
عيناه عن هدفه �سري ًعا ،ليجده هناك بنف�س جل�سته ال�سلطانية ،يجل�س
على كر�سي �ضخم وحماط برجاله ذوي املالمح الإجرامية ،ويجثو �أمامه
متو�سل الرحمة و�سوط �أحدهم يهبط على ظهر الفتى دون ً �أحد الأطفال
ذرة �شفقة ،وحماد يقول بنربه قا�سية �شر�سة« :ال رحمة عندي خلائن،
هذا للتعلم كيف ت�ستطيع �أن تخفي عني املال يا ابن احلرام».
فتو�سل الطفل ال�صغري ببكائه ،وال�ضرب ينزل عليه ميزق ب�شرته َّ
الرقيقة متزي ًقا ،والدماء تنزف من ظهره املحم ِّر ،وال�ضرب يغطي وجهه
املتورم« :لن �أفعلها مرة �أخرى يا معلم ،كنت جائ ًعا ،و�أردت فقط �أن
�أ�شرتي بع�ض الطعام».
57
مل ي ُر َّد حماد ،عندما لفته ال�صمت الذي احتل املكان انتباهه ،وقف
م�صدوما للحظات رغم ت�صلُّب مالحمه املُخيفة� ،ض َّيق عينيه ونظر ً حماد
للوافد اجلديد وهو يحاول �أن يتذكر �أين ر�أى هذا الوجه ،و�صل �أمام �سائد
يخربه« :من �أنت؟ وكيف جتر�ؤ �أن ُتخطي مملكتي دون �إذن؟!»
خيبت �أملي يا معلمي و�أبي الروحي� ،أن�سيت بال مباالة رد �سائد« :لقد َ
ذئبك �سري ًعا؟!»
كا�سحا مهيم ًنا ،لكنه ا�ستطاع �أن يلمح خلفه ً خ َّيم الغ�ضب فوق ظله
ع
ظل �إن�سان متوارٍ ،وكعادة حماد الذي ال يرى ال�سطح بل ينفذ �إىل العمق
ر ش
والتوزي
انف�ض الهرج واملرج من وكره ثم ح َّدث �سائد بنربة خافتة ً
قائل: ً
نافذاَّ ،
ع
«كل فتى يخرج من هنا هار ًبا� ،أح�ضره راك ًعا حتت قدمي قبل �أن �أنفذ فيه
حكمي حتى يكون عرب ًة ملن ُت�س ِّول له نف�سه الهروب من حتت قب�ضة يدي».
رفع حماد وجهه وقال بنربة ف�ضحت لكل َمنْ ي�سمعه مكانة من يقف
�أمامه عنده�« :إال �أنت والثعلب ،مل �أ�ستطع وتركتكم حلال �سبيلكم بعد ما
حدث متع�ش ًما �أن جتد طريقك وال تعود �إىل هنا �أبدً ا».
ب�صوت ميت قال �سائد« :و�أنا �أتيت خماط ًرا بنف�س مكانتي عندك التي
عاما عال ًقا على ل�ساين:
�صرحت بها ،و�س�ؤايل الذي ُيحرقني خلم�سة ع�شر ً َ
ملاذا ذبحتني مب�شرطهم وك�سرت ظهري يا معلم حماد؟»
q q q
بعد يومني كان �سائد يجل�س يف مكتبه الفخم وابت�سامته ال�ساخرة
املعتادة ُتزين وجهه ،نف�س االبت�سامة امليتة التي ال ت�صل لعينيه �أبدً ا ،تذكر
عقب خروجه من وكر حماد بعد احلديث املطول الذي دار بينهم ،وكم
58
كان ك ٌّل منهم كا�ش ًفا �أوراق الآخر ،ولكن رغم ذكاء حماد وعقله ال�شيطاين
الإجرامي مل ي�ستطع ك�شف �أوراق �سائد كاملة �أو خمططه احلقيقي لعودته
�إىل هناك حتديدً ا ليبد�أ �أول خطواته االنتقامية احلقيقة والتي لن يهد�أ �أو
يرتاجع �إال حني يراهم مقتولني مغدورين حتت قدميه ،وبعدها ...
�أغم�ض عينيه وهو يهم�س« :وبعدها لن �أبايل ب�شيء �س�أ�ستلم مل�صريي
وموتي الذي �أعرف جيدً ا �أنه يطاردين دون �أي مقاومة».
تراجع لي�ضع ر�أ�سه على ظهر كر�سيه ب�إرهاق؛ متى ي�ستطيع �أن ينام
ع
أي�ضا ر�سالة حماد ال�صامتة كالب�شر؟ متى يكف عقله عن التفكري؟ تذكر � ً
ر ش
والتوز عي
يوما �أن يتبع �أث ًرا له �أبدً ا.
يف ت�ضليل من يريد ولن ي�ستطيع �أحد ً
َط َر َقات هادئة على الباب �أيقظته من �شروده ،فاعتدل وهو يعيد وجهه
اجلامد ويجيب ب�صوت رخيم« :ادخل».
دخلت دجوى بخطوات مرتددة ولكن واثقة غري مهتزة ،وقفت �أمام
املكتب وهي تقول دون �أن ترفع وجهها له�« :سيد �سائد ،هناك بع�ض
الأخطاء التي ار ُت ِك َبت ب�شكل وا�ضح مع ال�شركة الأجنبية التي ت�ستورد
منها املعدات الطبية».
قال �سائد ب�صوت �صارم« :اجل�سي دجوى و ُك ِّفي عن جتنبي واحلديث
معي باخت�صار».
جفلت دجوى من نربته القوية ال�صريحة ،لن تنكر �أنها ما زالت تتعجب
من �شهامته الغريبة معها ،م�ضى �أ�سبوعان الآن منذ �أول مقابلة بينهم،
وعر�ضه الكرمي الذي �سينجدها مما هي فيه كما �سيبعدها عن ه�ؤالء
املجرمني الذين يطاردونها مطالبني بر�أ�سها دون تنازل ،فبما وفره �سائد
59
قليل� ،شقة �صغرية فوق �سطح �شقته ،وعمل حمرتم لها جعلها تطمئن ً
مب�ؤهالتها احلقيقية براتب حمرتم ،حتركت لتجل�س على املقعد املقابل
أ�صبحت من �ساكني ال�سطوح ِ أنك �
له بهدوء �ساخرة من نف�سها« :يبدو � ِ
بعد الق�صور يا ابنة غ�سان الها�شم �أ�شهر طبيب كان ا�سمه يحتل �صفحات
ال�صحف الهامة يف البلد يف حياته وحتى بعد موته غد ًرا».
ابتلعت غ�صتها املميتة قبل �أن ُتعيد عينيها ل�سائد ،ر�سمت ابت�سامة
مو�ض َح ًة« :الأوراق التي َّ
لدي تذكر لطيفة منمقة على وجهها وهي تقول ِّ
ص ع
جدا ومتداولة� ،أما ما و�صل �إىل املخازن فهي �أ�سماء معدات طبيبة عادية ًّ
والتوزي
أنك تعلمني فيما ُت�ستخدم تلك الأجهزة
ع
قبل �أن ي�س�ألها بربود« :يبدو � ِ
أنك طبيبة!»
حتديدً ا دجوى وك� ِ
ابتلعت دجوى ريقها من �شكله الذي �أ�صبح خمي ًفا وقا�س ًيا ،ولكن
لعجبها من نف�سها� ،إنها ال تهاب �سائد �أبدً ا ،بلفتة مقت�ضبة ر َّدت مرتبكة:
«ال ،ال �أعرف كل ما هناك �أن والدي كان طبي ًبا وكنت �أ�ستمع له �أحيا ًنا
وهو يتحدث عن بع�ض الأجهزة وعرب الأوراق التي معي ا�ستطعت �أن �أفهم
االختالف الكبري بينهم».
رغم تلك االبت�سامة ال�ساخرة امل�ستفزة وك�أنه ي�ضعها حتت اختبار �أو
لغ�ضبك الذي
ِ �ضغط ما دائ ًما �إال �أن �سائد رد بهدوء« :ح�س ًنا ال داعي
�أ�ست�شعره ي�شتعل على حني ِغ َّرة دائ ًما� ،أما ذلك اخلط�أ �إنه عمل عمر وهو
مالحظتك تلك له عرب رابحة وهو �سيهتم
ِ امل�سئول الوحيد؛ لذا مرري
بالأمر».
60
متاما مبا يقول؛ �إذ تدرك جيدً ا �أن خط�أً كهذا غري مل تقتنع دجوى ً
وارد احلدوث ،فالفرق بني بع�ض ال�سماعات الطبيبة التي ُيفرت�ض �أن
جدا، ي�ستوردها وبني �أجهزة التربيد والتعقيم التي و�صلت بالفعل مكلف ًّ
ُت َرى ما الذي تخبئه �أنت و�شريكك يا �سائد؟ ولكنها �سمعت بالفعل عن
نظافة الرجلني و�صدق ما قاله �سائد ،جمرد مغرتبان عادا للوطن �أخ ًريا
بعد طول غربة ،يريدان �أن ي�ؤ�س�سا حياتهما بهدوء وي�ستثمرا �أموالهما.
فتح عمر الباب مبا�شر ًة دون ا�ستئذان وهو يقول�« :إبراهيم يريدك يف
ع
�أمر عاجل».
ص ع
جا�سو�س لديهم».
و النجار»؛
ع ي ز ت ل ا و
عليك �أن تكون �أكرث حذ ًرا ،فالهدف قاتل حمرتف وال يحمل ذرة �إن�سانية».
«فهمي تناول عمر امللف الذي يحمل عنوان م�شفى با�سم
ليبد�أ يف مناق�شة بع�ض املعلومات وتبادل كل منهم ما ا�ستطاع �أن يح�صل
عليه خالل الفرتة املا�ضية قبل �أن يقول �سائد« :هل ا�ستوعبت كل �شيء،
ما زال لديك بع�ض الأ�سئلة؟»
انطلقت �ضحكة منه قبل �أن يقول مبكر الثعالب« :ال تقلق� ،س�أحاول
الو�صول لأف�ضل مما تريده بالفعل».
q q q
ومر �شهران كامالن ،كان كل واحد منهم يتحرك يف طريقه ببطء
متاما حتى ال يثريا �أي نوع من الريبة لدى َمنْ
وحر�ص مت�أنٍّ كما ُر ِ�س َم ً
عاما؛ لذا ال �ضري �أبدً ا �أن ينتظر ي�ستهدفونَ ِ ،
ول ال؟ �إنه �صرب خم�سة ع�شر ً
املزيد من الوقت ،بالتنظيم لكل خطوة �سيح�صالن على ما يريدان،
62
جدا� ،أوىل خطواتهم يف االنتقام املدمر قد بد�أت وقد �أ�صبح هذا و�شيك ًّ
بالفعل.
مل ي�شغل عمر باله بخططهم الآن ،بل كل ما ي�شغله وهو يقف هنا
�صي وينظر للفتى �شاحب الوجه بعينني غائرتني وج�سد منهك بحجرة ُق ٍّ
�ضعيف خائر القوى وقد تخل�ص �أخ ًريا من �آثار املواد املخدرة وال�سموم
البي�ضاء التي كان يتناولها ،يف الواقع التخل�ص من �آثار الهروين مل ي�ؤمل
الفتى كث ًريا؛ لأنه مل يتناوله بجرعات كثرية ،ولكن ما كان م�ؤملًا ح ًّقا ال�سم
الآخر امل�سمى باحل�شي�ش ،تعجب عمر من بع�ض ال�شباب بل والرجال
ع
هو �أمهرهم و�أ�سرعهم يف تو�صيلها ،ف�أ�شاد حماد ِبه وبدهائه ،و�أطلق عليه
ع
حتى علم �سائد مبخططهم فقام مبعاقبته ،بل وتعدى عليه بال�ضرب
و�صرخ بهم يتوعدهم ،وقتها �أمر حماد ب�أ�سى بالتخل�ص منه على الفور،
وتوعد بتطهريه و�إن ملفكانت النجدة يف �سائد الذي �أنقذه من القتل َّ
ينجح �سيقتله بنف�سه ،ابت�سم عمر مبرارة متذك ًرا نعته بالألقاب الب�شعة
التي تخ�ص �أمه املجهولة بالذات فهو يف ُعر ِف ُهم «ابن »...ولكن �سائد مل
يهتم ،وعاجله بالطريقة ال�صعبة والتي جنا منها ب�أعجوبة� ،أغم�ض عمر َّ
عينيه بعذاب حقيقي والذكرى تل�سعه متذك ًرا �أعرا�ض ان�سحاب املخدر
منه ،والتي كانت متثل �ألف طعنة وطعنة من �سكني حاد تدخل يف كل
ن�سيج من ج�سده ،يف الدقيقة الواحدة كان ي�صرخ ويبكي ويتو�سل ويتذلل
ملنحه فقط القليل ،فما كان من الآخر �إال كتم فمه وتثبيت ج�سده بقوته
متاما ،عج ًبا ملن يلومه ملنا�صرته ل�سائد
الفتية وينهار يف بكاء حاد مثله ً
مظلوما وهو من منحه فر�صة للنجاة ،نطق عمر �أخ ًريا ً �سوا ًء ظاملًا �أو
قائل بلطف« :يف الوقت احلايل ال �أريد منك �شي ًئا �إال �أن جتد الطريقة ً
64
اهتم ببيتك وافر�ض رجولتك ،ابتعد عمن ال�صحيحة لتوجيه غ�ضبكَّ ،
وجهوك لذلك الطريق».
�صي بعينيه املرهقتني متعج ًبا وعقله ال ي�سعفه للحظات نظر له ُق ٌّ
للهدف احلقيقي ملا يفعله هذا الرجل معه �أو �سر اهتمامه ،لقد حر�ص
متاما وهو ُيك�سر
خالل ال�شهرين املا�ضني �أن ي�أتي �إليه يوم ًّيا ومبوعد ثورته ً
منزلهم ويقلبه ر� ًأ�سا على عقب مطال ًبا بجرعته ناعتًا �أمه ورابحة تار ًة
متذلل وم�ستعطفا ومهددًا �أنه �سيموت �إن مل ب�أب�شع الألفاظ ،وتار ًة �أخرى ً
يح�صل عليها ،فما كان منه �إال تكميم فمه وتكبيل يديه ،بل وتقييده بظهر
ريص ع
ً
ا
متحمل ثورة غ�ضبه و�س ِّبه ،ردًّا على طلب عمر ال�سابق ال�سرير حرف ًّيا
والتوز عي
باملنزل و�أتوىل راية رجولته».
نف�سا عمي ًقا وهو يتحرك من جانبه و�أخربه�« :أنا �أثق �أنك �أخذ عمر ً
�صي ،و�إن كان على العمل فهذا �شيء رجل وعند وعدك الذي قطعته يا ُق ُّ
هني �س�أدبره لكن بنف�سي مبا يتوافق مع درا�ستك حتى ال تغ�ضب �أمك
و�أختك».
�صي يخربه برف�ض متعنت« :ال �ش�أن لهنَّ بي� ،أنا الرجل هنا، انتف�ض ُق ٌّ
�أفعل ما يحلو يل».
كان عمر واق ًفا على قدميه قبل �أن مينح ُق�ص ًّيا نظرة غام�ضة �ساخرة
ا�ستبدلها بالقول احلازم اجلاف« :الرجولة يا فتى ال تعني التنمر ،وال
�أخذها عنو ًة وق�سوة».
�صي بخ�شونة يخربه« :الرجولة هنا يا مال عمر ي�ضرب على ر�أ�س ُق ٍّ
�أحمق يوجهها عقلك بدهاء ،ميحورها لت�أخذ ما تريده مبنتهى ال�سهولة
65
والي�سر ،تخدع من �أمامك بذكاء لتوجهه ملا تريد دون َف ْرد ع�ضالتك
لي�ستجيب خلدعتك معتقدً ا �أنه من يتحكم بك ،ولكن �أنت يف احلقيقة َمنْ
توجهه لكل �أفكارك دون �أن ي�شعر».
�صي ر�أ�سه عن عمر بحدة دون �أن يتنازل ليجرب عقله �أن يفهم �أبعد ُق ٌّ
مكمل« :الرجولة تعني احلنكة والذكاء لتوازن حديث عمر الذي �أردف ً
بني الأمور وتفهم متى ت�ستخدم عقلك ومتى تفرد ع�ضالتك ،لتخرج �أنت
الرابح املنت�صر يف حربك ب�أقل اخل�سائر».
ع
�صي ب�ضياع متخبط« :كيف؟ �أرجوك �أخربين». قال ُق ٌّ
والتوزي ر
لن ي�ساعدك �أحد يا فتى ،لت�صل لرجولتك التي تتغلغل بكل جزء منك� ،أنا
ع
�أثق بك ولكن ثقتي تلك ال تعني �شي ًئا �أبدً ا �إن مل تدرك وحدك طريقك �إىل
نف�سك وتتوا�صل معها بطريقتك».
�صي� ،أنت ً
م�شتعل وهو يقول« :يا ُق ُّ �صمت عمر قبل �أن ي�أخذ �آخر
يف نعمة كبرية ،تتمثل يف جدران هذا املنزل الذي يحميك و�أ�سرة دافئة
حتيطك وحتر�ص عليك ،و�إن مل ت�ستغل تلك النعم وتثبت �أنك على قدر
يوما ،فهناك الكثري والكثري يتمنوا امل�سئولية فهذا يعني �أنك مل ت�ستحقها ً
حتى ولو هذا الغطاء الذي يقيك من رجفة الربد ،ارجع لعقلك يا فتى
واحمد اهلل �أنك ُك ِ�شف َْت �سري ًعا و�أن هناك من يهتم لي�ضعك على الطريق
ال�صحيح».
ً
متخبطا يف �أفكاره لأول مرة عقب كالمه فتح الباب وغادر على الفور،
و�س�ؤاله احلائر ما زال يحرق عقلهَ ِ ،ل يهتم؟ ملاذا يفعل هذا معهم؟ وما
هو �آخر ذلك الطريق الذي يخو�ضه مع رابحة؟
66
كان يو�شك على املغادرة على الفور عندما ا�ستوقفته �أم رابحة تخربه
مبودة« :اىل �أين �أنت ذاهب �سيد عمر؟ ابق معنا لتناول الغداء».
التفت عمر بر�أ�سه للخلف و�أخربها ب�صوت خرج جا ًّفا رغ ًما عنه ،وهو
يتذكر كلمة املر�أة التي طعنته �ساب ًقا رغم �أنه �أ�صبح كفرد �أ�سا�سي منهم
�صي ،ولكنه مل ي�ستطع �أبدً ا تنا�سي جرحه حتى و�إن مل تعلم، مب�شكلة ُق ٍّ
رمبا هو �سمع �أب�شع الألفاظ التي و�صفته يف ال�سابق ،ولكنه بب�ساطة مل
فلدي عمل مهم
لتعبك َّ لك ،ال داعي ِ يتقبله من تلك املر�أة بالذات�« :شك ًرا ِ
ع
بالفعل».
ع
�صي ،ولي�س لتعديد �صفاتي».
ر ش
والتوزي
جدا بعد عذاب �سنوات من الكدح وجمع املال يف غربتهم، فهو د َّلل نف�سه ًّ
ع
وبعد �أن ا�ستطاع هو و�سائد عمل �أول م�شروع يد ُّر عليهم ً
مال وف ًريا مل
يتوانَ حلظة يف تذ ُّوق كل ما ُح ِر َم منه ،ولكن تلك اجلل�سة الب�سيطة يف
منزل ي�شعر بالدفء واحلنان واالهتمام بني جدرانه ال متاثل �أبدً ا �أي رغد
عي�ش ح�صل عليه يف غربته.
كانت رابحة تنظر له وهي َت َع ُّ�ض على �شفتيها بخجل قبل �أن تقول:
«�أعتذر منك جلل�ستك هكذا على الأر�ض ،وبدل مائدة نفرت�ش اجلرائد
القدمية».
رفع عمر حاجبيه وهو يتناول بع�ض الأرز قبل �أن يقول مبا�شرة« :ال
العتذارك ،تلك اجلرائد كانت يف وقت ما �أق�صى ما �أ�ستطيع �أن ِ داعي
�أحلم به لأفرت�شها ولكن لي�س للطعام بل ل�شيء �آخر».
وهم�سا داخل ًّيا مل ي�صل مل�سامعها وهو يكمل« :كنت �أبحث عنها
�صمت ً
لألتحف بها من الربد �أو حتى �أفرت�شها لت�صبح �سريري على الأر�صفة».
68
منذ عدة �أ�شهر وهي تتابع تفا�صيله باهتمام ،حتاول �أن تخرتق جداره
الغام�ض والذي يخبئه حتت قناع الهدوء واللطف وال�سخرية يف كثري من
جرحاجدا منه لتعلم �أن َمنْ �أمامها يعاين ً الأحيان ،لقد �أ�صبحت قريبة ًّ
عمي ًقا ي�شق روحه ن�صفني ،وكال الن�صفني يحتلهم ال�سواد والفقد وانعدام
الأمل والظلمة ،لقد باتت مت�أكد ًة �أن عمر و�سائد يحمالن ما�ض ًيا منف ًرا
ً
وم�ستقبل مرع ًبا خمي ًفا ،ولكنها بب�ساطة مل ت�ستطع ال االبتعاد وال ً
بغي�ضا
حتى االقرتاب ،ابت�سامة مهتزة احتلت �شفتيها املنتفختني الورديتني قبل
�أن تقول بهم�س �أنثوي رقيق« :هيئتك ومكانتك وو�صولك من اخلارج بكل
ص ع
متاما النربة املريرة التي تتحدث بها �سيد تلك الهالة الرباقة تناق�ض ً
والتوز عي
عميق متمهل ،فتغلغل داخل روحه ذلك ال�شعور املرافق دائ ًما معها وهو
يرى وجهها الدائري و�شفتاها العذرية املنتفخة بطبيعية� ،أنفها الدقيق
وعينيها الع�سليتني الربيئتني رغم االندفاع واحلاملية التي تربق من بني
حدقتيها ،ولكن رغم جمالها الربيء الهادئ هناك �شيء �آخر يجذبه
نحوها ويق ِّيمها دائ ًما تقيي ًما �إيجاب ًّياَ ،ن َه َر نف�سه عند تلك النقطة ،فمنذ
متى ا�ستحقت �أي �أنثى مرت به �أن ميحنها ا�ستح�سانه؟! بالنهاية معظمهنَّ
�ساقطات عاهرات ي�س ِّلمن �أنف�سهن لأ�سباب خمتلفة :املال �أو املكانة �أو
حتى هذا ال�شيء املنفر امل�سمى باحلب ،ابتلع ريقه قبل �أن يقول ب�سيطرة
ذاتية لوجه رابحة الذي زاد توردًا ،وعينيها التي انخف�ضت تنظر �إىل
�صي �أ�صبح بحالة جيدة الآن ،يجب �أن تهتمي �أر�ضية الغرفة بارتباكُ « :ق ٌّ
ب�إطعامه جيدً ا ،و�أنا �س�أر�سل �إبراهيم ببع�ض الأدوات الريا�ضية الب�سيطة؛
ليوجه كل طاقته الزائدة بها ،الريا�ضة مهرب جيد الآن له �ستجعله ُيهدئ ِّ
من حدة غ�ضبه ،وي�سيطر على �أفعاله ً
قليل».
69
ب�صوت هادئ قالت« :هذا مقدور عليه ،ولكن ما زلت مرتعبة لعودته
لهذا ال�شيء».
عجزت نرباتها كما ته َّدل كتفاها وهي تخربه خمتنقة�« :أنا ال �أعلم
حتى ما احلل معه �إن عاد لهذا املخدر مرة �أخرى ،على ح�سب معلوماتي
�أن املدمنني يعودون بب�ساطة».
دورك يا رابحة ،فاملدمن
ب�صوت بارد فاتر كان عمر يخربها« :هنا يبد�أ ِ
ال يعود لهذا الطريق �إال لو �أُ ْح ِب َط �أو عادت له نف�س �أ�سبابه ال�سابقة ليتوجه
رمن الغباءَّ ، يخربها ب�صمت �أن بعد كل ما جرى ُي َلع ُّدن �س�
شؤالها
ت والكل
املمتزجة باال�ستياء جعلتها تندم على ال�س�ؤال ك�أنه النظرة الراف�ضة
و
حالزيالكالم
ع
مط عمر
متاما عندما �أخربها« :على �شفتيه وهو يعاك�س نظرته ً
أطمئنكُ ،ق�صي �أنقذناه يف �أول الطريق ،الهروين
ٌّ ِ مل يعد يجدي� ،أريد �أن �
متاما ،ولكن اخلطورة تكمن يف خمدر «احل�شي�ش» والذي مل يتمكن منه ً
قليل وال �ضرر منه، يعتقد بع�ض الأغبياء �أنه جمرد ع�شب يب�سطهم ً
ولكنه ال يقل خطورة �أبدً ا عن بقية �أنواع املخدرات ،ولكن النقطة اجليدة
جدا؛ لأن متعاطيه �إن الوحيدة به �أن عالجه �سهل ،والأمل يف عالجه كبري ًّ
تخل�ص من كل �أثر ال�سموم بالفعل وامتلك �إرادة قوية ووعي من الأهل لن
يعود �إليه �أبدً ا؛ لأن وجه االختالف بب�ساطة �أن اجل�سم ال ي�شتاق له �أبدً ا
مرة �أخرى عك�س املخدرات الأخرى».
انب�سطت مالمح رابحة وهي تنظر له بامتنان حقيقي ،وقف عمر على
قدميه �سري ًعا ينوي �أن يتحرر من ذلك ال�سحر والدفء الذي يلتف به،
70
ذلك ال�شعور املبهم الذي ُي ْ�ش ِعره معها «بالطهر والنظافة»ُ ،ط ْهر مل يجربه
�أبدً ا خالل �أعوامه الثالثة والثالثني.
وقفت رابحة وراءه تهتف به مندفعة متهورة بدون تفكري«َ :منْ �أنت
حقيق ًة يا عمر؟ كيف حتمل كل هذا بداخلك؟ من �أين ت�أتي باحلكمة
ومتلك كل تلك املعلومات؟»
التفت لها عمر بر�أ�سه ،ومنحها نظرة ثعلبية ماكرة قبل �أن يقول:
أهل له رابحة ،فما زلت �أرف�ض ل�ست � ً
نف�سك يف �شيء �أنت ِ ِ «ال تقحمي
ع
اندفاعك اجلاهل �إليها».
ِ
متاما حقيقة جملته وهي تقول بت�شدد�« :أنت
ر ش
والتوز عي
التفت عمر هذه املرة بكليته واقرتب منها خطوة تلو اخلطوة �إىل �أن
متاما ،وبدون حت ُّفظ رفع ظهر يده ميرره على وجه رابحة وقف �أمامها ً
بتمهل ،فت�سمرت مت�سعة العينني م�شلولة الأو�صال دون قدرة لها على
االبتعاد �أو الرف�ض ،ف�سمعت �صوته يقول بتمهل َخ ِطر« :نحن خفافي�ش
الليل ،زوائد املجتمع و�أخطاء �أفراده ،نحن نتاج ال�شوارع �ساكنيه وحاقديه
جدا قبل الأوان� ،شربنا ك�ؤو�س احلنظل وعاجزيه ،نحن من ن�ضجنا مبك ًرا ًّ
على الدوام ،من يقرتب منا يحرتق ،ومن يخاطر ويقتحمنا ُف ِق َد ،نحن
بقايا الإن�سانية قبيحة ا ُ
خللق».
q q q
كانت دجوى ت�ستند �إىل حائط امل�صعد بعينني متوج�ستني وقلب
مت�سارع الدقات حتى ُخ ِّيل لها �أنه ي�سمع كل نب�ضة هاربة منها بو�ضوح،
على ما يبدو �أ�صبحت عاد ًة لديها منذ معرفتها بهذا الغام�ض اجلذاب
دون �إرادة منها ،فالأدرينالني كان يغزو ج�سدها يحثها على القيام ب�أي
71
ت�صرف �إيجابي لتُبعده عنها ،تهرب من عينيه و�سطوة وجوده ،جموده
وجراءته يف االقرتاب منها.
�أ�سفر فمه الذي مال بخط م�ستقيم عن ابت�سامة ذئبية ،ا�ستند ب�أحد
بك دجوى مرتعبة هكذا؟ ذراعيه على حائط امل�صعد خلفها وقال« :ما ِ
متاما �أنني لن �أتهور ً
مثل و�أق ِّب ِلك». تعلمني ً
تع َّرق جبني دجوى وتلعثمت حروفها رغم رماد عينيها املنطفئ ،كانت
جتابهه بقوة قائلة�« :سيد �سائد ،من ف�ضلك ابتعد ،ال داعي لهذا احلديث
ع
الـ»...
والتوزي ر
ع
قالت با�ضطراب وهي تعبث بوجهها« :ال �شيء يحدث بيننا على
الإطالقَ ِ ،ل ت�صر �أن يكون الأمر بتلك الطريقة؟»
التما�سك يا دجوى �أكرث وال تنهاري هكذا
ُ «عليك
ِ هم�س �سائد داخل ًّيا:
يحنْ بع ُد
من جمرد بع�ض الإغواء الذي �أمنحه لك بتمهل ،فاالنهيار مل ِ
عزيزتي».
حرك ذراعه بعيدً ا عن حماوطته لر�أ�سها ،وابتعد عنها خطوة �أخرى
قائل�« :أنا ال �أ�صر على �أي �شيء ،ولكني �أخربتك من�سح ًبا نحو باب امل�صعد ً
من قبل �أن هناك �شي ًئا ما يجذبني ِ
نحوك ،ويغ�ضبني ب�شدة جت ُّنبك يل بل
أنك
وتوترك غري املف�سر عندما تتواجدين معي يف �أي مكان مبفردنا وك� ِ
تخافني مني».
ام ُت ِق َع وجه دجوى وا�شتعلت وجنتيها بحمرة خجل ،وهم�ست لنف�سها
جدا لهذا الرجل ،يقر�أها ككتاب مفتوح، ب�سخط« :اللعنة� ،إنها مك�شوفه ًّ
يقتحم خياالتها و�أفكارها».
72
عجيب كيف يتف َّوه مبا كانت تفكر فيه بحاملية �أنثوية الآن ،نعم� ،إنها
منجذبة نحوه ب�شكل خطري ،عقلها املرهق يفكر به ليل نهار حتى �أنها
ول ال وهي منذ �أ�صبحت �أ�صبحت تتنا�سى امل�صيبة الأخرى التي تطاردهاَ ِ ،
حتت حمايته مل يطاردها �أحد على الإطالق.
�أغم�ض �سائد عينيه بقوة وهو ي�ست�شعر االرجتافة التي مرت بج�سدها
من خلفه والتي �أكدت له �أنها خائفة وب�أي فر�صة �ستفر منه هاربة بغري
عودة.
ع
ارحتت وتركتني لأنتقم من تلك التي َ «ت ًّبا ملاذا ِم َّت يا غ�سان؟ ملاذا
ع
ي�شري لها بيده ب�آلية ثم يغلق امل�صعد يف وجهها مبا�شر ًةَ ،ف َغ َر ْت دجوى
ب qللq
على الفور؟ هل �أجابته ب�شيء ما خط�أً؟
شر و ن
التوزيع
q
دوما � َّأل يواجههم
ما الذي �أتى به �إىل هنا يف ذلك الوقت؟! �أمل يتعهد ً
مرة �أخرى �إال بعد �أن ي�أتي ظاف ًرا بحقهم �أو ج�سدً ا خاو ًيا ل ُي ْد َفنَ بجانبهم،
عاما ،لت�ستقر يف
جتولت عينا �سائد باملكان الذي مل يره منذ خم�سة ع�شر ً
جدا عن بقية مدافن النهاية على القرب ال�صغري امله َّدم الذي يقع بعيدً ا ًّ
ال�صدقة ،لقد تع َّمد �أن يدفنهما هناك بعيدً ا فيميزهما ويح�صال على
بع�ض العزلة والراحة التي مل ي�شعر بها ج�سداهما يف حياتهما ،اقرتب
من القرب دون تردد �أو حرية �أو حتى يخطئ يف مكانهم ،وكيف له �أن ين�سى
�أو يخطئ وهو عا�ش كل حلظة يف حياتهما املريرة ،ذكرى �إخراجهم من
املقربة اجلماعية ومن و�سط الأج�ساد العديدة املدفونة يف تلك احلفرة
ذات الرائحة العفنة ،عفن ينت�شر بها ال يخ�ص �أبدً ا ال�ضحايا الأبرياء
املُلقني هناك كجرذان مت التخل�ص منها لينظفوا جمتمعهم الظامل،
ولكن عفن كل �ضمري �سمع عنهم وعلم ما يحدث لهم على �أيدي ه�ؤالء
74
اجلزارين م�صا�صي الدماء و�آكلي اللحوم الب�شر ،احتجزت ُمقلتاه دمعة
ملتهبة حارة ،وابتلع غ�صته التي حترق حلقه وهو يتذكر انهياره ودموعه
التي �أغرقت �صدره وهو يلتقط ج�سديهما الفارغني ،منها ًرا ً
مقتول مغدو ًرا
و�ضم كليهما �إىل ذراعيه مطعو ًنا عاج ًزا ،م َّدد ج�سديهما على الأر�ض َّ
يبكي كطفل �صغري بحرقة ،لقد رف�ض تركهم هناك ،كان من حقهما عليه
�أن يكرمهما لأول مرة يف حياتهم املحطمة ولآخر مرة مبوتهم املعذب،
هبط على ركبتيه والذكرى تعود ق�س ًرا �إىل عقله ،بت�سلله هو وعمر �إىل
هناك خو ًفا �أن يراهم احلار�س ،فحتى املوت والدفن بكرامة حم َّرم على
ص ع
جرذان ال�شوارع ،فحتى القبور تخ�ضع للمال واملكانة االجتماعية ،حفرا
ر ش
والتوزي
نف�سا عمي ًقا قبل �أن تقول ب�شرود متحري حزين« :تلك �أخذت الأخرى ً
ع
تف�ضحك ف�أنا
ِ نظراتك التي
ِ كنت �أنت تنكرين هي احلقيقة دجوى� ،إن ِ
يوما».
متاما �أن قلبي معلق به ،وال يوجد يل �أمل يف الو�صول له ً
�أعرتف ً
فتحت دجوى فمها حتاول �أن ت�ستفهم منها �أكرث عن �سبب ي�أ�سها،
واجلميع �أ�صبح يوقن �أن عمر َمنْ ُي ِول ال�سكرترية الب�سيطة ُج َّل اهتمامه،
ولكن �أوقفها دخول �إبراهيم الذي قال ب�صرامة« :ا�ستدعي �أحد الأطباء
فو ًرا».
مل ت�ستطع دجوى منع �صرخة الرعب التي خرجت من بني �شفتيها وهي
تراقب �سائد الغارق يف الدماء ويتحامل ب�صعوبة على قدميه و�إبراهيم
حماول �أن يجعله ي�صل �إىل مكتبه ،هرولت دجوى نحوه، ً يقوم ب�إ�سناده
�شهقتها مع ر�ؤيتها له عن قرب جعلته يرفع عينيه ب�صعوبة ورغم كل ما
به كان يحدِّ ق فيها لوهلة ،لهفتها وخوفها عليه جعال ً
ومي�ضا �سري ًعا يحتل
عينيه قبل �أن يغلقهم من الأمل ،وقفت �أمامه متنع تقدمهم ومل ت�ستطع
76
منع نف�سها وهي تقول بلهفة�« :سائد ،ماذا حدث؟ كنت بخري عندما
خرجت من هنا».
q q q
�صباحا َد َخ َل ْت رابحة �إىل مقر ال�شركة ووجهها تعلوه ابت�سامة باهته
ً
�شاحبة ،ما زال ما حدث بالأم�س ي�ؤثر عليها ،لقد �أ�صبحت على يقني وثقة
�أنها �أمام بئر مليء بالأ�سرار مرعب وخميف بلون ال�سواد الذي يحمله
كالهما ،ولكن ِع َو ً�ضا عن النفور �أو اخلوف وجدت نف�سها تنجذب �أكرث،
ص ع
تريد االقرتاب �أكرث لتعرف احلقيقة الكاملة من عمر ،ثم توا�سيه وتطبب
قبل �
بارتباك« :نعم� ،سيد عمر».
للحظات ظل واق ًفا �أمامها يت�أملها وك�أنه يحارب �شي ًئا ما ب�ضراوة ،قبل
�أن يقول بهدوء ما ي�سبق العا�صفة« :اتبعيني �إىل مكتبي».
با�ست�سالم جرجرت قدميها ب�صعوبة وهي تتبعه على الفور ،فتحت
الباب وهي تخطو �إىل الداخل تراقبه ،منحها ظهره املت�شنج بينما هو عقد
�أمره دون تردد ،رمبا مل ت�سمح له الفر�صة للحديث مع �سائد ب�شكل مط َّول
ومعرفة ما حدث ،ولكنه مل ي�ستطع �أن يغفو لدقيقة وهو ينازع ،يتمزق ما
بني اعرتافه �أخ ًريا باحتياجه لها بجانبه وبني حكم العقل واالن�صياع ملا
طلبه منه �سائد يف بدء الأمر ،يجب �أن يبعدها عنه ب�أي طريقة.
77
قال عمر مبا�شر ًة بجفاف« :على �سطح املكتب هناك مغلف يحمل
لك فيه بع�ض املال اجليد لت�ستطيعي �أن تبد�أي با�سمك و�ضعت ِ
ِ �شي ًكا
أي�ضا ،دون احلاجة للبحث حياتك مب�شروع �صغري ،وت�شركي فيه ُق�ص ًّيا � ً
عن وظيفة مرة �أخرى».
هزت ر�أ�سها بحرية قائل ًة« :ال �أفهم ِ َل متنحني املال؟ وملاذا قد �أبحث
لدي عملي بالفعل؟» عن وظيفة من الأ�سا�س و�أنا َّ
لديك مكان هنا ،لقد ُف ِ�ص ْل ِت من العمل قال ب�صوت مكتوم« :مل يعد ِ
ريص ع
منذ هذه اللحظة».
ع
التفت لها هذه املرة ونظر لها بتوح�ش وج َّز على �أ�سنانه ً
قائل�« :سيد
منحك احلق ل�سحب الألقاب بيننا؟»
ِ عمرَ ،منْ
فتحت فمها و�أغلقته عدة مرات وهي ت�شعر بنف�سها معقودة الل�سان
متاما ،قبل �أن تقول بتح�شرج بائ�س�« :أنت من منحتني هذا احلق ،و�أنت
ً
من ت�سللت حلياتي ومنحتني الأمل يف ودك يا عمر».
�أطلق عمر �ضحكة ق�صرية �ساخرة ليعود يقول بق�سوة« :لي�س ذنبي
أنك حاملة يا �صغريتي لتعاطفي نحوكم� ،أحالم وردية مثلما فعلت �أمك � ِ
طموحك يا رابحة ،تبقى الفروق االجتماعية ِ متاما ،ال ترفعي �سقف
ً
حمفوظة بيننا».
تالحقت �أنفا�سها وهي تهز ر�أ�سها عاجز ًة عن تق ُّبل كلماته ،قبل �أن
تقول بقنوط�« :أنت تكذب ،تعرف هذا جيدً ا وال �أ�صدقك».
78
التحدي املندفع ا�شتعل يف ع�سل عينيها الذائب فرفعت وجهها حتدِّ ق
به بقوة وهي تردد بتحدٍّ :
يوما ب�أي
«�أنا ال �أ�صدقك لأنك تعلم جيدً ا �أنك كاذب ،ومل ولن ت�شعر ً
فروق بيننا ،هل تظن �أين غبية وال �أ�شك بحقيقتك �أنت و�صديقك؟!»
اندفع عمر بتهور نحوها مي�سك ع�ضديها بقوة قبل �أن يل�صقها
قائل ب�سفور« :ح�س ًنا يا حاملة يا غبية ،يبدو بالباب الذي �أغلقته خلفها ً
أنك لن تفهمي �إال بالطريقة ال�صعبة� ،أنا ال �أمل َّيف ال م�ستقبل ،ال �أملك
� ِ
ع
بك لعامل أحملك عليه و�أطري ِ
ذلك احل�صان الأبي�ض الذي تظنني �أين �س� ِ
ك
ِ
79
ُغ َّ�صة حلقه ب�صعوبة قبل �أن ُي ْخ ِر َج الثعلب املاكر وي�ستخدمه معها بي�أ�س
من نف�سه وكل ما يف عقله ،يجب �أن يجعلها تهرب بعيدً ا لتنجو وال يطالها
�أذى �أبدً ا ،حت َّدث �أخ ًريا بنربة و�ضع كل حقارته املا�ضية فيها ،وليزيد من
رعبها منه ،اقرتب ب�شفتيه من وجنتها يتلم�سها بخفة وهو يقول بنعومة
أتقبلك
كنت تريدين املجازفة ،ف�أنا � ِ رجل للزواج و�إن ِ خطرة�« :أنا ل�ست ً
أيتك و�أنا �أقاوم نف�سي ب�أعجوبة
بكل �صدر رحب ،للحقيقة من يوم �أن ر� ِ
أمددك على �سطح هذا املكتب عارية ،و�أدمغك مالب�سك و� ِِ حتى ال �أمزق
منك كل ما �أكاد �أُ َجنُّ لأح�صل عليه».
ع
بي و�آخذ ِ
ش
ملكانتك عندي
ِ مكمل حديثه الفج« :ولكن
والتوزي ر
عر�ضا �آخر� ،شقة يف �أرقى مكان يف البلد ،ر�صيدً ا حمرتم يف أمنحك ً
�س� ِ
ع
نف�سك ل�شهرين كاملني،ِ عليك فعله �أن ت�سلميني
�أحد البنوك ،وكل ما ِ
يديك تفعلني كل تلك املهاترات ال�سخيفة و�أنا �أعدك �س�أترك نف�سي بني ِ
أي�ضا يجب �أن تعلمي �أنها لن تفلح مع ابن حرام �أبدً ا». احلاملة ،ولكن � ً
كادت �أن تنهار� ،أن متوت كمدً ا مبا ت�سمع« :رباه ،هل من املعقول �أنها
�أخط�أت احلكم؟ �إنه حقري فا�سق بالفعل».
ا�ستطاعت بكل ما �أوتيت من قوة �أن تزيحه عنها ،ثم رفعت يدها رغم
الدموع التي ت�شو�ش الر�ؤيا �أمامها وحاولت �صفعه ف�ص َّد يدها �سري ًعا،
عنقك اجلميل وقال من بني �أ�سنانه« :لو كانت و�صلت �إ َّ
يل ،كنت �س�أد ُّق ِ
قبل تلك الكف».
�سحبت يدها منه وهزَّت ر�أ�سها مبرارة قبل �أن ت�ستدير بتخبط وتف َّر
من �أمامه هاربة.
80
حماول �أن يداري الوجع�« :أي وجع يا عمر؟ لقد ً �أ�سبل عمر عينيه
جربت �أي م�شاعر غريه؟»
اعتدته واعتادك ،ومنذ متى َ
رفع هاتفه وهو يقول لأحد رجاله« :لقد خرجت ،ال ترتكها �أبدً ا �إىل �أن
تراها تدلف �إىل منزلها».
q q q
كل ع�ضلة يف ج�سده كانت تئنُّ �أملًا ،حتى �أنه خ�شي �أن ينقلب �إىل جانبه
الآخر تخو ًفا من الوجع القادم ،فتح عينيه بت�ش ُّو�ش للحظات وهو يدرك
ريص ع
�أنه يف غرفته وعلى فرا�شه اخلا�ص ،ال يتذكر متى و�صل �إىل هنا وال كيف
والتوز عي
بينما يتحرك بحر�ص نحو باب ال�شقة كان عقله الذي ال يهمد يح ِّلل
ما حدث له ،يبدو �أنه و�صل للمركز الرئي�س بالفعل ،و�إال ما الذي جعلهم
يخاطرون ويكون رد فعلهم نحوه بكل هذا العنف والق�سوة؟! ب�سبب �س�ؤال
�سطحي تافه ،لقد ذهب بنف�سه ورف�ض �أن يذهب عمرَ ،
خاط َر ليعرف
من خالل رد فعلهم هل هو على الطريق ال�صحيح �أم ال ،ولكنه الآن يندم
قليل جلعل طرف ثالث ي�شرتك يف خمططهم هو �إبراهيم ،بالطبع هو مل ً
يك�شف كل �أوراقه �أمامه ومل يخربه ب�أي معلومات �صريحة ،و�صل �سائد
لباب ال�شقة ،فتحه متوق ًعا ر�ؤية عمر �أو �إبراهيم ،ولكن لده�شته وجد
دجوى هي من تقف �أمامه مرتبكة خائفة ومرتددة ،بدون كلمة واحدة
�ساحما لها ب�أخذ اخلطوة لتخطو �إىل
ً فتح �سائد باب ال�شقة على م�صرعه
عرينه ،من نف�سها.
ابتلعت دجوى ريقها وهي ترفع يدها تزيح �شعرها الق�صري بحلقاته
احللزونية خلف �أذنيها وهي تقول:
81
«�آ�سفة �أزعجتك ،ولكن لقد ر�أيت �سيد عمر يغادر يف ال�صباح الباكر،
و�إبراهيم تبعه بعد قليل ،ففكرت �أنك رمبا حتتاج ل�شيء ما».
تقدمها �سائد �إىل غرفة املعي�شة وهو يقول بهدوء« :ال حتتاجني لتربير
علي».
إنك �أردتِّ االطمئنان َّ دجوى ،ميكن �أن تقويلِ � :
�أخفت دجوى رماد عينيها وهي تتذكر قلقها منذ الأم�س ،مل ت�ستطع
�أن تنام ب�ضع �ساعات وهي تتذكر مظهره املدمى ،قلبها متزق لوعة ع َّما
خمنته عرب جروح ج�سده القدمية ،لقد حاولت �أن تبقى معه ولكن عمر
ع
رف�ض ،و�أخربها �أن تذهب ل�شقتها وميكنها �أن ت�أتي بعد �أن ي�ستفيق،
ر ش
والتوزي
�أنا قلقت عليك بل ارتعبت ،و�أنا �أتخيل كل الأ�سباب التي جتعل �أحدهم
ع
يتعر�ض �إليك هكذا».
مل ير َّد بل انغلق على نف�سه يف عادة يتبعها عندما يريد ،ولكن تلك
النظرة نف�سها التي يت�أملها بها من الأم�س جعلتها ترتبك ،بل وي�شحب
وجهها عندما اقرتب منها يخربها« :ما الذي حت َّرك نحوي دجوى؟ هل
�ساعدك؟»
ِ عقلك الذي ما زال يعتربين ال�شهم الذي هو ِ
جف ،مل ت�ستطع الرد بينما هزَّت ر�أ�سها وهي تبتلع ريقها الذي َّ
حاربت نف�سها �أال تخربه« :ليت الأمر يخ�ص العقلً � ،إذا لهان الأمر ،لو
�أن عقلها هو املتحكم يف م�شاعرها نحوه كانت ا�ستطاعت �أن تتبني ال�سواد
والغمو�ض الذي يحوم حوله ففرت بعيدً ا دون تردد ،ولكنها ت�ستطيع �أخ ًريا
�أن تعرتف لنف�سها تواجهها بقوة �أن قلبها هو من يقودها نحوه ،و�إال فما
�س ُّر انتفا�ضته بل وتقافز دقاته عندما تلمح جمرد طيفه؟! ما �سر �شعورها
بالأمل عندما ترى يف �سواد عينيه عذا ًبا مت�أملًا حائ ًرا؟
82
وهو ما كان ي�ؤرقه �شيء �آخر ،ملم�س يديها وهي تتبع جروحه بوجع
ما�ض
�صدر من كل جزء منها بذبذبات وا�ضحة ،ذكرته بيد �أخرى من ٍ
بعيد كانت تهتم �أن متنحه �شي ًئا ي�صرب قلبه ونف�سه ال�ضائعة ،نف�ض عن
متاما ودون تردد كان ي�أخذ قرا ًرا من نوع �آخر. عقله هذا اخلاطر ً
دجوى الأوىل يف �سل�سلة انتقامه يجب �أن تكون الأوىل ،يجب �أن يح�صل
منها على ما يريده قبل �أن ...
قطع �أفكاره وهو يقرتب منها يخربها مفاج�أ ًة�« :أنا لي�س َّ
لدي �أهل
ع
عاما يف
مثلك ،تغربت خم�سة ع�شر ً دجوى ،ت�ستطيعني القول� :إين يتيم ِ
ر ش
والتوز عي
�أن �أح�صل على �أ�سرة خا�صة بي �أخ ًريا».
كانت تخربه بحرية �شديدة« :ال �أفهم ،ما الذي حتاول قوله؟»
و�صل لها �صوته بعد حلظات �صمت ق�صرية قبل �أن ي�سمح ليديه
أنك
�أن ترفع ذقنها �إليه ،ينظر لرماد عينيها الذابل وهو يقول�« :أعني � ِ
أريدك �أن ُتنهي �أملي كل ًّيا �سري ًعا ودون
متاثليني يف الوحدة وال ُيتْم؛ لذا � ِ
تردد».
مغطى ببع�ض كانت كامل�سحورة وهي تنظر لوجهه الذي رغم �أنه ًّ
ال�ضمادات الطبية ،مل ت�ستطع �أن حتجب تلك ال�صورة التي كانت تداعب
�أحالمها املراهقة وال�شابة ،رجل غام�ض و�سيم الفت للنظر ويبدو �أنه
يحبها ح ًّقا ،هل ت�ستطيع �أن ت�أمل حتى؟
جدا منه وهو يقول« :جازيف وتزوجيني دجوى، �أتاها اجلواب �سري ًعا ًّ
أحتاجك �أنت بالتحديد ولن �أقبل ِ مثلك يف حياتي ،ال بل �ف�أنا �أحتاج المر�أة ِ
ب�سواك امر�أتي».
ِ
83
متاما ،وقعت احلمقاء
ملع رمادها لأول مرة منحته �إجابته املر�ضية ً
يف َ�ش َر ِكه ب�سهوله كفرا�شة غبية جتذبها النار فتندفع نحوها دون تع ُّقل
�أو مت ُّهل وتفكري ،وهو لن يكون �سائد �إن مل ي�ؤذها ح ًّقا ويجعلها تندم على
اليوم الذي ُو ِل َدت به ،ابت�سم بر�ضى وهو ير ِّبت على وجنتها ،لقد �أ�صبح
قاب قو�س �أن يجعل بنت الأكابر عاهرته اخلا�صة.
q q q
ابت�سامة حزينة كانت تزين االلتواء ال�ساخر لفمه وهو ينظر �أمامه
ص ع
لطبق املعجنات املتنوعة ،طرفت عيناه ً
قليل لأنواع اجلبنة املتعددة
القمامة،
ولكن ال يه ُّم ،فما ح�صل عليه من �أجلها اليوم ُي َع ُّد كن ًزا وغنيمة رمبا لن
تتكرر �أبدً ا.
«�آية» ،هم�سها ب�صوت خافت من وراء �أحد ال�سيارات يف �أحد ال�شوارع
العمومية التي �أوقف فيها املعلم حماد حبيبته للت�سول ،فهو منذ �أعلن
حمايته لها و�ضمها �أثناء ارتعابها عندما جاءت بها تلك املر�أة �إجرامية
املالمح ب�شعة الوجه؛ فان�صاع حماد على غري العادة ،وهذا ل�سببني قد
�أدركهم هو الآن عندما �أ�صبح ذئب املعلم حماد الر�سمي منذ �شهور مرت
وهو مل يكمل عمره ال�سابعة ع�شر ،للحقيقة ُي َع ُّد هذا يف قوانني غابتهم
�إعجا ًزا.
84
التفتت له «�آية» مت�سح العرق بطرف مع�صمها املت�سخ عن وجهها
املحمر من ق�سوة �شم�س ال�صيف ،وفور �أن ر�أته؛ �أ�شرقت مالحمها ،اقرتب
لك،
«لدي �شيء ِمنها �سائد وعيناه مت�شط مالحمها املرهقة و�أخربهاَّ :
لك هنا ،ح�سان يراقبنا». ولكن لن �أ�ستطيع منحه ِ
َن َف َرت مالحمها �سري ًعا ،ولكن ب�سيطرة على م�شاعرهم تدربوا عليها
جيدً ا من ِق َبل حماد و�أعوانه حتى ي�ستطيعون �أن يتحكموا يف ردود �أفعالهم
�أمام الب�شر الذين ي�ستميلونهم من �أجل القليل من املال ،عادت �آية
لالبت�سام ب�شحوب وهي ُتخربه�« :س�أتهرب منه و�أحلق بك �إىل مكاننا».
ألك هذا ...عن �سبب جميئي
ل
أنتظرك و�إن �س� ِ
ك
ِ
ر ش
والتوز عي
مل تنظر يف �أثره ،بل عادت على الفور جتري بني ال�سيارات املتوقفة
يف الإ�شارة حتاول بيع ما بني يديها ،عيناها تذرف الدموع� ،صوتها يخرج
متو�سل ب�إذالل« :مناديل يا هامن ،ا�شرتي مني يا �سعادة البيه ،حن على ً
يتيمة مل تذق الطعام منذ يومني».
كالعادة يتجنبها بع�ضهم وي�س ُّبها بع�ضهم ،و�آخرون يعنفونها ويدفعونها
بعيدً ا حتى تقع على الأ�سفلت احلار فيتلهب ج�سدها ال�صغري وك َّفاها من
�أثر عنف ال�ضربة واخلدو�ش وال�شم�س احلارقة.
رحماك يا رب ،هم�ستها �آية بعذاب والقلب يبكي بحرقة وهي ت�شاهد
َمنْ يف عمرها َي ْر َتدُون �أحلى الثياب ،وبالطبع ي�أكلون �أحلى الأطعمة،
وينامون ً
ليل يف �أ�سرة حقيقية و�سط لهفة �أب و�أم.
وقفت �آية وعادت بحرقتها وبكائها للرك�ض بني ال�سيارات ،ولكن هذه
املرة لت�ضليل ال�سافل ح�سان التي تبغ�ضه وتكرهه.
85
تالحقت �أنفا�سها وهي تتوقف �أخ ًريا لتهبط حتت �أحد الكباري،
وهناك عند ما�سورة ال�صرف الكبرية وجدته يجل�س ينتظرها يف خمبئهما
ال�سري ،عيناه ال�سوداوين �شديدتا الب�أ�س منذ طفولته تلمع ببهجة حقيقية
لكنزه ال�صغري ،مل ينتبه جيدً ا لدموعها التي �أخفتها ،بالطبع لقد تع َّود �أن
يرى عينيها املحم َّرتني دائ ًما تبكيان� ،سمعت �صوته يخربها« :اقرتبي،
أي�ضا قطعة لك بعي�ش فينو �ساخن وطازج ،وبع�ض قطع اجلنب ،و� ً لقد �أتيت ِ
ب�سبو�سة للتحلية».
ص ع
رجفة قوية من االمتنان والفرحة اجتاحت ج�سدها ال�صغري قبل �أن
شوهوريقول
ن ل ل ب
وب َّدد �سعادتها�« :سائد� ،سيعاقبك املعلم �إن علم كيف جازفت».
توقف عن احلديث وهو يناولها غنيمته لتبد�أ يف تناول الطعام بنهم ،مل
يكن �أبدً ا نه ًما ل�شيء �ستتذوقه لأول مرة ،بل كان نهم جوع حقيقي علم �أنه
مازحا:
يقر�ص معدتها اخلاوية ،حاول �أن يتجنب حزنهم الدائم و�أخربها ً
«ثم َمنْ �سيخربه؟! �إنه �سرنا ال�صغري� ،سندفنه هنا كالعديد منها».
ابت�سمت له مرتع�شة ودموعها تنزل مدرا ًرا؛ فعب�س ب�شدة وهو ينهرها
علموك هذه الأفعال من �أجل �أن حتنني
ِ ً
قائل« :توقفي عن البكاء ،لقد
قلوب النا�س فقط».
دفنت �آية نف�سها عنو ًة يف �صدره وهي تخربه ب�صوت مريرَ :
«ومنْ
�أخربك �أنها دموع متا�سيح �أو ا�ستعطاف يا �سائد؟ قد يعتقد اجلميع �أننا
86
جنيد ال ُبكاء من �أجل �شحاذة بع�ض املال �أو حتى الفتات ،ولكنهم ال يعلمون
-ال بل يغفلون � -أنها دموع الأمل والقلب والك�سر واجلوع واحلرمان».
�أغلق جفناه ب�شدة و�ضمها �إليه بت�شدد م�صد ًقا على كل حرف نطقت
به.
عاد من ذكراها وفتح جفنيه على ات�ساعهم ،وقف بحدة من كر�سيه
وقد فقد �شهيته لكل �شيء ،هم�س ب�أنني قلب مليء بالندوب�« :أتظنني �أين
لعلك
وعيناك املقهورة وهي تنظر لكل املارة ِ
ِ أملك
وجعك و� ِ
غافل عن ِ كنت ً
ع
ينت�شلك ،كنت �أعلم حبيبتي،
ِ خطفوك منه لعله
ِ والدك الذي
جتدين وجه ِ
ع
امتع�ض عمر وهو يخربه« :كان هذا تخطيطك منذ البداية ،ال تتذمر
الآن ،كالنا يعرف دوره ولكني بد�أت �أ�شعر بال�شفقة على مالمح �إبراهيم».
ابت�سم �سائد وهو يقول :كلما تذكرت مالمح الرجل عندما �شاهدين
بعدما ا�ستطعت الهرب من املعتدين ،و� ِأ�صل لل�سيارة التي كانت تقف بعيد
جدًّا عن ذلك احلي ،ح ًّقا نظرة اجلهل مع احلنق التي ارت�سمت طواعية
تثري ال�ضحك».
بال مباالة ظاهرية قال عمر« :وما الذي منعك لت�ضحك؟ ِ َ
ول ال توفر
تلك ال�شفقة ملن ت�ستحقها حقيقة منك؟»
حمذرة؛ جعلت عمرالنظرة التي منحها له �سائد مع التفاتة عنيفة ِّ
يتن َّهد بتعب وي�صمت رمبا لن يفعل �شي ًئا ليوقفه ،ولكنه بالت�أكيد لن
ي�شارك يف اللعبة.
88
منذ �أن خ�ص�ص له فهمي النجار �إحدى الغرف يف م�شفاه وهو يلتزم
املراوغة التامة ،ير�سم وج ًها هاد ًئا عمل ًّيا ً
متاما وال ي�س�أل �إال ع َّما يخ�ص
جانبه من ال�صفقة التي ا�ستطاع هو و�سائد �إغراء الرجل بها عرب
مرا�سلته من اخلارج منذ عام م�ضى ،فالرجل رغم قذارته وذكائه �إال �أن
اجل�شع �أعماه عن البحث وراءه� ،أو رمبا �س�أل عنهم بالفعل ولكن خطواتهم
املنظمة منحت الرجل املعلومات التي يريدونها.
خرج عمر من مكتبه ليتفقد امل�شفى وغرفه الفارهة ،امل�شفى الذي
ببدو للجميع مكا ًنا للرحمة والعالج ،ولكنه ا�ستطاع �أن يجمع بع�ض
والتوز عي
و�آمنة� ،أ ًّيا كان امل�صدر طاملا �أنهم �سيمنحون عم ًرا �آخر وفر�صة �أخرى
فليحرتق اجلميع).
توح�شت مالحمه للحظة واحدة ليعاود ال�سيطرة عليها مبهارة عندما
ا�ستوقفته �سمر مديرة مكتب فهمي النجار تخربه بدالل�« :أي م�ساعدة
�سيد عمر ،نحن يف خدمتك».
طفل يحتاج بلهجة �صارمة �أخربها عمر« :هل �ستتبعينني كث ًريا؟ ل�ست ً
لعونك ،ما �أريده �س�أح�صل عليه بنف�سي».
ِ
عادت �سمر تقول بنربة خافتة ناعمة وعيناها الفجة تتفح�صه بدعوة
�صريحة للإعجاب�« :أنا �أريد م�ساعدتك فقط� ،أنت هنا كما �أعلم �شريك
بالتوريدات اجلديدة للم�شفى من م�ستلزمات طبية ،و�أعرف �أنك تريد �أن
تطمئن على مال �شركتك؛ لذا بالت�أكيد �أنت لن ت�ستوعب كل �شيء يدور
بامل�شفى».
89
قاطعها بهدوء وهو يقول بب�ساطة متالعبة�« :أحوالكم الطبية وما يدور
ال تعنيني ،ولكن بالت�أكيد �أريد �أن �أعلم مدى ر�ضى املر�ضى عندكم وكم
عددهم ،نحن لن نرمي �أموالنا هبا ًء».
ام ُت ِق َع وجه �سمر كل ًّيا وتلجلجت يف احلديث ،فت�أكد �أن كالمه و�صل
الهدف مبا�شر ًة« :العدد لي�س حمددًا �سيد عمر ،كما �أن الأجهزة التي
توردها بالت�أكيد لي�س لها عالقة باملر�ضى املتواجدين».
ابت�سم عمر بانت�صار لذلة املر�أة ،فدون �أن تدري اعرتفت �ضمن ًّيا مبا
ع
ي�شك فيه منذ البداية� ،إذ �إن �أرباح امل�شفى العالية ب�شكل غري معقول ،لن
والتوزي ر
قالته ،تركها عمر دون املزيد من التعليقات و�أخربها« :لقد تذكرت �شي ًئا
ع
�أهم الآن� ،س�أتفقد امل�شفى يف وقت الحق� ،إىل اللقاء يا �سمر اجلميلة».
التعليق املجامل جعل الأنثى بداخلها تعود لالبت�سام املتغنج يف وجهه،
ف�ضربت معدته بالنفور وغادر مت�صلب املالمح.
يعلم �أن مالحمه جذابة ب�شكل ملعون ،فحتى �أطفال ال�شوارع من
يوما ،رمبا هو حاقد على جن�س حواء الذكور مل ُي ْرحموا من اال�ستغالل ً
ب�شدة ،ولكن مل يكن ال�سبب فقط تلك املر�أة اخلاطئة التي تركته يف �أكوام
القمامة ،ولكن كل امر�أة غانية ا�ستغلته مقابل ب�ضعة جنيهات ،اق�شع َّر
يوما ما كان يف الثانية ع�شرة من عمره ج�سد عمر بتزايد كريه وهو يتذكر ً
جمرد طفل �شوارع عفن املالب�س والرائحة نائ ًما على �أحد الأر�صفة،
متاما للمر�أة التي تقودها،
فوقفت بجانبه �سيارة �صفراء اللون مماثلة ً
مل ت�أخذ الكثري من الوقت لتقنعه بال�صعود معها مقابل وجبة د�سمة
�ستمنحها له ،ومبعدة طفل جائع ،وعقل فتى مل يدرك �سبب هذا العطف
90
وقع فري�سة لأنثى متاثل احل�شرات قذارة ،جردته من مالب�سه بالكر�سي
اخللفي لل�سيارة ،و�أفرغت فيه كل جنا�ستها و�أدخلته عاملًا رمبا كان ي�سمع
عنه بفجاجة ب�سبب تلك الغابة التي ن�ش�أ فيها ،ولكنه مل يقرتب منه قط،
ومن هنا كانت البداية ف�أ�صبح كحيوان �صغري ال ي�شبع كلما احتك ج�سده
ب�إحداهنَّ ميار�س معها.
�سيطر على موجة قيء ب�صعوبة ،وهو يهم�س ب�أمل متذك ًرا وج ًها
مالئك ًّيا طاه ًرا نظي ًفا« :ت ًّبا رابحة ،لقد غ�صتُ يف الوحل كما لن يتخيل
يوما ،ولكني �أبدً ا مل �أقرتب من �أنثى طاهرة و�ألوثها بي ،بل عقلك الربيء ً
ِ
ب
ف�ضلك ،لو�لس�أح�ضر يف املوعد». ت ك ل
ن
q q q
على وظيفة جيدة براتب حمرتم ،لت�ستطيع �أن ت�س َّد الفجوة التي ع
�ستحدث
قامت م�ضن
ٍ بحث ر�سالة ن�صية ب�سيطة �أر�سلتها رابحة ،بعد
بعد �أن تركت العمل يف �شركة عمر ،عمر ا�سم حروفه �سهلة وتذكرها جلب
الأنني واحلنني والوجع ،لقد ك�سر قلبها حرف ًّيا بفعلته وبكالمه الب�شع
وبعر�ضه املنحط؛ ليجعلها تت�ساءلَ :منْ عمر حقيقة؟ وهل ً
فعل عقلها
الأحمق منحها ال�صورة اخلاطئة عنه؟ دون �إرادة منها عادت دموعها
للتدفقَ ِ ،ل قطع عليهم ب�أحكامه القاطعة وفجاجة عر�ضه ب�أن ال �شيء
من املمكن �أن يكون بينهم؟ رمبا وقتها �ص َّدقته من ال�صدمة ،ولكن قلبها
الأحمق كما لقبه منحه العذر ،بل �أجزم �أنه كان ُيبعدها عنه ،يجافيها
متعمدً ا و�إال ما قام ب�إغوائها من البداية ،عادت تهم�س ب�أنني متح�شرج« :ال
رب ال حتملني ما ال طاقة يل به ،الطف بي يا رب».حول وال قوة �إال باهللِّ ،
91
ق�صي التي ال ترتكها ،يعلم �أن حزن قليل لعني ٍّ خرج �صوتها عال ًيا ً
�أخته وتركها للعمل ب�صورة مفاجئة وراءه �سر كبري حتى عمر �أ�صبح ال
يتلقى �أ ًّيا من مكاملاته� ،سمع �صوت حا�سوب رابحة يعلن عن و�صول ر�سالة
مل ي�ستطع بالطبع �أن يعرف فحواها فاقرتب بحر�ص يلتقط احلروف
أخربتك
ِ ملوافقتك وكما �
ِ الب�سيطة املرتا�صة« :مرح ًبا �آن�سة رابحة� ،سعيد
�أول مرتب �ستح�صلني عليه فور �أن تقومي ب�إم�ضاء عقد العمل ،ومكان
املقابلة لتطمئني يف «مول »...يف املدينة اجلديدة ،واملوعد غدً ا يف
مثلك
الرابعة� ،سيكون هناك جت ُّمع �أمام «حمل »...لأن هناك فتيات ِ
ريص ع
�سي�أتني للعمل ،وبعدها �سنبلغكنَّ باملقر العام لل�شركة».
ع
لق�صي بهدوء تخربه: ٍّ كفكفت رابحة دمعها �سري ًعا ،ثم ا�ستدارت
ول ال �أذهب؟ �إنه طريقة على؟! ِ َ
«ق�صي ،ماذا هناك؟ كيف تتج�س�س َّ ُّ
عر�ض للوظائف جديدة ال �أكرث».
نف�سا عمي ًقا قبل �أن يقول بحدة�« :أي عر�ض بحق اهلل؟ هل ق�صي ً�أخذ ٌّ
�أنت �صغرية ِغ َّرة ال تفهم تلك الأالعيب املبتكرة؟ �أمل تقر�أي �أي من�شورات
حمذرة على موقع التوا�صل االجتماعي عن طرق خطف الفتيات؟»
مل تكن رابحة يف حالة نف�سية ت�سمح لها باملجادلة ف�ش َّوحت بيديها
«ق�صيُ ،ك َّف عن خياالتك ،تلك املن�شورات ما هي �إال ُّ وهي تقول بع�صبية:
نظام جلب الأنظار ال �أكرث ،ال�شركة حمرتمة ولها ا�سم ووزن يف ال�سوق،
كما �أن النا�س حري�صون ،و�أول مقابلة يف مكان عام».
ق�صي وهو ينطر لها حائ ًرا يعلم كيفية تفكري عقلية رابحة ٌّ َق َّط َب
املندفعة والتي ت�سعى للو�صول ب�أي طريقة ملال يريحهم هو و�أمه املري�ضة
92
من �أجل توفري العالج ،تن َّهد ً
قائل وهو ينحني ومي�سك بك َّفيها« :رابحة
أرجوك ال تذهبي ،اكتفي بتلك الوظيفة كعاملة يف حمل املالب�س ،و�أنا
� ِ
�س�أبحث عن �أي وظيفة بعد املدر�سة و�سنتعاون حبيبتي ،ولكن ال تفعلي
�شي ًئا نندم عليه� ،أنا قلق ِ
عليك».
ق�صي بحنان ،التغري
عادت دموع رابحة متلأ عينيها وهي مت�سك وجه ٍّ
الكبري الذي طر�أ على �أخيها ُيده�شها ،ماذا فعل به الآخر ليجعل حبيبها
ال�صغري يعود كما كان عليه قبل �أن َي ْح ِر َفه به رفقاء ال�سوء؟
ص ع
�أخربته برتابة« :لن �أرف�ض �أن تعمل لت�ساعد نف�سك ،و�أعلم �أنك حتتاج
ريص ع
يدللني �أكرث من الالزم».
ع
زلت �صامدة ،مل تنهاري وهذا ال ُينبئ �أبدً ا عن �سنوات ،وكما �أرى ما ِ
�شخ�صية مدللة �أو �ضعيفة دجوى؟»
�شردت عينا دجوى وال�صمت ل َّفها كل ًّياَ ،ب َد ْت بعيدة كل البعد عن تلك
ال�شخ�صية الهادئة احلزينة ،بل تلك امل�شاعر التي تعاقبت مت�ضامنة على
وجهها ،جعلت العجب يت�سلل �إليه هذه املرة ،نفور ووجع و�إحباط وعدم
ت�صديق مل يعرف موج ًها ملن ،ثم ما لبثت �أن قطعت ال�صمت �أخ ًريا
قائلة بوجوم« :ال �شيء يبقى على حاله يا �سائد ،احلياة قا�سية عنيفة،
تك�شفت جعلت جز ًءا منك مل تعرف بوجوده وهو وبع�ض احلقائق التي َّ
خمتف ومندثر بداخلك ي�سارع للخروج ،يغرز خمالبه يف �أي �شيء كرد ٍ
فعل تلقائي حلمايتك من �ضعف نف�سك � ًأول قبل غيالن الب�شر التي ت�سارع
للتفاو�ض ونه�ش حلمك؛ لذا رغم كل الرتف والدالل الذي كنت فيه خرج
جزئي اخلفي يدفعني لال�ستمرار دون �أن �أ�سقط».
94
ال يعلم ما �سر تلك املوجة من الن�صر التي اجتاحته ،ملعت عيناه
ال�سوداوين وهو ينظر لتوهج الرماد يف عينيها ،هذا ما يريده حتديدً ا
منها ،القوة املقاومة ،كره احل�ضي�ض الذي �سيغرقها به ،يف الواقع هو ال
يريد �أبدً ا لطعم انتقامه �أن يخفت �سري ًعا عندما تنهار من �أول �صفعة �أو
ثانيها ،بل يريدها �شر�سة تقاومه ،جتابهه حتى ي�ستنفدها لآخر قطرة،
وعندها فقط �سي�شعر �أنه مل يتحامل على نف�سه ليتوا�صل معها و�أنه
ي�ستحق ،طعم الن�صر واالنتقام ال ي�شبع الروح �إال عندما تكون الفري�سة
وح�ش غابة مثله ،ولكن ِ َل ي�شعر �أن ابنة غ�سان الها�شم تخفي �أكرث مماَ
ص ع
تظهر؟
عر�ضععليها
أمانها ولكنها مبهمة ،وخميفة رغم � �أبدً ا ،ما زال �سائد بالن�سبة لها منطقة
الزواج مل مينحها حتى الفر�صة للتفكري ،بل �أخذها على حني ِغ َّرة ،ي�سابق
الزمن لإجناز كل �شيء ليكون زفافهم يف �أقرب فر�صة ،بالطبع مل يقوموا
بخطبة ،بل منحها مبل ًغا جيدً ا من املال و�أخربها �أن ت�شرتي ما تريد
«ك�شبكة لها وبع�ض م�ستلزمات الزواج»� ،سمعت �صوته يخربها ب�صرامة
لديك الكثري من العمل،تع َّودت على �سماعها منه�« :أنهي َط َع ِامك ،ما زال ِ
والتجهيز للزفاف بعد يومني».
تو َّرد وجه دجوى ور�أ�سها ينخف�ض تنظر ليدها التي ت�شابكت بتوتر من
حتت املائدة فان�سدل �شعرها الأ�سود الق�صري يغطي مالحمها وهي تقول
بخفوت« :لقد �أنهيت �شراء كل ما �أحتاجه بالأم�س».
أح�ست بيديه مت�سك بطرف ذقنها ،رفع وجهها �إليه لتواجهه وهو يقول � َّ
95
ينق�صك �شيء دجوى �أي
ِ مداع ًبا يتالعب على �أوتار �أنوثتها« :ال �أريد �أن
أريدك �أن حت�صلني على كل �شيء م�ضاعف». �شيء ،بل � ِ
ابت�سمت وهي تهز ر�أ�سها بالإيجاب ،متتمت بهم�س ناعم �شاكرة �إياه،
فناظ َر َها مرغ ًما وهو يقول بخفوت« :كيف غفل ملح دموع تغرق عيناها َ
بك حتى الآن؟! �أنت جميلة عنك دجوى ومل ُيق ِْد ْم على االرتباط ِ�أي رجل ِ
جدا».
ًّ
َع َّ�ضت دجوى على �شفتيها برقة وفتحت فمها تنوي �أن ترد ،ولكن
ع
قاطعها وجهه الذي ت�صلب يف احلال وهو ينتف�ض من جمل�سه ينظر
ر ش
والتوزي
هزت دجوى ر�أ�سها موافقة وهي تراقبه يقطع ال�سالمل الأربعة التي
ع
ترفع املطعم عن ال�شارع ،ثم يتوجه �إىل امر�أة تهرول هنا وهناك �صارخ ًة
ب�أمل ُيزق قلوب كل من ي�سمعها« :ابنتي ،ابنتي �سلمى يا عامل ،كانت معي
كنت �أت�شبث بها يف يدي».
ت�صرخ املر�أة واجلموع حتت�شد حولها ،بع�ضهم عاجز عن فعل �شيء،
بكف حمت�س ًبا داع ًيا لها ب�إيجادها ،والبع�ض الآخر والبع�ض ي�ضرب ك ًّفا ٍّ
يتهمها بالإهمال ،واملجموعة الأكرب تبحث هنا وهناك لعلهم يجدونها،
تق َّدم �سائد من تلك املر�أة بهدوء غريب و�س�ألها مبا�شر ًة خمت�ص ًرا
مقت�ض ًبا« :متى اختفت الفتاة حتديدً ا؟ و�أين بال�ضبط؟ فهذا �سيفيدنا
لتحديد خطواتنا ».رم�شت املر�أة بعينيها حتاول ا�ستيعاب ما يقول ،ثم
هتفت بتو�سل مت�ضرع ع�شوائي:
«هنا ،فقدتها هنا ،ال �أعرف متى ،فقط كنا ن�سري �أنا وهي �أمت�سك
بها جيدً ا وفج�أة ظهر �أحد ال�سمجني وقام بالتحر�ش بي حتى ا�ستفزَّين،
96
وعندما نهرته ل ِف ْعلته وقف يف ال�شارع وافتعل �شجا ًرا معي ،وجت َّمع �أنا�س
ُكرث ،ثم اختفى هو مرة واحدة وعندما ُّ
التفت مل �أجدها».
تبدلت مالمح �سائد كل ًيا يف حلظة ،و�أخذ وجهه يف ال�شحوب حتى
كلوح �أبي�ض من الرخام ،ورغم �سيطرته على �أع�صابه وجموده �أ�صبح ٍ
ولكنه مل ي�ستطع منع �شعوره بتلك ال ُغ َّ�صة التي زادت ً
�ضغطا على قلبه
ك�شفرة �سكني حاد تنحره نح ًرا« :ت ًّبا ،لقد ُخ ِط َفت الفتاة بحيلة جديدة
مدبرةَ ،منْ يلوم ومن ُيتَّهم ،لقد �أ�صبح وحو�ش الب�شر بارعني يف ا�صطياد
فرائ�سهم.
والتوز عي
نف�سها يف �شبكة عنكبوت جيدة الإحكام واجلذب ،كانت رابحة يف طريقها
�إىل املكان املتفق عليه ،تقطع خطواتها يف املول ال�ضخم �سري ًعا تبحث
عن ا�سم املكان الذي ُم ِن َح لها ،ع َّلها جتد ذلك التجمع الذي �أ�شاروا �إليه،
مل ت�أخذ الكثري من الوقت وهي تهتف ب�سعادة �إجنازها عندما وجدتهم
كما و�صفوا �أنف�سهم بال�ضبط ،اقرتبت من التجمع ال�صغري رجل مبالمح
وب�سمة ناعمة وجتاوره فتاة �شديدة الأناقة ت�ضم بع�ض امللفات على
أي�ضا فتاتان �أخرتان �صدرها ،مظهرهم �شديد الرتف والنزاهة ،وهناك � ً
يبدو �أنهنَّ �أتني لنف�س �أ�سبابها ،فور �أن تقدمت رابحة من الرجلُ ،ت َع ِّرف
عن نف�سها منحتها املر�أة ا�ستمارة و�أخربتها�« :آن�سة رابحة ،ا�سرتيحي
على هذا املقعد و�ضعي بياناتك».
�سحبت الأوراق بحما�س وجل�ست كما �أخربوها وانهمكت متلأ
الفراغات ،وبعد دقائق قليلة مل تعلم حتديدً ا �سر الهرج واملرج الذي َق َل َب
املول كله يف حلظة ،البع�ض يثري �شجا ًرا والبع�ض يقدِّ م �أغنية ارجتالية،
97
و�آخرون ي�شتبكون مع بع�ضهم ،واقرتب منها من اخللف واح ٌد �آخر وقبل
�أن تلتفت �أو ُتبدي رد فعل ،ثم كان ال �شيء.
q q q
«ما الذي تقوله يا غبي؟ لقد �أمرتك �أن تكون حتت مراقبتك كل
حلظة».
هتفها عمر بع�صبية فاقدً ا كل �أع�صابه بوجه جامد ا�ستحال لل�سواد
والرعب ،رعب مل ي�شعر به عمر قط منذ �أن �أجربوه على �إدمان املخدرات،
ريص ع
ثم وقوفه على �شفا حفرة من املوت �أو القتل ،رعب مل ي�ست�شعره �أبدً ا رغم
ع والتوزي
يتعدون عليها ثم يخرجون ،توقف عقل عمر عن التذكر يبتلع ريقه
تتوح�ش مع �ضيق عينيه والتواء فمه بق�سوة ،ودون تردد بارتياب ،ونظراته َّ
كان يهرع �إىل اخلارج متوج ًها �إىل املكان الذي �أخربه عن حار�سه ،وقال:
�إنه فقد رابحة فيه ،مل ي�صل عمر �إىل باب املقر ،وملح �سائد يهبط من
متاما ،مل يهتم ولأول مرة مل يهتم مبا ي�شعر �سيارته بوجه غري مف�سر ً
�سائد هذه اللحظة� ،أن ت�ضحي بروحك النقية التي وجدتها حم�ض �صدفة
من �أجل �أال تلوثها ثم بب�ساطة هكذا ي�أخذونها منك� ،أمر يفوق احتماله
واحتمال �أي ب�شر ،مل يكد ي�صل �إىل �سيارته حتت هتاف �سائد ال�صارم
با�سمه �إال وعاجلته على غفلة منه ،لكمة يف منت�صف وجهه رمبا مل ت�س ِّبب
له ال�ضرر ولكن َمنْ وجهها كان غا�ض ًبا ثائ ًرا ومرتع ًبا ،تو َّقف امل�شهد بهم
على الفور مل يجر�ؤ �أحد على االقرتاب من الفتى �أو التحدث واالعرتا�ض
على تعديه ،بل قطعه مهاجمه بنف�سه ي�ضربه على �صدره بوح�شية وتخبط،
وقد بدا فاقدً ا ل�سيطرته ي�صرخ بفجيعته« :اللعنة َ
عليك� ،أنت ال�سبب� ،أنت
98
َمنْ تخليت عنا� ،أنا �أخربتها �أال تذهب وهي مل ت�ستمع يل كعادتها ،لقد
ر�أيتهم يخرجون بها من باب خلفي خمدرة يا عمر �أخذوها ومل �أ�ستطع
فعل �شيء».
يوما ،احت�ضن
ثبته عمر بجمود وب�آلية ثم قام ب�آخر �أمر كان يتوقعه ً
ق�ص ًّيا ب�شدة ودون �أي ت�صريح كان يخربه مبا�شر ًة�« :س�أجدها ،حتى لو
هدمت كل جحورهم و�أزلتها بيدي حج ًرا حج ًرا �س�أعرث عليها».
q q q
ص ع
ً بهدوء م�سيطر كان �سائد ي�ستجوب ُق َ�ص ًّيا عن كل ما ر�آه
ري
تف�صيل منذ
بل
ٌّ
والتوز عي
طول وقوة ج�سمانية رجل �ضخم اجلثة ،يتفوق عن عمر ً يراه لأول مرة ً
ملحوظة ،وجوه خميفة و�صوته �صارم حازم يجربك على ال�سيطرة على
�صي الرجل ال مياثل عمر الطيب �أبدً ا ،ابتلع ذاتك تلقائ ًّيا ،مل يجبه ُق ٌّ
�صي ريقه اجلاف قبل �أن يجيبه على �آخر �أ�سئلته: ُق ٌّ
متاما للطريقة؛ «كما �أخربتك عندما �صمتت على املو�ضوع ،مل �أرحت ً
متاما؛
لأين قر�أت حوادث م�شابهة على الإنرتنت تختفي بعدها الفتاة ً
لذا �أخذت قراري باتباعها ،ا�س َت َع ْرتُ العجلة البخارية من �أحد �أبناء
احلارة وتتبعتها ،وعندها حدث الهرج الذي من الوا�ضح �أنه مفتعل ،كنت
جدا فر�أيت ثالثة رجال مت�ضامنني يكتمون �أنفا�س الفتيات، قري ًبا منها ًّ
ثم ي�سحبوهنَّ �إىل داخل �أحد حمالت املالب�س التي كانت مكان اللقاء،
مهرول �أحاول �أن �أعرف موقعه من اخلارج ومل يت�أخروا كث ًريا �إذاً خرجت
ُف ِت َح �أحد الأبواب اجلرارة وخرجت منها عربة معتمة فاتبعتهم من بعيد،
ثم �أتيت �إليه».
99
�أنهى حديثه وهو ي�شري �إىل عمر ،فاقرتب منه �سائد وخبط على كتفه
وهو يقول« :خ ًريا فعلت يا بطل ،وحدك كنت �ست�صبح جمرد فري�سة
�أخرى ،والآن �سنتحرك جمي ًعا ولكن �سنعتمد عليك لنعرف املكان».
تدخل �إبراهيم وهو يخرب �سائد بقوة�« :سيد �سائد ،هذه الأمور ال هنا َّ
تتم هكذا ،يجب �أن نبلغ ال�شرطة».
حترك �سائد ناحية بع�ض الأدوات املو�ضوعة على طاولة ،فخلع
بنطال ممز ًقا من اجلينز يعلوه قمي�ص مالب�سه الفخمة برتابة ثم ارتدى ً
ع
�أ�سود ال يغلق منه �إال زرين ،ثم التقط �سل�سلة حديدية «جنزير» ول َّفها على
ر ش
والتوزي
لوحو�شها ،لن ننتظر ب�شر ًّيا لي�أتي بحقوقنا ،البقاء للمفرت�س الذي يربح
ع
وي�سرتجع �أمالكه بيديه ،و�إال �سن�صبح جمي ًعا �أ�سرى لدى ب�شري ال ميلك
رحمة وال ً
عدل».
للحظات متلكت �إبراهيم الده�شة من كلمات �سائد الفا�صلة ،حاول
جمادلته ورف�ض طريقته ،ولكنه �صمت عندما راقب عمر يحذو حذوه
ويتبعه رجاله.
ترجل عمر -يتبعه �سائد و�إبراهيم -من �سيارة الدفع الرباعية َّ
ق�صي عندما تتبعاخلا�صة ،التي جاءوا بها يتبعون الطريق الذي و�صفه ٌّ
اخلاطفني من بعيد ،توقفت ال�سيارة على ُب ْعد ،كان الظالم قد خ َّيم على
حتركهم البطيء املتخفي يتتبعون بع�ضهم يف خط م�ستقيم بانتظام،
ا�ستطاع �إبراهيم بنظرة ع�سكرية ب�سيطة �أن يتفح�ص املكان بعني ثاقبة
عندما قال« :النقطة اجليدة لنا �أن ذلك املنزل من دور واحد ،ن�ستطيع
ت�سلق جدرانه ب�سهولة».
100
ق َّيم �سائد ما قاله �إبراهيم وهو ينظر للمنزل ال�صغري و�سط منطقة
مهجورة على �أطراف العا�صمة ،يبدو �أن الع�صابة ال تهتم كث ًريا مبراعاته،
بل رمبا هو جمرد مرحلة حتى ُت ْن َق َل ب�ضاعتهم ملكان �أف�ضل.
خمططا« :النقطة اجليدة � ً
أي�ضا �أنه ال ً هم�س �سائد لرجاله بحزم
يتواجد كثري من احلر�س ،جمرد اثنان من ال�سهل ال�سيطرة عليهم ،ولكن
حتى ن�صل بالداخل يجب �أن نح�سب كل خطوة نخطوها؛ لأننا بالت�أكيد ال
نعرف ماذا ينتظرنا».
ع
تدخل �إبراهيم« :م�سموح لنا بالتعامل بالأعرية النارية التي ت�ؤذي وال َّ
ش
تدخل عمر وهو يقول بوجه �شر�س عنيف« :لو �أن �أحدهم
ع
دقيقة واحدة كان الرجل ُم ْل ًقى على الأر�ض غار ًقا يف دمائه.
ع والتوزي
�سائد وعمر �أو رمبا يعرفان ،وال يتحدث �أحدهم �إال يف الوقت املنا�سب
كما تع َّود ،رغم تركيزه اجللل على �ساحة معركتهم ،ولكنه مل ي�ستطع �أن
يتجنب طريقة الرجلني يف القتال والتي تف�صح بالكثري ،وك�أنهم عا�شوا
ن�صف حياتهم كبلطجية ،ثم ط َّورا من مهارتهم القتالية.
q q q
ا�ستفاقت رابحة لتجد نف�سها يف غرفة مطلية بلون رمادي� ،أو رمبا
ال توجد الألوان من الأ�سا�س ،بل جمرد غرفة قذرة عفنة الرائحة باهتة
وجل �أخذ يف الت�سارع ب�شكل
و�أر�ض مت�سخة ،فتحت عيناها برعب وقلب ِ
جمنون ،وجدت بجانبها فتاة �أخرى ،ولكن لي�ست ممن ر�أتهم يف املول،
اقرتبت الفتاة من رابحة تخربها هام�س ًة ب�أنفا�س ثقيلة ونظرات �شاردة
وجهك يف احلال،
ِ متنحها �شي ًئا ما وهي تقول�« :ش ِّوهي �أي جزء من
جرحا غائ ًرا».
احر�صي �أن يكون ً
102
ابي�ض وجه رابحة وهربت منها الدماء وهي تقول بذعر« :ماذا َّ
تقولني؟»
حت�شرج �صوت الفتاة الهام�سة وهي ت�شري لوجنتها التي تنزف الدماء
تخربها بتالحق« :ال ت�س�أيل ،لقد وقعنا يف �أيدي جتار الرقيق الأبي�ض
يتاجرون بنا بعد �أن ُي ْح ِكموا الفخ لإيقاعنا ،وت�شويه نف�سك هكذا ُتتلفني
ب�ضاعتهم».
كانت دموع رابحة ُتغرق وجهها وعقلها امل�شو�ش ال ي�ستوعب ما يحدث
ع
حولها�« :إنه جمرد كابو�س ،ما حتياه جمرد حلم �سيئ ،هلو�سات لي�س
ر ش
والتوز عي
عنك».
م�ستحيل� ،أنت �آمنة واخلطر بعيد ِ
�أ�شفقت الفتاة عليها ،فقالت بنربة متوجعة منحورة مهانة« :كنت
مثلك �أول مرة مل �أ�صدق �إىل �أن مت بيعي ،وحظي كان يف �أحد الأثرياء ِ
مل مني �أعادين �إليهم لي�ستبدلني القذرين ال�شواذ يف هذا البلد ،وعندما َّ
ب�أخرى».
�صمتت الفتاة ،ثم قالت �أمره ب�سيطرة�« :أ ًّيا ما كان �سيحدث لنا معهم
أنت مغت�صبة و ُت ْن َت َهكي
موت وخ�سارة ،ولكن ال �شيء �أبدً ا مياثل �أن متوتني و� ِ
و ُت َباعي يف �سوق النخا�سة؛ لذا االختيار الآخر هو احلل».
كانت رابحة ت�شعر بالفزع اجلزع والرعب حتى حت َّول ج�سدها لكتلة
جليدية �شديدة الربود عندما قالت برهبة�« :أي اختيار �آخر؟!»
اهتزت ع�ضلة واحدة يف فم الفتاة لكنها مل َت ُر َّد ،بدت ك�أنها فقدت
حتى الأحا�سي�س الب�شرية� ،أ�صبحت جمرد لوحة جميلة خالية الروح،
متاما ليدها التي حتفر يف وجهها بالأداة مقتولة النظرات ،م�ست�سلمة ً
103
احلادة دون �أن َي ِر َّف لها جفن ،انتهت �أنفا�س رابحة حرف ًّيا ،ت�ستن�شق
كاف� ،أزاحت عينيها الهواء ب�صعوبة ك�أن الغرفة مل يعد بها �أوك�سجني ٍ
ب�صعوبة عن الفتاة امليتة وهي على قيد احلياة ،ليلفت نظرها ج�سدً ا
�صغ ًريا بف�ستان وردي مبهرج ينكم�ش يف ركن من احلائط ،فلم ت�ستطع �أن
تتبينه يف ظالم الغرفة حينما كانت تتحدث مع الفتاة املحطمة ،زحفت
رابحة على ركبتيها ،تقرتب من ال�صغرية دموعها ال تتوقف ،ت�ض ُّرعها �إىل
ً
مرتع�شا ككل ما فيها ،وهي ت�صل للفتاة �أخ ًريا اهلل ال ين�ضب ،خرج �صوتها
ت�ضمها �إىل �صدرها دون تردد وهي تقول:
ل
الض َوأنت أ ْرح ُم
ت ك
«ب�سم اهلل الرحمن الرحيم ﴿وأيوب إِذ نادى ربه أن مس ِن
ش
ض َوآتيناهُ أهله َومِثلهم معه ْم َرحة من احِني فاستجبنا لُ فكشفنا ما ب ِ ِه مِن َّ
ر
الر ِ
ت ل
بخوفووما
زيزالت ا و
عِندِنَا َوذ ِْك َرى ل ِلْ َعابد َ
ع
ِين﴾ �صدق اهلل العظيم». ِ
�ضمت الفتاة ال�صغرية املرتعبة التي مت�سكت فيها
رابحة م�ش َّو�شة رغم رهبتها م�صدومة ،رغم ا�ستيعابها للفخ الذي وقعت
فيه ،رباه ال ُت ِّملني ما ال طاقة يل به ،نظرت للفتاة تتمتم بذهول« :حتى
الطفلة ،ماذا قد يفعلون بطفلة �إن كانوا جتار �أعرا�ض كما �أخربتها الفتاة
امل�شبوهة؟!»
�سمعت رابحة �صوت هرج يدور خلف الباب املو�صد ،فرتاجعت خائفة
تنتظر املحتوم.
تغريت خطتهم عندما داروا حول املنزل ليجدوا �شبا ًكا زجاج ًّيا
منخف�ضا ،فتعلق به عمر � ًأول وهو يخرج « ُم ْد َية» من جيبه ،فتحها وو�ضعها
ً
بني �أ�سنانه ،ثم بحركة مكتومة كان يك�سر الزجاج ويفتح النافذة يدفع
ج�سده � ًأول للداخل ،هبط على الأر�ض ً
جال�سا القرف�صاء ،تفح�ص املكان
104
ً
مطبخا �صغ ًريا وخال ًيا منهم ،بحذر � ًأول فعلم �أنه يف منطقه ما ي�شبه
فتح النافذ على مت�سعها ي�سمح للبقية باتباعه تتبعه بع�ضهم ،الفو�ضى
كانت تعم املكان املمتلئ ب�أكوام طعام و�أثاث قدمي وجها َزي حا�سوب،
مفتوحا تركه �صاحبه على ما يبدو للتو ،والآخر يجل�س عليه
ً كان �أحدهما
رجل ما ،التقط عمر على الفور قنينة زجاجية واقرتب من الرجل بتمهل،
ثم �ضربه بها على ر�أ�سه �سري ًعا ،وو�ضع يده على فم الرجل ليكتمه ،يف
ثوان معدودة كان البقية ينت�شرون يف املكان ،وي�شتبكون مبا�شر ًة مع بقية
ٍ
�أع�ضاء الع�صابة ،كان القتال يدور بتوح�ش ،مبد�أهم جمي ًعا واحد (يا
ع
اللهفة والرعب ومعاناته ،دفعت ج�سدها دف ًعا ت�ستقبل ذراعيه التي ُف ِت َحت
ر ش
والتوزي
بل كانت حت�شرها بينها وبني عمر الذي مل ي ِع للفتاة التي ت�سكن �صدرها،
ع
بل �أخذ يف �ضمها بحرقة مماثلة ،عقله م�ش َّو�ش وتركيزه هرب مع منطق
تفكريه� ،أح�س وك�أن قلبه قد تو َّقف عن اخلفقان ،وهو يبعدها عنه يتفح�ص
وجهها ،ويداه ت�سرح به َو�س تتفح�ص مالب�سها وتهبط �إىل ركبتيها� ،س�ألها
منك؟ هل ب�صوت اختنق بعاطفته الهلعة« :هل � َآذ ْو ِك؟ هل اقرتب �أحدهم ِ
تنزفني؟»
مل ت ُر َّد رابحة ،فقط التقت عيناها مع حدقتيه الداكنتني ،فتوقف كل
أنت هنا، �شيء من حولهم ،تخربه ب�صمت من بني دموعها املن�سابةِ �« :
ل�ست جمرد طيف �أو خيال ن�سجه عقلي». ِ
اقرتب منها عمر مرة �أخرى ي�ضمها �إىل �صدره برفق وك�أنه يخ�شى �أن
د�ست رابحة وجهها بني طيات قمي�صه ،تئنُّ ي�سبب لها املزيد ِمن الأملَّ ،
ت ِّكم عقلها �أو ت�ضع مبادئها ب�أمل وقد مت َّكن منها اخلوف وال�صدمة ،مل ُ َ
حائل بينهم ،فقط �أطلقت مل�شاعرها العنان تعرب عن مقدار احتياجها ً
106
يف تلك اللحظة لذراعني تبثها الأمان ،كانت ت�ستن�شق رائحته بعمق هز
كيانه ،تركه يرجتف ،بعاطفة فا�ضت من �أعماق قلبه ،حتى كادت �أن
تخنقه ،فطاوعي ًة �ض َّمها �أكرث �إليه ك�أنه مل ِ
يكتف.
بينما �سائد ينظر له من خالل الباب املفتوح مبالمح مغلقة وم�شفقة،
يعلم �أن �س�ؤال عمر �إن كان �أحد �آذاها يعرب عن مدى ت�شتته؛ �إذ يدرك �أنها
بالذات ب�ضاعة � -أمثال رابحة ُ -ت َ
عامل بحر�ص وت�أنٍّ ،وغري م�سموح �أبدً ا
بحدوث خد�ش فيها �أو انتهاك ج�سدي ،و�إال �ستفقد قيمتها».
ع
يوما ،ح َّرك فكه �إىليف حركة مل ي�ستطع �أن يتخل�ص �سائد منها ً
ر ش
والتوز عي
متالك عمر نف�سه على �صوت �سائد ،رفع ر�أ�سه ينظر �إليه وقد �أدرك
ما يحاول �سائد توجيهه له ،لقد اخرتق �صدره وعلم ب�سره ،وعرف ب�ضعفه
فيها وطوقه حلياة نظيفة معها ،مل ي�ستخدم حتى لفظ امر�أتك بل �أنثاه،
وت َكم بقوانني
وك�أنه يخت�صر عليه الطريق وي�شجعه �أن يدخلها دوامتهمْ ُ ،
غابتهم.
�صي املكان قطع احلديث ال�صامت بينهم ،راقبه عمر عندما اقتحم ُق ٌّ
يهبط بجانب �أخته ي�ضمها �إليه وينهار يف البكاء مرة �أخرى ،ف�أ�صبحت
�أذن عمر ال تفرق �أيهم رعبه �أكرب.
q q q
كان �سائد ينظر للفتاة التي �ضمها �إبراهيم �إليه بحنان يتعامل معها
برقة تناق�ض خ�شونة و�ضخامة �إبراهيم ،لقد خل�صوها من بني ذراعي
متاما تركها ،معلنة �أنها لن تتحرك �إال
رابحة ب�صعوبة ،وهي ترف�ض ً
ب�صحبتها� ،أمعن �سائد يف الفتاة ،و�أدرك جيدً ا �أنها نف�س الفتاة التي
ُ
107
ُف ِق َدت �أمام املطعم ،عندما ر�أى هو و�إبراهيم املكتوب على احلا�سب،
�أجفل �إبراهيم لكن هو للحقيقة مل يرث الأمر ا�ستعجابه؛ �إذ يعلم جيدً ا
�أن بع�ض رواد مواقع التوا�صل االجتماعية ،يقدمون يوم ًّيا معلومات
و�صو ًرا لذويهم ،ك�أنهم يخربون اخلاطف �أو مر�ضى النفو�س؛ �أنا هنا
هذه معلوماتي وحتركاتي� ،صور �أطفايل ها هي� ،أرجوك ح ِّرك غرائزك
وخطط خلطفهم �أنا يف انتظارك! القذرة ال�شاذةِّ ،
حترك �سائد يلحق ُعمر و ُق�ص ًّيا �سري ًعا وهو يقول بحزم�« :س�أخرج
ع
من هنا ،و�أنت تعامل مع ال�شرطة ،و� ْأخ ِ ْبهم احلجة التي تناق�شنا فيها،
ر ش
والتوزي
ت�سمى «�سلمى»� ،أعتقد �أن املعلومات يف احلا�سب كفيلة ان ت�صل لأمها
ع
�سري ًعا».
نف�سا عمي ًقا وجتنب ملحوظة �سائد عن �سلمى وهو ينظر �أخذ �إبراهيم ً
للرجال املقيدين ويثبتهم بقية رجال �سائد ،وهو يقول« :ال تقلق ،وال�شيء
اجليد �أن بقية الفتيات مل يرون �أحدً ا منكم ،يتبقى تلك الفتاة امل�شوهة،
وال �أعتقد �أنها يف حالة ت�سمح لها باحلديث� ،أما ه�ؤالء املرتزقة القذرين
ال �أظن �أنهم �سيتفوهون بكلمة من الأ�سا�س».
q q q
بعد يومني دخل عمر غرفة رابحة حتت ابت�سامة �صافية باهتة� ،سحب
�أحد املقاعد اخل�شبية بلون بني قدمي ،وجل�س �أمام فرا�شها ف�أزاحت وجهها
زعجك �س�أن�سحب فو ًرا».
ِ بعيدً ا عنه ،فقال عمر مبا�شرة�« :إن كان وجودي ُي
«ل �أتى؟ ِ َل
�أغلقت جفنيها بينما �صوت قلبها يهم�س بنزيف عقلهاَ ِ :
�أنقذها حتى؟»
108
لقد هد�أت الآن وعادت لتذكر كل حلظة جارحة تعر�ضت لها معه ،رباه
ق�صي يف ال�سابق.
مل �أعد �أريد �شفقته ،وال حتى �شهامته التي تعامل بها مع ٍّ
ت�سللت الدموع من بني عينيها لتجده يهم�س بخ�شونة« :ال تبكي ،مل � ِآت
لك املزيد من الأمل».لأ�س ِّبب ِ
هم�ست بتح�شرجً �« :إذا ملاذا �أتيت؟ ملعاقبتي على اندفاعي؟»
ه َّز ر�أ�سه بالنفي وهو يخربها« :وال هذا � ً
أي�ضا».
منك على �آخر مرة بيننا، قليل وهو يخربها« :جئتُ لأعتذر ِ رق ً �صوته َّ
ريص ع
أخربك �أننا لو كنا يف زمن غري الزمن ومكان غري املكان؛ لدفعت عمري ول ِ
بل
م�ستقبل نظي ًفا� ،أجنب ِ
منك كله مقابل �أن حتملي ا�سمي ،وتبني معي
والتوز عي
منحك
�صمت ليعود يبتلع ريقه وهو يقول بخ�شونة« :ولكنني لن �أ�ستطيع ِ
ا�س ًما ال �أملكه من الأ�سا�س ،حتى �أوراق جن�سيتي الأجنبية ال حتمل الأ�صل
منكأتزوجك و�آخذ ِِ بك� ، امل�شرف ،و�إن جتنبنا هذا لن �أ�ستطيع املجازفة ِ
أتركك �أرملة مطاردة ،تدفعني ثمن ما �س�أفعله». ما �أحتاجه ،ثم يف النهاية � ِ
حتولت دموعها �إىل �شهقات كتمتها ب�صدرها وهي تخربه« :توقف ،ت ًّبا
لك يا عمر ،بعد كل ما �صار ما زلت ت�ضع حواجز وهمية� ،أ ًّيا كان ما
�ستفعله �أنا �س�أمنعك و�س�أنت�شلك من �ضياعك واجلحيم الذي حتاول �أن
ُتلقي نف�سك به حتى و�أنا ال �أعرفه� ،س�أمنحك �سب ًبا يا عمر للتم�سك بي
وباحلياة».
نف�سك
زج ِ منك ،ت�صرين على ِّ ابت�سم عمر �أمامها وهو يقول« :ال فائدة ِ
فيما ال تطيقني وتعدينني مبا لن ت�ستطيعي فعله».
قالت بت�صميم�« :سيكون يل �شرف التجربة على الأقل».
109
مال بج�سده يحا�صر بنظراته عيناها ووجهها يلتهم مالحمها هذه
املرة ب�شغف ،ي�سمح لنف�سه �أن يح�صل على �أمنية وحيدة لأول مرة يف
حياته ،يتخلى عن حذره وحر�صه� ،إن كانت معر�ضة للخطر على �أي حال
وتدفع نف�سها بغباء نحو املخاطر ،فليكن معه على الأقل �سي� ِّؤمنها جيدً ا،
ثم �إن غادرها ورحل �سيرتك لها ما يكفيها لتعي�ش حياة رغدة �آمنة من
بعده ،قطع ال�صمت �أخ ًريا وهو يقول:
«لطاملا متنيت �أن ترتدي يل �إحداهنَّ اللون الأبي�ض ،لون الوهم ،لون
ص ع
مثلك ،ورغم معرفتي ب�أنه لون كاذب الوعد ،لون الأماين الوردية احلاملة ِ
ص ع
q q q
ريص ع
ر�ضاك».
ِ جهدً ا يف جتديده لينال
ع
فتحت عينيها �أخ ًريا تراقبه عندما �أفرج عن قدميها �أخ ًريا ،وقف
ببطء وعينيه الغام�ضتني تت�أملها بدقة ،ابتلعت ريقها اجلاف عندما ابتعد
عنها خطوات ليخلع �سرتته وربطة عنقه ويفك �أزرار قمي�صه العلوية
ً
قائل:
«�أعتقد من الأف�ضل �أن تتحرري من هذا الف�ستان ،فربغم جماله
يزعجك».
ِ عليك لكنه بالت�أكيد
ِ
خجل ،ومررت يدها فوق ت�سريحة �شعرها الأنيقة احم َّرت وجنتاها ً
وقالت ب�صوت خمتنق« :ال �أعرف ،رمبا �أنا �أحتاج ً
فعل للتحرر منه».
مل تتبدل نظراته وهو يقول ب�صوت حاول �أن ي�سيطر عليه ليخرج به
بع�ض الرقة« :ت�ستطيعني �أن تدخلي لغرفة النوم� ،ستجدين هناك بع�ض
املالب�س املريحة».
112
اقرتب منها بحزم ي�ساعدها على الوقوف وهو يتابع« :هيا دجوى بدِّ يل
مالب�سك ،و�أنا �س�أح�ضر م�شرو ًبا ً
منع�شا لي�ساعد كلينا على اال�سرتخاء من
�إرهاق اليوم».
مل جتادله ،وحاولت �أن تتخل�ص من املوقف �سري ًعا وتوجهت �إىل الغرفة
التي �أ�شار �إليها.
بينما عيناه ال�سوداوين انقلبت يف حلظة لتتبدل نظراته بربيق خميف،
وتتقب�ض يداه بعنف وهو يع�صرهما ك�أنه يحاول تروي�ض �شيء وح�شي حتى
ع
ي�صل �إىل ما يريد.
ر ش
والتوزي
�أوم�أت بر�أ�سها وتناولت منه الكوب بهدوء ،احت�ست الع�صري اللذيذ
ع
جدا ومرطب � ً
أي�ضا �أ�شعر فخرج �صوت تل ُّذذ منها طواعية و�أخربته« :لذيذ ًّ
بربودته تت�سلل �إ َّ
يل».
مل تكمل جملتها ،م َّد يده و�سحب منها الكوب وو�ضعه مع الفنجان على
الطاولة ،ثم عاد �إليها و�أخربها ب�صوت خرج داف ًئا« :جيد ،لقد و�صلت
لهديف �سري ًعا».
امتدت يده وو�ضعها على كتفيها فارتع�شت بتوتر خو ًفا وترق ًبا ،قال
ألتهمك».
بخفوت« :اهدئي� ،أنا لن � ِ
ابت�سمت و�أخربته�« :أعرف هذا ولكن املوقف كله غريب ،وبرغم
اتفاقنا على موعد الزواج منذ فرتة مل �أفكر يف الأمر هكذا».
التوى فكه ب�شبه ابت�سامة �ساخرة مل ترها من قبل ،فقال بهدوء
م�سيطر�« :أعرف هذا ،ولي�س من املفرت�ض �أن تفكري فيه بل ترتكني
نف�سك يل كي يتم الأمر بعفوية دون �أي ترقب». ِ
114
وقف خلف ظهرها وم َّد يديه يدلك عنقها بحركات ناعمة ثم انتقل
لكتفيها ،ف�أغم�ضت عينيها تطلق �أني ًنا زافر ًة بارتياح ،وبعدها توترت
و�شهقت بذعر منف�صلة عنه عندما قب�ض على مرفقها و�أدارها �إليه
و�أل�صقها ب�صدره ،ارتبكت �أكرث واهتزت حدقتاها بخجل ،فقال برقة« :ال
مل�شاعرك العنان� ،أنت حتبيني �صحيح».
ِ تخايف ،واتركي
ابتلعت ريقها وهي تومئ با�ضطراب ،فاقرتب منها وهو ينظر لها بثمالة
يلتهم مالحمها الرقيقة الناعمة ،ف�أخربها بنربة خرجت متح�شرجة« :ال
م�شاعرك حتركت وحدها لتجاريني فيما ِ �أريد �أن �أ�سمعها و�ستجدين
ر ش
والتوز عي
ال ت�ستحقه �إال حبيبته احلقيقة ،ولكنها مل تكن يف حالة تالحظ تغيري
مالحمه ،لقد �أ�سكرتها كلماته ،مل تكن الغريزة ما تقودها نحوه ،بل كانت
وذراعي
َ حتتاج �أن ت�شعر �أنها حمبوبه مرغوبة ،ح�صلت �أخ ًريا على �سند
�أمان ُتعينها على ُّ
توح�ش احلياة ،فحملها فج�أة واجته �إىل الفرا�ش لي�ضعها
عليه ،ان�ضم �إليها وغمرها كلها بني ذراعيه ،لهثت قائلة بارتباك�« :سائد،
انتظر �أرجوك».
غمغم بكلمات غري مفهومة وعاد ليكت�سحها بجنون ،و�أجربها �أن
تن�ساق وراء ما يريد غري �سامح لها حتى ب�أن تتنف�س بني ذراعيه.
قليل وامتدت يدها حتاول التخل�ص منه ،فرفع �سائد انتابها الذعر ً
ر�أ�سه وملح ذعرها الوا�ضح فانتبه للحظة هل يتمم الأمر كما خطط له
منذ البداية بعنف وق�سوة؟ لكنه عاد و�سيطر على نف�سه �سري ًعا وتذكر �أن
الأمر بالر�ضا والقبول تكون ن�شوة انت�صاره �أقوى ،ف�أحكم قب�ضته عليها
وقال ب�صوت �أج�ش به حنان العامل« :اهدئي دجوى».
115
ا�ستمرت تتخبط للحظات ولكنه مل ي�سمح لها باالبتعاد وقد ح�صل
عليها �أخ ًريا ،مرر �أنامله عرب خ�صالت �شعرها امل�سرتيح على و�سادته،
وكرر بنربة �أ�شد رقة وحنا ًنا يطمئنها بكلمات حانية ،فلم ت�ستطع �إال �أن
تن�صاع �إليه وج�سدها كله ي�سرتخي بني ذراعيه ،نظرت لوجهه املحبب
لقلبها وتذكرت �أنها حتب هذا الرجل ،و�أنها ممتنة لظهوره �أخ ًريا بحياتها
حتى و�إن كان مفاج ًئا وعا�ص ًفا ،وليتها مل تفعل.
منذ وقت كانت تنكم�ش على طرف ال�سرير تبكي بحرقة مل تفهم
ص ع
�أ�سبابها �أو رمبا �أنها فهمت ،رمبا هذه �أول جتربة لها ح ًّقا ،ولكنها
والتوزي ر
مظلم وطاقة كره عنيفة مل تعرف �أ�سبابها ،كل جزء من ج�سدها كان يئنُّ ،
ع
لقد �شعرت �أنها تتعامل مع حيوان مفرت�س وك�أنها يف �صراع غابة غري
متكافئ الأطراف مطل ًقا ،زاد بكا�ؤها وهى ت�سمع �صوت �أنفا�سه العنيفة
تهد�أ ببطء ،التف ليقف ناحيتها من الفرا�ش ،فتح درج الطاولة ال�صغرية
اجلانبية و�أخرج حزمة من املال و�ألقاها عليها ،وقال ب�صوت غريب:
لطهارتك».
ِ «كانت ليلة ا�ستحقت ما �ستح�صلني عليه ثم ًنا
توقفت �أنفا�سها داخل �صدرها و�شهقت برعب ،نظرت له بعينني
متو�سعتني بنوع من الذعر ،وه َّبت من جل�ستها متجنب ًة الأمل الذي ت�شعر
به يك�سر عظامها� ،س�ألته بجزع« :ما الذي تقوله؟ هل ُج ِن ْن َت؟» مل ير َّد وهو
ينظر لها بازدراء.
فهزت ر�أ�سها برف�ض ،بخاطر مر يف عقلها فج�أة وبنربة متقطعة
قالت« :هل �أنت مري�ض يا �سائد بطريق ٍة ما؟»
116
اقرتب منها �سري ًعا ومال �إليها و�أم�سك مرفقيها يهزها بعنف وقال
متاما،
إياك حتى �أن حتاويل اتهامي ،بل �أنا �سليم ً ب�صوت قامت« :اخر�سيِ � ،
منك».
أنت من ال ت�ستحق �إال ثمن ما ح�صلت عليه ِ ولكن � ِ
هزت ر�أ�سها بحرية عظيمة تبكي بعنف و�أخربته من بني �شهقاتها
امللتاعةً �« :إذا �أنت ُج ِن ْن َت ف�أنا زوجتك ،ما الذي تقوله؟!»
تركها من بني يديه و�ضحكاته تتعاىل �صاخب ًة وك�أنها �ألقت عليه ُطرفة
أنت،
ما قبل �أن يقطعها �أخ ًريا ليخربها بنربة حمتقرة« :هذا ما تظنيه � ِ
ع
ل�ست زوجة يل».
أنت ِ إيهامك بهِ � ،
وق�صدت �أنا � ِ
117
حت�شرج �صوتها وهي تخربه رغم الأمل العظيم الذي ي�سببه �إم�ساكه
العنيف بها« :ما الذي فعلته لك؟ هل �آذيتك يف �شيء لتفعل بي هذا؟»
ا�شتدت مالحمه �سوادًا و�أطلق لعينيه حرية التعبري لينطلق منها
أجعلك ُت�سلمني
بريق قامت خميف مرعب قبل �أن يقول« :لقد حر�صت �أن � ِ
أجعلك تغو�صني يف طريق العهر بامتياز ،عهر تعلمني را�ضية ،قا�صد �أن � ِ
مينحك ثمن تلك ال�ساعات ِ نف�سك لرجل
ِ أنت ت�سلمي أنك حملتيه الآن و� ِ � ِ
معك».
املحمومة التي ق�ضاها ِ
ع
�صرخت وهي تتخبط بني يديه حتاول �أن تبعده عنها ،فعاجلها وهو
ر ش
والتوزي
ليتم بيعهم قطع غيار ب�شرية».
ع
ال�صدمة �أخر�ستها وجعلتها فاقد ًة للنطق ،للحركة فقط عينني
متو�سعتني مذعورتني كانت حتدِّ ق به مرجتفة �شاحبة الوجه حتى ُخ ِّيل له
�أنها �أ�صبحت يف �أعداد الأموات« :الرحمة يا اهلل ،هل �أح ُد خطايا والدها
تتج�سد �أمامها مطا ِل َب ًة باالنتقام الذي لن يدفع ثمنه �إال هي؟»
q q q
بعد عدة �ساعات ا�ستطاع �أخ ًريا �أن يتخل�ص من ال�ضجيج واالحتفال
الب�سيط الذي �أُقيم يف احلارة ال�شعبية ،ب�سيط هل يكذب على نف�سه؟ لقد
متاما
يوما ،تلك الوجوه امل�شابهة ًيوما �أكرث مما حلم ً
كان فوق ما متنى ً
للنا�س التي كانت ت�شمئز من وجوده وترتعب من وجهه املعفر ومالب�سه
املمزقة وج�سده الهزيل ،وبدل �أن تعطف عليه لتمحنه القليل من التفهم،
القليل من االهتمام حتى لو كان جماملة ،الآن يبجلونه ويحرتمونه ،بل
ورمبا البع�ض منهم يح�سد عرو�سه على رجل الأعمال الغني «اللقطة» التي
118
ا�ستطاعت رابحة بب�ساطة حالها �إيقاعه ،وال �أحد �أبدً ا ينظر حلقيقة �أنه
بع�ضا من جوع روحه. هو من ا�ستغل نقاءها وحبها �إياه لي�س َّد ً
�سمع �صوتها امل�ضطرب يخرجه من �صمته الذي طال وهي تقول« :كان
زفا ًفا جيدً ا ،مل �أتوقع �أبدً ا �أن توافق عليه �أو �أن ي�أتي �سائد وه�ؤالء الرجال
املحيطني بكم دائ ًما».
عقد عمر حاجبيه للحظات م�ستغر ًبا ،ثم �أجابها بحر�ص بطيء« :وما
بك� ،أو �أن
وجريانك ِ
ِ أهلك
جعلك تفكرين �أين قد �أرف�ض احتفال � ِالذي ِ
ص ع
ي�أتي �سائد؟! �إنه �أخي قبل لن يكون �صديقي».
والتوز عي
متاما من ا�ستنتاجها والذي كان�أ َو َل ي�شعر ويعلم مبا تقول؟ مل ينزعج ً
وا�ضحا للجميع ،ولكن وحده يعلم �سر رف�ض �سائد �إياها.ً
نف�سا عمي ًقا واقرتب منها وقد و�ضع �أفكاره ال�صاخبة �أخذ عمر ً
املت�صارعة جان ًبا ،وهو يقول بابت�سامة متالعبة:
أنت و�سائد! هل هذه اجلنة التي وعد ِّتني بها ليلة زفافنا؟!»لك � ِ
«وما ِ
�أرجعت ر�أ�سها للوراء ونظرت له متحرية ،ثم قالت�« :أي جنة؟! كما
�أنك �أنت الذي تبدو منذ عقد ال ِقران متجه ًما �أو تائ ًها كطفل خدعوه فج�أة
ووجد نف�سه يف قف�ص مع �أنثى غوريال متوح�شة �ستلتهمه».
انفجر عمر ب�ضحكة �صاخبة ،وهو يقرتب منها �سري ًعا وبدون مقدمات
�أو كلمة م�ستف�سرة ،كان ي�ضم َخ�صرها بذراعيه مل�صقها بجذعه بقوة،
تو�سعت عينها ب�صدمة من عناقه املفاجئ وبرد فعل غريزي و�ضعت ك َّفيها
119
على �صدره وهي تقول بخوف طبيعي« :اتركني عمر� ،إياك واالقرتاب
مني� ،س�أ�صرخ».
قليل عن الأر�ض و�ضمها �إىل ذراعيه �أكرث ،مل تتوقف �ضحكته رفعها ً
وهو يت�أملها بعينيه الالمعة وال�سعادة تت�سلل له مرغ ًما وف�ؤاده يقرع
كنت كل هذا الوقت؟ ِ َل ت� ِ
أخرت هم�سا�« :أين ِ
كالطبول داخل �صدره ً
القتحام عاملي و�إنارة بع�ض من ُظ ْلمتي؟»
مل ت ُر َّد على الفور وج�سدها يرتخي رويدً ا رويدً ا ،ارتفعت يداها برتدد
ع
ولفتها حول عنقه ،قبل �أن تقول بخفوت« :كنت �أنتظرك».
نف�سا عمي ًقا حمرت ًقا
والتوزي ر
ل�ساعات ،ليبقى بني ذراعيها جمرد طفل مذعور يختبئ يف �إحدى الزوايا
ع
املوح�شة ينتظر تلك اليد احلنون �أن تعانقه وتنجده وتعطف عليه ،لي�س
ل�شيء �إال �أن متنحه ح ًّبا جمردًا طاه ًرا ونقا ًء دون �شرط ودون ت�ص ُّنع؛
فقط لأنها تريد منحه والرتبيت على وجعه ،ب�صوت رخيم �أخربها« :لو
يوما مال ًكا طاه ًرا
بوجودك و�أن احلياة الظاملة �ستمنحني ًِ كنت �أعلم
مثلك ،يخل�ص روحي قبل ج�سدي من �آثامه؛ لكنت حاربت نف�سي ،وفعلت ِ
ملنحك �إياها».
امل�ستحيل لأبقي جز ًءا من فطرتي �سلي ًما ِ
حاوطت بكفيها الرقيقتني وجهه وهي تقول بحنانَ ِ :
«ل دائ ًما تتهم
نف�سك بب�شاعة يا عمر؟ ملاذا ت�صر �أن ت�ضع املا�ضي بيننا يا حبيبي؟ لقد
متاما ملحاربة جميع �أ�شباحك معك �سننت�صر عليها �أخربتك �أين م�ستعدة ً
يوما».�سو ًّيا� ،سنظفر ببيت و�أ�سرة وحياة طبيعية وكل ما َر َن ْت �إليه روحك ً
فتح عمر عينيه وحدقتيه امللونة حتمل نظرة مبهمة قبل �أن يقول
ب�سخرية مريرة:
120
يوما حولنا� ،أنا مل
أحالمك ً
ِ ورديتك و�
ِ «ننت�صر! رابحة ،ال تن�سجي
أغ�شك ،احلب ال يغري �أحدً ا وحربي التي �أرف�ض �أن �أُ ِ
دخلك فيها �أو تعلمي � ِ
يوما �أبعادها لن ينجو �أحد منها». ً
�شحب وجهها وهي تهم�س ويديها تتخلى عنه لتهبط بجانبها:
«�س�أحاربك ولن �أ�ست�سلم ،القادم بيننا».
ببطء كان يعيدها لأر�ض الغرفة ،قبل �أن ي�سحب ذراعيه ِمن حولها
يوما �أن
يدور يف غرفتهم ك�أ�سد حمبو�س م�سجون غري قادر على الأمل ً
ع
يح�صل على حريته ويودع ظالم ما�ضيه� ،صعقها وهو يقول مب�صارحة:
ك
ً
ر ش
والتوز عي
ا�ستدار �إليها وقال بنفاد �صرب وهو يخلع �سرتته ويرميها جان ًبا ثم
يلحقها برابطة عنقه ،ويده متتد بنزق يخل�ص قمي�صه من احلزام ثم
يتبعها بفك �أزراره برتابة ،جمتذ ًبا �أنظارها رغ ًما عنها لتتبع ع�ضالت
�صدره وبطنه الريا�ضية اجلذابة ،كتمت رابحة �أنفا�سها ووجهها يتورد
تلقائ ًّيا وهو يقول« :مل ُن ْل ِق �أنا و�سائد �أنف�سنا يف عر�ض البحر معر�ضني
للتهلكة للموت والذي واجهناه باملنا�سبة وجنونا منه ب�أعجوبة ،عندما
غادرنا هنا عرب الهجرة الغري �شرعية ،ثم تتبعها النوم على الأر�صفة
والهرب من ال�شرطة حتى ال نرحل عائدين �إىل هنا»،
مالحظا وجهها الذي تبدد تورده ،وحتول ً �صمت لربهة ليلتقط �أنفا�سه
خال من احلياة وهو يردف« :يف الواقع ،الهروب وال�شوارع للوح �أبي�ض ٍ
والأكل من القمامة وبقايا الب�شر مل يكن غري ًبا عنا ،ولكن م�ؤكد كنا
�سنفعل �أي �شيء حتى ال نعود لهذا البلد �إال ونحن منلك املال والقوة ،وهذا
عاما».
ما فعلناه خالل خم�سة ع�شر ً
121
متتمت مرتع�شة جاعلة �إياه يالحظ ب�صمت الأمل الذي جاهدت
لإخفائه« :وكيف فعلتم ذلك؟ كيف ا�ستطعتم �أن حتققا املال و� ً
أي�ضا
متنحكم تلك الدولة جن�سيتها؟»
راقبته ب�أنفا�س مكتومة وهو يدور يف الغرفة الوا�سعة ك�أنه يجاهد �أو
يحارب ذكرى ما ترف�ض اخلروج ،يكتمها ويرف�ض �أن يجعلها هي بالذات
�أن تعرفها وليته مل يخربها ،ليته مل يك�شف لها هذا اجلزء منه ،حاربت
رابحة قدميها التي �أ�صبحت رخويتني ك�أنهما حت َّوال حللوى اجليلي ،عندما
ع
قال عمر ب�صوت مكتوم« :اجلن�سية! كالنا قدم طلب جلوء بغر�ض احلماية،
ع
�إغرا�ؤها ،ولكن �أنا مل �أ�ستطع وقد تعودت على ممار�سة العالقات القذرة
مع �أي امر�أة تطلب ولي�ست من تزوجتها فقط ،بل تطرفت �أن �ألوث كل
حقرية تطلب مني عالقة عابرة ،حتى و�إن كانت منحلة ما قبلتها من
اجلالية �صدفة ،كنت �أفعلها يف �أي مكان و�أي وقت حتى يف ال�سيارة ،و�إن
تطلب الأمر كمرتي الأوىل عندما كنت فتى �صغ ًريا يف الثالثة ع�شر فقط».
«يا �إلهي» ،نطقتها رابحة �صارخة دون وعي وهي تنهار باكية على �أر�ض
الغرفة ،التفت �إليها مبالمح مرهقة موجوعة حتمل جحيم ذكرياته وهو
ألت ،لن �أ�ستطيع �سرقة طهارة أنت من �س� ِ
يقول بعجز�« :أنا �آ�سف ،ولكن � ِ
عاملك دون �أن تعلمي مع �أي ملوث تتعاملني».
ِ
لقد �أرادت �أن تعرف ،مدركة �أنها مل تكن حتى هذه اللحظة تعرف كل
�شيء عن الرجل الذي �أحبته ،عن احلبيب الذي توعدت �أن تخرجه من
جحيم جمهول يلقي بنف�سه فيه ونهايته لن تكون �إال املوت.
122
رباه ،الأمل ال ُيحتمل ،ليتني مل �أ�س�ألك ،ليتك مل تخربين ،ملاذا مل
حتجب عالقاتك ب�أخرى بعيدً ا عني؟»
اقرتب منها يجثو �أمامها على ركبتيه وتر َّدد �أن ميد يديه ،حاول �أن
يرفع ج�سدها املنهار على �أر�ض الغرفة ،ول�صدمته التي مل يعد يعلم
عددها كانت متد يده تنه�ش يف �صدره ك�أنثى �أ�سد �شر�سة حتى جعلت
ج�سده يفقد توازنه ويقع على الأر�ض �ساحبها معه عندما �صرخت بفقدان
�سيطرة« :ت ًّبا لك ،متزوج من �أخرى ،تتفاخر ب�أنك على عالقة مع امر�أة
ع
غريي� ،س�أقتلك يا عمر �س�أنهي حياتك بيدي قبل �أن تطلقني».
ً
حماول ا�ستعادة توازنه ،تار ًكا لها امل�ساحة
ب
�سري ًلعالنهكذا ومن �أول ليلة� ،أين تلك التي
ش
لتف�ضي كل �صدمتها و�آالمها فيه ،ثم قال فج�أة:
123
�سيطر على ج�سدها الغا�ضب ثم �أدارها بحركة �سريعة؛ وحاط وجهها
أنت،
أحبك � ِ
بكفيه ليخربها بنربة م�سيطرة ا�ست�شعرت ال�صدق فيها�« :أنا � ِ
غريك،
يف هذه اللحظة ال توجد امر�أة حتتل روحي و�أمنحها ا�سمي وقلبي ِ
ما�ض م�شنيحقك معاتبتي على ٍ �سواك يا رابحة ،لي�س من ِ لي�س يل زوجة ِ
مل �أنكره �أو �أمتل�ص من ذنبي فيه ،ولكن ما الذي توقع ِته من ابن �شوارع
بال�ضبط؟!»
احم َّر وجهها يف اعرتاف �ضمني ب�أن الفكرة قد عربت ذهنها �ساب ًقا،
ع
مما جعل حماولته ملهادنتها ت�صبح �أ�سهل ،قال �أخ ًريا« :كل احلقائق التي
ع
من تلقاء نف�سي ،حا�سبتها وعاقبتها منذ �أكرث من عامني ،وحتى �إغواء
إبعادك
أتزوجك فحاولت � ِ ِ أطاوعك و�
ِ نقاءك �أنت مل يجذبني بالبداية ل
ِ
عني».
مل تقل �شي ًئا وهو يراقب الدموع تف ُّر من عينيها لتغ�سل وجنتيها،
وحدقتيها تراقب وجهه ب�أمل الغرية واحلب ،متتمت بهم�س مندفع �أخ ًريا:
«�أنا �أحببتك ،ال ت�س�ألني ملاذا �أو متى� ،أحببتك يا عمر و�إن مل تكن �ضممتني
�إليك وتزوجت مني فلم �أكن لأمنح نف�سي �أبدً ا ل�سواك».
تلف حوا�سه �أخف�ض وجهه ومتتم من خالل �سحابات الأمل التي كانت ُّ
أنت مل ولن تكوين ل�سواي �أبدً ا، وعقله�« :أنا �أعتمد على هذا يا رابحةِ � ،
�ستظلني �أنثاي وحدي مهما حدث».
فلتت �شهقة مت�أملة منها ويديها تلتف حوله ت�ضم نف�سها �إليه ب�شدة وهي
تقول:
124
يوما ،ولكن الغرية تقتلني ف ِعدين ب�أن ال
«�أبدً ا يا عمر لن �أكون ل�سواك ً
مت�س �أي امر�أة بعدي».
لك يا حلم العمر ونقاء الروح � َّأل
قال وعينيه حتا�صر عينيها« :وعدي ِ
لغريك».
ِ �أ�سمح لنف�سي حتى بااللتفات
قليل وقد طم�أنتها كلماته ،ولكن م�ؤكد مل حتجب ذلك الأمل ا�سرتخت ً
الذي طغى على �أي �شعور �آخر �أنها �أخ ًريا �أ�صبحت ملكه حتمل ا�سم عمر
و�أ�صبح بني ذراعيها.
ص ع
وك�أن �شعورها ذاك ت�سلل �إليه عندما �أخف�ض وجهه يلثم ذلك العرق
ع
فيك� ،س�أ�شبع
براءتك يا رابحة� ،س�آخذ كل حق يل ِ
ِ «لأين لن �أرحم
ع
هم�ست بلوعة وهي تت�شبث ِبه �أكرث و�أكرث تند�س فيه وتت�سرت به ،حتتمي
ر ش
والتوز عي
جمرد »...
�سمح لوجهه �أن ينخف�ض وي�شرف على وجهها املرتفع نحوه وهو
يقاطعها بابت�سامة هادئة وقال« :ال ،لي�س الليلة يا �أمرية عمر� ،ستفهمني
يوما ما� ،ستفهمني معنى �أن تكون روح نقية كنز من كنوز اجلنة، حبيبتي ً
لعا�ص غرق يف �آثامه� ،ستفهمني معنى �أن يكون نقاء حره �سب ًبا مكاف�أة ٍ
لطهارة َمنْ ُل ِّو َث باخلطايا».
عم ال�سكون يف �أرجاء الغرفة� ،إال من �أ�صوات �أنفا�س كليهما ،مل
يتخل عمر عن الغرق يف ع�سل عينيها الدافئ ،بل �شعر بال�شبع بعد جوع، َّ
باالكتمال بعد خواء ،باالطمئنان بعد ذعر الرف�ض ،وبالإ�شفاق على
ال�صراع املحتد بني مقلتيها رغم ا�ست�سالمها الربيء بني ذراعيه.
نف�سا هاد ًئا و�أم�سك خ�صلة من �شعرها وموجة من امل�شاعر �أخرج ً
ت�ضرب قلبه ،وجتتاح ج�سده ك�سيل من حمم نارية مرة �أخرى ك�أنه مل
يكتف بع ُد ومل ي�أخذ من الغيث �إال قطرة ،هم�س وقربها نحو فمه يلثمها
127
أنك متلكني �شع ًرا من احلرير بلون بخفة وقال بنربة َّ
ج�شة« :مل �أكن �أعلم � ِ
كطبعك».
ِ حامل
تلعثمت رابحة ،واللون القرمزي ينتقل من وجهها ليحتل نحرها
وجيدها ،بل �شعرت ب�أن خط نار �سرى يف كل �إن�ش من ج�سدها العاري بني ِ
ذراعيه ،وبتلقائية ردت متهربة« :ال ،لقد خدعتك!»
�أجفل عمر للحظات ،وهو ينظر لها م�ستفه ًما ،فر َّدت على الفور وهي
جتذب خ�صلتها بع�صبية من �أمام فمه« :لقد� ،صبغت �شعري ،وفردته
ع
مبكواة حرارية ،حتى �أنال �إعجابك ليلة الزفاف».
ب qللq
ن
ش
كم امل�صائب الذي اعرتف لها بها. وبعد ِّ
التوزيع رو
q
فتح �سائد عينيه املرهقة يت�أمل وجه �إبراهيم املتجهم للحظات قبل
�أن يعتدل بهدوء من ا�ستلقائه على الأريكة الوا�سعة التي حتتل غرفة
اال�سرتاحة حتت مقر مكتبهم ،توجه بخطى ثقيلة نحو اخلزانة ال�صغرية
التي يحتفظ فيها باملالب�س اخلا�صة لتن ُّكره� ،أو مبعنى �أدق مالب�س العودة
جللده احلقيقي ،هم�س �ساخ ًرا لنف�سه بينما ي�سمع �صوت �إبراهيم يقول:
«كيف علمت عن الفتاة �سلمى؟ ومن �أين لك بكل تلك املعلومات؟»
اعتدل �سائد ورمى باملالب�س على الأريكة وقال بربود« :ال�صدفة ال
�أكرث هي من �ألقت والدة الفتاة يف طريقي �صباح تلك احلادثة� ،أما عن
املعلومات� ،أال حتيا معنا يف هذا العامل �إبراهيم لتعلم الغابة التي نعي�ش
فيها؟»
128
مل يتنازل �إبراهيم عن تلك املواجهة التي قررها معهم ،لن ي�صمت
مرة �أخرى ع َّما يحدث ،الأمر �أ�صبح �أكرب من جمرد رئي�س عمل ،بل �إن
الرجلني يجهزان ل�شيء مزلزل خطري �أو كارثة ما ورمبا ُيلقوه فيه ،وهو
لن ي�سمح لنف�سه �أبدً ا �أن يكون جمرد �أداة م�ستخدمة؛ لذا قال ب�شرا�سة:
«�سائد� ،أنت تعلم من �أنا ،تعرف كل �شيء عني ،مل يختارين عمر ع�شوائ ًّيا،
و�أنت لن تخ�ضعني لكل اختبارات الثقة تلك �إال لأنك جتهز ل�شيء ما».
ح َّرك �سائد كتفيه املتيب�ستني من �آثار نومه ،ثم ما لبث �أن قال بهدوء
م�سيطر« :بالطبع �أعلم �أنك �ضابط حرا�سات خا�صة ،اعتزلت بعد
ع
�أنت ،كانت ت�شارك �أ�صدقاءها �صور الفتاة؛ لعبت� ،أكلت ،نامت ،فعلت».
ع
هل ر�أى ملعة دمعة حارة يف عني الرجل ال�صلب �أم �أنه ُخ ِّيل له؟! تلك
ر ش
والتوز عي
ميت�صوها».
***
هل ي�شعر ب�أنه م�ش َّو�ش �أو نادم لإخبار �إبراهيم �سره املقد�س هكذا
بب�ساطة؟ لقد در�س كل خطوة جيدً ا ولن تخرج من بني �شفتيه كلمة واحدة
�إال �إن كان �أدارها يف عقله عدة مرات لتخرج يف الوقت املنا�سب وللهدف
الدقيق ،كان يجب �أن يلعب على م�شاعر �إبراهيم الإن�سانية و�أن يك�سب
والءه اخلال�ص وتعاطفه ،وهذا ما حدث�« :آ�سف حبيبتي ال�ستغالل ب�شاعة
أ�ضمك بني ذراعي
ما حدث ل�صغرينا ،ولكن هو عهد لن �أتخلى عنه حتى � ِ
مثواك».
أجاورك يف ِ
ِ مرة �أخرى و�
q q q
كان حماد يدرك جيدً ا النظرة ال�صلبة القا�سية يف عي َني �سائد وهو
ما�ض وانتهى يا �سائد ،ما تطالب به �صعب حتقيقه ،واليخربه« :ما حدث ٍ
لدي �ستجعلني �أتواط�أ معك».
حتى مكانتك َّ
131
من�سا خبيث بارع الذكاء
قال �سائد ب�صرامة كان يعلم �أنه يحتاجها لأن ً
كحماد يعلم جيدً ا كيف يتالعب بفرائ�سه ،متى ُي ْح ِكم الطوق عليهم ومتى
ي�ضعهم حتت �ضغط الرتدد ،فقال« :و�أنا �أعلم �أن كلمتنا عهد ووعدنا �سيف
ي�سري على رقبة اجلميع؛ لذا ترددك �أو تراجعك ال �أ�صدقه يا معلم».
�أطرق حماد بر�أ�سه للحظات بينما عيناه ال�شر�سة تنظر ملن �أمامه
بتقييم ،ثم ما لبث �أن قال بغمو�ض« :و�إن �سلمتك من غدر بك ،ما الذي
�س�أك�سبه حتديدً ا من الت�ضحية ب�أهم رجايل؟»
ع
انتف�ض �سائد داخل ًّيا وك�أن تذكر احلقائق وما �أخربه به حماد ي�صفعه
ر ش
والتوزي
ح�سان؟ لن يفعلها غريه �إن مل ت�سلمها �أنت ،لن يجر�ؤ �أحدهم على فعلها،
ع
هو الوحيد الذي كان يحاول و�ضع قذارته عليها ،رغم معرفته �أنها �أنثاي
وتخ�صني».
عم يف �أرجاء ع�شة حماد التي بناها كعر�ش ملك ال�صمت املهيب َّ
متوج داخل وكره ،نظر ل�سائد بجمود متذك ًرا ذئبه الغايل الذي تفوق
اجل َلد والتحمل ،يف التعلم ال�سريع واحرتاف على جميع �أقرانه وقتها يف َ
ال�سطو والبلطجة ،ال يتذكر حماد مرة واحدة �أر�سل �سائد فيها ل�ضرب
متاما عن جتارته ال�سرية يف مهزوما ،تذكر � ً
أي�ضا �أنه �أبعده ً ً �أحدهم و�أتَاه
بيع كل ر�أ�س من ه�ؤالء ال�صغار املهم�شني؛ ملعرفته �أن هناك جز ًءا �صغ ًريا
جدا داخله ن�ضيف وم�شفق حتى و�إن كان يرف�ض �إظهاره ،ولكن مع �آية ًّ
ال�صغرية كان يت�ضح �ضعف ذئبه نحوها ،لن يكذب على نف�سه ،لقد �أراد
التخل�ص من الفتاة ،حتى ال تكون �أحد نقاط �ضعف ذئبه ،ولكن عاد يعده
بزواجه منها؛ ليكون حتت �سيطرته حتى �أنه رف�ض املال الذي عر�ض عليه
لبيعها هي وجنينها لذلك الطبيب الذي كان ير�سله «غ�سان الها�شم»،
132
ولكن حقد ح�سان �أو رمبا كما برر له �أن الفتاة ك�شفت �أكرث مما ينبغي
فكان يجب اخلال�ص منها وعلى الفور.
�شمخ حماد بر�أ�سه هيمن ًة وهو يرمي يف وجه �سائد كلماته« :البكاء على
الأطالل لن يعيدها ال هي وال ولدك؛ لذا �أريد �أن �أفهم ما الذي تريده يا
�سائد؟»
مل يتنازل �سائد عن فر�ض �سيطرته وعاد �سري ًعا يتوح�ش وجهه ونرباته
وقال بقوة« :الق�صا�ص� ،أريد الق�صا�ص يا معلم ،ولي�س االنتقام».
ص ع
طويل بغمو�ض قبل �أن يتنازل �أخ ًريا وقال بنربة عاد حماد لت�أمله ً
ش
مقابل مغر ًيا لت�ضحيتي».
133
ابت�سم حماد ببطء وقال بنربة �أ�شبه بالفحيح« :ال �أظن �أبدً ا� ،إنك
غفلت عن �أحدهم ،ولكن هناك من �ستعجز عن االنتقام منه كغ�سان
الها�شم».
الغ�ضب املتوح�ش هو ما احتل مالمح �سائد هذه املرة ،بينما يداه
تتقب�ض بجانبه وقال بنف�س مكتوم�« :أعرف ويكفي تدمري م�شفاه واحلقري
فهمي».
ص ع
قاطعه حماد وابت�سامته تزيد كقذارة كلب م�سعور يلهث ولعابه قذر
ر ش
والتوزي
ر�أ�سها ورحب كث ًريا مبعا�شرتها قبل »...
ع
«يكفي» ،هدر بها �سائد رغ ًما عنه فاقدً ا لأع�صابه واتزانه ومنطقه،
و�صدره يهبط ويعلو بانفعال ه�ستريي ،بينما يده حتفر يف خ�صره حف ًرا
مقاوما �أال يتوجه �إليه ويقوم بقتله ،هم�س �سائد ب�صمت داخله:
ً نارية
«احلقري النذل القذر ،كيف يخربين �أنه تخيل امر�أتي مع �أحد
الأجنا�س؟! ذنب �آخر �سيكون �سب ًبا لرميك يف اجلحيم يا حماد الكلب،
ولكن �ص ًربا حتى �أتخل�ص من ر�ؤو�س الأفاعي ثم �أ ْلتفت لأذيالهم».
بينما تعلو وجهه نظرة �إن كان حماد منتب ًها لها لك�شف جنون الآخر
الذي يكاد �أن يحرقه حتى يذيب عظامه ،عب�س حماد بغري فهم قبل �أن
يقول ببطء ومل ي�صله �سر غ�ضبه« :ملاذا �أخربك �إن كنت ت�سعى لالنتقام؟
ً
تعوي�ضا جيدً ا لك، جدا من �أعمال والدها وقد تكون فالفتاة تعلم الكثري ًّ
قبل �أن ت�سلمها يل بالطبع».
«ماذا تعنى ب�أنها تعرف؟ هل كانت طر ًفا يف �صفقاتكم؟»
134
ابت�سم حماد بفحيح غريب طامع وهو يقول« :نعم ،فالبنت �سر �أبيها
يا �سائد».
q q q
كان كتفا دجوى يهتزان بقوة وهي تقوم ب�إفراغ معدتها اخلاوية يف
الأ�صل ،دموع االنك�سار تهبط بحرقة رغ ًما عنها ،بينما توقن بحقيقة
و�ضعها اجلديد �ضمت بطنها بقوة تهز ر�أ�سها املنك�س نحو الأر�ض،
�شهقتها خرجت ب�صوت �شبه ه�ستريي وهم�ست بلوعة« :رباهَ ِ ،ل �أتيت؟ ما
ص ع
الذي فعلته؟ كيف �سمحت لنف�سي ب�أن �أمنحه �أ�ضحية �أخرى من دمي؟!»
والتوز عي
حرقة ،والأمل والذعر يفي�ضان من كل دمعة كانت تفر من عينيها
املتورمتني ،متذكر ًة بعني اخليال ال�شهر الذي م�ضى معه فيحرتق قلبها
حر ًقا وهي تدرك و�ضعها جيدً ا كعاهرة �ساقطة ي�ستغلها �سائد يف فرا�شه
بعد �أن �أوهمها بالزواج ،بعد �أن فر�ض عليها كل قيد ،وبعد �أن حب�سها يف
حمبطا لكل حماولة فرار وهرب ،لقد حاولت، ً تلك الزنزانة الإجبارية
ي�شهد اهلل �أنها حاولت الهرب و�أن تطالبه برتكها بعد �أن �أخذ غر�ضه
منها ،ولكن كانت �صدمتها الثانية فيه عندما فجر قنبلته الأخرى وهي
�أنه لن يرتكها �إال وهي جثة هامدة ،لن يحررها �إال �إن �أخذ قطعة من
�أح�شائها حتمل دماء والدها� ،أحاطت بطنها امل�سطح بغريزة دفاع قوية،
بينما تتو�سل ب�صمت �أن يكون ذلك امل�ؤ�شر خمط ًئا� ،ستوهم نف�سها ب�أنه
خمطئ كما �أوهمت نف�سها وهي تدرك جيدً ا بطالن حجتها �أن �سائد ما
زال زوجها مكتفية ب�أنه �أ�شهر �أمام اجلميع و�أنه ما زال يخربهم �أنها
زوجة له ،امر�أته ولي�ست جمرد حمظية يفرغ فيها حاجاته رغ ًما عنها،
135
رفعت دجوى ر�أ�سها تنظر من خالل باب احلمام املفتوح نحو فرا�ش �سائد
مبزيد من اخلزي والوجل ،متذكر ًة حماولتها للتمرد وال�صراخ لأمره
برتكها وينتهي بها احلال فوق فرا�شه ،يثبتها بج�سده ويغطيها برغبته
ويكبلها بوح�شيته ،ترف�ضه وتقاوم وت�صرخ �آمرة �إياه بالتوقف برتكها،
تتهمه �أنه مغت�صب حقري.
ولكنها تدرك -كما يدرك � -أنها يف نقطة ما تفقد املنطق والعقل
ومبد�أها وفقط ت�ست�سلم لعاطفته وللرغبة املطلة من عينيه ،وتتخلل هدير
ص ع
�أنفا�سه التي مت�شط كل �إن�ش منها ،التقزز منها ومنه ومن الظروف ومن
ر ش
والتوزي
مزيدً ا من كلماته ال�سامة ،بالت�أكيد هو يدرك جيدً ا با�ست�سالم ج�سدها
ع
اللعني وقلبها املتواطئ حلبه.
عاد بكا�ؤها يتعاىل مرة �أخرى ،ال�ضعف والوهن الذي �أ�صبح ال يفارقها
ي�سيطر على �أطرافها املتعبة ،بينما تكرر بح�شرجة كع�صفور �صغري م�سكني
وجد نف�سه يف �أَ ْ�سر �صقر جارح لن يتوانى حلظة يف متزيقه قبل التهامه:
«هو فعل ،ما ذنبي �أنا غري �أين وثقت بك و�أحببتك يا �سائد؟»
َ َ َ
رباه� ،إنه الأمل بعينه والوجع مبرارته والعذاب بكل جحيمه﴿ ،يا ْلت ِن
ُّ َ ْ َ َٰ َ َ ُ ُ َ ْ ً َّ ًّ
نسيا﴾
مِت قبل هذا وكنت نسيا م ِ
q q q
�أمام اجلنون الذي كان يرتاق�ص يف عينيه ،ذلك املزيج من ال�صدمة
والأمل؛ عرفت دجوى ب�أنها وقعت يف فخ �آخر وم�صيبة �أخرى ،وهذه املرة
لن يرحمها �سائد مطل ًقا ،جحيم �صوته الذي كان ي�أتي ب�شرا�سة �أ�سد وجد
136
نف�سه عال ًقا يف �شيء مبهم مل يكن يعرفه« :ما هذا دجوى؟ �أمل تخربيني
أنك بريئة ومل تعريف ما الذي �أحتدث عنه؟»ب� ِ
للحظة واحدة ،كان كل ما تفكر فيه دجوى القفز عليه و�أن متزق
انتقاما وكراهية ملا يفعله بها ،لكذبه عليها منذ معرفتها
ً وجهه ب�أظافرها
�إياه ،و�أخ ًريا ملنح نف�سه احلق والتفتي�ش بني مالب�سها وعثوره على �سرها
املخزي!
�شحب وجهها حتى ا�ستحال لقطعة من قما�ش الكفن الأبي�ض ،ج�سدها
ص ع
ال�ضئيل تراجع للوراء بغريزية ،بينما هو يقرتب خطوة خطوة نحوها
ص ع
تهديد املوت هتفت بتقطع خ�شن« :و�أنت حقري كاذب خمادع مغت�صب
والتوزي
ورماد عينيها يرتاءى له بر�سائل غام�ضة َت ْ�أ ِ�سر جز ًءا فيه وت�ضعه �أمام
ع
�صراع نف�سه مرغ ًما ،ج َّز على �أ�سنانه وهو يخربها:
«تاجرة الب�شر ،ابنة م�صا�ص الدماء ،على حق �أنا كل هذا و�أكرث،
أن�سيت �أين بالأ�سا�س بال �أ�صل ،طفل �شوارع بلطجي بلغتكم ،رمبا �أكون
� ِ
نتاج عاهرة ما ورجل غ َّيب اخلمر ر�أ�سه �أو تكمن فيه ال�شهوة فالتقته يف
�صفقة جن�س نارية وكنت �أنا ،فما الذي تتوقعينه؟»
فلتت �شهقة بكاء مت�أمل منها وقدميها حتاول �ضربه ليرتكها� ،أخربته:
«توقف ،ال يعنيني َمنْ �أنت ،فقط اتركني».
ثبت ركبتيها بج�سده مل�ص ًقا جذعه بج�سدها ال�ضئيل ،مرغ ًما كانت
قوة �إجباريه تفيقه من هول �صدمته فيحاول �أن يوازن ج�سدها املرتفع يف
الهواء ،يخفف من �ضغط �أ�صابعه حول عنقها دون �أن يتوقف عن �إرعابها
�أو تركها ،وقال دون �أن يرحمها« :ح�شرة و�ضيعة ،من تظنون �أنف�سكم
138
لتتاجروا بنا؟ َمنْ منحكم احلق ال�ستغالل الفقراء و�أطفال ال�شوارع يف
دنا�ستكم؟»
�صرخت كاملجنونة وج�سدها ينتف�ض بني يديه و�أنفا�سها تتالحق
به�ستريية حتاول ا�ستن�شاق �أكرب قدر من الهواء:
«مل �أتاجر ب�أحد يا غبي� ،أال تتذكر حايل عندما وجدتني؟»
مل يتنازل عن �شرا�سته ومل يحاول �أن يتفهم ما تقوله بعد كذبها عليه
ع
عندما ز�أر بها« :كاذبة ،ما تقوله تلك امل�ستندات غري ما ت َّدعي».
ر
�صارمإياه:جمد الدماء يف وال
عروقها،توز عي
و�إميان كان لديها فيه� ،أتخربه عنهم؟ �أتك�شف كل �شيء �أمامه؟»
وجعل اخلوف قال ب�صوت خافت
يزحف فوق جلدها ،مق�شع ًرا �
أرحمك� ،ستظلني هنا ع�شيقة ،عاهرة لفرا�شي حتى ت�أتي بطفل
«لن � ِ
ن�سلك ون�سله وبعدها »...
من ِ
�صمت مطرق ًعا بل�سانه منت�ش ًيا بالأمل والرعب الذي ارت�سم على
لك با�ستخدامي مرة �أخرى واغت�صابي� ،س�أقتلكم َّياها« :لن �أ�سمح َ
َُ
و�أقتل نف�سي قبل �أن متتد يدك الآثمة لطفلي».
�أخف�ض �أ�صابعه املرتخية بالفعل عن نحرها ،وبدون تعبري �أو رد كان
جدا ب�أثره
يتفح�ص مكان �آثاره بينما مييل طرف فمه بابت�سامة م�ستلذة ًّ
ورعبها البادي وقال ب�أحرف م�ضغوطة:
139
أنك �ساقطة بالفطرة� ،أنا مل لك �أكرث ِمن مرة � ِ أثبت ِ
«�أعتقد �أين � ُّ
إرادتك� ،أما عن
فيك بكل � ِ أنت َمنْ ُت�سلمني ل�شهوتي ِ أغت�صبك دجوىِ � ،
ِ �
الطفل من يعلم قد يكون ُز ِر َع يف �أح�شائك بالفعل».
تهربت بعينها ودموع الأمل واخلزي تهبط مدرا ًرا ،الغ�ضب ي�ضرب
بوتريته بني عروق ج�سدها اللني فتحاول �أن تدفعه عنها بحدة ت�صرخ فيه
ب�أمر �أن يرتكها ويبتعد.
مل يهد�أ الغ�ضب املتفاقم داخل قلبه وعقله ،احلقد الأعمى يت�صاعد
ع
بنغمات قا�سية ،وهو يدرك �أنه مل يرغب امر�أة قط كما يرغبها هي ،مل
ر ش
والتوزي
المتالكها ،ت ًّبا ِ َل ال يتوقف؟ ملاذا يجد نف�سه ينقاد لأخذها مرغمة؟ ملاذا
ع
ي�شعر �أن هذا الأمر �أ�صبح يفرغ فيه �شحنات �أمله ووجعه قبل �أن ي�صفعها
به؟ حبيبته ال�صغرية لن يكون يف قلبه �سواها ،لن متتلكه امر�أة مثل �آية
يوما.
ً
�شر�سا
مل يكن ي�شعر بال�صمت امل�سيطر �إال من �صوتها الذي �صار حادًّا ً
لت�أمره باالبتعاد ،ج�سدها ال�ضئيل ي�ضربه بالفعل ويقاومه ،بينما ال ترى
عيناه �إال رمادها املنطفئ ،رجولته ال ت�ست�شعر �إال ب�أنوثتها� ،أنفا�سه يتغلغلها
عبريها امل�ألوف ،هو يريدها �أكرث من �أي �شيء �آخر ليفرغ فيها كل غ�ضبه،
مرب ًرا لنف�سه عندما �أطبق ب�شفتيه على �شفتيها كا ًمتا بكاءها� ،ساعداه
القويان �أحاطا َخ�صرها وبدون تردد كان يتوجه نحو الفرا�ش مرب ًرا
لنف�سه �أنها يجب �أن تعاقب قبل �أن ي�ستمع لأكاذيبها وقبل �أن ُيلحقها بهم.
�ألقاها على الو�سائد فرتاجعت منكم�شة لتخربه« :انتظر� ،س�أخربك
كل �شيء� ،أنت تفهم خط�أً �أرجوك يا �سائد �أنا ال �أريد».
140
جال�سا على ركبتيه ،ثم جذبها نحوه بجمود ممز ًقا
اعتلى الفرا�ش ً
قمي�صها بخ�شونة مق�صودة ،وهو يقول بربود رغم نارية جحيمه اخلا�ص:
أنك �أكرث من
لك بالتجربة � ِ
«ومتى �أردتِّ ؟ كل مرة ترف�ضني و�أنا �أثبت ِ
راغبة».
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول بقهر�« :أنت قذر� ،أمثالك لن
يوما� ،أنت حقري تربر لنف�سك ما تفعله بي بينما �أنت يجدوا الراحة ً
جمرد»...
ص ع
ر�أت الأمل يحدد معامل فمه ولكنه مل يتخ َّل عن بروده وهو يكمل ما
�أن يتوقف وت�شرح له حقيقة ما ر�أى وتعلمه كل �صلتها وما عرفته ،ع
ولكنه مل
مل يكملها وقد و�صلتها جملته املتقطعة كاملة،
ي�ستمع وهو ينتهك روحها ويخرتق ذلك القلب العا�صي ،االنتفا�ض خو ًفا
ووجل ككل مرة هو ما �صدره منها ،حماولة املقاومة والتمرد ،والذي ً
ي�سيطر عليها بع�ضالته القوية ،كانت ت�شعر بالقهر وباجلروح التي تغور
يوما� ،أح�ست مبقاومتها تبهت وبج�سدها داخل �صدرها ولن جتد العالج ً
امللعون يرتع�ش ا�ستجابة ،ما الذي يفعله؟ لقد قرر �سائد �أن يلعب على
م�شاعرها وبراءتها لعبة منحطة �أخرى ا�ستبدل خ�شونته باحلنان وقوته
بال�سيطرة ،لقد كان يتحكم فيها ويعرف متى ي�سيطر عليها بخ�شونته
ومتى يخ�ضعها بنعومته ،د َّوى قلبها كهدير �صاخب هذه املرة ال لت�ص َّده
�سوف تتحرر منه ،دموع املهانة بللت �شفتيه ،ولكنه �أبى �أن يرتكها.
141
«�أنا حامل بطفل حرام منك»؛ توقف و�أنفا�سه الهادرة كانت تخرج
عنيفة ،هل ا�ست�شعرت الذعر للحظات بني مالحمه التي ارتفعت لينظر
جمفل ،تبدلت كل رقته يف حلظة وعاد وجه الذئب للتحكم عندما �إليها ً
قب�ض عليها بق�سوة ،ووجهه انخف�ض و�أخربها بنربة مل ت�ستطع �أن حتدد
أريدك الآن ،ثم �ستحا�سبني على كل معاملها« :ما �أريده ي�أتي � ًأول و�أنا � ِ
أكاذيبك».
ِ �
تهدلت يداها بجانبها با�ست�سالم يائ�س مقهور وتركت لذئبها يحرر
ع
كبته وغ�ضبه.
ر ش
والتوزي
بل الذل والهوان والأمل ،اال�شمئزاز الذي يغالب مالحمها ويجعلها تتمنى
ع
املوت يف تلك اللحظة ،بل مت َّنت لو �أنها ماتت يوم �أن ذاق والدها ذلك
الك�أ�س الذي �شرب منه العديد من �ضحاياه ،ليته مل ينقذها ومل ي�صل
�إليها ،ليته تركها لتعي�ش االمتهان على يد �آخر غري الرجل الوحيد الذي
�أحبته ب�صدق� ،أغلقت عينيها بوجل من تلك الأفكار املتطرفة التي تغزوها
من تلك الق�سوة التي احتلت عقلها« ،رباه ،هل متنت �أن تقع يف َ�ش َر ِك
جتارة الرقيق �أو بيع الأع�ضاء ً
بدل ع َّما تعي�شه مع �سائد؟»
�أجه�شت بالبكاء غري قادرة على احتمال جنونه وتطرفه واحتقاره لها
واتهامه دون �أن مينحها حق الدفاع واال�ستماع� ،أح�ست ب�أ�صابعه القا�سية
عل وعينيه ال�سوداوين ب َّرقتا
مت�سك بكتفيها وتديرها �إليه ينظر لها من ِ
بغ�ضب خميف ،وقال ب�صوت منخف�ض ج َّمد الدماء يف عروقها بينما
ترحمك مما ِ انخف�ض وجهه ليبتعد عنها م�سافة ال ُت ْذ َكر« :كذبة ِ
حملك لن
حقيقتك».
ِ بك بعد �أن علمت �أنتوي فعله ِ
142
فتحت عينيها تنظر له من بني دمعها املن�ساب ،ورماد عينيها املنطفئ
يتحول لرماد باهت ميت ،فقد حتى ملعة بريق احلياة ،مل تخف منه،
وقد فقدت كل �شيء بالفعل ،حتى وهو ي�ضغط ذراعيها ب�أظافره ويغر�س
خمالبه يف حلم ج�سدها املنهك ،يهددها ج�سد ًّيا ،وقد بدا قاد ًرا على
�إيذائها حقيقة.
�أطلقت �ضحكة مريرة جعلته يجفل للحظات وك�أنه كان يتمنى بداخله
� َّأل ُيزْ َر َع ذلك الطفل يف �أح�شائها حقيقة وهو ي�سمعها تقول:
ع
علي ليدمر
«مل �أكذب ،يبدو �أن القدر يخدمك ب�شكل جيد ،ويتواط�أ َّ
ر ش
والتوز عي
أم�س�سك �إال منذ �شهر
ِ راف ًعا �إياها نحوه وقال من بني �أ�سنانه�« :أنا مل �
أنت �أ�سريتي هنا كيف ت�أكدتِّ ؟»
م�ضى ،و� ِ
�أغلقت جفناها �سري ًعا وج�سدها كله جتتاحه رع�شة خوف ،انكم�شت ال
�إراد ًّيا حتيط نف�سها بكلتا ذراعيها ،ثم ما لبثت �أن قالت بنربة مرتعبة:
«�أنا �أعرف بع�ض القواعد الب�سيطة يف الطب والت�أكد من احلمل ال يقبل
ال�شك خا�صة مع ت�أخر »...
�أغلق جفناه وارتخت �أ�صابعه من حولها ،وخرجت �أنفا�سه بزفري
و�شهيق عدة مرات� ،صوتها املرجتف مع رعبها الوا�ضح كان ُغ َّ�صة �أخرى
تذكره مب�شهد م�شابه من املا�ضي ،فتح جفناه لت�صعقه رغبته العنيفة بها،
نظراته التي انحدرت تلتهم ج�سدها العاري مرغ ًما ،ما زال يريدها ،ما
زالت رغبته مل تنطفئ فيها ،ما الذي يحدث معه؟ ما ال�سلطة التي متتلكها
متا�س بينهم ،وهو
ابنة غ�سان عليه؟ ملاذا يهدر عقله مطال ًبا بها عند كل ٍّ
الذي رف�ض االقرتاب من ن�ساء يفوقونها ً
جمال وبراء ًة؟!
143
هزَّها بقوة وقد فقد بروده ل�صدمته يف نف�سه« :تق�صدين � ِ
أنك تعرفني
بنف�سك».
ِ نه�شت �أج�سادهم
كيف تخديرهم� ،أو رمبا ِ
رغم القهر الذي يحيط بها هتفت فيه ب�صوت مبحوح �إثر ُبكا ِئها:
«�أنت غبي جاهل يا �سائد ،كيف تعتقد �أين فعلتها ،درا�ستي �إدارة الأعمال
يا �أحمق ولي�س الطب».
رفع يده ال �إراد ًّيا لي�ضربها �إال �أنها توقفت يف الهواء للحظات ،ور�أ�سها
يرتفع �سري ًعا لتتبع حركة يده بذعر ،وارجتاج ج�سدها بني ذراعيه يرتفع
ريص ع
بوترية م�ؤملة ،جتمدت �أطرافه بردًا رغم دفء الغرفة من حولهم ،مل ميهل
ع والتوزي
حر�ص �أن ي�شعرها به ولكن �أن ي�صل غ�ضبه ل�ضربها� ،أن يرميها بامتهان
�إىل �أ�سفل الدرك ،للحظات وقف يف منت�صف الغرفة م�ضطر ًبا ،ويف نف�سه
اكت�شافات مما عرفه عندما هدر حماد مبا قاله ،تذكر كيف جاء للمنزل
وبدون تردد كان يتوجه لغرفتها التي اعتقدت احلمقاء �أنه من املمكن �أن
ي�سمح لها بالتواجد فيها ،وهناك علم دون �أن يجهد نف�سه بتلك احلقيبة
التي كانت تد�سها بني مالب�سها بحذر ومل يهتم من قبل �أن يكت�شف ما
بداخلها معتقدً ا �أنها جمرد حقيبة ن�سائية رمبا ال حتتوي �أكرث من بع�ض
ذكريات حياتها ال�سابقة ،ولكنه الآن علم بحقيقتها التي قتلت جز ًءا
متمردًا منه كان يريد �أن يثور ليجعله ي�شعر بالتعاطف نحوها ،حترك
نحو اخلزانة ي�سحب بع�ض املالب�س لنف�سه� ،سمعت دجوى �صوت حفيف
مالب�سه ب�صمت يخالطه الرعب غري قادرة على التحرك �أو االعرتا�ض
�أو حتى الهرب ،الهرب من ماذا و�إىل �أين وقد خ�سرت كل حربها بالفعل،
�أتهرب من موت ملوت �آخر ينتظرها؟!
144
�سمعها تقول من بني بكائها الذي مل يتوقف ب�صوت م�ضطرب يخالطه
الت�شو�ش ك�أنها فقدت جز ًءا من عقلها �أو حتى مل ت ِع ما تقوله�« :أنا ال �أريد
طفلك ،يجب �أن ميوت� ،أنا �س�أفعل امل�ستحيل لإجها�ضه ،حتى و�إن فقدت
حياتي معه� ،أنا ل�ست من غابتك يا �سائد كي �آتي بطفل ال يحمل هوية،
طفل جاء من حرام عرب خداعك وانتهاكك يل».
ا�ستدار نحوها بربود بعد �أن �سمع ما قالته ،بينما يخفي انفعاالته وبدا
بوغ َت ب�آخر ما يتوقعه منها؛ تقتله ومتوت معه. وك�أنه ِ
ع
«ومنْ قال:
�سار نحوها مرة �أخرى وبهدوء غريب جل�س بجانبها وقالَ :
145
قالت با�ضطراب وك�أن عقلها الباطن مل ي�ستوعب هدف �سائد احلقيقي
لت�شوي�شها ودفعها للجنونً �« :إذا ماذا تعني �أنه لي�س طفلك؟!»
�صمتت للحظة واحده قبل �أن تتو�سع رماديتها بذهول وك�أن �صورة ما
مرعبة مرت بعقلها� ،شهقت دجوى بذعر بينما تراجعت �ضا َّمة نف�سها منه
تت�شبث بالغطاء الذي �سرتها هو به م�سب ًقا ،بالفعل كانت ال�صدمة من
ن�صيب �سائد هذه املرة عندما �سمعها تخربه بوجل وك�أنها امر�أة فقدت
عقلها بالفعل« :رباه ،هل خدرتني يف مرحلة ما وجعلت �أحدهم يعتدي
ص ع
علي؟!»
َّ
ع والتوزي
بعقلك �أين �س�آتي برجل
ِ كربت فيها ليخطر
من بني �أ�سنانه�« :أي قذارة ِ
�آخر يلم�س زوجتي؟!»
انحدرت عيناها نحو �شفتيه نحو �صراخه املتملك واعرتاف ترتجاه
منه ،تتع�شم فيه بغباء هم�ست بتو�سل مرير« :زوجتك!»
توقف كل �شيء للحظات ،بينما براكني اخلطر تتفجر حولها ،الغمو�ض
أنت زوجة يف
عاد يكت�سي مالحمه وهو يت�أمل التعابري امل�ؤملة على وجههاِ �« :
قانوين� ،أنثاي يا دجوى ،و�أنثى الذئب ال يجر�ؤ �آخر على النظر نحوها و�إال
كنت مرغمة». وحياتك �ستكون الثمن حتى لو ِ
ِ حياته
نرباتها املجروحة املت�أملة جاءت بغرغرة متوجعة وقالت« :و�أمام اهلل
�أنا زانية ،خدعتني وحولتني لغانية ،و�أنا �أعلم ببطالن ما يحدث ،بل �أعلم
بجهنم التي تنتظرين وبالعار الذي ح َّملتني �إياه ،فما تقوله ال ميت �إىل �أي
�شريعة �سماوية يا �سائد».
146
توح�شت مالحمه وهو يبت�سم ابت�سامة خميفة ،ثم ما لبث �أن حترك
نحو الأوراق التي �ألقاها �ساب ًقا عندما �أخ�ضعها لرغبته فيها ،انحنى
ليلتقط ذلك املغلف وق َّلب فيه بربوده اجلليدي املعتاد وقال« :الأمر ال
ي�شكل فار ًقا َّ
لدي».
ج َّفت مقلتاها من دمعاتها و�أ�صاب قلبها كتلة من النرتوجني فجمدته؛
�إذ �أ�صبحت ال ت�شعر بالأمل ال�شديد من تلك الطعنات املوجهة �إليها
ب�صمت ،روحها تخفت ببطء ،اال�ست�سالم املرير يكبل كل جزء منها،
ع
بينما يدها التي تختبئ حتت الغطاء كانت مت�سد �أح�شاءها ال �إراد ًّيا،
ر ش
متتمت دجوى بهم�س مرهق وك�أنها ا�ستنفدت كلواقدرةلتلهاوز عي
ب�أي ندم و�أنتم تختطفون حثالة ال�شوارع؛ لتفرغوا �أج�سادهم ال�صغرية
من �أجل املال و�شرا�سة نفو�سكم القذرة».
بالدفاع عن
نف�سها« :مل �أ�شرتك يف �أفعالهم ومل �أفرغ �أحدً ا ،متي �ست�صدقني؟»
يوما».
أ�صدقك ً
ِ قال بجفاف�« :أنا لن �
�صمت لربهة لي�ستعيد �سيطرته على ذاته ،ثم ما لبث �أن قال« :النهاية
فا�سمك يحتل تلك امل�ستندات
ِ حلقيقتك �شيء،
ِ واحدة ،لن يختلف اكت�شايف
بالفعل والعديد من ال�صفقات يذ ِّيلها �إم�ضا�ؤك».
ب�ساقني مرتع�شتني كانت جتاهد للوقوف �أخ ًريا ومواجهته ،قالت بقهر:
لعلمت �أن ذلك لي�س �أنا وال �إم�ضائي،
َ «�إن در�ستها ح ًّقا كما كنت ت َّدعي
�إمنا حماولة من قتلة والدي لإ�شراكي يف الأمر ت�أمي ًنا لأنف�سهم �إن جتر�أت
وب َّلغت ال�شرطة بعد معرفتي بكل �شيء».
147
قاوم رجفة عنيفة هزَّت �صدره من تخيله ملا تقوله ،ال ينكر �أنها يف
مرحلة ما من وجودها بني ذراعيه وا�ستجابتها املخزية لكل اجتياح بري
منه ،جعلته ال ي�شك فقط مبا ر�آه ،بل �أعادت برجمة عقله للثقة يف براءتها،
ب�أن هناك تف�س ًريا ما الكت�شافه.
مل ير َّد عليها فاقرتبت هي خطوة �أخرى مرتددة و�أخربته ب�صوت �أخذ
يف الثبات�« :أنت قلت� :إنه لن يختلف م�صريي معك؛ لذلك �أنا �أخربك
احلقيقة� ،أما ت�صديقك لها من عدمه مل يعد يفرق معي».
ع
مكافحا نف�سه � َّأل يت�أملها مرة �أخرى ،فالنظر �إىل عينيها تقب�ضت يداه
ص
ً
ر ش
والتوزي
قطعت جملتها تلجم نف�سها مقاوم ًة ذلك الأمل واملرارة وال�صدمة
ع
التي تعر�ضت لها �إثر اكت�شافها ،قاومت �أمام عينيه موجة �أخرى من الأمل
نف�سا مهتزًّا و�أكملت مبرارة�« :أنت تعلم �أن واالنك�سار واخلزي� ،أخذت ً
غ�سان الها�شم مات ً
مقتول».
هز �سائد ر�أ�سه ب�صمت موافق يراقب دمعها الذي ان�ساب دون �إرادة،
قالت ب�صوت مرجتف« :عندما ُق ِت َلُ ،ق ِّي َد احلادث �أنه انتحار ولكن وحدي
كنت �أعلم احلقيقة ،علمت �أنه عندما حاول �أن يوقف ما يفعله قتلوه
بوح�شية دون رحمة».
ليرتكوك».
ِ عاد جلفائه وقال بربود« :كاذبة مرة �أخرى ،مل يكونوا
قليل ت�سند نف�سها عليه وقالت م�ست�سلمة تراجعت نحو احلائط ً
بب�ساطة« :مل ي�ستطع «فهمي» وقتها؛ لأن كل �شيء كان با�سمي ويجب
�أن ي�ستويل عليه ،فقام بتزوير ما بني يديك ،ثم ا�ستوىل على كل �شيء،
وطردين �أنا و�أمي من ممتلكاتنا».
148
كالمك
ِ اقرتب منها �سائد بتمهل و�س�ألها بحذر مت�شكك« :كيف؟!
متناق�ض».
قالت بتيه وهي ت�ضع يدها على بطنها امل�سطح و�أخرى على جبهتها
علي».
وك�أنها تقاوم نوبة �إغماء �إجبارية« :هذا كثري َّ
قاوم رجفة ورع ًبا هو الآخر ،بينما تنزلق عيناه تتبع مت�سيد بطنها على
تلك النطفة التي �سكنت �أح�شائها ،ومالحمها ال�ضعيفة تذكره مبعاناة
�أخرى هم�ست له برعب يف تلك اخلرابة التي امتلكها فيها �أول مرة عندما
ع
تفاعلت �أج�سادهم املراهقة غري قادرين على مقاومة تلك احلاجة التي
و ت
والذيزييتلب�سه ل ا
عندما ي�أتي ذكر �أبيها �أو تتو�سله لإطالق �سراحها ً ع
�إخبارك لتبعدهم عني وحتميني،
فيه قاطعها بذلك ال�صوت الذي م َّيزت انعدام الرحمة
قائل�« :أخربيني
لك
هدرك ورمبا بعدها �س�أترك ِ
ِ ت�صديقك لعقليُ ،ك ِّفي عن
ِ واتركي حرية
أرميك».
بع�ض البقايا لتحيي بعد �أن � ِ
َ�ش َح َب وجهها حتى ما َث َل لون جثة ماتت بالفعل ،بينما رماد عينيها
يتحول للون ال�سحاب املح َّمل ب�أمطار لن تن�ضب من البكاء على �أطالل
مدينة حزينة حتطمت يف مواجهة �إع�صار ،وقالت�« :سائد ،اترك طفلي،
اترك يل ابني واجعلنا نبتعد و�أنا �س�أخربك كل ما تريد للق�ضاء عليهم».
حترك وجل�س بجانبها ،وامتدت ذراعاه تطوقها ،وانخف�ضت ك َّفاه
«كنت تريدين قتله منذ دقائق
لتالم�س بطنها امل�سطح وقال بنربة غريبةِ :
دجوى».
150
اختنقت وهي تقول بنربة عاجزة�« :أنا ال �أريد قتله ،ولكنك قلت� :إنك
�ستفعل به ما فعلوه بطفلك� ،أي قلب �صخر حتمل بداخلك؟ �أي جنون
يتملك عقلك؟ �أنا ال �أ�صدق»
من امل�ؤكد �أنها مل تر ذلك الأمل املتعاقب الذي طعن �صدره و�صعد
ليح ِّول تقا�سيم وجهه لنوبة من ال�ضعف والوجع ،تقب�ضت يداه �أكرث حولها
اكت�شفت ما فعل؟»
ِ وقال متجن ًبا حديثهاَ ِ :
«ل قتلوه؟ وكيف
الت َّفت بني ذراعيه تطوف عيناها مبالمح وجهه وقالت بخفقة موجعة:
ص ع
«حدث بينهم خالف فوجدين على طاولة م�شرحته جاهزة لنقل �أع�ضائي
زيتتق
ع َّب�ض ويداه دون وعي �أو تعليق �آخر كان ي�ضمها بقوة بني وال
ذراعيهتو
ت�صدقني». أخربتك � �ضحكت ب�أمل وقالت�« :
ب�إع�صار حول بطنها امل�سطح ،تعلقت عيناه يف عينيها ب�صمت مطبق ،غري
قادر على ك�سر تلك املرارة التي �أحاطت كليهما ،مل ت�ستطع �أن ت�صمت
�أكرث وهي تقول بت�شنج بينما ترتفع يداها ت�ستند على �صدره العاري ب�أمل:
«هل �صدمك �أن �آية لي�ست فقط من واجهت امل�شرط يا �سائد� ،أم و�سط
اغت�صابك يل مل ت َر ذلك ال�شق الذي ُيزين خ�صري؟!»
عادت لل�صمت مرة �أخرى لربهة ثم �أردفت« :ما �أ�صعب �أن �أمنحك كل
�شيء� ،أن �أتع�شم فيك كل �شيء ،قمة �أملي منك �أن تكون كل �شيء وال �شيء،
لقد وهبتك قلبي وثقتي وحبي ،و�أنت منحتني ال�ضياع واخلزالن فلم �أعد
�أعلم هل املوت على يدك �أهون �أم ت�سليم نف�سي �إليهم لينه�شوين �أرحم
على قلبي وطفلي من اغتيالك �أنت؟»
151
مل يرد لوقت طويل وت�ضا ُرب م�شاعره حتارب بو�ضوح براكني عينيه ما
بني التعاطف والرتدد والق�سوة ،مل ت�شعر دجوى �إال بتلك الطعنة اخلفيفة
هام�سا بجانب �أذنها:
املعتادة ويداه تتقب�ض حول طفلها بقوة وهو مييل ً
لك �أبدً ا ب�إخراج ذلك ال�صغري قبل �أن يحني موعد انتقامي «لن �أ�سمح ِ
عقلك قبل �أن
أنت �ستخربينني بكل �شيء يا دجوى ،و�ضعي يف ِ منك ،و� ِ
ِ
أنت �أنثاي يا ابنة غ�سان
إليك �س�أكون قد مزقتهم بالفعل ب�أ�سناينِ � ،
ي�صلوا � ِ
يقتلك ببطء �أحد غريي».
ولن ِ
ع
q q q
والتوزي ر
فعله من �أدغال الطبيعة ي�سود الأ�سود ويتعاظم ويتفاقم؛ لتنقلب كل
ع
املعادلة في�صبح املطالب باحلق ظاملًا ،والربيء جمرد قاتل عابر طريق
بدون تردد حيث ال رجعة منه ،حيث ال �سبيل من خالله �إال نحو الندم
والفقد ،حيث لن يرتك �إال الوجع والأمل ومرارة اخل�سارة.
q q q
منذ �ساعة �أو �أكرث يحوم ثالثتهم كذئاب �شر�سة قررت �أن تتحرك
نحو �أول انتقام حقيقي رمبا ي�شفي بع�ض غليله ،ولكن ما بال انت�صارك
طعمه م ٌّر يا �سائد؟! هل هزتك تلك الب�شرة الرقيقة التي مل�ستها و�أنت
تعلم �أن بذرة �أخرى منك ُزر َِعت بداخلها؟! نطفة مل ُت ِر ْد غر�سها هناك
عندما كنت تعذب رماد طريك الذبيح ،ت ًّبا ما اجلرمية التي افتعلها وهو
عاما؟ طفل من دجوى من ابنة يعلم م�صريه الذي ُحدِّ د منذ خم�سة ع�شر ً
غ�سان الذي انتوى �أن ي�صحبها معه يف اجلحيم� ،صغري ي�أتي به لتلك
الغابة لي�صبح عر�ضة لوحو�شها �آكلي اللحوم الب�شرية.
152
«�سائد هل �أنت بخري؟» جفل للحظة وهو يحدِّ ق يف وجه عمر دون
تعبري ُي ْذ َكر� ،ض َّيق �إبراهيم ما بني عينيه م�ستعج ًبا �إذ مل ير مديره ال�سابق
و�شريكه احلايل م�شتتًا من قبل ،انخف�ض عمر بقامته ي�ساوي جل�سة
هم�سا« :ما الذي يحدث �صاحبه التي مل يتحرك منها منذ �ساعات ،وقال ً
معك؟ وملاذا تهرب هنا منذ يومني؟»
احتقن وجه �سائد بالغ�ضب وهو يقول بتجهم« :ماذا تعني �أين �أهرب؟
�أال تراين بينكم؟»
ع
نف�سا عمي ًقا م�ص ًربا نف�سه حتى يعلم ما الذي ي�شغل بال �أخذ عمر ً
ر ش
والتوز عي
�أعلم �أنك تبيت يف ال�شركة ليلتني متتاليتني».
�ساد ال�صمت للحظات ،وكل منهما ينظر للآخر بعمق كا�ش ًفا كل
خلجة داخل روحه دون �أن ينطق �سائد الذي ُج ِّر َد من امل�شاعر الإن�سانية
ل�سنوات ،عقد عمر حاجبيه وذلك اخلاطر �أجفله هذه املرة بينما الآخر
�أ�سبل �أهدابه وقال بهدوء ال يعك�س جحيمه الذي يحياه:
«تعرف �أين لن �أخربك �إال ما �أريد؛ لذا دعنا نقول� :إننا بد�أنا �ساعة
ال�صفر و�أحتاج لكل �ضبط نف�س �أ�ستطيع احل�صول عليه ،فالتنقل بني
حياتني لي�س بال�شيء ال�سهل».
ابت�سامة بطيئة خبيثة ارت�سمت على �شفتَي عمر وهو ين�صب ج�سده
مرة �أخرى وقال�« :أتذكر �أن حتطيمها كان هدفك ،ولي�س ت�شتيتك وفقدان
�سيطرتك».
مل ي�أته الرد فعلم �أنه دخل قوقعته الباردة املغلقة مرة �أخرى ،ومن
يلومه؟ لقد مر على زواجه هو الآخر �شهر كامل �شهر بني �أركان اجلنة
153
مع �أكرث امر�أة متلك �صفات فطرية نقية ،امر�أة حنونة و�شجاعة ،عنيدة
مندفعة ،حاملة ومتلك قل ًبا من الذهب ونقا ًء مياثل الطفولة ،ولكنها
للأ�سف تفقد احلكمة وا�ست�شعار اخلطر.
ابت�سم ب�أمل متذك ًرا �أحالم امر�أته وحبيبة قلبه يف بيت دافئ وزوج
حمب و�أطفال ،متنحهم �إياه لتعو�ضه كل �آالمه ،ليت با�ستطاعته حتقيق
كل �أمانيها ،ولكنه بالت�أكيد لن ي�ضنَّ عليها بقلبه وحبه وع�شقه طاملا ما
زال يف �صدره نف�س يرتدد.
ريص ع
�سمع �صوت �سائد ي�شركهم �أخ ًريا يف خطته لهذه الليلة والتي �ستكون
ع والتوزي
«الليلة �ستكون نقطة التحرك يا �إبراهيم كالعادة� ،أنا �س�أذهب �إىل
ال�شارع� ،أما عمر دوره يف م�ست�شفى «فهمي» و�أنت بالطبع �ستتدبر �أمر
ذلك املخرب».
قال �إبراهيم واج ًما�« :أنت تخاطر بتواجدك هناك ،كما �أين مل �أفهم
�إىل الآن ما العالقة التي تربط ح�سان بال�شبكة؟»
وتوجه نحو النوافذ الزجاجية الوا�سعة ملكتبه
وقف �سائد من مقعده َّ
يراقب ال�شارع الراقي �أ�سفل ال�شركة وقال بعينني قا�سيتني« :ح�سان هو
نقطة الو�صل ،املوزع الرئي�س لر�ؤو�س الأطفال �أو حتى املراهقني ممن
ميلئون ال�شوارع ،وما نرتب له ي�ستحقه».
ورغ ًما عنه فال زال ح�س ال�ضمري والواجب القانوين يتحكم يف جزء
منه ،قال �إبراهيم بجمود« :حماد هو �أداتهم احلقيقية� ،أما ح�سان وغريه
جمرد حمرك ينفذون الأوامر ،ف ِل َم ال ُنو ِق ُع بهم جمي ًعا ويحاكمون؟»
154
يوما هو تروي�ض الوح�ش بداخله والتحكم بانفعاالته �أف�ضل ما فعله ً
ً
�صارخا يف �إبراهيم ،بل اكتفى �أن وغ�ضبه؛ لذا جمح جنونه حتى ال يلتفت
ذكره من بني �أ�سنانه بنربة قاطعة« :لقد وافقت على دخول دائرة االنتقام
متاما �أن تنفذ ما �أخططه �أنا».
ب�شروطي يا �إبراهيم؛ لذا �أنت ملزم ً
نفرت ع�ضالت �إبراهيم ال�ضخمة ومالمح وجهه تتل َّون بالغ�ضب
قائل�« :أنا ال �أنفذ �أوامر �أحد ،وظيفتي تن�ص على حمايتك، والرف�ض ً
ولكن الآن الأمر �أ�صبح �شراكة بيننا جمي ًعا؛ لذا ر�أي كل واحد منا مهم
حتى ال ن�ضيع جمي ًعا».
خي ُت َك و�أنت من انزلقت يف النار
ر ش
والتوز عي
على الفور هذا حقك؛ لأين وعمر نعرف حتديدً ا ما نحن مقبالن عليه،
وما هي نهاية هذا الطريق».
قائل بنعومة قاطعة تدخل ً عندما �شعر عمر ببداية اخلالف بينهماَّ ،
وحا�سمة« :اهد�أ نحن ال نفر�ض قوة هنا� ،أدوارنا مر�سومة يا �إبراهيم ،ولن
ن�أتي الليلة بالذات لرنجع يف خطة ُر ِ�س َمت بالفعل؛ لذا كما �أخربك �سائد
�إن كنت تريد االن�سحاب فالآن هي فر�صتك الأخرية».
جازما« :الأمرت�شددت قب�ضتي �إبراهيم بجانبه ،ثم ما لبث �أن قال ً
منته يا عمر �إال �إذا كنتما ال ترياين ل�ست منكم حتى اللحظة».
ٍ
هز �سائد ر�أ�سه بي�أ�س ثم ا�ستدار َيزْ َفر ب�ضيق قبل �أن يقول ب�سيطرة
على الذات�« :إن مل ُن ِر ْد َك بيننا تتعاون معنا مل نكن لن�ضع �أعناقنا بني
يديك ،هل هذا يريحك؟»
قبل �أن يجيبه �إبراهيم ب�أي �شيء كان �سائد يكمل بنربة �شاردة« :نحن
لن نخون �أبدً ا� ،إن منحنا عهدً ا نويف به و�إن جل�أ �إلينا �شخ�ص كنا عو ًنا له
155
نعامل كب�شر
نفتديه ب�أرواحنا؛ لأنه �أ�شعرنا ببع�ض الآدمية� ،إننا ن�ستحق �أن َ
ميكن الوثوق بهم ،نحن ال نبيع �أو ننه�ش �إال من يغدر بنا �أو يكون من خارج
غابتنا».
توىل عمر دفة احلوار مرة �أخرى ليرتك �صديقه يف �شروده حتى
ي�ستطيع �أن يلملم روحه جيدً ا لي�ستطيع �أن يواجه ما �سيفعلون الليلة:
«لقد حر�صت �أنا على منح فهمي النجار اخلرب الكاذب عرب ذلك الطبيب
ال�صغري عن ح�سان والليلة هم �سرياقبونه؛ لذا يجب �أن يحر�ص الرجل
ع
الذي من طرفك �أن يظهر معه �أمام العيان».
ر ش
والتوزي
�إليهم بالت�أكيد �سيفهم �أن االتفاق على ت�سليم ه�ؤالء الأطباء ولي�س جمرد
ع
جتارة ح�شي�ش وباجنو».
�شارحا« :لقد �أغريت املخرب باملال قبل �أن �أ�شرح له �أن
قال �إبراهيم ً
ح�سان جمرم خطري ي�ضيع ال�شباب برتويج املخدرات ،و�أريد �أن �أحكم
قب�ضتي عليه ،ولكن قبلها يجب �أن �أعلم �أ�سماء باقي املروجني».
تدخل �سائد مقرت ًبا منهم وانحنى على املكتب وهو ي�شري لدائرة ما َّ
قد ر�سمها �ساب ًقا ،وقال« :و�أنا ا�ستطعت الأيام املا�ضية �أن �أت�سلل داخل
بع�ض ه�ؤالء البلطجية؛ �أ�شرتي منهم مرة ،و�أ�شاركهم ال�شراب مرات؛ لذا
قليل؛ لذا ح�سان �سيكون حما�ص ًرا من ت�ستطيع القول� :إين ك�سبت ثقتهم ً
كل جانب ،ولكن ال تن�س �أن ه�ؤالء الأ�شخا�ص الذين ن�ستخدمهم معدومي
حري�صني
َ ال�ضمري يف الأ�سا�س ،يبيعون �أهلهم من �أجل املال ،فكونا
متاما� ،إن ُك ِ�ش َف �أحدنا وقعنا جميعنا قبل �أن ننفذ
ومبتعدين عن ال�صورة ً َ
الق�صا�ص».
156
أمل �سائد بوجوم« :الق�صا�ص! �سعيد ه َّز عمر ر�أ�سه وهو يقول مت� ً
عاما».
انتقاما ملدة خم�سة ع�شر ً
ً لتبديل املعنى يا �سائد ،لقد كان
�شحب وجه �سائد بطريقة مل يالحظها �إال عمر ،بينما الأمل يعت�صر
قلبه وقال بخ�شونة« :لن تفرق امل�سميات طاملا �سن�صل �إىل الهدف».
ا�ستدار �إبراهيم فج�أة وقال�« :أتعلما �أظن �أين �س�أرحل الآن ملقابلة
ليل ،كما �أنكما حتتاجان حلديث ذلك الرجل مرة �أخرية وبعدها نتجمع ً
منفرد».
ص ع
و�أمام عي َني �سائد اجلامدة كان يتحرك للخارج مغل ًقا الباب خلفه.
والتوز عي
الآن عن تلك الطبقة با�شمئزاز؟!»
اف َّرت فم �سائد عن �شبه ابت�سامة ميتة وقال« :ما كنت عليه لي�س �شيء
يوما ،ولكن �أنا مل �أقتل يا عمر ومل �أ�شرتك يف ب�شاعتهم ومل �أخجل منه ً
يوما».
�أل ِّوث يدي بالدماء ً
احت َّد �صوت عمر عند تلك النقطة وهو يقول بنربة �صارمة« :جيد �أنك
تتذكر هذا؛ لأين لن �أوافقك �أبدً ا �أن تبد�أ الآن بتلويث يديك».
�أظلم وجهه وقال« :لن نحتاج �أن نكرر حديثنا كل ب�ضعة �أيام ،عمرَ ِ ،ل
كل تلك اللفة التي افتعلتها لت�صفية �أول �أذيال الأفاعي؟!»
نظر عمر بتم ُّعن نحوه وقال« :كنت �أحتاج لتذكريك ،ف�أنا �أعلم جيدً ا
بجحيم غ�ضبك �إن ملحته قبل �أن ننفذ ما خططت له».
مثقل ب�شيء كالأمل وك�أنه يحاول جاهدً ا �إخفاء �صوته املكتوم كان ً
ألفمتاما عندما قال« :لهذا كنت � ُّ
م�شاعره لتذكر ما�ضيه ولكنه مل يفلح ً
157
و�أدور طوال ال�شهور املا�ضية حتى ال �أراه ف�أمزقه بيدي و�أ�شرب من دمائه،
�أُ ْم ِ�سك بقلبه بني يدي و�أ�سحقه بحذائي ،اخلائن احلقري هو َمنْ �س َّلمها يا
عمر� ،إنه قاتل طفلي».
ابتلع عمر ريقه �شاع ًرا ب�أمله يت�سلل �إىل قلبه متذك ًرا كيف منع �صديقه
يف تلك الليلة امل�ش�ؤمة من املخاطرة بروحه �أمام جندته حلبيبته وطفله،
حطمت
َ ثم ما لبث �أن قال« :هذا متو َّقع يا �سائد ،الندل كان يكرهك ،لقد
له وجهه �أكرث من مرة عندما �ضبطته وهو يحاول �أن يعتدي عليها».
ص ع
قال �سائد ب�سخط يت�صاعد« :وك�أن احلقري مل يكفه كل تلك الفتيات
ع
مكتوما،
ً لعمر بعينني مظلمتني خاويتني من احلياة قبل �أن يطلق زئ ًريا
ر ش
حبي�س م�سكني عاد لأَ ْ�س ِره ،لهثت �أنفا�س �سائد وهو يغلق عينيه ب�شدة
والتوز عي
هام�سا« :لي�س مرة �أخرى ،ال �أريد فعلها بنف�سي ،ال لي�س مرة �أخرى».
ً
ولكنه مل ي�ستطع ،مل ميتلك الإرادة والإميان ،م�ست�سل ًما لنريان جحيمه
وبراكني غ�ضبه غري املحتمل� ،أخرج ُم ْد َية �صغرية من جيب بنطاله وبهدوء
م َّد ذراعه وبد�أ يف ممار�سة �ساديته على نف�سه ،كانت الدماء التي خرجت
من�سابة على طول �ساعده تطفئ جحيمه ،رويدً ا رويدً ا تراجع بظهره
لي�ستند على احلائط ،وجل�س ببطء مع دمعه حارة طرفت عينه اليمنى
ف�سمح لها با�ست�سالم �أن تنعي ذكرياته ،هم�س بحرقة بينما توقفت يداه
�أخ ًريا عن تعذيب نف�سه« :لقد حاولت حمايتك من وحو�ش حماد ً
حفاظا
عليك وعلى نف�سي من تلك احليوانات القذرة ،مل �أكن �أعلم �أين كنت
عدك ك�صفقة لهم لتنايل نف�س امل�صري �صغريتي ،لينه�شوا براءتك قبل �أُ ِ
حلمك وطفلي».
�أن ي�أكلون ِ
q q q
159
مالحمه اجلامدة مل تتغري حتى وهو يجاهد لر�سم املهادنة على وجهه،
كل ما يحدث رغم �أنه من يندفع �إليه بخطوات مدرو�سة قد حلم به خالل
الأعوام املا�ضية ولكنها ترهقه ،تعيد له املا�ضي متج�سدً ا يف �صورة وح�ش
خميف ي�أبى �إال �أن يوقف الهواء من حوله.
«ما الذي يجري معك يا �سائد؟ ومنذ متى �أ�صبح اخلوف يطرق قلبك؟
منذ متي عادت الكوابي�س الب�شعة تغزو عقلك بعد �أن توقفت ومل يبق �إال
قلب بارد خا ٍو من احلياة يقتات على وعدك لنف�سك باالنتقام ،وم�شاعر
ع
جتردت من كل ال�صفات الإن�سانية ،متى �أ�صبحت تخاف؟ متى متكن منك
ع
تطالها �أيديهم؟ �شحب وجهه ونب�ضات قلبه ت�صاعدت ملعدل غري م�سبوق،
م�صدوما من تفكريه ،مرتع ًبا من
ً الرف�ض يتخلل لكل جزء من ج�سده
نف�سه يذكرها بقوة �أنها ابنة قاتل حبيبته وطفلته ،حترك حلقه ب�صعوبة
وهو يهم�س« :الطفل الذي حتمله هو ال�سبب ،هو من ي�شقق ذلك اجلدار
الذي بنيته ،ما كان يجب �أبدً ا �أن حتوي ابنة غ�سان نطفة منك».
املكان يعج باحلثالة ،انتبه �سائد لنف�سه وهو يرى تدفق رجال حماد يف
وكره القذر ،كتم �ضحكة �ساخرة من نف�سه مرددًا« :احلثالة» ،لقد كان هو
يف الأ�سا�س منهم بال �أ�صل وال ن�سب ،كانوا مهم�شني ملقون على جنبات
الطرق ،يجمعهم هدف واحد يف بادئ الأمر؛ �صراع البقاء وعدم الهالك،
وبالتدريج يحولهم املجتمع ملجرد ِج َراء �صغرية �أ�صابهم مر�ض ال�سعار
لينه�شوا من كل ما مير بهم قطعة تقويهم وجتعل لهم �ألف ح�ساب ،فما
بالك �إن كانت احليوانات املفرت�سة الكبرية هي من تنه�شهم � ًأول لينتقل
لهم ذلك الفريو�س اللعني؟! قال حماد مقاط ًعا �صمته�« :أكاد ال �أ�صدق
160
نف�سي �أن �سائد القدمي عاد ،ح�صيلة الليلة مل نحققها منذ �سنوات يا
رجل».
حترك �أنف �سائد مع رفع فمه ميي ًنا وي�سا ًرا بحركة �شر�سة ملزمة له،
بع�ضا من املظهر الإجرامي املعتاد قبل �أن يقول بنربة ف�أخذت مالحمه ً
حيوان مفرت�س على و�شك االنق�ضا�ض« :يجب �أن ت�صدق ،تلك البداية
فقط ،و�أعتقد �أين يف الأيام ال�سابقة �أثبت لك �أن لقب الذئب مل �أ�ستحقه
َع َر ً�ضا» بنظرات خبيثة طامعة ميل�ؤها الإعجاب قال حماد« :وهذا ما
أثبت يل �أن تربيتي يجعلني �أ�س ِّلم لك كل ما تريد و�أنا ٍ
را�ض عنك ،لقد � َّ
161
«�أنا �س�أذهب الآن ال �أريد لرجالك �أن يروين ».دون �أن ي�صرح با�سمه
َف ِه َم حماد من يعني برجاله فقال بنربة �آتية من اجلحيم« :ر�أ�س ح�سان
حتتاج �أكرث من �أموال يا �سائد».
انخف�ض ج�سد �سائد ونظر حلماد بنوع من الق�سوة بتحدٍّ غري متنازل
�أ�شعر معلمه مرغ ًما ببع�ض الرهبة والتوج�س عندما قال بنربة �أ�شبه
بالفحيح�« :أنت طلبت و�أنا نفذت ،ووعدك يل لن ت�ستطيع الإخالل به ،كما
�أين مل �أ�ستلم منك �أحدً ا بل كل ما يحدث �أقوم به وحدي؛ لذا �أنت جمرب
ع
تغ�ض ب�صرك ع َّما �سوف يحدث ،لقد مررت معلومة خيانته لفهمي �أن َّ
ر ش
والتوزي
�سائد ،تذكر يف ح�ضرة من تقف� ،أما عقابي حل�سان �أو غريه ال يخ�صك،
ع
�أنت تنفذ فقط».
رد �سائد �سري ًعا بهجوم حيواين لفر�ض القوة والكلمة الأخرية�« :أنا
قا�س مرعب ،ورغم ذلك �سمح �أعرف �أمام من �أقف ،يف ح�ضرة معلم ٍ
لأحد ح�شراته �أن يتالعب به يف املا�ضي واحلا�ضر� ،أن يتخطاه وي�سلم
�إحدى َمنْ كانت حتت حمايته دون �أن يعود �إليه».
توتر حماد للحظة واحدة وهو ينظر لتحفز من �أمامه ،وجهه الغا�ضب
يذكره بيوم علم بقذارة ح�سان� ،أنه �س َّلم �آية وطفلها مقابل خم�س مائة
جنيه لفهمي ،وبالطبع اختفاء �سائد وعمر ليخ�سر يف حلظة �أهم ذراعني
لديه ،يتذكر جيدً ا العقاب الذي �أنزله على ر�أ�س ح�سان ،ولكنه تدارك
�أمره �إذ �أخرب باقي رجاله ب�أنه َمنْ �أمر باخلال�ص من الفتاة حتى ال
يفقد هيبته بينهم ،كما �أنه �صفح عن ح�سان حتى يقلل من خ�سائره ،وقد
�أخل�ص ح�سان له خالل الأعوام املا�ضية ،ولكنه بد�أ يتمرد خالل الفرتة
162
املا�ضية ،بل وعلم من بع�ض رجاله �أن ح�سان يقوم بعمله اخلا�ص يف تلك
التجارة ،ي�سلم فهمي ً
بع�ضا من �أطفال ال�شوارع املقيمني يف الأزقة �أو حتى
يخطف بع�ضهم ،لقد �أ�صبح احلقري ثعبان خطر �شر�س يهاجم كل فري�سة
متر من �أمامه ،ومن املمكن �أن تتفاقم قوته ويهاجمه؛ لذا ت�سليم ر�أ�سه
ل�سائد هو حله الأمثل.
q q q
كان يراقب ح�سان ورفيقه بعي َني �صقر بعد خم�سة ع�شر ً
عاما ،ها هو
ع
يرى �أول َمنْ �س َّلم روحيه للموت ،فكاد يفقد �أنفا�سه وهو ميار�س باحرتاق
ب لqلنq
�سوف يحدث بعد دقائق يجعل غليله يرتاجع ً
قليل.
رو ش
التوز عي
q
«يف قانون الغابة البقاء للأ�شر�س والأقوى� ،أما باقي القطعان ما هي
�إال وجبات د�سمة مهمتها الوحيدة اال�ست�سالم لتحوم تلك الوحو�ش حول
�أج�سادهم ي�ؤدون رق�صة املوت قبل افرتا�سهم بب�ساطة».
q q q
رغم وقوفه منذ �ساعات يتنقل بخفة ذئب بني الظالم يتتبع خط �سري
ح�سان �إال �أن ما �سرياه قري ًبا منحه القوة وال�صمود لي�شاهد بت�صرفات
حم�سوبة وخربة اكت�سبها من ما�ضيه ،كان يتخفى وراء �أحد �أكوام القمامة
املنت�شرة يف املكان ،و�شاهد بعينيه ثالثة من امل�سجلني اخلطر يجتمعون مع
ح�سان الذي ظهر من بعيد ً
قائل بت�أفف« :ملاذا مل حت�ضروا �إىل الع�شة؟
لقد �أ�ضعتم احلجرين َ
اللذين �ضبطت بهم مزاجي».
163
�أ�شار له �أحدهم وهو يقول ببطء رغم عنف نرباته« :نريد �صفقة
جديدة ولكنها كثرية العدد هذه املرة ،ما ر�أيك؟»
التمعت عيناه باجل�شع و�سال لعابه وهو يقرتب منهم بتلهف غري منتبه
للأ�سلحة البي�ضاء التي يحملونها ،وقال على الفور�« :أي كمية ،نحن خدام
ال�سيادة ولكن هذه املرة �س�آخذ مائتي جنيه على الر�أ�س الواحدة ،ف�أنا
لدي ب�ضاعة نظيفة واردة من البيوت مبا�شرة». َّ
ا�شم�أزت مالمح �سائد ،احلقراء يتعاملون مع الأطفال واملراهقني
ص ع
ماذا؟»
والتوز عي
هل ُج ِن ْن َت؟ عن �أي خيانة و�شرطة تتحدث؟ لقد �أرادوا بع�ض التافهني
الذين يوزعون احل�شي�ش والباجنو».
ازدادت مالمح �شعبان قتامة �إجرامية وبحركة �سريعة كان ي�ستدير
حول ج�سد ح�سان يكبله من اخللف بقوة مل مينحه حتى الفر�صة وهو
يرفع �سكينه وبقوة وثبات ي�ضعها على رقبته وقال« :وك�أننا �سن�صدقك
حتى و�إن كان ،فمن يخون مرة يغدر مرات و�أنت رائحتك فاحت ويجب
اخلال�ص منك».
ابي�ضت ،حاول االعرتا�ض ،ال�صراخ ،تربير جحظت عي َنا ح�سان حتى َّ
موقفه ،تقدمي الوالء والطاعة ،ولكن ن�صل ال�سكني ال�ساخن الذي مر على
نحره بنعومة و�سال�سة �أنهى مهمته وقطع جلده بالفعل ،نفذ ليمزق �أحباله
ال�صوتية ،وا�صل �شعبان عمله بجمود حتى ف�صل الر�أ�س عن اجل�سد
غطت املكان علىمتاما ،وتركه لي�سقط حتت قدميه يف ِب ْر َكة الدماء التي َّ
ً
165
الفور ،بجمود قال �شعبان �آم ًرا« :اذهبوا لتح�ضروا ال�سيارة لنحمل هذا
الر�أ�س اجلديد وقد �أمر الكبري ب�أن ال ُي ْه َدر».
مل يتحرك �سائد من مكانه رغم انتهاء الأمر ،مل ي�ستطع �أن يربح مكانه
بجمود جليدي خماط ًرا باكت�شافه ،كان ينظر من بعيد جل�سد ح�سان
املف�صول عن ر�أ�سه ،متذك ًرا ذلك القذر ويده حتاول �أن تطال زوجته حتى
بعد �أن علم اجلميع ب�أنها انتمت �إليه وحتمل �صغريه ،وبعني اخليال ر�آه
يعود ويقدمها ملجزرة فهمي النجار الذي يحتل الآن ر�أ�س قامته متذك ًرا
ع
�أن ث�أره مع فهمي �أ�صبح ث�أرين ولن ُيفرط �أبدً ا يف �أخذهما.
q q q
ع
تو�سعت عيناها ووجهها يتحول لل�شحوب�« :أنت ل�ست �سيدي ،بل جمرد
ص ع
ح َّدقت دجوى فيه بعدم ت�صديق ،مدرك ًة �أن الروح املنفرة الكريهة
ع والتوزي
فيه واليد الأخرى تزيح �شعرها الق�صري خلف �أذنيها كحركة الأم�س
ليك�شف وجهها كله ،وهو مييل يهم�س بجانب �أذنها بخفوت �أرعدها« :هل
يوما يا دجوى؟»
�سمعت باملحظ َّية ً
ِ
مل تر َّد وعلم �أنها لن تر َّد؛ �إذ �أدرك مقدار الرعب الذي ي�سببه لها
اقرتابه ف�أكمل بنف�س النربة« :بالطبع تعرفينها ،ما هذا ال�س�ؤال الغبي؟
م�ؤكد در�س ِت ِه يف املناهج الأجنبية ،التي كان يدفع والدك م�صروفاتها من
املال الذي يح�صل عليه مقابل �أع�ضاء الأطفال الب�شرية».
حاولت �أن تفلت من بني ذراعيه �إال �أنه �شدد من تطويقها ف�شعر
ٍّ
مت�شف: بج�سدها املهتز ب�سبب البكاء العنيف ف�أردف هو بانت�شاء
«املحظ َّية هي زوجة م�شرتاة بطريقة ما تكون ملك �سيد واحد ،ف�إن
نف�سك
ِ يهمك احلرام بتلك الطريقة يا ابنة غ�سان الكلب ،اعتربي كان ِ
حمظ َّية».
168
حاولت التما�سك والتحلي بالقوة املقاومة وهي تقول�« :أنا ل�ست
جدا
حمظية� ،أنا حرة يا �سائد ،حرة رغم �أنفك ،و�س�أحترر منك قري ًبا ًّ
هاربة بطفلي من جحيمك».
�ضحك �سائد دون مرح ويده تقب�ض على ذقنها بق�سوة راف ًعا عينيها
قائل من بني �أ�سنانه بخطورة لتواجه الغ�ضب املتموج يف �سواد عينيه ً
أوهامك ،من حتمليه من
ِ مهددة�« :أي طفل هذا يا دجوى؟ �أفيقي من �
أبيك الكلب� ،أي ق�صا�صي �سيتحقق بالعدل �أخ ًريا ،دماء زوجتي دماء � ِ
ع
ر�ضيعك».
ِ �أمام دمائك ،وروح طفلي �سيدفع ثمنها
ر
احلقيقيروحهبني �فج�أةأو�صالها:فمالوال وز عي
مرة �تأخرى يخربها
�أنت حتاول �أن تفقدين عقلي لي�س �إال».
تل َّون وجهه ب�سموم قفزت �إىل
بنربة جمنونه دبت الرعب
«بلى دجوى ،بالأم�س فقط �أخذت �أوىل خطواتي يف تلويث يدي بالدماء،
و�صدِّ قيني الأمر ال يحتاج �إال مرة �أوىل كي �أُخرج الوح�ش احلبي�س بداخلي
�إىل الغابة الف�سيحة ليتغذى على كل فري�سة تقابله ً
متلذذا بطعم كل قطرة
وابنك لن تكونوا ا�ستثنا ًء».
أنت ِ دماء و� ِ
ما يفعله ويقوله يزيد من �ضغطها النف�سي مع هرمونات احلمل
وتقلُّب نف�سيتها التي �أ�صبحت يف احل�ضي�ض جعلها فاقدة للمنطق للتفكري
والعقل ،انفجرت املفرقعات داخل عقلها يف وقت غري منا�سب �إطال ًقا
وفكرة واحدة ت�سيطر على عقلها ،ال حل �آخر ،نظرت �إليه بوجل وهي تقول
ب�أ�سنان ا�صطكت ببع�ضها�« :س�أقتلك ،قبل �أن تلم�س يديك �صغريي».
169
�ضحكة �ساخرة تو�سعت عندما مال مرة �أخرى بهدوء يلثم خدها
أعلمك فقط �أن
ا�ستطعت يا دجوى ،ولكن �أريد �أن � ِِ بخفة وقال« :افعلي �إن
أنت ومن حتمليه». موعدك اقرتب � ِ
ِ
«ل تفعل ذلك بي؟»تهدجت �أنفا�سها وهي تقول متمتم ًةَ ِ :
للحظات طويلة مل ير َّد� ،شفتاه معلقة على وجنتها� ،أنفا�سه تخرج غري
أخربك بع�ض الكذب
متزنة ،ثم ما لبث �أن قال�« :أتريدين ال�صدق �أم � ِ
املريح؟»
ص ع
�أغم�ضت عينيها ب�أ�سي وقالت با�ست�سالم�« :أريد ال�صدق ،م�ؤكد لن
ع والتوزي
حتمله� ،أمتنى املوت يف كل حلظة رمبا يرحمني مما �أعاين ،يخل�صني من
العذاب الذي �أعي�شه كل ليلة منذ �أعوام� ،أنا �أموت يف كل مرة واحلادث
يعود لعقلي بتتابع ذكريات املكان القذر الذي كربنا فيه ،ذلك ال�شعور
القاتل باجلوع ،تذمر ل�سعات حزام حماد على ج�سدي ،كل �شيء ع�شته
كان احل�ضي�ض بعينه ،نار من َ�س َقر تتفجر بداخلي».
نظرت له بعينني مرتعبتني ،م�ستوعب ًة �أنه للمرة الأوىل يخربها عن
بع�ض ما عاناه ،عن بع�ض �أوجاعه حتى و�إن كان يداريه ببع�ض ق�سوته التي
يق�صد بها دفعها للجنون.
قالت« :وما تفعله بي يهدئ نارك يا �سائد؟»
ا�شتدت مالحمه مرة واحدة وقال بنربة قاطعة جازمه حا�سمه« :نعم
عانيت من عذاب ور�أيته بعيني ف�أت�شفى
ِ عقلك �أو
فقدت ِيا دجوى ،فكلما ِّ
منك يخفف ً
بع�ضا من النار أبيك الكلب؛ لذا انتقامي ِ روحك وروح � ِِ يف
عليك يا دجوى».
متاما عندما �أق�ضي ِ بداخلي و�ستنطفئ ً
170
�ساد �صمت ثقيل بينهم وبثبات انفعايل كانت تخربه« :الإن�سان هو من
يحدد خياراته لي�سمو بفطرته �أو يهبط للوحل ويلقى جزاء ما فعلته يداه يا
�سائد؛ لذا رمبا �إن تذوقت من نف�س ك�أ�س دائك يكون دواءك».
�ساحما لعينيها �أن ترى جروح وحروق ج�سده
ً ابتعد عنها هذه املرة
املتعددة ،وقال �ساخ ًرا« :ك�أ�س احلنظل �شربته قطرة قطرة حتى �أ�صبح
طعمه املرير هو املذاق الوحيد الذي �أ�ستطعمه».
ارتع�شت �شفتاها بتوتر ومل يخف عنه الإ�صرار يف عينيها وقالت« :دعنا
ص ع
فقط نثبت وجهة نظر كل منا يا �سائد».
طبيبيع
بالطبع فهمي ال ي�أتي �إىل هنا اجلديد، يف ال�سابق وعلم �أنه وكر فهمي
تخدير
وخم�سة �آخرين ما بني طبي َبي اجلراحة معدومي ال�ضمري والذين تقت�صر
�أعمالهم على عيادات قذرة ميار�سون فيها كل ما هو خارج عن القانون
وبع�ض البلطجية� ،سمع �إبراهيم يخربه« :للإيقاع بهم متلب�سني نحتاج
للو�صول للمورد الأ�سا�سي».
�أجابه �سائد ب�صقيع« :تق�صد ت�صفيتهم ،ال تقلق كل �شيء مرتَّب له يف
ر�أ�سي م�سب ًقا ،ولكن �أحتاج للت�أكد � ًأول� ،أريد �أن �أدخل �إىل هذا املكان يا
�إبراهيم».
رد بتجهم« :ولكن تلك خطوة خطرة غري حم�سوبة العواقب قد يو ِقعون
بك».
171
قال �سائد بربوده املعتاد مقر ًرا و ُم ْن ِه ًيا اجلدال« :تعلم �أين �س�أفعلها،
ف ِل َم اجلدال؟ فكل خطواتي القادمة مرتبة على �أن �أرى بعيني داخل هذا
املكان».
مهموما م�ص ًربا نف�سه وهو يهز ر�أ�سه ب�صمت، ً نف�سا
�أخذ �إبراهيم ً
مدر ًكا �أن �سائد خارج نطاق حمايته ،من الأ�سا�س الرجل يت�صرف بعقل
�إجرامي حمنك حتى هو ي�صعب عليه جماراته.
يحتاج عقله لبع�ض الإلهاء ،فقد قرر �أن غدً ا �سيقتحم وكر فهمي
ع
املغطى حتت ا�سم عيادة للغالبة ،ابت�سم �ساخ ًرا من كل �شيء حوله،
ر ش
والتوزي
رجع بر�أ�سه م�ستندً ا على الفرا�ش ،متذك ًرا وجه الأخرى التي تراقبه
ع
منذ يومني بنظرة غريبة ،نظرة �إ�صرار وقوة ،خوف ورهبة وت�صميم ،مل
عجليقرتب منها منذ اعرتافها له ،منذ �أن �س َّلمته معلومات �ستجعله ُي ِّ
مبهمته وي�صل لر�أ�س الأفعى فهمي النجار ب�سهولة مل يتخيلهاَ ،ل َف َت نظره
دخول دجوى امل�ضطرب ،وكانت تهم�س ا�سمه بلهاث� ،صدرها يعلو ويهبط
وك�أنها جتاهد للتنف�س ،اعتدل �سائد ببطء وعينيه الذئبية تر�صد كل
خلجة من خلجات �أنثاه ،تعاين وترتعب وتت�أمل بل وتتمزق ب�ضياع� ،ضياع
بعامل فقدت فيه طهرها و�شرفها وهو من رماها بيديه يف هذا الوحل،
هول من اخلوف كلما اقرتب منها ،ويعلم جيدً ا �أنه يدفعها �إىل تنتف�ض ً
حافة اجلنون مبا يفعله ويتفوه به ،ا�ست�شعر جنو ًنا يف رماد عينيها املنطفئ
التائه وكانت ت�ضم بطنها بكال ك َّفيها كحماية ،فمنذ �أن �أخربها عن نيته
احلقيقية وهدفه من احل�صول على طفل منها يحمل الدماء القذرة لغ�سان
الها�شم ،ورغم ب�شاعة ما �أخربها به ،ونزاعه الوح�شي الذي ي�أكل �صدره
وف�ؤاده ،ولكنه مل ي�ستطع �أن يتعاطف معها وهو يراها تتخبط ورمادها
172
يتحول لربكتني بلون الدم املتخرث ،كان يحتاج ب�شدة ل�صرف تفكريها عن
جلوئه املقيت لذراعيها� ،أخ ًريا و�صلت �إىل طرف ال�سرير تخربه بتح�شرج:
«�سائد �أنا »...
تعرثت حروفها� ،شحب وجهها لي�صبح بلون اجلليد الذي ت�ست�شعره
يدب يف كل طرف من �أطرافها ،بينما هو ينظر لها مبالمح مغلقة مرغ ًما ُّ
يرى من خلف ك�سرها قوتها ،حتديها وعزمها على �شيء مل ي�صل ملعرفة
ما هو ،مزيج َب َدا ً
جميل �ساح ًرا خال ًبا ،مغر ًيا ل�سائد �أن يعود يتل َّم�سها
وي�ضمها ويغرق بها وفيها يف بحر من جلة امل�شاعر املبهمة التي جتعله
ر ش
والتوز عي
�أفاق نف�سه بقوة عندما راقبها تقول �أخ ًريا ب�صوت باهت مطعون يف
�صميمه متح�شرج�« :سائد �أنا �أوافق على عر�ضك� ،أوافق على �أي �شيء
تطلبه ،ولكن �أخرج طفلي من معادلة انتقامك».
قليل وهو يحاول �أن يتذكر �أي عر�ض هذا الذي �أخربها عنه ،ما عبث ً
بالها هل فقدت عقلها ح ًّقا وتهذي؟!
�شهقت مذعورة عندما مد ذراعه فج�أة و�أحاط مع�صمها ب�أ�صابعه
ليطبق عليها بقب�ضة من فوالذ وي�سحبها بعنف لتقع فوقه وهو يقول بربود
أحببت نطفتي يا دجوى عك�س جحيمه وتفكريه الذي خب�أه بجدارة« :هل � ِ
كرهك لها ،بلِ أعلنت مرا ًرا ومنذ اللحظة الأوىل بهذه ال�سرعة؟! لقد � ِ
وطوقك للخال�ص منها».
ِ
�أحا�سي�س جمنونة ت�شعر بها تت�صارع بداخلها وجتعل كل متا�سكها
وعزمها يطري يف الهواء ،حاولت التمل�ص منه �إال �أن يده ازدادت ق�سوة
حولها ،بينما يده الأخرى �أم�سكت بوجهها� ،أ�شاحت بوجهها مذعورة
173
تبتهل بداخلها � َّأل ي�شعر مبا تخبئه بني طيات مالب�سها ،حاولت ت�شتيته
وهي تقول« :ال� ،أنا �أكرهك ب�شدة� ،أحقد عليك ،ولكن طفلي يبقى طفلي،
ما ينب�ض بداخلي يكرب بني �أح�شائي هو ابن »...
هبطت غالالت دموعها بحرقة قبل �أن تدفن ر�أ�سها يف كتفه ،فت�صلب
م�صدوما مبهوتًا م�صعو ًقا من منطقها« :ما بداخلي ابن الرجل ً ج�سده
الذي �أحببته ،من �سلمته نف�سي را�ضية ،من �أنقذين ومنحني الأمل
ذراعي منذ يومني ،وبالت�أكيد هذاَّ وتزوجني ،من �أتى يلج�أ �إىل غمرة بني
ع
لي�س �أنت� ،أنت جمرد �شيطان ،ذئب يف هيئة �آدمية نه�ش حلمي احلي،
ر ش
والتوزي
خدعتك ،ف ِل َم ت�صرين �أن تعي�شي الوهم؟!»
ِ
ع
مل ترفع ر�أ�سها من كتفه ،مل ت�ستطع �أن تواجه عيناه ال�سودواين ،دائ ًما
ينظران لها بحقد وبريق وح�شي« :رحمتك رباه ،ما زال القلب العا�صي
يحبه ،يتعاطف معه ويتفهم جنونه ،ولكنك تعلم يا اهلل �أين مل �أحتول
لزانية ب�إرادتي».
عند هم�سها املت�ضرع مذكر ًة نف�سها بث�أرها وبنجدة طفلها مما ينتويه،
متالكت نف�سها وهي تخربه بتح�شرج متبلد« :لأن احلقيقة �ستجعلني �أقتل
نف�سي دون تردد ،الوهم هو �أملي الأخري وجدران حمايتي من ال�سراب
الذي وجدته معك� ،أن �أعي�ش بوهمك املريح خري �ألف مرة من احلقيقة
التي قتلتني بر�صا�صك الغادر يا �سائد».
املرارة يف �صوتها جعلت ذرة �إن�سانية معدومة لديه َد َح َر َها منذ زمن
تهب للخروج؛ فرفع ذراعيه يحيطها بهما ويحت�ضنها بقوة وير ِّبت على ُّ
جدا بانهيارهاظهرها� ،سيكذب �إن قال� :إنه يتعاطف معها بل ي�ستمتع ًّ
174
ومتردها وا�ست�سالمها الآن �إليه وعدم مقاومته ،لقد حر�ص �أن ينالها من
قبل بطريقة جتعلها ت�ست�سلم يف حلظة من اللحظات ،فهو لي�س مغت�ص ًبا
ومرحبة كما يحدث الآن ولن تكون متعته باغت�صابها بل بنيلها را�ضية ِّ
بال�ضبط ،لقد �أ�صبح ج�سدها وقلبها يتعرفان عليه تلقائ ًّيا فيجربها على
اال�ست�سالم التام ،عند هذا اخلاطر ابت�سم ببطء ي�ضمها �إليه فت�شبثت به
بكال ذراعيها تع�صر قمي�صه من اخللف ع�ص ًرا بيديها ،مرغ ًما عادت
وجل يتمرد ويجربه على اخلفقان امل�ؤمل من الثورة امللعونة داخله بقلب ِ
�أجلها« :اللعنة ،ت ًّبا هو ال يحبها ،هي ال تعنيه هو ي�ستمتع مبا يحدث معها».
ريص ع
ً
ا
غافل يف غيمة م�شاعره كانت هي تبكي بحرقة تتم�سك به ك�أنه احلياة،
والتوز عي
�أوتيت من قوة خلف ظهره وهي تخربه بت�أوه مكلوم�« :ساحمني ،واهلل �إين
�أحببتك وتعاطفت معك ،بل وتفهمت انتقامك منه َّيف �أنا ،ولكن �إىل هذا
احلد يكفيني �أذاك يا �سائد� ،إال طفلي».
جحظت عينا �سائد ب�صدمة وذهول عندما �شعر بن�صل ال�سكني
ينغر�س يف ظهره.
طعنة ال�سكني احلادة جعلته ي�صرخ برد فعل تلقائي ،وبغريزة ب�شرية
للبقاء كان يدفعها عنه بقوة غري مق�صودة �أبدً ا ،قوة كانت كافية لتطيح
بها بعيدً ا عنه حتى الطرف الآخر من الفرا�ش.
ً
مذهول، م�صدوما
ً للحظات طويلة مريرة تو َّقف الزمان و�أُ ْع ِد َم املكان
كان ينظر جل�سدها امل�سجى �أمامه ،ي�شعر بالدماء التي ت�سيل بخط من نار
على ظهره �شاعر باجلرح العميق الذي افتعله �سالحها ،ولكن م�ؤكد مكانه
متاما ،مرت حلظات ودقائق و�ساعات ،م�ؤكد هو ال يعلم مطل ًقا ،مل خا ٍو ً
175
ي�ستوعب عقله بع ُد ما فعلته ،ينظر ملا حوله وك�أنه يف فيلم هزيل� ،شهق
طال ًبا للهواء ب�صوت �أ�شبه بخوار حيوان جريح �أفاق من �صدمته ال�ساكنة
متاما ،بقوة ممتزجة بعذاب خفي كان مدر ًكا �أن �أنفا�سه كانت متوقفة ً
ً
�صارخا فيها ب�صوت مكتوم متجن ًبا ينتف�ض من مكانه �أخ ًريا ،توجه �إليها
جرحه الذي يئن من الأمل متنا�س ًيا دمائه التي ت�سيل �أمام تدفق دمائها
فعلت يا
التي �أغرقت طرف ال�سرير ويديه التي حاوطت ر�أ�سها« :مادا ِ
أرجوك
أذيتك � ِدفعك ،مل �أق�صد � ِ
غبية؟ دجوى� ،أجيبي ،يا اهلل مل �أق�صد ِ
ع
�أجيبي بحق اهلل».
والتوزي ر
مت�شنجا وعاج ًزا بينما عقله يع�صف به �آالف الت�صورات ولكن ال �شيء
ً
ع
مهم ،يف حلظات حتامل على نف�سه وجذب من�شفة بجانبه كتم بها الدماء
التي ت�سيل من ر�أ�سها وحت َّرك على الفور يطلب رقم �إبراهيم بع�شوائية،
�أمره فور �أن رد« :زوجتي حامل ،وتعر�ضت خلبطه قوية على الر�أ�س،
�أريدك �أن ت�أتي بزوجتك يف احلال».
قال �إبراهيم على الفور�« :سائد امل�صاب يذهب للم�شفى ال �أن ت�أتي �إليه
زوجتي ،وقد توقفت عن ممار�سة املهنة».
�صرخ �سائد دون �سيطرة« :لن �أذهب بها �إليهم ،لن �أمنح �أحدً ا منهم
منته».
يوما ،الأمر ٍ الثقة ً
«غبي ،مري�ض نف�سي يحتاج العالج ».هتفها �إبراهيم وهو ي�صرخ هو
الآخر فور �أن �أغلق �سائد هاتفه.
q q q
176
كان ينظر �إىل الأدوية وامل�ضاد احليوي الذي تركته نرمني بعد �أن
�أخربته �أن اجلرح غري عميق ،حتتاج فقط بع�ض الراحة و�ستكون بخري،
�أما الطفل ف�أخربته �أنه لي�س جمالها ولكن كونها امر�أة و�أم ا�ستطاعت �أن
متاما.
تعرف بطريقة ما �أنه �آمن ً
من بني الظالم الدام�س فتحت عيناها ببطء تنظر �إليه بوجهها الذي
�أ�صبح بلون الرماد املماثل للون عينيها ،مل ينزع عيناه عنها ومل تتنازل هي
يف النظر �إليه بغرابة ،هم�س بهدوء�« :أردتِّ قتلي يا دجوى».
ص ع
رغم �إجهادها خرجت كلماتها ب�صعوبة�« :إن �أردت قتلك مل تكن يدي
ب ِ
ل
هدفكلياندجوى؟»
ر ش
منها للغاية دون �أن ي�سمح لنف�سه بلم�سها ،وقال
ريص ع
لن تكون من�صفة �أبدً ا و�سط ذلك الإع�صار الذي يزلزل كل ثوابته� ،شعر
ع والتوزي
ا�ستطاع �أخ ًريا مرغ ًما �أن ينحني ويطبع ُق ْب َلة على جبهتها و�أخربها
أنت حمقة ،هذا الطفل خطيئة لن �أغفرها �أبدً ا لنف�سي، بنربة تائهةِ �« :
معك يا دجوى».
خطيئة متاثل وقوعي ِ
q q q
بذكاء ذئب وخفة فهد كان �سائد يت�سلق على موا�سري املنور الداخلي،
حتى ا�ستطاع �أن ي�صل للدور الثالث ،وعرب �شرفة �ضيقة ا�ستطاع �أن يدفع
متاما �أن ال ًّ
م�ستغل جنح الليل ،مطمئ ًّنا ً بج�سده داخل تلك ال�شقة العفنة
�أحد منهم �سيبقى الليلة ،بخفة كان يدفع الباب ويخطو للداخل وليته مل
يفعل ،جت َّمد مكانه للحظات ،وهاله ما ر�أى.
يند�س يف غرفة
ا�ستطاع ب�صعوبة �أن ي�سيطر على ارجتاف �ساقيه وهو ُّ
�صغرية و�ضيقة تبدو �أنها ُت�ستخدم خلزين ما� ،أخرج هاتفه وقال ب�صوت
متقطع يخرج من اجلحيم بعينه« :ال�شرطة ،ب�سرعة يا عمر� ،أنا و�سط
178
مذبحة عدمية الرحمة ،وقعت يف جمزرة غري �آدمية� ،أَ ْ�س ِر ْع يا عمر
�أرجوك».
�أخف�ض هاتفه بينما يراقب بعينه غري قادر على �إغما�ض ب�صره عن
امل�شهد املاثل �أمامه ،رجالن يحمالن �أج�سادًا �صغرية هزيلة يقومان
ب�إلقائها داخل الغرف املقابلة ،بينما هناك �أكرث من �ستة رجال م�ؤكد لن
ي�ستطيع �أن يتعامل معهم مبفرده ،كتم �سائد فمه بكلتا يديه وموجة غثيان
تهاجمه ودموعه تت�ساقط ب�صمت ،بينما ج�سده كله يرجتف برهبة ،لقد
متاما ملا ر�آه يف املا�ضي.
بد�أت املجزرة ،جمزرة مطابقة ً
ر ش
والتوز عي
�أ�صابه الي�أ�س ،والأمل بد�أ يخبو بخجل معل ًنا عن جر �أذياله بينما يراقب
هو بعني اخليال ،اجل�سد ال�صغري ُي ْل َقى على �سرير عفن مليء بالدماء
مينح البنج ،ثم م�شرط دقيق ي�شق بحر�ص �أج�سادهم ال�صغرية ليفتحه
على هيئة �شقني متباعدين كذبيحة عيد الأ�ضحى ،وميد طبيب الرحمة
خمالبه وبحر�ص على جودة غنيمته ،كان يخرج ع�ض ًوا وراء الآخر،
ليخزنه يف حافظات عالية اجلودة.
«عمر ،افعل امل�ستحيل لقد بد�أت جولة ال�سفاحني ،ادفع لهم ا َّدعي
�سرقتي للمكان ،وجود حريق� ،أ�شباح ،ت�ص َّرف يا عمر».
لي�أتيه الرد معل ًنا ب�صلف انت�صارهم عليه يف هذه اجلولة � ً
أي�ضا:
«يرف�ضون التحرك دون دليل قوي يا �سائد».
لقد قرر �أن يتحرك ويت�صرف ولكن قدميه �أ َبتَا �أن تطاوعه ،الروح
تئن واجل�سد ينهار والقلب ميوت ب�ألف طعنة غادرة متذك ًرا م�شهدً ا من
املا�ضي ،م�شهدً ا مطاب ًقا ً
متاما ملا يحدث.
179
ويف خالل حلظات كانت تتحول ال�صالة املقابلة ملكانه املحجوب حلاوية
نفايات ب�شرية ،جثث ملقاة فوق بع�ضها ،العديد من الأج�ساد الفارغة
ً
مذهول يئنُّ متاما ،لتتحول �إىل جمرد جيفة خالية ،دفن ر�أ�سه بني كفيه ً
ب�صوت مكتوم ،و�إن كانت م�شارطهم هي ما تقتل �إن�سا ًنا ،فم�ؤكد �أن القهر
الذي يلون روحه والعجز الذي يكبله يئده ح ًّيا.
q q q
«هل �أنت بخري؟ قل �أي �شيء ،جمودك و�صمتك خميف».
ريص ع
ُّ
ا
التخ�شب التي وجده عليها �ساعات مل ي�أته الرد ،كم مر على حالة
ع
تلك العيادة ،رمبا هي جمرد دقائق ما ا�ستغرقه حتى يخرج من حالة
الذهول املمتزجة بال�صدمة عند ر�ؤيته للم�شهد ،وبعقل رجل �أمن متيقظ
ا�ستطاع �أن ي�صرف عقله ع َّما يحدث ،و�سحب �سائد بهدوء عائدً ا من
مواج َهة �أو
نف�س الطريق الذي دخلوا به العيادة ،مل يحاول التدخل يف َ
�إبالغ ال�شرطة �أو التحدث مع �أحد زمالئه القدامى ،ماذا قد يجني من
الأمر وقد وقعت املجزرة بالفعل �إال ك�شف �أنف�سهم؟
«لقد كانوا جمرد مراهقني و�أطفال ،كل خطيئتهم يف احلياة �أنهم
وقعوا يف �أيدي من ال يرحم ».قالها �سائد ب�صوت خافت متح�شرج ،وما
زالت عيناه يف توهانها وك�أنه لي�س معه وال ينتمي لعاملهم ،ك�أنه انعزل يف
عامل �آخر �أو حقبة �أخرى.
«لقد ر�أيته وهو ميزق ج�سد زوجتي ،و�شعرت مب�شرطه وهو ينغر�س يف
ج�سدي ً
نافذا بقوة جل�سد طفلي».
180
حاول �إبراهيم �أن يجد ما يوا�سيه به �أو ي�ستقطبه للحديث با�ستفا�ضة،
ولكنه مل ي�ستطع عندما قال �سائد« :كان من املفرت�ض �أن �أقتلهم و�أريق
دماءهم؛ لأنال حق اجلميع منهم ،ولكن مل �أ�ستطع وك�أن اخلم�سة ع�شر
عاما املا�ضية مل تكن ومل �أفعل �شي ًئا ومل تثمر حتى عن �إنقاذ روح واحدة
ً
منهم».
تقب�ضت يد �إبراهيم على املقود وقال ب�صوت م�شتد« :مل تكن لت�ستطيع
وحدك يا �سائد �إن تهورت وفعلت ،ورمبا كانت نهايتك �أن ت�صبح ممددًا
ع
متاما».
على طاولة الت�شريح ،ما فعلته هو ال�صحيح ً
ع
�أردت».
والتوزي ر
ع
�أوم�أ �إبراهيم دون جدال ،ثم �أخرج هاتفه ليخرب عمر الق ِلق باخت�صار:
«لقد ا�ستطعت �إخراجه ال تقلق ،ولكنه لن ي�أتي كما اتفقنا ،لقد طلب
الرجوع ملنزله».
�أغلق �إبراهيم الهاتف بينما ذبذبات الأمل تنتقل له ك�شظايا زجاج
ت�سفك دماءه دون رحمة وال قدرة له على �إخراجها ،فكيف حال من
يجاوره؟!
q q q
كان يقف على قدميه ب�صعوبة فلم ي�ستطيع �أن يكبح تر ُّنح ج�سده
متحامل على نف�سه حتى و�صل غرفته ،وبنظراتً وهو يتعرث بخطواته،
عينيها الهلعة املراقبة وقفت منكم�شة من منظر ثالثتهم ،فرتكت لهم
املكان منزوية وراء باب الغرفة التي �أوهمها يف البداية �أنها مالذها
عندما اعتقدت بغباء �أنه زواج مقد�س ع�شقي بطريقة ما ،ت�سللت ل�شفتيها
182
احلزينتني ما ي�شبه االبت�سامة متذكر ًة كل حلظة �ضعف وهوان ،وذكرى
�إجباره لها مل�شاركته غرفته تطرف عقلها ،ح�س ًنا فلن تكون من�صفة هو
�أمر وجترب ،وهي طاوعت ب�ضعف �أو رمبا ل�شعورها بالذنب ،و�أنها يجب
كامل ،ابتلعت ريقها عندما التقت عيناها �أن تك ِّفر له عن ذنب والدها ً
بعينيه ،رجفة عنيفة �أطاحت بها فرتاجعت للوراء مغلق ًة الباب خلفها
بقوة� ،أ�صبحت عيناه �أكرث رع ًبا �أو ُخ ِّيل لها ذلك رغم جحيم عذابه،
للحظات و�ضعت يدها على �صدرها يف حماولة م�ضنية للتهدئة خمرج ًة
الهواء لرئتيها ،ثم ما لبثت �أن وقع ب�صرها على باب خزانتها املفتوح،
ل
ول اختارها
183
�أغم�ض عمر عينيه للحظات� ،أدرك املهاترات املرفو�ضة التي كان
يخربه بها �إذ �إنه يعلم �أن يف هذا البلد كل امل�ستندات �أو حتى �شاهد العيان
لي�س لهم قيمة ُت ْذ َكر مع �شخ�ص كفهمي ،فب�سهولة ي�ستطيع �أن ينكر
ويخربهم �أنهم جمرد �أعداء للنجاح ،كما �أنه ينظف خلفه جيدً ا وال يوجد
له عالقة مبا�شرة به�ؤالء القتلة� ،سمع �صوت �سائد يخربه جمددًا متجن ًبا
التو�ضيح« :هناك مقطع �أريدك �أن تعيده مرا ًرا� ،ستجد �أن هناك طبي ًبا
يبدو �أنه �صغري ال�سن ،عدمي اخلربة يف «ال�شغالنة» »...
ريص ع
�صمت لربهة يبتلع ريقه وبتحامل �أكرث ي�ضغط على نف�سه مبا يفوق
ع والتوزي
عنوانه وهاتفه وحتركاته من يوم �أن حملت فيه �أمه مبلف على مكتبي».
بهدوء قال عمر« :و�أنت».
�أغم�ض جفنيه ب�إرهاق ثم قال�« :أنا بخري ،الذكرى مل ُ ْت َح من عقلي
علي».
يوما لأعود و�أتذكرها ،ف�أنا �أعي�ش داخلها كل ليلة؛ لذا ال تقلق َّ
ً
قائل�« :أنت مل تر ما حدث ً
كامل ليلتها� ،أنا ببهوت اقرتب منه عمر ً
�أعرف �سائد �أنت ل�ست بخري».
املرارة ب�صوت �سائد كانت كافية �أن تعود بعمر لتلك الليلة امل�ش�ؤمة
ً
قائل« :وها �أنا ر�أيت ،ونعم يا �صديقي �أنا ل�ست بخري ت�ستطيع القول� :إين
�أتنف�س من بني الأموات يف تلك اللحظة».
ابتلع ريقه ثم قال�« :س�أبقى معك و�أوكل لإبراهيم املهمة حتى تكون
�أف�ضل».
184
و�ضع �سائد �ساعده على عينيه ،ثم ما لبث �أن قال ب�صرامة�« :أنا بخري
ولن تبقى معي ،كل منا دوره مر�سوم بدقة ف�إياك �أن تفكر ب�إخالل �شيء
حتى لو جمرد معلومة ب�سيطة ،تذكر �أنا ال �أثق �إال بك� ،أنت نف�سي يا عمر».
اعتدل عمر والعقل ال�صارم قد �أعلن عن �إطاعة ما يقوله �سائد ،ما
ي�سعوا �إليه لي�س بهني وجمرد انهيار ب�سيط فقط بداية الأمر.
بهدوء كان ين�سحب مغاد ًرا مدر ًكا �أن �صديقه يف تلك اللحظة يحتاج
للخلوة التامة بعيدً ا عن �أي تعاطف �أو عني ما ترى �ضعفه ،لقد غذاه �سائد
ص ع
من كربيائه جيدً ا ،ونزع كل م�شاعره الب�شرية جان ًبا �أو هكذا تظاهر،
ص ع
بر�ضاك يا دجوى� ،أذكر �أين
ِ وبينه ال يخ�صني �أو يخ�ص �أحدً ا ،الأمر كان
حدثاول�ت ِ
أنتوزي ِ
ع
حمذرة يا ل�ضمريك املتيقظ!»
ارت�ضيت،
ال ت�ستطيعني �أن ترتكيه وتهربي الآن ونحن جمي ًعا نعلم الوحو�ش التي
تنتظرك».
ِ
«هل حتب رابحة؟»
للمرة الثانية تربكه ف�أكملت �ساخرة مبرارة« :ظننته وقع بغرامي
مثلما كنت �أراك تكتوي بغرامها ،ق�صة حب �أ�سطورية لرجلني عادا للوطن
�أخ ًريا فيقعان بغرام ال�سكرترية واملوظفة الب�سيطة� ،أحالم وردية منحت
نف�سي الأمل متنا�سي ًة الغابة التي يتحدث عنها �صاحبك ،متحايل ًة على
الهم الذي يثقل كتفي ،وغ�ض�ضت ب�صري عن كل الكالب التي انطلقت
حويل من كل اجتاه ،تع�شمت يف الرجل الذي �أحببته �أنه �سيحميني،
�سيكون الدرع يل ،وبالنهاية مل �أجد �إال ال�سراب».
186
اخرتت
ِ ابتلع عمر ريقه وهو ي�شيح بوجهه عنها مكر ًرا ب�إ�صرارَ ِ :
«ل
تلك اللحظة للهرب؟ ملاذا مل تفعليها �ساب ًقا؟»
�أجابته بحرقة« :لأنه منعني وزاد �إحكام ال�سجن حويل؛ ولأين كنت
�أ�شعر بالذنب بال�ضعف� ،أرجوك �أتو�سل �إليك اتركني �أغادر �س�أختفي
متاما� ،إن مل يكن من �أجلى فمن �أجل طفل �صغري لي�س له �أي ذنب فيما ً
يحدث».
تركتك تهربني
ِ أنت واهمة �إن هز عمر ر�أ�سه ً
راف�ضا وقال« :ال �أ�ستطيعِ � ،
ص ع
يرحمك فهمي
ِ يرتكك يا دجوى ،و�إن تنا�سى هو و�سط دوامته ،لن ِ هو لن
والتوز عي
وكالبه وقذارته� ،أ َومل تعلم �أن هذا �أحد الأ�سباب القوية التي كانت ت�صيبها
بالوهن والرتدد ب�إحباط؟ �أي مترد داخلها وحماولة للهرب والرعب �أن
يجدها فهمي� ،إذ تعلم جيدً ا �أنها يف مملكة �سائد لن ي�ستطيع كائن على
وجه الأر�ض الو�صول �إليها� ،إذ مل ي�سمح له هو ورغم جنونه و�ساديته يف
التعامل ،ولكنها تدرك �أنه لن ي�سمح �أبدً ا �أن تطالها يد �أو �أذى غريه� ،شبه
«ف�أذيتها ودفعها حلافة اجلنون هي ملك ح�صري له».
ت�أثر بها وتعاطف �إن�سانيته املتبقية معها من البداية ،كان يراها �ضحية
بائ�سة �أوقعها القدر يف طريق من ال يرحم ،فهم�س مهاد ًنا لها مدر ًكا جيدً ا
أتفهمك يا دجوى ،ولكن ما ُتق ِْدمني على
ملا تعانيه من تخبط ورعب�« :أنا � ِ
يرحمك �أحد».
ِ فعله هو اجلنون بعينه ،لن
تعاىل بكا�ؤها بقوة وهي تخربه بقهر« :عجزت يا عمر� ،أ�شعر �أن ال
مكان عاد ي�سعني ،فاجلميع َ�سنَّ �أنيابه لينه�شني».
187
وجه عمر املت�صلب ،املتنازع ما بني تقدمي العون لها وخيانة �صديقه
�أو �إجبارها على البقاء كما يريد �سائد ،تكلم ب�صوته اخل�شن اخلافت بعد
نه�شك البع�ض بالفعل ،والبع�ض الآخر �أراه بعني ِ فرتة طويلة« :نعم ،لقد
حلمك!»
ظهورك لي�أخذ ن�صيبه من ِ ِ اخليال يقف هناك ينتظر
ارتع�شت بقوة ال �إراد ًّيا �أمام عينيه وانتف�ض ج�سدها ذع ًرا ف�أكمل« :لن
أمامك».
أجربك على البقاء ،الباب مفتوح � ِ � ِ
مد يده يف جيب بنطاله و�أخرج منه بطاقة �إلكرتونية ثم قال بهدوء:
ع
يكفيك من املال». «هذه البطاقة مفتوحة ،ا�سحبي منها ما
ص
ِ
ر
ِ
والتوزي
أنت من الذكاء لتوقني الآن �أنه من امل�ستحيل �أن جنون �سائد بالفعل و� ِ
ع
ؤذيك �أكرث مما فعل ،دجوى ال يوجد �أب مثله ي�ؤذي طفله القادم وقد ي� ِ
عاما من حياته يحرم نف�سه من كل �شيء فقط لينتقم ق�ضى خم�سة ع�شر ً
لآخر ُق ِت َل وهو جمرد جنني يف �أح�شاء �أمه».
�أ�صبح اال�ضطراب يعرتيها ،نقلت نظراتها بينه وبني الغرفة التي ترك
�سائد فيها منذ قليل� ،أخ ًريا هم�ست بجمود م�شمئز« :حتى و�إن كان كل ما
�صحيحا ،ما يحدث هنا ُي ْد َعى زنا ،هل تعرف معنى تلك الكلمة �أم ً تقوله
ك�صاحبك ال تفرق معك؟»
عب�س عمر للحظات بعدم فهم وت�أملها بغمو�ض ،مل ينب�س ب�شيء وحترك
نحو باب ال�شقة ،ثم قال ب�صلف �ساخر« :نحن تربينا يف وكر جمرمني،
ال�شوارع بيوتنا والأر�صفة �أَ ِ�س َّر ِتنا وال�سرقة والن�صب هي الو�سيلة الوحيدة
يخربك �أحد �أننا ن�ش�أنا يف الأزهر؛ لذا نعم �أنا
ِ لنجد ما نقتات عليه ،مل
متاما».
مثل �صاحبي ً
188
�أظلمت عيناها ويدها ترتفع مت�سح دموعها بعنف بينما التفت عمر
لك ،ولكنه وللأ�سف ملعبك ،افعلي ما يحلو ِ
ِ يردف بهدوء« :الكرة يف
يحتاجك».
ِ ال�شديد
فر�صتك لتحقيق
ِ �صمت لربهة واحدة قبل �أن يقول بتالعب« :رمبا هذه
�ضربة عادلة يا دجوى وتظفري بانتقام مما فعله ،ثقي بي هذا �أف�ضل من
رمي نف�سك يف ال�شارع عائدة ملطاردة فهمي مرة �أخرى ،ما �أعرفه �أنه
ج�سدك ،ت�صبحني على خريِ أ�سك عن ر�صد ً
مال م�ضاع ًفا �أمام ف�صل ر� ِ
دجوى».
ع
ال�ضخم ارتعد �أ�شبه بزلزال مبعدل �أربع درجات ريخرت ،وبردة فعل ال
�إرادية اعتدل �سري ًعا ويداه تلت َّفان حول عنقها يطبق عليه بنوع من الق�سوة
غري امل�ؤذية ،تراخت يدها عن جبهته وهي ت�صرخ فيه بتح�شرج« :اهد�أ
�أرجوك� ،إنه �أنا».
كانت �أنفا�سه تخرج ب�صعوبة متتالية وك�أنه ي�ستجدي بع�ض الهواء
ليدخل رئتيه ،حلظات مرت طويلة كادت �أن تفقد الأمل� ،أن يرتكها �أمام
عينيه امل�ضطربة والتي �أظهرت �أنه فقد عقله ،فهم�ست ب�أنني�« :إنه �أنا يا
�سائد ،لقد وعدت بعدم �أذيتي مرة �أخرى».
تبك هذه املرة ومل ت�شعر باملرارة �أو حتى الرعب رغم ك َّفيها التي
مل ِ
غطت �أ�صابعه حتاول �أن تبعده عن رقبتها� ،أط َّلت من عينيه نظرة مظلمة،
هزت �أعماقها و�أنامله ترتاخى عنها� ،أخربها بنربة غريبة و�صوت غري
أعدك ب�شيء يا ابنة غ�سان».
�صوته�« :أنا مل � ِ
190
ابتلعت غ�صتها بحرقة ورفعت يديها ومل�ست وجهه بني كفيها و�أخربته
بهدوء« :يف اللحظة التي اخرتت �أن تلج�أ �إ َّ
يل فيها مل �أعد ابنة غ�سان يا
�سائد».
النظرة التي اعتلت عينيه الناظرتني �إليها مبا�شر ًة منحتها قوة لت�صمد
وتواجهه حتى و�إن كان املنطق يخربها ب�أنه وقت االنتقام والهروب ،تلك
النظرة اخلاوية املتعبة جعلتها تخربه بقوة« :يف تلك اللحظة �أنا �أنثاك،
�أنثى الذئب».
ع
تراخت يداه من حولها وتراجع ببطء مرة �أخرى �إىل الفرا�ش مبالمح
ر ش
والتوز عي
ح َّل اجلمود على مالحمها ومل متنحه �أي بادرة للرد ،ب�سيطرة على
الذات كانت متد يدها نحو قطعة قطن �أخرى تغم�سها يف الثلج وتعود
متررها على جبهته� ،أغلق عينيه جراء الرع�شة التي ت�سببت بها برودة
متاما بني يديها وك�أن كل قدرة له على املقاومةقطعة الثلج ،كان م�ست�سل ًما ً
نفدت ،ما ر�آه حتت م�شارط ه�ؤالء القتلة وهم يعبثون بالأج�ساد الهزيلة
كان يفوق طاقته؛ �إذ �أعاده لذكرى �أخرى كانت �أكرث من احتمال �أي رجل
مهما كان �صل ًبا� ،ش َّدد على جفنيه مان ًعا نف�سه ب�إرادة من حديد �أن ينفجر
يف البكاء كالأطفال مرة �أخرى� ،سمع �صوتها يقول بتوتر« :ج�سدك كله
ينتف�ض ومالب�سك مبللة».
متحامل على نف�سه قال بخ�شونة وهو ي�شعر بها تقف من جل�ستها ً
بجواره ومتيل بن�صفها العلوي نحوه لت�شرع يف �إزاحة الغطاء عنه:
تغيريك ملالب�سي
ِ «ادعا� ِؤك اخلجل يثري ال�سخرية ،ما بيننا تعدى جمرد
لك ر�أي �آخر؟»
�أم ِ
191
نف�سا عمي ًقا تبتلع الإهانة قبل �أن تخربه بربود« :هذا �صحيح،
�أخذت ً
�أنت مل ترتك �شي ًئا للخجل �أو التجربة».
وبدون حلظة تردد �أخرى كانت تفك �أزرار قمي�صه بغيظ� ،سمعت
�أنفا�سه تخرج بت�أ ُّوه �صعب عندما مل�ست �أناملها الرقيقة �صدره ،ت�س َّمرت
عيناها للحظات تتبع اجلروح واحلروق املتعددة يف ج�سده ،وخاطر مزعج
يطرق تفكريها ،هذه �أول مرة تالحظ جروحه اجلديدة بالطبع ،لقد ر�أت
بع�ضها يوم �أن �ضمدتها له قبل �أن تدخل عرينه ،بهدوء ت�شبثت ذراعاها
ك
بنيتالأمل وهو يتكئ على كفيه يحاول �أن ي�ساعدها ابت�سمت مالحمهالمن
ب
بع�ض ال�شيء».
�سح ًرا مي�س نب�ضة غادرة داخل قلبه ،جتربه لالعرتاف �أنها جميلة وجميلة
جدا� ،شهية حنونة وبريئة ،مت�ساحمة بطفولية عجيبة.
ًّ
بينما هي منهمكة بتخلي�صه من مالب�سه ارتفعت يده امل�صابة لتحيط
وجنتها برقة و�أنامله تداعب �شعرها الق�صري تعيده خلف �أذنها وقال
لديك �شيء يفوقني
أنت ِ حجمك مرتني رمبا ،ولكن � ِِ بخفوت�« :أنا �أفوق
�أ�ضعا ًفا».
ا�ضطربت وهي تلعق �شفتيها التي ج َّفت بل�سانها غري قادرة على منع
نف�سها من �س�ؤاله« :ما هو هذا ال�شيء؟»
قال ب�إجهاد ويده ما زالت تعبث بخ�صالتها« :ال �أعرف».
192
مل تر َّد وهي تتمالك �أع�صابها وتبعد كفه عنها وتفردها على كفها
املرجتف وقالت« :يدك تنزفَ ،منْ �ض َّمد لك اجلرح بتلك الطريقة
الع�شوائية؟»
رد« :ال �أذكر َمنْ ».
�شرعت يف �إزالة ال�ضمادة الع�شوائية من كفه ،ومررت ً
�شا�شا �آخر
تطهر به جرحه ب�إتقان ،بينما يدها الأخرى ارتفعت وب�أطراف �أناملها
كانت تتبع جروحه القدمية واحلديثة ،بهدوء �أ�شعره �أنها �أ�صابع عازفة
ع
كمان تعزف بنغم رقيق هادئ جعله ي�سرتخي مرغ ًما م�ست�سل ًما حتت
ر ش
والتوز عي
«تلك اجلروح �أنت املت�سبب فيها لنف�سك».
عاد ي�سرتخي بج�سده على الو�سادة وقال متهر ًبا« :ما متلأ �صدري
وظهري �أو حتى ركبتي كانت من �صنع حماد».
َ«منْ حماد الذي تردِّد ا�سمه طوال الوقت؟»
�أخربها ب�ضيق �ساخ ًرا« :هل �شاهدتِّ فيلم العفاريت من قبل؟»
هبطت من عينيها ال�ساحرتني دمعة وحيدة وهي جتيبه مبت�سمة وقد
فهمت �أنه لن يعرتف ب�سهولة �أنه ميار�س املازو�شية بنف�سه« :ما من �أحد
يف الوطن العربي مل يره».
«الكتعة بجانب حماد حمل بريء وديع ،مالك طاهر ب�أجنحة».
مل حتتج ملجادلته وهي تنهي و�ضع ال�ضمادة على جرحه ،ومتد يدها
جدا و�سينهار ج�سدك جت�س حرارته مقرنة بقولها« :حرارتك مرتفعة ًّ
بالتدريج� ،أنت حتتاج حلمام بارد على الفور».
193
مرتاحا ونائ ًما بالفعل قبل �أن تدخلي الغرفة».
ً قال ب�إرهاق�« :أنا كنت
هادنته بالقول مردِّدة�« :سائد ،حرارتك ترتفع وج�سدك كله ينتف�ض
و�أنت جتادل ،من ف�ضلك ا�سمع كالمي».
فتح عينيه امللتهبتني بحدقتني حممرتني غ�ض ًبا وبدون مقدمات كان
يجذبها نحوه ،مل مينحها حتى فر�صة لالعرتا�ض وال�صراخ� ،أطلق ت�أ ُّوهً ا
متحامل على نف�سه ،وهو يلقيها بجانبه يدفعها لتتمدد على ً مكتوما
ً
الو�سائد وبدون �أدنى كلمة كان يكبل َخ�صرها بذراعيه وي�ضع ر�أ�سه على
ع
«كنت تريدين الهرب ،خط�أ لن بطنها ،ثم ما لبث �أن قال بغ�ضب مكتومِ :
والتوزي ر
ع
الربيئة الغبية تعتقد �أنه ملجرد تعب ح َّل به و�سمح له �أن يظهره �أمامها،
�أنه �سيفقد قدرته على املالحظة مالب�سها كاملة مع حقيبة مرمية �أمام
باب الغرفة وحذاء �أنيق ،هل يوجد �أكرث من هذا �أدلة؟ مل ُي ِج ْب ،مل ي�ستطع
أنت حتققني الإلهاء املطلوب». وجفنيه تعود للثقل التدريجي مهمه ًماِ �« :
q q q
دوامة يغرق فيها ،ت�سحبه بتيار هائج ثقيل م�صمم �أن يخطف روحه
وي�أخذ عمرهُ ،يلقيه يف الأمل والتهلكة ليوئده ح ًّيا ،دوامة خمتلفة ،متنازعة
وخمتلطة� :إحداها حلوة دافئة حنونة تلف ج�سده ل ًّفا بحنان �أُ ٍّم قلقة مل
يوما قط ،بل جمرد �أ�ساطري وخياالت �سمع عنها ،ولكن يعرف معنى حبها ً
�أي �أم؟! ما �أخربوه عنها ال ميثل �أبدً ا هذا ال�شعور اللذيذ من الدفء الذي
ي�شعر به خالل تلك الغمامة� ،شعر بذراعيه تعت�صر �شي ًئا ناع ًما طر ًّيا
كحلوى املار�شملو ،ودوامة �أخرى ُتربه ب�سطوة �شر�سة �أن يبتعد عن ذلك
194
االكت�شاف املثري املريح و ُتلقيه يف غيمات �شيطانية ،ي�صارع الأمل ،يحارب
تلك الذكرى ال�سوداء ،غري مدرك لتلك التي حتت�ضنه بقوة تهم�س بجوار
�أذنيه ب�صوت خمتنق بدموعها بكلمات�« :أرجوك �أ ِفقْ ؛ �سائد ال ت�ست�سلم،
هذا كابو�س حبيبي� ،أرجوك �أ ِفقْ ».
ولكن ال هو �سمع وال هي ا�ستطاعت �أن تخرجه ِمن بئر الذكريات
عاما ليلته الأخرية يف وكر حماد مبنت�صف املخيفة ،قبل خم�سة ع�شر ً
الليل ،كان يت�سلل بهدوء بعد منت�صف الليل كخفا�ش يلج�أ �إىل كهفه بعد ان
ك�سر واجهة �صيدلية وعاقب الطبيب املتدرب الذي ي�سهر فيها ،بو�صاية
والتوز عي
أح�س بالق�شعريرة تزحف فوق ج�سده وهو يلمح �سيارة دفع رباعي معهَّ � ،
متوقفة �أمام وكرهم ويقف �أمامها �سبع رجال ،يتعاونون فيما بينهم على
نقل �أج�ساد رفاقه ال�ساكنة ،كاد �أن يذهب �إليهم ي�صرخ فيهم ي�ستفهم
ع َّما يحدث عندما �شعر ب�أحدهم ي�أتي من ورائه ويكبله بقوة ،التقطه من
أر�ضا ولكن �أوقفه �صوت عمر املرتعب ولكنه قوي ً
حماول �أن ي�أتي به � ً خلفه
�صامد ،وهم�س�« :إنه �أنا� ،إياك �أن جتر�ؤ وتتخطاهم ،لو اكت�شف املعلم �أننا
ر�أينا �شي ًئا �سي�سلمك لهم».
�سب �سائد نف�سه وهو يطاوع عمر وهم يند�سون خلف كومة قمامة من َّ
تلك التي متلأ احلواري امليتة ،و�س�أله«َ :منْ هم؟ وهل تعرفهم؟»
ه َّز عمر ر�أ�سه نف ًيا بالت�ضامن مع قوله« :ال ،لو كنت �أعرف عنهم �شي ًئا
لكنت �أخربتك ،ولكن �أحد رجال املعلم ممن يعملون معه يف تلك الناحية
�أخربين دون �أن يق�صد �أن هذا الأمر َمنْ يذهب �إليه ال يعود �أبدً ا».
195
ا�ستب َّد القلق به فقام مغاد ًرا وقال لعمر بخ�شونة قلقة« :يفعلوا ما
يفعلوه� ،آية بالداخل و�أنا عدت من �أجلها ،كما �أين ذئب املعلم ولن يحدث
�شيء».
تن َّهد عمر ب�ضيق قبل �أن يتبعه م�ست�سل ًما وقال« :رجلي على رجلك
�س�أذهب معك».
q q q
دوامة الذكريات تتوقف مبقاومة منه فيعود ج�سده لالنتفا�ض بني
�سيقتلونني».املكتوم املقاوموالتو
امل�ستنجدز عي
جدا.�أنه ي�صيب كل جزء منها الذعر� ،إذ �إنها تدرك �أنه حقيقي ،حقيقي ًّ
با�سمه: عاد ليغرق وهو يتذكر ال�صراخ
«�سائد� ،أنقذين �أين �أنت؟
ملح وج ًها مقيتًا �أتى من اجلحيم مبا�شر ًة ليخربهم على عجل« :كبلها
جيدً ا هذه بالذات ت�ساوي ِ�ض ْعف كل من ب�صندوق ال�سيارة ال �أريد �أن
ي�صيبها خد�ش».
ً
�صارخا فلحقه عمر وهو يلتقط خ�شبة ملقاة يف ال�شارع، هرع �إليها
ولكن هيهات وقد ح�سم القدر امل�صري ،انطلقت ال�سيارة ،فجرى وراءها
ً
حماول يحاول اللحاق بها� ،سقط مرة واثنان وع�شر ،وكان ي�صرخ با�سمها
اللحاق بهم ،ظهر عمر مرة �أخرى بدراجة نارية و�أمره بال�صعود فقفز
وراءه دون �أن يتوقف يتابعون املجرمني ،مل يفقد الهدف عندما توقفوا
مبان ،وحملوا الأج�ساد التي خدروها
�أخ ًريا يف املدينة اجلديدة و�سط عدة ٍ
196
بالوجبات الوهمية مب�أدبة �أقامها �ساب ًقا حماد على �شرف �ضحاياه قبل �أن
ُي َ�س ِّلمهم كر�ؤو�س الغنم التي وقع االختيار عليها.
ملحها �أخ ًريا واحلقري الذي حفظ وجهه عن ظهر قلب يحملها بنف�سه
ليدلف بها �إىل داخل مقرهم القذر لتقطيع الأج�ساد ،و�أخربهم بنربة
�شيطانية قذرة�« :أنتم مع البقية �أم تلك احللوة لديها هدية يل قبل �أن
�أح�صل على كنزها؟»
متاما عن اخلفقان وهو ينظر لهم من بعيد ُبذعر �شعر بقلبه يتوقف ً
ع
ُيكبله عمر الذي ن�صحه�« :إن ذهبت �إليهم هكذا� ،سن�صبح مثلها اليوم».
ريص ع
�ألقاها القدر مع عم طامع �أكل مالها وعذبها حتى هربت ووجدت ال�شارع
والتوزي ر
لل�شيطان نف�سه ،حتركه �أطماعه لي�صل �إىل احل�ضي�ض.
ع
مل يكن يدرك �أنه و�صل �إليها ،ي�صرخ كحيوان جريح يقطعون من
ج�سده احلي وهو على قيد احلياة� ،صوته كان ه�ستري ًّيا جمنو ًنا وك�أنه فقد
أوتي من قوة بالت�ضامن مع دموع عقله بينما يخبط على النافذة بكل ما � َ
الذل والإهانة و�سحق الكرامة ،وهو يراقب �صغريته ممددة على فرا�ش
قذر مغرق بالدماء يربط قدميها وذراعيها ،بينما هي تطلق �صرختها
با�سمه ب�صوت معذب ،والقذر ال يتوقف وال يتهاون عن اغت�صابها بتلذذ،
�صراخه زلزل يف ثوان كيان القتلة فلم يجد عمر ُبدًّا من �أن يخبطه على
متاما ،ثم �سحب ج�سد ر�أ�سه بتلك اخل�شبة مرة واثنان حتى جعله ي�صمت ً
�صاحبه �سري ًعا واختفى يف هيكل عمارة ما زالت حتت الإن�شاء بجانب
م�ستغل ارتباكهم ورعبهم �أن يكون �أحد عرف طريقهم ،كان ًّ هذا املكان،
يدرك �أن عمر وقتها بعقلية مراهق مل يبلغ ال�ساد�سة ع�شر بعدُ ،مل يكن
بيده �شيء �آخر ،معرتف �أنهم �إذا وجدوه هو وعمر كان �سيلحق بحبيبته،
198
يوما واثنان وهو غارق يف �أحزانه غري قادر على ت�صديق هول انتظر ً
ال�صدمة ،ثم �أ�صر �أن يحفر املقربة اجلماعية ب�أظافره و�أخرجها هي
و�صغريه ،و�أكرمهم بدفنهم يف مثواهم الأخري.
يف بع�ض الأحيان ال�سماح للأمل باالنت�شار ليغزو الروح قبل اجل�سد
و�أن يغمر القلب يكون بداية للتحرر� ،أن ُنو�ضع بطريقة موجعة �أمام ر�ؤية
ما�ضينا ،يكمن احلل واملحرك الأ�سا�سي الب�شع ،ت�ضحية �صغرية بع�ضو
فعال يف ج�سدك متنحك القوة والإقدام ال�ستئ�صال ورم خبيث دون �أن
ع
َي ِر َّف لك جفن �أو يهزك �شعور �إن�ساين واحد ،م�ؤمل �أن تعي�ش كل تاريخك
ر ش
والتوز عي
م�ؤمل �أن تعي�ش الأمل م�ضاع ًفا ك�أنها �ساحة حرب رومانية ي�صرخ
اجلميع بنه�شك ،وال ترى اخلال�ص �إال بني يدي ذلك الأ�سد الذي ينطلق
نحوك وال نية لديه �إال �أكلك ح ًّيا ،وكم هو موجع وقاتل �أن تدرك �أن
�أفعال الب�شر هي �أق�سى �أنواع ال�شرا�سة وتع َّدت ا�ستيعاب العقل واملنطق
والالمنطق ،م�ؤمل �أن تدرك �أن احليوانات ال جتر�ؤ �أن تفعل جز ًءا من مئة
من ت�صرفات الب�شر
q q q
مع بزوغ �أول ال�صباح كانت تدرك �أنها مل متر يف حياتها قط بليلة
�سوداء كالتي عا�شتها معه ،لقد ظنت من تنازعه و�ضعفه �أنه لن يفيق
منها واحلمى التي �أ�صابت ج�سده حتى �أنها كانت جتفل من مل�سه ،احلرارة
املنبعثة منه �أ�صابتها هي بالتعرق ،لقد حاولت الإفالت من بني ذراعيه
ولكن بالنهاية مل ت�ستطع وا�ست�سلمت لت�شبثه املميت بها حما ِو َل ًة املحافظة
199
قليل عرب كمادات الثلج ،وحبتني خاف�ضة للحرارة على انخفا�ض حرارته ً
د�ستها حتت ل�سانه ،ويبدو �أنها �أخ ًريا �أتت مبفعولها.
كان قد اعتدل يف نومته �أخ ًريا وبد�أت مالحمه ت�سرتخي� ،إحدى
ذراعيه ت�سرتيح على َخ�صرها والأخرى تت�سلل وراء ظهرها ك�أنه يرف�ض
�أن يرتكها ،يرف�ض �أن يعي�ش جحيمه وحده في�شاركها به كما تَوعدها يف
ال�سابق.
ت�س َّللت �أناملها تتبع جروح ذراعيه برقة ،هي على يقني الآن �أن تلك
ص ع
اجلروح من فعله ،وكان يجاهد بالفعل لفتح عينيه وحوا�سه تعود �إليه �شي ًئا
ب للٍ
لثواننمعدودة مل ترد ،ثم ما لبثت �أن
ر ش
قال ب�صوت �أبح« :امل�سمى ال�صحيح مازو�شية يا ابنة غ�سان».
ع ي ز و ت ل ا و �شعر بيدها تتوقف على �ساعده،
قالت بقلقَ ِ :
«ول قد تفعل هذا بنف�سك؟!»
�ساحما لها بالتحرر �أخ ًريا من حما�صرته ،ا�ضجع
ً حترك من مو�ضعه
على جانبه وقال برتابة« :ابقي بجانبي».
َع َّ�ضت طرف �شفتيها ،ثم بهدوء متددت على جانبها لتواجهه وقالت:
«مل �أكن �أنتوي تركك».
جدا».
جدا �أو ذكية ًّ نف�سا عمي ًقا قبل �أن يقولِ �« :
أنت �سلبية ًّ �أخذ ً
مل تلف وتدور عندما �أجابته بهدوء�« :أو رمبا �أين �أدركت �أن لذة
انتقامي تكمن يف �ضعفي �إليك».
التوى فكه ب�شبه ابت�سامة وقال بغمو�ض�« :أكره الظالم ،يرعبني ك�أين
جمرد �صغري �أخربوه عن الأ�شباح التي تخرج يف �سواد الليل».
200
رم�شت بعينيها للحظات بتعجب قبل �أن تلتقط مبادرته وقالت بب�ساطة:
«�أو رمبا النزاع بداخلك هو ما ينفره ،فجزء منك غارق حتى النخاع يف
ب�ؤرة انتقامك ،وبقايا من �إن�سانيتك تعرف �أن كل �أفعال ال�شياطني املظلمة
ال تخرج �إال يف �سكون الليل عندما ت�سدل ال�سماء �ستارها الأ�سود».
ً
م�شو�شا ،وحقده ماذا يكون رد فعله على حديثها؟ لقد كان متع ًبا مت�أملًا
يتعاظم ،حقد مل يكن موج ًها لها يف تلك اللحظة ،م�ؤمل �أن يعرتف �أن ما
أي�ضا هي نف�سها من وجد معها دما مل َّ
يجف وث�أ ًرا مل ي�ؤخذ ،و� ً بينه وبينها ً
جز ًءا اعتقد �أنه مات واندثر ،فليعرتف لنف�سه حتى يتخل�ص من بع�ض
ع
لي�ضمن بقاءك على قيد احلياة حتارب وت�صمد ،يعزز دوافعك ويغذي
ب
احلدل�لأحببتها؟!»
ن
تنفجر بداخل عقلي بغمامه �سوداء �سامة� ،إن تركتها �ستحرق كل �شيء».
202
حماوطا ر�أ�سها ب�ساعديهً �صمت يلتقط �أنفا�سه ،بينما ينحني عليها
ؤالك �إن �أحببتها ،فاحلب �شعور باهت كنت تعنني ب�س� ِ و�أردف ب�شرود�« :إن ِ
�سخيف� ،أما ما كانت تعنيه �آية يل »...
ازدردت ريقها ،ثم ما لبثت �أن �س�ألته با�ست�سالم مدركة �أنها ترمي
بنف�سها لأمل م�ضاعف مل يعد قلبها امل�سكني يتحمله ولكنه ي�ستحق� ،أن
بع�ضا من �أوجاعه ،رددت« :ماذا كانت تعني لك؟» جتاريه وتخفف ً
«�أين ب�شر ،ب�أين �إن�سان من حقه �أن يحيا ويحلم ويعي�ش ويكون لديه
ع
كرامة».
ش
أي�ضا هو لي�س ذنبك� ،أنت جمرد ب�شر ،فرد واحد �أمام
ل وقال:تبِك
يبدو؛ لأن موت والدي كان مرت ًبا له بالفعل كما ا�ستنتجت الح ًقا».
ال �أدافع عنه معك ،ولكن �أنا لن �أتقبل انتقامك مني ًيوما� ،أنا و
ل�ستزيمثله
ع �أو
«هذا �صحيح؛ لذا �أنا خمتنق: ب�صوت عادت دموعها ت�سيل وهي تقول
متاما».
مثلهم� ،أنا �ضحية مثلكم ً
ارت�سمت ابت�سامة �صغرية وحزينة على �شفتيه ،بينما يده تعود تتلم�س
مالحمها بهدوء رتيب وك�أنه متعود على فعلها منذ الأبد« :رمبا ولكن ا�سمه
خطيئتك التي لن تتحرري منها
ِ جرميتك الأبدية،
ِ الذي يذ ِّيل ا�سمك يظل
يوما يا دُجى».
ً
�أطرقت بر�أ�سها دون �أن تقول �شي ًئا ،فتابع ب�سال�سة« :جرميته تبقى
بالقلب غ�صة ،غ�صة يعاين منها جمتمع ب�أكمله ،وغ�صة �س�أذهب بها �إىل
وغ َّ�صة �أ�صبحت �أكرث �أملًا لعقلي و�ضمريي؛ لأنها بب�ساطة �أ�صبحت
قربيُ ،
حولك».
تتمحور ِ
204
ارتفعت يداها نحو �صدره تتلم�سه بنوع من اله�سرتيا وهي تقول ب�صوت
مرجتف غريب« :هل متلك قل ًبا يا �سائد؟ هل لديك ما ي�شعر هنا؟ �أم
�أخذوه منك على حني ِغ َّرة م�ستبدلينه ب�شيء كل وظيفته �ضخ الدماء يف
عروقك حتى حتقق هو�سك باالنتقام؟»
ت�ش َّنج وجهه باملرارة تاركها تبحث عن غايتها ،ثم قال« :لن جتدي
أخربتك مرا ًرا».
ِ أنت حمقة لقد �أخذوه معها ،هي كانت كل �شيء� ، �شي ًئاِ � ،
�أهذا �صوت حتطم ما �سمعته يدوي بني �أ�ضلعها؟ لقد كان قلبها يته�شم
ع
�إىل �شظايا داخل �صدرها� ،صرخت فيه وهي تزيحه بعنف عنها�« :أيها
ر ش
والتوز عي
ثورتك يا ابنة ِ ال�سوداوين يف رماد عينيها الهائج غ�ض ًبا وقه ًرا« :ما بال
�سهرك بجانبي ِ أنك متثلني �أي �شيء يل ملجرد كنت تتع�شمني � ِ
غ�سان؟ هل ِ
يف مر�ضي؟»
جمدت مكانها وهي تنظر �إليه مبهوتة ،فقالت ب�صوت متهدج�« :أَ ْط ِلقْ
�سراحي يا �سائد� ،أو اقتلني و�أرحني من تلك اللعبة ،الأمل �أ�صبح ال ُيحتمل
ومل تعد بي قوة للمقاومة».
جفلت مالحمه ثم �أطلق �ضحكة خ�شنة �ساخرة ل�صد�أ قلبه الذي
لقتلك
لدي القوة ِ انقب�ض« :ال �أ�ستطيع ،مل �أعد �أ�ستطيع دُجى ،ليته كان َّ
كما كنت �أنتوي»َ ،ف َغ َرت فمها قبل �أن تقول ب�صوت متقطع�« :أنت جمنون
غري طبيعي».
«تائه ،غارق باالنتقام� ،أُ ْب ِقي جراحي مفتوحة ،ولن تندمل �إال بتحقيق
العدالة».
ردت بته ُّدج�« :إذن �أغلقها ،و�أرح نف�سك».
205
�أظلمت مالحمه وهو يقول بقوة« :لي�س قبل �أن �أحقق العدالة ،الدم ال
يغ�سل �إال بالدم ،الق�صا�ص يجب �أن يتحقق ،فاملذنب يجب �أن ينال من
الأذى �أكرث مما ت�سبب به».
ابتلعت ريقها قبل �أن تقول با�ست�سالمً �« :إذا ال تنهار ،وتذكر �أنك الأقوى
لأن ق�ضيتك عادلة ،يجب �أن تعدل كفة امليزان وتثبت �أن الظلم ال يدوم».
حل ال�صمت مرة �أخرى بينهم بطي ًئا رتي ًبا ومرع ًبا قبل �أن يقطعه
�أخ ًريا وقال من بني �أ�سنانه ،وج�سده ال�ضخم ير�سل ذبذبات اخلطر
ع
امل�ألوفة تلك التي حتفظها عن ظهر قلب والتي يطلق فيها غرائزه ،ويرتك
ر ش
والتوزي
ت�شنجت بني يديه وعينيها مت�سعتان برهبة ،ثم عادت ملحاولة الإفالت
ع
منه وهي تقول بتهرب مدعية عدم �سماعها جنونه�« :أنت �أ�صبحت جيدً ا،
اتركني �سائد من ف�ضلك».
كان قد و�صل للحد الفا�صل من كل �شيء ،فليعرتف لنف�سه وجل�سده
الذي ي�ؤرقه منذ �أن الت�صقت به وهي ت�ؤجج �شعور احلاجة بداخله كل
ذرة يف رجولته ت�صرخ مطالبة بها ،دجوى الها�شم �أ�صبحت ملج�أً لغ�ضبه،
وبل�س ًما يهدئ نار جروحه ،عملية حيوية تعيد احلياة داخل عروقه ب�ضخ
الدماء الهادرة ب�صخب داخل �شرايينه ،مل ي�شعر بنف�سه �إال وهو يطبق
عليها ب�شفتيه ويديه تك ِّبلها بحزم ،لقد كان من املفرت�ض �أن ت�صرخ
وتقاومه كالعادة� ،أن تغر�س �أظافرها يف عنقه� ،أن تبكي ُذ ًّل وقه ًرا� ،أن
ت�شعر باخلوف والذعر مثل كل مرة ،ولكنها مل ت�ستطع غريزة �أخرى مقيتة
كانت املتحكمة فيها عندما رفعت ذراعيها نحو كتفيه ،دفعت نف�سها �إليه
خمتلطا ب�أنني احلاجة عندما ارتفع فج�أةً لتزيد الت�صا ًقا به� ،أ�صدر زئ ًريا
206
ينظر لعينيها التي حتدِّ ق فيه بدموع القهر ،ولكنها قوية م�ست�سلمة متنحه
ؤذيك ،ال تقاومي دُجى».
موافقه لإكمال ما بد�أ« ،لن �أ� ِ
رباه ،هي مري�ضة ت�ستحق ما يفعله بها ،ت�ستحق الرجم حتى املوت،
عندما مال ليلتقط �شفتيها جمددًا �س َّلمته قلبها قبل ج�سدها تبادله
�شغفه ب�شغف وحاجته بتو�سل يائ�س حلبه ،عندما ا�ست�شعرت من ُق ْبلته كم
احتياجه هذه املرة ،مل يكن غ�ض ًبا ومل يتملكه العنف ،لقد كان كل ما
يوما ،تال�شىيخرج منه ي�أ�س ورغبة وع�شق حارق كذاك الذي �أوهمها به ً
كل منطق يف عقلها وهي ت�سمح له ب�أن يحرقها معه يف ع�شق بدائي ،ع�شق
ع
يحا�صره ي ز و ت
أنواع، للا
ا و
وكما و�صفت دجوى بال�ضبط ،حو�ض ورود متنوع
�شجرتي �صف�صاف �ضخمتني ،وباب لونه بني ال يوهم كل من يراه �أنه
جمرد باب حلجرات التربيد للم�شفى تفح�ص املكان جيدً ا ،فلم يجد
متاما بعد �أن ا�ستطاع �أن يلهي عقلها بغرية
�أحدهم وتلك احلمقاء اختفت ً
الن�ساء ،اقرتب بخفة �شاك ًرا لدرو�س حماد القدمية.
«�سرقة الليل هذه للهواة و�أ�صبحت مك�شوفة ،تريد �أن ت�سرق ا�س َت ِغ َّل
�صخب النهار والتهاء النا�س يف عملها ،ال حرا�سة وال عني مفتحة عليك».
وها هو ينفذ ن�صيحة معلمه داع ًيا ربه �أن ُيعجل بنهايتهم لريتاحوا
قليل بحر�ص و�أخرج حقيبة �أدوات �صغرية للغاية، �أخ ًريا ،رفع قمي�صه ً
وبهدوء وحنكة كان ُي ْد ِخل �أحد �أدواته التي غم�سها يف الزجاجة ال�صغرية
ملية النار ،ثم ما لبث �أن �أدخلها يف القفل ،و�سري ًعا كان يحركه بطريقة
207
مدرو�سة ل ُيفتح �أمامه باب خال�صهم� ،أم يا ترى جحيمه؟! دخل بهدوء
وتفح�ص املكان ك�أنه �أ�شبه بقطعة من القطب ال�شمايل� ،أيقن �أن دجوى ال َّ
تكذب كما �أخربه �سائد ،الفتاة زارت املكان بالفعل فها هي غرفة التمويه
ملعدات عقيمة �أو قدمية ملقاة فيها واجلزء اخلارجي لتكييف مركزي
مت�صل بغرف امل�شفى ،م�شى يف ممر طويل يزيح بع�ض الطاوالت الوهمية،
ليجد با ًبا خ�شب ًّيا م�سنودًا كتمويه� ،أزاحه فوجد با ًبا حديد ًّيا �ضخ ًما بقفل
ذا �شفرة عالية اجلودة ،مل ي�ستغرق حلظات ليفرغ باقي حمتوى زجاجة
ماء النار عليها ،ثم تفور لدقائق ويفتح �آخر باب للجحيم ،قطب جليدي
ريص ع
�آخر لعدميي الرحمة� ،أجهزة عالية احلفظ ،وثالجات �أع�ضاء ب�شرية مع َّلق
بل
حماول �أن فيها العديد من قطع الغيار الب�شرية ،و�ضع عمر يده على قلبه
والتوزي
�سرتته جيدً ا حوله وحدقتيه ت�ضطربان ،ورغ ًما عنه دمعة حائرة طرفت
ع
من عينيه ،املرارة ترت�سم على وجهه بفر�شاة فنان متوح�ش حتفر حف ًرا
داخل قلبه وعقله تطبع �صورة تراجيدية ملا حدث لأ�صحاب تلك الأع�ضاء
املحفوظة.
يوما فاحذر يا عمر وركز على ما نريده فقط، «�سرتى ما لن تتخيله ً
�إياك واالنهيار فهو لن ينفعنا �أو ينفع العديد من ال�ضحايا التي تنتظر
جمازرهم» ،خبط �صوت �سائد عقله مبطارق من نار ف�أيقظ كل ع�ضلة
فيه بتحفز� ،أدرك نف�سه �سري ًعا والوقت الذي ينفذ فتوجه مبا�شر ًة للمكتب
ال�صغري ح�سب و�صف زوجة �صديقه الدقيق ،حل�سن حظه ال مزيد من
توجه للمكتب ،و�أخرج �أدواته من حقيبته و�شرع الأبواب املغلقة ،بهدوء َّ
يف فتح �أدراج املكتب ،بينما فتح �شا�شة احلا�سوب و�شرع يف و�ضع فال�شة
�صغرية به ،قبل �أن ُي ْد ِخ َل كودًا ما وينتظر العديد من الأوراق وال�صفقات
وامل�ستندات التي ي�أخذها فهمي على العديد من الأطباء ،منها ذلك
208
الطبيب الذي طلب �سائد كل املعلومات عنه ،اف َّرت ثغره عن �شبه ابت�سامة
ميتة وهو يلملم كل تلك الأوراق التي م�ضى عليها الطبيب ال�شاب وغريه
كم�سنتدات ابتزاز ،فتح جهاز احلا�سوب ،ف�ضرب بع�ض الأزرار وعينيه
جتري على ملفات م�شفرة� ،أدخل فال�شة �أخرى وبد�أ يف الطباعة بينما
ابت�سامته تتو�سع بانت�شاء متذك ًرا عند هروبه هو و�سائد ،وبعد �أن تذوق
�أهوال الغربة ثالثة �أعوام كاملة ،بد�أت �أمورهم ت�ستقر ن�سب ًّيا و�أخذا
�أوراق الإقامة ال�شرعية والتي كان �شرطها الوحيد �أن يتقن كل منهما
لغة البلد ،ف�أُ ْج ِ َبا على االلتحاق مبدر�سة ليلية ،و�أحيا ًنا نهارية ح�سب
ع
أنت؟»
بعد وقت كان يت�صل برابحة مرة �أخرى يخربها باختناق�« :أين � ِ
ع والتوزي
تنهدت وهي تخربه« :ما زلت ببيت �أمي كما طلبت مني».
�أغلق هاتفه دون وداعها ثم ا�ستمر يف طريقه نحو بيت �صفية ،لقد
طلب منها اليوم �أن تذهب ل�صفية ك�إجراء احرتازي رمبا يك�شف �أو ُي ْح ِدث
�شي ًئا ،رغم ثقته �أن �سائد وراءه ولن يجعل �أحدهم يقرتب منها ولكن يعلم
�أن �شقيقه اله ًيا هو الآخر يف �أمر مهم.
q q q
بهدوء دخل احلي ال�سكني للطبقة املتو�سطة يف املدينة اجلديدة ما
ُي ْد َعى مدينة ال�شباب ،توجه �إىل �شقة يف الدور الثالث حتديدً ا بعد �أن
�أغلق الهاتف مع عمر ليمنحه �آخر معلومة عن الطبيب ال�شاب« :حمدي
عاما� ،أنهى �سنة
عثمان طبيب �شاب يف مقتبل العمر يبلغ ثمانية وع�شرين ً
االمتياز يف م�ست�شفى حكومي قبل �أن يتو�سط له �أحدهم ليلتحق مب�شفى
فهمي النجار».
210
التفت حوله قبل �أن يفتح الباب بطريقة �إجرامية كانت معتادة،
مظهره املتوح�ش منحه الهالة املنا�سبة ،خطا �إىل الداخل بهدوء ،من
املعلومات املجمعة عنه ،يعلم �أن ال�شاب يعي�ش مبفرده ،بنية �ضعيفة ل�شاب
مي�شي بداخل احلائط ال بجانبه كما يقولون ،فما الذي رماه مع فريق
َّ
لي�ست�شف جزارين فهمي كما ر�آه؟ الأمر ال يحتاج منه كث ًريا من التفكري
�أن هناك خط�أً ما ا�ستغله فهمي �أو فريقه �ضد ال�شاب ليكون معهم؛ لذا
قليل من التخويف لن ي�ضر؛ منها ينتقم منه على �سكوته ورمبا �إن �ساعده
فيما يريد ي�ستحق فر�صة للحياة وغفرا ًنا ملا �صمت عنه ،خرج حمدي من
ريص ع
احلمام متوج ًها �إىل غرفته عندما �صدمته قب�ضة قوية يف منت�صف �صدره
بل
أر�ضا وقبل �أن يتفوه بكلمة طال ًبا النجدة كان �سائد يلحقه ب�أخرى
والتوز عي
�سائد وجذبه من مالب�سه و�سحب كر�س ًّيا خ�شب ًّيا قدمي و�أجل�سه عليه ثم
متاما وال تفتحه �إال عندما
ثبته عليه و�أخربه ب�شرا�سة�« :أنت �ستغلق فمك ً
�آمرك �أن جتيبني».
�أوم�أ ال�شاب بعني مرتعبة ،فمد �سائد يده و�أخرج هاتفه ودون مقدمة
قام بفتح الفيديو الذي �أخذه له �ساب ًقا ،تو�سعت عينا حمدي ذع ًرا ووجهه
حتول لكتلة من ال�سواد عينيه حتكي �ألف توقع للرعب وك�أنه يقف يف وجه
عزرائيل بحد ذاته ،فلم يرتك �سائد فر�صته وهو مييل بوجهه وقب�ضته
تلعب ب�أع�صاب ال�شاب لواها ب�شرا�سة وقال بخفوت �شرير« :نعم ،اعتربين
متاما».
مر�سال املوت قد �أتى ليمزق �أح�شاءك كمن تراه يف الهاتف ً
q q q
فور �أن فتحت له الباب خفق قلبها ب�أمله ،فرغم هدوئه الظاهر وحتكمه
يف انفعاالته لكنها كانت ُتط ُّل من عينيه تلك النظرة التي باتت تعرفها
211
جيدً ا ،تلك النظرة التي تهدد بطوفان كا�سح يدمر كل �شيء يف طريقه
�إن �سمح له هو باخلروج ،فلدقائق طويلة كان عمر يقف �أمام �شقة �أهلها
ي�سند �أحد كفيه على �إطار الباب بتعب ،بينما يده الأخرى ت�ستند على
خ�صره ،وعينيه تطل منها �آالف الطال�سم املبهمة ،تقدم للداخل بخطوة
أمك و ُق َ�ص ٌّي؟»
بطيئة ال تخلو من التعب وهو يقول�« :أين � ِ
ارتبكت بطريقة لوال ما يعانيه لكان انقلب على ظهره �ضاح ًكا�« :أمي
�صي يف العمل». عند �إحدى اجلارات خرجت منذ قليل ،و ُق ٌّ
ع
قائل بتعب« :جيد� ،أغلقي باب حترك ناحية احلمام وهو يخلع معطفه ً
والتوزي ر
ارتد مالب�سك وحترك نحو غرفة ال�ضيوف �إىل �أن ت�أتي والدتي». ِ
ع
ا�ستدار نحوها وهو يلقي معطفه جان ًبا ،ثم مد يده يفك �أزرار قمي�صه
بنوع من الع�صبية ،ثم ما لبث �أن مد يده نحو ذقنها؛ كي يرغمها على
النظر �إليه والتوا�صل معه ،وقال �ساخ ًرا« :عندما ي�أتي �أحد منهم �أو
زوجك
أمك �أخربيهم �أين ِ يتهمك �أحد اجلريان بوجود رجل عاري يف �شقة � ِ ِ
يا رابحة».
�سمحت لعينيها �أن تلتقي بعينيه قبل �أن تقول جمفل ًة« :الأمر لي�س
هكذا ،ولكن هذا ال ي�صح».
اعرت�ض« :رابحة».
َع َّ�ض ْت �شفتيها مت�سائل ًة عن �سبب تقلُّب مزاجه م�ؤخ ًرا وبقلبها املحب
احلنون كانت تدرك �أنه يحتاجها ،فقربت ك َّفيها الدافئتني لتت�سلل من
جانبي قمي�صه املفتوح تت�شبث بخ�صره وتريح ر�أ�سها على �صدره� ،إدراكه
212
لتفهمها حلاجته دون جدال ودون اال�ستغراق يف كثري من اال�ستف�سارات
بثَّ م�شاعر عنيفة وقوية داخله ،م�شاعر كانت �أكرث ً
جموحا من �أن ي�سيطر
�ساحما
ً فلف ج�سدها بذراعه بقوة رفع وجهها مرة �أخرى بني يديه عليهاَّ ،
ل�شفتيه بغزو �شفتيها وجبينها وعينيها ،دقائق مرت كان ي�سمح لنف�سه
بالغرق فيها ،بينما تهبط يداه نحو جلبابها يحاول رفعه حتى ي�ستطيع
مل�س ب�شرتهاِ ،ف ْعلته هذه جعلتها تدرك و�ضعها يف منت�صف �شقة والدتها
ف�أبعدته عنها جمفل ًة لتخربه من بني �أنفا�سها املنهكة« :عمر ،توقف
�أرجوك قد ي�أتي �أحدهم».
ع
نف�سا عمي ًقا تفيق من �أفكارها ،ثم �صوته �أتاها بغ�ضب مكتوم ،ف�أخذت ً
ب
اال�ستحمامللال�ضيق بالكاد ي�ستوعب ج�سده،
ن
الذي وفره له عمر قبل ثالثة �أ�شهر كما وعده من قبل.
ش مل
ر تكن
والمطلوبة يف تلك
و ت
املرحلة ،الآن وبعد �شهور من حتقيق حلمه يف امر�أة بريئة مثلزيع
كان يجل�س يف حو�ض
ي�شعر بكل �شيء يت�شابك داخله حمق ًقا فو�ضى
رابحة
يف طهر وفر�صة للحياة كانت من حقه� ،شعر بالندم الذي يعود يغزو
داخله وي�ضرب مبطارق الرعب عليها �إن حدث خلل يف خطتهم و ُك ِ�ش َفت
حقيقتهم ،من يبقى بعده حلماية حبيبته االندفاعية والتي ما زالت تعي�ش
نف�سا ً
طويل يف فقاعة احلياة الوردية مثل �أي �شابة يف مقتبل العمر؟ �أخذ ً
قبل �أن يكتم �أنفا�سه وينزل حتت املاء بر�أ�سه ،دقيقة اثنان وثالثة مروا
عليه قبل �أن ي�شعر بيديها تهبط حتت املاء تد ِّلك �صدره بهدوء وهي
متيل عليه تهم�س بحنان« :ما بك؟ تكلم يا عمر رمبا �أخفف عنك بع�ض
همومك».
�أخرج ر�أ�سه بحركة �سريعة �أجفلتها وكادت �أن جتعل وزنها يختل
فتم�سك بيديها االثنتني جيدً ا قبل �أن ي�ش َّد ذراعيها لت�صبح ب�سهولة بني
َّ
214
ذراعيه يف حو�ض اال�ستحمام فهتفت به �ساخطة« :كيف تفعل هذا بحق
اهلل؟! �أنت ُج ِن ْن َت و�أ�صبحت تت�صرف بغوغائية».
�ضحك بخ�شونة« :ال ب�أخالق �أوالد ال�شوارع التي ُت�صري �أن تتنا�سي
�أنني منهم».
التفتت وهي حتدق يف وجهه اخلايل من التعبري �إال تلك ال�ضحكة التي
و�صلها معناها ال�ساخر جيدً ا ،ثم هتفت من بني �أ�سنانها�« :أيها الأحمق،
و�أنت ُك َّف عن تذكريي ب�شيء �أنا �أثق �أنه مل يعد فيك ،لقد هذبت اخلم�سة
ع
عاما �أخالقك جيدً ا».
ع�شر ً
أدراك
ت ك ل ا ريص
و�ضع يديه داخل خ�صالت �شعرها التي تبللت وقال« :وما الذي � ِ
والتوز عي
هو من يحكم على ت�صرفاتي يجعل ذلك الوح�ش يز�أر بداخلي لأحرره».
عادت لهز ر�أ�سها بالرف�ض قائل ًة« :الإن�سان من ي�صنع حا�ضره
وم�ستقبله يا عمر� ،أما ما�ضيه املخزي كما ت�شري دائ ًما ،فهو فر�ض عليه
يف حلظات �ضعفه الب�شرية الطبيعية ،ومن مثلك كافح بكل ال�سبل لي�صبح
�أف�ضل ،لن يعود �أبدً ا لنقطة ما حتت خط القذارة مبراحل».
تقب�ضت يداه حول َخ�صرها ثم قال بغ�ضب غري مف�سر« :و�إن كانت تلك
القذارة جزء ال ينف�صل عني ،جزء �أنا منه و�أ�ستحق �أن �أعود �إليه ،و�إن
كنت �أ�شتاق للوحل يا رابحة حتى �أطلق للثعلب بداخلي حرية الت�صرف،
وينتقم من اجلميع بعيدً ا عن تلك املعايري الإن�سانية اخلانقة».
َ�ش َح َب وجه رابحة وهي حتدِّ ق يف وجهه املت�شنج بغ�ضب مل تره من قبل
وهي ترد بتلقائية�« :أخربتني �أنك كرهت الوحل ،و�شغفك بتلك العالقات
املحرمة متخو ًفا من الأمرا�ض اجلن�سية املجهولة التي حتملها من »...
215
طفرت عيناها بدمعات حارقة غرية خمتلطة بلوعة وهي تتخل�ص من
لف َخ�صرها ذراعيه ت�ستند على احلو�ض واقفة ،فتبعها هو الآخر يعيد َّ
بذراعيه مثبتها على احلائط البارد ،هم�س ونظراته تنحدر نحو �شفتيها:
جدا لبع�ض من بريتي أعن هذا الأمر يا �أمرية عمر ،و�إن كنت �أ�شتاق ًّ
«مل � ِ
معك ،كما �أين توقفت ا�شمئزا ًزا وقر ًفا لي�س خو ًفا
ولكن لن �أمار�سها �إال ِ
فقط».
وك�أنها مل ت�سمع مربراته الكاملة عندما رددت با�ضطراب« :بريتك!»
ع
�أطلقت �شهقة ق�صرية عندما �أدار وجهها للجدار وثبت يديها للأعلى:
ر ش
والتوزي
ردت ب�صوت غري م�ست ٍو« :اتركني يا عمر �أنت غري طبيعي اليوم ،حتاول
ع
�إخافتي والتالعب بي ل�شيء جمهول ال �أفهمه».
إليك فقط� ،أريد �أن �أبقى قال ب�صوت �أج�ش�« :أي تالعب؟! �أنا �أجل�أ � ِ
معك� ،أن تتعريف �إىل كل جزء مني بالطريقة ال�صحيحة». ِ
حاولت �أن تعرت�ض و�أن ت�ستدير �إليه ،ولكنه مل مينحها الفر�صة.
q q q
بعد يومني ،كان �سائد قد �شرح للطبيب ال�شاب املطلوب منه وانتظر
االعرتا�ض �أو حماولة التهرب �إال �أنه مل ينطق بل وافقه على الفور مطي ًعا
�أوامره ،وهو الآن يقف يف منطقة �أمان بعيدً ا عن وكر حماد ينتظر،
فالطبيب ال�شاب حظه الأ�سود و�ضنك املعي�شة وعدم اهتمام الدولة بتوفري
الرواتب التي ُتنا�سب م�ؤهله ،هو ما �أوقعه فري�سة لزلته ال�سابقة التي �ألقته
يف طريق فهمي النجار بالتتابع.
216
من املرايا اخللفية ر�أى ال�شاب يقرتب منه ب�أقدام مرتع�شة وج�سد
م�ضطرب فتفح�ص �سائد وراء ال�شاب جيدً ا ك�إجراء احتياطي �أن يكون
�أحد يتبعه من �أبناء حماد ،عندما اطم�أن �أنه مبفرده ثم بهدوء �أخرج
هاتفه ،دقيقة واحدة هي ما مرت قبل �أن ي�أتيه ال�صوت املرتبك« :حمدي
عثمان معك».
ً
متجاهل رد فعله قال« :تقدم مبا�شر ًة �إىل ال�سيارة ال�سوداء التي
�أمامك ،افتح الباب اخللفي وا�صعد دون ت�أخري».
ص ع
مل متر دقائق ،حتى كان حمدي ينفذ الأمر فانطلق �سائد دون ت�أخري،
217
متتم بخفوت م�ضطرب« :نعم� ،أعلم هذا ولكنني �أخربتك �أنني مل
�أ�شاركهم قط».
عم ال�صمت جمددًا قبل �أن ي�س�أله �سائد بجفاء« :هل �شعرت �أنه ت�شكك
يف حديثك �أو حاول مراوغتك �أو ا�ستجوابك بطريقة ملتوية؟»
حرك عويناته قبل �أن يزدرد ريقه وقال بب�ساطة« :ال �أعتقد ،عندما
�أخربته ب�أين مر�سال من الدكتور ،وحدثته عن الطلبية ب�أ�سلوب معتاد
مبطن ،وب�أن املر�سال الآخر مل يعد متوف ًرا حال ًّيا وب�أين املر�سال اجلديد،
ع
رحب بي على الفور، ومنحته كلمة ال�سر املتفق عليها كما �أخربتني �أنت؛ َّ
ر ش
والتوزي
�صمت لربهة ً
ملتقطا �أنفا�سه ،ثم �أردف ذاك ًرا« :كما �أن الأهم من هذا
ع
كله �أنه ر�آين يف املرتني ال�سابقتني مع البقية كما �أخربتك؛ لذا بالت�أكيد هو
مل ي�شك يف الأمر».
َع َّم ال�صمت احلذر مرة �أخرى يف �أرجاء ال�سيارة قبل �أن يتوقف �سائد
على جانب الطريق و�أخربه بربود« :انزل هنا ،ومار�س حياتك بطبيعية،
�إىل �أن �أت�صل بك مرة �أخرى».
هبط حمدي قبل �أن ي�ستدير ناحية �سائد ومييل على �شباك ال�سيارة
م�ستندً ا عليها بكفيه ي�س�أله بي�أ�س�« :أمل ينت ِه دوري هنا؟ لقد قلت �أ�ساعدك
ومتنحني ما �أخذه فهمي �ضدي».
�أبعد �سائد يديه عن النافذة وقال بت�شدق�« :أنا من �أقرر متى ينتهي
الأمر حمدي؛ لذا ال تتع�شم يف �أي �شيء قبل �أن �أُ ِح َّل َك �أنا منه».
218
وبدون كلمة �إ�ضافية كان ينطلق ب�سيارته حتى ينفذ باقي خطته� ،إن
كرث �أعدا�ؤك وا�ستفحلت قواهم �إذن لي�س �أمامك �إال حل واحد «ف ِّرق
ت َُ�س ْد» ،حكمة ب�سيطة بحروفها وكم هو كبري �إجنازها �إن نفذتها بدقة دون
خط�أ واحد ،يف لعبته هو ال يعتمد �أبدً ا على احلظ اجليد �أو ال�صدف و�إن
كان خدمه القدر مرتني� :أحدهما بدجوى الها�شمي التي منحته �أ�شيا ًء
�س َّهلت عليه معرفة نقطة �ضعف خ�صمه ،والأخرى وجود هذا الطبيب
ال�شاب الذي كان �سي�ضيع يف وحلهم و�ضمائرهم املظلمة.
q q q
219
�أح�س حماد بالنار تنتف�ض بني عروقه وهو يلف يف �شبه دائرة بني
رجاله ،هات ًفا بغ�ضب �أعمى:
«م�ؤكد �أنت تكذب مل�صلحتك اخلا�صة ،ما الذي يجعلنى �أثق بك و�أنا
�أعرف هدفك الأ�سا�سي؟»
هتف �سائد م َّدع ًيا االختناق والقلق املتعجل« :وما الذي يدفعني للكذب
عليك ونحن �شركاء؟ يا معلم �أنا ذئبك املخل�ص هل تذكر �أم ن�سيت؟»
ع
كان حماد ينظر حوله بعجز متحري ،فعاجله �سائد بالقول�« :أنا
�إبراهيم فقط فوق النقاط التي حددتها لك ،وال تن�س رجالك يدخلون فور
نف�سا بريئة واحدة».
�أن يبد�أ االرتباك؛ ل ُيخرجوا الأطفال ،ال �أريد �أن �أفقد ً
«ع ِل َم».
مكتوما قبل �أن يقولُ :
ً نف�سا
�أخذ �إبراهيم ً
القاعدة ب�سيطة وهذا ما يتبعه ،اك�سب ثقة عدوك من �أهم نقاطه
العمياء ،امنحه غنيمة ثمينة يلتهي فيها ويطمع يف املزيد� ،ش ِّك ْكه يف
�أهم رجاله ،ونقطة ات�صاله مع عدوك الآخر ،اقطع ذراعه بربود ،وهذا
ما فعله مع «ح�سان» ،ثم بهدوء ا�ضرب على احلديد وهو �ساخن� ،أربكه
و�شتته ،وال متنحه الفر�صة للتفكري ،وال تن�س �أن تظهر يف الوقت املنا�سب
لت�صبح بطله املغوار واالبن الروحي املخل�ص.
220
خالل حلظات كانت قنابل دخانية ُت ْل َقى على مملكة حماد ،ثم يتبعها
الرجال بزجاج امللتوف على الأماكن التي ر�صدها �سائد �ساب ًقا والتي يعلم
جيدً ا �أنها تبعد نهائ ًّيا عن وجود الأطفال واملراهقني الأبرياء.
وبع�ضا من رجاله يهرعون حترك �إبراهيم على الفور بعد �أن ر�أى حماد ً
للخارج هل ًعا وبع�ض من الأطفال يتبعونهم متخبطني ،من اجليد �أن تربك
عدوك و�أن يكون لديك رجال متخ�ص�صون ،اقتحم �إبراهيم املكان ِوف
�أقل من ع�شر دقائق كان يخرج كل من فيه دون �أدنى تفرقة ،وعندما ت�أكد
ع
م�سرعا ،خلع القناع الواقي
ً نهائ ًّيا من خلو املكان ،كان يخرج هو ورجاله
ر ش
والتوز عي
عليها بتخطيط م�سبق« :الآن �شريف حترك».
يف دقائق كانت �سيارات ال�شرطة تع ُّج باحلارة العفنة ال�ضيقة؛ مما
جعل الهلع ي�ضرب يف قلب حماد ب�شكل �أكرب و�أ�صبح موق ًنا �أن الأمر
م�ؤامرة مدبرة للخال�ص منه ،هرع �إىل اخلارج بخطوات م�سرعة ،فوجد
�سائد �آت ًيا من �أول الطريق يخربه�« :أخربتك يا معلمي� ،إنهم خونة لي�س
لهم �أمان ،ماذا فعل الكالب؟»
�شعور الغدر املختلط بالغ�ضب الأعمى واحلقد الأحمق مل ميهل عقله
دقيقة للوقوف والتفكر ف�أخرب �سائد بغ�ضب« :لن �أكون حماد �أبو الروو�س
انتقاما لن يحله �إال
ً �إن مل �أمثل بجثثهم جمي ًعا ،ما بيني وبينهم �أ�صبح
الدم ،انتظرين يا فهمي الكلب».
�شده �سائد من ذراعه وهو يخربه« :دعنا نختفي من هنا قبل �أن يرانا
�أحد ،فبالت�أكيد �أحدهم هنا ويراقب مع ال�شرطة».
221
نف�ض حماد ذراعه بغ�ضب متوج ًها �إىل ال�سيارة التي �أ�شار نحوها
�سائد ،بينما التفت �سائد من عدة �أمتار ينظر �إىل �صرح حماد التي
ً
متخيل كل ا�شتعلت النريان يف كل جزء منه ،حتى �أ�صبح كربكان متفجر
قذارة حدثت فيه ل�سنوات ،متذك ًرا كم روح فقدت فيه �أنفا�سها ،مدر ًكا
�أن كل ما ميلكه حماد بداخله من مال وخمدرات وح�شي�ش ،كل ما َت َّ�صل
يوما ُيزيد النار يف توهجها حتى �أ�صبحت كتلة حمراء مل ي�ستطع عليه ً
�أحد ال�سيطرة عليها ،ف�شعر بداخله �أن جز ًءا من نريانه هو تنطفئ ببطء،
را�ض ًيا هم�س بانت�شاء« :ا�شتعلي حتى حتيلي تلك اخلرابة � ً
أطالل ،رمبا
بل لإطفاء ب�صعوبة دخول تلك احلارات ك بعد �ساعات ،ال
ا�ستطاعتتفرقة ا
ل
q q q
222
مل ير َّد �شريف لربهة ،وهو يتفح�ص مالحمه اجلادة املتجهمة ،ثم قال
بهدوء« :و�إن افرت�ضنا �أن كالمك �صحيح ،يبقى �س�ؤايل :ما الذي �أو�صلك
علمت عنهم؟ عملك دائ ًما كان يقت�صر على حماية الطبقة له�ؤالء؟ وكيف َ
العليا من املجتمع».
مال وجه �إبراهيم بق�سوة قبل �أن يقول« :ميكنك القول �أين قررت فتح
عيني بعد �أن �أغلقتها طوال �أعوام قا�صدً ا مثل الكثريين يف هذا البلد».
َّ
بد�أ الهرج يهد�أ تدريج ًّيا من حولهم ،فبد�أت الأ�صوات يف الظهور
ع
املرتا�صني على حائط
ِّ وال�صورة تت�ضح �أمامه كاملة ،فنظر له�ؤالء الأطفال
ر ش
والتوز عي
املتعبة واملنتهكة والنظرة التي ال حتوي �إال ال�ضياع.
فعاد �شريف يخربه بال مباالة« :ال تت�أثر هكذا من مظهرهم ،ه�ؤالء
�إن �أتتهم الفر�صة �أو �أرخيت لهم ً
قليل �سي�أكلونك ح ًّيا دون �أن يرم�ش لهم
جفن».
التفت نحوه وهو يقول من بني �أ�سنانه ب�صوت كالفحيح« :كيف جتر�ؤ
على اتهام �أطفال بهذا ال�شكل؟! ه�ؤالء الوحو�ش كما حتاول �أن ت�شبههم هم
�أخطا�ؤنا نحن ونتيجة تكا�سلنا و�صمتنا� ،سمحنا مل�شكلة �صغرية �أن تتفاقم
حتى �أ�صبحت قنبلة موقوتة� ،ستنفجر ال حمالة وحت ِّول هذا املجتمع �إىل
جمرد ركام كالذي �أمامك بال�ضبط».
جتاهل �شريف انفجاره ،زفر ب�ضيق وهو يخربه« :هذا لي�س م�سار جدل
بيننا �إبراهيم ،وعدك يل كان �أن ت�سلمني جمموعة من املجرمني وعلى
ر�أ�سهم حقري �أرهق الداخلية لأعوام ،وعندما و�صلت مل �أجد �إال حري ًقا
وبع�ض البلطجية ،بالإ�ضافة ملجموعة الأطفال».
223
متفح�صا مالحمه م�ؤكدً ا لنف�سه
ً جدا،
ح َّدق فيه �إبراهيم ب�صمت طويل ًّ
بيقني� ،أن �شريف رغم ق�سوته يف بع�ض الأحيان و�سهام كالمه اجلارح
�إال �أنه يعلم جيدً ا بنقاء تاريخ �صديقه� ،إنه الوحيد القادر على م�ساعدته
يف القادم ،ولكن م�ؤكد لن يخربه الآن مطل ًقا بل رمبا عند انتهاء الأمر،
فنزوله �أر�ض الواقع ور�ؤية ما يحدث حقيق ًة جعل ثورة جنونية بداخله
توازي براكني �سائد ،تريد االنفجار واالنتقام من القتلة وجتار الدماء
ب�أب�شع الطرق.
ع
تنازل �أخ ًريا متمت ًما بهدوء« :هل تريد حتقيق العدالة �أم �صفقة تزفها
واا:لت«هذا �صحيح،
ي ز و
ولن تخربين ب�شيء �إال عندما تريد».
وكما �أخربتك �ساب ًقا �أنها ق�ضية ر�أي عام� ،صرخة ملجتمع رمبا ع
ي�ستفيق
حرك �إبراهيم رقبته بك�سل قبل �أن يجيبه برتابة م�ؤكدً
ص ع
قليل وك�أنه ي َّدعي التفكري قبل �أن يردف بنف�س �ض َّيق ما بني حاجبيه ً
ع
أي�ضا مت ا�ستغاللهم كم�صدر للمرة الثانية قاطعه �صديقه بالقول« :و� ً
ر ش
والتوزي
�أوم�أ �إبراهيم مواف ًقا ،ف�أكمل �شريف ب�سال�سة« :ا َّدعوا �أنهم من ذويهم
ع
الأحرار ومل يكونوا �إال جمرد �أطفال مالجئ والثمن لعبة ووجبة ،وبالطبع
لن حتتاج �أن �أخربك �أن اجلماعات الإرهابية ت�ستخدم ه�ؤالء الأطفال
يوما �إن وجدت �أحد الأطفال متاما ،فال تتعجب ً لت�سيطر على عقولهم ً
حزاما نا�س ًفا مفج ًرا به م�سجد �أو كني�سة وهو مقتنع ً
متاما �أن هذا يرتدي ً
ل ُن�صرة كلمة احلق».
ملتقطا �أنفا�سه قبل �أن يردف بت�شدق« :وبالطبع ال تن�س جتارة �صمت ً
الرقيق الأبي�ض بالفتيات ال�صغريات».
�إذن نحن متفقان �أن اجلميع ي�ستغلهم وك ٌّل ح�سب م�صلحته وجد فيهم
ال�صيد املنا�سب.
نظر �شريف ل�ساعته التي كانت ُت�شري لل�ساعات الأوىل من ال�صباح قبل
�أن يقول بقوة جازمة« :اجلميع مذنب وال �أ�ستثني �أحدً ا� ،أطفال ال�شوارع
لي�سوا �إال خطيئة جمتمع ب�أكمله ح َّولها لقنبلة موقوتة ،وها هو يجني ثمار
226
انفجارها عرب معدل اجلرمية الذي زاد وتف�شي الف�ساد وال�سرقة وخطف
الأطفال �أو حتى ال�شباب والن�ساء للمتاجرة فيهم».
q q q
«اطرق احلديد وهو �ساخن» ،لي�س �سي ًئا �أن ت�أخذ من �أقوال القدماء
خطوات تتبعها ،ولكن ال تن�س �أن ترتب نقاطك جيدً ا ،فعدوك لي�س ً
�سهل
و�إن منحته وقتًا للتفكري �أو جمع �شتات نف�سه ف�أنت �ستفقد كل �شيء ،وهذا
جدا من حتقيق عدالته اخلا�صة. ما لن ي�سمح به �أبدً ا ،لقد اقرتب ًّ
وبع�ض من رجاله
ر ش
والتوز عي
ملنطقة نائية ليطالب بامل�أوى والدعم من �أحد البلطجية �أ�شباهه ،مالت
زاوية فمه بابت�سامة �ساخرة ،من املثري للعجب دعمهم لبع�ضهم وقت
ال�شدائد ِ َ
ول ال وهم �أوالد مهنة واحدة.
ما زال حماد على اهتياجه ووعيده ،يلقي �ألفاظه الفاح�شة بغري
متاما كعادته،
ح�ساب ،يهدد ويتوعد فهمي وكل من معه ،كان ع�شوائ ًّيا ً
فتدخل �سائد بهدوء حازم وقال« :اجلزع وال�صراخ لن يو�صلنا حلل يا
معلم ،نحن الآن يف �أمان ،يجب �أن تهد�أ لتمنحنا خطواتنا القادمة
كعادتك يا كبري».
بع�ض التملق لن ي�ضر حتى ير�ضي غروره حتى و�إن كان هو من �سيوجهه
ملا يريد يف النهاية.
�ساحما للحقد �أن ي�سيطر
ً كان ج�سد حماد ينتف�ض بغ�ضب من نار،
عليه ،تار ًكا للهيب االنتقام حرية التفكري ،ليعمي عينيه ً
متاما عن حقيقة
227
ذئبه عندما قال بعنجهية« :نعم ،يجب �أن �أعيد تنظيمكم ،لآمركم مبا
�أريد ،لقد �أح�سنت تربيتك يا ولد».
�أوم�أ �سائد بر�أ�سه بنوع من الإجالل ملعلمه م�سيط ًرا على �سخريته التي
ال تنف�صل عن طبعه عندما قال بب�ساطة مبا�شر ًة مدع ًيا اجلهل« :ما حدث
جدا �أنه مرتب لهَ ،منْ فعلها �أراد اخلال�ص منك ،ولكن ما من الوا�ضح ًّ
و�صلني من �أحد الرجال �أن الليلة بالذات �أرادوا الق�ضاء عليك ،فهل من
�سبب؟»
ع
يلف حول نف�سه يخبط يديه كان كل ما ي�صدر من حماد عني ًفا وهو ُّ
ر ش
والتوزي
«الو�سخ» �أر�سل يل ً
رجل جديدً ا يريد طلبية».
ع
قاطعه �سائد بالقول م�ستفه ًما بل�ؤم« :رجل جديد! وهل هذا الأمر
أي�ضا ،الأمر به لعبة خطرية يحتاج ملزيد من ك�شفه �أمام �أحد وجديد � ً
معلمي».
هز حماد ر�أ�سه بالرف�ض وقال« :ال ،لقد ر�أيته معهم ،هو �أحد رجال
فهمي».
اقرتب منه �سائد وو�ضع يده على كتف حماد يف حركة م�ؤازرة وقال« :ال
أي�ضا ،حقك �سيعود ،ورقبتي �سدادة تقلق� ،أنا يف ظهرك وجميع رجالك � ً
�أنا وكل مايل لك».
التفت �إليه حماد بر�أ�سه ومالحمه الإجرامية تتوهج ً
قائل« :عندما
اخرتتك لتكون ذئبي ومنحتك ا�سمك هذا والذي جهل به جميع الأغبياء
لدي حق� ،أنت �أذكاهم و�أقواهم ،وكما جهزتك لوقت حاجتي وقتها كان َّ
وجدتك� ،أنا اعتربتك ولدي الذي مل �أجنبه».
228
علق �سائد بحديث نف�س �ساخر« :نعم ،ولدك الذي طاله منك الأذى
كما مل َي َط ْل ُه �أحد رجالك قط ،وج�سدي امل�شوه ي�شهد ،ومعدتي التي مل
يوما ت�ؤيدها ،هذا �إن جتنبت ذكر قلبي الذي ُق ِت َل تعرف معنى ال�شبع ً
وكرامتي التي ُ�س ِح َق ْت».
مل ي�ستطع �سائد �أن يبت�سم �أو يعلق ب�شيء ُيفخمه �أكرث فاكتفى بهز
ر�أ�سه موافقة قبل �أن يقول« :يجب �أن ن�صل للفتى اجلديد هذا� ،أو �أحد
رجال فهمي� ،سيكون �أول خيوط انتقامنا احلقيقة لن�صل للر�أ�س الكبرية».
نلف حول �أنف�سنا؟! الآن �سنتوجه «ول ُّ هتف حماد بغ�ضب متوعدً اَ ِ :
ريص ع
مل�شفاه نحرقه فوق ر�أ�سه ،ثم �أقطعه ح ًّيا»
والتوز عي
ح�شرات املجتمع وجمرميه يقتلون مالك الرحمة دون �أن يعلم �أحد حقيقة
�أنه من اعتدى علينا � ًأول».
�س�أله حماد بجفاءً �« :إذا ماذا تقرتح؟»
�أجابه بحزم« :ن�صل �إليه خطوة خطوة ،نو ِقع برجاله � ًأول ونفهم ماذا
يخطط لنا ،م�ؤكد لن يكتفي بهدم الوكر فوق ر�ؤو�سنا ،وحتى نت�أكد �أن
فهمي من فعلها».
زفر حماد ب�ضيق وعاد ي�صرخ يف رجاله بغ�ضب�« :أريد حمدي عثمان
أي�ضا الطبيب الذي كان ي�سبقه عالء نبيل». الليلة ،و� ً
مل يعلق �سائد مرة �أخرى ب�شيء ،بينما ي�سيطر على زفرة ارتياح تريد
اخلروج؛ لإقناع الغبي ب�أول خطواته ولكن عليه �أن يتحرك الآن ليجهز
عالء كما يجب.
q q q
229
بعد �ساعات من تركه حماد و�صل �سائد �إىل ذلك املنزل ال�صغري
املهرتئ الواقع خارج املدينة ،والذي قد اختاره كمكان احتياطي �إن �أراده
يف �أمر ما ،وها هو ي�ستخدمه �أخ ًريا منذ يومني متذك ًرا عندما طلب من
حمدي م�ساعدته لي�صله بهمزة الو�صل بني حماد وفهمي؛ «عالء نبيل»،
وهو طبيب يف بداية العقد اخلام�س من العمرُ ،و ِّج َهت �إليه من قبل تهمة
و�س ِجنَ ملدة عامني�سرقة قرنية عني املتوفني يف امل�ست�شفيات احلكومية ُ
فقط وبعدها خرج ،ليوا�صل عمله احلر بعقد �صفقة مع ال�شيطان فهمي
النجار بعد رف�ض �أي م�شفى حمرتم تعيينه ،هو على يقني �أن هذا الرجل
ريص ع
ت َ�صى من الغالبة والأطفال؛ فعل الكثري يف حياته طم ًعا وقتل �أعدادًا ال ُ ْ
ع
متاما حتى عن عائلتك ،واملال الذي معك يا حمدي �أريدك �أن تختفي ً
�سي�ساعدك على هذا».
نف�سا عمي ًقا
�صمت ي�ستمع جلزع حمدي الذي ال ينتهي ،قبل �أن ي�أخذ ً
ويخربه ب�سيطرة عنيفة« :ا�سمع يا فتى� ،أنا وعدتك بالأمان واملال ،فقط
اتبع �أوامري وال جتادل ،و�إياك والظهور قبل �أن �أ�سمح لك �أنا بهذا».
�أغلق الهاتف دون كلمة �إ�ضافية ،ثم فتح الباب احلديدي لي�صبح يف
مواجهة عالء مبا�شر ًة.
رجل مبالمح غري مريحة ميلأ ال�شيب ر�أ�سه ،يرتدى نظارة طبيبة
بزجاج �سميك ،مقيد يف ن�صف الغرفة على مقعد خ�شبي.
�أ�شار �سائد ب�صمت لأحد رجاله باخلروج ،ثم ما لبث �أن اقرتب منه
فهتف عالء بذعر�« :إن اقرتبت يداك مني مرة �أخرى �س�أجعل ال�شرطة
ت�سلخ حلمك عن عظامك فور خروجي من هنا».
230
مزعجا
ً �سحب �سائد كر�س ًّيا �صد ًئا يجره على الأر�ض حمد ًثا �صري ًرا
مق�صودًا ،وو�ضع الكر�سي �أمامه يف و�ضعية مقلوبة قبل �أن يجل�س عليه
مرب ًعا �ساعديه �أمامه وهو يقول بربود خميف�« :إن ا�ستطعت اخلروج من
هنا يا دكتور افعلها ،لقد �أخربتك �أين �س�أدفنك هنا ح ًّيا ولن ي�شعر حتى
كلب بافتقادك».
ارتع�ش الرجل اجلبان من ر�أ�سه حتى �أخم�ص قدميه وج�سده املرتهل
ً
قليل َي�صب عر ًقا عندما قال« :ما الذي تريده مني؟»
ع
ال�ضغط النف�سي وحرب الأع�صاب التي تع َّر�ض لها الرجل جعلته
ر ش
والتوز عي
بلهفة �س�أله« :ما املطلوب؟ �أي �شيء �س�أفعله».
رفع ر�أ�سه ببطء �شديد حتى وقعت عيناه يف عيني �سائد الغام�ضة
واملليئة بنظرة حاقدة جمنونة ومتفجرة ك�أنها �آتية من عمق اجلحيم؛ مما
جعل توتر الرجل يزداد ،ثم ما لبث �أن قال ب�صرامة مرعبة�« :أن تنفذ ما
�أطلبه منك دون نقا�ش �أو �س�ؤال� ،أو ترف�ض عر�ضي ويكون اختيارك الآخر
ف�صل ر�أ�سك عن ج�سدك وتقطيعه لأجزاء �صغرية ُت َع َّب�أ يف �أجولة قبل �أن
�أرميها لكالب ال�سكك».
تو�سعت عينا الرجل خو ًفا فوق خوفه ،وقال كاملجنون حني يفقد كل
اخليوط التي تربطه بالتعقل�« :س�أفعل �أي �شيء ،ولكن ما الذي ي�ضمن يل
�صدق كالمك؟»
بدوي �صاخب ،ثم اندفع وقف �سائد من املقعد فج�أة مما جعله ي�سقط ٍّ
يقطع اخلطوات بينهما بخطوة وا�سعة وحيدة ليم�سكه من ياقته ب�شدة
وهو يقول من بني �أ�سنانه�« :أنت لن تطالبني ب�أي �ضمانات ،لقد ر�أيت
231
يف اليومني ال�سابقني ما فعلته بك ،ولن �أتوانى عن تك�سري عظامك مرة
�أخرى؛ لذا �أمامك خم�س دقائق لتقرر ما ال�صفقة التي �ستعقدها معي».
�ص بعينيه متذك ًرا �إجرام َمنْ �أمامهانكم�ش عالء يف كر�سيه وهو َي ْ�ش َخ ُ
وهو مينحه �ضربات جعلت �صراخه يهز �أركان هذا املنزل دون �أن يرتك
�أث ًرا ظاه ًرا للعيان ،لقد ظن يف مبتد�أ الأمر �أنه متخ�ص�ص تعذيب بطريقة
ما �أو رمبا ينتمي لل�شرطة« :االختيار الأول� ،س�أنفذ كل ما تطلبه».
اعتدل �سائد مرة �أخرى وهو يخربه بابت�سامة �شر�سة مر ِّبتًا على
ع
وجنته« :جيد ،طبيب مطيع».
والتوزي ر
ع
راقبه يبتلع ريقه اجلاف يوافقه ب�صمت ،ف�أكمل �سائد« :بالطبع �أنت
تعلم �أين �أملك �ضدك هذا الفيديو املمتع و�أنت تقوم بتفريغ ال�صغار».
ج َّز عالء على �أ�سنانه بجنون وهو ي�شتم ببذاءة ،فوجه له �سائد لكمة
ت�سب �أمامي� ،أكره هذا».
�سريعة حتت احلزام وقال بربود« :ال َّ
ت�أ َّوه الرجل ب�صوت مكتوم وهو يقول ب�صوت �أ�شبه بغرغرة�« :أعلم كل
ما تقوله ،ما الذي تريده و�س�أنفذه فقط �أخرجني من هنا».
كان يتفح�ص وجهه الذي زاد احمراره غ�ض ًبا و�أملًا ولكن م�ست�سلم
متاما ،ا�ست�سالمه منحه الهدوء وال�سكون ال�شديد م�سيط ًرا على نف�سه ً
يذكرها �أن كل ه�ؤالء ما هم �إال �أدوات ُتدار من ر�ؤو�س الأفاعي وهم لي�سوا
�أبدً ا هدفه ،قال بهدوء« :حماد مكانه احرتق ،ويبحث بجنون عن الفاعل،
�أنت �ستخربه �أن فهمي هو امل�سئول عن الأمر ،فبعد بيع ح�سان له �أ�صبحتم
ال ت�أمنوا جانبه».
232
زجمر عالء بالرف�ض وقال« :هل تريد مني �أن �أ�ضع نف�سي بني ف َّكي
حماد وفهمي؟! �إن َع ِلما �سيقتالين ح ًّيا»
أي�ضا �أخربتك �أنني �س�أنزع �أح�شائك من ج�سدك، �أجابه بب�ساطة« :و�أنا � ً
فاخرت الآن».
«وهل هذا اختيار؛ �أحدهم موت والآخر انتحار؟!»
عاد �سائد لأخذ نف�س مهدئ قبل �أن يقول ب�سيطرة ذاتية« :ا�سمعني،
ملج�أ حماد احرتق بالفعل وما �أنا مت�أكد منه �أن هناك �أم ًرا ما يجري،
ص ع
وفهمي قرر اخلال�ص منكم جمي ًعا� ،إن �أخربت حماد �أن فهمي من قام
ريص ع
دون توج�س وك�أن �سنوات من التعامل مع �سكان العامل ال�سفلي الغارق يف
ع والتوزي
حرك عينيه على حماد الذي يناور عالء ويحا�صره بعدة �أ�سئلة يتهمه
�أنه من �أر�سل له حمدي ليو ِقعوا به فيجيبه عالء بالقول املتع�سر« :الدكتور
فهمي هو من �أر�سله� ،أنا مل �أكن �أعلم مبا يجري �إال عندما �أخربين حمدي
بر�سالة».
�صفعه حماد بقوة جعلت الرجل ي�سقط على الأر�ضية القذرة حتت
�أقدامهم قبل �أن يرفعه حماد من مالب�سه ويخربه ب�صوت ع�صبي غا�ضب:
«وملاذا ال تكون لعبة منك �أنت كما �أقنعت ح�سان بخيانتي؟»
�صرخ عالء وعينيه احلمراوان وا�سعتان ،بينما ات�سعت فتحتا �أنفه وهو
يلهث بجنون« :ت ًّبا لك �س�أقطع يدك هذه».
عاد حماد يلكمه يف معدته بقوة وهو يقول مبجون« :يبدو �أنك ن�سيت مع
من تتحدث ويجب �أن �أذكرك».
234
ثوان كان ال�صق يو�ضع �أ�شار لأربعة من رجاله بفرقعة �إ�صبع ،ويف ٍ
على فم عالء الذي حرك عينيه نحو �سائد م�ستنجدً ا منتو ًيا �أن ي�صرخ
فيه مطال ًبا ،ولكن ال�سل�سلة احلديدية التي هبطت من ال�سقف مل متنحه
الفر�صة حتى لال�ستيعاب عندما علقوه من قدميه وجذبوها للأعلى.
تدخل �سائد ً
قائل حلماد« :يبدو �أنه ال يكذب يا معلم ومل يقل �أكرث مما
نحن مت�أكدين منه ،فهمي هو من وراء حرق كل �شيء وحماولة الق�ضاء
عليك».
ع
زجمر حماد بغ�ضب و�صدمته ما زالت تعمي ب�صريته« :ح�س ًنا يا
«النار التي �أحرقوا �شقى عمري بها �سينالونها جمي ًعا وب�أب�شع الطرق».
راقب بعينيه املظلمة حماولة عالء اخلرقاء با�ستنجاد للتحدث ،فلم
ي�شعر �إال بالربودة ال�شديدة ناحيته حتى ذلك االنهيار الذي تلقاه يوم قتل
ح�سان ،مل ي�أته وهو يرى ج�سد عالء يهبط يف برميل «مية النار» في�صدر
�شي حلم ب�شعة ،والبخار يت�صاعد من حوله مغط ًيا على الفور رائحة ِّ
قدميه الظاهرة دقائق من اهتزاز ج�سده بحركات جنونية ،ثم �سكن
متاما خمل ًفا وراءه فقط رائحة العفن.
ً
�أ�شاح �سائد بوجهه بينما حماد يخرب رجاله ٍّ
بت�شف« :اتركوه �إىل �أن
متاما ثم احفروا �أي بقعة �أر�ض و�ألقوا بقاياه بها».
يتحلل ً
235
«�إن ربك لباملر�صاد» ،يا ترى كم عدد �ضحاياك يا طبيب عالء؟ وكم
وو�ضعت بقاياها بني الرتاب؟
َ نف�س حفرتَ لها
بهدوء كان يخرج من املكان ،ثم �أخرج هاتف عالء اخلا�ص و�ضغط
انتقاما منا ،ال�ستغالل
ً على ر�سالة موجهة لفهمي« :حماد يحاول ك�شفنا
ح�سان من خلف ظهره وغ�شه يف املال؛ لذا قد �أخذت خطوتي وحرقت
مكانه ،ثم �أبلغت عنه ال�شرطة ،الرجل ُجنَّ وهدد بقتلي ،عالء».
q q q
ريص ع
يومان من اجلنون مع حماد �أكرث من كافيني ليفقدوه �صوابه ويحتله
ع
�أن اجلوع مت َّكن منه يف الأخري ،وا�ست�سلم لطلب وجبة من بني يديها،
ح�س ًنا ليعرتف لنف�سه �أنه رمبا يريد حتريك املياه الراكدة بينهم ،فمنذ
متاما ال
�آخر مرة ذابت دجوى بني ذراعيه برغبتها الكاملة ،وهي تغريت ً
غ�ضب ال مرارة وال حتى عتاب ،فقط نظرة فارغة م�ست�سلمة حتيط بكل
تعامالتها معه ،وك�أن كل �شيء فيها انطف�أ.
يعلم �أنه ح َّملها فوق طاقتها بكثري ،كما �أن كل كلمة لعمر جلده بها
ي�ستحقها ،هل عتاب عمر يعنيه �أو عذابها الداخلي الذي يعلمه جيدً ا
ي�ؤثر فيه؟ هل �إدراكه �أن دُجى تتعذب بخطيئتها التي تظنها معه ،يجعله
يثور على نف�سه يف حماولة لفعل �أي �شيء ليخل�صها من نار اخلطيئة التي
تتوهم.
مل يكن يعلم �أنه و�صل لغرفتهم بالفعل ،نظر للفرا�ش فوجده خال ًيا،
نف�سا عمي ًقا جمهدً ا ،وهو يلتقط معطفه متوج ًها �إليها ،وجدها ف�أخذ ً
جتل�س على �أر�ض ال�شرفة تنظر �إىل الفراغ بنظرة خاوية ،حتمل عيناها
236
من العذاب ما يفوق طاقة الب�شر ،ورغم برودة املكان يبدو �أنها فقدت
متاما ،انحنى يجل�س على ركبتيه يح ِّرك ظهرها ً
قليل من ال�شعور به ً
الت�صاقه باحلائط ،ثم د�س كفه بطرف املعطف ليحاوط به كتفيها ويعود
يغلقه جيدً ا من الأمام حولها وهو يقول بخفوت:
أنت ال تك ِّفني عن اجللو�س هنا حتى مطلع الفجر كل ليلة، «اجلو بارد ،و� ِ
جانبك ف�أنا على ا�ستعداد لأنتقل لغرفة �أخرى».
ِ أزعجك بنومي
�إن كنت � ِ
وك�أنه مل يتحدث ومل ي�أت من الأ�سا�س ،عقلها غارق يف ظلماته واملرارة
ع
واحل�سرة ت�سكن قلبها� ،آالف من ال�سكاكني متزق ف�ؤادها و�أمومتها
ر ش
والتوز عي
يوما على ما �أو�صلت نف�سها له؟ ال�صور
يوما؟! هل �ست�سامح نف�سها ً لها اهلل ً
تتالحق داخل عقلها امل�سكني؛ لتتوقف بجلدها مرا ًرا مكررة لقطتها
تلتف به ل ًّفا منت�شية متخمة بامل�شاعر �شاعر ًة بالر�ضا
الأخرية بني ذراعيه ُّ
والتوهج والغرام ،غرام حمرم وعالقة ت�شمئز لها الأبدان.
لك ما
«دجوى ،هل ت�شعرين بالتوعك؟ �أخربيني ما الأعرا�ض و�س�أجد ِ
ي�ساعدك».
ِ
رباه ،هي ال حتتمل وجوده ،مل تعد تريد �أنفا�سه ،بل يف تلك اللحظة
دما حتى متوت قبل
بالذات هو يجب �أن يبقى بعيدً ا ليرتك قلبها ينزف ً
�أن تفقده.
«ف�صل روحك عن ج�سدك� ،سرقة قب�س النور بعد �أن كنت م�ستعدًّا
لفعل كل حمرم لتحميه ،لي�س ب�سهل �أبدً ا ،ما الذي ت�سمحني له باحلدوث
قلبك يا غبية».
دجوى؟ �إنه قطعة من ِ
237
جدا ،و�أ�شعر بالظم�أمتتمت ب�صوت �أ�شبه بغرغرة املوت�« :أنا جائعة ًّ
ال�شديد».
مرر �سائد يده فوق �صفحة وجهه �شاع ًرا بالتخبط وعدم فهم ما
يحدث معها ،عاج ًزا حتى عن ال�سماح لنف�سه بالعودة لق�سوته معها ،فقال
برفق وب�صوت غري �صوته وبنف�س حانية كانت فيه قد ًميا�« :س�آتي ببع�ض
أي�ضا مل �أ�ستطع تناول �شيء منذ الأم�س». ال�شرائح ال�شهية� ،أنا � ً
هزت ر�أ�سها �سري ًعا مبوافقة دون �أن تعلق ب�شيء ،وعادت لتت�أمل ال�شارع
ع
والنا�س والأ�ضواء من حتتها ب�صمتُ « ،ت َرى يا �سكون الليل كم تخبئ من
والتوزي ر
أر�ضا قبل �أن يجل�س قبالتها ،و�ضع الكوب يف يدها، الربتقال ،و�ضع الطبق � ً
ع
الحظ ت�أمل مالحمها وبع�ض حبات العرق التي تغطي جبهتها يف هذا اجلو
البارد ،وجهها كان متع ًبا مره ًقا نظرة الربيق يف رمادها اختفت؛ مما
جعل قب�ضة من الندم تعت�صر قلبه بق�سوة.
أي�ضا؟ بالطبع ال �أق�صد مقارنة ولكني «هل كنت تطعمها وتغطيها � ً
�أتعجب من هذا االهتمام املفاجئ».
وك�أنها منحته الهرب املثايل حتى ال يظهر تعاطفه �أو نوع من امل�شاعر
نحوها ف�أخربها بهدوء �شارد�« :أول مرة �سرقت بع�ض املالب�س كانت من
�أجلها عندما الحظت �أنها ترجتف بردًا وال �أحد يهتم».
ابت�سم ب�أمل ،و�أردف�« :أخذتها يومها �إىل حار ٍة ما كانت يف نظري وقتها
ت�ضم �أغنى الب�شر وهم يف احلقيقة لي�سوا �إال �أُنا�س متو�سطي احلال ،ولكن
ال�سرت والدفء واجلدران التي ت�أويهم كانت يف نظر حمروم مثلي كل كنوز
الدنيا».
238
�صمت للحظة كي مينع �صوته من �أن يتهدج ت�أث ًرا ،ثم تابع ب�شيء
من الثبات« :قمت بت�سلق �سقف �سيارة وق�ص�صت حبل غ�سيل يف الدور
الأر�ضي ،وفررت بها هار ًبا ،ظلت هذه املالب�س معها طوال ال�شتاء حتميها
من برده القار�س ،وهكذا ظللت معها مرة �سرقة ومرات �أخبئ بع�ض املال
من املعلم �أ�شرتي لها �شي ًئا لل�سرت من على الأر�صفة� ،أما م�صدرنا الدائم
القمامة فكانت كنزًا ثمي ًنا لأمثالنا».
متتمت وك�أنها مل تكن ت�ستمع ملا يقوله�« :أبي كان ي�أخذين منذ �صغري
ع
متاما كل
لأفخم املحالت �أنتقي منها كل �شهر ،رمبا خزانتي كانت تبدل ً
239
بللت فمها اجلاف بطرف ل�سانها غري قادرة ح ًّقا �أن تقرتب من
امل�شروب الذي �أتى به ،و�ضعته بجوار الطعام ووقفت بهدوء بطيء مل�صق ًة
نف�سها باحلائط وهي تخربه« :نعم� ،أعلم هذا � ً
أي�ضا وكيف يل �أن �أقارن
نف�سي بها �أو بك �أو �أن �أطالب ب�أقل حقوقي الإن�سانية� ،أنا هنا جمرد
غانية».
وقف �سائد بقرب �سور ال�شرفة احلديدي يتم�سك به ب�شدة ،والأمل
يعود ي�سكن جنباته ،التفكري بطفل �سي�أتي منها بعد رحيله الذي اقرتب؛
ع
يرهبه ويجعله ي�س�أل نف�سه �ألف مرة :ما الذي فعله بها؟ وما اجلرمية التي
ر ش
والتوزي
�أح�ست بالدماء تتجمد يف عروقها وبب�شرتها تق�شعر وبقلبها يخفق
ع
ب�صخب جمنون وهي تقول« :منذ �أ�سبوع فقط �أنا كنت عاهرتك يف
فرا�شك� ،أنفذ رغباتك دون اعرتا�ض� ،أم ا�ست�سالمي �أخ ًريا منحك الغرور
املثايل واالنتقام الأحمق لتجعلني �أرتقي ملرتبة ن�سائك؟»
هز كتفيه بربود وهو يت�أمل انتفا�ض ج�سدها الذي فقد ن�صف وزنه،
�س�ألته فج�أة با�ضطراب�« :أنت تخربين دائ ًما �أنها كانت زوجتك ،هل رغم
كل ظروفكم تزوجتها؟»
�ض َّيق ما بني عينيه ومل يفهم معنى �س�ؤالها ولكنه �أجابها بب�ساطة:
وعرفنا ،كان يجب �أن حت�صل على «نعم ،كانت زوجة بطريقتنا اخلا�صة ُ
االحرتام وكرامتها �أمام اجلميع بزواجي منها».
�صفعتها الإجابة رغم �أنها توقعتها م�سب ًقا� ،أجابته« :تزوجتها رغم
كل �شيء و�أنا من �أجل انتقامك الأعمى �أخذتني بذنب �آخر مات وانتهى؛
لتدمرين ً
وطفل لي�س له ذنب �إال تاريخ جده».
240
أراك منك �شي ًئا ،و�أتيت ل ِ
أخربك ب�أين ال � ِ قال بجمود« :مل �أعد �أريد ِ
أنت الطرف ال�ضعيف كنت � ِ
عاهرة� ،أما ما حدث بيننا كالنا �أراده و�إن ِ
عقلك الذهنية ال تقارين نف�سكفيه ،فتوقفي عن جلد ذاتك ،ول�صحة ِ
لك».
ان�سها من الأف�ضل ِ ب�آيةِ ،
قليل وعينيه تطلق �شررها املعتاد قبل �أن ي�سيطر عليها وي�ضيف توتر ً
أراك �إال �أنثاي ،امر�أة تنتمي يل رغم كل �شيء؛ لذا
بخ�شونة�« :أنا مل �أعد � ِ
وعدتك».
ِ أحميك من كل من يهددك كما �س� ِ
ع
�ضمت معطفه بكفيها املرجتفتني ك�سائر ج�سدها الذي مل تعلم �سبب
ر ش
والتوز عي
�أنا »...
معك
تقب�ضت يداه املتكئة على �سور ال�شرفة ،ثم قال بهدوء« :م�شكلتي ِ
أبوك م�شتعلة
مل تكن يف االحرتام من عدمه دُجى ،بل يف نريان تركها � ِ
أحرقك بها».
غريك �أمامي ل ِ
بداخلي وهرب مبوته ،ومل �أجد ِ
تهكمت وهي تخربه« :وو�صلت ملا تريده� ،سائد ما الذي تبقى بعدُ؟ �أن
تقتلني وطفلي �ألي�س كذلك؟ كيف �أن�سى؟ يا لغبائي! كيف لعاهرتك �أن
تن�سى؟!»
�ساحما لنف�سه ب�أن يلم�سها عندما جذب طريف ً التفت �إليها �أخ ًريا
املعطف بقوة لت�صطدم به ،رفعت وجهها نحوه تنظر لعينه نظرة فارغة
ال حتمل �أي �أثر للحياة فيها ،ال �أثر خلوفها وال جزعها املعتاد منه وال
لع�شقه التي �أق�سمت يوما �أنها لن ت�ستطيع اخلال�ص منه ،خفق قلبه بقوة
و�إح�سا�س بالقلق واخلوف يجتاحه ،فحثته غرائزه كلها على القتال ،قتال
النف�س التي �أمرته بال�سوء نحوها ،قادته جلنونه لإدخالها حر ًبا نف�سية،
241
�ساحما لنف�سه �أن
ً �شنها عليها بغري �إن�صاف� ،ضم َخ�صرها بذراعه بقوة
يوما،يحت�ضنها ،رمبا ي�صلها ما ي�شعر به والذي لن ي�ستطيع �أن يعرتف به ً
م�ستخدما �أبجدية العناق كما علمته هي �إياها.
ً
�سيقتلك».
ِ �صمتك
ِ كعادتك،
ِ هم�س بخ�شونة« :ابكي دُجى
مل تتنازل عن النظر �إليه بقوة و�صالبة وهي تقول« :مل يعد هناك ما
ي�ستحق البكاء من �أجله ،ال�سيد �أمر عاهرته بالطاعة ،وها هي �أخ ًريا
منحته ما يريد ،ويتبقى فقط �أن يغر�س ن�صل �سكينه يف �صدرها وطفلها
ع
رمبا ي�صل ل�سالمه ويريحني منه».
ر ش
والتوزي
مل يب ُد عليها �أي نوع من رد الفعل وهي تقول« :هل هذه حرب جديدة
ع
ت�شنها جلنوين؟ �أم �أن �ضمريك املعدوم ا�ستيقظ فج�أة؟! �أ ِفقْ يا �سائد
وتذكر من �أنا ومن �أنت».
ما يخو�ضه كثري ومتتابع وال ينق�صه ت�شتت عقله وقلبه معها الآن ،فقال
انهيارك
ِ معك و�أحرقت جميع �سفني ،قد �أتفهم بحزم« :حروبي انتهت ِ
رغبتك يف ال�شعور باحل�ضي�ض واال�ست�سالم ،ولكني لن �أ�سمح لرتك ِ الآن،
طفلي مع �أم �ضعيفة خانعة �أقل َه َّبة ريح تدمرها».
مل تتمالك نف�سها عندما نظرت �إليه بذهول غري م�ستوعبة حماقاته،
م�ؤكد �أنه يهذي ،هناك �شيء خاطئ يحدث.
خمرجا م�ستندً ا من جيبه ،رفعه �أمام عينيها ً �أبعد �أحد ذراعيه عنها
التي ما زالت تغرق يف ده�شتها ،حلظات طويلة جدًّا ،كان يغم�ض عينيه
و�أنفا�سه تخرج ب�صعوبة وك�أنه ي�سيطر على نف�سه لفعل �أمر مل يكن يريده،
قليل« :اقرئيها».ثم فتحها فج�أة و�أخربها ب�صوت مكتوم وهو يبتعد عنها ً
242
يختف ،وهي ت�سحبها بيديها املرجتفتني،
هزت ر�أ�سها بذهولها الذي مل ِ
�أ�صابعها تهتز بوجل ،تدمع عيناها يف ردة فعل �إن�سانية �أخ ًريا ،وجتري
حدقتاها على ال�سطور بغري ت�صديق.
ثم انفجرت مرة واحدة ببكاء ه�ستريي يعلو ب�صخب م�صاحب
لأنفا�سها التي ُح ِجزَ ت داخل �صدرها�« :أنت حقري».
تقب�ضت ك َّفاه بجانبه بقوة ومل يعلق ،عندما رفعت رمادها نحوه بجمود
جعله يدرك �إىل �أي حد تت�أمل� ،إىل �أي حد قد وجه �إليها طعنته الأخرية.
ي
علىع�صدرهز و
تتعاملني».
تدب
بقوة« :بالطبع �أعرفك ،جمرد خمادع حقري ،ال ي�ستحق �أ ًّيا من �شفقتي وال
من َجلدي لنف�سي ،ت ًّبا لك� ،أكرهك يا �سائد �أكرهك».
مل يفكر وهو مي�سك بكتفيها ب�أ�صابعه القا�سية ،يهتف مزجم ًرا« :ال
عليك».
نف�سك يا ابنة غ�سان ،من �أجل طفلي �أ�شفقت ِ
تن�سي ِ
هل يحق لإن�سان �أن ينهار يف حلظة كتلك؟ هي قاومت ،قاومت �أكرث
م�سموما
ً من �أن يتحمل ب�شر ،قاومت فهمي ومر�ض �أمها ،وقاومت ع�ش ًقا
يوما.
غزا �أوردتها مثل مر�ض فتاك ال �شفاء منه ً
غ�صت نرباتها وهي تخربه ب�صوت ي�ضيع يف مغبات الوجع« :لي�س َّ
طفلك ،مل يعد هناك ما ُي ْدعى طفلك».
243
مل ي�سمح لعقله �أن يحلل ما تتفوه به ،بل �سمح فقط للذعر �أن يجتاحه
كما مل يفعل منذ زمن بعيد ،عندما �سقطت فج�أة فوق �صدره ليم�سك بها
قبل �أن ت�صل الأر�ض فاقدة للوعي ،ذراعه ت�صرفت بتلقائية لي�ضعها حتت
ركبتيها ويرفعها نحوه ،ولكن الإح�سا�س باللزوجة جعله يحاول �أن ُيلقي
نظرة خاطفة ليفهم �سبب ذلك امللم�س الكريه وما ر�آه جعل خوفه منطق ًّيا؛
فنقل عينيه لتلتقط لأول مرة منذ دخوله بقع الدماء التي تغطي مكان
جل�ستها التي حر�صت �أن حتجبها عنه طوال حوارهم؛ فرتجم عقله الآن
معنى حديثها ،ف�أ�صبح كل �شيء خمي ًفا ،مدم ًرا يف الوقت ذاته.
q q q
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ش
ً
مهرول جتاهه تتبعه رابحة فور �أن التقط وقفته املت�صلبة �أ�سرع عمر
والتوزي ر
يف ممر امل�شفى �أمام غرفة الطوارئ ،بلهفة كانت رابحة التي بادرت
ع
بال�س�ؤال« :ما الذي حدث؟ ما بها دجوى؟»
�أغلق �سائد جفنيه للحظات قبل �أن يتمتم ب�صوت خمتنق�« :أجه�ضت».
هم�ست رابحة وهي ترتاجع للوراء ووجهها يزداد �شحو ًبا« :رباه».
�أ�سرع عمر ي�سندها �إذ خ�شي �أن تفقد وعيها وقد بد�أت �أنفا�سها
تت�سارع ،جل�ست بينما �أ�سند عمر ذراعيه حولها ،لعن نف�سه ب�صمت �أنه
�سمح لها مبرافقته عندما �أتاه ات�صال �سائد امل�ستنجد وك�أنه تائه جمذوب
وال يعرف كيفية الت�صرف.
«هل دجوى كانت ً
حامل؟ لهذا كان يخبئها ورف�ضت �أن �أزورها!»
أرجوك
عليك ما عالقة هذا مبا تقولني؟ � ِ
قال عمر بحزم« :رابحة باهلل ِ
نف�سك حتى �أفهم منه».
متالكي ِ
244
جمدت وهي حتدِّ ق به م�صدومة ،تتذكر مالمح �سائد التي مل تتقبلها
يوما ،مظهر دجوى ال�ضعيف الواهن واملرتعب يف املرة الوحيدة التي ر�أتها ً
فيها بعد الزواج متتمت هام�س ًة« :لأنه هو ال�سبب� ،صدقني يا عمر نظرة
واحدة لوجه �صديقك و�ستعلم �أنه �أكرث من �آذاها ،امل�سكينة».
اعتدل عمر على الفور ينظر ل�صديقه دون �أن ينبث بكلمة ،بينما
مالمح �سائد تر�سم خط الب�ؤ�س كما مل ير�سمه فنان من قبل ،الأمل �ضياع
وجع ه�ستريي ،حرك حلقه اجلاف وهو يقول ب�ضياع« :حلم �أفقده للمرة
الثانية وبيدي وب�سببي».
245
بوجه ب�شو�ش مريح ،توجهت ل�سائد تخربه بهدوء« :هي بخري الآن ت�ستطيع
جدا،
�أن تراها ،ولكن كما �أخربتك قبل �ساعات حالتها النف�سية �سيئة ًّ
ف�أرجو منك � َّأل تتحدث يف الأمر من الأ�سا�س� ،س ُت ْن َقل بعد قليل لغرفة
عادية».
مل يكن �سيطر على نف�سه بعدُ ،وهو يغلق عينيه موافقها دون �صوت
بينما الذاكرة تل�سع عقله ب�سياط من نار متوح�شة متذكرها بني يديه
يحت�ضنها بقوة ،بينما الدماء تتدفق منها وهي يف عامل �آخر ،قتلته ابنة
ص ع
غ�سان ووجهت له طعنة منتقمة توازي كل ما فعله فيها ،فور �أن �شرعت
والتوزي ر
طعنتها يف �صدره ب�صمت بينما الطبيبة تخربه بعد دقائق طويلة مت َّلكه
ع
الذعر فيها بالنتيجة املنطقية واحلتمية لكل ما يحدث« :لقد �أجه�ضت
بالفعل ،وانتهى �أمر �صغريه الثاين».
كانت الطبيبة تركته وابتعدت عنه عدة خطوات عندما �أتاها �صوته
الذي تل َّون �سري ًعا بغريزته املتوح�شة والكره الدفني بداخله لكل معطف
�أبي�ض�« :أريد طفلي».
التفتت الطبيبة �إليه ب�صدمة�« :سيد �سائد ،ماذا؟ هل �أنت »...
قاطعها وهو يقول بحزم« :طفلي ،يبلغ ما يقارب الثالثة �أ�شهر� ،أي �إنه
بد�أ يف تكوين جنني يا دكتورة� ،أمل ت�سمعي بالأجنة من ُ
قبل؟»
للحظات حدقت فيه الطبيبة ذاهلة ،بينما عمر مل يعلق ب�شيء فتدخل
طبيب التخدير الذي خرج من الغرفة يتبع الطبيبة« :هل تعي ما تقوله يا
�سيد؟ عن �أي جنني ت�س�أل؟ هذه الأ�شياء يتم التخل�ص منها بطريقتنا».
246
قاطعه �سائد جا ًّزا على �أ�سنانه بغ�ضب �صارخ« :طفلي لي�س �أ�شيا ًء وال
يخ�ضع لطريقتك� ،إنه بني �آدم كان يتكون� ،إن�سان مثلك ،وال �أعتقد �أين
ً
خمططا �آخر له؟ �أريد ابني». الوحيد الذي يطلب هذا الأمر� ،أم �أن لديك
تقدمت الطبيبة بهدوء وابت�سمت بب�شا�شة مهدئة يف وجه �سائد وهي
تقول« :الدكتور �سامح مل يق�صد ،خانه التعبري من ف�ضلك اهد�أ و�س�أح�ضره
لك بنف�سي».
مل ي�شكرها حتى وهو يقول بخ�شونة« :وهي متى ت�ستطيع اخلروج
من هنا؟ �أريد �أن �أ�صطحبها فور �أن ُت ِفيقَ ،و�س�أوفر لها كل ما يلزمها يف
ريص ع
املنزل».
ع
منذ يومني؟!»
والتوزي ر
نف�سك مني يا
ِ أنك تريدين �أن تخفي �شي ًئا ما �أو حتمي �أ�سبوع م�ضى وك� ِ
ع
رابحة؟!»
رائحته امل�سكية �أ�سكرتها ،كما عبثت حرارة ج�سده القوي بتما�سكها،
�إدراكها �إىل �أي حد ي�ؤثر بها ي�ضعفها� ،إىل �أي حد ت�صبح بني يديه بال
حول وال قوة جعلها تنتف�ض من بني يديه تخربه« :ال �شيء� ،أنت من حتاول
�صنع وهم ما يف عقلك وعقلي ،ا�شتقت لأمي و�أخي ،هذا كل ما يف الأمر».
�أم�سك يدها و�أجل�سها بجانبه مرة �أخرى وهو يقول من بني �أ�سنانه:
لغرفتك و�صنعها ل�ضجيج مق�صود ،ك�أنها تخربين �أو ِ «ومرافقة �صفية
لدي وقت
مالم�ستك ،ما الذي يحدث يا رابحة؟ �أنا لي�س َّ ِ حتذرين من
لأالعيب الن�ساء».
هل ت�ستطيع �إخباره الآن وت�ستغل �ضجة امل�شفى ووجود �أطباء؟ هل
ت�ستغل �ضعفه وتعاطفه مع حال �صديقه وتخربه عن فعلتها رمبا ت�أخذه
�شفقة بها؟ رباه هي ب�شعة ت�ستغل موت طفل لتخربه عن ...
248
وقفت فج�أة �أمامه وقوة غريبة ت�سري يف ج�سدها وقالت يف وجهه
مبا�شرة« :ما فعلته معي من �صفقات متكررة مل يكن من�ص ًفا يل؛ لذا �أنا
بع�ضا من بنودك». قررت من تلقاء نف�سي �أن �أغري ً
متوج�سا وهو يقول ببطء مكتوم« :وبع ُد �سيدة رابحة ً رفع حاج ًبا واحدً ا
الثائرة ،ما الذي تغري؟»
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول« :طفل� ،أنا �أريد �صغ ًريا ،من
حقي �أن تكون يل �أ�سرة حلمت بها منذ كنت مراهقة ،من حقي �أن �أكون
ع
�أ ًّما يا عمر».
اخرتت � َّأل
ِ خي ُت ِك منذ البداية ،و� ِ
أنت
249
�صمت لربهة قبل �أن يقول ب�صوت مكتوم خافت خميف« :لن تخرجي
لعبت مع
أنت ِ قدميك ،هذا الطفل �س ُي ْج َه�ض ويف احلالِ � ،
ِ من هنا على
نحوك حجة ت�ستخدمينها �ضدي، وظننت �أن �ضعفي ِ ِ ال�شخ�ص اخلط�أ،
بك يف عاملي املرعب رابحة والذي ال يعرف قانو ًنا �إال قانون الغابة».
مرح ًبا ِ
q q q
كانت الطبيبة ت�صر � َّأل تنظر �إىل كليهما ،لدقائق حتاول �أن توازن
فوجه عمر اجلامد رغم النريان بعقلها ما الذي يجري حتديدً ا معهما؟! ْ
ص ع
التي ت�ست�شعرها تنبعث من كل جزء يف ج�سده ،ورابحة تقف بت�صلب
والتوزي ر
الذي دفعك �إليه تفكريك لتظن �أن من املمكن �أن يوافقك �أحد هنا على
ع
جنونك هذا؟!»
جتنب عمر ال�سخرية من �أ�صحاب املعاطف البي�ضاء ،ومن حقيقتهم
أخربتك �أن هذا
ِ الب�شعة التي جربها هو و�صديقه ،فقال بت�شنج« :و�إن �
لك كل ال�شرائع والقوانني �أن جته�ضيه؟» حياتك �أال ت�سمح ِ
ِ الطفل يهدد
�أغلقت رابحة جفنيها للحظة قبل �أن ت�سارع هي يف الرد بالقول
ال�ساخر« :يا فرحتي بك ،وهل قمت بتنفيذ كل فرائ�ض الدين ومل يتبقَّ �إال
حر�صك على حياتي املهددة بالطفل؟!»
التفت �إليها ب�شره فذكرها بوجهه القدمي املهدد الذي ر�أته مرتني قبل
لديك احلق لالعرتا�ض �أو ال�سخرية». زواجه منها وقال« :اخر�سي ،لي�س ِ
تقدمت منه خطوة بعد �أن نف�ضت عنها َو َهنَ اال�ست�سالم الدائم لكل ما
يطلبه وقالت ب�شرا�سة« :بل يل احلق بفعل كل ما �أريد ،و�س�أدافع عن طفلي
بكل ما �أملك يا عمر».
250
مل حتتج «ملياء» لكثري من التفكري لتفهم �أن ما بني هذين االثنني معقد
و�صعب فهمه ،ولكن �إقناعه لي�س بال�شيء امل�ستحيل ،بابت�سامة على وجهها
الب�شو�ش املريح قالت بهدوء يف حماولة لف�ض النزاع بينهما« :بالطبع �سيد
عمر� ،إن كان يهدد حياتها �س ُي ْج َه�ض ولكن �أنا ال �أرى �أمامي ما تقوله».
مل يلتفت �إليها ودون �أن ترتك عينيه عيني رابحة املتمردة بعنف مل
يره فيها من قبل ،قال من بني �أ�سنانه« :هناك �أمرا�ض خبيثة ،خمتبئة
وراء ال�صور اجلميلة واملثالية ،يغ�ض البع�ض عنها ب�صره بق�صد ،والبع�ض
ص ع
الآخر يتحامق وال يراها من الأ�سا�س».
ريص ع
مل �أ�سمع عر�ضك امل�شني واملرفو�ض كل ًّيا �سيد عمر».
ع
مهنتي ،ولكن �أ ًّيا ما كان يف عقلك �أريد �أن �ألفت انتباهك �أن كل مهنة
بها الطالح وال�صالح ،الأخيار والأ�شرار ،ولكني م�ؤمنة مبقولة�« :إن دولة
الظلم �ساعة ،ودولة احلق �إىل قيام ال�ساعة» ،فالنفو�س الرديئة ال حمالة
�سي�أتي عليها يوم لتنتهي ونتخل�ص منهم».
ان�سحبت الدماء من وجه عمر ورغم عدم معرفتها مبعاناته ح ًّقا ولكن
أنت ال تفهمني،متاما فقال بتوترِ �« :
كلماتها الب�سيطة �أتت على اجلرح ً
فهذا الطفل خط�أ �ستدفع هي عواقبه وحدها ولن تتحمل».
نف�سا عمي ًقا قبل �أن تقول بهدوء« :وهل تريد �إ�صالح اخلط�أ
�أخذت ملياء ً
بجرمية؟»
ردد بتخبط« :جرمية!»
قالت مبالحمها الب�شو�شة التي ُت ْد ِخل يف النف�س الراحة والطم�أنينة:
252
«بالطبع ،هذه جرمية قتل مع �سبق الإ�صرار منك ،وم�ؤكد �أنا لن
�أ�شارك يف قتل روح منحها اهلل لكم».
اهتزت مالحمه للحظة فقط قبل �أن يعود لت�صلبه وقال ب�صوت مكتوم:
«وجوده هو اجلرمية يف حقه».
اختفت ابت�سامتها قبل �أن تخرج من الغرفة وهي تقول�« :إذن ابحث
عن �شخ�ص �آخر معدوم ال�ضمري بعيدً ا عن هنا».
خرجت ملياء مغلق ًة الباب خلفها بقوة وك�أنها تعلن عن غ�ضبها املكتوم،
ر ش
والتوز عي
قال ب�صوت بارد �أتى ِمن جبل جليد ُغ ِّل َف قلبه وعقله« :ال تعتقدي �أن ما
تفوه ْت به تلك املر�أة �سيغري ر�أيي يف �شيء ،معدومو ال�ضمري ُك ُث و�س�أجدَ
�أحدهم بالت�أكيد».
تقابلت عيناهما لفرتة طويلة قبل �أن ت�ضم ِكال ك َّفيها على بطنها وقد
تال�شى كل �شيء من عقلها ،اعرتافه باحلب ،وعده �إياها بعدم جرحها
يوما ،موافقتها له بعدم تركه ،لقد هبطت رابحة �أخ ًريا من فوق ُ�سحب ً
ال�سعادة وانق�شعت غيماتها الوردية التي توهمتها معه ،ثم ما لبثت �أن
قالت بروح قوية �صلبة�« :إذن �ستفعلها على جثتي يا عمر ،لن �أ�سمح لك
باالقرتاب من طفلي �إال بقتلي � ًأول».
هتف من بني �أ�سنانه معل ًنا خماوفه بعد �أن فك عقالها �أخ ًرياِ �« :
أنت
أنت
امر�أة غبية� ،أخربيني �أي م�ستقبل �ستمنحينه �إياه؟ هل تعلمني ما � ِ
أنك اخرت ِتني؟!»
عائلتك فيه فقط ل ِ
ِ أقحمت
�شخ�ص ًّيا مهددة به و� ِ
253
ازدردت ريقها ولكنها مل تتنازل عن قوتها� ،إذ علمت يف هذه اللحظة
�أنها حتتاج �إىل كل روح قوية مثابرة مدافعة كانت تتحلى بها قد ًميا
ملواجهته فقالت« :تزوجتك� ،أحببتك وتزوجتك ،وافقت على �شروطك
حراما �أو ي�سيء يل� ،أما عن ذلك اخلطر لأقرتب منك ،مل �أفعل �شي ًئا ً
الذي جتزم به فهو �أنانية منك؛ لأنك مل تكن على مقدار ت�ضحيتي تلك
التي ت َّدعيها».
ودفعتك بعيدً ا».
ِ قاومتك
ِ أجربك على �شيء� ،أنا
«مل � ِ
ع
ردت�« :إن كان هذا وقت العتاب دعني �أذكرك �أنك �أتيت من تلقاء
ت
علي انتمائي �إليك».
عار�ضا َّ
والتوزي ر
عليك ،ال للأطفال». �شددت ِ
ع
أمنحك
�صارخا« :لقد كنت � ِ ً ملتقطا �أنفا�سه قبل �أن يقولً �صمت
ا�ستطعت غ�شي؟»
ِ غبائك ،كيف ِ احلبوب كل ليلة بنف�سي ،كنت �أعلم مدى
هزت كتفيها بربود ال ينبع �أبدً ا من ان�صهارها الداخلي و�أملها املخلوط
بالوجع« :هذا �سهل� ،إنها عملية ب�سيطة للغاية� ،أ�ضع احلبة حتت ل�ساين
ومبجرد التهائك �أنت يف رغباتك املحمومة �أقوم �أنا ب�إلقائها حتت ال�سرير،
باملنا�سبة �ستجد الكثري منها هناك� ،أنا مل �أنظفها».
اقرتب منها مم�س ًكا ع�ضديها بعنف �س َّبب لها الأمل و�أجابها ب�صوت
حاد ك�سكني يطعن كالهما دون رحمة« :بالطبع �أعرف تلك العملية ،ولكن
لك كيف عرفتها �أنا ،على ح�سب ذاكرتي و�أنا جمرد طفل دعيني �أ�شرح ِ
يف اخلام�سة� ،إنها عملية تخرج م�صحوبة برذاذ الب�شر امل�شمئزين من
مظهري املقرف �أو من �إحلاحي يف ال�شحادة كما كانت تدفعني تلك املر�أة
التي وجدتني وا�ستخدمتني يف الت�سول ،بعدها وجدين �آخر وظللت يف تلك
254
املهنة بعينني �ضائعتني وج�سد هزيل ووجه مت�سخ ال ا�سم يل وال �أهل ،ال
جدا لأين جربتها مكان يل حتى بني �أطفال ال�شوارع؛ لذلك نعم �أعرفها ًّ
من اجلميع دون ا�ستثناء حتى ا�شتد عودي وا�ستطعت �أخ ًريا �أن �أجد ظه ًرا
حام ًيا يل �أ�ستند �إليه ،ولكن هذا مل مينعهم من معاقبتي ب�شيء �آخر �أكرث
ق�سوة».
َ�ش َح َب وجه رابحة حتى حت َّول للون �أبي�ض ي�شبه كفن الأموات فقالت
ب�ضعف« :ا�صمت».
�أ�شاحت بعينيهاالالتي
ؤملك
«ول �أ�صمت؟ هل ت� ِ
ش ن
تزوجتنيربه� ،أنا وهو �سنكون �أكرث
والتوز عي
تقول بخفوت« :لديك ا�سم ذلك الذي
من ممتنني حلملنا �إياه».
قليل وقال ب�صوت مكتوم« :والنا�س عندما يكت�شفون هد�أت مالحمه ً
ابنك بال �أ�صل ويحمل عدة �أوراق ال تعني �شي ًئا للمجتمع هنا».
�أن ِ
متا�سكت وقالت بب�ساطة« :ولكنه لديه جن�سية ح�صل عليها والده بتعبه
و�سعيه ،جن�سية منحتها لك دولة يحلم بها الكثري ،و ُيدفع مقابلها الغايل
قبل الرخي�ص».
مت�سكها امل�ستميت بطفله برغم كل املخاوف التي يحاول �أن يقحمها يف
منعك�سا على �صفحة
ً عقلها قد جتلى ت�أثريه عني ًفا وم�ؤملًا داخل عقله وقلبه
نف�سك،
أنت تخدعني ِ وجهه ،فقال مبحاولة �سجال يعلم �أنه عقيم معهاِ �« :
تفوهت به لي�س بهذه الب�ساطة».
ِ تعلمني �أن ما
255
عادت �إليه بعينيها وقالت بهدوء�« :أعرف ولكني لن �أكررها لك يا
عمر� ،أنا من حقي �أن �أكون �أ ًّما ،و�س�أفعل �أي �شيء لأحافظ على ابني».
كابحا لرعدة ج�سده رفع يديه عن ع�ضديها و�أنزلهم جانبه بانهزام ً
الراف�ضة ملا تتف َّوه به ً
قائل« :حتى �إن كان ثمنه �أنا!»
َف َغ َرت َف َاها للحظة وعينيها تتو�سع بذعر م�صدومة غري م�ستوعبة
فقالت« :ماذا تعني؟!»
ا�ستحال وجهه لقطعة من احلجر ،عيناه امللونتني كانتا �أ�شبه بربكتني
ص ع
�ساكنتني بدون �أي �شعور ت�ستطيع �أن تتبينه وهو يقول« :كالمي وا�ضح
ع والتوزي
متنع نف�سها من البكاء �أمامه بقوة ،لقد �سلمت لعمر مبا يكفي وهي را�ضية
أمل قري ًبا يف حياة طبيعية معه ،ولكن عند طفلها �ساكنة م�ستجدية منه � ً
يجب �أن حتاربه حتى ي�ستفيق من جنونه وما يحاول �أن يقتله بينهم وتعلم
جيدً ا �أنه �سيندم عليه الح ًقا� ،أح�ست بوجوده �أخ ًريا وراء ظهرها ،ف�أدارت
ر�أ�سها لتنظر �إليه والتقت نظراتهم ب�صمت ،لغة ج�سدها كانت تنبئه
�أنها اكتفت منه و�أنه على و�شك فقدها ،ابتعدت عن مرمى حما�صرته
�إياها وك�أنها ترف�ض التعاطف معه ليرتك �أثره املعتاد عليها ،نطقت �أخ ًريا
بثبات�« :أَ َب ْع َد كل ما بيننا تقف لتخريين هكذا ،ملق ًيا بقلبي حتت قدميك،
�إذن �آ�سفه يا عمر �س�أختار قطعة منك� ،ستتم�سك بي ك�أين احلياة ولن
روحا �ستمنحني احلب دون �شروط مثلما فعلت يوما� ،س�أختار ً تهدد برتكي ً
�أنت معي».
بهت وجهه لدقائق مدر ًكا �أن كل ما تتفوه به احلقيقة املُ َّرة ،هي قدمت
كل �شيء منذ معرفته بها ،تنازلت دون �أن ت�شعره ب�شيء �أو حتى ت�شعر
256
هي بتنازالتها معه ،ولكن ما الذي قدمه هو �إال ر�صيدً ا يف البنك مل متتد
وبع�ضا من الرتتيبات لت�أمينها يف حالة حدوث خط�أ ومل تتم يدها نحوهً ،
�صفقتهم التي عقدوها! �أخ ًريا عندما مل ير َّد �أنزلت رابحة يديها وهي
تقول بهدوء« :لقد بقيت هنا وطاوعتك يف التحدث مع الطبيبة رغب ًة مني
علي بجنونك ،رغبت يف معرفة �أن �أرى �إىل �أي حد قد تتطرف معي وجتور َّ
�إىل �أي حد قد ت�ضحي بي يا عمر!»
حتركت نحو الباب و�أخربته ب�صوت مكتوم« :متنيت بداخلي �أن تعود
من تلقاء نف�سك ال �أن تهددين بك� ،أنا �س�أغادر من هنا».
ص ع
�أجابه رجله ببديهية« :نحن انتظرنا ما يقارب الأ�سبوع بعد �أن نظفنا
والتوزي ر
وح�صل على بع�ض املعلومات فقط؟!»
ع
�صمت فهمي لدقائق و�أنفا�سه تخرج كرباكني من نار يكاد ُي َجن بعد
�أن ربط كل ما يحدث بتتابع �سريع ليجعل �إمرباطوريته ال�سرية تنهار،
مهددة بك�شف �سوقه ال�سوداء ،وم�ض بعقله ا�سم واحد فقط منذ ظهوره
وكل �شيء حوله �أ�صبح يو�شك على االنفجار« :عمر النا�صر و�شركاه»،
والذين مل يرهم �أبدً ا ،بالطبع هو حري�ص مع من يتعامل معهم؛ لذا
عندما وجد �أحد الر�سائل الإلكرتونية الدعائية لأجهزة طبية من النوع
الذي ي�ستخدمه ب�أعماله ال�سرية بثمن يكاد يكون خيال ًّيا ،وال�شركة تطالب
أي�ضا مبوزع ر�سمي يف ال�شرق الأو�سط ،بحث جيدً ا عن موقعهم الإلكرتوين � ً
والذي وجد �أن كث ًريا من الأطباء ذوي الأ�سماء املهمة تتعامل معهم من
جميع �أنحاء العامل ،فرا�سل �أحد امل�شايف املذكورة ب�شكل ع�شوائي ي�ستف�سر
عنهم ليطمئن قلبه ،ف�أكد اجلميع �أنهم من �أف�ضل �شركات الأجهزة التي
طويل يف �سوق العمل ،فقامتاريخا ً
يوما رغم �أنهم ال ميلكون ً تعاملوا معها ً
258
مبرا�سلتهم ب�إحلاح وقدم �أف�ضل العرو�ض وبعد مماطلة ظنها هو ممانعة
منهم وبحث عن جديته وتاريخه الطبي �أر�سلوا موافقتهم التي ا�شرتطت
�أن يكون �أحد مندوبيهم م�شر ًفا على ا�ستخدام تلك الأجهزة وكيفية �سري
العمل يف امل�شفى ،على �أمل �أن ي�شارك معهم بن�سبة ما ت�ؤهله �أن يكون
مندوبهم الرئي�س هنا ،هذا �سيكون غطا ًء جيدً ا لأعماله من جهة ومزيدً ا
من ك�سب الأموال من جهة �أخرى ،نظر فهمي ل�سمر مبالمح متوعدة وقال
من بني �أ�سنانه�« :أريد حتركات عمر النا�صر بالتف�صيل ،و�إن اكت�شفت
تالعبك مرة �أخرى يا �سمر �ستكو ِنني اجلانية على نف�سك».
ِ
والتوز عي
اختفى دون �أن �أعلم �أين بال�ضبط وك�أنه يبحث عن �شيء مفقود».
هم�س فهمي ب�صوت �أ�شبه بالفحيح�« :أريد �أن �أعرف كل �شيء عنه هو
و�شريكه الذي مل نقابله حتى اللحظة».
قال رجله بامتقاع يائ�س« :لقد حاولنا من قبل يا دكتور ،وكل �سعينا
ينتهي عند نقطة فا�صلة لتدخل �أحد ما جمهول الهوية قاط ًعا الطريق
علينا ،فلم ن�ستطع �أن ن�صل �أبعد من �أنهم مندوبون لتلك ال�شركة الأجنبية
ال �شيء عن خلفيتهم ،ال �شيء عن �سريتهم الذاتية وال حتى حياتهم
الأ�سرية ،وك�أنهم �أ�شباح يظهرون متى يريدون ويختفون دون �أثر واحد
عندما يرغبون».
نف�سا منها و�آخر قبل �أن
ا�ستدار فهمي ُي�شعل �سيجاره بهدوء و�أخذ ً
تلمع يف عينيه نظرة تق�شعر منها الأبدان ب�شيء مل ي�سبق لإن�سان �سوي
�أن يعرفه يف حياته حتى يف �أحلك �أوقاته ،لقد كان االنحطاط التام
259
داه�سا بقدميه ومتنا�سيها،
واحل�ضي�ض عندما يرمي ال�شخ�ص �إن�سانيته ً
لقد و�صل �إىل القاع يف بئر ال يحتوي �إال على كائنات �أ�سطورية نه�ضت من
اجلحيم لتق�ضي على الفطرة ال�سوية والإن�سانية.
«ال �أهتم ،م�ؤكد لديهم حياة زاخرة بنقاط ال�ضعف ،ه�ؤالء مل يخططوا
لكل هذا من �أجل مال بل ل�شيء �أكرب بكثري مما نعتقد �أو ي�صل �إلينا
وا�ضحا؛ لذا �أريد �أن �أح�صل على �أرواحهم تلك يف �أقرب وقت ،ويا ليت مع
ً
متاما».
ن�سائهم ،فالأمر وقتها ي�صبح �أكرث متعة يف حتطيمهم ً
ع
q q q
ع والتوزي
ت�ص َّفح �سائد عدة �أوراق �أمامه وبع�ض الأقرا�ص املدجمة والتي حتتوي
متاما ،ولكن م�ؤكد لي�س
على �آخر ورقة �سيالعب بها فهمي ليق�ضي عليه ً
قبل �أن يقطع جميع �أذياله ،نطق �أخ ًريا بهدوء« :وما امل�شكلة يف هذا؟ هو
يبحث منذ اعتقاده �أن ال�شركة الأجنبية للأجهزة الطبيبة عقدت �صفقة
معه ومل ي�صل ل�شيء».
قال �إبراهيم بحزم وهو يجل�س على املقعد املقابل« :هذا �صحيح ،و�أنا
ما زلت قاد ًرا على قتل �أي حماولة للو�صول �إليكم عند نقطة حمددة».
نف�سا عمي ًقا و�س�أله« :ما امل�شكلة �إذن؟»
�أخذ �سائد ً
رد �إبراهيم ب�صوت مكتوم« :لقد ك َّثف جهوده هذه املرة ويبدو �أنه
ُم ِ�صر �أن ي�صل �إىل �أي �شيء يخ�صكم متوج ًها �إىل �أماكن حكومية يف
البالد ،وطاملا فعل هذاً � ،إذا هو قد »...
قاطعه �سائد بتجهم« :معناها �أنه ك�شف عمر �أخ ًريا!»
260
توتر �إبراهيم للحظة وقال« :وهذا �سيهدد كل ما فعلناه يف الفرتة
ال�سابقة� ،أن يتم اكت�شافنا �سري ًعا هكذا».
وقف �سائد من مكانه وتوجه �إىل نافذة املكتب يراقب ال�شارع الذي
يع ُّج بكل �أنواع الب�شر الغافلني الالهني يف لقمة العي�ش وم�صاعب احلياة،
غري مدركني للدمار الذي يجري من حولهم والبع�ض ي�ص ُّم �أذنه عنه
متب ًعا �سيا�سة «نف�سي � ًأول» ،متنا�سني �أننا جمي ًعا يف �سفينة واحدة وحتى
القفز منها لن ينجينا من الغرق ،نطق �أخ ًريا وقال بب�ساطة« :بالعك�س
متاما يا �إبراهيم ،هذا ما �أ�سعى �إليه حتديدً ا ،وكنت �أتو َّقع �أن ُن ْك َ�ش َف عندً
ريص ع
هذه النقطة ،عدونا لي�س غب ًّيا و�إال كان ُك ِ�ش َف منذ زمن».
ن
حماول �أن يفهم« :هل ه َّز �إبراهيم ر�أ�سه بحرية وقال عاقدً ا حاجبيه
ر ش
والتوز عي
ق�صدت �أن متنحه فر�صة لي�أخذ احتياطاته ،ورمبا يتفوق عليك بنقطة؟»
وا�ضحا يف
ً مل يلتفت �إليه �سائد عندما قال« :ما هو ال�شيء الذي لي�س
كالمي؟ ظننتك رجل �أمن حم َّنك تفهم خطتي التي �أتبعها ً
متاما».
قال �إبراهيم بدون تفكري« :العذر منك ،رجل �أمن قلتها بنف�سك� ،أي
وظيفتي ك�شف املجرمني ال التفكري بعقولهم الإجرامية».
�أرجع �سائد ر�أ�سه �إىل الوراء �ضاح ًكا بقوة� ،ضحكة خرجت متح�شرجة
وك�أنه يبحث عن �أي �شيء يخفف عنه ذلك الأمل الذي ميزقه لأ�شالء
�صغرية منثورة منذ �أيام منذ فقدانه طفله الثاينَ ،منْ زرع احلنظل يجب
�أن يح�صده م ًّرا.
وهو ذاق �أكرث مما يجب ،حاول �إبراهيم ادعاء �أنه ال يفهم حقيقة
الأمل الذي ميزقه مكتف ًيا بحدود العالقة التي ُر ِ�س َمت بينهما ،فقال
م�صنوعا
ً مبحاولة واهية للمزاح�« :أنت ت�ضحك مثلنا يا رجل ،لقد ظننتك
من �صخور اجلبل!»
261
�صمت فج�أة كما بد�أ يف �ضحكته املبتورة وقال« :تخيل �أنك ر�أيت تلك
املعجزة �أخ ًريا».
عاد من جديد لوجهه ال�صلب امل�صر على هدفه عندما قال بجدية
حازمة« :ال تقلق ،مل مينحني حماد اللقب منذ طفولتي عب ًثا ،فهمي على
و�شك احل�صول على �إلهاء �أكرث من منا�سب وبيديه هو �ستتم خطوتي
القادمة».
ا�ستف�سر �إبراهيم« :ح�س ًنا ،وما هي تلك اخلطوة؟ ومتى تنفيذها؟»
ص ع
رد �سائد بجمود« :الليلة ج ِّهز نف�سك ل ُنذيق فهمي من نف�س ك�أ�سه».
ع والتوزي
مل ي ُر َّد �سائد ب�شيء ،بل عاد ينظر �إىل ال�شارع وعينيه توم�ضان بربيق
خميف ،ثم ما لبث �أن قال�« :صفقتي معك �أنت و�صديقك كانت وا�ضحة،
تدخل يف كيفية تنفيذ الأمر؛ لذا بب�ساطة �إن مل تفعلها �أنت ال �أ�سئلة وال ُّ
الليلة دعني �أقوم بها بنف�سي».
فرك �إبراهيم وجهه بع�صبية مفرطة ،ثم قال بانفعال« :مل نتفق على
دم بريء».
قال �سائد بابت�سامة ميتة« :كلهم �أبرياء يا �إبراهيم ،فلماذا ت�أخذون
�أنتم هذه ال�صفة فقط بينما نحن ...؟!»
«لي�س ذنب اجلميع ما يفعله البع�ض يا �سائد».
قال �سائد بوجه ا�ستحال للحجر�« :إذن دعنا نعلمه بالطريقة ال�سليمة
أي�ضا ُح ِر َقت قلوبهم على �أبناء
�أن �أبناء ال�شارع واملخطوفني لديهم �أهايل � ً
قام بتقطيعهم فهمي مب�شرطه».
262
�ضغط �إبراهيم بيده علي يده الأخرى بغ�ضب مكتوم وهو يقول�« :أنا ال
�أ�صدق �أنك قادر على فعلها».
مال جانب فمه بتهكم وقال« :ن ِّفذ الليلة فقط كما �أخربتك ،املهم �أن
تكون الفتاة يف قب�ضتك قبل غريك».
عاد �إبراهيم لتوج�سه و�س�أله بت�شكك« :ماذا تعني بغريي؟!»
قال �سائد باقت�ضاب« :حماد �سي�ستعمل الفتاة كورقة لل�ضغط على
فهمي منتق ًما منه فيها».
ريص ع
قال �إبراهيم بغ�ضب« :املجرمني!»
263
وجه حماد احلديث له عندما قال بغ�ضب: جمرد بيدق على طاولتهَّ ،
«حاول فهمي �إقناعي �أكرث من مرة ب�أنه لي�س له عالقة مبا فعله عالء».
�أ�سند �سائد قدمه على احلائط وا�ض ًعا يده يف جيبي بنطاله الب�سيط،
قائل بجمود: مرتد ًيا مالب�س كئيبة لتمنحه مظه ًرا �أكرث من �إجراميً ،
متاما ،بالت�أكيد لن يخربنا �أنه حاول الق�ضاء علينا يا «هذا متو َّقع منه ً
معلم».
برقت عينا حماد اخلبيثتني ف�أ�صبحت ت�شبه عينا ثعبان ُكربى يطيح
ريص ع
يف الب�شر بلدغاته ال�سامة ،ثم قال�« :أعرف هذا ،لو خطط عالء من نف�سه
ع والتوزي
خلا حلمه عن عظامه�« :أنا �أعرف عالء جيدً ا �إن�سان طامع ال يهمه فيه �سا ً
�إال املال ويخاف حتى من خياله ،ولن ي�ستطيع �أن يتجر�أ ويقتلني �إال �إذا
�أخذ �أوامره من �سيده».
�أوم�أ �سائد بر�أ�سه مطي ًعا م�صد ًقا على كالمه ،ف�أكمل حماد ب�شرر
متطاير« :ح�س ًنا ،هذا ال يهم ،كلها �ساعات وت�صبح ابنته حتت يدي
و�س�أذيقها من املرار جرعات ولن �أرحمه ،و�س�أحرمه من ر�ؤية كل ما
يحدث بنف�سه عرب رجايل».
نف�سا عمي ًقا حمر ًكا �أنفه ميي ًنا وي�سا ًرا ،ف�أ�صبحت مالحمه
�أخذ �سائد ً
�أكرث خطورة وق�سوة عندما قال ب�شرر مماثل« :ال ،الطفلة يل ،و�أبوها
وانتقامك لك».
فار الدم يف عروقه وقال بانفعال« :ما الذي يعنيه هذا؟ هل تخرج عن
طوعي وتتحداين؟»
264
�ألقى �سائد نظرة �سريعة نحو رجال حماد املتحفزين مبالحمهم
اخلطرة ،والتي ال تعك�س �إال �أنهم كما يقولون�« :شمامني منتهكني» ،ولن
يتورعوا يف اغت�صاب الفتاة ،هذا �إن مل يفعلها حماد بنف�سه كانتقام من
فهمي ،مل تتحرك منه �شعرة واحدة وهو يقول بنف�س ال�صوت املتحدي:
«�أنا طوع يدي معلمي بكل �شيء �إال هذه يا حماد هنا �سينتهي تعاملنا م ًعا».
قليل عن غ�ضبه ،مدر ًكا �أن �سائد ح�صانه الرابح الأخري تراجع حماد ً
وهو غري م�ستعد بع ُد خل�سارته ،فقال بنفاد �صرب« :ملاذا؟ هل تريد �أن
تفعلها بالفتاة بنف�سك؟»
ر ش
والتوز عي
«القذر� ،أال ميلكون تفك ًريا �آخر غري هذه القاذورات؟!»
نطق �أخ ًريا ب�صوت مكتوم« :ال يهم ما م�صريها معي طاملا �سرتبح �أنت
ورقة ،جتعل فهمي بني يديك كال�صل�صال ت�شكله كما تهوى».
�ش َّوح حماد بيده وقال« :ح�س ًنا ،ال يهم الآن ما م�صريها� ،سنفكر يف
الأمر الح ًقا طاملا �ستبيت ليلتها يف �ضيافتي».
حرك �سائد ر�أ�سه ميي ًنا وي�سا ًرا بنفي ،وقال بهدوء م�سيطر« :ال �أعتقد
هذا � ً
أي�ضا يا معلمي».
هتف حماد فيه بنزق حمذ ًرا« :هل هو يوم �ألغازك واعرتا�ضك؟ احذر
يا �سائد وال تخرج عفاريتي».
تكورت قب�ضتاه �إىل جانبه وهو يكافح رغبة �أليمة ب�ضربه و�ضربه حتى
يهده التعب ،رمبا يخرج فيه وجعه املكتوم ،متكن ب�صعوبة �أن يجيبه بنربة
مكتومة�« :أعني �أن الفتاة �ست�ؤخذ من بني يدي فهمي ،هذا ال جدال فيه
ولكنها �ستبقى معي �أنا».
265
جز حماد على �أ�سنانه بلونها الأ�صفر الب�شع وقال« :ملاذا؟ لقد وعدتك
�أن �شرطك �سيكون ً
نافذا».
رفع �سائد ر�أ�سه للأعلى حمد ًقا يف ال�سقف املهرتئ ،بينما طيف الأمل
يلون نظراته ،يقول بهدوء ال يعرب عن جحيمه« :كما وعدتني بحماية طفلي
وامر�أتي ،و�أنا كلي ثقة بكم ،و�أنظر الآن للنتيجة».
q q q
قد ًميا كانت خملفات الب�شر وجمرموه ترتدي الأثمال القذرة مثلهم،
ريص ع
في�صرخ فينا مظهرهم بوجوب احليطة واحلذر ،م�ؤمل �أن ن�صبح يف غابة
ع والتوزي
وبراءة احلمالن.
مل يحتج الأمر من �إبراهيم �إال امر�أة �أنيقة امللب�س جميلة املظهر ولبقة
الكالم وبني يديها �سيارة من �أفخم املركات ،اقرتبت بلطف من الفتاة
ووالدتها� ،أمام باب النادي الذي علم �إبراهيم من خالل مراقبتهم �إياهما
�أنهما يذهبان �إليه يوم ًّيا لتدريب الفتاة ،بهدوء ا�ستغلت املر�أة ان�شغال الأم
يف البحث عن مفتاح �سيارتها ،وهي تقول« :هل حتتاجني لأي م�ساعدة
عزيزتي؟»
ردت زوجة فهمي بحرية« :مفاتيحي كانت هنا� ،أنا و�ضعتها بنف�سي
داخل احلقيبة».
ابت�سمت ال�سيدة بلطف وقالت بهدوء و�سكينة وهي تر ِّبت على ر�أ�س
الفتاة التي تتثاءب بتعب« :رمبا ن�سي ِتها يف الداخل ،لقد �أخذنا الكالم
كث ًريا اليوم».
266
تنهدت بتعب وهي تقول�« :أعتقد هذا ،ح�س ًنا �س�أعود لأبحث عنها
بالداخل».
أنتظرك هنا،
ِ معك ماما �س�
متلملت �أ�سماء بنزق وهي تقول« :لن �أعود ِ
�أنا لن �أ�ستطيع �أن �أقطع كل تلك امل�سافة عائدة».
تبدلت مالمح والدتها ب�صرامة وهي تخربها« :ت�أخر الوقت يا �أ�سماء،
أتركك هنا».
ب�ضع خطوات لن تتعب� ،أنا لن � ِ
هزت �أ�سماء ر�أ�سها برف�ض قاطع« :فتدخلت املر�أة ذات املالمح العذبة
ص ع
قائل ًة وهي مت�سد على �شعر الفتاة برفق �أمومي ي�سحر �أ ًّيا كان« :اتركيها
والتوز عي
وهي تتذكر املر�أة التي تعرفت عليها منذ �أ�سبوعني م�ضوا� ،سيدة لطيفة
من نف�س طبقتهم االجتماعية املخملية برقي وا�ضح وود كبري ،فقالت
أعطلك».
ببع�ض اخلجل« :ولكن رمبا � ِ
هزت ر�أ�سها نافي ًة بلطف وقالت بخفوت« :لي�س بيبنا هذا الكالم،
الأ�صدقاء لبع�ضها �ألي�س كذلك؟ هيا �أ�سرعي وال ت�ضيعي الوقت».
دقيقة واحدة واختفت زوجة فهمي داخل النادي وخالل برهة كانت
متاما ب�صحبة املر�أة اللطيفة الودودة �إىل الأبد.
�أ�سماء قد اختفت ً
q q q
�أرجع عمر ر�أ�سه للوراء بتعب وهو يغلق حا�سبه ،مدر ًكا �أنه ا�ستغرق
الكثري من الوقت على عمل ما كلفه به �سائد ومراقبة موقعه الإلكرتوين
الذي �أن�ش�أه منذ عامني م�ضيا للإيقاع بفهمي متعمدين بذكاء وخطة
مدرو�سة �إن�شاء الكثري من املواقع الوهمية لأعظم الأطباء حول العامل
267
ً
و�سهل ً
ب�سيطا ليطمئن فهمي �إليهم ،اخلداع الإلكرتوين ي�صبح �أم ًرا
عندما تتعامل مع �أحد عمالقة الغرف احلمراء الإلكرتونية ،وتقدي ًرا لأنه
واحد منهم مل يحاول �أحدهم نق�ض االتفاق معه ،رمبا خ�سروا الكثري من
املال ولكن �أمام ما ي�سعيا �إليه كل مال العامل ي�صبح ال �شيء ،فهمي �أ�صبح
خط ًرا ويتعامل ببحث جنوين يحاول �أن يقتحم موقعهم كما فهم ،ولكن ال
م�شكلة هو له باملر�صاد.
�صوت ال�ضجيج الذي �أتى من خارج الغرفة ن َّبهه وجعل كل حوا�سه
ص ع
كم الأمل الذي يعانيه من جفاء امر�أته ،لقد عاد ت�ستفيق بت�صلب ،متذك ًرا َّ
والتوزي ر
خالل الفرتة املا�ضية ،ولكنه ُ�ص ِد َم بوجودها ،وهي تخربه ب�صرامة �أنها
ع
يوما ،م�ؤكدة ومردِّدة للمرة التي مل يعد يدركها �أنها
مل تهرب من م�شاكلها ً
�أكرث من قادرة على املواجهة وعدم اخل�ضوع ملطالبه ،وهو مل يجادل معها،
اكتفى ب�إغالق باب منزلهم على كليهما ،متاب ًعا عمله من خلف احلا�سوب،
ملتزما ب�أمر �سائد ال�صارم باختفائه ،من اجليد �أن هذه ال�شقة يف منطقة
ً
بعيدة وعادية رغم رقيها فال تلفت نظر �أحد �إليها ،كما كانا من الذكاء
�أال ي�سجل �أحدهما �أي �شيء با�سمه �إال مقر ال�شركة.
حترك عمر نحو املطبخ ،ووجدها تعمل ب�آليةُ ،ت�ضر الطعام وتقوم
بكل �شئونه ب�صمت ،ثم تعتكف بعيدً ا عنه يف غرفة خا�صة.
«الع�شاء جاهز» ،قالتها رابحة ب�أ َن َفة عجيبة جعلت ابت�سامة حزينة
ت�سكن قلبه ،تقدم يجل�س على الطاولة وهو يقول بهدوء« :املر�أة املطيعة
بهذا ال�شكل ال تهجر زوجها يف الفرا�ش».
268
«ومنْ �أخربك �أين مطيعة� ،أنا خمادعة مطت �شفتيها وقالت بربودَ : َّ
كاذبة كما ذكرت».
راقبها وهي ت�ضع بع�ض الأطباق �أمامه ،ثم جل�ست على املقعد املقابل
بهدوء بينما هو يحرتق يف تنازعه ،ميوت �ألف مرة ملجرد �أنها حتمل قطعة
منه معر�ضة خلطر انتقام الأفاعي الذي يلعب معهم بالنار ،يكاد ميوت
«ل الُرع ًبا كل دقيقة عند تخيله �إياها وطفله بني يدي من ال يرحمَ ِ :
تفهميني؟»
ع
�أغم�ضت عينيها لربهة وقالت بتح�شرج َمنْ تو�شك على بكاء قد كتمته
ع
�أمله ُ
ص
وذعره ،يحجب ما عاناه من وجع وقلق و�شعور بالفقد بعد �أن تركته
والتوزي ر
دائ ًما يل �أدافع عنه بكل ما �أملك� ،أ�ضحي بكل �شيء مقابل �سالمته».
ع
مل يرفع وجهه عندما هم�س دون �أن يفكر مرددًا« :حتى �إن كنت �أنا
املقابل!»
اهتزت يديها بالتتابع مع نب�ضات قلبها التي ت�صارعت بوجل ف�أغلقت
جفنيها بقوة للحظات لتن�ساب منهما دموع غزيرة �أخ ًريا عندما قالت
علي بتكرار �س�ؤالك مرة
بتهدج« :نعم� ،أخربتك �أمام الطبيبة فال ت�ضغط َّ
�أخرى؛ لأنك مهما فعلت لن �أقتل قطعة منك يا عمر».
�ساد ال�صمت للحظات �أخرى ،ثم ما لبث �أن قال ب�صوت عميق
وح�صلت
ِ أنت خدع ِتنيمنكِ � ،
و�أنفا�سه تعاود االهتزاز« :هذا غري من�صف ِ
عليه باحليلة».
منحتك م�شرو ًبا �أ�صفر وقمت
ِ تهكمت قائل ًة« :هذا على �أ�سا�س �أين
إرادتك».
باغت�صابك� ،أذكر �أن كل ما حدث كان ب� ِ
ِ
270
ُّ
وينق�ض على كان على كلماتها �أن جتعله ُي َجنُّ مرة �أخرى وجتعله يهذي
ما حوله مثلما فعل معها من قبل� ،إال �أن �صوتها املت�أمل ومظهرها ال�ضعيف
رغم القوة التي �سكنتها من جديد جعلته يبت�سم وهو يرفع وجهه �أخ ًريا
�سذاجتك،
ِ بك وا�ستغللت يت�أملها وقال بهدوء« :ال ،رمبا �أنا َمنْ غررت ِ
أنك من�صفة معه؟ �إن فقدتني ماذا قد تخربينه؟» ولكن هل ت�شعرين � ِ
مل تفتح عينيها لتواجهه ،مل ت�ستطع �أن ترى مالحمه امل�صرة على
م�صريه وك�أنها داخل �أعماقها ،اكتفت من ت�أكيده على فقده ،نطقت �أخ ًريا
بب�ساطة متهدجة�« :س�أخربه وقتها �أنك مل تكن �أنان ًّيا مبا يكفي جلعلي
والتوز عي
قال ب�صوت مكتوم وهو ي�شيح بوجهه عنها ك�أنه يقاوم النظر �إليها،
أنت تطلبني ما يفوق حتملي». في�ضعف قلبه نحوها كعادتهِ �« :
جاوبته دون تفكري« :و�أنت تطالب بنزع حت ُّملي نف�سه ،ك�أنك متد يدك
وتخلع قلبي من مكانه وترميه يف الأر�ض لتدع�سه بحذائك».
أنت ُم�صرة على قال بخ�شونة معاندة رغم انهيار كل ح�صونهً �« :إذا � ِ
جنونكَ ،ت َع َّقلي يا رابحة واجعلينا نتخل�ص منه هذا مل�صلحتكما م ًعا». ِ
قالت �سري ًعا مكررة ب�صوت قاطع باتر كحد ال�سيف« :بخروج روحي،
�س�أقتل قطعة منك».
ه َّز ر�أ�سه برف�ض م�ستدر ًكا عواقب زلة روحه ،حمار ًبا نب�ضات قلبه
الثائرة ،يجاهد � َّأل يتوجه �إليها ي�ضمها بني ذراعيه معتذ ًرا ومطمئ ًنا،
فا�ستطردت هي بوجع« :ال تكن �أنان ًّيا معي للنهاية� ،أريد هذا الأمل الذي
ينمو بني �أح�شائي� ،أريد �أن �أكون �أ ًّما ،هذا حقي».
271
حلظات طويلة ،مل يتكلم � ٌّأي منهما فقط اكتفيا بنظراتهما التي تالقت
بعتاب وتو�سل وحتدٍّ ُم�صر ،انهارت �آخر ح�صونه عندما �أطلقت �شهقة
قهر وهي تكرر قولها ب�إ�صرار�« :إن كنت ُت�صر على املغادرة والت�ضحية
بحبي لك� ،إذن اترك يل جز ًءا �أت�شمم فيه عطرك ،جز ًءا �أ�ضمه لأتذكر
ع�شقك� ،أنت غري عادل يا ثعلب».
اف َّرت فمه عن �شبه ابت�سامة حزينة قبل �أن يقف من مقعده متوج ًها
�إليها يزيح مقعدها بعيدً ا عن املائدة لتواجهه ،ومال نحوها ،اتك�أ بكفيه
ع
يخربوك �أبدً ا عن غدر
ِ على جانبيها حماوطها وقال ب�صوت خفي�ض« :مل
ع
�أخربوين �أن الثعلب �أب جيد يحمي امر�أته وطفله حتى ي�شتد عوده».
هم�س م�ؤكدً ا« :يحميه بنف�سه».
ابت�سم �أخ ًريا لعينيها تلك النظرة احلاملة التي جتعلها �أ�سرية لع�شقه،
فبادلته االبت�سامة من بني دموع املرارة وهي تقول ب�إ�صرار« :كما �أخربوين
أي�ضا �أنه ميكن تروي�ضه والعي�ش معه �إن منحته الأمان والدفء املنا�سب � ً
يوما».
ولن يغدر بك ً
تن َّهد دون �أن ُتحى ابت�سامته التي حتولت لتعاطف وهو يرفع كفه نحو
وجهها مي�سح دمعها برقة وقال« :هل تعتقدين �أنه �سيكون ً
طفل جيدً ا لن
يعذبك كوالده؟»
ِ
هدر قلبها ب�صخب داخل �أ�ضلعها ،مدرك ًة موافقته ال�ضمنية وتنازله
عن جنونه �أخ ًريا ،فقالت بتو�سل يحمل بني طياته الأمل�« :إن ر�أى والده
كيف يعامل �أمه ك�أمرية لن يفعلها� ،سيكون هاد ًئا مطي ًعا و»...
272
�أم�سك ذقنها بطرف �أ�صابعه وانخف�ض بر�أ�سه �أمام �شفتيها وقال
جدا واكت�سبت الكثري من الأعداء ،بالت�أكيد لن مقاط ًعا�« :أنا كنت م�شاغ ًبا ًّ
عنك؟»
ي�شبهني فيما تطلبني ،ماذا ِ
�أ�شرقت عيناها وهزت ر�أ�سها بني �أنامله قائل ًة بخفوت« :كنت مطيعة
�أحتمل امل�سئولية منذ نعومة �أظافري».
«هجر�سا»
ً الم�س طرف �شفتيها بفمه وهم�س باختناق« :جيدً � ،إذا �أتوقع
قو ًّيا يتحمل تن�شئتي �إياه».
ز و
تع�صفي ب�أنحاء
ع
داخل �سحيق العينني ،و�صوت ي�أتي من بئر
خفية �ضعيف ،بل معدم قد مينحه لها ،مع كل �ضربة �أمل
ج�سده مت�سللة مبرارة داخل روحه كان يطلق �آهة خافتة من بني �شفتيها
جال�سا على ركبتيه �أمامها،
مرافقة لأنني روحها بني ذراعيه ،انخف�ض ً
رفع طرف منامتها ليك�شف ب�شرة بطنها مبا�شر ًة� ،أحنى ر�أ�سه مرة �أخرى
وطبع ُق ْب َلة طويلة على بطنها امل�سطح وقال بعاطفة جيا�شة خنقته ،متجن ًبا
بداللك عندما تنتفخني مثل ُك َرة «�شراب»
ِ وعده �إياها« :هل �سرتهقيني
رديئة ال�صنع واملظهر؟»
تهدجت وهي تخربه بذات االختناق« :نعم ،و�أنت تهرب من وجهي
ت�شتكيني لكل من يقابلك ب�أين �أ�صبحت ع�صبية كريهة نزقة ال �أُ َطاق».
مل يكن عمر يف تلك اللحظة بالقوة الكافية ليخ ِّفف عنها ليمنعها
من البكاء لينهاها عن جذبه حلياة �سليمة وحماربته ،فجاراها بالقول:
273
«وتوقظيني بعد منت�صف الليل تطالبني ب�أ�شياء لي�س وقتها �أو رائحتها
ب�شعة ،و�أهرول باح ًثا عنها و�أنا �أرتدي مالب�س النوم فقط».
رباه ،الأمل ال ُي ْحتمل ورغ ًما عن هذا �ض َّمت ر�أ�سه بقوة نحو ب�شرتها
العارية تخربه بعجز�« :أنت ال ترتدي �أي مالب�س عند نومك؛ لذا على
الأرجح �ستخرج عار ًيا ،و�سيقب�ضون عليك متهمينك باجلنون �أو بفعل
فا�ضح يف الطريق العام».
رفع وجهه ينظر لوجهها املنخف�ض دون �أن يرتك �إحاطته جل�سدها
ص ع
بقوة وقال من بني دقات قلبه التي كانت ت�ؤمله�« :إذن تر َّفقي بي ،وال
و ش
با�ست�سالم�« :س�أفعل� ،أعدك � َّأل �أعذبك ،لن �أكونرزوجة
حاوطت وجهه
الدنيا
مرة واحدة كن �أنان ًّيا كما تدعوين ،واغت�صب منها حقك رغ ًما عنها».
�شعر عمر بطعم �صد�أ يف حلقه ،ف�ضمها �إليه �أقرب راف ًعا يده ليجعلها
أعدك �س�أفعل
تنخف�ض لت�سند جبهتها على جبهته ،وقال يف حلظة �ضعفِ �« :
أمينك معه ،ولكن لن �أ�ستطيع �أبدً ا �أن �أبيع �سائد يف منت�صف
ما بو�سعي لت� ِ
معك بعد ما قا�سيته».
الطريق ،حتى ولو كان من �أجل ذلك العدل يف حياة ِ
مل ت�ستطع �أن تخربه �أكرث �أو جتادله كي متنعه ،فانهارت بني يديه،
هبطت من املقعد لت�صبح بني ذراعيه يف حلظة تتعلق بعنقه بقوة دافن ًة
ر�أ�سها بني �ضلوعه هام�س ًة بتعب�« :أنا �أحبك و�س�أظل �أحبك ،وكل ما تقوله
يوما ب�أن يولد ابني بني ذراعيك».
لن ينزع مني الأمل ً
274
رفع وجهها بعيدً ا عن �صدره داف ًنا �أ�صابعه بني طيات �شعرها من
اجلانبني لي�سمح ل�شفتيه �أن تلتقط فمها برقة متحد ًثا من خالل قبالته
حبك
وقلبك ،وثقي بهما و�ستجديني دائ ًما بينهمِ ،
نف�سك ِاملهادنة�« :أحبي ِ
حبك هو تاريخي الكامل
هو احلقيقة الوحيدة التي عرفتها يف هذه الدنياِ ،
يا �أمرية عمر».
q q q
�سمح �سائد لنف�سه بالدخول �إىل غرفتها ككل ليلة ،منحها نظرة
ص ع
�صامتة متذك ًرا ت�صميمه لنقلها للمنزل مع توفري كل الرعاية الالزمة
ر ش
والتوز عي
حماما �سري ًعا يزيل عنه �إرهاق يومه.
لي�أخذ ً
وحتت املاء املن�ساب على ج�سده املت�شنج �سمح لأفكاره �أن جترفه معها،
ُمق ًّرا ومعرت ًفا لنف�سه باحلقيقة املُ َّرة« :دُجى تفرق معه ،بل �إنها �أ�صبحت
تع�صف بداخله �أ�شياء ال ي�ستطيع حتى �أن يف�سرها لنف�سه ،فقط ي�شعر
بالتخبط بالأمل بالذنب الكبري نحو حبيبته الأوىل ،كيف يخون ذكراها مع
ابنة قاتلها؟! كبح ارجتاف ج�سده ال�ضخم بينما يخبط ر�أ�سه باحلائط يف
قتلت ابني يا دُجى بعد �أن �أوهم ِتني
أنك ِ رتابة« :بل كيف �أ�ستطيع ن�سيان � ِ
بتم�سكك به �أكرث من حياتك نف�سها؟!»
ِ
�أغلق جفنيه بقوة والنار ت�أكل �أح�شاءه ،جتربه عروقه على االنتفا�ض
حمط ًما� ،أن يذوق من نف�س ك�أ�س الفقد مرتني ،كم قاتل �شعوره ب�أن يعرف
الآن كم كانت تطوق روحه لذلك الطفل الذي منعه غ�ضبه الأعمى �أن
يرتفق ب�أمه ،يجتاحه الإح�سا�س باخليانة والغدر والفجيعة ،حتى �أ�صبح ال
يعرف كيف ي�ستمر يف خططه وانتقامه ك�أن �شي ًئا مل يحدث بينما كل �شيء
275
بداخله يحرتق بحمم القهر؟ ورغم كل هذا هو ال يلومها مدر ًكا جيدً ا �أنه
ال�سبب الرئي�س يف قتلها طفلهما.
�أغلق املاء وخرج من كبينة اال�ستحمام يجذب من�شفة كبرية ليحيط
بها ج�سده ،بعد عدة دقائق ارتدى مالب�س ب�سيطة ،وبهدوء ت�سلل للنوم
بجانبها ككل ليلة مراق ًبا اختالجات وجهها الذي يتعاقب عليه الأمل
مدر ًكا جيدً ا �أنها مدركة لكل ما يحدث وت َّدعي النوم عندما قال بهدوء:
«حالة ال�صمت لن حتل �شي ًئا ولن تعالج ما ت�شعرين به».
ع
مل تفتح عينيها مدركة ل�صوته الذي يت�سلل �إليها كل ليلة متحملة
ر ش
والتوزي
يرف لها جفن واحد. �أنفا�سه الأخرية دون �أن َّ
ع
ب�شفاه مرتع�شة �أخربته« :اخرج من هنا ،رائحتك تثري غثياين».
قال �سائد ب�صوت خ�شن من فرط الأمل« :من املفرت�ض �أن ت�شعري
�شعورك �أنا لن �أ�ستطيع تركك».
ِ ب�أكرث من هذا ،ورغم
ال�صمت �أعقب كلماته ،وجوده كثري على حت ُّملها قتل �أمومتها دون
رحمة عندما تتذكر �أنها عانت لأ�شهر من وهم� ،سمحت لطفلها باملوت
من �أجل ذنب مل يحدث ،فتحت جفنيها تدريج ًّيا بثقل ،ف�صعقته النظرة
خال من اخلاوية فيهما وكان رماد عينيها قد حتول لرتاب عدمي اللون ٍ
فاقد بريق كل �شيء� ،س�ألته و�أ�سنانها ت�صطك ببع�ضها�« :أخربين الروح ٍ
فقط �أن تلك الورقة غري حقيقية ب�أين ل�ست زوجتك».
جال�سا �أمامها جمربها �أن ت�ستقيم من نومها اعتدل �سائد يف مكانه ً
وهو يجيبها ب�صوت �أج�ش« :ال�صفعة املُرة لكلينا �أنها حقيقيةِ � ،
أنت
زوجتي».
276
كان ج�سدها يرتع�ش بتتابع وهي ت�ستف�سر« :كيف و�أنت ُقلت مل
يحدث؟! و�أنا �صدقتك لأن ذلك امل�أذون ال�شرعي الذي اتفقنا معه يف
ال�شهر العقاري مل يكن نف�سه».
معك الإجراءات
قال �سائد وهو ي�شعر ب�صدره ي�ضيق« :بعد �أن �أمتمت ِ
املطلوبة ،ذهبت �إليهم وطلبت تغيريه ببع�ض املال».
هزت ر�أ�سها برف�ض وقالت من بني �أنفا�سها املتهدجة« :كيف و�أنا مل
�أ�ستلم �أي عقد للزواج؟!»
ريص ع
خرجت من
ِ أنت متى
قال وهو يعقد �أ�صابعه التي ترجتف مثلها« :و� ِ
والتوز عي
�أي �أمل كانت تعانيه و�أي عذاب كانت تراه زوجته بينما ُي ْ�شعرها
باحل�ضي�ض ،يغرقها ب�شعور احلرام ،يجلدها بخطايا مل ترتكبها ،يف
حماولة �أخرية لرف�ض ت�صديق حقيقة زواجهم التي ر�أت قالت« :وكيف يل
�أن �أثق بك؟ وملاذا ال تكون هذه خدعة �أخرى؟»
نف�سا عمي ًقا كي يرغم �أع�صابه على �أن تهد�أ ،ك�شف جميع �أوراقه
�أخذ ً
و�أحرق كل �سفنه كما �أخربها يف ليلتهم امل�ش�ؤومة ،ثم قال« :وما الذي
أخربك �أنك زوجة ،و�أنا �أح�صل منك بالفعل على كل ما �أريده
يجربين �أن � ِ
منك».
دون �أن تعريف بحقيقة زواجي ِ
تزوجتك �شرع ًّيا،
ِ �صمت لربهة قبل �أن ي�ضيف ب�صوت مكتوم�« :أنا
بحملك ،حتى �أ� ِّؤمن
ِ وكنت �أحاول توثيق زواج ًنا يف ال�سفارة بعد معرفتي
لك هرو ًبا منا�س ًبا بالطفل يف حال حدوث �أي �شيء خارج عن �إرادتي، ِ
ولكنهم �أرادوا مقابلتك ،فكان يجب �أن تعريف».
277
�صب الزيت على النار بالفعل ،ا�ستفزها و�أحرقها داخل ًّيا،وك�أن ما قاله َّ
حطمها م�سب ًبا لها �صدمة ذاتية مت�أخرة ،وفى حلظات زاد ج�سدها
ارجتا ًفا بني يديه ،و�صوتها �أخذ يف اله�ستريية ،ت�صرخ بجنون هاتف ًة
ب َع َ َبات غام�ضة مل يفهم منها �إال قولها�« :أيها ال�سافل عدمي الأخالق».
كانت تت�أمل عندما رفعت يديها ت�س ُّد �أذنيها وهي ترتعد ،علم �سائد
على الفور �أنها دخلت يف حالة االنهيار الذي كانت تنتظرها الطبيبة منها
منذ ليلة خ�سارتها اجلنني ،مل يفكر مرتني وهو يكبل ج�سدها الذي �أخذ
ص ع
يف التخبط مع ا�ستمرار هذيانها ال�صارخ.
والتوزي
يرغمها على التمدد وا�ض ًعا �ساقيها بني وركيه ،مم�س ًكا يداها يف قب�ضة
ع
واحدة ورفعهم للأعلى.
مل تكن يف حالة ت�سمح لها بتبني ما يفعله �أو �أن توقف يده التي �أزاحت
بنطال منامتها ،كا�ش ًفا عن فخذها من الأعلى �شاك ًرا احلظ الذي جعله
يجهز احلقنة م�سب ًقا ككل ليلة منتظ ًرا انهيارها ،م َّد يده وهو يتحامل على
نف�سه من �صراخها الذي َ�ص َّم ُ�أذنيه ،ق َّرب الإبرة من فمه ونزع الغطاء
ب�أ�سنانه وت�أكد من تفريغها من الهواء ب�أنفا�س متالحقة عنيفة ،ثم بثبات
و�ضعها بخط عمودى �أعلى فخذها ،مل ت�شعر حتى ب�أمل الإبرة التي ُغ ِر َ�ست
فيها.
�أخرجها �أخ ًريا منها و�ألقاها بعيدً ا قبل �أن يعود ي�ضم ج�سدها البارد
بقوة مدر ًكا �أنها �ست�ستغرق وقتًا حتى ي�أخذ املهدئ مفعوله وير�سلها للنوم،
مل يتحرك قيد �أمنلة ِمن تكبيل ج�سدها بج�سده حتى عندما ق َّرب فمه
278
جنب �أذنها يهم�س ب�صوت رقيق حنون غري �صوته« :اهدئي ،كل �شيء
�سيكون بخري».
هزت ر�أ�سها بالنفي وهي تقول بهو�س« :حقري تزوجتني و�أ�شعرتني
بالرخ�ص ،ملاذا تزوجتني من الأ�سا�س؟ كنت لأتخل�ص منك ب�سهولة الآن
كما تخل�صت من نطفتك القذرة».
�أغم�ض عينيه مبتل ًعا جنونها مدر ًكا �أنها تتحدث بل�سان �صدمتها:
منك ،ولكني مل �أ�ستطع عندما ُو ِ�ض ْعتُ يف اختبار «مل �أكن �أنتوي الزواج ِ
التنفيذ».
والتوز عي
غ�صته الأ�صعب عندما قال لعينيها التي تتوه يف بئر الهروب من واقعها:
جدا ،جزء أنت بع�ض ما حدث بيننا كان حقيق ًّيا ًّ أجلك � ِ
«مل �أ�ستطع ،من � ِ
يريدك زوجة تخفف عني بع�ض جروحي». ِ �صغري بداخلي كان
قالت بتيه من بني �شفتيها املرتع�شة« :مبارك لك اعرتافك؛ لأين ال
�أحمل لك ذرة واحدة لرحمة �أو ت�سامح� ،أنا �أكرهك يا �سائد والف�ضل كله
لك».
و�ضع جبهته على جبهتها مواج ًها رماد عينيها مبا�شر ًة وقال�« :إذن
حياتك يا دُجى،ِ لك �شي ًئا واحدً ا جيدً ا لتمحو �أثري ب�سهولة من
لقد قدمت ِ
وك�أين كنت جمرد �سراب� ،صورة مهزوزة وم�شوهة ل�شبح انتقام مررت
عربك».
ِ
قبل �أن تغلق عينيها مبا�شر ًة رفعت يدها ب�صعوبة ت�شري نحو قلبها وهي
تقول باختناق« :مررت من هنا ،تار ًكا يف القلب غ�صة �ستبقى به دائ ًما».
q q q
279
o ال ُغ َّصة األخيرة
ع
املرهق الذي مل ي�سرتد عافيته بعدُ ،وقفت من الفرا�ش ف�ضربها الدوار
ر ش
والتوز عي
يكن ذنبها يف هذه احلياة �إال ا�سم رجل �أغوى روحه �شيطان لعني ،فعقد
�صفقته يف حلظة �ضعف ممن ًيا نف�سه باال�سم الكبري واملال الوفري ،ولكنه
يوما.
مل يدرك �أنه خ�سر كل �شيء ،لن تعو�ضه كل �أمواله �أو �سلطته ً
جمعت قوتها بعزم لتقف �أخ ًريا على قدميها ،توجهت للخزانة جتلب
�شي ًئا عمل ًّيا حمت�ش ًما ت�سرت به نف�سها بدل مالب�س النوم ،فالأ�صوات
اخلارجية م�ؤكدً ا تعني �أن عمر و�إبراهيم معه ،يبدو �أن املظلوم الظامل
ً
وت�سلطا ،لكنها لن ت�ستطيع �أن ت�صمت �أ�صبح �أكرث �شرا�سة� ،أكرث جنو ًنا
حتى وهي تعلم �أنها ال متلك ُ�سلطة عليه لتجعله ي�أخذ دفاعها َطي
احل�سبان.
فتحت باب الغرفة وتقدمت بهدوء �إىل مكتبه وهم�ست مبا�شر ًة ب�صوت
متعب�« :أال يكفيك �ضحايا يا �سائد؟ هل زوجتك وابنك �سيكونان را�ضيني
ع َّما تفعله مبن مياثلهم �ضع ًفا وقلة حيلة؟»
281
حتولت الوجوه الثالثة املتناحرة نحوها ،ما بني متفاجئ وم�صدوم،
وما بني متجهم رغم ترحيبه بالتدخل ،هم�س عمر را�ض ًيا« :رمبا ر�ؤيته
�إياك يف تلك اللحظة يجعله يبتعد ع َّما ينتويه».
�أغلقت جفنيها للحظات �أخرى حتاول �إعادة ثباتها االنفعايل متجنب ًة
متاما عن تلك اجلمرتني اللتني ترمقانها مب�شاعر تعليق عمر ومبتعدة ً
مت�أججة خمتلطة مل تعد تفهمها ،عادت تكمل حديثها بخفوت« :هناك
�شعرة تف�صل بني الظامل واملظلوم ،بني اجلاين واملجني عليه و�أنت طالك
ع
من الأذى ما لن يتحمله ب�شر ،ولكن بتجنيك على �أرواح بريئة ف�أنت
ع
اله�شة تلك ب�صمت ي�ستوعب كل كلمة منها بينما ال يراها �إال �أقوى� ،أقوى
من �أي يوم م َّر بحياتها املُهينة التي ر�أتها على يد فهمي ويده من بعده،
وك�أنها ت�ستعيد ببطء تلك القوة والعزم وروح املحاربة التي �أجزم بوجودها
داخلها من قب ُل ،نطق �أخ ًريا ليخربها ب�صوته املهيب« :االنتقام و�سيلة
اجلبناء ،و�أنا مل �أكن جبا ًنا ً
يوما يا دُجى».
فتحت عينيها تنظر له نظرة عميقة عنيفة ت�سللت �إىل �أعماقه فجعلته
ي�شعر ب�شيء �آمله يف �صدره ،بينما تقول ب�صوت �أَ َ�س َره احلزن�« :إذن �أخربين
مباذا ت�سمي ما فعلته معي وتريد تكرار فعله مع �أ�سماء؟!»
وك�أنها دا�ست على الزر اخلط�أ ووجلت من نافذة روحها �إىل روحه
لتك�شفه �أمامها وجتعله عر�ضة للخطر ،ا�ستدار �سري ًعا يبتعد عن عيون
ثالثتهم غري م�ستعد بع ُد للإجابة ،غري قادر على االعرتاف باحلقيقة
يوما ،لقد كان يحاربها ،يحاول قتل كل نب�ضة لعينة تت�سلل منها �إليه، املُ َّرة ً
282
يحاول نكران �سلطة ابنة غ�سان على قلبه وروحه مبجرد النظر لرماد
عينيها املحرتق ،لقد �أحبها.
اهتز ج�سده ال�ضخم �أمام النافذة بينما تقب�ضت يداه بقوة جانبه
َّ
وتف�ضل بالقول املت�سلط �أخ ًريا�« :أ�سماء هدف خمتلف وو�سيلة فعالة ل�شيء
ق�صتك معي بها».
ِ داخل نف�سي فال تقارين
برق رماد عينيها بحدة ،واتخذت نرباتها �سخرية مريرة« :كما كانت
زوجتك �شي ًئا �آخر لن ت�صل امر�أة ملرتبة املقارنة بها ً
يوما».
ص ع
منحنك بع�ض
ِ تنحنح �إبراهيم مقاط ًعا يقول بخفوت« :ميكننا �أن
والتوز عي
التي وم�ضت فيهما وك�أنها عنقاء احرتقت من املر�ض وعادت لتنه�ض من
جديد من بني رمادها قوية عنيفة ثابتة�« :إن اقرتبت من ابنة فهمي ب�أي
طريقة يا �سائد �س�أقتلك بنف�سي� ،أ�سماء بيني وبينك».
التفت �إليها بعينني مهتاجتني بينما يهدر فيها ب�صوت مرعب« :هل
هذا تهديد؟»
مل يحاول �أن يهينها ويهاجمها كال�سابق� ،أن يعيدها ملكانتها احلقيقة
التي ظن وتوهم �أنها ال متثل �شي ًئا يف حياته.
رغم ا�ضطرابها لكنها قالت بنربة َب َد ْت خ�شنة واثقة« :نعم ،دم طفلي
مل يجف بعدُ ،لن �أ�سمح لك بقتل طفلة �أخرى بغري حق».
يكفيها ذكر طفله ليعود الأمل ي�ضرب على �أوتاره احلزينة ،ي�ضرب قلبه
الذي انتع�ش على يديها بخنجر حاد �سام ،وليته يكون ً
قاتل ليعود �إىل
جليده ،بل جعله يحرتق بتوهج مل يعرفه �إال على يديها.
283
�أكملت بعزمية�« :أنت لن تلوث يدك مبزيد من دماء الأبرياء� ،أ�سماء
�أعرفها منذ �أن ُو ِل َدت قبل �أن ينقلب الكلب على �أبي� ،أعرف �أمها� ،أعرفهم
جمي ًعا و�أنا لن �أ�سمح لك بدماء �أخرى �إال على جثتي يا �سائد».
�ضغط على �أ�سنانه بقوة وهو يغم�ض عينيه ،لدرجة �أنهم �سمعوا �صوت
�صرير تلك الأ�سنان ،حينما قال بعينني غا�ضبتني�« :أنا ل�ست م�صا�ص
دماء وال تاجر �أع�ضاء لتظني بي �أين قد �أفعل بها مثلما يفعل هو».
�شعرت دجوى ب ُغ َّ�صة ت�ؤمل حلقها ب�شدة والدوار يعود ي�ضرب ر�أ�سها،
ريص ع
اهتزت وقفتها لتمد يدها �سري ًعا ت�ستند على �إطار الباب ف�سارع عمر
ع
قالت ب�صوت قامت وهي تنظر �إىل عينيه بغري تنازل« :بل َتنٍّ بغري
يوما ،االنتقام نار ت�شتعل لت�أكلك
285
حتجرت الدموع يف عينيها راف�ضة �أن تذرفها �أمامه مرة �أخرى بينما
َّ
تهم�س ب�صوت ممزق ف�ضح �آالم �صدرها« :ال تلوث يدك بالدماء يا �سائد،
يكفيك حتطيم الأبرياء».
هم�س بتثاقل« :و�إن كنت لوثتها م�سب ًقا ِ
بدمك ودم طفلي».
اهتزت ع�ضلة يف فمها بينما تردِّد بتهكم« :طفلك!»
مل ير َّد ف�أكملت بهدوء عك�س عا�صفتها التي تعاين« :لن ي�ساحمك اهلل
يوما� ،سيظل دم طفلي مادة �صلبة قوية عني وعنه؛ لأنني �أنا لن �أغفر لك ً
أهدمهعي
يزفره �أخ ًريا وهو يقول ب�صوت �أج�ش:
حتى
ي�صبح بحريات دافئة مل ولن يغو�ص فيها غريي».
�شهقت دون �إرادة وهي تقول« :افعل �شي ًئا جيدً ا �أخ ًريا وال ت� ِؤذ الطفلة».
دفع ر�أ�سها لي�صبح وجهها على ُبعد �إن�ش واحد من وجهه وقال بخفوت:
«يجب �أن يذوق فهمي من نف�س ك�أ�سه ،ليتني �أ�ستطيع مقاومة �إغراء ر�ؤيته
قدمي يتو�سلني الرحمة التي لن �أمنحه يتعذب ببطء ُينرث �أ�شال ًء حتت َّ
�إياها».
عندما هبطت دمعة وحيدة �أخ ًريا من عينيها هم�س ب�أمل وك�أنه
إكراما لك ،لن �أقربها ب�سوء ،لن �آخذ بريئة �أخرى بذنب
يرا�ضيهاً �« :
غريها».
286
�شعرت دجوى بقر�صة لوعة يف قلبها الذي مترد� ،أخف�ضت جفنيها
إكراما يل ال متوت ،ن ِّفذ ما تريده
لتهرب بعيدً ا عنه وهي تقول بتهدج« :و� ً
وع ْد من مكان ما �أتيت». ُ
أ�ضمك؟»
«هل يل �أن � ِ
تو�سعت عيناها املت�أملتني للحظات وهم�ست�« :أنا كلي بني ذراعيك
بالفعل».
أحت�ضنك
ِ «قلبك لي�س بينهما� ،أريد �أن �ِ �أخربها ب�صوت �أج�ش:
ص ع
بطريقتك الأمومية».
ِ
q q qوالتوز عي
�أفعل �أبدً ا».
كانت عينا حماد تلمع بظفر وهو يق ِّلب ال�صور املتعددة يف الهاتف� ،إال
�أنه قال بعدم ر�ضا« :لو كنت �أتيت بها وطاوعت معلمك كنا ح�صلنا على
�صور �أكرث قيمة لت�ضربه يف مقتله وجتعله كاملجذوب».
ظلت عينا �سائد فاقدتا احلياة يرمقانه ورجاله ب�صمت غام�ض ،ثم
تنازل �أخ ًريا ليخربه بت�صلب« :ما �أعرفه �أنه ينب�ش الأر�ض عليهاَ ،ف َق َد
متاما ولن مييز �أي و�ضع يراه فيها ،املهم �أن اجلزاء من جن�س عقله ً
العمل وهو �أكرث النا�س معرف ًة مباذا يعني ج�سد ب�شري حتت رحمة م�شرط
�شيطان».
التمعت عينا حماد ال�شبيهتني بعيني �أفعى �سامة و�أخربه ب�شجاعة« :ال
يهم ،افعل ما تريده وكما تفكر طاملا �سي�صلنا ملا نريده».
287
�صمت لربهة قبل �أن يحاول �أن يتعاطى مع الهاتف الذي بني يديه
و�ضاغطا على �أرقام فهمي ال�سرية والتي يحفظها عن ظهر قلب ً مقل ًبا فيه
و�أردف« :املال ،الكثري من املال».
تدخل �أحد رجال حماد ال�صامتني ليخربه بخبث« :وملاذا هنا فقط َّ
نتبع كالم هذا الرجل يا معلم ونتعب �أنف�سنا بامل�ساومة مع فهمي �أو غريه،
معر�ضني لك�شف �أنف�سنا ،بينما لدينا املال بالفعل؟ «البنت» تبدو قوية
ونظيفة و�صغرية قد يدفع فيها �أحد الأثرياء � ً
أموال ال ُت َعد مقابل �أن متتعه».
ريص ع
توقفت يد حماد عن الإر�سال لربهة ،بينما يقرتب ال�شاب يكمل بخبث:
ع والتوزي
لكل �شيء ونحن نتعفن بال�سجن».
«تفكري �شبه رجل يحمل قرو ًنا فوق ر�أ�سه ،وماذا �أتوقع منك غري
هذا؟!»
نطقها �سائد ب�صوت قوي وك�أنه لن يقبل ً
جدل بعده ،رغم الهرج الذي
�ساد جمل�س حماد ،وانتف�ض رجله بثورة ناحيته م�شه ًرا مطواة يف وجه
ً
�صارخا فيه بفحيح«َ :منْ تق�صد يا هذا بالقرون؟ �س�أمزقك و�أنت �سائد
واقف مكانك لتعرف مع من تتحدث».
رفع يده �سري ًعا ووجهها نحو �سائد الذي انحنى بج�سده بر�شاقة
متفاد ًيا ال�ضربة ،ثم التف ب�سرعة ذئب ا�ستحق لقبه حول ج�سد ال�شاب،
ويف �أقل من برهة كان ميدده على بطنه على الأر�ض القذرة ،وو�ضع قدمه
على ظهره الو ًيا يده التي حتمل املطواة خلفه ،مال بوجهه ليخربه ب�صوت
قامت« :عندما تقرر اللعب يا فتى اعرف قدر عدوك جيدً ا ونقاط �ضعفه،
288
تعلم جيدً ا حجم قدراتك ،فح�شرة مثلك لن �أ�ستغرق فيها خم�س دقائق
احرتاما للمعلم �س�أتركك».
ً حتى �أدع�سها ،ولكن
َّ
تدخل حماد هاد ًرا بحزم�« :سائد اتركه ،لن ن�أكل يف بع�ضنا ونحن على
و�شك مواجهة عدونا جمي ًعا».
مل يلتفت �إليه وهو ينظر لل�شاب نظرة جامدة ،الغبي كاد �أن ُي�ضيع كل
خمططاته يف وهلة ،بب�ساطة لو ُو ِ�ض َع بني االختيارين لن ي�ستطيع �أن ي�سلم
ع
الطفلة جلنون حماد بعد �أن وعد بعدم �أذيتها� ،سيكون جم ًربا وقتها �أن
والتوز عي
غريب�« :سنكمل ما بد�أنا ون�أخذ بث�أرنا منه ،وبعدها نرى يف �أمر ابنته
ما ير�ضينا ويدر علينا مزيدً ا من املال ،لن نرجعها له� ،صحيح يا �سائد».
يوما� ،إياك �أن حتاول
«اعرف مقدار عدوك ،و�إن �أم�سكت جلامه ً
ا�ستفزازه وتفقده؛ لأنه لن يرتدد �أن تكون �أول �ضحاياه».
ً
مهرول بهدوء ترك �سائد ال�شاب الذي كان يلهث بانفعال قوي واعتدل
عائدً ا �إىل جانب حماد الذي �أخربه بنربة مظلمة« :ح�سابك �أ�صبح ً
ثقيل
يا حلمي ،وبعد انتهائنا من �صفقتنا ح�سابك ع�سري».
عاد بعينيه نحو �سائد منتظ ًرا �إجابته عن �س�ؤاله ال�سابق ،وقال ب�سرعة
وبلهجة حذرة ك�أنه يرو�ض ً
وح�شا يكاد �أن يفيق من غيبوبته ل َي ْف ِتك به:
«بالطبع يا معلم ،الفتاة ال تهمني يف �شيء ،وفور �أن �أحقق ق�صا�صي من
�أبيها فهي لك».
289
نف�سا ً
طويل را�ض ًيا وهو ير�سل لفهمي �صور عندها فقط زفر حماد ً
�صغريته وابت�سامة متلذذة �سادية مقيتة تزين مالحمه.
q q q
تبكي منذ الأم�س وال تتوقف بينما الندم يفتك ب�أو�صالها فت ًكا ،ندم بعد
حماقتها وغبائها وت�سليم �صغريتها بيدها.
مل َي ِر َّق قلب فهمي لها ومل يت�أثر بلوعة قلبها ،بل لو كان الأمر بيده
ع
متاما
وال�شرطة التي متلأ منزله منذ الأم�س غري متواجدة؛ لكان فتك بها ً
والتوزي ر
املحققني ملتهني ويلج �سري ًعا نحو غرفة �صغرية.
ع
فتح الهاتف ب�سرعة و�ضربات قلبه تعلو على الفور حتى كاد يقف خو ًفا
وهل ًعا.
�سقط فهمي على �أقرب مقعد ب�أنفا�س الهثة عنيفة ،عيناه متو�سعة
ب�صدمة ووجهه �شاحب وك�أن احلياة ُخ ِط َفت منه فج�أة وبغري �إنذارَ ،ن َف�س
و�آخر كان ي�ستجديه بخزي للخروج ب�أن يتنف�س بينما ُيق ِّلب �صور ابنته يف
و�ضع يحفظه عن ظهر قلب ،عملية مار�سها على العديدين بيدين باردتني
قا�سيتني وقلب مات ومل تنب�ض به احلياة جمددًا �أبدً ا.
ولكن على ما يبدو امل�شهد املكرر بنف�س الطريقة والهدف جعله يتذكر
ج�سد �أخرى كان الأخري على طاولته ،ج�سدً ا فت ًّيا مغو ًيا لي ًنا ،ا�ستخدمه
لل�ضغط على معلمه الأول وال�شيطان الأكرب الذي فتح له نافذة ذلك العامل
ال�سفلي ،مل يحتج الكثري وقتها ليقنعه �أنهم يقدمون للمجتمع خدمة،
290
ينظفونه من تلك احلثالة ،وينقذون �أ�سياد املجتمع و�أبناءهم الذين
�سيخدمون الب�شرية ح ًّقا ،ولكنه جاء يف �آخر الطريق ويبدو �أن �ضم ًريا ما
ظهر له و�أراد �أن يتوب ،يتوب! كم كانت كلمة م�ضحكة م�ستفزة ،يريد �أن
يجعل تلك امل�ؤ�س�سة تنهار ،يريد �أن يتخلى عنه بعد �أن كاد ي�صل للقمة،
يعود به لنقطة ال�صفر جمرد طبيب م�ساعد ينتظر منه بع�ض البقايا
يلقيها له ،حقده تعاظم مع انقالب الر�ؤو�س الأعلى على غ�سان فلم يجد
ُبدًّا من ا�ستخدام «دجوى» كورقة ت�ضعفه وتقتله ،وهذا ما حدث� ،س َّلم
ذليل مك�سو ًرا وتنازل عن كل �شيء �أمام حياة غ�سان على الفور ،جثا ً
ص ع
ابنته.
والتوز عي
تريد؟ �ضع الرقم الذي تريده و�سيكون لديك خالل �ساعات ولكن �إن
و�ضعت �إ�صب ًعا واحدً ا على ابنتي� ،س�أجعلك �أنت ورجالك مكانها».
�ضحك حماد بق�سوة �ساخرة وقال�« :أنت ل�ست يف حمل قوة لتهدد «يا
دكرتة»� ،أنا هنا من ي�أمر وينهى».
ا�شتداد �صوته ب�صالبة مرعبة عند جملته الأخرية؛ جعل فهمي يبتلع
يوما ،قبل �أن يقولريقه الذي �أ�صبح ك�صحراء مقفرة مل تط�أها املياه ً
بخذالن مرتع�ش�« :أنا مل �أقرتب من بيتك يا حماد �أكررها لك للمرة
الألف ،ما الذي يدفعني �أن �أغدر بك بعد كل تلك الرحلة الطويلة بيننا؟
افتح عينيك وعقلك �أرجوك هناك من يتالعب بكلينا».
ا ْل َت َو ْت �شفتا حماد بتقزُّز على الطرف الآخر ،بينما يرمق �سائد بنظرة
غام�ضة قامتة غري مف�سرة ،ثم قال بهدوء غ َّلفته احلكمة« :رمبا �أنت
حمق ،ولكن ما بيننا قائم على الغدر من الأ�سا�س� ،أنا و�أنت ومن يتبعنا
291
مثال لل�شرف يا فهمي؛ لذا نعم �أنا مت�أكد �أنك غدرتَ بي ل�شيء يف ل�سنا ً
نف�سك».
حاول فهمي �أن ينهاه ب�أي طريقة� ،أن مينعه ويقنعه ،ولكن ر�أ�س حماد
كان �صل ًبا كاحلجر ال يفكر �إال يف ال�شماتة به ،لقد زادت �أخطاء فهمي
يف حقه �أ�ضعا ًفا م�ضاعفة ،ويجب �أن يدفع الثمن الذي ت�أخر كث ًريا؛ لذا
قال ب�صوت متلذذ حمتقر باتر كم�شرط حاد ال يقبل الف�صال �أو اجلدال:
«�أريد رق ًما مكو ًنا من �ستة �أ�صفار مقابل ر�أ�س ابنتك».
ع
ُب ِه َت وجه فهمي وهتف فيه بغ�ضب« :ماذا؟ هل فقدت عقلك؟ من �أين
والتوزي ر
�س�أمنحك ع�شرين ر� ًأ�سا جديدة بينهم ر�أ�س ابنتك؛ لتقطع منهم من تريد
ع
وترتك من تريد».
�صرخ فهمي بقهر�« :أنا ال �أريد �إال �أ�سماء يا حماد ،تع َّقل وال تزد النار
بيننا».
لدي قلته ،و�ست�أتي �إىل حارة « »...لتت�سلم تابع حماد بال مباالة« :ما َّ
ال�شحنة بنف�سك �أنت و�أطباءك كالأيام الأوىل يا دكرتة ،ف ِّكر مع نف�سك
لديك �أربع وع�شرون �ساعة فقط للتفكري ،و�إال �س�أبيع ابنتك لأحد الرجال
الذين يتلذذون بتعذيب ال�صغريات قبل �أن ي�ستبيحوا �أج�سادهم َّ
الب�ضة،
م�ؤكد �أنك تعرف هذا النوع حق املعرفة ف�أنت واحد منهم� ،ألي�ست هذه
ال�صفقات هي املتداولة يف التليفزيون بني الع�صابات يا با�شا؟»
مل ينتظر رده و�أغلق الهاتف ب�شكل نهائي ،نظر ل�سائد مبالمح قامتة،
بينما �سائد يبادله تلك النظرة امليتة املماثلة ل�صوته عندما قال�« :أنت
تعرف بنجا�سته».
292
وقف حماد من جمل�سه �أخ ًريا ،ومالمح وجهه املقيتة َب َدا عليها
العجز م�ضاع ًفا وك�أن كل �شيء �أ�صبح ي�أخذ من قوته� ،صحته وكل �شيء،
علي جميع �أنواع الب�شر نطق �أخ ًريا بخفوت مت�صلب« :بتلك املهنة مر َّ
و�أخطرهم و�أجن�سهم ،وفهمي النجار كان من حثالة احلثالة نف�سها،
َخ َد َمه احلظ لي�صبح �سيدهم� ،أنا ال �أعرف كيف �أ�صبح يق�ضي رغباته
العفنة ولكن ما �أنا �أعلمه عن يقني �أنه كان يدفع يف بع�ض الفتيات ً
مال
م�ضاع ًفا لي�أخذهنَّ بعيدً ا عن باقي زمالئه ،ولن �أحتاج ملعدل ذكاء لأعرف
�أنه كان ي�ضاجعهنَّ ».
والتوز عي
�أجلى حنجرته يحاول ابتالع غ�صته ومرارته فلم ي�ستطع ،فرتك
ملالحمه حرية التعبري �أخ ًريا ،ومن يلومه وجميع من يف هذه الغرفة �أ�صبح
يعلم بفجيعته« :هذا مربر اختياره �آية ،فبجانب معرفتها لعملهم واحتواء
�أح�شائها على كنز ثمني رمبا القت هوى يف نف�سه».
التف حول نف�سه ونظر بعيدً ا عنهم بينما عقله وقلبه يدق �سو ًّيا
مبفرقعات قا�سية مزقته.
دجوى كانت بني يديه عارية كما �أخربته ،هل احلقري الم�س �شي ًئا فيها،
�سيقتله و�سيذيقه من ك�أ�س جحيمه بتلذذ ،م�ستحيل �أن يرتكه ينجو من
القتل بني يديه� ،أغلق عيناه للحظة وابتلع حرقته وحارب �أن ي�سيطر على
رجل قبله ما تبقى من �أع�صابه متذك ًرا بيقني �أن ج�سد دجوى مل يعرف ً
�أبدً ا ،لقد ر�أى هذا بنف�سه ،م�ؤكد هناك �شيء منعه ،رمبا هدفه ال�ضغط
على احلقري الآخر كان هو الأهم لديه وقتها.
293
من وراء ظهره نطق ب�صوت غريب خافت على حافة اخلطر م�شددًا:
«على كل حال ،ال �أريد �أن �أعرف �شي ًئا ،لن تريحني �إال دما�ؤه عندما تغطي
مالب�سي».
مل ينتظر الرد وهو يندفع مغاد ًرا ،فوقت اال�ستعداد احلقيقي قد
اقرتب.
q q q
تدخل �إبراهيم عاد ثالثتهم لالجتماع وو�ضع خمططهم الأخري عندما َّ
ريص ع
قائل بهدوء�« :أال ترى �أن وقت �شريف قد حان لنك�شف له ورقتنا الأخرية؟» ً
ر ش
والتوزي
«هل تو�صلت ل�شيء؟»
ع
رد عمر وعينيه جتري على جهازه اخلا�ص املحمي ب�أعلى �سبل احلماية
حتى الكامريا اخللفية والأمامية للجهاز مغطاة بالكامل« :لقد ا�ستعان
فهمي ب�أحد �أفراد «الويب دارك»؛ لي�صل �إىل م�ؤ�س�س موقعنا احلقيقي بعد
اكت�شافه �أن املقر يف �أمريكا جمرد وهم مثل املقر على ال�شبكة العكنبوتية».
التفت �سائد يجيب �إبراهيم على �س�ؤاله املعلق�« :سمعت بنف�سك عدونا
ً
وتوح�شا فوق لي�س ب�سهل وتوجيهنا له �ضربة الآن مل يقتله ،بل زاده جنو ًنا
متاما ويبد�أ يف
توح�شه؛ لذا �سيت�صرف كاملجنون قبل �أن يفقد �أع�صابه ً
التخبط ،عندها فقط ن�ستطيع �أن ُن ْد ِخ َل �شريف يف معركتنا بكل �أريحية».
«ها نحن َذا» ،هتفها عمر بانت�صار جعل كليهما يلتفت �إليه م�ستف�سرين،
فقال على الفور بثقة« :ا�ستطعت الدخول جلهاز فهمي اخلا�ص �أخ ًريا».
كان عمر يجل�س على املكتب الرئي�س عندما ا�ستدار ك ٌّل من �إبراهيم
و�سائد ليحاوطا جل�سته ،جت َّول عمر لدقائق بني عدة ملفات يفتحها وينظر
294
فيها بتم ُّعن ،رفع �سائد �إ�صبعه م�ش ًريا للحا�سوب وقال ب�صوت خفي�ض:
«ان�سخ هذا امللف� ،سيكون �أداة جديدة وف َّعالة يف ملف فهمي مدم ًرا كل
ذيوله».
جدا
اكفه َّر وجه عمر للحظات وهو يقر�أ عدة �أ�سماء بع�ضها مهمة ًّ
يف هذا البلد وبع�ضها �أ�سماء �أجنبية« :ه�ؤالء ال�سادة ور�ؤ�سا�ؤه الأعلى من
ي�ساعدونه على ترويج ب�ضاعته دون �أن ُيك�شف».
قال �سائد مبالمح غري مف�سرة« :ما فهمته من دجوى �أن الأمر يف
ع
البداية كان مقت�ص ًرا على جتارة داخلية حمدودة لطبقة الأغنياء �أو بع�ض
ش
تدخل �إبراهيم وهو يقول بقتامة« :تق�صد �سياحة جتديد الأع�ضاء
295
ا�ستف�سر �إبراهيم بتوج�س« :نحن نعرف �أنك مك�شوف لديهم بالفعل
ويبحثون بجنون عنك ،ما امل�شكلة يف هذا؟»
مل ير َّد عمر ب�شيء� ،أغم�ض عيناه للحظة ب�أمل بينما من خلف جفونه
م�سطحا يحمل كل �أمل الدنيا
ً املغلقة ال يرى �إال وجه رابحة احلنون وبط ًنا
طفل وحل ًما وحيا ًة كانت من حقه بعد �سنني من العذاب بداخله ،يحمل ً
والقهر والظلم.
قطع �أفكاره من نف�سه بينما يتابع عمله قبل �أن يك�شف �أحد تهكريه
ع
ملعلومات فهمي وقال ب�صوت جاف« :يبدو �أنهم و�صلوا لبع�ض احلقائق
والتوزي ر
يعني �أن عمر �أ�صبح مك�شو ًفا بالكامل لهم حتى �إن تخل�صنا من فهمي َومنْ
ع
معه �سيظل هناك من يتبعه ممن هم �أ�شد خطورة».
َع َّم ال�صمت القامت بظالله على ر�ؤو�س ثالثتهم ،بينما يوا�صل عمر
جمع املعلومات دون �أن ينب�س ببنت �شفة ،انتهى من تخزينها على الفال�شة
الأخرية وناولها ل�سائد ب�صمت ثم �أغلق احلا�سب بهدوء وقال�« :أعتقد �إىل
هنا انتهى دور هذا اجلهاز».
فريو�سا مدم ًرا
ً �أوم�أ �سائد مواف ًقا ف�أخرج عمر فال�شة �أخرى حتوي
لقاعدة البيانات� ،أدخله يف اجلهاز وانتظر ب�صرب مبالمح مغلقة ،ثم وقف
بعدها متج ًها ناحية احلمام الداخلي ملقرهم متمت ًما ب�صوت خفي�ض:
متاما
«هذا �أ�ضمن للجميع يف الوقت احلايل� ،س�أ�ضعه حتت املياه لأتلفه ً
وي�صبح بعدها غري �صالح لأي ا�ستخدام لو و�صل له �أحدهم».
اختفى عمر ،بينما انهار ج�سد �سائد على املقعد وا�ض ًعا ر�أ�سه بني
متاما ،كيف انفلت الأمر من يده؟كفيه ،مل ي�ستطع التفكري وعقله متوقف ً
296
لقد كان يغطي عمر جيدً ا حتى اللحظة ،كان خمططهم الأول �أن ي�صلوا
متاما يف املواجهة الأخرية دون �ضرر
�إىل هذه النقطة وبعدها يبعد عمر ً
ُي ْذ َكر.
�ضاقت عي َنا �سائد ب�شدة ،وب�صره يقع على هاتف عمر الذي �أنار
لو�صول ر�سالة ن�صية ،مل ي�ستطع �أن يقاوم الأمر وهو ميد يده ميرر الرقم
ال�سري والذي يعرفه بطبيعة احلال بينهم.
«لقد ر�أيت ال�صغري لتوي ومل �أ�ستطع �أن �أنتظر جلعلك تراه� ،إنه تلك
ع
النقطة البي�ضاء ال�صغرية و�سط ذلك ال�سواد الذي يحيط ال�صورة التي
ر
q q qوالتوز عي
يوم�ض من دهليز عقله« :عمر يجب �أن يبقى للجميع ،يجب �أن يحقق حل ًما
ف�شل فيه هو ورمبا لن ينجح فيه حتى �إن �أراد».
مرت ليلة طويلة يرتقب ك ٌّل من �أفرادها اخلطر القادم املهدد ،ال
يعرف من �أين قد ت�أتيه ال�ضربة ،من �أين قد ي�أتي ق�ضا�ؤها املحتوم �إال َمنْ
يوما. َغ َّرته الدنيا باملال واجلاه و�سلطة مل تكن من حقه ً
اب َل َع َّل ُك ْم ا�ص َح َيا ٌة َيا �أُ ِول ْ أ
الَ ْل َب ِ «ميهل وال يهمل»َ « ،و َل ُك ْم ِف ا ْل ِق َ�ص ِ
َت َّت ُقونَ » ،وقف �سائد من نومته الق�صرية التي ق�ضاها على كنبة يف
غرفتهم التي �شاهدت رحلتهم الطويلة ،يف ق�صا�صه العادل ،يف �صرخته
التي �سيبذل �آخر قطرة يف دمه لت�صل ملجتمع ُي�صر على َ�ص ِّم �أذنيه وو�ضع
ه�ش من غ�شاء حريري على عينيه م�سترتًا خلفه ،حمتم ًيا خلف جدار ٍّ
الأمن والأمل الزائف.
297
«لقد حان الوقت ،يجب �أن �أبقى مع حماد خطوة بخطوة حتى ال يتهور
ويزيد جنونه».
قال عمر بت�شديد�« :ستذهب من الآن� ،إنهم كخفافي�ش الظالم
�صفقاتهم تتم ً
ليل».
لدي �شيء هام يجب �أن �أفعله قبل �أن
قال �سائد بغمو�ض�« :أعرف ولكن َّ
�أحترك ،كما �أن اليوم بالذات يجب �أن �أبقى بجانب حماد �أدعمه و�أ�سيطر
على عقله بطريقتي».
ص ع
«ح�س ًنا �إذن �إنه وقتنا جمي ًعا لن �أتركك� ،أعتقد �أنه حان وقت ظهوري».
ع والتوزي
زوجتك ،وال �أريد �أن �أرى وجهك �أو تت�صل بي حتى �آتي �أنا بنف�سي �إليكم».
خال من التعبري« :ما الذي يعنيه هذا؟ هل هذه قال عمر ب�صوت ٍ
حماولة لتنحيتي بعيدً ا لأجل�س مع الن�ساء؟!»
ا�ستدار �إليه �سائد بكليته هات ًفا بقوة �صارمة�« :أنا ال �أنحيك من �شيء،
ألتف حول الأمر ولكن ما حتاول دفع نف�سك �إليه �إن �أردت ابتعادك لن � َّ
جدا ،جولة الليلة هي جمرد حماولة جتريبية فم�ؤكد �أن فهمي لن مبكر ًّ
قدم
يجازف ويظهر فيها� ،أما عن مالحقتك فهذا �أكيد يجري الآن على ٍ
و�ساق ،وبيت �صفية يف الأحياء ال�شعبية و�سط �أبناء البلد على حق هو
حام،
املالذ املنا�سب لن�سائنا ،وبالطبع �أنت �ستكون متواجدً ا معهنَّ كجدار ٍ
حتى �أقرر �أن �أ�ضرب �ضربتي القاتلة والأخرية».
حترك �شيء ما بحلق عمر قبل �أن يقول بجمود �أجوف غري مقتنع:
«و�أنا قلت ال».
298
ا�شتعل �شيء ما يف عني �سائد� ،شي ًئا �أ�شد عم ًقا وقتامة ،ثم ا�ستدار
قائل بحزم�« :أنت ال متلك حق قول ال ،وال حتتاج �أن �أذكرك �أين �أنا�أخ ًريا ً
من يقرر دور كل واحد منكم يف تلك اللعبة».
مذهول« :لعبة! هل ت�سمي هدفناً �صوت عمر �أتى من خلفه هات ًفا بقوة
عاما لعبة؟!»
الذي �أخل�صنا له خم�سة ع�شر ً
انخف�ضت نربات �سائد و�أخذ يف ال�سكون اجلزئي قبل �أن يقول ب�صوت
أرواحا بريئة نحرقها بجحيم ما عانيناه خافت ب�سيط« :عندما ُن ْد ِخل فيها � ً
ع
ُت�صبح لعبة ،ونحن حكام غري من�صفني».
ع
معلمُ � ،أ�ش ُّم رائحة الغدر يف كالمه ،يبدو �أننا �أخط�أنا التقدير ،فاحليوان
ع والتوزي
ً
�صارخا ب�صوت جهوري فج�أة« :خيانة يا معلم ،خيانة مرة قال �سائد
�أخرى».
تال�شى تفكري حماد ورجاله كل ًّيا عندما �سمعوا �صوت «�سرينات»
�سيارات ال�شرطة التي ت�أتي من بعيد ،مقرتبة عليهم �شي ًئا ف�شي ًئا� ،صرخ
�سائد مرة �أخرى« :هي يا معلم ،دعنا نهرب من هنا».
�أخذ وجه حماد ينقلب بخطورة ،خطورة م�ؤذية �شر�سة كحيوان دموي
مل يذق طعم اللحم منذ �أعوام وخرج من �سباته �أخ ًريا ليتذوق بتلذذ،
ومتلكته يف تلك اللحظة رغبة جارفة وم�ؤملة يف االنتقام عندما �أخرج
«�سنجة» كبرية حادة وباترة من قاطعة من جنبه ،وهو يقول بنربة مظلمة:
«لي�س كل مرة �س�أهرب تار ًكا حقي و�أنا بيدي �س�أناله يف حلظات».
مل ي�سبق ل�سائد من قبل رغم كل ما ر�آه يف حياته� ،أن ر�أى جمزرة
�سريعة كالتي يراها حتدث �أمامه ،مل يقرتب ومل ي�شارك معهم ،بينما
300
يف �أقل من دقيقتني ،كان حماد ورجاله يهجمون على كب�ش الفداء الذي
دفاعا عن روحه. �أر�سله فهمي ً
أي�ضا و�سيوف حادة تلمع �أطرافها من �شدة ال�سنج وال�سكاكني بل � ً
جتهيزها ،تقطع يف �أج�ساد ه�ؤالء الدكاترة دون ذرة رحمة ب�صراخهم
املتعايل ،لطخت الدماء املكان واجلثث املتفرقة �أ�صبحت تعمي عينيه ،فلم
يعد يعرف َمنْ فيهم ُذ ِب َح ومن تلقى طعنات مبا�شرة نحو قلبه �أو �أع�ضائه
الب َكة الوا�سعة من الدماء التي �أ�صبحت
احليوية ،كل ما ا�ستوعبه تلك ِ ْ
تعوم بها �أ�شالء ب�شرية.
q q q
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ر ش
وجماعات -تفعل ما تفعل ،وترتك ما ترتك،ٍ و�إمنا الأمم � -أفرادًا
والتوز عي
ُحا�سب مبا
ُواجه مبا فعلت ،و�ست َيوما ما �ستقف �أمام ربها ،و�ست َ لكنها ً
تركت.
ُ ُ
ُ َّ َّ َ َ ً ُ ُّ َّ ُ ْ َ ََ
﴿وت َرى ك أم ٍة جاثِية ك أم ٍة تدع إىل ب�سم اهلل الرحمن الرحيم:
َ َ َْْ َ َُْ ْ َ َ ُ ُْ ْ َ ْ َ ُ َ
كِتابِها الوم تزون ما كنتم تعملون﴾.
q q q
وقف حماد ورجاله يلهثون من فرط جنون اللحظة قبل �أن يهتف
حماد به« :هل �ستظل �ضيف �شرف ُت�صورنا بعينيك �أم ماذا؟ هيا حترك،
ال�شرطة على �أبواب احلارة».
للحظة فقط تعلقت عينا �سائد على تلك الأرواح التي ُز ِه َقت ً
�سائل
روحا قد �أنهوها هنا بربود دون ذرة ندم �أو رحمة؟ ما بالك يا نف�سه كم ً
�سائد �أ�صبح الأمر ال يهزك وك�أن ما تراه ت�ستعيد حياتك التي ُ�س ِل َبت منك
ببطء عرب الق�ضاء على جميع �أ�شباحك؟!»
301
q q q
عندما ا�ست َّل فهمي هاتفه كان يتحرك بتعرث جمنون يف موقعه غري
البعيد عن ال�صفقة التي جتري ،هم�س �أحد رجاله يف �أذنه بعد ن�صف
�ساعة مبا جرى� ،صرخ بغ�ضب وحقد وجنون ،خيوط اللعبة تن�س ُّل من بني
يديه كاملاء اجلاري« :وابنتي� ،أين هي يا غبي؟ ال يهمني ما حدث له�ؤالء
القطيع».
�صرخها بلهاث جمنون ،بعينني حمراوين متوعدتني بالويل« :مل تكن
ريص ع
فخا كما خمنت �أنت». معهم ،مل يكن �أحد معهم ،لقد كان ًّ
ع
مهرول من ال�سيارة وهو يقول ب�شحوب« :و�صلتنا ر�سالة ً خرج �أحد �أعوانه
�أخرى م�صحوبة ب�صورة البنتك يا ري�س».
جتمدت الدماء يف عروق فهمي وهو يفتح امللف املر�سل من �إميل جمهول
الهوية ،انتف�ض داخله بذعر تلقائي ووجهه يتحول لب�شرة الأموات ،بينما
ي�صرخ امللف �أمامه ب�صور وم�ستندات �إن ُع ِر َفت �س ُيق�ضى عليه ال حمالة.
�أر�سل �إميل ت�صرخ حروفه بجنونه«َ :منْ �أنت؟ ويف �أي �شيء ت�سعى؟»
مرت دقيقة واثنتان وع�شرة قبل �أن ي�أتيه ات�صال من هاتف عالء
املختفي منذ �أ�سابيع� ،أتاه ال�صوت من �أعماق اجلحيم�« :أنا مر�سال
اجلحيم الذي �سي�أخذك معه».
قائل�« :أنت ال�شريك ال�سري ت�صاعد بقوة غ�ضبه متحدً ا مع غروره ً
لعبت مع ال�شخ�ص اخلط�أ ،ووعد مني لن مت َّر للغبي عمر النا�صر� ،أنت َ
نازعا �أح�شاءك».
ليلة �أخرى عليك �إال و�أنا مغرق يدي بدمك ً
302
قال �سائد بربود جليدي« :لقد فعلتها من قب ُل بزوجتي وطفلي ،فدعنا
فقط نتفق �أن من الغباء �أن تتخيل �أين �س�أمكنك من لدغي مرتني».
�صمت عن َق�صد ثم تابع ب�آتون الغ�ضب« :ولكن ال�صورة اجلميلة
لفتاتك املمددة على طاولتي ت�ؤكد �أنها من �سرتاق دما�ؤها هذه الليلة».
نظر فهمي حوله بعينني جمنونتني �صارختني« :ما الذي تريده؟ املال
و�أر�سلته اليكم».
بروده وغروره تعمله على ذكرى زوجته وطفله وك�أنه يرتفع عن الإجابة،
ص ع
منحه الهدوء ال�شديد ،وال�سكون الأ�شد وما الذي توقعه من تاجر نفو�س؟!
والتوز عي
رد �سائد بجليده املقت�ضب�« :أنتظر لقاءك هذا منذ زمن طويل� ،إن
كنت تخاف على ُ�س ْم َعتك وابنتك قابلني وحاول معي».
با�ستخفاف وازدراء قال فهمي« :وما الذي يجربين على هذا و�أنا قادر
على �أن �آتي بر�أ�سك حتت قدمي؟!»
قال �سائد بهدوء م�صطنع« :ابنتك وكل املعلومات التي بني يديك
مقابل نزال �أخري بيننا� ،ستكون الكلمة النهاية فيها قطع ر�أ�سك �أو ر�أ�سي».
زجمر فهمي بغ�ضب وال�صدمة تعمي ب�صريته�« :أيها ال�سافل ،وما
الذي يجربين على ما تتفوه به من غباء؟»
قال �سائد ب�صرامة« :كل ما �أُ ْه ِد َر من الدماء �أنت جل�شعك وحقارتك،
لأ�صل �إليك كي �آخذ ث�أري ،بب�ساطة �أنا لن �أ�س ِّلم نف�سي لل�شرطة بل هديف
علي وعلى �أعدائي و�س�أ�سلمهم كل �شيء هو �أن ت�أتي بكامل رغبتك� ،أو َّ
لديك بجانب �أح�شاء ابنتك».
303
�صرخ فهمي بينما ات�سعت فتحتا �أنفه وهو ينفث اللهب ،تو َّقف للحظة
ورجله يعر�ض �أمامه ا�سم و�صورة يعرفهم عن ظهر قلب� ،صورة �أوقدت
النار املجنونة بداخله ،ومتنى لو كانت �أمامه الآن ليمزقها حية.
«العاهرة» ،غلطته الوحيدة �أنه تركها على قيد احلياة.
«�أنت متزوج من العاهرة بنت غ�سان هي من دفعتك نحوي».
برقت عينا �سائد بقوة جمنونة وفلتت �أع�صابه حلظة وهو يقول من
بني �أ�سنانه بوعد مهما كلفه لن يخلفه �أبدً ا�« :س�أحرق ل�سانك� ،صدقني
و ش
لت�صل �إر َّن
�ساعات القاد�ًراأكرث».على �شيء افعله� ،أما �أنا �س�الآتيتوبك يا ع
قبل �أن يقطعها بنف�سه وهو يقول بغرور م�ستفز: بتع�صب �ضحك فهمي
زي�سائد
يل وهذا ما لن تناله، هذا «يبدو �أنك تتكلم فقط ،التففت كل
�أ�سماء لديك �إن كنت
العو�ضي خالل
«الغبي فقط من يعتقد نف�سه �أذكى الب�شر يا فهمي النجار ،و�أنا انتظر
منك مكاملة �أخرى خالل ال�ست �ساعات القادمة� ،إما �أن ت�أتي بر�أ�سي �أو
تكون مطي ًعا وت�أتي ملقابلتي يف وكر حماد القدمي ،و�إال �سي�صل خرب وقوعك
لأ�سيادك قبل ال�شرطة ،وبالطبع �أنت تعلم نهاية �أن ُت ْك َ�ش َف ح�شرة مثلك
لديهم».
q q q
بعد وقت طويل كان يتجول يف ال�شارع كما عاداته القدمية ،ينظر لكل
يوما �أو �سرته من برد �شتاء قار�ص كاد �أن يقتله
زقاق ،لكل ج�سر �آواه ً
304
بردًا ،ليقوم هو و�أقرانه ب�إ�شعال نار لن ت�ؤثر ب�شيء ولكنهم كانوا يتم�سكون
بالوهم والقوة ،تاركني �أمرهم �إىل اهلل بالفطرة.
وقف �سائد �أمام حي زوجة عمر يلتقط �أنفا�سه ،ينظر لنور الفجر
الذي بد�أ يف االنبالج هُ وي ًنا هُ وي ًنا ك�أنه ُيخربه �أن �شعلة احلق التي �أق�سم
�صارخا �أو�شكت على الظهور كما �شم�س ال�صباح التي ً يوما
�أن يحملها ً
ُت�صر على الوالدة كل يوم بعد �أن يغتالها ظالم الليل الطويل.
�أخرج هاتفه بهدوء ينظر �إىل مواقع الأخبار املحلية نظرة فارغة
ع
جامدة خالية من �أي �شعور ،مرت عيناه على ال�سطور فلم ي�شعر ال بالت�شفي
ع
يدي».
ع والتوزي
كل �شيء �سيتم الليلة».
قال �إبراهيم« :هل و�صلك خرب حماد؟»
«نعم ،ر�أيته الآن� ،صف يل كيف حدث؟»
قال �إبراهيم بتوتر وا�ص ًفا ب�شاعة ما ر�آه« :بعد �أن �أخذه رجله وف َّرا م ًعا
بتلك ال�سيارة دون �أن يتوقف لك �أو لباقي رجالهم� ،ساد الهرج بينهم مع
�صوت �سيارة ال�شرطة التي جئت بها �أنا و�شريف كما اتفقنا معك م�سب ًقا».
قاطعه �سائد بخ�شونة�« :إبراهيم �أعرف ما تقوله كنت هناك ،ماذا
حدث بعدها؟»
متالك نف�سه قبل �أن يجيبه�« :أعني تابعتهم من بعيد ،بعد �أن دخال
يف طريق �صحراوي خميف وبعد دقائق قليلة من �شجار يبدو �أنه حدث
بينهما ُف ِت َح باب ال�سيارة ليهبط منه ذلك ال�شاب ويلقي بج�سد حماد
اجلريح والذي يبدو �أنه �أخذ �أكرث من طعنة».
306
�صمت �إبراهيم فحثه �سائد« :وبعدُ ،كيف و�صلت �إليه تلك احليوانات؟»
قال �إبراهيم بحرية« :ال �أعرف ،مل �أكد �أ�ستوعب ما يحدث ،وقررت
طلب ال�شرطة والإ�سعاف وان�صرفت ،ولكن يبدو �أنهم و�صلوا مت�أخرين
كما عادتهم ،وبعدها قر�أت اخلرب مثلك».
�صمت للحظة قبل �أن يقول ب�صوت مكتوم« :لقد متت مهاجمته و�أكله
ح ًّيا ،كما ُك ِت َب يف تفا�صيل اخلرب».
ثقيل م�شب ًعا بهواء الفجر النظيف ،ثم ما نف�سا �آخر عمي ًقا ً
�أخذ �سائد ً
ص ع
لبث �أن قال بب�ساطة« :الأمر كان �أ�سهل مما توقعت ،رجله هذا كان يدافع
والتوز عي
قال �سائد بتهكم« :بالطبع ال ،لن �أك�شف نف�سي لأحمق طامع مياثل
حماد وح�سان قذارة ،بل جمرد تالعب بالكالم واللعب على نقاط �ضعفه
الب�شرية الطامعة».
�صمت لربهة قبل �أن يقول بال اهتمام« :ب ِّل ْغ عن ال�سيارة �أنها ُ�س ِر َقت
منا ،يجب �أن يجدوه و ُيزَ ج يف ال�سجن ،كلب مثله �إن �أُ ْط ِلقَ يف ال�شارع لن
يكتفي مبجرد ع�ضة».
q q q
رفعت ر�أ�سها جمفل ًة عندما �شعرت بكيانه يحتل امل�ساحة ال�صغرية
لغرفة « ُق َ�ص ٍّي».
�سيطرت على رجفة قوية من احلاجة لأن تقف الآن راك�ضة �إىل ذراعيه
للت�أكد �أنه يقف �أمامها ،ال كما ظنت بالأم�س عندما �أتى عمر لي�صطحبها
يوما
�إىل هنا ب�إحلاح و�صرامة مل تقبل حتى املجادلة ،لن ت�ستطيع �أن تنكر ً
307
�أنه برغم كل احلرب التي ُط ِح َنت فيها معه غري �أن �سائد َم َّث َل لها �أما ًنا مل
جدا ،منذ �أن اكت�شفت حقيقة والدها املخزية منذ ت�شعر به لوقت طويل ًّ
�أن طعنها غ�سان الها�شمي باعرتاف قتلها حية حطم مثلها الأعلى و�صورة
الرجل املثايل والأب الرائع والطبيب الرحيم احلنون التي ظنت.
كان ي�سري نحوها مبا�شرة دون �أن مينحها الفر�صة لإبداء �أي رد فعل،
نظراتها �إليه كانت مرتبكة مهتزة ،و�صل �أمام الفرا�ش ال�ضيق ،جل�س على
حافته ومنحها ظهره الذي ت�ش َّنج عندما ملح بطرف عينيه كيف مللمت
ع
نف�سها بني ذراعيها ،بالت�ضامن مع �صوتها الذي خرج خافتًا مت�صل ًبا:
ر ش
والتوزي
حياتك �إىل الأبد».ِ �س�أختفي من
ع
قالت ب�صوت باهت �أظهر مدى كذب ادعائها« :ظننت �أنك ُقلت كل ما
لديك �آخر مرة يف مكتب �شقتك».
التفت �إليها بر�أ�سه ،ف�شحب وجهها على الفور عندما ر�أت يف عينيه
ال�سوداوين ذلك الأمل الأ�شبه بذلك الناجت عن طعنه ب�سكني متزام ًنا مع
خاطرك �أن �أبقى ح ًّيا، ِ طلبت لأجل
أنت ِ قوله بهدوء معاك�س ملا يعاين« :و� ِ
ظننتك �ستهللني لر�ؤيتي».
ِ
�أ�شاحت بوجهها بعيدً ا عنه قبل �أن تقول ب�ضياع �شارد« :ال تطلب من
ال�شاه �أن حتب ذابحها».
اقرتب منها يف ملح الب�صر يجذب وجهها ب�إ�صبعيه نحوه وقال بخ�شونة:
ميكنك �أن تكرهيني بني ليلة و�ضحاها». ِ «ولكنك حتبيني ،ال
ِ
نطقت ب�صعوبة من بني �أنامله املطبقة على فكها« :نعم ،وكم هذا
ي�شعرين باالحرتاق والقهر والظلم».
308
للحظات َع َّم �صمت ثقيل متوتر بينهما قبل �أن ترتخي �أ�صابعه
املت�شددة وا�ستبدلها بكفه التي َغ َّطت جانب وجهها وقال بهم�س حارق:
إليك �أبدً ا مرة �أخرى ،رمبا هذا
رجل لقتلته حتى ال يتطرق � ِ «لو كان القهر ً
أثقالك». عنك ً
بع�ضا من � ِ يخفف ِ
�أغلقت جفنيها لربهة وقالت ب�صوت �أج�ش م�شحون مب�شاعرها
امل�شو�شة« :ملاذا؟ هل �أحببتني فج�أة؟»
ع�صفت كالإع�صار
ِ أنت
ابتلع ريقه اجلاف ،قبل �أن يقول بهدوء« :رمبا � ِ
ع
قبلك �أحد قط».
بداخلي كما مل يفعل ِ
ر ش
والتوز عي
طريقك الذي بد�أت ،وام�سحني من ذاكرتك �إن جنوت».
رنني هاتفه املتوا�صل مل مينحه الفر�صة للحديث معها للتفاهم فرتكها
�أخ ًريا وهو يقف على قدميه وقال بهدوء ب�سيط« :ال تتحركي من هنا حتى
ويعلمك �أن الو�ضع �أ�صبح �آم ًنا و�إن مل يحدث �أرجو ِ
منك �أن ِ ي�أتي �إبراهيم
لهروبك من البلد ب�أكمله».
ِ تتبعي ترتيباتي
مل متحنه �شرف الإجابة فطرق بب�صره بعيدً ا عنها مبتعدً ا عنها
ج�سد ًّيا وفكر ًّيا ،منح كل م�شاعره جلانبه املتجمد املظلم� ،أخرج هاتفه
وكتب« :اجلب ابنة فهمي النجار وقابلني عند نقطتنا التالية».
�أتاه ات�صال �آخر ف�أجاب على الفور« :لديك دقيقة واحدة متنحني
�إجابتك».
�أتاه �صوت فهمي متمت ًما من بني �أ�سنانه�« :س�أ�شرب من دمائك
و�أقطعك �إىل الأ�شالء التي تتحدث عنها».
309
فقال �سائد ب�صوت فا�ض كراهية وا�شمئزا ًزا« :دعنا نرى من �سريق�ص
رق�صته الأخرية يا فهمي ،رق�صة املوت».
ثم �أ�ضاف باقت�ضاب و�إيجاز مدر ًكا �أن �أ ًّيا من مراقبي الهاتف الذي
ي�ستخدمه يحتاجون �إىل �أكرث من �ستني ثانية لتحديد موقعه�« :إذن �إن هذا
موعد بيننا �أنتظرك يف وكر حماد القدمي».
متخل�صا من ال�شريحة التي ك�سرها لأجزاء
ً �أغلق الهاتف �سري ًعا
�صغرية ،ثم �أتبعه ب�إغالق الهاتف ب�شكل نهائي وو�ضعه يف جيبه ،مل يلتفت
ص ع
«وداعا دجوى كوين بخري دائ ًما،
�إليها وهو يتحرك ناحية الباب ويخربهاً :
ص ع
والتف �إليها بكليته وغمرها بني ذراعيهمل يجبها بالكالم ،مل ي�ستطعَّ ،
ع
مل يتوقف مرة �أخرى ،مل ي�ستطع �أن ينظر �إليها وهي بهاتني العينني
ع
حولها ،انزلقت على احلائط ببطء حما ِو َل ًة ا�ستعادة نف�سها ،ت�ستعيد
كلماته يف عقلها قبل �أن ت�شهق بذعر متو�سل« :رباه� ،أنت نا�صر املظلومني
دت يف كتابك احلق �أن تعاقب املجرمني». َو َع َّ
q q q
تو�صل فهمي
ما حدث خالل دقائق كان �ضر ًبا من الت�سارع املجنونَّ ،
لهاتف عمر ،يطلبه مرا ًرا وتكرا ًرا بجنون� ،إبراهيم يدق عليه بتوا�صل
ينج من ر�سائله ،رفع �سائد عينني حمراوين م�ضطرب ،حتى �شريف مل ُ
بلون الدم لعمر وقال ب�شرا�سة حيوان ُج ِر َح �ساب ًقا على يد �صياد �أحمق ،مل
يعمل ح�سا ًبا لعودته يطالب ب�أكله ح ًّيا« :لقد حان الوقت� ،إىل هنا وانتهت
رحلتنا».
ات�سعت عينا عمر قبل �أن ت�شتعال بجنون انفجر يف حلظة ،وهو يرى
�سالحا نار ًّيا كا ًمتا لل�صوت وهو يقول بربود جاف مهددًا ً �سائد ُي ْخ ِرج
312
بخطر لن يرتاجع ع َّما ينتويه �أبدً ا�« :أنت �ستبقى معهنَّ ،و�أي خطوة منك
�أو حماولة للحاق بي� ،ستكون زوجتك �إحدى �ضحايا رجايل».
حتولت مالمح عمر لل�صدمة التامة ،بينما ي�شعر بج�سد رابحة الذي
اختب�أ وراءه ينتف�ض بذعر ،بينما يقول عمر بذهول« :هل هذا وقت مزاح
الآن؟! هل خدعك �أحد و�أخربك �أنك متلك ح�س فكاهة ما؟!»
�أ�شار �سائد ب�سالحه الذي ي�شهره يف وجه �أربعتهم وقال بنبزة حازمة
أرواحا بريئة يف �صفقتنا جدال �أو ً
ف�صال�« :أنت من �أدخلت � ً قاطعة ال تقبل ً
ص ع
رغم �أين حذرتك منذ �أن ملحت عيني تلك الأنثى خلفك؛ لذا ال ت ُل ْمني �إن
ر ش
�أغم�ض عمر عينيه بي�أ�س ،بينما �صمت �سائد ينظرومنالتفوقوزكتفعي
ظم�أي� ،أما �أنت كان هدفك �صحوة ملجتمع مات �ضمريه وحكومات تتغا�ضى
عن َق�صد ،و�أمتمت �أمرك على �أكمل وجه».
عمر
مينح رابحة نظرة خفيفة ثبتت على بطنها بغمو�ض جعلها حتاوط جنينها
بذعر جمهول ،رفع عينيه يبت�سم لوجهها ابت�سامة خفيفة يف عينيه وقال
ب�صوت �أج�ش مكر ًرا�« :أنت ت�ستحق فر�صة معها ،ال تكن �أنان ًّيا ،لن �أ�سمح
لك بارتكاب خط�أي الذي كررته مرتني».
قال عمر من بني �أنفا�سه بعنف مماثل لعنفه« :و�أنا لن �أ�سمح لك
يل� ،أنا ُك ِ�ش ْفتُ وانتهى الأمر� ،س�أخو�ض أم�س احلاجة �إ َّ
بتنحيتي و�أنت يف � ِّ
معك تلك اجلولة كما كنت دائ ًما� ،إما �أن ُيكتب لنا النجاة �سو ًّيا �أو »...
مل ي�ستطع عمر �أن يكمل جملته؛ �إذ ُ�ش َّلت جميع �أطرافه فج�أة وانهار
كجدار �ضخم على �أر�ضية ال�شقة الب�سيطة ،بينما �صرخت �صفية �أخ ًريا
314
بعنف فرمقها �سائد بنظرة ذئب مفرت�س جعلتها تندب خديها بخوف
و ُتلجم ل�سانها يف حلظة ،هرولت رابحة ناحية عمر �صارخة« :ماذا فعلت
يا جمنون؟»
انحنى �سائد نحو ج�سد عمر ُيبعد يدي رابحة عنه ،ثم �سحب منه
هاتفه ومفتاح �سيارته ،كل �شيء قد ي�ساعده على اللحاق به بينما يقول
بربود الذع« :اخر�سي يا امر�أة ،واعتني به جيدً ا لي�س هناك خطورة جمرد
�صاعقة كهربائية مرت يف ج�سده �ست�شله لبع�ض الوقت الذي �أحتاجه
ع
متاما عن هنا».
لأبتعد ً
ريص ع
ر�أ�سه على قدميها ،وحماته التي تلطم خديها متتمت بهم�س« :ما الذي
ع
امل�شرف عليه ببهوت« :منذ متى خرج؟»
�صي �سري ًعا« :رمبا ن�صف �ساعة على �أق�صى تقدير ،ولكنه يو ِقف رد ُق ٌّ
رجال خارج املنزل ،وقال� :إنه �سيفعل �أي �شيء حتى مينعك من الو�صول ً
�إليه».
اعتدل عمر برتنح ب�سيط وبدون تردد كان يفرد ذراعه يجذبها من
خلفه ليدفنها على �صدره يهم�س بجانب �أذنيها« :تعرفني �أين �أحببتك».
هزت ر�أ�سها مع ازدياد بكائها حدة ،ف�أكمل دون حرج ب�صوت هادئ
رزين« :و�أعرف �أين غبي وهو �أحمق ،ولكن يجب �أن �أحلق به ،لن �أ�سمح له
حام للآخر يوقفه عند �أي تهور �أحمق منه ،يحيده ب�أذية نف�سه ،كالنا درع ٍ
عن طريق الهالك».
رفعت عينيها الباكيتني �أخ ًريا حتيط وجهه بكفيها الدافئتني ،ثم
قالت بنربة رغم تهدجها ولكن واثقه ت�شع ح ًّبا وتفه ًما« :فقط تذكر �أين
316
�أحتاجك و�أنت هناك ،احفظ يل روحك ،لن �أ�ستطيع �أن �أعي�ش حلظة
�أخرى من بعدك يا حبيبي».
أنت قوية �أعرف هذا».ا�ست�سلم ليدها دون حرج وقال ب�صوت �أج�شِ �« :
ردت بب�ساطة« :بل �أنا من بعدك �أ�شبه بكائن ه�ش �ضعيف ال ميلك
حتى قوة ليدافع عن نف�سه ،ال تغرت يف ت�سلحي بالقوة للدفاع عن طفلك،
�أنا �أقوى بك».
مل ي�ستطع �أن يجيبها وقراره حم�سوم ل�صالح رفيق عمره منذ زمن
ص ع
ما�ض مل يعد حتى يذكر عدد �سنواته ،دون �أن مينحها �إجابة �شافية �أو ٍ
ش
ميت ل�شهوة �أو رغبة قط ،بل
ريص ع
مزلزل نازع كل ذرة ب�شرية � َّأل تربر لنف�سك ب�إقناع �أن جرميتك فقط
q q qوالتوزي
رحمة ً
ع
وعدل منا.
يف نف�س املكان ،وبنف�س �أجواء التخبط واخلوف الغريزي الذي يغذي
�شرايني من �أمامه من جمهول ال يفهم �أ�سبابه على حق ،ال يدرك حتى �إىل
�أين ينتهي ،رعب عا�شه هو وانهيار كل بادرة �أمل وذرة كرامة� ،شعور �أنه
ب�شري� ،إن�سان مثلهم ي�ستحق فر�صة وهم �أنهوه لأنهم قرروا فقط ،لأنهم
كانوا من القوة لتحديد م�صريه.
ورغم كل هذا كان فهمي ي�ستطيع �أن ي�سيطر عليه بقوة ج َّراح بارد
جليدي ُيحافظ على هدوئه ،متمكن من كل ع�صب يف ج�سده ،وقف �أمام
�سائد ب�سيطرة يت�أمله بتمعن ،يرمقه بنظرة غرور م�ستخفة ومهينة ،وك�أن
َمنْ �أمامه يهدده ومي�سك برقبة ابنته بني يديه ،ميثل يف فيلم �شديد
الهزلية.
318
�صرخت �أ�سماء �صرخة �صغرية مذعورة« :بابا� ،أنقذين يا بابا».
نظر فهمي حوله بعجز للحظات مدر ًكا �أنه يقف وحده كما طلب منه
هذا املجرم �ساب ًقا بعد �أن �أجاد �صنع الفخ ومراقبته ،وهو ا�ست�سلم للأمر
بعد �أن وازن ما يحدث يف عقله جيدً ا فوجد �أن كال اخليارين خ�سارة ،فلو
ا�ستعان بر�ؤ�سائه و�أخربهم �أن كل �شيء قد ُك ِ�ش َف فلن يرتددوا حلظة يف
قبل ،ولكنه قد يجد فر�صة ما اخلال�ص منه كما تخل�ص هو من غ�سان ً
يف مواجهة هذه احل�شرة ،ي�ساومه على ما يريد ،يهدده بابنة غ�سان التي
ع
علم �أنها كانت تعمل عنده ثم تزوجها ،لقد ظن �أنه جمرد انتقام �أحمق
ر ش
والتوز عي
زوجته وطفله ،ال يذكر �أنه ا�ستخدم ج�سد امر�أة من طبقة متلك ً
نفوذا
القذرات التي متلأ ال�شوارعمال ،دائ ًما يحر�ص على ا�ستخدام تلك ِ �أو ً
ليخل�ص املجتمع من �أعبائهن.
أخل�صك منه حبيبتي ،ال تخايف ،بابا هنا».
ِ «�س�
�شدد �سائد يديه حولها ،بينما ُي ْخ ِرج �سالحه من جيبه ،وفمه مال
بق�سوة ،بينما عينيه �أقل ما يقال عنها يف تلك اللحظة� :إنهما تفقدان �أي
�أثر للرحمة.
«ال�ضنى غايل يا فهمي �ألي�س كذلك؟ �إذن كيف يكون �شعورك �إن فقدت
و�س ِل ْب َت كرامتك؟»
طفلك ُ
ظل فهمي مكانه �صامتًا ال يتحرك ،مل يهتز بينما كانت عيناه �شديدة
الربود والغرور لدرجة تثري نفور الناظر �إليهما ،ثم ما لبث �أن قال ب�صوت
إالم ت�سعى خلف كل ما تفعله؟»جامد«َ :منْ �أنت؟ و� َ
319
قال �سائد ب�صوت حاد كال�سيف امل�صقول« :دمك ،كما �سال دم زوجتي
وطفلي ظل ًما».
حترك فهمي مقدار خطوة منه وهو يقول بربود�« :أنا حتى ال �أتذكر
عن من تتحدث ،وكل ما تقوله كذب ،جمرد جمرم جبان يتخفى وراء
ج�سد طفلة».
كانت �أ�سماء ترتعد رع ًبا وذع ًرا حتى �شعر بابتالل ج�سد الفتاة بني
ذراعيه ،مل تهتز مالحمه ومل يفقد ذرة تعقله رغم الوح�ش الكامن
ع
بداخله ،ذلك الذئب القابع فيه ويز�أر مطال ًبا بالهجوم والق�صا�ص ،هز
والتوزي
يوما ،ومل �أهرب من مواجهة و�إال كنت ق�ضيت الأو�صال« :مل �أكن جبا ًنا ً
ع
عليك بطلقة واحدة ال تعرف حتى من �أين �أتت».
قطع كالمه وهو يقول ب�أمر حادُ « :م ِر ابنتك تهرب من هنا قبل �أن
�أُرديها معك».
تردد فهمي للحظات ،فلم مينحه �سائد فر�صة للتفكري وهو ي�أمره
ب�صوت كاجلليد�« :أنت ل�ست يف موقف قوي هنا لتفكر ،ق ِّرر �إما �أنت �أو
ابنتك».
�صرخ فهمي بخوار جمنون�« :أمل ت�سمعي؟ ارك�ضي من هنا و�إال
عاقبتك».
ِ
ترددت الطفلة املنهارة برعبها بينما تتو�سله بنربة �ضعيفة مل ت�ستوعب
ما يجري حولها ،حاول �سائد �أن يحجم جحيم عينيه وقلبه عنها ،عن
وجهها الرقيق امل�صدوم غري امل�ستوعب وغري املدرك �إال �أنها �ستفقد
320
�أباها ،فذكره بوجه �أخرى عا�شت �صدمتها وانهار جدار حمايتها وفقدت
فيه مثالها املقد�س مثل كل فتاة.
ارمتت �أ�سماء يف ح�ضن �أبيها للحظات قبل �أن يبعدها فهمي و�أمرها
ب�شرا�سة« :اهربي من هنا».
قالت بطفولية�« :س�أذهب لل�شرطة يا بابا».
رك�ضت م�سرعة بينما عرفت ال�ضحكة �أخ ًريا حنجرة �سائد فخرجت
�ساخرة مت�شفية وهو يقول« :ال�شرطة! �صغريتك الربيئة� ،أت�ساءل ما
ريص ع
جرميتها هي و�أمها لينتميا حلقري جمرم مثلك؟!»
فخرجعي
«ح�س ًنا وبع ُد لآخر مرة �أ�س�ألك ما الذي تريده؟ جرذان وماتا».
�صوتها
مدو ًيا و ُمرع ًبا جعل فهمي �أخ ًريا ي�صرخ وهو ينتف�ض من مكانه يحاول
الوقوف دون �أن يجد ثباته مرة �أخرى ،بينما قال �سائد ب�صوت جامد
خميف« :روحك بالطبع فعلت كل هذا لأرى الرعب يف عينيك ،الذل فيهما
و�أنت تتمزق �أ�شال ًء حتت قدمي ،حلم لطاملا داعب �صحوي ومنامي».
تراجع فهمي للخلف بوجه �شاحب مالحمه تر�سم الرهبة ب�أب�شع �صورة
وهو يقول« :ت ًّبا لك َمنْ �أنت؟ �أنا حتى ال �أتذكر ما تتحدث عنه».
مل ي�شعر �سائد ب�شيء ال الزمان وال املكان وال حتى �شريف الذي حترك
ً
حماوطا املكان حوله ي�صرخ فيه �آم ًرا ب�سطوة جبارة« :اخف�ض �أخ ًريا
�سالحك يا �سائد دورك انتهى �إىل هنا ،وح�صلنا على كل الأدلة».
321
مل يتحرك �أمنلة واحدة ،مالحمه َب َدت مرعبة �أكرث ،زادت عيناه
إجراما ،خرج �صوته مدو ًيا بنربة �أ�شد �سطوة« :من الأحمق الذي
خطورة و� ً
�أخربك �أين �س�أ�صل لهذه النقطة ثم �أتخلى عنها؟ دم فهمي �س ُيهدر هنا،
�أو دمي �أنا كما وعدته».
قائل بقوة« :وعدت � َّأل تلوث يدك بالدماء، هتف �صوت �إبراهيم ً
يكفيك ما �أهدرته من عمرك ،لن تذهب حلبل امل�شنقة من �أجل كلب
عدمي الرحمة».
ع
�إال �أن �سائد َب َدا كمن فقد ال�سمع وال�شعور وانتقل �إىل عامل يخ�صه
ت
حماطا باحلقد والن�شوة ،بالقوة وال�سادية وهو يراقب مالمح وحده،
ر ش
والتوزي
تخطيط ،التقت عيناهما �أخ ًريا مرة �أخرى ،اقرتب منه �سائد مع حر�صه
ع
�أن يكون على ُبعد خم�سني مرتًا فقط ،ثم قال« :جرذان! هل تنظر لنا
على �أننا جمرد زواحف قار�ضة �ضارة ُتخ ِّل�ص املجتمع منها ،هل و�أنت
تغت�صبها كنت تراها بهذا ال�شكل؟ �أم حيوان قذر مثلك ال تفرق معه �إن
كان يعا�شر ً
جرذا �أم حتى جمرد كلب يف ال�شارع؟!»
�أخذ فهمي يق ِّلب عينيه يف اجلمع املحيط و�أنفا�سه تلهث بتح�شرج،
عيناه تت�سعان حتى ظهر ب�ؤب�ؤهما كمن غادرت روحه ج�سده ،بينما تابع
�سائد بنربة بد�أت ت�أخذ روحه حل�ضي�ض ما ر�آه« :طفلتي التي حميتها من
كالب ال�شارع ،وطفل و�ضعت فيه كل �أملي �أن �أحيا مثلكم ،ف�أتيت �أنت
وغ�سان الها�شمي لتقررا �أنهما جمرد حفنة من مالكم العفن ،ثم لتزيد
�أنت ذبحي تقرر �أن ت�سرق كرامتها وعزتها التي منحتهم �أنا �إياها».
قال فهمي وهو يعتدل �أخ ًريا ب�صوت خ�شن كريه دون مزيد من
التفكري« :الآن فقط تذكرتك وتذكرتها؛ ع�سلية العينني ،الف�ضولية ذات
322
البطن املنتفخ مبزيد من احليوانات ال�ضارية مثلكم ،لطاملا ت�ساءلت هل
هي حتى تعلم من هو امل�سئول عن هذا الطفل �أم جتهله من كرثة عددهم؟
قليل يف تقدير تلك الع»... �أرى �أنك تبالغ ً
طلقة �أخرى �أ�صابت �ساقه مبا�شر ًة َف َخا َر على الأر�ض مث ًريا الأتربة من
حوله ،بينما �ساد الهرج من حول �سائد مرة �أخرى و�شريف ي�صرخ فيه
مكر ًرا �أمره بحدة�« :س ِّلم نف�سك يا �سائد و�إال �س�أتعامل معك».
�سالحا ي�صوبه بدقه ناحية قلب فهمي
مل يلتفت ومل يفكر وهو يرفع ً
ص ع
الذي يتل َّوى � ً
أر�ضا بجراحه« ،توقف يا �سائد ،مل نتفق �أن تلوث يدك بدمائه
323
هنا فقط �أدرك فهمي خل�سارته كل �شيء مع �أمل �ساقه الذي ال يرحم
و�أع�ضائه التي حترتق وتتفتت ك�ألف و�ألف طعنة �سكني حادة ت�ضربه يف
الثانية الواحدة ،لقد كان يحرتق ،بح�سبة ب�سيطة �أدرك �أنه ال حمالة ُم ْنت ٍَه
ذليل وخا�س ًرا �شرفه وا�سمه و�شهرته ،كل �شيء دون بادرة �أمل �أراد املوت، ً
ولكن لي�س قبل �أن ي�أخذ هذين القذرين معه� ،أتاهم �صوت فهمي �أخ ًريا
من وراء ظهورهم وهو يقول ب�ضحكة م�ستفزة خائبة« :عر�ض هائل �أ�سفلت
علي �أنا ،هل ي�ؤملك �أين �شرفت تلك العاهرة مب�ضاجعتها ،ال الطرق يتعازم َّ
ع
�أذكر �أنها كانت م�ستاءة؟!»
ا و
كانل ملم�س كليتيه جنينك،ركم
و ت
ال�صغريتني ممت ًعا ،وقلبه ال�صغري الذي نب�ض بني يدي مينحزيع
مل يتوقف فهمي وهو يقول
�أن يقف ً
حائل بينهما« :طفلك تق�صد
�شعور
االنت�شاء واللذة و�أنا �أق�ضي على �صر�صور �سيزعجنا �إن �سمحتُ له
باحلياة ،بينما �أمنح كنوزه لأ�سياده وملن ي�ستحق!»
�ساد التوتر ال�شديد عقب كلمات فهمي املنتحرة ،بينما كل ع�ضلة
مت�شددة يف وجوه ثالثتهم؛ �إبراهيم وعمر و�شريف ،نطق �إبراهيم
ب�صالبة« :اتركه يا �سائد يحاول ا�ستفزازك �أنت بهذا �ستمنحه ر�صا�صة
الرحمة بدل �أن ترتك م�صريه مع الق�ضاء لينال ما ي�ستحقه».
�سحب �سائد الزناد وبعينني �شديدتا ال�سواد مرعبة وقال مبالمح
�صلبة�« :أتركه للق�ضاء �سني ًنا و� ً
أعواما يتنعم بهواء الدنيا حتى ُي َب َّت يف
خمرجا ،ال ،لن يحدث».
ً �أمره �أو حتى يجد له ر�ؤ�سا�ؤه
324
َع َّمت رائحة املوت واخلراب يف حلظة ،بينما الدنيا تظلم �أكرث و�أكرث
دام�سا يف عينيه ال يب�صر �صورة منهم �إال
ظالما ً من حولهم حتى �صار ً
�صور فهمي الذي يقف الأحمق عمر ً
حائل بينهما.
«ومن �أجل خاطري ،ابقَ ح ًّيا» ،ال يعلم من �أين �أتى �صوتها الناعم
يهم�س خلالياه ،بينما يتبعه هم�سها املقهور حتكي عن العذاب والذل الذي
ر�أته على يد من �أمامه ،ف�أ�صبح جرمه جرمني وموته خال�ص واجب لن
ي�ستطيع �أن يتحرر منه.
ص ع
«�أخطر الأ�صدقاء من ي�أتي يف موقف كارثي جمنون كهذا ليمنعك من
والتوز عي
حماول منعه ب�إ�صرار ،بينما �صوت �إبراهيم و�شريف يهدر به يكرر ً �أمامه
الأمر ،ا�ستند فهمي على �سيارته وهو يحرتق ذات ًّيا بعذاب ،ب�سبب مادة
«الرثميت» احلارقة والتي جتعله ي�شتعل داخل ًّيا ك�أنه �أُ ْل ِقي يف بركان هائج
بحممه املن�صهرة والتي ا�ستخدمها �سائد بق�صد يف نوع الر�صا�ص الذي
جهزه ل�ضرب فهمي».
ب�صوت ميت قال �سائد« :للمرة الأخرية ابتعد يا عمر ،بدل �أن اقرتب
منه لأقتله و�أحرق نف�سي معه».
فتح عمر فمه ينتوي �أن يقول �شي ًئا ولكنه مل ُ ْينح الفر�صة ،عندما
جحظت عيناه بتو�سع م�صدوم وحتول وجهه كلوح رخام �أبي�ض هاربة منه
كل نقطة دماء بالرتافق مع �صوت ر�صا�صة الغدر.
«عمر!» عواء �صوت �سائد ك�أنه �صوت ذئب حقيقي ينعى رفاقه يف ليلة
غاب القمر فيها فغدر بهم على حني ِغ َّرة.
325
خ َّر ج�سد عمر يف ثوان �صري ًعا بينه وبني فهمي الذي كان يقف ن�صف
م�ستقيم مبالمح باردة وعينني تنف�سان �شر ًرا كعيني التم�ساح الذي ظفر
بفري�سته للتو بعد �أن جنح يف �إغوائها.
كان �سائد يلهث بفقدان �سيطرة ،مل يدرك �أن دموعه تهبط وقد �أعطى
�شريف �أخ ًريا �إ�شارة لرجاله للهجوم فقط ،رفع �سالحه يركز على هدفه
ودوى �صوت ر�صا�صه �أخ ًريا يف �صدر فهمي النجار مبا�شرة ً
مفرغا فيه
ثالث طلقات متتالية».
ريص ع
ثم هبط �أخ ًريا على ركبتيه جا ًّرا ر�أ�س عمر على �صدره راف ًعا وجهه
ع والتوزي
كان يئن دون حرج ،دموعه تهبط دون �أن يحاول �أن مينعها يكرر
بجنون وهذيان�« :إال �أنت� ،أنا مل �أملك � ً
أهل وال �سندً ا �إالك ،ملاذا يا غبي؟»
مل يلتفت �أحدهم �إىل فهمي الذي كان ج�سده كله يحرتق� ،أنفا�سه
وحنجرته �أع�ضا�ؤه الداخلية تنفجر ل�شظايا �صغرية عرب هذا الر�صا�ص
احلارق الذي يتفتت ،فمه تخرج منه غرغرة املوت دون �أن يطوله ي�شعر
بال�سكاكني واخلناجر تطعن فيه ح ًّيا دون �أداة حقيقية ،حمم النار ت�صهره
ال�سعري دون �أن يفقد �أنفا�سه
بدخان غري مرئي وك�أنه ذهب جلهنم وبئ�س َّ
بعدُ.
�شهقات �سائد املتتالية ك�أنه عاد ً
طفل �صغ ًريا مذعو ًرا ُخ ِط َف من �أمام
بيته و�أدرك هول ما �أُ ْل ِق َي فيه للتو جعلت تلك اجلدران وكتلة الع�ضالت
من احلنان امل�سمى �إبراهيم يربك �أمامه يبكي دون �صوت ال ي�صدق هول
املوقف ،بينما ظل �شريف يخبط ر�أ�سه يف جدار �سيارة ال�شرطة بعذاب
326
يهم�س« :ملاذا ق�ضيتما على كل ما بنيناه وخاطرت �أنا فيه من �أجل
ق�ضيتكم؟»
«�أقبح ما يف �سالح االنتقام �أن ينقلب �ضدك ،فال حتقق غايتك �إال
بفاجعة تخ�سر فيها �آخر ما تبقى من روحك».
q q q
نهاية العامل �أن ميوت كل جميل� ،أن ن�صحو كل �صباح وال جند احلبيب،
نهاية العامل �أن تفارقنا روح كانت تتوق للخال�ص حلياة جديدة لأمل حللم،
ريص ع
�أن تعي�ش بكرامة� ،أن تطال ما �سلب منها بغري حق ،من قال� :إن املفقود
ص ع
كان هذا �آخر ما نطقته رابحة قبل �أن ت�سقط بني �أيديهم يف �إغماء ال
328
طويل قبل �أن تقول دجوى ب�سخرية مريرة« :نعم ،اليوم �ساد ال�صمت ً
هو نطق احلكم على ذئب الليل قاتل �أطباء الرحمة يف ق�ضية الع�صر
ال�ضخمة ،بعد كل ما قدمه لهم بعد كل هذه الأدلة ما زالوا يتكتمون على
�صرخة فار�سينا م�صرين �أن �سائد هو قاتل الع�صر!»
«من �أقبح �أنواع اال�ستبداد :ا�ستبداد املال على العدل ،وال�سيا�سة على
رقاب الب�شر ،والأمان املزعوم على �أج�ساد ال�ضعفاء».
اال�ستبداد يقيد احلقائق يف الأذهان ،ينكر حق الفقري ل�صالح جهة ال
ع
�أحد يعلم حتى من هي».
تمت
329
o الخاتمة
عند الإغريق �أ�سطورة تقول� :إن «�شا ًّبا» حب�سوه يف �إحدى «املتاهات»،
خيطا ً
طويل يرتكه وراءه يتدىل لعلها ولكن حبيبته قد و�ضعت يف جيبه ً
ب ك
«اخليطتالهادي» دخل التاريخ حتت ا�سم «خيط �أريان»
الذي يهدي من بال�سجن �إىل ل
حبيبته الفتاة.
331
َف َق َد �شريف ال�سيطرة وبركان غ�ضب مكبوت عرب �شهور طويلة من
جمع الأدلة ومن ال�سري وراء كل خيط جلمعها ،من تل ِّقي ال�صدمات من
ه�ؤالء الذين يعتربون �أنف�سهم «�آلهة» حتكم باملوت واحلياة على من تريد،
ومن ينال عندها مرتبة ب�شرية َومنْ منهم ينظرون �إليهم نظرة عدمية
الرحمة؛ في�شحذون �أ�سنانهم كا�شفني عن خ�سة نفو�سهم ،وهتف بتعب:
لدي و�أدليت ب�شهادتي� ،إنه مل يقتل وه�ؤالء مل يكونوا
«لقد قدمت كل ما َّ
مثال للرحمة وهم عار على مهنة ينتمون �إليها ،لقد اتخذوا من �أ�سمائهم ً
ع
ومهنتهم �ستا ًرا م�شني لتجارة املوت».
والتوزي ر
ع
التفت �إليه �شريف يخربه من بني �أ�سنانه« :ومل يعرتف ،فاملتهم �صامت
متاما ،مل يعلق على �شيء منذ حدوث تلك املهزلة». ً
�صمت لربهة قبل �أن يخبط على املن�صة �أمامه ويتابع بانفالت« :و�إن
كان قتله حتى ،هل تريد �أن تقول� :إن العامل �سيت�أثر مبوت كلب مثل فهمي
وحماد والبقية؟!»
عاد القا�ضي يخربهم« :هدوء و�إال �س�أكون جم ًربا �أن �أتهمك بعدم
احرتام حمكمتي يا �سيادة املقدم».
عم ال�صمت التام بعد حالة الهياج التي كانت� ،شريف ينفث اللهب،
ال�صحافة متحفزة لأي خرب جديد َتغ ِْزل منه حكايات وروايات كذ ًبا
و�صد ًقا حتى حتقق �أعلى �إيرادات ،لي�س مه ًّما من الظامل ومن املظلوم،
من ال�صادق ومن امل َّدعي ،طاملا تلك الق�ضية م�ستمرة وي�ستطيعون كتابة
العديد من املقاالت من مكاتبهم املكيفة وبنهاية كل مقال كم كلمة منددة
332
بال�سيا�سة وحاالت الفقراء ،و�آخر الليل يذهب لينام ببال مرتاح يف منزله
وبني �أوالده ،نا�س ًيا �أو متنا�س ًيا بل ال يخطر بباله من الأ�سا�س حفنة من
وجوعا �أو حتى حتت م�شارط مالئكة الرحمة!الب�شر متوت بردًا ً
اقرتب �إبراهيم من �سائد الذي يقف داخل القف�ص احلديدي يهتف
فيه بت�شدد« :تكلم ،قل �أي �شيء ،دافع عن نف�سك� ،أطلق �صرختك التي
كنت تت�شدق بها».
ما زالت حالة ال�صمت امل�صاحبة للتحفز ونظرة �ضباع جائعة وجدت
ص ع
جدا كانتفري�ستها هي ما يرت�سم فوق وجوه كل احلا�ضرين ،لوقت طويل ًّ
وداُ،لتوماذا قد يخ�سر
و ر
بعد لعبة كان ُم ِقد ًما عليها بروحه وللأ�سف جنا ،كان يعلم �أنه �زإذايع
منه �شيء».
بينما �سائد يراقبهم ب�صرب مل ينفذ منه خيوطه بع
حتدث
الآن �سينال التكذيب وعدم الت�صديق واملحاربة؛ لذا َ�ص َم َت حتى يجذب
متاما بالتعاون مع �شريف قرر �أكرب عدد ممكنِ ،وف الوقت املتفق عليه ً
�أن يتحدث �أخ ًريا ملق ًيا مبا يف جعبته ،فخرج �صوته �صل ًبا باردًا قا�س ًيا:
«�سيادة وكيل النيابة عندما علم بخلفيتي احلقيقية عاملني كمجرم ،ومل
ي�شفع يل �سجلي التجاري النظيف وال حتى هويتي الأجنبية ،فبالنهاية
�أ�صويل طفل �شارع جمهول الن�سب».
هتف وكيل النيابة بت�صلب�« :أعرت�ض �سيدي الرئي�س ،ها نحن بد�أنا يف
حماولة �إلقاء التهم».
نطق القا�ضي ب�صوت جهوري« :اعرتا�ض مرفو�ض ،فليكمل املتهم».
333
�أكمل �سائد بنف�س ال�صوت« :وال�صحافة مل تنتظر ف�أغرقت البالد
قتل واحدة؛ �أ�صبحت وبدل من تهمة ٍ ب ُت َهم حتى مل تخرج من النيابة نف�سها ً
�أنا �سفاح الع�صر ومطارد الأطباء ،قاتل معاطف الرحمة».
«�إذن �أنت حتاول �أن تنفي �أي تهمة موجهة �إليك».
هز �سائد ر�أ�سه مبت�س ًما ب�سخرية وقال« :ال ،ال �أنفي �شي ًئا وال �أعرتف
ب�شيء وال حتى حكم اليوم يفرق معي ،بل كل ما يهمني �أن تن�شر الأوراق
التي بني يديك كما هي دون ت�أويل �أو قلب للحقائق».
ص ع
�صمت وهو يراقب القا�ضي يق ِّلب ما بني يديه قبل �أن ي�صرخ بعلو
والتوزي ر
وجوعا يف تك ُّفوا عن الر�ؤيا من برجكم العايل وتتذكروا َمنْ ميوتون بردًا ً
ع
ال�شوارع� ،أن تتغري قوانينكم و ُت َن َّفذ قوانني الإعدام لكل من يحرق قلب �أُ ٍّم
ويدمر �أ�سرة بحرمانهم من �أطفالهم� ،أن يتذكر كل م�سئول منكم عندما
ليل �آم ًنا وداف ًئا� ،إن هناك ع�شرات الأُ َ�سر تعي�ش كالأموات ي�ضم طفله ً
وهم يجهلون م�صري �أطفالهم� ،إن هناك ُب ُطو ًنا ُت َف َّرغ من �أع�ضائها و ُتباع
من ِق َبل عدماء �ضمري ي�ستغلون نفوذهم ويبيعون هذه الأع�ضاء� ،إذا غاب
العدل� ،ساد الف�ساد وعم اخلراب ،و ُي�صبح العامل �ساحة للقتل و�إزهاق
الأرواح ،و ُتباع النفو�س ب�أبخ�س الأثمان».
«هل تعلم بكم ا�شرتى فهمي ر�أ�س جنيني يف �أح�شاء �أمه يا �سيادة
القا�ضي؟»
َق َّل َب القا�ضي الأوراق �أمامه بحرية وهو ي�ستمع للأقوال اجلديدة التي
تغري كل �شيء وتطيح بتلك الق�ضية من �أ�سا�سها لي�صبح لديه ق�ضية الع�صر
ح ًّقا ،مل ير َّد القا�ضي ب�شيء ،بينما َه َّم �سائد ب�إكمال حديثه اقتحمت �شابة
334
يف منت�صف الع�شرينات قاعة املحكمة وهي جتيب بت�صلب« :ا�شرتاه مبئة
دوالر� ،أما �أمه مل يدفع فيها حتى خم�سني دوال ًرا �سيادتك».
قب�ض �سائد على حديد القف�ص ب�شدة حتى َّ
ابي�ضت ُ�سالمياته بينما
بك �إىل هنا؟!»يهم�س ب َن َف ٍ�س مبهور« :دُجى ،يا غبية ما الذي �أتى ِ
�سمع القا�ضي ي�أمر اجلميع بالهدوء مرة �أخرى قبل �أن يقول ب�صوت
م�سيطر�« :أَ ْف�سحوا لل�شاهدة الطريق ،ماذا ِ
لديك؟ حتدثي».
تقدمت دجوى دون تردد وهي تزيح نظارتها عن عينيها لت�ضعها فوق
ص ع
�شعرها ،التفتت تنظر �إليه � ًأول فحب�ست �أنفا�سها ب�صعوبة حتى ال تنهار
ص ع
ت�صلب ج�سده وهو يبتعد عن يده �إبراهيم متاب ًعا كالمه وك�أنه مل ي�سمع
والتوزي ر
ي�ضم ع�شرة �أطفال نوفر لهم حياة �آدمية ،ونحميهم من الوحو�ش التي
ع
متتلئ بها الغابة».
قال �إبراهيم ب�صرب« :وهل برعايتك لع�شرة �أطفال �ستق�ضي على
م�شكلة الألف؟ تلك الق�ضية حتتاج مللف كامل ووعي �شعب وم�ؤ�س�سات
كاملة».
�سخر �سائد وهو يخربه�« :إذن ننتظر يوم ال�ساعة �أقرب!»
حترك �سائد وهو ينظر �أمامه للبعيد يقول بنربة باردة معتادة« :ابد�أ
بنف�سك ،و�إنقاذ ع�شرة �أف�ضل من تركهم ُيقْتلون ،نحن �سنقوم بكل ما
يف و�سعنا ،وعام وراء الآخر �سن�صبح قادرين على �إنقاذ الع�شرات ورمبا
الألوف ،ومن يعرف! رمبا يتحفز غرينا ويقلدنا ،وبدل �أن يهدر �أمواله يف
رعاية العب كرة �أو مطرب ،يرعى براعم وبتالت من التلوث».
قاطعه �إبراهيم ً
قائل« :يف ماذا تفكر حتديدً ا؟ ما تقوله �صعب».
336
قال �سائد بعينني تربقان ت�صمي ًما« :ال �شيء ت�سعى �إليه يكون �صع ًبا،
تلك امل�ؤ�س�سة �ستكون تكافلية اجتماعية� ،سنبد�أ ببناء ب�سيط ي�ستوعب
�أكرب عدد ممكن منهم ،وبعدها �سنفتح بع�ض الور�ش الب�سيطة ،وه�ؤالء
املراهقني والأطفال يعملون فيها ب�أنف�سهم ونحن �سنتوىل الت�سويق،
جزء �سيذهب لتكبري بيتهم هذا وجزء �سنوفره لهم حتى عندما ي�ش ُّبون
ويخرجون من هنا يجدون ما ي�ستطيعون مواجهة العامل به».
ت�س َّلل اخلوف لقلب �إبراهيم رغ ًما عنه وهو ي�س�أله بت�شكك« :هل تعتقد
�أننا ن�ستطيع؟»
ر ش
والتوز عي
تب َّدلت مالمح �إبراهيم وهو ي�صحح�« :إبراهيم� ،سائد �أنت يجب »...
نظر �إليه �سائد ب�صدمة للحظات ،ثم ما لبث �أن فرك وجهه بقوة
متمت ًما با�ستغفار وقال�« :آ�سف ،ل�ساين اعتاد على مناق�شة كل خططي
معه هو فقط».
«�أنت تفتقده؟!»
�ضحك �سائد بع�صبية وقال باخت�صار وكان تعبريه ي�شمل كل �شيء:
«�إنه �أخي ،قطعة مني ال تنف�صل منذ حميته منهم وجناين هو من املوت».
�أغم�ض عينيه للحظات يلتقط �أنفا�سه قبل �أن يتابع حديثه ال�سابق
بهدوء« :كما �أخربتك ،امل�شروع غري ربحي ولن ُت ْق َب َل فيه �أي تربعات �إال
من جهات موثوقة لن تطالبنا ب�أي �إعالنات ودعايا ي�أخذون من خلفها
�شهرة معينة ،وال م�شكلة يف بع�ض ال�شباب املتطوعني للم�ساعدة يف تهذيب
�أخالق ه�ؤالء املراهقني والأطفال».
337
قال �إبراهيم بحرية�« :إنه م�شروع اجتماعي �ضخم ويحتاج »...
هز �سائد كتفيه قبل �أن يقول بربود« :ال ت ُل ْمني �إن �أخربتك �أن املحتمع
عدل وال �إن�صا ًفا؛ لذا فليحرتق بظلمه ،كل همي ال يهمني� ،أنا مل �أر فيه ال ً
�أن �أجد �أكرب عدد ممكن من املالجئ له�ؤالء ال�صغار� ،أنت ال تعلم ماذا
تعني لنا بطانية دافئة يف قر�صة برد ال�شتاء وال جمرد ك�سرة عي�ش ياب�س
ت�سد جوعنا».
«لدي خرب
�ساد هدوء جزئي بينهما قبل �أن يقول �إبراهيم بانت�صارَّ :
ع
رمبا يبهجك».
والتوزي ر قال �سائد« :بالطبع� ،أنا ال �أن�سى �شي ًئا يف العادة».
ع
ب�سط �إبراهيم ك َّفه ُم ْظه ًرا �صورة ما وقال« :لقد قام �شريف بزيارتي
عدة مرات ب�سبب ق�ضيتك ،وبالطبع كان يرى الفتى ،باملنا�سبة ُي ْدعى
«مازن» ،ت�شكك يف �شكل الفتى ،وعندما �أخربته عن ق�صته عاد بعد
يومني يخربين بعدم ت�صديق �أن هذا الفتى طفل متغيب عن �أهله منذ
خم�سة �أعوام ُخ ِط َف من �أمام منزله وهو يف الرابعة ،والدته طبيبة ووالده
متاما
مهند�س وهو �صغريهم الوحيد ،كانت حياتهم مدمرة كل ًّيا ومتوقفة ً
ملدة خم�سة �أعوام كاملة».
مل ي�سبق �أبدً ا �أن ر�أى �إبراهيم �سائد بهذه اللهفة وهذا الف�ضول وهو
يتفح�ص ال�صورة العائلية للفتى و�س�أل« :وبعدها ماذا حدث؟ هل عاد
�إليهم؟»
قال �إبراهيم« :بالطبع عاد ،الأم من �أول ما ر�أته تعرفت عليه على
الفور ودون �أدنى تردد ،ولكن خيبات �أمل الأب الكثرية جعلته غري
338
م�صدق يتنازع ما بني �ضم الفتى �أو الإنكار فقام بفح�ص احلم�ض النووي
،DNAوت�أكد �أن الطفل بالفعل هو مازن».
قليل وهو ي�س�أله ب�شرود« :هل تعتقد �أن هناك بالفعلابت�سم �سائد ً
� ً
أمل� ،أن و�سط كل هذا الظالم والكوابي�س مكا ًنا للحلم؟»
دوما موجود و�أن
يوما ما �أن الأمل ًقال رفيقه بنربة واثقة�« :ستعرف ً
كلمة احلق مهما طال اال�ستبداد والقهر هي الباقية».
q q q
ع
�شهقتها الراف�ضة وهو يحيط َخ�صرها بذراعه ورفع الكف الأخرى يتخلل
ر ش
والتوزي
ولكنه مل ي�ستطع �أن يبتعد عنها دون �أن ي�ضمها ،انخف�ضت يده بعيدً ا عن
ع
�شعرها ورفعها ً
قليل.
دفع ج�سدها نحوه ليزيد التفافها داخل دائرته وهم�س« :ال تتهربي
أنت
أتركك ولكن لي�س ل�شيء �إال للعودة �إليكِ � ، من حديثنا الأ�سا�سي� ،س� ِ
نف�سك و�أن تختاري
ِ أنك ت�ستحقني موازنة برتكك ل ِ
ِ يل �أنثاي� ،س�أخاطر
إليك مطال ًبا يف املرة
عودتك يل تلك املرة ب�إرادتك ،ولكن عندما �أعود � ِ ِ
لك بالهرب �أو الرف�ض �أبدً ا مرة �أخرى». القادمة لن �أ�سمح ِ
�شاف لكلينا �ستن�ساين يف فرتة هم�ست�« :أنت تتوهم ،االبتعاد حل ٍ
ق�صرية».
�أراح جبهته على جبهتها ،ثم هم�س�« :إن مل يزدك البعد ع�ش ًقا ف�أنت
مل حتب من الأ�سا�س ،د َُجى»
q q q
340
�صي � ًأول و�ساعدها علىعندما ر�أته يدخل �إىل غرفتها بعد �أن دخل ُق ٌّ
�أن ت�ضع حجاب ر�أ�سها؛ توج�ست منه وحاولت �أن ُتف ِْه َم ُق�ص ًّيا بكل الطرق
�أن يجعل هذا الرجل يغادرهم ،كانت ت�شعر باحلقد واللوعة« ،كيف يجر�ؤ؟!
�أال ي�شعر باخلزي من نف�سه بعد �أن دمر حلمها وقتل حبيبها وقتلها معه؟!»
جتنب �سائد الق�سوة املطلة من عينيها وهو يقرتب منها وقال بتثاقل
�سفرك،
ِ �أمر معتاد« :ال�سفارة الأمريكية �ساعدتني ال�ستكمال كل �إجراءات
و�أنا قمت بالفعل باحلجز على طائرة اليوم».
ص ع
نظر �إىل �ساعته لربهة ثم عاد يخاطب عينيها الذاهلة وك�أنها تنظر
ل ل
راف�ضنوهي ت�سحب �إبريق ماء �ضخم
ش ب
نتحرك خالل �ساعة مل يتبقَّ �إال ثالث �ساعات على الطائرة».
تفادى �سائد ما رمته وهو يرفع عينيه بربود مت�أملها ،ثم ما لبث �أن
وولدك يف خطر ولن
ِ زوجك،
قال بب�ساطة« :اح�سبيها بالعقل ،هذه و�صية ِ
ي�صبح �آم ًنا �إال معي �أنا».
وقفت رابحة بحملها الثقيل ناوية على �أن ت�ستنجد بجميع الب�شر وتلفق
له م�صيبة تعدٍّ رمبا تتخل�ص منه للأبد ،فهز �سائد كتفيه بال مباالة وقال
بربودة جراح �إجنليزي« :ح�س ًنا كما توقعتِ � ،
أنت مل ترتكي يل فر�صة و�أنا
متعب وبالت�أكيد لن �أ�ضيع الوقت معك».
وقبل �أن تدرك معنى كالمه كان ُي ْخرج حقنة من معطفه ،جهزها يف
ثوان وقبل �أن تهرب خلارج الغرفة كان مي�سك بذراعها ويغر�سها يف ع�ضلة
341
ذراعها على الفور ،ظلت ت�صرخ ب�صوت مبحوح لدقائق حتى �شعرت بثقل
ر�أ�سها وترنح ج�سدها ،فتلقاها �سائد ب�صمت وحترك بها نحو اخلارج،
�أوقفه ُق ٌّ
�صي وهو يقول ب�شعور بالقلق والذنب�« :أال يوجد هناك حل �آخر؟
�أنا ما زلت ال �أ�ستطيع جعلك ت�أخذها».
نظر �سائد لوالدتها الباكية ،وهي تغرق وجه ابنتها بالبكاء تخربه
بح�شرجة« :انتبه �إليها� ،إن مل يخربين �أن �أثق بك مل �أكن �أوافقك».
�صي بنربة مريحة« :هو هز �سائد ر�أ�سه بتفهم ،ثم ما لبثت �أن قال ل ُق ٍّ
ر ش
والتوزي
ووالدتك �ست َُج َّهز خالل �أ�شهر قليلة وتلحقا بنا وتطمئن بنف�سك».
ع
�صي يطبع ُق ْبلة على ر�أ�س �أخته ،ثم ردد بي�أ�س م�صدوم« :ما
اقرتب ُق ٌّ
زلت ال �أ�صدق ما �سمعته خالل دقائق� ،أنا متحري هل �أفرح �أم �أبكى».
نف�سا عمي ًقا وقال« :املطلوب منك حال ًّيا احلزن التام،�أخذ �سائد ً
اال�ست�سالم للرثاء ،وعندما ت�أتي �إىل هناك افعل ما يحلو لك لن مينعك
�أحد».
وافقه ُق ٌّ
�صي قبل �أن يقول بقلق« :هل تلك املادة املخدرة �آمنة؟»
�أجابه �سائد بتلقائية« :تلك الرثثارة زوجة �إبراهيم بارعة يف عملها،
متاما على الأقل حتى �أ�ستطيع -مب�ساعدة �شريف
وقالت� :إن املادة �آمنة ً
و�أحد م�سئويل ت�أمني طفلها -و�ضعها على منت الطائرة».
�صي بتعجبَ ِ :
«ول هذا االهتمام كله مبجرد جنني؟!» �س�أل ُق ٌّ
342
فر َّد �سائد �ساخ ًرا« :يكفي �أنه يحمل اجلن�سية الأمريكية يا فتى حتى
يعامل ب�آدمية حتى وهو جمرد جنني حياته يف علم الغيب ،هذا ما ُي ْد َعىَ
بالكرامة الإن�سانية».
q q q
دخل �سائد غرفته داخل الفندق يف الواليات املتحدة التي و�صل �إليها
وتوجه �إىل
بعد طول �سفر ب�صحبتها ،وهو يخلع مالب�سه عند الباب بتعب َّ
�ساحما لعقله �أن ي�شرد يف قا�سية القلب التي رغم ً حمام الغرفة مبا�شر ًة
ص ع
�إنقاذها �إياه وتعري�ض نف�سها خلطر ال�سجن مل ت�سمح له بفر�صة للتكفري،
ر ش
والتوز عي
على الزجاج وهو ُي ْخ ِرج زف ًريا حا ًّرا وحار ًقا من �صدره متوعدً ا �إياها:
نف�سك والغرقِ لك بدفن لك باالبتعاد ،لن �أ�سمح ِ«�أبدً ا دجى ،لن �أ�سمح ِ
أنت امل�س�ؤولةنف�سك لدفع ثمن �أخطاء مل تكوين � ِ ِ برثاء الذات وب�إجبار
أنت يل و�أنا ال �أتخلى ع َّما هو يل مهماعنها� ،ساحميني عزيزتي ولكن � ِ
طال الزمن».
يلف بها َخ�صره َّ
الط ْر ُق احلاد املتعجل ،جعله يتناول من�شفة �سري ًعا ُّ
وتوجه �إىل الباب بقلق �أن تكون تلك امل�صيبة فعلت �شي ًئا ما بنف�سها ولذا َّ
جلئوا �إليه ،ت ًّبا لتلك احلمقاء �ست�سبب له نوبة قلبية ال حمالة ،ولكنه
عندما فتح الباب ا�ضطرب كل ًّيا و�صاعقة من امل�شاعر الإن�سانية القوية
هزته هزًّا ،م�شاعر �أخوية �سامية.
«هل �أكل القط ل�سانك؟ �ألن ترحب بي على الأقل؟» مل ي�ستطع �أن
يتجنب ما ي�شعر به وينكر �أنه ب�شر يخاف وي�شعر ويفتقد ،وبذعر انحنى
على الفور نحو الكر�سي املتحرك حمت�ض ًنا من يحتله بقوة ،وقال ب�صوت
343
تكف عن التهور؟ �أمل نتفق �أن تبقى �أج�ش خمتنق�« :أنت هنا يا �أحمق ،متى َّ
يف مكانك حتى ن�صل �إليك نحن غدً ا؟»
رفع رفيقه ذراعيه يحت�ضنه ح�ض ًنا رجول ًّيا قو ًّيا وقال بنربة �ساخرة
مرحة�« :إن كان عليك �أنت ال �أريد �أن �أرى وجهك مرة �أخرى ،ولكن مل
�أ�ستطع �أن �أ�صرب و�أنا �أعلم �أنها معي حتت نف�س ال�سماء».
مل يتخ َّل �سائد عنه وهو يقول بخفوت�« :إنها يف غرفتها� ،سوف �أ�ساعدك
لت�صل �إليها ولكن احذر يف تعاملك معها بجانب فقدها للنطق � ً
أي�ضا لن
ع
يحتمل حملها �أي مفاج�أة �أخرى».
والتوزي ر
أو�ص ْلني �إليها� ،إنها لن تخذلني يف�سيحافظ على وعده ،نطق بهدوءِ �« :
ع
التعامل معها».
ابتعد �سائد و�أح�س بالدموع تعود حترق عينيه ،فلم ي�ستطع �أن مينع
نف�سه من تذكر �صورة َمنْ �أمامه على الأر�ض غار ًقا يف دمائه وفاقدً ا
لأنفا�سه على الفور ،الذنب يقتله ويجلده بينما يراقب ما �آل �إليه حاله،
قاطع رفيقه تفكريه« :فرتة و�سوف متر ،ك ٌّل منا دفع الثمن بطريقته يا
�سائد»
q q q
مل ي�ستطع �أن يكبح نف�سه وهو ينحني ينظر لعينيها املغلقة ،وجهها
اخلمري كان غار ًقا يف الدموع وقد تب َّدد لونه ليح َّل حمله �شحوب ب�شرتها
وال�سواد حتت عينيها ،ج�سدها الذي ُي ْخ ِرج �شهقات مكتومة حتى يف نومها
كان قد فقد ن�صف وزنه رغم انتفاخ بطنها التي كربت بو�ضوح ،ق َّرب
344
كر�سيه املتحرك حد االلت�صاق ،ثم حتامل على نف�سه مواز ًنا ج�سده كما
تدرب خالل الأ�شهر املا�ضية ،دفع حذاءه بيديه ب�صعوبة ،عندما ا�ستقر
على الفرا�ش �أخ ًريا متدد �إىل جوارها ،عندما مل�ستها �أ�صابعه؛ ارتعدت،
فتجر�أ �أن يدفع يده حتت ج�سدها ويده الأخرى حتاوطها من فوقها ثم
�شدها �إليه� ،أخ ًريا �أطلق ت�أوهً ا متوج ًعا حمرت ًقا وك�أن ج�سدها وقلبها
الذي دق ب�صخب جمنون حتت هدير �شرايينه هو الأوعى يف التعرف
على رائحته ،ا�ستكانت دون �أدنى مقاومه مت�شبثة به بقوة دافنة وجهها
يف طيات قمي�صه ،وبد�أت يف البكاء بحرقة� ،أخف�ض وجهه نحو �أذنها
ص ع
وهم�س بح�شرجة مهدهدً ا« :اهدئي يا �أمرية ف�أنا هنا ،لقد انتهى كل �شيء
ع
مقهو ًرا كما مل �أ�شعر يف حياتي».
ر ش
والتوزي
غيوبتها ونظرت �إليه بذهول خمالط بعدم ا�ستيعابَ ،ف َغ َرت فمها ب�صدمة
ع
حتاول �أن جتد �صوتها� ،أن تقول �شي ًئا ،فلم جتد فيها ً
نف�سا �آخر.
ارتكز هو على مرفقيه وم�سح طول خدها بكفه وهز ر�أ�سه بالإيجاب
أنفا�سك وال تقومي
ِ أرجوك التقطي �
وقال بقلق م�ؤكدً ا« :لي�س حل ًما حبيبتيِ � ،
خيال ،ما تبادلناه خاللب�أي ردة فعل قد ت�ضرك� ،إنه �أنا لي�س حل ًما وال ً
�صوتك الذي خرج كان حقيق ًّيا ،كل �شيء هنا ِ تلك الدقائق كان حقيق ًّيا،
يحدث طبيع ًّيا يا رابحة».
تو�سعت حدقتاها �أكرث وهي حما ِف َظة على نظرة الذهول وال�صدمة،
هل هو�سها بعمر و�شعورها بالقهر واخلوف ومتنيها �أن كل ما عا�شته
كابو�سا قد خلط بني الواقع واخليال؟! هل تخطت ً من حزن مل يكن �إال
دون �أن تدرك احلد الفا�صل بني التعقل واجلنون فتتوهم وجودها بني
ذراعيه يف تلك اللحظة؟ كانت ت�شعر بدوامة م�شابهة لتلك التي غرقت
فيها عندما �سمعت خرب موته تزحف �إىل عقلها فقاومتها ب�إ�صرار وعادت
346
ترفع �أطرافها برتدد وخوف �أن يت�سرب حلمها مرة �أخرى من بني يديها،
مررت بخفة فرا�شة �أناملها فوق وجهه حتدد عينيه و�أنفه وفمه و�شعره
الأ�سود الكثيف ،وتعود تتلم�س وجهه الو�سيم ،ك َّفاها هبطا نحو �صدره
لت�شعر بنب�ض قلبه احلي حتت �أناملها التي ارتع�شت رهبة� ،أخ ًريا ارتفع
مفجرة كل ما ُيعتمل يف قلبها�أنينها مع بكاء حاد مل ت�ستطع ال�سيطرة عليه ِّ
من �أمل ،انخف�ض عمر �سري ًعا يتلقى ج�سدها الذي ارتفع ليندفع يف �صدره
متاما« :اهدئي يا
حماول تهدئتها فف�شل ً ً و َق َّبل جبهتها وهو يقول بهو�س
و�ضعك �سيتحمل �أي جنون �أو �آالم».
ِ أرجوك ال و�ضعي وال
حاملة � ِ
ر ش
والتوز عي
رائحتك �أملأ نف�سي وقلبي منك يا عمر».
�ضمها �إليه �أكرث و�أكرث حتى مل ي�سمح املجال للمزيد وحمتو ًيا �إياها
بكل ما فيها� ،أغم�ض عينيه وهو يت�شرب قربها ونعومة ج�سدها ودفئها
وحنانها ،مدر ًكا �أن هذا العناق مل يكن يعني لكليهما لقاء حبيبني افرتقا
ق�ص ًرا عن بع�ضهما ،بل كان لقاء روح واحدة انق�سمت ن�صفني فنزف
كالهما حد املوت ومبعجزة �إلهية عادا لاللتحام برابط �أقوى و�أعنف من
يوما�« :آه ،تخرج من قلبي �أنا يا �أمرية ،مل �أكن �أعلم مبقدار�أن ينف�صل ً
بدونك ال �شيء �إال عند �إفاقتي ومل
ِ �ضعفي ووجعي �أين ميت ح ًّقا و�أين
أجدك بجانبي».
� ِ
حتول بكا�ؤها اله�ستريي ل�ضربات مقهورة منهارة تخبط يف �صدره وهي
ت�صرخ فيه« :كيف ا�ستطعت؟ كيف �أتتك اجلر�أة للت�ضحية بي و�إيالمي؟!
هل تعلم كم مرة ِم ُّت منذ ذلك اليوم الأ�سود؟»
347
لهث من �أثر جرح ج�سده الذي ما زال ينب�ض بالأمل بالرتافق مع لوعة
اللقاء ،ولكنه حتامل لي�سيطر عليها ف�أم�سك بكلتا ك َّفيها وهو يريح ظهرها
للفرا�ش ،و�أراح جبهته على جبهتها ناظ ًرا لع�سل عينيها الغارق يف �أوجاعها
وقال ب�صعوبة« :مل �أعلم ب�أي �شيء وال حتى �سائد ،بعد �أن �ضرب احلقري
الر�صا�صة بظهري دخلت يف غيبوبة م�ؤقتة فو ًرا فا�ستغل �إبراهيم و�شريف
وتوجها مل�سئويل ال�سفارة الأمريكية على الفور و�أخربوه باخت�صار الأمر َّ
عن تلك الق�ضية الكربى وب�أين متورط يف الأمر وحياتي بخطر؛ لأنني
أي�ضا مل �أفعل جرمية و�سجلي اجلنائي يف كال ُك ِ�شفت ملن كنت �أطاردهم ،و� ً
ريص ع
متاما ،فتولت ال�سفارة خالل �أقل من �ست �ساعات رجوعي البلدين نظيف ً
والتوزي
علي تغزوكم».
�شريف تزويره جلثة وادعاء �أنها �أنا ،وترك الأحزان َّ
ع
ملتقطا �أنفا�سه التي تلهث ،ثم ما لبث �أن �أطلق زجمرة متمردة
تو�ضيحا واعتذا ًرا« :لقد حاولت التوا�صل
ً
�صمت ً
على كل جروحه فهي ت�ستحق
علي حتى �أين غريت هوية معك رغم كل هذا ورغم الت�شديد الأمني َّ
ا�سمي ومكان جتارتنا والوالية التي ع�شنا بها �ساب ًقا ،ورغم هذا مل �أ�ستطع
الو�صول �إليك».
ازدردت ريقها وقد هد�أ بكا�ؤها تدريج ًّيا ،وقالت بلهفة متنا�سية لدقائق
عذابها�« :أي �إ�صابة؟ هل حلق بك �ضرر؟»
هز ر�أ�سه وقال ب�أمل« :الر�صا�صة �أ�صابت �أ�سفل ظهري ودمرت �أع�صاب
الأرجل».
حاولت �إلقاء نظرة نحو قدميه فف�شلت فعادت ل�س�ؤاله بتهدج« :ال
�أفهم».
348
يوما �أن �أعود للم�شي ب�شكل طبيعي
رد بهدوء�« :أعني �أين لن �أ�ستطيع ً
�أبدً ا».
ً
حماول �أن يخفف وط�أة رف�ضها �إياه �أو تهدئة رمبا يتالعب باحلقيقة
ع�صبيتها ب�إلهاء عقلها� ،سوف ي�ؤجل �إخبارها �أنه مر بعدة عمليات معقدة،
و�أن �شلله هذا م�ؤقت و�سيعود ليمار�س حياته بعد ب�ضعة �أ�شهر �أخرى و�إن
كان بعرج خفيف ودائم ،عاد ي�ضيف بحرقة�« :أنا �آ�سف لعدم �إن�صايف
بقاءك معي حتى و�أنا بهذه احلالة».
أخيك ِ معك ولكني لن �أ�ستطيع �أن � ِّ َ
ِ
ص ع
مل ت�ستطع منع يدها من التحرك فوق �صدره وهي تقول بلوعة« :يا
ر
هنا!»ارتعدت وهي ت�ضيف ب�صوت مرجتف ي�شوبه وعدمالتوز عي
ذراعيك».
الت�صديق�« :أنت
رفع ك َّفها التي تتلم�س �صدره وك�أنها تريد الت�أكد من وجوده املادي،
َق َّبلها بعمق باعرتاف �ضمني �أن ال امر�أة �أَ َ�س َرتْه وهزت رجولته و�أر�ضخته
بوجود كل �شياطينه �إال هي« ،نعم� ،أنا هنا».
هم�ست« :ملاذا ال �أ�صدق �إذن؟»
«�صدِّ قي من �أجلي».
ابت�سم لعينيها فخفق قلبها بربيق معتاد عادت لتزهر داخل �أ�ضلعها:
أعدك �أين
«�أوجاعنا انتهت يا �أمرية و�إن منح ِتني الفر�صة والغفران � ِ
لك فيها».
عقلك كل مرارة ت�سببت ِ
�س�أحمو من ِ
349
«�أنت عدت ،بعد وعدك يل �آخر مرة وفيت به؛ لذا نعم �أمنحك ،ونعم
�أخرى �س�أ�سمح لعقلي ب�أن ي�سرتيح ويلج�أ �إليك ويقر ب�أنك معي».
نف�سا حادًّا وهو ُي ْر ِغم نف�سه على �أن يكبح م�شاعره املت�ضخمة،
�أخذ ً
متعج ًبا من نف�سه كيف ا�ستطاع �أن يبتعد عنها كل هذه املدة؟! ثم ما لبث
أحبك يا رابحة� ،أتعلمني ما الذي يعنيه هذا؟»
�أن قال ب�صوت �أج�ش�« :أنا � ِ
هزت ر�أ�سها دون �أن تبعد عينيها املت�أملتني عنه« :ال �أعلم �إال �أنك تركتني
و�أنك غدرت بوعدك يل� ،أنك وعدت �أن تربي �صغريي وغدرت بنا».
ل
ً كتم
ع
�أن �أعرف طريقي �إىل اهلل �أخ ًريا� ،أجل�أ �إليه لريحمني ليغفر يل وليجمعني
بك مرة �أخرى».ِ
�ساد ال�صمت بينهما للحظات حاولت �أن تت�شرب وجوده وكلماته،
معنى اعرتافه ،ف�أح�س كالهما بحرقة م�ألوفة من الفقد ،ثم انهار كل
�شيء مرة �أخرى وهي تعود للبكاء املتهدج ُترغ وجهها يف �صدره� ،أغم�ض
كابحا نف�سه عنها ،ثم انحنى وطبع ُق ْبلة دافئة رقيقة على جبينها عينيه ً
كانت �أعمق معنى و�أكرب عاطفة من �أي ُق ْب َلة جاحمة �أو توا�صل عاطفي
قد يقوم به لي�ؤكد لها حقيقة وجوده ،ترك �شفتيه هناك بينما يده ترتك
اهتمامه بها �أخ ًريا وتتلم�س جنينها بل جنينهما وطفلهما� ،أمل كليهما،
�سمع �صوتها اخلافت يخربه ب�أنفا�س مبهورة« :عمر ،ال جتعلنا نخ�سرك
من جديد� ،أنا را�ضية ب�أي �شيء منك طاملا �أنت معي بنف�س يرتدد داخل
�صدرك ف�أ�شعر ب�صداه يف قلبي».
350
متاما يف دفئها ولهفتها وه�شا�شتها وت�سليمها �إال �أن عمر كان �ضائ ًعا ً
له دون �أدنى مقاومة دون اعرتا�ض ،وبني ذلك ال�شعور امل�ضطرب والذي
جعل قلبه يرتع�ش بني �ضلوعه ب�إح�سا�س مبهم خمتلف مع كل �ضربة ت�أتي
من �صغريه الذي ما زال ي�سكن �أح�شاء �أمه حتت كفه ال�ضخم.
عاد ي�ضمها �إليه بقوة ،ف�صمت و�صمتت تارك ًة نف�سها با�ست�سالم تغرق
يف دفئه ورائحته الرجولية ،للحظات ولدقائق ورمبا ل�ساعات� ،أيام ال
تعرف ومل تعد تريد �أن تدرك �شي ًئا �إال �أنه هنا معها ،وو�صلت لرب �أمانها
ع
�أخ ًريا وخرجا من ذلك الزقاق امل�ؤمل الذي كاد �أن يدمر كل �أحالمها،
وزيع
q q q
بعد خم�سة �أ�شهر ،كان العرق يغرق جبينها رغم الثلج الذي يحيط بكل
�أرجاء الوالية ،هم�ست ب�صوت مرجتف من فرط الأمل« :عمر ،ا�ستيقظ
�أرجوك».
مل ي�أتها الرد فهزته بقوة دون �أن ت�صدر �صوتًا �آخر عاجزة عن التعبري
عن الأمل الكبري الذي ي�ضرب ظهرها و�أ�سفل بطنها ،انتف�ض عمر بجانبها
بك حبيبتي؟» م�ستقي ًما من نومته وهو يقول بقلق« :ما ِ
�أدارت رابحة عينيها عليه للحظات ،ثم انفجر كل �شيء داخلها وهي
ت�صرخ بعذاب�« :أريد �أمي� ،أنا �ألد يا عمر».
q q q
351
ً
حماول �أن ي�أخذ بعد �ساعات كان �سائد يريح ر�أ�سه على اجلدار
بع�ض دقائق من النوم بعد �أن �أيقظه عمر اله ِلع والذي وجده يتقافز
عاري القدمني كما اجلذع و�سط اجلليد الذي يغطي بيته يف الناحية
املواجهة ملنزله ،ا�ستطاع بعد دقائق من جنون عمر �أن ي�سيطر عليه بقوة ِ
يهدئه وي�أمره � ًأول ب�أن يذهب لريتدي �شي ًئا ما ويجهز زوجته وهو �سي�أتي
للم�ساعدة.
ف�أخرج �سيارته وهو يحمد اهلل �أنه مل ي ُعد من الإ�شراف على املتاجر
ع
الغذائية التي ميلكونها بجانب عدة حمطات بنزين �إال بوقت مت�أخر
ع
الإعاقة التي �سيعي�ش بها ما تبقى من عمره ،و� ً
أي�ضا لأنه يجد يف العمل
اجلاد واملتوا�صل ليل نهار �إلها ًء لقلبه وعقله الذي يعاين ،و� ً
أي�ضا لتعوي�ض
كم املال الذي �أُ ْه ِد َر يف رحلتهم ال�شاقة للبحث عن العدالة ،لقد خ�سرواِّ
عاما تقري ًبا ،ولكن هذا لي�س بال�شيء كل ما جمعوه خالل خم�سة ع�شر ً
املهم� ،سيبد�آن من جديد خا�صة ب�أنهم ميتلكون الأر�ض ال�صلبة بالفعل
ور�أ�س املال� ،أما ال�سيولة فمقدور على تعوي�ضها.
فتح عينيه ينظر ل�صديقه الذي يدور حول نف�سه مبالمح مرتعبة
فرفع �سائد كوب قهوته يرت�شف منه بهدوء وقال بت�شدق« :اجل�س يا عمر،
ثقيل فقط و�صدرك مظهرك ب�سروال املنامة الذي ترتدي فوقه معط ًفا ً
يغرق يف �أحمر ال�شفاه مثري لل�ضحك واال�ستياء م ًعا».
نظر �إليه عمر �شذ ًرا ،ثم �ألقى بنف�سه بقلة حيلة بجانبه على كر�سي
االنتظار ،ثم قال باهتزاز�« :إنها تت�أمل ،لقد وعدتها بعدم عذابها وها �أنا
ال �أ�ستطيع منعه عنها».
352
رفع �سائد الكوب الورقي نحو فمه وهو يقول بربود�« :إنها تلد يا �أحمق،
ماذا تتوقع بال�ضبط؟ �أن ت�أتي ب�صغريك وهي تغ ِّني لك ترنيمة ما!»
زفر عمر ب�ضيق وقال« :هل ميكنك �أن ت�صمت؟ حياة �أغلى �شخ�ص يل
يف هذه احلياة �أي حياتي �أنا ُتعاين بالداخل و�أنت هنا ت�ستخف بدمك!»
نظر له �سائد وقال بعملية�« :أعلم �أن دمي ثقيل� ،أنا حتى �أكره ما ي�سمى
ال�ضحك ،ولكنك �أحمق ح ًّقا ،و�أكاد ال �أ�صدق �أنك َمنْ �أمامي».
«ال ،ال ت�صمت طمئ ِّني ب�أي كلمات مهدئة».
ريص ع
قطب وهو يقول بحرية�« :أي تهدئة تريدها مني؟! �أنا بجانبك وال َّ
والتوز عي
فتح عمر فمه على م�صرعه وكاد �أن يفقد �أع�صابه ويه�شم ر�أ�س من
�أمامه دون ذرة ندم وتردد ،هل �أخربه �أن يهدئه �أم لريعبه؟!
قال عمر بي�أ�س قبل �أن يقفز من مكانه ويهرع �إىل مكان زوجته�« :أنت
�آلة من نوع ما ،ي�ستحيل �أن تكون ب�ش ًرا ي�شعر مثلنا».
بعد �ساعات قليلة �أخرى ،كان �سائد يقف خلف زجاج �ضخم ينظر
ل�صغري عمر يثبت لنف�سه �أنه ي�شعر ويح�س يت�أمل ويتغري مر ِّو ً�ضا كل
براكينه وكل مرارته وحتى كل �أوجاعه التي مل ميحها حتى انتقامه
ال�سابق ،ينظر ل�صغري عمر الذي يرقد يف �سرير حديث الوالدة للت�أكد
�أنه بخري وال يحتاج لأي م�ساعدة طبية ،بينما و�ضع له رمزً ا على �سريره
كنظام متبع هناك عند الوالدة ،لقد اختارت له الطبيبة رمز منر فرف�ض
هو و�أ�صر �أن تعلمه ب�صورة ل�شبل الذئب ،لقد رمى عمر ال�صغري تقري ًبا
له وهرول �إىل زوجته ،هم�س من خلف الزجاج بخفوت �شارد« :مرح ًبا يا
353
بع�ضا من �أحالمي فيك بعد �أن عجزت �صغريي ،اعذرين �إن كنت �س�أحقق ً
�أن �أح�صل على �سعادتي اخلا�صة� ،أعتقد �أننا �سن�صبح �صحبة ال ُت ْهزَ م �أنا
و�أنت ،بالنهاية �أنت متلك �أ ًّما قوية �آمنت ب�أنك نقطتنا البي�ضاء ورايتنا
نحو �أمل جديد ،وجنحت دون �أن ت�شعر باملعنى احلقيقي الذي منحته يل
�أنا ووالدك».
�أخرج هاتفه وقام ب�ضبط الهاتف و�أغلق فال�ش الكامريا حتى ال يت�سبب
ب� ًأذى لعيني ال�صغري ،ثم التقط �صورة وا�ضحة و�سري ًعا قام ب�إر�سالها نحو
ص ع
معذبته وكتب�« :أمل جديدُ ،و ِل َد اليوم ريان عبد اهلل ابن �أخي و�صديقي».
ع والتوزي
ر�سائل داعمة قوية ت�شد من عزمها ،وبع�ضها اعرتاف متوا ٍر باحلب الذي
مل ين�ضب ولن ينتهي».
التقطت ر�سالته التالية فكتمت �أنينها حتى ال ت�سمعها نرمني وتبد�أ
ب�سيل �أ�سئلة ف�ضولية هي لي�ست على ا�ستعداد لها� ،أحاطت بطنها الفارغ
وتذكرت �صغريها بحرقة فلم ت�ستطع كبح دموعها �أكرث وهي تقر�أ كلماته:
«هل تعتقدين �أين �أ�ستحق فر�صة �أخرية؟ هل من حقي �أن �أحلم بطفل
مالحمك و�أحمله بني ذراعي؟»
ِ أنت يحمل منك � ِ
ِ
مل ت�ستطيع �أن تتجنبه هذه املرة فمدت يدها تكتب« :وملاذا تتمنى
�صغريي؟! �أنا لن �أ�ستطيع الإجناب مرة �أخرى� ،آ�سفة لتحطيم حلمك �أيها
الغريب».
�شعر بالأمل ينتع�ش بداخله من جديد على ا�ستحياء ،على الأقل
تنازلت �أخ ًريا وقالت �شي ًئا ما حتى لو �أنها تنكر معرفتها بهويته ،ف�أر�سل
354
مرة �أخرى ليالم�س تالبيب قلبها بيديه عرب كلماته�« :إذن �ضاع �أملي
وحلمي يف �صغري من �صلبي».
�أر�سلت با�ستفهام« :ملاذا؟»
حتولت مالحمه فج�أة ل�شيء غريب وهو ير�سل دون �أن يرتدد حلظة
أنت أنت و�أحمل ً
طفل تكونني � ِ أح�شائك � ِ
ِ واحدة�« :إن مل ت�ستقر نطفتي يف �
�أمه� ،إذن لن يحدث هذا �أبدً ا� ،أنا لن �أ�ستطيع مل�س �أو منح قلبي المر�أة
يوما دُجى».
غريك ً
ِ
ص ع
q q q
ع
جمتمعهم.
والتوزي ر
منهم من �ضالل ال�شارع ،ومن يعلم قد ي�صبح حلمنا هذا ً
مثال لآخرين،
ع
وامل�ؤ�س�سة ت�صبح ع�شرة ،ونتكاتف جمي ًعا خالل �أعوام للق�ضاء على
متاما ،وبهذا نخفف عن �أنف�سنا قبل �أي �أحد ظهور تلك تلك الظاهرة ً
الأع�شاب ال�ضارة واجل�شعة من �أمثال حماد وه�ؤالء الأطباء معدومي
ال�ضمري والرحمة من �أمثال فهمي ومعلمه».
�شحب وجه دجوى حتى ا�ستحال قطعة من الرخام فوثبت بارتباك
حر ٍج مكتوم:
بتح�شرج ِ
ٍ وهي تتلقى كلماته ك�ضربة قوية فوق ر�أ�سها وقالت
«�أنا �س�أذهب الآن ،ت�أخر الوقت».
غبي يا �إبراهيم كيف ن�سيت؟! التفت �إليها يخربها برفق�« :أنا �آ�سف يا
والدك».
خلفيتك وما�ضي ِ
ِ دجوى� ،صد ًقا �أنا �أن�سى ً
متاما
تو�سعت عيناها وهي تقول ب�ضحكة ع�صبية« :ال عليك ،ولكن �أرجوك
�أن ت�صمت ً
قليل �أنت كلما حتدثت تزيد الأمر �سو ًءا».
356
خرجت م�سرعة نحو البوابة ال�ضخمة للم�ؤ�س�سة وهي ت�ضع نظارتها
ال�ضخمة لتخفي �أمل عينيها الذي �أ�صبح جز ًءا ال ينف�صل عنها ،ال�صوت
متاما ،فتحتها بلهفة فوجدت املميز لر�سالة قد و�صلتها كانت يف وقتها ً
كلماته امل�سا ِن َدة املعتادة وك�أنه ي�شعر بجرحها».
يحا�سب
ذنبك عزيزتي ،يوم احل�ساب كل منا َ «�أخطاء العامل لي�ست ِ
لك
تقبلك جلرح الآخرين ِ يحا�سب بكتاب الآخرِ ، مبا جنت يداه ،ال �أحد َ
أنت ت�ستحقني حب العامل يا دُجى والعفو منك لن يحل �شي ًئاِ � ،
واالنتقام ِ
نف�سك».
عن ِ
ر ش
والتوز عي
ولكنك تقاومني ب�شجاعة ،وحمارِبة ِ �أتتها ر�سالته على الفور�« :أعرف،
أنت حتملني �أخطاء غريك». �أ�صرت على الوقوف بعد كل كبوة حتى و� ِ
كانت تفتح قلبها على م�صراعيه وهي تر�سل �إليه بقهر« :مل مينحني
�أحد االختيار لأتوقف �أو �أ�شعر �أن الذنب لي�س بذنبي و�أن تلك اجلرائم
مل تكن بفعلتي �أنا ،واجلميع كان يريد مني قطعة و�أنا قاومت وقاومت،
وبالنهاية ا�ست�سلمت لدفع فواتري �أبى امل�ؤجلة ،ملاذا فعل بي هذا؟ حتى هو
مل يرتدد حلظة يف �إيالمي ،لقد حتطم كل �شيء بداخلي».
مل ي�أتها الرد لدقائق طويلة فقامت بت�شغيل حمرك ال�سيارة با�ست�سالم
ومواجهة:
حتاول كبح دموعها بعنف فتف�شل ،حتى �أتتها ر�سالة �أخرى ُم ِق َّرة ِ
مل�صريك من �أول يوم دجوى ،مل تقفي بوجهه لتقويل ال، ِ ا�ست�سلمت
ِ أنت
«� ِ
كنت بطريقة ما ت�شعرين بالر�ضا مبا ُيفعل أنت ِ واجهي نف�سك عزيزتيِ � ،
أنك بهذا تكفرين عن ذنب والدك ،وهنا �أنا ال �أبرر لأفعاله ِب ِك ظ ًّنا ِ
منك � ِ
نف�سك».
لك ِ التي ال يقبلها �أحد ولكن فقط �أحاول �أن � ِّ
أو�ض َح ِ
357
�أر�سلت بت�شو�ش« :ال ،الأمر لي�س هكذا ،لقد كان يتعذب و�أنا كنت �أ�شعر
بالذنب ناحيته فرتكته ي�أخذ حقه مني رمبا يخفف من بع�ض �آالمه».
q q q
زفر �سائد ب�ضيق والنار ت�شتعل ب�صدره وم�شاعره تخنقه ،ليتها �أمامه
الآن رمبا كان ي�ستطيع �أن يغمرها بني ذراعيه ويخفف عنها مرارتها
تلك ،هم�س بحرقة« :فقط لو متنحينا الفر�صة لنبد�أ من جديد بعيدً ا عن
ما�ضي ٍّ
كل منا».
ت
�أر�سل بعدم �صرب« :هذا ما �أق�صده دُجىِ � ،
ش
ذنبكَ ،
لت�ست�سلمي جلنون غ�ضبه ،ال�سواد املنت�شر يف العامل لي�س ِ
ر
يفر�ضأين�سلطة �بطريقةأقوىما َّعلي؟»مازو�شية �أمتتع بعذابي،و �التوز عي
نف�سك لي�س هو احلل للتحرر من الأمل».
وحتاملك على ِ
ِ ذاتك
ِ
أ�ستمد �سعادتي «هل تظن �
ممن هو
أملك �أو الآخرين».
أنت �أبعد من �أن تكوين مازو�شية �أو �أن ت�ستمتعي ب� ِ
«� ِ
«�إذن ما الذي يعنيه جلد الذات؟»
نف�سك با�ستمرار ،حرمانها من حقها يف احلياة �أو ِ �أر�سل« :هو لوم
إجبارك على دفع الثمن لأخطاء ليتها �أخطا� ِؤك».
ِ حالتك �
ِ الأ�سو�أ يف
«هل تظن �أين �سلبية هاربة من م�شاكلي بجنب متخذة دفع الثمن
والتخفيف عنه حجة؟»
أنت
ابت�سم وهو ير�سل بنوع من اللطف« :لقد احرتت يف ت�صنيف هل � ِ
�ضعفك قوة لتنت�صري على خ�صمك».
ِ �سلبية ح ًّقا �أم ذكية ت�ستمدين من
358
«وهل فعلت؟ �أتظن �أين انت�صرت عليه ،لقد فقدت طفلي وكرامتي على
يديه� ،أي ن�صر هذا تعتقد؟!»
أي�ضا� ،أي �إن خ�سارتكم واحدة وان التقط �أنفا�سه و�أر�سل« :كان طفله � ً
مل يكن عقابه هو �أ�شد مرارة ،لقد ك�سر ظهره بخ�سارته لهذا اجلنني».
ت�أملت ر�سالته فلم مينحها الفر�صة للرد وهو ير�سل �أخرى« :لقد
أ�شرعتك بداخله ف�أ�صبح ي�صرخ بها لنف�سه
ِ أر�سيت �
انت�صرت يا دجوى و� ِ ِ
يريدك بجانبه».
ِ دون تردد �أنه
ع
ترددت قبل �أن تر�سل« :كيف وما�ضينا من ورائنا؟! فهو لن ي�ستطيع �أن
ر ش
والتوز عي
أنت ،ولكن هناك ما ي�سمى بداية جديدة قد تكون حمفوفة باملخاطر � ِ
معدنك
ِ والإخفاقات ورمبا بع�ض الأمل ،ولكن هو يدرك جيدً ا �أنه من �أجل
والدك ويتذكر
متاما حتى حروف ا�سم ِ الذي الم�س جدار قلبه� ،سيتنا�سى ً
أنك دُجى ليله». فقط � ِ
وكانت �ضربتها احلا�سمة كاملعتاد« :و�أنا لن �أكون حيادية عندما �أنظر
لوجهه و�أتذكر �أين كنت عاهرة بالن�سبة له ،عذابي وحرقتي بدفعه يل
لأ�سمح مبوت �صغريي».
توقفت ر�سائله ور�سائلها لدقائق قبل �أن تر�سل ما مزقه كما مزقها:
«لقد نال تعوي�ض �صربه يف ابن �أخيه� ،أما �أنا مل يتبقَّ يل �إال غ�صة يف
قلبي ،ح�سرة ومرارة و�أنا انظر لتلك الأ�شياء ال�صغرية يف واجهة املحالت
عاما و�شه ًرا
بعذاب �أن طفلي كان �س ُي�ص ِبح عمره اليوم حتديدً ا ً ٍ متذكرة
كاملني»
q q q
359
يف �صالة اال�ستقبال ملطار مدينتهم ال�صغرية كان يقف ك ٌّل منهما
بجانب الآخر ب�صمت غري معتاد ،بينما عينا كليهما ال تفارق ال�صغري
الذي يفرت�ش الأر�ض يلعب بدميته ذات الفراء.
نظر عمر ل�ساعته قبل �أن يتحرك نحو مقعد حديدي حديث الطراز
مريحا ظهره وهو يقول بت�أوه متعب« :يبدو �أنهم ت�أخروا يف
جل�س فوقه ً
الداخل للإجراءات� ،أنا لن �أ�ستطيع الوقوف �أكرث من هذا».
مل يحرك �سائد عينيه عن ال�صغري وهو يقف فوقه بطوله املهيب
ريص ع
يرتدي مالب�س ب�سيطة غري متكلفة ،بنطال �أ�سود وقمي�ص مماثل ،واكتفى
وإليه هو ال
ي ز ا و
متوجل ًهتا �
لك �ش َّدد على عدم احلركة الكثرية ،و�ضعك مل ي�صبح �آم ًنا ً
متاما بعدُ».
والده ،ف�ضمه �إليه وهو يبت�سم بتلقائية ،وقال ب�سخرية معتادة« :يف ع
الواقع
�صمت لربهة ومال يلتقط ال�صغري الذي وقف،
361
وقف عمر ي�ستعيد ً
بع�ضا من اتزانه ،يف ا�ستعداد ال�ستقبال والدة زوجته
و�أخيها الذي انتهت �أوراق �ضمهما �أخ ًريا ،فقد ا�ستطاع بعد مباحثات
�صعبة و�شاقة �أن يقنع ُق�ص ًّيا ب�إكمال تعليمه هنا ،وعدم العودة �إىل هناك،
ولكن كانت امل�شكلة يف �صفية التي رف�ضت �أن ترتك مكانها ووطنها وكل
ذكرياتها ،ولكن وافقت هي الأخرى على م�ض�ض من �أجل ابنتها وم�ستقبل
�صي ،وبالطبع مل ين�س الفتى ب�صمته اخلا�صة بطلب عمل ينفق به جيد ل ُق ٍّ
على نف�سه و�أمه ،فوافق �سائد على الفور ووفر له العمل يف �أحد حمالتهم
ص ع
كما يفعل مع الكثري م�ؤخ ًرا من �شباب اجلاليات العربية ،فهم �أكرث من
ل ل
بحزمنمنه ًيا حوارهم ال�سابق« :و�أنت
ش ب
هنا حدي ًثا.
ع
يوما».
الفرار منها ً
ت ك
حتا ذراعيه ليلقى ُق ٌّ
�صي نف�سه بينهم ،بينما
ل ا ريص
حترك عمر نحو ن�سيبه فا ً
363
ليل ،مل تعرف دجوى ِ َل كانت ت�شعر بكل هذا الأمل الذي بعد يومني ً
�أ�صبح م�ضاع ًفا بداخلها منذ �أ�سبوع م�ضى� ،أ�صرت على عدم التوا�صل
معه مرة �أخرى� ،أما هو فقد توقف بعد �أن الحقها بات�صاالت متوا�صلة
أي�ضا على هاتف امل�ؤ�س�سة ،ولكنها مل تر َّد � ً
أي�ضا، على هاتفها اخللوي ،و� ً
فتوقف هو ك�أنه يئ�س �أخ ًريا وا�ست�سلم للأمر ،ولكنها ال ت�صدق بب�ساطة �أن
�سائد ا�ست�سلم هكذا.
�أزاحت الغطاء لتف�سح املجال جلعل نف�سها تغفو يف غيبوبة النوم
ع
كعادتها عندما يكرث الوجع �إىل حد يخرتق �صدرها ب�صراخ ي�ص ُّم �أذنيها
ريص
فتجرب نف�سها على النوم ،رمبا جتد يف عامل الأحالم ملج�أً يريحها من
ع
مرعبة ومذلة عندما كانت ت�سكن ذلك ال�سطح حتى ال متلك قوت يومها،
ج�سدها يرجتف بردًا وقلبها يئنُّ بعذاب احلرمان والفقد ،متتمت« :رمبا
أ�صبحت ت�شعرين بالأمنِ مل يختف الإح�سا�س دجوى ،ولكن على الأقل �
ي�ضمك بعيدً ا عن كل من حاول ا�ستغالل ِ ً
قليل ومتلكني م�أ ًوى جيدً ا
وحاجتك».
ِ ووحدتك
ِ �ضعفك
ِ
�ضمت نف�سها لنف�سها بقوة تغم�ض عينيها وهي تهم�س باعرتاف كل ليلة
رغم �شعورها بال�سخط على قلبها والعار من م�شاعرها« :ا�شتقت لذراعيك
لراحتك� ،أفتقد ذلك العناق الوحيد الذي �شعرت فيه بالأمان بال�شبع بعد
مودعا يف بيت رابحة ،ولكن كيف �أ�ستطيع �أن �أحياجوع يوم �أن �ضممتني ً
معك بعد كل ما ر�أيته على يديك؟! عام ون�صف ومل يتغري �شيء بداخلي ال
مرارتي منك ،وال ع�شقي �إياك».
بعد ن�صف �ساعة ا�ستيقظت دجوى وقلبها ينتف�ض خو ًفا ،نظرت �إىل
ال�ساعة فوجدتها تعدت منت�صف الليل ،بينما باب منزلها يطرق بت�سارع
364
وك�أن الطارق ال ميلك وقتًا يف التمهل ليجيبه �صاحب املنزل ،التقطت
مئز ًرا �أ�سود ً
ثقيل فوق قمي�ص نومها ،وهي تهرع �إىل اخلارج توقفت ت�س�أل
با�ضطراب« :من الطارق؟ ماذا تريد؟»
كانت �أنفا�س ثقيلة هي كل ما ت�سمعه ،ف�شعرت بذلك الذعر يزحف
باب ظنت �أنه ملف وانتهى، على ظهرها ،اخلوف من �أن يكون ُف ِت َح عليها ٌ
�أترى �أحدهم قرر �أن ينتقم منها �أخ ًريا بعد َ�ص ْمت عام؟ ما زالت الق�ضية
ُت ْن َظر وال�صحف تندِّ د بها ،ولكن َمنْ �أطلقوا تلك ال�صرخة جميعهم رحلوا
ع
ومل يتبقَّ �إال هي يف مواجهة ذلك االنتقام الذي يبدو �أنه لن ينتهي.
ً
حماول بي�أ�س �أن
ر
ِ
ع
يو�شك على البكاء« :ال �أ�ستطيع ،ارحل من هنا و ُك َّف عن تعذيبي».
والتوزي ر
الرجاء يف م�سعاي».
ريص ع
تعرت�ض عندما ل َّفت ذراعيها حول عنقه تت�شبث به ،ت�ش َّكل ج�سدها اللني
367
�أي قرار قد تقوله �أو رف�ض ترميه بوجهه وهي بذلك الو�ضع ،بتلك
النريان التي حترقها �شو ًقا �إليه؟! كان عقلها مغي ًبا ً
متاما بكل تلك امل�شاعر
التي بثها �إياها ،باحلاجة ال�ضارية لأن ت�شعر به ،مل تفكر ويدها تقع �أخ ًريا
فوق قلبه ،لت�ستقر هناك فتحرق جلده ،هم�ست ب�صوت مرجتف ،فنزعت
عنه �أي حكمة �أو قرار بجعله �إياها ت�أخذ قرارها« :لديك قلب بالنهاية ها
بدوي جمنون من �أجلي �أنا وحدي».هو ينب�ض ٍّ
مل ي�ستطيع �أن يجيبها بالكالم ،مل تكن لديه القدرة ،كان ي�صر �أن يعرب
ع
بها بدون تردد لذلك الطريق الذي لن ي�سمح لها فيه بالعودة �أو الهرب
والتوزي
مدخل يف عقلها القا�سي� ،أنه مل يعد يهتم مبن حتمل ا�سمه ،و�سيحارب
ع
جميع �شياطينه فقط لتبقى معه ،ومن بني غيبوبته كان يبتهل بت�ضرع �أن
تكون �أر�ضها اخل�صبة على ا�ستعداد لتلقي بذرته.
فتحت دجوى عينيها بعد �ساعات لتجد نف�سها م�ستلقية على الفرا�ش
دوما ،ت�س َّمرت
تنام على بطنها ووجهها مدفون يف و�سادتها كما اعتادت ً
مكانها لوقت طويل ،هل كل ما مرت به خالل �ساعات كان جمرد حلم؟
ولكن �إدراكها لأنني كل ع�ضلة منها وك�أن �شاحنة من نوع ما �صدمتها جعل
قليل ،وجتزم �أن كل ما عا�شته كان حقيقة ،تلك العاطفة تخمينها يهد�أ ً
املتدفقة والتي رغم عنفها وتوح�شها كانت مراعية حنونة متمهلة ،تغرقها
داخل فقاعة من ال�ضجيج الرائع� ،أغم�ضت عينيها بقوة وهي تتذكر
عندما حملها متوج ًها لغرفتها التي ت�سكنها منذ انف�صالهم ،وك�أنه يدرك
كرهها العميق للغرفة الأخرى والتي �شاهدت كل �أوجاعها معه ،مل يرتكها
ومل يتفوه �أحدهم ب�شيء عندما �أراح ج�سده على فرا�شها ومددها بجانبه
و�ضمها بقوة �إليه لتتو�سده ،مل تتذكر �إال تو ُّقف قلبها عن اخلفقان للحظات
368
عندما هم�س ب�صوت �أج�ش« :الآن فقط �أ�ستطيع ا ْلتقاط �أنفا�سي ،و� ِ
أخربك
حكمك هو املوت ِ إليك �سيكون
أجلك ،و�إن مل تعيديني � ِ
�أن قلبي امليت نب�ض ل ِ
دون رحمة».
«�أين ذهب � ًإذا �إن مل يكن حل ًما؟!»
احلركة الهادئة املكتومة بجانبها مع �صوت خفي�ض مبتهل؛ جعلها
تعقد حاجبيها بتعجب ،رفعت ر�أ�سها تنظر للم�شهد �أمامها ب�صدمة،
توقفت �أنفا�سها وهي تراه يطوي «�سجادتها ال�صغرية» ثم وقف متج ًها
ع
�إليها ،ويتخل�ص من مالب�س ب�سيطة كان ي�ستخدمها لل�صالة.
369
مو�ضحا« :مل يتغري �شيء ،دائ ًما
ً نف�سا عمي ًقا وقال ب�صرب
�أخذ �سائد ً
ما كان داخلي يرف�ض �أن يلوث باحل�ضي�ض� ،شيء �أقوى مني منعني عن
ارتكاب اجلرائم والفاح�شة رغم كل ما عانيته ور�أيته ،ورغم �أين حتى مل
�أعرف معنى الأديان ال�سماوية ،رمبا مرارتي و�شعوري بالظلم وتخطيطي
لهدم كل �شيء هو ما �أعادين للبحث عن طريق اهلل �سبحانه ،ولكن منذ
ما حدث مل �أ�ستطع جت ُّنب نداء قلبي وفطرتي؛ فذهبت �إىل �أحد املراكز
الإ�سالمية هناك ،وببطء بد�أت �أتعرف على طريق احلق».
ص ع
�صمت قبل �أن يردف بخفوت به بع�ض الرتدد« :ال �أحب ك�شف نف�سي
ل
الطفيفلنب�صدقه يف كل حرف يتف َّوه به، ب
مثل ،و�أ�صبحت �أُ ْخ ِرج عنفي وانفجاراتي بطرق �أخرى».
عن �إيذاء ج�سدي ً
ر
علمت �وأناللك ن�س ًبا� ،أنت
و ت ش
طفل خمتطف �أو حتى مفقود ،ملاذا مل تبحث عن �أهلك؟» زيع
لن تنكر �أنها ت�شعر بالأمل
ولكنها �صدمته ب�س�ؤالها املرتدد املرتع�ش« :كما
عقد حاجبيه وهو ينظر لها لدقائق ،ثم ما لبث �أن قال بخفوت�« :أنا
ال �أعرف ما الذي قد ينتظرين هناك؟ ومن �سيتذكرين من الأ�سا�س بعد
متاما
بك ً مكتف ِ
عاما ،هكذا �أف�ضل دُجى� ،أنا ٍ
ما يقارب الواحد وثالثني ً
ك�أ�سرة يل».
حاولت �أن جتادله وهي تقول« :ولكن »...
لدي� ،س�أكتفي
منته َّ
و�ضع يده على فمها وقال بحزم« :ال ،لكن الأمر ٍ
بك».
ِ
هزت كتفيها بدالل وقالت بعينني �ضاحكتني �آ�سرتني ،فت�سللت ابت�سامة
عطوفة على �شفتيه ،هل ميكن للع�شق �أن يغفر وللحنان والرفق �أن يجعل
370
روح املر�أة تزهر كحدائق زهور متنوعة لق�صر �أ�سطوري؟ «ولكن �أنا ال
�أعرف عنك �شي ًئا ،بالطبع كل املعلومات ال�سابقة كانت جمرد كذبة».
هز ر�أ�سه م�ؤكدً ا« :بالطبع كل املعلومات التي ر�أيتني �أحتدث عنها
خ�صي�صا لأمر ،ولكن �أنا جمرد رجل �أعمال و�صاحب �سل�سلة ً در�ستها
حمالت �صغرية مثل الكثري من العرب الذين يقومون بهذه امل�شروعات».
أكملت درا�ستك ح ًّقا �أم جمرد خدعة
�س�ألت باهتمام مل يزعجه« :هل � َ
�أخرى؟»
ص ع
هز ر�أ�سه ناف ًيا وقال ببطء�« :أكملتها هناك بالطبع ،ولكن مل �أتخ�ص�ص
371
أحبك بالفعل ،وتلك هي امل�شكلة».ردت �سري ًعا دون تردد�« :أنا � َ
�شهقت عندما �سحبها �إليه وهو يقول مزجم ًرا �آم ًرا�« :إذن �أحتاج
قرارك ،فموعد طائرتنا بعد �ساعات من الآن».
ِ
تالحقت �أنفا�سها وهو يعود ي�صدمها بتكرار تالم�سهم وك�أنه يريدها
�أن تغرق يف دوامة حتجب عقلها عن العمل حتى ي�صل ملا يريده« :عن �أي
قرار تتحدث؟ و�أي طائرة؟ وملاذا؟»
«عودتك يل
ِ التوى فمه با�ستمتاع وهو يالحظ �صراعها ثم قال:
ريص ع
ووعدك �أن نرتكز على بع�ضنا ونتحامل على �أنف�سنا لين�سى كل
ِ بالطبع،
ع
ما كان يبتهل لأجله يف املرة ال�سابقة؛ حملها ل�صغري �آخر؛ لي�ضمن عدم
374