Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 377

‫وتبقى‬

‫غصة‬
‫بالقلب ّ‬
‫‪o‬‬ ‫‪o‬‬

‫‪o‬‬
‫رواية‬

‫غصة‬
‫وتبقى بالقلب ّ‬

‫نورا سليمان‬
‫لمزيد من الكتب الحرصية‬

‫زوروا موقعنا‬

‫موقع عصري الكتب‬

‫‪www.booksjuice.com‬‬
‫‪o‬‬ ‫ال ُغ َّصة األولى‬

‫«حبيب قلب ونور عني والدتك‪� ،‬أوامرك جمابة يا �صغريي ونور حياتي‪،‬‬

‫ع‬
‫دقيقة واحدة انتظرين هنا وال تتحرك‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عينان تفي�ضان حنا ًنا ووجه ب�شو�ش يفي�ض حمبة يحدثه وي�ضمه ويطبع‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ُقبل ًة فوق ر�أ�سه وهو جال�س على عتبة باب منزل كبري‪ ،‬طفل مطيع مبالب�س‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫نظيفة‪ ،‬يتم�سك ب�أحد �ألعابه يهز ر�أ�سه مبوافقه لكالم املر�أة التي اختفت‬
‫خلف ذلك الباب واختفت معها ابت�سامة الطفل وغرق يف الظالم الدام�س‪:‬‬
‫«اللعنة‪ ،‬ما هو اال�سم الذي ُينادى به؟ بل ما هي مالمح ذلك الطفل؟»‬
‫انق�شع الظالم وح َّل حمله ال�سواد الغا�شم الذي يرتافق مع يد غليظة‬
‫خ�شنة ووجه ي�ش ُّع كرهً ا بعينني �ضيقة ك�أنهم عيني �أفعى َت ْن ُف ُ�س �س ًّما وله ًبا‪،‬‬
‫قاوم اجل�سد ال�صغري و�صرخ طال ًبا الغوث والنجدة من امر�أة‪ :‬اللعنة‪ ،‬ما‬
‫اال�سم الذي كان ي�ستنجد به الطفل؟ ِ َل ال ي�ستطيع تبينه؟ ملاذا �ص َّمت‬
‫�آذانه عن �سماعه؟ �أُل ِق َي ال�صغري و�سط �أطفال ُكرث‪.‬‬
‫و�صفتهم املر�أة ذات الوجه ال�شيطاين قائل ًة‪« :‬الب�ضاعة اجلديدة»‪.‬‬
‫رجل �ضخم البنية ذو وجه ممتلئ باجلروح الغائرة الب�شعة مال ُيق ِّلب‬
‫يف تلك الأج�ساد ال�صغرية وقال ب�صوت مرعب‪« :‬ب�ضاعتك هذه املرة ال‬
‫ت�ستحق‪ ،‬جميعهم �أج�سادهم هزيلة‪».‬‬
‫‪5‬‬
‫�أم�سكت املر�أة بيدها القا�سية ذلك ال�صغري الذي ما زال ب�صراخه‬
‫يقاوم‪ ،‬ثم ردت بفحيح خبيث ت�ساومه بتالعب‪« :‬رمبا‪ ،‬ولكن تلك القطعة‬
‫ت�ستحق؛ فالنظافة ت�شع منه؛ �أي �إنه ال يحمل � ً‬
‫أمرا�ضا‪ ،‬وقيمته م�ضاعفة‬
‫ت�ساوي خم�سة ممن يرافقونه‪� ،‬إن مل متنحني مبل ًغا ذا قيمة �س�أتوجه به‬
‫ملن ي�ستطع الدفع �أكرث‪».‬‬
‫بتج ُّهم �صارم قام الرجل مبعاينة ذلك اجل�سد‪ ،‬وقال بح�سم‪�« :‬إذا‬
‫نف�سك خارج‬
‫ِ‬ ‫منك تلك النربة التهديدية مرة �أخرى؛ فاعتربي‬ ‫�سمعت ِ‬

‫ع‬
‫حمايتي‪».‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ت�شو�شت الر�ؤية َّ‬

‫ت‬
‫ليحل الظالم وال�سواد مرة �أخرى‪ ،‬ومل ي�ستطع العقل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أن يتبني ما الذي جرى وانتهت عليه الوم�ضة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�أحدهم يفح�ص اجل�سد ال�صغري مبالب�س مهلهلة‪ ،‬قاوم الفتى وعافر‬

‫ع‬
‫و�صرخ وغرز �أ�سنانه يف �أحدهم فكانت ال�صفعة‪� ،‬صفعه قا�سية فنزف‬
‫ً‬
‫راف�ضا للإهانة‬ ‫دما ًء‪ ،‬التمعت حدقتاه ال�سوداوان بنريان االنتقام‬
‫واالنك�سار‪.‬‬
‫�صوت ثقيل بنربة �شيطانية �أخرب املتعدي‪« :‬اتركه‪ ،‬هذا �سيكون �أحد‬
‫الأبناء‪ ،‬به ب�أ�س و�سواد بنظرته وج�سده قو ًّيا يحتاج لالهتمام‪� ،‬أنا �أجزم‬
‫�أنه �سيكون �أحد الرعية واملدافعني الأ�شداء عن الوكر‪».‬‬
‫غا�ص يف الظالم وتوقفت الوم�ضات كما توقف الزمن‪.‬‬
‫جوع يفتك بالأح�شاء‪� ،‬ضرب ي�أتي من كل �صوب‪ ،‬بعد عدة �أعوام قاتلة‬
‫موجعة تفي�ض بعذاب على تلك الأح�شاء اخلاوية ثم كانت البهجة‪ ،‬عينان‬
‫ع�سليتان ووجه �أبي�ض بي�ضاوي‪ ،‬تلعثم احلروف لطفلة �صغرية ذات ال�ست‬
‫�أعوام خو ًفا ورع ًبا وقه ًرا‪�« :‬أين �أبي؟ كنا يف ال�سوق التجاري ال�ضخم ثم‬
‫اختفى كل �شيء‪».‬‬
‫‪6‬‬
‫تهب بثورة حمائية‪:‬‬ ‫عيناها دمعت‪ ،‬وعينان �أخرى ملعت‪ ،‬ورجولة فتية ُّ‬
‫«يا معلم حماد‪ ،‬تلك تبتعد وال يقرتب منه �أحد‪� ،‬إنها �أ�صبحت �أختي‪».‬‬
‫ابت�سم معلم حماد ذو الوجه الب�شع الذي �أ�صبح �أ ًبا روح ًّيا وحماية‬
‫�إجبار ًّيا للجميع وقال‪« :‬اتركوها وال ت�أخذوها للق�سم الذي يبيع العذراوات‪،‬‬
‫تلك �ستبقى لغر�ض �آخر‪ ،‬فهي تليق له‪».‬‬
‫�أحيط بالظالم ون�سي احللم والأمل‪ ،‬اختلط ال�سواد �أُ ْغ ِل َقت العيون‬
‫ذات اجلمر املحرتق ثم ُف ِت َحت على �سكني حادة ُتقطع يف �أج�ساد �أ�صبحت‬

‫ع‬
‫خاوية‪ ،‬الدماء ُت�سال فتملأ املكان‪ ،‬ال�صراخ �أ�صبح ال ُيطاق‪ ،‬ال�ضعف‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫والذل والهوان‪ ،‬الك�سر والتحطم حتت �صخرة الواقع الأليم‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫ثم فتحت عينان قا�سيتان تنب�ضان وج ًعا من بني نريان اجلحيم يخرج‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫من فوهة بركان خامد �ساكن لأعوام ما�ضية ووجه يت�صبب عر ًقا وب�أنفا�س‬
‫الهثة هتف دون �سيطرة‪�« :‬آية ال»‪.‬‬
‫بحرية نادرة‬ ‫كان يدور بعينيه يف �أرجاء املطار الوا�سع‪ ،‬وهو ي�شعر ِ‬
‫دت �أخ ًريا للمكان الذي ظللت‬ ‫وك�أن جز ًءا منه يت�ساءل �أين �أنا؟ هل ح ًّقا ُع ُّ‬
‫�أحلم بالعودة �إليه طوال خم�س ع�شرة �سنة كاملة؟ و�صل �إىل مكان ختم‬
‫اجلوازات ف�أخرج بروتينية جواز �سفره الغربي لل�ضابط امل�سئول فختم‬
‫رحبة مبا َلغ فيها والرجل‬ ‫�أوراقه �سري ًعا دون �أدنى مناق�شة بابت�سامة ُم ِّ‬
‫يخربه‪« :‬مرح ًبا بعودتك �إىل �أر�ض الوطن‪».‬‬
‫هز ر�أ�سه بربود جليدي بوجه غري مف�سر وبعني م�شتعلة كاجلمر‬
‫املحرتق وال ُغ َّ�صة تزداد مرارة داخل قلبه فتطعن ب�سكني بارد «الوطن!‬
‫ومنذ متى كان له وطن؟!»‬
‫�سحب �أوراقه بنف�س الروتينية وهو يد�سها يف جيب معطفه الأ�سود‬
‫املماثل لقمي�صه وبنطاله وحياته منذ �أن وعت عينيه على تلك الدنيا‬
‫‪7‬‬
‫هزّا كان يخطو‬‫القا�سية‪ ،‬بخطوات واثقة قوية تهز الأر�ض من حتت قدميه ً‬
‫�أخ ًريا �إىل حدودها و�أكمل طريقه �إىل اخلارج حتى دون �أن يلتفت لبع�ض‬
‫الأنظار التي تعلقت بهيمنة ح�ضوره‪ ،‬مل مينح �أحد التفاتة ومل يبت�سم‬
‫حتى‪ ،‬منذ متى عرف وجهه القا�سي ال�شر�س االبت�سامة؟!‬
‫لقد عاهد نف�سه منذ زمن � َّأل تعرف ال�ضحكة الطريق لقلبه �إال وهو‬
‫ظافر منت�صر منتقم‪.‬‬
‫مبجرد خروجه من املطار �صفعه الهواء احلار‪ ،‬وجهه ت�ص َّبب ‪ -‬مثل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ج�سده ‪ -‬بالعرق من حتت مالب�سه‪ ،‬رغم ارتعا�ش اجلموع �أمامه بربد‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ال�شتاء الالذع‪� ،‬شعر باالختناق والتلوث‪� ،‬شعر بالرف�ض وعدم التقبل‪ ،‬رفع‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أنامله وم َّررها يف خ�صالت �شعره الكثيفة‪ ،‬وهو يدرك جيدً ا �أن احلمى‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫التي عانى منها على الفور ال تعود �أبدً ا �إىل الطق�س بل �إىل الربكان اخلامد‬
‫داخل �صدره الذي ُك ِت َب له �أن ينفجر �أخ ًريا ويحرق كل َمنْ حوله بال ذرة‬
‫رحمة �أو تردد‪ ،‬فالغ�ضب يغذيه وال ُكره يزيد من تلك النريان كاحلطب‬
‫ليمنحه الطاقة لال�ستمرار و�أال يتوقف وال يتهاون �أبدً ا‪ ،‬ك�أنه �آلة ال �إن�سان‬
‫ب�شري له حدود وطاقة و�ضعف وقوة‪� ،‬أو كائن ُب ِعثَ من اجلحيم لي�أخذ ث�أره‬
‫دون رحمة �أو �شفقة‪� ،‬أ�شباح ت�سكنه‪ ،‬واملرارة والأمل واحل�سرة تغذيه‪.‬‬
‫ليوجه عينيه �إىل الوجه‬ ‫«�سائد»‪ ،‬هتاف �أفاقه من �أفكاره امل�شتعلة ِّ‬
‫املرحب الب�شو�ش‪ ،‬رجل رمبا تخطى عمره الثالثون‬ ‫الرجويل ال�ضاحك ِّ‬
‫بقليل‪ ،‬لن ي�ستطيع �سائد اجلزم بكم يبلغ عمره حتديدً ا‪ ،‬ومنذ متى علم‬
‫�أحد منهم عن عمره احلقيقي �أو حتى �أ�صله و�صفته؟ فما هم �إال زوائد‬
‫يف �أنظار املجتمع والنا�س ككالب ال�سكك �أو قطط الأزقة املظلمة ُير َكلون‬
‫بالأقدام وينا َدى بالتخل�ص منهم‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫مرح ًبا حتى دون �أن يحاول م�سه‪� ،‬إنه يعلم ب�أ�شباح �صاحبه‬
‫اقرتب عمر ِّ‬
‫وردة فعله �إن حاول �أحد االقرتاب من تلك الهالة التي ت�شع ً‬
‫رف�ضا‪� ،‬إن‬
‫حاول �أحدهم فعلها حتى و�إن كان عمر �صديقه ورفيق دربه وكفاحه املرير‪.‬‬
‫«حمد هلل على �سالمتك‪� ،‬أنا يف انتظارك منذ وقت طويل لقد ت�أخرت‬
‫طائرتك‪».‬‬
‫تقدم �سائد بجانب عمر مي�شي نحو ما �أ�شار دون �أن يتفوه بكلمة واحدة‬
‫فقط اكتفى �أن يه َّز ر�أ�سه مبا ي�شبه �إجابة موافقة‪ ،‬و�صل �إىل ال�سيارة‬

‫ع‬
‫احلديثة �سوداء اللون كما طلب وفتح بابها‪ ،‬ثم �ألقى بجذعه ال�ضخم يف‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫املقعد اخللفي قبل �أن يقول ب�صوت متج ِّمد ال حياة فيه مماثل ل�شخ�صيته‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫«�أين الرجال؟ مل �أر �أحدً ا منهم‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫احت َّل عمر املقعد املجاور لل�سائق وهو يقول بب�ساطة‪« :‬بع�ضهم‬
‫يف ال�سيارة اخللفية والبع�ض الآخر ينتظر يف ال�شركة ال�صغرية التي‬
‫داع لأن ي�أتي اجلميع ونلفت االنتباه‪».‬‬
‫افتتحناها‪ ،‬مل �أجد ٍ‬
‫رد �سائد بجمود‪« :‬خ ًريا فعلت‪ ،‬ال داعي لإثارة جلبة يف الوقت احلايل‪،‬‬
‫�أريد �أن يتم عملنا يف �سرية تامة وهدوء كما تتم كل العمليات القذرة‪».‬‬
‫تن َّهد عمر بغري ر�ضى وهو يب�سط ك َّفه �أمام ال�سائق وهو من رجالهم‬
‫و�أمره بالتحرك‪.‬‬
‫يعاود عمر ويلتفت �إىل �سائد وي�سلمه بع�ض الأوراق وهو يخربه‪« :‬كل‬
‫املعلومات التي طلبتها �ستجدها هنا‪ ،‬مرفقة ببع�ض ال�صور لكل �شخ�ص‬
‫عليه العني حتديدً ا‪».‬‬
‫ا�ستلم منه �سائد الأوراق بروتينية يتفح�صها بتلك العينان ذات اجلمر‬
‫املحرتق‪ ،‬قبل �أن تقع بيده �إحدى ال�صور التي زادت من حدة ا�شتعال عينيه‬
‫‪9‬‬
‫وحت ُّفز ج�سده ال �إراد ًّيا‪ ،‬مرر يده وك�أن �شي ًئا يجربه على تلك ال�صورة التي‬
‫ال ُت ِق َطت لفتاة عفوية الت�صرفات ب�شعر �أ�سود ق�صري ملتوي اخل�صالت‬
‫وعينني وا�سعتني بلون رمادي منطفئ عك�سه هو‪ ،‬ووجه خمري على �شكل‬
‫قلب‪ ،‬مييل فمها ب�شبه ابت�سامة �ساخرة وهي تقف على حمطة ناقالت‬
‫عامة على ما يبدو‪ ،‬ملاذا ت�سكنه احلرية؟ ب�سبب ب�ساطة مالب�سها �أو �أنها‬
‫ت�ستخدم و�سائل موا�صالت‪ ،‬لقد و�صله من قبل معلومات وافية عنها‪،‬‬
‫وعلم جيدً ا ما الذي و�صلت �إليه تلك الفتاة من حياة مرفهة ناعمة �إىل‬

‫ع‬
‫احل�ضي�ض والقاع‪ ،‬ما ال�سبب؟ ال يهمه يف احلقيقة ال�سبب وال يعنيه �أين‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ذهب كل هذا الرتف الذي جناه والدها من‪...‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫قطع تفكريه فج�أة وهو يلقي بر�أ�سه ب�إهمال على املقعد و�أغم�ض عينه‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫بت�شدد‪ ،‬ال يجب �أن يغرق الآن يف دوامة الذكريات‪ ،‬يجب �أن يحر�ص على‬

‫ع‬
‫كل تركيز وانتباه و�إن كانت حتريه تلك الأحالم التي عادت بقوة ت�شعل‬
‫يعان �سائد من �سواد‬ ‫عقله بوم�ضات ت�أخذه يف دوامات‪ ،‬ومنذ متى مل ِ‬
‫كوابي�س ما�ضيه ولكن ما يحريه بحق ملاذا الآن؟ عادت ت�ضرب بقوة‪،‬‬
‫رمبا هو يعلم الإجابة؛ لأنه �أخ ًريا �أ�صبح بالقوة التي ُتهيئه لأخذ حقه بل‬
‫حق اجلميع‪ ،‬ولكن ما يجعله يت�شتت يف وقت عا�صف كهذا تلك الوم�ضات‬
‫الغريبة التي �أ�صبحت تتكاثف عليه‪ ،‬لتلك املر�أة الب�شو�شة وطفلها املدلل‬
‫�أول كابو�سه‪َ ،‬منْ هي َومنْ ذلك الطفل املقاوم ال�صارخ؟ بل ملاذا عقله كل‬
‫مرة يحجب عنه الأ�سماء ومالمح تلك الوجوه؟ وملا ميتزج كابو�سه دائ ًما‬
‫مع تلك الوم�ضات امل�شتعلة التي يتذكر بها �سبب ُغ َّ�صته التي تطعن قلبه‬
‫بخنجر �سام وترتكه منق�س ًما ل�شطرين‪ ،‬ولكن ال تزيده �إال �إ�صرا ًرا على‬
‫هدفه حتى و�إن كان املوت هو نهايته‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫‪10‬‬
‫َ‬
‫احل ُّر �أ�صبح ال ُي ْحتَمل يف تلك ال�شقة الكئيبة املك َّونة من غرفة واحده‬
‫تقع �أعلى �سقف عمارة قدمية يف م�سكن �شعبي‪ ،‬هواء �ساخن ملأ الغرفة‬
‫بطريقة غريبة رغم برودة اجلو يف اخلارج‪.‬‬
‫حتركت دجوى من مكانها ب�ضيق ي�صاحبه امللل ترفع علبة الطعام‬
‫التي قامت ب�شرائها م�سب ًقا ومل تن�س منها �شي ًئا ف�ألقتها يف الثالجة‬
‫ال�صغرية املهرتئة ككل �شيء يف ذلك امل�سكن‪ ،‬ثم حتركت بنف�س اجلمود‬
‫ورمت بج�سدها على الأريكة‪ ،‬و�ضعت ك َّفيها متعانقني حتت وجنتها‬
‫و�شردت يف البعيد بعينيها الرماديتني يف منزلها الوا�سع الذي ق�ضت فيه‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أعوامها االثنتني والع�شرين قبل �أن ُت ْط َر َد منه هي و�أمها منذ خم�سة �أعوام‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ما�ضية‪ ،‬عيناها بد�أت َت ْن َدى ب�أول قطرات دموعها فلم ت�شعر بها وهي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫تتذكر كل ما حدث بعد خروجهم من منزلهم وجتريدهم من كل �شيء‬

‫والتوز عي‬
‫با�سم القانون‪� ،‬أو ت�ستطيع القول‪ :‬باخلدعة وامل�ؤامرة التي حيكت لهنَّ ‪،‬‬
‫حذر حري�ص ك�أنها‬ ‫وهي على يقني بذلك‪ ،‬ارتفعت عيناها ارتفعت ببطء ِ‬
‫ترف�ض �أن تراقب تلك ال�صورة التي و�ضعتها على ذلك احلائط‪ ،‬لتلتقي‬
‫�أخ ًريا مع وجه �أمها الأر�ستقراطي‪ ،‬والتي مل تتحمل ما حدث ف�أ�صابها‬
‫املر�ض ال�شديد و�أتبعه ال�شلل بجميع �أطرافها‪ ،‬لقد حاولت االعتناء بها‬
‫منف�صل‪ ،‬ومت �صرفه على العالج والق�ضايا‬ ‫ً‬ ‫وباعوا كل ما كانت متلكه �أمها‬
‫واملحاكم‪ ،‬رمبا ي�ستطعن �أن ي�سرتدا جز ًءا من �أمالكهنَّ التي ُ�س ِل َب ْت‪ ،‬فلم‬
‫ي�ستطعن و�سط حبال املحكمة الطويلة ملدة �أربعة �أعوام‪ ،‬وبعدها كانت‬
‫ال�صدمة برف�ض الق�ضية فلم تتحمل �أمها �أكرث و�س َّلمت روحها هلل الواحد‬
‫الأحد‪ ،‬فهو �أحنُّ عليها من ذلك العامل الغادر‪ ،‬وبقيت هي وحيدة كفرع‬
‫�شجرة تع َّرى من كل �أوراقه لي�سهل ك�سره يف مهب الريح‪ ،‬دموعها زادت‬
‫غزارة حتى �ش َّو�شت الر�ؤية �أمامها‪ ،‬الربد �أ�صبح ينخر يف عظامها الرقيقة‬
‫رغم ال�شعور اخلانق باحلر‪ ،‬م َّدت يدها ت�سحب ذلك الغطاء الرقيق الذي‬
‫‪11‬‬
‫تلقيه على الأريكة عاد ًة تغطي نف�سها به جيدً ا (رباه هل ميكن لإن�سان �أن‬
‫يرجتف بردًا ويغلي نا ًرا يف � ٍآن واحد؟!)‬
‫�ض َّمت ذراعيها �إىل �صدرها ب�شدة وهي حتاول اغت�صاب بع�ض الغفوة‬
‫حتى ُتريح عقلها الغارق يف مرارته من دوامته‪ ،‬رمبا جتد يف النوم ال�سالم‪،‬‬
‫ولكن هيهات قد ت�ست�سلم للنوم‪ ،‬ولكن �أين قد تهرب من كوابي�سها‪ ،‬النهاية‬
‫�آتية ال حمالة‪.‬‬
‫‪q q q‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫يف لفتة نادرة‪ ،‬ارت�سمت عالمة ا�ستنكار باهتة على وجهه وهو يلتفت‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ً‬
‫مت�سائل بنربة حازمة‪« :‬ما الذي تفعله هذه هنا؟!»‬ ‫لعمر‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫حتركت َ�ش َفتَا عمر بنزق قبل �أن يتقدم منه يخربه ب�صوت خافت وهو‬

‫ع‬
‫يراقب الكيان الأنثوي الذي يقف مرجت ًفا بع�ض ال�شيء ويف عينيها نظرة‬
‫خوف‪ ،‬خوف يعلم جيدً ا ماهيته احلقيقية عندما قال‪« :‬وماذا قد تكون‬
‫بر�أيك؟ �إنها �سكرترية املكتب اخلا�صة‪».‬‬
‫�أعاد �سائد نظراته �إىل عينيه بربود ووجه عاد لالنغالق مبالمح ال‬
‫مبال بتلك الفتاة التي مت َّكن منها‬
‫تف�سر‪ ،‬ثم خرج مبا�شر ًة من املكان غري ٍ‬
‫اخلوف‪ ،‬هل تودِّع وظيفتها التي ح�صلت عليها بعد �صعوبة وعناء؟!‬
‫جل�ست متهالكة على مقعدها ودفنت وجهها يف راحتيها قبل �أن ت�سمع‬
‫أخربتك م�سب ًقا‬
‫ِ‬ ‫عليك يا رابحة لقد �‬
‫ال�صوت الرجويل يخربها مبت�س ًما‪« :‬ال ِ‬
‫عن ح َّدة �سائد يف التعامل‪».‬‬
‫رفعت رابحة عينيها البنيتني الوا�سعتني قائل ًة بخفوت‪�« :‬إنه لي�س حادًّا‬
‫�سيد عمر‪ ،‬بل مرع ًبا �أعتقد �أنني ودعت وظيفتي‪».‬‬

‫‪12‬‬
‫مل ي�ستطع عمر منع �ضحكته وهو يت�أملها جيدً ا‪ ،‬يتذكر عندما �أتت منذ‬
‫�شهور مقتحمة للمكان ‪ -‬وكان ما زال طور الإن�شاء ‪ -‬مطا ِل َبة ‪ -‬ال طالبة‬
‫‪ -‬بوظيفة يف املكان عرب ُخطبة طويلة �ص َّماء عن عدم �شعور الأغنياء بهم‬
‫هم الكادحون‪ ،‬ورف�ض �أ�صحاب ال�شركات منح وظيفة لفتاة عادية ال�شكل‬
‫واملالب�س‪ ،‬م�صرة بكل تع ُّنت �أنها ت�ستحق تلك الوظيفة‪ ،‬ورغم �أمر �سائد ال‬
‫�شرطه �أن يكون كل العاملني من الرجال‪ ،‬مل ي�ستطع �أن يرف�ض طلبها‪ ،‬بل‬
‫منحها تلك الوظيفة على الفور‪ ،‬بالطبع مع �ضحكته ال�ساخرة من قولها‬
‫عدم �شعورهم بالكادحني‪.‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫«الكادحون! وماذا تعلمني �أنت عن الكادحني احلقيقيني‪ ،‬الذين‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫يكافحون فقط من �أجل �أن يبقوا على قيد احلياة �أمام موجة برد قار�صة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫وهم لي�س لديهم م�أوى �أو �سكن �أو حتى بع�ض املالب�س التي ت�سرت �أج�سادهم‬

‫‪ q q q‬والتوز عي‬
‫الهزيلة؟!»‬

‫بحركة �إ�صبع حادة كان مينع الرجال من اتباعه‪ ،‬بتج ُّهم كان يتعجب‬
‫من �أفعال عمر‪ ،‬لقد طلب ه�ؤالء الرجال لوقت حمدد �سي�ستعني بهم يف‬
‫خطته ال �أن يتبعوه يف كل مكان كما يحدث من الأم�س‪ ،‬ا�ستقل �سيارته‪،‬‬
‫وانطلق �سري ًعا من املكان ومع ا�ستمرار ال�سيارة يف طريقها‪ ،‬كانت عيناه‬
‫ال تفارق ه�ؤالء الذين يفرت�شون الر�صيف ليعر�ضوا عليه ب�ضائعهم ب�أ�سعار‬
‫زهيدة مثلهم‪ ،‬وجوههم الكاحلة يرت�سم عليها اله ُّم والتح�سر واملر�ض‬
‫واجلوع الذي َي ْن َخ ُر ب�أج�سادهم دون رحمة‪ ،‬تنتقل عيناه �إىل �صنف �آخر‬
‫مم�سك باملكان�س يجاورهم املت�سولون‪ ،‬وهو ي�ستطيع ‪ -‬برباعة مكت�سبة‬
‫باخلربة لأكرث من ثمان ع�شر �سنة ‪� -‬أن ي�صنفهم بني حمرتفني وهواة! ثم‬
‫وبكل جلد ذاتي كانت عيناه تبحث نحو هدفه وغ�صة قلبه‪ ،‬ويف �أحد الأزقة‬
‫‪13‬‬
‫يخ ْب ظنه وقد وجدهم ينكم�شون حول بع�ضهم ك�أنهم يتلم�سون الدفء‬ ‫مل ِ‬
‫جدا‬ ‫من �أج�سادهم ال�ضعيفة‪ ،‬يقت�سمون �شي ًئا ما فيما بينهم لي�سد ً‬
‫قليل ًّ‬
‫من رمق جوعهم‪ ،‬ك�أن ال�سنوات الفا�صلة مل ُتغري فيهم �شي ًئا‪ ،‬مالب�س قذرة‬
‫مهرتئة ال ت�سرت �شي ًئا من �أج�سادهم الهزيلة‪ ،‬وجوه مغ َّربة مت�سخة تعلوها‬
‫نظرة تائهة حائرة و�ضائعة‪.‬‬
‫كاد �سائد �أن يوقف �سيارته عندما انتابته موجة �ضعف حادة‪ ،‬اجتاحته‬
‫دون قدرة له على �إيقافها‪ ،‬فتقب�ضت يداه بعنف على املقود وزاد من �سرعة‬

‫ع‬
‫�سيارته ك�أنه يهرب من تلك املالمح التي يعلمها عن ظهر قلب خم ًربا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫نف�سه بقوة وق�سوة‪« :‬ال‪ ،‬لن ت�ضعف ويتوجب عليك �أن تزيل �أي بادرة �ضعف‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الآن‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫منع بقوة الأمل الذي �سرى يف داخله ليطعنه يف النهاية كن�صل �سكني‬

‫ع‬
‫حاد‪� ،‬أو م�شرط عدمي الإن�سانية والرحمة‪.‬‬
‫«ال»‪ ،‬هتفها لنف�سه بقوة حازمة م�سيطرة كعادته يف الأعوام اخلم�س‬
‫ع�شر املا�ضية منذ �أن هرب وهو يق�سم �أن يعود ليذيقهم من ك�أ�س عذابه‪.‬‬
‫بر�ص بع�ض املواد الغذائية على الأرفف يف ذلك (املاركت)‬ ‫كانت تقوم ِّ‬
‫املتو�سط‪ ،‬الذي ا�ستطاعت �أن تلحق بوظيفة فيه منذ �أربع �سنوات بعد �أن‬
‫بد�أت مدخرات والدتها يف االنتهاء‪ ،‬ومالمح الإرهاق والتعب نالت منها‬
‫بقوة بعد ليلة مت َّكن منها ال�سهاد ومل ت�ستطع �أن تنام حتى دقيقة واحدة‪،‬‬
‫الذكريات ال�سعيدة التي ق�ضتها �أمرية مدللة تتدفق على عقلها بق�سوة‬
‫توح�ش حياتها التي انقلبت ر� ًأ�سا‬
‫فتعود حتمد اهلل دون كلل �أو ملل‪ ،‬برغم ُّ‬
‫على عقب كان رحي ًما بها �أن مينحها القوة والثبات لتُعافر وال تنج َّر‬
‫لطريق مظلم فتخ�سر نف�سها وتربيتها و�أخالقها التي كان يزرعها فيها‬
‫والدها منذ نعومة �أظافرها‪ ،‬نعومة! نظرت ليديها التي �أ�صبحت خ�شنة‬

‫‪14‬‬
‫من ال�شقاء بح�سرة على مكان‪ ،‬فعادت تهم�س لنف�سها بقوة‪« :‬توقفي دجوى‬
‫والدك �ستعيدينه رغم‬
‫ِ‬ ‫عن تذ ُّكر ما ِ‬
‫كنت عليه‪ ،‬حرب مل تنت ِه بع ُد ومال‬
‫إياك‪».‬‬
‫�أنفهم وحماربتهم � ِ‬
‫عينان قا�سية حاقدة غام�ضة كانت تتابعها منذ ما يقرب �ساعة وهي‬
‫تنتقل هنا وهناك‪ ،‬حتى ر�ؤيتها ذليلة بهذا ال�شكل بعد العز ورغد العي�ش‬
‫ي�شف غليل قلبه‪ ،‬ومل يوقف ذلك الربكان الذي‬
‫الذي كانت تتم َّرغ فيه مل ِ‬
‫يثور مهددًا �أن يتوجه �إليها على الفور وينفذ فيها حكمه‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫انتبه لرنني هاتفه‪ ،‬ف�أخرجه من جيب معط َفه ب�آلية جمي ًبا بجموده‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫املعتاد‪« :‬ما الذي تريده؟»‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قليل وهو يخربه‪« :‬االطمئنان عليك‪ ،‬لقد‬‫�أتاه ال�صوت الآخر م�شف ًقا ً‬

‫زييا عمر‪،‬‬
‫ع‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫خرجت منذ �ساعات‪ ،‬وقلقت �أن تكون �ضللت طريقك‪».‬‬
‫احل�س‬ ‫مرهف‬ ‫�ضحك دون مرح وهو يرد بربود‪�« :‬أنت �أ�صبحت‬
‫يبدو �أنك ن�سيت �أنني حفظت تلك البلد ب�شوارعها وحاراتها و�أزقتها‪َ ،‬ومنْ‬
‫�أكرث مني عل ًما بخفاياها املظلمة؟!»‬
‫تبدلت مالمح عمر الو�سيمة يف حلظة وهو يقول بتجرب متجنب بروده‪:‬‬
‫«�أنت الذي تن�سى �أن ق�ضيتنا واحدة‪ ،‬وبالت�أكيد �أعلم ما تقوله عن ظهر‬
‫قلب‪».‬‬
‫م�صححا ومذك ًرا‪« :‬حربنا يا عمر‬
‫ً‬ ‫�ش َّدد �سائد على حروفه وهو يخربه‬
‫والتي نعلم عن يقني �أننا لن نخرج منها �أبدً ا على قيد احلياة‪».‬‬
‫ال�صمت �ساد لدقائق معدودة قبل �أن يقول عمر بقوة م�ؤكدة‪« :‬حربنا‬
‫يا �سائد‪ ،‬ث�أرنا الذي لن نتنازل عنه وقد بايعتك عليه‪».‬‬

‫‪15‬‬
‫�أغلق �سائد جفناه وهو يخربه‪« :‬ما الذي تفعله تلك عندك يا عمر؟ ال‬
‫أزج ب�أبرياء يف طريقي �أو ينالها الأذى �إن ُك ِ�شفْنا‪».‬‬
‫�أريد �أن � َّ‬
‫القلب الأ�سود املتحجر لديه م�شاعر �إن�سانية �أخ ًريا يعرب عنها! علم‬
‫عمر عن يقني �أن �سائد لن يف�صح عنها ل�سواه فر َّد مبواربة‪« :‬وجودها كان‬
‫�ضرور ًّيا من �أجل الواجهة االجتماعية‪ ،‬كما �أن حالتها االجتماعية يف فقر‬
‫مدقع‪ ،‬ف�أخربت نف�سي ِ َل ال ن�ساعدها بقليل من املال‪ ،‬وبعدها ن�ستطيع‬
‫اخرتاع حجة و�إبعادها عن املكان وعنا‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫َع َّم ال�صمت مرة �أخرى بينهم قبل �أن يقول �سائد بنربة متجمدة‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫«امل�شاعر لي�ست لها مكان بيننا‪ ،‬و�إن كنت تهتم بها كما فهمت من نظرات‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫عينيك ودفاعك عنها حتى دون �أن تقول املزيد يجب �أن تتخل�ص منها‬

‫ع‬
‫وعلى الفور‪ ،‬ال �أريد ل�شيء �أن يعطلنا‪ ،‬هل تفهم؟»‬
‫مل ير َّد عمر‪ ،‬فقال �سائد دون �أن يزيح عينينه ال�سوداوين القا�سيتني‬
‫عن دجوى‪« :‬واحدة فقط من �سن�سمح لها ب�أن حترتق بذلك اجلحيم يا‬
‫عمر‪».‬‬
‫�أخذ عمر َن َف ً�سا عمي ًقا قبل �أن يخربه بهدوء متعمق كعادته يحاول �أن‬
‫ُيحجم ذلك الغ�ضب الأ�سود الذي يخرج منه عندما قال‪« :‬هي � ً‬
‫أي�ضا لي�س‬
‫لها ذنب ُي ْذ َكر يا �سائد‪ ،‬لقد تعاهدنا عندما ُك ِ�ش َف كل �شيء � َّأل نح�صد‬
‫�أبرياء يف طريقنا‪ ،‬فلماذا ت�صر �أن جترف يف تيارك تلك الفتاة؟»‬
‫«عمر»‪َ ،‬ه َد َر بها �سائد ُم ْنه ًيا احلوار وهو يقول بت�شدد‪�« :‬إياك �أن‬
‫تتدخل فيما ال يعنيك �أبدً ا‪ ،‬هي ق�ضية �أخرى تخ�صني وحدي وبعيدة عن‬
‫متاما‪».‬‬
‫تدخلك ً‬
‫‪16‬‬
‫لطاملا كان عمر الوجه الناعم جلحيم �سائد‪ ،‬ف�إن كان هو العقل‬
‫املخطط امل�سيطر‪ ،‬فعمر دائ ًما هو الأداة املنفذة يف اخلفاء‪ ،‬حدود و�ضعها‬
‫الآخر منذ زمن بينهم‪ ،‬ويبدو �أن دجوى �أ�صبحت �إحدى اخلطوط التي لن‬
‫ي�سمح ملخلوق بتعديها؛ لذا قال عمر بهدوء متجن ًبا كل حديثهم‪« :‬جميع‬
‫حتركات ر�أ�س الأفعى �أ�صبحت بني يدينا ولي�س هذا فقط يا �سائد‪ ،‬بل‬
‫وجدت ثغرة ونقطة �ضعف لهم ن�ستطيع �أن ن�صل منها �إليهم ب�سهولة‪».‬‬
‫هرما يا عمر‬
‫مل تهد�أ تعابري �سائد قط وهو يخربه ب�شرا�سة‪« :‬لته َّد ً‬
‫وت�سويه بالأر�ض‪ ،‬يجب عليك �أن تبد�أ من القاع من قاعدة الهرم؛ حتى ال‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫تقم له قائمة �أو يعيد �أحد ت�شكيله‪».‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ل‬
‫قال عمر والق�سوة وال�شرا�سة تعود تك ِّلل مالحمه‪�« :‬ستبد�أ‪ ،‬بال�ضباع‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫ال�صغرية‪».‬‬
‫ا�شتعلت عينا �سائد بوح�شية قبل �أن يقول‪« :‬نعم بالوكر وال�شارع‪� ،‬إنهم‬
‫الأول يف قائمتي‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫بعد عدة �ساعات عاد �إىل ال�شقة الفخمة‪ ،‬التي اختارها يف مكان‬
‫هادئ‪ ،‬رمبا هو ُيحب الهدوء بعيدً ا عن �ضو�ضاء الب�شر �أو حماولة �أحدهم‬
‫لدخول حياته دون �إذن ولكن هدفه الأ�سا�سي من تلك ال�شقة حتديدً ا‬
‫لغر�ض معني يف مرحلته القادمة‪ ،‬فتح باب املنزل وخطا �إىل الداخل دون‬
‫�صوت �أو جلبة ُتذكر ك�أنه �شبح يتنقل بني ظلمات الليل الطويلة‪ ،‬مل يفتح‬
‫النور كعادته ومنذ متى كان يحتاج لأ�ضواء كي يتلم�س طريقه؟! ال�سواد‬
‫كان يحيطه منذ نعومة �أظافره‪ ،‬وعندما �أتى ب�صي�ص نور واحد يف عمره‬
‫البائ�س‪ ،‬قاموا بقت ‪...‬‬
‫‪17‬‬
‫بق�سوة يتخللها القهر عاد ليخرب نف�سه‪« :‬توقف‪ ،‬توقف �أنت لن تتذكر‬
‫�شي ًئا الآن‪ ،‬لن ت�ضعف لقد بد�أت لعبتك وانتقامك‪».‬‬
‫وكعادته منذ �سنوات عندما يكرث عليه ال�ضغط‪ ،‬يلج�أ �سري ًعا لإيالم‬
‫ج�سده ب�سادية! حتى ُيفرغ كل موجة غ�ضبه ليتمكن من �إخ�ضاعه وو�ضعه‬
‫حتت ال�سيطرة حتى الوقت املنا�سب‪.‬‬
‫قليل من الريا�ضة القا�سية لن ي�ضر‪� ،‬ألقى ج�سده على الأر�ض وا�ستغرق‬
‫مبمار�سة متارين ال�ضغط ب�صفة خا�صة حتى يتعدى املائتني بنتيجة هائلة‪:‬‬

‫ع‬
‫واحد اثنان‪ ،‬ع�شرة مائة مائتان وال نتيجة‪ ،‬الغ�ضب ال ُي ْح َت َمل‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫اعتدل متقطع الأنفا�س‪ً � ،‬إذا ال حل �آخر‪ ،‬قليل من الدماء رمبا ُتفرغ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ُج َّل �سخطه‪ ،‬ا�ست َّل ُم ْد َية �صغرية من جيبه وم َّد ذراعه وبد�أ عمله‪ ،‬جروح‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫يوما‪،‬‬
‫غائرة متلأ ذراعيه‪ ،‬تلك الذراع بالذات التي �ض َّمها بها �إىل �صدره ً‬

‫ع‬
‫يرت�شف من رحيق ثغرها ويدخل جنان ع�شقها‪ ،‬ينهل من روحها كما‬
‫ُيعطيها جز ًءا من روحه‪ ،‬وقت م�سروق من الزمن كان يغرق فيه معها‬
‫بدنيا مل يعرفها �أبدً ا فيعرفها عليها ويتل َّم�سا طريقهما ب�أعمارهم التي مل‬
‫تتع َّد �سن مراهقة!‬
‫الدماء ت�سيل راقبها بق�سوة خملوطة باحلنني (�آية)‬
‫�ساحما لعقله‬
‫ً‬ ‫�أغم�ض عينيه ور�أ�سه ترجع للخلف ي�ستند على احلائط‪،‬‬
‫�أخ ًريا ب�أن يتذكر بهدوء تلك الأوقات امل�سروقة من الزمن واجلميع!‬
‫‪q q q‬‬
‫ا�ستيقظ يف ال�صباح الباكر وذهب �إىل احلمام مبا�شر ًة لي�أخذ ً‬
‫حماما‬
‫�سري ًعا‪� ،‬سيبد�أ خطواته الأوىل بانتقامه بعد �أن تخل�ص من �سيل الذكريات‬
‫القا�سية يف اليومني املا�ضيني‪ ،‬لقد علمته حياة الغربة عدم البكاء على‬
‫‪18‬‬
‫احلليب امل�سكوب‪ ،‬و�أال يتوقف �أبدً ا ويغرق يف رثاء الذات‪ ،‬خرج �سري ًعا‬
‫ين�شف املاء من على جذعه ال�ضخم‪ ،‬قبل �أن يرتدي ُح َّلة ريا�ضية �سوداء‬
‫اللون‪ ،‬ثم توجه �إىل الأ�سفل مبا�شر ًة �إىل الرك�ض ولكن رك�ضه لن يتوقف‬
‫يف احلي الراقي الهادئ الذي اختاره‪ ،‬بل يعلم يقي ًنا �أنه �سي�أخذ الطرق‬
‫اخللفية ويت�سلل �إىل تلك الأحياء الفقرية املن�سية‪ ،‬عج ًبا على تلك الدولة‬
‫�شارع واحد يف�صل بني ح َّي ْ ِي من �أ�شهر �أحيائها‪� :‬أحدهما ين�ضح بال ُّرقي‬
‫والرتف والهدوء والأمان‪ ،‬والآخر ميتلئ بال�سرقة والغوغاء‪ ،‬ويغرق �أهله‬
‫يف احل�ضي�ض �إال َمنْ رحمه ربه!‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بعد رك�ض دام ن�صف �ساعة و�صل �إىل املكان املق�صود‪ ،‬كما و�صلته‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫التقارير عن موعد نزولها من ذلك البيت املهرتئ‪ ،‬راقبها‪ ،‬تق ِّلب عينيها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫بتخبط وخوف يف ال�شارع الذي يخلو من املارة يف هذا الوقت‪ ،‬قبل �أن‬

‫والتوز عي‬
‫ت�أخذها خطواتها املت�سارعة لإحدى الطرق ال�ضيقة التي بالكاد مترر‬
‫�شخ�صني؛ نظ ًرا لتالحم املنازل بجانب بع�ضها‪ ،‬تبعها �سائد دون تفكري‬
‫عن ُب ْع ٍد‪ ،‬قبل �أن تتحفز كل ع�ضلة يف ج�سده ال�ضخم وهو يرى �آخر‬
‫يتبعها بخطوات متقاربة‪ ،‬تت�سارع خطواتها ُبذعر على ما يبدو‪ ،‬فتالحقها‬
‫خطوات الآخر من ورائها‪ ،‬ويف �أقل من حلظة‪ ،‬كان الرجل مي�سك ذراعها‬
‫خا�صا يعرف �أنه ال يحمله �إال‬ ‫بق�سوة يثبتها �إىل �صدره و ُيخرج �سكي ًنا ًّ‬
‫البلطجية ي�ضعه على رقبتها مبا�شرة‪� ،‬أغم�ضت دجوى عينيها م�ست�سلمة‪،‬‬
‫كانت ت�شعر �أن الأمر مل يكن جمرد تهديد‪ ،‬لقد و�صلوا �إليها للخال�ص‬
‫منها ال حمالة وها هي �ست ُْذ َب ُح هنا‪ ،‬ورمبا لن يتعرف على جثتها �أحد‪،‬‬
‫وا�ضحا‪ :‬ف�صل ر�أ�سها عن ج�سدها ثم ت�شويه معاملها كل ًّيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫فالتهديد كان‬
‫مل تعرف متى ظهر هذا الرجل من العدم‪ ،‬وقال بهدوء �صقيعي‬
‫غريب خماط ًبا ذلك املجرم‪�« :‬أن�صحك �أن ترتكها وتف َّر من �أمامي‪ ،‬هذا‬
‫مل�صلحتك اخلا�صة‪».‬‬
‫‪19‬‬
‫كان رد ذلك املعتدي �سباب انطلق من فمه قبل �أن يقول مهددًا‪« :‬ال‬
‫تدخل فيما ال يعينك يا هذا و�إال �ستكون �أنت ال�ضحية التالية‪».‬‬
‫�شعرت بنف�سها تندفع بعيدً ا يف حلظة‪ ،‬لترتاجع بعينني متو�سعتني‬
‫غارقتني يف الدموع ويديها ترتفع تتح�س�س مكان ال�سكني الذي رمبا طال‬
‫رقبتها بجرح ب�سيط �إثر دفع ذلك الرجل لها بقوة و�سرعة متاثل �سرعة‬
‫ذئب �أ�سود‪.‬‬
‫كانت تراقب برعب املعركة التي مل تكن متكافئة باملرة‪ ،‬مهاجمها‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫حاول �أن يوجه �ضربة للرجل ولكنه مل ي�ستطع‪ ،‬فذلك الرجل القمحي كان‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫يقاتل بطريقة غريبة جتمع بني حركات قتالية حمرتفة و�أخرى ع�شوائية‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ولكن �شديدة الت�أثري �إذ ا�ستطاع خالل دقائق قليلة �أن ُي�سقط الرجل‬

‫هذا؟» تل َّب�س مالحمه الإجرامية‪�« :‬سرقةوالتوز عي‬


‫أر�ضا‪ ،‬ويقف م�شر ًفا عليه وهو يقول �آم ًرا‪« :‬ما الذي كنت تريده منها؟»‬
‫� ً‬
‫متعلقاتها‪ ،‬وماذا‬ ‫رد الرجل بذعر‬
‫قد يكون غري‬
‫امل�سجى على الأر�ض وهو يقول بح َّدة‪« :‬ومنذ‬
‫انحنى �سائد على اجل�سد َّ‬
‫رجل يعرف كل‬ ‫متى تكون �أهدافكم �سكان احلارات الع�شوائية؟! ال تخدع ً‬
‫�أالعيب �أمثالك‪».‬‬
‫مت َّكن الهلع من الرجل وهو يحاول �أن يتم َّل�ص منه‪� ،‬أخرجه �صوت‬
‫دجوى املرجتف تخربه‪�« :‬س�أطلب ال�شرطة ً‬
‫حال‪».‬‬
‫رفع �سائد ر�أ�سه �سري ًعا وهو يقول بعنف‪�« :‬أي �شرطة تلك؟ هل تعتقدين‬
‫بحقك‪� ،‬أو ي�أتون من الأ�سا�س و ِّفري ر�صيد هاتفك ل�شيء‬
‫لك ِ‬ ‫�أنهم �سي�أتون ِ‬
‫�أنفع‪».‬‬

‫‪20‬‬
‫�سارت دجوى بجواره دون كلمة �إ�ضافية‪ ،‬عندما �أفلت ذلك الل�ص‬
‫الذي ف َّر هار ًبا وبدون �أي حديث كان ي�شري لها �أن تتحرك �أمامه‪ ،‬ورغم‬
‫�أنه مل يبادر بال�س�ؤال �شعرت �أنه يتوجب عليها �أن تو�ضح موقفها فنطقت‬
‫بارتباك وهي تعود تنظر له بتفح�ص رغ ًما عنها‪�« :‬أنا �أخرج كل �صباح‬
‫لعملي‪ ،‬و� ِّ‬
‫أف�ضل �أخذ الطرق اجلانبية؛ حتى ال �أ�ستغرق الكثري من الوقت‪».‬‬
‫�صباح باكر وت�أخذ طريق الأزقة املرعب كل يوم‪ً � ،‬إذا ابنة الذوات‬
‫غبية‪ ،‬ورغم مرور خم�سة �أعوام على كارثتها وحرمانها من داللها ال�سابق‬

‫ع‬
‫مل ت�ستطع الأيام القا�سية التي مرت عليها �أن متنحها بع�ض الذكاء‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫االجتماعي‪ ،‬حتى من �أجل �أال تخاطر بحياتها‪ ،‬عندما مل ير َّد عادت تقول‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬


‫بتقطع‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫اغت�صابك‪».‬إذ رد بهدوء توز عي‬
‫ظهورك مل �أكن �أعرف م�صريي الآن‪».‬‬ ‫لوال‬ ‫معي‬ ‫ل�شهامتك‬ ‫«�أ�شكرك‬
‫«ولكن �أنا �أعرف‪،‬‬ ‫غريب‪:‬‬ ‫هذه املرة مل ي�ستطع جتنبها �‬
‫�سرقتك �أو رمبا �أ�سو�أ؛‬
‫�شهقت دجوى برعب وهي ترجع للخلف خطوات �إىل �أن تركت الر�صيف‬
‫الذي كانا مي�شيان عليه لت�صبح يف ال�شارع ال�سريع مبا�شرة‪.‬‬
‫�شتم �سائد بعنف‪ ،‬قبل �أن متت َّد يداه مت�سك ذراعيها بقوة وي�سحبها‬
‫نحوه‪.‬‬
‫بكل ت�أكيد ما يحدث من م�ساء الأم�س كان كث ًريا عليها‪ ،‬تهديد بالقتل‬
‫والت�شويه ثم ل�ص ي�ضع �سكي ًنا على رقبتها يتبعه ظهور هذا الرجل الذي‬
‫بعد �أن ت�أملت مالحمه العابثة املتجهمة �شعرت بخوف فطري يتغلغل‬
‫لكل جزء من ج�سدها‪ ،‬ج�سدها الرقيق مل يتحمل‪ ،‬الدوار قد مت َّكن منها‬
‫فنطقت بتو�سل مقهور و�ضعف وعينيها تغرق برماديها املنطفئ يف بحر‬
‫‪21‬‬
‫علي‪� ،‬أرجوك ُكن‬‫من الدموع‪�« :‬أنا مل �أتناول �شي ًئا منذ �أيام وهذا كثري َّ‬
‫�شه ًما للنهاية وال ت�ؤذين‪».‬‬
‫وباللحظة التالية كانت ال�صدمة؛ �إذ وقعت الفتاة بني ذراعيه وعلى‬
‫�صدره‪ ،‬هل من املمكن �أن يج َّره انتقامه ل�شيء �أ�شد عن ًفا وق�سوة؟ �أن‬
‫يحميها من بركان غ�ضبه الأعمى؟ �أم ينفذ فيها العدل الآن دون ذرة‬
‫تردد �أو رحمة؟‬
‫‪q q q‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫تل َّقفها �سائد بني ذراعيه‪ ،‬و�س�ؤاله احلائر ما زال يرتدد �صداه يف عقله‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ا�سو َّد وجهه وجتهمت مالحمه‪ ،‬ابتلع ريقه ب�صعوبة قبل �أن يتخذ قراره‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫قليل وو�ضع ذراعه حتت ركبتيها و�أخرى �أ�سفل ظهرها‬ ‫مال بجذعه ً‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫وحملها مغاد ًرا‪.‬‬
‫عج ًبا‪ ،‬متى �أ�صبح النا�س ال يتدخلون يف �شئون بع�ضهم؟ كيف مل ي�س�أله‬
‫�أحد ِ َل يحمل فتاة فاقدة الوعي بني ذراعيه ويغادر دون �أن يوقفه �أحد‪،‬‬
‫ُغ َّ�صته تفاقمت داخل �صدره وهو يعود من نف�س الطريق الذي �أتى منه‬
‫يتذكر كل التقارير وحكاوي النا�س وحتذيراتهم على مواقع التوا�صل‬
‫االجتماعي الذي جمعها عن الطرق اجلديدة التي ابتدعها اخلاطفون‪،‬‬
‫من جتار رقيق �أبي�ض �أو مافيا اجلزارين الب�شرين خلطف البنات �أو‬
‫ال�سيدات �أو حتى �شباب و�أطفال‪ ،‬مادة خفية تو�ضع لهم على مالب�سهم‬
‫ي�ستن�شقونها فيدخلون يف غيبوبة فو ًرا‪ ،‬ويحمل اخلاطف �أو حتى جمموعة‬
‫من الن�ساء �ضحيتهم حتت م�سمى �أقارب �أو �أ�صدقاء وتختفي ال�ضحية‬
‫دون رجعة‪ ،‬كل خمطوف ح�سب ا�ستخدامه ُي َح َّدد �سعره يف �أ�سواقهم‪،‬‬
‫فت ًّبا ملجتمع جاهل �أحمق يغ�ض ب�صره عن احلقيقة التي متاثل و�ضوح‬
‫ال�شم�س‪ ،‬اللعنة على حماولتهم ن�سيان اخلطر املحدق بهم من كل جانب‬
‫‪22‬‬
‫حتت �شعار‪( :‬الدنيا بخري‪ ،‬ونحن حري�صون ولن يطالنا الأذى)‪� ،‬أال يعلم‬
‫احلمقى �أن تلك الع�صابات �أ�صبحت تتكاثر ب�شكل غري طبيعي الهثني وراء‬
‫املال‪ ،‬وخطرهم يتفاقم ليطول كل فرد؟‬
‫و�صل �أخ ًريا �أمام منزله‪� ،‬صعد ل�شقته ب�آخر طابق قبل �أن توقفه عي َني‬
‫احلار�س الذي ينظر له بتوج�س ولكنه مل ي�ستطع �أن يتفوه ببنت �شفة‪،‬‬
‫ت�سللت ال�سخرية لداخله عندما تراجع الرجل خو ًفا من بريق جمرتيه‬
‫املرعب‪.‬‬

‫ع‬
‫كانت عينيه معلقة على ج�سدها املمدد على فرا�شه منذ دقائق وتذكر‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫العقل ج�سد مراهقة �أخرى وحقري يثبتها بج�سده رغ ًما عنها وهي تقاوم‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�صارخة ت�ستنجد با�سمه‪ ،‬تبكي ُذ ًّل وقه ًرا‪ ،‬حتاول �أن حتمي انتفاخ بطنها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫من �سطو اعتدائه الغا�شم‪.‬‬
‫عا�شوا بهذا الذل كل حلظة يف حياتهم املريرة‪ ،‬قهر ُك ِت َب عليهم بغري‬
‫ذنب‪ ،‬ولكن تلك اللحظة وعينيه تتابع ما يحدث من خلف ذلك ال�شباك‬
‫وغو�صا يف �أ�سفل‬
‫ً‬ ‫مقيدً ا وعاج ًزا‪ ،‬كانت �أكرثهم ك�س ًرا ووج ًعا ومرارة‬
‫احل�ضي�ض‪.‬‬
‫تن َّهد بانفعال وت�سارعت �أنفا�سه غري قادر على ال�سيطرة‪ ،‬و�أطلقت‬
‫عينيه جحي ًما فلت منه غ�ض ًبا مرغ ًما فمال و�أم�سك مع�صمها‪� ،‬إن اغتيال‬
‫رجولته ونور حياته وانتقامه هو ما قاده ليقرتب بوجهه منها‪ ،‬عاد عقله‬
‫ليتذكر تو�سلها حلظة �سقوطها بني يديه ف�أغم�ض عينيه‪.‬‬
‫حلظة فارقة هي ما كان يحتاجها ليعود ع َّما انتوى فعله‪ ،‬ورغم كل‬
‫مرارته كان قراره‪ ،‬يجب �أن تنول من الك�أ�س وهي مدركة وقوية كما كانت‬
‫حبيبته‪� ،‬ستتجرع كل �أنواع الذل وت�صل الدرك الأ�سفل راغبة ومرغمة‪.‬‬
‫ال يعلم كيف اعتدل عنها وترك مع�صمها فج�أة وهو يت�أملها للمرة‬
‫‪23‬‬
‫الأخرية بغرابة و�شعور �أغرب و�أغرب مبهم يحيطه ولكنه مل ي�ستطع �أن‬
‫يتبينه‪.‬‬
‫«عمر‪َ ،‬‬
‫تعال �إىل املنزل على الفور وا�صطحب تلك ال�سكرترية معك»‪،‬‬
‫مل يعلم حتديدً ا �سر غ�ضب عمر املفاجئ عندما قال بغ�ضب مكتوم‪�« :‬أي‬
‫�سكرترية تق�صد؟»‬
‫ج َّز على �أ�سنانه وحتامل على نف�سه وقال‪« :‬كم واحدة منلك يا �سيد‬
‫عمر؟! تلك التي �أدخلتها و�سط دوامتنا رغم حتذيري امل�شدد لك‪».‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫على الطرف الآخر من الهاتف احم َّر وجه عمر بالغ�ضب الذي ل َّفه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫و�س�أل بخفوت م�سيطر على �أع�صابه‪« :‬ما الذي حدث؟ ِ َ‬

‫ش‬
‫ول حتتاجها؟ �أنت‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫عدت للت�صرف ببع�ض الغرابة خالل اليومني املا�ضيني‪».‬‬

‫ع‬
‫�ساد ال�صمت للحظات قبل �أن يقول �سائد بخ�شونة مت�شددة ليذكره‪:‬‬
‫«لأول مرة ت�س�أل‪ ،‬منذ متى �أحتاج للتو�ضيح لتفهمني؟ ومع ذلك �أنت يجب‬
‫�أن تخاف عليها منك يا عمر ولي�س مني‪� ،‬أنت وحدك من متيل ل َّلهو مع‬
‫الن�ساء‪� ،‬أما �أنا عندما �أقول �أحتاج �إحداهنَّ ‪ ،‬ف�أ�سبابي تتمحور حول عمل‬
‫ما فقط‪».‬‬
‫يف حلظة تبدلت مالمح عمر لال�سرتخاء املتالعب‪ ،‬ولكنه �أبدً ا مل‬
‫قائل‪« :‬وهل ي�ستحققن �أكرث مما‬‫مياثل تلك النربة القا�سية التي نطق بها ً‬
‫�أفعله بهنَّ بالفعل؟ بالنهاية َمنْ توافق على فعل عالقة يف احلرام‪ ،‬ما‬
‫هي �إال غانية �ست�أتي للعامل (بلقيط) تتخل�ص منه بني مقالب القمامة‪،‬‬
‫هو وحظه ت�أكله الكالب‪� ،‬أو ميلك احلظ اجليد مثلي ويعود ليذيقهنَّ من‬
‫ك�أ�سهنَّ ‪».‬‬
‫‪24‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظة واحدة قبل �أن ير َّد عمر على �س�ؤاله املعلق‪�« :‬أنا مل‬
‫�أظن بك �شي ًئا‪ ،‬وبالطبع �أعرف �أن هناك �شي ًئا ما حدث ال�ستدعائك لها‬
‫بعد رف�ضك وجودها‪».‬‬
‫نف�سا عمي ًقا وهو يتجنب حديثه الذي يعرفه بالفعل منذ‬ ‫�أخذ �سائد ً‬
‫�أن ‪...‬‬
‫وتذكر عندما �أتى �أحد �صبيان الوكر بعمر من ال�شارع‪ ،‬رمبا كان عمره‬
‫�آنذاك ال يتعدى الت�سع �سنوات‪ ،‬ولكن املعلم حماد كان يعلم �أن ب�أ�س وذكاء‬

‫ع‬
‫كاف ليجعله ينتمي لق�سم‬ ‫الثعالب الناعم الذي ميتلكه عمر �أكرث من ٍ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫رجاله يف امل�ستقبل‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫يف تلك اللحظة جتنب الذكريات فما لديه �أهم‪ ،‬وقال بهدوء �أثار عجب‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫وتعال �إىل هنا‪ ،‬فدجوى غ�سان الها�شم يف منزيل فاقدة‬ ‫عمر‪�« :‬أَ ْح ِ�ض ْر َها َ‬
‫الوعي‪».‬‬
‫وقفت رابحة على �أعتاب الباب خائفة مرتبكة ومتحرية‪ ،‬منذ �أن‬
‫ات�صل بها عمر ي�ستعجل قدومها ويخربها �أنه ينتظر �أمام حمطة البا�ص‬
‫الذي ت�ستقله يوم ًّيا‪ ،‬ثم ي�أمرها بت�سلط بالركوب معه بوجه متجهم غا�ضب‬
‫حانق مل تره فيه من قبل‪ ،‬ثم باقت�ضاب �أخربها عن ذهابهم ل�شقة �سائد‬
‫مبا�شرة‪ ،‬بالطبع رف�ضت وثارت غ�ض ًبا‪ ،‬ولكنه بهدوء �أخربها �أن هناك‬
‫�أحد الفتيات فاقدة للوعي و�سائد يريد امر�أة تهتم بها ومل يجدوا �سواها‪.‬‬
‫تعرف �أنها غبية وتخاطر ولكنها مل ت�ستطع �أن تتخلى عن م�ساعدة‬
‫تلك الفتاة املزعومة وف�ضولها يقتلها عن هويتها‪ ،‬وكيف و�صلت ملنزل هذا‬
‫الرجل املخيف ملجرد النظر يف وجهه‪ ،‬قطع �صمتها �صوت عمر وهو يقول‬
‫متجه ًما‪�« :‬ستجدين الفتاة بالغرفة �آخر املمر‪ ،‬حاويل �إفاقتها واهتمي‬
‫بها‪».‬‬
‫‪25‬‬
‫تقدمت رابحة خطوة للمنزل وانتف�ضت بذعر عندما تقدم عمر و�أغلق‬
‫الباب خلفها بغلظة‪ ،‬نقلت نظرها بني �سائد الذي يقف �أمام �شباك كبري‬
‫ي�ستند بيده عليه بت�صلُّب وبني عمر الذي ارتخت مالحمه بنعومة وهو‬
‫أنك حتت‬ ‫يخربها‪« :‬هيا يا رابحة‪ ،‬فالفتاة منذ �ساعة يف �إغمائها‪ ،‬تعلمني � ِ‬
‫ؤذيك �أحد‪».‬‬
‫حمايتي ولن ي� ِ‬
‫«ول مل ت�أتوا بطبيب‬ ‫قالت رابحة بنربة حاولت و�ضع القوة فيها‪َ ِ :‬‬
‫مبا�شرة؟»‬

‫ع‬
‫أنت تتقا�ضني رات ًبا‬
‫قائل بجفاء دون �أن يلتفت �إليها‪ِ �« :‬‬‫نطق �سائد ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لتنفذي ما نريده‪ ،‬ولي�س ملنحنا االقرتاحات‪».‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫جزَّت رابحة على �أ�سنانها غ�ض ًبا ومل تعلق والتفتت مبا�شرة تتوجه نحو‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫تلك الغرفة‪.‬‬

‫هز ر�أ�سه ي� ًأ�سا وهو يقرتب ليقف بجانب �سائد ينظر �إىل ال�شارع من ع‬
‫خلفها باملفتاح‪،‬‬
‫خلف‬
‫للباب‬ ‫عندما اطم�أنَّ عمر لدخولها �أخ ًريا و�سمع غلقها‬

‫الزجاج الذي ي�شمل احلائط‪ ،‬قبل �أن يقول �سائد بفظاظة‪«َ :‬منْ تتعهد‬
‫بحمايتها غبية ومندفعة ال متلك ذرة عقل‪ ،‬كيف تثق برجلني وتخاطر‬
‫بنف�سها �أ ًّيا كانت الأ�سباب التي �أخربتها بها؟»‬
‫ً‬
‫�ضابطا �أع�صابه كالعادة‪�« :‬إنها‬ ‫تو َّقع عمر هذا التعليق منه‪َ ،‬ز َف َر وقال‬
‫فقط طيبة‪ ،‬ومل تتحمل فكرة وجود فتاة معك وحتتاج للم�ساعدة‪ ،‬رابحة‬
‫فتاة‪».‬‬
‫قاطعه �سائد وهو يقول ب�سخرية ميتة‪« :‬حاملة»‬
‫مل يفاج�أ عمر للحقيقة من قوله‪ ،‬لقد ع َّلمهم ال�شارع الكثري والكثري؛‬
‫ومنها قراءة وجوه النا�س جيدً ا حتى �أمهر من الأطباء النف�سيني �أنف�سهم‪،‬‬
‫‪26‬‬
‫لقد طوروا مهارتهم عرب ال�شحاذة وال�سرقة والن�صب وغريها الكثري‪،‬‬
‫متاما‪.‬‬
‫كيف يحددوا �ضحيتهم ومتى يهجمون ومتى يبتعدون ً‬
‫«كيف و�صلت ابنة الها�شم غرفة نومك بتلك ال�سرعة؟!»‬
‫التفت �إليه �سائد �أخ ًريا قائال بربود‪« :‬لقد وقعت بني ذراعي متو�سل ًة‬
‫الرحمة ومتو�سم ًة يف �شهامتي‪ ،‬هل ت�صدِّ ق؟»‬
‫مل يبت�سم عمر ومل تتغري مالحمه املتجهمة وهو يقول‪« :‬على ما �أذكر‬
‫مل تكن خطتك نحوها بها �أي نوع من ال�شهامة‪ ،‬بل عملية �سريعة منتقمة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫وتنتهي منها لنلتفت ملا هو �أهم‪ً � ،‬إذا ما الذي حدث؟»‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫متاما‪ ،‬لذة االنتقام ت�صبح‬
‫باقت�ضاب كان يجيبه‪« :‬لقد تغريت اخلطة ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫بنكهة الذعة حارة مت�شفية عندما تدوم �أكرث وت�ستمر لوقت طويل‪».‬‬
‫نظر له عمر بهدوء قبل �أن يكرر �س�ؤاله حتى و�إن كان يتوقع الإجابة‪،‬‬
‫ولكنه يحب �أن ي�ستمع ملا يدور يف عقله‪ ،‬رمبا يفهم منه ما مل ي�ستطع‬
‫�سائد تو�ضيحه بنف�سه‪« :‬كيف و�صلت لك من الأ�سا�س؟ ِ َ‬
‫ول �أنت بالذات‬
‫َمنْ تو�سمت فيك ال�شهامة؟!»‬
‫عاد �سائد ينظر من النافذ الزجاجية لل�شارع مبا�شرة ً‬
‫قائل بقتامة‪:‬‬
‫«�أردت �أن �أرقبها عن قرب فذهبت لل�شارع الذي ت�سكن فيه وبعد خروجها‬
‫يف موعدها املعتاد كما ُد ِّونَ يف تقريرك‪ ،‬ر�أيتها مت�شي ب�أحد الأزقة‬
‫ال�ضيقة‪ ،‬ولكن ما مل تذكره بتقريرك �أن هناك �أحدً ا ما يتتبعها ويحاول‬
‫قتلها‪».‬‬
‫عبث عمر للحظات طويلة مفك ًرا قبل �أن يقول‪َ « :‬قتْلها! هل �أنت مت�أكد؟‬
‫رمبا �أحد ما يتتبعها ل�سرقتها �أو ب�أ�سو�أ احلاالت خطفها‪».‬‬

‫‪27‬‬
‫قال �سائد ب�صرامة حازمة‪« :‬ال �أظن �أبدً ا‪ ،‬لقد فكرت يف هذا عندما‬
‫تتبعت الل�ص‪ ،‬ولكن الطريقة التي هجم عليها بها جتعلني �أفكر يف �شيء‬
‫واحد‪».‬‬
‫�س�أله عمر بحذر‪« :‬ما هو؟»‬
‫رد �سائد بنربة قاطعة‪َ « :‬ق ْت ُلها �أو �إرهابها حد املوت رع ًبا‪ ،‬ابنة غ�سان‬
‫الها�شم تخفي �أكرث مما ُت ْظ ِهر‪».‬‬
‫بانت على عمر احلرية‪ ،‬وقال كمن يراجع �شي ًئا ما يف ذاكرته‪« :‬ال‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أعتقد �سائد‪ ،‬خم�سة �أعوام منذ ما حدث لها مل تقم ب�أي ت�صرف غريب‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫فج�أة قطع عمر حديثه وقد طرق عقله خاطرة فقال‪« :‬هل تظن �أن‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫التقزز طغى على مالمح �سائد اجلامدة قبل �أن يقولوالتو‬
‫هناك �أم ًرا ما حدث وكما تخل�صوا من والدها يحاولون التخل�ص منها‬

‫بجليد‪:‬ز‬
‫«الي يه‬
‫ع ُّم‪،‬‬
‫� ً‬
‫أي�ضا؟»‬

‫متاما‪ ،‬ف�أ ًّيا كان �سبب ما حدث‬


‫�سينك�شف كل �شيء يف الوقت املخطط له ً‬
‫متاما؛ لأتخذ خطوتي نحوها �سري ًعا‪».‬‬
‫بالت�أكيد يف �صاحلي ً‬
‫َب َدا التفكري العميق على وجه عمر‪ ،‬بينما ت�ساءل‪ :‬كيف لعقل �سائد ‪-‬‬
‫الذي يح�سب لكل خطوة قبل �أن ُيق ِْدم على فعلها �ألف ح�ساب ‪� -‬أن يخرج‬
‫�أحيا ًنا منه �أغرب الأفعال؟! ثم قال �أخ ًريا‪�« :‬أي خطوة حتديدً ا �سائد؟ وما‬
‫هي خطتك اجلديدة معها؟»‬
‫كان وجهه مظل ًما‪ ،‬مغل ًقا غري مقروء عندما قال بلهجة خميفة‪�« :‬أريد‬
‫�أخذ جزء منها ً‬
‫تعوي�ضا ع َّما حرموين منه‪ ،‬قبل �أن �أجعلها تلحق بهم‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫‪28‬‬
‫�أح�ست دجوى للحظات بالت�شو�ش وهي تفتح عينيها‪ ،‬ببطء نظرت‬
‫حولها بعدم تركيز لدقائق مل ت�ستوعب الغرفة �شديدة الأناقة رغم �ألوان‬
‫الأ�سود الذي يحتل كل جزء منها‪ ،‬انتف�ضت �سري ًعا تنظر حولها هل ًعا وهي‬
‫تتفح�ص مالب�سها �أول ما خطر ببالها؛ لتجد �أول ِز َّرين من قمي�صها‬ ‫َّ‬
‫مفتوحني‪ ،‬وقبل �أن يتمكن منها الرعب �أط َّلت فتاة خمرية ب�شو�شة الوجه‬
‫أفقت‪ ،‬هل‬ ‫عليها من باب داخلي للغرفة تخربها بنربة منت�صرة‪« :‬و�أخ ًريا � ِ‬
‫أنك مل تتذوقي‬ ‫كنت يف نوبة �إغماء �أم يف ُ�س َبات عميق وك� ِ‬ ‫أنك ِ‬
‫�أنت مت�أكدة � ِ‬
‫طعم النوم منذ �أعوام حبيبتي؟!»‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت�ش َّو�ش عقل دجوى كل ًّيا وهي حتاول �أن تتذكر �آخر ما حدث �أو تتبني‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫هوية الفتاة‪ ،‬فلم تتذكر �إال وجه الرجل املتجهم الذي �أنقذها من ذلك‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫املجرم؛ ازداد وجهها ال�شاحب بالفعل �شحو ًبا وهي تقول بخفوت َخ ِجل‪:‬‬

‫والتوز عي‬
‫«�أين �أنا؟»‬
‫�أجابتها رابحة وهي تقرتب منها متد يدها بغري حت ُّفظ تغلق لها‬
‫جت�س نب�ضها وهي تقول‬ ‫قمي�صها الذي فتحته يف ال�سابق حتاول �أن َّ‬
‫و�صلت �إىل‬
‫ِ‬ ‫بحرية‪« :‬يف بيت ال�سيد �سائد العو�ضي‪ ،‬ولكن ال�س�ؤال كيف‬
‫�صلتك به؟»‬
‫هنا؟ وما ِ‬
‫عبثت دجوى يف وجه الفتاة الف�ضولية وهي تزيح يدها عنها برفق قبل‬
‫�أن تقول باخت�صار وهي ُتخ ِّمن �أنه بالت�أكيد الرجل ال�شهم الذي �أنقذها‪:‬‬
‫أنت‪».‬‬‫«ال �صلة يل به‪ ،‬ومل �أعرف حتى ا�سمه‪� ،‬إال عندما ذكرتيه � ِ‬
‫هزَّت رابحة كتفيها بال اهتمام وهي تقول مرثثرة‪« :‬مزيد من الريبة‬
‫حول رئي�سي يف العمل‪ ،‬ال يه ُّم‪».‬‬
‫أتركك حلظة؛‬‫وقفت من جانبها تتوجه �إىل باب الغرفة وهي تقول‪�« :‬س� ِ‬
‫إليك‪».‬‬
‫أنك بخري ثم �أعود � ِ‬ ‫لأخربهم � ِ‬
‫‪29‬‬
‫نظرت دجوى يف �أثرها مرتبكة َمنْ تق�صد باجلمع؟ وكيف �سمح هذا‬
‫ال�شخ�ص مهما كانت �شهامته �أن يح�ضرها �إىل منزله؟ �أمل ي�سمع ب�شيء‬
‫ُي ْد َعى م�شفى من قبل؟! حاولت النهو�ض من الفرا�ش تعدِّ ل من مالب�سها‬
‫هام�سة ب�سخرية مريرة‪:‬‬
‫بك �شي ًئا و� ِ‬
‫أنت‬ ‫«وهل تت�شرطني دجوى؟! احمدي اهلل �أنه مل يفعل ِ‬
‫لك امر�أة حتى و�إن كانت �إحدى‬ ‫فاقدة للوعي‪ ،‬وكان من الرجولة �أن يوفر ِ‬
‫العاملني عنده كما �أ�شارت الفتاة الرثثارة‪».‬‬

‫ع‬
‫وعندما وقفت على قدميها �أخ ًريا �شعرت بالدوار يلفها كل ًّيا‪ ،‬فعادت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جتل�س على ال�سرير بتعب والدموع متلأ عينيها‪ ،‬تلعن ذلك ال�ضعف الذي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ينه�ش يف ج�سدها الهزيل دون رحمة‪ ،‬وترثى حلالها الذي �أ�صبح يف‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫احل�ضي�ض بعد �أن كانت مدللة تغرق يف احلرير‪ ،‬حرير ت�شعر بنعومته الآن‬

‫ع‬
‫يلفها ل ًّفا ويجعل عقلها يتوقف يف غفوة �سريعة ا�ست�سلمت لها منهكة‪.‬‬
‫ُف ِت َح الباب دون مقدمات‪ ،‬فرفعت وجهها ال�شاحب تنظر له جمفلة‪،‬‬
‫وهي تراقب ج�سده ال�ضخم يقرتب منها بتم ُّهل كذئب غام�ض‪ ،‬ارتبكت‬
‫دجوى وهي حتاول الوقوف م�ضطربة فاهتزت قدماها مرة �أخرى‪ ،‬ومل‬
‫تتخل�ص من �أثر الدوار بع ُد مما جعله ينظر لوجهها الذي َّ‬
‫ابي�ض ف�أ�صبح‬
‫لوحا من الرخام الأبي�ض‪� ،‬شعرها الق�صري م�شعث بفو�ضوية‪،‬‬ ‫مياثل ً‬
‫متاما عن تلك ال�صور التي ُجمِ َعت‬
‫عيناها زائغة بغري تركيز‪ ،‬تبدو خمتلفة ً‬
‫لها يف التقارير التي كانت ت�صله بانتظام‪� ،‬إذ مل ي�سبق �أن ر�أى يف عينيها‬
‫كل هذا ال�ضعف واخلوف حتى بعد �أن مت طردها من منزلها هي و�أمها‪،‬‬
‫متاما بحجة الف�ضيحة التي‬‫كما علم الح ًقا �أن كل �أقاربهم رف�ضوا دعمهم ً‬
‫نالت من �شرف والدها احلقري بعد موته‪ ،‬وبالت�أكيد ال يريد �أحد �أي �صلة‬
‫بهم ُتذكر املجتمع بهم‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫مبكانك‬
‫ِ‬ ‫ب�صوت مكتوم ووجه ال يف�سر �أخربها‪« :‬من الأف�ضل �أن تبقني‬
‫حتى ت�ستعيدي القليل من عافيتك‪».‬‬
‫مل تر َّد دجوى ب�شيء وهي تتبع ن�صيحته‪ ،‬وعادت للفرا�ش مرة �أخرى‬
‫جتل�س على حرفه ومت�سك بكفيها طرفه بقوة ك�أنها ت�سند نف�سها من‬
‫�سقوط حمقق‪ ،‬ن َّك�ست ر�أ�سها عن مراقبته‪ ،‬حتاول طم�أنة نف�سها �أنها‬
‫مفتوحا‬
‫ً‬ ‫�آمنة معه‪ ،‬فتلك الفتاة بالت�أكيد ما زالت باخلارج وهو ترك الباب‬
‫بالفعل‪� ،‬سمعت �صوت مقعد ُي ْ�س َحب‪ ،‬ف�سمحت لعينيها �أن ترتفع ً‬
‫قليل‬
‫تراقبه يقرب ذلك املقعد منها ويجل�س مواج ًها لها‪ ،‬ثم قطع ال�صمت وقال‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أخ ًريا‪« :‬كيف �أنت الآن؟»‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫ت�أملته دجوى‪ ،‬نربته الهادئة عك�س النريان الغريبة التي تتقد يف عينيه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫متاما‪ ،‬ولكن للغرابة مل ت�شعر بالتوج�س منه‪ ،‬حتى و�إن كان هناك �شعور‬‫ً‬
‫خوف مبهم يعتمل يف �صدرها نحوه‪ ،‬حذر ال تعرف �سببه‪ ،‬ا�ستطاعت �أن‬
‫جتيبه ب�صوت متزن ً‬
‫قليل رغم �ضعفه‪�« :‬أف�ضل‪ ،‬و�أ�شكرك ملا فعلته معي‬
‫مرة �أخرى وعلى اهتمامك‪».‬‬
‫�أوم�أ بر�أ�سه ب�شبه �إجابة دون �أن ير َّد‪.‬‬
‫�أحاطت دجوى نف�سها بذراعيها مرغمة‪ ،‬كانت ت�شعر بربد يت�سلل لكل‬
‫خلية من خالياها‪ ،‬قبل �أن تقول بتوتر‪�« :‬أريد �أن �أرحل من هنا بالت�أكيد‪،‬‬
‫ت�أخرت على عملي و‪»...‬‬
‫قاطعها �سائد وهو يقول بجفاء �صارم �صريح‪« :‬قبل �أن تخرجي من‬
‫لك كان من �سبيل‬‫ألك مرة �أخرى‪ ،‬هل ما حدث ِ‬ ‫هنا �أعتقد من حقي �أن �أ�س� ِ‬
‫ال�صدفة؟ �أنا ال �أعتقد هذا‪ ،‬هذا الرجل يعرف جميع حتركاتك وبالت�أكيد‬
‫اختار هذا الوقت املبكر الذي يكون فيه النا�س نيام‪».‬‬

‫‪31‬‬
‫تلعثمت دجوى وهي جتيبه كذ ًبا‪« :‬ال �أعرف‪� ،‬أنا فتاة يتيمة ب�سيطة‪،‬‬
‫�أعمل يف �أحد املتاجر‪ ،‬فلماذا يريد �أي �شخ�ص �أن يتبعني؟! بالت�أكيد هو‬
‫ل�ص �أحمق لي�س �إال‪».‬‬
‫ات�سعت عيناه بالغ�ضب من كذبها املك�شوف قبل �أن ي�سيطر عليه �سري ًعا‬
‫مبهارة اكت�سبها عرب �سنوات من التدريب القا�سي‪ ،‬ثم قال بب�ساطة‪:‬‬
‫«ح�س ًنا‪ ،‬رمبا هو جمرد حادث عابر ولكن»‬
‫تركها معلقة عن َق�صد لدقائق‪ ،‬حتى يلفت انتباهها وترفع ر�أ�سها‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تناظره بحرية منتظرة تلك الـ «لكن»‪.‬‬

‫ك �تأن ال خطر يحيط ِ‬


‫ري‬
‫«ولكن هل �أنت متال�أكدة‬
‫ب‬
‫�ساد �صمت ثقيل بينهم قبل �أن يقول �سائد بنربة خافتة ناعمة خطرة‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫بك و�أنه لن يعود لالنتقام‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬


‫�سكنك‪ ،‬ال يحتاج‬
‫يعلم مكان ِ‬ ‫أكيد‬ ‫�‬ ‫بالت‬ ‫ووجهه؟‬ ‫منك‪ ،‬بعد �أن ه�شمت �أنا يده‬
‫ِ‬
‫الأمر لذكاء خارق يا �آن�سة‪».‬‬
‫ابتلعت دجوى ريقها ب�صعوبة‪ ،‬الرجل رغم �أنه ال يعرف عن حياتها‬
‫ال�صعبة �شيء والتهديدات بالقتل التي تالحقها م�ؤخ ًرا‪ ،‬قال �شي ًئا واحدً ا‬
‫منطق ًّيا‪� ،‬إنهم لن يرتكوها‪� ،‬سيطاردونها حتى يجعلوا �صوتها ي�صمت �إىل‬
‫الأبد‪.‬‬
‫مل ي�شعر بال�شفقة قط بل التمعت عيناه ال�سوداوين بق�سوة وانت�صار‬
‫جدا بحريتها وذعرها‬‫وهو يراقب تخبطها‪ ،‬جزعها وخوفها‪ ،‬م�ستمت ًعا ًّ‬
‫وعجزها‪ ،‬رفعت عينيها �إليه �أخ ًريا وهي تقول ب�أمل‪:‬‬
‫«وماذا �أفعل؟ اهلل موجود لقد �أوكلته �أمري من البداية وكما �أر�سلك‬
‫�أنت لإنقاذي‪ ،‬م�ؤكد هو قادر على حمايتي‪».‬‬

‫‪32‬‬
‫�أحنى �سائد ر�أ�سه وت�س َّلل له ال�ضيق املختلط بالعبو�س وت�ساءل يف نف�سه‪:‬‬
‫رباك يعرف له طري ًقا كي ت�ؤمني به وتوكلي له �أمرك؟!»‬ ‫«اهلل! وهل من ِ‬
‫نف�سك‬
‫زجمر وهو يقول من بني �أ�سنانه‪« :‬من الغباء يا �آن�سه �أن ترمي ِ‬
‫بيدك‪ ،‬ثم تنتظرين من �أحدهم انت�شالك!»‬ ‫يف التهلكة ِ‬
‫تهب من الفرا�ش‬‫عيناها برمادها املنطفئ انبعث منها ال�شرر وهي ُّ‬
‫قائلة بكربياء راف�ض نربته املهينة‪« :‬لقد حاورتك يا �سيد بتهذيب لفعلتك‬
‫ال�شهمة معي وجميلك الذي طوقتني به‪ ،‬ولكن لي�س معنى هذا �أن �أ�سمح‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫لك بالتطاول على �شخ�صي‪».‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫النظرة التي �ألقتها لعينيه كانت �شي ًئا خارج توقعاته ً‬
‫متاما‪ ،‬و�ضد ما‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫�أراده ت�سللت لداخله‪� ،‬أجابها دون �أن يحاول التحرك من مكانه ب�صوت‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫�صمت لربهة وهو يت�أمل وجهها غري املتنازل‪ ،‬ثم �أردف دونعلف �أو‬
‫هادئ ومبا�شر و�صريح‪�« :‬أنا مل �أُ ِه ْن ِك‪� ،‬أنا �أو�ضح احلقيقة �أمامك‪».‬‬

‫كنت حتر�صني على حياتك‪ ،‬وذلك‬ ‫ل�سكنك مرفو�ض �إن ِ‬


‫ِ‬ ‫دوران‪« :‬العودة‬
‫كونك �أنثى يف جمتمع �أ�صبحت تغرقه املخاطر‪ً � ،‬‬
‫أي�ضا‬ ‫العمل الذي ال يقدر ِ‬
‫يجب �أن تتخلي عنه‪».‬‬
‫التفتت له دجوى عاب�س ًة وهي تقول ب�ضيق‪« :‬ماذا تقول بحق اهلل؟ وهل‬
‫كل َمنْ تعر�ض حلادث �سيرتك منزله وعمله؟!»‬
‫كم ميقت الن�ساء ب�سجالهنَّ وغبائهنَّ ؛ لذا كان ُيبعدهنَّ عن دائرة‬
‫اهتمامه ل�سنوات‪ ،‬وكم ميقت احلديث املطول وال�شد واجلذب �أجرب نف�سه‬
‫أنك يتيمة وحيدة؛ لذا �أمر‬
‫قلت � ِ‬
‫أنت ِ‬‫وعقد ذراعيه على �صدره و�أجابها‪ِ �« :‬‬
‫لك غرفة مريحة يف �أقرب فر�صة‪� ،‬أما عن العمل ‪»...‬‬ ‫�سكنك هني‪� ،‬سنوفر ِ‬
‫‪33‬‬
‫�صمت وهو يتذكر �شي ًئا‪ ،‬ال بل مي�شي على خطته التي ر�سمها �ساب ًقا‪،‬‬
‫فقال مدع ًيا اجلهل بها مراع ًيا �أنها املرة الأوىل ملقابلتها‪« :‬ما هي‬
‫ح�صلت على تعليم متو�سط حتى؟»‬
‫ِ‬ ‫م�ؤهالتك؟ هل‬
‫قالت دجوى بخفوت هادئ‪�« :‬أنا خريجة اجلامعة الربيطانية �إدارة‬
‫�أعمال‪».‬‬
‫ادعى �سائد الده�شة وال�صدمة‪ ،‬وهذا كان �أول �شعور �إن�ساين تراه‬
‫يرت�سم على وجهه عندما قال‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫«هل متزحني؟! هل تعلمني كم تكلفة ال�سنة الواحدة يف هذه اجلامعة‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫حتديدً ا؟»‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫حتركت ببطء لتبتعد عن مرمى عينيه املرا ِق َبة قبل �أن تبتلع غ�صة‬

‫ع‬
‫مريرة �شطرت حلقها قبل �أن تهم�س‪�« :‬أخربتك �أين يتيمة‪ ،‬ت�ستطيع القول‪:‬‬
‫علي‪ ،‬ال �شيء يبقى على حاله‬ ‫�إن هذه احلالة التي تراين فيها جديدة كل ًّيا َّ‬
‫�سيد �سائد‪».‬‬
‫�ض َّيق بني عينيه و�أدرك فج�أة �أنه مل يع ِّرفها بنف�سه‪ ،‬لي�سمح لها �أن‬
‫علمت ا�سمي؟!»‬
‫تخاطبه با�سمه فقال‪« :‬كيف ِ‬
‫�أ�شارت دجوى بر�أ�سها ناحية الباب قائل ًة برتابة‪« :‬تلك الفتاة قالت‪:‬‬
‫�إنك رئي�سها‪ ،‬وعرفت عنك ‪»...‬‬
‫عاد يخربها بنوع من التف�سري متجن ًبا احلديث الذي طال‪« :‬ا�سمعي �أنا‬
‫عدت من اخلارج‪ ،‬منذ وقت ق�صري وهناك عمل �صغري �س�أقوم بتطويره �إن‬ ‫ُّ‬
‫لك فيه‪� ،‬أما عن ال�سكن �س�أحل م�شكلته‬
‫كنت مهتمة‪� ،‬أ�ستطيع توفري عمل ِ‬ ‫ِ‬
‫أيك؟»‬
‫يف وقت ق�صري‪ ،‬ما ر� ِ‬

‫‪34‬‬
‫�أغم�ضت عينيها بقوة وهي تغالب الدموع التي ملأتها فج�أة‪ ،‬ما الذي‬
‫رجل عرفها منذ �ساعات لتوفري كل هذا الرتف لها دون �أي �سابق‬ ‫يدفع ً‬
‫معرفة وقد تخلى عنها اجلميع؟! مل ت�ستطع �أن حتجب �أفكارها فقالت‬
‫علي �أن �أرف�ضه؛ �إذ ال �أ�ستطيع �أن‬
‫بكربياء جريح‪�« :‬شك ًرا لعر�ضك ولكن َّ‬
‫�أ�ستوعب ملاذا تهتم هكذا‪ ،‬وتعر�ض هذا ال�سخاء من جانبك‪».‬‬
‫هب �سائد من مكانه وقال ب�صوت غام�ض مل تتبني فحواه حقيقة‪:‬‬ ‫َّ‬
‫«ت�ستطيعني القول‪� :‬إنني مررت بظروف م�شابهة ملا �أخرب ِتني �إياه؛ لذا‬

‫ع‬
‫�أعر�ض م�ساعدتي‪ ،‬كما �أين ال �أحب �أن �أقوم بعمل وال �أكمله للنهاية‪،‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جوابك‪ :‬نعم ‪ -‬وهذا ما‬ ‫ِ‬ ‫العر�ض مفتوح يا �آن�سة‪ ،‬فكري جيدً ا و�إن كان‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫أخربتك �إياه فو ًرا‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أن�صحك به‪ ،‬فالفر�ص ال ت�أتي كث ًريا ‪ -‬ف�أنا �س�أوفر ما �‬
‫ِ‬ ‫�‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫�سكنك‪ ،‬حتزمي حاجاتك وال تعودين هناك‬ ‫ِ‬ ‫و�سي�صحبك �أحد رجايل �إىل‬
‫ِ‬
‫�أبدً ا‪».‬‬
‫لقد حجب عنها الإجابة احلقيقية لإنقاذها والتي علمها عندما ر�أى‬
‫كنت �ستتعر�ضني للأذى واالنتقام �أو حتى‬ ‫�أحدهم يحاول �أن ي�ؤذيها‪� :‬إن ِ‬
‫قتْل روحك �س�أبذل امل�ستحيل حتى يكون على يدي �أنا فقط‪.‬‬
‫حترك ناحية الباب ينوي املغادرة بعد �أن �ألقى بطعمه‪ ،‬فالتفت لها‬
‫قرارك �أنت لن‬
‫ِ‬ ‫قبل ان�صرافه و�أخربها بخفوت ناعم‪« :‬باملنا�سبة‪� ،‬أ ًّيا كان‬
‫تخرجني من هنا �إال بعد تناول بع�ض الطعام الذي حت�ضره رابحة‪ ،‬لقد‬
‫أنك مل تتناويل �شي ًئا منه �آن�سة‪».‬‬
‫�أخربتني � ِ‬
‫«دجوى‪ ،‬دجوى الها�شم»‬
‫التوى فكه ب�شبه ابت�سامة مل ت�صل للمرح الذي مل يعرفه وجهه منذ‬
‫عاما‪ ،‬وهو يومئ بر�أ�سه ب�شبه ترحيب‪ ،‬قبل �أن‬ ‫�أكرث من خم�سة ع�شر ً‬
‫‪35‬‬
‫ي�سمعها تقول من وراء ظهره ب�صوت خمتنق متح�شرج‪« :‬هذا كرم مبالغ‬
‫ً‬
‫م�ستقبل‪».‬‬ ‫فيه نحوي وال �أعرف كيف �أرده لك‬
‫مل ير َّد ومل تر عيناه التي ملعت بق�سوة مظلمة وهو يهم�س لنف�سه‪ :‬بل‬
‫كامل دجوى‪ ،‬دون رحمة �أو �شفقة مني‪ ،‬و�ستدفعني ثمن كل �شيء‬ ‫�سرتدينه ً‬
‫يف الوقت الذي �أقرره �أنا وحدي‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫«�أنا ل�ست مطمئنة لرتك الفتاة معه‪� ،‬إن ت�صرفاته خميفة كما �أخربتك‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�ساب ًقا‪».‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫قالتها رابحة مندفعة لعمر الذي جاورها يف ال�سيارة بعد �أن �صمم �أن‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫يو�صلها �إىل منزلها مبا�شرة‪ ،‬النظرة التي تلقتها مع التفافه نحوها مثلت‬

‫ع‬
‫�شي ًئا مبه ًما جعلها ترتبك للحظة فوقعت علبة الع�صري التي ا�شرتاها‬
‫عمر لها فور �أن هبطوا من منزل �سائد وقدمها لها دون �سبب وا�ضح‪،‬‬
‫نف�سا عمي ًقا ك�أنه يكبح‬
‫وهي التقطتها منه دون �أدنى تردد‪� ،‬سمعته ي�أخذ ً‬
‫نف�سه �أن يرد عليها‪ ،‬بل تركت �إحدى يديه مقود ال�سيارة ليلتقط بع�ض‬
‫«نظفي بقية الع�صري‬ ‫قائل دون �أي تعبري‪ِّ :‬‬
‫املناديل من جيبه ومينحها لها ً‬
‫أن�صحك بعدم التحدث عن �سائد ب�أي �شكل �أو حتى التفكري‬
‫ِ‬ ‫يا رابحة‪ ،‬و�‬
‫عليك االقرتاب منها ب�أي �شكل �إن‬
‫ب�أفعاله‪ ،‬اعتربيه منطقة �شائكة ممنوع ِ‬
‫عملك‪».‬‬
‫كنت تريدين احلفاظ على ِ‬ ‫ِ‬
‫التقطت منه ما قدمه مع ابت�سامة مرتع�شة‪ ،‬نظفت فمها ووجهها � ًأول‪،‬‬
‫متاما عن عمر الب�شو�ش الودود‪،‬‬ ‫راقبته مينحها نظرة �أخرى خمتلفة ً‬
‫نظرة حتمل �شر ًرا متطاي ًرا غا�ض ًبا‪� ،‬شعرت به يزيد �سرعة ال�سيارة‬
‫وي�سلك طري ًقا �آخر غري طريق منزلها‪ ،‬مل تتحدث يف بادئ الأمر‪ ،‬رمبا‬
‫مطمئنة �إليه منذ منحها عمر ذلك العمل الذي طالبت به بقوة دون �أي‬
‫‪36‬‬
‫خجل‪ ،‬وهناك �شيء ما يجذبها نحوه‪ ،‬ومع عملها معه �سبعة �شهور ب�شكل‬
‫يوما بعد يوم‪� ،‬إذ مل يحاول �أن ُي ْب ِدي �أي فعل‬
‫طبيعي‪ ،‬كانت متنحه ثقتها ً‬
‫�سيئ معها‪ ،‬بل كان يلتزم بحدود رئي�س ومر�ؤو�سة‪ ،‬ودفاعه عنها �ضد‬
‫�سائد عندما �أبدى الآخر اعرتا�ضه دون �أن يتعرف عليها حتى؛ جعلها‬
‫متنحه املزيد من الثقة‪ ،‬فلتعرتف لنف�سها �أنها منجذبة ب�شكل �أو ب�آخر‬
‫لعمر‪ ،‬ورغم �أنها حاولت �أن ُتنحي هذا الإعجاب نحوه ولكنها مل ت�ستطع‪،‬‬
‫انتابها خوف فطري عندما �أيقنت �أن عمر ي�أخذ طري ًقا ً‬
‫منعزل نحو املدينة‬
‫ال�صحراوية اجلديدة‪ ،‬وال�سيارات من حولها تقل تدريج ًّيا‪ ،‬ف�س�ألته بقلق‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫«�إىل �أين �ست�أخذين؟ �ألن ُتو�صلني �إىل منزيل؟»‬
‫�صوتك‪».‬‬
‫ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫كان رده مقت�ض ًبا حادًّا عندما قال‪« :‬ا�صمتي‪ ،‬ال �أريد �سماع‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫ز‬
‫ورغم ارجتافها الداخلي خو ًفا جابهته بقوة‪« :‬لي�س من حقك يا �سيد‬

‫ي‬
‫وهذا ما فعله بال�ضبط‪ ،‬وهبط فج�أة ب�سيارته ذات الدفع ع‬
‫�أن ُتدثني بهذه اللهجة‪ ،‬توقف ً‬
‫حال و�أنزلني هنا‪».‬‬
‫الرباعي من‬
‫الطريق املمهد و�أخذ طري ًقا تراب ًّيا وتوقف‪.‬‬
‫ارتكبت �أخطا ًء‬
‫ِ‬ ‫أنت‬
‫التفت لها بوجه خميف وهو يقول بهجوم غريب‪ِ �« :‬‬
‫اليوم لن تقع فيها فتاة �ساذجة بغري عقل‪».‬‬
‫يف رد فعل عفوي كانت رابحة ترتاجع والت�صقت بالباب ويدها متتد‬
‫حتاول فتحه عندما �سمعته يقول �ساخ ًرا‪« :‬الباب مغلق‪ ،‬رابحة هامن‪».‬‬
‫التفتت له ببطء‪ ،‬م�ستجمع ًة كل قواها‪ ،‬وهي تقول م�ضطربة �شاحبة‬
‫الوجه‪« :‬ملاذا حتاول �إخافتي؟ ما الذي ُقلته �أو فعلتُه ليجعلك غا�ض ًبا‬
‫هكذا؟»‬

‫‪37‬‬
‫ه َّز ر�أ�سه را�ض ًيا مما ر�آه فيها من خوف وجزع‪ ،‬قبل �أن يقول‪ِ �« :‬‬
‫أنت‬
‫�ساذجة‪ ،‬ف ِّكري من بداية اليوم حتى اللحظة‪ ،‬ما الذي ارتكب ِت ِه من �أخطاء‬
‫أجيبك بعدها‪».‬‬
‫ِت َب ًاعا و�س� ِ‬
‫�ساد ال�صمت املختنق بينهم دقائق طويلة‪ ،‬وهي ت�شعر ب�شيء مظلم‬
‫يجثم فوق قلبها‪ ،‬ومل تر عينيه التي تلمعان ق�سو ًة بغريزة مت�أ�صلة فيه‬
‫حاول تهذيبها طوال حياته‪ ،‬ليظهر وجه الثعلب الناعم الذي كان ي�شتهر‬
‫به و�سط �أقرانه من �أوالد ال�شوارع لي�صل ملراده‪ ،‬ولكن مع رابحة حتديدً ا‬

‫ع‬
‫وملحوظة �سائد حولها التي �أدركها بالفعل‪ ،‬مل ي�ستطع �أن ُي َحجمه‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫در�سا قا�س ًيا‪� ،‬أنه مهما وثقت‬
‫كامل حتى تتعلم ً‬ ‫يجب �أن تعي�ش الرعب ً‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بالأ�شخا�ص مهما ارتعبت على فتاة �أخرى‪ ،‬ال تخاطر بنف�سها �أبدً ا‪ ،‬تنازلت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫رابحة �أخ ًريا وهي تقول ب�صوت خمتنق معرتف‪�« :‬أعلم �أين تخطيت جميع‬

‫ع‬
‫احلدود التي و�ضعتها لنف�سي اليوم ولكن �أنا‪� ،‬أنا»‬
‫�صمتت ومل تكمل وكبحت ل�سانها �أن تخربه عن ثقتها به و�أنها كانت‬
‫أفعالك التي‬
‫أنك تعلمني � ِ‬ ‫على يقني �أنه لن ي�ؤذيها‪ ،‬قال بجفاف‪« :‬جيد � ِ‬
‫ُتعترب يف هذا املجتمع م�شينة‪ ،‬ويف عريف �أنا غري م�سئولة وغبية‪ ،‬فتاة تقدم‬
‫نف�سها فري�سة لرجلني حتت حجة واهية منحها لها �أحدهم‪».‬‬
‫ا�شتعلت نريان الغ�ضب يف عينيها الع�سليتني وهي تقول ب�صوت مكتوم‪:‬‬
‫«�أنا مل �أقدم نف�سي لأحد‪ ،‬كانت هناك فتاة بالفعل يف فرا�ش هذا الرجل‬
‫معدومة القوة‪� ،‬شاحبة الوجه‪ ،‬م�شو�شة وتائهة وحتتاج م�ساعدة‪ ،‬هل‬
‫تعاقبني على ثقتي فيك يا عمر؟»‬
‫مل يالحظ نطقها ال�سمه جمردًا لأول مرة‪ ،‬وبرقت عينيه ب�سخط‬
‫وامتدت يده لتم�سك ذراعها وهو يقول بخطورة معددًا‪« :‬بل قدم ِتها‬
‫ركبت معي‬‫دخلت �شقة رجل دون �سابق معرفة‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫فري�سة �سهلة بغباء‪،‬‬

‫‪38‬‬
‫لك حتى موقف البا�ص‪،‬‬ ‫رف�ضت فقط بالأم�س مرافقتي ِ‬ ‫ِّ‬ ‫أنت من‬‫ال�سيارة و� ِ‬
‫ي�صطحبك يف �سيارته‪ ،‬وت�أخذين منه‬ ‫ِ‬ ‫و�أخ ًريا تقبلني م�شرو ًبا من رجل‬
‫مناديل �أخرجها من جيبه لت�ضعيها على وجهك مبا�شر ًة‪ ،‬بكل �سذاجة‬
‫ي�صادفك خرب واحد لطرق خطف الفتيات من �أقرب معارفهم‬ ‫ِ‬ ‫العامل‪� ،‬أمل‬
‫ثم اغت�صابهنَّ �أو بيعهنَّ رقي ًقا �أبي�ض �أو ‪»...‬‬
‫قطع جملته بل�سان مفرقع‪� ،‬شحب وجهها ب�صدمة‪ ،‬وانكم�شت بغريزية‬
‫يف مقعد ال�سيارة حتى �أ�صبحت كحيوان �صغري مذعور من �أثر كلماته‬
‫عدمية الرحمة‪ ،‬مل جتد ما تدافع عن نف�سها به وهي تنظر حولها بهلع‪،‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫وهي تقول مرتع�شة‪�« :‬أعدين �إىل منزيل من ف�ضلك‪ ،‬ال حتتاج لقول املزيد‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫در�سا ما �أو جتربة‪ ،‬ف�أنا ا�ستوعبتها جيدً ا‪».‬‬ ‫�إن كنت تق�صد منحي ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫«ظننتك فتاة ذكية‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ا�شتدت �أ�صابعه حول ذراعها بق�سوة وهو يقول‪:‬‬
‫فيك‪ ،‬و�أجد‬
‫يبت �أملي ِ‬ ‫رابحة ال تتنازل �أبدً ا عن حدودها‪ ،‬ولكن اليوم َخ ِ‬
‫نف�سي ال �أ�ستطيع تركك بتلك الب�ساطة‪».‬‬
‫�أزاحت يده عن يدها بحدة‪ ،‬وهي تقول ب�صوت �آمر �صارخ‪« :‬ابتعد‬
‫عني‪َ ،‬منْ تظن نف�سك؟ �أخربتك �أين وثقت بك‪ ،‬و�إن كنت �أنت و�شريكك‬
‫ت�ستغلون حاجتي للعمل والراتب ف�أنا ال �أريده‪� ،‬أعدين فو ًرا‪».‬‬
‫�شربت مقدا ًرا جيدً ا من‬ ‫ِ‬ ‫قليل وهو يقول‪« :‬لقد‬ ‫ا�سرتخت �أع�صابه ً‬
‫الع�صري يا رابحة‪».‬‬
‫ظهر ت�شو�ش يف عينيها التي هبطت غالالت دموع منها وهي ت�س�أله‪:‬‬
‫«تكرر ذكرك لهذا امل�شروب‪ ،‬هل و�ضعت به �شيء؟!»‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أن يقول بغيظ‪« :‬كان‬ ‫مل َيز ُِل الغ�ضب منه وهو ي�أخذ ً‬
‫من املمكن �أن �أفعل بب�ساطة‪� ،‬آخذك ملكان ناءٍ كهذا �أنفذ فيك كل اخلياالت‬
‫ألقيك على قارعة الطريق‪ ،‬منبوذة من‬ ‫رعبك يف هذه اللحظة‪ ،‬ثم � ِ‬ ‫التي ُت ِ‬
‫‪39‬‬
‫املجتمع ومن عائلتك‪ ،‬ورمبا حتملني خطيئة بني �أح�شائك ت�أتي بها بعد‬
‫�شهور و ُتلقيها مثلما � ِ‬
‫ألقيتك يف مقلب للقمامة فتتلقفها �أح�ضان ال�شوارع‬
‫املرعبة حتت م�سمى لقيط‪».‬‬
‫خال من الدماء وح َّدقت ِبه وقد َب َدا مظل ًما‪،‬‬
‫ا�ستحال وجهها للون �أبي�ض ٍ‬
‫قان مرعب من نافذة ال�سيارة‪،‬‬ ‫وال�شم�س الغاربة تعك�س �أ�شعتها بلون �أحمر ٍ‬
‫وهم�ست بتوتر‪« :‬ما الذي حتاول فعله؟ ِ َل كل هذا ال�سناريو الذي ر�سمته؟‬
‫كنت ت�ستطيع �أن تنبهني �أو حتى تعنفني دون �أن تخيفني منك هكذا!»‬ ‫َ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫َف َر َك وجهه الذي َك َ�س ْت ُه الظالل‪ ،‬قبل �أن يقول بابت�سامة حزينة‪�« :‬آخر‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫أخربك بواقع يا رابحة‪ ،‬متتلئ به‬ ‫ما تتوقعينه مني ر�سم �أي �أفالم‪� ،‬أنا � ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�شوارعنا‪ ،‬وعلى الأر�صفة يتم �إلقا�ؤهم‪ ،‬وعاملهم عن النا�س لي�س خمف ًّيا‪،‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫جماعات �أو �أفراد ال جتمعهم حتى �صلة الدم‪ ،‬فقط ق�سوة احلياة هي التي‬
‫تنه�ش يف �أج�سادهم‪ ،‬يكافحون ب�أنف�سهم للبقاء‪ ،‬وحني ي�أتي وقت الرحيل‬
‫ال جتدين لهم ذكرى �أو حتى حزن من جمتمع عقيم‪».‬‬
‫رفعت عينيها حتدِّ ق بعينيه الداكنتني فقر�أت الكثري من الغ�ضب‪،‬‬
‫الكثري من الوحدة‪ ،‬الكثري من الأمل واملرارة‪ ،‬وك�أنه اختار هذه اللحظة‬
‫بالذات‪ ،‬ليع ِّري نف�سه �أمامها‪� ،‬أو ليخيفها ويبعدها عنه‪� ،‬س�ألت نف�سها‬
‫داخل ًّيا‪ :‬ما عالقة �أطفال ال�شوارع ونربة احل�سرة يف �صوته بخوفه الذي‬
‫�أبداه عليها؟‬
‫كل‬‫يلف ًّ‬
‫يوما غبية؛ �إذ �أدركت جيدً ا الغمو�ض الذي ُّ‬ ‫مل تكن رابحة ً‬
‫أعواما‬
‫من �سائد وعمر‪ ،‬فالرجلني �أتيا من اخلارج بعد غربة دامت � ً‬
‫طويلة‪ ،‬رجلني ُي�شاع �أنهما فقدا �أُ َ�سرهم كاملة‪ ،‬ولي�س لهم �إال بع�ضهم‪،‬‬
‫وال تربطهم �أي �صلة دم غري �صداقة �أدركت عمقها من حديث عمر عنه‪،‬‬
‫‪40‬‬
‫فهم�ست دون �أن تفكر‪«َ :‬منْ �أنت يا عمر؟ وما هو ما�ضيك؟ لتحدثني بتلك‬
‫الطريقة ك�أنك جربت ق�سوة عي�شهم‪».‬‬
‫ان�سحبت الدماء من وجهه وهو يلتفت �أمامه جامد املالمح‪.‬‬
‫�أدركت رابحة فداحة �س�ؤالها‪ ،‬انكم�شت غريز ًّيا منتظرة منه �أن‬
‫يغ�ضب �أو يعود لتخويفها �إال �أنه مل يفعل‪ ،‬الغ�ضب الذي �أط َّل من عينيه‬
‫مل يكن �أبدً ا موج ًها نحوها عندما قال بخفوت وهو يدير حمرك ال�سيارة‪:‬‬
‫در�سك جيدً ا‪ ،‬وال متنحي‬ ‫ِ‬ ‫تعلمت‬
‫ِ‬ ‫أعيدك ملنزلك‪� ،‬أرجو �أن تكوين‬ ‫«�س� ِ‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ثقتك ملخلوق حتت �أي م�سمى‪ ،‬ال�ضباع املتعط�شة للدماء �أ�صبحت ترتدي‬

‫ل‬
‫ِ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫َّ‬ ‫املالب�س الفاخرة املن َّعمة‪ ،‬وتنتظر فقط حلظة عطف ُتبديها‬

‫ل‬
‫لتنق�ض عليك‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫أنت‬
‫ومتت�ص دمائك وت�أكل حلمك ح ًّيا‪� ،‬ضعف احلائط يغري الل�صو�ص‪ ،‬و� ِ‬
‫قلبك فانتبهي‪».‬‬‫�ضعفك ِ‬
‫ِ‬ ‫نقطة‬
‫قليل‪ ،‬تعلقت نظراتها‬ ‫هبطت رابحة من �سيارة عمر بعيدً ا عن حارتها ً‬
‫لثوان معدودة وك�أنها تودِّعه‪ُ ،‬ت َرى هل تتجر�أ؟ �س�ألها عمر بينه وبني‬ ‫به ٍ‬
‫نف�سه‪ ،‬ومن يلومها بعد �أن �أرعبها ل�ساعة كاملة ما�ضية‪ ،‬ما ا�ست�ش َّفته‬
‫رابحة بني ال�سطور كفيل ب�أن يجعلها تهرب منه للقطب ال�شمايل ً‬
‫رك�ضا‪،‬‬
‫ولكنه بب�ساطة مل ي�ستطع � َّأل يفعل ‪...‬‬
‫هم�ست وهي تغالب دموعها قائل ًة بارتعا�ش‪ً :‬‬
‫«وداعا �سيد عمر و�شك ًرا‬
‫للن�صيحة‪� ،‬أعدك �أال �أتهور مرة �أخرى‪ ،‬فالنف�س �أَ ْو َل‪».‬‬
‫قائل‪« :‬مل �أقل هذا يا‬ ‫�أرجع عمر ر�أ�سه للوراء وهو ي�ضحك مبرارة ً‬
‫أريدك �أن تتفهميه �أن‬
‫رابحة‪ ،‬فنحن لدينا من الأنانيني ما يكفي‪ ،‬كل ما � ِ‬
‫وتعقل‪ ،‬ال تتبعي �أهواء القلب �أبدً ا عزيزتي‪».‬‬ ‫تكوين �أكرث حنك ًة ً‬
‫‪41‬‬
‫مل جتد ما تقوله فالتزمت ال�صمت‪ ،‬وهي ت�ستدير تغادر من �أمامه‬
‫بر�أ�س من َّك�س م�شو�ش و�أمل يع�صر قلبها ع�ص ًرا‪� ،‬أتراها تتجر�أ ح ًّقا لترتك‬
‫العمل دون رجعة؟‬
‫مل تكد رابحة تخطو و�سط حارتهم ال�ضيقة‪ ،‬حتى ملحت �أمام �أحد‬
‫البيوت املظلمة التي يطلقون عليها (خرابة) �شا ًّبا مبالمح �إجرامية يركب‬
‫دراجة بخارية‪ ،‬يف الواقع مل يه َّمها مظهر هذا ال�شاب املريب بقدر ما‬
‫�صعقها َمنْ يقف مواج ًها له يتلفت حوله بريبة وك�أنه يدرك �أنه يرتكب‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫جرما عظي ًما ويلقي بنف�سه يف التهلكة‪ ،‬بيد مرتع�شة كان ال�شاب املراهق‬ ‫ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫مينحه ورقة مالية كبرية‪ ،‬وي�أخذ منه لفافة مل ت�ستطع �أن تبني ما حتتويه‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أو مل متنح نف�سها حتى الفر�صة وهي تندفع �صارخة بقهر نحو �أخيها الذي‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫عرفته على الفور هادر ًة بانفعال‪ُ « :‬ق َ�ص ٌّي»‪.‬‬

‫ع‬ ‫مل يتحرك عمر من مكانه حتى يت�أكد من و�صولها �سامل ًة ً‬


‫متاما وبعني‬
‫اخليال‪ ،‬كان يرى وقوفها يف مقدمة ال�شارع‪ ،‬تتو�سع عيناها للحظة ب�صدمة‬
‫مرتعبة قبل �أن تتحرك نحو ال�شابني الواقفني يف منطقة مظلمة ومل يحتج‬
‫للتفكري مرتني وهو يخرج من �سيارته مندف ًعا نحوها‪ ،‬راقبها وهي مت�سك‬
‫يف تالبيب ذلك ال�شاب وهي تهدر ب�سخط‪« :‬يا ابن احلرام‪ ،‬يا قذر �أمل‬
‫جتد �إال �أخي ال�صغري لتبثه �سمومك؟!»‬
‫عندما حاول ال�شاب �أن يتطاول عليها كان عمر الأ�سرع وهو يلتقطه‬
‫ِمن على ظهر الدرجة مينحه �ضربة قوية بقب�ضة يده تزين مالحمه‪ ،‬ويف‬
‫حلظات كانت الغلبة لل�شاب الذي �أدرك انهزامه ووقوعه يف م�صيبة ما‪،‬‬
‫ف�أطلق لقدمه حرية الت�صرف‪ ،‬وهو ي�ضغط على دوا�سة البنزين غري عابئ‬
‫مبن ي�صدمه يف طريقه وف َّر هار ًبا‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫عندما يختلط الغ�ضب باخلوف يف دمائك‪ ،‬ال يعود للمنطق مكان‪،‬‬
‫يتال�شى العقل‪ ،‬وترتك لأفعالك العنان وحرية الت�صرف‪ ،‬وهذا ما �شعر‬
‫به عمر ورابحة ٍّ‬
‫ولكل منهما �أ�سبابه‪.‬‬
‫كان �صدر رابحة يهبط ويعلو ب�أنفا�س متالحقة‪ ،‬وهي تنظر لأخيها‬
‫أكرهك يا‬
‫قائل ب�صوت خافت‪�« :‬أنا � ِ‬ ‫الذي منحها كل نظرات التمرد ً‬
‫رابحة �إىل حد يفوق الو�صف»‪ ،‬وبدون تردد كانت تقرتب منه ترفع يدها‬
‫وت�صفعه بقوة �صفعة جعلت قلب كليهما ينخلع خل ًعا من مكانه‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪q q q‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫جتولت عيناه يف املكان الذي رمبا هجره منذ ما يقرب خم�س ع�شرة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫�سنة؛ لت�ستقر يف النهاية على البوابة اخل�شبية ال�ضخمة‪ ،‬وجدران عالية‬
‫حتيطها من كل مكان‪ ،‬و�سقف �صغري يعلم عن يقني �أنه يحمي املعلم حماد‬
‫ورجاله من �أهوال الربد القار�ص �أو عوامل التعرية تاركني باقي املكان يف‬
‫الهواء لأج�ساد �صغرية متفاوتة الأعمار والتي ي�سيطرون عليها بقب�ضة من‬
‫حديد ونار‪ ،‬مق�سمني نها ًرا �إىل جمموعات ليقوموا بالأعمال التي ي�أمر بها‬
‫حماد ما بني �سرقة ون�شل وت�سول‪ ،‬وخطف وتوزيع مواد خمدرة‪ ،‬وق�سمني‬
‫خمفيني مل يكن هو يعلم عنهم �شي ًئا قبل جتربته التي ك�سرت روحه و�أَ ْح َن ْت‬
‫ظهره‪ ،‬املتاجرة بالأع�ضاء وبيع ال�صغريات لكل نف�س مري�ضة طامعة يف‬
‫�أج�سادهنَّ ال�صغرية وعذريتهنَّ ‪.‬‬
‫�أغم�ض �سائد عينيه بقوة وهو يكتم �آهاته يف �صدره كالعادة‪ً :‬‬
‫«مهل‬
‫مل ي�أت وقت االنهيار �أو احل�ساب بعدُ‪ ،‬تلك �أوىل خطواتك لت�صل �إىل ما‬
‫تريده‪».‬‬
‫‪43‬‬
‫ا�شتدت قب�ضته على احلائط ووقف م�ستندً ا عليه‪ ،‬والذكرى جتتاحه‬
‫ؤو�سا من حنظل‪ ،‬وهنا ر�آها وحماها‬ ‫ق�س ًرا‪ ،‬هنا ذاق املرارة وجت َّرعها ك� ً‬
‫واعتقد بغبائه وقوته الفتية �أنه قادر على النجاة بها‪ ،‬عيناه �شردت لآخر‬
‫ليلة بينهم‪ ،‬نظر لذلك الزقاق ال�ضيق املظلم خلف املبنى ال�شبيه ب�إ�سطبل‬
‫حيوانات �أكرث منه مكا ًنا يحوي � ً‬
‫أرواحا ب�شرية‪ ،‬وهنا امتلكها متخف ًيا بها‬
‫�صك امتالكها‪ ،‬و�ضع فيها‬ ‫من كل عني متل�ص�صة َو َ�ش َم َها با�سمه ومنحته َّ‬
‫بذرته وج�سدها تفوح منه رائحته‪ ،‬كتعريف لأي طامع �أنها �أ�صبحت مل ًكا‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫لذئب‪ ،‬فيبعد عنها �أي حيوان �ضاري طامع يف متيزها و�سط العديد من‬

‫كبك ِّفه امل�ضمومة‪ ،‬الأمل ال ُيطاق وال ُيقا َرن حتى‬


‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫الفتيات التي ي�ستخدمونها يف قذاراتهم‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫احلائط‬ ‫�ضرب جانب‬

‫زيع‬
‫�شرارتها‬ ‫و‬
‫عادت‬‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫وقد‬ ‫ل�سنوات‪،‬‬
‫بامل�شرط الذي امتد ‪...‬‬
‫قطع �أفكاره وهو يت�أوه بحرقة �أحرقته‬
‫لالتقاد‪.‬‬
‫بتمهل كان يقرتب من الوكر‪ ،‬مل ين�س بالطبع نزع تلك املالب�س املرتفة‬
‫قمي�صا‬
‫التي مل َي ْعت َْد َها جلده حتى بعد مرور �سنوات من الرتف‪ ،‬مرتد ًيا ً‬
‫متاما‪،‬‬ ‫ً‬
‫وبنطال م�شاب ًها ً‬ ‫قد ًميا مهرت ًئا مفتوح الأزرار حتى منت�صف �صدره‬
‫قبل �أن يخطو �إىل املكان‪ ،‬ا�ستوقفته تلك املجموعة ال�صغرية امللتفة حول‬
‫جدا منكم�ش حول نف�سه ومل ًقى بجانب احلائط ك�أنه جرذ‬ ‫ج�سد �صغري ًّ‬
‫�أجرب‪ ،‬ابتلع �سائد غ�صته‪ ،‬وهو يتذكر انكما�شه يف نف�س املكان جائ ًعا‬
‫تائ ًها و�ضائ ًعا عندما كان ي�صدر حماد �أمره ب�ضرورة عدم منحه الطعام‬
‫هو و�أمثاله ليعرف بعدها معنى اللقمة املق َّدمة لها‪ ،‬وي�شحذ �أ�سنانه دون‬

‫‪44‬‬
‫رحمة حتى يحارب وي�ستطيع احل�صول عليها‪ ،‬ويف لفتة �أخرى �إن�سانية‬
‫غريبة‪ ،‬كان يبحث بعينيه عن �أي مكان ي�صلح لي�شرتي منه بع�ض الأطعمة‪.‬‬
‫وبعد ن�صف �ساعة مل يخب ظنه وهو يعود حم َّم ًل ب�أكيا�س بها بع�ض‬
‫الأطعمة ال�شعبية رمبا مل تكن ما �أراده حتديدً ا‪ ،‬ولكنها �أكرث من وجبة‬
‫د�سمه لهم رمبا مر عليهم �أكرث من يومني كاملني مل يتذوقوا حتى قطعة‬
‫خبز ياب�سة‪ ،‬ملقاة يف القمامة التي تغرق �أماكنهم‪.‬‬
‫ظله ال�ضخم الذي حجب عن ال�صغار ال�ضوء جعلهم يتفرقون يف حلظة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫خو ًفا ورهبة �أوقفهم بنربة حملت بع�ض الطم�أنينة‪ ،‬ومظهره املهرتئ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫منحهم بع�ض ال�سالم �أنه منهم عندما قال‪« :‬ال �أريد �أذيتكم‪ ،‬فقط �أنا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫�أحمل بع�ض الأطعمة»‪ ،‬وكحيوانات �صغرية م�سكينة جائعة ب�أج�سادهم‬
‫الهزيلة مل يفكروا مرتني وهم يقرتبون منه ويخطفون ما يحمله بني يديه‪،‬‬
‫يف حلظة كانوا ميزقون الأكيا�س يفرت�شون الأر�ض و�أيديهم املت�سخة تن�شب‬
‫حماول �أن يحافظ‬ ‫ً‬ ‫ن�ش ًبا يف الأطعمة‪ ،‬نظرة واحدة من عينيه ال�سوداوين‬
‫على ثباتهم وقوتهم رغم كل �شيء‪ ،‬فمظهرهم جعل قلبه يبكي �أملًا ووج ًعا‪:‬‬
‫«كم من ال�سهل ا�صطيادكم يف �سبيل �سد رمق جوعكم»‪ ،‬حتامل على نف�سه‬
‫�أال ينهار ف�أبعد نظراته عنهم‪ ،‬والتفت للآخر املُ ْل َقى بال حول وال قوة‪،‬‬
‫انحنى �سائد على ركبتيه يه ُّز الولد ال�صغري الذي يئنُّ بعواء �صغري جريح‬
‫وهو يخربه بوهن مري�ض‪« :‬مل �أخرب �أحدً ا‪ ،‬مل �أتفوه بكلمة �أرجوك اتركني‪،‬‬
‫مل �أعد �أريد تلك املثلجات‪ ،‬فقط اتركني و�ش�أين‪».‬‬
‫الغ�صة َ�ش َط َرت حلقه واخلوف يعرتيه مرغ ًما‪ ،‬وهو يرفع جلباب‬
‫ال�صغري املمزق‪ ،‬وحدثه مل يكذب �أبدً ا‪ ،‬عندما وجد اجلرح الطويل الكبري‬

‫‪45‬‬
‫الذي ي�شق بطنه ناحية الكلى اليمنى مبا�شر ًة‪ ،‬هم�س �سائد بوجع وهو‬
‫يحاول حمله رمبا ي�ستطيع جندته‪�« :‬أنتم �أطفال �أ�ضناكم و�أ�صابكم الي�أ�س‬
‫من الليل الطويل يف �أي �أزقة �أو حتى قمامة ُتلقوا‪ ،‬رمبا حتميكم من وحو�ش‬
‫الليل وق�سوة الربد‪� ،‬أال يوجد يف قلوبهم رحمة ولو قليل؟! �أخذ كليتك من‬
‫�أجل قطعة مثلجات!»‬
‫‪q q q‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪46‬‬
‫‪o‬‬ ‫ال ُغ َّصة الثانية‬

‫«�سائد‪ ،‬ال ترتكني الليلة وتذهب‪ ،‬ابقَ معي ف�أنا خائفة‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫خفق قلبه ب�سرعة جمنونة‪ ،‬اجتاحه خوف مبهم بطريقة غريبة ال‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫يعرف �سب ًبا له‪ ،‬ف�سيطر عليه وقال بعجز‪« :‬ليتني �أ�ستطيع �آية‪ ،‬ولكن تلك‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫العملية بالذات �ستجعل املعلم حماد ير�ضى عنا �أخ ًريا ويعلن زواجنا �أمام‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫والدتك للطفل‪».‬‬
‫ِ‬ ‫اجلميع‪ ،‬ومينحنا تلك الغرفة التي وعدنا بها قبل‬
‫ت�شبثت يداها بطريف قمي�صه املفتوح حتى منت�صف �صدره‪ ،‬وقالت‬
‫بقلق ونربة متلعثمة‪« :‬خذين معك‪� ،‬س�أقف بعيدً ا �أراقبك‪».‬‬
‫�أبعد يديها عنه بلطف‪ ،‬ثم �ضم ج�سدها ال�ضئيل الرقيق �إىل �صدره‬
‫وهو يقول بوعد قاطع برجولته الفتية‪« :‬حبيبتي ابقي هنا يف ذلك الزقاق‪،‬‬
‫ليتني �أ�ستطيع �أن �أ�صطحبكم معي ولكن عمل الليلة لرجال املعلم املوثوقني‬
‫بوجودك معنا‪».‬‬
‫ِ‬ ‫فقط‪ ،‬وبالت�أكيد لن ير�ضى �أحد‬
‫بكت بحرقة وهي تتم�سك بجنينها الذي بلغ �شهره الثامن وهي تخربه‪:‬‬
‫«�أنت ال تعلم ما يحدث هنا بعد �أن ي�صرفكم بعيدً ا‪ ،‬ال تعلم يا �سائد �أنا‬
‫مرتعبة‪� ،‬ستندم �إن مل ت�أخذين معك‪».‬‬
‫مل يفهم يومها ما تقوله �أو كان من الثقة واحلماقة �أال يفهم‪ ،‬فما الذي‬
‫قد ي�ضرها بعد �أن �أعلن حماد زواجهما عندما بد�أت بطنها يف الظهور‬

‫‪47‬‬
‫وا�ضحا للجميع من‬‫ً‬ ‫ودب �سائد على �صدره يخربهم �أنه طفله وقد كان‬
‫الت�صاقها الدائم به‪� ،‬إنه الوحيد امل�سئول عن حملها‪ ،‬ووعده ب�إمتام‬
‫زواجهما بورقة ر�سمية‪� ،‬سيمنحها لهم �أحد املحامني معدومي ال�ضمري‬
‫املتورطني مع حماد يف جرائمه املعتادة‪.‬‬
‫رجع بر�أ�سه للخلف م�ستندً ا على احلائط مغم�ض العينني يخبط‬
‫ر�أ�سه برتابة ليتذكر �صوته احلازم وهو يبعدها عنه ً‬
‫قائل‪ُ « :‬ك ِّفي عن‬
‫أ�صبحت امر�أة يف �سن ال�ساد�سة ع�شر‪ ،‬وتلك هي حياتنا‬ ‫ِ‬ ‫طفوليتك‪ ،‬لقد �‬

‫ع‬
‫التي اعتدناها‪ ،‬فما الذي َج َّد؟!»‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تقب�ضت يداه بعنف‪ ،‬ثم فردهما يتلم�س احلائط من خلف ظهره ك�أنه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يتلم�سها هي وهو يتذكر مالم�سته الأخرية لها عندما خلع معطفه الأ�سود‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫اجللدي الذي ح�صل عليه من تثبيت �أحد الأ�شخا�ص قبل �أن ي�سرق كل‬

‫ع‬
‫نف�سك جيدً ا‬
‫ما ميلكه‪ ،‬ثم �ألب�سها �إياه وهو يقول بنربة �أقل حدة‪« :‬دفئي ِ‬
‫أمرك �أحدهم مبزيد من العمل‪،‬‬ ‫واجل�سي هنا‪ ،‬ال حتاويل الظهور حتى ال ي� ِ‬
‫أنت تدورين يف الإ�شارات‪».‬‬
‫قدميك طوال اليوم و� ِ‬ ‫ِ‬ ‫يكفيك الوقوف على‬
‫ِ‬
‫قلبه متزَّق‪ ،‬و�شعور العجز احلانق عاد لي�شطر حلقه ن�صفني‪ ،‬فلم يعد‬
‫يدري هل مرارته من ذكرياته التي تتد َّفق عندما ي�شاهد بعني اخليال‬
‫ت�س ُّولها يف الإ�شارات م�ستغلني حملها لي�ستعطفوا قلوب النا�س‪� ،‬أم وجعه‬
‫الدائم من ذلك امل�شهد املروع الذي ر�آها فيه �آخر مرة‪� ،‬أوقف �سيل‬
‫الذكريات‪ ،‬عندما �سمع �صوتًا خ�ش ًنا يقول‪�« :‬سيد �سائد‪ ،‬لقد طلبتني‪».‬‬
‫�صرف �سائد جميع ذكرياته مبهارة تد َّرب عليها كث ًريا يف املا�ضي‪،‬‬
‫واعتدل ليجيب �أحد رجاله الذي تطلع �إليه وقال بنربة �صارمة‪« :‬هناك‬
‫طفل يف الداخل مع الطبيب‪� ،‬أريدك �أن جتل�س هنا تنتظره وتهتم به‪،‬‬
‫حتميه بحياتك ك�أنك حتميني �أنا‪».‬‬

‫‪48‬‬
‫تعجب �إبراهيم من هيئة رئي�سه اجلديد‪� ،‬أين املالب�س الفاخرة؟‬ ‫َّ‬
‫وكيف حت َّول يف حلظة ملظهر (البلطجي) الذي �أمامه؟ ولكنه كما تع َّود مل‬
‫يتدخل‪ ،‬فقال بخ�شونة عملية‪�« :‬سيد �سائد‪ ،‬هل من �أوامر �أخرى؟»‬
‫حازما م�سيط ًرا قو ًّيا وحمذ ًرا‪« :‬ال ترتك الطفل معه‬
‫د َّوى �صوت �سائد ً‬
‫�أبدً ا ولو للحظة واحدة‪ ،‬عندما ينتهي من جندته ترافقه كظله‪ ،‬و ُي َف�ضل �أن‬
‫ت�أخذ كل تعليماته وبع�ض العالج وتذهب به من هنا‪».‬‬
‫حاول �إبراهيم �أن ي�ستو�ضح �أكرث منه عندما �س�أله‪« :‬هل الطفل يعنيك‬

‫ع‬
‫�سيدي؟ هل هو �أحد الأقارب؟»‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عندها التفت له بحركة عنيفة وهو يقول بربود‪« :‬ال ت�س�أل عن �شيء ال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يخ�صك‪ ،‬فقط ن ِّفذ ما �أقوله فور انتهاء ذلك الطبيب من جندته‪ ،‬اذهب‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫به �إىل تلك الغرفة �أ�سفل ال�شركة التي تتجمعون بها �أنت وبقية الرجال �إىل‬
‫�أن �أعود �أنا و�س�أت�صرف‪».‬‬
‫مل ي ُر َّد �إبراهيم ب�شيء اكتفى ب�إمياءة من ر�أ�سه متذك ًرا حديث عمر‬
‫عن �سائد وحماولته التلطيف من �أفعاله احلادة‪ ،‬م�ؤكدً ا لهم �أن �شخ�صيته‬
‫ال تعرف التفاهم ويكره ب�شدة امل�شاعر الإن�سانية‪.‬‬
‫«عج ًبا»‪ ،‬نطقها �إبراهيم �إثر خروج �سائد الذي كان يلوم نف�سه بقوة‬
‫كيف �سمح لنف�سه �أن ي�أتي بالفتى لأحد اجلزارين الذين ي َّدعون �أنهم‬
‫مالئكة الرحمة‪ ،‬وما هم �إال �شياطني وم�صا�صي دماء بالرداء الأبي�ض!‬
‫‪q q q‬‬
‫دقيقة كاملة مرت مل جتر�ؤ رابحة حتى على التقاط �أنفا�سها‪ ،‬كانت‬
‫تنظر لأخيها م�صدومة وقد �صفعته‪ ،‬كانت تنتف�ض من ر�أ�سها حتى �أخم�ص‬
‫قدميها‪ ،‬وهي تنقل عينيها بني وجه ُق َ�ص ٍّي ال�شاحب‪ ،‬وعمر الذي اقرتب‬
‫‪49‬‬
‫منهما بتح ُّفز �صامت‪ ،‬وعلمت �سبب حت ُّفزه عندما خرج ُق َ�ص ٌّي من ذهوله‬
‫ورفع يده ينتوي رد �صفعتها‪ ،‬راقبت ذاهل ًة عمر الذي اندفع و�أم�سك يد‬
‫�أخيها‪ ،‬ثم قام بلويها خلف ظهره وهو يقول بهدوء‪« :‬حتركي �أمامي‪� ،‬أنتم‬
‫لن تكملوا �شجاركم و�سط عيون املارين الذين توقفوا لي�شاهدوا احلدث‪».‬‬
‫كانت عيناها ما زالت تتابع تفا�صيل �أخيها التي ُ�ص ِد َمت فج�أة بتغريه‬
‫اجللل وك�أنها �أول مرة تراه‪ ،‬ظالل �سوداء حتدِّ د عينيه الذابلة‪ ،‬وجهه‬
‫نحول ع َّما تتذكر‪ ،‬امتلأت‬ ‫مرهق وك�أنه ال ينام لياليه‪ ،‬ج�سده �أ�صبح �أكرث ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عيناها بالدمع قبل �أن ت�ضع يديها على فمها الذي �أخرج �شهقة مكتومة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫وهي تقول‪« :‬رباه متى غفلت عنك؟! وكيف و�صلوا �إليك كي يجروك للتهلكة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يا ُق َ�ص ُّي؟»‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫كانت عيناه املتو�سعتني تربقان ًّ‬

‫ع‬
‫غل وهو يتلوى بني قب�ضتي عمر ي�صرخ‬
‫منفعل‪« :‬ال تتحدثي بتلك الطريقة معي‪َ ،‬منْ َع َّي َن ِك الو�صية َّ‬
‫علي؟ هل‬ ‫ً‬
‫ي�ساعدك على �ضربي؟!»‬‫ِ‬ ‫بك جنون التملك �أن ت�أتي يل ببلطجي‬‫و�صل ِ‬
‫�أم�سك عمر بذراعه الآخر يثبته على �صدره وهو يدفعه �أمامه يخرب‬
‫رابحة من بني �أ�سنانه باقت�ضاب �آم ًرا‪« :‬الآن حتركي»‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫منذ �ساعة �أو �أكرث كان عمر ي�ستند عاقدً ا ذراعيه على �صدره على‬
‫باب �شقة متوا�ضعة احلال‪ ،‬بدون تعبري ُي ْذ َكر كان يراقب الهتاف املتبادل‬
‫ب�سخط وغ�ضب حمتد و ُنواح غريب بني رابحة و�أمها ال�سيدة الكبرية يف‬
‫ال�سن مبالحمها املرهقة‪ُ ،‬تلقي االتهامات والذنب كله على ابنتها التي‬
‫غفلت عن �أخيها الذي وعدت بحمايته واجن َّر لذلك الطريق‪� ،‬شاهد‬
‫ال�سيدة �أخ ًريا وقد متكن منها الإنهاك فجل�ست على �أحد املقاعد مت�سك‬
‫‪50‬‬
‫أخوك‪،‬‬
‫ر�أ�سها بني يديها‪ ،‬وهي تقول بح�سرة‪« :‬حرقة قلبي عليه لقد �ضاع � ِ‬
‫كيف غفل كالنا عنه؟ اهلل وحده يعلم �إىل �أي حد مت َّكن منه هذا ال�سم‪».‬‬
‫كانت مالمح رابحة �شاحبة ب�شدة تنظر �إىل �أمها بعجز وال جتد ردًّا‪،‬‬
‫ف�أكملت �أمها بالقول الذي جعل وجه عمر ي�شحب وي�سود هذه املرة‪:‬‬
‫«اللقطاء �أوالد ال�شوارع ومن غريهم قد يقنعه بهذا ال�سم بقلوبهم احلاقدة‬
‫�أ�ضاعوا �شبابنا لينالوا هم الر�ضى عن تدمري �أوالدنا‪ ،‬واملال الذي ي�أخذوه‬
‫أخيك‪».‬‬
‫من ِ�ضعاف النفو�س مثل � ِ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مل تعرف رابحة ما الذي جعلها ترفع عينيها تنظر لوجه عمر امل�سود‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ً‬
‫مماثل بخزي‪ ،‬تالحقت‬ ‫باعتذار �صامت متو�سل ووجه ي�أخذ لو ًنا م�سودًّا‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫منك‪،‬‬
‫�أنفا�سها عندما نطق بقهر يلون �صوته بنربة خافتة‪« :‬معذرة ِ‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫ولكن ه�ؤالء اللقطاء لي�س الذنب عندهم ً‬
‫كامل‪ ،‬فلو وجد ابنك الرتبية‬
‫ال�صحيحة والتي ُت َع ُّد رفاهية لأوالد ال�شوارع‪ ،‬ما كان �أحد ا�ستطاع جره‬
‫ل�شيء‪».‬‬
‫�أخذت �أنفا�سها لت�شعر بالهدوء التدريجي‪ ،‬وقالت بعجز‪« :‬حاولت‬
‫حمايته‪ ،‬و�أخته مل تفرط فيه حلظة واحدة‪ ،‬نحاوطه وند ِّلـله رغم �ضيق‬
‫و�شح املال‪� ،‬أحرم نف�سي و�أخته من ال�ضروريات لينال هو ً‬
‫بع�ضا من‬ ‫اليد ُ‬
‫الرفاهيات‪».‬‬
‫قال عمر بنربة �ساخرة حم َّملة باملرارة‪ً �« :‬إذا ِ َل تلقني كل الأخطاء‬
‫على �أخته؟ فكما �أرى �أنها حاولت حمايته‪».‬‬
‫منعت رابحة نف�سها من البكاء �أمامه‪ ،‬ال مل تكن تريده �أن يكت�شف‬
‫حالها وورطتها هكذا‪ ،‬منعت �صرخة جمنونة تريد اخلروج لتطرده من‬
‫هذا املنزل ومن حياتها‪� ،‬أن يرتكها مل�صيبتها وحملها الثقيل؛ لت�ستطيع‬
‫‪51‬‬
‫الرتكيز والتعامل معه‪� ،‬أجفلها عمر عندما قال بحدة‪�« :‬أريد �أن �أحتدث‬
‫معه وحدنا‪».‬‬
‫«ل يا �سيد عمر؟! ال �أعتقد‬ ‫بهدوء وثبات مثريين للعجب قالت رابحة‪َ ِ :‬‬
‫�أن تدخلك يف الأمر �أكرث من هذا جيد لنا‪� ،‬أرجوك غادر من هنا و�شك ًرا‬
‫مل�ساعدتي �إىل هذا احلد‪».‬‬
‫عيناه امللونتان منحتها نظرة واحدة فكرتها مبالحمه املظلمة يف‬
‫�سيارته والتجربة املرعبة التي مرت بها معه‪ ،‬ثم قال �أخ ًريا بنعومة خطرة‬

‫ع‬
‫فوجهيني �إىل غرفته‪� ،‬أنا �أعرف‬ ‫جافة‪« :‬لقد تورطت معكم وانتهى الأمر‪ِّ ،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جيدً ا طريقي يف التعامل مع َمنْ مثله‪».‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫تدخلت �أم رابحة تخربه بلهفة‪« :‬الباب �أمامك يا ُب َني‪ ،‬افعل ما تريده‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫�إن كان �سينقذه ويجعلنا ن�سيطر عليه‪».‬‬

‫ع‬
‫اهتماما وكلماتها الطاعنة‬
‫ً‬ ‫مل يبادل املر�أة حتى نظرة ومل ُي ِع ْر طلبها‬
‫موجه ملنت�صف قلبه ما زالت ترتدد يف عقله‬ ‫قتيل كر�صا�ص َّ‬‫التي �أَ ْر َد ْت ُه ً‬
‫ب�صخب‪ُ ،‬تذ ِّكره بكلمات �أخرى موجعة كان ُي ْط َعن بها يف ال�سابق من رجال‬
‫يوما التمرد‬‫حماد عندما يحاولون تهذيبه �أو ال�سيطرة عليه �إن حاول ً‬
‫ليذكروه مبقداره وحجمه احلقيقي‪ ،‬رمبا كان جميعهم يتماثلون يف الت�شرد‬
‫وال�ضياع‪ ،‬ولكن حتى يف ذلك الوكر واحل�ضي�ض كان هناك متيز بينهم‪،‬‬
‫َمنْ هو دون �أهل �أو مت�شرد ب�سبب تفكك الأهل �أو ابن حرام ُو ِج َد �أمام باب‬
‫نف�سا عمي ًقا ي�سيطر على‬ ‫م�سجد �أو حتى بني القمامة مثله هو‪� ،‬أخذ عمر ً‬
‫�صي الذي‬‫نف�سه ب�صعوبة‪ ،‬قبل �أن يفتح الباب ويدخل مبا�شر ًة �إىل غرفة ُق ٍّ‬
‫�صرخ يف وجهه بغ�ضب وهو�س وهو يقذفه ب�أحد زجاجات املياه‪« :‬اخرج من‬
‫هنا يا هذا‪� ،‬إن كانت عدمية الأخالق تلك �سمحت لك بالتحكم يف حياتها‪،‬‬
‫ف�أنا �س�أقتلك �إن حاولت االقرتاب مني‪».‬‬

‫‪52‬‬
‫خطر كان عمر يقرتب منه وعيناه تتفح�ص �سري ًعا حالة‬ ‫بتمهل ِ‬
‫�صي ر� ًأ�سا على عقب �إثر‬‫الفو�ضى يف تلك الغرفة ال�ضيقة والتي قلبها ُق ٌّ‬
‫نوبة غ�ضب‪ ،‬ودون مقدمات كان يقب�ض على الفتى ويل�صقه يف احلائط‬
‫ومي�سك رقبته بني يديه ك�أنه �سيخنقه ويده الأخرى تثبت يديه التي يحاول‬
‫�أن يدافع بها عن نف�سه‪ ،‬كانت عينا ُق ٍّ‬
‫�صي متو�سعة رع ًبا حقيق ًّيا وهو ي�شعر‬
‫بذلك التهديد ينظر لوجه عمر املظلم‪ ،‬و َب َدا الرجل �أنه قادر على دق‬
‫يرف له جفن واحد‪ ،‬نطق عمر �أخ ًريا بنربة كالفحيح‪« :‬قد‬ ‫عنقه دون �أن َّ‬
‫�أتف َّهم مترد فتى غبي مثلك يلقي بنف�سه بني يدي جتار ال�سم الأبي�ض؛‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫لي�ستغلوه كما يحبون وبالنهاية ينتهي به احلال �إما ممددًا على طاولة‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫جزار ب�شري معدوم الرحمة‪ ،‬يلتهم �أع�ضاءك ويعبث بها كما يريد لي�أخذ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫ما يريده ويرتكك جمرد جيفة عفنة فارغة‪� ،‬أو �إن كان حظك �أوفر‬
‫أي�ضا �سينتهي بك احلال ميتًا غار ًقا يف دمائك‬ ‫�ست�صاب مبر�ض الإيدز و� ً‬
‫على قارعة الطريق ت�أكلك كالب ال�سكك؛ لأنه لي�س هناك �إن�سان عاقل‬
‫�سيجازف ويحملك ليتلوث‪».‬‬
‫النظرة املرتعبة وانتفا�ض ج�سده خو ًفا ورهبة حتت يديه هي كل ما‬
‫�أراده‪ ،‬فابت�سم عمر ابت�سامة مل ت�صل للمرح �أبدً ا عندما �أردف ببطء‬
‫مميت‪« :‬ولكن �إن تتهم �أختك باتهام ب�شع تل ِّمح ل�شيء ما يف �أخالقها‪ ،‬هذا‬
‫ما �س�أحا�سبك عليه بنف�سي»‪.‬‬
‫�أنفا�س ُق ٍّ‬
‫�صي كانت تت�سارع خو ًفا عندما نطق بتلعثم متهور‪�« :‬أنا ال �أملح‬
‫ب�شيء جمرد‪� ،‬شتيمة تليق بها بعد ما فعلته بي؛ تخنقني و‪»...‬‬
‫�صي يقطع حديثه امل�سرت�سل‪ ،‬ال لن ي�سمح لرجل �أو �أحد �أن‬ ‫َ�ص ْمتُ ُق ٍّ‬
‫يعلم �سر غ�ضبه الداخلي من ت�صرفات �أخته التي تتحكم يف رجولته‬
‫الفتية‪ ،‬تعامله كطفل �صغري ال يفهم �شي ًئا‪ ،‬يحتاج للتهذيب والت�أديب طول‬
‫‪53‬‬
‫الوقت‪ ،‬ترف�ض �أن يتحمل هو حمل منزلهم وي�أخذ موقعه الطبيعي كرجل‬
‫وحام لهم‪.‬‬‫و�ساند ٍ‬
‫�صي وينظر‬ ‫اهتماما وهو يرفع يده يثبت ر�أ�س ُق ٍّ‬
‫ً‬ ‫مل ُي ِع ْر عمر حديثه‬
‫لب�ؤب�ؤ عينيه باهتمام وتف ُّر�س‪ ،‬ثم �س�أله بغ�ضب وهو ي�ضغط على �أ�سنانه‬
‫بغيظ‪�« :‬أيها املدلل الغبي‪ ،‬ما هو النوع الذي تتعاطاه؟»‬
‫�صي الغ�ضب ال�صارخ يدفعه بعيدً ا عنه برجولة فتية‪« :‬ابتعد ال‬ ‫بادله ُق ٌّ‬
‫يعنيك ما �أفعله �إطال ًقا‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�صي بالعجز للحظات عندما كان الآخر كجدار �صلب ال‬ ‫�شعر ُق ٌّ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫يتزحزح‪ ،‬ا�شتدت قب�ضة عمر حول عنقه للحظات َع َّم ال�صمت بينهم‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وبدون �إرادة من عمر كان ي�ضغط على عنق الفتى بغ�ضب م�ستعر وحزن‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫دفني عميق يجتاحه‪� ،‬إن كان �ضحايا ال�شوارع لهم العذر �أن ي�صبح البع�ض‬

‫ع‬
‫منهم مدمنني وجزء �آخر بلطجية حاقدين‪ ،‬ما هو عذر مراهق ك ُق َ�ص ٍ ّي‪،‬‬
‫لديه عائله حتيطه باهتمام وجدران منزل يحت�ضنه بعطف ودفء؟!»‬
‫�صي ب�أنفا�س مكتومة وهو يقول‪« :‬ابتعد‬ ‫نربة التو�سل التي نطق بها ُق ُّ‬
‫�أرجوك و�س�أخربك ما تريد‪� ،‬أنت تقتلني‪».‬‬
‫ابتعد عنه عمر �سري ًعا مبهوتًا بوجه �شاحب وهو يراقب الفتى ينحني‬
‫على ركبتيه وي�سعل ب�شدة طال ًبا للهواء‪ ،‬تخ َّلل عمر �شعره بع�صبية؛ ما الذي‬
‫يوما؟ متى من الأ�سا�س‬ ‫يحدث معه؟ متى خرج عن هدوئه وتعامله املاكر ً‬
‫اهتم مب�صري �أحدهم؟ ما الذي برابحة يجذبه ليهتم؟ �أغم�ض عمر عينيه‬
‫م�سيط ًرا على نف�سه‪� ،‬أزاح بع�ض الكتب واملالب�س امللقاة بفو�ضى على‬
‫�صي بخ�شونة وهو يقول‬ ‫�أر�ضية الغرفة‪ ،‬ثم يجثو على ركبتيه مي�سك وجه ُق ٍّ‬
‫�آم ًرا‪�« :‬أنت ال تتعاطى الهروين‪ ،‬تلك كانت مرتك الأوىل �أو الثانية على‬
‫�أق�صى تقدير‪ ،‬ولكنك تتعاطى خمد ًرا �آخر‪� ،‬أريد �إجابة مبا�شرة‪».‬‬
‫‪54‬‬
‫�صي ي�شعر بالغ�ضب بالذل بالهوان بالك�سر‪� ،‬أغلق جفنيه قبل �أن‬ ‫كان ُق ُّ‬
‫يتعاىل بكا�ؤه بحرقة ك�أنه طفل تائه �ضائع ال يجد مر�سى‪ ،‬مل َي ِر َّق عمر‪ ،‬مل‬
‫ي�ستطع ذلك‪ ،‬رغم تلك النب�ضة التي كانت ت�ضرب على �أوتاره متعاطفة مع‬
‫�ضعف الفتى‪ ،‬انتظر �أن يهد�أ من نف�سه‪ ،‬ومل يحاول ال�ضغط عليه باملزيد‪،‬‬
‫ثم �سمع �صوته وهو يخرج م�شو ًبا ب�شهقاته العالية‪« :‬احل�شي�ش»‪.‬‬
‫م�سرتيحا بع�ض ال�شيء؛‬
‫ً‬ ‫نف�سا عمي ًقا‬
‫�أطبق عمر على جفنيه وهو ي�أخذ ً‬
‫لعلمه �أنه �أقل تلك املخدرات فت ًكا‪ ،‬ولكنه قال مقت�ض ًبا‪:‬‬

‫ع‬
‫«ملاذا مراهق مثلك لديه درا�سته وحياته‪ ،‬م�سئول عن امر�أتني‪ً ،‬‬
‫بدل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫من �أن يكافح ليح�صل على فر�صته وي�أخذ دوره الطبيعي بينهنَّ ؛ يتحول‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ملدمن؟!»‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫تلعثم ُق ُّ‬
‫�صي وهو يجيبه حمرت ًقا‪:‬‬
‫«�أنا رجل وهما يرف�ضان ر�ؤيتي هكذا‪ ،‬رابحة تعاملني كطفل تخنقني‬
‫باحل�صار وتهني رجولتي‪ ،‬تك�سرها بتحكمها املتكرر‪ ،‬وحتى عندما حاولت‬
‫العمل مل�ساعدتها رف�ضت‪ ،‬وذهبت ل�صاحب الور�شة تخربه �أين جمرد‬
‫طفل‪ ،‬فجعلتني حمط �سخرية اجلميع‪».‬‬
‫مل ي ُر َّد عمر ب�شيء ولكنه �أدرك �أن �أ�صدقاء ال�سوء ا�ستغلوا �سخط الفتى‬
‫وتخبطه؛ لإقناعه �أن تعاطي تلك املخدرات هي من �ست�صنع منهم ً‬
‫رجال‪،‬‬
‫تلك هي م�ساحتهم اخلا�صة وحريتهم التي لن ي�ستطيع �أحد التحكم بها‬
‫�أو اكت�شافها‪.‬‬
‫عم ال�صمت لثوان قبل �أن يكرر عمر �س�ؤاله بجفاء‪« :‬كم مرة ح�صلت‬
‫على الهريوين؟»‬
‫قال ُق ٌّ‬
‫�صي بتوتر‪« :‬تلك هي املرة الثانية فقط‪».‬‬
‫‪55‬‬
‫ك َّز عمر على �أ�سنانه وهو يخربه‪« :‬والأخرية يا ُق ُّ‬
‫�صي»‪.‬‬
‫�صي مرة �أخرى وهو يقول برعونة‪:‬‬ ‫ا�شتعلت مالمح ُق ٍّ‬
‫علي قوتك‬
‫«ومنْ �أنت لت�أمرين؟ َمنْ منحك احلق من الأ�سا�س لتفرد َّ‬ ‫َ‬
‫وتهاجمني؟»‬
‫بكل ذرة هدوء ا�ستدعاها عمر يف تلك اللحظة وبنف�س روحه الثعلبية‬
‫جازما‪« :‬ت�ستطيع القول‪:‬‬
‫حازما ً‬‫يوما كان يخرب ُق�ص ًّيا ً‬ ‫التي �أطلقوها عليه ً‬
‫�إنه يوم �سعدك‪� ،‬أنا من �س�أجعلك تنال كل ما تريده وتفر�ض رجولتك‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫متاما عن طريق‬
‫احلقيقية على رابحة وغريها‪ ،‬ولكن بقواعدي �أنا‪ ،‬وبعيدً ا ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫احل�شي�ش والهريوين‪� ،‬س�أ�ساعدك لتتخل�ص � ًأول من �آثار �إدمانك وبعدها‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لنا ترتيب �آخر‪».‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫�صي يقول ب�صوت من َهك‪« :‬و�أنت ماذا قد ت�ستفيد‬ ‫حذر كان ُق ٌّ‬
‫بارتياب ِ‬
‫من م�ساعدتي؟»‬
‫«لدي حاجه عندك‪� ،‬إن‬ ‫مهادن قبل �أن يقول‪َّ :‬‬ ‫ٍ‬ ‫ابت�سم عمر ببطء‬
‫أثبت يل تلك الرجولة التي تطالب بها‪،‬‬ ‫�ساعدتك �أنا فيما تريده و� َّ‬
‫�س�أمنحك �أنا م�صدر قوة لن ي�ستطيع �أحد بعدها الوقوف يف طريقك‬
‫يوما‪ ،‬و�أنت �ستمنحني حاجتي‪».‬‬‫ً‬
‫�صي‪ ،‬وهو يقول‪« :‬وما هي تلك احلاجة؟ وما‬ ‫بان الرف�ض على مالمح ُق ٍّ‬
‫الذي يجعلني �أثق بك؟ طريقي �أعرفه ولن �أتركه‪».‬‬
‫وقف عمر على قدميه ي�ضع يداه يف جي َبي بنطاله قبل �أن ينظر له‬
‫باك يحاول لفت‬‫با�ستخفاف ويقول م�ستف ًزّا له‪« :‬كما توقعت جمرد طفل ٍ‬
‫�أنظار �أمه و�أخته؛ لينال املزيد من االهتمام عرب اللجوء ل�شيء غبي مثله‬
‫لن يزيده �إال �ضع ًفا فتا ًكا عند نق�صان �أي جرعة لن ي�ستطيع �أن يح�صل‬
‫عليها‪».‬‬
‫‪56‬‬
‫انتف�ض ُق ٌّ‬
‫�صي وهو يهتف به‪« :‬بل �أنا رجل‪ ،‬و�أعرف ما �أفعله جيدً ا‪».‬‬
‫اقرتب منه عمر يخربه‪ً �« :‬إذا �أثبت واقبل ال�صفقة والتحدي الذي‬
‫�ألقيته يف وجهك‪».‬‬
‫�صي لفرتة طويلة قبل �أن يقول‪« :‬لي�س قبل �أن �أعرف‪ ،‬ما هي‬ ‫تردد ُق ٌّ‬
‫تلك امل�صلحة التي تريدها مني‪ ،‬و�أنت مل ترين �إال منذ �ساعات ق�صرية‪».‬‬
‫ملعت عينا عمر بانت�صار خفي‪ ،‬وهو يقول‪« :‬عندما تنفذ �شروطي كلها‬
‫�س�أخربك ما هي حاجتي‪».‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪q q q‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫عاد �سائد هذه املرة ولن ي�سمح مل�شاعره بت�شتيته �أو ب�ضياع تركيزه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫يف ذكرياته‪ ،‬وقف �أمام البوابة ال�ضخمة القدمية اخل�شبية‪ ،‬ثغرات كبرية‬
‫مهدمة‪َ ،‬ق َّلب نظره بني ربوع املكان الوا�سع‪ ،‬نف�س القمامة امللقاة يف‬
‫كل مكان‪ ،‬نف�س الأج�ساد الهزيلة املتال�صقة ب�أعداد لي�ست قليلة‪ ،‬حالة‬
‫االرتباك والهياج بينهم ك�أنهم قطعان من املوا�شي ولي�سوا بب�شر‪ ،‬بحثت‬
‫عيناه عن هدفه �سري ًعا‪ ،‬ليجده هناك بنف�س جل�سته ال�سلطانية‪ ،‬يجل�س‬
‫على كر�سي �ضخم وحماط برجاله ذوي املالمح الإجرامية‪ ،‬ويجثو �أمامه‬
‫متو�سل الرحمة و�سوط �أحدهم يهبط على ظهر الفتى دون‬ ‫ً‬ ‫�أحد الأطفال‬
‫ذرة �شفقة‪ ،‬وحماد يقول بنربه قا�سية �شر�سة‪« :‬ال رحمة عندي خلائن‪،‬‬
‫هذا للتعلم كيف ت�ستطيع �أن تخفي عني املال يا ابن احلرام‪».‬‬
‫فتو�سل الطفل ال�صغري ببكائه‪ ،‬وال�ضرب ينزل عليه ميزق ب�شرته‬ ‫َّ‬
‫الرقيقة متزي ًقا‪ ،‬والدماء تنزف من ظهره املحم ِّر‪ ،‬وال�ضرب يغطي وجهه‬
‫املتورم‪« :‬لن �أفعلها مرة �أخرى يا معلم‪ ،‬كنت جائ ًعا‪ ،‬و�أردت فقط �أن‬
‫�أ�شرتي بع�ض الطعام‪».‬‬

‫‪57‬‬
‫مل ي ُر َّد حماد‪ ،‬عندما لفته ال�صمت الذي احتل املكان انتباهه‪ ،‬وقف‬
‫م�صدوما للحظات رغم ت�صلُّب مالحمه املُخيفة‪� ،‬ض َّيق عينيه ونظر‬ ‫ً‬ ‫حماد‬
‫للوافد اجلديد وهو يحاول �أن يتذكر �أين ر�أى هذا الوجه‪ ،‬و�صل �أمام �سائد‬
‫يخربه‪« :‬من �أنت؟ وكيف جتر�ؤ �أن ُتخطي مملكتي دون �إذن؟!»‬
‫خيبت �أملي يا معلمي و�أبي الروحي‪� ،‬أن�سيت‬ ‫بال مباالة رد �سائد‪« :‬لقد َ‬
‫ذئبك �سري ًعا؟!»‬
‫كا�سحا مهيم ًنا‪ ،‬لكنه ا�ستطاع �أن يلمح خلفه‬ ‫ً‬ ‫خ َّيم الغ�ضب فوق ظله‬

‫ع‬
‫ظل �إن�سان متوارٍ‪ ،‬وكعادة حماد الذي ال يرى ال�سطح بل ينفذ �إىل العمق‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫مبا�شرة‪ ،‬عرف �أن َمنْ �أمامه عاد يطالب بانتقامه بعد �أن هرب ل�ضعفه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وقتها وعدم قدرته للح�صول عليه‪ ،‬رفع حماد �إ�صب ًعا واحدً ا وكان �أمره‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫انف�ض الهرج واملرج من وكره ثم ح َّدث �سائد بنربة خافتة ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ً‬
‫نافذا‪َّ ،‬‬

‫ع‬
‫«كل فتى يخرج من هنا هار ًبا‪� ،‬أح�ضره راك ًعا حتت قدمي قبل �أن �أنفذ فيه‬
‫حكمي حتى يكون عرب ًة ملن ُت�س ِّول له نف�سه الهروب من حتت قب�ضة يدي‪».‬‬
‫رفع حماد وجهه وقال بنربة ف�ضحت لكل َمنْ ي�سمعه مكانة من يقف‬
‫�أمامه عنده‪�« :‬إال �أنت والثعلب‪ ،‬مل �أ�ستطع وتركتكم حلال �سبيلكم بعد ما‬
‫حدث متع�ش ًما �أن جتد طريقك وال تعود �إىل هنا �أبدً ا‪».‬‬
‫ب�صوت ميت قال �سائد‪« :‬و�أنا �أتيت خماط ًرا بنف�س مكانتي عندك التي‬
‫عاما عال ًقا على ل�ساين‪:‬‬
‫�صرحت بها‪ ،‬و�س�ؤايل الذي ُيحرقني خلم�سة ع�شر ً‬ ‫َ‬
‫ملاذا ذبحتني مب�شرطهم وك�سرت ظهري يا معلم حماد؟»‬
‫‪q q q‬‬
‫بعد يومني كان �سائد يجل�س يف مكتبه الفخم وابت�سامته ال�ساخرة‬
‫املعتادة ُتزين وجهه‪ ،‬نف�س االبت�سامة امليتة التي ال ت�صل لعينيه �أبدً ا‪ ،‬تذكر‬
‫عقب خروجه من وكر حماد بعد احلديث املطول الذي دار بينهم‪ ،‬وكم‬
‫‪58‬‬
‫كان ك ٌّل منهم كا�ش ًفا �أوراق الآخر‪ ،‬ولكن رغم ذكاء حماد وعقله ال�شيطاين‬
‫الإجرامي مل ي�ستطع ك�شف �أوراق �سائد كاملة �أو خمططه احلقيقي لعودته‬
‫�إىل هناك حتديدً ا ليبد�أ �أول خطواته االنتقامية احلقيقة والتي لن يهد�أ �أو‬
‫يرتاجع �إال حني يراهم مقتولني مغدورين حتت قدميه‪ ،‬وبعدها ‪...‬‬
‫�أغم�ض عينيه وهو يهم�س‪« :‬وبعدها لن �أبايل ب�شيء �س�أ�ستلم مل�صريي‬
‫وموتي الذي �أعرف جيدً ا �أنه يطاردين دون �أي مقاومة»‪.‬‬
‫تراجع لي�ضع ر�أ�سه على ظهر كر�سيه ب�إرهاق؛ متى ي�ستطيع �أن ينام‬

‫ع‬
‫أي�ضا ر�سالة حماد ال�صامتة‬ ‫كالب�شر؟ متى يكف عقله عن التفكري؟ تذكر � ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫التي وجهها له عرب �إر�ساله �أحد رجاله ليتبعه وك�أنه يخربه �أنه رغم كل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�شيء ال يثق به‪ ،‬وما �أ�سباب �إر�ساله غري ذلك‪ ،‬فحماد يعلم جيدً ا مهارته‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫يوما �أن يتبع �أث ًرا له �أبدً ا‪.‬‬
‫يف ت�ضليل من يريد ولن ي�ستطيع �أحد ً‬
‫َط َر َقات هادئة على الباب �أيقظته من �شروده‪ ،‬فاعتدل وهو يعيد وجهه‬
‫اجلامد ويجيب ب�صوت رخيم‪« :‬ادخل»‪.‬‬
‫دخلت دجوى بخطوات مرتددة ولكن واثقة غري مهتزة‪ ،‬وقفت �أمام‬
‫املكتب وهي تقول دون �أن ترفع وجهها له‪�« :‬سيد �سائد‪ ،‬هناك بع�ض‬
‫الأخطاء التي ار ُت ِك َبت ب�شكل وا�ضح مع ال�شركة الأجنبية التي ت�ستورد‬
‫منها املعدات الطبية‪».‬‬
‫قال �سائد ب�صوت �صارم‪« :‬اجل�سي دجوى و ُك ِّفي عن جتنبي واحلديث‬
‫معي باخت�صار‪».‬‬
‫جفلت دجوى من نربته القوية ال�صريحة‪ ،‬لن تنكر �أنها ما زالت تتعجب‬
‫من �شهامته الغريبة معها‪ ،‬م�ضى �أ�سبوعان الآن منذ �أول مقابلة بينهم‪،‬‬
‫وعر�ضه الكرمي الذي �سينجدها مما هي فيه كما �سيبعدها عن ه�ؤالء‬
‫املجرمني الذين يطاردونها مطالبني بر�أ�سها دون تنازل‪ ،‬فبما وفره �سائد‬
‫‪59‬‬
‫قليل‪� ،‬شقة �صغرية فوق �سطح �شقته‪ ،‬وعمل حمرتم‬ ‫لها جعلها تطمئن ً‬
‫مب�ؤهالتها احلقيقية براتب حمرتم‪ ،‬حتركت لتجل�س على املقعد املقابل‬
‫أ�صبحت من �ساكني ال�سطوح‬ ‫ِ‬ ‫أنك �‬
‫له بهدوء �ساخرة من نف�سها‪« :‬يبدو � ِ‬
‫بعد الق�صور يا ابنة غ�سان الها�شم �أ�شهر طبيب كان ا�سمه يحتل �صفحات‬
‫ال�صحف الهامة يف البلد يف حياته وحتى بعد موته غد ًرا‪».‬‬
‫ابتلعت غ�صتها املميتة قبل �أن ُتعيد عينيها ل�سائد‪ ،‬ر�سمت ابت�سامة‬
‫مو�ض َح ًة‪« :‬الأوراق التي َّ‬
‫لدي تذكر‬ ‫لطيفة منمقة على وجهها وهي تقول ِّ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫جدا ومتداولة‪� ،‬أما ما و�صل �إىل املخازن فهي‬ ‫�أ�سماء معدات طبيبة عادية ًّ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫متاما لأجهزة معقدة باهظة الثمن وال ُت ْ�ست َْخ َدم �إال يف ‪»...‬‬
‫�أ�سماء خمتلفة ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�صمتت دجوى عندما ر�أت �شعاع نريان انبعث من عينيه ال�سوداوين‬

‫والتوزي‬
‫أنك تعلمني فيما ُت�ستخدم تلك الأجهزة‬

‫ع‬
‫قبل �أن ي�س�ألها بربود‪« :‬يبدو � ِ‬
‫أنك طبيبة!»‬
‫حتديدً ا دجوى وك� ِ‬
‫ابتلعت دجوى ريقها من �شكله الذي �أ�صبح خمي ًفا وقا�س ًيا‪ ،‬ولكن‬
‫لعجبها من نف�سها‪� ،‬إنها ال تهاب �سائد �أبدً ا‪ ،‬بلفتة مقت�ضبة ر َّدت مرتبكة‪:‬‬
‫«ال‪ ،‬ال �أعرف كل ما هناك �أن والدي كان طبي ًبا وكنت �أ�ستمع له �أحيا ًنا‬
‫وهو يتحدث عن بع�ض الأجهزة وعرب الأوراق التي معي ا�ستطعت �أن �أفهم‬
‫االختالف الكبري بينهم‪».‬‬
‫رغم تلك االبت�سامة ال�ساخرة امل�ستفزة وك�أنه ي�ضعها حتت اختبار �أو‬
‫لغ�ضبك الذي‬
‫ِ‬ ‫�ضغط ما دائ ًما �إال �أن �سائد رد بهدوء‪« :‬ح�س ًنا ال داعي‬
‫�أ�ست�شعره ي�شتعل على حني ِغ َّرة دائ ًما‪� ،‬أما ذلك اخلط�أ �إنه عمل عمر وهو‬
‫مالحظتك تلك له عرب رابحة وهو �سيهتم‬
‫ِ‬ ‫امل�سئول الوحيد؛ لذا مرري‬
‫بالأمر‪».‬‬
‫‪60‬‬
‫متاما مبا يقول؛ �إذ تدرك جيدً ا �أن خط�أً كهذا غري‬ ‫مل تقتنع دجوى ً‬
‫وارد احلدوث‪ ،‬فالفرق بني بع�ض ال�سماعات الطبيبة التي ُيفرت�ض �أن‬
‫جدا‪،‬‬ ‫ي�ستوردها وبني �أجهزة التربيد والتعقيم التي و�صلت بالفعل مكلف ًّ‬
‫ُت َرى ما الذي تخبئه �أنت و�شريكك يا �سائد؟ ولكنها �سمعت بالفعل عن‬
‫نظافة الرجلني و�صدق ما قاله �سائد‪ ،‬جمرد مغرتبان عادا للوطن �أخ ًريا‬
‫بعد طول غربة‪ ،‬يريدان �أن ي�ؤ�س�سا حياتهما بهدوء وي�ستثمرا �أموالهما‪.‬‬
‫فتح عمر الباب مبا�شر ًة دون ا�ستئذان وهو يقول‪�« :‬إبراهيم يريدك يف‬

‫ع‬
‫�أمر عاجل‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫تو َّقف عمر عن احلديث وهو ينظر لدجوى بابت�سامة متو�سعة لطيفة‬
‫ص‬
‫ل‬ ‫ب‬
‫ب�صالبةلنراف�ض ًة تلك النربة التي حتمل بني‬
‫ش‬
‫ؤيتك معه‪».‬‬
‫قائل‪« :‬مرح ًبا دجوى‪� ،‬سعيد بر� ِ‬‫ً‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫و‬


‫تخربهالتبعملية‪« :‬مرح ًبا‬ ‫ر‬
‫�سيد عمر‪ ،‬لقد �أتيت فقط يف �أمر للعمل‪ ،‬وال�سيد �سائد قال‪� :‬إنك ع‬
‫عبثت دجوى وهي تنظر له‬
‫تلميحا من نوع �آخر‪ ،‬قبل �أن تقف �سري ًعا‬
‫طياتها ً‬
‫امل�سئول‬
‫عنه‪».‬‬
‫ه َّز عمر كتفيه بال اهتمام قبل �أن يقول بب�ساطة‪« :‬اتركيه على مكتبي‬
‫�س�أراه فيما بعدُ‪».‬‬
‫خرجت دجوى بخطوات ثابتة‪ ،‬بينما كانت ترتع�ش ا�ضطرا ًبا وغ�ض ًبا‬
‫داخل ًّيا‪ ،‬للمرة الأوىل يف حياتها وبرغم ما حدث لها من تدهور ب�أحوالها‪،‬‬
‫ت�شعر بهذا العجز يف مواجهة �شخ�ص ال تعرفه وال تفهمه‪ ،‬تلميحات عمر‬
‫الدائمة ت�ؤكد لها �أنه رغم حدة �سائد وجموده ك�أنه متثال حجري ال ي�شعر‬
‫غمو�ضه واختفائه املتكرر املريب‪ ،‬ولكن هناك �شيء ما يعنيها بالذات‪،‬‬
‫�شيء وا�ضح مبا يكفي للجميع �أن �سائد مييزها ويهتم بها‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫أحالمك العذرية ال�سابقة عادت‬
‫ِ‬ ‫نف�ضت ر�أ�سها امل�ضطرب �ساخر ًة‪�« :‬‬
‫لك امل�ساعدة‪،‬‬
‫كنت حاملة؟ �سائد جمرد رب عمل ق َّدم ِ‬‫للطفو دجوى‪ ،‬متى ِ‬
‫�إياك �أن ت�سمحي لذلك االجنذاب �أن يتع�شم يف �شيء �آخر‪».‬‬
‫«قبل احلديث عن �إبراهيم �أريد �أن �أخربك ب�شيء ما» قالها عمر‬
‫أخبين ما الذي تو�صلت �إليه‬‫وقد ا�ستعاد وجهه اجلدي وهو يقول‪ْ ِ �« :‬‬
‫حتديدً ا؟ �أنا من جانبي ا�ستطعت �أن �أح�صل على املكان اجلديد الذي‬
‫تتم فيه عملياتهم‪ ،‬ثم يتبقى �أن �أعرف َمنْ موردهم اجلديد‪ ،‬ونح�صر كل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫جا�سو�س لديهم‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫هز �سائد ر�أ�سه قبل �أن يفتح درج مكتبه ي�ضع مل ًّفا �أمام عمر وهو‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يقول‪�« :‬سننتقل للمرحلة الثانية يا عمر وهي الأهم على الإطالق‪ ،‬ولكن‬

‫و النجار»؛‬
‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫عليك �أن تكون �أكرث حذ ًرا‪ ،‬فالهدف قاتل حمرتف وال يحمل ذرة �إن�سانية‪».‬‬
‫«فهمي‬ ‫تناول عمر امللف الذي يحمل عنوان م�شفى با�سم‬
‫ليبد�أ يف مناق�شة بع�ض املعلومات وتبادل كل منهم ما ا�ستطاع �أن يح�صل‬
‫عليه خالل الفرتة املا�ضية قبل �أن يقول �سائد‪« :‬هل ا�ستوعبت كل �شيء‪،‬‬
‫ما زال لديك بع�ض الأ�سئلة؟»‬
‫انطلقت �ضحكة منه قبل �أن يقول مبكر الثعالب‪« :‬ال تقلق‪� ،‬س�أحاول‬
‫الو�صول لأف�ضل مما تريده بالفعل‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫ومر �شهران كامالن‪ ،‬كان كل واحد منهم يتحرك يف طريقه ببطء‬
‫متاما حتى ال يثريا �أي نوع من الريبة لدى َمنْ‬
‫وحر�ص مت�أنٍّ كما ُر ِ�س َم ً‬
‫عاما؛ لذا ال �ضري �أبدً ا �أن ينتظر‬ ‫ي�ستهدفون‪َ ِ ،‬‬
‫ول ال؟ �إنه �صرب خم�سة ع�شر ً‬
‫املزيد من الوقت‪ ،‬بالتنظيم لكل خطوة �سيح�صالن على ما يريدان‪،‬‬
‫‪62‬‬
‫جدا‪� ،‬أوىل خطواتهم يف االنتقام املدمر قد بد�أت‬ ‫وقد �أ�صبح هذا و�شيك ًّ‬
‫بالفعل‪.‬‬
‫مل ي�شغل عمر باله بخططهم الآن‪ ،‬بل كل ما ي�شغله وهو يقف هنا‬
‫�صي وينظر للفتى �شاحب الوجه بعينني غائرتني وج�سد منهك‬ ‫بحجرة ُق ٍّ‬
‫�ضعيف خائر القوى وقد تخل�ص �أخ ًريا من �آثار املواد املخدرة وال�سموم‬
‫البي�ضاء التي كان يتناولها‪ ،‬يف الواقع التخل�ص من �آثار الهروين مل ي�ؤمل‬
‫الفتى كث ًريا؛ لأنه مل يتناوله بجرعات كثرية‪ ،‬ولكن ما كان م�ؤملًا ح ًّقا ال�سم‬
‫الآخر امل�سمى باحل�شي�ش‪ ،‬تعجب عمر من بع�ض ال�شباب بل والرجال‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫احلمقى الذين يقولون‪� :‬إنه جمرد ع�شب عادي ي�ستطيعون الإقالع عنه‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ب�سهولة‪ ،‬فلي�أتوا وينظرون مل�أ�ساتهم يف ُق ٍّ‬
‫�صي الذي د ُِّم َر كل ًّيا وحرق قلب‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫يوما بعد يوم‬‫�أمه و�أخته اللتني تبكيانه دائ ًما وهنَّ يراقنب انطفاء الفتى ً‬

‫و �زأولي مرحلة‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫جل�س عمر بجانب ُق ٍّ�صي على فرا�شه يخربه بهدوء‪ :‬ع‬
‫و�صراخه وجنونه العنيف مطال ًبا بجرعة ح�شي�ش �أخرى‪.‬‬
‫«انتهت‬
‫يا بطل من اتفاقنا‪ ،‬ولكن �أريد وعدً ا منك قبل �أن ننتقل للمرحلة الثانية‪».‬‬
‫�صي عينيه ال�شاحبتني وهو يقول ب�إرهاق‪�« :‬أي وعد تريد؟ لقد‬‫رفع ُق ٌّ‬
‫نفذت �أوامرك بالفعل‪».‬‬
‫بخ�شونة كان عمر ير ِّبت على كتف الفتى وهو يقول‪« :‬وهذا حتديدً ا ما‬
‫�أريدك �أن تعلمه وتر�سخه يف عقلك‪».‬‬
‫�صمت عمر وهو ي�سحب يده قبل �أن يعقدهم وراء ر�أ�سه ي�ستند على‬
‫«ر�سخْ بعقلك �أنك �ساعدت نف�سك‬
‫ظهر الفرا�ش ب�أريحية يخربه بب�ساطة‪ِّ :‬‬
‫�سري ًعا‪ ،‬انت�شلت روحك من تلك القاذورات التي كنت تنوي اخلو�ض فيها‪،‬‬
‫لن يفرق معي �شيء كونك عوجلت �أو ا�ستمريت يف طريق الإدمان‪».‬‬
‫‪63‬‬
‫ا�شتعلت عينا الفتى بنظر ِة مترد وحتدٍّ وقال‪« :‬ولكنك �أكدت �أنك‬
‫ت�ساعدين ولن تريد �شي ًئا مني‪».‬‬
‫�شردت عينا عمر للبعيد وهو يتذكر حالته التي كانت مماثل ًة ل ُق ٍّ‬
‫�صي‪،‬‬
‫ال بل كانت �أ�صعب بكثري‪ ،‬عندما ت�آمر عليه رجال حماد من وراء ظهره‬
‫ومنحوه تلك املخدرات التي كانوا يعملون بتوزيعها لبع�ض الع�صابات‬
‫الكربى م�ستغلني ت�شردهم‪ ،‬فال �أحد �سي�شك �أبدً ا �أنهم يحملون بني طيات‬
‫مالب�سهم املمزقة تلك املواد التي يبلغ ثمنها �آالف اجلنيهات‪ ،‬وقتها كان‬

‫ع‬
‫هو �أمهرهم و�أ�سرعهم يف تو�صيلها‪ ،‬ف�أ�شاد حماد ِبه وبدهائه‪ ،‬و�أطلق عليه‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لقب ثعلبه القادم‪ ،‬فما كان من رجاله احلاقدين �إال جذبه لتناول بع�ضها‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫حتى �أ�صبح من مدمنيها وهو يف �سنِّ الثالثة ع�شر فقط‪ ،‬وبالطبع كان‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫الغر�ض تدمريه وقتله؛ لأن ج�سده ال�صغري بالت�أكيد مل يكن ليتحمل املزيد‪،‬‬

‫ع‬
‫حتى علم �سائد مبخططهم فقام مبعاقبته‪ ،‬بل وتعدى عليه بال�ضرب‬
‫و�صرخ بهم يتوعدهم‪ ،‬وقتها �أمر حماد ب�أ�سى بالتخل�ص منه على الفور‪،‬‬
‫وتوعد بتطهريه و�إن مل‬‫فكانت النجدة يف �سائد الذي �أنقذه من القتل َّ‬
‫ينجح �سيقتله بنف�سه‪ ،‬ابت�سم عمر مبرارة متذك ًرا نعته بالألقاب الب�شعة‬
‫التي تخ�ص �أمه املجهولة بالذات فهو يف ُعر ِف ُهم «ابن ‪ »...‬ولكن �سائد مل‬
‫يهتم‪ ،‬وعاجله بالطريقة ال�صعبة والتي جنا منها ب�أعجوبة‪� ،‬أغم�ض عمر‬ ‫َّ‬
‫عينيه بعذاب حقيقي والذكرى تل�سعه متذك ًرا �أعرا�ض ان�سحاب املخدر‬
‫منه‪ ،‬والتي كانت متثل �ألف طعنة وطعنة من �سكني حاد تدخل يف كل‬
‫ن�سيج من ج�سده‪ ،‬يف الدقيقة الواحدة كان ي�صرخ ويبكي ويتو�سل ويتذلل‬
‫ملنحه فقط القليل‪ ،‬فما كان من الآخر �إال كتم فمه وتثبيت ج�سده بقوته‬
‫متاما‪ ،‬عج ًبا ملن يلومه ملنا�صرته ل�سائد‬
‫الفتية وينهار يف بكاء حاد مثله ً‬
‫مظلوما وهو من منحه فر�صة للنجاة‪ ،‬نطق عمر �أخ ًريا‬ ‫ً‬ ‫�سوا ًء ظاملًا �أو‬
‫قائل بلطف‪« :‬يف الوقت احلايل ال �أريد منك �شي ًئا �إال �أن جتد الطريقة‬ ‫ً‬

‫‪64‬‬
‫اهتم ببيتك وافر�ض رجولتك‪ ،‬ابتعد عمن‬ ‫ال�صحيحة لتوجيه غ�ضبك‪َّ ،‬‬
‫وجهوك لذلك الطريق‪».‬‬
‫�صي بعينيه املرهقتني متعج ًبا وعقله ال ي�سعفه‬ ‫للحظات نظر له ُق ٌّ‬
‫للهدف احلقيقي ملا يفعله هذا الرجل معه �أو �سر اهتمامه‪ ،‬لقد حر�ص‬
‫متاما وهو ُيك�سر‬
‫خالل ال�شهرين املا�ضني �أن ي�أتي �إليه يوم ًّيا ومبوعد ثورته ً‬
‫منزلهم ويقلبه ر� ًأ�سا على عقب مطال ًبا بجرعته ناعتًا �أمه ورابحة تار ًة‬
‫متذلل وم�ستعطفا ومهددًا �أنه �سيموت �إن مل‬ ‫ب�أب�شع الألفاظ‪ ،‬وتار ًة �أخرى ً‬
‫يح�صل عليها‪ ،‬فما كان منه �إال تكميم فمه وتكبيل يديه‪ ،‬بل وتقييده بظهر‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ً‬

‫ا‬
‫متحمل ثورة غ�ضبه و�س ِّبه‪ ،‬ردًّا على طلب عمر ال�سابق‬ ‫ال�سرير حرف ًّيا‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫قائل بخجل‪�« :‬أعدك � َّأل �أعود لهذا الطريق‪ ،‬و�أن �أهتم‬ ‫�صي �أخ ًريا ً‬ ‫نطق ُق ٌّ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫بدرا�ستي‪ ،‬ولكن �أنا �أريد العمل و�أن �أ�صرف عليهم بنف�سي‪ ،‬و�أ�ساعد‬

‫والتوز عي‬
‫باملنزل و�أتوىل راية رجولته‪».‬‬
‫نف�سا عمي ًقا وهو يتحرك من جانبه و�أخربه‪�« :‬أنا �أثق �أنك‬ ‫�أخذ عمر ً‬
‫�صي‪ ،‬و�إن كان على العمل فهذا �شيء‬ ‫رجل وعند وعدك الذي قطعته يا ُق ُّ‬
‫هني �س�أدبره لكن بنف�سي مبا يتوافق مع درا�ستك حتى ال تغ�ضب �أمك‬
‫و�أختك‪».‬‬
‫�صي يخربه برف�ض متعنت‪« :‬ال �ش�أن لهنَّ بي‪� ،‬أنا الرجل هنا‪،‬‬ ‫انتف�ض ُق ٌّ‬
‫�أفعل ما يحلو يل‪».‬‬
‫كان عمر واق ًفا على قدميه قبل �أن مينح ُق�ص ًّيا نظرة غام�ضة �ساخرة‬
‫ا�ستبدلها بالقول احلازم اجلاف‪« :‬الرجولة يا فتى ال تعني التنمر‪ ،‬وال‬
‫�أخذها عنو ًة وق�سوة‪».‬‬
‫�صي بخ�شونة يخربه‪« :‬الرجولة هنا يا‬ ‫مال عمر ي�ضرب على ر�أ�س ُق ٍّ‬
‫�أحمق يوجهها عقلك بدهاء‪ ،‬ميحورها لت�أخذ ما تريده مبنتهى ال�سهولة‬
‫‪65‬‬
‫والي�سر‪ ،‬تخدع من �أمامك بذكاء لتوجهه ملا تريد دون َف ْرد ع�ضالتك‬
‫لي�ستجيب خلدعتك معتقدً ا �أنه من يتحكم بك‪ ،‬ولكن �أنت يف احلقيقة َمنْ‬
‫توجهه لكل �أفكارك دون �أن ي�شعر‪».‬‬
‫�صي ر�أ�سه عن عمر بحدة دون �أن يتنازل ليجرب عقله �أن يفهم‬ ‫�أبعد ُق ٌّ‬
‫مكمل‪« :‬الرجولة تعني احلنكة والذكاء لتوازن‬ ‫حديث عمر الذي �أردف ً‬
‫بني الأمور وتفهم متى ت�ستخدم عقلك ومتى تفرد ع�ضالتك‪ ،‬لتخرج �أنت‬
‫الرابح املنت�صر يف حربك ب�أقل اخل�سائر‪».‬‬

‫ع‬
‫�صي ب�ضياع متخبط‪« :‬كيف؟ �أرجوك �أخربين‪».‬‬ ‫قال ُق ٌّ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ر َّد عمر ب�صوت مكتوم وهو يتوجه �إىل باب الغرفة ينوي املغادرة‪« :‬ما‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫زال �أمامك الكثري‪ ،‬ولكن يجب �أن تثق بذاتك وتعتمد على نف�سك لتفعل‪،‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫لن ي�ساعدك �أحد يا فتى‪ ،‬لت�صل لرجولتك التي تتغلغل بكل جزء منك‪� ،‬أنا‬

‫ع‬
‫�أثق بك ولكن ثقتي تلك ال تعني �شي ًئا �أبدً ا �إن مل تدرك وحدك طريقك �إىل‬
‫نف�سك وتتوا�صل معها بطريقتك‪».‬‬
‫�صي‪� ،‬أنت‬ ‫ً‬
‫م�شتعل وهو يقول‪« :‬يا ُق ُّ‬ ‫�صمت عمر قبل �أن ي�أخذ �آخر‬
‫يف نعمة كبرية‪ ،‬تتمثل يف جدران هذا املنزل الذي يحميك و�أ�سرة دافئة‬
‫حتيطك وحتر�ص عليك‪ ،‬و�إن مل ت�ستغل تلك النعم وتثبت �أنك على قدر‬
‫يوما‪ ،‬فهناك الكثري والكثري يتمنوا‬ ‫امل�سئولية فهذا يعني �أنك مل ت�ستحقها ً‬
‫حتى ولو هذا الغطاء الذي يقيك من رجفة الربد‪ ،‬ارجع لعقلك يا فتى‬
‫واحمد اهلل �أنك ُك ِ�شف َْت �سري ًعا و�أن هناك من يهتم لي�ضعك على الطريق‬
‫ال�صحيح‪».‬‬
‫ً‬
‫متخبطا يف �أفكاره لأول مرة‬ ‫عقب كالمه فتح الباب وغادر على الفور‪،‬‬
‫و�س�ؤاله احلائر ما زال يحرق عقله‪َ ِ ،‬ل يهتم؟ ملاذا يفعل هذا معهم؟ وما‬
‫هو �آخر ذلك الطريق الذي يخو�ضه مع رابحة؟‬
‫‪66‬‬
‫كان يو�شك على املغادرة على الفور عندما ا�ستوقفته �أم رابحة تخربه‬
‫مبودة‪« :‬اىل �أين �أنت ذاهب �سيد عمر؟ ابق معنا لتناول الغداء‪».‬‬
‫التفت عمر بر�أ�سه للخلف و�أخربها ب�صوت خرج جا ًّفا رغ ًما عنه‪ ،‬وهو‬
‫يتذكر كلمة املر�أة التي طعنته �ساب ًقا رغم �أنه �أ�صبح كفرد �أ�سا�سي منهم‬
‫�صي‪ ،‬ولكنه مل ي�ستطع �أبدً ا تنا�سي جرحه حتى و�إن مل تعلم‪،‬‬ ‫مب�شكلة ُق ٍّ‬
‫رمبا هو �سمع �أب�شع الألفاظ التي و�صفته يف ال�سابق‪ ،‬ولكنه بب�ساطة مل‬
‫فلدي عمل مهم‬
‫لتعبك َّ‬ ‫لك‪ ،‬ال داعي ِ‬ ‫يتقبله من تلك املر�أة بالذات‪�« :‬شك ًرا ِ‬

‫ع‬
‫بالفعل‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قليل وهي تتمتم بحرج‪�« :‬أعرف �أنه لي�س من‬ ‫�شحب وجه �صفية ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مقامك‪ ،‬ولكن هو جمرد امتنان ب�سيط ل�شكرك على ما فعلته وجميلك‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫الذي �سنعي�ش �أنا و�أبنائي نحمله العمر كله‪».‬‬
‫قائل لنف�سه ب�سخريه �سوداوية مل تلتقطها �إال عينا رابحة‬ ‫ابت�سم عمر ً‬
‫بجل اللقيط املت�شرد‬ ‫املتا ِب َعة له‪« :‬لي�س من مقامه! �أتبجله؟! �أحدهم ُي ِّ‬
‫ويعتقد �أنه يتكرب عليهم‪ ،‬رحم اهلل �أيام ما كان يتو�سل بقية فتات الب�شر؛‬
‫بع�ضا من رمق جوعه!»‬‫لي�س َّد ً‬
‫كعادته �سيطر على نف�سه بقوة قبل �أن يلتفت لها ومينحها �أول ابت�سامة‬
‫متنازلة من يوم معرفته لها وهو يقول‪« :‬مل �أحاول �أن �أتهرب كما تعتقدين‬
‫لتخربيني بهذا‪ ،‬وت�ستطيعني �أن تناديني با�سمي جمردًا‪ ،‬كما �أنني �س�أتناول‬
‫املوجود بطيب خاطر‪».‬‬
‫قطع جملته وهو ينظر لوقفة رابحة املتوارية خلف �ستارة مهرتئة ً‬
‫قليل‬
‫تف�صل املطبخ ال�ضيق عن بقية �شقتهم‪ ،‬فابت�سم يف وجهها وهو يغمز مبكر‬
‫ً‬
‫قائل‪�« :‬إن كان من �صنعها هي‪ ،‬فهي جتيد الطبيخ‪».‬‬
‫‪67‬‬
‫تو�سعت ابت�سامة �صفية وك�أي �أم عربية �أ�صيلة‪ ،‬تع�شمت �أن �شي ًئا ما‬
‫يحدث بني ابنتها و�صاحب العمل‪ ،‬فر�صة العمر ل�صغريتها الكادحة والتي‬
‫لن تتكرر‪ ،‬فقالت معدِّ د ًة مميزاتها‪�« :‬إنها جتيد التدبري املنزيل �صنع‬
‫احللويات واملحا�شي‪ ،‬كما �أنها هادئة �صبورة كن�سمة مريحة تن�شر البهجة‬
‫يف منزلك‪».‬‬
‫مل ي�ستطع عمر منع �ضحكته وهو يراقب وجه رابحة الذي تو َّرد وهي‬
‫أرجوك توقفي وتعايل �ساعديني‪،‬‬ ‫حرجا‪�« :‬أمي‪ِ � ،‬‬‫تنهر �أمها قائل ًة ب�إختناق ً‬
‫ال�سيد عمر هنا مل�ساعدة ُق ٍّ‬

‫ع‬
‫�صي‪ ،‬ولي�س لتعديد �صفاتي‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بعد وقت ق�صري كان عمر يجل�س على �أر�ضية الغرفة‪ ،‬و�أمامه بع�ض‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الأطعمة الب�سيطة يف نظرهم ولكنها �أكرث من �شهية بالن�سبة له‪ ،‬لن ينكر‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫جدا بعد عذاب �سنوات من الكدح وجمع املال يف غربتهم‪،‬‬ ‫فهو د َّلل نف�سه ًّ‬

‫ع‬
‫وبعد �أن ا�ستطاع هو و�سائد عمل �أول م�شروع يد ُّر عليهم ً‬
‫مال وف ًريا مل‬
‫يتوانَ حلظة يف تذ ُّوق كل ما ُح ِر َم منه‪ ،‬ولكن تلك اجلل�سة الب�سيطة يف‬
‫منزل ي�شعر بالدفء واحلنان واالهتمام بني جدرانه ال متاثل �أبدً ا �أي رغد‬
‫عي�ش ح�صل عليه يف غربته‪.‬‬
‫كانت رابحة تنظر له وهي َت َع ُّ�ض على �شفتيها بخجل قبل �أن تقول‪:‬‬
‫«�أعتذر منك جلل�ستك هكذا على الأر�ض‪ ،‬وبدل مائدة نفرت�ش اجلرائد‬
‫القدمية‪».‬‬
‫رفع عمر حاجبيه وهو يتناول بع�ض الأرز قبل �أن يقول مبا�شرة‪« :‬ال‬
‫العتذارك‪ ،‬تلك اجلرائد كانت يف وقت ما �أق�صى ما �أ�ستطيع �أن‬ ‫ِ‬ ‫داعي‬
‫�أحلم به لأفرت�شها ولكن لي�س للطعام بل ل�شيء �آخر‪».‬‬
‫وهم�سا داخل ًّيا مل ي�صل مل�سامعها وهو يكمل‪« :‬كنت �أبحث عنها‬
‫�صمت ً‬
‫لألتحف بها من الربد �أو حتى �أفرت�شها لت�صبح �سريري على الأر�صفة‪».‬‬
‫‪68‬‬
‫منذ عدة �أ�شهر وهي تتابع تفا�صيله باهتمام‪ ،‬حتاول �أن تخرتق جداره‬
‫الغام�ض والذي يخبئه حتت قناع الهدوء واللطف وال�سخرية يف كثري من‬
‫جرحا‬‫جدا منه لتعلم �أن َمنْ �أمامها يعاين ً‬ ‫الأحيان‪ ،‬لقد �أ�صبحت قريبة ًّ‬
‫عمي ًقا ي�شق روحه ن�صفني‪ ،‬وكال الن�صفني يحتلهم ال�سواد والفقد وانعدام‬
‫الأمل والظلمة‪ ،‬لقد باتت مت�أكد ًة �أن عمر و�سائد يحمالن ما�ض ًيا منف ًرا‬
‫ً‬
‫وم�ستقبل مرع ًبا خمي ًفا‪ ،‬ولكنها بب�ساطة مل ت�ستطع ال االبتعاد وال‬ ‫ً‬
‫بغي�ضا‬
‫حتى االقرتاب‪ ،‬ابت�سامة مهتزة احتلت �شفتيها املنتفختني الورديتني قبل‬
‫�أن تقول بهم�س �أنثوي رقيق‪« :‬هيئتك ومكانتك وو�صولك من اخلارج بكل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫متاما النربة املريرة التي تتحدث بها �سيد‬ ‫تلك الهالة الرباقة تناق�ض ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫عمر‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أمل تفا�صيلها ب�شكل �آخر‬ ‫رفع عمر عينيه ينظر لها نظرة داكنة‪ ،‬مت� ً‬

‫والتوز عي‬
‫عميق متمهل‪ ،‬فتغلغل داخل روحه ذلك ال�شعور املرافق دائ ًما معها وهو‬
‫يرى وجهها الدائري و�شفتاها العذرية املنتفخة بطبيعية‪� ،‬أنفها الدقيق‬
‫وعينيها الع�سليتني الربيئتني رغم االندفاع واحلاملية التي تربق من بني‬
‫حدقتيها‪ ،‬ولكن رغم جمالها الربيء الهادئ هناك �شيء �آخر يجذبه‬
‫نحوها ويق ِّيمها دائ ًما تقيي ًما �إيجاب ًّيا‪َ ،‬ن َه َر نف�سه عند تلك النقطة‪ ،‬فمنذ‬
‫متى ا�ستحقت �أي �أنثى مرت به �أن ميحنها ا�ستح�سانه؟! بالنهاية معظمهنَّ‬
‫�ساقطات عاهرات ي�س ِّلمن �أنف�سهن لأ�سباب خمتلفة‪ :‬املال �أو املكانة �أو‬
‫حتى هذا ال�شيء املنفر امل�سمى باحلب‪ ،‬ابتلع ريقه قبل �أن يقول ب�سيطرة‬
‫ذاتية لوجه رابحة الذي زاد توردًا‪ ،‬وعينيها التي انخف�ضت تنظر �إىل‬
‫�صي �أ�صبح بحالة جيدة الآن‪ ،‬يجب �أن تهتمي‬ ‫�أر�ضية الغرفة بارتباك‪ُ « :‬ق ٌّ‬
‫ب�إطعامه جيدً ا‪ ،‬و�أنا �س�أر�سل �إبراهيم ببع�ض الأدوات الريا�ضية الب�سيطة؛‬
‫ليوجه كل طاقته الزائدة بها‪ ،‬الريا�ضة مهرب جيد الآن له �ستجعله ُيهدئ‬ ‫ِّ‬
‫من حدة غ�ضبه‪ ،‬وي�سيطر على �أفعاله ً‬
‫قليل‪».‬‬
‫‪69‬‬
‫ب�صوت هادئ قالت‪« :‬هذا مقدور عليه‪ ،‬ولكن ما زلت مرتعبة لعودته‬
‫لهذا ال�شيء‪».‬‬
‫عجزت نرباتها كما ته َّدل كتفاها وهي تخربه خمتنقة‪�« :‬أنا ال �أعلم‬
‫حتى ما احلل معه �إن عاد لهذا املخدر مرة �أخرى‪ ،‬على ح�سب معلوماتي‬
‫�أن املدمنني يعودون بب�ساطة‪».‬‬
‫دورك يا رابحة‪ ،‬فاملدمن‬
‫ب�صوت بارد فاتر كان عمر يخربها‪« :‬هنا يبد�أ ِ‬
‫ال يعود لهذا الطريق �إال لو �أُ ْح ِب َط �أو عادت له نف�س �أ�سبابه ال�سابقة ليتوجه‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫لهذا ال�شيء املدمر‪».‬‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫توترت رابحة وهي تقول‪« :‬هل تعتقد �أنني ال�سبب ح ًّقا؟»‬

‫رمن الغباء‪َّ ،‬‬ ‫يخربها ب�صمت �أن بعد كل ما جرى ُي َلع ُّدن �س�‬
‫شؤالها‬
‫ت‬ ‫والكل‬
‫املمتزجة باال�ستياء جعلتها تندم على ال�س�ؤال ك�أنه‬ ‫النظرة الراف�ضة‬

‫و‬
‫حالزيالكالم‬
‫ع‬
‫مط عمر‬
‫متاما عندما �أخربها‪« :‬على‬ ‫�شفتيه وهو يعاك�س نظرته ً‬
‫أطمئنك‪ُ ،‬ق�صي �أنقذناه يف �أول الطريق‪ ،‬الهروين‬
‫ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫مل يعد يجدي‪� ،‬أريد �أن �‬
‫متاما‪ ،‬ولكن اخلطورة تكمن يف خمدر «احل�شي�ش» والذي‬ ‫مل يتمكن منه ً‬
‫قليل وال �ضرر منه‪،‬‬ ‫يعتقد بع�ض الأغبياء �أنه جمرد ع�شب يب�سطهم ً‬
‫ولكنه ال يقل خطورة �أبدً ا عن بقية �أنواع املخدرات‪ ،‬ولكن النقطة اجليدة‬
‫جدا؛ لأن متعاطيه �إن‬ ‫الوحيدة به �أن عالجه �سهل‪ ،‬والأمل يف عالجه كبري ًّ‬
‫تخل�ص من كل �أثر ال�سموم بالفعل وامتلك �إرادة قوية ووعي من الأهل لن‬
‫يعود �إليه �أبدً ا؛ لأن وجه االختالف بب�ساطة �أن اجل�سم ال ي�شتاق له �أبدً ا‬
‫مرة �أخرى عك�س املخدرات الأخرى‪».‬‬
‫انب�سطت مالمح رابحة وهي تنظر له بامتنان حقيقي‪ ،‬وقف عمر على‬
‫قدميه �سري ًعا ينوي �أن يتحرر من ذلك ال�سحر والدفء الذي يلتف به‪،‬‬
‫‪70‬‬
‫ذلك ال�شعور املبهم الذي ُي ْ�ش ِعره معها «بالطهر والنظافة»‪ُ ،‬ط ْهر مل يجربه‬
‫�أبدً ا خالل �أعوامه الثالثة والثالثني‪.‬‬
‫وقفت رابحة وراءه تهتف به مندفعة متهورة بدون تفكري‪«َ :‬منْ �أنت‬
‫حقيق ًة يا عمر؟ كيف حتمل كل هذا بداخلك؟ من �أين ت�أتي باحلكمة‬
‫ومتلك كل تلك املعلومات؟»‬
‫التفت لها عمر بر�أ�سه‪ ،‬ومنحها نظرة ثعلبية ماكرة قبل �أن يقول‪:‬‬
‫أهل له رابحة‪ ،‬فما زلت �أرف�ض‬ ‫ل�ست � ً‬
‫نف�سك يف �شيء �أنت ِ‬ ‫ِ‬ ‫«ال تقحمي‬

‫ع‬
‫اندفاعك اجلاهل �إليها‪».‬‬
‫ِ‬
‫متاما حقيقة جملته وهي تقول بت�شدد‪�« :‬أنت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عادت للتهور ومل ي�صلها ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫علمت كل �شيء عني فمن حقي �أن �أعلم َمنْ �أنت حقيق ًة‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫التفت عمر هذه املرة بكليته واقرتب منها خطوة تلو اخلطوة �إىل �أن‬
‫متاما‪ ،‬وبدون حت ُّفظ رفع ظهر يده ميرره على وجه رابحة‬ ‫وقف �أمامها ً‬
‫بتمهل‪ ،‬فت�سمرت مت�سعة العينني م�شلولة الأو�صال دون قدرة لها على‬
‫االبتعاد �أو الرف�ض‪ ،‬ف�سمعت �صوته يقول بتمهل َخ ِطر‪« :‬نحن خفافي�ش‬
‫الليل‪ ،‬زوائد املجتمع و�أخطاء �أفراده‪ ،‬نحن نتاج ال�شوارع �ساكنيه وحاقديه‬
‫جدا قبل الأوان‪� ،‬شربنا ك�ؤو�س احلنظل‬ ‫وعاجزيه‪ ،‬نحن من ن�ضجنا مبك ًرا ًّ‬
‫على الدوام‪ ،‬من يقرتب منا يحرتق‪ ،‬ومن يخاطر ويقتحمنا ُف ِق َد‪ ،‬نحن‬
‫بقايا الإن�سانية قبيحة ا ُ‬
‫خللق‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫كانت دجوى ت�ستند �إىل حائط امل�صعد بعينني متوج�ستني وقلب‬
‫مت�سارع الدقات حتى ُخ ِّيل لها �أنه ي�سمع كل نب�ضة هاربة منها بو�ضوح‪،‬‬
‫على ما يبدو �أ�صبحت عاد ًة لديها منذ معرفتها بهذا الغام�ض اجلذاب‬
‫دون �إرادة منها‪ ،‬فالأدرينالني كان يغزو ج�سدها يحثها على القيام ب�أي‬
‫‪71‬‬
‫ت�صرف �إيجابي لتُبعده عنها‪ ،‬تهرب من عينيه و�سطوة وجوده‪ ،‬جموده‬
‫وجراءته يف االقرتاب منها‪.‬‬
‫�أ�سفر فمه الذي مال بخط م�ستقيم عن ابت�سامة ذئبية‪ ،‬ا�ستند ب�أحد‬
‫بك دجوى مرتعبة هكذا؟‬ ‫ذراعيه على حائط امل�صعد خلفها وقال‪« :‬ما ِ‬
‫متاما �أنني لن �أتهور ً‬
‫مثل و�أق ِّب ِلك‪».‬‬ ‫تعلمني ً‬
‫تع َّرق جبني دجوى وتلعثمت حروفها رغم رماد عينيها املنطفئ‪ ،‬كانت‬
‫جتابهه بقوة قائلة‪�« :‬سيد �سائد‪ ،‬من ف�ضلك ابتعد‪ ،‬ال داعي لهذا احلديث‬

‫ع‬
‫الـ‪»...‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫هز �سائد كتفيه بربود قبل �أن يقول‪« :‬ال�سافر‪ ،‬هل هذا التعبري املنا�سب‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ملا يحدث بيننا؟»‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫قالت با�ضطراب وهي تعبث بوجهها‪« :‬ال �شيء يحدث بيننا على‬
‫الإطالق‪َ ِ ،‬ل ت�صر �أن يكون الأمر بتلك الطريقة؟»‬
‫التما�سك يا دجوى �أكرث وال تنهاري هكذا‬
‫ُ‬ ‫«عليك‬
‫ِ‬ ‫هم�س �سائد داخل ًّيا‪:‬‬
‫يحنْ بع ُد‬
‫من جمرد بع�ض الإغواء الذي �أمنحه لك بتمهل‪ ،‬فاالنهيار مل ِ‬
‫عزيزتي‪».‬‬
‫حرك ذراعه بعيدً ا عن حماوطته لر�أ�سها‪ ،‬وابتعد عنها خطوة �أخرى‬
‫قائل‪�« :‬أنا ال �أ�صر على �أي �شيء‪ ،‬ولكني �أخربتك‬ ‫من�سح ًبا نحو باب امل�صعد ً‬
‫من قبل �أن هناك �شي ًئا ما يجذبني ِ‬
‫نحوك‪ ،‬ويغ�ضبني ب�شدة جت ُّنبك يل بل‬
‫أنك‬
‫وتوترك غري املف�سر عندما تتواجدين معي يف �أي مكان مبفردنا وك� ِ‬
‫تخافني مني‪».‬‬
‫ام ُت ِق َع وجه دجوى وا�شتعلت وجنتيها بحمرة خجل‪ ،‬وهم�ست لنف�سها‬
‫جدا لهذا الرجل‪ ،‬يقر�أها ككتاب مفتوح‪،‬‬ ‫ب�سخط‪« :‬اللعنة‪� ،‬إنها مك�شوفه ًّ‬
‫يقتحم خياالتها و�أفكارها‪».‬‬
‫‪72‬‬
‫عجيب كيف يتف َّوه مبا كانت تفكر فيه بحاملية �أنثوية الآن‪ ،‬نعم‪� ،‬إنها‬
‫منجذبة نحوه ب�شكل خطري‪ ،‬عقلها املرهق يفكر به ليل نهار حتى �أنها‬
‫ول ال وهي منذ �أ�صبحت‬ ‫�أ�صبحت تتنا�سى امل�صيبة الأخرى التي تطاردها‪َ ِ ،‬‬
‫حتت حمايته مل يطاردها �أحد على الإطالق‪.‬‬
‫�أغم�ض �سائد عينيه بقوة وهو ي�ست�شعر االرجتافة التي مرت بج�سدها‬
‫من خلفه والتي �أكدت له �أنها خائفة وب�أي فر�صة �ستفر منه هاربة بغري‬
‫عودة‪.‬‬

‫ع‬
‫ارحتت وتركتني لأنتقم من تلك التي‬ ‫َ‬ ‫«ت ًّبا ملاذا ِم َّت يا غ�سان؟ ملاذا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جتعلني �أتردد للحظة‪ ،‬و�أحتري يف طرق انتقامي منك فيها؟»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫ال‪ ،‬مل ي�سرتح �سائد �أبدً ا عندما علم مبوت الرجل‪ ،‬بل لن ي�سرتيح �أبدً ا‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫مبوت �أحد الأطراف‪ ،‬بل يجب �أن يفقدوا ما حطموا لأجله كل �شيء وباعوا‬
‫ً‬
‫م�شتعل‬ ‫من �أجله �ضمائرهم و�إن�سانيتهم و�أن يعرتفوا ويندموا‪� ،‬أخذ َن َف ً�سا‬
‫ليوجه �ضربته الأوىل‪� ،‬سيبد�أ من �أ�سفل‬ ‫طويل ِّ‬ ‫وح�سم �أمره‪ ،‬لن ينتظر ً‬
‫الهرم وب�أ�صغر الأطراف التي رغم �ضعفها �أهمها ‪...‬‬
‫�أتاه �صوتها من خلفه متلعثمة‪�« :‬سيد �سائد‪ ،‬الباب ُف ِت َح �أريد �أن �أَ ُم َّر‪،‬‬
‫امل�شهد غري جيد للموظفني‪».‬‬
‫التفت �سائد بر�أ�سه من �أعلى كتفه يت�أملها مره �أخرى قبل �أن يقول‬
‫بنربة خرجت ناعمة هادئة على غري عادته‪�« :‬سائد فقط‪ ،‬وال تقلقي �أبدً ا‬
‫يذكرك ولو حتى مبجرد نظرة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫�صورتك‪ ،‬ف�أنا لن �أ�سمح لأحد �أبدً ا �أن‬
‫ِ‬ ‫على‬
‫مفهوم؟»‬
‫ما متر به ي�ضر ب�صحتها بالت�أكيد‪ ،‬فتغري حالتها النف�سية واملزاجية‬
‫عدة مرات يف الدقائق القليلة التي تتواجد بها معه من خوف و�سرور‪،‬‬
‫وتلك الفرا�شات الوردية اللعينة التي ترفرف يف قلبها الذي مل يتفتح �أبدً ا‬
‫‪73‬‬
‫لأي رجل قبله‪ ،‬وانقبا�ض معدتها الذي يحدث ب�شكل متكرر من تبادل‬
‫جدا‪ ،‬يا اهلل ما الذي يريده‬ ‫بع�ض كلمات معه �سيكون �سب ًبا ملر�ضها قري ًبا ًّ‬
‫منها حتديدً ا؟ بل ال�س�ؤال املرعب لنف�سها‪ :‬ما الذي تريده هي منه؟‬
‫متاما‪� ،‬أرجوك‬‫ابت�سم وجهها ال�شاحب رغ ًما عنها وهي تقول‪« :‬مفهوم ً‬
‫دعنا نخرج من ذلك امل�صعد‪».‬‬
‫تراجع �سائد على الفور ي�سمح لها باملرور ومالمح وجهه تتبدل كل ًّيا‬
‫ب�شكل مرعب‪ ،‬عيناه ال�سوداوان منحتها نظرة خاوية من احلياة‪ ،‬قبل �أن‬

‫ع‬
‫ي�شري لها بيده ب�آلية ثم يغلق امل�صعد يف وجهها مبا�شر ًة‪َ ،‬ف َغ َر ْت دجوى‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫متاما‬
‫فمها بذهول وعدم ت�صديق‪ ،‬ما الذي جرى له لينقلب حاله للنقي�ض ً‬

‫ب‪ q‬لل‪q‬‬
‫على الفور؟ هل �أجابته ب�شيء ما خط�أً؟‬

‫شر و‬ ‫ن‬
‫التوزيع‬
‫‪q‬‬
‫دوما � َّأل يواجههم‬
‫ما الذي �أتى به �إىل هنا يف ذلك الوقت؟! �أمل يتعهد ً‬
‫مرة �أخرى �إال بعد �أن ي�أتي ظاف ًرا بحقهم �أو ج�سدً ا خاو ًيا ل ُي ْد َفنَ بجانبهم‪،‬‬
‫عاما‪ ،‬لت�ستقر يف‬
‫جتولت عينا �سائد باملكان الذي مل يره منذ خم�سة ع�شر ً‬
‫جدا عن بقية مدافن‬ ‫النهاية على القرب ال�صغري امله َّدم الذي يقع بعيدً ا ًّ‬
‫ال�صدقة‪ ،‬لقد تع َّمد �أن يدفنهما هناك بعيدً ا فيميزهما ويح�صال على‬
‫بع�ض العزلة والراحة التي مل ي�شعر بها ج�سداهما يف حياتهما‪ ،‬اقرتب‬
‫من القرب دون تردد �أو حرية �أو حتى يخطئ يف مكانهم‪ ،‬وكيف له �أن ين�سى‬
‫�أو يخطئ وهو عا�ش كل حلظة يف حياتهما املريرة‪ ،‬ذكرى �إخراجهم من‬
‫املقربة اجلماعية ومن و�سط الأج�ساد العديدة املدفونة يف تلك احلفرة‬
‫ذات الرائحة العفنة‪ ،‬عفن ينت�شر بها ال يخ�ص �أبدً ا ال�ضحايا الأبرياء‬
‫املُلقني هناك كجرذان مت التخل�ص منها لينظفوا جمتمعهم الظامل‪،‬‬
‫ولكن عفن كل �ضمري �سمع عنهم وعلم ما يحدث لهم على �أيدي ه�ؤالء‬
‫‪74‬‬
‫اجلزارين م�صا�صي الدماء و�آكلي اللحوم الب�شر‪ ،‬احتجزت ُمقلتاه دمعة‬
‫ملتهبة حارة‪ ،‬وابتلع غ�صته التي حترق حلقه وهو يتذكر انهياره ودموعه‬
‫التي �أغرقت �صدره وهو يلتقط ج�سديهما الفارغني‪ ،‬منها ًرا ً‬
‫مقتول مغدو ًرا‬
‫و�ضم كليهما �إىل ذراعيه‬ ‫مطعو ًنا عاج ًزا‪ ،‬م َّدد ج�سديهما على الأر�ض َّ‬
‫يبكي كطفل �صغري بحرقة‪ ،‬لقد رف�ض تركهم هناك‪ ،‬كان من حقهما عليه‬
‫�أن يكرمهما لأول مرة يف حياتهم املحطمة ولآخر مرة مبوتهم املعذب‪،‬‬
‫هبط على ركبتيه والذكرى تعود ق�س ًرا �إىل عقله‪ ،‬بت�سلله هو وعمر �إىل‬
‫هناك خو ًفا �أن يراهم احلار�س‪ ،‬فحتى املوت والدفن بكرامة حم َّرم على‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫جرذان ال�شوارع‪ ،‬فحتى القبور تخ�ضع للمال واملكانة االجتماعية‪ ،‬حفرا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫القرب بيديهما ثم دفنا قطعتا قلبه الفارغني من كل �شيء بعد �أن كفنهما‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ببقايا مالب�سهما املمزقة‪ ،‬وطبع ُق ْب َلة وداع �أودع فيها كل مرارته ووجعه‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫وعجزه‪ ،‬ثم وعده القاطع � َّأل ين�سى ث�أرهما �أبدً ا‪ ،‬مل يجد �سندً ا وال داع ًما‬
‫�إال رفيق عمره املنهار مثله‪ ،‬وان�صرفا متعجلني يج َّران نف�سيهما ج ًّرا‪.‬‬
‫مبال بالأحجار ال�صغرية التي‬ ‫تق َّب�ضت يده على تراب القرب غري ٍ‬
‫خد�شت ك َّفه ال�ضخم‪ ،‬كان يكرر وعده بخفوت وق�سوة‪�« :‬أُق�سم لكما‬
‫�س�أجعلهم جمي ًعا يدفعون الثمن‪ ،‬ويذوقون من نف�س ك�أ�سي وك�أ�سكما‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫وجهك رجا ًء‪».‬‬
‫ِ‬ ‫«ركزي معي يا رابحة‪ ،‬واحمي تلك النظرة البلهاء من‬
‫بح َنق وهي تراقب الأخرى التي تنظر لعمر بخوف يتخلله‬ ‫قالتها دجوى َ‬
‫نف�س النظرة العا�شقة‪ ،‬لقد �أ�صبحت هناك عالقة طيبة بينهما‪ ،‬ومن‬
‫خالل مراقبة رابحة علمت �أنها ُت ِكنُّ م�شاعر خا�صة ًّ‬
‫جدا لعمر‪.‬‬
‫لقد �أتيحت لها فر�صة جديدة هنا لي�س حلياة طبيعية بها بع�ض الكرامة‬
‫فقط‪ ،‬ولكن بعالقتها الطيبة باجلميع‪ ،‬ولكن يظل الغام�ض العابث الذي‬
‫‪75‬‬
‫يحتل �أفكارها هو ما يحريها وي�ؤرق منامها‪ ،‬هل من املمكن �أنه يبادلها‬
‫ح ًّقا ما يحاول �أن يخربها �إياه جه ًرا ودون تردد؟‬
‫«�أنا هنا‪ ،‬من التي تريد الرتكيز الآن؟»‬
‫ابت�سمت دجوى بهدوء �أنيق وهي تقول مازحة‪« :‬ح�س ًنا‪ ،‬يبدو �أننا نحن‬
‫االثنتان نحتاج لرتكيز ما‪».‬‬
‫ت�ص َّنعت رابحة الأ�سى وهي تقول ممتع�ضة‪�« :‬أو رمبا نحتاج لك�سر‬
‫ر�أ�سنا باحلائط لتعلقنا بالأ�شخا�ص اخلط�أ»‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫تو�سعت عينا دجوى ب�صدمة من �صراحة رابحة املتهورة وهي تقول‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫نف�سك‪».‬‬
‫«ماذا تق�صدين؟ حتدثي عن ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أن تقول ب�شرود متحري حزين‪« :‬تلك‬ ‫�أخذت الأخرى ً‬

‫ع‬
‫تف�ضحك ف�أنا‬
‫ِ‬ ‫نظراتك التي‬
‫ِ‬ ‫كنت �أنت تنكرين‬ ‫هي احلقيقة دجوى‪� ،‬إن ِ‬
‫يوما‪».‬‬
‫متاما �أن قلبي معلق به‪ ،‬وال يوجد يل �أمل يف الو�صول له ً‬
‫�أعرتف ً‬
‫فتحت دجوى فمها حتاول �أن ت�ستفهم منها �أكرث عن �سبب ي�أ�سها‪،‬‬
‫واجلميع �أ�صبح يوقن �أن عمر َمنْ ُي ِول ال�سكرترية الب�سيطة ُج َّل اهتمامه‪،‬‬
‫ولكن �أوقفها دخول �إبراهيم الذي قال ب�صرامة‪« :‬ا�ستدعي �أحد الأطباء‬
‫فو ًرا‪».‬‬
‫مل ت�ستطع دجوى منع �صرخة الرعب التي خرجت من بني �شفتيها وهي‬
‫تراقب �سائد الغارق يف الدماء ويتحامل ب�صعوبة على قدميه و�إبراهيم‬
‫حماول �أن يجعله ي�صل �إىل مكتبه‪ ،‬هرولت دجوى نحوه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يقوم ب�إ�سناده‬
‫�شهقتها مع ر�ؤيتها له عن قرب جعلته يرفع عينيه ب�صعوبة ورغم كل ما‬
‫به كان يحدِّ ق فيها لوهلة‪ ،‬لهفتها وخوفها عليه جعال ً‬
‫ومي�ضا �سري ًعا يحتل‬
‫عينيه قبل �أن يغلقهم من الأمل‪ ،‬وقفت �أمامه متنع تقدمهم ومل ت�ستطع‬
‫‪76‬‬
‫منع نف�سها وهي تقول بلهفة‪�« :‬سائد‪ ،‬ماذا حدث؟ كنت بخري عندما‬
‫خرجت من هنا‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫�صباحا َد َخ َل ْت رابحة �إىل مقر ال�شركة ووجهها تعلوه ابت�سامة باهته‬
‫ً‬
‫�شاحبة‪ ،‬ما زال ما حدث بالأم�س ي�ؤثر عليها‪ ،‬لقد �أ�صبحت على يقني وثقة‬
‫�أنها �أمام بئر مليء بالأ�سرار مرعب وخميف بلون ال�سواد الذي يحمله‬
‫كالهما‪ ،‬ولكن ِع َو ً�ضا عن النفور �أو اخلوف وجدت نف�سها تنجذب �أكرث‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تريد االقرتاب �أكرث لتعرف احلقيقة الكاملة من عمر‪ ،‬ثم توا�سيه وتطبب‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫جروحه غري املرئية‪ ،‬وجترب ك�سره ومتنحه من حنانها‪ ،‬ولكن كيف وهو‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫بال‬


‫ن‬
‫يقاومها ويبتعد عنها ويحاول �أن يخيفها منه؟!‬

‫والما مل تره فيه من‬


‫ت‬ ‫ش‬
‫حمراوين بلون الدم ووجهه يحمل من الغ�ضبرامل�ستعر‬
‫قبل‪ ،‬ابتلعت تورم حلقها الذي َخ َّيل لها �أنه حدث تلقائي و‬
‫زيأنعجتيبه‬
‫آمر يهتف فيها بانفعال‪ ،‬كانت عيناه‬ ‫«رابحة»‪� ،‬سمعت �صوت عمر‬

‫قبل �‬
‫بارتباك‪« :‬نعم‪� ،‬سيد عمر‪».‬‬
‫للحظات ظل واق ًفا �أمامها يت�أملها وك�أنه يحارب �شي ًئا ما ب�ضراوة‪ ،‬قبل‬
‫�أن يقول بهدوء ما ي�سبق العا�صفة‪« :‬اتبعيني �إىل مكتبي»‪.‬‬
‫با�ست�سالم جرجرت قدميها ب�صعوبة وهي تتبعه على الفور‪ ،‬فتحت‬
‫الباب وهي تخطو �إىل الداخل تراقبه‪ ،‬منحها ظهره املت�شنج بينما هو عقد‬
‫�أمره دون تردد‪ ،‬رمبا مل ت�سمح له الفر�صة للحديث مع �سائد ب�شكل مط َّول‬
‫ومعرفة ما حدث‪ ،‬ولكنه مل ي�ستطع �أن يغفو لدقيقة وهو ينازع‪ ،‬يتمزق ما‬
‫بني اعرتافه �أخ ًريا باحتياجه لها بجانبه وبني حكم العقل واالن�صياع ملا‬
‫طلبه منه �سائد يف بدء الأمر‪ ،‬يجب �أن يبعدها عنه ب�أي طريقة‪.‬‬
‫‪77‬‬
‫قال عمر مبا�شر ًة بجفاف‪« :‬على �سطح املكتب هناك مغلف يحمل‬
‫لك فيه بع�ض املال اجليد لت�ستطيعي �أن تبد�أي‬ ‫با�سمك و�ضعت ِ‬
‫ِ‬ ‫�شي ًكا‬
‫أي�ضا‪ ،‬دون احلاجة للبحث‬ ‫حياتك مب�شروع �صغري‪ ،‬وت�شركي فيه ُق�ص ًّيا � ً‬
‫عن وظيفة مرة �أخرى‪».‬‬
‫هزت ر�أ�سها بحرية قائل ًة‪« :‬ال �أفهم ِ َل متنحني املال؟ وملاذا قد �أبحث‬
‫لدي عملي بالفعل؟»‬ ‫عن وظيفة من الأ�سا�س و�أنا َّ‬
‫لديك مكان هنا‪ ،‬لقد ُف ِ�ص ْل ِت من العمل‬ ‫قال ب�صوت مكتوم‪« :‬مل يعد ِ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫منذ هذه اللحظة‪».‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫ارتع�ش قلبها بني �أ�ضلعها قبل �أن تقول بخفوت مذهول‪« :‬هل فعلت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫�شي ًئا �سي ًئا لتطردين يا عمر؟»‬

‫ع‬
‫التفت لها هذه املرة ونظر لها بتوح�ش وج َّز على �أ�سنانه ً‬
‫قائل‪�« :‬سيد‬
‫منحك احلق ل�سحب الألقاب بيننا؟»‬
‫ِ‬ ‫عمر‪َ ،‬منْ‬
‫فتحت فمها و�أغلقته عدة مرات وهي ت�شعر بنف�سها معقودة الل�سان‬
‫متاما‪ ،‬قبل �أن تقول بتح�شرج بائ�س‪�« :‬أنت من منحتني هذا احلق‪ ،‬و�أنت‬
‫ً‬
‫من ت�سللت حلياتي ومنحتني الأمل يف ودك يا عمر‪».‬‬
‫�أطلق عمر �ضحكة ق�صرية �ساخرة ليعود يقول بق�سوة‪« :‬لي�س ذنبي‬
‫أنك حاملة يا �صغريتي لتعاطفي نحوكم‪� ،‬أحالم وردية مثلما فعلت �أمك‬ ‫� ِ‬
‫طموحك يا رابحة‪ ،‬تبقى الفروق االجتماعية‬ ‫ِ‬ ‫متاما‪ ،‬ال ترفعي �سقف‬
‫ً‬
‫حمفوظة بيننا‪».‬‬
‫تالحقت �أنفا�سها وهي تهز ر�أ�سها عاجز ًة عن تق ُّبل كلماته‪ ،‬قبل �أن‬
‫تقول بقنوط‪�« :‬أنت تكذب‪ ،‬تعرف هذا جيدً ا وال �أ�صدقك‪».‬‬

‫‪78‬‬
‫التحدي املندفع ا�شتعل يف ع�سل عينيها الذائب فرفعت وجهها حتدِّ ق‬
‫به بقوة وهي تردد بتحدٍّ ‪:‬‬
‫يوما ب�أي‬
‫«�أنا ال �أ�صدقك لأنك تعلم جيدً ا �أنك كاذب‪ ،‬ومل ولن ت�شعر ً‬
‫فروق بيننا‪ ،‬هل تظن �أين غبية وال �أ�شك بحقيقتك �أنت و�صديقك؟!»‬
‫اندفع عمر بتهور نحوها مي�سك ع�ضديها بقوة قبل �أن يل�صقها‬
‫قائل ب�سفور‪« :‬ح�س ًنا يا حاملة يا غبية‪ ،‬يبدو‬ ‫بالباب الذي �أغلقته خلفها ً‬
‫أنك لن تفهمي �إال بالطريقة ال�صعبة‪� ،‬أنا ال �أمل َّيف ال م�ستقبل‪ ،‬ال �أملك‬
‫� ِ‬

‫ع‬
‫بك لعامل‬ ‫أحملك عليه و�أطري ِ‬
‫ذلك احل�صان الأبي�ض الذي تظنني �أين �س� ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫فهمت الآن مع من تتعاملني‪� ،‬أنا ال �أملك ما�ض ًيا‬
‫أحالمك ال�سخيف‪ ،‬هل ِ‬ ‫�‬

‫ك‬
‫ِ‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫م�شر ًفا‪ ،‬وال حتى �أ�ستطيع �أن �أجر�ؤ لأتطلع لأي م�ستقبل يحمل احلياة‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫اغرورقت عيناها بالدموع حتت جفنيها امل�سبلتني‪ ،‬ثم تد َّفقت لت�سيل‬
‫فوق وجنتيها غزيرة وهي تهم�س‪« :‬ما�ضيك ال �أهتم به‪ ،‬وم�ستقبلي‬
‫�س�أت�شاطره معك‪� ،‬س�أزرع الأمل يف روحك و�أنرث زهور احلياة على �صدرك‪،‬‬
‫ولكن لن �أ�ستطيع �أبدً ا تركك ل�ضاللك‪� ،‬س�أنت�شلك يا عمر من نريانك رغم‬
‫�أنفك‪».‬‬
‫كل دمعة منها كانت تت�ضافر مع هم�ساتها الناعمة الواعدة؛ فلم�ست‬
‫بع�ضا من ُظلمته وجت ِّلي القاذورات‬‫تلك الدموع جدار القلب الأ�سود تبدِّ د ً‬
‫جدا و�أال ترتكه ي�ضعف‬ ‫من حوله‪� ،‬أو�شك �أن يحنَّ ويخربها �أن تقرتب ًّ‬
‫فيها وبها‪� ،‬ألي�س من حق املحكوم عليه بالإعدام �أن ينال �أمنية �أخرية؟‬
‫ورابحة �أ�صبحت كل �أمنية يتمناها لنف�سه‪� ،‬أن يغو�ص يف طهرها ويحرتق‬
‫يف نظافتها‪� ،‬أن يكت�شف معها لأول مرة يف حياته املحرمة طعم احلالل‬
‫والعفة والطيبة والدفء بقلب يهتم به وحده يعرف جيدً ا �أنه غارق يف‬
‫حبه‪ ،‬ب�صعوبة انتزع نف�سه من �أفكاره التي ُت َع ُّد متطرفة ب�شدة‪ ،‬ابتلع‬

‫‪79‬‬
‫ُغ َّ�صة حلقه ب�صعوبة قبل �أن ُي ْخ ِر َج الثعلب املاكر وي�ستخدمه معها بي�أ�س‬
‫من نف�سه وكل ما يف عقله‪ ،‬يجب �أن يجعلها تهرب بعيدً ا لتنجو وال يطالها‬
‫�أذى �أبدً ا‪ ،‬حت َّدث �أخ ًريا بنربة و�ضع كل حقارته املا�ضية فيها‪ ،‬وليزيد من‬
‫رعبها منه‪ ،‬اقرتب ب�شفتيه من وجنتها يتلم�سها بخفة وهو يقول بنعومة‬
‫أتقبلك‬
‫كنت تريدين املجازفة‪ ،‬ف�أنا � ِ‬ ‫رجل للزواج و�إن ِ‬ ‫خطرة‪�« :‬أنا ل�ست ً‬
‫أيتك و�أنا �أقاوم نف�سي ب�أعجوبة‬
‫بكل �صدر رحب‪ ،‬للحقيقة من يوم �أن ر� ِ‬
‫أمددك على �سطح هذا املكتب عارية‪ ،‬و�أدمغك‬ ‫مالب�سك و� ِ‬‫ِ‬ ‫حتى ال �أمزق‬
‫منك كل ما �أكاد �أُ َجنُّ لأح�صل عليه‪».‬‬

‫ع‬
‫بي و�آخذ ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫هذه املرة كانت تبعده عنها بهلع حقيقي �صارخ‪ ،‬فلم يرحمها �أبدً ا وهو‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ي�ضع �شفتيه على وجنتها بقوة ً‬

‫ش‬
‫ملكانتك عندي‬
‫ِ‬ ‫مكمل حديثه الفج‪« :‬ولكن‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫عر�ضا �آخر‪� ،‬شقة يف �أرقى مكان يف البلد‪ ،‬ر�صيدً ا حمرتم يف‬ ‫أمنحك ً‬
‫�س� ِ‬

‫ع‬
‫نف�سك ل�شهرين كاملني‪،‬‬‫ِ‬ ‫عليك فعله �أن ت�سلميني‬
‫�أحد البنوك‪ ،‬وكل ما ِ‬
‫يديك تفعلني كل تلك املهاترات ال�سخيفة‬ ‫و�أنا �أعدك �س�أترك نف�سي بني ِ‬
‫أي�ضا يجب �أن تعلمي �أنها لن تفلح مع ابن حرام �أبدً ا‪».‬‬ ‫احلاملة‪ ،‬ولكن � ً‬
‫كادت �أن تنهار‪� ،‬أن متوت كمدً ا مبا ت�سمع‪« :‬رباه‪ ،‬هل من املعقول �أنها‬
‫�أخط�أت احلكم؟ �إنه حقري فا�سق بالفعل‪».‬‬
‫ا�ستطاعت بكل ما �أوتيت من قوة �أن تزيحه عنها‪ ،‬ثم رفعت يدها رغم‬
‫الدموع التي ت�شو�ش الر�ؤيا �أمامها وحاولت �صفعه ف�ص َّد يدها �سري ًعا‪،‬‬
‫عنقك اجلميل‬ ‫وقال من بني �أ�سنانه‪« :‬لو كانت و�صلت �إ َّ‬
‫يل‪ ،‬كنت �س�أد ُّق ِ‬
‫قبل تلك الكف‪».‬‬
‫�سحبت يدها منه وهزَّت ر�أ�سها مبرارة قبل �أن ت�ستدير بتخبط وتف َّر‬
‫من �أمامه هاربة‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫حماول �أن يداري الوجع‪�« :‬أي وجع يا عمر؟ لقد‬ ‫ً‬ ‫�أ�سبل عمر عينيه‬
‫جربت �أي م�شاعر غريه؟»‬
‫اعتدته واعتادك‪ ،‬ومنذ متى َ‬
‫رفع هاتفه وهو يقول لأحد رجاله‪« :‬لقد خرجت‪ ،‬ال ترتكها �أبدً ا �إىل �أن‬
‫تراها تدلف �إىل منزلها‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫كل ع�ضلة يف ج�سده كانت تئنُّ �أملًا‪ ،‬حتى �أنه خ�شي �أن ينقلب �إىل جانبه‬
‫الآخر تخو ًفا من الوجع القادم‪ ،‬فتح عينيه بت�ش ُّو�ش للحظات وهو يدرك‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أنه يف غرفته وعلى فرا�شه اخلا�ص‪ ،‬ال يتذكر متى و�صل �إىل هنا وال كيف‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ً‬
‫متحامل ال‬ ‫�أتى‪ ،‬حت َّرك ب�صعوبة عندما �أزعجه جر�س الباب‪ ،‬وقف �سائد‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ي�صدق �أن تلك الليلة انتهت وتركته على قيد احلياة‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫بينما يتحرك بحر�ص نحو باب ال�شقة كان عقله الذي ال يهمد يح ِّلل‬
‫ما حدث له‪ ،‬يبدو �أنه و�صل للمركز الرئي�س بالفعل‪ ،‬و�إال ما الذي جعلهم‬
‫يخاطرون ويكون رد فعلهم نحوه بكل هذا العنف والق�سوة؟! ب�سبب �س�ؤال‬
‫�سطحي تافه‪ ،‬لقد ذهب بنف�سه ورف�ض �أن يذهب عمر‪َ ،‬‬
‫خاط َر ليعرف‬
‫من خالل رد فعلهم هل هو على الطريق ال�صحيح �أم ال‪ ،‬ولكنه الآن يندم‬
‫قليل جلعل طرف ثالث ي�شرتك يف خمططهم هو �إبراهيم‪ ،‬بالطبع هو مل‬ ‫ً‬
‫يك�شف كل �أوراقه �أمامه ومل يخربه ب�أي معلومات �صريحة‪ ،‬و�صل �سائد‬
‫لباب ال�شقة‪ ،‬فتحه متوق ًعا ر�ؤية عمر �أو �إبراهيم‪ ،‬ولكن لده�شته وجد‬
‫دجوى هي من تقف �أمامه مرتبكة خائفة ومرتددة‪ ،‬بدون كلمة واحدة‬
‫�ساحما لها ب�أخذ اخلطوة لتخطو �إىل‬
‫ً‬ ‫فتح �سائد باب ال�شقة على م�صرعه‬
‫عرينه‪ ،‬من نف�سها‪.‬‬
‫ابتلعت دجوى ريقها وهي ترفع يدها تزيح �شعرها الق�صري بحلقاته‬
‫احللزونية خلف �أذنيها وهي تقول‪:‬‬
‫‪81‬‬
‫«�آ�سفة �أزعجتك‪ ،‬ولكن لقد ر�أيت �سيد عمر يغادر يف ال�صباح الباكر‪،‬‬
‫و�إبراهيم تبعه بعد قليل‪ ،‬ففكرت �أنك رمبا حتتاج ل�شيء ما‪».‬‬
‫تقدمها �سائد �إىل غرفة املعي�شة وهو يقول بهدوء‪« :‬ال حتتاجني لتربير‬
‫علي‪».‬‬
‫إنك �أردتِّ االطمئنان َّ‬ ‫دجوى‪ ،‬ميكن �أن تقويل‪ِ � :‬‬
‫�أخفت دجوى رماد عينيها وهي تتذكر قلقها منذ الأم�س‪ ،‬مل ت�ستطع‬
‫�أن تنام ب�ضع �ساعات وهي تتذكر مظهره املدمى‪ ،‬قلبها متزق لوعة ع َّما‬
‫خمنته عرب جروح ج�سده القدمية‪ ،‬لقد حاولت �أن تبقى معه ولكن عمر‬

‫ع‬
‫رف�ض‪ ،‬و�أخربها �أن تذهب ل�شقتها وميكنها �أن ت�أتي بعد �أن ي�ستفيق‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تذكرت كيف تكاتف �إبراهيم وعمر لنقله �إىل هنا وهو يف حالة �أ�شبه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫باملُ َغ َّيب عن الوعي‪� ،‬أخ ًريا ا�ستطاعت �أن تقول ب�صوت خمتنق‪« :‬نعم‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�أنا قلقت عليك بل ارتعبت‪ ،‬و�أنا �أتخيل كل الأ�سباب التي جتعل �أحدهم‬

‫ع‬
‫يتعر�ض �إليك هكذا‪».‬‬
‫مل ير َّد بل انغلق على نف�سه يف عادة يتبعها عندما يريد‪ ،‬ولكن تلك‬
‫النظرة نف�سها التي يت�أملها بها من الأم�س جعلتها ترتبك‪ ،‬بل وي�شحب‬
‫وجهها عندما اقرتب منها يخربها‪« :‬ما الذي حت َّرك نحوي دجوى؟ هل‬
‫�ساعدك؟»‬
‫ِ‬ ‫عقلك الذي ما زال يعتربين ال�شهم الذي‬ ‫هو ِ‬
‫جف‪ ،‬مل ت�ستطع الرد بينما‬ ‫هزَّت ر�أ�سها وهي تبتلع ريقها الذي َّ‬
‫حاربت نف�سها �أال تخربه‪« :‬ليت الأمر يخ�ص العقل‪ً � ،‬إذا لهان الأمر‪ ،‬لو‬
‫�أن عقلها هو املتحكم يف م�شاعرها نحوه كانت ا�ستطاعت �أن تتبني ال�سواد‬
‫والغمو�ض الذي يحوم حوله ففرت بعيدً ا دون تردد‪ ،‬ولكنها ت�ستطيع �أخ ًريا‬
‫�أن تعرتف لنف�سها تواجهها بقوة �أن قلبها هو من يقودها نحوه‪ ،‬و�إال فما‬
‫�س ُّر انتفا�ضته بل وتقافز دقاته عندما تلمح جمرد طيفه؟! ما �سر �شعورها‬
‫بالأمل عندما ترى يف �سواد عينيه عذا ًبا مت�أملًا حائ ًرا؟‬

‫‪82‬‬
‫وهو ما كان ي�ؤرقه �شيء �آخر‪ ،‬ملم�س يديها وهي تتبع جروحه بوجع‬
‫ما�ض‬
‫�صدر من كل جزء منها بذبذبات وا�ضحة‪ ،‬ذكرته بيد �أخرى من ٍ‬
‫بعيد كانت تهتم �أن متنحه �شي ًئا ي�صرب قلبه ونف�سه ال�ضائعة‪ ،‬نف�ض عن‬
‫متاما ودون تردد كان ي�أخذ قرا ًرا من نوع �آخر‪.‬‬ ‫عقله هذا اخلاطر ً‬
‫دجوى الأوىل يف �سل�سلة انتقامه يجب �أن تكون الأوىل‪ ،‬يجب �أن يح�صل‬
‫منها على ما يريده قبل �أن ‪...‬‬
‫قطع �أفكاره وهو يقرتب منها يخربها مفاج�أ ًة‪�« :‬أنا لي�س َّ‬
‫لدي �أهل‬

‫ع‬
‫عاما يف‬
‫مثلك‪ ،‬تغربت خم�سة ع�شر ً‬ ‫دجوى‪ ،‬ت�ستطيعني القول‪� :‬إين يتيم ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جدا �إىل �أن ا�ستطعت �أن‬ ‫�إحدى البالد الغربية‪ ،‬عملت وكدحت وتعبت ًّ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أك ِّون ثروة �صغرية ت� ِّؤمن امل�ستقبل القادم؛ لذا �أريد اال�ستقرار‪ ،‬من حقي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫�أن �أح�صل على �أ�سرة خا�صة بي �أخ ًريا‪».‬‬
‫كانت تخربه بحرية �شديدة‪« :‬ال �أفهم‪ ،‬ما الذي حتاول قوله؟»‬
‫و�صل لها �صوته بعد حلظات �صمت ق�صرية قبل �أن ي�سمح ليديه‬
‫أنك‬
‫�أن ترفع ذقنها �إليه‪ ،‬ينظر لرماد عينيها الذابل وهو يقول‪�« :‬أعني � ِ‬
‫أريدك �أن ُتنهي �أملي كل ًّيا �سري ًعا ودون‬
‫متاثليني يف الوحدة وال ُيتْم؛ لذا � ِ‬
‫تردد‪».‬‬
‫مغطى ببع�ض‬ ‫كانت كامل�سحورة وهي تنظر لوجهه الذي رغم �أنه ًّ‬
‫ال�ضمادات الطبية‪ ،‬مل ت�ستطع �أن حتجب تلك ال�صورة التي كانت تداعب‬
‫�أحالمها املراهقة وال�شابة‪ ،‬رجل غام�ض و�سيم الفت للنظر ويبدو �أنه‬
‫يحبها ح ًّقا‪ ،‬هل ت�ستطيع �أن ت�أمل حتى؟‬
‫جدا منه وهو يقول‪« :‬جازيف وتزوجيني دجوى‪،‬‬ ‫�أتاها اجلواب �سري ًعا ًّ‬
‫أحتاجك �أنت بالتحديد ولن �أقبل‬ ‫ِ‬ ‫مثلك يف حياتي‪ ،‬ال بل �‬‫ف�أنا �أحتاج المر�أة ِ‬
‫ب�سواك امر�أتي‪».‬‬
‫ِ‬
‫‪83‬‬
‫متاما‪ ،‬وقعت احلمقاء‬
‫ملع رمادها لأول مرة منحته �إجابته املر�ضية ً‬
‫يف َ�ش َر ِكه ب�سهوله كفرا�شة غبية جتذبها النار فتندفع نحوها دون تع ُّقل‬
‫�أو مت ُّهل وتفكري‪ ،‬وهو لن يكون �سائد �إن مل ي�ؤذها ح ًّقا ويجعلها تندم على‬
‫اليوم الذي ُو ِل َدت به‪ ،‬ابت�سم بر�ضى وهو ير ِّبت على وجنتها‪ ،‬لقد �أ�صبح‬
‫قاب قو�س �أن يجعل بنت الأكابر عاهرته اخلا�صة‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫ابت�سامة حزينة كانت تزين االلتواء ال�ساخر لفمه وهو ينظر �أمامه‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫لطبق املعجنات املتنوعة‪ ،‬طرفت عيناه ً‬
‫قليل لأنواع اجلبنة املتعددة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫املو�ضوعة �أمامه‪ ،‬بينما عقله هناك �أبعد ما يكون يف ما�ضيه الكالح ال�سواد‬

‫ببر�للأ�سهنللخلف مغم�ض العينني وذهب‬


‫ش‬
‫�إليها ب�أفكاره‪ ،‬ها هو يرى نف�سه ببنطال قما�شرممزق‬
‫و‪...‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫تعلوهما �سرتة �صوفية كريهة الرائحة ح�صل عليها يف �أكوام زيع‬
‫وقمي�ص م�شابه‬
‫تبدلت ابت�سامته حلنني‪ ،‬فرجع‬

‫القمامة‪،‬‬
‫ولكن ال يه ُّم‪ ،‬فما ح�صل عليه من �أجلها اليوم ُي َع ُّد كن ًزا وغنيمة رمبا لن‬
‫تتكرر �أبدً ا‪.‬‬
‫«�آية»‪ ،‬هم�سها ب�صوت خافت من وراء �أحد ال�سيارات يف �أحد ال�شوارع‬
‫العمومية التي �أوقف فيها املعلم حماد حبيبته للت�سول‪ ،‬فهو منذ �أعلن‬
‫حمايته لها و�ضمها �أثناء ارتعابها عندما جاءت بها تلك املر�أة �إجرامية‬
‫املالمح ب�شعة الوجه؛ فان�صاع حماد على غري العادة‪ ،‬وهذا ل�سببني قد‬
‫�أدركهم هو الآن عندما �أ�صبح ذئب املعلم حماد الر�سمي منذ �شهور مرت‬
‫وهو مل يكمل عمره ال�سابعة ع�شر‪ ،‬للحقيقة ُي َع ُّد هذا يف قوانني غابتهم‬
‫�إعجا ًزا‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫التفتت له «�آية» مت�سح العرق بطرف مع�صمها املت�سخ عن وجهها‬
‫املحمر من ق�سوة �شم�س ال�صيف‪ ،‬وفور �أن ر�أته؛ �أ�شرقت مالحمها‪ ،‬اقرتب‬
‫لك‪،‬‬
‫«لدي �شيء ِ‬‫منها �سائد وعيناه مت�شط مالحمها املرهقة و�أخربها‪َّ :‬‬
‫لك هنا‪ ،‬ح�سان يراقبنا‪».‬‬ ‫ولكن لن �أ�ستطيع منحه ِ‬
‫َن َف َرت مالحمها �سري ًعا‪ ،‬ولكن ب�سيطرة على م�شاعرهم تدربوا عليها‬
‫جيدً ا من ِق َبل حماد و�أعوانه حتى ي�ستطيعون �أن يتحكموا يف ردود �أفعالهم‬
‫�أمام الب�شر الذين ي�ستميلونهم من �أجل القليل من املال‪ ،‬عادت �آية‬
‫لالبت�سام ب�شحوب وهي ُتخربه‪�« :‬س�أتهرب منه و�أحلق بك �إىل مكاننا‪».‬‬
‫ألك هذا ‪ ...‬عن �سبب جميئي‬

‫ل‬
‫أنتظرك و�إن �س� ِ‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ه َّز ر�أ�سه وهو يقول‪�« :‬س�‬

‫ك‬
‫ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫لك باملزيد من علب املناديل الورقية‪».‬‬‫�أخربيه �أين �أتيت ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫مل تنظر يف �أثره‪ ،‬بل عادت على الفور جتري بني ال�سيارات املتوقفة‬
‫يف الإ�شارة حتاول بيع ما بني يديها‪ ،‬عيناها تذرف الدموع‪� ،‬صوتها يخرج‬
‫متو�سل ب�إذالل‪« :‬مناديل يا هامن‪ ،‬ا�شرتي مني يا �سعادة البيه‪ ،‬حن على‬ ‫ً‬
‫يتيمة مل تذق الطعام منذ يومني‪».‬‬
‫كالعادة يتجنبها بع�ضهم وي�س ُّبها بع�ضهم‪ ،‬و�آخرون يعنفونها ويدفعونها‬
‫بعيدً ا حتى تقع على الأ�سفلت احلار فيتلهب ج�سدها ال�صغري وك َّفاها من‬
‫�أثر عنف ال�ضربة واخلدو�ش وال�شم�س احلارقة‪.‬‬
‫رحماك يا رب‪ ،‬هم�ستها �آية بعذاب والقلب يبكي بحرقة وهي ت�شاهد‬
‫َمنْ يف عمرها َي ْر َتدُون �أحلى الثياب‪ ،‬وبالطبع ي�أكلون �أحلى الأطعمة‪،‬‬
‫وينامون ً‬
‫ليل يف �أ�سرة حقيقية و�سط لهفة �أب و�أم‪.‬‬
‫وقفت �آية وعادت بحرقتها وبكائها للرك�ض بني ال�سيارات‪ ،‬ولكن هذه‬
‫املرة لت�ضليل ال�سافل ح�سان التي تبغ�ضه وتكرهه‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫تالحقت �أنفا�سها وهي تتوقف �أخ ًريا لتهبط حتت �أحد الكباري‪،‬‬
‫وهناك عند ما�سورة ال�صرف الكبرية وجدته يجل�س ينتظرها يف خمبئهما‬
‫ال�سري‪ ،‬عيناه ال�سوداوين �شديدتا الب�أ�س منذ طفولته تلمع ببهجة حقيقية‬
‫لكنزه ال�صغري‪ ،‬مل ينتبه جيدً ا لدموعها التي �أخفتها‪ ،‬بالطبع لقد تع َّود �أن‬
‫يرى عينيها املحم َّرتني دائ ًما تبكيان‪� ،‬سمعت �صوته يخربها‪« :‬اقرتبي‪،‬‬
‫أي�ضا قطعة‬ ‫لك بعي�ش فينو �ساخن وطازج‪ ،‬وبع�ض قطع اجلنب‪ ،‬و� ً‬ ‫لقد �أتيت ِ‬
‫ب�سبو�سة للتحلية‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫رجفة قوية من االمتنان والفرحة اجتاحت ج�سدها ال�صغري قبل �أن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ترك�ض �إىل ذراعيه املفتوحة حتت�ضنه ب�شدة تخربه بحزن احتل نربتها‬

‫شوهوريقول‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫وب َّدد �سعادتها‪�« :‬سائد‪� ،‬سيعاقبك املعلم �إن علم كيف جازفت‪».‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫�أنا من رجاله الآن وم�سموح لنا ببع�ض املميزات‪ ».‬زيع‬
‫وبحث عن جزء نظيف به قبل �أن‬ ‫قمي�صه‬ ‫�أبعدها عنه ورفع طرف‬
‫بهدوء‪« :‬ال تقلقي‬ ‫ُيجل�سها بجانبه ينظف وجهها املع َّفر بالأتربة‪،‬‬

‫توقف عن احلديث وهو يناولها غنيمته لتبد�أ يف تناول الطعام بنهم‪ ،‬مل‬
‫يكن �أبدً ا نه ًما ل�شيء �ستتذوقه لأول مرة‪ ،‬بل كان نهم جوع حقيقي علم �أنه‬
‫مازحا‪:‬‬
‫يقر�ص معدتها اخلاوية‪ ،‬حاول �أن يتجنب حزنهم الدائم و�أخربها ً‬
‫«ثم َمنْ �سيخربه؟! �إنه �سرنا ال�صغري‪� ،‬سندفنه هنا كالعديد منها‪».‬‬
‫ابت�سمت له مرتع�شة ودموعها تنزل مدرا ًرا؛ فعب�س ب�شدة وهو ينهرها‬
‫علموك هذه الأفعال من �أجل �أن حتنني‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫قائل‪« :‬توقفي عن البكاء‪ ،‬لقد‬
‫قلوب النا�س فقط‪».‬‬
‫دفنت �آية نف�سها عنو ًة يف �صدره وهي تخربه ب�صوت مرير‪َ :‬‬
‫«ومنْ‬
‫�أخربك �أنها دموع متا�سيح �أو ا�ستعطاف يا �سائد؟ قد يعتقد اجلميع �أننا‬
‫‪86‬‬
‫جنيد ال ُبكاء من �أجل �شحاذة بع�ض املال �أو حتى الفتات‪ ،‬ولكنهم ال يعلمون‬
‫‪ -‬ال بل يغفلون ‪� -‬أنها دموع الأمل والقلب والك�سر واجلوع واحلرمان‪».‬‬
‫�أغلق جفناه ب�شدة و�ضمها �إليه بت�شدد م�صد ًقا على كل حرف نطقت‬
‫به‪.‬‬
‫عاد من ذكراها وفتح جفنيه على ات�ساعهم‪ ،‬وقف بحدة من كر�سيه‬
‫وقد فقد �شهيته لكل �شيء‪ ،‬هم�س ب�أنني قلب مليء بالندوب‪�« :‬أتظنني �أين‬
‫لعلك‬
‫وعيناك املقهورة وهي تنظر لكل املارة ِ‬
‫ِ‬ ‫أملك‬
‫وجعك و� ِ‬
‫غافل عن ِ‬ ‫كنت ً‬

‫ع‬
‫ينت�شلك‪ ،‬كنت �أعلم حبيبتي‪،‬‬
‫ِ‬ ‫خطفوك منه لعله‬
‫ِ‬ ‫والدك الذي‬
‫جتدين وجه ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫أنت�شلك من م�ستنقعنا‪».‬‬
‫ولكن مل يكن وقتها باليد حيلة ل ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫بخل‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫‪q q q‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫�سمح له بالدخول وهو ُيعدل مالب�سه لي�سوي �أكمام ال�سرتة‪،‬زيع‬
‫ذراعيه يف �سرتته عندما �أتاه �صوت‬ ‫فتح �سائد باب �شقته وهو ُي ْد ِ‬
‫عمر يقول بخ�شونة‪« :‬كيف �أوقعوا بك؟!»‬
‫قبل �أن‬
‫يقول بهدوء‪« :‬و�إذا اكت�شفوا �شي ًئا ومتكنوا مني كنت ما زلت �أمامك يا‬
‫عمر‪».‬‬
‫�أوم�أ عمر بر�أ�سه برد فعل ليقول بعدها‪« :‬املعركة كانت عنيفة يا �سائد‬
‫ذهبت لأحد �أوكارهم‪ً � ،‬إذا ما الذي حدث بال�ضبط؟»‬
‫و�أنت َ‬
‫حرك �سائد رقبته بالرتافق مع حتريك كتفيه لأعلى و�أ�سفل‪ ،‬قبل �أن‬
‫متاما‪ ،‬ك�أنه يحتاج للمزيد من‬
‫يقول بطرفة �سخيفة‪« :‬لقد حطموا وجهي ً‬
‫العبو�س‪».‬‬
‫رغ ًما عن �أنف عمر ابت�سم للكوميديا ال�سوداء‪ ،‬التي حتتل روح �سائد‬
‫من وقت لآخر على فرتات متباعدة‪ ،‬ثم ما لبث �أن �أردف‪« :‬ال تقلق يا‬
‫‪87‬‬
‫عمر كل خطوة كان مرتب لها‪� ،‬أنا ق�صدت �أن �أثري ريبتهم عندما ذهبت‬
‫لدي �أين ح�صلت على ما �أريده‪� ،‬أما عن �ضربي‬ ‫لأحد �أوكارهم‪ ،‬والأهم َّ‬
‫فكان متوق ًعا‪ ،‬ولكن يبدو �أن البلطجية الذين يحمون املكان حتركوا‬
‫بع�شوائية فجاء �أربعة منهم يهاجموين متع�شمني يف �إخافتي؛ ظ ًّنا �أنهم‬
‫بهذا �سي�ستطيعون التكتم عن ز َّلة ل�سان �أحدهم‪».‬‬
‫�أطلق عمر زفرة مرتاحة �أخ ًريا وهو يقول بجدية‪ً �« :‬إذا ال م�شكلة‪،‬‬
‫�س�أكمل �أنا يف م�ساري‪».‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫هز �سائد ر�أ�سه بت�أكيد‪ ،‬ثم قال معل ًقا وهو يتح�س�س اجلرح الغائر على‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وجهه‪« :‬نعم‪� ،‬أنت �أَ ْكمِ ْل يف طريق ال�شوكة وال�سكينة واترك يل �أنا ال�سنج‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫وال�شوم واملطاوي‪».‬‬

‫ع‬
‫امتع�ض عمر وهو يخربه‪« :‬كان هذا تخطيطك منذ البداية‪ ،‬ال تتذمر‬
‫الآن‪ ،‬كالنا يعرف دوره ولكني بد�أت �أ�شعر بال�شفقة على مالمح �إبراهيم‪».‬‬
‫ابت�سم �سائد وهو يقول‪ :‬كلما تذكرت مالمح الرجل عندما �شاهدين‬
‫بعدما ا�ستطعت الهرب من املعتدين‪ ،‬و� ِأ�صل لل�سيارة التي كانت تقف بعيد‬
‫جدًّا عن ذلك احلي‪ ،‬ح ًّقا نظرة اجلهل مع احلنق التي ارت�سمت طواعية‬
‫تثري ال�ضحك‪».‬‬
‫بال مباالة ظاهرية قال عمر‪« :‬وما الذي منعك لت�ضحك؟ ِ َ‬
‫ول ال توفر‬
‫تلك ال�شفقة ملن ت�ستحقها حقيقة منك؟»‬
‫حمذرة؛ جعلت عمر‬‫النظرة التي منحها له �سائد مع التفاتة عنيفة ِّ‬
‫يتن َّهد بتعب وي�صمت رمبا لن يفعل �شي ًئا ليوقفه‪ ،‬ولكنه بالت�أكيد لن‬
‫ي�شارك يف اللعبة‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫منذ �أن خ�ص�ص له فهمي النجار �إحدى الغرف يف م�شفاه وهو يلتزم‬
‫املراوغة التامة‪ ،‬ير�سم وج ًها هاد ًئا عمل ًّيا ً‬
‫متاما وال ي�س�أل �إال ع َّما يخ�ص‬
‫جانبه من ال�صفقة التي ا�ستطاع هو و�سائد �إغراء الرجل بها عرب‬
‫مرا�سلته من اخلارج منذ عام م�ضى‪ ،‬فالرجل رغم قذارته وذكائه �إال �أن‬
‫اجل�شع �أعماه عن البحث وراءه‪� ،‬أو رمبا �س�أل عنهم بالفعل ولكن خطواتهم‬
‫املنظمة منحت الرجل املعلومات التي يريدونها‪.‬‬
‫خرج عمر من مكتبه ليتفقد امل�شفى وغرفه الفارهة‪ ،‬امل�شفى الذي‬
‫ببدو للجميع مكا ًنا للرحمة والعالج‪ ،‬ولكنه ا�ستطاع �أن يجمع بع�ض‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫املعلومات؛ منها �أنها بالن�سبة لهم (نقل الأع�ضاء الب�شرية للوافدين من‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫دول �أخرى �أو حتى من نف�س دولتهم والتي تخ�ص الأغنياء فقط‪ ،‬وبالطبع‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ال �أحد ي�س�أل من �أين ت�أتي هذه الغيارات الب�شرية‪ ،‬ما يه ُّم �أنها نظيفة‬

‫والتوز عي‬
‫و�آمنة‪� ،‬أ ًّيا كان امل�صدر طاملا �أنهم �سيمنحون عم ًرا �آخر وفر�صة �أخرى‬
‫فليحرتق اجلميع)‪.‬‬
‫توح�شت مالحمه للحظة واحدة ليعاود ال�سيطرة عليها مبهارة عندما‬
‫ا�ستوقفته �سمر مديرة مكتب فهمي النجار تخربه بدالل‪�« :‬أي م�ساعدة‬
‫�سيد عمر‪ ،‬نحن يف خدمتك‪».‬‬
‫طفل يحتاج‬ ‫بلهجة �صارمة �أخربها عمر‪« :‬هل �ستتبعينني كث ًريا؟ ل�ست ً‬
‫لعونك‪ ،‬ما �أريده �س�أح�صل عليه بنف�سي‪».‬‬
‫ِ‬
‫عادت �سمر تقول بنربة خافتة ناعمة وعيناها الفجة تتفح�صه بدعوة‬
‫�صريحة للإعجاب‪�« :‬أنا �أريد م�ساعدتك فقط‪� ،‬أنت هنا كما �أعلم �شريك‬
‫بالتوريدات اجلديدة للم�شفى من م�ستلزمات طبية‪ ،‬و�أعرف �أنك تريد �أن‬
‫تطمئن على مال �شركتك؛ لذا بالت�أكيد �أنت لن ت�ستوعب كل �شيء يدور‬
‫بامل�شفى‪».‬‬

‫‪89‬‬
‫قاطعها بهدوء وهو يقول بب�ساطة متالعبة‪�« :‬أحوالكم الطبية وما يدور‬
‫ال تعنيني‪ ،‬ولكن بالت�أكيد �أريد �أن �أعلم مدى ر�ضى املر�ضى عندكم وكم‬
‫عددهم‪ ،‬نحن لن نرمي �أموالنا هبا ًء‪».‬‬
‫ام ُت ِق َع وجه �سمر كل ًّيا وتلجلجت يف احلديث‪ ،‬فت�أكد �أن كالمه و�صل‬
‫الهدف مبا�شر ًة‪« :‬العدد لي�س حمددًا �سيد عمر‪ ،‬كما �أن الأجهزة التي‬
‫توردها بالت�أكيد لي�س لها عالقة باملر�ضى املتواجدين‪».‬‬
‫ابت�سم عمر بانت�صار لذلة املر�أة‪ ،‬فدون �أن تدري اعرتفت �ضمن ًّيا مبا‬

‫ع‬
‫ي�شك فيه منذ البداية‪� ،‬إذ �إن �أرباح امل�شفى العالية ب�شكل غري معقول‪ ،‬لن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ت�أتي من جمرد حاالت والدة �أو عمليات زائدة‪ ،‬بل الن�شاط املوازي لهم‪».‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ابت�سامته جعلت �سمر تت�ص َّبب عر ًقا ب�شكل ملحوظ والتوتر يعرتيها مما‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫قالته‪ ،‬تركها عمر دون املزيد من التعليقات و�أخربها‪« :‬لقد تذكرت �شي ًئا‬

‫ع‬
‫�أهم الآن‪� ،‬س�أتفقد امل�شفى يف وقت الحق‪� ،‬إىل اللقاء يا �سمر اجلميلة‪».‬‬
‫التعليق املجامل جعل الأنثى بداخلها تعود لالبت�سام املتغنج يف وجهه‪،‬‬
‫ف�ضربت معدته بالنفور وغادر مت�صلب املالمح‪.‬‬
‫يعلم �أن مالحمه جذابة ب�شكل ملعون‪ ،‬فحتى �أطفال ال�شوارع من‬
‫يوما‪ ،‬رمبا هو حاقد على جن�س حواء‬ ‫الذكور مل ُي ْرحموا من اال�ستغالل ً‬
‫ب�شدة‪ ،‬ولكن مل يكن ال�سبب فقط تلك املر�أة اخلاطئة التي تركته يف �أكوام‬
‫القمامة‪ ،‬ولكن كل امر�أة غانية ا�ستغلته مقابل ب�ضعة جنيهات‪ ،‬اق�شع َّر‬
‫يوما ما كان يف الثانية ع�شرة من عمره‬ ‫ج�سد عمر بتزايد كريه وهو يتذكر ً‬
‫جمرد طفل �شوارع عفن املالب�س والرائحة نائ ًما على �أحد الأر�صفة‪،‬‬
‫متاما للمر�أة التي تقودها‪،‬‬
‫فوقفت بجانبه �سيارة �صفراء اللون مماثلة ً‬
‫مل ت�أخذ الكثري من الوقت لتقنعه بال�صعود معها مقابل وجبة د�سمة‬
‫�ستمنحها له‪ ،‬ومبعدة طفل جائع‪ ،‬وعقل فتى مل يدرك �سبب هذا العطف‬
‫‪90‬‬
‫وقع فري�سة لأنثى متاثل احل�شرات قذارة‪ ،‬جردته من مالب�سه بالكر�سي‬
‫اخللفي لل�سيارة‪ ،‬و�أفرغت فيه كل جنا�ستها و�أدخلته عاملًا رمبا كان ي�سمع‬
‫عنه بفجاجة ب�سبب تلك الغابة التي ن�ش�أ فيها‪ ،‬ولكنه مل يقرتب منه قط‪،‬‬
‫ومن هنا كانت البداية ف�أ�صبح كحيوان �صغري ال ي�شبع كلما احتك ج�سده‬
‫ب�إحداهنَّ ميار�س معها‪.‬‬
‫�سيطر على موجة قيء ب�صعوبة‪ ،‬وهو يهم�س ب�أمل متذك ًرا وج ًها‬
‫مالئك ًّيا طاه ًرا نظي ًفا‪« :‬ت ًّبا رابحة‪ ،‬لقد غ�صتُ يف الوحل كما لن يتخيل‬
‫يوما‪ ،‬ولكني �أبدً ا مل �أقرتب من �أنثى طاهرة و�ألوثها بي‪ ،‬بل‬ ‫عقلك الربيء ً‬
‫ِ‬

‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫النج�سات فقط ممن ُي ِر ْدنَ الرذيلة َمنْ �أحقق لهنَّ مبتغاهنَّ ‪».‬‬

‫ب‬
‫ف�ضلك‪ ،‬لو�لس�أح�ضر يف املوعد‪».‬‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬
‫ن‬
‫‪q q q‬‬

‫و به لتح�صل‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫ي‬ ‫ز‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫العنوان‬ ‫أر�س ِلي يل‬
‫«� ِ‬

‫على وظيفة جيدة براتب حمرتم‪ ،‬لت�ستطيع �أن ت�س َّد الفجوة التي ع‬
‫�ستحدث‬
‫قامت‬ ‫م�ضن‬
‫ٍ‬ ‫بحث‬ ‫ر�سالة ن�صية ب�سيطة �أر�سلتها رابحة‪ ،‬بعد‬

‫بعد �أن تركت العمل يف �شركة عمر‪ ،‬عمر ا�سم حروفه �سهلة وتذكرها جلب‬
‫الأنني واحلنني والوجع‪ ،‬لقد ك�سر قلبها حرف ًّيا بفعلته وبكالمه الب�شع‬
‫وبعر�ضه املنحط؛ ليجعلها تت�ساءل‪َ :‬منْ عمر حقيقة؟ وهل ً‬
‫فعل عقلها‬
‫الأحمق منحها ال�صورة اخلاطئة عنه؟ دون �إرادة منها عادت دموعها‬
‫للتدفق‪َ ِ ،‬ل قطع عليهم ب�أحكامه القاطعة وفجاجة عر�ضه ب�أن ال �شيء‬
‫من املمكن �أن يكون بينهم؟ رمبا وقتها �ص َّدقته من ال�صدمة‪ ،‬ولكن قلبها‬
‫الأحمق كما لقبه منحه العذر‪ ،‬بل �أجزم �أنه كان ُيبعدها عنه‪ ،‬يجافيها‬
‫متعمدً ا و�إال ما قام ب�إغوائها من البداية‪ ،‬عادت تهم�س ب�أنني متح�شرج‪« :‬ال‬
‫رب ال حتملني ما ال طاقة يل به‪ ،‬الطف بي يا رب‪».‬‬‫حول وال قوة �إال باهلل‪ِّ ،‬‬

‫‪91‬‬
‫ق�صي التي ال ترتكها‪ ،‬يعلم �أن حزن‬ ‫قليل لعني ٍّ‬ ‫خرج �صوتها عال ًيا ً‬
‫�أخته وتركها للعمل ب�صورة مفاجئة وراءه �سر كبري حتى عمر �أ�صبح ال‬
‫يتلقى �أ ًّيا من مكاملاته‪� ،‬سمع �صوت حا�سوب رابحة يعلن عن و�صول ر�سالة‬
‫مل ي�ستطع بالطبع �أن يعرف فحواها فاقرتب بحر�ص يلتقط احلروف‬
‫أخربتك‬
‫ِ‬ ‫ملوافقتك وكما �‬
‫ِ‬ ‫الب�سيطة املرتا�صة‪« :‬مرح ًبا �آن�سة رابحة‪� ،‬سعيد‬
‫�أول مرتب �ستح�صلني عليه فور �أن تقومي ب�إم�ضاء عقد العمل‪ ،‬ومكان‬
‫املقابلة لتطمئني يف «مول ‪ »...‬يف املدينة اجلديدة‪ ،‬واملوعد غدً ا يف‬
‫مثلك‬
‫الرابعة‪� ،‬سيكون هناك جت ُّمع �أمام «حمل ‪ »...‬لأن هناك فتيات ِ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�سي�أتني للعمل‪ ،‬وبعدها �سنبلغكنَّ باملقر العام لل�شركة‪».‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫ق�صي مقاومة موجة الرعب التي انتابته فهتف بحدة‪:‬‬ ‫ٌّ‬ ‫مل ي�ستطع‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫«رابحة‪ ،‬هل ُج ِن ْن ِت موقع عمل من الإنرتنت؟! �أنت لن تذهبني‪».‬‬

‫ع‬
‫لق�صي بهدوء تخربه‪:‬‬ ‫ٍّ‬ ‫كفكفت رابحة دمعها �سري ًعا‪ ،‬ثم ا�ستدارت‬
‫ول ال �أذهب؟ �إنه طريقة‬ ‫على؟! ِ َ‬
‫«ق�صي‪ ،‬ماذا هناك؟ كيف تتج�س�س َّ‬ ‫ُّ‬
‫عر�ض للوظائف جديدة ال �أكرث‪».‬‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أن يقول بحدة‪�« :‬أي عر�ض بحق اهلل؟ هل‬ ‫ق�صي ً‬‫�أخذ ٌّ‬
‫�أنت �صغرية ِغ َّرة ال تفهم تلك الأالعيب املبتكرة؟ �أمل تقر�أي �أي من�شورات‬
‫حمذرة على موقع التوا�صل االجتماعي عن طرق خطف الفتيات؟»‬
‫مل تكن رابحة يف حالة نف�سية ت�سمح لها باملجادلة ف�ش َّوحت بيديها‬
‫«ق�صي‪ُ ،‬ك َّف عن خياالتك‪ ،‬تلك املن�شورات ما هي �إال‬ ‫ُّ‬ ‫وهي تقول بع�صبية‪:‬‬
‫نظام جلب الأنظار ال �أكرث‪ ،‬ال�شركة حمرتمة ولها ا�سم ووزن يف ال�سوق‪،‬‬
‫كما �أن النا�س حري�صون‪ ،‬و�أول مقابلة يف مكان عام‪».‬‬
‫ق�صي وهو ينطر لها حائ ًرا يعلم كيفية تفكري عقلية رابحة‬ ‫ٌّ‬ ‫َق َّط َب‬
‫املندفعة والتي ت�سعى للو�صول ب�أي طريقة ملال يريحهم هو و�أمه املري�ضة‬
‫‪92‬‬
‫من �أجل توفري العالج‪ ،‬تن َّهد ً‬
‫قائل وهو ينحني ومي�سك بك َّفيها‪« :‬رابحة‬
‫أرجوك ال تذهبي‪ ،‬اكتفي بتلك الوظيفة كعاملة يف حمل املالب�س‪ ،‬و�أنا‬
‫� ِ‬
‫�س�أبحث عن �أي وظيفة بعد املدر�سة و�سنتعاون حبيبتي‪ ،‬ولكن ال تفعلي‬
‫�شي ًئا نندم عليه‪� ،‬أنا قلق ِ‬
‫عليك‪».‬‬
‫ق�صي بحنان‪ ،‬التغري‬
‫عادت دموع رابحة متلأ عينيها وهي مت�سك وجه ٍّ‬
‫الكبري الذي طر�أ على �أخيها ُيده�شها‪ ،‬ماذا فعل به الآخر ليجعل حبيبها‬
‫ال�صغري يعود كما كان عليه قبل �أن َي ْح ِر َفه به رفقاء ال�سوء؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أخربته برتابة‪« :‬لن �أرف�ض �أن تعمل لت�ساعد نف�سك‪ ،‬و�أعلم �أنك حتتاج‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�أن تخرج من القوقعة التي �أُ ْد ِخ ْل َت فيها رغ ًما عنك‪ ،‬ولكن �أريدك �أن‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫تطمئن �أنا �أحتاج لتلك الوظيفة حاجة نف�سية �أكرث منها مالية‪ ،‬لقد بحثت‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫عن موقعهم‪ ،‬ور�أيت العديد ممن يثنون عليهم‪ ،‬كما �أين ل�ست الفتاة‬
‫الوحيدة التي �ستذهب؛ لذا كن مطمئ ًّنا‪».‬‬
‫مل يعلق ُق َ�ص ٌّي ب�شيء‪ ،‬يعلم �أنه مهما قال �أو فعل لن تن�صاع له �أبدً ا‪،‬‬
‫رمبا هو يبالغ يف قلقه �سيرتكها تفعل ما تريده‪ ،‬ولكنه لن ي�سمح لها ب�أن‬
‫تغيب عن نظره‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫كان �سائد يجل�س على نا�صية ذلك املطعم �أمام مقر �شركته يتالعب‬
‫مي�س الطعام الراقي الذي �أمامه‪ ،‬والذي ترك اختياره‬ ‫ب�شوكته دون �أن َّ‬
‫لدجوى‪.‬‬
‫قطعت دجوى �شروده وهي تقول بتوتر‪« :‬مل ينل �إعجابك على ما يبدو؛‬
‫لذا �أخربتك �أين ال �أجيد االختيار‪».‬‬
‫فجة غري مفهومة‬
‫رفع �سائد ر�أ�سه �سري ًعا ينظر لها قبل �أن يقول بنربة َّ‬
‫‪93‬‬
‫عنك‪� ،‬أنت ال جتيدين اختيار �أي‬
‫املعاين‪« :‬نعم دجوى‪ ،‬هذا ما عرفته ِ‬
‫�شيء‪».‬‬
‫جفلت دجوى للحظات من ردِّه الفج‪ ،‬وبهتت ابت�سامتها وارتع�ش جانب‬
‫فكها وهي تقول بنربة متح�شرجة‪�« :‬أنا �آ�سفة‪ ،‬مل �أتعود اختيار �شيء لأحد‬
‫�أو حتى لنف�سي‪ ،‬كانت والدتي هي من تدير حياتي و‪»...‬‬
‫تب َّدل �صوتها لنربة حزن عميقة‪ ،‬و�شيء �آخر مبهم وهي تقول بخفوت‪:‬‬
‫«و�أبي � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬كنت وحيدته ومدللته التي ح�صل عليها بعد عذاب؛ لذا كان‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫يدللني �أكرث من الالزم»‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫مر بريق خاطف مرعب يف عينيه عند ذكر والدها �أثار تعجبها قبل �أن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫خ�سرت كل �شيء منذ خم�س‬ ‫ِ‬ ‫أنك‬
‫منك‪ِ � ،‬‬ ‫يقول بب�ساطة‪« :‬ولكن كما علمت ِ‬

‫ع‬
‫زلت �صامدة‪ ،‬مل تنهاري وهذا ال ُينبئ �أبدً ا عن‬ ‫�سنوات‪ ،‬وكما �أرى ما ِ‬
‫�شخ�صية مدللة �أو �ضعيفة دجوى؟»‬
‫�شردت عينا دجوى وال�صمت ل َّفها كل ًّيا‪َ ،‬ب َد ْت بعيدة كل البعد عن تلك‬
‫ال�شخ�صية الهادئة احلزينة‪ ،‬بل تلك امل�شاعر التي تعاقبت مت�ضامنة على‬
‫وجهها‪ ،‬جعلت العجب يت�سلل �إليه هذه املرة‪ ،‬نفور ووجع و�إحباط وعدم‬
‫ت�صديق مل يعرف موج ًها ملن‪ ،‬ثم ما لبثت �أن قطعت ال�صمت �أخ ًريا‬
‫قائلة بوجوم‪« :‬ال �شيء يبقى على حاله يا �سائد‪ ،‬احلياة قا�سية عنيفة‪،‬‬
‫تك�شفت جعلت جز ًءا منك مل تعرف بوجوده وهو‬ ‫وبع�ض احلقائق التي َّ‬
‫خمتف ومندثر بداخلك ي�سارع للخروج‪ ،‬يغرز خمالبه يف �أي �شيء كرد‬ ‫ٍ‬
‫فعل تلقائي حلمايتك من �ضعف نف�سك � ًأول قبل غيالن الب�شر التي ت�سارع‬
‫للتفاو�ض ونه�ش حلمك؛ لذا رغم كل الرتف والدالل الذي كنت فيه خرج‬
‫جزئي اخلفي يدفعني لال�ستمرار دون �أن �أ�سقط‪».‬‬
‫‪94‬‬
‫ال يعلم ما �سر تلك املوجة من الن�صر التي اجتاحته‪ ،‬ملعت عيناه‬
‫ال�سوداوين وهو ينظر لتوهج الرماد يف عينيها‪ ،‬هذا ما يريده حتديدً ا‬
‫منها‪ ،‬القوة املقاومة‪ ،‬كره احل�ضي�ض الذي �سيغرقها به‪ ،‬يف الواقع هو ال‬
‫يريد �أبدً ا لطعم انتقامه �أن يخفت �سري ًعا عندما تنهار من �أول �صفعة �أو‬
‫ثانيها‪ ،‬بل يريدها �شر�سة تقاومه‪ ،‬جتابهه حتى ي�ستنفدها لآخر قطرة‪،‬‬
‫وعندها فقط �سي�شعر �أنه مل يتحامل على نف�سه ليتوا�صل معها و�أنه‬
‫ي�ستحق‪ ،‬طعم الن�صر واالنتقام ال ي�شبع الروح �إال عندما تكون الفري�سة‬
‫وح�ش غابة مثله‪ ،‬ولكن ِ َل ي�شعر �أن ابنة غ�سان الها�شم تخفي �أكرث مما‬‫َ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تظهر؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ب‬
‫‪q q q‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫�إن جتر�أت وتطرفت للتفكري فيها‪ ،‬للحقيقة �سائد منذ �تأنوزي‬
‫م�شاعره اخلفية والتي ال ت�ستطيع �أن تف�سرها‬ ‫تعاقبت‬ ‫بنظراته‪،‬‬ ‫«وتَّرها‬

‫عر�ضععليها‬
‫أمانها ولكنها مبهمة‪ ،‬وخميفة‬ ‫رغم �‬ ‫�أبدً ا‪ ،‬ما زال �سائد بالن�سبة لها منطقة‬

‫الزواج مل مينحها حتى الفر�صة للتفكري‪ ،‬بل �أخذها على حني ِغ َّرة‪ ،‬ي�سابق‬
‫الزمن لإجناز كل �شيء ليكون زفافهم يف �أقرب فر�صة‪ ،‬بالطبع مل يقوموا‬
‫بخطبة‪ ،‬بل منحها مبل ًغا جيدً ا من املال و�أخربها �أن ت�شرتي ما تريد‬
‫«ك�شبكة لها وبع�ض م�ستلزمات الزواج»‪� ،‬سمعت �صوته يخربها ب�صرامة‬
‫لديك الكثري من العمل‪،‬‬‫تع َّودت على �سماعها منه‪�« :‬أنهي َط َع ِامك‪ ،‬ما زال ِ‬
‫والتجهيز للزفاف بعد يومني‪».‬‬
‫تو َّرد وجه دجوى ور�أ�سها ينخف�ض تنظر ليدها التي ت�شابكت بتوتر من‬
‫حتت املائدة فان�سدل �شعرها الأ�سود الق�صري يغطي مالحمها وهي تقول‬
‫بخفوت‪« :‬لقد �أنهيت �شراء كل ما �أحتاجه بالأم�س‪».‬‬
‫أح�ست بيديه مت�سك بطرف ذقنها‪ ،‬رفع وجهها �إليه لتواجهه وهو يقول‬ ‫� َّ‬
‫‪95‬‬
‫ينق�صك �شيء دجوى �أي‬
‫ِ‬ ‫مداع ًبا يتالعب على �أوتار �أنوثتها‪« :‬ال �أريد �أن‬
‫أريدك �أن حت�صلني على كل �شيء م�ضاعف‪».‬‬ ‫�شيء‪ ،‬بل � ِ‬
‫ابت�سمت وهي تهز ر�أ�سها بالإيجاب‪ ،‬متتمت بهم�س ناعم �شاكرة �إياه‪،‬‬
‫فناظ َر َها مرغ ًما وهو يقول بخفوت‪« :‬كيف غفل‬ ‫ملح دموع تغرق عيناها َ‬
‫بك حتى الآن؟! �أنت جميلة‬ ‫عنك دجوى ومل ُيق ِْد ْم على االرتباط ِ‬‫�أي رجل ِ‬
‫جدا‪».‬‬
‫ًّ‬
‫َع َّ�ضت دجوى على �شفتيها برقة وفتحت فمها تنوي �أن ترد‪ ،‬ولكن‬

‫ع‬
‫قاطعها وجهه الذي ت�صلب يف احلال وهو ينتف�ض من جمل�سه ينظر‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ل�شيء خارج املكان الذي يجل�سان به‪� ،‬سمعته يقول وهو يتحرك �سري ًعا من‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫جانبها‪« :‬ابقي هنا ال تتحركني‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫هزت دجوى ر�أ�سها موافقة وهي تراقبه يقطع ال�سالمل الأربعة التي‬

‫ع‬
‫ترفع املطعم عن ال�شارع‪ ،‬ثم يتوجه �إىل امر�أة تهرول هنا وهناك �صارخ ًة‬
‫ب�أمل ُيزق قلوب كل من ي�سمعها‪« :‬ابنتي‪ ،‬ابنتي �سلمى يا عامل‪ ،‬كانت معي‬
‫كنت �أت�شبث بها يف يدي‪».‬‬
‫ت�صرخ املر�أة واجلموع حتت�شد حولها‪ ،‬بع�ضهم عاجز عن فعل �شيء‪،‬‬
‫بكف حمت�س ًبا داع ًيا لها ب�إيجادها‪ ،‬والبع�ض الآخر‬ ‫والبع�ض ي�ضرب ك ًّفا ٍّ‬
‫يتهمها بالإهمال‪ ،‬واملجموعة الأكرب تبحث هنا وهناك لعلهم يجدونها‪،‬‬
‫تق َّدم �سائد من تلك املر�أة بهدوء غريب و�س�ألها مبا�شر ًة خمت�ص ًرا‬
‫مقت�ض ًبا‪« :‬متى اختفت الفتاة حتديدً ا؟ و�أين بال�ضبط؟ فهذا �سيفيدنا‬
‫لتحديد خطواتنا‪ ».‬رم�شت املر�أة بعينيها حتاول ا�ستيعاب ما يقول‪ ،‬ثم‬
‫هتفت بتو�سل مت�ضرع ع�شوائي‪:‬‬
‫«هنا‪ ،‬فقدتها هنا‪ ،‬ال �أعرف متى‪ ،‬فقط كنا ن�سري �أنا وهي �أمت�سك‬
‫بها جيدً ا وفج�أة ظهر �أحد ال�سمجني وقام بالتحر�ش بي حتى ا�ستفزَّين‪،‬‬
‫‪96‬‬
‫وعندما نهرته ل ِف ْعلته وقف يف ال�شارع وافتعل �شجا ًرا معي‪ ،‬وجت َّمع �أنا�س‬
‫ُكرث‪ ،‬ثم اختفى هو مرة واحدة وعندما ُّ‬
‫التفت مل �أجدها‪».‬‬
‫تبدلت مالمح �سائد كل ًيا يف حلظة‪ ،‬و�أخذ وجهه يف ال�شحوب حتى‬
‫كلوح �أبي�ض من الرخام‪ ،‬ورغم �سيطرته على �أع�صابه وجموده‬ ‫�أ�صبح ٍ‬
‫ولكنه مل ي�ستطع منع �شعوره بتلك ال ُغ َّ�صة التي زادت ً‬
‫�ضغطا على قلبه‬
‫ك�شفرة �سكني حاد تنحره نح ًرا‪« :‬ت ًّبا‪ ،‬لقد ُخ ِط َفت الفتاة بحيلة جديدة‬
‫مدبرة‪َ ،‬منْ يلوم ومن ُيتَّهم‪ ،‬لقد �أ�صبح وحو�ش الب�شر بارعني يف ا�صطياد‬
‫فرائ�سهم‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫‪q q q‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫تتوجه لفخ غزلته بيديها لتو ِق َع‬
‫وعلى �صعيد �آخر كانت حمقاء �أخرى َّ‬

‫والتوز عي‬
‫نف�سها يف �شبكة عنكبوت جيدة الإحكام واجلذب‪ ،‬كانت رابحة يف طريقها‬
‫�إىل املكان املتفق عليه‪ ،‬تقطع خطواتها يف املول ال�ضخم �سري ًعا تبحث‬
‫عن ا�سم املكان الذي ُم ِن َح لها‪ ،‬ع َّلها جتد ذلك التجمع الذي �أ�شاروا �إليه‪،‬‬
‫مل ت�أخذ الكثري من الوقت وهي تهتف ب�سعادة �إجنازها عندما وجدتهم‬
‫كما و�صفوا �أنف�سهم بال�ضبط‪ ،‬اقرتبت من التجمع ال�صغري رجل مبالمح‬
‫وب�سمة ناعمة وجتاوره فتاة �شديدة الأناقة ت�ضم بع�ض امللفات على‬
‫أي�ضا فتاتان �أخرتان‬ ‫�صدرها‪ ،‬مظهرهم �شديد الرتف والنزاهة‪ ،‬وهناك � ً‬
‫يبدو �أنهنَّ �أتني لنف�س �أ�سبابها‪ ،‬فور �أن تقدمت رابحة من الرجل‪ُ ،‬ت َع ِّرف‬
‫عن نف�سها منحتها املر�أة ا�ستمارة و�أخربتها‪�« :‬آن�سة رابحة‪ ،‬ا�سرتيحي‬
‫على هذا املقعد و�ضعي بياناتك‪».‬‬
‫�سحبت الأوراق بحما�س وجل�ست كما �أخربوها وانهمكت متلأ‬
‫الفراغات‪ ،‬وبعد دقائق قليلة مل تعلم حتديدً ا �سر الهرج واملرج الذي َق َل َب‬
‫املول كله يف حلظة‪ ،‬البع�ض يثري �شجا ًرا والبع�ض يقدِّ م �أغنية ارجتالية‪،‬‬
‫‪97‬‬
‫و�آخرون ي�شتبكون مع بع�ضهم‪ ،‬واقرتب منها من اخللف واح ٌد �آخر وقبل‬
‫�أن تلتفت �أو ُتبدي رد فعل‪ ،‬ثم كان ال �شيء‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫«ما الذي تقوله يا غبي؟ لقد �أمرتك �أن تكون حتت مراقبتك كل‬
‫حلظة‪».‬‬
‫هتفها عمر بع�صبية فاقدً ا كل �أع�صابه بوجه جامد ا�ستحال لل�سواد‬
‫والرعب‪ ،‬رعب مل ي�شعر به عمر قط منذ �أن �أجربوه على �إدمان املخدرات‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ثم وقوفه على �شفا حفرة من املوت �أو القتل‪ ،‬رعب مل ي�ست�شعره �أبدً ا رغم‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ا�ستخدامه ككب�ش فداء يف توزيعها حتى بعد عالجه من �آثار �إدمانها‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ورعب �آخر مل ي�شعر به وهو يراقب �آية على ذلك ال�سرير القذر‪ ،‬وهم‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫يتعدون عليها ثم يخرجون‪ ،‬توقف عقل عمر عن التذكر يبتلع ريقه‬
‫تتوح�ش مع �ضيق عينيه والتواء فمه بق�سوة‪ ،‬ودون تردد‬ ‫بارتياب‪ ،‬ونظراته َّ‬
‫كان يهرع �إىل اخلارج متوج ًها �إىل املكان الذي �أخربه عن حار�سه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫�إنه فقد رابحة فيه‪ ،‬مل ي�صل عمر �إىل باب املقر‪ ،‬وملح �سائد يهبط من‬
‫متاما‪ ،‬مل يهتم ولأول مرة مل يهتم مبا ي�شعر‬ ‫�سيارته بوجه غري مف�سر ً‬
‫�سائد هذه اللحظة‪� ،‬أن ت�ضحي بروحك النقية التي وجدتها حم�ض �صدفة‬
‫من �أجل �أال تلوثها ثم بب�ساطة هكذا ي�أخذونها منك‪� ،‬أمر يفوق احتماله‬
‫واحتمال �أي ب�شر‪ ،‬مل يكد ي�صل �إىل �سيارته حتت هتاف �سائد ال�صارم‬
‫با�سمه �إال وعاجلته على غفلة منه‪ ،‬لكمة يف منت�صف وجهه رمبا مل ت�س ِّبب‬
‫له ال�ضرر ولكن َمنْ وجهها كان غا�ض ًبا ثائ ًرا ومرتع ًبا‪ ،‬تو َّقف امل�شهد بهم‬
‫على الفور مل يجر�ؤ �أحد على االقرتاب من الفتى �أو التحدث واالعرتا�ض‬
‫على تعديه‪ ،‬بل قطعه مهاجمه بنف�سه ي�ضربه على �صدره بوح�شية وتخبط‪،‬‬
‫وقد بدا فاقدً ا ل�سيطرته ي�صرخ بفجيعته‪« :‬اللعنة َ‬
‫عليك‪� ،‬أنت ال�سبب‪� ،‬أنت‬
‫‪98‬‬
‫َمنْ تخليت عنا‪� ،‬أنا �أخربتها �أال تذهب وهي مل ت�ستمع يل كعادتها‪ ،‬لقد‬
‫ر�أيتهم يخرجون بها من باب خلفي خمدرة يا عمر �أخذوها ومل �أ�ستطع‬
‫فعل �شيء‪».‬‬
‫يوما‪ ،‬احت�ضن‬
‫ثبته عمر بجمود وب�آلية ثم قام ب�آخر �أمر كان يتوقعه ً‬
‫ق�ص ًّيا ب�شدة ودون �أي ت�صريح كان يخربه مبا�شر ًة‪�« :‬س�أجدها‪ ،‬حتى لو‬
‫هدمت كل جحورهم و�أزلتها بيدي حج ًرا حج ًرا �س�أعرث عليها‪».‬‬
‫‪q q q‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ً‬ ‫بهدوء م�سيطر كان �سائد ي�ستجوب ُق َ�ص ًّيا عن كل ما ر�آه‬

‫ري‬
‫تف�صيل منذ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ق�صي عينيه بني عمر الواقف‬ ‫خروج رابحة حتى و�صوله �إىل هنا‪ ،‬قلب‬

‫بل‬
‫ٌّ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫بجمود على باب غرفة اال�سرتاحة �أ�سفل ال�شركة‪ ،‬ثم عاد ل�سائد الذي‬

‫والتوز عي‬
‫طول وقوة ج�سمانية‬ ‫رجل �ضخم اجلثة‪ ،‬يتفوق عن عمر ً‬ ‫يراه لأول مرة ً‬
‫ملحوظة‪ ،‬وجوه خميفة و�صوته �صارم حازم يجربك على ال�سيطرة على‬
‫�صي الرجل ال مياثل عمر الطيب �أبدً ا‪ ،‬ابتلع‬ ‫ذاتك تلقائ ًّيا‪ ،‬مل يجبه ُق ٌّ‬
‫�صي ريقه اجلاف قبل �أن يجيبه على �آخر �أ�سئلته‪:‬‬ ‫ُق ٌّ‬
‫متاما للطريقة؛‬ ‫«كما �أخربتك عندما �صمتت على املو�ضوع‪ ،‬مل �أرحت ً‬
‫متاما؛‬
‫لأين قر�أت حوادث م�شابهة على الإنرتنت تختفي بعدها الفتاة ً‬
‫لذا �أخذت قراري باتباعها‪ ،‬ا�س َت َع ْرتُ العجلة البخارية من �أحد �أبناء‬
‫احلارة وتتبعتها‪ ،‬وعندها حدث الهرج الذي من الوا�ضح �أنه مفتعل‪ ،‬كنت‬
‫جدا فر�أيت ثالثة رجال مت�ضامنني يكتمون �أنفا�س الفتيات‪،‬‬ ‫قري ًبا منها ًّ‬
‫ثم ي�سحبوهنَّ �إىل داخل �أحد حمالت املالب�س التي كانت مكان اللقاء‪،‬‬
‫مهرول �أحاول �أن �أعرف موقعه من اخلارج ومل يت�أخروا كث ًريا �إذا‬‫ً‬ ‫خرجت‬
‫ُف ِت َح �أحد الأبواب اجلرارة وخرجت منها عربة معتمة فاتبعتهم من بعيد‪،‬‬
‫ثم �أتيت �إليه‪».‬‬
‫‪99‬‬
‫�أنهى حديثه وهو ي�شري �إىل عمر‪ ،‬فاقرتب منه �سائد وخبط على كتفه‬
‫وهو يقول‪« :‬خ ًريا فعلت يا بطل‪ ،‬وحدك كنت �ست�صبح جمرد فري�سة‬
‫�أخرى‪ ،‬والآن �سنتحرك جمي ًعا ولكن �سنعتمد عليك لنعرف املكان‪».‬‬
‫تدخل �إبراهيم وهو يخرب �سائد بقوة‪�« :‬سيد �سائد‪ ،‬هذه الأمور ال‬ ‫هنا َّ‬
‫تتم هكذا‪ ،‬يجب �أن نبلغ ال�شرطة‪».‬‬
‫حترك �سائد ناحية بع�ض الأدوات املو�ضوعة على طاولة‪ ،‬فخلع‬
‫بنطال ممز ًقا من اجلينز يعلوه قمي�ص‬ ‫مالب�سه الفخمة برتابة ثم ارتدى ً‬

‫ع‬
‫�أ�سود ال يغلق منه �إال زرين‪ ،‬ثم التقط �سل�سلة حديدية «جنزير» ول َّفها على‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يده ب�شكل �أثار تعجب �إبراهيم وح�سه ال�شرطي‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال �سائد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫نف�سا قو ًّيا‪« :‬يف قانون الغابة‪ ،‬ال �أحكام‬
‫وهو يحرك فمه لأعلى وي�سحب ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫لوحو�شها‪ ،‬لن ننتظر ب�شر ًّيا لي�أتي بحقوقنا‪ ،‬البقاء للمفرت�س الذي يربح‬

‫ع‬
‫وي�سرتجع �أمالكه بيديه‪ ،‬و�إال �سن�صبح جمي ًعا �أ�سرى لدى ب�شري ال ميلك‬
‫رحمة وال ً‬
‫عدل‪».‬‬
‫للحظات متلكت �إبراهيم الده�شة من كلمات �سائد الفا�صلة‪ ،‬حاول‬
‫جمادلته ورف�ض طريقته‪ ،‬ولكنه �صمت عندما راقب عمر يحذو حذوه‬
‫ويتبعه رجاله‪.‬‬
‫ترجل عمر ‪ -‬يتبعه �سائد و�إبراهيم ‪ -‬من �سيارة الدفع الرباعية‬ ‫َّ‬
‫ق�صي عندما تتبع‬‫اخلا�صة‪ ،‬التي جاءوا بها يتبعون الطريق الذي و�صفه ٌّ‬
‫اخلاطفني من بعيد‪ ،‬توقفت ال�سيارة على ُب ْعد‪ ،‬كان الظالم قد خ َّيم على‬
‫حتركهم البطيء املتخفي يتتبعون بع�ضهم يف خط م�ستقيم بانتظام‪،‬‬
‫ا�ستطاع �إبراهيم بنظرة ع�سكرية ب�سيطة �أن يتفح�ص املكان بعني ثاقبة‬
‫عندما قال‪« :‬النقطة اجليدة لنا �أن ذلك املنزل من دور واحد‪ ،‬ن�ستطيع‬
‫ت�سلق جدرانه ب�سهولة‪».‬‬

‫‪100‬‬
‫ق َّيم �سائد ما قاله �إبراهيم وهو ينظر للمنزل ال�صغري و�سط منطقة‬
‫مهجورة على �أطراف العا�صمة‪ ،‬يبدو �أن الع�صابة ال تهتم كث ًريا مبراعاته‪،‬‬
‫بل رمبا هو جمرد مرحلة حتى ُت ْن َق َل ب�ضاعتهم ملكان �أف�ضل‪.‬‬
‫خمططا‪« :‬النقطة اجليدة � ً‬
‫أي�ضا �أنه ال‬ ‫ً‬ ‫هم�س �سائد لرجاله بحزم‬
‫يتواجد كثري من احلر�س‪ ،‬جمرد اثنان من ال�سهل ال�سيطرة عليهم‪ ،‬ولكن‬
‫حتى ن�صل بالداخل يجب �أن نح�سب كل خطوة نخطوها؛ لأننا بالت�أكيد ال‬
‫نعرف ماذا ينتظرنا‪».‬‬

‫ع‬
‫تدخل �إبراهيم‪« :‬م�سموح لنا بالتعامل بالأعرية النارية التي ت�ؤذي وال‬ ‫َّ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تقتل‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫عندها فقط َّ‬

‫ش‬
‫تدخل عمر وهو يقول بوجه �شر�س عنيف‪« :‬لو �أن �أحدهم‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫م�سها بالأذى �س�أمزقه ب�أ�سناين‪ ،‬ولن يتدخل �أحدكم يف الأمر‪».‬‬
‫نظر �إليه �سائد بوجه بارد متباعد غري متعاطف �إطال ًقا‪ ،‬ف�شعر عمر‬
‫بالغ�ضب يعرتيه‪� ،‬أال يكفيه اجلحيم الذي يكاد ي�أكل جز ًءا من روحه‬
‫وهو يتخيل رابحة وحيدة مرتعبة باكية �ضعيفة ب�صحبة جمهويل الهوية‬
‫الذين ت�سببوا بخطفها‪ ،‬فعلى ماذا نظرة اللوم هذه؟ �إنه �أبعدها عنهم‬
‫و�أطلق �سراحها قبل �أن يطولها جحيمهم‪ ،‬ولكنه مل يح�سب ح�سا ًبا للخطر‬
‫احلقيقي والوحو�ش املرتب�صة بها ومبن مثلها‪� ،‬أخرج عمر م�سد�سه‪ ،‬والذي‬
‫عاما‪� ،‬ش َّد �أجزاءه‬ ‫حت�صل عليه بعد �أن عاد �إىل البالد منذ ما يقارب ً‬ ‫َّ‬
‫لق�صي ب�صرامة‬‫ٍّ‬ ‫وت� َّأهب ملعركته‪ ،‬وقبل �أن يوزعوا حتركاتهم كان يلتفت‬
‫«ع ْد �أنت لل�سيارة تخ َّفى خلفها‪ ،‬و�إن‬
‫يخربه بنربة قاطعة مل تقبل اجلدال‪ُ :‬‬
‫حدث �أي مكروه يجب �أن جتد و�سيلة للنجاة والعودة ل�صفية‪».‬‬
‫ق�صي على �أ�سنانه وهو يخربه معاندً ا‪« :‬لن �أترككم‪� ،‬أنت تهدر‬ ‫ٌّ‬ ‫جز‬
‫وقتك‪ ،‬مل �آت �إىل هنا لأراقب غريي ينقذ �أختي‪».‬‬
‫‪101‬‬
‫تدخل �صوت �سائد ً‬
‫قائل ب�إيجاز‪« :‬اتركه ال وقت للجدال‪».‬‬ ‫َّ‬
‫وعندها كانت �إ�شارة البدء‪ ،‬بحركات �سريعة كان ثالثتهم ي�أخذون ك ٌّل‬
‫منهم موقعه‪ ،‬تبع كل فرد منهم رجل من الرجال يق�سمون �أنف�سهم لثالث‬
‫جمموعات كل جمموعة مكونة من اثنان‪ ،‬ببطء كان �سائد يقرتب من‬
‫احلار�س الأول‪ ،‬وبطريقة ع�شوائية متتزج ب�أعلى الطرق القتالية مهارة‬
‫يلف ذلك اجلنزير على يده بطرف‪ ،‬ثم بالطرف الآخر يلقيه على‬ ‫كان ُّ‬
‫بح َرفية كان يعلم جيدً ا �أين ي�ضرب �ضربته املتوح�شة‪ ،‬وخالل‬ ‫الرجل ِ‬

‫ع‬
‫دقيقة واحدة كان الرجل ُم ْل ًقى على الأر�ض غار ًقا يف دمائه‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫�أما �إبراهيم فكان تعامله ِح َريف مدرب بحت بحكم عمله يف القوات‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫اخلا�صة قبل �أن ي�صاب ويرتك اخلدمة الع�سكرية‪ ،‬وهذا ما مل يعرفه‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫�سائد وعمر �أو رمبا يعرفان‪ ،‬وال يتحدث �أحدهم �إال يف الوقت املنا�سب‬
‫كما تع َّود‪ ،‬رغم تركيزه اجللل على �ساحة معركتهم‪ ،‬ولكنه مل ي�ستطع �أن‬
‫يتجنب طريقة الرجلني يف القتال والتي تف�صح بالكثري‪ ،‬وك�أنهم عا�شوا‬
‫ن�صف حياتهم كبلطجية‪ ،‬ثم ط َّورا من مهارتهم القتالية‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫ا�ستفاقت رابحة لتجد نف�سها يف غرفة مطلية بلون رمادي‪� ،‬أو رمبا‬
‫ال توجد الألوان من الأ�سا�س‪ ،‬بل جمرد غرفة قذرة عفنة الرائحة باهتة‬
‫وجل �أخذ يف الت�سارع ب�شكل‬
‫و�أر�ض مت�سخة‪ ،‬فتحت عيناها برعب وقلب ِ‬
‫جمنون‪ ،‬وجدت بجانبها فتاة �أخرى‪ ،‬ولكن لي�ست ممن ر�أتهم يف املول‪،‬‬
‫اقرتبت الفتاة من رابحة تخربها هام�س ًة ب�أنفا�س ثقيلة ونظرات �شاردة‬
‫وجهك يف احلال‪،‬‬
‫ِ‬ ‫متنحها �شي ًئا ما وهي تقول‪�« :‬ش ِّوهي �أي جزء من‬
‫جرحا غائ ًرا‪».‬‬
‫احر�صي �أن يكون ً‬

‫‪102‬‬
‫ابي�ض وجه رابحة وهربت منها الدماء وهي تقول بذعر‪« :‬ماذا‬ ‫َّ‬
‫تقولني؟»‬
‫حت�شرج �صوت الفتاة الهام�سة وهي ت�شري لوجنتها التي تنزف الدماء‬
‫تخربها بتالحق‪« :‬ال ت�س�أيل‪ ،‬لقد وقعنا يف �أيدي جتار الرقيق الأبي�ض‬
‫يتاجرون بنا بعد �أن ُي ْح ِكموا الفخ لإيقاعنا‪ ،‬وت�شويه نف�سك هكذا ُتتلفني‬
‫ب�ضاعتهم‪».‬‬
‫كانت دموع رابحة ُتغرق وجهها وعقلها امل�شو�ش ال ي�ستوعب ما يحدث‬

‫ع‬
‫حولها‪�« :‬إنه جمرد كابو�س‪ ،‬ما حتياه جمرد حلم �سيئ‪ ،‬هلو�سات لي�س‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لها معنى‪ ،‬احت�ضنت نف�سها بذراعيها تهز ج�سدها بالرتافق مع ر�أ�سها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وهي تهم�س بفزع‪« :‬جمرد حلم �ستفيقني الآن‪ ،‬هذا ال ميكن �أن يحدث‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫عنك‪».‬‬
‫م�ستحيل‪� ،‬أنت �آمنة واخلطر بعيد ِ‬
‫�أ�شفقت الفتاة عليها‪ ،‬فقالت بنربة متوجعة منحورة مهانة‪« :‬كنت‬
‫مثلك �أول مرة مل �أ�صدق �إىل �أن مت بيعي‪ ،‬وحظي كان يف �أحد الأثرياء‬ ‫ِ‬
‫مل مني �أعادين �إليهم لي�ستبدلني‬ ‫القذرين ال�شواذ يف هذا البلد‪ ،‬وعندما َّ‬
‫ب�أخرى‪».‬‬
‫�صمتت الفتاة‪ ،‬ثم قالت �أمره ب�سيطرة‪�« :‬أ ًّيا ما كان �سيحدث لنا معهم‬
‫أنت مغت�صبة و ُت ْن َت َهكي‬
‫موت وخ�سارة‪ ،‬ولكن ال �شيء �أبدً ا مياثل �أن متوتني و� ِ‬
‫و ُت َباعي يف �سوق النخا�سة؛ لذا االختيار الآخر هو احلل‪».‬‬
‫كانت رابحة ت�شعر بالفزع اجلزع والرعب حتى حت َّول ج�سدها لكتلة‬
‫جليدية �شديدة الربود عندما قالت برهبة‪�« :‬أي اختيار �آخر؟!»‬
‫اهتزت ع�ضلة واحدة يف فم الفتاة لكنها مل َت ُر َّد‪ ،‬بدت ك�أنها فقدت‬
‫حتى الأحا�سي�س الب�شرية‪� ،‬أ�صبحت جمرد لوحة جميلة خالية الروح‪،‬‬
‫متاما ليدها التي حتفر يف وجهها بالأداة‬ ‫مقتولة النظرات‪ ،‬م�ست�سلمة ً‬
‫‪103‬‬
‫احلادة دون �أن َي ِر َّف لها جفن‪ ،‬انتهت �أنفا�س رابحة حرف ًّيا‪ ،‬ت�ستن�شق‬
‫كاف‪� ،‬أزاحت عينيها‬ ‫الهواء ب�صعوبة ك�أن الغرفة مل يعد بها �أوك�سجني ٍ‬
‫ب�صعوبة عن الفتاة امليتة وهي على قيد احلياة‪ ،‬ليلفت نظرها ج�سدً ا‬
‫�صغ ًريا بف�ستان وردي مبهرج ينكم�ش يف ركن من احلائط‪ ،‬فلم ت�ستطع �أن‬
‫تتبينه يف ظالم الغرفة حينما كانت تتحدث مع الفتاة املحطمة‪ ،‬زحفت‬
‫رابحة على ركبتيها‪ ،‬تقرتب من ال�صغرية دموعها ال تتوقف‪ ،‬ت�ض ُّرعها �إىل‬
‫ً‬
‫مرتع�شا ككل ما فيها‪ ،‬وهي ت�صل للفتاة �أخ ًريا‬ ‫اهلل ال ين�ضب‪ ،‬خرج �صوتها‬
‫ت�ضمها �إىل �صدرها دون تردد وهي تقول‪:‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫َ َ ُّ َ ْ َ َ َ َّ ُ َ ِّ َ َّ َ ُّ ُّ َ َ َ َ‬

‫ل‬
‫الض َوأنت أ ْرح ُم‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫«ب�سم اهلل الرحمن الرحيم ﴿وأيوب إِذ نادى ربه أن مس ِن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ُ ٍّ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ُ َّ َ ُ ْ َ ً ِّ ْ‬ ‫َ ْ َ ََْ َ َ َ َ َْ َ‬

‫ش‬
‫ض َوآتيناهُ أهله َومِثلهم معه ْم َرحة من‬ ‫احِني فاستجبنا لُ فكشفنا ما ب ِ ِه مِن‬ ‫َّ‬

‫ر‬
‫الر ِ‬

‫ت‬ ‫ل‬
‫بخوفووما‬
‫زيزالت‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫عِندِنَا َوذ ِْك َرى ل ِلْ َعابد َ‬

‫ع‬
‫ِين﴾ �صدق اهلل العظيم‪».‬‬ ‫ِ‬
‫�ضمت الفتاة ال�صغرية املرتعبة التي مت�سكت فيها‬
‫رابحة م�ش َّو�شة رغم رهبتها م�صدومة‪ ،‬رغم ا�ستيعابها للفخ الذي وقعت‬
‫فيه‪ ،‬رباه ال ُت ِّملني ما ال طاقة يل به‪ ،‬نظرت للفتاة تتمتم بذهول‪« :‬حتى‬
‫الطفلة‪ ،‬ماذا قد يفعلون بطفلة �إن كانوا جتار �أعرا�ض كما �أخربتها الفتاة‬
‫امل�شبوهة؟!»‬
‫�سمعت رابحة �صوت هرج يدور خلف الباب املو�صد‪ ،‬فرتاجعت خائفة‬
‫تنتظر املحتوم‪.‬‬
‫تغريت خطتهم عندما داروا حول املنزل ليجدوا �شبا ًكا زجاج ًّيا‬
‫منخف�ضا‪ ،‬فتعلق به عمر � ًأول وهو يخرج « ُم ْد َية» من جيبه‪ ،‬فتحها وو�ضعها‬
‫ً‬
‫بني �أ�سنانه‪ ،‬ثم بحركة مكتومة كان يك�سر الزجاج ويفتح النافذة يدفع‬
‫ج�سده � ًأول للداخل‪ ،‬هبط على الأر�ض ً‬
‫جال�سا القرف�صاء‪ ،‬تفح�ص املكان‬
‫‪104‬‬
‫ً‬
‫مطبخا �صغ ًريا وخال ًيا منهم‪ ،‬بحذر‬ ‫� ًأول فعلم �أنه يف منطقه ما ي�شبه‬
‫فتح النافذ على مت�سعها ي�سمح للبقية باتباعه تتبعه بع�ضهم‪ ،‬الفو�ضى‬
‫كانت تعم املكان املمتلئ ب�أكوام طعام و�أثاث قدمي وجها َزي حا�سوب‪،‬‬
‫مفتوحا تركه �صاحبه على ما يبدو للتو‪ ،‬والآخر يجل�س عليه‬
‫ً‬ ‫كان �أحدهما‬
‫رجل ما‪ ،‬التقط عمر على الفور قنينة زجاجية واقرتب من الرجل بتمهل‪،‬‬
‫ثم �ضربه بها على ر�أ�سه �سري ًعا‪ ،‬وو�ضع يده على فم الرجل ليكتمه‪ ،‬يف‬
‫ثوان معدودة كان البقية ينت�شرون يف املكان‪ ،‬وي�شتبكون مبا�شر ًة مع بقية‬
‫ٍ‬
‫�أع�ضاء الع�صابة‪ ،‬كان القتال يدور بتوح�ش‪ ،‬مبد�أهم جمي ًعا واحد (يا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫قاتل يا مقتول)‪ ،‬مرت ربع �ساعة رمبا وكانت الغلبة بالطبع لهم‪ ،‬فعن�صر‬

‫ويعلوكقالت �سائد بانفعال ي�أمر �إبراهيم‪« :‬نحن �سنتحرك‬


‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫املفاج�أة والتحرك ال�سريع �أربك الآخرين‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫من هنا ومعنا رابحة‪ ،‬و�أنت �ستت�صرفنوتبلغ‬


‫مل يحتج �إبراهيم لل�شك الآن؛ �إذ �أجزم �أن �سائدوايعلملتومهنتهز عي‬
‫ب�صدر يهبط‬
‫ال�شرطة بطريقتك‪».‬‬
‫القدمية‪،‬‬
‫حاول �أحد رجال الع�صابة املقاومة مرة �أخرى لي�صل لأحد احلوا�سيب‬
‫كف الرجل‬ ‫ويدمر ذاكرته‪ ،‬ف�إذا ب�إبراهيم يتحرك �سري ًعا ليقب�ض على ِّ‬
‫بعنف قا�صدً ا ك�سرها حتى �سمع طرقعة عظامه‪».‬‬
‫عيناه وقعت �سري ًعا على �شا�شة احلا�سوب الذي �أُ�ضيئت ف�صدمه‬
‫حرف ًّيا املكتوب فيها بلغة �إجنليزية‪� ،‬صفقة ما تخ�ص فتاة �صغرية باال�سم‬
‫وال�صور‪ ،‬ابتلع �إبراهيم ريقه متمت ًما‪« :‬رحمتك يا اهلل‪� ،‬أين �أ�صبحنا نحن؟»‬
‫وق�صي يفتح الغرف املو�صدة بعنف؛‬
‫ُّ‬ ‫مل يلتفت عمر ومل َي ُد ْر‪� ،‬أ�سرع هو‬
‫�أربع غرف‪ ،‬كل غرفة ُت ْفتَح ي�صدمهم وجود فتاتني �أو ثالثة ولكن مل تكن‬
‫بينهنَّ ‪ ،‬و�صل للباب الأخري وفتحه والقلب يتمتم بحرقة‪« :‬عهد على نف�سي‬
‫‪105‬‬
‫نف�سك بغباء‬ ‫اختياراتك موتًا تدفعني ِ‬
‫ِ‬ ‫أتركك مهما حدث‪� ،‬إن كانت كل‬‫لن � ِ‬
‫للهالك‪ ،‬فلن يكون �إال بني ذراعي رابحة‪».‬‬
‫وجدها �أخ ًريا يف ظالم الغرفة‪ ،‬مل يحتج لل�ضوء ليتعرف عليها بل‬
‫روحه التي ُق ِّيدت بها دون �أن يدري متى وكيف مدت ذلك الرابط اخلفي‬
‫بينهم ليجد نف�سه يندفع نحوها دون تفكري‪ ،‬وهو يد�س « ُم ْد َيته و�سالحه‬
‫الناري» يف حزام �سرواله من اخللف‪.‬‬
‫فور �أن ر�أته رابحة تبينته وتعرفت على رائحة عطره‪ ،‬ا�ست�شعرت تلك‬

‫ع‬
‫اللهفة والرعب ومعاناته‪ ،‬دفعت ج�سدها دف ًعا ت�ستقبل ذراعيه التي ُف ِت َحت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لها‪ ،‬ثم �أخ ًريا �أفاقت من �صدمتها و�صوتها املرتعب يعلو ببكاء �صارخ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫تتخل عن ال�صغرية من بني ذراعيها‪،‬‬ ‫و�شهقاتها ت�ش ُّق �أرجاء املكان‪ ،‬مل َّ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫بل كانت حت�شرها بينها وبني عمر الذي مل ي ِع للفتاة التي ت�سكن �صدرها‪،‬‬

‫ع‬
‫بل �أخذ يف �ضمها بحرقة مماثلة‪ ،‬عقله م�ش َّو�ش وتركيزه هرب مع منطق‬
‫تفكريه‪� ،‬أح�س وك�أن قلبه قد تو َّقف عن اخلفقان‪ ،‬وهو يبعدها عنه يتفح�ص‬
‫وجهها‪ ،‬ويداه ت�سرح به َو�س تتفح�ص مالب�سها وتهبط �إىل ركبتيها‪� ،‬س�ألها‬
‫منك؟ هل‬ ‫ب�صوت اختنق بعاطفته الهلعة‪« :‬هل � َآذ ْو ِك؟ هل اقرتب �أحدهم ِ‬
‫تنزفني؟»‬
‫مل ت ُر َّد رابحة‪ ،‬فقط التقت عيناها مع حدقتيه الداكنتني‪ ،‬فتوقف كل‬
‫أنت هنا‪،‬‬ ‫�شيء من حولهم‪ ،‬تخربه ب�صمت من بني دموعها املن�سابة‪ِ �« :‬‬
‫ل�ست جمرد طيف �أو خيال ن�سجه عقلي‪».‬‬ ‫ِ‬
‫اقرتب منها عمر مرة �أخرى ي�ضمها �إىل �صدره برفق وك�أنه يخ�شى �أن‬
‫د�ست رابحة وجهها بني طيات قمي�صه‪ ،‬تئنُّ‬ ‫ي�سبب لها املزيد ِمن الأمل‪َّ ،‬‬
‫ت ِّكم عقلها �أو ت�ضع مبادئها‬ ‫ب�أمل وقد مت َّكن منها اخلوف وال�صدمة‪ ،‬مل ُ َ‬
‫حائل بينهم‪ ،‬فقط �أطلقت مل�شاعرها العنان تعرب عن مقدار احتياجها‬ ‫ً‬

‫‪106‬‬
‫يف تلك اللحظة لذراعني تبثها الأمان‪ ،‬كانت ت�ستن�شق رائحته بعمق هز‬
‫كيانه‪ ،‬تركه يرجتف‪ ،‬بعاطفة فا�ضت من �أعماق قلبه‪ ،‬حتى كادت �أن‬
‫تخنقه‪ ،‬فطاوعي ًة �ض َّمها �أكرث �إليه ك�أنه مل ِ‬
‫يكتف‪.‬‬
‫بينما �سائد ينظر له من خالل الباب املفتوح مبالمح مغلقة وم�شفقة‪،‬‬
‫يعلم �أن �س�ؤال عمر �إن كان �أحد �آذاها يعرب عن مدى ت�شتته؛ �إذ يدرك �أنها‬
‫بالذات ب�ضاعة ‪� -‬أمثال رابحة ‪ُ -‬ت َ‬
‫عامل بحر�ص وت�أنٍّ ‪ ،‬وغري م�سموح �أبدً ا‬
‫بحدوث خد�ش فيها �أو انتهاك ج�سدي‪ ،‬و�إال �ستفقد قيمتها‪».‬‬

‫ع‬
‫يوما‪ ،‬ح َّرك فكه �إىل‬‫يف حركة مل ي�ستطع �أن يتخل�ص �سائد منها ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫نف�سا �سري ًعا وهو يقول‪« :‬حت َّرك يا‬
‫الأعلى مع جتعيد �أنفه قبل �أن ي�أخذ ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫عمر واخ ُر ْج ب�أنثاك من هنا‪ ،‬ال وقت �أمامنا �صديقي‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫متالك عمر نف�سه على �صوت �سائد‪ ،‬رفع ر�أ�سه ينظر �إليه وقد �أدرك‬
‫ما يحاول �سائد توجيهه له‪ ،‬لقد اخرتق �صدره وعلم ب�سره‪ ،‬وعرف ب�ضعفه‬
‫فيها وطوقه حلياة نظيفة معها‪ ،‬مل ي�ستخدم حتى لفظ امر�أتك بل �أنثاه‪،‬‬
‫وت َكم بقوانني‬
‫وك�أنه يخت�صر عليه الطريق وي�شجعه �أن يدخلها دوامتهم‪ْ ُ ،‬‬
‫غابتهم‪.‬‬
‫�صي املكان قطع احلديث ال�صامت بينهم‪ ،‬راقبه عمر‬ ‫عندما اقتحم ُق ٌّ‬
‫يهبط بجانب �أخته ي�ضمها �إليه وينهار يف البكاء مرة �أخرى‪ ،‬ف�أ�صبحت‬
‫�أذن عمر ال تفرق �أيهم رعبه �أكرب‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫كان �سائد ينظر للفتاة التي �ضمها �إبراهيم �إليه بحنان يتعامل معها‬
‫برقة تناق�ض خ�شونة و�ضخامة �إبراهيم‪ ،‬لقد خل�صوها من بني ذراعي‬
‫متاما تركها‪ ،‬معلنة �أنها لن تتحرك �إال‬
‫رابحة ب�صعوبة‪ ،‬وهي ترف�ض ً‬
‫ب�صحبتها‪� ،‬أمعن �سائد يف الفتاة‪ ،‬و�أدرك جيدً ا �أنها نف�س الفتاة التي‬
‫ُ‬
‫‪107‬‬
‫ُف ِق َدت �أمام املطعم‪ ،‬عندما ر�أى هو و�إبراهيم املكتوب على احلا�سب‪،‬‬
‫�أجفل �إبراهيم لكن هو للحقيقة مل يرث الأمر ا�ستعجابه؛ �إذ يعلم جيدً ا‬
‫�أن بع�ض رواد مواقع التوا�صل االجتماعية‪ ،‬يقدمون يوم ًّيا معلومات‬
‫و�صو ًرا لذويهم‪ ،‬ك�أنهم يخربون اخلاطف �أو مر�ضى النفو�س؛ �أنا هنا‬
‫هذه معلوماتي وحتركاتي‪� ،‬صور �أطفايل ها هي‪� ،‬أرجوك ح ِّرك غرائزك‬
‫وخطط خلطفهم �أنا يف انتظارك!‬ ‫القذرة ال�شاذة‪ِّ ،‬‬
‫حترك �سائد يلحق ُعمر و ُق�ص ًّيا �سري ًعا وهو يقول بحزم‪�« :‬س�أخرج‬

‫ع‬
‫من هنا‪ ،‬و�أنت تعامل مع ال�شرطة‪ ،‬و� ْأخ ِ ْبهم احلجة التي تناق�شنا فيها‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�إبراهيم ال �أريد �أن ُيزَ َّج ا�سم � ٍّأي منا يف الأمر‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�صمت لربهة وهو يحرك رقبته لليمني والي�سار ثم �أردف‪« :‬الفتاة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ت�سمى «�سلمى»‪� ،‬أعتقد �أن املعلومات يف احلا�سب كفيلة ان ت�صل لأمها‬

‫ع‬
‫�سري ًعا‪».‬‬
‫نف�سا عمي ًقا وجتنب ملحوظة �سائد عن �سلمى وهو ينظر‬ ‫�أخذ �إبراهيم ً‬
‫للرجال املقيدين ويثبتهم بقية رجال �سائد‪ ،‬وهو يقول‪« :‬ال تقلق‪ ،‬وال�شيء‬
‫اجليد �أن بقية الفتيات مل يرون �أحدً ا منكم‪ ،‬يتبقى تلك الفتاة امل�شوهة‪،‬‬
‫وال �أعتقد �أنها يف حالة ت�سمح لها باحلديث‪� ،‬أما ه�ؤالء املرتزقة القذرين‬
‫ال �أظن �أنهم �سيتفوهون بكلمة من الأ�سا�س‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫بعد يومني دخل عمر غرفة رابحة حتت ابت�سامة �صافية باهتة‪� ،‬سحب‬
‫�أحد املقاعد اخل�شبية بلون بني قدمي‪ ،‬وجل�س �أمام فرا�شها ف�أزاحت وجهها‬
‫زعجك �س�أن�سحب فو ًرا‪».‬‬
‫ِ‬ ‫بعيدً ا عنه‪ ،‬فقال عمر مبا�شرة‪�« :‬إن كان وجودي ُي‬
‫«ل �أتى؟ ِ َل‬
‫�أغلقت جفنيها بينما �صوت قلبها يهم�س بنزيف عقلها‪َ ِ :‬‬
‫�أنقذها حتى؟»‬
‫‪108‬‬
‫لقد هد�أت الآن وعادت لتذكر كل حلظة جارحة تعر�ضت لها معه‪ ،‬رباه‬
‫ق�صي يف ال�سابق‪.‬‬
‫مل �أعد �أريد �شفقته‪ ،‬وال حتى �شهامته التي تعامل بها مع ٍّ‬
‫ت�سللت الدموع من بني عينيها لتجده يهم�س بخ�شونة‪« :‬ال تبكي‪ ،‬مل � ِآت‬
‫لك املزيد من الأمل‪».‬‬‫لأ�س ِّبب ِ‬
‫هم�ست بتح�شرج‪ً �« :‬إذا ملاذا �أتيت؟ ملعاقبتي على اندفاعي؟»‬
‫ه َّز ر�أ�سه بالنفي وهو يخربها‪« :‬وال هذا � ً‬
‫أي�ضا»‪.‬‬
‫منك على �آخر مرة بيننا‪،‬‬ ‫قليل وهو يخربها‪« :‬جئتُ لأعتذر ِ‬ ‫رق ً‬ ‫�صوته َّ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫أخربك �أننا لو كنا يف زمن غري الزمن ومكان غري املكان؛ لدفعت عمري‬ ‫ول ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ً‬

‫بل‬
‫م�ستقبل نظي ًفا‪� ،‬أجنب ِ‬
‫منك‬ ‫كله مقابل �أن حتملي ا�سمي‪ ،‬وتبني معي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫� ً‬
‫أطفال‪ ،‬ونن�شئ �أ�سرة م�ستقلة ولكن ‪»...‬‬

‫والتوز عي‬
‫منحك‬
‫�صمت ليعود يبتلع ريقه وهو يقول بخ�شونة‪« :‬ولكنني لن �أ�ستطيع ِ‬
‫ا�س ًما ال �أملكه من الأ�سا�س‪ ،‬حتى �أوراق جن�سيتي الأجنبية ال حتمل الأ�صل‬
‫منك‬‫أتزوجك و�آخذ ِ‬‫ِ‬ ‫بك‪� ،‬‬ ‫امل�شرف‪ ،‬و�إن جتنبنا هذا لن �أ�ستطيع املجازفة ِ‬
‫أتركك �أرملة مطاردة‪ ،‬تدفعني ثمن ما �س�أفعله‪».‬‬ ‫ما �أحتاجه‪ ،‬ثم يف النهاية � ِ‬
‫حتولت دموعها �إىل �شهقات كتمتها ب�صدرها وهي تخربه‪« :‬توقف‪ ،‬ت ًّبا‬
‫لك يا عمر‪ ،‬بعد كل ما �صار ما زلت ت�ضع حواجز وهمية‪� ،‬أ ًّيا كان ما‬
‫�ستفعله �أنا �س�أمنعك و�س�أنت�شلك من �ضياعك واجلحيم الذي حتاول �أن‬
‫ُتلقي نف�سك به حتى و�أنا ال �أعرفه‪� ،‬س�أمنحك �سب ًبا يا عمر للتم�سك بي‬
‫وباحلياة‪».‬‬
‫نف�سك‬
‫زج ِ‬ ‫منك‪ ،‬ت�صرين على ِّ‬ ‫ابت�سم عمر �أمامها وهو يقول‪« :‬ال فائدة ِ‬
‫فيما ال تطيقني وتعدينني مبا لن ت�ستطيعي فعله‪».‬‬
‫قالت بت�صميم‪�« :‬سيكون يل �شرف التجربة على الأقل‪».‬‬
‫‪109‬‬
‫مال بج�سده يحا�صر بنظراته عيناها ووجهها يلتهم مالحمها هذه‬
‫املرة ب�شغف‪ ،‬ي�سمح لنف�سه �أن يح�صل على �أمنية وحيدة لأول مرة يف‬
‫حياته‪ ،‬يتخلى عن حذره وحر�صه‪� ،‬إن كانت معر�ضة للخطر على �أي حال‬
‫وتدفع نف�سها بغباء نحو املخاطر‪ ،‬فليكن معه على الأقل �سي� ِّؤمنها جيدً ا‪،‬‬
‫ثم �إن غادرها ورحل �سيرتك لها ما يكفيها لتعي�ش حياة رغدة �آمنة من‬
‫بعده‪ ،‬قطع ال�صمت �أخ ًريا وهو يقول‪:‬‬
‫«لطاملا متنيت �أن ترتدي يل �إحداهنَّ اللون الأبي�ض‪ ،‬لون الوهم‪ ،‬لون‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مثلك‪ ،‬ورغم معرفتي ب�أنه لون كاذب‬ ‫الوعد‪ ،‬لون الأماين الوردية احلاملة ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫يخفي حتته احلقائق املُ َّرة وظلمات قلوب الب�شر وق�سوة احلياة ال�سوداوية‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�إال �أين مثل الكثريين �أريده وب�شدة حتى ولو للحظات قليلة م�سروقة من‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫الزمن‪».‬‬

‫ع‬ ‫زي‬ ‫‪q‬‬ ‫‪q q‬‬


‫ليل كانت دجوى يكاد قلبها يتوقف من فرط االنفعال‪ ،‬فبعد يوم‬ ‫ً‬
‫�شاق تكمل فيه ما يلزمها وحدها‪ ،‬انتهى بها احلال هنا يف �شقة �سائد‬
‫ترتدي ف�ستان العر�س الأبي�ض الذي �ص َّممت على �شرائه‪ ،‬رغم �أنه �أبدى‬
‫اعرتا�ضه ولكنه مل يجادلها‪ ،‬بالنهاية هي مثل �أي فتاة‪ ،‬ولطاملا حلمت �أن‬
‫تُزَ َّف بالأبي�ض‪ ،‬كانت تنظر لوجوه الرجال الذين ح�ضروا لكتب الكتاب مع‬
‫«امل�أذون» بح�سرة‪ ،‬مل يقف �أحد بجانبها‪ ،‬الغريب �أن �سائد طلب منها �أن ال‬
‫داعي لدعوة �أحد �إال �أنه يعلم بالفعل �أن اجلميع تخلى عنها منذ �سنوات‪.‬‬
‫رفعت ر�أ�سها نحو باب الغرفة‪ ،‬ف�صدمتها نظرات عمر الراف�ضة‪ ،‬هل‬
‫يعرت�ض على زواج �صديقه منها‪ ،‬لقد علمت �أن عمر رف�ض �أن يكون �شاهدً ا‬
‫على عقد الزواج واكتفى بوقوفه هكذا حمد ًقا فيها برف�ض‪ ،‬ونظرة �أخرى‬
‫‪110‬‬
‫ال تفهمها‪ ،‬لعنت ب�سخط داخلي‪َ ِ ،‬ل بحق اهلل عقلها يتوقف ً‬
‫متاما عن‬
‫ا�ستيعاب غمو�ض هذان الرجالن؟!‬
‫هم�ست‪« :‬ال ُي ِه ُّم»‪.‬‬
‫�أحالمها الوردية وقلبها الذي ع�شق هذا الرجل اجلذاب الذي يبت�سم‬
‫وجهها بانت�صار �أرجعته لزواجهم �أخ ًريا‪ ،‬ال هي ال تخاف من �سائد �أو‬
‫تخ�شاه‪ ،‬لقد وجدت �أخ ًريا �سد حماية ورمبا الح ًقا ت�ستطيع �أن ُتف�ضي له‬
‫ب�س ِّرها املرعب‪ ،‬والتهديد الذي يالحقها مطال ًبا بقتلها‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪q q q‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫بحرية تلفتت حولها بطيات ف�ستانها الكثرية‪ ،‬فمنذ انتهاء كتب الكتاب‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫الذي مت يف �أ�ضيق احلدود وان�صراف رجال �سائد مع امل�أذون الذي عقد‬
‫القران‪ ،‬وعري�سها يبدو غريب الأطوار‪ ،‬لقد دخل �إىل حجرة جانبية ومل‬
‫يخرج منها حتى اللحظة‪ ،‬تنهدت ب�ضيق وهي تتقدم بحر�ص لتجل�س على‬
‫�إحدى الأرائك‪ ،‬وعقلها مرغ ًما �شارد يف ت�صميم �سائد على �أن يتم الزفاف‬
‫على وجه ال�سرعة‪ ،‬ابت�سمت رغ ًما عنها مبرارة وهي تتذكر عدم وقوف �أي‬
‫�صديقة بجانبها‪ ،‬فتاة مثلها تبث فيها كلمات الدعم‪ ،‬معرتفة لنف�سها �أنها‬
‫وافقت على طلب �سائد بعدم دعوة �أحد؛ لأنها تعلم جيدً ا �أنها ال متلك‬
‫متاما‪ ،‬تكورت على الأريكة ب�صعوبة‬‫�أحدً ا ت�ستطيع دعوته لزفافها مثله هو ً‬
‫تكافح مع ف�ستان الزفاف لت�ستطيع �أن ت�صل لقدميها وتتخل�ص من ذلك‬
‫احلذاء الذي ت�شعر �أنه نار تك ِّبلها‪� ،‬أغم�ضت عيناها وتراجعت �إىل م�سند‬
‫ومت�سد قدميها بهدوء بعد �أن تخل�صت منه‪.‬‬‫الأريكة تت�أوه بخفوت ِّ‬
‫�شهقت بده�شة عندما �شعرت بيد رجولية �ضخمة تزيح يديها ويقوم‬
‫داع لهذا‪،‬‬
‫بتدليكها بنف�سه‪ ،‬اعتدلت تنظر له بتوتر وهي تخربه هام�سة‪« :‬ال ٍ‬
‫�أنا فقط كنت �أ�شعر ببع�ض الأمل‪».‬‬
‫‪111‬‬
‫كان يجل�س على عقبيه �أمامها فرفع وجهه ونظر لها ً‬
‫قائل بنربة‬
‫أريدك‬
‫م�ساعدتك على �إزالته‪ِ � ،‬‬
‫ِ‬ ‫رخيمة جادة‪�« :‬أعرف هذا‪ ،‬و�أنا �أحاول‬
‫متاما‪».‬‬
‫م�سرتخية ً‬
‫�ساد ال�صمت امل�شحون بينهم لدقائق وهو م�ستمر فيما يفعله باحرتافية‬
‫ومل يب ُد عليه �أي نوع من الت�أثر حتى ويده تتجول �إىل �أن و�صلت �أ�سفل‬
‫ركبتها بقليل‪ ،‬عك�سها هي التي كانت تغرق يف اخلجل والتوتر والرتقب‪.‬‬
‫يعجبك املنزل‪ ،‬لقد بذلت‬
‫ِ‬ ‫قطع ال�صمت �أخ ًريا وقال بهدوء‪�« :‬أرجو �أن‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ر�ضاك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫جهدً ا يف جتديده لينال‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫هم�ست ب�صوت م�ضطرب دون �أن تفتح جفنيها املغلقني‪�« :‬إنه جميل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫جدا منذ البداية‪».‬‬‫ًّ‬

‫ع‬
‫فتحت عينيها �أخ ًريا تراقبه عندما �أفرج عن قدميها �أخ ًريا‪ ،‬وقف‬
‫ببطء وعينيه الغام�ضتني تت�أملها بدقة‪ ،‬ابتلعت ريقها اجلاف عندما ابتعد‬
‫عنها خطوات ليخلع �سرتته وربطة عنقه ويفك �أزرار قمي�صه العلوية‬
‫ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫«�أعتقد من الأف�ضل �أن تتحرري من هذا الف�ستان‪ ،‬فربغم جماله‬
‫يزعجك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫عليك لكنه بالت�أكيد‬
‫ِ‬
‫خجل‪ ،‬ومررت يدها فوق ت�سريحة �شعرها الأنيقة‬ ‫احم َّرت وجنتاها ً‬
‫وقالت ب�صوت خمتنق‪« :‬ال �أعرف‪ ،‬رمبا �أنا �أحتاج ً‬
‫فعل للتحرر منه‪».‬‬
‫مل تتبدل نظراته وهو يقول ب�صوت حاول �أن ي�سيطر عليه ليخرج به‬
‫بع�ض الرقة‪« :‬ت�ستطيعني �أن تدخلي لغرفة النوم‪� ،‬ستجدين هناك بع�ض‬
‫املالب�س املريحة‪».‬‬

‫‪112‬‬
‫اقرتب منها بحزم ي�ساعدها على الوقوف وهو يتابع‪« :‬هيا دجوى بدِّ يل‬
‫مالب�سك‪ ،‬و�أنا �س�أح�ضر م�شرو ًبا ً‬
‫منع�شا لي�ساعد كلينا على اال�سرتخاء من‬
‫�إرهاق اليوم‪».‬‬
‫مل جتادله‪ ،‬وحاولت �أن تتخل�ص من املوقف �سري ًعا وتوجهت �إىل الغرفة‬
‫التي �أ�شار �إليها‪.‬‬
‫بينما عيناه ال�سوداوين انقلبت يف حلظة لتتبدل نظراته بربيق خميف‪،‬‬
‫وتتقب�ض يداه بعنف وهو يع�صرهما ك�أنه يحاول تروي�ض �شيء وح�شي حتى‬

‫ع‬
‫ي�صل �إىل ما يريد‪.‬‬

‫ك�تأمل نف�سها بنوع من اخلوف واخلجل‪� ،‬سمعت‬


‫‪q q q‬‬
‫ا‬
‫املرل�آة تت‬ ‫ري‬ ‫ص‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫و‬
‫وقفت �أمام‬

‫زي‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ع َمنْ‬
‫و�صوت �سائد ي�س�ألها‪« :‬هل �أنت بخري‬ ‫الباب‬ ‫دجوى �صوت َط ْر ٍق خفيف على‬
‫أخرت ً‬
‫قليل يف الداخل‪».‬‬ ‫دجوى‪ ،‬لقد ت� ِ‬
‫نف�سا عمي ًقا حتاول �أن تهد�أ مذ ِّك َر ًة نف�سها بت�أكيد �أن‬
‫�أخذت ً‬
‫باخلارج �سائد الذي �أنقذها من م�ؤامرة كادت �أن تزهق روحها دون �سابق‬
‫م�شجعة‬
‫معرفة بينهما‪ ،‬وعر�ض عليها الزواج بعدها ب�أيام قليلة‪ ،‬هم�ست ِّ‬
‫نف�سها‪:‬‬
‫ؤذيك حتى و�إن بدت‬
‫يخيفك؟ �سائد لن ي� ِ‬
‫ِ‬ ‫زوجك‪ ،‬ما الذي‬
‫«اهدئي �إنه ِ‬
‫ت�صرفاته مريبة يف بع�ض الأحيان‪».‬‬
‫ردت �أخ ًريا ب�صوت خافت‪�« :‬أنا بخري �س�أخرج ً‬
‫حال»‪.‬‬
‫نف�سا عمي ًقا‪ ،‬ثم‬
‫اعتدلت ونظرت للمر�آه مرة �أخرية قبل �أن ت�أخذ ً‬
‫وخ َط ْت خلارج الغرفة‪ ،‬هربت عيناها �سري ًعا عندما ر�أت‬
‫فتحت الباب َ‬
‫�سائد يجل�س �أمام طاولة �صغرية يتناول فنجان قهوة �صغري عاري اجلذع‪،‬‬
‫‪113‬‬
‫وتلك العالمات واجلروح على ج�سده مل تزده �إال جاذبية فجة لعينيها‪،‬‬
‫لقد ُ�ش ِف َيت جراحه ب�شكل عجيب‪ ،‬وبعد اال�ضطراب الذي �ساد ال�شركة‬
‫وقتها‪ ،‬عاد كل �شيء كما كان‪ ،‬عندما عاد �سائد بعد يوم واحد ليمار�س‬
‫حياته بطبيعية‪.‬‬
‫رفع ر�أ�سه �أخ ًريا ونظر لها بت�أمل‪ ،‬م�شاعر عنيفة مبهمة ال تخلو من‬
‫الإثارة والرغبة‪ ،‬و�شيء �آخر مل ت�ستطع حتديده‪ ،‬ف�أطرقت بر�أ�سها ورفعت‬
‫ذراعيها و�ضمت نف�سها اتقا ًء لنظراته‪.‬‬
‫وقف �سري ًعا وحمل فنجانه بيده يرت�شف منه وعينيه تراقبها من على‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫طرفه‪ ،‬وبيده الأخرى قدم لها كوب الع�صري‪ ،‬وقال برتابة‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫«تناويل الع�صري حتى حت�صلي على بع�ض اال�سرتخاء‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها وتناولت منه الكوب بهدوء‪ ،‬احت�ست الع�صري اللذيذ‬

‫ع‬
‫جدا ومرطب � ً‬
‫أي�ضا �أ�شعر‬ ‫فخرج �صوت تل ُّذذ منها طواعية و�أخربته‪« :‬لذيذ ًّ‬
‫بربودته تت�سلل �إ َّ‬
‫يل‪».‬‬
‫مل تكمل جملتها‪ ،‬م َّد يده و�سحب منها الكوب وو�ضعه مع الفنجان على‬
‫الطاولة‪ ،‬ثم عاد �إليها و�أخربها ب�صوت خرج داف ًئا‪« :‬جيد‪ ،‬لقد و�صلت‬
‫لهديف �سري ًعا‪».‬‬
‫امتدت يده وو�ضعها على كتفيها فارتع�شت بتوتر خو ًفا وترق ًبا‪ ،‬قال‬
‫ألتهمك‪».‬‬
‫بخفوت‪« :‬اهدئي‪� ،‬أنا لن � ِ‬
‫ابت�سمت و�أخربته‪�« :‬أعرف هذا ولكن املوقف كله غريب‪ ،‬وبرغم‬
‫اتفاقنا على موعد الزواج منذ فرتة مل �أفكر يف الأمر هكذا‪».‬‬
‫التوى فكه ب�شبه ابت�سامة �ساخرة مل ترها من قبل‪ ،‬فقال بهدوء‬
‫م�سيطر‪�« :‬أعرف هذا‪ ،‬ولي�س من املفرت�ض �أن تفكري فيه بل ترتكني‬
‫نف�سك يل كي يتم الأمر بعفوية دون �أي ترقب‪».‬‬ ‫ِ‬
‫‪114‬‬
‫وقف خلف ظهرها وم َّد يديه يدلك عنقها بحركات ناعمة ثم انتقل‬
‫لكتفيها‪ ،‬ف�أغم�ضت عينيها تطلق �أني ًنا زافر ًة بارتياح‪ ،‬وبعدها توترت‬
‫و�شهقت بذعر منف�صلة عنه عندما قب�ض على مرفقها و�أدارها �إليه‬
‫و�أل�صقها ب�صدره‪ ،‬ارتبكت �أكرث واهتزت حدقتاها بخجل‪ ،‬فقال برقة‪« :‬ال‬
‫مل�شاعرك العنان‪� ،‬أنت حتبيني �صحيح‪».‬‬
‫ِ‬ ‫تخايف‪ ،‬واتركي‬
‫ابتلعت ريقها وهي تومئ با�ضطراب‪ ،‬فاقرتب منها وهو ينظر لها بثمالة‬
‫يلتهم مالحمها الرقيقة الناعمة‪ ،‬ف�أخربها بنربة خرجت متح�شرجة‪« :‬ال‬
‫م�شاعرك حتركت وحدها لتجاريني فيما‬ ‫ِ‬ ‫�أريد �أن �أ�سمعها و�ستجدين‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫أنك �أنثاي وزوجتي و‪»...‬‬
‫�أريد‪ ،‬وتذكري � ِ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫قطع جملته وك�أنه غري قادر على البوح باملزيد‪� ،‬أن يخ�صها بلقب �آخر‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ال ت�ستحقه �إال حبيبته احلقيقة‪ ،‬ولكنها مل تكن يف حالة تالحظ تغيري‬
‫مالحمه‪ ،‬لقد �أ�سكرتها كلماته‪ ،‬مل تكن الغريزة ما تقودها نحوه‪ ،‬بل كانت‬
‫وذراعي‬
‫َ‬ ‫حتتاج �أن ت�شعر �أنها حمبوبه مرغوبة‪ ،‬ح�صلت �أخ ًريا على �سند‬
‫�أمان ُتعينها على ُّ‬
‫توح�ش احلياة‪ ،‬فحملها فج�أة واجته �إىل الفرا�ش لي�ضعها‬
‫عليه‪ ،‬ان�ضم �إليها وغمرها كلها بني ذراعيه‪ ،‬لهثت قائلة بارتباك‪�« :‬سائد‪،‬‬
‫انتظر �أرجوك‪».‬‬
‫غمغم بكلمات غري مفهومة وعاد ليكت�سحها بجنون‪ ،‬و�أجربها �أن‬
‫تن�ساق وراء ما يريد غري �سامح لها حتى ب�أن تتنف�س بني ذراعيه‪.‬‬
‫قليل وامتدت يدها حتاول التخل�ص منه‪ ،‬فرفع �سائد‬ ‫انتابها الذعر ً‬
‫ر�أ�سه وملح ذعرها الوا�ضح فانتبه للحظة هل يتمم الأمر كما خطط له‬
‫منذ البداية بعنف وق�سوة؟ لكنه عاد و�سيطر على نف�سه �سري ًعا وتذكر �أن‬
‫الأمر بالر�ضا والقبول تكون ن�شوة انت�صاره �أقوى‪ ،‬ف�أحكم قب�ضته عليها‬
‫وقال ب�صوت �أج�ش به حنان العامل‪« :‬اهدئي دجوى»‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫ا�ستمرت تتخبط للحظات ولكنه مل ي�سمح لها باالبتعاد وقد ح�صل‬
‫عليها �أخ ًريا‪ ،‬مرر �أنامله عرب خ�صالت �شعرها امل�سرتيح على و�سادته‪،‬‬
‫وكرر بنربة �أ�شد رقة وحنا ًنا يطمئنها بكلمات حانية‪ ،‬فلم ت�ستطع �إال �أن‬
‫تن�صاع �إليه وج�سدها كله ي�سرتخي بني ذراعيه‪ ،‬نظرت لوجهه املحبب‬
‫لقلبها وتذكرت �أنها حتب هذا الرجل‪ ،‬و�أنها ممتنة لظهوره �أخ ًريا بحياتها‬
‫حتى و�إن كان مفاج ًئا وعا�ص ًفا‪ ،‬وليتها مل تفعل‪.‬‬
‫منذ وقت كانت تنكم�ش على طرف ال�سرير تبكي بحرقة مل تفهم‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أ�سبابها �أو رمبا �أنها فهمت‪ ،‬رمبا هذه �أول جتربة لها ح ًّقا‪ ،‬ولكنها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ا�ستطاعت �أن تتبني �أن ما مر بكليهما مل يكن �أبدً ا عالقة طبيعية حلبيبني‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بل فور �أن �سلمت له كاملة‪ ،‬انطلق من عينيه ال�سوداوين وج�سده �شي ٌء قامت‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫مظلم وطاقة كره عنيفة مل تعرف �أ�سبابها‪ ،‬كل جزء من ج�سدها كان يئنُّ ‪،‬‬

‫ع‬
‫لقد �شعرت �أنها تتعامل مع حيوان مفرت�س وك�أنها يف �صراع غابة غري‬
‫متكافئ الأطراف مطل ًقا‪ ،‬زاد بكا�ؤها وهى ت�سمع �صوت �أنفا�سه العنيفة‬
‫تهد�أ ببطء‪ ،‬التف ليقف ناحيتها من الفرا�ش‪ ،‬فتح درج الطاولة ال�صغرية‬
‫اجلانبية و�أخرج حزمة من املال و�ألقاها عليها‪ ،‬وقال ب�صوت غريب‪:‬‬
‫لطهارتك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫«كانت ليلة ا�ستحقت ما �ستح�صلني عليه ثم ًنا‬
‫توقفت �أنفا�سها داخل �صدرها و�شهقت برعب‪ ،‬نظرت له بعينني‬
‫متو�سعتني بنوع من الذعر‪ ،‬وه َّبت من جل�ستها متجنب ًة الأمل الذي ت�شعر‬
‫به يك�سر عظامها‪� ،‬س�ألته بجزع‪« :‬ما الذي تقوله؟ هل ُج ِن ْن َت؟» مل ير َّد وهو‬
‫ينظر لها بازدراء‪.‬‬
‫فهزت ر�أ�سها برف�ض‪ ،‬بخاطر مر يف عقلها فج�أة وبنربة متقطعة‬
‫قالت‪« :‬هل �أنت مري�ض يا �سائد بطريق ٍة ما؟»‬

‫‪116‬‬
‫اقرتب منها �سري ًعا ومال �إليها و�أم�سك مرفقيها يهزها بعنف وقال‬
‫متاما‪،‬‬
‫إياك حتى �أن حتاويل اتهامي‪ ،‬بل �أنا �سليم ً‬ ‫ب�صوت قامت‪« :‬اخر�سي‪ِ � ،‬‬
‫منك‪».‬‬
‫أنت من ال ت�ستحق �إال ثمن ما ح�صلت عليه ِ‬ ‫ولكن � ِ‬
‫هزت ر�أ�سها بحرية عظيمة تبكي بعنف و�أخربته من بني �شهقاتها‬
‫امللتاعة‪ً �« :‬إذا �أنت ُج ِن ْن َت ف�أنا زوجتك‪ ،‬ما الذي تقوله؟!»‬
‫تركها من بني يديه و�ضحكاته تتعاىل �صاخب ًة وك�أنها �ألقت عليه ُطرفة‬
‫أنت‪،‬‬
‫ما قبل �أن يقطعها �أخ ًريا ليخربها بنربة حمتقرة‪« :‬هذا ما تظنيه � ِ‬

‫ع‬
‫ل�ست زوجة يل‪».‬‬
‫أنت ِ‬ ‫إيهامك به‪ِ � ،‬‬
‫وق�صدت �أنا � ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫َف َغ َرت فاها بذهول‪ ،‬هل يعاين من مر�ض نف�سي ما؟ متتمت ت�س�أله‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫«هل ن�سيت �أنك تزوجتني منذ �ساعات هنا يف هذا املنزل؟»‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫حترك من �أمامها وك�أنها �شيء ال ي�ستحق االهتمام وقال بربود‪« :‬مل‬
‫يحدث هذا بالطبع‪ ،‬لقد كان امل�أذون �أحد رجايل ال �أكرث‪ ،‬ولكن �أ�شهد �أنه‬
‫عليك الدور برباعة‪».‬‬ ‫ر�سم ِ‬
‫التفت �إليها من وراء ر�أ�سه و�أخربها م�ستمت ًعا‪« :‬رمبا يجب �أن �أكافئه‪،‬‬
‫وراءك‪».‬‬
‫جدا وت�ستحق التعب وال�سعي ِ‬ ‫كنت وجبة لذيذة ًّ‬ ‫أنت ِ‬‫ف� ِ‬
‫زاد بكا�ؤها حدة و�أخربته راف�ض ًة الت�صديق‪« :‬هل هذه طرفة؟!‬
‫م�ستحيل �أن تفعل هذا‪ ،‬لي�ست هذه �أخالق الرجل الذي �أحببت‪».‬‬
‫اندفع عائدً ا �إليها و�أم�سك ذقنها بحدة عنيفة رفعها �إليه وقال بغ�ضب‬
‫علي من‬‫أهلك عن الأخالق لتحكمي َّ‬ ‫أنت �أو � ِ‬
‫�صارخ‪« :‬ما الذي تعرفيه � ِ‬
‫ي�صدمك �أن تعلمني �أن تلك الهالة الرباقة‬
‫ِ‬ ‫جمرد معرفه عابرة‪ ،‬هل‬
‫مبدعني ال�شرف واملثالية‪ ،‬ما هي �إال واجهة يخبئون خلفها �أعمالهم‬
‫القذرة و�أخالقهم الو�ضيعة احلقرية؟»‬

‫‪117‬‬
‫حت�شرج �صوتها وهي تخربه رغم الأمل العظيم الذي ي�سببه �إم�ساكه‬
‫العنيف بها‪« :‬ما الذي فعلته لك؟ هل �آذيتك يف �شيء لتفعل بي هذا؟»‬
‫ا�شتدت مالحمه �سوادًا و�أطلق لعينيه حرية التعبري لينطلق منها‬
‫أجعلك ُت�سلمني‬
‫بريق قامت خميف مرعب قبل �أن يقول‪« :‬لقد حر�صت �أن � ِ‬
‫أجعلك تغو�صني يف طريق العهر بامتياز‪ ،‬عهر تعلمني‬ ‫را�ضية‪ ،‬قا�صد �أن � ِ‬
‫مينحك ثمن تلك ال�ساعات‬ ‫ِ‬ ‫نف�سك لرجل‬
‫ِ‬ ‫أنت ت�سلمي‬ ‫أنك حملتيه الآن و� ِ‬ ‫� ِ‬
‫معك‪».‬‬
‫املحمومة التي ق�ضاها ِ‬

‫ع‬
‫�صرخت وهي تتخبط بني يديه حتاول �أن تبعده عنها‪ ،‬فعاجلها وهو‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫متاما وهو يت�سبب يف اغت�صاب‬ ‫والدك ً‬
‫ِ‬ ‫يقول بحرقة جمنونة‪« :‬كما فعل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫زوجتي رغ ًما عنها‪ ،‬ثم ي�ش ِّرحون ج�سدها ويخرجون طفلي من �أح�شائها‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ليتم بيعهم قطع غيار ب�شرية‪».‬‬

‫ع‬
‫ال�صدمة �أخر�ستها وجعلتها فاقد ًة للنطق‪ ،‬للحركة فقط عينني‬
‫متو�سعتني مذعورتني كانت حتدِّ ق به مرجتفة �شاحبة الوجه حتى ُخ ِّيل له‬
‫�أنها �أ�صبحت يف �أعداد الأموات‪« :‬الرحمة يا اهلل‪ ،‬هل �أح ُد خطايا والدها‬
‫تتج�سد �أمامها مطا ِل َب ًة باالنتقام الذي لن يدفع ثمنه �إال هي؟»‬
‫‪q q q‬‬
‫بعد عدة �ساعات ا�ستطاع �أخ ًريا �أن يتخل�ص من ال�ضجيج واالحتفال‬
‫الب�سيط الذي �أُقيم يف احلارة ال�شعبية‪ ،‬ب�سيط هل يكذب على نف�سه؟ لقد‬
‫متاما‬
‫يوما‪ ،‬تلك الوجوه امل�شابهة ً‬‫يوما �أكرث مما حلم ً‬
‫كان فوق ما متنى ً‬
‫للنا�س التي كانت ت�شمئز من وجوده وترتعب من وجهه املعفر ومالب�سه‬
‫املمزقة وج�سده الهزيل‪ ،‬وبدل �أن تعطف عليه لتمحنه القليل من التفهم‪،‬‬
‫القليل من االهتمام حتى لو كان جماملة‪ ،‬الآن يبجلونه ويحرتمونه‪ ،‬بل‬
‫ورمبا البع�ض منهم يح�سد عرو�سه على رجل الأعمال الغني «اللقطة» التي‬
‫‪118‬‬
‫ا�ستطاعت رابحة بب�ساطة حالها �إيقاعه‪ ،‬وال �أحد �أبدً ا ينظر حلقيقة �أنه‬
‫بع�ضا من جوع روحه‪.‬‬ ‫هو من ا�ستغل نقاءها وحبها �إياه لي�س َّد ً‬
‫�سمع �صوتها امل�ضطرب يخرجه من �صمته الذي طال وهي تقول‪« :‬كان‬
‫زفا ًفا جيدً ا‪ ،‬مل �أتوقع �أبدً ا �أن توافق عليه �أو �أن ي�أتي �سائد وه�ؤالء الرجال‬
‫املحيطني بكم دائ ًما‪».‬‬
‫عقد عمر حاجبيه للحظات م�ستغر ًبا‪ ،‬ثم �أجابها بحر�ص بطيء‪« :‬وما‬
‫بك‪� ،‬أو �أن‬
‫وجريانك ِ‬
‫ِ‬ ‫أهلك‬
‫جعلك تفكرين �أين قد �أرف�ض احتفال � ِ‬‫الذي ِ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ي�أتي �سائد؟! �إنه �أخي قبل لن يكون �صديقي‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫�أجابته رابحة على الفور بدون تفكري‪�« :‬سائد ال يحبني وال يتقبل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫وجودي قريبة منك‪».‬‬

‫والتوز عي‬
‫متاما من ا�ستنتاجها والذي كان‬‫�أ َو َل ي�شعر ويعلم مبا تقول؟ مل ينزعج ً‬
‫وا�ضحا للجميع‪ ،‬ولكن وحده يعلم �سر رف�ض �سائد �إياها‪.‬‬‫ً‬
‫نف�سا عمي ًقا واقرتب منها وقد و�ضع �أفكاره ال�صاخبة‬ ‫�أخذ عمر ً‬
‫املت�صارعة جان ًبا‪ ،‬وهو يقول بابت�سامة متالعبة‪:‬‬
‫أنت و�سائد! هل هذه اجلنة التي وعد ِّتني بها ليلة زفافنا؟!»‬‫لك � ِ‬
‫«وما ِ‬
‫�أرجعت ر�أ�سها للوراء ونظرت له متحرية‪ ،‬ثم قالت‪�« :‬أي جنة؟! كما‬
‫�أنك �أنت الذي تبدو منذ عقد ال ِقران متجه ًما �أو تائ ًها كطفل خدعوه فج�أة‬
‫ووجد نف�سه يف قف�ص مع �أنثى غوريال متوح�شة �ستلتهمه‪».‬‬
‫انفجر عمر ب�ضحكة �صاخبة‪ ،‬وهو يقرتب منها �سري ًعا وبدون مقدمات‬
‫�أو كلمة م�ستف�سرة‪ ،‬كان ي�ضم َخ�صرها بذراعيه مل�صقها بجذعه بقوة‪،‬‬
‫تو�سعت عينها ب�صدمة من عناقه املفاجئ وبرد فعل غريزي و�ضعت ك َّفيها‬
‫‪119‬‬
‫على �صدره وهي تقول بخوف طبيعي‪« :‬اتركني عمر‪� ،‬إياك واالقرتاب‬
‫مني‪� ،‬س�أ�صرخ‪».‬‬
‫قليل عن الأر�ض و�ضمها �إىل ذراعيه �أكرث‪ ،‬مل تتوقف �ضحكته‬ ‫رفعها ً‬
‫وهو يت�أملها بعينيه الالمعة وال�سعادة تت�سلل له مرغ ًما وف�ؤاده يقرع‬
‫كنت كل هذا الوقت؟ ِ َل ت� ِ‬
‫أخرت‬ ‫هم�سا‪�« :‬أين ِ‬
‫كالطبول داخل �صدره ً‬
‫القتحام عاملي و�إنارة بع�ض من ُظ ْلمتي؟»‬
‫مل ت ُر َّد على الفور وج�سدها يرتخي رويدً ا رويدً ا‪ ،‬ارتفعت يداها برتدد‬

‫ع‬
‫ولفتها حول عنقه‪ ،‬قبل �أن تقول بخفوت‪« :‬كنت �أنتظرك»‪.‬‬
‫نف�سا عمي ًقا حمرت ًقا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أراح جبهته على جبهتها مغلق اجلفنني‪ ،‬و�أخذ ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قبل �أن ي�سمح لكل دفاعاته لتلك الواجهة الثعلبية �أن تنهار وتندثر حتى لو‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ل�ساعات‪ ،‬ليبقى بني ذراعيها جمرد طفل مذعور يختبئ يف �إحدى الزوايا‬

‫ع‬
‫املوح�شة ينتظر تلك اليد احلنون �أن تعانقه وتنجده وتعطف عليه‪ ،‬لي�س‬
‫ل�شيء �إال �أن متنحه ح ًّبا جمردًا طاه ًرا ونقا ًء دون �شرط ودون ت�ص ُّنع؛‬
‫فقط لأنها تريد منحه والرتبيت على وجعه‪ ،‬ب�صوت رخيم �أخربها‪« :‬لو‬
‫يوما مال ًكا طاه ًرا‬
‫بوجودك و�أن احلياة الظاملة �ستمنحني ً‬‫ِ‬ ‫كنت �أعلم‬
‫مثلك‪ ،‬يخل�ص روحي قبل ج�سدي من �آثامه؛ لكنت حاربت نف�سي‪ ،‬وفعلت‬ ‫ِ‬
‫ملنحك �إياها‪».‬‬
‫امل�ستحيل لأبقي جز ًءا من فطرتي �سلي ًما ِ‬
‫حاوطت بكفيها الرقيقتني وجهه وهي تقول بحنان‪َ ِ :‬‬
‫«ل دائ ًما تتهم‬
‫نف�سك بب�شاعة يا عمر؟ ملاذا ت�صر �أن ت�ضع املا�ضي بيننا يا حبيبي؟ لقد‬
‫متاما ملحاربة جميع �أ�شباحك معك �سننت�صر عليها‬ ‫�أخربتك �أين م�ستعدة ً‬
‫يوما‪».‬‬‫�سو ًّيا‪� ،‬سنظفر ببيت و�أ�سرة وحياة طبيعية وكل ما َر َن ْت �إليه روحك ً‬
‫فتح عمر عينيه وحدقتيه امللونة حتمل نظرة مبهمة قبل �أن يقول‬
‫ب�سخرية مريرة‪:‬‬
‫‪120‬‬
‫يوما حولنا‪� ،‬أنا مل‬
‫أحالمك ً‬
‫ِ‬ ‫ورديتك و�‬
‫ِ‬ ‫«ننت�صر! رابحة‪ ،‬ال تن�سجي‬
‫أغ�شك‪ ،‬احلب ال يغري �أحدً ا وحربي التي �أرف�ض �أن �أُ ِ‬
‫دخلك فيها �أو تعلمي‬ ‫� ِ‬
‫يوما �أبعادها لن ينجو �أحد منها‪».‬‬ ‫ً‬
‫�شحب وجهها وهي تهم�س ويديها تتخلى عنه لتهبط بجانبها‪:‬‬
‫«�س�أحاربك ولن �أ�ست�سلم‪ ،‬القادم بيننا‪».‬‬
‫ببطء كان يعيدها لأر�ض الغرفة‪ ،‬قبل �أن ي�سحب ذراعيه ِمن حولها‬
‫يوما �أن‬
‫يدور يف غرفتهم ك�أ�سد حمبو�س م�سجون غري قادر على الأمل ً‬

‫ع‬
‫يح�صل على حريته ويودع ظالم ما�ضيه‪� ،‬صعقها وهو يقول مب�صارحة‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لك لو�ضع ب�صمتي عليك‬ ‫معك قبل �أن �أتهور و�أنا ِ‬‫وا�ضحا ِ‬ ‫«دعيني �أكون‬

‫ك‬
‫ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫كما �أكاد �أجن و�أفعلها‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ا�ستدار �إليها وقال بنفاد �صرب وهو يخلع �سرتته ويرميها جان ًبا ثم‬
‫يلحقها برابطة عنقه‪ ،‬ويده متتد بنزق يخل�ص قمي�صه من احلزام ثم‬
‫يتبعها بفك �أزراره برتابة‪ ،‬جمتذ ًبا �أنظارها رغ ًما عنها لتتبع ع�ضالت‬
‫�صدره وبطنه الريا�ضية اجلذابة‪ ،‬كتمت رابحة �أنفا�سها ووجهها يتورد‬
‫تلقائ ًّيا وهو يقول‪« :‬مل ُن ْل ِق �أنا و�سائد �أنف�سنا يف عر�ض البحر معر�ضني‬
‫للتهلكة للموت والذي واجهناه باملنا�سبة وجنونا منه ب�أعجوبة‪ ،‬عندما‬
‫غادرنا هنا عرب الهجرة الغري �شرعية‪ ،‬ثم تتبعها النوم على الأر�صفة‬
‫والهرب من ال�شرطة حتى ال نرحل عائدين �إىل هنا‪»،‬‬
‫مالحظا وجهها الذي تبدد تورده‪ ،‬وحتول‬ ‫ً‬ ‫�صمت لربهة ليلتقط �أنفا�سه‬
‫خال من احلياة وهو يردف‪« :‬يف الواقع‪ ،‬الهروب وال�شوارع‬ ‫للوح �أبي�ض ٍ‬
‫والأكل من القمامة وبقايا الب�شر مل يكن غري ًبا عنا‪ ،‬ولكن م�ؤكد كنا‬
‫�سنفعل �أي �شيء حتى ال نعود لهذا البلد �إال ونحن منلك املال والقوة‪ ،‬وهذا‬
‫عاما‪».‬‬
‫ما فعلناه خالل خم�سة ع�شر ً‬
‫‪121‬‬
‫متتمت مرتع�شة جاعلة �إياه يالحظ ب�صمت الأمل الذي جاهدت‬
‫لإخفائه‪« :‬وكيف فعلتم ذلك؟ كيف ا�ستطعتم �أن حتققا املال و� ً‬
‫أي�ضا‬
‫متنحكم تلك الدولة جن�سيتها؟»‬
‫راقبته ب�أنفا�س مكتومة وهو يدور يف الغرفة الوا�سعة ك�أنه يجاهد �أو‬
‫يحارب ذكرى ما ترف�ض اخلروج‪ ،‬يكتمها ويرف�ض �أن يجعلها هي بالذات‬
‫�أن تعرفها وليته مل يخربها‪ ،‬ليته مل يك�شف لها هذا اجلزء منه‪ ،‬حاربت‬
‫رابحة قدميها التي �أ�صبحت رخويتني ك�أنهما حت َّوال حللوى اجليلي‪ ،‬عندما‬

‫ع‬
‫قال عمر ب�صوت مكتوم‪« :‬اجلن�سية! كالنا قدم طلب جلوء بغر�ض احلماية‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫معرتفني �أن ال وطن يحمينا وال هوية ُت ْع َرف عنا‪ ،‬بعدها تزوج كل منا‪ ،‬هذا‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أمر وارد‪ ،‬هناك زواج مقابل املال‪� ،‬سائد كان يعمل ليل نهار ي�سدد لها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫متاما �أن مي�س �أي امر�أة مهما بلغ جمالها �أو‬
‫الألف التي طلبتها‪ ،‬ورف�ض ً‬

‫ع‬
‫�إغرا�ؤها‪ ،‬ولكن �أنا مل �أ�ستطع وقد تعودت على ممار�سة العالقات القذرة‬
‫مع �أي امر�أة تطلب ولي�ست من تزوجتها فقط‪ ،‬بل تطرفت �أن �ألوث كل‬
‫حقرية تطلب مني عالقة عابرة‪ ،‬حتى و�إن كانت منحلة ما قبلتها من‬
‫اجلالية �صدفة‪ ،‬كنت �أفعلها يف �أي مكان و�أي وقت حتى يف ال�سيارة‪ ،‬و�إن‬
‫تطلب الأمر كمرتي الأوىل عندما كنت فتى �صغ ًريا يف الثالثة ع�شر فقط‪».‬‬
‫«يا �إلهي»‪ ،‬نطقتها رابحة �صارخة دون وعي وهي تنهار باكية على �أر�ض‬
‫الغرفة‪ ،‬التفت �إليها مبالمح مرهقة موجوعة حتمل جحيم ذكرياته وهو‬
‫ألت‪ ،‬لن �أ�ستطيع �سرقة طهارة‬ ‫أنت من �س� ِ‬
‫يقول بعجز‪�« :‬أنا �آ�سف‪ ،‬ولكن � ِ‬
‫عاملك دون �أن تعلمي مع �أي ملوث تتعاملني‪».‬‬
‫ِ‬
‫لقد �أرادت �أن تعرف‪ ،‬مدركة �أنها مل تكن حتى هذه اللحظة تعرف كل‬
‫�شيء عن الرجل الذي �أحبته‪ ،‬عن احلبيب الذي توعدت �أن تخرجه من‬
‫جحيم جمهول يلقي بنف�سه فيه ونهايته لن تكون �إال املوت‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫رباه‪ ،‬الأمل ال ُيحتمل‪ ،‬ليتني مل �أ�س�ألك‪ ،‬ليتك مل تخربين‪ ،‬ملاذا مل‬
‫حتجب عالقاتك ب�أخرى بعيدً ا عني؟»‬
‫اقرتب منها يجثو �أمامها على ركبتيه وتر َّدد �أن ميد يديه‪ ،‬حاول �أن‬
‫يرفع ج�سدها املنهار على �أر�ض الغرفة‪ ،‬ول�صدمته التي مل يعد يعلم‬
‫عددها كانت متد يده تنه�ش يف �صدره ك�أنثى �أ�سد �شر�سة حتى جعلت‬
‫ج�سده يفقد توازنه ويقع على الأر�ض �ساحبها معه عندما �صرخت بفقدان‬
‫�سيطرة‪« :‬ت ًّبا لك‪ ،‬متزوج من �أخرى‪ ،‬تتفاخر ب�أنك على عالقة مع امر�أة‬

‫ع‬
‫غريي‪� ،‬س�أقتلك يا عمر �س�أنهي حياتك بيدي قبل �أن تطلقني‪».‬‬
‫ً‬
‫حماول ا�ستعادة توازنه‪ ،‬تار ًكا لها امل�ساحة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫�أغم�ض عينيه للحظات‬

‫ب‬
‫�سري ًلعالنهكذا ومن �أول ليلة‪� ،‬أين تلك التي‬
‫ش‬
‫لتف�ضي كل �صدمتها و�آالمها فيه‪ ،‬ثم قال فج�أة‪:‬‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫فخبت ثورتها فج�أة وهي عتخربه‬
‫انهيارك‬
‫ِ‬ ‫أطلقك! مل �أتوقع‬
‫«� ِ‬
‫�أخربتني �أنها �ستحارب كل �شيء وتبقى معي؟!»‬
‫َْ‬ ‫�أجفلها �س�ؤاله البارد عدمي الدم َ‬
‫ب�صوت مرير مل يخ ُل من �شهقات بكائها املتقطع‪:‬‬
‫«�أنت متزوج غريي‪ ،‬هناك امر�أة ت�شاركني بك‪ ،‬بل العديد منهنَّ‬
‫�سبقنني لك‪».‬‬
‫متزوجا وطلقتها‬
‫ً‬ ‫هز ر�أ�سه وقلبه يرق لوجهها املت�أمل وهو يقول‪« :‬كنت‬
‫قبلك‪ ،‬ولكن‬
‫فور ح�صويل على اجلن�سية‪ ،‬رمبا هناك من لوثت نف�سي به ِ‬
‫أنت‪».‬‬
‫ابتغيتك � ِ‬
‫ِ‬ ‫�سواك ومل تبتغي روحي امر�أة كما‬
‫مل �أمنح قلبي المر�أة ِ‬
‫هتفت من بني بكائها املتعايل‪« :‬كاذب ال �أ�صدقك‪� ،‬أنت غ�ش�شتني يا‬
‫عمر‪».‬‬

‫‪123‬‬
‫�سيطر على ج�سدها الغا�ضب ثم �أدارها بحركة �سريعة؛ وحاط وجهها‬
‫أنت‪،‬‬
‫أحبك � ِ‬
‫بكفيه ليخربها بنربة م�سيطرة ا�ست�شعرت ال�صدق فيها‪�« :‬أنا � ِ‬
‫غريك‪،‬‬
‫يف هذه اللحظة ال توجد امر�أة حتتل روحي و�أمنحها ا�سمي وقلبي ِ‬
‫ما�ض م�شني‬‫حقك معاتبتي على ٍ‬ ‫�سواك يا رابحة‪ ،‬لي�س من ِ‬ ‫لي�س يل زوجة ِ‬
‫مل �أنكره �أو �أمتل�ص من ذنبي فيه‪ ،‬ولكن ما الذي توقع ِته من ابن �شوارع‬
‫بال�ضبط؟!»‬
‫احم َّر وجهها يف اعرتاف �ضمني ب�أن الفكرة قد عربت ذهنها �ساب ًقا‪،‬‬

‫ع‬
‫مما جعل حماولته ملهادنتها ت�صبح �أ�سهل‪ ،‬قال �أخ ًريا‪« :‬كل احلقائق التي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لك مبحا�سبتي على‬ ‫أخربك �إياها‪ ،‬ولكن لن �أ�سمح ِ‬
‫حقك �أن تعرفيها �س� ِ‬
‫من ِ‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ما�ض انتهى بغري رجعة‪ ،‬لقد توقفت عن ممار�سة اجلن�س كالكلب ال�ضال‬ ‫ٍ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫يجد كلبة ملوثة متنح ج�سدها لأي حقري مقابل �ساعات من املتعة‪ ،‬توقفت‬

‫ع‬
‫من تلقاء نف�سي‪ ،‬حا�سبتها وعاقبتها منذ �أكرث من عامني‪ ،‬وحتى �إغواء‬
‫إبعادك‬
‫أتزوجك فحاولت � ِ‬ ‫ِ‬ ‫أطاوعك و�‬
‫ِ‬ ‫نقاءك �أنت مل يجذبني بالبداية ل‬
‫ِ‬
‫عني‪».‬‬
‫مل تقل �شي ًئا وهو يراقب الدموع تف ُّر من عينيها لتغ�سل وجنتيها‪،‬‬
‫وحدقتيها تراقب وجهه ب�أمل الغرية واحلب‪ ،‬متتمت بهم�س مندفع �أخ ًريا‪:‬‬
‫«�أنا �أحببتك‪ ،‬ال ت�س�ألني ملاذا �أو متى‪� ،‬أحببتك يا عمر و�إن مل تكن �ضممتني‬
‫�إليك وتزوجت مني فلم �أكن لأمنح نف�سي �أبدً ا ل�سواك‪».‬‬
‫تلف حوا�سه‬ ‫�أخف�ض وجهه ومتتم من خالل �سحابات الأمل التي كانت ُّ‬
‫أنت مل ولن تكوين ل�سواي �أبدً ا‪،‬‬ ‫وعقله‪�« :‬أنا �أعتمد على هذا يا رابحة‪ِ � ،‬‬
‫�ستظلني �أنثاي وحدي مهما حدث‪».‬‬
‫فلتت �شهقة مت�أملة منها ويديها تلتف حوله ت�ضم نف�سها �إليه ب�شدة وهي‬
‫تقول‪:‬‬

‫‪124‬‬
‫يوما‪ ،‬ولكن الغرية تقتلني ف ِعدين ب�أن ال‬
‫«�أبدً ا يا عمر لن �أكون ل�سواك ً‬
‫مت�س �أي امر�أة بعدي‪».‬‬
‫لك يا حلم العمر ونقاء الروح � َّأل‬
‫قال وعينيه حتا�صر عينيها‪« :‬وعدي ِ‬
‫لغريك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫�أ�سمح لنف�سي حتى بااللتفات‬
‫قليل وقد طم�أنتها كلماته‪ ،‬ولكن م�ؤكد مل حتجب ذلك الأمل‬ ‫ا�سرتخت ً‬
‫الذي طغى على �أي �شعور �آخر �أنها �أخ ًريا �أ�صبحت ملكه حتمل ا�سم عمر‬
‫و�أ�صبح بني ذراعيها‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وك�أن �شعورها ذاك ت�سلل �إليه عندما �أخف�ض وجهه يلثم ذلك العرق‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫الناب�ض يف عنقها ب�شغف وهو يهم�س‪« :‬كيف �أ�سمح لنف�سي حتى ب�أن �أعود‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وبك‪».‬‬
‫لعهري بعد �أن غ�سلت خطاياي فيك ِ‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫�أ�شاحت بوجهها‪� ،‬أنفا�سها تت�سارع و�صوت نب�ضات قلبها العنيفة كان‬
‫م�سموعا له من مكانه �شاع ًرا به حتت �صخب قلبه‪.‬‬‫ً‬
‫�ضاغطا على‬‫ً‬ ‫�شعرت بر�أ�سه يرتفع عنها وهو يقول �إىل جانب �أذنها‬
‫حروفه وك�أنه يكافح ليتحكم يف م�شاعره حتى ال يرعبها منه‪« :‬لن �أ�سمح‬
‫لك �أو لنف�سي ب�إف�ساد ليلة زفافنا وقد جهزت كل �شيء هنا لي�صبح حاملًا‬ ‫ِ‬
‫مثلك يا �أمرية‪».‬‬
‫ِ‬
‫�شعرت باخلواء والربد للحظات وهو يرتفع �سري ًعا ثم انحنى مرة‬
‫�أخرى يرفعها عن الأر�ض يوقفها على قدميها وهو يقول بحرقة و�أنفا�سه‬
‫احلارة تعذبها‪« :‬عندما كنت �أتل�ص�ص على املقاهي‪ ،‬كنت �أرى دائ ًما‬
‫م�شهدً ا يجذب كل �أنظار ه�ؤالء البلهاء للتلفاز‪».‬‬
‫يده ت�سللت ببطء نحو �سحاب ف�ستانها الأبي�ض اجلميل مثل كل ما فيها‬
‫وفتحه ببطء وج�سدها يلت�صق فيه ال �إراد ًّيا حتتمي يف �صدره من جحيم‬
‫‪125‬‬
‫�شوقه وهو يهم�س‪« :‬عرو�س جميلة‪ ،‬وعري�س جمنون بكل تف�صيلة فيها‪،‬‬
‫ينزع عنها ف�ستان زفافها ثم ي�ضمها بني ذراعيه مراع ًيا خجلها وبراءتها‪».‬‬
‫هم�ست هي باندفاع‪�« :‬أحالم مراهقة‪� ،‬أمل حتققها من قبل؟!»‬
‫�ضحك بخفوت وهو يقول‪« :‬ال‪ ،‬هناك �أ�شياء مل �أجربها �أبدً ا‪ ،‬ويبدو �أين‬
‫حظك‪».‬‬
‫وحدك من ح�سن حظي و�سوء ِ‬ ‫ِ‬ ‫لك‬
‫احتفظت بها ِ‬
‫«ل �سوء حظي؟!»‬ ‫�صوتها املرجتف �أتى م�ستف�س ًرا‪َ ِ :‬‬

‫ع‬
‫فيك‪� ،‬س�أ�شبع‬
‫براءتك يا رابحة‪� ،‬س�آخذ كل حق يل ِ‬
‫ِ‬ ‫«لأين لن �أرحم‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫فيك‪ ،‬رمبا �أجد جز ًءا من �أحالم‬
‫جوع عاملي‪ ،‬و�أنهب بنهم الدنيا كل نقاء ِ‬

‫بتتمكن منها ومل ت�شعر بالتهديد ومل‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫طفولتي امل�شردة فيها‪».‬‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫وزيع‬
‫اخلوف مل‬ ‫الغريب �أن غريزة‬
‫ت�ضع ذراعيها فوق �صدره‬ ‫كانت‬ ‫الذات‬ ‫جتفل مما يقوله‪ ،‬بل ب�سيطرة على‬
‫ا�ست�سالما �صامتًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫لتمنحه‬
‫أنت‬
‫أحبك يا رابحة‪ِ � ،‬‬
‫يوما‪� ،‬أنا � ِ‬
‫إميانك بي ً‬
‫إياك �أن تفقدي � ِ‬
‫قال عمر‪ِ �« :‬‬
‫وحدك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫غريك‬
‫يوما لأن تكون �أنثى الثعلب ِ‬‫�أنثاي ومل توجد امر�أة لرتقى ً‬
‫أحبك»‪ ،‬كلمة واحدة من �أربعة حروف كانت كفيلة �أن توقف كل �صراخ‬‫«� َ‬
‫يف عقله امل�ضطرب‪ ،‬قالتها بب�ساطة بوجهه املطل عليها‪ ،‬ارتفاع ك َّفيه‬
‫ليم�سح بحنان غالالت دموعها املت�ساقطة‪ ،‬جعلها تت�أكد �أنها مل تخطئ‬
‫عندما تزوجته‪ ،‬مل ترتكب حماقة وحاملية كما ي َّدعي عمر مل�ساحمته‪َ ،‬منْ‬
‫هي لتحا�سبه؟ من تكون لتملك احلق على معاقبته ملا�ضيه املوجع؟‬
‫يوما عن قولها حتى �أزفر �آخر‬
‫«�أحبك‪� ،‬أنا من �أحبك‪ ،‬ولن �أتوقف ً‬
‫بك‪».‬‬
‫يديك حبيبتي‪ ،‬فال تخيبي �أملي ِ‬
‫�أنفا�سي‪� ،‬أنا �أرمي كل ح�صوين بني ِ‬
‫‪126‬‬
‫الإح�سا�س ب�صدق كلماته رغم ب�ساطتها جعلها جتزم �أنها على الطريق‬
‫ال�صحيح‪ ،‬ال�شعور الذي و َّلده بداخلها‪� ،‬أكد بداخلها الثقة ب�أنوثتها‪ ،‬مبعنى‬
‫�أن تكون امر�أة حقيقية للثعلب‪ ،‬جعل �إميانها بحبه وب�صدقه وبع�شقها �إياه‬
‫ال تقبل ال�شك بل �أ�صبح هو اليقني يف كل عاملها‪.‬‬
‫�أغم�ض جفنيه وهو يهم�س ب�صوت مرجتف م�ش َّبع بال�شجن والعاطفة‪:‬‬
‫«يا �إلهي‪ ،‬ال �أ�ستطيع �أن �أ�صدِّ ق‪ ،‬ما مررت به معك‪ ،‬كانت رحلة حم َّملة‬
‫بالطهارة التي خل�صتني من كل �آثامي‪».‬‬

‫ع‬
‫هم�ست بلوعة وهي تت�شبث ِبه �أكرث و�أكرث تند�س فيه وتت�سرت به‪ ،‬حتتمي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫من م�شاعره الغريبة‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫«ال �أفهم يا عمر‪ ،‬ح ًّقا �أنا م�شو�شة عن فهم كل ما ق�صدته‪ ،‬ما حدث‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫جمرد ‪»...‬‬
‫�سمح لوجهه �أن ينخف�ض وي�شرف على وجهها املرتفع نحوه وهو‬
‫يقاطعها بابت�سامة هادئة وقال‪« :‬ال‪ ،‬لي�س الليلة يا �أمرية عمر‪� ،‬ستفهمني‬
‫يوما ما‪� ،‬ستفهمني معنى �أن تكون روح نقية كنز من كنوز اجلنة‪،‬‬ ‫حبيبتي ً‬
‫لعا�ص غرق يف �آثامه‪� ،‬ستفهمني معنى �أن يكون نقاء حره �سب ًبا‬ ‫مكاف�أة ٍ‬
‫لطهارة َمنْ ُل ِّو َث باخلطايا‪».‬‬
‫عم ال�سكون يف �أرجاء الغرفة‪� ،‬إال من �أ�صوات �أنفا�س كليهما‪ ،‬مل‬
‫يتخل عمر عن الغرق يف ع�سل عينيها الدافئ‪ ،‬بل �شعر بال�شبع بعد جوع‪،‬‬ ‫َّ‬
‫باالكتمال بعد خواء‪ ،‬باالطمئنان بعد ذعر الرف�ض‪ ،‬وبالإ�شفاق على‬
‫ال�صراع املحتد بني مقلتيها رغم ا�ست�سالمها الربيء بني ذراعيه‪.‬‬
‫نف�سا هاد ًئا و�أم�سك خ�صلة من �شعرها وموجة من امل�شاعر‬ ‫�أخرج ً‬
‫ت�ضرب قلبه‪ ،‬وجتتاح ج�سده ك�سيل من حمم نارية مرة �أخرى ك�أنه مل‬
‫يكتف بع ُد ومل ي�أخذ من الغيث �إال قطرة‪ ،‬هم�س وقربها نحو فمه يلثمها‬
‫‪127‬‬
‫أنك متلكني �شع ًرا من احلرير بلون‬ ‫بخفة وقال بنربة َّ‬
‫ج�شة‪« :‬مل �أكن �أعلم � ِ‬
‫كطبعك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫حامل‬
‫تلعثمت رابحة‪ ،‬واللون القرمزي ينتقل من وجهها ليحتل نحرها‬
‫وجيدها‪ ،‬بل �شعرت ب�أن خط نار �سرى يف كل �إن�ش من ج�سدها العاري بني‬ ‫ِ‬
‫ذراعيه‪ ،‬وبتلقائية ردت متهربة‪« :‬ال‪ ،‬لقد خدعتك!»‬
‫�أجفل عمر للحظات‪ ،‬وهو ينظر لها م�ستفه ًما‪ ،‬فر َّدت على الفور وهي‬
‫جتذب خ�صلتها بع�صبية من �أمام فمه‪« :‬لقد‪� ،‬صبغت �شعري‪ ،‬وفردته‬

‫ع‬
‫مبكواة حرارية‪ ،‬حتى �أنال �إعجابك ليلة الزفاف‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫متاما وهو ينظر لها ب�صدمة‪ ،‬بعد كل ما تباداله‬ ‫مل يفق من �إجفاله ً‬

‫ب‪ q‬لل‪q‬‬
‫ن‬
‫ش‬
‫كم امل�صائب الذي اعرتف لها بها‪.‬‬ ‫وبعد ِّ‬

‫التوزيع‬ ‫رو‬
‫‪q‬‬
‫فتح �سائد عينيه املرهقة يت�أمل وجه �إبراهيم املتجهم للحظات قبل‬
‫�أن يعتدل بهدوء من ا�ستلقائه على الأريكة الوا�سعة التي حتتل غرفة‬
‫اال�سرتاحة حتت مقر مكتبهم‪ ،‬توجه بخطى ثقيلة نحو اخلزانة ال�صغرية‬
‫التي يحتفظ فيها باملالب�س اخلا�صة لتن ُّكره‪� ،‬أو مبعنى �أدق مالب�س العودة‬
‫جللده احلقيقي‪ ،‬هم�س �ساخ ًرا لنف�سه بينما ي�سمع �صوت �إبراهيم يقول‪:‬‬
‫«كيف علمت عن الفتاة �سلمى؟ ومن �أين لك بكل تلك املعلومات؟»‬
‫اعتدل �سائد ورمى باملالب�س على الأريكة وقال بربود‪« :‬ال�صدفة ال‬
‫�أكرث هي من �ألقت والدة الفتاة يف طريقي �صباح تلك احلادثة‪� ،‬أما عن‬
‫املعلومات‪� ،‬أال حتيا معنا يف هذا العامل �إبراهيم لتعلم الغابة التي نعي�ش‬
‫فيها؟»‬

‫‪128‬‬
‫مل يتنازل �إبراهيم عن تلك املواجهة التي قررها معهم‪ ،‬لن ي�صمت‬
‫مرة �أخرى ع َّما يحدث‪ ،‬الأمر �أ�صبح �أكرب من جمرد رئي�س عمل‪ ،‬بل �إن‬
‫الرجلني يجهزان ل�شيء مزلزل خطري �أو كارثة ما ورمبا ُيلقوه فيه‪ ،‬وهو‬
‫لن ي�سمح لنف�سه �أبدً ا �أن يكون جمرد �أداة م�ستخدمة؛ لذا قال ب�شرا�سة‪:‬‬
‫«�سائد‪� ،‬أنت تعلم من �أنا‪ ،‬تعرف كل �شيء عني‪ ،‬مل يختارين عمر ع�شوائ ًّيا‪،‬‬
‫و�أنت لن تخ�ضعني لكل اختبارات الثقة تلك �إال لأنك جتهز ل�شيء ما‪».‬‬
‫ح َّرك �سائد كتفيه املتيب�ستني من �آثار نومه‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال بهدوء‬
‫م�سيطر‪« :‬بالطبع �أعلم �أنك �ضابط حرا�سات خا�صة‪ ،‬اعتزلت بعد‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�إ�صابتك الأخرية‪ ،‬و�أعلم �إخال�صك لعملك‪ ،‬وحزمك وعدلك يف كل �أمر‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫تو�ضع به؛ لذا م�ؤكد مل نلج�أ �إليك ع�شوائ ًّيا‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫هز ر�أ�سه متفه ًما وقال‪« :‬طاملا �أ�صبحنا مك�شوفني لهذه الدرجة‪ ،‬ال بد‬
‫�أن �أعرف ما اللعبة التي �سوف �أُ َز ُّج فيها؟»‬
‫بهدوء م�ستفز كان يخلع �سائد مالب�سه الأنيقة التي ح�ضر بها زفاف‬
‫عمر منذ �ساعات‪ ،‬وا�ستبدلها بالأخرى التي �سيذهب بها يف موعده‬
‫الفا�صل‪ ،‬وقال‪« :‬لن �أ�ستطيع بالطبع �إخبارك كل �شيء‪ ،‬ولكن �إجابة على‬
‫�أ�سئلتك املعلقة‪ ،‬من �أين �أعلم كم هذه املعلومات‪».‬‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أن يلتفت بكليته لإبراهيم املتحفز‪ ،‬ثم ما لبث �أن‬ ‫�أخذ ً‬
‫قال بب�ساطة‪�« :‬سلمى جمرد منوذج عن طرق ما يحدث يف مافيا الإجتار‬
‫بالب�شر‪ ،‬لقد ا�ستغرقتُ ع�شرة �أعوام كاملة �أدر�س من بعيد التقارير‬
‫واخلطط املختلفة خلطف الأطفال والكبار واملتاجرة بالأع�ضاء والرقيق‬
‫الأبي�ض‪».‬‬
‫راقبه بهدوء وهو يتحرك يف �أرجاء الغرفة ال�صغرية بع�صبية‪ ،‬ثم ما‬
‫لبث �أن توجه نحو النافذة الزجاجية املطلة على ال�شوارع اخلارجية‪ ،‬مل‬
‫‪129‬‬
‫َي ْب ُد على �سائد �أي تغري يف حالته �أو توتر‪ ،‬رغم معاناته الداخلية‪� ،‬صراع‬
‫حمتد منذ �شهر م�ضى‪� ،‬شعوره بالعجز عن اال�ستمرار ب�أذيتها وحقده على‬
‫نف�سه لعدم �شعوره ب�أن يجعلها تدفع الثمن‪ ،‬نف�ض ر�أ�سه ً‬
‫جمفل ما الذي‬
‫يفعله؟ ملاذا ي�صر وجهها الباكي ال�شاحب وج�سدها الذي يرتعد بخوف‬
‫وذعر فور ر�ؤيته يفر�ض �سيطرته على تفكريه‪.‬‬
‫�أخرجه �صوت �إبراهيم الذي قال مبا�شر ًة ودون مقدمات‪« :‬والدة‬
‫�سلمى �أمانة ل�شخ�ص ما عرب موقع التوا�صل االجتماعي‪ ،‬وبالطبع كما قلت‬

‫ع‬
‫�أنت‪ ،‬كانت ت�شارك �أ�صدقاءها �صور الفتاة؛ لعبت‪� ،‬أكلت‪ ،‬نامت‪ ،‬فعلت‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫�ش َّوح بيديه بنزق وهو يبتلع غ�صة م�ؤملة‪ ،‬ثم �أردف‪�« :‬أنت تعلم بالطبع‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫بإليه‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫�أن هذا العامل �أ�صبح نافذة لبيوتنا وحياتنا‪».‬‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬


‫عنهالتثموما لبث �أن‬
‫قال‪�« :‬صور الفتاة حظيت مبري�ض نف�س َر ِغ َب يف الفتاة �صاحبة الع‬
‫رغم معرفته بالآتي‪ ،‬ف�أكمل الآخر‬
‫رغ ًما‬
‫هز �سائد ر�أ�سه بتف ُّهم ي�ستمع �‬
‫نف�سا �سحي ًقا وعينيه تربقان �شر ًرا‬ ‫بعد �أن �أخذ ً‬
‫أعوام‬
‫ال�صغرية ال�ستغاللها جن�س ًّيا‪ ،‬كما �أو�ضحت التحقيقات عندما اعرتف‬
‫�أحد املجرمني‪ ،‬فاخرتق ح�ساب والدتها وجمع كل املعلومات عنها وبب�ساطة‬
‫�أر�سل له�ؤالء كل املعلومات بجانب املال وطلبها منهم‪».‬‬
‫كبح �سائد �س ًّبا بذي ًئا ب�صعوبة بالغة حتى ال ينعت به جميع الغافلني‪،‬‬
‫ثم قال بنف�س مكتوم‪« :‬نعم‪� ،‬أعرف �أنها طريقة مت َبعة‪� ،‬سواء لال�ستغالل‬
‫اجلن�سي للأطفال �أو حتى جمرد خطف للتبني‪� ،‬أو �أب�شعهم يا �إبراهيم‪،‬‬
‫وهذا ما ت�س�أل عنه حتديدً ا يف ما جنهز له ون�شركك فيه‪».‬‬
‫مل مينحه فر�صه للعودة لهدوئه عندما قال �سائد بج�سد مت�شنج‪« :‬هل‬
‫�سمعت من قبل عن جتارة الأع�ضاء الب�شرية؟»‬
‫‪130‬‬
‫كان وجه �إبراهيم مرغ ًما ي�شحب كل ًّيا‪ ،‬بل زاغت عيناه بعجز وهو‬
‫يرى ج�سد �سائد ال�ضخم يرتع�ش فج�أة ويتهدل بوجع وحروفه تتخبط‬
‫كل ًّيا عندما قال‪« :‬هل �سمعت عن �سفاحي الب�شر وم�صا�صي الدماء و�آكلي‬
‫�أع�ضاء الغالبة؟ هم �سبب حربي وما تراه من �أفعال متطرفة منا يجب �أن‬
‫يدفعوا جميعهم الثمن‪».‬‬
‫حاول �إبراهيم �أن يبتلع ريقه و�س�أله بحر�ص‪« :‬الف�ساد ٍّ‬
‫متف�ش يف كل‬
‫العامل‪ ،‬فلماذا ه�ؤالء بالذات؟»‬

‫ع‬
‫هل ر�أى ملعة دمعة حارة يف عني الرجل ال�صلب �أم �أنه ُخ ِّيل له؟! تلك‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ال�شياطني احلبي�سة يف مقلتيه ت�صارع حلرق العامل �أجمع‪« :‬لأن طفلي كان‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أحد وجباتهم الرئي�سية‪ ،‬مل يرتكوا فيه قطعة غيار واحدة وال نقطة دم مل‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ميت�صوها‪».‬‬
‫***‬
‫هل ي�شعر ب�أنه م�ش َّو�ش �أو نادم لإخبار �إبراهيم �سره املقد�س هكذا‬
‫بب�ساطة؟ لقد در�س كل خطوة جيدً ا ولن تخرج من بني �شفتيه كلمة واحدة‬
‫�إال �إن كان �أدارها يف عقله عدة مرات لتخرج يف الوقت املنا�سب وللهدف‬
‫الدقيق‪ ،‬كان يجب �أن يلعب على م�شاعر �إبراهيم الإن�سانية و�أن يك�سب‬
‫والءه اخلال�ص وتعاطفه‪ ،‬وهذا ما حدث‪�« :‬آ�سف حبيبتي ال�ستغالل ب�شاعة‬
‫أ�ضمك بني ذراعي‬
‫ما حدث ل�صغرينا‪ ،‬ولكن هو عهد لن �أتخلى عنه حتى � ِ‬
‫مثواك‪».‬‬
‫أجاورك يف ِ‬
‫ِ‬ ‫مرة �أخرى و�‬
‫‪q q q‬‬
‫كان حماد يدرك جيدً ا النظرة ال�صلبة القا�سية يف عي َني �سائد وهو‬
‫ما�ض وانتهى يا �سائد‪ ،‬ما تطالب به �صعب حتقيقه‪ ،‬وال‬‫يخربه‪« :‬ما حدث ٍ‬
‫لدي �ستجعلني �أتواط�أ معك‪».‬‬
‫حتى مكانتك َّ‬
‫‪131‬‬
‫من�سا خبيث بارع الذكاء‬
‫قال �سائد ب�صرامة كان يعلم �أنه يحتاجها لأن ً‬
‫كحماد يعلم جيدً ا كيف يتالعب بفرائ�سه‪ ،‬متى ُي ْح ِكم الطوق عليهم ومتى‬
‫ي�ضعهم حتت �ضغط الرتدد‪ ،‬فقال‪« :‬و�أنا �أعلم �أن كلمتنا عهد ووعدنا �سيف‬
‫ي�سري على رقبة اجلميع؛ لذا ترددك �أو تراجعك ال �أ�صدقه يا معلم‪».‬‬
‫�أطرق حماد بر�أ�سه للحظات بينما عيناه ال�شر�سة تنظر ملن �أمامه‬
‫بتقييم‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال بغمو�ض‪« :‬و�إن �سلمتك من غدر بك‪ ،‬ما الذي‬
‫�س�أك�سبه حتديدً ا من الت�ضحية ب�أهم رجايل؟»‬

‫ع‬
‫انتف�ض �سائد داخل ًّيا وك�أن تذكر احلقائق وما �أخربه به حماد ي�صفعه‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�صفعات غري مرئية‪ ،‬الأمل ال ُيطاق ونب�ش املا�ضي ب�آالمه يوئد روحه داخل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�صدره الذي �ضاق‪ ،‬خرج �صوته ب�صعوبة ولكنه �شر�س م�سيطر‪�« :‬أهو‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ح�سان؟ لن يفعلها غريه �إن مل ت�سلمها �أنت‪ ،‬لن يجر�ؤ �أحدهم على فعلها‪،‬‬

‫ع‬
‫هو الوحيد الذي كان يحاول و�ضع قذارته عليها‪ ،‬رغم معرفته �أنها �أنثاي‬
‫وتخ�صني‪».‬‬
‫عم يف �أرجاء ع�شة حماد التي بناها كعر�ش ملك‬ ‫ال�صمت املهيب َّ‬
‫متوج داخل وكره‪ ،‬نظر ل�سائد بجمود متذك ًرا ذئبه الغايل الذي تفوق‬
‫اجل َلد والتحمل‪ ،‬يف التعلم ال�سريع واحرتاف‬ ‫على جميع �أقرانه وقتها يف َ‬
‫ال�سطو والبلطجة‪ ،‬ال يتذكر حماد مرة واحدة �أر�سل �سائد فيها ل�ضرب‬
‫متاما عن جتارته ال�سرية يف‬ ‫مهزوما‪ ،‬تذكر � ً‬
‫أي�ضا �أنه �أبعده ً‬ ‫ً‬ ‫�أحدهم و�أتَاه‬
‫بيع كل ر�أ�س من ه�ؤالء ال�صغار املهم�شني؛ ملعرفته �أن هناك جز ًءا �صغ ًريا‬
‫جدا داخله ن�ضيف وم�شفق حتى و�إن كان يرف�ض �إظهاره‪ ،‬ولكن مع �آية‬ ‫ًّ‬
‫ال�صغرية كان يت�ضح �ضعف ذئبه نحوها‪ ،‬لن يكذب على نف�سه‪ ،‬لقد �أراد‬
‫التخل�ص من الفتاة‪ ،‬حتى ال تكون �أحد نقاط �ضعف ذئبه‪ ،‬ولكن عاد يعده‬
‫بزواجه منها؛ ليكون حتت �سيطرته حتى �أنه رف�ض املال الذي عر�ض عليه‬
‫لبيعها هي وجنينها لذلك الطبيب الذي كان ير�سله «غ�سان الها�شم»‪،‬‬
‫‪132‬‬
‫ولكن حقد ح�سان �أو رمبا كما برر له �أن الفتاة ك�شفت �أكرث مما ينبغي‬
‫فكان يجب اخلال�ص منها وعلى الفور‪.‬‬
‫�شمخ حماد بر�أ�سه هيمن ًة وهو يرمي يف وجه �سائد كلماته‪« :‬البكاء على‬
‫الأطالل لن يعيدها ال هي وال ولدك؛ لذا �أريد �أن �أفهم ما الذي تريده يا‬
‫�سائد؟»‬
‫مل يتنازل �سائد عن فر�ض �سيطرته وعاد �سري ًعا يتوح�ش وجهه ونرباته‬
‫وقال بقوة‪« :‬الق�صا�ص‪� ،‬أريد الق�صا�ص يا معلم‪ ،‬ولي�س االنتقام‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫طويل بغمو�ض قبل �أن يتنازل �أخ ًريا وقال بنربة‬ ‫عاد حماد لت�أمله ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫جافة‪« :‬الق�صا�ص �أو االنتقام‪ ،‬كالهما هدف واحد لن يفرق م�سماه؛ لذا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫هو حقك و�أنا معك فيه ولكن �أريد ً‬

‫ش‬
‫مقابل مغر ًيا لت�ضحيتي‪».‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫كان ال�صمت من ن�صيب �سائد‪ ،‬مل تتحرك ع�ضلة واحدة من وجهه‬
‫القا�سي وابت�سامة ملعونة ترت�سم على �شفتيه‪ ،‬ثم قال بنربة جاءت عميقة‪:‬‬
‫«�أنا يا حماد املقابل‪ ،‬كل ر�أ�س �ست�سلمها يل �سيكون مقابلها الآالف ال بل‬
‫املاليني من املال وفوقها روح ذئبك‪».‬‬
‫أج�شة‪« :‬هل تدرك ما تقدمه يا �سائد؟ فور �أن �أ�سلمك‬ ‫قال حماد بنربة � َّ‬
‫ما تريده لن �أرحمك و�أنا �أطالب بن�صيبي من ال�صفقة‪».‬‬
‫أعواما �أخطط‬
‫قال �سائد بخ�شونة متهورة مدرو�سة جيدً ا‪« :‬مل �أم�ض � ً‬
‫فيها للعودة وانتقامي لأتردد الآن‪».‬‬
‫�صمت لربهة قبل �أن يرفع عينيه الداكنة قوية م�سيطرة وقال‪« :‬ومن‬
‫�أخربك �أين �أريدك �أن ت�سلمهم يل؟ �أنا فقط �أريدك � َّأل تتدخل فيما �أفعله‬
‫بهم‪ ،‬و�أريد منك العون �إن عجزت للو�صول ال�سم �أحدهم �أو كان غائ ًبا عن‬
‫ب�صريتي‪».‬‬

‫‪133‬‬
‫ابت�سم حماد ببطء وقال بنربة �أ�شبه بالفحيح‪« :‬ال �أظن �أبدً ا‪� ،‬إنك‬
‫غفلت عن �أحدهم‪ ،‬ولكن هناك من �ستعجز عن االنتقام منه كغ�سان‬
‫الها�شم‪».‬‬
‫الغ�ضب املتوح�ش هو ما احتل مالمح �سائد هذه املرة‪ ،‬بينما يداه‬
‫تتقب�ض بجانبه وقال بنف�س مكتوم‪�« :‬أعرف ويكفي تدمري م�شفاه واحلقري‬
‫فهمي‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قاطعه حماد وابت�سامته تزيد كقذارة كلب م�سعور يلهث ولعابه قذر‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ي�سيل من بني مالحمه الإجرامية عندما قال‪« :‬ال‪ ،‬غ�سان ترك فتاة من‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بعده‪ ،‬جميلة َف َر َ�سة‪ ،‬حتة طرية ومغرية‪ ،‬وقد ر�صد فهمي الكثري مقابل‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ر�أ�سها ورحب كث ًريا مبعا�شرتها قبل ‪»...‬‬

‫ع‬
‫«يكفي»‪ ،‬هدر بها �سائد رغ ًما عنه فاقدً ا لأع�صابه واتزانه ومنطقه‪،‬‬
‫و�صدره يهبط ويعلو بانفعال ه�ستريي‪ ،‬بينما يده حتفر يف خ�صره حف ًرا‬
‫مقاوما �أال يتوجه �إليه ويقوم بقتله‪ ،‬هم�س �سائد ب�صمت داخله‪:‬‬
‫ً‬ ‫نارية‬
‫«احلقري النذل القذر‪ ،‬كيف يخربين �أنه تخيل امر�أتي مع �أحد‬
‫الأجنا�س؟! ذنب �آخر �سيكون �سب ًبا لرميك يف اجلحيم يا حماد الكلب‪،‬‬
‫ولكن �ص ًربا حتى �أتخل�ص من ر�ؤو�س الأفاعي ثم �أ ْلتفت لأذيالهم‪».‬‬
‫بينما تعلو وجهه نظرة �إن كان حماد منتب ًها لها لك�شف جنون الآخر‬
‫الذي يكاد �أن يحرقه حتى يذيب عظامه‪ ،‬عب�س حماد بغري فهم قبل �أن‬
‫يقول ببطء ومل ي�صله �سر غ�ضبه‪« :‬ملاذا �أخربك �إن كنت ت�سعى لالنتقام؟‬
‫ً‬
‫تعوي�ضا جيدً ا لك‪،‬‬ ‫جدا من �أعمال والدها وقد تكون‬ ‫فالفتاة تعلم الكثري ًّ‬
‫قبل �أن ت�سلمها يل بالطبع‪».‬‬
‫«ماذا تعنى ب�أنها تعرف؟ هل كانت طر ًفا يف �صفقاتكم؟»‬
‫‪134‬‬
‫ابت�سم حماد بفحيح غريب طامع وهو يقول‪« :‬نعم‪ ،‬فالبنت �سر �أبيها‬
‫يا �سائد‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫كان كتفا دجوى يهتزان بقوة وهي تقوم ب�إفراغ معدتها اخلاوية يف‬
‫الأ�صل‪ ،‬دموع االنك�سار تهبط بحرقة رغ ًما عنها‪ ،‬بينما توقن بحقيقة‬
‫و�ضعها اجلديد �ضمت بطنها بقوة تهز ر�أ�سها املنك�س نحو الأر�ض‪،‬‬
‫�شهقتها خرجت ب�صوت �شبه ه�ستريي وهم�ست بلوعة‪« :‬رباه‪َ ِ ،‬ل �أتيت؟ ما‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الذي فعلته؟ كيف �سمحت لنف�سي ب�أن �أمنحه �أ�ضحية �أخرى من دمي؟!»‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫هبطت دجوى على �أر�ض احلمام البارد‪ ،‬تراجعت ببطء نحو احلائط‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫لت�سند بظهرها عليه وهي حتيط نف�سها بكال ذراعيها‪ ،‬ازداد بكا�ؤها‬

‫والتوز عي‬
‫حرقة‪ ،‬والأمل والذعر يفي�ضان من كل دمعة كانت تفر من عينيها‬
‫املتورمتني‪ ،‬متذكر ًة بعني اخليال ال�شهر الذي م�ضى معه فيحرتق قلبها‬
‫حر ًقا وهي تدرك و�ضعها جيدً ا كعاهرة �ساقطة ي�ستغلها �سائد يف فرا�شه‬
‫بعد �أن �أوهمها بالزواج‪ ،‬بعد �أن فر�ض عليها كل قيد‪ ،‬وبعد �أن حب�سها يف‬
‫حمبطا لكل حماولة فرار وهرب‪ ،‬لقد حاولت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تلك الزنزانة الإجبارية‬
‫ي�شهد اهلل �أنها حاولت الهرب و�أن تطالبه برتكها بعد �أن �أخذ غر�ضه‬
‫منها‪ ،‬ولكن كانت �صدمتها الثانية فيه عندما فجر قنبلته الأخرى وهي‬
‫�أنه لن يرتكها �إال وهي جثة هامدة‪ ،‬لن يحررها �إال �إن �أخذ قطعة من‬
‫�أح�شائها حتمل دماء والدها‪� ،‬أحاطت بطنها امل�سطح بغريزة دفاع قوية‪،‬‬
‫بينما تتو�سل ب�صمت �أن يكون ذلك امل�ؤ�شر خمط ًئا‪� ،‬ستوهم نف�سها ب�أنه‬
‫خمطئ كما �أوهمت نف�سها وهي تدرك جيدً ا بطالن حجتها �أن �سائد ما‬
‫زال زوجها مكتفية ب�أنه �أ�شهر �أمام اجلميع و�أنه ما زال يخربهم �أنها‬
‫زوجة له‪ ،‬امر�أته ولي�ست جمرد حمظية يفرغ فيها حاجاته رغ ًما عنها‪،‬‬
‫‪135‬‬
‫رفعت دجوى ر�أ�سها تنظر من خالل باب احلمام املفتوح نحو فرا�ش �سائد‬
‫مبزيد من اخلزي والوجل‪ ،‬متذكر ًة حماولتها للتمرد وال�صراخ لأمره‬
‫برتكها وينتهي بها احلال فوق فرا�شه‪ ،‬يثبتها بج�سده ويغطيها برغبته‬
‫ويكبلها بوح�شيته‪ ،‬ترف�ضه وتقاوم وت�صرخ �آمرة �إياه بالتوقف برتكها‪،‬‬
‫تتهمه �أنه مغت�صب حقري‪.‬‬
‫ولكنها تدرك ‪ -‬كما يدرك ‪� -‬أنها يف نقطة ما تفقد املنطق والعقل‬
‫ومبد�أها وفقط ت�ست�سلم لعاطفته وللرغبة املطلة من عينيه‪ ،‬وتتخلل هدير‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أنفا�سه التي مت�شط كل �إن�ش منها‪ ،‬التقزز منها ومنه ومن الظروف ومن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫والدها �ساحمه اهلل هو ما ي�سيطر عليها فور �أن يرتفع ج�سد �سائد عنها‪ ،‬ال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يتفوه بحرف واحد وهذا من ح�سن حظها رحم ًة بها‪ ،‬م�ؤكد لن حتتمل �أبدً ا‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫مزيدً ا من كلماته ال�سامة‪ ،‬بالت�أكيد هو يدرك جيدً ا با�ست�سالم ج�سدها‬

‫ع‬
‫اللعني وقلبها املتواطئ حلبه‪.‬‬
‫عاد بكا�ؤها يتعاىل مرة �أخرى‪ ،‬ال�ضعف والوهن الذي �أ�صبح ال يفارقها‬
‫ي�سيطر على �أطرافها املتعبة‪ ،‬بينما تكرر بح�شرجة كع�صفور �صغري م�سكني‬
‫وجد نف�سه يف �أَ ْ�سر �صقر جارح لن يتوانى حلظة يف متزيقه قبل التهامه‪:‬‬
‫«هو فعل‪ ،‬ما ذنبي �أنا غري �أين وثقت بك و�أحببتك يا �سائد؟»‬
‫َ َ َ‬
‫رباه‪� ،‬إنه الأمل بعينه والوجع مبرارته والعذاب بكل جحيمه‪﴿ ،‬يا ْلت ِن‬
‫ُّ َ ْ َ َٰ َ َ ُ ُ َ ْ ً َّ ًّ‬
‫نسيا﴾‬
‫مِت قبل هذا وكنت نسيا م ِ‬

‫‪q q q‬‬
‫�أمام اجلنون الذي كان يرتاق�ص يف عينيه‪ ،‬ذلك املزيج من ال�صدمة‬
‫والأمل؛ عرفت دجوى ب�أنها وقعت يف فخ �آخر وم�صيبة �أخرى‪ ،‬وهذه املرة‬
‫لن يرحمها �سائد مطل ًقا‪ ،‬جحيم �صوته الذي كان ي�أتي ب�شرا�سة �أ�سد وجد‬
‫‪136‬‬
‫نف�سه عال ًقا يف �شيء مبهم مل يكن يعرفه‪« :‬ما هذا دجوى؟ �أمل تخربيني‬
‫أنك بريئة ومل تعريف ما الذي �أحتدث عنه؟»‬‫ب� ِ‬
‫للحظة واحدة‪ ،‬كان كل ما تفكر فيه دجوى القفز عليه و�أن متزق‬
‫انتقاما وكراهية ملا يفعله بها‪ ،‬لكذبه عليها منذ معرفتها‬
‫ً‬ ‫وجهه ب�أظافرها‬
‫�إياه‪ ،‬و�أخ ًريا ملنح نف�سه احلق والتفتي�ش بني مالب�سها وعثوره على �سرها‬
‫املخزي!‬
‫�شحب وجهها حتى ا�ستحال لقطعة من قما�ش الكفن الأبي�ض‪ ،‬ج�سدها‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ال�ضئيل تراجع للوراء بغريزية‪ ،‬بينما هو يقرتب خطوة خطوة نحوها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بتمهل خطر متوعد‪� ،‬سيقتلها لن يبقيها على قيد احلياة‪ ،‬لن مينحها حتى‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫فر�صة لتو�ضح حقيقة �إجبارها على ما فعلت‪.‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫«كيف وجدت تلك الأوراق؟ كيف عرفت عنها؟ لقد ‪ »...‬زيع‬
‫كانت حتدِّ ق يف حدقتيه الداكنتني‬ ‫املنطفئ‪،‬‬ ‫جمدت عيناها برمادها‬
‫با�ضطراب‪:‬‬ ‫متاما ومرتعبة‪ ،‬متتمت‬
‫بذهول م�صدومة �شاحبة ً‬

‫برتت عبارتها وهي ت�صرخ بذعر عندما �شعرت ب�أ�صابعه القا�سية‬


‫ُت ْط ِبقُ على نحرها‪ ،‬يرفعها دون تردد عن الأر�ض عدة �سنتيمرتات وهو‬
‫علي‬
‫أنت تاجرة �أع�ضاء ب�شرية مثلهم يا دجوى‪ ،‬متثلني َّ‬ ‫يقول بفحيح‪ِ �« :‬‬
‫أنت يف الأ�صل جمرد‬ ‫بك و� ِ‬
‫الرباءة‪ ،‬جتعليني �ألوم نف�سي على ما �أفعله ِ‬
‫ح�شرة �أخرى قذرة‪».‬‬
‫انتف�ضت بني يديه تت�شبث ك َّفاها بذراعه يف حماولة واهية ملوازنة‬
‫نف�سها‪ ،‬كانت عيناها املتو�سعتني املتو�سلتني تنظر له كع�صفور وجد نف�سه‬
‫فج�أة بال �أجنحة بال ع�ش �ضائ ًعا وخائ ًفا‪� ،‬أخربته بتح�شرج‪�« :‬أنت ال تفهم‪،‬‬
‫امنحني الفر�صة و�أنا �س�أ�شرح لك‪».‬‬
‫‪137‬‬
‫تتوح�ش وينقلب وجهه‬ ‫ازداد �ضغط يده على عنقها ومالمح وجهه َّ‬
‫معرفتك‬
‫ِ‬ ‫نفيت مرا ًرا‬
‫بالغ�ضب وهو يخربها‪« :‬كاذبة قبل �أن تنطقي‪ ،‬لقد ِ‬
‫وقفت يف وجهي تتهميني بالكذب واالدعاء على‬ ‫مبا كنت �أحتدث عنه‪ ،‬لقد ِ‬
‫أبيك مبا حدث حلبيبتي‪».‬‬‫� ِ‬
‫َ�ضغ ُْط �أ�صابعه القا�سية مل متنع �أبدً ا ذلك الأمل الذي َ�ش َط َرها ن�صفني‪،‬‬
‫«حبيبته!» زوجته الوحيدة دائ ًما و�أبدً ا والتي لن ترقى امر�أة �أبدً ا ملكانتها‬
‫لديه‪« ،‬حبيبته» التي قلب العامل وفعل امل�ستحيل لينتقم لها منها هي‪ ،‬رغم‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تهديد املوت هتفت بتقطع خ�شن‪« :‬و�أنت حقري كاذب خمادع مغت�صب‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫خ�سي�س‪� ،‬أنت كل هذا و�أكرث‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫كان الغ�ضب كب ًريا‪ ،‬كب ًريا �إىل حد �أعمى ب�صريته‪� ،‬أفقده اتزانه حتى‬

‫والتوزي‬
‫ورماد عينيها يرتاءى له بر�سائل غام�ضة َت ْ�أ ِ�سر جز ًءا فيه وت�ضعه �أمام‬

‫ع‬
‫�صراع نف�سه مرغ ًما‪ ،‬ج َّز على �أ�سنانه وهو يخربها‪:‬‬
‫«تاجرة الب�شر‪ ،‬ابنة م�صا�ص الدماء‪ ،‬على حق �أنا كل هذا و�أكرث‪،‬‬
‫أن�سيت �أين بالأ�سا�س بال �أ�صل‪ ،‬طفل �شوارع بلطجي بلغتكم‪ ،‬رمبا �أكون‬
‫� ِ‬
‫نتاج عاهرة ما ورجل غ َّيب اخلمر ر�أ�سه �أو تكمن فيه ال�شهوة فالتقته يف‬
‫�صفقة جن�س نارية وكنت �أنا‪ ،‬فما الذي تتوقعينه؟»‬
‫فلتت �شهقة بكاء مت�أمل منها وقدميها حتاول �ضربه ليرتكها‪� ،‬أخربته‪:‬‬
‫«توقف‪ ،‬ال يعنيني َمنْ �أنت‪ ،‬فقط اتركني‪».‬‬
‫ثبت ركبتيها بج�سده مل�ص ًقا جذعه بج�سدها ال�ضئيل‪ ،‬مرغ ًما كانت‬
‫قوة �إجباريه تفيقه من هول �صدمته فيحاول �أن يوازن ج�سدها املرتفع يف‬
‫الهواء‪ ،‬يخفف من �ضغط �أ�صابعه حول عنقها دون �أن يتوقف عن �إرعابها‬
‫�أو تركها‪ ،‬وقال دون �أن يرحمها‪« :‬ح�شرة و�ضيعة‪ ،‬من تظنون �أنف�سكم‬
‫‪138‬‬
‫لتتاجروا بنا؟ َمنْ منحكم احلق ال�ستغالل الفقراء و�أطفال ال�شوارع يف‬
‫دنا�ستكم؟»‬
‫�صرخت كاملجنونة وج�سدها ينتف�ض بني يديه و�أنفا�سها تتالحق‬
‫به�ستريية حتاول ا�ستن�شاق �أكرب قدر من الهواء‪:‬‬
‫«مل �أتاجر ب�أحد يا غبي‪� ،‬أال تتذكر حايل عندما وجدتني؟»‬
‫مل يتنازل عن �شرا�سته ومل يحاول �أن يتفهم ما تقوله بعد كذبها عليه‬

‫ع‬
‫عندما ز�أر بها‪« :‬كاذبة‪ ،‬ما تقوله تلك امل�ستندات غري ما ت َّدعي‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عيناها الوا�سعتان كانت حتدق فيه كغزال �شارد جمد عندما هجم‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫عليه ذئب مفرت�س فج�أة‪ ،‬مل جتد ما تقوله خائفة �ضائعة‪ ،‬وفقدت كل ثقة‬

‫ر‬
‫�صارمإياه‪:‬جمد الدماء يف وال‬
‫عروقها‪،‬توز عي‬
‫و�إميان كان لديها فيه‪� ،‬أتخربه عنهم؟ �أتك�شف كل �شيء �أمامه؟»‬
‫وجعل اخلوف‬ ‫قال ب�صوت خافت‬
‫يزحف فوق جلدها‪ ،‬مق�شع ًرا �‬
‫أرحمك‪� ،‬ستظلني هنا ع�شيقة‪ ،‬عاهرة لفرا�شي حتى ت�أتي بطفل‬
‫«لن � ِ‬
‫ن�سلك ون�سله وبعدها ‪»...‬‬
‫من ِ‬
‫�صمت مطرق ًعا بل�سانه منت�ش ًيا بالأمل والرعب الذي ارت�سم على‬
‫لك با�ستخدامي مرة �أخرى واغت�صابي‪� ،‬س�أقتلك‬‫م َّياها‪« :‬لن �أ�سمح َ‬
‫َُ‬
‫و�أقتل نف�سي قبل �أن متتد يدك الآثمة لطفلي‪».‬‬
‫�أخف�ض �أ�صابعه املرتخية بالفعل عن نحرها‪ ،‬وبدون تعبري �أو رد كان‬
‫جدا ب�أثره‬
‫يتفح�ص مكان �آثاره بينما مييل طرف فمه بابت�سامة م�ستلذة ًّ‬
‫ورعبها البادي وقال ب�أحرف م�ضغوطة‪:‬‬
‫‪139‬‬
‫أنك �ساقطة بالفطرة‪� ،‬أنا مل‬ ‫لك �أكرث ِمن مرة � ِ‬ ‫أثبت ِ‬
‫«�أعتقد �أين � ُّ‬
‫إرادتك‪� ،‬أما عن‬
‫فيك بكل � ِ‬ ‫أنت َمنْ ُت�سلمني ل�شهوتي ِ‬ ‫أغت�صبك دجوى‪ِ � ،‬‬
‫ِ‬ ‫�‬
‫الطفل من يعلم قد يكون ُز ِر َع يف �أح�شائك بالفعل‪».‬‬
‫تهربت بعينها ودموع الأمل واخلزي تهبط مدرا ًرا‪ ،‬الغ�ضب ي�ضرب‬
‫بوتريته بني عروق ج�سدها اللني فتحاول �أن تدفعه عنها بحدة ت�صرخ فيه‬
‫ب�أمر �أن يرتكها ويبتعد‪.‬‬
‫مل يهد�أ الغ�ضب املتفاقم داخل قلبه وعقله‪ ،‬احلقد الأعمى يت�صاعد‬

‫ع‬
‫بنغمات قا�سية‪ ،‬وهو يدرك �أنه مل يرغب امر�أة قط كما يرغبها هي‪ ،‬مل‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ت�ستطع �أنثى قط �إخراج ذلك اجلحيم الذي يعي�شه ويلقيه بني ذراعيها‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫حتى حبيبته ال�صغرية مل ت�ستفز فيه‪ ،‬تلك احلاجة امل�ؤملة وال�ضارية‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫المتالكها‪ ،‬ت ًّبا ِ َل ال يتوقف؟ ملاذا يجد نف�سه ينقاد لأخذها مرغمة؟ ملاذا‬

‫ع‬
‫ي�شعر �أن هذا الأمر �أ�صبح يفرغ فيه �شحنات �أمله ووجعه قبل �أن ي�صفعها‬
‫به؟ حبيبته ال�صغرية لن يكون يف قلبه �سواها‪ ،‬لن متتلكه امر�أة مثل �آية‬
‫يوما‪.‬‬
‫ً‬
‫�شر�سا‬
‫مل يكن ي�شعر بال�صمت امل�سيطر �إال من �صوتها الذي �صار حادًّا ً‬
‫لت�أمره باالبتعاد‪ ،‬ج�سدها ال�ضئيل ي�ضربه بالفعل ويقاومه‪ ،‬بينما ال ترى‬
‫عيناه �إال رمادها املنطفئ‪ ،‬رجولته ال ت�ست�شعر �إال ب�أنوثتها‪� ،‬أنفا�سه يتغلغلها‬
‫عبريها امل�ألوف‪ ،‬هو يريدها �أكرث من �أي �شيء �آخر ليفرغ فيها كل غ�ضبه‪،‬‬
‫مرب ًرا لنف�سه عندما �أطبق ب�شفتيه على �شفتيها كا ًمتا بكاءها‪� ،‬ساعداه‬
‫القويان �أحاطا َخ�صرها وبدون تردد كان يتوجه نحو الفرا�ش مرب ًرا‬
‫لنف�سه �أنها يجب �أن تعاقب قبل �أن ي�ستمع لأكاذيبها وقبل �أن ُيلحقها بهم‪.‬‬
‫�ألقاها على الو�سائد فرتاجعت منكم�شة لتخربه‪« :‬انتظر‪� ،‬س�أخربك‬
‫كل �شيء‪� ،‬أنت تفهم خط�أً �أرجوك يا �سائد �أنا ال �أريد‪».‬‬

‫‪140‬‬
‫جال�سا على ركبتيه‪ ،‬ثم جذبها نحوه بجمود ممز ًقا‬
‫اعتلى الفرا�ش ً‬
‫قمي�صها بخ�شونة مق�صودة‪ ،‬وهو يقول بربود رغم نارية جحيمه اخلا�ص‪:‬‬
‫أنك �أكرث من‬
‫لك بالتجربة � ِ‬
‫«ومتى �أردتِّ ؟ كل مرة ترف�ضني و�أنا �أثبت ِ‬
‫راغبة‪».‬‬
‫اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول بقهر‪�« :‬أنت قذر‪� ،‬أمثالك لن‬
‫يوما‪� ،‬أنت حقري تربر لنف�سك ما تفعله بي بينما �أنت‬ ‫يجدوا الراحة ً‬
‫جمرد‪»...‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ر�أت الأمل يحدد معامل فمه ولكنه مل يتخ َّل عن بروده وهو يكمل ما‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ؤيتك ال�صحيحة‬
‫ينتوي‪ ،‬وقال مقاط ًعا‪« :‬حافظي على الفكرة �إذن‪ ،‬على ر� ِ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫نف�سك �أن ابن ال�شوارع التف على ابنة احل�سب وجعلها تتغنى‬
‫تلك‪ ،‬ذكري ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫حاولتت�أن تتو�سل �إليه‬
‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ر‬
‫بع�شقه ب�شهامته قبل �أن ‪»...‬‬

‫�أن يتوقف وت�شرح له حقيقة ما ر�أى وتعلمه كل �صلتها وما عرفته‪ ،‬ع‬
‫ولكنه مل‬
‫مل يكملها وقد و�صلتها جملته املتقطعة كاملة‪،‬‬

‫ي�ستمع وهو ينتهك روحها ويخرتق ذلك القلب العا�صي‪ ،‬االنتفا�ض خو ًفا‬
‫ووجل ككل مرة هو ما �صدره منها‪ ،‬حماولة املقاومة والتمرد‪ ،‬والذي‬ ‫ً‬
‫ي�سيطر عليها بع�ضالته القوية‪ ،‬كانت ت�شعر بالقهر وباجلروح التي تغور‬
‫يوما‪� ،‬أح�ست مبقاومتها تبهت وبج�سدها‬ ‫داخل �صدرها ولن جتد العالج ً‬
‫امللعون يرتع�ش ا�ستجابة‪ ،‬ما الذي يفعله؟ لقد قرر �سائد �أن يلعب على‬
‫م�شاعرها وبراءتها لعبة منحطة �أخرى ا�ستبدل خ�شونته باحلنان وقوته‬
‫بال�سيطرة‪ ،‬لقد كان يتحكم فيها ويعرف متى ي�سيطر عليها بخ�شونته‬
‫ومتى يخ�ضعها بنعومته‪ ،‬د َّوى قلبها كهدير �صاخب هذه املرة ال لت�ص َّده‬
‫�سوف تتحرر منه‪ ،‬دموع املهانة بللت �شفتيه‪ ،‬ولكنه �أبى �أن يرتكها‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫«�أنا حامل بطفل حرام منك»؛ توقف و�أنفا�سه الهادرة كانت تخرج‬
‫عنيفة‪ ،‬هل ا�ست�شعرت الذعر للحظات بني مالحمه التي ارتفعت لينظر‬
‫جمفل‪ ،‬تبدلت كل رقته يف حلظة وعاد وجه الذئب للتحكم عندما‬ ‫�إليها ً‬
‫قب�ض عليها بق�سوة‪ ،‬ووجهه انخف�ض و�أخربها بنربة مل ت�ستطع �أن حتدد‬
‫أريدك الآن‪ ،‬ثم �ستحا�سبني على كل‬ ‫معاملها‪« :‬ما �أريده ي�أتي � ًأول و�أنا � ِ‬
‫أكاذيبك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫�‬
‫تهدلت يداها بجانبها با�ست�سالم يائ�س مقهور وتركت لذئبها يحرر‬

‫ع‬
‫كبته وغ�ضبه‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أفلتت منها �شهقة قوية وهي حتاول كبت ن�شيجها‪� ،‬أم�سكت طرف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ال�شر�شف بقوة تلف نف�سها به‪ ،‬ال مل يكن �شعو ًرا باالنتهاك هو ما �أح�سته‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫بل الذل والهوان والأمل‪ ،‬اال�شمئزاز الذي يغالب مالحمها ويجعلها تتمنى‬

‫ع‬
‫املوت يف تلك اللحظة‪ ،‬بل مت َّنت لو �أنها ماتت يوم �أن ذاق والدها ذلك‬
‫الك�أ�س الذي �شرب منه العديد من �ضحاياه‪ ،‬ليته مل ينقذها ومل ي�صل‬
‫�إليها‪ ،‬ليته تركها لتعي�ش االمتهان على يد �آخر غري الرجل الوحيد الذي‬
‫�أحبته ب�صدق‪� ،‬أغلقت عينيها بوجل من تلك الأفكار املتطرفة التي تغزوها‬
‫من تلك الق�سوة التي احتلت عقلها‪« ،‬رباه‪ ،‬هل متنت �أن تقع يف َ�ش َر ِك‬
‫جتارة الرقيق �أو بيع الأع�ضاء ً‬
‫بدل ع َّما تعي�شه مع �سائد؟»‬
‫�أجه�شت بالبكاء غري قادرة على احتمال جنونه وتطرفه واحتقاره لها‬
‫واتهامه دون �أن مينحها حق الدفاع واال�ستماع‪� ،‬أح�ست ب�أ�صابعه القا�سية‬
‫عل وعينيه ال�سوداوين ب َّرقتا‬
‫مت�سك بكتفيها وتديرها �إليه ينظر لها من ِ‬
‫بغ�ضب خميف‪ ،‬وقال ب�صوت منخف�ض ج َّمد الدماء يف عروقها بينما‬
‫ترحمك مما‬ ‫ِ‬ ‫انخف�ض وجهه ليبتعد عنها م�سافة ال ُت ْذ َكر‪« :‬كذبة ِ‬
‫حملك لن‬
‫حقيقتك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫بك بعد �أن علمت‬ ‫�أنتوي فعله ِ‬

‫‪142‬‬
‫فتحت عينيها تنظر له من بني دمعها املن�ساب‪ ،‬ورماد عينيها املنطفئ‬
‫يتحول لرماد باهت ميت‪ ،‬فقد حتى ملعة بريق احلياة‪ ،‬مل تخف منه‪،‬‬
‫وقد فقدت كل �شيء بالفعل‪ ،‬حتى وهو ي�ضغط ذراعيها ب�أظافره ويغر�س‬
‫خمالبه يف حلم ج�سدها املنهك‪ ،‬يهددها ج�سد ًّيا‪ ،‬وقد بدا قاد ًرا على‬
‫�إيذائها حقيقة‪.‬‬
‫�أطلقت �ضحكة مريرة جعلته يجفل للحظات وك�أنه كان يتمنى بداخله‬
‫� َّأل ُيزْ َر َع ذلك الطفل يف �أح�شائها حقيقة وهو ي�سمعها تقول‪:‬‬

‫ع‬
‫علي ليدمر‬
‫«مل �أكذب‪ ،‬يبدو �أن القدر يخدمك ب�شكل جيد‪ ،‬ويتواط�أ َّ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�آخر ما تبقى مني‪� ،‬أنا �أحمل يف ابن حرام يا �سائد‪ ،‬هذا ال يقبل ال�شك‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫رفع ك َّفه بغ�ضب مي�سك خ�صالت �شعرها الق�صرية‪ ،‬وجذبها بق�سوة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫أم�س�سك �إال منذ �شهر‬
‫ِ‬ ‫راف ًعا �إياها نحوه وقال من بني �أ�سنانه‪�« :‬أنا مل �‬
‫أنت �أ�سريتي هنا كيف ت�أكدتِّ ؟»‬
‫م�ضى‪ ،‬و� ِ‬
‫�أغلقت جفناها �سري ًعا وج�سدها كله جتتاحه رع�شة خوف‪ ،‬انكم�شت ال‬
‫�إراد ًّيا حتيط نف�سها بكلتا ذراعيها‪ ،‬ثم ما لبثت �أن قالت بنربة مرتعبة‪:‬‬
‫«�أنا �أعرف بع�ض القواعد الب�سيطة يف الطب والت�أكد من احلمل ال يقبل‬
‫ال�شك خا�صة مع ت�أخر ‪»...‬‬
‫�أغلق جفناه وارتخت �أ�صابعه من حولها‪ ،‬وخرجت �أنفا�سه بزفري‬
‫و�شهيق عدة مرات‪� ،‬صوتها املرجتف مع رعبها الوا�ضح كان ُغ َّ�صة �أخرى‬
‫تذكره مب�شهد م�شابه من املا�ضي‪ ،‬فتح جفناه لت�صعقه رغبته العنيفة بها‪،‬‬
‫نظراته التي انحدرت تلتهم ج�سدها العاري مرغ ًما‪ ،‬ما زال يريدها‪ ،‬ما‬
‫زالت رغبته مل تنطفئ فيها‪ ،‬ما الذي يحدث معه؟ ما ال�سلطة التي متتلكها‬
‫متا�س بينهم‪ ،‬وهو‬
‫ابنة غ�سان عليه؟ ملاذا يهدر عقله مطال ًبا بها عند كل ٍّ‬
‫الذي رف�ض االقرتاب من ن�ساء يفوقونها ً‬
‫جمال وبراء ًة؟!‬
‫‪143‬‬
‫هزَّها بقوة وقد فقد بروده ل�صدمته يف نف�سه‪« :‬تق�صدين � ِ‬
‫أنك تعرفني‬
‫بنف�سك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫نه�شت �أج�سادهم‬
‫كيف تخديرهم‪� ،‬أو رمبا ِ‬
‫رغم القهر الذي يحيط بها هتفت فيه ب�صوت مبحوح �إثر ُبكا ِئها‪:‬‬
‫«�أنت غبي جاهل يا �سائد‪ ،‬كيف تعتقد �أين فعلتها‪ ،‬درا�ستي �إدارة الأعمال‬
‫يا �أحمق ولي�س الطب‪».‬‬
‫رفع يده ال �إراد ًّيا لي�ضربها �إال �أنها توقفت يف الهواء للحظات‪ ،‬ور�أ�سها‬
‫يرتفع �سري ًعا لتتبع حركة يده بذعر‪ ،‬وارجتاج ج�سدها بني ذراعيه يرتفع‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بوترية م�ؤملة‪ ،‬جتمدت �أطرافه بردًا رغم دفء الغرفة من حولهم‪ ،‬مل ميهل‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫لثوان وهو يقفز من الفرا�ش وقد �صدمه ما وجده يف نف�سه‪،‬‬ ‫نف�سه التفكري ٍ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫رمبا فعل الكثري من الأ�شياء ال�سيئة معها‪ ،‬الكثري من احل�ضي�ض الذي‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫حر�ص �أن ي�شعرها به ولكن �أن ي�صل غ�ضبه ل�ضربها‪� ،‬أن يرميها بامتهان‬
‫�إىل �أ�سفل الدرك‪ ،‬للحظات وقف يف منت�صف الغرفة م�ضطر ًبا‪ ،‬ويف نف�سه‬
‫اكت�شافات مما عرفه عندما هدر حماد مبا قاله‪ ،‬تذكر كيف جاء للمنزل‬
‫وبدون تردد كان يتوجه لغرفتها التي اعتقدت احلمقاء �أنه من املمكن �أن‬
‫ي�سمح لها بالتواجد فيها‪ ،‬وهناك علم دون �أن يجهد نف�سه بتلك احلقيبة‬
‫التي كانت تد�سها بني مالب�سها بحذر ومل يهتم من قبل �أن يكت�شف ما‬
‫بداخلها معتقدً ا �أنها جمرد حقيبة ن�سائية رمبا ال حتتوي �أكرث من بع�ض‬
‫ذكريات حياتها ال�سابقة‪ ،‬ولكنه الآن علم بحقيقتها التي قتلت جز ًءا‬
‫متمردًا منه كان يريد �أن يثور ليجعله ي�شعر بالتعاطف نحوها‪ ،‬حترك‬
‫نحو اخلزانة ي�سحب بع�ض املالب�س لنف�سه‪� ،‬سمعت دجوى �صوت حفيف‬
‫مالب�سه ب�صمت يخالطه الرعب غري قادرة على التحرك �أو االعرتا�ض‬
‫�أو حتى الهرب‪ ،‬الهرب من ماذا و�إىل �أين وقد خ�سرت كل حربها بالفعل‪،‬‬
‫�أتهرب من موت ملوت �آخر ينتظرها؟!‬
‫‪144‬‬
‫�سمعها تقول من بني بكائها الذي مل يتوقف ب�صوت م�ضطرب يخالطه‬
‫الت�شو�ش ك�أنها فقدت جز ًءا من عقلها �أو حتى مل ت ِع ما تقوله‪�« :‬أنا ال �أريد‬
‫طفلك‪ ،‬يجب �أن ميوت‪� ،‬أنا �س�أفعل امل�ستحيل لإجها�ضه‪ ،‬حتى و�إن فقدت‬
‫حياتي معه‪� ،‬أنا ل�ست من غابتك يا �سائد كي �آتي بطفل ال يحمل هوية‪،‬‬
‫طفل جاء من حرام عرب خداعك وانتهاكك يل‪».‬‬
‫ا�ستدار نحوها بربود بعد �أن �سمع ما قالته‪ ،‬بينما يخفي انفعاالته وبدا‬
‫بوغ َت ب�آخر ما يتوقعه منها؛ تقتله ومتوت معه‪.‬‬ ‫وك�أنه ِ‬

‫ع‬
‫«ومنْ قال‪:‬‬
‫�سار نحوها مرة �أخرى وبهدوء غريب جل�س بجانبها وقال‪َ :‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�إنه طفلي يا دجوى؟»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫ح َّدقت مذهولة بوجهه ال�صلب ومالحمه اجلامدة‪ ،‬بريق غ�ضب‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫وح�شي ملع يف عينيه املت�أججة دائ ًما بنريانه كيف غفلت عنها يف املا�ضي؟‬
‫متى تاهت عن حنكتها وذكائها؟ غريزتها اللتقاط اخلطر وال�شعور بال�شر‬
‫الذي يرتب�صها وقد حمتها غريزتها تلك خلم�س �سنوات‪ ،‬متتمت برعب‬
‫يخالطه الذعر‪« :‬ماذا تعني �أنه لي�س طفلك؟ �أنا مل مي�س�سني غريك‪».‬‬
‫للحظات فقط �شتت انتباهه ج�سدها الذي يرتع�ش ب�شدة دون قدرة‬
‫لها على التوقف‪ ،‬عب�س وهو ي�ضيق ما بني عينيه‪ ،‬هل �أو�صلها لدرجة من‬
‫اخلوف واجلزع جتعلها تفقد �شعورها بربودة ج�سدها كل هذا الوقت؟‬
‫رمبا هو ال يهتم‪ ،‬رمبا هذا هدفه من البداية‪ ،‬ولكن م�ؤكد هو ال يريد �أن‬
‫يفقدها �سري ًعا دون مقاومة منها‪ ،‬دون تلك القوة والتحدي الذي مل�سه‬
‫فيها من قبل والتي مل ت َْط ُف لل�سطح بعدُ‪ ،‬م َّد كفاه و�سحب الغطاء الثقيل‬
‫بهدوء كان يل ُّفه حول ج�سدها ب�إحكام‪ ،‬نظرت �إليه غري م�صدِّ قة فرتاجعت‬
‫للخلف َو ِج َلة يف حماوله م�ضنية للهرب منه‪ ،‬قال �أخ ًريا بذات الهدوء‪:‬‬
‫ونهايتك يا دجوى‪».‬‬
‫ِ‬ ‫بدايتك‬
‫ِ‬ ‫يوما‪� ،‬أنا‬
‫مي�س�سك غريي ً‬
‫ِ‬ ‫«ولن‬

‫‪145‬‬
‫قالت با�ضطراب وك�أن عقلها الباطن مل ي�ستوعب هدف �سائد احلقيقي‬
‫لت�شوي�شها ودفعها للجنون‪ً �« :‬إذا ماذا تعني �أنه لي�س طفلك؟!»‬
‫�صمتت للحظة واحده قبل �أن تتو�سع رماديتها بذهول وك�أن �صورة ما‬
‫مرعبة مرت بعقلها‪� ،‬شهقت دجوى بذعر بينما تراجعت �ضا َّمة نف�سها منه‬
‫تت�شبث بالغطاء الذي �سرتها هو به م�سب ًقا‪ ،‬بالفعل كانت ال�صدمة من‬
‫ن�صيب �سائد هذه املرة عندما �سمعها تخربه بوجل وك�أنها امر�أة فقدت‬
‫عقلها بالفعل‪« :‬رباه‪ ،‬هل خدرتني يف مرحلة ما وجعلت �أحدهم يعتدي‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫علي؟!»‬
‫َّ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫انتف�ضت من جديد وارتع�شت �شفتاها بينما تلتف قب�ضتاه حول‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ذراعيها ليم�سكها منهما ويهزها بقوة و�صوته يزداد �صالبة وهو يخربها‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫بعقلك �أين �س�آتي برجل‬
‫ِ‬ ‫كربت فيها ليخطر‬
‫من بني �أ�سنانه‪�« :‬أي قذارة ِ‬
‫�آخر يلم�س زوجتي؟!»‬
‫انحدرت عيناها نحو �شفتيه نحو �صراخه املتملك واعرتاف ترتجاه‬
‫منه‪ ،‬تتع�شم فيه بغباء هم�ست بتو�سل مرير‪« :‬زوجتك!»‬
‫توقف كل �شيء للحظات‪ ،‬بينما براكني اخلطر تتفجر حولها‪ ،‬الغمو�ض‬
‫أنت زوجة يف‬
‫عاد يكت�سي مالحمه وهو يت�أمل التعابري امل�ؤملة على وجهها‪ِ �« :‬‬
‫قانوين‪� ،‬أنثاي يا دجوى‪ ،‬و�أنثى الذئب ال يجر�ؤ �آخر على النظر نحوها و�إال‬
‫كنت مرغمة‪».‬‬ ‫وحياتك �ستكون الثمن حتى لو ِ‬
‫ِ‬ ‫حياته‬
‫نرباتها املجروحة املت�أملة جاءت بغرغرة متوجعة وقالت‪« :‬و�أمام اهلل‬
‫�أنا زانية‪ ،‬خدعتني وحولتني لغانية‪ ،‬و�أنا �أعلم ببطالن ما يحدث‪ ،‬بل �أعلم‬
‫بجهنم التي تنتظرين وبالعار الذي ح َّملتني �إياه‪ ،‬فما تقوله ال ميت �إىل �أي‬
‫�شريعة �سماوية يا �سائد‪».‬‬
‫‪146‬‬
‫توح�شت مالحمه وهو يبت�سم ابت�سامة خميفة‪ ،‬ثم ما لبث �أن حترك‬
‫نحو الأوراق التي �ألقاها �ساب ًقا عندما �أخ�ضعها لرغبته فيها‪ ،‬انحنى‬
‫ليلتقط ذلك املغلف وق َّلب فيه بربوده اجلليدي املعتاد وقال‪« :‬الأمر ال‬
‫ي�شكل فار ًقا َّ‬
‫لدي‪».‬‬
‫ج َّفت مقلتاها من دمعاتها و�أ�صاب قلبها كتلة من النرتوجني فجمدته؛‬
‫�إذ �أ�صبحت ال ت�شعر بالأمل ال�شديد من تلك الطعنات املوجهة �إليها‬
‫ب�صمت‪ ،‬روحها تخفت ببطء‪ ،‬اال�ست�سالم املرير يكبل كل جزء منها‪،‬‬

‫ع‬
‫بينما يدها التي تختبئ حتت الغطاء كانت مت�سد �أح�شاءها ال �إراد ًّيا‪،‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تنازل �أخ ًريا وقال بنربة مرعبة متهكمة مل ت�صل �إىل عقلها املجمد بفعل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫أنك زانية‪ ،‬ومل ت�شعري‬ ‫خطورتها‪« :‬تخافني جهنم دجوى! ت�شعرين بالعار ل ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫متتمت دجوى بهم�س مرهق وك�أنها ا�ستنفدت كلواقدرةلتلهاوز عي‬
‫ب�أي ندم و�أنتم تختطفون حثالة ال�شوارع؛ لتفرغوا �أج�سادهم ال�صغرية‬
‫من �أجل املال و�شرا�سة نفو�سكم القذرة‪».‬‬
‫بالدفاع عن‬
‫نف�سها‪« :‬مل �أ�شرتك يف �أفعالهم ومل �أفرغ �أحدً ا‪ ،‬متي �ست�صدقني؟»‬
‫يوما‪».‬‬
‫أ�صدقك ً‬
‫ِ‬ ‫قال بجفاف‪�« :‬أنا لن �‬
‫�صمت لربهة لي�ستعيد �سيطرته على ذاته‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال‪« :‬النهاية‬
‫فا�سمك يحتل تلك امل�ستندات‬
‫ِ‬ ‫حلقيقتك �شيء‪،‬‬
‫ِ‬ ‫واحدة‪ ،‬لن يختلف اكت�شايف‬
‫بالفعل والعديد من ال�صفقات يذ ِّيلها �إم�ضا�ؤك‪».‬‬
‫ب�ساقني مرتع�شتني كانت جتاهد للوقوف �أخ ًريا ومواجهته‪ ،‬قالت بقهر‪:‬‬
‫لعلمت �أن ذلك لي�س �أنا وال �إم�ضائي‪،‬‬
‫َ‬ ‫«�إن در�ستها ح ًّقا كما كنت ت َّدعي‬
‫�إمنا حماولة من قتلة والدي لإ�شراكي يف الأمر ت�أمي ًنا لأنف�سهم �إن جتر�أت‬
‫وب َّلغت ال�شرطة بعد معرفتي بكل �شيء‪».‬‬
‫‪147‬‬
‫قاوم رجفة عنيفة هزَّت �صدره من تخيله ملا تقوله‪ ،‬ال ينكر �أنها يف‬
‫مرحلة ما من وجودها بني ذراعيه وا�ستجابتها املخزية لكل اجتياح بري‬
‫منه‪ ،‬جعلته ال ي�شك فقط مبا ر�آه‪ ،‬بل �أعادت برجمة عقله للثقة يف براءتها‪،‬‬
‫ب�أن هناك تف�س ًريا ما الكت�شافه‪.‬‬
‫مل ير َّد عليها فاقرتبت هي خطوة �أخرى مرتددة و�أخربته ب�صوت �أخذ‬
‫يف الثبات‪�« :‬أنت قلت‪� :‬إنه لن يختلف م�صريي معك؛ لذلك �أنا �أخربك‬
‫احلقيقة‪� ،‬أما ت�صديقك لها من عدمه مل يعد يفرق معي‪».‬‬

‫ع‬
‫مكافحا نف�سه � َّأل يت�أملها مرة �أخرى‪ ،‬فالنظر �إىل عينيها‬ ‫تقب�ضت يداه‬

‫ص‬
‫ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫املت�أملة �أجلم كل خلجة يف �صدره عندما �أكملت بهدوء ظاهري‪�« :‬أنا علمت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بكل �شيء قبل موت والدي ب�أيام معدودة عندما تعر�ضت �أنا ‪»...‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫قطعت جملتها تلجم نف�سها مقاوم ًة ذلك الأمل واملرارة وال�صدمة‬

‫ع‬
‫التي تعر�ضت لها �إثر اكت�شافها‪ ،‬قاومت �أمام عينيه موجة �أخرى من الأمل‬
‫نف�سا مهتزًّا و�أكملت مبرارة‪�« :‬أنت تعلم �أن‬ ‫واالنك�سار واخلزي‪� ،‬أخذت ً‬
‫غ�سان الها�شم مات ً‬
‫مقتول‪».‬‬
‫هز �سائد ر�أ�سه ب�صمت موافق يراقب دمعها الذي ان�ساب دون �إرادة‪،‬‬
‫قالت ب�صوت مرجتف‪« :‬عندما ُق ِت َل‪ُ ،‬ق ِّي َد احلادث �أنه انتحار ولكن وحدي‬
‫كنت �أعلم احلقيقة‪ ،‬علمت �أنه عندما حاول �أن يوقف ما يفعله قتلوه‬
‫بوح�شية دون رحمة‪».‬‬
‫ليرتكوك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫عاد جلفائه وقال بربود‪« :‬كاذبة مرة �أخرى‪ ،‬مل يكونوا‬
‫قليل ت�سند نف�سها عليه وقالت م�ست�سلمة‬ ‫تراجعت نحو احلائط ً‬
‫بب�ساطة‪« :‬مل ي�ستطع «فهمي» وقتها؛ لأن كل �شيء كان با�سمي ويجب‬
‫�أن ي�ستويل عليه‪ ،‬فقام بتزوير ما بني يديك‪ ،‬ثم ا�ستوىل على كل �شيء‪،‬‬
‫وطردين �أنا و�أمي من ممتلكاتنا‪».‬‬
‫‪148‬‬
‫كالمك‬
‫ِ‬ ‫اقرتب منها �سائد بتمهل و�س�ألها بحذر مت�شكك‪« :‬كيف؟!‬
‫متناق�ض‪».‬‬
‫قالت بتيه وهي ت�ضع يدها على بطنها امل�سطح و�أخرى على جبهتها‬
‫علي‪».‬‬
‫وك�أنها تقاوم نوبة �إغماء �إجبارية‪« :‬هذا كثري َّ‬
‫قاوم رجفة ورع ًبا هو الآخر‪ ،‬بينما تنزلق عيناه تتبع مت�سيد بطنها على‬
‫تلك النطفة التي �سكنت �أح�شائها‪ ،‬ومالحمها ال�ضعيفة تذكره مبعاناة‬
‫�أخرى هم�ست له برعب يف تلك اخلرابة التي امتلكها فيها �أول مرة عندما‬

‫ع‬
‫تفاعلت �أج�سادهم املراهقة غري قادرين على مقاومة تلك احلاجة التي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�صرخ بها كالهما‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫«�أنا حامل يا �سائد‪ ،‬تلك املر�أة التي تك�شف على بنات الوكر �أخربتني‪،‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫أحد ما‪� ،‬س�أموت يا �سائد ت�ص َّرف‪».‬‬
‫�سيقتلون طفلي �أو يبيعونه ل ٍ‬
‫نف�ض من ذاكرته بكاء �آية املتهدج‪ ،‬وهو يتتبع ب�أمل ج�سد دجوى الذي‬
‫انخف�ض ببطء على احلائط �إىل �أن جل�ست على �أر�ض الغرفة وقالت‬
‫به�ستريية نافية‪« :‬مل �أقتل �أحدً ا‪ ،‬يجب �أن ت�صدقني‪ ،‬فهمي �أطلق العديد‬
‫من كالبه نحوي‪ ،‬وتلك الأوراق التي بني يديك كانت لإ�سكاتي‪ ،‬وح�صلت‬
‫عليها لأن كل من يعتقد �أنه ذكي له ثغرة ما‪ ،‬وثغرة الغبي �أنه مل يغري �أرقام‬
‫خزانة �أبي يف ‪»...‬‬
‫انخف�ضت نرباتها بخزي و�أمل ثم قالت‪« :‬يف ذلك املكان املجهز والذي‬
‫ُتخزَّن فيها �أع�ضاء الأطفال قبل بيعها‪ ،‬ملاذا ُت�صر على �إيالمي وتذكريي‬
‫�أنه �سادي حقري؟ �أال يكفي ما تفعله �أنت؟»‬
‫جثا على ركبتيه �أمامها وبح�سبة �سريعة �أدرك �أن دجوى ُتخبئ �أكرث‬
‫بكثري مما اعتقد‪� ،‬ستو�صله للعديد منهم ب�سهولة؛ �ألهذا ما زال البحث‬
‫عنها م�ستم ًّرا؟ �ألهذا يريدونها حية قبل قتلها؟ ولكن ِ َل �صمتوا عنها‬
‫‪149‬‬
‫خلم�س �سنوات كاملة؟ وك�أنها �سمعت ت�سا�ؤالته فرفعت وجهها تخربه‬
‫بوجوم‪:‬‬
‫«قتلي �أو اختفائي بعد الإ�شاعات التي دارت حول �أعمال �أبي امل�شبوهة‬
‫جعلتهم يتوقفون بالفعل‪ ،‬ومالحقتي بالطبع وقتها كانت �ست�ؤكد احلقيقة‪،‬‬
‫وح ِب َ�س بع�ض الأطباء لوقت ثم �أُ ْط ِلقَ‬
‫بعد �أن ك�شفت �أحد �أوكارهم القذرة‪ُ ،‬‬
‫�سراحهم لعدم وجود �أدلة كافية �أو حتى �أثر لتجارتهم يف ذلك املكان‪».‬‬
‫قليل تعود لتحاوط معدتها‬ ‫تغ�ضنت مالحمها ب�أمل فمالت �إىل الأمام ً‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫بقوة وقالت ببهوت‪�« :‬أنا �أعلم عنهم �أكرث مما يتوقعون‪ ،‬ولكنك لن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ت�صدقني �إن �أخربتك‪».‬‬

‫بقبل ل�لأن �نأعرف �أنك بنف�سك قاتلي‪».‬‬


‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬
‫فج�أة وقالت بنربة جريحة �ساخرة‪« :‬كنت �أنتوي‬ ‫ال�شاحب‬ ‫رفعت وجهها‬

‫و‬ ‫ت‬
‫والذيزييتلب�سه‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫عندما ي�أتي ذكر �أبيها �أو تتو�سله لإطالق �سراحها ً ع‬
‫�إخبارك لتبعدهم عني وحتميني‪،‬‬
‫فيه‬ ‫قاطعها بذلك ال�صوت الذي م َّيزت انعدام الرحمة‬
‫قائل‪�« :‬أخربيني‬
‫لك‬
‫هدرك ورمبا بعدها �س�أترك ِ‬
‫ِ‬ ‫ت�صديقك لعقلي‪ُ ،‬ك ِّفي عن‬
‫ِ‬ ‫واتركي حرية‬
‫أرميك‪».‬‬
‫بع�ض البقايا لتحيي بعد �أن � ِ‬
‫َ�ش َح َب وجهها حتى ما َث َل لون جثة ماتت بالفعل‪ ،‬بينما رماد عينيها‬
‫يتحول للون ال�سحاب املح َّمل ب�أمطار لن تن�ضب من البكاء على �أطالل‬
‫مدينة حزينة حتطمت يف مواجهة �إع�صار‪ ،‬وقالت‪�« :‬سائد‪ ،‬اترك طفلي‪،‬‬
‫اترك يل ابني واجعلنا نبتعد و�أنا �س�أخربك كل ما تريد للق�ضاء عليهم‪».‬‬
‫حترك وجل�س بجانبها‪ ،‬وامتدت ذراعاه تطوقها‪ ،‬وانخف�ضت ك َّفاه‬
‫«كنت تريدين قتله منذ دقائق‬
‫لتالم�س بطنها امل�سطح وقال بنربة غريبة‪ِ :‬‬
‫دجوى‪».‬‬
‫‪150‬‬
‫اختنقت وهي تقول بنربة عاجزة‪�« :‬أنا ال �أريد قتله‪ ،‬ولكنك قلت‪� :‬إنك‬
‫�ستفعل به ما فعلوه بطفلك‪� ،‬أي قلب �صخر حتمل بداخلك؟ �أي جنون‬
‫يتملك عقلك؟ �أنا ال �أ�صدق»‬
‫من امل�ؤكد �أنها مل تر ذلك الأمل املتعاقب الذي طعن �صدره و�صعد‬
‫ليح ِّول تقا�سيم وجهه لنوبة من ال�ضعف والوجع‪ ،‬تقب�ضت يداه �أكرث حولها‬
‫اكت�شفت ما فعل؟»‬
‫ِ‬ ‫وقال متجن ًبا حديثها‪َ ِ :‬‬
‫«ل قتلوه؟ وكيف‬
‫الت َّفت بني ذراعيه تطوف عيناها مبالمح وجهه وقالت بخفقة موجعة‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫«حدث بينهم خالف فوجدين على طاولة م�شرحته جاهزة لنقل �أع�ضائي‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫احليوية‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫أنكنلن‬ ‫ب‬
‫وهو يقول بعدم ت�صديق‪« :‬ماذا؟!»‬ ‫�سائد‬ ‫�شحب وجه‬

‫زيتتق‬
‫ع َّب�ض‬ ‫ويداه‬ ‫دون وعي �أو تعليق �آخر كان ي�ضمها بقوة بني وال‬
‫ذراعيهتو‬
‫ت�صدقني‪».‬‬ ‫أخربتك �‬ ‫�ضحكت ب�أمل وقالت‪�« :‬‬

‫ب�إع�صار حول بطنها امل�سطح‪ ،‬تعلقت عيناه يف عينيها ب�صمت مطبق‪ ،‬غري‬
‫قادر على ك�سر تلك املرارة التي �أحاطت كليهما‪ ،‬مل ت�ستطع �أن ت�صمت‬
‫�أكرث وهي تقول بت�شنج بينما ترتفع يداها ت�ستند على �صدره العاري ب�أمل‪:‬‬
‫«هل �صدمك �أن �آية لي�ست فقط من واجهت امل�شرط يا �سائد‪� ،‬أم و�سط‬
‫اغت�صابك يل مل ت َر ذلك ال�شق الذي ُيزين خ�صري؟!»‬
‫عادت لل�صمت مرة �أخرى لربهة ثم �أردفت‪« :‬ما �أ�صعب �أن �أمنحك كل‬
‫�شيء‪� ،‬أن �أتع�شم فيك كل �شيء‪ ،‬قمة �أملي منك �أن تكون كل �شيء وال �شيء‪،‬‬
‫لقد وهبتك قلبي وثقتي وحبي‪ ،‬و�أنت منحتني ال�ضياع واخلزالن فلم �أعد‬
‫�أعلم هل املوت على يدك �أهون �أم ت�سليم نف�سي �إليهم لينه�شوين �أرحم‬
‫على قلبي وطفلي من اغتيالك �أنت؟»‬
‫‪151‬‬
‫مل يرد لوقت طويل وت�ضا ُرب م�شاعره حتارب بو�ضوح براكني عينيه ما‬
‫بني التعاطف والرتدد والق�سوة‪ ،‬مل ت�شعر دجوى �إال بتلك الطعنة اخلفيفة‬
‫هام�سا بجانب �أذنها‪:‬‬
‫املعتادة ويداه تتقب�ض حول طفلها بقوة وهو مييل ً‬
‫لك �أبدً ا ب�إخراج ذلك ال�صغري قبل �أن يحني موعد انتقامي‬ ‫«لن �أ�سمح ِ‬
‫عقلك قبل �أن‬
‫أنت �ستخربينني بكل �شيء يا دجوى‪ ،‬و�ضعي يف ِ‬ ‫منك‪ ،‬و� ِ‬
‫ِ‬
‫أنت �أنثاي يا ابنة غ�سان‬
‫إليك �س�أكون قد مزقتهم بالفعل ب�أ�سناين‪ِ � ،‬‬
‫ي�صلوا � ِ‬
‫يقتلك ببطء �أحد غريي‪».‬‬
‫ولن ِ‬

‫ع‬
‫‪q q q‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ما بني اخلري وال�شر خيط رفيع‪ ،‬مياثل �شعرة متق�صفة هزيلة ال حتتاج‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أكرث من جذب �إ�صبع لتنهار وتت�ساقط‪ ،‬فيختلط الأ�سود بالأبي�ض‪ ،‬وبردة‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫فعله من �أدغال الطبيعة ي�سود الأ�سود ويتعاظم ويتفاقم؛ لتنقلب كل‬

‫ع‬
‫املعادلة في�صبح املطالب باحلق ظاملًا‪ ،‬والربيء جمرد قاتل عابر طريق‬
‫بدون تردد حيث ال رجعة منه‪ ،‬حيث ال �سبيل من خالله �إال نحو الندم‬
‫والفقد‪ ،‬حيث لن يرتك �إال الوجع والأمل ومرارة اخل�سارة‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫منذ �ساعة �أو �أكرث يحوم ثالثتهم كذئاب �شر�سة قررت �أن تتحرك‬
‫نحو �أول انتقام حقيقي رمبا ي�شفي بع�ض غليله‪ ،‬ولكن ما بال انت�صارك‬
‫طعمه م ٌّر يا �سائد؟! هل هزتك تلك الب�شرة الرقيقة التي مل�ستها و�أنت‬
‫تعلم �أن بذرة �أخرى منك ُزر َِعت بداخلها؟! نطفة مل ُت ِر ْد غر�سها هناك‬
‫عندما كنت تعذب رماد طريك الذبيح‪ ،‬ت ًّبا ما اجلرمية التي افتعلها وهو‬
‫عاما؟ طفل من دجوى من ابنة‬ ‫يعلم م�صريه الذي ُحدِّ د منذ خم�سة ع�شر ً‬
‫غ�سان الذي انتوى �أن ي�صحبها معه يف اجلحيم‪� ،‬صغري ي�أتي به لتلك‬
‫الغابة لي�صبح عر�ضة لوحو�شها �آكلي اللحوم الب�شرية‪.‬‬
‫‪152‬‬
‫«�سائد هل �أنت بخري؟» جفل للحظة وهو يحدِّ ق يف وجه عمر دون‬
‫تعبري ُي ْذ َكر‪� ،‬ض َّيق �إبراهيم ما بني عينيه م�ستعج ًبا �إذ مل ير مديره ال�سابق‬
‫و�شريكه احلايل م�شتتًا من قبل‪ ،‬انخف�ض عمر بقامته ي�ساوي جل�سة‬
‫هم�سا‪« :‬ما الذي يحدث‬ ‫�صاحبه التي مل يتحرك منها منذ �ساعات‪ ،‬وقال ً‬
‫معك؟ وملاذا تهرب هنا منذ يومني؟»‬
‫احتقن وجه �سائد بالغ�ضب وهو يقول بتجهم‪« :‬ماذا تعني �أين �أهرب؟‬
‫�أال تراين بينكم؟»‬

‫ع‬
‫نف�سا عمي ًقا م�ص ًربا نف�سه حتى يعلم ما الذي ي�شغل بال‬ ‫�أخذ عمر ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�صاحبه عن ق�ضيتهم الأ�سا�سية‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال بخفوت‪« :‬منذ ليلة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫زفايف ‪� -‬أي منذ �شهر م�ضى ‪ -‬و�أنت ل�ست �سائد الذي �أعرفه‪ ،‬كما �أين‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫�أعلم �أنك تبيت يف ال�شركة ليلتني متتاليتني‪».‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات‪ ،‬وكل منهما ينظر للآخر بعمق كا�ش ًفا كل‬
‫خلجة داخل روحه دون �أن ينطق �سائد الذي ُج ِّر َد من امل�شاعر الإن�سانية‬
‫ل�سنوات‪ ،‬عقد عمر حاجبيه وذلك اخلاطر �أجفله هذه املرة بينما الآخر‬
‫�أ�سبل �أهدابه وقال بهدوء ال يعك�س جحيمه الذي يحياه‪:‬‬
‫«تعرف �أين لن �أخربك �إال ما �أريد؛ لذا دعنا نقول‪� :‬إننا بد�أنا �ساعة‬
‫ال�صفر و�أحتاج لكل �ضبط نف�س �أ�ستطيع احل�صول عليه‪ ،‬فالتنقل بني‬
‫حياتني لي�س بال�شيء ال�سهل‪».‬‬
‫ابت�سامة بطيئة خبيثة ارت�سمت على �شفتَي عمر وهو ين�صب ج�سده‬
‫مرة �أخرى وقال‪�« :‬أتذكر �أن حتطيمها كان هدفك‪ ،‬ولي�س ت�شتيتك وفقدان‬
‫�سيطرتك‪».‬‬
‫مل ي�أته الرد فعلم �أنه دخل قوقعته الباردة املغلقة مرة �أخرى‪ ،‬ومن‬
‫يلومه؟ لقد مر على زواجه هو الآخر �شهر كامل �شهر بني �أركان اجلنة‬
‫‪153‬‬
‫مع �أكرث امر�أة متلك �صفات فطرية نقية‪ ،‬امر�أة حنونة و�شجاعة‪ ،‬عنيدة‬
‫مندفعة‪ ،‬حاملة ومتلك قل ًبا من الذهب ونقا ًء مياثل الطفولة‪ ،‬ولكنها‬
‫للأ�سف تفقد احلكمة وا�ست�شعار اخلطر‪.‬‬
‫ابت�سم ب�أمل متذك ًرا �أحالم امر�أته وحبيبة قلبه يف بيت دافئ وزوج‬
‫حمب و�أطفال‪ ،‬متنحهم �إياه لتعو�ضه كل �آالمه‪ ،‬ليت با�ستطاعته حتقيق‬
‫كل �أمانيها‪ ،‬ولكنه بالت�أكيد لن ي�ضنَّ عليها بقلبه وحبه وع�شقه طاملا ما‬
‫زال يف �صدره نف�س يرتدد‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�سمع �صوت �سائد ي�شركهم �أخ ًريا يف خطته لهذه الليلة والتي �ستكون‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�ضربة قا�ضية يتمنى من كل قلبه �أن تتم دون خط�أ‪ ،‬رمبا تنطفئ نريان‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫قلب �صديقه ً‬
‫قليل ويهد�أ حتى ليلة واحدة‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫«الليلة �ستكون نقطة التحرك يا �إبراهيم كالعادة‪� ،‬أنا �س�أذهب �إىل‬
‫ال�شارع‪� ،‬أما عمر دوره يف م�ست�شفى «فهمي» و�أنت بالطبع �ستتدبر �أمر‬
‫ذلك املخرب‪».‬‬
‫قال �إبراهيم واج ًما‪�« :‬أنت تخاطر بتواجدك هناك‪ ،‬كما �أين مل �أفهم‬
‫�إىل الآن ما العالقة التي تربط ح�سان بال�شبكة؟»‬
‫وتوجه نحو النوافذ الزجاجية الوا�سعة ملكتبه‬
‫وقف �سائد من مقعده َّ‬
‫يراقب ال�شارع الراقي �أ�سفل ال�شركة وقال بعينني قا�سيتني‪« :‬ح�سان هو‬
‫نقطة الو�صل‪ ،‬املوزع الرئي�س لر�ؤو�س الأطفال �أو حتى املراهقني ممن‬
‫ميلئون ال�شوارع‪ ،‬وما نرتب له ي�ستحقه‪».‬‬
‫ورغ ًما عنه فال زال ح�س ال�ضمري والواجب القانوين يتحكم يف جزء‬
‫منه‪ ،‬قال �إبراهيم بجمود‪« :‬حماد هو �أداتهم احلقيقية‪� ،‬أما ح�سان وغريه‬
‫جمرد حمرك ينفذون الأوامر‪ ،‬ف ِل َم ال ُنو ِق ُع بهم جمي ًعا ويحاكمون؟»‬
‫‪154‬‬
‫يوما هو تروي�ض الوح�ش بداخله والتحكم بانفعاالته‬ ‫�أف�ضل ما فعله ً‬
‫ً‬
‫�صارخا يف �إبراهيم‪ ،‬بل اكتفى �أن‬ ‫وغ�ضبه؛ لذا جمح جنونه حتى ال يلتفت‬
‫ذكره من بني �أ�سنانه بنربة قاطعة‪« :‬لقد وافقت على دخول دائرة االنتقام‬
‫متاما �أن تنفذ ما �أخططه �أنا‪».‬‬
‫ب�شروطي يا �إبراهيم؛ لذا �أنت ملزم ً‬
‫نفرت ع�ضالت �إبراهيم ال�ضخمة ومالمح وجهه تتل َّون بالغ�ضب‬
‫قائل‪�« :‬أنا ال �أنفذ �أوامر �أحد‪ ،‬وظيفتي تن�ص على حمايتك‪،‬‬ ‫والرف�ض ً‬
‫ولكن الآن الأمر �أ�صبح �شراكة بيننا جمي ًعا؛ لذا ر�أي كل واحد منا مهم‬
‫حتى ال ن�ضيع جمي ًعا‪».‬‬
‫خي ُت َك و�أنت من انزلقت يف النار‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫التفت له �سائد بحدة وقال‪« :‬لقد َّ ْ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بقدميك‪ ،‬ووافقت على �شروطي ب�إدارة الأمر‪� ،‬إن كنت مرتددًا ان�سحب‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫على الفور هذا حقك؛ لأين وعمر نعرف حتديدً ا ما نحن مقبالن عليه‪،‬‬
‫وما هي نهاية هذا الطريق‪».‬‬
‫قائل بنعومة قاطعة‬ ‫تدخل ً‬ ‫عندما �شعر عمر ببداية اخلالف بينهما‪َّ ،‬‬
‫وحا�سمة‪« :‬اهد�أ نحن ال نفر�ض قوة هنا‪� ،‬أدوارنا مر�سومة يا �إبراهيم‪ ،‬ولن‬
‫ن�أتي الليلة بالذات لرنجع يف خطة ُر ِ�س َمت بالفعل؛ لذا كما �أخربك �سائد‬
‫�إن كنت تريد االن�سحاب فالآن هي فر�صتك الأخرية‪».‬‬
‫جازما‪« :‬الأمر‬‫ت�شددت قب�ضتي �إبراهيم بجانبه‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال ً‬
‫منته يا عمر �إال �إذا كنتما ال ترياين ل�ست منكم حتى اللحظة‪».‬‬
‫ٍ‬
‫هز �سائد ر�أ�سه بي�أ�س ثم ا�ستدار َيزْ َفر ب�ضيق قبل �أن يقول ب�سيطرة‬
‫على الذات‪�« :‬إن مل ُن ِر ْد َك بيننا تتعاون معنا مل نكن لن�ضع �أعناقنا بني‬
‫يديك‪ ،‬هل هذا يريحك؟»‬
‫قبل �أن يجيبه �إبراهيم ب�أي �شيء كان �سائد يكمل بنربة �شاردة‪« :‬نحن‬
‫لن نخون �أبدً ا‪� ،‬إن منحنا عهدً ا نويف به و�إن جل�أ �إلينا �شخ�ص كنا عو ًنا له‬
‫‪155‬‬
‫نعامل كب�شر‬
‫نفتديه ب�أرواحنا؛ لأنه �أ�شعرنا ببع�ض الآدمية‪� ،‬إننا ن�ستحق �أن َ‬
‫ميكن الوثوق بهم‪ ،‬نحن ال نبيع �أو ننه�ش �إال من يغدر بنا �أو يكون من خارج‬
‫غابتنا‪».‬‬
‫توىل عمر دفة احلوار مرة �أخرى ليرتك �صديقه يف �شروده حتى‬
‫ي�ستطيع �أن يلملم روحه جيدً ا لي�ستطيع �أن يواجه ما �سيفعلون الليلة‪:‬‬
‫«لقد حر�صت �أنا على منح فهمي النجار اخلرب الكاذب عرب ذلك الطبيب‬
‫ال�صغري عن ح�سان والليلة هم �سرياقبونه؛ لذا يجب �أن يحر�ص الرجل‬

‫ع‬
‫الذي من طرفك �أن يظهر معه �أمام العيان‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قال �إبراهيم بذهن يقظ‪« :‬ال تقلق‪ ،‬املال يفعل امل�ستحيل‪ ،‬واحلديث‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الذي منحته �إياه عائم‪� ،‬أي �سي�ؤخذ على �أكرث من حممل؛ لذا من �سي�ستمع‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�إليهم بالت�أكيد �سيفهم �أن االتفاق على ت�سليم ه�ؤالء الأطباء ولي�س جمرد‬

‫ع‬
‫جتارة ح�شي�ش وباجنو‪».‬‬
‫�شارحا‪« :‬لقد �أغريت املخرب باملال قبل �أن �أ�شرح له �أن‬
‫قال �إبراهيم ً‬
‫ح�سان جمرم خطري ي�ضيع ال�شباب برتويج املخدرات‪ ،‬و�أريد �أن �أحكم‬
‫قب�ضتي عليه‪ ،‬ولكن قبلها يجب �أن �أعلم �أ�سماء باقي املروجني‪».‬‬
‫تدخل �سائد مقرت ًبا منهم وانحنى على املكتب وهو ي�شري لدائرة ما‬ ‫َّ‬
‫قد ر�سمها �ساب ًقا‪ ،‬وقال‪« :‬و�أنا ا�ستطعت الأيام املا�ضية �أن �أت�سلل داخل‬
‫بع�ض ه�ؤالء البلطجية؛ �أ�شرتي منهم مرة‪ ،‬و�أ�شاركهم ال�شراب مرات؛ لذا‬
‫قليل؛ لذا ح�سان �سيكون حما�ص ًرا من‬ ‫ت�ستطيع القول‪� :‬إين ك�سبت ثقتهم ً‬
‫كل جانب‪ ،‬ولكن ال تن�س �أن ه�ؤالء الأ�شخا�ص الذين ن�ستخدمهم معدومي‬
‫حري�صني‬
‫َ‬ ‫ال�ضمري يف الأ�سا�س‪ ،‬يبيعون �أهلهم من �أجل املال‪ ،‬فكونا‬
‫متاما‪� ،‬إن ُك ِ�ش َف �أحدنا وقعنا جميعنا قبل �أن ننفذ‬
‫ومبتعدين عن ال�صورة ً‬ ‫َ‬
‫الق�صا�ص‪».‬‬

‫‪156‬‬
‫أمل �سائد بوجوم‪« :‬الق�صا�ص! �سعيد‬ ‫ه َّز عمر ر�أ�سه وهو يقول مت� ً‬
‫عاما‪».‬‬
‫انتقاما ملدة خم�سة ع�شر ً‬
‫ً‬ ‫لتبديل املعنى يا �سائد‪ ،‬لقد كان‬
‫�شحب وجه �سائد بطريقة مل يالحظها �إال عمر‪ ،‬بينما الأمل يعت�صر‬
‫قلبه وقال بخ�شونة‪« :‬لن تفرق امل�سميات طاملا �سن�صل �إىل الهدف‪».‬‬
‫ا�ستدار �إبراهيم فج�أة وقال‪�« :‬أتعلما �أظن �أين �س�أرحل الآن ملقابلة‬
‫ليل‪ ،‬كما �أنكما حتتاجان حلديث‬ ‫ذلك الرجل مرة �أخرية وبعدها نتجمع ً‬
‫منفرد‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫و�أمام عي َني �سائد اجلامدة كان يتحرك للخارج مغل ًقا الباب خلفه‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫فور �أن خرج انفجر عمر يف �ضحك �صاخب وهو يقول‪« :‬البلطجية! َمنْ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫كان ي�صدق �أن �أكرب بلطجي منذ �أن كان عمره ت�سعة �أعوام فقط يتحدث‬

‫والتوز عي‬
‫الآن عن تلك الطبقة با�شمئزاز؟!»‬
‫اف َّرت فم �سائد عن �شبه ابت�سامة ميتة وقال‪« :‬ما كنت عليه لي�س �شيء‬
‫يوما‪ ،‬ولكن �أنا مل �أقتل يا عمر ومل �أ�شرتك يف ب�شاعتهم ومل‬ ‫�أخجل منه ً‬
‫يوما‪».‬‬
‫�أل ِّوث يدي بالدماء ً‬
‫احت َّد �صوت عمر عند تلك النقطة وهو يقول بنربة �صارمة‪« :‬جيد �أنك‬
‫تتذكر هذا؛ لأين لن �أوافقك �أبدً ا �أن تبد�أ الآن بتلويث يديك‪».‬‬
‫�أظلم وجهه وقال‪« :‬لن نحتاج �أن نكرر حديثنا كل ب�ضعة �أيام‪ ،‬عمر‪َ ِ ،‬ل‬
‫كل تلك اللفة التي افتعلتها لت�صفية �أول �أذيال الأفاعي؟!»‬
‫نظر عمر بتم ُّعن نحوه وقال‪« :‬كنت �أحتاج لتذكريك‪ ،‬ف�أنا �أعلم جيدً ا‬
‫بجحيم غ�ضبك �إن ملحته قبل �أن ننفذ ما خططت له‪».‬‬
‫مثقل ب�شيء كالأمل وك�أنه يحاول جاهدً ا �إخفاء‬ ‫�صوته املكتوم كان ً‬
‫ألف‬‫متاما عندما قال‪« :‬لهذا كنت � ُّ‬
‫م�شاعره لتذكر ما�ضيه ولكنه مل يفلح ً‬
‫‪157‬‬
‫و�أدور طوال ال�شهور املا�ضية حتى ال �أراه ف�أمزقه بيدي و�أ�شرب من دمائه‪،‬‬
‫�أُ ْم ِ�سك بقلبه بني يدي و�أ�سحقه بحذائي‪ ،‬اخلائن احلقري هو َمنْ �س َّلمها يا‬
‫عمر‪� ،‬إنه قاتل طفلي‪».‬‬
‫ابتلع عمر ريقه �شاع ًرا ب�أمله يت�سلل �إىل قلبه متذك ًرا كيف منع �صديقه‬
‫يف تلك الليلة امل�ش�ؤمة من املخاطرة بروحه �أمام جندته حلبيبته وطفله‪،‬‬
‫حطمت‬
‫َ‬ ‫ثم ما لبث �أن قال‪« :‬هذا متو َّقع يا �سائد‪ ،‬الندل كان يكرهك‪ ،‬لقد‬
‫له وجهه �أكرث من مرة عندما �ضبطته وهو يحاول �أن يعتدي عليها‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قال �سائد ب�سخط يت�صاعد‪« :‬وك�أن احلقري مل يكفه كل تلك الفتيات‬

‫ك اهتزت بعيدً ا عنه وهو يقول‪« :‬ما زلت تتذكر‬


‫ت‬ ‫ري‬
‫�أ�شاح عمر بعينيهالالتي‬
‫الالتي كان ي�ساومهنَّ لت�سليم �أنف�سهنَّ �أمام لقيمات من الطعام‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫تلك الأ�شياء!»‬
‫عمر �أنه‬ ‫يعلم‬ ‫ع�صبية‬ ‫حترك �سائد بع�صبي ٍة مفرطة يف �أرجاء املكان‪،‬‬
‫ال يتعر�ض لها �إال عندما يتذكر ذلك املكان احلقري القذر‪« :‬وهل �أ�ستطيع‬
‫يوما؟ هل ي�ستطيع �إن�سان �أن يتنا�سى ما ر�أيناه؟»‬
‫�أن �أن�سى ً‬
‫�أظلمت مالحمه وهو يقول ب َن َف ٍ�س متح�شرج وا�ص ًفا ب�شاعة ما ر�آه‪:‬‬
‫«هل �أ�ستطيع �أن �أن�سى الأج�ساد ال�صغرية الهزيلة لفتيات يف �سن الثماين‬
‫والع�شر �سنوات‪ ،‬و�إن حالفهنَّ احلظ ُكنَّ قد بلغن ً‬
‫قليل‪ ،‬لن �أ�ستطيع �أن‬
‫�أن�سى �أج�سادهنَّ العارية وهي ت�ستبدل حتت ه�ؤالء اخلنازير امل�ستمتعني‬
‫بهنَّ يف حفالت �أ�شبه مبمار�سة حيوانية جماعية‪ ،‬ميرحون بال�صغريات‬
‫بكل طريقة حقرية و�شاذة ممكنة‪ ،‬متباهني َمنْ فيهم قوته اجل�سدية‬
‫�أكرب‪ ،‬حتى الذكور ال�صغار منهم مل يرحموهم يف ممار�سة ال�شذوذ‬
‫اجلن�سي معهم‪».‬‬
‫‪158‬‬
‫�أظلمت مالحمه �أكرث و�أكرث حتى كادت �أنفا�سه �أن ُت ْف َق َد وهو يردف‬
‫بانفالت ع�صبي‪« :‬ما زالت �أعني بع�ضهنَّ العاجزة الذليلة ال تفارق‬
‫ذاكرتي �أو �أعني بع�ضهنَّ التي �سكنها املوت بعد �أن فقدت �أنفا�سها حتت‬
‫خنزير منهم ومل تتحمل قذارته‪ ،‬فيقوم بب�ساطة بو�ضعها يف جوال ورميها‬
‫على قارعة �أي طريق‪».‬‬
‫هدر عمر بعواء جريح‪« :‬يكفي يا �سائد‪� ،‬أعرف ما تقوله‪».‬‬
‫�أجفل �سائد للحظة ووجهه �شاحب كوجه م�صا�صي الدماء‪ ،‬فنظر‬

‫ع‬
‫مكتوما‪،‬‬
‫ً‬ ‫لعمر بعينني مظلمتني خاويتني من احلياة قبل �أن يطلق زئ ًريا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أم�سك بر�أ�سه بني يديه ي�ضغط عليها بتع�صب‪ ،‬ودون �إنذار كان ينطلق‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�إىل حمام مكتبه‪ ،‬يغلق الباب ب�إحكام‪ ،‬يحوم بني جدرانه ال�ضيقة ك�أ�سد‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫حبي�س م�سكني عاد لأَ ْ�س ِره‪ ،‬لهثت �أنفا�س �سائد وهو يغلق عينيه ب�شدة‬

‫والتوز عي‬
‫هام�سا‪« :‬لي�س مرة �أخرى‪ ،‬ال �أريد فعلها بنف�سي‪ ،‬ال لي�س مرة �أخرى‪».‬‬
‫ً‬
‫ولكنه مل ي�ستطع‪ ،‬مل ميتلك الإرادة والإميان‪ ،‬م�ست�سل ًما لنريان جحيمه‬
‫وبراكني غ�ضبه غري املحتمل‪� ،‬أخرج ُم ْد َية �صغرية من جيب بنطاله وبهدوء‬
‫م َّد ذراعه وبد�أ يف ممار�سة �ساديته على نف�سه‪ ،‬كانت الدماء التي خرجت‬
‫من�سابة على طول �ساعده تطفئ جحيمه‪ ،‬رويدً ا رويدً ا تراجع بظهره‬
‫لي�ستند على احلائط‪ ،‬وجل�س ببطء مع دمعه حارة طرفت عينه اليمنى‬
‫ف�سمح لها با�ست�سالم �أن تنعي ذكرياته‪ ،‬هم�س بحرقة بينما توقفت يداه‬
‫�أخ ًريا عن تعذيب نف�سه‪« :‬لقد حاولت حمايتك من وحو�ش حماد ً‬
‫حفاظا‬
‫عليك وعلى نف�سي من تلك احليوانات القذرة‪ ،‬مل �أكن �أعلم �أين كنت‬
‫عدك ك�صفقة لهم لتنايل نف�س امل�صري �صغريتي‪ ،‬لينه�شوا براءتك قبل‬ ‫�أُ ِ‬
‫حلمك وطفلي‪».‬‬
‫�أن ي�أكلون ِ‬
‫‪q q q‬‬
‫‪159‬‬
‫مالحمه اجلامدة مل تتغري حتى وهو يجاهد لر�سم املهادنة على وجهه‪،‬‬
‫كل ما يحدث رغم �أنه من يندفع �إليه بخطوات مدرو�سة قد حلم به خالل‬
‫الأعوام املا�ضية ولكنها ترهقه‪ ،‬تعيد له املا�ضي متج�سدً ا يف �صورة وح�ش‬
‫خميف ي�أبى �إال �أن يوقف الهواء من حوله‪.‬‬
‫«ما الذي يجري معك يا �سائد؟ ومنذ متى �أ�صبح اخلوف يطرق قلبك؟‬
‫منذ متي عادت الكوابي�س الب�شعة تغزو عقلك بعد �أن توقفت ومل يبق �إال‬
‫قلب بارد خا ٍو من احلياة يقتات على وعدك لنف�سك باالنتقام‪ ،‬وم�شاعر‬

‫ع‬
‫جتردت من كل ال�صفات الإن�سانية‪ ،‬متى �أ�صبحت تخاف؟ متى متكن منك‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الرعب لدرجة �أن طيفها املنهار وهي تخربك مبا واجهته حتت م�شرط‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫عدميي الرحمة‪ ،‬ال يفارق عقلك؟»‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫هل �أ�صبح لدجوى قيمة حقيقية وبات جزء منك ينتف�ض ذع ًرا �أن‬

‫ع‬
‫تطالها �أيديهم؟ �شحب وجهه ونب�ضات قلبه ت�صاعدت ملعدل غري م�سبوق‪،‬‬
‫م�صدوما من تفكريه‪ ،‬مرتع ًبا من‬
‫ً‬ ‫الرف�ض يتخلل لكل جزء من ج�سده‬
‫نف�سه يذكرها بقوة �أنها ابنة قاتل حبيبته وطفلته‪ ،‬حترك حلقه ب�صعوبة‬
‫وهو يهم�س‪« :‬الطفل الذي حتمله هو ال�سبب‪ ،‬هو من ي�شقق ذلك اجلدار‬
‫الذي بنيته‪ ،‬ما كان يجب �أبدً ا �أن حتوي ابنة غ�سان نطفة منك‪».‬‬
‫املكان يعج باحلثالة‪ ،‬انتبه �سائد لنف�سه وهو يرى تدفق رجال حماد يف‬
‫وكره القذر‪ ،‬كتم �ضحكة �ساخرة من نف�سه مرددًا‪« :‬احلثالة»‪ ،‬لقد كان هو‬
‫يف الأ�سا�س منهم بال �أ�صل وال ن�سب‪ ،‬كانوا مهم�شني ملقون على جنبات‬
‫الطرق‪ ،‬يجمعهم هدف واحد يف بادئ الأمر؛ �صراع البقاء وعدم الهالك‪،‬‬
‫وبالتدريج يحولهم املجتمع ملجرد ِج َراء �صغرية �أ�صابهم مر�ض ال�سعار‬
‫لينه�شوا من كل ما مير بهم قطعة تقويهم وجتعل لهم �ألف ح�ساب‪ ،‬فما‬
‫بالك �إن كانت احليوانات املفرت�سة الكبرية هي من تنه�شهم � ًأول لينتقل‬
‫لهم ذلك الفريو�س اللعني؟! قال حماد مقاط ًعا �صمته‪�« :‬أكاد ال �أ�صدق‬
‫‪160‬‬
‫نف�سي �أن �سائد القدمي عاد‪ ،‬ح�صيلة الليلة مل نحققها منذ �سنوات يا‬
‫رجل‪».‬‬
‫حترك �أنف �سائد مع رفع فمه ميي ًنا وي�سا ًرا بحركة �شر�سة ملزمة له‪،‬‬
‫بع�ضا من املظهر الإجرامي املعتاد قبل �أن يقول بنربة‬ ‫ف�أخذت مالحمه ً‬
‫حيوان مفرت�س على و�شك االنق�ضا�ض‪« :‬يجب �أن ت�صدق‪ ،‬تلك البداية‬
‫فقط‪ ،‬و�أعتقد �أين يف الأيام ال�سابقة �أثبت لك �أن لقب الذئب مل �أ�ستحقه‬
‫َع َر ً�ضا» بنظرات خبيثة طامعة ميل�ؤها الإعجاب قال حماد‪« :‬وهذا ما‬
‫أثبت يل �أن تربيتي‬ ‫يجعلني �أ�س ِّلم لك كل ما تريد و�أنا ٍ‬
‫را�ض عنك‪ ،‬لقد � َّ‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫فيك مل ت�ضع هبا ًء‪ ،‬لقد ا�ستغرق ه�ؤالء اخلنازير الكثري ليتخل�صوا من‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫متاما‪».‬‬
‫«�شبيحة» املقهى و�أنت خالل هجومني ق�ضيت عليهم ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫�أوم�أ �سائد ر�أ�سه بهدوء �صامت متذك ًرا مهمة حماد التي �أوكلها �إليه‬
‫ليثبت �صدق نواياه �أنه �سيعود �إليهم‪ ،‬فطلب منه تخلي�صه من بع�ض‬
‫البلطجية الذين يناف�سونه يف جتارة احل�شي�ش والهريوين و�أ�صبحوا الآن‬
‫يهددون جتارته بال�صغار‪.‬‬
‫وقف �سائد من جمل�سه بهدوء يراقب عي َني حماد اجل�شعة وهو يعد‬
‫غنائمه الليلة‪ ،‬لقد �أجرب نف�سه مل�شاركتهم عملية �أ�شبه بال�سطو على مقهى‬
‫بلدي يف �أحد املناطق املوبوءة‪ ،‬مل يكن يريد �أن يعود لأعمال البلطجة‪،‬‬
‫ولكن الغاية تربر الو�سيلة‪ ،‬كما �أن ذلك العفن الآخر �صاحب املقهى‬
‫ي�ستحق‪ ،‬احلقري يتاجر يف الأعرا�ض باخلفاء ويتالعب ب�شرف الفتيات يف‬
‫حجرات خلفية قذرة مثله موف ًرا لبع�ض املراهقني واملدمنني تلك الأج�ساد‬
‫ب�أ�سعار زهيدة؛ لي�صبح ذلك املكان القذر بيت دعارة متطور يقدم جميع‬
‫اخلدمات‪ ،‬بالطبع حماد مل ُي ِرد التخل�ص منهم لرف�ضه الأمر بل لأن ذلك‬
‫املكان �أ�صبح يزاحمه يف قذارته اخلا�صة‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫«�أنا �س�أذهب الآن ال �أريد لرجالك �أن يروين‪ ».‬دون �أن ي�صرح با�سمه‬
‫َف ِه َم حماد من يعني برجاله فقال بنربة �آتية من اجلحيم‪« :‬ر�أ�س ح�سان‬
‫حتتاج �أكرث من �أموال يا �سائد‪».‬‬
‫انخف�ض ج�سد �سائد ونظر حلماد بنوع من الق�سوة بتحدٍّ غري متنازل‬
‫�أ�شعر معلمه مرغ ًما ببع�ض الرهبة والتوج�س عندما قال بنربة �أ�شبه‬
‫بالفحيح‪�« :‬أنت طلبت و�أنا نفذت‪ ،‬ووعدك يل لن ت�ستطيع الإخالل به‪ ،‬كما‬
‫�أين مل �أ�ستلم منك �أحدً ا بل كل ما يحدث �أقوم به وحدي؛ لذا �أنت جمرب‬

‫ع‬
‫تغ�ض ب�صرك ع َّما �سوف يحدث‪ ،‬لقد مررت معلومة خيانته لفهمي‬ ‫�أن َّ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫النجار؛ لأنك �أردت اخلال�ص منه بعد اكت�شافك �أنه يخونك �أنت بالفعل‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ج َّز حماد على �أ�سنانه وقال بفحيح مماثل حمذر‪�« :‬أنا ال �أ�ؤمر يا‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�سائد‪ ،‬تذكر يف ح�ضرة من تقف‪� ،‬أما عقابي حل�سان �أو غريه ال يخ�صك‪،‬‬

‫ع‬
‫�أنت تنفذ فقط‪».‬‬
‫رد �سائد �سري ًعا بهجوم حيواين لفر�ض القوة والكلمة الأخرية‪�« :‬أنا‬
‫قا�س مرعب‪ ،‬ورغم ذلك �سمح‬ ‫�أعرف �أمام من �أقف‪ ،‬يف ح�ضرة معلم ٍ‬
‫لأحد ح�شراته �أن يتالعب به يف املا�ضي واحلا�ضر‪� ،‬أن يتخطاه وي�سلم‬
‫�إحدى َمنْ كانت حتت حمايته دون �أن يعود �إليه‪».‬‬
‫توتر حماد للحظة واحدة وهو ينظر لتحفز من �أمامه‪ ،‬وجهه الغا�ضب‬
‫يذكره بيوم علم بقذارة ح�سان‪� ،‬أنه �س َّلم �آية وطفلها مقابل خم�س مائة‬
‫جنيه لفهمي‪ ،‬وبالطبع اختفاء �سائد وعمر ليخ�سر يف حلظة �أهم ذراعني‬
‫لديه‪ ،‬يتذكر جيدً ا العقاب الذي �أنزله على ر�أ�س ح�سان‪ ،‬ولكنه تدارك‬
‫�أمره �إذ �أخرب باقي رجاله ب�أنه َمنْ �أمر باخلال�ص من الفتاة حتى ال‬
‫يفقد هيبته بينهم‪ ،‬كما �أنه �صفح عن ح�سان حتى يقلل من خ�سائره‪ ،‬وقد‬
‫�أخل�ص ح�سان له خالل الأعوام املا�ضية‪ ،‬ولكنه بد�أ يتمرد خالل الفرتة‬

‫‪162‬‬
‫املا�ضية‪ ،‬بل وعلم من بع�ض رجاله �أن ح�سان يقوم بعمله اخلا�ص يف تلك‬
‫التجارة‪ ،‬ي�سلم فهمي ً‬
‫بع�ضا من �أطفال ال�شوارع املقيمني يف الأزقة �أو حتى‬
‫يخطف بع�ضهم‪ ،‬لقد �أ�صبح احلقري ثعبان خطر �شر�س يهاجم كل فري�سة‬
‫متر من �أمامه‪ ،‬ومن املمكن �أن تتفاقم قوته ويهاجمه؛ لذا ت�سليم ر�أ�سه‬
‫ل�سائد هو حله الأمثل‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫كان يراقب ح�سان ورفيقه بعي َني �صقر بعد خم�سة ع�شر ً‬
‫عاما‪ ،‬ها هو‬

‫ع‬
‫يرى �أول َمنْ �س َّلم روحيه للموت‪ ،‬فكاد يفقد �أنفا�سه وهو ميار�س باحرتاق‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫كل �ضبط نف�س لديه حتى ال يتوجه �إليه ويقوم بت�صفيته بيديه‪ ،‬ولكن ما‬

‫ب ل‪q‬لن‪q‬‬
‫�سوف يحدث بعد دقائق يجعل غليله يرتاجع ً‬
‫قليل‪.‬‬

‫رو‬ ‫ش‬
‫التوز عي‬
‫‪q‬‬
‫«يف قانون الغابة البقاء للأ�شر�س والأقوى‪� ،‬أما باقي القطعان ما هي‬
‫�إال وجبات د�سمة مهمتها الوحيدة اال�ست�سالم لتحوم تلك الوحو�ش حول‬
‫�أج�سادهم ي�ؤدون رق�صة املوت قبل افرتا�سهم بب�ساطة‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫رغم وقوفه منذ �ساعات يتنقل بخفة ذئب بني الظالم يتتبع خط �سري‬
‫ح�سان �إال �أن ما �سرياه قري ًبا منحه القوة وال�صمود لي�شاهد بت�صرفات‬
‫حم�سوبة وخربة اكت�سبها من ما�ضيه‪ ،‬كان يتخفى وراء �أحد �أكوام القمامة‬
‫املنت�شرة يف املكان‪ ،‬و�شاهد بعينيه ثالثة من امل�سجلني اخلطر يجتمعون مع‬
‫ح�سان الذي ظهر من بعيد ً‬
‫قائل بت�أفف‪« :‬ملاذا مل حت�ضروا �إىل الع�شة؟‬
‫لقد �أ�ضعتم احلجرين َ‬
‫اللذين �ضبطت بهم مزاجي‪».‬‬

‫‪163‬‬
‫�أ�شار له �أحدهم وهو يقول ببطء رغم عنف نرباته‪« :‬نريد �صفقة‬
‫جديدة ولكنها كثرية العدد هذه املرة‪ ،‬ما ر�أيك؟»‬
‫التمعت عيناه باجل�شع و�سال لعابه وهو يقرتب منهم بتلهف غري منتبه‬
‫للأ�سلحة البي�ضاء التي يحملونها‪ ،‬وقال على الفور‪�« :‬أي كمية‪ ،‬نحن خدام‬
‫ال�سيادة ولكن هذه املرة �س�آخذ مائتي جنيه على الر�أ�س الواحدة‪ ،‬ف�أنا‬
‫لدي ب�ضاعة نظيفة واردة من البيوت مبا�شرة‪».‬‬ ‫َّ‬
‫ا�شم�أزت مالمح �سائد‪ ،‬احلقراء يتعاملون مع الأطفال واملراهقني‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ك�أنهم نعاج ُخ ِل َقت لت ُْذ َبح وتكون �أ�ضحية جل�شعهم‪� ،‬سمع �أحدهم يقول‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫بعينني حمراوينالقال‬


‫ب‬
‫«وبالطبع كاالتفاق الأخري‪ ،‬ال تريد حلماد �أن يعلم‪».‬‬

‫ش القطع النظيفة فنحمله‬


‫ر‬ ‫ل‬
‫عن �نإحدى‬ ‫ل‬
‫ا‬ ‫و‬
‫ح�سان‪�« :‬إنه تعبي وعرق رجايل‪ ،‬نحن من جنتهد‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬


‫أحدهم‬ ‫ونخطط وننتظر حتى يغفل �‬
‫اختفاءه‪ ،‬ونحن‬ ‫بني ذراعينا هاربني به قبل �أن يكت�شف ه�ؤالء احلمقى‬
‫نلف يف احلواري ً‬
‫ليل لنجمع باقي الر�ؤو�س‪ ،‬ونورد لكم الكمية‬ ‫أي�ضا من ُّ‬
‫� ً‬
‫املطلوبة‪».‬‬
‫«احلقري»‪ ،‬هم�سها �سائد بعنف‪ ،‬القذر يختطف بع�ضهم ويلتقط‬
‫الآخرين من ال�شوارع املليئة بهم‪ ،‬الكلب مل ي�سلم �أحد من �أذاه‪ ،‬يجب‬
‫ت�صفيته لي�س ب�سبب انتقامه فقط بل لتخلي�ص املجتمع من �أمثاله‪ ،‬ليت‬
‫تدخل منه؛‬ ‫با�ستطاعته فعلها بيديه‪ ،‬ولكن يجب ت�صفيته ب�أيديهم دون ُّ‬
‫لعدة �أ�سباب و�أهمها يف الوقت احلايل �ضرب قاعدة فهمي التحتية‪ ،‬حتى‬
‫َّ‬
‫يدق �أول م�سمار يف نع�ش انهياره و�سقوطه‪.‬‬
‫لفت انتباهه �أن �أحدهم ا�ست َّل �سكي ًنا �ضخمة من جانبه ُت ْ�ست َْخ َدم‬
‫يف ذبح املوا�شي‪ ،‬وح َّدق يف ح�سان وهو يقرتب منه وقال ببطء خميف‪:‬‬
‫‪164‬‬
‫«نعم‪ ،‬حقك �أيها اخلائن ح�سان �أن حت�صل على تعبك وحدك دون الرجوع‬
‫ملعلمك‪».‬‬
‫اقرتب منه ح�سان باندفاع غري حم�سوب وقال بغ�ضب‪« :‬من اخلائن؟‬
‫احرت�س لكالمك يا �شعبان لأنه �سي�ضيع فيه رقاب‪».‬‬
‫رد �شعبان بغ�ضب كا�سح وهو ي�سمح للبقية مبحاوطته وقال‪« :‬لقد‬
‫ُك ِ�ش َفت لعبتك يا قذر‪ ،‬تريد �أن ت�سلمنا لل�شرطة‪ ،‬هل تعتقد �أننا �أغبياء لن‬
‫نعرف خطتك؟ هل وجدت �سري ًعا ً‬
‫بديل �آخر تو ِّرد له مقابل مال �أكرث �أم‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ماذا؟»‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫توتر ج�سد ح�سان للحظات بعدم فهم واخلوف يعرتيه‪ ،‬يكت�سحه بعدم‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫رحمة عندما اكت�شف ال�سكني التي تلمع يف يد �شعبان‪�« :‬أَ ْب ِع ْد َها يا رجل‪،‬‬

‫والتوز عي‬
‫هل ُج ِن ْن َت؟ عن �أي خيانة و�شرطة تتحدث؟ لقد �أرادوا بع�ض التافهني‬
‫الذين يوزعون احل�شي�ش والباجنو‪».‬‬
‫ازدادت مالمح �شعبان قتامة �إجرامية وبحركة �سريعة كان ي�ستدير‬
‫حول ج�سد ح�سان يكبله من اخللف بقوة مل مينحه حتى الفر�صة وهو‬
‫يرفع �سكينه وبقوة وثبات ي�ضعها على رقبته وقال‪« :‬وك�أننا �سن�صدقك‬
‫حتى و�إن كان‪ ،‬فمن يخون مرة يغدر مرات و�أنت رائحتك فاحت ويجب‬
‫اخلال�ص منك‪».‬‬
‫ابي�ضت‪ ،‬حاول االعرتا�ض‪ ،‬ال�صراخ‪ ،‬تربير‬ ‫جحظت عي َنا ح�سان حتى َّ‬
‫موقفه‪ ،‬تقدمي الوالء والطاعة‪ ،‬ولكن ن�صل ال�سكني ال�ساخن الذي مر على‬
‫نحره بنعومة و�سال�سة �أنهى مهمته وقطع جلده بالفعل‪ ،‬نفذ ليمزق �أحباله‬
‫ال�صوتية‪ ،‬وا�صل �شعبان عمله بجمود حتى ف�صل الر�أ�س عن اجل�سد‬
‫غطت املكان على‬‫متاما‪ ،‬وتركه لي�سقط حتت قدميه يف ِب ْر َكة الدماء التي َّ‬
‫ً‬
‫‪165‬‬
‫الفور‪ ،‬بجمود قال �شعبان �آم ًرا‪« :‬اذهبوا لتح�ضروا ال�سيارة لنحمل هذا‬
‫الر�أ�س اجلديد وقد �أمر الكبري ب�أن ال ُي ْه َدر‪».‬‬
‫مل يتحرك �سائد من مكانه رغم انتهاء الأمر‪ ،‬مل ي�ستطع �أن يربح مكانه‬
‫بجمود جليدي خماط ًرا باكت�شافه‪ ،‬كان ينظر من بعيد جل�سد ح�سان‬
‫املف�صول عن ر�أ�سه‪ ،‬متذك ًرا ذلك القذر ويده حتاول �أن تطال زوجته حتى‬
‫بعد �أن علم اجلميع ب�أنها انتمت �إليه وحتمل �صغريه‪ ،‬وبعني اخليال ر�آه‬
‫يعود ويقدمها ملجزرة فهمي النجار الذي يحتل الآن ر�أ�س قامته متذك ًرا‬

‫ع‬
‫�أن ث�أره مع فهمي �أ�صبح ث�أرين ولن ُيفرط �أبدً ا يف �أخذهما‪.‬‬
‫‪q q q‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫ر‬
‫�صباحا �أدركت خلو الفرا�ش بجانبها‪ ،‬لقد‬
‫ل‬
‫مرهلًقانومتباعدً ا‪ ،‬مل يحاول �أن َي ْق َر َب َها‬
‫ش‬ ‫ب‬
‫عينيها ً‬ ‫دجوى‬ ‫عندما فتحت‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫�أثارت عجبها وك�أنه طفل �صغري يدرك لأول مرة �سحر التوا�صل ع‬
‫ظل بني ذراعيها طوال الليل �صامتًا‬
‫ب�ضمها بطريقة‬ ‫يكتفي‬ ‫ب�أي طريقة حميمية‪ ،‬مل يذكر �أي حرب بينهم‪ ،‬كان‬
‫بالعناق‪،‬‬
‫ك�أنه غريب يكت�شف طوق جناة �أُ ْل ِق َي له يف عر�ض البحر على غفلة‪ ،‬رغم‬
‫ت�شو�ش �أفكارها والهلع الذي ينتابها يف ح�ضرته‪ ،‬ولكن بالأم�س بينما هي‬
‫متنحه ب�صمت وبقلب �أنثى متعاطفة حلاله �أدركت �أن �سائد مل يحت�ضنها‬
‫قط‪ ،‬وهي قد َعزَ ِت الأمر �إىل �أنه ال يريد �إال ج�سدها‪ ،‬ولكنه بينما ت�ضمه‬
‫ليلة �أم�س مرجت ًفا حتت كفيها التي تر ِّبت عليه بتعاطف؛ �أدركت ب�أن ذلك‬
‫يوما‪ ،‬مل‬
‫الذئب ال�شر�س مل يعرف معنى �أن يرتجم م�شاعره باالحت�ضان ً‬
‫يعلم لغة العناق لرتجمة بع�ض من الأحا�سي�س الإن�سانية ب�صمت �أبلغ من‬
‫�أي كالم مفعم بامل�شاعر‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫‪166‬‬
‫عندما خرجت دجوى من باب غرفة النوم �أخ ًريا متوجهة �إىل ردهة‬
‫ال�شقة تراجعت للخلف �سري ًعا حتى اخت َّل توازنها عندما ملحته ما زال‬
‫يتواجد يف املنزل واق ًفا �أمام ال�شباك الزجاجي عاري اجلذع و�آثار املاء‬
‫تظهر بو�ضوح على ظهره الرطب‪ ،‬ال�ضجيج الذي �صنعه عدم توازنها‬
‫جعله يلتفت �إليها بحدة‪ ،‬للحظات �أجفله مظهرها املرتعب وهي تنظر �إليه‬
‫بحر�ص ويبدو �أنها وجدت احلائط حماية لها من ال�سقوط‪.‬‬
‫�سيدك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫أنك تعودتِّ على وجود‬
‫�شبحا ما؟ يفرت�ض � ِ‬ ‫أيت ً‬‫بك؟ هل ر� ِ‬‫«ما ِ‬

‫ع‬
‫تو�سعت عيناها ووجهها يتحول لل�شحوب‪�« :‬أنت ل�ست �سيدي‪ ،‬بل جمرد‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫رجل خدعني بع�شق وهمي لينال مني‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫ق�ست عيناه ناظ ًرا �إىل رماد عينيها مبا�شرة‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫منحك بع�ض ال�شجاعة �أخ ًريا يا ابنة‬
‫ِ‬ ‫ب�صرامة‪« :‬يبدو �أن ما حدث بالأم�س‬
‫ال�ستخدامك كما �أ�شاء‬
‫ِ‬ ‫أنك هنا فقط لراحتي‪،‬‬ ‫تذكريك � ِ‬
‫ِ‬ ‫غ�سان‪ ،‬ولكن �أريد‬
‫وما حدث ً‬
‫ليل ال يعني �أي �شيء‪».‬‬
‫تهربت من عينيه وقالت بخفوت‪�« :‬أنا ال �أعتقد �شي ًئا‪ ،‬فقط لأ�صحح‬
‫معلوماتك مل �أكن �أنتوي ذكر �شيء عن الأم�س‪».‬‬
‫احلذر بينهما لب�ضع دقائق قبل �أن يقول بربود مفاجئ‬ ‫عم ال�صمت ِ‬
‫لريبكها‪« :‬كيف حال ما حتويه �أح�شا� ِؤك؟»‬
‫نظرت �إليه جمفل ًة للحظات‪ ،‬م�ؤكد �أن التقلبات النف�سية التي تتعر�ض‬
‫�إليها ب�سببه لي�ست جيدة مطل ًقا‪ ،‬وم�ؤكد �إن مل ُمتت على يديه �ست َُجن‬
‫ب�سبب ما يفعله‪ ،‬ورمبا كان هذا هدف �سائد يف الأ�سا�س‪ ،‬رفعت ك َّفاها‬
‫تفرك وجهها بع�صبية‪� ،‬صارخ ًة بهجوم وك�أن كل �شيء تفجر بداخلها‪�« :‬إنه‬
‫طفلك‪ ،‬ما �أحمله هو ابنك‪ ،‬جزء منك‪� ،‬أنت من �سعيت لتزرعه بداخلي‪،‬‬
‫طفل خاطرت بوجوده و�أنت تعلم �أنه طفل زنا جاء من حرام ال م�ستقبل له‬
‫‪167‬‬
‫وال ا�سم متحنه �إياه يا �سائد‪ ،‬جمرد �صغري �آخر �س ُي ْلقى لل�شارع الذي �أتيت‬
‫�أنت منه بعد �أن تقتلني وتفقد �أنت نف�سك يف جنون انتقامك‪».‬‬
‫كانت تلهث حرف ًّيا بعد انفجارها غري امل�سبوق �أمامه‪� ،‬شجاعتها التي‬
‫يوما بد�أت يف الظهور رويدً ا مانح ًة �إياه املهرب املثايل الذي �أراده‬
‫ظنها ً‬
‫ليربر لنف�سه ما حدث ليلة �أم�س �أو رمبا تهرب الهتزازه نحوها‪ ،‬حتى‬
‫ميحنه الوقت تربير نف�سه وا�ستك�شاف ذلك ال�ضعف املنفر الذي �شعر به‬
‫بني ذراعيها‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ح َّدقت دجوى فيه بعدم ت�صديق‪ ،‬مدرك ًة �أن الروح املنفرة الكريهة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫عادت للظهور‪ ،‬بخوف متلكها الت�صقت باحلائط �أكرث والرعب مت َّكن منها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫عندما اقرتب منها وم َّد يده يحاوط َخ�صرها يجذبها �إىل �صدره مل�صقها‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫فيه واليد الأخرى تزيح �شعرها الق�صري خلف �أذنيها كحركة الأم�س‬
‫ليك�شف وجهها كله‪ ،‬وهو مييل يهم�س بجانب �أذنها بخفوت �أرعدها‪« :‬هل‬
‫يوما يا دجوى؟»‬
‫�سمعت باملحظ َّية ً‬
‫ِ‬
‫مل تر َّد وعلم �أنها لن تر َّد؛ �إذ �أدرك مقدار الرعب الذي ي�سببه لها‬
‫اقرتابه ف�أكمل بنف�س النربة‪« :‬بالطبع تعرفينها‪ ،‬ما هذا ال�س�ؤال الغبي؟‬
‫م�ؤكد در�س ِت ِه يف املناهج الأجنبية‪ ،‬التي كان يدفع والدك م�صروفاتها من‬
‫املال الذي يح�صل عليه مقابل �أع�ضاء الأطفال الب�شرية‪».‬‬
‫حاولت �أن تفلت من بني ذراعيه �إال �أنه �شدد من تطويقها ف�شعر‬
‫ٍّ‬
‫مت�شف‪:‬‬ ‫بج�سدها املهتز ب�سبب البكاء العنيف ف�أردف هو بانت�شاء‬
‫«املحظ َّية هي زوجة م�شرتاة بطريقة ما تكون ملك �سيد واحد‪ ،‬ف�إن‬
‫نف�سك‬
‫ِ‬ ‫يهمك احلرام بتلك الطريقة يا ابنة غ�سان الكلب‪ ،‬اعتربي‬ ‫كان ِ‬
‫حمظ َّية‪».‬‬
‫‪168‬‬
‫حاولت التما�سك والتحلي بالقوة املقاومة وهي تقول‪�« :‬أنا ل�ست‬
‫جدا‬
‫حمظية‪� ،‬أنا حرة يا �سائد‪ ،‬حرة رغم �أنفك‪ ،‬و�س�أحترر منك قري ًبا ًّ‬
‫هاربة بطفلي من جحيمك‪».‬‬
‫�ضحك �سائد دون مرح ويده تقب�ض على ذقنها بق�سوة راف ًعا عينيها‬
‫قائل من بني �أ�سنانه بخطورة‬ ‫لتواجه الغ�ضب املتموج يف �سواد عينيه ً‬
‫أوهامك‪ ،‬من حتمليه من‬
‫ِ‬ ‫مهددة‪�« :‬أي طفل هذا يا دجوى؟ �أفيقي من �‬
‫أبيك الكلب‪� ،‬أي ق�صا�صي �سيتحقق بالعدل �أخ ًريا‪ ،‬دماء زوجتي‬ ‫دماء � ِ‬

‫ع‬
‫ر�ضيعك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫�أمام دمائك‪ ،‬وروح طفلي �سيدفع ثمنها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫فتحت فمها بذهول وخفقان قلب تو َّقفت دقاته غري م�صدقة هذيانه‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مل ت�ستطع �أن تقاوم �صراخها فيه‪�« :‬أنت جمنون خمتل‪� ،‬أنا لن �أ�صدقك‬

‫ر‬
‫احلقيقيروحهبني �فج�أةأو�صالها‪:‬فمالوال وز عي‬
‫مرة �تأخرى يخربها‬
‫�أنت حتاول �أن تفقدين عقلي لي�س �إال‪».‬‬
‫تل َّون وجهه ب�سموم قفزت �إىل‬
‫بنربة جمنونه دبت الرعب‬
‫«بلى دجوى‪ ،‬بالأم�س فقط �أخذت �أوىل خطواتي يف تلويث يدي بالدماء‪،‬‬
‫و�صدِّ قيني الأمر ال يحتاج �إال مرة �أوىل كي �أُخرج الوح�ش احلبي�س بداخلي‬
‫�إىل الغابة الف�سيحة ليتغذى على كل فري�سة تقابله ً‬
‫متلذذا بطعم كل قطرة‬
‫وابنك لن تكونوا ا�ستثنا ًء‪».‬‬
‫أنت ِ‬ ‫دماء و� ِ‬
‫ما يفعله ويقوله يزيد من �ضغطها النف�سي مع هرمونات احلمل‬
‫وتقلُّب نف�سيتها التي �أ�صبحت يف احل�ضي�ض جعلها فاقدة للمنطق للتفكري‬
‫والعقل‪ ،‬انفجرت املفرقعات داخل عقلها يف وقت غري منا�سب �إطال ًقا‬
‫وفكرة واحدة ت�سيطر على عقلها‪ ،‬ال حل �آخر‪ ،‬نظرت �إليه بوجل وهي تقول‬
‫ب�أ�سنان ا�صطكت ببع�ضها‪�« :‬س�أقتلك‪ ،‬قبل �أن تلم�س يديك �صغريي‪».‬‬
‫‪169‬‬
‫�ضحكة �ساخرة تو�سعت عندما مال مرة �أخرى بهدوء يلثم خدها‬
‫أعلمك فقط �أن‬
‫ا�ستطعت يا دجوى‪ ،‬ولكن �أريد �أن � ِ‬‫ِ‬ ‫بخفة وقال‪« :‬افعلي �إن‬
‫أنت ومن حتمليه‪».‬‬ ‫موعدك اقرتب � ِ‬
‫ِ‬
‫«ل تفعل ذلك بي؟»‬‫تهدجت �أنفا�سها وهي تقول متمتم ًة‪َ ِ :‬‬
‫للحظات طويلة مل ير َّد‪� ،‬شفتاه معلقة على وجنتها‪� ،‬أنفا�سه تخرج غري‬
‫أخربك بع�ض الكذب‬
‫متزنة‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال‪�« :‬أتريدين ال�صدق �أم � ِ‬
‫املريح؟»‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أغم�ضت عينيها ب�أ�سي وقالت با�ست�سالم‪�« :‬أريد ال�صدق‪ ،‬م�ؤكد لن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫يكون متطر ًفا �أكرث مما تتفوه به‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫دون تردد �أخربها‪« :‬بداخلي بركان يا دجوى‪ ،‬مل �أعد قاد ًرا على‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫حتمله‪� ،‬أمتنى املوت يف كل حلظة رمبا يرحمني مما �أعاين‪ ،‬يخل�صني من‬
‫العذاب الذي �أعي�شه كل ليلة منذ �أعوام‪� ،‬أنا �أموت يف كل مرة واحلادث‬
‫يعود لعقلي بتتابع ذكريات املكان القذر الذي كربنا فيه‪ ،‬ذلك ال�شعور‬
‫القاتل باجلوع‪ ،‬تذمر ل�سعات حزام حماد على ج�سدي‪ ،‬كل �شيء ع�شته‬
‫كان احل�ضي�ض بعينه‪ ،‬نار من َ�س َقر تتفجر بداخلي‪».‬‬
‫نظرت له بعينني مرتعبتني‪ ،‬م�ستوعب ًة �أنه للمرة الأوىل يخربها عن‬
‫بع�ض ما عاناه‪ ،‬عن بع�ض �أوجاعه حتى و�إن كان يداريه ببع�ض ق�سوته التي‬
‫يق�صد بها دفعها للجنون‪.‬‬
‫قالت‪« :‬وما تفعله بي يهدئ نارك يا �سائد؟»‬
‫ا�شتدت مالحمه مرة واحدة وقال بنربة قاطعة جازمه حا�سمه‪« :‬نعم‬
‫عانيت من عذاب ور�أيته بعيني ف�أت�شفى‬
‫ِ‬ ‫عقلك �أو‬
‫فقدت ِ‬‫يا دجوى‪ ،‬فكلما ِّ‬
‫منك يخفف ً‬
‫بع�ضا من النار‬ ‫أبيك الكلب؛ لذا انتقامي ِ‬ ‫روحك وروح � ِ‬‫ِ‬ ‫يف‬
‫عليك يا دجوى‪».‬‬
‫متاما عندما �أق�ضي ِ‬ ‫بداخلي و�ستنطفئ ً‬
‫‪170‬‬
‫�ساد �صمت ثقيل بينهم وبثبات انفعايل كانت تخربه‪« :‬الإن�سان هو من‬
‫يحدد خياراته لي�سمو بفطرته �أو يهبط للوحل ويلقى جزاء ما فعلته يداه يا‬
‫�سائد؛ لذا رمبا �إن تذوقت من نف�س ك�أ�س دائك يكون دواءك‪».‬‬
‫�ساحما لعينيها �أن ترى جروح وحروق ج�سده‬
‫ً‬ ‫ابتعد عنها هذه املرة‬
‫املتعددة‪ ،‬وقال �ساخ ًرا‪« :‬ك�أ�س احلنظل �شربته قطرة قطرة حتى �أ�صبح‬
‫طعمه املرير هو املذاق الوحيد الذي �أ�ستطعمه‪».‬‬
‫ارتع�شت �شفتاها بتوتر ومل يخف عنه الإ�صرار يف عينيها وقالت‪« :‬دعنا‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فقط نثبت وجهة نظر كل منا يا �سائد‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ب‬
‫‪q q q‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫�أبدً ا‪ ،‬ولكنه ا�ستطاع �أن يجمع معلومات مفادها �أن هناكتوز‬
‫إبراهيم ذلك املقر العفن الذي كان يراقبه‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫�سائد‬ ‫يراقب‬ ‫منذ يومني‬

‫طبيبيع‬
‫بالطبع فهمي ال ي�أتي �إىل هنا‬ ‫اجلديد‪،‬‬ ‫يف ال�سابق وعلم �أنه وكر فهمي‬
‫تخدير‬
‫وخم�سة �آخرين ما بني طبي َبي اجلراحة معدومي ال�ضمري والذين تقت�صر‬
‫�أعمالهم على عيادات قذرة ميار�سون فيها كل ما هو خارج عن القانون‬
‫وبع�ض البلطجية‪� ،‬سمع �إبراهيم يخربه‪« :‬للإيقاع بهم متلب�سني نحتاج‬
‫للو�صول للمورد الأ�سا�سي»‪.‬‬
‫�أجابه �سائد ب�صقيع‪« :‬تق�صد ت�صفيتهم‪ ،‬ال تقلق كل �شيء مرتَّب له يف‬
‫ر�أ�سي م�سب ًقا‪ ،‬ولكن �أحتاج للت�أكد � ًأول‪� ،‬أريد �أن �أدخل �إىل هذا املكان يا‬
‫�إبراهيم‪».‬‬
‫رد بتجهم‪« :‬ولكن تلك خطوة خطرة غري حم�سوبة العواقب قد يو ِقعون‬
‫بك»‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫قال �سائد بربوده املعتاد مقر ًرا و ُم ْن ِه ًيا اجلدال‪« :‬تعلم �أين �س�أفعلها‪،‬‬
‫ف ِل َم اجلدال؟ فكل خطواتي القادمة مرتبة على �أن �أرى بعيني داخل هذا‬
‫املكان‪».‬‬
‫مهموما م�ص ًربا نف�سه وهو يهز ر�أ�سه ب�صمت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نف�سا‬
‫�أخذ �إبراهيم ً‬
‫مدر ًكا �أن �سائد خارج نطاق حمايته‪ ،‬من الأ�سا�س الرجل يت�صرف بعقل‬
‫�إجرامي حمنك حتى هو ي�صعب عليه جماراته‪.‬‬
‫يحتاج عقله لبع�ض الإلهاء‪ ،‬فقد قرر �أن غدً ا �سيقتحم وكر فهمي‬

‫ع‬
‫املغطى حتت ا�سم عيادة للغالبة‪ ،‬ابت�سم �ساخ ًرا من كل �شيء حوله‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫من �سذاجة الغالبة املدافعني بحياتهم عن تلك العيادة غري مدركني �أن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ويتاجر بها دون رحمة‪.‬‬ ‫فلذات �أكبادهم ُتقطع هناك َ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫رجع بر�أ�سه م�ستندً ا على الفرا�ش‪ ،‬متذك ًرا وجه الأخرى التي تراقبه‬

‫ع‬
‫منذ يومني بنظرة غريبة‪ ،‬نظرة �إ�صرار وقوة‪ ،‬خوف ورهبة وت�صميم‪ ،‬مل‬
‫عجل‬‫يقرتب منها منذ اعرتافها له‪ ،‬منذ �أن �س َّلمته معلومات �ستجعله ُي ِّ‬
‫مبهمته وي�صل لر�أ�س الأفعى فهمي النجار ب�سهولة مل يتخيلها‪َ ،‬ل َف َت نظره‬
‫دخول دجوى امل�ضطرب‪ ،‬وكانت تهم�س ا�سمه بلهاث‪� ،‬صدرها يعلو ويهبط‬
‫وك�أنها جتاهد للتنف�س‪ ،‬اعتدل �سائد ببطء وعينيه الذئبية تر�صد كل‬
‫خلجة من خلجات �أنثاه‪ ،‬تعاين وترتعب وتت�أمل بل وتتمزق ب�ضياع‪� ،‬ضياع‬
‫بعامل فقدت فيه طهرها و�شرفها وهو من رماها بيديه يف هذا الوحل‪،‬‬
‫هول من اخلوف كلما اقرتب منها‪ ،‬ويعلم جيدً ا �أنه يدفعها �إىل‬ ‫تنتف�ض ً‬
‫حافة اجلنون مبا يفعله ويتفوه به‪ ،‬ا�ست�شعر جنو ًنا يف رماد عينيها املنطفئ‬
‫التائه وكانت ت�ضم بطنها بكال ك َّفيها كحماية‪ ،‬فمنذ �أن �أخربها عن نيته‬
‫احلقيقية وهدفه من احل�صول على طفل منها يحمل الدماء القذرة لغ�سان‬
‫الها�شم‪ ،‬ورغم ب�شاعة ما �أخربها به‪ ،‬ونزاعه الوح�شي الذي ي�أكل �صدره‬
‫وف�ؤاده‪ ،‬ولكنه مل ي�ستطع �أن يتعاطف معها وهو يراها تتخبط ورمادها‬
‫‪172‬‬
‫يتحول لربكتني بلون الدم املتخرث‪ ،‬كان يحتاج ب�شدة ل�صرف تفكريها عن‬
‫جلوئه املقيت لذراعيها‪� ،‬أخ ًريا و�صلت �إىل طرف ال�سرير تخربه بتح�شرج‪:‬‬
‫«�سائد �أنا ‪»...‬‬
‫تعرثت حروفها‪� ،‬شحب وجهها لي�صبح بلون اجلليد الذي ت�ست�شعره‬
‫يدب يف كل طرف من �أطرافها‪ ،‬بينما هو ينظر لها مبالمح مغلقة مرغ ًما‬ ‫ُّ‬
‫يرى من خلف ك�سرها قوتها‪ ،‬حتديها وعزمها على �شيء مل ي�صل ملعرفة‬
‫ما هو‪ ،‬مزيج َب َدا ً‬
‫جميل �ساح ًرا خال ًبا‪ ،‬مغر ًيا ل�سائد �أن يعود يتل َّم�سها‬
‫وي�ضمها ويغرق بها وفيها يف بحر من جلة امل�شاعر املبهمة التي جتعله‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫يفقد عقله ونف�سه وال ي�سيطر على عاطفة قلبه وج�سده‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫ال ج�سد فقط ال قلب معه‪ ،‬فالقلب ملك ل�صاحبته ولن يكون ل�سواها‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫�أفاق نف�سه بقوة عندما راقبها تقول �أخ ًريا ب�صوت باهت مطعون يف‬
‫�صميمه متح�شرج‪�« :‬سائد �أنا �أوافق على عر�ضك‪� ،‬أوافق على �أي �شيء‬
‫تطلبه‪ ،‬ولكن �أخرج طفلي من معادلة انتقامك‪».‬‬
‫قليل وهو يحاول �أن يتذكر �أي عر�ض هذا الذي �أخربها عنه‪ ،‬ما‬ ‫عبث ً‬
‫بالها هل فقدت عقلها ح ًّقا وتهذي؟!‬
‫�شهقت مذعورة عندما مد ذراعه فج�أة و�أحاط مع�صمها ب�أ�صابعه‬
‫ليطبق عليها بقب�ضة من فوالذ وي�سحبها بعنف لتقع فوقه وهو يقول بربود‬
‫أحببت نطفتي يا دجوى‬ ‫عك�س جحيمه وتفكريه الذي خب�أه بجدارة‪« :‬هل � ِ‬
‫كرهك لها‪ ،‬بل‬‫ِ‬ ‫أعلنت مرا ًرا ومنذ اللحظة الأوىل‬ ‫بهذه ال�سرعة؟! لقد � ِ‬
‫وطوقك للخال�ص منها‪».‬‬
‫ِ‬
‫�أحا�سي�س جمنونة ت�شعر بها تت�صارع بداخلها وجتعل كل متا�سكها‬
‫وعزمها يطري يف الهواء‪ ،‬حاولت التمل�ص منه �إال �أن يده ازدادت ق�سوة‬
‫حولها‪ ،‬بينما يده الأخرى �أم�سكت بوجهها‪� ،‬أ�شاحت بوجهها مذعورة‬
‫‪173‬‬
‫تبتهل بداخلها � َّأل ي�شعر مبا تخبئه بني طيات مالب�سها‪ ،‬حاولت ت�شتيته‬
‫وهي تقول‪« :‬ال‪� ،‬أنا �أكرهك ب�شدة‪� ،‬أحقد عليك‪ ،‬ولكن طفلي يبقى طفلي‪،‬‬
‫ما ينب�ض بداخلي يكرب بني �أح�شائي هو ابن ‪»...‬‬
‫هبطت غالالت دموعها بحرقة قبل �أن تدفن ر�أ�سها يف كتفه‪ ،‬فت�صلب‬
‫م�صدوما مبهوتًا م�صعو ًقا من منطقها‪« :‬ما بداخلي ابن الرجل‬ ‫ً‬ ‫ج�سده‬
‫الذي �أحببته‪ ،‬من �سلمته نف�سي را�ضية‪ ،‬من �أنقذين ومنحني الأمل‬
‫ذراعي منذ يومني‪ ،‬وبالت�أكيد هذا‬‫َّ‬ ‫وتزوجني‪ ،‬من �أتى يلج�أ �إىل غمرة بني‬

‫ع‬
‫لي�س �أنت‪� ،‬أنت جمرد �شيطان‪ ،‬ذئب يف هيئة �آدمية نه�ش حلمي احلي‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫والآن يريد نه�ش �صغريي‪ ،‬وهذا ما لن �أ�سمح به‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫أتزوجك‪� ،‬أنا‬
‫ِ‬ ‫قليل وهو يقول مدع ًيا اجلمود‪�« :‬أنا مل �‬ ‫َع َل ْت �أنفا�سه ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫خدعتك‪ ،‬ف ِل َم ت�صرين �أن تعي�شي الوهم؟!»‬
‫ِ‬

‫ع‬
‫مل ترفع ر�أ�سها من كتفه‪ ،‬مل ت�ستطع �أن تواجه عيناه ال�سودواين‪ ،‬دائ ًما‬
‫ينظران لها بحقد وبريق وح�شي‪« :‬رحمتك رباه‪ ،‬ما زال القلب العا�صي‬
‫يحبه‪ ،‬يتعاطف معه ويتفهم جنونه‪ ،‬ولكنك تعلم يا اهلل �أين مل �أحتول‬
‫لزانية ب�إرادتي‪».‬‬
‫عند هم�سها املت�ضرع مذكر ًة نف�سها بث�أرها وبنجدة طفلها مما ينتويه‪،‬‬
‫متالكت نف�سها وهي تخربه بتح�شرج متبلد‪« :‬لأن احلقيقة �ستجعلني �أقتل‬
‫نف�سي دون تردد‪ ،‬الوهم هو �أملي الأخري وجدران حمايتي من ال�سراب‬
‫الذي وجدته معك‪� ،‬أن �أعي�ش بوهمك املريح خري �ألف مرة من احلقيقة‬
‫التي قتلتني بر�صا�صك الغادر يا �سائد‪».‬‬
‫املرارة يف �صوتها جعلت ذرة �إن�سانية معدومة لديه َد َح َر َها منذ زمن‬
‫تهب للخروج؛ فرفع ذراعيه يحيطها بهما ويحت�ضنها بقوة وير ِّبت على‬ ‫ُّ‬
‫جدا بانهيارها‬‫ظهرها‪� ،‬سيكذب �إن قال‪� :‬إنه يتعاطف معها بل ي�ستمتع ًّ‬
‫‪174‬‬
‫ومتردها وا�ست�سالمها الآن �إليه وعدم مقاومته‪ ،‬لقد حر�ص �أن ينالها من‬
‫قبل بطريقة جتعلها ت�ست�سلم يف حلظة من اللحظات‪ ،‬فهو لي�س مغت�ص ًبا‬
‫ومرحبة كما يحدث الآن‬ ‫ولن تكون متعته باغت�صابها بل بنيلها را�ضية ِّ‬
‫بال�ضبط‪ ،‬لقد �أ�صبح ج�سدها وقلبها يتعرفان عليه تلقائ ًّيا فيجربها على‬
‫اال�ست�سالم التام‪ ،‬عند هذا اخلاطر ابت�سم ببطء ي�ضمها �إليه فت�شبثت به‬
‫بكال ذراعيها تع�صر قمي�صه من اخللف ع�ص ًرا بيديها‪ ،‬مرغ ًما عادت‬
‫وجل يتمرد ويجربه على اخلفقان امل�ؤمل من‬ ‫الثورة امللعونة داخله بقلب ِ‬
‫�أجلها‪« :‬اللعنة‪ ،‬ت ًّبا هو ال يحبها‪ ،‬هي ال تعنيه هو ي�ستمتع مبا يحدث معها‪».‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ً‬

‫ا‬
‫غافل يف غيمة م�شاعره كانت هي تبكي بحرقة تتم�سك به ك�أنه احلياة‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫بينما يدها تتحرر ترفع طرف قمي�صها من الأمام ت�سحب �سكني املطبخ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫احلاد‪ ،‬ثم تعود للتعلق بقوة تنتحب بحرقة ويدها الأخرى ترتفع بكل ما‬

‫والتوز عي‬
‫�أوتيت من قوة خلف ظهره وهي تخربه بت�أوه مكلوم‪�« :‬ساحمني‪ ،‬واهلل �إين‬
‫�أحببتك وتعاطفت معك‪ ،‬بل وتفهمت انتقامك منه َّيف �أنا‪ ،‬ولكن �إىل هذا‬
‫احلد يكفيني �أذاك يا �سائد‪� ،‬إال طفلي‪».‬‬
‫جحظت عينا �سائد ب�صدمة وذهول عندما �شعر بن�صل ال�سكني‬
‫ينغر�س يف ظهره‪.‬‬
‫طعنة ال�سكني احلادة جعلته ي�صرخ برد فعل تلقائي‪ ،‬وبغريزة ب�شرية‬
‫للبقاء كان يدفعها عنه بقوة غري مق�صودة �أبدً ا‪ ،‬قوة كانت كافية لتطيح‬
‫بها بعيدً ا عنه حتى الطرف الآخر من الفرا�ش‪.‬‬
‫ً‬
‫مذهول‪،‬‬ ‫م�صدوما‬
‫ً‬ ‫للحظات طويلة مريرة تو َّقف الزمان و�أُ ْع ِد َم املكان‬
‫كان ينظر جل�سدها امل�سجى �أمامه‪ ،‬ي�شعر بالدماء التي ت�سيل بخط من نار‬
‫على ظهره �شاعر باجلرح العميق الذي افتعله �سالحها‪ ،‬ولكن م�ؤكد مكانه‬
‫متاما‪ ،‬مرت حلظات ودقائق و�ساعات‪ ،‬م�ؤكد هو ال يعلم مطل ًقا‪ ،‬مل‬ ‫خا ٍو ً‬
‫‪175‬‬
‫ي�ستوعب عقله بع ُد ما فعلته‪ ،‬ينظر ملا حوله وك�أنه يف فيلم هزيل‪� ،‬شهق‬
‫طال ًبا للهواء ب�صوت �أ�شبه بخوار حيوان جريح �أفاق من �صدمته ال�ساكنة‬
‫متاما‪ ،‬بقوة ممتزجة بعذاب خفي كان‬ ‫مدر ًكا �أن �أنفا�سه كانت متوقفة ً‬
‫ً‬
‫�صارخا فيها ب�صوت مكتوم متجن ًبا‬ ‫ينتف�ض من مكانه �أخ ًريا‪ ،‬توجه �إليها‬
‫جرحه الذي يئن من الأمل متنا�س ًيا دمائه التي ت�سيل �أمام تدفق دمائها‬
‫فعلت يا‬
‫التي �أغرقت طرف ال�سرير ويديه التي حاوطت ر�أ�سها‪« :‬مادا ِ‬
‫أرجوك‬
‫أذيتك � ِ‬‫دفعك‪ ،‬مل �أق�صد � ِ‬
‫غبية؟ دجوى‪� ،‬أجيبي‪ ،‬يا اهلل مل �أق�صد ِ‬

‫ع‬
‫�أجيبي بحق اهلل‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ابتلع ريقه ب�صعوبة جم ًربا نف�سه �أال ينهار و�أن ال جتذبه الذكرى‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ملنظر دماء مماثلة‪ ،‬جلثة �أخرى حملها خالية الوفا�ض دفنها بيديه‪ ،‬كان‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫مت�شنجا وعاج ًزا بينما عقله يع�صف به �آالف الت�صورات ولكن ال �شيء‬
‫ً‬

‫ع‬
‫مهم‪ ،‬يف حلظات حتامل على نف�سه وجذب من�شفة بجانبه كتم بها الدماء‬
‫التي ت�سيل من ر�أ�سها وحت َّرك على الفور يطلب رقم �إبراهيم بع�شوائية‪،‬‬
‫�أمره فور �أن رد‪« :‬زوجتي حامل‪ ،‬وتعر�ضت خلبطه قوية على الر�أ�س‪،‬‬
‫�أريدك �أن ت�أتي بزوجتك يف احلال‪».‬‬
‫قال �إبراهيم على الفور‪�« :‬سائد امل�صاب يذهب للم�شفى ال �أن ت�أتي �إليه‬
‫زوجتي‪ ،‬وقد توقفت عن ممار�سة املهنة‪».‬‬
‫�صرخ �سائد دون �سيطرة‪« :‬لن �أذهب بها �إليهم‪ ،‬لن �أمنح �أحدً ا منهم‬
‫منته‪».‬‬
‫يوما‪ ،‬الأمر ٍ‬ ‫الثقة ً‬
‫«غبي‪ ،‬مري�ض نف�سي يحتاج العالج‪ ».‬هتفها �إبراهيم وهو ي�صرخ هو‬
‫الآخر فور �أن �أغلق �سائد هاتفه‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫‪176‬‬
‫كان ينظر �إىل الأدوية وامل�ضاد احليوي الذي تركته نرمني بعد �أن‬
‫�أخربته �أن اجلرح غري عميق‪ ،‬حتتاج فقط بع�ض الراحة و�ستكون بخري‪،‬‬
‫�أما الطفل ف�أخربته �أنه لي�س جمالها ولكن كونها امر�أة و�أم ا�ستطاعت �أن‬
‫متاما‪.‬‬
‫تعرف بطريقة ما �أنه �آمن ً‬
‫من بني الظالم الدام�س فتحت عيناها ببطء تنظر �إليه بوجهها الذي‬
‫�أ�صبح بلون الرماد املماثل للون عينيها‪ ،‬مل ينزع عيناه عنها ومل تتنازل هي‬
‫يف النظر �إليه بغرابة‪ ،‬هم�س بهدوء‪�« :‬أردتِّ قتلي يا دجوى‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫رغم �إجهادها خرجت كلماتها ب�صعوبة‪�« :‬إن �أردت قتلك مل تكن يدي‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ري‬


‫وجهه كان قريا ًبلا‬
‫اهتزت بال�سكني �أبدً ا‪».‬‬

‫ب ِ‬
‫ل‬
‫هدفكلياندجوى؟»‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫منها للغاية دون �أن ي�سمح لنف�سه بلم�سها‪ ،‬وقال‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫بخفوت ُم ْ�ض ٍن‪�« :‬إذن ماذا كان‬
‫على �سيل‬ ‫عينيها‬ ‫أغم�ضت‬ ‫�أطبقت بيديها على فمها املرتع�ش‪ ،‬بينما �‬
‫من الدموع قبل �أن تزيح كفيها وهي تقول ب�صوت خمتنق مت�أمل‪�« :‬صفعة‬
‫�إفاقة‪ ،‬طعنة احلياة يا �سائد‪َ ،‬منْ مثلك يحتاج ل�شحن من الأمل‪� ،‬أن ت�شرب‬
‫أردت �أن تقتلني وطفلي و�أنا‬
‫من الك�أ�س الذي تريد �أن ت�سقيني منه‪ ،‬لقد � َّ‬
‫قمت بالتجربة‪ ،‬ورغم كل ما فعلته بي مل �أ�ستطع �إال جرحك‪».‬‬
‫أنك‬
‫اهتزت ع�ضلة جانب فمه وقال ب�سخرية‪« :‬جتربة فا�شلة‪� ،‬إال � ِ‬
‫جرحا غائ ًرا‪».‬‬
‫وتدثي ً‬‫ا�ستطعت �أن ترفعيها ُ ْ‬
‫ِ‬
‫نف�سا مرجت ًفا وهي تقول‪« :‬ح�س ًنا‪ ،‬رمبا حقدي عليك دفعني‬ ‫�أخذت ً‬
‫جدا‪ ،‬قبل‬ ‫قليل لطعنك دون �أن �أ�سمح لك باملوت»‪ ،‬نظر لعينيها ً‬
‫طويل ًّ‬ ‫ً‬
‫أنك �أردتِّ الأمر بكل‬
‫طعنك كان يوحي ب� ِ‬
‫�أن يقول‪« :‬ما �أخرب ِتني به �أثناء ِ‬
‫كيانك»‪ ،‬هزت وجهها ب�صعوبة وك�أنها تفك �شفرة طال�سم‪ ،‬قبل �أن تهم�س‬‫ِ‬
‫‪177‬‬
‫ببديهيه‪�« :‬أردت �أن �أ�شعرك ما يف قلبي رمبا ي�شفي ت�ش ُّوه روحك‪ ،‬رمبا تلك‬
‫يوما تثور مدافعة عن �آدميتي وطفلي‪».‬‬‫البقايا امل�شوهة التي �أخربتني عنها ً‬
‫�شاف وك�أنها وجهت له �ضربة‬
‫متاما وك�أنه يعجز عن �إيجاد رد ٍ‬
‫خر�س ً‬
‫غري متوقعة هزت ركائزه وجرفت �أعماقه‪ ،‬فعادت تهم�س ب�إ�صرار ووهن‬
‫والدوار يلف بها‪« :‬هل �ستقتل طفلي؟ هل ت�ستطيع �أن ت�ضعني حتت امل�شرط‬
‫مرة �أخرى يا �سائد؟»‬
‫ظل �صامتًا ور�أ�سه حمن َّية فوقها‪� ،‬أي كلمة �سينطق بها يف هذه اللحظة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫لن تكون من�صفة �أبدً ا و�سط ذلك الإع�صار الذي يزلزل كل ثوابته‪� ،‬شعر‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫بجفنيها تعود للثقل فتقاوم هي �أال ت�ست�سلم مكررة �س�ؤالها ب�إ�صرار‪« :‬هل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�ست�ستطيع رفع �سكني وطعني؟»‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ا�ستطاع �أخ ًريا مرغ ًما �أن ينحني ويطبع ُق ْب َلة على جبهتها و�أخربها‬
‫أنت حمقة‪ ،‬هذا الطفل خطيئة لن �أغفرها �أبدً ا لنف�سي‪،‬‬ ‫بنربة تائهة‪ِ �« :‬‬
‫معك يا دجوى‪».‬‬
‫خطيئة متاثل وقوعي ِ‬
‫‪q q q‬‬
‫بذكاء ذئب وخفة فهد كان �سائد يت�سلق على موا�سري املنور الداخلي‪،‬‬
‫حتى ا�ستطاع �أن ي�صل للدور الثالث‪ ،‬وعرب �شرفة �ضيقة ا�ستطاع �أن يدفع‬
‫متاما �أن ال‬ ‫ًّ‬
‫م�ستغل جنح الليل‪ ،‬مطمئ ًّنا ً‬ ‫بج�سده داخل تلك ال�شقة العفنة‬
‫�أحد منهم �سيبقى الليلة‪ ،‬بخفة كان يدفع الباب ويخطو للداخل وليته مل‬
‫يفعل‪ ،‬جت َّمد مكانه للحظات‪ ،‬وهاله ما ر�أى‪.‬‬
‫يند�س يف غرفة‬
‫ا�ستطاع ب�صعوبة �أن ي�سيطر على ارجتاف �ساقيه وهو ُّ‬
‫�صغرية و�ضيقة تبدو �أنها ُت�ستخدم خلزين ما‪� ،‬أخرج هاتفه وقال ب�صوت‬
‫متقطع يخرج من اجلحيم بعينه‪« :‬ال�شرطة‪ ،‬ب�سرعة يا عمر‪� ،‬أنا و�سط‬
‫‪178‬‬
‫مذبحة عدمية الرحمة‪ ،‬وقعت يف جمزرة غري �آدمية‪� ،‬أَ ْ�س ِر ْع يا عمر‬
‫�أرجوك‪».‬‬
‫�أخف�ض هاتفه بينما يراقب بعينه غري قادر على �إغما�ض ب�صره عن‬
‫امل�شهد املاثل �أمامه‪ ،‬رجالن يحمالن �أج�سادًا �صغرية هزيلة يقومان‬
‫ب�إلقائها داخل الغرف املقابلة‪ ،‬بينما هناك �أكرث من �ستة رجال م�ؤكد لن‬
‫ي�ستطيع �أن يتعامل معهم مبفرده‪ ،‬كتم �سائد فمه بكلتا يديه وموجة غثيان‬
‫تهاجمه ودموعه تت�ساقط ب�صمت‪ ،‬بينما ج�سده كله يرجتف برهبة‪ ،‬لقد‬
‫متاما ملا ر�آه يف املا�ضي‪.‬‬
‫بد�أت املجزرة‪ ،‬جمزرة مطابقة ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ينتظر النجدة املتمثلة يف ال�شرطة دون جدوى والدقائق متر ب�سرعة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الربق‪ ،‬هناك �أرواح ُتزهق هنا �أبرياء ُي ْقتَلون بب�شاعة‪ ،‬مع مرور الوقت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫�أ�صابه الي�أ�س‪ ،‬والأمل بد�أ يخبو بخجل معل ًنا عن جر �أذياله بينما يراقب‬
‫هو بعني اخليال‪ ،‬اجل�سد ال�صغري ُي ْل َقى على �سرير عفن مليء بالدماء‬
‫مينح البنج‪ ،‬ثم م�شرط دقيق ي�شق بحر�ص �أج�سادهم ال�صغرية ليفتحه‬
‫على هيئة �شقني متباعدين كذبيحة عيد الأ�ضحى‪ ،‬وميد طبيب الرحمة‬
‫خمالبه وبحر�ص على جودة غنيمته‪ ،‬كان يخرج ع�ض ًوا وراء الآخر‪،‬‬
‫ليخزنه يف حافظات عالية اجلودة‪.‬‬
‫«عمر‪ ،‬افعل امل�ستحيل لقد بد�أت جولة ال�سفاحني‪ ،‬ادفع لهم ا َّدعي‬
‫�سرقتي للمكان‪ ،‬وجود حريق‪� ،‬أ�شباح‪ ،‬ت�ص َّرف يا عمر‪».‬‬
‫لي�أتيه الرد معل ًنا ب�صلف انت�صارهم عليه يف هذه اجلولة � ً‬
‫أي�ضا‪:‬‬
‫«يرف�ضون التحرك دون دليل قوي يا �سائد‪».‬‬
‫لقد قرر �أن يتحرك ويت�صرف ولكن قدميه �أ َبتَا �أن تطاوعه‪ ،‬الروح‬
‫تئن واجل�سد ينهار والقلب ميوت ب�ألف طعنة غادرة متذك ًرا م�شهدً ا من‬
‫املا�ضي‪ ،‬م�شهدً ا مطاب ًقا ً‬
‫متاما ملا يحدث‪.‬‬
‫‪179‬‬
‫ويف خالل حلظات كانت تتحول ال�صالة املقابلة ملكانه املحجوب حلاوية‬
‫نفايات ب�شرية‪ ،‬جثث ملقاة فوق بع�ضها‪ ،‬العديد من الأج�ساد الفارغة‬
‫ً‬
‫مذهول يئنُّ‬ ‫متاما‪ ،‬لتتحول �إىل جمرد جيفة خالية‪ ،‬دفن ر�أ�سه بني كفيه‬ ‫ً‬
‫ب�صوت مكتوم‪ ،‬و�إن كانت م�شارطهم هي ما تقتل �إن�سا ًنا‪ ،‬فم�ؤكد �أن القهر‬
‫الذي يلون روحه والعجز الذي يكبله يئده ح ًّيا‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫«هل �أنت بخري؟ قل �أي �شيء‪ ،‬جمودك و�صمتك خميف‪».‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ُّ‬

‫ا‬
‫التخ�شب التي وجده عليها �ساعات‬ ‫مل ي�أته الرد‪ ،‬كم مر على حالة‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ودقائق و�أيام‪� ،‬أغم�ض �إبراهيم عينيه لوهلة متذك ًرا حالة الرعب التي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫تع َّر�ض لها هو الآخر عندما ر�أى تلك املقربة اجلماعية يف غرفة ا�ستقبال‬

‫ع‬
‫تلك العيادة‪ ،‬رمبا هي جمرد دقائق ما ا�ستغرقه حتى يخرج من حالة‬
‫الذهول املمتزجة بال�صدمة عند ر�ؤيته للم�شهد‪ ،‬وبعقل رجل �أمن متيقظ‬
‫ا�ستطاع �أن ي�صرف عقله ع َّما يحدث‪ ،‬و�سحب �سائد بهدوء عائدً ا من‬
‫مواج َهة �أو‬
‫نف�س الطريق الذي دخلوا به العيادة‪ ،‬مل يحاول التدخل يف َ‬
‫�إبالغ ال�شرطة �أو التحدث مع �أحد زمالئه القدامى‪ ،‬ماذا قد يجني من‬
‫الأمر وقد وقعت املجزرة بالفعل �إال ك�شف �أنف�سهم؟‬
‫«لقد كانوا جمرد مراهقني و�أطفال‪ ،‬كل خطيئتهم يف احلياة �أنهم‬
‫وقعوا يف �أيدي من ال يرحم‪ ».‬قالها �سائد ب�صوت خافت متح�شرج‪ ،‬وما‬
‫زالت عيناه يف توهانها وك�أنه لي�س معه وال ينتمي لعاملهم‪ ،‬ك�أنه انعزل يف‬
‫عامل �آخر �أو حقبة �أخرى‪.‬‬
‫«لقد ر�أيته وهو ميزق ج�سد زوجتي‪ ،‬و�شعرت مب�شرطه وهو ينغر�س يف‬
‫ج�سدي ً‬
‫نافذا بقوة جل�سد طفلي‪».‬‬
‫‪180‬‬
‫حاول �إبراهيم �أن يجد ما يوا�سيه به �أو ي�ستقطبه للحديث با�ستفا�ضة‪،‬‬
‫ولكنه مل ي�ستطع عندما قال �سائد‪« :‬كان من املفرت�ض �أن �أقتلهم و�أريق‬
‫دماءهم؛ لأنال حق اجلميع منهم‪ ،‬ولكن مل �أ�ستطع وك�أن اخلم�سة ع�شر‬
‫عاما املا�ضية مل تكن ومل �أفعل �شي ًئا ومل تثمر حتى عن �إنقاذ روح واحدة‬
‫ً‬
‫منهم‪».‬‬
‫تقب�ضت يد �إبراهيم على املقود وقال ب�صوت م�شتد‪« :‬مل تكن لت�ستطيع‬
‫وحدك يا �سائد �إن تهورت وفعلت‪ ،‬ورمبا كانت نهايتك �أن ت�صبح ممددًا‬

‫ع‬
‫متاما‪».‬‬
‫على طاولة الت�شريح‪ ،‬ما فعلته هو ال�صحيح ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قليل قبل �أن يهم�س ب�شرا�سة‪« :‬هذا ما قاله يل عمر قبل �أن‬ ‫�صمت ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ي�ضربني ب�شيء حاد على ر�أ�سي لأفقد الوعي على الفور‪».‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫�صمت جمددًا وهو يحني ر�أ�سه اله ًثا‪ ،‬ثم تابع بحدة‪« :‬ليته مل يفعل‪،‬‬
‫رمبا كنت �أنقذت �أحدهم من املوت �أو �أخذوين معهم و ُر ِح ْمتُ من اجلحيم‬
‫الذي �أحياه‪ ،‬مل تعد بي طاقة للتحمل ف�أنا ب�شر‪».‬‬
‫�صارخا ورفع قب�ضته لي�ضرب نافذة ال�سيارة بجانبه‬ ‫ً‬ ‫ختم جملته‬
‫بدوي حاد جعل �إبراهيم يجفل للحظة وهو ي�أمره بقوة‪« :‬اهد�أ‪،‬‬ ‫فته�شمت ٍّ‬
‫وماذا كنت تتوقع من اقتحامكم ملقرهم؟ هل كنت تعتقد �أنهم توقفوا منذ‬
‫عاما وينتظرون ق�صا�صك؟!»‬‫خم�سة ع�شر ً‬
‫�ساد �صمت خميف يف امل�ساحة ال�صغرية بال�سيارة‪ ،‬مل يجر�ؤ �إبراهيم‬
‫على قطعه‪ ،‬ينقل نظره بينه وبني الطريق‪ ،‬كان �سائد ي�شعر ب�أن الهواء مل‬
‫يعد ي�سع �صدره فحاول �أن يتنف�س عن طريق فمه ب�صعوبة فدخل �إىل رئتيه‬
‫م�سب ًبا له �أملًا ال يحتمل‪ ،‬رمبا هو مل ِ‬
‫يعان ج�سد ًّيا ولكن متى كانت معاناة‬
‫الروح بال�شيء الهني �أو غري املرئي رمبا لو طعنوه �ألف طعنة ما �شعر بكل‬
‫‪181‬‬
‫هذا الوجع‪ ،‬وجهه مكفهر �شاحب‪ ،‬ج�سده كله ينتف�ض‪ ،‬بينما ال َع َرق يغطي‬
‫جبهته بحبيبات تخرج ملتهبة نافرة‪.‬‬
‫علق �إبراهيم‪« :‬يدك تنزف»؛ فهبطت دمعة �أخرى من عينه دون وعي‪،‬‬
‫خمرجا له ل�سانه و�أعلن‬
‫ً‬ ‫هناك وقف ال�شيطان �أمام عينيه مبت�س ًما ٍّ‬
‫بت�شف‬
‫ب�صلف متهك ًما‪:‬‬
‫«لقد انت�صرت‪ ،‬ف�أنا �سيد الغابة من يقرر م�صريكم‪ ،‬من يفرق جمعكم‬
‫�أو �أحولكم ملجرد قطعان تنمو داخل حدود مملكتي لأ�شبع جوعي متى‬

‫ع‬
‫�أردت‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫رد �سائد ب�صوت �أخذ يف االرجتاف رغ ًما عنه‪« :‬خذين ملنزيل‪ ،‬ال �أريد‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الذهاب لل�شركة‪».‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫�أوم�أ �إبراهيم دون جدال‪ ،‬ثم �أخرج هاتفه ليخرب عمر الق ِلق باخت�صار‪:‬‬
‫«لقد ا�ستطعت �إخراجه ال تقلق‪ ،‬ولكنه لن ي�أتي كما اتفقنا‪ ،‬لقد طلب‬
‫الرجوع ملنزله‪».‬‬
‫�أغلق �إبراهيم الهاتف بينما ذبذبات الأمل تنتقل له ك�شظايا زجاج‬
‫ت�سفك دماءه دون رحمة وال قدرة له على �إخراجها‪ ،‬فكيف حال من‬
‫يجاوره؟!‬
‫‪q q q‬‬
‫كان يقف على قدميه ب�صعوبة فلم ي�ستطيع �أن يكبح تر ُّنح ج�سده‬
‫متحامل على نف�سه حتى و�صل غرفته‪ ،‬وبنظرات‬‫ً‬ ‫وهو يتعرث بخطواته‪،‬‬
‫عينيها الهلعة املراقبة وقفت منكم�شة من منظر ثالثتهم‪ ،‬فرتكت لهم‬
‫املكان منزوية وراء باب الغرفة التي �أوهمها يف البداية �أنها مالذها‬
‫عندما اعتقدت بغباء �أنه زواج مقد�س ع�شقي بطريقة ما‪ ،‬ت�سللت ل�شفتيها‬
‫‪182‬‬
‫احلزينتني ما ي�شبه االبت�سامة متذكر ًة كل حلظة �ضعف وهوان‪ ،‬وذكرى‬
‫�إجباره لها مل�شاركته غرفته تطرف عقلها‪ ،‬ح�س ًنا فلن تكون من�صفة هو‬
‫�أمر وجترب‪ ،‬وهي طاوعت ب�ضعف �أو رمبا ل�شعورها بالذنب‪ ،‬و�أنها يجب‬
‫كامل‪ ،‬ابتلعت ريقها عندما التقت عيناها‬ ‫�أن تك ِّفر له عن ذنب والدها ً‬
‫بعينيه‪ ،‬رجفة عنيفة �أطاحت بها فرتاجعت للوراء مغلق ًة الباب خلفها‬
‫بقوة‪� ،‬أ�صبحت عيناه �أكرث رع ًبا �أو ُخ ِّيل لها ذلك رغم جحيم عذابه‪،‬‬
‫للحظات و�ضعت يدها على �صدرها يف حماولة م�ضنية للتهدئة خمرج ًة‬
‫الهواء لرئتيها‪ ،‬ثم ما لبثت �أن وقع ب�صرها على باب خزانتها املفتوح‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫مل تفكر مرتني وهي تدرك �أن �سائد يعاين من �شيء ما ا�ستدعى وجود‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�إبراهيم وعمر �سو ًّيا‪ ،‬مل تتوقف حلظة لتفكر ما �سبب م�صابه ِ َ‬

‫ل‬
‫ول اختارها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫هي رغم �أنها هددته بالقتل منذ يومني وهو يف قمة عنفوانه‪« :‬ت ًّبا له‪ ،‬لن‬
‫ت�ضعه الآن يف تفكريها‪ ،‬فلت�ستغ َّل الفر�صة وتفر بطفلها هارب ًة‪ ،‬ويحدث ما‬
‫يحدث بعدها‪ ،‬م�ؤكدً ا �سيكون �أرحم مما تعانيه على يديه‪».‬‬
‫ليند�س حتته بكامل‬
‫َّ‬ ‫و�صل �سائد النهيار حقيقي وهو يرفع الغطاء‬
‫مالب�سه‪ ،‬فحاول عمر االقرتاب منه‪ ،‬ف�أوقفه �سائد ً‬
‫قائل ب�إجهاد‪« :‬هاتفي‪،‬‬
‫�ستجد عليه مقاطع م�سجلة ملا حدث‪ ،‬حاولت على قدر ا�ستطاعتي �أن‬
‫�أح�صل على بع�ض الوجوه‪».‬‬
‫جت َّنب عمر �إبداء �أي تعاطف مع حالته متذك ًرا قواعده الأثرية بكرهه‬
‫لإبداء �أي م�شاعر �إن�سانية نحوه؛ لذا قال بجمود‪« :‬دليل جيد ل�صاحلنا‪،‬‬
‫ن�ستطيع �أن جنمعه مع البقية ونقدمه كم�ستند قوى لل�شرطة و‪»...‬‬
‫قاطعة �سائد �سري ًعا بحدة �شر�سة‪« :‬هل �إبراهيم �أثر بك بطريقة ما‬
‫ون�سيت ما نفعله يا عمر؟»‬

‫‪183‬‬
‫�أغم�ض عمر عينيه للحظات‪� ،‬أدرك املهاترات املرفو�ضة التي كان‬
‫يخربه بها �إذ �إنه يعلم �أن يف هذا البلد كل امل�ستندات �أو حتى �شاهد العيان‬
‫لي�س لهم قيمة ُت ْذ َكر مع �شخ�ص كفهمي‪ ،‬فب�سهولة ي�ستطيع �أن ينكر‬
‫ويخربهم �أنهم جمرد �أعداء للنجاح‪ ،‬كما �أنه ينظف خلفه جيدً ا وال يوجد‬
‫له عالقة مبا�شرة به�ؤالء القتلة‪� ،‬سمع �صوت �سائد يخربه جمددًا متجن ًبا‬
‫التو�ضيح‪« :‬هناك مقطع �أريدك �أن تعيده مرا ًرا‪� ،‬ستجد �أن هناك طبي ًبا‬
‫يبدو �أنه �صغري ال�سن‪ ،‬عدمي اخلربة يف «ال�شغالنة» ‪»...‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�صمت لربهة يبتلع ريقه وبتحامل �أكرث ي�ضغط على نف�سه مبا يفوق‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫قدرته يف تلك اللحظة‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال‪« :‬لقد ارتع�شت يده‪ ،‬مل ي�ستطع‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�أن ينفذ‪ ،‬ال �أعلم �أ�سبابه ولكن �أنا �أريده يا عمر ب�أي طريقة‪ ،‬غدً ا يكون‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫عنوانه وهاتفه وحتركاته من يوم �أن حملت فيه �أمه مبلف على مكتبي‪».‬‬
‫بهدوء قال عمر‪« :‬و�أنت»‪.‬‬
‫�أغم�ض جفنيه ب�إرهاق ثم قال‪�« :‬أنا بخري‪ ،‬الذكرى مل ُ ْت َح من عقلي‬
‫علي‪».‬‬
‫يوما لأعود و�أتذكرها‪ ،‬ف�أنا �أعي�ش داخلها كل ليلة؛ لذا ال تقلق َّ‬
‫ً‬
‫قائل‪�« :‬أنت مل تر ما حدث ً‬
‫كامل ليلتها‪� ،‬أنا‬ ‫ببهوت اقرتب منه عمر ً‬
‫�أعرف �سائد �أنت ل�ست بخري‪».‬‬
‫املرارة ب�صوت �سائد كانت كافية �أن تعود بعمر لتلك الليلة امل�ش�ؤمة‬
‫ً‬
‫قائل‪« :‬وها �أنا ر�أيت‪ ،‬ونعم يا �صديقي �أنا ل�ست بخري ت�ستطيع القول‪� :‬إين‬
‫�أتنف�س من بني الأموات يف تلك اللحظة‪».‬‬
‫ابتلع ريقه ثم قال‪�« :‬س�أبقى معك و�أوكل لإبراهيم املهمة حتى تكون‬
‫�أف�ضل‪».‬‬
‫‪184‬‬
‫و�ضع �سائد �ساعده على عينيه‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال ب�صرامة‪�« :‬أنا بخري‬
‫ولن تبقى معي‪ ،‬كل منا دوره مر�سوم بدقة ف�إياك �أن تفكر ب�إخالل �شيء‬
‫حتى لو جمرد معلومة ب�سيطة‪ ،‬تذكر �أنا ال �أثق �إال بك‪� ،‬أنت نف�سي يا عمر‪».‬‬
‫اعتدل عمر والعقل ال�صارم قد �أعلن عن �إطاعة ما يقوله �سائد‪ ،‬ما‬
‫ي�سعوا �إليه لي�س بهني وجمرد انهيار ب�سيط فقط بداية الأمر‪.‬‬
‫بهدوء كان ين�سحب مغاد ًرا مدر ًكا �أن �صديقه يف تلك اللحظة يحتاج‬
‫للخلوة التامة بعيدً ا عن �أي تعاطف �أو عني ما ترى �ضعفه‪ ،‬لقد غذاه �سائد‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫من كربيائه جيدً ا‪ ،‬ونزع كل م�شاعره الب�شرية جان ًبا �أو هكذا تظاهر‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫و�إن ر�أى �أحدهم الآن حالته تلك �سيزيد الأمر �سو ًءا‪ ،‬ولكن يبقى ال�س�ؤال‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫املحري ِ َل اختار مكان ابنة الها�شمي ليلج�أ �إليه وهو يف �أق�سى حلظات‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫انهياره؟ عندما خرج من الغرفة كان يدرك �أن �إبراهيم غادرهم‪ ،‬و�أن‬
‫الأخرى خمتفية‪ ،‬مل يطل ت�سا�ؤله عن مكان تواجدها‪ ،‬وهو يلمحها تفتح‬
‫باب غرفة �أخرى وتتلفت حولها‪ ،‬بينما حتمل حقيبة �صغرية وتبدو كمن‬
‫وخ َط ْت‬
‫ي�ستعد للهرب‪ ،‬فور �أن وقعت نظراتها عليه مل تهتز ومل ترتاجع َ‬
‫نحو باب ال�شقة بثقة ف�أوقفها عمر وقال بجمود‪�« :‬إىل �أين؟»‬
‫مل ت�ستدر �إليه وهي جتيبه بنف�س اجلمود‪�« :‬إىل ال�شارع»‪.‬‬
‫ف�أجابها‪« :‬هل ت�ستغلني مر�ضه يا دجوى؟»‬
‫كانت يدها على مقب�ض الباب‪ ،‬فارتع�شت �أناملها على املقب�ض قائل ًة‪:‬‬
‫«مري�ض!»‬
‫�ساد �صمت قاتل‪ ،‬وعمر ينظر �إليها بتعابري غريبة ثم ما لبث �أن قال‪:‬‬
‫أنك مل ت�ست�شعري هذا؟! �إذن ملاذا مل تهربي خالل‬ ‫«هل تريدين �إقناعي � ِ‬
‫اخرتت تلك اللحظة؟»‬
‫ِ‬ ‫ال�شهرين املا�ضيني؟ ِ َل‬
‫‪185‬‬
‫�أغلقت جفنيها للحظات تبتلع جروحها ب�صمت‪ ،‬ثم ا�ستدارت كلها‬
‫�إليه‪ ،‬ثم ما لبثت �أن قالت بهدوء‪« :‬دعنا فقط نتخطى تلك اللعبة‪� ،‬أنت‬
‫متاما ما �صفتي هنا‪َ ،‬منْ �أنا وما الذي يفعله معي �صاحبك حتديدً ا‪».‬‬‫تعلم ً‬
‫جفل عمر للحظات مرتب ًكا ك�أنه ال ي�ستطيع الإنكار �أو الت�أكيد‪ ،‬ف�أكملت‬
‫دجوى مبرارة‪« :‬هل تعرف ما �شعوري و�أنا �أعلم كيف تروين جميعكم؟ �أال‬
‫ميلك �أحدكم ذرة �ضمري واحدة ليمنع ما حدث يل تلك الليلة يا عمر؟»‬
‫بينك‬
‫نف�سا خ�شن ال�صوت وقال متهر ًبا‪« :‬ما يحدث ِ‬ ‫�صدر عن عمر ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بر�ضاك يا دجوى‪� ،‬أذكر �أين‬
‫ِ‬ ‫وبينه ال يخ�صني �أو يخ�ص �أحدً ا‪ ،‬الأمر كان‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫جتاهلت الأمر‪».‬‬
‫ِ‬ ‫أنت‬ ‫لك ً‬
‫رف�ضا �صامتًا وحمذ ًرا و� ِ‬ ‫�أر�سلت ِ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫قال عمر حمذ ًرا بهدوء حري�ص‪« :‬ما حدث قدر‬
‫و‬
‫بينما تقول‪« :‬ماذا؟! هل متزح؟ ر�سائل �صامتة‬ ‫�شهقت م�ستنكرة‬

‫حدثاول�ت ِ‬
‫أنتوزي ِ‬
‫ع‬
‫حمذرة يا ل�ضمريك املتيقظ!»‬
‫ارت�ضيت‪،‬‬
‫ال ت�ستطيعني �أن ترتكيه وتهربي الآن ونحن جمي ًعا نعلم الوحو�ش التي‬
‫تنتظرك‪».‬‬
‫ِ‬
‫«هل حتب رابحة؟»‬
‫للمرة الثانية تربكه ف�أكملت �ساخرة مبرارة‪« :‬ظننته وقع بغرامي‬
‫مثلما كنت �أراك تكتوي بغرامها‪ ،‬ق�صة حب �أ�سطورية لرجلني عادا للوطن‬
‫�أخ ًريا فيقعان بغرام ال�سكرترية واملوظفة الب�سيطة‪� ،‬أحالم وردية منحت‬
‫نف�سي الأمل متنا�سي ًة الغابة التي يتحدث عنها �صاحبك‪ ،‬متحايل ًة على‬
‫الهم الذي يثقل كتفي‪ ،‬وغ�ض�ضت ب�صري عن كل الكالب التي انطلقت‬
‫حويل من كل اجتاه‪ ،‬تع�شمت يف الرجل الذي �أحببته �أنه �سيحميني‪،‬‬
‫�سيكون الدرع يل‪ ،‬وبالنهاية مل �أجد �إال ال�سراب‪».‬‬
‫‪186‬‬
‫اخرتت‬
‫ِ‬ ‫ابتلع عمر ريقه وهو ي�شيح بوجهه عنها مكر ًرا ب�إ�صرار‪َ ِ :‬‬
‫«ل‬
‫تلك اللحظة للهرب؟ ملاذا مل تفعليها �ساب ًقا؟»‬
‫�أجابته بحرقة‪« :‬لأنه منعني وزاد �إحكام ال�سجن حويل؛ ولأين كنت‬
‫�أ�شعر بالذنب بال�ضعف‪� ،‬أرجوك �أتو�سل �إليك اتركني �أغادر �س�أختفي‬
‫متاما‪� ،‬إن مل يكن من �أجلى فمن �أجل طفل �صغري لي�س له �أي ذنب فيما‬ ‫ً‬
‫يحدث‪».‬‬
‫تركتك تهربني‬
‫ِ‬ ‫أنت واهمة �إن‬ ‫هز عمر ر�أ�سه ً‬
‫راف�ضا وقال‪« :‬ال �أ�ستطيع‪ِ � ،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫يرحمك فهمي‬
‫ِ‬ ‫يرتكك يا دجوى‪ ،‬و�إن تنا�سى هو و�سط دوامته‪ ،‬لن‬ ‫ِ‬ ‫هو لن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫النجار‪ ،‬ما �أعرفه �أن كالبه تنه�ش الأر�ض بح ًثا ِ‬
‫عنك‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أغلقت جفنيها �ساحم ًة لدموع الأمل تهبط مدرا ًرا من عينيها‪ ،‬فهمي‬

‫والتوز عي‬
‫وكالبه وقذارته‪� ،‬أ َومل تعلم �أن هذا �أحد الأ�سباب القوية التي كانت ت�صيبها‬
‫بالوهن والرتدد ب�إحباط؟ �أي مترد داخلها وحماولة للهرب والرعب �أن‬
‫يجدها فهمي‪� ،‬إذ تعلم جيدً ا �أنها يف مملكة �سائد لن ي�ستطيع كائن على‬
‫وجه الأر�ض الو�صول �إليها‪� ،‬إذ مل ي�سمح له هو ورغم جنونه و�ساديته يف‬
‫التعامل‪ ،‬ولكنها تدرك �أنه لن ي�سمح �أبدً ا �أن تطالها يد �أو �أذى غريه‪� ،‬شبه‬
‫«ف�أذيتها ودفعها حلافة اجلنون هي ملك ح�صري له»‪.‬‬
‫ت�أثر بها وتعاطف �إن�سانيته املتبقية معها من البداية‪ ،‬كان يراها �ضحية‬
‫بائ�سة �أوقعها القدر يف طريق من ال يرحم‪ ،‬فهم�س مهاد ًنا لها مدر ًكا جيدً ا‬
‫أتفهمك يا دجوى‪ ،‬ولكن ما ُتق ِْدمني على‬
‫ملا تعانيه من تخبط ورعب‪�« :‬أنا � ِ‬
‫يرحمك �أحد‪».‬‬
‫ِ‬ ‫فعله هو اجلنون بعينه‪ ،‬لن‬
‫تعاىل بكا�ؤها بقوة وهي تخربه بقهر‪« :‬عجزت يا عمر‪� ،‬أ�شعر �أن ال‬
‫مكان عاد ي�سعني‪ ،‬فاجلميع َ�سنَّ �أنيابه لينه�شني‪».‬‬
‫‪187‬‬
‫وجه عمر املت�صلب‪ ،‬املتنازع ما بني تقدمي العون لها وخيانة �صديقه‬
‫�أو �إجبارها على البقاء كما يريد �سائد‪ ،‬تكلم ب�صوته اخل�شن اخلافت بعد‬
‫نه�شك البع�ض بالفعل‪ ،‬والبع�ض الآخر �أراه بعني‬ ‫ِ‬ ‫فرتة طويلة‪« :‬نعم‪ ،‬لقد‬
‫حلمك!»‬
‫ظهورك لي�أخذ ن�صيبه من ِ‬ ‫ِ‬ ‫اخليال يقف هناك ينتظر‬
‫ارتع�شت بقوة ال �إراد ًّيا �أمام عينيه وانتف�ض ج�سدها ذع ًرا ف�أكمل‪« :‬لن‬
‫أمامك‪».‬‬
‫أجربك على البقاء‪ ،‬الباب مفتوح � ِ‬ ‫� ِ‬
‫مد يده يف جيب بنطاله و�أخرج منه بطاقة �إلكرتونية ثم قال بهدوء‪:‬‬

‫ع‬
‫يكفيك من املال‪».‬‬ ‫«هذه البطاقة مفتوحة‪ ،‬ا�سحبي منها ما‬

‫ص‬
‫ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ب�صمت مدت يدها املرتع�شة تتناولها مرتددة‪� ،‬أعاد يده يف جيبه‪ ،‬ثم‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫جربت‬ ‫أنك‬
‫إخبارك �إياه � ِ‬
‫ما لبث �أن قال بهدوء حمنك‪« :‬ولكن ما �أريد � ِ‬

‫ر‬
‫ِ‬

‫والتوزي‬
‫أنت من الذكاء لتوقني الآن �أنه من امل�ستحيل �أن‬ ‫جنون �سائد بالفعل و� ِ‬

‫ع‬
‫ؤذيك �أكرث مما فعل‪ ،‬دجوى ال يوجد �أب مثله ي�ؤذي طفله القادم وقد‬ ‫ي� ِ‬
‫عاما من حياته يحرم نف�سه من كل �شيء فقط لينتقم‬ ‫ق�ضى خم�سة ع�شر ً‬
‫لآخر ُق ِت َل وهو جمرد جنني يف �أح�شاء �أمه‪».‬‬
‫�أ�صبح اال�ضطراب يعرتيها‪ ،‬نقلت نظراتها بينه وبني الغرفة التي ترك‬
‫�سائد فيها منذ قليل‪� ،‬أخ ًريا هم�ست بجمود م�شمئز‪« :‬حتى و�إن كان كل ما‬
‫�صحيحا‪ ،‬ما يحدث هنا ُي ْد َعى زنا‪ ،‬هل تعرف معنى تلك الكلمة �أم‬ ‫ً‬ ‫تقوله‬
‫ك�صاحبك ال تفرق معك؟»‬
‫عب�س عمر للحظات بعدم فهم وت�أملها بغمو�ض‪ ،‬مل ينب�س ب�شيء وحترك‬
‫نحو باب ال�شقة‪ ،‬ثم قال ب�صلف �ساخر‪« :‬نحن تربينا يف وكر جمرمني‪،‬‬
‫ال�شوارع بيوتنا والأر�صفة �أَ ِ�س َّر ِتنا وال�سرقة والن�صب هي الو�سيلة الوحيدة‬
‫يخربك �أحد �أننا ن�ش�أنا يف الأزهر؛ لذا نعم �أنا‬
‫ِ‬ ‫لنجد ما نقتات عليه‪ ،‬مل‬
‫متاما‪».‬‬
‫مثل �صاحبي ً‬
‫‪188‬‬
‫�أظلمت عيناها ويدها ترتفع مت�سح دموعها بعنف بينما التفت عمر‬
‫لك‪ ،‬ولكنه وللأ�سف‬ ‫ملعبك‪ ،‬افعلي ما يحلو ِ‬
‫ِ‬ ‫يردف بهدوء‪« :‬الكرة يف‬
‫يحتاجك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫ال�شديد‬
‫فر�صتك لتحقيق‬
‫ِ‬ ‫�صمت لربهة واحدة قبل �أن يقول بتالعب‪« :‬رمبا هذه‬
‫�ضربة عادلة يا دجوى وتظفري بانتقام مما فعله‪ ،‬ثقي بي هذا �أف�ضل من‬
‫رمي نف�سك يف ال�شارع عائدة ملطاردة فهمي مرة �أخرى‪ ،‬ما �أعرفه �أنه‬
‫ج�سدك‪ ،‬ت�صبحني على خري‬‫ِ‬ ‫أ�سك عن‬ ‫ر�صد ً‬
‫مال م�ضاع ًفا �أمام ف�صل ر� ِ‬
‫دجوى‪».‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قالها مغل ًقا الباب خلفه وتركها يف �صمت متبلد‪ ،‬الروح هائجة تريد‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪q q‬لن‪q‬‬
‫الهرب من هنا على الفور �أو التوجه �إليه لتعرف مدى انهياره هذه املرة‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫وما احلدث اجللل الذي �أثر يف ذلك الذئب املجنون‪.‬‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬


‫رفعت عينيها كربكتان من الب�ؤ�س‪ ،‬وهي تطالع ج�سده الراقد �عأمامها‬
‫مرتبكة وحائرة‪ ،‬وال�س�ؤال العالق داخل عقلها يفرقع كالألعاب النارية‬
‫لي�ضعها �أمام حقيقة نف�سها املقيتة‪« :‬ملاذا مل تهرب؟ ِ َل بقيت و�سمحت‬
‫لعمر �أن يتالعب بها؟»‬
‫ووجدت الإجابة فور �أن ملحت حبات العرق املت�ساقطة عن جبينه‬
‫وج�سده املرجتف ب�شدة حتت الغطاء يتمتم بكلمات غري مفهومة يبدو �أنها‬
‫كوابي�س يعاين منها‪� ،‬أنفا�سه تخرج مت�صاعدة بلهاث ف�ضحه ت�سارع دقات‬
‫قلبه التي ارتفعت ملعدل غري م�سبوق‪.‬‬
‫اقرتبت بحذر يخالطه اللهفة‪ ،‬والقلب �أخ ًريا �أ�صدر حكمه ليتغلب على‬
‫�أمر العقل‪� ،‬سمعته يهمهم بكلمات مل تكن �أبدً ا مبهمة‪« :‬اتركني‪ ،‬ال�شيطان‬
‫إيذائك‪».‬‬
‫يعتدي عليها‪� ،‬آية ال ت�ست�سلمي �أنا هنا لن �أ�سمح له ب� ِ‬
‫‪189‬‬
‫�أبعدت دجوى دموعها بعنف عن عينيها لت�ستطيع الر�ؤية واقرتبت‬
‫بعزم نابع من �شعور �إن�ساين يخربها �أن �أ ًّيا ما �أو�صله حلالته تلك م�ؤكدً ا‬
‫قد عا�شه �ساب ًقا‪ ،‬وما يحدث الآن ما هو �إال �صدى قاتل لن يرتك حتى‬
‫بقاياه بخري �أبدً ا‪ ،‬برتت حديث النف�س ورمت حقيبتها جان ًبا‪ ،‬خلعت �سرتة‬
‫�صوفية كانت ارتدتها على مالب�سها لتحميها من الربد‪ ،‬وبدون حلظة ندم‬
‫�أو تخ ُّبط كانت تتوجه �إىل املطبخ لت�أتي بقطع ثلج و�إناء وا�سع‪ ،‬دخلت مرة‬
‫�أخرى ت�ضعهم على الطاولة اجلانبية وهي حتمد اهلل بداخلها �أن تلك‬
‫املر�أة التي جاءوا بها لت�ضميد جرحها قد تركت بع�ض امل�ضاد احليوي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫وم�سكن الأمل وخاف�ض احلرارة‪� ،‬سحبت � ًأول قطعة قطن وو�ضعت بها‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫قط ًعا من الثلج‪ ،‬وبهدوء جل�ست بجانبه ومدت يدها بحزم وثقة و�ضعته‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫على جبهته مبا�شرة‪ ،‬فخرجت منه �شهقة قوية �أ�شبه بالزئري وج�سده‬

‫ع‬
‫ال�ضخم ارتعد �أ�شبه بزلزال مبعدل �أربع درجات ريخرت‪ ،‬وبردة فعل ال‬
‫�إرادية اعتدل �سري ًعا ويداه تلت َّفان حول عنقها يطبق عليه بنوع من الق�سوة‬
‫غري امل�ؤذية‪ ،‬تراخت يدها عن جبهته وهي ت�صرخ فيه بتح�شرج‪« :‬اهد�أ‬
‫�أرجوك‪� ،‬إنه �أنا‪».‬‬
‫كانت �أنفا�سه تخرج ب�صعوبة متتالية وك�أنه ي�ستجدي بع�ض الهواء‬
‫ليدخل رئتيه‪ ،‬حلظات مرت طويلة كادت �أن تفقد الأمل‪� ،‬أن يرتكها �أمام‬
‫عينيه امل�ضطربة والتي �أظهرت �أنه فقد عقله‪ ،‬فهم�ست ب�أنني‪�« :‬إنه �أنا يا‬
‫�سائد‪ ،‬لقد وعدت بعدم �أذيتي مرة �أخرى‪».‬‬
‫تبك هذه املرة ومل ت�شعر باملرارة �أو حتى الرعب رغم ك َّفيها التي‬
‫مل ِ‬
‫غطت �أ�صابعه حتاول �أن تبعده عن رقبتها‪� ،‬أط َّلت من عينيه نظرة مظلمة‪،‬‬
‫هزت �أعماقها و�أنامله ترتاخى عنها‪� ،‬أخربها بنربة غريبة و�صوت غري‬
‫أعدك ب�شيء يا ابنة غ�سان‪».‬‬
‫�صوته‪�« :‬أنا مل � ِ‬
‫‪190‬‬
‫ابتلعت غ�صتها بحرقة ورفعت يديها ومل�ست وجهه بني كفيها و�أخربته‬
‫بهدوء‪« :‬يف اللحظة التي اخرتت �أن تلج�أ �إ َّ‬
‫يل فيها مل �أعد ابنة غ�سان يا‬
‫�سائد‪».‬‬
‫النظرة التي اعتلت عينيه الناظرتني �إليها مبا�شر ًة منحتها قوة لت�صمد‬
‫وتواجهه حتى و�إن كان املنطق يخربها ب�أنه وقت االنتقام والهروب‪ ،‬تلك‬
‫النظرة اخلاوية املتعبة جعلتها تخربه بقوة‪« :‬يف تلك اللحظة �أنا �أنثاك‪،‬‬
‫�أنثى الذئب»‪.‬‬

‫ع‬
‫تراخت يداه من حولها وتراجع ببطء مرة �أخرى �إىل الفرا�ش مبالمح‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لن ي�ستطيع �ألف فنان �أن ي�صف فيها مقدار الوجع وقال‪« :‬هي كانت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫لدي من �إن�سانية وكرامة‪».‬‬‫�أنثاي‪ ،‬طفلتي و�آخر ما تبقى َّ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ح َّل اجلمود على مالحمها ومل متنحه �أي بادرة للرد‪ ،‬ب�سيطرة على‬
‫الذات كانت متد يدها نحو قطعة قطن �أخرى تغم�سها يف الثلج وتعود‬
‫متررها على جبهته‪� ،‬أغلق عينيه جراء الرع�شة التي ت�سببت بها برودة‬
‫متاما بني يديها وك�أن كل قدرة له على املقاومة‬‫قطعة الثلج‪ ،‬كان م�ست�سل ًما ً‬
‫نفدت‪ ،‬ما ر�آه حتت م�شارط ه�ؤالء القتلة وهم يعبثون بالأج�ساد الهزيلة‬
‫كان يفوق طاقته؛ �إذ �أعاده لذكرى �أخرى كانت �أكرث من احتمال �أي رجل‬
‫مهما كان �صل ًبا‪� ،‬ش َّدد على جفنيه مان ًعا نف�سه ب�إرادة من حديد �أن ينفجر‬
‫يف البكاء كالأطفال مرة �أخرى‪� ،‬سمع �صوتها يقول بتوتر‪« :‬ج�سدك كله‬
‫ينتف�ض ومالب�سك مبللة‪».‬‬
‫متحامل على نف�سه قال بخ�شونة وهو ي�شعر بها تقف من جل�ستها‬ ‫ً‬
‫بجواره ومتيل بن�صفها العلوي نحوه لت�شرع يف �إزاحة الغطاء عنه‪:‬‬
‫تغيريك ملالب�سي‬
‫ِ‬ ‫«ادعا� ِؤك اخلجل يثري ال�سخرية‪ ،‬ما بيننا تعدى جمرد‬
‫لك ر�أي �آخر؟»‬
‫�أم ِ‬

‫‪191‬‬
‫نف�سا عمي ًقا تبتلع الإهانة قبل �أن تخربه بربود‪« :‬هذا �صحيح‪،‬‬
‫�أخذت ً‬
‫�أنت مل ترتك �شي ًئا للخجل �أو التجربة‪».‬‬
‫وبدون حلظة تردد �أخرى كانت تفك �أزرار قمي�صه بغيظ‪� ،‬سمعت‬
‫�أنفا�سه تخرج بت�أ ُّوه �صعب عندما مل�ست �أناملها الرقيقة �صدره‪ ،‬ت�س َّمرت‬
‫عيناها للحظات تتبع اجلروح واحلروق املتعددة يف ج�سده‪ ،‬وخاطر مزعج‬
‫يطرق تفكريها‪ ،‬هذه �أول مرة تالحظ جروحه اجلديدة بالطبع‪ ،‬لقد ر�أت‬
‫بع�ضها يوم �أن �ضمدتها له قبل �أن تدخل عرينه‪ ،‬بهدوء ت�شبثت ذراعاها‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫بخ�صره حتاول �أن توازن ج�سده بينما تهم�س‪�« :‬ساعدين ً‬
‫قليل‪� ،‬أنت ثقيل‬ ‫َ‬

‫ك‬
‫بنيتالأمل وهو يتكئ على كفيه يحاول �أن ي�ساعدها‬ ‫ابت�سمت مالحمهالمن‬
‫ب‬
‫بع�ض ال�شيء‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫ع‬ ‫ي‬
‫مينحها‬‫ز‬ ‫و‬
‫عينيها‬ ‫و‬
‫وجهها التي حتاول ادعاء ال�صمود‪ ،‬ولكن رغ ًما عنها رمادالت‬
‫إزاحة عينيه مراق ًبا ملالمح‬ ‫�‬ ‫عن‬ ‫قادر‬ ‫غري‬ ‫يف االعتدال بجذعه كما طلبت‪،‬‬

‫�سح ًرا مي�س نب�ضة غادرة داخل قلبه‪ ،‬جتربه لالعرتاف �أنها جميلة وجميلة‬
‫جدا‪� ،‬شهية حنونة وبريئة‪ ،‬مت�ساحمة بطفولية عجيبة‪.‬‬
‫ًّ‬
‫بينما هي منهمكة بتخلي�صه من مالب�سه ارتفعت يده امل�صابة لتحيط‬
‫وجنتها برقة و�أنامله تداعب �شعرها الق�صري تعيده خلف �أذنها وقال‬
‫لديك �شيء يفوقني‬
‫أنت ِ‬ ‫حجمك مرتني رمبا‪ ،‬ولكن � ِ‬‫ِ‬ ‫بخفوت‪�« :‬أنا �أفوق‬
‫�أ�ضعا ًفا‪».‬‬
‫ا�ضطربت وهي تلعق �شفتيها التي ج َّفت بل�سانها غري قادرة على منع‬
‫نف�سها من �س�ؤاله‪« :‬ما هو هذا ال�شيء؟»‬
‫قال ب�إجهاد ويده ما زالت تعبث بخ�صالتها‪« :‬ال �أعرف»‪.‬‬
‫‪192‬‬
‫مل تر َّد وهي تتمالك �أع�صابها وتبعد كفه عنها وتفردها على كفها‬
‫املرجتف وقالت‪« :‬يدك تنزف‪َ ،‬منْ �ض َّمد لك اجلرح بتلك الطريقة‬
‫الع�شوائية؟»‬
‫رد‪« :‬ال �أذكر َمنْ »‪.‬‬
‫�شرعت يف �إزالة ال�ضمادة الع�شوائية من كفه‪ ،‬ومررت ً‬
‫�شا�شا �آخر‬
‫تطهر به جرحه ب�إتقان‪ ،‬بينما يدها الأخرى ارتفعت وب�أطراف �أناملها‬
‫كانت تتبع جروحه القدمية واحلديثة‪ ،‬بهدوء �أ�شعره �أنها �أ�صابع عازفة‬

‫ع‬
‫كمان تعزف بنغم رقيق هادئ جعله ي�سرتخي مرغ ًما م�ست�سل ًما حتت‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يديها دون حذر‪ ،‬بينما هي تتابع انفعالته ب�أمل متعاقب ومتعاطف هم�ست‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ب�صعوبة والإدراك ي�ضرب عقلها‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫«تلك اجلروح �أنت املت�سبب فيها لنف�سك‪».‬‬
‫عاد ي�سرتخي بج�سده على الو�سادة وقال متهر ًبا‪« :‬ما متلأ �صدري‬
‫وظهري �أو حتى ركبتي كانت من �صنع حماد‪».‬‬
‫َ«منْ حماد الذي تردِّد ا�سمه طوال الوقت؟»‬
‫�أخربها ب�ضيق �ساخ ًرا‪« :‬هل �شاهدتِّ فيلم العفاريت من قبل؟»‬
‫هبطت من عينيها ال�ساحرتني دمعة وحيدة وهي جتيبه مبت�سمة وقد‬
‫فهمت �أنه لن يعرتف ب�سهولة �أنه ميار�س املازو�شية بنف�سه‪« :‬ما من �أحد‬
‫يف الوطن العربي مل يره‪».‬‬
‫«الكتعة بجانب حماد حمل بريء وديع‪ ،‬مالك طاهر ب�أجنحة‪».‬‬
‫مل حتتج ملجادلته وهي تنهي و�ضع ال�ضمادة على جرحه‪ ،‬ومتد يدها‬
‫جدا و�سينهار ج�سدك‬ ‫جت�س حرارته مقرنة بقولها‪« :‬حرارتك مرتفعة ًّ‬
‫بالتدريج‪� ،‬أنت حتتاج حلمام بارد على الفور‪».‬‬
‫‪193‬‬
‫مرتاحا ونائ ًما بالفعل قبل �أن تدخلي الغرفة‪».‬‬
‫ً‬ ‫قال ب�إرهاق‪�« :‬أنا كنت‬
‫هادنته بالقول مردِّدة‪�« :‬سائد‪ ،‬حرارتك ترتفع وج�سدك كله ينتف�ض‬
‫و�أنت جتادل‪ ،‬من ف�ضلك ا�سمع كالمي‪».‬‬
‫فتح عينيه امللتهبتني بحدقتني حممرتني غ�ض ًبا وبدون مقدمات كان‬
‫يجذبها نحوه‪ ،‬مل مينحها حتى فر�صة لالعرتا�ض وال�صراخ‪� ،‬أطلق ت�أ ُّوهً ا‬
‫متحامل على نف�سه‪ ،‬وهو يلقيها بجانبه يدفعها لتتمدد على‬ ‫ً‬ ‫مكتوما‬
‫ً‬
‫الو�سائد وبدون �أدنى كلمة كان يكبل َخ�صرها بذراعيه وي�ضع ر�أ�سه على‬

‫ع‬
‫«كنت تريدين الهرب‪ ،‬خط�أ لن‬ ‫بطنها‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال بغ�ضب مكتوم‪ِ :‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لك يا دجوى‪».‬‬ ‫�أغفره ِ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫َف َغ َر ْت فاها للحظات ذاهلة قبل �أن تقول بتقطع‪« :‬كيف عرفت؟!»‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫الربيئة الغبية تعتقد �أنه ملجرد تعب ح َّل به و�سمح له �أن يظهره �أمامها‪،‬‬
‫�أنه �سيفقد قدرته على املالحظة مالب�سها كاملة مع حقيبة مرمية �أمام‬
‫باب الغرفة وحذاء �أنيق‪ ،‬هل يوجد �أكرث من هذا �أدلة؟ مل ُي ِج ْب‪ ،‬مل ي�ستطع‬
‫أنت حتققني الإلهاء املطلوب‪».‬‬ ‫وجفنيه تعود للثقل التدريجي مهمه ًما‪ِ �« :‬‬
‫‪q q q‬‬
‫دوامة يغرق فيها‪ ،‬ت�سحبه بتيار هائج ثقيل م�صمم �أن يخطف روحه‬
‫وي�أخذ عمره‪ُ ،‬يلقيه يف الأمل والتهلكة ليوئده ح ًّيا‪ ،‬دوامة خمتلفة‪ ،‬متنازعة‬
‫وخمتلطة‪� :‬إحداها حلوة دافئة حنونة تلف ج�سده ل ًّفا بحنان �أُ ٍّم قلقة مل‬
‫يوما قط‪ ،‬بل جمرد �أ�ساطري وخياالت �سمع عنها‪ ،‬ولكن‬ ‫يعرف معنى حبها ً‬
‫�أي �أم؟! ما �أخربوه عنها ال ميثل �أبدً ا هذا ال�شعور اللذيذ من الدفء الذي‬
‫ي�شعر به خالل تلك الغمامة‪� ،‬شعر بذراعيه تعت�صر �شي ًئا ناع ًما طر ًّيا‬
‫كحلوى املار�شملو‪ ،‬ودوامة �أخرى ُتربه ب�سطوة �شر�سة �أن يبتعد عن ذلك‬
‫‪194‬‬
‫االكت�شاف املثري املريح و ُتلقيه يف غيمات �شيطانية‪ ،‬ي�صارع الأمل‪ ،‬يحارب‬
‫تلك الذكرى ال�سوداء‪ ،‬غري مدرك لتلك التي حتت�ضنه بقوة تهم�س بجوار‬
‫�أذنيه ب�صوت خمتنق بدموعها بكلمات‪�« :‬أرجوك �أ ِفقْ ؛ �سائد ال ت�ست�سلم‪،‬‬
‫هذا كابو�س حبيبي‪� ،‬أرجوك �أ ِفقْ ‪».‬‬
‫ولكن ال هو �سمع وال هي ا�ستطاعت �أن تخرجه ِمن بئر الذكريات‬
‫عاما ليلته الأخرية يف وكر حماد مبنت�صف‬ ‫املخيفة‪ ،‬قبل خم�سة ع�شر ً‬
‫الليل‪ ،‬كان يت�سلل بهدوء بعد منت�صف الليل كخفا�ش يلج�أ �إىل كهفه بعد ان‬
‫ك�سر واجهة �صيدلية وعاقب الطبيب املتدرب الذي ي�سهر فيها‪ ،‬بو�صاية‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫من �أحدهم بعد �أن �أخرب حماد �أنه يرف�ض التعامل معهم‪ ،‬لقد �أنهى هو‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫واثنني معه عقاب الرجل ومن معه‪ ،‬ولكنه رف�ض �أن يبقى مع رفيقيه‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫متنا�س حمايلتها �إياه كي ي�أخذها‬ ‫ٍ‬ ‫وعاد �سري ًعا ل�صغريته اجلزعة غري‬

‫والتوز عي‬
‫أح�س بالق�شعريرة تزحف فوق ج�سده وهو يلمح �سيارة دفع رباعي‬ ‫معه‪َّ � ،‬‬
‫متوقفة �أمام وكرهم ويقف �أمامها �سبع رجال‪ ،‬يتعاونون فيما بينهم على‬
‫نقل �أج�ساد رفاقه ال�ساكنة‪ ،‬كاد �أن يذهب �إليهم ي�صرخ فيهم ي�ستفهم‬
‫ع َّما يحدث عندما �شعر ب�أحدهم ي�أتي من ورائه ويكبله بقوة‪ ،‬التقطه من‬
‫أر�ضا ولكن �أوقفه �صوت عمر املرتعب ولكنه قوي‬ ‫ً‬
‫حماول �أن ي�أتي به � ً‬ ‫خلفه‬
‫�صامد‪ ،‬وهم�س‪�« :‬إنه �أنا‪� ،‬إياك �أن جتر�ؤ وتتخطاهم‪ ،‬لو اكت�شف املعلم �أننا‬
‫ر�أينا �شي ًئا �سي�سلمك لهم‪».‬‬
‫�سب �سائد نف�سه وهو يطاوع عمر وهم يند�سون خلف كومة قمامة من‬ ‫َّ‬
‫تلك التي متلأ احلواري امليتة‪ ،‬و�س�أله‪«َ :‬منْ هم؟ وهل تعرفهم؟»‬
‫ه َّز عمر ر�أ�سه نف ًيا بالت�ضامن مع قوله‪« :‬ال‪ ،‬لو كنت �أعرف عنهم �شي ًئا‬
‫لكنت �أخربتك‪ ،‬ولكن �أحد رجال املعلم ممن يعملون معه يف تلك الناحية‬
‫�أخربين دون �أن يق�صد �أن هذا الأمر َمنْ يذهب �إليه ال يعود �أبدً ا‪».‬‬

‫‪195‬‬
‫ا�ستب َّد القلق به فقام مغاد ًرا وقال لعمر بخ�شونة قلقة‪« :‬يفعلوا ما‬
‫يفعلوه‪� ،‬آية بالداخل و�أنا عدت من �أجلها‪ ،‬كما �أين ذئب املعلم ولن يحدث‬
‫�شيء‪».‬‬
‫تن َّهد عمر ب�ضيق قبل �أن يتبعه م�ست�سل ًما وقال‪« :‬رجلي على رجلك‬
‫�س�أذهب معك‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫دوامة الذكريات تتوقف مبقاومة منه فيعود ج�سده لالنتفا�ض بني‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ذراعي ال�ساهرة التي حتت�ضنه بقوة وتهم�س مهدئة وهي تبذل جهدً ا‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫خراف ًّيا حتى ال ت�صرخ بكل ما يعتمل يف �صدرها لإيقاظه‪ ،‬لقد كان يهذي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫بكلمات وا�ضحة ي�صف ما يراه يف كابو�سه بدقة‪ ،‬وكم كان مرع ًبا وخمي ًفا‬

‫�سيقتلونني‪».‬املكتوم املقاوموالتو‬
‫امل�ستنجدز عي‬
‫جدا‪.‬‬‫�أنه ي�صيب كل جزء منها الذعر‪� ،‬إذ �إنها تدرك �أنه حقيقي‪ ،‬حقيقي ًّ‬
‫با�سمه‪:‬‬ ‫عاد ليغرق وهو يتذكر ال�صراخ‬
‫«�سائد‪� ،‬أنقذين �أين �أنت؟‬
‫ملح وج ًها مقيتًا �أتى من اجلحيم مبا�شر ًة ليخربهم على عجل‪« :‬كبلها‬
‫جيدً ا هذه بالذات ت�ساوي ِ�ض ْعف كل من ب�صندوق ال�سيارة ال �أريد �أن‬
‫ي�صيبها خد�ش‪».‬‬
‫ً‬
‫�صارخا فلحقه عمر وهو يلتقط خ�شبة ملقاة يف ال�شارع‪،‬‬ ‫هرع �إليها‬
‫ولكن هيهات وقد ح�سم القدر امل�صري‪ ،‬انطلقت ال�سيارة‪ ،‬فجرى وراءها‬
‫ً‬
‫حماول‬ ‫يحاول اللحاق بها‪� ،‬سقط مرة واثنان وع�شر‪ ،‬وكان ي�صرخ با�سمها‬
‫اللحاق بهم‪ ،‬ظهر عمر مرة �أخرى بدراجة نارية و�أمره بال�صعود فقفز‬
‫وراءه دون �أن يتوقف يتابعون املجرمني‪ ،‬مل يفقد الهدف عندما توقفوا‬
‫مبان‪ ،‬وحملوا الأج�ساد التي خدروها‬
‫�أخ ًريا يف املدينة اجلديدة و�سط عدة ٍ‬
‫‪196‬‬
‫بالوجبات الوهمية مب�أدبة �أقامها �ساب ًقا حماد على �شرف �ضحاياه قبل �أن‬
‫ُي َ�س ِّلمهم كر�ؤو�س الغنم التي وقع االختيار عليها‪.‬‬
‫ملحها �أخ ًريا واحلقري الذي حفظ وجهه عن ظهر قلب يحملها بنف�سه‬
‫ليدلف بها �إىل داخل مقرهم القذر لتقطيع الأج�ساد‪ ،‬و�أخربهم بنربة‬
‫�شيطانية قذرة‪�« :‬أنتم مع البقية �أم تلك احللوة لديها هدية يل قبل �أن‬
‫�أح�صل على كنزها؟»‬
‫متاما عن اخلفقان وهو ينظر لهم من بعيد ُبذعر‬ ‫�شعر بقلبه يتوقف ً‬

‫ع‬
‫ُيكبله عمر الذي ن�صحه‪�« :‬إن ذهبت �إليهم هكذا‪� ،‬سن�صبح مثلها اليوم‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ز�أر فيه بجنون‪« :‬تلك �آية يا عمر‪� ،‬إنها زوجتي وطفلي‪� ،‬سي�أخذونهم‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مني‪� ،‬أت�سمع ما يقوله احلقري؟»‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫‏كان الأدرينالني ي�ضخ يف عروق كليهما ب�صخب خميف‪ ،‬ولكن عمر‬
‫جاهد ليخربه بحكمة‪« :‬اجعلهم يلتهون � ًأول فيما يفعلونه وبعدها �سنت�سلل‬
‫ونطلق �سراح اجلميع‪».‬‬
‫رمبا هما �أطفال �شوارع‪ ،‬كالب �سكك كما يطلق عليهم‪ ،‬جمرد حيوانات‬
‫جائعة للطعام واحلنان والنظافة والرتبية‪ ،‬ولكن م�ؤكد ورغم ن�ضجهم‬
‫جدا و�إجادتهم الت�أقلم على كل �شيء حتى ي�ستطيعوا البقاء على‬ ‫املبكر ًّ‬
‫قيد احلياة‪ ،‬ولكن مل يخطر بعقلهم �أبدً ا �أن هناك ً‬
‫وحو�شا على هيئة �آدمية‬
‫َي ْر َتدُون معاطف بي�ضاء مليئة بدماء رفاقهم و�أ�شقائهم الذين جاءوا من‬
‫رحم واحد؛ رحم ال�شارع‪ ،‬مل يكن قاد ًرا على ازدراد ريقه وهو يت�شبث يف‬
‫نافذة �أطرافها من الزجاج العاك�س يف ال�ضوء الداخلي‪ ،‬ر�أى بعينني هلعتني‬
‫ً‬
‫م�شرطا‬ ‫َج َزّارين �آدميني ُيلقون بذلك الفتى على الطاولة‪ ،‬ثم ي�ضربون‬
‫يف ج�سده فاحتني بطنه طول ًّيا‪� ،‬أغلق �سائد فمه وهو يهبط عن ال�شباك‪:‬‬
‫«هو يعرف هذا املراهق‪ ،‬لقد كان من �أف�ضل رجال املعلم امل�ستقبليني كما‬
‫‪197‬‬
‫كان يخربه حماد‪ ،‬يذكر جيدً ا يوم وجده ح�سان و�أتى به للمعلم ليخربهم‬
‫�أن هذا ال�صغري ُط ِر َد من منزله بعد �أن ط َّلق والده �أمه وكل واحد منهم‬
‫تز َّوج و�أجنب من الزوج اجلديد‪ ،‬وان�شغلوا بحياتهم متنا�سني فلذة كبدهم‬
‫الذي وجد ال�شارع م�أواه‪ ،‬غ�صة �أمل عنيفة وجنون متخبط كان يجعله‬
‫ي�شب يبحث بجنون عن رفيقته‪ ،‬فوجد يف الغرفة الأخرى فتاة يعرفها‬
‫جيدً ا‪ ،‬ر�آها تتعذب و ُت ْ�س َت َغل ج�سد ًّيا وروح ًّيا من ح�سان القذر منذ �أن كانت‬
‫طفلة �صغرية عمرها ال يتعدى الع�شر �سنوات‪ ،‬جم ًربا �إياها على معا�شرته‬
‫ال�شاذة كاحليوانات‪ ،‬يعلم ق�صتها ويذكرها جيدً ا لقد كانت جمرد يتيمة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�ألقاها القدر مع عم طامع �أكل مالها وعذبها حتى هربت ووجدت ال�شارع‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫م�أواها‪ ،‬مل يرحم براءتها مطل ًقا‪ ،‬الرحمة يا اهلل بعبادك ال�ضعفاء‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫العدل �أ ْن ِز ْله بخلقك و� ْأح ِر ْق بجحيم غ�ضبك َمنْ جترد من الإن�سانية تار ًكا‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫لل�شيطان نف�سه‪ ،‬حتركه �أطماعه لي�صل �إىل احل�ضي�ض‪.‬‬

‫ع‬
‫مل يكن يدرك �أنه و�صل �إليها‪ ،‬ي�صرخ كحيوان جريح يقطعون من‬
‫ج�سده احلي وهو على قيد احلياة‪� ،‬صوته كان ه�ستري ًّيا جمنو ًنا وك�أنه فقد‬
‫أوتي من قوة بالت�ضامن مع دموع‬ ‫عقله بينما يخبط على النافذة بكل ما � َ‬
‫الذل والإهانة و�سحق الكرامة‪ ،‬وهو يراقب �صغريته ممددة على فرا�ش‬
‫قذر مغرق بالدماء يربط قدميها وذراعيها‪ ،‬بينما هي تطلق �صرختها‬
‫با�سمه ب�صوت معذب‪ ،‬والقذر ال يتوقف وال يتهاون عن اغت�صابها بتلذذ‪،‬‬
‫�صراخه زلزل يف ثوان كيان القتلة فلم يجد عمر ُبدًّا من �أن يخبطه على‬
‫متاما‪ ،‬ثم �سحب ج�سد‬ ‫ر�أ�سه بتلك اخل�شبة مرة واثنان حتى جعله ي�صمت ً‬
‫�صاحبه �سري ًعا واختفى يف هيكل عمارة ما زالت حتت الإن�شاء بجانب‬
‫م�ستغل ارتباكهم ورعبهم �أن يكون �أحد عرف طريقهم‪ ،‬كان‬ ‫ًّ‬ ‫هذا املكان‪،‬‬
‫يدرك �أن عمر وقتها بعقلية مراهق مل يبلغ ال�ساد�سة ع�شر بعدُ‪ ،‬مل يكن‬
‫بيده �شيء �آخر‪ ،‬معرتف �أنهم �إذا وجدوه هو وعمر كان �سيلحق بحبيبته‪،‬‬
‫‪198‬‬
‫يوما واثنان وهو غارق يف �أحزانه غري قادر على ت�صديق هول‬ ‫انتظر ً‬
‫ال�صدمة‪ ،‬ثم �أ�صر �أن يحفر املقربة اجلماعية ب�أظافره و�أخرجها هي‬
‫و�صغريه‪ ،‬و�أكرمهم بدفنهم يف مثواهم الأخري‪.‬‬
‫يف بع�ض الأحيان ال�سماح للأمل باالنت�شار ليغزو الروح قبل اجل�سد‬
‫و�أن يغمر القلب يكون بداية للتحرر‪� ،‬أن ُنو�ضع بطريقة موجعة �أمام ر�ؤية‬
‫ما�ضينا‪ ،‬يكمن احلل واملحرك الأ�سا�سي الب�شع‪ ،‬ت�ضحية �صغرية بع�ضو‬
‫فعال يف ج�سدك متنحك القوة والإقدام ال�ستئ�صال ورم خبيث دون �أن‬

‫ع‬
‫َي ِر َّف لك جفن �أو يهزك �شعور �إن�ساين واحد‪ ،‬م�ؤمل �أن تعي�ش كل تاريخك‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يف كذبة‪ ،‬م�ؤمل ال�شعور الذي يتدفق يف داخلك بتنازع متناحر قاتل ما بني‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ال�صراخ ب�صوت احلق وما بني الدفاع عن قاتل هو منك و�أنت منه‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫م�ؤمل �أن تعي�ش الأمل م�ضاع ًفا ك�أنها �ساحة حرب رومانية ي�صرخ‬
‫اجلميع بنه�شك‪ ،‬وال ترى اخلال�ص �إال بني يدي ذلك الأ�سد الذي ينطلق‬
‫نحوك وال نية لديه �إال �أكلك ح ًّيا‪ ،‬وكم هو موجع وقاتل �أن تدرك �أن‬
‫�أفعال الب�شر هي �أق�سى �أنواع ال�شرا�سة وتع َّدت ا�ستيعاب العقل واملنطق‬
‫والالمنطق‪ ،‬م�ؤمل �أن تدرك �أن احليوانات ال جتر�ؤ �أن تفعل جز ًءا من مئة‬
‫من ت�صرفات الب�شر‬
‫‪q q q‬‬
‫مع بزوغ �أول ال�صباح كانت تدرك �أنها مل متر يف حياتها قط بليلة‬
‫�سوداء كالتي عا�شتها معه‪ ،‬لقد ظنت من تنازعه و�ضعفه �أنه لن يفيق‬
‫منها واحلمى التي �أ�صابت ج�سده حتى �أنها كانت جتفل من مل�سه‪ ،‬احلرارة‬
‫املنبعثة منه �أ�صابتها هي بالتعرق‪ ،‬لقد حاولت الإفالت من بني ذراعيه‬
‫ولكن بالنهاية مل ت�ستطع وا�ست�سلمت لت�شبثه املميت بها حما ِو َل ًة املحافظة‬

‫‪199‬‬
‫قليل عرب كمادات الثلج‪ ،‬وحبتني خاف�ضة للحرارة‬ ‫على انخفا�ض حرارته ً‬
‫د�ستها حتت ل�سانه‪ ،‬ويبدو �أنها �أخ ًريا �أتت مبفعولها‪.‬‬
‫كان قد اعتدل يف نومته �أخ ًريا وبد�أت مالحمه ت�سرتخي‪� ،‬إحدى‬
‫ذراعيه ت�سرتيح على َخ�صرها والأخرى تت�سلل وراء ظهرها ك�أنه يرف�ض‬
‫�أن يرتكها‪ ،‬يرف�ض �أن يعي�ش جحيمه وحده في�شاركها به كما تَوعدها يف‬
‫ال�سابق‪.‬‬
‫ت�س َّللت �أناملها تتبع جروح ذراعيه برقة‪ ،‬هي على يقني الآن �أن تلك‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫اجلروح من فعله‪ ،‬وكان يجاهد بالفعل لفتح عينيه وحوا�سه تعود �إليه �شي ًئا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ف�شي ًئا‪ ،‬وحركتها الناعمة تت�سلل لتوقظ عقله الباطن من دوامته الإرادية‪،‬‬

‫ب للٍ‬
‫لثواننمعدودة مل ترد‪ ،‬ثم ما لبثت �أن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫قال ب�صوت �أبح‪« :‬امل�سمى ال�صحيح مازو�شية يا ابنة غ�سان»‪.‬‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫�شعر بيدها تتوقف على �ساعده‪،‬‬
‫قالت بقلق‪َ ِ :‬‬
‫«ول قد تفعل هذا بنف�سك؟!»‬
‫�ساحما لها بالتحرر �أخ ًريا من حما�صرته‪ ،‬ا�ضجع‬
‫ً‬ ‫حترك من مو�ضعه‬
‫على جانبه وقال برتابة‪« :‬ابقي بجانبي»‪.‬‬
‫َع َّ�ضت طرف �شفتيها‪ ،‬ثم بهدوء متددت على جانبها لتواجهه وقالت‪:‬‬
‫«مل �أكن �أنتوي تركك‪».‬‬
‫جدا‪».‬‬
‫جدا �أو ذكية ًّ‬ ‫نف�سا عمي ًقا قبل �أن يقول‪ِ �« :‬‬
‫أنت �سلبية ًّ‬ ‫�أخذ ً‬
‫مل تلف وتدور عندما �أجابته بهدوء‪�« :‬أو رمبا �أين �أدركت �أن لذة‬
‫انتقامي تكمن يف �ضعفي �إليك‪».‬‬
‫التوى فكه ب�شبه ابت�سامة وقال بغمو�ض‪�« :‬أكره الظالم‪ ،‬يرعبني ك�أين‬
‫جمرد �صغري �أخربوه عن الأ�شباح التي تخرج يف �سواد الليل‪».‬‬
‫‪200‬‬
‫رم�شت بعينيها للحظات بتعجب قبل �أن تلتقط مبادرته وقالت بب�ساطة‪:‬‬
‫«�أو رمبا النزاع بداخلك هو ما ينفره‪ ،‬فجزء منك غارق حتى النخاع يف‬
‫ب�ؤرة انتقامك‪ ،‬وبقايا من �إن�سانيتك تعرف �أن كل �أفعال ال�شياطني املظلمة‬
‫ال تخرج �إال يف �سكون الليل عندما ت�سدل ال�سماء �ستارها الأ�سود»‪.‬‬
‫ً‬
‫م�شو�شا‪ ،‬وحقده‬ ‫ماذا يكون رد فعله على حديثها؟ لقد كان متع ًبا مت�أملًا‬
‫يتعاظم‪ ،‬حقد مل يكن موج ًها لها يف تلك اللحظة‪ ،‬م�ؤمل �أن يعرتف �أن ما‬
‫أي�ضا هي نف�سها من وجد معها‬ ‫دما مل َّ‬
‫يجف وث�أ ًرا مل ي�ؤخذ‪ ،‬و� ً‬ ‫بينه وبينها ً‬
‫جز ًءا اعتقد �أنه مات واندثر‪ ،‬فليعرتف لنف�سه حتى يتخل�ص من بع�ض‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت�شو�شه �أن د َُجى حترك فيه قل ًبا كان قد مات‪ ،‬وهذا يف حد ذاته منتهى‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫الأنانية والظلم منه حلبيبته‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫«دُجى تعني ظلمة الليل‪ ،‬هل لهذا �أ�صبحت تلقبني به؟»‬
‫تن َّهد وهو يقول‪« :‬ودُجى القمر تعني �أنه اكتمل ليق�شع هذا الظالم‪،‬‬
‫ودُجى ال�سحاب تعني �أنها تو�سعت لتتوغل وتنت�شر‪».‬‬
‫توتر فمها وقالت‪« :‬وهل هذا الفارق يعني لك �شي ًئا؟»‬
‫أخربك املعلومة كاملة فقط‪».‬‬ ‫قال بجفاء‪« :‬ال بالطبع‪� ،‬أنا � ِ‬
‫احلذر بينهما‪ ،‬بينما عيناه مل تتنازل عن النظر لعينيها‬ ‫عم ال�صمت ِ‬
‫املرتبكة يكت�شفها يفهمها‪ ،‬ا�ست�شعرت هذا عندما �أخربها‪« :‬الليلة املا�ضية‬
‫ال تعني �شي ًئا»‪.‬‬
‫�أغلقت جفنيها‪ ،‬ثم ما لبثت �أن قالت ب�سخرية‪« :‬بالطبع �أفهم هذا‪ ،‬كما‬
‫ً‬
‫م�ستقبل؟»‬ ‫ليلة الأ�سبوع املا�ضي‪ ،‬هل �أتوقع الكثري من تلك الليايل‬
‫كان التوتر من ن�صيبه هذه املرة‪ ،‬و�أ�شاح بوجهه ليخربها ب�صوت‬
‫�أج�ش‪« :‬رمبا‪ ،‬ولكن �أعدك �أن كل �شيء �أو�شك على االنتهاء‪».‬‬
‫‪201‬‬
‫ال �إراد ًّيا اعت�صرت يدها بطنها امل�سطح‪ ،‬متذكرة كل انتفا�ضة منه وكل‬
‫�صرخة كانت تخرج منه كطعنة �سكني حادة ال ترحم‪ ،‬هم�ست‪�« :‬إخراج‬
‫الأمل عرب تعذيب نف�سك لن يفيدك‪ ،‬رمبا حتتاج للتحدث‪».‬‬
‫�ساد �صمت من جانبه �إال �صوت �أنفا�سه الثقيلة وك�أنها �أعادته بق�سوة‬
‫ملا كان يتهرب من تذكره‪ ،‬همت �أن تبتعد عنه تهرب من تلك ال�شياطني‬
‫التي عادت ترتاق�ص على مالحمه يف هفوة‪ ،‬ف�سارع للإم�ساك بيديها‪،‬‬
‫قبل �أن يقول بخ�شونة‪« :‬للأمل مفعول ال�سحر لإخراج كل غ�ضبك املتفجر‪،‬‬

‫ع‬
‫لي�ضمن بقاءك على قيد احلياة حتارب وت�صمد‪ ،‬يعزز دوافعك ويغذي‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫روح االنتقام‪ ،‬بلى كنت �أحتاجه ب�شدة؛ لكي يريحني من احلمم التي‬

‫ب‬
‫احلدل�لأحببتها؟!»‬
‫ن‬
‫تنفجر بداخل عقلي بغمامه �سوداء �سامة‪� ،‬إن تركتها �ستحرق كل �شيء‪».‬‬

‫والتوز عي‬ ‫شر‬ ‫بقلب خافق �س�ألته‪« :‬هل لهذا‬


‫�شهقت برعب وعينيها تتو�سعان هل ًعا عندما ر�أته ينتف�ض مرة واحدة‬
‫مي�سك بع�ضديها بقوة يهزها ب�شدة‪ ،‬وهو يهدر كمغيب عن الوعي‪« :‬كانت‬
‫جميلة حد الأمل‪ ،‬بريئة حد الوجع‪ ،‬مالئكية حد احل�سرة‪ ،‬رغم كل‬
‫احل�ضي�ض والقذارة التي كربنا فيها‪».‬‬
‫اجلمر املحرتق يف عينيه انطف�أ فج�أة ويديه ترتاخى حولها بت�ضارب‬
‫رد فعل خميف ويده ترتفع تتلم�س �صفحة وجهه وهو يقول مبرارة‪« :‬كانت‬
‫ت�أتي كل ليلة لتدخل بني ذراعي حتتمي فيهما من كل الوحو�ش ال�ضارية‬
‫التي كانت تتكالب عليها‪ ،‬تعرف عن يقني �أين حاميها‪ ،‬تخرتق كتل اللحم‬
‫ليل تتلم�س الدفء من بع�ضها‪ ،‬تلت�صق حتى �أكاد ال �أفرق الوجوه‬ ‫املرتا�صة ً‬
‫يل و�أ�سافر بها لعامل به ب�صي�ص‬‫املليئة بالأو�ساخ من بع�ضها‪ ،‬ف�أ�ضمها �إ َّ‬
‫من النور مل تعرفه مع �سواي �أبدً ا‪».‬‬

‫‪202‬‬
‫حماوطا ر�أ�سها ب�ساعديه‬‫ً‬ ‫�صمت يلتقط �أنفا�سه‪ ،‬بينما ينحني عليها‬
‫ؤالك �إن �أحببتها‪ ،‬فاحلب �شعور باهت‬ ‫كنت تعنني ب�س� ِ‬ ‫و�أردف ب�شرود‪�« :‬إن ِ‬
‫�سخيف‪� ،‬أما ما كانت تعنيه �آية يل ‪»...‬‬
‫ازدردت ريقها‪ ،‬ثم ما لبثت �أن �س�ألته با�ست�سالم مدركة �أنها ترمي‬
‫بنف�سها لأمل م�ضاعف مل يعد قلبها امل�سكني يتحمله ولكنه ي�ستحق‪� ،‬أن‬
‫بع�ضا من �أوجاعه‪ ،‬رددت‪« :‬ماذا كانت تعني لك؟»‬ ‫جتاريه وتخفف ً‬
‫«�أين ب�شر‪ ،‬ب�أين �إن�سان من حقه �أن يحيا ويحلم ويعي�ش ويكون لديه‬

‫ع‬
‫كرامة»‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قالت بحزن‪« :‬ما حدث مل يكن خط�أك يا �سائد‪ ،‬و�أ ًّيا ما اكت�شفته يف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫رحلة بحثك خلفهم � ً‬

‫ش‬
‫أي�ضا هو لي�س ذنبك‪� ،‬أنت جمرد ب�شر‪ ،‬فرد واحد �أمام‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫مافيا عاملية منظمة‪».‬‬
‫�شحب وجهه �أكرث مما هو مرهق بالفعل‪ ،‬ثم ما لبث قال ب�صوت �أج�ش‪:‬‬
‫«هم جمرد �سل�سلة مت�صلة ببع�ضها �إن �أخللت ب�أحد حلقاتها �س�أق�ضي‬
‫عليهم جمي ًعا‪».‬‬
‫قالت بعاطفة عنيفة ونربة جمروحة‪« :‬مل يرحمني فهمي‪ ،‬لقد �أ�صر �أن‬
‫يجعلني �أرى كل �شيء يف هذا املكان الذي �أخربتك عنه‪».‬‬
‫ق�سا وجه �سائد ويديه تتقب�ض بعنف مم�س ًكا بالفرا�ش حولها‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫«كان يريد �أن ي�ضغط عليه ليوا�صل عمله معهم احلقري‪».‬‬
‫متاما‪« :‬لقد اختلفوا على مال بينهم يف‬ ‫ردت دجوى والتعقل يغادرها ً‬
‫الظاهر ولكن الباطن �أن غ�سان بد�أ ي�ضعف‪ ،‬وفهمي كرب وتفاقم دوره يف‬
‫جتارتهم‪ ،‬و�أراد اال�ستيالء على كل �شيء‪ ،‬فكانت �أول خطوة �إخ�ضاعه‪،‬‬
‫جدا �أمامهم‪ ،‬فقام بخطفي ليخربه �أن تلك‬ ‫عرب �أن يرى كم هو �ضعيف ًّ‬
‫احلالة بالذات بجب �أن ي�شرحها بيديه ليثبت ح�سن �إخال�صه لهم‪».‬‬
‫‪203‬‬
‫ثم �أجه�شت بالبكاء وهي تردف‪« :‬مل ي�صدق عندما وجدين �أنا ممددة‬
‫وعارية على الطاولة وهناك جرح طويل يف خا�صرتي‪ ،‬ال �أعرف ما حدث‬
‫بينهم بعد هذا؛ لأين ا�ستيقظت يف منزيل‪».‬‬
‫ته َّدج �صوتها وهي تتم�سك بيديه يف قوة تخربه‪« :‬قبل �أن ميددين على‬
‫الطاولة جعلني �أ�شاهد جميع الأع�ضاء املخزنة يف هذا املكان‪ ،‬و�أخربين‬
‫�أنه خالل دقائق �س�أ�صبح مثلهم‪».‬‬
‫معك هذا؟»‬ ‫َِ‬
‫«ول فعل ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫هزت ر�أ�سها وهي تقول ب�سخرية‪« :‬كان يريد �أن ي�ضمن �سكوتي على ما‬

‫ل‬ ‫وقال‪:‬تبِ‬‫ك‬
‫يبدو؛ لأن موت والدي كان مرت ًبا له بالفعل كما ا�ستنتجت الح ًقا‪».‬‬

‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫«والدك كان حق ًريا‪».‬‬ ‫ا�شم�أزت مالحمه‬

‫ال �أدافع عنه معك‪ ،‬ولكن �أنا لن �أتقبل انتقامك مني ًيوما‪� ،‬أنا و‬
‫ل�ستزيمثله‬
‫ع �أو‬
‫«هذا �صحيح؛ لذا �أنا‬ ‫خمتنق‪:‬‬ ‫ب�صوت‬ ‫عادت دموعها ت�سيل وهي تقول‬

‫متاما‪».‬‬
‫مثلهم‪� ،‬أنا �ضحية مثلكم ً‬
‫ارت�سمت ابت�سامة �صغرية وحزينة على �شفتيه‪ ،‬بينما يده تعود تتلم�س‬
‫مالحمها بهدوء رتيب وك�أنه متعود على فعلها منذ الأبد‪« :‬رمبا ولكن ا�سمه‬
‫خطيئتك التي لن تتحرري منها‬
‫ِ‬ ‫جرميتك الأبدية‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الذي يذ ِّيل ا�سمك يظل‬
‫يوما يا دُجى‪».‬‬
‫ً‬
‫�أطرقت بر�أ�سها دون �أن تقول �شي ًئا‪ ،‬فتابع ب�سال�سة‪« :‬جرميته تبقى‬
‫بالقلب غ�صة‪ ،‬غ�صة يعاين منها جمتمع ب�أكمله‪ ،‬وغ�صة �س�أذهب بها �إىل‬
‫وغ َّ�صة �أ�صبحت �أكرث �أملًا لعقلي و�ضمريي؛ لأنها بب�ساطة �أ�صبحت‬
‫قربي‪ُ ،‬‬
‫حولك‪».‬‬
‫تتمحور ِ‬

‫‪204‬‬
‫ارتفعت يداها نحو �صدره تتلم�سه بنوع من اله�سرتيا وهي تقول ب�صوت‬
‫مرجتف غريب‪« :‬هل متلك قل ًبا يا �سائد؟ هل لديك ما ي�شعر هنا؟ �أم‬
‫�أخذوه منك على حني ِغ َّرة م�ستبدلينه ب�شيء كل وظيفته �ضخ الدماء يف‬
‫عروقك حتى حتقق هو�سك باالنتقام؟»‬
‫ت�ش َّنج وجهه باملرارة تاركها تبحث عن غايتها‪ ،‬ثم قال‪« :‬لن جتدي‬
‫أخربتك مرا ًرا‪».‬‬
‫ِ‬ ‫أنت حمقة لقد �أخذوه معها‪ ،‬هي كانت كل �شيء‪� ،‬‬ ‫�شي ًئا‪ِ � ،‬‬
‫�أهذا �صوت حتطم ما �سمعته يدوي بني �أ�ضلعها؟ لقد كان قلبها يته�شم‬

‫ع‬
‫�إىل �شظايا داخل �صدرها‪� ،‬صرخت فيه وهي تزيحه بعنف عنها‪�« :‬أيها‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫احلقري ابتعد عني‪� ،‬أنا �أريد اخلروج من هنا‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أجفلت عندما �أم�سكها من َخ�صرها يثبتها حتته جيدً ا ويحدق بعينيه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ثورتك يا ابنة‬ ‫ِ‬ ‫ال�سوداوين يف رماد عينيها الهائج غ�ض ًبا وقه ًرا‪« :‬ما بال‬
‫�سهرك بجانبي‬ ‫ِ‬ ‫أنك متثلني �أي �شيء يل ملجرد‬ ‫كنت تتع�شمني � ِ‬
‫غ�سان؟ هل ِ‬
‫يف مر�ضي؟»‬
‫جمدت مكانها وهي تنظر �إليه مبهوتة‪ ،‬فقالت ب�صوت متهدج‪�« :‬أَ ْط ِلقْ‬
‫�سراحي يا �سائد‪� ،‬أو اقتلني و�أرحني من تلك اللعبة‪ ،‬الأمل �أ�صبح ال ُيحتمل‬
‫ومل تعد بي قوة للمقاومة‪».‬‬
‫جفلت مالحمه ثم �أطلق �ضحكة خ�شنة �ساخرة ل�صد�أ قلبه الذي‬
‫لقتلك‬
‫لدي القوة ِ‬ ‫انقب�ض‪« :‬ال �أ�ستطيع‪ ،‬مل �أعد �أ�ستطيع دُجى‪ ،‬ليته كان َّ‬
‫كما كنت �أنتوي»‪َ ،‬ف َغ َرت فمها قبل �أن تقول ب�صوت متقطع‪�« :‬أنت جمنون‬
‫غري طبيعي‪».‬‬
‫«تائه‪ ،‬غارق باالنتقام‪� ،‬أُ ْب ِقي جراحي مفتوحة‪ ،‬ولن تندمل �إال بتحقيق‬
‫العدالة‪».‬‬
‫ردت بته ُّدج‪�« :‬إذن �أغلقها‪ ،‬و�أرح نف�سك‪».‬‬
‫‪205‬‬
‫�أظلمت مالحمه وهو يقول بقوة‪« :‬لي�س قبل �أن �أحقق العدالة‪ ،‬الدم ال‬
‫يغ�سل �إال بالدم‪ ،‬الق�صا�ص يجب �أن يتحقق‪ ،‬فاملذنب يجب �أن ينال من‬
‫الأذى �أكرث مما ت�سبب به‪».‬‬
‫ابتلعت ريقها قبل �أن تقول با�ست�سالم‪ً �« :‬إذا ال تنهار‪ ،‬وتذكر �أنك الأقوى‬
‫لأن ق�ضيتك عادلة‪ ،‬يجب �أن تعدل كفة امليزان وتثبت �أن الظلم ال يدوم‪».‬‬
‫حل ال�صمت مرة �أخرى بينهم بطي ًئا رتي ًبا ومرع ًبا قبل �أن يقطعه‬
‫�أخ ًريا وقال من بني �أ�سنانه‪ ،‬وج�سده ال�ضخم ير�سل ذبذبات اخلطر‬

‫ع‬
‫امل�ألوفة تلك التي حتفظها عن ظهر قلب والتي يطلق فيها غرائزه‪ ،‬ويرتك‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫العنان مل�شاعره غري املرو�ضة‪ ،‬قاط ًعا �أفكارها زئريه الذي هدر ب�صلف‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫«ابنة غ�سان ت�شجعني لتحقيق العدالة‪� ،‬أي �سخرية للقدر تلك دجوى؟!»‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ت�شنجت بني يديه وعينيها مت�سعتان برهبة‪ ،‬ثم عادت ملحاولة الإفالت‬

‫ع‬
‫منه وهي تقول بتهرب مدعية عدم �سماعها جنونه‪�« :‬أنت �أ�صبحت جيدً ا‪،‬‬
‫اتركني �سائد من ف�ضلك‪».‬‬
‫كان قد و�صل للحد الفا�صل من كل �شيء‪ ،‬فليعرتف لنف�سه وجل�سده‬
‫الذي ي�ؤرقه منذ �أن الت�صقت به وهي ت�ؤجج �شعور احلاجة بداخله كل‬
‫ذرة يف رجولته ت�صرخ مطالبة بها‪ ،‬دجوى الها�شم �أ�صبحت ملج�أً لغ�ضبه‪،‬‬
‫وبل�س ًما يهدئ نار جروحه‪ ،‬عملية حيوية تعيد احلياة داخل عروقه ب�ضخ‬
‫الدماء الهادرة ب�صخب داخل �شرايينه‪ ،‬مل ي�شعر بنف�سه �إال وهو يطبق‬
‫عليها ب�شفتيه ويديه تك ِّبلها بحزم‪ ،‬لقد كان من املفرت�ض �أن ت�صرخ‬
‫وتقاومه كالعادة‪� ،‬أن تغر�س �أظافرها يف عنقه‪� ،‬أن تبكي ُذ ًّل وقه ًرا‪� ،‬أن‬
‫ت�شعر باخلوف والذعر مثل كل مرة‪ ،‬ولكنها مل ت�ستطع غريزة �أخرى مقيتة‬
‫كانت املتحكمة فيها عندما رفعت ذراعيها نحو كتفيه‪ ،‬دفعت نف�سها �إليه‬
‫خمتلطا ب�أنني احلاجة عندما ارتفع فج�أة‬‫ً‬ ‫لتزيد الت�صا ًقا به‪� ،‬أ�صدر زئ ًريا‬

‫‪206‬‬
‫ينظر لعينيها التي حتدِّ ق فيه بدموع القهر‪ ،‬ولكنها قوية م�ست�سلمة متنحه‬
‫ؤذيك‪ ،‬ال تقاومي دُجى‪».‬‬
‫موافقه لإكمال ما بد�أ‪« ،‬لن �أ� ِ‬
‫رباه‪ ،‬هي مري�ضة ت�ستحق ما يفعله بها‪ ،‬ت�ستحق الرجم حتى املوت‪،‬‬
‫عندما مال ليلتقط �شفتيها جمددًا �س َّلمته قلبها قبل ج�سدها تبادله‬
‫�شغفه ب�شغف وحاجته بتو�سل يائ�س حلبه‪ ،‬عندما ا�ست�شعرت من ُق ْبلته كم‬
‫احتياجه هذه املرة‪ ،‬مل يكن غ�ض ًبا ومل يتملكه العنف‪ ،‬لقد كان كل ما‬
‫يوما‪ ،‬تال�شى‬‫يخرج منه ي�أ�س ورغبة وع�شق حارق كذاك الذي �أوهمها به ً‬
‫كل منطق يف عقلها وهي ت�سمح له ب�أن يحرقها معه يف ع�شق بدائي‪ ،‬ع�شق‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫متوهج بالعاطفة‪ ،‬ع�شق �أدركت فيه �أن �سائد ي�سلم كل ح�صونه واحدً ا تلو‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫الآخر؛ ف�أغم�ضت عينيها و�أغلقت عقلها م�ستمتع ًة ب�شعور االنت�شاء الذي‬

‫ش‬ ‫‪q q‬لن‪q‬‬


‫ر‬
‫َّ‬
‫غذاه داخلها �أخ ًريا‪.‬‬

‫ع‬
‫يحا�صره‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬
‫أنواع‪،‬‬ ‫ل‬‫ل‬‫ا‬
‫ا‬ ‫و‬
‫وكما و�صفت دجوى بال�ضبط‪ ،‬حو�ض ورود متنوع‬
‫�شجرتي �صف�صاف �ضخمتني‪ ،‬وباب لونه بني ال يوهم كل من يراه �أنه‬
‫جمرد باب حلجرات التربيد للم�شفى تفح�ص املكان جيدً ا‪ ،‬فلم يجد‬
‫متاما بعد �أن ا�ستطاع �أن يلهي عقلها بغرية‬
‫�أحدهم وتلك احلمقاء اختفت ً‬
‫الن�ساء‪ ،‬اقرتب بخفة �شاك ًرا لدرو�س حماد القدمية‪.‬‬
‫«�سرقة الليل هذه للهواة و�أ�صبحت مك�شوفة‪ ،‬تريد �أن ت�سرق ا�س َت ِغ َّل‬
‫�صخب النهار والتهاء النا�س يف عملها‪ ،‬ال حرا�سة وال عني مفتحة عليك‪».‬‬
‫وها هو ينفذ ن�صيحة معلمه داع ًيا ربه �أن ُيعجل بنهايتهم لريتاحوا‬
‫قليل بحر�ص و�أخرج حقيبة �أدوات �صغرية للغاية‪،‬‬ ‫�أخ ًريا‪ ،‬رفع قمي�صه ً‬
‫وبهدوء وحنكة كان ُي ْد ِخل �أحد �أدواته التي غم�سها يف الزجاجة ال�صغرية‬
‫ملية النار‪ ،‬ثم ما لبث �أن �أدخلها يف القفل‪ ،‬و�سري ًعا كان يحركه بطريقة‬
‫‪207‬‬
‫مدرو�سة ل ُيفتح �أمامه باب خال�صهم‪� ،‬أم يا ترى جحيمه؟! دخل بهدوء‬
‫وتفح�ص املكان ك�أنه �أ�شبه بقطعة من القطب ال�شمايل‪� ،‬أيقن �أن دجوى ال‬ ‫َّ‬
‫تكذب كما �أخربه �سائد‪ ،‬الفتاة زارت املكان بالفعل فها هي غرفة التمويه‬
‫ملعدات عقيمة �أو قدمية ملقاة فيها واجلزء اخلارجي لتكييف مركزي‬
‫مت�صل بغرف امل�شفى‪ ،‬م�شى يف ممر طويل يزيح بع�ض الطاوالت الوهمية‪،‬‬
‫ليجد با ًبا خ�شب ًّيا م�سنودًا كتمويه‪� ،‬أزاحه فوجد با ًبا حديد ًّيا �ضخ ًما بقفل‬
‫ذا �شفرة عالية اجلودة‪ ،‬مل ي�ستغرق حلظات ليفرغ باقي حمتوى زجاجة‬
‫ماء النار عليها‪ ،‬ثم تفور لدقائق ويفتح �آخر باب للجحيم‪ ،‬قطب جليدي‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�آخر لعدميي الرحمة‪� ،‬أجهزة عالية احلفظ‪ ،‬وثالجات �أع�ضاء ب�شرية مع َّلق‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ً‬

‫بل‬
‫حماول �أن‬ ‫فيها العديد من قطع الغيار الب�شرية‪ ،‬و�ضع عمر يده على قلبه‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫نزعا بينما كله يرجتف‪� ،‬ضم‬ ‫ال ي�صطدم ب�شيء و�أن ال ينهار‪ ،‬نزع عينيه ً‬

‫والتوزي‬
‫�سرتته جيدً ا حوله وحدقتيه ت�ضطربان‪ ،‬ورغ ًما عنه دمعة حائرة طرفت‬

‫ع‬
‫من عينيه‪ ،‬املرارة ترت�سم على وجهه بفر�شاة فنان متوح�ش حتفر حف ًرا‬
‫داخل قلبه وعقله تطبع �صورة تراجيدية ملا حدث لأ�صحاب تلك الأع�ضاء‬
‫املحفوظة‪.‬‬
‫يوما فاحذر يا عمر وركز على ما نريده فقط‪،‬‬ ‫«�سرتى ما لن تتخيله ً‬
‫�إياك واالنهيار فهو لن ينفعنا �أو ينفع العديد من ال�ضحايا التي تنتظر‬
‫جمازرهم»‪ ،‬خبط �صوت �سائد عقله مبطارق من نار ف�أيقظ كل ع�ضلة‬
‫فيه بتحفز‪� ،‬أدرك نف�سه �سري ًعا والوقت الذي ينفذ فتوجه مبا�شر ًة للمكتب‬
‫ال�صغري ح�سب و�صف زوجة �صديقه الدقيق‪ ،‬حل�سن حظه ال مزيد من‬
‫توجه للمكتب‪ ،‬و�أخرج �أدواته من حقيبته و�شرع‬ ‫الأبواب املغلقة‪ ،‬بهدوء َّ‬
‫يف فتح �أدراج املكتب‪ ،‬بينما فتح �شا�شة احلا�سوب و�شرع يف و�ضع فال�شة‬
‫�صغرية به‪ ،‬قبل �أن ُي ْد ِخ َل كودًا ما وينتظر العديد من الأوراق وال�صفقات‬
‫وامل�ستندات التي ي�أخذها فهمي على العديد من الأطباء‪ ،‬منها ذلك‬
‫‪208‬‬
‫الطبيب الذي طلب �سائد كل املعلومات عنه‪ ،‬اف َّرت ثغره عن �شبه ابت�سامة‬
‫ميتة وهو يلملم كل تلك الأوراق التي م�ضى عليها الطبيب ال�شاب وغريه‬
‫كم�سنتدات ابتزاز‪ ،‬فتح جهاز احلا�سوب‪ ،‬ف�ضرب بع�ض الأزرار وعينيه‬
‫جتري على ملفات م�شفرة‪� ،‬أدخل فال�شة �أخرى وبد�أ يف الطباعة بينما‬
‫ابت�سامته تتو�سع بانت�شاء متذك ًرا عند هروبه هو و�سائد‪ ،‬وبعد �أن تذوق‬
‫�أهوال الغربة ثالثة �أعوام كاملة‪ ،‬بد�أت �أمورهم ت�ستقر ن�سب ًّيا و�أخذا‬
‫�أوراق الإقامة ال�شرعية والتي كان �شرطها الوحيد �أن يتقن كل منهما‬
‫لغة البلد‪ ،‬ف�أُ ْج ِ َبا على االلتحاق مبدر�سة ليلية‪ ،‬و�أحيا ًنا نهارية ح�سب‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ما ي�سمح وقتهم �آنذاك‪ ،‬ولكنه �أحب الأمر وبرع يف ا�ستخدام احلا�سوب‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ف�أنهى الثانوية‪ ،‬وبعدها در�س احلا�سب الآيل بتو�سع و�أجاد عن َق�صد طرق‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫احرتافية لتهكري �أي حا�سوب‪� ،‬أنهى كل �شيء �سري ًعا‪ .‬و�أخذ بع�ض الأوراق‬
‫م�سرعا‬
‫ً‬ ‫املهمة وو�ضعها �أ�سفل قمي�صه‪ ،‬نزع الفال�شة الإلكرتونية وخرج‬
‫بينما مرغ ًما عادت عيناه للأع�ضاء املحفوظة يف �س�ؤال ف�أ�سرع يف اخلروج‬
‫هام�سا لنف�سه‪�« :‬إن �شياطني الإن�س‬
‫املتخبط ك�أن �شياطني الأر�ض تالحقه ً‬
‫�أ�صبحوا �أكرث رع ًبا و�ش ًّرا مما يفعله �أوالد اجلن‪».‬‬
‫فور �أن �أ�صبح يف �ساحة امل�شفى جمددًا وب�إرادة من حديد مت َّكن من‬
‫كبح م�شاعره و�إخفاء �أمله‪ ،‬خوفه الذي �أ�صبح يتم َّلك قلبه وعقله على َمنْ‬
‫ملكت وجدانه‪ ،‬حت َّولت مالحمه لال�شمئزاز عندما �أتاه �صوت �سمر وهي‬
‫تقول بخفوت غا�ضب‪�« :‬أين كنت؟ وما معنى ما �سمعته منك؟»‬
‫�سيطر على موجة غثيان ب�شعة ومظهرها املبالغ فيه يذكره بكل‬
‫القذارات التي وطئهنَّ �ساب ًقا قبل �أن يقول بتالعب‪« :‬ما �سمع ِت ِه يعني �أين‬
‫ِ‬
‫ال �أحب لعب الأطفال �أو ادعاء امل�شاعر‪ ،‬من تريد �أن تالعب عمر النا�صر‬
‫فلتقفز لفرا�شه مبا�شر ًة‪».‬‬
‫‪209‬‬
‫�شهقت مدعية اخلجل مرتاجع ًة للوراء فا�ستمر مرغ ًما يلهي عقلها‬
‫حتى �إن طر�أ �أمر ما تكون �سندً ا يعينه فمال �إليها يهم�س ب�إغواء جانب‬
‫قليل مع �إحداهنَّ ‪ ،‬من لديها‬‫أجدك م�ستعدة يل بع ُد فاختفيت ً‬ ‫�أذنها‪« :‬مل � ِ‬
‫غراما متقدً ا يف جراج امل�شفى‪».‬‬
‫ال�شجاعة لتبادلني ً‬
‫مالحمها التي جفلت مع احمرار طفيف للغ�ضب طم�أنه �أن كل �شيء‬
‫بخري‪ ،‬فر َّبت على وجهها بكفه‪ ،‬قبل �أن يرتكها يف غريتها املدعية‪ ،‬وحترك‬
‫على الفور من�صر ًفا من ذلك املكان املوبوء‪.‬‬

‫ع‬
‫أنت؟»‬
‫بعد وقت كان يت�صل برابحة مرة �أخرى يخربها باختناق‪�« :‬أين � ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ردت بقلق‪« :‬ما بك؟»‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أنت؟»‬
‫كرر‪« :‬رابحة‪� ،‬أين � ِ‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫تنهدت وهي تخربه‪« :‬ما زلت ببيت �أمي كما طلبت مني‪».‬‬
‫�أغلق هاتفه دون وداعها ثم ا�ستمر يف طريقه نحو بيت �صفية‪ ،‬لقد‬
‫طلب منها اليوم �أن تذهب ل�صفية ك�إجراء احرتازي رمبا يك�شف �أو ُي ْح ِدث‬
‫�شي ًئا‪ ،‬رغم ثقته �أن �سائد وراءه ولن يجعل �أحدهم يقرتب منها ولكن يعلم‬
‫�أن �شقيقه اله ًيا هو الآخر يف �أمر مهم‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫بهدوء دخل احلي ال�سكني للطبقة املتو�سطة يف املدينة اجلديدة ما‬
‫ُي ْد َعى مدينة ال�شباب‪ ،‬توجه �إىل �شقة يف الدور الثالث حتديدً ا بعد �أن‬
‫�أغلق الهاتف مع عمر ليمنحه �آخر معلومة عن الطبيب ال�شاب‪« :‬حمدي‬
‫عاما‪� ،‬أنهى �سنة‬
‫عثمان طبيب �شاب يف مقتبل العمر يبلغ ثمانية وع�شرين ً‬
‫االمتياز يف م�ست�شفى حكومي قبل �أن يتو�سط له �أحدهم ليلتحق مب�شفى‬
‫فهمي النجار‪».‬‬
‫‪210‬‬
‫التفت حوله قبل �أن يفتح الباب بطريقة �إجرامية كانت معتادة‪،‬‬
‫مظهره املتوح�ش منحه الهالة املنا�سبة‪ ،‬خطا �إىل الداخل بهدوء‪ ،‬من‬
‫املعلومات املجمعة عنه‪ ،‬يعلم �أن ال�شاب يعي�ش مبفرده‪ ،‬بنية �ضعيفة ل�شاب‬
‫مي�شي بداخل احلائط ال بجانبه كما يقولون‪ ،‬فما الذي رماه مع فريق‬
‫َّ‬
‫لي�ست�شف‬ ‫جزارين فهمي كما ر�آه؟ الأمر ال يحتاج منه كث ًريا من التفكري‬
‫�أن هناك خط�أً ما ا�ستغله فهمي �أو فريقه �ضد ال�شاب ليكون معهم؛ لذا‬
‫قليل من التخويف لن ي�ضر؛ منها ينتقم منه على �سكوته ورمبا �إن �ساعده‬
‫فيما يريد ي�ستحق فر�صة للحياة وغفرا ًنا ملا �صمت عنه‪ ،‬خرج حمدي من‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫احلمام متوج ًها �إىل غرفته عندما �صدمته قب�ضة قوية يف منت�صف �صدره‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�أردته � ً‬

‫بل‬
‫أر�ضا وقبل �أن يتفوه بكلمة طال ًبا النجدة كان �سائد يلحقه ب�أخرى‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫يف مناطق مدرو�سة يعلم جيدً ا �أنها لن ترتك �آثا ًرا يالحظها الغري‪ ،‬مال‬

‫والتوز عي‬
‫�سائد وجذبه من مالب�سه و�سحب كر�س ًّيا خ�شب ًّيا قدمي و�أجل�سه عليه ثم‬
‫متاما وال تفتحه �إال عندما‬
‫ثبته عليه و�أخربه ب�شرا�سة‪�« :‬أنت �ستغلق فمك ً‬
‫�آمرك �أن جتيبني‪».‬‬
‫�أوم�أ ال�شاب بعني مرتعبة‪ ،‬فمد �سائد يده و�أخرج هاتفه ودون مقدمة‬
‫قام بفتح الفيديو الذي �أخذه له �ساب ًقا‪ ،‬تو�سعت عينا حمدي ذع ًرا ووجهه‬
‫حتول لكتلة من ال�سواد عينيه حتكي �ألف توقع للرعب وك�أنه يقف يف وجه‬
‫عزرائيل بحد ذاته‪ ،‬فلم يرتك �سائد فر�صته وهو مييل بوجهه وقب�ضته‬
‫تلعب ب�أع�صاب ال�شاب لواها ب�شرا�سة وقال بخفوت �شرير‪« :‬نعم‪ ،‬اعتربين‬
‫متاما‪».‬‬
‫مر�سال املوت قد �أتى ليمزق �أح�شاءك كمن تراه يف الهاتف ً‬
‫‪q q q‬‬
‫فور �أن فتحت له الباب خفق قلبها ب�أمله‪ ،‬فرغم هدوئه الظاهر وحتكمه‬
‫يف انفعاالته لكنها كانت ُتط ُّل من عينيه تلك النظرة التي باتت تعرفها‬
‫‪211‬‬
‫جيدً ا‪ ،‬تلك النظرة التي تهدد بطوفان كا�سح يدمر كل �شيء يف طريقه‬
‫�إن �سمح له هو باخلروج‪ ،‬فلدقائق طويلة كان عمر يقف �أمام �شقة �أهلها‬
‫ي�سند �أحد كفيه على �إطار الباب بتعب‪ ،‬بينما يده الأخرى ت�ستند على‬
‫خ�صره‪ ،‬وعينيه تطل منها �آالف الطال�سم املبهمة‪ ،‬تقدم للداخل بخطوة‬
‫أمك و ُق َ�ص ٌّي؟»‬
‫بطيئة ال تخلو من التعب وهو يقول‪�« :‬أين � ِ‬
‫ارتبكت بطريقة لوال ما يعانيه لكان انقلب على ظهره �ضاح ًكا‪�« :‬أمي‬
‫�صي يف العمل‪».‬‬ ‫عند �إحدى اجلارات خرجت منذ قليل‪ ،‬و ُق ٌّ‬

‫ع‬
‫قائل بتعب‪« :‬جيد‪� ،‬أغلقي باب‬ ‫حترك ناحية احلمام وهو يخلع معطفه ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫املنزل واتبعيني‪».‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫رم�شت بعينيها جمفل ًة ثم ا�ستنكرت بتلقائية‪« :‬ماذا تفعل؟ هل ُج ِن ْن َت؟‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ارتد مالب�سك وحترك نحو غرفة ال�ضيوف �إىل �أن ت�أتي والدتي‪».‬‬ ‫ِ‬

‫ع‬
‫ا�ستدار نحوها وهو يلقي معطفه جان ًبا‪ ،‬ثم مد يده يفك �أزرار قمي�صه‬
‫بنوع من الع�صبية‪ ،‬ثم ما لبث �أن مد يده نحو ذقنها؛ كي يرغمها على‬
‫النظر �إليه والتوا�صل معه‪ ،‬وقال �ساخ ًرا‪« :‬عندما ي�أتي �أحد منهم �أو‬
‫زوجك‬
‫أمك �أخربيهم �أين ِ‬ ‫يتهمك �أحد اجلريان بوجود رجل عاري يف �شقة � ِ‬ ‫ِ‬
‫يا رابحة‪».‬‬
‫�سمحت لعينيها �أن تلتقي بعينيه قبل �أن تقول جمفل ًة‪« :‬الأمر لي�س‬
‫هكذا‪ ،‬ولكن هذا ال ي�صح‪».‬‬
‫اعرت�ض‪« :‬رابحة»‪.‬‬
‫َع َّ�ض ْت �شفتيها مت�سائل ًة عن �سبب تقلُّب مزاجه م�ؤخ ًرا وبقلبها املحب‬
‫احلنون كانت تدرك �أنه يحتاجها‪ ،‬فقربت ك َّفيها الدافئتني لتت�سلل من‬
‫جانبي قمي�صه املفتوح تت�شبث بخ�صره وتريح ر�أ�سها على �صدره‪� ،‬إدراكه‬
‫‪212‬‬
‫لتفهمها حلاجته دون جدال ودون اال�ستغراق يف كثري من اال�ستف�سارات‬
‫بثَّ م�شاعر عنيفة وقوية داخله‪ ،‬م�شاعر كانت �أكرث ً‬
‫جموحا من �أن ي�سيطر‬
‫�ساحما‬
‫ً‬ ‫فلف ج�سدها بذراعه بقوة رفع وجهها مرة �أخرى بني يديه‬ ‫عليها‪َّ ،‬‬
‫ل�شفتيه بغزو �شفتيها وجبينها وعينيها‪ ،‬دقائق مرت كان ي�سمح لنف�سه‬
‫بالغرق فيها‪ ،‬بينما تهبط يداه نحو جلبابها يحاول رفعه حتى ي�ستطيع‬
‫مل�س ب�شرتها‪ِ ،‬ف ْعلته هذه جعلتها تدرك و�ضعها يف منت�صف �شقة والدتها‬
‫ف�أبعدته عنها جمفل ًة لتخربه من بني �أنفا�سها املنهكة‪« :‬عمر‪ ،‬توقف‬
‫�أرجوك قد ي�أتي �أحدهم‪».‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫عاد يجذبها نحوه و�شفتيه تكمل طريقها فتهبط على جيدها مبا�شرة‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫أريدك‪».‬‬
‫أنت رابحة � ِ‬ ‫أرجوك � ِ‬
‫وهو يقول ب�صوت مبحوح‪« :‬لن �أ�ستطيع‪ِ � ،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫رغم ج�سدها الذي ا�شتعل بغريزة مطال ًبا به‪ ،‬ولكنها ابتعدت عنه مرة‬
‫�أخرى وهي تقول بحزم‪« :‬ال‪ ،‬لي�س يف بيت �أمي‪».‬‬
‫ابتعد خطوة واحدة وهو ميرر �أ�صابعه يف �شعره بتع�صب‪ ،‬قبل �أن ينظر‬
‫لها تلك النظرة املعتادة مراق ًبا لكل تف�صيله منها‪ ،‬كل كلمة‪ ،‬كل حركة‬
‫وابت�سامة‪ ،‬وك�أنه يدر�سها �أو يريد �أن يطبعها دائ ًما داخل قلبه وعقله‪� ،‬أبعد‬
‫حماما‪� ،‬أعتقد �أن �صفية لن‬
‫عيناه عنها‪ ،‬وهو يقول‪�« :‬أنا �أريد �أن �آخذ ً‬
‫تعرت�ض على هذا �إن علمت‪».‬‬
‫كان قد تخلى عن قمي�صه وبنطاله وو�ضعه على �أحد املقاعد بالفعل‪،‬‬
‫ومل ينتظر حتى ر�أيها وهو ينفذ ما قاله‪.‬‬
‫رفعت وجهها ل�سقف الغرفة متنهدة ب�ضيق‪ ،‬لقد �أ�صبحت �أكرث من‬
‫متفهمة لتقلباته وما يعتمل بداخله حتى و�إن كان ما زال ي�ضع �أمامها الكثري‬
‫من عالمات اال�ستفهام رغم معرفتها الوثيقة ب�أنه يخطط هو و�صديقه‬
‫ل�شيء يفوق طاقتهم‪ ،‬ولكنها ال تعرف ماهيته وهو يرف�ض �أن مينحها‬
‫‪213‬‬
‫�أكرث مما ا�ست�ش َّفت بالفطنة‪ ،‬هي حتبه وهذا يكفيها حتى اللحظة‪ ،‬فعمر‬
‫زوج الأحالم الذي قد تتمناه كل امر�أة رغم ترديده ب�سخرية �أن ال ن�سب‬
‫ينتمي �إليه وب�أنها جمرد حمقاء الرتباطها برجل ال يحمل �إال هوية وهمية‪،‬‬
‫الأحمق لقد كانت على ا�ستعداد للزواج منه حتى و�إن مل يحمل ا�س ًما من‬
‫الأ�سا�س‪� ،‬إن مل يحمل جن�سية بلد وا�س ًما مكت�س ًبا ب�أوراق قانونية منحتها له‬
‫مت�سلل بعد �أن و�صل ل�شواطئ املوت‬ ‫ً‬ ‫«�أمريكا» والتي علمت �أنه دخل �إليها‬
‫يف �أوربا وجنا منها‪« :‬رابحة‪� ،‬أريد من�شفة‪».‬‬

‫ع‬
‫نف�سا عمي ًقا تفيق من �أفكارها‪ ،‬ثم‬ ‫�صوته �أتاها بغ�ضب مكتوم‪ ،‬ف�أخذت ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫توجهت �إىل باب املنزل تغلقه خلفها‪ ،‬حتى ال ي�أتي ُق َ�ص ٌّي فج�أة من العمل‬

‫ب‬
‫اال�ستحمامللال�ضيق بالكاد ي�ستوعب ج�سده‪،‬‬
‫ن‬
‫الذي وفره له عمر قبل ثالثة �أ�شهر كما وعده من قبل‪.‬‬

‫ش مل‬
‫ر تكن‬
‫والمطلوبة يف تلك‬
‫و‬ ‫ت‬
‫املرحلة‪ ،‬الآن وبعد �شهور من حتقيق حلمه يف امر�أة بريئة مثلزيع‬
‫كان يجل�س يف حو�ض‬
‫ي�شعر بكل �شيء يت�شابك داخله حمق ًقا فو�ضى‬
‫رابحة‬
‫يف طهر وفر�صة للحياة كانت من حقه‪� ،‬شعر بالندم الذي يعود يغزو‬
‫داخله وي�ضرب مبطارق الرعب عليها �إن حدث خلل يف خطتهم و ُك ِ�ش َفت‬
‫حقيقتهم‪ ،‬من يبقى بعده حلماية حبيبته االندفاعية والتي ما زالت تعي�ش‬
‫نف�سا ً‬
‫طويل‬ ‫يف فقاعة احلياة الوردية مثل �أي �شابة يف مقتبل العمر؟ �أخذ ً‬
‫قبل �أن يكتم �أنفا�سه وينزل حتت املاء بر�أ�سه‪ ،‬دقيقة اثنان وثالثة مروا‬
‫عليه قبل �أن ي�شعر بيديها تهبط حتت املاء تد ِّلك �صدره بهدوء وهي‬
‫متيل عليه تهم�س بحنان‪« :‬ما بك؟ تكلم يا عمر رمبا �أخفف عنك بع�ض‬
‫همومك‪».‬‬
‫�أخرج ر�أ�سه بحركة �سريعة �أجفلتها وكادت �أن جتعل وزنها يختل‬
‫فتم�سك بيديها االثنتني جيدً ا قبل �أن ي�ش َّد ذراعيها لت�صبح ب�سهولة بني‬
‫َّ‬
‫‪214‬‬
‫ذراعيه يف حو�ض اال�ستحمام فهتفت به �ساخطة‪« :‬كيف تفعل هذا بحق‬
‫اهلل؟! �أنت ُج ِن ْن َت و�أ�صبحت تت�صرف بغوغائية‪».‬‬
‫�ضحك بخ�شونة‪« :‬ال ب�أخالق �أوالد ال�شوارع التي ُت�صري �أن تتنا�سي‬
‫�أنني منهم‪».‬‬
‫التفتت وهي حتدق يف وجهه اخلايل من التعبري �إال تلك ال�ضحكة التي‬
‫و�صلها معناها ال�ساخر جيدً ا‪ ،‬ثم هتفت من بني �أ�سنانها‪�« :‬أيها الأحمق‪،‬‬
‫و�أنت ُك َّف عن تذكريي ب�شيء �أنا �أثق �أنه مل يعد فيك‪ ،‬لقد هذبت اخلم�سة‬

‫ع‬
‫عاما �أخالقك جيدً ا‪».‬‬
‫ع�شر ً‬
‫أدراك‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫و�ضع يديه داخل خ�صالت �شعرها التي تبللت وقال‪« :‬وما الذي � ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بهذا؟ رمبا هي جمرد واجهة لأ�صل ملا �أريده‪ ،‬ولكن بداخلي ما زال �أ�صلي‬

‫والتوز عي‬
‫هو من يحكم على ت�صرفاتي يجعل ذلك الوح�ش يز�أر بداخلي لأحرره‪».‬‬
‫عادت لهز ر�أ�سها بالرف�ض قائل ًة‪« :‬الإن�سان من ي�صنع حا�ضره‬
‫وم�ستقبله يا عمر‪� ،‬أما ما�ضيه املخزي كما ت�شري دائ ًما‪ ،‬فهو فر�ض عليه‬
‫يف حلظات �ضعفه الب�شرية الطبيعية‪ ،‬ومن مثلك كافح بكل ال�سبل لي�صبح‬
‫�أف�ضل‪ ،‬لن يعود �أبدً ا لنقطة ما حتت خط القذارة مبراحل‪».‬‬
‫تقب�ضت يداه حول َخ�صرها ثم قال بغ�ضب غري مف�سر‪« :‬و�إن كانت تلك‬
‫القذارة جزء ال ينف�صل عني‪ ،‬جزء �أنا منه و�أ�ستحق �أن �أعود �إليه‪ ،‬و�إن‬
‫كنت �أ�شتاق للوحل يا رابحة حتى �أطلق للثعلب بداخلي حرية الت�صرف‪،‬‬
‫وينتقم من اجلميع بعيدً ا عن تلك املعايري الإن�سانية اخلانقة‪».‬‬
‫َ�ش َح َب وجه رابحة وهي حتدِّ ق يف وجهه املت�شنج بغ�ضب مل تره من قبل‬
‫وهي ترد بتلقائية‪�« :‬أخربتني �أنك كرهت الوحل‪ ،‬و�شغفك بتلك العالقات‬
‫املحرمة متخو ًفا من الأمرا�ض اجلن�سية املجهولة التي حتملها من ‪»...‬‬
‫‪215‬‬
‫طفرت عيناها بدمعات حارقة غرية خمتلطة بلوعة وهي تتخل�ص من‬
‫لف َخ�صرها‬ ‫ذراعيه ت�ستند على احلو�ض واقفة‪ ،‬فتبعها هو الآخر يعيد َّ‬
‫بذراعيه مثبتها على احلائط البارد‪ ،‬هم�س ونظراته تنحدر نحو �شفتيها‪:‬‬
‫جدا لبع�ض من بريتي‬ ‫أعن هذا الأمر يا �أمرية عمر‪ ،‬و�إن كنت �أ�شتاق ًّ‬
‫«مل � ِ‬
‫معك‪ ،‬كما �أين توقفت ا�شمئزا ًزا وقر ًفا لي�س خو ًفا‬
‫ولكن لن �أمار�سها �إال ِ‬
‫فقط‪».‬‬
‫وك�أنها مل ت�سمع مربراته الكاملة عندما رددت با�ضطراب‪« :‬بريتك!»‬

‫ع‬
‫�أطلقت �شهقة ق�صرية عندما �أدار وجهها للجدار وثبت يديها للأعلى‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫«نعم‪� ،‬أ�شياء حرمت نف�سي منها قا�صدً ا ولكني مل �أعد �أ�ستطيع ال�سيطرة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫معك‪ ،‬كوين فتاة مطيعة وال تخايف‪».‬‬
‫عليها ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ردت ب�صوت غري م�ست ٍو‪« :‬اتركني يا عمر �أنت غري طبيعي اليوم‪ ،‬حتاول‬

‫ع‬
‫�إخافتي والتالعب بي ل�شيء جمهول ال �أفهمه‪».‬‬
‫إليك فقط‪� ،‬أريد �أن �أبقى‬ ‫قال ب�صوت �أج�ش‪�« :‬أي تالعب؟! �أنا �أجل�أ � ِ‬
‫معك‪� ،‬أن تتعريف �إىل كل جزء مني بالطريقة ال�صحيحة‪».‬‬ ‫ِ‬
‫حاولت �أن تعرت�ض و�أن ت�ستدير �إليه‪ ،‬ولكنه مل مينحها الفر�صة‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫بعد يومني‪ ،‬كان �سائد قد �شرح للطبيب ال�شاب املطلوب منه وانتظر‬
‫االعرتا�ض �أو حماولة التهرب �إال �أنه مل ينطق بل وافقه على الفور مطي ًعا‬
‫�أوامره‪ ،‬وهو الآن يقف يف منطقة �أمان بعيدً ا عن وكر حماد ينتظر‪،‬‬
‫فالطبيب ال�شاب حظه الأ�سود و�ضنك املعي�شة وعدم اهتمام الدولة بتوفري‬
‫الرواتب التي ُتنا�سب م�ؤهله‪ ،‬هو ما �أوقعه فري�سة لزلته ال�سابقة التي �ألقته‬
‫يف طريق فهمي النجار بالتتابع‪.‬‬
‫‪216‬‬
‫من املرايا اخللفية ر�أى ال�شاب يقرتب منه ب�أقدام مرتع�شة وج�سد‬
‫م�ضطرب فتفح�ص �سائد وراء ال�شاب جيدً ا ك�إجراء احتياطي �أن يكون‬
‫�أحد يتبعه من �أبناء حماد‪ ،‬عندما اطم�أن �أنه مبفرده ثم بهدوء �أخرج‬
‫هاتفه‪ ،‬دقيقة واحدة هي ما مرت قبل �أن ي�أتيه ال�صوت املرتبك‪« :‬حمدي‬
‫عثمان معك»‪.‬‬
‫ً‬
‫متجاهل رد فعله قال‪« :‬تقدم مبا�شر ًة �إىل ال�سيارة ال�سوداء التي‬
‫�أمامك‪ ،‬افتح الباب اخللفي وا�صعد دون ت�أخري‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مل متر دقائق‪ ،‬حتى كان حمدي ينفذ الأمر فانطلق �سائد دون ت�أخري‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ظل كل منهما �صامت‪� ،‬سمح له �أن يلتقط �أنفا�سه قبل �أن يقول �سائد‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بهدوء‪« :‬هل �أخربته ما اتفقنا عليه؟»‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫و�ضع حمدي �أ�صابعه يف �شعره بحركة ع�صبية قبل �أن ميد ك َّفه ليم�سح‬
‫جبينه املتعرق وهو يقول‪« :‬نعم‪ ،‬اطمئن مل �أغري كلمة واحدة ولكن �أنا‬
‫خائف �أن يكت�شف الدكتور فهمي �أمري‪».‬‬
‫نف�سا م�سيط ًرا وعينيه احلادة تنظر للطريق الذي �أخذ يف‬
‫�أخذ �سائد ً‬
‫التكد�س و�سط املدينة وقال‪:‬‬
‫«ال تقلق‪ ،‬ما �أعرفه �أن �آخر عملية كانت منذ ثالثة �أيام وتلك الب�ضاعة‬
‫ال يقومون بها بع�شوائية بل بنا ًء على طلبيات معينة‪ ،‬وما �أنا مت�أكد منه‬
‫رمبا يحتاج فهمي لأ�سبوع على الأقل حتى يقوم ب�أخرى‪».‬‬
‫�صمت لربهة قبل �أن ي�ضيف �ساخ ًرا‪:‬‬
‫«من املفرت�ض �أن تكون �أكرث مني دراية يف هذا الأمر‪ ،‬فتلك الب�ضاعة‬
‫عمرها االفرتا�ضي ق�صري ويجب �أن تتم بخطوات منظمة وعالية الدقة‪».‬‬

‫‪217‬‬
‫متتم بخفوت م�ضطرب‪« :‬نعم‪� ،‬أعلم هذا ولكنني �أخربتك �أنني مل‬
‫�أ�شاركهم قط‪».‬‬
‫عم ال�صمت جمددًا قبل �أن ي�س�أله �سائد بجفاء‪« :‬هل �شعرت �أنه ت�شكك‬
‫يف حديثك �أو حاول مراوغتك �أو ا�ستجوابك بطريقة ملتوية؟»‬
‫حرك عويناته قبل �أن يزدرد ريقه وقال بب�ساطة‪« :‬ال �أعتقد‪ ،‬عندما‬
‫�أخربته ب�أين مر�سال من الدكتور‪ ،‬وحدثته عن الطلبية ب�أ�سلوب معتاد‬
‫مبطن‪ ،‬وب�أن املر�سال الآخر مل يعد متوف ًرا حال ًّيا وب�أين املر�سال اجلديد‪،‬‬

‫ع‬
‫رحب بي على الفور‪،‬‬ ‫ومنحته كلمة ال�سر املتفق عليها كما �أخربتني �أنت؛ َّ‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫خا�ص ًة بعد �شكري له على ل�سان الدكتور بك�شف ذلك املدعو ح�سان‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫واخلال�ص منه‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�صمت لربهة ً‬
‫ملتقطا �أنفا�سه‪ ،‬ثم �أردف ذاك ًرا‪« :‬كما �أن الأهم من هذا‬

‫ع‬
‫كله �أنه ر�آين يف املرتني ال�سابقتني مع البقية كما �أخربتك؛ لذا بالت�أكيد هو‬
‫مل ي�شك يف الأمر‪».‬‬
‫َع َّم ال�صمت احلذر مرة �أخرى يف �أرجاء ال�سيارة قبل �أن يتوقف �سائد‬
‫على جانب الطريق و�أخربه بربود‪« :‬انزل هنا‪ ،‬ومار�س حياتك بطبيعية‪،‬‬
‫�إىل �أن �أت�صل بك مرة �أخرى‪».‬‬
‫هبط حمدي قبل �أن ي�ستدير ناحية �سائد ومييل على �شباك ال�سيارة‬
‫م�ستندً ا عليها بكفيه ي�س�أله بي�أ�س‪�« :‬أمل ينت ِه دوري هنا؟ لقد قلت �أ�ساعدك‬
‫ومتنحني ما �أخذه فهمي �ضدي‪».‬‬
‫�أبعد �سائد يديه عن النافذة وقال بت�شدق‪�« :‬أنا من �أقرر متى ينتهي‬
‫الأمر حمدي؛ لذا ال تتع�شم يف �أي �شيء قبل �أن �أُ ِح َّل َك �أنا منه‪».‬‬

‫‪218‬‬
‫وبدون كلمة �إ�ضافية كان ينطلق ب�سيارته حتى ينفذ باقي خطته‪� ،‬إن‬
‫كرث �أعدا�ؤك وا�ستفحلت قواهم �إذن لي�س �أمامك �إال حل واحد «ف ِّرق‬
‫ت َُ�س ْد»‪ ،‬حكمة ب�سيطة بحروفها وكم هو كبري �إجنازها �إن نفذتها بدقة دون‬
‫خط�أ واحد‪ ،‬يف لعبته هو ال يعتمد �أبدً ا على احلظ اجليد �أو ال�صدف و�إن‬
‫كان خدمه القدر مرتني‪� :‬أحدهما بدجوى الها�شمي التي منحته �أ�شيا ًء‬
‫�س َّهلت عليه معرفة نقطة �ضعف خ�صمه‪ ،‬والأخرى وجود هذا الطبيب‬
‫ال�شاب الذي كان �سي�ضيع يف وحلهم و�ضمائرهم املظلمة‪.‬‬
‫‪q q q‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫ليل بعد منت�صف الليل‪ ،‬موعد خروج خفافي�ش الظالم والثعابني‬ ‫ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫من جحورها‪ ،‬كان حماد يرتب لل�صفقة اجلديدة كالعادة‪ ،‬وجبة د�سمة‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫للجميع‪ ،‬عادة عن ثالثني بها مواد خمدرة حتى ي�ستطيع ت�سليمهم بهدوء‪،‬‬
‫كانت مملكته تعج بالهرج املعتاد‪ ،‬بعد �أن �أمر �أن يتجمع جميع من حتت‬
‫رعايته الليلة حتى ي�ستطيع االنتقاء من بينهم‪ ،‬وقبل �أن يقوم بتوزيع الطعم‬
‫املعتاد لل�ضحايا‪ ،‬كان �سائد يت�صل به ليخربه بتعجل قلق‪« :‬معلم حماد‪،‬‬
‫احذر لقد ُن ِ�ص َب لك ف ٌّخ الليلة‪».‬‬
‫يهب من جمل�سه‪ ،‬موق ًفا رجاله‬ ‫�شحب وجه حماد على الفور وهو ُّ‬
‫متاما عندما �س�أله بت�شكك‪« :‬عن‬
‫بحركة من يده‪ ،‬ولكنه مل يثق يف �سائد ً‬
‫�أي فخ تتحدث؟!»‬
‫�سب �سائد بلفظ بذيء ثم ما لبث �أن قال بتعجل‪« :‬لي�س وقت احلديث‬
‫ولكني �س�أخربك‪ ،‬لقد �أبلغني �أحد رجايل �أن الكبار قرروا اخلال�ص منك‬
‫خا�صة بعد و�شايتك بح�سان لهم‪ ،‬فقرروا اخلال�ص منك؛ لأنك �أ�صبحت‬
‫خط ًرا يهددهم‪».‬‬

‫‪219‬‬
‫�أح�س حماد بالنار تنتف�ض بني عروقه وهو يلف يف �شبه دائرة بني‬
‫رجاله‪ ،‬هات ًفا بغ�ضب �أعمى‪:‬‬
‫«م�ؤكد �أنت تكذب مل�صلحتك اخلا�صة‪ ،‬ما الذي يجعلنى �أثق بك و�أنا‬
‫�أعرف هدفك الأ�سا�سي؟»‬
‫هتف �سائد م َّدع ًيا االختناق والقلق املتعجل‪« :‬وما الذي يدفعني للكذب‬
‫عليك ونحن �شركاء؟ يا معلم �أنا ذئبك املخل�ص هل تذكر �أم ن�سيت؟»‬

‫ع‬
‫كان حماد ينظر حوله بعجز متحري‪ ،‬فعاجله �سائد بالقول‪�« :‬أنا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫�أخربتك ما عرفه رجايل‪ ،‬و�أنا الآن متوجه �إليك ِف َّر بجلدك يا معلم �أنت‬

‫�صوتهلنال�صارخ كان ي�أتي �آمرا لرجاله‬


‫ش‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ومن يخ�صونك‪� ،‬سيهدمون املكان فوق ر�أ�سك خالل دقائق‪».‬‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ورا‬


‫ا‬ ‫ر‬
‫يلتفت لإبراهيم يخربه ب�شر بارد‪« :‬الآن‪ ،‬ابد�أ يف �ضرب امللتوف‪ ،‬الزيتن�س‬
‫ع يا‬
‫مل ير َّد عليه حماد ب�شيء فقط‬
‫معتادًا‪ ،‬قبل �أن‬ ‫تطلق �شر ً‬ ‫باالنتفا�ض‪� ،‬أغلق �سائد الهاتف بهدوء‪ ،‬وعينيه‬

‫�إبراهيم فقط فوق النقاط التي حددتها لك‪ ،‬وال تن�س رجالك يدخلون فور‬
‫نف�سا بريئة واحدة‪».‬‬
‫�أن يبد�أ االرتباك؛ ل ُيخرجوا الأطفال‪ ،‬ال �أريد �أن �أفقد ً‬
‫«ع ِل َم»‪.‬‬
‫مكتوما قبل �أن يقول‪ُ :‬‬
‫ً‬ ‫نف�سا‬
‫�أخذ �إبراهيم ً‬
‫القاعدة ب�سيطة وهذا ما يتبعه‪ ،‬اك�سب ثقة عدوك من �أهم نقاطه‬
‫العمياء‪ ،‬امنحه غنيمة ثمينة يلتهي فيها ويطمع يف املزيد‪� ،‬ش ِّك ْكه يف‬
‫�أهم رجاله‪ ،‬ونقطة ات�صاله مع عدوك الآخر‪ ،‬اقطع ذراعه بربود‪ ،‬وهذا‬
‫ما فعله مع «ح�سان»‪ ،‬ثم بهدوء ا�ضرب على احلديد وهو �ساخن‪� ،‬أربكه‬
‫و�شتته‪ ،‬وال متنحه الفر�صة للتفكري‪ ،‬وال تن�س �أن تظهر يف الوقت املنا�سب‬
‫لت�صبح بطله املغوار واالبن الروحي املخل�ص‪.‬‬
‫‪220‬‬
‫خالل حلظات كانت قنابل دخانية ُت ْل َقى على مملكة حماد‪ ،‬ثم يتبعها‬
‫الرجال بزجاج امللتوف على الأماكن التي ر�صدها �سائد �ساب ًقا والتي يعلم‬
‫جيدً ا �أنها تبعد نهائ ًّيا عن وجود الأطفال واملراهقني الأبرياء‪.‬‬
‫وبع�ضا من رجاله يهرعون‬ ‫حترك �إبراهيم على الفور بعد �أن ر�أى حماد ً‬
‫للخارج هل ًعا وبع�ض من الأطفال يتبعونهم متخبطني‪ ،‬من اجليد �أن تربك‬
‫عدوك و�أن يكون لديك رجال متخ�ص�صون‪ ،‬اقتحم �إبراهيم املكان ِوف‬
‫�أقل من ع�شر دقائق كان يخرج كل من فيه دون �أدنى تفرقة‪ ،‬وعندما ت�أكد‬

‫ع‬
‫م�سرعا‪ ،‬خلع القناع الواقي‬
‫ً‬ ‫نهائ ًّيا من خلو املكان‪ ،‬كان يخرج هو ورجاله‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الذي كان يرتديه‪ ،‬وب ُك ِّم قمي�صه كان مي�سح بع�ض بقايا الركام التي علقت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ً‬
‫مر�سل الر�سالة التي كان متف ًقا‬ ‫يف جبينه‪ ،‬ثم ما لبث �أن �أخرج هاتفه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫عليها بتخطيط م�سبق‪« :‬الآن �شريف حترك»‪.‬‬
‫يف دقائق كانت �سيارات ال�شرطة تع ُّج باحلارة العفنة ال�ضيقة؛ مما‬
‫جعل الهلع ي�ضرب يف قلب حماد ب�شكل �أكرب و�أ�صبح موق ًنا �أن الأمر‬
‫م�ؤامرة مدبرة للخال�ص منه‪ ،‬هرع �إىل اخلارج بخطوات م�سرعة‪ ،‬فوجد‬
‫�سائد �آت ًيا من �أول الطريق يخربه‪�« :‬أخربتك يا معلمي‪� ،‬إنهم خونة لي�س‬
‫لهم �أمان‪ ،‬ماذا فعل الكالب؟»‬
‫�شعور الغدر املختلط بالغ�ضب الأعمى واحلقد الأحمق مل ميهل عقله‬
‫دقيقة للوقوف والتفكر ف�أخرب �سائد بغ�ضب‪« :‬لن �أكون حماد �أبو الروو�س‬
‫انتقاما لن يحله �إال‬
‫ً‬ ‫�إن مل �أمثل بجثثهم جمي ًعا‪ ،‬ما بيني وبينهم �أ�صبح‬
‫الدم‪ ،‬انتظرين يا فهمي الكلب‪».‬‬
‫�شده �سائد من ذراعه وهو يخربه‪« :‬دعنا نختفي من هنا قبل �أن يرانا‬
‫�أحد‪ ،‬فبالت�أكيد �أحدهم هنا ويراقب مع ال�شرطة‪».‬‬
‫‪221‬‬
‫نف�ض حماد ذراعه بغ�ضب متوج ًها �إىل ال�سيارة التي �أ�شار نحوها‬
‫�سائد‪ ،‬بينما التفت �سائد من عدة �أمتار ينظر �إىل �صرح حماد التي‬
‫ً‬
‫متخيل كل‬ ‫ا�شتعلت النريان يف كل جزء منه‪ ،‬حتى �أ�صبح كربكان متفجر‬
‫قذارة حدثت فيه ل�سنوات‪ ،‬متذك ًرا كم روح فقدت فيه �أنفا�سها‪ ،‬مدر ًكا‬
‫�أن كل ما ميلكه حماد بداخله من مال وخمدرات وح�شي�ش‪ ،‬كل ما َت َّ�صل‬
‫يوما ُيزيد النار يف توهجها حتى �أ�صبحت كتلة حمراء مل ي�ستطع‬ ‫عليه ً‬
‫�أحد ال�سيطرة عليها‪ ،‬ف�شعر بداخله �أن جز ًءا من نريانه هو تنطفئ ببطء‪،‬‬
‫را�ض ًيا هم�س بانت�شاء‪« :‬ا�شتعلي حتى حتيلي تلك اخلرابة � ً‬
‫أطالل‪ ،‬رمبا‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫رمادك املنطفئ يكون هو �أول طريقي للخال�ص‪».‬‬
‫ِ‬

‫بل لإطفاء ب�صعوبة دخول تلك احلارات‬ ‫ك‬ ‫بعد �ساعات‪ ،‬ال‬
‫ا�ستطاعتتفرقة ا‬
‫ل‬
‫‪q q q‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫اخلربة ال�ضيقة للق�ضاء على احلريق قبلن �أن‬


‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫ميتد وي�صل بع�ض املنازل‬
‫يجدوا‬ ‫ومل‬ ‫الفقر‬ ‫معدمة احلال والتي ي�سكنها الغالبة ممن هم حتت خط‬
‫بديل للفرار‪ ،‬لل�سكن يف منطقة �أخرى غري جماورة‪ ،‬مرتع البلطجية‬ ‫ً‬
‫والقتلة‪.‬‬
‫وقف �إبراهيم بعيدً ا يراقب ب�شيء من الق�سوة املكان الذي حت َّول ملجرد‬
‫�أكوام من الرماد‪ ،‬عندما قطع �صمته �صديقه القدمي وهو يقول‪« :‬حتى‬
‫الآن �أنا ال �أفهم ما عالقتك بهذا املكان؟ وكيف اكت�شفته وعرفت ما يجري‬
‫فيه؟»‬
‫نف�سا عمي ًقا‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال بتهكم‪« :‬هذا‬
‫التفت �إليه وهو ي�أخذ ً‬
‫على �أ�سا�س �أن جهاز ال�شرطة ال يعرف بكل ما يجري هنا وي�صمت عنه‬
‫قا�صدً ا‪».‬‬

‫‪222‬‬
‫مل ير َّد �شريف لربهة‪ ،‬وهو يتفح�ص مالحمه اجلادة املتجهمة‪ ،‬ثم قال‬
‫بهدوء‪« :‬و�إن افرت�ضنا �أن كالمك �صحيح‪ ،‬يبقى �س�ؤايل‪ :‬ما الذي �أو�صلك‬
‫علمت عنهم؟ عملك دائ ًما كان يقت�صر على حماية الطبقة‬ ‫له�ؤالء؟ وكيف َ‬
‫العليا من املجتمع‪».‬‬
‫مال وجه �إبراهيم بق�سوة قبل �أن يقول‪« :‬ميكنك القول �أين قررت فتح‬
‫عيني بعد �أن �أغلقتها طوال �أعوام قا�صدً ا مثل الكثريين يف هذا البلد‪».‬‬
‫َّ‬
‫بد�أ الهرج يهد�أ تدريج ًّيا من حولهم‪ ،‬فبد�أت الأ�صوات يف الظهور‬

‫ع‬
‫املرتا�صني على حائط‬
‫ِّ‬ ‫وال�صورة تت�ضح �أمامه كاملة‪ ،‬فنظر له�ؤالء الأطفال‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ب�أول ال�شارع ملت�صقني به حتى كادوا �أن يكونوا جز ًءا منه‪ ،‬وع�ساكر الأمن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫حتاوطهم حتى ال يهرب �أحد‪ ،‬ف�أ�صاب قلبه احل�سرة من تلك املالمح‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫املتعبة واملنتهكة والنظرة التي ال حتوي �إال ال�ضياع‪.‬‬
‫فعاد �شريف يخربه بال مباالة‪« :‬ال تت�أثر هكذا من مظهرهم‪ ،‬ه�ؤالء‬
‫�إن �أتتهم الفر�صة �أو �أرخيت لهم ً‬
‫قليل �سي�أكلونك ح ًّيا دون �أن يرم�ش لهم‬
‫جفن‪».‬‬
‫التفت نحوه وهو يقول من بني �أ�سنانه ب�صوت كالفحيح‪« :‬كيف جتر�ؤ‬
‫على اتهام �أطفال بهذا ال�شكل؟! ه�ؤالء الوحو�ش كما حتاول �أن ت�شبههم هم‬
‫�أخطا�ؤنا نحن ونتيجة تكا�سلنا و�صمتنا‪� ،‬سمحنا مل�شكلة �صغرية �أن تتفاقم‬
‫حتى �أ�صبحت قنبلة موقوتة‪� ،‬ستنفجر ال حمالة وحت ِّول هذا املجتمع �إىل‬
‫جمرد ركام كالذي �أمامك بال�ضبط‪».‬‬
‫جتاهل �شريف انفجاره‪ ،‬زفر ب�ضيق وهو يخربه‪« :‬هذا لي�س م�سار جدل‬
‫بيننا �إبراهيم‪ ،‬وعدك يل كان �أن ت�سلمني جمموعة من املجرمني وعلى‬
‫ر�أ�سهم حقري �أرهق الداخلية لأعوام‪ ،‬وعندما و�صلت مل �أجد �إال حري ًقا‬
‫وبع�ض البلطجية‪ ،‬بالإ�ضافة ملجموعة الأطفال‪».‬‬
‫‪223‬‬
‫متفح�صا مالحمه م�ؤكدً ا لنف�سه‬
‫ً‬ ‫جدا‪،‬‬
‫ح َّدق فيه �إبراهيم ب�صمت طويل ًّ‬
‫بيقني‪� ،‬أن �شريف رغم ق�سوته يف بع�ض الأحيان و�سهام كالمه اجلارح‬
‫�إال �أنه يعلم جيدً ا بنقاء تاريخ �صديقه‪� ،‬إنه الوحيد القادر على م�ساعدته‬
‫يف القادم‪ ،‬ولكن م�ؤكد لن يخربه الآن مطل ًقا بل رمبا عند انتهاء الأمر‪،‬‬
‫فنزوله �أر�ض الواقع ور�ؤية ما يحدث حقيق ًة جعل ثورة جنونية بداخله‬
‫توازي براكني �سائد‪ ،‬تريد االنفجار واالنتقام من القتلة وجتار الدماء‬
‫ب�أب�شع الطرق‪.‬‬

‫ع‬
‫تنازل �أخ ًريا متمت ًما بهدوء‪« :‬هل تريد حتقيق العدالة �أم �صفقة تزفها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لر�ؤ�سائك حتى حت�صل على ترقية �أو ميدالية؟»‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫اكفه َّرت مالمح �شريف‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال بغيظ‪�« :‬أنت ترتب لأمر ما‬

‫واا‪:‬لت«هذا �صحيح‪،‬‬
‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬
‫ولن تخربين ب�شيء �إال عندما تريد‪».‬‬

‫وكما �أخربتك �ساب ًقا �أنها ق�ضية ر�أي عام‪� ،‬صرخة ملجتمع رمبا ع‬
‫ي�ستفيق‬
‫حرك �إبراهيم رقبته بك�سل قبل �أن يجيبه برتابة م�ؤكدً‬

‫ولكن كما ُقلت لن تعرف �شي ًئا �إال يف الوقت املنا�سب‪».‬‬


‫بخطوات وا�سعة حترك �شريف نحو �أفراد الأمن الذين يحيطون‬
‫الأطفال‪ ،‬قبل �أن يقول‪« :‬ح�س ًنا �أنا �أنتظرك‪ ،‬لن �أبحث وراءك لأن ثقتي‬
‫بك على درجة ثقتك التي جعلتك تختارين �أنا من و�سط اجلميع‪».‬‬
‫�أوم�أ �إبراهيم بر�أ�سه �شاك ًرا دون �أن يعلق بكلمات‪ ،‬ثم َغ َّ َي الأمر كل ًّيا‬
‫وهو يقول باهتمام‪« :‬ما م�صريهم؟»‬
‫�أجابه بب�ساطة‪« :‬الأحداث �أو رمبا دور الأيتام‪ ،‬ولكن �أغلبهم حتت‬
‫ال�سن القانونية ومبا �أن القب�ض عليهم مل يكن ب�سبب جرمية و�صورهم مل‬
‫ُت ْد َرج يف ال�سجالت‪ ،‬ف�سيكون لدور الأيتام الن�صيب الأكرب‪».‬‬
‫‪224‬‬
‫�أ�شار �شريف بك ِّفه لأحد رجاله وقال �آم ًرا‪« :‬هيا �أَ ْد ِخلهم ال�سيارة‬
‫وحترك ناحية الق�سم‪».‬‬
‫ثم التفت لإبراهيم متاب ًعا بتجهم‪�« :‬أتعرف ما امل�شكلة؟ احلقيقة �أن‬
‫بعد كل هذا عندما ي�صلون لدور الرعاية يهربون خالل �أ�شهر ب�سيطة‬
‫ورمبا ال ي�ستغرق الأمر �أ�سابيع‪».‬‬
‫كتف �إبراهيم يديه قبل �أن يقول بربود‪« :‬هذا على �أ�سا�س �أنك ال تعلم‬
‫ما يلقاه ه�ؤالء على يد معدومي الرحمة يف هذه الدور؟»‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قليل وك�أنه ي َّدعي التفكري قبل �أن يردف بنف�س‬ ‫�ض َّيق ما بني حاجبيه ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫النربة‪�« :‬أتذكر منذ �شهور ب�سيطة قر�أت تقري ًرا �صحف ًّيا عن �أحد الأطفال‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الذين ُب ِتَت �ساقه بعد �أن قفز من نافذة دار �أيتام حكومية بغر�ض الهرب‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫من جحيم م�شرفيه‪ ،‬والذين كانوا ال يتوانون عن جتويع الأطفال بق�صد‬
‫�سرقة الطعام وبيعه يف ال�سوق ال�سوداء‪ ،‬و ُيق�سم فيما بينهم مال جميع‬
‫التربعات‪».‬‬
‫قاطعه �شريف و�أكمل حديثه بت�أكيد‪« :‬وتعريتهم يف ليايل ال�شتاء‪،‬‬
‫و�إغالق منافذ الهواء يف ال�صيف‪ ،‬وحرمانهم حتى من دورة مياه نظيفة‪».‬‬
‫�صمت �شريف عن َق�صد قبل �أن يكمل ببطء‪« :‬م�شكلة هذا املجتمع‬
‫لن ت�صلح بال�صراخ �أو مقالة مزلزلة‪� ،‬أو حتى رفع يدينا حمت�سبني فيهم‬
‫وندعو اهلل �أن ينتقم من الظلمة‪».‬‬
‫حرك عينينه مراق ًبا الأحداث من حوله مدر ًكا �أن نقا�شه و�صديقه‬
‫لي�س يف مكانه �أو وقته‪ ،‬ولكنه �أكمل ب�صوت مكتوم‪« :‬فرد �أو اثنان �أو ع�شرة‬
‫إ�صالحا‬
‫من ال�صاحلني‪ ،‬لن يغريوا جمتم ًعا يا �إبراهيم الأمر يحتاج � ً‬
‫داخل ًّيا‪ ،‬يقظة من ال�ضمري �أن يتذكر ه�ؤالء �أن اهلل يراقبهم‪� ،‬إن الإن�سانية‬
‫جتربهم على الرتفق بال�ضعفاء و�إ�صالح الكارثة التي �أ�صبحنا فيها حتتاج‬
‫‪225‬‬
‫لعمل حقيقي وخطة ُمكمة ف َّعالة مبا�شرة وحازمة ولي�س جمرد متاجرة‬
‫�إعالمية‪».‬‬
‫�أغلق �إبراهيم جفنيه لربهة وهو يقول ب�صلف �ساخر‪�« :‬ضمري يف‬
‫جمتمعنا! �أعتقد �أن من الأ�سهل متني �أن تطري الأفيال‪� ،‬أتذكر م�ؤخ ًرا‬
‫‪ -‬يف الأحداث ال�سيا�سية للبالد ‪ -‬ه�ؤالء اخلطباء والثوريني واجلماعات‬
‫وغريهم وغريهم‪ ،‬مل يتورعوا حلظة ال�ستغالل �أطفال املالجئ يف‬
‫مظاهراتهم‪ ،‬م َّدعني �أنهم �أطفال الغالبة‪».‬‬

‫ع‬
‫أي�ضا مت ا�ستغاللهم كم�صدر‬ ‫للمرة الثانية قاطعه �صديقه بالقول‪« :‬و� ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫للر�صا�ص املتبادل يف بع�ض املظاهرات‪� ،‬أتذكر هذا امل�شهد لأطفال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يحملون �أكفانهم؟»‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�أوم�أ �إبراهيم مواف ًقا‪ ،‬ف�أكمل �شريف ب�سال�سة‪« :‬ا َّدعوا �أنهم من ذويهم‬

‫ع‬
‫الأحرار ومل يكونوا �إال جمرد �أطفال مالجئ والثمن لعبة ووجبة‪ ،‬وبالطبع‬
‫لن حتتاج �أن �أخربك �أن اجلماعات الإرهابية ت�ستخدم ه�ؤالء الأطفال‬
‫يوما �إن وجدت �أحد الأطفال‬ ‫متاما‪ ،‬فال تتعجب ً‬ ‫لت�سيطر على عقولهم ً‬
‫حزاما نا�س ًفا مفج ًرا به م�سجد �أو كني�سة وهو مقتنع ً‬
‫متاما �أن هذا‬ ‫يرتدي ً‬
‫ل ُن�صرة كلمة احلق‪».‬‬
‫ملتقطا �أنفا�سه قبل �أن يردف بت�شدق‪« :‬وبالطبع ال تن�س جتارة‬ ‫�صمت ً‬
‫الرقيق الأبي�ض بالفتيات ال�صغريات‪».‬‬
‫�إذن نحن متفقان �أن اجلميع ي�ستغلهم وك ٌّل ح�سب م�صلحته وجد فيهم‬
‫ال�صيد املنا�سب‪.‬‬
‫نظر �شريف ل�ساعته التي كانت ُت�شري لل�ساعات الأوىل من ال�صباح قبل‬
‫�أن يقول بقوة جازمة‪« :‬اجلميع مذنب وال �أ�ستثني �أحدً ا‪� ،‬أطفال ال�شوارع‬
‫لي�سوا �إال خطيئة جمتمع ب�أكمله ح َّولها لقنبلة موقوتة‪ ،‬وها هو يجني ثمار‬
‫‪226‬‬
‫انفجارها عرب معدل اجلرمية الذي زاد وتف�شي الف�ساد وال�سرقة وخطف‬
‫الأطفال �أو حتى ال�شباب والن�ساء للمتاجرة فيهم‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫«اطرق احلديد وهو �ساخن»‪ ،‬لي�س �سي ًئا �أن ت�أخذ من �أقوال القدماء‬
‫خطوات تتبعها‪ ،‬ولكن ال تن�س �أن ترتب نقاطك جيدً ا‪ ،‬فعدوك لي�س ً‬
‫�سهل‬
‫و�إن منحته وقتًا للتفكري �أو جمع �شتات نف�سه ف�أنت �ستفقد كل �شيء‪ ،‬وهذا‬
‫جدا من حتقيق عدالته اخلا�صة‪.‬‬ ‫ما لن ي�سمح به �أبدً ا‪ ،‬لقد اقرتب ًّ‬
‫وبع�ض من رجاله‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫اتك�أ �سائد بكتفه على اجلدار‪ ،‬بينما ينظر حلماد ٍ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الذين جنوا من الهجوم املرتب بعد �أن �ساعدهم‪� ،‬أمره حماد ب�أن يتوجه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ملنطقة نائية ليطالب بامل�أوى والدعم من �أحد البلطجية �أ�شباهه‪ ،‬مالت‬
‫زاوية فمه بابت�سامة �ساخرة‪ ،‬من املثري للعجب دعمهم لبع�ضهم وقت‬
‫ال�شدائد ِ َ‬
‫ول ال وهم �أوالد مهنة واحدة‪.‬‬
‫ما زال حماد على اهتياجه ووعيده‪ ،‬يلقي �ألفاظه الفاح�شة بغري‬
‫متاما كعادته‪،‬‬
‫ح�ساب‪ ،‬يهدد ويتوعد فهمي وكل من معه‪ ،‬كان ع�شوائ ًّيا ً‬
‫فتدخل �سائد بهدوء حازم وقال‪« :‬اجلزع وال�صراخ لن يو�صلنا حلل يا‬
‫معلم‪ ،‬نحن الآن يف �أمان‪ ،‬يجب �أن تهد�أ لتمنحنا خطواتنا القادمة‬
‫كعادتك يا كبري‪».‬‬
‫بع�ض التملق لن ي�ضر حتى ير�ضي غروره حتى و�إن كان هو من �سيوجهه‬
‫ملا يريد يف النهاية‪.‬‬
‫�ساحما للحقد �أن ي�سيطر‬
‫ً‬ ‫كان ج�سد حماد ينتف�ض بغ�ضب من نار‪،‬‬
‫عليه‪ ،‬تار ًكا للهيب االنتقام حرية التفكري‪ ،‬ليعمي عينيه ً‬
‫متاما عن حقيقة‬

‫‪227‬‬
‫ذئبه عندما قال بعنجهية‪« :‬نعم‪ ،‬يجب �أن �أعيد تنظيمكم‪ ،‬لآمركم مبا‬
‫�أريد‪ ،‬لقد �أح�سنت تربيتك يا ولد‪».‬‬
‫�أوم�أ �سائد بر�أ�سه بنوع من الإجالل ملعلمه م�سيط ًرا على �سخريته التي‬
‫ال تنف�صل عن طبعه عندما قال بب�ساطة مبا�شر ًة مدع ًيا اجلهل‪« :‬ما حدث‬
‫جدا �أنه مرتب له‪َ ،‬منْ فعلها �أراد اخلال�ص منك‪ ،‬ولكن ما‬ ‫من الوا�ضح ًّ‬
‫و�صلني من �أحد الرجال �أن الليلة بالذات �أرادوا الق�ضاء عليك‪ ،‬فهل من‬
‫�سبب؟»‬

‫ع‬
‫يلف حول نف�سه يخبط يديه‬ ‫كان كل ما ي�صدر من حماد عني ًفا وهو ُّ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫على احلائط تارة‪ ،‬وتارة يفتح املدية ليربز �سكينه احلادة وهو يقول‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بفحيح‪« :‬الآن عرفت وت�أكدت �أنه هو من يريد اخلال�ص مني‪ ،‬الكلب فهمي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫«الو�سخ» �أر�سل يل ً‬
‫رجل جديدً ا يريد طلبية‪».‬‬

‫ع‬
‫قاطعه �سائد بالقول م�ستفه ًما بل�ؤم‪« :‬رجل جديد! وهل هذا الأمر‬
‫أي�ضا‪ ،‬الأمر به لعبة خطرية‬ ‫يحتاج ملزيد من ك�شفه �أمام �أحد وجديد � ً‬
‫معلمي‪».‬‬
‫هز حماد ر�أ�سه بالرف�ض وقال‪« :‬ال‪ ،‬لقد ر�أيته معهم‪ ،‬هو �أحد رجال‬
‫فهمي‪».‬‬
‫اقرتب منه �سائد وو�ضع يده على كتف حماد يف حركة م�ؤازرة وقال‪« :‬ال‬
‫أي�ضا‪ ،‬حقك �سيعود‪ ،‬ورقبتي �سدادة‬ ‫تقلق‪� ،‬أنا يف ظهرك وجميع رجالك � ً‬
‫�أنا وكل مايل لك‪».‬‬
‫التفت �إليه حماد بر�أ�سه ومالحمه الإجرامية تتوهج ً‬
‫قائل‪« :‬عندما‬
‫اخرتتك لتكون ذئبي ومنحتك ا�سمك هذا والذي جهل به جميع الأغبياء‬
‫لدي حق‪� ،‬أنت �أذكاهم و�أقواهم‪ ،‬وكما جهزتك لوقت حاجتي‬ ‫وقتها كان َّ‬
‫وجدتك‪� ،‬أنا اعتربتك ولدي الذي مل �أجنبه‪».‬‬
‫‪228‬‬
‫علق �سائد بحديث نف�س �ساخر‪« :‬نعم‪ ،‬ولدك الذي طاله منك الأذى‬
‫كما مل َي َط ْل ُه �أحد رجالك قط‪ ،‬وج�سدي امل�شوه ي�شهد‪ ،‬ومعدتي التي مل‬
‫يوما ت�ؤيدها‪ ،‬هذا �إن جتنبت ذكر قلبي الذي ُق ِت َل‬ ‫تعرف معنى ال�شبع ً‬
‫وكرامتي التي ُ�س ِح َق ْت‪».‬‬
‫مل ي�ستطع �سائد �أن يبت�سم �أو يعلق ب�شيء ُيفخمه �أكرث فاكتفى بهز‬
‫ر�أ�سه موافقة قبل �أن يقول‪« :‬يجب �أن ن�صل للفتى اجلديد هذا‪� ،‬أو �أحد‬
‫رجال فهمي‪� ،‬سيكون �أول خيوط انتقامنا احلقيقة لن�صل للر�أ�س الكبرية‪».‬‬
‫نلف حول �أنف�سنا؟! الآن �سنتوجه‬ ‫«ول ُّ‬ ‫هتف حماد بغ�ضب متوعدً ا‪َ ِ :‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫مل�شفاه نحرقه فوق ر�أ�سه‪ ،‬ثم �أقطعه ح ًّيا»‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫حترك �سائد خطوة للوراء وقال بحكمة‪« :‬نعم‪� ،‬ستفعل هذا وتلتقطنا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ال�شرطة وتعدمنا ب�سبب كلب وبعدها ُ ْت َلأ ال�صحف باخلرب العري�ض‬

‫والتوز عي‬
‫ح�شرات املجتمع وجمرميه يقتلون مالك الرحمة دون �أن يعلم �أحد حقيقة‬
‫�أنه من اعتدى علينا � ًأول‪».‬‬
‫�س�أله حماد بجفاء‪ً �« :‬إذا ماذا تقرتح؟»‬
‫�أجابه بحزم‪« :‬ن�صل �إليه خطوة خطوة‪ ،‬نو ِقع برجاله � ًأول ونفهم ماذا‬
‫يخطط لنا‪ ،‬م�ؤكد لن يكتفي بهدم الوكر فوق ر�ؤو�سنا‪ ،‬وحتى نت�أكد �أن‬
‫فهمي من فعلها‪».‬‬
‫زفر حماد ب�ضيق وعاد ي�صرخ يف رجاله بغ�ضب‪�« :‬أريد حمدي عثمان‬
‫أي�ضا الطبيب الذي كان ي�سبقه عالء نبيل‪».‬‬ ‫الليلة‪ ،‬و� ً‬
‫مل يعلق �سائد مرة �أخرى ب�شيء‪ ،‬بينما ي�سيطر على زفرة ارتياح تريد‬
‫اخلروج؛ لإقناع الغبي ب�أول خطواته ولكن عليه �أن يتحرك الآن ليجهز‬
‫عالء كما يجب‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫‪229‬‬
‫بعد �ساعات من تركه حماد و�صل �سائد �إىل ذلك املنزل ال�صغري‬
‫املهرتئ الواقع خارج املدينة‪ ،‬والذي قد اختاره كمكان احتياطي �إن �أراده‬
‫يف �أمر ما‪ ،‬وها هو ي�ستخدمه �أخ ًريا منذ يومني متذك ًرا عندما طلب من‬
‫حمدي م�ساعدته لي�صله بهمزة الو�صل بني حماد وفهمي؛ «عالء نبيل»‪،‬‬
‫وهو طبيب يف بداية العقد اخلام�س من العمر‪ُ ،‬و ِّج َهت �إليه من قبل تهمة‬
‫و�س ِجنَ ملدة عامني‬‫�سرقة قرنية عني املتوفني يف امل�ست�شفيات احلكومية ُ‬
‫فقط وبعدها خرج‪ ،‬ليوا�صل عمله احلر بعقد �صفقة مع ال�شيطان فهمي‬
‫النجار بعد رف�ض �أي م�شفى حمرتم تعيينه‪ ،‬هو على يقني �أن هذا الرجل‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ت َ�صى من الغالبة والأطفال؛‬ ‫فعل الكثري يف حياته طم ًعا وقتل �أعدادًا ال ُ ْ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫لذا ي�ستحق م�صريه‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫قبل �أن يدلف �إليه �سائد رفع هاتفه وهو يقول باقت�ضاب‪« :‬كما �أخربتك‬

‫ع‬
‫متاما حتى عن عائلتك‪ ،‬واملال الذي معك‬ ‫يا حمدي �أريدك �أن تختفي ً‬
‫�سي�ساعدك على هذا‪».‬‬
‫نف�سا عمي ًقا‬
‫�صمت ي�ستمع جلزع حمدي الذي ال ينتهي‪ ،‬قبل �أن ي�أخذ ً‬
‫ويخربه ب�سيطرة عنيفة‪« :‬ا�سمع يا فتى‪� ،‬أنا وعدتك بالأمان واملال‪ ،‬فقط‬
‫اتبع �أوامري وال جتادل‪ ،‬و�إياك والظهور قبل �أن �أ�سمح لك �أنا بهذا‪».‬‬
‫�أغلق الهاتف دون كلمة �إ�ضافية‪ ،‬ثم فتح الباب احلديدي لي�صبح يف‬
‫مواجهة عالء مبا�شر ًة‪.‬‬
‫رجل مبالمح غري مريحة ميلأ ال�شيب ر�أ�سه‪ ،‬يرتدى نظارة طبيبة‬
‫بزجاج �سميك‪ ،‬مقيد يف ن�صف الغرفة على مقعد خ�شبي‪.‬‬
‫�أ�شار �سائد ب�صمت لأحد رجاله باخلروج‪ ،‬ثم ما لبث �أن اقرتب منه‬
‫فهتف عالء بذعر‪�« :‬إن اقرتبت يداك مني مرة �أخرى �س�أجعل ال�شرطة‬
‫ت�سلخ حلمك عن عظامك فور خروجي من هنا‪».‬‬
‫‪230‬‬
‫مزعجا‬
‫ً‬ ‫�سحب �سائد كر�س ًّيا �صد ًئا يجره على الأر�ض حمد ًثا �صري ًرا‬
‫مق�صودًا‪ ،‬وو�ضع الكر�سي �أمامه يف و�ضعية مقلوبة قبل �أن يجل�س عليه‬
‫مرب ًعا �ساعديه �أمامه وهو يقول بربود خميف‪�« :‬إن ا�ستطعت اخلروج من‬
‫هنا يا دكتور افعلها‪ ،‬لقد �أخربتك �أين �س�أدفنك هنا ح ًّيا ولن ي�شعر حتى‬
‫كلب بافتقادك‪».‬‬
‫ارتع�ش الرجل اجلبان من ر�أ�سه حتى �أخم�ص قدميه وج�سده املرتهل‬
‫ً‬
‫قليل َي�صب عر ًقا عندما قال‪« :‬ما الذي تريده مني؟»‬

‫ع‬
‫ال�ضغط النف�سي وحرب الأع�صاب التي تع َّر�ض لها الرجل جعلته‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫متاما ملا يريد‪ ،‬ف�أخربه �سائد بب�ساطة‪« :‬الأمر ب�سيط‪� ،‬صفقة‪،‬‬ ‫جاه ًزا ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫اختياران ال ثالث لهما‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫بلهفة �س�أله‪« :‬ما املطلوب؟ �أي �شيء �س�أفعله‪».‬‬
‫رفع ر�أ�سه ببطء �شديد حتى وقعت عيناه يف عيني �سائد الغام�ضة‬
‫واملليئة بنظرة حاقدة جمنونة ومتفجرة ك�أنها �آتية من عمق اجلحيم؛ مما‬
‫جعل توتر الرجل يزداد‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال ب�صرامة مرعبة‪�« :‬أن تنفذ ما‬
‫�أطلبه منك دون نقا�ش �أو �س�ؤال‪� ،‬أو ترف�ض عر�ضي ويكون اختيارك الآخر‬
‫ف�صل ر�أ�سك عن ج�سدك وتقطيعه لأجزاء �صغرية ُت َع َّب�أ يف �أجولة قبل �أن‬
‫�أرميها لكالب ال�سكك‪».‬‬
‫تو�سعت عينا الرجل خو ًفا فوق خوفه‪ ،‬وقال كاملجنون حني يفقد كل‬
‫اخليوط التي تربطه بالتعقل‪�« :‬س�أفعل �أي �شيء‪ ،‬ولكن ما الذي ي�ضمن يل‬
‫�صدق كالمك؟»‬
‫بدوي �صاخب‪ ،‬ثم اندفع‬ ‫وقف �سائد من املقعد فج�أة مما جعله ي�سقط ٍّ‬
‫يقطع اخلطوات بينهما بخطوة وا�سعة وحيدة ليم�سكه من ياقته ب�شدة‬
‫وهو يقول من بني �أ�سنانه‪�« :‬أنت لن تطالبني ب�أي �ضمانات‪ ،‬لقد ر�أيت‬
‫‪231‬‬
‫يف اليومني ال�سابقني ما فعلته بك‪ ،‬ولن �أتوانى عن تك�سري عظامك مرة‬
‫�أخرى؛ لذا �أمامك خم�س دقائق لتقرر ما ال�صفقة التي �ستعقدها معي‪».‬‬
‫�ص بعينيه متذك ًرا �إجرام َمنْ �أمامه‬‫انكم�ش عالء يف كر�سيه وهو َي ْ�ش َخ ُ‬
‫وهو مينحه �ضربات جعلت �صراخه يهز �أركان هذا املنزل دون �أن يرتك‬
‫�أث ًرا ظاه ًرا للعيان‪ ،‬لقد ظن يف مبتد�أ الأمر �أنه متخ�ص�ص تعذيب بطريقة‬
‫ما �أو رمبا ينتمي لل�شرطة‪« :‬االختيار الأول‪� ،‬س�أنفذ كل ما تطلبه‪».‬‬
‫اعتدل �سائد مرة �أخرى وهو يخربه بابت�سامة �شر�سة مر ِّبتًا على‬

‫ع‬
‫وجنته‪« :‬جيد‪ ،‬طبيب مطيع»‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫حترك يدور حوله يف دائرة مربكة وقال ببطء‪« :‬مطلبي ب�سبط للغاية‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫متاما‪».‬‬
‫وبعدها لن ترى وجهي و�أنا �س�أحموك من ذاكرتي ً‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫راقبه يبتلع ريقه اجلاف يوافقه ب�صمت‪ ،‬ف�أكمل �سائد‪« :‬بالطبع �أنت‬
‫تعلم �أين �أملك �ضدك هذا الفيديو املمتع و�أنت تقوم بتفريغ ال�صغار‪».‬‬
‫ج َّز عالء على �أ�سنانه بجنون وهو ي�شتم ببذاءة‪ ،‬فوجه له �سائد لكمة‬
‫ت�سب �أمامي‪� ،‬أكره هذا‪».‬‬
‫�سريعة حتت احلزام وقال بربود‪« :‬ال َّ‬
‫ت�أ َّوه الرجل ب�صوت مكتوم وهو يقول ب�صوت �أ�شبه بغرغرة‪�« :‬أعلم كل‬
‫ما تقوله‪ ،‬ما الذي تريده و�س�أنفذه فقط �أخرجني من هنا‪».‬‬
‫كان يتفح�ص وجهه الذي زاد احمراره غ�ض ًبا و�أملًا ولكن م�ست�سلم‬
‫متاما‪ ،‬ا�ست�سالمه منحه الهدوء وال�سكون ال�شديد م�سيط ًرا على نف�سه‬ ‫ً‬
‫يذكرها �أن كل ه�ؤالء ما هم �إال �أدوات ُتدار من ر�ؤو�س الأفاعي وهم لي�سوا‬
‫�أبدً ا هدفه‪ ،‬قال بهدوء‪« :‬حماد مكانه احرتق‪ ،‬ويبحث بجنون عن الفاعل‪،‬‬
‫�أنت �ستخربه �أن فهمي هو امل�سئول عن الأمر‪ ،‬فبعد بيع ح�سان له �أ�صبحتم‬
‫ال ت�أمنوا جانبه‪».‬‬

‫‪232‬‬
‫زجمر عالء بالرف�ض وقال‪« :‬هل تريد مني �أن �أ�ضع نف�سي بني ف َّكي‬
‫حماد وفهمي؟! �إن َع ِلما �سيقتالين ح ًّيا»‬
‫أي�ضا �أخربتك �أنني �س�أنزع �أح�شائك من ج�سدك‪،‬‬ ‫�أجابه بب�ساطة‪« :‬و�أنا � ً‬
‫فاخرت الآن‪».‬‬
‫«وهل هذا اختيار؛ �أحدهم موت والآخر انتحار؟!»‬
‫عاد �سائد لأخذ نف�س مهدئ قبل �أن يقول ب�سيطرة ذاتية‪« :‬ا�سمعني‪،‬‬
‫ملج�أ حماد احرتق بالفعل وما �أنا مت�أكد منه �أن هناك �أم ًرا ما يجري‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وفهمي قرر اخلال�ص منكم جمي ًعا‪� ،‬إن �أخربت حماد �أن فهمي من قام‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بحرق وكره‪ ،‬وتطلب منه احلماية لأنك �ساعدته �سينقلبون على بع�ضهم‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ولن يلتفتوا �إليك �أو لغريك‪».‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫�ض َّيق عالء بني عينيه بغري اقتناع ف�أكمل �سائد‪�« :‬أنا �أتعهد بحمايتك‪،‬‬
‫�إن مل �أُ ِر ْد م�ساعدتك وجندتك مل �أكن �آتي بك �إىل هنا من الأ�سا�س‪».‬‬
‫�س�أله عالء مت�شك ًكا‪« :‬وما الذي يجعلني �أثق فيك؟ وملاذا تريد‬
‫حمايتي؟»‬
‫عاد �سائد يخربه بربود‪« :‬م�ساعدتك ال تهمني‪ ،‬بل كل ما هناك �أنه‬
‫لدي ث�أر قدمي مع فهمي فال �أنت وال حماد وال حتى جتارتكم تهمني يف‬ ‫َّ‬
‫�شيء؛ لذا هنا م�صلحتنا واحدة �ساعدين و�أنا �س�أقدم لك م�ساعدتي‪».‬‬
‫جدا مل ير َّد‪ ،‬كان ُيق ِّلب الأمر يف ر�أ�سه جيدً ا‪ ،‬يحاول �أن‬
‫لوقت طويل ًّ‬
‫يح�سبه يف عقله الذي توقف عن التفكري‪ ،‬عندما ي�أ�سرك اخلوف‪ ،‬ي�صبح‬
‫�أ�سو�أ م�ست�شاريك و�أعظم م�أوى جلرثومة القرار اخلط�أ وال�ضالل‪.‬‬
‫«�أعتقد ب�أين �س�أختار التعاون معك‪ ،‬ولكن �شرط احلماية قائم‬
‫و�ستخل�صني من كل ما يحدث‪».‬‬
‫‪233‬‬
‫�أوم�أ �سائد مبوافقة بارده ً‬
‫قائل‪« :‬بالطبع يا طبيب الرحمة‪� ،‬أعدك‬
‫باخلال�ص فور �أن تنفذ مطلبي‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫عندما عاد �سائد بكنزه الثمني ملعلمه‪ ،‬كان ي�شعر بالنفور والبغ�ض لتلك‬
‫العظمة والتفاخر الكاذب الذي ي�صدر من حماد‪ ،‬وذلك التملق والتحذلق‬
‫وهو يخرب رجاله �أن يتعلموا التخطيط والتحرك ال�سريع مثل ذئبه مغمى‬
‫متاما عن حالة عالء املطمئنة التي �أتى به‪ ،‬والآخر الذي يثق فيه‬‫عينيه ً‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫دون توج�س وك�أن �سنوات من التعامل مع �سكان العامل ال�سفلي الغارق يف‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫الب�شاعة والقذارة قد �ألغت عقولهم وقلوبهم‪� ،‬ألغت �إن�سانيتهم ومل يهتموا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�سوى ب�أن ينالوا مبتغاهم من مال �أو دم‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫حرك عينيه على حماد الذي يناور عالء ويحا�صره بعدة �أ�سئلة يتهمه‬
‫�أنه من �أر�سل له حمدي ليو ِقعوا به فيجيبه عالء بالقول املتع�سر‪« :‬الدكتور‬
‫فهمي هو من �أر�سله‪� ،‬أنا مل �أكن �أعلم مبا يجري �إال عندما �أخربين حمدي‬
‫بر�سالة‪».‬‬
‫�صفعه حماد بقوة جعلت الرجل ي�سقط على الأر�ضية القذرة حتت‬
‫�أقدامهم قبل �أن يرفعه حماد من مالب�سه ويخربه ب�صوت ع�صبي غا�ضب‪:‬‬
‫«وملاذا ال تكون لعبة منك �أنت كما �أقنعت ح�سان بخيانتي؟»‬
‫�صرخ عالء وعينيه احلمراوان وا�سعتان‪ ،‬بينما ات�سعت فتحتا �أنفه وهو‬
‫يلهث بجنون‪« :‬ت ًّبا لك �س�أقطع يدك هذه‪».‬‬
‫عاد حماد يلكمه يف معدته بقوة وهو يقول مبجون‪« :‬يبدو �أنك ن�سيت مع‬
‫من تتحدث ويجب �أن �أذكرك‪».‬‬

‫‪234‬‬
‫ثوان كان ال�صق يو�ضع‬ ‫�أ�شار لأربعة من رجاله بفرقعة �إ�صبع‪ ،‬ويف ٍ‬
‫على فم عالء الذي حرك عينيه نحو �سائد م�ستنجدً ا منتو ًيا �أن ي�صرخ‬
‫فيه مطال ًبا‪ ،‬ولكن ال�سل�سلة احلديدية التي هبطت من ال�سقف مل متنحه‬
‫الفر�صة حتى لال�ستيعاب عندما علقوه من قدميه وجذبوها للأعلى‪.‬‬
‫تدخل �سائد ً‬
‫قائل حلماد‪« :‬يبدو �أنه ال يكذب يا معلم ومل يقل �أكرث مما‬
‫نحن مت�أكدين منه‪ ،‬فهمي هو من وراء حرق كل �شيء وحماولة الق�ضاء‬
‫عليك‪».‬‬

‫ع‬
‫زجمر حماد بغ�ضب و�صدمته ما زالت تعمي ب�صريته‪« :‬ح�س ًنا يا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫فهمي‪ ،‬نهايتك على يدي‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أ�شار حماد بيديه عالم ًة على االنتهاء من عالء‪ ،‬فقام رجاله بتحريك‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫تو�سعت ابت�سامة �أ�شبه بوجه ال�شيطان على مالمح حماد وهوعيقول‪:‬‬
‫ال�سال�سل الطويلة نحو برميل �ضخم ف�س�أله �سائد بتوج�س‪« :‬على ماذا‬
‫تنوي معه؟»‬

‫«النار التي �أحرقوا �شقى عمري بها �سينالونها جمي ًعا وب�أب�شع الطرق‪».‬‬
‫راقب بعينيه املظلمة حماولة عالء اخلرقاء با�ستنجاد للتحدث‪ ،‬فلم‬
‫ي�شعر �إال بالربودة ال�شديدة ناحيته حتى ذلك االنهيار الذي تلقاه يوم قتل‬
‫ح�سان‪ ،‬مل ي�أته وهو يرى ج�سد عالء يهبط يف برميل «مية النار» في�صدر‬
‫�شي حلم ب�شعة‪ ،‬والبخار يت�صاعد من حوله مغط ًيا‬ ‫على الفور رائحة ِّ‬
‫قدميه الظاهرة دقائق من اهتزاز ج�سده بحركات جنونية‪ ،‬ثم �سكن‬
‫متاما خمل ًفا وراءه فقط رائحة العفن‪.‬‬
‫ً‬
‫�أ�شاح �سائد بوجهه بينما حماد يخرب رجاله ٍّ‬
‫بت�شف‪« :‬اتركوه �إىل �أن‬
‫متاما ثم احفروا �أي بقعة �أر�ض و�ألقوا بقاياه بها‪».‬‬
‫يتحلل ً‬
‫‪235‬‬
‫«�إن ربك لباملر�صاد»‪ ،‬يا ترى كم عدد �ضحاياك يا طبيب عالء؟ وكم‬
‫وو�ضعت بقاياها بني الرتاب؟‬
‫َ‬ ‫نف�س حفرتَ لها‬
‫بهدوء كان يخرج من املكان‪ ،‬ثم �أخرج هاتف عالء اخلا�ص و�ضغط‬
‫انتقاما منا‪ ،‬ال�ستغالل‬
‫ً‬ ‫على ر�سالة موجهة لفهمي‪« :‬حماد يحاول ك�شفنا‬
‫ح�سان من خلف ظهره وغ�شه يف املال؛ لذا قد �أخذت خطوتي وحرقت‬
‫مكانه‪ ،‬ثم �أبلغت عنه ال�شرطة‪ ،‬الرجل ُجنَّ وهدد بقتلي‪ ،‬عالء‪».‬‬
‫‪q q q‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫يومان من اجلنون مع حماد �أكرث من كافيني ليفقدوه �صوابه ويحتله‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫الإرهاق ً‬
‫قليل رغم �أنه يعلم جيدً ا �أن هذا لي�س وقته �أبدً ا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫َز َف َر ب�ضيق وهو ي�ضع طبق الطعام مكانه وقد فقد �شهيته ً‬
‫متاما رغم‬

‫ع‬
‫�أن اجلوع مت َّكن منه يف الأخري‪ ،‬وا�ست�سلم لطلب وجبة من بني يديها‪،‬‬
‫ح�س ًنا ليعرتف لنف�سه �أنه رمبا يريد حتريك املياه الراكدة بينهم‪ ،‬فمنذ‬
‫متاما ال‬
‫�آخر مرة ذابت دجوى بني ذراعيه برغبتها الكاملة‪ ،‬وهي تغريت ً‬
‫غ�ضب ال مرارة وال حتى عتاب‪ ،‬فقط نظرة فارغة م�ست�سلمة حتيط بكل‬
‫تعامالتها معه‪ ،‬وك�أن كل �شيء فيها انطف�أ‪.‬‬
‫يعلم �أنه ح َّملها فوق طاقتها بكثري‪ ،‬كما �أن كل كلمة لعمر جلده بها‬
‫ي�ستحقها‪ ،‬هل عتاب عمر يعنيه �أو عذابها الداخلي الذي يعلمه جيدً ا‬
‫ي�ؤثر فيه؟ هل �إدراكه �أن دُجى تتعذب بخطيئتها التي تظنها معه‪ ،‬يجعله‬
‫يثور على نف�سه يف حماولة لفعل �أي �شيء ليخل�صها من نار اخلطيئة التي‬
‫تتوهم‪.‬‬
‫مل يكن يعلم �أنه و�صل لغرفتهم بالفعل‪ ،‬نظر للفرا�ش فوجده خال ًيا‪،‬‬
‫نف�سا عمي ًقا جمهدً ا‪ ،‬وهو يلتقط معطفه متوج ًها �إليها‪ ،‬وجدها‬ ‫ف�أخذ ً‬
‫جتل�س على �أر�ض ال�شرفة تنظر �إىل الفراغ بنظرة خاوية‪ ،‬حتمل عيناها‬
‫‪236‬‬
‫من العذاب ما يفوق طاقة الب�شر‪ ،‬ورغم برودة املكان يبدو �أنها فقدت‬
‫متاما‪ ،‬انحنى يجل�س على ركبتيه يح ِّرك ظهرها ً‬
‫قليل من‬ ‫ال�شعور به ً‬
‫الت�صاقه باحلائط‪ ،‬ثم د�س كفه بطرف املعطف ليحاوط به كتفيها ويعود‬
‫يغلقه جيدً ا من الأمام حولها وهو يقول بخفوت‪:‬‬
‫أنت ال تك ِّفني عن اجللو�س هنا حتى مطلع الفجر كل ليلة‪،‬‬ ‫«اجلو بارد‪ ،‬و� ِ‬
‫جانبك ف�أنا على ا�ستعداد لأنتقل لغرفة �أخرى‪».‬‬
‫ِ‬ ‫أزعجك بنومي‬
‫�إن كنت � ِ‬
‫وك�أنه مل يتحدث ومل ي�أت من الأ�سا�س‪ ،‬عقلها غارق يف ظلماته واملرارة‬

‫ع‬
‫واحل�سرة ت�سكن قلبها‪� ،‬آالف من ال�سكاكني متزق ف�ؤادها و�أمومتها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫وجنينها منذ �ساعات وهي فقط �ست�سمح للأمل �أخ ًريا �أن يق�ضي عليها‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ع َّلها تدفع ثمن ُجرمها معه‪ ،‬ع َّلها تدفع ثمن خطيئتها‪ ،‬ولكن هل �سيغفر‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫يوما على ما �أو�صلت نف�سها له؟ ال�صور‬
‫يوما؟! هل �ست�سامح نف�سها ً‬ ‫لها اهلل ً‬
‫تتالحق داخل عقلها امل�سكني؛ لتتوقف بجلدها مرا ًرا مكررة لقطتها‬
‫تلتف به ل ًّفا منت�شية متخمة بامل�شاعر �شاعر ًة بالر�ضا‬
‫الأخرية بني ذراعيه ُّ‬
‫والتوهج والغرام‪ ،‬غرام حمرم وعالقة ت�شمئز لها الأبدان‪.‬‬
‫لك ما‬
‫«دجوى‪ ،‬هل ت�شعرين بالتوعك؟ �أخربيني ما الأعرا�ض و�س�أجد ِ‬
‫ي�ساعدك‪».‬‬
‫ِ‬
‫رباه‪ ،‬هي ال حتتمل وجوده‪ ،‬مل تعد تريد �أنفا�سه‪ ،‬بل يف تلك اللحظة‬
‫دما حتى متوت قبل‬
‫بالذات هو يجب �أن يبقى بعيدً ا ليرتك قلبها ينزف ً‬
‫�أن تفقده‪.‬‬
‫«ف�صل روحك عن ج�سدك‪� ،‬سرقة قب�س النور بعد �أن كنت م�ستعدًّا‬
‫لفعل كل حمرم لتحميه‪ ،‬لي�س ب�سهل �أبدً ا‪ ،‬ما الذي ت�سمحني له باحلدوث‬
‫قلبك يا غبية‪».‬‬
‫دجوى؟ �إنه قطعة من ِ‬
‫‪237‬‬
‫جدا‪ ،‬و�أ�شعر بالظم�أ‬‫متتمت ب�صوت �أ�شبه بغرغرة املوت‪�« :‬أنا جائعة ًّ‬
‫ال�شديد‪».‬‬
‫مرر �سائد يده فوق �صفحة وجهه �شاع ًرا بالتخبط وعدم فهم ما‬
‫يحدث معها‪ ،‬عاج ًزا حتى عن ال�سماح لنف�سه بالعودة لق�سوته معها‪ ،‬فقال‬
‫برفق وب�صوت غري �صوته وبنف�س حانية كانت فيه قد ًميا‪�« :‬س�آتي ببع�ض‬
‫أي�ضا مل �أ�ستطع تناول �شيء منذ الأم�س‪».‬‬ ‫ال�شرائح ال�شهية‪� ،‬أنا � ً‬
‫هزت ر�أ�سها �سري ًعا مبوافقة دون �أن تعلق ب�شيء‪ ،‬وعادت لتت�أمل ال�شارع‬

‫ع‬
‫والنا�س والأ�ضواء من حتتها ب�صمت‪ُ « ،‬ت َرى يا �سكون الليل كم تخبئ من‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أ�سرار بني جوانب �شوارعك؟»‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مل يغب عنها دقائق عندما عاد بطبق دائري وكوب من ع�صري‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫أر�ضا قبل �أن يجل�س قبالتها‪ ،‬و�ضع الكوب يف يدها‪،‬‬ ‫الربتقال‪ ،‬و�ضع الطبق � ً‬

‫ع‬
‫الحظ ت�أمل مالحمها وبع�ض حبات العرق التي تغطي جبهتها يف هذا اجلو‬
‫البارد‪ ،‬وجهها كان متع ًبا مره ًقا نظرة الربيق يف رمادها اختفت؛ مما‬
‫جعل قب�ضة من الندم تعت�صر قلبه بق�سوة‪.‬‬
‫أي�ضا؟ بالطبع ال �أق�صد مقارنة ولكني‬ ‫«هل كنت تطعمها وتغطيها � ً‬
‫�أتعجب من هذا االهتمام املفاجئ‪».‬‬
‫وك�أنها منحته الهرب املثايل حتى ال يظهر تعاطفه �أو نوع من امل�شاعر‬
‫نحوها ف�أخربها بهدوء �شارد‪�« :‬أول مرة �سرقت بع�ض املالب�س كانت من‬
‫�أجلها عندما الحظت �أنها ترجتف بردًا وال �أحد يهتم‪».‬‬
‫ابت�سم ب�أمل‪ ،‬و�أردف‪�« :‬أخذتها يومها �إىل حار ٍة ما كانت يف نظري وقتها‬
‫ت�ضم �أغنى الب�شر وهم يف احلقيقة لي�سوا �إال �أُنا�س متو�سطي احلال‪ ،‬ولكن‬
‫ال�سرت والدفء واجلدران التي ت�أويهم كانت يف نظر حمروم مثلي كل كنوز‬
‫الدنيا‪».‬‬
‫‪238‬‬
‫�صمت للحظة كي مينع �صوته من �أن يتهدج ت�أث ًرا‪ ،‬ثم تابع ب�شيء‬
‫من الثبات‪« :‬قمت بت�سلق �سقف �سيارة وق�ص�صت حبل غ�سيل يف الدور‬
‫الأر�ضي‪ ،‬وفررت بها هار ًبا‪ ،‬ظلت هذه املالب�س معها طوال ال�شتاء حتميها‬
‫من برده القار�س‪ ،‬وهكذا ظللت معها مرة �سرقة ومرات �أخبئ بع�ض املال‬
‫من املعلم �أ�شرتي لها �شي ًئا لل�سرت من على الأر�صفة‪� ،‬أما م�صدرنا الدائم‬
‫القمامة فكانت كنزًا ثمي ًنا لأمثالنا‪».‬‬
‫متتمت وك�أنها مل تكن ت�ستمع ملا يقوله‪�« :‬أبي كان ي�أخذين منذ �صغري‬

‫ع‬
‫متاما كل‬
‫لأفخم املحالت �أنتقي منها كل �شهر‪ ،‬رمبا خزانتي كانت تبدل ً‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عام‪� ،‬سيارة �آخر طراز �أح�ضرها يل و�أنا يف املرحلة الثانوية فقط‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫تبدلت مالحمه للربود التام فلم تهتم وهي تكمل ب�صوت كان يخفت‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫تدريج ًّيا‪�« :‬أتعلم ما امل�ؤمل يف كل ما يجري يل؟ هو �أنني جربت رغد العي�ش‬
‫واالحرتام‪ ،‬جربت �أن �أكون من ِعل َية القوم وفج�أة �أجد نف�سي على الأر�صفة‬
‫ب�أم مري�ضة‪ ،‬فاقدين الأمان مهددين بالقتل‪� ،‬أ�صابع االتهام ت�شري لنا من‬
‫كل جانب‪ ،‬الأقارب جميعهم مل يعرتفوا بنا‪ ،‬خم�س �سنوات �أقاوم الأمل‪،‬‬
‫�أحاول �أن �أحافظ على روحي من القتل و�شريف من ال�ضياع وطهري من‬
‫العهر‪ ،‬وعندما �أ�سمح لنف�سي باحللم �أخ ًريا ببيت ي�سرتين وزوج يحميني‪،‬‬
‫�أجد كل ما جاهدت للحفاظ عليه ي�ضيع يف �سراب‪».‬‬
‫رفعت �إليه عينني متعبتني جمهدتني خاويتني وقالت‪« :‬ف�أخربين �أنت‬
‫من منا حياته م�أ�ساوية �أكرث؟»‬
‫يف تلك اللحظة �أزاح �سائد الطبق الذي بينهما جان ًبا وهو يقف بهدوء‬
‫لك يف املا�ضي مل يكن خطئي دُجى‪،‬‬‫من جمل�سه يخربها بجفاء‪« :‬ما حدث ِ‬
‫لك على الأقل‪».‬‬
‫ومقارنتك ب�آية غري من�صفة ِ‬
‫ِ‬

‫‪239‬‬
‫بللت فمها اجلاف بطرف ل�سانها غري قادرة ح ًّقا �أن تقرتب من‬
‫امل�شروب الذي �أتى به‪ ،‬و�ضعته بجوار الطعام ووقفت بهدوء بطيء مل�صق ًة‬
‫نف�سها باحلائط وهي تخربه‪« :‬نعم‪� ،‬أعلم هذا � ً‬
‫أي�ضا وكيف يل �أن �أقارن‬
‫نف�سي بها �أو بك �أو �أن �أطالب ب�أقل حقوقي الإن�سانية‪� ،‬أنا هنا جمرد‬
‫غانية‪».‬‬
‫وقف �سائد بقرب �سور ال�شرفة احلديدي يتم�سك به ب�شدة‪ ،‬والأمل‬
‫يعود ي�سكن جنباته‪ ،‬التفكري بطفل �سي�أتي منها بعد رحيله الذي اقرتب؛‬

‫ع‬
‫يرهبه ويجعله ي�س�أل نف�سه �ألف مرة‪ :‬ما الذي فعله بها؟ وما اجلرمية التي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ارتكبها لي�أتي بهذا اجلنني لتلك الغابة؟!‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫قال بهدوء‪« :‬املر�أة التي تنتمي يل ال حتمل لقب غانية دُجى‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�أح�ست بالدماء تتجمد يف عروقها وبب�شرتها تق�شعر وبقلبها يخفق‬

‫ع‬
‫ب�صخب جمنون وهي تقول‪« :‬منذ �أ�سبوع فقط �أنا كنت عاهرتك يف‬
‫فرا�شك‪� ،‬أنفذ رغباتك دون اعرتا�ض‪� ،‬أم ا�ست�سالمي �أخ ًريا منحك الغرور‬
‫املثايل واالنتقام الأحمق لتجعلني �أرتقي ملرتبة ن�سائك؟»‬
‫هز كتفيه بربود وهو يت�أمل انتفا�ض ج�سدها الذي فقد ن�صف وزنه‪،‬‬
‫�س�ألته فج�أة با�ضطراب‪�« :‬أنت تخربين دائ ًما �أنها كانت زوجتك‪ ،‬هل رغم‬
‫كل ظروفكم تزوجتها؟»‬
‫�ض َّيق ما بني عينيه ومل يفهم معنى �س�ؤالها ولكنه �أجابها بب�ساطة‪:‬‬
‫وعرفنا‪ ،‬كان يجب �أن حت�صل على‬ ‫«نعم‪ ،‬كانت زوجة بطريقتنا اخلا�صة ُ‬
‫االحرتام وكرامتها �أمام اجلميع بزواجي منها‪».‬‬
‫�صفعتها الإجابة رغم �أنها توقعتها م�سب ًقا‪� ،‬أجابته‪« :‬تزوجتها رغم‬
‫كل �شيء و�أنا من �أجل انتقامك الأعمى �أخذتني بذنب �آخر مات وانتهى؛‬
‫لتدمرين ً‬
‫وطفل لي�س له ذنب �إال تاريخ جده‪».‬‬
‫‪240‬‬
‫أراك‬ ‫منك �شي ًئا‪ ،‬و�أتيت ل ِ‬
‫أخربك ب�أين ال � ِ‬ ‫قال بجمود‪« :‬مل �أعد �أريد ِ‬
‫أنت الطرف ال�ضعيف‬ ‫كنت � ِ‬
‫عاهرة‪� ،‬أما ما حدث بيننا كالنا �أراده و�إن ِ‬
‫عقلك الذهنية ال تقارين نف�سك‬‫فيه‪ ،‬فتوقفي عن جلد ذاتك‪ ،‬ول�صحة ِ‬
‫لك‪».‬‬
‫ان�سها من الأف�ضل ِ‬ ‫ب�آية‪ِ ،‬‬
‫قليل وعينيه تطلق �شررها املعتاد قبل �أن ي�سيطر عليها وي�ضيف‬ ‫توتر ً‬
‫أراك �إال �أنثاي‪ ،‬امر�أة تنتمي يل رغم كل �شيء؛ لذا‬
‫بخ�شونة‪�« :‬أنا مل �أعد � ِ‬
‫وعدتك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫أحميك من كل من يهددك كما‬ ‫�س� ِ‬

‫ع‬
‫�ضمت معطفه بكفيها املرجتفتني ك�سائر ج�سدها الذي مل تعلم �سبب‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫برودته؛ هل هو ب�سبب �سهام كالمه؟ �أم ب�سبب برد ال�شرفة؟ ثم ما لبثت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أن قالت بخفوت‪« :‬ومع كل هذا �أنت حترتمها �أكرث مني‪ ،‬تزوجتها بينما‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫�أنا ‪»...‬‬
‫معك‬
‫تقب�ضت يداه املتكئة على �سور ال�شرفة‪ ،‬ثم قال بهدوء‪« :‬م�شكلتي ِ‬
‫أبوك م�شتعلة‬
‫مل تكن يف االحرتام من عدمه دُجى‪ ،‬بل يف نريان تركها � ِ‬
‫أحرقك بها‪».‬‬
‫غريك �أمامي ل ِ‬
‫بداخلي وهرب مبوته‪ ،‬ومل �أجد ِ‬
‫تهكمت وهي تخربه‪« :‬وو�صلت ملا تريده‪� ،‬سائد ما الذي تبقى بعدُ؟ �أن‬
‫تقتلني وطفلي �ألي�س كذلك؟ كيف �أن�سى؟ يا لغبائي! كيف لعاهرتك �أن‬
‫تن�سى؟!»‬
‫�ساحما لنف�سه ب�أن يلم�سها عندما جذب طريف‬ ‫ً‬ ‫التفت �إليها �أخ ًريا‬
‫املعطف بقوة لت�صطدم به‪ ،‬رفعت وجهها نحوه تنظر لعينه نظرة فارغة‬
‫ال حتمل �أي �أثر للحياة فيها‪ ،‬ال �أثر خلوفها وال جزعها املعتاد منه وال‬
‫لع�شقه التي �أق�سمت يوما �أنها لن ت�ستطيع اخلال�ص منه‪ ،‬خفق قلبه بقوة‬
‫و�إح�سا�س بالقلق واخلوف يجتاحه‪ ،‬فحثته غرائزه كلها على القتال‪ ،‬قتال‬
‫النف�س التي �أمرته بال�سوء نحوها‪ ،‬قادته جلنونه لإدخالها حر ًبا نف�سية‪،‬‬
‫‪241‬‬
‫�ساحما لنف�سه �أن‬
‫ً‬ ‫�شنها عليها بغري �إن�صاف‪� ،‬ضم َخ�صرها بذراعه بقوة‬
‫يوما‪،‬‬‫يحت�ضنها‪ ،‬رمبا ي�صلها ما ي�شعر به والذي لن ي�ستطيع �أن يعرتف به ً‬
‫م�ستخدما �أبجدية العناق كما علمته هي �إياها‪.‬‬
‫ً‬
‫�سيقتلك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫�صمتك‬
‫ِ‬ ‫كعادتك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫هم�س بخ�شونة‪« :‬ابكي دُجى‬
‫مل تتنازل عن النظر �إليه بقوة و�صالبة وهي تقول‪« :‬مل يعد هناك ما‬
‫ي�ستحق البكاء من �أجله‪ ،‬ال�سيد �أمر عاهرته بالطاعة‪ ،‬وها هي �أخ ًريا‬
‫منحته ما يريد‪ ،‬ويتبقى فقط �أن يغر�س ن�صل �سكينه يف �صدرها وطفلها‬

‫ع‬
‫رمبا ي�صل ل�سالمه ويريحني منه‪».‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ول�ست عاهرتي‬
‫أنت امر�أتي ِ‬ ‫عاد ي�ضمها �إليه بقوة مرغ ًما‪ ،‬وهو يهم�س‪ِ �« :‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ُك ِّفي عن ترديد ما لي�س ِ‬
‫فيك‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫مل يب ُد عليها �أي نوع من رد الفعل وهي تقول‪« :‬هل هذه حرب جديدة‬

‫ع‬
‫ت�شنها جلنوين؟ �أم �أن �ضمريك املعدوم ا�ستيقظ فج�أة؟! �أ ِفقْ يا �سائد‬
‫وتذكر من �أنا ومن �أنت‪».‬‬
‫ما يخو�ضه كثري ومتتابع وال ينق�صه ت�شتت عقله وقلبه معها الآن‪ ،‬فقال‬
‫انهيارك‬
‫ِ‬ ‫معك و�أحرقت جميع �سفني‪ ،‬قد �أتفهم‬ ‫بحزم‪« :‬حروبي انتهت ِ‬
‫رغبتك يف ال�شعور باحل�ضي�ض واال�ست�سالم‪ ،‬ولكني لن �أ�سمح لرتك‬ ‫ِ‬ ‫الآن‪،‬‬
‫طفلي مع �أم �ضعيفة خانعة �أقل َه َّبة ريح تدمرها‪».‬‬
‫مل تتمالك نف�سها عندما نظرت �إليه بذهول غري م�ستوعبة حماقاته‪،‬‬
‫م�ؤكد �أنه يهذي‪ ،‬هناك �شيء خاطئ يحدث‪.‬‬
‫خمرجا م�ستندً ا من جيبه‪ ،‬رفعه �أمام عينيها‬ ‫ً‬ ‫�أبعد �أحد ذراعيه عنها‬
‫التي ما زالت تغرق يف ده�شتها‪ ،‬حلظات طويلة جدًّا‪ ،‬كان يغم�ض عينيه‬
‫و�أنفا�سه تخرج ب�صعوبة وك�أنه ي�سيطر على نف�سه لفعل �أمر مل يكن يريده‪،‬‬
‫قليل‪« :‬اقرئيها»‪.‬‬‫ثم فتحها فج�أة و�أخربها ب�صوت مكتوم وهو يبتعد عنها ً‬

‫‪242‬‬
‫يختف‪ ،‬وهي ت�سحبها بيديها املرجتفتني‪،‬‬
‫هزت ر�أ�سها بذهولها الذي مل ِ‬
‫�أ�صابعها تهتز بوجل‪ ،‬تدمع عيناها يف ردة فعل �إن�سانية �أخ ًريا‪ ،‬وجتري‬
‫حدقتاها على ال�سطور بغري ت�صديق‪.‬‬
‫ثم انفجرت مرة واحدة ببكاء ه�ستريي يعلو ب�صخب م�صاحب‬
‫لأنفا�سها التي ُح ِجزَ ت داخل �صدرها‪�« :‬أنت حقري»‪.‬‬
‫تقب�ضت ك َّفاه بجانبه بقوة ومل يعلق‪ ،‬عندما رفعت رمادها نحوه بجمود‬
‫جعله يدرك �إىل �أي حد تت�أمل‪� ،‬إىل �أي حد قد وجه �إليها طعنته الأخرية‪.‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫متاما فتقطع اخلطوة‬
‫هزت ر�أ�سها بالرف�ض قبل �أن تفقد �سيطرتها ً‬

‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫التي بينهما ويديها ترتفع دون تفكري تنوي �صفعه‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫و‬
‫�صرخت فيه باهتياج وهي ُتفلت يديها من بني يديهالت ُّ‬
‫مم�سكها وهو يقول‪« :‬ال تتطريف دُجى وتذكري مع من‬ ‫فيمنعها �سري ًعا‬

‫ي‬
‫علىع�صدره‬‫ز‬ ‫و‬
‫تتعاملني‪».‬‬
‫تدب‬
‫بقوة‪« :‬بالطبع �أعرفك‪ ،‬جمرد خمادع حقري‪ ،‬ال ي�ستحق �أ ًّيا من �شفقتي وال‬
‫من َجلدي لنف�سي‪ ،‬ت ًّبا لك‪� ،‬أكرهك يا �سائد �أكرهك‪».‬‬
‫مل يفكر وهو مي�سك بكتفيها ب�أ�صابعه القا�سية‪ ،‬يهتف مزجم ًرا‪« :‬ال‬
‫عليك‪».‬‬
‫نف�سك يا ابنة غ�سان‪ ،‬من �أجل طفلي �أ�شفقت ِ‬
‫تن�سي ِ‬
‫هل يحق لإن�سان �أن ينهار يف حلظة كتلك؟ هي قاومت‪ ،‬قاومت �أكرث‬
‫م�سموما‬
‫ً‬ ‫من �أن يتحمل ب�شر‪ ،‬قاومت فهمي ومر�ض �أمها‪ ،‬وقاومت ع�ش ًقا‬
‫يوما‪.‬‬
‫غزا �أوردتها مثل مر�ض فتاك ال �شفاء منه ً‬
‫غ�صت نرباتها وهي تخربه ب�صوت ي�ضيع يف مغبات الوجع‪« :‬لي�س‬ ‫َّ‬
‫طفلك‪ ،‬مل يعد هناك ما ُي ْدعى طفلك‪».‬‬
‫‪243‬‬
‫مل ي�سمح لعقله �أن يحلل ما تتفوه به‪ ،‬بل �سمح فقط للذعر �أن يجتاحه‬
‫كما مل يفعل منذ زمن بعيد‪ ،‬عندما �سقطت فج�أة فوق �صدره ليم�سك بها‬
‫قبل �أن ت�صل الأر�ض فاقدة للوعي‪ ،‬ذراعه ت�صرفت بتلقائية لي�ضعها حتت‬
‫ركبتيها ويرفعها نحوه‪ ،‬ولكن الإح�سا�س باللزوجة جعله يحاول �أن ُيلقي‬
‫نظرة خاطفة ليفهم �سبب ذلك امللم�س الكريه وما ر�آه جعل خوفه منطق ًّيا؛‬
‫فنقل عينيه لتلتقط لأول مرة منذ دخوله بقع الدماء التي تغطي مكان‬
‫جل�ستها التي حر�صت �أن حتجبها عنه طوال حوارهم؛ فرتجم عقله الآن‬
‫معنى حديثها‪ ،‬ف�أ�صبح كل �شيء خمي ًفا‪ ،‬مدم ًرا يف الوقت ذاته‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫ً‬
‫مهرول جتاهه تتبعه رابحة فور �أن التقط وقفته املت�صلبة‬ ‫�أ�سرع عمر‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫يف ممر امل�شفى �أمام غرفة الطوارئ‪ ،‬بلهفة كانت رابحة التي بادرت‬

‫ع‬
‫بال�س�ؤال‪« :‬ما الذي حدث؟ ما بها دجوى؟»‬
‫�أغلق �سائد جفنيه للحظات قبل �أن يتمتم ب�صوت خمتنق‪�« :‬أجه�ضت»‪.‬‬
‫هم�ست رابحة وهي ترتاجع للوراء ووجهها يزداد �شحو ًبا‪« :‬رباه»‪.‬‬
‫�أ�سرع عمر ي�سندها �إذ خ�شي �أن تفقد وعيها وقد بد�أت �أنفا�سها‬
‫تت�سارع‪ ،‬جل�ست بينما �أ�سند عمر ذراعيه حولها‪ ،‬لعن نف�سه ب�صمت �أنه‬
‫�سمح لها مبرافقته عندما �أتاه ات�صال �سائد امل�ستنجد وك�أنه تائه جمذوب‬
‫وال يعرف كيفية الت�صرف‪.‬‬
‫«هل دجوى كانت ً‬
‫حامل؟ لهذا كان يخبئها ورف�ضت �أن �أزورها!»‬
‫أرجوك‬
‫عليك ما عالقة هذا مبا تقولني؟ � ِ‬
‫قال عمر بحزم‪« :‬رابحة باهلل ِ‬
‫نف�سك حتى �أفهم منه‪».‬‬
‫متالكي ِ‬

‫‪244‬‬
‫جمدت وهي حتدِّ ق به م�صدومة‪ ،‬تتذكر مالمح �سائد التي مل تتقبلها‬
‫يوما‪ ،‬مظهر دجوى ال�ضعيف الواهن واملرتعب يف املرة الوحيدة التي ر�أتها‬ ‫ً‬
‫فيها بعد الزواج متتمت هام�س ًة‪« :‬لأنه هو ال�سبب‪� ،‬صدقني يا عمر نظرة‬
‫واحدة لوجه �صديقك و�ستعلم �أنه �أكرث من �آذاها‪ ،‬امل�سكينة‪».‬‬
‫اعتدل عمر على الفور ينظر ل�صديقه دون �أن ينبث بكلمة‪ ،‬بينما‬
‫مالمح �سائد تر�سم خط الب�ؤ�س كما مل ير�سمه فنان من قبل‪ ،‬الأمل �ضياع‬
‫وجع ه�ستريي‪ ،‬حرك حلقه اجلاف وهو يقول ب�ضياع‪« :‬حلم �أفقده للمرة‬
‫الثانية وبيدي وب�سببي‪».‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�ساد ال�صمت ومل يجد عمر يف قامو�سه ما قد يخربه �إياه‪ ،‬فمد يده‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ير ِّبت على كتفه ي�ؤازره ح ًّقا‪ ،‬يف حني مل تتغري مالمح �سائد قيد �أمنلة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫وهو يقول‪« :‬ما كان يجب �أن �أعاند القدر و�أن �أحلم‪ ،‬فنحن جمرد عابري‬
‫�سبيل‪ ،‬ن�أتي �إليها غد ًرا ونعي�ش فيها ُظل ًما ونرتكها �صمتًا وك�أننا مل منر‬
‫فيها �أبدً ا‪».‬‬
‫�ساد �صمت �آخر‪ ،‬كانت الدماء تن�سحب من وجه عمر هذه املرة‪،‬‬
‫والتفت يقلب عينيه على رابحة التي كتمت بكاءها بكال ك َّفيها تنظر له‬
‫بخوف غريب‪ ،‬يف حني اعتلى مالحمه اجلمود وك�أنه يح�صن م�شاعره‪،‬‬
‫يقيدها يعيد هيكلتها‪ ،‬ليهبط لأر�ض الواقع وهو يقول‪« :‬نعم‪ ،‬كان يجب‬
‫جدا يف حياة لي�ست لنا‪ ،‬و�أدخلنا‬‫�أن نلتزم بخطواتنا الأوىل‪ ،‬لقد انغم�سنا ًّ‬
‫أنا�سا مل تكن من حقنا‪ ،‬نحن جمرد وجوه �ستُن�سى فور التفاتك بعيدً ا‬ ‫فيها � ً‬
‫يوما �أنها مرت من هنا‪ ،‬ف ِل َم نعاند القدر؟ خفافي�ش‬ ‫عنها ولن يذكر �أحد ً‬
‫يوما و�إال احرتقت‪».‬‬
‫الليل لن ترى نور النهار ً‬
‫عم ال�صمت الثقيل امل�صاحب لل�سواد مرة �أخرى �أمام غرفة الطوارئ‬
‫لتطل منها طبيبة يف منت�صف العمر‬ ‫بعد وقت لي�س بقليل‪ ،‬فتح باب الغرفة َّ‬

‫‪245‬‬
‫بوجه ب�شو�ش مريح‪ ،‬توجهت ل�سائد تخربه بهدوء‪« :‬هي بخري الآن ت�ستطيع‬
‫جدا‪،‬‬
‫�أن تراها‪ ،‬ولكن كما �أخربتك قبل �ساعات حالتها النف�سية �سيئة ًّ‬
‫ف�أرجو منك � َّأل تتحدث يف الأمر من الأ�سا�س‪� ،‬س ُت ْن َقل بعد قليل لغرفة‬
‫عادية‪».‬‬
‫مل يكن �سيطر على نف�سه بعدُ‪ ،‬وهو يغلق عينيه موافقها دون �صوت‬
‫بينما الذاكرة تل�سع عقله ب�سياط من نار متوح�شة متذكرها بني يديه‬
‫يحت�ضنها بقوة‪ ،‬بينما الدماء تتدفق منها وهي يف عامل �آخر‪ ،‬قتلته ابنة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫غ�سان ووجهت له طعنة منتقمة توازي كل ما فعله فيها‪ ،‬فور �أن �شرعت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫الطبيبة يف فح�صها َع َر َفا �سو ًّيا �أن دجوى كانت ت�ضع حاج ًزا للدماء يف‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مالب�سها‪� ،‬أي �إنها تعلم ب�أنها تخ�سر طفلهما منذ �ساعات م�ضت‪� ،‬أخذ‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫طعنتها يف �صدره ب�صمت بينما الطبيبة تخربه بعد دقائق طويلة مت َّلكه‬

‫ع‬
‫الذعر فيها بالنتيجة املنطقية واحلتمية لكل ما يحدث‪« :‬لقد �أجه�ضت‬
‫بالفعل‪ ،‬وانتهى �أمر �صغريه الثاين‪».‬‬
‫كانت الطبيبة تركته وابتعدت عنه عدة خطوات عندما �أتاها �صوته‬
‫الذي تل َّون �سري ًعا بغريزته املتوح�شة والكره الدفني بداخله لكل معطف‬
‫�أبي�ض‪�« :‬أريد طفلي»‪.‬‬
‫التفتت الطبيبة �إليه ب�صدمة‪�« :‬سيد �سائد‪ ،‬ماذا؟ هل �أنت ‪»...‬‬
‫قاطعها وهو يقول بحزم‪« :‬طفلي‪ ،‬يبلغ ما يقارب الثالثة �أ�شهر‪� ،‬أي �إنه‬
‫بد�أ يف تكوين جنني يا دكتورة‪� ،‬أمل ت�سمعي بالأجنة من ُ‬
‫قبل؟»‬
‫للحظات حدقت فيه الطبيبة ذاهلة‪ ،‬بينما عمر مل يعلق ب�شيء فتدخل‬
‫طبيب التخدير الذي خرج من الغرفة يتبع الطبيبة‪« :‬هل تعي ما تقوله يا‬
‫�سيد؟ عن �أي جنني ت�س�أل؟ هذه الأ�شياء يتم التخل�ص منها بطريقتنا‪».‬‬
‫‪246‬‬
‫قاطعه �سائد جا ًّزا على �أ�سنانه بغ�ضب �صارخ‪« :‬طفلي لي�س �أ�شيا ًء وال‬
‫يخ�ضع لطريقتك‪� ،‬إنه بني �آدم كان يتكون‪� ،‬إن�سان مثلك‪ ،‬وال �أعتقد �أين‬
‫ً‬
‫خمططا �آخر له؟ �أريد ابني‪».‬‬ ‫الوحيد الذي يطلب هذا الأمر‪� ،‬أم �أن لديك‬
‫تقدمت الطبيبة بهدوء وابت�سمت بب�شا�شة مهدئة يف وجه �سائد وهي‬
‫تقول‪« :‬الدكتور �سامح مل يق�صد‪ ،‬خانه التعبري من ف�ضلك اهد�أ و�س�أح�ضره‬
‫لك بنف�سي‪».‬‬
‫مل ي�شكرها حتى وهو يقول بخ�شونة‪« :‬وهي متى ت�ستطيع اخلروج‬
‫من هنا؟ �أريد �أن �أ�صطحبها فور �أن ُت ِفيقَ ‪ ،‬و�س�أوفر لها كل ما يلزمها يف‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫املنزل‪».‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫«وما م�شكلتك مع هنا؟ املكان هنا �أف�ضل وبه رعاية‪ ،‬وكما �أخربتك‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫حالتها النف�سية �سيئة وبالتايل ت�ؤثر على حالتها اجل�سدية؛ لذا لن �أمنحك‬
‫ت�صريحا باخلروج‪».‬‬
‫ً‬ ‫�أبدً ا‬
‫عاد بغ�ضبه يحاول جمادلته كثور هائج ف�أم�سكه عمر يهادنه بالقول‪:‬‬
‫«هل ميكن �أن تهد�أ وت�سيطر على نف�سك وبدل هذا اجلنون اجعلنا ندلف‬
‫�إليها �أو ادخل �أنت لرتاها‪».‬‬
‫للحظات طافت عيناه على وجهه عمر بجنون‪ ،‬قبل �أن ينطفئ كل �شيء‬
‫من حوله فج�أة متمت ًما ب�صوت جاف‪« :‬لقد ُق ِت ْلتُ للمرة الثانية يا �صديقي‪،‬‬
‫�أ�شعر ب�أين �أعود لإم�ساك ج�سد طفلي البارد‪ ،‬طفلي الذي ُق ِت َل‪� ،‬أال من‬
‫نهاية لأملي؟»‬
‫الدموع احلارقة تطفر بعينيه يف حلظة �ضعف �إن�سانية نادرة‪ ،‬ف�أغلق‬
‫جفنيه �سري ًعا مكاب ًرا بينما دمعة وحيدة غالبته فهبطت من حتت رمو�شه‬
‫املطبقة‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫‪247‬‬
‫كان عمر يتمدد على الكر�سي بعدم راحة‪ ،‬بينما متتد قدماه �أمامه‬
‫على الأر�ض‪« :‬كنت �أريد �أن �أراها‪ ،‬ما الذي يفعله هذا املخيف منذ �ساعة‬
‫معها؟»‬
‫أنفك من �شئون الغري ال‬
‫حرك عمر كتفيه اللتني تي َّب�ستا وقال‪« :‬ارفعي � ِ‬
‫يخ�صنا‪ ،‬نحن هنا للدعم فقط‪� ،‬أو مبعنى �أدق‪� :‬أنا هنا من �أجل �صديقي‪،‬‬
‫أنت جمرد حمقاء ت�سبب لنف�سها املزيد من الأمل‪».‬‬ ‫�أما � ِ‬
‫احم َّر وجهها وهي ت�شيح بعينيها عنه قائلة‪« :‬ما بك تهاجمني هكذا‬

‫ع‬
‫منذ يومني؟!»‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أح�ست به يعتدل و�أم�سك بوجهها ويديره �إليه وهو ينظر لعينيها ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫«ما الذي حتاولني �أن تخبئينه عني؟ وملاذا تختبئني يف بيت �صفية منذ‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫نف�سك مني يا‬
‫ِ‬ ‫أنك تريدين �أن تخفي �شي ًئا ما �أو حتمي‬ ‫�أ�سبوع م�ضى وك� ِ‬

‫ع‬
‫رابحة؟!»‬
‫رائحته امل�سكية �أ�سكرتها‪ ،‬كما عبثت حرارة ج�سده القوي بتما�سكها‪،‬‬
‫�إدراكها �إىل �أي حد ي�ؤثر بها ي�ضعفها‪� ،‬إىل �أي حد ت�صبح بني يديه بال‬
‫حول وال قوة جعلها تنتف�ض من بني يديه تخربه‪« :‬ال �شيء‪� ،‬أنت من حتاول‬
‫�صنع وهم ما يف عقلك وعقلي‪ ،‬ا�شتقت لأمي و�أخي‪ ،‬هذا كل ما يف الأمر‪».‬‬
‫�أم�سك يدها و�أجل�سها بجانبه مرة �أخرى وهو يقول من بني �أ�سنانه‪:‬‬
‫لغرفتك و�صنعها ل�ضجيج مق�صود‪ ،‬ك�أنها تخربين �أو‬ ‫ِ‬ ‫«ومرافقة �صفية‬
‫لدي وقت‬
‫مالم�ستك‪ ،‬ما الذي يحدث يا رابحة؟ �أنا لي�س َّ‬ ‫ِ‬ ‫حتذرين من‬
‫لأالعيب الن�ساء‪».‬‬
‫هل ت�ستطيع �إخباره الآن وت�ستغل �ضجة امل�شفى ووجود �أطباء؟ هل‬
‫ت�ستغل �ضعفه وتعاطفه مع حال �صديقه وتخربه عن فعلتها رمبا ت�أخذه‬
‫�شفقة بها؟ رباه هي ب�شعة ت�ستغل موت طفل لتخربه عن ‪...‬‬
‫‪248‬‬
‫وقفت فج�أة �أمامه وقوة غريبة ت�سري يف ج�سدها وقالت يف وجهه‬
‫مبا�شرة‪« :‬ما فعلته معي من �صفقات متكررة مل يكن من�ص ًفا يل؛ لذا �أنا‬
‫بع�ضا من بنودك‪».‬‬ ‫قررت من تلقاء نف�سي �أن �أغري ً‬
‫متوج�سا وهو يقول ببطء مكتوم‪« :‬وبع ُد �سيدة رابحة‬ ‫ً‬ ‫رفع حاج ًبا واحدً ا‬
‫الثائرة‪ ،‬ما الذي تغري؟»‬
‫اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول‪« :‬طفل‪� ،‬أنا �أريد �صغ ًريا‪ ،‬من‬
‫حقي �أن تكون يل �أ�سرة حلمت بها منذ كنت مراهقة‪ ،‬من حقي �أن �أكون‬

‫ع‬
‫�أ ًّما يا عمر‪».‬‬
‫اخرتت � َّأل‬
‫ِ‬ ‫خي ُت ِك منذ البداية‪ ،‬و� ِ‬
‫أنت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قال ب�صوت غ�ضب مرير‪« :‬لقد َّ ْ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أنت يل وحدي‪».‬‬ ‫يوما حتى و�إن مت‪ِ � ،‬‬
‫تكوين ل�سواي ً‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫�صمت لربهة بينما يزداد بكا�ؤها بن�شيج ف�صرخ فيها‪« :‬يا �إلهي‪ ،‬ال‬
‫أنك تخربيني بهذا وهنا والآن‪».‬‬ ‫�أ�صدق � ِ‬
‫فبادلته �صرخته املهتاجة‪« :‬ت ًّبا لك يا �سيد الدهاء الغبي عن �أي �آخر‬
‫تتحدث؟ �أنا حامل يا عمر‪ ،‬حامل بطفلك الذي رف�ضت �أن ت�سمح يل �أن‬
‫�أحمله‪ ،‬ولكني رميت بكالمك عر�ض احلائط‪� ،‬أنا �أريد �أن �أكون �أ ًّما ولن‬
‫مينعني حتى جنونك من حقي الطبيعي‪».‬‬
‫راف�ضا لدقائق معدودة وك�أنها �ألقت عليه قنبلة مثرية للتبلد‬ ‫هز ر�أ�سه ً‬
‫�أو اجلنون‪ ،‬عيناه امللونتني تتحركان يف كل مكان ب�صدمة خمالطة للذهول‪،‬‬
‫بينما �أط َّلت من عينيه نظرة جرح عميق‪ ،‬نظرة لن تن�ساها ما عا�شت‪.‬‬
‫متاما ثم مال بجذعه لي�ساوي ر�أ�سها الذي ُن ِّك َ�س‬ ‫اعتدل واق ًفا �أمامها ً‬
‫متاما‪،‬‬‫فكرتك و�صلتني ً‬ ‫ِ‬ ‫عاجزً ا عن مواجهته وقال ب�صوت بارد‪�« :‬أعتقد �أن‬
‫حقك �أن تكوين �أ ًّما ومن حقي قول ال‪».‬‬ ‫من ِ‬

‫‪249‬‬
‫�صمت لربهة قبل �أن يقول ب�صوت مكتوم خافت خميف‪« :‬لن تخرجي‬
‫لعبت مع‬
‫أنت ِ‬ ‫قدميك‪ ،‬هذا الطفل �س ُي ْج َه�ض ويف احلال‪ِ � ،‬‬
‫ِ‬ ‫من هنا على‬
‫نحوك حجة ت�ستخدمينها �ضدي‪،‬‬ ‫وظننت �أن �ضعفي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال�شخ�ص اخلط�أ‪،‬‬
‫بك يف عاملي املرعب رابحة والذي ال يعرف قانو ًنا �إال قانون الغابة‪».‬‬
‫مرح ًبا ِ‬
‫‪q q q‬‬
‫كانت الطبيبة ت�صر � َّأل تنظر �إىل كليهما‪ ،‬لدقائق حتاول �أن توازن‬
‫فوجه عمر اجلامد رغم النريان‬ ‫بعقلها ما الذي يجري حتديدً ا معهما؟! ْ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫التي ت�ست�شعرها تنبعث من كل جزء يف ج�سده‪ ،‬ورابحة تقف بت�صلب‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ناحية باب الغرفة املغلق وك�أنها تخاف التقدم‪ ،‬تنازلت �أخ ًريا لتخرب‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫كليهما بهدوء متزن وقور‪�« :‬إن ما تطلبه م�ستحيل �أن يحدث‪ ،‬ال �أعرف ما‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫الذي دفعك �إليه تفكريك لتظن �أن من املمكن �أن يوافقك �أحد هنا على‬

‫ع‬
‫جنونك هذا؟!»‬
‫جتنب عمر ال�سخرية من �أ�صحاب املعاطف البي�ضاء‪ ،‬ومن حقيقتهم‬
‫أخربتك �أن هذا‬
‫ِ‬ ‫الب�شعة التي جربها هو و�صديقه‪ ،‬فقال بت�شنج‪« :‬و�إن �‬
‫لك كل ال�شرائع والقوانني �أن جته�ضيه؟»‬ ‫حياتك �أال ت�سمح ِ‬
‫ِ‬ ‫الطفل يهدد‬
‫�أغلقت رابحة جفنيها للحظة قبل �أن ت�سارع هي يف الرد بالقول‬
‫ال�ساخر‪« :‬يا فرحتي بك‪ ،‬وهل قمت بتنفيذ كل فرائ�ض الدين ومل يتبقَّ �إال‬
‫حر�صك على حياتي املهددة بالطفل؟!»‬
‫التفت �إليها ب�شره فذكرها بوجهه القدمي املهدد الذي ر�أته مرتني قبل‬
‫لديك احلق لالعرتا�ض �أو ال�سخرية‪».‬‬ ‫زواجه منها وقال‪« :‬اخر�سي‪ ،‬لي�س ِ‬
‫تقدمت منه خطوة بعد �أن نف�ضت عنها َو َهنَ اال�ست�سالم الدائم لكل ما‬
‫يطلبه وقالت ب�شرا�سة‪« :‬بل يل احلق بفعل كل ما �أريد‪ ،‬و�س�أدافع عن طفلي‬
‫بكل ما �أملك يا عمر‪».‬‬
‫‪250‬‬
‫مل حتتج «ملياء» لكثري من التفكري لتفهم �أن ما بني هذين االثنني معقد‬
‫و�صعب فهمه‪ ،‬ولكن �إقناعه لي�س بال�شيء امل�ستحيل‪ ،‬بابت�سامة على وجهها‬
‫الب�شو�ش املريح قالت بهدوء يف حماولة لف�ض النزاع بينهما‪« :‬بالطبع �سيد‬
‫عمر‪� ،‬إن كان يهدد حياتها �س ُي ْج َه�ض ولكن �أنا ال �أرى �أمامي ما تقوله‪».‬‬
‫مل يلتفت �إليها ودون �أن ترتك عينيه عيني رابحة املتمردة بعنف مل‬
‫يره فيها من قبل‪ ،‬قال من بني �أ�سنانه‪« :‬هناك �أمرا�ض خبيثة‪ ،‬خمتبئة‬
‫وراء ال�صور اجلميلة واملثالية‪ ،‬يغ�ض البع�ض عنها ب�صره بق�صد‪ ،‬والبع�ض‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الآخر يتحامق وال يراها من الأ�سا�س‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫ردت رابحة بقهر‪« :‬وهناك َمنْ ي َّدعي ال�شهامة والفداء‪ ،‬وهو جمرد‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫�إن�سان �أناين‪ ،‬يبحث عن كل ما يريد حتقيقه وينهل من �أحالمه املبتورة‬
‫كما ي َّدعي‪ ،‬وبالنهاية يريد التهرب من دفع ثمن جزء ب�سيط ملا �أخذ‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت ً‬
‫ثقيل ومتوت ًرا يف �أرجاء غرفة الطبيبة‪ ،‬قبل �أن يقف‬
‫عمر على قدميه ليتقدم ناحيتها حتى واجهها كل ًّيا وقال ب�صوت مكتوم‪:‬‬
‫«ثمن! وهل ما قدم ِت ِه يل يحتاج مني لدفع فاتورة؟»‬
‫�أ�شاحت بوجهها بعيدً ا عنه وقالت‪�« :‬إن كنت ت�سمي نطفتك يف �أح�شائي‬
‫طفل منك ً‬
‫مقابل ملا منحتك �إياه‪،‬‬ ‫لدي‪ ،‬نعم �أنا �أردت ً‬ ‫ثم ًنا فال م�شكلة َّ‬
‫علي �سيد عمر؟!»‬‫فهل هذا كثري َّ‬
‫«لدي بع�ض املر�ضى‬
‫تنحنحت الطبيبة ببع�ض احلرج وقالت بود حنون‪َّ :‬‬
‫�أريد املرور عليهم‪ ،‬خذوا وقتكم لن يزعجكم �أحد‪».‬‬
‫التفت لها عمر بحدة و�أخربها من بني �أنفا�سه العنيفة‪« :‬لن تتحركي‬
‫من هنا قبل �أن جته�ضي هذا الطفل‪».‬‬
‫‪251‬‬
‫حتاملت ملياء على نف�سها م�ستمرة يف ر�سم ابت�سامتها الهادئة وقالت‬
‫بب�ساطة‪« :‬لن يحدث ودون حتى �أن �أفح�صها‪� ،‬أنا �أرى الأم قوية متم�سكة‬
‫بجنينها‪».‬‬
‫هتف غا�ض ًبا‪« :‬هي لي�ست لديها ال�سلطة لتحدد �شي ًئا كهذا‪� ،‬س� ِ‬
‫أحمنك‬
‫ما تريدينه من املال‪».‬‬
‫هنا فقط �أخذت مالمح ملياء تتبدل كل ًّيا للجدية ال�شديدة وقالت‬
‫بح�سم‪�« :‬س�أراعي حالتك النف�سية وذعرك الوا�ضح للجاهل حتى‪ ،‬ك�أين‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫مل �أ�سمع عر�ضك امل�شني واملرفو�ض كل ًّيا �سيد عمر‪».‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫توجهت نحو الباب بخطوات حا�سمة‪ ،‬وقبل �أن تغادر التفت تخربه‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫«ال �أعلم ما م�شكلتك �أنت و�أخيك حتديدً ا مما عانيتُماه من �أحد �أبناء‬

‫ع‬
‫مهنتي‪ ،‬ولكن �أ ًّيا ما كان يف عقلك �أريد �أن �ألفت انتباهك �أن كل مهنة‬
‫بها الطالح وال�صالح‪ ،‬الأخيار والأ�شرار‪ ،‬ولكني م�ؤمنة مبقولة‪�« :‬إن دولة‬
‫الظلم �ساعة‪ ،‬ودولة احلق �إىل قيام ال�ساعة»‪ ،‬فالنفو�س الرديئة ال حمالة‬
‫�سي�أتي عليها يوم لتنتهي ونتخل�ص منهم‪».‬‬
‫ان�سحبت الدماء من وجه عمر ورغم عدم معرفتها مبعاناته ح ًّقا ولكن‬
‫أنت ال تفهمني‪،‬‬‫متاما فقال بتوتر‪ِ �« :‬‬
‫كلماتها الب�سيطة �أتت على اجلرح ً‬
‫فهذا الطفل خط�أ �ستدفع هي عواقبه وحدها ولن تتحمل‪».‬‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أن تقول بهدوء‪« :‬وهل تريد �إ�صالح اخلط�أ‬
‫�أخذت ملياء ً‬
‫بجرمية؟»‬
‫ردد بتخبط‪« :‬جرمية!»‬
‫قالت مبالحمها الب�شو�شة التي ُت ْد ِخل يف النف�س الراحة والطم�أنينة‪:‬‬

‫‪252‬‬
‫«بالطبع‪ ،‬هذه جرمية قتل مع �سبق الإ�صرار منك‪ ،‬وم�ؤكد �أنا لن‬
‫�أ�شارك يف قتل روح منحها اهلل لكم‪».‬‬
‫اهتزت مالحمه للحظة فقط قبل �أن يعود لت�صلبه وقال ب�صوت مكتوم‪:‬‬
‫«وجوده هو اجلرمية يف حقه‪».‬‬
‫اختفت ابت�سامتها قبل �أن تخرج من الغرفة وهي تقول‪�« :‬إذن ابحث‬
‫عن �شخ�ص �آخر معدوم ال�ضمري بعيدً ا عن هنا‪».‬‬
‫خرجت ملياء مغلق ًة الباب خلفها بقوة وك�أنها تعلن عن غ�ضبها املكتوم‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫قالت رابحة �أخ ًريا بي�أ�س ولكن بغري تنازل عن ر�أيها‪�« :‬أنا �س�أذهب من‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫هنا»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫قال ب�صوت بارد �أتى ِمن جبل جليد ُغ ِّل َف قلبه وعقله‪« :‬ال تعتقدي �أن ما‬
‫تفوه ْت به تلك املر�أة �سيغري ر�أيي يف �شيء‪ ،‬معدومو ال�ضمري ُك ُث و�س�أجد‬‫َ‬
‫�أحدهم بالت�أكيد‪».‬‬
‫تقابلت عيناهما لفرتة طويلة قبل �أن ت�ضم ِكال ك َّفيها على بطنها وقد‬
‫تال�شى كل �شيء من عقلها‪ ،‬اعرتافه باحلب‪ ،‬وعده �إياها بعدم جرحها‬
‫يوما‪ ،‬موافقتها له بعدم تركه‪ ،‬لقد هبطت رابحة �أخ ًريا من فوق ُ�سحب‬ ‫ً‬
‫ال�سعادة وانق�شعت غيماتها الوردية التي توهمتها معه‪ ،‬ثم ما لبثت �أن‬
‫قالت بروح قوية �صلبة‪�« :‬إذن �ستفعلها على جثتي يا عمر‪ ،‬لن �أ�سمح لك‬
‫باالقرتاب من طفلي �إال بقتلي � ًأول‪».‬‬
‫هتف من بني �أ�سنانه معل ًنا خماوفه بعد �أن فك عقالها �أخ ًريا‪ِ �« :‬‬
‫أنت‬
‫أنت‬
‫امر�أة غبية‪� ،‬أخربيني �أي م�ستقبل �ستمنحينه �إياه؟ هل تعلمني ما � ِ‬
‫أنك اخرت ِتني؟!»‬
‫عائلتك فيه فقط ل ِ‬
‫ِ‬ ‫أقحمت‬
‫�شخ�ص ًّيا مهددة به و� ِ‬
‫‪253‬‬
‫ازدردت ريقها ولكنها مل تتنازل عن قوتها‪� ،‬إذ علمت يف هذه اللحظة‬
‫�أنها حتتاج �إىل كل روح قوية مثابرة مدافعة كانت تتحلى بها قد ًميا‬
‫ملواجهته فقالت‪« :‬تزوجتك‪� ،‬أحببتك وتزوجتك‪ ،‬وافقت على �شروطك‬
‫حراما �أو ي�سيء يل‪� ،‬أما عن ذلك اخلطر‬ ‫لأقرتب منك‪ ،‬مل �أفعل �شي ًئا ً‬
‫الذي جتزم به فهو �أنانية منك؛ لأنك مل تكن على مقدار ت�ضحيتي تلك‬
‫التي ت َّدعيها‪».‬‬
‫ودفعتك بعيدً ا‪».‬‬
‫ِ‬ ‫قاومتك‬
‫ِ‬ ‫أجربك على �شيء‪� ،‬أنا‬
‫«مل � ِ‬

‫ع‬
‫ردت‪�« :‬إن كان هذا وقت العتاب دعني �أذكرك �أنك �أتيت من تلقاء‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫نف�سك ً‬

‫ت‬
‫علي انتمائي �إليك‪».‬‬
‫عار�ضا َّ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وافقت ومن �ضمنها �أنني‬
‫أنت ِ‬ ‫عليك و� ِ‬
‫هتف غا�ض ًبا‪« :‬وعر�ضت �شروطي ِ‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫عليك‪ ،‬ال للأطفال‪».‬‬ ‫�شددت ِ‬

‫ع‬
‫أمنحك‬
‫�صارخا‪« :‬لقد كنت � ِ‬ ‫ً‬ ‫ملتقطا �أنفا�سه قبل �أن يقول‬‫ً‬ ‫�صمت‬
‫ا�ستطعت غ�شي؟»‬
‫ِ‬ ‫غبائك‪ ،‬كيف‬ ‫ِ‬ ‫احلبوب كل ليلة بنف�سي‪ ،‬كنت �أعلم مدى‬
‫هزت كتفيها بربود ال ينبع �أبدً ا من ان�صهارها الداخلي و�أملها املخلوط‬
‫بالوجع‪« :‬هذا �سهل‪� ،‬إنها عملية ب�سيطة للغاية‪� ،‬أ�ضع احلبة حتت ل�ساين‬
‫ومبجرد التهائك �أنت يف رغباتك املحمومة �أقوم �أنا ب�إلقائها حتت ال�سرير‪،‬‬
‫باملنا�سبة �ستجد الكثري منها هناك‪� ،‬أنا مل �أنظفها‪».‬‬
‫اقرتب منها مم�س ًكا ع�ضديها بعنف �س َّبب لها الأمل و�أجابها ب�صوت‬
‫حاد ك�سكني يطعن كالهما دون رحمة‪« :‬بالطبع �أعرف تلك العملية‪ ،‬ولكن‬
‫لك كيف عرفتها �أنا‪ ،‬على ح�سب ذاكرتي و�أنا جمرد طفل‬ ‫دعيني �أ�شرح ِ‬
‫يف اخلام�سة‪� ،‬إنها عملية تخرج م�صحوبة برذاذ الب�شر امل�شمئزين من‬
‫مظهري املقرف �أو من �إحلاحي يف ال�شحادة كما كانت تدفعني تلك املر�أة‬
‫التي وجدتني وا�ستخدمتني يف الت�سول‪ ،‬بعدها وجدين �آخر وظللت يف تلك‬
‫‪254‬‬
‫املهنة بعينني �ضائعتني وج�سد هزيل ووجه مت�سخ ال ا�سم يل وال �أهل‪ ،‬ال‬
‫جدا لأين جربتها‬ ‫مكان يل حتى بني �أطفال ال�شوارع؛ لذلك نعم �أعرفها ًّ‬
‫من اجلميع دون ا�ستثناء حتى ا�شتد عودي وا�ستطعت �أخ ًريا �أن �أجد ظه ًرا‬
‫حام ًيا يل �أ�ستند �إليه‪ ،‬ولكن هذا مل مينعهم من معاقبتي ب�شيء �آخر �أكرث‬
‫ق�سوة‪».‬‬
‫َ�ش َح َب وجه رابحة حتى حت َّول للون �أبي�ض ي�شبه كفن الأموات فقالت‬
‫ب�ضعف‪« :‬ا�صمت»‪.‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫عاد ينظر لعينيها وهو يقول بقهر موجع‪َ ِ :‬‬

‫�أ�شاحت بعينيهاالالتي‬
‫ؤملك‬
‫«ول �أ�صمت؟ هل ت� ِ‬

‫ب بها الدموع تنظر لأي مكان عداه وهي‬ ‫كتترقرقت‬


‫ل‬ ‫ل‬
‫ابنك �سيولد حتى بدون ا�سم حقيقي �أمنحه �إياه‪».‬‬
‫احلقيقة؟! ِ‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫تزوجتنيربه‪� ،‬أنا وهو �سنكون �أكرث‬
‫والتوز عي‬
‫تقول بخفوت‪« :‬لديك ا�سم ذلك الذي‬
‫من ممتنني حلملنا �إياه‪».‬‬
‫قليل وقال ب�صوت مكتوم‪« :‬والنا�س عندما يكت�شفون‬ ‫هد�أت مالحمه ً‬
‫ابنك بال �أ�صل ويحمل عدة �أوراق ال تعني �شي ًئا للمجتمع هنا‪».‬‬
‫�أن ِ‬
‫متا�سكت وقالت بب�ساطة‪« :‬ولكنه لديه جن�سية ح�صل عليها والده بتعبه‬
‫و�سعيه‪ ،‬جن�سية منحتها لك دولة يحلم بها الكثري‪ ،‬و ُيدفع مقابلها الغايل‬
‫قبل الرخي�ص‪».‬‬
‫مت�سكها امل�ستميت بطفله برغم كل املخاوف التي يحاول �أن يقحمها يف‬
‫منعك�سا على �صفحة‬
‫ً‬ ‫عقلها قد جتلى ت�أثريه عني ًفا وم�ؤملًا داخل عقله وقلبه‬
‫نف�سك‪،‬‬
‫أنت تخدعني ِ‬ ‫وجهه‪ ،‬فقال مبحاولة �سجال يعلم �أنه عقيم معها‪ِ �« :‬‬
‫تفوهت به لي�س بهذه الب�ساطة‪».‬‬
‫ِ‬ ‫تعلمني �أن ما‬
‫‪255‬‬
‫عادت �إليه بعينيها وقالت بهدوء‪�« :‬أعرف ولكني لن �أكررها لك يا‬
‫عمر‪� ،‬أنا من حقي �أن �أكون �أ ًّما‪ ،‬و�س�أفعل �أي �شيء لأحافظ على ابني‪».‬‬
‫كابحا لرعدة ج�سده‬ ‫رفع يديه عن ع�ضديها و�أنزلهم جانبه بانهزام ً‬
‫الراف�ضة ملا تتف َّوه به ً‬
‫قائل‪« :‬حتى �إن كان ثمنه �أنا!»‬
‫َف َغ َرت َف َاها للحظة وعينيها تتو�سع بذعر م�صدومة غري م�ستوعبة‬
‫فقالت‪« :‬ماذا تعني؟!»‬
‫ا�ستحال وجهه لقطعة من احلجر‪ ،‬عيناه امللونتني كانتا �أ�شبه بربكتني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�ساكنتني بدون �أي �شعور ت�ستطيع �أن تتبينه وهو يقول‪« :‬كالمي وا�ضح‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫خريتك بيننا َمنْ �ستختارين؟»‬
‫ِ‬ ‫رابحة‪ ،‬لو‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لثوان وهي ترفع كفيها ت�ضم �أعلى ر�أ�سها بقوة‬
‫دارت رابحة حول نف�سها ٍ‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫متنع نف�سها من البكاء �أمامه بقوة‪ ،‬لقد �سلمت لعمر مبا يكفي وهي را�ضية‬
‫أمل قري ًبا يف حياة طبيعية معه‪ ،‬ولكن عند طفلها‬ ‫�ساكنة م�ستجدية منه � ً‬
‫يجب �أن حتاربه حتى ي�ستفيق من جنونه وما يحاول �أن يقتله بينهم وتعلم‬
‫جيدً ا �أنه �سيندم عليه الح ًقا‪� ،‬أح�ست بوجوده �أخ ًريا وراء ظهرها‪ ،‬ف�أدارت‬
‫ر�أ�سها لتنظر �إليه والتقت نظراتهم ب�صمت‪ ،‬لغة ج�سدها كانت تنبئه‬
‫�أنها اكتفت منه و�أنه على و�شك فقدها‪ ،‬ابتعدت عن مرمى حما�صرته‬
‫�إياها وك�أنها ترف�ض التعاطف معه ليرتك �أثره املعتاد عليها‪ ،‬نطقت �أخ ًريا‬
‫بثبات‪�« :‬أَ َب ْع َد كل ما بيننا تقف لتخريين هكذا‪ ،‬ملق ًيا بقلبي حتت قدميك‪،‬‬
‫�إذن �آ�سفه يا عمر �س�أختار قطعة منك‪� ،‬ستتم�سك بي ك�أين احلياة ولن‬
‫روحا �ستمنحني احلب دون �شروط مثلما فعلت‬ ‫يوما‪� ،‬س�أختار ً‬ ‫تهدد برتكي ً‬
‫�أنت معي‪».‬‬
‫بهت وجهه لدقائق مدر ًكا �أن كل ما تتفوه به احلقيقة املُ َّرة‪ ،‬هي قدمت‬
‫كل �شيء منذ معرفته بها‪ ،‬تنازلت دون �أن ت�شعره ب�شيء �أو حتى ت�شعر‬
‫‪256‬‬
‫هي بتنازالتها معه‪ ،‬ولكن ما الذي قدمه هو �إال ر�صيدً ا يف البنك مل متتد‬
‫وبع�ضا من الرتتيبات لت�أمينها يف حالة حدوث خط�أ ومل تتم‬ ‫يدها نحوه‪ً ،‬‬
‫�صفقتهم التي عقدوها! �أخ ًريا عندما مل ير َّد �أنزلت رابحة يديها وهي‬
‫تقول بهدوء‪« :‬لقد بقيت هنا وطاوعتك يف التحدث مع الطبيبة رغب ًة مني‬
‫علي بجنونك‪ ،‬رغبت يف معرفة‬ ‫�أن �أرى �إىل �أي حد قد تتطرف معي وجتور َّ‬
‫�إىل �أي حد قد ت�ضحي بي يا عمر!»‬
‫حتركت نحو الباب و�أخربته ب�صوت مكتوم‪« :‬متنيت بداخلي �أن تعود‬
‫من تلقاء نف�سك ال �أن تهددين بك‪� ،‬أنا �س�أغادر من هنا‪».‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫خرجت بدون تباط�ؤ‪ ،‬بينما وقف هو عاج ًزا �ضائ ًعا تائ ًها مت�أملًا ً‬
‫ويائ�سا‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫‪q q‬لن‪q‬‬
‫هل مكتوب عليهم ح ًّقا كما قال �سائد �أن يعي�شوا مظلومني وميوتوا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫مغدورين دون �أن يح�صلوا على �شيء واحد عادل حقيقي؟!‬

‫ع�أحد‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬‫ً‬


‫ت‬
‫�صارخا با�سم‬ ‫كانت عيناه تربقان ًّ‬
‫غل و�ش ًّرا وهو يدور حول نف�سه‬
‫من رجاله ممن ميلكون نف�س القذارة مثله‪« :‬ما الذي يعنيه هذا الغبي‬
‫عالء يهدمها فوق ر�ؤو�سنا ويهرب؟! ومن قبله غدر ح�سان بنا‪ ،‬ثم اقتحام‬
‫غرفة التخزين وتخريب كل ما حتتويه وبالنهاية ال �أحد منكم لديه تف�سري‪،‬‬
‫هل يعمل معي �أغبياء؟!»‬
‫ارتبكت �سمر ووجهها ميتقع خو ًفا بينما تفرك كفيها تعر ًقا �إثر التوتر‪،‬‬
‫�إن اكت�شف فهمي �أنها �شكت بعمر وتغا�ضت عنه ومل تخربه فلن يرحمها‬
‫بالت�أكيد‪ ،‬املاكر كان ُيع�شمها بحب وعالقة غرامية معه مبغازلته اجلريئة‬
‫التي تع�صف بكيان �أي امر�أة الع ًبا على كل �أوتارها احل�سا�سة‪ ،‬فقط‬
‫لت�سلمه ما يريده كما يبدو‪ ،‬هنا انتف�ضت بوجل وهي ت�سمع هدر فهمي‬
‫النجار ليخرجها من �أفكارها التي غرقت فيها عندما قال بع�صبية‪:‬‬
‫‪257‬‬
‫«هناك خمطط يجري ملحاولة الو�صول يل �أنا �شخ�ص ًّيا‪ ،‬ولن حتتاجوا‬
‫لأخربكم �أن �أحدهم ُز ِر َع بيننا‪».‬‬
‫نطق �أحد رجال فهمي يخربه بتوتر‪« :‬اهد�أ يا دكتور‪ ،‬وعدتك �سن�صل‬
‫�إليهم قري ًبا‪ ،‬و�سنخر�سهم �إىل الأبد طاملا �أنهم لي�سوا من ال�شرطة نحن‬
‫يف �أمان‪».‬‬
‫قائل‪« :‬ومن �أخربك �أنه‬ ‫التفت �إليه فهمي يجز على �أ�سنانه ً‬
‫غيظا‪ً ،‬‬
‫لي�س ب�أحدهم؟»‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أجابه رجله ببديهية‪« :‬نحن انتظرنا ما يقارب الأ�سبوع بعد �أن نظفنا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫الغرفة جيدً ا من �أي �أثر كان فيها بعد �أن دمر املت�سلل حمتوياتها‪ ،‬وبب�ساطة‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�إن كان �أحد رجال ال�شرطة ملاذا مل يهاجم حتى اللحظة واكتفى بخرابها‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫وح�صل على بع�ض املعلومات فقط؟!»‬

‫ع‬
‫�صمت فهمي لدقائق و�أنفا�سه تخرج كرباكني من نار يكاد ُي َجن بعد‬
‫�أن ربط كل ما يحدث بتتابع �سريع ليجعل �إمرباطوريته ال�سرية تنهار‪،‬‬
‫مهددة بك�شف �سوقه ال�سوداء‪ ،‬وم�ض بعقله ا�سم واحد فقط منذ ظهوره‬
‫وكل �شيء حوله �أ�صبح يو�شك على االنفجار‪« :‬عمر النا�صر و�شركاه»‪،‬‬
‫والذين مل يرهم �أبدً ا‪ ،‬بالطبع هو حري�ص مع من يتعامل معهم؛ لذا‬
‫عندما وجد �أحد الر�سائل الإلكرتونية الدعائية لأجهزة طبية من النوع‬
‫الذي ي�ستخدمه ب�أعماله ال�سرية بثمن يكاد يكون خيال ًّيا‪ ،‬وال�شركة تطالب‬
‫أي�ضا مبوزع ر�سمي يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬بحث جيدً ا عن موقعهم الإلكرتوين‬ ‫� ً‬
‫والذي وجد �أن كث ًريا من الأطباء ذوي الأ�سماء املهمة تتعامل معهم من‬
‫جميع �أنحاء العامل‪ ،‬فرا�سل �أحد امل�شايف املذكورة ب�شكل ع�شوائي ي�ستف�سر‬
‫عنهم ليطمئن قلبه‪ ،‬ف�أكد اجلميع �أنهم من �أف�ضل �شركات الأجهزة التي‬
‫طويل يف �سوق العمل‪ ،‬فقام‬‫تاريخا ً‬
‫يوما رغم �أنهم ال ميلكون ً‬ ‫تعاملوا معها ً‬
‫‪258‬‬
‫مبرا�سلتهم ب�إحلاح وقدم �أف�ضل العرو�ض وبعد مماطلة ظنها هو ممانعة‬
‫منهم وبحث عن جديته وتاريخه الطبي �أر�سلوا موافقتهم التي ا�شرتطت‬
‫�أن يكون �أحد مندوبيهم م�شر ًفا على ا�ستخدام تلك الأجهزة وكيفية �سري‬
‫العمل يف امل�شفى‪ ،‬على �أمل �أن ي�شارك معهم بن�سبة ما ت�ؤهله �أن يكون‬
‫مندوبهم الرئي�س هنا‪ ،‬هذا �سيكون غطا ًء جيدً ا لأعماله من جهة ومزيدً ا‬
‫من ك�سب الأموال من جهة �أخرى‪ ،‬نظر فهمي ل�سمر مبالمح متوعدة وقال‬
‫من بني �أ�سنانه‪�« :‬أريد حتركات عمر النا�صر بالتف�صيل‪ ،‬و�إن اكت�شفت‬
‫تالعبك مرة �أخرى يا �سمر �ستكو ِنني اجلانية على نف�سك‪».‬‬
‫ِ‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�سيطرت �سمر على ارجتافها مدركة �أنها لن ت�ستطيع ال�صمود �أمامه‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫�أكرث من هذا عندما قالت ب�صوت مذعور مل ت�سيطر على حروفه‪« :‬كان‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫متحججا مبطالعته‪ ،‬وكث ًريا ما‬
‫ً‬ ‫عمر النا�صر يتحرك بخفة يف �أرجاء املكان‬

‫والتوز عي‬
‫اختفى دون �أن �أعلم �أين بال�ضبط وك�أنه يبحث عن �شيء مفقود‪».‬‬
‫هم�س فهمي ب�صوت �أ�شبه بالفحيح‪�« :‬أريد �أن �أعرف كل �شيء عنه هو‬
‫و�شريكه الذي مل نقابله حتى اللحظة‪».‬‬
‫قال رجله بامتقاع يائ�س‪« :‬لقد حاولنا من قبل يا دكتور‪ ،‬وكل �سعينا‬
‫ينتهي عند نقطة فا�صلة لتدخل �أحد ما جمهول الهوية قاط ًعا الطريق‬
‫علينا‪ ،‬فلم ن�ستطع �أن ن�صل �أبعد من �أنهم مندوبون لتلك ال�شركة الأجنبية‬
‫ال �شيء عن خلفيتهم‪ ،‬ال �شيء عن �سريتهم الذاتية وال حتى حياتهم‬
‫الأ�سرية‪ ،‬وك�أنهم �أ�شباح يظهرون متى يريدون ويختفون دون �أثر واحد‬
‫عندما يرغبون‪».‬‬
‫نف�سا منها و�آخر قبل �أن‬
‫ا�ستدار فهمي ُي�شعل �سيجاره بهدوء و�أخذ ً‬
‫تلمع يف عينيه نظرة تق�شعر منها الأبدان ب�شيء مل ي�سبق لإن�سان �سوي‬
‫�أن يعرفه يف حياته حتى يف �أحلك �أوقاته‪ ،‬لقد كان االنحطاط التام‬

‫‪259‬‬
‫داه�سا بقدميه ومتنا�سيها‪،‬‬
‫واحل�ضي�ض عندما يرمي ال�شخ�ص �إن�سانيته ً‬
‫لقد و�صل �إىل القاع يف بئر ال يحتوي �إال على كائنات �أ�سطورية نه�ضت من‬
‫اجلحيم لتق�ضي على الفطرة ال�سوية والإن�سانية‪.‬‬
‫«ال �أهتم‪ ،‬م�ؤكد لديهم حياة زاخرة بنقاط ال�ضعف‪ ،‬ه�ؤالء مل يخططوا‬
‫لكل هذا من �أجل مال بل ل�شيء �أكرب بكثري مما نعتقد �أو ي�صل �إلينا‬
‫وا�ضحا؛ لذا �أريد �أن �أح�صل على �أرواحهم تلك يف �أقرب وقت‪ ،‬ويا ليت مع‬
‫ً‬
‫متاما‪».‬‬
‫ن�سائهم‪ ،‬فالأمر وقتها ي�صبح �أكرث متعة يف حتطيمهم ً‬

‫ع‬
‫‪q q q‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫ح َّدق �سائد يف �إبراهيم مبالمح �صلبة اعتاد عليها عندما نطق �إبراهيم‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫باقت�ضاب‪« :‬يبدو �أن فهمي النجار ك�شف اللعبة و�أننا من وراءه‪».‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ت�ص َّفح �سائد عدة �أوراق �أمامه وبع�ض الأقرا�ص املدجمة والتي حتتوي‬
‫متاما‪ ،‬ولكن م�ؤكد لي�س‬
‫على �آخر ورقة �سيالعب بها فهمي ليق�ضي عليه ً‬
‫قبل �أن يقطع جميع �أذياله‪ ،‬نطق �أخ ًريا بهدوء‪« :‬وما امل�شكلة يف هذا؟ هو‬
‫يبحث منذ اعتقاده �أن ال�شركة الأجنبية للأجهزة الطبيبة عقدت �صفقة‬
‫معه ومل ي�صل ل�شيء‪».‬‬
‫قال �إبراهيم بحزم وهو يجل�س على املقعد املقابل‪« :‬هذا �صحيح‪ ،‬و�أنا‬
‫ما زلت قاد ًرا على قتل �أي حماولة للو�صول �إليكم عند نقطة حمددة‪».‬‬
‫نف�سا عمي ًقا و�س�أله‪« :‬ما امل�شكلة �إذن؟»‬
‫�أخذ �سائد ً‬
‫رد �إبراهيم ب�صوت مكتوم‪« :‬لقد ك َّثف جهوده هذه املرة ويبدو �أنه‬
‫ُم ِ�صر �أن ي�صل �إىل �أي �شيء يخ�صكم متوج ًها �إىل �أماكن حكومية يف‬
‫البالد‪ ،‬وطاملا فعل هذا‪ً � ،‬إذا هو قد ‪»...‬‬
‫قاطعه �سائد بتجهم‪« :‬معناها �أنه ك�شف عمر �أخ ًريا!»‬
‫‪260‬‬
‫توتر �إبراهيم للحظة وقال‪« :‬وهذا �سيهدد كل ما فعلناه يف الفرتة‬
‫ال�سابقة‪� ،‬أن يتم اكت�شافنا �سري ًعا هكذا‪».‬‬
‫وقف �سائد من مكانه وتوجه �إىل نافذة املكتب يراقب ال�شارع الذي‬
‫يع ُّج بكل �أنواع الب�شر الغافلني الالهني يف لقمة العي�ش وم�صاعب احلياة‪،‬‬
‫غري مدركني للدمار الذي يجري من حولهم والبع�ض ي�ص ُّم �أذنه عنه‬
‫متب ًعا �سيا�سة «نف�سي � ًأول»‪ ،‬متنا�سني �أننا جمي ًعا يف �سفينة واحدة وحتى‬
‫القفز منها لن ينجينا من الغرق‪ ،‬نطق �أخ ًريا وقال بب�ساطة‪« :‬بالعك�س‬
‫متاما يا �إبراهيم‪ ،‬هذا ما �أ�سعى �إليه حتديدً ا‪ ،‬وكنت �أتو َّقع �أن ُن ْك َ�ش َف عند‬‫ً‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫هذه النقطة‪ ،‬عدونا لي�س غب ًّيا و�إال كان ُك ِ�ش َف منذ زمن‪».‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫ً‬

‫ن‬
‫حماول �أن يفهم‪« :‬هل‬ ‫ه َّز �إبراهيم ر�أ�سه بحرية وقال عاقدً ا حاجبيه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ق�صدت �أن متنحه فر�صة لي�أخذ احتياطاته‪ ،‬ورمبا يتفوق عليك بنقطة؟»‬
‫وا�ضحا يف‬
‫ً‬ ‫مل يلتفت �إليه �سائد عندما قال‪« :‬ما هو ال�شيء الذي لي�س‬
‫كالمي؟ ظننتك رجل �أمن حم َّنك تفهم خطتي التي �أتبعها ً‬
‫متاما‪».‬‬
‫قال �إبراهيم بدون تفكري‪« :‬العذر منك‪ ،‬رجل �أمن قلتها بنف�سك‪� ،‬أي‬
‫وظيفتي ك�شف املجرمني ال التفكري بعقولهم الإجرامية‪».‬‬
‫�أرجع �سائد ر�أ�سه �إىل الوراء �ضاح ًكا بقوة‪� ،‬ضحكة خرجت متح�شرجة‬
‫وك�أنه يبحث عن �أي �شيء يخفف عنه ذلك الأمل الذي ميزقه لأ�شالء‬
‫�صغرية منثورة منذ �أيام منذ فقدانه طفله الثاين‪َ ،‬منْ زرع احلنظل يجب‬
‫�أن يح�صده م ًّرا‪.‬‬
‫وهو ذاق �أكرث مما يجب‪ ،‬حاول �إبراهيم ادعاء �أنه ال يفهم حقيقة‬
‫الأمل الذي ميزقه مكتف ًيا بحدود العالقة التي ُر ِ�س َمت بينهما‪ ،‬فقال‬
‫م�صنوعا‬
‫ً‬ ‫مبحاولة واهية للمزاح‪�« :‬أنت ت�ضحك مثلنا يا رجل‪ ،‬لقد ظننتك‬
‫من �صخور اجلبل!»‬
‫‪261‬‬
‫�صمت فج�أة كما بد�أ يف �ضحكته املبتورة وقال‪« :‬تخيل �أنك ر�أيت تلك‬
‫املعجزة �أخ ًريا‪».‬‬
‫عاد من جديد لوجهه ال�صلب امل�صر على هدفه عندما قال بجدية‬
‫حازمة‪« :‬ال تقلق‪ ،‬مل مينحني حماد اللقب منذ طفولتي عب ًثا‪ ،‬فهمي على‬
‫و�شك احل�صول على �إلهاء �أكرث من منا�سب وبيديه هو �ستتم خطوتي‬
‫القادمة‪».‬‬
‫ا�ستف�سر �إبراهيم‪« :‬ح�س ًنا‪ ،‬وما هي تلك اخلطوة؟ ومتى تنفيذها؟»‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫رد �سائد بجمود‪« :‬الليلة ج ِّهز نف�سك ل ُنذيق فهمي من نف�س ك�أ�سه‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫قال بتوج�س‪« :‬ما الذي تق�صده حتديدً ا؟ هل تنتوي �أن تفعل ما فعله‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫بك وبنف�س الطريقة؟ لهذا جعلتني �أجمع املعلومات عن �أوالده؟»‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫مل ي ُر َّد �سائد ب�شيء‪ ،‬بل عاد ينظر �إىل ال�شارع وعينيه توم�ضان بربيق‬
‫خميف‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال‪�« :‬صفقتي معك �أنت و�صديقك كانت وا�ضحة‪،‬‬
‫تدخل يف كيفية تنفيذ الأمر؛ لذا بب�ساطة �إن مل تفعلها �أنت‬ ‫ال �أ�سئلة وال ُّ‬
‫الليلة دعني �أقوم بها بنف�سي‪».‬‬
‫فرك �إبراهيم وجهه بع�صبية مفرطة‪ ،‬ثم قال بانفعال‪« :‬مل نتفق على‬
‫دم بريء‪».‬‬
‫قال �سائد بابت�سامة ميتة‪« :‬كلهم �أبرياء يا �إبراهيم‪ ،‬فلماذا ت�أخذون‬
‫�أنتم هذه ال�صفة فقط بينما نحن ‪...‬؟!»‬
‫«لي�س ذنب اجلميع ما يفعله البع�ض يا �سائد‪».‬‬
‫قال �سائد بوجه ا�ستحال للحجر‪�« :‬إذن دعنا نعلمه بالطريقة ال�سليمة‬
‫أي�ضا ُح ِر َقت قلوبهم على �أبناء‬
‫�أن �أبناء ال�شارع واملخطوفني لديهم �أهايل � ً‬
‫قام بتقطيعهم فهمي مب�شرطه‪».‬‬
‫‪262‬‬
‫�ضغط �إبراهيم بيده علي يده الأخرى بغ�ضب مكتوم وهو يقول‪�« :‬أنا ال‬
‫�أ�صدق �أنك قادر على فعلها‪».‬‬
‫مال جانب فمه بتهكم وقال‪« :‬ن ِّفذ الليلة فقط كما �أخربتك‪ ،‬املهم �أن‬
‫تكون الفتاة يف قب�ضتك قبل غريك‪».‬‬
‫عاد �إبراهيم لتوج�سه و�س�أله بت�شكك‪« :‬ماذا تعني بغريي؟!»‬
‫قال �سائد باقت�ضاب‪« :‬حماد �سي�ستعمل الفتاة كورقة لل�ضغط على‬
‫فهمي منتق ًما منه فيها‪».‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قال �إبراهيم بغ�ضب‪« :‬املجرمني!»‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫متاما‪� ،‬أنا من �أدخلت‬
‫حترك �سائد من �أمام النافذة وقال بربود‪« :‬لي�س ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫الفكرة يف ر�أ�سه من الأ�صل‪».‬‬
‫قال �إبراهيم بي�أ�س‪�« :‬أنا ال �أفهمك‪».‬‬
‫ه َّز ر�أ�سه بتف ُّهم دون �أن ينطق بكلمة �أخرى يف الأمر‪ ،‬ثم التفت بر�أ�سه‬
‫قبل �أن يخرج ليخربه ب�إ�صرار‪« :‬عمر توقف عن الذهاب �إىل م�شفى فهمي‬
‫متاما‪� ،‬إبراهيم لن �أخربك مرة �أخرى عمر‬ ‫منذ �أيام‪ ،‬وجعلته يختفي ً‬
‫�أفديه بحياتي فهو �آخر ما تبقى يل‪ ،‬و�أنا ل�ست على ا�ستعداد خل�سارته‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫كان �سائد يراقب خطط حماد املعتادة دون �أن ينطق بحرف واحد‪،‬‬
‫توح�ش حماد ف�أ�صبح ككلب م�سعور ينه�ش كل َمنْ حوله يف حماولة‬ ‫لقد َّ‬
‫م�ستميتة لتعوي�ض ماله ومكانه الذي ذهب مع الريح‪ ،‬وهو ي�ستغل الأمر‬
‫متاما‪ ،‬مينحه املال ويو�سو�س له ببع�ض احليل‬
‫على �أكمل وجه كما خطط ً‬
‫يتالعب به ويوهمه الغرور املنا�سب ليعتقد �أنه هو ِّ‬
‫املخطط لكل �شيء وهو‬

‫‪263‬‬
‫وجه حماد احلديث له عندما قال بغ�ضب‪:‬‬ ‫جمرد بيدق على طاولته‪َّ ،‬‬
‫«حاول فهمي �إقناعي �أكرث من مرة ب�أنه لي�س له عالقة مبا فعله عالء‪».‬‬
‫�أ�سند �سائد قدمه على احلائط وا�ض ًعا يده يف جيبي بنطاله الب�سيط‪،‬‬
‫قائل بجمود‪:‬‬ ‫مرتد ًيا مالب�س كئيبة لتمنحه مظه ًرا �أكرث من �إجرامي‪ً ،‬‬
‫متاما‪ ،‬بالت�أكيد لن يخربنا �أنه حاول الق�ضاء علينا يا‬ ‫«هذا متو َّقع منه ً‬
‫معلم‪».‬‬
‫برقت عينا حماد اخلبيثتني ف�أ�صبحت ت�شبه عينا ثعبان ُكربى يطيح‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫يف الب�شر بلدغاته ال�سامة‪ ،‬ثم قال‪�« :‬أعرف هذا‪ ،‬لو خطط عالء من نف�سه‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫كيف علم فهمي من الأ�سا�س �أنه الفاعل؟»‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�صمت قبل �أن ي�ضيف بتهكم وهو ينظر للربميل الذي ُق ِ�ض َي على عالء‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫خلا حلمه عن عظامه‪�« :‬أنا �أعرف عالء جيدً ا �إن�سان طامع ال يهمه‬ ‫فيه �سا ً‬
‫�إال املال ويخاف حتى من خياله‪ ،‬ولن ي�ستطيع �أن يتجر�أ ويقتلني �إال �إذا‬
‫�أخذ �أوامره من �سيده‪».‬‬
‫�أوم�أ �سائد بر�أ�سه مطي ًعا م�صد ًقا على كالمه‪ ،‬ف�أكمل حماد ب�شرر‬
‫متطاير‪« :‬ح�س ًنا‪ ،‬هذا ال يهم‪ ،‬كلها �ساعات وت�صبح ابنته حتت يدي‬
‫و�س�أذيقها من املرار جرعات ولن �أرحمه‪ ،‬و�س�أحرمه من ر�ؤية كل ما‬
‫يحدث بنف�سه عرب رجايل‪».‬‬
‫نف�سا عمي ًقا حمر ًكا �أنفه ميي ًنا وي�سا ًرا‪ ،‬ف�أ�صبحت مالحمه‬
‫�أخذ �سائد ً‬
‫�أكرث خطورة وق�سوة عندما قال ب�شرر مماثل‪« :‬ال‪ ،‬الطفلة يل‪ ،‬و�أبوها‬
‫وانتقامك لك‪».‬‬
‫فار الدم يف عروقه وقال بانفعال‪« :‬ما الذي يعنيه هذا؟ هل تخرج عن‬
‫طوعي وتتحداين؟»‬
‫‪264‬‬
‫�ألقى �سائد نظرة �سريعة نحو رجال حماد املتحفزين مبالحمهم‬
‫اخلطرة‪ ،‬والتي ال تعك�س �إال �أنهم كما يقولون‪�« :‬شمامني منتهكني»‪ ،‬ولن‬
‫يتورعوا يف اغت�صاب الفتاة‪ ،‬هذا �إن مل يفعلها حماد بنف�سه كانتقام من‬
‫فهمي‪ ،‬مل تتحرك منه �شعرة واحدة وهو يقول بنف�س ال�صوت املتحدي‪:‬‬
‫«�أنا طوع يدي معلمي بكل �شيء �إال هذه يا حماد هنا �سينتهي تعاملنا م ًعا‪».‬‬
‫قليل عن غ�ضبه‪ ،‬مدر ًكا �أن �سائد ح�صانه الرابح الأخري‬ ‫تراجع حماد ً‬
‫وهو غري م�ستعد بع ُد خل�سارته‪ ،‬فقال بنفاد �صرب‪« :‬ملاذا؟ هل تريد �أن‬
‫تفعلها بالفتاة بنف�سك؟»‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�سيطر �سائد على مالحمه وانفعاله ب�صعوبة ي�ستحق عليها جائزة يف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�ضبط االنفعال‪ ،‬بينما داخله يكاد �أن ينفجر �سا ًّبا �إياه ب�أب�شع الألفاظ‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫«القذر‪� ،‬أال ميلكون تفك ًريا �آخر غري هذه القاذورات؟!»‬
‫نطق �أخ ًريا ب�صوت مكتوم‪« :‬ال يهم ما م�صريها معي طاملا �سرتبح �أنت‬
‫ورقة‪ ،‬جتعل فهمي بني يديك كال�صل�صال ت�شكله كما تهوى‪».‬‬
‫�ش َّوح حماد بيده وقال‪« :‬ح�س ًنا‪ ،‬ال يهم الآن ما م�صريها‪� ،‬سنفكر يف‬
‫الأمر الح ًقا طاملا �ستبيت ليلتها يف �ضيافتي‪».‬‬
‫حرك �سائد ر�أ�سه ميي ًنا وي�سا ًرا بنفي‪ ،‬وقال بهدوء م�سيطر‪« :‬ال �أعتقد‬
‫هذا � ً‬
‫أي�ضا يا معلمي‪».‬‬
‫هتف حماد فيه بنزق حمذ ًرا‪« :‬هل هو يوم �ألغازك واعرتا�ضك؟ احذر‬
‫يا �سائد وال تخرج عفاريتي‪».‬‬
‫تكورت قب�ضتاه �إىل جانبه وهو يكافح رغبة �أليمة ب�ضربه و�ضربه حتى‬
‫يهده التعب‪ ،‬رمبا يخرج فيه وجعه املكتوم‪ ،‬متكن ب�صعوبة �أن يجيبه بنربة‬
‫مكتومة‪�« :‬أعني �أن الفتاة �ست�ؤخذ من بني يدي فهمي‪ ،‬هذا ال جدال فيه‬
‫ولكنها �ستبقى معي �أنا‪».‬‬
‫‪265‬‬
‫جز حماد على �أ�سنانه بلونها الأ�صفر الب�شع وقال‪« :‬ملاذا؟ لقد وعدتك‬
‫�أن �شرطك �سيكون ً‬
‫نافذا‪».‬‬
‫رفع �سائد ر�أ�سه للأعلى حمد ًقا يف ال�سقف املهرتئ‪ ،‬بينما طيف الأمل‬
‫يلون نظراته‪ ،‬يقول بهدوء ال يعرب عن جحيمه‪« :‬كما وعدتني بحماية طفلي‬
‫وامر�أتي‪ ،‬و�أنا كلي ثقة بكم‪ ،‬و�أنظر الآن للنتيجة‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫قد ًميا كانت خملفات الب�شر وجمرموه ترتدي الأثمال القذرة مثلهم‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫في�صرخ فينا مظهرهم بوجوب احليطة واحلذر‪ ،‬م�ؤمل �أن ن�صبح يف غابة‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫نعي�ش م�أ�ساة مرعبة بفقد فلذات �أكبادنا وقد �أ�صبح الآن حثالة الب�شر‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ترتدي �أفخم املالب�س متخفية خلف وجه الود الزائف‪ ،‬منتهج ًة �سحر‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫وبراءة احلمالن‪.‬‬
‫مل يحتج الأمر من �إبراهيم �إال امر�أة �أنيقة امللب�س جميلة املظهر ولبقة‬
‫الكالم وبني يديها �سيارة من �أفخم املركات‪ ،‬اقرتبت بلطف من الفتاة‬
‫ووالدتها‪� ،‬أمام باب النادي الذي علم �إبراهيم من خالل مراقبتهم �إياهما‬
‫�أنهما يذهبان �إليه يوم ًّيا لتدريب الفتاة‪ ،‬بهدوء ا�ستغلت املر�أة ان�شغال الأم‬
‫يف البحث عن مفتاح �سيارتها‪ ،‬وهي تقول‪« :‬هل حتتاجني لأي م�ساعدة‬
‫عزيزتي؟»‬
‫ردت زوجة فهمي بحرية‪« :‬مفاتيحي كانت هنا‪� ،‬أنا و�ضعتها بنف�سي‬
‫داخل احلقيبة‪».‬‬
‫ابت�سمت ال�سيدة بلطف وقالت بهدوء و�سكينة وهي تر ِّبت على ر�أ�س‬
‫الفتاة التي تتثاءب بتعب‪« :‬رمبا ن�سي ِتها يف الداخل‪ ،‬لقد �أخذنا الكالم‬
‫كث ًريا اليوم‪».‬‬

‫‪266‬‬
‫تنهدت بتعب وهي تقول‪�« :‬أعتقد هذا‪ ،‬ح�س ًنا �س�أعود لأبحث عنها‬
‫بالداخل‪».‬‬
‫أنتظرك هنا‪،‬‬
‫ِ‬ ‫معك ماما �س�‬
‫متلملت �أ�سماء بنزق وهي تقول‪« :‬لن �أعود ِ‬
‫�أنا لن �أ�ستطيع �أن �أقطع كل تلك امل�سافة عائدة‪».‬‬
‫تبدلت مالمح والدتها ب�صرامة وهي تخربها‪« :‬ت�أخر الوقت يا �أ�سماء‪،‬‬
‫أتركك هنا‪».‬‬
‫ب�ضع خطوات لن تتعب‪� ،‬أنا لن � ِ‬
‫هزت �أ�سماء ر�أ�سها برف�ض قاطع‪« :‬فتدخلت املر�أة ذات املالمح العذبة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قائل ًة وهي مت�سد على �شعر الفتاة برفق �أمومي ي�سحر �أ ًّيا كان‪« :‬اتركيها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫أنت �سري ًعا‪».‬‬
‫معي واذهبي � ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫انقب�ض قلبها للفكرة لربهة واحدة ثم عادت للطم�أنينة التدريجية‬

‫والتوز عي‬
‫وهي تتذكر املر�أة التي تعرفت عليها منذ �أ�سبوعني م�ضوا‪� ،‬سيدة لطيفة‬
‫من نف�س طبقتهم االجتماعية املخملية برقي وا�ضح وود كبري‪ ،‬فقالت‬
‫أعطلك»‪.‬‬
‫ببع�ض اخلجل‪« :‬ولكن رمبا � ِ‬
‫هزت ر�أ�سها نافي ًة بلطف وقالت بخفوت‪« :‬لي�س بيبنا هذا الكالم‪،‬‬
‫الأ�صدقاء لبع�ضها �ألي�س كذلك؟ هيا �أ�سرعي وال ت�ضيعي الوقت‪».‬‬
‫دقيقة واحدة واختفت زوجة فهمي داخل النادي وخالل برهة كانت‬
‫متاما ب�صحبة املر�أة اللطيفة الودودة �إىل الأبد‪.‬‬
‫�أ�سماء قد اختفت ً‬
‫‪q q q‬‬
‫�أرجع عمر ر�أ�سه للوراء بتعب وهو يغلق حا�سبه‪ ،‬مدر ًكا �أنه ا�ستغرق‬
‫الكثري من الوقت على عمل ما كلفه به �سائد ومراقبة موقعه الإلكرتوين‬
‫الذي �أن�ش�أه منذ عامني م�ضيا للإيقاع بفهمي متعمدين بذكاء وخطة‬
‫مدرو�سة �إن�شاء الكثري من املواقع الوهمية لأعظم الأطباء حول العامل‬
‫‪267‬‬
‫ً‬
‫و�سهل‬ ‫ً‬
‫ب�سيطا‬ ‫ليطمئن فهمي �إليهم‪ ،‬اخلداع الإلكرتوين ي�صبح �أم ًرا‬
‫عندما تتعامل مع �أحد عمالقة الغرف احلمراء الإلكرتونية‪ ،‬وتقدي ًرا لأنه‬
‫واحد منهم مل يحاول �أحدهم نق�ض االتفاق معه‪ ،‬رمبا خ�سروا الكثري من‬
‫املال ولكن �أمام ما ي�سعيا �إليه كل مال العامل ي�صبح ال �شيء‪ ،‬فهمي �أ�صبح‬
‫خط ًرا ويتعامل ببحث جنوين يحاول �أن يقتحم موقعهم كما فهم‪ ،‬ولكن ال‬
‫م�شكلة هو له باملر�صاد‪.‬‬
‫�صوت ال�ضجيج الذي �أتى من خارج الغرفة ن َّبهه وجعل كل حوا�سه‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كم الأمل الذي يعانيه من جفاء امر�أته‪ ،‬لقد عاد‬ ‫ت�ستفيق بت�صلب‪ ،‬متذك ًرا َّ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�إىل منزله ليلة جدالهم الأخري َّ‬
‫حمطم الروح خائ ًفا مذعو ًرا من �أمر مل‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يح�سب ح�سابه‪ ،‬معتقدً ا �أنها ذهبت ل�صفية حتتمي فيها كما كانت تفعل‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫خالل الفرتة املا�ضية‪ ،‬ولكنه ُ�ص ِد َم بوجودها‪ ،‬وهي تخربه ب�صرامة �أنها‬

‫ع‬
‫يوما‪ ،‬م�ؤكدة ومردِّدة للمرة التي مل يعد يدركها �أنها‬
‫مل تهرب من م�شاكلها ً‬
‫�أكرث من قادرة على املواجهة وعدم اخل�ضوع ملطالبه‪ ،‬وهو مل يجادل معها‪،‬‬
‫اكتفى ب�إغالق باب منزلهم على كليهما‪ ،‬متاب ًعا عمله من خلف احلا�سوب‪،‬‬
‫ملتزما ب�أمر �سائد ال�صارم باختفائه‪ ،‬من اجليد �أن هذه ال�شقة يف منطقة‬
‫ً‬
‫بعيدة وعادية رغم رقيها فال تلفت نظر �أحد �إليها‪ ،‬كما كانا من الذكاء‬
‫�أال ي�سجل �أحدهما �أي �شيء با�سمه �إال مقر ال�شركة‪.‬‬
‫حترك عمر نحو املطبخ‪ ،‬ووجدها تعمل ب�آلية‪ُ ،‬ت�ضر الطعام وتقوم‬
‫بكل �شئونه ب�صمت‪ ،‬ثم تعتكف بعيدً ا عنه يف غرفة خا�صة‪.‬‬
‫«الع�شاء جاهز»‪ ،‬قالتها رابحة ب�أ َن َفة عجيبة جعلت ابت�سامة حزينة‬
‫ت�سكن قلبه‪ ،‬تقدم يجل�س على الطاولة وهو يقول بهدوء‪« :‬املر�أة املطيعة‬
‫بهذا ال�شكل ال تهجر زوجها يف الفرا�ش‪».‬‬

‫‪268‬‬
‫«ومنْ �أخربك �أين مطيعة‪� ،‬أنا خمادعة‬ ‫مطت �شفتيها وقالت بربود‪َ :‬‬ ‫َّ‬
‫كاذبة كما ذكرت‪».‬‬
‫راقبها وهي ت�ضع بع�ض الأطباق �أمامه‪ ،‬ثم جل�ست على املقعد املقابل‬
‫بهدوء بينما هو يحرتق يف تنازعه‪ ،‬ميوت �ألف مرة ملجرد �أنها حتمل قطعة‬
‫منه معر�ضة خلطر انتقام الأفاعي الذي يلعب معهم بالنار‪ ،‬يكاد ميوت‬
‫«ل ال‬‫ُرع ًبا كل دقيقة عند تخيله �إياها وطفله بني يدي من ال يرحم‪َ ِ :‬‬
‫تفهميني؟»‬

‫ع‬
‫�أغم�ضت عينيها لربهة وقالت بتح�شرج َمنْ تو�شك على بكاء قد كتمته‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫«ول ال تفهمني �أنت؟! كما قلت‬‫يف �صدرها حتى �أ�صبح عذابها ال ُيحتمل‪َ ِ :‬‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�ساب ًقا �أنا مهددة باخلطر على كل حال‪ ،‬فما الفارق بوجود الطفل �أو‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫عدمه؟!»‬
‫قال �سري ًعا‪« :‬وهل هذا مربر لأزيد من خلفي ال�ضحايا و�أترك جز ًءا‬
‫مني يعاين دون �أن �أكون قاد ًرا على م�ساعدته ُرغ ًما عني؟»‬
‫كورت قب�ضتها وخبطت على املائدة بقوة �صارخ ًة فيه‪« :‬هل تعني �أن كل‬
‫م�شكلتك �أال تعاين قطعتك تلك؟ وماذا عني �سيد عمر؟»‬
‫«تعلمني جيدً ا �أين �أحببتك‪ ،‬و�أين �أفعل امل�ستحيل حتى ال تتعذبني من‬
‫بعدي‪».‬‬
‫قالت مبنطقية‪« :‬ا�سمع يا عمر‪� ،‬أنت مل تلتقيني يف �أحد الأماكن‬
‫الفخمة‪ ،‬بل �أتيت �إليك �أطالب بقوة بحقي يف وظيفة جيدة‪ ،‬اخلوف مل‬
‫يبال حتى بفتاة‬
‫يعرف طريقه يل �أبدً ا‪ ،‬حاربت النا�س واملجتمع الذي مل ِ‬
‫تكافح للقمة العي�ش‪ ،‬تعمل لت�س َّد حاجة �أمها املري�ضة و�أخيها املراهق‪،‬‬
‫يوما يد م�ساعدة �أو‬
‫كنت الرجل واملر�أة منذ وفاة �أبي ومل يقدِّ م يل �أحد ً‬
‫يوما �أو �أن�صاع لأمره‪ ،‬ولكن معك‬
‫ي�شفق على ظرويف‪ ،‬ومل يهزمني �أحدهم ً‬
‫‪269‬‬
‫اتبعت قلبي؛ لأين �أحببتك ب�صدق‪ ،‬ر�أيت فيك احلياة‪� ،‬صممت �أن �آخذ‬
‫حقي منك و�أنت�شلك من �ضياعك وجنونك و�سوداوية �أفكارك‪ ،‬وت�أتي بعد‬
‫كل هذا تريد �سرقة الأمل الذي ي�سكن �أح�شائي‪� ،‬أنت واهم يا عمر �إن‬
‫اعتقدت �أين �س�أُ ْهزَ م ب�سهولة‪».‬‬
‫كان وجهه �صل ًبا �أ�شبه بلوح من الرخام وهي تناظره بقوة‪ ،‬عك�س‬
‫عينيها اجلميلتني الدافئتني والتي كانت تنا�شده رغ ًما عنها االحتواء‬
‫والتفهم والأمل‪ ،‬رغم حتديها الذي نطقته للتو‪� ،‬أخف�ض ر�أ�سه يخفي عنها‬

‫ع‬
‫�أمله ُ‬

‫ص‬
‫وذعره‪ ،‬يحجب ما عاناه من وجع وقلق و�شعور بالفقد بعد �أن تركته‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫روحا جديدة تل َّب�ستها روح �شر�سة‬
‫واختفت غا�ضبة ومهددة برتكه‪ ،‬وك�أن ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫حماربة تنف�ض عنها وهن ع�شقه‪ ،‬فبادرته قائلة ب�إ�صرار‪« :‬ما هو يل يبقى‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫دائ ًما يل �أدافع عنه بكل ما �أملك‪� ،‬أ�ضحي بكل �شيء مقابل �سالمته‪».‬‬

‫ع‬
‫مل يرفع وجهه عندما هم�س دون �أن يفكر مرددًا‪« :‬حتى �إن كنت �أنا‬
‫املقابل!»‬
‫اهتزت يديها بالتتابع مع نب�ضات قلبها التي ت�صارعت بوجل ف�أغلقت‬
‫جفنيها بقوة للحظات لتن�ساب منهما دموع غزيرة �أخ ًريا عندما قالت‬
‫علي بتكرار �س�ؤالك مرة‬
‫بتهدج‪« :‬نعم‪� ،‬أخربتك �أمام الطبيبة فال ت�ضغط َّ‬
‫�أخرى؛ لأنك مهما فعلت لن �أقتل قطعة منك يا عمر‪».‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات �أخرى‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال ب�صوت عميق‬
‫وح�صلت‬
‫ِ‬ ‫أنت خدع ِتني‬‫منك‪ِ � ،‬‬
‫و�أنفا�سه تعاود االهتزاز‪« :‬هذا غري من�صف ِ‬
‫عليه باحليلة‪».‬‬
‫منحتك م�شرو ًبا �أ�صفر وقمت‬
‫ِ‬ ‫تهكمت قائل ًة‪« :‬هذا على �أ�سا�س �أين‬
‫إرادتك‪».‬‬
‫باغت�صابك‪� ،‬أذكر �أن كل ما حدث كان ب� ِ‬
‫ِ‬
‫‪270‬‬
‫ُّ‬
‫وينق�ض على‬ ‫كان على كلماتها �أن جتعله ُي َجنُّ مرة �أخرى وجتعله يهذي‬
‫ما حوله مثلما فعل معها من قبل‪� ،‬إال �أن �صوتها املت�أمل ومظهرها ال�ضعيف‬
‫رغم القوة التي �سكنتها من جديد جعلته يبت�سم وهو يرفع وجهه �أخ ًريا‬
‫�سذاجتك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بك وا�ستغللت‬ ‫يت�أملها وقال بهدوء‪« :‬ال‪ ،‬رمبا �أنا َمنْ غررت ِ‬
‫أنك من�صفة معه؟ �إن فقدتني ماذا قد تخربينه؟»‬ ‫ولكن هل ت�شعرين � ِ‬
‫مل تفتح عينيها لتواجهه‪ ،‬مل ت�ستطع �أن ترى مالحمه امل�صرة على‬
‫م�صريه وك�أنها داخل �أعماقها‪ ،‬اكتفت من ت�أكيده على فقده‪ ،‬نطقت �أخ ًريا‬
‫بب�ساطة متهدجة‪�« :‬س�أخربه وقتها �أنك مل تكن �أنان ًّيا مبا يكفي جلعلي‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أح�صل عليه‪� ،‬س�أزرع يف عقله �أن والده رغم كل خماوفه املري�ضة امتلك‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫من ال�شجاعة ما يكفي ليمنحني قطعة منه �أعي�ش على ذكراه و�أت�شمم‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫رائحته فيها‪».‬‬

‫والتوز عي‬
‫قال ب�صوت مكتوم وهو ي�شيح بوجهه عنها ك�أنه يقاوم النظر �إليها‪،‬‬
‫أنت تطلبني ما يفوق حتملي‪».‬‬ ‫في�ضعف قلبه نحوها كعادته‪ِ �« :‬‬
‫جاوبته دون تفكري‪« :‬و�أنت تطالب بنزع حت ُّملي نف�سه‪ ،‬ك�أنك متد يدك‬
‫وتخلع قلبي من مكانه وترميه يف الأر�ض لتدع�سه بحذائك‪».‬‬
‫أنت ُم�صرة على‬ ‫قال بخ�شونة معاندة رغم انهيار كل ح�صونه‪ً �« :‬إذا � ِ‬
‫جنونك‪َ ،‬ت َع َّقلي يا رابحة واجعلينا نتخل�ص منه هذا مل�صلحتكما م ًعا‪».‬‬ ‫ِ‬
‫قالت �سري ًعا مكررة ب�صوت قاطع باتر كحد ال�سيف‪« :‬بخروج روحي‪،‬‬
‫�س�أقتل قطعة منك‪».‬‬
‫ه َّز ر�أ�سه برف�ض م�ستدر ًكا عواقب زلة روحه‪ ،‬حمار ًبا نب�ضات قلبه‬
‫الثائرة‪ ،‬يجاهد � َّأل يتوجه �إليها ي�ضمها بني ذراعيه معتذ ًرا ومطمئ ًنا‪،‬‬
‫فا�ستطردت هي بوجع‪« :‬ال تكن �أنان ًّيا معي للنهاية‪� ،‬أريد هذا الأمل الذي‬
‫ينمو بني �أح�شائي‪� ،‬أريد �أن �أكون �أ ًّما‪ ،‬هذا حقي‪».‬‬
‫‪271‬‬
‫حلظات طويلة‪ ،‬مل يتكلم � ٌّأي منهما فقط اكتفيا بنظراتهما التي تالقت‬
‫بعتاب وتو�سل وحتدٍّ ُم�صر‪ ،‬انهارت �آخر ح�صونه عندما �أطلقت �شهقة‬
‫قهر وهي تكرر قولها ب�إ�صرار‪�« :‬إن كنت ُت�صر على املغادرة والت�ضحية‬
‫بحبي لك‪� ،‬إذن اترك يل جز ًءا �أت�شمم فيه عطرك‪ ،‬جز ًءا �أ�ضمه لأتذكر‬
‫ع�شقك‪� ،‬أنت غري عادل يا ثعلب‪».‬‬
‫اف َّرت فمه عن �شبه ابت�سامة حزينة قبل �أن يقف من مقعده متوج ًها‬
‫�إليها يزيح مقعدها بعيدً ا عن املائدة لتواجهه‪ ،‬ومال نحوها‪ ،‬اتك�أ بكفيه‬

‫ع‬
‫يخربوك �أبدً ا عن غدر‬
‫ِ‬ ‫على جانبيها حماوطها وقال ب�صوت خفي�ض‪« :‬مل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الثعالب‪ ،‬عن خداعهم وحياكاتهم امل�ؤامرات لي�صلوا ملا يريدون دون �أن‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫يك�شفهم �أحد؟»‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫رفعت �إليه عينني متو�سعتني دافئتني وهم�ست‪�« :‬أخربوين بهذا‪ ،‬كما‬

‫ع‬
‫�أخربوين �أن الثعلب �أب جيد يحمي امر�أته وطفله حتى ي�شتد عوده‪».‬‬
‫هم�س م�ؤكدً ا‪« :‬يحميه بنف�سه»‪.‬‬
‫ابت�سم �أخ ًريا لعينيها تلك النظرة احلاملة التي جتعلها �أ�سرية لع�شقه‪،‬‬
‫فبادلته االبت�سامة من بني دموع املرارة وهي تقول ب�إ�صرار‪« :‬كما �أخربوين‬
‫أي�ضا �أنه ميكن تروي�ضه والعي�ش معه �إن منحته الأمان والدفء املنا�سب‬ ‫� ً‬
‫يوما‪».‬‬
‫ولن يغدر بك ً‬
‫تن َّهد دون �أن ُتحى ابت�سامته التي حتولت لتعاطف وهو يرفع كفه نحو‬
‫وجهها مي�سح دمعها برقة وقال‪« :‬هل تعتقدين �أنه �سيكون ً‬
‫طفل جيدً ا لن‬
‫يعذبك كوالده؟»‬
‫ِ‬
‫هدر قلبها ب�صخب داخل �أ�ضلعها‪ ،‬مدرك ًة موافقته ال�ضمنية وتنازله‬
‫عن جنونه �أخ ًريا‪ ،‬فقالت بتو�سل يحمل بني طياته الأمل‪�« :‬إن ر�أى والده‬
‫كيف يعامل �أمه ك�أمرية لن يفعلها‪� ،‬سيكون هاد ًئا مطي ًعا و‪»...‬‬
‫‪272‬‬
‫�أم�سك ذقنها بطرف �أ�صابعه وانخف�ض بر�أ�سه �أمام �شفتيها وقال‬
‫جدا واكت�سبت الكثري من الأعداء‪ ،‬بالت�أكيد لن‬ ‫مقاط ًعا‪�« :‬أنا كنت م�شاغ ًبا ًّ‬
‫عنك؟»‬
‫ي�شبهني فيما تطلبني‪ ،‬ماذا ِ‬
‫�أ�شرقت عيناها وهزت ر�أ�سها بني �أنامله قائل ًة بخفوت‪« :‬كنت مطيعة‬
‫�أحتمل امل�سئولية منذ نعومة �أظافري‪».‬‬
‫«هجر�سا»‬
‫ً‬ ‫الم�س طرف �شفتيها بفمه وهم�س باختناق‪« :‬جيد‪ً � ،‬إذا �أتوقع‬
‫قو ًّيا يتحمل تن�شئتي �إياه‪».‬‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫مرتج‪« :‬ح ًّقا‪،‬‬
‫ازداد خفقان قلبها املرتع�ش وقالت ب�صوت خمتنق ٍّ‬

‫ت‬ ‫ك‬‫ا�شتبكت �شفتاهالمع‬


‫ب‬
‫�ستفعل هذا معه لن ترتكنا كما تنتوي؟»‬

‫شظلمات نف�سه ينهاه عن �أمل‬


‫ر‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫�شفتيها �أخ ًريا و�ضمها بني ذراعيه بقوة مغم�ض‬

‫ز‬ ‫و‬
‫تع�صفي ب�أنحاء‬
‫ع‬
‫داخل‬ ‫�سحيق‬ ‫العينني‪ ،‬و�صوت ي�أتي من بئر‬
‫خفية‬ ‫�ضعيف‪ ،‬بل معدم قد مينحه لها‪ ،‬مع كل �ضربة �أمل‬
‫ج�سده مت�سللة مبرارة داخل روحه كان يطلق �آهة خافتة من بني �شفتيها‬
‫جال�سا على ركبتيه �أمامها‪،‬‬
‫مرافقة لأنني روحها بني ذراعيه‪ ،‬انخف�ض ً‬
‫رفع طرف منامتها ليك�شف ب�شرة بطنها مبا�شر ًة‪� ،‬أحنى ر�أ�سه مرة �أخرى‬
‫وطبع ُق ْب َلة طويلة على بطنها امل�سطح وقال بعاطفة جيا�شة خنقته‪ ،‬متجن ًبا‬
‫بداللك عندما تنتفخني مثل ُك َرة «�شراب»‬
‫ِ‬ ‫وعده �إياها‪« :‬هل �سرتهقيني‬
‫رديئة ال�صنع واملظهر؟»‬
‫تهدجت وهي تخربه بذات االختناق‪« :‬نعم‪ ،‬و�أنت تهرب من وجهي‬
‫ت�شتكيني لكل من يقابلك ب�أين �أ�صبحت ع�صبية كريهة نزقة ال �أُ َطاق‪».‬‬
‫مل يكن عمر يف تلك اللحظة بالقوة الكافية ليخ ِّفف عنها ليمنعها‬
‫من البكاء لينهاها عن جذبه حلياة �سليمة وحماربته‪ ،‬فجاراها بالقول‪:‬‬
‫‪273‬‬
‫«وتوقظيني بعد منت�صف الليل تطالبني ب�أ�شياء لي�س وقتها �أو رائحتها‬
‫ب�شعة‪ ،‬و�أهرول باح ًثا عنها و�أنا �أرتدي مالب�س النوم فقط‪».‬‬
‫رباه‪ ،‬الأمل ال ُي ْحتمل ورغ ًما عن هذا �ض َّمت ر�أ�سه بقوة نحو ب�شرتها‬
‫العارية تخربه بعجز‪�« :‬أنت ال ترتدي �أي مالب�س عند نومك؛ لذا على‬
‫الأرجح �ستخرج عار ًيا‪ ،‬و�سيقب�ضون عليك متهمينك باجلنون �أو بفعل‬
‫فا�ضح يف الطريق العام‪».‬‬
‫رفع وجهه ينظر لوجهها املنخف�ض دون �أن يرتك �إحاطته جل�سدها‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بقوة وقال من بني دقات قلبه التي كانت ت�ؤمله‪�« :‬إذن تر َّفقي بي‪ ،‬وال‬

‫بكفيهاتاملرتع�شتني ودمع عينيها ال�ساخن ي�سقط‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ذراعيك‪».‬‬ ‫تفعلينها‪ ،‬لن �أ�ستطيع �أن �أفتقد دفء‬

‫ب ب�لأمللنحارق يف �أح�شائها وهي تهم�س‬


‫ِ‬

‫و‬ ‫ش‬
‫با�ست�سالم‪�« :‬س�أفعل‪� ،‬أعدك � َّأل �أعذبك‪ ،‬لن �أكونرزوجة‬
‫حاوطت وجهه‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫خانقة‪،‬و�س�أحمنك‬
‫كل ما تريده م�ضاع ًفا‪ ،‬ولكن فقط ال ترتكني يا عمر �أرجوك‪ ،‬عاندزيع‬
‫مبا�شر ًة على وجهه‪� ،‬شعرت رابحة‬

‫الدنيا‬
‫مرة واحدة كن �أنان ًّيا كما تدعوين‪ ،‬واغت�صب منها حقك رغ ًما عنها‪».‬‬
‫�شعر عمر بطعم �صد�أ يف حلقه‪ ،‬ف�ضمها �إليه �أقرب راف ًعا يده ليجعلها‬
‫أعدك �س�أفعل‬
‫تنخف�ض لت�سند جبهتها على جبهته‪ ،‬وقال يف حلظة �ضعف‪ِ �« :‬‬
‫أمينك معه‪ ،‬ولكن لن �أ�ستطيع �أبدً ا �أن �أبيع �سائد يف منت�صف‬
‫ما بو�سعي لت� ِ‬
‫معك بعد ما قا�سيته‪».‬‬
‫الطريق‪ ،‬حتى ولو كان من �أجل ذلك العدل يف حياة ِ‬
‫مل ت�ستطع �أن تخربه �أكرث �أو جتادله كي متنعه‪ ،‬فانهارت بني يديه‪،‬‬
‫هبطت من املقعد لت�صبح بني ذراعيه يف حلظة تتعلق بعنقه بقوة دافن ًة‬
‫ر�أ�سها بني �ضلوعه هام�س ًة بتعب‪�« :‬أنا �أحبك و�س�أظل �أحبك‪ ،‬وكل ما تقوله‬
‫يوما ب�أن يولد ابني بني ذراعيك‪».‬‬
‫لن ينزع مني الأمل ً‬
‫‪274‬‬
‫رفع وجهها بعيدً ا عن �صدره داف ًنا �أ�صابعه بني طيات �شعرها من‬
‫اجلانبني لي�سمح ل�شفتيه �أن تلتقط فمها برقة متحد ًثا من خالل قبالته‬
‫حبك‬
‫وقلبك‪ ،‬وثقي بهما و�ستجديني دائ ًما بينهم‪ِ ،‬‬
‫نف�سك ِ‬‫املهادنة‪�« :‬أحبي ِ‬
‫حبك هو تاريخي الكامل‬
‫هو احلقيقة الوحيدة التي عرفتها يف هذه الدنيا‪ِ ،‬‬
‫يا �أمرية عمر‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫�سمح �سائد لنف�سه بالدخول �إىل غرفتها ككل ليلة‪ ،‬منحها نظرة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�صامتة متذك ًرا ت�صميمه لنقلها للمنزل مع توفري كل الرعاية الالزمة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫لها فور �أن علم ب�إمكانية نقلها و�إن كانت منحته الطبيبة موافقتها على‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫م�ض�ض م�ؤكد ًة على �ضرورة جتنبها لأي انفعال‪ ،‬توجه �إىل حمام الغرفة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫حماما �سري ًعا يزيل عنه �إرهاق يومه‪.‬‬
‫لي�أخذ ً‬
‫وحتت املاء املن�ساب على ج�سده املت�شنج �سمح لأفكاره �أن جترفه معها‪،‬‬
‫ُمق ًّرا ومعرت ًفا لنف�سه باحلقيقة املُ َّرة‪« :‬دُجى تفرق معه‪ ،‬بل �إنها �أ�صبحت‬
‫تع�صف بداخله �أ�شياء ال ي�ستطيع حتى �أن يف�سرها لنف�سه‪ ،‬فقط ي�شعر‬
‫بالتخبط بالأمل بالذنب الكبري نحو حبيبته الأوىل‪ ،‬كيف يخون ذكراها مع‬
‫ابنة قاتلها؟! كبح ارجتاف ج�سده ال�ضخم بينما يخبط ر�أ�سه باحلائط يف‬
‫قتلت ابني يا دُجى بعد �أن �أوهم ِتني‬
‫أنك ِ‬ ‫رتابة‪« :‬بل كيف �أ�ستطيع ن�سيان � ِ‬
‫بتم�سكك به �أكرث من حياتك نف�سها؟!»‬
‫ِ‬
‫�أغلق جفنيه بقوة والنار ت�أكل �أح�شاءه‪ ،‬جتربه عروقه على االنتفا�ض‬
‫حمط ًما‪� ،‬أن يذوق من نف�س ك�أ�س الفقد مرتني‪ ،‬كم قاتل �شعوره ب�أن يعرف‬
‫الآن كم كانت تطوق روحه لذلك الطفل الذي منعه غ�ضبه الأعمى �أن‬
‫يرتفق ب�أمه‪ ،‬يجتاحه الإح�سا�س باخليانة والغدر والفجيعة‪ ،‬حتى �أ�صبح ال‬
‫يعرف كيف ي�ستمر يف خططه وانتقامه ك�أن �شي ًئا مل يحدث بينما كل �شيء‬
‫‪275‬‬
‫بداخله يحرتق بحمم القهر؟ ورغم كل هذا هو ال يلومها مدر ًكا جيدً ا �أنه‬
‫ال�سبب الرئي�س يف قتلها طفلهما‪.‬‬
‫�أغلق املاء وخرج من كبينة اال�ستحمام يجذب من�شفة كبرية ليحيط‬
‫بها ج�سده‪ ،‬بعد عدة دقائق ارتدى مالب�س ب�سيطة‪ ،‬وبهدوء ت�سلل للنوم‬
‫بجانبها ككل ليلة مراق ًبا اختالجات وجهها الذي يتعاقب عليه الأمل‬
‫مدر ًكا جيدً ا �أنها مدركة لكل ما يحدث وت َّدعي النوم عندما قال بهدوء‪:‬‬
‫«حالة ال�صمت لن حتل �شي ًئا ولن تعالج ما ت�شعرين به‪».‬‬

‫ع‬
‫مل تفتح عينيها مدركة ل�صوته الذي يت�سلل �إليها كل ليلة متحملة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�إياه بعذاب‪ ،‬ولكنها بب�ساطة مل تتقبل اقرتابه منها‪ ،‬لوال وهن ج�سدها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫املتخاذل لكانت غر�ست فيه �سكينها هذه املرة بقوة وقاتلته حتى يلفظ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫يرف لها جفن واحد‪.‬‬ ‫�أنفا�سه الأخرية دون �أن َّ‬

‫ع‬
‫ب�شفاه مرتع�شة �أخربته‪« :‬اخرج من هنا‪ ،‬رائحتك تثري غثياين‪».‬‬
‫قال �سائد ب�صوت خ�شن من فرط الأمل‪« :‬من املفرت�ض �أن ت�شعري‬
‫�شعورك �أنا لن �أ�ستطيع تركك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫ب�أكرث من هذا‪ ،‬ورغم‬
‫ال�صمت �أعقب كلماته‪ ،‬وجوده كثري على حت ُّملها قتل �أمومتها دون‬
‫رحمة عندما تتذكر �أنها عانت لأ�شهر من وهم‪� ،‬سمحت لطفلها باملوت‬
‫من �أجل ذنب مل يحدث‪ ،‬فتحت جفنيها تدريج ًّيا بثقل‪ ،‬ف�صعقته النظرة‬
‫خال من‬ ‫اخلاوية فيهما وكان رماد عينيها قد حتول لرتاب عدمي اللون ٍ‬
‫فاقد بريق كل �شيء‪� ،‬س�ألته و�أ�سنانها ت�صطك ببع�ضها‪�« :‬أخربين‬ ‫الروح ٍ‬
‫فقط �أن تلك الورقة غري حقيقية ب�أين ل�ست زوجتك‪».‬‬
‫جال�سا �أمامها جمربها �أن ت�ستقيم من نومها‬ ‫اعتدل �سائد يف مكانه ً‬
‫وهو يجيبها ب�صوت �أج�ش‪« :‬ال�صفعة املُرة لكلينا �أنها حقيقية‪ِ � ،‬‬
‫أنت‬
‫زوجتي‪».‬‬
‫‪276‬‬
‫كان ج�سدها يرتع�ش بتتابع وهي ت�ستف�سر‪« :‬كيف و�أنت ُقلت مل‬
‫يحدث؟! و�أنا �صدقتك لأن ذلك امل�أذون ال�شرعي الذي اتفقنا معه يف‬
‫ال�شهر العقاري مل يكن نف�سه‪».‬‬
‫معك الإجراءات‬
‫قال �سائد وهو ي�شعر ب�صدره ي�ضيق‪« :‬بعد �أن �أمتمت ِ‬
‫املطلوبة‪ ،‬ذهبت �إليهم وطلبت تغيريه ببع�ض املال‪».‬‬
‫هزت ر�أ�سها برف�ض وقالت من بني �أنفا�سها املتهدجة‪« :‬كيف و�أنا مل‬
‫�أ�ستلم �أي عقد للزواج؟!»‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫خرجت من‬
‫ِ‬ ‫أنت متى‬
‫قال وهو يعقد �أ�صابعه التي ترجتف مثلها‪« :‬و� ِ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ا�ست�سلمت للأمر‬
‫ِ‬ ‫كنت غارقة يف ال�شعور بالذنب وجلد الذات‪،‬‬
‫أنت ِ‬ ‫هنا؟ � ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫لك �أن تعرفني؟!»‬
‫دون مقاومة‪ ،‬فمن �أين ِ‬

‫والتوز عي‬
‫�أي �أمل كانت تعانيه و�أي عذاب كانت تراه زوجته بينما ُي ْ�شعرها‬
‫باحل�ضي�ض‪ ،‬يغرقها ب�شعور احلرام‪ ،‬يجلدها بخطايا مل ترتكبها‪ ،‬يف‬
‫حماولة �أخرية لرف�ض ت�صديق حقيقة زواجهم التي ر�أت قالت‪« :‬وكيف يل‬
‫�أن �أثق بك؟ وملاذا ال تكون هذه خدعة �أخرى؟»‬
‫نف�سا عمي ًقا كي يرغم �أع�صابه على �أن تهد�أ‪ ،‬ك�شف جميع �أوراقه‬
‫�أخذ ً‬
‫و�أحرق كل �سفنه كما �أخربها يف ليلتهم امل�ش�ؤومة‪ ،‬ثم قال‪« :‬وما الذي‬
‫أخربك �أنك زوجة‪ ،‬و�أنا �أح�صل منك بالفعل على كل ما �أريده‬
‫يجربين �أن � ِ‬
‫منك‪».‬‬
‫دون �أن تعريف بحقيقة زواجي ِ‬
‫تزوجتك �شرع ًّيا‪،‬‬
‫ِ‬ ‫�صمت لربهة قبل �أن ي�ضيف ب�صوت مكتوم‪�« :‬أنا‬
‫بحملك‪ ،‬حتى �أ� ِّؤمن‬
‫ِ‬ ‫وكنت �أحاول توثيق زواج ًنا يف ال�سفارة بعد معرفتي‬
‫لك هرو ًبا منا�س ًبا بالطفل يف حال حدوث �أي �شيء خارج عن �إرادتي‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ولكنهم �أرادوا مقابلتك‪ ،‬فكان يجب �أن تعريف‪».‬‬
‫‪277‬‬
‫�صب الزيت على النار بالفعل‪ ،‬ا�ستفزها و�أحرقها داخل ًّيا‪،‬‬‫وك�أن ما قاله َّ‬
‫حطمها م�سب ًبا لها �صدمة ذاتية مت�أخرة‪ ،‬وفى حلظات زاد ج�سدها‬
‫ارجتا ًفا بني يديه‪ ،‬و�صوتها �أخذ يف اله�ستريية‪ ،‬ت�صرخ بجنون هاتف ًة‬
‫ب َع َ َبات غام�ضة مل يفهم منها �إال قولها‪�« :‬أيها ال�سافل عدمي الأخالق»‪.‬‬
‫كانت تت�أمل عندما رفعت يديها ت�س ُّد �أذنيها وهي ترتعد‪ ،‬علم �سائد‬
‫على الفور �أنها دخلت يف حالة االنهيار الذي كانت تنتظرها الطبيبة منها‬
‫منذ ليلة خ�سارتها اجلنني‪ ،‬مل يفكر مرتني وهو يكبل ج�سدها الذي �أخذ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫يف التخبط مع ا�ستمرار هذيانها ال�صارخ‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫ما حدث خالل دقائق كان جنون ًّيا معها‪ ،‬يداها تقاومه �صوتها املنحور‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫يحرقه‪ ،‬ج�سدها ينتف�ض بعزمية حتاول �إزاحته‪ ،‬فلم يجد طريقة �إال �أن‬

‫والتوزي‬
‫يرغمها على التمدد وا�ض ًعا �ساقيها بني وركيه‪ ،‬مم�س ًكا يداها يف قب�ضة‬

‫ع‬
‫واحدة ورفعهم للأعلى‪.‬‬
‫مل تكن يف حالة ت�سمح لها بتبني ما يفعله �أو �أن توقف يده التي �أزاحت‬
‫بنطال منامتها‪ ،‬كا�ش ًفا عن فخذها من الأعلى �شاك ًرا احلظ الذي جعله‬
‫يجهز احلقنة م�سب ًقا ككل ليلة منتظ ًرا انهيارها‪ ،‬م َّد يده وهو يتحامل على‬
‫نف�سه من �صراخها الذي َ�ص َّم ُ�أذنيه‪ ،‬ق َّرب الإبرة من فمه ونزع الغطاء‬
‫ب�أ�سنانه وت�أكد من تفريغها من الهواء ب�أنفا�س متالحقة عنيفة‪ ،‬ثم بثبات‬
‫و�ضعها بخط عمودى �أعلى فخذها‪ ،‬مل ت�شعر حتى ب�أمل الإبرة التي ُغ ِر َ�ست‬
‫فيها‪.‬‬
‫�أخرجها �أخ ًريا منها و�ألقاها بعيدً ا قبل �أن يعود ي�ضم ج�سدها البارد‬
‫بقوة مدر ًكا �أنها �ست�ستغرق وقتًا حتى ي�أخذ املهدئ مفعوله وير�سلها للنوم‪،‬‬
‫مل يتحرك قيد �أمنلة ِمن تكبيل ج�سدها بج�سده حتى عندما ق َّرب فمه‬
‫‪278‬‬
‫جنب �أذنها يهم�س ب�صوت رقيق حنون غري �صوته‪« :‬اهدئي‪ ،‬كل �شيء‬
‫�سيكون بخري‪».‬‬
‫هزت ر�أ�سها بالنفي وهي تقول بهو�س‪« :‬حقري تزوجتني و�أ�شعرتني‬
‫بالرخ�ص‪ ،‬ملاذا تزوجتني من الأ�سا�س؟ كنت لأتخل�ص منك ب�سهولة الآن‬
‫كما تخل�صت من نطفتك القذرة‪».‬‬
‫�أغم�ض عينيه مبتل ًعا جنونها مدر ًكا �أنها تتحدث بل�سان �صدمتها‪:‬‬
‫منك‪ ،‬ولكني مل �أ�ستطع عندما ُو ِ�ض ْعتُ يف اختبار‬ ‫«مل �أكن �أنتوي الزواج ِ‬
‫التنفيذ‪».‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ا�ستمر تخبطها نحوه لدقائق �أخرى قبل �أن ي�سيطر املهدئ �أخ ًريا على‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ج�سدها الذي ارتخى حتته فا�ستطاع �أن يلفتها م�ستندً ا على كفيه حتى‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫يخفف �ضغط ج�سده عنها‪ ،‬ابتلع ريقه وهو يقول باعرتاف مرير مبتل ًعا‬

‫والتوز عي‬
‫غ�صته الأ�صعب عندما قال لعينيها التي تتوه يف بئر الهروب من واقعها‪:‬‬
‫جدا‪ ،‬جزء‬ ‫أنت بع�ض ما حدث بيننا كان حقيق ًّيا ًّ‬ ‫أجلك � ِ‬
‫«مل �أ�ستطع‪ ،‬من � ِ‬
‫يريدك زوجة تخفف عني بع�ض جروحي‪».‬‬ ‫ِ‬ ‫�صغري بداخلي كان‬
‫قالت بتيه من بني �شفتيها املرتع�شة‪« :‬مبارك لك اعرتافك؛ لأين ال‬
‫�أحمل لك ذرة واحدة لرحمة �أو ت�سامح‪� ،‬أنا �أكرهك يا �سائد والف�ضل كله‬
‫لك‪».‬‬
‫و�ضع جبهته على جبهتها مواج ًها رماد عينيها مبا�شر ًة وقال‪�« :‬إذن‬
‫حياتك يا دُجى‪،‬‬‫ِ‬ ‫لك �شي ًئا واحدً ا جيدً ا لتمحو �أثري ب�سهولة من‬
‫لقد قدمت ِ‬
‫وك�أين كنت جمرد �سراب‪� ،‬صورة مهزوزة وم�شوهة ل�شبح انتقام مررت‬
‫عربك‪».‬‬
‫ِ‬
‫قبل �أن تغلق عينيها مبا�شر ًة رفعت يدها ب�صعوبة ت�شري نحو قلبها وهي‬
‫تقول باختناق‪« :‬مررت من هنا‪ ،‬تار ًكا يف القلب غ�صة �ستبقى به دائ ًما‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫‪279‬‬
‫‪o‬‬ ‫ال ُغ َّصة األخيرة‬

‫كامل من خارج الغرفة‪ ،‬فتحاملت على ج�سدها‬ ‫جدالهم و�صلها ً‬

‫ع‬
‫املرهق الذي مل ي�سرتد عافيته بعدُ‪ ،‬وقفت من الفرا�ش ف�ضربها الدوار‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫للحظات فجل�ست على طرف الفرا�ش مغم�ضة العينني تلتقط �أنفا�سها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫روحا جديدة قوية‪ ،‬لت�صمد يف وجهه لتدافع عن روح �أخرى مل‬ ‫وت�ستعيد ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫يكن ذنبها يف هذه احلياة �إال ا�سم رجل �أغوى روحه �شيطان لعني‪ ،‬فعقد‬
‫�صفقته يف حلظة �ضعف ممن ًيا نف�سه باال�سم الكبري واملال الوفري‪ ،‬ولكنه‬
‫يوما‪.‬‬
‫مل يدرك �أنه خ�سر كل �شيء‪ ،‬لن تعو�ضه كل �أمواله �أو �سلطته ً‬
‫جمعت قوتها بعزم لتقف �أخ ًريا على قدميها‪ ،‬توجهت للخزانة جتلب‬
‫�شي ًئا عمل ًّيا حمت�ش ًما ت�سرت به نف�سها بدل مالب�س النوم‪ ،‬فالأ�صوات‬
‫اخلارجية م�ؤكدً ا تعني �أن عمر و�إبراهيم معه‪ ،‬يبدو �أن املظلوم الظامل‬
‫ً‬
‫وت�سلطا‪ ،‬لكنها لن ت�ستطيع �أن ت�صمت‬ ‫�أ�صبح �أكرث �شرا�سة‪� ،‬أكرث جنو ًنا‬
‫حتى وهي تعلم �أنها ال متلك ُ�سلطة عليه لتجعله ي�أخذ دفاعها َطي‬
‫احل�سبان‪.‬‬
‫فتحت باب الغرفة وتقدمت بهدوء �إىل مكتبه وهم�ست مبا�شر ًة ب�صوت‬
‫متعب‪�« :‬أال يكفيك �ضحايا يا �سائد؟ هل زوجتك وابنك �سيكونان را�ضيني‬
‫ع َّما تفعله مبن مياثلهم �ضع ًفا وقلة حيلة؟»‬
‫‪281‬‬
‫حتولت الوجوه الثالثة املتناحرة نحوها‪ ،‬ما بني متفاجئ وم�صدوم‪،‬‬
‫وما بني متجهم رغم ترحيبه بالتدخل‪ ،‬هم�س عمر را�ض ًيا‪« :‬رمبا ر�ؤيته‬
‫�إياك يف تلك اللحظة يجعله يبتعد ع َّما ينتويه‪».‬‬
‫�أغلقت جفنيها للحظات �أخرى حتاول �إعادة ثباتها االنفعايل متجنب ًة‬
‫متاما عن تلك اجلمرتني اللتني ترمقانها مب�شاعر‬ ‫تعليق عمر ومبتعدة ً‬
‫مت�أججة خمتلطة مل تعد تفهمها‪ ،‬عادت تكمل حديثها بخفوت‪« :‬هناك‬
‫�شعرة تف�صل بني الظامل واملظلوم‪ ،‬بني اجلاين واملجني عليه و�أنت طالك‬

‫ع‬
‫من الأذى ما لن يتحمله ب�شر‪ ،‬ولكن بتجنيك على �أرواح بريئة ف�أنت‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�ست�ضيع كل حق لك و�ستتحول ل�شيطان ال يرحم‪ ،‬االنتقام �سالح �أحمق‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وجالده �أعمى‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫وك�أن الكون تو َّقف لثوان فلم يعد فيه �إال هي‪ ،‬نظر �إليها يف وقفتها‬

‫ع‬
‫اله�شة تلك ب�صمت ي�ستوعب كل كلمة منها بينما ال يراها �إال �أقوى‪� ،‬أقوى‬
‫من �أي يوم م َّر بحياتها املُهينة التي ر�أتها على يد فهمي ويده من بعده‪،‬‬
‫وك�أنها ت�ستعيد ببطء تلك القوة والعزم وروح املحاربة التي �أجزم بوجودها‬
‫داخلها من قب ُل‪ ،‬نطق �أخ ًريا ليخربها ب�صوته املهيب‪« :‬االنتقام و�سيلة‬
‫اجلبناء‪ ،‬و�أنا مل �أكن جبا ًنا ً‬
‫يوما يا دُجى‪».‬‬
‫فتحت عينيها تنظر له نظرة عميقة عنيفة ت�سللت �إىل �أعماقه فجعلته‬
‫ي�شعر ب�شيء �آمله يف �صدره‪ ،‬بينما تقول ب�صوت �أَ َ�س َره احلزن‪�« :‬إذن �أخربين‬
‫مباذا ت�سمي ما فعلته معي وتريد تكرار فعله مع �أ�سماء؟!»‬
‫وك�أنها دا�ست على الزر اخلط�أ ووجلت من نافذة روحها �إىل روحه‬
‫لتك�شفه �أمامها وجتعله عر�ضة للخطر‪ ،‬ا�ستدار �سري ًعا يبتعد عن عيون‬
‫ثالثتهم غري م�ستعد بع ُد للإجابة‪ ،‬غري قادر على االعرتاف باحلقيقة‬
‫يوما‪ ،‬لقد كان يحاربها‪ ،‬يحاول قتل كل نب�ضة لعينة تت�سلل منها �إليه‪،‬‬ ‫املُ َّرة ً‬
‫‪282‬‬
‫يحاول نكران �سلطة ابنة غ�سان على قلبه وروحه مبجرد النظر لرماد‬
‫عينيها املحرتق‪ ،‬لقد �أحبها‪.‬‬
‫اهتز ج�سده ال�ضخم �أمام النافذة بينما تقب�ضت يداه بقوة جانبه‬
‫َّ‬
‫وتف�ضل بالقول املت�سلط �أخ ًريا‪�« :‬أ�سماء هدف خمتلف وو�سيلة فعالة ل�شيء‬
‫ق�صتك معي بها‪».‬‬
‫ِ‬ ‫داخل نف�سي فال تقارين‬
‫برق رماد عينيها بحدة‪ ،‬واتخذت نرباتها �سخرية مريرة‪« :‬كما كانت‬
‫زوجتك �شي ًئا �آخر لن ت�صل امر�أة ملرتبة املقارنة بها ً‬
‫يوما‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫منحنك بع�ض‬
‫ِ‬ ‫تنحنح �إبراهيم مقاط ًعا يقول بخفوت‪« :‬ميكننا �أن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫خارجا‪».‬‬
‫الوقت وننتظر �أنا وعمر ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫عندها فقط َت َع َال �صوت دجوى وهي تقول بعينني حمتنقتني رغم القوة‬

‫والتوز عي‬
‫التي وم�ضت فيهما وك�أنها عنقاء احرتقت من املر�ض وعادت لتنه�ض من‬
‫جديد من بني رمادها قوية عنيفة ثابتة‪�« :‬إن اقرتبت من ابنة فهمي ب�أي‬
‫طريقة يا �سائد �س�أقتلك بنف�سي‪� ،‬أ�سماء بيني وبينك‪».‬‬
‫التفت �إليها بعينني مهتاجتني بينما يهدر فيها ب�صوت مرعب‪« :‬هل‬
‫هذا تهديد؟»‬
‫مل يحاول �أن يهينها ويهاجمها كال�سابق‪� ،‬أن يعيدها ملكانتها احلقيقة‬
‫التي ظن وتوهم �أنها ال متثل �شي ًئا يف حياته‪.‬‬
‫رغم ا�ضطرابها لكنها قالت بنربة َب َد ْت خ�شنة واثقة‪« :‬نعم‪ ،‬دم طفلي‬
‫مل يجف بعدُ‪ ،‬لن �أ�سمح لك بقتل طفلة �أخرى بغري حق‪».‬‬
‫يكفيها ذكر طفله ليعود الأمل ي�ضرب على �أوتاره احلزينة‪ ،‬ي�ضرب قلبه‬
‫الذي انتع�ش على يديها بخنجر حاد �سام‪ ،‬وليته يكون ً‬
‫قاتل ليعود �إىل‬
‫جليده‪ ،‬بل جعله يحرتق بتوهج مل يعرفه �إال على يديها‪.‬‬
‫‪283‬‬
‫�أكملت بعزمية‪�« :‬أنت لن تلوث يدك مبزيد من دماء الأبرياء‪� ،‬أ�سماء‬
‫�أعرفها منذ �أن ُو ِل َدت قبل �أن ينقلب الكلب على �أبي‪� ،‬أعرف �أمها‪� ،‬أعرفهم‬
‫جمي ًعا و�أنا لن �أ�سمح لك بدماء �أخرى �إال على جثتي يا �سائد‪».‬‬
‫�ضغط على �أ�سنانه بقوة وهو يغم�ض عينيه‪ ،‬لدرجة �أنهم �سمعوا �صوت‬
‫�صرير تلك الأ�سنان‪ ،‬حينما قال بعينني غا�ضبتني‪�« :‬أنا ل�ست م�صا�ص‬
‫دماء وال تاجر �أع�ضاء لتظني بي �أين قد �أفعل بها مثلما يفعل هو‪».‬‬
‫�شعرت دجوى ب ُغ َّ�صة ت�ؤمل حلقها ب�شدة والدوار يعود ي�ضرب ر�أ�سها‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫اهتزت وقفتها لتمد يدها �سري ًعا ت�ستند على �إطار الباب ف�سارع عمر‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫مبد يديه لت�سند بيدها الأخرى عليه ب�صمت‪ ،‬بينما تقول‪�« :‬أنت انتقامك‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫متطرف يا �سائد‪ ،‬ليته يحمل رائحة املوت‪ ،‬م�ؤكد �سيكون �أهون من دحر‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫الكرامة الذي يتبعه‪».‬‬
‫ذراعني �صلبتني‬ ‫مل تكد تكمل جملتها �إال و�شعرت بج�سدها يتهاوى بني‬
‫دافئتني ب�شعور مل يطرق قلبها معه من قبل‪ ،‬ان�سحب عمر و�إبراهيم‬
‫مغادرين‪ ،‬بينما هي مل ُت ْب ِد �أي ردة فعل وهو يهم�س متجن ًبا حقيقة ما‬
‫نف�سك من �أجلهما‪».‬‬
‫قالته‪« :‬ال ي�ستحق فهمي �أو ابنته �أن ترهقي ِ‬
‫حاولت �أن تتمل�ص من حماوطته �إياها بعنف‪ ،‬ولكنه مل مينحها حتى‬
‫الفر�صة وهو يريح ظهرها على �صدره فتجنبت ما يفعله وك�أنه ال �شيء‬
‫وك�أنه ال يجعل كل ع�ضلة يف ج�سدها ت�صرخ ا�ستجابة‪ ،‬حتارب بجوع‬
‫لإ�شباع ما ُح ِر َمت منه خلم�سة �أعوام ذليلة‪� ،‬سيطرت برباطة ج�أ�ش على‬
‫حربها الطاحنة حتى وهو يرتاجع بها �إىل �أريكة وا�سعة ليجل�س بها دون‬
‫�أن يفلتها‪ ،‬ارتعا�ش ج�سده املتوتر حتتها منحها الر�ضى القليل لأنوثتها‬
‫املهدرة‪ ،‬نطقت �أخ ًريا بجفاء مكررة‪�« :‬إن�سانيتي ا�ستحقت‪ ،‬ابتعد عن‬
‫‪284‬‬
‫الطفلة افعل ما تريد بفهمي‪ِّ ،‬‬
‫عذ ْبه وانزع �أح�شائه بيديك حتى‪ ،‬لن �أوقفك‬
‫ولكن دماء �أبرياء ال يا �سائد يكفيك انتقام‪».‬‬
‫م�ضت ب�ضع دقائق قبل �أن ميد يده مي�سك بذقنها مدي ًرا وجهها �إليه‬
‫انتقاما»‪.‬‬
‫ً‬ ‫وقال بجحيمه املعتاد‪« :‬لي�س‬
‫�س�ألته‪« :‬ما الذي تفعله �إذن؟»‬
‫�أجاب ب�صوت قوي قاطع‪« :‬عدل»‪.‬‬

‫ع‬
‫قالت ب�صوت قامت وهي تنظر �إىل عينيه بغري تنازل‪« :‬بل َتنٍّ بغري‬
‫يوما‪ ،‬االنتقام نار ت�شتعل لت�أكلك‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫حق‪� ،‬سيحرقك ولن تنال منه الراحة ً‬
‫ص‬
‫أناملهلنترتفع يدفنها يف خ�صالت �شعرها‬
‫ش‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫�أنت عقب خرابها‪».‬‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫و االل‬ ‫ر‬


‫أي�ضا �أن االنتقام ميزان الأعمى‪ ،‬ولكن االعرتافعبالث�أر‬
‫�شدد على خ�صرها بذراعه و�‬
‫أف�ضل �أن يق َّدم‬ ‫الق�صرية وهو يقول بقوة‪ :‬يقولون‪� :‬إن الث�أر طبق من‬
‫باردًا‪ ،‬و�أخربونا � ً‬
‫هو الإقرار بالأمل‪ ،‬ودائ ًما الأمل يحتاج لعالج لي�سكنه‪ ،‬ويف غابتنا عالجي‬
‫لدي ث�أر لن ينطفئ �إال‬
‫هو االنتقام الف َّعال لكل �آالمي‪ ،‬وانا �أت�أمل يا دجى‪َّ ،‬‬
‫عندما �أذيقهم جمي ًعا من ك�أ�س جحيمي‪».‬‬
‫ابتلعت ريقها بتوتر ولكن رمادها املت�أجج مل يطله اهتزازها حلظة‬
‫وهي تقول بهدوء‪�« :‬إذن عالج ث�أري �أنا � ً‬
‫أي�ضا هو االنتقام منك وعدم‬
‫يوما‪».‬‬
‫غفراين لك ً‬
‫موجهة �إليها بل لنف�سه عندما قال‬
‫ابت�سم ب�سخرية ع�صبية مل تكن َّ‬
‫أمنعك �أن ُتطفئي نريان ِ‬
‫قلبك‪».‬‬ ‫ا�ستطعت لن � ِ‬
‫ِ‬ ‫بخ�شونة‪�« :‬إن‬

‫‪285‬‬
‫حتجرت الدموع يف عينيها راف�ضة �أن تذرفها �أمامه مرة �أخرى بينما‬
‫َّ‬
‫تهم�س ب�صوت ممزق ف�ضح �آالم �صدرها‪« :‬ال تلوث يدك بالدماء يا �سائد‪،‬‬
‫يكفيك حتطيم الأبرياء‪».‬‬
‫هم�س بتثاقل‪« :‬و�إن كنت لوثتها م�سب ًقا ِ‬
‫بدمك ودم طفلي»‪.‬‬
‫اهتزت ع�ضلة يف فمها بينما تردِّد بتهكم‪« :‬طفلك!»‬
‫مل ير َّد ف�أكملت بهدوء عك�س عا�صفتها التي تعاين‪« :‬لن ي�ساحمك اهلل‬
‫يوما‪� ،‬سيظل دم طفلي مادة �صلبة قوية‬ ‫عني وعنه؛ لأنني �أنا لن �أغفر لك ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫يوما‪ ،‬مذكر ًة نف�سي‬
‫يوما وراء يوم لأ�شيد بيننا �سدًّا لن ينهار ً‬
‫�س�أ�ستعني بها ً‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أنك قاتله وقاتلي‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫«�إن كان يف العمر بقية لن �أتوانى عن العودة وال‬
‫وحماربتكتلوز‬
‫طويل جعل ج�سدها امللت�صق فيه ي�ست�شعر ت�صلبه‪ ،‬قبل �أن‬ ‫نف�سا ً‬ ‫�أخذ ً‬

‫أهدمهعي‬
‫يزفره �أخ ًريا وهو يقول ب�صوت �أج�ش‪:‬‬
‫حتى‬
‫ي�صبح بحريات دافئة مل ولن يغو�ص فيها غريي‪».‬‬
‫�شهقت دون �إرادة وهي تقول‪« :‬افعل �شي ًئا جيدً ا �أخ ًريا وال ت� ِؤذ الطفلة‪».‬‬
‫دفع ر�أ�سها لي�صبح وجهها على ُبعد �إن�ش واحد من وجهه وقال بخفوت‪:‬‬
‫«يجب �أن يذوق فهمي من نف�س ك�أ�سه‪ ،‬ليتني �أ�ستطيع مقاومة �إغراء ر�ؤيته‬
‫قدمي يتو�سلني الرحمة التي لن �أمنحه‬ ‫يتعذب ببطء ُينرث �أ�شال ًء حتت َّ‬
‫�إياها‪».‬‬
‫عندما هبطت دمعة وحيدة �أخ ًريا من عينيها هم�س ب�أمل وك�أنه‬
‫إكراما لك‪ ،‬لن �أقربها ب�سوء‪ ،‬لن �آخذ بريئة �أخرى بذنب‬
‫يرا�ضيها‪ً �« :‬‬
‫غريها‪».‬‬
‫‪286‬‬
‫�شعرت دجوى بقر�صة لوعة يف قلبها الذي مترد‪� ،‬أخف�ضت جفنيها‬
‫إكراما يل ال متوت‪ ،‬ن ِّفذ ما تريده‬
‫لتهرب بعيدً ا عنه وهي تقول بتهدج‪« :‬و� ً‬
‫وع ْد من مكان ما �أتيت»‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أ�ضمك؟»‬
‫«هل يل �أن � ِ‬
‫تو�سعت عيناها املت�أملتني للحظات وهم�ست‪�« :‬أنا كلي بني ذراعيك‬
‫بالفعل‪».‬‬
‫أحت�ضنك‬
‫ِ‬ ‫«قلبك لي�س بينهما‪� ،‬أريد �أن �‬‫ِ‬ ‫�أخربها ب�صوت �أج�ش‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بطريقتك الأمومية‪».‬‬
‫ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫�أبعدت ر�أ�سها عنه وقالت‪« :‬ال‪ ،‬ال ميكنك هذا لقد انتهى كل �شيء هنا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫أوف بوعدك الأخري‪ ،‬واد ُع اهلل �أن يغفر خطاياك؛ لأين لن‬
‫يا �سائد‪ ،‬فقط � ِ‬

‫‪ q q q‬والتوز عي‬
‫�أفعل �أبدً ا‪».‬‬

‫كانت عينا حماد تلمع بظفر وهو يق ِّلب ال�صور املتعددة يف الهاتف‪� ،‬إال‬
‫�أنه قال بعدم ر�ضا‪« :‬لو كنت �أتيت بها وطاوعت معلمك كنا ح�صلنا على‬
‫�صور �أكرث قيمة لت�ضربه يف مقتله وجتعله كاملجذوب‪».‬‬
‫ظلت عينا �سائد فاقدتا احلياة يرمقانه ورجاله ب�صمت غام�ض‪ ،‬ثم‬
‫تنازل �أخ ًريا ليخربه بت�صلب‪« :‬ما �أعرفه �أنه ينب�ش الأر�ض عليها‪َ ،‬ف َق َد‬
‫متاما ولن مييز �أي و�ضع يراه فيها‪ ،‬املهم �أن اجلزاء من جن�س‬ ‫عقله ً‬
‫العمل وهو �أكرث النا�س معرف ًة مباذا يعني ج�سد ب�شري حتت رحمة م�شرط‬
‫�شيطان‪».‬‬
‫التمعت عينا حماد ال�شبيهتني بعيني �أفعى �سامة و�أخربه ب�شجاعة‪« :‬ال‬
‫يهم‪ ،‬افعل ما تريده وكما تفكر طاملا �سي�صلنا ملا نريده‪».‬‬
‫‪287‬‬
‫�صمت لربهة قبل �أن يحاول �أن يتعاطى مع الهاتف الذي بني يديه‬
‫و�ضاغطا على �أرقام فهمي ال�سرية والتي يحفظها عن ظهر قلب‬ ‫ً‬ ‫مقل ًبا فيه‬
‫و�أردف‪« :‬املال‪ ،‬الكثري من املال»‪.‬‬
‫تدخل �أحد رجال حماد ال�صامتني ليخربه بخبث‪« :‬وملاذا‬ ‫هنا فقط َّ‬
‫نتبع كالم هذا الرجل يا معلم ونتعب �أنف�سنا بامل�ساومة مع فهمي �أو غريه‪،‬‬
‫معر�ضني لك�شف �أنف�سنا‪ ،‬بينما لدينا املال بالفعل؟ «البنت» تبدو قوية‬
‫ونظيفة و�صغرية قد يدفع فيها �أحد الأثرياء � ً‬
‫أموال ال ُت َعد مقابل �أن متتعه‪».‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫توقفت يد حماد عن الإر�سال لربهة‪ ،‬بينما يقرتب ال�شاب يكمل بخبث‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫«�إن منحناه الفتاة عاقدين �صفقة معه قد يخون ويبلغ عنا ال�شرطة متهمنا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ورابحا‬
‫�أننا جمرمون «نتبلى» عليه‪ ،‬ثم يعود هو بابنته وماله منت�ص ًرا علينا ً‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫لكل �شيء ونحن نتعفن بال�سجن‪».‬‬
‫«تفكري �شبه رجل يحمل قرو ًنا فوق ر�أ�سه‪ ،‬وماذا �أتوقع منك غري‬
‫هذا؟!»‬
‫نطقها �سائد ب�صوت قوي وك�أنه لن يقبل ً‬
‫جدل بعده‪ ،‬رغم الهرج الذي‬
‫�ساد جمل�س حماد‪ ،‬وانتف�ض رجله بثورة ناحيته م�شه ًرا مطواة يف وجه‬
‫ً‬
‫�صارخا فيه بفحيح‪«َ :‬منْ تق�صد يا هذا بالقرون؟ �س�أمزقك و�أنت‬ ‫�سائد‬
‫واقف مكانك لتعرف مع من تتحدث‪».‬‬
‫رفع يده �سري ًعا ووجهها نحو �سائد الذي انحنى بج�سده بر�شاقة‬
‫متفاد ًيا ال�ضربة‪ ،‬ثم التف ب�سرعة ذئب ا�ستحق لقبه حول ج�سد ال�شاب‪،‬‬
‫ويف �أقل من برهة كان ميدده على بطنه على الأر�ض القذرة‪ ،‬وو�ضع قدمه‬
‫على ظهره الو ًيا يده التي حتمل املطواة خلفه‪ ،‬مال بوجهه ليخربه ب�صوت‬
‫قامت‪« :‬عندما تقرر اللعب يا فتى اعرف قدر عدوك جيدً ا ونقاط �ضعفه‪،‬‬
‫‪288‬‬
‫تعلم جيدً ا حجم قدراتك‪ ،‬فح�شرة مثلك لن �أ�ستغرق فيها خم�س دقائق‬
‫احرتاما للمعلم �س�أتركك‪».‬‬
‫ً‬ ‫حتى �أدع�سها‪ ،‬ولكن‬
‫َّ‬
‫تدخل حماد هاد ًرا بحزم‪�« :‬سائد اتركه‪ ،‬لن ن�أكل يف بع�ضنا ونحن على‬
‫و�شك مواجهة عدونا جمي ًعا‪».‬‬
‫مل يلتفت �إليه وهو ينظر لل�شاب نظرة جامدة‪ ،‬الغبي كاد �أن ُي�ضيع كل‬
‫خمططاته يف وهلة‪ ،‬بب�ساطة لو ُو ِ�ض َع بني االختيارين لن ي�ستطيع �أن ي�سلم‬

‫ع‬
‫الطفلة جلنون حماد بعد �أن وعد بعدم �أذيتها‪� ،‬سيكون جم ًربا وقتها �أن‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ي�صفيهم جمي ًعا بيديه‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫مل ي�ستغرق بتفكريه كث ًريا عندما قطعه حماد يكرر هدره ب�صوت‬

‫والتوز عي‬
‫غريب‪�« :‬سنكمل ما بد�أنا ون�أخذ بث�أرنا منه‪ ،‬وبعدها نرى يف �أمر ابنته‬
‫ما ير�ضينا ويدر علينا مزيدً ا من املال‪ ،‬لن نرجعها له‪� ،‬صحيح يا �سائد‪».‬‬
‫يوما‪� ،‬إياك �أن حتاول‬
‫«اعرف مقدار عدوك‪ ،‬و�إن �أم�سكت جلامه ً‬
‫ا�ستفزازه وتفقده؛ لأنه لن يرتدد �أن تكون �أول �ضحاياه‪».‬‬
‫ً‬
‫مهرول‬ ‫بهدوء ترك �سائد ال�شاب الذي كان يلهث بانفعال قوي واعتدل‬
‫عائدً ا �إىل جانب حماد الذي �أخربه بنربة مظلمة‪« :‬ح�سابك �أ�صبح ً‬
‫ثقيل‬
‫يا حلمي‪ ،‬وبعد انتهائنا من �صفقتنا ح�سابك ع�سري‪».‬‬
‫عاد بعينيه نحو �سائد منتظ ًرا �إجابته عن �س�ؤاله ال�سابق‪ ،‬وقال ب�سرعة‬
‫وبلهجة حذرة ك�أنه يرو�ض ً‬
‫وح�شا يكاد �أن يفيق من غيبوبته ل َي ْف ِتك به‪:‬‬
‫«بالطبع يا معلم‪ ،‬الفتاة ال تهمني يف �شيء‪ ،‬وفور �أن �أحقق ق�صا�صي من‬
‫�أبيها فهي لك‪».‬‬
‫‪289‬‬
‫نف�سا ً‬
‫طويل را�ض ًيا وهو ير�سل لفهمي �صور‬ ‫عندها فقط زفر حماد ً‬
‫�صغريته وابت�سامة متلذذة �سادية مقيتة تزين مالحمه‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫تبكي منذ الأم�س وال تتوقف بينما الندم يفتك ب�أو�صالها فت ًكا‪ ،‬ندم بعد‬
‫حماقتها وغبائها وت�سليم �صغريتها بيدها‪.‬‬
‫مل َي ِر َّق قلب فهمي لها ومل يت�أثر بلوعة قلبها‪ ،‬بل لو كان الأمر بيده‬

‫ع‬
‫متاما‬
‫وال�شرطة التي متلأ منزله منذ الأم�س غري متواجدة؛ لكان فتك بها ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫دون �أن ِير َّف له جفن‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫اهتزاز هاتفه اخلا�ص بعمله «الأ�سود» �أيقظ حوا�سه على الفور ليرتك‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫املحققني ملتهني ويلج �سري ًعا نحو غرفة �صغرية‪.‬‬

‫ع‬
‫فتح الهاتف ب�سرعة و�ضربات قلبه تعلو على الفور حتى كاد يقف خو ًفا‬
‫وهل ًعا‪.‬‬
‫�سقط فهمي على �أقرب مقعد ب�أنفا�س الهثة عنيفة‪ ،‬عيناه متو�سعة‬
‫ب�صدمة ووجهه �شاحب وك�أن احلياة ُخ ِط َفت منه فج�أة وبغري �إنذار‪َ ،‬ن َف�س‬
‫و�آخر كان ي�ستجديه بخزي للخروج ب�أن يتنف�س بينما ُيق ِّلب �صور ابنته يف‬
‫و�ضع يحفظه عن ظهر قلب‪ ،‬عملية مار�سها على العديدين بيدين باردتني‬
‫قا�سيتني وقلب مات ومل تنب�ض به احلياة جمددًا �أبدً ا‪.‬‬
‫ولكن على ما يبدو امل�شهد املكرر بنف�س الطريقة والهدف جعله يتذكر‬
‫ج�سد �أخرى كان الأخري على طاولته‪ ،‬ج�سدً ا فت ًّيا مغو ًيا لي ًنا‪ ،‬ا�ستخدمه‬
‫لل�ضغط على معلمه الأول وال�شيطان الأكرب الذي فتح له نافذة ذلك العامل‬
‫ال�سفلي‪ ،‬مل يحتج الكثري وقتها ليقنعه �أنهم يقدمون للمجتمع خدمة‪،‬‬

‫‪290‬‬
‫ينظفونه من تلك احلثالة‪ ،‬وينقذون �أ�سياد املجتمع و�أبناءهم الذين‬
‫�سيخدمون الب�شرية ح ًّقا‪ ،‬ولكنه جاء يف �آخر الطريق ويبدو �أن �ضم ًريا ما‬
‫ظهر له و�أراد �أن يتوب‪ ،‬يتوب! كم كانت كلمة م�ضحكة م�ستفزة‪ ،‬يريد �أن‬
‫يجعل تلك امل�ؤ�س�سة تنهار‪ ،‬يريد �أن يتخلى عنه بعد �أن كاد ي�صل للقمة‪،‬‬
‫يعود به لنقطة ال�صفر جمرد طبيب م�ساعد ينتظر منه بع�ض البقايا‬
‫يلقيها له‪ ،‬حقده تعاظم مع انقالب الر�ؤو�س الأعلى على غ�سان فلم يجد‬
‫ُبدًّا من ا�ستخدام «دجوى» كورقة ت�ضعفه وتقتله‪ ،‬وهذا ما حدث‪� ،‬س َّلم‬
‫ذليل مك�سو ًرا وتنازل عن كل �شيء �أمام حياة‬ ‫غ�سان على الفور‪ ،‬جثا ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ابنته‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫قب�ضت يد فهمي بقوة على الهاتف قبل �أن تطلق عيناه �شرارها‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫و�ضغط على الهاتف يطلبه‪ ،‬فور �أن �أجابه حماد‪ ،‬قال فهمي بقوة‪« :‬ماذا‬

‫والتوز عي‬
‫تريد؟ �ضع الرقم الذي تريده و�سيكون لديك خالل �ساعات ولكن �إن‬
‫و�ضعت �إ�صب ًعا واحدً ا على ابنتي‪� ،‬س�أجعلك �أنت ورجالك مكانها‪».‬‬
‫�ضحك حماد بق�سوة �ساخرة وقال‪�« :‬أنت ل�ست يف حمل قوة لتهدد «يا‬
‫دكرتة»‪� ،‬أنا هنا من ي�أمر وينهى‪».‬‬
‫ا�شتداد �صوته ب�صالبة مرعبة عند جملته الأخرية؛ جعل فهمي يبتلع‬
‫يوما‪ ،‬قبل �أن يقول‬‫ريقه الذي �أ�صبح ك�صحراء مقفرة مل تط�أها املياه ً‬
‫بخذالن مرتع�ش‪�« :‬أنا مل �أقرتب من بيتك يا حماد �أكررها لك للمرة‬
‫الألف‪ ،‬ما الذي يدفعني �أن �أغدر بك بعد كل تلك الرحلة الطويلة بيننا؟‬
‫افتح عينيك وعقلك �أرجوك هناك من يتالعب بكلينا‪».‬‬
‫ا ْل َت َو ْت �شفتا حماد بتقزُّز على الطرف الآخر‪ ،‬بينما يرمق �سائد بنظرة‬
‫غام�ضة قامتة غري مف�سرة‪ ،‬ثم قال بهدوء غ َّلفته احلكمة‪« :‬رمبا �أنت‬
‫حمق‪ ،‬ولكن ما بيننا قائم على الغدر من الأ�سا�س‪� ،‬أنا و�أنت ومن يتبعنا‬

‫‪291‬‬
‫مثال لل�شرف يا فهمي؛ لذا نعم �أنا مت�أكد �أنك غدرتَ بي ل�شيء يف‬ ‫ل�سنا ً‬
‫نف�سك‪».‬‬
‫حاول فهمي �أن ينهاه ب�أي طريقة‪� ،‬أن مينعه ويقنعه‪ ،‬ولكن ر�أ�س حماد‬
‫كان �صل ًبا كاحلجر ال يفكر �إال يف ال�شماتة به‪ ،‬لقد زادت �أخطاء فهمي‬
‫يف حقه �أ�ضعا ًفا م�ضاعفة‪ ،‬ويجب �أن يدفع الثمن الذي ت�أخر كث ًريا؛ لذا‬
‫قال ب�صوت متلذذ حمتقر باتر كم�شرط حاد ال يقبل الف�صال �أو اجلدال‪:‬‬
‫«�أريد رق ًما مكو ًنا من �ستة �أ�صفار مقابل ر�أ�س ابنتك‪».‬‬

‫ع‬
‫ُب ِه َت وجه فهمي وهتف فيه بغ�ضب‪« :‬ماذا؟ هل فقدت عقلك؟ من �أين‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يل بكل هذا املبلغ؟!»‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ك�أنه مل ي�سمعه فقال بربود جليدي‪�« :‬أنا ال �أ�ساومك ولأين �أكرم منك‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫�س�أمنحك ع�شرين ر� ًأ�سا جديدة بينهم ر�أ�س ابنتك؛ لتقطع منهم من تريد‬

‫ع‬
‫وترتك من تريد‪».‬‬
‫�صرخ فهمي بقهر‪�« :‬أنا ال �أريد �إال �أ�سماء يا حماد‪ ،‬تع َّقل وال تزد النار‬
‫بيننا‪».‬‬
‫لدي قلته‪ ،‬و�ست�أتي �إىل حارة «‪ »...‬لتت�سلم‬ ‫تابع حماد بال مباالة‪« :‬ما َّ‬
‫ال�شحنة بنف�سك �أنت و�أطباءك كالأيام الأوىل يا دكرتة‪ ،‬ف ِّكر مع نف�سك‬
‫لديك �أربع وع�شرون �ساعة فقط للتفكري‪ ،‬و�إال �س�أبيع ابنتك لأحد الرجال‬
‫الذين يتلذذون بتعذيب ال�صغريات قبل �أن ي�ستبيحوا �أج�سادهم َّ‬
‫الب�ضة‪،‬‬
‫م�ؤكد �أنك تعرف هذا النوع حق املعرفة ف�أنت واحد منهم‪� ،‬ألي�ست هذه‬
‫ال�صفقات هي املتداولة يف التليفزيون بني الع�صابات يا با�شا؟»‬
‫مل ينتظر رده و�أغلق الهاتف ب�شكل نهائي‪ ،‬نظر ل�سائد مبالمح قامتة‪،‬‬
‫بينما �سائد يبادله تلك النظرة امليتة املماثلة ل�صوته عندما قال‪�« :‬أنت‬
‫تعرف بنجا�سته‪».‬‬
‫‪292‬‬
‫وقف حماد من جمل�سه �أخ ًريا‪ ،‬ومالمح وجهه املقيتة َب َدا عليها‬
‫العجز م�ضاع ًفا وك�أن كل �شيء �أ�صبح ي�أخذ من قوته‪� ،‬صحته وكل �شيء‪،‬‬
‫علي جميع �أنواع الب�شر‬ ‫نطق �أخ ًريا بخفوت مت�صلب‪« :‬بتلك املهنة مر َّ‬
‫و�أخطرهم و�أجن�سهم‪ ،‬وفهمي النجار كان من حثالة احلثالة نف�سها‪،‬‬
‫َخ َد َمه احلظ لي�صبح �سيدهم‪� ،‬أنا ال �أعرف كيف �أ�صبح يق�ضي رغباته‬
‫العفنة ولكن ما �أنا �أعلمه عن يقني �أنه كان يدفع يف بع�ض الفتيات ً‬
‫مال‬
‫م�ضاع ًفا لي�أخذهنَّ بعيدً ا عن باقي زمالئه‪ ،‬ولن �أحتاج ملعدل ذكاء لأعرف‬
‫�أنه كان ي�ضاجعهنَّ ‪».‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�شعر �سائد بالذهول للحظات برغم كل قذرات فهمي التي يعرفها‪ ،‬ثم‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫�أخذت مالحمه ت�سلك طريق العذاب التدريجي‪ ،‬كم َب َدا يف تلك اللحظة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫لوحة لن ي�ستطيع �أعظم الفنانني ر�سم الب�ؤ�س والذل والأمل فيها بدقة‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫�أجلى حنجرته يحاول ابتالع غ�صته ومرارته فلم ي�ستطع‪ ،‬فرتك‬
‫ملالحمه حرية التعبري �أخ ًريا‪ ،‬ومن يلومه وجميع من يف هذه الغرفة �أ�صبح‬
‫يعلم بفجيعته‪« :‬هذا مربر اختياره �آية‪ ،‬فبجانب معرفتها لعملهم واحتواء‬
‫�أح�شائها على كنز ثمني رمبا القت هوى يف نف�سه‪».‬‬
‫التف حول نف�سه ونظر بعيدً ا عنهم بينما عقله وقلبه يدق �سو ًّيا‬
‫مبفرقعات قا�سية مزقته‪.‬‬
‫دجوى كانت بني يديه عارية كما �أخربته‪ ،‬هل احلقري الم�س �شي ًئا فيها‪،‬‬
‫�سيقتله و�سيذيقه من ك�أ�س جحيمه بتلذذ‪ ،‬م�ستحيل �أن يرتكه ينجو من‬
‫القتل بني يديه‪� ،‬أغلق عيناه للحظة وابتلع حرقته وحارب �أن ي�سيطر على‬
‫رجل قبله‬ ‫ما تبقى من �أع�صابه متذك ًرا بيقني �أن ج�سد دجوى مل يعرف ً‬
‫�أبدً ا‪ ،‬لقد ر�أى هذا بنف�سه‪ ،‬م�ؤكد هناك �شيء منعه‪ ،‬رمبا هدفه ال�ضغط‬
‫على احلقري الآخر كان هو الأهم لديه وقتها‪.‬‬

‫‪293‬‬
‫من وراء ظهره نطق ب�صوت غريب خافت على حافة اخلطر م�شددًا‪:‬‬
‫«على كل حال‪ ،‬ال �أريد �أن �أعرف �شي ًئا‪ ،‬لن تريحني �إال دما�ؤه عندما تغطي‬
‫مالب�سي‪».‬‬
‫مل ينتظر الرد وهو يندفع مغاد ًرا‪ ،‬فوقت اال�ستعداد احلقيقي قد‬
‫اقرتب‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫تدخل �إبراهيم‬ ‫عاد ثالثتهم لالجتماع وو�ضع خمططهم الأخري عندما َّ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قائل بهدوء‪�« :‬أال ترى �أن وقت �شريف قد حان لنك�شف له ورقتنا الأخرية؟»‬ ‫ً‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫التفت �سائد بتجهم لوجه عمر الذي كان منك ًّبا على حا�سوبه ي�س�أله‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫«هل تو�صلت ل�شيء؟»‬

‫ع‬
‫رد عمر وعينيه جتري على جهازه اخلا�ص املحمي ب�أعلى �سبل احلماية‬
‫حتى الكامريا اخللفية والأمامية للجهاز مغطاة بالكامل‪« :‬لقد ا�ستعان‬
‫فهمي ب�أحد �أفراد «الويب دارك»؛ لي�صل �إىل م�ؤ�س�س موقعنا احلقيقي بعد‬
‫اكت�شافه �أن املقر يف �أمريكا جمرد وهم مثل املقر على ال�شبكة العكنبوتية‪».‬‬
‫التفت �سائد يجيب �إبراهيم على �س�ؤاله املعلق‪�« :‬سمعت بنف�سك عدونا‬
‫ً‬
‫وتوح�شا فوق‬ ‫لي�س ب�سهل وتوجيهنا له �ضربة الآن مل يقتله‪ ،‬بل زاده جنو ًنا‬
‫متاما ويبد�أ يف‬
‫توح�شه؛ لذا �سيت�صرف كاملجنون قبل �أن يفقد �أع�صابه ً‬
‫التخبط‪ ،‬عندها فقط ن�ستطيع �أن ُن ْد ِخ َل �شريف يف معركتنا بكل �أريحية‪».‬‬
‫«ها نحن َذا»‪ ،‬هتفها عمر بانت�صار جعل كليهما يلتفت �إليه م�ستف�سرين‪،‬‬
‫فقال على الفور بثقة‪« :‬ا�ستطعت الدخول جلهاز فهمي اخلا�ص �أخ ًريا‪».‬‬
‫كان عمر يجل�س على املكتب الرئي�س عندما ا�ستدار ك ٌّل من �إبراهيم‬
‫و�سائد ليحاوطا جل�سته‪ ،‬جت َّول عمر لدقائق بني عدة ملفات يفتحها وينظر‬
‫‪294‬‬
‫فيها بتم ُّعن‪ ،‬رفع �سائد �إ�صبعه م�ش ًريا للحا�سوب وقال ب�صوت خفي�ض‪:‬‬
‫«ان�سخ هذا امللف‪� ،‬سيكون �أداة جديدة وف َّعالة يف ملف فهمي مدم ًرا كل‬
‫ذيوله‪».‬‬
‫جدا‬
‫اكفه َّر وجه عمر للحظات وهو يقر�أ عدة �أ�سماء بع�ضها مهمة ًّ‬
‫يف هذا البلد وبع�ضها �أ�سماء �أجنبية‪« :‬ه�ؤالء ال�سادة ور�ؤ�سا�ؤه الأعلى من‬
‫ي�ساعدونه على ترويج ب�ضاعته دون �أن ُيك�شف‪».‬‬
‫قال �سائد مبالمح غري مف�سرة‪« :‬ما فهمته من دجوى �أن الأمر يف‬

‫ع‬
‫البداية كان مقت�ص ًرا على جتارة داخلية حمدودة لطبقة الأغنياء �أو بع�ض‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ممن ي�أتون بغر�ض ال�سياحة العالجية‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫َّ‬

‫ش‬
‫تدخل �إبراهيم وهو يقول بقتامة‪« :‬تق�صد �سياحة جتديد الأع�ضاء‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫الهالكة على ح�ساب �أرواح �أبناء البلد‪».‬‬
‫رد �سائد بخفوت‪« :‬لن يفرق امل�سمى طاملا النتيجة واحدة‪� ،‬أما عن‬
‫�أرواح �أبناء البلد‪ ،‬تلك لي�ست غلطتهم بل غلطة حكومة ف َّرقت بني طبقاته‬
‫رادعا له�ؤالء القتلة وجتار الب�شر‪».‬‬‫ومل ت�ضع حدًّا ً‬
‫«يا اهلل»‪ ،‬نطقها عمر بحلق جاف و�أنامل ارتع�شت رغ ًما عنه على �أزرار‬
‫�شبحا خطري ظهر �أمامه فج�أة‪.‬‬‫احلا�سوب‪ ،‬بينما �شحب وجهه وك�أنه ر�أى ً‬
‫كامل مكانه وك�أن العامل كله وقف يف حلظة من‬ ‫جت َّمد ج�سد �سائد ً‬
‫حوله بينما مالحمه يف تلك اللحظة َب َد ْت وك�أنها ُن ِحتَت من ال�صخر‪:‬‬
‫«كيف و�صلوا �إليك؟ كل املعلومات لديهم وهمية ما عدا ا�سمك‪».‬‬
‫هم�س عمر ب�صوت �ساخر يتلب�سه الفظاظة ليداري ارتعا�ش قلبه‬
‫واختناق �صدره‪« :‬كما نحن و�صلنا لأدق املعلومات عنهم‪ ،‬يبدو �أن ا�سمي‬
‫كاف‪».‬‬
‫كان �أكرث من ٍ‬

‫‪295‬‬
‫ا�ستف�سر �إبراهيم بتوج�س‪« :‬نحن نعرف �أنك مك�شوف لديهم بالفعل‬
‫ويبحثون بجنون عنك‪ ،‬ما امل�شكلة يف هذا؟»‬
‫مل ير َّد عمر ب�شيء‪� ،‬أغم�ض عيناه للحظة ب�أمل بينما من خلف جفونه‬
‫م�سطحا يحمل كل �أمل الدنيا‬
‫ً‬ ‫املغلقة ال يرى �إال وجه رابحة احلنون وبط ًنا‬
‫طفل وحل ًما وحيا ًة كانت من حقه بعد �سنني من العذاب‬ ‫بداخله‪ ،‬يحمل ً‬
‫والقهر والظلم‪.‬‬
‫قطع �أفكاره من نف�سه بينما يتابع عمله قبل �أن يك�شف �أحد تهكريه‬

‫ع‬
‫ملعلومات فهمي وقال ب�صوت جاف‪« :‬يبدو �أنهم و�صلوا لبع�ض احلقائق‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عني؛ ا�سمي و�سني وهويتي احلقيقة‪».‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫نوعا من الندم‪« :‬هذا‬‫�صمت ليتابع �سائد ب�صوت خفي�ض احتلت نرباته ً‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫يعني �أن عمر �أ�صبح مك�شو ًفا بالكامل لهم حتى �إن تخل�صنا من فهمي َومنْ‬

‫ع‬
‫معه �سيظل هناك من يتبعه ممن هم �أ�شد خطورة‪».‬‬
‫َع َّم ال�صمت القامت بظالله على ر�ؤو�س ثالثتهم‪ ،‬بينما يوا�صل عمر‬
‫جمع املعلومات دون �أن ينب�س ببنت �شفة‪ ،‬انتهى من تخزينها على الفال�شة‬
‫الأخرية وناولها ل�سائد ب�صمت ثم �أغلق احلا�سب بهدوء وقال‪�« :‬أعتقد �إىل‬
‫هنا انتهى دور هذا اجلهاز‪».‬‬
‫فريو�سا مدم ًرا‬
‫ً‬ ‫�أوم�أ �سائد مواف ًقا ف�أخرج عمر فال�شة �أخرى حتوي‬
‫لقاعدة البيانات‪� ،‬أدخله يف اجلهاز وانتظر ب�صرب مبالمح مغلقة‪ ،‬ثم وقف‬
‫بعدها متج ًها ناحية احلمام الداخلي ملقرهم متمت ًما ب�صوت خفي�ض‪:‬‬
‫متاما‬
‫«هذا �أ�ضمن للجميع يف الوقت احلايل‪� ،‬س�أ�ضعه حتت املياه لأتلفه ً‬
‫وي�صبح بعدها غري �صالح لأي ا�ستخدام لو و�صل له �أحدهم‪».‬‬
‫اختفى عمر‪ ،‬بينما انهار ج�سد �سائد على املقعد وا�ض ًعا ر�أ�سه بني‬
‫متاما‪ ،‬كيف انفلت الأمر من يده؟‬‫كفيه‪ ،‬مل ي�ستطع التفكري وعقله متوقف ً‬
‫‪296‬‬
‫لقد كان يغطي عمر جيدً ا حتى اللحظة‪ ،‬كان خمططهم الأول �أن ي�صلوا‬
‫متاما يف املواجهة الأخرية دون �ضرر‬
‫�إىل هذه النقطة وبعدها يبعد عمر ً‬
‫ُي ْذ َكر‪.‬‬
‫�ضاقت عي َنا �سائد ب�شدة‪ ،‬وب�صره يقع على هاتف عمر الذي �أنار‬
‫لو�صول ر�سالة ن�صية‪ ،‬مل ي�ستطع �أن يقاوم الأمر وهو ميد يده ميرر الرقم‬
‫ال�سري والذي يعرفه بطبيعة احلال بينهم‪.‬‬
‫«لقد ر�أيت ال�صغري لتوي ومل �أ�ستطع �أن �أنتظر جلعلك تراه‪� ،‬إنه تلك‬

‫ع‬
‫النقطة البي�ضاء ال�صغرية و�سط ذلك ال�سواد الذي يحيط ال�صورة التي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أر�سلتها لك م�سب ًقا‪� ،‬أحبك ال تت�أخر الليلة‪� ،‬أنتظرك‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫ا�شتعلت بني عينيه حرب غري متنازلة تتقاذفه بنزاع‪ ،‬بينما احلل‬

‫ر‬
‫‪ q q q‬والتوز عي‬
‫يوم�ض من دهليز عقله‪« :‬عمر يجب �أن يبقى للجميع‪ ،‬يجب �أن يحقق حل ًما‬
‫ف�شل فيه هو ورمبا لن ينجح فيه حتى �إن �أراد‪».‬‬

‫مرت ليلة طويلة يرتقب ك ٌّل من �أفرادها اخلطر القادم املهدد‪ ،‬ال‬
‫يعرف من �أين قد ت�أتيه ال�ضربة‪ ،‬من �أين قد ي�أتي ق�ضا�ؤها املحتوم �إال َمنْ‬
‫يوما‪.‬‬ ‫َغ َّرته الدنيا باملال واجلاه و�سلطة مل تكن من حقه ً‬
‫اب َل َع َّل ُك ْم‬ ‫ا�ص َح َيا ٌة َيا �أُ ِول ْ أ‬
‫الَ ْل َب ِ‬ ‫«ميهل وال يهمل»‪َ « ،‬و َل ُك ْم ِف ا ْل ِق َ�ص ِ‬
‫َت َّت ُقونَ »‪ ،‬وقف �سائد من نومته الق�صرية التي ق�ضاها على كنبة يف‬
‫غرفتهم التي �شاهدت رحلتهم الطويلة‪ ،‬يف ق�صا�صه العادل‪ ،‬يف �صرخته‬
‫التي �سيبذل �آخر قطرة يف دمه لت�صل ملجتمع ُي�صر على َ�ص ِّم �أذنيه وو�ضع‬
‫ه�ش من‬ ‫غ�شاء حريري على عينيه م�سترتًا خلفه‪ ،‬حمتم ًيا خلف جدار ٍّ‬
‫الأمن والأمل الزائف‪.‬‬

‫‪297‬‬
‫«لقد حان الوقت‪ ،‬يجب �أن �أبقى مع حماد خطوة بخطوة حتى ال يتهور‬
‫ويزيد جنونه‪».‬‬
‫قال عمر بت�شديد‪�« :‬ستذهب من الآن‪� ،‬إنهم كخفافي�ش الظالم‬
‫�صفقاتهم تتم ً‬
‫ليل‪».‬‬
‫لدي �شيء هام يجب �أن �أفعله قبل �أن‬
‫قال �سائد بغمو�ض‪�« :‬أعرف ولكن َّ‬
‫�أحترك‪ ،‬كما �أن اليوم بالذات يجب �أن �أبقى بجانب حماد �أدعمه و�أ�سيطر‬
‫على عقله بطريقتي‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫«ح�س ًنا �إذن �إنه وقتنا جمي ًعا لن �أتركك‪� ،‬أعتقد �أنه حان وقت ظهوري‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫التفت �إليه �سائد ورماه بنظرة جامدة‪ ،‬وهو يقول بربود‪« :‬ال‪� ،‬أنت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�ستذهب لدجوى يف منزيل ت�صطحبها ب�أمر مبا�شر مني لبيت �صفية مع‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫زوجتك‪ ،‬وال �أريد �أن �أرى وجهك �أو تت�صل بي حتى �آتي �أنا بنف�سي �إليكم‪».‬‬
‫خال من التعبري‪« :‬ما الذي يعنيه هذا؟ هل هذه‬ ‫قال عمر ب�صوت ٍ‬
‫حماولة لتنحيتي بعيدً ا لأجل�س مع الن�ساء؟!»‬
‫ا�ستدار �إليه �سائد بكليته هات ًفا بقوة �صارمة‪�« :‬أنا ال �أنحيك من �شيء‪،‬‬
‫ألتف حول الأمر ولكن ما حتاول دفع نف�سك �إليه‬ ‫�إن �أردت ابتعادك لن � َّ‬
‫جدا‪ ،‬جولة الليلة هي جمرد حماولة جتريبية فم�ؤكد �أن فهمي لن‬ ‫مبكر ًّ‬
‫قدم‬
‫يجازف ويظهر فيها‪� ،‬أما عن مالحقتك فهذا �أكيد يجري الآن على ٍ‬
‫و�ساق‪ ،‬وبيت �صفية يف الأحياء ال�شعبية و�سط �أبناء البلد على حق هو‬
‫حام‪،‬‬
‫املالذ املنا�سب لن�سائنا‪ ،‬وبالطبع �أنت �ستكون متواجدً ا معهنَّ كجدار ٍ‬
‫حتى �أقرر �أن �أ�ضرب �ضربتي القاتلة والأخرية‪».‬‬
‫حترك �شيء ما بحلق عمر قبل �أن يقول بجمود �أجوف غري مقتنع‪:‬‬
‫«و�أنا قلت ال»‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫ا�شتعل �شيء ما يف عني �سائد‪� ،‬شي ًئا �أ�شد عم ًقا وقتامة‪ ،‬ثم ا�ستدار‬
‫قائل بحزم‪�« :‬أنت ال متلك حق قول ال‪ ،‬وال حتتاج �أن �أذكرك �أين �أنا‬‫�أخ ًريا ً‬
‫من يقرر دور كل واحد منكم يف تلك اللعبة‪».‬‬
‫مذهول‪« :‬لعبة! هل ت�سمي هدفنا‬‫ً‬ ‫�صوت عمر �أتى من خلفه هات ًفا بقوة‬
‫عاما لعبة؟!»‬
‫الذي �أخل�صنا له خم�سة ع�شر ً‬
‫انخف�ضت نربات �سائد و�أخذ يف ال�سكون اجلزئي قبل �أن يقول ب�صوت‬
‫أرواحا بريئة نحرقها بجحيم ما عانيناه‬ ‫خافت ب�سيط‪« :‬عندما ُن ْد ِخل فيها � ً‬

‫ع‬
‫ُت�صبح لعبة‪ ،‬ونحن حكام غري من�صفني‪».‬‬

‫يفقدتكل اخليوط التي تربطه بالتعقل‪ ،‬كانت عينا‬


‫‪q q q‬‬
‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬
‫شالتي و�صلت ب�سبعة من رجال‬
‫ر‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫فهمي‪� ،‬ستة �أطباء وحار�س واحد كما هو متبع دائ ًماويف‬
‫ا‬
‫كاملجنون الذي‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬


‫�شحناتهم‪ ،‬هدر‬‫ت‬ ‫ل‬ ‫العربة‬ ‫يتفح�ص‬ ‫حماد تدور ب�شر خال�ص وهو‬

‫بجنون ورجاله تخرج من كل جحر كالزواحف ال�سامة ليطوقوا ال�سيارة‬


‫وي�صبح كل واحد منهم يثبت �أ�صحاب املعاطف البي�ضاء معدومي الرحمة‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪�« :‬أين فهمي؟ لقد كان �أمري‬ ‫وال�ضمري ك�سيدهم‪ ،‬هدر حماد‬
‫وا�ضحا هو قبلكم‪».‬‬
‫ً‬
‫تقدم �أحد الأطباء وذراع فهمي اليمني يخربه ب�صوت مرتع�ش مرتعب‬
‫مما يراه حوله‪« :‬وماذا تريد منه؟ �أعطنا الطفلة وباقي الب�ضاعة وخذ‬
‫مالك ودعنا نرحل من هنا‪».‬‬
‫جز حماد على �أ�سنانه ورفع هاتفه يطلب فهمي على الفور‪� ،‬أجابه وقال‬
‫ب�صوت �شرير‪�« :‬إن مل ت�أت بنف�سك لي�س لديك بنات وال ب�ضاعة عندي‪».‬‬
‫‪299‬‬
‫برقت عينا فهمي البغي�ضتني بالكره املخالط للغرور وقال مرتف ًعا‪:‬‬
‫«�أنت �أ�صبحت غري م�ؤمتن اجلانب‪ ،‬لن �آتيك بنف�سي �إن كنت تريد املال‬
‫فهو لديك‪ ،‬و�إن كنت تبحث عن تعوي�ض �س�أمنحك املزيد‪ ،‬والآن تعقل وقم‬
‫بجانبك من ال�صفقة‪ ،‬واعلم �إن طاوعتك فب�سبب الع�شرة القدمية بيننا‪».‬‬
‫التفت حماد ل�سائد الذي �سمع املكاملة كاملة ك�أنه يطلب منه العون‬
‫�أو التفكري‪ ،‬ف�أ�شار �إليه �سائد بغلق الهاتف‪ ،‬فلم يتوانَ حماد عن فعلها‪،‬‬
‫م�ستم ًعا ل�سائد الذي هم�س على الفور‪« :‬هناك �شيء غري طبيعي يحدث يا‬

‫ع‬
‫معلم‪ُ � ،‬أ�ش ُّم رائحة الغدر يف كالمه‪ ،‬يبدو �أننا �أخط�أنا التقدير‪ ،‬فاحليوان‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫فهمي ال ته ُّمه ابنته كما اعتقدنا‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫«فيم ت�شك؟»‬
‫بتوج�س �س�أله حماد‪َ :‬‬
‫ُّ‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ً‬
‫�صارخا ب�صوت جهوري فج�أة‪« :‬خيانة يا معلم‪ ،‬خيانة مرة‬ ‫قال �سائد‬
‫�أخرى‪».‬‬
‫تال�شى تفكري حماد ورجاله كل ًّيا عندما �سمعوا �صوت «�سرينات»‬
‫�سيارات ال�شرطة التي ت�أتي من بعيد‪ ،‬مقرتبة عليهم �شي ًئا ف�شي ًئا‪� ،‬صرخ‬
‫�سائد مرة �أخرى‪« :‬هي يا معلم‪ ،‬دعنا نهرب من هنا‪».‬‬
‫�أخذ وجه حماد ينقلب بخطورة‪ ،‬خطورة م�ؤذية �شر�سة كحيوان دموي‬
‫مل يذق طعم اللحم منذ �أعوام وخرج من �سباته �أخ ًريا ليتذوق بتلذذ‪،‬‬
‫ومتلكته يف تلك اللحظة رغبة جارفة وم�ؤملة يف االنتقام عندما �أخرج‬
‫«�سنجة» كبرية حادة وباترة من قاطعة من جنبه‪ ،‬وهو يقول بنربة مظلمة‪:‬‬
‫«لي�س كل مرة �س�أهرب تار ًكا حقي و�أنا بيدي �س�أناله يف حلظات‪».‬‬
‫مل ي�سبق ل�سائد من قبل رغم كل ما ر�آه يف حياته‪� ،‬أن ر�أى جمزرة‬
‫�سريعة كالتي يراها حتدث �أمامه‪ ،‬مل يقرتب ومل ي�شارك معهم‪ ،‬بينما‬
‫‪300‬‬
‫يف �أقل من دقيقتني‪ ،‬كان حماد ورجاله يهجمون على كب�ش الفداء الذي‬
‫دفاعا عن روحه‪.‬‬ ‫�أر�سله فهمي ً‬
‫أي�ضا و�سيوف حادة تلمع �أطرافها من �شدة‬ ‫ال�سنج وال�سكاكني بل � ً‬
‫جتهيزها‪ ،‬تقطع يف �أج�ساد ه�ؤالء الدكاترة دون ذرة رحمة ب�صراخهم‬
‫املتعايل‪ ،‬لطخت الدماء املكان واجلثث املتفرقة �أ�صبحت تعمي عينيه‪ ،‬فلم‬
‫يعد يعرف َمنْ فيهم ُذ ِب َح ومن تلقى طعنات مبا�شرة نحو قلبه �أو �أع�ضائه‬
‫الب َكة الوا�سعة من الدماء التي �أ�صبحت‬
‫احليوية‪ ،‬كل ما ا�ستوعبه تلك ِ ْ‬
‫تعوم بها �أ�شالء ب�شرية‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫وجماعات ‪ -‬تفعل ما تفعل‪ ،‬وترتك ما ترتك‪،‬‬‫ٍ‬ ‫و�إمنا الأمم ‪� -‬أفرادًا‬

‫والتوز عي‬
‫ُحا�سب مبا‬
‫ُواجه مبا فعلت‪ ،‬و�ست َ‬‫يوما ما �ستقف �أمام ربها‪ ،‬و�ست َ‬ ‫لكنها ً‬
‫تركت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ُ َّ َّ َ َ ً ُ ُّ َّ ُ ْ َ‬ ‫ََ‬
‫﴿وت َرى ك أم ٍة جاثِية ك أم ٍة تدع إىل‬ ‫ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‪:‬‬
‫َ َ َْْ َ َُْ ْ َ َ ُ ُْ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫كِتابِها الوم تزون ما كنتم تعملون﴾‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫وقف حماد ورجاله يلهثون من فرط جنون اللحظة قبل �أن يهتف‬
‫حماد به‪« :‬هل �ستظل �ضيف �شرف ُت�صورنا بعينيك �أم ماذا؟ هيا حترك‪،‬‬
‫ال�شرطة على �أبواب احلارة‪».‬‬
‫للحظة فقط تعلقت عينا �سائد على تلك الأرواح التي ُز ِه َقت ً‬
‫�سائل‬
‫روحا قد �أنهوها هنا بربود دون ذرة ندم �أو رحمة؟ ما بالك يا‬ ‫نف�سه كم ً‬
‫�سائد �أ�صبح الأمر ال يهزك وك�أن ما تراه ت�ستعيد حياتك التي ُ�س ِل َبت منك‬
‫ببطء عرب الق�ضاء على جميع �أ�شباحك؟!»‬
‫‪301‬‬
‫‪q q q‬‬
‫عندما ا�ست َّل فهمي هاتفه كان يتحرك بتعرث جمنون يف موقعه غري‬
‫البعيد عن ال�صفقة التي جتري‪ ،‬هم�س �أحد رجاله يف �أذنه بعد ن�صف‬
‫�ساعة مبا جرى‪� ،‬صرخ بغ�ضب وحقد وجنون‪ ،‬خيوط اللعبة تن�س ُّل من بني‬
‫يديه كاملاء اجلاري‪« :‬وابنتي‪� ،‬أين هي يا غبي؟ ال يهمني ما حدث له�ؤالء‬
‫القطيع‪».‬‬
‫�صرخها بلهاث جمنون‪ ،‬بعينني حمراوين متوعدتني بالويل‪« :‬مل تكن‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫فخا كما خمنت �أنت‪».‬‬ ‫معهم‪ ،‬مل يكن �أحد معهم‪ ،‬لقد كان ًّ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫�صرخ فهمي وهو يخبط بكلتا كفيه على ال�سيارة بجنون �أتلف تالبيب‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫عقله و�أفقده املنطق‪ ،‬احلنكة واخلبث الذي �أو�صله للكثري مما هو فيه‪،‬‬

‫ع‬
‫مهرول من ال�سيارة وهو يقول ب�شحوب‪« :‬و�صلتنا ر�سالة‬ ‫ً‬ ‫خرج �أحد �أعوانه‬
‫�أخرى م�صحوبة ب�صورة البنتك يا ري�س‪».‬‬
‫جتمدت الدماء يف عروق فهمي وهو يفتح امللف املر�سل من �إميل جمهول‬
‫الهوية‪ ،‬انتف�ض داخله بذعر تلقائي ووجهه يتحول لب�شرة الأموات‪ ،‬بينما‬
‫ي�صرخ امللف �أمامه ب�صور وم�ستندات �إن ُع ِر َفت �س ُيق�ضى عليه ال حمالة‪.‬‬
‫�أر�سل �إميل ت�صرخ حروفه بجنونه‪«َ :‬منْ �أنت؟ ويف �أي �شيء ت�سعى؟»‬
‫مرت دقيقة واثنتان وع�شرة قبل �أن ي�أتيه ات�صال من هاتف عالء‬
‫املختفي منذ �أ�سابيع‪� ،‬أتاه ال�صوت من �أعماق اجلحيم‪�« :‬أنا مر�سال‬
‫اجلحيم الذي �سي�أخذك معه‪».‬‬
‫قائل‪�« :‬أنت ال�شريك ال�سري‬ ‫ت�صاعد بقوة غ�ضبه متحدً ا مع غروره ً‬
‫لعبت مع ال�شخ�ص اخلط�أ‪ ،‬ووعد مني لن مت َّر‬ ‫للغبي عمر النا�صر‪� ،‬أنت َ‬
‫نازعا �أح�شاءك‪».‬‬
‫ليلة �أخرى عليك �إال و�أنا مغرق يدي بدمك ً‬
‫‪302‬‬
‫قال �سائد بربود جليدي‪« :‬لقد فعلتها من قب ُل بزوجتي وطفلي‪ ،‬فدعنا‬
‫فقط نتفق �أن من الغباء �أن تتخيل �أين �س�أمكنك من لدغي مرتني‪».‬‬
‫�صمت عن َق�صد ثم تابع ب�آتون الغ�ضب‪« :‬ولكن ال�صورة اجلميلة‬
‫لفتاتك املمددة على طاولتي ت�ؤكد �أنها من �سرتاق دما�ؤها هذه الليلة‪».‬‬
‫نظر فهمي حوله بعينني جمنونتني �صارختني‪« :‬ما الذي تريده؟ املال‬
‫و�أر�سلته اليكم‪».‬‬
‫بروده وغروره تعمله على ذكرى زوجته وطفله وك�أنه يرتفع عن الإجابة‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫منحه الهدوء ال�شديد‪ ،‬وال�سكون الأ�شد وما الذي توقعه من تاجر نفو�س؟!‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫نطق ب�صالبة منه ًيا الأمر‪« :‬ر�أ�سك‪ ،‬لن �أتنازل عن ر�أ�سك �أو ابنتك‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قال فهمي بتوعد‪�« :‬س�أقتلك»‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫رد �سائد بجليده املقت�ضب‪�« :‬أنتظر لقاءك هذا منذ زمن طويل‪� ،‬إن‬
‫كنت تخاف على ُ�س ْم َعتك وابنتك قابلني وحاول معي‪».‬‬
‫با�ستخفاف وازدراء قال فهمي‪« :‬وما الذي يجربين على هذا و�أنا قادر‬
‫على �أن �آتي بر�أ�سك حتت قدمي؟!»‬
‫قال �سائد بهدوء م�صطنع‪« :‬ابنتك وكل املعلومات التي بني يديك‬
‫مقابل نزال �أخري بيننا‪� ،‬ستكون الكلمة النهاية فيها قطع ر�أ�سك �أو ر�أ�سي‪».‬‬
‫زجمر فهمي بغ�ضب وال�صدمة تعمي ب�صريته‪�« :‬أيها ال�سافل‪ ،‬وما‬
‫الذي يجربين على ما تتفوه به من غباء؟»‬
‫قال �سائد ب�صرامة‪« :‬كل ما �أُ ْه ِد َر من الدماء �أنت جل�شعك وحقارتك‪،‬‬
‫لأ�صل �إليك كي �آخذ ث�أري‪ ،‬بب�ساطة �أنا لن �أ�س ِّلم نف�سي لل�شرطة بل هديف‬
‫علي وعلى �أعدائي و�س�أ�سلمهم كل �شيء‬ ‫هو �أن ت�أتي بكامل رغبتك‪� ،‬أو َّ‬
‫لديك بجانب �أح�شاء ابنتك‪».‬‬
‫‪303‬‬
‫�صرخ فهمي بينما ات�سعت فتحتا �أنفه وهو ينفث اللهب‪ ،‬تو َّقف للحظة‬
‫ورجله يعر�ض �أمامه ا�سم و�صورة يعرفهم عن ظهر قلب‪� ،‬صورة �أوقدت‬
‫النار املجنونة بداخله‪ ،‬ومتنى لو كانت �أمامه الآن ليمزقها حية‪.‬‬
‫«العاهرة»‪ ،‬غلطته الوحيدة �أنه تركها على قيد احلياة‪.‬‬
‫«�أنت متزوج من العاهرة بنت غ�سان هي من دفعتك نحوي‪».‬‬
‫برقت عينا �سائد بقوة جمنونة وفلتت �أع�صابه حلظة وهو يقول من‬
‫بني �أ�سنانه بوعد مهما كلفه لن يخلفه �أبدً ا‪�« :‬س�أحرق ل�سانك‪� ،‬صدقني‬

‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫�سيكون �أول ما �أحرقه قبل �أن �أُ َ�ش ِّف َيك مثل �صغريي‪� ،‬س�أجعلك تتمنى املوت‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫وال تناله‪».‬‬

‫و‬ ‫ش‬
‫لت�صل �إر َّ‬‫ن‬
‫�ساعات القاد�ًراأكرث‪».‬على �شيء افعله‪� ،‬أما �أنا �س�الآتيتوبك يا ع‬
‫قبل �أن يقطعها بنف�سه وهو يقول بغرور م�ستفز‪:‬‬ ‫بتع�صب‬ ‫�ضحك فهمي‬

‫زي�سائد‬
‫يل وهذا ما لن تناله‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫«يبدو �أنك تتكلم فقط‪ ،‬التففت كل‬
‫�أ�سماء لديك �إن كنت‬
‫العو�ضي خالل‬
‫«الغبي فقط من يعتقد نف�سه �أذكى الب�شر يا فهمي النجار‪ ،‬و�أنا انتظر‬
‫منك مكاملة �أخرى خالل ال�ست �ساعات القادمة‪� ،‬إما �أن ت�أتي بر�أ�سي �أو‬
‫تكون مطي ًعا وت�أتي ملقابلتي يف وكر حماد القدمي‪ ،‬و�إال �سي�صل خرب وقوعك‬
‫لأ�سيادك قبل ال�شرطة‪ ،‬وبالطبع �أنت تعلم نهاية �أن ُت ْك َ�ش َف ح�شرة مثلك‬
‫لديهم‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫بعد وقت طويل كان يتجول يف ال�شارع كما عاداته القدمية‪ ،‬ينظر لكل‬
‫يوما �أو �سرته من برد �شتاء قار�ص كاد �أن يقتله‬
‫زقاق‪ ،‬لكل ج�سر �آواه ً‬
‫‪304‬‬
‫بردًا‪ ،‬ليقوم هو و�أقرانه ب�إ�شعال نار لن ت�ؤثر ب�شيء ولكنهم كانوا يتم�سكون‬
‫بالوهم والقوة‪ ،‬تاركني �أمرهم �إىل اهلل بالفطرة‪.‬‬
‫وقف �سائد �أمام حي زوجة عمر يلتقط �أنفا�سه‪ ،‬ينظر لنور الفجر‬
‫الذي بد�أ يف االنبالج هُ وي ًنا هُ وي ًنا ك�أنه ُيخربه �أن �شعلة احلق التي �أق�سم‬
‫�صارخا �أو�شكت على الظهور كما �شم�س ال�صباح التي‬ ‫ً‬ ‫يوما‬
‫�أن يحملها ً‬
‫ُت�صر على الوالدة كل يوم بعد �أن يغتالها ظالم الليل الطويل‪.‬‬
‫�أخرج هاتفه بهدوء ينظر �إىل مواقع الأخبار املحلية نظرة فارغة‬

‫ع‬
‫جامدة خالية من �أي �شعور‪ ،‬مرت عيناه على ال�سطور فلم ي�شعر ال بالت�شفي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫وال ال�شماتة بل فقط العدل لكل َمنْ زهقت روحه يف اخلفاء ومل يعلم عنه‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أحد �شي ًئا‪ ،‬لكل نف�س ُو ِئدت بغري حق‪ ،‬لكل قلب �أم مكلومة‪ ،‬ولكل قلب �أب‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫احرتق على فرعه الذي قطعوه ِف ًعل و َق ًول‪.‬‬
‫باخلط العري�ض على واجهة كل ال�صحف واملواقع‪« :‬جمزرة الأطباء‬
‫و�سائقهم يف �أحد الأماكن امل�شبوهة والتي ُت ْع َرف ب�أنها مرتع للبلطجة‬
‫والإجرام‪ ،‬مل يعرف �أحد حتى الآن ما �سبب جتمعهم �أو ذهابهم هناك‪،‬‬
‫ولكن ي�شك املحققني �أنه فخ ُن ِ�ص َب ملالئكة الرحمة‪ُ ،‬‬
‫وغ ِد َر بهم من قبل‬
‫�آفات املجتمع‪».‬‬
‫مال خط فمه مبا ي�شبه االبت�سامة‪ ،‬بينما احتلت عينيه ال�سخرية‬
‫املعتادة‪ ،‬جتنب اخلرب باح ًثا عن خرب �آخر بعينه فوجده هناك يف �إحدى‬
‫مهمل غري مرئي ك�أنه ال �شيء حتى خرب موتك جمرد‬ ‫الأخبار ال�صغرية ً‬
‫ح�شرة‪ ،‬ح�شرة و�أفعى �سامة‪ ،‬لدغت �آالف الأبرياء وحرقت قلوب ع�شرات‬
‫الأُ َ�سر‪.‬‬
‫متاما ومل‬
‫«العثور على جثة جمهولة الهوية نه�شتها احليوانات ال�ضارية ً‬
‫يبق منها �إال جمرد بقايا جيفة‪».‬‬
‫‪305‬‬
‫نف�سا متمال ًكا لأع�صابه قبل �أن ي�ضغط رقم‬ ‫�أغلق عينيه وب�صعوبة �أخذ ً‬
‫�إبراهيم‪ ،‬الذي �أجابه على الفور فقال �سائد بهدوء‪�« :‬أخرب �شريف �أين‬
‫م�ستعد الليلة‪ ،‬ولكن لن يهاجم املكان �إال بعدما �أنتهي �أنا‪».‬‬
‫قال �إبراهيم ب�صوت باهت‪�« :‬سائد‪� ،‬أريد �أن �أخربك �أن فهمي و�صل‬
‫�إىل ا�سمك �أنت �أخ ًريا‪».‬‬
‫�أغم�ض �سائد عينيه وقال بخ�شونة‪« :‬مل يعد مه ًّما �أنا �أ�سبقه بخطوات‬
‫وغروره �سيمنعه الت�صديق‪ ،‬وهذا ما �ألعب عليه وال تن�س ابنته ما زالت بني‬

‫ع‬
‫يدي‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫رد �إبراهيم بهدوء‪« :‬وهذا يعني ‪»...‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قال �سائد بنف�س النربة‪« :‬يعنى كما �أخربتك‪ ،‬لي�س لديه الوقت للتحرك‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫كل �شيء �سيتم الليلة‪».‬‬
‫قال �إبراهيم‪« :‬هل و�صلك خرب حماد؟»‬
‫«نعم‪ ،‬ر�أيته الآن‪� ،‬صف يل كيف حدث؟»‬
‫قال �إبراهيم بتوتر وا�ص ًفا ب�شاعة ما ر�آه‪« :‬بعد �أن �أخذه رجله وف َّرا م ًعا‬
‫بتلك ال�سيارة دون �أن يتوقف لك �أو لباقي رجالهم‪� ،‬ساد الهرج بينهم مع‬
‫�صوت �سيارة ال�شرطة التي جئت بها �أنا و�شريف كما اتفقنا معك م�سب ًقا‪».‬‬
‫قاطعه �سائد بخ�شونة‪�« :‬إبراهيم �أعرف ما تقوله كنت هناك‪ ،‬ماذا‬
‫حدث بعدها؟»‬
‫متالك نف�سه قبل �أن يجيبه‪�« :‬أعني تابعتهم من بعيد‪ ،‬بعد �أن دخال‬
‫يف طريق �صحراوي خميف وبعد دقائق قليلة من �شجار يبدو �أنه حدث‬
‫بينهما ُف ِت َح باب ال�سيارة ليهبط منه ذلك ال�شاب ويلقي بج�سد حماد‬
‫اجلريح والذي يبدو �أنه �أخذ �أكرث من طعنة‪».‬‬
‫‪306‬‬
‫�صمت �إبراهيم فحثه �سائد‪« :‬وبعدُ‪ ،‬كيف و�صلت �إليه تلك احليوانات؟»‬
‫قال �إبراهيم بحرية‪« :‬ال �أعرف‪ ،‬مل �أكد �أ�ستوعب ما يحدث‪ ،‬وقررت‬
‫طلب ال�شرطة والإ�سعاف وان�صرفت‪ ،‬ولكن يبدو �أنهم و�صلوا مت�أخرين‬
‫كما عادتهم‪ ،‬وبعدها قر�أت اخلرب مثلك‪».‬‬
‫�صمت للحظة قبل �أن يقول ب�صوت مكتوم‪« :‬لقد متت مهاجمته و�أكله‬
‫ح ًّيا‪ ،‬كما ُك ِت َب يف تفا�صيل اخلرب‪».‬‬
‫ثقيل م�شب ًعا بهواء الفجر النظيف‪ ،‬ثم ما‬ ‫نف�سا �آخر عمي ًقا ً‬
‫�أخذ �سائد ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫لبث �أن قال بب�ساطة‪« :‬الأمر كان �أ�سهل مما توقعت‪ ،‬رجله هذا كان يدافع‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫عنه با�ستماتة‪ ،‬ومل يحتج مني �إال دفعة ب�سيطة و�إغواء باملال ال ُي ْذ َكر‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مال ليقتله؟»‬‫ا�ستفهم �إبراهيم ب�شك‪« :‬هل منحته ً‬

‫والتوز عي‬
‫قال �سائد بتهكم‪« :‬بالطبع ال‪ ،‬لن �أك�شف نف�سي لأحمق طامع مياثل‬
‫حماد وح�سان قذارة‪ ،‬بل جمرد تالعب بالكالم واللعب على نقاط �ضعفه‬
‫الب�شرية الطامعة‪».‬‬
‫�صمت لربهة قبل �أن يقول بال اهتمام‪« :‬ب ِّل ْغ عن ال�سيارة �أنها ُ�س ِر َقت‬
‫منا‪ ،‬يجب �أن يجدوه و ُيزَ ج يف ال�سجن‪ ،‬كلب مثله �إن �أُ ْط ِلقَ يف ال�شارع لن‬
‫يكتفي مبجرد ع�ضة‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫رفعت ر�أ�سها جمفل ًة عندما �شعرت بكيانه يحتل امل�ساحة ال�صغرية‬
‫لغرفة « ُق َ�ص ٍّي»‪.‬‬
‫�سيطرت على رجفة قوية من احلاجة لأن تقف الآن راك�ضة �إىل ذراعيه‬
‫للت�أكد �أنه يقف �أمامها‪ ،‬ال كما ظنت بالأم�س عندما �أتى عمر لي�صطحبها‬
‫يوما‬
‫�إىل هنا ب�إحلاح و�صرامة مل تقبل حتى املجادلة‪ ،‬لن ت�ستطيع �أن تنكر ً‬
‫‪307‬‬
‫�أنه برغم كل احلرب التي ُط ِح َنت فيها معه غري �أن �سائد َم َّث َل لها �أما ًنا مل‬
‫جدا‪ ،‬منذ �أن اكت�شفت حقيقة والدها املخزية منذ‬ ‫ت�شعر به لوقت طويل ًّ‬
‫�أن طعنها غ�سان الها�شمي باعرتاف قتلها حية حطم مثلها الأعلى و�صورة‬
‫الرجل املثايل والأب الرائع والطبيب الرحيم احلنون التي ظنت‪.‬‬
‫كان ي�سري نحوها مبا�شرة دون �أن مينحها الفر�صة لإبداء �أي رد فعل‪،‬‬
‫نظراتها �إليه كانت مرتبكة مهتزة‪ ،‬و�صل �أمام الفرا�ش ال�ضيق‪ ،‬جل�س على‬
‫حافته ومنحها ظهره الذي ت�ش َّنج عندما ملح بطرف عينيه كيف مللمت‬

‫ع‬
‫نف�سها بني ذراعيها‪ ،‬بالت�ضامن مع �صوتها الذي خرج خافتًا مت�صل ًبا‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫«اخرج من هنا‪ ،‬مل �أعد �أريد ر�ؤية وجهك‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫رد ب�صوت �أج�ش م�شحون مب�شاعره املرهقة‪« :‬ب�ضع دقائق فقط وبعدها‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫حياتك �إىل الأبد‪».‬‬‫ِ‬ ‫�س�أختفي من‬

‫ع‬
‫قالت ب�صوت باهت �أظهر مدى كذب ادعائها‪« :‬ظننت �أنك ُقلت كل ما‬
‫لديك �آخر مرة يف مكتب �شقتك‪».‬‬
‫التفت �إليها بر�أ�سه‪ ،‬ف�شحب وجهها على الفور عندما ر�أت يف عينيه‬
‫ال�سوداوين ذلك الأمل الأ�شبه بذلك الناجت عن طعنه ب�سكني متزام ًنا مع‬
‫خاطرك �أن �أبقى ح ًّيا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫طلبت لأجل‬
‫أنت ِ‬ ‫قوله بهدوء معاك�س ملا يعاين‪« :‬و� ِ‬
‫ظننتك �ستهللني لر�ؤيتي‪».‬‬
‫ِ‬
‫�أ�شاحت بوجهها بعيدً ا عنه قبل �أن تقول ب�ضياع �شارد‪« :‬ال تطلب من‬
‫ال�شاه �أن حتب ذابحها‪».‬‬
‫اقرتب منها يف ملح الب�صر يجذب وجهها ب�إ�صبعيه نحوه وقال بخ�شونة‪:‬‬
‫ميكنك �أن تكرهيني بني ليلة و�ضحاها‪».‬‬ ‫ِ‬ ‫«ولكنك حتبيني‪ ،‬ال‬
‫ِ‬
‫نطقت ب�صعوبة من بني �أنامله املطبقة على فكها‪« :‬نعم‪ ،‬وكم هذا‬
‫ي�شعرين باالحرتاق والقهر والظلم‪».‬‬
‫‪308‬‬
‫للحظات َع َّم �صمت ثقيل متوتر بينهما قبل �أن ترتخي �أ�صابعه‬
‫املت�شددة وا�ستبدلها بكفه التي َغ َّطت جانب وجهها وقال بهم�س حارق‪:‬‬
‫إليك �أبدً ا مرة �أخرى‪ ،‬رمبا هذا‬
‫رجل لقتلته حتى ال يتطرق � ِ‬ ‫«لو كان القهر ً‬
‫أثقالك‪».‬‬ ‫عنك ً‬
‫بع�ضا من � ِ‬ ‫يخفف ِ‬
‫�أغلقت جفنيها لربهة وقالت ب�صوت �أج�ش م�شحون مب�شاعرها‬
‫امل�شو�شة‪« :‬ملاذا؟ هل �أحببتني فج�أة؟»‬
‫ع�صفت كالإع�صار‬
‫ِ‬ ‫أنت‬
‫ابتلع ريقه اجلاف‪ ،‬قبل �أن يقول بهدوء‪« :‬رمبا � ِ‬

‫ع‬
‫قبلك �أحد قط‪».‬‬
‫بداخلي كما مل يفعل ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫قالت من خلف جفنيها املغلقني بتهكم‪« :‬رمبا ال متثل �إجابة �شافية‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وللحقيقة مل تعد حتى �إجابتك متثل �شي ًئا لداخلي‪ ،‬اذهب من هنا و�أكمل‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫طريقك الذي بد�أت‪ ،‬وام�سحني من ذاكرتك �إن جنوت‪».‬‬
‫رنني هاتفه املتوا�صل مل مينحه الفر�صة للحديث معها للتفاهم فرتكها‬
‫�أخ ًريا وهو يقف على قدميه وقال بهدوء ب�سيط‪« :‬ال تتحركي من هنا حتى‬
‫ويعلمك �أن الو�ضع �أ�صبح �آم ًنا و�إن مل يحدث �أرجو ِ‬
‫منك �أن‬ ‫ِ‬ ‫ي�أتي �إبراهيم‬
‫لهروبك من البلد ب�أكمله‪».‬‬
‫ِ‬ ‫تتبعي ترتيباتي‬
‫مل متحنه �شرف الإجابة فطرق بب�صره بعيدً ا عنها مبتعدً ا عنها‬
‫ج�سد ًّيا وفكر ًّيا‪ ،‬منح كل م�شاعره جلانبه املتجمد املظلم‪� ،‬أخرج هاتفه‬
‫وكتب‪« :‬اجلب ابنة فهمي النجار وقابلني عند نقطتنا التالية‪».‬‬
‫�أتاه ات�صال �آخر ف�أجاب على الفور‪« :‬لديك دقيقة واحدة متنحني‬
‫�إجابتك‪».‬‬
‫�أتاه �صوت فهمي متمت ًما من بني �أ�سنانه‪�« :‬س�أ�شرب من دمائك‬
‫و�أقطعك �إىل الأ�شالء التي تتحدث عنها‪».‬‬

‫‪309‬‬
‫فقال �سائد ب�صوت فا�ض كراهية وا�شمئزا ًزا‪« :‬دعنا نرى من �سريق�ص‬
‫رق�صته الأخرية يا فهمي‪ ،‬رق�صة املوت‪».‬‬
‫ثم �أ�ضاف باقت�ضاب و�إيجاز مدر ًكا �أن �أ ًّيا من مراقبي الهاتف الذي‬
‫ي�ستخدمه يحتاجون �إىل �أكرث من �ستني ثانية لتحديد موقعه‪�« :‬إذن �إن هذا‬
‫موعد بيننا �أنتظرك يف وكر حماد القدمي‪».‬‬
‫متخل�صا من ال�شريحة التي ك�سرها لأجزاء‬
‫ً‬ ‫�أغلق الهاتف �سري ًعا‬
‫�صغرية‪ ،‬ثم �أتبعه ب�إغالق الهاتف ب�شكل نهائي وو�ضعه يف جيبه‪ ،‬مل يلتفت‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫«وداعا دجوى كوين بخري دائ ًما‪،‬‬
‫�إليها وهو يتحرك ناحية الباب ويخربها‪ً :‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫وحاويل � َّأل تقعي يف فخ ال�سراب مرة �أخرى‪ ،‬تذكري دائ ًما �أن �أخطاء‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ذنبك لتحمليها على عاتقك جمرب ًة ِ‬
‫نف�سك على دفع الثمن‪».‬‬ ‫العامل لي�ست ِ‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫بالغ�ضب ًأول؟»والثورة �صارخ ًة فيه‪« :‬هل �أنت �صادق مع ز عي‬
‫ظهره ممزوجة بالأمل وال�صدمة‪،‬‬ ‫خلف‬ ‫�أطلقت �ضحكة مقهورة من‬
‫ملاذا مل تن�صح‬ ‫نف�سك؟‬
‫نف�سك �‬
‫توتر ظهره دون �أن يحاول اال�ستدارة نحوها جمددًا‪ ،‬وك�أن ر�ؤيتها بحد‬
‫عليك الآن معاناتي و�آالمي‪،‬‬
‫ذاتها توجعه وت�ضعفه عندما قال‪« :‬لن �أعيد ِ‬
‫جربت الظلم �أخربيني عن طعمه يف حلقك‪».‬‬ ‫أنك ِ‬ ‫ولكن مبا � ِ‬
‫قالت بب�ساطة‪ُ « :‬م ٌّر كالعلقم»‪.‬‬
‫توىل الرد ب�صوت خافت �أتى من عمق معاناته‪ُ « :‬م ٌّر كالعلقم يف حلق‬
‫م�سلوب الإرادة‪ ،‬يدوم �سنني و�سنني وال يذوب‪ ،‬يلقي يف القلب ُغ َّ�صة �أ�شد‬
‫و�أعنف من �أن تذوب‪ ،‬تار ًكا يف الروح ُن ْد َبة �أبدً ا لن تزول‪ ،‬متنع حوا�سك‬
‫عن العمل و ُيجمد عمرك يف مفرتقات الزمن‪ ،‬فال عالج وال خال�ص منها‬
‫حقك‪».‬‬
‫�إال عندما ت�سرتدين ِ‬
‫‪310‬‬
‫�شعر بها تقف خلفه مبا�شر ًة‪ ،‬مل�ست كتفه برتدد قائل ًة بح�شرجة مل‬
‫يوما �أف�ضل �أن‬
‫ت�ستطع �أن متنعها‪�« :‬إذن �أنا ال �أريد التخل�ص من ظلمك يل ً‬
‫يظل مذاقك يف حلقي ملا تبقى يل من عمر‪».‬‬
‫مانحا لها ابت�سامة حزينة وقال بخفوت م�ستف�س ًرا‪:‬‬ ‫التفت �إليها بر�أ�سه ً‬
‫«ملاذا دُجى؟»‬
‫يوما يف عامله البائ�س وب�صراحة‬ ‫ابت�سمت فكانت �أجمل ابت�سامة قد ر�آها ً‬
‫مرتع�شة �أجابته‪« :‬لأين �أحببتك»‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫والتف �إليها بكليته وغمرها بني ذراعيه‬‫مل يجبها بالكالم‪ ،‬مل ي�ستطع‪َّ ،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ويف حلظة دفن وجهه يف عنقها وا�ض ًعا كفيه خلفها‪ ،‬ت�ش َّبث فيها بعنف‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وقوة حتى �سمع قرقعة �ضلوعها التي ت�أملت‪ ،‬رفعت ذراعيها دون تفكري‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫�ضا َّمة ج�سده امللتحم فيها‪ ،‬و�ضعت ر�أ�سها فوق كتفه بنعومة‪ ،‬ا�ستكانت‬
‫بني ذراعيه للحظات متنعمة بنعيم ذراعيه بطعم جديد بني �أح�ضانه‪،‬‬
‫مب�شاعر لن مينحها القدر �أن جتربها‪ ،‬ولن ت�سامح هي نف�سها �إن �أعادتها‬
‫معه‪.‬‬
‫�ساحما لنف�سه �أن ي�ستلذ بدفئها‪،‬‬
‫ً‬ ‫نف�سا عمي ًقا م�ستن�ش ًقا رائحتها‬
‫�أخذ ً‬
‫�أن جتتاح هي قلبه وعقله دون �أن يقاومها‪� ،‬أن ينكرها على نف�سه‪ ،‬قال‬
‫بهم�س حارق ب�صوته العميق الذي يهز �أعمق �أعماقها ويجتاح �أنوثتها‬
‫أحببتك‪ ،‬رمبا كانت بدايتنا خط�أً‪ ،‬ومل‬ ‫فيحتل نب�ض حاجاتها‪« :‬و�أنا � ِ‬
‫متنحنا الدنيا العنيدة الفر�صة للقاء عادل‪ ،‬لو تواجدنا يف عامل �آخر ودنيا‬
‫طريقك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫أتركك حلظة‪ ،‬ولن �أ�سمح للقهر �أن يعرف‬ ‫�أخرى مل �أكن ل ِ‬
‫ً‬
‫حماوطا وجنتيها‬ ‫قبل �أن ت�ستوعب اعرتافه و�أن تفهم كان يفلتها �سري ًعا‬
‫بكفيه و�أحنى ر�أ�سه يق ِّبلها بجوع ولهفة جعالها تنتف�ض بني يديه‪� ،‬أنفا�سها‬
‫املبهورة مل متنحها القوة ملنعه ورف�ضه‪� ،‬أن ت�ستوعب اعرتافه الذي مل‬
‫‪311‬‬
‫يوما �أن ت�سمعه‪ ،‬دفعها لي�سند ظهرها �إىل احلائط خلفها‪،‬‬ ‫ت�أمل �أو تتع�شم ً‬
‫يحا�صرها بج�سده‪ ،‬يقمع �أنوثتها اللينة برجولته‪ ،‬يخر�س كل �أ�صوات‬
‫نازعا كل ُ�سور حتاول بناءه بيديها‪ ،‬انف�صل عنها للحظة‬ ‫التمرد والعقل ً‬
‫مدر ًكا �أن وقته قد نفد‪ ،‬فقال بعذاب و�أنفا�سه متالحقة مت�سارعة‪« :‬رباه‪،‬‬
‫مل �أعتقد �أن قولها �سهل ووط�أها حارق م�ؤمل‪ ،‬ولكني �أحبك ولعدم عديل‬
‫فيك بذرة‬
‫فيك متنيت لو كان ب�إمكاين يف هذه اللحظة �أن �أ�ضع ِ‬ ‫الأخري ِ‬
‫�أخرى‪».‬‬

‫ع‬
‫مل يتوقف مرة �أخرى‪ ،‬مل ي�ستطع �أن ينظر �إليها وهي بهاتني العينني‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الرماديتني املذهولتني‪ ،‬فحررها �أخ ًريا وهو يفر من الغرفة هار ًبا‪ ،‬بينما‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بقيت هي للحظات تتنف�س ب�صعوبة بنف�س املالمح الذاهلة غري امل�ستوعبة‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫�إىل �أن �أطلقت �أخ ًريا �شهقة طويلة وك�أنها �أخ ًريا تعود ال�ستيعاب ما يحدث‬

‫ع‬
‫حولها‪ ،‬انزلقت على احلائط ببطء حما ِو َل ًة ا�ستعادة نف�سها‪ ،‬ت�ستعيد‬
‫كلماته يف عقلها قبل �أن ت�شهق بذعر متو�سل‪« :‬رباه‪� ،‬أنت نا�صر املظلومني‬
‫دت يف كتابك احلق �أن تعاقب املجرمني‪».‬‬ ‫َو َع َّ‬
‫‪q q q‬‬
‫تو�صل فهمي‬
‫ما حدث خالل دقائق كان �ضر ًبا من الت�سارع املجنون‪َّ ،‬‬
‫لهاتف عمر‪ ،‬يطلبه مرا ًرا وتكرا ًرا بجنون‪� ،‬إبراهيم يدق عليه بتوا�صل‬
‫ينج من ر�سائله‪ ،‬رفع �سائد عينني حمراوين‬ ‫م�ضطرب‪ ،‬حتى �شريف مل ُ‬
‫بلون الدم لعمر وقال ب�شرا�سة حيوان ُج ِر َح �ساب ًقا على يد �صياد �أحمق‪ ،‬مل‬
‫يعمل ح�سا ًبا لعودته يطالب ب�أكله ح ًّيا‪« :‬لقد حان الوقت‪� ،‬إىل هنا وانتهت‬
‫رحلتنا‪».‬‬
‫ات�سعت عينا عمر قبل �أن ت�شتعال بجنون انفجر يف حلظة‪ ،‬وهو يرى‬
‫�سالحا نار ًّيا كا ًمتا لل�صوت وهو يقول بربود جاف مهددًا‬ ‫ً‬ ‫�سائد ُي ْخ ِرج‬
‫‪312‬‬
‫بخطر لن يرتاجع ع َّما ينتويه �أبدً ا‪�« :‬أنت �ستبقى معهنَّ ‪ ،‬و�أي خطوة منك‬
‫�أو حماولة للحاق بي‪� ،‬ستكون زوجتك �إحدى �ضحايا رجايل‪».‬‬
‫حتولت مالمح عمر لل�صدمة التامة‪ ،‬بينما ي�شعر بج�سد رابحة الذي‬
‫اختب�أ وراءه ينتف�ض بذعر‪ ،‬بينما يقول عمر بذهول‪« :‬هل هذا وقت مزاح‬
‫الآن؟! هل خدعك �أحد و�أخربك �أنك متلك ح�س فكاهة ما؟!»‬
‫�أ�شار �سائد ب�سالحه الذي ي�شهره يف وجه �أربعتهم وقال بنبزة حازمة‬
‫أرواحا بريئة يف �صفقتنا‬ ‫جدال �أو ً‬
‫ف�صال‪�« :‬أنت من �أدخلت � ً‬ ‫قاطعة ال تقبل ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫رغم �أين حذرتك منذ �أن ملحت عيني تلك الأنثى خلفك؛ لذا ال ت ُل ْمني �إن‬

‫كيقرتب منه حتى ثبت فوهة ال�سالح يف �صدره‬


‫ت‬ ‫ري‬
‫�صرخ عمر فيهالوهو‬
‫كنت �أنان ًّيا مثلك و�ضحيت ب�أحدهم حتى �أحافظ على روحك �أنت‪».‬‬

‫ر‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫أ�سمعهنمنك ً‬
‫ش‬ ‫ب‬
‫زيمن بني‬
‫ع‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫يوما‪».‬‬ ‫مبا�شرة‪« :‬هذا �سخف وجنون مل �‬
‫وقال‬ ‫إيالمه‬ ‫�ضغط �سائد فوهة ال�سالح يف �صدره قا�صدً ا �‬
‫�أ�سنانه بعنف‪« :‬و�أنت �إن�سان �أناين‪ ،‬الغباء يعلو عندك يف كثري من‬
‫الأحيان‪ ،‬ت�ضحي بامر�أة �أحببتها و�أمل يكرب بني �أح�شائها ِمن �أجل ماذا؟‬
‫دورك انتهى‪ ،‬خذ زوجتك واهرب من هنا‪ ،‬دع �أحدنا ينجو يا عمر‪� ،‬أحدنا‬
‫يوما‪».‬‬
‫يحمل راية الأمل و ُيخرب العامل �أننا مررنا منه ً‬
‫هتف عمر بقوة و�صدق وهو يغطى ال�سالح بكفه‪« :‬مل ن�سر على خيط‬
‫رفيع كل هذا العمر بني النار و�أ�شباح املوت لأتركك هنا‪ ،‬هذه اللحظة‬
‫كانت حلمنا �سو ًّيا‪ ،‬ملاذا ُت�صر بجنونك املفاجئ �أن حترمني منه؟! هذا‬
‫ث�أري � ً‬
‫أي�ضا‪� ،‬إن كانت �شعلتك �آية وطفلك‪ ،‬ف�أنا ث�أري كل روح �شاركتها لقمة‬
‫لدي معه ذكرى‬
‫عي�ش �سدت رمق جوعنا �سو ًّيا‪ ،‬كل واحد مما قتله فهمي َّ‬
‫�أو �ضحكة خرجت من باطن الوجع‪ ،‬نوم �ساعات ملتحفني ببع�ضنا بعد‬
‫‪313‬‬
‫يوم منهك طويل هاربني من �أ�شباح املوت‪ ،‬كل طعنة م�شرط �ضربت يف‬
‫�أج�سادهم يل ث�أر فيها يا �سائد‪».‬‬
‫�شعر بها تن�ضم �إىل الوجوه امل�صدومة غري امل�ستوعبة ملا يحدث‪،‬‬
‫فمنحها نظرة من خلف كتفه كانت �شاحبة خائفة‪ ،‬ولكن كما �أمل فيها‬
‫يوما‪ ،‬قوية تخطو نحو ال�صمود مبهل‪.‬‬
‫ً‬
‫عاد بعينيه لعمر‪ ،‬ثم قال ببطء‪�« :‬صرختك و�صلت‪ ،‬وكلها �ساعات‬
‫و�ستكون ق�ضية ر�أي عام تتفجر بني �أطياف املجتمع‪ ،‬هديف �أنا كان ث�أ ًرا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫جوعا عني ًفا للقتل‪� ،‬سيطر َّ‬
‫علي حتى �أ�صبحت �أملك ما يقومني‪،‬‬ ‫�أحتاجه‪ً ،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫عاما و�أو�شكت على ري‬ ‫وها �أنا �أت�شرب ما تاقت �إليه روحي خم�سة ع�شر ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫�أغم�ض عمر عينيه بي�أ�س‪ ،‬بينما �صمت �سائد ينظرومنالتفوقوزكتفعي‬
‫ظم�أي‪� ،‬أما �أنت كان هدفك �صحوة ملجتمع مات �ضمريه وحكومات تتغا�ضى‬
‫عن َق�صد‪ ،‬و�أمتمت �أمرك على �أكمل وجه‪».‬‬
‫عمر‬
‫مينح رابحة نظرة خفيفة ثبتت على بطنها بغمو�ض جعلها حتاوط جنينها‬
‫بذعر جمهول‪ ،‬رفع عينيه يبت�سم لوجهها ابت�سامة خفيفة يف عينيه وقال‬
‫ب�صوت �أج�ش مكر ًرا‪�« :‬أنت ت�ستحق فر�صة معها‪ ،‬ال تكن �أنان ًّيا‪ ،‬لن �أ�سمح‬
‫لك بارتكاب خط�أي الذي كررته مرتني‪».‬‬
‫قال عمر من بني �أنفا�سه بعنف مماثل لعنفه‪« :‬و�أنا لن �أ�سمح لك‬
‫يل‪� ،‬أنا ُك ِ�ش ْفتُ وانتهى الأمر‪� ،‬س�أخو�ض‬ ‫أم�س احلاجة �إ َّ‬
‫بتنحيتي و�أنت يف � ِّ‬
‫معك تلك اجلولة كما كنت دائ ًما‪� ،‬إما �أن ُيكتب لنا النجاة �سو ًّيا �أو ‪»...‬‬
‫مل ي�ستطع عمر �أن يكمل جملته؛ �إذ ُ�ش َّلت جميع �أطرافه فج�أة وانهار‬
‫كجدار �ضخم على �أر�ضية ال�شقة الب�سيطة‪ ،‬بينما �صرخت �صفية �أخ ًريا‬
‫‪314‬‬
‫بعنف فرمقها �سائد بنظرة ذئب مفرت�س جعلتها تندب خديها بخوف‬
‫و ُتلجم ل�سانها يف حلظة‪ ،‬هرولت رابحة ناحية عمر �صارخة‪« :‬ماذا فعلت‬
‫يا جمنون؟»‬
‫انحنى �سائد نحو ج�سد عمر ُيبعد يدي رابحة عنه‪ ،‬ثم �سحب منه‬
‫هاتفه ومفتاح �سيارته‪ ،‬كل �شيء قد ي�ساعده على اللحاق به بينما يقول‬
‫بربود الذع‪« :‬اخر�سي يا امر�أة‪ ،‬واعتني به جيدً ا لي�س هناك خطورة جمرد‬
‫�صاعقة كهربائية مرت يف ج�سده �ست�شله لبع�ض الوقت الذي �أحتاجه‬

‫ع‬
‫متاما عن هنا‪».‬‬
‫لأبتعد ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫اعتدل �أخ ًريا ينظر ل ُق َ�ص ٍّي الذي يرمقه بتعجب يخالطه اال�ست�سالم‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ف�أخربه‪ُ « :‬ق َ�ص ُّي‪� ،‬أنت رجل كما تع�شمت فيك‪ ،‬حافظ عليهنَّ حتى ي�ستيقظ‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫الأحمق‪».‬‬
‫�شارحا له باخت�صار‬
‫�صي له بفهم متذك ًرا مقابلته معه بالأم�س‪ً ،‬‬ ‫�أوم�أ ُق ٌّ‬
‫غام�ض رف�ض �أن يف�صح عن ماهيته احلقيقية �أن كليهما مهدد باخلطر‪،‬‬
‫ولكن عمر يجب �أن يبقى بعيدً ا حتى ينهي هو الأمر‪ ،‬ثم ي�صطحب رابحة‬
‫من هنا هار ًبا بها وطفلهم‪.‬‬
‫تركهم على حالتهم ما بني الهلع واجلمود والتفهم‪ ،‬وتلك النظرة يف‬
‫عينيها بلون غيم ال�سماء الح �شبح ابت�سامة على �شفتيه‪ ،‬مل تفهم معناها‬
‫قبل �أن يفتح الباب ويغادر �أخ ًريا‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫«�سنذهب»‪ ،‬قالها باقت�ضاب لوجه �إبراهيم الذي الح له على �أول‬
‫درجات ال�سلم‪ ،‬بينما وقف رجالن �شديدان ك�سدٍّ منيع �أمام �شقة �أهل‬
‫رابحة املتوا�ضعة‪ ،‬قبل �أن يقطعا ال�سلم مهرولني كان �إبراهيم يلتفت‬
‫‪315‬‬
‫�إليهم ليخربهم‪« :‬الأوامر ال تقبل الف�صال‪� ،‬إن �أُ ْج ِ ْبمت فال مانع بتهديده‬
‫وتقييده‪ ،‬ولكن �إياكم وا�ستخدام العنف‪».‬‬
‫هز الرجالن ر�أ�سيهما‪ ،‬بينما اختفى كل �أثر لهم‪.‬‬
‫‪q q q‬‬
‫بعد وقت ق�صري فتح عمر عينيه ببطء ي�ستعيد وعيه الغائب بت�شو�ش‪،‬‬
‫و�شعر بج�سده الذي ُ�ش َّل ملدة ال يعلم مداها يعود للعمل مع ال�شعور ببع�ض‬
‫بقايا ت�شنج‪ ،‬للحظات كان يقلب نظراته يف وجه رابحة الباكي التي ت�سند‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ر�أ�سه على قدميها‪ ،‬وحماته التي تلطم خديها متتمت بهم�س‪« :‬ما الذي‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ووليدك؟»‬
‫ِ‬ ‫ينتظرك‬
‫ِ‬ ‫نف�سك فيه يا معدومة البخت؟ ترى ما الذي‬
‫أوقعت ِ‬‫� ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫ا�ستغرق حوايل ع�شر دقائق �أخرى‪ ،‬لي�ستطيع �أن ينطق لوجه ُق َ�ص ٍّي‬

‫ع‬
‫امل�شرف عليه ببهوت‪« :‬منذ متى خرج؟»‬
‫�صي �سري ًعا‪« :‬رمبا ن�صف �ساعة على �أق�صى تقدير‪ ،‬ولكنه يو ِقف‬ ‫رد ُق ٌّ‬
‫رجال خارج املنزل‪ ،‬وقال‪� :‬إنه �سيفعل �أي �شيء حتى مينعك من الو�صول‬ ‫ً‬
‫�إليه‪».‬‬
‫اعتدل عمر برتنح ب�سيط وبدون تردد كان يفرد ذراعه يجذبها من‬
‫خلفه ليدفنها على �صدره يهم�س بجانب �أذنيها‪« :‬تعرفني �أين �أحببتك»‪.‬‬
‫هزت ر�أ�سها مع ازدياد بكائها حدة‪ ،‬ف�أكمل دون حرج ب�صوت هادئ‬
‫رزين‪« :‬و�أعرف �أين غبي وهو �أحمق‪ ،‬ولكن يجب �أن �أحلق به‪ ،‬لن �أ�سمح له‬
‫حام للآخر يوقفه عند �أي تهور �أحمق منه‪ ،‬يحيده‬ ‫ب�أذية نف�سه‪ ،‬كالنا درع ٍ‬
‫عن طريق الهالك‪».‬‬
‫رفعت عينيها الباكيتني �أخ ًريا حتيط وجهه بكفيها الدافئتني‪ ،‬ثم‬
‫قالت بنربة رغم تهدجها ولكن واثقه ت�شع ح ًّبا وتفه ًما‪« :‬فقط تذكر �أين‬
‫‪316‬‬
‫�أحتاجك و�أنت هناك‪ ،‬احفظ يل روحك‪ ،‬لن �أ�ستطيع �أن �أعي�ش حلظة‬
‫�أخرى من بعدك يا حبيبي‪».‬‬
‫أنت قوية �أعرف هذا‪».‬‬‫ا�ست�سلم ليدها دون حرج وقال ب�صوت �أج�ش‪ِ �« :‬‬
‫ردت بب�ساطة‪« :‬بل �أنا من بعدك �أ�شبه بكائن ه�ش �ضعيف ال ميلك‬
‫حتى قوة ليدافع عن نف�سه‪ ،‬ال تغرت يف ت�سلحي بالقوة للدفاع عن طفلك‪،‬‬
‫�أنا �أقوى بك‪».‬‬
‫مل ي�ستطع �أن يجيبها وقراره حم�سوم ل�صالح رفيق عمره منذ زمن‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ما�ض مل يعد حتى يذكر عدد �سنواته‪ ،‬دون �أن مينحها �إجابة �شافية �أو‬ ‫ٍ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ينتظر منها حجة �أخرى مقنعة كان يدفن يده يف �شعرها من اخللف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ي�سحب ر�أ�سها �إليه‪ ،‬يق ِّبلها ب َن َهم وجنون ال ُّ‬

‫ش‬
‫ميت ل�شهوة �أو رغبة قط‪ ،‬بل‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫اعرتاف بكل معاين احلب واحلنان واالحتواء والدفء مل يجربه مع �إن�سان‬
‫يوما‪.‬‬
‫�سواها ً‬
‫انف�صل عنها ودفعها برفق‪ ،‬قفز على قدميه التي ا�ستعادت اتزانهم‬
‫�أخ ًريا‪� ،‬أخرب ُق َ�ص ًّيا بنربة �آمرة مت�سلطة‪« :‬ما النافذة التي ُتطل على‬
‫املوا�سري الداخلية ملنور املنزل؟»‬
‫�صي وهو يقول بنربة خفي�ضة‪« :‬هنا‪ ،‬ولكن هذا ال‬ ‫ب�صمت �أ�شار �إليه ُق ٌّ‬
‫يعني �أنك �ستلحقه لقد �أخذ كل �شيء‪».‬‬
‫نظر �إليه عمر يهز كتفه بال مباالة وهو يتوجه للنافذة مكان ما �أ�شار‬
‫وقال‪« :‬مل ي�أخذ دراجتك النارية‪ ،‬امنحني املفتاح يا فتى‪».‬‬
‫�صي يف �إخراجه ومنحه �إياه‪ ،‬بينما قفز عمر بر�شاقة‬ ‫مل يرتدد ُق ٌّ‬
‫متعل ًقا ب�أحد املوا�سري‪ ،‬مل ين�س �أن يط َّل بوجه يخرب رابحة بنظرة حاول‬
‫و�ضع كل حنان العامل فيها وهو يهتف‪�« :‬س�أعود يا حاملة‪ ،‬ال ت�شعريني �أين‬
‫ذاهب للحرب‪».‬‬
‫‪317‬‬
‫التفتت �إليه بر�أ�سها وقلبها يقرع كالطبول بجنون وهي تقول بنربة‬
‫متو�سلة ب�أمل‪�« :‬أعرف يا عمر �أنا �أثق بك‪ ،‬وتلك لي�ست مرتك الأوىل‬
‫ملحاولة �إرعابي‪».‬‬
‫�أغلق جفنيه للحظة ك�أنه يطبع مالحمها يف عقله وهو يقول ب�أمل‪:‬‬
‫أعدك لن تكون الأخرية‪ ،‬يا �أم ريان‪».‬‬
‫«� ِ‬
‫‪q q q‬‬
‫م�صيبة � َّأل تدرك خط�أك‪ ،‬وكم ُم ْر ٍ�ض �أن تعرتف بجرميتك‪ ،‬وكم هو‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫مزلزل نازع كل ذرة ب�شرية � َّأل تربر لنف�سك ب�إقناع �أن جرميتك فقط‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫خدمة ملجتمعك‪ ،‬فال ترتك ً‬
‫جمال لل�شك �أننا ً‬
‫فعل �أ�صبحنا نعي�ش «بغابة»‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫توح�شا وفت ًكا حتى من تلك التي ت�سكنها حيوانات قد تكون �أكرث‬
‫غابة �أكرث ً‬

‫‪ q q q‬والتوزي‬
‫رحمة ً‬

‫ع‬
‫وعدل منا‪.‬‬

‫يف نف�س املكان‪ ،‬وبنف�س �أجواء التخبط واخلوف الغريزي الذي يغذي‬
‫�شرايني من �أمامه من جمهول ال يفهم �أ�سبابه على حق‪ ،‬ال يدرك حتى �إىل‬
‫�أين ينتهي‪ ،‬رعب عا�شه هو وانهيار كل بادرة �أمل وذرة كرامة‪� ،‬شعور �أنه‬
‫ب�شري‪� ،‬إن�سان مثلهم ي�ستحق فر�صة وهم �أنهوه لأنهم قرروا فقط‪ ،‬لأنهم‬
‫كانوا من القوة لتحديد م�صريه‪.‬‬
‫ورغم كل هذا كان فهمي ي�ستطيع �أن ي�سيطر عليه بقوة ج َّراح بارد‬
‫جليدي ُيحافظ على هدوئه‪ ،‬متمكن من كل ع�صب يف ج�سده‪ ،‬وقف �أمام‬
‫�سائد ب�سيطرة يت�أمله بتمعن‪ ،‬يرمقه بنظرة غرور م�ستخفة ومهينة‪ ،‬وك�أن‬
‫َمنْ �أمامه يهدده ومي�سك برقبة ابنته بني يديه‪ ،‬ميثل يف فيلم �شديد‬
‫الهزلية‪.‬‬
‫‪318‬‬
‫�صرخت �أ�سماء �صرخة �صغرية مذعورة‪« :‬بابا‪� ،‬أنقذين يا بابا‪».‬‬
‫نظر فهمي حوله بعجز للحظات مدر ًكا �أنه يقف وحده كما طلب منه‬
‫هذا املجرم �ساب ًقا بعد �أن �أجاد �صنع الفخ ومراقبته‪ ،‬وهو ا�ست�سلم للأمر‬
‫بعد �أن وازن ما يحدث يف عقله جيدً ا فوجد �أن كال اخليارين خ�سارة‪ ،‬فلو‬
‫ا�ستعان بر�ؤ�سائه و�أخربهم �أن كل �شيء قد ُك ِ�ش َف فلن يرتددوا حلظة يف‬
‫قبل‪ ،‬ولكنه قد يجد فر�صة ما‬ ‫اخلال�ص منه كما تخل�ص هو من غ�سان ً‬
‫يف مواجهة هذه احل�شرة‪ ،‬ي�ساومه على ما يريد‪ ،‬يهدده بابنة غ�سان التي‬

‫ع‬
‫علم �أنها كانت تعمل عنده ثم تزوجها‪ ،‬لقد ظن �أنه جمرد انتقام �أحمق‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫مع ابنة غ�سان‪ ،‬ولكنه عاد ليتذكر كل �شيء متى بد�أ وكيف ومتى اختفت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫متاما دون �أثر‪ ،‬و� ً‬
‫أي�ضا ما تفوه به هذا الرجل ومل ينتبه �إليه هو‬ ‫دجوى ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫زوجته وطفله‪ ،‬ال يذكر �أنه ا�ستخدم ج�سد امر�أة من طبقة متلك ً‬
‫نفوذا‬
‫القذرات التي متلأ ال�شوارع‬‫مال‪ ،‬دائ ًما يحر�ص على ا�ستخدام تلك ِ‬ ‫�أو ً‬
‫ليخل�ص املجتمع من �أعبائهن‪.‬‬
‫أخل�صك منه حبيبتي‪ ،‬ال تخايف‪ ،‬بابا هنا‪».‬‬
‫ِ‬ ‫«�س�‬
‫�شدد �سائد يديه حولها‪ ،‬بينما ُي ْخ ِرج �سالحه من جيبه‪ ،‬وفمه مال‬
‫بق�سوة‪ ،‬بينما عينيه �أقل ما يقال عنها يف تلك اللحظة‪� :‬إنهما تفقدان �أي‬
‫�أثر للرحمة‪.‬‬
‫«ال�ضنى غايل يا فهمي �ألي�س كذلك؟ �إذن كيف يكون �شعورك �إن فقدت‬
‫و�س ِل ْب َت كرامتك؟»‬
‫طفلك ُ‬
‫ظل فهمي مكانه �صامتًا ال يتحرك‪ ،‬مل يهتز بينما كانت عيناه �شديدة‬
‫الربود والغرور لدرجة تثري نفور الناظر �إليهما‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال ب�صوت‬
‫إالم ت�سعى خلف كل ما تفعله؟»‬‫جامد‪«َ :‬منْ �أنت؟ و� َ‬
‫‪319‬‬
‫قال �سائد ب�صوت حاد كال�سيف امل�صقول‪« :‬دمك‪ ،‬كما �سال دم زوجتي‬
‫وطفلي ظل ًما‪».‬‬
‫حترك فهمي مقدار خطوة منه وهو يقول بربود‪�« :‬أنا حتى ال �أتذكر‬
‫عن من تتحدث‪ ،‬وكل ما تقوله كذب‪ ،‬جمرد جمرم جبان يتخفى وراء‬
‫ج�سد طفلة‪».‬‬
‫كانت �أ�سماء ترتعد رع ًبا وذع ًرا حتى �شعر بابتالل ج�سد الفتاة بني‬
‫ذراعيه‪ ،‬مل تهتز مالحمه ومل يفقد ذرة تعقله رغم الوح�ش الكامن‬

‫ع‬
‫بداخله‪ ،‬ذلك الذئب القابع فيه ويز�أر مطال ًبا بالهجوم والق�صا�ص‪ ،‬هز‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫مقاوما نف�سه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ر�أ�سه نف ًيا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وهو يفلت الطفلة منه ببطء‪ ،‬ثم قال بخفوت َب َدا ك�ساطور بارد يقطع‬

‫والتوزي‬
‫يوما‪ ،‬ومل �أهرب من مواجهة و�إال كنت ق�ضيت‬ ‫الأو�صال‪« :‬مل �أكن جبا ًنا ً‬

‫ع‬
‫عليك بطلقة واحدة ال تعرف حتى من �أين �أتت‪».‬‬
‫قطع كالمه وهو يقول ب�أمر حاد‪ُ « :‬م ِر ابنتك تهرب من هنا قبل �أن‬
‫�أُرديها معك‪».‬‬
‫تردد فهمي للحظات‪ ،‬فلم مينحه �سائد فر�صة للتفكري وهو ي�أمره‬
‫ب�صوت كاجلليد‪�« :‬أنت ل�ست يف موقف قوي هنا لتفكر‪ ،‬ق ِّرر �إما �أنت �أو‬
‫ابنتك‪».‬‬
‫�صرخ فهمي بخوار جمنون‪�« :‬أمل ت�سمعي؟ ارك�ضي من هنا و�إال‬
‫عاقبتك‪».‬‬
‫ِ‬
‫ترددت الطفلة املنهارة برعبها بينما تتو�سله بنربة �ضعيفة مل ت�ستوعب‬
‫ما يجري حولها‪ ،‬حاول �سائد �أن يحجم جحيم عينيه وقلبه عنها‪ ،‬عن‬
‫وجهها الرقيق امل�صدوم غري امل�ستوعب وغري املدرك �إال �أنها �ستفقد‬
‫‪320‬‬
‫�أباها‪ ،‬فذكره بوجه �أخرى عا�شت �صدمتها وانهار جدار حمايتها وفقدت‬
‫فيه مثالها املقد�س مثل كل فتاة‪.‬‬
‫ارمتت �أ�سماء يف ح�ضن �أبيها للحظات قبل �أن يبعدها فهمي و�أمرها‬
‫ب�شرا�سة‪« :‬اهربي من هنا»‪.‬‬
‫قالت بطفولية‪�« :‬س�أذهب لل�شرطة يا بابا»‪.‬‬
‫رك�ضت م�سرعة بينما عرفت ال�ضحكة �أخ ًريا حنجرة �سائد فخرجت‬
‫�ساخرة مت�شفية وهو يقول‪« :‬ال�شرطة! �صغريتك الربيئة‪� ،‬أت�ساءل ما‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫جرميتها هي و�أمها لينتميا حلقري جمرم مثلك؟!»‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫ظلت عينا فهمي يف عيني �سائد على ثباتهم املغرور قبل �أن يقول ب�صوت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫دون مزيد من التفكري �أطلق �سائد ر�صا�صة بجانبوالقدمهتوز‬
‫منفر مقزز‪« :‬هل فعلت كل هذا لت�ستنكر فقط عالقتي ب�أهل بيتى؟!»‬

‫فخرجعي‬
‫«ح�س ًنا وبع ُد لآخر مرة �أ�س�ألك ما الذي تريده؟ جرذان وماتا‪».‬‬
‫�صوتها‬
‫مدو ًيا و ُمرع ًبا جعل فهمي �أخ ًريا ي�صرخ وهو ينتف�ض من مكانه يحاول‬
‫الوقوف دون �أن يجد ثباته مرة �أخرى‪ ،‬بينما قال �سائد ب�صوت جامد‬
‫خميف‪« :‬روحك بالطبع فعلت كل هذا لأرى الرعب يف عينيك‪ ،‬الذل فيهما‬
‫و�أنت تتمزق �أ�شال ًء حتت قدمي‪ ،‬حلم لطاملا داعب �صحوي ومنامي‪».‬‬
‫تراجع فهمي للخلف بوجه �شاحب مالحمه تر�سم الرهبة ب�أب�شع �صورة‬
‫وهو يقول‪« :‬ت ًّبا لك َمنْ �أنت؟ �أنا حتى ال �أتذكر ما تتحدث عنه‪».‬‬
‫مل ي�شعر �سائد ب�شيء ال الزمان وال املكان وال حتى �شريف الذي حترك‬
‫ً‬
‫حماوطا املكان حوله ي�صرخ فيه �آم ًرا ب�سطوة جبارة‪« :‬اخف�ض‬ ‫�أخ ًريا‬
‫�سالحك يا �سائد دورك انتهى �إىل هنا‪ ،‬وح�صلنا على كل الأدلة‪».‬‬
‫‪321‬‬
‫مل يتحرك �أمنلة واحدة‪ ،‬مالحمه َب َدت مرعبة �أكرث‪ ،‬زادت عيناه‬
‫إجراما‪ ،‬خرج �صوته مدو ًيا بنربة �أ�شد �سطوة‪« :‬من الأحمق الذي‬
‫خطورة و� ً‬
‫�أخربك �أين �س�أ�صل لهذه النقطة ثم �أتخلى عنها؟ دم فهمي �س ُيهدر هنا‪،‬‬
‫�أو دمي �أنا كما وعدته‪».‬‬
‫قائل بقوة‪« :‬وعدت � َّأل تلوث يدك بالدماء‪،‬‬ ‫هتف �صوت �إبراهيم ً‬
‫يكفيك ما �أهدرته من عمرك‪ ،‬لن تذهب حلبل امل�شنقة من �أجل كلب‬
‫عدمي الرحمة‪».‬‬

‫ع‬
‫�إال �أن �سائد َب َدا كمن فقد ال�سمع وال�شعور وانتقل �إىل عامل يخ�صه‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ً‬

‫ت‬
‫حماطا باحلقد والن�شوة‪ ،‬بالقوة وال�سادية وهو يراقب مالمح‬ ‫وحده‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫فهمي التي تنتف�ض ب�شحوب‪ ،‬رجل فقد كل �شيء يف حلظة بغري ح�ساب �أو‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫تخطيط‪ ،‬التقت عيناهما �أخ ًريا مرة �أخرى‪ ،‬اقرتب منه �سائد مع حر�صه‬

‫ع‬
‫�أن يكون على ُبعد خم�سني مرتًا فقط‪ ،‬ثم قال‪« :‬جرذان! هل تنظر لنا‬
‫على �أننا جمرد زواحف قار�ضة �ضارة ُتخ ِّل�ص املجتمع منها‪ ،‬هل و�أنت‬
‫تغت�صبها كنت تراها بهذا ال�شكل؟ �أم حيوان قذر مثلك ال تفرق معه �إن‬
‫كان يعا�شر ً‬
‫جرذا �أم حتى جمرد كلب يف ال�شارع؟!»‬
‫�أخذ فهمي يق ِّلب عينيه يف اجلمع املحيط و�أنفا�سه تلهث بتح�شرج‪،‬‬
‫عيناه تت�سعان حتى ظهر ب�ؤب�ؤهما كمن غادرت روحه ج�سده‪ ،‬بينما تابع‬
‫�سائد بنربة بد�أت ت�أخذ روحه حل�ضي�ض ما ر�آه‪« :‬طفلتي التي حميتها من‬
‫كالب ال�شارع‪ ،‬وطفل و�ضعت فيه كل �أملي �أن �أحيا مثلكم‪ ،‬ف�أتيت �أنت‬
‫وغ�سان الها�شمي لتقررا �أنهما جمرد حفنة من مالكم العفن‪ ،‬ثم لتزيد‬
‫�أنت ذبحي تقرر �أن ت�سرق كرامتها وعزتها التي منحتهم �أنا �إياها‪».‬‬
‫قال فهمي وهو يعتدل �أخ ًريا ب�صوت خ�شن كريه دون مزيد من‬
‫التفكري‪« :‬الآن فقط تذكرتك وتذكرتها؛ ع�سلية العينني‪ ،‬الف�ضولية ذات‬

‫‪322‬‬
‫البطن املنتفخ مبزيد من احليوانات ال�ضارية مثلكم‪ ،‬لطاملا ت�ساءلت هل‬
‫هي حتى تعلم من هو امل�سئول عن هذا الطفل �أم جتهله من كرثة عددهم؟‬
‫قليل يف تقدير تلك الع‪»...‬‬ ‫�أرى �أنك تبالغ ً‬
‫طلقة �أخرى �أ�صابت �ساقه مبا�شر ًة َف َخا َر على الأر�ض مث ًريا الأتربة من‬
‫حوله‪ ،‬بينما �ساد الهرج من حول �سائد مرة �أخرى و�شريف ي�صرخ فيه‬
‫مكر ًرا �أمره بحدة‪�« :‬س ِّلم نف�سك يا �سائد و�إال �س�أتعامل معك‪».‬‬
‫�سالحا ي�صوبه بدقه ناحية قلب فهمي‬
‫مل يلتفت ومل يفكر وهو يرفع ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الذي يتل َّوى � ً‬
‫أر�ضا بجراحه‪« ،‬توقف يا �سائد‪ ،‬مل نتفق �أن تلوث يدك بدمائه‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫القذرة‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ل‬


‫وبنيلنفهمي‪.‬‬‫ب‬
‫الهاتف كق�صف مدفع يف �صدره‪ ،‬بينما اخرتق عمر‬ ‫جاءه ال�صوت‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫ت�سمرت عيناه على عمر حلظة‪ ،‬لكنه قال وزيع‬
‫املكان دون تردد يقف ً‬
‫حائل بينه‬
‫أتيت هنا يا‬ ‫�‬ ‫«كيف‬ ‫ب�صرامة‪:‬‬
‫غبي؟ ابتعد عن وجهي‪».‬‬
‫هز عمر ر�أ�سه وهو يقول بجمود‪« :‬يبدو �أنك رغم كل �شيء ن�سيت �أننا يف‬
‫الأ�صل تربية �شوارع‪ ،‬العام الواحد نكربه نحن ع�شرة �أعوام‪ ،‬هل اعتقدت‬
‫يا �أحمق �أن رجلني تدربا يف النوادي الريا�ضية قادرين على �إيقايف؟!»‬
‫مل يب ُد على �سائد �أي انفعال‪ ،‬وهو يقول‪« :‬ابتعد يا عمر عن طريقي‪،‬‬
‫لقد انتهى طريقنا يا �صديقي‪».‬‬
‫ب�إ�صرار قال عمر‪« :‬لن يحدث‪� ،‬إن �ضربت ر�صا�صة �أخرى يا غبي‪ ،‬لن‬
‫قتيل ويتخل�ص منك كما تف�ضحه‬‫يرتدد هذا املتعايل �شريف �أن ُيرديك ً‬
‫عيناه برغبته منذ �أن ر�آنا �أول مرة‪».‬‬

‫‪323‬‬
‫هنا فقط �أدرك فهمي خل�سارته كل �شيء مع �أمل �ساقه الذي ال يرحم‬
‫و�أع�ضائه التي حترتق وتتفتت ك�ألف و�ألف طعنة �سكني حادة ت�ضربه يف‬
‫الثانية الواحدة‪ ،‬لقد كان يحرتق‪ ،‬بح�سبة ب�سيطة �أدرك �أنه ال حمالة ُم ْنت ٍَه‬
‫ذليل وخا�س ًرا �شرفه وا�سمه و�شهرته‪ ،‬كل �شيء دون بادرة �أمل �أراد املوت‪،‬‬ ‫ً‬
‫ولكن لي�س قبل �أن ي�أخذ هذين القذرين معه‪� ،‬أتاهم �صوت فهمي �أخ ًريا‬
‫من وراء ظهورهم وهو يقول ب�ضحكة م�ستفزة خائبة‪« :‬عر�ض هائل �أ�سفلت‬
‫علي �أنا‪ ،‬هل ي�ؤملك �أين �شرفت تلك العاهرة مب�ضاجعتها‪ ،‬ال‬ ‫الطرق يتعازم َّ‬

‫ع‬
‫�أذكر �أنها كانت م�ستاءة؟!»‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫�صرخ �سائد بجنون وهو يزيح عمر من �أمامه‪« :‬اخر�س يا جن�س يا‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫با�ستمتاعن�سادي حتى وعمر يعود يحاول‬
‫ش‬
‫حثالة‪».‬‬

‫ا‬ ‫و‬
‫كانل ملم�س كليتيه‬ ‫جنينك‪،‬ركم‬
‫و‬ ‫ت‬
‫ال�صغريتني ممت ًعا‪ ،‬وقلبه ال�صغري الذي نب�ض بني يدي مينحزيع‬
‫مل يتوقف فهمي وهو يقول‬
‫�أن يقف ً‬
‫حائل بينهما‪« :‬طفلك تق�صد‬
‫�شعور‬
‫االنت�شاء واللذة و�أنا �أق�ضي على �صر�صور �سيزعجنا �إن �سمحتُ له‬
‫باحلياة‪ ،‬بينما �أمنح كنوزه لأ�سياده وملن ي�ستحق!»‬
‫�ساد التوتر ال�شديد عقب كلمات فهمي املنتحرة‪ ،‬بينما كل ع�ضلة‬
‫مت�شددة يف وجوه ثالثتهم؛ �إبراهيم وعمر و�شريف‪ ،‬نطق �إبراهيم‬
‫ب�صالبة‪« :‬اتركه يا �سائد يحاول ا�ستفزازك �أنت بهذا �ستمنحه ر�صا�صة‬
‫الرحمة بدل �أن ترتك م�صريه مع الق�ضاء لينال ما ي�ستحقه‪».‬‬
‫�سحب �سائد الزناد وبعينني �شديدتا ال�سواد مرعبة وقال مبالمح‬
‫�صلبة‪�« :‬أتركه للق�ضاء �سني ًنا و� ً‬
‫أعواما يتنعم بهواء الدنيا حتى ُي َب َّت يف‬
‫خمرجا‪ ،‬ال‪ ،‬لن يحدث‪».‬‬
‫ً‬ ‫�أمره �أو حتى يجد له ر�ؤ�سا�ؤه‬
‫‪324‬‬
‫َع َّمت رائحة املوت واخلراب يف حلظة‪ ،‬بينما الدنيا تظلم �أكرث و�أكرث‬
‫دام�سا يف عينيه ال يب�صر �صورة منهم �إال‬
‫ظالما ً‬ ‫من حولهم حتى �صار ً‬
‫�صور فهمي الذي يقف الأحمق عمر ً‬
‫حائل بينهما‪.‬‬
‫«ومن �أجل خاطري‪ ،‬ابقَ ح ًّيا»‪ ،‬ال يعلم من �أين �أتى �صوتها الناعم‬
‫يهم�س خلالياه‪ ،‬بينما يتبعه هم�سها املقهور حتكي عن العذاب والذل الذي‬
‫ر�أته على يد من �أمامه‪ ،‬ف�أ�صبح جرمه جرمني وموته خال�ص واجب لن‬
‫ي�ستطيع �أن يتحرر منه‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫«�أخطر الأ�صدقاء من ي�أتي يف موقف كارثي جمنون كهذا ليمنعك من‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫الفتك بعدوك فيمنحه نقطه قوة �ضدك‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫متاما‪ ،‬كان يقف‬
‫متاما يف حماولة لي�ست يف حملها ً‬ ‫وهذا ما فعله عمر ً‬

‫والتوز عي‬
‫حماول منعه ب�إ�صرار‪ ،‬بينما �صوت �إبراهيم و�شريف يهدر به يكرر‬ ‫ً‬ ‫�أمامه‬
‫الأمر‪ ،‬ا�ستند فهمي على �سيارته وهو يحرتق ذات ًّيا بعذاب‪ ،‬ب�سبب مادة‬
‫«الرثميت» احلارقة والتي جتعله ي�شتعل داخل ًّيا ك�أنه �أُ ْل ِقي يف بركان هائج‬
‫بحممه املن�صهرة والتي ا�ستخدمها �سائد بق�صد يف نوع الر�صا�ص الذي‬
‫جهزه ل�ضرب فهمي‪».‬‬
‫ب�صوت ميت قال �سائد‪« :‬للمرة الأخرية ابتعد يا عمر‪ ،‬بدل �أن اقرتب‬
‫منه لأقتله و�أحرق نف�سي معه‪».‬‬
‫فتح عمر فمه ينتوي �أن يقول �شي ًئا ولكنه مل ُ ْينح الفر�صة‪ ،‬عندما‬
‫جحظت عيناه بتو�سع م�صدوم وحتول وجهه كلوح رخام �أبي�ض هاربة منه‬
‫كل نقطة دماء بالرتافق مع �صوت ر�صا�صة الغدر‪.‬‬
‫«عمر!» عواء �صوت �سائد ك�أنه �صوت ذئب حقيقي ينعى رفاقه يف ليلة‬
‫غاب القمر فيها فغدر بهم على حني ِغ َّرة‪.‬‬
‫‪325‬‬
‫خ َّر ج�سد عمر يف ثوان �صري ًعا بينه وبني فهمي الذي كان يقف ن�صف‬
‫م�ستقيم مبالمح باردة وعينني تنف�سان �شر ًرا كعيني التم�ساح الذي ظفر‬
‫بفري�سته للتو بعد �أن جنح يف �إغوائها‪.‬‬
‫كان �سائد يلهث بفقدان �سيطرة‪ ،‬مل يدرك �أن دموعه تهبط وقد �أعطى‬
‫�شريف �أخ ًريا �إ�شارة لرجاله للهجوم فقط‪ ،‬رفع �سالحه يركز على هدفه‬
‫ودوى �صوت ر�صا�صه �أخ ًريا يف �صدر فهمي النجار مبا�شرة ً‬
‫مفرغا فيه‬
‫ثالث طلقات متتالية‪».‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ثم هبط �أخ ًريا على ركبتيه جا ًّرا ر�أ�س عمر على �صدره راف ًعا وجهه‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫لل�سماء ي�صرخ بعذاب يقطع نياط القلب ويقتل الروح يحرق ال�ضمري‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫بعذابه‪ ،‬يقول‪« :‬ملاذا �أنا الذي �أحرتق؟!»‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫كان يئن دون حرج‪ ،‬دموعه تهبط دون �أن يحاول �أن مينعها يكرر‬
‫بجنون وهذيان‪�« :‬إال �أنت‪� ،‬أنا مل �أملك � ً‬
‫أهل وال �سندً ا �إالك‪ ،‬ملاذا يا غبي؟»‬
‫مل يلتفت �أحدهم �إىل فهمي الذي كان ج�سده كله يحرتق‪� ،‬أنفا�سه‬
‫وحنجرته �أع�ضا�ؤه الداخلية تنفجر ل�شظايا �صغرية عرب هذا الر�صا�ص‬
‫احلارق الذي يتفتت‪ ،‬فمه تخرج منه غرغرة املوت دون �أن يطوله ي�شعر‬
‫بال�سكاكني واخلناجر تطعن فيه ح ًّيا دون �أداة حقيقية‪ ،‬حمم النار ت�صهره‬
‫ال�سعري دون �أن يفقد �أنفا�سه‬
‫بدخان غري مرئي وك�أنه ذهب جلهنم وبئ�س َّ‬
‫بعدُ‪.‬‬
‫�شهقات �سائد املتتالية ك�أنه عاد ً‬
‫طفل �صغ ًريا مذعو ًرا ُخ ِط َف من �أمام‬
‫بيته و�أدرك هول ما �أُ ْل ِق َي فيه للتو جعلت تلك اجلدران وكتلة الع�ضالت‬
‫من احلنان امل�سمى �إبراهيم يربك �أمامه يبكي دون �صوت ال ي�صدق هول‬
‫املوقف‪ ،‬بينما ظل �شريف يخبط ر�أ�سه يف جدار �سيارة ال�شرطة بعذاب‬
‫‪326‬‬
‫يهم�س‪« :‬ملاذا ق�ضيتما على كل ما بنيناه وخاطرت �أنا فيه من �أجل‬
‫ق�ضيتكم؟»‬
‫«�أقبح ما يف �سالح االنتقام �أن ينقلب �ضدك‪ ،‬فال حتقق غايتك �إال‬
‫بفاجعة تخ�سر فيها �آخر ما تبقى من روحك‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫نهاية العامل �أن ميوت كل جميل‪� ،‬أن ن�صحو كل �صباح وال جند احلبيب‪،‬‬
‫نهاية العامل �أن تفارقنا روح كانت تتوق للخال�ص حلياة جديدة لأمل حللم‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أن تعي�ش بكرامة‪� ،‬أن تطال ما �سلب منها بغري حق‪ ،‬من قال‪� :‬إن املفقود‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫الذي ا�سرتاح هو امليت‪ ،‬بل امليت هو احلي الذي يتلقى اخلرب يف قلبه‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫‪q q‬لن‪q‬‬


‫فيحرتق وميوت لي�صبح �أمله ال يو�صف وال حتى ي�ستطيع �أحد �أن يتخيل‪.‬‬

‫ما �أق�سى حروف �إبراهيم التي تخرج مرتددةوالتو‬


‫متح�شرجةز عي‬
‫بقمي�ص‬
‫ملطخ بالدماء‪ ،‬دماء �أحد الرجلني احلبيبني‪ ،‬و�ضعت دجوى كفيها على‬
‫فمها بقوة بتع�صب بت�شدد تكتم �شهقة �أمل وذعر‪ ،‬تكتم �صرخة قهر تريد‬
‫�أن تخرج تخربه ال تخربنا عن ا�سم املفقود‪.‬‬
‫بينما َ�ص َّمت رابحة �أذنيها بكفيها املرتع�شتني تهز ر�أ�سها نف ًيا عني ًفا‬
‫ورف�ضا م�ص ًّرا تخربه متتم بح�سرة بعذاب‪« :‬بالطبع لي�س والد ابني لي�س‬ ‫ً‬
‫�أمريي الذي �أحببت‪ ،‬ال ميكنه �أن يكون عمر‪ ،‬لقد وعدين بالعودة ِ َل مل‬
‫ي� ِأت معك؟!»‬
‫هل �ستكون �أنانية لو متنت �أن َمنْ ُف ِق َد مل يكن �سائد‪ ،‬توالت دموع‬
‫دجوى بقهر لتغرق كفيها‪ ،‬بينما تراقب رابحة التي كانت ترتنح بعدم‬
‫‪327‬‬
‫اتزان‪ ،‬تدور عيناها يف كل مكان راف�ض ًة �أن تنظر لعيني �إبراهيم الذي‬
‫�أجاب �س�ؤالهم املعلق دون �أن ينطق حقيقة‪.‬‬
‫�صرخت رابحة ب�صوت ملتاع �صرخة تتبعها �صرخة بقلب جريح �شق‬
‫�سكون الليل احلزين‪ ،‬تنادي با�سمه بينما حتاول �صفية �ضمها بقلة حيلة‬
‫دون جدوى‪ ،‬ف�شاركتها نعيها للحبيب بعجز‪.‬‬
‫قا�س‪ ،‬هذا وك�أن الفقد جمرة حترق القلب‪� ،‬سارق ي�سرق‬ ‫�إح�سا�س ِ‬
‫العقل‪ ،‬وعني كففها الدمع‪�« :‬أنا �أحرتق �أمي‪� ،‬أنا مت يا �أمي‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كان هذا �آخر ما نطقته رابحة قبل �أن ت�سقط بني �أيديهم يف �إغماء ال‬

‫الكت ‪q q q‬‬ ‫ري‬


‫يعلم �أحدهم كم �سيطول‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الذي‬ ‫و‬
‫على ركبتيها‪ ،‬فركت يديها بتع�صب يف بنطالها اجلينزالاتلوأ�سود‪،‬زيع‬
‫ألقتها جان ًبا وهي ت�ستند‬ ‫�‬ ‫و‬ ‫بعنف‬ ‫ال�صحيفة‬ ‫بعد �أربعة �أ�شهر �أغلقت‬

‫مياثل بلوزتها �سوادًا‪ ،‬للحظات كانت عيناها تتحجر كالياقوت الأحمر‬


‫عاجزة عن ر�ؤية كل �شيء �إال ال�سطور التي قر�أتها‪.‬‬
‫رمقت رفيقتها بنظرة �أخرى جعلت كل مالحمها ت�ضعف يف حلظة‬
‫بتعاطف‪� ،‬أربعة �أ�شهر ومل يتغري �شيء‪ ،‬لقد فقدت �صوتها و�سمعها ودخلت‬
‫يف حالة �صدمة ونكران‪ ،‬فقط دمع عينيها املقهور املتوا�صل وبع�ض لقيمات‬
‫تدخل جوفها من �أجل طفله الذي يكرب بني �أح�شائها‪ ،‬تلك هي العملية‬
‫احليوية الوحيدة التي تخربهم �أنها ما زالت بينهم تتنف�س وعلى قيد‬
‫احلياة‪.‬‬
‫�س�ألتها �صفية ب�صوت حزين‪« :‬اليوم هو يومه الأخري»‪.‬‬

‫‪328‬‬
‫طويل قبل �أن تقول دجوى ب�سخرية مريرة‪« :‬نعم‪ ،‬اليوم‬ ‫�ساد ال�صمت ً‬
‫هو نطق احلكم على ذئب الليل قاتل �أطباء الرحمة يف ق�ضية الع�صر‬
‫ال�ضخمة‪ ،‬بعد كل ما قدمه لهم بعد كل هذه الأدلة ما زالوا يتكتمون على‬
‫�صرخة فار�سينا م�صرين �أن �سائد هو قاتل الع�صر!»‬
‫«من �أقبح �أنواع اال�ستبداد‪ :‬ا�ستبداد املال على العدل‪ ،‬وال�سيا�سة على‬
‫رقاب الب�شر‪ ،‬والأمان املزعوم على �أج�ساد ال�ضعفاء‪».‬‬
‫اال�ستبداد يقيد احلقائق يف الأذهان‪ ،‬ينكر حق الفقري ل�صالح جهة ال‬

‫ع‬
‫�أحد يعلم حتى من هي‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أ ُي ْع َقل بعد كل هذا �أن ي�ضع ال�شر كلمته الأخرية‪� ،‬أن ينجح الظلم يف �أن‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بحرية و�سبات يف بحر من الظلمات؟!‬ ‫ير�سو ب�أ�شرعته و�أن يبحر ُ‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫«كيف ُيعقل �أن ينت�صر ال�شر على اخلري يف معركتهم الأبدية؟!»‬

‫تمت‬

‫‪329‬‬
‫‪o‬‬ ‫الخاتمة‬

‫عند الإغريق �أ�سطورة تقول‪� :‬إن «�شا ًّبا» حب�سوه يف �إحدى «املتاهات»‪،‬‬
‫خيطا ً‬
‫طويل يرتكه وراءه يتدىل لعلها‬ ‫ولكن حبيبته قد و�ضعت يف جيبه ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫تهتدي �إىل �إنقاذه بعد ذلك‪ ،‬وهذا ما فعله ال�شاب احلبي�س‪ ،‬وهكذا �أنقذته‬

‫ب‬ ‫ك‬
‫«اخليطتالهادي» دخل التاريخ حتت ا�سم «خيط �أريان»‬
‫الذي يهدي من بال�سجن �إىل ل‬
‫حبيبته الفتاة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫«�أريان»‪ ،‬هذا‬
‫الظالم �إىل النور‪ ،‬ومن الظلم‬ ‫ومن‬ ‫احلرية‪،‬‬
‫�إىل العدل‪.‬‬
‫�أني�س من�صور‬
‫‪q q q‬‬
‫«هدوء»‪ ،‬نطقها القا�ضي ب�صوت جهوري وهو يخبط مبطرقة عدله‬
‫يف حماولة واهية لل�سيطرة على حالة الهياج �إثر تلك القنبلة التي‬
‫�ألقاها �شريف يف وجه اجلميع ودعمه �إبراهيم بتلك الأدلة وامل�ستندات‬
‫والفال�شات الإلكرتونية‪.‬‬
‫و�أمر �شريف ب�صوته اجلهوري‪« :‬هدوء يا ح�ضرة ال�ضابط‪ ،‬لو لديك‬
‫�أدلة فلتقدمها للمحكمة وتنتظر دورك‪».‬‬

‫‪331‬‬
‫َف َق َد �شريف ال�سيطرة وبركان غ�ضب مكبوت عرب �شهور طويلة من‬
‫جمع الأدلة ومن ال�سري وراء كل خيط جلمعها‪ ،‬من تل ِّقي ال�صدمات من‬
‫ه�ؤالء الذين يعتربون �أنف�سهم «�آلهة» حتكم باملوت واحلياة على من تريد‪،‬‬
‫ومن ينال عندها مرتبة ب�شرية َومنْ منهم ينظرون �إليهم نظرة عدمية‬
‫الرحمة؛ في�شحذون �أ�سنانهم كا�شفني عن خ�سة نفو�سهم‪ ،‬وهتف بتعب‪:‬‬
‫لدي و�أدليت ب�شهادتي‪� ،‬إنه مل يقتل وه�ؤالء مل يكونوا‬
‫«لقد قدمت كل ما َّ‬
‫مثال للرحمة وهم عار على مهنة ينتمون �إليها‪ ،‬لقد اتخذوا من �أ�سمائهم‬ ‫ً‬

‫ع‬
‫ومهنتهم �ستا ًرا م�شني لتجارة املوت‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫وقف وكيل النيابة الذي قام بالتحقيق مع �سائد وهو يقول برف�ض‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫حمتدٍّ ملا يتفوه به �شريف‪�« :‬إن املتهم مل ينكر‪».‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫التفت �إليه �شريف يخربه من بني �أ�سنانه‪« :‬ومل يعرتف‪ ،‬فاملتهم �صامت‬
‫متاما‪ ،‬مل يعلق على �شيء منذ حدوث تلك املهزلة‪».‬‬ ‫ً‬
‫�صمت لربهة قبل �أن يخبط على املن�صة �أمامه ويتابع بانفالت‪« :‬و�إن‬
‫كان قتله حتى‪ ،‬هل تريد �أن تقول‪� :‬إن العامل �سيت�أثر مبوت كلب مثل فهمي‬
‫وحماد والبقية؟!»‬
‫عاد القا�ضي يخربهم‪« :‬هدوء و�إال �س�أكون جم ًربا �أن �أتهمك بعدم‬
‫احرتام حمكمتي يا �سيادة املقدم‪».‬‬
‫عم ال�صمت التام بعد حالة الهياج التي كانت‪� ،‬شريف ينفث اللهب‪،‬‬
‫ال�صحافة متحفزة لأي خرب جديد َتغ ِْزل منه حكايات وروايات كذ ًبا‬
‫و�صد ًقا حتى حتقق �أعلى �إيرادات‪ ،‬لي�س مه ًّما من الظامل ومن املظلوم‪،‬‬
‫من ال�صادق ومن امل َّدعي‪ ،‬طاملا تلك الق�ضية م�ستمرة وي�ستطيعون كتابة‬
‫العديد من املقاالت من مكاتبهم املكيفة وبنهاية كل مقال كم كلمة منددة‬
‫‪332‬‬
‫بال�سيا�سة وحاالت الفقراء‪ ،‬و�آخر الليل يذهب لينام ببال مرتاح يف منزله‬
‫وبني �أوالده‪ ،‬نا�س ًيا �أو متنا�س ًيا بل ال يخطر بباله من الأ�سا�س حفنة من‬
‫وجوعا �أو حتى حتت م�شارط مالئكة الرحمة!‬‫الب�شر متوت بردًا ً‬
‫اقرتب �إبراهيم من �سائد الذي يقف داخل القف�ص احلديدي يهتف‬
‫فيه بت�شدد‪« :‬تكلم‪ ،‬قل �أي �شيء‪ ،‬دافع عن نف�سك‪� ،‬أطلق �صرختك التي‬
‫كنت تت�شدق بها‪».‬‬
‫ما زالت حالة ال�صمت امل�صاحبة للتحفز ونظرة �ضباع جائعة وجدت‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫جدا كانت‬‫فري�ستها هي ما يرت�سم فوق وجوه كل احلا�ضرين‪ ،‬لوقت طويل ًّ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫عينا �شريف ت�صرخ بنريانه وكل �أماين العامل بداخله ُتخت�صر يف �أمنية‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫واحدة فقط‪« :‬القفز داخل القف�ص ومتزيق َمنْ �أمامه �إر ًبا حتى ال يبقى‬

‫وداُ‪،‬لتوماذا قد يخ�سر‬
‫و‬ ‫ر‬
‫بعد لعبة كان ُم ِقد ًما عليها بروحه وللأ�سف جنا‪ ،‬كان يعلم �أنه �زإذايع‬
‫منه �شيء»‪.‬‬
‫بينما �سائد يراقبهم ب�صرب مل ينفذ منه خيوطه بع‬
‫حتدث‬
‫الآن �سينال التكذيب وعدم الت�صديق واملحاربة؛ لذا َ�ص َم َت حتى يجذب‬
‫متاما بالتعاون مع �شريف قرر‬ ‫�أكرب عدد ممكن‪ِ ،‬وف الوقت املتفق عليه ً‬
‫�أن يتحدث �أخ ًريا ملق ًيا مبا يف جعبته‪ ،‬فخرج �صوته �صل ًبا باردًا قا�س ًيا‪:‬‬
‫«�سيادة وكيل النيابة عندما علم بخلفيتي احلقيقية عاملني كمجرم‪ ،‬ومل‬
‫ي�شفع يل �سجلي التجاري النظيف وال حتى هويتي الأجنبية‪ ،‬فبالنهاية‬
‫�أ�صويل طفل �شارع جمهول الن�سب‪».‬‬
‫هتف وكيل النيابة بت�صلب‪�« :‬أعرت�ض �سيدي الرئي�س‪ ،‬ها نحن بد�أنا يف‬
‫حماولة �إلقاء التهم‪».‬‬
‫نطق القا�ضي ب�صوت جهوري‪« :‬اعرتا�ض مرفو�ض‪ ،‬فليكمل املتهم‪».‬‬
‫‪333‬‬
‫�أكمل �سائد بنف�س ال�صوت‪« :‬وال�صحافة مل تنتظر ف�أغرقت البالد‬
‫قتل واحدة؛ �أ�صبحت‬ ‫وبدل من تهمة ٍ‬ ‫ب ُت َهم حتى مل تخرج من النيابة نف�سها ً‬
‫�أنا �سفاح الع�صر ومطارد الأطباء‪ ،‬قاتل معاطف الرحمة‪».‬‬
‫«�إذن �أنت حتاول �أن تنفي �أي تهمة موجهة �إليك‪».‬‬
‫هز �سائد ر�أ�سه مبت�س ًما ب�سخرية وقال‪« :‬ال‪ ،‬ال �أنفي �شي ًئا وال �أعرتف‬
‫ب�شيء وال حتى حكم اليوم يفرق معي‪ ،‬بل كل ما يهمني �أن تن�شر الأوراق‬
‫التي بني يديك كما هي دون ت�أويل �أو قلب للحقائق‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�صمت وهو يراقب القا�ضي يق ِّلب ما بني يديه قبل �أن ي�صرخ بعلو‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�صوته‪« :‬هديف واحد �أنا ورفيقي الذي �أُ ْز ِه َقت روحه هبا ًء �ضحية لكلب‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قتل الكثريين‪� ،‬أن ت�صل �صرختنا �أن تروها بعني الرحمة الإن�سانية‪� ،‬أن‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫وجوعا يف‬ ‫تك ُّفوا عن الر�ؤيا من برجكم العايل وتتذكروا َمنْ ميوتون بردًا ً‬

‫ع‬
‫ال�شوارع‪� ،‬أن تتغري قوانينكم و ُت َن َّفذ قوانني الإعدام لكل من يحرق قلب �أُ ٍّم‬
‫ويدمر �أ�سرة بحرمانهم من �أطفالهم‪� ،‬أن يتذكر كل م�سئول منكم عندما‬
‫ليل �آم ًنا وداف ًئا‪� ،‬إن هناك ع�شرات الأُ َ�سر تعي�ش كالأموات‬ ‫ي�ضم طفله ً‬
‫وهم يجهلون م�صري �أطفالهم‪� ،‬إن هناك ُب ُطو ًنا ُت َف َّرغ من �أع�ضائها و ُتباع‬
‫من ِق َبل عدماء �ضمري ي�ستغلون نفوذهم ويبيعون هذه الأع�ضاء‪� ،‬إذا غاب‬
‫العدل‪� ،‬ساد الف�ساد وعم اخلراب‪ ،‬و ُي�صبح العامل �ساحة للقتل و�إزهاق‬
‫الأرواح‪ ،‬و ُتباع النفو�س ب�أبخ�س الأثمان‪».‬‬
‫«هل تعلم بكم ا�شرتى فهمي ر�أ�س جنيني يف �أح�شاء �أمه يا �سيادة‬
‫القا�ضي؟»‬
‫َق َّل َب القا�ضي الأوراق �أمامه بحرية وهو ي�ستمع للأقوال اجلديدة التي‬
‫تغري كل �شيء وتطيح بتلك الق�ضية من �أ�سا�سها لي�صبح لديه ق�ضية الع�صر‬
‫ح ًّقا‪ ،‬مل ير َّد القا�ضي ب�شيء‪ ،‬بينما َه َّم �سائد ب�إكمال حديثه اقتحمت �شابة‬
‫‪334‬‬
‫يف منت�صف الع�شرينات قاعة املحكمة وهي جتيب بت�صلب‪« :‬ا�شرتاه مبئة‬
‫دوالر‪� ،‬أما �أمه مل يدفع فيها حتى خم�سني دوال ًرا �سيادتك‪».‬‬
‫قب�ض �سائد على حديد القف�ص ب�شدة حتى َّ‬
‫ابي�ضت ُ�سالمياته بينما‬
‫بك �إىل هنا؟!»‬‫يهم�س ب َن َف ٍ�س مبهور‪« :‬دُجى‪ ،‬يا غبية ما الذي �أتى ِ‬
‫�سمع القا�ضي ي�أمر اجلميع بالهدوء مرة �أخرى قبل �أن يقول ب�صوت‬
‫م�سيطر‪�« :‬أَ ْف�سحوا لل�شاهدة الطريق‪ ،‬ماذا ِ‬
‫لديك؟ حتدثي‪».‬‬
‫تقدمت دجوى دون تردد وهي تزيح نظارتها عن عينيها لت�ضعها فوق‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�شعرها‪ ،‬التفتت تنظر �إليه � ًأول فحب�ست �أنفا�سها ب�صعوبة حتى ال تنهار‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫على منظره املوجع والذي بث فيها القوة واجلراءة �ساب ًقا كي ت�أتي‪ ،‬مل‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ت�ستطع ال�صمت �أكرث �أو اخلوف ورقبته مهددة بحبل امل�شنقة‪ ،‬حبه الذي‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫ما زالت حتمله يف قلبها كان �أقوى من �أن ت�ستمر يف �صمتها؛ لذا قررت‬
‫بب�ساطة �أن تقدم كل ما لديها حتى �إن ات ُِّه َمت ب�إخفاء �أدلة عن العدالة‪ ،‬ثم‬
‫ما لبثت �أن التفتت �إىل القا�ضي وهي تقول بحزم غري متنازل‪�« :‬أنا دجوى‬
‫غ�سان حممود الها�شم ابنة املتهم الأول يف تلك الق�ضية وامل�سئول الرئي�س‬
‫ولدي‬
‫عن �شبكة جتارة الأع�ضاء‪ ،‬وقبل موته نقل الراية لفهمي النجار‪َّ ،‬‬
‫�أدلة وم�ستندات وفيديو م�سجل من �أبي قبل موته يعرتف فيه بكل �شيء‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫بعد �شهر‪« ،‬وبعد االطالع على كافة الأدلة وامل�ستندات وحيثيات الق�ضية‬
‫واال�ستماع لكافة ال�شهود و�شهود العيان‪ ،‬والذين �أقروا حتت الق�سم بعدم‬
‫�إطالق املتهم الر�صا�ص على «فهمي مو�سى النجار» وعدم تواجده يف‬
‫�أماكن القتل الأخرى والتي ا ُّد ِع َي بوجوده فيها �ساب ًقا؛ حكمت املحكمة‬
‫ح�ضور ًّيا على املتهم �سائد العو�ضي بالرباءة من كل التهم املق َّدمة �ضده‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫‪335‬‬
‫بعد يومني‪ ،‬كان �سائد و�إبراهيم يقفان و�سط �أر�ض �صحراوية كبرية‬
‫خال من‬ ‫على �أطراف املدينة اجلديدة‪ ،‬بينما �سائد يقول ب�صوت جامد ٍ‬
‫احلياة رغم �إن�سانية ما يتفوه به‪« :‬لقد ابتعتها �أنا وعمر منذ فرتة‪ ،‬ومل ُتت َْح‬
‫يل الظروف لأو�صيك مبا �أريده‪».‬‬
‫رفع �إبراهيم يده ي�شدد على كتف �سائد وقال‪�« :‬سائد‪ ،‬امنح نف�سك‬
‫فر�صة لأربعة �أ�شهر �أنت كنت تتعذب يف ظلمات حب�سك‪ ،‬حاول �أن تتخطى‬
‫ما حدث؛ لأنه مل يكن ذنبك‪ ،‬هذا قدره الذي كتبه له اهلل وحده‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ت�صلب ج�سده وهو يبتعد عن يده �إبراهيم متاب ًعا كالمه وك�أنه مل ي�سمع‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ما قاله‪« :‬لن ي�شعر به�ؤالء امل�شردين �أحد �إال َمنْ ذاق من ك�أ�س مرارتهم؛‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لذا �أنا �أريد �أن نفتتح هذه امل�ؤ�س�سة حتى و�إن كانت جمرد م�أوى واحد‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ي�ضم ع�شرة �أطفال نوفر لهم حياة �آدمية‪ ،‬ونحميهم من الوحو�ش التي‬

‫ع‬
‫متتلئ بها الغابة‪».‬‬
‫قال �إبراهيم ب�صرب‪« :‬وهل برعايتك لع�شرة �أطفال �ستق�ضي على‬
‫م�شكلة الألف؟ تلك الق�ضية حتتاج مللف كامل ووعي �شعب وم�ؤ�س�سات‬
‫كاملة‪».‬‬
‫�سخر �سائد وهو يخربه‪�« :‬إذن ننتظر يوم ال�ساعة �أقرب!»‬
‫حترك �سائد وهو ينظر �أمامه للبعيد يقول بنربة باردة معتادة‪« :‬ابد�أ‬
‫بنف�سك‪ ،‬و�إنقاذ ع�شرة �أف�ضل من تركهم ُيقْتلون‪ ،‬نحن �سنقوم بكل ما‬
‫يف و�سعنا‪ ،‬وعام وراء الآخر �سن�صبح قادرين على �إنقاذ الع�شرات ورمبا‬
‫الألوف‪ ،‬ومن يعرف! رمبا يتحفز غرينا ويقلدنا‪ ،‬وبدل �أن يهدر �أمواله يف‬
‫رعاية العب كرة �أو مطرب‪ ،‬يرعى براعم وبتالت من التلوث‪».‬‬
‫قاطعه �إبراهيم ً‬
‫قائل‪« :‬يف ماذا تفكر حتديدً ا؟ ما تقوله �صعب‪».‬‬
‫‪336‬‬
‫قال �سائد بعينني تربقان ت�صمي ًما‪« :‬ال �شيء ت�سعى �إليه يكون �صع ًبا‪،‬‬
‫تلك امل�ؤ�س�سة �ستكون تكافلية اجتماعية‪� ،‬سنبد�أ ببناء ب�سيط ي�ستوعب‬
‫�أكرب عدد ممكن منهم‪ ،‬وبعدها �سنفتح بع�ض الور�ش الب�سيطة‪ ،‬وه�ؤالء‬
‫املراهقني والأطفال يعملون فيها ب�أنف�سهم ونحن �سنتوىل الت�سويق‪،‬‬
‫جزء �سيذهب لتكبري بيتهم هذا وجزء �سنوفره لهم حتى عندما ي�ش ُّبون‬
‫ويخرجون من هنا يجدون ما ي�ستطيعون مواجهة العامل به‪».‬‬
‫ت�س َّلل اخلوف لقلب �إبراهيم رغ ًما عنه وهو ي�س�أله بت�شكك‪« :‬هل تعتقد‬
‫�أننا ن�ستطيع؟»‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫رد �سائد بب�ساطة‪« :‬بالطبع �إن �أردنا الأمر‪ ،‬فهو ال يتطلب �إال ال�صرب‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وال�ضمري‪ ،‬ال�ضمري النظيف والرحمة يا عمر‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫تب َّدلت مالمح �إبراهيم وهو ي�صحح‪�« :‬إبراهيم‪� ،‬سائد �أنت يجب ‪»...‬‬
‫نظر �إليه �سائد ب�صدمة للحظات‪ ،‬ثم ما لبث �أن فرك وجهه بقوة‬
‫متمت ًما با�ستغفار وقال‪�« :‬آ�سف‪ ،‬ل�ساين اعتاد على مناق�شة كل خططي‬
‫معه هو فقط‪».‬‬
‫«�أنت تفتقده؟!»‬
‫�ضحك �سائد بع�صبية وقال باخت�صار وكان تعبريه ي�شمل كل �شيء‪:‬‬
‫«�إنه �أخي‪ ،‬قطعة مني ال تنف�صل منذ حميته منهم وجناين هو من املوت‪».‬‬
‫�أغم�ض عينيه للحظات يلتقط �أنفا�سه قبل �أن يتابع حديثه ال�سابق‬
‫بهدوء‪« :‬كما �أخربتك‪ ،‬امل�شروع غري ربحي ولن ُت ْق َب َل فيه �أي تربعات �إال‬
‫من جهات موثوقة لن تطالبنا ب�أي �إعالنات ودعايا ي�أخذون من خلفها‬
‫�شهرة معينة‪ ،‬وال م�شكلة يف بع�ض ال�شباب املتطوعني للم�ساعدة يف تهذيب‬
‫�أخالق ه�ؤالء املراهقني والأطفال‪».‬‬

‫‪337‬‬
‫قال �إبراهيم بحرية‪�« :‬إنه م�شروع اجتماعي �ضخم ويحتاج ‪»...‬‬
‫هز �سائد كتفيه قبل �أن يقول بربود‪« :‬ال ت ُل ْمني �إن �أخربتك �أن املحتمع‬
‫عدل وال �إن�صا ًفا؛ لذا فليحرتق بظلمه‪ ،‬كل همي‬ ‫ال يهمني‪� ،‬أنا مل �أر فيه ال ً‬
‫�أن �أجد �أكرب عدد ممكن من املالجئ له�ؤالء ال�صغار‪� ،‬أنت ال تعلم ماذا‬
‫تعني لنا بطانية دافئة يف قر�صة برد ال�شتاء وال جمرد ك�سرة عي�ش ياب�س‬
‫ت�سد جوعنا‪».‬‬
‫«لدي خرب‬
‫�ساد هدوء جزئي بينهما قبل �أن يقول �إبراهيم بانت�صار‪َّ :‬‬

‫ع‬
‫رمبا يبهجك‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عاد �سائد �إليه بعينيه م�ستف�س ًرا‪ ،‬فتابع �إبراهيم بابت�سامة ن�صر‪« :‬ذلك‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الطفل الذي وجدته قبل �شهور َمنْ ُ�س ِر َق ْت ِك ْليته‪ ،‬هل تذكرته؟»‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬ ‫قال �سائد‪« :‬بالطبع‪� ،‬أنا ال �أن�سى �شي ًئا يف العادة‪».‬‬

‫ع‬
‫ب�سط �إبراهيم ك َّفه ُم ْظه ًرا �صورة ما وقال‪« :‬لقد قام �شريف بزيارتي‬
‫عدة مرات ب�سبب ق�ضيتك‪ ،‬وبالطبع كان يرى الفتى‪ ،‬باملنا�سبة ُي ْدعى‬
‫«مازن»‪ ،‬ت�شكك يف �شكل الفتى‪ ،‬وعندما �أخربته عن ق�صته عاد بعد‬
‫يومني يخربين بعدم ت�صديق �أن هذا الفتى طفل متغيب عن �أهله منذ‬
‫خم�سة �أعوام ُخ ِط َف من �أمام منزله وهو يف الرابعة‪ ،‬والدته طبيبة ووالده‬
‫متاما‬
‫مهند�س وهو �صغريهم الوحيد‪ ،‬كانت حياتهم مدمرة كل ًّيا ومتوقفة ً‬
‫ملدة خم�سة �أعوام كاملة‪».‬‬
‫مل ي�سبق �أبدً ا �أن ر�أى �إبراهيم �سائد بهذه اللهفة وهذا الف�ضول وهو‬
‫يتفح�ص ال�صورة العائلية للفتى و�س�أل‪« :‬وبعدها ماذا حدث؟ هل عاد‬
‫�إليهم؟»‬
‫قال �إبراهيم‪« :‬بالطبع عاد‪ ،‬الأم من �أول ما ر�أته تعرفت عليه على‬
‫الفور ودون �أدنى تردد‪ ،‬ولكن خيبات �أمل الأب الكثرية جعلته غري‬
‫‪338‬‬
‫م�صدق يتنازع ما بني �ضم الفتى �أو الإنكار فقام بفح�ص احلم�ض النووي‬
‫‪ ،DNA‬وت�أكد �أن الطفل بالفعل هو مازن‪».‬‬
‫قليل وهو ي�س�أله ب�شرود‪« :‬هل تعتقد �أن هناك بالفعل‬‫ابت�سم �سائد ً‬
‫� ً‬
‫أمل‪� ،‬أن و�سط كل هذا الظالم والكوابي�س مكا ًنا للحلم؟»‬
‫دوما موجود و�أن‬
‫يوما ما �أن الأمل ً‬‫قال رفيقه بنربة واثقة‪�« :‬ستعرف ً‬
‫كلمة احلق مهما طال اال�ستبداد والقهر هي الباقية‪».‬‬
‫‪q q q‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫وقف �سائد �أمام النافذة يقاوم كل ع�ضلة يف ج�سده � َّأل تنت�صر عليه‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫وجتربه ليهرع �إليها وي�ضمها بني ذراعيه‪َ ،‬ي ْ�ش َت ُّم رحيقها‪ ،‬ميلأ �صدره من‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫�أنفا�سها‪ ،‬رمبا ي�ستطيع �أن يخزن يف عقله ذلك ال�شعور الذي مل يكن يعرف‬
‫له تف�س ًريا من قبل ف ُيعي ُنه على قرارها بالبعد واجلفاء‪ ،‬رفع �سائد ك َّفه‬
‫وتتبع زجاج النافذة بنف�س �شاردة وقال جم ًربا نف�سه‪« :‬ورقة الزواج املوثق‬
‫واملوافقة على الإقامة وعقد هذا البيت بني يديك‪ ،‬هذا ما �أ�ستطيع �أن‬
‫نف�سك‪،‬‬
‫�أقدمه لك بجانب هدنة‪ ،‬هدنة طويلة غري حمددة ت�ستعيدين بها ِ‬
‫وبعدها ن�ستطيع �أن نتحدث برت ٍّو وعقل‪».‬‬
‫ابتلعت الغ�صة املتورمة يف حلقها وهي م�سمرة يف مكانها تنظر �إىل‬
‫د�سه بني يديها‪ ،‬وعقلها �أبعد من �أن تدرك ما يحويه‪ ،‬ثم ما‬ ‫امللف الذي َّ‬
‫لبثت �أن قالت ب�صوت خافت ولكنه قوي النربات‪�« :‬أنا لن �أتنازل عن طلب‬
‫علي نحوك �سددته يوم‬ ‫الطالق يا �سائد‪ ،‬كل ما بيننا انتهى‪ ،‬و�آخر دين َّ‬
‫املحكمة‪».‬‬
‫�شعر ب�أنفا�سه تختنق يف �صدره وتطبق على رئتيه متذك ًرا كل ما فعله‬
‫ل�ست َم ِدينة يل ب�شيء فقط‬
‫أنت ِ‬ ‫بها‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال ب�صوت خ�شن‪ِ �« :‬‬
‫رعبك منهم‬‫فلنحمد اهلل �أن القا�ضي �أخذ الأمر بعني الرحمة وتف َّهم ِ‬
‫‪339‬‬
‫أنك مل تعريف بالأمر �إال‬‫لك �آنذاك‪ ،‬وبالطبع �ص َّدق حجتك ب� ِ‬ ‫وتهديدهم ِ‬
‫قري ًبا‪».‬‬
‫هتفت دجوى مت�سرعة ب�صوت مت�شنج‪« :‬كان دي ًنا يف رقبتي لكل ه�ؤالء‬
‫�ضحايا املجتمع لق�ضية �ستهز الر�أي العام ل�سنوات �آتية‪ ،‬ال تن�س �أن الق�ضية‬
‫مل ولن تنتهي هنا‪� ،‬أنت فقط من �أُ ْب ِعدت عنها‪».‬‬
‫ا�ستدار �سائد يتحرك نحوها فابتعدت‪ ،‬مل يهتم وهو يتقدم خطوة‬
‫تلو اخلطوة حتى ت�شكل �صدره مع ج�سدها الدافئ‪ ،‬مل يرتدد ومل توقفه‬

‫ع‬
‫�شهقتها الراف�ضة وهو يحيط َخ�صرها بذراعه ورفع الكف الأخرى يتخلل‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫خ�صالت �شعرها الق�صري‪ ،‬ومال بر�أ�سه يالم�س ب�شفتيه وجنتها مطل ًقا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫متوح�شا بافتقاده دفئها‪ ،‬مل ُي ِرد ال�ضغط على �أع�صابها‬ ‫ً‬ ‫ت�أوهً ا م�ضن ًيا‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ولكنه مل ي�ستطع �أن يبتعد عنها دون �أن ي�ضمها‪ ،‬انخف�ضت يده بعيدً ا عن‬

‫ع‬
‫�شعرها ورفعها ً‬
‫قليل‪.‬‬
‫دفع ج�سدها نحوه ليزيد التفافها داخل دائرته وهم�س‪« :‬ال تتهربي‬
‫أنت‬
‫أتركك ولكن لي�س ل�شيء �إال للعودة �إليك‪ِ � ،‬‬ ‫من حديثنا الأ�سا�سي‪� ،‬س� ِ‬
‫نف�سك و�أن تختاري‬
‫ِ‬ ‫أنك ت�ستحقني موازنة‬ ‫برتكك ل ِ‬
‫ِ‬ ‫يل �أنثاي‪� ،‬س�أخاطر‬
‫إليك مطال ًبا يف املرة‬
‫عودتك يل تلك املرة ب�إرادتك‪ ،‬ولكن عندما �أعود � ِ‬ ‫ِ‬
‫لك بالهرب �أو الرف�ض �أبدً ا مرة �أخرى‪».‬‬ ‫القادمة لن �أ�سمح ِ‬
‫�شاف لكلينا �ستن�ساين يف فرتة‬ ‫هم�ست‪�« :‬أنت تتوهم‪ ،‬االبتعاد حل ٍ‬
‫ق�صرية‪».‬‬
‫�أراح جبهته على جبهتها‪ ،‬ثم هم�س‪�« :‬إن مل يزدك البعد ع�ش ًقا ف�أنت‬
‫مل حتب من الأ�سا�س‪ ،‬د َُجى»‬
‫‪q q q‬‬

‫‪340‬‬
‫�صي � ًأول و�ساعدها على‬‫عندما ر�أته يدخل �إىل غرفتها بعد �أن دخل ُق ٌّ‬
‫�أن ت�ضع حجاب ر�أ�سها؛ توج�ست منه وحاولت �أن ُتف ِْه َم ُق�ص ًّيا بكل الطرق‬
‫�أن يجعل هذا الرجل يغادرهم‪ ،‬كانت ت�شعر باحلقد واللوعة‪« ،‬كيف يجر�ؤ؟!‬
‫�أال ي�شعر باخلزي من نف�سه بعد �أن دمر حلمها وقتل حبيبها وقتلها معه؟!»‬
‫جتنب �سائد الق�سوة املطلة من عينيها وهو يقرتب منها وقال بتثاقل‬
‫�سفرك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫�أمر معتاد‪« :‬ال�سفارة الأمريكية �ساعدتني ال�ستكمال كل �إجراءات‬
‫و�أنا قمت بالفعل باحلجز على طائرة اليوم‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫نظر �إىل �ساعته لربهة ثم عاد يخاطب عينيها الذاهلة وك�أنها تنظر‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫لكائن ف�ضائي �أو �شخ�ص ما فقد عقله ويهذي‪ ،‬قال بعملية‪« :‬يجب �أن‬

‫ل‬ ‫ل‬
‫راف�ضنوهي ت�سحب �إبريق ماء �ضخم‬
‫ش‬ ‫ب‬
‫نتحرك خالل �ساعة مل يتبقَّ �إال ثالث �ساعات على الطائرة‪».‬‬

‫�صارخ‪:‬ت«�أن اخرج من‬ ‫ر‬


‫املنزل»‪ .‬ودون تردد �ألقته نحوه وهي ت�شري بت�شدد وال وز عي‬
‫هزت رابحة ر�أ�سها بجنون‬
‫بجانبها‬

‫تفادى �سائد ما رمته وهو يرفع عينيه بربود مت�أملها‪ ،‬ثم ما لبث �أن‬
‫وولدك يف خطر ولن‬
‫ِ‬ ‫زوجك‪،‬‬
‫قال بب�ساطة‪« :‬اح�سبيها بالعقل‪ ،‬هذه و�صية ِ‬
‫ي�صبح �آم ًنا �إال معي �أنا‪».‬‬
‫وقفت رابحة بحملها الثقيل ناوية على �أن ت�ستنجد بجميع الب�شر وتلفق‬
‫له م�صيبة تعدٍّ رمبا تتخل�ص منه للأبد‪ ،‬فهز �سائد كتفيه بال مباالة وقال‬
‫بربودة جراح �إجنليزي‪« :‬ح�س ًنا كما توقعت‪ِ � ،‬‬
‫أنت مل ترتكي يل فر�صة و�أنا‬
‫متعب وبالت�أكيد لن �أ�ضيع الوقت معك‪».‬‬
‫وقبل �أن تدرك معنى كالمه كان ُي ْخرج حقنة من معطفه‪ ،‬جهزها يف‬
‫ثوان وقبل �أن تهرب خلارج الغرفة كان مي�سك بذراعها ويغر�سها يف ع�ضلة‬
‫‪341‬‬
‫ذراعها على الفور‪ ،‬ظلت ت�صرخ ب�صوت مبحوح لدقائق حتى �شعرت بثقل‬
‫ر�أ�سها وترنح ج�سدها‪ ،‬فتلقاها �سائد ب�صمت وحترك بها نحو اخلارج‪،‬‬
‫�أوقفه ُق ٌّ‬
‫�صي وهو يقول ب�شعور بالقلق والذنب‪�« :‬أال يوجد هناك حل �آخر؟‬
‫�أنا ما زلت ال �أ�ستطيع جعلك ت�أخذها‪».‬‬
‫نظر �سائد لوالدتها الباكية‪ ،‬وهي تغرق وجه ابنتها بالبكاء تخربه‬
‫بح�شرجة‪« :‬انتبه �إليها‪� ،‬إن مل يخربين �أن �أثق بك مل �أكن �أوافقك‪».‬‬
‫�صي بنربة مريحة‪« :‬هو‬ ‫هز �سائد ر�أ�سه بتفهم‪ ،‬ثم ما لبثت �أن قال ل ُق ٍّ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫لن ي�ضرها‪ ،‬ولوال حالتها النف�سية كنت �أخربتها لكنها لن ت�صدقنا‪ ،‬ال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫تقلق يا بطل‪ ،‬هي وجنينها عهدتي حتى �أو�صلهم لرب �أمانهم‪ ،‬و�أنت �أوراقك‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ووالدتك �ست َُج َّهز خالل �أ�شهر قليلة وتلحقا بنا وتطمئن بنف�سك‪».‬‬

‫ع‬
‫�صي يطبع ُق ْبلة على ر�أ�س �أخته‪ ،‬ثم ردد بي�أ�س م�صدوم‪« :‬ما‬
‫اقرتب ُق ٌّ‬
‫زلت ال �أ�صدق ما �سمعته خالل دقائق‪� ،‬أنا متحري هل �أفرح �أم �أبكى‪».‬‬
‫نف�سا عمي ًقا وقال‪« :‬املطلوب منك حال ًّيا احلزن التام‪،‬‬‫�أخذ �سائد ً‬
‫اال�ست�سالم للرثاء‪ ،‬وعندما ت�أتي �إىل هناك افعل ما يحلو لك لن مينعك‬
‫�أحد‪».‬‬
‫وافقه ُق ٌّ‬
‫�صي قبل �أن يقول بقلق‪« :‬هل تلك املادة املخدرة �آمنة؟»‬
‫�أجابه �سائد بتلقائية‪« :‬تلك الرثثارة زوجة �إبراهيم بارعة يف عملها‪،‬‬
‫متاما على الأقل حتى �أ�ستطيع ‪ -‬مب�ساعدة �شريف‬
‫وقالت‪� :‬إن املادة �آمنة ً‬
‫و�أحد م�سئويل ت�أمني طفلها ‪ -‬و�ضعها على منت الطائرة‪».‬‬
‫�صي بتعجب‪َ ِ :‬‬
‫«ول هذا االهتمام كله مبجرد جنني؟!»‬ ‫�س�أل ُق ٌّ‬

‫‪342‬‬
‫فر َّد �سائد �ساخ ًرا‪« :‬يكفي �أنه يحمل اجلن�سية الأمريكية يا فتى حتى‬
‫يعامل ب�آدمية حتى وهو جمرد جنني حياته يف علم الغيب‪ ،‬هذا ما ُي ْد َعى‬‫َ‬
‫بالكرامة الإن�سانية‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫دخل �سائد غرفته داخل الفندق يف الواليات املتحدة التي و�صل �إليها‬
‫وتوجه �إىل‬
‫بعد طول �سفر ب�صحبتها‪ ،‬وهو يخلع مالب�سه عند الباب بتعب َّ‬
‫�ساحما لعقله �أن ي�شرد يف قا�سية القلب التي رغم‬ ‫ً‬ ‫حمام الغرفة مبا�شر ًة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�إنقاذها �إياه وتعري�ض نف�سها خلطر ال�سجن مل ت�سمح له بفر�صة للتكفري‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫متاما م�ؤكدة‬
‫للت�سامح �أو الغفران‪ُ ،‬م ِ�ص َّرة على الطالق و�شطبه من حياتها ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أن طرقهم لن تلتقي �سو ًّيا مرة �أخرى‪ ،‬وحتت املاء املن�ساب �ألقى بر�أ�سه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫على الزجاج وهو ُي ْخ ِرج زف ًريا حا ًّرا وحار ًقا من �صدره متوعدً ا �إياها‪:‬‬
‫نف�سك والغرق‬‫ِ‬ ‫لك بدفن‬ ‫لك باالبتعاد‪ ،‬لن �أ�سمح ِ‬‫«�أبدً ا دجى‪ ،‬لن �أ�سمح ِ‬
‫أنت امل�س�ؤولة‬‫نف�سك لدفع ثمن �أخطاء مل تكوين � ِ‬ ‫ِ‬ ‫برثاء الذات وب�إجبار‬
‫أنت يل و�أنا ال �أتخلى ع َّما هو يل مهما‬‫عنها‪� ،‬ساحميني عزيزتي ولكن � ِ‬
‫طال الزمن‪».‬‬
‫يلف بها َخ�صره‬ ‫َّ‬
‫الط ْر ُق احلاد املتعجل‪ ،‬جعله يتناول من�شفة �سري ًعا ُّ‬
‫وتوجه �إىل الباب بقلق �أن تكون تلك امل�صيبة فعلت �شي ًئا ما بنف�سها ولذا‬ ‫َّ‬
‫جلئوا �إليه‪ ،‬ت ًّبا لتلك احلمقاء �ست�سبب له نوبة قلبية ال حمالة‪ ،‬ولكنه‬
‫عندما فتح الباب ا�ضطرب كل ًّيا و�صاعقة من امل�شاعر الإن�سانية القوية‬
‫هزته هزًّا‪ ،‬م�شاعر �أخوية �سامية‪.‬‬
‫«هل �أكل القط ل�سانك؟ �ألن ترحب بي على الأقل؟» مل ي�ستطع �أن‬
‫يتجنب ما ي�شعر به وينكر �أنه ب�شر يخاف وي�شعر ويفتقد‪ ،‬وبذعر انحنى‬
‫على الفور نحو الكر�سي املتحرك حمت�ض ًنا من يحتله بقوة‪ ،‬وقال ب�صوت‬
‫‪343‬‬
‫تكف عن التهور؟ �أمل نتفق �أن تبقى‬ ‫�أج�ش خمتنق‪�« :‬أنت هنا يا �أحمق‪ ،‬متى َّ‬
‫يف مكانك حتى ن�صل �إليك نحن غدً ا؟»‬
‫رفع رفيقه ذراعيه يحت�ضنه ح�ض ًنا رجول ًّيا قو ًّيا وقال بنربة �ساخرة‬
‫مرحة‪�« :‬إن كان عليك �أنت ال �أريد �أن �أرى وجهك مرة �أخرى‪ ،‬ولكن مل‬
‫�أ�ستطع �أن �أ�صرب و�أنا �أعلم �أنها معي حتت نف�س ال�سماء‪».‬‬
‫مل يتخ َّل �سائد عنه وهو يقول بخفوت‪�« :‬إنها يف غرفتها‪� ،‬سوف �أ�ساعدك‬
‫لت�صل �إليها ولكن احذر يف تعاملك معها بجانب فقدها للنطق � ً‬
‫أي�ضا لن‬

‫ع‬
‫يحتمل حملها �أي مفاج�أة �أخرى‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أح�س بالأمل ميزق قلبه مرة واحدة وهو يتذكر عجزه الذي عاناه‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ب�سبب و�ضعه ال�صحي‪ ،‬م�ضا ًفا لعجزه يف �ضمها �إليه �أو طم�أنتها �أنه‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫أو�ص ْلني �إليها‪� ،‬إنها لن تخذلني يف‬‫�سيحافظ على وعده‪ ،‬نطق بهدوء‪ِ �« :‬‬

‫ع‬
‫التعامل معها‪».‬‬
‫ابتعد �سائد و�أح�س بالدموع تعود حترق عينيه‪ ،‬فلم ي�ستطع �أن مينع‬
‫نف�سه من تذكر �صورة َمنْ �أمامه على الأر�ض غار ًقا يف دمائه وفاقدً ا‬
‫لأنفا�سه على الفور‪ ،‬الذنب يقتله ويجلده بينما يراقب ما �آل �إليه حاله‪،‬‬
‫قاطع رفيقه تفكريه‪« :‬فرتة و�سوف متر‪ ،‬ك ٌّل منا دفع الثمن بطريقته يا‬
‫�سائد»‬
‫‪q q q‬‬
‫مل ي�ستطع �أن يكبح نف�سه وهو ينحني ينظر لعينيها املغلقة‪ ،‬وجهها‬
‫اخلمري كان غار ًقا يف الدموع وقد تب َّدد لونه ليح َّل حمله �شحوب ب�شرتها‬
‫وال�سواد حتت عينيها‪ ،‬ج�سدها الذي ُي ْخ ِرج �شهقات مكتومة حتى يف نومها‬
‫كان قد فقد ن�صف وزنه رغم انتفاخ بطنها التي كربت بو�ضوح‪ ،‬ق َّرب‬

‫‪344‬‬
‫كر�سيه املتحرك حد االلت�صاق‪ ،‬ثم حتامل على نف�سه مواز ًنا ج�سده كما‬
‫تدرب خالل الأ�شهر املا�ضية‪ ،‬دفع حذاءه بيديه ب�صعوبة‪ ،‬عندما ا�ستقر‬
‫على الفرا�ش �أخ ًريا متدد �إىل جوارها‪ ،‬عندما مل�ستها �أ�صابعه؛ ارتعدت‪،‬‬
‫فتجر�أ �أن يدفع يده حتت ج�سدها ويده الأخرى حتاوطها من فوقها ثم‬
‫�شدها �إليه‪� ،‬أخ ًريا �أطلق ت�أوهً ا متوج ًعا حمرت ًقا وك�أن ج�سدها وقلبها‬
‫الذي دق ب�صخب جمنون حتت هدير �شرايينه هو الأوعى يف التعرف‬
‫على رائحته‪ ،‬ا�ستكانت دون �أدنى مقاومه مت�شبثة به بقوة دافنة وجهها‬
‫يف طيات قمي�صه‪ ،‬وبد�أت يف البكاء بحرقة‪� ،‬أخف�ض وجهه نحو �أذنها‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وهم�س بح�شرجة مهدهدً ا‪« :‬اهدئي يا �أمرية ف�أنا هنا‪ ،‬لقد انتهى كل �شيء‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫أتركك مرة �أخرى‪ ،‬غلطة لن تتكرر‬‫�سنكون بخري منذ تلك اللحظة‪ ،‬لن � ِ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مهما حدث يا حبيبتي‪».‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫وك�أنها ترف�ض الوعي �أن تفيق وتقر بوجوده فا�ست�سلمت لتلك الغيمة‬
‫أحالما تلفها بوجوده جانبها‪ ،‬فت�شبثت به‬ ‫الوردية اجلميلة التي تظنها � ً‬
‫ب�أظافرها وك�أنه احلياة ومن خالل نافذة الالوعي ا�ستطاعت �أن تنطق‬
‫�أخ ًريا‪ ،‬وبعد �صمت دام �أربعة �أ�شهر وب�ضع �أ�سابيع‪ ،‬قالت ب�صوت مبحوح‬
‫خافت‪« :‬ال ترتكني مرة �أخرى‪� ،‬أنا را�ضية بالأحالم طاملا �أنت متواجد‬
‫بها‪ ،‬لقد وعدت ومل تعد يا عمر كيف ا�ستطعت �أن تقتلني مبوتك؟!»‬
‫مل ي�ستطع �أن ي�سيطر على دموعه التي خانته وهو يرفع وجهها نحوه‬
‫يغرقه بقبالت جمنونة متلهفة خمتلطة بطعم دمعه املالح الذي ا�ستطعمته‬
‫هي ليفيقها من غفلتها‪ ،‬ول�صحة عقلها اعتقدته منحة من ال�سماء‪ ،‬حل ًما‬
‫من رب العاملني ليخفف عنها �أوجاعها‪ ،‬مل ت�سيطر هي الأخرى على‬
‫نف�سها وهي متد يديها حتاوط وجهه بك َّفيها تبادله قبالته املتلهفة بجنون‬
‫وبحرقة يائ�سة‪ ،‬هم�ست ببحة حمرتقة‪�« :‬أنت هنا‪ ،‬لقد ناجيتك �أربعة‬
‫�أ�شهر يا عدمي القلب‪� ،‬أردت �أن �أرى وجهك يف �أحالمي حتى هذا حترمني‬
‫‪345‬‬
‫منه يا عمر‪� ،‬أنا ِم ُّت من بعدك‪ ،‬ملاذا تركتني وخاطرت بي وب�صغريي؟ هل‬
‫كان كل هذا ي�ستحق �أن ت�ؤذيني معك؟!»‬
‫مل تتوقف قبالته املحمومة وال دموعه التي تن�ساب من حتت جفونه‬
‫إليك يا حاملة؟ هل‬
‫املغلقة وهو يهم�س ب�صوت �أج�ش متلهف‪« :‬وكيف �آتي � ِ‬
‫عذابك‬
‫ِ‬ ‫مثلك؟ كنت �أُ َجنُّ يف ال�ساعة �ألف مرة ملعرفتي‬‫ظننت �أين مل �أتعذب ِ‬ ‫ِ‬
‫يل وهم�سي بجانب �أذنك �أين‬ ‫عنك‪ ،‬عن �ضمك �إ َّ‬ ‫و�أنا عاجز عن التخفيف ِ‬
‫عنك‪ ،‬كنت‬‫معك‪ ،‬عن رعبي �إن تعر�ض �صغرينا خلطر الفقد و�أنا بعيد ِ‬ ‫ِ‬

‫ع‬
‫مقهو ًرا كما مل �أ�شعر يف حياتي‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫كانت �أنفا�س كليهما تلهث بت�سارع ودقات قلبيهما ت�سد �أ�سماعهم‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫توقفت عن مبادلته احرتاقه‪ ،‬مت�سكت بكتفيه وعينيها تفتح �أخ ًريا من‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫غيوبتها ونظرت �إليه بذهول خمالط بعدم ا�ستيعاب‪َ ،‬ف َغ َرت فمها ب�صدمة‬

‫ع‬
‫حتاول �أن جتد �صوتها‪� ،‬أن تقول �شي ًئا‪ ،‬فلم جتد فيها ً‬
‫نف�سا �آخر‪.‬‬
‫ارتكز هو على مرفقيه وم�سح طول خدها بكفه وهز ر�أ�سه بالإيجاب‬
‫أنفا�سك وال تقومي‬
‫ِ‬ ‫أرجوك التقطي �‬
‫وقال بقلق م�ؤكدً ا‪« :‬لي�س حل ًما حبيبتي‪ِ � ،‬‬
‫خيال‪ ،‬ما تبادلناه خالل‬‫ب�أي ردة فعل قد ت�ضرك‪� ،‬إنه �أنا لي�س حل ًما وال ً‬
‫�صوتك الذي خرج كان حقيق ًّيا‪ ،‬كل �شيء هنا‬ ‫ِ‬ ‫تلك الدقائق كان حقيق ًّيا‪،‬‬
‫يحدث طبيع ًّيا يا رابحة‪».‬‬
‫تو�سعت حدقتاها �أكرث وهي حما ِف َظة على نظرة الذهول وال�صدمة‪،‬‬
‫هل هو�سها بعمر و�شعورها بالقهر واخلوف ومتنيها �أن كل ما عا�شته‬
‫كابو�سا قد خلط بني الواقع واخليال؟! هل تخطت‬ ‫ً‬ ‫من حزن مل يكن �إال‬
‫دون �أن تدرك احلد الفا�صل بني التعقل واجلنون فتتوهم وجودها بني‬
‫ذراعيه يف تلك اللحظة؟ كانت ت�شعر بدوامة م�شابهة لتلك التي غرقت‬
‫فيها عندما �سمعت خرب موته تزحف �إىل عقلها فقاومتها ب�إ�صرار وعادت‬

‫‪346‬‬
‫ترفع �أطرافها برتدد وخوف �أن يت�سرب حلمها مرة �أخرى من بني يديها‪،‬‬
‫مررت بخفة فرا�شة �أناملها فوق وجهه حتدد عينيه و�أنفه وفمه و�شعره‬
‫الأ�سود الكثيف‪ ،‬وتعود تتلم�س وجهه الو�سيم‪ ،‬ك َّفاها هبطا نحو �صدره‬
‫لت�شعر بنب�ض قلبه احلي حتت �أناملها التي ارتع�شت رهبة‪� ،‬أخ ًريا ارتفع‬
‫مفجرة كل ما ُيعتمل يف قلبها‬‫�أنينها مع بكاء حاد مل ت�ستطع ال�سيطرة عليه ِّ‬
‫من �أمل‪ ،‬انخف�ض عمر �سري ًعا يتلقى ج�سدها الذي ارتفع ليندفع يف �صدره‬
‫متاما‪« :‬اهدئي يا‬
‫حماول تهدئتها فف�شل ً‬ ‫ً‬ ‫و َق َّبل جبهتها وهو يقول بهو�س‬
‫و�ضعك �سيتحمل �أي جنون �أو �آالم‪».‬‬
‫ِ‬ ‫أرجوك ال و�ضعي وال‬
‫حاملة � ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫من بني بكائها اله�ستريي ا�ستطاعت �أن تنطق بتقطع مت�أوه‪« :‬رباه‪� ،‬أنت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫هنا‪� ،‬أرجوك �أ ِّكد يل �أنك هنا ح ًّقا‪� ،‬أنا ال �أتوهم وهذا لي�س ً‬
‫خيال‪� ،‬أنا �أ�شت ُّم‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫رائحتك �أملأ نف�سي وقلبي منك يا عمر‪».‬‬
‫�ضمها �إليه �أكرث و�أكرث حتى مل ي�سمح املجال للمزيد وحمتو ًيا �إياها‬
‫بكل ما فيها‪� ،‬أغم�ض عينيه وهو يت�شرب قربها ونعومة ج�سدها ودفئها‬
‫وحنانها‪ ،‬مدر ًكا �أن هذا العناق مل يكن يعني لكليهما لقاء حبيبني افرتقا‬
‫ق�ص ًرا عن بع�ضهما‪ ،‬بل كان لقاء روح واحدة انق�سمت ن�صفني فنزف‬
‫كالهما حد املوت ومبعجزة �إلهية عادا لاللتحام برابط �أقوى و�أعنف من‬
‫يوما‪�« :‬آه‪ ،‬تخرج من قلبي �أنا يا �أمرية‪ ،‬مل �أكن �أعلم مبقدار‬‫�أن ينف�صل ً‬
‫بدونك ال �شيء �إال عند �إفاقتي ومل‬
‫ِ‬ ‫�ضعفي ووجعي �أين ميت ح ًّقا و�أين‬
‫أجدك بجانبي‪».‬‬
‫� ِ‬
‫حتول بكا�ؤها اله�ستريي ل�ضربات مقهورة منهارة تخبط يف �صدره وهي‬
‫ت�صرخ فيه‪« :‬كيف ا�ستطعت؟ كيف �أتتك اجلر�أة للت�ضحية بي و�إيالمي؟!‬
‫هل تعلم كم مرة ِم ُّت منذ ذلك اليوم الأ�سود؟»‬

‫‪347‬‬
‫لهث من �أثر جرح ج�سده الذي ما زال ينب�ض بالأمل بالرتافق مع لوعة‬
‫اللقاء‪ ،‬ولكنه حتامل لي�سيطر عليها ف�أم�سك بكلتا ك َّفيها وهو يريح ظهرها‬
‫للفرا�ش‪ ،‬و�أراح جبهته على جبهتها ناظ ًرا لع�سل عينيها الغارق يف �أوجاعها‬
‫وقال ب�صعوبة‪« :‬مل �أعلم ب�أي �شيء وال حتى �سائد‪ ،‬بعد �أن �ضرب احلقري‬
‫الر�صا�صة بظهري دخلت يف غيبوبة م�ؤقتة فو ًرا فا�ستغل �إبراهيم و�شريف‬
‫وتوجها مل�سئويل ال�سفارة الأمريكية على الفور و�أخربوه باخت�صار‬ ‫الأمر َّ‬
‫عن تلك الق�ضية الكربى وب�أين متورط يف الأمر وحياتي بخطر؛ لأنني‬
‫أي�ضا مل �أفعل جرمية و�سجلي اجلنائي يف كال‬ ‫ُك ِ�شفت ملن كنت �أطاردهم‪ ،‬و� ً‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫متاما‪ ،‬فتولت ال�سفارة خالل �أقل من �ست �ساعات رجوعي‬ ‫البلدين نظيف ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�إىل هنا ومل �أُ ِفقْ �إال بعد �أ�سبوع كامل‪ ،‬وعلمت �أن �إ�صابتي خطرة قد تكلفني‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫حياتك‪ ،‬فكان من‬
‫ِ‬ ‫قدماي بجانب تهديد حياتي والتي بالتايل �ستهدد‬

‫والتوزي‬
‫علي تغزوكم‪».‬‬
‫�شريف تزويره جلثة وادعاء �أنها �أنا‪ ،‬وترك الأحزان َّ‬

‫ع‬
‫ملتقطا �أنفا�سه التي تلهث‪ ،‬ثم ما لبث �أن �أطلق زجمرة متمردة‬
‫تو�ضيحا واعتذا ًرا‪« :‬لقد حاولت التوا�صل‬
‫ً‬
‫�صمت ً‬
‫على كل جروحه فهي ت�ستحق‬
‫علي حتى �أين غريت هوية‬ ‫معك رغم كل هذا ورغم الت�شديد الأمني َّ‬
‫ا�سمي ومكان جتارتنا والوالية التي ع�شنا بها �ساب ًقا‪ ،‬ورغم هذا مل �أ�ستطع‬
‫الو�صول �إليك‪».‬‬
‫ازدردت ريقها وقد هد�أ بكا�ؤها تدريج ًّيا‪ ،‬وقالت بلهفة متنا�سية لدقائق‬
‫عذابها‪�« :‬أي �إ�صابة؟ هل حلق بك �ضرر؟»‬
‫هز ر�أ�سه وقال ب�أمل‪« :‬الر�صا�صة �أ�صابت �أ�سفل ظهري ودمرت �أع�صاب‬
‫الأرجل‪».‬‬
‫حاولت �إلقاء نظرة نحو قدميه فف�شلت فعادت ل�س�ؤاله بتهدج‪« :‬ال‬
‫�أفهم»‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫يوما �أن �أعود للم�شي ب�شكل طبيعي‬
‫رد بهدوء‪�« :‬أعني �أين لن �أ�ستطيع ً‬
‫�أبدً ا‪».‬‬
‫ً‬
‫حماول �أن يخفف وط�أة رف�ضها �إياه �أو تهدئة‬ ‫رمبا يتالعب باحلقيقة‬
‫ع�صبيتها ب�إلهاء عقلها‪� ،‬سوف ي�ؤجل �إخبارها �أنه مر بعدة عمليات معقدة‪،‬‬
‫و�أن �شلله هذا م�ؤقت و�سيعود ليمار�س حياته بعد ب�ضعة �أ�شهر �أخرى و�إن‬
‫كان بعرج خفيف ودائم‪ ،‬عاد ي�ضيف بحرقة‪�« :‬أنا �آ�سف لعدم �إن�صايف‬
‫بقاءك معي حتى و�أنا بهذه احلالة‪».‬‬
‫أخيك ِ‬ ‫معك ولكني لن �أ�ستطيع �أن � ِّ َ‬
‫ِ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مل ت�ستطع منع يدها من التحرك فوق �صدره وهي تقول بلوعة‪« :‬يا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�أحمق‪� ،‬أنت رددت يل نف�سي الآن‪� ،‬أنت هنا يا عمر بني يديك لي�س ً‬
‫خيال‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يوما بتحقيقها �أنت وابني معي‪ ،‬طفلي �سيولد بني‬ ‫وال �أماين مل �أكن �أح ُلم ً‬

‫ر‬
‫هنا!»ارتعدت وهي ت�ضيف ب�صوت مرجتف ي�شوبه وعدمالتوز عي‬
‫ذراعيك‪».‬‬
‫الت�صديق‪�« :‬أنت‬

‫رفع ك َّفها التي تتلم�س �صدره وك�أنها تريد الت�أكد من وجوده املادي‪،‬‬
‫َق َّبلها بعمق باعرتاف �ضمني �أن ال امر�أة �أَ َ�س َرتْه وهزت رجولته و�أر�ضخته‬
‫بوجود كل �شياطينه �إال هي‪« ،‬نعم‪� ،‬أنا هنا»‪.‬‬
‫هم�ست‪« :‬ملاذا ال �أ�صدق �إذن؟»‬
‫«�صدِّ قي من �أجلي»‪.‬‬
‫ابت�سم لعينيها فخفق قلبها بربيق معتاد عادت لتزهر داخل �أ�ضلعها‪:‬‬
‫أعدك �أين‬
‫«�أوجاعنا انتهت يا �أمرية و�إن منح ِتني الفر�صة والغفران � ِ‬
‫لك فيها‪».‬‬
‫عقلك كل مرارة ت�سببت ِ‬
‫�س�أحمو من ِ‬

‫‪349‬‬
‫«�أنت عدت‪ ،‬بعد وعدك يل �آخر مرة وفيت به؛ لذا نعم �أمنحك‪ ،‬ونعم‬
‫�أخرى �س�أ�سمح لعقلي ب�أن ي�سرتيح ويلج�أ �إليك ويقر ب�أنك معي‪».‬‬
‫نف�سا حادًّا وهو ُي ْر ِغم نف�سه على �أن يكبح م�شاعره املت�ضخمة‪،‬‬
‫�أخذ ً‬
‫متعج ًبا من نف�سه كيف ا�ستطاع �أن يبتعد عنها كل هذه املدة؟! ثم ما لبث‬
‫أحبك يا رابحة‪� ،‬أتعلمني ما الذي يعنيه هذا؟»‬
‫�أن قال ب�صوت �أج�ش‪�« :‬أنا � ِ‬
‫هزت ر�أ�سها دون �أن تبعد عينيها املت�أملتني عنه‪« :‬ال �أعلم �إال �أنك تركتني‬
‫و�أنك غدرت بوعدك يل‪� ،‬أنك وعدت �أن تربي �صغريي وغدرت بنا‪».‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�صراخا جمنو ًنا كتمرد بداخله قبل �أن يقول مبهادنة مدر ًكا حالة‬

‫ل‬
‫ً‬ ‫كتم‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الت�شو�ش التي تغرق فيها ما بني الإقرار بوجوده مرة ونكرانها مرات‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫أحبك يعني �أن �أتغلب على كل �شياطيني و�أ�شباحي‪� ،‬أن �أغلب املوت نف�سه‪،‬‬ ‫«� ِ‬

‫ع‬
‫�أن �أعرف طريقي �إىل اهلل �أخ ًريا‪� ،‬أجل�أ �إليه لريحمني ليغفر يل وليجمعني‬
‫بك مرة �أخرى‪».‬‬‫ِ‬
‫�ساد ال�صمت بينهما للحظات حاولت �أن تت�شرب وجوده وكلماته‪،‬‬
‫معنى اعرتافه‪ ،‬ف�أح�س كالهما بحرقة م�ألوفة من الفقد‪ ،‬ثم انهار كل‬
‫�شيء مرة �أخرى وهي تعود للبكاء املتهدج ُترغ وجهها يف �صدره‪� ،‬أغم�ض‬
‫كابحا نف�سه عنها‪ ،‬ثم انحنى وطبع ُق ْبلة دافئة رقيقة على جبينها‬ ‫عينيه ً‬
‫كانت �أعمق معنى و�أكرب عاطفة من �أي ُق ْب َلة جاحمة �أو توا�صل عاطفي‬
‫قد يقوم به لي�ؤكد لها حقيقة وجوده‪ ،‬ترك �شفتيه هناك بينما يده ترتك‬
‫اهتمامه بها �أخ ًريا وتتلم�س جنينها بل جنينهما وطفلهما‪� ،‬أمل كليهما‪،‬‬
‫�سمع �صوتها اخلافت يخربه ب�أنفا�س مبهورة‪« :‬عمر‪ ،‬ال جتعلنا نخ�سرك‬
‫من جديد‪� ،‬أنا را�ضية ب�أي �شيء منك طاملا �أنت معي بنف�س يرتدد داخل‬
‫�صدرك ف�أ�شعر ب�صداه يف قلبي‪».‬‬
‫‪350‬‬
‫متاما يف دفئها ولهفتها وه�شا�شتها وت�سليمها‬ ‫�إال �أن عمر كان �ضائ ًعا ً‬
‫له دون �أدنى مقاومة دون اعرتا�ض‪ ،‬وبني ذلك ال�شعور امل�ضطرب والذي‬
‫جعل قلبه يرتع�ش بني �ضلوعه ب�إح�سا�س مبهم خمتلف مع كل �ضربة ت�أتي‬
‫من �صغريه الذي ما زال ي�سكن �أح�شاء �أمه حتت كفه ال�ضخم‪.‬‬
‫عاد ي�ضمها �إليه بقوة‪ ،‬ف�صمت و�صمتت تارك ًة نف�سها با�ست�سالم تغرق‬
‫يف دفئه ورائحته الرجولية‪ ،‬للحظات ولدقائق ورمبا ل�ساعات‪� ،‬أيام ال‬
‫تعرف ومل تعد تريد �أن تدرك �شي ًئا �إال �أنه هنا معها‪ ،‬وو�صلت لرب �أمانها‬

‫ع‬
‫�أخ ًريا وخرجا من ذلك الزقاق امل�ؤمل الذي كاد �أن يدمر كل �أحالمها‪،‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بالنهاية �شاء عمر �أم �أبى هي انت�صرت ونالت الرجل الذي حتب‪ ،‬ريان‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫�سيو َلد بني َ‬


‫ذراعي والده‪ ،‬الآن فقط ت�ستطيع �أن تطرد كل �أوجاعها‪،‬‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫وتتل َّم�س جنينها بكل حب العامل دون �أن تغرق بالذنب لت�سببها يف ُيتْمِ ه‪.‬‬

‫وزيع‬
‫‪q‬‬ ‫‪q q‬‬
‫بعد خم�سة �أ�شهر‪ ،‬كان العرق يغرق جبينها رغم الثلج الذي يحيط بكل‬
‫�أرجاء الوالية‪ ،‬هم�ست ب�صوت مرجتف من فرط الأمل‪« :‬عمر‪ ،‬ا�ستيقظ‬
‫�أرجوك‪».‬‬
‫مل ي�أتها الرد فهزته بقوة دون �أن ت�صدر �صوتًا �آخر عاجزة عن التعبري‬
‫عن الأمل الكبري الذي ي�ضرب ظهرها و�أ�سفل بطنها‪ ،‬انتف�ض عمر بجانبها‬
‫بك حبيبتي؟»‬ ‫م�ستقي ًما من نومته وهو يقول بقلق‪« :‬ما ِ‬
‫�أدارت رابحة عينيها عليه للحظات‪ ،‬ثم انفجر كل �شيء داخلها وهي‬
‫ت�صرخ بعذاب‪�« :‬أريد �أمي‪� ،‬أنا �ألد يا عمر‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫‪351‬‬
‫ً‬
‫حماول �أن ي�أخذ‬ ‫بعد �ساعات كان �سائد يريح ر�أ�سه على اجلدار‬
‫بع�ض دقائق من النوم بعد �أن �أيقظه عمر اله ِلع والذي وجده يتقافز‬
‫عاري القدمني كما اجلذع و�سط اجلليد الذي يغطي بيته يف الناحية‬
‫املواجهة ملنزله‪ ،‬ا�ستطاع بعد دقائق من جنون عمر �أن ي�سيطر عليه بقوة‬ ‫ِ‬
‫يهدئه وي�أمره � ًأول ب�أن يذهب لريتدي �شي ًئا ما ويجهز زوجته وهو �سي�أتي‬
‫للم�ساعدة‪.‬‬
‫ف�أخرج �سيارته وهو يحمد اهلل �أنه مل ي ُعد من الإ�شراف على املتاجر‬

‫ع‬
‫الغذائية التي ميلكونها بجانب عدة حمطات بنزين �إال بوقت مت�أخر‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫كالعادة‪ ،‬فعمر مل ي�ستطع �أن يبا�شر العمل كاملا�ضي‪ ،‬بل عدة �ساعات قليلة‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ما ي�ستطيع �أن ي�شارك بها بعد �أن ا�ستطاع �أن يعود للم�شي على قدميه‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫وال�شفاء من عجزه امل�ؤقت‪ ،‬وهو يف احلقيقة ال يريد �أن ي�ؤرقه بكفيه تلك‬

‫ع‬
‫الإعاقة التي �سيعي�ش بها ما تبقى من عمره‪ ،‬و� ً‬
‫أي�ضا لأنه يجد يف العمل‬
‫اجلاد واملتوا�صل ليل نهار �إلها ًء لقلبه وعقله الذي يعاين‪ ،‬و� ً‬
‫أي�ضا لتعوي�ض‬
‫كم املال الذي �أُ ْه ِد َر يف رحلتهم ال�شاقة للبحث عن العدالة‪ ،‬لقد خ�سروا‬‫ِّ‬
‫عاما تقري ًبا‪ ،‬ولكن هذا لي�س بال�شيء‬ ‫كل ما جمعوه خالل خم�سة ع�شر ً‬
‫املهم‪� ،‬سيبد�آن من جديد خا�صة ب�أنهم ميتلكون الأر�ض ال�صلبة بالفعل‬
‫ور�أ�س املال‪� ،‬أما ال�سيولة فمقدور على تعوي�ضها‪.‬‬
‫فتح عينيه ينظر ل�صديقه الذي يدور حول نف�سه مبالمح مرتعبة‬
‫فرفع �سائد كوب قهوته يرت�شف منه بهدوء وقال بت�شدق‪« :‬اجل�س يا عمر‪،‬‬
‫ثقيل فقط و�صدرك‬ ‫مظهرك ب�سروال املنامة الذي ترتدي فوقه معط ًفا ً‬
‫يغرق يف �أحمر ال�شفاه مثري لل�ضحك واال�ستياء م ًعا‪».‬‬
‫نظر �إليه عمر �شذ ًرا‪ ،‬ثم �ألقى بنف�سه بقلة حيلة بجانبه على كر�سي‬
‫االنتظار‪ ،‬ثم قال باهتزاز‪�« :‬إنها تت�أمل‪ ،‬لقد وعدتها بعدم عذابها وها �أنا‬
‫ال �أ�ستطيع منعه عنها‪».‬‬
‫‪352‬‬
‫رفع �سائد الكوب الورقي نحو فمه وهو يقول بربود‪�« :‬إنها تلد يا �أحمق‪،‬‬
‫ماذا تتوقع بال�ضبط؟ �أن ت�أتي ب�صغريك وهي تغ ِّني لك ترنيمة ما!»‬
‫زفر عمر ب�ضيق وقال‪« :‬هل ميكنك �أن ت�صمت؟ حياة �أغلى �شخ�ص يل‬
‫يف هذه احلياة �أي حياتي �أنا ُتعاين بالداخل و�أنت هنا ت�ستخف بدمك!»‬
‫نظر له �سائد وقال بعملية‪�« :‬أعلم �أن دمي ثقيل‪� ،‬أنا حتى �أكره ما ي�سمى‬
‫ال�ضحك‪ ،‬ولكنك �أحمق ح ًّقا‪ ،‬و�أكاد ال �أ�صدق �أنك َمنْ �أمامي‪».‬‬
‫«ال‪ ،‬ال ت�صمت طمئ ِّني ب�أي كلمات مهدئة‪».‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قطب وهو يقول بحرية‪�« :‬أي تهدئة تريدها مني؟! �أنا بجانبك وال‬ ‫َّ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�أعرف ما الذي قد فعله الأطباء بها يف الداخل‪� ،‬أنا حتى ال �أ�ستطيع �أن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�أ�صدِّ ق كيف �آمنت لهم وتركت زوجتك و�صغريك معهم!»‬

‫والتوز عي‬
‫فتح عمر فمه على م�صرعه وكاد �أن يفقد �أع�صابه ويه�شم ر�أ�س من‬
‫�أمامه دون ذرة ندم وتردد‪ ،‬هل �أخربه �أن يهدئه �أم لريعبه؟!‬
‫قال عمر بي�أ�س قبل �أن يقفز من مكانه ويهرع �إىل مكان زوجته‪�« :‬أنت‬
‫�آلة من نوع ما‪ ،‬ي�ستحيل �أن تكون ب�ش ًرا ي�شعر مثلنا‪».‬‬
‫بعد �ساعات قليلة �أخرى‪ ،‬كان �سائد يقف خلف زجاج �ضخم ينظر‬
‫ل�صغري عمر يثبت لنف�سه �أنه ي�شعر ويح�س يت�أمل ويتغري مر ِّو ً�ضا كل‬
‫براكينه وكل مرارته وحتى كل �أوجاعه التي مل ميحها حتى انتقامه‬
‫ال�سابق‪ ،‬ينظر ل�صغري عمر الذي يرقد يف �سرير حديث الوالدة للت�أكد‬
‫�أنه بخري وال يحتاج لأي م�ساعدة طبية‪ ،‬بينما و�ضع له رمزً ا على �سريره‬
‫كنظام متبع هناك عند الوالدة‪ ،‬لقد اختارت له الطبيبة رمز منر فرف�ض‬
‫هو و�أ�صر �أن تعلمه ب�صورة ل�شبل الذئب‪ ،‬لقد رمى عمر ال�صغري تقري ًبا‬
‫له وهرول �إىل زوجته‪ ،‬هم�س من خلف الزجاج بخفوت �شارد‪« :‬مرح ًبا يا‬
‫‪353‬‬
‫بع�ضا من �أحالمي فيك بعد �أن عجزت‬ ‫�صغريي‪ ،‬اعذرين �إن كنت �س�أحقق ً‬
‫�أن �أح�صل على �سعادتي اخلا�صة‪� ،‬أعتقد �أننا �سن�صبح �صحبة ال ُت ْهزَ م �أنا‬
‫و�أنت‪ ،‬بالنهاية �أنت متلك �أ ًّما قوية �آمنت ب�أنك نقطتنا البي�ضاء ورايتنا‬
‫نحو �أمل جديد‪ ،‬وجنحت دون �أن ت�شعر باملعنى احلقيقي الذي منحته يل‬
‫�أنا ووالدك‪».‬‬
‫�أخرج هاتفه وقام ب�ضبط الهاتف و�أغلق فال�ش الكامريا حتى ال يت�سبب‬
‫ب� ًأذى لعيني ال�صغري‪ ،‬ثم التقط �صورة وا�ضحة و�سري ًعا قام ب�إر�سالها نحو‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫معذبته وكتب‪�« :‬أمل جديد‪ُ ،‬و ِل َد اليوم ريان عبد اهلل ابن �أخي و�صديقي‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫�أو�ضح امل�ؤ�شر لتلقيها الر�سالة فتعمدت عدم الرد كعادتها منذ �شهور‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ير�سل با�ستمرار ر�سائل كتلك يحكي فيها عن نف�سه �أحيا ًنا‪ ،‬و�أحيا ًنا �أخرى‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ر�سائل داعمة قوية ت�شد من عزمها‪ ،‬وبع�ضها اعرتاف متوا ٍر باحلب الذي‬
‫مل ين�ضب ولن ينتهي‪».‬‬
‫التقطت ر�سالته التالية فكتمت �أنينها حتى ال ت�سمعها نرمني وتبد�أ‬
‫ب�سيل �أ�سئلة ف�ضولية هي لي�ست على ا�ستعداد لها‪� ،‬أحاطت بطنها الفارغ‬
‫وتذكرت �صغريها بحرقة فلم ت�ستطع كبح دموعها �أكرث وهي تقر�أ كلماته‪:‬‬
‫«هل تعتقدين �أين �أ�ستحق فر�صة �أخرية؟ هل من حقي �أن �أحلم بطفل‬
‫مالحمك و�أحمله بني ذراعي؟»‬
‫ِ‬ ‫أنت يحمل‬ ‫منك � ِ‬
‫ِ‬
‫مل ت�ستطيع �أن تتجنبه هذه املرة فمدت يدها تكتب‪« :‬وملاذا تتمنى‬
‫�صغريي؟! �أنا لن �أ�ستطيع الإجناب مرة �أخرى‪� ،‬آ�سفة لتحطيم حلمك �أيها‬
‫الغريب‪».‬‬
‫�شعر بالأمل ينتع�ش بداخله من جديد على ا�ستحياء‪ ،‬على الأقل‬
‫تنازلت �أخ ًريا وقالت �شي ًئا ما حتى لو �أنها تنكر معرفتها بهويته‪ ،‬ف�أر�سل‬
‫‪354‬‬
‫مرة �أخرى ليالم�س تالبيب قلبها بيديه عرب كلماته‪�« :‬إذن �ضاع �أملي‬
‫وحلمي يف �صغري من �صلبي‪».‬‬
‫�أر�سلت با�ستفهام‪« :‬ملاذا؟»‬
‫حتولت مالحمه فج�أة ل�شيء غريب وهو ير�سل دون �أن يرتدد حلظة‬
‫أنت‬ ‫أنت و�أحمل ً‬
‫طفل تكونني � ِ‬ ‫أح�شائك � ِ‬
‫ِ‬ ‫واحدة‪�« :‬إن مل ت�ستقر نطفتي يف �‬
‫�أمه‪� ،‬إذن لن يحدث هذا �أبدً ا‪� ،‬أنا لن �أ�ستطيع مل�س �أو منح قلبي المر�أة‬
‫يوما دُجى‪».‬‬
‫غريك ً‬
‫ِ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪q q q‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫بعد عام‪� ،‬أغلقت دجوى حا�سوبها يف مكتبها ال�صغري داخل امل�ؤ�س�سة‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫وقالت لإبراهيم بتعب‪« :‬فكرة الور�ش ال�صغرية كانت ممتازة‪ ،‬لوالها ما‬
‫كنا ا�ستطعنا توفري كل الأ�سا�سيات للدار‪».‬‬
‫لك ولل�شباب املتطوعني يف معظم‬ ‫رد �إبراهيم برزانة‪« :‬الف�ضل ِ‬
‫املجاالت‪ ،‬و�أهمها ه�ؤالء الأخ�صائيون النف�سيون واالجتماعيون‪ ،‬هنا‬
‫البطل احلقيقي مع كل طفل ن�أتي به من ال�شارع �إىل امل�ؤ�س�سة‪».‬‬
‫ردت بب�ساطة‪« :‬الف�ضل ل�صاحب الفكرة ومقرتحها � ًأول‪� ،‬أما بالن�سبة‬
‫للأطفال فهذا طبيعي‪� ،‬سلوكهم ال�شر�س والذي ي�أخذ احلدة والدفاع‬
‫الع�شوائي معظم الوقت ما هو �إال تراكمات من البيئة املحيطة بهم‬
‫أعواما من املهادنة لنق ِّومها‪».‬‬
‫أعواما و� ً‬
‫ل�سنوات‪ ،‬وقد نحتاج � ً‬
‫وقف �إبراهيم ينظر من النافذة ناحية ال�ساحة الوا�سعة والتي زرع فيها‬
‫الأطفال بع�ض الأ�شجار‪ ،‬بالإ�ضافة لبع�ض اخل�ضروات والفواكه الب�سيطة‪،‬‬
‫ف�أ�ضافت للمكان املوح�ش �ساب ًقا منظ ًرا جمال ًّيا ممي ًزا َي� ِأ�سر كل من ي�أتي‬
‫�إليه من بع�ض رجال الأعمال القليلني فيدعمهم البع�ض مال ًّيا والبع�ض‬
‫‪355‬‬
‫الآخر ير�سل �إليهم مواد خام �أو حتى حرفيني ليعلموا الأطفال �صنعة‬
‫ببع�ض‬
‫متقنة تنفعهم‪ ،‬بجانب ال�شباب حديثي التخرج والذين تربعوا ٍ‬
‫من وقتهم يوم ًّيا يق�ضونه يف تعليم الأطفال و�شرح املواد‪� ،‬أما هو فيتابع‬
‫الأوراق القانونية لإثبات تلك امل�ؤ�س�سة كمكان ُيعرتف به وبعدها �سي�سعى‬
‫لإثبات ه�ؤالء يف مدار�س حكومية‪ ،‬رمبا ي�ستطيع �أحدهم نيل �شهادة علمية‬
‫منا�سبة �إن وجد البيئة اخل�صبة التي توفر له هذا‪ ،‬ف�سائد وعمر خري مثال‬
‫�أن �أمثالهم �إن وجدوا الطريق املنا�سب �سيقدمون �أ�شياء عديدة خلدمة‬

‫ع‬
‫جمتمعهم‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫َه ْم َهم �إبراهيم مرددًا كلمات �سائد ال�سابقة‪« :‬لي�س مه ًّما يا دجوى‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫طريق امليل يبد�أ بخطوة‪ ،‬ونحن �سنبد�أ ب�أنف�سنا‪� ،‬سنجتهد لإنقاذ البع�ض‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫منهم من �ضالل ال�شارع‪ ،‬ومن يعلم قد ي�صبح حلمنا هذا ً‬
‫مثال لآخرين‪،‬‬

‫ع‬
‫وامل�ؤ�س�سة ت�صبح ع�شرة‪ ،‬ونتكاتف جمي ًعا خالل �أعوام للق�ضاء على‬
‫متاما‪ ،‬وبهذا نخفف عن �أنف�سنا قبل �أي �أحد ظهور تلك‬ ‫تلك الظاهرة ً‬
‫الأع�شاب ال�ضارة واجل�شعة من �أمثال حماد وه�ؤالء الأطباء معدومي‬
‫ال�ضمري والرحمة من �أمثال فهمي ومعلمه‪».‬‬
‫�شحب وجه دجوى حتى ا�ستحال قطعة من الرخام فوثبت بارتباك‬
‫حر ٍج مكتوم‪:‬‬
‫بتح�شرج ِ‬
‫ٍ‬ ‫وهي تتلقى كلماته ك�ضربة قوية فوق ر�أ�سها وقالت‬
‫«�أنا �س�أذهب الآن‪ ،‬ت�أخر الوقت‪».‬‬
‫غبي يا �إبراهيم كيف ن�سيت؟! التفت �إليها يخربها برفق‪�« :‬أنا �آ�سف يا‬
‫والدك‪».‬‬
‫خلفيتك وما�ضي ِ‬
‫ِ‬ ‫دجوى‪� ،‬صد ًقا �أنا �أن�سى ً‬
‫متاما‬
‫تو�سعت عيناها وهي تقول ب�ضحكة ع�صبية‪« :‬ال عليك‪ ،‬ولكن �أرجوك‬
‫�أن ت�صمت ً‬
‫قليل �أنت كلما حتدثت تزيد الأمر �سو ًءا‪».‬‬
‫‪356‬‬
‫خرجت م�سرعة نحو البوابة ال�ضخمة للم�ؤ�س�سة وهي ت�ضع نظارتها‬
‫ال�ضخمة لتخفي �أمل عينيها الذي �أ�صبح جز ًءا ال ينف�صل عنها‪ ،‬ال�صوت‬
‫متاما‪ ،‬فتحتها بلهفة فوجدت‬ ‫املميز لر�سالة قد و�صلتها كانت يف وقتها ً‬
‫كلماته امل�سا ِن َدة املعتادة وك�أنه ي�شعر بجرحها‪».‬‬
‫يحا�سب‬
‫ذنبك عزيزتي‪ ،‬يوم احل�ساب كل منا َ‬ ‫«�أخطاء العامل لي�ست ِ‬
‫لك‬
‫تقبلك جلرح الآخرين ِ‬ ‫يحا�سب بكتاب الآخر‪ِ ،‬‬ ‫مبا جنت يداه‪ ،‬ال �أحد َ‬
‫أنت ت�ستحقني حب العامل يا دُجى والعفو‬ ‫منك لن يحل �شي ًئا‪ِ � ،‬‬
‫واالنتقام ِ‬
‫نف�سك‪».‬‬
‫عن ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫جل�ست خلف عجلة القيادة ومدت يدها تر�سل �إليه‪« :‬لقد ُك ِ�س ْرتُ كث ًريا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ومل يرحمني �أحد‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ولكنك تقاومني ب�شجاعة‪ ،‬وحمارِبة‬ ‫ِ‬ ‫�أتتها ر�سالته على الفور‪�« :‬أعرف‪،‬‬
‫أنت حتملني �أخطاء غريك‪».‬‬ ‫�أ�صرت على الوقوف بعد كل كبوة حتى و� ِ‬
‫كانت تفتح قلبها على م�صراعيه وهي تر�سل �إليه بقهر‪« :‬مل مينحني‬
‫�أحد االختيار لأتوقف �أو �أ�شعر �أن الذنب لي�س بذنبي و�أن تلك اجلرائم‬
‫مل تكن بفعلتي �أنا‪ ،‬واجلميع كان يريد مني قطعة و�أنا قاومت وقاومت‪،‬‬
‫وبالنهاية ا�ست�سلمت لدفع فواتري �أبى امل�ؤجلة‪ ،‬ملاذا فعل بي هذا؟ حتى هو‬
‫مل يرتدد حلظة يف �إيالمي‪ ،‬لقد حتطم كل �شيء بداخلي‪».‬‬
‫مل ي�أتها الرد لدقائق طويلة فقامت بت�شغيل حمرك ال�سيارة با�ست�سالم‬
‫ومواجهة‪:‬‬
‫حتاول كبح دموعها بعنف فتف�شل‪ ،‬حتى �أتتها ر�سالة �أخرى ُم ِق َّرة ِ‬
‫مل�صريك من �أول يوم دجوى‪ ،‬مل تقفي بوجهه لتقويل ال‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ا�ست�سلمت‬
‫ِ‬ ‫أنت‬
‫«� ِ‬
‫كنت بطريقة ما ت�شعرين بالر�ضا مبا ُيفعل‬ ‫أنت ِ‬ ‫واجهي نف�سك عزيزتي‪ِ � ،‬‬
‫أنك بهذا تكفرين عن ذنب والدك‪ ،‬وهنا �أنا ال �أبرر لأفعاله‬ ‫ِب ِك ظ ًّنا ِ‬
‫منك � ِ‬
‫نف�سك‪».‬‬
‫لك ِ‬ ‫التي ال يقبلها �أحد ولكن فقط �أحاول �أن � ِّ‬
‫أو�ض َح ِ‬
‫‪357‬‬
‫�أر�سلت بت�شو�ش‪« :‬ال‪ ،‬الأمر لي�س هكذا‪ ،‬لقد كان يتعذب و�أنا كنت �أ�شعر‬
‫بالذنب ناحيته فرتكته ي�أخذ حقه مني رمبا يخفف من بع�ض �آالمه‪».‬‬
‫‪q q q‬‬
‫زفر �سائد ب�ضيق والنار ت�شتعل ب�صدره وم�شاعره تخنقه‪ ،‬ليتها �أمامه‬
‫الآن رمبا كان ي�ستطيع �أن يغمرها بني ذراعيه ويخفف عنها مرارتها‬
‫تلك‪ ،‬هم�س بحرقة‪« :‬فقط لو متنحينا الفر�صة لنبد�أ من جديد بعيدً ا عن‬
‫ما�ضي ٍّ‬
‫كل منا‪».‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫أنت مل تفعلي �شي ًئا‬

‫ت‬
‫�أر�سل بعدم �صرب‪« :‬هذا ما �أق�صده دُجى‪ِ � ،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وج ْلد‬

‫ش‬
‫ذنبك‪َ ،‬‬
‫لت�ست�سلمي جلنون غ�ضبه‪ ،‬ال�سواد املنت�شر يف العامل لي�س ِ‬

‫ر‬
‫يفر�ضأين�سلطة �بطريقةأقوىما َّعلي؟»مازو�شية �أمتتع بعذابي‪،‬و �التوز عي‬
‫نف�سك لي�س هو احلل للتحرر من الأمل‪».‬‬
‫وحتاملك على ِ‬
‫ِ‬ ‫ذاتك‬
‫ِ‬
‫أ�ستمد �سعادتي‬ ‫«هل تظن �‬
‫ممن هو‬
‫أملك �أو الآخرين‪».‬‬
‫أنت �أبعد من �أن تكوين مازو�شية �أو �أن ت�ستمتعي ب� ِ‬
‫«� ِ‬
‫«�إذن ما الذي يعنيه جلد الذات؟»‬
‫نف�سك با�ستمرار‪ ،‬حرمانها من حقها يف احلياة �أو‬ ‫ِ‬ ‫�أر�سل‪« :‬هو لوم‬
‫إجبارك على دفع الثمن لأخطاء ليتها �أخطا� ِؤك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫حالتك �‬
‫ِ‬ ‫الأ�سو�أ يف‬
‫«هل تظن �أين �سلبية هاربة من م�شاكلي بجنب متخذة دفع الثمن‬
‫والتخفيف عنه حجة؟»‬
‫أنت‬
‫ابت�سم وهو ير�سل بنوع من اللطف‪« :‬لقد احرتت يف ت�صنيف هل � ِ‬
‫�ضعفك قوة لتنت�صري على خ�صمك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫�سلبية ح ًّقا �أم ذكية ت�ستمدين من‬
‫‪358‬‬
‫«وهل فعلت؟ �أتظن �أين انت�صرت عليه‪ ،‬لقد فقدت طفلي وكرامتي على‬
‫يديه‪� ،‬أي ن�صر هذا تعتقد؟!»‬
‫أي�ضا‪� ،‬أي �إن خ�سارتكم واحدة وان‬ ‫التقط �أنفا�سه و�أر�سل‪« :‬كان طفله � ً‬
‫مل يكن عقابه هو �أ�شد مرارة‪ ،‬لقد ك�سر ظهره بخ�سارته لهذا اجلنني‪».‬‬
‫ت�أملت ر�سالته فلم مينحها الفر�صة للرد وهو ير�سل �أخرى‪« :‬لقد‬
‫أ�شرعتك بداخله ف�أ�صبح ي�صرخ بها لنف�سه‬
‫ِ‬ ‫أر�سيت �‬
‫انت�صرت يا دجوى و� ِ‬ ‫ِ‬
‫يريدك بجانبه‪».‬‬
‫ِ‬ ‫دون تردد �أنه‬

‫ع‬
‫ترددت قبل �أن تر�سل‪« :‬كيف وما�ضينا من ورائنا؟! فهو لن ي�ستطيع �أن‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يوما �أين ابنة غ�سان وال �أنا �س�أ�ستطيع �أن �أن�سى ما فعله بي‪».‬‬ ‫ين�سى ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫يلف ويدور وهو ير�سل لها ب�صراحة‪« :‬ال‪ ،‬لن ين�سى �أبدً ا وال‬ ‫مل َّ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫أنت‪ ،‬ولكن هناك ما ي�سمى بداية جديدة قد تكون حمفوفة باملخاطر‬ ‫� ِ‬
‫معدنك‬
‫ِ‬ ‫والإخفاقات ورمبا بع�ض الأمل‪ ،‬ولكن هو يدرك جيدً ا �أنه من �أجل‬
‫والدك ويتذكر‬
‫متاما حتى حروف ا�سم ِ‬ ‫الذي الم�س جدار قلبه‪� ،‬سيتنا�سى ً‬
‫أنك دُجى ليله‪».‬‬ ‫فقط � ِ‬
‫وكانت �ضربتها احلا�سمة كاملعتاد‪« :‬و�أنا لن �أكون حيادية عندما �أنظر‬
‫لوجهه و�أتذكر �أين كنت عاهرة بالن�سبة له‪ ،‬عذابي وحرقتي بدفعه يل‬
‫لأ�سمح مبوت �صغريي‪».‬‬
‫توقفت ر�سائله ور�سائلها لدقائق قبل �أن تر�سل ما مزقه كما مزقها‪:‬‬
‫«لقد نال تعوي�ض �صربه يف ابن �أخيه‪� ،‬أما �أنا مل يتبقَّ يل �إال غ�صة يف‬
‫قلبي‪ ،‬ح�سرة ومرارة و�أنا انظر لتلك الأ�شياء ال�صغرية يف واجهة املحالت‬
‫عاما و�شه ًرا‬
‫بعذاب �أن طفلي كان �س ُي�ص ِبح عمره اليوم حتديدً ا ً‬ ‫ٍ‬ ‫متذكرة‬
‫كاملني»‬
‫‪q q q‬‬
‫‪359‬‬
‫يف �صالة اال�ستقبال ملطار مدينتهم ال�صغرية كان يقف ك ٌّل منهما‬
‫بجانب الآخر ب�صمت غري معتاد‪ ،‬بينما عينا كليهما ال تفارق ال�صغري‬
‫الذي يفرت�ش الأر�ض يلعب بدميته ذات الفراء‪.‬‬
‫نظر عمر ل�ساعته قبل �أن يتحرك نحو مقعد حديدي حديث الطراز‬
‫مريحا ظهره وهو يقول بت�أوه متعب‪« :‬يبدو �أنهم ت�أخروا يف‬
‫جل�س فوقه ً‬
‫الداخل للإجراءات‪� ،‬أنا لن �أ�ستطيع الوقوف �أكرث من هذا‪».‬‬
‫مل يحرك �سائد عينيه عن ال�صغري وهو يقف فوقه بطوله املهيب‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫يرتدي مالب�س ب�سيطة غري متكلفة‪ ،‬بنطال �أ�سود وقمي�ص مماثل‪ ،‬واكتفى‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫بلف �شال �صويف حول عنقه حماي ًة من الربد املعتاد يف �شهر دي�سمرب‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أجاب �صاحبه بهدوء‪�« :‬أنت َمنْ �صممت �أن ت�أتي‪ ،‬فالطبيب يف �آخر فح�ص‬

‫وإليه هو ال‬
‫ي‬ ‫ز‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫متوجل ًهتا �‬
‫لك �ش َّدد على عدم احلركة الكثرية‪ ،‬و�ضعك مل ي�صبح �آم ًنا ً‬
‫متاما بعدُ‪».‬‬

‫والده‪ ،‬ف�ضمه �إليه وهو يبت�سم بتلقائية‪ ،‬وقال ب�سخرية معتادة‪« :‬يف ع‬
‫الواقع‬
‫�صمت لربهة ومال يلتقط ال�صغري الذي وقف‪،‬‬

‫علي العمل فالأمر �سهل �س�أجربك على اجللو�س يف املنزل‪ ،‬ولكن‬


‫�إن كان َّ‬
‫كيف �أمنعك عن تلك الأ�صوات التي �أ�سمعها ِمن كل مكان؟ الأمر بات‬
‫مزعجا و�أفكر جد ًّيا يف بيع منزيل والبحث عن منزل بعيد عن جماورتك‪».‬‬
‫ً‬
‫متاما‪ ،‬فقال مزجم ًرا‪« :‬ال �أحب تلميحك هذا‪،‬‬
‫مل يتقبل عمر املزاح ً‬
‫تذكر �أنها زوجتي‪ ،‬يف املا�ضي كان م�سموح لك بقول ما تريد‪ ،‬لكن هي ال‬
‫ت�ضعها �أبدً ا مع �أحد‪».‬‬
‫علي �أنا فهذا �أبغ�ض �شيء‬
‫رفع �سائد حاجبيه بده�شة وقال‪�« :‬إن كان َّ‬
‫لقلبي لأذكره‪� ،‬أما هي ف�أنا ح ًّقا ال �أنظر �إليها �إال ك�أم لريان و�أخت ان�ضمت‬
‫لكلينا‪».‬‬
‫‪360‬‬
‫�صمت للحظة ثم �أكمل‪« :‬ما �أحاول قوله من تعليقي هذا �أن حترتم‬
‫قليل من �أجل �صحتك‪ ،‬ومن �أجل زوجتك‬ ‫نف�سك وت�سيطر على م�شاعرك ً‬
‫امل�سكينة‪ ،‬بالنهاية لديك منزل افعل ما يحلو لك داخل غرفة مغلقة‪ ،‬ال يف‬
‫كل مكان ك�أنك حيوان ما‪ ،‬امل�صيبة احلقيقية �أن تكون �صدقت �أنك ثعلب‬
‫ح ًّقا وم�سموح لك ببع�ض �أفعاله!»‬
‫ملح �سائد �شي ًئا من الق�سوة التمعت يف عيني عمر �سرعان ما انز َوت‬
‫بعيدً ا‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال‪« :‬بع�ض العادات ال متوت‪ ،‬مهما حاولنا يتبقى‬
‫منها �شيء ما‪ ،‬و�أنا بالفعل �أحاول َو�أْدها من �أجلها‪ ،‬وطاملا بالنهاية‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫كل �شيء يحدث معها ومكتف ًيا بها �أت ِّوجها ملكة على عر�ش الن�ساء‪ ،‬بل‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫�أ�صبحت هي كلهنَّ ‪ ،‬هذا يكفي حتى �إ�شعار �آخر‪».‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫ا�ستطاع ر�ؤية ما خلف كلمات عمر دون �أن يعلق ب�شيء يكفيه �أنه يفهمه‪،‬‬
‫و�إن كليهما يحاول يف فر�صتهم اجلديدة‪� ،‬أجابه بهدوء‪« :‬ح�س ًنا �أتفهم ما‬
‫بع�ضا من �شطحات جنونك‪ ،‬كما‬ ‫تقوله‪ ،‬ولكن لن يعجبني �إن �سمع ريان ً‬
‫�أنك لو ا�ستمريت على هذا الو�ضع �ست�أتي لنا كل عام بطفل‪ ،‬هذا �أكرث‬
‫مما �أحتمل‪».‬‬
‫َق َّلب عمر نظراته بينه وبني ولده الذي ا�سرتاح على كتف �سائد يف‬
‫غفوة‪ ،‬فهز ر�أ�سه بالرف�ض وهو يقول‪« :‬ال‪ ،‬لن تقول �شي ًئا �أو تفعل �أنت‪،‬‬
‫كل �أنا لن �أتوقف عن‬ ‫وهذا ال�صغري �شيء قد ي�صيبني بالده�شة‪ ،‬على ٍ ّ‬
‫الإجناب كل عدة �أ�شهر �إن ا�ستطعت‪ ،‬و�أنت مبارك عليك �شبلك‪».‬‬
‫انحنى �سائد يطبع على كتلة ال�شعر الع�سلية امل�شعثة ُق ْب َلة طويلة وعينيه‬
‫مثبتة على باب �صالة اخلروج‪ ،‬ثم قال بهدوء‪« :‬يكفيني ريان‪� ،‬أنا وهو‬
‫متاما‪ ،‬هدية مقبولة منك‪ ،‬والآن ا�ستعد �صفية بد�أت يف الظهور‬ ‫نت�أقلم ً‬
‫من البوابة‪».‬‬

‫‪361‬‬
‫وقف عمر ي�ستعيد ً‬
‫بع�ضا من اتزانه‪ ،‬يف ا�ستعداد ال�ستقبال والدة زوجته‬
‫و�أخيها الذي انتهت �أوراق �ضمهما �أخ ًريا‪ ،‬فقد ا�ستطاع بعد مباحثات‬
‫�صعبة و�شاقة �أن يقنع ُق�ص ًّيا ب�إكمال تعليمه هنا‪ ،‬وعدم العودة �إىل هناك‪،‬‬
‫ولكن كانت امل�شكلة يف �صفية التي رف�ضت �أن ترتك مكانها ووطنها وكل‬
‫ذكرياتها‪ ،‬ولكن وافقت هي الأخرى على م�ض�ض من �أجل ابنتها وم�ستقبل‬
‫�صي‪ ،‬وبالطبع مل ين�س الفتى ب�صمته اخلا�صة بطلب عمل ينفق به‬ ‫جيد ل ُق ٍّ‬
‫على نف�سه و�أمه‪ ،‬فوافق �سائد على الفور ووفر له العمل يف �أحد حمالتهم‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كما يفعل مع الكثري م�ؤخ ًرا من �شباب اجلاليات العربية‪ ،‬فهم �أكرث من‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫متفهمني حلالة ال�ضياع وال�شتات والعذاب الذي يالقيها كل من ي�أتي �إىل‬

‫ل‬ ‫ل‬
‫بحزمنمنه ًيا حوارهم ال�سابق‪« :‬و�أنت‬
‫ش‬ ‫ب‬
‫هنا حدي ًثا‪.‬‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫ع‬
‫نف�ض عمر تفكريه جان ًبا وقال‬
‫لنف�سك؟»‬ ‫متى �ست�ستطيع تخطي املا�ضي و�إيجاد حياة‬
‫ح َّدق به للحظات‪ ،‬قبل �أن يقول ب�صوت خرج من �أعماق �صدره‪« :‬لن‬
‫يوما‪».‬‬
‫�أكذب عليك‪ ،‬من ال�صعب �أن �أن�سى املا�ضي �أو �أن�سى حبي لآية ً‬
‫متاما عندما �أكمل‬
‫ي�سب غباءه ولكنه توقف ً‬
‫زفر عمر ب�ضيق وكاد �أن َّ‬
‫�سائد بنربة و�ضع فيها كل �صدقه‪« :‬ولكن هناك نب�ض متمرد فر�ض نف�سه‬
‫داخل قلبي ف�أ�صبحت �أتنف�س ح ًّبا مع كل �شهيق يلتقطه �صدري با�سم واحد‬
‫يخفق ب�أمل داخل ف�ؤادي‪ ،‬دجوى الها�شم زوجتي‪».‬‬
‫�إنها�ؤه حلديثه بكلمة زوجتي املتملكة جعلت كل ال�شكوك التي كانت‬
‫تزور عمر تنتهي بغري رجعة‪� ،‬سائد لن يرتكها مهما حدث �أو رف�ضت هي‬
‫حتى و�إن انتظر فوق العمر دهو ًرا �أخرى‪.‬‬
‫‪362‬‬
‫ابت�سم عمر ببطء‪ ،‬وقال بل�ؤم ثعلب م�ستفز‪« :‬الرجل الذي يريد امر�أة‬
‫يكون قاد ًرا على تروي�ضها با�ستخدام كل الطرق امل�شروعة وغري امل�شروعة‬
‫ال �أن يجل�س يختفي يف �صغري �أخيه وينتظر ً‬
‫قبول منها لن ي�أتي قط‪».‬‬
‫عندما قابلته عني �سائد التي حتجب م�شاعره فلم ي�ستطع قراءتها‪،‬‬
‫ولدي كل حرية التحرك مثلك وكانت‬ ‫�أ�ضاف عمر‪« :‬لو �أن الأمر بيدي َّ‬
‫مقدما كل‬
‫امر�أتي �أنا لطاردتها لآخر العامل و�س�أغرقها بحبي بعاطفتي ً‬
‫املمكن والالممكن‪ ،‬حتى تت�شرب قطرات حبي ببطء وتدمنها وال ت�ستطيع‬

‫ع‬
‫يوما‪».‬‬
‫الفرار منها ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫حتا ذراعيه ليلقى ُق ٌّ‬
‫�صي نف�سه بينهم‪ ،‬بينما‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫حترك عمر نحو ن�سيبه فا ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يخربه ب�صوت خمتنق‪�« :‬أنا ال �أ�صدق �أنك هنا �أمامي ح ًّقا‪ ،‬ا�شتقت �إليك‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫يا �صديق‪».‬‬
‫�ضحك عمر بنربة َج َّ�شة وقال‪« :‬ح�س ًنا‪ ،‬رد فعلك غري مبالغ فيه كما‬
‫توقعت‪ ،‬لقد حدثتك ماليني املرات يف الهاتف ويجب �أن ت�صدق يا فتى‪».‬‬
‫�صي بحرقة‪« :‬ال‪ ،‬املتحدث هذا ُي ْدعى «عبد اهلل ال�شرباوي» رمبا‬ ‫رد ُق ٌّ‬
‫يحمل نف�س نربة �صوتك ولكن مل يكن �أنت‪ ،‬ر�ؤيا العني �شيء و�أن �أحت�ضنك‬
‫ودما �شاع ًرا ب�أنفا�سك �شيء �آخر يجعلني �أ�صدق كل ما تتفوه به‬ ‫حل ًما ً‬
‫ب�صدق‪ ،‬و�أقتنع �أن وجودك مادي‪».‬‬
‫قائل مبغزى‪« :‬نعم يا فتى‪،‬‬ ‫تركه عمر وهو يلتفت ينظر ل�صديقه ً‬
‫املكاملات ال�صامتة الباردة اخلالية من �أي م�شاعر ال حتمل �شي ًئا من تلك‬
‫العاطفة التي ت�صرخ وتف�ضح �صاحبها عند ر�ؤيا العني‪».‬‬
‫‪q q q‬‬

‫‪363‬‬
‫ليل‪ ،‬مل تعرف دجوى ِ َل كانت ت�شعر بكل هذا الأمل الذي‬ ‫بعد يومني ً‬
‫�أ�صبح م�ضاع ًفا بداخلها منذ �أ�سبوع م�ضى‪� ،‬أ�صرت على عدم التوا�صل‬
‫معه مرة �أخرى‪� ،‬أما هو فقد توقف بعد �أن الحقها بات�صاالت متوا�صلة‬
‫أي�ضا على هاتف امل�ؤ�س�سة‪ ،‬ولكنها مل تر َّد � ً‬
‫أي�ضا‪،‬‬ ‫على هاتفها اخللوي‪ ،‬و� ً‬
‫فتوقف هو ك�أنه يئ�س �أخ ًريا وا�ست�سلم للأمر‪ ،‬ولكنها ال ت�صدق بب�ساطة �أن‬
‫�سائد ا�ست�سلم هكذا‪.‬‬
‫�أزاحت الغطاء لتف�سح املجال جلعل نف�سها تغفو يف غيبوبة النوم‬

‫ع‬
‫كعادتها عندما يكرث الوجع �إىل حد يخرتق �صدرها ب�صراخ ي�ص ُّم �أذنيها‬

‫ري‬‫ص‬
‫فتجرب نف�سها على النوم‪ ،‬رمبا جتد يف عامل الأحالم ملج�أً يريحها من‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫كوابي�س الواقع‪ ،‬لدقائق كانت ت�ستلقي على ظهرها حتدِّ ق يف �سقف الغرفة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫و�شريط عمرها مير ببطء من �أمام عينيها ليتوقف الزمن عند لقطات‬

‫ع‬
‫مرعبة ومذلة عندما كانت ت�سكن ذلك ال�سطح حتى ال متلك قوت يومها‪،‬‬
‫ج�سدها يرجتف بردًا وقلبها يئنُّ بعذاب احلرمان والفقد‪ ،‬متتمت‪« :‬رمبا‬
‫أ�صبحت ت�شعرين بالأمن‬‫ِ‬ ‫مل يختف الإح�سا�س دجوى‪ ،‬ولكن على الأقل �‬
‫ي�ضمك بعيدً ا عن كل من حاول ا�ستغالل‬ ‫ِ‬ ‫ً‬
‫قليل ومتلكني م�أ ًوى جيدً ا‬
‫وحاجتك‪».‬‬
‫ِ‬ ‫ووحدتك‬
‫ِ‬ ‫�ضعفك‬
‫ِ‬
‫�ضمت نف�سها لنف�سها بقوة تغم�ض عينيها وهي تهم�س باعرتاف كل ليلة‬
‫رغم �شعورها بال�سخط على قلبها والعار من م�شاعرها‪« :‬ا�شتقت لذراعيك‬
‫لراحتك‪� ،‬أفتقد ذلك العناق الوحيد الذي �شعرت فيه بالأمان بال�شبع بعد‬
‫مودعا يف بيت رابحة‪ ،‬ولكن كيف �أ�ستطيع �أن �أحيا‬‫جوع يوم �أن �ضممتني ً‬
‫معك بعد كل ما ر�أيته على يديك؟! عام ون�صف ومل يتغري �شيء بداخلي ال‬
‫مرارتي منك‪ ،‬وال ع�شقي �إياك‪».‬‬
‫بعد ن�صف �ساعة ا�ستيقظت دجوى وقلبها ينتف�ض خو ًفا‪ ،‬نظرت �إىل‬
‫ال�ساعة فوجدتها تعدت منت�صف الليل‪ ،‬بينما باب منزلها يطرق بت�سارع‬
‫‪364‬‬
‫وك�أن الطارق ال ميلك وقتًا يف التمهل ليجيبه �صاحب املنزل‪ ،‬التقطت‬
‫مئز ًرا �أ�سود ً‬
‫ثقيل فوق قمي�ص نومها‪ ،‬وهي تهرع �إىل اخلارج توقفت ت�س�أل‬
‫با�ضطراب‪« :‬من الطارق؟ ماذا تريد؟»‬
‫كانت �أنفا�س ثقيلة هي كل ما ت�سمعه‪ ،‬ف�شعرت بذلك الذعر يزحف‬
‫باب ظنت �أنه ملف وانتهى‪،‬‬ ‫على ظهرها‪ ،‬اخلوف من �أن يكون ُف ِت َح عليها ٌ‬
‫�أترى �أحدهم قرر �أن ينتقم منها �أخ ًريا بعد َ�ص ْمت عام؟ ما زالت الق�ضية‬
‫ُت ْن َظر وال�صحف تندِّ د بها‪ ،‬ولكن َمنْ �أطلقوا تلك ال�صرخة جميعهم رحلوا‬

‫ع‬
‫ومل يتبقَّ �إال هي يف مواجهة ذلك االنتقام الذي يبدو �أنه لن ينتهي‪.‬‬
‫ً‬
‫حماول بي�أ�س �أن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أغم�ض عينيه ي�ستمتع ب�صوتها بعد طول غياب‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫«غريبك �أتى‬ ‫يربد �شي ًئا من تلك النار التي �أ�شعلتها بداخله‪ ،‬وقال راج ًيا‪:‬‬

‫ر‬
‫ِ‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫بابك مرة �أخرى يف وجهه‬ ‫ميكنك �أن تفتحي ِ‬ ‫ِ‬ ‫إليك‪ ،‬هل‬
‫يطالبك �أن تعيديه � ِ‬
‫ِ‬

‫�ساد ال�صمت خلم�س دقائق كاملة بعد ذلك‪ ،‬كانا واقفان � ع‬


‫دُجى؟»‬
‫آنذاك كل‬
‫منهما يالم�س جبهته الباب من جهته ينتظر �أي �شيء من الآخر لي�شجعه‬
‫على املزيد‪.‬‬
‫«ملاذا؟» هتفتها �أخ ًريا ب�شيء من العنف والي�أ�س‪ ،‬طرحت نف�س ال�س�ؤال‬
‫الذي �س�أله هو لنف�سه م�سب ًقا‪ ،‬ولكنه وجد �إجابته منذ زمن حتى و�إن كانت‬
‫تفتقر للمنطق والتعقل‪ ،‬ولكن منذ متى كان حلياته منطق �أو ل�سلطان‬
‫الع�شق عقل‪� ،‬إنه يحبها هي وكفى‪ ،‬لقد �أ�صبح يف�صل جيدً ا بني �أنها ابنة‬
‫غرميه الذي م�ضى‪ ،‬وبني امر�أة زلزلت كل �شيء بداخله من جمرد نظرة‪.‬‬
‫ع�شقك دجى‪ ،‬و�أملي �أ�صبح‬
‫ِ‬ ‫أحبك‪� ،‬أتنف�س‬
‫�أجابها ب�صوت �أبح‪« :‬لأين � ِ‬
‫م�ضاع ًفا ً‬
‫معطل قلبي وعقلي عن العمل يف البعد عنك‪».‬‬
‫‪365‬‬
‫كانت كلماته تد ِّوي يف �أذنيها دون �أن ترحمها ت�ضرب على �أوتار‬
‫حاجاتها وحرمانها وجوعها حلب و�أمان تفتقده‪ ،‬قالت يف حماولة يائ�سة‬
‫لتجعله يبتعد‪« :‬ما زال ما بيننا قامت يا �سائد‪ ،‬ما بيني وبينك دم‪ ،‬قلوب‬
‫يوما‪».‬‬
‫متبادل لن يتخطاه �أحدنا ً‬ ‫ً‬ ‫هدرت نب�ضاتها ث�أ ًرا‬
‫أريدك جمردة ك�أننا غريبان تقابلنا‬
‫قال �سائد بحرقة‪�« :‬أنا تخطيته‪ِ � ،‬‬
‫يف ال�شارع كالنا ال يعرف ا�س ًما وال ن�س ًبا‪».‬‬
‫هزت ر�أ�سها و�شعرها يت�ساقط حول وجهها وقالت ب�صوت خمتنق كمن‬

‫ع‬
‫يو�شك على البكاء‪« :‬ال �أ�ستطيع‪ ،‬ارحل من هنا و ُك َّف عن تعذيبي‪».‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫خبط على الباب بقب�ضة قوية‪ ،‬وقال بنربة خ�شنة‪« :‬ت ًّبا دجى‪ ،‬مل‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أخاطر بنف�سي وب�أ�سرة عمر وبكل �شيء بنيته لأعود خايل الوفا�ض خائب‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫الرجاء يف م�سعاي‪».‬‬

‫ع‬ ‫تالحقت �أنفا�سها وهي تقول‪« :‬وملاذا خاطرت و�أتيت؟»‬


‫قال ب�صوت عميق �أتى من داخل هدير قلبه‪ ،‬فبثَّ الرجفة يف �أو�صالها‪:‬‬
‫بك بني ذراعاي‪».‬‬ ‫أنك ت�ستحقني �أن �أخاطر بالعامل كله؛ لكي �أحظى ِ‬ ‫«ل ِ‬
‫ل�ضمك‬
‫ِ‬ ‫خفق قلبها بقوة بني جنباتها وهي ت�سمعه ي�ضيف‪�« :‬أنا يائ�س‬
‫دجى ِل ْل َم ْ�س ِك فقط‪ ،‬ا�سمحي يل ولن � ِ‬
‫أجربك على فعل �أي �شيء ال تريدينه‪».‬‬
‫رمبا قرر عقلها الباطن ترك ردة الفعل لقلبها وحبها �إليه‪ ،‬ل�ضعفها‬
‫وا�ست�سالمها املعتاد �إليه‪ ،‬بينما و�ضعت كل تفكري املنطق وقرارتها ال�سابقة‬
‫يف �ضباب كثيف‪ ،‬فتحت الباب ببطء وهي تدرك ب�أن هذا اليوم بالذات‬
‫�سيحدد م�صريها ملا تب َّقى من عمرها‪.‬‬
‫جمد كل �شيء بينهما‪ ،‬بينما رمادها يت�ألق بنظرة متلهفة ليتفح�ص‬
‫ج�سده ال�ضخم الطويل يف مالب�س �سوداء كاملة ولكنها �أنيقة‪ ،‬فكان ً‬
‫مثال‬
‫‪366‬‬
‫للرجولة ال�صارخة والو�سامة الوح�شية والعذاب بعينيه‪ ،‬كان يقف يف هيئة‬
‫رجل يعر�ض عليها جنة ُط ِر َدت منها لوقت طويل‪ ،‬مل مينحها حتى فر�صة‬
‫لإبداء �أي ردة فعل‪ ،‬واندفع من �أمام الباب يدفن �أنامله يف خ�صالت‬
‫�شعرها من اخللف جاذ ًبا ر�أ�سها نحوه بذراعه واليد الأخرى متتد ليغلق‬
‫متاما طريقه نحو �شفتيها‪ ،‬كان يزجمر‬ ‫الباب خلفه‪ ،‬بينما فمه يعرف ً‬
‫من بني �شفتيها التي �ضاعت بني �شفتيه بوح�شية وعنف‪ ،‬بجوع وحرمان‬
‫متاما‪ ،‬مل ت�ستطع �أن تقاومه وهو يغرق‬
‫جعلها تدرك �أنه كان يعاين مثلها ً‬
‫معها يف دوامة ل َّفت عقل كليهما‪ ،‬فحاجة كليهما كانت �أكرب من �أن جتعلها‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫تعرت�ض عندما ل َّفت ذراعيها حول عنقه تت�شبث به‪ ،‬ت�ش َّكل ج�سدها اللني‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫فوق �صدره �ساحمة لذراعيه القويتني ب�ضمها و�سحقها داخله‪ ،‬حاولت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫�أن تقاوم ب�شيء من ادعاء التعقل وهي تنظر له بعينني متو�سعتني كعيني‬
‫غزال �شارد‪�« :‬أعتقد �أننا يجب �أن نتوقف‪ ،‬ما نكاد نفعله �سيجلب لكلينا‬
‫الندم الح ًقا‪».‬‬
‫وك�أنه مل ي�سمعها عندما قال ب�صوت �أج�ش‪�« :‬إن ما نفعله �أكرث �شيء‬
‫زلت زوجتي‪ ،‬و�إىل �آخر يوم‬‫أنت زوجتي وما ِ‬ ‫منطقي يف كل ما كنا نفعله‪ِ � ،‬‬
‫يف عمري البائ�س �ستكونني زوجتي‪ ،‬ف ِل َم ننكر على �أنف�سنا ما يريده كالنا؟»‬
‫مرفوعا حتدِّ ق فيه مب�شاعر و�أحا�سي�س متخبطة‪ ،‬ما بني‬ ‫ً‬ ‫ظل ر�أ�سها‬
‫التعا�سة والقهر‪ ،‬اخل�سارة والع�شق‪ ،‬ال�شوق الذي ال ينتهي �أبدً ا مل يتزحزح‬
‫من قلبها قيد �أمنلة رغم كل �شيء فعله‪».‬‬
‫ال تعرف متى قربها منه مرة �أخرى وهو يقول بزجمرة خ�شنة‪�« :‬أنا‬
‫بر�ضاك الكامل هذه املرة دون �أي ندم �أو م�شاعر �سلبية‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أريدك ولكن‬
‫� ِ‬
‫قرارك الآن‪».‬‬
‫ِ‬ ‫�أريد‬

‫‪367‬‬
‫�أي قرار قد تقوله �أو رف�ض ترميه بوجهه وهي بذلك الو�ضع‪ ،‬بتلك‬
‫النريان التي حترقها �شو ًقا �إليه؟! كان عقلها مغي ًبا ً‬
‫متاما بكل تلك امل�شاعر‬
‫التي بثها �إياها‪ ،‬باحلاجة ال�ضارية لأن ت�شعر به‪ ،‬مل تفكر ويدها تقع �أخ ًريا‬
‫فوق قلبه‪ ،‬لت�ستقر هناك فتحرق جلده‪ ،‬هم�ست ب�صوت مرجتف‪ ،‬فنزعت‬
‫عنه �أي حكمة �أو قرار بجعله �إياها ت�أخذ قرارها‪« :‬لديك قلب بالنهاية ها‬
‫بدوي جمنون من �أجلي �أنا وحدي‪».‬‬‫هو ينب�ض ٍّ‬
‫مل ي�ستطيع �أن يجيبها بالكالم‪ ،‬مل تكن لديه القدرة‪ ،‬كان ي�صر �أن يعرب‬

‫ع‬
‫بها بدون تردد لذلك الطريق الذي لن ي�سمح لها فيه بالعودة �أو الهرب‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جدا مل يتوقف عن احتاده معها و�إ�شعارها‬ ‫بعيدً ا عنه �أبدً ا‪ ،‬ولوقت طويل ًّ‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫يوما �أن يختم غريها به �أو يتحرر منها‪،‬‬ ‫ب�أنها تو�أم لروحه لن ي�ستطيع ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫ً‬

‫والتوزي‬
‫مدخل يف عقلها القا�سي‪� ،‬أنه مل يعد يهتم مبن حتمل ا�سمه‪ ،‬و�سيحارب‬

‫ع‬
‫جميع �شياطينه فقط لتبقى معه‪ ،‬ومن بني غيبوبته كان يبتهل بت�ضرع �أن‬
‫تكون �أر�ضها اخل�صبة على ا�ستعداد لتلقي بذرته‪.‬‬
‫فتحت دجوى عينيها بعد �ساعات لتجد نف�سها م�ستلقية على الفرا�ش‬
‫دوما‪ ،‬ت�س َّمرت‬
‫تنام على بطنها ووجهها مدفون يف و�سادتها كما اعتادت ً‬
‫مكانها لوقت طويل‪ ،‬هل كل ما مرت به خالل �ساعات كان جمرد حلم؟‬
‫ولكن �إدراكها لأنني كل ع�ضلة منها وك�أن �شاحنة من نوع ما �صدمتها جعل‬
‫قليل‪ ،‬وجتزم �أن كل ما عا�شته كان حقيقة‪ ،‬تلك العاطفة‬ ‫تخمينها يهد�أ ً‬
‫املتدفقة والتي رغم عنفها وتوح�شها كانت مراعية حنونة متمهلة‪ ،‬تغرقها‬
‫داخل فقاعة من ال�ضجيج الرائع‪� ،‬أغم�ضت عينيها بقوة وهي تتذكر‬
‫عندما حملها متوج ًها لغرفتها التي ت�سكنها منذ انف�صالهم‪ ،‬وك�أنه يدرك‬
‫كرهها العميق للغرفة الأخرى والتي �شاهدت كل �أوجاعها معه‪ ،‬مل يرتكها‬
‫ومل يتفوه �أحدهم ب�شيء عندما �أراح ج�سده على فرا�شها ومددها بجانبه‬
‫و�ضمها بقوة �إليه لتتو�سده‪ ،‬مل تتذكر �إال تو ُّقف قلبها عن اخلفقان للحظات‬
‫‪368‬‬
‫عندما هم�س ب�صوت �أج�ش‪« :‬الآن فقط �أ�ستطيع ا ْلتقاط �أنفا�سي‪ ،‬و� ِ‬
‫أخربك‬
‫حكمك هو املوت‬ ‫ِ‬ ‫إليك �سيكون‬
‫أجلك‪ ،‬و�إن مل تعيديني � ِ‬
‫�أن قلبي امليت نب�ض ل ِ‬
‫دون رحمة‪».‬‬
‫«�أين ذهب � ًإذا �إن مل يكن حل ًما؟!»‬
‫احلركة الهادئة املكتومة بجانبها مع �صوت خفي�ض مبتهل؛ جعلها‬
‫تعقد حاجبيها بتعجب‪ ،‬رفعت ر�أ�سها تنظر للم�شهد �أمامها ب�صدمة‪،‬‬
‫توقفت �أنفا�سها وهي تراه يطوي «�سجادتها ال�صغرية» ثم وقف متج ًها‬

‫ع‬
‫�إليها‪ ،‬ويتخل�ص من مالب�س ب�سيطة كان ي�ستخدمها لل�صالة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جتمد الزمن مرة واحدة من حولهما‪ ،‬وك�أن ال�سحر عاد يل َّفهم من‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫جديد‪ ،‬ولكنه �سحر خمالط لل�صدمة من جانبها‪ ،‬مل ت�ستطع �أن تخفي‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫خجل وهي تعتدل ً‬
‫قليل‬ ‫احمرار وجهها الذي عاد يتلون بكل �ألوان الطيف ً‬
‫من نومتها ت�س�أله برتدد يخالطه التعجب‪�« :‬أنت ت�صلي!»‬
‫ارت�سمت ابت�سامة حنان على �شفتيه وقال‪« :‬الدين فطرة‪ ،‬ومعرفة اهلل‬
‫غاية واطمئنان ال ي�أتي �إال بذكره‪ ،‬و�أنا ق�صرت لوقت طويل معه‪ ،‬رغم �أنه‬
‫منحني الكثري من الفر�ص‪ ،‬فكان يجب �أن �أخجل من نف�سي �أخ ًريا و�أَ ْط ُر ُق‬
‫ً‬
‫ومتو�سل رمبا يغفر يل ذنوبي‪».‬‬ ‫مت�ضرعا‬
‫ً‬ ‫بابه‬
‫«ال �أ�صدِّ ق �أن َمنْ �أمامي هو �أنت‪».‬‬
‫ان�ضم �إليها‪�« :‬أنا نف�سي ال �أ�صدق �أحيا ًنا �أنه �أنا‪ ،‬و�أتعجب من �أفعايل‬
‫اجلديدة‪� ،‬أنا لن �أدعي التغيري بني يوم وليلة‪ ،‬ولكني على الأقل �أ�صبحت‬
‫�أعي�ش بني الأحياء و�أتنف�س‪».‬‬
‫ارتبكت من �إجابته قبل �أن ت�س�أله بحذر‪« :‬الطريق �إىل اهلل دائ ًما‬
‫مفتوح‪ ،‬ما الذي حدث للتغري فج�أة؟»‬

‫‪369‬‬
‫مو�ضحا‪« :‬مل يتغري �شيء‪ ،‬دائ ًما‬
‫ً‬ ‫نف�سا عمي ًقا وقال ب�صرب‬
‫�أخذ �سائد ً‬
‫ما كان داخلي يرف�ض �أن يلوث باحل�ضي�ض‪� ،‬شيء �أقوى مني منعني عن‬
‫ارتكاب اجلرائم والفاح�شة رغم كل ما عانيته ور�أيته‪ ،‬ورغم �أين حتى مل‬
‫�أعرف معنى الأديان ال�سماوية‪ ،‬رمبا مرارتي و�شعوري بالظلم وتخطيطي‬
‫لهدم كل �شيء هو ما �أعادين للبحث عن طريق اهلل �سبحانه‪ ،‬ولكن منذ‬
‫ما حدث مل �أ�ستطع جت ُّنب نداء قلبي وفطرتي؛ فذهبت �إىل �أحد املراكز‬
‫الإ�سالمية هناك‪ ،‬وببطء بد�أت �أتعرف على طريق احلق‪».‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�صمت قبل �أن يردف بخفوت به بع�ض الرتدد‪« :‬ال �أحب ك�شف نف�سي‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫لأحد‪ ،‬ولكن ال�صالة والعبادة �ساعدتني ِّ‬
‫لتخطي بع�ض �أزماتي فتوقفت‬

‫ل‬
‫الطفيفلنب�صدقه يف كل حرف يتف َّوه به‪،‬‬ ‫ب‬
‫مثل‪ ،‬و�أ�صبحت �أُ ْخ ِرج عنفي وانفجاراتي بطرق �أخرى‪».‬‬
‫عن �إيذاء ج�سدي ً‬

‫ر‬
‫علمت �وأناللك ن�س ًبا‪� ،‬أنت‬
‫و‬ ‫ت‬ ‫ش‬
‫طفل خمتطف �أو حتى مفقود‪ ،‬ملاذا مل تبحث عن �أهلك؟» زيع‬
‫لن تنكر �أنها ت�شعر بالأمل‬
‫ولكنها �صدمته ب�س�ؤالها املرتدد املرتع�ش‪« :‬كما‬

‫عقد حاجبيه وهو ينظر لها لدقائق‪ ،‬ثم ما لبث �أن قال بخفوت‪�« :‬أنا‬
‫ال �أعرف ما الذي قد ينتظرين هناك؟ ومن �سيتذكرين من الأ�سا�س بعد‬
‫متاما‬
‫بك ً‬ ‫مكتف ِ‬
‫عاما‪ ،‬هكذا �أف�ضل دُجى‪� ،‬أنا ٍ‬
‫ما يقارب الواحد وثالثني ً‬
‫ك�أ�سرة يل‪».‬‬
‫حاولت �أن جتادله وهي تقول‪« :‬ولكن ‪»...‬‬
‫لدي‪� ،‬س�أكتفي‬
‫منته َّ‬
‫و�ضع يده على فمها وقال بحزم‪« :‬ال‪ ،‬لكن الأمر ٍ‬
‫بك‪».‬‬
‫ِ‬
‫هزت كتفيها بدالل وقالت بعينني �ضاحكتني �آ�سرتني‪ ،‬فت�سللت ابت�سامة‬
‫عطوفة على �شفتيه‪ ،‬هل ميكن للع�شق �أن يغفر وللحنان والرفق �أن يجعل‬
‫‪370‬‬
‫روح املر�أة تزهر كحدائق زهور متنوعة لق�صر �أ�سطوري؟ «ولكن �أنا ال‬
‫�أعرف عنك �شي ًئا‪ ،‬بالطبع كل املعلومات ال�سابقة كانت جمرد كذبة»‪.‬‬
‫هز ر�أ�سه م�ؤكدً ا‪« :‬بالطبع كل املعلومات التي ر�أيتني �أحتدث عنها‬
‫خ�صي�صا لأمر‪ ،‬ولكن �أنا جمرد رجل �أعمال و�صاحب �سل�سلة‬ ‫ً‬ ‫در�ستها‬
‫حمالت �صغرية مثل الكثري من العرب الذين يقومون بهذه امل�شروعات‪».‬‬
‫أكملت درا�ستك ح ًّقا �أم جمرد خدعة‬
‫�س�ألت باهتمام مل يزعجه‪« :‬هل � َ‬
‫�أخرى؟»‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫هز ر�أ�سه ناف ًيا وقال ببطء‪�« :‬أكملتها هناك بالطبع‪ ،‬ولكن مل �أتخ�ص�ص‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫يف جمال معني مثل عمر‪ ،‬بطبيعتي �أنا كنت �أميل لدرا�سة �شخ�صية من‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أمامي وطريقة تفكريه‪».‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫هزت كتفيها مرة �أخرى وقالت بت�أنيب‪« :‬كما در�ستني وعلمت نقاط‬
‫�ضعفي وتالعبت بها»‪.‬‬
‫كرهت الأمر كله‪،‬‬
‫أنك ِ‬ ‫َق ِب َل ما ظهر منها ببطء‪ ،‬وقال بتف ُّكه‪« :‬ال �أعتقد � ِ‬
‫اعرتيف‪».‬‬
‫تغ�ضنت مالحمها ب�أمل ُم ٍّر على مالحمها دون �أن جتيبه‪ ،‬فجذب عقلها‬
‫بك دجى‪ ،‬بل كان الأمر �أ�شبه مبحاولة‬ ‫�سري ًعا وقال برقة‪« :‬مل �أتالعب ِ‬
‫أخربتك مل �أكن �أفهم نف�سي‪».‬‬
‫ِ‬ ‫أفقدك‪ ،‬ولكن كما �‬
‫لبقائك جانبي دون �أن � ِ‬
‫ِ‬
‫�أغلقت جفنيها وهي تقول بهدوء‪�« :‬أعرف‪ ،‬ورمبا لهذا �أتفهمك‪».‬‬
‫َق َّب َل جبهتها وقال برفق‪« :‬ال حتتاجني لتفهمي وال �أريده‪».‬‬
‫فتحت رماديتها وقالت ممتع�ضة‪« :‬ماذا تريد �إذن؟»‬
‫قال ب�صوت خرج عني ًفا مزجم ًرا رغ ًما عنه‪« :‬فقط �أحبيني»‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫أحبك بالفعل‪ ،‬وتلك هي امل�شكلة‪».‬‬‫ردت �سري ًعا دون تردد‪�« :‬أنا � َ‬
‫�شهقت عندما �سحبها �إليه وهو يقول مزجم ًرا �آم ًرا‪�« :‬إذن �أحتاج‬
‫قرارك‪ ،‬فموعد طائرتنا بعد �ساعات من الآن‪».‬‬
‫ِ‬
‫تالحقت �أنفا�سها وهو يعود ي�صدمها بتكرار تالم�سهم وك�أنه يريدها‬
‫�أن تغرق يف دوامة حتجب عقلها عن العمل حتى ي�صل ملا يريده‪« :‬عن �أي‬
‫قرار تتحدث؟ و�أي طائرة؟ وملاذا؟»‬
‫«عودتك يل‬
‫ِ‬ ‫التوى فمه با�ستمتاع وهو يالحظ �صراعها ثم قال‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ووعدك �أن نرتكز على بع�ضنا ونتحامل على �أنف�سنا لين�سى كل‬
‫ِ‬ ‫بالطبع‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ح�صلت عليها منذ‬
‫ِ‬ ‫إقامتك قد‬
‫منا ما�ضيه‪ ،‬لن�سافر �إىل هناك‪� ،‬أوراق � ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫منحتك فر�صة لتعودي يل بنف�سك‪ ،‬ولكن يبدو �أن هذا مل يكن‬
‫ِ‬ ‫مدة‪ ،‬ولكن‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫ليحدث �أبدً ا‪».‬‬
‫اجلميلتني‬ ‫بعينيها‬ ‫حاولت �أن تزيحه من وهي تهمهم بخجل‪ ،‬و�شردت‬
‫بعيدً ا عنه‪« :‬مل �أعدك ب�شيء‪ ،‬كما �أنه لي�س لأنك لديك طرق ملتوية يف‬
‫الإقناع �أو التففت حويل؛ �أين قد �أمنحك قراري بب�ساطة هكذا‪».‬‬
‫�ضحك بخ�شونة ووجهه ينخف�ض ليمرر �أنفه على �أنفها‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫ليجعلك‬
‫ِ‬ ‫جدا‬
‫قلت �سب ًبا قو ًّيا ومقن ًعا ًّ‬
‫أنك ِ‬‫أعدك‪ ،‬كما �أين �أعتقد � ِ‬
‫«�أنا من � ِ‬
‫تغفرين يل‪ ،‬وتذهبني معي دون تفكري‪».‬‬
‫قالت مدعية التفكري‪�« :‬أنت ت�ستغل الو�ضع‪ ،‬وتلعب بغري �إن�صاف‪ ،‬تلك‬
‫القرارات الهامة ال ت�ؤخذ يف و�ضعنا هذا‪».‬‬
‫كان ينظر ل�شعرها الأ�سود املتناثر على الو�سادة ووجهها املتورد‬
‫واملتوهج بالعاطفة‪ ،‬متذك ًرا معنى افتقادها لعام ون�صف كاملني‪ ،‬خرج‬
‫�صوته ال�ساخن متلب�سه اجلدية كعادته‪ ،‬وقال �ساخ ًرا‪« :‬بالعك�س عزيزتي‪،‬‬
‫‪372‬‬
‫متاما‪ ،‬فكل القرارات االجتماعية والفنية والتي‬ ‫نحن يف املوقع ال�سليم ً‬
‫�أ�ضاعت �شعو ًبا ب�أكملها �أُ ِخ َذت من فوق ال�سرير‪».‬‬
‫�شهقت دجوى وهي تقول الئمة‪« :‬ال تخلط الأمور ببع�ضها‪».‬‬
‫عاد يط ِّوقها كلها مرة �أخرى‪ ،‬يحب�سها بداخله وي�سحبها لعامله اخلا�ص‬
‫الذي متتزج فيه روحهما �سو ًّيا‪ ،‬رمبا �ساعات �أخرى معها ت�ؤكد على �أنهما‬
‫ُخ ِل َقا لبع�ضهما بطريقة �أو �أخرى‪ ،‬كالهما وجد عالجه يف الآخر‪� ،‬إنهما‬
‫طرفان متكامالن رغم كل الظروف‪ ،‬فقط كل ما يتمناه يف تلك اللحظة‬

‫ع‬
‫ما كان يبتهل لأجله يف املرة ال�سابقة؛ حملها ل�صغري �آخر؛ لي�ضمن عدم‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫ص‬


‫رف�ضها �إياه �أبدً ا �أو االنف�صال عنه‪».‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫‪q q q‬‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫ت‬ ‫ل‬


‫قراروكهذا؟ ترتك‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬
‫وط ًنا عا�شت فيه و�أحبته حتى و�إن كانت ر�أت بني دروبه كل �أنواع الع‬
‫بالدموع رغ ًما عنها تنظر من نافذة‬ ‫تغرق‬ ‫جل�ست بعد �ساعات وعينيها‬
‫الطائرة بلوعة؛ هل هي ح ًّقا كانت على ا�ستعداد لأخذ‬
‫أمل‪ ،‬هل‬
‫ح ًّقا �ست�ستطيع �أن تتخطى مع �سائد كل �أوجاعها‪ ،‬وتن�سى كل ما فعله بها؟‬
‫مل ت�ستطع �أن تكبح م�شاعرها عندما حاوط كتفيها بذراعه و�ضمها‬
‫�إىل �صدره‪�« :‬إن ن�سيت �أنت كما ت َّدعي ما�ضي �أبي‪ ،‬هل تعدين � َّأل تقارن‬
‫بيني وبينها عند كل بادرة م�شاعر منك نحوي؟»‬
‫لثوان معدودة فقط‪ ،‬ثم عاد ي�أخذ‬
‫راقبت وجهه الذي فقد جميع �ألوانه ٍ‬
‫نف�سا عمي ًقا ودفع ر�أ�سها بيده عن عنقه لي�سند جبهته عليها ويخربها‬
‫ً‬
‫أعدك بكل ما تريدين‪ ،‬ولكن �س�أكون كاذ ًبا‬
‫ب�صوت �أج�ش �صادق و�صريح‪ِ �« :‬‬
‫يوما‪�« ،‬آية» �ستعي�ش ذكراها بداخلي‪ ،‬ولكنها لن تكون‬
‫�إن ادعيت ن�سيانها ً‬
‫بيننا �أبدً ا مرة �أخرى‪ ،‬كل منكما لها منطقة ي�صعب خلطها �أو تخطيها‪،‬‬
‫‪373‬‬
‫أنت �أمل جعلني �أنب�ض‪ ،‬ق�ضيتي مل‬ ‫هي ُغ َّ�صة ع�شت بلوعتها عم ًرا بحاله‪ ،‬و� ِ‬
‫تكن يف �آية يا دُجى‪».‬‬
‫ا�ستفهمت بخفوت‪« :‬يف ماذا �إذن؟»‬
‫يوما‪� ،‬ستبقى �شوكة يف‬‫«ق�ضيتي �ستبقى بالقلب ُغ َّ�صة لن �أحترر منها ً‬
‫ظهر جمتمع يعاين‪� ،‬ستبقى بالقلب ُغ َّ�صة يف قلب كل �أم مكلومة وكل طفل‬
‫�شوارع حُرِمَ من براءته و�إن�سانيته وكرامته‪ُ ،‬غ َّ�صة �سنعاين جمي ًعا منها �إن‬
‫مل َن ُ ْث ونتكاتف لنق�ضي على ب�ؤرِها‪».‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫تمت بحمد الله‬
‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪374‬‬

You might also like