Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 7

‫نيتشه‪ ،‬من الفيلولوجيا إلى الفلسفة‬

‫‪ ‬فئة ‪ :‬مقاالت‬

‫‪ ‬حجم الخط ‪+ 18 -‬‬ ‫سبتمبر ‪2015‬‬


‫للنشر‪:‬‬
‫بقلم فوزية ضيف اهلل‬ ‫‪02‬‬
‫قسم‪ :‬الفلسفة والعلوم اإلنسانية‬

‫نيتشه‪ ،‬من الفيلولوجيا إلى الفلسفة*‬

‫ولد فريدريك نيتشه في ‪ 15‬أكتوبر ‪ 1844‬بروكين‪ ،‬التابعة لوتزين بروسيا‪ ،‬وتوفّي في ‪ 25‬أوت ‪ .1900‬كان أبوه قّس ًا بروتستانتيًا‪ ،‬وقد سّم اه والده فريدريك ألّنه ولد‬

‫في اليوم نفسه الذي ولد فيه فريدريك الكبير ملك بروسيا (‪ ،)Prusse‬وكان أجداده ينتمون للكنيسة‪ ،‬وكان والده مربّيًا ألبناء األسرة الملكية‪ ،‬كان ُي لّقبه أصدقاؤه‬

‫بـ"القسيس الصغير" نظرًا لقدرته على تالوة اإلنجيل‪ .‬دخل نيتشه عالم الفلسفة عبر الفيلولوجيا كعالم في فقه اللغة (‪ ،)la philologie‬وقد مّكنته دراسته الجامعية‬

‫من تحصيل ثقافة كونية شاملة‪ .‬فكان اهتمامه األّو لي متعّلقًا بقراءة الكتب الفلسفية اليونانية القديمة‪ .‬فكان الفكر اإلغريقي القديم الرافد األساسي لكّل ما‬
‫سيقّد مه في التفكير الفلسفي‪ ،‬وهو الذي رأى من خالله انحطاط عصره‪.‬‬

‫‪ -1‬من هو نيتشه؟‬

‫ال يبدو أّنه من اليسير علينا أّن نجيب عن سؤال "من هو نيتشه؟"؛ ألّن هذا السؤال ال يبحث عن مقّد مة بيوغرافية تلّخص مراحل حياته وكتاباته وصوًال إلى تعّكر صّح ته‬

‫ووفاته‪ .‬إّن سؤال "من هو نيتشه؟" يخفي في طّياته دالالت أعمق من ذلك بكثير‪ ،‬وهو واحد من الفالسفة الذين ال يدّل اسمهم على مجّر د تراكم للنظريات أو إنتاج‬

‫للمذاهب الفلسفّية‪ .‬إّن نيتشه ال يمكن حصر فكره وفلسفته ضمن تراتبية نسقية تحيل على انتظام للمواقف واألفكار واألطروحات‪ ،‬ألّنه فيلسوف "الّالنسق" أصًال‪ .‬لذلك‬

‫فإّنه ال يمكننا تقديمه مثلما يقّد م عادة لسائر األعالم والشخصيات الفكرية‪ .‬فإذا تساءلنا من هو نيتشه؟ فإّن اإلجابة التي سنختارها هي أّنه "فيلسوف جاء في غير‬

‫أوانه"‪ ،‬وأّنه واحد من الذين "سيولدون بعد الممات"‪ ،‬لكون حياته كانت مزيجًا رديئًا وغير متجانس من األحداث‪ ،‬فتزامن مجيئه إلى هذه الحياة مع رداءة معاصريه‪ ،‬رغم‬

‫ضخامة المهّم ة الموكولة إليه والمتمثلة في تشخيص وضع الحضارة المريضة‪ ،‬يمكننا أن نسميه "طبيب الحضارة"‪ ،‬كما يحلو له أن يكّر ر دومًا‪" ،‬سابق ألوانه"‪ ،‬هو‬

‫"فيلسوف المطرقة"‪ ،‬هو "الفيلولوجي البارع"‪" ،‬الجينيالوجي"‪ ،‬صاحب "الكلمات األساسّية" التي أّر قت جميع من قرأها (إرادة االقتدار‪ ،‬العود األبدّي للهو هو‪ ،‬العدمية‪،‬‬

‫اإلنسان األرقى والعدل)‪ .‬ال يمكن التنّبه إلى من هو نيتشه ال من خالل "البيوغرافيا" (‪ )La biographie‬الخاّص ة به وال من خالل ما كتبه‪ ،‬ألّنه ال يمكن إحداث المقارنة بين‬

‫األمرين رغم تصريح نيتشه نفسه بالترابط الواضح بين حياته وأفكاره مثلما يدّل على ذلك روديجي سافرنسكي في كتابه "نيتشه‪ ،‬بيبليوغرافيا فكرة ما" (‪Nietzsche,‬‬
‫‪ .]1[)Biographie d’une pensée‬ولعّلنا لن نتمّكن من فهم حياة نيتشه وكذلك فكره دون أن نأخذ بعين االعتبار ما كان يرّد ده دومًا "أنا شيء وكتاباتي شيء آخر"‬

‫[‪.]2‬‬

‫لقد عمد نيتشه إلى الكتابة وفق "الشذرات" انطالقًا من كتابه إنسانّي مفرط في إنسانّيته‪ ،‬الذي يعتبر نقطة تحّو ل في فلسفته‪ ،‬وهو النّص الذي يؤّر خ عادة لما‬

‫يسمّيه شارحوه "المرحلة الثانية" من فلسفته‪ .‬لذلك يشهد الكّل بطرافة أسلوبه في الكتابة وغرابة بناء نّص ه‪ .‬لكأّنه يرغب في اختراق ما دأب عليه الفالسفة من سنن‬

‫في الكتابة الفلسفية‪ .‬فكانت قراءته مستعصية نظرًا لتعّس ر فهم ما يعنيه حينًا واحتجاب مقاصده حينًا آخر‪ .‬إذ تمتنع "كلماته" عن الفهم‪ ،‬عندما كانت معانيها‬

‫متناثرة هنا وهناك بين شذرة وأخرى‪ .‬وقد تتعّد د األفهام بتعّد د المنظورات واختالف زوايا النظر‪ .‬فقد تواترت القراءات لألثر النيتشوّي منذ ما يناهز نصف قرن فتداخلت‬

‫وتضاربت‪ ،‬فصار تعّد د التأويالت هو اآلخر عائقًا أمام فهم فلسفته‪ .‬لقد حّفز األثر النيتشوي العديد من القراءات طيلة القرن العشرين ومازال مؤّثرًا في قّر ائه إلى‬

‫اليوم‪ .‬لكن هذه القراءات التي تعّد دت وتواترت‪ ،‬كان بعضها موّجهًا لغايات إيديولوجية وسياسّية‪ ،‬على غرار قراءة بومالر نفسه‪ .‬وكان بعضها اآلخر من القّر اء‬

‫المنتمين إلى "اليمين الجديد" (‪ Karl Bindung‬و‪ )Alfred Hoch‬مساهمين في تحقيق هذه الغايات من جهة رّد هم "إرادة االقتدار" إلى النزعة البيولوجّية‪ ،‬وتأكيدهم‬

‫على أّنها تشّر ع النتقاء العناصر ومنع الضعفاء والمرضى من التناسل والتكاثر‪ .‬فصارت فلسفة نيتشه ‪ -‬التي قامت بقراءة الحضارة قراءة جينيالوجّية‪ -‬موّظفة لتبرير‬

‫قيام األنظمة النازّية‪.‬‬

‫‪ -2‬نيتشه‪ ،‬مشكل أثر‪:‬‬


‫يبدو أّن المشكل األكبر الذي يعترض القارئ لنيتشه هو األثر النيتشوي نفسه‪ :‬بمعنى هل تكمن فلسفة نيتشه األصيلة في جملة اآلثار التي نشرها بنفسه أو في ما‬

‫خّلفه دون نشره (‪]3[)Nachlass‬؟‬

‫ثّم ة موقف أّو ل يصّر ح أّن المعطى النيتشوي األصيل يكمن في آثاره المنشورة بعد مماته (‪ ،)Nachlass‬هذا الموقف يمّثله كثيرون من بينهم ويرزباخ[‪]4‬‬

‫(‪ )F.Würzbach‬وهيدغر (‪ .)1976-1889‬إذ يعّد هيدغر كّل ما نشره الفيلسوف بنفسه "خارجًا عن األثر" (‪.]5[)Vordergrund‬‬

‫أّم ا الموقف الثاني الذي يمّثله كّل من كارل شليشته (‪ )Schlechta‬وسارة كوفمان (‪ )S.Kofmann‬فيتحّد د في أّن المعطى النيتشوي الحّق كامن ضمن اآلثار التي أعّد ها‬

‫نيتشه ونشرها بنفسه‪ :‬يصّر ح شليشته ضمن كتابه (‪ )Der Fall Nietzsche‬الذي صدر سنة (‪ )1958‬أّنه يشرع في قراءة نيتشه انطالقًا من إنسانّي مفرط في إنسانّيته‪،‬‬

‫فال يعترف إّال بالنصوص المنشورة في الفترة الممتّد ة من ‪ 1878‬إلى ‪.1889‬‬

‫أّم ا الموقف الثالث فهو الذي يعتبر فلسفة نيتشه الحقيقّية كامنة في الرسائل الكاملة (‪ ،)Sämtliche Briefe‬ويتبّناه كورت بول يانز (‪ )Curt Paul Janz‬ناشر آثار‬

‫نيتشه الموسيقّية‪ .‬أّم ا كارل يسبرس فيؤّكد على ضرورة قراءة األثر النيتشوي ككّل ‪ ،‬ذلك أّن "كلماته" ال يمكن أن تكون معزولة عن باقي ما كتب‪ ،‬بل من الممكن أن‬

‫يتجّلى ما هو "أساسّي " في فكره ضمن ما نعتقد أّنه هامشّي وعرضّي [‪ .]6‬كما يلّح على ضرورة تناول األثر النيتشوي بكّل جدّية وأّن اإلمساك بالفهم ال يكون رهين‬

‫التفّطن إلى "األثر األساسّي " لديه‪ .‬ذلك أّنه ال وجود ألثر ينفرد بنفسه ويتمّيز على حساب اآلثار ككّل ‪ .‬كما ال يرى في تضارب التأويالت عائقًا أو أمرًا عقيمًا‪ ،‬بل يعتبره‬

‫محّفزًا لفهم أكثر دّق ة لنيتشه‪.‬‬

‫تجدر اإلشارة إلى أّن شليشته نشر آثار نيتشه في ثالثة مجّلدات وذلك طيلة السنوات ‪ 1956-1955-1954‬عند الناشر كارل هنسر فرالغ (‪ )Carl Hanser Verlag‬بميونيخ‪،‬‬

‫وهذا الناشر هو الذي شّجعه على ما عزم عليه[‪ .]7‬كما توجد نشرات أخرى مختلفة لآلثار الكاملة لنيتشه‪ ،‬حيث تعتبر النشرة األلمانية التي أعّد ها كّل من جيورجيو‬

‫كولي ومازينو منتيناري‪ ،‬النشرة األكثر جّد ة‪ ،‬األشهر والمعتمدة أكثر‪ .‬لقد شرع هذان الناشران بنشر الترجمة اإليطالية آلثار نيتشه منذ سنة ‪ ،1964‬وأعيدت ترجمتها‬

‫فيما بعد في اللغة الفرنسّية وفي اللغات األخرى‪ .‬وقد قام كّل من جيورجيو كولي ومازينو منتيناري ‪-‬المسؤوالن عن النشرات األربع‪ -‬بتبويب مخطوطات نيتشه وفق‬

‫نظام تتابعها الزمنّي ‪ .‬في حين قامت نشرة غروس‪-‬أوكتاف‪-‬أوسغاب (‪ )Gross-Oktav-Ausgabe‬بنشرها استنادًا إلى نظام تواتر المواضيع‪ .‬لقد تّم نشر الطبعة‬

‫األلمانّية عند دي غريتر (‪ )W. de Gruyter‬سنة ‪ ،1967‬أّم ا الطبعة االيطالّية فنشرت عند أدلفي (‪ )Adelphi‬سنة ‪ .1975‬كما نشرت الطبعة الفرنسّية عند غاليمار‬

‫(‪ )Gallimard‬سنة ‪ 1978‬تحت مسؤولّية جيل دلوز وموريس دي غوندياك (‪.]8[)Maurice de Gondillac‬‬

‫تتضّم ن النشرة التي أعّد ها جيورجيو كولي ومازينو منتيناري أربعة عشر مجّلدًا‪ :‬احتوى المجّلد األّو ل "والدة التراجيديا" والشذرات المتخّلفة الممتّد ة من ‪ 1869‬إلى‬

‫‪ 1872‬والكتابات المتخّلفة التي تعود إلى الفترة الممتّد ة من ‪ .1873-1870‬المجّلد الثاني‪" :‬اعتبارات الزمنّية ‪1‬و‪" ،"2‬اعتبارات الزمنّية ‪ 3‬و‪ ،"4‬الشذرات المتخّلفة التي‬

‫تعود إلى السنوات الممتّد ة من ‪ 1874‬إلى ‪ .1876‬وتضّم ن المجّلد الثالث "إنسانّي ‪ ،‬مفرط في إنسانّيته" والشذرات المتخّلفة التي تعود إلى الفترة الممتّد ة من ‪1876‬‬

‫إلى ‪ 1879‬في جزأين‪ .‬خّص ص المجّلد الرابع لـ "فجر" والشذرات المتخّلفة التي تمتّد من ‪ 1879‬إلى ‪ ،1881‬المجّلد الخامس لـ"المعرفة المرحة" والشذرات المتخّلفة من‬

‫‪ 1881‬إلى ‪ ،1882‬المجّلد السادس لـ"هكذا تحّد ث زرادشت"‪ ،‬المجّلد السابع لـ"ما أبعد عن الخير والشّر " و"جينيالوجيا األخالق"‪ ،‬المجّلد الثامن لـ"حالة فاغنار" و"أفول‬

‫األصنام" و"ضّد المسيح" و"هذا هو اإلنسان" و"نيتشه ضّد فاغنار"‪ .‬وقد خّص صت المجّلدات المتبّقية لجملة من القصائد والشذرات المتخّلفة من ‪1882‬إلى ‪.1889‬‬

‫هل كان األثر النيتشوي عرضة للتحريف؟‬

‫خّص ص مازينو مونتيناري الفصل األّو ل من كتابه (‪( la volonté de puissance n’existe pas‬للتحّد ث عن الحال التي كانت عليها النشرة الكاملة ألعمال نيتشه قبل صدور‬

‫نشرة شليشته‪ .‬لقد شرعت أخت الفيلسوف إليزاباث فورستار‪-‬نيتشه في تأسيس أرشيف‪-‬نيتشه (‪ )Nietzsche-Archiv‬منذ ‪ 1894‬الذي نقلته فيما بعد إلى أرشيف‪-‬فايمار‬

‫(‪ .)Weimer-Archiv‬لذلك كان صدور نشرة غروس‪-‬أوكتاف‪-‬أوسغاب (‪ )Gross-Oktav-Ausgabe‬ما بين ‪ 1894‬و‪ -1926‬لدى نومان (‪ )G. Naumann‬أّو ًال ثّم لدى كرونار‬

‫(‪ -)Kröner‬محّص لة نشاطات األرشيف المخّص ص لنيتشه‪ .‬احتوت هذه النشرة ثالثة أقسام‪ :‬خّص ص القسم األّو ل لآلثار التي نشرها نيتشه بنفسه وضّم ثمانية أجزاء‪.‬‬

‫وتكّفل القسم الثاني بنشر اآلثار المتخّلفة (‪ )Nachlass‬وضّم تسعة أجزاء‪ ،‬ونشر ما بين ‪ 1901‬و‪ .1911‬أّم ا القسم الثالث فيتكّو ن من األجزاء المتبقية ويتضّم ن نصوص‬

‫نيتشه الفلسفّية‪ .‬يؤّكد مازينو منتيناري أّن هذه النشرة كانت األساس الذي عّو لت عليه سائر النشرات الّالحقة عليها‪ .‬لقد كان مازينو مونتيناري وكولي جيورجيو‬

‫يفّكران منذ ‪ 1933‬في إعداد نشرة جديدة تضّم أعمال نيتشه الكاملة‪ ،‬غير أّن أخت الفيلسوف حالت دون ذلك‪ .‬وفي أفريل ‪ 1961‬اطّلع مونتيناري على مخطوطات‬

‫نيتشه ضمن أرشيف‪ -‬فايمار‪ ،‬واستعّد بالتعاون مع أستاذه جيورجيو كولي في التفكير لنشر أعمال نيتشه الكاملة في نشرة نقدّية‪ ،‬فنشرا المجّلدات األولى في طبعة‬

‫إيطالّية سنة ‪ .1964‬ثّم تلّقت دار النشر األلمانّية فالتر دي غروتار (‪ )Walter de Gruyter‬حقوق نشر هذه األعمال في لغتها األصلّية‪ ،‬وتلتها غاليمار (‪)Gallimard‬‬

‫الفرنسّية وأدلفي (‪ )Adelphi‬اإليطالّية‪ .‬لقد أخذت النشرة األلمانّية في الظهور منذ ‪ 1967‬واستمّر ت طيلة اثني عشر عامًا‪ ،‬واحتوت ثالثة وثالثين مجّلدًا مقّس مة على‬

‫ثمانية أقسام‪ .‬لقد أصبحت "آثار نيتشه المتخّلفة" (من ‪ 1869‬إلى ‪ )1889‬في المتناول بفضل هذه النشرة النقدّية الجديدة‪ ،‬وتضّم نت ما يقارب ‪ 5000‬صفحة مقارنة‬

‫بنشرة غروس‪-‬أوكتاف‪-‬أوسغاب التي لم تتضّم ن سوى ‪ 3500‬صفحة[‪.]9‬‬

‫تواتر نشرات أخرى‪:‬‬

‫صدرت "أعمال نيتشه الكاملة ضمن نشرات ألمانية أخرى‪ :‬نشرة ج‪ .‬نومان فرالغ (‪ )G. Naumann Verlag‬سنة ‪ 1909‬واحتوت على عشرين مجّلدًا نشرة هانس يوياخيم‬

‫مات (‪ )Hans Joachim Mette‬من ‪ 1933‬إلى ‪ 1940‬وتضّم نت سبعة مجّلدات)‪ ،‬نشرة ويليام هوب (‪ )Wilhem Hoppe‬وكارل شليشته (‪ )Karl Schlechta‬الّص ادرة سنة‬

‫‪ 1938‬والتي تضّم نت أعمال نيتشه وكذلك رسائله من ‪ 1850‬إلى ‪ 1865‬واحتوت مجّلدًا منفردًا)‪ .‬كما أعّد كارل شليشته بمفرده نشرة ألعمال نيتشه الكاملة تضّم نت‬

‫ثالثة مجّلدات وصدرت سنة ‪ ،1956‬نشرات ألفراد كرونر فرالغ (‪ :)A. Kröner Verlag‬صدرت األولى سنتي ‪ 1939-1938‬في مجّلدين وصدرت الثانية سنة ‪ 1964‬متضّم نة‬

‫أثر إرادة االقتدار‪ ،‬وصدرت النشرة الثالثة لكرونر فرالغ سنة ‪ 1965‬متضّم نة اثني عشر مجّلدًا‪ ،‬وصدرت النشرة الثالثة لكرونر فرالغ سنة ‪ 1978‬متضّم نة مجّلدين اثنين)‪ ،‬ثّم‬
‫نشرة هانسر فرالغ (‪ )Hanser Verlag‬وإيفو فرنزال (‪ )Ivo Frenzel‬التي صدرت في مجّلدين‪.‬‬
‫تعدد الترجمات الفرنسية لألثر النيتشوي‪:‬‬

‫توجد عّد ة ترجمات فرنسّية ألعمال نيتشه الكاملة‪ ،‬منها النشرة التي قام بها هنري ألبار (‪ )Henri Albert‬ونشرت لدى مركور دي فرانس[‪ ،]10‬إلى جانب نشرة كولي‬

‫ومونتيناري التي عمد إلى ترجمتها مجموعة من المفّكرين[‪ ،]11‬على مسؤولّية جيل دلوز وموريس دي غندياك‪ .‬كما أعاد مارك دي لوناي (‪ )Marc de Launay‬ترجمة‬

‫األعمال الكاملة لنيتشه انطالقًا من نشرة كولي ومنتيناري ونشرت لدى غاليمار سنة ‪ .2000‬كما ترجمت أعمال نيتشه إلى اإلنجليزّية ضمن نشرة ألكسندر تايل واحتوت‬

‫هذه الترجمة أحد عشر مجّلدًا[‪ ،]12‬وترجمت كذلك إلى اإليطالّية لدى أدلفي (‪ )Adelphi‬سنة‪.1975‬‬

‫قائمة آثار نيتشه (‪:)1900-1844‬‬

‫‪ -‬والدة التراجيديا (‪،)1872‬‬

‫‪ -‬اعتبارات على غير أوانها ‪ ،I‬دافيد ستورس‪،)1873( ،‬‬

‫‪ -‬اعتبارات على غير أوانها ‪ ،II‬في منفعة ومضاّر الّد راسات التاريخية على الحياة‪III ،‬شوبنهاور المعّلم (‪،)1874‬‬

‫‪ -‬اعتبارات على غير أوانها ‪ ،IV‬ريتشارد فاغنار لدى بيروث‪،)1876( ،‬‬

‫‪ -‬إنسانّي مفرط في إنسانّيته‪ ،‬القسم األّو ل‪،)1878( ،‬‬

‫‪ -‬إنسانّي مفرط في إنسانيته‪ ،‬القسم الثاني‪،)1879( ،‬‬

‫‪ -‬المسافر وظّله‪)1880( ،‬‬

‫‪ -‬فجر‪،)1881( ،‬‬

‫‪ -‬العلم الجذل‪،IV-I، (1882) ،‬‬

‫‪ -‬هكذا تكّلم زرادشت‪،1883 ،)II-I( ،‬‬

‫‪ -‬هكذا تكّلم زرادشت‪،III (1884)، (1892) IV ،‬‬

‫‪ -‬فيما أبعد من الخير والشّر (‪،)1886‬‬

‫‪ -‬في جينيالوجيا األخالق‪ ،‬العلم الجذل )‪،V، (1887‬‬

‫‪ -‬حالة فاغنار‪ ،‬آخر أثر أشرف نيتشه على نشره بنفسه‪،)1888( ،‬‬

‫‪ -‬اآلثار المنشورة بعد مرض نيتشه‪ :‬أفول األصنام (‪ ،)1889‬ضّد المسيح (‪ ،)1894‬نيتشه ضّد فاغنار (‪ ،)1894‬هذا هو اإلنسان (‪.)1908‬‬

‫يرتب الشارحون لنيتشه آثاره وفق ثالث فترات متمّيزة‪ ،‬ويمكن أن نذكر هنا التقسيم الثالثي الذي وضعه شارل أندالر (‪:)Charles Andler‬‬

‫الفترة األولى‪ :‬تتضّم ن والدة التراجيديا واعتبارات على غير أوانها‪ ،‬ويسمّيها "التشاؤمّية االستيتيقية" (‪ ،)le pessimisme esthétique‬نظرًا لتأثر نيتشه خالل هذه الفترة‬
‫بتشاؤمّية معّلمه أرثور شوبنهاور‪.‬‬

‫الفترة الثانية‪ :‬تتضّم ن‪ :‬إنساني مفرط في إنسانّيته‪ ،‬فجر والعلم الجذل‪ ،‬ويسمّيها أندالر "التحّو لية العقالنّية" (‪.)le transformisme intellectualiste‬‬

‫الفترة الثالثة‪ :‬ويسمّيها "الفلسفة األخيرة" (‪ )la dernière philosophie‬وتتضّم ن جملة اآلثار المتبقية بدءًا بـ هكذا تكّلم زرادشت‪.‬‬

‫‪ -3‬البدايات الفيلولوجّية لنيتشه‪:‬‬

‫قدم نيتشه إلى جامعة بون (‪ )Bonn‬في أكتوبر ‪ 1869‬وسّجل فيها لدراسة علم الثيولوجيا‪ ،‬لكّنه واصل في تلك األثناء متابعة دروس الفيلولوجيا الكالسيكّية‪ .‬لذلك‬

‫اكتشف النقد الذي يمكن أن يتعّلق بعلم الثيولوجيا في حّد ذاتها‪ ،‬ليجعل من الفيلولوجيا مؤدية إلى خوض ممارسة نقدية للثيولوجيا‪ .‬كما تعّلم المناهج الضرورّية‬

‫لهذا العلم بإشراف األستاذ المختّص في الفيلولوجيا الكالسيكّية فريديريك ويلهام ريتشال (‪ .)Ritschel Friedrich wilhem, 1876-1806‬وعندما كان نيتشه عازمًا‬
‫على التسجيل في جامعة ليبتسيش (‪ )Leipzig‬للتقّر ب من أحد أصدقاء بفورتا (‪ - )Pforta‬وهو كال فون غيسدورف الذي كان يشرف عليه في الفترة نفسها التي سّم ي‬
‫فيها ريتشال أستاذًا بها‪ -‬لم يعد ثّم ة لدى نيتشه حديث عن المسألة الثيولوجّية أصًال‪.‬‬

‫لقد كان نيتشه بالغ االهتمام بعلم الفيلولوجيا خالل فترة دراسته لها بجامعة ليبسيش‪ ،‬بل كان مبدعًا‪ ،‬منتجًا‪ ،‬فأنجز سنة ‪ 1866‬بحثًا تحت إشراف أستاذه ريتشال اهتّم‬
‫فيه بثيوغنيس (‪ )Théognis‬ونجح في نشره سنة ‪ 1867‬ضمن "‪ ."Rheinisches Museun für Philologie‬كما التزم نيتشه بتشجيع من أستاذه ريتشال بالبحث في‬

‫األصول األولى لكتابات ديوجين الاليرسي‪ ،‬وكان هذا البحث النيتشوي موضوع دراسة الفيلسوف الفرنسي ")‪ ،Victor-Emile Egger" (1848-1907‬صاحب كتاب الريبيون‬
‫اإلغريق (‪ )Les sceptiques grecs‬المنشور سنة ‪.1887‬‬

‫عمل نيتشه ما بين ‪ 1868-1866‬على االهتمام بالبحوث حول ديمقريطس لتعميق دروسه في علم الفيلولوجيا في جامعة بازل‪ .‬حيث اكتشف في الفيلولوجيا الدّق ة‬
‫والجدّية والتأنّي ‪ ،‬لكّنه على خالف أستاذه ريتشال كان يؤّكد أّن البيداغوجيا والفلسفة عليهما أن يتعاونا مع الثقافة الفيلولوجية في حّد ذاتها‪ ،‬حّتى تصبح‬

‫الفيلولوجيا منهجًا لقراءة النصوص بدّق ة وتأٍّن ‪ ،‬وهو ما جعله متحّفزًا للقراءة النقدية وللقراءة الهرمينوطيقية للتأّكد من أصالة النصوص عاّم ة وتطبيقها على‬
‫النصوص القديمة خاّص ة‪ .‬لذلك شرع في قراءتها لفهمها وتأويلها انطالقًا من ترّس خها في الفيلولوجيا نفسها‪.‬‬

‫تتحّد د الفيلولوجيا ضمن تعريف أّو لي إذًا على أّنها منهج دقيق لقراءة النصوص‪ ،‬معاينة أصالتها‪ ،‬وفهمها فهمًا أصيًال‪ ،‬وهو ما يجعل السياق الفيلولوجي مناسبًا‬
‫لنشأة "السياق التأويلي"‪ .‬والفيلولوجيا هي فّن القراءة البطيئة‪ ،‬التي تستدعي الحذر الشديد في تعاملها مع التأويالت أو النصوص‪ .‬تتوّق ف القيمة في فقه اللغة عن‬
‫كونها مجّر د معيار للحقيقة وتصبح التأويالت موضعًا الكتشاف حقيقة أخرى نابعة من فضح العالمات التي لم تعد بريئة‪ .‬يقرأ الفيلولوجي الكلمات‪ ،‬في حين أّننا نقرأ‬

‫األفكار‪ ،‬فالفيلولوجيا هي "كشف شفرات الوقائع دون خلطها بتأويالت ما (إيريك بلوندال‪ ،‬نيتشه الجسد والحضارة‪ ،‬ص‪.]13[")141.‬‬

‫يتجّلى المنحى التأويلي في حديث نيتشه عن الفيلولوجيا منذ بداياته الفيلولوجية من خالل اهتمامه بالبحث عن المعنى واألصالة داخل النصوص القديمة (اإللياذة‬

‫واألوديسة مثًال)‪ ،‬للتمييز الّد قيق بين المفاهيم المتداخلة في دراسة الفقه الكالسيكّي ‪ .‬ولذلك كان شديد الحرص على التأّكد من أّن الهرمينوطيقا لصيقة بالبحث‬
‫الفيلولوجي‪ .‬كما يشّد د على ضرورة ربط الهرمينوطيقا بالنقد‪ ،‬وعّبر عن التفاعل الحاصل ضرورة بينهما في قوله‪" :‬النقد يهّم النقل‪ ،‬والتأويلية تهّم المنقول"[‪.]14‬‬

‫ويبدو جلّيًا من خالل هذا القول أّنه ينبغي على الفيلولوجي أن ينخرط في النقد والهرمينوطيقا على حّد ّس واء‪ ،‬وهذا األمر ال يراه نيتشه مسألة منهج فحسب بل‬
‫مسألة التزام إيتيقي[‪ .]15‬ترتبط الفيلولوجيا بالفلسفة‪ ،‬لذلك يستشهد نيتشه بقولة لسيناك (‪" :)Sénèque‬حيثما ثّم ة فيلولوجيا‪ ،‬فثّم ة فلسفة"[‪ ،]16‬ألّن "كّل نشاط‬

‫فيلولوجي يجب أن يكون موّجهًا ومؤّطرًا ضمن تصّو ر فلسفّي للعالم"[‪ .]17‬لذلك يدخل نيتشه عالم الفلسفة بعد أن أرسى أسسه الفيلولوجية‪.‬‬

‫‪ -4‬من الفيلولوجيا إلى الفلسفة‪:‬‬

‫والدة التراجيديا‪:‬‬

‫لقد اجتمعت في فلسفة "مولد التراجيديا" المرجعّية الفنّية نظرًا لعشق نيتشه لـ فاغنار الذي كان يعتبره قيمة ثقافّية متمّيزة‪ ،‬ومرجعّية أدبّية نظرًا لعشقه‬
‫لـهولدرلين‪ ،‬إلى جانب مرجعية أخرى فلسفّية من خالل استناده على كّل من شوبنهاور وكانط‪ .‬لذلك لم يتحّد ث نيتشه عن التراجيديا اليونانّية بلغة أرسطية أو بلغة‬

‫تاريخية‪ ،‬لكّنه تحّد ث عنها بلغة فنّية انطالقًا من تعّلقه وعشقه للموسيقى الفاغنارية خاّص ة‪ ،‬لذلك كان عنوان هذا األثر الذي دخل به نيتشه إلى الفلسفة "والدة‬
‫التراجيديا من خالل روح الموسيقى"‪ .‬يرى نيتشه أّن هذا األثر هو "غير مالئم للعصر"‪ ،‬وأّن ما هو جديد فيه هو أمران حاسمان‪ :‬األمر األّو ل هو سعيه إلى فهم "ظاهرة‬

‫ديونيزوس" لدى اإلغريق‪ ،‬وهي الظاهرة التي اكتشف ألّو ل مّر ة أّنها ظاهرة "نفسية" أساسًا‪ ،‬فجعلها منبتًا أصلّيًا ومولدًا للفّن اإلغريقي عاّم ة‪ .‬أّم ا األمر الثاني فهو‬
‫"ظاهرة سقراط" في حّد ذاته الذي يظهر ألّو ل مّر ة في صورة المنحّط ‪ ،‬بل نموذجًا لالنحطاط والتفّكك االغريقي‪ ،‬ذلك أّن العقل السقراطي يظهر مناقضًا للغريزة‬

‫وللفّن وللحياة‪ ،‬فهو رمز انحطاط الحياة من الّد اخل‪ .‬يكشف هذا األثر عن نشأة التراجيديا من روح الموسيقى‪ ،‬وانطالقًا من الّص راع بين ظاهرتين فنّيتين هما أبولون‬
‫وديونيزوس‪ ،‬فيرمز األّو ل إلى "الحلم" والثاني إلى "النشوة"‪ .‬لقد أقدم نيتشه من خالل هذه الثنائّية على إحداث قلب جذرّي لألنساق الفلسفية جاعًال دخوله للفلسفة‬

‫بعد اهتمامه بالفيلولوجيا منصّبًا على الظاهرة الفنّية بامتياز ومرّكزًا على انتعاش القيم الجمالية اإلستيتيقية التي تجد إثباتها األقصى في التوّحد بين إله الحلم وإله‬

‫النشوة‪ ،‬تجاوزًا للفردانية ومعانقة للزمن األبدّي الذي يتجّلى في العودة إلى األصل‪ .‬فالتراجيديا في هذا السياق هي الّد ليل القاطع على أّن اإلغريق لم يكونوا يومًا‬
‫متشائمين‪ ،‬بل كانت حيلة في االنتصار على التشاؤم‪ ،‬وهاهنا يحيل نيتشه إلى خطأ شوبنهاور في تأويله للتراجيديا وفي جعله للحياة مناقضة للغريزة[‪.]18‬‬

‫ُتعّد التراجيديا عند نيتشه مقاومة للموت‪ ،‬عشقًا للحياة‪ ،‬معانقة للمتعالي وممارسة للّذة لحظة األلم‪ .‬نقرأ في مولد التراجيديا ازدواجّية في اللغة مقترنة بازدواجية‬

‫في الرؤية نفسها‪ .‬فيتحدث نيتشه عن التراجيديا اليونانية وعن العصر الهيليني في لغة تجمع بين الشاعرية والرمزية‪ .‬أّم ا فيما يخّص ازدواجية الرؤية فتظهر فيما‬
‫سّم اه نيتشه "الروح العلمّية" و"الروح الديونيزوسية"‪ .‬يعّر ف نيتشه "الروح العلمّية" على أّنها اعتقاد ظهر أّيام سقراط وأّنه معرفة الطبيعة وحقائقها‪ .‬وتتلّخص هذه‬

‫"الروح العلمية" أساسًا في المعرفة الحقيقية‪ ،‬الفضيلة وسقراط نفسه من جهة إحالته على المبادئ السقراطية الثالثة والمتمثلة في‪ :‬الفضيلة معرفة‪ ،‬ال نذنب إال عن‬
‫جهل‪ ،‬اإلنسان الفاضل سعيد‪.‬‬

‫لقد حكمت هذه الروح العلمّية على التراجيديا باالحتضار والموت لكونها تزدري الفّن والشعر وتنفي الغريزة والجسد‪ .‬لذلك تقوم "الروح الديونيزوسية" على أنقاض‬

‫هذا التصّو ر السقراطي للحياة‪ ،‬فيفسح نيتشه المجال للغريزة والفّن والمسرح والموسيقى‪ .‬ففي الموسيقى يعود ديونيزوس بعد اختفاء طويل معّبرًا عن اإلرادة‬
‫الكونّية‪ ،‬وهو أمر ال يتحّقق إّال بالموسيقى لكونها تعطي لألسطورة معنى ميتافيزيقا أكثر نفاذًا وإقناعًا‪.‬‬

‫تتخّلص التراجيديا من الواقع اليومّي والعالم الخارجي بفضل األسطورة والموسيقى‪ ،‬فبالموسيقى يتحّر ر الجسد وباألسطورة نعانق الزمن األصلّي ‪ .‬فاألسطورة هي‬

‫قّص ة فعل اآللهة في بداية الزمن‪ ،‬فإذا كان الزمن األولي متعّلقًا بالزمن األبدّي المقّد س‪ ،‬فإّنه من شأن العودة إلى عمق الماضي أن تنسينا كّل شيء‪ ،‬كّل ألم وكّل‬
‫قلق‪ .‬وإن كان أكبر ألم لدى اإلنسان هو الموت‪ ،‬فإّن التراجيديا تكون في عمقها للموت نفسه واالنصهار في الزمن األبدّي ‪.‬‬

‫نيتشه ومسألة الحضارة‪:‬‬

‫أّية عالقة بين الفكر النيتشوي ومسألة الحضارة؟ وهل أّن نقده لها هو نقد من جهة التقويم أم من جهة الهدم والتقويض؟‬

‫إذا كان نيتشه قد سّم ى نفسه "طبيبًا للحضارة" فذلك من جهة تشخيص األمراض التي ألحقت الفساد بالحضارة‪ ،‬بدءًا بسقراط نفسه الذي يعتبره مسؤوًال عن انحطاط‬
‫الحضارة اليونانّية وانحطاط الفكر الفلسفي عاّم ة‪ ،‬وذلك من جهة اهتمامه بالعقل والفضيلة على حساب الحياة ومتطّلباتها اإلستيتيقية‪ ،‬لذلك اعتبر التراجيديا‬

‫اإلغريقية من جهة قيامها على المأساة انحطاطًا للفّن وللفكر والحضارة‪.‬‬

‫إّن التقّد م العلمي والتكنولوجيا هما من أهّم الّد عائم التي قامت عليهما الحداثة‪ ،‬لذلك انتقدها نيتشه نقدًا الذعًا في كتابه فيما أبعد من الخير والشّر ‪ ،‬وهو الكتاب‬
‫الذي ُي عّد في جوهره نقدًا للحداثة وللعلوم الطبيعية والفنون الحديثة التي يزعم بعضهم أّنها جلبت السعادة والّر خاء والقّو ة إلنسان أوروبا‪ .‬يتعّجب نيتشه من‬

‫اعتقاد البعض أّن غاية العلم هي السعادة ودفع الضرر واأللم في حين أّن أسمى غايات العلم أن يجلب لإلنسان أكبر قدر من اللّذة ويجّنبه أقّل قدر من األلم‪ .‬فكيف‬
‫سيتمّكن العلم من ذلك إن كان يعتبر اللذة واأللم عقدة واحدة وأمرًا واحدًا‪ ،‬فمن يريد أن يبلغ قدرًا أكبر من اللذة عليه أن يعاني القدر نفسه من األلم؟‬

‫تقودنا وسائل التقّد م الحضاري إلى التفّكك واالنحطاط لذلك ينظر نيتشه إلى الحداثة نظرة قاتمة ألّن كّل القيم التي أنتجتها هي قيم انحطاط سواء كانت علمية أو‬
‫تقودنا وسائل التقّدم الحضاري إلى التفّكك واالنحطاط‪ ،‬لذلك ينظر نيتشه إلى الحداثة نظرة قاتمة‪ ،‬ألّن كّل القيم التي أنتجتها هي قيم انحطاط سواء كانت علمية أو‬
‫أخالقّية‪.‬‬

‫يتصّو ر نيتشه قيام الحضارة في غياب ذاكرة تاريخية‪ ،‬رغم أّن اإلسراف في التاريخ يمكن أن يؤدي إلى بروز شعور بوالدة موغلة في التأّخر‪ ،‬وكذلك بانحطاط الحضارة‬
‫نفسها‪ .‬فمرض التاريخانية يهّد د الحياة الحاضرة كما يهّد د أيضًا الحياة المستقبلية‪ .‬يجب إذن أن نفهم التاريخ فهمًا غير تاريخي حتى نستبشر بالمستقبل‪ ،‬إذ "تقتضي‬

‫الحياة أن نجعل الحاضر مماهيًا للماضي‪ ،‬بحيث أّن عنفًا ما‪ ،‬تحويرًا ما يصبح مرتبطًا دومًا بالفهم" (الشذرة ‪ 29‬من الشذرات المتخلفة‪ ،‬خريف شتاء ‪ .)1873‬يقترح نيتشه‬
‫أّن ما كان ممكنًا في الماضي يمكن أن يظّل ممكنًا في المستقبل‪ ،‬كما اعتقد الفيثاغوريون أّن عودة القرائن السماوّية نفسها إلى الظهور ينتج عنها المعاودة‬

‫الدقيقة لألحداث نفسها[‪.]19‬‬

‫فلسفة إرادة االقتدار‪ :‬التأويل والتقويم‪.‬‬

‫تكمن مهّم ة إرادة االقتدر في التقويم األخالقي (‪ )évaluation‬وفي التأويل (‪" .)interprétation‬إّن إرادة االقتدار هي التي ُتؤّو ل وُتقّو م‪ .‬فإن كان التأويل هو تحديد‬

‫االقتدار الذي يعطي معنى للشيء‪ ،‬فإّن التقويم هو تحديد إلرادة االقتدار من جهة ما تعطيه للشيء من قيمة‪ ،‬وهكذا ُتشتّق قيمة القيم وداللة المعنى من إرادة‬
‫االقتدار نفسها"[‪ .]20‬فأن تكون إرادة االقتدار تقويمًا هو أن تكشف عن قيم "الخير والشّر " فتبحث في جينيالوجيا األخالق وتنظر في تكّو ن مفاهيم وتقويمات‬

‫أخالقية مثل "الحسن والقبيح"‪ ،‬و"النافع والضاّر " و"الخّير والشّر ر"‪ .‬ينبغي على الفيلسوف أن يحّل مشكلة القيمة‪ ،‬وعليه أن يعّين تراتبية القيم‪ .‬فقيمة "اللئيم" مثًال ال‬
‫تدّل على حكم أخالقّي أو سوء في األفعال‪ ،‬بل هي تقويم لنمط من السلوكات البشرية تحّد ده إرادة االقتدار نفسها‪ .‬يكشف البحث الجينيالوجي في القيم أّنه كان‬

‫للسادة الحّق في إعطاء أسماء للقيم إلى الحّد الذي صارت فيه اللغة تجلّيًا لقدرتهم وسيادتهم‪ .‬فاإلحساس بالمسافة ما بين العبد والسّيد هي أصل التّض اد بين‬
‫الكريم واللئيم‪ ،‬الخّير والشرير[‪.]21‬‬

‫تكمن قيمة العالم في تأويلنا له‪ ،‬فال توجد وقائع‪ ،‬ليس إّال تأويالت"‪ ،‬لذلك تبحث إرادة االقتدر من جهة ما هي تأويل عن أصول األشياء المسكوت عنها‪ ،‬التي تظهر‬

‫وراء أسماء أخرى ال تعنيها‪ ،‬فيعثر عنها في الحضارة وفي الجسد الذي يحتوي الحياة والتأويل‪ .‬يتعّين الجسد هاهنا الخيط الناظم لكّل التأويالت‪ ،‬لذلك فكّل قراءة تمّر‬
‫عبره وبه‪ .‬إّن التأويل هو عمل الغرائز التي تحّر كها إرادة االقتدار‪ ،‬فيكون عمل الغرائز موازيًا لعمل المعاني‪" ،‬بل إّن التأويل نفسه هو اختراع لغرائز جديدة‪ ،‬هو تدريب‬
‫للنفس على التعّلق بالحياة ألّن االستغناء عن الحياة هو موقف نسكّي ‪ .‬فأجسادنا تعطي لحياتنا معنى ما‪ ،‬وهذا المعنى نعاني ألجل إقامته وتحصيله"[‪.]22‬‬

‫نيتشه فيلسوف المستقبل[‪:]23‬‬

‫يكشف هذا العنوان الفرعي ‪"-‬تباشير فلسفة المستقبل"‪ -‬الذي وضعه نيتشه لكتابه في ما أبعد من الخير والشر (‪ )1886‬عن اتجاه الثورة الفلسفية التي خطط لها‬

‫نيتشه‪ ،‬ومن ثّم سعى إلى إنجازها‪ .‬فهدف نيتشه هو إنشاء "فلسفة المستقبل" التي ال عالقة لها بتاريخ الفلسفة العتيد‪ .‬وهذا يعني أّن الكتاب يحمل نقدًا وتقويمًا‬
‫لتاريخ الفلسفة من سقراط إلى ما قبل نيتشه‪ .‬أن يكون نيتشه "فيلسوف المستقبل" هو أن يكون فيلسوفًا يأتي "على غير أوانه"‪ ،‬بأفكار سابقة ألوانها‪" ،‬تطّلعًا إلى‬
‫كّل ما هو ممنوع"[‪ ،]24‬ونقدًا لكّل ما هو معاصر‪ ،‬فالتناقض صارخ بين "جسامة مهّم ة الفيلسوف" و"حقارة معاصريه" الذين وصلوا حّد تقديس القيم المناقضة‬

‫للحياة[‪ .]25‬إّن الفيلسوف في نظر نيتشه هو "إنسان للغد وبعد الغد"[‪ ،]26‬لذلك لم يكن يكتب لمعاصريه‪ ،‬بل لجيل سوف يأتي‪ .‬ومن البدهّي أن يكون "فيلسوف‬
‫المستقبل"‪ ،‬على تناقض مع حاضره في كّل األزمنة[‪ ،]27‬لكّنه يكون على يقين من أّنه "سُيكتب النصر لفلسفته ذات يوم"[‪ ،]28‬فلن يكترث بما يمكن أن تالقيه‬

‫فلسفته وكلماته من سوء فهم‪ ،‬ألّنه من الذين "يولدون بعد الممات"[‪ .]29‬فقد كان نيتشه متأّكدًا من أّن مولد التراجيديا هو مؤّلف "غير مالئم للعصر"[‪ ،]30‬لذلك‬
‫سّم اه "كتاب العقول الحّر ة"‪ ،‬قاصدًا "فالسفة المستقبل"‪ ،‬فخصمه يكون في كّل مّر ة متمّثًال في "حاضره"‪ .‬فال يكتب نيتشه للذي كان وال للذي يكون‪ ،‬لكّنه يخاطب من‬

‫سيأتي من بعده‪ ،‬فهو "ال يطمع [يومها] في وجود آذان وأياٍد لحقائقه"[‪ ،]31‬فمهّم ته تكمن في اإلعداد للّلحظة التي تعود فيها اإلنسانّية إلى نفسها‪ ،‬لحظة‬
‫"الظهيرة العظمى"‪ ،‬حيث تكون الشمس في كبد الّس ماء باسطة نورها على الكون كّله‪ ،‬وتكون اإلنسانّية قادرة على النظر بجالء إلى الوراء (الماضي) وإلى األمام‬

‫(المستقبل)[‪.]32‬‬

‫* نشرت هذه الدراسة في مجلة "يتفكرون"‪ ،2015 ،‬العدد ‪6‬‬

‫‪[1]- Rüdiger Safranski, Nietzsche biographie d’une pensée, traduit de l’allemand par Nicole Casamosa, Paris, Solin, Actes Sud, 2000.‬‬

‫[‪ -]2‬نيتشه‪ ،‬هذا هو اإلنسان‪ ،‬ترجمة علي مصباح‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬منشورات الجمل‪" ،2003 ،‬ما الذي يجعلني أكتب كتبًا جّيدة"‪ ،‬ص ‪65‬‬

‫‪[3]- G. Colli et M. Montinari, «Etats des textes de Nietzsche », trad. Hans Hildenbrand et Alex Lindenberg, in Cahiers de Royaumont n° VI, Colloque Nietzsche 1964, Paris, Ed de Minuit, 1967, p.127.‬‬

‫‪[4]-F. Würzbach, Das Vermächtnis Friedrich Nietzsches, (L’Héritage de F.N), Graz (Autriche), Pustlet, 1943, Préface, p. X: , Charles Murin, Nietzsche problème, généalogie d’une pensée, Paris, J.Vrin, les presses de l’Université‬‬

‫‪de Montréal, p. 37.‬‬

‫‪[5]-Heidegger, Nietzsche I, Trad. P. klossowski, Paris, Gallimard, 2001, p.18.‬‬

‫‪[6]-Karl Jaspers, Nietzsche introduction à sa philosophie, Trad. Henri Niel, Lettre préface de J.Wahl, Paris, Gallimard, 1980, Introduction, pp.12-13.‬‬

‫‪[7]- Schlechta, Le cas Nietzsche, Paris, Gallimard, 1960, Avant-propos, p.11.‬‬

‫‪[8]- Marc B. de Launay, «Œuvres philosophiques complètes», in «Dossier Nietzsche», Allemagnes d’Aujourd’hui, Revue française d’information sur les deux Allemagnes, Paris, Hamonic, Nouvelle série, N° 48, Mai-Juin‬‬

‫‪1975, pp.55-60.‬‬

‫[‪ -]9‬انظر‪ ،.Mazzino Montinari, «La volonté de puissance» N’EXISTE PAS, Paris, L’Eclat, 1996 :‬ترجمه عن اإليطالّية‪ ،‬باتريسيا فارازي (‪ )Patricia Farazzi‬وميشال فالنسي (‪ ،)Michel Valensi‬ص ص ‪27-13‬‬

‫‪[10]- Œuvres complètes de Frédéric Nietzsche, publiées sous la direction de Henri Albert, Paris, Mercure de France.‬‬

‫‪[11]- Pierre Klossowski, Robert Rovini, Julien Hervier, Maurice de Gandillac, Cornelius Heim, Isabelle Hildenbrand, Jean Gratien.‬‬

‫‪[12]- The Works of Friedrich Nietzsche in Eleven Volumes, éd. Alexandre Tille, Londres, Henry et Co, 1896-1909.‬‬

‫[‪ -]13‬فوزية ضيف اهلل‪" ،‬تأويلية إرادة االقتدار عند نيتشه"‪ ،‬مجّلة مقاربات فلسفّية‪ ،‬تصدر عن مخبر الفلسفة والعلوم اإلنسانية‪ ،‬قسم الفلسفة‪ ،‬كلّية العلوم االجتماعية‪ ،‬جامعة عبد الحميد بن باديس‪ ،‬مستغانم‪ ،‬الجزائر‪ ،‬العدد الثاني‪ ،‬جوان ‪ ،2014‬ص ‪182‬‬
‫‪[14]- Cf, Philologica, I, op.cit., P.328, cité par Angèle Kremer- Marietti, Nietzsche et la rhétorique, Paris, P.U.F, 1992, p.28.‬‬

‫[‪ -]15‬المصدر نفسه‪ ،‬الموضع نفسه‪.‬‬

‫‪[16]- Nietzsche, «Sur la personnalité d’Homère», suivi de «Nous autres philologues», Traduit de l’allemand par Guy Fillion, Présentation de Christian Molinier, Paris, Le Passeur, 1992, p.40.‬‬

‫[‪ -]17‬المصدر نفسه‪ ،‬الموضع نفسه‪.‬‬

‫[‪ -]18‬نيتشه‪ ،‬هذا هو اإلنسان‪ ،‬ص ‪80‬‬

‫[‪ -]19‬انظر‪ ،‬فوزية ضيف اهلل‪" ،‬من فينومينولوجيا الذاكرة إلى جينيالوجيا النسيان"‪ ،‬مجّلة يتفّكرون‪ ،‬مؤمنون بال حدود‪ ،‬الرباط‪ ،‬العدد الرابع‪ ،‬الهوّية والذاكرة ومسارات االعتراف‪ ،‬صيف ‪ ،2014‬ص ص ‪87-76‬‬

‫[‪ -]20‬دلوز‪ ،‬نيتشه والفلسفة‪ ،‬ترجمة أسامة الحاّج ‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،2001 ،‬ص ‪ ،54‬ذكرته فوزية ضيف اهلل‪" ،‬تأويلية إرادة االقتدار عند نيتشه"‪ ،‬مجّلة مقاربات فلسفّية‪ ،‬تصدر عن مخبر الفلسفة والعلوم اإلنسانية‪ ،‬قسم الفلسفة‪ ،‬كلّية العلوم االجتماعية‪ ،‬جامعة عبد الحميد بن‬

‫باديس‪ ،‬مستغانم‪ ،‬الجزائر‪ ،‬العدد الثاني‪ ،‬جوان ‪ ،2014‬ص ‪179‬‬

‫[‪ -]21‬انظر‪ ،‬فوزية ضيف اهلل‪" ،‬تأويلية إرادة االقتدار عند نيتشه"‪ ،‬مجّلة مقاربات فلسفّية‪ ،‬ص ‪189‬‬

‫[‪ -]22‬انظر‪ ،‬فوزية ضيف اهلل‪" ،‬تأويلية إرادة االقتدار عند نيتشه"‪ ،‬مجّلة مقاربات فلسفّية‪ ،‬ص ‪183‬‬

‫[‪ -]23‬انظر‪ ،‬فوزية ضيف اهلل‪" ،‬تباشير فلسفة المستقبل عند نيتشه"‪ ،‬المؤتمر السنوي للجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية‪" ،‬الفلسفة وسؤال المستقبل"‪ ،‬نوفمبر ‪ ،2014‬الجزائر‪ ،‬أفريل‪ .2015 ،‬منشورات ‪2015‬‬

‫[‪ -]24‬نيتشه‪ ،‬هذا هو اإلنسان‪ ،‬ترجمة على مصباح‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬منشورات الجمل‪" ،2006 ،‬مقّد مة"‪ ،‬الشذرة ‪ ،3‬ص ‪9‬‬

‫[‪ -]25‬نيتشه‪ ،‬هذا هو اإلنسان‪" ،‬مقّد مة"‪ ،‬الشذرة ‪ ،1‬ص ‪7‬‬

‫[‪ -]26‬نيتشه‪ ،‬في ما وراء الخير والشّر ‪ ،‬ترجمة جيزبال فالور حّجار‪ ،‬مراجعة موسى وهبه‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،2003 ،‬الفصل ‪ ،3‬الشذرة ‪" ،212‬الفيلسوف وعصره"‪ ،‬ص ‪173‬‬

‫[‪-]27‬المصدر نفسه‪ ،‬الموضع نفسه‪.‬‬

‫[‪ -]28‬نيتشه‪ ،‬هذا هو اإلنسان‪" ،‬مقّد مة"‪ ،‬الشذرة ‪ ،3‬ص ‪9‬‬

‫[‪ -]29‬نيتشه‪ ،‬هذا هو اإلنسان‪" ،‬ما الذي يجعلني أكتب كتبًا جّيدة؟"‪ ،‬الشذرة ‪ ،1‬ص ‪65‬‬

‫[‪ -]30‬نيتشه‪ ،‬هذا هو اإلنسان‪" ،‬مولد التراجيديا"‪ ،‬الشذرة ‪ ،1‬ص ‪79‬‬

‫[‪ -]31‬نيتشه‪ ،‬هذا هو اإلنسان‪" ،‬ما الذي يجعلني أكتب كتبًا جّيدة؟"‪ ،‬الشذرة ‪ ،1‬ص ‪65‬‬

‫[‪ -]32‬نيتشه‪ ،‬هذا هو اإلنسان‪" ،‬فجر"‪ ،‬الشذرة ‪ ،2‬ص ‪107‬‬

You might also like