Professional Documents
Culture Documents
Document
Document
ذاع صيت اإلمام مالك في آفاق العالم االسالمي ،فقصده طلبة العلم بداية من القرن الثاني للهجرة القرن/الثامن ميالدي ،إلى أن انتقل
إلى جوار رّبه سنة 179هـ795/م .فكان مّمن أخذ عنه عبد هّللا بن غانم الذي وّلي القضاء ،وكان أّيام قضائه يكتب ما أشكل عليه إلى
مالك .كما كان يكتب إلى أبي يوسف ،وكان يدّر س كتب أبي حنيفة يوما في األسبوع فلم يكن ملتزما بمذهب مالك ،ومثله أبو محمد
عبد هّللا بن فّر وخ الفارسي ،وهو الذي أشار بابن غانم لّما عرض عليه القضاء وامتنع .ومّمن أخذ عن مالك واّتصل بسببه سند
المذهب المالكي أبو الحسن علي بن زياد .وقد جمع إلى الفقه التقوى وخشية هّللا .فكان إماما مقتدى به ،فّر من والية القضاء،
وصرف حياته في التعليم واالقبال على هّللا .هو شيخ أسد بن الفرات وسحنون بن سعيد والبهلول بن راشد ،وغيرهم من الطبقة الثالثة
والرابعة في مذهب مالك ،وبذلك يعتبر علي بن زياد الحلقة األولى في المذهب المالكي بإفريقية ،وقد كانت له ميزتان :أوالهما رواية
"الموّط أ" الذي تلّق اه عنه طلبة العلم ،يستوي في ذلك أتباع مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك .فكان التأّث ر بهذا التأليف الذي يعتبر من
أّو ل أوضاع التدوين االسالمي ،قد ترك بصماته في الفكر الفقهي عاّمة ،الموافق والمخالف ،إّما باعتماده وإّما بمناقشته .واألخرى أّنه
كّو ن على منهجه وطريقته فيمن كّو ن علمين من أعالم الفقه ،هما أسد بن الفرات وسحنون بن سعيد ،كان كّل منهما ذا فكر وّقاد .كلما
انفتح له حكم مسألة كان ذلك االنفتاح مفضيا إلى غيرها من الصور المحتملة الوقوع التي تّت صل بها من ناحية ،وتستقّل عنها من
نواح أخرى .نقل المالكي أّن أسدا سأل مالكا يوما عن مسألة فأجابه ،فزاد في السؤال فأجابه ثّم زاد فقال له" :حسبك يا مغربي إّن
أحببت الرأي فعليك بالعراق" .وكان سبب انصرافه عن ابن وهب أّن ابن وهب أبى عليه أّن يخرج عّما رواه عن مالك .وكّل واحد
منهما كان حريصا على توثيق ما علمه بالكتابة .روى أبو العرب عن سحنون قال" :كان من يعرف العلم يبقى في صدره ال يسألونه
عنه [يعني أهل إفريقية] فيموت به مثل عبد الرحمان بن زياد بن أنعم ،بقي العلم في صدره ال ينتشر عنه وال يعرف" .وانفرد
سحنون بتحقيق النقل والّدقة في الضبط والغوص متأّث را في ذلك بشيخه .قال أبو العرب" :كان علي بن زياد خير أهل إفريقية في
الضبط للعلم" .وبهذا المنهج سرى فقه مالك إلى إفريقية أّو ال عن طريق أسد في كتابه األسدّية ثّم عن طريق سحنون في كتاب
.المدّو نة
األسدّية والمدّو نة[عّدل]
أشبع أسد نهمه من البحث والتقّص ي في العراق ،وانتظمت له مسائل الفقه الواقع والمتوّقع على الطريقة العراقّية فعزم على أّن يضّم
إلى المنهج العراقي في تفريع المسائل وتوليدها والتوّسع في األقيسة التي بها يدرك كثير منها ،وحرص على أّن يوثق ذلك بمنهج
أهل المدينة ،فرحل إلى مصر بعد موت مالك ،وعرض أسئلته في النهاية على ابن القاسم فأجابه عنها ذاكرا بالجزم قول مالك حينا،
وتارة مخرجا عليه ،وتارة غير جازم .فيقول :أحسب ،وأظن ،وأخال .وقدم أسد بما دّو نه عن ابن القاسم ،وانتصب مدرسا يوّضح ما
أخذه ويبّين مداركه .وكان سحنون أحد الذين أخذوا عنه معظم كتابه .ولكّن ميزة سحنون جعلته ال يقنع بالترّدد بين اليقين والظّن .
فجمع كتب "األسدّية" وتوّج ه إلى مصدرها عبد الرحمان بن القاسم الُع تقي .وعرضها عليه مع رغبة في تحقيق قول مالك برجوع ابن
القاسم إلى كتبه ال إلى ذاكرته .فكان من أثر هذه المراجعة أّن عبد الرحمن بن القاسم أقّر بعض ما كتبه عنه أسد وغّير بعضه فوّثق
سحنون ذلك ورجع بكتابه الذي دّو نه من مدّو نات شيخه وسّماه "المدّو نة" .وكتب ابن القاسم إلى أسد بأّن عليه أّن يعتمد ما كتبه
.سحنون وأخذه عنه
مكانة المدّو نة في مذهب مالك[عّدل]
كتب تالميذ مالك وتالميذهم من بعدهم كتبا كثيرة سّج لت الفقه المالكي ،اختصر أغلبها ابن الحاجب في جامع األّمهات .ولكّن
"المدّو نة" تمّيزت بأنّها هي التي عليها المعّو ل .ثّم أطلق عليها لفظ "الكتاب" فأصبح علما بالغلبة ،فإذا قيل "الكتاب" في مؤّلفات الفقه
المالكي انصرف الّذ هن إلى المدّو نة كما ينصرف في النحو إلى كتاب سيبويه .وقد انتشر المذهب المالكي بفضل عاملين اثنين :األّو ل:
بكتاب المدّو نة تّم للمذهب المالكي قّو ة االستقرار واالنتشار .إذ أقبل الطلبة على سحنون يأخذون عنه مؤّلفه ويصلون إلى تعميق
فهمهم ألنظار مالك بما كان يضفي على دروسه من بيان يمكّن هم من مفاتيح االدراك للمنهج التشريعي العام والتفصيلي .وكثر
اآلخذون عنه كثرة قّلما حصلت لغيره .كانوا يقولون سحنون أيمن عالم دخل المغربُ ،عّد له نحو سبعمائة رجل ظهروا بصحبته
وانتفعوا بمجالسته .أخلص هّلل في طلب العلم من بداية أمره كما جاء في وصّية البهلول بن راشد إلى علي بن زياد .وقد ساعده
تعميره ثمانين سنة ،وكذلك واليته للقضاء ،فقد قّد م صورة من أفضل صور القضاء في االسالم إشراقا في العدالة وتقريبا للقضاء بين
الناس وتجديدا في االجراءات .واآلخر :هو ما كان عليه معظم فقهاء المالكّية من صالح وتقوى ،وبعد عن أصحاب السلطة الذين بنى
معظمهم سلطانه على القهر والحكم المطلق الذي ال يتقّيد إال بما يحّقق له أكبر قدر من النفوذ الشباع رغباته ونزواته ورغبات
حاشيته وأتباعه .فكان للمواقف الشجاعة في قول الحّق ،وعدم التهافت على هؤالء ،واالبتعاد عن مجالسهم ،أثرها العميق في ثقة
العامة بالفقهاء فاطمأّن وا إليهم في دينهم وقّلدوهم في عقائدهم وفي أحكام العبادات والمعامالت .ولذلك عرف مذهب مالك من االنتشار
.بين القاعدة الشعبّية سعة لم يبلغها أّي مذهب من المذاهب األخرى في إفريقية
المذاهب التي عرفتها إفريقية[عّدل]
كان معظم الفقهاء إّما مالكّية "مدنّيين" وإّما حنفّية "عراقّيين" ،ثّم دخل علماء من الشافعية ومن الظاهرّية كان تأثيرهم محدودا .ولم
ينتشر أي منهما انتشارا الفتا للنظر .كما استطاعت بعض فرق الخوارج أن تأخذ مكانها إلى أن شّت ت أمرهم سحنون .فقد عّدوا له
من أولّياته أّنه أّو ل قاض فّرق أهل البدع من الجامع .وكانوا فيه حلقا من الصفرّية واإلباضّية والمعتزلة ،وأّدب جماعة منهم لمخالفة
.أمره .ولم تكن العالقة بين علماء المذهب المالكي والمذهب الحنفي عالقة حسنة دائما ،وكان للّت عصب أثره في ما حصل
فمن األمثلة السخيفة أّن مجلس القضاء كان بالمسجد الجامع ،فلما وّلي سحنون رأى أّن الخصوم تعلو أصواتهم في المسجد ،وبعضهم
ال يتأّدب األدب الّالئق في بيت هللا ،كما أّن جلوس القاضي أمام الناس وضع يحّط من وقار المنصب ،لذلك آثر أن يبني مقصورة في
الجامع يتوّلى فيها مباشرة مهاّمه .وبعد وفاته كان كّلما توّلى خّط ة القضاء قاض حنفي هدم المقصورة .فإذا توّلى قاض مالكي أعاد
بناءها .واستمّر األمر على هذا النحو طيلة القرن 3هـ9/م فقهاء موالون للسلطان معظمهم على مذهب أبي حنيفة ،وفقهاء مستقّلون
.عن السلطان ،معظمهم من المالكّية ،مع تمّيز القسم الثاني في القيمة العلمّية وفي ثقة الشعب بهم
دولة بني ُعبيد[عّدل]
استولى العبيدّيون على الحكم في إفريقية سنة 296هـ909/م .فكان تحوّال كبيرا في كّل نواحي الحياة السياسية والدينّية واالجتماعّية
والثقافّية .فانتصبت الشيعة بعلمها وعلمائها ،وتفكيرها وسلطانها ،تعمل على النفاذ إلى عقيدة السكان ،ومن ثمة إلى نشر تصّو ر جديد
.لألحكام يؤّث ر حتما في سلوكهم وينتهي بالوالء إلى اإلمام المعصوم في أعلى هرم السلطة
وقد وقف الفقهاء في مواجهة هذا الخطر الداهم وقفة حازمة فيها كثير من الشجاعة واإلخالص هّلل ،يثّبتون الناس على التمّسك بالسّنة.
فأبو يوسف جبّلة بن حمود بن عبد الرحمان كان مالزما للرباط .فلما دخلت الشيعة القيروان حّو ل سكناه إليها .ولّما سئل قال كّنا
نحرس عدّو ا بيننا وبينه البحر ،واآلن حّل العدو بساحتنا ،وهو أشّد علينا من ذلك وكذلك شيخ السنة أبو عبد هّللا محمد بن أبي زيد
وأبو الحسن القابسي .قال القاضي عياض في "المدارك" (" : )26 / 1وكان الظهور في دولة بني عبيد لمذهب الكوفّيين لموافقتهم
إّياهم في مسألة التفضيل ،فكان فيهم القضاء والرئاسة وتشّر ق (تشّيع) منهم قوم تقّمنا لمسراتهم واصطيادا لدنياهم .وأخرجوا
أضغانهم على المدنّيين .فجرت على المالكّية في تلك المّدة محن ،ولكّن هم مع ذلك كثير ،والعاّمة تقتدي بهم ،والناشئ فيهم ظاهر إلى
أن ضعفت دولة بني عبيد" .وقد كان من علماء الحنفّية أئمة على حّظ وافر من العلم والتقوى وعدم مصانعة السلطة كمحمد بن منيب
.األزدي
الدولة الصنهاجية[عّدل]
ولّما انتقل العبيدّيون إلى مصر سنة 361هـ971/م خلفوا على إفريقية يوسف بن زيري الصنهاجي .ولصنهاجة تعّلق بالتشّيع ووالء
لبني عبيد ،فاستمّر األمر على ما كان عليه إلى أن ولي المعّز بن باديس ،فقطع الدعاء للعبيدّيين وأعلن والءه لبني العّباس ،وحمل
الناس على مذهب مالك .وغير بعيد أن يكون قد قصد من قراره هذا كسب قلوب الشعب ليتقّو ى بهم على النجاح في مغامرته
.السياسّية .وثبت المذهب المالكي جامعا لسكان البالد موّح دا لهم طيلة القرون التالية إلى دخول األتراك
على أّن ابن خلدون سّو غ االلتزام بالمذهب المالكي في إفريقية وما بعدها بعامل التقارب بين البيئة الحجازّية والبيئة اإلفريقّية ،قال:
"فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب واألندلس ،ولم يكونوا يعانون الحضارة التي ألهل العراق .فكانوا إلى أهل الحجاز أميل
لمناسبة البداوة .ولهذا لم يزل المذهب المالكي غّضا عندهم ،ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب"
(المقدمة ص .)705إّن منهج ابن خلدون في تحكيم منطق الوجود والربط بين األسباب وما يتولد عنها جدير بالتقدير ،ذلك أّن
المذهب المالكي عرفت له مراكز ،وقد كان العراق أحدها .فبنو حّماد والقاضي إسماعيل ومن جاء بعده كانت لهم الرئاسة الفقهّية في
العراق .وولى قضاء بغداد فقهاء مالكّيون ،كما توّلوا قضاء الواليات .ثّم إّن ظّن ابن خلدون أّن أهل إفريقية واألندلس تغلب عليهم
البداوة ،ولم يكونوا يعانون الحضارة التي ألهل العراق كالم غير مسّلم به ،فللعراق باديته وما كان أهل العراق في المستوى
الحضاري الذي كان عليه أهل بغداد .والشاعر علي بن الجهم في مدحه للخليفة عندما قدم من البادية ثّم شعره بعد أّن رّققته حضارة
عاصمة الخالفة صورة من صور االختالف بينها وبين البادية .وما كانت األندلس والقيروان في القرون األولى التي ثبت فيها
.المذهب المالكي ،أقّل حّظ ا من العراق في التمّدن والتحّضر
والمذهب المالكي فضال عن ذلك كالمذهب الحنفي ،كالهما فقد تأثيره في بغداد في عهد الخليفة القادر باهّلل الذي عّز ز المذهب
الشافعي لتضّلعه من الفقه الشافعي وسلطانه .و"المدّو نة" ذاتها هي أسئلة على المنهج العراقي ،كتبت األسئلة في العراق وفازت
باألجوبة عن المشاكل المسؤول عنها بفقه حجازي .ولعّل انتشار المذهب يعود إلى السلطة السياسية التي تؤيده وتشّد من أزره أو
تعوقه وتقاومه ،ثّم إلى حال الذين يدعون إليه ويثبتونه ،فبمقدار ما لهم من سعة في المدارك وقدرة على التأثير واستقامة في السلوك،
.وثقة العامة بهم يّتسع أو يضيق عدد أتباعه ويقوى تأثيره أو يضعف
أثر فقهاء إفريقية في المذهب المالكي[عّدل]
كان فقهاء إفريقية إحدى الركائز التي يقوم عليها صرح الفقه المالكي بعد إمامه عبر التاريخ .فإذا اقتصرنا على الفقهاء الذين بقيت
آثارهم مدونة في كتبهم والتي كان لها من القّو ة ما جعلها من المراجع التي يوّث ق بها العلماء ما يثبتونه في تآليفهم ويجرون على
:طريقته ،فإّن نا نجد شخصّيات ّالمعة ،أبرزها
".اإلمام أبو سعيد عبد السالم سحنون عمدة المذهب المالكي بال منازع على ما حّر ره في "المدّو نة
الشيخ محمد بن أبي زيد ،فكتابه "الرسالة" عّم به النفع ،واهتّم معاصروه ومن جاء بعدهم مشرقا ومغربا بشرحه ،ونهج فيه منهجا
فريدا بعنايته بالطريقة العملية ،وبمزجه بين فقه الظاهر وفقه الباطن .كما أّن كتابه "النوادر والزيادات" هو مدّو نة الثروة الفقهية بعد
.تطّو رها
اإلمام أبو الحسن علي بن محمد الربعي المعروف باللخمي في "التبصرة" التي تقّد م صورة لشمول الشريعة .والمذهب المالكي يحّقق
هذا المبدأ ،إّما بما نّص عليه الفقهاء أو بالتخريج على أقوالهم ،وجمع النظائر المتشابهة في التصّو ر بما يترّتب على ذلك من وحدة
.األحكام
االمام أبو عبد هللا محمد المازري ،فشرحه على "التلقين" سلك فيه طريقة جديدة اعتمدت ربط الفروع باألصول والمقارنة بين
المذهب المالكي والمذاهب األخرى ،موّش حا فقهه بمقاصد الشريعة ،وبه تأّث ر ابن رشد في بداية المجتهد ،ثم انقطع السند ،النحالل
.العالم االسالمي بفقدان األمن وانتشار الفتن
اإلمام أبو عبد هللا محمد بن عرفة الورغمي الذي عمل على استقراء أقوال المذهب وجمعها في "مختصره" وعلى ضبط المفاهيم
.الفقهّية بتعريفات بلغت غاية الدّقة جمعا ومنعا وعليه عّو ل كّل من جاء بعده
اإلمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الذي تالفى تهّيب الفقهاء لالجتهاد بدعوته إلى االجتهاد الجماعي .وقد حّو ل األنظار إلى تحّتم
.االنتهاء بالفقه إلى قضايا يقينية تكون الحكم على المظنون من ناحية وتكون هادية للفقيه في مسار بحثه