Professional Documents
Culture Documents
التربية عند نيتشه
التربية عند نيتشه
1
2
مدخل عــــــام
تعد إشكالية التربية ووظيفتها التنموي ة ،واح دة من التح والت الك برى ،ال تي ك انت وم ا ت زال تواج ه
العديدة من البلدان .فهذه حقيقة ال جدال فيها ،إذ أن اإلجماع الحاصل منذ عدة قرون ح ول ض رورة التعليم
والتربية كطريق لكل نهضة حقيقية وكل تقدم ،فمصير المجتمعات تتوقف بمعنى من المعاني على الكيفية
التي ستعد وستؤهل بها أبنائه ا ،وخاص ة من الناحي ة التربوي ة والتعليمي ة فم ا هي الفائ دة من التربي ة؟ إن
الجواب ليس من السهولة بمكان ،وقد نعثر عليه إذا طرحنا اإلشكال األساس ي – م اهر الطف ل ؟ ال ذي ه و
أب الرجل ،وبالتالي ففائدة التربية هي أن تجعل من هذا الطفل رجال كفؤا به ذا االس م لكن يبقى أن نع رف
أي رجل ستعطينا هذه التربية .والتربية كانت منذ عصور خلت هاجس الفالس فة وه ذا م ا يجعلن ا نتس اءل
عن أية عالقة بين التربية والفلسفة؟
يمكن أن نورد أنه منذ كان"السوفسطائي" مدرس ة متجول ة ،يخت ار تالمذت ه في الس احة العمومي ة ،ويعلم
منهاجا في التفلسف والبالغة ،ويعلم أن "اإلنسان مقياس األشياء الموجودة وغير الموجودة " ؛ وك ذا من ذ
كان " سقراط" معلما " للمفهوم" العام الواحد ،يكشف جهل اآلخرين بهذا المفهوم ،فيعلمه منهاجا " يعرف
به نفسه بنفسه ،بل إن العالقة بين الفلسفة والتربية تصبح أوثق عند " أفالط ون" ال ذي تبت ه ذا االرتب اط
بإنش اء المؤسس ة التربوي ة ( األكاديمي ة) ،حيث تك ون التربي ة ،وس يلة يس تطيع به ا أن يص ل إلى ت ذكر
المعرفة ،باعتبار أن المعرفة ،عند "أفالطون " هي تذكر لما سبق تأمله في ع الم المث ل -الماهي ات" -فك ر
واحد" يحمل في أعماق روحه قوة المعرفة".
أكيد أن الفلسفة والتربية قد إرتبطتا فيما بينهما ،وثمة أسباب شتى تبرر هذا االرتباط؛ أوله ا أن الفك ر ين ير
المجاهل التي لم يطلها النور ،ثانيها أن المهمة التي تعهدت بها الفلس فة من ذ" س قراط" ،هي أن تعلم وتثبت
القيم ،كما كان يقول " نيتشه" فالفيلسوف تعهد بأن يرسم للتربية مع الم طريقه ا،وأن يص نع له ا قواع دها،
فهو" طبيب الحضارة" يشخص أع راض أم راض ه ذه األخ يرة ،ويرش دها إلى س بيل تف ادي األم راض،
وثالث أسباب هذا االرتباط بين الفلسفة والتربية؛ هو أن محور التفكير الفلسفي ،كان وم ايزال ه و الوج ود
واإلنسان .ومحور التربية ،هو وضع قواعد وقيم يمثل له ا ه ذا اإلنس ان داخ ل المجتم ع ،وبالت الي تص بح
مهمة الفيلسوف ،ال تقتصر على تحليل المفاهيم والنظريات التي تجترها الخطاب ات الش ائعة ،أو التوض يح
أو الشرح أو اإلجابة عن أسئلة زمانه ،بل يجب عليه أن يتدخل هو نفسه في طرح األسئلة ووضع المب ادئ
والتصورات ،وبهذا تكون كل فلسفة هي عبارة عن تربية عامة .
وقد شهد العصر الحديث ،فلسفة التربية بوصفها تخصصا معرفيا منظما ،حافل بالتوجيهات التربوي ة
والنظريات ،مع االستفادة من إسهامات مجموعة من الفالسفة في هذا المجال ،إال أنه ما يالحظ على فلس فة
3
التربية الحديث ،تجاهلها الكبير للمنظور التربوي المتضمن في فلسفة " نيتش ه" .وب الرغم من وج ود ع دد
محدود من األنساق الفلس فة المت وفرة على تص ور ترب وي متماس ك وج ريء ،حيث أن مفه وم " نيتش ه"
للتربية ،أصيل وجديد كليا في تاريخ الفكر التربوي ،إن ه أيض ا ج ريء ج دا ،ففلس فته تتم يز عموم ا بأنه ا
محاولة إلعادة تقييم كل القيم وقلبها ،انطالقا مما يتميز به الحاضر التربوي من انحطاط بالنسبة إليه ،هك ذا
سعى من خالل فلسفته في التربية ،إلى تأسيس شروط إمكان إنسان جديد ،إنسان أسمى ،ضدا على النموذج
ال تربوي الفاش ل ،الض عيف ،المس تهتر ،المته اون...ال ذي تكرس ه الثقاف ة المس يحية ،والطريق ة التربوي ة
الســــــائــــــدة.
فما هو إذن الب ديل ال تربوي ال ذي ج اء ب ه "نيتش ه" ض دا على التربي ة التقليدي ة؟ وأين تتجلى أهمي ة
مشروعه التربوي؟
لقد حمل" نيتشه"على عاتقه مهم ة قلب القيم ،وتحطيم األص نام الجام دة ال تي تس ن باس مها القيم .ومن
المعروف أن التربية تقوم على ترسيخ القيم في النفس اإلنسانية ،به دف الوص ول إلي إنس ان كام ل .أي أن
صفات هذا اإلنسان الكامل تتحدد مسبقا؛ أي قبل ميالده ،الشيء الذي يعني إنشاء إنس ان على ش اكلة مث ال
سابق ،أي الحصول على نسخة لنموذج أول سبق له أن وجد ،إن لم يكن في الحياة ففي ع الم آخ ر .وم ادام
"نيتشه" عمل على تقويض كل القيم التي من شأنها خل ق ه ذا اإلنس ان الكام ل أو الص الح .فكي ف س تكون
تربية هذا اإلنسان بدون قيم؟ وهل سيبقى الهدف دائما هو الوصول إلى اإلنسان الصالح؟
" سأش رح لكم تح ول العق ل في يقترح" نيتشه" ثالث مراحل جديدة ،يمر منها العقل في تطوره ،يقول:
مراحله الثالث ،فأنبئكم كيف استحال العقل جمال ،وكيف استحال الجمل أسدا ،وكيف استحال األسد أخ يرا
فصار طفال".1
يعرف الجمل بصبره وقدرته الفائقة على التحمل ،لكن ما طبيعة هذه األحمال التي على العقل حملها؟ .
إنها أحمال العقل العليا ،التي باإلضافة إلى ثقل وزنها ،تفرض على العقل س لوك الطري ق ال تي تح دده ل ه.
لكن هذا العق ل ،بع د أن يطي ع وينص اع في البداي ة إلى م ا تملي ه علي ه ه ذه القيم ،يتح ول إلى أس د يفيض
بالشجاعة ،هذه األخيرة ستمكنه من أن يلقي بكل تلك األحمال والقيم ليخلفه ا وراءه .لينفلت في األخ ير إلى
طفل ،يفيض بالحيوية والنشاط .ويقوم بحركات إرادية والإرادية في كل اتجاه ،يقفز ،يترنح ،يرقص......
إن الرقص عند "نيتشه" رمز للخلق واإلب داع ،ولخف ة ال روح المرح ة .لكن م ا عس اه (الطف ل /العق ل) أن
يخلق؟ إنه يخل ق قيم جدي دة ف وق أرض جدي دة .من المع روف أن الطفول ة والص غر ،تك ون هي المرحل ة
األولى ألي شيء .لكنن ا نالح ظ اآلن أن" نيتش ه" يقلب ك ل ش يء ،إن ه ي دعونا لكي نك ون أطف اال ،أي أن
نمارس الخلق ،خلق ذوات جديدة ،ذوات لم يس بق له ا أن وج دت ،اخترناه ا نحن أنفس نا ألنفس نا ،دون أن
1
? -نيتشه هكذا تكلم زرادشت ،ترجمة فليكس فارس .،دار القلم ،ببيروت -لبنان .ص- )47 ( :
4
يرشدنا أي مرشد .وبعد أن يوصلنا " نيتشه" إلى هذا المكان يقول " أمركم أن تضيعونا لتجدوا أنفس كم ".1
ال يجب أن نسير على خطى " نيتشه" حتى ال نكون على شاكلته ،ونقع فيما كنا نحاول االنعتاق من ه " ألن
إسقاط ألذات في ذات أخرى ،هو إضعاف لهذه األخيرة" .2
إن هذه العقيدة الجديدة التي يدعو إليها " نيتشه" ،تحاول هدم التقليد األفالطوني المسيحي ،ال ذي يه در
الفرد عن طريق إجباره على إتباع تع اليم وقيم قاس ية ،من أج ل أن يخلص نفس ه ويبل غ الس عادة الخال دة.
فيقلب "نيتشه" هذا التصور الذي مفاده حس ب " هي دجر" م اذا علي أن أفع ل لكي أك ون س عيدا ،فجعل ه "
نيتشه" " كن سعيدا تم افعل ما شئت" .3ليست القيم هي التي تخلق إنسانا قويا ،ب ل اإلنس ان الق وي ه و من
يخلق قيما ،وليست التربية الجيدة هي التي تصنع اإلنسان بل اإلنس ان ه و ال ذي ينس ج تربي ة جي دة تجعل ه
يخلق نفسه باستمرار ،من أجل بلوغ اإلنسان األعلى .تل ك هي الحقيق ة ال تي ن ادي به ا " نيتش ه" ،وال تي
جعلته يقف وحيدا أمام تيار ألفالطونية والمسيحية الجارفة ،وجعلت ه يوص ف بالفيلس وف اله ادم أو اله ادم
السلبي ،الذي ال يبني .لكن يبدو أن " ألندري جيد" رأي مخالف إذ يقول " :نعم ،إن نيتش ه ينقض ،ويه دم،
لكنه ال يفعل ذلك بوصفه محبط ا ،ب ل بوص فه شرس ا ،يفع ل ذل ك بنب ل ،ومج د ،وبص ورة بش رية ،مثلم ا
يغضب فاتح جديد أشياء باتت قديمة .والحماس الذي يبديه في عمل ه ه ذا يعطي ه مج ددا آلخ رين من أج ل
البناء( )...هل يهدم نيتشه؟ كفا هدرا .إنه يبني – إنه يبني – إنه يبني أقول لكم يبني بعنف". 4
أن البناء يقتضي وجود فضاء أو مكان فارغ وواسع ليقوم من ه ،ومن أج ل أن يج د " نيتش ه" ه ذا
المكان ،عمل على هدم وإزالة كل األبني ة القديم ة ،اآليل ة للس قوط .ولكي يتس نى له ذا البن اء االس تمرارية
والشموخ ،ينبغي أن يرتكز على أس س متين ة جدي دة تحت ل مك ان األس س القديم ة المنه ارة ،أم ا التربي ة،
فستكون هي الوسيلة التي سترسي وترسخ هذه األسس الجديدة.
ه ذه التربي ة يجب أن تعم ل على القض اء على ك ل المث ل والقيم األخالقي ة ال تي س نتها إرادة النفي
( نفي الحياة) أي اإلرادة البشرية إبان فترات تدنيها وانحطاطها ،واستبدالها بثقافة جدي دة تق وم على تمجي د
الجوانب الحيوية في اإلنسان .السيما جانب الغرائز الطبيع ة ال تي تت وق إلى التح رر واالنطالق باإلنس ان
نحو قارات ومواطن جديد ،لم يطأها بأقدامه من قبل.
لقد كان " سقراط" يربي شباب أثينا على تهذيب أرواحهم ،وتخلصها من األدران الجس دية ،فالجس د
كان يعتبر ذاك سجن للروح ،وبالتالي وجب تخليص هذه األخيرة منه ،أجل الوصول بها إلى عالم الكم ال،
أي عالم المثل .غير أن " نيتشه" يقول " :ال تصدقوا أولئك الذين يحض رون ،س رى الس م في ع روقهم هم
أيضا( )...في ما مضى كانت الروح تنظ ر ب ازدراء إلى الجس د ،وك ان ذل ك الزدراء أن داك أس مى م اهر
1
-Niézsche (f) :Ains parlait Zarathoustra ; trad, maurice de gandillage. Grallimard, 1971 – « De la prodigue
vertu » T1, &3, p 103.? -
2
? -مجلة الجدل عدد 1السنة األولى ،ربيع "1985نيتشه المربي" ص-)49( :
? 3
- -
4
.? -بيار هيبر -صوفورين " زرادشت نيتشه" ترجمة أسامة الحاج ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتروزيع ص- )61( :
5
موجود ( )...أواه لقد كانت تلك الروح هي ذاتها هزيلة أيضا ،وكريهة وجائعة وك انت <<القســوة متعتهــا
1
الوحيدة>>
يظه ر مم ا س بق أن " نيتش ة" يح دد دورين كب يرين للتربي ة ،فهي في ال دور األول ،تك ون مختص ة
بتخليص اإلنسان من األوهام ،التي تسكنه وتتحكم في مصيره مثل؛ العالم اآلخر ،األل ه ،الع الم الحقيقي،...
ومن القيم التي تكبل حريته وتثقل كاملة " إي اك أن تعطيهم ش يئا واألج در ب ك أن تأخ ذ منهم م ا تس اعدهم
على حمله ،ذلك أجدى لهم".2
أم ا ال دور الث اني ،فيتجلى في إحي اء إرادة إلثب ات ل دى اإلنس ان ،وحب الحي اة ،واإلخالص للع الم
األرضي ،ألنه هو وحده الحقيقي ،وكل ما ع داه مج رد أكذوب ة ،واعتب ار الحي اة هي المعي ار ،ال ذي على
أساسه يجب أن نقيم األشياء ".هكذا نرى " زرادشت" يس تدخل خ ير األخالق القديم ة ،بص فة م ا لإلرادة:
إرادة الخلق ،إرادة االمتداد ،إرادة النم و ،إرادة المق درة الذاتي ة ،ويط رح على عكس كقيم ة س لبية ،ألج ل
اس تبدال ش ر األخالق ،واإلرادة المعاكس ة ،إرادة الت دمير والته اون والرض ا عن ال ذات ،والطمأنين ة
المستريحة ،التي تعيق كل إرادة تجديد"3
إن" نيتشه" بموقفه هذا ،وتصوره الخاص التربية ،ال يهدف إلى تأسيس معتقد جدي د يك ون ه و الن بي
المستشر به ،وبالتالي يجب اإلقتداء به ،والسير على خط اه ،ففك رة تك وين أتب اع ومري دين هي آخ ر هم "
نيتشه" " ليس تمت من فكرة غريب ة مث ل فك رة تك وين األتب اع " ،"4من ال واجب علين ا تجنب أن نص بح
المثال لشخص آخر ،ألننا إذا أصبحنا كذلك فسنحول دون تكوينه من خالل قواه الخاصة ومثاله الخاص."5
فغرض" نيتشه"هو تحرير اإلرادة الفردية إلنسان ،من كل م ا يكبه ا ،وفتح المج ال له ا لتعب ير عن ذاته ا،
بخلق قيمتها الخاصة بها .فتتحول بذلك من إرادة نافي ة للحي اة إلى إرادة مثبت ة للحي اة ،إرادة حيوي ة تتج دد
باستمرار لكي تخلق ذاتها باستمرار.
1
- Niezsche (f) : A.P.Z. « prologue de zanalhoustraé » op. cit T1. &3. p23.? -
2
6
الفصل األول:
المربـــــــــــــــــــــــــــي
" إننا لن نخترق من أجل آرائنا ،ألننا غير واثقين جدا منها .وربما نخترق من أجل أن تكون لنا آراء
ويكون لنا حق تغييرها".
7
* المربي شر البد منه:
-ما معنى " نيتشه" المربي؟
إن الفيلسوف ال يمكن إال أن يكون مربيا ،لكن ليس كل مرب فيلسوفا ،فما هو المع نى ال ذي يك ون ب ه
الفيلسوف مربيا؟
يتحدث " نيتشه" في كتاباته ،عن الفيلسوف المربي ،وعن طبيب الحضارة ،باعتبار أن الفيلس وف ه و
مربي وطبيب ،وأن ك ل ثقاف ة حق ه هي تربوي ة ،وأن التربي ة الحق ة هي ال تي تق وم باله دم،والقض اء على
الثنائي ة الميتافيزقي ة ،واستش راف المس تقبل من خالل تش خيص :أوض اع الحاض ر ،ومتابع ة التح والت
المس تمرة له ذا ال ذي نطل ق علي ه "اإلنس ان" .وه ذه هي مهم ة المعلم ال ذي يمثل ه " زرديش ت" إن ه معلم
للمستقبل ،والذي يجب أن يكون حقيقيا ،من تحري الفرد من قيود المجتمع ،والعادات والتقاليد .ومع هذا ف
"نيتشه" ال يرى المعلم /المربي كصاحب امتياز ،في الوساطة بين الطالب ومجتمعه ،ولكن يبقى " األس تاذ
شر البد منه" ،لذلك نجده يقول:
" ينبغ أن يكون هناك أقل عدد من األشخاص ،بين العقول المنتجة ،والعقول المتعطش ة والقابل ة للت أثر،
ألن الوسطاء يزفون ،بشكل شبه تلقائي ،الغداء الذي ينقلونه ثم يطالبون ألنفسهم ،كتع ويض في وس اطتهم،
بكثير من األشياء التي ينتزعونها بذلك من العقول المنتجة واألصلية ،أي الفائدة ،اإلعجاب ،الزمن ،المال،
وأشياء أخرى .إننا سننظر إلى األستاذ إذن ،مهما يكن األمر ،على أنه ش ر الب د من ه ،على غ رار الت اجر،
كشر يجب جعله أضأل ما يمكن...فإنه يمكن أن نرى بكل تأكيد أن السبب الرئيسي لفقرنا الثق افي ه و ذل ك
العدد الضخم من األساتذة :إنه سبب نعرفه قليال وبشكل رديء "1فمهمة التربية جد ض رورية ،لكي يص ير
اإلنسان مدركا لذاته .لق د ت أثر " نيتش ه" كث يرا " بش وبنهاور" ،حيث أن ه رأى أن على ك ل معلم أن يفتش
على " نموذج" للتشبه به ،أو فيلسوف للتعلم منه .وإن كنا نجد" نيتشه" في " شوبنهاور المربي" قد دف ع "
شوبنهاور"إلى الحد األقصى ،ليكن يرسله إلى ذات ه ،ويحول ه إلى ض ده ال ذي ه و" نيتش ه "2فمثلم ا ينبغي
الم رور من مج ال األخالقي ،للوص ول إلى تج اوز األخالق ،فإن ه ك ان على " نيتش ه" أن يص بح
"شوبنهاور" ،إلى الحد األقصى ،حتى يصير " نيتشه".
أن التربية بالنسبة ل" نيتشه" ،لم تقم على فكرة إنتاج األتب اع الص الحين لالس تغالل ،وإس داء الخدم ة
النافعة ،مقابلة عملية الترويض وإكساب لمجموعة من المهارات .لهذا فالمربي الحقيقي ،هو ال ذي ي رفض
- ?-1فردريك نيتشه " :إنسان مفرط في إنسانيته" ترجمة ،محمد الناجي ،بيروت ،إفريقيا الشرق سنة ،2001 ،الجزء ،2ص282 §202 :
- 2عائشة أنوس ،مصطفى كاك " :نيتشه المربي" مجلة الجدل ،عدد ،1السنة األولى ،ربيع ،1985ص.)49 (:
8
أن يجر وراءه فيلقا من األتباع،ي رددون خطب ة على الن اس وي دعون له ا ،له ذا نج د " زراديش ت" ي دعو
أتباعه من خالل كتاب " هكذا تكلم زرادشت" – أن يضيعوه ،لكي يجدوا أنفسهم ،ألنه يقول حقا " إننا نظل
غرباء عن أنفسنا ،ال نفهمها ،وال نميز أنفسنا عن اآلخرين ،إنه محكوم علينا إلى األبد ،بالخض وع للق انون
القائل " يجهل المرء نفسه أكتر مما يجهل اآلخرين " "1إن المرب يين إذن ال يق دمون ش يئا لتالم ذتهم ،إنهم
باألحرى يحررونهم ،حتى يتاح لهم أن يصبحوا في ي وم م ا مرب يين ألنفس هم ،إن ك ل واح د طري ق فري د
يؤدي إلى ذاته.
وعليه نجد " نيتشه" في "ش وبنهاور الم ربي" ،يؤك د على أن التربي ة ،يجب أن تنمي وتط ور نظام ا
منسجما وحيويا ،من غير أن تضحي بأية واحدة من اإلمكانيات اإلنسانية ،2ألنه ال أحد بقادر أن ين وب عن
المتعلم في بناء الجسور التي يجب أن يسلكها ،فهو وحده كي يعبر نه ر الحي اة يفع ل ذل ك ،وال أح د س واه.
وهذه دعوة موجهة إلى كل إنسان باالهتمام والعمل على "إدراك نفسه" من حيث هو نسخة فريدة وأصيلة،
وال يمكن أن تع وض .ك ل ه ذا يض ع " نيتش ه" فيم ا يب دو للوهل ة األولى ،جنب ا إلى جنب م ع الفالس فة
األخالقيين ،وداخل تقليد فلسفي بأكمله .وإن النبرة هنا تحيل إلى "سقراط" " أعرف نفس ك بنفس ك" أو إلى
" باسكال"؛ فهو يدعو البشر أن يتذكروا أنفس هم ،وأن يعمل وا على اس تعادة ط بيعتهم الحق ة ،ال تي غطته ا
وحجبتها ثقافة سطحية ،وتربية مش وهة .3لكي تظ ل م ع ذل ك مهم ة" نيتش ه ،التربوي ة هي؛ أن يعي د إلى
اإلنسان ثقته بنفسه ،ويرد إليه حقه المسلوب ،من خالل تطوير بديل ترب وي ،ض دا على المث ال النم وذجي
التربوي ،المتمثل في التصور األفالطوني األكاديمي ،المركز في كتاب " الجمهوري ة" .معتم دا "نيتش ه"
على مبدأ " هدم كل شيء وإعادة بناء كل شيء".
- 1فردريك نيتشه " :جينيا لوجيا األخالق" ترجمة ،محمد الناجي ،بيروت ،إفريقيا الشرق ،سنة ،2006ص)9( :
- 2مجلة الجدل ،مرجع سابق ،ص)57( :
- 3نفسه ،ص)51(:
9
للحياة: -Iنموذج المربي النافي
– 1النموذج السقراطي:
لقد عمل "نيتشه" على تحريك النموذج السقراطي /األفالطوني في التربي ة ،ال تي تق وم على قاع دة
التقليد ،وذلك حتى ينقد الحياة من اإلدانة التي لحقت بها ،من طرف الفالسفة ،وذلك بإدانتهم خاصة ،وإدانة
الفكر السقراطي ،ومنهجية التوليدي ألتساؤلي .فإذا كان يق ال أن " س قراط" أن زل الفلس فة من الس ماء إلى
األرض ،ف إن " نيتش ه" ي رى أن " س قراط" أح د الفلس فة من األرض إلى الس ماء – المث ل -ليق ول " :إن
سقراط هو عبقري االنحطاط األول ،يعارض الحياة بالفكرة ،ويطرح الحياة كما لو كان يجب الحكم عليها،
وتبريره ا وافت داؤها ب الفكرة ،إن م ا يطلب ه من إنم ا ه و التوص ل انطالق ا من ذل ك إلى الش عور بالحي اة
المسحوقة ،تحت ثقل النافي ،غير جديرة بأن تشتهي ألجل ذاتها ،وتعاني في ذاتها ،س قراط ه و " اإلنس ان
النظري " النقيض الحقيقي الوحيد اإلنسان المأساوي ،"1فهو الذي فتح الب اب بآرائ ه األخالقي ة ،وطريقت ه
في العيش لليهودية ،لكي تتسلل إلى المجتمع اليوناني .فعطل بذلك ق وى الحيوي ة ل دى اليون ان ،و"نيتش ه"
أسف أشد األسف ،في المأساة اليونانية ،على ذهاب ذلك الماض ي النبي ل ،ال ذي هدم ه "س قراط" ،وه و ال
يشعر بأن العالم الذي هدمة ،هو أسمى من العالم الذي راح يبني بعقله <<،أنني أجهد نفسي لمعرفة المزاج
الذي وجدت منه هذه المعادلة السقراطية :عقل يساوي فضيلة تساوي س عادة ،أغ رب المع ادالت الممكن ة،
والتي تقابلها على الخصوص كل غرائز اإلغريق القدامى >>2هذه المعادلة تعني فق ط ،أن ه يجب أن نفع ل
مثل" سقراط" ،مؤمنا بعقله ،مخلصا وطيبا .مقاوما -يتجرع الشوكران -مبطال غرائزه وش هواته ،متخ اذال
عن الحياة .إن " سقراط" ليس طبيبا ،إنه لم يكن إال مريضا لزمن طويل.3
إنه معلم قبيح الخلقة ،راح يخفي ذمامته في ش وارع " أثين ا" ،ناهج ا أس لوب الس ؤال ال ذي ال يتوف ق،
كحيلة إلغراء فتيان اإلغريق ،فهو يعلمهم من خالل منهجه ه ذا ،النظ ر إلى المث ل ،و اإلنعت اق من كه ف
الحس نحو نور الشمس ،عبر ثقافة الخطاب والتربية ،ال تي اعتبره ا ته ذيبا وتخليص ا لل روح من ك ل م ا
يوشوش عليها من عوائق البدن ،و"سقراط" هنا كمعلم له أتباع ،ألنه دائم السؤال؛ هذا السؤال الذي يقصي
الحقيقة،حيت يتحول بهذا إلى مقبرة يدفن فيها األتباع ،نظرا ألن ه كم ا يق ول" نيتش ه" " لم يكتب" عكس "
زرادشت" الذي لم يكن يتكلم إلى األتباع ،بل كان ينتقل عبر الغابات والجبال ،معلنا إلى الجميع ،أن " اإلله
" - 1أصل المأساة" ، 15 ،مقتطف من ؛ -جيل دولوز " :نيتشه والفلسفة" ،ترجمة أسامة الحاج ،المؤسسة الجامعية للدراسة والنشر والتوزيع ،سنة
،2001ص(.)20
- 2فردريك نيتشه " ،أفول األصنام" ترجمة ،محمد الناجي وحسان بورقية ،إفريقيا الشرق الطبعة ،1996 ، 1ص()20
- 3نفسه ،ص ()24
10
قد مات" .لهذا فاألتباع ،والورثة يخلقهم الكالم الحي ،لذلك نجده يقول ليس ثمة من فكرة غريبة ،مثل فك رة
تكوين األتباع ،ف" نيتشه" لم يكن أحد ولم يرب أحد ،ألن ه لم يتكلم أب دا ،إن الق ارئ ه و المقص ود بكتب ه،
وإليه يوج ه تعليم ه ،ل ذلك عن دما نتح دث عن الم ربي بالمطرق ة ،نفهم من ذل ك أن المطرق ة هي الكت اب،
والكت اب عكس الكالم المتواض ع ،1الكالم ال ذي ك ان ينس ج من خالل ه "س قراط" ش بكته ال تي يحي ط به ا
تالمذته ،وتجسدت هذه الشبكة في المؤسسات التربوية؛ (األكاديمية) التي أسسها تلميذه " أفالطون" ،هك ذا
استمر " سقراط" على لسان أفالطون ينظر لمشروع تربوي يناسب الجمهورية ،أو المدين ة الفاض لة ،وق د
أبدى أفالطون اهتمامه بهذه المسألة ،واعتبر الطفل هو مواطن المس تقبل ،حيت يتم تكوين ه له ذا الغ رض،
فمن حيوان ص غير ،ض عيف ،يتح ول إلى رض يع م ع م رور ال زمن إلى رج ل ع ادل فاض ل ،ل ه دراي ة
بالقوانين األساسية يميز بكل وضوح بين الصواب والخطأ ،وعليه أن يشجع على االرتقاء بالمدينة الفاضلة
التي شكلت حلم الفيلسوف .لكن حدوث هذه األشياء وهذا الفضاء المرسوم بالجمال واالنسجام يقتضي إبعاد
هذا الطفل ،مبكرا عن النساء ،هاته المخلوقات الوضيعة الحق يرة ،وال تي تص لح فق ط ألن ت روي حكاي ات
مملة2 .وكما يقول؛ علينا أن نرود المراهقين وألطفال بما يالئم مراحل نمو جسدهم ،من أجل تهيئهم لخدمة
الفلس فة .وعن دما ي أتي الس ن الق انوني ال ذي ت دخل في ه ال روح مرحل ة النض ج ،يجب مض اعفة التم ارين
المخصصة لهذا الغرض ،فليس التفلسف دون س ن النض ج ،والنض ج هن ا ليس س وى التح رر من الجس د،
ومن الرغبات ،إنه تتويج لترويض الجسد ،إن هذا األساس األفالطوني هو الذي جع ل ت دريس الفلس فة في
مرحلة الثانوية مسألة معقولة ،لحد ما نظر لطبيعة المرحلة ( المراهقة) مرحلة النقد والشك.
وعليه يمكن أن نقول أن التربية األفالطونية ،س تكون ممكن ة فق ط عن دما تتط ابق الحكم ة الفلس فة م ع
السلطة السياسية ،لكي تصبح الدولة المثالية حقيقة ،هك ذا يمكن أن نق ول ،أن مفه وم التربي ة األفالط وني،
منذ بدايته كان طوباويا.
وهذا الطريق التربوي األفلط وني ،سيرفض ه" نيتش ه" الن اطق الرس مي باس م فلس فة الحي اة ،معت برا
الفلسفة غير منفصلة عن الحياة ،ومن ثم فالنضج ال يرتبط بسن معين ،بل" بقوة اإلرادة" ،وادعاء النض ج
ليس سوى مطية لطمس العالقة بين الفلسفة والجسد والرغبة ،وبالتالي فإن التقدم في السن حس ب "نيتش ه"
ليس عالم ة على النض ج والحكم ة ،ب ل يق اس بم دى انص هار الحي اة الحق ة واالق تراب من ع الم الجس د
والرغبات ،وبالتالي فتاجيل ت دريس الفلس فة ،ه و تأجي ل الس ؤال و اإلنعك اف على الكبت الم زدوج؛ كبت
للرغبة في التفكير وكبت التفكير في الرغبة.
هكذا فالتأسيس األفالطوني للفلسفة التربوية ،قد تم على أساس نسيان األصل الجسدي للخطاب ،فانتهى
كما هو معروف إلى منح سلطة لألفكار على األلفاظ والروح على الجسد ،فدشن بذلك بداي ة االنحط اط في
التفكير والثقافة ،وذلك حينما جعل التفلسف تدربا على الموت ،أي أن سعيا متواصال لألنفكاك على الجسد.
- 1مجلة الجدل ،مرجع سابق ،ص()35
- 2د .نورة بوقفطان " :هل كان المربون الكبار آباء بمعنى الكلمة؟" ،مجلة علوم التربية ،عدد ،14سنة ،1998ص ص()112-111
11
وهذا عكس التربية كما ينش دها" زرادش ت"؛ وهي تربي ة الجس د ،تربي ة تقص د تغليب الغرائ ز والطبيع ة
والحيوية على القيم األخالقية ،التي أنتجتها للبشرية خالل لحظات انحطاطها وضعفها ،فاإلنسان هو خ الق
القيم ،وهذه دعوة صريحة لكي يمارس اإلنسان فاعليته على أوس ع نط اق ممكن ،فبوس عه أن يض في على
العالم من المعاني ما يشاء ،مثلما أضفى عليه من قبل معناه القديم ،دون وعي منه ،ثم تبث ه وقدس ه ،1هك ذا
فالقول بنسبية القيم يفتح لنا المجال إلى تغيرها ،وهكذا ما نجد " نيتشه" يقوله ":الح ق أن الن اي ق د أعط وا
أنفسهم كل خيرهم وشرهم ،الحق أنه لم يتلقوه ،ولم يحدوه ولم يهبط إليهم من السماء."2
وإلى جانب قيم االنحط اط المرض ية ،ال تي س نتها الفلس فة الس قراطية /األفلطوني ة وال تي ك انت من
تمارها ،اإلنسان العليل ،الفاشل ،المشوه ،المص اب في نفس ه وجس مه ،المتخ اذل عن الحي اة ،حيث تلقفاه ا
"نيتشه" بمطرقته ،مهدما إياها ،فلم تسلم المسيحية وطاقمه ا الكهن وتي ،من ض رباته الش ديدة ،والمزلزل ة،
التي حطمت كل األغالل التي سنتها ،وكبلت بها المسيحية اإلنسان والحياة.
- 1فؤاد زكريا " :نيتشه" ،دار المعارف بمصر ،الط (. 2.بدون تاريخ) ص ( )56
Nietzsche (f) : A.P.Z. « Demille et une fins » OP.Cit.T1.P80 - 2
12
والكاهن. -2النموذج الكهنوتي؛ الكنيسة
لقد عظمت الكنيسة جميع أكاذيبها باسم " اإلله" ،وباسمه شوهت اإلنسان ،وسلبته حريته وأجبرت ه على
السجود ،مرتعشا أمام قوى تفوقه ،فهذه المسيحية تشكل إشاعة قيم المرض والضعف ،إذ سعت إلــــــــــى
االنتقاص من قيم العالم األرضي ،الذي ينش ده" زرادش ت" ،وازدرت الجس د ،فهي تمث ل إفس ادا لغريزت ه
اإلنسانية ،وتمثل حربا مستميتة على نموذج اإلنسان األعلى ،هذا الذي يسعى "نيتشه" إلى تأس يس إمكاني ة
وجوده على األرض ،فالمسيحية تسعى بهذا إلى تحطيم األقوياء ،وإحباط شجاعتهم ،وتحويل ثقتهم المعتزة
بأنفس هم إلى قل ق وتنكي د .فهي ق د أفس دت اإلنس ان وأض عفته ،لكنه ا ادعت أنه ا أص لحته .1فكم من ال دم
والرعب والضعف يوجد في عمق كل " األشياء الحسنة" وبهذا يرفض "نيتشه" ما يس مى بالعق اب ،ال ذي
يعمل على خلق نوع من الشعور بالذنب ،واإلحساس بالخطأ .ألن العقاب يجعل الذي عوقب ،أكثر ص البة
ورباطة جأش ،إن الذي نري ده من العق اب ه و تنمي ة الخ وف وقم ع ال ذكاء ،وض بط الرغب ات ،وبه ذا إن
العقاب يلين الطبع اإلنساني ولكنه ال يجعله أفضل ،2فالعقاب يجعل اإلنسان ش ريرا ،أك ثر من ه متعقال ،ب ل
أحيانا غبيا ،بسبب هذا الشعور بالذنب الذي يعد مرضا خطيرا ومزعجا ،الزالت تعاني منه اإلنسانية ،ب ل
لم تشفى منه حتى اآلن ،وال يزال اإلنسان يع اني من اإلنس ان ،ال ي زال ه و م رض نفس ه .3فه ذا الش عور
بالذنب مرض ،لهذا فالكفر باإليمان المسيحي سيؤدي إلى زوال هذا الشعور بالدين ،بالخطأ ل دى اإلنس ان،
بالضعف والوهن ،الذي يخلقه هذا الدين ،باعتباره دين محبة أحبوا أعداءكم ب اركوا ألعينهم ،ص لوا ألج ل
الذين يعذبونكم" .فهذه المحبة في نظره ليست إال استجابة العاجز إلى قوة الرجل النبيل ،ف إلى م اذا ي دعو؟
إلى إدارة الخد الثاني لمن يلطم الخد األول ،إلى التنازل عن الحقوق ومحب ة الع دو ،فمن الظلم لإلنس ان أن
يبارك من يلعنه ،ليقول بهذا إن<<المسيحية قلب لكل القيم اآلرية ،وانتصار لقيم المنبوذين ،بشرى يبش رها
المتواضعون والفقراء ،ثورة المدرسين التعساء ،والمشوهون والمخفقين العامة ،ضد ال "نسب" إنها انتقام
المنبوذين األبدي مقدما كدين محبة .4>>...فهو يرفضها بسبب طابعها الرعاعي ،ومن جراء القيم الش عبية
التي تسود فيها ،إذ جعلت من كل قيمة ال قيمة ،ومن كل حقيقة ك ذبا ،وه ذا م ا نج د " القديس ة ب ولس" في
رسالته إلى أهل رومية ،اإلصحاح الثامن ،يؤكد قائال <<:اهتمام الجسد ولكن اهتمام الروح حياة وسالم ،و
ألن اهتمام الجسد هو عداوة هلل ألن ه غ ير خاض ع لن ا م وس هللا ...فال ذين هم في الجس د ال يس تطيعون أن
يرضوا هللا>> هكذا يرى " نيتشه" في المسيحية دين االنحطاط ،ويدعوا إلى الكفر به ا ،وبتعاليمه ا ،ألنه ا
تؤثر الضعف على القوة ،اللين على العنف ،والحب عن الضعف ،والس الم عن الح رب ،وت ؤثر الفق ر عن
الغنى ،والسماء على األرض ،والروح عن الجسد ،والعفة عن إشباع الغرائز والشهوات ،وتؤثر العب د عن
13
الس يد ،واله وان عن المج د ،والقناع ة على الطم ع والطم وح ،والتواض ع على الكبري اء ،والمس اواة عن
التفاوت ،كما تؤثر على الحزن على الفرح ،والبكاء على الض حك ،واأللم على الل ذة ،وت ؤثر حب الق ريب
على حب الذات والرحمة على القسوة .1إال أن تعاليم " زرادش ت" ال تمت بص لة له ذا اللغ ط المح زن؛ إذ
يعتبر محبة القريب مجرد أنانية مظللة ،وهروب من النفس ،لهذا فهو ال يدعوا إلى محبة الق ريب ب ل اآلتي
اإلنسان األسمى .2معتبرا تع اليم المس يحية ه ذه هي تع اليم الم وت واالنطف اء ،تع اليم الحق د واالنتق ام من
الحياة ،تعاليم الذل ،الدموع، ...عكس تعاليمه ،التي تنطق بالحياة والفرح والرقص...ليقول " :إن اإلله الذي
يمكنني أن أومن به ،إنما هو اإلله الذي يمكن أن يرقص. "3
وعليه " فنيتشه" لم يت وانى في ته ديم وإزال ة ك ل م ا ه و مض اد للحي اة ،ك ل م ا ال يخ دم قيم الحي اة
إليجابية ،فكان الدين من بين القيم البشرية التي هوى عليه ا بمطرقت ه العنيف ة ،متمثال على الخص وص في
الدين اليهودي المسيحي ،على اعتبار أن اإليمان المسيحي ،منذ البداي ة تض حية بالحري ة كله ا ،والكبري اء
بأسره ،وبكل ثقة ذاتية في الروح .وهو في الوقت نفسه استعباد وسخرية ذاتية ،وشر وتش ويه له ا ،إال أن ه
ظل متيقظا في انتقاداته ،إذ نجده في كثير من مقوالته ،يميز بين مسيحية أولى ،ومس يحية ثاني ة .فق د داف ع
عن المسيحية األولى واألصيلة ،كما أتى بها المسيح ،ه ذا ال ذي يحم ل مملك ة الس ماوات في قلب ه الودي ع،
ليس هذا المخلص حسبما يرى "نيتشه" ،مؤسسا الكنيسة ،بل على العكس نفى كل تنظيم ،وجميع الم راتب
اليهودية .فالكاهن المسيحي هو من أكمل ما بشر به الكاهن اليه ودي ،فه و إنس ان يش في ج رح مث ل ه ذه
الحياة التعيس ة -أع ني عص ر نيتش ه -ويبعث فيه ا الس م ،على نح و يص بح الج راح مع ه دائم الحاج ة إلى
الشفاء .ولهذا فمادام الكاهن هو النوع األعلى فإن قيم الرجول ة س تظل محتق رة في نظ ر "نيتش ه" وس تظل
المسيحية ميتافيزيقية الجالد.
ويتألم "زرادشت" ،لهؤالء الكهن ة المنب وذين في الع الم ،المكبلين بالوص ايا الكاذب ة ،والكلم ات الوهمي ة،
فيصيح متحسرا " :فليت لهــؤالء من يخلصــهم من مخلصــهم ."4مخلص هم ه ذا ال ذي ج اءهم ب الخالص،
مبشرا بالقيامة .أو الساعة؛ أي فناء بني اإلنسان .عكس " زرادش ت" ال ذي ج اء مبش را " بم وت اآلله ة"
األبدي ،وبداي ة الحي اة ،مص رحا ب أعلى ص وته ،لق د م ات المخلص ،وم اتت المس يحية بموت ه ،وم ا ه ذه
المسيحية إال قدر مشؤوم ،ويعتبر فلس فته -ه و -نقيض ا له ذا الق در المش ؤوم ،ال ذي ه و أعظم فس اد يمكن
تخيله ،إذا شكل عقبة أمام تربية هذا ( النشأ) الذي سينبثق منه اإلنسان األسمى.
هكذا فإدانة الحياة لم تتفرد بها المسيحية ،بل إن الفلسفة كذلك تشترك معها في ه ذا الحكم ،وق د رأين ا
كيف تنك ر " نيتش ه" لك ل أش كال التربي ة الموهن ة .ال تي تنتج لن ا المعتلين ،الفاش لين...مث ل التربي ة ال تي
يحتضنها التصور الفلسفي السقراطي /األفالطوني وغير من التصورات ،كالخطاب التربوي ال ذي تدعم ه
- 1يوحنا قمير " :نيتشه نبي المتفوق" ،بيروت ،مشوار دار النشر المشرق ،1986 ،ص(.)49-48
Nietzsche (F) : A.P.Z. « de l’amour du prochain » OPcit.T1.p 82 - 2
Nietzsche (F) : « du lire et de l’écrire » OP cit.T1.P 55 -43
Nietzsche (F) : « du prêtres » OP cit. T2.P 119 - 4
14
مؤسسة الكنيسة .ف "نيتشه" قد خاض صراعا ضد كل أشكال هذه التربية ،التي يحتضنها خط اب تض منه
وتد عمه المؤسس ة ،س واء األكاديمي ة ،الكنيس ة ،الجامع ة ،الثانوي ة....،وق د تجلى انتق اده ومحاس بتة له ذه
األشكال التربوية ،في اعتزاله التدريس بالجامعة ،ثم انتقاده ألنماط التدريس التي كانت سائدة في ألمانيا.
15
السائدة: – 3نموذج المؤسسة التعليمية والثقافية
إن النقد الموجه للمؤسسة ،والجهاز التعليمي ،والعالقة بين المعلم والمتعلم ،هو نقد موجه باألساس ي
للثقافة - ،الثقافة األلمانية السائدة -إنه تسائل عن" معنى" الثقاف ة الحقيقي ة ،وعن غاي ة التربي ة ،في عص ر
عرفت فيه ألمانيا ث ورة ثقافي ة ،أث ر التح والت االجتماعي ة واالقتص ادية ،تتمث ل في عمومي ة التعليم ،وفي
توجيهه لخدمة العصر المتميز بظهور الصناعة والتجارة وحاجاته ا إلى أط ر ص غيرة ،ولعم ال م ؤهلين،
يعرفون القراءة والكتابة والحساب.
و"نيتشه" عندما ينتقد المؤسسات التعليمية ويرفضها ،إنما يرفض وداع ة خن وع ه ذه األخ يرة ،ال تي تق دم
للدولة موظفين ،وللصناعة عبيد أكفاء ،وتح ول ب ذلك األس اتذة إلى " مرض عات راقي ات" .وبالت الي فه ذه
الوداعة والخنوع اللذان يميزان المؤسسات التعليمية ،يؤديان إلى خلق ثقافة مزيف ة وكاذب ة .والثقاف ة ال تي
يتكلم عنه ا" نيتش ه" ،وي نزل عليه ا بمطرق ة هي الثقاف ة ال تي تك ون في خدم ة الدول ة ،هي تل ك القش ور
االصطناعية التي تخفي الطبيعة الحقيقية لإلنسان .إذ أننا نجد " نيتشه" على لسان " زرادشت" الذي يوجه
خطابا كله حسرة على سكان مدينة البقرة الملونة يق ول في ه ... " :لق د حف ر الماض ي في وج وهكم آث اره،
فألقيتهم فوقها أثار جديدة ،لذلك خفيت حقيقتهم عن كل معبر وأعجزت كل بيان .ولو ك ان ألح د أن يفحص
األحشاء ،فهل بوسعكم أن تثبتوا أن لكم أحش اء ،وم ا أنتم إال جبل ة هب اب ،وقط ع أوراق ألص قت إلص اقا؟
وهذه جميع األزمنة وجميع الشعوب ،تتزاحم مرسلة نظراتها من وراء قناعكم كما تفص ح جمي ع حرك اتكم
عن تراكم كل العادات والمعتقدات فيكم .فإذا ما نزعت أقنعتكم ،وألقيت أحمالكم ،ومسحت أل وانكم ،ووقفت
حركاتكم ،فال يبقى منكم إال شبح ينصب مفزعة للطيور ".1ويضيف " ...لقد اندفعت بعواطفي نح و رج ال
هذه األيام ،ولكن ما لبثت أن تبينت فيهم قوما غرباء عني ال يستحقون إال سخريتي."2
فإنسان هذه الثقافة المزيفة التي يتحدث عنها " نيتشه" ،هو إنسان فقير ومفتقد لنفسه ،يعلن مظهره عن
خواء باطنه ،وتعلن صورته المزركشة عن فقر ج وهره ،وه ذه الثقاف ة ال تنمي في ه س وى ملك ة ال ذاكرة؛
ذاكرة تعمل في الماضي ،وهذا ما بتم تعلمه في المؤسسات التعليمية ،التي يسميها " نيتشه" بثقاف ة الم وت،
وأنها ليست سوى مؤسسات تمثل ألهداف الدول ة .إنه ا الجه از الرس مي ال ذي يرض ع ص البة المعتق دات
اإلديولوجية ،ويعمل على كبح الفرد ،فال يعبر إال عما هو مقبول ومشترك ،وليس عما هو خاص .ب ل إنه ا
أكثر من ذلك تسعى للقض اء على ك ل رغب ة للمعرف ة ل دى التالمي ذ ،بتح ويلهم إلى ش يوخ قب ل األوان ،ال
يهتمون إال بالماضي ،بالتاريخ المنصرم .هذا ما دفع ب" نيتشه" إلى اإلعالء من قيمة النس يان ،على قيم ة
التذكر ،فيقول " :أيها اإلنسان إنس أيها إنسان إنس ،إلق بثقلك في البحر ،فاإلهي ه و فن النس يان ".وه ذه
16
دعوة إلى رفض التعليم ،الذي يخلق ذاكرة ،تسجل فقط ،أي تلميذ يحفظ يعيد اج ترار ه ذه ال ذاكرة ،نس يان
المعلم.
ف التعليم الحقيقي حس به ،ه و ذل ك ال ذي ينبغي نس يانه ،ل ذلك نج د " زرادش ت" يطلب من رفاق ه أن
يضيعوه <<أمركم أن تض عوني لتج دوا أنفس كم>> ،1إن الثقاف ة الحقيقي ة هي م ا تبقى بع د أن ننس ى ك ل
شيء ،فالنسيان هنا ،قوة رافضة لتلك الثقافة التي تسعى إلى تحقيق االمتثال ،بقت ل ك ل مص در اإلب داع في
الفرد ،ألن اإلس قاط ال ذي تكرس ه ه ذه الثقاف ة ،يك ون على حس اب ذات المتعلم ،ألن إس قاط ذات في ذات
أخرى ،هو إضعاف لهذه األخيرة.2
هكذا يتوجه نقد " نيتشه" للتربية باعتبارها آلي ة للتالعب والتن اور ،تعم ل على تش ويه وعي اإلنس ان،
وإلغاء ذاته ،وبالتالي اخضاعه للسلطة المطلق ة للدول ة .إذ يظه ر هن اك تش ابها بين الدول ة والفيلس وف في
الكتابات األخيرة " لنيتشه" ،ولكن هذا التماثل ال يخلو من التحيز :فحين يقدم الدولة كقوة تتص رف ب وعي
من أجل مص لحتها الخاص ة ،يق دم الفيلس وف ض حية لمك ره وخداع ه ال ذاتي ،ويظه ر الفيلس وف مجس دا
للمربي ،وتظهر العالقة الجدالية بين الفيلسوف والعبد عالقة مشابهة لتلك ال تي تنش أ بين الم ربي ومريدي ه
داخ ل التربي ة المؤسس ية .3من هن ا يتح دث " نيتش ه" عن التط ابق بين الكنيس ة والجامع ة ،بين الرهب ان
والفالسفة ،حيث اس تبدلت الكنيس ة بالجامع ة ،و الرهب ان غ يروا ث وبهم الكهن وتي ،ليظه روا في ص ورة
الفالسفة ،لكن " الوظيفة" تتغير ،فوظيفة المؤسسة التعليمية هي اس تمرار الوظيف ة الكنيس ة :أي في خدم ة
الدولة.
وإن ما تروج له هذه المؤسسة التعليمية ،هو فقط تلك الثقافة المزيفة ،التي تضع الفواصل والمفارقات،
بين الغرائز ،بين الخير والشر ،والقبح والحسن ،...نعم إنها غالبا ما تحاول زرع القيم والمبادئ في رؤوس
التالميذ ،وهذا أمر جيد ،إذا ما توافق مع تعليمهم ،القدرة على التش كيك في الكث ير من القيم والمب ادئ ال تي
يربون عليها ،بهدف تطوير قيم ثقافية أفضل .ألن الثقافة الحقيقية ،والتربية الفعالة كما يقول" نيتش ه" ،هي
تلك التي ترفع ه ذه المفارق ات ،وتكش ف وهمه ا .فالتش كيك بالمس لمات ليس ب األمر الس يئ ،ولكن ه يعطي
الفرصة للشخص ،لمواجهة الكثير من المعتق دات في ع الم متغ ير الص ور والوج ود .ونت ذكر طفولتن ا في
مؤسسة األسرة والمؤسسات التعليمية ،المفعمة باألسئلة الملتهبة ،حول هذا العالم الذي وج دنا في ه ،وح ول
هذه األدوار التي يجب أن نتقمص ها ،وه ذه الحرك ات والس لوكات ،وه ذه الكلم ات ال تي يجب أن نحفظه ا
ونردده ا ...ه ذه األس ئلة ال تي ك انت تواج ه ب القمع ،ب دعوى أن المعتق دات ليس ت موض وعا للتس اؤل
واالستفسار ،وال حتى الشك ،ولكن " نيتشه" يرى أنه بدورنا كمدرسين يجب أن نك ون إيج ابيين ،بإعط اء
17
الفرصة للتالميذ إلطالق العنان للعقل البشري من أجل التساؤل واالستفسار لكي يشكل معتقدات ه ،يغيره ا،
أو يقويها.
ويعتبر هذه المؤسسة ،قد أصبحت ملجأ تتخفى فيها ثقافة مشبوهة ،ألن ما ينقص نا ه و ن وع آخ ر من
المؤسسة التعليمية ،وهي المؤسسة الثقافية .إذ يقول << :ال تخلط وا إذن ،أيه ا األص دقاء بين ه ذه الثقاف ة،
هذه اآللهة األثيرية ،ذات األرجل الرشيقة والحس المرهف،وتلك الخادمة الخانعة والتي تدعي هي األخرى
في غالب األحيان ال " ثقافة" والتي ليست سوى خاضعة وتابعة وناصحة لبؤس الحياة في شكل " ثقاف ة"،
إن كل تربية من أجل الوظيفة والمعاش ،ليست تربية من أجل الثقافة -كما نفهمها -فهي تضع فق ط العالم ة
على الطريق ،الذي ينقد الذات ويحميها في صراع البقاء ،...فالمؤسسات التي تعد األفراد لخوض الصراع
،...إنما هي فقط مؤسسات لمقاومة بؤس الحي اة وفقره ا ،فهي تع د بتك وين الم وظفين والض باط والتج ار
والفالحين واألطباء ،والتقنيين ،ولهذا ينبغي أن تتأسس على ق وانين وقواع د تختل ف في ك ل األح وال عن
تلك ال تي تق وم عليه ا المؤسس ات الثقافي ة .1>>...فالمؤسس ة كله ا منحط ة بش كل مخ ز ،وال وج ود إذن
لمؤسسات من أجل الثقافة .وحينما يثم التظ اهر ب العكس ،فإنن ا نص بح أك ثر يأس ا ،وأك ثر بؤس ا وتعاس ة،
ويضيف << أما بالنسبة لي أنا ،فإني ال أعرف سوى معارضة واحدة ،وحقيقية ،هي تع ارض المؤسس ات
الثقافية ،ومؤسسات " بؤس الحياة" ،ولهذه األخيرة تنتمي إلى كل المؤسسات الموجودة ،ولكني عن األولى
أتكلم>>.2
إن هذه دعوة إلى رفض الثقافة المزيفة الس ائدة ،في المؤسس ات التعليمي ة األلماني ة،حيث نج ده يعلن
بكل حسرة قائال <<:لقد فقد التعليم العالي في ألمانية ما هو أساسي ،الهدف ،وفقد كذلك الوسيلة لبل وغ ه ذا
الهدف ،أن تكون التربية العامة غاية في ذاتها -ليس " الرايخ" -وأن يكون المربي ضروريا لهاته الغاية (
وليس أستاذ التعليم الثانوي أو الب احث الج امعي) ،ه ذا م ا نس يه المس ؤولون...م ا ينقص هم مرب ون تمت
ت ربيتهم هم أنفس هم ،هي عق ول متفرق ة ومتم يزة ،تثبت قيمته ا وإمكاناته ا في ك ل الظ روف بكلماته ا
وبصمتها ،عقول تكون ثقافات حقيقية حية ،ناضجة وشهية -وليس العلماء األفظاظ الذين ت وفرهم الجامع ة
والثانوية للشباب ،إال مثل " مرض عات متفوق ات ...إن م ا يحص ل علي ه التعليم األلم اني ،ال ذي يس مى "
عاليا" ،هو ترويض عنيف يمكن في أقل وقت ممكن ،من جعل العديد من الشباب صالحين لالستغالل في
خدمة الدولة" ،تعليم عال" وتعدد ال يحص ى ،وه ذا تن اقض بين في المب دأ .ال يخص ص التعليم الع الي إال
االستثناءات ،يجب أن يكون المرء موهوبا كي يطمح إلى مثل هذا االمتي از الس امي ج دا ،ال يمكن أب دا أن
تكون كل األشياء العظيمة والجميلة من امتالك العامة.
" - 1حول مستقبل مؤسساتنا التعليمية" المحاضرة -4مقتطف من " مجلة" ،مرجع سابق ،ص( )99
- 2نفسه ،ص( )101
18
م ا ال ذي يح دد انحط اط الثقاف ة األلماني ة إذن؟ إن ه ك ون التعليم الع الي ،لم يع د امتي از -إنه ا النزع ة
الديموقراطية في الثقافة " العامة" التي أصبحت " شائعة" وعامية" .1ويضيف " ك ل مدارس نا العلي ا دون
اس تثناء مض بوطة على س طحية مريب ة ج دا ،في هيئته ا التدريس ية ،في برنامجه ا ،في مثله ا التربوي ة.
وثانوياثنا المكتظة ،وأساتذتها المرهقون ،المخبولون فضيحة حقا>>.2
وعليه فانحطاط المؤسسات التعليمية ،يتمثل في أشياء هذه العالقات المبتذلة بين المعلم والمتعلم؛ عالقات
تقوم على السمع والتسجيل ،والسرعة في إصدار الحكم وفي اإلنت اج .و"نيتش ه" يع ارض ه ذه الوض عية،
من خالل مطلب البصر؛ إعطاء العين حقها في العملي ة التعليمي ة ،فع بر العين يتم إنش اء الفك ر،له ذا فتعلم
النظر – هو ما تفتقر إليه المؤسس ة التعليمي ة األلماني ة -وه و الطري ق الح ق إلى الفك ر ،إن ه كم ا يق ول "
نيتشه" نفسه ،هو المدرسة االبتدائية لحياة الفكر.
<< حتى أظل مخلصا لميزاجي ،الذي هو إيج ابي في األس اس ،وال يتع اطى للنق د والمنازع ة إال بش كل
غير مباشر ،وعلى مضض ،فإنني أسارع في عرض المهمات الثالث ،التي ال بد لها من م ربين ،يجب أن
نتعلم أن نرى ،يجب أن نتعلم أن نفكر ،يجب أن نتعلم أن نتكلم وأن نكتب ،إن هدف هاته المواث هي إنشاء
ثقافة رقيقة.
فتعلم النظر يعني ،أن نعود العين على الهدوء ،على الصبر ،على ترك األشياء ت أتي إليه ا ،على تعلي ق
الحكم ،أن نتعلم اإلحاط ة ونهم ه في إط اره الكلي ،ه ذه هي المدرس ة التمهيدي ة األولي ة لحي اة العق ل :أال
نستجيب فورا ألي إغ راء ،ب ل نع رف كي ف نس تعمل الغرائ ز ال تي تكبح وتع زل .أن نتعلم أن ن رى ه و،
بالمعنى الذي أفهمه ،أن يمتلك تقريبا ما تس ميه اللغ ة " ق وة اإلرادة" :األساس ي هن ا ه و أن ال نري د فع ل
شيء ما ،أن نعرف كيف نعلق قرارنا .يأتي كل موقف مضاد للروحية ،كل فظاظة من العجز عن مقاومة،
إغرائها :يجد الناس أنفسهم مرغمين على االستجابة ،يخضعون لكل محرض نفسي .في كثير من الح االت
يكون مثل هذا اإلرغام ،عالمة مرض ،عالمة انحطاط ،أمارة إنهاك ،...النتيجة العلمية لتربية العين ه ذه :
3
فيما بعد حيث سيكون على المرء أن يتعلم شيئا ما سيكون قد صار بطيئا ،حذرا صموتا"...
هكذا إن المؤسسة التعليمية ،تقدم كل شيء إال شيئا واحدا وهو " التفكير" فهي ال تملك عنه أدنى فك رة،
فهو خطر على المؤسسة ذاتها ،ل ذا فهي تقص يه وتبع ده ،وبالت الي ف إن المؤسس ة التعليمي ة ،من حيث هي ا
خادمة للدولة وأداة إلنتاج األطر الصالحة االستغالل ،قد أفلست في نظر " نيتشه".
<<أن نتعلم أن نفكر :ليس لمدارسنا أدنى فكرة ،عما يعنيه ذلك ،ح تى في الجامع ات ،ب ل وح تى ض من
أعلم الفالسفة ،يصير المنطق ،بما هو نظرية وممارسة وتقنية نحو اإلفالس ،لنق رأ بعض الكتب األلماني ة؛
لقد نسي فيها تماما أن ه لكي يتم التفك ير فال ب د من تقني ة من برن امج ،من إدارة التحكم ،إن ه الب د من تعلم
19
التفكير مثلما يتعلم الرقص ،كنوع خاص من الرقص...،أن يعرف الم رء كي ف ي رقص برجلي ه ،باألفك ار
وبالكلمات ،أال يزال هناك داع ألن نقول؛ بأنه على المرء أيضا أن يعرف كيف يرقص بقلمه ،بأنه عليه أن
يتعلم أن يكتب>>.1
إن العالق ات الس ائدة في المؤسس ة ،هي عالق ات" أكروماتي ك" ،Acroamatiqueفعالق ة المعلم
بالمتعلم ،هي عالقة بين متكلم ومس تمع ،المؤسس ة التعليمي ة ليس ت س وى جه از للدول ة ،حيث " األس اتذة
والطلبة" يعتقدون في " أوطونوميتهم" في حين أنها ليست س وى " ش به -أوطونومي ة" ،إنهم عبي د أذانهم،
إن الثقافة ( والتربية) في ه ذه المؤسس ات هي ثقاف ة الدول ة ال تي تتخ ذ ص ورة :األم /الحي اة ،في حين أن
علومها ،علوم تعالج الحياة بالموت ،إنها علوم األب ( الم وت) ال ذي يختفي وراء وج ه األم المزيف ة ،أم ا
األستاذة والطلبة فإنهم يرتبطون بهذه المؤسسة هو رفض للموت /األب ،وإن الثقافة الفعلية والتربي ة ال تي
تروجها ال يمكن أن تقوم إال بال دفع ب الموت .2لكن " نيتش ه" يق ول << :أعط وني الحي اة أص نع لكم منه ا
ثقافة>>.
فمهمة المربي الحقيقية ،حسب " نيتشه" هي تغير جميع القيم ،وتحويلها أي تهيئ " اإلنسانية إلى العودة
إلى ذاتها ...هذه المهمة تتأتى من كون اإلنسانية ،ال تحكمها قوانين إلهية ،ولكن على العكس من ذلك ،فمن
بين قيمتها األكثر قدس ية ،توج د بالض بط غري زة الس لب الفاتن ة ...غري زة االنحط اط" .كم ا أن من مه ام
المربي ،مهمة تحطيم األوثان ،أي تحطيم المعلم الوثن ،وكذلك القضاء على التابع أو المريد المخلص ،إنها
تحطيم لنسق التربية ،الق ائم على " الت أثير" ( ت أثير األس تاذ في التلمي ذ) .ورفض وفض ح ألوه ام الثقافي ة
السائدة في المؤسسة ،بل كشف عن أكاذيب وأوهام هاته األخيرة .إنها مهمة تحمل أمر األستاذ إلى التلمي ذ،
من أجل أن يبحث التلميذ عن ذاته.
هكذا خاض " نيتشه" صراعا ،ضد تبخيس الحياة التي يدعو إليه ا الكه ان ،والفالس فة الميت افيزيقيون
منذ " سقراط" ،والمؤسسات التربوية التي حلت مح ل الكنيس ة .وه و يس عى به ذا إلى س حب ه ذا الط ابع
الالهوتي عن الوجود .فهو يلخص نقائض عصره في عبارة واحدة هي " إنك ار الحي اة" ،ويلخص اله دف
من جملته النقدية الهائلة في " اإلقبال على الحياة" فالحياة هي أصل كل القيم الفكرية واألخالقية ،3لقد ك ان
نقده بمثابة صرخة أطلقها بك ل عن ف في وج ه ه ذا االنحط اط ،والخن وع ،متقمص ا دور األس د المه دم،
المحطم لكل ألوثان والتماثل ،التي شكلت حجر عثرة في طريق اإلنس ان األس مى ،وله ذا يمكن أن نص ف
أعمال" نيتشه" بأنها تمثل مدرسة الشجاعة و الجسارة ،وهو القائل إما كل شيء أو ال شيء؛ لق د ه دم ك ل
شيء وأعاد بناء كل شيء ،و " زرادش ت" ه و من يمث ل نم وذج ه ذا الم ربي المحطم ،المه دم للتماثي ل،
20
ونموذج المربي الباني ،المبدع ،المحرر و المثبت لحياة ،حيث نجده يقول لرفاقه << :انتبه وا ،إن ني آتيكم
بلوح جديد >> ضدا على األلواح القديمة التي حطمها وأبطلها.
21
-IIنموذج المربي المثبت للحياة:
Maintenant je vous adjure que me perdiez et vous trouviez ,et seulement quand vous m’ aurez
tous renie , à vous je veux revenir .En vérité ,mes fréres , c’est avec D’autres yeux qu alors
Je chercherai mes perdus ; D’un autre amour alors je vous aimerai . (zara ,Dela prodigue
)vertu T2.P 103
لقد حدد " نيتشه " مهمة حياته من خالل كتاباته ،ومن خالل مساره الفلسفي ،حينما قال <<إن مهمة
حياتي هي ،أن أعد اإلنسانية لحظة الوعي الذاتي الرائع ،أوج ظهيرة عظيمة تخدمه للوراء ولألمام مع ا
عند ما بزغ من جبروت ما هو عرض ،ومن الكهان ة وألول م رة تط رح الس بب وللمك ان ،فيم ا يتعل ق
باإلنسانية ككل>> فهو يهدف إلى تغيير الوجود اإلنس اني نح و األفض ل ن وإخ راج اإلنس ان من مرحل ة
الديدان ،إلى مرحلة اإلنسان األسمى ،المبشر بالبرق ،والذي يحمل القيم الجديدة ،قيم األخالق النبيلة ،قيم
تغير اإلنسان بالقضاء على اقترابه وانفصاله عن ماهية كإنسان بروحه وجسده ،بغرائزه وانفعاالته وعقله،
بحبه وحقده ،بحزنه وفرحه ،...وساعتها يولد اإلنسان من جديد .اإلنسان الذي يمارس حريته ويرس م من
جديد صورته فوق سطح الزمان .
إن "نتنشه " بهذا يدعو إلى ف ردوس جدي د ،بع د أن ح ارب القيم الس لبية وه دم الق ديم المق دس ،مبش را
بالجديد ،الذي هو الفرح من أجل أن يجعل كل لحظة في الحياة عيدا يحتفل ب ه الن اس ،عي دا للف رح ،داعي ا
إلى " زرادشت " جديد ،ذلك المفكر الفارسي القديم ،الذي من الظالم ينبثق الن ور على يدي ة ،دعي ا إلى "
ديون يزوس "جدي د ذل ك إال ل ه اإلغ ريقي ذواألص ول المش رقية ،ال ذي ه و إل ه الظالم أي إل ه الس كر
والليل ،....فهو أقدر الجميع على الغوص في األعماق بحثا عن نور جديد ،لقد أدرك ببصيرة ش ديدة ،أن
الثقافة والعلم الحديثين قد فقدا البصر .إنهم ا يكتفي ان بإنت اج الهمجي ة ،هات ه الهمجي ة والميتافيزيقي ا عم ل
"نيتشه " على مناهضتها ،بحبه الكبر لألرض واإلنسان األسمى ،هذا اإلنس ان ال ذي يقص ده ،ق وي ج رئ
ليس بهياب،
محب للحياة كأنه من أتباع "ديونيزوس" وغير مس يحي ب المرة ،ألن ه ذا الض عف المس يحي ه و األم ر
المهم الذي دفع ب"نيتشه " إلى التطرف مع إنسانه المتفوق ،قصد الخ روج من العدمي ة وتحوي ل التعاس ة
األلماني ة إلى س عادة ،ب ل التعاس ة المخيم ة على أوروب ا كله ا وليس ألماني ا فق ط ،وذل ك بتأس يس أخالق
أرضية تجعل من اإلنسان ،سيد نفسه وسيد األرض ،أي جعل التراب وطن اإلنسان الدائم .
هكذا فمفهوم "زرادشت " للتربية ،وال ذي وض حه بالكام ل في كتاب ه "هك ذاتكلم زرادش ت " – كت اب
الهواء الجبلي – حيث يعتبره كتابا أساسيا ،إذا يؤمن "نيتشه " من خالله بأن اإلنسان مخلوقا حرا بطبيعته،
مسؤوال عن قدرة ،يستطيع أخذ القرارات المالئمة له ،إنه يرى في الق وة " الحقيقي ة" ال تي يجب اإلس تماع
22
لها بكل األحاسيس .ألنه إذا ما استمعنا إلى متطلبات أنفسنا بصدق ،فسوف تك ون حياتن ا مغ ايرة لل تي هي
عليه اآلن ،حياة ذات معنى .وهذه النظرة المتفائلة لطبيع ة اإلنس ان ،تجع ل الب اب مفتوح ا على مص راعيه
للتدخل التربوي المثمر ،هذا التدخل الذي يساعد اإلنسان /المتعلم على التحرر والتفوق ،انطالقا من إرادت ه
ورغبته المتجسدة والمستمر ،وهذه كانت مهمة زرادشت /المربي ،اتجاه رفاقه المتعلمين.
زرادشت المربي:
إن " لزرادشت" وازعا قويا نحو التربية ،فهو يق ارب الفع ل ال تربوي ب النحت على الحج ر ،ويش به
نفسه بالنحات الذي ينحت على الحجارة.
وحتى تتضح صورة " زرادشت" من حيت هو مربي نستطرد فيما س بق قول ه بص دد المؤسس ة ،ف إذا
كان " سقراط" مؤشرا يدل على األكاديمية التي أنشأها فيم ا بع د تلمي ذه " أفالط ون" بقص د تعلم الحقيق ة،
حقيق ة المفه وم ،تعلم الرياض يات وتعلم الق انون اله رمي ،ال ذي يحكم أوض اع الموج ودات ،...ف إن "
زرادشت" هو بدوره مؤشرا على " مستقبل المؤسسات التعليمية" فهو إذ يتخلى عن مؤسسة الحاضر التي
هي عالمة على انحط اط عص ر بأكمل ه ،إذ يوليه ا ظه ره تارك ا وراءه رنين مطرقت ه يص ر بتهكم ،فإن ه
يتح دث ويعت بر عن حاج ة إلى المؤسس ة ،مؤسس ة تك ون منطلق ا للحي اة والتعلم ،إن ه بعب ارة أخ رى ض د
العدمية .1إذ يقول<< " :إن وقتي لم يحن بعد ه و اآلخ ر ،فبعض الن اس يول دون بع د وف اة وال ديهم ،وفي
بعض األحيان اليكون هناك استشعار بحاجة إلى مؤسسات ليعيش فيها الناس ،ويتعلمون على نحو م ا أفهم
العيش والدراس ة ،وربه ا يش هد ذل ك الي وم موهب ة التخلص لتفس ير كت ابي ( هك ذا تكلم زرلدش ت) ،ولكن
سيكون متناقضا مع نفسي أن أتوقع أي ترحيب بحقيقتي اليوم ،فاليوم ال أحد ينص ت لي ،وال يع رف كي ف
يتلقى ما أعرضه أو هذه المسألة ليست مفهومة فقط ب ل حق ه أيض ا>> .2من خالل ه ذا النص ،نفهم كي ف
يعتبر " نيتش ه" أن الحاض ر – أي حاض ره ه و -قاص ر عن تلقي تع اليم " زرادش ت" ،ه ذا المعلم ب دون
كرسي ،والذي يعلم خارج المؤسسة ،فهو يعلم انطالقا من حياته الخاصة ،إن السيرة الذاتية هنا هي الدرس
الفلسفي ،والفلسفي جدا ،وإذا كان " نيتشه" يتحدث عن المؤسسة الممكنة في " المستقبل" فإن ذلك يتم على
ضوء ،هذا المستقبل ،إن " زرادشت" من حيث هو معلم ،تقوم مهمته األولى على استشراف المستقبل ،من
خالل تشخيص أوضاع الحاضر .ومتابعة التحوالت المستمرة لإلنسان ،إذ سيصبح في يوم ما هدفا لل درس
والتأويل ،وعندئذ يبدأ دور تلك المؤسسة التي لن تتناقض مع الحياة كما ينبغي أن تع اش ،وه ل مع نى ه ذا
أن " نيتشه" يعود ليقول بالمؤسسة بعد أن رفضها؟.
ال يجب أن نفهم هنا أن "نيتشه" يريد أن يص نع أوثان ا جدي دة ،بع د أن حطم األوث ان القديم ة ،كم ا ال
يجب أن نفهم أنه يبشر" بالمؤسسة" بعد أن أعلن عن إفالسها ،فمشروعه التربوي ،كما يتكلم عنه في كتابه
23
" ه وذا اإلنس ان" ه و تعليم ب النموذج حيث يق ول<< :إني أق در الفيلس وف في الح دود ال تي يك ون فيه ا
نموذجا ،لكن هذا النموذج ال يقدم ب الكتب ،ولكن بالحي اة اليومي ة>> .إن ه نم وذج بالحي اة بالس يرة الذاتي ة،
فجوهر التعليم يمثل فيمايلي :وحده ما يستش ير المحاك اة،ينبغي أن ي درس ،وه ذه المحاك ات ال تي يتم فيه ا
اإلحتداء بالنموذج ،هيا محاكاة ،يبحث فيها الطالب عن " قانونه الخ اص" ،ال أن يتب نى ق انون المعلم ،ألن
هذه المحاكاة تكون نتيجة التب ادل الب اطني والحس م لتل ك اللحظ ات التراجيدي ة بين المعلم والمتعلم ،أو بين
األفراد .ألن هذا هو ما يفتح أفقا لتربية تعتبر الحياة وال تلغيها ،تربية تمجد الحي اة ،وت دفع به ا إلى إش راق
ممتع بحيث نواجه المصائر واألقدار مهما كانت ،وتوجهها لصالح اإلنسان ال لقلته ،وهذا التفاع ل نج د "
زرادشت" يصدح به في بداية سيرته ،إذ يناجي الشمس قائال <<:ل و لم يكن لش عاعك من ين ير ،أك ان ل ك
غبط ة ،أيه ا الك وكب العظيم؟ من ذ عش ر س نوات م ا ب رحت تش رق على كهفي ،فل والي ،ول وال نس ري
وأفعواني ،لكنت مللت أنوارك وسئمت ذرعا ه ذا الس بيل ،ولكنن ا كن ا ن ترقب بزوغ ك ك ل ص باح لنتمت ع
بفيضك ،ونرسل بركتنا إليك ،إصغ إلي ،لقد ك رهت نفس ي ،حكم تي كالنحل ة أتخمته ا م ا جمعت ،فمن لي
ب األكف تنبس ط أم امي ،ألهب وأغ دق إلى أن يغتب ط الحكم اء من الن اس بجن ونهم ،ويس عد الفق راء منهم
1
بثروتهم>>
"فزارادشت" من خالل هذا النص ،في حاجة إلى الناس ،مع أن أصل حاجته هذه ليس الوازع اإلنساني
أو الغيري ،وإنما الضرورة الباطنية ،فهو في حاج ة إلى الن اس ألنهم يش كلون الم ادة األولي ة ال تي تحجب
صورة " اإلنسان األس مى" ،ال ذي يك افح من أجل ه .ه ذه الم ادة األولي ة ال تي يش بهها باألحج ار الص لبة
الخشنة ،لكنه ال يمكن أن يتخلى عن هذه المادة األولية المشمئزة .2فه و النح ات ال ذي ينحت على الحج ارة
الشكل الذي يتصوره ،يقول<< :إن طموح إرادتي إلى اإليجاد يدفعني أبدا نحو الناس اندفاع المطرقة ف وق
الحجر ،أيها الناس ،إنني أرى صورة كامنة في الحج ر ،ص ورة تخيالتي ،أفيج در أن تبقى ثاوي ة في أش د
الصخور صالبة و قبحا".3
هكذا وبناءا على ما سبق ،يتضح لنا أن التربية الينتشوية عملية عنيفة ،ألن " زرادشت" يشتغل بدون
رحمة ،فهو نذر نفسه للنموذج الذي خطه في ذهنة ،وخالل قيامه بعمله فإنه ال يعب أ بالش ظايا ال تي تتط اير
من حوله وتتساقط أرضا ،إذ نجده يقول<< :إن مطرقتي تهوي بضرباتها القاس ية على ه ذا الس جن ف أرى
حجره يتناثر >>4إنه إذن يشخص صورة المربي العنيد ،فهو ينحت الصخر ويهدمه ،ليترك الحرية للتمثال
الذي سيخرج من الحجر .وبدون هذا الهدم ،وهذه القسوة واأللم ،سيظل " اإلنسان األس مى" متحجب ا وراء
هذا التمثال البشع الخشن .وهدم " نيتشه" هذا ليس هدما عشوائيا ،وقسوته ليس همجية ،بقدر م ا تع بر عن
24
بصيرة ثاقبة ،من أجل وإبداع فني غاي ة في اإلتق ان.ل ذلك نج ده م رة أخ رى يش به نفس ه بالص ياد ،ال ذي
يستعمل الطعم لإلغراء.
<<فأنا أرسل في عالم الناس شبكتي المذهبة هاتف ا :انفتحي أيته ا األغ وار البش رية ،انفتحي ،واق ذفي
إلي بأسماكك الالمعة ،فسوف أتمكن اليوم بخير طعمه أستهوي بها األسماك البشرية من اصطياد خياره ا.
وما هذه الطعمة إال سعادتي نفسها ،أنشرها إلى األبعاد بين المشرق والجنوب والمغرب ،وانظر ما إذا كان
العدد الغفير من األسماك البشرية يتعلمون تذوق س عادتي ،واالش تباك به ا ،ح تى إذا تغلغلت في حن اجرهم
طعمتي ،يضطرون إلى االرتفاع نحو مستواي ،وهكذا يرتقي أشد األسماك تعلقا ب األغوار ،إلى ق رب ش ر
ص ياد يص طاد ب ني اإلنس ان -وم ا أن ا إال ذل ك الص ياد من ذ نش أتي ،وفي أعم اق روحي ،فأن ا الج اذب،
المستوي ،المزحزح الرافع والمثقف المعلم ،أنا من قال من قبل -يجب عليك أن تص ير من أنت>> . 1إن "
زرادشت" محفز بإبداعيته الشديدة التي ال تقاوم ،إنه فنان مبدع ،يمثل اإلنسان أكبر قضية في حيات ه ،فه و
بحق نموذج اإلنسان النبيل ،مبدع القيم وخالقها .إنه فيلسوف من نوع جديد ،فيلسوف أص يل ،نقيض لمثيل ه
التقليدي الزائف ونفيا له.
فزاردشت يظهر لنا كمعلم يم ارس التعليم ،فه و يعلم " الع ود األب دي" ويعلم " اإلنس ان األس مى"ن
فهو رسول البشارة السارة " موت اإلله" وأفول األوثان ،رسول للفرح والحبور...لم يأتي إلفت داء اإلنس ان
ومقاسمته حمله بل ليلغيه ،يخلصه من العالم الميتافيزيقي األخروي ،ويحرره من ه ذا اإلس تعباد ،يق ول" :
أنا أحمل هدية لبني البشر" إذ يعمل من أجل عودة اإلنسان إلى ذاته ،وإرجاع الشرف المفقود للبشر .هك ذا
يزيح " زرادشت" عبئا عن اإلنسان 2.يقول<< :عندما أتيت إلى العالم وجدته جالسا على افتراضات قديمة
واثقا أنه عرف كل شيء ،وميز بين خير الحياة وشرها.
ورأيت الناس يعتقدون أن كل بحث عن الفضيلة قد أنقض ى زمان ه, ...أم رت الن اس ب أن يه دموا ك ل
ق ديم ،وأن يقف وا أم ام ك ل عقي دة هرم ة ض احكين مس تهزئين بمعلميهم ،وقدس يتهم وش عرائهم ومخلص ي
عالمهم>> 3ويضيف أنه << ال مخلص ،إال اإلرادة ،ألن اإلرادة مبدعة ،وهذا هو تعليمي وعلى اإلنس ان
أن يتعلم ليبدع>> ،4هك ذا فالعملي ة التعليمي ة حس ب " زرادش ت" ،هي تحري ر روح وعق ل اإلنس ان ،من
القي ود ال تي تكبلهم ا .فم ا ه دف العملي ة التعليمي ة إال إعط اء الفرص ة للف رد ( الط الب) أن يحق ق ذات ه "
الحقيقية" وأن يسيطر على العالم الذي يحيط به ،لذلك نجده يحف ز أتباع ه بتوجيه ات وإرش ادات يق ول من
خاللها<< :أحب من يعيش ليتعلم ،ومن يتوق إلى المعرفة ليحي الرجل المتفوق بعده ،فإن ه ذا م ا يقص ده
25
ط الب المعرف ة من زوال ه...أحب من يعم ل ويخ ترع ليب ني مس كنا لإلنس ان المتف وق...أحب من يحب
1
فضيلته....أحب من تحرر قلبه وتحرر عقله>>....
هكذا يعزز " زرادشت" دوره كموجب ،مرشد ومساعد على تحطيم القيود ،بدل أن يتقمص دور المعلم
الملقن ،الذي يثقل كاهن طالبه بأحمال ،ويطوق أعناقهم بأغالل أخرى .فيكون بذلك سيد أق دار طالب ه ،في
حين زرادشت يقدم نفسه باعتباره ال يعلم ،ألنه يؤمن بأن الشخص هو سيد قدره ،وهو به ذا يع زز الج انب
اإليجابي داخله حتى يفسح المجال للتلقائية والخصوصية لديه ،وهذا م ا نج ده يؤك ده في " دوح ة الجي ل "
،De l’arbre sur la montagneإنطالقا من سلوكاته الدقيقة ،وحوارا ته الذكية والعميقة ،م ع الف تى
اليائس ،الممتلئ باالحتقار والحسد ،والمزدري لتعاليمه ،حيث سنرى كيف س يوقظ " زرادش ت" الثق ة من
جديد في نفس هذا الفتى ،ليستمر في طريق تفوقه واستعالئه ،على ال ذرى ،داعي ا إي اه إلى تحري ر عقل ه،
وروحه ،وعواطفه من سجن الكبت ،حتى يب دع ،فتص بح نظرات ه براق ة ص افية ،فيق ول ل ه<< :أس تحلفك
2
بحبي لك ،وأملي فيك أال تدفع عنك البطل الكامن في نفسك إذ عليك أن تحقق أسمى أمانيك>>.
هكذا يعكس لنا " نيتشه" شخصية " زرادشت" المربي الذي يظهر ويختفي ،والذي يتوارى ويغ رب
كما تغرب الشمس .ويتج ول في الجب ال وال ربى ،في الودي ان ،في الغاب ات ،يبح ر ويس افر ،يقتحم أج واء
المدن ،ويتجول في أحيائها ،ولكن مقره يظل على قمم الجبال م ع نس ره وأعفوان ه ،يوج ه رفاق ه عن بع د،
وبتأن ،ال يعرف التعجيل فهو يعلم لكن ببط ء ،بإتقان ألنه مربيا حقا ،يهدف إلى اإلتبات والبناء ،لذلك نجده
يعلن قائال<< :على طالب المعرفة أن يتعلم البناء باستخدامه الجبال حجارة إلقامة صرحه>> .3وهو به ذا
يعلن موقفه من التربية الحديث ة ،ال تي تعتم د على المؤسس ات البيداغوجي ة ال تي تف رخ في س اعات قليل ة،
تقنيين وآالت متحركة ،قادرة على إجابة مجموعة من الطلبات اآلنية للبشر.
إن قاعدة التربية عند " نيتشه" تقوم على هذا الواقع البطيء ،والمعلم هنا هو معلم القراءة البطيئ ة ،كم ا
أن المتعلم الحق ،هو ذالك الذي يعرف كيف يقرأ دون تعجل ،ومعنى القراءة البطيئة؟ أن ال ذي يق رأ ببطء
هو الذي يفك ر ،إن الفك ر ال يمتل ك بالتعج ل .4ومن هن ا نستش ف أن "نيتش ه" ال يه اجم العق ل ب ل طريق ة
استعمال هذا العقل ،وأن كل هجومه على األنساق ،يقوم على أساس اعتراضه على الالعقالنية التي يراه ا
في فشل أصحاب هذه األنساق ،وفي جانب كبير من هجومة على المسيحية إذ تقوم على أساس تخليه ا عن
العقل ،وتمجيدها " لفقر الروح" .وعليه "فنيتشه" ال يرفض العقل بطريقة فجة ،ولكنه يرفض الدور ال ذي
لعبه العقل حتى حلت العدمية ،هكذا عن دما يكتب بص دد " العدمي ة األوروبي ة" إنم ا يواج ه بق راءة بطيئ ة
ومشخص ة ه ذا التعجي ل في الحي اة ...في حي اة الفك ر كم ا الحي اة اليومي ة ،ال ذي يمث ل ج وهر الم رض
األوروبي ،الذي هو العدمية.
- - 1ق -نيتشه" " هكذا تكلم زرادشت" ترجمة ،فلكس فارس ،دار القلم بيروت" - ،مستقبل زرادشت" – 4ص 35،36،37
Nietzsche (F) : A.P.Z. « De l’arbre sur montagne » OP.cit.T1 p .60 - 2
Nietzsche (F) : « des illustres sages » OP. cit.T2. p134 - 3
- 4مجلة الجدل ،مرجع سابق ،ص ()47
26
فالتربية عند " نيتشه" هي تربية ضد العدمي ة ،وبالت الي فإن ه ال يمكن أن ي دعوا إلى ت دمير اإلنس ان
حسب " بيارهير سوفرين" ،أي تدمير نصف طبيعته ،لجعل النصف اآلخر ينتصر ،بل ي دعوا إلى التنمي ة
الكاملة لوجهتي طبيعته كليهما .1إذ ال يجب أن تنسى أن فلسفة " نيتشه" كلها تتأس س على فك رة االنتص ار
على الذات ،النابعة من " إرادة الحياة" و " إرادة القوة" ،وهاته ال تتم بدون العقل ،فإرادة القوة لديه ليس ت
هي السعي إلى امتالك السلطة أو الثروة كم ا أنه ا ليس ت ذات م دلول سياس ي أو اجتم اعي ،وال دليل على
ذلك ،أن " نيتش ه" يتح دث عنه ا في " هك ذا تكلم ورادش ت" في فص ل عنوان ه " االنتص ار على ال ذات"
« ،» De la domination de soiومفهوم إرادة الق وة يتعل ق بال ذات اإلنس انية وليس ب المجتمع ،أو
الدولة ،فهي دعوة لصيرورة اإلنسان ذاته ،وملء المسافة التي تفص له عن نفس ه ال تي هي أس اس التم زق
واألوه ام والعدمي ة ،ورفض للتقيي د بالمث ل والمب ادئ الثابت ة والمطلق ة ،والخض وع لألوام ر والن واهي،
والسعي إلى إثراء الحياة وتركيزها والعلو بها سعيا ال يتوقف عند حد فالقوة التي يقصدها " نيتش ه" هي "
القوة الحيوية الفياضة" التي تتدفق في العظالت ،أو من العقل ،أو من الوجدان ،أو من العزيزة ،....فهي ما
هية الوجود بأسره ،هي التي تدفع الشجرة أن تنفض عن نفسها أوراقها الضعيفة الذابلة ،كي تحمل أوراق ا
جديدة خضراء وقوية ،هكذا فاإلنسان األسمى الذي ينشده ،هو ذلك اإلنس ان المتج اوز لذات ه باس تمرار ،إذ
يق ول ل ه<< :تف وق على نفس ك...فمن ال قب ل ل ه بحكم نفس ه وجبت الطاع ة علي ه>> .2وعلي ه فثقاف ة "
زرادشت" الجديدة ،ثقافة اإلنسان األسمى ،تتم يز بكونه ا إرادة اإلثب ات ،عكس الثقاف ة التقليدي ة لإلنس ان،
التي تنبني على إرادة النفي .فمقرر "زرادشت" ،يدعو إلى التحرر من المث ل الميتافيزيقي ة ،إلى االس تغناء
عن النظام القيمي الحالي والمث ل المس يحية ،والديموقراطي ة والزهدي ة ،ال تي تس ري في ك ل أورب ا .وهي
السبب في ظهور أصحاب العاهات المزمنة ،المنكرين للحياة والقوة ،المحتقرين للجسد والروح معا .يقول
لهم من خالله<< :أي إخوتي حطموا هذه األلواح القديمة وال تترددوا>> .3كما يدعوا أيضا إلى أن يص بح
الفرد سيد نفسه ،وأن يؤمن ويعرف أنه خالق قيمه ،وأنه بإمكانه وضع قيم جديد واضحة المقصد.
فيصبح << إنني ما جئت إال ألخلص خرافا عديدة من القطيع>> ويضيف << فرفاقي أطلبهم مبدعين ،ال
أطلبهم جثتا وقطعانا ومؤمنين<< ب ل << رفاق ا أحي اء يتبعون ني ،ألنهم يري دون أن يتبع وا أنفس هم>>.4
ولكن " زرادش ت" ال يكتفي بتحطيم األل واح القديم ة ،المفروض ة على اإلنس ان ،بحكم المجتم ع وال دين،
واإلديولوجيا ،...بل يحذر من الوقوع في وضع ال قيم فيه ( اإلنسان األخير) ،لذلك نجده يخ اطب رفاق ه
مرة أخ رى ق ائال <<:انتبه وا إني آتيكم بل وح جدي د ،ولكن أين هم إخ وتي يحمل ون معي ه ذا الل وح ،إلى
الوادي لتحفر وصاياه على القل وب>> ،5فه و يص ر به ذا على تمجي د القيم اإليجابي ة وح دها ،ال تي تخ دم
- 1بيار هيبر سوفرين " :زرادشت نيتشه" مرجع سابق ،ص ()58
Nietzsche (F) : A.P.Z. « d’anciennes et nouvelles Tables » OP.cit. T3 & 4. p248 - 2
Ibid : &10. p 252 - 3
- 4ق .نيتشه " :هكذا تكلم زرادشت ،مرجع سابق ،مستهل زرادشت ، )9( -ص.)44( :
5
.Ibid : & 4. P 248 -
27
الحياة ،القيم البطولية ،التي تبشر باإلنسان األسمى ،ه ذا اإلنس ان ،ال ذي س يعمل على تغ ير القيم وتحوي ل
النفي إلى إثب ات .1ه و ال ذي يق ول" وي رفض أن يق ول " ال" ،ويح ول رد الفع ل إلى فع ل بش جاعة ف ذة،
وعزيمة متعالية ،لهذا نجده يمجد البطل والبطولة ،ويضيف أن ه إذا أرادن ا أن نخل ق " اإلنس ان األس مى"،
يجب أن نشرف على التربية ،وال ندع األمر فوضي .وقد عرض " نيتش ه" في كتاب ه اآلن ف ذك ره" هك ذا
تكلم زرادشت" ،موضوعات في التربية ،فالعملية التعليمي ة ،عن ده هي تحري ر روح وعق ل ه ذا اإلنس ان/
المتعلم ،من القيود التي تكبها ،وإعطائه الفرصة ألن يحقق ذاته الحقيقية ،وهو في مس يرته التربوي ة يجب
أن يمر من المراحل أو األطوار الثالثة.
1
?جيل دولوز " :رونيتشه والفلسفة " ،مرجع سابق ،ص - 218
2
Ibid : p 36
-
3
4
5
? Nictzsche "F" : A.P.Z. " DE L'homme supérieure " op . cit . T4P355-
28
.إال بعد تحرره الفعلي من القيم الفاسدة ،وكل األوهام الميتافيزيقية ،فالطفل هو صفاء ونسيان وابت22داء
ولعبة .لهذا ينبغي للعاقل أن يتصف – في كل فصول حياته – بطهارة الطفل الالعب وصفاء ال22راقص
الباسم وهناءه ،هكذا " نعم " الطفل الالعب – هذه أشد عمقا من " ال " األسد المقدسة
2ة ،حيث أن
نستطيع من هذا أن نرى أن النموذج التربوي الزرادشتي هو عكس ما تقترحه التربية التقليدي2
التربية العادية تبدأ بالطور الطفل ،وتنتهي بطور الجمل ،وتهدف من خالل هذا إلى خلق إنسان يتحم22ل
2ة .
أعباء األمور ،ويتفهم ويستدخل مسلمات المجتمع واإلديولوجيا ،كمثل أعلى في نهاية العملية التربوي2
فهذا الجهاز التربوي النابع من مجتمع مريض ،يعمل على كبح جماح الفرد ،فال يعبر إال عما هو مقبول
2ل
،على ما يتوافق وتوقعات المجتمع وتقاليده االجتماعية والسياسية والدينية ،ومقاوماته التاريخية ،ومث2
هذه األعراض المرضية ،والتشوهات المجتمعية ،أغاضت " نيتشه " ودفعت به إلى الثورة ضد الض22عف
2اء،
2عف والري2
والرياء .وما أحوجنا في مجتمعنا الحاضر إلى من يعلن مثل هذه الثورة ،ويخنق فينا الض2
ويكسر هذه التقاليد الجامدة ،وينقذ شبابنا المائع الذين تناسوا قيم العظمة ،والنخوة والكمال ،فمن سينظف
هذه القلوب التي تطفح بالخداع والتملق ،من سيرفع هذه الرؤوس المطأطأ في رمال ال22ذل تلعن الس22ماء
وتبتسم وتنحني ،تهتف ألصنام األرض في خوف في استحياء ،وتستبطن في جوفها حظها من النف22اق ،
فمن سيحطم هذه القصور ؟ وهذه األصنام ؟ كي يطال شعاع النور كل األنام ،فيقول بصدق " ال " ويقول
بصدق " نعم " نحتاج إلى شعب من المتفوقين ،ال يصدهم عن غرضهم صاد ،يثبون فوق القمم وثبا ,في
نفوسهم عقيدة تفيض حماسة وقوة ،يمجدون في الحياة كل أدورها .وتجد " نيتشه " ال يتوانى في توجيهنا
2درة " ،
2يد ق2
على أن نكون كما نحن ،إلى أن نعرف نفسنا وجسدنا وحواسنا ،فهو يؤمن بأن اإلنسان " س2
2تي
وهو المسؤول عنه ،إذ بطبيعته حر ،يستطيع أخد القرارات المالئمة له ،كما يؤمن أن القوة الحقيقية ال2
يجب االستماع لها ،هي القوة اإليجابية الكامنة بدواخل كل منا ،والموجهة لنا .
وبعد كل هذا يمكن القول أن " نيتشه " يفتش عن الفرد المتميز ،والحقيقي ،الذي سيأخذ بكل بطولة
فرصته في مغامرة التسامي والتعالي ،المحفوفة بالمعانات ,حتى يثبت ذاته بعيدا عن كل م22ا يقي22دها .
وهذا ما جعل " زرادشت " ،يطلب من رفاقه أال يجللوه ,بل أال يظلوا له أتباعا ،أن يضيعوه لكي يجدوا
2ه
2ل علي2
أنفسهم ،فيقول لهم أكثر من هذا << على من سيطلب الحكمة أال يتعلم محبه أعدائه فحسب ,ب2
أيضا أن يتعلم بغض أصدقائه >> .1وهو في هذا الصدد يحذر من التعري أمام األصدقاء /التالميذ ،وال
عجب إذ وجدنا يخفي حقيقته عن رفاقه ،فزرادشت هذا الفيلسوف ،المربي األصيل ،هو أيضا مح2ترف
1
? Nietzsche "F" : AP.Z. "de la prodigue vertu " op . cit.T1.§ P103-
29
2ة
2يزة للتربي2
للتمثيل ،ومخادع ومضلل ،إنه يظهر أيضا مرتديا قناعا .وهو بهذا يعكس األوصاف المم2
الحديثة ،باعتبارها أساسا فنا للخداع .
ولكن هذا ليس كل شيء ،فزرادشت هذا ليس مخادعا وممثال فحسب .إنه يلقب ب " المغري " و"
2ان
2ا ك2
2ول << :مهم2
المستفز " فهو يستفز رفاقه ضده ،حتى يالمسوا حقيقة ذواتهم هم ،حيث نجده يق2
الشيء الذي أبدعه ،ومهما بلغ حبي له ،فإنه عليا أن أنقلب له خصما ،وأتحول عن حبي ،وحناني ,ذلك
2ك
2ع ذل2
ما قضته إرادتي عليا >> 1وليئزم عالقته بأتباعه أكثر يقول << :ما أحسبني قاسيا عاتيا ...وم2
2ت
2ا >> ،فرزادش2
فإني أقول لكم إذا ما رأيتموني متداعيا إلى السقوط ،فادفعوني بأيديكم ،وأجهزوا علي2
بهذا يمثل قمة العملية التربوية ،فبقد رما يشكل الطالب تحديا له يكون في نفس اآلن مجرد صديق – خصم
،ويضيف موجها ؛ << ليكن قلبك قريبا إليه حين تقف ضده >>
إن " زرادشت" بهذا يتوقع من مريديه ،أن يتمردوا عليه ،وعندما ال يفعلون ذلك انطالق ا من ذواتهم ،فإن ه
يحثهم على التمرد ،وإن لم يفعلوا فإنه بكل بس اطة يهج رهم ،ف المرء يك افئ المعلم بطريق ة س يئة عن دما،
يظل تلميذ فحسب ،لهذا فزرادشت يقول لمريديه ناصحا إياهم<< :سأذهب وحدي اآلن أيه ا الرف اق ،وأنتم
ستذهبون بعدي وحدكم ألنني هكذا أريد.
هذه نصيحتي إليكم ،ابتعدوا عني وقفوا موقف الدفاع عن أنفسكم .اتجاهي ،بل اذهبوا إلى أبعد من هذا،
اخجلوا من انتسابكم إلي فلقد أكون لكم خادعا.
فلن يعترف التلميذ اعترافا تاما بفضل أستاذه ،إن ه و بقي أب دا ل ه تلمي ذ ،لم اذا ال تري دون أن تحطم وا
ت اجي؟ إنكم تحيط ون ب اإلجالل ولكن م ا هي الكارث ة ال تي تتوقعونه ا من إعراض كم ع ني؟ إن في رف ع
األنصاب لخطرا ،فاحترسوا من أن يسقط عليكم التمثال المنصوب فيقض ي عليكم .تقول ون أنكم تؤمن ون "
بزرادشت" ،ولكن أية أهمية له؟ ما كان أحد منكم فتش عن نفسه ،قبل أن وجدتموني( )...لذلك آم ركم اآلن
أن تضيعوني لتجدوا أنفسكم ،ولن أعود إليكم ،إال عندما تكونوا جحدتموني جميعكم .والحق بإخواتي ،إن ني
في ذل ك الحين س أفتش عن خ رافي الض الة بعين أخ رى ،فأب ذل لكم حب ا غ ير ه ذا الحب ،س يأتي يوم ا
2
تصيرون فيه أصحابا لي ،إذا ما وجدت بينكم األمل الواحد ،عندئد سأرغب في اإلقامة بينكم>>
وهذا التمرد الذي يحث " زرادشت" هو مهم له ولرفاق ه ،إذ أنهم ب دورهم مج برين على أن يتعلم وا كي ف
يتخذوا مواقف لوحدهم ،من أجل اكتشاف ذواتهم.
فالتربية عند " زرادشت" خدعة ،ولكنها م ع ذل ك تجع ل التم رد ممكن ا ،إذ يس تطيع الف رد أن يتم رد على
السلطة الظاهرية لزرادشت ،وليس ض د براع ة الفيلس وف .فزرادش ت يمث ل الفيلس وف األص يل ،نقيض ا
1
? - Nietzsche "F" : " la domination de soi " op . cit . t 2 p148-
Nietzsche (F) : A.P.Z. « la prodigue vertu » OP.cit.T1.§ 3. p 103 - 2
30
للفيلسوف التقليدي ،هذا األخير الذي يعتقد في كذبه ،إنه مريض هو ذاته ،ويسمم أتباعه ،من أج ل أن يق وم
بمهمته ،ويجعل التبعية دائمة ،وبالتالي يفنى هو وأتباعه.
إن الخداع الذي يمارسه زرادشت مفكر فيه ،غايت ه التم رد ،بخالف التربي ة المؤسس اتية ف إن الوظيف ة
التربوية النيتشوية عابرة إذ تشكل مرحلة على طريق الكمال ،التمرد إذن هو قمة العملية التربوية ونهايتها
عند " نيتشه" .وعند هذه المرحلة ينفصل المربي والمريد ،عن بعضها ،ويبدأ كل واحد منها في البحث عن
ذاته ،فالتمرد والتفرد هما الخاصيتان المميزتان للحرية الحقيقية.1
والحرية التي يعد بها " نيتش ه" هي الحري ة الحقيقي ة الخالص ة لإلنس ان ال ذي يخل ق قيم ا خاص ة ب ه،
ومفهوم الحرية في التربية عنده جديد كليا ،أنها الحرية اإليجابية ،التي يحق ق من خالله ا اإلنس ان كينونت ه
األصلية .وعلى كل ح ال فإنه ا ال تنط وي على موق ف فوض وي أوع د مي ،ألن " زرداش ت " يطلب من
رفاقه أن يحرروا أنفسهم ليحققوا داوتهم وهو في ه ذا يس اعدهم على ن زع تل ك الغالل ة الخارجي ة للتربي ة
التقليدي ة ،والمجتم ع ،كم ا يس اعدهم على الخ روج من المرحل ة العدمي ة و االنفالت منه ا ،لكن ه ال ي ريهم
الطريق ،فزرادشت ال يدعي خلق اإلنسان الحر،وإنما يساعده فقط على تحرير نفسه ،فه و ال يمنح الحري ة
ألنها شيء ينجزه اإلنسان بمفرده.
هك ذا يتمظه ر زرادش ت من خالل تعاليم ه ،كرس ول للف رح ،مبش را بعقي دة عالمي ة ،عقي دة الحب ور
والرقص ،والبطول ة والمج د ،وه ذه مهم ة " ديون يزوس" حس ب دول وز وهي " :أن يجعلن ا رش يقين ،أن
يعلمنا الرقص ،أن يمنحنا عزيزة اللعب"2
وهذا ما نجده يحاول أن يؤكد لرفاقه ،في حفل العشاء الذي خصصه لهم احتفاء بالرقي ال ذي يلغ وه في
درجة سلم " اإلنسان األسمى" إال أنهم ومع ذلك يظلون نماذج فاشلة ،لهذا المثل األعلى حيث يق ول " :من
يريد أن يتبعني فعلي ه أن تقس و عظام ه ،وتخ ف رجاله .علي ه ،أي يك ون فرح ا في ال والئم ،فيط رح عن ه
الهموم ويبقى مستعدا القتحام الص عاب وقوي ا ص حيحا ."3ويص ر في وص اياه للمتف وق على التأكي د في
تحويل الثقيل إلى خفيف ،واألسفل إلى أعلى ،واأللم إلى فرح ،فهو ينط ق بلس ان " ديون يزوس" ت ارة ،من
أج ل أن يثبت مع نى الحي اة في قل وب ض يوفه ،وال نج ده يت وانى في اإلعالن أن " فض يلتي هي فض يلة
الراقصين " 4فهو ينبوع الحيوية والحبور ،رقاص نشيط ،لدرجة تجعله يرفض اإليمان بإله يجهل الرقص،
<<أنا زرادشت" ،الرقاص خفيف الخط وات ،الض ارب بجناحي ه ،محف زا لالنتف اض إلى األعلى ،مث يرا
جميع الطيور ينشر أجنحتها ،أنا من بلغ الرشاقة اإللهية ،>>5وإلى جانب " الرقص" نج ده يحث اإلنس ان
المتفوق على" اللعب" باعتباره إثباتا للصدفة ،6وه و م يزة من مم يزات األطف ال ،ال ذين يب دعون بطريق ة
- 1محمد بوبكري ":التربية والحرية" مرجع سابق ،ص؛ ()66
- 2جيل دولوز " :نيتشه والفلسفة" مرجع سابق ،ص)26 ( :
Nietzsche (f) : A.P.Z. « la cène » OP .cit.T4.p 344 - 3
4
?- Nietzsche (F) : « les sept sceaux ( ou le chant du oui de l’amen » OP.cit.T4.§ 17.P 284
de l’homme supéréure » OP.cit .4.§ 18. P 356 Nietzsche « : )f( -5
- 6جيل دولوز " :نيتشه والفلسفة" ،مرجع سابق ،ص.219 :
31
حرة وتلقائية ،وهو ما جعله يخاطبه قائال<< :كن مرحا مثلي يا هذا واحتفظ بما تعودت ه ،>>1ومن الم رح
ينبثق" الضحك" الذي يعتبره إثباتا للحياة ،هك ذا نج ده يص رح" أن ا المت وج نفس ي ملك ا على الض احكين،
بإكليل ضفرته من الورد يداي ( )...إنني ألقي إليكم بإكليل الورد ه ذا ،فه و ت اج الض احكين ،أيه ا الرج ال
الراقون تعلموه.>>...2
إذن فلتضحكوا يا أهل الرقي ،فما أكتر الممكنات ،في مستقبل اإلنسان ،هكذا يشيد " زرادشت" ب دور "
الضحك" ،لدرجة جعلته يعتبر كل حقيقة ال تستدعي ولو قهقهة ضحك ،هي باطلة ،إذ يش مئز من إحتض ار
الشريعة القديمة وهي تقول " :ويل للضاحكين في هذه الدنيا" ،إذ يعتبره قوال قبيحا مثيرا للنفور ،فاإلنس ان
يتعزى بالضحك ،عن نقصه ،وبالرقص والطيران يتجاوز مستنقعات الكآبة كالرياح العاص فة ،فيجب على
اإلنسان أن يتعلم الرقص بنفسه ،والضحك بنفسه ،وأن يرتفع فوق نفسه.3
وبعد الضحك واللعب والرقص ،هذه الصفات المستندة إلى " زرادشت" هي مقدرات التحويل االثباتية:
يحول الرقص الثقيل إلى خفيف ،ويحول الضحك األلم إلى فرح ،وتح ول لعب ة رمي ( ال نرد) الس افل إلى
عال ،4فهذا الثالوث يؤدي في الوقت نفسه إلى تغيير جوهر العدم ،وتحويل النافي ،هكذا أراد " زرادش ت"
أن يمحي بؤس الناس المتف وقين ،وأن يس تنهض فيهم إرادة الحي اة من خباي ا األعم اق ،لتفيض على س ائر
جسدهم ،على عكس كل األرض ،فيكونوا بهذا طريقا ممهدا " لإلنسان األسمى".
فهو يعطي لإلنسان /المتعلم ،حرية االختيار في أن يس تمر عب دا ،ويح اول أن يص بح إنس انا أس مى ،في
حين أن المربين ،ال يقدمون شيئا لتالميذهم ،بل إنهم باألحرى ،يح ررونهم ح تى يت اح لهم أن يص بحوا في
يوم ما ( المستقبل) مربيين ألنفسهم ،فكل واحد هو طريق فريد يؤدي إلى ذاته.
وال أحد قادر أن ينوب عن المتعلم ،في بناء الجس ور ال تي يجب أن يس لكها ه و وح ده كي يع بر نه ر
الحياة .فالمربي يوجه ويرشد فق ط وه و به ذا يش به رجال يعب د طريق ا لن يس لكها .وعلي ه فالتربي ة عن د "
نيتشه" لم تقم على فكرة إنتاج األتباع الصالحين ،مقابل عملية ترويض وتلقين مجموع ة من المه ارات .إن
مفهومه للتربية جديد كليا ،حيت يندرج ضمن نقده للتربية المؤسسية ،فهو يهدم التربية الحديثة برمته ا ،من
خالل تأكيده على أن التربية خدعة وكل معانيها :الحافز األناني ،وبالتالي ضرورة ترك اإلنسان ،يكتش ف
ذاته ،ويحققها لوحده ،ليكون التم رد كه دف نه ائي ،فك ل ه ذه األفك ار تس حب البس اط من تحت ق دمي أي
مربي ،ورغم ه ذا فح تى أولئ ك ال ذين ال يرغب ون في اإلع تراف ب " نيتش ه" الم ربي ،ف إنهم لم يع ودوا
ق ادرين على تجاه ل ،أطروحت ه األساس ية :أن " التربي ة" و" الثقاف ة" في عص رنا ه ذا هم ا أساس ا
خدعة،والمسألة هي ماذا نفضل ،خداع الذات أم خداع ال وعي؟ في كلت ا الح التين نج د أنفس نا في مص يدة،
32
واالنقالب منها يقتضي قرارا وجوديا ،قرارا شخص يا وذاتي ا ص رفا ،وهن ا بال ذات تكمن رس الة "نيتش ه"
التربوية.
33
الفصل الثانـــــــــي
اإلنسان األسمى والتربية
34
إذا كانت الفلسفة األفالطونية ،قد حملت على عاتقها مهمة ،تحرير الروح اإلنسانية من سجنها
األرضي المتمثل في الجسد .فإن الشغل الشاغل لنيتشه ،ه و تحري ر اإلنس ان من وهم خيم ل دهور طويل ة
على عقل هذا األخير ،تجسد الروح هذا الوهم ،في سعيها إلى االنعتاق من ربقة الجسد ،بغية ارتفاعه ا إلى
العالم الحقيقي أو العالم األخر الماورائي .باعتبار ه ذا األخ ير ه و األزلي واألب دي ال ذي يحت وي الس عادة
األبدية ،التي لم يستطع اإلنسان بلوغها على األرض .لكن ما حقيقة ه ذا الع الم ال ذي ال ي ؤمن بالجس د ،إال
كخروف فداء يجب أن تقدمه الروح إن أرادت بلوغ مرادها؟ يخبرنا نيتشه في إح دى فق رات كت اب هك ذا
تكلم زرادشت عن مصدر وجود هذا العالم ،فيقول" ما أوجدت العوالم األخرى في ه ذا الع الم س وى اآلالم
والشعور بالعجز ،ذلك ما أوجدته تلك العوالم فأوجدت معه هذا الجنون السريع الزوال بسعادة ما ذاقه ا من
الناس إال أشدهم أالما.
إن المتعب الذي يطمح إلى اجتياز أبع د م دى بطف رة واح دة ،بطف رة قاتل ة ،وق د بلغت ب ه مس كنته
وجهالته حدا ال يستطيع عنده أن يريد ،إنما هو نفسه مبدع جميع اآللهة وجميع العوالم األخرى.1
لقد أصبح العجز والظعف ،قادرين على الخلق واإلبداع ،فكان العالم اآلخر واآللهة،
من جملة ما أبدعه العجز ،لكن ما طبيع$$ة ه$$ذا األخ$$ير ،إن$$ه عج$$ز عن الحي$$اة في الع$$الم األرض$$ي ومن العيش
وفق الص$$يرورة ال$تي يخض$$ع له$ا فالص$$يرورة ت$أتي دائم$ا بم$ا ه$و جدي$د وغ$ير م$رتقب ،في حين أن ،الع$اجز
يخشى كل ما يتغير ،وما دام العالم اآلخر هو الحقيقة الثابتة التي ال تتغ$ير ،فق$د ك$ان ه$و المف$ر .لكن إذا ك$ان
الض$$عف والعج$$ز الجس$$دي ينتج أوهام$$ا ،تس$$يطر على اإلنس$$ان الع$$اجز بع$$د ذل$$ك ( وهم ع$$الم آخ$$ر…) .فم$$ا
الذي تبدعه القوة الجسدية والبني$ة الجس$مية الس$ليمة؟ " إن األحك$ام القيمي$ة ل$دى األرس$تقراطية المقابل$ة تعتم$د
على بني$$ة جس$$مية قوي$$ة ،على ص$$حة ع$$امرة ،دون نس$$يان الش$$رط الالزم لتعه$$د ه$$ذا النش$$اط المت$$دفق ،نع$$ني
الحرب والمغامرة
والصيد والرقص واأللعاب والتمارين الجسدية ،وبشكل ع ام ك ل م ا يقتض ي حيوي ة ش ديدة الب أس ،طلق ة
مرحة.2
إن الجسد حقل من القوى الحيوية ،التي تتوق إلى التحرر والفع ل ،وإذا ك ان الجس د ه و االبن الب ار
لألرض فإن فعله لن يتجاوز العالم األرضي ،ففعله ينطلق من األرض ويستهدفها.
ويتلخص هذا الفعل في وضع القيم واألحكام القيمية لكل شيء ،إن هذه القيم توضع من طرف ذوات ذات
بنية جسدية قوية ،تأخذ في اعتبارها البعد المادي لإلنسان الذي يجعله ينتمي إلى العالم األرضي " .أجل إن
هذه الذات على ما فيه ا تن اقض واختالل تبث بك ل جالء وجوده ا فتبت دع وتعلن إرادته ا لتض ع المق اييس
1
.هكذا تكلم زرادشت ،ص 53 :مرجع سابق -
2
?نيتشه ،أصل األخالق وفصلها ،ترجمة حسن فبيسي ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،ص- 29 :
35
وتعين قيم األش ياء وم ا تطلب ه ذه ال ذات في إخالص ها إال الجس د ح تى في حال ة اس تغراقه في أحالم ه
وتحفزه للطيران بأجنحته للمحطمة 1إن اإلخالص لجسد واإلشادة به ،هي االعتب ارات الجدي دة ،ال تي أخ د
بها نيتشه .فالذات اإلنسانية ،ال تق وم على ش ق أو ط رق واح د ،ب ل تنب ني على رك يزتين أساس يتين ،هم ا
الروح والجسد ،وال يمكن للذات أن تتأسس على طرف واحد حيث أنها ال تكون سوية ،ألن تفضيل ط رف
يأتي دائما على حساب طرف آخر ،وإن سرنا وفق هذا المنطق ،فإننا سنكون مجبرين أو باألحرى س تكون
الذات مجبرة على قتل نصفها أو التضحية به ،لكي تبقى على النصف األخر .إن الجسد ليس عال ة أو س مة
نقص ،تحملها الذات كما تصرح ب ذلك ك ل من األفالطوني ة والمس يحية ،فالجس د ه و الج انب الحي وي في
الذات ،موطن الرغبات والغرائز الحية التي تحرك الذات اإلنسانية ،لذلك يجب االفتخار واإلشادة به.
إن هذه الذات تت درب على اإلفص اح عن رغبته ا ب إخالص ،وكلم ا أرادت ت دربا ألهمت البي ان لإلش ادة
بالجسد وباألرض.
لقد علمتني ذاتي غيرة جديدة أعلمها اآلن للناس :علمتني أال أخفي رأسي بعد اآلن في
رمال األشياء السماوية ،ب$ل أرفعه$ا رأس$ا عزي$زة ترابي$ة تبت$دع مع$نى األرض .2الجس$د ه$و الوج$ود الحقيقي
لل$$ذات ،واألرض هي الع$$الم الحقيقي الث$$ابت الوج$$ود .وك$$ل منظ$$ور يخ$$الف ه$$ذا المب$$دأ يق$$ع في العدمي$$ة ،أي
يطلق صفة عدم على الوجود الحسي الجسماني ،بهدف خلق وجود
آخر يكون رائعا وحقيقيا ،ولتحقيق ذلك ك ان بخس قيم ة الوج ود األول هي الوس يلة .لكن ال يجب أن يفهم
من خالل ما سبق أن ،نيتشه ينتصر إلى جزء من طبيعة اإلنسان على حساب الجزء اآلخر ،حتى وإن كان
هذا الجزء هو الذي عملت الميتافيزقيا القديمة على تهميشه ،حيث أنه إن سار على هذا النهج لكان وق ع في
نفس خطأ الميتافيزقيا القديمة ،فيصبح بذلك متناقضا مع ذاته .لكن يبدو أن نيتشه كان واعيا به ذه المس ألة،
فطبيعة اإلنسان المركبة كانت حاضرة باستمرار في ذهنه " يعترف نيتشه بطبيعة اإلنسان المركب ة ،ال ب ل
يوسع مروحه بأشكال مما دون الحيوان إلى ما فوق المالك ،بحيث يصبح اإلنسان " كائنا هجينا بين النبات
والشبح" لكنه يوضع في الحال أن الكائن الجديد الذي يعظ بمجيئه ينبغي أال يتخلى عن أحد هذين ال وجهين
في تلك الطبيعة لصالح الوجه اآلخر " :هل أنا أمرتكم بأن تصبحوا شبحا أو نباتا؟ " إن نيتشه ال يأتي بع د
آخرين كثيرين ،ليدعوا اإلنسان لالختيار بين هاتين الطبعتين .ذلك أن ه ي رى -كم ا س بق أن أش رنا – في
تجاذب كهذا تحوال جديدا من تحوالت ثنائية الميتافيزقيا .ال يأتي نيتشه إلجبار اإلنس ان على ت دمير نص ف
طبيعته لجعل النصف اآلخر ينتصر ،بل لدعوته إلى التنمية الكاملة لوجهي طبيعته ،كليهما.3
لقد كان هدف اإلنسان هو السعادة ،ولكي يص ل إلى ه ذا المبتغى ،ك ان لزام ا علي ه أن يس لك طريق ا
شائكا وطويال ،ترسم معالم هذا الطريق منظومة من الواجبات واألوامر والقيم األخالقية ،هذه األخيرة هي
1
.هكذا تكلم زرادشت ،ص ،54 :مرجع سابق -
2
?نفس المرجع -
3
بيار هيير – سوفورين ،زرادشت نيتشه ،ترجمة أسامة الحاج ،ص ،58 :المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع -
36
التي تحدد موطن السعادة ،أو باألحرى هي التي تحدد مالمح السعادة اإلنسانية أي تخلقها ،وبطبيع ة الح ال
لن يكون موطن السعادة هو العالم األرضي أو ال ذات اإلنس انية ،إنه ا توج د هن اك في الم اوراء في الع الم
اآلخر ،ولكي ينالها اإلنسان عليه أن يسلك وفق ما تمليه عليه القيم األخالقية .أول خطوة يجب أن يقوم بها
اإلنسان إن هو أراد بلوغ السعادة هو أراد بلوغ الس عادة .أن يجح د الع الم األرض ي وأن يكبت جم اح ك ل
غرائزه الجسدية ألن الس عادة لن يناله ا إال خ ارج جس ده وخ ارج األرض ،فه ذين األخ يرين ليس ا موطن ا
السعادة.
" إن النور األك$ثر تعمي$ة مهم$ا ك$ان الثمن ،الحي$اة المش$بعة ،الب$اردة النبيه$ة ،الواعي$ة ،المج$رد من
الغرائز ،المقاومة للغرائز ،لم تكن إال مرضا في حد ذاتها ،مرضا آخر ،لم يكن أبدا
عودة إلى العافية ،إلى السعادة ...أن يرغم الم رء على مقاوم ة غرائ زه -تل ك ص يغة االنحط اط ،م ادمت
1
الحياة تسلك منحى تصاعديا .فالسعادة تساوي الغريزة"
" وحسب هؤالء الناس في عقوقهم أنهم فازوا بالنعيم بعيدا عن جسمهم وعن األرض ،وتناسوا أن تنعمهم
2
ورعشة ملذاته إنما نشأت من جسدهم ومن هذه األرض"
ينفذ نيتشه األطروح ة الس ابقة ،ليؤك د أن األرض هي م وطن الس عادة ،وأن الغري زة اإلنس انية هي
البذرة الحقيقية للسعادة ،وعندما يعمل اإلنسان على مقاومة ميوله وغرائزه .ينح در إلى مس توى منح ط .إذ
أن كبته لغريزته هو كبت للحياة ،وبالتالي تش ويه للطبيع ة .ل ذلك فك ل تربي ة ال تأخ ذ في اعتباره ا الجس د
كمكون أساسي ،في الطبيعة اإلنسانية تعتبر إهدارا للحياة اإلنسانية ،ضد الطبيع ة .فالتربي ة الحقيق ة حس ب
نيتشه ،يجب أن تكون تربي ة للغري زة ،للجس د ،أو ب األحرى للحي اة والج انب الحي وي في اإلنس ان " .أم ا
بالنس بة للتربي ة كم ا يمكن أن نستش فها من خالل زرادش ت فهي تربي ة للجس د ،إنه ا تربي ة تقص د تغلب
3
الغرائز الطبيعية والحيوية على القيم األخالقية التي أنتجتها البش رية خالل لحظ ات انحطاطه ا وض عفها"
إن لحظات االنحطاط التي مرت بها البشرية ،كان السبب فيها هو أن اإلنسان أرغم على مقاوم ة غرائ زه،
وعندما تعذر على ه ذه األخ يرة ،إيج اد مج ال تع بر في ه عن نفس ها ،وتعلن عن ق درتها وعن رغبته ا في
التحرر من القيود التي كبلت بها ،انقلبت ض د ذاته ا ،فأص بحت ع وض أن تم ارس فعلته ا في خ ارج عن
طريق الخلق اإلبداع ،تمارسه باتجاه الداخل وذلك بالتميز الذاتي ،وبخمس قيمة الذات ،واض طهاد النفس ي
يؤدي كل هذا إلى تمزق وتآكل الذات .التدمير وبالتالي يؤدي إلى تشكل ما يعرف بالض مير المتعب ،ال ذي
يعتبره نيتشه من أشد وأخطر األمراض التي لم تتمكن اإلنس انية لح د اآلن من أن تج د له ا حال أو عالج ا،
ألن مصدر هذا المرض هو الذات اإلنسانية نفسها ،فهي داء نفسها أو مرض ذاتها.
1
،أفول األصنام مرجع سابق ،ش ،2 :ص - 24
2
هكذا تكلم زرادشت :ص- 55 :
3
مجلة الجدل ،مرجع سابق :ص - - 34
37
" فجمي$$ع الغرائ$$ز ال$$تي ال مج$$ال لتص$$ريفها ،أو ال$$تي تح$$ول ق$$وة قمعي$$ة م$$ا دون انفجاره$$ا في
الخارج .تنقلب إلى الداخل .هذا ما أسميه فعل االستدخال الذي يقوم به المرء .بهذه الطريقة تنمو لدي$$ه فيم$$ا
بعد ما يسمى ب" نفسه " العالم الداخلي كله نما وتجسم بعد أن كان باألصل
رقيقا يحشر بين الجلد واللحم." 1تمثل أو تنقلب الغريزة ضد ذاتها عند ما يتم قمعه ا ،وب ذلك تقم ع م رتين،
في المرة األولى من طرف عوامل خارجية ،ومرة أخرى من طرف ذاتها حينما يتم قمعها .وهذا م ا ي ؤدي
إلى تشوهها .إذن فمن خالل هذا يتبين أن العيب ليس من طبيعة الغريزة ،بل يلحقها من جراء القمع ،وه ذا
األسلوب في التعامل مع الغريزة والنزوة ،يعتبر نموذج تربوي تتعامل أو تنتهجه الكنيس ة ،وبس لوكها ه ذا
النهج فهي تؤكد على أن الغريزة والمادة ،شيء غير طبيعي يوجد ضمن الطبيعة البشرية ،وبالت الي ينبغي
بتر هذا الجزء الزائد ،ألنه يعيق اإلنس ان عن الكم ال " .إن الكنيس ة تح ارب ال نزوة ببتره ا ،بك ل مع اني
الكلمة .إن ممارستها ،معالجتها هي اإلخص ائية .إنه ا ال تس أل أب دا :كي ف لن ا أن ن روحن ش هوة م ا ،أن
نجمله ا ،أن نمج دها؟ لق د أك دت في تربيته ا دائم ا على االستئص ال ،الش بقية ،الكبري اء ،إرادة االمتالك،
الجشع ،الرغبة في االنتقام .إن مهاجمة النزوات من الج در تع ني مهاجم ة الحي اة من الج در ،إن praxix
الكنيسة معاد للحياة "2.إن كل عداء للشهوة والنزوة ،يعتبر عداء للحياة ،كما يؤكد نيتشه ،وكل تمجي د لهم ا
يعتبر تمجيد للحياة .فالحياة التي ال تنبني على الغريزة ،تعتبر حياة منحطة وبائسة ،وال تس تحق أن تع اش،
أما الحياة الحقيقية فهي التي تق وم على تمجي د الغرائ ز الطبيعي ة في اإلنس ان ،ف الغريزة عن د نيتش ه تع ني
السعادة ،وال وجود لسعادة خارج الجسد وخارج العالم األرضي .وتتدهور حالة الشعوب وينحدر مستواها،
عندما تصبح شهواتها الجسدية مصدر قلق لها ،أي عندما تسير على نهج الكنيسة ،في حين أن العكس ه و
الصحيح.
" تقول الكنيسة واألخالق :يبيد عرق ،شعب ،بالترف والفسق ،أما عقلي المجدد فيقول ،عندما يسارع
شعب إلى هالكه ،عندما يتدهور جسديا ،ينتج عن ذلك الفس ق وال ترف أي الحاج ة إلى اإلغ راءات األك ثر
حيوية واألكثر شيوعا دائما ،التي يلتد بها مزاج متعب."3
يالحظ مما سبق عودة قوية لإليمان ،بقدرة الجسد ،الشيء الذي يستتبعه إعادة االعتبار المحسوس وللحس.
إذ نجد مع نيتش ه ت برءة لس احة الحس ،من التهم ال تي نس بة إلي ه ،مث ل الك ذب واإلفت اء ،وع دم اإلخب ار
بالحقيقة ،فالحواس هي وسائلنا الحقيقية إلدراك الع الم ،وماعاداه ا يعت بر مج رد وهم ،وك ل االدع اءات
التي تسير ضد هذا المبدأ ،تعتبر مجرد افتراءات ال محل لها من الصحة ".لقد ك ان هيراقلي ط ه و اآلخ ر
جائر بالنسبة للحواس .فهذه ال تكذب إطالقا .إن ما نفعله بشهادتها هو الذي يقحم فيه ا االف تراء ،ه و س بب
الحواس .مادامت الحواس تكشف عن الصيرورة ،عن اإلثب ات ،عن التح ول ،فإنه ا ال تشويهنا لشهادة
1
أصل األخالق وفصلها ،مرجع سابق ،ص - 79 :
2
أفول األصنام ،مرجع سابق ،ص- 36 :
3
نفس المرجع ،ص- 46 :
38
تكذب غير أن هيرقلي ط س يظل أب دا على ص واب عن دما ج زم ب أن الكينون ة وهم بال مع نى .وح ده الع الم
الظ اهر الموج ود .والع الم الحقيقي س وى ك ذب نض يفه إلي ه "1يظه ر إذن أن الخ وف من الص يرورة ،و
اإلثبات ،والتحول ،أي من الطبيعة الحقيقية للع الم ،ه و الس بب ال ذي جع ل الح واس تق دم ككبش ف داء ،إن
الحواس الذ نب لها ،فقط نحن من نزور ونزيف ما تخبرنا به .لم يعد الجسد فقط عالم من القوى [ الغرائز]
التي تتوق إلى التحرر واإلبداع ،بل هو أيضا وسيلة ال يتم إدراك العالم الخارجي إال بها ،و وحدها تخبرن ا
بحقيقته.
و يذهب رزادشت إال أبعد من ذلك إلى اعتبار ،أن الجسد هو جوهر الذات ،وما العقل أو
ال$$روح إال ج$$زء من ه$$ذا الك$$ل ال$$ذي ه$$و الجس$$د ،ب$$ل أداة من أدوات$$ه ال$$تي ي$$درك به$$ا الوج$$ود " .إني بأس$$ري
جسد ال غير ،وما الروح إال كلمة أطلقت لتعيين جزء من هذا الجسد ( )...آلة جس$$دك إنم$$ا هي أداة عقل$$ك
ال $$ذي ت $$دعوه روح $$ا ،أيه $$ا األخ ،إن هي إال أداة ص $$غيرة وألعوب $$ة ص $$غيرة لعقل $$ك العظيم ( )...م $$ا الحس
2
والعق$ل إال أدوات و ألعوب$$ة ،وال$$ذات الحقيقي$$ة كامن$$ة وراءهم$$ا مفتش$$ة بعي$$ون الحس ومص$$يغة ب$$آذان العق$ل".
إن العق$$ل ال يتع$$دى كون$$ه مج$$رد أذن تس$$مع به$$ا ال$$ذات ،والحس ه$$و العين ال$$ذي ت$$رى به$$ا .وم$$ا عس$$ى ه$$ذه
الذات أن تكون غير الجسد؟ وما عسى هذا الجسد أن يكون غير اإلنسان؟ يتضح من هذه العب$ارات األخ$يرة
ومن خالل ما سبق أن نيتشه ال يضيع أمام أعيننا بنية جديدة أو تنظيم جديد ،يكشف من خالل$$ه على مالمح
في جمي$$ع أبع$$اده ،فتج$$اوز اإلنس$$ان ال$$ذات اإلنس$$انية ،وإ نم$$ا ي$$دعو إلى إدراك ه$$ذا التنظيم في جمي$$ع أبع$$اده،
فتجاوز اإلنسان لذاته وارتقائ$$ه به$$ا ،ال يتم باالنتص$$ار لمك$$ون من مكوناته$$ا على حس$$اب المكون$$ات األخ$$رى،
ولألسف هذا ما قامت به التربية التقليدية .في حين التربية كما يريد لها نيتشه أن تكون ،تسعى إلى تصحيح
هذا الخطأ .فالذات اإلنسانية جسد
خطوة يجب على اإلنسان القيام بها هي اإلصغاء إلى صوت الجسد.
" أما أنتم ،يا إخوتي ،فأصغوا إلى صوت الجسد الذي أبل من دائه ألن هذا الجسد يخ اطبكم بص وت
أنقى وأخلص من تلك األصوات.
إن الجسد السليم يتكلم بكل إخالص وبكل صفاء فهو كالدعامة المربعة من ال رأس ح تى الق دم وليس
بيانه إال فصاحا عن معنى األرض"3
" إنني ال أسير على طريقكم أيها المس تهزؤن باألجس اد ،ألن ني ال أرى فيكم المع بر ال ذي ي ؤدي إلى
مطلع اإلنسان األسمى".4
1
نفس المرجع ،ص- 27 :
2
هكذا تكلم زرادشت ،مرجع سابق ،ص - 57
3
نفس المرجع ،ص - 56
4
نفس المرجع ،ص - 59
39
-IIاإلنسان األسمى النموذج الجديد الذي يبشر به نيتشه
"نعم إن نيتشه ينقض؛ ويهدم؛ لكنه ال يفعل ذلك بوصفه محبطا ،بل بوصفه شرسا؛ يفعل ذلك
بنبل ،ومجد ،وبصورة فوبشرية ،مثلما يعصب فاتح جديد أشياء باتت قديمة .والحماس الذي يبديه في
عمله هذا يعطيه مجددا آلخرين من أجل البناء (…) هل يهدم نيتشه؟كفى هدرا؟ إنه يبني -إنه أقول لكم !
يبني بعنف".1
1
أورده بياهيبر -سوفرين في زرادشت نيتشه ،ص 61ترجمة أسامة الحاج-
40
لم تكن اإلرادة الحقودة هي التي تدفع نيتشه لقتل اإلله ،وإ عالن موته ،أو ألن هذا اإلله يشفق
على نيتشه ال بل العكس هو الصحيح ،فنيتشه هو الذي يشفق على اإلله وعلى المؤمنين به ،لذلك عمل
على قتله ،وبالتالي قتل إيمانهم به.
كما أن الحلول محل اإلله ،لم يكن هو السبب الذي دفع نيتشه إلى قتله .إذن فما عسى هذا
السبب أن يكون؟ لكن نية نيتشه العميقة ايجابية ،وخالقة فهو ال يرفض ويدمر إال ليبني .إن إنسان
األخالق التقليدية ،تلك األخالق التي يطيحها نيتشه بالضبط ،هو الذي يدمر للتدمير ،ولهذا السبب بالذات
يطيح نيتشه أخالقه ،لكن نيتشه من جهته ال يدمر أخالقا إال الستبدالها بأخرى" 1إذن لم يكن ازدراء
نيتشه لألخالق القديمة وللثقافة القائمة .من أجل الحط من قيمتها ،ولكن ألن لديه بديلا جديدا لها ،فهو
يبشر بأخالق جديدة وبثقافة جديدة ،تقوم كلها على إرادة للقوة بناءة وإثباتية .وكما يقوض نيتشه كل
األصنام التي تشكل الثقافة القديمة بقوة .فهو كذلك يبني هذه الثقافة الجديدة بعنف .ألن البناء يقتضي
إرادة قوية لكي يكون البناء قويا ،هذا البناء ال يمكن أن يقوم إال على أنقاض األبنية القديمة بعد تحطيمها
" .فمن اجل بناء معبد ،البد من هدم معبد آخر :هذه هي القاعدة -وليتفضل من شاء ليدلني على حالة
واحدة لم تطبق فيها هذه القاعدة ؟ 2إن المعبد الذي يريد نيتشه هدمه ،هو ذاك الذي بنته األفالطونية ليعبد
فيه مثال الخير ،وذاك الذي شيدته المسيحية لكي تطل منه على العالم اآلخر ،ونيتشه عندما يعمل على
تقويضه ،يقضي على العالم اآلخر وعلى اإلله الذي يسكنه ،ويعني القضاء على العالم اآلخر .تصفية
كل اآلمال التي تتجاوز العالم األرضي ،عالم الصيرورة والتغير.
إن عمل نيتشه هنا ،يتحدد في تجاوز للتصور األفالطوني والمسيحي ،الذي يتجاوز أو يتنكر
بدوره للعالم األرضي .لكن ماهي أهم مالمح هذا التصور الجديد الذي يبشر به نيتشه ،والذي ينبني على
قلب التصور األفالطوني ؟ " سنرى من جهة أخرى الملمح الجوهري للثقافة الجديدة التي يتطلع إليها
نيتشه ،إنما هي اإلبداع ،والعفوية ،والفن ،التي يشكل اللعب أو النشاط الطفولي ،أو الرقص أفضل
صورها ،والتي قد يكون رمزها ديونيزوس ،إله السكر والرقص ال سقراط إن ما يطالب به نيتشه إنما
هو ثقافة يستعيد الديونيزوسي ،المخنوق منذ اليونان الكالسيكية بيد األبولوني والسقراطية ،يستعيد فيها
مكانه بالضبط".3
إن البناء أو التصور الجديد الذي يقدمه نيتشه ،يتأسس على قاعدة جديدة صلبة ومتينة ،يكون
ديونيزوس هو الملهم الجديد لها ،وذلك عوض أبولون وسقراط ،فديونيزوس يمثل الطاقة المتحررة
الثائرة التي تخلق بعفوية عن طريق اللعب والرقص ،إنه يرمز إلى الحيوية والحركة ،التي تميز إرادة
الخلق القوية .في حين يرمز أبولون إلى الطاقة المكبوتة ،المنطوية على ذاتها التي حتى وإ ن انفجرت
تنفجر ضد ذاتها وهدف نيتشه هو بعث النشاط الديونيزوسي من جديد في اإلنسان .
1
.نفس المرجع ،ص -35 :
2
.أصل األخالق وفصلها ،مصدر سابق ،ش ،24 :ص -89 :
3
.أصل األخالق وفصلها ،مصدر سابق ،ش ، 24 :ص -89 :
41
من اجل أن يستعيد السيطرة من جديد ،ويتحرر بذلك من قبضة أبولون الخانقة إنه (نيتشه) بذلك
يحرر اإلنسان من عقدة الشعور بالذنب والخطيئة األصلية التي ألصقتها به المسيحية ،فغرائز اإلنسان
الحيوية ،التي تعمل المسيحية على كبتها هي مركز قوة هذا اإلنسان ،وأساس إرادة الخلق لديه .فإذا كان
أفالطون يوجه األنظار إلى تأمل عالم المثل ،وعلى غراره المسيح الذي بدوره يصرف الناس إلى اإلله
أي إلى األعلى ،فإن نيتشه أو زرادشت يتوجه بعد نزوله من أعلى الجبل إلى األرض أي إلى الناس ،ال
ليزود حملهم بأثقال أخرى .ولكن ليحررهم من ثقل األحمال األولى " .إياك أن تعطيهم شيئا ،واألجدر
بك أن تأخذ منهم ما تساعدهم على حمله ،ذلك أجدى لهم ،على أن تغنم بسهمك من هذا الخير ،وإ ذا كان
البد لك من العطاء فال تمنح الناس إال صدقة على أن يتقدموا إليك مستجدين أوال" .1
إن التحرر من ثقل المثل العليا ،ال يتم بالتخلص من هذه األحمال فقط .ولكن كذلك بتجاوز وضع
اإلنسان المستعد للحمل ،أي وضع الجمل ،وبتجاوز وتخطي اآلمال التي تتجاوز اإلنسان بعالم آخر إلى
اإلنسان المجاوز الذي يتخطى كل هذا اإلنسان المجاوز أو اإلنسان األسمى هم مبدع الثقافة الجديدة الذي
يبشر به نيتشه .واإلنسان األسمى ليس هو زرادشت ،الذي ينزل من الجبل إلى الناس ليكلمهم عن هذا
اإلنسان المجاوز .ولكنه من معدي اإلنسان األسمى والمبشرين به .فمن هو هذا اإلنسان األسمى؟ أما
اإلنسان المجاوز الذي يعلم أن اإلله قد مات ،أي الذي يعلم أن المثالية المتعالية قد بلغت غايتها فال يرى في
العالم اآلخر وفي المثل األعلى سوى انعكاس وهمي لألرض ،ويعيد إلى األرض كل ما اخذ عنها وانتزع
منها ،ويقاطع أحالم العالم اآلخر جميعها ويتجه صوب األرض باالندفاع نفسه الذي كانوا يحضون به
حتى اآلن عالم األحالم " .2إن اإلنسان األسمى ،هو من يواجه اآلمال واألحالم التي تتجاوز األرض
باالزدراء والسخرية .يتخذ من األرض مستقرا له ،بعد أن يعيد لها كل ما انتزع منها .إنه ابن هذه
األرض المخلص لها ،إنه العدو اللدود لكل مبدعي القيم التي تحتقر الحياة ،يقول نعم للحياة بدل ال.
المكتشف إلمكانات جديدة داخل اإلنسان والحياة ،ال خارجهما ،ينشأ اإلنسان األسمى في رحم اإلنسان
لكنه يتخطاه ،فهو دائما في تخطي لذاته " .إن كال من الكائنات أوجد من نفسه شيئا يفوقه ،وأنتم تريدون
أن تكونوا جزرا يصد الموجة الكبرى في مدها بل إنكم تؤثرون التقهقر إلى حالة الحيوان بدل اندفاعكم
للتفوق على اإلنسان ".3
اإلنسان األسمى هو هذه العاصفة أو الموجة الكبرى ،التي تسعى إلى تجاوز حدود بحيرة
اإلنسان الصغيرة ،لكن حدود هذه البحيرة لن تلبث أن تقع ،أمام بطش قوة هذه الموجة العظيمة ،ليس
اإلنسان األسمى هو الذي يتجاوز ذاته عن طريق تجاوز جسمه ،أي اعتبار هذا الجسد سجن للروح ،كما
فعلت األفالطونية والمسيحية .كما ال يعني تجاوز الذات االنصراف إلى شؤون الجسد وإ همال الروح".
1
.هكذا تكلم زرادشت ،مصدر سابق ،ص -31 :
2
.أويغن فنك ،فلسفة نيتشه ،ص -77 :
3
.هكذا تكلم زرادشت ،مصدر سابق ،ص -33 :
42
"وما أدعو اإلنسان ليتحول إلى شبح أو إلى نبات .لقد أتيتكم بنبأ اإلنسان المتفوق" . 1إن ذات اإلنسان
تتكون من روح وجسد ،وتجاوز هذه الذات ،ال يعني تجاوز أحد طرفيها أو تفضيل واحد على حساب
اآلخر .فالتكامل بين هذين الطرفين هو الذي يحقق التجاوز ،فاإلنسان األسمى روح ،لكنه روح وهذه
األرض ،واألرض هي جسمه "إنه من األرض كالمعنى من المبنى ،فلتتجه إرادتكم إلى جعل اإلنسان
المتفوق معنى لهذه األرض وروحا لها" 2يخلص اإلنسان األسمى الحياة من كل المزدرين لها ،وينسف كل
اآلمال واألحالم التي تتجاوزها ،كما يطهر النفوس من أدرانها التي تتمثل في الغرور والشفقة والرحمة…
إنه يقضي على اإلرادة السلبية التي تنفي الحياة بمواجهتها بعالم آخر ،وذلك باقتالع هذه البذرة
المغروسة في اإلنسان (بذرة العالم اآلخر ) وتطهيره منها "أين هو اللهب الذي يمتد إليكم ليطهركم؟ أين
هو الجنون الذي يجيب أن يستولي عليكم .
ها آنذا أنبئكم عن اإلنسان المتفوق
3
إن هو إال ذلك اللهب وذلك الجنون "
إن الثقافة الجديدة التي يبشر بها اإلنسان األسمى ،هي تلك التي تبقي على الحياة كما هي تلك
التي تدمرها بهدف بلوغ حياة أخرى أسمى .إنها ال ترفض او تنفي وإ نما تثبت ما هو قائم وتبنيه على
القوة إن قلب القيم أو قلب األفالطونية ،يعني في هذا السياق استبدال إرادة القوة واإلثبات .بإرادة النفي
والتدمير ،أو اإلرادة اإليجابية باإلرادة السلبية "بالنسبة لنيتشه ،إن ما يعطي األشياء واألفعال قيمتها إنما
هو إرادة اإلثبات ،إرادة قول نعم للحياة ،نعم للكائن ،إرادة الخلق وخلق الذات بالذات ،وبالطبع إن هذه
اإلرادة لديه هو ،هي التي تأخذ المقام األول" .4إرادة اإلثبات أو إرادة القوة ،هي اإلرادة التي تقبل على
الحياة بفيض من القوة والوفرة ،اإلرادة الطموحة للرقي واالقتدار والسامية إلى مزيد من القوة .والحياة
هي العالم الذي يناسب هذه اإلرادة ،لكي تتفجر داخله وتحقق تفوقها فيه .إن إرادة بهذه الحيوية وهذه
القوة ،ال يسعها إال أن تكون إرادة للخلق واإلبداع ،وأول شيء تخلقه أو تبدعه هو ذاتها انطالقا من ذاتها،
فهي توجه قوتها نحو ذاتها ،ال بهدف تدميرها ونفيها ،وإ نما بهدف خلقها وبنائها ،وبالتالي إثبات قدرتها
على الخلق وعلى االختالف .إن هذه اإلرادة البناءة ،يعارض بها نيتشه تلك اإلرادة االرتكاسية الخنوعة،
إرادة اإلنسان العبد التي تمثل األخالق والثقافة السائدتين "هكذا نرى زرادشت يستبدل خير األخالق
القديمة بصفة لإلرادة :إرادة الخلق ،إرادة االمتداد ،إرادة النمو ،إرادة المقدرة الذاتية ،وتطرح على
العكس كقيمة سلبية ،ألجل استبدال شر األخالق ،اإلرادة المعاكسة ،إرادة التدمير والتهاون والرضى
عن الذات ،والطمأنينة المسترخية ،التي تعيق كل إرادة تجديد " .5هذه اإلرادة الجديدة ،التي تسعى إلى
الخلق والنمو واالمتداد باإلضافة إلى المقدرة الذاتية ،هي التي ستتولى اآلن مهمة خلق القيم الجديدة ،وهذه
1
.نفس المصدر-
2
.نفس المصدر-
3
.نفس المصدر ،ص -35 :
4
.زرادشت نيتشه ،مرجع سابق ،ص -61 :
5
.نفس المرجع ،ص -72:
43
القيم الجديدة هي القيم التي تعد بظهور اإلنسان األسمى ،أو التي تمهد له الطريق للظهور ،فاإلرادة التي
تنبع منها هذه القيم هي نفسها إرادة اإلنسان األسمى "بديهي إذا أن إرادة اإلنسان األسمى ستكون تلك التي
سترفض بالعكس كل عالم خفي ،سوف تكون قيمها تلك التي ال تكفل أي ثنائية وال تكفلها أي مفارقة .إن
إرادته هي بشكل أساسي ،إرادة المثولية ،ومصدرها ونهايتها إنما هما العالم الدنيوي ".1
بما أن إرادة اإلنسان األسمى ،هي التي تخلق ذاتها بذاتها ،وال تعتمد على أي مصدر خارجي
تستعين به في خلق ذاتها ،فإنها ال تؤمن إال بذاتها ،وبالتالي فإن العالم الدنيوي سيكون هو غايتها
النهائية ،كما انه هو مصدرها األول .وذلك بخالف اإلرادة االرتكاسية التي تضع مصدرها في عالم آخر
،وتسعى أن يكون هذا المصدر هو منتهاها األبدي.
إن أب $$رز م $$ا يم $$يز اإلرادة الخالق $$ة .أي إرادة اإلنس $$ان األس $$مى هي :ق $$درتها على اإلثب $$ات وعلى
الفع $$ل ،فباإلثب $$ات تجع $$ل حض $$ور الع $$الم األرض $$ي أو الحي $$اة األرض $$ية حض $$ورا قوي $$ا ،فتلغي ب $$ذلك ك $$ل م $$ا
يضاده ،فال حقيقة غير الحقيقة العينية الثابتة الحضور وكل ما يتجاوزها ،فهو مجرد ه$$راء ال غ$ير .وه$$ذا
اإلثبات ال يقتصر على إثبات العالم الدنيوي فقط ،فهذا األخ$ير واق$ع محق$ق ،وس$يظل ك$ذلك ،وإ نم$ا يمت$د إلى
إثبات واقع الصيرورة الذي يتصف به هذا العالم .
أما الفعل فهو النشاط الحيوي ،الذي يؤكد فاعلية الحضور اإلنساني داخل هذا العالم ،كما أن
الفعل هو الذي يعبر عن قدرة اإلرادة ،وبه تثبت اإلرادة قوتها وفاعليتها .
"أحب من يبذل الوعود وهاجة ثم يتجاوز عمله وعده ،إن أمثاله هم الثائقون إلى الزوال". 2
إن القدرة المختفية ،التي تظل في مرحلة الكمون وال تخرج إلى الفعل ،ال تمت بأي صلة إلى اإلرادة
السامية ،فقوة هذه اإلرادة ال تقتصر على مجرد كونها نية
أو وعد بالعمل أو الفعل .بل تتعداهما إلى الفعل الثابت التحقق ،وهذا التحقق واإلثبات ،ال يتم
بالفعل في قوى وموضوعات أخرى ،عن طريق قهرها والسيطرة عليها أو تملكها .ولكن عن طريق
الفعل في الذات وهزم الذات بالذات ،وذلك بهدف إثبات وجودها ،كما يتم هذا الفعل بطريقة عفوية
وتلقائية " .إن إرادة القوة ليست من ميدان االمتالك L’avoirبل من ميدان الوجود ، L’êtreوإ رادة
القوة هي أن يريد المرء نفسه أعظم ،فليس باإلمكان أن تصبح إذا إرادة امتالك إال بصورة غير مباشرة ،
إذا حصل أن جعلها هذا االمتالك أعظم" 3إرادة القوة أو إرادة اإلنسان األسمى ،هي تلك اإلرادة التي ال
تكف عن التجاوز والعبور ،تتجاوز ذاتها ألنها تريدها أن تكون أعظم ،فتصبح بذلك قدرتها على التجاوز
1
.نفس المرجع ،ص -76 :
2
.هكذا تكلم زرادشت ،مصدر سابق ،ص -36 :
3
.زرادشت نيتشه ،مرجع سابق ،ص -78 :
44
هي التي تعطيها عظمتها ،إنها في عدو دائم نحو المستقبل من أجل معانقته ،فالمستقبل يحمل دائما األفضل
بالنسبة لهذه اإلرادة ،تتوق دائما إلى األفول والمغيب داخل عوالم جديدة ،لهذا فهي دائما في تجدد
مستمر ،فمعينها ال ينضب .إنها بذلك تصنع المستقبل وتضع أقدامها على أراضي جديدة لم تطأ من قبل
"إن عظمة اإلنسان قائمة على انه معبر وليس هدفا ،وما يستحب فيه هو انه سبيل وأفق غروب.
إنني أحب من ال غاية لهم في الحياة إال الزوال ،فهم يمرون إلى ما وراء الحياة ،أحب من عظم
احتقارهم ألنهم عظماء ،أحب المتعبدين يدفعهم الشوق إلى المروق كالسهم إلى الضفة الثانية " .1ال يجب
تصور أفق الغروب والزوال ،ما وراء الحياة ،الضفة الثانية ،على أنها غايات تتجاوز الحياة األرضية
يجب على اإلنسان بلوغها ،فكل هذه العبارات عبارة عن مجازات واستعارات ،يصور بها نيتشه
اإلنسان األسمى ،بالرغم من أن الصفات التي أسندها زرادشت أو نيتشه لإلنسان األسمى ،تبدو صفات
فوق بشرية ،إال أنها غير مستحيلة التحقق في المستقبل ،إذا كانت غير ممكنة في الحاضر ،فمادام
اإلله قد مات فإن األمل في ظهور اإلنسان األسمى سيتحقق ،ال سيما وان القيم واألخالق القديمة لم تعد
تصلح إال لالزدراء ،لذلك فالرغبة في قيم جديدة وبناءات جديدة ،هي ما سيأتي اإلنسان األسمى لتلبيتها
،ومن تم فإرادة ظهور هذا اإلنسان وتمهيد الطريق له هي المهمة الملقاة على عاتق زرادشت ،الذي
يعمل بدوره على نشرها بين جميع الناس" .فإذا كان زرادشت يفرح إذا لموت اهلل فذلك ألن هذا الواقع
يجعل بناءات جديدة ممكنة ،وألن هذا الحدث التاريخي يشكل مبدأ ميتافيزيائيا جديدا ،وألنه انطالقا من
ذلك يصبح كل شيء ،أي حتى األمل األكثر جنونا ،مسموحا به ويمكن أن تولد أخالق جديدة أسمى من
األخالق التقليدية بأشواط بحيث يتسنى لنا القول إنها فوبشرية surhumainكما يمكن أن يولد اإلنسان
األسمى ،الممتلئ بازدراء محق لإلنسان وأخالقه" . 2مادامت أخالق جديدة وقيم جديدة ستظهر بعد موت
اإلله ،كما ستصبح كل اآلمال التي كانت مستحيلة قابلة للتحقق .ومادام اإلنسان األسمى هو الذي سيعمل
على تحقيق هذه اآلمال .وخلق تلك القيم ،فإنه سيكون هو البديل الذي سيخلف اإلله بعد موته .فاإلنسان
األسمى ال يظهر إال بعد أن يموت اإلله ،وتموت معه كل القيم التي تفرض باسمه ،ويموت بذلك اإليمان
بها " .لقد مات جميع اآللهة ،فلن يعد لنا من أمل إال ظهور اإلنسان المتفوق ،فلتكن هذه إرادتنا عندما تبلغ
الشمس الهاجرة".3
إذا كان اإلنسان األسمى هو من سيتولى مهمة خلق القيم بعد موت اإلله .فما هي طبيعة هذه القيم
التي سيتولى خلقها؟ إنه سيخلق معرفة جديدة تنبع من إرادة اثباتية .تعرف لتحيى وتحيى من أجل أن
تعرف بخالف المعرفة التي تحركها إرادة ارتكاسية.
1
.هكذا تلك زرادشت ،مصدر سابق ،ص -34 :
2
.زرادشت نيتشه ،مرجع سابق ،ص -36-35 :
3
.هكذا تلكم زرادشت ،مصدر سابق ،ص -106 :
45
"أحب من يعيش ليتعلم ،ومن يتوق إلى المعرفة ليحيا الرجل المتفوق بعده ،فإن هذا ما يقصد
طالب المعرفة من زواله" .4إن معرفة أو عرفانا من هذا النوع ،يكون في ارتباط وثيق بالحياة وبالواقع
كما هما .فهذه المعرفة المرتبطة بهذا الشكل بالحياة ،من الضروري أن تكون ملمة بكل تقلبات الحياة
وبالصيرورة التي تخضع لها .إنها معرفة عملية هدفها هو السيطرة على الواقع وعلى الذات العارفة،
فهي ال تخلق واقعا آخر يتجاوز واقعها المادي" .يتعلق األمر إذا بمعرفة ال ترضي نفسها بتجريدات بل
تريد نفسها (إرادة خالقة) ملموسة موجهة نحو العمل ،أي ليست نحو البحث عن المفيد ،عن الرخاء الذي
هو بحث ينطلق من إرادة تسيطر عليها قوة ارتكاسية ترفض الجهد ،بل نحو السيطرة على الواقع وعلى
الذات". 5
باإلضافة إلى المعرفة ،يأتي دور خلق أخالق جديدة ،بعد تحطيم األخالق االرتكاسية القديمة،
فإذا كانت األخالق القديمة تستهدف الذات ،من أجل تدميرها ونفيها ،فإن هذه األخالق تستهدف الذات ،من
أجل السيطرة عليها ،وجعلها تخلق وتتجاوز نفسها بنفسها ،كل ذلك من أجل دفعها إلى مزيد من الرقي
واالقتدار ،فهذه الرغبة في الترقي والتجاوز هي أهم فضيلة يمكن أن يتحلى بها اإلنسان ".أحب من يحب
فضيلته ،فما الفضيلة إال الطموح إلى الزوال وإ ن هي إال السهم تنشبه أشواقه…
أحب من يجود بروحه فال يطلب جزاءا وال شكورا ،وال يسترد ،فهو يهب دائما وال يفكر في
االستبقاء على ذاته".3
إن هذه المعرفة واألخالق والقيم ،هي بعض مالمح الثقافة الجديدة التي يبشر بها نيتشه عن
طريق إنسانه األسمى ،وكلها تستهدف اإلنسان الفرد الذي يقيم داخل هذا العالم األرضي .إنها توجهه
نحو ذاته بهدف اكتشافها ،من أجل العثور على اإلرادة القوية الخالقة التي تحتويها هذه الذات ،وبالتالي
استخدام هذه اإلرادة في نحث ذات جديدة ،ال تؤمن إال بنفسها وبقدرتها على أن تكون فاعلة .وتتحقق
فاعليتها بإدراكها لهذا العالم الذي تسكنه في غناه وفي تنوعه ،وتمارس فاعليتها كذلك ببحثها عن عوالم
جديدة لم يتم اكتشافها من قبل "نحن نروم ونستهدف أرضا بكرا ال أحد وضع حدودها ،إنه ما وراء كل
األراضي والخبايا المعروفة إلى حدود اآلن ،عالم يفيض بأشياء جميلة ،غريبة ،مرعبة ،إشكالية .وهناك
كثير من األراضي البكر التي يجب اكتشافها .لقد حان الوقت أيها الفالسفة فلترضعوا مدادكم " . 4ال
يجب أن يفهم من اإلنسان األسمى ،كائن حي إنساني من لحم ودم ،بل يعبر اإلنسان األسمى ،عن
طريقة جديدة سامية في التفكير ،وعن نموذج أخالقي وفلسفي جديد" .ال نعتقد أن إنسان نيتشه األسمى
مزاد معلى :هو يختلف عن اإلنسان ،وعن األنا من حيث الطبيعة ،يتحدد اإلنسان األسمى بطريقة
جديدة في الشعور :إنه ذات مختلفة عن اإلنسان ،نموذج غير النموذج اإلنساني .طرقة جديدة في
4
.نفس المصدر ،ص -35 :
5
.زرادشت نيتشه ،مرجع سابق ،ص -80 :
3
.هكذا تكلم زرادشت ،مصدر سابق ،ص -36 :
4
نيتشه ،اورده محمد اندلسي في الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد ،ص -151 :
46
التفكير ،محموالت أخرى غير اإللهي ،ألن اإللهي هو أيضا طريقة في حفظ اإلنسان وحفظ ما هو
جوهري في اهلل ،اهلل كمسند .طريقة جديدة في التقويم ،ليس تغييرا في القيم ،وليس تحويرا مجردا أو قبليا
1
ديالكتيكيا ،بل تغيير وقلب في العنصر الذي تشتق منه قيمة القيم » ،تقويم على أساس مختلف « "
خاتمة
تتميز فلسفة " عموما ،بأنها محاولة إلعادة تقيم كل القيم وقلبها ،بهدف تأسيس شروط إمكانية إنسان
جديد ،هو اإلنسان االسمي " وذلك من خالل اإلشراف على التربية .وقد تعرض " نيتشه " في كتابات كثير
لموضوع التربية ،إذا اعتبر العملية التعليمية ،هي عملية تحرير روح وعقل اإلنسان من جميع القيود التي
تكبلها ،ومنحه الفرصة لتحقيق ذاته وطموحاته وأحالمه...
قد اقترح " نيتشه " نموذجا تربويا جديدا كل الجدة ،عكس ما تقترحه التربية التقليدية ،بقيمه22ا ومبادئه22ا
2ة
2توعب دالل2
السلبية .ولهذا من الضروري أن نفهم المعنى الذي يعطيه " نيتشه " للقيم التقليدية ،حتى نس2
1
.نيتشه والفلسفة ،مرجع سابق ،ص -210 :
47
إعادة تقييمه للقيم وقلبها .وهذا ما تطرقنا له في " الباب األول .المعنون ب " المربي " ،حيث خلص22نا من
2ه ،من
خالله إلى األهمية التي يولها " نيتشه " للتربية ،باعتبارها ضرورية لكي يصير اإلنسان مدركا لذات2
خالل توجيه المربي الذي يعتبره " نيتشه " شر لا بدمنه .وهكذا اتبعنا للنهج الفلسفي النيتشوي ،المتمثل في
النقد أو بتعبير أخر الهدم والبناء ،لقد اعتمد " نيتشه " فلسفة المطرقة ،هاته التي لم يصمد في وجهها شئ،
حيث طالب الدين واألخالق والعلم والفلسفة والميتافيزيقيا الفن وحتى السياسة ,محطما الصنمية ،التصنع،
والتقاليد التي غلفت اإلنسان ،حتى يالمس أعماق اإلنسان كإنسان بطبيعته بحبه وخيره ،بفرحه وحزنه ،..
ويحطم في دواخله سجن الحرية ،ويحرر الحياة من براثين الموت المتمثل في النظام التربوي التقلي22دي،
النافي الحياة ،والكاظم أنفاس الحرية واإلبداع والخلق وكنموذج لهذا النظام التربوي الفاشل والم22ريض،
الذي سعا " نيتشه " إلى تهديمه وضربه من األساس ،هناك النموذج السقراطي ،األفالطوني في التربي22ة،
ومن نتائج هذا النموذج التربوي ،خلق إنسان عليل ،فاشل ،مشوه ،مصاب في نفسه وجسمه ،متخ2اذل عن
2ديدة
2رباته الش2
2رى من ض2
2لم هي األخ2
الحياة .وكذلك نموذج الكنيسة وطاقمها الكهنوتي ،حيث لم تس2
المزلزلة ،التي حطمت كل أغالل التي سنتها ،وكبلت بها اإلنسان والحياة .ثم هن2اك نم2وذج المؤسس2ة
التعليمية والثقافة السائدة ،التي يعتبرها ثقافة مزيفة ،ثقافة الموت ،تعمل تشويه وعي اإلنسان ،وإلغاء ذاته،
معتبرا هذه المؤسسات ليست سوى مؤسسات تمتثل ألهداف الدولة ،إنها الجهاز الرسمي ال22ذي يرض22ع
طالبه المعتقدات اإليديولوجية .
2ا.
بعد أن وظحنا موقف " نيتشه " من هذا هذه النماذج التربوية الفاشلة والتي عمل على تهديمها وتجاوزه2
2د
2ربي العني2
تطرقنا في فصل آخر إلى نموذج المربي المثبت للحياة ،المتمثل في نموذج " زرداشت " الم2
2د
2ربي المرش2
والقاسي ،الذي ينحت الصخر يهدمه ،ليترك الحرية للتمثال الذي سيخرج من الحجر ،والم2
والموجة ،القريب ،المحفز بإبداعيته الفريدة ،الفنان المبدع ،الذي يمثل اإلنسان أكبر قضية في حياته ،فهو
2ق كمعلم
2ر بح2
2ف .حيث تتم ظه2
نموذج اإلنسان النبيل مبدع القيم وخالقها ،نقيض لمثيله التقليدي الزائ2
يمارس التعليم ،بعلم " اإلنسان األسمى " ،وبعيد االعتبار للجسد ككل ،الذي همش في مسار العمل التربوي
الذي اهتم بالعقل أو (الروح ) علما أن العقل السليم في الجسم السليم .
فزرادشت كان هو رسول البشارة السارة في إبداعات نيتشه ،رسول الفرح والحبور ،ج22اء لكي يس22اعد
اإلنسان في العودة إلى ذاته ويراجع الشرف المفقود للبشر ،فكان مربيا بحق لرفاق22ه .س22اعيا من وراء
تعليماته ومقرراته إلى خلق " اإلنسان األسمى"،واإلنسان األسمى في فلسفة " نيتشه " ،ليس فردا واح22دا ,
2ة،
2ة هادف2
2ل تربي2
بل الجموع أفراد ،و لماال اإلنسانية ككل ،وهذا اإلنسان ال يمكن أن نصل إليه إال بفع2
وتخطيط دقيق وجيد ،ونفس طويل وعمل دءوب ومتواصل .
48
2ة من
2ل تلقين لمجموع2
2الحين ،مقاب2
2دين ص2
هكذا فالتربية عند " نيتشه " لم يكن هدفنا خلق أتباع ومري2
المهارات والمعار يف ،فمفهومه للتربية جديد كليا ،حيث يندرج ضمن تفده للتربية المؤسس22ة ،ويالح22ظ
دارس فلسفة التربية الحديثة ،تجاهلها الكبير للمنظور التربوي المتضمن في فلسفة " نيتشه " نظ22را لم22ا
تنطوي عليه منظومة " نيتشه " التربوية من مبادئ وتعاليم مختلفة عن النظام التربوي التقليدي ،بل تشكل
تهديدات لهذا األخير ،إذا تحت منظومة التربوية على التمرد والحرية ،من أجل الخلق وإلبداع،على تجاوز
األستاذ ،أو نقل إعطاء األهمية للمتعلم على المعلم وجعل العملية التربوية في يد المتعلم ،ليبقى دور المعلم
هو التوجيه واإلرشاد ،وليس ذلك العالمة ألموسعي ،المالك للمعرفة والسلطة .
وهذه التربية التي يسعى " نتشه " إلى تكريسها ،من الصعب ترسيخها ،إذا أن الم22ربي /الم22درس ،من
2د
الصعب عليه تأصيل سمات وقدرات وطرق بديلة في التفكير و النقد لدى تالميذه ،إن لم يكن هو نفسه ق2
مر في رحلة التفتيش هذه ،حيث أن عملية تطور والتغير لدى المعلم /المربي تبدأ في مراح22ل مس22بقة،
2ة
2ك القائم2
ويجد أن تلقى لها صدى في كليات التربية ،بحيث أن تكون عملية تأهيل المدرسين مغايرة لتل2
2درات
2مات والق2
اليوم .فمن وظيفة الكليات حسب رؤية " نيتشه " لدور المؤسسات التعليمية ،تطوير الس2
الجديدة المتفردة والخاصة ،في كل مدرس /مربي ،وليس تلقين العلوم والمعرفة واألساليب التعليمية فقط
.فمتى إذن سنستطيع التفريق بين التربية الحقيقية ،وما يشبه التربية؟ومتى سنعمل على إزاحة العقبات بين
المدرسة وبين المجتمع والحياة ؟ بل متى سنتخلص من انكماشنا المرضي ونفهم بأن المستقبل أكثر أهمية
من الماضي ؟
هكذانخلص إلى أن " نيتشه " ،فعال قد وضع يده على داء اإلنسان الحديث ،وشخصه بدقة ،وذلك من خالل
2ول
2ير ،ولن نق2
إنتقادته الالذعة ،واقتراحاته الجريئة ،التي قوبلت بالرفض والصد ،بل وبالتهميش والتحق2
مثل ما قله بعض الظرفاء في حق فلسفته أن فيها مثلما هو األمر في اسمه مكتوبا بالالتيني22ة،الكث22ير من
األحرف فيه زائدة ،ولن نقول أيضا في حقها ما قاله " يوسف كرم " أن " نيتشه " لم يأتي بشئ جدي22د من
1
الوجهة الفلسفية ،وكل الجديد عنده ،الضجيج الذي يقال له أدب .
ففلسفة " نيتشه " تبقى رغم ما قيل ،جديرة باالحترام والتقدير ،وجدير أيضا بأن نق22رأ ،لنس22بر أغ22وار
عبقريته الفذة ،وحتى النتمادى في تمجيد فلسفة " نيتشه " ،سنقول إننا ال يجب أن نسلم بكل ما فيه لئال نسلم
بباطله ،وال تطرح كل ما فيه لئال يفوتنا حقه.
1
يوسف كرم :تاريخ الفلسفة الحديثة .دار المعارف ،مصر ،الطبعة 1969 ، 5ص412
49
نصوص مختارة
بما أن التكوين الذي ينكب عليه المرء وحده ،أو ضمن جمعية أخوية ،يتعمم ،فإننا نستطيع تقريبا االستغناء
عن األستاذ في صيغته المعتادة اليوم .األصدقاء المولعون بالمعرفة ،وال ذين يري دون جميع ا تمث ل معرف ة
ما ،يجدون في هذا القرن الذي هو قرن الكتب طريقا أقصر وأشد طبيعية من "المدرسة" و"األستاذ".
50
ال يجب للمفكر أن يتحدث إال عن تربية نفسه بنفسه .تربية الشباب من طرف اآلخ رين هي إم ا تجرب ة يتم
القيام بها على شخص مجهول ،ال يمكن معرفته ،وإما تسوية للمبادئ المخصصة المؤلفة الشخص الجديد،
أيا يكن ،مع العادات والتقليد السائدة ،إذن فهي في كلتا الحالتين شيء
ال يليق بالمفكر ،إنها مهمة اآلب اء والمعلمين ال ذين س ماهم أح د الجري ئين في ص دقة أع داءنا الطبيع يين-.
ويأتي يوم نكتشف فيه نفسنا ،يوم يكون قد مر وقت طويل على تكوننا ،حسب رأي الناس ،حينما تبدأ مهمة
المفكر ،أما اآلن فقد حان أوان االستنجاد به -ليس بوصفة مربيا ،بل كرجل ربي نفسه وأورثه ذلك تجربة.
ينبغي أن يكون هناك أقل عدد ممكن من األشخاص بين العقول المنتجة والعقول المتعطشة والقابل ة للت أثر.
ألن الوسطاء يزيفون ،بشكل شبه تلقائي ،الغداء الذي ينقونه ثم يطالبون ألنفسهم ،كتعويض عن وس اطتهم،
بكثير من األشياء أخرى .إننا سننظر إلى األستاذة إذن ،مهما يكن األمر ،على انه شر ال بد منه ،على غرام
الت اجر ،كش ر يجب جعل ه أض أل م ا يمكن -.إن ك ان الس بب ال رئيس لب ؤس ش روط المعيش ة الحالي ة في
ألمانيا،ربما ،هو كون الكثير من الناس يعيشون فيها من ممارسة التجارة ،ويريدون أن يكون عيش هم منه ا
رغدا(بكونهم يس عون إلى تخفيض األثمن ة ال تي يؤدونه ا للمنتج م ا أمكنهم ورف ع ثمن ال بيع للمس تهلك م ا
أمكنهم ،وذلك لإلفادة من اكبر خسارة تلحق هذا وذاك) ،فإنه يمكن أن ن رى بك ل تأكي د أن الس بب ال رئيس
لفقرنا الثقافي هو ذلك العدد الضخم من األساتذة :وإنه سبب نعرفه قليال وبشكل ردي.
*ف .نيتشه :إنسان مفرط في إنسانيته ،ت .محمد الناجي ،أفريقيا الشرق .2001 ،ج ..II
5
51
<< لقد فقد التعليم العالي في ألمانيا ،فبي مجلة ،ما هو أساسي :الهدف ،وفقد ك ذلك الوس يلة لبل وغ ه ذا
الهدف .أن تكون التربي ة العام ة غاي ة في ذاته ا – وليس " ال رايخ" – أن يك ون الم ربي ض روريا لهات ه
الغاية ( وليس استناد التعليم الثانوي أو الباحث الجامعي) ،هذا ما نسيه المسؤولون ...م ا ينقص هم مرب ون
مرب ون هم أنفس هم ،هي عق ول متفوق ة ومتم يزة ،تثبت قيمته ا وإمكانياته ا في ك ل الظ روف بكلماته ا
وبصمتها ،عقول تكون ثقافات حقيقية حية ،ناضجة وشهية – وليس العلماء األفظاظ الذين توفرهم الجامعة
الثانوية للشباب مثل " مرضعات متفوقات" .المربون منع دمو إذا م ا اس تثنينا اس تثناءات االس تثناءات :إن
الشرط األولى لكل تربية هو الذي ينعدم إذن؛ من ثمة انحطاط الثقافة األلمانية – ص ديقي المبج ل ،يعق وب
بوركهات ،من بازل ،واحد من هاته االستثناءات النادرة ،إن بازل مدينة له بكونها تحتل الرتبة األولى في
دراسة اآلداب القديمة – وفي ال" إنسانية" .في الواق ع ،إن م ا يحص ل علي ه التعليم األلم اني ال ذي يس مى
" عاليا" هو ترويض عنيف يمكن ،في أقل وقت ممكن ،من جعل العديد من الشباب صالحين لالس تعمال –
صالحين لالستغالل – في خدم ة الدول ة " .تعليم ع ال" وتع دد ال يحص ى ،ه ذا تن اقض بين في المب دأ .ال
يخصص التعليم العالي إال لالس تثناءات .يجب أ ،يك ون الم رء موهوب ا كي يطمح إلى مث ل ه ذا االمتي از
السامي جدا .ال يمكن أبدا أن تكون كل األشياء العظيم ة والجميل ة من األمالك العام ة est paucorum :
. 1: hominum pulchrumما الذي يحدد انحطاط الثقافة األلمانية إذن؟ إنه ك ون " التعليم الع الي" لم
يعد امتياز" – إنها النزعة الديمقراطية في الثقافة " العامة" التي أصبحت " شائعة" وعامية ...ال ننس ى أن
اإلمتيازات التي يمنحها الجيش ترغم الناس على التردد على الم دارس العلي ا ب إفراط ،،ت رغمهم إذن على
تخريبها ...في ألمانيا الحالية ،لم يعد هناك أحد حرا في إعطاء أبنائه تربية رقيقة ،ك ل " مدارس نا العلي ا" ،
دون استثناء ،مضبوطة على سطحية مريبة جدا ،في هيئته ا التدريس ية ،في برامجن ا ،في مثله ا ال تربوي.
وفي كل مكان تسود عجلة غير الئقة كما لو أن شيئا ما قد ضاع نهائيا ،في الوقت الذي ال يكون في ه ش اب
في الثالثة والعشرين من عمره قد فرغ منها وال يكون لدي ه ج واب ج اهز عن الس ؤال " الرئيس ي" :أي ة
مهنة تختار؟ ...إن طبق ة متفوق ة من الن اس ،ولتغف روا لي ذل ك ،ال تحب س ماع الح ديث عن " المهن"،
ألنها تفتخر بأن لها موهبة ...إن لديها متسعا من الوقت ،إنها ال تتعجل ،ال تفك ر في أن " تف رغ منه ا" –
في الثالثين من العمر ،يكون المرء ،من منظور الثقافة المتفوقة ،ال ي زال مبت دأ ،طفال .ثانوياتن ا المكتظ ة
وأساتذتها المرهقون والمخبولون فضيحة حق ة ،لل دفاع عن حال ة األش ياء هات ه ،مثلم ا فعل ه ح ديثا أس اتذة
هايدلبرغ ،يمكن أن تكون للناس دوافع لكنهم لن يستطيعوا أن يجدوا حججا.
6
حتى أظل وفيا لمزاجي ،ال ذي ه و إيج ابي في األس اس وال يتع اطى للنق د والمنازع ة إال بش كل غ ير
مباشر وعلى مضض ،فإنني أسارع في عرض المهمات الثالث التي ال بد لها من م ربين .يجب أن نتعلم
52
أن نرى ،يجب أن نتعلم أن نفكر ،يجب أن نتعلم أن نتكلم وأن نكتب :الهدف من هاته المواد العلمية الثالث
هي ثقافة رقيقة .أن نتعلم أن نرى :أن نعود العين على الهدوء ،على الصبر على ترك األش ياء ت أتي إليه ا،
على تعليق الحكم ،أن نتعلم اإلحاطة بالجزء ونفهمه في إطاره الكلي .هذه هي المدرسة التمهيدية األولي ة
لحياة العقل :إال نستجيب فورا ألي إغراء بل نعرف كيف نستغل الغرائز التي تكبح وتع زل .إن نتعلم أن
نرى هو ،بالمعنى الذي أفهمه ،أن نمتلك تقريبا ما تسميه اللغة غير الفلسفية قوة اإلرادة :األساسي هن ا ه و
أن ال نريد فعل شيء ما ،أن نعرف كيف نعلق قرارنا .يأتي كل موقف مض اد للروحاني ة ،ك ل فظاظ ة من
العجز عن مقاومة إغراء ما :يجد الناس أنفسهم مرغمين على االستجابة ،يخضعون لك ل مح رض نفس ي.
في كل كثير من الحاالت يكون مثل هذا اإلرغام عالمة مرض ،عالمة انحطاط ،أمارة أنهاك.
ليس كل ما تعرفه الفظاظ ة غ ير الفلس فية تقريب ا بكلم ة " نقيص ة" س وى ذل ك العج ز الفزيول وجي عن
االستجابة .النتيجة العلمية لتربية العين هذه :فيما بعد ،حيث سيكون على المرء أن يتعلم شيئا ما سيكون قد
صار بطيئا ،حذرا صموتا .سيدع في بادئ األمر كل ما هو مجهول وجديد يقترب به دوء مع اد ،ثم ي نزع
منه اليد بحذر تام .الميل مع كل ريح ،السجود أمام كل حدث تافه بمجاملة مفرط ة ،المس ارع في االرتم اء
على اآلخرين – و على كل ما هو آخر – باختصار ،الموضوعية العص رية" المش هورة تص در عن أش د
األذواق فسادا ،إنها عكس التميز بامتياز*
7
أن نتعلم أن نفكر :ليست لمدارسنا أدنى فطرة عما يعني ه ذل ك .ح تى في الجامع ات ،ب ل وح تى ض من
أعلم الفالسفة ،يصير المنطق ،بما هو نظرية وممارسة وتقنية نحو اإلفالس .لنقرأ بعض الكتب األلمانية:
لقد نسي فيها تماما أنه لكي يتم التفك ير فال ب د من تقني ة ،من برن امج ،من إرادة التحكم ،إن ه ال ب د من تعلم
التفكير مثلما يتعلم الرقص ،كنوع خاص من الرقص....من من األلمان يعرف ،عن تجربة ،تلك القشعريرة
الخفيفة ال تي تنش رها مش ية العق ل المجنح ة في ك ل العض الت؟ الباله ة العني دة في حرك ات العق ل ،الي د
المتثاقلة ،ه ذا ش يء ألم اني بمك ان بحيث ال يف رق الن اس في الخ ارج بين ه وبين العبقري ة األلماني ة .ليس
لأللماني مهارة فيما يخص الفروق* ...إن كون األلمان قد استطاعوا تحمل فالسفتهم ،وخاصة أشد كسيحي
الفكر دمامة على اإلطالق ،كانط العظيم ،إن ذلك يعطي فك رة ص ريحة عن الرق ة األلماني ة – ال يمكن ا أن
نستعيد الرقص ،بكل أشكاله ،من تربية رقيقة :أن يعرف المرء كيف يرقص برجليه ،باألفكار و بالكلم ات.
أال يزال هناك داع ألن نقول بأنه على الم رء أيض ا أن يع رف كي ف بقلم ه -بأن ه علي ه أن يتعلم أن يكتب؟
لكن ،عند هذا الحد ،سأكون قد صرت معمى تماما بالنسبة لبعض األلمان>>....
*ف .نيتشه :أفول األصنام ،ت .محمد الناجي وحسان بورقية ،أفريقيا الشرق.1996 ،
53
54
مقتطف من مجلة الجدل
55
56
57
58
59
60
61
62
63
64
65
66
67
68
* مجلة الجدل .العدد األول – السنة األولى -ربيع .1985
69
ملخص البحث
إن موضوع دراستنا ،كان هو محاولة إثارة إشكالية التربية من خالل الفلسفة الينتشوية ،والتطرق
المنظور التربوي المتضمن في فلسفته ،بناء على الحيف الذي تلقته فلسفته في التربي22ة من تهميش
2ا
2ا دقيق2
2قا تربوي2
وتجاهل,خاصة في فلسفة التربية الحديثة .حقا ال يكمن أن نقول أن ل"نيتشه" نس2
2تربوي ،ونحن
2ال ال2
ومتكامال .لكن ال يمكن أن ننكر إسهاماته العميقة والجريئة والجديدة في المج2
2ف
نعلم أن التعليم والتربية هما الطريق الحقيقي لكل تقدم ورقي وازدهار ،فمصير المجتمعات تتوق2
بمعنى من المعاني على الكيفية التي ستعد وسيؤهل بها أبناءها .وخاص22ة من الناحي22ة التربوي22ة
والتعليمية.
ويحدد" نيتشه" للتربية دورين كبيرين؛ في الدور األول تكون مختصة بتخليص اإلنسان من األوهام
التي تتحكم فيه ،وتكبل حريته كانسان وتثقل كاهله ،وتتخد شكل نقد وشك عنيف ،وتهديم وتج22اوز
2ق،
2اة ،إرادة الخل2
تخلي .أما الدور الثاني فيتجلى في إحياء إرادة اإلثبات لدى اإلنسان ،وحب الحي2
إرادة االمتداد ،إرادة النمو ،إرادة المقدرة الذاتية ....مقترحا بهذا نموذجا تربويا جريئا وجديدا ك22ل
الجدة ،عكس ما تقترحه التربية التقليدية ،بقيمها ومبادئها السلبية.
2وي،
2تربوي النيتش2
2وذج ال2
ويتجلى الهدف من إختيارنا لهذا البحث ،الوقوف على قرب على النم2
لنالمس جانبه االيجابي الفعال حتى نستثمره ونستفيد منه في مسيرتنا العملية ،إلى جانب" بيداغوجيا
الكفايات" ،إذا تتقاطع دعاوى" نيتشه " التربوية في جانب منها مع بيداغوجيا الكفايات".
2هلها ،من خالل
2ة ،ولكن مس2
حيث نجد"نيتشه" يعطي دورا جديدا للمربي ،فهو لم يعد مالكا للمعرف2
مساعدته للمتعلمين على التعلم الذاتي عندما يقول" :من الواجب علينا تجنب أن نصبح المثال بالنسبة
لشخص آخر ،ألننا إذا أصبحنا كذلك فسنحول دون تكوينه من خالل قواه الخاصة ومثاله الخ22اص"
2نمية
2ا يحطم ص2
2ك ،"...كم2
فهو يعطي أهمية كبرى للمتعلم في بناء تعلماته ،إذا يقول له" كن ذات2
2روج
األستاذ باعتباره مهيمنا على المعرفة بحثه المتعلمين على التمرد على أساتذتهم ،من أجل الخ2
عن التبعية التي تخنق ،الخلق واإلبداع .فنجده يصرح" ،ليست ثمة من فكرة غريبة مثل فكرة تكوين
2د،
2ان جدي2
األتباع" ،إذ سعى من خالل هذا -وسبق أن تطرقنا إليه -إلى تأسيس شروط إمكان إنس2
إنسان أسمى في أفكاره طموحاته تطلعاته ،أحالمه ،أهدافه ،...ضدا على نموذج التربوي الفاش22ل؛
الضعيف ،المتهاون الذي تكرسه الثقافة التقليدية .هذا ،وفيما يخص الفرضيات التي انطلقنا منه22ا،
وحاولنا التطرق إليها في بحثنا لهذا الموضوع ،كانت هي محاولة اإلجابة عن اإلشكاالت التالية:
70
-أين تتجلى اهمية مشروع"نيتشه" التربوي؟
-ما هو البديل التربوي الذي جاء به ،ضدا على التربية التقليدية؟-
-ما هو الهدف من التربية بالمنظور النيتشوي؟
ومن النتائج التي توصلنا إليها في هذا البحث حول موضوع التربية عند"نيتشه" ،هو كون المشروع
التربوي النيتشوي هو مشروع تنويري ،يهدف إلى تحطيم الجمود الفكري ،وبث روح النقد والشك،
وتنمية روح المبادرة ة واإلبداع والخلق لدى المتعلم ،من أجل التنظير لمجتمع من المتفوقين وبالتالي
كسب رهان التقدم واالزدهار.
وقد ارتبطت دراستنا هاته ارتباطا وثيقا بمؤلفات"نيتشه" حيث اطلعنا على معظم كتاباته ،من اجل الخروج
برؤية عامة حول موضوع التربية كما يتمثله "نيتشه" ونظرا للبس الذي يحيط بمنظور "نيتش22ه" للتربي22ة
ارتأينا توظيف المنهج البنيوي ،من اجل الكشف عن عناصر البنية الفكري22ة ل"نيتش22ه" من خالل بعض
مؤلفاته.
71
* المفاهيم الرئيسية في البحث
المفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاهيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم
-اإلنسان األسمى -زراديشت
-الجسد -سقراط
-الجمل -الكنيسة /الكاهن
-األسد -المؤسسة التعليمية
-الطفل /الطفولة -الثقافة السائدة
-الرقص -إرادة النفي
-اللعب -الشعور بالذنب
-الضحك -العقاب
-الفرح -الخطيئة
-الخلق -الضعف
-البناء -القيم السلبية
-الهدم -القيم االيجابية
-التمرد -األلواح القديمة
-الحرية -األلواح الجديدة
-البطولة -إرادة الحياة
-النسيان -إرادة اإلثبات
72
البيبلوغرافيا
:المصادر
Nietzsche (f) :Ainsiparlait Zarathoustra . trad . maurice de -
gandillge ,1971
-نيتشه (ف) :هكذا تكلم زرادشت ،ترجمة ،فلكس فارس ،بيروت ،دار القلم( ،بدور
التاريخ )
-نيتشه (ف) :أقول األصنام ،ترجمة ،حسان برقية ومحمد الناجي ،أفريقيا الش22رق،
1996
-نيتشه :إنسان مفرط في إنسانيته ،ترجمة ،محمد الناجي ،أفريقيا الشرق 2001 ،ج1
و2
-نيتشه :جينيا لوجيا األخالق ،ترجمة ،محمد الناجي ،بيروت ،أفريقيا الشرق ،س22نة
. 2006
-نيتشه :هو ذا اإلنسان ،ترجمة ،مجاهد عبدا لمنعم مجاهد ،بيروت ،دار التنوير ،سنة
. 2005
-نيتشه :عدو المسيح ،ترجمة ،جورج ميخائيل ديب ،دار الحوار للنش22ر والتوزي22ع
. 2005
2هيل القش،
2ة ،س2
2ريقي ،ترجم2
2اوي اإلغ2
2ر المأس2
2فة في العص2
2ه :الفلس2
-نيتش2
بيروت،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ،والتوزيع ،سنة . 2005
-المراجع :
Christophe Baroni : NIETZSCHE Educateur/ Buchet/ chastel. -
.Paris. 1961
-فؤاد زكريا :نيتشه ،دار المعارف بمصر الطبيعية 2
73
-دو لوز(جيل) :نيتشه والفلسفة ،ترجمة ،أسامة الحاج ،المؤسسة الجامعية للدراسات
والنشر والتوزيع ،سنة 2001
2ر
2ات والنش2
-دو لوز(جيل) :نيتشه،ترجمة ،أسامة الحاج ،المؤسسة الجامعية للدراس2
والتوزيع ،سنة 1998
2ة
2ة الجامعي2
2اج،المؤسس2
-بيار هيبر سوفورين :زرادشت نيتشه ،ترجمة ،أسامة الح2
للدراسات,والنشر والتوزيع
-هنري ليشتانير جر :نتش ،ترجمة ،خليل الهنداو ،دار بيروت للطباعة والنشر سنة
1954
-محمد األندلسي :الفلسفة من منطبق العقل إلى منطق الجسد ،سلسلة دراسات وأبحاث
11 -جامعة موالي إسماعيل ،كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،مكناس2003 ،
-محمد بوب كري :التربية والحرية ،أفرقيا الشرق ،سنة . 2000
-يوحنا قمير :نيتشه نبني المتفوق ،بيروت ،منشورات دار النشر المشرق.1986 ،
:مقاالت
" -نيتشه المربي " ،مجلة الجدل ،عدد ، 1السنة األولى ،ربيع 1985
" -هل المربون الكبار أباء بمعنى الكلمة " ،مجلة علوم التربية ،عدد ،14سنة 1998
74
فهرس الموضاعات
39
75
IIاإلنسان األسمى نموذج الجديد الذي يبشر به نيتشه.
46 -الخاتمة.
72 -البيبليوغرافيا.
76
77