Professional Documents
Culture Documents
ابيستمولوجيا تحضير المحور الرابع
ابيستمولوجيا تحضير المحور الرابع
حمود نهاد
الفوج 2
المقدمة:
ظل علم السياسة منذ تأسيسه حقال معرفيا غير مستقر ،وشهد حركات تستهدف إعادة صياغة طبيعته "الدوالتية" .من خالل هذا
المقال تمت مقارنة خمس حركات بارزة عملت على إحداث تغيير جوهري في علم السياسة:
" -النزعة الدوالتية" ( Statismالتمحور حول الدولة وجعلها مرجعية للتحليل) :وهي النزعة التي رافقت مسيرة هذا الحقل خالل
بواكير سعيه الكتساب المهنية.
" -النزعة التعددية" :Pluralismوقد برز هذا التوجه مع نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من القرن العشرين.
" -النزعة السلوكية" ( Bahavioralismظهرت منتصف القرن العشرين).
-االتجاه نحو إرساء "علم سياسة جديد" ( New Political Scienceوذلك خالل نهاية الستينيات وبداية التسعينيات).
-التيار المعروف حديثا بـ "بريسترويكا علم السياسة" (تزامن ظهوره مع بدايات القرن الحادي والعشرين).
ُمل
النزعة الدوالتية ا ؤسسة لحقل علم السياسة:
النزعة الدوالتية هي النزعة التي رافقت مسيرة حقل علم السياسة خالل بدايات سعيه الكتساب المهنية ،وهي النزعة التي تمحور
حول الدولة وجعلها مرجعية للتحليل
وتعني هذه النزعة التركيز على دور الدولة في الحياة السياسية واالجتماعية ،وتحليل العالقات بين الدول والتأثيرات السياسية للدولة
على المجتمعات
وقد ركز بعض الباحثين في االتجاه الدوالتي الذي يقدس الدولة على معارضة الطابع الفدرالي للدولة بدعوى جعل الواليات المتحدة
األمريكية أكثر توحدا
ومن المهم اإلشارة إلى أن هذا االتجاه المعرفي "الدوالتي" لم يتعرض للمقاومة من داخل الحقل المعرفي ألن الذين جاءوا على
أنقاضهم ظلوا خارج الحدود التي رسمت لهذا العلم الناشئ.
فعلى الرغم من أن أصحاب النزعة الدوالتية كانت لديهم مآخذ على الجانب المنهجي
ألعمال من يصفونهم بالتعددين المنادين بتعدد الفواعل للمشاركة في صناعة القرار السياسي ،فإن طالئع الثورة المرسومة بـ
التعددية الذين طالما وصف أتباعها بـ الهواة في مقابل الدوالتية الذين أضفوا الطابع االنضباطي على الحقل ،إّال أن منهجية البحث
لدى هؤالء جميعا لم تكن تخضع لقواعد يمكن تقفي أثرها أو م ارجعها ألنها كانت تنطوي على
التجميع الفوضوي للمعطيات وتقديمها بطريقة وصفية بحته.
ولم يتعرض هذا االتجاه المعرفي الدوالتي للمقاومة من داخل الحقل المعرفي ألن الذين جاء على أنقاضهم ظلوا خارج الحدود التي
رسمت لهذا العلم الناشئ ،ورغم ان الدوالتين يقرون بالتعدد إّال أنهم يطلقون عليه وصف (التجزئة) بل ويعتبرونه مشكلة يتعين حلها
ال وضعية ينبغي تثمينها ،كما أن البحث وتحليل الظواهر السياسية كان مفتوحا للجميع السيما القادمين من حقول معرفية أخرى
مجاورة لحقل علم السياسة وساهم في ابطاء تطور هذا الحقل المعرفي لغياب منهجية واضحة كما أنه لم يكن من السهل التمييز بين
النوازع الذاتية وأولويات البحث ،والبحث عن حقيقة عمل المؤسسات الدستورية وهو مشكل ظل قائًما لها
إلى أن تم ظهور أول تحدي با ارديمي أنطولوجي للدوالتين يتمثل في النزعة التعددية.
أول تحدي أنطولوجي في حقل علم السياسية التعددين في مقابل الدوالتين:
خالفا لما قد يعتقد البعض ،فإن ازدياد قوة التحدي المعرفي الذي واجهته ذوي النزعةالدوالتية لم يكن مصدره باحثين من خارج
البردايم بل من داخله "فبقهون وولسن" كانا أول
من انتبه إلى أنه وخلف المؤسسات الرسمية للدولة كانا هناك مؤسسات غير رسمية فاعلة
وتمارس ضغطا معتب ار على عملية ضع الق ارر وكما سبق وحللنا أن الدوالتين يرون في التعدد مشكلة يتعين حلها وليس وضعية
ينبغي تثمينها ،هذه هي الحقيقة التي يشير إليها مؤلف األستاذ آرثر بنتلي المعنون بـ عملية الحكم The process of government
وفي كتابه أصدره الحقا المعنون بـــــ "صانعوا القارر :المعنيون بالقارر والمتحكمون في اللعبة السياسية" ،عبر بنتلي عن إدانته
لهيمنة مجموعات المصالح على السياسة األمريكية ،ولكن مع أن نظام الدولة المركبة قد تعرض للنزيف مع قدارته للتحكم في العديد
من األجهزة.
غير أن التعددية المعيارية أضحت تحتل حي از مت ازيدا مع ظهور مؤلفات "هارولد
السكي" ، 1917و"ماري بيركت فيوليت" ،1918كان كالهما متأثرين بفلسفة "وليم جيمس"
التي شددت على نبذ تحكم الدولة ومنحها حقا حصريا إلدارة شؤون الفرد ومن هنا يمكن استشفاف حقيقة أن مفهوم التعدد لدى ذوي
النزعة التعددية ال يرتكز على تعدد المصالح بل على تعدد الوسائل ،أما "فيوليت" ،قد كانت من دعاة تنظيم المجتمع في جماعات من
القاعدة باتجاه القمة ،معارضة بتلك الهندسة االجتماعية التي كانت تعتمد على االتجاه العكسي من القمة باتجاه القاعدة ،وقد طرحت
فيوليت سؤاًال وجيهًا ما الذي يمكن عمله بالتعددية؟ ،لكنها تلقتردًاقويامنالدوالتينكلمايجبالعملب التعدد هو إزالته ،أمامبرارت "فيوليت"
فهي غامضة وصعبة التطبيق إنما أن "قانيل ،Gunnelيرى خالفا للباحثين آخرين أن صعود النزعة التعددية في العشرينات يعتبر
الثورة المعرفية الوحيدة التي شهدتها حقل علم السياسة في أمريكا.
لقد حاول درزيك فحص مدى ثورية الطرح التعددي فوجد أنه بالنسبة لبعض الباحثين يعتبر صعود هذا التيار بمثابة الثورة المعرفية
الحقيقية "فجورج كاتلين" أحد المدافعين عن النزعة التعددية كان يرى أن التعدد يعود على اختالف مصالح المجموعات المشكلة
للنسيج الوطني ال على تعدد تجارب هذه المجموعات ووسائلها ،وحسب "كاتلين" التمعن في أعمال كالين يساعدنا على استشفاف
وجوه تقارب كبير بينه و بين االتجاه الدوالتي ،فالدولتيون أنفسهم كانوا يعترفون بالتعدد وهنا يتضح أن الشيئ الثوري الوحيد لدى
التعددية هو الشق المعياري لطرحهم وهذا لم يحظى بالقبول في علم السياسة إّال في خمسينيات القرن العشرين
وحينها الصيغة المتيناه للتعدد ترتكز على المصالح العلى تعدد القيم.
التحول البراديمي األول :ذوي النزعة السلوكية في مقابل ذوي النزعة التعددية:
بعد قرابة نصف قرن من سيطرة البرادايم الدوالتي ومع خفاق البرادايم التعددي في تحويل أجندة البحث في علم السياسة عن
اهتماماتها األنطولوجية مما أدى إلى ظهور ذوي النزعة السلوكية والتي ركزت على المستوى المنهجي وكانت بمثابة نقطة ضعف
الرئيسية للبرديمات السابقة ،وهي تندرج ضمن النقاش النظري الثاني في محاولة لتجاوز حالة اإلفالس المنهجي للواقعية التقليدية،
ويعتبر النقاش الثاني حالة استقطاب بين أولئك الذين يعتقدون بإمكانية استخدام مناهج العلوم الطبيعة أو على األقل المناهج التي تم
توصيفها من قبل فالسفة علم السياسة الوضعين في دراسة السياسة الدولية ،في مقابل اولئك المتحفظين عن قابلية العالم االجتماعي
للدولة باستخدام المناهج اإلمبريقية للعلوم الطبيعة.
وتمتد هذه المرحلة من فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية الى نهاية الستينات ،أصبح فيها علم السياسة يركز على ثوابت السياسة،
ويدرس الظواهر السياسية ،دراسة منهجية وتحليلية وموضوعية ،حيث ساعد هذا التيار علم السياسة في التركيز على تحليل السلوك
السياسي ،الذي يفترض وجوده ضمن نظام ،يكون فيه محكوًما بقوانين وضوابط تؤثر فيه ويتأثربها.
يعتقد التيار السلوكي أن مهمة علماء السياسة هي اكتشاف هذا االنتظام في السلوك اإلنساني ،عبر دراسته دراسة كمية واحصائية،
وذلك من خالل تحرير الدراسات السياسية من الدراسات الفلسفية والتاريخية والقانونية ،واستعارة المنهج المستخدم في الدراسات
التطبيقية ،اهتم السلوكيون بالسلوكيات المتكررة وليست الفردية ،حيث يقوم البناء النظري على القدرة على التعميم ،وإطالق األحكام
العامة التي تكون تحليلية وليست معيارية أو وصفية أو تفسيرية.
التطور من حيث المناهج (أدوات التحليل) أ-
قبل انتشار المناهج التحليلية الحديثة التي برزت مع الثورة السلوكية ،كان المنهج المعتمد هو المنهج الكالسيكي والمنهج التقليدي،
الذي ظل يربط ما بين األخالق والسياسة منطلًق ا ،من فرضية سكون الظاهرة السياسية الستاتيكية ( ،)statiqueبمعنى أَن الظاهرة
السياسة هي ظواهر ثابتة وغير متحركة.
المنهج الكالسيكي: -1
ساد هذا المنهج خالل المرحلة الفلسفية ،حيث ارتبطت السياسة بالفلسفة السياسية ،التي تدرس األزمات السياسية بالتركيز على
مسبباتها ونتائجها ،لكنه قدم لنا تصورات كبرى مثالية (حلول مثالية) ،بأسلوب فلسفي تأملي من منطلق البحث عن القيم ضمن ما
يجب أن يكون ،وبدأت فيه المعرفة من مقدمات ميتافيزيقية ،ومع بروز تيارات الفكر الكنسي المسيحي تحول المقدمات المنهجية الى
مقدمات دينية مرتبطة بالالهوت ،بمعنى تفسير أسباب حدوث الظواهر السياسية بقوى كخفية تأليه الحكام ،وما ينجر عنها من تقديس
قرارات المؤسسات الدينية ،واضفاء شرعية على تدخل الرجال الدين (الكهنة وخدام المعابد وحتى السحرة) في الحياة السياسية.
-المنهج التقليدي: 2
انحسر المنهج الكالسيكي مع انحصار سيطرة الفلسفة على علم السياسة ،ومع حصول الشرخ بين الفلسفة و باقي العلوم ،وبالضبط
عندما أصبح المفكرون أكثر جدية ،في معالجة القضايا السياسية ،ضمن قالب ما هو كائن ،حيث لم تعد الدراسات السياسية ،تعنى
بأسلوب الوصفات والحلول التأملية للمشاكل الطارئة كالثورات ،قضايا المواطنة ،عندها برز المنهج التقليدي ،الذي استمد حضوره
من عالقة علم السياسة بالقانون و التاريخ ،وينقسم هذا المنهج إلى:
الواقعيون :برزوا خالل القرن 16ويأتي على رأسهم مكيافيللي ،و يحسب لصالح هذا االتجاه أَن أنصاره قد انطلقوا من أ-
َا
مقدمات واقعية عكس سابقيهم ،لكن ال يمكن وصف إسهاماتهم بالعلمية ،نظر لعدم استخدام المنهج العلمي التجريبي.
القانونيون :ظهر هذا االتجاه مع نجاح الثورة الفرنسية ،التي كان من إفرازاتها ،أَن الشعب هو مصدر السلطات ،لكن ب-
يحكمه وينظمه القانون ،أما من الناحية المنهجية ،فعلى الرغم من أَن الدراسات القانونية ،قد أبقت على معادلة دراسة ،ما يجب أْن
يكون وليس ما هو كائن ،إاَل أَن من إيجابيات هذا المنهج ،أَن ُه قد ساعد الدراسات السياسة على التركيز على موضوع الدولة
والحكومات والمؤسسات الرسمية .حيث انشغل علم السياسة خالل هذه الفترة ،بالبحث في تفاصيل عمل المؤسسات الرسمية و
خاصة البرلمانية ،أما فيما يتعلق بسلبيات ،اعتماد الدراسات السياسية على التحليالت القانونية الجامدة ،فقد تجلت في تجاهل دراسة
وتحليل كل ما هو خارج القانونية أو الدستورية ،مما جعله منهًج ا منحاًز ا علمًيا للبعد المؤسساتي على حساب بقية األبعاد األخرى،
حيث يرى أنه( ال توجد ظواهر سياسية قابلة للتحليل خارج األطر الدستورية) .هذا إلى جانب تقديم تفسيرات للتفاعالت السياسية
الداخلية أو الخارجية على أسس قانونية ،بمعنى ال تعدوا عن كونها مجرد مجموعة من الحقوق وتقابلها مجموعة من الواجبات .إَن
التركيز على البعد القانوني فقط في دراسة وفهم الظواهر السياسية ،قد أثبت ضعف هذا التيار ،الذي ركز بدوره على الوصف بدل
التحليل والبحث.
منذ ثالثة عقود من الزمن تقريبا بدأ التوجه ما بعد السلوكي يقدم نفسه بديال لكل من التقليدية والسلوكية في علم السياسة .لكن ما
الذي أدى إلى بروز هذا التوجه؟ يجيب ديفيد آيستن -الذي أعلن عام 1969م مرة أخرى عن انطالق ثورة جديدة في علم السياسة
أسماها "الثورة ما بعد السلوكية" -بأن التوجه ما بعد السلوكي قد جاء كرد فعل من قبل مجموعة من علماء السياسة ضد التجريبية
المفرطة وانعدام المسئولية التي اتسم بها التوجه األمبريقي للسلوكية مما جعل علم السياسة يوفر بيانات مدققة علميا (مالحظة
تجريبيا) لكنها عديمة الفائدة .وحدد ايستن أبرز سمات هذه الثورة الجديدة في اآلتي:
- 1إعطاء األولوية لالهتمام بدراسة مشاكل المجتمع القائمة بدال من التركيز على أدوات البحث العلمي.
- 2اتهام النموذج السلوكي بالنزعة المحافظة والنظرة التجريدية المنفصلة عن الواقع.
- 3التأكيد على استحالة تطبيق الحيادية في العلم ومن ثم فال يمكن فصل الحقائق عن القيم.
- 4تشجيع المفكرين على تحمل مسئوليتهم االجتماعية والدفاع عن القيم اإلنسانية بدال من حالة العزلة التي فرضتها عليهم االتجاهات
السابقة.
- 6تشجيع المفكرين على إعادة صياغة المجتمع من خالل تحويل المعرفة التي يمتلكونها إلى برنامج عمل.
ففي الوقت الذي كان فيه التوجه السلوكي قد بدأ يفقد بريقه وتوهجه خالل السبعينات من القرن الماضي نتيجة لإلخفاقات التي مر
بها ولكثرة وقسوة االنتقادات التي وجهت إليه كان ال يزال هناك أقلية صغيرة من علماء السياسة السلوكيين السابقين ،الذين تأثروا
بالنجاحات التي حققها علماء االقتصاد مصممة على جعل دراسة السياسة تقترب كثيرا من العلوم البحتة .وعرفت هذه األقلية ذات
الخلفية االقتصادية التي خرجت من عباءة التوجه السلوكي السابق بتوجه االختيار العقالني في دراسة السياسة .ويؤكد أنصار هذه
النظرية الجديدة الذين كانوا أقل اهتمامًا بالثقافة أو التنمية بأنه يمكن توقع السلوك السياسي بشكل عام من خالل التعرف على مصالح
وتفضيالت أطراف العالقة المعنية ،الذين سوف يختارون بعقالنية تعظيم مصالحهم .
و تستند نظرية "االختيار العقالني" (أو االختيار العام) على ركيزتين أساسيتين:
األولى :محاولة تمثيل العمليات السياسية باالعتماد بشكل أساسي على المعادالت الرياضية ،فضال عن المنهجية الفردية التي تزعم أن
كل الظواهر االجتماعية مشتقه من خصائص وسلوك األفراد.
أما الركيزة الثانية :فتتمثل في االفتراض بأن الفاعلين السياسيين (الناخبون ،والمشرعون ،واألحزاب السياسية) يتصرفون بعقالنية
منطلقة من المصلحة الذاتية.
ومع أن هذا التوجه ال يفترض أن كل الفاعلين السياسيين يتصرفون بعقالنية كاملة في كل وقت إال أنه يفترض أن سلوكهم هادف
ومحسوب .وأنه يمكن صياغة تفضيالتهم تجاه نتائج معينة وحساباتهم للتكلفة والعائد المتوقع فضال عن النجاح المحتمل
لالستراتيجيات المختلفة إلنجاز تلك النتائج على شكل مؤشرات كمية أو معادالت رياضية.
أثمرت االنتقادات التي وجهها اليساريون للسلوكية ظهور ما يسمى بـ "المؤتمر من أجل علم سياسة جديد" ،والذي حاول تحديد
مالمح المرحلة المقبلة في علم السياسة وإعادة توجيهه .تم تنظيم المؤتمر سنة 1967خالل االجتماع السنوي لـ ،APSAوتزعمه:
"بيتر باكراتش" " ،Peter Bachrachكريستيان بي" " ،Christian Bayتيودور لوي" " ،Theodore Lowiمايكل برينت"
" ،Michael brentآلين وولف" " ،Alan Wolfeشيلدون وولين" ،Sheldon Wolinكما تضمنت القائمة أيضا وجها بارزا في
تخصص العالقات الدولية" :هانتس مورقينتو" Hans Morgenthauوالذي كان من بين المعارضين للحرب في فيتنام ،وقد قدم
المؤتمر مرشحا لرئاسة .APSA
كان من بين أعضاء المؤتمر عدد من المنظرين السياسيين العازمين على جلب النقاشات واالنتقادات حول الديمقراطية الليبرالية
األمريكية إلى قلب النقاشات األكاديمية بعد أن كانت معزولة في محيط تخصص العلوم السياسية ،ولتسويق طرحهم عمد أعضاء هذا
"المؤتمر" إلى تغطية ما يرونه جوانب قصور في "االتجاه السلوكي" :حيث توجهوا نحو االهتمام بالقضايا االجتماعية واألزمات
السياسية لتلك الفترة ،كما طالبوا بعلم سياسة يتخذ موقفا جماعيا موحدا من القضايا السياسية المثيرة للجدل مثل :حرب فيتنام ،التمييز
العنصري ،والفقر ،إضافة إلى قضايا البيئة والمرأة.
ورغم أن المؤتمرين لم يجمعوا على رفض النزعة العلمية ،إال أنهم رأوا بضرورة إعادة ترتيب األولويات ،لتكون "العلمية" في
المرتبة الثانية بعد االلتزام بقضايا المجتمع؛ ومدى صالحية نتائج األبحاث لمعالجة هذه القضايا .وبرروا موقفهم هذا بكون مسألة
تفسير السلوك السياسي ال تشكل حقيقًة مركز الثقل المعرفي في علم السياسة ،وبذلك يبدو واضحا أن "المؤتمر من أجل علم سياسة
جديد" ،مثله مثل االتجاهات الثالثة التي سبقته جمع بين األهداف الفكرية واألهداف السياسية ،ولو أن أهدافه السياسية كانت أوضح
مقارنة بـ "السلوكيين".
سخر أعضاء المؤتمر أكثر جهودهم لمسعى إصالح ،APSAوقدموا مرشحين لمنصب الرئيس ولعضوية مجلس الجمعية ،لكنهم
أخفقوا في الحصول على الرئاسة رغم نجاحهم في االستحواذ على بعض المقاعد في المجلس .وتجدر اإلشارة إلى أن بعض رواد
"المؤتمر" من أمثال "تيودور لوي" ،Theodore Lowiو"إيرا كاتز نيلسن" ،Ira katznelsonتمكنوا من الحصول في فترات
الحقة على منصب الرئاسة باعتبارهم مرشحين رسميين.
أخذت المقاومة من جانب "السلوكيين" تشتد السيما وسط APSAالتي يهيمنون عليها بشكل شبه كلي ،ففي 1968قاموا بتجميد عمل
كل لجان العمل التي دعا إلى تشكيلها أعضاء "المؤتمر" .لكن "دافيد إيستون" عمل على التخفيف من حدة التوتر بين "السلوكيين"
و"المؤتمريين" ،فخالل مداخلته له أمام APSAعام 1969بصفته رئيسا للجمعية تحدث عن "ثورة جديدة في علم السياسة" ،بإمكانها
أن تجعل التقنيات التي طورها "السلوكيون" و"نظريته للنظم" على حد سواء في خدمة المشكالت االجتماعية.
لم ينجح "إيستون" في ردم الهوة بين المعسكرين ،إال أنه نجح في إرساء تخصص ثانوي في علم السياسة وهو السياسات العامة.
وهكذا ظل السلوكيون في إطار APSAمتشبثين بمقاومتهم للتغيير الذي بشر به "المؤتمر من أجل علم سياسة جديدة" ،إال أن ثقتهم
في النفس قد تزعزعت كثيرا ،وهم الذين استماتوا في مقاومة تسييس "حقل علم السياسة" ،وهي النقطة التي أثارها "أويالو" Eulau
في تقريره كرئيس لـ APSAعام " :1972إننا لم ننظم أنفسنا في إطار APSAمن أجل ممارسة السياسة أو لنشر وجهات نظر
سياسة" .وفي االتجاه ذاته ،صرح Austin Ranneyبخصوص تعيين خليفة له على رأس APSAأن الصورة واضحة جدا في
ذهنه ،وهي أن يخلفه رئيس ال يمت بصلة إلى "المؤتمريين".
إن المؤتمر ،وبدل أن يتوجه نحو تشييد روابط مع التيارات االجتماعية والسياسية والتي تحمل ثقافة مناوئة له ،فقد كرس جهوده على
الصعيد المهني ،مما دعا "لوي" Lowiإلى تسميته بـ "المؤتمر من أجل جمعية جديدة لعلم السياسة" ،ومع إخفاقه في الحصول على
رئاسة الجمعية فقد تراجع طموح أعضاء "المؤتمر" وأصبح تنظيمهم مجرد قسم عادي ضمن أقسام APSAيعمل على تمويل لجان
عمله بشكل ذاتيا ،أما المجلة العلمية التي قام "المؤتمر" برعايتها (علم السياسة الجديد) New Political Scienceفقد ظل انتشارها
محدود ،ولم يظهر اسمها ضمن ترتيب أبرز 115دورية علمية في التخصص .هذه الحقيقة لم يعها أعضاء الحركة الجديدة المسماة:
"بريسترويكا علم السياسة" ،والتي برزت مع بداية األلفية الجديدة ،وذلك عندما وضعوا نصب أعينهم إصالح الحقل المعرفي لعلم
السياسة.
لقد شن المؤتمر من أجل علم سياسة جديدة هجوما كاسحا على "السلوكية" لكنهم جوبهوا بمقاومة شرسة .وإذا رجعنا إلى معيار قياس
مدى نجاح "الثورات المعرفية" والذي تحدثت عنه في البداية ،فإننا نخلص إلى إخفاق ثورة المؤتمريين من حيث:
أنهم لم يتمكنوا من إعادة صياغة أجندة البحث في علم السياسة؛
أن أجندة البحث التي اقترحوها لم يكن معترفا بها في أوساط الباحثين؛
أن المناهضين لهم لم يكن يتعين عليهم تبني صيغة توفيقية ،بل اكتفوا بتجاهل طرح مناصري "المؤتمر" (ما يدل على ضعف
طرح جماعة "المؤتمر").
الخاتمة:
من بين هذه الحركات األربعة التي قامت على منطق "الثورة العلمية" ( scientific revolutionلدى توماس كوهن) لم تنجح سوى
الحركتان األولى والثالثة ،ذلك أن حقل علم السياسة أظهر مقاومة شديدة للتغيير .وما تجدر مالحظته في هذا الشأن هو أن سر نجاح
"الدوالتية" و"السلوكية" يكمن في أن ثورتاهما لم تواجه بأي مقاومة من داخل هذا الحقل المعرفي (على أنها تعرضت الحقا
النتقادات ومقاومة من قبل تيارات نظرية أخرى ،لكن بعد أن كللت ثورتها المعرفية بالنجاح).