Professional Documents
Culture Documents
Pubdoc 12 6853 732
Pubdoc 12 6853 732
Pubdoc 12 6853 732
(*)
القانون الدستوري ( أصل نشأة الدولة )
الفصل الثالث
تعددت النظريات التي تعرضت لتفسير وبيان أصل نشأة الدولة ،بتنوع وجهات نظر
المستنبطين لها .
وسنبين في هذا الفصل أهم هذه النظريات وذلك في مباحث ثالثة :
المبحث األول
النظريات الثيوقراطية
ترجع النظريات الثيوقراطية ( - ) 1الدينية -أصل السيادة ومصدر السلطة إلى هللا فهو
وحده صاحب السيادة واليه ترجع السلطة اآلمرة .
ومع اتفاق النظريات الثيوقراطية على إن السيادة هلل وحده إال أنها تختلف في تفسير
ذالك وتتمثل هذه النظريات في ثالث :نظرية الطبيعة اإللهية للحكام ,ونظرية الحق اإللهي
المباشر ,ونظرية الحق اإللهي الغير مباشر .
قررت هذه النظرية إن الحاكم من طبيعة ,غير طبيعة البشر ,ذلك انه كان يعتبر من
طبيعة إلهية .
( * ) -أ.د.رافع خضر صالح شبر ،القانون الدستوري ( نظرية الدولة و نظرية الدستور ) ،كتاب قيد االنجاز . 2011 ،
( – ) 1إن كلمة ( ثيوقراطية ) مكونه من كلمتين إغريقيتين وهما ) Theos ( :وتعني اهلل ،و ( ) Kratosوتعني السلطة
،.فكلمة ( ثيوقراطية ) تعني أن اهلل هو مصدر السلطة .
وبذلك تقوم هذه النظرية على إضفاء وصف الطبيعة اإللهية على الحاكم .فالحاكم (إله)
يعيش وسط البشر ويحكمهم .وما دام األمر كذلك ,فانه يجب على الطبقة المحكومة إن تنظر
إلى الحاكم نظرة تأليه ,وان تعمل على تقديسه وعبادته ,باعتباره إله مقدس .
ويترتب على هذا المفهوم ,إن هؤالء الحكام ذوي الطبيعة اإللهية يملكون السيادة
المطلقة ,والسلطان المقدس الذي ال حدود له على رعاياهم وكان هؤالء الرعايا يطيعونهم
ويخضعون لهم خضوعا كامال وينفذون أوامرهم المقدسة تنفيذا دقيقا ,دون إبداء أدنى اعتراض
أو مناقشة ألنهم كانوا ينظرون إليهم بكل تقديس وإجالل باعتبارهم إلهة ( .) 1
وفي المدن اليونانية القديمة ,كان االعتقاد بان أول من قام بشؤون الحكم في
اليونان ,كانوا مخلوقات من عنصر أسمى من اإلنسان ,ألنها من أصل الهي .كما كان األمر
كذلك بالنسبة ألباطرة الرومان ,فاإلمبراطور الروماني ,كان يعتبر نفسه إلهًا ( .) 2
وتعتبر مصر القديمة مثًال بالغ الوضوح على اعتناق نظرية تالية الحاكم .فكان حكام
مصر (الفراعنة) يعتبرون آلهة يعبدون ,ويلقبون بلقب ( :حورس ) و( رع ) وهي تعني
( أآلله ) في اللغة المصرية القديمة ( .) 3
وقد أوضح القرآن الكريم في عدة آيات إن الفراعنة كانوا يعتقدون إنهم آلهة ,وان
طاعتهم واجبة من جانب رعاياهم .من ذلك ,قوله تعالى على لسان فرعون ,وهو يخاطب
قومه " :أنا ربكم األعلى " ( ,) 1وما جاء في القرآن الكريم وهو يصف خطاب فرعون إلى
موسى (عليه السالم ) عندما دعاه لعبادة هللا قال " :لئن اتخذت إلهًا غيري ألجعلنك من
المسجونين ( .) 2
( – ) 1ينظر في هذا المعنى :د .يحيى الجمل ،األنظمة السياسية المعاصرة ،دار الشروق ،ص . 58
( – ) 2د .عبد الحميد متولي " ،أصل نشأة الدولة " ،بحث في مجلة القانون واالقتصاد ،العددان الثالث والرابع ،سنة ، 1948ص
. 659
( – ) 3د .طعيمة الجرف ،نظرية الدولة والمبادئ العامة لألنظمة السياسية ن نظم الحكم ،دار النهضة العربية ، 1978 ،ص – 47
. 48
( – ) 1اآلية 24من سورة النازعات .
( – ) 2اآلية 29من سورة الشعراء .
وإذا كانت هذه النظرية قد سادت في اإلمبراطوريات والممالك القديمة ,فانه من
الغريب إن تجد لها تطبيقًا عمليًا في بعض الدول المتحضرة في العصر الحديث .حيث كان
شعب اليابان معتقدًا بالطبيعة اإللهية لإلمبراطور (الميكادو ) و يعتبره ‘لهًا حيًا ( .) 3
وتجسد هذا االعتقاد في نصوص دستور اليابان الصادر عام 1889والنافذ عام 1890
.حيث أخذ هذا الدستور بنظام الملكية الوراثية القائمة على أساس نظرية الحق اإللهي ( .) 4
ولقد جاء النص على النظام الملكي في المادتين األولى والثانية .فقررت المادة األولى أن يملك
إمبراطورية اليابان ويحكمها إلى عصور النهاية لها ساللة من األباطرة .كما قررت المادة
الثانية أن يتولى العرش اإلمبراطوري نسل من الذكور اإلمبراطوريين وفقا لنصوص قانون
القصر اإلمبراطوري .
ويالحظ أن دستور عام 1889قد دعم نظام اإلمبراطور .وفكرة الذات المقدسة له ،
وأنه ينحدر من أصالب اآللهة .وفي هذا الصدد نصت المادة ( ) 3من الدستور " :أن
اإلمبراطور مقدس وذاته مصونة " .
وقررت المادة ( ) 4من الدستور " :أن اإلمبراطور هو رأس اإلمبراطورية ،يحتفظ
لنفسه حقوق السيادة ويمارسها وفقا لشروط الدستور الحالي " ( .) 4
وبذلك يكون دستور عام 1889يقوم بصفة أساسية على إن اإلمبراطور هو مصدر
السلطة وصاحب السيادة ( .) 1
وظل هذا االعتقاد سائدا حتى هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية ،حيث انتهت
الصفة اإللهية لإلمبراطور .
وبصدور دستور عام 1946تم هدم فكرة سيادة اإلمبراطور التي الزمت الساللة
اإلمبراطورية والتي حكمت اليابان منذ نشأتها .
وقد نص الدستور في المادة األولى منه على أن " :اإلمبراطور هو رمز الدولة و رمز
وحدة الشعب ،ويستمد مركزه من ‘رادة الشعب الذي يكمن فيه حق السيادة " .
يتلخص مضمون هذه النظرية في إن الحاكم – وإن كان من البشر وليس له طبيعة إلهية
– إال إنه يستمد سلطته في الحكم من هللا مباشرة ،فهو الذي اختاره دون غيره ،ومنحه
السلطة ،وعهد إليه بمهمة الحكم في بلده .
ومادام إن الحاكم يستمد سلطانه من هللا دون تدخل من جانب البشر – إذ إن اختياره قد
تم خارج نطاق إرادتهم –فقد وجبت طاعته وامتثال أوامره ،ألن معصيتها تعتبر معصية هلل .
ويترتب على ذلك ،إن سلطة الحاكم على شعبه مطلقة ال قيود عليها وهو ال يسأل على
كل تصرف صدر عنه أمام المحكومين ،إذ إن هذه المسؤولية تكون أمام هللا وحده ،الذي وهبه
الحكم والسلطان ( .) 2
وقد سادت هذه النظرية في أوربا في القرنين السابع عشر والثامن عشر على وجه
الخصوص .واعتنقتها الكنيسة ،واستند إليها ملوك فرنسا في تثبيت أقدامهم في الحكم وفرض
سلطاتهم على الشعب ( .) 3
فكان اعتقاد ملوك فرنسا إنهم يستمدون سلطانهم من هللا .إذ كتب ( لويس الرابع عشر )
في مذكراته أن " :سلطة الملوك مستمدة من تفويض الخالق ،فاهلل ،ال الشعب مصدرها ،وهم
مسؤولين أمام هللا وحدة عن كيفية استعمالها " .
ووجدت النظرية صدى في العصر الحديث ،حيث حاول ملوك أوربا االستناد إليها
لتبرير وتأييد سلطانهم المطلق .
وبقيت النظرية سندا للكثير من الملوك في تأييد سلطانهم المطلق وتبرير استبدادهم
لشعوبهم .فاستعان بها إمبراطور ألمانيا ( غليوم الثاني ) ( .) 2إذ جاء في خطابه الذي ألقاه
عام " : 1910إن هذا التاج منحه من هللا وحده . " ...وفي خطابه آخر ألقاه عام 1916
جاء فيه " :إن الملك يستمد سلطته من هللا ،فهو ال يقدم حساب إال إليه " .
ومن التطبيقات العملية لنظرية الحق اإللهي المباشر في القرن العشرين ،النظام
السياسي الذي أقامه اإلمبراطور ( هيالسي السي ) في الحبشة ،والتي تسمى أثيوبيا في الوقت
الحاضر .إذ لم يكتف بادعائه إن سلطته مستمدة بتفويض من هللا ،بل حرص على تكريس ذلك
في صلب الدستور الصادر عام ، 1931فقررت المادة األولى من الدستور إن " :شخص
اإلمبراطور مقدس ،وكرامته مصونة ،وسلطته غير قابلة للشك " .
ومقتضى النظرية إن هللا هو مصدر السلطة ،إال إنه ال يختار الحاكم بطريقة مباشرة ،
وإنما يكون االختيار عن طريق الشعب .ذلك إن العناية اإللهية ترتب الحوادث وتسلسلها وتوجه
إرادات األفراد وتسيرها نحو اختيار شخص معين لحكم الدولة ( .) 1أي إن الشعب ليس إال سببًا
تابعا أو أداة لتنفيذ اإلرادة اإللهية .
و وفقا للمفهوم المتقدم ،فإن هللا يمنح السلطة لألشخاص يرفعهم إلى مرتبة الحاكم
بطرق مختلفة ،كالميالد والدم ،أو االنتخاب وغير ذلك من الوسائل التي تجعل األشخاص
الذين خصهم لهذه المرتبة يدعون للقيام بأعبائها .فالخالق هو الذي يضع الحكام في مكانهم ،
)(1
–" Nous ne tenons notre couronne que de Dieu : le droit de Faire des lois nous appartient a
nous seul sans dependance et sans partage " .
)(2
-Barthelemy et Duez , Traite Ele'mentaire de Droit Constitutionnel , Paris ,1933, p.65 .
( – ) 1لمزيد من التفصيل حول نظرية الحق اإللهي المباشر ،ينظر :
-د.محمد ميرغني خيري ،الوجيز في النظم السياسية ،القاهرة ، 2000-1999 ،ص . 65-64
–د.رمضان محمد بطيخ ،المصدر السابق ،ص 93وما بعدها .
–د.ماجد راغب الحلو ،الدولة في ميزان الشريعة ،النظم السياسية ،المصدر السابق ،ص . 87-85
( – ) 1د.عبد الحميد متولي ،القانون الدستوري واألنظمة السياسية مع المقارنة بالمبادئ الدستورية في الشريعة اإلسالمية ،منشأة
المعارف ،اإلسكندرية ، 1993 ،ص .39
أيا كانت طريقة مجيئهم إلى الحكم ،ومنها وحده يستمدون السلطة .وذلك ألن اإلرادة اإللهية
القادرة تتحكم في كل التطورات والحوادث المؤدية إلى رفع البعض إلى وظائف الحكم .
والنظرية في هذه الصياغة ال تكاد تختلف عن نظرية الحق اإللهي المباشر إال في
الشكل .فإذا كان للشعب إعطاء نوع من الموافقة أو الرضا بالحاكم ،فليس الشعب هو الذي
يمنحه السلطة ،ألن هللا وحده هو مصدر السلطة ومانحها .وعلى ذلك فالحكام يمثلون هللا ،فهم
وزراءه في األرض مفوضون من قبله في حكم رعاياه .ومن ثم فإن أوامرهم ملزمة ال يجوز
الخروج عليها ،ومعصيتها معصية للرب الذي يملك وحده حسابهم ،وليس للشعب أن
يحاسبهم .ومن الواضح إن النظرية بذلك تبرر السلطان المطلق للملوك .
لقد تعرضت النظريات الثيوقراطية النتقادات متعددة لبعدها عن مجال التقبل العقلي
لإلنسان .حيث أنها نظريات مصطنعة فقط لخدمة مصالح معينة ولتبرير استبداد السلطة
الحاكمة خاصة أثناء الصراع بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية في القرون الوسطى وبداية
عصر النهضة .حتى إن بعض الفقه نادى بعدم جواز تسمية هذه النظريات بالدينية على أساس
أنها ال تستند في جوهرها ومضمونها إلى الدين .