Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 77

‫التربية عند نيشته‬

‫عبد الرزاق الغزي‬

‫‪1‬‬
2
‫مدخل عــــــام‬

‫تعد إشكالية التربية ووظيفتها التنموي ة‪ ،‬واح دة من التح والت الك برى‪ ،‬ال تي ك انت وم ا ت زال تواج ه‬
‫العديدة من البلدان‪ .‬فهذه حقيقة ال جدال فيها‪ ،‬إذ أن اإلجماع الحاصل منذ عدة قرون ح ول ض رورة التعليم‬
‫والتربية كطريق لكل نهضة حقيقية وكل تقدم‪ ،‬فمصير المجتمعات تتوقف بمعنى من المعاني على الكيفية‬
‫التي ستعد وستؤهل بها أبنائه ا‪ ،‬وخاص ة من الناحي ة التربوي ة والتعليمي ة فم ا هي الفائ دة من التربي ة؟ إن‬
‫الجواب ليس من السهولة بمكان‪ ،‬وقد نعثر عليه إذا طرحنا اإلشكال األساس ي – م اهر الطف ل ؟ ال ذي ه و‬
‫أب الرجل‪ ،‬وبالتالي ففائدة التربية هي أن تجعل من هذا الطفل رجال كفؤا به ذا االس م لكن يبقى أن نع رف‬
‫أي رجل ستعطينا هذه التربية‪ .‬والتربية كانت منذ عصور خلت هاجس الفالس فة وه ذا م ا يجعلن ا نتس اءل‬
‫عن أية عالقة بين التربية والفلسفة؟‬
‫يمكن أن نورد أنه منذ كان"السوفسطائي" مدرس ة متجول ة‪ ،‬يخت ار تالمذت ه في الس احة العمومي ة‪ ،‬ويعلم‬
‫منهاجا في التفلسف والبالغة‪ ،‬ويعلم أن "اإلنسان مقياس األشياء الموجودة وغير الموجودة " ؛ وك ذا من ذ‬
‫كان " سقراط" معلما " للمفهوم" العام الواحد‪ ،‬يكشف جهل اآلخرين بهذا المفهوم‪ ،‬فيعلمه منهاجا " يعرف‬
‫به نفسه بنفسه‪ ،‬بل إن العالقة بين الفلسفة والتربية تصبح أوثق عند " أفالط ون" ال ذي تبت ه ذا االرتب اط‬
‫بإنش اء المؤسس ة التربوي ة ( األكاديمي ة)‪ ،‬حيث تك ون التربي ة‪ ،‬وس يلة يس تطيع به ا أن يص ل إلى ت ذكر‬
‫المعرفة‪ ،‬باعتبار أن المعرفة‪ ،‬عند "أفالطون " هي تذكر لما سبق تأمله في ع الم المث ل‪ -‬الماهي ات‪" -‬فك ر‬
‫واحد" يحمل في أعماق روحه قوة المعرفة"‪.‬‬
‫أكيد أن الفلسفة والتربية قد إرتبطتا فيما بينهما‪ ،‬وثمة أسباب شتى تبرر هذا االرتباط؛ أوله ا أن الفك ر ين ير‬
‫المجاهل التي لم يطلها النور‪ ،‬ثانيها أن المهمة التي تعهدت بها الفلس فة من ذ" س قراط"‪ ،‬هي أن تعلم وتثبت‬
‫القيم‪ ،‬كما كان يقول " نيتشه" فالفيلسوف تعهد بأن يرسم للتربية مع الم طريقه ا‪،‬وأن يص نع له ا قواع دها‪،‬‬
‫فهو" طبيب الحضارة" يشخص أع راض أم راض ه ذه األخ يرة‪ ،‬ويرش دها إلى س بيل تف ادي األم راض‪،‬‬
‫وثالث أسباب هذا االرتباط بين الفلسفة والتربية؛ هو أن محور التفكير الفلسفي‪ ،‬كان وم ايزال ه و الوج ود‬
‫واإلنسان‪ .‬ومحور التربية‪ ،‬هو وضع قواعد وقيم يمثل له ا ه ذا اإلنس ان داخ ل المجتم ع‪ ،‬وبالت الي تص بح‬
‫مهمة الفيلسوف‪ ،‬ال تقتصر على تحليل المفاهيم والنظريات التي تجترها الخطاب ات الش ائعة‪ ،‬أو التوض يح‬
‫أو الشرح أو اإلجابة عن أسئلة زمانه‪ ،‬بل يجب عليه أن يتدخل هو نفسه في طرح األسئلة ووضع المب ادئ‬
‫والتصورات‪ ،‬وبهذا تكون كل فلسفة هي عبارة عن تربية عامة ‪.‬‬
‫وقد شهد العصر الحديث‪ ،‬فلسفة التربية بوصفها تخصصا معرفيا منظما‪ ،‬حافل بالتوجيهات التربوي ة‬
‫والنظريات‪ ،‬مع االستفادة من إسهامات مجموعة من الفالسفة في هذا المجال‪ ،‬إال أنه ما يالحظ على فلس فة‬

‫‪3‬‬
‫التربية الحديث‪ ،‬تجاهلها الكبير للمنظور التربوي المتضمن في فلسفة " نيتش ه"‪ .‬وب الرغم من وج ود ع دد‬
‫محدود من األنساق الفلس فة المت وفرة على تص ور ترب وي متماس ك وج ريء‪ ،‬حيث أن مفه وم " نيتش ه"‬
‫للتربية‪ ،‬أصيل وجديد كليا في تاريخ الفكر التربوي‪ ،‬إن ه أيض ا ج ريء ج دا‪ ،‬ففلس فته تتم يز عموم ا بأنه ا‬
‫محاولة إلعادة تقييم كل القيم وقلبها‪ ،‬انطالقا مما يتميز به الحاضر التربوي من انحطاط بالنسبة إليه‪ ،‬هك ذا‬
‫سعى من خالل فلسفته في التربية‪ ،‬إلى تأسيس شروط إمكان إنسان جديد‪ ،‬إنسان أسمى‪ ،‬ضدا على النموذج‬
‫ال تربوي الفاش ل‪ ،‬الض عيف‪ ،‬المس تهتر‪ ،‬المته اون‪...‬ال ذي تكرس ه الثقاف ة المس يحية‪ ،‬والطريق ة التربوي ة‬
‫الســــــائــــــدة‪.‬‬
‫فما هو إذن الب ديل ال تربوي ال ذي ج اء ب ه "نيتش ه" ض دا على التربي ة التقليدي ة؟ وأين تتجلى أهمي ة‬
‫مشروعه التربوي؟‬
‫لقد حمل" نيتشه"على عاتقه مهم ة قلب القيم‪ ،‬وتحطيم األص نام الجام دة ال تي تس ن باس مها القيم‪ .‬ومن‬
‫المعروف أن التربية تقوم على ترسيخ القيم في النفس اإلنسانية‪ ،‬به دف الوص ول إلي إنس ان كام ل‪ .‬أي أن‬
‫صفات هذا اإلنسان الكامل تتحدد مسبقا؛ أي قبل ميالده‪ ،‬الشيء الذي يعني إنشاء إنس ان على ش اكلة مث ال‬
‫سابق‪ ،‬أي الحصول على نسخة لنموذج أول سبق له أن وجد‪ ،‬إن لم يكن في الحياة ففي ع الم آخ ر‪ .‬وم ادام‬
‫"نيتشه" عمل على تقويض كل القيم التي من شأنها خل ق ه ذا اإلنس ان الكام ل أو الص الح‪ .‬فكي ف س تكون‬
‫تربية هذا اإلنسان بدون قيم؟ وهل سيبقى الهدف دائما هو الوصول إلى اإلنسان الصالح؟‬
‫" سأش رح لكم تح ول العق ل في‬ ‫يقترح" نيتشه" ثالث مراحل جديدة‪ ،‬يمر منها العقل في تطوره‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫مراحله الثالث‪ ،‬فأنبئكم كيف استحال العقل جمال‪ ،‬وكيف استحال الجمل أسدا‪ ،‬وكيف استحال األسد أخ يرا‬
‫فصار طفال"‪.1‬‬
‫يعرف الجمل بصبره وقدرته الفائقة على التحمل‪ ،‬لكن ما طبيعة هذه األحمال التي على العقل حملها؟ ‪.‬‬
‫إنها أحمال العقل العليا‪ ،‬التي باإلضافة إلى ثقل وزنها‪ ،‬تفرض على العقل س لوك الطري ق ال تي تح دده ل ه‪.‬‬
‫لكن هذا العق ل‪ ،‬بع د أن يطي ع وينص اع في البداي ة إلى م ا تملي ه علي ه ه ذه القيم‪ ،‬يتح ول إلى أس د يفيض‬
‫بالشجاعة‪ ،‬هذه األخيرة ستمكنه من أن يلقي بكل تلك األحمال والقيم ليخلفه ا وراءه‪ .‬لينفلت في األخ ير إلى‬
‫طفل‪ ،‬يفيض بالحيوية والنشاط‪ .‬ويقوم بحركات إرادية والإرادية في كل اتجاه‪ ،‬يقفز‪ ،‬يترنح‪ ،‬يرقص‪......‬‬
‫إن الرقص عند "نيتشه" رمز للخلق واإلب داع‪ ،‬ولخف ة ال روح المرح ة‪ .‬لكن م ا عس اه (الطف ل‪ /‬العق ل) أن‬
‫يخلق؟ إنه يخل ق قيم جدي دة ف وق أرض جدي دة‪ .‬من المع روف أن الطفول ة والص غر‪ ،‬تك ون هي المرحل ة‬
‫األولى ألي شيء‪ .‬لكنن ا نالح ظ اآلن أن" نيتش ه" يقلب ك ل ش يء‪ ،‬إن ه ي دعونا لكي نك ون أطف اال‪ ،‬أي أن‬
‫نمارس الخلق‪ ،‬خلق ذوات جديدة‪ ،‬ذوات لم يس بق له ا أن وج دت‪ ،‬اخترناه ا نحن أنفس نا ألنفس نا‪ ،‬دون أن‬

‫‪1‬‬
‫‪? -‬نيتشه هكذا تكلم زرادشت‪ ،‬ترجمة فليكس فارس‪ .،‬دار القلم‪ ،‬ببيروت‪ -‬لبنان‪ .‬ص‪- )47 ( :‬‬

‫‪4‬‬
‫يرشدنا أي مرشد‪ .‬وبعد أن يوصلنا " نيتشه" إلى هذا المكان يقول " أمركم أن تضيعونا لتجدوا أنفس كم "‪.1‬‬
‫ال يجب أن نسير على خطى " نيتشه" حتى ال نكون على شاكلته‪ ،‬ونقع فيما كنا نحاول االنعتاق من ه " ألن‬
‫إسقاط ألذات في ذات أخرى ‪ ،‬هو إضعاف لهذه األخيرة" ‪.2‬‬
‫إن هذه العقيدة الجديدة التي يدعو إليها " نيتشه"‪ ،‬تحاول هدم التقليد األفالطوني المسيحي‪ ،‬ال ذي يه در‬
‫الفرد عن طريق إجباره على إتباع تع اليم وقيم قاس ية‪ ،‬من أج ل أن يخلص نفس ه ويبل غ الس عادة الخال دة‪.‬‬
‫فيقلب "نيتشه" هذا التصور الذي مفاده حس ب " هي دجر" م اذا علي أن أفع ل لكي أك ون س عيدا‪ ،‬فجعل ه "‬
‫نيتشه" " كن سعيدا تم افعل ما شئت"‪ .3‬ليست القيم هي التي تخلق إنسانا قويا‪ ،‬ب ل اإلنس ان الق وي ه و من‬
‫يخلق قيما‪ ،‬وليست التربية الجيدة هي التي تصنع اإلنسان بل اإلنس ان ه و ال ذي ينس ج تربي ة جي دة تجعل ه‬
‫يخلق نفسه باستمرار‪ ،‬من أجل بلوغ اإلنسان األعلى‪ .‬تل ك هي الحقيق ة ال تي ن ادي به ا " نيتش ه"‪ ،‬وال تي‬
‫جعلته يقف وحيدا أمام تيار ألفالطونية والمسيحية الجارفة‪ ،‬وجعلت ه يوص ف بالفيلس وف اله ادم أو اله ادم‬
‫السلبي‪ ،‬الذي ال يبني‪ .‬لكن يبدو أن " ألندري جيد" رأي مخالف إذ يقول‪ " :‬نعم‪ ،‬إن نيتش ه ينقض‪ ،‬ويه دم‪،‬‬
‫لكنه ال يفعل ذلك بوصفه محبط ا‪ ،‬ب ل بوص فه شرس ا‪ ،‬يفع ل ذل ك بنب ل‪ ،‬ومج د‪ ،‬وبص ورة بش رية‪ ،‬مثلم ا‬
‫يغضب فاتح جديد أشياء باتت قديمة‪ .‬والحماس الذي يبديه في عمل ه ه ذا يعطي ه مج ددا آلخ رين من أج ل‬
‫البناء(‪ )...‬هل يهدم نيتشه؟ كفا هدرا‪ .‬إنه يبني – إنه يبني – إنه يبني أقول لكم يبني بعنف"‪. 4‬‬
‫أن البناء يقتضي وجود فضاء أو مكان فارغ وواسع ليقوم من ه‪ ،‬ومن أج ل أن يج د " نيتش ه" ه ذا‬
‫المكان‪ ،‬عمل على هدم وإزالة كل األبني ة القديم ة‪ ،‬اآليل ة للس قوط‪ .‬ولكي يتس نى له ذا البن اء االس تمرارية‬
‫والشموخ‪ ،‬ينبغي أن يرتكز على أس س متين ة جدي دة تحت ل مك ان األس س القديم ة المنه ارة‪ ،‬أم ا التربي ة‪،‬‬
‫فستكون هي الوسيلة التي سترسي وترسخ هذه األسس الجديدة‪.‬‬
‫ه ذه التربي ة يجب أن تعم ل على القض اء على ك ل المث ل والقيم األخالقي ة ال تي س نتها إرادة النفي‬
‫( نفي الحياة) أي اإلرادة البشرية إبان فترات تدنيها وانحطاطها‪ ،‬واستبدالها بثقافة جدي دة تق وم على تمجي د‬
‫الجوانب الحيوية في اإلنسان‪ .‬السيما جانب الغرائز الطبيع ة ال تي تت وق إلى التح رر واالنطالق باإلنس ان‬
‫نحو قارات ومواطن جديد‪ ،‬لم يطأها بأقدامه من قبل‪.‬‬
‫لقد كان " سقراط" يربي شباب أثينا على تهذيب أرواحهم‪ ،‬وتخلصها من األدران الجس دية‪ ،‬فالجس د‬
‫كان يعتبر ذاك سجن للروح‪ ،‬وبالتالي وجب تخليص هذه األخيرة منه‪ ،‬أجل الوصول بها إلى عالم الكم ال‪،‬‬
‫أي عالم المثل‪ .‬غير أن " نيتشه" يقول‪ " :‬ال تصدقوا أولئك الذين يحض رون‪ ،‬س رى الس م في ع روقهم هم‬
‫أيضا(‪ )...‬في ما مضى كانت الروح تنظ ر ب ازدراء إلى الجس د‪ ،‬وك ان ذل ك الزدراء أن داك أس مى م اهر‬

‫‪1‬‬
‫‪-Niézsche (f) :Ains parlait Zarathoustra ; trad, maurice de gandillage. Grallimard, 1971 – « De la prodigue‬‬
‫‪vertu » T1, &3, p 103.? -‬‬
‫‪2‬‬
‫‪? -‬مجلة الجدل عدد ‪ 1‬السنة األولى‪ ،‬ربيع ‪ "1985‬نيتشه المربي" ص‪-)49( :‬‬
‫? ‪3‬‬
‫‪- -‬‬
‫‪4‬‬
‫‪.? -‬بيار هيبر‪ -‬صوفورين " زرادشت نيتشه" ترجمة أسامة الحاج‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتروزيع ص‪- )61( :‬‬

‫‪5‬‬
‫موجود (‪ )...‬أواه لقد كانت تلك الروح هي ذاتها هزيلة أيضا‪ ،‬وكريهة وجائعة وك انت <<القســوة متعتهــا‬
‫‪1‬‬
‫الوحيدة>>‬
‫يظه ر مم ا س بق أن " نيتش ة" يح دد دورين كب يرين للتربي ة‪ ،‬فهي في ال دور األول‪ ،‬تك ون مختص ة‬
‫بتخليص اإلنسان من األوهام‪ ،‬التي تسكنه وتتحكم في مصيره مثل؛ العالم اآلخر‪ ،‬األل ه‪ ،‬الع الم الحقيقي‪،...‬‬
‫ومن القيم التي تكبل حريته وتثقل كاملة " إي اك أن تعطيهم ش يئا واألج در ب ك أن تأخ ذ منهم م ا تس اعدهم‬
‫على حمله‪ ،‬ذلك أجدى لهم"‪.2‬‬
‫أم ا ال دور الث اني‪ ،‬فيتجلى في إحي اء إرادة إلثب ات ل دى اإلنس ان‪ ،‬وحب الحي اة‪ ،‬واإلخالص للع الم‬
‫األرضي‪ ،‬ألنه هو وحده الحقيقي ‪ ،‬وكل ما ع داه مج رد أكذوب ة‪ ،‬واعتب ار الحي اة هي المعي ار‪ ،‬ال ذي على‬
‫أساسه يجب أن نقيم األشياء‪ ".‬هكذا نرى " زرادشت" يس تدخل خ ير األخالق القديم ة‪ ،‬بص فة م ا لإلرادة‪:‬‬
‫إرادة الخلق‪ ،‬إرادة االمتداد‪ ،‬إرادة النم و‪ ،‬إرادة المق درة الذاتي ة‪ ،‬ويط رح على عكس كقيم ة س لبية‪ ،‬ألج ل‬
‫اس تبدال ش ر األخالق‪ ،‬واإلرادة المعاكس ة‪ ،‬إرادة الت دمير والته اون والرض ا عن ال ذات‪ ،‬والطمأنين ة‬
‫المستريحة‪ ،‬التي تعيق كل إرادة تجديد‪"3‬‬
‫إن" نيتشه" بموقفه هذا‪ ،‬وتصوره الخاص التربية‪ ،‬ال يهدف إلى تأسيس معتقد جدي د يك ون ه و الن بي‬
‫المستشر به‪ ،‬وبالتالي يجب اإلقتداء به‪ ،‬والسير على خط اه‪ ،‬ففك رة تك وين أتب اع ومري دين هي آخ ر هم "‬
‫نيتشه" " ليس تمت من فكرة غريب ة مث ل فك رة تك وين األتب اع ‪ " ،"4‬من ال واجب علين ا تجنب أن نص بح‬
‫المثال لشخص آخر‪ ،‬ألننا إذا أصبحنا كذلك فسنحول دون تكوينه من خالل قواه الخاصة ومثاله الخاص‪."5‬‬
‫فغرض" نيتشه"هو تحرير اإلرادة الفردية إلنسان‪ ،‬من كل م ا يكبه ا‪ ،‬وفتح المج ال له ا لتعب ير عن ذاته ا‪،‬‬
‫بخلق قيمتها الخاصة بها‪ .‬فتتحول بذلك من إرادة نافي ة للحي اة إلى إرادة مثبت ة للحي اة‪ ،‬إرادة حيوي ة تتج دد‬
‫باستمرار لكي تخلق ذاتها باستمرار‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪- Niezsche (f) : A.P.Z. « prologue de zanalhoustraé » op. cit T1. &3. p23.? -‬‬
‫‪2‬‬

‫? ‪Nietzsche (f) : A.P.Z « proloue de zaralhoustra » opcit. T1, &2, p20-‬‬


‫‪ - 3‬زرادشت نيتشه ‪ :‬ص ( ‪ )72‬مرجع سابق‪.‬‬
‫‪ - 4‬مجلة الجدل‪،‬‬
‫‪ - 5‬نفس المرجع‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫الفصل األول‪:‬‬
‫المربـــــــــــــــــــــــــــي‬

‫" إننا لن نخترق من أجل آرائنا‪ ،‬ألننا غير واثقين جدا منها‪ .‬وربما نخترق من أجل أن تكون لنا آراء‬
‫ويكون لنا حق تغييرها‪".‬‬

‫إنسان مفرط في إنسانيته‪ ،‬ج ‪333 § ،2‬‬

‫‪7‬‬
‫* المربي شر البد منه‪:‬‬
‫‪ -‬ما معنى " نيتشه" المربي؟‬
‫إن الفيلسوف ال يمكن إال أن يكون مربيا‪ ،‬لكن ليس كل مرب فيلسوفا‪ ،‬فما هو المع نى ال ذي يك ون ب ه‬
‫الفيلسوف مربيا؟‬
‫يتحدث " نيتشه" في كتاباته‪ ،‬عن الفيلسوف المربي‪ ،‬وعن طبيب الحضارة‪ ،‬باعتبار أن الفيلس وف ه و‬
‫مربي وطبيب‪ ،‬وأن ك ل ثقاف ة حق ه هي تربوي ة‪ ،‬وأن التربي ة الحق ة هي ال تي تق وم باله دم‪،‬والقض اء على‬
‫الثنائي ة الميتافيزقي ة‪ ،‬واستش راف المس تقبل من خالل تش خيص ‪:‬أوض اع الحاض ر‪ ،‬ومتابع ة التح والت‬
‫المس تمرة له ذا ال ذي نطل ق علي ه "اإلنس ان"‪ .‬وه ذه هي مهم ة المعلم ال ذي يمثل ه " زرديش ت" إن ه معلم‬
‫للمستقبل‪ ،‬والذي يجب أن يكون حقيقيا‪ ،‬من تحري الفرد من قيود المجتمع‪ ،‬والعادات والتقاليد‪ .‬ومع هذا ف‬
‫"نيتشه" ال يرى المعلم ‪/‬المربي كصاحب امتياز‪ ،‬في الوساطة بين الطالب ومجتمعه‪ ،‬ولكن يبقى " األس تاذ‬
‫شر البد منه"‪ ،‬لذلك نجده يقول‪:‬‬
‫" ينبغ أن يكون هناك أقل عدد من األشخاص‪ ،‬بين العقول المنتجة‪ ،‬والعقول المتعطش ة والقابل ة للت أثر‪،‬‬
‫ألن الوسطاء يزفون‪ ،‬بشكل شبه تلقائي‪ ،‬الغداء الذي ينقلونه ثم يطالبون ألنفسهم‪ ،‬كتع ويض في وس اطتهم‪،‬‬
‫بكثير من األشياء التي ينتزعونها بذلك من العقول المنتجة واألصلية‪ ،‬أي الفائدة‪ ،‬اإلعجاب‪ ،‬الزمن‪ ،‬المال‪،‬‬
‫وأشياء أخرى‪ .‬إننا سننظر إلى األستاذ إذن‪ ،‬مهما يكن األمر‪ ،‬على أنه ش ر الب د من ه‪ ،‬على غ رار الت اجر‪،‬‬
‫كشر يجب جعله أضأل ما يمكن‪...‬فإنه يمكن أن نرى بكل تأكيد أن السبب الرئيسي لفقرنا الثق افي ه و ذل ك‬
‫العدد الضخم من األساتذة‪ :‬إنه سبب نعرفه قليال وبشكل رديء‪ "1‬فمهمة التربية جد ض رورية‪ ،‬لكي يص ير‬
‫اإلنسان مدركا لذاته‪ .‬لق د ت أثر " نيتش ه" كث يرا " بش وبنهاور"‪ ،‬حيث أن ه رأى أن على ك ل معلم أن يفتش‬
‫على " نموذج" للتشبه به‪ ،‬أو فيلسوف للتعلم منه‪ .‬وإن كنا نجد" نيتشه" في " شوبنهاور المربي" قد دف ع "‬
‫شوبنهاور"إلى الحد األقصى‪ ،‬ليكن يرسله إلى ذات ه‪ ،‬ويحول ه إلى ض ده ال ذي ه و" نيتش ه‪ "2‬فمثلم ا ينبغي‬
‫الم رور من مج ال األخالقي‪ ،‬للوص ول إلى تج اوز األخالق‪ ،‬فإن ه ك ان على " نيتش ه" أن يص بح‬
‫"شوبنهاور"‪ ،‬إلى الحد األقصى‪ ،‬حتى يصير " نيتشه"‪.‬‬
‫أن التربية بالنسبة ل" نيتشه"‪ ،‬لم تقم على فكرة إنتاج األتب اع الص الحين لالس تغالل‪ ،‬وإس داء الخدم ة‬
‫النافعة‪ ،‬مقابلة عملية الترويض وإكساب لمجموعة من المهارات‪ .‬لهذا فالمربي الحقيقي‪ ،‬هو ال ذي ي رفض‬

‫‪ - ?-1‬فردريك نيتشه‪ " :‬إنسان مفرط في إنسانيته" ترجمة‪ ،‬محمد الناجي‪ ،‬بيروت‪ ،‬إفريقيا الشرق سنة‪ ،2001 ،‬الجزء ‪ ،2‬ص‪282 §202 :‬‬
‫‪ - 2‬عائشة أنوس‪ ،‬مصطفى كاك‪ " :‬نيتشه المربي" مجلة الجدل‪ ،‬عدد‪ ،1‬السنة األولى‪ ،‬ربيع ‪ ،1985‬ص‪.)49 (:‬‬

‫‪8‬‬
‫أن يجر وراءه فيلقا من األتباع‪،‬ي رددون خطب ة على الن اس وي دعون له ا‪ ،‬له ذا نج د " زراديش ت" ي دعو‬
‫أتباعه من خالل كتاب " هكذا تكلم زرادشت" – أن يضيعوه‪ ،‬لكي يجدوا أنفسهم‪ ،‬ألنه يقول حقا " إننا نظل‬
‫غرباء عن أنفسنا‪ ،‬ال نفهمها‪ ،‬وال نميز أنفسنا عن اآلخرين‪ ،‬إنه محكوم علينا إلى األبد‪ ،‬بالخض وع للق انون‬
‫القائل " يجهل المرء نفسه أكتر مما يجهل اآلخرين‪ " "1‬إن المرب يين إذن ال يق دمون ش يئا لتالم ذتهم‪ ،‬إنهم‬
‫باألحرى يحررونهم‪ ،‬حتى يتاح لهم أن يصبحوا في ي وم م ا مرب يين ألنفس هم‪ ،‬إن ك ل واح د طري ق فري د‬
‫يؤدي إلى ذاته‪.‬‬
‫وعليه نجد " نيتشه" في "ش وبنهاور الم ربي"‪ ،‬يؤك د على أن التربي ة‪ ،‬يجب أن تنمي وتط ور نظام ا‬
‫منسجما وحيويا‪ ،‬من غير أن تضحي بأية واحدة من اإلمكانيات اإلنسانية‪ ،2‬ألنه ال أحد بقادر أن ين وب عن‬
‫المتعلم في بناء الجسور التي يجب أن يسلكها‪ ،‬فهو وحده كي يعبر نه ر الحي اة يفع ل ذل ك‪ ،‬وال أح د س واه‪.‬‬
‫وهذه دعوة موجهة إلى كل إنسان باالهتمام والعمل على "إدراك نفسه" من حيث هو نسخة فريدة وأصيلة‪،‬‬
‫وال يمكن أن تع وض‪ .‬ك ل ه ذا يض ع " نيتش ه" فيم ا يب دو للوهل ة األولى‪ ،‬جنب ا إلى جنب م ع الفالس فة‬
‫األخالقيين‪ ،‬وداخل تقليد فلسفي بأكمله‪ .‬وإن النبرة هنا تحيل إلى "سقراط" " أعرف نفس ك بنفس ك" أو إلى‬
‫" باسكال"؛ فهو يدعو البشر أن يتذكروا أنفس هم‪ ،‬وأن يعمل وا على اس تعادة ط بيعتهم الحق ة‪ ،‬ال تي غطته ا‬
‫وحجبتها ثقافة سطحية‪ ،‬وتربية مش وهة‪ .3‬لكي تظ ل م ع ذل ك مهم ة" نيتش ه‪ ،‬التربوي ة هي؛ أن يعي د إلى‬
‫اإلنسان ثقته بنفسه‪ ،‬ويرد إليه حقه المسلوب‪ ،‬من خالل تطوير بديل ترب وي‪ ،‬ض دا على المث ال النم وذجي‬
‫التربوي‪ ،‬المتمثل في التصور األفالطوني األكاديمي‪ ،‬المركز في كتاب " الجمهوري ة"‪ .‬معتم دا "نيتش ه"‬
‫على مبدأ " هدم كل شيء وإعادة بناء كل شيء"‪.‬‬

‫‪ - 1‬فردريك نيتشه‪ " :‬جينيا لوجيا األخالق" ترجمة‪ ،‬محمد الناجي‪ ،‬بيروت‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،‬سنة ‪ ،2006‬ص‪)9( :‬‬
‫‪ - 2‬مجلة الجدل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪)57( :‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص‪)51(:‬‬

‫‪9‬‬
‫للحياة‪:‬‬ ‫‪ -I‬نموذج المربي النافي‬

‫‪ – 1‬النموذج السقراطي‪:‬‬
‫لقد عمل "نيتشه" على تحريك النموذج السقراطي‪ /‬األفالطوني في التربي ة‪ ،‬ال تي تق وم على قاع دة‬
‫التقليد‪ ،‬وذلك حتى ينقد الحياة من اإلدانة التي لحقت بها‪ ،‬من طرف الفالسفة‪ ،‬وذلك بإدانتهم خاصة‪ ،‬وإدانة‬
‫الفكر السقراطي‪ ،‬ومنهجية التوليدي ألتساؤلي‪ .‬فإذا كان يق ال أن " س قراط" أن زل الفلس فة من الس ماء إلى‬
‫األرض‪ ،‬ف إن " نيتش ه" ي رى أن " س قراط" أح د الفلس فة من األرض إلى الس ماء – المث ل‪ -‬ليق ول‪ " :‬إن‬
‫سقراط هو عبقري االنحطاط األول‪ ،‬يعارض الحياة بالفكرة‪ ،‬ويطرح الحياة كما لو كان يجب الحكم عليها‪،‬‬
‫وتبريره ا وافت داؤها ب الفكرة‪ ،‬إن م ا يطلب ه من إنم ا ه و التوص ل انطالق ا من ذل ك إلى الش عور بالحي اة‬
‫المسحوقة‪ ،‬تحت ثقل النافي‪ ،‬غير جديرة بأن تشتهي ألجل ذاتها‪ ،‬وتعاني في ذاتها‪ ،‬س قراط ه و " اإلنس ان‬
‫النظري " النقيض الحقيقي الوحيد اإلنسان المأساوي‪ ،"1‬فهو الذي فتح الب اب بآرائ ه األخالقي ة‪ ،‬وطريقت ه‬
‫في العيش لليهودية‪ ،‬لكي تتسلل إلى المجتمع اليوناني‪ .‬فعطل بذلك ق وى الحيوي ة ل دى اليون ان‪ ،‬و"نيتش ه"‬
‫أسف أشد األسف‪ ،‬في المأساة اليونانية‪ ،‬على ذهاب ذلك الماض ي النبي ل‪ ،‬ال ذي هدم ه "س قراط"‪ ،‬وه و ال‬
‫يشعر بأن العالم الذي هدمة‪ ،‬هو أسمى من العالم الذي راح يبني بعقله‪ <<،‬أنني أجهد نفسي لمعرفة المزاج‬
‫الذي وجدت منه هذه المعادلة السقراطية‪ :‬عقل يساوي فضيلة تساوي س عادة‪ ،‬أغ رب المع ادالت الممكن ة‪،‬‬
‫والتي تقابلها على الخصوص كل غرائز اإلغريق القدامى‪ >>2‬هذه المعادلة تعني فق ط‪ ،‬أن ه يجب أن نفع ل‬
‫مثل" سقراط"‪ ،‬مؤمنا بعقله‪ ،‬مخلصا وطيبا‪ .‬مقاوما‪ -‬يتجرع الشوكران‪ -‬مبطال غرائزه وش هواته‪ ،‬متخ اذال‬
‫عن الحياة‪ .‬إن " سقراط" ليس طبيبا‪ ،‬إنه لم يكن إال مريضا لزمن طويل‪.3‬‬
‫إنه معلم قبيح الخلقة‪ ،‬راح يخفي ذمامته في ش وارع " أثين ا"‪ ،‬ناهج ا أس لوب الس ؤال ال ذي ال يتوف ق‪،‬‬
‫كحيلة إلغراء فتيان اإلغريق‪ ،‬فهو يعلمهم من خالل منهجه ه ذا‪ ،‬النظ ر إلى المث ل‪ ،‬و اإلنعت اق من كه ف‬
‫الحس نحو نور الشمس‪ ،‬عبر ثقافة الخطاب والتربية‪ ،‬ال تي اعتبره ا ته ذيبا وتخليص ا لل روح من ك ل م ا‬
‫يوشوش عليها من عوائق البدن‪ ،‬و"سقراط" هنا كمعلم له أتباع‪ ،‬ألنه دائم السؤال؛ هذا السؤال الذي يقصي‬
‫الحقيقة‪،‬حيت يتحول بهذا إلى مقبرة يدفن فيها األتباع‪ ،‬نظرا ألن ه كم ا يق ول" نيتش ه" " لم يكتب" عكس "‬
‫زرادشت" الذي لم يكن يتكلم إلى األتباع‪ ،‬بل كان ينتقل عبر الغابات والجبال‪ ،‬معلنا إلى الجميع‪ ،‬أن " اإلله‬

‫‪ " - 1‬أصل المأساة" ‪ ، 15 ،‬مقتطف من ؛‪ -‬جيل دولوز‪ " :‬نيتشه والفلسفة"‪ ،‬ترجمة أسامة الحاج‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسة والنشر والتوزيع‪ ،‬سنة‬
‫‪ ،2001‬ص(‪.)20‬‬
‫‪ - 2‬فردريك نيتشه‪ " ،‬أفول األصنام" ترجمة‪ ،‬محمد الناجي وحسان بورقية‪ ،‬إفريقيا الشرق الطبعة ‪ ،1996 ، 1‬ص(‪)20‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص (‪)24‬‬

‫‪10‬‬
‫قد مات"‪ .‬لهذا فاألتباع‪ ،‬والورثة يخلقهم الكالم الحي‪ ،‬لذلك نجده يقول ليس ثمة من فكرة غريبة‪ ،‬مثل فك رة‬
‫تكوين األتباع‪ ،‬ف" نيتشه" لم يكن أحد ولم يرب أحد‪ ،‬ألن ه لم يتكلم أب دا‪ ،‬إن الق ارئ ه و المقص ود بكتب ه‪،‬‬
‫وإليه يوج ه تعليم ه‪ ،‬ل ذلك عن دما نتح دث عن الم ربي بالمطرق ة‪ ،‬نفهم من ذل ك أن المطرق ة هي الكت اب‪،‬‬
‫والكت اب عكس الكالم المتواض ع‪ ،1‬الكالم ال ذي ك ان ينس ج من خالل ه "س قراط" ش بكته ال تي يحي ط به ا‬
‫تالمذته‪ ،‬وتجسدت هذه الشبكة في المؤسسات التربوية؛ (األكاديمية) التي أسسها تلميذه " أفالطون"‪ ،‬هك ذا‬
‫استمر " سقراط" على لسان أفالطون ينظر لمشروع تربوي يناسب الجمهورية‪ ،‬أو المدين ة الفاض لة‪ ،‬وق د‬
‫أبدى أفالطون اهتمامه بهذه المسألة‪ ،‬واعتبر الطفل هو مواطن المس تقبل‪ ،‬حيت يتم تكوين ه له ذا الغ رض‪،‬‬
‫فمن حيوان ص غير‪ ،‬ض عيف‪ ،‬يتح ول إلى رض يع م ع م رور ال زمن إلى رج ل ع ادل فاض ل‪ ،‬ل ه دراي ة‬
‫بالقوانين األساسية يميز بكل وضوح بين الصواب والخطأ‪ ،‬وعليه أن يشجع على االرتقاء بالمدينة الفاضلة‬
‫التي شكلت حلم الفيلسوف‪ .‬لكن حدوث هذه األشياء وهذا الفضاء المرسوم بالجمال واالنسجام يقتضي إبعاد‬
‫هذا الطفل‪ ،‬مبكرا عن النساء‪ ،‬هاته المخلوقات الوضيعة الحق يرة‪ ،‬وال تي تص لح فق ط ألن ت روي حكاي ات‬
‫مملة‪2 .‬وكما يقول؛ علينا أن نرود المراهقين وألطفال بما يالئم مراحل نمو جسدهم‪ ،‬من أجل تهيئهم لخدمة‬
‫الفلس فة‪ .‬وعن دما ي أتي الس ن الق انوني ال ذي ت دخل في ه ال روح مرحل ة النض ج‪ ،‬يجب مض اعفة التم ارين‬
‫المخصصة لهذا الغرض‪ ،‬فليس التفلسف دون س ن النض ج‪ ،‬والنض ج هن ا ليس س وى التح رر من الجس د‪،‬‬
‫ومن الرغبات‪ ،‬إنه تتويج لترويض الجسد‪ ،‬إن هذا األساس األفالطوني هو الذي جع ل ت دريس الفلس فة في‬
‫مرحلة الثانوية مسألة معقولة‪ ،‬لحد ما نظر لطبيعة المرحلة ( المراهقة) مرحلة النقد والشك‪.‬‬
‫وعليه يمكن أن نقول أن التربية األفالطونية‪ ،‬س تكون ممكن ة فق ط عن دما تتط ابق الحكم ة الفلس فة م ع‬
‫السلطة السياسية‪ ،‬لكي تصبح الدولة المثالية حقيقة‪ ،‬هك ذا يمكن أن نق ول‪ ،‬أن مفه وم التربي ة األفالط وني‪،‬‬
‫منذ بدايته كان طوباويا‪.‬‬
‫وهذا الطريق التربوي األفلط وني‪ ،‬سيرفض ه" نيتش ه" الن اطق الرس مي باس م فلس فة الحي اة‪ ،‬معت برا‬
‫الفلسفة غير منفصلة عن الحياة‪ ،‬ومن ثم فالنضج ال يرتبط بسن معين‪ ،‬بل" بقوة اإلرادة" ‪ ،‬وادعاء النض ج‬
‫ليس سوى مطية لطمس العالقة بين الفلسفة والجسد والرغبة‪ ،‬وبالتالي فإن التقدم في السن حس ب "نيتش ه"‬
‫ليس عالم ة على النض ج والحكم ة‪ ،‬ب ل يق اس بم دى انص هار الحي اة الحق ة واالق تراب من ع الم الجس د‬
‫والرغبات‪ ،‬وبالتالي فتاجيل ت دريس الفلس فة‪ ،‬ه و تأجي ل الس ؤال و اإلنعك اف على الكبت الم زدوج؛ كبت‬
‫للرغبة في التفكير وكبت التفكير في الرغبة‪.‬‬
‫هكذا فالتأسيس األفالطوني للفلسفة التربوية‪ ،‬قد تم على أساس نسيان األصل الجسدي للخطاب‪ ،‬فانتهى‬
‫كما هو معروف إلى منح سلطة لألفكار على األلفاظ والروح على الجسد‪ ،‬فدشن بذلك بداي ة االنحط اط في‬
‫التفكير والثقافة‪ ،‬وذلك حينما جعل التفلسف تدربا على الموت‪ ،‬أي أن سعيا متواصال لألنفكاك على الجسد‪.‬‬
‫‪ - 1‬مجلة الجدل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص(‪)35‬‬
‫‪ - 2‬د‪ .‬نورة بوقفطان‪ " :‬هل كان المربون الكبار آباء بمعنى الكلمة؟"‪ ،‬مجلة علوم التربية‪ ،‬عدد ‪ ،14‬سنة ‪ ،1998‬ص ص(‪)112-111‬‬

‫‪11‬‬
‫وهذا عكس التربية كما ينش دها" زرادش ت"؛ وهي تربي ة الجس د‪ ،‬تربي ة تقص د تغليب الغرائ ز والطبيع ة‬
‫والحيوية على القيم األخالقية‪ ،‬التي أنتجتها للبشرية خالل لحظات انحطاطها وضعفها‪ ،‬فاإلنسان هو خ الق‬
‫القيم‪ ،‬وهذه دعوة صريحة لكي يمارس اإلنسان فاعليته على أوس ع نط اق ممكن‪ ،‬فبوس عه أن يض في على‬
‫العالم من المعاني ما يشاء‪ ،‬مثلما أضفى عليه من قبل معناه القديم‪ ،‬دون وعي منه‪ ،‬ثم تبث ه وقدس ه‪ ،1‬هك ذا‬
‫فالقول بنسبية القيم يفتح لنا المجال إلى تغيرها‪ ،‬وهكذا ما نجد " نيتشه" يقوله‪ ":‬الح ق أن الن اي ق د أعط وا‬
‫أنفسهم كل خيرهم وشرهم‪ ،‬الحق أنه لم يتلقوه‪ ،‬ولم يحدوه ولم يهبط إليهم من السماء‪."2‬‬
‫وإلى جانب قيم االنحط اط المرض ية‪ ،‬ال تي س نتها الفلس فة الس قراطية‪ /‬األفلطوني ة وال تي ك انت من‬
‫تمارها‪ ،‬اإلنسان العليل‪ ،‬الفاشل‪ ،‬المشوه‪ ،‬المص اب في نفس ه وجس مه‪ ،‬المتخ اذل عن الحي اة‪ ،‬حيث تلقفاه ا‬
‫"نيتشه" بمطرقته‪ ،‬مهدما إياها‪ ،‬فلم تسلم المسيحية وطاقمه ا الكهن وتي‪ ،‬من ض رباته الش ديدة‪ ،‬والمزلزل ة‪،‬‬
‫التي حطمت كل األغالل التي سنتها‪ ،‬وكبلت بها المسيحية اإلنسان والحياة‪.‬‬

‫‪ - 1‬فؤاد زكريا‪ " :‬نيتشه"‪ ،‬دار المعارف بمصر‪ ،‬الط‪ (. 2.‬بدون تاريخ) ص ( ‪)56‬‬
‫‪Nietzsche (f) : A.P.Z. « Demille et une fins » OP.Cit.T1.P80 - 2‬‬

‫‪12‬‬
‫والكاهن‪.‬‬ ‫‪ -2‬النموذج الكهنوتي؛ الكنيسة‬
‫لقد عظمت الكنيسة جميع أكاذيبها باسم " اإلله"‪ ،‬وباسمه شوهت اإلنسان‪ ،‬وسلبته حريته وأجبرت ه على‬
‫السجود‪ ،‬مرتعشا أمام قوى تفوقه‪ ،‬فهذه المسيحية تشكل إشاعة قيم المرض والضعف‪ ،‬إذ سعت إلــــــــــى‬
‫االنتقاص من قيم العالم األرضي‪ ،‬الذي ينش ده" زرادش ت"‪ ،‬وازدرت الجس د‪ ،‬فهي تمث ل إفس ادا لغريزت ه‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وتمثل حربا مستميتة على نموذج اإلنسان األعلى‪ ،‬هذا الذي يسعى "نيتشه" إلى تأس يس إمكاني ة‬
‫وجوده على األرض‪ ،‬فالمسيحية تسعى بهذا إلى تحطيم األقوياء‪ ،‬وإحباط شجاعتهم‪ ،‬وتحويل ثقتهم المعتزة‬
‫بأنفس هم إلى قل ق وتنكي د‪ .‬فهي ق د أفس دت اإلنس ان وأض عفته‪ ،‬لكنه ا ادعت أنه ا أص لحته‪ .1‬فكم من ال دم‬
‫والرعب والضعف يوجد في عمق كل " األشياء الحسنة" وبهذا يرفض "نيتشه" ما يس مى بالعق اب‪ ،‬ال ذي‬
‫يعمل على خلق نوع من الشعور بالذنب‪ ،‬واإلحساس بالخطأ‪ .‬ألن العقاب يجعل الذي عوقب‪ ،‬أكثر ص البة‬
‫ورباطة جأش‪ ،‬إن الذي نري ده من العق اب ه و تنمي ة الخ وف وقم ع ال ذكاء‪ ،‬وض بط الرغب ات‪ ،‬وبه ذا إن‬
‫العقاب يلين الطبع اإلنساني ولكنه ال يجعله أفضل‪ ،2‬فالعقاب يجعل اإلنسان ش ريرا‪ ،‬أك ثر من ه متعقال‪ ،‬ب ل‬
‫أحيانا غبيا‪ ،‬بسبب هذا الشعور بالذنب الذي يعد مرضا خطيرا ومزعجا‪ ،‬الزالت تعاني منه اإلنسانية ‪ ،‬ب ل‬
‫لم تشفى منه حتى اآلن‪ ،‬وال يزال اإلنسان يع اني من اإلنس ان‪ ،‬ال ي زال ه و م رض نفس ه‪ .3‬فه ذا الش عور‬
‫بالذنب مرض‪ ،‬لهذا فالكفر باإليمان المسيحي سيؤدي إلى زوال هذا الشعور بالدين‪ ،‬بالخطأ ل دى اإلنس ان‪،‬‬
‫بالضعف والوهن‪ ،‬الذي يخلقه هذا الدين‪ ،‬باعتباره دين محبة أحبوا أعداءكم ب اركوا ألعينهم‪ ،‬ص لوا ألج ل‬
‫الذين يعذبونكم" ‪.‬فهذه المحبة في نظره ليست إال استجابة العاجز إلى قوة الرجل النبيل‪ ،‬ف إلى م اذا ي دعو؟‬
‫إلى إدارة الخد الثاني لمن يلطم الخد األول‪ ،‬إلى التنازل عن الحقوق ومحب ة الع دو‪ ،‬فمن الظلم لإلنس ان أن‬
‫يبارك من يلعنه‪ ،‬ليقول بهذا إن<<المسيحية قلب لكل القيم اآلرية‪ ،‬وانتصار لقيم المنبوذين‪ ،‬بشرى يبش رها‬
‫المتواضعون والفقراء‪ ،‬ثورة المدرسين التعساء‪ ،‬والمشوهون والمخفقين العامة‪ ،‬ضد ال "نسب" إنها انتقام‬
‫المنبوذين األبدي مقدما كدين محبة‪ .4>>...‬فهو يرفضها بسبب طابعها الرعاعي‪ ،‬ومن جراء القيم الش عبية‬
‫التي تسود فيها‪ ،‬إذ جعلت من كل قيمة ال قيمة‪ ،‬ومن كل حقيقة ك ذبا‪ ،‬وه ذا م ا نج د " القديس ة ب ولس" في‬
‫رسالته إلى أهل رومية‪ ،‬اإلصحاح الثامن‪ ،‬يؤكد قائال‪ <<:‬اهتمام الجسد ولكن اهتمام الروح حياة وسالم‪ ،‬و‬
‫ألن اهتمام الجسد هو عداوة هلل ألن ه غ ير خاض ع لن ا م وس هللا‪ ...‬فال ذين هم في الجس د ال يس تطيعون أن‬
‫يرضوا هللا>> هكذا يرى " نيتشه" في المسيحية دين االنحطاط‪ ،‬ويدعوا إلى الكفر به ا‪ ،‬وبتعاليمه ا‪ ،‬ألنه ا‬
‫تؤثر الضعف على القوة‪ ،‬اللين على العنف‪ ،‬والحب عن الضعف‪ ،‬والس الم عن الح رب‪ ،‬وت ؤثر الفق ر عن‬
‫الغنى‪ ،‬والسماء على األرض‪ ،‬والروح عن الجسد‪ ،‬والعفة عن إشباع الغرائز والشهوات‪ ،‬وتؤثر العب د عن‬

‫‪ - 1‬ق‪ .‬نيتشه‪ " :‬أقول األصنام" مرجع سابق‪ ،‬ص(‪)59‬‬


‫‪ - 2‬ف‪ .‬نيتشه‪ " :‬حينيالوجيا األخالق" المرجع السابق‪.‬ص (‪.)71‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص(‪.)73‬‬
‫‪ - 4‬ف‪ .‬نيتشه‪ " :‬أفول األصنام" ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص (‪.)72‬‬

‫‪13‬‬
‫الس يد‪ ،‬واله وان عن المج د‪ ،‬والقناع ة على الطم ع والطم وح‪ ،‬والتواض ع على الكبري اء‪ ،‬والمس اواة عن‬
‫التفاوت‪ ،‬كما تؤثر على الحزن على الفرح‪ ،‬والبكاء على الض حك‪ ،‬واأللم على الل ذة‪ ،‬وت ؤثر حب الق ريب‬
‫على حب الذات والرحمة على القسوة‪ .1‬إال أن تعاليم " زرادش ت" ال تمت بص لة له ذا اللغ ط المح زن؛ إذ‬
‫يعتبر محبة القريب مجرد أنانية مظللة‪ ،‬وهروب من النفس‪ ،‬لهذا فهو ال يدعوا إلى محبة الق ريب ب ل اآلتي‬
‫اإلنسان األسمى‪ .2‬معتبرا تع اليم المس يحية ه ذه هي تع اليم الم وت واالنطف اء‪ ،‬تع اليم الحق د واالنتق ام من‬
‫الحياة‪ ،‬تعاليم الذل‪ ،‬الدموع‪، ...‬عكس تعاليمه‪ ،‬التي تنطق بالحياة والفرح والرقص‪...‬ليقول‪ " :‬إن اإلله الذي‬
‫يمكنني أن أومن به‪ ،‬إنما هو اإلله الذي يمكن أن يرقص‪. "3‬‬
‫وعليه " فنيتشه" لم يت وانى في ته ديم وإزال ة ك ل م ا ه و مض اد للحي اة‪ ،‬ك ل م ا ال يخ دم قيم الحي اة‬
‫إليجابية‪ ،‬فكان الدين من بين القيم البشرية التي هوى عليه ا بمطرقت ه العنيف ة‪ ،‬متمثال على الخص وص في‬
‫الدين اليهودي المسيحي‪ ،‬على اعتبار أن اإليمان المسيحي‪ ،‬منذ البداي ة تض حية بالحري ة كله ا‪ ،‬والكبري اء‬
‫بأسره‪ ،‬وبكل ثقة ذاتية في الروح‪ .‬وهو في الوقت نفسه استعباد وسخرية ذاتية‪ ،‬وشر وتش ويه له ا‪ ،‬إال أن ه‬
‫ظل متيقظا في انتقاداته‪ ،‬إذ نجده في كثير من مقوالته‪ ،‬يميز بين مسيحية أولى‪ ،‬ومس يحية ثاني ة‪ .‬فق د داف ع‬
‫عن المسيحية األولى واألصيلة‪ ،‬كما أتى بها المسيح‪ ،‬ه ذا ال ذي يحم ل مملك ة الس ماوات في قلب ه الودي ع‪،‬‬
‫ليس هذا المخلص حسبما يرى "نيتشه"‪ ،‬مؤسسا الكنيسة‪ ،‬بل على العكس نفى كل تنظيم‪ ،‬وجميع الم راتب‬
‫اليهودية‪ .‬فالكاهن المسيحي هو من أكمل ما بشر به الكاهن اليه ودي‪ ،‬فه و إنس ان يش في ج رح مث ل ه ذه‬
‫الحياة التعيس ة‪ -‬أع ني عص ر نيتش ه‪ -‬ويبعث فيه ا الس م‪ ،‬على نح و يص بح الج راح مع ه دائم الحاج ة إلى‬
‫الشفاء‪ .‬ولهذا فمادام الكاهن هو النوع األعلى فإن قيم الرجول ة س تظل محتق رة في نظ ر "نيتش ه" وس تظل‬
‫المسيحية ميتافيزيقية الجالد‪.‬‬
‫ويتألم "زرادشت" ‪ ،‬لهؤالء الكهن ة المنب وذين في الع الم‪ ،‬المكبلين بالوص ايا الكاذب ة‪ ،‬والكلم ات الوهمي ة‪،‬‬
‫فيصيح متحسرا‪ " :‬فليت لهــؤالء من يخلصــهم من مخلصــهم‪ ."4‬مخلص هم ه ذا ال ذي ج اءهم ب الخالص‪،‬‬
‫مبشرا بالقيامة‪ .‬أو الساعة؛ أي فناء بني اإلنسان‪ .‬عكس " زرادش ت" ال ذي ج اء مبش را " بم وت اآلله ة"‬
‫األبدي‪ ،‬وبداي ة الحي اة‪ ،‬مص رحا ب أعلى ص وته‪ ،‬لق د م ات المخلص‪ ،‬وم اتت المس يحية بموت ه‪ ،‬وم ا ه ذه‬
‫المسيحية إال قدر مشؤوم‪ ،‬ويعتبر فلس فته‪ -‬ه و‪ -‬نقيض ا له ذا الق در المش ؤوم‪ ،‬ال ذي ه و أعظم فس اد يمكن‬
‫تخيله‪ ،‬إذا شكل عقبة أمام تربية هذا ( النشأ) الذي سينبثق منه اإلنسان األسمى‪.‬‬
‫هكذا فإدانة الحياة لم تتفرد بها المسيحية‪ ،‬بل إن الفلسفة كذلك تشترك معها في ه ذا الحكم‪ ،‬وق د رأين ا‬
‫كيف تنك ر " نيتش ه" لك ل أش كال التربي ة الموهن ة‪ .‬ال تي تنتج لن ا المعتلين‪ ،‬الفاش لين‪...‬مث ل التربي ة ال تي‬
‫يحتضنها التصور الفلسفي السقراطي‪ /‬األفالطوني وغير من التصورات‪ ،‬كالخطاب التربوي ال ذي تدعم ه‬
‫‪ - 1‬يوحنا قمير‪ " :‬نيتشه نبي المتفوق" ‪ ،‬بيروت‪ ،‬مشوار دار النشر المشرق‪ ،1986 ،‬ص(‪.)49-48‬‬
‫‪Nietzsche (F) : A.P.Z. « de l’amour du prochain » OPcit.T1.p 82 - 2‬‬
‫‪Nietzsche (F) : « du lire et de l’écrire » OP cit.T1.P 55 -43‬‬
‫‪Nietzsche (F) : « du prêtres » OP cit. T2.P 119 - 4‬‬

‫‪14‬‬
‫مؤسسة الكنيسة‪ .‬ف "نيتشه" قد خاض صراعا ضد كل أشكال هذه التربية‪ ،‬التي يحتضنها خط اب تض منه‬
‫وتد عمه المؤسس ة‪ ،‬س واء األكاديمي ة‪ ،‬الكنيس ة‪ ،‬الجامع ة‪ ،‬الثانوي ة‪....،‬وق د تجلى انتق اده ومحاس بتة له ذه‬
‫األشكال التربوية‪ ،‬في اعتزاله التدريس بالجامعة‪ ،‬ثم انتقاده ألنماط التدريس التي كانت سائدة في ألمانيا‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫السائدة‪:‬‬ ‫‪ – 3‬نموذج المؤسسة التعليمية والثقافية‬

‫إن النقد الموجه للمؤسسة‪ ،‬والجهاز التعليمي‪ ،‬والعالقة بين المعلم والمتعلم‪ ،‬هو نقد موجه باألساس ي‬
‫للثقافة‪ - ،‬الثقافة األلمانية السائدة‪ -‬إنه تسائل عن" معنى" الثقاف ة الحقيقي ة‪ ،‬وعن غاي ة التربي ة‪ ،‬في عص ر‬
‫عرفت فيه ألمانيا ث ورة ثقافي ة‪ ،‬أث ر التح والت االجتماعي ة واالقتص ادية‪ ،‬تتمث ل في عمومي ة التعليم‪ ،‬وفي‬
‫توجيهه لخدمة العصر المتميز بظهور الصناعة والتجارة وحاجاته ا إلى أط ر ص غيرة‪ ،‬ولعم ال م ؤهلين‪،‬‬
‫يعرفون القراءة والكتابة والحساب‪.‬‬
‫و"نيتشه" عندما ينتقد المؤسسات التعليمية ويرفضها‪ ،‬إنما يرفض وداع ة خن وع ه ذه األخ يرة‪ ،‬ال تي تق دم‬
‫للدولة موظفين‪ ،‬وللصناعة عبيد أكفاء‪ ،‬وتح ول ب ذلك األس اتذة إلى " مرض عات راقي ات"‪ .‬وبالت الي فه ذه‬
‫الوداعة والخنوع اللذان يميزان المؤسسات التعليمية‪ ،‬يؤديان إلى خلق ثقافة مزيف ة وكاذب ة‪ .‬والثقاف ة ال تي‬
‫يتكلم عنه ا" نيتش ه"‪ ،‬وي نزل عليه ا بمطرق ة هي الثقاف ة ال تي تك ون في خدم ة الدول ة‪ ،‬هي تل ك القش ور‬
‫االصطناعية التي تخفي الطبيعة الحقيقية لإلنسان‪ .‬إذ أننا نجد " نيتشه" على لسان " زرادشت" الذي يوجه‬
‫خطابا كله حسرة على سكان مدينة البقرة الملونة يق ول في ه‪ ... " :‬لق د حف ر الماض ي في وج وهكم آث اره‪،‬‬
‫فألقيتهم فوقها أثار جديدة‪ ،‬لذلك خفيت حقيقتهم عن كل معبر وأعجزت كل بيان‪ .‬ولو ك ان ألح د أن يفحص‬
‫األحشاء‪ ،‬فهل بوسعكم أن تثبتوا أن لكم أحش اء‪ ،‬وم ا أنتم إال جبل ة هب اب‪ ،‬وقط ع أوراق ألص قت إلص اقا؟‬
‫وهذه جميع األزمنة وجميع الشعوب‪ ،‬تتزاحم مرسلة نظراتها من وراء قناعكم كما تفص ح جمي ع حرك اتكم‬
‫عن تراكم كل العادات والمعتقدات فيكم‪ .‬فإذا ما نزعت أقنعتكم‪ ،‬وألقيت أحمالكم‪ ،‬ومسحت أل وانكم‪ ،‬ووقفت‬
‫حركاتكم‪ ،‬فال يبقى منكم إال شبح ينصب مفزعة للطيور‪ ".1‬ويضيف " ‪...‬لقد اندفعت بعواطفي نح و رج ال‬
‫هذه األيام‪ ،‬ولكن ما لبثت أن تبينت فيهم قوما غرباء عني ال يستحقون إال سخريتي‪."2‬‬
‫فإنسان هذه الثقافة المزيفة التي يتحدث عنها " نيتشه"‪ ،‬هو إنسان فقير ومفتقد لنفسه‪ ،‬يعلن مظهره عن‬
‫خواء باطنه‪ ،‬وتعلن صورته المزركشة عن فقر ج وهره‪ ،‬وه ذه الثقاف ة ال تنمي في ه س وى ملك ة ال ذاكرة؛‬
‫ذاكرة تعمل في الماضي‪ ،‬وهذا ما بتم تعلمه في المؤسسات التعليمية‪ ،‬التي يسميها " نيتشه" بثقاف ة الم وت‪،‬‬
‫وأنها ليست سوى مؤسسات تمثل ألهداف الدول ة‪ .‬إنه ا الجه از الرس مي ال ذي يرض ع ص البة المعتق دات‬
‫اإلديولوجية‪ ،‬ويعمل على كبح الفرد‪ ،‬فال يعبر إال عما هو مقبول ومشترك‪ ،‬وليس عما هو خاص‪ .‬ب ل إنه ا‬
‫أكثر من ذلك تسعى للقض اء على ك ل رغب ة للمعرف ة ل دى التالمي ذ‪ ،‬بتح ويلهم إلى ش يوخ قب ل األوان‪ ،‬ال‬
‫يهتمون إال بالماضي‪ ،‬بالتاريخ المنصرم‪ .‬هذا ما دفع ب" نيتشه" إلى اإلعالء من قيمة النس يان‪ ،‬على قيم ة‬
‫التذكر‪ ،‬فيقول‪ " :‬أيها اإلنسان إنس أيها إنسان إنس‪ ،‬إلق بثقلك في البحر‪ ،‬فاإلهي ه و فن النس يان‪ ".‬وه ذه‬

‫‪Niézsche (F) : A.P.Z. « des pays de la culture » T.2.P.154 - 1‬‬


‫‪Ibid : p 155 -- 2‬‬

‫‪16‬‬
‫دعوة إلى رفض التعليم‪ ،‬الذي يخلق ذاكرة‪ ،‬تسجل فقط‪ ،‬أي تلميذ يحفظ يعيد اج ترار ه ذه ال ذاكرة‪ ،‬نس يان‬
‫المعلم‪.‬‬
‫ف التعليم الحقيقي حس به‪ ،‬ه و ذل ك ال ذي ينبغي نس يانه‪ ،‬ل ذلك نج د " زرادش ت" يطلب من رفاق ه أن‬
‫يضيعوه <<أمركم أن تض عوني لتج دوا أنفس كم>>‪ ،1‬إن الثقاف ة الحقيقي ة هي م ا تبقى بع د أن ننس ى ك ل‬
‫شيء‪ ،‬فالنسيان هنا‪ ،‬قوة رافضة لتلك الثقافة التي تسعى إلى تحقيق االمتثال‪ ،‬بقت ل ك ل مص در اإلب داع في‬
‫الفرد‪ ،‬ألن اإلس قاط ال ذي تكرس ه ه ذه الثقاف ة‪ ،‬يك ون على حس اب ذات المتعلم‪ ،‬ألن إس قاط ذات في ذات‬
‫أخرى‪ ،‬هو إضعاف لهذه األخيرة‪.2‬‬
‫هكذا يتوجه نقد " نيتشه" للتربية باعتبارها آلي ة للتالعب والتن اور‪ ،‬تعم ل على تش ويه وعي اإلنس ان‪،‬‬
‫وإلغاء ذاته‪ ،‬وبالتالي اخضاعه للسلطة المطلق ة للدول ة‪ .‬إذ يظه ر هن اك تش ابها بين الدول ة والفيلس وف في‬
‫الكتابات األخيرة " لنيتشه"‪ ،‬ولكن هذا التماثل ال يخلو من التحيز‪ :‬فحين يقدم الدولة كقوة تتص رف ب وعي‬
‫من أجل مص لحتها الخاص ة‪ ،‬يق دم الفيلس وف ض حية لمك ره وخداع ه ال ذاتي‪ ،‬ويظه ر الفيلس وف مجس دا‬
‫للمربي‪ ،‬وتظهر العالقة الجدالية بين الفيلسوف والعبد عالقة مشابهة لتلك ال تي تنش أ بين الم ربي ومريدي ه‬
‫داخ ل التربي ة المؤسس ية‪ .3‬من هن ا يتح دث " نيتش ه" عن التط ابق بين الكنيس ة والجامع ة‪ ،‬بين الرهب ان‬
‫والفالسفة‪ ،‬حيث اس تبدلت الكنيس ة بالجامع ة‪ ،‬و الرهب ان غ يروا ث وبهم الكهن وتي‪ ،‬ليظه روا في ص ورة‬
‫الفالسفة‪ ،‬لكن " الوظيفة" تتغير‪ ،‬فوظيفة المؤسسة التعليمية هي اس تمرار الوظيف ة الكنيس ة‪ :‬أي في خدم ة‬
‫الدولة‪.‬‬
‫وإن ما تروج له هذه المؤسسة التعليمية‪ ،‬هو فقط تلك الثقافة المزيفة‪ ،‬التي تضع الفواصل والمفارقات‪،‬‬
‫بين الغرائز‪ ،‬بين الخير والشر‪ ،‬والقبح والحسن‪ ،...‬نعم إنها غالبا ما تحاول زرع القيم والمبادئ في رؤوس‬
‫التالميذ‪ ،‬وهذا أمر جيد‪ ،‬إذا ما توافق مع تعليمهم‪ ،‬القدرة على التش كيك في الكث ير من القيم والمب ادئ ال تي‬
‫يربون عليها‪ ،‬بهدف تطوير قيم ثقافية أفضل‪ .‬ألن الثقافة الحقيقية‪ ،‬والتربية الفعالة كما يقول" نيتش ه"‪ ،‬هي‬
‫تلك التي ترفع ه ذه المفارق ات‪ ،‬وتكش ف وهمه ا‪ .‬فالتش كيك بالمس لمات ليس ب األمر الس يئ‪ ،‬ولكن ه يعطي‬
‫الفرصة للشخص‪ ،‬لمواجهة الكثير من المعتق دات في ع الم متغ ير الص ور والوج ود‪ .‬ونت ذكر طفولتن ا في‬
‫مؤسسة األسرة والمؤسسات التعليمية‪ ،‬المفعمة باألسئلة الملتهبة‪ ،‬حول هذا العالم الذي وج دنا في ه‪ ،‬وح ول‬
‫هذه األدوار التي يجب أن نتقمص ها‪ ،‬وه ذه الحرك ات والس لوكات‪ ،‬وه ذه الكلم ات ال تي يجب أن نحفظه ا‬
‫ونردده ا‪ ...‬ه ذه األس ئلة ال تي ك انت تواج ه ب القمع‪ ،‬ب دعوى أن المعتق دات ليس ت موض وعا للتس اؤل‬
‫واالستفسار‪ ،‬وال حتى الشك‪ ،‬ولكن " نيتشه" يرى أنه بدورنا كمدرسين يجب أن نك ون إيج ابيين‪ ،‬بإعط اء‬

‫‪Niézsche (F) : « De la prodigue vertu » OP.cit. T1 &3 .P103 - 1‬‬


‫‪ - 2‬مجلة الجدل‪ " :‬التربية والحرية" إفريقيا الشرق‪ ،‬سنة ‪ ،2000‬ص(‪)59‬‬
‫‪ - 3‬محمد بوبكري‪ " :‬التربية والحرية"‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ ،‬سنة ‪ ،2000‬ص ‪.59‬‬

‫‪17‬‬
‫الفرصة للتالميذ إلطالق العنان للعقل البشري من أجل التساؤل واالستفسار لكي يشكل معتقدات ه‪ ،‬يغيره ا‪،‬‬
‫أو يقويها‪.‬‬
‫ويعتبر هذه المؤسسة‪ ،‬قد أصبحت ملجأ تتخفى فيها ثقافة مشبوهة‪ ،‬ألن ما ينقص نا ه و ن وع آخ ر من‬
‫المؤسسة التعليمية‪ ،‬وهي المؤسسة الثقافية‪ .‬إذ يقول‪ << :‬ال تخلط وا إذن‪ ،‬أيه ا األص دقاء بين ه ذه الثقاف ة‪،‬‬
‫هذه اآللهة األثيرية‪ ،‬ذات األرجل الرشيقة والحس المرهف‪،‬وتلك الخادمة الخانعة والتي تدعي هي األخرى‬
‫في غالب األحيان ال " ثقافة" والتي ليست سوى خاضعة وتابعة وناصحة لبؤس الحياة في شكل " ثقاف ة"‪،‬‬
‫إن كل تربية من أجل الوظيفة والمعاش‪ ،‬ليست تربية من أجل الثقافة‪ -‬كما نفهمها‪ -‬فهي تضع فق ط العالم ة‬
‫على الطريق‪ ،‬الذي ينقد الذات ويحميها في صراع البقاء‪ ،...‬فالمؤسسات التي تعد األفراد لخوض الصراع‬
‫‪ ،...‬إنما هي فقط مؤسسات لمقاومة بؤس الحي اة وفقره ا‪ ،‬فهي تع د بتك وين الم وظفين والض باط والتج ار‬
‫والفالحين واألطباء‪ ،‬والتقنيين‪ ،‬ولهذا ينبغي أن تتأسس على ق وانين وقواع د تختل ف في ك ل األح وال عن‬
‫تلك ال تي تق وم عليه ا المؤسس ات الثقافي ة‪ .1>>...‬فالمؤسس ة كله ا منحط ة بش كل مخ ز‪ ،‬وال وج ود إذن‬
‫لمؤسسات من أجل الثقافة‪ .‬وحينما يثم التظ اهر ب العكس‪ ،‬فإنن ا نص بح أك ثر يأس ا‪ ،‬وأك ثر بؤس ا وتعاس ة‪،‬‬
‫ويضيف << أما بالنسبة لي أنا‪ ،‬فإني ال أعرف سوى معارضة واحدة‪ ،‬وحقيقية‪ ،‬هي تع ارض المؤسس ات‬
‫الثقافية‪ ،‬ومؤسسات " بؤس الحياة"‪ ،‬ولهذه األخيرة تنتمي إلى كل المؤسسات الموجودة‪ ،‬ولكني عن األولى‬
‫أتكلم>>‪.2‬‬
‫إن هذه دعوة إلى رفض الثقافة المزيفة الس ائدة‪ ،‬في المؤسس ات التعليمي ة األلماني ة‪،‬حيث نج ده يعلن‬
‫بكل حسرة قائال‪ <<:‬لقد فقد التعليم العالي في ألمانية ما هو أساسي‪ ،‬الهدف‪ ،‬وفقد كذلك الوسيلة لبل وغ ه ذا‬
‫الهدف‪ ،‬أن تكون التربية العامة غاية في ذاتها‪ -‬ليس " الرايخ"‪ -‬وأن يكون المربي ضروريا لهاته الغاية (‬
‫وليس أستاذ التعليم الثانوي أو الب احث الج امعي)‪ ،‬ه ذا م ا نس يه المس ؤولون‪...‬م ا ينقص هم مرب ون تمت‬
‫ت ربيتهم هم أنفس هم‪ ،‬هي عق ول متفرق ة ومتم يزة‪ ،‬تثبت قيمته ا وإمكاناته ا في ك ل الظ روف بكلماته ا‬
‫وبصمتها‪ ،‬عقول تكون ثقافات حقيقية حية‪ ،‬ناضجة وشهية‪ -‬وليس العلماء األفظاظ الذين ت وفرهم الجامع ة‬
‫والثانوية للشباب‪ ،‬إال مثل " مرض عات متفوق ات‪ ...‬إن م ا يحص ل علي ه التعليم األلم اني ‪ ،‬ال ذي يس مى "‬
‫عاليا" ‪ ،‬هو ترويض عنيف يمكن في أقل وقت ممكن ‪ ،‬من جعل العديد من الشباب صالحين لالستغالل في‬
‫خدمة الدولة‪" ،‬تعليم عال" وتعدد ال يحص ى‪ ،‬وه ذا تن اقض بين في المب دأ‪ .‬ال يخص ص التعليم الع الي إال‬
‫االستثناءات‪ ،‬يجب أن يكون المرء موهوبا كي يطمح إلى مثل هذا االمتي از الس امي ج دا‪ ،‬ال يمكن أب دا أن‬
‫تكون كل األشياء العظيمة والجميلة من امتالك العامة‪.‬‬

‫‪ " - 1‬حول مستقبل مؤسساتنا التعليمية" المحاضرة ‪ -4‬مقتطف من " مجلة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص( ‪)99‬‬
‫‪ - 2‬نفسه‪ ،‬ص( ‪)101‬‬

‫‪18‬‬
‫م ا ال ذي يح دد انحط اط الثقاف ة األلماني ة إذن؟ إن ه ك ون التعليم الع الي‪ ،‬لم يع د امتي از‪ -‬إنه ا النزع ة‬
‫الديموقراطية في الثقافة " العامة" التي أصبحت " شائعة" وعامية"‪ .1‬ويضيف " ك ل مدارس نا العلي ا دون‬
‫اس تثناء مض بوطة على س طحية مريب ة ج دا‪ ،‬في هيئته ا التدريس ية‪ ،‬في برنامجه ا‪ ،‬في مثله ا التربوي ة‪.‬‬
‫وثانوياثنا المكتظة‪ ،‬وأساتذتها المرهقون‪ ،‬المخبولون فضيحة حقا>>‪.2‬‬
‫وعليه فانحطاط المؤسسات التعليمية‪ ،‬يتمثل في أشياء هذه العالقات المبتذلة بين المعلم والمتعلم؛ عالقات‬
‫تقوم على السمع والتسجيل‪ ،‬والسرعة في إصدار الحكم وفي اإلنت اج‪ .‬و"نيتش ه" يع ارض ه ذه الوض عية‪،‬‬
‫من خالل مطلب البصر؛ إعطاء العين حقها في العملي ة التعليمي ة‪ ،‬فع بر العين يتم إنش اء الفك ر‪،‬له ذا فتعلم‬
‫النظر – هو ما تفتقر إليه المؤسس ة التعليمي ة األلماني ة‪ -‬وه و الطري ق الح ق إلى الفك ر‪ ،‬إن ه كم ا يق ول "‬
‫نيتشه" نفسه‪ ،‬هو المدرسة االبتدائية لحياة الفكر‪.‬‬
‫<< حتى أظل مخلصا لميزاجي‪ ،‬الذي هو إيج ابي في األس اس‪ ،‬وال يتع اطى للنق د والمنازع ة إال بش كل‬
‫غير مباشر‪ ،‬وعلى مضض‪ ،‬فإنني أسارع في عرض المهمات الثالث‪ ،‬التي ال بد لها من م ربين‪ ،‬يجب أن‬
‫نتعلم أن نرى‪ ،‬يجب أن نتعلم أن نفكر‪ ،‬يجب أن نتعلم أن نتكلم وأن نكتب‪ ،‬إن هدف هاته المواث هي إنشاء‬
‫ثقافة رقيقة‪.‬‬
‫فتعلم النظر يعني‪ ،‬أن نعود العين على الهدوء‪ ،‬على الصبر‪ ،‬على ترك األشياء ت أتي إليه ا‪ ،‬على تعلي ق‬
‫الحكم‪ ،‬أن نتعلم اإلحاط ة ونهم ه في إط اره الكلي‪ ،‬ه ذه هي المدرس ة التمهيدي ة األولي ة لحي اة العق ل‪ :‬أال‬
‫نستجيب فورا ألي إغ راء‪ ،‬ب ل نع رف كي ف نس تعمل الغرائ ز ال تي تكبح وتع زل‪ .‬أن نتعلم أن ن رى ه و‪،‬‬
‫بالمعنى الذي أفهمه‪ ،‬أن يمتلك تقريبا ما تس ميه اللغ ة " ق وة اإلرادة" ‪ :‬األساس ي هن ا ه و أن ال نري د فع ل‬
‫شيء ما‪ ،‬أن نعرف كيف نعلق قرارنا‪ .‬يأتي كل موقف مضاد للروحية‪ ،‬كل فظاظة من العجز عن مقاومة‪،‬‬
‫إغرائها‪ :‬يجد الناس أنفسهم مرغمين على االستجابة‪ ،‬يخضعون لكل محرض نفسي‪ .‬في كثير من الح االت‬
‫يكون مثل هذا اإلرغام‪ ،‬عالمة مرض‪ ،‬عالمة انحطاط‪ ،‬أمارة إنهاك‪ ،...‬النتيجة العلمية لتربية العين ه ذه ‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫فيما بعد حيث سيكون على المرء أن يتعلم شيئا ما سيكون قد صار بطيئا‪ ،‬حذرا صموتا‪"...‬‬
‫هكذا إن المؤسسة التعليمية‪ ،‬تقدم كل شيء إال شيئا واحدا وهو " التفكير" فهي ال تملك عنه أدنى فك رة‪،‬‬
‫فهو خطر على المؤسسة ذاتها‪ ،‬ل ذا فهي تقص يه وتبع ده‪ ،‬وبالت الي ف إن المؤسس ة التعليمي ة‪ ،‬من حيث هي ا‬
‫خادمة للدولة وأداة إلنتاج األطر الصالحة االستغالل‪ ،‬قد أفلست في نظر " نيتشه"‪.‬‬
‫<<أن نتعلم أن نفكر‪ :‬ليس لمدارسنا أدنى فكرة‪ ،‬عما يعنيه ذلك‪ ،‬ح تى في الجامع ات‪ ،‬ب ل وح تى ض من‬
‫أعلم الفالسفة‪ ،‬يصير المنطق‪ ،‬بما هو نظرية وممارسة وتقنية نحو اإلفالس‪ ،‬لنق رأ بعض الكتب األلماني ة؛‬
‫لقد نسي فيها تماما أن ه لكي يتم التفك ير فال ب د من تقني ة من برن امج‪ ،‬من إدارة التحكم‪ ،‬إن ه الب د من تعلم‬

‫‪ - 1‬ف‪.‬نيتشه‪ " :.‬أقول األصنام" ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص( ‪)70-69‬‬


‫‪ - 2‬نفسه‪ ،‬ص( ‪)71‬‬
‫‪ - 3‬نفسه‪ ،‬ص (‪)72‬‬

‫‪19‬‬
‫التفكير مثلما يتعلم الرقص‪ ،‬كنوع خاص من الرقص‪...،‬أن يعرف الم رء كي ف ي رقص برجلي ه‪ ،‬باألفك ار‬
‫وبالكلمات‪ ،‬أال يزال هناك داع ألن نقول؛ بأنه على المرء أيضا أن يعرف كيف يرقص بقلمه‪ ،‬بأنه عليه أن‬
‫يتعلم أن يكتب>>‪.1‬‬
‫إن العالق ات الس ائدة في المؤسس ة‪ ،‬هي عالق ات" أكروماتي ك" ‪ ،Acroamatique‬فعالق ة المعلم‬
‫بالمتعلم‪ ،‬هي عالقة بين متكلم ومس تمع‪ ،‬المؤسس ة التعليمي ة ليس ت س وى جه از للدول ة‪ ،‬حيث " األس اتذة‬
‫والطلبة" يعتقدون في " أوطونوميتهم" في حين أنها ليست س وى " ش به‪ -‬أوطونومي ة"‪ ،‬إنهم عبي د أذانهم‪،‬‬
‫إن الثقافة ( والتربية) في ه ذه المؤسس ات هي ثقاف ة الدول ة ال تي تتخ ذ ص ورة‪ :‬األم ‪ /‬الحي اة‪ ،‬في حين أن‬
‫علومها‪ ،‬علوم تعالج الحياة بالموت‪ ،‬إنها علوم األب ( الم وت) ال ذي يختفي وراء وج ه األم المزيف ة‪ ،‬أم ا‬
‫األستاذة والطلبة فإنهم يرتبطون بهذه المؤسسة هو رفض للموت ‪ /‬األب‪ ،‬وإن الثقافة الفعلية والتربي ة ال تي‬
‫تروجها ال يمكن أن تقوم إال بال دفع ب الموت‪ .2‬لكن " نيتش ه" يق ول ‪<< :‬أعط وني الحي اة أص نع لكم منه ا‬
‫ثقافة>>‪.‬‬
‫فمهمة المربي الحقيقية‪ ،‬حسب " نيتشه" هي تغير جميع القيم‪ ،‬وتحويلها أي تهيئ " اإلنسانية إلى العودة‬
‫إلى ذاتها‪ ...‬هذه المهمة تتأتى من كون اإلنسانية‪ ،‬ال تحكمها قوانين إلهية‪ ،‬ولكن على العكس من ذلك‪ ،‬فمن‬
‫بين قيمتها األكثر قدس ية‪ ،‬توج د بالض بط غري زة الس لب الفاتن ة‪ ...‬غري زة االنحط اط"‪ .‬كم ا أن من مه ام‬
‫المربي‪ ،‬مهمة تحطيم األوثان‪ ،‬أي تحطيم المعلم الوثن‪ ،‬وكذلك القضاء على التابع أو المريد المخلص‪ ،‬إنها‬
‫تحطيم لنسق التربية‪ ،‬الق ائم على " الت أثير" ( ت أثير األس تاذ في التلمي ذ)‪ .‬ورفض وفض ح ألوه ام الثقافي ة‬
‫السائدة في المؤسسة‪ ،‬بل كشف عن أكاذيب وأوهام هاته األخيرة‪ .‬إنها مهمة تحمل أمر األستاذ إلى التلمي ذ‪،‬‬
‫من أجل أن يبحث التلميذ عن ذاته‪.‬‬
‫هكذا خاض " نيتشه" صراعا‪ ،‬ضد تبخيس الحياة التي يدعو إليه ا الكه ان‪ ،‬والفالس فة الميت افيزيقيون‬
‫منذ " سقراط"‪ ،‬والمؤسسات التربوية التي حلت مح ل الكنيس ة‪ .‬وه و يس عى به ذا إلى س حب ه ذا الط ابع‬
‫الالهوتي عن الوجود‪ .‬فهو يلخص نقائض عصره في عبارة واحدة هي " إنك ار الحي اة"‪ ،‬ويلخص اله دف‬
‫من جملته النقدية الهائلة في " اإلقبال على الحياة" فالحياة هي أصل كل القيم الفكرية واألخالقية‪ ،3‬لقد ك ان‬
‫نقده بمثابة صرخة أطلقها بك ل عن ف في وج ه ه ذا االنحط اط ‪ ،‬والخن وع‪ ،‬متقمص ا دور األس د المه دم‪،‬‬
‫المحطم لكل ألوثان والتماثل‪ ،‬التي شكلت حجر عثرة في طريق اإلنس ان األس مى‪ ،‬وله ذا يمكن أن نص ف‬
‫أعمال" نيتشه" بأنها تمثل مدرسة الشجاعة و الجسارة‪ ،‬وهو القائل إما كل شيء أو ال شيء؛ لق د ه دم ك ل‬
‫شيء وأعاد بناء كل شيء‪ ،‬و " زرادش ت" ه و من يمث ل نم وذج ه ذا الم ربي المحطم‪ ،‬المه دم للتماثي ل‪،‬‬

‫‪ - 1‬نفسه‪ ،‬ص (‪)73‬‬


‫‪ - 2‬مجلة الجدل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص(‪)45‬‬
‫‪ - 3‬محمد األندلسي‪ " :‬الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد"‪ ،‬سلسلة دراسات وأبحات‪ ،11 ،‬جامعة موالي إسماعيل‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم‬
‫اإلنسانية‪ ،‬مكناس‪ ،2003 ،‬ص (‪)74‬‬

‫‪20‬‬
‫ونموذج المربي الباني‪ ،‬المبدع‪ ،‬المحرر و المثبت لحياة‪ ،‬حيث نجده يقول لرفاقه ‪ << :‬انتبه وا‪ ،‬إن ني آتيكم‬
‫بلوح جديد >> ضدا على األلواح القديمة التي حطمها وأبطلها‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫‪ -II‬نموذج المربي المثبت للحياة‪:‬‬
‫‪Maintenant je vous adjure que me perdiez et vous trouviez ,et seulement quand vous m’ aurez‬‬
‫‪tous renie , à vous je veux revenir .En vérité ,mes fréres , c’est avec D’autres yeux qu alors‬‬
‫‪Je chercherai mes perdus ; D’un autre amour alors je vous aimerai . (zara ,Dela prodigue‬‬
‫)‪vertu T2.P 103‬‬

‫لقد حدد " نيتشه " مهمة حياته من خالل كتاباته ‪ ،‬ومن خالل مساره الفلسفي‪ ،‬حينما قال <<إن مهمة‬
‫حياتي هي ‪ ،‬أن أعد اإلنسانية لحظة الوعي الذاتي الرائع ‪ ،‬أوج ظهيرة عظيمة تخدمه للوراء ولألمام مع ا‬
‫عند ما بزغ من جبروت ما هو عرض ‪ ،‬ومن الكهان ة وألول م رة تط رح الس بب وللمك ان ‪ ،‬فيم ا يتعل ق‬
‫باإلنسانية ككل>> فهو يهدف إلى تغيير الوجود اإلنس اني نح و األفض ل ن وإخ راج اإلنس ان من مرحل ة‬
‫الديدان ‪ ،‬إلى مرحلة اإلنسان األسمى ‪،‬المبشر بالبرق ‪ ،‬والذي يحمل القيم الجديدة ‪،‬قيم األخالق النبيلة ‪ ،‬قيم‬
‫تغير اإلنسان بالقضاء على اقترابه وانفصاله عن ماهية كإنسان بروحه وجسده‪ ،‬بغرائزه وانفعاالته وعقله‪،‬‬
‫بحبه وحقده‪ ،‬بحزنه وفرحه ‪ ،...‬وساعتها يولد اإلنسان من جديد ‪ .‬اإلنسان الذي يمارس حريته ويرس م من‬
‫جديد صورته فوق سطح الزمان ‪.‬‬
‫إن "نتنشه " بهذا يدعو إلى ف ردوس جدي د ‪ ،‬بع د أن ح ارب القيم الس لبية وه دم الق ديم المق دس‪ ،‬مبش را‬
‫بالجديد‪ ،‬الذي هو الفرح من أجل أن يجعل كل لحظة في الحياة عيدا يحتفل ب ه الن اس‪ ،‬عي دا للف رح‪ ،‬داعي ا‬
‫إلى " زرادشت " جديد‪ ،‬ذلك المفكر الفارسي القديم ‪ ،‬الذي من الظالم ينبثق الن ور على يدي ة‪ ،‬دعي ا إلى "‬
‫ديون يزوس "جدي د ذل ك إال ل ه اإلغ ريقي ذواألص ول المش رقية ‪ ،‬ال ذي ه و إل ه الظالم أي إل ه الس كر‬
‫والليل ‪ ،....‬فهو أقدر الجميع على الغوص في األعماق بحثا عن نور جديد ‪ ،‬لقد أدرك ببصيرة ش ديدة ‪ ،‬أن‬
‫الثقافة والعلم الحديثين قد فقدا البصر ‪ .‬إنهم ا يكتفي ان بإنت اج الهمجي ة‪ ،‬هات ه الهمجي ة والميتافيزيقي ا عم ل‬
‫"نيتشه " على مناهضتها‪ ،‬بحبه الكبر لألرض واإلنسان األسمى‪ ،‬هذا اإلنس ان ال ذي يقص ده‪ ،‬ق وي ج رئ‬
‫ليس بهياب‪،‬‬
‫محب للحياة كأنه من أتباع "ديونيزوس" وغير مس يحي ب المرة ‪ ،‬ألن ه ذا الض عف المس يحي ه و األم ر‬
‫المهم الذي دفع ب"نيتشه " إلى التطرف مع إنسانه المتفوق‪ ،‬قصد الخ روج من العدمي ة وتحوي ل التعاس ة‬
‫األلماني ة إلى س عادة ‪ ،‬ب ل التعاس ة المخيم ة على أوروب ا كله ا وليس ألماني ا فق ط ‪ ،‬وذل ك بتأس يس أخالق‬
‫أرضية تجعل من اإلنسان ‪ ،‬سيد نفسه وسيد األرض ‪ ،‬أي جعل التراب وطن اإلنسان الدائم ‪.‬‬
‫هكذا فمفهوم "زرادشت " للتربية ‪ ،‬وال ذي وض حه بالكام ل في كتاب ه "هك ذاتكلم زرادش ت " – كت اب‬
‫الهواء الجبلي – حيث يعتبره كتابا أساسيا ‪،‬إذا يؤمن "نيتشه " من خالله بأن اإلنسان مخلوقا حرا بطبيعته‪،‬‬
‫مسؤوال عن قدرة‪ ،‬يستطيع أخذ القرارات المالئمة له‪ ،‬إنه يرى في الق وة " الحقيقي ة" ال تي يجب اإلس تماع‬

‫‪22‬‬
‫لها بكل األحاسيس‪ .‬ألنه إذا ما استمعنا إلى متطلبات أنفسنا بصدق‪ ،‬فسوف تك ون حياتن ا مغ ايرة لل تي هي‬
‫عليه اآلن‪ ،‬حياة ذات معنى‪ .‬وهذه النظرة المتفائلة لطبيع ة اإلنس ان‪ ،‬تجع ل الب اب مفتوح ا على مص راعيه‬
‫للتدخل التربوي المثمر‪ ،‬هذا التدخل الذي يساعد اإلنسان‪ /‬المتعلم على التحرر والتفوق‪ ،‬انطالقا من إرادت ه‬
‫ورغبته المتجسدة والمستمر‪ ،‬وهذه كانت مهمة زرادشت‪ /‬المربي‪ ،‬اتجاه رفاقه المتعلمين‪.‬‬

‫‪ ‬زرادشت المربي‪:‬‬
‫إن " لزرادشت" وازعا قويا نحو التربية‪ ،‬فهو يق ارب الفع ل ال تربوي ب النحت على الحج ر‪ ،‬ويش به‬
‫نفسه بالنحات الذي ينحت على الحجارة‪.‬‬
‫وحتى تتضح صورة " زرادشت" من حيت هو مربي نستطرد فيما س بق قول ه بص دد المؤسس ة‪ ،‬ف إذا‬
‫كان " سقراط" مؤشرا يدل على األكاديمية التي أنشأها فيم ا بع د تلمي ذه " أفالط ون" بقص د تعلم الحقيق ة‪،‬‬
‫حقيق ة المفه وم‪ ،‬تعلم الرياض يات وتعلم الق انون اله رمي‪ ،‬ال ذي يحكم أوض اع الموج ودات‪ ،...‬ف إن "‬
‫زرادشت" هو بدوره مؤشرا على " مستقبل المؤسسات التعليمية" فهو إذ يتخلى عن مؤسسة الحاضر التي‬
‫هي عالمة على انحط اط عص ر بأكمل ه‪ ،‬إذ يوليه ا ظه ره تارك ا وراءه رنين مطرقت ه يص ر بتهكم‪ ،‬فإن ه‬
‫يتح دث ويعت بر عن حاج ة إلى المؤسس ة‪ ،‬مؤسس ة تك ون منطلق ا للحي اة والتعلم‪ ،‬إن ه بعب ارة أخ رى ض د‬
‫العدمية‪ .1‬إذ يقول‪<< " :‬إن وقتي لم يحن بعد ه و اآلخ ر‪ ،‬فبعض الن اس يول دون بع د وف اة وال ديهم‪ ،‬وفي‬
‫بعض األحيان اليكون هناك استشعار بحاجة إلى مؤسسات ليعيش فيها الناس‪ ،‬ويتعلمون على نحو م ا أفهم‬
‫العيش والدراس ة‪ ،‬وربه ا يش هد ذل ك الي وم موهب ة التخلص لتفس ير كت ابي ( هك ذا تكلم زرلدش ت)‪ ،‬ولكن‬
‫سيكون متناقضا مع نفسي أن أتوقع أي ترحيب بحقيقتي اليوم‪ ،‬فاليوم ال أحد ينص ت لي‪ ،‬وال يع رف كي ف‬
‫يتلقى ما أعرضه أو هذه المسألة ليست مفهومة فقط ب ل حق ه أيض ا>>‪ .2‬من خالل ه ذا النص‪ ،‬نفهم كي ف‬
‫يعتبر " نيتش ه" أن الحاض ر – أي حاض ره ه و‪ -‬قاص ر عن تلقي تع اليم " زرادش ت"‪ ،‬ه ذا المعلم ب دون‬
‫كرسي‪ ،‬والذي يعلم خارج المؤسسة‪ ،‬فهو يعلم انطالقا من حياته الخاصة‪ ،‬إن السيرة الذاتية هنا هي الدرس‬
‫الفلسفي‪ ،‬والفلسفي جدا‪ ،‬وإذا كان " نيتشه" يتحدث عن المؤسسة الممكنة في " المستقبل" فإن ذلك يتم على‬
‫ضوء‪ ،‬هذا المستقبل‪ ،‬إن " زرادشت" من حيث هو معلم‪ ،‬تقوم مهمته األولى على استشراف المستقبل‪ ،‬من‬
‫خالل تشخيص أوضاع الحاضر‪ .‬ومتابعة التحوالت المستمرة لإلنسان‪ ،‬إذ سيصبح في يوم ما هدفا لل درس‬
‫والتأويل‪ ،‬وعندئذ يبدأ دور تلك المؤسسة التي لن تتناقض مع الحياة كما ينبغي أن تع اش‪ ،‬وه ل مع نى ه ذا‬
‫أن " نيتشه" يعود ليقول بالمؤسسة بعد أن رفضها؟‪.‬‬
‫ال يجب أن نفهم هنا أن "نيتشه" يريد أن يص نع أوثان ا جدي دة‪ ،‬بع د أن حطم األوث ان القديم ة‪ ،‬كم ا ال‬
‫يجب أن نفهم أنه يبشر" بالمؤسسة" بعد أن أعلن عن إفالسها‪ ،‬فمشروعه التربوي‪ ،‬كما يتكلم عنه في كتابه‬

‫‪ - 1‬مجلة الجدل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص (‪)37‬‬


‫‪ - 2‬ف‪ .‬نيتشه‪ " :‬هوذا اإلنسان" ترجمة‪ ،‬مجاهد ع‪ .‬المنعم مجاهد‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار التنوير سنة ‪ ،2005‬الطبعة األولى‪ ،‬ص (‪.)71‬‬

‫‪23‬‬
‫" ه وذا اإلنس ان" ه و تعليم ب النموذج حيث يق ول‪<< :‬إني أق در الفيلس وف في الح دود ال تي يك ون فيه ا‬
‫نموذجا‪ ،‬لكن هذا النموذج ال يقدم ب الكتب‪ ،‬ولكن بالحي اة اليومي ة>>‪ .‬إن ه نم وذج بالحي اة بالس يرة الذاتي ة‪،‬‬
‫فجوهر التعليم يمثل فيمايلي‪ :‬وحده ما يستش ير المحاك اة‪،‬ينبغي أن ي درس‪ ،‬وه ذه المحاك ات ال تي يتم فيه ا‬
‫اإلحتداء بالنموذج‪ ،‬هيا محاكاة‪ ،‬يبحث فيها الطالب عن " قانونه الخ اص"‪ ،‬ال أن يتب نى ق انون المعلم‪ ،‬ألن‬
‫هذه المحاكاة تكون نتيجة التب ادل الب اطني والحس م لتل ك اللحظ ات التراجيدي ة بين المعلم والمتعلم‪ ،‬أو بين‬
‫األفراد‪ .‬ألن هذا هو ما يفتح أفقا لتربية تعتبر الحياة وال تلغيها‪ ،‬تربية تمجد الحي اة‪ ،‬وت دفع به ا إلى إش راق‬
‫ممتع بحيث نواجه المصائر واألقدار مهما كانت‪ ،‬وتوجهها لصالح اإلنسان ال لقلته‪ ،‬وهذا التفاع ل نج د "‬
‫زرادشت" يصدح به في بداية سيرته‪ ،‬إذ يناجي الشمس قائال‪ <<:‬ل و لم يكن لش عاعك من ين ير‪ ،‬أك ان ل ك‬
‫غبط ة‪ ،‬أيه ا الك وكب العظيم؟ من ذ عش ر س نوات م ا ب رحت تش رق على كهفي‪ ،‬فل والي‪ ،‬ول وال نس ري‬
‫وأفعواني‪ ،‬لكنت مللت أنوارك وسئمت ذرعا ه ذا الس بيل‪ ،‬ولكنن ا كن ا ن ترقب بزوغ ك ك ل ص باح لنتمت ع‬
‫بفيضك‪ ،‬ونرسل بركتنا إليك‪ ،‬إصغ إلي‪ ،‬لقد ك رهت نفس ي‪ ،‬حكم تي كالنحل ة أتخمته ا م ا جمعت‪ ،‬فمن لي‬
‫ب األكف تنبس ط أم امي‪ ،‬ألهب وأغ دق إلى أن يغتب ط الحكم اء من الن اس بجن ونهم‪ ،‬ويس عد الفق راء منهم‬
‫‪1‬‬
‫بثروتهم>>‬
‫"فزارادشت" من خالل هذا النص‪ ،‬في حاجة إلى الناس‪ ،‬مع أن أصل حاجته هذه ليس الوازع اإلنساني‬
‫أو الغيري‪ ،‬وإنما الضرورة الباطنية‪ ،‬فهو في حاج ة إلى الن اس ألنهم يش كلون الم ادة األولي ة ال تي تحجب‬
‫صورة " اإلنسان األس مى"‪ ،‬ال ذي يك افح من أجل ه‪ .‬ه ذه الم ادة األولي ة ال تي يش بهها باألحج ار الص لبة‬
‫الخشنة‪ ،‬لكنه ال يمكن أن يتخلى عن هذه المادة األولية المشمئزة‪ .2‬فه و النح ات ال ذي ينحت على الحج ارة‬
‫الشكل الذي يتصوره‪ ،‬يقول‪<< :‬إن طموح إرادتي إلى اإليجاد يدفعني أبدا نحو الناس اندفاع المطرقة ف وق‬
‫الحجر‪ ،‬أيها الناس‪ ،‬إنني أرى صورة كامنة في الحج ر‪ ،‬ص ورة تخيالتي‪ ،‬أفيج در أن تبقى ثاوي ة في أش د‬
‫الصخور صالبة و قبحا"‪.3‬‬
‫هكذا وبناءا على ما سبق ‪ ،‬يتضح لنا أن التربية الينتشوية عملية عنيفة‪ ،‬ألن " زرادشت" يشتغل بدون‬
‫رحمة‪ ،‬فهو نذر نفسه للنموذج الذي خطه في ذهنة‪ ،‬وخالل قيامه بعمله فإنه ال يعب أ بالش ظايا ال تي تتط اير‬
‫من حوله وتتساقط أرضا‪ ،‬إذ نجده يقول‪<< :‬إن مطرقتي تهوي بضرباتها القاس ية على ه ذا الس جن ف أرى‬
‫حجره يتناثر‪ >>4‬إنه إذن يشخص صورة المربي العنيد‪ ،‬فهو ينحت الصخر ويهدمه‪ ،‬ليترك الحرية للتمثال‬
‫الذي سيخرج من الحجر‪ .‬وبدون هذا الهدم‪ ،‬وهذه القسوة واأللم‪ ،‬سيظل " اإلنسان األس مى" متحجب ا وراء‬
‫هذا التمثال البشع الخشن‪ .‬وهدم " نيتشه" هذا ليس هدما عشوائيا‪ ،‬وقسوته ليس همجية‪ ،‬بقدر م ا تع بر عن‬

‫‪F. Nietzsche : A.P.Z « prologue de Zarathoustra » OP.cit§. 1. p19 - 1‬‬


‫‪ - 2‬محمد بوكري‪ " :‬التربية و الحرية"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص (‪)61‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Nietzsche F : A.P.Z. « Aux iles fortunées » OP.cit.T2. p112 -‬‬
‫?‬
‫‪- Ibid4‬‬

‫‪24‬‬
‫بصيرة ثاقبة‪ ،‬من أجل وإبداع فني غاي ة في اإلتق ان‪.‬ل ذلك نج ده م رة أخ رى يش به نفس ه بالص ياد‪ ،‬ال ذي‬
‫يستعمل الطعم لإلغراء‪.‬‬
‫<<فأنا أرسل في عالم الناس شبكتي المذهبة هاتف ا‪ :‬انفتحي أيته ا األغ وار البش رية‪ ،‬انفتحي‪ ،‬واق ذفي‬
‫إلي بأسماكك الالمعة‪ ،‬فسوف أتمكن اليوم بخير طعمه أستهوي بها األسماك البشرية من اصطياد خياره ا‪.‬‬
‫وما هذه الطعمة إال سعادتي نفسها‪ ،‬أنشرها إلى األبعاد بين المشرق والجنوب والمغرب‪ ،‬وانظر ما إذا كان‬
‫العدد الغفير من األسماك البشرية يتعلمون تذوق س عادتي‪ ،‬واالش تباك به ا‪ ،‬ح تى إذا تغلغلت في حن اجرهم‬
‫طعمتي‪ ،‬يضطرون إلى االرتفاع نحو مستواي‪ ،‬وهكذا يرتقي أشد األسماك تعلقا ب األغوار‪ ،‬إلى ق رب ش ر‬
‫ص ياد يص طاد ب ني اإلنس ان‪ -‬وم ا أن ا إال ذل ك الص ياد من ذ نش أتي‪ ،‬وفي أعم اق روحي‪ ،‬فأن ا الج اذب‪،‬‬
‫المستوي‪ ،‬المزحزح الرافع والمثقف المعلم‪ ،‬أنا من قال من قبل‪ -‬يجب عليك أن تص ير من أنت>>‪ . 1‬إن "‬
‫زرادشت" محفز بإبداعيته الشديدة التي ال تقاوم‪ ،‬إنه فنان مبدع‪ ،‬يمثل اإلنسان أكبر قضية في حيات ه‪ ،‬فه و‬
‫بحق نموذج اإلنسان النبيل‪ ،‬مبدع القيم وخالقها‪ .‬إنه فيلسوف من نوع جديد‪ ،‬فيلسوف أص يل‪ ،‬نقيض لمثيل ه‬
‫التقليدي الزائف ونفيا له‪.‬‬
‫فزاردشت يظهر لنا كمعلم يم ارس التعليم‪ ،‬فه و يعلم " الع ود األب دي" ويعلم " اإلنس ان األس مى"ن‬
‫فهو رسول البشارة السارة " موت اإلله" وأفول األوثان‪ ،‬رسول للفرح والحبور‪...‬لم يأتي إلفت داء اإلنس ان‬
‫ومقاسمته حمله بل ليلغيه‪ ،‬يخلصه من العالم الميتافيزيقي األخروي‪ ،‬ويحرره من ه ذا اإلس تعباد‪ ،‬يق ول‪" :‬‬
‫أنا أحمل هدية لبني البشر" إذ يعمل من أجل عودة اإلنسان إلى ذاته‪ ،‬وإرجاع الشرف المفقود للبشر‪ .‬هك ذا‬
‫يزيح " زرادشت" عبئا عن اإلنسان‪ 2.‬يقول‪<< :‬عندما أتيت إلى العالم وجدته جالسا على افتراضات قديمة‬
‫واثقا أنه عرف كل شيء‪ ،‬وميز بين خير الحياة وشرها‪.‬‬
‫ورأيت الناس يعتقدون أن كل بحث عن الفضيلة قد أنقض ى زمان ه‪, ...‬أم رت الن اس ب أن يه دموا ك ل‬
‫ق ديم‪ ،‬وأن يقف وا أم ام ك ل عقي دة هرم ة ض احكين مس تهزئين بمعلميهم‪ ،‬وقدس يتهم وش عرائهم ومخلص ي‬
‫عالمهم>>‪ 3‬ويضيف أنه << ال مخلص‪ ،‬إال اإلرادة‪ ،‬ألن اإلرادة مبدعة‪ ،‬وهذا هو تعليمي وعلى اإلنس ان‬
‫أن يتعلم ليبدع>>‪ ،4‬هك ذا فالعملي ة التعليمي ة حس ب " زرادش ت"‪ ،‬هي تحري ر روح وعق ل اإلنس ان‪ ،‬من‬
‫القي ود ال تي تكبلهم ا‪ .‬فم ا ه دف العملي ة التعليمي ة إال إعط اء الفرص ة للف رد ( الط الب) أن يحق ق ذات ه "‬
‫الحقيقية" وأن يسيطر على العالم الذي يحيط به‪ ،‬لذلك نجده يحف ز أتباع ه بتوجيه ات وإرش ادات يق ول من‬
‫خاللها‪<< :‬أحب من يعيش ليتعلم‪ ،‬ومن يتوق إلى المعرفة ليحي الرجل المتفوق بعده‪ ،‬فإن ه ذا م ا يقص ده‬

‫‪.Nietzsche (F) : «te sacrifice du miel » T4. P 291 - 1‬‬


‫‪ - 2‬بيار هيير سوفرين‪ " :‬زرادشت نيتشه" ترجمة‪ ،‬أسامة الحاج‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات‪ .‬والنشر والتوزيع ‪،‬ص ( ‪)53‬‬
‫‪Nietzsche (F) : A.P.Z. « d’anciennes et nouvelles Tables » OP.cit.T3§ 2.P 245-246 - 3‬‬
‫‪Idib § 16.p 256 -.4‬‬

‫‪25‬‬
‫ط الب المعرف ة من زوال ه‪...‬أحب من يعم ل ويخ ترع ليب ني مس كنا لإلنس ان المتف وق‪...‬أحب من يحب‬
‫‪1‬‬
‫فضيلته‪....‬أحب من تحرر قلبه وتحرر عقله‪>>....‬‬
‫هكذا يعزز " زرادشت" دوره كموجب‪ ،‬مرشد ومساعد على تحطيم القيود‪ ،‬بدل أن يتقمص دور المعلم‬
‫الملقن‪ ،‬الذي يثقل كاهن طالبه بأحمال‪ ،‬ويطوق أعناقهم بأغالل أخرى‪ .‬فيكون بذلك سيد أق دار طالب ه‪ ،‬في‬
‫حين زرادشت يقدم نفسه باعتباره ال يعلم‪ ،‬ألنه يؤمن بأن الشخص هو سيد قدره‪ ،‬وهو به ذا يع زز الج انب‬
‫اإليجابي داخله حتى يفسح المجال للتلقائية والخصوصية لديه‪ ،‬وهذا م ا نج ده يؤك ده في " دوح ة الجي ل "‬
‫‪ ،De l’arbre sur la montagne‬إنطالقا من سلوكاته الدقيقة‪ ،‬وحوارا ته الذكية والعميقة‪ ،‬م ع الف تى‬
‫اليائس‪ ،‬الممتلئ باالحتقار والحسد‪ ،‬والمزدري لتعاليمه‪ ،‬حيث سنرى كيف س يوقظ " زرادش ت" الثق ة من‬
‫جديد في نفس هذا الفتى‪ ،‬ليستمر في طريق تفوقه واستعالئه‪ ،‬على ال ذرى‪ ،‬داعي ا إي اه إلى تحري ر عقل ه‪،‬‬
‫وروحه‪ ،‬وعواطفه من سجن الكبت‪ ،‬حتى يب دع‪ ،‬فتص بح نظرات ه براق ة ص افية‪ ،‬فيق ول ل ه‪<< :‬أس تحلفك‬
‫‪2‬‬
‫بحبي لك‪ ،‬وأملي فيك أال تدفع عنك البطل الكامن في نفسك إذ عليك أن تحقق أسمى أمانيك>>‪.‬‬
‫هكذا يعكس لنا " نيتشه" شخصية " زرادشت" المربي الذي يظهر ويختفي‪ ،‬والذي يتوارى ويغ رب‬
‫كما تغرب الشمس‪ .‬ويتج ول في الجب ال وال ربى‪ ،‬في الودي ان‪ ،‬في الغاب ات‪ ،‬يبح ر ويس افر‪ ،‬يقتحم أج واء‬
‫المدن‪ ،‬ويتجول في أحيائها‪ ،‬ولكن مقره يظل على قمم الجبال م ع نس ره وأعفوان ه‪ ،‬يوج ه رفاق ه عن بع د‪،‬‬
‫وبتأن‪ ،‬ال يعرف التعجيل فهو يعلم لكن ببط ء‪ ،‬بإتقان ألنه مربيا حقا‪ ،‬يهدف إلى اإلتبات والبناء‪ ،‬لذلك نجده‬
‫يعلن قائال‪<< :‬على طالب المعرفة أن يتعلم البناء باستخدامه الجبال حجارة إلقامة صرحه>>‪ .3‬وهو به ذا‬
‫يعلن موقفه من التربية الحديث ة‪ ،‬ال تي تعتم د على المؤسس ات البيداغوجي ة ال تي تف رخ في س اعات قليل ة‪،‬‬
‫تقنيين وآالت متحركة‪ ،‬قادرة على إجابة مجموعة من الطلبات اآلنية للبشر‪.‬‬
‫إن قاعدة التربية عند " نيتشه" تقوم على هذا الواقع البطيء‪ ،‬والمعلم هنا هو معلم القراءة البطيئ ة‪ ،‬كم ا‬
‫أن المتعلم الحق‪ ،‬هو ذالك الذي يعرف كيف يقرأ دون تعجل‪ ،‬ومعنى القراءة البطيئة؟ أن ال ذي يق رأ ببطء‬
‫هو الذي يفك ر‪ ،‬إن الفك ر ال يمتل ك بالتعج ل‪ .4‬ومن هن ا نستش ف أن "نيتش ه" ال يه اجم العق ل ب ل طريق ة‬
‫استعمال هذا العقل‪ ،‬وأن كل هجومه على األنساق‪ ،‬يقوم على أساس اعتراضه على الالعقالنية التي يراه ا‬
‫في فشل أصحاب هذه األنساق‪ ،‬وفي جانب كبير من هجومة على المسيحية إذ تقوم على أساس تخليه ا عن‬
‫العقل‪ ،‬وتمجيدها " لفقر الروح"‪ .‬وعليه "فنيتشه" ال يرفض العقل بطريقة فجة‪ ،‬ولكنه يرفض الدور ال ذي‬
‫لعبه العقل حتى حلت العدمية‪ ،‬هكذا عن دما يكتب بص دد " العدمي ة األوروبي ة" إنم ا يواج ه بق راءة بطيئ ة‬
‫ومشخص ة ه ذا التعجي ل في الحي اة‪ ...‬في حي اة الفك ر كم ا الحي اة اليومي ة‪ ،‬ال ذي يمث ل ج وهر الم رض‬
‫األوروبي‪ ،‬الذي هو العدمية‪.‬‬
‫‪ - - 1‬ق‪ -‬نيتشه" " هكذا تكلم زرادشت" ترجمة‪ ،‬فلكس فارس‪ ،‬دار القلم بيروت‪" - ،‬مستقبل زرادشت" – ‪ 4‬ص ‪35،36،37‬‬
‫‪Nietzsche (F) : A.P.Z. « De l’arbre sur montagne » OP.cit.T1 p .60 - 2‬‬
‫‪Nietzsche (F) : « des illustres sages » OP. cit.T2. p134 - 3‬‬
‫‪ - 4‬مجلة الجدل‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص (‪)47‬‬

‫‪26‬‬
‫فالتربية عند " نيتشه" هي تربية ضد العدمي ة‪ ،‬وبالت الي فإن ه ال يمكن أن ي دعوا إلى ت دمير اإلنس ان‬
‫حسب " بيارهير سوفرين"‪ ،‬أي تدمير نصف طبيعته‪ ،‬لجعل النصف اآلخر ينتصر‪ ،‬بل ي دعوا إلى التنمي ة‬
‫الكاملة لوجهتي طبيعته كليهما‪ .1‬إذ ال يجب أن تنسى أن فلسفة " نيتشه" كلها تتأس س على فك رة االنتص ار‬
‫على الذات‪ ،‬النابعة من " إرادة الحياة" و " إرادة القوة"‪ ،‬وهاته ال تتم بدون العقل‪ ،‬فإرادة القوة لديه ليس ت‬
‫هي السعي إلى امتالك السلطة أو الثروة كم ا أنه ا ليس ت ذات م دلول سياس ي أو اجتم اعي‪ ،‬وال دليل على‬
‫ذلك‪ ،‬أن " نيتش ه" يتح دث عنه ا في " هك ذا تكلم ورادش ت" في فص ل عنوان ه " االنتص ار على ال ذات"‬
‫« ‪ ،» De la domination de soi‬ومفهوم إرادة الق وة يتعل ق بال ذات اإلنس انية وليس ب المجتمع‪ ،‬أو‬
‫الدولة‪ ،‬فهي دعوة لصيرورة اإلنسان ذاته‪ ،‬وملء المسافة التي تفص له عن نفس ه ال تي هي أس اس التم زق‬
‫واألوه ام والعدمي ة‪ ،‬ورفض للتقيي د بالمث ل والمب ادئ الثابت ة والمطلق ة‪ ،‬والخض وع لألوام ر والن واهي‪،‬‬
‫والسعي إلى إثراء الحياة وتركيزها والعلو بها سعيا ال يتوقف عند حد فالقوة التي يقصدها " نيتش ه" هي "‬
‫القوة الحيوية الفياضة" التي تتدفق في العظالت‪ ،‬أو من العقل‪ ،‬أو من الوجدان‪ ،‬أو من العزيزة‪ ،....‬فهي ما‬
‫هية الوجود بأسره‪ ،‬هي التي تدفع الشجرة أن تنفض عن نفسها أوراقها الضعيفة الذابلة‪ ،‬كي تحمل أوراق ا‬
‫جديدة خضراء وقوية‪ ،‬هكذا فاإلنسان األسمى الذي ينشده‪ ،‬هو ذلك اإلنس ان المتج اوز لذات ه باس تمرار‪ ،‬إذ‬
‫يق ول ل ه‪<< :‬تف وق على نفس ك‪...‬فمن ال قب ل ل ه بحكم نفس ه وجبت الطاع ة علي ه>>‪ .2‬وعلي ه فثقاف ة "‬
‫زرادشت" الجديدة‪ ،‬ثقافة اإلنسان األسمى‪ ،‬تتم يز بكونه ا إرادة اإلثب ات‪ ،‬عكس الثقاف ة التقليدي ة لإلنس ان‪،‬‬
‫التي تنبني على إرادة النفي‪ .‬فمقرر "زرادشت"‪ ،‬يدعو إلى التحرر من المث ل الميتافيزيقي ة‪ ،‬إلى االس تغناء‬
‫عن النظام القيمي الحالي والمث ل المس يحية‪ ،‬والديموقراطي ة والزهدي ة‪ ،‬ال تي تس ري في ك ل أورب ا‪ .‬وهي‬
‫السبب في ظهور أصحاب العاهات المزمنة‪ ،‬المنكرين للحياة والقوة‪ ،‬المحتقرين للجسد والروح معا‪ .‬يقول‬
‫لهم من خالله‪<< :‬أي إخوتي حطموا هذه األلواح القديمة وال تترددوا>>‪ .3‬كما يدعوا أيضا إلى أن يص بح‬
‫الفرد سيد نفسه‪ ،‬وأن يؤمن ويعرف أنه خالق قيمه‪ ،‬وأنه بإمكانه وضع قيم جديد واضحة المقصد‪.‬‬
‫فيصبح << إنني ما جئت إال ألخلص خرافا عديدة من القطيع>> ويضيف << فرفاقي أطلبهم مبدعين‪ ،‬ال‬
‫أطلبهم جثتا وقطعانا ومؤمنين<< ب ل << رفاق ا أحي اء يتبعون ني‪ ،‬ألنهم يري دون أن يتبع وا أنفس هم>>‪.4‬‬
‫ولكن " زرادش ت" ال يكتفي بتحطيم األل واح القديم ة‪ ،‬المفروض ة على اإلنس ان‪ ،‬بحكم المجتم ع وال دين‪،‬‬
‫واإلديولوجيا ‪ ،...‬بل يحذر من الوقوع في وضع ال قيم فيه ( اإلنسان األخير)‪ ،‬لذلك نجده يخ اطب رفاق ه‬
‫مرة أخ رى ق ائال‪ <<:‬انتبه وا إني آتيكم بل وح جدي د‪ ،‬ولكن أين هم إخ وتي يحمل ون معي ه ذا الل وح‪ ،‬إلى‬
‫الوادي لتحفر وصاياه على القل وب>>‪ ،5‬فه و يص ر به ذا على تمجي د القيم اإليجابي ة وح دها‪ ،‬ال تي تخ دم‬

‫‪ - 1‬بيار هيبر سوفرين‪ " :‬زرادشت نيتشه" مرجع سابق‪ ،‬ص (‪)58‬‬
‫‪Nietzsche (F) : A.P.Z. « d’anciennes et nouvelles Tables » OP.cit. T3 & 4. p248 - 2‬‬
‫‪Ibid : &10. p 252 - 3‬‬
‫‪ - 4‬ق‪ .‬نيتشه‪ " :‬هكذا تكلم زرادشت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬مستهل زرادشت‪ ، )9( -‬ص‪.)44( :‬‬
‫‪5‬‬
‫‪.Ibid : & 4. P 248 -‬‬

‫‪27‬‬
‫الحياة‪ ،‬القيم البطولية‪ ،‬التي تبشر باإلنسان األسمى‪ ،‬ه ذا اإلنس ان‪ ،‬ال ذي س يعمل على تغ ير القيم وتحوي ل‬
‫النفي إلى إثب ات‪ .1‬ه و ال ذي يق ول" وي رفض أن يق ول " ال"‪ ،‬ويح ول رد الفع ل إلى فع ل بش جاعة ف ذة‪،‬‬
‫وعزيمة متعالية‪ ،‬لهذا نجده يمجد البطل والبطولة‪ ،‬ويضيف أن ه إذا أرادن ا أن نخل ق " اإلنس ان األس مى"‪،‬‬
‫يجب أن نشرف على التربية‪ ،‬وال ندع األمر فوضي‪ .‬وقد عرض " نيتش ه" في كتاب ه اآلن ف ذك ره" هك ذا‬
‫تكلم زرادشت"‪ ،‬موضوعات في التربية‪ ،‬فالعملية التعليمي ة‪ ،‬عن ده هي تحري ر روح وعق ل ه ذا اإلنس ان‪/‬‬
‫المتعلم‪ ،‬من القيود التي تكبها‪ ،‬وإعطائه الفرصة ألن يحقق ذاته الحقيقية‪ ،‬وهو في مس يرته التربوي ة يجب‬
‫أن يمر من المراحل أو األطوار الثالثة‪.‬‬

‫* األطوار الثالث ‪:‬‬


‫هناك طور الجمل ‪ ،‬طور األسد ‪ ،‬وطور الطفل ‪ ،‬ففي الطور األول يكون اإلنسان كالجمل يحمل نفسه‬
‫أكثر من طاقتها ‪ ،‬من تقاليد ومسلمات ‪ ،‬ومسؤوليات ‪ ،‬وانطالقا من هذا يكون " الحمار "أيضا كالجمل ‪ .‬أو‬
‫هو نفسه جمال ‪ ،‬ولقد كان " زرادشت كما رأينا يقدم في بداية الكتاب " الروح الشجاعة " ال‪22‬تي تط‪22‬الب‬
‫‪2‬ع‬
‫باألحمال األشد تقال بمالم الجمل‪ 2‬إال أن الئحة قوى الحمار ‪ ،‬والئحة قوى الجمل متجاورتان ‪ :‬التواض‬
‫والقبول باأللم والمرض ‪ ،‬والصبر حيال ذلك الذي يعاقب‪ ، 3‬لدرجة يشعرا معا بأن األحمال التي ج‪22‬رى‬
‫تحميلهما إياها ‪ ،‬أو التي حمال نفسيهما إياها ‪،‬على أنها إيجابية الواقع ‪ ،‬فهما ال يعرفان أن يق‪22‬وال " ال " ‪،‬‬
‫يقوال فقط "نعم " ‪ ،‬ولكن " نعم " هذه زائفة ‪ ،‬فهذا الحمار ‪ /‬الجمل هو صاحب اإلثبات المزيف ‪.‬ولهذا نجد‬
‫" زرادشت " يفضح هذا اإلثبات ‪ ،‬الذي ال يعرف أن يقول "ال" والذي ال ينطوي على أي نفي‪ ،‬وهكذا يشكل‬
‫كل من الحمار والجمل نقيضا "األسد " ‪ ،‬الذي يحقق الطور الثاني فبعد أن يتخلى عن أحماله ‪ ،‬و أثقاله ‪،‬‬
‫مهيمنا على صحرائه ‪ ،‬معلنا انه " يريد " ‪ ،‬مهدما لكل القيم البالية ‪ ،‬إال انه " األسد ‪ ,‬ال يمكنه أن يخلق قيما‬
‫‪4‬‬
‫جديدة ‪ :‬لكن تحرير النفس ‪ ،‬من اجل إبداعات جديدة ‪ ،‬هذا حتى ما تستطيعه مقدرة األسد "‬
‫أما في طور الطفل ‪،‬يستطيع الفرد بسذاجة الطفل وطبيعته أن يخلق لنفسه قيما جديدة ‪ ،‬ليست كس‪22‬ابقتها ‪،‬‬
‫‪2‬ان في‬
‫وإنما قيما مبنية على العفوية واالستقاللية ‪ ،‬فوحدهم األطفال يجدون ما يضحكهم ‪ ،5‬حيث أن اإلنس‪2‬‬
‫هذا الطور يكون صانع حياته ‪ ،‬غير أن العقل لن يصل إلى المرحلة التي يصير فيها طفال يلعب في براءة‬

‫‪1‬‬
‫?جيل دولوز ‪ " :‬رونيتشه والفلسفة " ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪- 218‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Ibid : p 36‬‬
‫‪-‬‬
‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫‪5‬‬
‫? ‪Nictzsche "F" : A.P.Z. " DE L'homme supérieure " op . cit . T4P355-‬‬

‫‪28‬‬
‫‪ .‬إال بعد تحرره الفعلي من القيم الفاسدة ‪ ،‬وكل األوهام الميتافيزيقية ‪ ،‬فالطفل هو صفاء ونسيان وابت‪22‬داء‬
‫ولعبة ‪ .‬لهذا ينبغي للعاقل أن يتصف – في كل فصول حياته – بطهارة الطفل الالعب وصفاء ال‪22‬راقص‬
‫الباسم وهناءه ‪ ،‬هكذا " نعم " الطفل الالعب – هذه أشد عمقا من " ال " األسد المقدسة‬
‫‪2‬ة ‪ ،‬حيث أن‬
‫نستطيع من هذا أن نرى أن النموذج التربوي الزرادشتي هو عكس ما تقترحه التربية التقليدي‪2‬‬
‫التربية العادية تبدأ بالطور الطفل ‪ ،‬وتنتهي بطور الجمل ‪ ،‬وتهدف من خالل هذا إلى خلق إنسان يتحم‪22‬ل‬
‫‪2‬ة ‪.‬‬
‫أعباء األمور ‪ ،‬ويتفهم ويستدخل مسلمات المجتمع واإلديولوجيا ‪ ،‬كمثل أعلى في نهاية العملية التربوي‪2‬‬
‫فهذا الجهاز التربوي النابع من مجتمع مريض ‪ ،‬يعمل على كبح جماح الفرد ‪ ،‬فال يعبر إال عما هو مقبول‬
‫‪2‬ل‬
‫‪ ،‬على ما يتوافق وتوقعات المجتمع وتقاليده االجتماعية والسياسية والدينية ‪ ،‬ومقاوماته التاريخية ‪ ،‬ومث‪2‬‬
‫هذه األعراض المرضية‪ ،‬والتشوهات المجتمعية‪ ،‬أغاضت " نيتشه " ودفعت به إلى الثورة ضد الض‪22‬عف‬
‫‪2‬اء‪،‬‬
‫‪2‬عف والري‪2‬‬
‫والرياء‪ .‬وما أحوجنا في مجتمعنا الحاضر إلى من يعلن مثل هذه الثورة‪ ،‬ويخنق فينا الض‪2‬‬
‫ويكسر هذه التقاليد الجامدة ‪ ،‬وينقذ شبابنا المائع الذين تناسوا قيم العظمة‪ ،‬والنخوة والكمال‪ ،‬فمن سينظف‬
‫هذه القلوب التي تطفح بالخداع والتملق‪ ،‬من سيرفع هذه الرؤوس المطأطأ في رمال ال‪22‬ذل تلعن الس‪22‬ماء‬
‫وتبتسم وتنحني‪ ،‬تهتف ألصنام األرض في خوف في استحياء ‪ ،‬وتستبطن في جوفها حظها من النف‪22‬اق ‪،‬‬
‫فمن سيحطم هذه القصور ؟ وهذه األصنام ؟ كي يطال شعاع النور كل األنام‪ ،‬فيقول بصدق " ال " ويقول‬
‫بصدق " نعم " نحتاج إلى شعب من المتفوقين ‪ ،‬ال يصدهم عن غرضهم صاد ‪ ،‬يثبون فوق القمم وثبا ‪ ,‬في‬
‫نفوسهم عقيدة تفيض حماسة وقوة ‪ ،‬يمجدون في الحياة كل أدورها‪ .‬وتجد " نيتشه " ال يتوانى في توجيهنا‬
‫‪2‬درة " ‪،‬‬
‫‪2‬يد ق‪2‬‬
‫على أن نكون كما نحن ‪ ،‬إلى أن نعرف نفسنا وجسدنا وحواسنا‪ ،‬فهو يؤمن بأن اإلنسان " س‪2‬‬
‫‪2‬تي‬
‫وهو المسؤول عنه‪ ،‬إذ بطبيعته حر‪ ،‬يستطيع أخد القرارات المالئمة له ‪ ،‬كما يؤمن أن القوة الحقيقية ال‪2‬‬
‫يجب االستماع لها ‪ ،‬هي القوة اإليجابية الكامنة بدواخل كل منا‪ ،‬والموجهة لنا ‪.‬‬
‫وبعد كل هذا يمكن القول أن " نيتشه " يفتش عن الفرد المتميز ‪ ،‬والحقيقي ‪ ،‬الذي سيأخذ بكل بطولة‬
‫فرصته في مغامرة التسامي والتعالي ‪ ،‬المحفوفة بالمعانات ‪ ,‬حتى يثبت ذاته بعيدا عن كل م‪22‬ا يقي‪22‬دها ‪.‬‬
‫وهذا ما جعل " زرادشت " ‪ ،‬يطلب من رفاقه أال يجللوه ‪ ,‬بل أال يظلوا له أتباعا ‪ ،‬أن يضيعوه لكي يجدوا‬
‫‪2‬ه‬
‫‪2‬ل علي‪2‬‬
‫أنفسهم ‪ ،‬فيقول لهم أكثر من هذا << على من سيطلب الحكمة أال يتعلم محبه أعدائه فحسب ‪ ,‬ب‪2‬‬
‫أيضا أن يتعلم بغض أصدقائه >>‪ .1‬وهو في هذا الصدد يحذر من التعري أمام األصدقاء ‪ /‬التالميذ ‪ ،‬وال‬
‫عجب إذ وجدنا يخفي حقيقته عن رفاقه ‪ ،‬فزرادشت هذا الفيلسوف ‪ ،‬المربي األصيل ‪ ،‬هو أيضا مح‪2‬ترف‬

‫‪1‬‬
‫? ‪Nietzsche "F" : AP.Z. "de la prodigue vertu " op . cit.T1.§ P103-‬‬

‫‪29‬‬
‫‪2‬ة‬
‫‪2‬يزة للتربي‪2‬‬
‫للتمثيل ‪ ،‬ومخادع ومضلل ‪ ،‬إنه يظهر أيضا مرتديا قناعا ‪ .‬وهو بهذا يعكس األوصاف المم‪2‬‬
‫الحديثة ‪ ،‬باعتبارها أساسا فنا للخداع ‪.‬‬
‫ولكن هذا ليس كل شيء ‪ ،‬فزرادشت هذا ليس مخادعا وممثال فحسب ‪.‬إنه يلقب ب " المغري " و"‬
‫‪2‬ان‬
‫‪2‬ا ك‪2‬‬
‫‪2‬ول ‪<< :‬مهم‪2‬‬
‫المستفز " فهو يستفز رفاقه ضده ‪ ،‬حتى يالمسوا حقيقة ذواتهم هم ‪ ،‬حيث نجده يق‪2‬‬
‫الشيء الذي أبدعه ‪ ،‬ومهما بلغ حبي له ‪ ،‬فإنه عليا أن أنقلب له خصما ‪ ،‬وأتحول عن حبي ‪ ،‬وحناني ‪ ,‬ذلك‬
‫‪2‬ك‬
‫‪2‬ع ذل‪2‬‬
‫ما قضته إرادتي عليا‪ >> 1‬وليئزم عالقته بأتباعه أكثر يقول ‪<< :‬ما أحسبني قاسيا عاتيا ‪ ...‬وم‪2‬‬
‫‪2‬ت‬
‫‪2‬ا >>‪ ،‬فرزادش‪2‬‬
‫فإني أقول لكم إذا ما رأيتموني متداعيا إلى السقوط ‪ ،‬فادفعوني بأيديكم ‪ ،‬وأجهزوا علي‪2‬‬
‫بهذا يمثل قمة العملية التربوية ‪ ،‬فبقد رما يشكل الطالب تحديا له يكون في نفس اآلن مجرد صديق – خصم‬
‫‪،‬ويضيف موجها ؛ << ليكن قلبك قريبا إليه حين تقف ضده >>‬
‫إن " زرادشت" بهذا يتوقع من مريديه‪ ،‬أن يتمردوا عليه‪ ،‬وعندما ال يفعلون ذلك انطالق ا من ذواتهم‪ ،‬فإن ه‬
‫يحثهم على التمرد‪ ،‬وإن لم يفعلوا فإنه بكل بس اطة يهج رهم‪ ،‬ف المرء يك افئ المعلم بطريق ة س يئة عن دما‪،‬‬
‫يظل تلميذ فحسب‪ ،‬لهذا فزرادشت يقول لمريديه ناصحا إياهم‪<< :‬سأذهب وحدي اآلن أيه ا الرف اق‪ ،‬وأنتم‬
‫ستذهبون بعدي وحدكم ألنني هكذا أريد‪.‬‬
‫هذه نصيحتي إليكم‪ ،‬ابتعدوا عني وقفوا موقف الدفاع عن أنفسكم‪ .‬اتجاهي‪ ،‬بل اذهبوا إلى أبعد من هذا‪،‬‬
‫اخجلوا من انتسابكم إلي فلقد أكون لكم خادعا‪.‬‬
‫فلن يعترف التلميذ اعترافا تاما بفضل أستاذه‪ ،‬إن ه و بقي أب دا ل ه تلمي ذ‪ ،‬لم اذا ال تري دون أن تحطم وا‬
‫ت اجي؟ إنكم تحيط ون ب اإلجالل ولكن م ا هي الكارث ة ال تي تتوقعونه ا من إعراض كم ع ني؟ إن في رف ع‬
‫األنصاب لخطرا‪ ،‬فاحترسوا من أن يسقط عليكم التمثال المنصوب فيقض ي عليكم‪ .‬تقول ون أنكم تؤمن ون "‬
‫بزرادشت"‪ ،‬ولكن أية أهمية له؟ ما كان أحد منكم فتش عن نفسه‪ ،‬قبل أن وجدتموني(‪ )...‬لذلك آم ركم اآلن‬
‫أن تضيعوني لتجدوا أنفسكم‪ ،‬ولن أعود إليكم‪ ،‬إال عندما تكونوا جحدتموني جميعكم‪ .‬والحق بإخواتي‪ ،‬إن ني‬
‫في ذل ك الحين س أفتش عن خ رافي الض الة بعين أخ رى‪ ،‬فأب ذل لكم حب ا غ ير ه ذا الحب‪ ،‬س يأتي يوم ا‬
‫‪2‬‬
‫تصيرون فيه أصحابا لي‪ ،‬إذا ما وجدت بينكم األمل الواحد‪ ،‬عندئد سأرغب في اإلقامة بينكم>>‬
‫وهذا التمرد الذي يحث " زرادشت" هو مهم له ولرفاق ه‪ ،‬إذ أنهم ب دورهم مج برين على أن يتعلم وا كي ف‬
‫يتخذوا مواقف لوحدهم‪ ،‬من أجل اكتشاف ذواتهم‪.‬‬
‫فالتربية عند " زرادشت" خدعة‪ ،‬ولكنها م ع ذل ك تجع ل التم رد ممكن ا‪ ،‬إذ يس تطيع الف رد أن يتم رد على‬
‫السلطة الظاهرية لزرادشت‪ ،‬وليس ض د براع ة الفيلس وف‪ .‬فزرادش ت يمث ل الفيلس وف األص يل‪ ،‬نقيض ا‬

‫‪1‬‬
‫? ‪- Nietzsche "F" : " la domination de soi " op . cit . t 2 p148-‬‬
‫‪Nietzsche (F) : A.P.Z. « la prodigue vertu » OP.cit.T1.§ 3. p 103 - 2‬‬

‫‪30‬‬
‫للفيلسوف التقليدي‪ ،‬هذا األخير الذي يعتقد في كذبه‪ ،‬إنه مريض هو ذاته‪ ،‬ويسمم أتباعه‪ ،‬من أج ل أن يق وم‬
‫بمهمته‪ ،‬ويجعل التبعية دائمة‪ ،‬وبالتالي يفنى هو وأتباعه‪.‬‬
‫إن الخداع الذي يمارسه زرادشت مفكر فيه‪ ،‬غايت ه التم رد‪ ،‬بخالف التربي ة المؤسس اتية ف إن الوظيف ة‬
‫التربوية النيتشوية عابرة إذ تشكل مرحلة على طريق الكمال‪ ،‬التمرد إذن هو قمة العملية التربوية ونهايتها‬
‫عند " نيتشه"‪ .‬وعند هذه المرحلة ينفصل المربي والمريد‪ ،‬عن بعضها‪ ،‬ويبدأ كل واحد منها في البحث عن‬
‫ذاته‪ ،‬فالتمرد والتفرد هما الخاصيتان المميزتان للحرية الحقيقية‪.1‬‬
‫والحرية التي يعد بها " نيتش ه" هي الحري ة الحقيقي ة الخالص ة لإلنس ان ال ذي يخل ق قيم ا خاص ة ب ه‪،‬‬
‫ومفهوم الحرية في التربية عنده جديد كليا‪ ،‬أنها الحرية اإليجابية‪ ،‬التي يحق ق من خالله ا اإلنس ان كينونت ه‬
‫األصلية‪ .‬وعلى كل ح ال فإنه ا ال تنط وي على موق ف فوض وي أوع د مي‪ ،‬ألن " زرداش ت " يطلب من‬
‫رفاقه أن يحرروا أنفسهم ليحققوا داوتهم وهو في ه ذا يس اعدهم على ن زع تل ك الغالل ة الخارجي ة للتربي ة‬
‫التقليدي ة‪ ،‬والمجتم ع‪ ،‬كم ا يس اعدهم على الخ روج من المرحل ة العدمي ة و االنفالت منه ا‪ ،‬لكن ه ال ي ريهم‬
‫الطريق‪ ،‬فزرادشت ال يدعي خلق اإلنسان الحر‪،‬وإنما يساعده فقط على تحرير نفسه‪ ،‬فه و ال يمنح الحري ة‬
‫ألنها شيء ينجزه اإلنسان بمفرده‪.‬‬
‫هك ذا يتمظه ر زرادش ت من خالل تعاليم ه‪ ،‬كرس ول للف رح‪ ،‬مبش را بعقي دة عالمي ة‪ ،‬عقي دة الحب ور‬
‫والرقص‪ ،‬والبطول ة والمج د‪ ،‬وه ذه مهم ة " ديون يزوس" حس ب دول وز وهي‪ " :‬أن يجعلن ا رش يقين‪ ،‬أن‬
‫يعلمنا الرقص‪ ،‬أن يمنحنا عزيزة اللعب‪"2‬‬
‫وهذا ما نجده يحاول أن يؤكد لرفاقه‪ ،‬في حفل العشاء الذي خصصه لهم احتفاء بالرقي ال ذي يلغ وه في‬
‫درجة سلم " اإلنسان األسمى" إال أنهم ومع ذلك يظلون نماذج فاشلة‪ ،‬لهذا المثل األعلى حيث يق ول‪ " :‬من‬
‫يريد أن يتبعني فعلي ه أن تقس و عظام ه‪ ،‬وتخ ف رجاله‪ .‬علي ه‪ ،‬أي يك ون فرح ا في ال والئم‪ ،‬فيط رح عن ه‬
‫الهموم ويبقى مستعدا القتحام الص عاب وقوي ا ص حيحا‪ ."3‬ويص ر في وص اياه للمتف وق على التأكي د في‬
‫تحويل الثقيل إلى خفيف‪ ،‬واألسفل إلى أعلى‪ ،‬واأللم إلى فرح‪ ،‬فهو ينط ق بلس ان " ديون يزوس" ت ارة‪ ،‬من‬
‫أج ل أن يثبت مع نى الحي اة في قل وب ض يوفه‪ ،‬وال نج ده يت وانى في اإلعالن أن " فض يلتي هي فض يلة‬
‫الراقصين‪ " 4‬فهو ينبوع الحيوية والحبور‪ ،‬رقاص نشيط ‪ ،‬لدرجة تجعله يرفض اإليمان بإله يجهل الرقص‪،‬‬
‫<<أنا زرادشت" ‪ ،‬الرقاص خفيف الخط وات‪ ،‬الض ارب بجناحي ه‪ ،‬محف زا لالنتف اض إلى األعلى‪ ،‬مث يرا‬
‫جميع الطيور ينشر أجنحتها‪ ،‬أنا من بلغ الرشاقة اإللهية ‪ ،>>5‬وإلى جانب " الرقص" نج ده يحث اإلنس ان‬
‫المتفوق على" اللعب" باعتباره إثباتا للصدفة‪ ،6‬وه و م يزة من مم يزات األطف ال‪ ،‬ال ذين يب دعون بطريق ة‬
‫‪- 1‬محمد بوبكري‪ ":‬التربية والحرية" مرجع سابق‪ ،‬ص؛ (‪)66‬‬
‫‪ - 2‬جيل دولوز‪ " :‬نيتشه والفلسفة" مرجع سابق‪ ،‬ص‪)26 ( :‬‬
‫‪Nietzsche (f) : A.P.Z. « la cène » OP .cit.T4.p 344 - 3‬‬
‫‪4‬‬
‫?‪- Nietzsche (F) : « les sept sceaux ( ou le chant du oui de l’amen » OP.cit.T4.§ 17.P 284‬‬
‫‪de l’homme supéréure » OP.cit .4.§ 18. P 356 Nietzsche « : )f( -5‬‬
‫‪ - 6‬جيل دولوز‪ " :‬نيتشه والفلسفة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.219 :‬‬

‫‪31‬‬
‫حرة وتلقائية‪ ،‬وهو ما جعله يخاطبه قائال‪<< :‬كن مرحا مثلي يا هذا واحتفظ بما تعودت ه‪ ،>>1‬ومن الم رح‬
‫ينبثق" الضحك" الذي يعتبره إثباتا للحياة‪ ،‬هك ذا نج ده يص رح" أن ا المت وج نفس ي ملك ا على الض احكين‪،‬‬
‫بإكليل ضفرته من الورد يداي (‪ )...‬إنني ألقي إليكم بإكليل الورد ه ذا‪ ،‬فه و ت اج الض احكين‪ ،‬أيه ا الرج ال‬
‫الراقون تعلموه‪.>>...2‬‬
‫إذن فلتضحكوا يا أهل الرقي‪ ،‬فما أكتر الممكنات‪ ،‬في مستقبل اإلنسان‪ ،‬هكذا يشيد " زرادشت" ب دور "‬
‫الضحك"‪ ،‬لدرجة جعلته يعتبر كل حقيقة ال تستدعي ولو قهقهة ضحك‪ ،‬هي باطلة‪ ،‬إذ يش مئز من إحتض ار‬
‫الشريعة القديمة وهي تقول‪ " :‬ويل للضاحكين في هذه الدنيا"‪ ،‬إذ يعتبره قوال قبيحا مثيرا للنفور‪ ،‬فاإلنس ان‬
‫يتعزى بالضحك‪ ،‬عن نقصه‪ ،‬وبالرقص والطيران يتجاوز مستنقعات الكآبة كالرياح العاص فة‪ ،‬فيجب على‬
‫اإلنسان أن يتعلم الرقص بنفسه‪ ،‬والضحك بنفسه‪ ،‬وأن يرتفع فوق نفسه‪.3‬‬
‫وبعد الضحك واللعب والرقص‪ ،‬هذه الصفات المستندة إلى " زرادشت" هي مقدرات التحويل االثباتية‪:‬‬
‫يحول الرقص الثقيل إلى خفيف‪ ،‬ويحول الضحك األلم إلى فرح‪ ،‬وتح ول لعب ة رمي ( ال نرد) الس افل إلى‬
‫عال‪ ،4‬فهذا الثالوث يؤدي في الوقت نفسه إلى تغيير جوهر العدم‪ ،‬وتحويل النافي‪ ،‬هكذا أراد " زرادش ت"‬
‫أن يمحي بؤس الناس المتف وقين‪ ،‬وأن يس تنهض فيهم إرادة الحي اة من خباي ا األعم اق‪ ،‬لتفيض على س ائر‬
‫جسدهم‪ ،‬على عكس كل األرض‪ ،‬فيكونوا بهذا طريقا ممهدا " لإلنسان األسمى"‪.‬‬
‫فهو يعطي لإلنسان‪ /‬المتعلم‪ ،‬حرية االختيار في أن يس تمر عب دا‪ ،‬ويح اول أن يص بح إنس انا أس مى‪ ،‬في‬
‫حين أن المربين‪ ،‬ال يقدمون شيئا لتالميذهم‪ ،‬بل إنهم باألحرى‪ ،‬يح ررونهم ح تى يت اح لهم أن يص بحوا في‬
‫يوم ما ( المستقبل) مربيين ألنفسهم‪ ،‬فكل واحد هو طريق فريد يؤدي إلى ذاته‪.‬‬
‫وال أحد قادر أن ينوب عن المتعلم‪ ،‬في بناء الجس ور ال تي يجب أن يس لكها ه و وح ده كي يع بر نه ر‬
‫الحياة‪ .‬فالمربي يوجه ويرشد فق ط وه و به ذا يش به رجال يعب د طريق ا لن يس لكها‪ .‬وعلي ه فالتربي ة عن د "‬
‫نيتشه" لم تقم على فكرة إنتاج األتباع الصالحين‪ ،‬مقابل عملية ترويض وتلقين مجموع ة من المه ارات‪ .‬إن‬
‫مفهومه للتربية جديد كليا‪ ،‬حيت يندرج ضمن نقده للتربية المؤسسية‪ ،‬فهو يهدم التربية الحديثة برمته ا‪ ،‬من‬
‫خالل تأكيده على أن التربية خدعة وكل معانيها ‪ :‬الحافز األناني‪ ،‬وبالتالي ضرورة ترك اإلنسان‪ ،‬يكتش ف‬
‫ذاته‪ ،‬ويحققها لوحده‪ ،‬ليكون التم رد كه دف نه ائي‪ ،‬فك ل ه ذه األفك ار تس حب البس اط من تحت ق دمي أي‬
‫مربي‪ ،‬ورغم ه ذا فح تى أولئ ك ال ذين ال يرغب ون في اإلع تراف ب " نيتش ه" الم ربي‪ ،‬ف إنهم لم يع ودوا‬
‫ق ادرين على تجاه ل‪ ،‬أطروحت ه األساس ية‪ :‬أن " التربي ة" و" الثقاف ة" في عص رنا ه ذا هم ا أساس ا‬
‫خدعة‪،‬والمسألة هي ماذا نفضل‪ ،‬خداع الذات أم خداع ال وعي؟ في كلت ا الح التين نج د أنفس نا في مص يدة‪،‬‬

‫‪.Nietzsche(F) : « la céne » OP.cit.T4. P 344 - 1‬‬


‫‪.Nietzsche (F) : « de l’omme supérieure » OP.cit.T4.pp.356,:357 - 2‬‬
‫‪ - 3‬هنري ليشتانبرجر‪ " :‬نيتشه"‪ ،‬ترجمة خليل الهنداوي دار بيروت للطباعة والنشر‪ ،1954 ،‬ص‪.116 :‬‬
‫‪ - 4‬جيل دولوز‪ " :‬نيتشه والفلسفة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص" ( ‪.)247‬‬

‫‪32‬‬
‫واالنقالب منها يقتضي قرارا وجوديا‪ ،‬قرارا شخص يا وذاتي ا ص رفا‪ ،‬وهن ا بال ذات تكمن رس الة "نيتش ه"‬
‫التربوية‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫الفصل الثانـــــــــي‬
‫اإلنسان األسمى والتربية‬

‫‪ -I‬الجسد موضوع التربية الجديد‬

‫‪34‬‬
‫إذا كانت الفلسفة األفالطونية‪ ،‬قد حملت على عاتقها مهمة‪ ،‬تحرير الروح اإلنسانية من سجنها‬
‫األرضي المتمثل في الجسد‪ .‬فإن الشغل الشاغل لنيتشه‪ ،‬ه و تحري ر اإلنس ان من وهم خيم ل دهور طويل ة‬
‫على عقل هذا األخير‪ ،‬تجسد الروح هذا الوهم‪ ،‬في سعيها إلى االنعتاق من ربقة الجسد‪ ،‬بغية ارتفاعه ا إلى‬
‫العالم الحقيقي أو العالم األخر الماورائي‪ .‬باعتبار ه ذا األخ ير ه و األزلي واألب دي ال ذي يحت وي الس عادة‬
‫األبدية‪ ،‬التي لم يستطع اإلنسان بلوغها على األرض‪ .‬لكن ما حقيقة ه ذا الع الم ال ذي ال ي ؤمن بالجس د‪ ،‬إال‬
‫كخروف فداء يجب أن تقدمه الروح إن أرادت بلوغ مرادها؟ يخبرنا نيتشه في إح دى فق رات كت اب هك ذا‬
‫تكلم زرادشت عن مصدر وجود هذا العالم‪ ،‬فيقول" ما أوجدت العوالم األخرى في ه ذا الع الم س وى اآلالم‬
‫والشعور بالعجز‪ ،‬ذلك ما أوجدته تلك العوالم فأوجدت معه هذا الجنون السريع الزوال بسعادة ما ذاقه ا من‬
‫الناس إال أشدهم أالما‪.‬‬
‫إن المتعب الذي يطمح إلى اجتياز أبع د م دى بطف رة واح دة‪ ،‬بطف رة قاتل ة‪ ،‬وق د بلغت ب ه مس كنته‬
‫وجهالته حدا ال يستطيع عنده أن يريد‪ ،‬إنما هو نفسه مبدع جميع اآللهة وجميع العوالم األخرى‪.1‬‬
‫لقد أصبح العجز والظعف‪ ،‬قادرين على الخلق واإلبداع‪ ،‬فكان العالم اآلخر واآللهة‪،‬‬
‫من جملة ما أبدعه العجز‪ ،‬لكن ما طبيع‪$$‬ة ه‪$$‬ذا األخ‪$$‬ير‪ ،‬إن‪$$‬ه عج‪$$‬ز عن الحي‪$$‬اة في الع‪$$‬الم األرض‪$$‬ي ومن العيش‬
‫وفق الص‪$$‬يرورة ال‪$‬تي يخض‪$$‬ع له‪$‬ا فالص‪$$‬يرورة ت‪$‬أتي دائم‪$‬ا بم‪$‬ا ه‪$‬و جدي‪$‬د وغ‪$‬ير م‪$‬رتقب‪ ،‬في حين أن‪ ،‬الع‪$‬اجز‬
‫يخشى كل ما يتغير‪ ،‬وما دام العالم اآلخر هو الحقيقة الثابتة التي ال تتغ‪$‬ير‪ ،‬فق‪$‬د ك‪$‬ان ه‪$‬و المف‪$‬ر‪ .‬لكن إذا ك‪$‬ان‬
‫الض‪$$‬عف والعج‪$$‬ز الجس‪$$‬دي ينتج أوهام‪$$‬ا‪ ،‬تس‪$$‬يطر على اإلنس‪$$‬ان الع‪$$‬اجز بع‪$$‬د ذل‪$$‬ك ( وهم ع‪$$‬الم آخ‪$$‬ر…)‪ .‬فم‪$$‬ا‬
‫الذي تبدعه القوة الجسدية والبني‪$‬ة الجس‪$‬مية الس‪$‬ليمة؟ " إن األحك‪$‬ام القيمي‪$‬ة ل‪$‬دى األرس‪$‬تقراطية المقابل‪$‬ة تعتم‪$‬د‬
‫على بني‪$$‬ة جس‪$$‬مية قوي‪$$‬ة‪ ،‬على ص‪$$‬حة ع‪$$‬امرة‪ ،‬دون نس‪$$‬يان الش‪$$‬رط الالزم لتعه‪$$‬د ه‪$$‬ذا النش‪$$‬اط المت‪$$‬دفق‪ ،‬نع‪$$‬ني‬
‫الحرب والمغامرة‬

‫والصيد والرقص واأللعاب والتمارين الجسدية‪ ،‬وبشكل ع ام ك ل م ا يقتض ي حيوي ة ش ديدة الب أس‪ ،‬طلق ة‬
‫مرحة‪.2‬‬
‫إن الجسد حقل من القوى الحيوية‪ ،‬التي تتوق إلى التحرر والفع ل‪ ،‬وإذا ك ان الجس د ه و االبن الب ار‬
‫لألرض فإن فعله لن يتجاوز العالم األرضي‪ ،‬ففعله ينطلق من األرض ويستهدفها‪.‬‬
‫ويتلخص هذا الفعل في وضع القيم واألحكام القيمية لكل شيء‪ ،‬إن هذه القيم توضع من طرف ذوات ذات‬
‫بنية جسدية قوية‪ ،‬تأخذ في اعتبارها البعد المادي لإلنسان الذي يجعله ينتمي إلى العالم األرضي‪ " .‬أجل إن‬
‫هذه الذات على ما فيه ا تن اقض واختالل تبث بك ل جالء وجوده ا فتبت دع وتعلن إرادته ا لتض ع المق اييس‬
‫‪1‬‬
‫‪.‬هكذا تكلم زرادشت‪ ،‬ص‪ 53 :‬مرجع سابق ‪-‬‬
‫‪2‬‬
‫?نيتشه‪ ،‬أصل األخالق وفصلها‪ ،‬ترجمة حسن فبيسي‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬ص‪- 29 :‬‬

‫‪35‬‬
‫وتعين قيم األش ياء وم ا تطلب ه ذه ال ذات في إخالص ها إال الجس د ح تى في حال ة اس تغراقه في أحالم ه‬
‫وتحفزه للطيران بأجنحته للمحطمة‪ 1‬إن اإلخالص لجسد واإلشادة به‪ ،‬هي االعتب ارات الجدي دة‪ ،‬ال تي أخ د‬
‫بها نيتشه‪ .‬فالذات اإلنسانية‪ ،‬ال تق وم على ش ق أو ط رق واح د‪ ،‬ب ل تنب ني على رك يزتين أساس يتين‪ ،‬هم ا‬
‫الروح والجسد‪ ،‬وال يمكن للذات أن تتأسس على طرف واحد حيث أنها ال تكون سوية‪ ،‬ألن تفضيل ط رف‬
‫يأتي دائما على حساب طرف آخر‪ ،‬وإن سرنا وفق هذا المنطق‪ ،‬فإننا سنكون مجبرين أو باألحرى س تكون‬
‫الذات مجبرة على قتل نصفها أو التضحية به‪ ،‬لكي تبقى على النصف األخر‪ .‬إن الجسد ليس عال ة أو س مة‬
‫نقص‪ ،‬تحملها الذات كما تصرح ب ذلك ك ل من األفالطوني ة والمس يحية‪ ،‬فالجس د ه و الج انب الحي وي في‬
‫الذات‪ ،‬موطن الرغبات والغرائز الحية التي تحرك الذات اإلنسانية‪ ،‬لذلك يجب االفتخار واإلشادة به‪.‬‬
‫إن هذه الذات تت درب على اإلفص اح عن رغبته ا ب إخالص‪ ،‬وكلم ا أرادت ت دربا ألهمت البي ان لإلش ادة‬
‫بالجسد وباألرض‪.‬‬
‫لقد علمتني ذاتي غيرة جديدة أعلمها اآلن للناس‪ :‬علمتني أال أخفي رأسي بعد اآلن في‬
‫رمال األشياء السماوية‪ ،‬ب‪$‬ل أرفعه‪$‬ا رأس‪$‬ا عزي‪$‬زة ترابي‪$‬ة تبت‪$‬دع مع‪$‬نى األرض‪ .2‬الجس‪$‬د ه‪$‬و الوج‪$‬ود الحقيقي‬
‫لل‪$$‬ذات‪ ،‬واألرض هي الع‪$$‬الم الحقيقي الث‪$$‬ابت الوج‪$$‬ود‪ .‬وك‪$$‬ل منظ‪$$‬ور يخ‪$$‬الف ه‪$$‬ذا المب‪$$‬دأ يق‪$$‬ع في العدمي‪$$‬ة‪ ،‬أي‬
‫يطلق صفة عدم على الوجود الحسي الجسماني‪ ،‬بهدف خلق وجود‬
‫آخر يكون رائعا وحقيقيا‪ ،‬ولتحقيق ذلك ك ان بخس قيم ة الوج ود األول هي الوس يلة‪ .‬لكن ال يجب أن يفهم‬
‫من خالل ما سبق أن‪ ،‬نيتشه ينتصر إلى جزء من طبيعة اإلنسان على حساب الجزء اآلخر‪ ،‬حتى وإن كان‬
‫هذا الجزء هو الذي عملت الميتافيزقيا القديمة على تهميشه‪ ،‬حيث أنه إن سار على هذا النهج لكان وق ع في‬
‫نفس خطأ الميتافيزقيا القديمة‪ ،‬فيصبح بذلك متناقضا مع ذاته‪ .‬لكن يبدو أن نيتشه كان واعيا به ذه المس ألة‪،‬‬
‫فطبيعة اإلنسان المركبة كانت حاضرة باستمرار في ذهنه " يعترف نيتشه بطبيعة اإلنسان المركب ة‪ ،‬ال ب ل‬
‫يوسع مروحه بأشكال مما دون الحيوان إلى ما فوق المالك‪ ،‬بحيث يصبح اإلنسان " كائنا هجينا بين النبات‬
‫والشبح" لكنه يوضع في الحال أن الكائن الجديد الذي يعظ بمجيئه ينبغي أال يتخلى عن أحد هذين ال وجهين‬
‫في تلك الطبيعة لصالح الوجه اآلخر‪ " :‬هل أنا أمرتكم بأن تصبحوا شبحا أو نباتا؟ " إن نيتشه ال يأتي بع د‬
‫آخرين كثيرين‪ ،‬ليدعوا اإلنسان لالختيار بين هاتين الطبعتين‪ .‬ذلك أن ه ي رى‪ -‬كم ا س بق أن أش رنا – في‬
‫تجاذب كهذا تحوال جديدا من تحوالت ثنائية الميتافيزقيا‪ .‬ال يأتي نيتشه إلجبار اإلنس ان على ت دمير نص ف‬
‫طبيعته لجعل النصف اآلخر ينتصر‪ ،‬بل لدعوته إلى التنمية الكاملة لوجهي طبيعته‪ ،‬كليهما‪.3‬‬
‫لقد كان هدف اإلنسان هو السعادة‪ ،‬ولكي يص ل إلى ه ذا المبتغى‪ ،‬ك ان لزام ا علي ه أن يس لك طريق ا‬
‫شائكا وطويال‪ ،‬ترسم معالم هذا الطريق منظومة من الواجبات واألوامر والقيم األخالقية‪ ،‬هذه األخيرة هي‬

‫‪1‬‬
‫‪.‬هكذا تكلم زرادشت‪ ،‬ص ‪ ،54 :‬مرجع سابق ‪-‬‬
‫‪2‬‬
‫?نفس المرجع ‪-‬‬
‫‪3‬‬
‫بيار هيير – سوفورين‪ ،‬زرادشت نيتشه‪ ،‬ترجمة أسامة الحاج ‪ ،‬ص‪ ،58 :‬المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع ‪-‬‬

‫‪36‬‬
‫التي تحدد موطن السعادة‪ ،‬أو باألحرى هي التي تحدد مالمح السعادة اإلنسانية أي تخلقها‪ ،‬وبطبيع ة الح ال‬
‫لن يكون موطن السعادة هو العالم األرضي أو ال ذات اإلنس انية‪ ،‬إنه ا توج د هن اك في الم اوراء في الع الم‬
‫اآلخر‪ ،‬ولكي ينالها اإلنسان عليه أن يسلك وفق ما تمليه عليه القيم األخالقية ‪ .‬أول خطوة يجب أن يقوم بها‬
‫اإلنسان إن هو أراد بلوغ السعادة هو أراد بلوغ الس عادة‪ .‬أن يجح د الع الم األرض ي وأن يكبت جم اح ك ل‬
‫غرائزه الجسدية ألن الس عادة لن يناله ا إال خ ارج جس ده وخ ارج األرض‪ ،‬فه ذين األخ يرين ليس ا موطن ا‬
‫السعادة‪.‬‬
‫" إن النور األك‪$‬ثر تعمي‪$‬ة مهم‪$‬ا ك‪$‬ان الثمن‪ ،‬الحي‪$‬اة المش‪$‬بعة‪ ،‬الب‪$‬اردة النبيه‪$‬ة‪ ،‬الواعي‪$‬ة‪ ،‬المج‪$‬رد من‬
‫الغرائز‪ ،‬المقاومة للغرائز‪ ،‬لم تكن إال مرضا في حد ذاتها‪ ،‬مرضا آخر‪ ،‬لم يكن أبدا‬

‫عودة إلى العافية‪ ،‬إلى السعادة ‪...‬أن يرغم الم رء على مقاوم ة غرائ زه ‪ -‬تل ك ص يغة االنحط اط‪ ،‬م ادمت‬
‫‪1‬‬
‫الحياة تسلك منحى تصاعديا‪ .‬فالسعادة تساوي الغريزة"‬
‫" وحسب هؤالء الناس في عقوقهم أنهم فازوا بالنعيم بعيدا عن جسمهم وعن األرض‪ ،‬وتناسوا أن تنعمهم‬
‫‪2‬‬
‫ورعشة ملذاته إنما نشأت من جسدهم ومن هذه األرض"‬
‫ينفذ نيتشه األطروح ة الس ابقة‪ ،‬ليؤك د أن األرض هي م وطن الس عادة‪ ،‬وأن الغري زة اإلنس انية هي‬
‫البذرة الحقيقية للسعادة‪ ،‬وعندما يعمل اإلنسان على مقاومة ميوله وغرائزه‪ .‬ينح در إلى مس توى منح ط‪ .‬إذ‬
‫أن كبته لغريزته هو كبت للحياة‪ ،‬وبالتالي تش ويه للطبيع ة‪ .‬ل ذلك فك ل تربي ة ال تأخ ذ في اعتباره ا الجس د‬
‫كمكون أساسي‪ ،‬في الطبيعة اإلنسانية تعتبر إهدارا للحياة اإلنسانية‪ ،‬ضد الطبيع ة‪ .‬فالتربي ة الحقيق ة حس ب‬
‫نيتشه‪ ،‬يجب أن تكون تربي ة للغري زة‪ ،‬للجس د‪ ،‬أو ب األحرى للحي اة والج انب الحي وي في اإلنس ان‪ " .‬أم ا‬
‫بالنس بة للتربي ة كم ا يمكن أن نستش فها من خالل زرادش ت فهي تربي ة للجس د‪ ،‬إنه ا تربي ة تقص د تغلب‬
‫‪3‬‬
‫الغرائز الطبيعية والحيوية على القيم األخالقية التي أنتجتها البش رية خالل لحظ ات انحطاطه ا وض عفها"‬
‫إن لحظات االنحطاط التي مرت بها البشرية‪ ،‬كان السبب فيها هو أن اإلنسان أرغم على مقاوم ة غرائ زه‪،‬‬
‫وعندما تعذر على ه ذه األخ يرة‪ ،‬إيج اد مج ال تع بر في ه عن نفس ها‪ ،‬وتعلن عن ق درتها وعن رغبته ا في‬
‫التحرر من القيود التي كبلت بها‪ ،‬انقلبت ض د ذاته ا‪ ،‬فأص بحت ع وض أن تم ارس فعلته ا في خ ارج عن‬
‫طريق الخلق اإلبداع‪ ،‬تمارسه باتجاه الداخل وذلك بالتميز الذاتي‪ ،‬وبخمس قيمة الذات‪ ،‬واض طهاد النفس ي‬
‫يؤدي كل هذا إلى تمزق وتآكل الذات‪ .‬التدمير وبالتالي يؤدي إلى تشكل ما يعرف بالض مير المتعب‪ ،‬ال ذي‬
‫يعتبره نيتشه من أشد وأخطر األمراض التي لم تتمكن اإلنس انية لح د اآلن من أن تج د له ا حال أو عالج ا‪،‬‬
‫ألن مصدر هذا المرض هو الذات اإلنسانية نفسها‪ ،‬فهي داء نفسها أو مرض ذاتها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪،‬أفول األصنام مرجع سابق‪ ،‬ش‪ ،2 :‬ص ‪- 24‬‬
‫‪2‬‬
‫هكذا تكلم زرادشت‪ :‬ص‪- 55 :‬‬
‫‪3‬‬
‫مجلة الجدل‪ ،‬مرجع سابق‪ :‬ص ‪- - 34‬‬

‫‪37‬‬
‫" فجمي‪$$‬ع الغرائ‪$$‬ز ال‪$$‬تي ال مج‪$$‬ال لتص‪$$‬ريفها‪ ،‬أو ال‪$$‬تي تح‪$$‬ول ق‪$$‬وة قمعي‪$$‬ة م‪$$‬ا دون انفجاره‪$$‬ا في‬
‫الخارج‪ .‬تنقلب إلى الداخل‪ .‬هذا ما أسميه فعل االستدخال الذي يقوم به المرء‪ .‬بهذه الطريقة تنمو لدي‪$$‬ه فيم‪$$‬ا‬
‫بعد ما يسمى ب" نفسه " العالم الداخلي كله نما وتجسم بعد أن كان باألصل‬

‫رقيقا يحشر بين الجلد واللحم‪." 1‬تمثل أو تنقلب الغريزة ضد ذاتها عند ما يتم قمعه ا‪ ،‬وب ذلك تقم ع م رتين‪،‬‬
‫في المرة األولى من طرف عوامل خارجية‪ ،‬ومرة أخرى من طرف ذاتها حينما يتم قمعها‪ .‬وهذا م ا ي ؤدي‬
‫إلى تشوهها‪ .‬إذن فمن خالل هذا يتبين أن العيب ليس من طبيعة الغريزة‪ ،‬بل يلحقها من جراء القمع‪ ،‬وه ذا‬
‫األسلوب في التعامل مع الغريزة والنزوة‪ ،‬يعتبر نموذج تربوي تتعامل أو تنتهجه الكنيس ة‪ ،‬وبس لوكها ه ذا‬
‫النهج فهي تؤكد على أن الغريزة والمادة‪ ،‬شيء غير طبيعي يوجد ضمن الطبيعة البشرية‪ ،‬وبالت الي ينبغي‬
‫بتر هذا الجزء الزائد‪ ،‬ألنه يعيق اإلنس ان عن الكم ال‪ " .‬إن الكنيس ة تح ارب ال نزوة ببتره ا‪ ،‬بك ل مع اني‬
‫الكلمة‪ .‬إن ممارستها‪ ،‬معالجتها هي اإلخص ائية‪ .‬إنه ا ال تس أل أب دا ‪ :‬كي ف لن ا أن ن روحن ش هوة م ا‪ ،‬أن‬
‫نجمله ا‪ ،‬أن نمج دها؟ لق د أك دت في تربيته ا دائم ا على االستئص ال‪ ،‬الش بقية‪ ،‬الكبري اء‪ ،‬إرادة االمتالك‪،‬‬
‫الجشع‪ ،‬الرغبة في االنتقام‪ .‬إن مهاجمة النزوات من الج در تع ني مهاجم ة الحي اة من الج در‪ ،‬إن ‪praxix‬‬
‫الكنيسة معاد للحياة‪ "2.‬إن كل عداء للشهوة والنزوة‪ ،‬يعتبر عداء للحياة‪ ،‬كما يؤكد نيتشه‪ ،‬وكل تمجي د لهم ا‬
‫يعتبر تمجيد للحياة‪ .‬فالحياة التي ال تنبني على الغريزة‪ ،‬تعتبر حياة منحطة وبائسة‪ ،‬وال تس تحق أن تع اش‪،‬‬
‫أما الحياة الحقيقية فهي التي تق وم على تمجي د الغرائ ز الطبيعي ة في اإلنس ان‪ ،‬ف الغريزة عن د نيتش ه تع ني‬
‫السعادة‪ ،‬وال وجود لسعادة خارج الجسد وخارج العالم األرضي‪ .‬وتتدهور حالة الشعوب وينحدر مستواها‪،‬‬
‫عندما تصبح شهواتها الجسدية مصدر قلق لها‪ ،‬أي عندما تسير على نهج الكنيسة‪ ،‬في حين أن العكس ه و‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫" تقول الكنيسة واألخالق‪ :‬يبيد عرق‪ ،‬شعب‪ ،‬بالترف والفسق‪ ،‬أما عقلي المجدد فيقول‪ ،‬عندما يسارع‬
‫شعب إلى هالكه‪ ،‬عندما يتدهور جسديا‪ ،‬ينتج عن ذلك الفس ق وال ترف أي الحاج ة إلى اإلغ راءات األك ثر‬
‫حيوية واألكثر شيوعا دائما‪ ،‬التي يلتد بها مزاج متعب‪."3‬‬
‫يالحظ مما سبق عودة قوية لإليمان‪ ،‬بقدرة الجسد‪ ،‬الشيء الذي يستتبعه إعادة االعتبار المحسوس وللحس‪.‬‬
‫إذ نجد مع نيتش ه ت برءة لس احة الحس ‪،‬من التهم ال تي نس بة إلي ه ‪ ،‬مث ل الك ذب واإلفت اء ‪ ،‬وع دم اإلخب ار‬
‫بالحقيقة ‪ ،‬فالحواس هي وسائلنا الحقيقية إلدراك الع الم ‪ ،‬وماعاداه ا يعت بر مج رد وهم ‪ ،‬وك ل االدع اءات‬
‫التي تسير ضد هذا المبدأ‪ ،‬تعتبر مجرد افتراءات ال محل لها من الصحة ‪ ".‬لقد ك ان هيراقلي ط ه و اآلخ ر‬
‫جائر بالنسبة للحواس ‪.‬فهذه ال تكذب إطالقا ‪.‬إن ما نفعله بشهادتها هو الذي يقحم فيه ا االف تراء‪ ،‬ه و س بب‬
‫الحواس‪ .‬مادامت الحواس تكشف عن الصيرورة‪ ،‬عن اإلثب ات‪ ،‬عن التح ول‪ ،‬فإنه ا ال‬ ‫تشويهنا لشهادة‬
‫‪1‬‬
‫أصل األخالق وفصلها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪- 79 :‬‬
‫‪2‬‬
‫أفول األصنام‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪- 36 :‬‬
‫‪3‬‬
‫نفس المرجع‪ ،‬ص‪- 46 :‬‬

‫‪38‬‬
‫تكذب غير أن هيرقلي ط س يظل أب دا على ص واب عن دما ج زم ب أن الكينون ة وهم بال مع نى‪ .‬وح ده الع الم‬
‫الظ اهر الموج ود‪ .‬والع الم الحقيقي س وى ك ذب نض يفه إلي ه‪ "1‬يظه ر إذن أن الخ وف من الص يرورة‪ ،‬و‬
‫اإلثبات‪ ،‬والتحول‪ ،‬أي من الطبيعة الحقيقية للع الم‪ ،‬ه و الس بب ال ذي جع ل الح واس تق دم ككبش ف داء‪ ،‬إن‬
‫الحواس الذ نب لها‪ ،‬فقط نحن من نزور ونزيف ما تخبرنا به‪ .‬لم يعد الجسد فقط عالم من القوى [ الغرائز]‬
‫التي تتوق إلى التحرر واإلبداع ‪ ،‬بل هو أيضا وسيلة ال يتم إدراك العالم الخارجي إال بها ‪،‬و وحدها تخبرن ا‬
‫بحقيقته‪.‬‬
‫و يذهب رزادشت إال أبعد من ذلك إلى اعتبار‪ ،‬أن الجسد هو جوهر الذات‪ ،‬وما العقل أو‬
‫ال‪$$‬روح إال ج‪$$‬زء من ه‪$$‬ذا الك‪$$‬ل ال‪$$‬ذي ه‪$$‬و الجس‪$$‬د‪ ،‬ب‪$$‬ل أداة من أدوات‪$$‬ه ال‪$$‬تي ي‪$$‬درك به‪$$‬ا الوج‪$$‬ود‪ " .‬إني بأس‪$$‬ري‬
‫جسد ال غير‪ ،‬وما الروح إال كلمة أطلقت لتعيين جزء من هذا الجسد (‪ )...‬آلة جس‪$$‬دك إنم‪$$‬ا هي أداة عقل‪$$‬ك‬
‫ال ‪$$‬ذي ت ‪$$‬دعوه روح ‪$$‬ا‪ ،‬أيه ‪$$‬ا األخ‪ ،‬إن هي إال أداة ص ‪$$‬غيرة وألعوب ‪$$‬ة ص ‪$$‬غيرة لعقل ‪$$‬ك العظيم ( ‪ )...‬م ‪$$‬ا الحس‬
‫‪2‬‬
‫والعق‪$‬ل إال أدوات و ألعوب‪$$‬ة‪ ،‬وال‪$$‬ذات الحقيقي‪$$‬ة كامن‪$$‬ة وراءهم‪$$‬ا مفتش‪$$‬ة بعي‪$$‬ون الحس ومص‪$$‬يغة ب‪$$‬آذان العق‪$‬ل‪".‬‬
‫إن العق‪$$‬ل ال يتع‪$$‬دى كون‪$$‬ه مج‪$$‬رد أذن تس‪$$‬مع به‪$$‬ا ال‪$$‬ذات‪ ،‬والحس ه‪$$‬و العين ال‪$$‬ذي ت‪$$‬رى به‪$$‬ا‪ .‬وم‪$$‬ا عس‪$$‬ى ه‪$$‬ذه‬
‫الذات أن تكون غير الجسد؟ وما عسى هذا الجسد أن يكون غير اإلنسان؟ يتضح من هذه العب‪$‬ارات األخ‪$‬يرة‬
‫ومن خالل ما سبق أن نيتشه ال يضيع أمام أعيننا بنية جديدة أو تنظيم جديد‪ ،‬يكشف من خالل‪$$‬ه على مالمح‬
‫في جمي‪$$‬ع أبع‪$$‬اده‪ ،‬فتج‪$$‬اوز اإلنس‪$$‬ان ال‪$$‬ذات اإلنس‪$$‬انية‪ ،‬وإ نم‪$$‬ا ي‪$$‬دعو إلى إدراك ه‪$$‬ذا التنظيم في جمي‪$$‬ع أبع‪$$‬اده‪،‬‬
‫فتجاوز اإلنسان لذاته وارتقائ‪$$‬ه به‪$$‬ا‪ ،‬ال يتم باالنتص‪$$‬ار لمك‪$$‬ون من مكوناته‪$$‬ا على حس‪$$‬اب المكون‪$$‬ات األخ‪$$‬رى‪،‬‬
‫ولألسف هذا ما قامت به التربية التقليدية‪ .‬في حين التربية كما يريد لها نيتشه أن تكون‪ ،‬تسعى إلى تصحيح‬
‫هذا الخطأ‪ .‬فالذات اإلنسانية جسد‬

‫خطوة يجب على اإلنسان القيام بها هي اإلصغاء إلى صوت الجسد‪.‬‬
‫" أما أنتم ‪ ،‬يا إخوتي‪ ،‬فأصغوا إلى صوت الجسد الذي أبل من دائه ألن هذا الجسد يخ اطبكم بص وت‬
‫أنقى وأخلص من تلك األصوات‪.‬‬
‫إن الجسد السليم يتكلم بكل إخالص وبكل صفاء فهو كالدعامة المربعة من ال رأس ح تى الق دم وليس‬
‫بيانه إال فصاحا عن معنى األرض‪"3‬‬
‫" إنني ال أسير على طريقكم أيها المس تهزؤن باألجس اد‪ ،‬ألن ني ال أرى فيكم المع بر ال ذي ي ؤدي إلى‬
‫مطلع اإلنسان األسمى"‪.4‬‬

‫‪1‬‬
‫نفس المرجع‪ ،‬ص‪- 27 :‬‬
‫‪2‬‬
‫هكذا تكلم زرادشت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪- 57‬‬
‫‪3‬‬
‫نفس المرجع‪ ،‬ص ‪- 56‬‬
‫‪4‬‬
‫نفس المرجع‪ ،‬ص ‪- 59‬‬

‫‪39‬‬
‫‪-II‬اإلنسان األسمى النموذج الجديد الذي يبشر به نيتشه‬

‫"نعم إن نيتشه ينقض؛ ويهدم؛ لكنه ال يفعل ذلك بوصفه محبطا ‪ ،‬بل بوصفه شرسا؛ يفعل ذلك‬
‫بنبل ‪ ،‬ومجد ‪ ،‬وبصورة فوبشرية‪ ،‬مثلما يعصب فاتح جديد أشياء باتت قديمة‪ .‬والحماس الذي يبديه في‬
‫عمله هذا يعطيه مجددا آلخرين من أجل البناء (…) هل يهدم نيتشه؟كفى هدرا؟ إنه يبني‪ -‬إنه أقول لكم !‬
‫يبني بعنف"‪.1‬‬

‫‪1‬‬
‫أورده بياهيبر‪ -‬سوفرين في زرادشت نيتشه ‪ ،‬ص ‪ 61‬ترجمة أسامة الحاج‪-‬‬

‫‪40‬‬
‫لم تكن اإلرادة الحقودة هي التي تدفع نيتشه لقتل اإلله ‪ ،‬وإ عالن موته‪ ،‬أو ألن هذا اإلله يشفق‬
‫على نيتشه ال بل العكس هو الصحيح‪ ،‬فنيتشه هو الذي يشفق على اإلله وعلى المؤمنين به ‪ ،‬لذلك عمل‬
‫على قتله‪ ،‬وبالتالي قتل إيمانهم به‪.‬‬
‫كما أن الحلول محل اإلله ‪ ،‬لم يكن هو السبب الذي دفع نيتشه إلى قتله ‪ .‬إذن فما عسى هذا‬
‫السبب أن يكون؟ لكن نية نيتشه العميقة ايجابية ‪ ،‬وخالقة فهو ال يرفض ويدمر إال ليبني‪ .‬إن إنسان‬
‫األخالق التقليدية ‪ ،‬تلك األخالق التي يطيحها نيتشه بالضبط‪ ،‬هو الذي يدمر للتدمير‪ ،‬ولهذا السبب بالذات‬
‫يطيح نيتشه أخالقه‪ ،‬لكن نيتشه من جهته ال يدمر أخالقا إال الستبدالها بأخرى" ‪ 1‬إذن لم يكن ازدراء‬
‫نيتشه لألخالق القديمة وللثقافة القائمة ‪ .‬من أجل الحط من قيمتها ‪ ،‬ولكن ألن لديه بديلا جديدا لها ‪ ،‬فهو‬
‫يبشر بأخالق جديدة وبثقافة جديدة‪ ،‬تقوم كلها على إرادة للقوة بناءة وإثباتية ‪ .‬وكما يقوض نيتشه كل‬
‫األصنام التي تشكل الثقافة القديمة بقوة‪ .‬فهو كذلك يبني هذه الثقافة الجديدة بعنف‪ .‬ألن البناء يقتضي‬
‫إرادة قوية لكي يكون البناء قويا‪ ،‬هذا البناء ال يمكن أن يقوم إال على أنقاض األبنية القديمة بعد تحطيمها‬
‫‪" .‬فمن اجل بناء معبد‪ ،‬البد من هدم معبد آخر‪ :‬هذه هي القاعدة‪ -‬وليتفضل من شاء ليدلني على حالة‬
‫واحدة لم تطبق فيها هذه القاعدة ؟ ‪ 2‬إن المعبد الذي يريد نيتشه هدمه‪ ،‬هو ذاك الذي بنته األفالطونية ليعبد‬
‫فيه مثال الخير‪ ،‬وذاك الذي شيدته المسيحية لكي تطل منه على العالم اآلخر‪ ،‬ونيتشه عندما يعمل على‬
‫تقويضه‪ ،‬يقضي على العالم اآلخر وعلى اإلله الذي يسكنه ‪ ،‬ويعني القضاء على العالم اآلخر ‪ .‬تصفية‬
‫كل اآلمال التي تتجاوز العالم األرضي‪ ،‬عالم الصيرورة والتغير‪.‬‬
‫إن عمل نيتشه هنا‪ ،‬يتحدد في تجاوز للتصور األفالطوني والمسيحي ‪ ،‬الذي يتجاوز أو يتنكر‬
‫بدوره للعالم األرضي ‪ .‬لكن ماهي أهم مالمح هذا التصور الجديد الذي يبشر به نيتشه‪ ،‬والذي ينبني على‬
‫قلب التصور األفالطوني ؟ " سنرى من جهة أخرى الملمح الجوهري للثقافة الجديدة التي يتطلع إليها‬
‫نيتشه‪ ،‬إنما هي اإلبداع ‪ ،‬والعفوية‪ ،‬والفن‪ ،‬التي يشكل اللعب أو النشاط الطفولي‪ ،‬أو الرقص أفضل‬
‫صورها‪ ،‬والتي قد يكون رمزها ديونيزوس‪ ،‬إله السكر والرقص ال سقراط إن ما يطالب به نيتشه إنما‬
‫هو ثقافة يستعيد الديونيزوسي‪ ،‬المخنوق منذ اليونان الكالسيكية بيد األبولوني والسقراطية‪ ،‬يستعيد فيها‬
‫مكانه بالضبط"‪.3‬‬
‫إن البناء أو التصور الجديد الذي يقدمه نيتشه‪ ،‬يتأسس على قاعدة جديدة صلبة ومتينة‪ ،‬يكون‬
‫ديونيزوس هو الملهم الجديد لها ‪ ،‬وذلك عوض أبولون وسقراط‪ ،‬فديونيزوس يمثل الطاقة المتحررة‬
‫الثائرة التي تخلق بعفوية عن طريق اللعب والرقص ‪ ،‬إنه يرمز إلى الحيوية والحركة‪ ،‬التي تميز إرادة‬
‫الخلق القوية‪ .‬في حين يرمز أبولون إلى الطاقة المكبوتة‪ ،‬المنطوية على ذاتها التي حتى وإ ن انفجرت‬
‫تنفجر ضد ذاتها وهدف نيتشه هو بعث النشاط الديونيزوسي من جديد في اإلنسان ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪.‬نفس المرجع ‪ ،‬ص ‪-35 :‬‬
‫‪2‬‬
‫‪.‬أصل األخالق وفصلها‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ش ‪ ،24 :‬ص ‪-89 :‬‬
‫‪3‬‬
‫‪.‬أصل األخالق وفصلها ‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ش‪ ، 24 :‬ص ‪-89 :‬‬

‫‪41‬‬
‫من اجل أن يستعيد السيطرة من جديد ‪ ،‬ويتحرر بذلك من قبضة أبولون الخانقة إنه (نيتشه) بذلك‬
‫يحرر اإلنسان من عقدة الشعور بالذنب والخطيئة األصلية التي ألصقتها به المسيحية ‪ ،‬فغرائز اإلنسان‬
‫الحيوية‪ ،‬التي تعمل المسيحية على كبتها هي مركز قوة هذا اإلنسان‪ ،‬وأساس إرادة الخلق لديه‪ .‬فإذا كان‬
‫أفالطون يوجه األنظار إلى تأمل عالم المثل ‪ ،‬وعلى غراره المسيح الذي بدوره يصرف الناس إلى اإلله‬
‫أي إلى األعلى‪ ،‬فإن نيتشه أو زرادشت يتوجه بعد نزوله من أعلى الجبل إلى األرض أي إلى الناس ‪ ،‬ال‬
‫ليزود حملهم بأثقال أخرى‪ .‬ولكن ليحررهم من ثقل األحمال األولى ‪" .‬إياك أن تعطيهم شيئا ‪ ،‬واألجدر‬
‫بك أن تأخذ منهم ما تساعدهم على حمله‪ ،‬ذلك أجدى لهم‪ ،‬على أن تغنم بسهمك من هذا الخير‪ ،‬وإ ذا كان‬
‫البد لك من العطاء فال تمنح الناس إال صدقة على أن يتقدموا إليك مستجدين أوال" ‪.1‬‬
‫إن التحرر من ثقل المثل العليا‪ ،‬ال يتم بالتخلص من هذه األحمال فقط‪ .‬ولكن كذلك بتجاوز وضع‬
‫اإلنسان المستعد للحمل‪ ،‬أي وضع الجمل‪ ،‬وبتجاوز وتخطي اآلمال التي تتجاوز اإلنسان بعالم آخر إلى‬
‫اإلنسان المجاوز الذي يتخطى كل هذا اإلنسان المجاوز أو اإلنسان األسمى هم مبدع الثقافة الجديدة الذي‬
‫يبشر به نيتشه ‪ .‬واإلنسان األسمى ليس هو زرادشت‪ ،‬الذي ينزل من الجبل إلى الناس ليكلمهم عن هذا‬
‫اإلنسان المجاوز‪ .‬ولكنه من معدي اإلنسان األسمى والمبشرين به‪ .‬فمن هو هذا اإلنسان األسمى؟ أما‬
‫اإلنسان المجاوز الذي يعلم أن اإلله قد مات‪ ،‬أي الذي يعلم أن المثالية المتعالية قد بلغت غايتها فال يرى في‬
‫العالم اآلخر وفي المثل األعلى سوى انعكاس وهمي لألرض ‪ ،‬ويعيد إلى األرض كل ما اخذ عنها وانتزع‬
‫منها‪ ،‬ويقاطع أحالم العالم اآلخر جميعها ويتجه صوب األرض باالندفاع نفسه الذي كانوا يحضون به‬
‫حتى اآلن عالم األحالم "‪ .2‬إن اإلنسان األسمى‪ ،‬هو من يواجه اآلمال واألحالم التي تتجاوز األرض‬
‫باالزدراء والسخرية ‪ .‬يتخذ من األرض مستقرا له‪ ،‬بعد أن يعيد لها كل ما انتزع منها ‪ .‬إنه ابن هذه‬
‫األرض المخلص لها ‪ ،‬إنه العدو اللدود لكل مبدعي القيم التي تحتقر الحياة‪ ،‬يقول نعم للحياة بدل ال‪.‬‬
‫المكتشف إلمكانات جديدة داخل اإلنسان والحياة ‪ ،‬ال خارجهما ‪ ،‬ينشأ اإلنسان األسمى في رحم اإلنسان‬
‫لكنه يتخطاه‪ ،‬فهو دائما في تخطي لذاته ‪" .‬إن كال من الكائنات أوجد من نفسه شيئا يفوقه ‪ ،‬وأنتم تريدون‬
‫أن تكونوا جزرا يصد الموجة الكبرى في مدها بل إنكم تؤثرون التقهقر إلى حالة الحيوان بدل اندفاعكم‬
‫للتفوق على اإلنسان "‪.3‬‬
‫اإلنسان األسمى هو هذه العاصفة أو الموجة الكبرى ‪ ،‬التي تسعى إلى تجاوز حدود بحيرة‬
‫اإلنسان الصغيرة ‪ ،‬لكن حدود هذه البحيرة لن تلبث أن تقع‪ ،‬أمام بطش قوة هذه الموجة العظيمة‪ ،‬ليس‬
‫اإلنسان األسمى هو الذي يتجاوز ذاته عن طريق تجاوز جسمه‪ ،‬أي اعتبار هذا الجسد سجن للروح‪ ،‬كما‬
‫فعلت األفالطونية والمسيحية ‪ .‬كما ال يعني تجاوز الذات االنصراف إلى شؤون الجسد وإ همال الروح"‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪.‬هكذا تكلم زرادشت ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪-31 :‬‬
‫‪2‬‬
‫‪.‬أويغن فنك ‪ ،‬فلسفة نيتشه ‪ ،‬ص ‪-77 :‬‬
‫‪3‬‬
‫‪.‬هكذا تكلم زرادشت ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪-33 :‬‬

‫‪42‬‬
‫"وما أدعو اإلنسان ليتحول إلى شبح أو إلى نبات‪ .‬لقد أتيتكم بنبأ اإلنسان المتفوق"‪ . 1‬إن ذات اإلنسان‬
‫تتكون من روح وجسد‪ ،‬وتجاوز هذه الذات‪ ،‬ال يعني تجاوز أحد طرفيها أو تفضيل واحد على حساب‬
‫اآلخر ‪ .‬فالتكامل بين هذين الطرفين هو الذي يحقق التجاوز ‪ ،‬فاإلنسان األسمى روح‪ ،‬لكنه روح وهذه‬
‫األرض‪ ،‬واألرض هي جسمه "إنه من األرض كالمعنى من المبنى‪ ،‬فلتتجه إرادتكم إلى جعل اإلنسان‬
‫المتفوق معنى لهذه األرض وروحا لها"‪ 2‬يخلص اإلنسان األسمى الحياة من كل المزدرين لها‪ ،‬وينسف كل‬
‫اآلمال واألحالم التي تتجاوزها ‪ ،‬كما يطهر النفوس من أدرانها التي تتمثل في الغرور والشفقة والرحمة…‬
‫إنه يقضي على اإلرادة السلبية التي تنفي الحياة بمواجهتها بعالم آخر ‪ ،‬وذلك باقتالع هذه البذرة‬
‫المغروسة في اإلنسان (بذرة العالم اآلخر ) وتطهيره منها "أين هو اللهب الذي يمتد إليكم ليطهركم؟ أين‬
‫هو الجنون الذي يجيب أن يستولي عليكم ‪.‬‬
‫ها آنذا أنبئكم عن اإلنسان المتفوق‬
‫‪3‬‬
‫إن هو إال ذلك اللهب وذلك الجنون "‬
‫إن الثقافة الجديدة التي يبشر بها اإلنسان األسمى ‪ ،‬هي تلك التي تبقي على الحياة كما هي تلك‬
‫التي تدمرها بهدف بلوغ حياة أخرى أسمى ‪ .‬إنها ال ترفض او تنفي وإ نما تثبت ما هو قائم وتبنيه على‬
‫القوة إن قلب القيم أو قلب األفالطونية ‪ ،‬يعني في هذا السياق استبدال إرادة القوة واإلثبات‪ .‬بإرادة النفي‬
‫والتدمير‪ ،‬أو اإلرادة اإليجابية باإلرادة السلبية "بالنسبة لنيتشه ‪ ،‬إن ما يعطي األشياء واألفعال قيمتها إنما‬
‫هو إرادة اإلثبات‪ ،‬إرادة قول نعم للحياة ‪ ،‬نعم للكائن‪ ،‬إرادة الخلق وخلق الذات بالذات‪ ،‬وبالطبع إن هذه‬
‫اإلرادة لديه هو‪ ،‬هي التي تأخذ المقام األول" ‪ .4‬إرادة اإلثبات أو إرادة القوة ‪ ،‬هي اإلرادة التي تقبل على‬
‫الحياة بفيض من القوة والوفرة‪ ،‬اإلرادة الطموحة للرقي واالقتدار والسامية إلى مزيد من القوة‪ .‬والحياة‬
‫هي العالم الذي يناسب هذه اإلرادة ‪ ،‬لكي تتفجر داخله وتحقق تفوقها فيه‪ .‬إن إرادة بهذه الحيوية وهذه‬
‫القوة‪ ،‬ال يسعها إال أن تكون إرادة للخلق واإلبداع‪ ،‬وأول شيء تخلقه أو تبدعه هو ذاتها انطالقا من ذاتها‪،‬‬
‫فهي توجه قوتها نحو ذاتها‪ ،‬ال بهدف تدميرها ونفيها ‪ ،‬وإ نما بهدف خلقها وبنائها‪ ،‬وبالتالي إثبات قدرتها‬
‫على الخلق وعلى االختالف‪ .‬إن هذه اإلرادة البناءة‪ ،‬يعارض بها نيتشه تلك اإلرادة االرتكاسية الخنوعة‪،‬‬
‫إرادة اإلنسان العبد التي تمثل األخالق والثقافة السائدتين "هكذا نرى زرادشت يستبدل خير األخالق‬
‫القديمة بصفة لإلرادة ‪ :‬إرادة الخلق‪ ،‬إرادة االمتداد ‪ ،‬إرادة النمو‪ ،‬إرادة المقدرة الذاتية‪ ،‬وتطرح على‬
‫العكس كقيمة سلبية‪ ،‬ألجل استبدال شر األخالق ‪ ،‬اإلرادة المعاكسة ‪ ،‬إرادة التدمير والتهاون والرضى‬
‫عن الذات‪ ،‬والطمأنينة المسترخية ‪ ،‬التي تعيق كل إرادة تجديد "‪ .5‬هذه اإلرادة الجديدة‪ ،‬التي تسعى إلى‬
‫الخلق والنمو واالمتداد باإلضافة إلى المقدرة الذاتية‪ ،‬هي التي ستتولى اآلن مهمة خلق القيم الجديدة‪ ،‬وهذه‬

‫‪1‬‬
‫‪ .‬نفس المصدر‪-‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ .‬نفس المصدر‪-‬‬
‫‪3‬‬
‫‪.‬نفس المصدر ‪ ،‬ص ‪-35 :‬‬
‫‪4‬‬
‫‪.‬زرادشت نيتشه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪-61 :‬‬
‫‪5‬‬
‫‪.‬نفس المرجع ‪ ،‬ص ‪-72:‬‬

‫‪43‬‬
‫القيم الجديدة هي القيم التي تعد بظهور اإلنسان األسمى‪ ،‬أو التي تمهد له الطريق للظهور‪ ،‬فاإلرادة التي‬
‫تنبع منها هذه القيم هي نفسها إرادة اإلنسان األسمى "بديهي إذا أن إرادة اإلنسان األسمى ستكون تلك التي‬
‫سترفض بالعكس كل عالم خفي‪ ،‬سوف تكون قيمها تلك التي ال تكفل أي ثنائية وال تكفلها أي مفارقة ‪ .‬إن‬
‫إرادته هي بشكل أساسي‪ ،‬إرادة المثولية‪ ،‬ومصدرها ونهايتها إنما هما العالم الدنيوي "‪.1‬‬
‫بما أن إرادة اإلنسان األسمى‪ ،‬هي التي تخلق ذاتها بذاتها‪ ،‬وال تعتمد على أي مصدر خارجي‬
‫تستعين به في خلق ذاتها‪ ،‬فإنها ال تؤمن إال بذاتها ‪ ،‬وبالتالي فإن العالم الدنيوي سيكون هو غايتها‬
‫النهائية‪ ،‬كما انه هو مصدرها األول‪ .‬وذلك بخالف اإلرادة االرتكاسية التي تضع مصدرها في عالم آخر‬
‫‪ ،‬وتسعى أن يكون هذا المصدر هو منتهاها األبدي‪.‬‬
‫إن أب ‪$$‬رز م ‪$$‬ا يم ‪$$‬يز اإلرادة الخالق ‪$$‬ة‪ .‬أي إرادة اإلنس ‪$$‬ان األس ‪$$‬مى هي ‪ :‬ق ‪$$‬درتها على اإلثب ‪$$‬ات وعلى‬
‫الفع ‪$$‬ل‪ ،‬فباإلثب ‪$$‬ات تجع ‪$$‬ل حض ‪$$‬ور الع ‪$$‬الم األرض ‪$$‬ي أو الحي ‪$$‬اة األرض ‪$$‬ية حض ‪$$‬ورا قوي ‪$$‬ا‪ ،‬فتلغي ب ‪$$‬ذلك ك ‪$$‬ل م ‪$$‬ا‬
‫يضاده‪ ،‬فال حقيقة غير الحقيقة العينية الثابتة الحضور وكل ما يتجاوزها‪ ،‬فهو مجرد ه‪$$‬راء ال غ‪$‬ير ‪ .‬وه‪$$‬ذا‬
‫اإلثبات ال يقتصر على إثبات العالم الدنيوي فقط‪ ،‬فهذا األخ‪$‬ير واق‪$‬ع محق‪$‬ق‪ ،‬وس‪$‬يظل ك‪$‬ذلك ‪ ،‬وإ نم‪$‬ا يمت‪$‬د إلى‬
‫إثبات واقع الصيرورة الذي يتصف به هذا العالم ‪.‬‬
‫أما الفعل فهو النشاط الحيوي‪ ،‬الذي يؤكد فاعلية الحضور اإلنساني داخل هذا العالم‪ ،‬كما أن‬
‫الفعل هو الذي يعبر عن قدرة اإلرادة ‪ ،‬وبه تثبت اإلرادة قوتها وفاعليتها ‪.‬‬
‫"أحب من يبذل الوعود وهاجة ثم يتجاوز عمله وعده‪ ،‬إن أمثاله هم الثائقون إلى الزوال"‪. 2‬‬

‫إن القدرة المختفية ‪ ،‬التي تظل في مرحلة الكمون وال تخرج إلى الفعل‪ ،‬ال تمت بأي صلة إلى اإلرادة‬
‫السامية‪ ،‬فقوة هذه اإلرادة ال تقتصر على مجرد كونها نية‬

‫أو وعد بالعمل أو الفعل‪ .‬بل تتعداهما إلى الفعل الثابت التحقق‪ ،‬وهذا التحقق واإلثبات ‪ ،‬ال يتم‬
‫بالفعل في قوى وموضوعات أخرى‪ ،‬عن طريق قهرها والسيطرة عليها أو تملكها‪ .‬ولكن عن طريق‬
‫الفعل في الذات وهزم الذات بالذات‪ ،‬وذلك بهدف إثبات وجودها‪ ،‬كما يتم هذا الفعل بطريقة عفوية‬
‫وتلقائية ‪" .‬إن إرادة القوة ليست من ميدان االمتالك ‪ L’avoir‬بل من ميدان الوجود ‪ ، L’être‬وإ رادة‬
‫القوة هي أن يريد المرء نفسه أعظم‪ ،‬فليس باإلمكان أن تصبح إذا إرادة امتالك إال بصورة غير مباشرة ‪،‬‬
‫إذا حصل أن جعلها هذا االمتالك أعظم" ‪ 3‬إرادة القوة أو إرادة اإلنسان األسمى‪ ،‬هي تلك اإلرادة التي ال‬
‫تكف عن التجاوز والعبور‪ ،‬تتجاوز ذاتها ألنها تريدها أن تكون أعظم‪ ،‬فتصبح بذلك قدرتها على التجاوز‬

‫‪1‬‬
‫‪.‬نفس المرجع ‪ ،‬ص ‪-76 :‬‬
‫‪2‬‬
‫‪.‬هكذا تكلم زرادشت ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪-36 :‬‬
‫‪3‬‬
‫‪.‬زرادشت نيتشه‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪-78 :‬‬

‫‪44‬‬
‫هي التي تعطيها عظمتها‪ ،‬إنها في عدو دائم نحو المستقبل من أجل معانقته‪ ،‬فالمستقبل يحمل دائما األفضل‬
‫بالنسبة لهذه اإلرادة ‪ ،‬تتوق دائما إلى األفول والمغيب داخل عوالم جديدة‪ ،‬لهذا فهي دائما في تجدد‬
‫مستمر‪ ،‬فمعينها ال ينضب‪ .‬إنها بذلك تصنع المستقبل وتضع أقدامها على أراضي جديدة لم تطأ من قبل‬
‫"إن عظمة اإلنسان قائمة على انه معبر وليس هدفا‪ ،‬وما يستحب فيه هو انه سبيل وأفق غروب‪.‬‬
‫إنني أحب من ال غاية لهم في الحياة إال الزوال ‪ ،‬فهم يمرون إلى ما وراء الحياة‪ ،‬أحب من عظم‬
‫احتقارهم ألنهم عظماء ‪ ،‬أحب المتعبدين يدفعهم الشوق إلى المروق كالسهم إلى الضفة الثانية "‪ .1‬ال يجب‬
‫تصور أفق الغروب والزوال‪ ،‬ما وراء الحياة ‪ ،‬الضفة الثانية ‪ ،‬على أنها غايات تتجاوز الحياة األرضية‬
‫يجب على اإلنسان بلوغها‪ ،‬فكل هذه العبارات عبارة عن مجازات واستعارات ‪ ،‬يصور بها نيتشه‬
‫اإلنسان األسمى‪ ،‬بالرغم من أن الصفات التي أسندها زرادشت أو نيتشه لإلنسان األسمى‪ ،‬تبدو صفات‬
‫فوق بشرية‪ ،‬إال أنها غير مستحيلة التحقق في المستقبل ‪ ،‬إذا كانت غير ممكنة في الحاضر ‪ ،‬فمادام‬
‫اإلله قد مات فإن األمل في ظهور اإلنسان األسمى سيتحقق ‪ ،‬ال سيما وان القيم واألخالق القديمة لم تعد‬
‫تصلح إال لالزدراء ‪ ،‬لذلك فالرغبة في قيم جديدة وبناءات جديدة ‪ ،‬هي ما سيأتي اإلنسان األسمى لتلبيتها‬
‫‪ ،‬ومن تم فإرادة ظهور هذا اإلنسان وتمهيد الطريق له هي المهمة الملقاة على عاتق زرادشت‪ ،‬الذي‬
‫يعمل بدوره على نشرها بين جميع الناس‪" .‬فإذا كان زرادشت يفرح إذا لموت اهلل فذلك ألن هذا الواقع‬
‫يجعل بناءات جديدة ممكنة‪ ،‬وألن هذا الحدث التاريخي يشكل مبدأ ميتافيزيائيا جديدا‪ ،‬وألنه انطالقا من‬
‫ذلك يصبح كل شيء‪ ،‬أي حتى األمل األكثر جنونا‪ ،‬مسموحا به ويمكن أن تولد أخالق جديدة أسمى من‬
‫األخالق التقليدية بأشواط بحيث يتسنى لنا القول إنها فوبشرية ‪ surhumain‬كما يمكن أن يولد اإلنسان‬
‫األسمى‪ ،‬الممتلئ بازدراء محق لإلنسان وأخالقه" ‪ . 2‬مادامت أخالق جديدة وقيم جديدة ستظهر بعد موت‬
‫اإلله‪ ،‬كما ستصبح كل اآلمال التي كانت مستحيلة قابلة للتحقق‪ .‬ومادام اإلنسان األسمى هو الذي سيعمل‬
‫على تحقيق هذه اآلمال‪ .‬وخلق تلك القيم‪ ،‬فإنه سيكون هو البديل الذي سيخلف اإلله بعد موته‪ .‬فاإلنسان‬
‫األسمى ال يظهر إال بعد أن يموت اإلله‪ ،‬وتموت معه كل القيم التي تفرض باسمه ‪ ،‬ويموت بذلك اإليمان‬
‫بها ‪" .‬لقد مات جميع اآللهة‪ ،‬فلن يعد لنا من أمل إال ظهور اإلنسان المتفوق‪ ،‬فلتكن هذه إرادتنا عندما تبلغ‬
‫الشمس الهاجرة"‪.3‬‬
‫إذا كان اإلنسان األسمى هو من سيتولى مهمة خلق القيم بعد موت اإلله‪ .‬فما هي طبيعة هذه القيم‬
‫التي سيتولى خلقها؟ إنه سيخلق معرفة جديدة تنبع من إرادة اثباتية‪ .‬تعرف لتحيى وتحيى من أجل أن‬
‫تعرف بخالف المعرفة التي تحركها إرادة ارتكاسية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪.‬هكذا تلك زرادشت‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪-34 :‬‬
‫‪2‬‬
‫‪.‬زرادشت نيتشه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪-36-35 :‬‬
‫‪3‬‬
‫‪.‬هكذا تلكم زرادشت‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪-106 :‬‬

‫‪45‬‬
‫"أحب من يعيش ليتعلم‪ ،‬ومن يتوق إلى المعرفة ليحيا الرجل المتفوق بعده‪ ،‬فإن هذا ما يقصد‬
‫طالب المعرفة من زواله"‪ .4‬إن معرفة أو عرفانا من هذا النوع‪ ،‬يكون في ارتباط وثيق بالحياة وبالواقع‬
‫كما هما‪ .‬فهذه المعرفة المرتبطة بهذا الشكل بالحياة‪ ،‬من الضروري أن تكون ملمة بكل تقلبات الحياة‬
‫وبالصيرورة التي تخضع لها ‪ .‬إنها معرفة عملية هدفها هو السيطرة على الواقع وعلى الذات العارفة‪،‬‬
‫فهي ال تخلق واقعا آخر يتجاوز واقعها المادي‪" .‬يتعلق األمر إذا بمعرفة ال ترضي نفسها بتجريدات بل‬
‫تريد نفسها (إرادة خالقة) ملموسة موجهة نحو العمل‪ ،‬أي ليست نحو البحث عن المفيد‪ ،‬عن الرخاء الذي‬
‫هو بحث ينطلق من إرادة تسيطر عليها قوة ارتكاسية ترفض الجهد‪ ،‬بل نحو السيطرة على الواقع وعلى‬
‫الذات"‪. 5‬‬
‫باإلضافة إلى المعرفة ‪ ،‬يأتي دور خلق أخالق جديدة‪ ،‬بعد تحطيم األخالق االرتكاسية القديمة‪،‬‬
‫فإذا كانت األخالق القديمة تستهدف الذات‪ ،‬من أجل تدميرها ونفيها‪ ،‬فإن هذه األخالق تستهدف الذات‪ ،‬من‬
‫أجل السيطرة عليها‪ ،‬وجعلها تخلق وتتجاوز نفسها بنفسها‪ ،‬كل ذلك من أجل دفعها إلى مزيد من الرقي‬
‫واالقتدار‪ ،‬فهذه الرغبة في الترقي والتجاوز هي أهم فضيلة يمكن أن يتحلى بها اإلنسان‪ ".‬أحب من يحب‬
‫فضيلته‪ ،‬فما الفضيلة إال الطموح إلى الزوال وإ ن هي إال السهم تنشبه أشواقه…‬
‫أحب من يجود بروحه فال يطلب جزاءا وال شكورا‪ ،‬وال يسترد‪ ،‬فهو يهب دائما وال يفكر في‬
‫االستبقاء على ذاته"‪.3‬‬
‫إن هذه المعرفة واألخالق والقيم‪ ،‬هي بعض مالمح الثقافة الجديدة التي يبشر بها نيتشه عن‬
‫طريق إنسانه األسمى‪ ،‬وكلها تستهدف اإلنسان الفرد الذي يقيم داخل هذا العالم األرضي‪ .‬إنها توجهه‬
‫نحو ذاته بهدف اكتشافها ‪ ،‬من أجل العثور على اإلرادة القوية الخالقة التي تحتويها هذه الذات‪ ،‬وبالتالي‬
‫استخدام هذه اإلرادة في نحث ذات جديدة‪ ،‬ال تؤمن إال بنفسها وبقدرتها على أن تكون فاعلة‪ .‬وتتحقق‬
‫فاعليتها بإدراكها لهذا العالم الذي تسكنه في غناه وفي تنوعه‪ ،‬وتمارس فاعليتها كذلك ببحثها عن عوالم‬
‫جديدة لم يتم اكتشافها من قبل "نحن نروم ونستهدف أرضا بكرا ال أحد وضع حدودها ‪ ،‬إنه ما وراء كل‬
‫األراضي والخبايا المعروفة إلى حدود اآلن‪ ،‬عالم يفيض بأشياء جميلة‪ ،‬غريبة ‪ ،‬مرعبة‪ ،‬إشكالية ‪ .‬وهناك‬
‫كثير من األراضي البكر التي يجب اكتشافها ‪ .‬لقد حان الوقت أيها الفالسفة فلترضعوا مدادكم "‪ . 4‬ال‬
‫يجب أن يفهم من اإلنسان األسمى ‪ ،‬كائن حي إنساني من لحم ودم‪ ،‬بل يعبر اإلنسان األسمى ‪ ،‬عن‬
‫طريقة جديدة سامية في التفكير‪ ،‬وعن نموذج أخالقي وفلسفي جديد‪" .‬ال نعتقد أن إنسان نيتشه األسمى‬
‫مزاد معلى ‪ :‬هو يختلف عن اإلنسان ‪ ،‬وعن األنا من حيث الطبيعة ‪ ،‬يتحدد اإلنسان األسمى بطريقة‬
‫جديدة في الشعور ‪ :‬إنه ذات مختلفة عن اإلنسان ‪ ،‬نموذج غير النموذج اإلنساني‪ .‬طرقة جديدة في‬

‫‪4‬‬
‫‪.‬نفس المصدر ‪ ،‬ص ‪-35 :‬‬
‫‪5‬‬
‫‪.‬زرادشت نيتشه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪-80 :‬‬
‫‪3‬‬
‫‪.‬هكذا تكلم زرادشت ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪-36 :‬‬
‫‪4‬‬
‫نيتشه ‪ ،‬اورده محمد اندلسي في الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد ‪ ،‬ص ‪-151 :‬‬

‫‪46‬‬
‫التفكير‪ ،‬محموالت أخرى غير اإللهي‪ ،‬ألن اإللهي هو أيضا طريقة في حفظ اإلنسان وحفظ ما هو‬
‫جوهري في اهلل‪ ،‬اهلل كمسند ‪ .‬طريقة جديدة في التقويم‪ ،‬ليس تغييرا في القيم‪ ،‬وليس تحويرا مجردا أو قبليا‬
‫‪1‬‬
‫ديالكتيكيا‪ ،‬بل تغيير وقلب في العنصر الذي تشتق منه قيمة القيم‪ » ،‬تقويم على أساس مختلف « "‬

‫خاتمة‬
‫تتميز فلسفة " عموما‪ ،‬بأنها محاولة إلعادة تقيم كل القيم وقلبها‪ ،‬بهدف تأسيس شروط إمكانية إنسان‬
‫جديد‪ ،‬هو اإلنسان االسمي " وذلك من خالل اإلشراف على التربية‪ .‬وقد تعرض " نيتشه " في كتابات كثير‬
‫لموضوع التربية‪ ،‬إذا اعتبر العملية التعليمية‪ ،‬هي عملية تحرير روح وعقل اإلنسان من جميع القيود التي‬
‫تكبلها‪ ،‬ومنحه الفرصة لتحقيق ذاته وطموحاته وأحالمه‪...‬‬
‫قد اقترح " نيتشه " نموذجا تربويا جديدا كل الجدة‪ ،‬عكس ما تقترحه التربية التقليدية‪ ،‬بقيمه‪22‬ا ومبادئه‪22‬ا‬
‫‪2‬ة‬
‫‪2‬توعب دالل‪2‬‬
‫السلبية‪ .‬ولهذا من الضروري أن نفهم المعنى الذي يعطيه " نيتشه " للقيم التقليدية‪ ،‬حتى نس‪2‬‬

‫‪1‬‬
‫‪.‬نيتشه والفلسفة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪-210 :‬‬

‫‪47‬‬
‫إعادة تقييمه للقيم وقلبها‪ .‬وهذا ما تطرقنا له في " الباب األول‪ .‬المعنون ب " المربي "‪ ،‬حيث خلص‪22‬نا من‬
‫‪2‬ه‪ ،‬من‬
‫خالله إلى األهمية التي يولها " نيتشه " للتربية‪ ،‬باعتبارها ضرورية لكي يصير اإلنسان مدركا لذات‪2‬‬
‫خالل توجيه المربي الذي يعتبره " نيتشه " شر لا بدمنه‪ .‬وهكذا اتبعنا للنهج الفلسفي النيتشوي‪ ،‬المتمثل في‬
‫النقد أو بتعبير أخر الهدم والبناء‪ ،‬لقد اعتمد " نيتشه " فلسفة المطرقة‪ ،‬هاته التي لم يصمد في وجهها شئ‪،‬‬
‫حيث طالب الدين واألخالق والعلم والفلسفة والميتافيزيقيا الفن وحتى السياسة‪ ,‬محطما الصنمية‪ ،‬التصنع‪،‬‬
‫والتقاليد التي غلفت اإلنسان‪ ،‬حتى يالمس أعماق اإلنسان كإنسان بطبيعته بحبه وخيره‪ ،‬بفرحه وحزنه ‪،..‬‬
‫ويحطم في دواخله سجن الحرية‪ ،‬ويحرر الحياة من براثين الموت المتمثل في النظام التربوي التقلي‪22‬دي‪،‬‬
‫النافي الحياة‪ ،‬والكاظم أنفاس الحرية واإلبداع والخلق وكنموذج لهذا النظام التربوي الفاشل والم‪22‬ريض‪،‬‬
‫الذي سعا " نيتشه " إلى تهديمه وضربه من األساس‪ ،‬هناك النموذج السقراطي‪ ،‬األفالطوني في التربي‪22‬ة‪،‬‬
‫ومن نتائج هذا النموذج التربوي‪ ،‬خلق إنسان عليل‪ ،‬فاشل‪ ،‬مشوه‪ ،‬مصاب في نفسه وجسمه‪ ،‬متخ‪2‬اذل عن‬
‫‪2‬ديدة‬
‫‪2‬رباته الش‪2‬‬
‫‪2‬رى من ض‪2‬‬
‫‪2‬لم هي األخ‪2‬‬
‫الحياة‪ .‬وكذلك نموذج الكنيسة وطاقمها الكهنوتي‪ ،‬حيث لم تس‪2‬‬
‫المزلزلة‪ ،‬التي حطمت كل أغالل التي سنتها‪ ،‬وكبلت بها اإلنسان والحياة ‪ .‬ثم هن‪2‬اك نم‪2‬وذج المؤسس‪2‬ة‬
‫التعليمية والثقافة السائدة‪ ،‬التي يعتبرها ثقافة مزيفة‪ ،‬ثقافة الموت‪ ،‬تعمل تشويه وعي اإلنسان‪ ،‬وإلغاء ذاته‪،‬‬
‫معتبرا هذه المؤسسات ليست سوى مؤسسات تمتثل ألهداف الدولة‪ ،‬إنها الجهاز الرسمي ال‪22‬ذي يرض‪22‬ع‬
‫طالبه المعتقدات اإليديولوجية ‪.‬‬
‫‪2‬ا‪.‬‬
‫بعد أن وظحنا موقف " نيتشه " من هذا هذه النماذج التربوية الفاشلة والتي عمل على تهديمها وتجاوزه‪2‬‬
‫‪2‬د‬
‫‪2‬ربي العني‪2‬‬
‫تطرقنا في فصل آخر إلى نموذج المربي المثبت للحياة‪ ،‬المتمثل في نموذج " زرداشت " الم‪2‬‬
‫‪2‬د‬
‫‪2‬ربي المرش‪2‬‬
‫والقاسي‪ ،‬الذي ينحت الصخر يهدمه‪ ،‬ليترك الحرية للتمثال الذي سيخرج من الحجر‪ ،‬والم‪2‬‬
‫والموجة‪ ،‬القريب‪ ،‬المحفز بإبداعيته الفريدة‪ ،‬الفنان المبدع‪ ،‬الذي يمثل اإلنسان أكبر قضية في حياته‪ ،‬فهو‬
‫‪2‬ق كمعلم‬
‫‪2‬ر بح‪2‬‬
‫‪2‬ف‪ .‬حيث تتم ظه‪2‬‬
‫نموذج اإلنسان النبيل مبدع القيم وخالقها‪ ،‬نقيض لمثيله التقليدي الزائ‪2‬‬
‫يمارس التعليم‪ ،‬بعلم " اإلنسان األسمى "‪ ،‬وبعيد االعتبار للجسد ككل‪ ،‬الذي همش في مسار العمل التربوي‬
‫الذي اهتم بالعقل أو (الروح ) علما أن العقل السليم في الجسم السليم ‪.‬‬
‫فزرادشت كان هو رسول البشارة السارة في إبداعات نيتشه‪ ،‬رسول الفرح والحبور‪ ،‬ج‪22‬اء لكي يس‪22‬اعد‬
‫اإلنسان في العودة إلى ذاته ويراجع الشرف المفقود للبشر‪ ،‬فكان مربيا بحق لرفاق‪22‬ه ‪ .‬س‪22‬اعيا من وراء‬
‫تعليماته ومقرراته إلى خلق " اإلنسان األسمى"‪،‬واإلنسان األسمى في فلسفة " نيتشه "‪ ،‬ليس فردا واح‪22‬دا ‪,‬‬
‫‪2‬ة‪،‬‬
‫‪2‬ة هادف‪2‬‬
‫‪2‬ل تربي‪2‬‬
‫بل الجموع أفراد‪ ،‬و لماال اإلنسانية ككل‪ ،‬وهذا اإلنسان ال يمكن أن نصل إليه إال بفع‪2‬‬
‫وتخطيط دقيق وجيد‪ ،‬ونفس طويل وعمل دءوب ومتواصل ‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫‪2‬ة من‬
‫‪2‬ل تلقين لمجموع‪2‬‬
‫‪2‬الحين‪ ،‬مقاب‪2‬‬
‫‪2‬دين ص‪2‬‬
‫هكذا فالتربية عند " نيتشه " لم يكن هدفنا خلق أتباع ومري‪2‬‬
‫المهارات والمعار يف‪ ،‬فمفهومه للتربية جديد كليا‪ ،‬حيث يندرج ضمن تفده للتربية المؤسس‪22‬ة‪ ،‬ويالح‪22‬ظ‬
‫دارس فلسفة التربية الحديثة‪ ،‬تجاهلها الكبير للمنظور التربوي المتضمن في فلسفة " نيتشه " نظ‪22‬را لم‪22‬ا‬
‫تنطوي عليه منظومة " نيتشه " التربوية من مبادئ وتعاليم مختلفة عن النظام التربوي التقليدي‪ ،‬بل تشكل‬
‫تهديدات لهذا األخير‪ ،‬إذا تحت منظومة التربوية على التمرد والحرية‪ ،‬من أجل الخلق وإلبداع‪،‬على تجاوز‬
‫األستاذ‪ ،‬أو نقل إعطاء األهمية للمتعلم على المعلم وجعل العملية التربوية في يد المتعلم‪ ،‬ليبقى دور المعلم‬
‫هو التوجيه واإلرشاد‪ ،‬وليس ذلك العالمة ألموسعي‪ ،‬المالك للمعرفة والسلطة ‪.‬‬
‫وهذه التربية التي يسعى " نتشه " إلى تكريسها‪ ،‬من الصعب ترسيخها‪ ،‬إذا أن الم‪22‬ربي ‪ /‬الم‪22‬درس‪ ،‬من‬
‫‪2‬د‬
‫الصعب عليه تأصيل سمات وقدرات وطرق بديلة في التفكير و النقد لدى تالميذه‪ ،‬إن لم يكن هو نفسه ق‪2‬‬
‫مر في رحلة التفتيش هذه‪ ،‬حيث أن عملية تطور والتغير لدى المعلم ‪ /‬المربي تبدأ في مراح‪22‬ل مس‪22‬بقة‪،‬‬
‫‪2‬ة‬
‫‪2‬ك القائم‪2‬‬
‫ويجد أن تلقى لها صدى في كليات التربية‪ ،‬بحيث أن تكون عملية تأهيل المدرسين مغايرة لتل‪2‬‬
‫‪2‬درات‬
‫‪2‬مات والق‪2‬‬
‫اليوم ‪ .‬فمن وظيفة الكليات حسب رؤية " نيتشه " لدور المؤسسات التعليمية‪ ،‬تطوير الس‪2‬‬
‫الجديدة المتفردة والخاصة‪ ،‬في كل مدرس ‪ /‬مربي‪ ،‬وليس تلقين العلوم والمعرفة واألساليب التعليمية فقط‬
‫‪ .‬فمتى إذن سنستطيع التفريق بين التربية الحقيقية‪ ،‬وما يشبه التربية؟ومتى سنعمل على إزاحة العقبات بين‬
‫المدرسة وبين المجتمع والحياة ؟ بل متى سنتخلص من انكماشنا المرضي ونفهم بأن المستقبل أكثر أهمية‬
‫من الماضي ؟‬

‫هكذانخلص إلى أن " نيتشه "‪ ،‬فعال قد وضع يده على داء اإلنسان الحديث‪ ،‬وشخصه بدقة‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫‪2‬ول‬
‫‪2‬ير‪ ،‬ولن نق‪2‬‬
‫إنتقادته الالذعة‪ ،‬واقتراحاته الجريئة‪ ،‬التي قوبلت بالرفض والصد‪ ،‬بل وبالتهميش والتحق‪2‬‬
‫مثل ما قله بعض الظرفاء في حق فلسفته أن فيها مثلما هو األمر في اسمه مكتوبا بالالتيني‪22‬ة‪،‬الكث‪22‬ير من‬
‫األحرف فيه زائدة‪ ،‬ولن نقول أيضا في حقها ما قاله " يوسف كرم " أن " نيتشه " لم يأتي بشئ جدي‪22‬د من‬
‫‪1‬‬
‫الوجهة الفلسفية‪ ،‬وكل الجديد عنده‪ ،‬الضجيج الذي يقال له أدب ‪.‬‬
‫ففلسفة " نيتشه " تبقى رغم ما قيل‪ ،‬جديرة باالحترام والتقدير‪ ،‬وجدير أيضا بأن نق‪22‬رأ‪ ،‬لنس‪22‬بر أغ‪22‬وار‬
‫عبقريته الفذة‪ ،‬وحتى النتمادى في تمجيد فلسفة " نيتشه "‪ ،‬سنقول إننا ال يجب أن نسلم بكل ما فيه لئال نسلم‬
‫بباطله‪ ،‬وال تطرح كل ما فيه لئال يفوتنا حقه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫يوسف كرم ‪ :‬تاريخ الفلسفة الحديثة ‪ .‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة ‪ 1969 ، 5‬ص‪412‬‬

‫‪49‬‬
‫نصوص مختارة‬

‫‪ .180‬األستاذ في قرن الكتب‪.‬‬

‫بما أن التكوين الذي ينكب عليه المرء وحده‪ ،‬أو ضمن جمعية أخوية‪ ،‬يتعمم‪ ،‬فإننا نستطيع تقريبا االستغناء‬

‫عن األستاذ في صيغته المعتادة اليوم‪ .‬األصدقاء المولعون بالمعرفة‪ ،‬وال ذين يري دون جميع ا تمث ل معرف ة‬

‫ما‪ ،‬يجدون في هذا القرن الذي هو قرن الكتب طريقا أقصر وأشد طبيعية من "المدرسة" و"األستاذ"‪.‬‬

‫‪ . 267‬ليس هناك مربون‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫ال يجب للمفكر أن يتحدث إال عن تربية نفسه بنفسه‪ .‬تربية الشباب من طرف اآلخ رين هي إم ا تجرب ة يتم‬

‫القيام بها على شخص مجهول‪ ،‬ال يمكن معرفته‪ ،‬وإما تسوية للمبادئ المخصصة المؤلفة الشخص الجديد‪،‬‬

‫أيا يكن‪ ،‬مع العادات والتقليد السائدة‪ ،‬إذن فهي في كلتا الحالتين شيء‬

‫ال يليق بالمفكر‪ ،‬إنها مهمة اآلب اء والمعلمين ال ذين س ماهم أح د الجري ئين في ص دقة أع داءنا الطبيع يين‪-.‬‬

‫ويأتي يوم نكتشف فيه نفسنا‪ ،‬يوم يكون قد مر وقت طويل على تكوننا‪ ،‬حسب رأي الناس‪ ،‬حينما تبدأ مهمة‬

‫المفكر‪ ،‬أما اآلن فقد حان أوان االستنجاد به‪ -‬ليس بوصفة مربيا‪ ،‬بل كرجل ربي نفسه وأورثه ذلك تجربة‪.‬‬

‫‪ . 282‬األستاذ‪ ،‬شر ال بد منه‪.‬‬

‫ينبغي أن يكون هناك أقل عدد ممكن من األشخاص بين العقول المنتجة والعقول المتعطشة والقابل ة للت أثر‪.‬‬

‫ألن الوسطاء يزيفون‪ ،‬بشكل شبه تلقائي‪ ،‬الغداء الذي ينقونه ثم يطالبون ألنفسهم‪ ،‬كتعويض عن وس اطتهم‪،‬‬

‫بكثير من األشياء أخرى‪ .‬إننا سننظر إلى األستاذة إذن‪ ،‬مهما يكن األمر‪ ،‬على انه شر ال بد منه‪ ،‬على غرام‬

‫الت اجر‪ ،‬كش ر يجب جعل ه أض أل م ا يمكن‪ -.‬إن ك ان الس بب ال رئيس لب ؤس ش روط المعيش ة الحالي ة في‬

‫ألمانيا‪،‬ربما‪ ،‬هو كون الكثير من الناس يعيشون فيها من ممارسة التجارة‪ ،‬ويريدون أن يكون عيش هم منه ا‬

‫رغدا(بكونهم يس عون إلى تخفيض األثمن ة ال تي يؤدونه ا للمنتج م ا أمكنهم ورف ع ثمن ال بيع للمس تهلك م ا‬

‫أمكنهم‪ ،‬وذلك لإلفادة من اكبر خسارة تلحق هذا وذاك)‪ ،‬فإنه يمكن أن ن رى بك ل تأكي د أن الس بب ال رئيس‬

‫لفقرنا الثقافي هو ذلك العدد الضخم من األساتذة‪ :‬وإنه سبب نعرفه قليال وبشكل ردي‪.‬‬

‫*ف‪ .‬نيتشه ‪:‬إنسان مفرط في إنسانيته‪ ،‬ت‪ .‬محمد الناجي‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ .2001 ،‬ج ‪..II‬‬

‫‪5‬‬

‫‪51‬‬
‫<< لقد فقد التعليم العالي في ألمانيا‪ ،‬فبي مجلة‪ ،‬ما هو أساسي‪ :‬الهدف‪ ،‬وفقد ك ذلك الوس يلة لبل وغ ه ذا‬
‫الهدف‪ .‬أن تكون التربي ة العام ة غاي ة في ذاته ا – وليس " ال رايخ" – أن يك ون الم ربي ض روريا لهات ه‬
‫الغاية ( وليس استناد التعليم الثانوي أو الباحث الجامعي)‪ ،‬هذا ما نسيه المسؤولون‪ ...‬م ا ينقص هم مرب ون‬
‫مرب ون هم أنفس هم ‪ ،‬هي عق ول متفوق ة ومتم يزة‪ ،‬تثبت قيمته ا وإمكانياته ا في ك ل الظ روف بكلماته ا‬
‫وبصمتها‪ ،‬عقول تكون ثقافات حقيقية حية‪ ،‬ناضجة وشهية – وليس العلماء األفظاظ الذين توفرهم الجامعة‬
‫الثانوية للشباب مثل " مرضعات متفوقات"‪ .‬المربون منع دمو إذا م ا اس تثنينا اس تثناءات االس تثناءات‪ :‬إن‬
‫الشرط األولى لكل تربية هو الذي ينعدم إذن؛ من ثمة انحطاط الثقافة األلمانية – ص ديقي المبج ل‪ ،‬يعق وب‬
‫بوركهات‪ ،‬من بازل‪ ،‬واحد من هاته االستثناءات النادرة‪ ،‬إن بازل مدينة له بكونها تحتل الرتبة األولى في‬
‫دراسة اآلداب القديمة – وفي ال" إنسانية"‪ .‬في الواق ع‪ ،‬إن م ا يحص ل علي ه التعليم األلم اني ال ذي يس مى‬
‫" عاليا" هو ترويض عنيف يمكن‪ ،‬في أقل وقت ممكن‪ ،‬من جعل العديد من الشباب صالحين لالس تعمال –‬
‫صالحين لالستغالل – في خدم ة الدول ة‪ " .‬تعليم ع ال" وتع دد ال يحص ى‪ ،‬ه ذا تن اقض بين في المب دأ‪ .‬ال‬
‫يخصص التعليم العالي إال لالس تثناءات‪ .‬يجب أ‪ ،‬يك ون الم رء موهوب ا كي يطمح إلى مث ل ه ذا االمتي از‬
‫السامي جدا‪ .‬ال يمكن أبدا أن تكون كل األشياء العظيم ة والجميل ة من األمالك العام ة ‪est paucorum :‬‬
‫‪ . 1: hominum pulchrum‬ما الذي يحدد انحطاط الثقافة األلمانية إذن؟ إنه ك ون " التعليم الع الي" لم‬
‫يعد امتياز" – إنها النزعة الديمقراطية في الثقافة " العامة" التي أصبحت " شائعة" وعامية‪ ...‬ال ننس ى أن‬
‫اإلمتيازات التي يمنحها الجيش ترغم الناس على التردد على الم دارس العلي ا ب إفراط‪ ،،‬ت رغمهم إذن على‬
‫تخريبها‪ ...‬في ألمانيا الحالية‪ ،‬لم يعد هناك أحد حرا في إعطاء أبنائه تربية رقيقة‪ ،‬ك ل " مدارس نا العلي ا" ‪،‬‬
‫دون استثناء‪ ،‬مضبوطة على سطحية مريبة جدا‪ ،‬في هيئته ا التدريس ية‪ ،‬في برامجن ا‪ ،‬في مثله ا ال تربوي‪.‬‬
‫وفي كل مكان تسود عجلة غير الئقة كما لو أن شيئا ما قد ضاع نهائيا‪ ،‬في الوقت الذي ال يكون في ه ش اب‬
‫في الثالثة والعشرين من عمره قد فرغ منها وال يكون لدي ه ج واب ج اهز عن الس ؤال " الرئيس ي" ‪ :‬أي ة‬
‫مهنة تختار؟ ‪...‬إن طبق ة متفوق ة من الن اس‪ ،‬ولتغف روا لي ذل ك‪ ،‬ال تحب س ماع الح ديث عن " المهن"‪،‬‬
‫ألنها تفتخر بأن لها موهبة ‪...‬إن لديها متسعا من الوقت‪ ،‬إنها ال تتعجل‪ ،‬ال تفك ر في أن " تف رغ منه ا" –‬
‫في الثالثين من العمر‪ ،‬يكون المرء‪ ،‬من منظور الثقافة المتفوقة‪ ،‬ال ي زال مبت دأ‪ ،‬طفال‪ .‬ثانوياتن ا المكتظ ة‬
‫وأساتذتها المرهقون والمخبولون فضيحة حق ة‪ ،‬لل دفاع عن حال ة األش ياء هات ه‪ ،‬مثلم ا فعل ه ح ديثا أس اتذة‬
‫هايدلبرغ‪ ،‬يمكن أن تكون للناس دوافع لكنهم لن يستطيعوا أن يجدوا حججا‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫حتى أظل وفيا لمزاجي‪ ،‬ال ذي ه و إيج ابي في األس اس وال يتع اطى للنق د والمنازع ة إال بش كل غ ير‬
‫مباشر وعلى مضض‪ ،‬فإنني أسارع في عرض المهمات الثالث التي ال بد لها من م ربين‪ .‬يجب أن نتعلم‬

‫‪ - 1‬أشياء اإلنسان القليلة جدا (م)‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫أن نرى‪ ،‬يجب أن نتعلم أن نفكر‪ ،‬يجب أن نتعلم أن نتكلم وأن نكتب‪ :‬الهدف من هاته المواد العلمية الثالث‬
‫هي ثقافة رقيقة‪ .‬أن نتعلم أن نرى‪ :‬أن نعود العين على الهدوء‪ ،‬على الصبر على ترك األش ياء ت أتي إليه ا‪،‬‬
‫على تعليق الحكم‪ ،‬أن نتعلم اإلحاطة بالجزء ونفهمه في إطاره الكلي‪ .‬هذه هي المدرسة التمهيدية األولي ة‬
‫لحياة العقل‪ :‬إال نستجيب فورا ألي إغراء بل نعرف كيف نستغل الغرائز التي تكبح وتع زل‪ .‬إن نتعلم أن‬
‫نرى هو‪ ،‬بالمعنى الذي أفهمه‪ ،‬أن نمتلك تقريبا ما تسميه اللغة غير الفلسفية قوة اإلرادة‪ :‬األساسي هن ا ه و‬
‫أن ال نريد فعل شيء ما‪ ،‬أن نعرف كيف نعلق قرارنا‪ .‬يأتي كل موقف مض اد للروحاني ة‪ ،‬ك ل فظاظ ة من‬
‫العجز عن مقاومة إغراء ما‪ :‬يجد الناس أنفسهم مرغمين على االستجابة‪ ،‬يخضعون لك ل مح رض نفس ي‪.‬‬
‫في كل كثير من الحاالت يكون مثل هذا اإلرغام عالمة مرض‪ ،‬عالمة انحطاط ‪ ،‬أمارة أنهاك‪.‬‬
‫ليس كل ما تعرفه الفظاظ ة غ ير الفلس فية تقريب ا بكلم ة " نقيص ة" س وى ذل ك العج ز الفزيول وجي عن‬
‫االستجابة‪ .‬النتيجة العلمية لتربية العين هذه‪ :‬فيما بعد‪ ،‬حيث سيكون على المرء أن يتعلم شيئا ما سيكون قد‬
‫صار بطيئا‪ ،‬حذرا صموتا‪ .‬سيدع في بادئ األمر كل ما هو مجهول وجديد يقترب به دوء مع اد‪ ،‬ثم ي نزع‬
‫منه اليد بحذر تام‪ .‬الميل مع كل ريح‪ ،‬السجود أمام كل حدث تافه بمجاملة مفرط ة‪ ،‬المس ارع في االرتم اء‬
‫على اآلخرين – و على كل ما هو آخر – باختصار‪ ،‬الموضوعية العص رية" المش هورة تص در عن أش د‬
‫األذواق فسادا‪ ،‬إنها عكس التميز بامتياز*‬
‫‪7‬‬
‫أن نتعلم أن نفكر‪ :‬ليست لمدارسنا أدنى فطرة عما يعني ه ذل ك‪ .‬ح تى في الجامع ات‪ ،‬ب ل وح تى ض من‬
‫أعلم الفالسفة‪ ،‬يصير المنطق‪ ،‬بما هو نظرية وممارسة وتقنية نحو اإلفالس‪ .‬لنقرأ بعض الكتب األلمانية‪:‬‬
‫لقد نسي فيها تماما أنه لكي يتم التفك ير فال ب د من تقني ة‪ ،‬من برن امج‪ ،‬من إرادة التحكم‪ ،‬إن ه ال ب د من تعلم‬
‫التفكير مثلما يتعلم الرقص‪ ،‬كنوع خاص من الرقص‪....‬من من األلمان يعرف‪ ،‬عن تجربة‪ ،‬تلك القشعريرة‬
‫الخفيفة ال تي تنش رها مش ية العق ل المجنح ة في ك ل العض الت؟ الباله ة العني دة في حرك ات العق ل‪ ،‬الي د‬
‫المتثاقلة‪ ،‬ه ذا ش يء ألم اني بمك ان بحيث ال يف رق الن اس في الخ ارج بين ه وبين العبقري ة األلماني ة‪ .‬ليس‬
‫لأللماني مهارة فيما يخص الفروق*‪ ...‬إن كون األلمان قد استطاعوا تحمل فالسفتهم‪ ،‬وخاصة أشد كسيحي‬
‫الفكر دمامة على اإلطالق‪ ،‬كانط العظيم‪ ،‬إن ذلك يعطي فك رة ص ريحة عن الرق ة األلماني ة – ال يمكن ا أن‬
‫نستعيد الرقص‪ ،‬بكل أشكاله‪ ،‬من تربية رقيقة‪ :‬أن يعرف المرء كيف يرقص برجليه‪ ،‬باألفكار و بالكلم ات‪.‬‬
‫أال يزال هناك داع ألن نقول بأنه على الم رء أيض ا أن يع رف كي ف بقلم ه‪ -‬بأن ه علي ه أن يتعلم أن يكتب؟‬
‫لكن‪ ،‬عند هذا الحد‪ ،‬سأكون قد صرت معمى تماما بالنسبة لبعض األلمان‪>>....‬‬

‫*ف‪ .‬نيتشه‪ :‬أفول األصنام‪ ،‬ت‪ .‬محمد الناجي وحسان بورقية‪ ،‬أفريقيا الشرق‪.1996 ،‬‬

‫‪53‬‬
54
‫مقتطف من مجلة الجدل‬

‫‪55‬‬
56
57
58
59
60
61
62
63
64
65
66
67
68
‫* مجلة الجدل‪ .‬العدد األول – السنة األولى‪ -‬ربيع ‪.1985‬‬

‫‪69‬‬
‫ملخص البحث‬

‫إن موضوع دراستنا‪ ،‬كان هو محاولة إثارة إشكالية التربية من خالل الفلسفة الينتشوية‪ ،‬والتطرق‬
‫المنظور التربوي المتضمن في فلسفته‪ ،‬بناء على الحيف الذي تلقته فلسفته في التربي‪22‬ة من تهميش‬
‫‪2‬ا‬
‫‪2‬ا دقيق‪2‬‬
‫‪2‬قا تربوي‪2‬‬
‫وتجاهل‪,‬خاصة في فلسفة التربية الحديثة‪ .‬حقا ال يكمن أن نقول أن ل"نيتشه" نس‪2‬‬
‫‪2‬تربوي‪ ،‬ونحن‬
‫‪2‬ال ال‪2‬‬
‫ومتكامال‪ .‬لكن ال يمكن أن ننكر إسهاماته العميقة والجريئة والجديدة في المج‪2‬‬
‫‪2‬ف‬
‫نعلم أن التعليم والتربية هما الطريق الحقيقي لكل تقدم ورقي وازدهار‪ ،‬فمصير المجتمعات تتوق‪2‬‬
‫بمعنى من المعاني على الكيفية التي ستعد وسيؤهل بها أبناءها‪ .‬وخاص‪22‬ة من الناحي‪22‬ة التربوي‪22‬ة‬
‫والتعليمية‪.‬‬
‫ويحدد" نيتشه" للتربية دورين كبيرين؛ في الدور األول تكون مختصة بتخليص اإلنسان من األوهام‬
‫التي تتحكم فيه‪ ،‬وتكبل حريته كانسان وتثقل كاهله‪ ،‬وتتخد شكل نقد وشك عنيف‪ ،‬وتهديم وتج‪22‬اوز‬
‫‪2‬ق‪،‬‬
‫‪2‬اة‪ ،‬إرادة الخل‪2‬‬
‫تخلي‪ .‬أما الدور الثاني فيتجلى في إحياء إرادة اإلثبات لدى اإلنسان‪ ،‬وحب الحي‪2‬‬
‫إرادة االمتداد‪ ،‬إرادة النمو‪ ،‬إرادة المقدرة الذاتية‪ ....‬مقترحا بهذا نموذجا تربويا جريئا وجديدا ك‪22‬ل‬
‫الجدة‪ ،‬عكس ما تقترحه التربية التقليدية‪ ،‬بقيمها ومبادئها السلبية‪.‬‬
‫‪2‬وي‪،‬‬
‫‪2‬تربوي النيتش‪2‬‬
‫‪2‬وذج ال‪2‬‬
‫ويتجلى الهدف من إختيارنا لهذا البحث‪ ،‬الوقوف على قرب على النم‪2‬‬
‫لنالمس جانبه االيجابي الفعال حتى نستثمره ونستفيد منه في مسيرتنا العملية‪ ،‬إلى جانب" بيداغوجيا‬
‫الكفايات"‪ ،‬إذا تتقاطع دعاوى" نيتشه " التربوية في جانب منها مع بيداغوجيا الكفايات"‪.‬‬
‫‪2‬هلها‪ ،‬من خالل‬
‫‪2‬ة‪ ،‬ولكن مس‪2‬‬
‫حيث نجد"نيتشه" يعطي دورا جديدا للمربي‪ ،‬فهو لم يعد مالكا للمعرف‪2‬‬
‫مساعدته للمتعلمين على التعلم الذاتي عندما يقول‪" :‬من الواجب علينا تجنب أن نصبح المثال بالنسبة‬
‫لشخص آخر‪ ،‬ألننا إذا أصبحنا كذلك فسنحول دون تكوينه من خالل قواه الخاصة ومثاله الخ‪22‬اص"‬
‫‪2‬نمية‬
‫‪2‬ا يحطم ص‪2‬‬
‫‪2‬ك‪ ،"...‬كم‪2‬‬
‫فهو يعطي أهمية كبرى للمتعلم في بناء تعلماته‪ ،‬إذا يقول له" كن ذات‪2‬‬
‫‪2‬روج‬
‫األستاذ باعتباره مهيمنا على المعرفة بحثه المتعلمين على التمرد على أساتذتهم‪ ،‬من أجل الخ‪2‬‬
‫عن التبعية التي تخنق‪ ،‬الخلق واإلبداع‪ .‬فنجده يصرح"‪ ،‬ليست ثمة من فكرة غريبة مثل فكرة تكوين‬
‫‪2‬د‪،‬‬
‫‪2‬ان جدي‪2‬‬
‫األتباع"‪ ،‬إذ سعى من خالل هذا‪ -‬وسبق أن تطرقنا إليه‪ -‬إلى تأسيس شروط إمكان إنس‪2‬‬
‫إنسان أسمى في أفكاره طموحاته تطلعاته‪ ،‬أحالمه‪ ،‬أهدافه‪ ،...‬ضدا على نموذج التربوي الفاش‪22‬ل؛‬
‫الضعيف‪ ،‬المتهاون الذي تكرسه الثقافة التقليدية‪ .‬هذا‪ ،‬وفيما يخص الفرضيات التي انطلقنا منه‪22‬ا‪،‬‬
‫وحاولنا التطرق إليها في بحثنا لهذا الموضوع‪ ،‬كانت هي محاولة اإلجابة عن اإلشكاالت التالية‪:‬‬

‫‪70‬‬
‫‪-‬أين تتجلى اهمية مشروع"نيتشه" التربوي؟‬
‫‪ -‬ما هو البديل التربوي الذي جاء به‪ ،‬ضدا على التربية التقليدية؟‪-‬‬
‫‪ -‬ما هو الهدف من التربية بالمنظور النيتشوي؟‬
‫ومن النتائج التي توصلنا إليها في هذا البحث حول موضوع التربية عند"نيتشه"‪ ،‬هو كون المشروع‬
‫التربوي النيتشوي هو مشروع تنويري‪ ،‬يهدف إلى تحطيم الجمود الفكري‪ ،‬وبث روح النقد والشك‪،‬‬
‫وتنمية روح المبادرة ة واإلبداع والخلق لدى المتعلم‪ ،‬من أجل التنظير لمجتمع من المتفوقين وبالتالي‬
‫كسب رهان التقدم واالزدهار‪.‬‬
‫وقد ارتبطت دراستنا هاته ارتباطا وثيقا بمؤلفات"نيتشه" حيث اطلعنا على معظم كتاباته‪ ،‬من اجل الخروج‬
‫برؤية عامة حول موضوع التربية كما يتمثله "نيتشه" ونظرا للبس الذي يحيط بمنظور "نيتش‪22‬ه" للتربي‪22‬ة‬
‫ارتأينا توظيف المنهج البنيوي‪ ،‬من اجل الكشف عن عناصر البنية الفكري‪22‬ة ل"نيتش‪22‬ه" من خالل بعض‬
‫مؤلفاته‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫* المفاهيم الرئيسية في البحث‬

‫المفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاهيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم‬
‫‪ -‬اإلنسان األسمى‬ ‫‪ -‬زراديشت‬
‫‪ -‬الجسد‬ ‫‪ -‬سقراط‬
‫‪ -‬الجمل‬ ‫‪ -‬الكنيسة‪ /‬الكاهن‬
‫‪ -‬األسد‬ ‫‪ -‬المؤسسة التعليمية‬
‫‪ -‬الطفل‪ /‬الطفولة‬ ‫‪ -‬الثقافة السائدة‬
‫‪ -‬الرقص‬ ‫‪ -‬إرادة النفي‬
‫‪ -‬اللعب‬ ‫‪ -‬الشعور بالذنب‬
‫‪ -‬الضحك‬ ‫‪ -‬العقاب‬
‫‪ -‬الفرح‬ ‫‪ -‬الخطيئة‬
‫‪ -‬الخلق‬ ‫‪ -‬الضعف‬
‫‪ -‬البناء‬ ‫‪ -‬القيم السلبية‬
‫‪ -‬الهدم‬ ‫‪ -‬القيم االيجابية‬
‫‪ -‬التمرد‬ ‫‪ -‬األلواح القديمة‬
‫‪ -‬الحرية‬ ‫‪ -‬األلواح الجديدة‬
‫‪ -‬البطولة‬ ‫‪ -‬إرادة الحياة‬
‫‪ -‬النسيان‬ ‫‪ -‬إرادة اإلثبات‬

‫‪72‬‬
‫البيبلوغرافيا‬
‫‪:‬المصادر‬
‫‪Nietzsche (f) :Ainsiparlait Zarathoustra . trad . maurice de -‬‬
‫‪gandillge ,1971‬‬
‫‪ -‬نيتشه (ف)‪ :‬هكذا تكلم زرادشت‪ ،‬ترجمة‪ ،‬فلكس فارس‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار القلم‪( ،‬بدور‬
‫التاريخ )‬
‫‪ -‬نيتشه (ف) ‪ :‬أقول األصنام‪ ،‬ترجمة‪ ،‬حسان برقية ومحمد الناجي‪ ،‬أفريقيا الش‪22‬رق‪،‬‬
‫‪1996‬‬
‫‪ -‬نيتشه ‪ :‬إنسان مفرط في إنسانيته‪ ،‬ترجمة‪ ،‬محمد الناجي‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ 2001 ،‬ج‪1‬‬
‫و‪2‬‬
‫‪ -‬نيتشه ‪ :‬جينيا لوجيا األخالق‪ ،‬ترجمة‪ ،‬محمد الناجي‪ ،‬بيروت‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ ،‬س‪22‬نة‬
‫‪. 2006‬‬
‫‪ -‬نيتشه ‪ :‬هو ذا اإلنسان‪ ،‬ترجمة‪ ،‬مجاهد عبدا لمنعم مجاهد‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬سنة‬
‫‪. 2005‬‬
‫‪ -‬نيتشه ‪ :‬عدو المسيح‪ ،‬ترجمة‪ ،‬جورج ميخائيل ديب‪ ،‬دار الحوار للنش‪22‬ر والتوزي‪22‬ع‬
‫‪. 2005‬‬
‫‪2‬هيل القش‪،‬‬
‫‪2‬ة‪ ،‬س‪2‬‬
‫‪2‬ريقي‪ ،‬ترجم‪2‬‬
‫‪2‬اوي اإلغ‪2‬‬
‫‪2‬ر المأس‪2‬‬
‫‪2‬فة في العص‪2‬‬
‫‪2‬ه ‪ :‬الفلس‪2‬‬
‫‪ -‬نيتش‪2‬‬
‫بيروت‪،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر‪ ،‬والتوزيع‪ ،‬سنة ‪. 2005‬‬
‫‪ -‬المراجع ‪:‬‬
‫‪Christophe Baroni : NIETZSCHE Educateur/ Buchet/ chastel. -‬‬
‫‪.Paris. 1961‬‬
‫‪ -‬فؤاد زكريا‪ :‬نيتشه‪ ،‬دار المعارف بمصر الطبيعية ‪2‬‬

‫‪73‬‬
‫‪ -‬دو لوز(جيل)‪ :‬نيتشه والفلسفة‪ ،‬ترجمة‪ ،‬أسامة الحاج‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،‬سنة ‪2001‬‬
‫‪2‬ر‬
‫‪2‬ات والنش‪2‬‬
‫‪ -‬دو لوز(جيل)‪ :‬نيتشه‪،‬ترجمة‪ ،‬أسامة الحاج‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراس‪2‬‬
‫والتوزيع‪ ،‬سنة ‪1998‬‬
‫‪2‬ة‬
‫‪2‬ة الجامعي‪2‬‬
‫‪2‬اج‪،‬المؤسس‪2‬‬
‫‪ -‬بيار هيبر سوفورين‪ :‬زرادشت نيتشه‪ ،‬ترجمة‪ ،‬أسامة الح‪2‬‬
‫للدراسات‪,‬والنشر والتوزيع‬

‫‪ -‬هنري ليشتانير جر ‪ :‬نتش ‪ ،‬ترجمة‪ ،‬خليل الهنداو ‪ ،‬دار بيروت للطباعة والنشر سنة‬
‫‪1954‬‬

‫‪ -‬محمد األندلسي ‪ :‬الفلسفة من منطبق العقل إلى منطق الجسد‪ ،‬سلسلة دراسات وأبحاث‬
‫‪ 11 -‬جامعة موالي إسماعيل ‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬مكناس‪2003 ،‬‬
‫‪ -‬محمد بوب كري ‪ :‬التربية والحرية‪ ،‬أفرقيا الشرق‪ ،‬سنة ‪. 2000‬‬
‫‪ -‬يوحنا قمير ‪ :‬نيتشه نبني المتفوق‪ ،‬بيروت‪ ،‬منشورات دار النشر المشرق‪.1986 ،‬‬

‫‪ :‬مقاالت‬
‫‪ " -‬نيتشه المربي "‪ ،‬مجلة الجدل ‪ ،‬عدد‪ ، 1‬السنة األولى ‪ ،‬ربيع ‪1985‬‬
‫‪ " -‬هل المربون الكبار أباء بمعنى الكلمة "‪ ،‬مجلة علوم التربية ‪ ،‬عدد ‪ ،14‬سنة ‪1998‬‬

‫‪74‬‬
‫فهرس الموضاعات‬

‫‪1‬‬ ‫‪ -‬مدخل عام‬

‫‪5‬‬ ‫‪ -‬الفصل األول ‪ :‬المربــــي‬

‫‪6‬‬ ‫* المربي شر البد منه ‪:‬‬

‫‪8‬‬ ‫‪ - I‬نموذج المربي النافي للحياة ‪.‬‬

‫‪8‬‬ ‫‪ -1‬النموذج السقراطي‬

‫‪11‬‬ ‫‪- 2‬النموذج الكهنوتي‪ ،‬الكنيسة والكاهن‬

‫‪14‬‬ ‫‪ - 3‬نموذج المؤسسة التعليمية والثقافة السائدة ‪.‬‬

‫‪20‬‬ ‫‪ - II‬نموذج المربي المثبت للحياة‬

‫‪21‬‬ ‫* زرادشت المربي‬

‫‪26‬‬ ‫* األطوار الثالثة‬

‫‪32‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪ :‬اإلنسان األسمى والتربية‬

‫‪33‬‬ ‫‪ I‬الجسد موضوع التربية الجديد‬

‫‪39‬‬

‫‪75‬‬
‫‪ II‬اإلنسان األسمى نموذج الجديد الذي يبشر به نيتشه‪.‬‬
‫‪46‬‬ ‫‪ -‬الخاتمة‪.‬‬

‫‪49‬‬ ‫‪ -‬نصوص مختارة‪.‬‬

‫‪69‬‬ ‫‪ -‬ملخص البحث‬

‫‪71‬‬ ‫‪ -‬المفاهيم الرئيسية في البحث‪.‬‬

‫‪72‬‬ ‫‪ -‬البيبليوغرافيا‪.‬‬

‫‪76‬‬
77

You might also like