Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 606

‫رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن‬

‫الكريم من كلمات الشيخ األكبر‬


‫محيي الدين محمد ابن العربي الطائي الحاتمي‬

‫الجزء الثالث‬

‫جمع وتأليف‬
‫أ‪ .‬محمود محمود الغراب‬

‫وعلى هامشه إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‬


‫للشيخ األكبر‬
‫محيي الدين محمد ابن العربي الطائي الحاتمي‬

‫‪1‬‬
.

2
‫الجزء الثالث‬
‫( ‪ ) 18‬سورة الكهف مكيّة‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬ ‫س ِم ه ِ‬ ‫ِب ْ‬
‫تاب َولَ ْم يَجْ عَ ْل لَهُ ِع َوجا ) ‪( 1‬‬ ‫ّلِل الهذِي أ َ ْن َز َل عَلى َ‬
‫ع ْب ِد ِه ا ْل ِك َ‬ ‫ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫القرآن له االعتدال فلم يكن فيه عوج وال تحريف ‪ ،‬ولما كان له االعتدال الذي هو حفظ بقاء‬
‫الوجود على الموجود كان له الديمومية والبقاء ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ‪ ( 18 ) :‬اآليات ‪ 2‬إلى ‪] 6‬‬


‫سنا‬‫ت أ َ هن لَ ُه ْم أَجْ را َح َ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ون ال ه‬ ‫ين الهذ َ‬
‫ِين يَ ْع َملُ َ‬ ‫ش َر ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫شدِيدا ِم ْن لَ ُد ْنهُ َويُبَ ِ ّ‬ ‫قَ ِيّما ِليُ ْنذ َِر بَأْسا َ‬
‫ّللاُ َولَدا ( ‪ ) 4‬ما لَ ُه ْم ِب ِه ِم ْن ِع ْل ٍم َوال‬ ‫ِين قالُوا ات ه َخذَ ه‬ ‫ين فِي ِه أَبَدا ( ‪َ ) 3‬ويُ ْنذ َِر الهذ َ‬ ‫( ‪ ) 2‬ما ِكثِ َ‬
‫سكَ عَلى‬ ‫ون ِإاله َكذِبا ( ‪ ) 5‬فَلَعَلهكَ ِ‬
‫باخ ٌع نَ ْف َ‬ ‫ج ِم ْن أ َ ْفوا ِه ِه ْم ِإ ْن يَقُولُ َ‬ ‫ِآلبا ِئ ِه ْم َكبُ َرتْ َك ِل َمة ت َ ْخ ُر ُ‬
‫سفا ) ‪( 6‬‬ ‫ث أَ َ‬ ‫آثار ِه ْم إِ ْن لَ ْم يُ ْؤ ِمنُوا بِهذَا ا ْل َحدِي ِ‬ ‫ِ‬
‫ّللا من الرسل عليهم الصالة والسالم‬ ‫ما أحد أكشف لألمور وأشهد للحقائق وأعلم بالطرق إلى ه‬
‫‪ ،‬ومع هذا ما سلموا من الشؤون اإللهية ‪ ،‬فعرضت لهم األمور المؤلمة النفسية من رد الدعوة‬
‫نزه جالله عنه ‪ ،‬وفي الحق الذي جاء به ‪ ،‬فقال‬ ‫في وجهه ‪ ،‬وما يسمعه في الحق تعالى مما ه‬
‫ث‬‫آثار ِه ْم ِإ ْن لَ ْم يُؤْ ِمنُوا ِبهذَا ْال َحدِي ِ‬
‫على ِ‬ ‫س َك َ‬ ‫ّللا عليه وسلم« فَلَعَلَّ َك ِ‬
‫باخ ٌع نَ ْف َ‬ ‫تعالى لرسوله صلهى ه‬
‫سفا ً »‪.‬‬ ‫أَ َ‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 7‬‬


‫ض ِزينَة لَها ِلنَ ْبلُ َو ُه ْم أَيُّ ُه ْم أَحْ َ‬
‫س ُن َ‬
‫ع َمال ( ‪) 7‬‬ ‫علَى ْاأل َ ْر ِ‬
‫ِإنها َجعَ ْلنا ما َ‬
‫[ أحسن زينة ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬ما تنعمت األبصار في أحسن من زهرة الروض ‪ ،‬وأحسن زينة على األرض رجال‬
‫ّللا ‪ ،‬فاجعلهم منتزهك حتى تكون منهم‪.‬‬ ‫ه‬
‫ص ‪03‬‬

‫‪3‬‬
‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 8‬إلى ‪] 10‬‬
‫يم كانُوا ِم ْن‬ ‫الر ِق ِ‬
‫ْف َو ه‬ ‫س ْبتَ أ َ هن أَص َ‬
‫ْحاب ا ْل َكه ِ‬ ‫ص ِعيدا ُج ُرزا ( ‪ ) 8‬أ َ ْم َح ِ‬ ‫علَ ْيها َ‬ ‫ون ما َ‬‫َو ِإنها لَجا ِعلُ َ‬
‫ْف فَقالُوا َربهنا آتِنا ِم ْن لَ ُد ْنكَ َرحْ َمة َو َه ِيّ ْئ لَنا ِم ْن‬ ‫ع َجبا ) ‪ ( 9‬إِ ْذ أ َ َوى ا ْل ِفتْيَةُ إِلَى ا ْل َكه ِ‬‫آياتِنا َ‬
‫أ َ ْم ِرنا َرشَدا ( ‪) 10‬‬
‫[ الفتوة ]‬
‫الفتوة ليس فيها شيء من الضعف ‪ ،‬إذ هي حالة بين الطفولة والكهولة ‪ ،‬وهو عمر إلنسان من‬
‫زمان بلوغه إلى تمام األربعين من والدته ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ ) : 18‬اآليات ‪ 11‬إلى ‪] 13‬‬


‫ي ا ْل ِح ْزبَ ْي ِن أَحْ صى ِلما‬
‫عدَدا ( ‪ ) 11‬ث ُ هم بَعَثْنا ُه ْم ِلنَ ْعلَ َم أ َ ُّ‬ ‫ين َ‬ ‫سنِ َ‬ ‫ْف ِ‬ ‫علَى آذانِ ِه ْم فِي ا ْل َكه ِ‬ ‫فَ َ‬
‫ض َر ْبنا َ‬
‫ق ِإنه ُه ْم فِتْيَةٌ آ َمنُوا ِب َر ِبّ ِه ْم َو ِزدْنا ُه ْم ُهدى (‬ ‫علَ ْيكَ نَبَأ َ ُه ْم ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ص َ‬ ‫لَ ِبثُوا أ َ َمدا ) ‪( 12‬نَحْ ُن نَقُ ُّ‬
‫)‪13‬‬
‫الفتى هو من آثر أمر ربه على هوى نفسه ‪ ،‬والفتوة أن يؤثر اإلنسان العلم المشروع الوارد من‬
‫ّللا على ألسنة الرسل على هوى نفسه ‪ ،‬وعلى أدلة عقله وما حكم به فكره ونظره ‪،‬‬ ‫ه‬
‫إذا خالف علم الشارع المقرر له ‪ -‬بحث في الفتوة ‪ -‬الفتيان أهل علم وافر ‪ ،‬وهم الذين حازوا‬
‫مكارم األخالق أجمعها ‪ ،‬وال يتمكن أحد أن يكون حاله مكارم األخالق ما لم يعلم المحال التي‬
‫يصرفها فيها ويظهر بها ‪ ،‬ولما لم يكن في وسع اإلنسان أن يسع العالم بمكارم أخالقه ‪،‬‬
‫إذ كان العالم كله واقفا مع غرضه أو إرادته ‪ ،‬ال مع ما ينبغي ‪ ،‬فاختلفت األغراض واإلرادات‬
‫وطلب كل صاحب غرض أو إرادة في الفتى أن يعامله بحسب غرضه وإرادته ‪ ،‬واألغراض‬
‫متضادة ‪ ،‬فلما رأينا األمر على هذا الحد وأنه ال يع هم ‪ ،‬ولم يتمكن عقال وال عادة أن يقوم‬
‫اإلنسان في هذه الدنيا أو حيث كان في مقام يرضي المتضادين ‪ ،‬انبغى للفتى أن يترك هوى‬
‫نفسه ويرجع إلى خالقه الذي هو مواله وسيده ‪،‬‬
‫ويقول ‪ :‬أنا عبد ‪ ،‬وينبغي للعبد أن يكون بحكم سيده ‪ ،‬ال بحكم نفسه وال بحكم غير سيده ‪ ،‬يتبع‬
‫مراضيه ويقف عند حدوده ومراسمه ‪ ،‬وال يكن ممن جعل مع سيده شريكا في عبوديته ‪،‬‬
‫فيكون مع سيده بحسب ما يح هد له ‪ ،‬ويتصرف فيما يرسم له ‪ ،‬وال يبالي وافق أغراض العالم أو‬
‫خالفهم ‪ ،‬فإن وافق‬
‫ص ‪04‬‬

‫‪4‬‬
‫ما وافق منها فذلك راجع إلى سيده ‪ .‬والفتى من وقر الكبير في العلم أو في السن ‪ ،‬والفتى من‬
‫رحم الصغير في العلم أو السن ‪ ،‬والفتى من آثر المكافئ في السن أو في العلم ‪ ،‬وينبغي للفتى‬
‫ّللا له قبل‬ ‫أن يوفهي السلطان حقه الذي أوجبه ه‬
‫ّللا له عليه ‪ ،‬وال يطلب منه حقه الذي جعله ه‬
‫السلطان ‪ ،‬مما له أن يسامحه فيه إن منعه منه ‪ ،‬فتوة عليه ورحمة به وتعظيما لمنزلته ‪،‬‬
‫إذ كان له أن يطلبه به يوم القيامة ‪ ،‬فالفتى من ال خصم له ‪ ،‬ألنه فيما عليه يؤديه ‪،‬‬
‫وفيما له يتركه ‪ ،‬فليس له خصم ‪ ،‬والفتى من ال تصدر منه حركة عبثا جملة واحدة ‪،‬‬
‫ّللا خلقها أي قدهرها ‪ ،‬وإذا قدرها فال تكون‬‫وإن كانت الحركة في غيره فال ينظرها عبثا ‪ ،‬فإن ه‬
‫عبثا وال باطال ‪ ،‬فيكون حاضرا مع هذا عند وقوعها في العالم ‪،‬‬
‫فإن فتح له بالعلم في الحكمة فيها فبخ على بخ ‪ ،‬وهو صاحب عناية ‪ ،‬وإن لم يفتح له في العلم‬
‫ّللا ‪ ،‬وأن هّلل فيها سرا‬
‫بالحكمة فيها فيكفيه حضوره في نفسه أنها حركة مقدرة منسوبة إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فالفتيان هم السالطين في صور العبيد ‪ ،‬يعرفهم المأل األعلى ‪ ،‬فليس أحد مما سوى‬ ‫يعلمه ه‬
‫األنس والجان إال ويقول بفضله ‪ ،‬إال بعض الثقلين ‪ ،‬فإن الحسد يمنعهم من ذلك ‪،‬‬
‫وهم يعاملون الخلق باإلحسان إليهم مع إساءتهم لهم ‪ ،‬فلهم القوة العظمى على نفوسهم حيث لم‬
‫يغلبهم هواهم ‪ ،‬وال ما جبلت النفس عليه من حب الثناء والشكر واالعتراف ( راجع سورة‬
‫األنبياء آية ‪) 60‬‬
‫« ِإنَّ ُه ْم فِتْيَةٌ آ َمنُوا بِ َر ِبه ِه ْم »اعلم أن اإليمان بالربوبية يزيد في الهدى ‪ ،‬واإليمان ه‬
‫باّلل هو الهدى ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 14‬إلى ‪] 18‬‬


‫ض لَ ْن نَ ْدع َُوا ِم ْن دُو ِن ِه ِإلها لَقَ ْد‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ب ال ه‬ ‫َو َربَ ْطنا عَلى قُلُو ِب ِه ْم ِإ ْذ قا ُموا فَقالُوا َربُّنا َر ُّ‬
‫س ْل ٍ‬
‫طان بَ ِيّ ٍن‬ ‫علَ ْي ِه ْم بِ ُ‬‫ون َ‬ ‫ُالء قَ ْو ُمنَا ات ه َخذُوا ِم ْن دُونِ ِه آ ِل َهة لَ ْو ال يَأْت ُ َ‬ ‫ش َططا ( ‪ ) 14‬هؤ ِ‬ ‫قُ ْلنا إِذا َ‬
‫ّللا فَأ ْ ُووا إِلَى‬
‫ُون إِاله ه َ‬ ‫ّللا َكذِبا ( ‪َ ) 15‬وإِ ِذ ا ْعت َ َز ْلت ُ ُمو ُه ْم َوما يَ ْعبُد َ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫افتَرى َ‬ ‫فَ َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ِن ْ‬
‫س ِإذا‬ ‫ْف يَ ْنش ُْر لَ ُك ْم َربُّ ُك ْم ِم ْن َرحْ َمتِ ِه َويُ َه ِيّ ْئ لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ْم ِر ُك ْم ِم ْرفَقا ) ‪َ ( 16‬وت َ َرى الش ْهم َ‬ ‫ا ْل َكه ِ‬
‫شما ِل َو ُه ْم فِي فَجْ َو ٍة ِم ْنهُ ذ ِلكَ‬ ‫ض ُه ْم ذاتَ ال ِ ّ‬ ‫غ َربَتْ ت َ ْق ِر ُ‬ ‫ين َو ِإذا َ‬ ‫زاو ُر ع َْن َك ْه ِف ِه ْم ذاتَ ا ْليَ ِم ِ‬ ‫َطلَعَتْ ت َ َ‬
‫سبُ ُه ْم‬ ‫شدا ) ‪َ ( 17‬وتَحْ َ‬ ‫ض ِل ْل فَلَ ْن ت َ ِج َد لَهُ َو ِليًّا ُم ْر ِ‬
‫ّللاُ فَ ُه َو ا ْل ُم ْهت َ ِد َو َم ْن يُ ْ‬
‫ّللا َم ْن يَ ْه ِد ه‬
‫ت هِ‬ ‫ِم ْن آيا ِ‬
‫طلَ ْعتَ‬ ‫ع ْي ِه بِا ْل َو ِصي ِد لَ ِو ا ه‬‫ط ذِرا َ‬ ‫س ٌ‬
‫شما ِل َو َك ْلبُ ُه ْم با ِ‬ ‫ين َوذاتَ ال ِ ّ‬ ‫أ َ ْيقاظا َو ُه ْم ُرقُو ٌد َونُقَ ِلّبُ ُه ْم ذاتَ ا ْليَ ِم ِ‬
‫علَ ْي ِه ْم لَ َوله ْيتَ ِم ْن ُه ْم فِرارا َولَ ُم ِلئْتَ ِم ْن ُه ْم ُرعْبا) ‪( 18‬‬ ‫َ‬

‫ص ‪05‬‬

‫‪5‬‬
‫[سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 17‬‬
‫شما ِل َو ُه ْم‬ ‫ض ُه ْم ذاتَ ال ِ ّ‬ ‫غ َربَتْ ت َ ْق ِر ُ‬ ‫ين َو ِإذا َ‬ ‫زاو ُر ع َْن َك ْه ِف ِه ْم ذاتَ ا ْليَ ِم ِ‬ ‫س ِإذا َطلَعَتْ ت َ َ‬ ‫َوت َ َرى الش ْهم َ‬
‫شدا (‬ ‫ض ِل ْل فَلَ ْن ت َ ِج َد لَهُ َو ِليًّا ُم ْر ِ‬ ‫ّللاُ فَ ُه َو ا ْل ُم ْهت َ ِد َو َم ْن يُ ْ‬
‫ّللا َم ْن يَ ْه ِد ه‬
‫ت هِ‬ ‫فِي فَجْ َو ٍة ِم ْنهُ ذ ِلكَ ِم ْن آيا ِ‬
‫‪)17‬‬
‫فالكل بيده وإليه يرجع األمر كله ‪.‬‬
‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 18‬‬
‫ع ْي ِه ِبا ْل َو ِصي ِد‬‫ط ذِرا َ‬ ‫س ٌ‬ ‫شما ِل َو َك ْلبُ ُه ْم با ِ‬ ‫ين َوذاتَ ال ِ ّ‬ ‫سبُ ُه ْم أ َ ْيقاظا َو ُه ْم ُرقُو ٌد َونُقَ ِلّبُ ُه ْم ذاتَ ا ْليَ ِم ِ‬ ‫َوتَحْ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم لَ َوله ْيتَ ِم ْن ُه ْم فِرارا َولَ ُم ِلئْتَ ِم ْن ُه ْم ُرعْبا ( ‪) 18‬‬ ‫طلَ ْعتَ َ‬‫لَ ِو ا ه‬
‫ت ِم ْن ُه ْم ُرعْبا ً » ]‬ ‫علَ ْي ِه ْم لَ َولَّي َ‬
‫ْت ِم ْن ُه ْم فِرارا ً َولَ ُم ِلئْ َ‬ ‫[ « لَ ِو َّ‬
‫اطلَ ْع َ‬
‫ت َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬الذي ليس من شأنه وال من شأن األنبياء‬ ‫انظر إلى قوله تعالى لنبيه صلهى ه‬
‫ْت ِم ْن ُه ْم فِرارا ً َولَ ُم ِلئْ َ‬
‫ت‬ ‫علَ ْي ِه ْم لَ َولَّي َ‬
‫ت َ‬ ‫عليهم السالم أن ينهزم ‪ ،‬وال أن يقتل في مصاف« لَ ِو َّ‬
‫اطلَ ْع َ‬
‫ِم ْن ُه ْم ُرعْبا ً »فوصفه باالنهزام ‪ ،‬وقوله صدق ‪ ،‬أترى ذلك عن رؤية أجسامهم ؟‬
‫أليسوا أناسي مثله ‪ ،‬فما ينهزم إال من أمر يريد إعدامه ‪ ،‬وال يمأل مع شجاعته وحماسته رعبا‬
‫إال من شيء يهوله ‪ ،‬فلو لم ير منهم ما هو أهول مما رآه ليلة إسرائه ما امتأل رعبا مما رآه ‪-‬‬
‫وال يمأل رعبا من صور أجسامهم ‪ -‬فذلك الذي كان يملؤه رعبا ‪،‬‬
‫علَ ْي ِه ْم »فوصفه باالطالع ‪ ،‬فهم أسفل منه‬ ‫ت َ‬ ‫اطلَ ْع َ‬‫ّللا إال رؤية عينهم ‪ ،‬ألنه قال« لَ ِو َّ‬ ‫وما ذكر ه‬
‫بالمقام ‪ ،‬ومع هذا كان يولي منهم فرارا ‪ ،‬خوفا أن يلحق بهم فينزل من مقامه ‪ ،‬ويمأل منهم‬
‫رعبا لئال يؤثروا فيه ‪ ،‬من تأثير األدنى في األعلى ‪ ،‬ومن علم األمر على هذا حقيق عليه أن‬
‫يولي فرارا ويمأل رعبا ‪ ،‬هل رأيتم عاقال يقف على جرف مهواة إال ويفر خوفا من السقوط ‪،‬‬
‫ّللا به نبيه لو اطلع على الفتية ‪،‬‬ ‫فانظر فيما تحت هذا النعت الذي وصف ه‬
‫ّللا بذلك ‪ ،‬ينبهنا على علو رتبة‬ ‫فعرفنا ه‬ ‫فعلوه أعلى ورتبته أسنى ‪ ،‬ه‬ ‫مع علو رتبتهم وشأنهم ‪ ،‬ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وانظر إلى ما ذا ترجع صور العالم هل ألنفسهم أو لرؤية‬ ‫نبينا محمد صلهى ه‬
‫ّللا ينكر‬ ‫الناظر ‪ ،‬وانظر ما ترى ‪ ،‬واعلم ما تنظر ‪ ،‬وكن بحيث تعلم ال بحيث ترى ‪ ،‬فإن ه‬
‫بالرؤية وال ينكر بالعلم ‪ ،‬فإذا لم ينكر بالرؤية فبشاهد العلم لم ينكر ‪.‬‬

‫[سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 19‬إلى ‪] 22‬‬


‫ض يَ ْو ٍم قالُوا‬ ‫َوكَذ ِلكَ بَعَثْنا ُه ْم ِليَتَسا َءلُوا بَ ْينَ ُه ْم قا َل قائِ ٌل ِم ْن ُه ْم َك ْم لَ ِبثْت ُ ْم قالُوا لَ ِبثْنا يَ ْوما أ َ ْو بَ ْع َ‬
‫ظ ْر أَيُّها أ َ ْزكى َطعاما فَ ْليَأْتِ ُك ْم‬ ‫َربُّ ُك ْم أ َ ْعلَ ُم ِبما لَ ِبثْت ُ ْم فَا ْبعَثُوا أ َ َح َد ُك ْم ِب َو ِرقِ ُك ْم ه ِذ ِه ِإلَى ا ْل َمدِينَ ِة فَ ْليَ ْن ُ‬
‫علَ ْي ُك ْم يَ ْر ُج ُمو ُك ْم أ َ ْو‬
‫ش ِع َر هن ِب ُك ْم أ َ َحدا ( ‪ِ ) 19‬إنه ُه ْم ِإ ْن يَ ْظ َه ُروا َ‬ ‫ف َوال يُ ْ‬ ‫ط ْ‬ ‫ق ِم ْنهُ َو ْليَتَلَ ه‬ ‫ِب ِر ْز ٍ‬
‫ق‬
‫ّللا َح ٌّ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِليَ ْعلَ ُموا أ َ هن َو ْع َد ه ِ‬ ‫يُ ِعيدُو ُك ْم ِفي ِمله ِت ِه ْم َولَ ْن ت ُ ْف ِل ُحوا ِإذا أَبَدا ) ‪َ ( 20‬وكَذ ِلكَ أ َ ْعث َ ْرنا َ‬
‫علَ ْي ِه ْم بُ ْنيانا َربُّ ُه ْم أ َ ْعلَ ُم بِ ِه ْم‬ ‫ُون بَ ْينَ ُه ْم أ َ ْم َر ُه ْم فَقالُوا ا ْبنُوا َ‬ ‫نازع َ‬ ‫ب فِيها إِ ْذ يَت َ َ‬ ‫ساعَةَ ال َر ْي َ‬ ‫َوأ َ هن ال ه‬
‫ون ثَالثَةٌ رابِعُ ُه ْم َك ْلبُ ُه ْم‬ ‫سيَقُولُ َ‬ ‫س ِجدا ( ‪َ ) 21‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم َم ْ‬‫غلَبُوا عَلى أ َ ْم ِر ِه ْم لَنَت ه ِخذَ هن َ‬ ‫ِين َ‬
‫قا َل الهذ َ‬
‫ثامنُ ُه ْم َك ْلبُ ُه ْم قُ ْل َر ِبّي أ َ ْعلَ ُم‬ ‫س ْبعَةٌ َو ِ‬ ‫ون َ‬ ‫ب َويَقُولُ َ‬ ‫س ُه ْم َك ْلبُ ُه ْم َرجْ ما ِبا ْلغَ ْي ِ‬ ‫سةٌ سا ِد ُ‬ ‫ون َخ ْم َ‬ ‫َويَقُولُ َ‬
‫يه ْم ِم ْن ُه ْم أ َ َحدا) ‪( 22‬‬ ‫ت فِ ِ‬ ‫ست َ ْف ِ‬ ‫يه ْم ِإاله ِمراء ظا ِهرا َوال ت َ ْ‬ ‫ِب ِع هدتِ ِه ْم ما يَ ْعلَ ُم ُه ْم ِإاله قَ ِلي ٌل فَال ت ُ ِ‬
‫مار فِ ِ‬
‫ص ‪06‬‬
‫‪6‬‬
‫ب »أي ما هم على تحقيق فيما يخبرون به من عددهم ‪ ،‬ألنهم ما شاهدوهم ‪ ،‬فهو‬ ‫« َر ْجما ً ِب ْالغَ ْي ِ‬
‫من رجمات الظنون ‪ ،‬والظن رجم بالغيب ‪ ،‬والعلم ما فيه شك وال ريب ‪ ،‬ولهذا جاء بفعل‬
‫ثامنُ ُه ْم َك ْلبُ ُه ْم »ال يقال ثامن‬
‫س ْبعَةٌ َو ِ‬
‫سيَقُولُونَ »وأما قوله تعالى« َويَقُولُونَ َ‬ ‫االستقبال فقال« َ‬
‫ثمانية إال في الجنس الواحد ‪،‬‬
‫فإذا انتفت المثلية لم يقل فيه ‪ :‬إنه ثامن ثمانية إذا كان معهم ‪،‬‬
‫س ْبعَةٌ‬
‫وإنما يقال ‪ :‬ثامن سبعة ‪ ،‬أال ترى إلى الكلب لما لم يكن من النوع اإلنساني قالوا« َ‬
‫ثامنُ ُه ْم َك ْلبُ ُه ْم »‪ ،‬ولم يقولوا ثمانية ثامنهم كلبهم ‪،‬‬ ‫َو ِ‬
‫« قُ ْل َر ِبهي أ َ ْعلَ ُم بِ ِع َّدتِ ِه ْم ما يَ ْعلَ ُم ُه ْم »‬
‫يعني كم عددهم« إِ َّال قَ ِلي ٌل »إما من شاهدهم ممن ال يغلب عليه الوهم ‪ ،‬وإما من أعلمه ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عنهما ‪ :‬أنا من ذلك القليل الذين يعلمونهم ‪.‬‬ ‫بعدتهم ‪ ،‬قال ابن عباس رضي ه‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 23‬إلى ‪]24‬‬


‫سيتَ َوقُ ْل عَسى‬ ‫ّللاُ َو ْ‬
‫اذك ُْر َربهكَ ِإذا نَ ِ‬ ‫غدا ( ‪ِ ) 23‬إاله أ َ ْن يَشا َء ه‬
‫ش ْي ٍء ِإ ِنّي فا ِع ٌل ذ ِلكَ َ‬‫َوال تَقُولَ هن ِل َ‬
‫ب ِم ْن هذا َرشَدا) ‪( 24‬‬ ‫أ َ ْن يَ ْه ِديَ ِن َر ِبّي ِأل َ ْق َر َ‬

‫ص ‪07‬‬

‫‪7‬‬
‫فاّلل أ هخر االستثناء ‪ ،‬فالمحمدي يؤخره ‪ ،‬فإن‬
‫هذه اآلية مذكورة باللسان العبراني في التوراة ‪ ،‬ه‬
‫ّللا أمر محمدا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بذلك ‪،‬‬ ‫ه‬
‫وّللا تعالى يمقت من يقول ما ال يعمل من غير أن يقرن به المشيئة اإللهية ‪ ،‬فإذا علق المشيئة‬‫ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫اإللهية بقوله أن يعمل فال يكون ذلك العمل ‪ ،‬لم يمقته ه‬
‫فإن العبد غاب عن انفراد الحق في األعمال كلها التي تظهر على أيدي المخلوقين بالتكوين ‪،‬‬
‫وأنه ال أثر للمخلوق فيها من حيث تكوينها ‪ ،‬وإن كان للمخلوق فيها حكم ال أثر ‪.‬‬
‫ولما علم الحق أن هذا ال بد أن يقع من عباده وأنهم يقولون ذلك ‪ ،‬شرع لهم االستثناء اإللهي‬
‫ليرتفع المقت اإللهي عنهم ‪ ،‬ولهذا ال يحنث من استثنى إذا حلف على فعل مستقبل ‪ ،‬فإنه‬
‫ّللا ال إلى نفسه ‪.‬‬
‫أضافه إلى ه‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 25‬‬


‫سعا ) ‪( 25‬‬ ‫ين َو ْ‬
‫ازدَادُوا تِ ْ‬ ‫سنِ َ‬ ‫َولَ ِبثُوا فِي َك ْه ِف ِه ْم ث َ َ‬
‫الث ِمائ َ ٍة ِ‬
‫ثالث مائة وتسع سنين قمرية ‪ ،‬وهذه تعدل ثالث مائة سنة شمسية ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 26‬إلى ‪] 28‬‬


‫س ِم ْع ما لَ ُه ْم ِم ْن دُونِ ِه ِم ْن َو ِل ّ‬
‫يٍ‬ ‫ض أ َ ْب ِص ْر ِب ِه َوأ َ ْ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ب ال ه‬ ‫ّللاُ أ َ ْعلَ ُم ِبما لَ ِبثُوا لَهُ َ‬
‫غ ْي ُ‬ ‫قُ ِل ه‬
‫ب َر ِبّكَ ال ُمبَ ِ ّد َل ِل َك ِلماتِ ِه َولَ ْن ت َ ِج َد‬‫ي ِإلَ ْيكَ ِم ْن ِكتا ِ‬ ‫وح َ‬ ‫َوال يُش ِْركُ فِي ُح ْك ِم ِه أ َ َحدا ( ‪َ ) 26‬واتْ ُل ما أ ُ ِ‬
‫ُون َوجْ َههُ‬ ‫ي ِ يُ ِريد َ‬ ‫ش ّ‬‫ُون َربه ُه ْم ِبا ْلغَدا ِة َوا ْلعَ ِ‬‫ِين يَ ْدع َ‬ ‫سكَ َم َع الهذ َ‬ ‫ص ِب ْر نَ ْف َ‬
‫ِم ْن دُونِ ِه ُم ْلت َ َحدا ( ‪َ ) 27‬وا ْ‬
‫ع ْن ُه ْم ت ُ ِري ُد ِزينَةَ ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َوال ت ُ ِط ْع َم ْن أ َ ْغفَ ْلنا قَ ْلبَهُ ع َْن ِذ ْك ِرنا َواتهبَ َع َهوا ُه‬
‫ع ْيناكَ َ‬ ‫َوال ت َ ْع ُد َ‬
‫كان أ َ ْم ُرهُ فُ ُرطا ( ‪) 28‬‬ ‫َو َ‬
‫س َك َم َع الَّذِينَ يَ ْدعُونَ َربَّ ُه ْم بِ ْالغَداةِ » ‪ . . .‬اآلية ]‬ ‫صبِ ْر نَ ْف َ‬‫[ « َوا ْ‬
‫كان سبب هذه اآلية أن زعماء الكفار من المشركين كاألقرع بن حابس وأمثاله ‪،‬‬
‫قالوا ‪:‬‬
‫ما يمنعنا من مجالسة محمد إال مجالسته لهؤالء األعبد ‪ ،‬يريدون بالال وخباب بن األرت‬
‫ّللا عليه‬‫ّللا صلهى ه‬ ‫وغيرهما ‪ ،‬فكبر عليهم أن يجمعهم واألعبد مجلس واحد ‪ ،‬وكان رسول ه‬
‫وسلم حريصا على إيمان مثل هؤالء ‪ ،‬فأمر أولئك األعبد إذا رأوه مع هؤالء الزعماء أن ال‬
‫يقربوه إلى أن يفرغ‬

‫ص ‪08‬‬

‫‪8‬‬
‫ّللا هذه اآلية غيرة‬‫من شأنهم ‪ ،‬أو إذا أقبل الزعماء واألعبد عنده أن يخلوا لهم المجلس ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫ّللا يغار لعبده‬
‫لمقام العبودية والفقر أن يستهضم بصفة عز وتأله ظهر في غير محله ‪ ،‬فإن ه‬
‫المنكسر الفقير أشد مما يغار لنفسه ‪ ،‬وهو من أعظم دليل على شرف العبودة واإلقامة عليها ‪،‬‬
‫صبِ ْر نَ ْف َ‬
‫س َك »‬ ‫ّللا تعالى رسوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بقوله« َوا ْ‬ ‫فأمر ه‬
‫أن يحبس نفسه مع األعبد والفقراء من المؤمنين مثل خباب بن األرت وبالل وابن أم مكتوم‬
‫ّللا عليه وسلم إذا رأى هؤالء األعبد وأمثالهم أو جالسهم يقول [ مرحبا‬ ‫وغيرهم ‪ ،‬فكان صلهى ه‬
‫بمن عاتبني فيهم ربي ] فكلما جلسوا عنده جلس لجلوسهم ‪ ،‬ال يمكن له أن يقوم وال ينصرف‬
‫حتى يكونوا هم الذين ينصرفون ‪،‬‬
‫ّللا أمرني أن أحبس نفسي معهم ]‬ ‫ّللا عليه وسلم يقول ‪ [ :‬إن ه‬‫وكان صلهى ه‬
‫فكانوا إذا أطالوا الجلوس معه يشير إليهم بعض الصحابة مثل أبي بكر وغيره أن يقوموا حتى‬
‫ّللا عليه وسلم لبعض شؤونه ‪ ،‬ولما علموا ذلك منه وأنه عليه السالم‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫يتسرح رسول ه‬
‫قد تعرض له أمور يحتاج إلى التصرف فيها ‪ ،‬فكانوا يخففون فال يلبثون عنده إال قليال ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ألشغاله ‪،‬‬ ‫وينصرفون حتى ينصرف النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بهذه اآلية أن مقام العبودة هو الذي تدعو له الناس ‪،‬‬ ‫وأبان الحق لرسوله صلهى ه‬
‫فإن جميع النفوس يكبر عندهم رب الجاه ورب المال ‪ ،‬ألن العزة والغنى هّلل تعالى ‪ ،‬فحيثما‬
‫تجلت هذه الصفة تواضع الناس وافتقروا إليها ‪ ،‬وال يفرقون بين ما هو عز وغنى ذاتي وبين‬
‫ما هو منهما عرضي إال بمجرد مشاهدة هذه الصفة ‪ ،‬فإذا حضر ملك مطاع نافذ األمر وقد‬
‫جاءك مع عظم مرتبته زائرا ‪ ،‬وجاءك فقير ضعيف في ذلك الوقت زائرا أيضا فليكن قبولك‬
‫ّللا نبيه سدى ‪ ،‬بل أبان‬ ‫على الفقير وشغلك به إلى أن يفرغ من شأنه الذي جاء إليه ‪ ،‬فما عتب ه‬
‫وّللا في ذلك عن أرفع طريق الهدى ‪ ،‬وزجر عن طريق الردى ‪،‬‬ ‫ه‬
‫فقال ( كال إن اإلنسان ليطغى أن رآه استغنى ) ردعا وزجرا لحالة تحجبك ‪ ،‬فإن عزة اإليمان‬
‫أعلى ‪ ،‬وعزة الفقر أولى ‪ ،‬فليكن شأنك تعظيم المؤمن الفقير على المؤمن الغني بماله ‪ ،‬العزيز‬
‫بجاهه ‪ ،‬المحجوب عن نفسه ‪ ،‬فإن الفقير المؤمن هو مجلى حقيقتك ( يا أيها الناس أنتم الفقراء‬
‫ّللا ) وأنت مأمور بمشاهدة نفسك حذر الخروج عن طريقها ‪ ،‬فالمؤمن الفقير مرآتك ترى‬ ‫إلى ه‬
‫فيه نفسك ‪ ،‬والمؤمن الغني بالمال عنك هو مرآة لك صدئت فال ترى نفسك فيها ‪ ،‬فال تعرف ما‬
‫طرأ على وجهك من التغيير ‪ .‬واعلم أن هّلل عبادا كانت أحوالهم وأفعالهم ذكرا يتقرب به إلى‬
‫ّللا به نبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫باّلل ما ال يعلمه إال من ذاقه ‪ ،‬فإن كل ما أمر ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وينتج من العلم ه‬
‫ه‬
‫وسلم ونهاه عنه كان عين أحوالهم‬

‫ص ‪09‬‬

‫‪9‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫وأفعالهم ‪ ،‬مع كون هذه الطائفة التي نزل فيهم هذا القرآن من أصحاب رسول ه‬
‫ّللا تعالى نبيه‬ ‫عليه وسلم ‪ ،‬فما نالوا ما نالوه إال باتباعه وفهم ما فهموا عنه ‪ ،‬ومع هذا عاتب ه‬
‫ّللا عليه وسلم إذا حضروا ال تعدو عيناه عنهم ‪ ،‬ولما‬ ‫ّللا عليه وسلم فيهم ‪ ،‬فكان صلهى ه‬ ‫صلهى ه‬
‫كان دعاؤهم بالغداة والعشي ‪ ،‬وهو زمان تحصيل الرزق في المرزوقين ‪ ،‬فكان رزق هؤالء‬
‫بالغداة والعشي ما ينتج لهم معرفة وجه الحق في كل شيء ‪ ،‬فال يرون شيئا إال ويرون وجه‬
‫الحق فيه ‪ ،‬فيحصل لهم معرفة الوجه الذي كان مرادهم ‪ ،‬ألنه تعالى يقول« يُ ِريدُونَ َو ْج َههُ‬
‫»يعني بذلك الدعاء بالغداة والعشي وجه الحق ‪ ،‬لما علموا أن كل شيء هالك إال وجهه ‪،‬‬
‫فطلبوا ما يبقى وآثروه على ما يفنى ‪ ،‬فكانوا في حضرة شهود أو طالبين لهذه الحضرة ‪ ،‬ولذا‬
‫ّللا صلهى‬ ‫ع ْن ُه ْم »فكانت عينا رسول ه‬ ‫ْناك َ‬
‫عي َ‬ ‫ّللا عليه وسلم« َوال ت َ ْع ُد َ‬ ‫قال تعالى لرسوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ال تعدوان عنهم إلى غيرهم ما داموا حاضرين ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ّللا ]‬
‫ّللا [ وهم الذين إذا رأوا ذكر ه‬ ‫ّللا عليه وسلم في صفة أولياء ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ومن هنا قال رسول ه‬
‫لما حصل لهم من نور هذا الوجه الذي هو مراد لهؤالء ‪ ،‬واألنبياء وإن شاهدوا هؤالء في حال‬
‫ّللا تعالى بدعائهم ‪،‬‬ ‫شهودهم للوجه الذي أرادوه من ه‬
‫فإنهم من حيث إنهم أرسلوا لمصالح العباد ال يتقيدون بهم على اإلطالق ‪ ،‬وإنما يتقيدون‬
‫بالمصالح التي بعثوا بسببها ‪ ،‬فوقتا يعتبون مع كونهم في مصلحة مثل هذه اآلية ‪ ،‬ومثل آية‬
‫ّللا عليه وسلم في حق األعبد«‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫األعمى ‪ ،‬ومن وجه آخر قيل في هذه اآلية لرسول ه‬
‫ي ِ يُ ِريدُونَ َو ْج َههُ »أي وانظر فيهم صفة‬ ‫س َك َم َع الَّذِينَ يَ ْدعُونَ َربَّ ُه ْم ِب ْالغَداةِ َو ْالعَ ِش ه‬ ‫ص ِب ْر نَ ْف َ‬‫َوا ْ‬
‫الحق ‪ ،‬فإنها مطلوبك في الكون ‪،‬‬
‫فإني أدعو عبادي بالغداة والعشي وفي كل وقت ‪ ،‬أريد وجههم أي ذاتهم أن يسمعوا دعائي‬
‫ع ْن ُه ْم »فإنهم ظاهرون بصفتي كما عرفتك« ت ُ ِري ُد ِزينَةَ ْال َحياةِ‬ ‫ْناك َ‬
‫عي َ‬ ‫ي« َوال ت َ ْع ُد َ‬ ‫فيرجعوا إل ه‬
‫ال ُّد ْنيا »فهذه الزينة أيضا في هؤالء وهي في الحياة الدنيا فهنا أيضا مطلوبك‬
‫ّللا عليه وسلم أن يجعل لهم مجلسا ينفردون به معه ‪ ،‬ال‬ ‫« َوال ت ُ ِط ْع »فإنهم طلبوا منه صلهى ه‬
‫يحضره هؤالء األعبد ‪ ،‬فأجابهم حرصا على إيمانهم‬
‫ع ْن ِذ ْك ِرنا »أي جعلنا قلبه في غالف فحجبناه عن ذكرنا ‪ ،‬فإنه إن ذكرنا علم‬ ‫« َم ْن أ َ ْغفَ ْلنا قَ ْلبَهُ َ‬
‫أن السيادة لنا وأنه عبد ‪ ،‬فيزول عنه هذا الكبرياء ‪ ،‬والصفة التي ظهر بها التي عظمتها أنت‬
‫لكونها صفتي وطمعت في إزالتها عن ظاهرهم ‪،‬‬
‫فإني أعلمت أني قد طبعت على كل قلب متكبر جبار فال يدخله كبر وإن ظهر به‬
‫" َواتَّبَ َع هَواهُ " أي غرضه الذي ظهر به« َوكانَ أ َ ْم ُرهُ فُ ُرطا ً »‬
‫أي ما هو نصب عينيه له وهو مشهود له ‪ ،‬ال يصرف نظره عنه إلى ما يقول له الحق على‬
‫لسان‬
‫ص ‪10‬‬

‫‪10‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم إذا أقبل عليه هؤالء األعبد قال‬ ‫رسوله وما يريده منه ‪ ،‬فكان رسول ه‬
‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم [ مرحبا بمن عتبني فيهم ربي ]‬
‫ويمسك نفسه معهم في المجلس حتى يكونوا هم الذين ينصرفون ‪ ،‬ولم تزل هذه أخالقه صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم بعد ذلك إلى أن مات ‪ ،‬فما لقيه أحد بعد ذلك فحدثه إال قام معه حتى يكون هو‬
‫ه‬
‫الذي ينصرف ‪ ،‬وكذلك إذا صافحه شخص لم يزل يده من يده حتى يكون الشخص هو الذي‬
‫يزيلها ‪ ،‬هكذا رويناه من أخالقه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬

‫‪ -‬فائدة ‪ -‬إن كان العبد قوي اإليمان ‪ ،‬غير متبحر في التأويل ‪ ،‬خائضا في بحر الظاهر ‪ ،‬ال‬
‫يصرفه للمعاني الباطنة صارف ‪ ،‬انتفع بالذكرى ‪ ،‬فإن تأول تردى وأردى من اتبعه ‪ ،‬وكان‬
‫من الذين اتبعوا أهواءهم ‪ ،‬وكان أمر من هذه صفته فرطا فإن النفوس مجبولة على حب إدراك‬
‫المغيبات ‪ ،‬واستخراج الكنوز وحل الرموز ‪ ،‬وفتح المغاليق والبحث عن خفيات األمور ودقائق‬
‫الحكم ‪ ،‬وال ترفع بالظاهر رأسا ‪ ،‬فإن ذلك في زعمها أبين من فلق الصبح ‪ ،‬ومن أحكم الظاهر‬
‫ّللا له عند ذلك في هذه الظواهر ما ال يخطر بخاطر أحد ‪ ،‬ويعظم قدره وتظهر حكمته‬ ‫كشف ه‬
‫ّللا عظيم ‪ ،‬فإن الجاهل‬
‫وكثرة خيره ‪ ،‬ويعلم الجاهل عند ذلك أنه ما كان يحسبه هينا هو عند ه‬
‫بالظاهر بالباطن أجهل ‪ ،‬فإنه الدليل عليه ‪ ،‬وإن فرط في تحصيل األول كان في تحصيل اآلخر‬
‫أشد تفريطا‬
‫ّللا واصبر نفسك مع أحبابه الذين تحقرهم العيون ‪ ،‬فذلك الذي رفعهم‬
‫‪ -‬نصيحة ‪ -‬الزم باب ه‬
‫عند الحق ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 29‬‬


‫ين نارا أَحا َط بِ ِه ْم‬ ‫ق ِم ْن َر ِبّ ُك ْم فَ َم ْن شا َء فَ ْليُ ْؤ ِم ْن َو َم ْن شا َء فَ ْليَ ْكفُ ْر إِنها أ َ ْعتَدْنا ِلل ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫َوقُ ِل ا ْل َح ُّ‬
‫هراب َوسا َءتْ ُم ْرتَفَقا (‬ ‫س الش ُ‬ ‫ش ِوي ا ْل ُو ُجو َه ِبئْ َ‬ ‫ست َ ِغيثُوا يُغاثُوا ِب ٍ‬
‫ماء كَا ْل ُم ْه ِل يَ ْ‬ ‫سرا ِدقُها َو ِإ ْن يَ ْ‬ ‫ُ‬
‫‪) 29‬‬
‫« َوقُ ِل ْال َح ُّق ِم ْن َر ِبه ُك ْم فَ َم ْن شا َء فَ ْليُؤْ ِم ْن َو َم ْن شا َء فَ ْليَ ْكفُ ْر‪»-‬‬
‫غ)‬ ‫علَي َْك إِ َّال ْالبَال ُ‬
‫ّللا لومة الئم ‪ ،‬وهو قوله تعالى( إِ ْن َ‬ ‫الوجه األول ‪ -‬أي ال تأخذكم في ه‬
‫ْت )‬ ‫علَي َْك ُهدا ُه ْم (و ( إِنَّ َك ال ت َ ْهدِي َم ْن أ َ ْحبَب َ‬ ‫ْس َ‬ ‫وقوله تعالى( لَي َ‬
‫ّللا أن يكفر فليكفر ‪ ،‬فإنهم‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ‪ ،‬ومن شاء ه‬
‫ّللا في اآلخرة فقال‬ ‫ّللا رب العالمين ‪ ،‬ثم ذكر تعالى ما للظالمين عند ه‬ ‫ما يشاءون إال أن يشاء ه‬
‫تعالى« ِإنَّا أ َ ْعت َ ْدنا ِل َّ‬
‫لظا ِل ِمينَ نارا ً‬

‫ص ‪11‬‬

‫‪11‬‬
‫سرا ِدقُها »اآلية‬ ‫أَحا َ‬
‫ط ِب ِه ْم ُ‬
‫ّللا من هو فقير ذليل منكسر وغني بماله ذو جاه في الدنيا ‪ ،‬أظهر‬ ‫‪ -‬فإذا اجتمع في مجلس أهل ه‬
‫ّللا القبول واإلقبال على الفقير أكثر من إظهاره على الغني ذي الجاه ‪ ،‬ألنه‬ ‫الداعي إلى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬غير أن صاحب هذه الصفة‬ ‫ّللا تعالى به نبيه صلهى ه‬
‫المقصود باألدب الذي أدب ه‬
‫يحتاج إلى ميزان الحق في ذلك ‪ ،‬فإن غفل عنه كان الخطأ أسرع إليه من كل شيء ‪ ،‬وصورة‬
‫الوزن فيه أن ال يرى في نفسه شفوفا عليه ‪ ،‬وال يخاطب الغني وال ذا الجاه بصفة قهر تذله ‪،‬‬
‫فإنه ال يذل تحتها بل ينفر ويزيد عظمة ‪ ،‬وإذا رأى من األغنياء بالعرض ‪ -‬من جاه أو مال ‪-‬‬
‫ّللا اإلقبال عليهم ‪،‬‬
‫الفقر والذلة نزوال عن هاتين المرتبتين ‪ ،‬وجب على أهل ه‬
‫قال تعالى‪: -‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 30‬‬


‫ت ِإنها ال نُ ِضي ُع أَجْ َر َم ْن أَحْ َ‬
‫س َن َ‬
‫ع َمال ( ‪) 30‬‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫[ تحقيق ‪ :‬إن هللا ال يضيع أجر من أحسن عمال ]‬
‫ّللا كأنك تراه أو تعلم أنه يراك ‪ ،‬فهذا هو الحد الضابط لإلحسان في العمل ‪،‬‬ ‫اإلحسان أن تعبد ه‬
‫وما عدا هذا فهو سوء عمل ‪ ،‬إما ببذل الوسع في االجتهاد فيكون وفهى األمر حقه ‪ ،‬ولكنه أخطأ‬
‫وهو صاحب عمل حسن ‪ ،‬فيكون رؤية سوء العمل حسنا بعد االجتهاد ‪ ،‬وإما أن يكون في‬
‫المشيئة فال يدري بما يختم له إذا لم يكن عن استيفاء االجتهاد بقدر الوسع ورآه حسنا عن غير‬
‫ع َم ًال »أحسن عمال هنا من اإلحسان ‪ ،‬وهو‬ ‫سنَ َ‬ ‫ضي ُع أ َ ْج َر َم ْن أ َ ْح َ‬ ‫اجتهاد ‪ ،‬فقوله تعالى« ِإنَّا ال نُ ِ‬
‫ّللا تعالى في ذلك العمل ‪،‬‬ ‫الحضور مع ه‬
‫ّللا كأنك تراه فإن لم تكن تراه‬
‫ّللا عليه وسلم في اإلحسان [ أن تعبد ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وهو قول رسول ه‬
‫ّللا هو حياة ذلك العمل ‪ ،‬وبه س همي عبادة ‪ ،‬فاإلحسان في‬ ‫فإنه يراك ] وذلك الحضور مع ه‬
‫العبادة كالروح في الصور يحييها ‪ ،‬وإذا أحياها لم تزل تستغفر لصاحبها ‪ ،‬ولها البقاء الدائم ‪،‬‬
‫ّللا صادق ‪ ،‬وقد أخبر أنه ال يضيع أجر من أحسن عمال ‪ ،‬وأحسن‬ ‫فال يزال مغفورا له ‪ ،‬فإن ه‬
‫العمل ما عمل بشرطه وفي زمانه وتمام خلقه وكمال رتبته ‪،‬‬
‫ّللا كأنك تراه‬
‫وأصحاب هذا المقام ‪ -‬مقام اإلحسان ‪ -‬يشرعون في العمل على الحجاب ( اعبد ه‬
‫) فإذا رأوا المعمول له رأوا العمل صادرا منه فيهم ما هم العاملين ‪ ،‬فيخافون من مزلة القدم‬
‫فيما سماه من أفعاله حسنا وسيئا ‪.‬‬
‫ّللا ال يضيع أجر من أحسن عمال ‪ ،‬كيف يضيعه وهو الذي شرعه ووعد عليه‬ ‫‪-‬تحقيق ‪ -‬إن ه‬
‫باألجر ‪ ،‬ووعده صدق ؟‪.‬‬

‫ص ‪12‬‬

‫‪12‬‬
‫[سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 31‬إلى ‪] 32‬‬
‫س َ‬
‫ون‬ ‫ب َويَ ْلبَ ُ‬ ‫هار يُ َحله ْو َن ِفيها ِم ْن أَسا ِو َر ِم ْن ذَ َه ٍ‬
‫عد ٍْن تَجْ ِري ِم ْن تَحْ ِت ِه ُم ْاأل َ ْن ُ‬ ‫أُول ِئكَ لَ ُه ْم َجنهاتُ َ‬
‫سنَتْ ُم ْرتَفَقا ( ‪31‬‬ ‫علَى ْاألَرائِ ِك نِ ْع َم الث ه ُ‬
‫واب َو َح ُ‬ ‫ين فِيها َ‬ ‫ق ُمت ه ِكئِ َ‬ ‫ست َ ْب َر ٍ‬
‫ُس َوإِ ْ‬ ‫س ْند ٍ‬
‫ضرا ِم ْن ُ‬ ‫ثِيابا ُخ ْ‬
‫ض ِر ْب لَ ُه ْم َمثَال َر ُجلَ ْي ِن َجعَ ْلنا ِأل َ َح ِد ِهما َجنهت َ ْي ِن ِم ْن أَعْنا ٍ‬
‫ب َو َحفَ ْفنا ُهما بِنَ ْخ ٍل َو َجعَ ْلنا بَ ْينَ ُهما‬ ‫) َوا ْ‬
‫َز ْرعا ) ‪( 32‬‬
‫قصة هذين الرجلين هنا في الدنيا هو ما قصه الحق في سورة الكهف ‪ ،‬وذكر حديثهما في‬
‫اآلخرة في سورة الصافات ( قال قائل منهم ‪ :‬إني كان لي قرين ) إلى آخر الحديث وفيها ذكر‬
‫المعاتبة ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 33‬إلى ‪]36‬‬


‫كان لَهُ ث َ َم ٌر فَقا َل‬ ‫ش ْيئا َوفَ هج ْرنا ِخاللَ ُهما نَ َهرا ( ‪َ ) 33‬و َ‬ ‫ِك ْلتَا ا ْل َجنهت َ ْي ِن آتَتْ أ ُ ُكلَها َولَ ْم ت َ ْظ ِل ْم ِم ْنهُ َ‬
‫س ِه قا َل‬ ‫صاح ِب ِه َو ُه َو يُحا ِو ُر ُه أَنَا أ َ ْكث َ ُر ِم ْنكَ ماال َوأَع َُّز نَفَرا ( ‪َ ) 34‬و َد َخ َل َجنهتَهُ َو ُه َو ظا ِل ٌم ِلنَ ْف ِ‬ ‫ِل ِ‬
‫ساعَةَ قا ِئ َمة َولَ ِئ ْن ُر ِد ْدتُ ِإلى َر ِبّي َأل َ ِجد هَن َخ ْيرا‬ ‫ظ ُّن أ َ ْن ت َ ِبي َد ه ِذ ِه أَبَدا ( ‪َ ) 35‬وما أ َ ُ‬
‫ظ ُّن ال ه‬ ‫ما أ َ ُ‬
‫ِم ْنها ُم ْنقَلَبا ) ‪( 36‬‬
‫تاّلل إن كدت لتردين ) ورد في‬ ‫فيقول له صاحبه في اآلخرة لما اطلع فرآه في سواء الجحيم ( ه‬
‫عز وجل فيما يقوله‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬عن ربه ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫األخبار اإللهية الصحاح عن رسول ه‬
‫لعبده يوم القيامة‬
‫[ أظننت أنك مالقي ] ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 37‬إلى ‪] 39‬‬


‫س هواكَ َر ُجال ( ‪37‬‬ ‫صاحبُهُ َو ُه َو يُحا ِو ُرهُ أ َ َكفَ ْرتَ بِالهذِي َخلَقَكَ ِم ْن تُرا ٍ‬
‫ب ث ُ هم ِم ْن نُ ْطفَ ٍة ث ُ هم َ‬ ‫ِ‬ ‫قا َل لَهُ‬
‫ّللاُ َر ِبّي َوال أُش ِْركُ ِب َر ِبّي أ َ َحدا ( ‪َ ) 38‬ولَ ْو ال ِإ ْذ َد َخ ْلتَ َجنهت َكَ قُ ْلتَ ما شا َء ه‬
‫ّللاُ ال قُ هوةَ‬ ‫) ل ِكنها ُه َو ه‬
‫اّلِل ِإ ْن ت َ َر ِن أَنَا أَقَ هل ِم ْنكَ ماال َو َولَدا) ‪( 39‬‬
‫ِإاله ِب ه ِ‬

‫ص ‪13‬‬

‫‪13‬‬
‫[سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 40‬إلى ‪] 42‬‬
‫ص ِعيدا َزلَقا (‬ ‫ص ِب َح َ‬ ‫ماء فَت ُ ْ‬
‫س ِ‬ ‫سبانا ِم َن ال ه‬ ‫علَ ْيها ُح ْ‬ ‫فَعَسى َر ِبّي أ َ ْن يُ ْؤ ِتيَ ِن َخ ْيرا ِم ْن َجنه ِتكَ َويُ ْر ِ‬
‫س َل َ‬
‫ست َ ِطي َع لَهُ َطلَبا ( ‪َ ) 41‬وأ ُ ِحي َط بِث َ َم ِر ِه فَأ َ ْ‬
‫صبَ َح يُقَ ِلّ ُ‬
‫ب َكفه ْي ِه‬ ‫غ ْورا فَلَ ْن ت َ ْ‬
‫صبِ َح ماؤُها َ‬ ‫‪ ) 40‬أ َ ْو يُ ْ‬
‫شها َويَقُو ُل يا لَ ْيتَنِي لَ ْم أُش ِْر ْك بِ َر ِبّي أ َ َحدا ) ‪( 42‬‬ ‫ي خا ِويَةٌ عَلى ع ُُرو ِ‬ ‫ق فِيها َو ِه َ‬ ‫عَلى ما أ َ ْنفَ َ‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬تحفظ من الصاحب فإنه العدو المالزم ‪ ،‬فدلهه على الحق وإن ثقل عليه ‪ ،‬فيشكر لك‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫عند ه‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 43‬إلى ‪] 45‬‬


‫ق ُه َو‬ ‫كان ُم ْنت َ ِصرا ( ‪ُ ) 43‬هنا ِلكَ ا ْل َواليَةُ ِ ه ِ‬
‫ّلِل ا ْل َح ّ ِ‬ ‫ّللا َوما َ‬ ‫ص ُرونَهُ ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫َولَ ْم تَك ُْن لَهُ فِئَةٌ يَ ْن ُ‬
‫ماء فَ ْ‬
‫اختَلَ َط‬ ‫س ِ‬ ‫َماء أ َ ْن َز ْلناهُ ِم َن ال ه‬
‫ض ِر ْب لَ ُه ْم َمث َ َل ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا ك ٍ‬
‫ع ْقبا ( ‪َ ) 44‬وا ْ‬ ‫َخ ْي ٌر ثَوابا َو َخ ْي ٌر ُ‬
‫ش ْي ٍء ُم ْقتَدِرا ) ‪( 45‬‬ ‫ّللاُ عَلى ُك ِ ّل َ‬
‫كان ه‬‫ح َو َ‬ ‫شيما ت َ ْذ ُروهُ ِ ّ‬
‫الريا ُ‬ ‫ض فَأ َ ْ‬
‫صبَ َح َه ِ‬ ‫ِب ِه نَباتُ ْاأل َ ْر ِ‬
‫االقتدار حكم القادر في ظهور األشياء بأيدي األسباب ‪ ،‬واألسباب هي المتصفة بكسب القدرة ‪،‬‬
‫فهي مقتدرة أي متعملة في االقتدار ‪ ،‬وليس إال الحق تعالى ‪ ،‬فهو المقتدر على كل ما يوجده‬
‫فاّلل القادر من حيث األمر ‪ ،‬ومقتدر من حيث الخلق ‪،‬‬ ‫عند سبب أو بسبب ‪ ،‬ه‬
‫ومن وجه آخر ‪ ،‬القادر في مقابلة القابل لألثر فيه مع كونه معدوما في عينه ‪،‬‬
‫ففيه ضرب من االمتناع وهي مسألة مشكلة ‪ ،‬ألن تقدم العدم للممكن قبل وجوده ال يكون مرادا‬
‫‪ ،‬وال هو صفة نفسية للممكن ‪ ،‬فهذا هو اإلشكال فينبغي أن يعلم ‪،‬‬
‫والمقتدر ال يكون إال في حال تعلق القدرة بالمقدور ألنه تعمل في تعلق القدرة بالمقدور إليجاد‬
‫عينه‪.‬‬

‫ص ‪14‬‬

‫‪14‬‬
‫[سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 46‬‬
‫ون ِزينَةُ ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َوا ْلبا ِقياتُ ال ه‬
‫صا ِلحاتُ َخ ْي ٌر ِع ْن َد َر ِبّكَ ثَوابا َو َخ ْي ٌر أ َ َمال ) ‪( 46‬‬ ‫ا ْلما ُل َوا ْلبَنُ َ‬
‫جمع المال والبنون زينة الحياة الدنيا ‪ ،‬والباقيات الصالحات من الخير عند ربه وهو الثواب ‪،‬‬
‫ومن الخير المؤمل وهو المال والبنون ‪ ،‬ألنهما من الباقيات الصالحات ‪ ،‬أعني المال والبنين‬
‫إذا كان المال الصالح والولد الصالح والعلم الذي ينتفع به ‪ ،‬وهو ما سنه من سنة حسنة قال‬
‫عليه الصالة والسالم‬
‫[ يموت ابن آدم وينقطع عمله إال من ثالث ‪ :‬صدقة جارية أو علم يبثه في الناس أو ولد صالح‬
‫يدعو له ] ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪]47‬‬


‫بار َزة َو َحش َْرنا ُه ْم فَلَ ْم نُغاد ِْر ِم ْن ُه ْم أ َ َحدا ) ‪( 47‬‬
‫ض ِ‬ ‫س ِيّ ُر ا ْل ِجبا َل َوت َ َرى ْاأل َ ْر َ‬
‫َويَ ْو َم نُ َ‬
‫يكون عموم الحشر لعموم ما ضمنته الدار الدنيا ‪ ،‬من معدن ونبات وحيوان وإنس وجان‬
‫وسماء وأرض ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 48‬‬


‫صفًّا لَقَ ْد ِجئْت ُ ُمونا كَما َخلَ ْقنا ُك ْم أ َ هو َل َم هر ٍة بَ ْل َزع َْمت ُ ْم أَله ْن نَجْ عَ َل لَ ُك ْم َم ْو ِعدا (‬
‫َوع ُِرضُوا عَلى َر ِبّكَ َ‬
‫‪. )48‬‬
‫أول موقف إذا خرج الناس من قبورهم ‪ ،‬يقومون على أبواب قبورهم ألف سنة عراة حفاة‬
‫جياعا عطاشا ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 49‬‬


‫ون يا َو ْيلَتَنا ما ِلهذَا ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب ال يُغاد ُِر‬ ‫ين ِم هما فِي ِه َويَقُولُ َ‬
‫ش ِف ِق َ‬ ‫تاب فَت َ َرى ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ين ُم ْ‬ ‫َو ُو ِض َع ا ْل ِك ُ‬
‫حاضرا َوال يَ ْظ ِل ُم َربُّكَ أ َ َحدا ) ‪( 49‬‬
‫ِ‬ ‫يرة ِإاله أَحْ صاها َو َو َجدُوا ما ع َِملُوا‬ ‫يرة َوال َك ِب َ‬ ‫ص ِغ َ‬
‫َ‬
‫فالغافل هو الذي ال حفظ له يحضر له ما فعله ‪ ،‬ألنه استولى عليه سلطان الغفلة والسهو‬
‫والنسيان ‪ ،‬فيكون الحق يحفظ له أو عليه‪.‬‬

‫ص ‪15‬‬

‫‪15‬‬
‫[سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 50‬‬
‫ق ع َْن أ َ ْم ِر َر ِبّ ِه أ َ‬ ‫س َ‬‫كان ِم َن ا ْل ِج ِّن فَفَ َ‬
‫يس َ‬ ‫س َجدُوا ِإاله ِإ ْب ِل َ‬‫س ُجدُوا ِآل َد َم فَ َ‬ ‫َو ِإ ْذ قُ ْلنا ِل ْل َمال ِئ َك ِة ا ْ‬
‫ين بَدَال ) ‪( 50‬‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫س ِلل ه‬‫عد ٌُّو بِئْ َ‬ ‫فَتَت ه ِخذُونَهُ َوذُ ِ ّريهتَهُ أ َ ْو ِليا َء ِم ْن دُونِي َو ُه ْم لَ ُك ْم َ‬
‫ّللا إلى اإلنسان ‪ ،‬موكلون به حافظون كاتبون أفعالنا ‪ ،‬والشياطين مسلطون‬ ‫المالئكة رسل من ه‬
‫شرك بينهم في الرسالة أدخل تعالى‬ ‫ّللا ‪ ،‬فلما ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فهم مرسلون إلينا من ه‬ ‫على اإلنسان بأمر ه‬
‫س َجدُوا ِإ َّال ِإ ْب ِل َ‬
‫يس )‬ ‫إبليس في األمر بالسجود مع المالئكة فقال( َو ِإ ْذ قُ ْلنا ِل ْل َمالئِ َك ِة ا ْس ُجدُوا ِآل َد َم فَ َ‬
‫فأدخله معهم في األمر بالسجود فصح االستثناء ‪ ،‬وجعله منصوبا باالستثناء المنقطع ‪ ،‬فقطعه‬
‫عن المالئكة كما قطعه عنهم في خلقه من نار ‪ "،‬كانَ ِمنَ ْال ِج ِهن "‬
‫أي من الذين يستترون عن اإلنس مع حضورهم معهم فال يرونهم ‪ ،‬كالمالئكة ‪ ،‬وليس إبليس‬
‫أول الجن بمنزلة آدم من الناس ‪ ،‬بل هو واحد من الجن ‪،‬‬
‫وإن األول فيهم بمنزلة آدم في البشر إنما هو غيره ‪،‬‬
‫يس كانَ ِمنَ ْال ِج ِهن » أي من هذا الصنف من المخلوقين ‪،‬‬ ‫ولذلك قال تعالى« ِإ َّال ِإ ْب ِل َ‬
‫ّللا شقيا ‪ ،‬فهو أول األشقياء من البشر ‪ ،‬وإبليس أول األشقياء‬ ‫كما كان قابيل من البشر وكتبه ه‬
‫ع ْن أ َ ْم ِر َر ِبه ِه "‪.‬‬ ‫سقَ َ‬ ‫من الجن« فَفَ َ‬
‫يس أَبى َوا ْست َ ْكبَ َر َوكانَ ِمنَ ْالكافِ ِرينَ )‬ ‫وهو قوله تعالى( ِإ َّال ِإ ْب ِل َ‬
‫ّللا ‪ ،‬فسماه كافرا‪.‬‬ ‫فهو من الفاسقين الخارجين عن أمر ه‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 51‬‬


‫عضُدا ( ‪51‬‬ ‫ين َ‬ ‫ق أ َ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم َوما ُك ْنتُ ُمت ه ِخذَ ا ْل ُم ِض ِلّ َ‬ ‫ض َوال َخ ْل َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ش َه ْدت ُ ُه ْم َخ ْل َ‬
‫ق ال ه‬ ‫ما أ َ ْ‬
‫)‬
‫ض َوال خ َْلقَ أ َ ْنفُ ِس ِه ْم »وهو حال الفعل عند تعلق الفاعل‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬‫« ما أ َ ْش َه ْدت ُ ُه ْم خ َْلقَ ال َّ‬
‫بالمفعول ‪ ،‬وكيفية تعلق القدرة األزلية باإليجاد الذي حارت فيه المشاهد والعقول ‪ ،‬وكل من‬
‫رام الوقوف نكص على عقبه ورجع إلى مذهبه ‪،‬‬
‫وقد قال تعالى في أنفسهم وأقدسهم حين قال ( رب أرني كيف تحيي الموتى )‬
‫فلما أراه آثار القدرة ال تعلقها عرف كيفية األشياء والتحام األجزاء حتى قام شخصا سويا ‪ ،‬وال‬
‫رأى تعلق القدرة وال تحققها ‪ ،‬فقد تفرد الحق بسر نشأة خلقه ونشره ‪ ،‬فإنه ليس في حقائق ما‬
‫ّللا ما يعطي ذلك ‪ ،‬فال فعل ألحد‬ ‫سوى ه‬

‫ص ‪16‬‬

‫‪16‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فهذه اآلية دليل على عدم تجلي الحق في األفعال ‪ ،‬أعني نسبة ظهور الكائنات عن‬ ‫سوى ه‬
‫الذات التي تتكون عنها ‪ ،‬فما أشهدهم خلق السماوات وال األرض وال خلق أنفسهم ‪ ،‬أي‬
‫صدورها إلى الوجود ‪ ،‬أراد حالة اإليجاد ‪ ،‬فما شاهد أحد تعلق القدرة اإللهية باألشياء عند‬
‫إيجادها ‪ ،‬فإن الخلق يريد به المخلوق في موضع ‪،‬‬
‫ت‬‫سماوا ِ‬ ‫ّللا ) ويريد به الفعل في موضع ‪ ،‬مثل قوله« ما أ َ ْش َه ْدت ُ ُه ْم خ َْلقَ ال َّ‬ ‫مثل قوله ( هذا خلق ه‬
‫ّللا يشهد بها‬ ‫»فهنا يريد به الفعل بال شك ‪ ،‬ألنه ليس لمخلوق فعل أصال ‪ ،‬فما فيه حقيقة من ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫فعل ه‬
‫ّللا وال العقل األول أن يعقل كيفية اجتماع نسب يكون عن اجتماعها‬ ‫وما لمخلوق مما سوى ه‬
‫عين وجودية مستقلة في الظهور وغير مستقلة في الغنى ‪ ،‬مفتقرة باإلمكان المحكوم عليها به ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬وليس في اإلمكان أن يعلمه غير ه‬ ‫وهذا علم ال يعلمه إال ه‬
‫ّللا من شاء من عباده ‪ ،‬فأشبه العلم به العلم بذات الحق ‪،‬‬ ‫وال يقبل التعليم ‪ ،‬أعني أن يعلهمه ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فمن المحال حصول العلم بالعالم أو باإلنسان نفسه‬ ‫والعلم بذات الحق محال حصوله لغير ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فتفهم هذه المسألة فإني ما سمعت وال علمت أن أحدا نبه‬ ‫أو بنفس كل شيء لنفسه لغير ه‬
‫عليها وإن كان يعلمها ‪ ،‬فإنها صعبة التصور ‪ ،‬مع أن فحول العلماء يقولون بها وال يعلمون‬
‫ضدا ً »يعتضد بهم ‪.‬‬‫ع ُ‬ ‫أنها هي« َوما ُك ْنتُ ُمت َّ ِخذَ ْال ُم ِ‬
‫ض ِلهينَ َ‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 52‬إلى ‪] 54‬‬


‫ست َ ِجيبُوا لَ ُه ْم َو َجعَ ْلنا بَ ْينَ ُه ْم َم ْو ِبقا ‪( 52‬‬‫ِين َزع َْمت ُ ْم فَ َدع َْو ُه ْم فَلَ ْم يَ ْ‬
‫ي الهذ َ‬‫َويَ ْو َم يَقُو ُل نادُوا ش َُركائِ َ‬
‫ص هر ْفنا‬
‫ع ْنها َمص ِْرفا ( ‪َ ) 53‬ولَقَ ْد َ‬ ‫ار فَ َظنُّوا أَنه ُه ْم ُموا ِقعُوها َولَ ْم يَ ِجدُوا َ‬ ‫) َو َرأَى ا ْل ُمجْ ِر ُم َ‬
‫ون النه َ‬
‫ش ْي ٍء َجدَال ) ‪( 54‬‬ ‫سان أ َ ْكث َ َر َ‬
‫اْل ْن ُ‬ ‫اس ِم ْن ُك ِ ّل َمث َ ٍل َو َ‬
‫كان ْ ِ‬ ‫فِي هذَا ا ْلقُ ْر ِ‬
‫آن ِللنه ِ‬
‫باّلل كانت الحجة له ‪ ،‬فإن الحجة البالغة هّلل ‪ ،‬ومن تكلم‬ ‫الصمت حكمة وقليل فاعله ‪ ،‬فمن تكلم ه‬
‫بنفسه كان محجوبا ‪ ،‬كما أن الحق إذا تكلم بعبده كان كالمه ظاهرا بحيث يقتضيه مقام عبده ‪،‬‬
‫فإذا رد الجواب عليه عبده به ال بنفسه ‪ ،‬وظهر حكمه على كالم ربه ‪ ،‬نادى الحق عليه« َوكانَ‬
‫ش ْيءٍ َج َد ًال »وإن قال الحق ‪ ،‬ولكن ما كل حق يحمد ‪،‬‬ ‫سان أ َ ْكث َ َر َ‬ ‫ِْ‬
‫اإل ْن ُ‬

‫ص ‪17‬‬

‫‪17‬‬
‫وال كل ما ليس بحق يذم ‪ ،‬فاألدباء يعرفون المواطن التي يحمد فيها الحق فيأتون به فيها ‪،‬‬
‫ويعرفون المواطن التي يحمد فيها ما ليس بحق فيأتون به فيها ‪ ،‬ويتعلق بذلك تعلق اإلرادة‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن أراد‬ ‫باألمر التكليفي وموافقتها أو عدم الموافقة ‪ ،‬وأقوى الجدال ما يجادل به ه‬
‫ّللا له ‪ ،‬وأتى على ألسنة رسله ‪ ،‬فيمشي معه حيث مشى‬ ‫العصمة من ذلك فلينظر إلى ما شرع ه‬
‫ويقف عنده حيث وقف من غير مزيد ‪ ،‬وإن تناقضت األمور وتصادمت فذلك له ال لك ‪،‬‬
‫‪:‬ربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلماً‪.‬‬
‫وقل ‪ :‬ال أدري هكذا جاء األمر من عنده ‪ ،‬وارجع إليه وقل َ‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 55‬إلى ‪] 57‬‬


‫سنهةُ ْاأل َ هو ِل َ‬
‫ين أ َ ْو‬ ‫ست َ ْغ ِف ُروا َربه ُه ْم إِاله أ َ ْن تَأْتِيَ ُه ْم ُ‬‫اس أ َ ْن يُ ْؤ ِمنُوا إِ ْذ جا َء ُه ُم ا ْل ُهدى َويَ ْ‬
‫َوما َمنَ َع النه َ‬
‫ِين َكفَ ُروا‬ ‫ين َويُجا ِد ُل الهذ َ‬ ‫ين َو ُم ْنذ ِِر َ‬‫ش ِر َ‬ ‫ين إِاله ُمبَ ِ ّ‬
‫س ِل َ‬ ‫ذاب قُبُال ( ‪َ ) 55‬وما نُ ْر ِ‬
‫س ُل ا ْل ُم ْر َ‬ ‫يَأْتِيَ ُه ُم ا ْلعَ ُ‬
‫ق َوات ه َخذُوا آياتِي َوما أ ُ ْنذ ُِروا ُه ُزوا ( ‪َ ) 56‬و َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ْن ذُ ِ ّك َر ِبآيا ِ‬
‫ت‬ ‫باط ِل ِليُد ِْحضُوا ِب ِه ا ْل َح ه‬ ‫ِبا ْل ِ‬
‫ي ما قَ هد َمتْ يَدا ُه ِإنها َجعَ ْلنا عَلى قُلُو ِب ِه ْم أ َ ِكنهة أ َ ْن يَ ْفقَ ُهو ُه َوفِي آذانِ ِه ْم‬ ‫س َ‬‫ع ْنها َونَ ِ‬ ‫ض َ‬ ‫َر ِبّ ِه فَأَع َْر َ‬
‫ع ُه ْم ِإلَى ا ْل ُهدى فَلَ ْن يَ ْهتَدُوا ِإذا أَبَدا ) ‪( 57‬‬ ‫َو ْقرا َو ِإ ْن ت َ ْد ُ‬
‫اإلعراض عن اآليات التي نصبها الحق دالئل عليه دليل على عدم اإلنصاف واتباع الهوى‬
‫ّللا ما لم يكن يحتسب‬ ‫المردي ‪ ،‬وهو علة ال يبرأ منها صاحبها بعد استحكامها حتى يبدو له من ه‬
‫‪ ،‬فعند ذلك يريد استعمال الدواء فال ينفع ‪ ،‬كالتوبة عند طلوع الشمس من مغربها ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 58‬إلى ‪] 60‬‬


‫سبُوا لَعَ هج َل لَ ُه ُم ا ْلعَ َ‬
‫ذاب بَ ْل لَ ُه ْم َم ْو ِع ٌد لَ ْن يَ ِجدُوا ِم ْن‬ ‫ؤاخذُ ُه ْم ِبما َك َ‬ ‫الرحْ َم ِة لَ ْو يُ ِ‬‫ور ذُو ه‬ ‫َو َربُّكَ ا ْلغَفُ ُ‬
‫دُونِ ِه َم ْوئِال ( ‪َ ) 58‬وتِ ْلكَ ا ْلقُرى أ َ ْهلَ ْكنا ُه ْم لَ هما َظلَ ُموا َو َجعَ ْلنا ِل َم ْه ِل ِك ِه ْم َم ْو ِعدا ( ‪َ ) 59‬وإِ ْذ قا َل‬
‫ي ُحقُبا ) ‪( 60‬‬ ‫ح َحتهى أ َ ْبلُ َغ َمجْ َم َع ا ْلبَحْ َر ْي ِن أ َ ْو أ َ ْم ِض َ‬
‫ُموسى ِلفَتاهُ ال أ َ ْب َر ُ‬

‫ص ‪18‬‬

‫‪18‬‬
‫ي ُحقُبا ً »[‬ ‫" َو ِإ ْذ قا َل ُموسى ِلفَتاهُ »وهو صديقه« ال أَب َْر ُح َحتَّى أ َ ْبلُ َغ َم ْج َم َع ْالبَ ْح َري ِْن أ َ ْو أ َ ْم ِ‬
‫ض َ‬
‫مجمع البحرين ]‬
‫الحقبة السنة ‪ ،‬وإنما كان الحوت عند يوشع للمناسبة ‪ ،‬ألن يوشع هو ابن نون ‪ ،‬ولهذه المناسبة‬
‫كان الحوت الذي هو النون ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 61‬إلى ‪] 62‬‬


‫س َربا ( ‪ ) 61‬فَلَ هما َ‬
‫جاوزا قا َل‬ ‫سيا ُحوت َ ُهما فَات ه َخذَ َ‬
‫س ِبيلَهُ ِفي ا ْلبَحْ ِر َ‬ ‫فَلَ هما بَلَغا َمجْ َم َع بَ ْي ِن ِهما نَ ِ‬
‫صبا ) ‪( 62‬‬ ‫سفَ ِرنا هذا نَ َ‬ ‫غدا َءنا لَقَ ْد لَ ِقينا ِم ْن َ‬ ‫ِلفَتاهُ آتِنا َ‬
‫ولم يكن قبل ذلك أصابه النصب ليتذكر داللة الحوت‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬مجمع البحرين إشارة إلى علم الباطن وعلم الظاهر ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 63‬‬


‫طان أ َ ْن أ َ ْذك َُر ُه َوات ه َخ َذ‬ ‫سيتُ ا ْل ُحوتَ َوما أ َ ْنسا ِنيهُ ِإاله ال ه‬
‫ش ْي ُ‬ ‫قا َل أ َ َرأ َ ْيتَ ِإ ْذ أ َ َو ْينا ِإلَى ال ه‬
‫ص ْخ َر ِة فَ ِإ ِنّي نَ ِ‬
‫ع َجبا ) ‪( 63‬‬ ‫سبِيلَهُ فِي ا ْلبَحْ ِر َ‬ ‫َ‬
‫ّللا الذي أنساه أن‬ ‫من أدب يوشع فتى موسى إضافة النسيان إلى الشيطان ‪ ،‬وما أضافه إلى ه‬
‫ّللا من تمام ما سبق به العلم اإللهي من‬ ‫يعرف موسى عليه السالم بحياة الحوت ‪ ،‬لما أراد ه‬ ‫ه‬
‫زيادة األقدام التي قدر له أن يقطع بها تلك المسافة ‪ ،‬ويجاوز المكان الذي كان فيه خضر‬

‫[ كان الدليل حوتا ]‬


‫‪-‬إشارة ‪ -‬كان الدليل حوتا ولم يكن غير ذلك ألنه من الحيوان الذي يتكون في الماء ‪ ،‬فليس‬
‫بينه وبين األصل واسطة ‪ ،‬ألنه سبحانه جعل من الماء كل شيء حي ‪ ،‬فهو أصل الحياة ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ال موت عنده وال جهل ‪،‬‬
‫فكذلك جعله دليال على الخضر ‪ ،‬إذ كان حيا بما أعطاه ه‬
‫فكان الدليل مناسبا للمدلول ‪ ،‬ولهذا جعلت حياته دليال على وجود خضر ‪ ،‬أي قد وصلت إلى‬
‫معدن الحياة ‪ -‬أما اتخاذه البحر مسلكا فهو إشارة لرجوع األشياء إلى أصلها ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪]64‬‬


‫آثار ِهما قَ َ‬
‫صصا ) ‪( 64‬‬ ‫قا َل ذ ِلكَ ما ُكنها نَ ْب ِغ فَ ْ‬
‫ارتَدها عَلى ِ‬
‫أي يتبعان األثر إلى أن عادا إلى المكان‪.‬‬

‫ص ‪19‬‬

‫‪19‬‬
‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 65‬‬
‫عله ْمنا ُه ِم ْن لَ ُدنها ِع ْلما ( ‪) 65‬‬ ‫فَ َو َجدا َ‬
‫ع ْبدا ِم ْن ِعبادِنا آت َ ْينا ُه َرحْ َمة ِم ْن ِع ْندِنا َو َ‬

‫[ ‪ -‬تفسير من باب اإلشارة – " فَ َو َجدا " ]‬


‫ّللا وتأديبا لموسى عليه السالم لما جاوزه من‬ ‫‪-‬تفسير من باب اْلشارة ‪ «-‬فَ َو َجدا »تنبيها من ه‬
‫الحد في إضافة العلم إلى نفسه بأنه أعلم من في األرض في زمانه ‪ ،‬فلو كان عالما لعلم داللة‬
‫ّللا التعريف‬‫ساه ه‬
‫الحق التي هي عين اتخاذ الحوت سربا ‪ ،‬وما علم ذلك وقد علمه يوشع ‪ ،‬ون ه‬
‫بذلك ليظهر لموسى عليه السالم تجاوزه الحد في دعواه ولم ير هد ذلك إلى ه‬
‫ّللا في علمه في‬
‫عبْدا ً ِم ْن ِعبادِنا »فأضافه إلى نون الجمع وهو خضر ‪،‬‬ ‫خلقه «فَ َو َجدا َ‬
‫واسمه بليا بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السالم ‪ ،‬كان في جيش‬
‫فبعثه أمير الجيش يرتاد لهم ماء ‪ ،‬وكانوا قد فقدوا الماء ‪ ،‬فوقع بعين الحياة فشرب منه فعاش‬
‫إلى اآلن ‪،‬‬
‫ّللا به من الحياة شارب ذلك الماء ‪ ،‬والخضر هو الشاب الذي يقتله‬ ‫وكان ال يعرف ما خص ه‬
‫الدجال في زعمه ال في نفس األمر ‪ ،‬وهو فتى ممتلئ شبابا ‪ ،‬هكذا يظهر له في عينيه« آتَيْناهُ‬
‫َر ْح َمةً ِم ْن ِع ْندِنا »الرحمة تتقدم بين يدي العلم تطلب العبد ‪،‬‬
‫ثم يتبعها العلم ‪ ،‬فالعلم يستصحب الرحمة بال شك ‪ ،‬فإذا رأيت من يدعي العلم وال يقول بشمول‬
‫الرحمة فما هو صاحب علم ‪ ،‬وهذا هو علم الذوق ال علم النظر ‪،‬‬
‫قال تعالى في حق عبده خضر« آتَيْناهُ َر ْح َمةً ِم ْن ِع ْندِنا »فقدم الرحمة على العلم ‪ ،‬وهي‬
‫الرحمة التي في الجبلة ‪ ،‬جعلها فيه ليرحم بها نفسه وعباده ‪ ،‬فيكون في حق الغالم رحمة أن‬
‫حال بينه وبين ما يكتسبه لو عاش من اآلثام إذ قد كان طبع كافرا ‪ ،‬وأما رحمته بالملك‬
‫الغاصب حتى ال يتحمل وزر غصب تلك السفينة من هؤالء المساكين ‪ ،‬فالرحمة إنما تنظر من‬
‫جانب الرحيم بها ال من جانب صاحب الغرض ‪ ،‬فإنه جاهل بما ينفعه ‪،‬‬
‫ّللا تعالى أنه أعطاه رحمة من عنده أي رحمناه ‪ ،‬فأعطيناه هذا العلم الذي ظهر به ‪،‬‬ ‫وإن أراد ه‬
‫وهو ما أعطاه من الفهم ‪،‬‬
‫وهو مقام يحصل من وجهين ‪:‬‬
‫وجه اختصاص كالخضر وأمثاله من غير تعمل وكالقائم في آخر الزمان ‪،‬‬
‫ووجه آخر من طريق التعمل طريق الكسب ‪،‬‬
‫علَّ ْمناهُ ِم ْن لَ ُدنَّا ِع ْلما ً »جودا ورحمة من ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه لم يذكر له تعمال‬ ‫فقال تعالى في خضر« َو َ‬
‫في تحصيل شيء من ذلك ‪ ،‬وجعل الكل منه امتنانا وفضال ‪ ،‬فهو علم الوهب ال علم الكسب ‪،‬‬
‫فإنه لو أراد العلم المكتسب لقال تعالى ‪:‬‬
‫وعلمناه طريق اكتساب العلوم ‪ ،‬فالعلم الموهوب هو العلم اللدني علم الخضر وأمثاله ‪ ،‬وهو‬

‫ص ‪20‬‬

‫‪20‬‬
‫العلم الذي ال تعمل لهم فيه بخاطر أصال ‪ ،‬حتى ال يشوبه شيء من كدورات الكسب ‪،‬‬
‫والنبوات كلها علوم وهبية ‪ ،‬ألن النبوة ليست مكتسبة ‪،‬‬
‫فالشرائع كلها من علوم الوهب وكل علم حصل عن دعاء فيه أو بدعاء مطلق فهو مكتسب ‪،‬‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬فإنهم في باب تشريع االكتساب ‪،‬‬ ‫والعلم المكتسب ال يصلح إال للرسل صلوات ه‬
‫ّللا ترك طلب ما سواه ‪ ،‬فالكسب هو توفيقه‬ ‫فإذا وقفوا مع نبوتهم ال مع رسالتهم كان حالهم مع ه‬
‫ّللا‬
‫وإلهامه إلى ترك جميع المعلومات وجميع العالم من خاطره ‪ ،‬ويجلس فارغ القلب مع ه‬
‫ّللا ذكر قلب ‪ ،‬وال ينظر في دليل يوصله إلى علمه‬ ‫بحضور ومراقبة وسكينة وذكر إلهي باسم ه‬
‫ّللا من لدنه علما ‪ ،‬وهذا مقام المقربين وهو بين‬ ‫با هّلل ‪ ،‬فإذا لزم الباب وأدمن القرع بالذكر علهمه ه‬
‫الصديقية ونبوة التشريع ‪،‬‬
‫فلم يبلغ منزلة نبي التشريع من النبوة العامة ‪ ،‬وال هو من الصديقين الذين هم أتباع الرسل‬
‫باّلل مثل الخضر وأمثاله لم يكله إلى عنديته وال إلى‬‫لقول الرسل ‪ ،‬وغير الرسل من العلماء ه‬
‫نفسه ‪ ،‬بل تولى تعليمه ليريحه ‪ ،‬لما هو عليه من الضعف ‪ ،‬وأعطاه هذا العلم من أجل قوله«‬
‫لَ ُدنَّا »‬
‫والغصن اللدن هو الرطيب ‪ ،‬فهي هنا اللين والعطف وهي الرحمة المبطونة في المكروه ‪،‬‬
‫وبهذه الرحمة قتل الغالم وخرق السفينة ‪ ،‬وبالرحمة التي في الجبلة أقام الجدار ‪ ،‬وأضاف‬
‫الحق التعليم إليه تعالى ال إلى الفكر ‪ ،‬فعلمنا أن ث هم مقاما آخر فوق الفكر يعطي العبد العلم‬
‫بأمور شتى ‪ ،‬يقول عنه بعض العلماء إنه وراء طور العقل ‪ ،‬ومن العلوم ما يمكن أن يدركها‬
‫يجوزها الفكر وإن لم تحصل لذلك العقل من الفكر ‪ ،‬ومنها ما‬ ‫العقل من حيث الفكر ‪ ،‬ومنها ما ه‬
‫يجوزها الفكر وإن كان يستحيل أن يعينها الفكر ‪ ،‬ومنها ما يستحيل عند الفكر ويقبلها العقل من‬
‫الفكر مستحيلة الوجود ال يمكن أن يكون له تحت دليل اإلمكان ‪ ،‬فيعلمها هذا العقل من جانب‬
‫الحق واقعة صحيحة غير مستحيلة ‪ ،‬وال يزول اسم االستحالة وال حكم االستحالة عقال ‪،‬‬
‫باّلل ‪ ،‬فإذا نطقوا به‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [:‬إن من العلم كهيئة المكنون ال يعلمه إال العلماء ه‬‫قال صلهى ه‬
‫باّلل ]‬
‫لم ينكره إال أهل الغرة ه‬
‫هذا من العلم الذي يكون تحت النطق ‪ ،‬فما ظنك بالعلم الخارج عن الدخول تحت حكم النطق ‪،‬‬
‫فما كل علم يدخل تحت العبارات وهي علوم األذواق كلها ‪ ،‬وفي هذه اآلية جمع بنون الجمع‬
‫في قوله تعالى آتيناه وعلمناه ولدنا ‪ ،‬أي جمع له في هذا الفتح العلم الظاهر والباطن ‪ ،‬وعلم‬
‫السر والعالنية ‪ ،‬وعلم الحكم والحكمة ‪ ،‬وعلم العقل‬

‫ص ‪21‬‬

‫‪21‬‬
‫[استدراك ‪ -‬العلم وسوء الخلق ال يجتمعان ]‬
‫والوضع ‪ ،‬وعلم األدلة والشبه ‪ ،‬ومن أعطي العلم العام وأمر بالتصرف فيه كاألنبياء ومن شاء‬
‫ّللا من األولياء أنكر عليه ‪ ،‬ولم ينكر هذا الشخص على أحد ما يأتي به من العلوم وإن حكم‬ ‫ه‬
‫بخالفه ‪ ،‬ولكن يعرف موطنه وأين يحكم به ‪،‬‬
‫ّللا وهو لكل مخلوق ‪ ،‬وهو وجه ال يطلع‬ ‫وهذا العلم من الوجه الخاص الذي بين العبد وبين ه‬
‫عليه من العبيد نبي مرسل وال ملك مقرب ‪ ،‬ولذلك قال الخضر لموسى عليه السالم ‪ :‬أنا على‬
‫ّللا لعبده ‪ ،‬ال يطلع على‬
‫ّللا ال تعلمه أنت ‪ ،‬ألنه كان من الوجه الخاص الذي من ه‬ ‫علم علمنيه ه‬
‫ذلك الوجه إال صاحبه ‪،‬‬
‫ّللا ال أعلمه أنا ‪ ،‬فإن كان موسى عليه السالم‬
‫ثم قال له الخضر ‪ :‬وأنت أيضا على علم علمكه ه‬
‫قد علم وجهه الخاص عرف ما يأتيه من ذلك الوجه ‪ ،‬وإن كان لم يعلم ذلك فقد نبهه الخضر‬
‫ّللا فيه‬
‫عليه ليسأل ه‬
‫‪ -‬استدراك –‬
‫اعلم أن العلم وسوء الخلق ال يجتمعان في موفق ‪ ،‬فكل عالم فهو واسع المغفرة والرحمة ‪،‬‬
‫وسوء الخلق من الضيق والحرج وذلك لجهله ‪ ،‬واعلم أن العلم وإن كان شريفا فإن له معادن ‪،‬‬
‫أشرفها ما يكون من لدنه ‪،‬‬
‫فإن الرحمة مقرونة به ‪ ،‬ولها النفس الذي ينفهس ه‬
‫ّللا به عن عباده ما يكون من الشدة فيهم ‪،‬‬
‫والعبد إذا لزم الخلوة والذكر ‪ ،‬وفرغ المحل من الفكر ‪ ،‬وقعد فقيرا ال شيء له عند باب ربه ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا تعالى ويعطيه من العلم به واألسرار اإللهية ‪ ،‬والمعارف الربانية التي أثنى ه‬ ‫حينئذ يمنحه ه‬
‫بها على عبده خضر ما يغيب عنده كل متكلم على البسيطة ‪ ،‬بل كل صاحب نظر وبرهان‬
‫ليست له هذه الحالة ‪ ،‬فإنها وراء النظر العقلي ‪،‬‬
‫[ مراتب العلوم ]‬
‫إذ كانت العلوم على ثالث مراتب ‪:‬‬
‫‪ -‬علم العقل ‪ -‬وهو كل علم يحصل لك ضرورة أو عقيب نظر في دليل ‪ ،‬بشرط العثور على‬
‫وجه ذلك الدليل ‪ ،‬وشبهه من جنسه من عالم الفكر الذي يجمع ويختص بهذا الفن من العلوم ‪،‬‬
‫ولهذا يقولون في النظر ‪ :‬منه صحيح ومنه فاسد‬
‫‪ -‬والعلم الثاني ‪ -‬علم األحوال ‪ -‬وال سبيل إليها إال بالذوق ‪ ،‬فال يقدر عاقل على أن يحدهها وال‬
‫يقيم على معرفتها دليال ‪ ،‬كالعلم بحالوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والعشق والوجد‬
‫والشوق وما شاكل هذا النوع من العلوم ‪ ،‬فهذه علوم من المحال أن يعلمها أحد إال بأن يتصف‬
‫بها ويذوقها ‪ ،‬وشبهها من جنسها في أهل الذوق ‪ ،‬كمن يغلب على محله طعمة المرة الصفراء‬
‫‪ ،‬فيجد العسل مرا وليس كذلك ‪ ،‬فإن الذي باشر محل الطعم إنما هو المرة الصفراء‬
‫‪ -‬والعلم الثالث ‪ -‬علوم األسرار ‪ -‬وهو العلم الذي فوق طور العقل ‪ ،‬وهو علم نفث روح‬
‫القدس في الروع ‪ ،‬يختص به النبي والولي ‪،‬‬
‫ص ‪22‬‬

‫‪22‬‬
‫وهو نوعان ‪:‬‬
‫نوع منه يدرك بالعقل كالعلم األول من هذه األقسام ‪ ،‬لكن هذا العالم به لم يحصل له عن نظر ‪،‬‬
‫ولكن مرتبة هذا العلم أعطت هذا ‪،‬‬
‫والنوع اآلخر على ضربين ‪ ،‬ضرب منه يلتحق بالعلم الثاني لكن حاله أشرف ‪ ،‬والضرب‬
‫اآلخر من علوم األخبار وهي التي يدخلها الصدق والكذب ‪ ،‬إال أن يكون المخبر به قد ثبت‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليهم عن ه‬ ‫صدقه عند المخبر ‪ ،‬وعصمته فيما يخبر به ويقوله ‪ ،‬كإخبار األنبياء صلوات ه‬
‫‪ ،‬وكإخبارهم بالجنة وما فيها ‪ ،‬فقوله إن ث هم جنة من علم الخبر ‪،‬‬
‫وقوله في القيامة إن فيها حوضا أحلى من العسل من علم األحوال ‪ ،‬وهو علم الذوق ‪ ،‬وقوله‬
‫ّللا وال شيء معه ومثله من علوم العقل المدركة بالنظر ‪،‬‬ ‫كان ه‬
‫فهذا الصنف الثالث الذي هو علم األسرار العالم به يعلم العلوم كلها ويستغرقها ‪ ،‬وليس‬
‫صاحب تلك العلوم كذلك ‪ ،‬فال علم أشرف من هذا العلم المحيط الحاوي على جميع المعلومات‬
‫‪ ،‬وما بقي إال أن يكون المخبر به صادقا عند السامعين له معصوما ‪ ،‬هذا شرطه عند العامة ‪،‬‬
‫وأما العاقل اللبيب الناصح نفسه فال يرمي به ‪،‬‬
‫ولكن يقول ‪ :‬هذا جائز عندي أن يكون صدقا أو كذبا ‪ ،‬وكذلك ينبغي لكل عاقل إذا أتاه بهذه‬
‫العلوم غير المعصوم ‪ ،‬وإن كان صادقا في نفس األمر فيما أخبر به ‪ ،‬ولكن كما ال يلزم هذا‬
‫السامع له صدقه ال يلزمه تكذيبه ‪،‬‬
‫تجوزه‬
‫ولكن يتوقف ‪ ،‬وإن صدهقه لم يضره ‪ ،‬ألنه أتى في خبره بما ال تحيله العقول ‪ ،‬بل بما ه‬
‫أو تقف عنده ‪ ،‬وال يهد ركنا من أركان الشريعة ‪ ،‬وال يبطل أصال من أصولها ‪ ،‬فإذا أتى بأمر‬
‫جوزه العقل وسكت عنه الشارع فال ينبغي لنا أن نرده أصال ‪،‬‬
‫ونحن مخيرون في قبوله إن كانت حالة المخبر به تقتضي العدالة لم يضرنا قبوله ‪ ،‬كما تقبل‬
‫شهادته ونحكم بها في األموال واألرواح ‪ ،‬وإن كان غير عدل في علمنا فننظر ‪،‬‬
‫فإن كان الذي أخبر به حقا بوجه ما عندنا من الوجوه المصححة قبلناه ‪ ،‬وإال تركناه في باب‬
‫ست ُ ْكت َ ُ‬
‫ب‬ ‫الجائزات ولم نتكلم في قائله بشيء ‪ ،‬فإنها شهادة مكتوبة نسأل عنها ‪ ،‬قال تعالى ‪َ (:‬‬
‫شَها َدت ُ ُه ْم َويُ ْسئَلُونَ )‬
‫ولو لم يأت هذا المخبر إال بما جاء به المعصوم فهو حاك لنا ما عندنا من رواية عنه ‪ ،‬فال‬
‫ّللا عنهم بأسرار وحكم من أسرار الشريعة ‪ ،‬مما‬ ‫فائدة زادها عندنا بخبره ‪ ،‬وإنما يأتون رضي ه‬
‫هي خارجة عن قوة الفكر والكسب ‪،‬‬
‫وال تنال أبدا إال بالمشاهدة واإللهام وما شاكل هذه الطرق ‪ ،‬ومن هنا تكون الفائدة بقوله عليه‬
‫السالم ‪ [ :‬إن يكن من أمتي محدهثون فمنهم عمر ]‬
‫وقوله في أبي بكر في فضله بالسر غيره ‪ ،‬ولو لم يقع اإلنكار لهذه العلوم في الوجود لم يفد‬

‫ص ‪23‬‬

‫‪23‬‬
‫ّللا عليه وسلم وعاءين ‪ ،‬فأما أحدهما فبثثته ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫قول أبي هريرة [ حفظت من رسول ه‬
‫وأما اآلخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم ]‬
‫سماوا ٍ‬
‫ت َو ِمنَ‬ ‫ّللاُ الَّذِي َخلَقَ َ‬
‫س ْب َع َ‬ ‫ّللا ه‬
‫عز وجل( َّ‬ ‫ولم يفد قول ابن عباس حين قال في قول ه‬
‫ض ِمثْلَ ُه َّن يَتَن ََّز ُل ْاأل َ ْم ُر بَ ْينَ ُه َّن )‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫لو ذكرت تفسيره لرجمتموني ‪ ،‬وفي رواية لقلتم إني كافر ‪ ،‬ولم يكن لقول الرضي من حفدة‬
‫ّللا عنه معنى ‪،‬‬ ‫علي بن أبي طالب رضي ه‬
‫إذ قال ‪:‬‬
‫يا رب جوهر علم لو أبوح به *** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا‬
‫والستحل رجال مسلمون دمي *** يرون أقبح ما يأتونه حسنا‬
‫فهؤالء كلهم سادات أبرار فيما أحسب واشتهر عنهم ‪ ،‬قد عرفوا هذا العلم ورتبته ومنزلة أكثر‬
‫العالم منه ‪ ،‬وأن األكثر منكرون له ‪ ،‬وينبغي للعاقل العارف أن ال يأخذ عليهم في إنكارهم ‪،‬‬
‫فإنه في قصة موسى مع خضر مندوحة لهم ‪ ،‬وحجة للطائفتين ‪ ،‬وإن كان إنكار موسى عن‬
‫ّللا إياه ‪ ،‬وبهذه القصة عينها نحتج على المنكرين ‪ ،‬لكنه ال سبيل إلى‬ ‫نسيان لشرطه ولتعديل ه‬
‫خصامهم ‪ .‬واعلم أن كل علم إذا بسطته العبارة حسن وفهم معناه أو قارب وعذب عند السامع‬
‫الفهم فهو علم العقل النظري ‪ ،‬ألنه تحت إدراكه ومما يستقل به لو نظر ‪ ،‬إال علم األسرار ‪،‬‬
‫فإنه إذا أخذته العبارة سمج واعتاص على األفهام دركه وخشن ‪ ،‬وربما مجته العقول الضعيفة‬
‫ّللا فيها من النظر والبحث ‪ ،‬وأما علوم‬ ‫المتعصبة التي لم تتوفر لتصريف حقيقتها التي جعل ه‬
‫األحوال فمتوسطة بين علم األسرار وعلم العقول ‪ ،‬ثم لتعلم أنه إذا حسن عندك وقبلته وآمنت‬
‫به فأبشر أنك على كشف منه ضرورة وأنت ال تدري ‪ ،‬ال سبيل إال هذا ‪ ،‬إذ ال يثلج الصدر إال‬
‫بما يقطع بصحته ‪ ،‬وليس للعقل هنا مدخل ‪ ،‬ألنه ليس من دركه إال إن أتى بذلك معصوم ‪،‬‬
‫حينئذ يثلج صدر العاقل ‪ ،‬وأما غير المعصوم فال يلتذ بكالمه إال صاحب ذوق ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 66‬‬


‫قا َل لَهُ ُموسى َه ْل أَت ه ِبعُكَ عَلى أ َ ْن تُعَ ِلّ َم ِن ِم هما ُ‬
‫ع ِلّ ْمتَ ُرشْدا ) ‪( 66‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا من البشر ‪ ،‬ومع هذا ال يبعد أن يخص ه‬
‫اعلم أن األنبياء أصحاب الشرائع هم أرفع عباد ه‬
‫المفضول بعلم ليس عند الفاضل ‪ ،‬وال يدل تميزه عنه أنه بذلك العلم أفضل منه ‪،‬‬

‫ص ‪24‬‬

‫‪24‬‬
‫ّللا ال تعلمه أنت ‪ ،‬وأنت على علم‬
‫قال الخضر لموسى عليه السالم ‪ :‬أنا على علم علمنيه ه‬
‫ّللا ال أعلمه أنا ‪.‬‬
‫علمكه ه‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 67‬‬


‫ص ْبرا ) ‪( 67‬‬
‫ي َ‬ ‫قا َل ِإنهكَ لَ ْن ت َ ْ‬
‫ست َ ِطي َع َم ِع َ‬
‫ثم أنصفه في العلم وقال له ‪ :‬يا موسى أنا على علم ‪ . . .‬الحديث ‪. -‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 68‬‬


‫صبِ ُر عَلى ما لَ ْم ت ُ ِح ْط بِ ِه ُخ ْبرا ) ‪( 68‬‬ ‫ف تَ ْ‬‫َو َك ْي َ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن‬ ‫الخبر الذوق ‪ ،‬وهو علم حال ألنه وحي خاص إلهي ‪ ،‬ليس للملك فيه وساطة من ه‬
‫ّللا وبين رسوله ‪ ،‬فال خبر له بهذا الذوق في عين إمضاء‬ ‫وحي الرسل إنما هو بالملك بين ه‬
‫الحكم في عالم الشهادة ‪ ،‬فما تعود اإلرسال لتشريع األحكام اإللهية في عالم الشهادة إال بواسطة‬
‫الروح الذي ينزل به على قلبه أو في تمثله ‪ ،‬لم يعرف الرسول الشريعة إال على هذا الوصف‬
‫ّللا ‪ ،‬وما تنتج له تلك‬ ‫ال غير الشريعة ‪ ،‬فإن الرسول له قرب أداء الفرائض والمحبة عليها من ه‬
‫باّلل ال من التشريع‬ ‫المحبة ‪ ،‬وله قرب النوافل ومحبتها وما يعطيه محبتها ‪ ،‬ولكن من العلم ه‬
‫وإمضاء الحكم في عالم الشهادة ‪ ،‬فخرق الخضر السفينة وقتل الغالم حكما ‪ ،‬وأقام الجدار‬
‫مكارم أخالق عن حكم أمر إلهي ‪ ،‬فلم يحط موسى عليه السالم به خبرا من هذا القبيل ‪ ،‬فهذا‬
‫القدر الذي اختص به خضر دون موسى عليه السالم ‪ ،‬فلما علم الخضر أن موسى عليه السالم‬
‫ْف‬‫ليس له ذوق في المقام الذي هو الخضر عليه ‪ ،‬قال الخضر لموسى عليه السالم« َو َكي َ‬
‫ط بِ ِه ُخبْرا ً »‪،‬‬ ‫على ما لَ ْم ت ُ ِح ْ‬‫صبِ ُر َ‬‫تَ ْ‬
‫ألنه كان في مقام لم يكن لموسى عليه السالم في ذلك الوقت الذي نفاه عنه العدل بقوله ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وكما أن‬‫ّللا إياه بما شهد له به من العلم ‪ ،‬مع كون موسى عليه السالم كليم ه‬ ‫وتعديل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬إال أن مقام الخضر ال‬ ‫الخضر ليس له ذوق فيما هو موسى عليه من العلم الذي علمه ه‬
‫ّللا ‪ ،‬لمشاهدة خاصة هو عليها ‪ ،‬ومقام موسى والرسل‬ ‫يعطي االعتراض على أحد من خلق ه‬
‫يعطي االعتراض من حيث هم رسل ال غير ‪،‬‬
‫في كل ما يرونه خارجا عما أرسلوا به ‪،‬‬
‫على ما لَ ْم ت ُ ِح ْ‬
‫ط بِ ِه‬ ‫ودليل ما ذهبنا إليه في هذا قول الخضر لموسى عليه السالم« َو َكي َ‬
‫ْف ت َ ْ‬
‫صبِ ُر َ‬
‫ُخ ْبرا ً »‪ ،‬فلو كان الخضر نبيا لما قال له« ما لَ ْم ت ُ ِح ْ‬
‫ط ِب ِه ُخبْرا ً »‬
‫فالذي فعله لم يكن من مقام النبوة ‪ ،‬وقال له في انفراد كل واحد منهما بمقامه الذي هو عليه [ يا‬

‫ص ‪25‬‬

‫‪25‬‬
‫موسى أنا على علم ‪ . . .‬الحديث [ فافترقا وتميزا باإلنكار ‪ ،‬وما رد موسى على الخضر في‬
‫ذلك ‪ ،‬وال أنكر عليه في قوله المذكور في هذه اآلية ‪ ،‬بل ‪.‬‬

‫[سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 69‬‬


‫ْصي لَكَ أ َ ْمرا ( ‪) 69‬‬
‫ّللاُ صا ِبرا َوال أَع ِ‬
‫ست َ ِج ُدنِي ِإ ْن شا َء ه‬
‫قا َل َ‬
‫[ حكمة تأخير االستثناء على الفعل ]‬
‫قال ذلك ألنه قال له قبل ذلك ( هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ) والصبر ال يكون‬
‫إال على ما يشق عليه ‪ ،‬وأدخل موسى نفسه عليه السالم في اتباع الخضر وتحت شرطه ‪،‬‬
‫ّللا ونجيه ‪ ،‬ومع هذا لم يصبر ألنه قدم االستثناء ‪ ،‬فلو قدم موسى عليه السالم‬ ‫وموسى كليم ه‬
‫الصبر على المشيئة كما يفعل المحمدي لصبر ولم يعترض ‪،‬‬

‫ش ْيءٍ‬ ‫ّللا قدمه في اإلعالم تعليما لمحمد صلهى ه‬


‫ّللا عليه وسلم في قوله تعالى ‪َ (:‬وال تَقُولَ َّن ِل َ‬ ‫فإن ه‬
‫ِإ ِنهي فا ِع ٌل ذ ِل َك غَدا ً ِإ َّال أ َ ْن يَشا َء َّ‬
‫ّللاُ )‬
‫ّللا في خلقه فليقف عند ترتيب حكمته في األشياء ‪،‬‬ ‫فأخر االستثناء ‪ ،‬فمن أراد أن يحصل علم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإذا أخرت ما قدمه أو قدمت ما أخره فهو نزاع خفي‬ ‫ّللا ويؤخر ما أخر ه‬ ‫وليقدم ما قدم ه‬
‫فاّلل أخر االستثناء وقدمه موسى عليه السالم فلم يصبر ‪ ،‬فلو أخره لصبر ‪،‬‬ ‫يورث حرمانا ‪ ،‬ه‬
‫ّللا عليه وسلم مذكورة باللسان العبراني في‬ ‫واآلية التي ذكرناها أنها نزلت على محمد صلهى ه‬
‫التوراة ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 70‬‬


‫ِث لَكَ ِم ْنهُ ِذ ْكرا ) ‪( 70‬‬ ‫ش ْي ٍء َحتهى أُحْ د َ‬ ‫سئ َ ْلنِي ع َْن َ‬ ‫قا َل فَ ِإ ِن اتهبَ ْعتَنِي فَال ت َ ْ‬
‫كل أمر يقع التعجب منه فإن صاحبه الذي أوجده للتعجب ما أوجده بهذه الحالة إال ليحدث منه‬
‫ذكرا لهذا الذي تعجب منه ‪ ،‬فال تستعجل ‪ ،‬فإنه ال بد أن يخبره موجده بحديثه ‪ ،‬إال أن اإلنسان‬
‫ّللا‬
‫خلق عجوال ‪ ،‬وما في العالم أمر ال يتعجب منه ‪ ،‬فالوجود كله عجيب ‪ ،‬فال بد أن يحدث ه‬
‫ّللا لهم ذكرا منه في هذه الدار ‪ ،‬فعرفوا لما خلقوا له‬ ‫منه ذكرا للمتعجبين ‪ ،‬فالعارفون أحدث ه‬
‫ولما خلق لهم ‪ ،‬والعامة تعرف حقائق األمور في اآلخرة ‪ ،‬فال بد من العلم سواء في الدنيا‬
‫للعلماء أو في اآلخرة للعامة ‪.‬‬
‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪71‬إلى ‪] 72‬‬
‫ش ْيئا ِإ ْمرا ( ‪71‬‬ ‫س ِفينَ ِة َخ َرقَها قا َل أ َ َخ َر ْقتَها ِلت ُ ْغ ِر َ‬
‫ق أ َ ْهلَها لَقَ ْد ِجئْتَ َ‬ ‫فَا ْن َطلَقا َحتهى ِإذا َر ِكبا فِي ال ه‬
‫ص ْبرا) ‪( 72‬‬ ‫ي َ‬ ‫) قا َل أ َ لَ ْم أَقُ ْل ِإنهكَ لَ ْن ت َ ْ‬
‫ست َ ِطي َع َم ِع َ‬

‫ص ‪26‬‬

‫‪26‬‬
‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪]73‬‬
‫سرا ) ‪( 73‬‬‫ع ْ‬ ‫ؤاخ ْذ ِني ِبما نَ ِ‬
‫سيتُ َوال ت ُ ْر ِه ْق ِني ِم ْن أ َ ْم ِري ُ‬ ‫قا َل ال ت ُ ِ‬
‫العلم حاكم ‪ ،‬فإن لم يعمل العالم بعلمه فليس بعالم ‪ ،‬العلم ال يمهل وال يهمل ‪ ،‬لما علم الخضر‬
‫حكم ‪ ،‬ولما لم يعلم ذلك صاحبه اعترض عليه ونسي ما كان قد ألزمه ‪ ،‬فالتزم ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 74‬‬


‫غالما فَقَتَلَهُ قا َل أ َ قَت َ ْلتَ نَ ْفسا َز ِكيهة ِبغَ ْي ِر نَ ْف ٍس لَقَ ْد ِجئْتَ َ‬
‫ش ْيئا نُ ْكرا (‪)74‬‬ ‫فَا ْن َطلَقا َحتهى ِإذا لَ ِقيا ُ‬
‫شيْئا ً نُ ْكرا ً »أي ينكره‬
‫ت َ‬‫[ من كان وقته الكشف أنكر عليه ولم ينكر هو على أحد ]« لَقَ ْد ِجئْ َ‬
‫ّللا‬
‫شرعي ‪ ،‬فما أنكر موسى عليه السالم إال بما شرع له اإلنكار فيه ‪ ،‬ولكن غاب عن تزكية ه‬
‫لهذا الذي جاء بما أنكره عليه صاحبه ‪ ،‬فهو في الظاهر طعن في المزكي ‪.‬‬
‫ّللا في الرسل عليهم السالم‬ ‫واعلم أنه ما أذهل موسى عليه السالم إال سلطان الغيرة التي جعل ه‬
‫ّللا على أيديهم ‪ ،‬هللف أنكروا ‪ ،‬وتكرر منه عليه السالم اإلنكار مع تنبيه العبد‬ ‫على مقام شرع ه‬
‫الصالح في كل مسئلة ‪ ،‬ويأبى سلطان الغيرة إال االعتراض ‪ ،‬ألن شرعه ذوق له ‪ ،‬والذي رآه‬
‫من غيره أجنبي عنه ‪ ،‬وإن كان علما صحيحا ‪ ،‬ولكن الذوق أغلب والحال أحكم ‪.‬‬
‫واعلم أن الكشف ال ينكر شيئا ‪ ،‬بل يقرر كل شيء في رتبته ‪ ،‬من عقل وشرع وذوق ‪ ،‬فمن‬
‫كان وقته الكشف أنكر عليه ولم ينكر هو على أحد ‪ ،‬ومن كان وقته العقل أنكر وأنكر عليه ‪،‬‬
‫ومن كان وقته الشرع أنكر وأنكر عليه ‪ ،‬والمحقق ينكر مع الشرع ما ينكره الشرع ‪ ،‬ألن وقته‬
‫الشرع ‪ ،‬وال ينكره كشفا وال عقال ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 75‬إلى ‪] 77‬‬


‫ش ْي ٍء بَ ْعدَها فَال‬‫سأ َ ْلت ُكَ ع َْن َ‬ ‫ص ْبرا ) ‪ ( 75‬قا َل إِ ْن َ‬ ‫ي َ‬ ‫قا َل أ َ لَ ْم أَقُ ْل لَكَ إِنهكَ لَ ْن ت َ ْ‬
‫ست َ ِطي َع َم ِع َ‬
‫صاح ْبنِي قَ ْد بَلَ ْغتَ ِم ْن لَ ُد ِنّي ع ُْذرا ( ‪ ) 76‬فَا ْن َطلَقا َحتهى ِإذا أَتَيا أ َ ْه َل قَ ْريَ ٍة ا ْ‬
‫ست َ ْطعَما أ َ ْهلَها فَأَبَ ْوا‬ ‫تُ ِ‬
‫علَ ْي ِه أَجْ را (‪)77‬‬ ‫شئْتَ الت ه َخ ْذتَ َ‬ ‫ض فَأَقا َمهُ قا َل لَ ْو ِ‬ ‫ض ِيّفُو ُهما فَ َو َجدا فِيها ِجدارا يُ ِري ُد أ َ ْن يَ ْنقَ ه‬ ‫أ َ ْن يُ َ‬

‫ص ‪27‬‬

‫‪27‬‬
‫ي ِم ْن َخي ٍْر فَ ِق ٌ‬
‫ير )وما طلب اإلجارة‬ ‫فكانت الثالثة ‪ ،‬ونسي موسى حالة قوله( ِإ ِنهي ِلما أ َ ْنزَ ْل َ‬
‫ت ِإلَ َّ‬
‫على سقايته مع الحاجة ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ‪( 18 ) :‬آية ‪] 78‬‬


‫ص ْبرا ) ‪( 78‬‬‫علَ ْي ِه َ‬ ‫سأُنَ ِبّئ ُكَ ِبتَأ ْ ِوي ِل ما لَ ْم ت َ ْ‬
‫ست َ ِط ْع َ‬ ‫ق بَ ْينِي َوبَ ْينِكَ َ‬
‫قا َل هذا فِرا ُ‬
‫فحصل لموسى عليه السالم مقصوده ومقصود الحق في تأديبه ‪ ،‬فعلم أن هّلل عبادا عندهم من‬
‫العلم ما ليس عنده ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 79‬‬


‫كان َورا َء ُه ْم َم ِلكٌ يَأ ْ ُخذُ ُك هل‬
‫ون فِي ا ْلبَحْ ِر فَأ َ َر ْدتُ أ َ ْن أ َ ِعيبَها َو َ‬ ‫س ِفينَةُ فَكانَتْ ِل َمسا ِك َ‬
‫ين يَ ْع َملُ َ‬ ‫أ َ هما ال ه‬
‫غصْبا ) ‪( 79‬‬ ‫س ِفينَ ٍة َ‬
‫َ‬
‫من كالم خضر يعلم أدب اإلضافة ‪ ،‬فقال« فَأ َ َردْتُ أ َ ْن أ َ ِعيبَها »لذكره العيب وهو ما يذم ‪ ،‬وقال‬
‫في الغالم ( فأردنا أن يبدلهما ) لالشتراك بين ما يحمد ويذم ‪ ،‬وقال في الجدار ( فأراد ربك )‬
‫لتخليص المحمدة فيه ‪ ،‬فيكتسب الشيء الواحد بالنسبة ذما ‪ ،‬وباإلضافة إلى جهة أخرى حمدا‬
‫وهو عينه ‪ ،‬وتغير الحكم بالنسبة ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 80‬‬


‫شينا أ َ ْن يُ ْر ِهقَ ُهما ُ‬
‫ط ْغيانا َو ُك ْفرا ) ‪( 80‬‬ ‫كان أَبَوا ُه ُم ْؤ ِمنَ ْي ِن فَ َخ ِ‬
‫َوأ َ هما ا ْلغُال ُم فَ َ‬
‫ّللا للخضر بأنه رحيم ‪ ،‬اقتلع رأس الغالم وقال ‪ :‬إنه طبع كافرا ‪ ،‬فلو عاش أرهق‬ ‫وقد شهد ه‬
‫أبويه طغيانا وكفرا ‪ ،‬وانتظم الغالم في سلك الكفار ‪ ،‬فقتله الخضر رحمة به وبأبويه ‪ ،‬أما‬
‫وّللا أعلم ‪ -‬وسعد أبواه ‪.‬‬
‫الصبي حيث أخرجه من الدنيا على الفطرة فسعد الغالم ‪ -‬ه‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 81‬‬


‫فَأ َ َردْنا أ َ ْن يُ ْب ِدلَ ُهما َربُّ ُهما َخ ْيرا ِم ْنهُ َزكاة َوأ َ ْق َر َ‬
‫ب ُرحْ ما ) ‪( 81‬‬
‫ّللا تعالى بما كان في‬ ‫الضمير في قوله« فَأ َ َر ْدنا »يعود على الخضر وعلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيعود على ه‬
‫ذلك القتل من الرحمة باألبوين وبالغالم ‪ ،‬وعلى الخضر بقتل نفس زكية بغير نفس ‪ ،‬فظاهره‬
‫ّللا‪.‬‬
‫جور ‪ ،‬فشرك في الضمير بينه وبين ه‬

‫ص ‪28‬‬

‫‪28‬‬
‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 82‬‬
‫كان أَبُو ُهما صا ِلحا فَأَرا َد‬ ‫كان تَحْ تَهُ َك ْن ٌز لَ ُهما َو َ‬ ‫دار فَ َ‬
‫كان ِلغُال َم ْي ِن يَ ِتي َم ْي ِن ِفي ا ْل َمدِينَ ِة َو َ‬ ‫َوأ َ هما ا ْل ِج ُ‬
‫َنز ُهما َرحْ َمة ِم ْن َر ِبّكَ َوما فَعَ ْلتُهُ ع َْن أ َ ْم ِري ذ ِلكَ تَأ ْ ِوي ُل ما لَ ْم‬‫ست َ ْخ ِرجا ك َ‬ ‫ش هد ُهما َويَ ْ‬ ‫َربُّكَ أ َ ْن يَ ْبلُغا أ َ ُ‬
‫ص ْبرا ) ‪( 82‬‬ ‫علَ ْي ِه َ‬ ‫س ِط ْع َ‬ ‫تَ ْ‬
‫إن وقع الجدار ‪ ،‬ظهر كنز األيتام الصغار ‪ ،‬فتحكمت فيه يد األغيار ‪ ،‬وبقي األيتام الصغار من‬
‫الفقر في ذلة وصغار« َوما فَعَ ْلتُهُ َ‬
‫ع ْن أ َ ْم ِري"‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬يعني جميع ما فعله من األعمال ‪ ،‬وكل ما جرى منه ‪ ،‬وجميع ما قال من‬
‫األقوال في العبارة لموسى عليه السالم عن ذلك ‪ ،‬يعني أن الحق علمني األدب معه ‪ ،‬ألنه كان‬
‫على شرعة من ربه ومنهاج ‪ ،‬فكان الخضر في حكمه على شرع رسول غير موسى ‪،‬‬
‫فحكم بما حكم به مما يقتضيه شرع الرسول الذي اتبعه ‪ ،‬ومن شرع ذلك الرسول حكم‬
‫الشخص بعلمه ‪ ،‬فحكم بعلمه في الغالم أنه كافر ‪ ،‬فلم يكن حكم الخضر فيه من حيث إنه‬
‫ّللا عليه‬‫ّللا صلهى ه‬ ‫صاحب شرع منزل ‪ ،‬وإنما حكم فيه مثل حكم القاضي عندنا بشرع رسول ه‬
‫وسلم ‪ ،‬فنبه الخضر موسى عليه السالم أنه ما فعل الذي فعل عن أمره ‪،‬‬
‫فإنه ليس له أمر ‪ ،‬وما هو من أهل األمر عن طريق المالئكة المخصوصة بالرسل واألنبياء ‪،‬‬
‫ولو قال الخضر لموسى عليه السالم من أول ما صحبه ‪:‬‬
‫ما أفعل شيئا مما تراني أفعله عن أمري ما أنكره عليه ‪،‬‬

‫ّللا أن يظهر لموسى عليه‬ ‫ع ْن أ َ ْم ِري » لوال أن الخضر أمره ه‬‫‪ -‬الوجه الثاني ‪َ «-‬وما فَعَ ْلتُهُ َ‬
‫السالم بما ظهر ‪ ،‬ما ظهر له بشيء من ذلك ‪ ،‬فإنه من األمناء‬
‫ع ْن أ َ ْم ِري » فعلم موسى عليه السالم أن فراق الخضر له كان‬ ‫‪ -‬الوجه الثالث ‪َ «-‬وما فَعَ ْلتُهُ َ‬
‫عن أمر ربه ‪ ،‬فما اعترض عليه في فراقه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن وقع‬
‫‪ -‬أدب اْلضافة ‪ -‬كل ما ينسب إلى المخلوق من األفعال فهو فيه نائب عن ه‬
‫ّللا يحب أن يمدح ‪ ،‬كذا ورد في الصحيح عن رسول‬ ‫ّللا ألجل المدح ‪ ،‬فإن ه‬ ‫محمودا نسب إلى ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وإن تعلق به ذم أو لحق به عيب لم ننسبه إلى ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ه‬
‫وكذلك فعل العالم العدل األديب ‪ ،‬فكنهى عن نفسه في إرادة العيب فقال ( فأردت أن أعيبها )‬
‫وقال في المحمود ( فأراد ربك ) في حق اليتيمين ‪،‬‬
‫وقال في موضع الحمد والذم ( فأردنا ) بنون الجمع ‪ ،‬لما فيه من تضمن الذم في قتل الغالم‬
‫ّللا بقتله أبويه ‪،‬‬
‫بغير نفس ‪ ،‬ولما فيه من تضمن الحمد في حق ما عصم ه‬
‫فقال ( فأردنا ) وما أفرد وال عيهن ‪،‬‬

‫ص ‪29‬‬

‫‪29‬‬
‫هكذا حال األدباء ‪،‬‬
‫[ إشارة ‪ :‬سفينتك مركبك فاخرقه بالمجاهدة ]‬
‫فتعلمنا قصة الخضر مع موسى عليه السالم أدب اإلضافة ‪ ،‬فقد أضاف الخضر خرق السفينة‬
‫إليه ‪ ،‬إذ جعل خرقها عيبا ‪ ،‬وأضاف قتل الغالم إليه ‪ ،‬وإلى ربه لما فيه من الرحمة بأبويه ‪،‬‬
‫وما ساءهما من ذلك أضاف إليه ‪ ،‬وأضاف إقامة الجدار إلى ربه لما فيه من الصالح والخير ‪،‬‬
‫فقال تعالى عن عبده خضر في خرق السفينة ( فأردت أن أعيبها ) تنزيها أن يضاف إلى‬
‫الجناب العالي ما ظاهره ذم في العرف والعادة ‪،‬‬
‫وقال في إقامة الجدار لما جعل إقامته رحمة باليتيمين لما يصيبانه من الخير الذي هو الكنز (‬
‫فأراد ربك ) يخبر موسى عليه السالم ( أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك )‬
‫وقال لموسى عليه السالم في حق الغالم ‪ :‬إنه طبع كافرا ‪ ،‬والكفر صفة مذمومة ‪ ،‬وأراد أن‬
‫ّللا يبدل أبويه خيرا منه زكاة وأقرب رحما ‪ ،‬فأراد أن يضيف ما كان في المسألة‬ ‫يخبره بأن ه‬
‫من العيب في نظر موسى عليه السالم ‪ ،‬حيث جعله نكرا من المنكر ‪ ،‬وجعله نفسا زاكية قتلت‬
‫بغير نفس ‪ ،‬قال ( فأردنا أن يبدلهما ربهما ) فأتى بنون الجمع ‪،‬‬
‫فإن في قتله أمرين ‪ :‬أمر يؤدي إلى الخير ‪ ،‬وأمر إلى غير ذلك في نظر موسى وفي مستقر‬
‫العادة ‪ ،‬فما كان من خير في هذا الفعل فهو هّلل من حيث ضمير النون ‪ ،‬فنون الجمع لها وجهان‬
‫لما فيها من الجمع ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫وجه إلى الخير به أضاف األمر إلى ه‬
‫ووجه إلى العيب به أضاف العيب إلى نفسه ‪،‬‬
‫وجاء بهذه المسألة والواقعة في الوسط ال في الطرف بين السفينة والجدار ‪ ،‬ليكون ما فيها من‬
‫عيب من جهة السفينة ‪ ،‬وما فيها من خير من جهة الجدار ‪ ،‬فلو كانت مسألة الغالم في الطرف‬
‫ابتداء أو انتهاء لم تعط الحكمة أن يكون كل وجه مخلصا من غير أن يشوبه شيء من الخير أو‬
‫ضده ‪ ،‬وبذلك يلي وجه العيب جهة السفينة ‪ ،‬ويلي وجه الخير جهة الجدار فاستقامت الحكمة ‪-‬‬
‫إشارة ‪ -‬سفينتك مركبك فاخرقه بالمجاهدة ‪،‬‬
‫وإن جعلتها النفس فاخرقها بالرياضات ‪ ،‬وغالمك هواك فاقتله بسيف المخالفة ‪ ،‬وجدارك‬
‫عقلك ‪ ،‬ال بل األمر المعتاد في العموم ‪ ،‬فأقمه تستر به كنز المعارف اإللهية عقال وشرعا حتى‬
‫إذا بلغ الكتاب أجله ‪،‬‬
‫وهو إذا بلغ عقلك وشرعك فيك أشدهما ‪ ،‬وتوخيا ما يكون به المنفعة في حقهما استخرجا‬
‫كنزهما ‪ ،‬فإن الجدار لم يمل إال عبادة ليظهر ما تحته من كنوز المعارف ‪ ،‬التي يستغني بها‬
‫ّللا الغيرة في صورة الخضر فأقامه من انحنائه ‪،‬‬ ‫العارف الواقف ‪ ،‬فخلق ه‬
‫لما علم أن األهلية ما وجدت في ذلك الوقت في رب المال ‪ ،‬فيقع التصرف فيه على غير‬
‫وجهه ‪ ( ،‬ولتعلمن نبأه بعد حين )‬

‫ص ‪30‬‬

‫‪30‬‬
‫فلو ظهر اتخذ عبثا وعاثت فيه األيدي ‪ ،‬فسبحان واضح الحكم وناصب اآليات ومظهر جمال‬
‫الدالالت ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 83‬إلى ‪] 86‬‬


‫ض َوآت َ ْيناهُ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِم ْنهُ ِذ ْكرا ( ‪ِ ) 83‬إنها َم هكنها لَهُ فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سأَتْلُوا َ‬
‫سئَلُونَكَ ع َْن ذِي ا ْلقَ ْرنَ ْي ِن قُ ْل َ‬ ‫َويَ ْ‬
‫ب فِي‬ ‫ب الش ْهم ِس َو َجدَها ت َ ْغ ُر ُ‬ ‫سبَبا ( ‪َ ) 85‬حتهى ِإذا بَلَ َغ َم ْغ ِر َ‬ ‫سبَبا ( ‪ ) 84‬فَأَتْبَ َع َ‬ ‫ش ْي ٍء َ‬ ‫ِم ْن ُك ِ ّل َ‬
‫سنا ( ‪) 86‬‬ ‫يه ْم ُح ْ‬ ‫ِب َو ِإ هما أ َ ْن تَت ه ِخذَ ِف ِ‬
‫ع ْي ٍن َح ِمئ َ ٍة َو َو َج َد ِع ْندَها قَ ْوما قُ ْلنا يا ذَا ا ْلقَ ْرنَ ْي ِن ِإ هما أ َ ْن تُعَذّ َ‬
‫َ‬
‫« يا ذَا ْالقَ ْرنَي ِْن »أي يا مالك الصفتين ‪ ،‬وهما بلوغه المشرق والمغرب ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ ) : 18‬اآليات ‪ 87‬إلى ‪] 89‬‬


‫ف نُعَ ِذّبُهُ ث ُ هم يُ َر ُّد ِإلى َر ِبّ ِه فَيُعَ ِذّبُهُ عَذابا نُ ْكرا ( ‪َ ) 87‬وأ َ هما َم ْن آ َم َن َوع َِم َل‬
‫س ْو َ‬‫قا َل أ َ هما َم ْن َظلَ َم فَ َ‬
‫سبَبا ( ‪) 89‬‬ ‫سرا ) ‪ ( 88‬ث ُ هم أَتْبَ َع َ‬
‫سنَقُو ُل لَهُ ِم ْن أ َ ْم ِرنا يُ ْ‬ ‫سنى َو َ‬ ‫صا ِلحا فَلَهُ َجزاء ا ْل ُح ْ‬
‫سبَبا ً »أي اقفوا األسباب ‪.‬‬ ‫« ث ُ َّم أَتْبَ َع َ‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 91‬إلى ‪] 95‬‬


‫سبَبا ( ‪َ ) 92‬حتهى ِإذا بَلَ َغ بَ ْي َن ال ه‬
‫س هد ْي ِن َو َج َد‬ ‫كَذ ِلكَ َوقَ ْد أ َ َح ْطنا ِبما لَ َد ْي ِه ُخ ْبرا ( ‪ ) 91‬ث ُ هم أَتْبَ َع َ‬
‫ج َو َمأ ْ ُجو َ‬
‫ج‬ ‫ون قَ ْوال ( ‪ ) 93‬قالُوا يا ذَا ا ْلقَ ْرنَ ْي ِن ِإ هن يَأ ْ ُجو َ‬ ‫ِم ْن دُونِ ِهما قَ ْوما ال يَكاد َ‬
‫ُون يَ ْفقَ ُه َ‬
‫سدًّا ( ‪ ) 94‬قا َل ما‬ ‫ض فَ َه ْل نَجْ عَ ُل لَكَ َخ ْرجا عَلى أ َ ْن تَجْ عَ َل بَ ْينَنا َوبَ ْينَ ُه ْم َ‬ ‫ُون فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سد َ‬ ‫ُم ْف ِ‬
‫َم هك ِنّي ِفي ِه َر ِبّي َخ ْي ٌر فَأ َ ِعينُو ِني ِبقُ هو ٍة أَجْ عَ ْل بَ ْينَ ُك ْم َوبَ ْينَ ُه ْم َردْما) ‪( 95‬‬

‫ص ‪31‬‬

‫‪31‬‬
‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 96‬إلى ‪] 98‬‬
‫ص َدفَ ْي ِن قا َل ا ْنفُ ُخوا َحتهى ِإذا َجعَلَهُ نارا قا َل آتُو ِني‬‫آتُو ِني ُزبَ َر ا ْل َحدِي ِد َحتهى ِإذا ساوى بَ ْي َن ال ه‬
‫ستَطاعُوا لَهُ نَ ْقبا ( ‪ ) 97‬قا َل هذا‬ ‫سطاعُوا أ َ ْن يَ ْظ َه ُروهُ َو َما ا ْ‬ ‫علَ ْي ِه قِ ْطرا ( ‪ ) 96‬فَ َما ا ْ‬ ‫أ ُ ْف ِر ْغ َ‬
‫كان َو ْع ُد َر ِبّي َحقًّا ( ‪) 98‬‬ ‫َرحْ َمةٌ ِم ْن َر ِبّي فَ ِإذا جا َء َو ْع ُد َر ِبّي َجعَلَهُ َدكها َء َو َ‬
‫[ يأجوج ومأجوج ]‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم يوحي‬ ‫بعد أن يدرك عيسى ابن مريم عليه السالم الدجال بباب لد فيقتله ‪ ،‬يلبث ما شاء ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا إليه أن أحرز عبادي إلى الطور ‪ ،‬فإني قد أنزلت عبادا لي ال يد ألحد بقتالهم ‪ ،‬ويبعث ه‬ ‫ه‬
‫ب يَ ْن ِسلُونَ )‬
‫ّللا تعالى( ِم ْن ُك ِهل َح َد ٍ‬ ‫يأجوج ومأجوج ‪ ،‬وهم كما قال ه‬
‫فيمر أولهم ببحيرة طبرية فيشربون ما فيها ‪ ،‬ثم يمر بها آخرهم فيقولون ‪ :‬لقد كان بهذه مرة‬
‫ماء ‪ ،‬ثم يسيرون إلى أن ينتهوا إلى جبل بيت المقدس ‪،‬‬
‫فيقولون ‪ :‬لقد قتلنا من في األرض فهلم فلنقتل من في السماء ‪ ،‬فيرمون بنشابهم إلى السماء‬
‫ّللا عليهم نشابهم محمرا دما ‪ ،‬ويحاصر عيسى ابن مريم وأصحابه ‪ ،‬حتى يكون رأس‬ ‫فيرد ه‬
‫الثور يومئذ خيرا لهم من مائة دينار ألحدكم اليوم ‪،‬‬
‫ّللا عليهم النغف في‬ ‫ّللا وأصحابه ‪ ،‬فيرسل ه‬ ‫( يعني الصحابة ) فيرغب عيسى ابن مريم إلى ه‬
‫رقابهم ‪ ،‬فيصبحون فرسى موتى كموت نفس واحدة ‪ ،‬ويهبط عيسى ابن مريم وأصحابه ‪ ،‬فال‬
‫يجد موضع شبر إال وقد مألته زهمتهم ونتنهم ودماؤهم ‪،‬‬
‫ّللا عليهم طيرا كأعناق البخت ‪ ،‬فتحملهم فتطرحهم‬ ‫ّللا وأصحابه ‪ ،‬فيرسل ه‬ ‫فيرغب عيسى إلى ه‬
‫ّللا عليهم مطرا‬ ‫بالمهبل ‪ ،‬ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين ‪ ،‬ويرسل ه‬
‫ال يكن منه بيت وال وبر وال مدر ‪ ،‬فيغسل األرض ويتركها كالزلفة‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 99‬إلى ‪] 102‬‬


‫ور فَ َج َم ْعنا ُه ْم َج ْمعا ( ‪َ ) 99‬وع ََر ْ‬
‫ضنا‬ ‫ص ِ‬ ‫ض َونُ ِف َخ فِي ال ُّ‬ ‫ج فِي بَ ْع ٍ‬ ‫َوت َ َر ْكنا بَ ْع َ‬
‫ض ُه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ يَ ُمو ُ‬
‫طاء ع َْن ِذ ْك ِري َوكانُوا ال‬ ‫ِين كانَتْ أ َ ْعيُنُ ُه ْم فِي ِغ ٍ‬‫ين ع َْرضا ( ‪ ) 100‬الهذ َ‬ ‫َج َهنه َم يَ ْو َمئِ ٍذ ِل ْلكافِ ِر َ‬
‫ِين َكفَ ُروا أ َ ْن يَت ه ِخذُوا ِعبادِي ِم ْن دُو ِني أ َ ْو ِليا َء ِإنها‬
‫ب الهذ َ‬‫س َ‬‫س ْمعا ( ‪ ) 101‬أ َ فَ َح ِ‬ ‫ون َ‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ين نُ ُزال) ‪( 102‬‬ ‫أ َ ْعتَدْنا َج َهنه َم ِل ْلكافِ ِر َ‬

‫ص ‪32‬‬

‫‪32‬‬
‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 103‬إلى ‪] 104‬‬
‫ون‬ ‫س ْعيُ ُه ْم ِفي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َو ُه ْم يَحْ َ‬
‫سبُ َ‬ ‫ين أَعْماال ( ‪ ) 103‬الهذ َ‬
‫ِين َ‬
‫ض هل َ‬ ‫قُ ْل َه ْل نُنَ ِبّئ ُ ُك ْم ِب ْاأل َ ْخ َ‬
‫س ِر َ‬
‫ص ْنعا ) ‪( 104‬‬ ‫ون ُ‬ ‫سنُ َ‬ ‫أَنه ُه ْم يُحْ ِ‬
‫وما أحسنوا صنعا فإنهم ما كانوا على علم ‪ ،‬بل ظنوا وحدسوا ‪ ،‬فهم الدجاجلة وأصحاب‬
‫الخياالت الفاسدة ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 105‬‬


‫ت َر ِبّ ِه ْم َو ِلقائِ ِه فَ َحبِ َطتْ أَعْمالُ ُه ْم فَال نُ ِقي ُم لَ ُه ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة َو ْزنا ‪( 105‬‬ ‫أُولئِكَ الهذ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا بِآيا ِ‬
‫)‬
‫ّللا وكفر‬ ‫المشركون ال قدر لهم وال يوزن لهم عمل ‪ ،‬وال من هو من أمثالهم ‪ ،‬ممن كذب بلقاء ه‬
‫بآياته ‪ ،‬فإن أعمال خير المشرك محبوطة ‪ ،‬فال يكون لشرهم ما يوازنه ‪ ،‬فقال تعالى« فَال نُ ِقي ُم‬
‫لَ ُه ْم يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة َو ْزنا ً »كما أنهم لم يقيموا للحق هنا وزنا ‪ ،‬فعادت عليهم صفتهم ‪ ،‬فما عذبهم‬
‫ّللا بهم ‪ ،‬من قبورهم إلى‬ ‫عز وجل ال يقيم للمجرمين يوم القيامة وزنا وال يعبأ ه‬ ‫فاّلل ه‬ ‫بغيرهم ‪ ،‬ه‬
‫جهنم ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 106‬إلى ‪] 107‬‬


‫ذ ِلكَ َجزا ُؤ ُه ْم َج َهنه ُم ِبما َكفَ ُروا َوات ه َخذُوا آياتِي َو ُر ُ‬
‫س ِلي ُه ُزوا ( ‪ِ ) 106‬إ هن الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا‬
‫ت كانَتْ لَ ُه ْم َجنهاتُ ا ْل ِف ْرد َْو ِس نُ ُزال ) ‪( 107‬‬ ‫صا ِلحا ِ‬
‫ال ه‬
‫ّللا‬
‫الجنات كلها منازل حسية ال معنوية ‪ ،‬وليست المنزلة المعنوية لكل شخص إال ما في نفس ه‬
‫تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬اآليات ‪ 108‬إلى ‪] 109‬‬


‫ت َر ِبّي لَنَ ِف َد ا ْلبَحْ ُر قَ ْب َل‬ ‫ع ْنها ِح َوال ( ‪ ) 108‬قُ ْل لَ ْو َ‬
‫كان ا ْلبَحْ ُر ِمدادا ِل َك ِلما ِ‬ ‫ون َ‬ ‫ِين فِيها ال يَ ْبغُ َ‬ ‫خا ِلد َ‬
‫أ َ ْن ت َ ْنفَ َد َك ِلماتُ َر ِبّي َولَ ْو ِجئْنا ِب ِمثْ ِل ِه َمدَدا) ‪( 109‬‬
‫[ « قُ ْل لَ ْو كانَ ْالبَ ْح ُر ِمدادا ً ِل َك ِلما ِ‬
‫ت َر ِبهي » ‪] . . .‬‬
‫ّللا وإخباره من العالم ‪ ،‬إذ لو انقطع‬ ‫وذلك لعدم التناهي ‪ ،‬فإنه يستحيل أن ينقطع خبر ه‬

‫ص ‪33‬‬

‫‪33‬‬
‫[شرف العالم بعضه على بعض بالمراتب ]‬
‫لم يبق للعالم غذاء يتغذى به في بقاء وجوده ‪ ،‬وأعيان الموجودات كلها كلمات الحق ‪ ،‬وهي ال‬
‫تنفد ‪ ،‬فمخلوقاته ال تزال توجد ‪ ،‬وال يزال خالقا ‪ ،‬ولوال الضيق والحرج ما كان للنفس‬
‫الرحماني حكم ‪ ،‬فإن التنفيس هو إزالة عين الحرج والضيق ‪ ،‬والعدم نفس الحرج والضيق ‪،‬‬
‫فإنه يمكن أن يوجد هذا المعدوم ‪ ،‬فإذا علم الممكن إمكانه وهو في حالة العدم كان في كرب‬
‫الشوق إلى الوجود الذي تعطيه حقيقيته ‪ ،‬ليأخذ نصيبه من الخير ‪ ،‬فنفهس الرحمن بنفسه هذا‬
‫ّللا فهو ممكن ‪ ،‬فله‬ ‫الحرج فأوجده ‪ ،‬فكان تنفيسه عنه إزالة حكم العدم فيه ‪ ،‬وكل موجود سوى ه‬
‫هذه الصفة ‪ ،‬فنفس الرحمن هو المعطي صور الممكنات الوجود ‪ ،‬كما أعطى النفس الحروف‬
‫ّللا من حيث هذا النفس ‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ (:‬و َك ِل َمتُهُ أ َ ْلقاها إِلى َم ْريَ َم )وليست‬
‫‪ ،‬فالعالم كلمات ه‬
‫غير عيسى عليه السالم ‪ ،‬لم يلق إليها غير ذلك ‪.‬‬

‫[ سورة الكهف ( ‪ : ) 18‬آية ‪] 110‬‬


‫ع َمال‬‫كان يَ ْر ُجوا ِلقا َء َر ِبّ ِه فَ ْليَ ْع َم ْل َ‬ ‫ي أَنهما ِإل ُه ُك ْم ِإلهٌ ِ‬
‫واح ٌد فَ َم ْن َ‬ ‫قُ ْل ِإنهما أَنَا بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم يُوحى ِإلَ ه‬
‫صا ِلحا َوال يُش ِْر ْك بِ ِعبا َد ِة َر ِبّ ِه أ َ َحدا ) ‪( 110‬‬
‫ما تميز العالم إال بالمراتب ‪ ،‬وما شرف بعضه على بعضه إال بها ‪ ،‬ومن علم أن الشرف‬
‫للرتب ال لعينه لم يغالط نفسه في أنه أشرف من غيره ‪ ،‬وإن كان يقول إن هذه الرتبة أشرف‬
‫من هذه الرتبة ‪ ،‬ولما كانت الخالفة ربوبية في الظاهر ألنه يظهر بحكم الملك ‪ ،‬فيتصرف في‬
‫الملك بصفات سيده ظاهرا ‪ ،‬وإن كانت عبوديته له مشهودة في باطنه ‪ ،‬فلم تعم عبوديته عند‬
‫رعيته الذين هم أتباعه ‪ ،‬وظهر ملكه بهم وباتباعهم واألخذ عنه ‪ ،‬فكان في مجاورتهم بالظاهر‬
‫أقرب ‪ ،‬وبذلك المقدار يستتر من عبوديته ‪ ،‬لذلك كثيرا ما ينزل في الوحي على األنبياء« قُ ْل‬
‫ِإنَّما أَنَا بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم »فكانت هذه اآلية دواء لهذه العلة ‪ ،‬وبهذا المقدار كانت أحوال األنبياء‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫والرسل في الدنيا البكاء والنوح ‪ ،‬فإنه موضع تتقى فتنته ‪ ،‬فقال الكامل صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ألنه‬‫ّللا ‪ ،‬قيل له ‪ :‬قل ‪ ،‬فقال ‪ ،‬وبهذا علمنا أنه عن أمر ه‬ ‫«‪ِ :‬إنَّما أَنَا بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم »عن أمر ه‬
‫نقل األمر إلينا كما نقل المأمور ‪ ،‬وكان هذا القول دواء للمرض الذي قام بمن عبد عيسى عليه‬
‫ّللا عليه وسلم يقول لنا كثيرا في هذا المقام في حق‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫السالم من أمته ‪ ،‬وكان رسول ه‬
‫ي حكمها‬ ‫نفسه وتعليما لنا« إِنَّما أَنَا بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم »فلم ير لنفسه فضال علينا ‪ ،‬أي حكم البشرية ف ه‬
‫فيكم ‪،‬‬

‫ص ‪34‬‬

‫‪34‬‬
‫ّللا عليه وسلم أن يقول " قُ ْل ِإنَّما أَنَا بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم " ]‬‫ّللا صلهى ه‬ ‫[إشارة ‪ :‬لم أمر الحق رسول ه‬
‫ّللا تعالى به نبيه عليه السالم فيما أوحى به إليه ‪،‬‬ ‫فكان ذلك من التأديب اإللهي الذي أدب ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر ]‬ ‫فقال صلهى ه‬
‫يعني لنفسه ولحق غيره ‪ [ ،‬وأرضى كما يرضى البشر ]‬
‫يعني لنفسه ولغيره ‪ ،‬ويعني أن أغضب عليهم وأرضى لنفسي [ اللهم من دعوت عليه فاجعل‬
‫دعائي عليه رحمة له ورضوانا ]‬
‫ّللا عليه وسلم لم تؤثر فيه المراتب إذا‬ ‫ي »ولما كان صلهى ه‬ ‫ثم ذكر المرتبة وهو قوله« يُوحى ِإلَ َّ‬
‫نالها ‪ ،‬قال وهو في المرتبة العليا [ أنا سيد الناس ]‬
‫وفي رواية [ أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وال فخر ] فنفى أن يقصد بذلك الفخر ‪ ،‬ألنه ذكر‬
‫ّللا عليه وسلم مترجم عنها وناطق بلسانها ‪ ،‬فذكر رتبة‬ ‫الرتبة التي لها الفخر الذي هو صلهى ه‬
‫الشفاعة والمقام المحمود ‪ ،‬فالفخر للرتبة وال فخر بالذات إال هّلل وحده ‪ ،‬فلم تحكم فيه المرتبة ‪،‬‬
‫وقال في كل وقت وهو في مرتبة الرسالة والخالفة‬
‫" ِإنَّما أَنَا بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم "‪ ،‬فلم تحجبه المرتبة عن معرفة نشأته ‪ ،‬وسبب ذلك أنه رأى لطيفته‬
‫ناظرة إلى مركبها العنصري وهو متبدد فيها ‪ ،‬فشاهد ذاته العنصرية ‪ ،‬فعلم أنها تحت قوة‬
‫األفالك العلوية ‪ ،‬ورأى المشاركة بينها وبين سائر الخلق اإلنساني والحيواني والنبات‬
‫والمعادن ‪ ،‬فلم ير لنفسه من حيث نشأته العنصرية فضال على كل من تولد منها ‪ ،‬وأنه مثل‬
‫لهم وهم أمثال له ‪ ،‬فقال ‪ِ «:‬إنَّما أَنَا بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم »ثم رأى افتقاره إلى ما تقوم به نشأته من الغذاء‬
‫الطبيعي كسائر المخلوقات الطبيعية ‪،‬‬
‫فعرف نفسه فقال ‪:‬‬
‫[ يا أبا بكر ما أخرجك ‪ ،‬قال ‪ :‬الجوع ‪ ،‬قال ‪ :‬وأنا أخرجني الجوع ] فكشف عن حجرين قد‬
‫وضعهما على بطنه يشد بهما أمعاءه ‪ -‬إشارة ‪ -‬كان عليه السالم نائب الحق ‪ ،‬فهو وجهه في‬
‫العالم ‪ ،‬فكان الحق يقول له ‪ «:‬قُ ْل ِإنَّما أَنَا بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم »أي استتر بعبوديتك ‪،‬‬
‫ّللا يمكن حصرهم في األجناس اآلتية ‪،‬‬ ‫وال تظهر مكانتك عندي ‪ .‬واعلم أن جميع ما سوى ه‬
‫وهم الملك والفلك والكوكب والطبيعة والعنصر والمعدن والنبات والحيوان واإلنسان ‪،‬‬
‫وما من صنف ذكرناه من هؤالء األصناف إال وقد عبد منهم أشخاص ‪،‬‬
‫فمنهم من عبد المالئكة ‪ ،‬ومنهم من عبد الكواكب ‪ ،‬ومنهم من عبد األفالك ‪،‬‬
‫ومنهم من عبد العناصر ‪ ،‬ومنهم من عبد األحجار ‪،‬‬
‫ومنهم من عبد األشجار ‪ ،‬ومنهم من عبد الحيوان ‪ ،‬ومنهم من عبد الجن واإلنس ‪ ،‬فالمخلص‬
‫في العبادة التي هي ذاتية له أن ال يقصد إال من أوجده وخلقه ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فتخلص له هذه العبادة وال يعامل بها أحدا ممن ذكرناه ‪ ،‬أي ال يراه في شيء‬ ‫وهو ه‬
‫فيذل له ‪ ،‬واعلم أنه ما من شيء في الكون إال وفيه ضرر ونفع ‪ ،‬فاستجلب بهذه الصفة اإللهية‬
‫ص ‪35‬‬

‫‪35‬‬
‫نفوس المحتاجين إليه الفتقارهم إلى المنفعة ودفع المضار ‪ ،‬فأداهم ذلك إلى عبادة األشياء وإن‬
‫ّللا‬
‫ّللا ما أودعه في خلقه ‪ ،‬وما جعل في الثقلين من الحاجة إلى ما أودع ه‬ ‫لم يشعروا ‪ ،‬ولما علم ه‬
‫في الموجودات وفي الناس بعضهم إلى بعض قال ‪ «:‬فَ َم ْن كانَ يَ ْر ُجوا ِلقا َء َر ِبه ِه »‬
‫ّللا عليه‬‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا ليدل على حالة الرضى من غير احتمال ‪ ،‬كما ذكره رسول ه‬ ‫فذكر لقاء ه‬
‫وسلم وذلك في الجنة ‪ ،‬فإنها دار الرضوان ‪،‬‬
‫ع َم ًال صا ِلحا ً »أي ال يشوبه فساد ‪ ،‬والصالح الذي ال يدخله‬ ‫ّللا سعيد «فَ ْليَ ْع َم ْل َ‬ ‫فما كل من لقي ه‬
‫خلل ‪ ،‬فإن ظهر فيه خلل فليس بصالح ‪ ،‬وليس الخلل في العمل وعدم الصالح فيه إال الشرك ‪،‬‬
‫ّللا ال لغيره ‪،‬‬ ‫فقال ‪َ «:‬وال يُ ْش ِر ْك بِ ِعبا َدةِ َر ِبه ِه أ َ َحدا ً »أي ال يذل إال ه‬
‫ّللا في دفع ما‬
‫ّللا وأنه الواضع أسباب المضار والمنافع ‪ ،‬لجأ إلى ه‬ ‫ألنه إذا لم ير شيئا سوى ه‬
‫يضره ونيل ما ينفعه من غير تعيين سبب ‪ ،‬ونكر« أ َ َحدا ً » فدخل تحته كل شيء له أحدية ‪،‬‬
‫وعم كل ما ينطلق عليه اسم أحد ‪ ،‬وهو كل شيء في عالم الخلق واألمر ‪،‬‬
‫وعم الشرك األصغر ‪ ،‬وهو الشرك الذي في العموم ‪ ،‬وهو الربوبية المستورة المنتهكة ‪ ،‬في‬
‫مثل فعلت وصنعت وفعل فالن ولوال فالن ‪ ،‬فهذا هو الشرك المغفور ‪ ،‬فإنك إذا راجعت‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫أصحاب هذا القول فيه رجعوا إلى ه‬
‫ّللا إلها آخر ‪ ،‬وهو الظلم العظيم ‪،‬‬ ‫والشرك الذي في الخصوص ‪ ،‬فهم الذين يجعلون مع ه‬
‫ّللا إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال رسول ه‬
‫ّللا ورجل كثير‬ ‫وكل أمة جاثية ‪ ،‬فأول من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل ه‬
‫ّللا للقارئ ‪ :‬ألم أعلمك ما أنزلته على رسولي ؟‬ ‫المال ‪ ،‬فيقول ه‬
‫قال ‪ :‬بلى يا رب ‪ ،‬قال ‪ :‬فما ذا عملت فيما علمت ؟ قال ‪ :‬كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ‪،‬‬
‫ّللا له ‪ :‬كذبت ‪ ،‬وتقول المالئكة له ‪ :‬كذبت ‪،‬‬ ‫فيقول ه‬
‫ّللا له ‪ :‬ألم‬
‫ّللا ‪ :‬إنما قرأت ليقال فالن قارئ فقد قيل ذلك ‪ ،‬ويؤتى بصاحب المال فيقول ه‬ ‫ويقول ه‬
‫أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال ‪ :‬بلى يا رب ‪ ،‬قال ‪ :‬فما ذا عملت فيما آتيتك ؟‬
‫ّللا له ‪ :‬كذبت ‪ ،‬وتقول له المالئكة ‪ :‬كذبت ‪،‬‬ ‫قال ‪ :‬كنت أصل الرحم وأتصدق ‪ ،‬فيقول ه‬
‫ّللا فيقول‬ ‫ّللا له ‪ :‬بل أردت أن يقال فالن جواد فقيل ذلك ‪ ،‬ويؤتى بالذي قتل في سبيل ه‬ ‫ويقول ه‬
‫ّللا ‪ :‬فيما ذا قتلت ؟‬ ‫ه‬
‫ّللا له ‪ :‬كذبت ‪ ،‬وتقول له المالئكة‬ ‫فيقول ‪ :‬أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت ‪ ،‬فيقول ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا له ‪ :‬بل أردت أن يقال فالن جريء فقد قيل ذلك ‪ ،‬ثم ضرب رسول ه‬ ‫‪ :‬كذبت ‪ ،‬ويقول ه‬
‫ّللا عليه وسلم على ركبة أبي هريرة وقال يا أبا هريرة أولئك الثالثة أول من يسعر‬ ‫صلهى ه‬

‫ص ‪36‬‬

‫‪36‬‬
‫بهم النار يوم القيامة ]‬
‫فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث يغشى عليه ‪،‬‬
‫ع َم ًال صا ِلحا ً َوال يُ ْش ِر ْك بِ ِعبا َدةِ َر ِبه ِه أ َ َحدا ً "‬ ‫ّللا تعالى ‪ ":‬فَ َم ْن كانَ يَ ْر ُجوا ِلقا َء َر ِبه ِه فَ ْليَ ْع َم ْل َ‬ ‫يقول ه‬
‫وجاء في الحديث الغريب الصحيح [ من عمل عمال أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي‬
‫أشرك ] فنكر تعالى العمل وما خص عمال من عمل ‪ ،‬والضمير في فيه يعود على العمل ‪،‬‬
‫والضمير في منه يعود على الغير الذي هو الشريك ‪ ،‬وضمير هو يعود على المشرك ‪ -‬تحقيق‬
‫إخالص العمل هّلل من الشرك‬
‫[ ‪ -‬اإلخالص في العمل ]‬
‫ّللا ‪ ،‬كما هو في نفس‬ ‫‪-‬اْلخالص في العمل ‪ -‬هو أن تقف كشفا على أن العامل ذلك العمل هو ه‬
‫ّللا تعالى فيه ما‬ ‫األمر ‪ ،‬أي عمل كان ذلك العمل ‪ ،‬مذموما أو محمودا أو ما كان ‪ ،‬فذلك حكم ه‬
‫ّللا ال يتبرأ من العمل فإنه العامل بال شك ‪ ،‬فإخالص العمل هّلل هو‬ ‫هو عين العمل ‪ ،‬لذلك فإن ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا من العمل ‪ ،‬ألن الصورة الظاهرة في العمل إنما هي في الشخص الذي أظهر ه‬ ‫نصيب ه‬
‫فيه عمله ‪ ،‬فيلتبس األمر للصورة الظاهرة ‪ ،‬والصورة الظاهرة ال تشك أن العمل بالشهود‬
‫مصرفة ألمر آخر ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ظاهر منها ‪ ،‬فهي إضافة صحيحة ‪ ،‬فإن البصر ال يقع إال على آلة وهي‬
‫ال يقع الحس الظاهر عليه ‪ ،‬بدليل الموت ووجود اآللة وسلب العمل ‪ ،‬فإذن اآللة ما هي العامل‬
‫‪ ،‬والحس ما أدرك إال اآللة ‪ ،‬فكما علم الحاكم أن وراء المحسوس أمرا هو العامل بهذه اآللة‬
‫والمصرف لها ‪ ،‬المعبر عنه عند علماء النظر العقلي بالنفس العاملة الناطقة والحيوانية ‪ ،‬فقد‬
‫انتقلوا إلى معنى ليس هو من مدركات الحس ‪،‬‬
‫فكذلك إدراك أهل الكشف والشهود ‪ -‬في الجمع والوجود ‪ -‬في النفس الناطقة ما أدرك أهل‬
‫النظر في اآللة المحسوسة سواء ‪ ،‬فعرفوا أن ما وراء النفس الناطقة هو العامل ‪ ،‬وهو مسمى‬
‫ّللا ‪ ،‬فالنفس في هذا العمل كاآللة المحسوسة سواء ‪ ،‬ومتى لم يدرك هذا اإلدراك فال يتصف‬ ‫ه‬
‫عندنا بأنه أخلص في عمله جملة واحدة ‪ ،‬مع ثبوت اآلالت وتصرفها لظهور صورة العمل من‬
‫العامل ‪،‬‬
‫فالعالم كله آالت الحق فيما يصدر عنه من األفعال ‪،‬‬
‫ّللا ورسوله‬ ‫ّللا على العباد ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ه‬ ‫ّللا عليه وسلم فيما صح عنه ‪ [ :‬أتدرون ما حق ه‬ ‫قال صلهى ه‬
‫ّللا على العباد أن يعبدوه وال يشركوا به شيئا ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬أتدرون ما حقهم‬ ‫أعلم ‪ ،‬قال ‪ :‬إن حق ه‬
‫عليه إذا فعلوا ذلك ‪ ،‬أن يدخلهم الجنة ]‬
‫ّللا عليه وسلم بقوله شيئا ليدخل فيه جميع األشياء ‪ ،‬وهو قوله تعالى« فَ َم ْن كانَ‬ ‫فنكر صلهى ه‬
‫ع َم ًال صا ِلحا ً َوال يُ ْش ِر ْك ِب ِعبا َدةِ َر ِبه ِه أ َ َحدا ً "‬ ‫يَ ْر ُجوا ِلقا َء َر ِبه ِه فَ ْليَ ْع َم ْل َ‬
‫‪ -‬وجه آخر ‪ -‬في تفسير قوله تعالى في هذه اآلية ‪،‬‬

‫ص ‪37‬‬

‫‪37‬‬
‫كأنه تعالى يقول ‪ :‬إن الحق ال يعبد من حيث أحديته ‪ ،‬ألن األحدية تنافي وجود العابد ‪ ،‬فكأنه‬
‫يقول ‪ :‬ال يعبد إال الرب من حيث ربوبيته ‪ ،‬فإن الرب أوجدك ‪ ،‬فتعلق به وتذلل له وال تشرك‬
‫األحدية مع الربوبية في العبادة ‪ ،‬فتتذلل لها كما تتذلل للربوبية ‪،‬‬
‫فإن األحدية ال تعرفك وال تقبلك ‪ ،‬فيكون تعبد في غير معبد ‪ ،‬وتطمع في غير مطمع ‪ ،‬وتعمل‬
‫في غير معمل ‪ ،‬وهي عبادة الجاهل ‪ ،‬فنفى عبادة العابدين من التعلق باألحدية ‪ ،‬فإن األحدية ال‬
‫ّللا فال أحدية له مطلقا ‪،‬‬
‫تثبت إال هّلل مطلقا ‪ ،‬وإنما ما سوى ه‬
‫فهذا هو المفهوم من هذه اآلية عندنا من حيث طريقنا في تفسير القرآن ‪ ،‬ويأخذ أهل الرسوم‬
‫في ذلك قسطهم أيضا تفسيرا للمعنى ‪ ،‬فيحملون األحد المذكور على ما اتخذوه من الشركاء ‪،‬‬
‫وهو تفسير صحيح أيضا ‪ ،‬فالقرآن هو البحر الذي ال ساحل له ‪ ،‬إذ كان المنسوب إليه يقصد به‬
‫جميع ما يطلبه الكالم من المعاني بخالف كالم المخلوقين ‪.‬‬

‫( ‪ ) 19‬سورة مريم مكيّة‬


‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 2‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫بِ ْ‬
‫ع ْب َدهُ َزك َِريها ( ‪) 2‬‬ ‫كهيعص ( ‪ِ ) 1‬ذ ْك ُر َرحْ َم ِ‬
‫ت َر ِبّكَ َ‬
‫[ ذكر الرحمة العبد ]‬
‫في هذه اآلية الرحمة هي التي تذكر العبد ما هو يذكرها ‪ ،‬فتعطيه بذكره حقيقة ما فيها ألنها‬
‫تطلب منه التعشق بها ‪ ،‬فإنه ال ظهور لها إال به ‪ ،‬فهي حريصة على مثل هذا ‪ ،‬وهذه اآلية‬
‫تعريف إلهي بوجوب حكم الرحمة فيمن تذكره من عباده سبحانه وتعالى ‪ ،‬وجاء زكريا ال‬
‫لخصوص الذكر ‪ ،‬وإنما ساقته عناية العبد ‪ ،‬فإنها ما ذكرته إال لكونه عبدا له تعالى في جميع‬
‫ّللا في هذا المقام فبرحمته به أقامه لتذكره رحمة ربه عنده تعالى ‪،‬‬ ‫أحواله ‪ ،‬فأي شخص أقامه ه‬
‫فحال عبوديته هو عين رحمته الربانية التي ذكرته ‪ ،‬فأعلمت ربها أنها عند هذا العبد ‪ ،‬فأي‬
‫ّللا ما‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ومن هذا المقام يحصل له من ه‬ ‫شيء صدر من هذا الشخص فهو مقبول عند ه‬
‫مقرب عند‬ ‫يختص به مما ال يكون لغيره ‪ ،‬وهو األمر الذي يمتاز به ويخصه ‪ ،‬فإنه ال بد لكل ه‬
‫ّللا من أمر يختص به‪.‬‬ ‫ه‬

‫ص ‪38‬‬

‫‪38‬‬
‫[سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 3‬‬
‫ِإ ْذ نادى َربههُ ِنداء َخ ِفيًّا ) ‪( 3‬‬
‫ّللا ‪ ،‬مبرأة‬
‫ّللا ‪ ،‬مثنيا عليها بكالم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬محال لكلمة ه‬
‫لما كانت مريم محررة هّلل ‪ ،‬حاملة لروح ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫بشهادة ما سقط من التمر في هزها جذع النخلة اليابس ونطق ابنها في المهد بأنه عبد ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فنادى ربه نداء‬
‫ّللا ‪ ،‬فتمنى مثلها على ه‬
‫ّللا ‪ ،‬لهذا غبطها زكريا نبي ه‬
‫وباّلل وعن ه‬
‫ه‬ ‫فكانت هّلل‬
‫خفيا ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 4‬‬


‫ش ِقيًّا ) ‪( 4‬‬ ‫ش ْيبا َولَ ْم أَك ُْن بِدُعائِكَ َر ّ ِ‬
‫ب َ‬ ‫الرأْ ُ‬
‫س َ‬ ‫ب إِ ِنّي َو َه َن ا ْلعَ ْظ ُم ِم ِنّي َوا ْ‬
‫شتَعَ َل ه‬ ‫قا َل َر ّ ِ‬
‫االشتعال اسم مخصوص ونعت من نعوت أحوال النار المركبة ‪ ،‬فاستعير للشيب في قوله‬
‫شيْبا ً »‪.‬‬
‫س َ‬ ‫الرأْ ُ‬
‫تعالى ‪َ «:‬وا ْشتَعَ َل َّ‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 5‬‬


‫ام َرأَتِي عاقِرا فَ َه ْب ِلي ِم ْن لَ ُد ْنكَ َو ِليًّا ) ‪( 5‬‬
‫ت ْ‬ ‫َوإِ ِنّي ِخ ْفتُ ا ْل َموا ِل َ‬
‫ي ِم ْن َورائِي َوكانَ ِ‬
‫فقدم زكريا الحق على ذكر ولده ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 6‬‬


‫وب َواجْ عَ ْلهُ َر ّ ِ‬
‫ب َر ِضيًّا ) ‪( 6‬‬ ‫يَ ِرثُنِي َويَ ِر ُ‬
‫ث ِم ْن آ ِل يَ ْعقُ َ‬
‫ّللا بأن قضى حاجته ‪ ،‬وسماه بصفته حتى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيه زكريا‬ ‫فأكرمه ه‬
‫ّللا في عقبه ‪ ،‬إذ الولد سر أبيه ‪ ،‬فقال« يَ ِرثُنِي َويَ ِر ُ‬
‫ث ِم ْن آ ِل‬ ‫‪ ،‬ألنه عليه السالم آثر بقاء ذكر ه‬
‫ّللا والدعوة إليه ‪.‬‬
‫وب »وليس موروث في حق هؤالء إال مقام ذكر ه‬ ‫يَ ْعقُ َ‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 7‬‬


‫س ُمهُ يَحْ يى لَ ْم نَجْ عَ ْل لَهُ ِم ْن قَ ْب ُل َ‬
‫س ِميًّا ( ‪) 7‬‬ ‫يا َزك َِريها ِإنها نُبَ ِ ّ‬
‫ش ُركَ ِبغُ ٍ‬
‫الم ا ْ‬
‫[ اسم يحيى عليه السالم ]‬
‫أنزل الحق تعالى يحيى عليه السالم منزلته في األسماء ‪ :‬فلم يجعل له من قبل سميا ‪ ،‬وخصه‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو وإن كان في العالم يحيى كثير ‪ ،‬إال أن له‬ ‫بأن لم يجعل له سميا من قبل من أنبياء ه‬

‫ص ‪39‬‬

‫‪39‬‬
‫ّللا ما‬
‫مرتبة األولية في هذا االسم ‪ ،‬فبه يحيا كل من يحيا من الناس من تقدم ومن تأخر ‪ ،‬فإن ه‬
‫جعل له من قبل سميا ‪ ،‬فكل يحيى تبع له ‪ ،‬فبظهوره ال حكم لهم ‪ ،‬وبعد ذلك وقع االقتداء به‬
‫ّللا يحيى ‪ ،‬أي يحيا به ذكر زكريا ‪ ،‬فجمع بين حصول الصفة‬ ‫في اسمه ليرجع إليه ‪ ،‬وسماه ه‬
‫ّللا ألحد قبل يحيى بين ذلك إال لزكريا عناية منه ‪.‬‬
‫وبين االسم العلم ‪ ،‬وما جمع ه‬

‫ولما سلهط عليه الجبار عدوه فقتله ‪ ،‬وما حماه منه وال نصره باقتراح بغ ه‬
‫ي على باغ ‪ ،‬فإنه أراد‬
‫بقاءه حيا فقتله شهيدا ‪ ،‬فأبقى حياته عليه ‪ ،‬فجمع له بين الحياتين فسماه يحيى ‪ ،‬وأثرت فيه همة‬
‫أبيه لما أشرب قلبه من مريم ‪ ،‬وكانت منقطعة من الرجال فجعله حصورا بهذا التخيل ‪ ،‬وجاء‬
‫ّللا يأتي بالموت يوم القيامة فيوضع بين الجنة والنار ليراه هؤالء وهؤالء‬
‫في الخبر أن ه‬
‫ويعرفون أنه الموت ‪ ،‬في صورة كبش أملح ‪ ،‬فيذبحه يحيى عليه السالم خاصة ‪،‬‬
‫سر اسمه ‪ ،‬فإن الموت ضد له وال يبقى معه ‪ ،‬والدار دار الحيوان فال بد من إزالة‬ ‫وذلك من ه‬
‫الموت ‪ ،‬فال مزيل له سوى يحيى ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 8‬‬


‫ام َرأَتِي عاقِرا َوقَ ْد بَلَ ْغتُ ِم َن ا ْل ِكبَ ِر ِعتِيًّا ( ‪) 8‬‬
‫ت ْ‬‫غال ٌم َوكانَ ِ‬ ‫ُون ِلي ُ‬ ‫ب أَنهى يَك ُ‬ ‫قا َل َر ّ ِ‬
‫[ تعجب زكريا عليه السالم]‬
‫ليس أعجب من حال زكريا عليه السالم ‪ ،‬وهو الذي ظهر فيه سلطان اإلنسانية حين يقول(‬
‫ط ِيهبَةً )فما سأل حتى تصور الوقوع ‪،‬‬ ‫َربه ِ هَبْ ِلي ِم ْن لَ ُد ْن َك ذُ ِ هريَّةً َ‬
‫ت ْام َرأ َ ِتي عا ِقرا ً َوقَ ْد بَلَ ْغتُ ِمنَ ْال ِكبَ ِر‬ ‫فأين هذه الحالة من قوله‪َ ":‬ربه ِ أَنَّى يَ ُك ُ‬
‫ون ِلي ُ‬
‫غال ٌم َوكانَ ِ‬
‫ِعتِيًّا »‬
‫فإن لم يكن ث هم قرينة حال جعلته أن يقول مثل هذا حتى يقال له في الوحي ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 9‬‬


‫ي َه ِيّ ٌن َوقَ ْد َخلَ ْقت ُكَ ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم تَكُ َ‬
‫ش ْيئا ( ‪) 9‬‬ ‫علَ ه‬
‫قا َل كَذ ِلكَ قا َل َربُّكَ ُه َو َ‬
‫ّللا بذلك حتى يعلم غيره‬
‫»ّللا يفعل ما يشاء ‪ ،‬فيكون قصد إعالم ه‬ ‫« قا َل »له في الوحي« َكذ ِل َك ه‬
‫ّللا يفعل ما يشاء في المعتاد أن يخرقه كما وقع ‪،‬‬ ‫أن ه‬
‫وإن كان ذلك القول الذي قال زكريا عليه السالم من نفسه فقد أعطته اإلنسانية قوتها ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا في موضع إال وذكر عند ذكره صفة نقص‬ ‫ّللا في كتابه ‪ ،‬فما ذكره ه‬ ‫اإلنسان بذاته كما ذكره ه‬
‫تدل على‬

‫ص ‪40‬‬

‫‪40‬‬
‫ي َه ِيه ٌن َوقَ ْد َخلَ ْقت ُ َك »أي قدهرتك« ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم ت َكُ َ‬
‫شيْئا ً‬ ‫علَ َّ‬
‫خالف ما خلق له« قا َل َرب َُّك ُه َو َ‬
‫»المقصود هو شيئية الوجود ألنه جاء بلفظة تك ‪ ،‬وهي حرف وجودي فنفاه بلم ‪ ،‬أي ما كانت‬
‫لك شيئية الوجود ‪ ،‬وهي على الحقيقة شيئية الظهور ‪،‬‬
‫فإياك أن تتوهم أن هذا الخطاب لزكريا في حق نفسه إلبطال المعنى فيه ‪ ،‬فإن خلق ابنه أعجب‬
‫من خلقه في حكم العادة ‪ ،‬ألن زكريا عليه السالم قد أظهر العلة ‪ ،‬فلو أحاله على خلق نفسه لما‬
‫أتاه بأعجب مما تعجب منه ‪ ،‬وإنما أشار إليه بذلك أن ينظر في أول موجود ‪ ،‬وهي الحقيقة‬
‫اإلنسانية قبل كل شيء ‪،‬‬
‫وهي أم األشياء كلها وليست من شيء ‪ ،‬وهي سبب كل شيء ‪ ،‬وليست مسببة لشيء ‪ ،‬ولهذا‬
‫شيْئا ً »‬ ‫قال له« َولَ ْم ت َكُ َ‬
‫ّللا تعالى في خلق الجسد اآلدمي ( خلقكم‬ ‫فإن هذا الخلق الترابي اآلدمي مسبب عن أشياء ‪ ،‬قال ه‬
‫من تراب )‬
‫ثم قال ( من طين ) وهو خلط الماء والتراب ‪ ،‬وقال ( من حمأ مسنون )‬
‫وهو المتغير الريح وهو جزء الهواء ‪ ،‬وقال ( من صلصال كالفخار ) وهو جزء النار ‪ ،‬فهذه‬
‫شيْئا ً »فإنه قد كان شيئا‬ ‫أمهات الجسد اآلدمي ‪ ،‬وهي كثيرة ‪ ،‬فال يصح على هذا قوله« َولَ ْم ت َكُ َ‬
‫وانتقل في أطوار العالم من شكل إلى شكل حتى صار على هذه الصفة ‪ ،‬فقوله على ما تعطيه‬
‫شيْئا ً »إنما يشير‬ ‫الحقائق ويعظم التعجب عند زكريا عليه السالم« َوقَ ْد َخلَ ْقت ُ َك ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم ت َكُ َ‬
‫إلى البروز األول من غير شيء ‪ ،‬ألن زكريا عليه السالم إنما تعجب من بشراه له تعالى‬
‫بيحيى على كبره وامرأته عاقر ‪ ،‬فذكر له ما هو أعجب من ذلك وهو إخراج الشيء من العدم‬
‫إلى الوجود ‪ ،‬فإن النقلة في مراتب الوجود من وجود إلى وجود باختالف األحوال أهون من‬
‫إبراز المعدوم ‪ ،‬فلهذا كان أعجب مما تعجب منه زكريا ‪ ،‬ومن هذا تعجبت امرأة إبراهيم عليه‬
‫السالم حين بشرت بإسحاق عليه السالم ‪،‬‬
‫يب )‬ ‫ع ِج ٌ‬ ‫ش ْي ٌء َ‬ ‫شيْخا ً ‪ِ ،‬إ َّن هذا لَ َ‬ ‫وز َوهذا بَ ْع ِلي َ‬ ‫ع ُج ٌ‬ ‫فقالت ( يا َو ْيلَتى أ َ أ َ ِل ُد َوأَنَا َ‬
‫فشرك بينهما في العلم ‪ ،‬ألن التعجب‬ ‫ّللا تعالى بين المرأة والرجل في هذا التعجب ‪ ،‬ه‬ ‫فشرك ه‬
‫ه‬
‫شيْئا ً »يعني ولم تك موجودا ‪ ،‬فظهر لعينه وإن كان في شيئية‬ ‫على قدر العلم ‪ ،‬ف« لَ ْم ت َكُ َ‬
‫ثبوته ظاهرا متميزا عن غيره بحقيقته ‪ ،‬ولكن لربه ال لنفسه ‪،‬‬
‫يقول لزكريا عليه السالم ‪:‬‬
‫فكن معي في حال وجودك من عدم االعتراض في الحكم والتسليم لمجاري األقدار كما كنت‬
‫في حال عدمك ‪ .‬ويقول لإلنسان ‪ :‬ينبغي لك أن تكون وأنت في وجودك من الحال معي كما‬
‫كنت وأنت في حال عدمك من قبولك ألوامري وعدم اعتراضك ‪.‬‬
‫يأمره بالوقوف عند‬

‫ص ‪41‬‬

‫‪41‬‬
‫حدوده ومراسمه ‪ ،‬فيتكلم حيث رسم له أن يتكلم ‪ ،‬ويتكلم بما أمره به أن يتكلم ‪ -‬راجع آية ‪21‬‬
‫‪.-‬‬
‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 10‬إلى ‪] 11‬‬
‫س ِويًّا ( ‪ ) 10‬فَ َخ َر َ‬
‫ج عَلى قَ ْو ِم ِه ِم َن‬ ‫ب اجْ عَ ْل ِلي آيَة قا َل آيَت ُكَ أَاله ت ُ َك ِلّ َم النه َ‬
‫اس ث َ َ‬
‫الث لَيا ٍل َ‬ ‫قا َل َر ّ ِ‬
‫شيًّا ) ‪( 11‬‬ ‫س ِبّ ُحوا بُ ْك َرة َو َ‬
‫ع ِ‬ ‫ب فَأ َ ْوحى ِإلَ ْي ِه ْم أ َ ْن َ‬
‫ا ْل ِمحْ را ِ‬
‫ّللا تعالى زكريا عليه السالم بصمت ثالثة أيام ‪ ،‬وأن يأمر قومه بالذكر بكرة وعشية ‪،‬‬ ‫أمر ه‬
‫ليسوي بذلك بين ظاهره مع وجود باطنه فيحيا ‪ ،‬ويستعين بذكر قومه لمناسبتهم إياه إذ كانوا ال‬
‫يصلحون للصمت ‪ ،‬فالذكر أولى بهم ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 12‬‬


‫تاب ِبقُ هو ٍة َوآت َ ْيناهُ ا ْل ُح ْك َم َ‬
‫ص ِبيًّا ) ‪( 12‬‬ ‫يا يَحْ يى ُخ ِذ ا ْل ِك َ‬
‫يعني حكم اإلمامة وهو مقام اإلمامة مع تسميته صبيا ‪ ،‬فإن الصبي من صبا أي مال ‪ ،‬وبذلك‬
‫سمي الصبي صبيا لميله إلى حكم الطبيعة ونيل أغراضه ‪ ،‬فهو مائل إلى شهواته ‪ ،‬والحكم هو‬
‫القضاء المحكوم به على المحكوم عليه ‪ ،‬ولما كان الناس إنما يستغربون الحكمة من الصبي‬
‫الصغير دون الكبير ‪ ،‬ألنهم ما عهدوا إال الحكمة الظاهرة عن التفكر والروية ‪ ،‬وليس الصبي‬
‫ّللا بهذا المحل الظاهر ‪ ،‬فزاد يحيى‬
‫في العادة بمحل لذلك ‪ ،‬فيقولون إنه ينطق بها فتظهر عناية ه‬
‫بأنه على علم بما نطق به علم ذوق ‪ ،‬ألن مثل هذا في هذا الزمان والسن ال يصح أن يكون إال‬
‫ّللا الحكم صبيا‬
‫ّللا الحكم صبيا وهو حكم النبوة التي ال تكون إال ذوقا ‪ ،‬فيحيى آتاه ه‬ ‫ذوقا ‪ ،‬فآتاه ه‬
‫ولم يجعل له من قبل سميا ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 13‬إلى ‪] 15‬‬


‫سال ٌم‬ ‫كان ت َ ِقيًّا ( ‪َ ) 13‬وبَ ًّرا ِبوا ِل َد ْي ِه َولَ ْم يَك ُْن َجبهارا ع ِ‬
‫َصيًّا ( ‪َ ) 14‬و َ‬ ‫َو َحنانا ِم ْن لَ ُدنها َو َزكاة َو َ‬
‫ث َحيًّا ) ‪( 15‬‬ ‫علَ ْي ِه يَ ْو َم ُو ِل َد َويَ ْو َم يَ ُموتُ َويَ ْو َم يُ ْبعَ ُ‬
‫َ‬
‫شهادة إلهية مقطوع بها عناية من غير تعمل ‪ ،‬وقد قال عيسى عليه السالم ( والسالم علي يوم‬
‫ولدت ) فسلهم بالتعريف ‪ ،‬وهنا سلهم الحق على يحيى عليه السالم بالتنكير ‪ ،‬والتنكير‬

‫ص ‪42‬‬

‫‪42‬‬
‫أعم ‪ ،‬فاعلم أن التعريف الذي جاء به عيسى ما هو تعريف عين بل هو تعريف جنس ‪ ،‬فال‬
‫فرق بينه باأللف والالم وبين عدمهما ‪ ،‬فعيسى ويحيى في السالم على السواء كما هما في‬
‫الصالح كذلك ‪،‬‬
‫صا ِل ِحينَ )فعيهنه في النكرة ‪ ،‬وقال في‬
‫ّللا تعالى قال عن يحيى عليه السالم( َونَبِيًّا ِمنَ ال َّ‬
‫فإن ه‬
‫عيسى ( ومن الصالحين ) فعيهنه في النكرة ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 16‬إلى ‪]17‬‬


‫ب َم ْريَ َم إِ ِذ ا ْنتَبَذَتْ ِم ْن أ َ ْه ِلها َمكانا ش َْرقِيًّا ( ‪ ) 16‬فَات ه َخذَتْ ِم ْن دُونِ ِه ْم ِحجابا‬ ‫َو ْ‬
‫اذك ُْر فِي ا ْل ِكتا ِ‬
‫س ِويًّا ) ‪( 17‬‬ ‫س ْلنا إِلَ ْيها ُرو َحنا فَت َ َمث ه َل لَها بَشَرا َ‬ ‫فَأ َ ْر َ‬
‫جبريل عليه السالم هو الذي تمثل لمريم بشرا سويا عند إيجاد عيسى عليه السالم في حضرة‬
‫الخيال المحسوس يقظة ‪ ،‬فانتقل حكم البشر إلى الروح لما ظهر بصورة البشر ‪ ،‬فأعطى الولد‬
‫الذي هو عيسى ‪ ،‬وليس ذلك من شأن األرواح ‪ ،‬ولكن انتقل حكم الصورة إليها بقبوله للصورة‬
‫‪ .‬واعلم أن األرواح لها اللطافة ‪ ،‬فإذا تجسدت وظهرت بصورة األجسام كثفت في عين الناظر‬
‫إليها ‪ ،‬واألجسام لها الكثافة شفافها وغير شفافها ‪ ،‬فإذا تحولت في الصور في عين الرائي أو‬
‫احتجبت مع الحضور فقد تروحنت ‪ ،‬أي صار لهم حكم األرواح في االستتار ‪،‬‬
‫وأما سبب كثافة األرواح وهي من عالم اللطف فلكونهم خلقوا من الطبيعة ‪ ،‬وإن كانت‬
‫أجسامهم نورية فمن نور الطبيعة كنور السراج ‪ ،‬فلهذا قبلوا الكثافة ‪ ،‬فظهروا بصور األجسام‬
‫الكثيفة ‪ ،‬كما أثر فيهم الخصام حكم الطبيعة لما فيها من التقابل والتضاد ‪ ،‬فمن هذه الحقيقة‬
‫التي أورثتهم الخصومة تجسدوا في صور األجسام الكثيفة ‪،‬‬
‫وأما الكثيف يرجع لطيفا فسببه التحليل ‪ ،‬فإن الكثائف من عالم االستحالة ‪ ،‬وكل ما يقبل‬
‫االستحالة يقبل الصور المختلفة والمتضادة ‪ ،‬واألرواح ال تتشكل إال فيما تعلمه من الصور ‪،‬‬
‫وال تعلم شيئا منها إال بالشهود ‪،‬‬
‫فكانت األرواح تتصور في كل صورة في العالم إال في صورة اإلنسان قبل خلق اإلنسان ‪،‬‬
‫فإن األرواح وإن كان لها التصور فما لها القوة المصورة كما لإلنسان ‪،‬‬
‫فإن القوة المصورة تابعة للفكرة التي هي صفة للقوة المفكرة ‪،‬‬
‫فالتصور لألرواح من صفات ذات األرواح النفسية ال المعنوية ‪ ،‬ال لقوة مصورة تكون لها ‪،‬‬
‫إال أنها وإن كان لها التصور ذاتيا فال تتصور إال فيما أدركته من صور العالم الطبيعي ‪ ،‬وقوله‬
‫س ِويًّا »تنبيها على المباشرة ‪،‬‬ ‫تعالى« فَت َ َمث َّ َل لَها بَشَرا ً َ‬
‫فإنه ال يوجد أحد من بني آدم إال عن مباشرة ‪ ،‬فكان الروح واسطة‬

‫ص ‪43‬‬

‫‪43‬‬
‫بينه تعالى وبين مريم في إيجاد عيسى‬
‫[ دقيقة ‪ :‬لم غلب على أمة عيسى القول بالصورة ]‬
‫‪-‬دقيقة ‪ -‬لما كان وجود عيسى عليه السالم عن تمثل روح في صورة بشر ولم يكن عن ذكر‬
‫بشري ‪ ،‬لهذا غلب على أمة عيسى ابن مريم دون سائر األمم القول بالصورة ‪ ،‬فيصورون في‬
‫كنائسهم مثال ويتعبدون في أنفسهم بالتوجه إليها ‪ ،‬فإن أصل نبيهم عليه السالم كان عن تمثل ‪،‬‬
‫فسرت تلك الحقيقة في أمته إلى اآلن ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 18‬‬


‫من ِم ْنكَ إِ ْن ُك ْنتَ ت َ ِقيًّا ) ‪( 18‬‬ ‫قالَتْ إِ ِنّي أَعُوذُ بِ ه‬
‫الرحْ ِ‬
‫لما تمثل جبريل لمريم عليها السالم بشرا سويا ‪ ،‬تخيلت أنه يريد مواقعتها ‪ ،‬فاستعاذت منه ‪،‬‬
‫ّللا منه لما تعلم أن ذلك مما ال يجوز ‪.‬‬ ‫استعاذت بجمعية منها ليخلصها ه‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 19‬‬


‫غالما َز ِكيًّا ( ‪( 19‬‬ ‫سو ُل َر ِبّ ِك ِأل َ َه َ‬
‫ب لَ ِك ُ‬ ‫قا َل إِنهما أَنَا َر ُ‬
‫غالما ً زَ ِكيًّا »تمثل الملك لمريم بشرا سويا وجعله‬ ‫سو ُل َر ِبه ِك »جئت« ِألَه َ‬
‫َب لَ ِك ُ‬ ‫" قا َل ِإنَّما أَنَا َر ُ‬
‫الحق تعالى روحا ‪ ،‬إذ كان جبريل روحا ‪ ،‬فوهبها عيسى عليه السالم ‪ ،‬فكان انفعال عيسى‬
‫عن الملك الممثل في صورة الرجل ‪،‬‬
‫ولذلك خرج على صورة أبيه ‪ ،‬إذ كل مؤث هر أب وكل مؤثهر فيه أم ‪ ،‬والمتولد من ذلك يسمى ابنا‬
‫ومولدا ‪ ،‬فخرج عيسى ذكرا بشرا روحا ‪ ،‬فجمع بين الصورتين اللتين كان عليهما أبوه الذي‬
‫هو الملك ‪ ،‬فإنه روح في عينه بشر من حيث تمثله في صورة البشر ‪،‬‬
‫فما تكون عيسى إال عن اثنين ‪ ،‬فجبريل وهب لمريم عيسى في النفخ كما ينفخ الروح في‬
‫الصورة عند تسويتها ‪ ،‬فصورة عيسى مثل تجسد األرواح ألنه عن تمثل ‪ ،‬فلو تفطنت لخلق‬
‫عيسى لرأيت علما عظيما تقصر عنه أفهام العقالء ‪ ،‬وهو التحاق البشر بالروحاني والتحاق‬
‫الروحاني بصورة البشر ‪ ،‬فخرج عيسى على صورة جبريل في المعنى واالسم والصورة ‪،‬‬
‫ففي الصورة كان بشرا لتمثل جبريل في صورة البشر ‪،‬‬
‫وفي االسم فإن عيسى سمي روحا وجبريل من أسمائه الروح ‪ ،‬وفي المعنى فكان يحيي الموتى‬
‫كما يحيي جبريل‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 20‬‬


‫س ِني بَش ٌَر َولَ ْم أَكُ بَ ِغيًّا) ‪( 20‬‬
‫س ْ‬ ‫قالَتْ أَنهى يَك ُ‬
‫ُون ِلي ُ‬
‫غال ٌم َولَ ْم يَ ْم َ‬

‫ص ‪44‬‬

‫‪44‬‬
‫ّللا تعالى عيسى حجة‬
‫فإن الخصم يقول ال ولد إال من والد ‪ ،‬وال بيضة إال من دجاجة ‪ ،‬فأراهم ه‬
‫عليهم ‪ ،‬ولذلك كان آية ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 21‬‬


‫كان أ َ ْمرا َم ْق ِضيًّا ( ‪) 21‬‬
‫اس َو َرحْ َمة ِمنها َو َ‬ ‫ي َه ِيّ ٌن َو ِلنَجْ عَلَهُ آيَة ِللنه ِ‬ ‫علَ ه‬ ‫قا َل كَذ ِل ِك قا َل َربُّ ِك ُه َو َ‬
‫[ نقصان المرأة عن الرجل في العلم باألحدية الذاتية ]‬
‫ّللا ذاتية ال نسبة بينها وبين طلب الممكنات ‪ ،‬ومن المحال أن يعقل العقل‬ ‫لما كانت أحدية ه‬
‫وجود العالم من هذه األحدية التي لها الغنى عن العالمين ‪ ،‬وجب عليه أن يرجع إلى النظر فيما‬
‫يطلبه الممكن من وجود من له هذه األحدية ‪،‬‬
‫فنظر فيه من كونه إلها يطلب المألوه ‪ ،‬وهو تركيب األدلة وترتيبها ‪ ،‬ولما كان يجب على‬
‫الرجل الجمع بين العلم بتلك األحدية وبين العلم بكونه إلها ‪ ،‬فقال تعالى لزكريا عليه السالم«‬
‫شيْئا ً »فتعدد األحكام على المحكوم‬ ‫ي َه ِيه ٌن َوقَ ْد َخلَ ْقت ُ َك ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم ت َكُ َ‬ ‫علَ َّ‬
‫َكذ ِل َك قا َل َرب َُّك ُه َو َ‬
‫عليه مع أحدية العين إنما ذلك راجع إلى نسب واعتبارات ‪،‬‬
‫فعين الممكن لم تزل وال تزال على حالها من اإلمكان ‪ ،‬فلم يخرجها كونها مظهرا حتى انطلق‬
‫عليها االتصاف بالوجود عن حكم اإلمكان فيها ‪ ،‬فإنه وصف ذاتي لها ‪ ،‬واألمور ال تتغير عن‬
‫حقائقها الختالف الحكم عليها الختالف النسب ‪،‬‬
‫شيْئا ً »فنفى الشيئية عنه وأثبتها له ‪ ،‬والعين هي العين‬ ‫لذلك قال« َوقَ ْد َخلَ ْقت ُ َك ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم ت َكُ َ‬
‫ال غيرها ‪ ،‬فأحاله إلى النظر واالستدالل ‪ ،‬ولم يقل ذلك للمرأة وهي مريم ‪ ،‬بل قال لها( َكذ ِل ِك‬
‫ضيًّا )‬ ‫اس َو َر ْح َمةً ِمنَّا َوكانَ أ َ ْمرا ً َم ْق ِ‬ ‫ي َه ِيه ٌن َو ِلن َْجعَلَهُ آيَةً ِللنَّ ِ‬ ‫علَ َّ‬
‫قا َل َرب ُِّك ُه َو َ‬
‫فإن المرأة تنقص عن الرجل في العلم باألحدية الذاتية ‪ ،‬فلم يكلفها النظر في الجمع بينها وبين‬
‫ضيًّا )‬‫باّلل من كونه إلها ‪ ،‬بل قال لها( َوكانَ أ َ ْمرا ً َم ْق ِ‬ ‫العلم ه‬
‫مع أنه متعين على مريم العلم باألحدية الذاتية وعلم األحدية اإللهية التي هي أحدية الكثرة ‪،‬‬
‫صل له درجة الكمال ‪.‬‬ ‫فإنها ممن تح ه‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 22‬‬


‫فَ َح َملَتْهُ فَا ْنتَبَذَتْ بِ ِه َمكانا قَ ِصيًّا ) ‪( 22‬‬
‫جسم عيسى متكون من ماء أمه مريم ‪ ،‬وينكر ذلك الطبيعيون ويقولون إنه ال يتكون من ماء‬
‫المرأة شيء ‪ ،‬وذلك ليس بصحيح‪.‬‬

‫ص ‪45‬‬

‫‪45‬‬
‫[سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 23‬‬
‫خاض ِإلى ِج ْذعِ النه ْخلَ ِة قالَتْ يا لَ ْيت َ ِني ِمتُّ قَ ْب َل هذا َو ُك ْنتُ نَ ْ‬
‫سيا َم ْن ِ‬
‫سيًّا ( ‪) 23‬‬ ‫ُ‬ ‫فَأَجا َء َها ا ْل َم‬
‫[ مده حمل عيسى عليه السالم ]‬
‫عيسى عليه السالم لم يلبث في البطن اللبث المعتاد ‪ ،‬فإنه لم ينتقل في أطوار النشأة الطبيعية‬
‫بمرور األزمان المعتادة ‪ ،‬بل كان انتقاله يشبه البعث ‪ ،‬أعني إحياء الموتى يوم القيامة في‬
‫الزمان القليل على صورة ما جاءوا عليها في الزمان الكثير ‪.‬‬
‫واعلم أنه ال عذاب على النفوس أعظم من الحياء ‪ ،‬حتى يود صاحب الحياء ان لم يكن شيئا‬
‫ت قَ ْب َل هذا َو ُك ْنتُ نَسْيا ً َم ْن ِسيًّا »‬‫كما قالت الكاملة« يا لَ ْيتَنِي ِم ُّ‬
‫ّللا ‪ ،‬حياء من الناس ‪ ،‬لما علمت من طهارة بيتها‬ ‫قالت ذلك وهي بريئة في نفس األمر عند ه‬
‫وآبائها ‪ ،‬فخافت من إلحاق العار بهم من أجلها ‪ ،‬فهذا حياء من المخلوق كيف نسبوا إليها ما ال‬
‫ّللا مما نسبوا إليها لما نالها من عذاب الحياء من قومها ‪،‬‬ ‫يليق ببيتها وال بأصلها ‪ ،‬فبرأها ه‬
‫ّللا إلى مريم ‪ ،‬ال غير ذلك ‪،‬‬ ‫فإن عيسى عليه السالم هو عين الكلمة التي ألقاها ه‬
‫ّللا وكالما لها مثل كالمه لموسى عليه‬ ‫وال علمت غير ذلك ‪ ،‬فلو كانت الكلمة اإللهية قوال من ه‬
‫ت قَ ْب َل هذا َو ُك ْنتُ نَسْيا ً َم ْن ِسيًّا »فلم تكن الكلمة اإللهية التي‬ ‫السالم لسرت ولم تقل« يا لَ ْيتَنِي ِم ُّ‬
‫ّللا وكلمته ‪ ،‬وهو عبده ‪،‬‬ ‫ألقيت إليها إال عين عيسى روح ه‬
‫ّللا عن أمه بنطقه ما كان‬ ‫فنطق عيسى ببراءة أمه في غير الحالة المعتادة ليكون آية ‪ ،‬فنفهس ه‬
‫ّللا عنه‪.‬‬ ‫أصابها من كالم أهلها بما نسبوها إليه مما طهرها ه‬

‫[سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 24‬إلى ‪] 25‬‬


‫س ِريًّا ( ‪َ ) 24‬و ُه ِ ّزي إِلَ ْي ِك بِ ِج ْذعِ النه ْخلَ ِة تُساقِ ْط‬
‫فَناداها ِم ْن تَحْ تِها أَاله تَحْ َزنِي قَ ْد َجعَ َل َربُّ ِك تَحْ ت َ ِك َ‬
‫علَ ْي ِك ُر َطبا َجنِيًّا ) ‪( 25‬‬‫َ‬
‫فكان ذلك شهادة مبرئة لمريم عليها السالم بما سقط من الثمر في هزها جذع النخلة اليابس‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ أكثر الشرع في الحكومة‬ ‫ّللا ‪ ،‬وهما شاهدان عدالن عند ه‬ ‫ونطق ابنها في المهد بأنه عبد ه‬
‫بشاهدين عدلين ‪ :‬وال أعدل من هذين وقام الشاهد األول بهز الجذع للمناسبة الموجودة ‪ ،‬فإن‬
‫النخل ال ينتج إال بتذكير ‪ ،‬فلما هزت الجذع اليابس أنتج من غير تذكير للحين ‪ ،‬كما فعل‬
‫بعيسى عليه السالم ‪ ،‬وأما الشاهد الثاني فهو نطق عيسى في المهد ‪ ،‬شاهد ثان على أهل‬
‫الجحد‪.‬‬
‫ص ‪46‬‬

‫‪46‬‬
‫[سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 26‬إلى ‪] 28‬‬
‫ص ْوما فَلَ ْن‬
‫من َ‬
‫لرحْ ِ‬ ‫ع ْينا فَ ِإ هما ت َ َر ِي هن ِم َن ا ْلبَش َِر أ َ َحدا فَقُو ِلي ِإ ِنّي نَذَ ْرتُ ِل ه‬
‫فَ ُك ِلي َواش َْر ِبي َوقَ ِ ّري َ‬
‫ش ْيئا فَ ِريًّا ( ‪ ) 27‬يا‬
‫ت َ‬ ‫سيًّا ( ‪ ) 26‬فَأَتَتْ بِ ِه قَ ْو َمها تَحْ ِملُهُ قالُوا يا َم ْريَ ُم لَقَ ْد ِجئْ ِ‬ ‫أ ُ َك ِلّ َم ا ْليَ ْو َم إِ ْن ِ‬
‫س ْو ٍء َوما كانَتْ أ ُ ُّم ِك بَ ِغيًّا ( ‪) 28‬‬ ‫ام َرأ َ َ‬ ‫وك ْ‬‫كان أَبُ ِ‬
‫ون ما َ‬ ‫هار َ‬ ‫أ ُ ْختَ ُ‬
‫هارونَ » ]‬ ‫ت ُ‬ ‫[ « يا أ ُ ْخ َ‬
‫هارونَ »فإن مريم‬ ‫ت ُ‬ ‫هارونَ »المقصود هنا هارون عليه السالم ‪ ،‬وقولهم «يا أ ُ ْخ َ‬ ‫ت ُ‬ ‫« يا أ ُ ْخ َ‬
‫أخت له دينا ونسبا ‪ ،‬فإذا قيل إنه ما هو أخوها ألن بينهما زمانا طويال ‪،‬‬
‫قلنا ‪ :‬أال ترى إلى قوله تعالى( َوإِلى ث َ ُمو َد أَخا ُه ْم صا ِلحا ً ) *ما هذه األخوة ؟‬
‫أترى هو أخو ثمود ألبيه وأمه فهو أخوهم ؟‬
‫فسمى القبيلة باسم ثمود ‪ ،‬وكان صالح من نسل ثمود ‪ ،‬فهو أخوهم بال شك ‪ ،‬ثم جاء بعد ذلك‬
‫بالدين ‪ ،‬أال ترى أصحاب األيكة لما لم يكونوا من مدين ‪ ،‬وكان شعيب من مدين ‪ ،‬فقال في‬
‫شعيب أخو مدين ( وإلى مدين أخاهم شعيبا )‬
‫ولما جاء ذكر أصحاب األيكة قال ( إذ قال لهم شعيب ) ولم يقل أخاهم ‪ ،‬ألنهم ليسوا من مدين‬
‫وشعيب من مدين ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 29‬‬


‫كان فِي ا ْل َم ْه ِد َ‬
‫ص ِبيًّا ) ‪( 29‬‬ ‫ف نُ َك ِلّ ُم َم ْن َ‬ ‫فَأ َ َ‬
‫شارتْ ِإلَ ْي ِه قالُوا َك ْي َ‬
‫عدلت مريم عليها السالم إلى اإلشارة من أجل أهل اإلفك واإللحاد ‪ ،‬فإن اإلشارة ال تكون إال‬
‫بقصد المشير بذلك أنه يشير ‪ ،‬ال من جهة المشار إليه ‪ ،‬واإلشارة إيماء ‪ ،‬جاءت به األنباء فهي‬
‫إشارة على رأس البعد ‪ ،‬وهي على قسمين ‪:‬‬
‫إشارة تقتضي البعد ‪ ،‬وتبلغ ما ال يبلغ الصوت ‪،‬‬
‫وإشارة تقتضي القرب ولكن بحضور ثالث أو أكثر ‪،‬‬
‫فالبعد الذي فيه ‪ ،‬كون األغيار حاضرين ‪ ،‬فأشارت إليه متكلة عليه ‪ ،‬فبرأتها شهادته مما قيل ‪،‬‬
‫وتلي ذلك في كل جيل ‪،‬‬
‫ْف نُ َك ِله ُم َم ْن كانَ فِي ْال َم ْه ِد َ‬
‫صبِيًّا »لما عندهم من حكم‬ ‫في قرآن وزبور وتوراة وإنجيل« قالُوا َكي َ‬
‫ّللا تعالى عيسى عليه السالم الحكم صبيا ‪،‬‬ ‫المواطن ‪ ،‬وآتى ه‬
‫وهو حكم النهبوة التي ال تكون إال ذوقا ‪ ،‬فمن حكمه أن حكم في مهده على مرأى من قومه‬
‫ّللا بنطقه وبحنين جذع النخلة إليه ‪ ،‬ومن حكمه‬ ‫الذين افتروا في حقه على أمه مريم ‪ ،‬فبرأها ه‬
‫عليه السالم‬

‫ص ‪47‬‬

‫‪47‬‬
‫[سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 30‬‬
‫ي ا ْل ِك َ‬
‫تاب َو َجعَلَ ِني نَ ِبيًّا ) ‪( 30‬‬ ‫ّللا آتا ِن َ‬ ‫قا َل ِإ ِنّي َ‬
‫ع ْب ُد ه ِ‬
‫ّللا الحكم صبيا وهو رضيع في المهد ‪ ،‬فقد أيده ببيان ذلك ‪،‬‬ ‫لما كان عيسى عليه السالم قد آتاه ه‬
‫فنطق عليه السالم في المهد باإلقرار والجحد ‪ ،‬وبدأ عليه السالم في نطقه بالعبودية ‪ ،‬فقال‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫لقومه في براءة أمه لما علم من نور النبوة التي في استعداده أنه ال بد أن يقال فيه إنه ابن ه‬
‫ّللا »فبدأ في أول تعريفه وشهادته في الحال الذي‬ ‫ّللا« ِإ ِنهي َ‬
‫ع ْب ُد َّ ِ‬ ‫فقال عن نفسه إخبارا بحاله مع ه‬
‫ال ينطق مثله في العادة ‪ ،‬فما أنا ابن ألحد ‪ ،‬فأمي طاهرة بتول ‪ ،‬ولست بابن هّلل ‪ ،‬كما أنه ال‬
‫ّللا مثلكم ‪ ،‬فحكم على نفسه بالعبودية هّلل ‪ ،‬وما قال‬ ‫يقبل الصاحبة ال يقبل الولد ‪ ،‬ولكني عبد ه‬
‫تاب »فحصل له إنجيله قبل بعثه ‪ ،‬فكان على بينة من ربه ‪،‬‬ ‫ي ْال ِك َ‬ ‫ابن فالن ألنه لم يكن ث هم« آتانِ َ‬
‫فحكم بأنه مالك كتابه اإللهي« َو َجعَلَنِي نَبِيًّا »فنطق بنبوته في وقتها عنده وفي غير وقتها عند‬
‫ّللا في األنبياء قبله ‪،‬‬‫الحاضرين ‪ ،‬ألنه ال بد له في وقت رسالته أن يعلم بنبوته كما جرت عادة ه‬
‫وحكم بأن النبوة بالجعل لئال يتخيل أن ذلك بالذات ‪ ،‬بل هو اختصاص إلهي ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ‪ ( 19 ) :‬آية ‪] 31‬‬


‫باركا أ َ ْي َن ما ُك ْنتُ َوأ َ ْوصانِي بِال ه‬
‫صال ِة َو ه‬
‫الزكا ِة ما د ُْمتُ َحيًّا ) ‪( 31‬‬ ‫َو َجعَلَنِي ُم َ‬
‫باركا ً »أي محال‬
‫فلما أبان عن أنه أوتى مقام اإلمامة مع تسميته صبيا ‪ ،‬قال« َو َجعَلَنِي ُم َ‬
‫وعالمة على زيادات الخير عندكم ‪ ،‬وخصني بزيادة لم تحصل لغيري ‪ ،‬وتلك الزيادة ختمه‬
‫ّللا عليه وسلم حتى يكون يوم‬ ‫للوالية ‪ ،‬ونزوله في آخر الزمان وحكمه بشرع محمد صلهى ه‬
‫القيامة ممن يرى ربه الرؤية المحمدية في الصورة اإللهية« أَيْنَ ما ُك ْنتُ »في المهد وغيره ‪،‬‬
‫ويعني في كل حال من األحوال ‪ ،‬ما تختص البركة بسببي فيكم في حال دون حال من دنيا‬
‫ّللا عليه‬‫وآخرة ‪ ،‬فإنه ذو حشرين يحشر في صف الرسل ويحشر معنا في أتباع محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن أقيمها ‪ ،‬ألنه‬ ‫صالةِ »المفروضة في أمة محمد صلهى ه‬ ‫وسلم« َوأ َ ْوصانِي ِبال َّ‬
‫الزكاةِ »أيضا كذلك ‪ ،‬وأراد بالوصية بالصالة والزكاة العبادة ‪ ،‬كما‬ ‫جاء باأللف والالم فيها« َو َّ‬
‫تدل على العمل هي على العبادة أدل ‪ ،‬ألنها تفتقر في كونها عبادة إلى بيان ‪ ،‬وإذا أريد بها‬
‫العمل احتيج إلى تعيين ذلك العمل وبيان صورته ‪ ،‬حتى يقيم نشأته هذا المكلهف به« ما د ُْمتُ‬
‫َحيًّا »زمان التكليف وهو الحياة الدنيا ‪،‬‬

‫ص ‪48‬‬

‫‪48‬‬
‫فأراد ما دام في عالم التكليف والتشريع ‪ ،‬يعني حياة التكليف في ظاهر األمر عند السامعين ‪،‬‬
‫وعندنا أنه لما أوصاه بالصالة والزكاة وهي العبادة ‪ ،‬دل على أنه ال يزال حيا أينما كان ‪،‬‬
‫وإن فارق هذا الهيكل بالموت فالحياة تصحبه ‪ ،‬ألنها صفة نفسية له ‪ ،‬وال سيما وقد جعله روح‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫ه‬

‫[ سورة مريم ‪ ( 19 ) :‬آية ‪]32‬‬


‫ش ِقيًّا ( ‪) 32‬‬ ‫َوبَ ًّرا ِبوا ِل َد ِتي َولَ ْم يَجْ عَ ْل ِني َجبهارا َ‬
‫ي‪]»...‬‬ ‫علَ َّ‬
‫سال ُم َ‬‫[ قول عيسى عليه السالم ‪َ « :‬وال َّ‬
‫ثم ذكر عليه السالم أنه بر بوالدته أي محسن إليها ‪ ،‬فأول إحسانه أنه برأها مما نسب إليها في‬
‫حالة ال يشكون في أنه صادق في ذلك التعريف ‪ ،‬فمن بره بها كونه برأها مما نسب إليها‬
‫بشهادته ‪ ،‬وأخبر أنه شق في خلقه ‪ ،‬فإن ألمه عليه والدة لما كانت محل تكوينه ‪ ،‬وذلك بقوله«‬
‫ي ‪ ،‬فأخبر أنه شق أي من أنثى فقط ‪،‬‬ ‫َوبَ ًّرا ِبوا ِل َدتِي »ولم يقل ‪ :‬برا بوالد ه‬
‫فقلت نسبته العنصرية ‪ ،‬وأتى عليه السالم في كل ما ادعاه ببنية الماضي ليعرف السامع‬
‫بحصول ذلك كله عنده وهو صبي في المهد ‪ ،‬وقد ذكر أنه آتاه الكتاب والحكمة ‪ ،‬ولكن غاب‬
‫عن أبصار الناس إدراك الكتاب الذي آتاه حتى ظهر في زمان آخر ‪،‬‬
‫وأما الحكمة فظهر عينها في نفس نطقه بمثل هذه الكلمات وهو في المهد ‪ ،‬وهو يريد بلفظ‬
‫الماضي الحال واالستقبال ‪،‬‬
‫فما كان منه في الحال فنطقه شهادة ببراءة أمه ‪ ،‬وتنبيها وتعليما لمن يريد أن يقول فيه إنه ابن‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فنزه ه‬ ‫ه‬
‫وهو نظير براءة أمه مما نسبوا إليها ‪ ،‬فهو في جناب الحق تنزيه وفي جناب األم تبرئة ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫ويدل لفظ الماضي فيه « وأينما كنت » أن يكون له التعريف بذلك من ه‬
‫ش ِقيًّا »إذ ال يكون ذلك ممن يكون إال بالجهل ‪،‬‬ ‫ثم تمم فقال« َولَ ْم يَ ْجعَ ْلنِي َجبَّارا ً َ‬
‫والجهل فيه إنما هو من قوة سلطان ظلمة العنصر ‪ ،‬ويريد بقوله« َولَ ْم يَ ْجعَ ْلنِي َجبَّارا ً »فإن‬
‫ّللا ) ويريد أيضا بقوله« َولَ ْم‬ ‫الجبروت وهو العظمة يناقض العبودة وهو قوله ( إني عبد ه‬
‫يَ ْجعَ ْلنِي َجبَّارا ً »أي ال أجبر األمة التي أرسل إليها بالكتاب والصالة والزكاة ‪ ،‬إنما أنا مبلغ عن‬
‫معرفا عن أمر إلهي ‪.‬‬ ‫ّللا ال غير ‪ ،‬ثم قال ه‬ ‫ه‬

‫[ سورة مريم ‪ ( 19 ) :‬آية ‪] 33‬‬


‫ي يَ ْو َم ُو ِل ْدتُ َويَ ْو َم أ َ ُموتُ َويَ ْو َم أ ُ ْبعَ ُ‬
‫ث َحيًّا ) ‪( 33‬‬ ‫علَ ه‬
‫سال ُم َ‬
‫َوال ه‬
‫قول عيسى عليه السالم أكمل في الوصلة ممن قيل فيه ( وسالم عليه يوم ولد ) وهو‬

‫ص ‪49‬‬

‫‪49‬‬
‫يحيى ‪ ،‬فهذا مقام أول لهذا المقام الثاني ‪ ،‬فإن يحيى من الحياة ‪ ،‬وهي مسخرة لعيسى عليه‬
‫»فعرف عليه السالم‬ ‫ه‬ ‫علَ َّ‬
‫ي‬ ‫سال ُم َ‬
‫السالم فإنه كان يحيي الموتى ‪ ،‬لهذا قلنا فيه أعلى في قوله« َوال َّ‬
‫بما له قبل فطامه ‪ ،‬وحكم على نفسه باالستقامة قبل استحكامه ‪ ،‬وشهد لنفسه بقبول الوصية‬
‫اإللهية ‪ ،‬بالصالة النورية والزكاة البرهانية ‪ ،‬وسلم على نفسه في الثالثة األحوال ‪،‬‬
‫ّللا إال هو‬ ‫فإنه لما كان عليه السالم في المهد داللة على براءة أمه مما نسب إليها لم يترجم عن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬لعلمه بمرتبته من ربه وحظه« يَ ْو َم ُو ِلدْتُ »‬ ‫ي »يعني من ه‬ ‫علَ َّ‬
‫سال ُم َ‬
‫بنفسه ‪ ،‬فقال« َوال َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬فسلمت من انتساب وجودي إلى سفاح أو نكاح ‪،‬‬ ‫بما نطقت فيكم به من أني عبد ه‬
‫ويعني له السالمة في والدته من تأثير العبد المطرود الموكل باألطفال عند الوالدة ‪ ،‬حين‬
‫يصرخ الولد إذا وقع من طعنته ‪ ،‬فلم يكن لعيسى عليه السالم صراخ ‪ ،‬بل وقع ساجدا هّلل‬
‫تعالى« َويَ ْو َم أ َ ُموتُ »يكذهب من يفتري عليه أنه قتل ‪،‬‬
‫فلم يقل ويوم أقتل ‪ ،‬فكأنه يقول ‪ :‬فأسلم من وقوع القتل الذي ينسب إلي من يزعم أنه قتلني ‪،‬‬
‫وهو قول بني إسرائيل ( إنا قتلنا المسيح ابن مريم )‬
‫ّللا فقال ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم )‬ ‫فأكذبهم ه‬
‫ي غير‬ ‫فقال لهم إن السالم عليه يوم يموت سالما من القتل ‪ ،‬إذ لو قتل قتل شهادة ‪ ،‬والشهيد ح ه‬
‫ميت ‪ ،‬وال يقال فيه إنه ميت كما ورد عندنا النهي في ذلك ‪،‬‬
‫ث‬‫وكذلك لم يزل األمر ‪ ،‬فأخبر أنه يموت وال يقتل ‪ ،‬فذكر السالم عليه يوم يموت« َويَ ْو َم أ ُ ْبعَ ُ‬
‫َحيًّا »ثم ذكر أن السالم عليه يوم يبعث حيا في القيامة الكبرى ‪ ،‬أ هكد موته ‪ ،‬والقيامة موطن‬
‫سالمة األبرياء من كل سوء ‪ ،‬مثل األنبياء وغيرهم من أهل العناية ‪،‬‬
‫فهو صاحب سالمة في هذه المواطن كلها ‪ ،‬وما ثم موطن ثالث ‪ ،‬ما هي إال حياة دنيا وحياة‬
‫أخرى بينهما موت ‪ ،‬ثم نزه نفسه تعالى عما قاله أهل الضاللة من الضالل ‪ ،‬فقال ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 34‬إلى ‪] 36‬‬


‫ّلِل أ َ ْن يَت ه ِخذَ ِم ْن َولَ ٍد ُ‬
‫س ْبحانَهُ‬ ‫ون ) ‪ ( 34‬ما َ‬
‫كان ِ ه ِ‬ ‫سى ا ْب ُن َم ْريَ َم قَ ْو َل ا ْل َح ّ ِ‬
‫ق الهذِي فِي ِه يَ ْمت َ ُر َ‬ ‫ذ ِلكَ ِعي َ‬
‫ّللا َر ِبّي َو َربُّ ُك ْم فَا ْعبُدُو ُه هذا ِصرا ٌ‬
‫ط‬ ‫ُون ( ‪َ ) 35‬و ِإ هن ه َ‬ ‫ِإذا قَضى أ َ ْمرا فَ ِإنهما يَقُو ُل لَهُ ك ُْن فَيَك ُ‬
‫ست َ ِقي ٌم) ‪( 36‬‬
‫ُم ْ‬

‫ص ‪50‬‬

‫‪50‬‬
‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 37‬إلى ‪] 39‬‬
‫س ِم ْع ِب ِه ْم َوأ َ ْب ِص ْر‬‫يم ( ‪ ) 37‬أ َ ْ‬ ‫زاب ِم ْن بَ ْي ِن ِه ْم فَ َو ْي ٌل ِللهذ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن َم ْ‬
‫ش َه ِد يَ ْو ٍم ع َِظ ٍ‬ ‫ف ْاألَحْ ُ‬ ‫اختَلَ َ‬‫فَ ْ‬
‫س َر ِة إِ ْذ قُ ِض َ‬
‫ي ْاأل َ ْم ُر‬ ‫ين ) ‪َ ( 38‬وأ َ ْنذ ِْر ُه ْم يَ ْو َم ا ْل َح ْ‬ ‫ون ا ْليَ ْو َم فِي َ‬
‫ضال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫ظا ِل ُم َ‬ ‫يَ ْو َم يَأْتُونَنا ل ِك ِن ال ه‬
‫ون ) ‪( 39‬‬ ‫غ ْفلَ ٍة َو ُه ْم ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫َو ُه ْم فِي َ‬
‫ّللا يظهر الموت وإن كان نسبة يوم القيامة في صورة كبش أملح ‪ ،‬وينادي يا أهل الجنة‬ ‫إن ه‬
‫فيشرئبون ‪ ،‬وينادي يا أهل النار فيشرئبون ‪ ،‬وليس في النار في ذلك الوقت إال أهلها الذين هم‬
‫أهلها ‪ ،‬فيقال للفريقين أتعرفون هذا ؟‬
‫‪ -‬وهو بين الجنة والنار ‪ -‬فيقولون ‪ :‬هو الموت ‪ ،‬ويأتي يحيى عليه السالم وبيده الشفرة‬
‫فيضجعه ويذبحه ‪ ،‬وينادي مناد ‪ :‬يا أهل الجنة خلود فال موت ‪ ،‬ويا أهل النار خلود فال موت ‪،‬‬
‫وذلك هو يوم الحسرة ‪ ،‬فأما أهل الجنة إذا رأوا الموت سروا برؤيته سرورا عظيما ‪ ،‬ويقولون‬
‫ّللا لنا فيك ‪ ،‬لقد خلصتنا من نكد الدنيا وكنت خير وارد علينا ‪ ،‬وخير تحفة أهداها‬ ‫له بارك ه‬
‫الحق إلينا ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم يقول ‪:‬‬ ‫فإن النبي صلهى ه‬
‫[ الموت تحفة المؤمن ] وأما أهل النار إذا أبصروه يفرقون منه ويقولون له ‪ :‬لقد كنت شر‬
‫وارد علينا ‪ ،‬حلت بيننا وبين ما كنا فيه من الخير والدعة ‪ ،‬ثم يقولون له ‪ :‬عسى تميتنا‬
‫الكرة ‪،‬‬
‫فنستريح مما نحن فيه ‪ ،‬فذبح الموت أعظم حسرة ‪ ،‬وذبحه لتنقطع ه‬
‫[ يوم الحسرة ]‬
‫وإنما سمي يوم الحسرة ‪ ،‬ألنه حسر للجميع أي ظهر عن صفة الخلود الدائم للطائفتين ‪ ،‬ثم‬
‫تغلق أبواب النار غلقا ال فتح بعده ‪ ،‬وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضها في بعض ليعظم‬
‫انضغاط أهلها فيها ‪ ،‬ويرجع أسفلها أعالها وأعالها أسفلها ‪،‬‬
‫وترى الشياطين والناس فيها كقطع اللحم في القدر إذا كان تحتها النار العظيمة ‪ ،‬تغلي كغلي‬
‫الحميم ‪ ،‬فتدور بمن فيها علوا وسفال ‪ ،‬كلما خبت زدناهم سعيرا بتبديل الجلود ‪،‬‬
‫وقد يكون يوم الحسرة يوم القيامة يوم يقول الشقي ‪ :‬يا حسرتا على ما فرطت ‪ ،‬فهو يوم‬
‫الحسرة أي يوم الكشف إلظهاره ما كان يخفى ويبطن ‪ ،‬ألنه من حسرت الثوب عني فظهر ما‬
‫تحته أي أزلته ‪ ،‬أو من حسرت عن الشيء إذا كشفت عنه ‪،‬‬
‫فكأنه يقول ‪ :‬يا ليتني حسرت عن هذا األمر في الدنيا فأكون على بصيرة من أمري ‪ ،‬فإن أحدا‬
‫ال يؤاخذه على ما جناه سوى ما جناه ‪ ،‬فهو الذي آخذ نفسه فال يلومن إال نفسه ‪،‬‬
‫ومن أحوال ذلك اليوم أن المؤمن الذي ال علم له وهو من أهل الجنة ‪ ،‬يرى منازل العلماء‬

‫ص ‪51‬‬

‫‪51‬‬
‫ّللا إلى من هو من أهل النار من العلماء فيخلع عنه ثوب علمه‬‫باّلل فيتحسر ويندم ‪ ،‬فيعمد ه‬
‫ه‬
‫ويكسوه هذا المؤمن ليرقى به في منزلة ذلك العلم من الجنة ‪ ،‬ألنه لكل علم منزلة في الجنان ال‬
‫ينزل فيها إال من قام به ذلك العلم ‪ ،‬ألن العلم يطلب منزلته من الجنان ‪ ،‬والعالم الذي كان له‬
‫هذا العلم هو من أهل النار الذين هم أهلها ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫والعلم ال يقوم بنفسه فينزل بنفسه في تلك المنزلة ‪ ،‬فال بد له من محل يقوم به ‪ ،‬فيخلعه ه‬
‫على هذا المؤمن السعيد الذي ال علم له فيرقى به العلم إلى منزلته ‪ ،‬فما أعظمها من حسرة ‪،‬‬
‫ّللا ال يبقي في الدنيا عند الموت عند أهل النار الذين هم أهلها سوى العلم الذي يليق أن‬‫فإن ه‬
‫يكون عليه أهل النار ‪،‬‬
‫وما عدا ذلك من العلوم التي ال تصلح أن تكون إال ألهل الجنة ‪،‬‬
‫ّللا بها على العالم به في الدنيا أو عند االحتضار شبهة يخطرها له تزيله عن العلم أو‬ ‫يدخل ه‬
‫تحيره ‪ ،‬ثم يموت على ذلك ‪،‬‬
‫وكان ذلك في نفس األمر علما ‪ ،‬فهذا الصنف من العلم هو الذي يخلع على أهل الجنان إذا لم‬
‫يتقدم لهم علم به في الدنيا ‪ ،‬ويطمع فيه من قد كان علمه من أهل النار فيقام عليه الحجة بأنه‬
‫مات على شبهة ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 40‬‬


‫ون ) ‪( 40‬‬ ‫علَ ْيها َو ِإلَ ْينا يُ ْر َجعُ َ‬
‫ض َو َم ْن َ‬ ‫ث ْاأل َ ْر َ‬
‫ِإنها نَحْ ُن نَ ِر ُ‬
‫فهو تعالى الوارث إذا مات من عليها ‪ ،‬فإنه إذا وقعت الفرقة بين المالك والمملوك فهو الوارث‬
‫علَيْها »عينا وحكما ‪ ،‬فأما في العين فقوله«‬
‫ض َو َم ْن َ‬‫ث ْاأل َ ْر َ‬ ‫لهما ‪ ،‬فقال تعالى« ِإنَّا ن َْح ُن ن َِر ُ‬
‫َوإِلَيْنا يُ ْر َجعُونَ »وعلى الحقيقة ما ورث إال الوجود الذي يتجلى فيه لمن ظهر من خلقه ‪ ،‬وهو‬
‫صور الممكنات وأعراضها ‪ ،‬ألن الوارث ال يكون مع وجود الموروث عنه وبقائه ‪ ،‬وإنما‬
‫يكون بعد انتقاله وعدمه من هذا الموطن ‪ ،‬وهو اتصافه بالعدم ‪ ،‬وليس ذلك إال للصور‬
‫واألعراض ‪ ،‬فهو وارث على الدوام ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ‪ ( 19 ) :‬آية ‪] 41‬‬


‫كان ِص ّدِيقا نَبِيًّا ( ‪) 41‬‬
‫ب إِ ْبرا ِهي َم إِنههُ َ‬ ‫َو ْ‬
‫اذك ُْر فِي ا ْل ِكتا ِ‬
‫[ صفة الصدهيق ]‬
‫من صفة الصدهيق ‪ :‬سالمة العقل والفكر الصحيح والخيال الصحيح واإليمان بصدق المخبر‬
‫وإن أحاله العقل الذي ليس بسليم ‪ ،‬والنبي صديق لما يخبر به الروح‪.‬‬

‫ص ‪52‬‬

‫‪52‬‬
‫[سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 42‬‬
‫ع ْنكَ َ‬
‫ش ْيئا ) ‪( 42‬‬ ‫س َم ُع َوال يُ ْب ِص ُر َوال يُ ْغ ِني َ‬ ‫ِإ ْذ قا َل ِأل َ ِبي ِه يا أَبَ ِ‬
‫ت ِل َم ت َ ْعبُ ُد ما ال يَ ْ‬
‫فهي شهادة بقصور نظره وعقله ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 43‬إلى ‪] 44‬‬


‫ت ال ت َ ْعبُ ِد‬ ‫ت ِإ ِنّي قَ ْد جا َءنِي ِم َن ا ْل ِع ْل ِم ما لَ ْم يَأْتِكَ فَات ه ِب ْعنِي أ َ ْه ِدكَ ِصراطا َ‬
‫س ِويًّا ( ‪ ) 43‬يا أَبَ ِ‬ ‫يا أَبَ ِ‬
‫َصيًّا ) ‪( 44‬‬ ‫من ع ِ‬ ‫لرحْ ِ‬ ‫كان ِل ه‬ ‫طان َ‬ ‫ش ْي َ‬ ‫ش ْي َ‬
‫طان ِإ هن ال ه‬ ‫ال ه‬
‫فلو علم أن في الرحمة ما يوجب النقمة لما عصاه ‪ ،‬فما عصي إال الرحمن ‪ ،‬ألن كل اسم يعمل‬
‫على شاكلته ‪ ،‬فما أعلم األنبياء بربهم ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ ) : 19‬آية ‪]45‬‬


‫طان َو ِليًّا ) ‪( 45‬‬
‫ش ْي ِ‬ ‫من فَتَك َ‬
‫ُون ِلل ه‬ ‫َذاب ِم َن ه‬
‫الرحْ ِ‬ ‫خاف أ َ ْن يَ َم ه‬
‫سكَ ع ٌ‬ ‫ت ِإ ِنّي أ َ ُ‬
‫يا أَبَ ِ‬
‫فإن قلت ‪ :‬كيف قرن إبراهيم الخليل العذاب بالرحمن هنا واالسم الرحمن ال يقتضيه في‬
‫الظاهر ؟ فاعلم أنه أشار له إلى االسم الذي هو أبوه معه في الحال ‪ ،‬فإنه الرحمن بال شك ‪،‬‬
‫لحصول العافية والخير والرزق والصحة الذي هو فيه وعليه ‪ ،‬والمعنى اآلخر في مساق هذ‬
‫االسم مع العذاب ‪ ،‬مثل رحمة الطبيب بصاحب األكلة فهو يعذبه في الوقت بقطع العضو الذي‬
‫فيه األكلة رحمة به حتى يحيا ‪ ،‬ومن رحمته نصب الحدود في الدنيا لتكون طهارة إلى األخرى‬
‫‪ ،‬وهكذا في كل دار إن نظرت بعين التحقيق والرحمة اإللهية الموضوعة يصحبها في العبد‬
‫العزة والسلطان ‪ ،‬فهي ال عن شفقة ‪ ،‬والرحمة الطبيعية عنها تكون الشفقة ‪،‬‬
‫ّللا أحدا ‪،‬‬
‫ولو لم تصحب الرحمة اإللهية العزة وتتنزه عن الشفقة ما عذب ه‬
‫فالرحمن ال يعطي ألما موجعا إال أن يكون في طيه رحمة يستعذبها من قام به ذلك األلم ‪،‬‬
‫كشرب الدواء الذي يتضمن العافية استعماله ‪ ،‬فانظر ما ألطف توصيل الحق بشارته لعباده في‬
‫حال الشدة والرخاء ‪،‬‬
‫فإنه سبحانه ما اختار كلمة العذاب ليعبر بها عن اآلالم إال لما يؤول إليه أمر أصحابه فيستعذبه‬
‫في آخر الحال ‪،‬‬
‫ولذلك سماه عذابا ‪ ،‬وإنما يستعذبه في آخر األمر لكونه ذ هكره بربه ‪ ،‬فإن اإلنسان إذا أصابه‬
‫الضر وانقطعت به األسباب ‪ -‬وهو أشد العذاب ‪ -‬ذكر ربه فرجع إليه مضطرا ال مختارا ‪،‬‬
‫ّللا وذ هكره به وأخرجه عن حكم‬ ‫فيستعذب عند ذلك األمر الذي رده إلى ه‬

‫ص ‪53‬‬

‫‪53‬‬
‫غفلته ‪ ،‬ونسيانه ‪ ،‬فسماه عذابا ‪ ،‬فهو اسم مبشر لمن ح هل به بالرحمة أنها تدركه ‪ ،‬فما أعلم‬
‫األنساء بربهم ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 46‬إلى ‪]52‬‬


‫سال ٌم‬ ‫ب أ َ ْنتَ ع َْن آ ِل َهتِي يا ِإ ْبرا ِهي ُم لَئِ ْن لَ ْم ت َ ْنت َ ِه َأل َ ْر ُج َمنهكَ َوا ْه ُج ْرنِي َم ِليًّا ( ‪ ) 46‬قا َل َ‬‫قا َل أ َ را ِغ ٌ‬
‫ّللا َوأ َ ْدعُوا‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬‫كان ِبي َح ِفيًّا ) ‪َ ( 47‬وأ َ ْعت َ ِزلُ ُك ْم َوما ت َ ْدع َ‬ ‫سأ َ ْ‬
‫ست َ ْغ ِف ُر لَكَ َر ِبّي ِإنههُ َ‬ ‫علَ ْيكَ َ‬
‫َ‬
‫ّللا َو َه ْبنا لَهُ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬‫ش ِقيًّا ( ‪ ) 48‬فَلَ هما ا ْعت َ َزلَ ُه ْم َوما يَ ْعبُد َ‬ ‫ُعاء َر ِبّي َ‬
‫ُون ِبد ِ‬ ‫َر ِبّي عَسى أَاله أَك َ‬
‫ْق‬
‫سان ِصد ٍ‬ ‫وب َو ُكالًّ َجعَ ْلنا نَبِيًّا ( ‪َ ) 49‬و َو َه ْبنا لَ ُه ْم ِم ْن َرحْ َمتِنا َو َجعَ ْلنا لَ ُه ْم ِل َ‬ ‫حاق َويَ ْعقُ َ‬‫س َ‬ ‫إِ ْ‬
‫سوال نَبِيًّا ( ‪َ ) 51‬ونا َد ْيناهُ ِم ْن‬ ‫كان َر ُ‬ ‫كان ُم ْخلَصا َو َ‬ ‫ب ُموسى إِنههُ َ‬ ‫ع ِليًّا (‪َ (50‬و ْ‬
‫اذك ُْر فِي ا ْل ِكتا ِ‬ ‫َ‬
‫ور ْاأل َ ْي َم ِن َوقَ هر ْبناهُ نَ ِجيًّا ) ‪( 52‬‬‫ط ِ‬ ‫ب ال ُّ‬‫جانِ ِ‬
‫ّللا تعالى موسى من وراء حجاب من الشجرة من جانب الطور األيمن له ‪ ،‬ألنه لو كلمه‬ ‫كلم ه‬
‫من األيسر الذي هو جهة قلبه ربما التبس عليه بكالم نفسه ‪ ،‬فجاءه الكالم من الجانب الذي لم‬
‫ّللا تعالى يقول في حق موسى عليه السالم معرفا إيانا«‬ ‫تجر العادة أن تكلمه نفسه منه ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫ور ْاأل َ ْي َم ِن »فجعل النداء من الطور النحنائه ‪ ،‬ألنه خرج في طلب النار‬ ‫الط ِ‬‫ب ُّ‬ ‫َونا َديْناهُ ِم ْن جانِ ِ‬
‫ألهله لما كان فيه من الحنو عليهم ‪ ،‬الذي أورثه االنحناء على من خلق من االنحناء وهي أهله‬
‫‪ ،‬ألنها خلقت باألصالة من الضلع ‪ ،‬والضلع له االنحناء« َوقَ َّربْناهُ ن َِجيًّا »‬

‫[ ‪ -‬نصيحة ‪ -‬إذا ناجيت ربك فال تناجه إال بكالمه ]‬


‫‪-‬نصيحة ‪ -‬إذا ناجيت ربك فال تناجه إال بكالمه ‪ ،‬واحذر أن تخترع كالما من عندك تناجيه به‬
‫‪ ،‬فإنه ال يسمعه منك وال تسمع له إجابة ‪ ،‬فتحفظ فإن ذلك مزلة قدم ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 53‬‬


‫ون نَ ِبيًّا «) ‪( 53‬‬ ‫َو َو َه ْبنا لَهُ ِم ْن َرحْ َمتِنا أَخاهُ ُ‬
‫هار َ‬
‫َو َو َهبْنا لَهُ ِم ْن َر ْح َم ِتنا »يعني لموسى« أَخاهُ ُ‬
‫هارونَ نَ ِبيًّا »فالوهب هو العطاء لمجرد اإلنعام ‪،‬‬
‫وهو الذي ال يقترن به طلب معاوضة ‪ ،‬وهو العطاء من الواهب على جهة اإلنعام‬

‫ص ‪54‬‬

‫‪54‬‬
‫ال يخطر له خاطر الجزاء عليه من شكر وال غيره ‪ ،‬فإن اقترن به طلب شكر جزاء فليس‬
‫بوهب ‪ ،‬فالحق تعالى هو الوهاب على الحقيقة في جميع أنواع عطائه‬

‫‪ [.‬سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 54‬إلى ‪] 56‬‬


‫كان يَأ ْ ُم ُر أ َ ْهلَهُ‬
‫سوال نَ ِبيًّا ( ‪َ ) 54‬و َ‬ ‫ق ا ْل َو ْع ِد َو َ‬
‫كان َر ُ‬ ‫سما ِعي َل ِإنههُ َ‬
‫كان صا ِد َ‬ ‫ب ِإ ْ‬ ‫َو ْ‬
‫اذك ُْر فِي ا ْل ِكتا ِ‬
‫كان ِص ّدِيقا نَ ِبيًّا‬ ‫يس ِإنههُ َ‬
‫ب ِإد ِْر َ‬ ‫كان ِع ْن َد َر ِبّ ِه َم ْر ِضيًّا ( ‪َ ) 55‬و ْ‬
‫اذك ُْر فِي ا ْل ِكتا ِ‬ ‫صال ِة َو ه‬
‫الزكا ِة َو َ‬ ‫ِبال ه‬
‫) ‪( 56‬‬
‫إدريس عليه السالم كان نبيا ولم يجئ له نص في القرآن برسالته ‪ ،‬بل قيل فيه صديقا نبيا ‪،‬‬
‫فكان عليه السالم من األنبياء الذين بعثوا قبل نوح عليه السالم الذي هو أول رسول أرسل ‪،‬‬
‫ويقال إن إدريس عليه السالم أول من كتب بالقلم من بني آدم ‪ ،‬فأول إمداد القلم األعلى له عليه‬
‫السالم ‪ ،‬كان قد أسري به إلى أن بلغ السماء السابعة فصارت السماوات كلها في حوزته ‪ ،‬ولما‬
‫ّللا تعالى قد ربط العالم بعضه ببعضه ‪،‬‬ ‫ّللا إليه أن ه‬ ‫علم إدريس عليه السالم بالعلم الذي أوحاه ه‬
‫وسخر بعضه لبعضه ‪ ،‬ورأى أن عالم األركان مخصوص بالمولدات ‪،‬‬
‫رأى اجتماعات الكواكب وافتراقها في المنازل واختالف الكائنات واختالف الحركات الفلكية ‪،‬‬
‫ورأى السريعة والبطيئة ‪ ،‬وعرف أنه مهما جعل سيره وسفره مع البطيء أن السريع يدخل‬
‫تحت حكمه ‪ ،‬فإن الحركة دورية ال خطية ‪ ،‬فال بد أن يرجع عليه دور الصغير السريع ‪ ،‬فيعلم‬
‫من مجاورة الهبط فائدة المسرع ‪ ،‬فلم ير ذلك إال في السماء السابعة ‪ ،‬فأقام عندها ثالثين سنة‬
‫يدور معها في نطع فلك البروج في مركز تدوير وكيلها ‪،‬‬
‫وفي الفلك الحامل لفلك التدوير ‪ ،‬والفلك الحامل ألفالك التداوير وهو الذي يدور به فلك البروج‬
‫ّللا في السماء ‪ ،‬وعاين أن الكواكب قريبة االجتماع في برج السرطان ‪،‬‬ ‫‪ ،‬فلما عاين ما أوحى ه‬
‫ّللا ينزل ماء عظيما وطوفانا عاما لما تحققه من العلم ‪ ،‬ومشى مع‬ ‫فعلم أنه ال بد أن يكون ه‬
‫دقائق الفلك فعلم الجمل والتفصيل ‪ ،‬ثم نزل فاختص من أبناء دينه وشرعه ‪.‬‬

‫ممن عرف أن فيه ذكاء وفطنة ‪ ،‬فعلهمهم ما شاهد وما أودع ه‬


‫ّللا من األسرار في هذا العلم ‪،‬‬
‫ّللا في هذه السماوات أنه يكون طوفان عظيم ويهلك الناس وينسى‬ ‫وأنه من جملة ما أوحى ه‬
‫العلم ‪ ،‬وأراد بقاء هذا العلم على ما يأتي بعدهم ‪ ،‬فأمر بنقشها في الصخور واألحجار ‪ ،‬وكان‬
‫عليه السالم‬

‫ص ‪55‬‬

‫‪55‬‬
‫يقول ‪ :‬بالخرق ‪ ،‬ولوال الخرق ما رفع مكانا عليا ‪ ،‬وكان عليه السالم نبيا يدعو إلى كلمة‬
‫التوحيد ال إلى التوحيد ‪ ،‬فإن التوحيد ما أنكره أحد ‪ ،‬فإن مقاالت األنبياء في الحق لم تختلف ‪،‬‬
‫ألنهم ما قالوا عن نظر وإنما قالوه عن الواحد ‪ ،‬ولهذا ما دعوا الناس إال إلى كلمة التوحيد ال‬
‫إلى التوحيد ‪ ،‬ومن تكلم في الحق من نظره ما تكلم في محظور فإن الذي شرع لعباده توحيد‬
‫المرتبة ‪ ،‬وما ث هم إال من قال بها ‪ ،‬وما أخذ المشركون إال بالوضع من حيث كذبوا في‬
‫أوضاعهم واتخذوها قربة ولم ينزلوها منزلة صاحب تلك الرتبة األحدية ‪،‬‬
‫ّللا المكان العلي فنزل بفلك الشمس ‪ ،‬وهو الفلك الرابع وسط األفالك السماوية وهو‬ ‫ثم رفعه ه‬
‫القلب ‪ ،‬ألن فوقه خمس كور وتحته مثل ذلك ‪،‬‬

‫فقال تعالى ‪ [:‬سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 57‬‬


‫َو َرفَ ْعناهُ َمكانا َ‬
‫ع ِليًّا ( ‪) 57‬‬
‫[ إدريس عليه السالم ما مات إلى اآلن ]‬
‫" َو َرفَ ْعناهُ »أي إدريس« َمكانا ً َ‬
‫ع ِليًّا »وهي السماء الرابعة ‪ ،‬وسميت بذلك لكونها قلبا ‪ ،‬أي‬
‫قلب األفالك ‪ ،‬فهي قلب السماوات وقطبها ‪ ،‬فهو مكان عال بالمكانة ‪ ،‬وما فوقه وإن كان دونه‬
‫فهو أعلى بالمسافة وبالنسبة إلى رؤوسنا ‪ ،‬فأراد الحق علو مكانة المكان ‪ ،‬فلهذا المكان من‬
‫ّللا مكانا عليا ‪ ،‬فهو في‬
‫المكانة رتبة العلو ‪ ،‬فإدريس عليه السالم ما مات إلى اآلن ‪ ،‬بل رفعه ه‬
‫السماء الرابعة حيث الشمس ‪ ،‬ونسبة إدريس عليه السالم مع الشمس كون الشمس في الوسط‬
‫ومدار األسفل واألعلى عليها ‪ ،‬وهي بمنزلة القطب فناسبها بذلك ‪ ،‬وهو أول من خط بالقلم ‪،‬‬
‫فله الرفعة في الكتابة والتعبير فكان منزلته في العلو منزلة القلم الذي ال أعلى منه ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 58‬‬


‫ين ِم ْن ذُ ِ ّريه ِة آ َد َم َو ِم هم ْن َح َم ْلنا َم َع نُوحٍ َو ِم ْن ذُ ِ ّريه ِة ِإ ْبرا ِهي َم‬
‫علَ ْي ِه ْم ِم َن النه ِب ِيّ َ‬ ‫ِين أ َ ْنعَ َم ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫أُولئِكَ الهذ َ‬
‫س هجدا َوبُ ِكيًّا ) ‪( 58‬‬ ‫من َخ ُّروا ُ‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫علَ ْي ِه ْم آياتُ ه‬ ‫سرائِي َل َو ِم هم ْن َه َد ْينا َواجْ تَبَ ْينا ِإذا تُتْلى َ‬ ‫َو ِإ ْ‬
‫هذه السجدة سجدة إنعام رحماني ‪ ،‬وهي سجدة النبيين المنعم عليهم ‪ ،‬فهذا بكاء فرح‬

‫ص ‪56‬‬

‫‪56‬‬
‫ّللا قرن هذا السجود بآيات الرحمن ‪ ،‬والرحمة ال تقتضي‬
‫وسرور وآيات قبول ورضى ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا‬
‫القهر والعظمة ‪ ،‬وإنما تقتضي اللطف والعطف اإللهي ‪ ،‬فدمعت عيونهم فرحا بما بشرهم ه‬
‫من هذه اآليات ‪ ،‬فالصورة صورة بكاء لجريان الدموع ‪ ،‬والدموع دموع فرح ال دموع ترح‬
‫وكمد وحزن ‪ ،‬ألن مقام االسم الرحمن ال يقتضيه ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 59‬إلى ‪] 61‬‬


‫غيًّا ( ‪ِ ) 59‬إاله َم ْن‬ ‫ف يَ ْلقَ ْو َن َ‬ ‫ت فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫ش َهوا ِ‬ ‫صالةَ َواتهبَعُوا ال ه‬ ‫ف أَضاعُوا ال ه‬ ‫ف ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم َخ ْل ٌ‬‫فَ َخلَ َ‬
‫عد ٍْن الهتِي‬ ‫ش ْيئا ( ‪َ ) 60‬جنها ِ‬
‫ت َ‬ ‫ون َ‬ ‫ون ا ْل َجنهةَ َوال يُ ْظلَ ُم َ‬
‫تاب َوآ َم َن َوع َِم َل صا ِلحا فَأُولئِكَ يَ ْد ُخلُ َ‬ ‫َ‬
‫كان َو ْع ُدهُ َمأْتِيًّا ( ‪) 61‬‬ ‫ب إِنههُ َ‬ ‫من ِعبا َدهُ بِا ْلغَ ْي ِ‬ ‫الرحْ ُ‬ ‫ع َد ه‬ ‫َو َ‬

‫من »والموعد ما وقع عليه الوعد ‪ ،‬وهو‬ ‫الر ْح ُ‬ ‫ع َد َّ‬ ‫ع ْد ٍن »وهي جنة اإلقامة« الَّتِي َو َ‬
‫ت َ‬ ‫« َجنَّا ِ‬
‫مقام اللطف« ِعبا َدهُ » مقام العبودية بإضافة االختصاص ‪،‬‬
‫ب " يريد مقام اإليمان ‪ ،‬وقد يريد بالغيب حالة أوان أخذ الميثاق على النفوس ‪ ،‬فكان‬ ‫« ِب ْالغَ ْي ِ‬
‫غيبا أي في عالم األمر والملكوت« إِنَّهُ كانَ َو ْع ُدهُ َمأْتِيًّا »حقا وصدقا ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 62‬‬


‫شيًّا ) ‪( 62‬‬ ‫ع ِ‬ ‫سالما َولَ ُه ْم ِر ْزقُ ُه ْم فِيها بُ ْك َرة َو َ‬
‫ون فِيها لَ ْغوا ِإاله َ‬
‫س َمعُ َ‬
‫ال يَ ْ‬
‫فجعل الجنة محال للزمان المعروف عند العرب مثل الدنيا ‪ ،‬فإن ألهل الجنة مقادير يعرفون بها‬
‫انتهاء مدة طلوع الشمس إلى غروبها في الدنيا ‪ ،‬وإن لم يكن في الجنة شمس ‪،‬‬
‫فالحركة ‪ -‬التي كانت تسير بالشمس فيظهر من أجلها طلوعها وغروبها ‪ -‬موجودة في الفلك‬
‫األطلس الذي على الجنة ‪ ،‬وهو سقفها ‪ ،‬والحركة بعينها فيه موجودة ‪ ،‬وألهل الجنة كشف‬
‫ورؤية إلى المقادير التي فيه المعبر عنها بالبروج ‪،‬‬
‫ت ْالبُ ُر ِ‬
‫وج ) فيعلمون بها ح هد‬ ‫ماء ذا ِ‬
‫س ِ‬ ‫ّللا به في قوله ‪َ ( :‬وال َّ‬ ‫فإن ذلك الفلك هو السماء الذي أقسم ه‬
‫ما كان عليهم في الدنيا مما يسمى بكرة وعشيا ‪ ،‬وكان لهم في هذا الزمان في الدنيا حالة تسمى‬
‫الغداء والعشاء ‪ ،‬فيتذكرونها هنالك ‪،‬‬
‫ع ِشيًّا »وهو رزق‬‫ّللا عند ذلك برزق يرزقهم فيها كما قال« َولَ ُه ْم ِر ْزقُ ُه ْم فِيها بُ ْك َرة ً َو َ‬ ‫فيأتيهم ه‬
‫خاص في وقت خاص معلوم عندهم ‪ ،‬وما عدا ذلك فأكلهم دائم ال ينقطع ‪ ،‬والدوام في‬

‫ص ‪57‬‬

‫‪57‬‬
‫األكل إنما هو عين النعيم مما يكون به الغذاء للجسم ‪ ،‬فأهل الجنة يأكلون ويشربون عن شهوة‬
‫اللتذاذ ال عن جوع ‪ ،‬والصبوح شرب الغداة ‪ ،‬والغبوق شرب العشى ‪ ،‬وأما أهل النار فقد‬
‫ّللا باألكل والشرب في النار عن جوع وعطش ‪.‬‬ ‫وصفهم ه‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 63‬‬


‫كان ت َ ِقيًّا ( ‪) 63‬‬ ‫ث ِم ْن ِعبادِنا َم ْن َ‬ ‫تِ ْلكَ ا ْل َجنهةُ الهتِي نُ ِ‬
‫ور ُ‬
‫[ ثالث جنات ]‬
‫ألهل السعادة ثالث جنات ‪ :‬جنة أعمال ‪ ،‬وجنة اختصاص ‪ ،‬وجنة ميراث ‪ ،‬فينزل أهل الجنة‬
‫في الجنة على قدر أعمالهم ‪ ،‬ولهم جنات الميراث وهي التي كانت ألهل النار لو دخلوا الجنة ‪،‬‬
‫ث ِم ْن ِعبادِنا َم ْن كانَ ت َ ِقيًّا‬ ‫ّللا تعالى «تِ ْل َك ْال َجنَّةُ الَّتِي نُ ِ‬
‫ور ُ‬ ‫ولهم جنات االختصاص ‪ .‬يقول ه‬
‫»فهذه الجنة التي حصلت لهم بطريق الورث من أهل النار الذين هم أهلها ‪ ،‬إذ لم يكن في علم‬
‫ّللا أن يدخلوها ‪ ،‬ولم يقل في أهل النار إنهم يرثون من النار أماكن أهل الجنة لو دخلوا النار ‪،‬‬ ‫ه‬
‫وهذا من سبق الرحمة بعموم فضله سبحانه ‪ ،‬فما نزل من نزل في النار من أهلها إال بأعمالهم‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬ولهذا يبقى فيها أماكن خالية ‪ ،‬وهي األماكن التي لو دخلها أهل الجنة عمروها ‪ ،‬فيخلق ه‬
‫خلقا يعمرونها ‪ ،‬على مزاج لو دخلوا به الجنة تعذبوا ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم [ فيضع الجبار فيها قدمه فتقول ‪ :‬قط قط ]‬ ‫وهو قوله صلهى ه‬
‫أي حسبي حسبي ‪ ،‬فإنه تعالى يقول لها ‪ :‬هل امتألت ‪ ،‬فتقول ‪ :‬هل من مزيد ‪ ،‬فإنه قال للجنة‬
‫والنار ‪ :‬لكل واحدة منكما ملؤها ‪ ،‬فما اشترط لهما إال أن يمألهما خلقا ‪ ،‬وما اشترط عذاب من‬
‫يمألها بهم وال نعيمهم ‪ ،‬كما ورد في الخبر أنه يبقى أيضا في الجنة أماكن ما فيها أحد ‪،‬‬
‫ّللا خلقا للنعيم يعمرها بهم ‪ ،‬وهو أن يضع الرحمن فيها قدمه ‪ ،‬وليس ذلك إال في جنات‬ ‫فيخلق ه‬
‫االختصاص ‪ ،‬فمن كرمه أنه تعالى ما أنزل أهل النار إلى علي قدر أعمالهم خاصة‬
‫‪ -‬نصيحة ‪ -‬ال تحزن على ما يفوتك من جنة الميراث فإنه ما فيها تقصير ‪،‬‬
‫وإنما ينبغي لك أن تحزن على ما يفوتك من جنة األعمال ‪ ،‬وال تعتمد إال على جنة‬
‫االختصاص فإنها مثل التوفيق لألعمال الصالحة في هذه الدار ‪ ،‬ال تنال إال بالعناية ال‬
‫باالكتساب ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ‪ ( 19 ) :‬آية ‪] 64‬‬


‫َوما نَتَنَ هز ُل ِإاله ِبأ َ ْم ِر َر ِبّكَ لَهُ ما بَ ْي َن أ َ ْيدِينا َوما َخ ْلفَنا َوما بَ ْي َن ذ ِلكَ َوما َ‬
‫كان َربُّكَ نَ ِ‬
‫سيًّا) ‪( 64‬‬

‫ص ‪58‬‬

‫‪58‬‬
‫[ تنزل األرواح واستنزالها ]‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو قول جبريل ‪ ،‬فإن الخاصية ال تؤثر في‬ ‫« َوما نَتَن ََّز ُل ِإ َّال ِبأ َ ْم ِر َر ِبه َك »أي بإذن ه‬
‫المالئكة ‪ ،‬وال تنزل بها ‪ ،‬وذلك لمانع إلهي قوي يقتضيه مقام األمالك ‪،‬‬
‫أما أرواح الكواكب فتستنزل باألسماء والبخورات وأشباه ذلك ‪ ،‬وكذلك األرواح النارية ‪،‬‬
‫أما من كان تنزله بأمر ربه ال تؤثر فيه الخاصية ‪ ،‬فإن العالم النوراني خارجون عن أن يكون‬
‫للعالم البشري عليهم تولية ‪ ،‬فكل منهم على مقام معلوم عيهنه له ربه ‪،‬‬
‫فما يتنزل إال بأمر ربه ‪ ،‬فمن أراد تنزيل واحد منهم فيتوجه في ذلك إلى ربه ‪،‬‬
‫وربه يأمره ويأذن له في ذلك إسعافا لهذا السائل ‪ ،‬أو ينزله عليه ابتداء ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا عليه وسلم هو ما قال له الحق أن يقول لنبيه صلهى ه‬ ‫وقول جبريل لمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عن جبريل ‪ ،‬وجبريل هو الذي نزل به ‪،‬‬ ‫عن ربه ‪ ،‬ولهذا جعله من القرآن ‪ ،‬وهو حكاية ه‬
‫وما أخرجه نزوله به والحكاية عنه عن أن يكون قرآنا ‪،‬‬
‫ّللا تعالى عن جبريل أن لو قال لمحمد صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ّللا تعالى ما حكى ه‬ ‫فكان جبريل يحكي عن ه‬
‫عليه وسلم ذلك لقاله له على هذا الحد في عالم الشهادة« َوما نَتَن ََّز ُل ِإ َّال ِبأ َ ْم ِر َر ِبه َك ‪ ،‬لَهُ ما بَيْنَ‬
‫أ َ ْيدِينا َوما خ َْلفَنا َوما بَيْنَ ذ ِل َك َوما كانَ َرب َُّك نَ ِسيًّا »فيما شاهده من قول جبريل لمحمد عليهما‬
‫السالم وهم أعيان ثابتة في حال عدمهم وخطاباتهم ‪،‬‬
‫أعيان ثابتة في حال عدمهم له ‪ ،‬فهو اإلشارة إليه بقوله «نَ ِسيًّا »فكانت الحكاية أمرا محققا عن‬
‫وجود هّلل محقق ال يتصف بالحدوث ‪ ،‬ثم حدث الوجود لتلك األعيان ‪ ،‬فأخبرت بما كان منها‬
‫قبل كونها مما شاهده الحق ولم تشهده لعدم وجودها في عينها ‪ ،‬ومن ذلك نعلم أن المعلم على‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ورجوع التعليم بالواسطة وغير الواسطة إلى الرب ‪ ،‬ولذلك قال الملك«‬ ‫الحقيقة هو ه‬
‫َوما نَتَن ََّز ُل إِ َّال بِأ َ ْم ِر َر ِبه َك »« َوما كانَ َرب َُّك نَ ِسيًّا »‬
‫ّللا عليه وسلم يقول [ اتركوني ما تركتكم ]‬ ‫أي ال ينسى ‪ ،‬كان صلهى ه‬
‫وقال [ لو قلت نعم ‪ -‬للسائل عن الحج ك هل عام ‪ -‬لوجبت ]‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫وكانت األحكام تحدث بحدوث السؤال عن النوازل ‪ ،‬فكان غرض النبي صلهى ه‬
‫حين علم ذلك أن يمتنع الناس عن السؤال ويجرون مع طبعهم ‪ ،‬حتى يكون الحق هو الذي‬
‫يتولى من تنزيل األحكام ما شاء ‪ ،‬فكانت الواجبات والمحظورات تقل ‪،‬‬
‫وتبقى الكثرة من قبيل المباحات التي ال يتعلق بها أجر وال وزر ‪،‬‬
‫فأبت النفوس ذلك وأن تقف عند األحكام المنصوص عليها ‪ ،‬فأثبتت لها علال وجعلتها مقصودة‬
‫للشارع ‪ ،‬وطردتها وألحقت المسكوت عنه في الحكم بالمنطوق به بعلة جامعة بينهما اقتضاها‬
‫نظر الجاعل المجتهد ‪ ،‬ولو لم يفعل لبقي المسكوت عنه على أصله من اإلباحة والعافية ‪،‬‬
‫فكثرت األحكام بالتعليل وطرد العلة والقياس‬

‫‪59‬‬

‫‪59‬‬
‫والرأي واالستحسان ‪َ «،‬وما كانَ َرب َُّك نَ ِسيًّا »‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 65‬إلى ‪] 67‬‬


‫س ِميًّا ( ‪َ ) 65‬ويَقُو ُل‬ ‫ض َوما بَ ْينَ ُهما فَا ْعبُ ْدهُ َوا ْ‬
‫ص َطبِ ْر ِل ِعبا َدتِ ِه َه ْل ت َ ْعلَ ُم لَهُ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ب ال ه‬ ‫َر ُّ‬
‫سان أَنها َخلَ ْقناهُ ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم يَكُ‬
‫اْل ْن ُ‬ ‫ج َحيًّا ( ‪ ) 66‬أ َ َوال يَ ْذك ُُر ْ ِ‬ ‫ف أ ُ ْخ َر ُ‬
‫س ْو َ‬‫سان أ َ ِإذا ما ِمتُّ لَ َ‬ ‫اْل ْن ُ‬ ‫ِْ‬
‫ش ْيئا ( ‪) 67‬‬ ‫َ‬
‫سان »‬‫اإل ْن ُ‬ ‫« أ َ َوال يَ ْذ ُك ُر ْ ِ‬
‫ّللا في اإلنسان علم كل شيء ]‬ ‫[ أودع ه‬
‫اإلنسان عالم بالذات إال أنه ينسى ‪ ،‬فكل علم يحصل له إنما هو تذ هكر ‪ ،‬وال يشعر به أنه تذكر‬
‫ّللا أودع في اإلنسان علم كل شيء ‪ ،‬ثم حال بينه وبين أن يدرك ما عنده مما‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن ه‬ ‫إال أهل ه‬
‫ّللا فيه ‪ ،‬ولقد خاطب الحق اإلنسان وحده في هذه اآلية ألنه المعتبر الذي وجد العالم من‬ ‫أودع ه‬
‫أجله ‪ ،‬وإال فكل ممكن بهذه المثابة ‪ ،‬فما هو اإلنسان مخصوص بهذا وحده بل العالم كله على‬
‫هذا ‪ ،‬وهو من األسرار اإللهية التي ينكرها العقل ويحيلها جملة واحدة ‪ ،‬وقربها من الذوات‬
‫الجاهلة في حال علمها قرب الحق من العبد ‪ ،‬وهو قرب ال يدرك وال يعرف إال تقليدا ‪ ،‬ولوال‬
‫إخباره ما دل عليه عقل ‪،‬‬
‫فكل ما يعلمه اإلنسان دائما ‪ -‬وكل موجود ‪ -‬فإنما هو تذكر على الحقيقة وتجديد ما نسيه ‪،‬‬
‫وليس المحال تعلق العلم بما ال يتناهى ‪ ،‬وإنما المحال دخول ما ال يتناهى في الوجود ال تعلق‬
‫ّللا ذلك كما أنساهم شهادتهم بالربوبية في أخذ الميثاق مع كونه قد‬ ‫العلم به ‪ ،‬فإن الخلق أنساهم ه‬
‫وقع ‪ ،‬وعرفنا ذلك باإلخبار اإللهي ‪،‬‬
‫فعلم اإلنسان دائما إنما هو تذ هكر ‪ ،‬فمنها من إذا ذكرته تذ هكر أنه قد كان علم ذلك المعلوم ونسيه ‪،‬‬
‫ومنا من ال يتذكر ذلك مع إيمانه به أنه قد كان يشهد بذلك ‪ ،‬ويكون في حقه ابتداء علم ‪ ،‬ولوال‬
‫أنه عنده ما قبله من الذي أعلمه ‪ ،‬ولكن ال شعور له بذلك ‪،‬‬
‫شيْئا ً »وكل ممكن بهذه المثابة ‪،‬‬ ‫ّللا بصيرته« أَنَّا َخلَ ْقناهُ ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم يَكُ َ‬ ‫وال يعلمه إال من نور ه‬
‫ولكن اإلنسان هو المعتبر الذي وجد العالم من أجله ‪.‬‬

‫ومن وجه آخر أنه ما ادعى أحد األلوهية سواه من جميع المخلوقات ‪ ،‬وأعصى الخالئق إبليس‬
‫‪ ،‬وغاية جهله أنه رأى نفسه خيرا من آدم لكونه من نار ‪ ،‬العتقاده أنه أفضل العناصر ‪ ،‬وغاية‬
‫ّللا‬
‫معصيته أنه أمر بالسجود آلدم فتكبر في نفسه عن السجود آلدم لما ذكرناه وأبى ‪ ،‬فعصى ه‬
‫ّللا كافرا ‪ ،‬فإنه جمع بين المعصية والجهل ‪ ،‬واإلنسان ادعى أنه الرب األعلى‬
‫في أمره فسماه ه‬
‫‪ ،‬فلهذا‬

‫ص ‪60‬‬

‫‪60‬‬
‫سان أَنَّا َخلَ ْقناهُ ِم ْن قَ ْب ُل »أي قدهرناه في حال شيئيته‬ ‫اإل ْن ُ‬‫خص بالخطاب في قوله « أ َ َوال يَ ْذ ُك ُر ْ ِ‬
‫ش ْيءٍ ِإذا أ َ َر ْدناهُ )‬
‫المتوجه عليها أمرنا إلى شيئية أخرى ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ِ ( :‬إنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫يعني في حال عدمه ( أن نقول له كن فيكون ) وكن كلمة وجودية من التكوين ‪،‬‬
‫شيْئا ً »نبهه على أصله ‪،‬‬ ‫فسماه شيئا في حال لم تكن فيه الشيئية المنفية بقوله« َولَ ْم يَكُ َ‬
‫ّللا لما امتن‬ ‫فأنعم عليه بشيئية الوجود ‪ ،‬فأحاله على هذه الصفة أن يكون مستحضرا لها ‪ ،‬فإن ه‬
‫علينا باالسم الرحمن ‪ ،‬وتوالنا منه سبحانه ابتداء الرحمة ‪ ،‬أخرجنا من الشر الذي هو العدم‬
‫ّللا تعالى بنعمة الوجود‬ ‫إلى الخير الذي هو الوجود ‪ ،‬ولهذا امتن ه‬
‫شيْئا ً »يريد منك في شيئيتك أن تكون معه‬ ‫سان أَنَّا َخلَ ْقناهُ ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم يَكُ َ‬ ‫فقال« أ َ َوال يَ ْذ ُك ُر ْ ِ‬
‫اإل ْن ُ‬
‫كما كنت وأنت ال هذه الشيئية ‪،‬‬
‫ف أ ُ ْخ َر ُج‬ ‫ت لَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن اإلنسان لما قال منكرا( أ َ ِإذا ما ِم ُّ‬ ‫ّللا أن يعبد ه‬ ‫فالمراد من كل ما سوى ه‬
‫َحيًّا )‬
‫ّللا تعالى على نشأته األولى ‪،‬‬ ‫أحاله ه‬
‫شيْئا ً »وهذا فيه وجهان ‪:‬‬ ‫اإل ْنسا ُن أَنَّا َخلَ ْقناهُ ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم يَكُ َ‬
‫فقال« أ َ َوال يَ ْذ ُك ُر ْ ِ‬
‫الوجه الواحد ‪ ،‬أن هذا الذي يقال له اإلنسان لم يك قبل ذلك إنسانا ‪ ،‬فشيئا هنا معناه إنسانا ‪،‬‬
‫كما تقول في جسد اإلنسان إذا مات إنه إنسان بحكم المجاز ‪ ،‬أي قد كان إنسانا ‪ ،‬فإنه ال يتغذى‬
‫وال يحس وال ينطق ‪ ،‬ومتى بطلت األوصاف الذاتية بطل الموصوف ‪ ،‬فقد كان اإلنسان قبل‬
‫أن يطلق عليه اسم إنسان ترابا وماء وهواء ونارا وروحا قدسيا إلهيا ‪،‬‬
‫برا ولحما وشحما وفاكهة‬ ‫وقد كان دما ثم انتقل نطفة وهي نشأة األين ‪ ،‬وقد كان ذلك الدم ه‬
‫وغير ذلك من المطعومات ‪ ،‬فقد كان اإلنسان أشياء لكن لم يكن إنسانا ‪.‬‬
‫والوجه اآلخر ‪ ،‬أن يكون قد أحاله على حقيقته األولى التي هو فيها اإلنسان بالقوة ‪ ،‬وهو أول‬
‫البدء ‪ ،‬وهو شيء من ال شيء وال كان شيئا ‪ ،‬وأحاله في هذه اآلية على النظر الفكري الذي‬
‫يستدل به على معرفة الفاعل‬
‫‪ -‬نصيحة –‬
‫اعلم أنه ما يكون منك وال تمتحن وتختبر حتى تم هكن من نفسك وتجعل قواك لك ‪ ،‬ويسدل‬
‫الحجاب بينك وبين ما هي األمور عليه ‪ ،‬حتى ترى ما يستخرج منك ‪ ،‬هذه هي الفتنة ‪ ،‬فإذا‬
‫أراد الرجل التخلص من هذه الورطة ‪،‬‬
‫فلينظر إلى األصل الذي كان عليه قبل الفتنة ‪،‬‬
‫سان أَنَّا َخلَ ْقناهُ ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم يَكُ َ‬
‫شيْئا ً‬ ‫اإل ْن ُ‬ ‫ّللا عليك إن تفطنت بقوله« أ َ َوال يَ ْذ ُك ُر ْ ِ‬ ‫وقد أحالك ه‬
‫ّللا إذ لم تكن شيئا وجوديا ‪ ،‬ما كنت عليه مع الحق ؟‬ ‫»فانظر إلى حالك مع ه‬
‫ّللا في شيئية وجودك على ذلك الحكم ‪ ،‬ال تزد على ذلك شيئا إال ما اقتضاه الخطاب‬ ‫فلتكن مع ه‬
‫فقف عنده ‪ ،‬فإنه من بقي في حال وجوده مع‬

‫ص ‪61‬‬

‫‪61‬‬
‫ّللا في نعته وزاحمه في‬ ‫ّللا حقه ‪ ،‬ومن ادعى مع ه‬ ‫ّللا كما كان في حال عدمه فذلك الذي أعطى ه‬ ‫ه‬
‫سان أَنَّا َخلَ ْقناهُ ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم‬ ‫صفاته أحاله من دائه العضال على استعمال دواء« أ َ َوال يَ ْذ ُك ُر ْ ِ‬
‫اإل ْن ُ‬
‫شيْئا ً »يقول له ‪ :‬كن معي في شيئية وجودك كما كنت إذ لم تكن موجودا ‪ ،‬فأكون أنا على‬ ‫يَكُ َ‬
‫ما أنا عليه ‪ ،‬وأنت على ما أنت عليه ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ ) : 19‬آية ‪] 68‬‬


‫ين ث ُ هم لَنُحْ ِض َرنه ُه ْم َح ْو َل َج َهنه َم ِج ِثيًّا ( ‪) 68‬‬ ‫فَ َو َر ِبّكَ لَنَحْ ش َُرنه ُه ْم َوالش ِ‬
‫هياط َ‬
‫[ الحشر الروحاني والجسماني ]‬
‫ّللا جل ثناؤه على الحشر الروحاني والجسماني ‪ ،‬أقسم سبحانه على نفسه باسمه الرب‬ ‫أقسم ه‬
‫ياطينَ »اآلية ‪ ،‬فإن اإلنسان‬
‫ش ِ‬ ‫المضاف إلى نبيه محمد عليه السالم فقال« فَ َو َر ِبه َك لَن َْح ُ‬
‫ش َرنَّ ُه ْم َوال َّ‬
‫ف أ ُ ْخ َر ُج َحيًّا )وسمع النبي عليه السالم من اإلنسان هذا اإلنكار‬ ‫س ْو َ‬ ‫ت لَ َ‬‫لما قال منكرا( أ َ ِإذا ما ِم ُّ‬
‫ّللا تعالى‬
‫ّللا من حشر األجساد بعد موتها ‪ ،‬ولهذا ورد في الخبر الصحيح عن ه‬ ‫وتكذيبه فيما قال ه‬
‫ّللا تعالى [ شتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ‪ ،‬وكذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له‬ ‫‪ ،‬يقول ه‬
‫ذلك ‪ ،‬أما شتمه إياي فقوله ‪ :‬إن لي صاحبة وولدا ‪ ،‬وأنا الواحد األحد لم أتخذ صاحبة وال ولدا‬
‫ي بأهون من إعادته ]‬ ‫‪ ،‬وأما تكذيبه إياي فبقوله ‪ :‬إني ال أعيده كما بدأته ‪ ،‬وليس أول الخلق عل ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ّللا جل وعال ‪ ،‬شق ذلك على رسول ه‬ ‫فلما كان في إنكار الحشر واإلعادة تكذيب ه‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬ولما لم تكن الدنيا دار انتقام مطلق ‪،‬‬
‫أقسم الباري باسمه جل ثناؤه ‪ -‬المضاف إلى نبيه ‪ -‬بحشر الجميع الصالح والطالح في مقابلة‬
‫اإلنكار الروحاني والترابي ‪،‬‬
‫وجعل الطريق الذي هو الصراط على النار ‪ ،‬حتى ال يبقى أحد إال ويرد عليها ‪ ،‬فمنهم السوي‬
‫ّللا حق قدره )‬ ‫ومنهم المكبوت ( وما قدروا ه‬
‫ياطينَ »فهم الذين يوحون إليهم‬ ‫ش ِ‬ ‫ش َرنَّ ُه ْم »من أنكر الحشر« َوال َّ‬ ‫فقال تعالى« فَ َو َر ِبه َك لَن َْح ُ‬
‫ّللا عليه وسلم في المقسومين عليهم ‪ ،‬حتى يسكن ما‬ ‫ليجادلوا أهل الحق ‪ ،‬فذكروا له صلهى ه‬
‫ّللا لالنتقام المطلق ‪.‬‬ ‫يجده من األلم بالوعد الذي وعده ه‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 69‬إلى ‪] 71‬‬


‫ِين ُه ْم أ َ ْولى‬ ‫من ِعتِيًّا ( ‪ ) 69‬ث ُ هم لَنَحْ ُن أ َ ْعلَ ُم ِبالهذ َ‬ ‫علَى ه‬
‫الرحْ ِ‬ ‫شيعَ ٍة أَيُّ ُه ْم أ َ َ‬
‫ش ُّد َ‬ ‫ث ُ هم لَنَ ْن ِزع هَن ِم ْن ُك ِ ّل ِ‬
‫كان عَلى َر ِبّكَ َحتْما َم ْق ِضيًّا ) ‪( 71‬‬ ‫ِبها ِص ِليًّا ( ‪َ ) 70‬و ِإ ْن ِم ْن ُك ْم ِإاله ِ‬
‫واردُها َ‬
‫لما كان الصراط على النار ‪ ،‬وما ت هم طريق إلى الجنة إال عليه ‪ ،‬قال تعالى« َو ِإ ْن ِم ْن ُك ْم‬

‫ص ‪62‬‬

‫‪62‬‬
‫ضيًّا »‬ ‫على َر ِبه َك َحتْما ً َم ْق ِ‬ ‫واردُها كانَ َ‬ ‫ِإ َّال ِ‬
‫[ الصراط ]‬
‫ّللا لنا ( وأن‬ ‫فالصراط المشروع الذي كان هنا معنى ينصب في اآلخرة حسا محسوسا ‪ ،‬يقول ه‬
‫ّللا‬
‫هذا صراطي مستقيما فاتبعوه وال تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )ولما تال رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم هذه اآلية خط خطا وخط عن جنبتيه خطوطا ‪ ،‬وهذا الصراط صراط‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا هنا ‪ ،‬فهو من الموقف إلى النار مع المعطلة‬ ‫التوحيد ولوازمه وحقوقه ‪ ،‬فالمشرك ما وحد ه‬
‫ومن هو من أهل النار الذين هم أهلها ‪ ،‬إال المنافقين ‪ ،‬فال بد لهم أن ينظروا إلى الجنة وما فيها‬
‫من النعيم فيطمعون ‪ ،‬فذلك نصيبهم من نعيم الجنان ‪ ،‬ثم يصرفون إلى النار ‪ ،‬وهذا من عدل‬
‫ّللا ‪ ،‬فقوبلوا بأعمالهم ‪ ،‬والطائفة التي ال تخلد في النار إنما تمسك وتسأل وتعذب على الصراط‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬وقد أتى في‬ ‫‪ .‬والصراط على متن جهنم غائب فيها ‪ ،‬والكالليب التي فيه بها يمسكهم ه‬
‫وصف الصراط الحسي أنه أدق من الشعر وأحد من السيف ‪ ،‬وكذا هو علم الشريعة في الدنيا ‪،‬‬
‫فالشرع هنا هو الصراط المستقيم ‪ ،‬فهو أحد من السيف وأدق من الشعر ‪ ،‬وظهوره في اآلخرة‬
‫محسوس أبين وأوضح من ظهوره في الدنيا ‪ ،‬وقد ورد في الخبر أن الصراط يظهر يوم‬
‫القيامة متنه لألبصار على قدر نور المارين عليه ‪ ،‬فيكون دقيقا في حق قوم وعريضا في حق‬
‫آخرين ‪ ،‬فالطريق إلى الجنة على النار فال بد من الورود ‪ ،‬فعلى الحقيقة ما منا إال من يردها ‪،‬‬
‫فإنها الطريق إلى الجنة ‪ ،‬وإذ لم يبق في أرض الحشر من أهل الجنة أحد ‪ ،‬عاد الصراط كله‬
‫نارا ‪.‬‬
‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 72‬إلى ‪] 76‬‬
‫ت قا َل الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫علَ ْي ِه ْم آياتُنا بَ ِيّنا ٍ‬ ‫ين ِفيها ِج ِثيًّا ) ‪َ ( 72‬و ِإذا تُتْلى َ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫ِين اتهقَ ْوا َونَذَ ُر ال ه‬ ‫ث ُ هم نُنَ ِ ّجي الهذ َ‬
‫س ُن نَ ِديًّا ( ‪َ ) 73‬و َك ْم أ َ ْهلَ ْكنا قَ ْبلَ ُه ْم ِم ْن قَ ْر ٍن ُه ْم‬ ‫ي ا ْلفَ ِريقَ ْي ِن َخ ْي ٌر َمقاما َوأَحْ َ‬ ‫ِين آ َمنُوا أ َ ُّ‬
‫َكفَ ُروا ِللهذ َ‬
‫من َمدًّا َحتهى إِذا َرأ َ ْوا ما‬ ‫الرحْ ُ‬ ‫ضاللَ ِة فَ ْليَ ْم ُد ْد لَهُ ه‬‫كان فِي ال ه‬ ‫س ُن أَثاثا َو ِر ْءيا ( ‪ ) 74‬قُ ْل َم ْن َ‬ ‫أَحْ َ‬
‫ف ُج ْندا ( ‪َ ) 75‬ويَ ِزي ُد‬ ‫ضعَ ُ‬ ‫ون َم ْن ُه َو ش ٌَّر َمكانا َوأ َ ْ‬ ‫ساعَةَ فَ َ‬
‫سيَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ذاب َو ِإ هما ال ه‬ ‫ُون ِإ هما ا ْلعَ َ‬
‫عد َ‬ ‫يُو َ‬
‫صا ِلحاتُ َخ ْي ٌر ِع ْن َد َر ِبّكَ ثَوابا َو َخ ْي ٌر َم َردًّا) ‪( 76‬‬ ‫ِين ا ْهتَد َْوا ُهدى َوا ْلباقِياتُ ال ه‬ ‫ّللاُ الهذ َ‬‫ه‬

‫ص ‪63‬‬

‫‪63‬‬
‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 77‬إلى ‪] 85‬‬
‫من‬
‫الرحْ ِ‬ ‫ب أ َ ِم ات ه َخذَ ِع ْن َد ه‬ ‫أ َ فَ َرأ َ ْيتَ الهذِي َكفَ َر ِبآيا ِتنا َوقا َل َألُوتَيَ هن ماال َو َولَدا ( ‪ ) 77‬أ َ ه‬
‫طلَ َع ا ْلغَ ْي َ‬
‫ب َمدًّا ( ‪َ ) 79‬ونَ ِرثُهُ ما يَقُو ُل َويَأْتِينا‬ ‫ب ما يَقُو ُل َونَ ُم ُّد لَهُ ِم َن ا ْلعَذا ِ‬ ‫سنَ ْكت ُ ُ‬ ‫عهْدا ( ‪َ ) 78‬كاله َ‬ ‫َ‬
‫ّللا آ ِل َهة ِليَكُونُوا لَ ُه ْم ِع ًّزا ) ‪( 81‬‬ ‫ُون ه ِ‬‫فَ ْردا ) ‪َ ( 80‬وات ه َخذُوا ِم ْن د ِ‬
‫علَى‬ ‫ين َ‬ ‫س ْلنَا الش ِ‬
‫هياط َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِضدًّا ) ‪ ( 82‬أ َ لَ ْم ت َ َر أَنها أ َ ْر َ‬ ‫ون َ‬ ‫سيَ ْكفُ ُر َ‬
‫ون ِب ِعبا َدتِ ِه ْم َويَكُونُ َ‬ ‫َكاله َ‬
‫ين ِإلَى‬‫عدًّا ( ‪ ) 84‬يَ ْو َم نَحْ ش ُُر ا ْل ُمت ه ِق َ‬ ‫ين تَؤ ُُّز ُه ْم أ َ ًّزا ( ‪ ) 83‬فَال ت َ ْع َج ْل َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِإنهما نَعُ ُّد لَ ُه ْم َ‬ ‫ا ْلكافِ ِر َ‬
‫من َو ْفدا ( ‪) 85‬‬ ‫الرحْ ِ‬
‫ه‬
‫[ كيف يحشر المتقون إلى الرحمن ؟ ]‬
‫معلوم أنه ال يحشر إلى شيء من كان عند ذلك الشيء ‪ ،‬وال يحشر الرحمن إليه إال من ليس‬
‫عنده من حيث هذا االسم الخاص ‪ ،‬وهو عنده من حيث حكم اسم آخر غير هذا االسم ‪ ،‬فالعين‬
‫التي تحشر منها هي العين التي تحشر إليها وبعينها ما وصفت به ‪ ،‬فانظر أي اسم يكون‬
‫مشهود المتقي فما تجده الرحمن ‪ ،‬وإن كان معه في حال اتقائه ‪ ،‬ولكن تحشر إليه لينفرد بك‬
‫دون أن يكون السم آخر تصرف فيك ‪ ،‬والمتقي هو الحذر الخائف الوجل ‪ ،‬وال يكون أحد‬
‫يشهد الرحمن الرحيم الرؤوف ويتقيه ‪ ،‬وإنما مشهود المتقي السريع الحساب الشديد العقاب‬
‫المتكبر الجبار ‪ ،‬ألن االتقاء والخوف من حكم المتقى منه ‪ ،‬فكان المتقي في حكم أمثال هذه‬
‫األسماء اإللهية فيتقي ويخاف ‪ ،‬ألن المتقي ما هو جليس الرحمن ‪،‬‬
‫إنما هو جليس الجبار المريد العظيم المتكبر فيتقي سطوته ‪ ،‬واالسم الرحمن ماله سطوة من‬
‫كونه الرحمن ‪ ،‬إنما الرحمن يعطي اللين والعطف والعفو والمغفرة ‪ ،‬فإن الرحمن ال يتهقى ‪ ،‬بل‬
‫هو محل موضع الطمع واإلدالل واألنس ‪،‬‬
‫فلذلك يحشر إليه من االسم الجبار الذي يعطي السطوة والهيبة ‪ ،‬فإنه جليس المتقين في الدنيا‬
‫مع كونهم متقين ‪ ،‬فالمتقي جليس االسم اإللهي الذي يقع منه الخوف في قلوب العباد ‪ ،‬فسمي‬
‫ّللا من هذا االسم إلى االسم اإللهي الذي يعطيه األمان مما كان‬ ‫جليسه متقيا منه ‪ ،‬فيحشره ه‬
‫خائفا منه ‪ ،‬وهو الرحمن ‪،‬‬
‫من َو ْفدا ً »أي يأمنون مما كانوا يخافون منه ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫الر ْح ِ‬ ‫ش ُر ْال ُمت َّ ِقينَ ِإلَى َّ‬
‫فقال« يَ ْو َم ن َْح ُ‬
‫عليه وسلم في حديث الشفاعة‬

‫ص ‪64‬‬

‫‪64‬‬
‫[ شفعت المالئكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين ]‬
‫فيقضي سياق الكالم أن يكون أرحم الراحمين يشفع أيضا ‪ ،‬فال بد ممن يشفع عنده ‪ ،‬وما ث هم إال‬
‫ّللا المتقين يوم‬
‫ّللا ‪ ،‬فيشفع اسمه أرحم الراحمين عند اسمه القهار والشديد العقاب ‪ ،‬لذا يحشر ه‬
‫ه‬
‫القيامة إلى الرحمن ليكون جليسهم ‪ ،‬فيزول عنهم االتقاء ويزول عنهم حكم هؤالء األسماء‬
‫األخر ‪ ،‬فيأمن المتقي سطوة الجبار القهار ‪ ،‬وعلى هذا األسلوب تأخذ األسماء اإللهية كلها ‪،‬‬
‫وهكذا تجدها حيث وردت في ألسنة النبوات إذا قصدت حقيقة االسم وتميزه من غيره ‪ ،‬فإن له‬
‫داللتين ‪ :‬داللة على المسمى به ‪ ،‬وداللة على حقيقته التي بها يتميز عن اسم آخر ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬آية ‪] 86‬‬


‫ق ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ين إِلى َج َهنه َم ِو ْردا ( ‪) 86‬‬ ‫سو ُ‬ ‫َونَ ُ‬
‫وق ْال ُم ْج ِر ِمينَ »وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه ‪ ،‬والذي ساقهم هو عين‬ ‫س ُ‬ ‫« َونَ ُ‬
‫األهواء التي كانوا عليها« ِإلى َج َهنَّ َم »وهي البعد« ِو ْردا ً "‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 87‬إلى ‪] 91‬‬


‫من َولَدا ( ‪) 88‬‬ ‫الرحْ ُ‬ ‫عهْدا ( ‪َ ) 87‬وقالُوا ات ه َخذَ ه‬ ‫من َ‬ ‫الرحْ ِ‬‫ُون الشهفاعَةَ إِاله َم ِن ات ه َخذَ ِع ْن َد ه‬ ‫ال يَ ْم ِلك َ‬
‫ض َوت َ ِخ ُّر ا ْل ِجبا ُل َهدًّا ( ‪90‬‬ ‫ق ْاأل َ ْر ُ‬ ‫ط ْر َن ِم ْنهُ َوت َ ْن َ‬
‫ش ُّ‬ ‫سماواتُ يَتَفَ ه‬ ‫ش ْيئا ِإدًّا ( ‪ ) 89‬تَكا ُد ال ه‬ ‫لَقَ ْد ِجئْت ُ ْم َ‬
‫من َولَدا ) ‪( 91‬‬ ‫لرحْ ِ‬‫) أ َ ْن َدع َْوا ِل ه‬
‫ّللا لمن أنزل عليه الوحي الذي لو أنزل على جبل لرأيته‬ ‫فانظر إلى القوة اإللهية التي أعطاها ه‬
‫ّللا من القوة ما يطيقون به‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإنهم علموا قدر من أنزله ‪ ،‬فرزقهم ه‬ ‫خاشعا متصدعا من خشية ه‬
‫ّللا ما يخالف ما تجلى لهم فيه‬ ‫حمل ذلك الجالل ‪ ،‬فإذا سمعوا في ه‬
‫من َولَدا ً »‬
‫لر ْح ِ‬ ‫ع ْوا ِل َّ‬‫ض َوت َ ِخ ُّر ْال ِجبا ُل َهدًّا أ َ ْن َد َ‬ ‫سماواتُ يَتَفَ َّ‬
‫ط ْرنَ ِم ْنهُ َوت َ ْنش َُّق ْاأل َ ْر ُ‬ ‫« تَكا ُد ال َّ‬
‫ّللا ورسله ‪ ،‬وما جرى عليهم شيء من ذلك ‪ ،‬لما أعطاهم من قوة العلم ‪ ،‬إذ‬ ‫وقد سمع ذلك أهل ه‬
‫ّللا من رسول ونبي وولي ما لم تعلمه السماوات واألرض‬ ‫ال أقوى من العلم ‪ ،‬فعلم أهل ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫والجبال من ه‬
‫باّلل قوة في نفوسهم حملوا بها ما سمعوه من قول من قال ‪ :‬إن المسيح ابن‬ ‫فأنتج لهم هذا العلم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولم يتزلزلوا ‪ ،‬ولو نزل ذلك على من ليست له هذه القوة‬ ‫ّللا ‪ ،‬وإن عزيرا ابن ه‬ ‫ه‬

‫ص ‪65‬‬

‫‪65‬‬
‫لذاب في عينه لعظيم ما جاءه ‪ ،‬فانظر ما اكثف حجاب من اعتقد أن هّلل ولدا وما أشد عماه عن‬
‫الحقائق ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 92‬إلى ‪] 93‬‬


‫من‬
‫الرحْ ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض ِإاله آتِي ه‬ ‫من أ َ ْن يَت ه ِخذَ َولَدا ( ‪ِ ) 92‬إ ْن ُك ُّل َم ْن فِي ال ه‬
‫سماوا ِ‬ ‫َوما يَ ْنبَ ِغي ِل ه‬
‫لرحْ ِ‬
‫ع ْبدا ( ‪) 93‬‬ ‫َ‬
‫[ حكم العبادة للممكن في حال عدمه أمكن فيه منها في حال وجوده ]‬
‫يعني يوم القيامة ‪ ،‬والعبودة حال يستصحب العبد في الدنيا واآلخرة فإنها حقيقة تطلبه ‪ ،‬فالعبد‬
‫ثابت الوجود في عبوديته ‪ ،‬دائم الحكم في ذلك ‪ ،‬ألن العبودة نعت ثابت ال يرتفع عن الكون ‪،‬‬
‫ّللا عبد هّلل ‪ ،‬فالعبادة حال ذاتي لإلنسان ال يصح‬ ‫ّللا تعالى فكل ما سوى ه‬ ‫فإذا أضفت الخلق إلى ه‬
‫ّللا مخلوقة‬
‫أن يكون لها أجر مخلوق ‪ ،‬ألنها ليست بمخلوقة أصال ‪ ،‬فاألعيان من كل ما سوى ه‬
‫موجودة حادثة ‪ ،‬والعبادة فيها ليست بمخلوقة ‪ ،‬فإنها لهذه األعيان أعني أعيان العالم في حال‬
‫ّللا بالتكوين من غير تثبط ‪ ،‬فحكم العبادة‬ ‫عدمه وفي حال وجوده ‪ ،‬وبها صح أن يقبل أمر ه‬
‫للممكن في حال عدمه أمكن فيه منها في حال وجوده ‪ ،‬إذ ال بد له في حال وجوده واستحكام‬
‫رأيه ونظره لنفسه واستقالله من دعوى في سيادة بوجه ما ‪ ،‬ولو كان ما كان ‪ ،‬فينقص له من‬
‫حكم عبادته بقدر ما ادعاه من السيادة ‪.‬‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 94‬إلى ‪] 96‬‬


‫عدًّا ( ‪َ ) 94‬و ُكلُّ ُه ْم آ ِتي ِه يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة فَ ْردا ( ‪ِ ) 95‬إ هن الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا‬ ‫لَقَ ْد أَحْ صا ُه ْم َو َ‬
‫ع هد ُه ْم َ‬
‫من ُودًّا ) ‪( 96‬‬ ‫سيَجْ عَ ُل لَ ُه ُم ه‬
‫الرحْ ُ‬ ‫ت َ‬ ‫صا ِلحا ِ‬
‫ال ه‬
‫ّللا وفي قلوب عباده ‪.‬‬ ‫الود هو ثبات الحب ‪ ،‬أي سيجعل لهم الرحمن ثباتا في المحبة عند ه‬

‫[ سورة مريم ( ‪ : ) 19‬اآليات ‪ 97‬إلى ‪] 98‬‬


‫ين َوت ُ ْنذ َِر ِب ِه قَ ْوما لُدًّا ( ‪َ ) 97‬و َك ْم أ َ ْهلَ ْكنا قَ ْبلَ ُه ْم ِم ْن قَ ْر ٍن‬
‫ش َر ِب ِه ا ْل ُمت ه ِق َ‬‫س ْرنا ُه ِب ِلسا ِنكَ ِلتُبَ ِ ّ‬ ‫فَ ِإنهما يَ ه‬
‫س َم ُع لَ ُه ْم ِر ْكزا) ‪( 98‬‬ ‫س ِم ْن ُه ْم ِم ْن أ َ َح ٍد أ َ ْو ت َ ْ‬
‫َه ْل ت ُ ِح ُّ‬

‫ص ‪66‬‬

‫‪66‬‬
‫) ‪ )20‬سورة طه مكيّة‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫هذه السورة أشرف سورة في القرآن في العالم السعيد ‪ ،‬فإنها السورة التي يقرؤها الحق تعالى‬
‫في الجنة على عباده بال واسطة ‪ ،‬فإذا تال الحق على أهل السعادة من الخلق سورة طه تالها‬
‫عليهم كالما ‪ ،‬وتجلى لهم فيها عند تالوته صورة ‪ ،‬فيشهدون ويسمعون ‪ ،‬فكل شخص حفظها‬
‫من األمة يتحلى بها هنالك كما تحلى بها في الدنيا بالحاء المهملة ‪ ،‬فإذا ظهروا بها في وقت‬
‫تجلي الحق بها وتالوته إياها تشابهت الصور ‪ ،‬فلم يعرف المتلو عليهم الحق من الخلق إال‬
‫بالتالوة ‪ ،‬فإنهم صامتون منصتون لتالوته ‪ ،‬وال يكون في الصف األول بين يدي الحق في‬
‫مجلس التالوة إال هؤالء الذين أشبهوه في الصورة القرآنية الطاهيهة ‪ ،‬وال يتميزون عنه إال‬
‫باإلنصات خاصة ‪ ،‬فال يمر على أهل النظر ساعة أعظم في اللذة منها ‪ ،‬فمن استظهر القرآن‬
‫ّللا له القرآن ‪ ،‬وصحت له اإلمامة ‪،‬‬‫هنا بجميع رواياته حفظا وعلما وعمال فقد فاز بما أنزل ه‬
‫وكان على الصورة اإللهية الجامعة ‪ ،‬فمن استعمله القرآن هنا استعمل القرآن هناك ‪ ،‬ومن‬
‫تركه هنا تركه هناك ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 5‬‬


‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬‫ِب ْ‬
‫آن ِلتَشْقى ( ‪ِ ) 2‬إاله ت َ ْذ ِك َرة ِل َم ْن يَ ْخشى ( ‪ ) 3‬ت َ ْن ِزيال ِم هم ْن َخلَ َ‬
‫ق‬ ‫طه ( ‪ ) 1‬ما أ َ ْن َز ْلنا َ‬
‫علَ ْيكَ ا ْلقُ ْر َ‬
‫ستَوى ( ‪) 5‬‬ ‫علَى ا ْلعَ ْر ِش ا ْ‬ ‫ت ا ْلعُلى ) ‪ ( 4‬ه‬
‫الرحْ ُ‬
‫من َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ض َوال ه‬ ‫ْاأل َ ْر َ‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش ا ْستَوى ]‬ ‫من َ‬ ‫الر ْح ُ‬‫[ بحث َّ‬
‫المسألة األولى ‪ -‬بحث عام في األلفاظ التي تعطي التشبيه والتجسيم ‪ -‬المحقق الواقف العارف‬
‫بما تقتضيه الحضرة اإللهية من التقديس والتنزيه ونفي المماثلة ‪ ،‬ال يحجبه ما نطقت به اآليات‬
‫واألخبار في حق الحق تعالى ‪ ،‬من أدوات التقييد بالزمان والجهة والمكان وما أشبه ذلك من‬
‫األدوات اللفظية ‪ ،‬وقد تقرر بالبرهان العقلي خلقه األزمان واألمكنة والجهات واأللفاظ‬
‫ّللا‬
‫والحروف واألدوات والمتكلم بها والمخاطبين من المحدثات ‪ ،‬كل ذلك خلق ه‬

‫ص ‪67‬‬

‫‪67‬‬
‫تعالى ‪ ،‬فيعرف المحقق قطعا أنها مصروفة إلى غير الوجه الذي يعطيك التشبيه والتمثيل ‪،‬‬
‫وأن الحقيقة ال تقبل ذلك أصال ‪ ،‬ولكن تتفاضل العلماء السالمة عقائدهم من التجسيم ‪ ،‬فتتفاضل‬
‫العلماء في هذا الصرف عن هذا الوجه الذي ال يليق بالحق تعالى ‪ ،‬فطائفة لم تشبهه ولم تجسم ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫ّللا ورسله إلى ه‬
‫وصرفت علم ذلك الذي ورد في كالم ه‬
‫ّللا في هذه األلفاظ‬ ‫ولم تدخل لها قدما في باب التأويل ‪ ،‬وقنعت بمجرد اإليمان بما يعلمه ه‬
‫والحروف ‪ ،‬من غير تأويل وال صرف إلى وجه من وجوه التنزيه ‪ ،‬بل قالت ال أدري جملة‬
‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫ش ْي ٌء )‬ ‫واحدة ‪ ،‬ولكني أحيل إبقاءه على وجه التشبيه ‪ ،‬لقوله تعالى( لَي َ‬
‫ال لما يعطيه النظر العقلي ‪ ،‬وعلى هذا فضالء المحدثين من أهل الظاهر السالمة عقائدهم من‬
‫باّلل‬
‫التشبيه والتعطيل ‪ ،‬وطائفة أخرى من المنزهة عدلت بهذه الكلمات عن الوجه الذي ال يليق ه‬
‫تعالى في النظر العقلي ‪ ،‬عدلت إلى وجه ما من وجوه التنزيه على التعيين مما يجوز في النظر‬
‫العقلي أن يتصف به الحق تعالى ‪ ،‬بل هو متصف به وال بد ‪،‬‬
‫وما بقي النظر إال في هذه الكلمة ‪ ،‬هل المراد بها ذلك الوجه أم ال ؟‬
‫وال يقدح ذلك التأويل في ألوهته ‪ ،‬وربما عدلوا إلى وجهين وثالثة وأكثر على حسب ما تعطيه‬
‫الكلمة في وضع اللسان ‪ ،‬ولكن من الوجوه المنزهة ال غير ‪،‬‬
‫فإذا لم يعرفوا من ذلك الخبر أو اآلية عند التأويل في اللسان إال وجها واحدا قصروا الخبر أو‬
‫اآلية إلى تلك المصارف ‪ ،‬وقالت طائفة من هؤالء ‪ :‬يحتمل أن يريد كذا ‪،‬‬
‫وّللا أعلم أي ذلك أراد ‪ ،‬وطائفة أخرى‬ ‫ويحتمل أن يريد كذا ‪ ،‬وتعدد وجوه التنزيه ‪ ،‬ثم تقول ‪ :‬ه‬
‫تقوى عندها وجه ما من تلك الوجوه النزيهة بقرينة ما ‪،‬‬ ‫ه‬
‫قطعت لتلك القرينة بذلك الوجه على الخبر وقصرته عليه ‪ ،‬ولم تعرج على باقي الوجوه في‬
‫ذلك الخبر وإن كانت كلها تقتضي التنزيه ‪ ،‬وطائفة أخرى من المنزهة أيضا وهي العالية ‪،‬‬
‫فرغوا قلوبهم من الفكر والنظر وأخلوها ‪ ،‬إذ كان المتقدمون من الطوائف المتقدمة المتأولة‬
‫أهل فكر ونظر ‪،‬‬
‫فأشبهت في هذا العقد المحدثين السالمة عقائدهم ‪ ،‬حيث لم ينظروا وال تأولوا وال صرفوا ‪ ،‬بل‬
‫قالوا ‪ :‬ما فهمنا ‪،‬‬
‫فقال هؤالء بقولهم ثم انتقلوا عن مرتبة أولئك بأن قالوا ‪ :‬لنا أن نسلك طريقة أخرى في فهم هذه‬
‫الكلمات ‪ ،‬وذلك بأن نفرغ قلوبنا من النظر الفكري ‪،‬‬
‫ونجلس مع الحق تعالى بالذكر على بساط األدب والمراقبة والحضور والتهيؤ لقبول ما يرد‬
‫علينا منه تعالى ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫حتى يكون الحق تعالى يتولى تعليمنا على الكشف والتحقيق ‪ ،‬لما سمعته يقوله ( واتقوا ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ) ويقول ( إن تتقوا ه‬
‫ويعلمكم ه‬

‫ص ‪68‬‬

‫‪68‬‬
‫يجعل لكم فرقانا ) ‪.‬‬
‫ّللا تعالى ولجأت إليه ‪ ،‬وألقت عنها ما استمسك به الغير من‬ ‫فعند ما توجهت قلوبهم وهمهم إلى ه‬
‫دعوى البحث والنظر ونتائج العقول ‪ ،‬كانت عقولهم سليمة وقلوبهم مطهرة فارغة ‪ ،‬فعند ما‬
‫كان منهم هذا االستعداد تجلى الحق لهم معلهما ‪ ،‬فأطلعتهم تلك المشاهدة على معاني هذه‬
‫األخبار والكلمات دفعة واحدة ‪ ،‬وهذا ضرب من ضروب المكاشفة ‪ ،‬فإنهم إذا عاينوا بعيون‬
‫القلوب ما نزهته العلماء المتقدم ذكرهم باإلدراك الفكري ‪ ،‬لم يصح لهم عند هذا الكشف‬
‫والمعانية أن يجهلوا خبرا من هذه األخبار التي توهم ‪ ،‬وال أن يبقوا ذلك الخبر منسحبا على ما‬
‫فيه من االحتماالت النزيهة من غير تعيين ‪ ،‬بل يعرفون الكلمة والمعنى النزيه الذي سيقت له ‪،‬‬
‫فيقصرونها على ما أريدت له ‪ ،‬وإن جاء في خبر آخر ذلك اللفظ عينه فله وجه آخر من تلك‬
‫الوجوه المقدسة ‪ ،‬معيهن عند هذا الشاهد ‪ ،‬وطائفة أخرى ليس لهم هذا التجلي ‪ ،‬ولكن لهم‬
‫اإللقاء واإللهام واللقاء والكتابة ‪ ،‬وهم معصومون فيما يلقى إليهم بعالمة عندهم ال يعرفها‬
‫سواهم ‪ ،‬فيخبرون بما خوطبوا به وما ألهموا به وما ألقي إليهم أو كتب ‪،‬‬
‫وقد تقرر عند جميع المحققين الذين سلهموا الخبر لقائله ولم ينظروا وال شبههوا وال عطلوا ‪،‬‬
‫والمحققين الذين بحثوا واجتهدوا ونظروا على طبقاتهم ‪ ،‬والمحققين الذين كوشفوا وعاينوا ‪،‬‬
‫والمحققين الذين خوطبوا وألهموا ‪،‬‬
‫أن الحق تعالى ال تدخل عليه تلك األدوات المقيدة بالتحديد والتشبيه على حد ما نعقله من‬
‫المحدثات ‪ ،‬ولكن تدخل عليه بما فيها من معنى التنزيه والتقديس ‪،‬‬
‫على طبقات العلماء والمحققين في ذلك لما فيه وتقتضيه ذاته من التنزيه ‪ ،‬وإذا تقرر هذا ‪،‬‬
‫فقد تبيهن أنها أدوات التوصيل إلى أفهام المخاطبين ‪ ،‬وكل عالم على حسب فهمه فيها وقوة‬
‫نفوذه وبصيرته ‪ ،‬فعقيدة التكليف هينة الخطب ‪ ،‬فطر العالم عليها ‪ ،‬ولو بقيت المشبهة على ما‬
‫سمت ‪ ،‬وجاء في هذه اآلية االستواء على العرش بلفظ العرش‬ ‫فطرت عليه ما كفرت وال ج ه‬
‫نص‬
‫ولفظ االستواء ‪ ،‬وما هو نص في ظرفية المكان ‪ ،‬بخالف اسم لفظة المكان ‪ ،‬فإنه ه‬
‫بالوضع في ظرفيته ‪ ،‬والمتمكن في المكان نص فيه ‪ ،‬فعدل إلى االستواء والعرش ‪،‬‬
‫ليسوغ التأويل الذي يليق بالجناب العالي لمن يتأول وال بد ‪ ،‬واألولى التسليم هّلل فيما قاله ‪ ،‬ورد‬
‫ذلك إلى علمه سبحانه بما أراده في هذا الخطاب ‪ ،‬ونفي التشبيه المفهوم عنه ‪ ،‬بقوله ( ليس‬
‫كمثله شيء )‬
‫– المسألة الثانية في االستواء ‪ -‬ذكر تعالى أنه استوى على العرش على طريق التمدح‬
‫والثناء ‪ ،‬إذ كان العرش أعظم األجسام ‪ ،‬واالستواء حقيقة معقولة معنوية‬

‫ص ‪69‬‬

‫‪69‬‬
‫تنسب إلى كل ذات بحسب ما تعطيه حقيقة تلك الذات ‪ ،‬وال حاجة لنا إلى التكلف في صرف‬
‫االستواء عن ظاهره ‪ ،‬فهو استواء منزه عن الحد والمقدار ‪ ،‬معلوم عنده ‪ ،‬غير مكيف وال‬
‫معلوم للعقول واألذهان ‪ ،‬وكما ال يلزم من الفوق إثبات الجهة ‪ ،‬كذلك ال يلزم من االستواء‬
‫إثبات المكان ‪ ،‬فذلك االستواء مجهول النسبة ‪ ،‬ثابت الحكم ‪ ،‬متوجه كما ينبغي لجالله نخلص‬
‫من ذلك إلى القول بأن استواء الرحمن ليس كاستواء األكوان ‪،‬‬
‫وأنه لو جلس عليه جلوسا كما يدعيه المشبهة لحدهه المقدار ‪ ،‬وقام به االفتقار إلى مخصص‬
‫ّللا محال ‪ ،‬فاالستقرار بمعنى الجلوس‬ ‫مختار ‪ ،‬ال تحيط به الجهات واألقطار ‪ ،‬واالفتقار على ه‬
‫عليه محال ‪ ،‬وال سبيل إلى هذا االعتقاد بحال ‪،‬‬
‫وما بقي فيه سوى أمرين مربوطين بحقيقتين ‪ ،‬األمر الواحد أن نصرف هذا االستواء إلى‬
‫االستيالء ‪ ،‬واألمر اآلخر أن نؤمن بها كما جاءت من غير تشبيه وال تكييف ‪ ،‬ونصرف العلم‬
‫وّللا أعلم ‪،‬‬ ‫ه‬
‫المنزه تأويله بقوله ‪ :‬ه‬ ‫بها إليه ‪ ،‬فإنه أسلم بالمؤمنين عند قدومهم عليه ‪ ،‬ولهذا يختم‬
‫لمعرفته بأن التنزيه قائم بذاته ‪،‬‬
‫ّللا في التأويل واستدراجه ‪،‬‬‫ولكن صرف هذه اآلية إلى هذا الحكم ال يلزم ‪ .‬فتحفظوا من مكر ه‬
‫واسألوه الثبات على منهاجه ‪ ،‬وطهروا قلوبكم بماء التقديس والتنزيه ‪ ،‬من التجسيم والتشبيه ‪،‬‬
‫فإنه ليس كمثله شيء ‪ ،‬وهو السميع البصير ‪ ،‬ويستوي ويجيء وينزل ‪ ،‬وهو في السماء وفي‬
‫األرض كما قاله ‪ ،‬وعلى المعنى الذي أراده ‪ ،‬من غير تشبيه وال تكييف ‪ ،‬وهو العليم القدير ‪.‬‬
‫‪ -‬المسألة الثالثة في معنى العرش‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش » *أي على ملكه ‪ ،‬فالعرش عين الملك ‪،‬‬ ‫‪ -‬الوجه األول ‪َ «-‬‬
‫يقال ‪ :‬ث هل عرش الملك إذا اختل ملكه‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬العرش الذي استوى عليه الرحمن ‪ ،‬هو سرير ذو أركان أربعة ووجوه أربعة‬
‫‪ ،‬وله أربعة قوائم يحمله منها أربعة من المالئكة ‪ ،‬وفي كل نصف وجه قائمة ‪ ،‬فهي ثمانية‬
‫قوائم ‪ ،‬ال حامل لتلك األربعة اليوم إلى يوم القيامة ‪ ،‬فإذا كان في القيامة و هكل ه‬
‫ّللا بها من‬
‫يحملها ‪،‬‬
‫فيكونون في اآلخرة ثمانية وهم في الدنيا أربعة ‪،‬‬
‫وقوائم هذا العرش على الماء الجامد ‪ ،‬فالعرش إنما يحمله الماء الجامد ‪ ،‬والحملة التي له إنما‬
‫هي خدمة له تعظيما وإجالال ‪،‬‬
‫وذلك الماء الجامد مقره على الهواء البارد ‪ ،‬والعرش مجوف ‪ ،‬محيط بجميع ما يحوي عليه‬
‫من كرسي وأفالك وجنات وسماوات وأركان ومولدات ‪،‬‬
‫وبين مقعر العرش والكرسي فضاء واسع وهواء محترق ‪ ،‬والكرسي في العرش كحلقة ملقاة ‪،‬‬
‫ّللا العرش استوى عليه الرحمن واحد الكلمة ال مقابل لها ‪ ،‬فهو رحمة كله ‪ ،‬ليس‬ ‫ولما أوجد ه‬
‫فيه ما‬

‫ص ‪70‬‬

‫‪70‬‬
‫يقابل الرحمة ‪ ،‬وإن وقع ببعض العالم غصص ‪ ،‬فذلك لرحمة فيه ‪ .‬لوال ما جرعه إياها اقتضى‬
‫ذلك مزاج الطبع ومخالفة الغرض النفسي ‪ ،‬فهو كالدواء الكريه والطعم الغير المستلذ وفيه‬
‫رحمة للذي يشربه ويستعمله وإن كرهه ‪ ،‬فباطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ‪ ،‬وما‬
‫استوى عليه الرحمن تعالى إال بعد ما خلق األرض وقدهر فيها أقواتها ‪ ،‬وخلق السماوات‬
‫وأوحى في كل سماء أمرها ‪،‬‬
‫وفرغ من خلق هذه األمور كلها ‪ ،‬ورتب األركان ترتيبا يقبل االستحاالت لظهور التكوين‬
‫والتنقل من حال إلى حال ‪ ،‬وبعد هذا استوى على العرش ‪ ،‬فالعرش هو الجسم الكلي ‪،‬‬
‫واستوى عليه سبحانه باالسم الرحمن باالستواء الذي يليق به ‪،‬‬
‫الذي ال يعلمه إال هو ‪ ،‬من غير تشبيه وال تكييف ‪ ،‬وهو أول عالم التركيب ‪ ،‬وقد قال تعالى«‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش ا ْستَوى »في معرض التمدح ‪،‬‬
‫من َ‬‫الر ْح ُ‬
‫َّ‬
‫فلو كان في المخلوقات أعظم من العرش لم يكن ذلك تمدحا ‪ ،‬والعرش المذكور في هذه اآلية‬
‫مستوى الرحمن وهو محل الصفة ‪ -‬المسألة الرابعة في تفسير اآلية –‬
‫ّللا سبحانه ما استوى على عرش إال باالسم الرحمن ‪ ،‬إعالما بذلك أنه ما أراد باإليجاد‬ ‫اعلم أن ه‬
‫إال رحمة بالموجودين ‪ ،‬ولم يذكر غيره من األسماء ‪ ،‬وذكر االستواء على أعظم المخلوقات‬
‫إحاطة من عالم األجسام ‪ ،‬فإن اآلالم ليس محلها إال التركيب ‪ ،‬وأما البسائط فال تقبل في ذاتها‬
‫قيام معنى بها ‪ ،‬بل هي عين المعنى ‪ ،‬فتدل هذه اآلية على شمول الرحمة للعالم وإن طرأت‬
‫عوارض الباليا ‪ ،‬فإنها رحمة كما ذكرنا في شرب الدواء الكريه ‪ ،‬ليس المقصود منه عذاب‬
‫من شربه وال إيالمه ‪ ،‬وإنما المقصود من استعماله ما يؤول إليه من استعمله من الراحة‬
‫والعافية ‪ ،‬فللحق سبحانه تجل عام إحاطي ‪ ،‬وتجل خاص شخصي ‪ ،‬فالتجلي العام تجل‬
‫رحماني ‪.‬‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش ا ْستَوى »فمن معافى ومبتلى ‪ ،‬بحسب ما يحكم فيه من‬ ‫الر ْح ُ‬
‫من َ‬ ‫وهو قوله تعالى« َّ‬
‫األسماء إلى األجل المسمى ‪،‬‬
‫فتعم الرحمة التي وسعت كل شيء من الرحمن الذي استوى على العرش ‪،‬‬
‫فتعم النعم العالم ‪ ،‬فإن العرش ما حوى ملكه كله مما وجد ‪ ،‬وعرشه وسع كل شيء ‪ ،‬والنار‬
‫ومن فيها من األشياء ‪ ،‬والرحمة سارية في كل موجود ‪ ،‬والتجلي الخاص هو ما لكل شخص‬
‫باّلل ‪ ،‬والرحمن ال يظهر عنه إال مرحوم ‪ ،‬لذلك‬ ‫شخص من العلم ه‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش ا ْستَوى »‬
‫ّللا عنه ‪َ ":‬‬
‫ثم قال الشيخ ابن عطاء هللا رضي ه‬
‫لنعلم إذا ظهرت أعياننا وبلهغتنا سفراؤه هذا األمر شمول الرحمة وعمومها ‪ ،‬ومآل الناس‬
‫والخلق كلها إليها ‪،‬‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش ا ْستَوى »لكفى‬ ‫الر ْح ُ‬
‫من َ‬ ‫فلو لم يكن من عظيم الرجاء في شمول الرحمة إال قوله« َّ‬
‫فإذا استقرت‬

‫‪71‬‬

‫‪71‬‬
‫الرحمة في العرش الحاوي على جميع أجسام العالم ‪ ،‬فكل ما يناقضها أو يريد رفعها من‬
‫األسماء والصفات فعوارض ال أصل لها في البقاء ‪ ،‬ألن الحكم للمستولي وهو الرحمن ‪ ،‬فإليه‬
‫يرجع األمر كله ‪ ،‬فيكون المآل للرحمة التي وسعت كل شيء ‪ ،‬فهو في الدنيا يرزق مع الكفر‬
‫ويعافي ويرحم ‪ ،‬فكيف مع اإليمان واالعتراف في الدار اآلخرة على الكشف كما كان في قبض‬
‫الذرية ؟‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش »وقف واالبتداء" ا ْستَوى "‪.‬‬ ‫الر ْح ُ‬
‫من َ‬ ‫‪ -‬إشارة ‪ -‬قرأ أبو العباس العريبي« َّ‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 6‬‬


‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َوما بَ ْينَ ُهما َوما تَحْ تَ الثهرى ) ‪( 6‬‬ ‫لَهُ ما فِي ال ه‬
‫سماوا ِ‬
‫أي ثبت له ما في السماوات وما في األرض وما بينهما وما تحت الثرى ‪ ،‬فاالسم الرحمن ثابت‬
‫الحكم في كل ما يحوي عليه العرش ‪ ،‬وهو قوله ( ورحمتي وسعت كل شيء ) فمآل الكل إلى‬
‫الرحمة وإن تخلل األمر آالم وعذاب وعلل وأمراض مع حكم االسم الرحمن ‪ ،‬فإنما هي‬
‫أعراض عرضت في األكوان دنيا وآخرة ‪ ،‬ومن أجل أن الرحمن له األسماء الحسنى ‪ ،‬ومن‬
‫األسماء الضار والمذل والمميت ‪ ،‬فلهذا ظهر في العالم ما ال تقتضيه الرحمة ولكن لعوارض ‪،‬‬
‫وفي طي تلك العوارض رحمة ‪ ،‬ولو لم يكن إال تضاعف النعيم والراحة عقيب زوال حكمه ‪،‬‬
‫ولهذا قيل ‪ :‬أحلى من األمن عند الخائف الوجل ‪ ،‬فما تعرف لذات النعيم إال بأضدادها ‪ ،‬فما ث هم‬
‫حكم إال للرحمن ألنه المستوي على العرش ‪ ،‬فال تنفذ األحكام إال من هذا االسم ‪ ،‬فالرحمن‬
‫استوى على عرشه ‪ ،‬وما انقسمت الكلمة إال من دون العرش ‪ ،‬من الكرسي فما تحته ‪ ،‬فإنه‬
‫موضع القدمين ‪ ،‬ليس سوى انقسام الكلمة ‪ ،‬فظهر األمر والخلق ‪ ،‬والنهي واألمر ‪ ،‬والطاعة‬
‫والمعصية ‪ ،‬والجنة والنار ‪ ،‬وكل ذلك عن أصل واحد وهي الرحمة التي هي صفة الرحمن ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 7‬‬


‫س هر َوأ َ ْخفى ( ‪) 7‬‬
‫َو ِإ ْن تَجْ َه ْر ِبا ْلقَ ْو ِل فَ ِإنههُ يَ ْعلَ ُم ال ِ ّ‬
‫س َّر » ]‬ ‫[ « فَإِنَّهُ يَ ْعلَ ُم ال ِ ه‬
‫الوجه األول ‪ -‬يدل ظاهر اآلية في قوله تعالى« فَإِنَّهُ يَ ْعلَ ُم ال ِ ه‬
‫س َّر »أي ما يحدهث المرء به نفسه ‪،‬‬
‫لقوله وإن تجهر بالقول ‪ ،‬فإنه يعلم ذلك ويعلم ما تحدث به نفسك ‪ ،‬وهو قوله ( ونعلم ما‬
‫توسوس به نفسه ) ومتعلق السر االسم الباطن ‪ ،‬وهو ما يسره العبد في نفسه ‪،‬‬

‫ص ‪72‬‬

‫‪72‬‬
‫وهو خالف الجهر والعالنية‬

‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬السر ما بينك وبينه ‪ ،‬وما هو أخفى ما يستر عنك عينه فالسر ما بين العبد‬
‫والحق ‪ ،‬واألخفى ما يعلمه سبحانه من العبد وال يعلمه العبد من نفسه أن يكون فيه ‪ ،‬فال يعلم‬
‫ّللا ‪ ،‬والسر يعلمه الزائد ‪ ،‬وما زاد فهو إعالن وزال عن درجة الكتمان ‪ ،‬فقوله«‬ ‫األخفى إال ه‬
‫َوأ َ ْخفى »األخفى عن صاحب السر هو ما ال يعلمه ‪.‬‬
‫ّللا وحده ‪ ،‬ال‬ ‫مما يكون ال بد أن يعلمه خاصة ‪ ،‬فالعلم بما هو أخفى من السر ما ال يعلمه إال ه‬
‫سر ‪ ،‬وهو العلم الذي انفرد به‬ ‫سر ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فاألخفى هو ه‬
‫علم لهذا العبد به ‪ ،‬وال يمكن أن يعلمه إال ه‬
‫باّلل‬
‫الحق دون سواه ‪ ،‬فما هو أخفى من السر ما ال يعلم من األمر ‪ ،‬وما هو إال العلم ه‬

‫س َّر »والسر هو إخفاء ما له عين« َوأ َ ْخفى »وهو إظهار ما ال عين‬


‫‪ -‬الوجه الثالث «‪ -‬يَ ْعلَ ُم ال ِ ه‬
‫وّللا يعلم أنه ليس له وجود عين في نفس الحكم ‪ ،‬فيعلم السر‬
‫له ‪ ،‬فيتخيل الناس أن ذلك حق ‪ ،‬ه‬
‫وأخفى ‪ ،‬أي أظهر في الخفاء من السر ‪ ،‬والشيء الخافي هو الظاهر لغة منقولة‬

‫‪ -‬الوجه الرابع ‪ -‬ومع هذا فإن األلف والالم لها حكم في مطلق اسم السر ‪ ،‬للشمول على جميع‬
‫ما ينطلق عليه اسم السر ‪ ،‬وما هو أخفى من ذلك السر ‪ ،‬ومن السر النكاح ‪ ،‬فمن أسمائه السر‬
‫‪ ،‬فيعلم ما ينتجه النكاح ‪ ،‬وهو قوله ( ويعلم ما في األرحام ) فإنه الخالق ما فيها ‪،‬‬
‫ولذلك فإن اإليجاد بمنزلة السر في النكاح ‪ ،‬واألخفى هو التوجه بتعلق القدرة بإيجاد موجود ما‬
‫‪ ،‬فنفذ االقتدار فكان أخفى من السر ‪ ،‬لجهلنا بنسبة هذا التوجه إلى الذات العلية ونسبة الصفات‬
‫إليها ‪ ،‬ألنها مجهولة ال تعرف فيعرف التوجه ‪ ،‬فأعقب ذلك بتوحيد الموجد لألشياء مع كثرة‬
‫النسب ‪ ،‬فهو واحد في كثير فقال ‪:‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 8‬‬


‫سنى ( ‪) 8‬‬ ‫ّللاُ ال ِإلهَ ِإاله ُه َو لَهُ ْاأل َ ْ‬
‫سما ُء ا ْل ُح ْ‬ ‫ه‬
‫[ توحيد اإلبدال ]‬
‫ّللا من الرحمن ‪ ،‬وهذا‬‫هذا التوحيد السادس عشر في القرآن ‪ ،‬وهو توحيد اإلبدال ‪ ،‬فإنه أبدل ه‬
‫في المعنى بدل المعرفة من النكرة ‪ ،‬ألنهم أنكروا الرحمن ‪ ،‬وفي اللفظ بدل المعرفة من‬
‫المعرفة ‪ ،‬وهو توحيد الهوية القائمة بأحكام األسماء الحسنى ‪ ،‬ال أن األسماء الحسنى تقوم‬
‫معانيها بها ‪ ،‬بل هي القائمة بمعاني األسماء ‪ ،‬فهو قائم بكل اسم بما يدل عليه ‪ ،‬وقد تسمى‬
‫بأحكام أفعاله من طريق المعنى ‪ ،‬فكلها أسماء حسنى ‪ ،‬غير أنه منها ما يتلفظ بها ‪ ،‬ومنها ما‬
‫وّللا اسم جامع‬
‫يعلم وال يتلفظ بها لما هو عليه حكمها في العرف من إطالق الذم عليها ‪ ،‬ه‬

‫ص ‪73‬‬

‫‪73‬‬
‫[األسماء الحسنى كلها للمرتبة ]‬
‫لحقائق جميع األسماء ‪ ،‬وهو دليل على مسمى ‪ ،‬وهو ذات مقدسة له نعوت الكمال والتنزيه‬
‫ّلل ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى » *فاألسماء كلها للمرتبة ‪ ،‬ولها ترتيب حقائق معقولة كثيرة من جهة‬
‫« ِ َّ ِ‬
‫النسب ال من جهة وجود عيني ‪ ،‬فإن ذات الحق واحدة من حيث ما هي ذات ‪،‬‬
‫ولكن لما كان وجودنا وافتقارنا وإمكاننا ال بد له من مرجح نستند إليه ‪،‬‬
‫وأن ذلك المستند ال بد أن يطلب وجودنا منه نسبا مختلفة ‪ ،‬كنهى الشارع عنها باألسماء الحسنى‬
‫وتسمى بها ‪،‬‬
‫فاّلل واحد وإن تكثرت أحكامه فإنها نسب وإضافات ‪ ،‬فهو من حيث نفسه له أحدية األحد ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ومن حيث أسماؤه له أحدية الكثرة ‪ ،‬واألسماء الحسنى تبلغ فوق أسماء اإلحصاء عددا ‪ ،‬وتنزل‬
‫دون أسماء اإلحصاء سعادة ‪ ،‬وهي المؤثرة في هذا العالم ‪،‬‬
‫فإنه ليس في المخلوقات على اختالف ضروبها أمر إال ويستند إلى حقيقة ونسبة إلهية ‪،‬‬
‫وهي المفاتيح األول التي ال يعلمها إال هو ‪ ،‬وإن كان لكل حقيقة اسم ما يخصها من األسماء ‪،‬‬
‫فحقيقة اإليجاد يطلبها االسم القادر ‪ ،‬وحقيقة األحكام يطلبها االسم العالم ‪ ،‬وحقيقة االختصاص‬
‫يطلبها االسم المريد ‪ ،‬إلى غير ذلك من الحقائق ‪ ،‬فاألسماء الحسنى نسب وإضافات ترجع إلى‬
‫باّلل من بعض‬ ‫عين واحدة ‪ ،‬إذ ال يصح هناك كثرة بوجود أعيان فيه كما زعم من ال علم له ه‬
‫النظار ‪ ،‬ألن الصفات الذاتية للموصوف بها وإن تعددت ‪ ،‬فال تدل على تعدد الموصوف في‬
‫ّللا وهي‬‫نفسه لكونها مجموع ذاته ‪ ،‬وإن كانت معقولة في التمييز بعضها عن بعض ‪ ،‬فأسماء ه‬
‫صفاته نسب وإضافات له ال أعيان زائدة ‪ ،‬لما يؤدي إلى نعتها بالنقص ‪ ،‬إذ الكامل بالزائد‬
‫ناقص بالذات عن كماله بالزائد ‪ ،‬وهو كامل لذاته ‪ ،‬فالزائد بالذات على الذات محال ‪ ،‬وبالنسب‬
‫واإلضافة ليس بمحال ‪ ،‬ولو كانت الصفات أعيانا زائدة وما هو إله إال بها ‪،‬‬
‫لكانت األلوهية معلولة بها ‪ ،‬فال يخلو أن تكون هي عين اإلله ‪ -‬فالشيء ال يكون علة لنفسه ‪-‬‬
‫فاّلل ال يكون معلوال لعلة ليست عينه ‪ ،‬فإن العلة متقدمة على المعلول بالرتبة ‪،‬‬ ‫أو ال تكون ‪ ،‬ه‬
‫فيلزم افتقار اإلله من كونه معلوال لهذه األعيان الزائدة التي هي علة له ‪ ،‬وهو محال ‪،‬‬
‫ثم إن الشيء المعلول ال يكون له علتان ‪ ،‬وهذه كثيرة ‪ ،‬وال يكون إلها إال بها ‪ ،‬فبطل أن تكون‬
‫ّللا عما يقول الظالمون علوا كبيرا ‪،‬‬ ‫األسماء والصفات أعيانا زائدة على ذاته ‪ ،‬تعالى ه‬
‫ّللا الحسنى نسب وإضافات ‪ ،‬منها ما يحتاج إليها الممكنات احتياجا ضروريا ‪ ،‬ومنها‬ ‫فأسماء ه‬
‫ما ال يحتاج إليها الممكنات ذلك االحتياج الضروري ‪،‬‬

‫ص ‪74‬‬

‫‪74‬‬
‫وقوة نسبتها إلى الحق أوجه من طلبها الخلق ‪.‬‬
‫ولما كانت األسماء اإللهية نسبا تطلبها اآلثار ‪ ،‬لذلك ال يلزم ما تعطل حكمه منها ما لم يتعطل‬
‫فاّلل إله سواء وجد العالم أو لم يوجد ‪،‬‬
‫‪ ،‬وإنما يقدح ذلك لو اتفق أن تكون أمرا وجوديا ‪ ،‬ه‬
‫فلذلك قلنا ‪ :‬إنه سبحانه لو رحم العالم كله لكان ‪ ،‬ولو عذب العالم كله لكان ‪ ،‬ولو رحم بعضه‬
‫وعذب بعضه لكان ‪ ،‬ولو عذبه إلى أجل مسمى لكان ‪ ،‬فإن الواجب الوجود ال يمتنع عنه ما هو‬
‫ممكن لنفسه ‪ ،‬وال مكره له على ما ينفذه في خلقه ‪ ،‬بل هو الفعال لما يريد ‪ ،‬ولما كانت‬
‫الصفات نسبا وإضافات ‪ ،‬والنسب أمور عدمية ‪ ،‬وما ث هم إال ذات واحدة من جميع الوجوه ‪،‬‬
‫لذلك جاز أن يكون العباد مرحومين في آخر األمر ‪ ،‬وال يسرمد عليهم عدم الرحمة إلى ما ال‬
‫نهاية له إذ ال مكره له على ذلك ‪ ،‬والصفات واألسماء ليست أعيانا توجب حكما عليه في‬
‫األشياء ‪ ،‬فال مانع من شمول الرحمة للجميع ‪ ،‬وال سيما وقد ورد سبقها للغضب ‪ ،‬فإذا انته‬
‫الغضب إليها كان الحكم لها ‪ ،‬فكان األمر على ما قلناه ‪،‬‬

‫ولذلك قال تعالى ( ولو شاء ربك لهدى الناس جميعا ) فكان حكم هذه المشيئة في الدنيا‬
‫بالتكليف ‪ ،‬وأما في اآلخرة فالحكم لقوله (يَ ْفعَ ُل ما يُ ِري ُد )‬
‫فمن يقدر أن يدل على أنه لم يرد إال تسرمد العذاب على أهل النار وال بد ‪ ،‬أو على واحد في‬
‫العالم كله ؟‬
‫فكل ما ذكر في قوله ‪ :‬لو شاء ‪ ،‬ولئن شئنا ‪ ،‬ألجل هذا األصل ‪،‬‬
‫فله اإلطالق وما ث هم نص يرجع إليه ال يتطرق إليه االحتمال في تسرمد العذاب كما لنا في‬
‫تسرمد النعيم ‪ ،‬فلم يبق إال الجواز ‪،‬‬
‫وأنه رحمن الدنيا واآلخرة ‪ ،‬واألسماء اإللهية منها مشتركة وإن كان لكل واحد من المشتركة‬
‫معنى ‪ ،‬إذا تبين ظهر أنها متباينة ‪ ،‬فاألصل في األسماء التباين ‪ ،‬واالشتراك فيه لفظي ‪ ،‬ومنها‬
‫متباينة ‪ ،‬ومنها مترادفة ومع ترادفها فال بد أن يفهم من كل واحد معنى ال يكون في اآلخر ‪،‬‬
‫فعلمنا ما سمى به نفسه واقتصرنا عليها ‪ ،‬وقيدت األسماء بالحسنى لداللتها على المسمى‬
‫األسمى ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 9‬إلى ‪] 10‬‬


‫ِيث ُموسى ( ‪ ) 9‬إِ ْذ َرأى نارا فَقا َل ِأل َ ْه ِل ِه ْ‬
‫ام ُكثُوا إِ ِنّي آنَ ْ‬
‫ستُ نارا لَعَ ِلّي آتِي ُك ْم ِم ْنها‬ ‫َو َه ْل أَتاكَ َحد ُ‬
‫ِبقَبَ ٍس أ َ ْو أ َ ِج ُد َ‬
‫علَى النه ِار ُهدى ( ‪) 10‬‬
‫« ِإ ِنهي آنَ ْستُ نارا ً »أي أبصرت نارا ‪ ،‬من آنست الشيء إذا أبصرته ‪ ،‬ويدل أيضا على‬

‫ص ‪75‬‬

‫‪75‬‬
‫ى »فانظر ما‬ ‫ار ُهد ً‬ ‫أنه ما قطع فيما أبصر أنه نار« لَعَ ِلهي آ ِتي ُك ْم ِم ْنها ِبقَبَ ٍس أ َ ْو أ َ ِج ُد َ‬
‫علَى النَّ ِ‬
‫أعجب قوة النبوة ألنه وجد الهدى ‪ ،‬وكل خير في السعي على الغير ‪،‬‬
‫والسعي على األهل من ذلك ‪ ،‬فمشى موسى عليه السالم في حق أهله ليطلب لهم نارا‬
‫يصطلون بها ويقضون بها األمر الذي ال ينقضي إال بها في العادة ‪ ،‬وما كان عنده خبر بما‬
‫جاءه ‪،‬‬
‫ّللا في عين حاجته وهي النار في الصورة‬ ‫فأسفرت له عاقبة ذلك الطلب عن كالم ربه ‪ ،‬فكلمه ه‬
‫‪ ،‬ولم يخطر له عليه السالم ذلك األمر بخاطر ‪ ،‬وأي شيء أعظم من هذا ؟‬
‫وما حصل له إال في وقت السعي في حق عياله ‪ ،‬ليعلمه بما في قضاء حوائج العائلة من‬
‫الفضل ‪ ،‬فيزيد حرصا في سعيه في حقهم ‪ ،‬فكان ذلك تنبيها من الحق تعالى على قدر ذلك عند‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وعلى قدرهم ألنهم عبيده على كل حال ‪ ،‬وقد و هكل هذا على القيام بهم ‪.‬‬ ‫ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 11‬‬


‫فَلَ هما أ َتاها نُود َ‬
‫ِي يا ُموسى ( ‪) 11‬‬
‫[ تجلي الحق لموسى عليه السالم في صورة النار ]‬
‫وتجلى له الحق في عين حاجته فلم تكن نارا‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 12‬‬


‫طوى ) ‪( 12‬‬ ‫هس ُ‬ ‫ِإ ِنّي أَنَا َربُّكَ فَ ْ‬
‫اخلَ ْع نَ ْعلَ ْيكَ ِإنهكَ ِبا ْلوا ِد ا ْل ُمقَد ِ‬
‫لما خرج موسى عليه السالم في طلب النار ألهله لما كان فيه من الحنو عليهم ‪ ،‬وقع التجلي له‬
‫في عين صورة حاجته ‪ ،‬فرأى نارا ألنها مطلوبه فقصدها فناداه ربه منها ‪ ،‬وهو ال علم له‬
‫بذلك الستفراغه فيما خرج له« يا ُموسى ِإ ِنهي أَنَا َرب َُّك »ولما كان القاعد ال يلبس النعلين وإنما‬
‫وضعت للماشي فيها ‪ ،‬ومن وصل إلى المنزل خلع نعليه ‪،‬‬
‫ّللا بغير واسطة ‪،‬‬ ‫اخلَ ْع نَ ْعلَي َْك »أي قد وصلت المنزل ‪ ،‬فإنه كلمه ه‬ ‫قيل لموسى عليه السالم« فَ ْ‬
‫بكالمه سبحانه بال ترجمان ‪،‬‬
‫اخلَ ْع نَ ْعلَي َْك » له ظاهر وباطن ‪ ،‬فأما ظاهره فالحكمة في األمر بخلع النعل‬ ‫وقوله تعالى« فَ ْ‬
‫الظاهر ‪ ،‬أن سير األنبياء في األرض كان سير اعتبار وادكار ونظر لما أودع فيها من سر‬
‫البدء واإلعادة ‪،‬‬
‫ئ النَّ ْشأَة َ‬ ‫ْف بَ َدأ َ ْالخ َْلقَ ث ُ َّم َّ‬
‫ّللاُ يُ ْن ِش ُ‬ ‫ض فَا ْن ُ‬
‫ظ ُروا َكي َ‬ ‫يروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫بمقتضى قوله تعالى ‪ ( :‬قُ ْل ِس ُ‬
‫ْاآل ِخ َرة َ ) وكان المراد التعرف لموسى بسر اإلعادة وقيام الساعة ‪،‬‬
‫ولهذا كانت مناجاته من الجانب الغربي ‪ ،‬ألن من أكبر آيات الساعة طلوع الشمس من مغربها‬
‫ّللا ال إله إال أنا فاعبدني وأقم الصالة لذكري إن الساعة‬ ‫‪ ،‬وقيل له في أول مناجاته ( إنني أنا ه‬
‫آتية )‬
‫ومن المعلوم أن بعث الخالئق وحشرهم يكون من األرض المقدسة ‪ ،‬وقد فسر قوله تعالى(‬
‫َوا ْست َ ِم ْع يَ ْو َم‬
‫ص ‪76‬‬
‫‪76‬‬
‫ب)‬ ‫يُنا ِد ْال ُمنا ِد ِم ْن َم ٍ‬
‫كان قَ ِري ٍ‬
‫ّللا عليه وسلم عندما سار بأهله‬ ‫أي من صخرة بيت المقدس ‪ ،‬فمن هاهنا قيل لموسى صلهى ه‬
‫اخلَ ْع نَ ْعلَي َْك »تنبيها على‬
‫وبلغ بيت المقدس وكشف له عن سر ما أودع فيه من قيام الساعة« فَ ْ‬
‫أنه انته سفرك وبلغ ما كان المراد بك من التعرف ‪،‬‬
‫ولهذا قيل له « ِإنَّ َك ِب ْالوا ِد ْال ُمقَد َِّس »أي هذا هو الوادي الذي أودع فيه سر قيام الساعة ورجوع‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فاخلع نعليك وألق عصاك ‪ ،‬فإن النعل وأخذ العصا من توابع السفر ‪،‬‬ ‫الخالئق إلى ه‬
‫وخلع النعل وإلقاء العصا من أعالم اإلقامة ‪ ،‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫فألقت عصاها واطمأن بها النوى *** كما قر عينا باإلياب المسافر‬
‫ّللا تعالى‬
‫وأما الباطن فإن حقيقة النعل ما يكون وقاية لقدم الصدق من عوائق طريق القلب إلى ه‬
‫وما فيه من وعر وشوك ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم ‪ ،‬تعس وانتكس‬ ‫كما نبه عليه قوله صلهى ه‬
‫وشيك وال انتقش ]‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فإن‬
‫فنبه بهذا على أن افتتان القلب بزينة الدنيا يعوق قدم الصدق عن السير إلى ه‬
‫عظم في عينيه منها شيء تعس به ‪ ،‬وإن احتقره أو استهان به كان بمثابة الشوك يدخل في قدم‬
‫السائر ‪ ،‬فإن انتقش أي أخرجه بمنقاش االستغفار ‪ ،‬وألقاه بالزهد فيه سلم وسارع بقدم صدقه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وإن أهمله كان بمثابة الشوكة التي يهملها صاحبها حتى تتمكن ويفسد بها الدم‬ ‫إلى ه‬
‫ويحصل المرض والوقوف عن السير ‪ ،‬وربما تمكنت فكانت سببا للموت أو ورما للقدم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم لما‬ ‫والنعالن يقيان من ذلك ‪ ،‬وهما الرجاء فيه والخوف منه ‪ ،‬كموسى صلهى ه‬
‫خرج خائفا يترقب ‪ ،‬وقال عند التوجه ( عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ) علم أنه انتعل‬
‫ّللا رضي‬‫الخوف والرجاء وركبهما في سيره ‪ ،‬ألن من انتعل فقد ركب ‪ ،‬لحديث جابر بن عبد ه‬
‫ّللا عليه وسلم في سفر ‪ ،‬فقال ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عنهما في صحيح مسلم قال ‪ :‬كنا مع رسول ه‬ ‫ه‬
‫أكثروا من النعال فإن الرجل يظل راكبا ما انتعل ‪.‬‬
‫فلما بلغ موسى عليه السالم في حضرة المناجاة والتأنيس وصل في وادي التقديس ‪ ،‬قيل له«‬
‫اخلَ ْع نَ ْعلَي َْك »ألن الرجاء والخوف ألرباب السلوك ال لمن وصل وخص بمجالسة المملوك ‪،‬‬ ‫فَ ْ‬
‫روينا أن نعال موسى كانتا من جلد حمار ميت ‪ ،‬فجمعت ثالثة أشياء ‪ :‬الشيء الواحد الجلد‬
‫وهو ظاهر األمر ‪ ،‬أي ال تقف مع الظاهر في كل األحوال ‪ ،‬والثاني البالدة فإنها منسوبة إلى‬
‫الحمار ‪ ،‬والثالث كونه ميتا غير مذكى والموت الجهل ‪ ،‬وإذا كنت ميتا ال تعقل ما تقول وال ما‬
‫يقال لك ‪ ،‬والمناجي ال بد أن يكون بصفة من يعقل ما يقول ويقال له ‪ ،‬فيكون حي‬

‫ص ‪77‬‬

‫‪77‬‬
‫[ خلع النعلين ]‬
‫القلب فطنا بمواقع الكالم ‪ ،‬غواصا في المعاني التي يقصدها من يناجيه بها ‪ -‬اعتبار ‪ -‬خلع‬
‫النعلين في االعتبار يشير إلى خلع صفة الجهل المختصة بالحمار ‪ ،‬ألن النعلين كانتا من جلد‬
‫حمار ميت ‪ ،‬فهو صفة جهل وموت ‪ ،‬والوادي المقدس في االعتبار يشير إلى صفة موسوية ‪-‬‬
‫إشارة ‪ -‬خلعت النعالن إشارة لزوال شفعية اإلنسان ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 13‬‬


‫َوأَنَا ْ‬
‫اخت َ ْرت ُكَ فَا ْ‬
‫ست َ ِم ْع ِلما يُوحى ) ‪( 13‬‬
‫وقرئ « وإنا اخترناك » قرأ بها حمزة على رب العزة في المنام ‪ ،‬وإذا قرئ « وأنا اخترتك‬
‫» كان أحق باآلية وأنسب وأنفى للتغيير ‪ ،‬فإنه ما زال التوحيد يصحبها إلى آخر اآلية في قوله‬
‫( فاعبدني ) وإذا قرئ بالجمع ظهر التغيير باالنتقال في العين الواحدة من الكثير إلى الواحد ‪،‬‬
‫فمساق اآلية يقوي « وإنا اخترناك » ألنه عدد أمورا تطلب أسماء مختلفة ‪ ،‬فال بد من التغيير‬
‫في كل صورة يدعى إليها ‪،‬‬
‫وكان جملة ما تحصل في هذه الواقعة لموسى على ما روي اثنتي عشرة ألف صورة ‪ ،‬يقول له‬
‫في كل صورة ‪ :‬يا موسى ‪ ،‬ليتنبه موسى على أنه لو أقيم لصورة واحدة ال تسق الكالم ‪،‬‬
‫ولم يقل في كل كلمة ‪ :‬يا موسى ؛ فقوله « إنا اخترناك فجمع ‪ ،‬ثم أفرد ثم عدد ما كلم به‬
‫موسى عليه السالم غير أن قوله « وإنا اخترناك » قرأ بها حمزة على رب العزة في المنام ‪،‬‬
‫فقال له ربه ‪ « :‬وإنا اخترناك » فهي قراءة برزخية ‪ ،‬فلهذا جمع ألنه تجل صوري في منام ‪،‬‬
‫فال بد أن تكون القراءة هكذا ‪ ،‬فإذا أفردتها بعد الجمع فألحدية الجمع ال غير ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 14‬‬


‫ّللاُ ال ِإلهَ ِإاله أَنَا فَا ْعبُ ْدنِي َوأَقِ ِم ال ه‬
‫صالةَ ِل ِذ ْك ِري ( ‪) 14‬‬ ‫ِإنهنِي أَنَا ه‬
‫[ توحيد االستماع ]‬
‫هذا هو التوحيد السابع عشر في القرآن ‪ ،‬وهو توحيد االستماع ‪ ،‬وهو توحيد األناية ‪ ،‬وقوي‬
‫بالجمع إذ قد قرئ « وإنا اخترناك » فكثهر ‪ ،‬ثم أفرد فقال " إنني " وإن كلمة تحقيق ‪ ،‬فاإلنية‬
‫هي الحقيقة ‪ ،‬ولما كان حكم الكناية بالياء يؤثر في صورة الحقيقة ‪ ،‬نظرت من في الوجود‬
‫على صورتها ‪ ،‬فوجدت نونا من النونات ‪،‬‬
‫ي صورة حقيقتي ‪ ،‬فيشهد الناظر‬ ‫فقالت لها ‪ :‬قني بنفسك من أجل كناية الياء ‪ ،‬لئال تؤثر ف ه‬
‫والسامع التغيير في الحقيقة أن الياء هي عين الحقيقة ؛ فجاءت نون الوقاية فحالت بين الياء‬
‫ونون الحقيقة ‪ ،‬فأحدثت الياء الكسر‬

‫ص ‪78‬‬

‫‪78‬‬
‫في النون المجاورة لها ‪ ،‬فسميت نون الوقاية ألنها وقت الحقيقة بنفسها ‪ ،‬فبقيت الحقيقة على ما‬
‫كانت عليه لم يلحقها تغيير ‪ ،‬فقال« ِإنَّ ِني أ َنَا َّ‬
‫ّللاُ »‬
‫ّللاُ »فغيرها ‪ ،‬وتغيير الحقيقة بالضمير في اإلن هو مقام تجليه‬ ‫ولوال نون الوقاية لقال« إِ ِنهي أَنَا َّ‬
‫في الصور يوم القيامة ‪ ،‬وما ث هم إال صورتان خاصة ال ثالث لهما ‪ ،‬صورة تنكر وصورة‬
‫تعرف ‪ ،‬ولو كان ما ال يتناهى من الصور فإنها محصورة في هذا الحكم ‪ ،‬إما أن تنكر أو‬
‫تعرف ‪ ،‬ال بد من ذلك ‪ ،‬فإذا قرئ« َوأَنَا ْ‬
‫اخت َ ْرت ُ َك »كان أحق باآلية وأنسب وأنفى للتغيير ‪ ،‬فإنه‬
‫ما زال التوحيد يصحبها إلى آخر اآلية ‪.‬‬

‫[ تفسير من باب اإلشارة االنيتان]‬


‫تفسير من باب اْلشارة‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ :‬واعلم أن إنيتين ضبطتهما العبارة ‪ ،‬وهما طرفان ‪ ،‬ولكل واحدة من اإلنيتين‬
‫حكم ليس لألخرى ‪ ،‬إنية في جانب الحق « ِإ ِنهي أَنَا َرب َُّك »وإنية في جانب الخلق الكامل ( إني‬
‫ّللا ) واإلنيتان متميزتان ‪ ،‬إال أن إلنية الحادث منزلة الفداء واإليثار لجناب الحق‬ ‫رسول ه‬
‫بكونها وقاية ‪ ،‬وبهذه الصفة من الوقاية تندرج إنية العبد في الحق اندراجا في ظهور ‪ ،‬فينسب‬
‫الفعل إلى العبد وليس إليه ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬الخير كله بيديك ‪ ،‬والشر ليس إليك ]‬ ‫قال صلهى ه‬
‫ّللاُ »النون الثانية من إنني هي نون الوقاية ‪ ،‬فلو ال نون العبد التي أثر‬ ‫قال تعالى« ِإنَّنِي أَنَا َّ‬
‫فيها حرف الياء ‪ ،‬الذي هو ضمير الحق ‪ ،‬فخفض النون ‪،‬‬
‫فظهر أثر القديم في المحدث ‪ ،‬ولواله لخفضت النون من إن ‪ ،‬وهي إنية الحق فخفضتها ‪،‬‬
‫ومقامها الرحمة التي هي الفتح ‪ ،‬فما أزاله عن مقامه إال هو وال أثر فيه سواه ‪،‬‬
‫فأقرب ما يكون العبد من الحق إذا كان وقاية بين إنية الحق وبين ضميره ‪ ،‬فيكون محصورا قد‬
‫أحاط به الحق من كل جانب ‪ ،‬وكان به رحيما لبقاء صفة الرحمة ‪ ،‬فبابها مفتوح ‪ ،‬وبها حفظ‬
‫على المحدث وجوده ‪ ،‬فبقي عين نون الوقاية الحادثة في مقام العبودية الذي هو الخفض‬
‫المتولد عن ياء ضمير الحق ‪ ،‬فظهر في العبد أثر الحق ‪ ،‬وهو عين مقام الذلة واالفتقار ‪،‬‬
‫فما للعبد مقام في الوصلة بالحق تعالى أعظم من هذا ‪ ،‬حيث له وجود العين بظهور مقامه فيه‬
‫‪ ،‬وهو في حال اندراج في الحق محاط به من كل جانب ‪ ،‬فعرف نفسه بربه حين أثر فيه‬
‫الخفض ‪ ،‬فعرف ربه حين أبقاه على ما هو عليه من الرحمة ‪ ،‬فإنه الرحمن الرحيم ‪ ،‬فما زال‬
‫عنه الفتح ( فتح أنا ) بوجود عين العبد ( نون الوقاية ) فال يشهده أبدا إال رحمانا ‪ ،‬وال يعلمه‬
‫أبدا إال مؤثهرا فيه ‪ ،‬فال يزال في عبوديته قائما ‪ ،‬وهذا غاية القرب ‪ ،‬ولوال هذا القرب المعيهن‬
‫لعاد األثر على إنية الحق ‪ ،‬ولهذا ظهر في« ِإ ِنهي أَنَا َرب َُّك »ليعلم أن األثر إذا صدر من الحق‬
‫ال بد من‬

‫ص ‪79‬‬

‫‪79‬‬
‫ظهور حكم ‪ ،‬وما وجد إال الحق فعاد عليه ‪ ،‬فجاء العبد فدخل بين اإلنية اإللهية والمؤثر فعمل‬
‫فيه ‪ ،‬قال أبو يزيد لربه ‪ :‬يا رب بما ذا أتقرب إليك ؟‬
‫فقال ‪ :‬بما ليس لي ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا ربه وما ليس لك ؟‬
‫فقال ‪ :‬الذلة واالفتقار ‪ ،‬فعلم عند ذلك ما إلنهيهة الحق وما إلنية العبد ‪ ،‬وليست العناية من ه‬
‫ّللا‬
‫ببعض عباده إال أن يشهده هذا المقام من نفسه ‪ ،‬فما يزيد على العالم كله إال بالعلم به حاال‬
‫وذوقا ‪ ،‬وال يجني أحد ثمرة اإليثار مثل ما يجنيها صاحب هذا المقام ‪ ،‬فإن ثمرة اإليثار على‬
‫قدر من تؤثره على نفسك ‪ ،‬والذي تؤثره على نفسك هنا إنما هو الحق‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬النون الثانية نون الوقاية ‪ ،‬وهو تعالى الواقي ‪ ،‬فهو نون الوقاية ‪ ،‬وهو‬
‫ّللا‬
‫ضمير الياء ‪ ،‬فهذه إضافة الشيء إلى نفسه ‪ ،‬يروى أن موسى لما جاء من عند ربه كساه ه‬
‫نورا على وجهه يعرف به صدق ما ادعاه ‪ ،‬فما رآه أحد إال عمي من شدة نوره ‪ ،‬فكان يتبرقع‬
‫حتى ال يتأذى الناظر إلى وجهه عند رؤيته ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 15‬إلى ‪] 17‬‬


‫ع ْنها َم ْن ال يُ ْؤ ِم ُن‬
‫ص هدنهكَ َ‬ ‫ساعَةَ آتِيَةٌ أَكا ُد أ ُ ْخ ِفيها ِلتُجْ زى ُك ُّل نَ ْف ٍس بِما ت َ ْ‬
‫سعى ( ‪ ) 15‬فَال يَ ُ‬ ‫إِ هن ال ه‬
‫بِها َواتهبَ َع َهواهُ فَت َ ْردى ( ‪َ ) 16‬وما تِ ْلكَ بِيَ ِمينِكَ يا ُموسى ( ‪) 17‬‬
‫[ األشياء ال تنقلب ]‬
‫السؤال عن الضروريات ما يكون من العالم بذلك إال لمعنى غامض ‪ ،‬وهو في هذه المسألة‬
‫تعليم موسى خلع الصور من الجوهر وإلباسه صورا غيرها ‪ ،‬ليعلمه أن األعيان ‪ -‬أعيان‬
‫الصور ‪ -‬ال تنقلب ‪ ،‬فإنه يؤدي إلى انقالب الحقائق ‪ ،‬وإنما اإلدراكات تتعلق بالمدركات ‪ ،‬تلك‬
‫المدركات لها صحيحة ال شك فيها ‪ ،‬فيتخيل من ال علم له بالحقائق أن األعيان انقلبت ‪ ،‬وما‬
‫انقلبت ‪ ،‬فقال تعالى لموسى عليه السالم« َوما تِ ْل َك بِيَ ِمينِ َك يا ُموسى »فقال في تحقيق كونها‬
‫عصا ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 18‬‬


‫ب أ ُ ْخرى ) ‪( 18‬‬ ‫غنَ ِمي َو ِل َ‬
‫ي فِيها َم ِآر ُ‬ ‫علَ ْيها َوأ َ ُه ُّ‬
‫ش بِها عَلى َ‬ ‫َصاي أَت َ َو هكؤُا َ‬
‫َ‬ ‫يع‬‫قا َل ِه َ‬
‫كل ذلك من كونها عصا ‪ ،‬أرأيتم أنه أعلم الحق تعالى بما ليس معلوما عند الحق ؟ وهذا جواب‬
‫علم ضروري عن سؤال معلوم مدرك بالضرورة ‪ ،‬فقال له ‪.‬‬

‫[ سورة طه ‪ ( 20 ) :‬آية ‪] 19‬‬


‫قا َل أ َ ْل ِقها يا ُموسى ) ‪( 19‬‬
‫يعني من يدك ‪ ،‬مع تحققك أنها عصا‪.‬‬
‫ص ‪80‬‬

‫‪80‬‬
‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 20‬‬
‫ي َحيهةٌ ت َ ْ‬
‫سعى ( ‪) 20‬‬ ‫فَأ َ ْلقاها فَ ِإذا ِه َ‬

‫ي »يعني تلك العصا« َحيَّةٌ تَسْعى »فلما خلع ه‬


‫ّللا‬ ‫« فَأ َ ْلقاها »موسى من يده في األرض« فَإِذا ِه َ‬
‫على العصا ‪ -‬أعني جوهرها ‪ -‬صورة الحية ‪ ،‬استلزمها حكم الحية وهو السعي ‪ ،‬حتى يتبين‬
‫لموسى عليه السالم بسعيها أنها حية ‪ ،‬ولوال خوفه منها خوف اإلنسان من الحيات ‪ ،‬لقلنا إن‬
‫ّللا أوجد في العصا الحياة فصارت حية من الحياة ‪ ،‬فسعت لحياتها على بطنها ‪ ،‬إذ لم يكن لها‬ ‫ه‬
‫رجل تسعى بها ‪ ،‬فصورتها لشكلها عصا صورة الحيات ‪ ،‬فلما خاف منها للصورة على‬
‫ّللا بها من الضر لبني‬
‫مجرى العادة في النفوس أنها تخاف من الحيات إذا فاجأتها ‪ ،‬لما قرن ه‬
‫ّللا في ذلك ولو علمه ما خاف ‪ ،‬فقال له الحق ‪:‬‬ ‫آدم ‪ ،‬وما علم موسى مراد ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ ) : 20‬آية ‪] 21‬‬


‫يرت َ َها ْاألُولى) ‪( 21‬‬
‫س َ‬ ‫سنُ ِعيدُها ِ‬‫ف َ‬ ‫قا َل ُخ ْذها َوال ت َ َخ ْ‬
‫يرت َ َها ْاألُولى " ]‬
‫سنُ ِعيدُها ِس َ‬‫[" َ‬
‫سنُ ِعيدُها »الضمير يعود‬
‫َف »وهذا هو خوف الفجأة إذ كان ‪ ،‬ثم قال له« َ‬ ‫« قا َل ُخ ْذها َوال تَخ ْ‬
‫يرت َ َها ْاألُولى »أي ترجع عصا مثلما كانت ‪ ،‬فاآلية محتملة ‪ ،‬فإن الضمير الذي‬ ‫على العصا « ِس َ‬
‫يرت َ َها ْاألُولى »إذا لم تكن عصا في حال كونها في نظر موسى‬ ‫سنُ ِعيدُها ِس َ‬
‫عز وجل« َ‬ ‫في قوله ه‬
‫حية ‪ ،‬لم يجد الضمير على من يعود ‪ ،‬فجواهر األشياء متماثلة وتختلف بالصور واألعراض ‪،‬‬
‫والجوهر واحد ‪ ،‬فاألعيان ال تنقلب ‪ ،‬فالعصا ال تكون حية وال الحية عصا ‪ ،‬ولكن الجوهر‬
‫القابل صورة العصا قبل صورة الحية ‪ ،‬فهي صور يخلعها الحق القادر الخالق عن الجوهر إذا‬
‫شاء ويخلع عليه صورة أخرى ‪ ،‬ومن هنا يعلم تجلي الحق في القيامة في صورة يتعوذ أهل‬
‫باّلل منها وهو الحق ما هو غيره ‪ ،‬وذلك في‬ ‫الموقف منها وينزهون الحق عنها ‪ ،‬ويستعيذون ه‬
‫ّللا هذا لموسى عليه السالم‬
‫أبصارهم ‪ ،‬فإن الحق منزه عن قيام التغيير به والتبديل ‪ ،‬وقدهم ه‬
‫توطئة لما سبق في علمه سبحانه أن السحرة تظهر لعينه مثل هذا ‪ ،‬فيكون عنده علم من ذلك‬
‫حتى ال يذهل وال يخاف إذا وقع منهم عند إلقائهم حبالهم وعصيهم وخيل إلى موسى أنها تسعى‬
‫‪ ،‬يقول له ‪ :‬فال تخف إذا رأيت ذلك منهم ‪ ،‬يقوي جأشه‬
‫‪ -‬إشارة–‬
‫ص ‪81‬‬

‫‪81‬‬
‫يرت َ َها ْاألُولى »بشرى لموسى عليه السالم بمقام الفناء وتصحيح اللقاء ‪ ،‬فالعود‬
‫سنُ ِعيدُها ِس َ‬
‫« َ‬
‫رجوع إلى األصل ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 22‬‬


‫وء آيَة أ ُ ْخرى ( ‪) 22‬‬
‫س ٍ‬ ‫ناحكَ ت َ ْخ ُرجْ بَ ْيضا َء ِم ْن َ‬
‫غ ْي ِر ُ‬ ‫َوا ْ‬
‫ض ُم ْم يَدَكَ ِإلى َج ِ‬
‫[ إشارة ‪ -‬فيه تنبيه لإلنسان أنه عند خروجه من الغيب من العلل بريء ‪] ،‬‬
‫إشارة ‪ -‬فيه تنبيه لإلنسان أنه عند خروجه من الغيب من العلل بريء ‪ ،‬فإنه خرج من الغيب‬
‫طاهرا نقيا ‪ ،‬وما تدنس إال بمصاحبة الكون والحدث ‪ ،‬ولذلك قيل ‪ :‬كل مولود يولد على الفطرة‬
‫‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 23‬إلى ‪] 25‬‬


‫ِلنُ ِريَكَ ِم ْن آياتِنَا ا ْل ُك ْبرى ( ‪ْ ) 23‬‬
‫اذ َه ْب ِإلى فِ ْرع َْو َن ِإنههُ َطغى ( ‪ ) 24‬قا َل َر ّ ِ‬
‫ب اش َْرحْ ِلي‬
‫صد ِْري ) ‪( 25‬‬ ‫َ‬
‫قال موسى ذلك لربه حين بعثه لفرعون ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 26‬إلى ‪] 35‬‬


‫ع ْقدَة ِم ْن ِلسانِي ) ‪ ( 27‬يَ ْفقَ ُهوا قَ ْو ِلي ( ‪َ ) 28‬واجْ عَ ْل ِلي‬ ‫س ْر ِلي أ َ ْم ِري ( ‪َ ) 26‬واحْ لُ ْل ُ‬ ‫َويَ ِ ّ‬
‫ون أ َ ِخي ) ‪( 30‬‬ ‫هار َ‬ ‫َو ِزيرا ِم ْن أ َ ْه ِلي ) ‪ُ ( 29‬‬
‫س ِبّ َحكَ َك ِثيرا ( ‪َ ) 33‬ونَ ْذك َُركَ َك ِثيرا (‬
‫ش ُد ْد ِب ِه أ َ ْز ِري ( ‪َ ) 31‬وأَش ِْر ْكهُ ِفي أ َ ْم ِري ( ‪َ ) 32‬ك ْي نُ َ‬‫ا ْ‬
‫‪ ) 34‬إِنهكَ ُك ْنتَ بِنا بَ ِصيرا ) ‪( 35‬‬
‫فعلم موسى عليه السالم ما قال ‪ ،‬وعلمنا نحن من هذا القول ما أشار به ‪ ،‬ليفهم عنه صاحب‬
‫عين الفهم معنى التعاون وظهور حكم األسباب في المسببات ‪ ،‬فال يزيل حكمها إال جاهل ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 36‬إلى ‪] 39‬‬


‫علَ ْيكَ َم هرة أ ُ ْخرى ( ‪ ) 37‬إِ ْذ أ َ ْو َح ْينا إِلى أ ُ ِ ّمكَ‬ ‫س ْؤلَكَ يا ُموسى ( ‪َ ) 36‬ولَقَ ْد َمنَنها َ‬ ‫قا َل قَ ْد أُوتِيتَ ُ‬
‫عد ٌُّو ِلي‬‫اح ِل يَأ ْ ُخ ْذهُ َ‬ ‫ت فَ ْ‬
‫اق ِذفِي ِه فِي ا ْليَ ِ ّم فَ ْليُ ْل ِق ِه ا ْليَ ُّم بِال ه‬
‫س ِ‬ ‫اق ِذفِي ِه فِي التهابُو ِ‬ ‫ما يُوحى ( ‪ ) 38‬أ َ ِن ْ‬
‫ع ْينِي) ‪( 39‬‬ ‫صنَ َع عَلى َ‬ ‫عد ٌُّو لَهُ َوأ َ ْلقَيْتُ َ‬
‫علَ ْيكَ َم َحبهة ِم ِنّي َو ِلت ُ ْ‬ ‫َو َ‬

‫ص ‪82‬‬

‫‪82‬‬
‫[إشارة ‪ :‬إلقاء موسى في التابوت وفي اليم ]‬
‫أرشد الحق تعالى أم موسى عليه السالم عند الخوف أن تلقيه من يدها وتخرجه عن حفظها ‪،‬‬
‫ع ْينِي "‪.‬‬
‫على َ‬ ‫ّللا تعالى يتواله بحفظه ويبقيه برحمته ‪ ،‬وأما قوله تعالى‪َ ":‬و ِلت ُ ْ‬
‫صنَ َع َ‬ ‫فإن ه‬
‫أي على حكم آيتي التي أوحيتها إلى أمك ( أن أرضعيه ‪ ،‬فإذا خفت عليه فألقيه في اليم وال‬
‫تخافي وال تحزني ‪ ،‬إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) ‪.‬‬
‫ويؤيد أن المراد ذلك كونه جعل ظرف صنعه على عينيه ‪.‬‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬ألقي موسى عليه السالم في التابوت ألن الحكمة ما ظهرت إال بوجود الناسوت ‪،‬‬
‫وإلقاؤه في اليم إشارة إلى العلم ‪ ،‬أ هما كيف يصح اليم مع العلم ‪ ،‬ألنه لواله ما صح عند ذوي‬
‫ي ٍ ) ولذلك العلم تحيا به القلوب ‪.‬‬ ‫ش ْيءٍ َح ه‬ ‫الفهم ‪ ،‬قال تعالى( َو َجعَ ْلنا ِمنَ ْال ِ‬
‫ماء ُك َّل َ‬

‫[ سورة طه ( ‪ ) : 20‬آية ‪] 40‬‬


‫شي أ ُ ْخت ُكَ فَت َقُو ُل َه ْل أ َ ُدلُّ ُك ْم عَلى َم ْن يَ ْكفُلُهُ فَ َر َج ْعناكَ ِإلى أ ُ ِ ّمكَ َك ْي تَقَ هر َ‬
‫ع ْينُها َوال تَحْ َز َن‬ ‫ِإ ْذ ت َ ْم ِ‬
‫ين ِفي أ َ ْه ِل َم ْديَ َن ث ُ هم ِجئْتَ عَلى قَد ٍَر يا‬
‫س ِن َ‬‫َوقَت َ ْلتَ نَ ْفسا فَنَ هج ْيناكَ ِم َن ا ْلغَ ِ ّم َوفَتَنهاكَ فُتُونا فَلَ ِبثْتَ ِ‬
‫ُموسى «) ‪( 40‬‬
‫ّللا به ‪«.‬‬‫اك فُتُونا ً »أي اختبره في مواطن كثيرة ‪ ،‬ليتحقق في نفسه صبره على ما ابتاله ه‬ ‫وفَتَنَّ َ‬
‫ّللا حق ‪.‬‬ ‫ع ْينُها َوال ت َ ْحزَ نَ »ولتعلم أن وعد ه‬ ‫ناك ِإلى أ ُ ِ هم َك َك ْي تَقَ َّر َ‬ ‫فَ َر َج ْع َ‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪]41‬‬


‫سي ) ‪( 41‬‬ ‫ص َطنَ ْعت ُكَ ِلنَ ْف ِ‬
‫َوا ْ‬
‫ليس لصنعة شرف أعلى من إضافتها إلى صانعها ‪ ،‬ولهذا لم يكن لمخلوق شرف إال بالوجه‬
‫ّللا أن يحفظ‬
‫الخاص الذي له من الحق ‪ ،‬ال من جهة سببه المخلوق مثله ‪ ،‬وأرفع المنازل عند ه‬
‫ّللا على عبده مشاهدة عبوديته دائما ‪ ،‬سواء خلع عليه من الخلع الربانية شيئا أو لم يخلع ‪ ،‬فهذه‬ ‫ه‬
‫طنَ ْعت ُ َك ِلنَ ْف ِسي »وقوله ( سبحان الذي أسرى بعبده‬
‫ص َ‬
‫أشرف منزلة تعطى لعبد ‪ ،‬وهو قوله« َوا ْ‬
‫) فقرن معه تنزيهه ‪.‬‬
‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 42‬‬
‫اذ َه ْب أ َ ْنتَ َوأ َ ُخوكَ بِآياتِي َوال تَنِيا فِي ِذ ْك ِري) ‪( 42‬‬‫ْ‬

‫ص ‪83‬‬

‫‪83‬‬
‫[سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 43‬إلى ‪] 44‬‬
‫ْ‬
‫اذ َهبا ِإلى ِف ْرع َْو َن ِإنههُ َطغى ( ‪ ) 43‬فَقُوال لَهُ قَ ْوال لَ ِيّنا لَعَلههُ يَتَذَك ُهر أ َ ْو يَ ْخشى ( ‪) 44‬‬
‫« فَقُوال لَهُ قَ ْو ًال لَ ِيهنا ً »هو عين المداراة ‪ ،‬ألنه ما يؤمر بلين المقال إال من قوته أعظم من قوة‬
‫من أرسل إليه وبطشه أشد ‪ ،‬فإنه يأتي باللين ما يأتي بالقهر والفظاظة ‪ ،‬وال يأتي بالقهر ما‬
‫يأتي باللين ‪ ،‬فإن القهر ال يأتي بالرحمة والمودة في قلب المقهور ‪ ،‬وباللين ينقضي المطلوب ‪،‬‬
‫وتأتي المودة فتلقيها في قلب من استملته باللين ‪ ،‬وصاحب اللين ال يقاوم ‪ ،‬فإنه ال يقاوم لما‬
‫يعطيه اللين من الحكم ‪ ،‬ولما علم الحق أنه قد طبع على كل قلب مظهر للجبروت والكبرياء ‪،‬‬
‫وأنه في نفسه أذل األذالء ‪ ،‬أمر موسى وهارون عليهما السالم أن يعامال فرعون بالرحمة‬
‫واللين ‪ ،‬لمناسبة باطنه واستنزال ظاهره من جبروته وكبريائه ‪،‬‬
‫[ ايمان فرعون ]‬
‫« لَعَلَّهُ يَتَذَ َّك ُر »ما نسي مما كان قد علم من امتناننا عليه ‪ ،‬ويتذكر بما يقابله من اللين والمسكنة‬
‫ما هو عليه في باطنه ‪ ،‬ليكون الظاهر والباطن على السواء« أ َ ْو يَ ْخشى »‬
‫أو يخاف مما يعرفه من أخذنا وبطشنا الشديد بمن قال مثل مقالته ممن تقدمه وحصل عنده‬
‫ّللا إذا‬
‫ّللا ليهن مأمور به وتعطف ‪ ،‬ولعل كلمة ترجي ‪ ،‬والترجي من ه‬ ‫العلم به ‪ ،‬فهذا جدل في ه‬
‫ورد واقع بال شك ‪،‬‬
‫ولهذا قال العلماء ‪:‬‬
‫ّللا أنه يتذكر ‪ ،‬والتذكر ال يكون إال عن علم سابق منسي ‪،‬‬ ‫ّللا واجبة ؛ فعلم ه‬
‫إن كلمة عسى من ه‬
‫ّللا واقع كما قالوا في عسى ‪ ،‬فإن لعل وعسى كلمتا ترج ‪،‬‬ ‫فالترجي من ه‬
‫ولم يقل تعالى لموسى وهارون ‪ :‬لعله يتذكر أو يخشى في ذلك المجلس وال بد ؛ وال خلهصه‬
‫لالستقبال األخراوي ‪ ،‬فإن الكل يخشونه في ذلك الموطن ‪ ،‬فجاء بفعل الحال الذي يدخله‬
‫االحتمال بين حال الدنيا وبين استقبال التأخير للدار اآلخرة ‪ ،‬وذلك ال يكون مخلصا للمستقبل‬
‫ّللا واجبتين ‪،‬‬ ‫إال بالسين أو سوف ‪ ،‬ولما كان لعل وعسى من ه‬
‫وقد ترجى من فرعون التذ هكر والخشية ‪ ،‬فال بد أن يتذكر فرعون ذلك في نفسه وأن يخشى ‪،‬‬
‫والذي ترجي من فرعون وقع ‪ ،‬ألن ترجيه تعالى واقع ‪ ،‬فإن تلك الخميرة ما زالت معه تعمل‬
‫في باطنه ‪ -‬مع الترجي اإللهي الواجب وقوع المترجى ‪ -‬ويتقوى حكمها ‪ ،‬إلى حين انقطاع‬
‫يأسه من أتباعه ‪ ،‬وحال الغرق بينه وبين أطماعه ‪ ،‬فلجأ إلى ما كان مستسرا في باطنه من‬
‫الذلة واالفتقار ‪ ،‬ليتحقق عند المؤمنين وقوع الرجاء اإللهي ‪،‬‬
‫ّللا فقال ( آمنت بالذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين ) فأظهر حالة باطنه‬ ‫كما أخبر ه‬
‫باّلل ‪ ،‬فهذا يدلك‬ ‫وما كان في قلبه من العلم الصحيح ه‬

‫ص ‪84‬‬

‫‪84‬‬
‫على قبول إيمانه ‪ ،‬ألنه لم ينص إال على ترجي التذكر والخشية ‪ ،‬ال على الزمان ‪ ،‬إال أنه في‬
‫زمان الدعوة ‪ ،‬ووقع ذلك في زمان الدعوة في الحياة الدنيا ‪،‬‬
‫ولكن لم يظهر من ذلك شيئا على ظاهره في المجلس ‪ ،‬وإن كان قد حكم التذ هكر والخشية على‬
‫باطنه ‪،‬‬
‫فلم يبطش بموسى وال بأخيه في المجلس ‪ ،‬فإنه صاحب السلطان والقهر في ذلك الوقت ‪،‬‬
‫فما منعه إال ما قام به من التذ هكر والخشية من الحق ‪ ،‬وكان القول باللين من جنود ه‬
‫ّللا ‪ ،‬قابل‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫بها جنود باطن فرعون ‪ ،‬فهزمهم بإذن ه‬
‫فتذكر وخشي لما انهزم جيشه الذي كان يتقوى به ‪ ،‬فذل في نفسه ‪ ،‬فشغلته تلك الذلة والمعرفة‬
‫عن أن يحكم بقوة ظاهره فلم يبطش بهما في المجلس ‪،‬‬
‫فإن موسى عليه السالم ما قال ( إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ) إال لعدم التكافؤ في‬
‫ّللا تعالى أن يقوال له قوال لينا ‪ -‬والقول يقبل اللين والخشونة ‪ -‬ليقابل‬
‫القوة الظاهرة ‪ ،‬فأمرهما ه‬
‫به غلظة فرعون ‪ ،‬فينكسر لعدم المقاوم ‪ ،‬إذ لم يجد قوة تصادم غلظته ‪ ،‬فعاد أثرها عليه‬
‫فأهلكته بالغرق ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 45‬‬


‫علَ ْينا أ َ ْو أ َ ْن يَ ْطغى ) ‪( 45‬‬
‫خاف أ َ ْن يَ ْف ُر َط َ‬
‫قاال َربهنا ِإنهنا نَ ُ‬
‫ّللا تعالى موسى عليه السالم وأخاه هارون إلى فرعون وهو الذي فر منه موسى خوفا ‪،‬‬ ‫أرسل ه‬
‫فكان خوفه عليه السالم من السبب الموضوع ‪ ،‬فأرسله الحق إليه تنبيها أن الخوف يكون من‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ ال قدرة مؤثرة للممكن في إيصال خير أو شر إلى ممكن آخر ‪ ،‬وأن ذلك كله بيد ه‬ ‫ه‬
‫طغى "‬‫علَيْنا أ َ ْو أ َ ْن يَ ْ‬
‫ط َ‬‫َخاف أ َ ْن يَ ْف ُر َ‬
‫فلما أمرهما بالذهاب إلى فرعون" قاال َربَّنا إِنَّنا ن ُ‬
‫علَيْنا " أي يتقدم علينا بالحجة‬ ‫ط َ‬‫فأظهرا أن الخوف من فرعون باق معهما ‪ ،‬وقولهما " أ َ ْن يَ ْف ُر َ‬
‫طغى »‬ ‫بما يرجع إليه من التوحيد« أ َ ْو أ َ ْن يَ ْ‬
‫أي يرتفع كالمه لكونه يقصد عين الحقيقة فنتعب معه ‪ ،‬أو يرتفع بالحجة إذ له الملك والسلطان‬
‫ّللا لهما ‪:‬‬
‫‪ ،‬فقال ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 46‬‬


‫س َم ُع َوأَرى ( ‪) 46‬‬
‫قا َل ال تَخافا إِنهنِي َمعَكُما أ َ ْ‬
‫[ « قا َل ال تَخافا ِإنَّنِي َمعَ ُكما » ]« قا َل ال تَخافا ِإنَّنِي َمعَ ُكما »وهذه معية اختصاص لموسى‬
‫ّللا مما خافا منه« أ َ ْس َم ُع‬
‫وهارون عليهما السالم ‪ ،‬فهذه بشرى لهما حتى ال يخافا ‪ ،‬فآمنهما ه‬
‫َوأَرى »من وجوه‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬أسمع دعاء كما فأجيبكما ‪ ،‬وأرى من كونه تعالى بصيرا بأمور عباده ‪ ،‬وهو‬
‫البصر‬
‫ص ‪85‬‬

‫‪85‬‬
‫الذي يعطي األمان ‪ ،‬ال أنه يشهده ويراه فقط ‪ ،‬فإنه يراه حقيقة سواء نصره أو خذله أو اعتنى‬
‫به أو أهمله‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬أسمع من فرعون إذا بلغتما إليه رسالة ربكما ‪ ،‬وأرى ما يكون منكما في حقه‬
‫مما أوصيتكما به من اللين والتنزل في الخطاب‬
‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬نبههما على أنه سمعهما وبصرهما ‪ ،‬تذكرة لهما أو إعالما ‪ ،‬لم يتقدمه علم به‬
‫عندهما ‪ ،‬فإنه قد صح عندنا في الخبر أن العبد إذا أحبه ربه كان سمعه وبصره الذي يسمع به‬
‫ويبصر به ‪ ،‬والنبي أولى بهذا ممن ليس بنبي ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 47‬إلى ‪] 48‬‬


‫سرائِي َل َوال تُعَ ِذّ ْب ُه ْم قَ ْد ِجئْناكَ ِبآيَ ٍة ِم ْن َر ِبّكَ‬‫س ْل َمعَنا بَنِي إِ ْ‬ ‫فَأْتِياهُ فَقُوال إِنها َر ُ‬
‫سوال َر ِبّكَ فَأ َ ْر ِ‬
‫ب َوت َ َولهى (‬ ‫ذاب عَلى َم ْن َكذه َ‬ ‫ي ِإلَ ْينا أ َ هن ا ْلعَ َ‬ ‫سال ُم عَلى َم ِن اتهبَ َع ا ْل ُهدى ( ‪ِ ) 47‬إنها قَ ْد أ ُ ِ‬
‫وح َ‬ ‫َوال ه‬
‫‪)48‬‬
‫فلم يجد فرعون على من يتكبر ‪ ،‬ألن التكبر من المتكبر إنما يقع لمن يظهر له بصفة الكبرياء ‪،‬‬
‫فلما رأى ما عندهما من اللين في الخطاب رق لهما وسرت الرحمة اإللهية بالعناية الربانية في‬
‫ّللا عليهما ما قااله على‬ ‫باطنه ‪ ،‬فعلم أن الذي أرسال به هو الحق ‪ ،‬لذلك لما قاال له صلى ه‬
‫ّللا أن يقواله ‪.‬‬ ‫الوجه الذي عهد إليهما ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 49‬‬


‫قا َل فَ َم ْن َربُّكُما يا ُموسى ) ‪( 49‬‬
‫لما سأل فرعون موسى وهارون عليهما السالم هذا السؤال ‪ ،‬د هل سؤاله أنه يريد أن يتنبه‬
‫ّللا ‪ ،‬ليعلموا صدقهما ‪ ،‬ألن العاقل إذا علم‬
‫الحاضرون لما يقوالنه مما يكون دليال على وجود ه‬
‫أنهما إذا قاال مثل قولهما ربما أن الخواطر تتنبه ويدعوهم قولهما إلى النظر فيه ‪ ،‬لنصبهما في‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه ال يسأل خصمه ‪ ،‬فدل سؤاله أنه يريد هداية من يفهم من‬ ‫قولهما مواضع الداللة على ه‬
‫قومه ما جاءا به ‪ ،‬فأجابا عليه بما يستحقه الرب وهي هذه الصفة ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ ) : 20‬آية ‪] 50‬‬


‫قا َل َربُّنَا الهذِي أَعْطى ُك هل َ‬
‫ش ْي ٍء َخ ْلقَهُ ث ُ هم َهدى) ‪( 50‬‬

‫ص ‪86‬‬

‫‪86‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ولم يكن ذلك‬ ‫قال موسى عليه السالم ذلك مجيبا فرعون على سؤاله ‪ ،‬فأخبر بإحاطة علم ه‬
‫لفرعون مع دعواه الربوبية ‪ ،‬فعلم فرعون ما قااله وسكت ‪ ،‬وتبين له أنه الحق ‪ ،‬لكن حب‬
‫ش ْيءٍ خ َْلقَهُ »‪ .‬اعلم أن العطاء منه واجب ومنه‬ ‫الرئاسة منعه من االعتراف« الَّذِي أَعْطى ُك َّل َ‬
‫امتنان ‪ ،‬فإعطاء الحق العالم الوجود امتنان ‪ ،‬وإعطاء كل موجود من العالم خلقه واجب ‪ ،‬فإن‬
‫أداء الحقوق نعت إلهي طولب به الكون ‪،‬‬
‫ّللا من حيث ذاته‬ ‫ش ْيءٍ خ َْلقَهُ »فذلك حق ذلك الشيء الذي له عند ه‬ ‫قال تعالى« الَّذِي أَعْطى ُك َّل َ‬
‫‪ ،‬فهو حق ذاتي ‪ ،‬وأعطى كل شيء خلقه يعني في نفس األمر ‪ ،‬فخلق كل شيء حقه أي كماله‬
‫‪ ،‬وهو عين كمال ذلك الشيء فما نقصه شيء ألنه ال يصدر عن الكامل شيء إال على كماله‬
‫الالئق به ‪ ،‬فما في العالم نقص أصال ‪ ،‬فالكمال لألشياء وصف ذاتي وهو جماله ‪،‬‬
‫إذ لو نقص منه شيء لنزل عن درجة كمال خلقه فكان قبيحا ‪ ،‬فليس في اإلمكان أجمل وال‬
‫أبدع وال أحسن من العالم ‪ ،‬ولو أوجد ما أوجد إلى ما ال يتناهى ‪ ،‬ألن الحسن اإللهي والجمال‬
‫قد حازه وظهر به ‪ ،‬والنقص أمر عرضي ‪ ،‬كالمرض له كمال في ذاته ‪ ،‬والكمال هنا بمعنى‬
‫التمام ‪ ،‬ألن الكمال هو المطلوب ال التمام ‪،‬‬
‫فإن التمام في الخلق ‪ ،‬والكمال فيما يستفيده التام ويفيده ‪ ،‬قال تعالى« الَّذِي أَعْطى ُك َّل َ‬
‫ش ْيءٍ‬
‫خ َْلقَهُ »فقد تم ‪ ،‬ومن ذلك النقص ‪ ،‬فقد أعطى النقص خلقه أن يكون ناقصا ‪ ،‬فالزيادة على‬
‫النقص الذي هو عينه ‪ ،‬لو كانت لكانت نقصا فيه ولم يعط النقص خلقه ‪ ،‬فتمام النقص أن يكون‬
‫نقصا ‪ ،‬فالوجود كله عطاء ‪.‬‬
‫ّللا منع * كل ما منه عطاء‬ ‫ليس عند ه‬
‫فإذا ما قيل منع * لم يكن إال عطاء‬
‫فأنا ما بين شيئين* غطاء ووطاء‬
‫وأنا لكل ما في *الكون من خير وعاء‬
‫ّللا كل شيء في العالم بأمر ‪ ،‬ذلك األمر هو الذي ميزه عن غيره ‪ ،‬وهو أحدية كل شيء‬ ‫وميهز ه‬
‫‪ ،‬فما اجتمع اثنان في مزاج واحد ‪،‬‬
‫قال أبو العتاهية ‪:‬‬
‫وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد‬
‫وليست سوى أحدية كل شيء ‪ ،‬فما اجتمع اثنان قط فيما يقع به االمتياز ‪ ،‬ولو وقع‬

‫ص ‪87‬‬

‫‪87‬‬
‫االشتراك فيه ما امتازت ‪ ،‬وقد امتازت ‪ ،‬فأعطى كل شيء خلقه مما تقتضيه الحكمة اإللهية ما‬
‫يقوم ذات ذلك الشيء من الفصول المقومة لذاته ‪،‬‬ ‫يستحقه ‪ ،‬وهو ما ه‬
‫وأما ما تطلبه تلك الفصول من اللوازم واألعراض فما أعطاه ذلك ‪ ،‬ألن أعراض كل ذات ال‬
‫تتناهى ما دام موصوفا بالبقاء في الوجود ‪،‬‬
‫وما ال يمكن فيه التناهي ال يصح أن يدخل في الوجود ‪،‬‬
‫بل على التتالي والتتابع والطالب بالسؤال المحق ‪ ،‬هو الذي ال يطلب ما ال تستحقه ذاته من‬
‫لوازمها وأعراضها ‪ ،‬كمن ليس حقيقته أن يقبل التفكر فيطلب أن يتصف بالفكر ‪،‬‬
‫فما هو محق في طلبه ‪ ،‬فإذا طلبه اإلنسان إذا كان الغالب عليه الوقوف مع المحسوسات ‪،‬‬
‫فطلب االشتغال بالتف هكر في خلق السماوات واألرض وجميع اآليات فهو محق في طلبه ‪،‬‬
‫صادق الدعوى في نفي التف هكر عنه ‪ ،‬الستيالء الغفلة عليه ‪،‬‬
‫ش ْيءٍ َخ ْلقَهُ »فله أن يطلب ما تستحقه ذاته من لوازمها‬ ‫فطلبه هذا ال يعارض« أَعْطى ُك َّل َ‬
‫وأعراضها ‪ ،‬فهذا هو المحق الذي ال يعارض طلبه حقه الذي يستحقه بذاته ‪،‬‬
‫فينبغي لك أن تعلم كيف تسأل ؟ وما ذا تسأل فيه ؟‬
‫ومن أوصاف المحق أن ال يسأل إال من بيده قضاء ذلك الحق المسؤول ‪ ،‬فال تعارض في هذه‬
‫اآلية بين الطلب بالسؤال ما يستحقه من اللوازم واألعراض‬
‫ش ْيءٍ خ َْلقَهُ »من الفصول المقومة لذاته ‪ ،‬وتدل هذه اآلية على أن‬ ‫وبين قوله تعالى« أَعْطى ُك َّل َ‬
‫ّللا السارية في كل كون ‪،‬‬ ‫كل شيء في استقامة حاصلة تطلبها حكمة ه‬
‫فاستقامة النبات أن تكون حركته منكوسة ‪ ،‬واستقامة الحيوان أن تكون حركته أفقية ‪ ،‬وإن لم‬
‫يكن كذلك لم ينتفع بواحد منهما ‪ ،‬ألن حركة النبات إن لم تكن منكوسة حتى يشرب الماء‬
‫بأصولها لم تعط منفعة ‪ ،‬إذ ال قوة له إال كذلك ‪،‬‬
‫وكذلك الحيوان لو كانت حركته إلى العلو وقام على رجلين مثلنا ‪ ،‬لم يعط فائدة الركوب وحمل‬
‫األثقال على ظهره ‪ ،‬وال حصلت به المنفعة التي تقع بالحركة األفقية ‪،‬‬
‫فاستقامته ما خلق له ‪ ،‬فهي الحركة المعتبرة التي تقع بها المنفعة المطلوبة ‪ ،‬وإال فالنبات‬
‫ت)‬ ‫والحيوان لهما حركة إلى العلو ‪ ،‬وهو قوله تعالى( َوالنَّ ْخ َل با ِسقا ٍ‬
‫فلو ال الحركة ما نما علوا ‪ ،‬وإنما غلبنا عليه الحركة المنكوسة للمنفعة المطلوبة ‪ ،‬فإن‬
‫المتكلمين في هذا الفن ما حرروا الكالم في حقيقته ‪ ،‬واعوجاج القوس استقامته لما أريد له ‪،‬‬
‫فما في الكون إال االستقامة ‪،‬‬
‫وهي ما أعطي كل شيء من خلقه« ث ُ َّم هَدى »أي بيهن لنا بالتعريف أنه أعطى كل شيء خلقه ‪،‬‬
‫وأعطى الهدى أيضا الذي هو البيان خلقه ‪ ،‬فأبان األمر لعبيده على أكمل الوجوه عقال وشرعا‬
‫‪ ،‬بأن بيهن‬
‫ص ‪88‬‬

‫‪88‬‬
‫األمور على ما هي عليه بإعطاء كل شيء خلقه ‪ ،‬أي ما خلقه إال بالحق ‪ ،‬وهو ما يجب له ‪،‬‬
‫حتى ال يقول شيء من األشياء ‪ :‬قد نقصني كذا ‪،‬‬
‫فإن ذلك النقص الذي يتوهمه هو عرض ‪ ،‬عرض له لجهله بنفسه وعدم إيمانه إن كان وصل‬
‫ش ْيءٍ خ َْلقَهُ »‬‫إليه قوله« أَعْطى ُك َّل َ‬
‫فإن المخلوق ما يعرف كماله وال ما ينقصه ‪ ،‬ألنه مخلوق لغيره ال لنفسه ‪ ،‬فالذي خلقه إنما‬
‫خلقه له ال لنفسه ‪ ،‬فما أعطاه إال ما يصلح أن يكون له تعالى ‪ ،‬والعبد يريد أن يكون لنفسه ال‬
‫لربه ‪ ،‬فلهذا يقول ‪:‬‬
‫ّللا خلق الخلق على أكمل صورة‬ ‫أريد كذا ‪ ،‬وينقصني كذا ؛ فلو علم أنه مخلوق لربه ‪ ،‬لعلم أن ه‬
‫ّللا‬
‫تصلح لربه ‪ ،‬وهذا أصل األدب اإللهي الذي طلبه الحق من عباده ‪ ،‬فالعالم على الحقيقة هو ه‬
‫الذي علم ما تستحقه األعيان في حال عدمها ‪ ،‬وميهز بعضها عن بعض بهذه النسبة اإلحاطية ‪،‬‬
‫ومن تمام خلق الشيء تعيين زمانه ‪ ،‬وهو القدر ‪ ،‬وهي األقدار ‪ ،‬أي مواقيت اإليجاد ‪،‬‬
‫فأعطى كل شيء خلقه من زمانه ‪ ،‬فيمن يتقيد وجوده بالزمان ‪ ،‬ومن حاله فيمن يتقيد وجوده‬
‫بالحال ‪ ،‬ومن صفته فيمن يتقيد وجوده بالصفة« ث ُ َّم هَدى »الكتساب الكمال ‪ ،‬فمن اهتدى فقد‬
‫كمل ‪ ،‬ومن وقف مع تمامه فقد حرم ‪،‬‬
‫فما ترك الحق لمخلوق ما يحتاج إليه من حيث ما هو مخلوق تام ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬ففيم إذا السؤال‬
‫والدعاء ؟‬
‫قلنا ‪ :‬اعلم أن ث هم تماما وكماال ‪ ،‬فالتمام إعطاء كل شيء خلقه ‪ ،‬وهذا ال سؤال فيه ‪ ،‬وال يلزم‬
‫إعطاء الكمال ‪ ،‬ويتصور السؤال والطلب في حصول الكمال ‪ ،‬فإنها مرتبة ‪ ،‬والمرتبة إذا‬
‫أوجدها الحق في العبد أعطاها خلقها ‪ ،‬وما هي من تمام المعطى إياه ولكنها من كماله ‪،‬‬
‫وكل إنسان وطالب محتاج إلى كمال ‪ ،‬أي إلى المرتبة ‪ ،‬ولكن ال يتعين ‪ ،‬فإنه مؤهل بالذات‬
‫ّللا في‬
‫لمراتب مختلفة ‪ ،‬وال بد أن يكون على مرتبة ما من المراتب ‪ ،‬فيقوم في نفسه أن يسأل ه‬
‫أن يعطيه غير المرتبة لما هو عليه من األهلية لها ‪،‬‬
‫فيتصور السؤال في الكمال ‪ ،‬وهو مما يحتاج إليه السائل في نيل غرضه ‪ ،‬فإنه من تمام خلق‬
‫الغرض أن يوجد له متعلقه الذي يكون به كماله ‪ ،‬فإن تمامه تعلقه بمتعلق ما ‪،‬‬
‫ّللا ما سأله بالغرض فقد أعطاه ما يحتاج إليه الغرض ‪ ،‬وذلك هو‬ ‫وقد وجد ‪ ،‬فإن أعطاه ه‬
‫السخاء ‪ ،‬فإن السخاء عطاء على قدر الحاجة ‪،‬‬
‫ّللا ابتداء من غير سؤال نطق ‪ ،‬لكن وجود األهلية في المعطى إياه سؤال بالحال ‪،‬‬ ‫وقد يعطيه ه‬
‫كما تقول ‪ :‬إن كل إنسان مستعد لقبول استعداد ما يكون به نبيا ورسوال وخليفة ووليا ومؤمنا ‪،‬‬
‫لكنه سوقة وعدو وكافر ‪ ،‬وهذه كلها مراتب يكون فيها كمال العبد ونقصه ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬كمل من الرجال كثيرون ‪،‬‬ ‫قال صلهى ه‬

‫ص ‪89‬‬

‫‪89‬‬
‫ولم يكمل من النساء إال مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون ]‬
‫كل إنسان ما عدا هؤالء مستعد بإنسانيته لقبول ما يكون له به هذا الكمال ‪ ،‬فباألهلية هو محتاج‬
‫إليه ‪ ،‬وللحرمان وجد السؤال ‪ ،‬فالكامل من علم ما يستحقه العالم منه ‪ ،‬فوفاه حقه ‪،‬‬
‫ّللا أعطى كل شيء خلقه ‪ ،‬من اسمه الحكيم ‪ ،‬فإن الذي‬ ‫فأعطى كل ذي حق حقه ‪ ،‬كما أن ه‬
‫انفرد به الحق إنما هو الخلق ‪ ،‬والذي انفرد به العالم الكامل إنما هو الحق ‪،‬‬
‫فيعلم ما يستحقه كل موجود فيعطيه حقه ‪ ،‬وهو المسمى باإلنصاف ‪ ،‬فمن أعطيته حقه فقد‬
‫أنصفته ‪ ،‬فإن تغاليت فما كملت وأنت ناقص ‪،‬‬
‫ّللا لما أعطى‬
‫فإن الزيادة في الحد نقص في المحدود ‪ ،‬فال يتعدى الكامل بالشيء رتبته ‪ ،‬فإن ه‬
‫كل شيء خلقه أمر عبده أن يعطي كل شيء حقه ‪،‬‬
‫وهو قولنا فيما تقدم ‪:‬‬
‫إن أداء الحقوق نعت إلهي طولب به الكون ‪ ،‬فإذا أقامه الحق تعالى في فعل من أفعاله المأمور‬
‫بها أو المحجور عليه فيها ‪ ،‬نظر ما لها من الحق قبله ‪،‬‬
‫فوفهى ذلك الفعل حقه ‪ ،‬فإذا كان من األمور المأمور بفعلها أعطاها حقها في نشأتها حتى تقوم‬
‫سوية الخلق معدلة النشء ‪ ،‬فلم يتوجه لذلك الفعل حق على فاعله ‪ ،‬هللف الخلق وللعبد الحق‬
‫فالحق أعطى كل شيء خلقه ‪ ،‬والخلق أعطى كل شيء حقه ‪،‬‬
‫وإن كان من األمور المنهي عنها فحقها على هذا العبد أنه ال يوجدها وال يظهر لها عينا أصال‬
‫‪ ،‬فإن لم يفعل فما وفهاها حقها ‪ ،‬وتوجهت عليه المطالبة لها ‪،‬‬
‫فلم يعط كل شيء حقه فكان محجوجا ‪ -‬مسئلة ‪ -‬من هذه اآلية ‪ ،‬يعرف ما تخبط فيه الناس من‬
‫تفضيل الفقر على الغنى والغنى على الفقر ‪ ،‬والخوض في هذه المسألة من الفضول الذي في‬
‫العالم والجهل القائم به ‪،‬‬
‫ّللا يقول«‬
‫فإن الحاالت تختلف والمنازل تختلف ‪ ،‬وكل حالة كمالها في وجود عينها ‪ ،‬فإن ه‬
‫ش ْيءٍ خ َْلقَهُ »فما تركت هذه اآلية ألحد طريقا إلى الخوض في الفضول لمن فهمها‬ ‫أَعْطى ُك َّل َ‬
‫ّللا الفضول خلقه ‪ ،‬ثم هدى أي‬ ‫ّللا ‪ ،‬فقد أعطى ه‬
‫وتحقق بها ‪ ،‬غير أن الفضول أيضا من خلق ه‬
‫بين أن من قام به الفضول فهو المعبر عنه بالمشتغل بما ال يعنيه وجهله باألمر الذي يعنيه ‪،‬‬
‫والفقر في عينه كامل الخلق ال قدم له في الغنى ‪ ،‬والغنى في حاله كامل الخلق ال قدم له في‬
‫الفقر ‪ ،‬ولو تداخلت األمور لكان الفقر عين الغنى والغنى عين الفقر ‪ ،‬إذ كان كل واحد منهما‬
‫من مقومات صاحبه ‪ ،‬والضد ال يكون عين الضد ‪ ،‬وإن اجتمعا في أمر ما ‪ ،‬فال يجتمع الغنى‬
‫ّللا في وجوده ‪ ،‬وليس للغنى منزلة عند العبد في وجوده ‪،‬‬ ‫والفقر أبدا ‪ ،‬فليس للفقر منزلة عند ه‬
‫ّللا أفضل من الخلق أو الخلق‬
‫فكما ال يقال ‪ :‬ه‬

‫ص ‪90‬‬

‫‪90‬‬
‫[مسئلة تفضيل الفقر على الغنى وبالعكس ]‬
‫كذلك ‪ ،‬ال يقال ‪ :‬الغنى أفضل من الفقر أو الفقر أفضل من الغنى ‪ ،‬فالفقر صفة الخلق ‪ ،‬والغنى‬
‫صفة الحق ‪ ،‬والمفاضلة ال تصح إال فيمن يجمعهما جنس واحد ‪ ،‬وال جامع بين الحق والخلق ‪،‬‬
‫فال مفاضلة بين الغنى والفقر ‪،‬‬
‫ع ِن ْالعالَ ِمينَ )‬‫ي َ‬‫غنِ ٌّ‬ ‫ّللا تعالى في الغنى( فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫قال ه‬
‫ي ْال َح ِمي ُد )‬‫ّللاُ ُه َو ْالغَنِ ُّ‬ ‫اس أ َ ْنت ُ ُم ْالفُقَرا ُء ِإلَى َّ ِ‬
‫ّللا َو َّ‬ ‫وقال في الفقر( يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫فمن قال بعد علمه بهذا الغنى أفضل من الفقر ‪ ،‬أم الفقر أفضل ‪،‬‬
‫ّللا أم الخلق ؟‬ ‫كان كمن قال ‪ :‬من أفضل ه‬
‫وكفى بهذا جهال من قائله ‪ ،‬وأما الذي بأيدي الناس الذي يسمونه غنى ‪ ،‬فكيف يكون غنى‬
‫وأنت فقير إليه غير مستغن في غناك عن غناك ؟‬
‫فغناك عين فقرك ‪ ،‬وهذا على الحقيقة ال يسمى غنى ‪ ،‬فكيف تقع المفاضلة ما بين ما له وجود‬
‫حقيقي وهو الفقر ‪ ،‬وبين ما ليس له وجود حقيقي وهو غناك ؟‬
‫وإذا سمي اإلنسان غنيا فهو وصف عرضي ‪ ،‬والفقر له ذاتي ‪ ،‬فطلب المفاضلة جهل بين‬
‫الوصف الحقيقي واإلضافي العرضي ‪ -‬رقيقة ‪ -‬اعلم أن العقل من جملة األشياء ‪ ،‬وقد أعطاه‬
‫ّللا خلقه ‪ ،‬ولهذا ينزهه العقل ويرفع المناسبة من جميع الوجوه ‪ ،‬ويجيء الحق فيصدقه في ذلك‬ ‫ه‬
‫ش ْي ٌء )‬ ‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫ب( لَي َ‬
‫قوته ‪ ،‬ال يعلم غير ذلك فإني أعطيت كل شيء خلقه‬ ‫يقول لنا ‪ :‬صدق العقل فإنه أعطى ما في ه‬
‫‪ ،‬وتمم الحق اآلية بقوله« ث ُ َّم هَدى »أي بيهن ‪ ،‬فبين سبحانه أمرا لم يعطه العقل وال قوة من‬
‫القوى ‪ ،‬فذكر لنفسه أحكاما هو عليها ‪ ،‬ال يقبلها العقل إال إيمانا أو بتأويل يردها تحت إحاطته ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬أن ال يتأول ‪ ،‬ويسلهم ذلك‬ ‫ال بد من ذلك ‪ ،‬وطريقة السالمة لمن لم يكن على بصيرة من ه‬
‫ّللا على علمه فيه ‪ ،‬هذه طريقة النجاة ‪.‬‬ ‫إلى ه‬
‫ش ْيءٍ خ َْلقَهُ ث ُ َّم هَدى »‬ ‫ثم نعود إلى قول موسى عليه السالم« َربُّنَا الَّذِي أَعْطى ُك َّل َ‬
‫ّللا خلقه ‪ ،‬فكأن في‬‫هذا من القول اللين ‪ ،‬فإنه دخل تحته كل شيء ادعاه فرعون ‪ ،‬فأعطاه ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم زادهما في السؤال ليزيد‬ ‫كالمهما جواب فرعون لهما ‪ ،‬إذ كان ما جاء به فرعون خلق ه‬
‫في الداللة ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 51‬إلى ‪] 52‬‬


‫قا َل فَما با ُل ا ْلقُ ُر ِ‬
‫ون ْاألُولى ( ‪ ) 51‬قا َل ِع ْل ُمها ِع ْن َد َر ِبّي فِي ِكتا ٍ‬
‫ب ال يَ ِض ُّل َر ِبّي َوال يَ ْنسى (‬
‫‪) 52‬‬
‫« َوال يَ ْنسى »مثل ما نسيت أنت حتى ذكرناك فتذكرت ‪ ،‬فلو كنت إلها ما نسيت ‪،‬‬

‫ص ‪91‬‬

‫‪91‬‬
‫ّللا تعالى قال« لَعَلَّهُ يَتَذَ َّك ُر »ثم زادا في الداللة بما قاال بعد ذلك إلى تمام اآلية ‪ ،‬فما زال‬ ‫ألن ه‬
‫ذلك العلم مضمرا في نفس فرعون ‪ ،‬لم يعطه حب الرئاسة أن يكذهب نفسه عند قومه فيما‬
‫ّللا معهم في ضمير ( إنهم ) فلما‬ ‫استخفهم به حتى أطاعوه ‪ ،‬فكانوا قوما فاسقين ‪ ،‬فما شركه ه‬
‫رأى البأس قال ‪ :‬آمنت ‪ ،‬فتلفظ باعتقاده الذي ما زال معه ‪،‬‬
‫وّللا‬
‫ّللا بقوله ( آآلن ) أنه آمن عن علم محقق ه‬ ‫ّللا تعالى (آآلن ) قلت ذلك ‪ ،‬فأثبت ه‬ ‫فقال له ه‬
‫ّللا وجرت سنته في عباده ‪ ،‬أن اإليمان‬ ‫أعلم ‪ ،‬وإن كان األمر فيه احتمال ‪ ،‬وحقت الكلمة من ه‬
‫في ذلك الوقت ال يدفع عن المؤمن العذاب الذي أنزله بهم في ذلك الوقت ‪ ،‬إال قوم يونس ‪ ،‬كما‬
‫ال ينفع السارق توبته عند الحاكم فيرفع عنه حد القطع ‪ ،‬وال الزاني مع توبته عند الحاكم ‪ ،‬مع‬
‫ّللا ‪ ،‬وحديث ماعز في ذلك صحيح أنه تاب توبة لو قسمت‬ ‫علمنا بأنه تاب بقبول التوبة عند ه‬
‫على أهل المدينة لوسعتهم ‪ ،‬ومع هذا لم تدفع عنه الح هد ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم برجمه ‪ ،‬وكذلك كل من آمن عند رؤية البأس من الكفار أن‬ ‫بل أمر صلهى ه‬
‫ّللا إيمانهم في الدار اآلخرة ‪ ،‬فيلقونه وال ذنب لهم‬ ‫اإليمان ال يرفع نزول البأس بهم ‪ ،‬مع قبول ه‬
‫‪ ،‬فربما لو عاشوا بعد ذلك اكتسبوا أوزارا ‪،‬‬
‫ب »فما كتبها في اللوح المحفوظ إال ليعلم‬ ‫أما قول موسى عليه السالم« ِع ْل ُمها ِع ْن َد َر ِبهي فِي ِكتا ٍ‬
‫من ليس من شأنه أن ال يعلم إال بإعالم ‪،‬‬
‫ض ُّل َر ِبهي‬ ‫ال ليتذكر ما أوجبه على نفسه مما تستقبل أوقاته في المدد الطائلة ‪ ،‬فإنه سبحانه« ال يَ ِ‬
‫»الذي جئتك من عنده ألدعوك إلى عبادته« َوال يَ ْنسى »يعني ما أوجبه على نفسه من ذلك ‪،‬‬
‫ثم زادا في الداللة ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 53‬‬


‫ماء ماء فَأ َ ْخ َرجْ نا بِ ِه أ َ ْزواجا‬
‫س ِ‬ ‫سبُال َوأ َ ْن َز َل ِم َن ال ه‬
‫سلَكَ لَ ُك ْم فِيها ُ‬
‫ض َمهْدا َو َ‬‫الهذِي َجعَ َل لَ ُك ُم ْاأل َ ْر َ‬
‫شتهى ) ‪( 53‬‬ ‫ت َ‬ ‫ِم ْن نَبا ٍ‬
‫ّللا تعالى اإلنسان من تراب األرض وجعلها محال للخالفة ‪ ،‬فهي دار ملكه وموضع نائبه‬ ‫خلق ه‬
‫الظاهر بأحكام أسمائه ‪ ،‬فمنها خلقنا وفيها أسكننا أحياء وأمواتا ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 54‬‬


‫ارع َْوا أ َ ْنعا َم ُك ْم إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬
‫ت ِألُو ِلي النُّهى) ‪( 54‬‬ ‫ُكلُوا َو ْ‬
‫ع ْوا أ َ ْنعا َم ُك ْم »أعلم أنه ما من نبات إال وهو دواء وداء ‪ ،‬أي فيه منفعة ومضرة‬ ‫ار َ‬ ‫« ُكلُوا َو ْ‬

‫ص ‪92‬‬

‫‪92‬‬
‫بحسب قبول األمزجة البدنية وما هي عليه من االستعداد ‪ ،‬فيكون المضر لبعض األمزجة عين‬
‫ت ِألُو ِلي النُّهى »وهم أولو نهى بما‬
‫ما هو نافع لمزاج غيرها ‪ ،‬لذلك قال« ِإ َّن ِفي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫زجرهم به في خطابه ‪ ،‬وهم الذين يوافقون الحق فيما أمر به ونهى ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 55‬‬


‫تارة أ ُ ْخرى ( ‪) 55‬‬
‫ِم ْنها َخلَ ْقنا ُك ْم َوفِيها نُ ِعي ُد ُك ْم َو ِم ْنها نُ ْخ ِر ُج ُك ْم َ‬
‫[ « ِم ْنها َخلَ ْقنا ُك ْم » ]‬
‫« ِم ْنها »أي هذه األرض « َخلَ ْقنا ُك ْم »فاألرض أم لإلنسان فالغالب علينا عنصر التراب ‪ ،‬وإن‬
‫كنا على جميع الطبائع كلها« َوفِيها نُ ِعي ُد ُك ْم »فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ‪ ،‬لذلك تضغطه‬
‫عندما يدفن فيها مثل عناق األم وضمها ولدها إذا قدم عليها من سفر ‪ ،‬فهو ضم محبة« َو ِم ْنها‬
‫نُ ْخ ِر ُج ُك ْم تا َرة ً أ ُ ْخرى »يعني يوم البعث‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ِ « -‬م ْنها َخلَ ْقنا ُك ْم »أي هذه األرض« َوفِيها نُ ِعي ُد ُك ْم »يعني في النشأة األخرى‬
‫تارة ً أ ُ ْخرى »يخرجنا إخراجا لمشاهدته ‪ ،‬كما أنشأنا منها‬ ‫أيضا كما خلقنا فيها« َو ِم ْنها نُ ْخ ِر ُج ُك ْم َ‬
‫وأخرجنا لعبادته ‪ ،‬فخلق أرواحنا في أرض أبداننا في الدنيا لعبادته ‪ ،‬وأسكننا أرض أبداننا في‬
‫ّللا بنا ‪ ،‬والحال مثل‬ ‫اآلخرة لمشاهدته إن كنا سعداء ‪ ،‬كما آمنا به في النشأة األولى لما اعتنى ه‬
‫الحال سواء في تقسيم الخلق في ذلك ‪،‬‬
‫وكذلك يكونون غدا ‪ ،‬والموت بين النشأتين حالة برزخية تعمر األرواح فيها أجسادا برزخية‬
‫خيالية ‪ ،‬مثل ما أعمرتها في النوم ‪ ،‬وهي أجساد متولدة عن هذه األجسام الترابية ‪ ،‬فإن الخيال‬
‫قوة من قواها ‪ ،‬فما برحت أرواحنا منها أو مما كان منها ‪ ،‬ومن مات فقد قامت قيامته ‪ ،‬وهي‬
‫القيامة الجزئية وهو قوله« َوفِيها نُ ِعي ُد ُك ْم »فإن مدة البرزخ هي للنشأة اآلخرة بمنزلة حمل‬
‫ّللا نشأ بعد نشء ‪ ،‬فتختلف عليه أطوار النشء إلى أن يولد‬ ‫المرأة للجنين في بطنها ‪ ،‬ينشئه ه‬
‫يوم القيامة ‪ ،‬فلهذا قيل في الميت إنه إذا مات قامت قيامته ‪ ،‬أي ابتدأ فيه ظهور نشأة األخرى‬
‫في البرزخ إلى يوم البعث من البرزخ ‪ ،‬كما يبعث من البطن إلى األرض بالوالدة ‪ ،‬فتدبير‬
‫نشأة بدنه في األرض زمان كونه في البرزخ ليسويه ويعدله على غير مثال سبق مما ينبغي‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬أعني في أرض نشأته األخراوية عبادة ذاتية ال عبادة تكليف ‪،‬‬ ‫للدار اآلخرة ‪ ،‬فيعبد ه‬
‫فالعاقل إذا شاهد التراب تذكر ما خلق منه ‪ ،‬وذكرته األرض بنشأته وبإهانته وذلته ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا ذلوال مبالغة في الذلة ‪ ،‬وال أذل مما يطأه األذالء ‪ ،‬ونحن نطأها وجميع‬ ‫األرض جعلها ه‬
‫الخالئق ونحن عبيد أذالء‪.‬‬

‫ص ‪93‬‬

‫‪93‬‬
‫[سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 56‬إلى ‪] 66‬‬
‫ب َوأَبى ( ‪ ) 56‬قا َل أ َ ِجئْتَنا ِلت ُ ْخ ِر َجنا ِم ْن أ َ ْر ِضنا ِبسِحْ ِركَ يا ُموسى‬ ‫َولَقَ ْد أ َ َر ْينا ُه آيا ِتنا ُكلهها فَ َكذه َ‬
‫سوى (‬ ‫) ‪( 57‬فَلَنَأْتِيَنهكَ بِسِحْ ٍر ِمثْ ِل ِه فَاجْ عَ ْل بَ ْينَنا َوبَ ْينَكَ َم ْو ِعدا ال نُ ْخ ِلفُهُ نَحْ ُن َوال أ َ ْنتَ َمكانا ُ‬
‫ضحى ) ‪ ( 59‬فَت َ َولهى فِ ْرع َْو ُن فَ َج َم َع َك ْي َدهُ ث ُ هم‬ ‫الزينَ ِة َوأ َ ْن يُحْ ش ََر النه ُ‬
‫اس ُ‬ ‫‪ ) 58‬قا َل َم ْو ِع ُد ُك ْم يَ ْو ُم ِ ّ‬
‫خاب َم ِن‬‫َ‬ ‫ب َوقَ ْد‬
‫س ِحت َ ُك ْم ِبعَذا ٍ‬ ‫ّللا َكذِبا فَيُ ْ‬ ‫أَتى ( ‪ ) 60‬قا َل لَ ُه ْم ُموسى َو ْيلَ ُك ْم ال ت َ ْفت َ ُروا َ‬
‫علَى ه ِ‬
‫ران‬
‫ساح ِ‬ ‫هذان لَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫س ُّروا النهجْ وى ( ‪ ) 62‬قالُوا ِإ ْن‬ ‫نازعُوا أ َ ْم َر ُه ْم بَ ْينَ ُه ْم َوأ َ َ‬‫افتَرى ( ‪ ) 61‬فَت َ َ‬ ‫ْ‬
‫يدان أ َ ْن يُ ْخ ِرجا ُك ْم ِم ْن أ َ ْر ِض ُك ْم ِبسِحْ ِر ِهما َويَ ْذ َهبا ِب َط ِريقَ ِت ُك ُم ا ْل ُمثْلى ( ‪ ) 63‬فَأَجْ ِمعُوا َك ْي َد ُك ْم ث ُ هم‬ ‫يُ ِر ِ‬
‫ُون أ َ هو َل‬
‫ي َوإِ هما أ َ ْن نَك َ‬ ‫ست َ ْعلى ) ‪ ( 64‬قالُوا يا ُموسى إِ هما أ َ ْن ت ُ ْل ِق َ‬ ‫صفًّا َوقَ ْد أ َ ْفلَ َح ا ْليَ ْو َم َم ِن ا ْ‬‫ائْتُوا َ‬
‫َم ْن أ َ ْلقى ) ‪( 65‬‬
‫سعى ( ‪) 66‬‬ ‫قا َل بَ ْل أ َ ْلقُوا فَ ِإذا ِحبالُ ُه ْم َو ِع ِصيُّ ُه ْم يُ َخيه ُل إِلَ ْي ِه ِم ْن سِحْ ِر ِه ْم أَنهها ت َ ْ‬
‫[ فعل الساحر ]‬
‫اعلم أن من خرق العوائد قسما منها يرجع إلى ما يدركه البصر أو بعض القوى ‪ ،‬على حسب‬
‫ما يظهر لتلك القوة مما ارتبطت في العادة بإدراكه ‪ ،‬وهو في نفسه على غير ما أدركته تلك‬
‫القوة ‪ ،‬وهذا القسم داخل تحت قدرة البشر ‪ ،‬ومنه ما يرجع إلى خواص أسماء ‪،‬‬
‫إذا تلفظ بتلك األسماء ظهرت تلك الصور في عين الرائي أو في سمعه خياال ‪،‬‬
‫وما ث هم في نفس األمر أعني في المحسوس شيء من صورة مرئية وال مسموعة ‪ ،‬وهو فعل‬
‫الساحر ‪،‬‬
‫وهو على علم أنه ما شيء مما وقع في األعين واألسماع ‪ ،‬ولألسماء سلطان على خيال‬
‫الحاضرين ‪ ،‬فتخطف أبصار الناظرين ‪ ،‬فيرى صورا في خياله كما يرى النائم في نومه ‪،‬‬
‫وما ثم في الخارج شيء مما يدركه ‪ ،‬لذا قال تعالى« يُ َخيَّ ُل إِلَ ْي ِه »‬
‫يعني إلى موسى ‪ ،‬فإن موطن الخيال يعطي في أعين الناظرين حياة الجمادات وحركتها ‪،‬‬
‫وهي في نفسها ليست بتلك الحياة التي تدركها‬

‫ص ‪94‬‬

‫‪94‬‬
‫األبصار ‪ ،‬كحبال سحرة موسى عليه السالم وعصيهم ‪ ،‬يخيل إلى موسى« ِم ْن ِس ْح ِر ِه ْم »الذي‬
‫سحروا به أعين الناس وعلمهم بما فعلوه ‪ ،‬والسحر مأخوذ من السحر ‪،‬‬
‫وهو اختالط الضوء والظلمة ‪ ،‬فالسحر له وجه إلى الظلمة وليس ظالما خالصا ‪ ،‬وله وجه إلى‬
‫الضوء وليس ضوءا خالصا ‪ ،‬كذلك السحر له وجه إلى الحق وهو ما ظهر إلى بصر الناظر‬
‫أنه حق ‪ ،‬وله وجه إلى الباطل ألنه ليس األمر في نفسه على ما أدركه البصر ‪،‬‬
‫فلهذا سمته العرب سحرا ‪ ،‬وسمي العامل به ساحرا ‪ ،‬ال العالم به« أَنَّها تَسْعى »وليست‬
‫بساعية في نفس األمر ‪ ،‬أقاموا ذلك في حضرة الخيال المنفصل أمام الجميع ‪ ،‬فرأوا العصي‬
‫والحبال في صورة الحيات ‪ ،‬وكذلك أدركها موسى مخيلة وال يعرف أنها مخيلة ‪،‬‬
‫بل ظن أنها مثل عصاه في الحكم ‪ ،‬فهي ساعية في نظر موسى ونظر الحاضرين ‪ ،‬إال السحرة‬
‫فإنهم يرونها حباال ‪ ،‬والغريب لو ورد لرآها كما يراها السحرة ‪ ،‬فكان فعل السحرة عن حكم‬
‫أسماء كانت عندهم ‪ ،‬لها في عيون الناظرين خاصية النظر إلى ما يريد الساحر إظهاره ‪ ،‬فله‬
‫بتلك األسماء قلب النظر ال قلب المنظور فيه ‪،‬‬
‫وهذا بخالف عصا موسى عليه السالم حين ألقاها عن األمر اإللهي ‪ ،‬فانقلب المنظور فيه‬
‫فتبعه النظر ‪ ،‬فتلك حبال نشأت بين الخيال وبين أعين الناظرين أنها تسعى ‪ ،‬وهي أجسام في‬
‫عينها ال حكم لها في السعي ‪ ،‬فظهرت في عين موسى بصورة الجسم الذي له سعي ‪ ،‬واألمر‬
‫في نفسه ليس كذلك ‪ ،‬وامتأل الوادي من حبالهم وعصيهم ‪ ،‬ورآها موسى فيما خيهل له حيات‬
‫تسعى ‪ ،‬فلهذا خاف موسى عليه السالم ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪]67‬‬


‫س ِه ِخيفَة ُموسى ( ‪) 67‬‬ ‫س فِي نَ ْف ِ‬ ‫فَأ َ ْو َج َ‬
‫س فِي نَ ْف ِس ِه ِخيفَةً ُموسى » اآلية ]‬ ‫[ « فَأ َ ْو َج َ‬
‫لم يكن نسبة الخوف إلى موسى عليه السالم في هذا الوقت نسبة الخوف األول ‪ ،‬فإن الخوف‬
‫األول لما ألقى موسى عصاه فكانت حية تسعى ‪ ،‬خاف منها على نفسه على مجرى العادة ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫فولى مدبرا ولم يعقب ‪ ،‬حتى أخبره ه‬
‫وكان خوفه الثاني الذي ظهر منه للسحرة عندما ألقت السحرة الحبال والعصي فصارت حيات‬
‫في أبصار الحاضرين ‪ ،‬كان هذا الخوف اآلخر على الحاضرين من األمة ‪ ،‬لئال تظهر عليه‬
‫السحرة بالحجة فيلتبس األمر على الناس ‪ ،‬فال يفرقون بين الخيال والحقيقة ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فاختلف تعلق الخوفين ‪ ،‬فإنه عليه‬
‫ّللا وبين ما ليس من عند ه‬‫أو ما بين ما هو من عند ه‬
‫السالم على بينة من ربه ‪ ،‬قوي الجأش بما‬

‫ص ‪95‬‬

‫‪95‬‬
‫تقدم له في اإللقاء األول ( خذها وال تخف سنعيدها سيرتها األولى )‬
‫ّللا له ‪:‬‬
‫أي ترجع عصا كما كانت في عينك ‪ ،‬فلما خاف موسى عليه السالم على األمة قال ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 68‬‬


‫ف ِإنهكَ أ َ ْنتَ ْاألَعْلى ) ‪( 68‬‬
‫قُ ْلنا ال ت َ َخ ْ‬
‫لما ادعى فرعون الفوقية الالئقة بالربوبية ‪ ،‬وهي الفوقية الحقيقية في قوله (أَنَا َربُّ ُك ُم ْاألَعْلى‬
‫ت ْاألَعْلى »لما ظهر‬ ‫َف ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬ ‫ّللا تعالى بقوله تعالى لموسى صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم« ال تَخ ْ‬ ‫)كذبه ه‬
‫للسحرة خوف موسى مما رآه ‪ ،‬وما علموا متعلق هذا الخوف أي شيء هو ؟ علموا أنه ليس‬
‫عند موسى من علم السحر شيء فإن الساحر ال يخاف مما يفعله ‪ ،‬لعلمه أنه ال حقيقة له من‬
‫ّللا موسى أن يلقي عصاه وأخبر أنها‬ ‫خارج ‪ ،‬وأنه ليس كما يظهر ألعين الناظرين ‪ ،‬فأمر ه‬
‫تلقف ما صنعوا ‪ ،‬فقال تعالى ‪:‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 69‬‬


‫ث أَتى ( ‪) 69‬‬‫اح ُر َح ْي ُ‬
‫س ِ‬‫ساح ٍر َوال يُ ْف ِل ُح ال ه‬
‫صنَعُوا َك ْي ُد ِ‬
‫صنَعُوا إِنهما َ‬ ‫ق ما فِي يَ ِمينِكَ ت َ ْلقَ ْ‬
‫ف ما َ‬ ‫َوأ َ ْل ِ‬
‫[ أ َ ْل ِ‬
‫ق ما فِي يَ ِمينِ َك ]‬
‫فلما ألقى موسى عصاه فكانت حية ‪ ،‬تلقفت تلك الحية جميع ما كان في الوادي من الحبال‬
‫والعصي ‪ ،‬أي تلقفت صور الحيات منها المتخيلة في عيون الحاضرين ‪ ،‬فأبصرت السحرة‬
‫ّللا بأبصارهم عن‬ ‫والناس حبال السحرة وعصيهم التي ألقوها حباال وعصيا كما هي ‪ ،‬وأخذ ه‬
‫ذلك ‪ ،‬فهذا كان تلقفها ‪ ،‬ال أنها انعدمت الحبال والعصي ‪ ،‬إذ لو انعدمت لدخل عليهم التلبيس‬
‫في عصا موسى ‪ ،‬وكانت الشبهة تدخل عليهم ‪،‬‬
‫صنَعُوا »وما صنعوا الحبال وال العصي ‪ ،‬وإنما صنعوا في أعين‬ ‫ف ما َ‬ ‫ّللا يقول« ت َ ْلقَ ْ‬
‫فإن ه‬
‫الناس صور الحيات ‪ ،‬وهي التي تلقفت عصا موسى ‪،‬‬
‫ساح ٍر »‬ ‫وما قال تعالى ‪ :‬تلقف حبالهم وعصيهم« ِإنَّما َ‬
‫صنَعُوا َك ْي ُد ِ‬
‫أي فعلوا ما يقارب الحق ‪ ،‬فإن الكيد من كاد ‪ ،‬وكاد من أفعال المقاربة ‪،‬‬
‫ْث أَتى »‬ ‫اح ُر َحي ُ‬ ‫أي فعلوا ما يقارب الحق في الصورة الظاهرة للبصر« َوال يُ ْف ِل ُح ال َّ‬
‫س ِ‬
‫فكانت اآلية عند السحرة خوف موسى وأخذ صور الحيات من الحبال والعصي ‪،‬‬
‫فكان ظهور حجته على حجتهم أن بقيت حبالهم وعصيهم في صور حبال وعصي ‪،‬‬
‫فلما رأى الناس الحبال حباال ‪ ،‬علموا أنها‬

‫ص ‪96‬‬

‫‪96‬‬
‫مكيدة طبيعية يعضدها قوة كيدية روحانية ‪ ،‬وأما العامة فنسبوا ما جاء به موسى إلى أنه من‬
‫قبيل ما جاءت به السحرة ‪ ،‬إال أنه أقوى منهم وأعلم بالسحر بالتلقف الذي ظهر من حية عصا‬
‫موسى ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هذا سحر عظيم ‪ ،‬ولم تكن آية موسى عند السحرة إال خوفه وأخذ صور‬
‫الحيات من الحبال والعصي خاصة ‪ ،‬فمثل هذا خارج عن قوة النفس ‪ ،‬فتخيل السحرة أن‬
‫موسى خاف من الحيات ‪ ،‬وكان موسى في نفس األمر غير خائف من الحيات لما تقدم له في‬
‫ّللا في الفعل األول حين قال له ( ُخ ْذها َوال تَخ ْ‬
‫َف ) ‪.‬‬ ‫ذلك من ه‬
‫فنهاه عن الخوف منها ‪ ،‬وأعلمه أن ذلك آية له ‪ ،‬فكان خوفه الثاني على الناس لئال يلتبس‬
‫ّللا عليهم خوفه كما لبهسوا‬
‫عليهم الدليل والشبهة ‪ ،‬والسحرة تظن أنه خاف من الحيات ‪ ،‬فلبهس ه‬
‫على الناس ‪ ،‬ألن السحرة لو علمت أن خوف موسى من الغلبة بالحجة لما سارعت إلى اإليمان‬
‫‪ ،‬ثم أنه كان لحية موسى التلقف ولم يكن لحياتهم تلقف وال أثر ‪ ،‬ألنها حبال وعصي في نفس‬
‫األمر ‪ ،‬فلما علمت السحرة قدر ما جاء به موسى من قوة الحجة ‪ ،‬وأنه خارج عما جاءوا به ‪،‬‬
‫وتحققت شفوف ما جاء به على ما جاءوا به ‪ ،‬ورأوا عصاه حية حقيقة ‪ ،‬علموا عند ذلك أنه‬
‫ّللا الذي يدعوهم إلى اإليمان به ‪ ،‬وما عنده من علم السحر خبر ‪ ،‬لما علمت من‬ ‫أمر غيب من ه‬
‫خوف موسى أنه لو كان ذلك منه وكان ساحرا ما خاف ‪ ،‬ألنه يعلم ما يجري ‪ ،‬فآية موسى عند‬
‫السحرة خوفه ‪ ،‬وآيته عند الناس تلقف عصاه ‪ ،‬وعلم السحرة أن أعظم اآليات في هذا الموطن‬
‫تلقف هذه الصور من أعين الناظرين ‪ ،‬وإبقاء صورة حية عصا موسى في أعينهم ‪ ،‬والحال‬
‫عندهم واحدة ‪ ،‬فعلموا صدق موسى فيما يدعوهم إليه ‪ ،‬وأن هذا الذي أتى به خارج عن‬
‫الصور والحيل المعلومة عند السحرة ‪ ،‬فهو أمر إلهي ليس لموسى عليه السالم فيه تعمل ‪،‬‬
‫فصدهقوا برسالته على بصيرة وآمنت السحرة‬
‫‪ -‬إشارة ال تفسير ‪َ «-‬وأ َ ْل ِ‬
‫ق ما فِي يَ ِمينِ َك »من ألقى إرادة نفسه في بحر إرادة مواله وميدانها ‪،‬‬
‫توالها بلطف حكمته ‪ ،‬وأجرى عليه سابق عنايته ‪ ،‬فأحياها حياة السعادة والتمليك ‪ ،‬فامتحق كل‬
‫زور وباطل ‪ ،‬وخنس من داله بغرور ‪ ،‬وردهت إليه بعد ما ألقاها ‪ ،‬وحصل لها الشرف الكامل‬
‫على أبناء جنسها ‪ ،‬فتلك النفس المطمئنة الراضية المرضية ‪ ،‬الداخلة في عباد االختصاص ‪،‬‬
‫وفي الفراديس العلية جوار الرحمن ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 70‬‬


‫هار َ‬
‫ون َو ُموسى) ‪( 70‬‬ ‫ب ُ‬ ‫س َح َرةُ ُ‬
‫س هجدا قالُوا آ َمنها ِب َر ّ ِ‬ ‫فَأ ُ ْل ِق َ‬
‫ي ال ه‬

‫ص ‪97‬‬

‫‪97‬‬
‫ّللا آمنوا بما جاء به موسى عن آخرهم ‪،‬‬
‫لما علمت السحرة أن الذي جاء به موسى من عند ه‬
‫وخروا سجدا عند هذه اآلية قيل ‪ :‬كانوا ثمانين ألف ساحر ‪ ،‬آمنوا واختاروا عذاب فرعون‬
‫ّللا على كل شيء‬
‫ّللا ‪ ،‬وآثروا اآلخرة على الدنيا ‪ ،‬وعلموا من علمهم بذلك أن ه‬ ‫على عذاب ه‬
‫قدير ‪ ،‬وقالت السحرة« آ َمنَّا بِ َربه ِ ُ‬
‫هارونَ َو ُموسى »قالت ذلك لرفع اللبس من أذهان السامعين‬
‫( راجع سورة الشعراء آية ‪ ) 47‬ولهذا توعدهم فرعون بقوله ‪:‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ ) : 20‬اآليات ‪ 71‬إلى ‪] 72‬‬


‫طعَ هن أ َ ْي ِديَ ُك ْم َوأ َ ْر ُجلَ ُك ْم ِم ْن‬
‫سِحْ َر فَ ََلُقَ ِ ّ‬
‫عله َم ُك ُم ال ّ‬
‫ير ُك ُم الهذِي َ‬ ‫قا َل آ َم ْنت ُ ْم لَهُ قَ ْب َل أ َ ْن آذَ َن لَ ُك ْم إِنههُ لَ َكبِ ُ‬
‫ش ُّد عَذابا َوأ َ ْبقى ( ‪ ) 71‬قالُوا لَ ْن نُ ْؤثِ َركَ‬ ‫ص ِلّبَنه ُك ْم فِي ُجذُوعِ النه ْخ ِل َولَت َ ْعلَ ُم هن أَيُّنا أ َ َ‬ ‫الف َو َأل ُ َ‬
‫ِخ ٍ‬
‫قاض إِنهما ت َ ْق ِضي ه ِذ ِه ا ْل َحياةَ ال ُّد ْنيا (‬ ‫ٍ‬ ‫ض ما أ َ ْنتَ‬ ‫اق ِ‬ ‫ت َواله ِذي فَ َط َرنا فَ ْ‬ ‫عَلى ما جا َءنا ِم َن ا ْلبَ ِيّنا ِ‬
‫‪) 72‬‬
‫قاض »فالدولة لك ‪.‬‬ ‫ت ٍ‬ ‫ض ما أ َ ْن َ‬ ‫« فَا ْق ِ‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 73‬‬


‫ّللاُ َخ ْي ٌر َوأ َ ْبقى ( ‪) 73‬‬ ‫إِنها آ َمنها بِ َر ِبّنا ِليَ ْغ ِف َر لَنا َخطايانا َوما أ َ ْك َر ْهتَنا َ‬
‫علَ ْي ِه ِم َن ال ّ‬
‫سِحْ ِر َو ه‬
‫ّللاُ َخي ٌْر َوأَبْقى » ]‬ ‫[ « َو َّ‬
‫ّللاُ َخي ٌْر َوأَبْقى »وإلى هذا مال العارف ‪ ،‬أما الزاهد في الدنيا فميله إلى ( وما عند ه‬
‫ّللا خير‬ ‫« َو َّ‬
‫فاّلل خير وأبقى ممن‬
‫وأبقى ) فالزاهد صيد الحق من الدنيا ‪ ،‬والعارف صيد الحق من اآلخرة ‪ ،‬ه‬
‫فاّلل خير وأبقى ‪ ،‬ألن بقاء العالم إذا وصف بالوجود بإبقائه‬ ‫ّللا إال العالم ‪ ،‬ه‬ ‫هو عنده ‪ ،‬وما عند ه‬
‫‪ ،‬والحق لوال بقاء عينه ما كان للممكن حكم فيما يظهر ‪ ،‬فإن بقاء الحق بنفسه وبقاء العالم‬
‫بإبقاء الحق تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ ) : 20‬آية ‪] 74‬‬


‫ِإنههُ َم ْن يَأ ْ ِ‬
‫ت َربههُ ُمجْ ِرما فَ ِإ هن لَهُ َج َهنه َم ال يَ ُموتُ ِفيها َوال يَحْ يى ) ‪( 74‬‬
‫ّللا معنى وحسا ‪ ،‬فث هم‬
‫إن الحقائق تعطي أن المآل إلى الرحمة في الدار اآلخرة ‪ ،‬فيرحم ه‬

‫ص ‪98‬‬

‫‪98‬‬
‫من تكون الرحمة به عين العافية ال غير وارتفاع اآلالم ‪ ،‬وهذا مخصوص بأهل النار الذين هم‬
‫أهلها ‪ ،‬فهم ال يموتون فيها ‪ ،‬لما حصل لهم فيها من العافية بزوال اآلالم ‪ ،‬فاستعذبوا ذلك ‪ ،‬فهم‬
‫أصحاب عذاب ال أصحاب ألم ‪ ،‬وال يحيون أي ما لهم نعيم كنعيم أهل الجنان الذي هو أمر‬
‫ّللا من دار الشقاء ‪.‬‬
‫زائد على كونهم عافاهم ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 75‬‬


‫ت فَأُول ِئكَ لَ ُه ُم الد َهرجاتُ ا ْلعُلى ( ‪) 75‬‬ ‫َو َم ْن يَأ ْ ِت ِه ُم ْؤ ِمنا قَ ْد ع َِم َل ال ه‬
‫صا ِلحا ِ‬
‫[ المحروم كل المحروم ]‬
‫ّللا عن المؤمن الحسرة التي كان يجدها في الدنيا لما يفوته هنا وفي القيامة ‪،‬‬ ‫في الجنة يذهب ه‬
‫ولكن يعلم من هو أعلى منه ‪ ،‬قدر ما فاته من العلم والعمل الصالح ‪ ،‬ويرزق القناعة بحاله وما‬
‫هو فيه والرضا ‪ ،‬فال أدنى همة ممن يعلم أن هناك مثل هذا وال يرغب في تحصيل العالي من‬
‫ّللا له في الوسيلة طلبا‬
‫ّللا عليه وسلم قد سأل أمته أن يسألوا ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الدرجات ‪ ،‬هذا رسول ه‬
‫لألعلى لعلو همته ‪ ،‬وإن علم المحروم في الجنة ما فاته فال يكترث له لعدم ذوقه ‪ ،‬وكل من‬
‫تعلقت همته في الدنيا بطلب األعلى ولم يحصل ذلك ذوقا في الدنيا وال كشف له فيه ‪ ،‬فإنه يوم‬
‫القيامة يناله وال بد ‪ ،‬ويكون فيه كالذائق له هنا ال فرق ‪ ،‬وما بين الشخصين إال ما ع هجل له هنا‬
‫من ذلك ‪ ،‬فالمحروم كل المحروم من ال يعلق همته هنا بتحصيل المعالي من األمور ‪ ،‬ولكن ال‬
‫بد مع التمني من بذل المجهود ‪ ،‬وأما إن تمنى مع الكسل والتثبط فما هو ذلك الذي أشرنا إليه ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 76‬إلى ‪] 77‬‬


‫ِين فِيها َوذ ِلكَ َجزا ُء َم ْن ت َ َز هكى ( ‪َ ) 76‬ولَقَ ْد أ َ ْو َح ْينا‬ ‫عد ٍْن تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬
‫هار خا ِلد َ‬ ‫َجنهاتُ َ‬
‫س ِر بِ ِعبادِي فَا ْ‬
‫ض ِر ْب لَ ُه ْم َط ِريقا فِي ا ْلبَحْ ِر يَبَسا ال ت َ ُ‬
‫خاف د ََركا َوال ت َ ْخشى (‬ ‫إِلى ُموسى أ َ ْن أ َ ْ‬
‫‪)77‬‬
‫غر ذلك فرعون قال‬ ‫فلما رال البحر بعضه عن بعض وافترق فظهر األرض وسكن البحر ‪ ،‬ه‬
‫تعالى ‪:‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 78‬‬


‫شيَ ُه ْم) ‪( 78‬‬
‫غ ِ‬ ‫فَأَتْبَعَ ُه ْم فِ ْرع َْو ُن ِب ُجنُو ِد ِه فَغَ ِ‬
‫شيَ ُه ْم ِم َن ا ْليَ ِ ّم ما َ‬
‫ص ‪99‬‬

‫‪99‬‬
‫فانطبق البحر عليهم فأهلكهم بما أنجى به بني إسرائيل ‪.‬‬
‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 79‬‬
‫َوأ َ َ‬
‫ض هل فِ ْرع َْو ُن قَ ْو َمهُ َوما َهدى ( ‪) 79‬‬
‫[ نسبة األفعال إلى المخلوقين فيها إشكال ]‬
‫ع ْو ُن قَ ْو َمهُ »فنسب‬ ‫لما كان نسبة األفعال إلى المخلوقين فيها إشكال ‪ ،‬قال تعالى« َوأ َ َ‬
‫ض َّل فِ ْر َ‬
‫اإلضالل لفرعون ‪ ،‬وما نسبه إلى قومه فإنه عندهم ذو فعل ‪ ،‬ونفس األمر كذلك ‪ ،‬وقوله« َوما‬
‫هَدى »أي ما بيهن لهم طريق الحق ‪ ،‬فإنه موضع لبس لكونه ذا أفعال ‪ ،‬فلو كان المعبود جمادا‬
‫ما وقع اللبس ‪ ،‬ومع ذلك ال يعذر قوم فرعون ‪ ،‬فإن خاصية الفعل في المخلوق ال تكون سارية‬
‫ّللا ‪ ،‬وبهذا القدر من الجهل أخذ عبدة‬ ‫في كل شيء حتى تضاف إليه األفعال كما تضاف إلى ه‬
‫المخلوقين ذوي األفعال كفرعون وغيره ‪ ،‬وهذه اآلية والتي قبلها تكذيب من الحق لفرعون في‬
‫دعواه القهر لبني إسرائيل ‪ ،‬لما قال ( سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ) ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 80‬إلى ‪] 81‬‬


‫ور ْاأل َ ْي َم َن َونَ هز ْلنا َ‬
‫علَ ْي ُك ُم ا ْل َم هن‬ ‫ط ِ‬‫ب ال ُّ‬
‫عدْنا ُك ْم جانِ َ‬ ‫عد ّ ُِو ُك ْم َووا َ‬ ‫سرائِي َل قَ ْد أ َ ْن َج ْينا ُك ْم ِم ْن َ‬ ‫يا بَنِي إِ ْ‬
‫ضبِي َو َم ْن يَحْ ِل ْل‬ ‫غ َ‬ ‫ت ما َر َز ْقنا ُك ْم َوال ت َ ْطغَ ْوا فِي ِه فَيَ ِح هل َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َ‬ ‫س ْلوى ) ‪ُ ( 80‬كلُوا ِم ْن َط ِيّبا ِ‬ ‫َوال ه‬
‫ض ِبي فَقَ ْد َهوى ( ‪) 81‬‬ ‫غ َ‬ ‫علَ ْي ِه َ‬
‫َ‬
‫ض ِبي »فأضاف الغضب إليه ‪ ،‬وإذا نزل بهم كانوا محال له ‪،‬‬ ‫غ َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َ‬
‫طغ َْوا فِي ِه فَيَ ِح َّل َ‬ ‫« َوال ت َ ْ‬
‫فهم محل الغضب وهو النازل بهم ‪ ،‬فإن الغضب هنا هو عين األلم ‪ ،‬وجهنم إنما هي مكان لهم‬
‫ض ِبي فَقَ ْد هَوى »فالغضب اإللهي جعله يهوي ‪ ،‬فإذا‬ ‫غ َ‬ ‫علَ ْي ِه َ‬
‫‪ ،‬وهم النازلون فيها« َو َم ْن يَ ْح ِل ْل َ‬
‫هوى وهو السقوط ‪ -‬وهو حكم الغضب ال غير ‪ -‬فيسقط في الرحمة فتسعه وتتلقاه ‪ ،‬فال يسقط‬
‫إال إليها ‪ ،‬وبالرحمة التي في الغضب سقط ‪ ،‬فهي التي جعلت الغضب يهوي به لتستلمه‬
‫الرحمة الخالصة ‪ ،‬ولهذا كان المآل إلى الرحمة وحكمها وإن لم يخرجوا من النار ‪ ،‬فلهم فيها‬
‫وّللا على كل شيء قدير ‪ ،‬وهو القائل ( ورحمتي وسعت كل شيء ) والغضب من‬ ‫نعيم ‪ ،‬ه‬
‫األشياء التي وسعته الرحمة ‪ ،‬فما ث هم غضب خالص غير مشوب برحمة ‪ ،‬والرحمة ال يشوبها‬
‫غضب‪.‬‬
‫ص ‪100‬‬

‫‪100‬‬
‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 82‬‬
‫تاب َوآ َم َن َوع َِم َل صا ِلحا ث ُ هم ا ْهتَدى ) ‪( 82‬‬ ‫َو ِإ ِنّي لَغَفه ٌ‬
‫ار ِل َم ْن َ‬
‫إذا صح التوحيد فهو المطلوب من كل موجود ‪ ،‬فكيف إذا انضاف إلى ذلك أداء العبادات‬
‫المشروعة في الحركات الخارجة والداخلة ؟‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 83‬‬


‫َوما أ َ ْع َجلَكَ ع َْن قَ ْو ِمكَ يا ُموسى ) ‪( 83‬‬
‫عز وجل لموسى عليه السالم« َوما أ َ ْع َجلَ َك َ‬
‫ع ْن قَ ْو ِم َك يا ُموسى »أضرب موسى‬ ‫ّللا ه‬
‫لما قال ه‬
‫عليه السالم عن الجواب ‪ ،‬وجوابه أن يقول ‪ :‬أعجلني كذا وكذا ويبين ‪ ،‬ف ‪:‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 84‬‬


‫والء عَلى أَث َ ِري َوع َِج ْلتُ ِإلَ ْيكَ َر ّ ِ‬
‫ب ِلت َ ْرضى ( ‪) 84‬‬ ‫قا َل ُه ْم أ ُ ِ‬
‫ع ِج ْلتُ ِإلَي َْك َربه ِ‬
‫على أَث َ ِري »يشير إلى حكم األتباع ‪ ،‬ثم ذكر عجلته فقال" َو َ‬ ‫"قا َل ُه ْم أ ُ ِ‬
‫والء َ‬
‫ِلت َ ْرضى »أي سارعت إلى إجابة دعائك حين دعوتني ‪ ،‬وقومي على أثري ‪ ،‬فعجل موسى‬
‫عليه السالم لألمر ليكون من المسارعين إلى الخيرات ‪ ،‬وإال لو عجل من غير أمر لكانت‬
‫عجلته إلى هواه ‪ ،‬وهو عليه السالم كان من العارفين المحققين ‪ ،‬وإنما عجل لألمر اإللهي ‪.‬‬
‫عز وجل ‪:‬‬‫فقال ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 85‬‬


‫ي ( ‪) 85‬‬ ‫ام ِر ُّ‬
‫س ِ‬ ‫قا َل فَ ِإنها قَ ْد فَتَنها قَ ْو َمكَ ِم ْن بَ ْع ِدكَ َوأ َ َ‬
‫ضله ُه ُم ال ه‬
‫ِك » ]‬ ‫[ « فَإِنَّا قَ ْد فَتَنَّا قَ ْو َم َك ِم ْن بَ ْعد َ‬
‫ي »بالعجل الذي قال لهم في‬‫ام ِر ُّ‬
‫س ِ‬‫ضلَّ ُه ُم ال َّ‬
‫ِك »أي اختبرناهم « َوأ َ َ‬ ‫" فَإِنَّا قَ ْد فَتَنَّا قَ ْو َم َك ِم ْن بَ ْعد َ‬
‫شأنه( هذا ِإل ُه ُك ْم َو ِإلهُ ُموسى )‬
‫ّللا عن بصره حتى أبصر الملك الذي‬ ‫وسبب ذلك أنه لما مشى مع موسى عليه السالم ‪ ،‬كشف ه‬
‫هو على صورة الثور من حملة العرش ‪ ،‬فتخيل أنه إله موسى الذي يكلمه ‪ ،‬فأخرج لهم العجل‬
‫‪ ،‬وعلم أن قلوبهم تابعة ألموالهم ‪ ،‬فصاغ لهم العجل بمرأى منهم من حليهم ‪ ،‬فسارعوا إلى‬
‫عبادته حين دعاهم إلى ذلك‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬فتن قوم موسى من بعده ‪ ،‬ضيافة من السيد لعبده ‪ ،‬فإن ابتالءه بذلك ضيافته ‪ ،‬وال‬
‫يبتلى مثل األنبياء إال في ربه ‪ ،‬وال بد للقادم من كرامة ‪ ،‬فكانت كرامته ما أصابه من الغيرة‬
‫ّللا حين رجع إلى قومه ‪ ،‬فوجدهم قد عبدوا غيره ‪ ،‬فكانت منزلته على قدر غيرته ‪،‬‬ ‫في حق ه‬

‫ص ‪101‬‬

‫‪101‬‬
‫فتلك ضيافته سبحانه لعبده ‪.‬‬
‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 86‬‬
‫سنا أ َ فَطا َل َ‬
‫علَ ْي ُك ُم‬ ‫سفا قا َل يا قَ ْو ِم أ َ لَ ْم يَ ِع ْد ُك ْم َربُّ ُك ْم َوعْدا َح َ‬‫بان أ َ ِ‬
‫ض َ‬ ‫غ ْ‬ ‫فَ َر َج َع ُموسى إِلى قَ ْو ِم ِه َ‬
‫ب ِم ْن َر ِبّ ُك ْم فَأ َ ْخلَ ْفت ُ ْم َم ْو ِعدِي ( ‪) 86‬‬ ‫ض ٌ‬‫غ َ‬ ‫ا ْلعَ ْه ُد أ َ ْم أ َ َر ْدت ُ ْم أ َ ْن يَ ِح هل َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َ‬
‫غضْبانَ »على قومه «أ َ ِسفا ً »عليهم لما فعلوه من اتخاذهم العجل إلها‬ ‫« فَ َر َج َع ُموسى ِإلى قَ ْو ِم ِه َ‬
‫ّللا عنه ‪.‬‬ ‫‪ ،‬فقال ما ذكر ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 87‬إلى ‪] 88‬‬


‫قالُوا ما أ َ ْخلَ ْفنا َم ْو ِعدَكَ بِ َم ْل ِكنا َول ِكنها ُح ِ ّم ْلنا أ َ ْوزارا ِم ْن ِزينَ ِة ا ْلقَ ْو ِم فَقَذَ ْفناها فَكَذ ِلكَ أ َ ْلقَى‬
‫ي ( ‪88‬‬ ‫س َ‬‫وار فَقالُوا هذا إِل ُه ُك ْم َوإِلهُ ُموسى فَنَ ِ‬ ‫سدا لَهُ ُخ ٌ‬ ‫ج لَ ُه ْم عِجْ ال َج َ‬ ‫ي ) ‪ ( 87‬فَأ َ ْخ َر َ‬ ‫ام ِر ُّ‬
‫س ِ‬‫ال ه‬
‫)‬
‫[ حياة القلوب ]‬
‫وإنما كان عجال ألن السامري لما مشى مع موسى عليه السالم في السبعين الذين مشوا معه ‪،‬‬
‫ّللا عنه غطاء بصره ‪ ،‬فما وقعت عينه إال على الملك الذي على صورة الثور ‪ ،‬وهو‬ ‫كشف ه‬
‫من حملة العرش ‪ ،‬ألنهم أربعة ‪ :‬واحد على صورة أسد ‪ ،‬وآخر على صورة نسر ‪ ،‬وآخر على‬
‫صورة ثور ‪ ،‬ورابع على صورة إنسان ؛ فلما أبصر السامري العجل تخيل أنه إله موسى الذي‬
‫يكلمه ‪ ،‬فصور لهم العجل وصاغه من حليهم ليتبع قلوبهم أموالهم ‪ ،‬لعلمه أن المال حبه منوط‬
‫بالقلب ‪ ،‬وعلم أن حب المال يحجبهم أن ينظروا فيه ‪ ،‬هل يضر أو ينفع ؟ أو يرد عليهم قوال‬
‫إذا سألوه ؟ وكان قد عرف جبريل حين جاءه ‪ ،‬وأنه ال يمر بشيء إال حيي بمروره ‪ ،‬فقبض‬
‫قبضته من أثر فرس جبريل ‪ ،‬ورمى بها في العجل فحيي العجل وخار ألنه عجل ‪ ،‬والخوار‬
‫صوت البقر‬
‫‪ -‬إشارة ‪ « -‬فقبض قبضة من أثر الرسول » ظهر من قبضة األثر في العجل خوار ‪ ،‬تنبيه‬
‫على أن الحياة في سلوك اآلثار ‪ ،‬أي أن حياة القلوب في اتباع الشرائع ‪ ،‬وذلك أنه إذا اتبعها‬
‫ي »أي ونسي‬ ‫ّللا علما يحيا به قلبه ‪ «.‬فَقالُوا »قال لهم« هذا ِإل ُه ُك ْم َو ِإلهُ ُموسى فَنَ ِس َ‬ ‫رزقه ه‬
‫السامري إذا سأله عابدوه أنه ال يرجع إليهم قوال وال يملك لهم ضرا وال نفعا ‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬
‫ص ‪102‬‬

‫‪102‬‬
‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 89‬‬
‫ض ًّرا َوال نَ ْفعا ) ‪( 89‬‬ ‫أ َ فَال يَ َر ْو َن أَاله يَ ْر ِج ُع ِإلَ ْي ِه ْم قَ ْوال َوال يَ ْم ِلكُ لَ ُه ْم َ‬
‫ض ًّرا َوال نَ ْفعا ً »أي ال ينتفعون‬
‫وّللا يكون متصفا بالقول« َوال يَ ْم ِلكُ لَ ُه ْم َ‬ ‫أي إذا سئل ال ينطق ‪ ،‬ه‬
‫به ‪ ،‬ومن ال يدفع الضر عن نفسه كيف يدفع الضر عن غيره ؟‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 90‬‬


‫من فَات ه ِبعُو ِني َوأ َ ِطيعُوا أ َ ْم ِري‬
‫الرحْ ُ‬‫ون ِم ْن قَ ْب ُل يا قَ ْو ِم ِإنهما فُ ِت ْنت ُ ْم ِب ِه َو ِإ هن َربه ُك ُم ه‬ ‫َولَقَ ْد قا َل لَ ُه ْم ُ‬
‫هار ُ‬
‫(‪) 90‬‬
‫من »ومن‬ ‫" إِنَّما فُتِ ْنت ُ ْم بِ ِه »أي اختبرتم به لتقوم الحجة هّلل عليكم إذا سئلتم« َوإِ َّن َربَّ ُك ُم َّ‬
‫الر ْح ُ‬
‫رحمته بكم أن أمهلكم ورزقكم مع كونكم اتخذتم إلها تعبدونه غيره سبحانه ‪ ،‬ثم قال لهم«‬
‫فَات َّ ِبعُونِي »لما علم أن في اتباعهم إياه الخير« َوأ َ ِطيعُوا أ َ ْم ِري »لكون موسى عليه السالم أقامه‬
‫فيهم نائبا عنه ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 91‬‬


‫ين َحتهى يَ ْر ِج َع إِلَ ْينا ُموسى) ‪( 91‬‬ ‫علَ ْي ِه عا ِك ِف َ‬ ‫قالُوا لَ ْن نَ ْب َر َ‬
‫ح َ‬
‫علَ ْي ِه »يريدون عبادة العجل« عا ِك ِفينَ »أي مالزمين« َحتَّى يَ ْر ِج َع ِإلَيْنا‬ ‫" قالُوا لَ ْن نَب َْر َح َ‬
‫ُموسى »الذي بعث إلينا وأمرنا باإليمان به ‪ ،‬فحجبهم هذا النظر أن ينظروا فيما أمرهم به‬
‫هارون عليه السالم ‪ ،‬فلما رجع موسى إلى قومه وجدهم قد فعلوا ما فعلوا ‪ ،‬فألقى األلواح من‬
‫يده ‪ ،‬و‪: -‬‬
‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 92‬إلى ‪] 93‬‬
‫ص ْيتَ أ َ ْم ِري ) ‪( 93‬‬ ‫ون ما َمنَعَكَ إِ ْذ َرأ َ ْيت َ ُه ْم َ‬
‫ضلُّوا ( ‪ ) 92‬أَاله تَتهبِعَ ِن أ َ فَعَ َ‬ ‫هار ُ‬ ‫قا َل يا ُ‬
‫وأخذ برأس أخيه يجره إليه عقوبة له بتأنيه في قومه ‪ ،‬فناداه هارون عليه السالم بأمه فإنها‬
‫محل الشفقة والحنان ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 94‬‬


‫شيتُ أ َ ْن تَقُو َل فَ هر ْقتَ بَ ْي َن بَنِي إِ ْ‬
‫سرائِي َل َولَ ْم‬ ‫قا َل يَا ْب َن أ ُ هم ال تَأ ْ ُخ ْذ بِلِحْ يَتِي َوال بِ َرأْ ِ‬
‫سي إِ ِنّي َخ ِ‬
‫ت َ ْرقُ ْب قَ ْو ِلي) ‪( 94‬‬

‫ص ‪103‬‬

‫‪103‬‬
‫لما ظهر موسى عليه السالم على أخيه هارون عليه السالم بصفة القهر ‪ ،‬بأن أخذ برأسه يجره‬
‫إليه ‪ ،‬ناداه بأشفق األبوين فقال ‪ " :‬يَا بْنَ أ ُ َّم " فناداه بالرحم وهي األم ‪ ،‬إذ كانت الرحمة لألم‬
‫دون األب أوفر في الحكم ‪،‬‬
‫ولو لم يلق موسى األلواح ما أخذ برأس أخيه ‪ ،‬فإن في نسختها الهدى والرحمة تذكرة لموسى‬
‫‪،‬‬
‫فكان يرحم أخاه بالرحمة ‪ ،‬وتتبين مسألته مع قومه بالهدى « ِإ ِنهي َخ ِشيتُ »لما وقع ما وقع من‬
‫قومك أن تلومني على ذلك وتقول ‪ " :‬فَ َّر ْق َ‬
‫ت بَيْنَ بَ ِني ِإسْرا ِئي َل َولَ ْم ت َ ْرقُبْ " أي تلزم« قَ ْو ِلي‬
‫»الذي أوصيتك به ‪ ،‬فتجعلني سببا في تفريقهم ‪،‬‬
‫فإن عبادة العجل فرقت بينهم ‪ ،‬فكان منهم من عبده اتباعا للسامري وتقليدا له ‪ ،‬ومنهم من‬
‫توقف عن عبادته حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك ‪،‬‬
‫فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ‪ ،‬ولما سكت عن موسى الغضب قبل عذر أخيه‬
‫وأخذ األلواح ‪،‬‬
‫فما وقعت عيناه مما كتب فيها إال على الهدى والرحمة ‪،‬‬
‫فقال ( رب اغفر لي وألخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ) ‪.‬‬
‫وأما الذين عبدوا العجل فما أعطوا النظر الفكري حقه لالحتمال الداخل في القصة ‪ ،‬فما‬
‫عذرهم الحق وال وفهى عابدوه النظر في ذلك ‪ ،‬ثم ر هد موسى وجهه إلى السامري ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ ) : 20‬آية ‪] 95‬‬


‫ي ) ‪( 95‬‬ ‫قا َل فَما َخ ْطبُكَ يا ِ‬
‫سام ِر ُّ‬
‫أي ما حديثك يا سامري ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 96‬‬


‫سي‬ ‫س هولَتْ ِلي نَ ْف ِ‬‫سو ِل فَنَبَ ْذتُها َوكَذ ِلكَ َ‬ ‫ضة ِم ْن أَث َ ِر ه‬
‫الر ُ‬ ‫ضتُ قَ ْب َ‬ ‫ص ُروا ِب ِه فَقَبَ ْ‬ ‫ص ْرتُ ِبما لَ ْم يَ ْب ُ‬ ‫قا َل بَ ُ‬
‫) ‪( 96‬‬
‫سو ِل » ]‬ ‫ضةً ِم ْن أَث َ ِر َّ‬
‫الر ُ‬ ‫ضتُ قَ ْب َ‬ ‫[" فَقَبَ ْ‬
‫ص ُروا بِ ِه »وهو ما رآه من صورة الثور الذي هو أحد‬ ‫ص ْرتُ بِما لَ ْم يَ ْب ُ‬ ‫« قا َل »له السامري «بَ ُ‬
‫حملة العرش ‪ ،‬فظن أنه إله موسى الذي يكلمه ‪ ،‬فلذلك صنعت لهم العجل ‪ ،‬وعلمت أن جبريل‬
‫سو ِل »جبريل ‪،‬‬ ‫ضةً ِم ْن أَث َ ِر َّ‬
‫الر ُ‬ ‫ضتُ » لذلك « قَ ْب َ‬ ‫ما يمر بموضع إال حيي به ألنه روح ‪ «،‬فَقَبَ ْ‬
‫لعلمه بتلك القبضة ‪ "،‬فَنَبَ ْذتُها " في العجل فخار"‬
‫ت ِلي نَ ْف ِسي »فما فعله السامري إال عن تأويل ‪ ،‬فضل وأضل ‪ .‬من ذلك تعلم أن‬ ‫س َّولَ ْ‬
‫َو َكذ ِل َك َ‬
‫حياة األرواح ذاتية ‪ ،‬ولهذا يكون كل ذي روح حيا بروحه ‪ ،‬قال ابن عباس ‪ :‬ما وطئ جبريل‬
‫عليه السالم قط موضعا من األرض‬

‫ص ‪104‬‬

‫‪104‬‬
‫إال حيي ذلك الموضع ؛ وما يطؤه الروح يعطي الحياة في أي صورة مركبة ‪ ،‬فلما أبصر‬
‫السامري جبريل عليه السالم حين جاء لموسى عليه السالم وعرفه ‪ ،‬وعلم أن روحه عين ذاته‬
‫‪ ،‬وأن حياته حياة ذاتية ‪ ،‬فال يطأ موضعا إال حيي ذلك الموضع بمباشرة تلك الصورة الممثلة‬
‫إياه ‪ ،‬وعلم أن وطأته يحيا بها ما وطئه من األشياء ‪ ،‬فقبض قبضة من أثر الرسول ‪ ،‬بالصاد‬
‫أو الضاد ‪ ،‬أي بملء أو بأطراف أصابعه ‪ ،‬فلما صاغ العجل وصوره ‪ ،‬نبذ فيه تلك القبضة‬
‫فحيي ذلك العجل وخار ‪ ،‬إذ صوت البقر إنما هو خوار ‪،‬‬
‫وكان ذلك من إلقاء الشيطان في نفس السامري ‪ ،‬ألن الشيطان يعلم منزلة األرواح ‪ ،‬فوجد‬
‫السامري في نفسه هذه القوة ‪ ،‬وما علم أنها من إلقاء إبليس ‪،‬‬
‫ت ِلي نَ ْف ِسي »وفعل ذلك إبليس من حرصه على إضالله بما يعتقده من‬ ‫س َّولَ ْ‬
‫فقال« َو َكذ ِل َك َ‬
‫الشريك هّلل تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 97‬‬


‫لهكَ‬ ‫ساس َو ِإ هن لَكَ َم ْو ِعدا لَ ْن ت ُ ْخلَفَهُ َوا ْن ُ‬
‫ظ ْر ِإلى ِإ ِ‬ ‫َ‬ ‫اذ َه ْب فَ ِإ هن لَكَ ِفي ا ْل َحيا ِة أ َ ْن تَقُو َل ال ِم‬ ‫قا َل فَ ْ‬
‫سفا ) ‪( 97‬‬ ‫علَ ْي ِه عا ِكفا لَنُ َح ِ ّرقَنههُ ث ُ هم لَنَ ْن ِ‬
‫سفَنههُ فِي ا ْليَ ِ ّم نَ ْ‬ ‫الهذِي َظ ْلتَ َ‬
‫وإذا حرقه ونسفه لم ينتفع به ‪ ،‬فإنه لو أبقاه دخلت عليهم الشبهة بما يوجد في الحيوان من‬
‫الضرر والنفع ‪ ،‬فحرقه ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم نسفا ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 98‬‬


‫ش ْي ٍء ِع ْلما ( ‪) 98‬‬ ‫ّللاُ الهذِي ال ِإلهَ ِإاله ُه َو َو ِ‬
‫س َع ُك هل َ‬ ‫ِإنهما ِإل ُه ُك ُم ه‬
‫[ توحيد السعة ]‬
‫هذا التوحيد هو الثامن عشر في القرآن ‪ ،‬وهو توحيد السعة من توحيد الهوية ‪ ،‬وهو توحيد‬
‫تنزيه ‪ ،‬لئال يتخيل في سعته الظرفية للعالم ‪ ،‬فقال إن سعته علمه بكل شيء ال أنه ظرف لشيء‬
‫‪ ،‬وسبب هذا التوحيد لما جاء في قصة السامري قوله عن العجل لما نبذ فيه ما قبضه من أثر‬
‫الرسول ‪ ،‬فكان العجل ظرفا لما نبذ فيه ‪ ،‬فلما خار العجل قال السامري ( هذا إلهكم وإله‬
‫ّللاُ الَّذِي ال إِلهَ إِ َّال ُه َو »ال تركيب فيه ‪ ،‬وسع كل شيء علما‬
‫موسى ) فقال موسى« إِنَّما إِل ُه ُك ُم َّ‬
‫« أي هو عالم بكل شيء » أكذب السامري في قوله ‪ ،‬ونصب لهم الداللة على كذب السامري‬
‫مع كون العجل خار‪.‬‬
‫‪105‬‬

‫‪105‬‬
‫[سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 99‬‬
‫ق َوقَ ْد آت َ ْيناكَ ِم ْن لَ ُدنها ِذ ْكرا ) ‪( 99‬‬
‫سبَ َ‬ ‫علَ ْيكَ ِم ْن أ َ ْن ِ‬
‫باء ما قَ ْد َ‬ ‫كَذ ِلكَ نَقُ ُّ‬
‫ص َ‬
‫كون القرآن ذكر فلما فيه من آيات االعتبارات وقصص األمم في إهالكهم بكفرهم ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 100‬إلى ‪] 101‬‬


‫ع ْنهُ فَ ِإنههُ يَحْ ِم ُل يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ِو ْزرا ( ‪ ) 100‬خا ِلد َ‬
‫ِين فِي ِه َوسا َء لَ ُه ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة‬ ‫َم ْن أَع َْر َ‬
‫ض َ‬
‫ِح ْمال ( ‪) 101‬‬
‫الضمير في خالدين فيه يعود على الوزر ال على العذاب ‪ ،‬وهذا في موطن من مواطن اآلخرة‬
‫‪ ،‬إذا أقيموا في حمل األثقال التي هي األوزار يحملونها ‪ ،‬وهو زمان مخصوص ‪ ،‬فيقول‬
‫[ « خا ِلدِينَ فِي ِه » أي في حمل الوزر في الموضع الذي يحملونه ]‬
‫تعالى« خا ِلدِينَ فِي ِه »أي في حمل الوزر في الموضع الذي يحملونه ‪ ،‬من خروجهم من قبورهم‬
‫إلى أن يصلوا به إلى النار فيدخلونها ‪ ،‬فهم خالدون فيه في تلك المدة ‪ ،‬ال يفتر عنهم وال يأخذه‬
‫من على ظهورهم غيرهم ‪ ،‬فأعاد الحق الضمير على الوزر وجعله ليوم القيامة هذا الحمل ‪،‬‬
‫ويوم القيامة مدته من خروج الناس من قبورهم إلى أن ينزلوا منازلهم من الجنة والنار ‪،‬‬
‫وينقضي ذلك اليوم فينقضي بانقضائه جميع ما كان فيه ‪ ،‬ومما كان فيه الخلود في حمل‬
‫األوزار ‪ ،‬ولذلك فإن هذه اآلية ما هي بنص في خلود العذاب ‪ ،‬فإنه ما ورد في العذاب شيء‬
‫يدل على الخلود فيه كما ورد في الخلود في النار ‪،‬‬
‫ّللا عنه ‪ (:‬خا ِلدِينَ فِيها ) *يعني في النار ‪ ،‬ولم يقل ‪:‬‬ ‫ثم قال الشيخ ابن عطاء هللا رضي ه‬
‫فيه ؛ فيريد العذاب ‪ ،‬ولما أعاد الضمير في خالدين فيها على الدار لم يلزم العذاب ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 102‬‬


‫ور َونَحْ ش ُُر ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ين يَ ْو َمئِ ٍذ ُز ْرقا ) ‪( 102‬‬ ‫ص ِ‬‫يَ ْو َم يُ ْنفَ ُخ فِي ال ُّ‬
‫الصور جمع صورة ‪ ،‬وهو الحضرة البرزخية التي ننتقل إليها بعد الموت ونشهد نفوسنا فيها ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم [ هو‬‫ّللا عليه وسلم عن الصور ‪ :‬ما هو ؟ قال صلهى ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ولما سئل رسول ه‬
‫قرن من نور ألقمه إسرافيل ]‬
‫فأخبر أن شكله شكل القرن ‪ ،‬فوصف بالسعة والضيق ‪ ،‬فهو في غاية السعة ‪ ،‬ال شيء من‬
‫األكوان أوسع منه ‪ ،‬وضيقه من أنه ال يجرد المعاني عن المواد أصال ‪ ،‬فال يقبلها إال في‬
‫ّللا سبحانه إذا قبض األرواح من هذه األجسام الطبيعية حيث كانت‬ ‫صورة ‪ .‬واعلم أن ه‬
‫والعنصرية ‪ ،‬أودعها صورا جسدية في مجموع هذا القرن النوري ‪ ،‬فجميع ما يدركه اإلنسان‬
‫ص ‪106‬‬

‫‪106‬‬
‫بعد الموت في البرزخ من األمور إنما يدركه بعين الصورة التي هو فيها في القرن وبنورها ‪،‬‬
‫وهو إدراك حقيقي ‪ ،‬ومن الصور هنالك ما هي مقيدة عن التصرف ‪ ،‬ومنها ما هي مطلقة‬
‫كأرواح األنبياء كلهم وأرواح الشهداء ‪ ،‬ومنها ما يكون لها نظر إلى عالم الدنيا في هذه الدار ‪،‬‬
‫وكل إنسان في البرزخ مرهون بكسبه ‪ ،‬محبوس في صور أعماله إلى أن يبعث يوم القيامة من‬
‫تلك الصورة في النشأة اآلخرة ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 103‬إلى ‪] 107‬‬


‫ون إِ ْذ يَقُو ُل أ َ ْمثَلُ ُه ْم َط ِريقَة إِ ْن‬
‫عشْرا ( ‪ ) 103‬نَحْ ُن أ َ ْعلَ ُم بِما يَقُولُ َ‬ ‫يَتَخافَت ُ َ‬
‫ون بَ ْينَ ُه ْم إِ ْن لَبِثْت ُ ْم إِاله َ‬
‫سفا ( ‪ ) 105‬فَيَذَ ُرها قاعا‬ ‫سفُها َر ِبّي نَ ْ‬‫سئَلُونَكَ ع َِن ا ْل ِجبا ِل فَقُ ْل يَ ْن ِ‬
‫لَبِثْت ُ ْم إِاله يَ ْوما ( ‪َ ) 104‬ويَ ْ‬
‫صفا ( ‪ ) 106‬ال تَرى فِيها ِع َوجا َوال أ َ ْمتا ) ‪( 107‬‬ ‫ص ْف َ‬
‫َ‬
‫ّللا يمد األرض م هد األديم ]‬ ‫ّللا عليه وسلم [ إن ه‬ ‫وهذه صفة أرض اآلخرة ‪ ،‬وهو قوله صلهى ه‬
‫وهو بسط قبضه وفرش نتوئه ‪ ،‬فتبسط األرض فال ترى فيها عوجا وال أمتا ‪ ،‬فيأخذ البصر‬
‫جميع من في الموقف بال حجاب من ارتفاع وانخفاض ‪ ،‬ليرى الخلق بعضهم بعضا ‪ ،‬فيشهدوا‬
‫ّللا بالفصل والقضاء في عباده‪.‬‬ ‫حكم ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 108‬‬


‫من فَال ت َ ْ‬
‫س َم ُع ِإاله َه ْمسا ( ‪) 108‬‬ ‫ت ْاألَصْواتُ ِل ه‬
‫لرحْ ِ‬ ‫ج لَهُ َو َخ َ‬
‫شعَ ِ‬ ‫ي ال ِع َو َ‬ ‫يَ ْو َمئِ ٍذ يَت ه ِبعُ َ‬
‫ون الدها ِع َ‬
‫من »هذا مع االسم الرحمن ‪ ،‬فكيف يكون الحال مع الجبار ؟خشوع‬ ‫لر ْح ِ‬ ‫صواتُ ِل َّ‬ ‫ت ْاأل َ ْ‬
‫شعَ ِ‬ ‫« َو َخ َ‬
‫حياء ال خشوع مهانة * وهيبة إجالل وقبض تأدبحكم اقتضاه الموطن ‪ ،‬بإشارة عين وخفي‬
‫صوت ‪ ،‬من علو الهيبة اإللهية يوم العرض ‪ ،‬فقد ألجم الناس العرق وعظم الخطب وجل األمر‬
‫وكان البهت« فَال ت َ ْس َم ُع ِإ َّال ه َْمسا ً »أي صوتا خفيا ‪ ،‬خشوعا هّلل تعالى وخضوعا ‪ ،‬فإن الهمس‬
‫إسماع من قصدته باإلسماع خاصة‪.‬‬

‫ص ‪107‬‬

‫‪107‬‬
‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 109‬إلى ‪] 110‬‬
‫ي لَهُ قَ ْوال ( ‪ ) 109‬يَ ْعلَ ُم ما بَ ْي َن أ َ ْيد ِ‬
‫ِيه ْم‬ ‫الرحْ ُ‬
‫من َو َر ِض َ‬ ‫يَ ْو َم ِئ ٍذ ال ت َ ْنفَ ُع الشهفاعَةُ ِإاله َم ْن أَذ َ‬
‫ِن لَهُ ه‬
‫ون بِ ِه ِع ْلما ( ‪) 110‬‬ ‫ط َ‬ ‫َوما َخ ْلفَ ُه ْم َوال يُ ِحي ُ‬
‫[ فهو سبحانه ال يحيط به علم ]‬
‫فهو سبحانه ال يحيط به علم ‪ ،‬تقدهس وتعالى عن أن يحيط به علم الممكن أو تكون ذاته تعطي‬
‫اإلحاطة فهو المحيط وال يحيط به شيء ‪ ،‬إذ لو أحاط به شيء لحصره ذلك الشيء ‪ ،‬فإن القوى‬
‫الحسية والخيالية تطلبه بذواتها لترى موجدها ‪ ،‬والعقول تطلبه بذواتها وأدلتها من نفي وإثبات‬
‫ووجوب وجواز وإحالة لتعلم موجدها ‪ ،‬فخاطب الحواس والخيال بتجريده الذي دلت عليه أدلة‬
‫ش ْي ٌء )والحواس تسمع ‪ ،‬فحارت الحواس والخيال وقالت ‪ :‬ما بأيدينا منه‬ ‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫العقول( لَي َ‬
‫ير‬‫ص ُ‬ ‫س ِمي ُع ْالبَ ِ‬‫شيء ‪ ،‬وخاطب العقول بتشبيهه الذي دلت عليه الحواس والخيال ( َو ُه َو ال َّ‬
‫)والعقول تسمع ‪ ،‬فحارت العقول وقالت ‪ :‬ما بأيدينا منه شيء ‪ ،‬فعال عن إدراك العقول‬
‫والحواس والخيال ‪ ،‬وانفرد سبحانه بالحيرة في الكمال ‪ ،‬فلم يعلمه سواه وال شاهده غيره ‪ ،‬فلم‬
‫يحيطوا به علما وال رأوا له عينا ‪ ،‬فآثار تشهد ‪ ،‬وجناب يقصد ‪ ،‬ورتبة تحمد ‪ ،‬وإله منزه‬
‫تتعرف ‪ ،‬قال رسول‬ ‫ه‬ ‫ومشبه يعبد ‪ ،‬ألنه المجهول الذي ال يعرف ‪ ،‬وال يقال هو النكرة التي ال‬
‫ّللا كأنك تراه ] فأمر المكلف باالستحضار ‪،‬‬ ‫ّللا عليه وسلم [ اعبد ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ه‬
‫فإنه يعلم أن ال يستحضر إال من يقبل الحضور ‪ ،‬فاستحضار العبد ربه في العبادة عين حضور‬
‫المعبود له ‪ ،‬فإن لم يعلمه إال في الحد والمقدار حدهه وقدهره ‪ ،‬وإن علمه منزها عن ذلك لم يحده‬
‫ولم يقدره مع استحضاره كأنه يراه ‪ ،‬وإنما لم يحدهه ولم يقدهره العارف به ألنه يراه جميع‬
‫الصور ‪ ،‬فمهما حده بصورة عارضته صورة أخرى ‪ ،‬فانخرم عليه الحد ‪ ،‬فلم ينحصر له‬
‫طونَ‬ ‫األمر لعدم إحاطته بالصور الكائنة وغير الكائنة له ‪ ،‬فلم يحط به علما كما قال« َوال يُ ِحي ُ‬
‫بِ ِه ِع ْلما ً »فإذا عرفوا أنهم ال يحيطون به علما خضعوا فقال تعالى ‪- :‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 111‬‬


‫خاب َم ْن َح َم َل ُ‬
‫ظ ْلما ) ‪( 111‬‬ ‫َ‬ ‫وم َوقَ ْد‬
‫ي ِ ا ْلقَيُّ ِ‬
‫ت ا ْل ُو ُجو ُه ِل ْل َح ّ‬
‫عنَ ِ‬
‫َو َ‬
‫ّللا من العالم فإنما خلقه‬
‫الوجوه منا المراد بها حقائقنا ‪ ،‬إذ وجه كل شيء ذاته ‪ ،‬وكل ما خلق ه‬
‫ّللا على كماله في نفسه ‪ ،‬فذلك الكمال وجهه ‪ ،‬فالوجوه هنا أعيان الذوات وحقائق‬ ‫ه‬
‫ص ‪108‬‬

‫‪108‬‬
‫الموجودات ‪ ،‬إذ وجه كل شيء حقيقته وذاته ‪ ،‬فعنت الوجوه أي خضعوا وذلوا ‪ ،‬وطلبوا‬
‫باّلل عن طريق التجلي والذوق ‪ ،‬ولذلك قال‬ ‫الزيادة من العلم فيما ال علم لهم به منه ‪ ،‬وهو العلم ه‬
‫‪ :‬عنت أي ذلت ‪ ،‬فلما تجلى اسمه « الحي » حييت الموجودات « والقيوم » فقامت به‬
‫األرض والسماوات ومن فيهن من عوالم البقاء واالستحاالت ‪ ،‬فعنت لحياته الوجوه وسجدت‬
‫ظ ْلما ً"‬
‫خاب َم ْن َح َم َل ُ‬
‫َ‬ ‫لقيوميته الجباه ‪ ،‬وأقنعت لعظمته الرؤوس وتحركت بذكره الشفاه" َوقَ ْد‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 112‬إلى ‪] 114‬‬


‫ضما ( ‪َ ) 112‬وكَذ ِلكَ أ َ ْن َز ْلناهُ قُ ْرآنا‬ ‫ظ ْلما َوال َه ْ‬ ‫ت َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَال يَ ُ‬
‫خاف ُ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫َو َم ْن يَ ْع َم ْل ِم َن ال ه‬
‫ِث لَ ُه ْم ِذ ْكرا ( ‪ ) 113‬فَتَعالَى ه‬
‫ّللاُ ا ْل َم ِلكُ‬ ‫ص هر ْفنا فِي ِه ِم َن ا ْل َو ِعي ِد لَعَله ُه ْم يَتهقُ َ‬
‫ون أ َ ْو يُحْ د ُ‬ ‫ع ََربِيًّا َو َ‬
‫ب ِز ْدنِي ِع ْلما ( ‪) 114‬‬ ‫آن ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن يُ ْقضى إِلَ ْيكَ َوحْ يُهُ َوقُ ْل َر ّ ِ‬ ‫ق َوال ت َ ْع َج ْل ِبا ْلقُ ْر ِ‬ ‫ا ْل َح ُّ‬
‫[ الوحي وحيان ]‬
‫الوحي وحيان ‪ :‬وحي قرآن ووحي فرقان ؛ ووحي القرآن هو األول فإن القرآن حصل عند‬
‫ّللا إلى محمد‬ ‫ّللا عليه وسلم مجمال غير مفصل اآليات والسور ‪ ،‬فلما أوحى ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم كان يعجل بالقرآن حين كان ينزل عليه جبريل عليه السالم بالفرقان ‪ ،‬قبل‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا تولى تعليمه من الوجه الخاص الذي ال يشعر به‬ ‫أن يقضى إليه وحيه ‪ ،‬ليعلم بالحال أن ه‬
‫آن »الذي‬ ‫ّللا الملك النازل بالوحي صورة حجابية ‪ ،‬فقيل له« َوال ت َ ْع َج ْل بِ ْالقُ ْر ِ‬ ‫الملك ‪ ،‬وجعل ه‬
‫عندك فتلقيه مجمال فال يفهم عنك« ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن يُ ْقضى ِإلَي َْك َو ْحيُهُ »فرقانا مفصال ‪ ،‬فأمر صلهى‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا عليه وسلم بالتأني عند الوحي أدبا مع المعلم الذي أتاه به من قبل ربه ‪ ،‬فهو صلهى ه‬ ‫ه‬
‫وسلم مصغ تابع للملك هنا ‪ ،‬وقد قال تعالى له فيما أوحى إليه( ال ت ُ َح ِ هر ْك ِب ِه ِلسان ََك ِلت َ ْع َج َل ِب ِه‬
‫)كذلك أدبا مع أستاذه جبريل[ « َوقُ ْل َربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلما ً » ]« َوقُ ْل َربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلما ً »بتفصيل ما‬
‫ّللا تعالى نبيه محمدا‬ ‫ي من المعاني ‪ ،‬فما أشرف العلم ‪ ،‬فهو الصفة الشريفة التي أخبر ه‬ ‫أجملته ف ه‬
‫ّللا عليه وسلم وسلم بالزيادة منها ‪ ،‬ولم يقل ذلك في غيره من الصفات ‪ ،‬فإن فيه الشرف‬ ‫صلهى ه‬
‫التام ‪ ،‬وليس في الصفات أعم منه تعلقا ‪ ،‬لتعلقه بالواجبات والجائزات والمستحيالت ‪ ،‬وغيره‬
‫من الصفات ليس كذلك ‪ ،‬وح هد العلم‬

‫ص ‪109‬‬

‫‪109‬‬
‫وحقيقته المطلقة معرفة الشيء على ما هو عليه ‪ ،‬والمفيدة العمل به ‪ ،‬وهو الذي يعطيك‬
‫ّللا تعالى يقذفه في قلب من أراد من‬
‫السعادة األبدية ‪ ،‬وال تخالف فيه ‪ ،‬فهو نور من أنوار ه‬
‫عباده ‪ ،‬وهو معنى قائم بنفس العبد يطلعه على حقائق األشياء ‪ ،‬وهو للبصيرة كنور الشمس‬
‫للبصر ‪ ،‬بل أتم وأشرف ‪ ،‬وكل من ادعى علما من غير عمل فدعواه كاذبة إن تعلق به خطاب‬
‫ّللا تعالى الزيادة من شيء إال‬ ‫ّللا عليه وسلم أن يطلب من ه‬ ‫ّللا نبيه صلهى ه‬
‫عمل ‪ ،‬ولهذا لم يأمر ه‬
‫من العلم ‪ ،‬فإنه أشرف الصفات وأنزه السمات ‪ ،‬فالعلم سبب النجاة وإن شقي في الطريق ‪،‬‬
‫فالمآل إلى النجاة ‪ ،‬فلو علم المشرك ما يستحقه الحق من نعوت الجالل لعلم أنه ال يستحق أن‬
‫يشرك به ‪ ،‬ولو علم المشرك أن الذي جعله شريكا ال يستحق أن يوصف بالشركة هّلل في ألوهته‬
‫لما أشرك ‪ ،‬فما أخذ إال بالجهل من الطرفين ‪.‬‬
‫ولما كانت العلوم الشريفة العالية التي إذا اتصف بها اإلنسان زكت نفسه وعظمت مرتبته‬
‫باّلل ‪،‬‬
‫أعالها العلم ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫لهذا أمر الحق تعالى نبيه أن يقول« َربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلما ً »فهذا العلم الذي أمر رسول ه‬
‫باّلل عن طريق التجلي والذوق ‪ ،‬فإنه أشرف الطرق‬ ‫عليه وسلم بطلب المزيد منه ‪ ،‬هو العلم ه‬
‫إلى تحصيل العلوم ‪ ،‬ال علم التكليف ‪ ،‬فإن النقص منه هو مطلوب األنبياء عليهم السالم ‪،‬‬
‫فقوله تعالى« َوقُ ْل َربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلما ً »يريد من العلم به ‪ ،‬من حيث ما له تعالى من الوجوه في‬
‫كل مخلوق ومبدع ‪،‬‬
‫وهو علم الحقيقة ‪ ،‬فإنه لما كان الخلق على الدوام دنيا وآخرة فالمعرفة تحدث على الدوام دنيا‬
‫ّللا عليه وسلم بطلب الزيادة من‬‫وآخرة ‪ ،‬ولذا أمر بطلب الزيادة من العلم ‪ ،‬أتراه أمره صلهى ه‬
‫باّلل ‪ ،‬بالنظر فيما يحدثه من الكون ‪،‬‬
‫وّللا ‪ ،‬ما أمر إال بالزيادة من العلم ه‬ ‫العلم باألكوان ؟ ال ه‬
‫فيعطيه ذلك الكون عن أيهة نسبة إلهية ظهر ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم القلوب في دعائه [ اللهم إني أسألك بكل اسم سميت به نفسك ‪،‬‬ ‫ولهذا نبهه صلهى ه‬
‫أو علمته أحدا من خلقك ‪ ،‬أو استأثرت به في علم غيبك ]‬
‫واألسماء نسب إلهية والغيب ال نهاية له ‪ ،‬فال بد من الخلق على الدوام ‪ ،‬فكأنما يقول صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم ‪ :‬ارفع عني اللهبس الذي يحول بيني وبين العلم بالخلق الجديد ‪ ،‬فيفوتني خير كثير‬
‫ّللا نبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن يدعوه بأن يزيده بطلبه‬ ‫حصل في الوجود ال أعلمه ‪ ،‬لذا أمر ه‬
‫علما به في كل ما يعطيه ‪ ،‬وهو وجه الحق في كل شيء ‪،‬‬
‫فما طلب الزيادة من علم الشريعة ‪ ،‬بل كان يقول [ اتركوني ما تركتكم ]‬
‫فالشرف كله إنما هو في العلم ‪ ،‬والعالم به بحسب ذلك العلم ‪ ،‬فإن أعطى عمال في جانب الحق‬
‫عمل به ‪ ،‬وإن أعطاه عمال في جانب الخلق عمل به ‪ ،‬فهو يمشي في بيضاء نقية سمحاء ‪،‬‬

‫ص ‪110‬‬

‫‪110‬‬
‫ال يرى فيه عوجا وال أمتا ‪ ،‬وما طلب الزيادة من العلم إال من الرب ‪ ،‬ولهذا جاء مضافا‬
‫الحتياج العالم إليه أكثر من غيره من األسماء ‪ ،‬ألنه اسم لجميع المصالح ‪ ،‬وهو من األسماء‬
‫ّللا والرحمن والرب ‪ ،‬فقال« َوقُ ْل َربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلما ً »أي زدني من‬‫الثالث األمهات ‪ ،‬وهي ‪ :‬ه‬
‫كالمك ما أزيد به علما بك ‪ ،‬يرقى به عنده منزلة لم تكن له ‪ ،‬فالمراد بهذه الزيادة من العلم‬
‫المتعلق باإلله ليزيد معرفة بتوحيد الكثرة ‪ ،‬فتزيد رغبته في تحميده ‪ ،‬فيزاد فضال على تحميده‬
‫دون انتهاء وال انقطاع ‪ ،‬فطلب منه الزيادة وقد حصل من العلوم واألسرار ما لم يبلغه أحد ‪،‬‬
‫ّللا عليه‬ ‫ومما يؤيد ما ذكرناه من أنه أمر بالزيادة من علم التوحيد ال من غيره ‪ ،‬أنه كان صلهى ه‬
‫وسلم إذا أكل طعاما قال [ اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ]‬
‫وإذا شرب لبنا قال [ اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ] ألنه أمر بطلب الزيادة ‪،‬‬
‫فكان يتذكر عندما يرى اللبن اللبن الذي شربه ليلة اإلسراء ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا بك أمتك ‪ ،‬والفطرة علم التوحيد الذي فطر ه‬ ‫فقال له جبريل ‪ :‬أصبت الفطرة أصاب ه‬
‫الخلق عليها حين أشهدهم حين قبضهم من ظهورهم‬
‫وقال لهم ‪ :‬ألست بربكم ؟‬
‫ّللا عليه وسلم اللبن لما شربه‬ ‫قالوا ‪ :‬بلى ‪ ،‬فشاهدوا الربوبية قبل كل شيء ‪ ،‬ولهذا تأول صلهى ه‬
‫ّللا ؟‬
‫في النوم وناول فضله عمر ‪ ،‬قيل ‪ :‬ما أولته يا رسول ه‬
‫قال ‪ :‬العلم ‪ ،‬فلو ال حقيقة مناسبة بين العلم واللبن جامعة ما ظهر بصورته في عالم الخيال ‪،‬‬
‫عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله ‪،‬‬
‫ّللا تعالى أمر نبيه أن يقول« َربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلما ً »وما أمره إلى وقت معين وال حد‬ ‫واعلم أن ه‬
‫ّللا عليه وسلم بطلب‬ ‫محدود ‪ ،‬بل أطلق ‪ ،‬فطلب الزيادة والعطاء دنيا وآخرة ‪ ،‬فقد أمر صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫الزيادة مع كونه قد حصل علم األولين واآلخرين وأوتي جوامع الكلم ‪ ،‬فإنه ال يعظم على ه‬
‫شيء طلب منه ‪ ،‬فإن المطلوب منه ال يتناهى فليس له طرف نقف عنده ‪ ،‬فوسع في طلب‬
‫ّللا عليه وسلم في شأن يوم القيامة [ فأحمده ]‬ ‫المزيد ‪ ،‬يقول النبي صلهى ه‬
‫فاّلل ال يزال خالقا إلى غير نهاية‬ ‫ّللا ال أعلمها اآلن ] ه‬ ‫يعني إذا طلب الشفاعة [ بمحامد يعلمنيها ه‬
‫فينا ‪ ،‬فالعلوم إلى غير نهاية ‪ ،‬وال شيء أشرف من العلم ‪ ،‬ولم يأمر بطلب زيادة في غيره من‬
‫الصفات ‪ ،‬ألنه الصفة العامة التي لها اإلحاطة بكل صفة وموصوف فطلب المزيد من العلم‬
‫عبادة مأمور بها ‪.‬‬
‫فالعلم أشرف نعت ناله بشر *** وصاحب العلم محفوظ عليه مصون‬
‫إن قام قام به أو راح راح به *** والحال والمال في حكم الزوال يكون‬
‫ت‬
‫عنَ ِ‬ ‫باّلل علم التجليات ‪ ،‬أردف سبحانه هذه اآلية بقوله« َو َ‬ ‫ولما كانت أعلى الطرق إلى العلم ه‬

‫ص ‪111‬‬

‫‪111‬‬
‫الوجوه للحي القيوم » أي ذلت فأراد علوم التجلي ‪ ،‬والتجلي أشرف الطرق إلى تحصيل العلوم‬
‫‪ ،‬وهي علوم األذواق ‪ ،‬وكل تجل إلهي ال بد أن يصحبه زيادة في العلم ‪ ،‬فزاد هنا من العلم‬
‫العلم بشرف التأني عند الوحي ‪ ،‬فقوله تعالى « َوقُ ْل َربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلما ً »‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا ذلك إال تنبيها لنقول ذلك ونطلبه من ه‬ ‫ّللا إليه برفع الوسائط ‪ ،‬وما أسمعنا ه‬ ‫بما يكون من ه‬
‫ولو كان خصوصا بالنبي لم يسمعنا ‪ ،‬أو كان يذكر أنه خاص به كما قال في نكاح الهبة ‪،‬‬
‫ّللا تعالى نبيه أن يسأل إذ قال له« َوقُ ْل َربه ِ ِز ْدنِي‬ ‫فإذا سأل اإلنسان مزيد العلم فليسأل كما أمر ه‬
‫ِع ْلما ً »فنكر ولم يعين ‪ ،‬فع هم ‪،‬‬
‫فأي علم نزل عليه دخل تحت هذا السؤال ‪ ،‬فإن النزول عن سؤال أعظم لذة من النزول عن‬
‫غير سؤال ‪ ،‬فإن في ذلك إدراك البغية وذلة االفتقار ‪ ،‬وإعطاء الربوبية حقها والعبودة حقها ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫وفي العلم المنزل عن السؤال من علو المنزلة ما ال يقدهر قدر ذلك إال ه‬
‫‪ -‬تحقيق ‪ -‬إذا قلت ‪ :‬ما ال بد منه هو يأتيك من غير طلب ‪ ،‬ألنه من المحال اإلقامة على أمر‬
‫واحد زمانين ‪ ،‬فال يحتاج إلى طلب الزائد ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم« َوقُ ْل َربه ِ ِز ْد ِني ِع ْلما ً »ينبهه وإيانا على أن ث هم أمرا‬ ‫قلنا ‪ :‬قال تعالى لنبيه صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫آخر زائدا على ما هو الحاصل في الوقت ‪ ،‬لنتهمم لقدومه ‪ ،‬وليظهر من العبد االفتقار إلى ه‬
‫بالدعاء في طلب الزيادة ‪ ،‬والزائد غير معيهن عندك ‪ ،‬فإذا عينه الدعاء والحق يجيب ‪ ،‬فقد تعيهن‬
‫ّللا عليه وسلم أن يزيده بطلبه علما به في‬ ‫ّللا به نبيه صلهى ه‬ ‫عندك ما تدعو فيه ‪ ،‬وهو الذي أمر ه‬
‫كل ما يعطيه ‪.‬‬
‫والعلم أشرف ما يؤتيه من منح *** والكشف أعظم منهاج وأوضحه‬
‫ّللا يمنحه‬ ‫فإن سألت إله الحق في طلب *** فسله كشفا فإن ه‬
‫ّللا يفتحه‬
‫وأدمن القرع إن الباب أغلقه *** دعوى الكيان وجود ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآلية ‪] 115‬‬


‫ي َولَ ْم نَ ِج ْد لَهُ ع َْزما (‪)115‬‬ ‫َولَقَ ْد ع َِه ْدنَا ِإلَى آ َد َم ِم ْن قَ ْب ُل فَنَ ِ‬
‫س َ‬
‫ّللا تعالى آدم بيديه وما حفظه من المعصية وال من النسيان ‪ ،‬وما توجهت اليدان إال على‬ ‫خلق ه‬
‫طينته وطبيعته ‪ ،‬وما جاءته الوسوسة إال من جهة طبيعته ‪ ،‬ألن الشيطان وسوس إليه وهو‬
‫مخلوق من جزء ما خلق منه آدم ‪ ،‬فما نسي وال قبل الوسوسة إال من طبيعته ‪،‬‬
‫فإن هذه النشأة من حكم الطبيعة فيها الجحد والنسيان ‪،‬‬
‫فكانت حركة آدم في جحده حركة طبيعية ‪ ،‬وفي نسيانه أثر طبيعي ‪ ،‬فلو تناسى لكان األمر من‬
‫حركة الطبيعة ‪ ،‬كالجحد من‬

‫ص ‪112‬‬

‫‪112‬‬
‫حيث أنه جحد هو أثر طبيعي ‪ ،‬ومن حيث ما هو جحد بكذا هو حكم طبيعي ال أثر ‪ ،‬فهذا‬
‫الفرق بين حكم الطبيعة وبين أثرها ‪ ،‬والنسيان من أثرها والتناسي من حكمها ‪ ،‬والغفلة من‬
‫باّلل من يفرق بين حكم الطبيعة وأثرها ‪،‬‬‫أثرها والتغافل من حكمها ‪ ،‬وقليل من العلماء ه‬
‫فاجتمع في آدم حكم الطبيعة بالجحد ‪ ،‬ألنه األول الجامع في ظهره للجاحدين من أبنائه ‪ ،‬ألن‬
‫آدم إنسان كامل ‪ ،‬وكذا النسيان الواقع منه هو من أثر الطبيعة وحكم األبناء ‪ ،‬فإنه حامل في‬
‫ظهره للناسين من أبنائه ‪ ،‬فحكموا عليه بالنسيان ‪ ،‬وسرى الجحد والنسيان في بني آدم من جحد‬
‫آدم ونسيانه جبرا لقلب آدم ‪،‬‬
‫عد ٌُّو‬‫ي »والذي نسي آدم إنما هو قوله تعالى( هذا َ‬ ‫قال تعالى« َولَقَ ْد َ‬
‫ع ِه ْدنا إِلى آ َد َم ِم ْن قَ ْب ُل فَنَ ِس َ‬
‫لَ َك َو ِلزَ ْو ِج َك )‬
‫ّللا‬
‫ّللا به من عداوته ‪ ،‬فقبل نصيحته ‪ ،‬فنسيان آدم عليه السالم إنما كان أخبره ه‬ ‫فنسي ما أخبره ه‬
‫باّلل كاذبا ‪،‬‬
‫تعالى به من عداوة إبليس ‪ ،‬وما تخيل آدم عليه السالم أن أحدا يقسم ه‬
‫باّلل إنه ناصح لهما فيما ذكره لهما ‪ ،‬تناوال من الشجرة المنهي عنها ‪ ،‬وفي هذا تنبيه‬ ‫فلما أقسم ه‬
‫في أن االجتهاد ال يسوغ مع وجود النص في المسألة ‪ ،‬وربما وقعت المعصية بتأويل منه ‪،‬‬
‫ولو نسي النهي ما عوقب أصال ‪ ،‬وإنما نسي ما ذكرناه ‪ ،‬وفي عداوة إبليس لحواء بشرى لها‬
‫بالسعادة ألنها لو كانت من حزب الشيطان ما كان عدوا لها‬
‫ع ْزما ً »وهو عمل الباطن ‪ ،‬فبرأ الحق باطن آدم من المعصية ‪ ،‬وكان عند ه‬
‫ّللا‬ ‫« َولَ ْم ن َِج ْد لَهُ َ‬
‫وجيها مجتبى ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم [ نسي آدم فنسيت ذريته ‪ ،‬وجحد آدم فجحدت ذريته ]‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال رسول ه‬
‫ّللا فرحمت ذريته ‪ ،‬حيثما‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن آدم رحمه ه‬ ‫وهذا حديث بشرى من النبي صلهى ه‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬
‫كانوا جعل لهم رحمة تخصهم ‪ ،‬بأي دار أنزلهم ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 116‬إلى ‪] 119‬‬


‫يس أَبَى (‪ )116‬فَقُ ْلنَا يَاآ َد ُم ِإ هن َهذَا َ‬
‫عد ٌُّو لَكَ‬ ‫س َجدُوا ِإ هال ِإ ْب ِل َ‬‫س ُجدُوا ِآل َد َم فَ َ‬ ‫َو ِإ ْذ قُ ْلنَا ِل ْل َم َالئِ َك ِة ا ْ‬
‫ع ِفي َها َو َال ت َ ْع َرى (‪)118‬‬ ‫شقَى (‪ِ )117‬إ هن لَكَ أ َ هال ت َ ُجو َ‬ ‫َو ِل َز ْو ِجكَ فَ َال يُ ْخ ِر َجنه ُك َما ِم َن ا ْل َجنه ِة فَت َ ْ‬
‫ض َحى (‪)119‬‬ ‫َوأَنهكَ َال ت َ ْظ َمأ ُ فِي َها َو َال ت َ ْ‬
‫الترتيب في الظاهر على خالف ذلك ‪ ،‬ولكن الحكمة في ذلك أن الحرارة سبب الظمأ ‪ ،‬فقرنه‬
‫بالضحى ‪ ،‬والجوع تعرية باطن الحيوان ‪ ،‬فذلك قرنه بتعرية ظاهر األبدان‪.‬‬

‫ص ‪113‬‬

‫‪113‬‬
‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪] 120‬‬
‫ش َج َر ِة ا ْل ُخ ْل ِد َو ُم ْل ٍك َال يَ ْبلَى (‪)120‬‬ ‫ان قَا َل يَاآ َد ُم َه ْل أ َ ُدلُّكَ َ‬
‫علَى َ‬ ‫ش ْي َط ُ‬
‫س ِإلَ ْي ِه ال ه‬ ‫فَ َو ْ‬
‫س َو َ‬
‫فتلطف إبليس في اإلغواء تلطف المستدرج في االستدراج ‪ ،‬والماكر في‬ ‫ه‬ ‫فصدقه وهو الكذوب ‪،‬‬
‫المكر ‪ ،‬والخادع في الخداع ‪ ،‬فكان آلدم بعد المؤاخذة ما أعطته خاصية تلك الشجرة لمن أكل‬
‫من ثمرها من الخلد والملك الذي ال يبلى ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪] 121‬‬


‫صى آ َد ُم َربههُ فَغَ َوى‬ ‫ع َ‬ ‫ق ا ْل َجنه ِة َو َ‬‫علَ ْي ِه َما ِم ْن َو َر ِ‬
‫ان َ‬ ‫فَأَك ََال ِم ْن َها فَبَدَتْ لَ ُه َما َ‬
‫س ْوآت ُ ُه َما َو َط ِفقَا يَ ْخ ِصفَ ِ‬
‫(‪)121‬‬
‫اعلم أن األمر اإللهي ال يخالف اإلرادة ‪ ،‬فإنها داخلة في حدهه وحقيقته ‪ ،‬وإنما وقع االلتباس من‬
‫تسميتهم صيغة األمر أمرا وليست بأمر ‪ ،‬والصيغة مرادة بال شك ‪ ،‬فأوامر الحق إذا وردت‬
‫على ألسنة المبلغين فهي صيغ األوامر ال األوامر فتعصى ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو قوله إذا أراد‬ ‫وقد يأمر اآلمر بما ال يريد وقوع المأمور به ‪ ،‬فما عصى أحد قط أمر ه‬
‫شيئا أن يقول له ‪ :‬كن فيكون ؛‬
‫وبهذا علمنا أن النهي الذي خوطب به آدم عن قرب الشجرة إنما كان بصيغة لغة الملك الذي‬
‫ّللا قد نهاه عن قرب الشجرة ال‬ ‫ّللا ‪ ،‬ورأى ه‬ ‫أوحى إليه به ‪ ،‬ولما علم إبليس أن آدم محفوظ من ه‬
‫قرب الثمرة ‪ ،‬جاء بصورة األكل ال بصورة القرب ‪،‬‬
‫فإنه علم أنه ال يفعل لنهي ربه إياه عن قرب الشجرة ‪ ،‬فأتاه بثمرها فأكل آدم وزوجته حواء ‪،‬‬
‫وصدهقا إبليس وهو الكذوب في قوله ( هل أدلك على شجرة الخلد وملك ال يبلى )‬
‫ولما كان آدم قد نهي ولم يؤمر أمر إيجاب ‪ ،‬وكان حامال للمخالف من ولده في ظهره والطائع‬
‫‪ ،‬فأوقع المخالفة عن حركة المخالف ‪ ،‬فلما رماه من صلبه ‪ ،‬ما بلغنا أن آدم عليه السالم‬
‫عصى آ َد ُم َربَّهُ »‬ ‫عصى ربه بعد ذلك أبدا ‪ ،‬وأفرد بالمعصية دون أهله في قوله« َو َ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬والنهي وقع عليهما والفعل وقع عنهما ‪ ،‬ألنها بعض من كلهه ‪ ،‬فهي جزء منه‬
‫‪ ،‬فكأنها ما ث هم إال هو ‪ ،‬فأهدرت في اللفظ ولم تذكر ‪ ،‬وذكر آدم« فَغَوى »ومن غوى هوى ‪،‬‬
‫أال تراه هبط ‪ ،‬وفي يديه سقط ‪ ،‬فاستدرك الغلط حين هبط ‪ ،‬فتلقى من ربه ما تلقاه من الكلمات‬
‫فتاب ‪ ،‬ففاز بحسن المآب ‪ ،‬ألنه ما قصد انتهاك الحرمة ‪ ،‬وال الخروج من النور إلى الظلمة‬
‫عصى‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪َ «-‬و َ‬

‫ص ‪114‬‬

‫‪114‬‬
‫آ َد ُم َربَّهُ »لما نهاه عن قرب الشجرة فأكل من ثمرتها ‪ ،‬فأضاف المعصية إلى ظاهر آدم ‪ ،‬ألن‬
‫المعصية بالظاهر وقعت وهو القرب من الشجرة واألكل ‪ ،‬بعد أن برأ باطنه منها ‪ ،‬وما حفظ‬
‫ّللا تعالى آدم من المعصية مما حمله في طينته من عصاة بنيه ‪ ،‬فآدم عليه السالم مع خلقه‬
‫ه‬
‫باليدين عصى بنفسه ولم يحفظ« فَغَوى »أي فخاف ‪ ،‬وهو قد أكل بالتأويل وظن أنه مصيب‬
‫غير منتهك للحرمة في نفس األمر ‪ ،‬وكان متعلق النهي القرب ال األكل ‪ .‬فيقوى التأويل‬
‫وغوى هنا بمعنى خاف ‪،‬‬
‫قال الشاعر « ‪ : » 1‬ومن يغو ال يعدم على الغي الئما ؛ ولما كان آدم هو األب األعظم في‬
‫ّللا وأول هذه النشأة الترابية ‪ ،‬ظهرت فيه المقامات كلها حتى المخالفة‬
‫الجسمية ‪ ،‬والمقرب عند ه‬
‫‪ ،‬إذ كان جامعا للقبضتين ‪ :‬قبضة الوفاق وقبضة الخالف ‪ ،‬فما تحرك من آدم لمخالفة النهي إال‬
‫ّللا من تحرك تلك النسمة التي كان يحملها‬ ‫النسمة المجبولة على المخالفة ‪ ،‬فكانت مخالفته نهي ه‬
‫ّللا تعالى في حقه ‪.‬‬
‫في ظهره لما عصى ‪ ،‬ثم خاف ‪ ،‬قال ه‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآلية ‪] 122‬‬


‫علَ ْي ِه َو َهدَى (‪)122‬‬ ‫اب َ‬ ‫ث ُ هم اجْ تَبَاهُ َربُّهُ فَت َ َ‬
‫اجتَباهُ َربُّهُ »فهو مجتبى ‪ ،‬فآدم عليه السالم لوال خطيئته ما ظهرت سيادته في الدنيا ‪،‬‬ ‫«ث ُ َّم ْ‬
‫فهي التي أورثته االجتباء ‪ ،‬فما خرج من الجنة بخطيئته إال لتظهر سيادته ‪ ،‬فكان هبوطه‬
‫ّللا هو التائب ال آدم ‪ ،‬والذي صدر من آدم ما‬ ‫علَ ْي ِه »فكان ه‬ ‫هبوط خالفة ال هبوط بعد «فَ َ‬
‫تاب َ‬
‫اقتضته خاصية الكلمات التي تلقاها ‪ ،‬وما فيها ذكر توبته ‪ ،‬وإنما هو مجرد اعتراف وهو قوله(‬
‫سنا َو ِإ ْن لَ ْم ت َ ْغ ِف ْر لَنا َوت َ ْر َح ْمنا لَنَ ُكون ََّن ِمنَ ْالخا ِس ِرينَ )فأنتج لهما هذا االعتراف‬ ‫ظلَ ْمنا أ َ ْنفُ َ‬
‫َربَّنا َ‬
‫علَ ْي ِه »أي رجع عليه بالرحمة ‪ ،‬فرجع عليه بستره ‪ ،‬فحال بينه ذلك الستر‬ ‫تاب َ‬ ‫قوله تعالى« فَ َ‬
‫اإللهي وبين العقوبة التي تقتضيها المخالفة ‪ ،‬وجعل ذلك من عناية االجتباء ‪ ،‬أي لما اجتباه‬
‫أعطاه الكلمات ‪ ،‬ورجع عليه بالصفة التي كان يعامله بها ابتداء من التقريب ‪ ،‬واالعتناء الذي‬
‫جعله خليفة عنه في خلقه ‪ ،‬وكمل به وفيه وجود العالم« َوهَدى »‬
‫‪ -‬الوجه‬

‫) ‪( 1‬أنشد األصمعي للمرقهش ‪:‬‬


‫ي الئما‬
‫فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره *** ومن يغو ال يعدم على الغ ه‬
‫وغوى عند الجوهري بمعنى خاب ( تاج العروس ‪ ،‬ولسان العرب ) وال يوجد في المعاجم‬
‫غوى بمعنى خاف إال أن تكون لغة لم تصل إلينا أو تصحيفا لخاب ‪ ،‬وخاف أليق بمكانة آدم‬
‫عليه السالم‪.‬‬

‫ص ‪115‬‬

‫‪115‬‬
‫األول ‪ -‬أي بيهن له قدر ما فعل وقدر ما يستحقه من الجزاء ‪ ،‬وقدر ما أنعم عليه من االجتباء ‪،‬‬
‫وبيهن له أنه رجع عليه بالرحمة فع همته‬
‫‪ -‬الوجه الثاني «‪َ -‬وهَدى »به من هدى ‪ ،‬ومع التوبة قال له ‪ :‬اهبط ‪ ،‬هبوط والية واستخالف‬
‫ال هبوط طرد ‪ ،‬فهو هبوط مكان ال هبوط رتبة ‪ ،‬ولهذا يضعف القول بتسرمد العذاب ‪ ،‬فإن‬
‫النار مع كونها دار ألم فإن حكم العذاب زائد على كونها دارا ‪ ،‬فإنا نعلم أن خزنتها في نعيم‬
‫دائم ‪ ،‬ما هم فيها بمعذبين مع كونهم ما هم منها بمخرجين ‪ ،‬ألنهم لها خلقوا ‪ ،‬وهي دائمة‬
‫والساكن فيها دائم لكونه مخلوقا لها ‪ ،‬فلما شملت الرحمة آدم بجملته ‪ ،‬وكان حامال لكل بنيه‬
‫بالقوة ‪ ،‬عمت الرحمة الجميع ‪ ،‬إذ ال تحجير ‪ ،‬وال كان يستحق أن يسمى آدم مرحوما وفيه من‬
‫علَ ْي ِه »‬ ‫ال يقبل الرحمة ‪ ،‬والحق يقول« فَ َ‬
‫تاب َ‬
‫أي رجع عليه بالرحمة« َوهَدى »أي بيهن له أنه رجع عليه بها فعمته ‪ ،‬ولهذا يرجى ألهل‬
‫تاب‬ ‫عصى آ َد ُم َربَّهُ فَغَوى ث ُ َّم ْ‬
‫اجتَباهُ َربُّهُ فَ َ‬ ‫الشقاء أن ال يتسرمد عليهم العذاب ‪ ،‬قال تعالى« َو َ‬
‫ّللا به األعداء ‪ ،‬وأفرح به المالئكة األوداء ‪ ،‬فتلقى من‬ ‫علَ ْي ِه َوهَدى »وما تركه سدى ‪ ،‬فأغاظ ه‬‫َ‬
‫ربه الكلمات ‪ ،‬وكانت له من أعظم الهبات ‪ ،‬فتحقق بحقائق المحبة ‪ ،‬ورجع إلى ما كان عليه‬
‫من المنزلة والقربة ‪ ،‬وهذا حكم سار في الذرية ‪ ،‬أعطته هذه البنية ‪ ،‬فما ث هم إال من ه هم ول هم ‪،‬‬
‫وإن كان الموجود األتم ‪ ،‬فاعلم إن كنت تعلم ‪ ،‬فاجتبي آدم عليه السالم قبل أن يتاب عليه ‪ ،‬ألن‬
‫سابقة قدمه سبقت إليه ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 123‬إلى ‪]125‬‬


‫عد ٌُّو فَ ِإ هما يَأ ْ ِتيَنه ُك ْم ِم ِنّي ُهدى فَ َم ِن اتهبَ َع ُهد َ‬
‫َاي فَ َال يَ ِض ُّل َو َال‬ ‫ض ُك ْم ِلبَ ْع ٍ‬
‫ض َ‬ ‫قَا َل ا ْه ِب َطا ِم ْن َها َج ِميعا بَ ْع ُ‬
‫ض ْنكا َونَحْ ش ُُرهُ يَ ْو َم ا ْل ِقيَا َم ِة أ َ ْع َمى‬
‫ض ع َْن ِذ ْك ِري فَ ِإ هن لَهُ َم ِعيشَة َ‬ ‫شقَى (‪َ )123‬و َم ْن أَع َْر َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ب ِل َم َحش َْرتَنِي أ َ ْع َمى َوقَ ْد ُك ْنتُ بَ ِصيرا (‪)125‬‬ ‫(‪ )124‬قَا َل َر ّ ِ‬
‫قلنا إن السمع والبصر قسمان ‪ :‬عادي وحقيقي ‪،‬‬
‫فالعادي سمع القلب باألذن وإبصاره بالعين ‪ ،‬وهو عام في المؤمن والكافر ‪،‬‬
‫ّللا تعالى عن الكافر في غير ما آية ‪،‬‬ ‫والحقيقي بصر العين بالقلب وسمع األذن به ‪ ،‬وقد نفاه ه‬
‫ش ُرهُ يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة أَعْمى ‪ ،‬قا َل َربه ِ ِل َم َحش َْرتَنِي أَعْمى َوقَ ْد ُك ْنتُ‬ ‫وبهذا يفهم قوله تعالى« َون َْح ُ‬
‫ّللا تعالى يعيدهم بأبصارهم‬ ‫صيرا ً » مع العلم بأن ه‬ ‫بَ ِ‬

‫ص ‪116‬‬

‫‪116‬‬
‫العادية كحالهم في الدنيا ‪ ،‬تحقيقا لقوله تعالى( َكما بَ َدأْنا أ َ َّو َل خ َْل ٍ‬
‫ق نُ ِعي ُدهُ )ولكن الحكم في تلك‬
‫الدار لألبصار الحقيقية المستفادة من نور صفاته ‪ ،‬بواسطة استجابة القلب آلياته ‪ ،‬وتوجهه‬
‫لنورها إلى عالم الغيب ‪ ،‬وقلب الكافر في الدنيا كان خاليا من نور التوحيد ‪ ،‬فكان بصره ال‬
‫يرجع إلى قلبه ‪ ،‬ألنه ال مدد له إال من حسه ‪ ،‬وهو أعمى عن نور آيات التوحيد ‪ ،‬ال جرم أنه‬
‫يحشر يوم القيامة أعمى كما كان في الدنيا ‪ ،‬ال يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ‪ ،‬فكذلك إذا‬
‫قال« ِل َم َحش َْرتَنِي أَعْمى َوقَ ْد ُك ْنتُ بَ ِ‬
‫صيرا ً "‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآلية ‪] 126‬‬


‫سى (‪)126‬‬ ‫قَا َل َكذَ ِلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَ ِ‬
‫سيت َ َها َو َكذَ ِلكَ ا ْليَ ْو َم ت ُ ْن َ‬
‫أي ال بصر في هذه الدار إال من نور صفاتي المستفادة من االستجابة آلياتي ‪ ،‬ومن لم يجعل‬
‫ّللا له نورا فما له من نور‬ ‫ه‬
‫ولذلك قال تعالى ‪:‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 127‬إلى ‪]130‬‬


‫ش ُّد َوأ َ ْبقَى (‪ )127‬أَفَلَ ْم يَ ْه ِد‬ ‫اب ْاآل ِخ َر ِة أ َ َ‬
‫ت َر ِبّ ِه َولَعَذَ ُ‬‫ف َولَ ْم يُ ْؤ ِم ْن بِآيَا ِ‬
‫س َر َ‬‫َو َكذَ ِلكَ نَجْ ِزي َم ْن أ َ ْ‬
‫ت ِألُو ِلي النُّ َهى (‪)128‬‬ ‫سا ِكنِ ِه ْم ِإ هن فِي ذَ ِلكَ َآليَا ٍ‬ ‫ُون فِي َم َ‬ ‫ون يَ ْمش َ‬ ‫لَ ُه ْم َك ْم أ َ ْهلَ ْكنَا قَ ْبلَ ُه ْم ِم َن ا ْلقُ ُر ِ‬
‫س ِبّحْ‬
‫ون َو َ‬ ‫علَى َما يَقُولُ َ‬ ‫ص ِب ْر َ‬‫س ًّمى (‪ )129‬فَا ْ‬ ‫َان ِل َزاما َوأ َ َج ٌل ُم َ‬‫سبَقَتْ ِم ْن َر ِبّكَ لَك َ‬ ‫َولَ ْو َال َك ِل َمةٌ َ‬
‫س ِبّحْ َوأ َ ْط َر َ‬
‫اف النه َه ِار لَعَلهكَ‬ ‫اء الله ْي ِل فَ َ‬
‫غ ُرو ِب َها َو ِم ْن آنَ ِ‬‫طلُوعِ الش ْهم ِس َوقَ ْب َل ُ‬ ‫ِب َح ْم ِد َر ِبّكَ قَ ْب َل ُ‬
‫ضى (‪)130‬‬ ‫ت َ ْر َ‬
‫الصباح والمساء أطراف النهار ‪ ،‬فالمساء ابتداء الليل ‪ ،‬والصباح انتهاء الليل ‪ ،‬والنهار ما بين‬
‫االنتهاء واالبتداء ‪ ،‬والليل ما بين االبتداء واالنتهاء ‪،‬‬
‫ّللا مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حج مائة‬ ‫ّللا عليه وسلم [ من سبهح ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال رسول ه‬
‫حجة ] يعني مقبولة‬
‫ّللا ‪ ،‬أو قال‬ ‫ّللا مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حمل على مائة فرس في سبيل ه‬ ‫[ ومن حمد ه‬
‫ّللا مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد‬ ‫غزا مائة غزوة ‪ ،‬ومن هلل ه‬
‫ّللا مائة بالغداة ومائة بالعشي لم يأت في ذلك اليوم أحد أكثر مما أتى هإال‬ ‫إسماعيل ‪ ،‬ومن كبر ه‬
‫من قال مثل‬

‫ص ‪117‬‬

‫‪117‬‬
‫ما قال أو زاد على ما قال ] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب ‪،‬‬
‫غ ُرو ِبها »فأمرنا بالتسبيح آناء‬ ‫ش ْم ِس َوقَ ْب َل ُ‬ ‫س ِبه ْح ِب َح ْم ِد َر ِبه َك قَ ْب َل ُ‬
‫طلُوعِ ال َّ‬ ‫وهو قوله ه‬
‫عز وجل« َو َ‬
‫سبْحا ً‬ ‫الليل وأطراف النهار ‪ ،‬وما تعرض لذكر النهار في هذا الحكم ألنه قال( إِ َّن لَ َك فِي النَّ ِ‬
‫هار َ‬
‫يال )أي فراغا ‪ ،‬فالنهار لك والليل وأطراف النهار له ‪ ،‬فإذا كنت له في الليل وأطراف‬ ‫ط ِو ً‬
‫َ‬
‫النهار كان لك هو في النهار ‪ ،‬فعطايا الليل وأطراف النهار جزاء التسبيح ‪ ،‬وعطايا النهار‬
‫جزاء االشتغال والفراغ إلى الحق في آناء الليل وأطراف النهار ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآلية ‪] 131‬‬


‫ق َر ِبّكَ َخ ْي ٌر‬ ‫ع ْينَ ْيكَ إِلَى َما َمت ه ْعنَا بِ ِه أ َ ْز َواجا ِم ْن ُه ْم َز ْه َرةَ ا ْل َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا ِلنَ ْفتِنَ ُه ْم فِي ِه َو ِر ْز ُ‬ ‫َو َال ت َ ُمد ههن َ‬
‫َوأ َ ْبقَى (‪)131‬‬
‫ع ْينَي َْك »ليس هذا قوله تعالى ( قُ ْل ِل ْل ُمؤْ ِمنِينَ يَغُضُّوا ِم ْن أَب ِ‬
‫ْصار ِه ْم )‬ ‫" َوال ت َ ُمد ََّّن َ‬
‫فإن الغض له حكم آخر ‪ ،‬ألنه نقص مما تمتد العين إليه ‪ ،‬والنقص هنا أن ال يمد إلى أمر‬
‫ّللا عليه وسلم فزاد علما إلى علمه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫خاص ‪ ،‬أي إلى مرئي خاص ‪ ،‬فعلم ذلك رسول ه‬
‫‪ "،‬إِلى ما َمت َّ ْعنا بِ ِه أ َ ْزواجا ً ِم ْن ُه ْم زَ ْه َرة َ ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا "‬
‫ّللا النساء زهرة حيث كن ‪ ،‬فإذا كن في الدنيا كن زهرة الحياة الدنيا ‪ ،‬فوقع النعيم‬ ‫وقد جعل ه‬
‫بهن حيث كن ‪ ،‬وأحكام األماكن تختلف ‪ ،‬فهن وإن خلقن للنعيم في الدنيا فهن فتنة« ِلنَ ْفتِنَ ُه ْم فِي ِه‬
‫»يستخرج الحق بهن ما خفي عنا فينا مما هو به عالم وال نعلمه من نفوسنا ‪ ،‬فيقوم به الحجة‬
‫لنا وعلينا ‪ ،‬وما فتنهم الحق إال بما سماه زهرة لهم ‪،‬‬
‫لما كانت الزهرة دليلة على الثمرة ومتنزها للبصر ومعطية الرائحة الطيبة ‪،‬‬
‫فإذا لم يدرك صاحب هذه الزهرة رائحتها وال شهدها زهرة وإنما شهدها امرأة وال علم داللتها‬
‫التي سيقت له على الخصوص وزوجت به ‪،‬‬
‫وتنعم بها ونال منها ما نال بحيوانيته ال بروحه وعقله ‪ ،‬فال فرق بينه وبين سائر الحيوان ‪ ،‬بل‬
‫الحيوان خير منه ‪ ،‬ألن كل حيوان مشاهد لفصله المقوم له ‪ ،‬وهذا الشخص ما وقف مع فصله‬
‫المقوم له ‪:‬‬‫ه‬
‫كل شخص زوجه من نفسه *** ولهذا زوجه من جنسه‬
‫فهو كل وهي جزء فلذا *** كثرت أزواجه من نفسه‬
‫« َو ِر ْز ُق َر ِبه َك »ما أعطاك مما أنت عليه في وقتك ‪ ،‬وما لم يعطك وهو ال بد لك فال بد من‬

‫ص ‪118‬‬

‫‪118‬‬
‫وصوله إليك ‪ ،‬وما أبطأ به إال الوقت الزماني الذي هو له ‪ ،‬وما ليس لك فال يصل إليك ‪،‬‬
‫فتتعب نفسك حيث طمعت في غير مطمع ‪ ،‬وما أعني بقولنا إنه لك إال ما تناله على الحد‬
‫اإللهي الذي أباحه لك ‪ ،‬وإن نلته على غير ذلك الحد فما نلت ما هو لك من جانب الحق ‪ ،‬إنما‬
‫نلت ما هو لك من جانب الطبع ‪ ،‬وليس المراد في الدنيا إال ما تناله من جانب الحق ‪ ،‬فالحق‬
‫للدنيا والطبع لآلخرة ‪ ،‬والطبع له اإلباحة والحق له التحجير ‪ ،‬فانظر إلى عطايا ربك فإنها‬
‫أكثر ما تكون ابتالء ‪ ،‬وال تعرف ذلك إال بالميزان ‪ ،‬وذلك أن كل عطاء يصل إليك فهو رزق‬
‫ربك ‪ ،‬ولكن على الميزان المشروع فهو« َخي ٌْر َوأَبْقى »والذي هو خير وأبقى هو الحال الذي‬
‫هو عليه في ذلك الوقت الذي رزقه ‪ ،‬فإنه تعالى ال يتههم في إعطائه األصلح لعبده ‪ ،‬فما أعطاه‬
‫ّللا وإن قل ‪ ،‬فإنه ربما لو أعطاه ما يتمناه العبد طغى وحال‬‫إال ما هو خير في حقه وأسعد عند ه‬
‫بينه وبين سعادته ‪ ،‬فإن الدنيا دار فتنة ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآلية ‪] 132‬‬


‫سأَلُكَ ِر ْزقا نَحْ ُن نَ ْر ُزقُكَ َوا ْلعَا ِقبَةُ ِللت ه ْق َوى (‪)132‬‬ ‫ص َط ِب ْر َ‬
‫علَ ْي َها َال نَ ْ‬ ‫َوأْ ُم ْر أ َ ْهلَكَ ِبال ه‬
‫ص َال ِة َوا ْ‬
‫صالةِ ) يعني بالصبر‬ ‫صب ِْر َوال َّ‬ ‫علَيْها »يريد الصالة ‪ ،‬قال تعالى ( َوا ْست َ ِعينُوا بِال َّ‬ ‫طبِ ْر َ‬‫ص َ‬ ‫" َوا ْ‬
‫على الصالة ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬اآليات ‪ 127‬إلى ‪]130‬‬


‫ف ْاألُولَى (‪َ )133‬ولَ ْو أَنها أ َ ْهلَ ْكنَا ُه ْم‬ ‫ص ُح ِ‬ ‫َوقَالُوا لَ ْو َال يَأْتِينَا ِبآيَ ٍة ِم ْن َر ِبّ ِه أ َ َولَ ْم تَأْتِ ِه ْم بَ ِيّنَةُ َما فِي ال ُّ‬
‫سوال فَنَت ه ِب َع آيَا ِتكَ ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن نَ ِذ هل َونَ ْخ َزى‬ ‫ب ِم ْن قَ ْب ِل ِه لَقَالُوا َربهنَا لَ ْو َال أ َ ْر َ‬
‫س ْلتَ ِإلَ ْينَا َر ُ‬ ‫ِبعَذَا ٍ‬
‫(‪)134‬‬
‫عزه ‪ ،‬وال عز أعظم‬ ‫عز وجل ‪ ،‬ألن ذل الذليل على قدر من ذ هل تحت ه‬ ‫أذل األذالء من كان له ه‬
‫ّللا أصال ‪ ،‬وأما الخزي فال‬ ‫من عز الحق ‪ ،‬فال ذل أذل ممن هو هّلل ‪ ،‬ومن ذل هّلل ال يذل لغير ه‬
‫ّللا في‬ ‫ّللا لمن هو له ‪ ،‬وإنما يكون لمن هو لغير ه‬ ‫يخزى إذا كان هّلل ‪ ،‬فإن الخزي ال يكون من ه‬
‫وّللا ال‬ ‫ّللا عليه وسلم [ كال ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫شهوده ‪ ،‬ولذلك قالت خديجة وورقة بن نوفل لرسول ه‬

‫ص ‪119‬‬

‫‪119‬‬
‫ّللا أبدا ] لما ذكر له ابتداء نزول الناموس عليه ‪ ،‬فالذل صفة شريفة إذا كانت الذلة هّلل ‪،‬‬
‫يخزيك ه‬
‫والخزي صفة ذميمة بكل وجه ‪ ،‬فالخزي الذي يقوم بالعبد إنما هو ما جناه على نفسه بجهله‬
‫ّللا وفي‬
‫وتعديه رسوم سيده وحدوده ‪ ،‬فجميع مذام األخالق وسفسافها صفات مخزية عند ه‬
‫العرف ‪ ،‬فمن كان هّلل لم يذل وال يخزى أبدا ‪.‬‬

‫[ سورة طه ( ‪ : ) 20‬آية ‪] 135‬‬


‫ي ِ َو َم ِن ا ْهتَدى ( ‪) 135‬‬
‫س ِو ّ‬
‫راط ال ه‬
‫ص ِ‬ ‫ون َم ْن أَص ُ‬
‫ْحاب ال ِ ّ‬ ‫ست َ ْعلَ ُم َ‬‫صوا فَ َ‬‫ص فَت َ َربه ُ‬
‫قُ ْل ُك ٌّل ُمت َ َر ِبّ ٌ‬
‫[ التربص ]‬
‫بن عذابا ال أعذهبه أحدا من‬ ‫وعزتي وجاللي ‪ ،‬وما أخفيته من سنهي علمي ألعذه ه‬ ‫ه‬ ‫ه‬
‫الحق ‪:‬‬ ‫يقول‬
‫العالمين ‪ ،‬من كذهب رسلي وكذهب اختصاصي لهم من سائر العباد ‪ ،‬وكذهب بصفاتي وادهعى أنه‬
‫ي وأدخلني تحت الحصر ‪ ،‬وكذهب كالمي ه‬
‫وتأوله من غير علم به ‪،‬‬ ‫ليس لي صفة ‪ ،‬وأوجب عل ه‬
‫وكذهب بلقائي ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنهي لم أخلقه ‪ ،‬وإني غير قادر على بعثه كما بدأته ‪ ،‬وكذهب بحشري‬
‫ي وميزاني ‪ ،‬وصراطي ورؤيتي ‪ ،‬وناري وجنهتي ‪ ،‬وزعم أنهها أمثلة‬ ‫ونشري ‪ ،‬وحوض نب ه‬
‫وعزتي وجاللي لتردون وتعلمون من أصحاب‬ ‫ه‬ ‫وعبارات ‪ ،‬المراد بها أمور فوق ما ظهر ‪،‬‬
‫وألنتقمن في دار الخزي والعذاب منهم ‪ ،‬على ما أخبرت في‬ ‫ه‬ ‫الصراط السوي ومن اهتدى ‪،‬‬
‫سولت لهم األباطيل ‪،‬‬ ‫كتبي ‪ ،‬كذهبوني وصدهقوا أهواءهم ‪ ،‬ونفوسهم ه‬
‫وشياطينهم لعبت بهم ( إنهكم وما تعبدون حصب جهنم أنتم لها ورادون ) قف عند حدهي ‪،‬‬
‫السر الخفي ‪ ،‬صراطي ممدود على ناري ‪ ،‬فالويل‬ ‫ه‬ ‫وانظر في كتابي ‪ ،‬فهو النور الجلي ‪ ،‬وفيه‬
‫كل الويل لمن كذهبني ‪ ،‬ك هل حزب بما لديهم فرحون ‪ ،‬وك هل له شرب معلوم ‪ ،‬وسيردون‬
‫فيعلمون ‪ ،‬كأنههم ما سمعوا ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود‪) .‬‬

‫ص ‪120‬‬

‫‪120‬‬
‫) ‪ ( 21‬سورة األنبياء مكيّة‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬‫من ه‬
‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬‫س ِم ه ِ‬‫بِ ْ‬
‫ُون ) ‪( 1‬‬ ‫اس ِحسابُ ُه ْم َو ُه ْم فِي َ‬
‫غ ْفلَ ٍة ُم ْع ِرض َ‬ ‫ب ِللنه ِ‬ ‫ْ‬
‫اقت َ َر َ‬
‫اعلم أنه ما أتي على أحد إال من الغفلة عما يجب عليه من الحقوق ‪ ،‬التي أوجب الشرع عليه‬
‫أداءها ‪ ،‬فمن أحضرها نصب عينيه وسعى جهده في أدائها ‪ ،‬ثم حالت بينه وبين أدائها موانع‬
‫ّللا بذمته ‪ ،‬وال حرج عليه وال جناح ‪ ،‬وال‬‫ّللا ‪ ،‬فقد وفي األمر حقه ووفى ه‬ ‫تقيم له العذر عند ه‬
‫خاطبه الحق بوجوب حق عليه مع ذلك المانع ‪ ،‬وأما إذا تغافل حتى أوجب له ذلك التغافل‬
‫ّللا عليه فعله وتركه ‪،‬‬
‫ّللا بها ‪ ،‬فإنه متعمل قاصد فيما يحول بينه وبين ما أوجب ه‬ ‫الغفلة آخذه ه‬
‫فما بقي لظهور الساعة ؟ ووجود آدم من شروط اقترابها ‪ ،‬فهذا أوان الساعة قد اقترب ‪ ،‬ولو‬
‫أزال الناس الغفلة لتنبهوا ‪ ،‬ولو تنبهوا لسمعوا خطاب البهائم ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 2‬‬


‫ست َ َمعُوهُ َو ُه ْم يَ ْلعَبُ َ‬
‫ون ( ‪) 2‬‬ ‫ث إِاله ا ْ‬ ‫ما يَأْتِ ِ‬
‫يه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِم ْن َر ِبّ ِه ْم ُمحْ َد ٍ‬
‫[ وصف الذكر وهو القرآن ]‬
‫ّللا المنعوت بالقدم فالذي جاءهم‬ ‫« ما يَأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر »ليس الذكر إال القرآن ‪ ،‬وما هو إال كالم ه‬
‫ث »فوصف‬ ‫إنما هو المتكلم به ‪ِ «،‬م ْن َر ِبه ِه ْم »من سيدهم ومالكهم ومصلحهم ومغذيهم« ُم ْح َد ٍ‬
‫الحق الذكر بالحدوث وإن كان كالمه قديما ‪ ،‬فحدث عندنا الذكر ال في نفسه تعالى ‪ ،‬والذكر‬
‫هنا هو المتكلم به ال عين الكالم ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬والمتكلم به ما هو عين‬‫فالكالم موصوف بالقدم ألنه راجع إلى ذات المتكلم إذا أردت كالم ه‬
‫الكالم ‪ ،‬وقد يكون المتكلم به معنى وقد يكون غير معنى ‪،‬‬
‫ثم إن ذلك المعنى قد يكون قديما وقد يكون حادثا ‪ ،‬فالمتكلم به أيضا ال يلزم قدمه وال حدوثه‬
‫إال من حيث إسماع المخاطب ‪ ،‬فإنه سمع أمرا لم يكن سمعه قبل ذلك فقد حدث عنده ‪ ،‬فعلى‬
‫الحقيقة إتيان الذكر على من أتى عليه هو حادث بال شك ‪،‬‬
‫ألن ذلك اإلتيان الخاص لم يكن موصوفا بالوجود ‪ ،‬وإن كان اآلتي أقدم من إتيانه ال من‬

‫ص ‪121‬‬

‫‪121‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ووصف‬ ‫ّللا قديم من كونه صفة المتكلم به وهو ه‬ ‫حيث إتيانه بل من حيث عينه ‪ ،‬فكالم ه‬
‫بأنه محدث اإلتيان والنزول أي حدث عندهم بإتيانه كما تقول حدث عندنا ضيف ‪ ،‬فإنه ال يدل‬
‫ّللا الذكر هنا بالحدوث‬ ‫ذلك أنه لم يكن له وجود قبل ذلك ‪ ،‬ولما كان القرآن في حقنا نزل نعت ه‬
‫‪ ،‬ألنه نزل على محدث ألنه حدث عنده ما لم يكن يعلمه ‪،‬‬
‫ّللا المنعوت بالقدم حدث عندهم حين سمعوه فهو‬ ‫فهو محدث عنده بال شك وال ريب ‪ ،‬فكالم ه‬
‫محدث اإلتيان قديم بالعين ‪ ،‬وجاء في مواد حادثة ما وقع السمع وال تعلق إال بها بما دلت عليه‬
‫هذه األخبار ‪ ،‬والذي دلت عليه منه ما هو موصوف بالقدم ومنه ما هو موصوف بالحدوث ‪،‬‬
‫فله الحدوث من وجه وله القدم من وجه ‪،‬‬
‫فإن قلت هذا الحادث هل هو محدث في نفسه أوليس بمحدث ‪ ،‬قلنا اعلم أن كالم الحادث محدث‬
‫ّللا له الحدوث والقدم ‪ ،‬فله عموم الصفة فإن له اإلحاطة ولنا التقييد ‪ ،‬فال يضاف‬ ‫وكالم ه‬
‫ّللا إال إذا كتبه الحادث أو تاله ‪ ،‬وال يضاف القدم إلى كالم الحادث إال إذا‬ ‫الحدوث إلى كالم ه‬
‫ّللا من عباده في الدنيا‬ ‫ّللا عند من أسمعه كالمه ‪ ،‬كموسى عليه السالم ومن شاء ه‬ ‫تكلم به ه‬
‫واآلخرة وأهل السعادة وأهل الشقاء ‪،‬‬
‫وإن قلنا في هذا الحادث إنه صفة الحق التي يستحقها قلنا بقدمها بال شك ‪ ،‬فإنه يتعالى أن تقوم‬
‫الصفات الحادثات به فكالم الحق قديم في نفسه قديم بالنسبة إليه ‪ ،‬محدث أيضا ‪ ،‬كما قال عند‬
‫من أنزل عليه من حيث تعلق علمهم به ‪ ،‬فإنه ال يعلم الكون المحدث إال محدث مثله ‪ ،‬ألنه ال‬
‫باّلل محال ‪،‬‬
‫يعلم الشيء إال بصفته النفسية ‪ ،‬فعلمنا ه‬
‫فما تعلق العلم إال بمحدث ‪ ،‬ومن وجه آخر يحتمل أن يكون قوله تعالى ‪ «:‬ما يَأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر‬
‫ث »أي أحدثت بعض هذه األمور السؤاالت ‪ ،‬فهو الذكر المحدث لما حدث وقد‬ ‫ِم ْن َر ِبه ِه ْم ُم ْح َد ٍ‬
‫كان له الوجود ‪ ،‬وعين المخاطب مفقود ( إال استمعوه وهم يلعبون ) فذم من لم يتلقاه بالقبول ‪،‬‬
‫ومن هذه اآلية ثبت حدوث القرآن عندهم ال في عينه ‪ ،‬فنعلم أن القرآن مجدد اإلنزال على‬
‫ّللا الحكيم الحميد ‪،‬‬ ‫قلوب التالين له دائما أبدا ‪ ،‬ال يتلوه من يتلوه إال عن تجديد تنزل من ه‬
‫وقلوب التالين لنزوله عرش يستوي عليها في نزوله إذا أنزل ‪،‬‬
‫وبحسب ما يكون عليه القلب المتخذ عرشا الستواء القرآن عليه من الصفة يظهر القرآن بتلك‬
‫الصفة في نزوله ‪ ،‬وذلك في حق بعض التالين ‪،‬‬
‫وفي حق بعضهم تكون الصفة للقرآن فيظهر عرش القلب بها عند نزوله عليه ‪ ،‬فقرآن عظيم‬
‫لعرش عظيم ‪ ،‬وقرآن كريم لعرش كريم ‪ ،‬وقرآن مجيد لعرش مجيد ‪ ،‬فكل قرآن مستو على‬
‫عرشه‬

‫ص ‪122‬‬

‫‪122‬‬
‫بالصفة الجامعة بينهما ‪ ،‬فلكل قلب قرآن من حيث صفته مجدد اإلنزال ال مجدد العين ‪ -‬راجع‬
‫سورة البقرة آية ‪– 122‬‬
‫ولما كان االسم الرب ال يرد إال مقيدا فإذا كان حدوث القرآن في اإلنزال على القلب من الرب‬
‫ينزل مقيدا وال بد ‪ ،‬فيكون عند ذلك قرآنا كريما ‪ ،‬أو قرآنا مجيدا ‪ ،‬أو قرآنا عظيما ‪ ،‬ويكون‬
‫القلب النازل عليه بمثل ما نزل عليه من الصفة عرشا عظيما ‪ ،‬أو عرشا كريما ‪ ،‬وإذا حدث‬
‫ث »لم يتقيد بإضافة أمر‬‫من ُم ْح َد ٍ‬ ‫نزوله من الرحمن على القلب« ما يَأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِمنَ َّ‬
‫الر ْح ِ‬
‫خاص ‪،‬‬
‫فكان القلب له عرشا غير مقيد بصفة خاصة ‪ ،‬بل له مجموع الصفات واألسماء ‪ ،‬فإن االسم‬
‫الرحمن له اإلطالق فكما أن الرحمن له األسماء الحسنى ‪ ،‬لهذا العرش النعوت العلى‬
‫بمجموعها فإن القرآن إذا نزل على قلب عبد وظهر فيه حكمه واستوى عليه بجميع ما هو عليه‬
‫مطلقا كان خلقا لهذا القلب ‪ ،‬فما من آية في القرآن إال ولها حكم في قلب هذا العبد ‪ ،‬ألن القرآن‬
‫لهذا نزل ‪ ،‬ليحكم ال ليحكم عليه ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 3‬إلى ‪] 7‬‬


‫سِحْ َر َوأ َ ْنت ُ ْم‬
‫ون ال ّ‬‫ِين َظلَ ُموا َه ْل هذا إِاله بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم أ َ فَتَأْت ُ َ‬ ‫س ُّروا النهجْ َوى الهذ َ‬ ‫ال ِهيَة قُلُوبُ ُه ْم َوأ َ َ‬
‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ( ‪ ) 4‬بَ ْل قالُوا‬ ‫ض َو ُه َو ال ه‬ ‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫ون ) ‪( 3‬قا َل َر ِبّي يَ ْعلَ ُم ا ْلقَ ْو َل فِي ال ه‬ ‫ت ُ ْب ِص ُر َ‬
‫ون ) ‪ ( 5‬ما آ َمنَتْ قَ ْبلَ ُه ْم ِم ْن‬ ‫س َل ْاأل َ هولُ َ‬ ‫افتَراهُ بَ ْل ُه َو شا ِع ٌر فَ ْليَأْتِنا ِبآيَ ٍة كَما أ ُ ْر ِ‬ ‫الم بَ ِل ْ‬‫غاث أَحْ ٍ‬ ‫ض ُ‬ ‫أَ ْ‬
‫سئَلُوا أ َ ْه َل ال ِذّ ْك ِر‬ ‫وحي ِإلَ ْي ِه ْم فَ ْ‬
‫س ْلنا قَ ْبلَكَ ِإاله ِرجاال نُ ِ‬ ‫ون ) ‪َ ( 6‬وما أ َ ْر َ‬ ‫قَ ْريَ ٍة أ َ ْهلَ ْكناها أ َ فَ ُه ْم يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ) ‪( 7‬‬ ‫ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ّللا وخاصته ‪ ،‬وأهل القرآن هم الذين يعملون به ‪ -‬راجع سورة‬ ‫أهل الذكر هم أهل القرآن أهل ه‬
‫النحل آية ‪. - 43‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 8‬‬


‫طعا َم َوما كانُوا خا ِلد َ‬
‫ِين ( ‪) 8‬‬ ‫سدا ال يَأ ْ ُكلُ َ‬
‫ون ال ه‬ ‫َوما َجعَ ْلنا ُه ْم َج َ‬
‫[ ما هي األجساد ؟ ]‬
‫الصور المحسوسة التي تظهر فيها الروحانيات تسمى أجسادا ‪ ،‬وال يكون غذاؤها‬

‫ص ‪123‬‬

‫‪123‬‬
‫الطعام ‪ ،‬فالطعام غذاء األشباح ‪ ،‬أما الجان ولو تشكل فغذاؤه ما يحمله الهواء مما في األجسام‬
‫الطبيعية من المطاعم ‪ ،‬والمالئكة غذاؤهم ليس كذلك ‪ ،‬فالصور ثالثة عنصرية ونورية‬
‫ّللا بتجل بين اللطائف والصور ‪ ،‬وتتجلى في تلك الصور‬‫وجسدية ‪ ،‬فالصور الجسدية أحدثها ه‬
‫الجسدية الصور النورية والنارية ظاهرة للعين ‪ ،‬وتتجلى الصور الحسية حاملة للصور‬
‫المعنوية في هذه الصور الجسدية في النوم وبعد الموت وقبل البعث وهو البرزخ الصوري ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 9‬إلى ‪] 16‬‬


‫ين ( ‪ ) 9‬لَقَ ْد أ َ ْن َز ْلنا إِلَ ْي ُك ْم ِكتابا فِي ِه‬ ‫صد َْقنا ُه ُم ا ْل َو ْع َد فَأ َ ْن َج ْينا ُه ْم َو َم ْن نَشا ُء َوأ َ ْهلَ ْكنَا ا ْل ُم ْ‬
‫س ِرفِ َ‬ ‫ث ُ هم َ‬
‫ين (‬ ‫ص ْمنا ِم ْن قَ ْريَ ٍة كانَتْ ظا ِل َمة َوأ َ ْنشَأْنا بَ ْعدَها قَ ْوما آ َخ ِر َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 10‬و َك ْم قَ َ‬ ‫ِذ ْك ُر ُك ْم أ َ فَال ت َ ْع ِقلُ َ‬
‫ار ِجعُوا إِلى ما أُتْ ِر ْفت ُ ْم فِي ِه‬ ‫ُون ( ‪ ) 12‬ال ت َ ْر ُكضُوا َو ْ‬ ‫سنا إِذا ُه ْم ِم ْنها يَ ْر ُكض َ‬ ‫سوا بَأ ْ َ‬ ‫) ‪11‬فَلَ هما أ َ َح ُّ‬
‫ون ) ‪( 13‬‬ ‫سئَلُ َ‬ ‫َو َمسا ِكنِ ُك ْم لَعَله ُك ْم ت ُ ْ‬
‫ِين (‬‫خامد َ‬ ‫ين ( ‪ ) 14‬فَما زالَتْ تِ ْلكَ َدعْوا ُه ْم َحتهى َجعَ ْلنا ُه ْم َح ِصيدا ِ‬ ‫قالُوا يا َو ْيلَنا ِإنها ُكنها ظا ِل ِم َ‬
‫ين ) ‪( 16‬‬ ‫ض َوما بَ ْينَ ُهما ال ِع ِب َ‬ ‫سما َء َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫‪َ ) 15‬وما َخلَ ْقنَا ال ه‬
‫عبَثا ً »‪.‬‬ ‫هو قوله تعالى ‪ «:‬أ َ فَ َح ِس ْبت ُ ْم أَنَّما َخلَ ْقنا ُك ْم َ‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 17‬‬


‫لَ ْو أ َ َردْنا أ َ ْن نَت ه ِخذَ لَهْوا الت ه َخ ْذناهُ ِم ْن لَ ُدنها ِإ ْن ُكنها فا ِع ِل َ‬
‫ين ( ‪) 17‬‬
‫« لَ ْو أ َ َر ْدنا أ َ ْن نَت َّ ِخذَ لَ ْهوا ً »يعني الولد« َالت َّ َخ ْذناهُ ِم ْن لَ ُدنَّا »وما له ظهور إال من الصاحبة التي‬
‫هي األم ‪ ،‬وهي من لدنه فما خرج عن نفسه ‪ ،‬وجاء بحرف لو فدل على االمتناع« ِإ ْن ُكنَّا‬
‫فا ِع ِلينَ »أي ما كنا فاعلين أن نتخذه من غيرنا ‪ ،‬ومن جعل إن شرطا ال نفيا يكون معنى إن كنا‬
‫فاعلين أن نتخذ لهوا نتخذه من عندنا ال من عندكم‪.‬‬

‫ص ‪124‬‬

‫‪124‬‬
‫[سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 18‬إلى ‪] 19‬‬
‫ون ( ‪َ ) 18‬ولَهُ َم ْن‬ ‫باط ِل فَيَ ْد َمغُهُ فَ ِإذا ُه َو زا ِه ٌ‬
‫ق َولَ ُك ُم ا ْل َو ْي ُل ِم هما ت َ ِصفُ َ‬ ‫علَى ا ْل ِ‬ ‫ق َ‬ ‫بَ ْل نَ ْقذ ُ‬
‫ِف ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ستَحْ ِ‬
‫س ُر َ‬
‫ون ( ‪) 19‬‬ ‫ون ع َْن ِعبا َدتِ ِه َوال يَ ْ‬ ‫ض َو َم ْن ِع ْن َدهُ ال يَ ْ‬
‫ست َ ْكبِ ُر َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫فِي ال ه‬
‫« َو َم ْن ِع ْن َدهُ »هم المالئكة المهيمة الكروبيون جلساء الحق تعالى بالذكر ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا تعالى لما‬
‫تسمى بالملك رتب العالم ترتيب المملكة ‪ ،‬فجعل له خواص من عباده وهم المالئكة المهيمة ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 20‬‬


‫هار ال يَ ْفت ُ ُر َ‬
‫ون ( ‪) 20‬‬ ‫ون الله ْي َل َوالنه َ‬
‫س ِبّ ُح َ‬
‫يُ َ‬
‫[ تسبيح المالئكة ]‬
‫تسبيح المالئكة مثلنا في أنفاسنا دوام متوال من غير مشقة نجده في تنفسنا ‪ ،‬بل األنفاس عين‬
‫الراحة لنا ‪ ،‬بل لوالها لمتنا ‪ ،‬فالمالئكة ال يلحقهم في تسبيحهم عي وال نصب ‪ ،‬فإن نسبة‬
‫التسبيح إليهم نسبة األنفاس إلينا ‪ ،‬تقتضيها نشأتهم كما تقتضي نشأتنا األنفاس ‪ ،‬ألن عالم‬
‫األرواح ما يتعبهم القيام وال يدركهم الملل ‪ ،‬ألن النشأة النورية خارجة عن حكم األركان ‪،‬‬
‫فيسبحون الليل والنهار ال يفترون في غير ليل وال نهار ‪ ،‬وهذا التسبيح ال يكون إال عن شهود‬
‫دائم ال عن تقديس عرضي ‪ ،‬وما عندنا خبر من جانب الحق تعالى في ذلك مروي وال غير‬
‫مروي أن هذا المقام ناله أحد من البشر ‪ ،‬وبهذا القدر يتبين فضل الملك على اإلنسان في‬
‫العبادة لكونه ال يفتر ‪ ،‬ألن حقيقة نشأته تعطيه أنه ال يفتر ‪ ،‬فتقديسه ذاتي ألن تسبيحه ال يكون‬
‫إال عن حضور مع المسبح ‪ ،‬وليس تسبيحه إال لمن أوجده ‪ ،‬فهو مقدس الذات عن الغفالت ‪،‬‬
‫فلم تشغله نشأته الطبيعية النورية عن تسبيح خالقه على الدوام ‪ ،‬مع كونهم من حيث نشأتهم‬
‫يختصمون ‪ ،‬كما أن البشر من حيث نشأته تنام عينه وال ينام قلبه ‪ ،‬ولم يعط البشر قوة الملك‬
‫في ذلك ألن الطبيعة يختلف مزاجها في األشخاص ‪ ،‬وهذا مشهود بالضرورة في عالم‬
‫العناصر ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 21‬إلى ‪] 22‬‬


‫ّللا‬ ‫سدَتا فَ ُ‬
‫س ْب َ‬
‫حان ه ِ‬ ‫يهما آ ِل َهةٌ إِاله ه‬
‫ّللاُ لَفَ َ‬ ‫ون ( ‪ ) 21‬لَ ْو َ‬
‫كان فِ ِ‬ ‫ش ُر َ‬ ‫أ َ ِم ات ه َخذُوا آ ِل َهة ِم َن ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض ُه ْم يُ ْن ِ‬
‫ون) ‪( 22‬‬ ‫ع هما يَ ِصفُ َ‬ ‫ب ا ْلعَ ْر ِش َ‬ ‫َر ّ ِ‬

‫ص ‪125‬‬

‫‪125‬‬
‫[ الدليل العقلي على أحديهة الخالق ]‬
‫س َدتا »فإنه قد أجمعنا مع المشركين‬ ‫« لَ ْو كانَ ِفي ِهما »يعني في السماء واألرض« آ ِل َهةٌ ِإ َّال َّ‬
‫ّللاُ لَفَ َ‬
‫ّللا على أحديته‬‫على ثبوته سبحانه ‪ ،‬وخالفونا في األحدية ‪ ،‬فكان الدليل المنصوب لهم من عند ه‬
‫‪ ،‬أنه لو كان له شريك في فعله يسمى إلها لكان ال يخلو إما أن يختلفا في كون الشيء أو يتفقا ‪،‬‬
‫فإن اختلفا فالذي ينفذ اقتداره هو اإلله ‪ ،‬والذي يعجز ليس بإله ‪،‬‬
‫وإن اتفقا فيقدهر االختالف ‪ ،‬فيلزم منه ذلك بعينه ‪ ،‬وتقدير اإلمكان في المحال بالفرض ‪،‬‬
‫كوقوع الكائن في أحد اإلمكانين على السواء ‪ ،‬وهذا القدر كاف فيما يعطيه عقول األعراب ‪،‬‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫فإنه ال أجهل ممن اتخذ شريكا مع ه‬
‫ّللا ال توحيد الذات ‪ ،‬فإن الذات ال يصح أن تعلم أصال‬ ‫اعلم أن العلم بتوحيد األلوهة لمسمى ه‬
‫ّللا علم دليل فكري ال علم شهود كشفي ‪ ،‬فالعلم بالتوحيد ال يكون ذوقا أبدا وال‬ ‫فالعلم بتوحيد ه‬
‫تعلق له إال بالمراتب ‪،‬‬
‫ّللاُ »وهذا بطريق فرض المحال ‪ ،‬فوحد اإلله ‪ ،‬وما‬ ‫قال تعالى ‪ «:‬لَ ْو كانَ فِي ِهما آ ِل َهةٌ ِإ َّال َّ‬
‫ّللا سبحانه ‪ ،‬ألن الفكر فيها ممنوع شرعا ( لفسدتا ) أي لم يوجدا يعني العالم‬ ‫تعرض لذات ه‬
‫ّللا إله آخر لفسد النظام واألمر ‪،‬‬
‫العلوي وهو السماء ‪ ،‬والسفلي وهو األرض ‪ ،‬أي لو كان مع ه‬
‫وقد وجد الصالح وهو بقاء العالم ‪ ،‬فدل على أن الموجد له لو لم يكن واحدا ما صح وجود‬
‫العالم ‪ ،‬هذا دليل الحق على أحديته ‪ ،‬وطابق الدليل العقلي في ذلك ‪ ،‬ولو كان غير هذا من‬
‫األدلة أدل منه عليه لعدل إليه وجاء به ‪ ،‬وما عرفنا بهذا وال بالطريق إليه في الداللة عليه ‪،‬‬
‫س َدتا »هذه المقدمة ‪،‬‬ ‫فقوله تعالى ‪ «:‬لَ ْو كانَ فِي ِهما آ ِل َهةٌ ِإ َّال َّ‬
‫ّللاُ لَفَ َ‬
‫ّللا ما فسدتا ‪ ،‬وهذه هي المقدمة‬‫والمقدمة األخرى السماء واألرض وأعني بهما كل ما سوى ه‬
‫األخرى ‪ ،‬والجامع بين المقدمتين وهو الرابط الفساد ‪ ،‬فانتجتا أحدية المخصص وهو المطلوب‬
‫‪ ،‬وإنما قلنا ذلك ألنه لو كان ثم إله زائد على الواحد لم يخل هذا الزائد إما أن يتفقا في اإلرادة‬
‫أو يختلفا ‪ ،‬ولو اتفقا فليس بمحال أن يفرض الخالف لننظر من تنفذ إرادته منهما ‪ ،‬فإن اختلفا‬
‫حقيقة أو فرضا في اإلرادة فال يخلو إما أن ينفذ في الممكن حكم إرادتيهما معا وهو محال ‪،‬‬
‫ألن الممكن ال يقبل الضدين وإما أن ال ينفذا ‪ ،‬وإما أن ينفذ حكم إرادة أحدهما دون اآلخر ‪ ،‬فإن‬
‫لم ينفذ حكم إرادتيهما فليس واحد منهما بإله ‪ ،‬وقد وقع الترجيح فال بد أن يكون أحدهما نافذ‬
‫اإلرادة وقصر اآلخر عن تنفيذ إرادته فحصل العجز ‪ ،‬واإلله ليس بعاجز ‪ ،‬فاإلله من نفذت‬
‫ّللا عليه وسلم بعثا‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا الواحد ال شريك له ‪ ،‬ولهذا األصل ما بعث رسول ه‬ ‫إرادته وهو ه‬
‫قط ولو كان اثنين إال قدم أحدهما وجعل اآلخر‬

‫ص ‪126‬‬

‫‪126‬‬
‫تبعا ‪ ،‬وإن لم يكن كذلك فسد األمر والنظام ‪ ،‬فال يصح إقامة ملك بين مدبرين ‪ ،‬وإن اتحدت‬
‫إرادتهما ‪ ،‬ولما كان ال يصح عقال وال شرعا تدبير ملك بين أميرين متناقضين في أحكامهما‬
‫وإن فرض اتحاد اإلرادة في حق المخلوقين فإن حكم العادة يأبى ذلك والشرع في حق هذين‬
‫ّللا تعالى أن يدبر هذا الملك إال واحد ‪ ،‬وصرح بذلك على لسان رسوله‬ ‫األميرين ‪ ،‬لم يرد ه‬
‫ّللا عليه وسلم ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا اآلخر منهما )‬ ‫صلهى ه‬
‫شعر ‪:‬‬
‫جمع األنام على إمام واحد *** عين الدليل على اإلله الواحد‬
‫ّللا للناس إماما في الظاهر واحدا يرجع إليه أمر الجميع إلقامة الدين ‪ ،‬وأمر عباده أن ال‬ ‫فجعل ه‬
‫ّللا بقتاله ‪ ،‬لما علم أن منازعته تؤدي إلى فساد في‬ ‫ينازعوه ‪ ،‬ومن ظهر عليه ونازعه أمرنا ه‬
‫ّللا بإقامته ‪،‬‬‫الدين الذي أمرنا ه‬
‫س َدتا )فمن هناك ظهر اتخاذ اإلمام وأن يكون‬ ‫وأصله قوله تعالى ‪ (:‬لَ ْو كانَ فِي ِهما آ ِل َهةٌ ِإ َّال َّ‬
‫ّللاُ لَفَ َ‬
‫واحدا في الزمان ظاهرا بالسيف ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 23‬‬


‫ون ) ‪( 23‬‬ ‫سئَلُ َ‬ ‫ع هما يَ ْفعَ ُل َو ُه ْم يُ ْ‬
‫سئ َ ُل َ‬
‫ال يُ ْ‬
‫ع َّما يَ ْفعَ ُل )فإنه ما فعل من نفسه ابتداء وإنما فعل بك في‬ ‫هّلل الحجة البالغة في قوله ‪ (:‬ال يُ ْسئ َ ُل َ‬
‫ّللا عند ذلك على ما‬ ‫وجودك ما كنت عليه في ثبوتك ‪ .‬ولهذا قال (‪َ :‬و ُه ْم يُ ْسئَلُونَ )وقد أطلعهم ه‬
‫كانوا عليه وأن علمه ما تعلق بهم إال بحسب ما هم عليه فيعرفون إذا سئلوا أنه تعالى ما حكم‬
‫لِلَف ْال ُح َّجةُ ْالبا ِلغَةُ‬
‫فيهم إال بما كانوا عليه ‪ ،‬وإذا سئلوا وهم يشهدون اعترفوا فيصدق قوله‪ِ َّ ِ َ " :‬‬
‫ولكن أكثر الناس ال يعلمون » فإن سر القدر هو كون العبد مجبورا في اختياره ‪،‬‬
‫ّللا فاعل مختار فإن ذلك من أجل قوله ‪َ (:‬ويَ ْخ ُ‬
‫تار )‬ ‫ومع أن ه‬
‫وقوله ‪َ (:‬ولَ ْو ِشئْنا )وال يفعل إال ما سبق به علمه ‪ ،‬وتبدل العلم محال ‪ ،‬فمن تفطن للقول‬
‫اإللهي فإن معناه في غاية البيان ولشدة وضوحه خفي ‪ ،‬ومن وقف على هذه المسألة لم‬
‫ّللا في كل ما يقضيه ويجريه على عباده ‪ ،‬وفيهم ومنهم ‪،‬‬ ‫يعترض على ه‬
‫ع َّما يَ ْفعَ ُل َو ُه ْم يُ ْسئَلُونَ »‬
‫ولهذا قال ‪ «:‬ال يُ ْسئ َ ُل َ‬
‫ّللا كفتك هذه اآلية في المقصود ‪ ،‬فإن هذه اآلية متعلقة بالقهر‬ ‫فلو كنت عاقال تفهم من ه‬
‫والجبروت وإثبات الملك ‪ ،‬فإذا ثبتت هذه األوصاف في قلب العبد استحال عليه طلب العلة ‪،‬‬
‫وكل ما يكون فيه اعتراض ‪ ،‬فإن أفعال الحق ال ينبغي أن تعلل ‪ ،‬فإنه‬

‫ص ‪127‬‬

‫‪127‬‬
‫ما ثم علة موجبة لتكوين شيء إال عين وجود الذات وقبول عين الممكن لظهور الوجود ‪،‬‬
‫باّلل‬
‫فاألزل ال يقبل السؤال عن العلل ‪ ،‬وال يصدر ذلك إال من جاهل ه‬
‫ع َّما يَ ْفعَ ُل »في عباده مثل المصادرة إذا لم تقع عن حساب أو‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ «-‬ال يُ ْسئ َ ُل َ‬
‫تجاوز في األخذ حد االستحقاق ‪ ،‬وكذا القهر واإلرعاد واإلبراق واألخذ والرحمة والعفو‬
‫والتجاوز واالنتقام والحساب ( َو ُه ْم يُ ْسئَلُونَ )لألخذ والتجاوز بعد التقرير والحساب والسؤال ‪،‬‬
‫هللف الحجة البالغة‬
‫‪ -‬تحقيق ‪ -‬من احتج عليك بما سبق فقد حاجك بحق ‪ ،‬ومع هذا فهي حجة ال تنفع قائلها ‪ ،‬وال‬
‫تعصم حاملها ‪ ،‬ومع كونها ما نفعت سمعت وقيل بها ‪ ،‬وإن عدل في الشرع عن مذهبها ‪ ،‬فإنه‬
‫ال يسأل عما يفعل وهم يسألون ولكن أكثر الناس ال يشعرون ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 24‬إلى ‪] 25‬‬


‫ي َو ِذ ْك ُر َم ْن قَ ْب ِلي بَ ْل أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ال‬
‫أ َ ِم ات ه َخذُوا ِم ْن دُونِ ِه آ ِل َهة قُ ْل هاتُوا بُ ْرهانَ ُك ْم هذا ِذ ْك ُر َم ْن َم ِع َ‬
‫وحي ِإلَ ْي ِه أَنههُ ال ِإلهَ‬ ‫سو ٍل ِإاله نُ ِ‬ ‫س ْلنا ِم ْن قَ ْب ِلكَ ِم ْن َر ُ‬‫ُون ( ‪َ ) 24‬وما أ َ ْر َ‬ ‫ق فَ ُه ْم ُم ْع ِرض َ‬ ‫ون ا ْل َح ه‬
‫يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ُون ( ‪) 25‬‬ ‫إِاله أَنَا فَا ْعبُد ِ‬
‫[ توحيد االقتدار والتعريف ]‬
‫هذا هو التوحيد التاسع عشر في القرآن وهو توحيد االقتداء والتعريف ‪ ،‬وهو توحيد اإلناية ‪،‬‬
‫وما ثم من األعمال السارية في كل نبوة إال إقامة الدين واالجتماع عليه ‪ ،‬وكلمة التوحيد ‪ ،‬فقال‬
‫ُون )وبوب‬ ‫وحي ِإلَ ْي ِه أَنَّهُ ال ِإلهَ ِإ َّال أَنَا فَا ْعبُد ِ‬ ‫س ْلنا ِم ْن قَ ْب ِل َك ِم ْن َر ُ‬
‫سو ٍل ِإ َّال نُ ِ‬ ‫تعالى ‪َ (:‬وما أ َ ْر َ‬
‫البخاري على هذا ما جاء أن األنبياء دينهم واحد وليس إال التوحيد وإقامة الدين والعبادة ‪ ،‬ففي‬
‫هذا اجتمعت األنبياء عليهم السالم ‪ ،‬واختصاص هذا الوحي باألناية ( أنا ) دل على أنه كالم‬
‫إلهي بحذف الوسائط ‪ ،‬فما أوحى إليهم منهم ‪ ،‬فإنه ال يقول ( أنا ) إال من هو متكلم ‪ ،‬فإن قيل‬
‫فقد قال إنه ينزل بمثل هذا المالئكة ‪ ،‬فهذا ال يبعد أن تأخذه الرسل من وجهين إذا نزلت به‬
‫المالئكة يكون على الحكاية ‪ ،‬وإذا ورد مثل هذا معرى عن القرائن أو النص عليه حمل على‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ما هو األصل عليه ‪ ،‬فما يقول أنا إال المتكلم وهنا يقول الحق لرسوله صلهى ه‬
‫عليه وسلم معرضا كذا فكن أنت مثل من سبقك من الرسل ‪ ،‬وجاء بالعبادة ولم يذكر األعمال‬
‫المعينة ‪ ،‬فإنه قال ‪ ( :‬لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) وهي األعمال التي ينتهي فيها مدة‬
‫الحكم المعبر عنه بالنسخ‪.‬‬

‫ص ‪128‬‬

‫‪128‬‬
‫[سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 26‬إلى ‪] 28‬‬
‫س ِبقُونَهُ ِبا ْلقَ ْو ِل َو ُه ْم ِبأ َ ْم ِر ِه‬
‫ون ) ‪ ( 26‬ال يَ ْ‬ ‫س ْبحانَهُ بَ ْل ِعبا ٌد ُم ْك َر ُم َ‬ ‫من َولَدا ُ‬ ‫الرحْ ُ‬ ‫َوقالُوا ات ه َخذَ ه‬
‫شيَتِ ِه‬ ‫ارتَضى َو ُه ْم ِم ْن َخ ْ‬ ‫ون إِاله ِل َم ِن ْ‬ ‫ون ( ‪ ) 27‬يَ ْعلَ ُم ما بَ ْي َن أ َ ْيد ِ‬
‫ِيه ْم َوما َخ ْلفَ ُه ْم َوال يَ ْ‬
‫شفَعُ َ‬ ‫يَ ْع َملُ َ‬
‫ون ) ‪( 28‬‬ ‫ش ِفقُ َ‬
‫ُم ْ‬
‫ارتَضى »في الشفاعة يوم القيامة ‪ ،‬فأذن تعالى في السؤال‬ ‫قوله تعالى ‪َ «:‬وال يَ ْشفَعُونَ ِإ َّال ِل َم ِن ْ‬
‫وهو ال يأذن وفي نفسه أن ال يقبل سؤال السائل ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 29‬‬


‫َو َم ْن يَقُ ْل ِم ْن ُه ْم إِ ِنّي إِلهٌ ِم ْن دُونِ ِه فَذ ِلكَ نَجْ ِزي ِه َج َهنه َم كَذ ِلكَ نَجْ ِزي ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫ين ( ‪) 29‬‬
‫[ جزاء االعمال ]‬
‫اعلم أنه ما في علمي أن أحدا يقع منه هذا القول وهو يجوع ويمرض ويغوط وأمثال هذا إال‬
‫فرعون لما استخف قومه ‪ ،‬وأما قوله ‪ِ «:‬م ْن دُونِ ِه »أي نزوال عن المرتبة التي هّلل ‪ ،‬وهذا مثل‬
‫ّللا ُز ْلفى »فهو وإن كان أنزل منه في الرتبة فهو عنده أنه‬ ‫قولهم ‪ «:‬ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫ّللا أن جزاء هذا‬
‫إله ‪ ،‬وقد أثبت جهله بقوله من دونه فإنه أثبت الغير بقوله من دونه ‪ ،‬فأخبر ه‬
‫القائل يكون غاية البعد ألن من قال ‪ِ «:‬إ ِنهي ِإلهٌ »قد جعل نفسه في غاية القرب فكان جزاؤه‬
‫غاية البعد عن سعادته في جهنم ‪ ،‬فينزل إلى قعرها ‪ ،‬وجهنم من جهنام يقال بئر جهنام إذا‬
‫كانت بعيدة القعر ‪ ،‬وهنا تنبيه حيث قرن هذا الحال بالقول ال بالعلم والحسبان ‪ ،‬فإن قال قائل‬
‫ما نظن أنه قد علم أن األمر كذا فتخيل أن قوله مطابق لعلمه وهذا يستحيل وقوعه من أحد‬
‫علما لعلمه بذاته وافتقاره وقصوره في نفسه‬
‫ّللا عند لسان‬
‫‪ -‬تحقيق ‪ -‬كما أن لكل أجل كتاب فلكل عمل جزاء ‪ ،‬والقول عمل فله جزاء ‪ ،‬إن ه‬
‫كل قائل ‪ ،‬وليس بعد الخواطر أسرع عمال منه ‪ ،‬أعني من اللسان ‪ ،‬فالقول أسرع األعمال ‪،‬‬
‫وال يتولى حساب صاحبه إال أسرع الحاسبين ‪ ،‬ألن متولي الحساب على األعمال من األسماء‬
‫اإللهية ما يناسب ذلك‪.‬‬

‫ص ‪129‬‬

‫‪129‬‬
‫[سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 30‬‬
‫ش ْي ٍء‬ ‫ض كانَتا َرتْقا فَفَت َ ْقنا ُهما َو َجعَ ْلنا ِم َن ا ْل ِ‬
‫ماء ُك هل َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ِين َكفَ ُروا أ َ هن ال ه‬
‫أ َ َولَ ْم يَ َر الهذ َ‬
‫ون ( ‪) 30‬‬ ‫ي ٍ أ َ فَال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫َح ّ‬
‫« كانَتا َرتْقا ً »‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬أي غير متميزة «فَفَت َ ْقنا ُهما »أي ميزنا بعضها عن بعض ليميز أعيانها ففتق‬
‫األرض بما أخرج فيها من معدن ونبات وحيوان ‪ ،‬فكان إيجادا عند دوران األفالك بعد تقدير‬
‫ّللا تعالى قد جعل هذه األرض بعد ما كانت رتقا كالجسم الواحد كما‬ ‫‪-‬الوجه الثاني ‪ -‬اعلم أن ه‬
‫كانت السماء ‪ ،‬ففتق رتقها وجعلها سبعة أطباق كما فعل بالسماوات ‪،‬‬
‫فقوله تعالى ‪ «:‬كانَتا َرتْقا ً »أي كل واحدة منهما مرتوقة ‪« ،‬فَفَت َ ْقنا ُهما »يعني فصل بعضها من‬
‫بعض حتى تميزت كل واحدة عن صاحبتها ‪،‬‬
‫ض ِمثْلَ ُه َّن »أي فصل كل سماء على حدة بعد ما كانت‬ ‫ت َو ِمنَ ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ٍ‬ ‫كما قال ‪َ «:‬خلَقَ َ‬
‫س ْب َع َ‬
‫رتقا ‪ ،‬إذ كانت دخانا فإن الحق استوى إلى السماء وكانت واحدة ‪ ،‬ففتقها وسواها سبع سماوات‬
‫طباقا ‪ ،‬فدارت بأفالكها وفتق األرض إلى سبع أرضين ‪ ،‬سماء أولى ألرض أولى ‪ ،‬وثانية‬
‫لثانية إلى سبع ‪،‬‬
‫ي ٍ »تنسب عندنا‬ ‫ش ْيءٍ َح ه‬ ‫ولما كان األصل في وجودها الماء لهذا قال ‪َ «:‬و َجعَ ْلنا ِمنَ ْال ِ‬
‫ماء ُك َّل َ‬
‫الحياة لكل حي بحسب حقيقة المنعوت بها ‪ ،‬وما في العالم إال حي ‪ ،‬ال كمن ال يرى الحياة إال‬
‫في غير الجماد والنامي ‪ ،‬فالجماد في نظرك هو حي في نفس األمر ‪ ،‬وأما الموت فهو مفارقة‬
‫حي مدبهر لحي مدبهر ‪ ،‬فالمدبر والمدبر حي ‪ ،‬والمفارقة نسبة عدمية ال وجودية ‪ ،‬إنما هو عزل‬
‫عن والية ‪ ،‬فكل شيء حي ‪ ،‬فإن كل شيء مسبح هّلل بحمده ‪ ،‬وهذا الماء هو الماء الذي هو‬
‫أصل في وجود كل شيء وبه حياته ‪ ،‬ولحياته وصف بالتسبيح ‪ ،‬وهو غير هذا الماء المركب‬
‫ّللا‬
‫البسيط المعهود ‪ ،‬فالماء أصل الحياة في األشياء ‪ ،‬فهو سر الحياة ‪ ،‬حتى العرش لما خلقه ه‬
‫ما كان إال على الماء ‪ ،‬فسرت الحياة فيه منه ‪ ،‬ومن هذا الماء كانت حياة الجان وهم ال‬
‫يشعرون ‪ ،‬وحياة العرش وما حوى عليه من المخلوقات ‪،‬‬
‫س ِبه ُح ِب َح ْم ِد ِه »فجاء بالنكرة ‪ ،‬وال يسبح إال حي ‪ ،‬وأما الماء‬ ‫ش ْيءٍ ِإ َّال يُ َ‬‫ّللا يقول ‪َ «:‬و ِإ ْن ِم ْن َ‬ ‫فإن ه‬
‫العنصري فأصله من نهر الحياة الطبيعية الذي فوق األركان ‪ ،‬وهو الذي ينغمس فيه جبريل‬
‫كل يوم غمسة ‪ ،‬وينغمس فيه أهل النار إذا خرجوا منها بالشفاعة ‪ ،‬فهو الماء الذي قال تعالى‬
‫ي ٍ »ثم سرت منه الحياة في الماء العنصري ‪ ،‬وأما في‬ ‫ش ْيءٍ َح ه‬ ‫فيه ‪َ «:‬و َجعَ ْلنا ِمنَ ْال ِ‬
‫ماء ُك َّل َ‬
‫عالم االستحالة فاعلم أن العرش الملك ‪ ،‬وما تم الملك وكمل إال في عالم االستحالة ‪ ،‬وهو عالم‬
‫األركان الذي أصله‬

‫ص ‪130‬‬

‫‪130‬‬
‫الماء ‪ ،‬والماء هو الركن األعظم من العناصر األربعة وهي الماء والهواء والنار والتراب ‪،‬‬
‫ّللا يصف نفسه بأنه كل يوم في شأن ‪ ،‬فالعالم يستحيل والحق في‬ ‫ولوال عالم االستحالة ما كان ه‬
‫شأن حفظ وجود أعيانه يمده بما به بقاء عينه من اإليجاد ‪ ،‬فهو الشأن الذي هو الحق عليه ‪،‬‬
‫ي ٍ »فالماء أصل‬‫ش ْيءٍ َح ه‬ ‫فلما كان الماء أصال لكل حي قال تعالى ‪َ «:‬و َجعَ ْلنا ِمنَ ْال ِ‬
‫ماء ُك َّل َ‬
‫العناصر واالسطقسات « ‪ ، » 1‬وهو أصل لكل حياة عرضية ال ذاتية ‪ ،‬فبالماء حياة األحياء‬
‫ّللا جعل الماء رزقا لكل حي ألنه بارد رطب ‪ ،‬والعالم في عينه‬ ‫لما فيه من سر اإلحياء ‪ ،‬فإن ه‬
‫غلبت عليه الحرارة واليبوسة ‪ ،‬وسبب ذلك أن العالم مقبوض عليه قبضا ال يتمكن له االنفكاك‬
‫عنه ‪ ،‬ألنه قبض إلهي واجب على كل ممكن ‪ ،‬فال يكون إال هكذا ‪ ،‬واالنقباض في المقبوض‬
‫يبس بال شك ‪ ،‬فغلب عليه اليبس ‪ ،‬فهو يطلب بذاته لغلبة اليبس ما يلين به ويرطب ‪ ،‬فتراه‬
‫محتاجا من حيث يبسه إلى الرطوبة ‪ ،‬وأما احتياجه إلى البرودة ألن العالم ممكن ال يصح له أن‬
‫يكون مطلق الوجود يفعل ما يريد ‪ ،‬وهو يريد هذه المرتبة وال ينال مطلوبه ‪ ،‬فيدركه الغبن‬
‫فيحمى ‪ ،‬فتغلب الحرارة عليه فيتأذى ‪ ،‬فيخاف االنعدام فيجنح إلى طلب البرودة ليسكن بها ما‬
‫يجده من ألم الحرارة ويحيي بها نفسه ‪ ،‬ويبس القبض الذي هو عليه يطلب الرطوبة ‪ ،‬فنظر‬
‫االسم الرزاق في غذاء يحيا به يكون باردا ‪ ،‬ليقابل الحرارة وسلطانها ويكون رطبا فيقابل به‬
‫سلطان اليبس ‪ ،‬فوجد الماء باردا رطبا فجعل منه كل شيء حي في كل صنف صنف بما يليق‬
‫به ‪ ،‬فكل شيء من الماء عينه ومن الهواء حياته ‪ ،‬حتى حيوان البحر الذي يموت إذا فارق‬
‫الماء ما حياته إال بالهواء الذي في الماء ‪ ،‬ألنه مركب ‪ ،‬فيقبل الهواء بنسبة خاصة ‪ ،‬وهو أن‬
‫يمتزج بالماء امتزاجا ال يسمى به هواء ‪ ،‬كما أن الهواء المركب فيه الماء وبه يكون مركبا ‪،‬‬
‫لكن امتزاج الماء به امتزاجا خاصا ال يسمى به ماء ‪ ،‬فإذا كانت حياة الحيوان بهواء الماء مات‬
‫عند فقده ذلك الهواء الخاص ‪ ،‬وكذلك حيوان البر إذا غرق في الماء مات ألن حياته بالهواء‬
‫الذي مازجه الماء ‪ ،‬ال بالماء الذي مازجه الهواء ‪ ،‬وثم حيوان بري بحري ‪ ،‬وهو حيوان شامل‬
‫برزخي ‪ ،‬له نسبة إلى قبول الهواءين ‪ ،‬فيحيى بالهواء كما يحيى البري‬

‫) ‪( 1‬األسطقس هو األصل بلغة اليونان وكذان العنصر بلغة العرب إال أن إطالق االسطقسات‬
‫عليها باعتبار أن المركبات تتألف منها وإطالق العناصر باعتبار أنها تنحل إليها فلوحظ في‬
‫إطالق لفظ األسطقس معنى الكون وفي إطالق لفظ العنصر معنى الفساد ( كتاب التعريفات‬
‫للجرجاني ) ويقال إن االسطقسات الطبائع األربعة‪.‬‬

‫ص ‪131‬‬

‫‪131‬‬
‫ويحيى في الماء كما يحيى البحري ‪ ،‬وبالهواء تكون حياته في الموضعين ‪ ،‬والماء أصله من‬
‫كونه حيا ‪ ،‬ثم قال تعالى ‪ «:‬أ َ فَال يُؤْ ِمنُونَ »أي يصدقون بذلك وبما يرونه من حياة األرض‬
‫بالمطر ‪ ،‬وحياة األشجار بالسقي ‪ ،‬حتى الهواء إن لم يكن فيه مائية وإال أحرق ‪ ،‬وإنما قرن به‬
‫اإليمان لجواز خالفه عقال ‪ ،‬الذي هو ضد الواقع« أ َ فَال يُؤْ ِمنُونَ »وينظرون في قولنا ‪ِ (:‬منَ‬
‫ماء * )فيعلمون طبع الماء وأثره ‪ ،‬وفيمن يؤثر وما يدفع به ‪ ،‬فيعلم أن العالم موصوف‬ ‫ْال ِ‬
‫بنقيض ما يقتضيه الماء فيحكم عليه به ‪ ،‬فإن الواقع في العالم غلبة الحرارة واليبوسة عليه لما‬
‫ذكرناه ‪ ،‬فثار عليه سلطان الحرارة واليبس ‪ ،‬فلم تكن حياة إال ببارد رطب فكان الماء ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 31‬‬


‫ُون ) ‪( 31‬‬ ‫ي أ َ ْن ت َ ِمي َد ِب ِه ْم َو َجعَ ْلنا فِيها فِجاجا ُ‬
‫سبُال لَعَله ُه ْم يَ ْهتَد َ‬ ‫س َ‬
‫ض َروا ِ‬‫َو َجعَ ْلنا فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا بأنها محل خلق يخلقون منها‬ ‫لما رأت المالئكة ميد األرض ‪ ،‬وقد حصل لهم التعريف من ه‬
‫على نشأة مخصوصة ‪ ،‬ال يمكن معها التصرف إال على ساكن فقالت يا ربنا كيف استقرار‬
‫عبادك على هذه األرض ‪ ،‬فأبدى لهم تجليا أصعقهم به ‪ ،‬وخلق من األبخرة الغليظة المتراكمة‬
‫الكثيفة الصاعدة من األرض الجبال ‪ ،‬فقال بها عليها فسكن ميد األرض ‪ ،‬وذهبت تلك الحركة‬
‫ّللا ما هالهم‬
‫التي ال يكون معها االستقرار ‪ ،‬ثم أفاق المأل األعلى من صعقتهم ‪ ،‬فرأوا من قدرة ه‬
‫‪ ،‬فقالوا ربنا هل خلقت شيئا أشد من هذه الجبال ‪ ،‬فقال نعم الحديد ‪ ،‬فقالوا ربنا فهل خلقت شيئا‬
‫أشد من الحديد ‪ ،‬فقال نعم النار ‪ ،‬فقالوا ربنا فهل خلقت شيئا أشد من النار ‪ ،‬قال نعم الماء ‪،‬‬
‫فقالوا ربنا فهل خلقت شيئا أشد من الماء ‪ ،‬قال نعم الريح ‪ ،‬فقالوا ربنا فهل خلقت شيئا أشد من‬
‫الريح ‪ ،‬قال نعم اإلنسان يتصدق بصدقة فال تعرف شماله ما تنفق يمينه ‪ ،‬فهذا هو الذي ملك‬
‫الهواء ‪ ،‬فمن ملك هواه فهو أشد من الهواء ‪ ،‬وهو الذي ينبغي أن يقال له إنسان ‪ ،‬ومن لم يحكم‬
‫هذا المقام فهو حيوان صورته صورة إنسان ال غير ‪ ،‬فقالت سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إذ‬
‫تكلمنا بما ال ينبغي لنا أن نتكلم به فإنك أنت العليم القدير ‪.‬‬
‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 32‬‬
‫س ْقفا َمحْ فُوظا َو ُه ْم ع َْن آيا ِتها ُم ْع ِرض َ‬
‫ُون) ‪( 32‬‬ ‫سما َء َ‬ ‫َو َجعَ ْلنَا ال ه‬

‫ص ‪132‬‬

‫‪132‬‬
‫[سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 33‬‬
‫ون ( ‪) 33‬‬ ‫س َوا ْلقَ َم َر ُك ٌّل ِفي فَلَ ٍك يَ ْ‬
‫سبَ ُح َ‬ ‫هار َوالش ْهم َ‬ ‫َو ُه َو الهذِي َخلَ َ‬
‫ق الله ْي َل َوالنه َ‬
‫[ الزمان ]‬
‫الليل والنهار فصال اليوم ‪ ،‬فمن طلوع الشمس إلى غروبها يسمى نهارا ‪ ،‬ومن غروب الشمس‬
‫إلى طلوعها يسمى ليال ‪ ،‬وهذه العين المفصلة تسمى يوما ‪ ،‬وأظهر هذا اليوم وجود الحركة‬
‫الكبرى ‪ ،‬وما في الوجود العيني إال وجود المتحرك ال غير ‪ ،‬وما هو عين الزمان الذي تطلقه‬
‫العرب وتريد به الليل والنهار ‪ ،‬فإن الزمان أمر متوهم ال حقيقة له ‪ ،‬فباختالف الحركات‬
‫الفلكية حدث زمان الليل والنهار ‪ ،‬وتعينت السنون والشهور والفصول ‪ ،‬وهذه المعبر عنها‬
‫باألزمان ‪ ،‬فالزمان واليوم والليل وفصول السنة كلها أمور عدمية نسبية ال وجود لها في‬
‫األعيان ‪ ،‬وكان التوجه من الحق على إيجاد الشمس يخالف توجهه تعالى على إيجاد القمر ‪،‬‬
‫فلو كان التوجه واحدا عليهما لما اختلفت الحركات ‪ ،‬وهي مختلفة ‪ ،‬فدل أن التوجه الذي حرك‬
‫القمر في فلكه ما هو التوجه الذي حرك الشمس وال غيرها من الكواكب واألفالك ‪ ،‬ولو لم يكن‬
‫األمر كذلك لكانت السرعة أو اإلبطاء في الكل على السواء ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪ُ «:‬ك ٌّل ِفي فَلَكٍ‬
‫يَ ْسبَ ُحونَ »وبذلك تتميز آثارها ‪ ،‬فاآلثار بال شك مختلفة ‪ ،‬والفلك ال يكون إال مستديرا ‪ .‬واعلم‬
‫أن أصغر األيام هي التي نعدها حركة الفلك المحيط ‪ ،‬الذي يظهر في يومه الليل والنهار ‪،‬‬
‫فأقصر يوم عند العرب وهو هذا ألكبر فلك ‪ ،‬وذلك لحكمه على ما في جوفه من األفالك ‪ ،‬إذ‬
‫كانت حركة ما دونه في الليل والنهار حركة قسرية له ‪ ،‬قهر بها سائر األفالك التي يحيط بها ‪،‬‬
‫ولكل فلك حركة طبيعية تكون له مع الحركة القسرية ‪ ،‬فكل فلك دونه ذو حركتين في وقت‬
‫واحد ‪ ،‬حركة طبيعية وحركة قسرية ‪ ،‬ولكل حركة طبيعية في كل فلك يوم مخصوص ‪ ،‬يعد‬
‫مقداره باأليام الحادثة عن الفلك المحيط المعبر عنها بقوله ‪ِ «:‬م َّما تَعُ ُّدونَ »وكلها تقطع في‬
‫الفلك المحيط ‪ ،‬فكلما قطعته على الكمال كان يوما لها ‪ ،‬ويدور الدور ‪ ،‬فأصغر األيام منها هو‬
‫ثمانية وعشرون يوما مما تعدون ‪ ،‬وهو مقدار قطع حركة القمر في الفلك المحيط ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 34‬إلى ‪] 35‬‬


‫ُون ( ‪ُ ) 34‬ك ُّل نَ ْف ٍس ذائِقَةُ ا ْل َم ْو ِ‬
‫ت‬ ‫َوما َجعَ ْلنا ِلبَش ٍَر ِم ْن قَ ْب ِلكَ ا ْل ُخ ْل َد أ َ فَ ِإ ْن ِمته فَ ُه ُم ا ْلخا ِلد َ‬
‫ون) ‪( 35‬‬ ‫َونَ ْبلُو ُك ْم بِالش ِ ّهر َوا ْل َخ ْي ِر فِتْنَة َوإِلَ ْينا ت ُ ْر َجعُ َ‬

‫ص ‪133‬‬

‫‪133‬‬
‫[ علة خلق الموت ]‬
‫ت » *وهو لقاء هّلل خاص عينه الحق ‪ ،‬إذ هو المشهود في كل حال ‪،‬‬ ‫« ُك ُّل نَ ْف ٍس ذا ِئقَةُ ْال َم ْو ِ‬
‫ولكن لما عين ما شاء من المواطن وجعله محال للقاء مخصوص رغبنا فيه ‪ ،‬وال نناله إال‬
‫ّللا عليه وسلم بين‬ ‫بالخروج من الدار التي تنافي هذا اللقاء وهي الدار الدنيا ‪ ،‬خيهر النبي صلهى ه‬
‫البقاء في الدنيا واالنتقال إلى األخرى فقال الرفيق األعلى ‪ ،‬وورد في الخبر أنه من أحب لقاء‬
‫ّللا لقاءه ‪ ،‬فلقيه في الموت بما يكرهه ‪،‬‬ ‫ّللا كره ه‬
‫ّللا لقاءه ومن كره لقاء ه‬
‫ّللا يعني بالموت أحب ه‬ ‫ه‬
‫وهو أن حجبه عنه وتجلى لمن أحب لقاءه من عباده ‪ .‬ولقاء الحق بالموت له طعم ال يكون في‬
‫لقائه بالحياة الدنيا ‪ ،‬فالموت فراغ ألرواحنا من تدبير أجسامنا ‪ ،‬فلها ذوق ال يكون لها إال‬
‫بالخروج من دار الدنيا بالموت ال بالحال ‪ ،‬وهو أن يفارق هذا الهيكل الذي وقعت له به هذه‬
‫األلفة من حين ولد وظهر به ‪ ،‬بل كان السبب في ظهوره ‪ ،‬ففرق الحق بينه وبين هذا الجسم‬
‫لما ثبت من العالقة بينهما ‪ ،‬وهو من حال الغيرة اإللهية على عبيده لحبه لهم ‪ ،‬فال يريد أن‬
‫يكون بينهم وبين غيره عالقة ‪ ،‬فخلق الموت وابتالهم به تمحيصا لدعواهم في محبته فقال «‪:‬‬
‫ّللا من فتن من عباده إال بحكم ما ظهر عليهم من‬ ‫ش ِ هر َو ْال َخي ِْر ِفتْنَةً »وما فتن ه‬
‫َونَ ْبلُو ُك ْم ِبال َّ‬
‫ّللا على اليد اإللهية‬ ‫الدعاوى فيما يتصرفون فيه أن ذلك الفعل لهم حقيقة أو كسبا ‪ ،‬فلو أطلعهم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فما اختبرهم إال‬ ‫الخالقة ورأوا نفوسهم آالت صناعية ال يمكن وقوع غير ذلك لما اختبرهم ه‬
‫ليعثروا على مثل هذا العلم فيعصموا من الدعوى فيسعدوا ‪ ،‬لذا قال «‪َ :‬و ِإلَيْنا ت ُ ْر َجعُونَ »‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 36‬إلى ‪] 37‬‬


‫من ُه ْم‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِإ ْن يَت ه ِخذُونَكَ ِإاله ُه ُزوا أ َ هذَا الهذِي يَ ْذك ُُر آ ِل َهت َ ُك ْم َو ُه ْم ِب ِذ ْك ِر ه‬
‫الرحْ ِ‬ ‫َو ِإذا َرآكَ الهذ َ‬
‫ون ( ‪) 37‬‬ ‫ست َ ْع ِجلُ ِ‬ ‫سأ ُ ِري ُك ْم آياتِي فَال ت َ ْ‬ ‫اْل ْن ُ‬
‫سان ِم ْن َ‬
‫ع َج ٍل َ‬ ‫ق ِْ‬ ‫ون ( ‪ُ ) 36‬خ ِل َ‬ ‫كافِ ُر َ‬
‫ع َج ٍل »هو قوله تعالى ( ‪ :‬فخلق اإلنسان عجوال ) ولو رام غير العجلة ما‬ ‫سان ِم ْن َ‬ ‫« ُخ ِلقَ ْ ِ‬
‫اإل ْن ُ‬
‫استطاع ‪ ،‬فإن في طبعه الحركة واالنتقال ألنها أصله ‪ ،‬فإن خروجه من العدم إلى الوجود نقلة‬
‫‪ ،‬فهو في أصل نشأته ووجوده متحرك ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 38‬‬


‫ون َمتى هذَا ا ْل َو ْع ُد إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬
‫ين) ‪( 38‬‬ ‫َويَقُولُ َ‬

‫‪134‬‬

‫‪134‬‬
‫[سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 38‬إلى ‪] 47‬‬
‫ون ع َْن‬ ‫ين ال يَ ُكفُّ َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِح َ‬ ‫ين ( ‪ ) 38‬لَ ْو يَ ْعلَ ُم الهذ َ‬ ‫ون َمتى هذَا ا ْل َو ْع ُد ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِد ِق َ‬ ‫َويَقُولُ َ‬
‫ون ( ‪ ) 39‬بَ ْل تَأْتِ ِ‬
‫يه ْم بَ ْغتَة فَت َ ْب َهت ُ ُه ْم فَال‬ ‫ص ُر َ‬ ‫ور ِه ْم َوال ُه ْم يُ ْن َ‬ ‫ظ ُه ِ‬ ‫ار َوال ع َْن ُ‬ ‫ُو ُجو ِه ِه ُم النه َ‬
‫س ِخ ُروا‬ ‫ِين َ‬ ‫حاق بِالهذ َ‬ ‫س ٍل ِم ْن قَ ْب ِلكَ فَ َ‬ ‫ئ بِ ُر ُ‬‫ستُه ِْز َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 40‬ولَقَ ِد ا ْ‬ ‫ون َردهها َوال ُه ْم يُ ْن َظ ُر َ‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫من بَ ْل ُه ْم ع َْن ِذ ْك ِر‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫هار ِم َن ه‬ ‫ُن ) ‪ ( 41‬قُ ْل َم ْن يَ ْكلَ ُؤ ُك ْم ِبالله ْي ِل َوالنه ِ‬ ‫ستَه ِْزؤ َ‬ ‫ِم ْن ُه ْم ما كانُوا ِب ِه يَ ْ‬
‫ُون ) ‪( 42‬‬ ‫َر ِبّ ِه ْم ُم ْع ِرض َ‬
‫ون ( ‪ ) 43‬بَ ْل‬ ‫ص َحبُ َ‬ ‫س ِه ْم َوال ُه ْم ِمنها يُ ْ‬ ‫ون نَص َْر أ َ ْنفُ ِ‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫أ َ ْم لَ ُه ْم آ ِل َهةٌ ت َ ْمنَعُ ُه ْم ِم ْن دُو ِننا ال يَ ْ‬
‫صها ِم ْن أ َ ْطرافِها‬ ‫ض نَ ْنقُ ُ‬ ‫علَ ْي ِه ُم ا ْلعُ ُم ُر أ َ فَال يَ َر ْو َن أَنها نَأْتِي ْاأل َ ْر َ‬‫ُالء َوآبا َء ُه ْم َحتهى طا َل َ‬ ‫َمت ه ْعنا هؤ ِ‬
‫ون ( ‪) 45‬‬ ‫ص ُّم الدُّعا َء إِذا ما يُ ْنذَ ُر َ‬ ‫س َم ُع ال ُّ‬ ‫ون ( ‪) 44‬قُ ْل إِنهما أ ُ ْنذ ُِر ُك ْم بِا ْل َوحْ ي ِ َوال يَ ْ‬ ‫أ َ فَ ُه ُم ا ْلغا ِلبُ َ‬
‫ين‬ ‫واز َ‬ ‫ض ُع ا ْل َم ِ‬ ‫ين ) ‪َ ( 46‬ونَ َ‬ ‫ب َر ِبّكَ لَيَقُولُ هن يا َو ْيلَنا إِنها ُكنها ظا ِل ِم َ‬ ‫ستْ ُه ْم نَ ْف َحةٌ ِم ْن عَذا ِ‬ ‫َولَئِ ْن َم ه‬
‫كان ِمثْقا َل َحبه ٍة ِم ْن َخ ْر َد ٍل أَت َ ْينا ِبها َوكَفى ِبنا‬ ‫ش ْيئا َو ِإ ْن َ‬ ‫س َ‬ ‫س َط ِليَ ْو ِم ا ْل ِقيا َم ِة فَال ت ُ ْظلَ ُم نَ ْف ٌ‬‫ا ْل ِق ْ‬
‫ين ( ‪) 47‬‬ ‫س ِب َ‬‫حا ِ‬
‫[ تجسد المعاني ]‬
‫ّللا بأعمال بني آدم مع كونها أعراضا صورا قائمة ‪ ،‬وهو تجسد المعاني ‪ ،‬توضع في‬ ‫يأتي ه‬
‫ّللا الموازين يوم القيامة كثيرة ليزن بكل ميزان ما وضع له ‪،‬‬ ‫الموازين إلقامة القسط ‪ ،‬وجعل ه‬
‫فإن الشرع مثال قد تعبد كل مجتهد بما أداه إليه اجتهاده ‪ ،‬وحرم عليه العدول عن دليله ‪ ،‬فكل‬
‫مجتهد متعبد بما أعطاه اجتهاده ‪ ،‬فتوضع الموازين لوزن األعمال ‪ ،‬فيجعل فيها الكتب بما‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫عملوا ‪ ،‬وآخر ما يوضع في الميزان قول اإلنسان الحمد هّلل ‪ ،‬ولهذا قال صلهى ه‬
‫[ الحمد هّلل تمأل الميزان ]‬
‫ّللا فيبقى من ملئه تحميدة فتجعل‬ ‫فإنه يلقى في الميزان جميع أعمال العباد إال كلمة ال إله إال ه‬
‫فيه فيمتلئ بها ‪ ،‬وسبب ذلك أن كل عمل خير له عمل مقابل من ضده ‪ ،‬فيجعل هذا الخير في‬
‫ّللا إال الشرك ‪ ،‬وال يجتمع توحيد وشرك‬ ‫موازنته وال يقابل ال إله إال ه‬

‫ص ‪135‬‬

‫‪135‬‬
‫ّللا معتقدا لها فما أشرك ‪ ،‬وإن أشرك فما اعتقد ال إله‬ ‫في ميزان أحد ‪ ،‬ألنه إن قال ال إله إال ه‬
‫ّللا ما يعاد لها في الكفة األخرى وال‬ ‫ّللا ‪ ،‬فلما لم يصح الجمع بينهما لم يكن لكلمة ال إله إال ه‬ ‫إال ه‬
‫يرجحها شيء ‪ ،‬فلهذا ال تدخل الميزان ‪ ،‬وأما المشركون فال نقيم لهم يوم القيامة وزنا ‪ ،‬أي ال‬
‫ّللا وكفر بآياته ‪ ،‬فإن‬ ‫قدر لهم وال يوزن لهم عمل وال من هو من أمثالهم ممن كذب بلقاء ه‬
‫أعمال خير المشرك محبوطة ‪ ،‬فال يكون لشرهم ما يوازنه ‪ ،‬وأما صاحب السجالت فإنه‬
‫ّللا مخلصا فتوضع له في مقابلة‬ ‫شخص لم يعمل خيرا قط ‪ ،‬إال أنه تلفظ يوما بكلمة ال إله إال ه‬
‫التسعة والتسعين سجال من أعمال الشر ‪ ،‬كل سجل منها كما بين المغرب والمشرق ‪ ،‬وذلك‬
‫ألنه ما له عمل خير غيرها ‪ ،‬فترجح كفتها بالجميع وتطيش السجالت فيتعجب من ذلك ‪ ،‬وال‬
‫يدخل الموازين إال أعمال الجوارح شرها وخيرها ‪ ،‬السمع والبصر واللسان واليد والبطن‬
‫والفرج والرجل ‪ ،‬وأما األعمال الباطنة فال تدخل الميزان المحسوس ‪ ،‬لكن يقام فيها العدل‬
‫س‬ ‫وهو الميزان الحكمي المعنوي ‪ ،‬فلهذا توزن األعمال من حيث ما هي مكتوبة« فَال ت ُ ْ‬
‫ظلَ ُم نَ ْف ٌ‬
‫شيْئا ً » « َو ِإ ْن كانَ ِمثْقا َل َحبَّ ٍة ِم ْن خ َْر َد ٍل »يعني من العمل« أَتَيْنا ِبها َو َكفى ِبنا حا ِس ِبينَ »‪.‬‬
‫َ‬

‫[ سورة األنبياء ‪ ( 21 ) :‬آية ‪] 48‬‬


‫قان َو ِضياء َو ِذ ْكرا ِل ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ين ) ‪( 48‬‬ ‫ون ا ْلفُ ْر َ‬ ‫َولَقَ ْد آت َ ْينا ُموسى َو ُ‬
‫هار َ‬
‫الضياء ما يدرك به وما يدرك منه ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 49‬‬


‫ش ِفقُ َ‬
‫ون ( ‪) 49‬‬ ‫ع ِة ُم ْ‬ ‫ب َو ُه ْم ِم َن ال ه‬
‫سا َ‬ ‫ِين يَ ْخش َْو َن َربه ُه ْم ِبا ْلغَ ْي ِ‬
‫الهذ َ‬
‫ّللا بالغيب عين عبادته بالشهادة ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا أن عبادة ه‬ ‫ب »اعلم أيدك ه‬ ‫« الَّذِينَ يَ ْخش َْونَ َربَّ ُه ْم بِ ْالغَ ْي ِ‬
‫اإلنسان وكل عابد ال يصح أن يعبد معبوده إال عن شهود ‪ ،‬إما بعقل أو ببصر أو بصيرة يشهده‬
‫العابد بها فيعبده ‪ ،‬وإال فال تصح له عبادة ‪ ،‬فما عبد إال مشهودا ال غائبا ‪ ،‬فإن أعلمه بتجليه في‬
‫الصور للبصر حتى يميزه عبده أيضا على الشهود البصري ‪ ،‬وال يكون ذلك إال بعد أن يراه‬
‫بعين بصيرته ‪ ،‬فمن جمع بين البصيرة والبصر فقد كملت عبادته ظاهرا وباطنا ‪ ،‬ومن قال‬
‫بحلوله في الصور فذلك جاهل باألمرين جميعا ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫ّللا كأنك تراه ‪ ،‬فأمره باالستحضار ‪ ،‬فإنه يعلم أنه ال يستحضر إال من يقبل الحضور ‪،‬‬ ‫اعبد ه‬

‫ص ‪136‬‬

‫‪136‬‬
‫ع ِة ُم ْش ِفقُونَ »حتى إن‬ ‫فاستحضار العبد ربه في العبادة عين حضور المعبود له« َو ُه ْم ِمنَ ال َّ‬
‫سا َ‬
‫كل دابة تصغي يوم الجمعة شفقا من الساعة ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 50‬‬


‫ون ) ‪( 50‬‬ ‫باركٌ أ َ ْن َز ْلناهُ أ َ فَأ َ ْنت ُ ْم لَهُ ُم ْن ِك ُر َ‬
‫َوهذا ِذ ْك ٌر ُم َ‬
‫لما ذكر الحق تعالى في القرآن قصص األولين واآلخرين ‪ ،‬وشرائع المتقدمين ومنازلهم‬
‫ومراتبهم وسابقتهم ومآلهم جعله ذكرا وسماه به ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ‪ ( 21 ) :‬اآليات ‪ 51‬إلى ‪] 58‬‬


‫ين ( ‪ ) 51‬إِ ْذ قا َل ِأل َ ِبي ِه َوقَ ْو ِم ِه ما ه ِذ ِه التهماثِي ُل‬ ‫ش َدهُ ِم ْن قَ ْب ُل َو ُكنها ِب ِه عا ِل ِم َ‬‫َولَقَ ْد آت َ ْينا إِ ْبرا ِهي َم ُر ْ‬
‫ِين ( ‪ ) 53‬قا َل لَقَ ْد ُك ْنت ُ ْم أ َ ْنت ُ ْم‬ ‫ون ( ‪ ) 52‬قالُوا َو َجدْنا آبا َءنا لَها عا ِبد َ‬ ‫الهتِي أ َ ْنت ُ ْم لَها عا ِكفُ َ‬
‫ين ) ‪( 55‬‬ ‫ق أ َ ْم أ َ ْنتَ ِم َن الاله ِع ِب َ‬
‫ين ( ‪ ) 54‬قالُوا أ َ ِجئْتَنا ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫ضال ٍل ُم ِب ٍ‬ ‫َوآبا ُؤ ُك ْم فِي َ‬
‫ِين ( ‪َ ) 56‬وت َ ه ِ‬
‫اّلِل‬ ‫ض الهذِي فَ َط َر ُه هن َوأَنَا عَلى ذ ِل ُك ْم ِم َن الشها ِهد َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ب ال ه‬ ‫قا َل بَ ْل َربُّ ُك ْم َر ُّ‬
‫ين ( ‪ ) 57‬فَ َجعَلَ ُه ْم ُجذاذا إِاله َكبِيرا لَ ُه ْم لَعَله ُه ْم إِلَ ْي ِه‬ ‫َأل َ ِكيد هَن أَصْنا َم ُك ْم بَ ْع َد أ َ ْن ت ُ َولُّوا ُم ْدبِ ِر َ‬
‫ون ) ‪( 58‬‬ ‫يَ ْر ِجعُ َ‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬بل إلى‬ ‫باّلل عياذا ‪ ،‬فال تستند إلى غير ه‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬اجعل األصنام جذاذا ‪ ،‬واعتصم ه‬
‫ّللا وحده رب األرباب ‪ِ «،‬إ َّال َك ِبيرا ً لَ ُه ْم »ما ترك إبراهيم عليه السالم الكبير إال ليقيم الحجة‬ ‫ه‬
‫على خصومه ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 59‬إلى ‪] 60‬‬


‫س ِم ْعنا فَتى يَ ْذك ُُر ُه ْم يُقا ُل لَهُ إِ ْبرا ِهي ُم‬
‫ين ) ‪ ( 59‬قالُوا َ‬ ‫قالُوا َم ْن فَعَ َل هذا بِآ ِل َهتِنا إِنههُ لَ ِم َن ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫(‪(60‬‬
‫[ الفتوة ]‬
‫ّللا حق القيام ‪ ،‬ومن فتوته عليه‬ ‫ّللا على ألسنة المشركين فتوة إبراهيم ألنه قام في ه‬ ‫أطلق ه‬

‫ص ‪137‬‬

‫‪137‬‬
‫السالم أنه جاد بنفسه على النار إيثارا لتوحيد ربه ‪ ( ،‬راجع الفتوة في سورة الكهف آية ‪) 13‬‬
‫ومن صفات الفتيان والفتوة ‪ :‬الفتى ابن الوقت ‪ ،‬مخافة المقت ‪ ،‬ال يتقيد بالزمان ‪ ،‬كما ال‬
‫ّللا قال لك أين تذهب ؟‬
‫يحصره المكان ‪ ،‬ال تصحب من إذا قلت له ‪ :‬باسم ه‬
‫ليس للفتى من الزمان ‪ ،‬إال اآلن ‪ ،‬ال يتقيد بما هو عدم ‪ ،‬بل له الوجود األدوم ‪ ،‬زمان الحال ‪،‬‬
‫ي ‪ ،‬ألنه الوصي والولي ‪ ،‬الفتيان رؤساء المكانة والمكان ‪ ،‬لهم الحجة‬ ‫ال ينقال ‪ ،‬ال فتى إال عل ه‬
‫والسلطان ‪ ،‬والدليل والبرهان ‪ ،‬عليهم قام عماد األمر ‪ ،‬وهم على قدم حذيفة في علم السر ‪،‬‬
‫لهم التمييز والنقد ‪ ،‬وهم أهل الحل والعقد ‪ ،‬ال ناقض لما أبرموه ‪ ،‬وال مبرم لما نقضوه ‪ ،‬وال‬
‫مطنب لما قوضوه ‪ ،‬وال مقوض لما طنبوه ‪ ،‬إن أوجزوا أعجزوا ‪ ،‬وإن أسهبوا أتعبوا ‪ ،‬إليهم‬
‫االستناد وعليهم االعتماد ‪ ،‬الفتى هو صاحب الفتوح ‪ ،‬ما عنده جموح ‪ ،‬سهل الهوى واالنقياد ‪،‬‬
‫ومع هذا فهو مع من زاد بزاد وبغير زاد ‪ ،‬الفتى من ال يزال للعلم طالبا ‪ ،‬ومن الجهل هاربا ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 61‬إلى ‪] 63‬‬


‫ُون ( ‪) 61‬قالُوا أ َ أ َ ْنتَ فَعَ ْلتَ هذا ِبآ ِل َه ِتنا يا‬ ‫ش َهد َ‬‫اس لَعَله ُه ْم يَ ْ‬‫قالُوا فَأْتُوا ِب ِه عَلى أ َ ْعيُ ِن النه ِ‬
‫ون ( ‪( 63‬‬ ‫سئَلُو ُه ْم إِ ْن كانُوا يَ ْن ِطقُ َ‬ ‫ير ُه ْم هذا فَ ْ‬ ‫إِ ْبرا ِهي ُم ( ‪ ) 62‬قا َل بَ ْل فَعَلَهُ َكبِ ُ‬
‫ير ُه ْم هذا » ]‬ ‫[ « قا َل بَ ْل فَعَلَهُ َكبِ ُ‬
‫ير ُه ْم هذا »أحالهم على الكبير من األصنام على نية طلب‬ ‫‪-‬الوجه األول ‪ «-‬قا َل بَ ْل فَعَلَهُ َكبِ ُ‬
‫السالمة منهم ‪ ،‬فإنه قال لهم ‪ «:‬فَ ْسئَلُو ُه ْم ِإ ْن كانُوا يَ ْن ِطقُونَ »يريد توبيخهم ‪ ،‬ولهذا رجعوا إلى‬
‫على قَ ْو ِم ِه »في كل حال ‪ ،‬وإنما سمى‬ ‫يم َ‬ ‫أنفسهم وهو قوله تعالى ‪َ «:‬وتِ ْل َك ُح َّجتُنا آتَيْناها ِإبْرا ِه َ‬
‫وّللا هو‬
‫ّللا على الحقيقة ‪ ،‬ه‬ ‫ذلك كذبا إلضافة الفعل في عالم األلفاظ إلى كبيرهم ‪ ،‬والكبير هو ه‬
‫الفاعل المكسر لألصنام بيد إبراهيم ‪ ،‬فإنه يده التي يبطش بها كذا أخبر عن نفسه ‪ ،‬فكسر هذه‬
‫األصنام التي زعموا أنها آلهة‬
‫ّللا تعالى هو الكبير بما نصبه المشركون من اآللهة لهذا قال الخليل‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬لما كان ه‬
‫ّللا هو الذي كسر األصنام المتخذة آلهة ‪،‬‬ ‫في معرض الحجة على قومه مع اعتقاده الصحيح أن ه‬
‫ّللا ُز ْلفى »‪،‬‬ ‫حتى جعلها جذاذا مع دعوى عابديها بقولهم ‪ «:‬ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫فاعترفوا أن ثم إلها كبيرا أكبر من هؤالء ‪ ،‬ونسبوا الكبر له تعالى على آلهتهم ‪ ،‬فقال إبراهيم‬
‫ير ُه ْم »فجاء بلفظ الكبير‬ ‫عليه السالم ‪ «:‬بَ ْل فَعَلَهُ َكبِ ُ‬

‫ص ‪138‬‬

‫‪138‬‬
‫ألنهم قائلون بكبرياء الحق على آلهتهم التي اتخذوها ‪ ،‬فهذا الذي قاله إبراهيم عليه السالم‬
‫صحيح في عقد إبراهيم عليه السالم ‪ ،‬وإنما أخطأ المشركون حيث لم يفهموا عن إبراهيم ما‬
‫ّللا تعالى وإقامة‬ ‫ير ُه ْم »‪ ،‬فكان قصد إبراهيم عليه السالم بكبيرهم ه‬ ‫أراد بقوله ‪ «:‬بَ ْل فَعَلَهُ َكبِ ُ‬
‫الحجة عليهم ‪ ،‬وهو موجود في االعتقادين ‪ ،‬وكونهم آلهة ذلك على زعمهم ‪ ،‬والوقف عليه‬
‫حسن تام ‪ ،‬وابتدأ إبراهيم بقوله ‪ «:‬هذا »إشارة ابتداء وخبره محذوف يدل عليه قوله «‪ :‬بَ ْل‬
‫ير ُه ْم »‪ ،‬أو « هذا قولي » فالخبر محذوف يدل عليه مساق القصة ‪ «،‬فَ ْسئَلُو ُه ْم ِإ ْن‬ ‫فَعَلَهُ َك ِب ُ‬
‫كانُوا يَ ْن ِطقُونَ »إقامة الحجة عليهم منهم ‪ ،‬فهم يخبرونكم ‪ ،‬ولو نطقت األصنام في ذلك الوقت‬
‫ّللا ال إلى إبراهيم ‪،‬‬ ‫ّللا هو الكبير العلي العظيم ‪ ،‬ولنسبت الفعل إلى ه‬ ‫العترفوا بأنهم عبيد ‪ ،‬وأن ه‬
‫ّللا على معرفته وتسبيحه بحمده ‪ ،‬فال يرون‬ ‫فإنه مقرر أن الجماد والنبات والحيوان قد فطرهم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فكان إبراهيم على بينة من‬ ‫ّللا ‪ ،‬ومن كان هذا فطرته كيف ينسب الفعل لغير ه‬ ‫فاعال إال ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ألنه ما قال لهم سلوهم إال في معرض‬ ‫ربه في األصنام أنهم لو نطقوا ألضافوا الفعل إلى ه‬
‫الداللة ‪ ،‬سواء نطقوا أو سكتوا ‪ ،‬فإن لم ينطقوا يقول لهم ‪ « :‬لم تعبدون ما ال يسمع وال يبصر‬
‫ّللا قطعنا قطعا ‪ ،‬ال يتمكن‬ ‫ّللا شيئا » وال عن نفسه ‪ ،‬ولو نطقوا لقالوا إن ه‬ ‫وال يغني عنكم من ه‬
‫في الداللة أن تقول األصنام غير هذا ‪ ،‬فإنها لو قالت الصنم الكبير فعل ذلك بنا لكذبت ‪ ،‬ويكون‬
‫ّللا بكفرهم وردا على إبراهيم عليه السالم ‪ ،‬فإن الكبير ما قطعهم جذاذا ‪ ،‬ولو قالوا‬ ‫تقريرا من ه‬
‫ّللا‬
‫في إبراهيم إنه قطعنا لصدقوا في اإلضافة إلى إبراهيم وال تلزم الداللة بنطقهم على وحدانية ه‬
‫ببقاء الكبير ‪ ،‬فيبطل كون إبراهيم قصد الداللة ‪ ،‬فلم تقع ولم يصدق ( وتلك حجتنا آتيناها‬
‫إبراهيم على قومه ) فكانت له الداللة في نطقهم لو نطقوا كما قررنا ‪ ،‬وفي عدم نطقهم لو لم‬
‫ّللا عليهم‬ ‫ينطقوا ‪ ،‬ومثل هذا ينبغي أن يكون قصد األنبياء عليهم السالم ‪ ،‬فهم العلماء صلوات ه‬
‫‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪:‬‬
‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 64‬إلى ‪] 65‬‬
‫ع ِل ْمتَ ما‬ ‫س ِه ْم لَقَ ْد َ‬
‫على ُر ُؤ ِ‬ ‫ون ) ‪ ( 64‬ث ُ هم نُ ِك ُ‬
‫سوا َ‬ ‫س ِه ْم فَقالُوا ِإنه ُك ْم أ َ ْنت ُ ُم ال ه‬
‫ظا ِل ُم َ‬ ‫فَ َر َجعُوا ِإلى أ َ ْنفُ ِ‬
‫ون ) ‪( 65‬‬ ‫ُالء يَ ْن ِطقُ َ‬‫هؤ ِ‬
‫ّللا لمثل هؤالء( أ َ ت َ ْعبُدُونَ ما ت َ ْن ِحتُونَ )فالذين عبدوا من ينطق ويدعي األلوهة‬ ‫فقال ه‬

‫ص ‪139‬‬

‫‪139‬‬
‫أقرب حاال من عبادة من ال يسمع وال يبصر وال يغني عنهم شيئا ‪ ،‬وهذا قول إبراهيم ألبيه ‪،‬‬
‫على قَ ْو ِم ِه »وأبوه من قومه فقول‬ ‫وهو الذي قال فيه تعالى ‪َ «:‬و ِت ْل َك ُح َّجتُنا آتَيْناها ِإبْرا ِه َ‬
‫يم َ‬
‫الخليل عليه السالم «فَ ْسئَلُو ُه ْم إِ ْن كانُوا يَ ْن ِطقُونَ »من الحجة التي أعطاه ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ومنها ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 66‬إلى ‪] 67‬‬


‫ش ْيئا َوال يَض ُُّر ُك ْم ( ‪ ) 66‬أ ُ ّ ٍ‬
‫ف لَ ُك ْم َو ِلما ت َ ْعبُد َ‬
‫ُون ِم ْن‬ ‫ّللا ما ال يَ ْنفَعُ ُك ْم َ‬ ‫ون ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫قا َل أ َ فَت َ ْعبُ ُد َ‬
‫ون ) ‪( 67‬‬ ‫ّللا أ َ فَال ت َ ْع ِقلُ َ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫د ِ‬
‫باّلل من كونه إلها من‬ ‫هذه اآلية تدل على أن إبراهيم عليه السالم نبه قومه على أن العلم ه‬
‫مدركات العقول ‪ ،‬فما أحالهم إال على أمر يصح منه أن ينظر فيعلم بنظره ما هو األمر عليه ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 68‬‬


‫ين ) ‪( 68‬‬ ‫قالُوا َح ِ ّرقُو ُه َوا ْن ُ‬
‫ص ُروا آ ِل َهت َ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم فا ِع ِل َ‬
‫ومن فتوة إبراهيم عليه السالم أن باع نفسه في حق أحدية خالقه ال في حق خالقه ‪ ،‬ألن الشريك‬
‫ما ينفي وجود الخالق ‪ ،‬وإنما يتوجه على نفي األحدية‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪]69‬‬


‫سالما عَلى ِإ ْبرا ِهي َم ( ‪) 69‬‬ ‫قُ ْلنا يا ُ‬
‫نار كُونِي بَ ْردا َو َ‬
‫[ النار تحرق بحقيقتها ال بصورتها ]‬
‫األعيان ال تنقلب ‪ ،‬والحقائق ال تتبدل ‪ ،‬فالنار تحرق بحقيقتها ال بصورتها ‪ ،‬فالخطاب للصورة‬
‫وهي الجمرات ‪ ،‬وأجرام الجمرات محرقة بالنار ‪ ،‬فلما قامت بها النار سميت نارا ‪ ،‬فتقبل‬
‫يم‬ ‫سالما ً َ‬
‫على ِإبْرا ِه َ‬ ‫نار ُكونِي بَ ْردا ً َو َ‬
‫البرد كما قبلت الحرارة ‪ ،‬فخاطبها الحق بقوله «‪:‬يا ُ‬
‫ّللا من النار وجعلها عليه بردا وسالما ‪ ،‬وهي في‬ ‫ّللا في الدنيا ‪ ،‬فنجاه ه‬ ‫»وهو أجره الذي آتاه ه‬
‫الظاهر نار ولكن ما أثرت إحراقا في جسم إبراهيم وال وجد ألما لها ‪ ،‬فليس العجب من ورد‬
‫في بستان ‪ ،‬وإنما العجب من ورد في قعر النيران ‪ ،‬إبراهيم الخليل عليه السالم في وسط النار‬
‫يتنعم ويلتذ ‪ ،‬ولو لم يكن عليه السالم إال في حمايتها إياه من الوصول إليه ‪ ،‬فاألعداء يرونها‬
‫ّللا إياها بردا وسالما عليه ‪ ،‬فأعداؤه ينظرون إليه وال‬ ‫في أعينهم نارا تأجج ‪ ،‬وهو يجدها بأمر ه‬
‫يقدرون على الهجوم عليه‪.‬‬

‫ص ‪140‬‬

‫‪140‬‬
‫[سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 70‬إلى ‪] 73‬‬
‫بار ْكنا ِفيها‬ ‫ض اله ِتي َ‬‫ين ) ‪َ ( 70‬ونَ هج ْينا ُه َولُوطا ِإلَى ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ِر َ‬ ‫َوأَرادُوا ِب ِه َك ْيدا فَ َجعَ ْلنا ُه ُم ْاأل َ ْخ َ‬
‫ين ( ‪َ ) 72‬و َجعَ ْلنا ُه ْم‬ ‫وب نافِلَة َو ُكالًّ َجعَ ْلنا صا ِل ِح َ‬‫حاق َويَ ْعقُ َ‬ ‫س َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 71‬و َو َه ْبنا لَهُ إِ ْ‬ ‫ِل ْلعالَ ِم َ‬
‫الزكا ِة َوكانُوا لَنا عابِد َ‬
‫ِين‬ ‫صال ِة َوإِيتا َء ه‬ ‫ت َوإِقا َم ال ه‬ ‫ُون بِأ َ ْم ِرنا َوأ َ ْو َح ْينا إِلَ ْي ِه ْم فِ ْع َل ا ْل َخ ْيرا ِ‬
‫أَئِ همة يَ ْهد َ‬
‫( ‪) 73‬‬
‫فأثنى عليهم ولم يكونوا يؤدون سوى الفرائض ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 74‬إلى ‪] 78‬‬


‫س ْو ٍء‬ ‫ث إِنه ُه ْم كانُوا قَ ْو َم َ‬ ‫َولُوطا آت َ ْيناهُ ُح ْكما َو ِع ْلما َونَ هج ْيناهُ ِم َن ا ْلقَ ْريَ ِة الهتِي كانَتْ ت َ ْع َم ُل ا ْل َخبائِ َ‬
‫ين ( ‪َ ) 75‬ونُوحا إِ ْذ نادى ِم ْن قَ ْب ُل‬ ‫ين ( ‪َ ) 74‬وأ َ ْد َخ ْلناهُ فِي َرحْ َمتِنا إِنههُ ِم َن ال ه‬
‫صا ِل ِح َ‬ ‫س ِق َ‬ ‫فا ِ‬
‫ِين َكذهبُوا ِبآياتِنا‬ ‫ص ْرناهُ ِم َن ا ْلقَ ْو ِم الهذ َ‬ ‫يم ( ‪َ ) 76‬ونَ َ‬ ‫ب ا ْلعَ ِظ ِ‬‫ست َ َج ْبنا لَهُ فَنَ هج ْيناهُ َوأ َ ْهلَهُ ِم َن ا ْلك َْر ِ‬
‫فَا ْ‬
‫ث ِإ ْذ‬ ‫مان ِإ ْذ يَحْ ك ِ‬
‫ُمان فِي ا ْل َح ْر ِ‬ ‫سلَ ْي َ‬ ‫داو َد َو ُ‬‫ين ( ‪َ ) 77‬و ُ‬ ‫س ْو ٍء فَأ َ ْغ َر ْقنا ُه ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫ِإنه ُه ْم كانُوا قَ ْو َم َ‬
‫ين ( ‪) 78‬‬ ‫غنَ ُم ا ْلقَ ْو ِم َو ُكنها ِل ُح ْك ِم ِه ْم شا ِه ِد َ‬ ‫نَفَشَتْ ِفي ِه َ‬
‫[ إذا لم تراقب خواطرك ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬ال تغلب على مقلتك النوم ‪ ،‬فتنفش في غنم القوم ‪ ،‬أي إذا لم تراقب خواطرك فإنها‬
‫تتصرف فيما ال ينبغي ‪ ،‬والنفش الرعي ليال ‪ ،‬وهو محل الظلمة والغيب ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 79‬‬


‫س ِبّحْ َن َوال ه‬
‫ط ْي َر َو ُكنها‬ ‫داو َد ا ْل ِجبا َل يُ َ‬ ‫مان َو ُكالًّ آت َ ْينا ُح ْكما َو ِع ْلما َو َ‬
‫س هخ ْرنا َم َع ُ‬ ‫فَفَ هه ْمناها ُ‬
‫سلَ ْي َ‬
‫مان »مع نقيض الحكم« َوك ًُّال آت َ ْينا ُح ْكما َو ِع ْلما »‬ ‫سلَ ْي َ‬‫ين «) ‪ ( 79‬فَفَ هه ْمناها ُ‬ ‫فا ِع ِل َ‬
‫فكان علم داود‬

‫ص ‪141‬‬

‫‪141‬‬
‫ّللا في القصة حكم سليمان فهو‬ ‫ّللا في المسألة ‪ ،‬فحكم ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وعلم سليمان علم ه‬ ‫علما مؤتى ‪ ،‬آتاه ه‬
‫ّللا‬
‫مصيب بعين الحكم ومصيب في االجتهاد ‪ ،‬وداود مصيب من وجه واحد ‪ ،‬وحكمه من عند ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن العلماء‬ ‫آتاه إياه ‪ ،‬فهو بمنزلة المجتهد المخطئ من أمة رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وقد قال في المجتهد إذا أخطأ فله أجر وإن أصاب‬ ‫ورثة األنبياء بإطالقه صلهى ه‬
‫فله أجران ‪ ،‬ومن رزق الفهم من المحدثات فقد رزق العلم ‪ ،‬وما كل من رزق علما كان‬
‫باّلل‬
‫ّللا يقع التفاضل بين العلماء ه‬ ‫صاحب فهم ‪ ،‬فالفهم درجة عليا في المحدثات ‪ ،‬وفي الفهم عن ه‬
‫‪ ،‬والفهم قوة ال تتصرف إال في المبهمات الممكنات وغوامض األمور ‪ ،‬ويحتاج صاحب الفهم‬
‫الطي َْر َو ُكنَّا فا ِع ِلينَ »داود منصوص‬ ‫داو َد ْال ِجبا َل يُ َ‬
‫س ِبه ْحنَ َو َّ‬ ‫س َّخ ْرنا َم َع ُ‬
‫لمعرفة المواطن ‪َ «،‬و َ‬
‫على خالفته ‪ ،‬ومن أعطي الخالفة أعطي التحكم والتصرف في العالم ‪ ،‬فترجيع الجبال معه‬
‫بالتسبيح والطير تؤذن بالموافقة ‪ ،‬فموافقة اإلنسان أولى ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 80‬إلى ‪] 83‬‬


‫الري َح‬‫مان ِ ّ‬ ‫سلَ ْي َ‬
‫ون ( ‪َ ) 80‬و ِل ُ‬ ‫وس لَ ُك ْم ِلتُحْ ِصنَ ُك ْم ِم ْن بَأ ْ ِ‬
‫س ُك ْم فَ َه ْل أ َ ْنت ُ ْم شا ِك ُر َ‬ ‫ص ْنعَةَ لَبُ ٍ‬ ‫عله ْمنا ُه َ‬ ‫َو َ‬
‫ين ( ‪َ ) 81‬و ِم َن‬ ‫بار ْكنا فِيها َو ُكنها بِ ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْي ٍء عا ِل ِم َ‬ ‫ض الهتِي َ‬ ‫عاصفَة تَجْ ِري بِأ َ ْم ِر ِه إِلى ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ِ‬
‫وب إِ ْذ نادى‬ ‫ين ) ‪َ ( 82‬وأَيُّ َ‬ ‫ُون ذ ِلكَ َو ُكنها لَ ُه ْم حافِ ِظ َ‬ ‫ع َمال د َ‬ ‫ون َ‬ ‫ون لَهُ َويَ ْع َملُ َ‬ ‫ص َ‬ ‫ين َم ْن يَغُو ُ‬ ‫هياط ِ‬‫الش ِ‬
‫ين ( ‪) 83‬‬ ‫اح ِم َ‬ ‫ض ُّر َوأ َ ْنتَ أ َ ْر َح ُم ه‬
‫الر ِ‬ ‫ي ال ُّ‬ ‫سنِ َ‬ ‫َربههُ أ َ ِنّي َم ه‬
‫ّللا ال تقدح في الصبر ]‬ ‫[ الشكوى إلى ه‬
‫ّللا ال تقدح في الصبر ‪ ،‬أال ترى إلى أيوب عليه السالم سأل ربه رفع البالء عنه‬ ‫الشكوى إلى ه‬
‫عز وجل ‪،‬‬ ‫ي الض ُُّّر »أي أصاب مني ‪ ،‬فشكا ذلك إلى ربه ه‬ ‫س ِن َ‬ ‫بقول« أ َ ِنهي َم َّ‬
‫اح ِمينَ »ففي هذه الكلمة إثبات وضع األسباب ‪ ،‬وعرض فيها لربه‬ ‫الر ِ‬ ‫ت أ َ ْر َح ُم َّ‬‫وقال له ‪َ «:‬وأ َ ْن َ‬
‫ّللا ‪ ،‬والدعاء ال‬ ‫برفع البالء عنه ‪ ،‬فإن من النزاع الصبر على البالء إذا لم يرفع إزالته إلى ه‬
‫يقتضي المنازعة ‪ ،‬فإنه ذلة وافتقار ‪ ،‬والنزاع رئاسة وسلطنة ‪ ،‬فلم يقدح دعاء أيوب عليه‬
‫ّللا عليه بالصبر ‪ ،‬فقال مع ثبوت شكواه « ِإنَّا َو َج ْدناهُ صا ِبرا ً نِ ْع َم‬ ‫السالم في صبره ‪ ،‬وقد أثنى ه‬
‫اب »فذكره بكثرة الرجوع إليه في كل أمر ينزل به ‪ ،‬فمن حبس نفسه عند الضر‬ ‫ْالعَ ْب ُد ِإنَّهُ أ َ َّو ٌ‬
‫النازل‬

‫ص ‪142‬‬

‫‪142‬‬
‫ّللا في رفع ما نزل به وصبر مثل هذا الصبر فقد قاوم القهر اإللهي ‪،‬‬‫به عن الشكوى إلى ه‬
‫ّللا أعلى منه وأتم ‪ ،‬ولهذا قلنا إن الدعاء ال يقدح وال يقتضي المنازعة ‪ ،‬بل هو‬
‫والشكوى إلى ه‬
‫أعلى وأثبت في العبودة من تركه ‪ ،‬وأما الرضا والتسليم فهما نزاع خفي ال يشعر به إال أهل‬
‫ّللا ال إلى غيره ‪ ،‬بل يجب عليه ذلك ‪ ،‬لما في‬
‫ّللا ‪ ،‬لذلك رفع أيوب عليه السالم شكواه إلى ه‬
‫ه‬
‫ّللا ‪ ،‬واألنبياء عليهم‬
‫ّللا من مقاومة القهر اإللهي ‪ ،‬وهو سوء أدب مع ه‬‫الصبر إن لم يشك إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فاستجاب له ربه وقال ‪:‬‬
‫السالم أهل أدب ‪ ،‬وهم على علم من ه‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 84‬‬


‫ش ْفنا ما بِ ِه ِم ْن ض ٍ ُّر َوآت َ ْيناهُ أ َ ْهلَهُ َو ِمثْلَ ُه ْم َمعَ ُه ْم َرحْ َمة ِم ْن ِع ْندِنا َو ِذ ْكرى‬
‫ست َ َج ْبنا لَهُ فَ َك َ‬
‫فَا ْ‬
‫ِين ( ‪) 84‬‬ ‫ِل ْلعا ِبد َ‬
‫فأثبت بقوله تعالى ‪ «:‬فَا ْست َ َجبْنا لَهُ »أن دعاه كان في رفع البالء ‪ ،‬فكشف ما به من ضر وشهد‬
‫ّللا في رفع الضر ورفع البالء يناقض الصبر المشروع‬ ‫له بالصبر ‪ ،‬فلو كان الدعاء إلى ه‬
‫ّللا على أيوب عليه السالم بالصبر ‪ ،‬وقد أثنى عليه به ‪ ،‬بل من سوء األدب‬ ‫المطلوب لم يثن ه‬
‫ّللا أن ال يسأل العبد رفع البالء عنه ‪ ،‬ألن فيه رائحة من مقاومة القهر اإللهي بما يجده من‬ ‫مع ه‬
‫ّللا أنبياءه ورسله ‪،‬‬ ‫الصبر وقوته ‪ ،‬ومن األدب اإللهي الذي علمه ه‬
‫إن كنت صاحب غرض وتحس بمرض وألم فاحبس نفسك عن الشكوى لغير من آلمك بحكمه‬
‫عليك ‪،‬‬
‫فإنه ما آلمك وحكم عليك بخالف غرضك ‪ -‬وغرضك من جعل حكمه فيك ‪ -‬إال لتسأله في رفع‬
‫ذلك عنك ‪ ،‬بما جعل فيك من الغرض الذي بسببه تألمت ‪ ،‬كما فعل بأيوب عليه السالم ‪ ،‬فمن‬
‫ّللا مع اإلحساس بالبالء وعدم موافقة الغرض فقد قاوم القهر اإللهي ‪ ،‬فاألدب كل‬ ‫لم يشك إلى ه‬
‫ّللا في رفعه ال إلى غيره ‪،‬‬ ‫األدب في الشكوى إلى ه‬
‫ويبقى عليه اسم الصبر كما قال تعالى في أيوب عليه السالم‪ِ " :‬إنَّا َو َج ْدناهُ صا ِبرا ً "‬
‫ّللا إال‬
‫في وقت االضطراب والركون إلى األسباب ‪ ،‬فلم يضطرب وال ركن إلى شيء غير ه‬
‫إلينا ال إلى سبب من األسباب ‪ ،‬فإنه ال بد طبعا عند اإلحساس من االضطراب وتغير المزاج ‪.‬‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬لذلك قال بعضهم ‪ :‬الصبر مقاومة ‪ ،‬وهو سوء أدب في حق الكامل ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ ) : 21‬آية ‪] 85‬‬


‫ين) ‪( 85‬‬ ‫يس َوذَا ا ْل ِك ْف ِل ُك ٌّل ِم َن ال ه‬
‫صا ِب ِر َ‬ ‫سما ِعي َل َو ِإد ِْر َ‬
‫َو ِإ ْ‬

‫ص ‪143‬‬

‫‪143‬‬
‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 86‬إلى ‪] 87‬‬
‫غاضبا فَ َظ هن أ َ ْن لَ ْن نَ ْقد َِر‬
‫ب ُم ِ‬ ‫ون ِإ ْذ ذَ َه َ‬
‫ين ) ‪َ ( 86‬وذَا النُّ ِ‬ ‫صا ِل ِح َ‬ ‫َوأ َ ْد َخ ْلنا ُه ْم ِفي َرحْ َم ِتنا ِإنه ُه ْم ِم َن ال ه‬
‫ين ( ‪) 87‬‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ت أ َ ْن ال إِلهَ إِاله أ َ ْنتَ ُ‬
‫س ْبحانَكَ إِ ِنّي ُك ْنتُ ِم َن ال ه‬ ‫ظلُما ِ‬ ‫علَ ْي ِه فَنادى فِي ال ُّ‬ ‫َ‬
‫غاضبا ً »كان غضب يونس عليه السالم هّلل ومن أجله ‪ ،‬فلما ذهب‬ ‫َب ُم ِ‬ ‫ون ِإ ْذ ذَه َ‬ ‫« َوذَا النُّ ِ‬
‫ّللا فيه ‪ ،‬وما‬ ‫ّللا ال يضيق عليه من سعة رحمة ه‬ ‫علَ ْي ِه »أي ظن أن ه‬ ‫ظ َّن أ َ ْن لَ ْن نَ ْقد َِر َ‬
‫مغاضبا« فَ َ‬
‫نظر ذلك االتساع اإللهي الرحماني في حق غيره ‪ ،‬فتناله أمته واقتصر به على نفسه ‪ ،‬وكذلك‬
‫ّللا به عليه ‪ ،‬بعد أن أسكن بطن‬ ‫ّللا عنه بعد الضيق ليعلم قدر ما أنعم ه‬ ‫فعل الحق ‪ ،‬ففرج ه‬
‫ّللا على حالته ‪ ،‬حين كان في بطن أمه من كان يدبره فيه ‪ ،‬وهل كان‬ ‫ّللا لينبهه ه‬ ‫الحوت ما شاء ه‬
‫ّللا ال يعرف سوى‬ ‫في ذلك الموطن يتصور منه أن يغاضب أو يغاضب ‪ ،‬بل كان في كنف ه‬
‫ت أ َ ْن‬ ‫ربه ‪ ،‬فرده إلى هذه الحالة في بطن الحوت تعليما له بالفعل ال بالقول ‪ «،‬فَنادى فِي ُّ‬
‫الظلُما ِ‬
‫سبْحان ََك‬ ‫ت »عذرا عن أمته ‪ ،‬أي تفعل ما تريد وتبسط رحمتك على ما تشاء« ُ‬ ‫ال ِإلهَ ِإ َّال أ َ ْن َ‬
‫الظا ِل ِمينَ »ما أنت ظلمتني ‪ ،‬وهذا هو التوحيد‬ ‫»حيث كنت« ِإ ِنهي ُك ْنتُ ِمنَ َّ‬
‫[ توحيد الغم ]‬
‫العشرون في القرآن وهو توحيد الغم ‪ ،‬وهو توحيد المخاطب « أنت » وهو توحيد التنفيس ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 88‬‬


‫فَا ْ‬
‫ست َ َج ْبنا لَهُ َونَ هج ْيناهُ ِم َن ا ْلغَ ِ ّم َوكَذ ِلكَ نُ ْن ِجي ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين ) ‪( 88‬‬
‫باّلل خيرا فاستجاب له فنجاه من الغم وقذفه الحوت من بطنه على‬ ‫ظن يونس عليه السالم ه‬
‫ساحل اليم مولودا على الفطرة ‪ ،‬وأنبت عليه اليقطين لنعمته ولنفور الذباب عن حوزته ‪ ،‬ونفس‬
‫ّللا عن يونس بالخروج من بطن الحوت ‪ ،‬وأرضاه في أمته ‪ ،‬إذ كان غضبه هّلل ومن أجله ‪،‬‬ ‫ه‬
‫وظنه بربه أنه ال يضيق عليه ‪ ،‬وكذلك فعل ‪ ،‬فانظر في هذه العناية اإللهية بهذا النبي وما جاء‬
‫به من االعتراف في توحيده ‪َ «،‬و َكذ ِل َك نُ ْن ِجي ْال ُمؤْ ِمنِينَ »يعني الصادقين في أحوالهم‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 89‬‬


‫وارثِ َ‬
‫ين) ‪( 89‬‬ ‫َو َزك َِريها إِ ْذ نادى َربههُ َر ّ ِ‬
‫ب ال تَذَ ْرنِي فَ ْردا َوأ َ ْنتَ َخ ْي ُر ا ْل ِ‬

‫ص ‪144‬‬

‫‪144‬‬
‫من حيث أنه سبحانه وارث فإنه تعالى قال إنه يرث األرض ومن عليها ‪ ،‬وهكذا اإلشارة في‬
‫ّللا في أي‬ ‫كل خير منسوب مضاف مثل خير الصابرين والشاكرين ‪ ،‬ومثل هذا مما ورد عن ه‬
‫شرع ‪.‬‬
‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 90‬إلى ‪] 91‬‬
‫ت َويَ ْدعُونَنا‬‫ُون فِي ا ْل َخ ْيرا ِ‬
‫سارع َ‬ ‫ست َ َج ْبنا لَهُ َو َو َه ْبنا لَهُ يَحْ يى َوأ َ ْ‬
‫صلَحْ نا لَهُ َز ْو َجهُ ِإنه ُه ْم كانُوا يُ ِ‬ ‫فَا ْ‬
‫وحنا‬ ‫ين ( ‪َ ) 90‬والهتِي أَحْ َ‬
‫صنَتْ فَ ْر َجها فَنَفَ ْخنا فِيها ِم ْن ُر ِ‬ ‫غبا َو َر َهبا َوكانُوا لَنا خا ِ‬
‫ش ِع َ‬ ‫َر َ‬
‫ين ) ‪( 91‬‬ ‫َو َجعَ ْلناها َوا ْبنَها آيَة ِل ْلعالَ ِم َ‬
‫[ روح عيسى ]‬
‫روح عيسى منفوخ بالجمع والكثرة ففيه قوى جميع األسماء واألرواح ‪ ،‬فإنه قال فنفخنا بنون‬
‫الجمع ‪ ،‬فإن جبريل عليه السالم وهبه لها بشرا سويا ‪ ،‬فتجلى في صورة إنسان كامل فنفخ‬
‫ّللا لمن حمده ‪.‬‬ ‫وهو نفخ الحق ‪ ،‬كما قال على لسان عبده سمع ه‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 92‬إلى ‪] 96‬‬


‫راجعُ َ‬
‫ون‬ ‫طعُوا أ َ ْم َر ُه ْم بَ ْينَ ُه ْم ُك ٌّل إِلَ ْينا ِ‬
‫ُون ) ‪َ ( 92‬وتَقَ ه‬ ‫واحدَة َوأَنَا َربُّ ُك ْم فَا ْعبُد ِ‬ ‫إِ هن ه ِذ ِه أ ُ همت ُ ُك ْم أ ُ همة ِ‬
‫ون ( ‪َ ) 94‬و َحرا ٌم‬ ‫س ْعيِ ِه َوإِنها لَهُ كاتِبُ َ‬ ‫ت َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَال ُك ْف َ‬
‫ران ِل َ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫( ‪ ) 93‬فَ َم ْن يَ ْع َم ْل ِم َن ال ه‬
‫ج َو ُه ْم ِم ْن ُك ِ ّل‬‫ج َو َمأ ْ ُجو ُ‬ ‫ون ( ‪َ ) 95‬حتهى ِإذا فُتِ َحتْ يَأ ْ ُجو ُ‬ ‫عَلى قَ ْريَ ٍة أ َ ْهلَ ْكناها أَنه ُه ْم ال يَ ْر ِجعُ َ‬
‫ون ( ‪) 96‬‬ ‫سلُ َ‬ ‫ب يَ ْن ِ‬‫َح َد ٍ‬
‫[ يأجوج ومأجوج ]‬
‫جاء في حديث أبي عيسى الترمذي عن الدجال أن عيسى عليه السالم يقتله بباب لد ‪ ،‬ثم قال‬
‫ّللا إليه أن أحرز عبادي إلى الطور ‪ ،‬فإني قد أنزلت عبادا‬ ‫ّللا ‪ ،‬ثم يوحي ه‬ ‫ويلبث كذلك ما شاء ه‬
‫ّللا تعالى ‪ِ «:‬م ْن ُك ِهل َح َد ٍ‬
‫ب‬ ‫ّللا يأجوج ومأجوج وهم كما قال ه‬ ‫لي ال يد ألحد بقتالهم ‪ ،‬قال ويبعث ه‬
‫يَ ْن ِسلُونَ »قال فيمر أولهم ببحيرة طبرية فيشربون ما بها ‪ ،‬ثم يمر بها آخرهم فيقولون لقد كان‬
‫بهذه مرة ماء ‪ ،‬ثم يسيرون إلى أن ينتهوا إلى جبل بيت المقدس ‪ ،‬فيقولون لقد قتلنا من في‬
‫ّللا‬
‫األرض فهلم فلنقتل من في السماء ‪ ،‬فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد ه‬

‫ص ‪145‬‬

‫‪145‬‬
‫عليهم نشابهم محمرا دما ‪ ،‬ويحاصر عيسى ابن مريم وأصحابه حتى يكون رأس الثور يومئذ‬
‫ّللا وأصحابه ‪ ،‬قال‬‫خيرا لهم من مائة دينار ألحدكم اليوم ‪ ،‬قال فيرغب عيسى ابن مريم إلى ه‬
‫ّللا عليهم النغف في رقابهم ‪ ،‬فيصبحون فرسى موتى كموت نفس واحدة ‪ ،‬قال ويهبط‬ ‫فيرسل ه‬
‫عيسى ابن مريم وأصحابه فال يجد موضع شبر إال وقد مألته زهمتهم ونتنهم ودماؤهم ‪ ،‬قال‬
‫ّللا عليهم طيرا كأعناق البخت ‪ ،‬فتحملهم‬
‫ّللا وأصحابه ‪ ،‬قال فيرسل ه‬
‫فيرغب عيسى إلى ه‬
‫ّللا‬
‫فتطرحهم بالمهبل ‪ ،‬ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين ‪ ،‬ويرسل ه‬
‫عليهم مطرا ال يكن منه بيت وال وبر وال مدر ‪ ،‬قال فيغسل األرض ويتركها كالزلقة ‪ -‬إلى‬
‫آخر الحديث ‪ -‬قال أبو عيسى هذا حديث غريب حسن صحيح ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ‪ ( 21 ) :‬اآليات ‪ 97‬إلى ‪] 98‬‬


‫غ ْفلَ ٍة ِم ْن هذا بَ ْل‬‫ِين َكفَ ُروا يا َو ْيلَنا قَ ْد ُكنها فِي َ‬ ‫صةٌ أ َ ْب ُ‬
‫صار الهذ َ‬ ‫شاخ َ‬
‫ي ِ‬ ‫ق فَ ِإذا ِه َ‬ ‫ب ا ْل َو ْع ُد ا ْل َح ُّ‬ ‫َو ْ‬
‫اقت َ َر َ‬
‫ُون ( ‪) 98‬‬ ‫ب َج َهنه َم أ َ ْنت ُ ْم لَها ِ‬
‫وارد َ‬ ‫ص ُ‬
‫ّللا َح َ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 97‬إنه ُك ْم َوما ت َ ْعبُد َ‬ ‫ُكنها ظا ِل ِم َ‬
‫ب َج َهنَّ َم »وهو قوله «‪:‬‬ ‫ص ُ‬‫ّللا »أي الذي انفرد بهذا االسم« َح َ‬ ‫« ِإنَّ ُك ْم َوما ت َ ْعبُدُونَ ِم ْن د ِ‬
‫ُون َّ ِ‬
‫جارة ُ » *وهو كل من دعاكم إلى عبادة نفسه ‪ ،‬أو عبدتموه وكان في وسعه‬ ‫اس َو ْال ِح َ‬ ‫َوقُو ُدهَا النَّ ُ‬
‫أن ينهاكم عن ذلك فما نهاكم ‪ ،‬فمثل هؤالء يكونون من حصب جهنم ‪ ،‬وقد قرئ حطب جهنم ‪،‬‬
‫إذا كان يوم القيامة ‪ ،‬وأدخل المشركون دار الشقاء ‪ ،‬وهي جهنم ‪ ،‬أدخل معهم جميع من عبدوه‬
‫إال من هو من أهل الجنة وعمارها فإنهم ال يدخلون معهم فدخولها معهم زيادة في عذابهم ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 99‬‬


‫ُون ) ‪( 99‬‬‫ُالء آ ِل َهة ما َو َردُوها َو ُك ٌّل فِيها خا ِلد َ‬ ‫لَ ْو َ‬
‫كان هؤ ِ‬
‫فيخلد المشرك في النار مع شريكه إن كان حجرا أو نباتا أو حيوانا أو كوكبا ‪ ،‬إال اإلنسان الذي‬
‫لم يرض بما نسب إليه ونهى عنه وكرهه ظاهرا وباطنا ‪ ،‬فإنه ال يكون معه في النار ‪ ،‬وإن‬
‫كان هذا من قوله وعن أمره ومات غير موحد وال تائب كان معه في النار ‪ ،‬إال أن الذي‬

‫ص ‪146‬‬

‫‪146‬‬
‫ال يرضى بذلك ينصب للمشرك مثال صورته يدخل معه ليعذب بها ‪ ،‬وال عذاب على كوكب‬
‫وال حجر وال شجر وال حيوان ‪ ،‬وإنما يدخلون معهم زيادة في عذابهم حتى يروا أنهم لن يغنوا‬
‫ُالء آ ِل َهةً ما َو َردُوها َو ُك ٌّل فِيها خا ِلدُونَ )‪.‬‬
‫ّللا شيئا ‪ ،‬فيقولون ‪ (:‬لَ ْو كانَ هؤ ِ‬
‫عنهم من ه‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 100‬‬


‫س َمعُ َ‬
‫ون ( ‪) 100‬‬ ‫لَ ُه ْم فِيها َزفِ ٌ‬
‫ير َو ُه ْم فِيها ال يَ ْ‬
‫[ من سبقت لهم الحسنى ]‬
‫وأما من سبقت لهم الحسنى ‪ ،‬وهم الذين لم يأمروا ولم يرضوا ‪ ،‬فهم عنها مبعدون كعيسى‬
‫وعزير وأمثالهما وعلي بن أبي طالب وكل من ادعي فيه أنه إله وقد سعد ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 101‬‬


‫ُون ) ‪( 101‬‬ ‫سنى أُولئِكَ َ‬
‫ع ْنها ُم ْبعَد َ‬ ‫سبَقَتْ لَ ُه ْم ِمنها ا ْل ُح ْ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ِين َ‬
‫ّللا مع المشركين في جهنم مثلهم الذين كانوا يصورونها في الكنائس وغيرها ‪ ،‬نكاية‬ ‫فيدخل ه‬
‫لهم ألن كل عابد من المشركين قد مسك مثال صورة معبوده المتخيلة في نفسه ‪ ،‬فتجسد إليه‬
‫تلك الصورة المتخيلة ويدخلها النار معه ‪ ،‬فإنه ما عبد إال تلك الصورة التي مسكها في نفسه ‪،‬‬
‫وتجسد المعاني المتخيلة غير منكور شرعا وعقال ‪ ،‬فالمشركون يدخلون النار للعقاب واالنتقام‬
‫‪ ،‬وهؤالء المعبودون يدخلونها ال لالنتقام فإنهم ما ادعوا ذلك وال المثل ‪ ،‬وإنهما أدخلوها نكاية‬
‫ّللا شيئا ‪،‬‬
‫ّللا بشهودهم إياها ‪ ،‬حتى يعلموا أنهم ال يغنون عنهم من ه‬ ‫في حق العابدين لها فيعذبهم ه‬
‫لكونهم ليسوا بآلهة كما ادعوا فيهم ‪ ،‬والذين سبقت لهم الحسنى ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 102‬‬


‫ُون ) ‪( 102‬‬ ‫شت َ َهتْ أ َ ْنفُ ُ‬
‫س ُه ْم خا ِلد َ‬ ‫سها َو ُه ْم فِي َما ا ْ‬‫سي َ‬ ‫ون َح ِ‬‫س َمعُ َ‬ ‫ال يَ ْ‬
‫سها »يعني النار ‪ ،‬لما يؤثر السماع في صاحبه من الخوف( َو ُه ْم فِي َما‬ ‫" ال يَ ْس َمعُونَ َح ِسي َ‬
‫س ُه ْم خا ِلدُونَ )فإن اآلخرة دائمة التكوين عن العالم ‪ ،‬فإنهم يقولون في الجنان للشيء‬ ‫ت أ َ ْنفُ ُ‬
‫ا ْشت َ َه ْ‬
‫يريدونه كن فيكون ‪ ،‬فال يتوهمون أمرا وال يخطر لهم خاطر في تكوين أمر ما إال ويتكون بين‬
‫أيديهم حسا بمجرد حصول الخاطر والهم واإلرادة والتمني والشهوة ‪ ،‬فشهواتهم كاإلرادة من‬
‫تكون‪.‬‬
‫الحق ‪ ،‬إذا تعلقت بالمراد ه‬

‫ص ‪147‬‬

‫‪147‬‬
‫[سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 103‬‬
‫ُون ( ‪) 103‬‬ ‫عد َ‬ ‫ع ْاأل َ ْكبَ ُر َوتَتَلَقها ُه ُم ا ْل َمال ِئكَةُ هذا يَ ْو ُم ُك ُم الهذِي ُك ْنت ُ ْم تُو َ‬
‫ال يَحْ ُزنُ ُه ُم ا ْلفَ َز ُ‬
‫[ من ال يحزنهم الفزع األكبر ]‬
‫ّللا عليه وسلم إنهم يوم القيامة‬ ‫اعلم أن هّلل عبادا أخفياء ال يعرفهم سواه ‪ ،‬قال فيهم صلهى ه‬
‫يكونون على منابر من نور ليسوا بأنبياء وال شهداء ‪ ،‬تغبطهم األنبياء والشهداء ‪ ،‬يعني‬
‫بالشهداء هنا الرسل ‪ ،‬فإنهم شهداء على أممهم ‪ ،‬وكان االغتباط من كونهم لم يكونوا رسال‬
‫فارتاحوا ‪ ،‬وإن كانت الرسل أرفع مقاما منهم ‪ ،‬فإنهم ال يدخلهم خوف البتة ‪ ،‬فغبط األنبياء‬
‫والشهداء إياهم فيما هم فيه من الراحة وعدم الحزن والخوف في ذلك الموطن ‪ ،‬واألنبياء‬
‫والرسل وعلماء هذه األمة الصالحون الوراثون درجات األنبياء خائفون وجلون على أممهم ‪،‬‬
‫وأولئك لم يكن لهم أمم وال أتباع ‪ ،‬وهم آمنون على أنفسهم مثل األنبياء على أنفسهم آمنون ال‬
‫ّللا الذين ال يخافون ‪ ،‬ألنهم ما لهم‬ ‫يحزنهم الفزع األكبر من أجل نفوسهم ‪ ،‬فهذه الفئة هم أولياء ه‬
‫أمم وال أتباع يخافون عليهم ‪ ،‬فارتفع الخوف عنهم في ذلك اليوم في حق نفوسهم وفي حق‬
‫ع ْاأل َ ْكبَ ُر )فقد كانوا مجهولين عند الناس فلم يكونوا‬ ‫غيرهم ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ (:‬ال يَ ْح ُزنُ ُه ُم ْالفَزَ ُ‬
‫في الدنيا يعرفون ‪ ،‬وال في اآلخرة يطلب منهم الشفاعة ‪ ،‬فهم أصحاب راحة عامة في ذلك‬
‫اليوم ‪،‬‬
‫والوجه اآلخر الذي ذكرناه أنهم لم يكونوا لهم أتباع ‪ ،‬فإذا كان في القيامة جاءت األنبياء‬
‫والعلماء خائفة يحزنهم الفزع األكبر في غاية من شدة الخوف على أممهم ال على أنفسهم ‪،‬‬
‫واألمم والمؤمنون والعامة والعصاة خائفون على أنفسهم لما ارتكبوه من المخالفات ‪ ،‬وهؤالء‬
‫ما لهم أتباع يخافون عليهم ‪ ،‬وال ارتكبوا مخالفة توجب لهم الخوف ‪ ،‬فجاءت هذه الطائفة‬
‫مستريحة غير خائفة ال على نفوسهم ‪ ،‬وال يحزنهم الفزع األكبر على أممهم ‪ ،‬إذ لم يكن لهم‬
‫أمم ‪ ،‬ففي مثل هذا يغبطهم النبيون والشهداء في ذلك الموقف خاصة( َوتَتَلَقَّا ُه ُم ْال َمالئِ َكةُ هذا‬
‫عدُونَ )‬ ‫يَ ْو ُم ُك ُم الَّذِي ُك ْنت ُ ْم تُو َ‬
‫أن يرتفع الحزن والخوف فيه عنكم في حق أنفسكم وحق األمم ‪ ،‬إذ لم تكن لكم أمة وال تعرفتم‬
‫ألمة مع انتفاع األمة بكم ‪ ،‬ففي هذا الحال تغبطهم األنبياء المتبوعون ‪ ،‬فإذا أدخلوا الجنة‬
‫وأخذوا منازلهم تبينت المراتب وتعينت المنازل ‪ ،‬وظهر عليون ألولي األلباب‪.‬‬

‫ص ‪148‬‬

‫‪148‬‬
‫[سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 104‬‬
‫ين (‬ ‫علَ ْينا ِإنها ُكنها فا ِع ِل َ‬ ‫ب كَما بَدَأْنا أ َ هو َل َخ ْل ٍ‬
‫ق نُ ِعي ُد ُه َوعْدا َ‬ ‫س ِج ِ ّل ِل ْل ُكت ُ ِ‬
‫ي ِ ال ِ ّ‬ ‫يَ ْو َم نَ ْط ِوي ال ه‬
‫سما َء َك َط ّ‬
‫‪) 104‬‬
‫[ في اإلعادة ]‬
‫ّللا نور نبيك يا جابر ‪ .‬وقال‬ ‫ّللا عليه وسلم في حديث جابر المشهور أول ما خلق ه‬ ‫قال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنا أول من تنشق عنه األرض ‪ -‬بحث في اإلعادة ‪ -‬قال تعالى ‪َ (:‬كما بَ َدأْنا‬ ‫صلهى ه‬
‫ق نُ ِعي ُدهُ )وقال ‪َ ( :‬كما بَ َدأ َ ُك ْم تَعُودُونَ )اإلعادة تكرار األمثال في الوجود ‪ ،‬ألن تكرار‬ ‫أ َ َّو َل خ َْل ٍ‬
‫العين ليس بواقع لالتساع اإللهي ‪ ،‬ولكن اإلنسان في لبس من خلق جديد ‪ ،‬فهي أمثال يعسر‬
‫الفصل فيها لقوة الشبه ‪ ،‬فاإلعادة إنما هي في الحكم ‪ ،‬مثل السلطان يولي واليا ثم يعزله ثم‬
‫يوليه بعد عزله ‪ ،‬فاإلعادة في الوالية ‪،‬‬
‫والوالية نسبة ال عين وجودي ‪ ،‬أال ترى اإلعادة يوم القيامة إنما هي في التدبير ‪ ،‬فإن النبي‬
‫ّللا عليه وسلم قد ميز بين نشأة الدنيا ونشأة اآلخرة ‪ ،‬والروح المدبر لنشأة الدنيا عاد إلى‬ ‫صلهى ه‬
‫تدبير النشأة اآلخرة ‪ ،‬فهي إعادة حكم ونسبة ال إعادة عين فقدت ثم وجدت ‪ ،‬وأين مزاج من‬
‫يبول ويغوط ويتمخط من مزاج من ال يبول وال يغوط وال يتمخط ؟ واألعيان التي هي‬
‫الجواهر ما فقدت من الوجود حتى تعاد إليه ‪ ،‬بل لم تزل موجودة العين ‪ ،‬وال إعادة في الوجود‬
‫لموجود فإنه موجود ‪ ،‬وإنما هي هيئات وامتزاجات نسبية ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 105‬‬


‫ون ) ‪( 105‬‬‫صا ِل ُح َ‬
‫ِي ال ه‬ ‫ور ِم ْن بَ ْع ِد ال ِذّ ْك ِر أ َ هن ْاأل َ ْر َ‬
‫ض يَ ِرثُها ِعباد َ‬ ‫َولَقَ ْد َكت َ ْبنا ِفي ه‬
‫الزبُ ِ‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬األرض هي أرض العبادة التي يرثها الصالحون في الطاعة ‪ ،‬فإن الصالح ال يرث‬
‫من األرض إال إتيانها هّلل طائعة مع السماء ‪ ،‬حين قال لها ولألرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا‬
‫أتينا طائعين ‪ ،‬فورث العباد منها الطاعة هّلل وهي المعبر عنها بالقنوت ‪.‬‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬اآليات ‪ 106‬إلى ‪]107‬‬


‫ين ( ‪) 107‬‬ ‫ِين ( ‪َ ) 106‬وما أ َ ْر َ‬
‫س ْلناكَ إِاله َرحْ َمة ِل ْلعالَ ِم َ‬ ‫إِ هن فِي هذا لَبَالغا ِلقَ ْو ٍم عابِد َ‬
‫[ رحمة للعالمين ]‬
‫ّللا‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في ه‬ ‫ما كان السبب في إنزال هذه اآلية إال أنهه ل هما اشتد قيام رسول ه‬
‫ّللا تعالى وما يستحقه ‪ ،‬أخذ يقنت في‬ ‫وغيرته على الحق ‪ ،‬وكان في مقام الغيرة على جناب ه‬
‫ّللا بالهالك والعذاب واالنتقام في‬ ‫صالته شهرا كامال وهو القنوت ‪ ،‬يدعو على طائفة من عباد ه‬
‫ّللا ورسوله ‪ ،‬فكان يقول اللهم عليك بفالن وفالن ‪ ،‬وذكر‬ ‫قصة رعل وذكوان وعصية عصت ه‬
‫ّللا يقول لك ما أرسلك‬ ‫ّللا عليه وحيه بواسطة الروح األمين ‪ ،‬يا محمد إن ه‬ ‫ما كان منهم فأنزل ه‬
‫سبابا وال‬
‫ص ‪149‬‬

‫‪149‬‬
‫لعانا ‪ ،‬أي طرادا ‪ ،‬أي ال تطرد عن رحمتي من بعثتك إليه ‪ ،‬وإنما بعثك رحمة ‪ ،‬أي لترحم‬
‫مثل هؤالء ‪ ،‬كأنه يقول له ‪ :‬بدل دعائك عليهم كنت تدعوني لهم ‪.‬‬
‫ّللا تعالى إليه في ذلك لما علم من إجابته إياه إذا دعاه في أمر ‪ ،‬فنهاه عن الدعاء عليهم‬ ‫وأوحى ه‬
‫ّللا عليه وسلم حين جرحوه اللهم‬ ‫وسبهم وما يكرهون إبقاء لهم ورحمة بهم ‪ ،‬كما قال صلهى ه‬
‫س ْل َ‬
‫ناك ِإ َّال َر ْح َمةً‬ ‫اهد قومي إنهم ال يعلمون ثم تال عليه جبريل عليه السالم كالم ربه( َوما أ َ ْر َ‬
‫ّللا عليه وسلم في حق المشرك الذي أخبر أنه ال يغفر له‬ ‫ِل ْلعالَ ِمينَ )فعتب الحق رسوله صلهى ه‬
‫بهذه اآلية ‪ ،‬وما خص مؤمنا من غيره ‪ ،‬فلم يقل تعالى « للمؤمنين خاصة » فلم يخص الحق‬
‫ناك إِ َّال َر ْح َمةً ِل ْلعالَ ِمينَ »أي لترحمهم ‪ ،‬ألنك صاحب القرآن‬ ‫س ْل َ‬ ‫مؤمنا من كافر بل قال« َوما أ َ ْر َ‬
‫الذي ينطق بأن رحمتي وسعت كل شيء ‪ ،‬فعم العالم ولم يخص عالما من عالم ‪ ،‬فدخل المطيع‬
‫والعاصي والمؤمن والكافر والموحد والمشرك في هذا الخطاب وكل مسمى العالم ‪ ،‬أي‬
‫لترحمهم وتدعوني لهم ال عليهم ‪ ،‬فإنك إذا دعوتني لهم ربما وفقتهم لطاعتي ‪ ،‬فترى سرور‬
‫عينك وقرتها في طاعة ‪ ،‬وإذا لعنتهم ودعوت عليهم وأجبت دعاءك فيهم لم يتمكن أن آخذهم‬
‫إال بأن يزيدوا طغيانا وإثما مبينا ‪ ،‬وذلك كله إنما يكون بدعائك عليهم ‪ ،‬فكأنك أمرتهم بالزيادة‬
‫ّللا عليه وسلم لما أدبه به ربه ‪ ،‬فقال‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫في الطغيان الذي نؤاخذهم به ‪ ،‬فتنبه رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه كان‬ ‫ّللا أدبني فأحسن أدبي ‪ ،‬وقد صح عنه صلهى ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم إن ه‬
‫يقول ‪ ( :‬اللهم اهد قومي فإنهم ال يعلمون ) ونهي عن الدعاء عليهم ‪ ،‬قام ليلة إلى الصباح ال‬
‫يز ْال َح ِكي ُم )وهو‬ ‫ت ْالعَ ِز ُ‬‫يتلو فيها إال قوله تعالى ‪ِ «:‬إ ْن تُعَ ِذه ْب ُه ْم فَإِنَّ ُه ْم ِعباد َُك َو ِإ ْن ت َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم فَإِنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫ّللا عليه وسلم مرسل إلى جميع الناس كافة ليرحمهم‬ ‫قول عيسى عليه السالم ‪ ،‬فإنه صلهى ه‬
‫بأنواع وجوه الرحمة ‪ ،‬ومن وجوه الرحمة أن يدعو لهم بالتوفيق والهداية ‪ ،‬فال أحد ممن بعث‬
‫ّللا‬
‫إليه يبقى شقيا ولو بقي في النار فإنها ترجع عليه بردا وسالما ‪ ،‬فإنه من حين بعث رسول ه‬
‫ّللا عليه‬‫ّللا عليه وسلم انطلق على جميع من في األرض من الناس أمة محمد صلهى ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا أخبر أنه أرسله‬ ‫ّللا عليه وسلم التي أرسل بها ‪ ،‬فإن ه‬ ‫وسلم ‪ ،‬فعمت العالم رحمته صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بالرحمة‬ ‫ّللا أنه أرسله صلهى ه‬ ‫ليرحم العالم ‪ ،‬وما خص عالما من عالم ‪ ،‬فأعلمنا ه‬
‫وجعله رحمة للعالمين ‪ ،‬فمن لم تنله رحمته فما ذلك من جهته ‪ ،‬وإنما ذلك من جهة القابل ‪،‬‬
‫فهو كالنور الشمسي أفاض شعاعه على األرض ‪ ،‬فمن استتر منه في كن أو ظل جدار فهو‬
‫الذي لم يقبل انتشار النور عليه ‪ ،‬وعدل عنه ‪ ،‬فلم يرجع إلى الشمس من ذلك منع ‪ ،‬وكانت هذه‬
‫اآلية في الدنيا عنوان حكم اآلخرة ‪ ،‬ألنه إذا كان من‬

‫ص ‪150‬‬

‫‪150‬‬
‫ّللا عليه وسلم في الدعاء عليهم ‪ ،‬فكيف يكون فعله فيهم إذا تولى‬ ‫أشرك به يعتب رسوله صلهى ه‬
‫سبحانه الحكم فيهم بنفسه ‪ ،‬وقد علمنا أنه تعالى ما ندبنا إلى خلق كريم إال كان هو أولى به ‪،‬‬
‫ّللا بعباده ‪ ،‬ألنهم على كل حال عباده ‪ ،‬معترفون به معتقدون‬ ‫ففي هذه اآلية تنبيه على رحمة ه‬
‫لكبريائه ‪ ،‬طالبون القربة إليه ‪ ،‬لكنهم جهلوا طريق القربة ولم يوفوا النظر حقه ‪.‬‬
‫ناك ) وما أرسل إال بالعلم ( ِإ َّال َر ْح َمةً ِل ْلعالَ ِمينَ ) فجعل إرساله رحمة‬ ‫س ْل َ‬
‫‪ -‬وجه آخر ‪َ ( -‬وما أ َ ْر َ‬
‫ت لَ ُه ْم )‪.‬‬
‫ّللا ِل ْن َ‬
‫‪ ،‬فهو علم يعطي السعادة في لين ‪ ،‬قال تعالى ‪ (:‬فَ ِبما َر ْح َم ٍة ِمنَ َّ ِ‬

‫[ سورة األنبياء ( ‪ : ) 21‬آية ‪] 108‬‬


‫ون ) ‪( 108‬‬ ‫س ِل ُم َ‬‫واح ٌد فَ َه ْل أ َ ْنت ُ ْم ُم ْ‬
‫ي أَنهما إِل ُه ُك ْم إِلهٌ ِ‬
‫قُ ْل إِنهما يُوحى إِلَ ه‬
‫اعلم أن الحق لما انتقم وعذب بصفة الغضب ‪ ،‬وعفا وتجاوز بصفة الكرم ‪ ،‬وعصم بصفة‬
‫الرحمة ‪ ،‬وظهر االستناد من الموجودات إلى الكثرة في العين الواحدة ‪ ،‬فاستند هذا إلى غير ما‬
‫استند هذا ‪ ،‬زال ابتهاج التوحيد واألحدية باألسماء الحسنى وبما نسب إليه من الوجوه المتعددة‬
‫األحكام ‪ ،‬فلم يبق لالسم الواحد ابتهاج ‪ ،‬فرجع إلى أحدية األلوهية ‪ ،‬وهي أحدية الكثرة لما‬
‫ي أَنَّما إِل ُه ُك ْم إِلهٌ ِ‬
‫واح ٌد )ولم‬ ‫تطلبه من األسماء لبقاء مسمى األحدية ‪ ،‬فقال ‪ (:‬قُ ْل إِنَّما يُوحى إِلَ َّ‬
‫يتعرض إلى ذكر النسب في األسماء والوجوه ‪ ،‬فإن طلب الوحدة ينافي طلب الكثرة ‪ -‬راجع‬
‫البقرة آية ‪. - 164‬‬

‫[ سورة األنبياء ‪ ( 21 ) :‬اآليات ‪ 109‬إلى ‪] 112‬‬


‫ُون ( ‪ِ ) 109‬إنههُ يَ ْعلَ ُم‬ ‫عد َ‬ ‫يب أ َ ْم بَ ِعي ٌد ما تُو َ‬
‫واء َو ِإ ْن أَد ِْري أ َ قَ ِر ٌ‬
‫س ٍ‬ ‫فَ ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَقُ ْل آذَ ْنت ُ ُك ْم عَلى َ‬
‫ين ( ‪111‬‬ ‫ون ( ‪َ ) 110‬وإِ ْن أَد ِْري لَعَلههُ فِتْنَةٌ لَ ُك ْم َو َمتا ٌ‬
‫ع إِلى ِح ٍ‬ ‫ا ْل َجه َْر ِم َن ا ْلقَ ْو ِل َويَ ْعلَ ُم ما ت َ ْكت ُ ُم َ‬
‫ون ( ‪( 112‬‬ ‫عان عَلى ما ت َ ِصفُ َ‬ ‫من ا ْل ُم ْ‬
‫ست َ ُ‬ ‫الرحْ ُ‬ ‫ق َو َربُّنَا ه‬ ‫ب احْ ُك ْم بِا ْل َح ّ ِ‬ ‫) قا َل َر ّ ِ‬
‫ق"]‬ ‫اح ُك ْم ِب ْال َح ه ِ‬ ‫[ "قا َل َربه ِ ْ‬
‫ق »أي الحق الذي شرعت لنا ليثبت صدقي عند من أرسلتني إليهم فيما‬ ‫اح ُك ْم ِب ْال َح ه ِ‬ ‫« قا َل َربه ِ ْ‬
‫أرسلتني به ‪ ،‬فجاء بلفظ يدل على أنه وقع فقال تعالى مخبرا« قا َل »وهو عند العامة ما وقع ‪،‬‬
‫ّللا إال بالواقع ‪ ،‬فال بد أن يكون ثم حضرة إلهية فيها وقوع األشياء‬ ‫فإنه يوم القيامة ‪ ،‬وما أخبر ه‬
‫دائما ‪ ،‬ال يتقيد بالماضي فيقال قد وقعت ‪ ،‬وال بالمستقبل فيقال تقع ‪ ،‬ولكن‬

‫ص ‪151‬‬

‫‪151‬‬
‫متعلقها الحال الدائم ‪ ،‬والحال له الوجود ‪ ،‬ومن هذه الحضرة اإللهية عنها تقع اإلخبارات‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫بالماضي والمستقبل ‪ ،‬واأللف والالم في الحق للحق المعهود الذي بعث به رسول ه‬
‫ّللا ال يعاملنا إال بما شرع لنا ال بغير ذلك ‪،‬‬ ‫عليه وسلم ‪ ،‬أي بما شرعت لي وأرسلتني به ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن يسأله يوم القيامة أن يحكم بالحق الذي بعثه به بين‬ ‫أال تراه قد أمر نبيه صلهى ه‬
‫ق »أي فليكن‬‫اح ُك ْم ِب ْال َح ه ِ‬
‫عباده وبيده ‪ ،‬فقال تعالى آمرا « قل » يا محمد ‪ ،‬وهي قراءة« َربه ِ ْ‬
‫حكمك في األمم يوم القيامة بما شرعت لهم وبعثتنا به إليهم ‪.‬‬
‫فإن ذلك مما يراد ‪ ،‬فإنك ما أرسلتنا إال بما تريد حتى يثبت صدقنا عندهم ‪ ،‬وتقوم الحجة عليهم‬
‫إذا حكم الحق في كل أمة بما أرسل به نبيه إليهم ‪ ،‬وبهذا تكون هّلل الحجة البالغة ‪ ،‬فما حكم إال‬
‫بما شرع وأمر عبده أن يسأله تعالى في ذلك حتى يكون حكمه فيه عن سؤال عبده ‪ ،‬كما كان‬
‫حكم العبد بما قيده من الشرع عن أمر ربه ‪ ،‬وأكثر من هذا التنزل اإللهي إلى العباد ما يكون ‪،‬‬
‫ّللا إال بالحق ‪ ،‬فجعل الحق نفسه في هذه اآلية مأمورا لنبيه عليه السالم ‪ ،‬فإن لفظة‬ ‫وهل يحكم ه‬
‫ّللا ما يعامل العبد بأمر إال قد عامل به نفسه ‪،‬‬ ‫احكم أمر ‪ ،‬وأمره سبحانه أن يقول له ذلك ‪ ،‬فإن ه‬
‫فأوجب على نفسه كما أوجب عليك ‪ ،‬ودخل لك تحت العهد كما أدخلك تحت العهد ‪ ،‬فما أمرك‬
‫بشيء هإال وقد جعل على نفسه مثل ذلك ‪ ،‬هذا لتكون له الحجة البالغة ‪ ،‬ووفى بكل ما أوجبه‬
‫على نفسه ‪ ،‬وطلب منك الوفاء بما أوجبه عليك ‪،‬‬
‫أليس هذا من لطفه ؟ أليس هذا من كرمه ؟‬
‫ق َوال تَت َّ ِب ِع ْال َهوىقال تعالى جبرا لقلب‬‫اس ِب ْال َح ه ِ‬‫اح ُك ْم بَيْنَ النَّ ِ‬ ‫أال تراه تعالى لما قال لنبيه داود« فَ ْ‬
‫ق »فيحكم بنفسه تعالى بالحق الذي بعث به رسله‬ ‫اح ُك ْم ِب ْال َح ه ِ‬
‫خلفائه « قل » يا محمد« َربه ِ ْ‬
‫ليصدقهم عند عبيده فعال بحكمه ‪ ،‬كما صدقهم في حال احتجابه بما أيدهم به من اآليات ‪ ،‬ولما‬
‫ه‬
‫الظن ‪،‬‬ ‫كان األصل في الحكم المشروع غلبة‬
‫فإن الحاكم ال يحكم إال بشهادة الشاهد ‪ ،‬وهو ليس قاطعا فيما شهد به من ذلك ‪ ،‬فما اختلف‬
‫العلماء في حكم الحاكم بين الخصمين بغلبة الظن ‪ ،‬واختلفوا في حكمه بعلمه ‪ ،‬فكانت غلبة‬
‫الظن في هذا النوع أصال متفقا عليه ويرجع إليه ‪،‬‬
‫وكان العلم في ذلك مختلفا فيه ‪ ،‬والحق تعالى وإن لم يكن عنده إال العلم فإنه يحكم بالشهود ‪،‬‬
‫ولذلك جاء « قل رب احكم بالحق » أي بما شرعت لي وأرسلتني به ‪ ،‬فمع علمه تعالى يقيم‬
‫على خلقه يوم القيامة الشهود ‪ ،‬فال يعاقبهم إال بعد إقامة البينة عليهم مع علمه ‪ ،‬وبهذا قال من‬
‫قال ‪ :‬إنه ليس للحاكم أن يحكم بعلمه ‪ ،‬أما في العالم فللتهمة بما له‬

‫ص ‪152‬‬

‫‪152‬‬
‫من الغرض ‪ ،‬وأما في جانب الحق فإلقامة الحجة على المحكوم عليه ‪ ،‬حتى ال يأخذه في‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ولهذا يقول‬ ‫اآلخرة إال بما شرع له من الحكم في الدنيا على لسان رسوله صلهى ه‬
‫ق"‬‫اح ُك ْم بِ ْال َح ه ِ‬
‫الرسول لربه عن أمر ربه" َربه ِ ْ‬
‫على ما‬ ‫عان َ‬‫من ْال ُم ْست َ ُ‬
‫الر ْح ُ‬
‫يعني بالحق الذي بعثتني به وشرعت لي أن أحكم به فيهم« َو َربُّنَا َّ‬
‫صفُونَ »لوال ما هو الرحمن ما اجترأ العبد أن يقول رب احكم بالحق ‪ ،‬فإنه تعالى ما يحكم إال‬ ‫تَ ِ‬
‫بالحق‬
‫ّللا في الوجود كتابين ‪ ،‬كتابا سماه أ هما ‪ ،‬فيه ما كان قبل إيجاده وما‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬جعل ه‬
‫يكون ‪ ،‬كتبه بحكم االسم المقيت ‪ ،‬فهو كتاب ذو قدر معلوم فيه بعض أعيان الممكنات وما‬
‫يتكون عنها ‪،‬‬
‫وكتابا آخر ليس فيه سوى ما يتكون عن المكلفين خاصة ‪ ،‬فال تزال الكتابة فيه ما دام التكليف‬
‫‪ ،‬وبه تقوم الحجة هّلل على المكلفين ‪ ،‬وبه يطالبهم ال باألم ‪ ،‬وهذا هو اإلمام الحق المبين الذي‬
‫ق »‪،‬‬‫اح ُك ْم ِب ْال َح ه ِ‬
‫ّللا في كتابه أنه أمر نبيه أن يقول لربه« ْ‬ ‫يحكم به الحق تعالى الذي أخبرنا ه‬
‫يريد هذا الكتاب ‪،‬‬
‫وهو كتاب اإلحصاء فال يغادر صغيرة وال كبيرة إال أحصاها ‪ ،‬وكل صغير وكبير مستطر ‪،‬‬
‫وهو منصوص عليه في األم ‪.‬‬

‫( ‪ ) 22‬سورة الحج مدنيّة‬


‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬‫ِب ْ‬
‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 2‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬ ‫بِ ْ‬
‫ش ْي ٌء ع َِظي ٌم ( ‪ ) 1‬يَ ْو َم ت َ َر ْونَها ت َ ْذ َه ُل ُك ُّل ُم ْر ِضعَ ٍة‬
‫ع ِة َ‬‫سا َ‬‫اس اتهقُوا َربه ُك ْم إِ هن َز ْل َزلَةَ ال ه‬
‫يا أَيُّ َها النه ُ‬
‫سكارى َول ِك هن ع َ‬
‫َذاب‬ ‫سكارى َوما ُه ْم ِب ُ‬ ‫اس ُ‬ ‫ت َح ْم ٍل َح ْملَها َوت َ َرى النه َ‬ ‫ض ُع ُك ُّل ذا ِ‬ ‫ع هما أ َ ْر َ‬
‫ضعَتْ َوت َ َ‬ ‫َ‬
‫شدِي ٌد ) ‪( 2‬‬‫ّللا َ‬ ‫هِ‬
‫إذا كان يوم العرض ‪ ،‬ووقع الطلب بالسنة والفرض ‪ ،‬وذهلت كل مرضعة عما أرضعت ‪،‬‬
‫وزهدت كل نفس فيما جمعت ‪ ،‬وألجم الناس العرق ‪ ،‬وامتازت الفرق ‪ ،‬واستقصيت الحقوق ‪،‬‬
‫وحوسب اإلنسان على ما اختزنه في الصندوق ‪ ،‬زال الريب والمين ‪ ،‬وبان الصبح لذي عينين‬
‫‪ ،‬وندم من أعرض وتولى ‪ ،‬وفاز بالتجلي السعادي كل قلب باألسماء‬

‫ص ‪153‬‬

‫‪153‬‬
‫الحسنى تحلى ‪ ،‬فإن األمر جليل مهم ‪ ،‬وخطب ملم ‪ ،‬فزلزلة الساعة ‪ ،‬مذهلة عن الرضاعة ‪،‬‬
‫ّللا شديد ‪.‬‬
‫مع الحب المفرط في الولد ‪ ،‬وال يلوي أحد على أحد ‪ ،‬فإن عذاب ه‬

‫[سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 3‬إلى ‪] 5‬‬


‫علَ ْي ِه أَنههُ َم ْن ت َ َوالههُ‬ ‫ب َ‬ ‫طان َم ِري ٍد ( ‪ُ ) 3‬كتِ َ‬ ‫ش ْي ٍ‬ ‫ّللا ِبغَ ْي ِر ِع ْل ٍم َويَت ه ِب ُع ُك هل َ‬
‫اس َم ْن يُجا ِد ُل فِي ه ِ‬ ‫َو ِم َن النه ِ‬
‫ث فَ ِإنها‬ ‫ب ِم َن ا ْلبَ ْع ِ‬ ‫اس ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم فِي َر ْي ٍ‬ ‫ير ( ‪ ) 4‬يا أَيُّ َها النه ُ‬ ‫س ِع ِ‬
‫ب ال ه‬ ‫فَأَنههُ يُ ِضلُّهُ َويَ ْهدِي ِه ِإلى عَذا ِ‬
‫ضغَ ٍة ُم َخلهقَ ٍة َو َ‬
‫غ ْي ِر ُم َخلهقَ ٍة ِلنُبَ ِيّ َن لَ ُك ْم َونُ ِق ُّر‬ ‫علَقَ ٍة ث ُ هم ِم ْن ُم ْ‬ ‫ب ث ُ هم ِم ْن نُ ْطفَ ٍة ث ُ هم ِم ْن َ‬ ‫َخلَ ْقنا ُك ْم ِم ْن تُرا ٍ‬
‫ش هد ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُت َ َوفهى‬‫س ًّمى ث ُ هم نُ ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْفال ث ُ هم ِلت َ ْبلُغُوا أ َ ُ‬‫حام ما نَشا ُء إِلى أ َ َج ٍل ُم َ‬ ‫فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫هامدَة فَ ِإذا أ َ ْن َز ْلنا‬ ‫ض ِ‬ ‫ش ْيئا َوت َ َرى ْاأل َ ْر َ‬ ‫َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ َر ُّد إِلى أ َ ْرذَ ِل ا ْلعُ ُم ِر ِل َك ْيال يَ ْعلَ َم ِم ْن بَ ْع ِد ِع ْل ٍم َ‬
‫علَ ْي َها ا ْلما َء ا ْهت َ هزتْ َو َربَتْ َوأ َ ْنبَتَتْ ِم ْن ُك ِ ّل َز ْوجٍ بَ ِهيجٍ ( ‪) 5‬‬ ‫َ‬
‫ّللا بنا لما كان‬ ‫ب »من عناية ه‬ ‫ث فَإِنَّا َخلَ ْقنا ُك ْم ِم ْن تُرا ٍ‬ ‫ب ِمنَ ْالبَ ْع ِ‬ ‫اس ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم فِي َر ْي ٍ‬ ‫" يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫المطلوب من خلقنا عبادته أن قرب علينا الطريق ‪ ،‬بأن خلقنا من األرض التي أمرنا أن نعبده‬
‫فقرب علينا الطريق‬ ‫فيها ‪ ،‬فخلقنا من تراب األرض ‪ ،‬أنزل موجود خلق ‪ ،‬ليس وراءها وراء ‪ ،‬ه‬
‫ّللا ذلوال ‪ ،‬والعبادة الذلة ‪،‬‬ ‫لعبادته ‪ ،‬فخلقنا من تراب في تراب ‪ ،‬وهي األرض التي جعلها ه‬
‫غي ِْر ُمخَلَّقَ ٍة )أي تامة‬ ‫ضغَ ٍة ُمخَلَّقَ ٍة َو َ‬ ‫علَقَ ٍة ث ُ َّم ِم ْن ُم ْ‬
‫طفَ ٍة ث ُ َّم ِم ْن َ‬‫فنحن األذالء باألصل( ث ُ َّم ِم ْن نُ ْ‬
‫الخلقة وغير تامة الخلقة ‪،‬‬
‫ش ْيءٍ خ َْلقَهُ »فأعطى النقص خلقه أن‬ ‫والغير تامة الخلقة داخل في قوله تعالى «‪ :‬أَعْطى ُك َّل َ‬
‫يكون نقصا ‪ ،‬ولما كان الجسد للروح كاآللة للصانع يعمل بها في صنعته ‪ ،‬يصرف كل آلة لما‬
‫هيئت له فمنها مكملة وهي المخلقة يعني التامة الخلقة ‪ ،‬ومنها غير المكملة وهي غير المخلقة ‪،‬‬
‫فينقص العامل من العمل على قدر ما نقص من جودة اآللة ‪،‬‬
‫ذلك ليعلم أن الكمال الذاتي هّلل سبحانه ‪ ،‬ولتنظر في مرتبة جسدك وروحك وتتفكر ‪ ،‬فتعتبر أن‬
‫ّللا ما خلقك سدى ‪ ،‬وإن طال المدى ‪ِ (،‬لنُبَ ِيهنَ لَ ُك ْم َونُ ِق ُّر فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫حام‬ ‫ه‬

‫ص ‪154‬‬

‫‪154‬‬
‫س ًّمى ث ُ َّم نُ ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْف ًال )الطفل مأخوذ من الطفل وهو ما ينزل من السماء‬ ‫ما نَشا ُء ِإلى أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫من الندى غدوة وعشية ‪ ،‬وهو أضعف ما ينزل من السماء من الماء ‪ ،‬فالطفل من الكبار‬
‫كالرش والوبل والسكب من أنواع نزول المطر ‪ ،‬ولما كان بهذا الضعف كان مرحوما أبدا ‪(،‬‬
‫ش َّد ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُت َ َوفَّى َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ َر ُّد ِإلى أ َ ْرذَ ِل ْالعُ ُم ِر ِل َكيْال يَ ْعلَ َم ِم ْن بَ ْع ِد ِع ْل ٍم َ‬
‫شيْئا ً‬ ‫ث ُ َّم ِلت َ ْبلُغُوا أ َ ُ‬
‫»وذلك ألنه من عالم الطبيعة يتنوع ويستحيل باستحاالتها ‪ ،‬فالمواد التي حصل له منها هذا‬
‫العلم استحالت ‪ ،‬فالتحقق العلم بها بحكم التبعية ‪،‬‬
‫هام َدة ً » ]‬‫ض ِ‬ ‫[ « َوت َ َرى ْاأل َ ْر َ‬
‫علَ ْي َها ْالما َء »فإذا نكح الجو األرض‬ ‫هام َدة ً »فإن األرض فراش «فَإِذا أ َ ْنزَ ْلنا َ‬ ‫ض ِ‬ ‫« َوت َ َرى ْاأل َ ْر َ‬
‫ت‬ ‫ت »تحركت ودبرت الماء في رحمها آثار األنواء الفلكية ‪َ «،‬و َربَ ْ‬ ‫وأنزل الماء «ا ْهت َ َّز ْ‬
‫يج »فأولدها توأمين ‪،‬‬ ‫ج بَ ِه ٍ‬‫ت ِم ْن ُك ِهل زَ ْو ٍ‬ ‫»وهو الحمل فحملت شبه حمل المرأة« َوأ َ ْنبَت َ ْ‬
‫فضحكت األرض باألزهار ‪ ،‬وإنما كان زوجا من أجل ما يطلبه من النكاح ‪ ،‬إذ ال يكون إال‬
‫بين زوجين ‪ ،‬والمخلقة من النبات هو ما سلم من الجوائح ‪ ،‬وغير المخلقة ما نزلت به الجائحة‬
‫وّللا على كل شيء قدير‪.‬‬ ‫‪ ،‬ه‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 6‬إلى ‪] 7‬‬


‫ساعَةَ آتِيَةٌ ال‬
‫ِير ( ‪َ ) 6‬وأ َ هن ال ه‬ ‫ق َوأَنههُ يُحْ ي ِ ا ْل َم ْوتى َوأَنههُ عَلى ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫ذ ِلكَ ِبأ َ هن ه َ‬
‫ّللا ُه َو ا ْل َح ُّ‬
‫ور ) ‪( 7‬‬ ‫ث َم ْن فِي ا ْلقُبُ ِ‬ ‫ب فِيها َوأ َ هن ه َ‬
‫ّللا يَ ْبعَ ُ‬ ‫َر ْي َ‬
‫ّللا لما خلق اإلنسان خلقه مستقبال اآلخرة ‪ ،‬والساعة تستقبله ‪ ،‬ولذا سميت ساعة ‪ ،‬أي‬ ‫إن ه‬
‫تسعى إليه ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 8‬‬


‫ير ( ‪) 8‬‬ ‫ّللا ِبغَ ْي ِر ِع ْل ٍم َوال ُهدى َوال ِكتا ٍ‬
‫ب ُمنِ ٍ‬ ‫اس َم ْن يُجا ِد ُل فِي ه ِ‬‫َو ِم َن النه ِ‬
‫ّللا ِبغَي ِْر ِع ْل ٍم »وهو ما أعطاه الدليل النظري دليل فكره« َوال‬ ‫اس َم ْن يُجا ِد ُل فِي َّ ِ‬ ‫« َو ِمنَ النَّ ِ‬
‫ير »وهو ما وقع به التعريف مما هو الحق‬ ‫ب ُم ِن ٍ‬
‫ى »يعني وال بيان أبان له كشفه ‪َ «،‬وال ِكتا ٍ‬ ‫ُهد ً‬
‫باّلل في كتبه المنزلة الموصوفة بأنها نور‬ ‫عليه من النعوت ‪ ،‬لما نزلت به اآليات من المعرفة ه‬
‫ليكشف بها ما نزلت به ‪ ،‬لما كان النور يكشف به ‪ ،‬فنفاهم عن تقليد الحق وعن التجلي‬
‫والكشف وعن النظر العقلي ‪ ،‬وال مرتبة في الجهل أنزل من هذه المرتبة ‪ ،‬ولهذا جاءت من‬
‫الحق في معرض الذم يذم بها من قامت به هذه الصفة‪.‬‬

‫ص ‪155‬‬

‫‪155‬‬
‫[سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 9‬إلى ‪] 10‬‬
‫يق ( ‪) 9‬‬‫َذاب ا ْل َح ِر ِ‬
‫ي َونُذِيقُهُ يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ع َ‬
‫ّللا لَهُ ِفي ال ُّد ْنيا ِخ ْز ٌ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬‫ي ِع ْط ِف ِه ِليُ ِض هل ع َْن َ‬
‫ثا ِن َ‬
‫س بِ َظاله ٍم ِل ْلعَبِي ِد ) ‪( 10‬‬ ‫ذ ِلكَ بِما قَ هد َمتْ يَداكَ َوأ َ هن ه َ‬
‫ّللا لَ ْي َ‬
‫يقول تعالى في الحديث القدسي ‪ « :‬إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد‬
‫ّللا ومن وجد غير ذلك فال يلومن إال نفسه » ‪ ،‬فما نرى من الحق إال ما نحن‬ ‫خيرا فليحمد ه‬
‫عليه ‪ ،‬فمن شاء فليعمل ومن شاء ال يعمل ‪ ،‬فإنه ال يرجع إلى اإلنسان إال ما خرج منه ‪ ،‬فاجهد‬
‫أن ال يخرج عنك إال ما تحمد رجوعه إليك ‪ ،‬فهذه كلمة نبوية حق كلها فإن العمل ما يعود إال‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬ال تكونوا ممن خدعته العاجلة وغرته‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫على عامله ‪ ،‬قال رسول ه‬
‫األمنية واستهوته الخدعة ‪ ،‬فركن إلى دار سريعة الزوال وشيكة االنتقال ‪ ،‬إنه لم يبق من‬
‫دنياكم هذه في جنب ما مضى إال كإناخة راكب أو صر حالب ‪ ،‬فعالم تعرجون ‪ ،‬وما ذا‬
‫وّللا بما قد أصبحتم فيه من الدنيا كأن لم يكن ‪ ،‬وما تصيرون إليه من‬ ‫تنتظرون ‪ ،‬فكأنكم ه‬
‫اآلخرة كأن لم يزل ‪ ،‬فخذوا األهبة ألزوف النقلة ‪ ،‬وأعدوا الزاد لقرب الرحلة ‪ ،‬واعلموا أن‬
‫كل امرئ على ما قدهم قادم ‪ ،‬وعلى ما خلهف نادم ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 11‬إلى ‪] 14‬‬


‫ب عَلى‬ ‫ف فَ ِإ ْن أَصابَهُ َخ ْي ٌر ا ْط َمأ َ هن ِب ِه َو ِإ ْن أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ ا ْنقَلَ َ‬ ‫ّللا عَلى َح ْر ٍ‬ ‫اس َم ْن يَ ْعبُ ُد ه َ‬ ‫َو ِم َن النه ِ‬
‫ّللا ما ال يَض ُُّرهُ‬ ‫ُون ه ِ‬‫ين ) ‪ ( 11‬يَ ْدعُوا ِم ْن د ِ‬ ‫ران ا ْل ُم ِب ُ‬
‫س ُ‬‫س َر ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َرةَ ذ ِلكَ ُه َو ا ْل ُخ ْ‬‫َوجْ ِه ِه َخ ِ‬
‫س ا ْل َم ْولى‬ ‫ب ِم ْن نَ ْف ِع ِه لَ ِبئْ َ‬‫ض ُّر ُه أ َ ْق َر ُ‬
‫ضال ُل ا ْلبَ ِعي ُد ( ‪ ) 12‬يَ ْدعُوا لَ َم ْن َ‬ ‫َوما ال يَ ْنفَعُهُ ذ ِلكَ ُه َو ال ه‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ ِت َها‬ ‫ت َجنها ٍ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫ّللا يُد ِْخ ُل الهذ َ‬
‫ير ( ‪ِ ) 13‬إ هن ه َ‬ ‫ش ُ‬ ‫س ا ْلعَ ِ‬‫َولَ ِبئْ َ‬
‫ّللا يَ ْفعَ ُل ما يُ ِري ُد) ‪( 14‬‬ ‫ْاأل َ ْن ُ‬
‫هار إِ هن ه َ‬

‫ص ‪156‬‬

‫‪156‬‬
‫[سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 15‬إلى ‪] 18‬‬
‫ظ ْر‬‫ماء ث ُ هم ْليَ ْق َط ْع فَ ْليَ ْن ُ‬
‫س ِ‬ ‫ب ِإلَى ال ه‬ ‫ّللاُ ِفي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة فَ ْليَ ْم ُد ْد ِب َ‬
‫سبَ ٍ‬ ‫ظ ُّن أ َ ْن لَ ْن يَ ْن ُ‬
‫ص َر ُه ه‬ ‫كان يَ ُ‬
‫َم ْن َ‬
‫ّللا يَ ْهدِي َم ْن يُ ِري ُد ) ‪ ( 16‬إِ هن‬ ‫ت َوأ َ هن ه َ‬ ‫ت بَ ِيّنا ٍ‬‫ظ ( ‪َ ) 15‬وكَذ ِلكَ أ َ ْن َز ْلناهُ آيا ٍ‬ ‫َه ْل يُ ْذ ِهبَ هن َك ْي ُدهُ ما يَ ِغي ُ‬
‫ِين أَش َْركُوا إِ هن ه َ‬
‫ّللا يَ ْف ِص ُل‬ ‫وس َوالهذ َ‬ ‫ين َوالنهصارى َوا ْل َم ُج َ‬ ‫صابِئِ َ‬ ‫ِين هادُوا َوال ه‬ ‫ِين آ َمنُوا َوالهذ َ‬ ‫الهذ َ‬
‫س ُج ُد لَهُ َم ْن فِي‬ ‫ش ْي ٍء ش َِهي ٌد ( ‪ ) 17‬أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ هن ه َ‬
‫ّللا يَ ْ‬ ‫ّللا عَلى ُك ِ ّل َ‬ ‫بَ ْينَ ُه ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ِإ هن ه َ‬
‫ير ِم َن‬ ‫ب َو َكثِ ٌ‬ ‫ش َج ُر َوالد َهوا ُّ‬ ‫س َوا ْلقَ َم ُر َوالنُّ ُجو ُم َوا ْل ِجبا ُل َوال ه‬ ‫ض َوالش ْهم ُ‬ ‫ت َو َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ال ه‬
‫ّللا يَ ْفعَ ُل ما يَشا ُء ( ‪) 18‬‬ ‫ّللاُ فَما لَهُ ِم ْن ُم ْك ِر ٍم ِإ هن ه َ‬ ‫ذاب َو َم ْن يُ ِه ِن ه‬ ‫علَ ْي ِه ا ْلعَ ُ‬‫ق َ‬ ‫ير َح ه‬ ‫اس َو َك ِث ٌ‬‫النه ِ‬
‫[ سجود كل شئ ]‬
‫ّللا عليه وسلم صاحب الكشف حيث يرى ما ال نرى« أ َ لَ ْم‬ ‫ّللا تعالى خطابا لمحمد صلهى ه‬ ‫قال ه‬
‫ت‬‫سماوا ِ‬ ‫ّللا يَ ْس ُج ُد لَهُ َم ْن فِي ال َّ‬ ‫ت َ َر »رؤية مشاهدة واعتبار ‪ ،‬لما أشهده سجود كل شيء« أ َ َّن َّ َ‬
‫س »في غروبها« َو ْالقَ َم ُر »في محاقه «‬ ‫ش ْم ُ‬ ‫ض »فأطلق وعم ثم فصل فقال« َوال َّ‬ ‫َو َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ش َج ُر »في إقامتها على سوقها« َوالد ََّوابُّ‬ ‫َوالنُّ ُجو ُم »في مواقعها« َو ْال ِجبا ُل »في إسكانها« َوال َّ‬
‫»في تسخيرها ‪ ،‬فعم األمهات والمولدات وما ترك شيئا من أصناف المخلوقات ‪ ،‬ولم يبعض‬
‫فإن كل شيء في العالم يسجد هّلل تعالى من غير تبعيض إال الناس ‪،‬‬
‫اس »فبعض ولم يقل كلهم ‪ ،‬وهم من‬ ‫ير ِمنَ النَّ ِ‬ ‫فلما وصل بالتفصيل إلى ذكر الناس قال «‪َ :‬و َكثِ ٌ‬
‫لهم الشهود ‪ ،‬فإنه تعالى قال ‪ :‬كذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ‪ ،‬وشتمني ابن آدم ولم يكن‬
‫ينبغي له ذلك ‪،‬‬
‫ذاب »‪ ،‬وسبب ذلك أن وكله من حيث نفسه الناطقة بما جعل‬ ‫علَ ْي ِه ْالعَ ُ‬ ‫ير َح َّق َ‬ ‫ولذلك قال ‪َ «:‬و َكثِ ٌ‬
‫ّللا فيها من الفكر ‪ ،‬فسجد هّلل في صورة غير مشروعة ‪ ،‬فأخذ بذلك مع أنه ما سجد إال هّلل في‬ ‫ه‬
‫ّللا يَ ْفعَ ُل ما يَشا ُء »فجعل ذلك من مشيئته ‪ ،‬وأشهد‬ ‫ّللاُ فَما لَهُ ِم ْن ُم ْك ِر ٍم إِ َّن َّ َ‬ ‫المعنى« َو َم ْن يُ ِه ِن َّ‬
‫ّللا عليه وسلم سجود كل شيء فما ترك أحدا ‪ ،‬فإنه ذكر من في‬ ‫ّللا سبحانه نبيه صلهى ه‬ ‫ه‬
‫ّللا دعا العالم كله إلى معرفته‬ ‫السماوات ومن في األرض فذكر العالم العلوي والسفلي ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا أقامهم بين يديه حين خلقهم ‪ ،‬فأسجدهم فعرفوه في سجودهم ‪ ،‬فلم يرفعوا‬ ‫وهم قيام فإن ه‬
‫باّلل ‪،‬‬
‫ّللا ما عدا الثقلين على معرفة ه‬ ‫رؤوسهم أبدا ‪ ،‬فكل ما سوى ه‬

‫ص ‪157‬‬

‫‪157‬‬
‫ّللا وعلم بمن تجلى له ‪ ،‬مفطور على ذلك سعيد كله ‪ ،‬فإن تجلي الحق دائم أبدا ‪،‬‬‫ووحي من ه‬
‫فيبادر العبد بالسجود في هذه اآلية ليكون من الكثير الذي يسجد هّلل ال من الكثير الذي حق عليه‬
‫ّللا قد وفقه للسجود ولم يحل بينه وبين السجود علم أنه من أهل‬
‫العذاب ‪ ،‬فإذا رأى العبد أن ه‬
‫العناية الذين التحقوا بمن لم يبعض سجودهم ‪ ،‬فهذه السجدة هي سجود المعادن والنبات سجود‬
‫المشيئة ‪ ،‬والحيوان وبعض البشر وعمار األفالك واألركان سجود مشاهدة واعتبار ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 19‬إلى ‪] 25‬‬


‫ب ِم ْن فَ ْو ِ‬
‫ق‬ ‫ص ُّ‬‫نار يُ َ‬ ‫ياب ِم ْن ٍ‬ ‫طعَتْ لَ ُه ْم ثِ ٌ‬ ‫ِين َكفَ ُروا قُ ِ ّ‬‫ص ُموا فِي َر ِبّ ِه ْم فَالهذ َ‬ ‫ْمان ْ‬
‫اخت َ َ‬ ‫هذان َخص ِ‬ ‫ِ‬
‫قام ُع ِم ْن َحدِي ٍد (‬ ‫طونِ ِه ْم َوا ْل ُجلُو ُد ( ‪َ ) 20‬ولَ ُه ْم َم ِ‬ ‫ص َه ُر بِ ِه ما فِي بُ ُ‬ ‫س ِه ُم ا ْل َح ِمي ُم ) ‪ ( 19‬يُ ْ‬ ‫ُر ُؤ ِ‬
‫يق ( ‪ ) 22‬إِ هن ه َ‬
‫ّللا‬ ‫غ ٍ ّم أ ُ ِعيدُوا فِيها َوذُوقُوا ع َ‬
‫َذاب ا ْل َح ِر ِ‬ ‫‪ُ ) 21‬كلهما أَرادُوا أ َ ْن يَ ْخ ُر ُجوا ِم ْنها ِم ْن َ‬
‫هار يُ َحله ْو َن فِيها ِم ْن أَسا ِو َر‬ ‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫ت َجنها ٍ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫يُد ِْخ ُل الهذ َ‬
‫ير ) ‪( 23‬‬ ‫س ُه ْم فِيها َح ِر ٌ‬ ‫ب َولُ ْؤلُؤا َو ِلبا ُ‬ ‫ِم ْن ذَ َه ٍ‬
‫ُّون ع َْن‬
‫صد َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا َويَ ُ‬ ‫راط ا ْل َح ِمي ِد ) ‪ِ ( 24‬إ هن الهذ َ‬ ‫ب ِم َن ا ْلقَ ْو ِل َو ُهدُوا ِإلى ِص ِ‬ ‫َو ُهدُوا ِإلَى ال ه‬
‫ط ِيّ ِ‬
‫ف فِي ِه َوا ْلبا ِد َو َم ْن يُ ِر ْد فِي ِه بِ ِإ ْلحا ٍد‬ ‫سواء ا ْلعا ِك ُ‬ ‫اس َ‬ ‫رام الهذِي َجعَ ْلناهُ ِللنه ِ‬ ‫س ِج ِد ا ْل َح ِ‬ ‫ّللا َوا ْل َم ْ‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫َ‬
‫يم ) ‪( 25‬‬ ‫ب أ َ ِل ٍ‬‫ظ ْل ٍم نُذ ِْقهُ ِم ْن عَذا ٍ‬ ‫بِ ُ‬
‫ظ ْل ٍم »فذكر الظلم وهو هنا‬ ‫اإللحاد الميل عن الحق شرعا ولذلك قال ‪َ «:‬و َم ْن يُ ِر ْد فِي ِه بِإِ ْلحا ٍد بِ ُ‬
‫الهم الذي هو اإلرادة ‪ ،‬فإنه سواء وقع منه ذلك الظلم الذي أراده أو لم يقع في الحرم المكي فإنه‬
‫محاسب عليه ‪ ،‬وأما في غير المسجد الحرام المكي فإنه غير مؤاخذ بالهم ‪ ،‬فإن لم يفعل ما هم‬
‫ّللا خاصة ‪ ،‬فإن لم يتركها‬ ‫به كتب له حسنة إذا ترك ذلك من أجل ه‬

‫ص ‪158‬‬

‫‪158‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬احتكار الطعام بم هكة‬ ‫ّللا لم يكتب له وال عليه ‪ ،‬قال رسول ه‬
‫من أجل ه‬
‫إلحاد فيه ‪ ،‬وكان ابن عباس يسكن الطائف ألجل هذه اآلية احتياطا لنفسه فإن اإلنسان ما في‬
‫قوته أن يمنع عن قلبه الخواطر فإنه تعالى ن هكر الظلم ‪ ،‬فخاف مثل ابن عباس وغيره‬

‫[ اإلرادة ]‬
‫ّللا تعالى إذا أراد إيجاد فعل ما بمقارنة حركة شخص ما بعث‬ ‫‪-‬بحث في اْلرادة ‪ -‬اعلم أن ه‬
‫إليه رسوله المعصوم وهو الخاطر اإللهي المعلوم ‪ ،‬ولقربه من حضرة االصطفاء هو في غاية‬
‫الخفا ‪ ،‬فال يشعر بنزوله في القلب إال أهل الحضور والمراقبة في مرآة الصدق والصفا ‪ ،‬فينقر‬
‫في القلب نقرة خفية ‪ ،‬تنبيها لنزول نكتة غيبية ‪ ،‬فمن حكم به فقد أصاب في كل ما يفعله ‪،‬‬
‫يعول ‪ ،‬وهو نقر‬‫ونجح في كل ما يعمله ‪ ،‬وذلك هو السبب األول ‪ ،‬عند الشخص الذي عليه ه‬
‫الخاطر ‪ ،‬عند أرباب الخواطر ‪ ،‬وهو الهاجس ‪ ،‬عند من هو للقلب سائس ‪ ،‬فإن رجع إليه مرة‬
‫أخرى فهو اإلرادة ‪ ،‬فإن عاد ثالثة فهو الهم ‪،‬‬
‫فإن عاد رابعة فهو العزم ‪ ،‬وال يعود إال لنفوذ أمر جزم ‪ ،‬فإن عاد خامسة فهو النية ‪ ،‬وهو‬
‫الذي يباشر الفعل الموجود عن هذه البنية ‪ ،‬وبين التوجه إلى الفعل والفعل يظهر القصد ‪،‬‬
‫واعلم أن النية إذا كان معناها القصد أصل في إقامة كل بنية ‪ ،‬وليس للحس في النية مدخل‬
‫ألنها من وصف العقل المتخيل ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪]26‬‬


‫الرك ِهع‬ ‫ين َوا ْلقا ِئ ِم َ‬
‫ين َو ُّ‬ ‫طا ِئ ِف َ‬ ‫ت أ َ ْن ال تُش ِْر ْك ِبي َ‬
‫ش ْيئا َو َط ِ ّه ْر بَ ْي ِت َ‬
‫ي ِلل ه‬ ‫َو ِإ ْذ بَ هوأْنا ِ ِْل ْبرا ِهي َم َم َ‬
‫كان ا ْلبَ ْي ِ‬
‫س ُجو ِد ( ‪) 26‬‬ ‫ال ُّ‬

‫يا كعبة طاف بها المرسلون *** من بعد ما طاف بها المكرمون‬
‫ثم أتى من بعدهم عالم *** طافوا بها من بين عال ودون‬
‫أنزلها مثال إلى عرشه *** ونحن حافون لها مكرمون‬
‫فإن يقل أعظم حاف به *** إني أنا خير فهل تسمعون‬
‫وّللا ما جاء بنص وال *** أتى لنا إال بما ال يبين‬
‫ه‬
‫هل ذاك إال النور حفت به *** أنوارهم ونحن ماء مهين‬
‫فانجذب الشيء إلى مثله *** وكلنا عبد لديه مكين‬
‫هال رأوا ما لم يروا أنهم *** طافوا بما طفنا وليسوا بطين‬
‫لو جرد األلطف منا استوى *** على الذي حفوا به طائفين‬

‫ص ‪159‬‬

‫‪159‬‬
‫ّللا له العالمين‬
‫قدهسهمو أن يجهلوا حق من *** قد سخر ه‬
‫ي »جعله نظيرا ومثاال لعرشه ‪،‬‬ ‫ّللا تعالى البيت إليه باإلضافة في قوله ‪َ «:‬و َ‬
‫ط ِ هه ْر بَ ْي ِت َ‬ ‫لما نسب ه‬
‫وجعل الطائفين به من البشر كالمالئكة الحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ‪ ،‬أي‬
‫بالثناء على ربهم تبارك وتعالى ‪.‬‬

‫قلت عند الطواف كيف أطوف *** وهو عن درك سرنا مكفوف‬
‫جلمد غير عاقل حركاتي *** قيل أنت المحير المتلوف‬
‫انظر إلى البيت نوره يتألأل *** لقلوب تطهرت مكشوف‬
‫باّلل دون حجاب *** فبدا سره العلي المنيف‬
‫نظرته ه‬
‫وتجلى لها من أفق جاللي *** قمر الصدق ما اعتراه خسوف‬
‫لو رأيت الولي حين يراه *** قلت فيه مدله ملهوف‬
‫يلثم السر في سواد يميني *** أي سر لو أنه معروف‬
‫جهلت ذاته فقيل كثيف *** عند قوم وعند قوم لطيف‬
‫قال لي حين قلت لم جهلوه *** إنما يعرف الشريف الشريف‬
‫عرفوه فالزموه زمانا *** فتوالهم الرحيم الرؤوف‬
‫واستقاموا فما يرى قط فيهم *** عن طواف بذاته تحريف‬
‫قم فبشر عني مجاور بيتي *** بأمان ما عنده تخويف‬
‫إن أمتهم فرحتهم بلقائي *** أو يعيشوا فالثوب منهم نظيف‬

‫ولنا أيضا ‪:‬‬


‫أرى البيت يزهو بالمطيفين حوله *** وما الزهو إال من حكيم له صنع‬
‫وهذا جماد ال يحس وال يرى *** وليس له عقل وليس له سمع‬
‫فقال شخيص هذه طاعة لنا *** قد أثبتها طول الحياة لنا الشرع‬
‫فقلت له هذا بالغك فاستمع *** مقالة من أبدى له الحكمة الوضع‬
‫رأيت جمادا ال حياة بذاته *** وليس له ضر وليس له نفع‬
‫ولكن لعين القلب فيه مناظر *** إذا لم يكن بالعين ضعف وال صدع‬

‫ص ‪160‬‬

‫‪160‬‬
‫يراه عزيزا إن تجلى بذاته *** فليس لمخلوق على حمله وسع‬
‫فكنت أبا حفص وكنت عليهنا *** فمني العطاء الجزل والقبض والمنع‬

‫ّللا قلب عبده بيتا كريما وحرما عظيما ‪ ،‬ذكر أنه وسعه حين لم‬ ‫‪ -‬إشارة ال تفسير ‪ -‬لما جعل ه‬
‫يسعه سماء وال أرض ‪ ،‬علمنا قطعا أن قلب المؤمن أشرف من هذا البيت ‪ ،‬وجعل الخواطر‬
‫تمر عليه كالطائفين ولما كان في الطائفين من يعرف حرمة البيت فيعامله في الطواف به بما‬
‫يستحقه من التعظيم والجالل ‪ ،‬ومن الطائفين من ال يعرف ذلك فيطوفون به بقلوب غافلة الهية‬
‫ّللا ناطقة ‪ ،‬بل ربهما يطوفون بفضول من القول وزور ‪ ،‬كذلك الخواطر التي‬ ‫وألسنة بغير ذكر ه‬
‫ّللا طواف كل طائف للطائف‬ ‫تمر على قلب المؤمن منها مذموم ومنها محمود ‪ ،‬وكما كتب ه‬
‫بالبيت على أي حالة كان ‪ ،‬وعفا عنه فيما كان منه ‪،‬‬
‫ّللا عنها ‪ ،‬ما لم يظهر على ظاهر الجوارح إلى الحس ‪ ،‬فقلب‬ ‫كذلك الخواطر المذمومة عفا ه‬
‫العبد المؤمن أعظم علما وأكثر إحاطة من كل مخلوق ‪ ،‬فإنه محل لجميع الصفات ‪ ،‬وارتفاعه‬
‫ّللا فيه من المعرفة به ‪،‬‬‫ّللا لما أودع ه‬
‫بالمكانة عند ه‬
‫ولما كان للبيت أربعة أركان ‪ ،‬فللقلب خواطر أربعة ‪ ،‬خاطر إلهي وهو ركن الحجر ‪ ،‬وخاطر‬
‫ملكي وهو الركن اليمني ‪ ،‬وخاطر نفسي وهو الركن الشامي ‪ ،‬وهذه الثالثة األركان هي‬
‫األركان الحقيقية للبيت من حيث أنه مكعب الشكل ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫وعلى هذا الشكل قلوب األنبياء مثلثة الشكل ‪ ،‬ليس للخاطر الشيطاني فيها محل ‪ ،‬ولما أراد ه‬
‫ما أراد من إظهار الركن الرابع جعله للخاطر الشيطاني ‪ ،‬وهو الركن العراقي ‪،‬‬
‫باّلل من‬‫وإنما جعلنا الخاطر الشيطاني للركن العراقي ‪ ،‬ألن الشارع شرع أن يقال عنده ‪ :‬أعوذ ه‬
‫الشقاق والنفاق وسوء األخالق ‪،‬‬
‫وبالذكر المشروع عند كل ركن تعرف مراتب األركان ‪ ،‬وعلى هذا الشكل المربع قلوب‬
‫ّللا رسله وأنبياءه من سائر المؤمنين‬ ‫المؤمنين ‪ ،‬وما عدا الرسل واألنبياء المعصومين ‪ ،‬ليميز ه‬
‫بالعصمة التي أعطاهم وألبسهم إياها ‪،‬‬
‫ّللا تعالى أودع في الكعبة كنزا‬ ‫فليس لنبي إال ثالثة خواطر ‪ ،‬إلهي وملكي ونفسي ‪ ،‬وكما أن ه‬
‫باّلل ‪ ،‬فشهد هّلل بما شهد به الحق لنفسه من أنه ال إله‬ ‫ّللا في قلب العارف كنز العلم ه‬ ‫كذلك جعل ه‬
‫ّللاُ أَنَّهُ ال إِلهَ إِ َّال ُه َو َو ْال َمالئِ َكةُ‬
‫ش ِه َد َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬ونفى هذه المرتبة عن كل ما سواه ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ (:‬‬ ‫إال ه‬
‫َوأُولُوا ْال ِع ْل ِم )‬
‫باّلل‪:‬‬
‫فجعلها كنزا في قلوب العلماء ه‬
‫فاّلِل بيته قلب عبده المؤمن ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫والبيت بيت اسمه تعالى ‪،‬‬
‫والعرش مستوى الرحمن ‪،‬‬
‫ّللا واالسم الرحمن ‪ ،‬فإن مشهد األلوهية أعم ‪،‬‬ ‫فبين القلب والعرش في المنزلة ما بين االسم ه‬
‫إلقرار‬
‫ص ‪161‬‬

‫‪161‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وأنكر الرحمن ‪ ،‬فإنهم قالوا ‪ [ :‬وما الرحمن ؟ ]‬
‫الجميع ‪ ،‬فما أنكر أحد ه‬
‫ّللا الحرام تكرار القصد في زمان مخصوص ‪ ،‬كذلك القلب تقصده‬ ‫ولما كان الحج لبيت ه‬
‫األسماء اإللهية في حال مخصوص ‪ ،‬إذ كل اسم له حال خاص يطلبه ‪ ،‬فمهما ظهر ذلك الحال‬
‫من العبد طلب االسم الذي يخصه ‪ ،‬فيقصده ذلك االسم ‪ ،‬فلهذا تحج األسماء اإللهية بيت القلب‬
‫‪ ،‬وقد تحج إليه من حيث أن القلب وسع الحق ‪ ،‬واألسماء تطلب مسماها ‪ ،‬فال بد لها أن تقصد‬
‫مسماها ‪ ،‬فتقصد البيت الذي ذكر أنه وسعه السعة التي يعلمها سبحانه ‪ ،‬والعمرة التي هي‬
‫الزيارة بمنزلة الزور الذي يخص كل إنسان ‪ ،‬فعلى قدر اعتماره تكون زيارته لربه ‪.‬‬
‫فالطائفون بالكعبة كالحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ‪ ،‬فيلزم الطائف التسبيح في‬
‫باّلل العلي العظيم ]‬
‫طوافه والتحميد والتهليل وقول ‪ [ :‬ال حول وال قوة إال ه‬
‫جسم يطوف وقلب ليس بالطائف *** ذات تص هد وذات ما لها صارف‬
‫يدعى وإن كان هذا الحال حليته *** هذا اإلمام الهمام ألهمهم العارف‬
‫هيهات هيهات ما اسم الزور يعجبني *** قلبي له من خفايا مكره خائف‬
‫ولما كان الحج تكرار القصد سمي تكرار الخواطر حجا ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 27‬‬


‫ام ٍر يَأْتِ َ‬
‫ين ِم ْن ُك ِ ّل فَ ّجٍ ع َِم ٍ‬
‫يق (‪)27‬‬ ‫ض ِ‬ ‫اس ِبا ْل َح ّجِ يَأْت ُوكَ ِر َجاال َو َ‬
‫علَى ُك ِ ّل َ‬ ‫َوأَذّ ِْن فِي النه ِ‬

‫روي عن إبراهيم الخليل عليه السالم أنه لما بنى البيت أمره ربه تعالى أن يصعد عليه وأن‬
‫يؤذن في الناس بالحج ‪ ،‬فقال يا رب وما عسى يبلغ صوتي فأوحى إليه عليك النداء وعلي‬
‫ّللا ذلك النداء‬
‫البالغ ‪ ،‬فنادى إبراهيم عليه السالم يا أيها الناس إن هّلل بيتا فحجوه ‪ ،‬قال فأسمع ه‬
‫عباده ‪ ،‬فمنهم من أجاب ومنهم من لم يجب ‪ ،‬وكانت إجابتهم مثل قولهم بلى حين أشهدهم على‬
‫أنفسهم ألست بربكم ‪ ،‬فمنهم من سارع إلى إجابة الحق وهم الذين يسارعون في الخيرات ‪،‬‬
‫والقائلون بأن الحج على الفور للمستطيع ‪ ،‬ومنهم من تلكأ في اإلجابة فلم يسرع إال بعد حين ‪،‬‬
‫وهو الذي يقول الحج مع االستطاعة على التراخي ‪،‬‬
‫ثم إن الذين أجابوه منهم من كرر اإلجابة ومنهم من لم يكرر ‪ ،‬فمن لم يكرر لم يحج إال واحدة‬
‫جاال »يريد على‬ ‫‪ ،‬ومن كرر حج على قدر ما كرر وله أجر فريضة في كل حجة ‪ «،‬يَأْت ُ َ‬
‫وك ِر ً‬
‫ِ ْ‬
‫ق‪».‬‬
‫ع ِمي ٍ‬ ‫ضام ٍر يَأتِينَ ِم ْن ُك ِهل فَ ه ٍ‬
‫ج َ‬ ‫على ُك ِهل‬
‫أرجلهم ال يركبون« َو َ‬

‫ص ‪162‬‬

‫‪162‬‬
‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 28‬‬
‫علَى َما َر َزقَ ُه ْم ِم ْن بَ ِهي َم ِة ْاأل َ ْنعَ ِام فَ ُكلُوا‬ ‫ت َ‬ ‫ّللا ِفي أَيه ٍام َم ْعلُو َما ٍ‬
‫س َم ه ِ‬ ‫ش َهدُوا َمنَا ِف َع لَ ُه ْم َويَ ْذك ُُروا ا ْ‬ ‫ِليَ ْ‬
‫ير (‪)28‬‬ ‫س ا ْلفَ ِق َ‬‫ِم ْن َها َوأ َ ْط ِع ُموا ا ْلبَائِ َ‬
‫ّللا عليه وسلم من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫" ِليَ ْش َهدُوا َمنافِ َع لَ ُه ْم " قال رسول ه‬
‫على ما َرزَ قَ ُه ْم ِم ْن بَ ِهي َم ِة‬ ‫ت َ‬ ‫ّللا فِي أَي ٍَّام َم ْعلُوما ٍ‬
‫يفسق رجع كيوم ولدته أمه ‪َ «.‬ويَ ْذ ُك ُروا اس َْم َّ ِ‬
‫ير " ‪.‬‬ ‫س ْالفَ ِق َ‬
‫ط ِع ُموا ْالبائِ َ‬ ‫عام »سميت البهائم بهائم إلبهام أمرهم علينا« فَ ُكلُوا ِم ْنها َوأ َ ْ‬ ‫ْاأل َ ْن ِ‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 29‬‬


‫يق (‪)29‬‬ ‫ط هوفُوا بِا ْلبَ ْي ِ‬
‫ت ا ْلعَتِ ِ‬ ‫ث ُ هم ْليَ ْقضُوا تَفَث َ ُه ْم َو ْليُوفُوا نُذُ َ‬
‫ور ُه ْم َو ْليَ ه‬
‫ضوا تَفَث َ ُه ْم »أي ليلقوا الوسخ ‪ ،‬وإزالة الشعث من الحاج لحفظ القوى مما ينالها من‬ ‫" ث ُ َّم ْليَ ْق ُ‬
‫الضرر لسد المسام وانعكاس األبخرة ‪ ،‬المؤذية لها المؤثرة فيها وما في معناها ‪ ،‬ألن الطهارة‬
‫والنظافة مقصودة للشارع ألنه القدوس ‪َ «،‬و ْليُوفُوا نُذُ َ‬
‫ور ُه ْم »التطوع قد يكون واجبا بإيجاب‬
‫ّللا أوجبه بإيجاب العبد‬ ‫ّللا إذا أوجبه العبد على نفسه كالنذر ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫‪ -‬نصيحة ‪ -‬ال تزد في العهود ويكفيك ما جبرت عليه ‪ ،‬ولهذا كره رسول ه‬
‫وسلم النذر وأوجب الوفاء به ‪ ،‬ألنه من فضول اإلنسان‬
‫ق " الطواف ثالثة ‪ ،‬طواف القدوم وطواف اإلفاضة ويقال له طواف‬ ‫ت ْالعَتِي ِ‬‫ط َّوفُوا بِ ْالبَ ْي ِ‬
‫" َو ْليَ َّ‬
‫الزيارة وطواف الوداع ‪،‬‬
‫المعرف‬
‫ه‬ ‫وقد أجمع العلماء على أن الواجب من هذه األطواف الثالثة هو طواف اإلفاضة ‪ ،‬فإن‬
‫إذا قدم مكة بعد الرمي أجزأه طواف اإلفاضة عن طواف القدوم وصح حجه وإن المودع إذا‬
‫طاف في زعمه طواف الوداع ولم يكن طاف طواف اإلفاضة كان ذلك الطواف طواف إفاضة‬
‫أجزأ عن طواف الوداع ‪ ،‬ألنه طواف بالبيت معمول به في وقت طواف الوجوب الذي هو‬
‫ّللا طواف إفاضة وأجزأ عن طواف الوداع ‪ ،‬والمتمتع إن لم يكن قارنا فعليه‬ ‫اإلفاضة ‪ ،‬فقبله ه‬
‫طوافان ‪ ،‬وإن كان قارنا فطواف واحد ‪ ،‬والمكي عليه طواف واحد ‪،‬‬
‫وليست الطهارة شرطا في صحة الطواف ‪ ،‬فإنه يجوز الطواف بغير وضوء للرجل والمرأة ‪،‬‬
‫إال أن تكون حائضا فإنها ال تطوف ‪ ،‬وإن طافت ال يجزئها وهي عاصية لورود النص في ذلك‬
‫‪ ،‬وما ورد شرع بالطهارة للطواف إال ما ورد في الحائض خاصة ‪ ،‬وما كل عبادة يشترط فيها‬
‫هذه الطهارة الظاهرة ‪ ،‬ويجوز الطواف‬

‫ص ‪163‬‬

‫‪163‬‬
‫في األوقات كلها وبعد صالة الصبح والعصر ‪ ،‬إال أني أكره الدخول في الصالة حال الطلوع‬
‫وحال الغروب إال أن يكون قد أحرم بها قبل حال الطلوع والغروب ‪ ،‬وصفة الطواف أن يجعل‬
‫البيت على يساره ويبتدئ فيقبل الحجر األسود إن قدر عليه ‪ ،‬ثم يسجد عليه أو يشير إليه إن لم‬
‫يتمكن له الوصول إليه ‪ ،‬ويتأ هخر عنه قليال بحيث أن يدخله في الطواف بالمرور عليه ‪ ،‬ثم‬
‫يمشي إلى أن ينتهي إليه يفعل ذلك سبع مرات ‪ ،‬يقبل الحجر في كل مرة ويمس الركن اليماني‬
‫الذي قبل ركن الحجر بيده وال يقبله ‪ ،‬فإن كان في طواف القدوم فيرمل ثالثة أشواط ويمشي‬
‫أربعة أشواط ‪ ،‬ولكن في أشواط رمله يمشي قليال بين الركنين اليمانين ويقول ‪َ «:‬ربَّنا آ ِتنا ِفي‬
‫ار »إلى أن تفرغ األشواط السبعة ‪ ،‬كل ذلك بقلب‬ ‫ذاب النَّ ِ‬
‫ع َ‬ ‫سنَةً َوقِنا َ‬
‫سنَةً َوفِي ْاآل ِخ َرةِ َح َ‬
‫ال ُّد ْنيا َح َ‬
‫ّللا ويتخيل أنه في تلك العبادة كالحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ‪،‬‬ ‫حاضر مع ه‬
‫باّلل العلي العظيم ‪ ،‬جاء‬ ‫فيلزم التسبيح في طوافه والتحميد والتهليل وقول ال حول وال قوة إال ه‬
‫ّللا بالكعبة ‪ ،‬فسأله آدم ما كنتم تقولون في طوافكم‬ ‫في الخبر أن جبريل طاف بآدم حين أنزله ه‬
‫ّللا والحمد هّلل وال‬ ‫بهذا البيت ‪ ،‬فقال جبريل عليه السالم كنا نقول في طوافنا بهذا البيت سبحان ه‬
‫وّللا أكبر ‪ ،‬فقال آدم لجبريل عليهما السالم وأزيدكم أنا‬ ‫ّللا ه‬ ‫إله إال ه‬

‫باّلل ]‬
‫[ وال حول وال قوة إال ه‬
‫ّللا صلهى‬‫فبقيت سنة في الذكر في الطواف لبنيه ولكل طائف به إلى يوم القيامة ‪ ،‬فأخبر رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن هذه الكلمة أعطيها آدم من كنز من تحت العرش ‪.‬‬ ‫ه‬
‫ّللا لما نسب العرش إلى نفسه وجعله محل االستواء الرحماني جعل المالئكة حافين‬ ‫واعلم أن ه‬
‫ّللا‬
‫به من حول العرش بمنزلة الحرس حرس الملك والمالزمين بابه لتنفيذ أوامره ‪ ،‬وجعل ه‬
‫الكعبة بيته ‪ ،‬ونصب الطائفين به على ذلك األسلوب ‪ ،‬وتميز البيت على العرش وعلى‬
‫الضراح وسائر البيوت األربعة عشر بأمر ‪ ،‬ما نقل إلينا أنه في العرش وال في غير هذا من‬
‫ّللا في األرض لنبايعه في كل شوط مبايعة رضوان وبشرى‬ ‫البيوت ‪ ،‬وهو الحجر األسود يمين ه‬
‫بقبول ما كان منا في كل شوط مما هو لنا أو علينا ‪ ،‬فما لنا فقبول وما علينا فغفران ‪ ،‬فإذا‬
‫ّللا سبحانه بالقبول فبايعناه وقبلنا يمينه‬
‫انتهينا إلى اليمين الذي هو الحجر استشعرنا من ه‬
‫المضافة إليه قبلة قبول وفرح واستبشار ‪ ،‬هكذا في كل شوط ‪ ،‬فإن كثر االزدحام أشرنا إليه‬
‫إعالما بأنا نريد تقبيله ‪ ،‬وإعالما بعجزنا عن الوصول إليه وال نقف ننتظر النوبة حتى تصل‬
‫إلينا فنقبله ‪ ،‬ألنه لو أراد ذلك منا ما شرع لنا اإلشارة إليه إذا لم نقدر عليه فعلمنا أنه يريد منا‬
‫اتصال المشي في السبعة‬

‫ص ‪164‬‬

‫‪164‬‬
‫األشواط من غير أن يتخللها وقوف إال قدر التقبيل في مرورنا إذا وجدنا السبيل إليه ‪ ،‬وكل‬
‫طواف قدوم فيه رمل هكذا السنة لمن أراد أن يتبعها ‪ ،‬وأجمع العلماء على أن الركوع بعد‬
‫الطواف من سنن الطواف ‪ ،‬وهو أن يركع ركعتين ‪ ،‬واألولى أن يصلي عند انقضاء كل‬
‫أسبوع ( أي سبعة أشواط ) فإن جمع أسابيع فال ينصرف إال عن وتر ‪ ،‬فإن النبي صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم ما انصرف من الطواف إال عن وتر فإنه انصرف عن سبعة أشواط أو عن طواف‬
‫واحد ‪ ،‬فإن زاد فينصرف عن ثالثة أسابيع وهي واحد وعشرون شوطا وال ينصرف عن‬
‫أسبوعين ‪ ،‬فإنه شفع ‪ ،‬وباألشواط األربعة عشر شوطا وهي شفع فجاء بخالف السنة في‬
‫طوافه من كل وجه ‪ ،‬واألولى أن ال يؤخر الركعتين عن أسبوعهما ‪ ،‬وليصلهما عند انقضاء‬
‫األسبوع‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬طواف القدوم يقابل طواف الوداع ‪ ،‬فهو كاالسم األول واآلخر ‪ ،‬وطواف اإلفاضة‬
‫بينهما برزخ ‪ ،‬فلطواف الزيارة وجه إلى طواف الوداع ووجه إلى طواف القدوم ‪ ،‬كالعقل إذا‬
‫ّللا باالستفادة ‪ ،‬وطواف الوداع إذا أراد الخروج إلى النفس باإلفادة ‪ ،‬والبرزخ أبدا‬
‫أقبل على ه‬
‫أقوى في الحكم لجمعه بين الطرفين ‪ ،‬فيتصور في أي صورة شاء ‪ ،‬ويقوم في حكم أي طرف‬
‫أراد ‪ ،‬ويجزئ عنهما ‪ ،‬فله االقتدار التام ‪ ،‬والرمل إسراع في نفس الخير إلى الخير فهو خير‬
‫في خير ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 30‬‬


‫علَ ْي ُك ْم فَاجْ تَنِبُوا‬
‫ّللا فَ ُه َو َخ ْي ٌر لَهُ ِع ْن َد َر ِبّ ِه َوأ ُ ِحلهتْ لَ ُك ُم ْاأل َ ْنعَا ُم ِإ هال َما يُتْلَى َ‬
‫ت هِ‬ ‫ظ ْم ُح ُر َما ِ‬ ‫ذَ ِلكَ َو َم ْن يُعَ ِ ّ‬
‫ور (‪)30‬‬ ‫ان َواجْ ت َ ِنبُوا قَ ْو َل ُّ‬
‫الز ِ‬ ‫س ِم َن ْاأل َ ْوث َ ِ‬ ‫الرجْ َ‬
‫ِّ‬
‫العالم حرم الحق ‪ ،‬والكون حرمه الذي أسكن فيه هؤالء الحرم ‪ ،‬وأعظم الحرم ما له فيه أثر‬
‫ّللا كان‬ ‫ّللا ‪ ،‬ومن عظم ه‬ ‫ّللا فإنما عظم ه‬ ‫الطبع النكاحي ألنه مح هل التكوين ‪ ،‬فمن عظم حرمة ه‬
‫ّللا في دار التكليف قد حد لها‬ ‫خيرا له ‪ ،‬وهو ما يجازيه به من التعظيم ‪ ،‬واعلم أن كل شعائر ه‬
‫للمكلف في جميع حركاته الظاهرة والباطنة حدودا عمت جميع ما يتصرف فيه روحا وحسا‬
‫بالحكم ‪ ،‬وجعلها حرمات له عند هذا المكلف ‪،‬‬
‫ّللا في الحكم ‪ (،‬فَ ُه َو‬ ‫ّللا »وتعظيمها أن يبقيها حرمات كما خلقها ه‬ ‫ت َّ ِ‬ ‫ظ ْم ُح ُرما ِ‬ ‫فقال ‪َ «:‬و َم ْن يُعَ ِ ه‬
‫ّللا في دار التكليف فال يرفع بها رأسا وال يجد لها تعظيما‬ ‫َخي ٌْر لَهُ ِع ْن َد َر ِبه ِه )فمن يسقط حرمات ه‬
‫يفقد خيرها إذ‬

‫ص ‪165‬‬

‫‪165‬‬
‫لم يعظمها عند ربه ونحن في دار التكليف ‪ ،‬فما فاتنا في هذه الدار من ذلك فاتنا خيره في الدار‬
‫اآلخرة‬
‫ّللا فَ ُه َو َخي ٌْر لَهُ ِع ْن َد َر ِبه ِه »يعني خيرا له ممن يعظم شعائر‬ ‫ت َّ ِ‬ ‫ظ ْم ُح ُرما ِ‬ ‫‪ -‬وجه آخر ‪َ «-‬و َم ْن يُعَ ِ ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن حرمة‬ ‫ّللا إذا جعلنا خير بمعنى أفعل من ‪ ،‬ليميز بين تعظيم الشعائر وتعظيم حرمات ه‬ ‫ه‬
‫ّللا ذاتية فهو يقتضي التعظيم لذاته ‪ ،‬بخالف األسباب المعظمة ‪ ،‬فإن الناظر في الدليل ما هو‬ ‫ه‬
‫ّللا ألنا نعبر‬ ‫الدليل له مطلوب لذاته ‪ ،‬فينتقل عنه ويفارقه إلى مدلوله ‪ ،‬فلهذا العالم دليل على ه‬
‫منه إليه تعالى ‪ ،‬وال ينبغي أن نتخذ الحق دليال على العالم فكنا نجوز منه إلى العالم وهذا ال‬
‫ظ ُرونَ »إلى كذا ‪ ،‬وعدهد المخلوقات لتتخذ أدلة عليه ال ليوقف معها‬ ‫يصح قال تعالى ‪ «:‬أ َ فَال يَ ْن ُ‬
‫ّللا‬
‫ّللا وشعائر ه‬ ‫‪ ،‬فهذا الفرق بين حرمات ه‬
‫ّللا عند ربه أي في‬ ‫– وجه آخر ‪ -‬العامل في ظرف « عند ربه » أي من يعظم حرمات ه‬
‫المواطن التي يكون العبد فيها عند ربه كالصالة مثال ‪ ،‬فإن المصلي يناجي ربه فهو عند ربه ‪،‬‬
‫ّللا في هذا الموطن كان خيرا له ‪ ،‬والمؤمن إذا نام على طهارة فروحه عند‬ ‫فإذا عظم حرمة ه‬
‫ّللا فيكون الخير الذي له في مثل هذا الموطن المبشرة التي تحصل‬ ‫ربه ‪ ،‬فيعظم هناك حرمة ه‬
‫له في نومه أو يراها له غيره ‪ ،‬والمواطن التي يكون العبد فيها عند ربه كثيرة فيعظم فيها‬
‫ّللا في تلك‬ ‫ّللا فليبحث العبد عن المواطن التي يكون فيها عند ربه فيعظم حرمة ه‬ ‫حرمات ه‬
‫علَ ْي ُك ْم فَ ْ‬
‫اجتَنِبُوا‬ ‫المواطن ‪ ،‬وتعظيمها أن يتلبس بها حتى تعظم« َوأ ُ ِحلَّ ْ‬
‫ت لَ ُك ُم ْاأل َ ْنعا ُم ِإ َّال ما يُتْلى َ‬
‫ور »ألنه مال بصاحبه عن الحق الذي هو األمر عليه‬ ‫الز ِ‬‫اجتَنِبُوا قَ ْو َل ُّ‬‫ثان َو ْ‬‫س ِمنَ ْاأل َ ْو ِ‬
‫الر ْج َ‬
‫ِه‬
‫وزال عن العدل ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 31‬‬


‫ط ْي ُر أ َ ْو ت َ ْه ِوي بِ ِه‬
‫اء فَت َ ْخ َطفُهُ ال ه‬
‫س َم ِ‬‫اّلِل فَكَأَنه َما َخ هر ِم َن ال ه‬
‫ين بِ ِه َو َم ْن يُش ِْر ْك بِ ه ِ‬
‫غ ْي َر ُمش ِْر ِك َ‬‫ّلِل َ‬ ‫ُحنَفَا َء ِ ه ِ‬
‫يق (‪)31‬‬ ‫س ِح ٍ‬ ‫َان َ‬
‫الري ُح فِي َمك ٍ‬ ‫ِّ‬
‫ّلل »فيكون العبد من المخلصين ويكون الدين مستخلصا من الشيطان ‪ ،‬أو من الباعث‬ ‫" ُحنَفا َء ِ َّ ِ‬
‫عليه من خوف ورغبة وجنة ونار ‪ ،‬فيميل العبد به عن الشريك ولهذا قال فيه ‪ُ «:‬حنَفا َء ِ َّ ِ‬
‫ّلل‬
‫»أي مائلين إلى جانب الحق ‪ -‬الذي شرعه وأخذه على المكلفين ‪ -‬من جانب الباطل« َو َم ْن‬
‫الري ُح »وهو مثل قوة حكم‬ ‫طفُهُ َّ‬
‫الطي ُْر أ َ ْو ت َ ْه ِوي بِ ِه ِ ه‬ ‫ماء فَت َ ْخ َ‬
‫س ِ‬ ‫اّلل فَ َكأَنَّما خ ََّر ِمنَ ال َّ‬
‫يُ ْش ِر ْك بِ َّ ِ‬
‫ق‪».‬‬ ‫س ِحي ٍ‬‫كان َ‬
‫النفس« فِي َم ٍ‬

‫ص ‪166‬‬

‫‪166‬‬
‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 32‬‬
‫ب ( ‪) 32‬‬ ‫ّللا فَ ِإنهها ِم ْن ت َ ْق َوى ا ْلقُلُو ِ‬ ‫ذ ِلكَ َو َم ْن يُعَ ِ ّ‬
‫ظ ْم شَعا ِئ َر ه ِ‬
‫ّللا أعالمه ]‬ ‫[ شعائر ه‬
‫ّللا من حيث‬ ‫ّللا أعالمه ‪ ،‬وأعالمه الدالئل الموصلة إليه ‪ ،‬وكل شعيرة منها دليل على ه‬ ‫شعائر ه‬
‫ّللا وأبانه ألهل الفهم من عباده ‪ ،‬فيتفاضلون في ذلك على قدر فهمهم ‪،‬‬ ‫أمر ما خاص أراده ه‬
‫والشعائر ما دق وخفي من الدالئل ‪ ،‬وأخفاها وأدقها في الداللة اآليات المعتادة ‪ ،‬فهي المشهودة‬
‫ّللا وتجهل أنت صورته‬ ‫المفقودة ‪ ،‬والمعلومة المجهولة ‪ ،‬فإذا رأيت ما يقال فيه إنه من شعائر ه‬
‫من الشعائر ‪ ،‬وال تعلم ما تدل عليه هذه الشعيرة فاعلم أن تلك الشعيرة ما خاطبك الحق بها وال‬
‫وضعها لك ‪ ،‬وإنما وضعها لمن يفهمها عنه ‪ ،‬ولك أنت شعيرة أيضا غيرها ‪ ،‬وهي كل ما‬
‫تعرف أنها داللة لك عليه ‪ ،‬فقف عندها وقل رب زدني علما ‪ ،‬فيقوى فهمك فيما أنزله ويعلمك‬
‫ّللا من حيث ما وضعه الحق دليال‬ ‫ما لم تكن تعلم ‪ ،‬فليس في العالم عين إال وهو من شعائر ه‬
‫ّللا وجب تعظيمها ‪،‬‬ ‫عليه ‪ ،‬ولما كان الشرف للموجودات إنما هو من حيث داللتها على ه‬
‫ّللا فَإِنَّها »أي الشعائر عينها ‪ ،‬وهي‬ ‫ّللا بقوله ‪َ «:‬و َم ْن يُعَ ِ ه‬
‫ظ ْم شَعا ِئ َر َّ ِ‬ ‫فوصف من يعظم شعائر ه‬
‫ّللا تعالى في العالم شعائر وأعالما لما يريد تكوينه‬ ‫األعالم والدالالت واألسباب التي وضعها ه‬
‫وخلقه من األشياء ‪ ،‬لما سبق في علمه أن يربط الوجود بعضه ببعضه ‪ ،‬ودل الدليل على‬
‫ب‬‫توقف وجود بعضه على بعضه ‪ ،‬فالتعظيم لها ضرب من العلم به تعالى ‪ِ «،‬م ْن ت َ ْق َوى ْالقُلُو ِ‬
‫»فمن عظمها فهو تقي في جميع تقلباته ‪ ،‬فإن القلوب من التقليب ‪ ،‬ألنه لما كان الدليل يشرف‬
‫ّللا ‪ ،‬فالعالم شريف كله ‪ ،‬فال يحتقر شيء منه وال‬ ‫بشرف المدلول ‪ ،‬والعالم دليل على وجود ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ما حقره لما علق القدرة بإيجاده ‪ ،‬فما ثم تافه وال حقير ‪ ،‬فإن الكل شعائر ه‬ ‫يستهان ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫‪ ،‬فإن احتقار شيء من العالم ال يصدر من تقي يتقي ه‬
‫‪ -‬الوجه الثاني «‪ -‬فَإِنَّها »يعني العظمة ‪ ،‬والعظمة راجعة لحال المعظم بكسر الظاء اسم فاعل‬
‫ب »أي فإن عظمتها من تقوى القلوب ‪ ،‬فإن كل‬ ‫‪ ،‬لذلك فهي حالة القلب فقال ‪ِ «:‬م ْن ت َ ْق َوى ْالقُلُو ِ‬
‫ّللا ال بعظمته فهو عظيم وهو األدب ‪ ،‬فإنه ال ينبغي أن‬ ‫شيء من العالم إذا نظرته بتعظيم ه‬
‫ينسب إلى العظيم إال ما يستعظم ‪ ،‬فإنه تعظم عظمته في نفس من نظره بهذا النظر ‪ ،‬وما قال‬
‫سبحانه إن ذلك من تقوى النفوس ‪ ،‬وال من تقوى األرواح ‪ ،‬ولكن قال من تقوى القلوب ‪ ،‬ألن‬
‫ّللا في كل‬ ‫اإلنسان يتقلب في الحاالت مع األنفاس ‪ ،‬ومن يتق ه‬

‫ص ‪167‬‬

‫‪167‬‬
‫ّللا من اإلنسان ‪ ،‬وال يناله إال األقوياء الكمل من الخلق ‪،‬‬ ‫تقلب يتقلب فيه فهو غاية ما طلب ه‬
‫ّللا أي هي تشعر بما تدل عليه ‪ ،‬وما تكون‬ ‫ألن الشعور بهذا التقليب عزيز ‪ ،‬ولهذا قال شعائر ه‬
‫شعائر إال في حق من يشعر بها ‪ ،‬ومن ال يشعر بها وهم أكثر الخلق فال يعظمها ‪ ،‬فإذا ال‬
‫ّللا إال في الحج‬
‫ّللا في جميع توجهاته وتصرفاته كلها ‪ ،‬ولهذا ما ذكرها ه‬ ‫يعظمها إال من قصد ه‬
‫الذي هو تكرار القصد ‪ ،‬ولما كان القصد ال يخلو عنه إنسان كان ذكر الشعائر في آية الحج‬
‫ّللا في دار التكليف قد حد لها‬ ‫وذكر المناسك ‪ ،‬وهي متعددة أي في كل قصد ‪ ،‬ثم إن كل شعائر ه‬
‫للمكلف في جميع حركاته الظاهرة والباطنة حدودا عمت جميع ما يتصرف فيه روحا وحسا‬
‫ّللا »وتعظيمها أي‬ ‫ت َّ ِ‬ ‫بالحكم ‪ ،‬وجعلها حرمات له عند هذا المكلهف ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬و َم ْن يُعَ ِ ه‬
‫ظ ْم ُح ُرما ِ‬
‫ّللا في الحكم ‪ ،‬وهذا ال يكون إال من تقوى القلوب ‪ ،‬فكل شيء في‬ ‫يبقيها حرمات كما خلقها ه‬
‫ّللا ال بد أن يكون مستندا في وجوده إلى حقيقة إلهية ‪ ،‬فمن حقره واستهان به فإنما‬ ‫العالم أوجده ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ألنه صنعة حكيم ‪ ،‬فال‬ ‫حقر خالقه واستهان به ‪ ،‬ألن كل ما في الوجود حكمة أوجدها ه‬
‫يظهر إال ما ينبغي لما ينبغي كما ينبغي ‪ ،‬فمن عمي عن حكمة األشياء فقد جهل ذلك الشيء ‪،‬‬
‫ومن جهل كون ذلك األمر حكمة فقد جهل الحكيم الواضع له ‪ ،‬وال شيء أقبح من الجهل ‪ ،‬وال‬
‫تكون التقوى من جاهل ‪ ،‬والشعائر وإن كانت عظيمة في نفسها بما تدل عليه وعظيمة من‬
‫ّللا أمر بتعظيمها ‪ ،‬فموجدها وخالقها اآلمر بتعظيمها أكبر منها وأعظم ‪ ،‬وما يقوم‬ ‫حيث إن ه‬
‫بحق التعظيم إال من عظمه باستمرار الصحبة ‪ ،‬ال من عظمه عندما فجأه ‪ ،‬ذلك تعظيم الجاهل‬
‫‪ ،‬فمن عاين الخلق الجديد لم يزل معظما للشعائر اإللهية ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 33‬‬


‫يق ( ‪) 33‬‬ ‫ت ا ْلعَتِ ِ‬ ‫لَ ُك ْم فِيها َمنافِ ُع إِلى أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫س ًّمى ث ُ هم َم ِحلُّها إِلَى ا ْلبَ ْي ِ‬
‫ق »اعلم أن البدن‬‫ت ْالعَتِي ِ‬
‫س ًّمى ‪ ،‬ث ُ َّم َم ِحلُّها ِإلَى ْالبَ ْي ِ‬ ‫« لَ ُك ْم فِيها »يعني البدن« َمنافِ ُع ِإلى أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫ّللا ‪ ،‬وما وهب هّلل ال رجعة فيه ‪ ،‬أال‬ ‫ّللا من شعائره ‪ ،‬ولهذا تشعر ليعلم أنها من شعائر ه‬ ‫جعلها ه‬
‫تراها إذا ماتت قبل وصولها إلى البيت كيف ينحرها صاحبها ويخلي بينها وبين الناس وال‬
‫ّللا شعائره سدى ‪ ،‬ألنه ما عظم إال من يقبل التعظيم ‪ ،‬وأما العظيم‬ ‫يأكل منها شيئا ‪ ،‬وما عظم ه‬
‫فاّلل عظيم والعالم كله إلمكانه حقير ‪ ،‬إال أنه يقبل التعظيم ‪ ،‬ولم يكن له طريق في‬ ‫فال يعظم ‪ ،‬ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫التعظيم إال أن يكون من شعائر ه‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬البيت العتيق عند أهل‬

‫ص ‪168‬‬

‫‪168‬‬
‫ّللا وجالله ‪ ،‬والشعائر‬
‫اإلشارات هو بيت اإليمان ‪ ،‬وليس إال قلب المؤمن الذي وسع عظمة ه‬
‫هي الدالئل الموصلة إليه تعالى وإلى معرفته ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ ) : 22‬آية ‪] 34‬‬


‫واح ٌد فَلَهُ‬
‫عام فَ ِإل ُه ُك ْم ِإلهٌ ِ‬
‫ّللا عَلى ما َر َزقَ ُه ْم ِم ْن بَ ِهي َم ِة ْاأل َ ْن ِ‬ ‫سكا ِليَ ْذك ُُروا ا ْ‬
‫س َم ه ِ‬ ‫َو ِل ُك ِ ّل أ ُ هم ٍة َجعَ ْلنا َم ْن َ‬
‫ين ( ‪) 34‬‬ ‫ش ِر ا ْل ُم ْخ ِبتِ َ‬
‫س ِل ُموا َوبَ ِ ّ‬‫أَ ْ‬
‫واح ٌد »فنؤمن به من حيث ما جاء به الخبر ال من حيث الدليل ‪ ،‬فذلك التصديق‬ ‫« َو ِإل ُه ُك ْم ِإلهٌ ِ‬
‫ّللا باإلخبات وهو الطمأنينة ‪ ،‬والخبت المطمئن من‬ ‫هو اإليمان ‪ ،‬والمخبتون هم الذين توالهم ه‬
‫باّلل من عباده وسكنت قلوبهم لما اطمأنوا إليه سبحانه فيه وذلوا‬ ‫األرض ‪ ،‬فالذين اطمأنوا ه‬
‫ّللا عليه وسلم في كتابه أن يبشرهم فقال له‬ ‫ّللا نبيه صلهى ه‬ ‫لعزته أولئك هم المخبتون الذين أمر ه‬
‫ش ِر ْال ُم ْخ ِبتِينَ »‪ ،‬فإن قيل ومن المخبتون قل ‪.‬‬ ‫‪َ «:‬وبَ ِ ه‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 35‬‬


‫صال ِة َو ِم هما َر َز ْقنا ُه ْم‬ ‫ين عَلى ما أَصابَ ُه ْم َوا ْل ُم ِق ِ‬
‫يمي ال ه‬ ‫ّللاُ َو ِجلَتْ قُلُوبُ ُه ْم َوال ه‬
‫صابِ ِر َ‬ ‫ِين إِذا ذُ ِك َر ه‬
‫الهذ َ‬
‫ون ) ‪( 35‬‬ ‫يُ ْن ِفقُ َ‬
‫[ صفات المخبتين ]‬
‫ّللا بحسب ما وقع به الذكر ‪ ،‬وصبروا أي‬ ‫فهذه صفات المخبتين أي كانوا ساكنين فحركهم ذكر ه‬
‫حبسوا نفوسهم على ما أصابهم من ذلك ولم يمنعهم ذلك الوجل وال غلبة الحال عن إقامة‬
‫ّللا من القوة على ذلك ‪ ،‬ثم مع ما هم فيه‬ ‫الصالة إذا حضر وقتها على أتم نشأتها لما أعطاهم ه‬
‫من الصبر على ما نابهم من الشدة فسألهم سائل ‪ -‬وهم بتلك المثابة في رزق علمي أو حسي‬
‫من سد جوعة أو ستر عورة ‪-‬أعطوه مما سألهم منه ‪ ،‬فلم يشغلهم شأن عن شأن ‪ ،‬فهذا نعت‬
‫ّللا به ‪ ،‬وهم ساكنون تحت مجاري األقدار عليهم راضون بذلك ‪ ،‬من‬ ‫المخبتين الذي نعتهم ه‬
‫خبت النار إذا سكن لهيبها‪.‬‬

‫ص ‪169‬‬

‫‪169‬‬
‫[سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 36‬‬
‫واف فَ ِإذا َو َجبَتْ‬
‫ص ه‬ ‫علَ ْيها َ‬ ‫ّللا َ‬
‫س َم ه ِ‬ ‫ّللا لَ ُك ْم ِفيها َخ ْي ٌر فَ ْ‬
‫اذك ُُروا ا ْ‬ ‫َوا ْلبُد َْن َجعَ ْلناها لَ ُك ْم ِم ْن شَعا ِئ ِر ه ِ‬
‫ون ( ‪) 36‬‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫ُجنُوبُها فَ ُكلُوا ِم ْنها َوأ َ ْط ِع ُموا ا ْلقانِ َع َوا ْل ُم ْعت َ هر كَذ ِلكَ َ‬
‫س هخ ْرناها لَ ُك ْم لَعَله ُك ْم ت َ ْ‬
‫[ البدن ]‬
‫ّللا‬
‫ّللا من حيث أمر خاص أراده ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن كل شعيرة منها دليل على ه‬ ‫النعم كلها من شعائر ه‬
‫ّللا عند كل حليم أواه ‪ ،‬ولم‬ ‫وأبانه ألهل الفهم من عباده ‪ ،‬والبدن هي اإلبل وجعلها من شعائر ه‬
‫ّللا لُ ُحو ُمها َوال دِماؤُها َول ِك ْن يَنالُهُ الت َّ ْقوى ِم ْن ُك ْم‬ ‫يكن المقصود منها إال أنتم ‪ ،‬بقوله «‪ :‬لَ ْن يَنا َل َّ َ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫»فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر » يعني من البدن التي جعلها سبحانه من شعائر ه‬
‫ّللا ال من غيره ‪ ،‬يقال قنع قنوعا إذا سأل وهو الذي رفع سؤاله إلى‬ ‫سؤال من ه‬ ‫والقانع السائل وال ه‬
‫ّللا فليس بقانع ويخاف عليه من الحرمان والخسران ‪ -‬اعتبار من إشعار‬ ‫ّللا ‪ ،‬ومن سأل غير ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم قد ذكر في اإلبل أنها شياطين وجعل ذلك علة في‬ ‫البدن ‪ -‬اعلم أن النبي صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ألن الكل في قبضة‬ ‫ّللا ال من ه‬ ‫منع الصالة في معاطنها ‪ ،‬والشيطنة صفة بعد من رحمة ه‬
‫ّللا ‪ ،‬واإلشعار اإلعالم وال أبعد من شياطين اإلنس والجن ‪ ،‬والهدية بعيدة من‬ ‫ّللا وبعين ه‬ ‫ه‬
‫ّللا من أهل‬ ‫المهدى إليه ألنها في ملك المهدي فهي موصوفة بالبعد ‪ ،‬وما يتقرب المتقرب إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن الرسل ما‬ ‫ّللا ليناله رحمة ه‬ ‫ّللا وبعد إلى ه‬ ‫ّللا بأولى من رد من شرد عن باب ه‬ ‫الدعاء إلى ه‬
‫ّللا ويسوقوهم إلى محل‬ ‫ّللا ليردوهم إلى ه‬ ‫بعثت بالتوحيد إال للمشركين وهم أبعد الخلق من ه‬
‫ّللا عليه وسلم البدن مع ذكره فيها أنها‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫القرب وحضرة الرحمة ‪ ،‬فلهذا أهدى رسول ه‬
‫ّللا إلى حال‬ ‫ّللا عليه وسلم رد البعداء من ه‬ ‫شياطين ‪ ،‬ليثبت عند العالمين به أن مقامه صلهى ه‬
‫التقريب ‪ ،‬ثم إنه أشعرها في سنامها األيمن ‪ ،‬وسنامها أرفع ما فيها ‪ ،‬فهو الكبرياء الذي كانوا‬
‫ّللا عليه وسلم لنا بأنه من هذه الصفة أتي عليهم‬ ‫عليه في نفوسهم ‪ ،‬فكان إعالما من النبي صلهى ه‬
‫ّللا للذين ال يريدون علوا في األرض ‪ ،‬والسنام علو ‪،‬‬ ‫‪ ،‬لنجتنبها ‪ ،‬فإن الدار اآلخرة إنما جعلها ه‬
‫ووقع اإلشعار في صفحة السنام األيمن ‪ ،‬فإن اليمين محل االقتدار والقوة ‪ ،‬والصفحة من‬
‫ّللا وزال عن كبريائه‬ ‫ّللا يصفح عمن هذه صفته إذا طلب القرب من ه‬ ‫الصفح ‪ ،‬إشعار من أن ه‬
‫ّللا عليه وسلم الداللة على إزالة‬ ‫الذي أوجب له البعد ‪ ،‬ألنه أبى واستكبر ‪ ،‬وجعل صلهى ه‬
‫الكبرياء في شيطنة البدن جعل النعال في رقابها ‪ ،‬إذ ال يصفع بالنعال إال أهل الهون والذلة ‪،‬‬
‫ومن كان بهذه المثابة فما بقي فيه كبرياء يشهد ‪ ،‬وعلق النعال في قالئد من عهن وهو الصوف‬
‫ون ْال ِجبا ُل َك ْال ِع ْه ِن ) *فإذا كانت هذه صفته كان قربانا من‬ ‫ّللا بقوله ‪َ (:‬وت َ ُك ُ‬ ‫ليتذكر بذلك ما أراد ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫التقريب إلى ه‬

‫ص ‪170‬‬

‫‪170‬‬
‫فحصلت له القربة بعد ما كان موصوفا بالبعد إذ كان شيطانا ‪ ،‬فإذا كانت الشياطين قد أصابتهم‬
‫الرحمة فما ظنك بأهل اإلسالم ‪ -‬نحر البدن ‪ -‬خرج أبو داود أن النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬
‫وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليد اليسرى ‪ ،‬قائمة على ما بقي من قوائمها ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 37‬‬


‫ّللا عَلى ما‬ ‫ّللا لُ ُحو ُمها َوال دِماؤُها َول ِك ْن يَنالُهُ الت ه ْقوى ِم ْن ُك ْم كَذ ِلكَ َ‬
‫س هخ َرها لَ ُك ْم ِلت ُ َك ِبّ ُروا ه َ‬ ‫لَ ْن يَنا َل ه َ‬
‫ين ) ‪( 37‬‬ ‫ش ِر ا ْل ُمحْ ِ‬
‫س ِن َ‬ ‫َهدا ُك ْم َوبَ ِ ّ‬
‫ولذلك قال تعالى في اآلية السابقة« َو ِم َّما َرزَ ْقنا ُه ْم يُ ْن ِفقُونَ »من حيث أن اإلنفاق له وجهان وجه‬
‫ّللا لُ ُحو ُمها َوال دِماؤُها »بل عادت منفعتها علينا من أكل‬ ‫إلى الحق ووجه إلى الخلق« لَ ْن يَنا َل َّ َ‬
‫لحومها واألجر الجزيل في نحرها والصدقة بلحومها« َول ِك ْن يَنالُهُ الت َّ ْقوى ِم ْن ُك ْم »فنالنا منها‬
‫لحومها ونال الحق منها التقوى منا فيها ‪ ،‬فالحق تناله التقوى أعني تقوى القلوب ‪ ،‬فإنها شعائر‬
‫باّلل من تقوى القلوب ‪ ،‬واعلم أن المراد‬ ‫ّللا ‪ ،‬ومن تقوانا تعظيمها ‪ ،‬وهو ضرب من العلم ه‬ ‫ه‬
‫ّللا سبحانه ما يناله شيء من أعمال الخلق ‪،‬‬ ‫بإثبات النيل هنا وعدم النيل في جانب الحق أن ه‬
‫مما كلفهم العمل فيه نيل افتقار إليه وتزين به ليحصل له بذلك حالة لم يكن عليها ‪ ،‬ولكن يناله‬
‫التقوى وهو أن تتخذوه وقاية مما أمركم أن تتقوه به على درجات التقوى ومنازله ‪ ،‬فمعنى‬
‫يناله التقوى أنه يتناولها منك ليلبسك إياها بيده تشريفا لك حيث خلع عليك بغير واسطة ‪ ،‬قال‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إنما هي أعمالكم ترد عليكم ‪ ،‬فيكسوكم الحق من أعمالكم حلال‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫سنتموها واعتنيتم بأصولها ‪ ،‬فمن البس حريرا ‪ ،‬ومن البس مشاقة كتان وقطن‬ ‫على قدر ما ح ه‬
‫وما بينهما ‪ ،‬فسواء كانت الخلعة من رفيع الثياب أو دنيئها فذلك راجع إليك ‪ ،‬فإنه ما ينال منك‬
‫إال ما أعطيته ‪ ،‬وإن جمع ذلك التقوى ‪ ،‬فإنه ال يأخذ شيئا سبحانه من غير المتقي ‪ ،‬فلهذا‬
‫ش ِر ْال ُم ْح ِسنِينَ‬
‫وصف نفسه بأن التقوى تناله من العباد ‪ ،‬والتقوى من المتقين من خلقه ‪َ «،‬وبَ ِ ه‬
‫»الذين أشهدهم كبرياءه ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 38‬إلى ‪] 39‬‬


‫ون بِأَنه ُه ْم‬
‫ِين يُقاتَلُ َ‬ ‫ور ( ‪ ) 38‬أُذ َ‬
‫ِن ِللهذ َ‬ ‫ان َكفُ ٍ‬
‫ب ُك هل َخ هو ٍ‬ ‫ِين آ َمنُوا إِ هن ه َ‬
‫ّللا ال يُ ِح ُّ‬ ‫ّللا يُدافِ ُع ع َِن الهذ َ‬
‫إِ هن ه َ‬
‫ِير) ‪( 39‬‬ ‫ّللا عَلى نَص ِْر ِه ْم لَقَد ٌ‬ ‫ُ‬
‫ظ ِل ُموا َوإِ هن ه َ‬

‫ص ‪171‬‬

‫‪171‬‬
‫[سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 40‬‬
‫ض ُه ْم‬ ‫ّللا النه َ‬
‫اس بَ ْع َ‬ ‫ّللاُ َولَ ْو ال د َْف ُع ه ِ‬
‫ق ِإاله أ َ ْن يَقُولُوا َربُّنَا ه‬ ‫ِين أ ُ ْخ ِر ُجوا ِم ْن د ِ‬
‫ِيار ِه ْم ِبغَ ْي ِر َح ّ ٍ‬ ‫الهذ َ‬
‫ّللاُ َم ْن‬‫ص َر هن ه‬‫ّللا َكثِيرا َولَيَ ْن ُ‬ ‫ساج ُد يُ ْذك َُر فِي َها ا ْ‬
‫س ُم ه ِ‬ ‫صلَواتٌ َو َم ِ‬ ‫وام ُع َوبِيَ ٌع َو َ‬‫ص ِ‬ ‫ض لَ ُه ِ ّد َمتْ َ‬ ‫بِبَ ْع ٍ‬
‫يز ( ‪) 40‬‬ ‫ي ع َِز ٌ‬ ‫ّللا لَقَ ِو ٌّ‬
‫ص ُرهُ إِ هن ه َ‬ ‫يَ ْن ُ‬
‫ص ُرهُ » ]‬ ‫ّللاُ َم ْن يَ ْن ُ‬
‫ص َر َّن َّ‬‫[ « َولَيَ ْن ُ‬
‫ص ُرهُ »فالحمد هّلل واضع الملل وشارع النحل ‪ ،‬تارة بالوحي وتارة‬ ‫ّللاُ َم ْن يَ ْن ُ‬ ‫« َولَيَ ْن ُ‬
‫ص َر َّن َّ‬
‫باإللهام ‪ ،‬فوقتا خلف حجاب اإلشراق ووقتا خلف حجاب الظالم ‪ ،‬فأضل وهدى ‪ ،‬وأنجى‬
‫وأردى ‪ ،‬وأقام أعالم الضاللة والهدى ‪ ،‬ففصل بها بين األولياء واألعداء ‪ ،‬فجعل الهدى لحزب‬
‫السعادة سلما ‪ ،‬ونصب الضاللة لحزب الشقاوة علما ‪ ،‬وأوقع بينهما الفتن والحرب ‪ ،‬في عالم‬
‫الشهادة والغيب ‪ ،‬وثبتت في صدورهم الشحناء ‪ ،‬وبدت بينهم العداوة والبغضاء ‪ ،‬فسفكت‬
‫الدماء ‪ ،‬واتبعت األهواء ‪ ،‬فالسعيد منا من ناضل عن شرعه المؤيد باآليات ‪ ،‬وقاتل عن‬
‫وضعه المقرر بالمعجزات ‪ ،‬والشقي من احتمى بحمى الضالالت ‪ ،‬ودافع عنها بمجرد‬
‫الحمايات ‪ ،‬وأعمى نفسه عن مالحظة الصواب ‪ ،‬فيما وقع به الخطاب ‪ ،‬فبادروا إلى نصرة‬
‫الدين المكي ‪ ،‬وقاتلوا بما ثبت في نفوسكم من اليقين اليمني ‪ ،‬وقد خاب من طلب أثرا بعد عين‬
‫ّللا وإياكم ممن ذب عن شرعه‬ ‫‪ ،‬ورجع بعد معرفته بعلو مرتبة الصدق إلى المين ‪ ،‬جعلنا ه‬
‫المعصوم ‪ ،‬وناضل عن دينه المعلوم ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 41‬‬


‫الزكاةَ َوأ َ َم ُروا ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫وف َونَ َه ْوا ع َِن ا ْل ُم ْنك َِر‬ ‫ض أَقا ُموا ال ه‬
‫صالةَ َوآت َ ُوا ه‬ ‫ِين ِإ ْن َم هكنها ُه ْم ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫الهذ َ‬
‫ور ) ‪( 41‬‬ ‫ّلِل عاقِبَةُ ْاأل ُ ُم ِ‬
‫َو ِ ه ِ‬
‫ّللا ال إلى غيره ‪.‬‬ ‫وهو الحمد فإن عواقب الثناء كله يرجع إلى ه‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 42‬إلى ‪] 43‬‬


‫َو ِإ ْن يُ َك ِذّبُوكَ فَقَ ْد َكذهبَتْ قَ ْبلَ ُه ْم قَ ْو ُم نُوحٍ َوعا ٌد َوث َ ُمو ُد ( ‪َ ) 42‬وقَ ْو ُم ِإ ْبرا ِهي َم َوقَ ْو ُم لُ ٍ‬
‫وط) ‪( 43‬‬

‫ص ‪172‬‬

‫‪172‬‬
‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 44‬إلى ‪] 46‬‬
‫ير ( ‪ ) 44‬فَكَأ َ ِيّ ْن ِم ْن‬ ‫كان نَ ِك ِ‬
‫ف َ‬ ‫ين ث ُ هم أ َ َخ ْذت ُ ُه ْم فَ َك ْي َ‬
‫ِب ُموسى فَأ َ ْملَيْتُ ِل ْلكا ِف ِر َ‬ ‫َوأَص ُ‬
‫ْحاب َم ْديَ َن َو ُكذّ َ‬
‫شي ٍد ( ‪ ) 45‬أ َ فَلَ ْم‬ ‫طلَ ٍة َوقَص ٍْر َم ِ‬‫شها َوبِئْ ٍر ُمعَ ه‬ ‫ي خا ِويَةٌ عَلى ع ُُرو ِ‬ ‫ي ظا ِل َمةٌ فَ ِه َ‬ ‫قَ ْريَ ٍة أ َ ْهلَ ْكناها َو ِه َ‬
‫ون بِها فَ ِإنهها ال ت َ ْع َمى ْاأل َ ْب ُ‬
‫صار‬ ‫س َمعُ َ‬ ‫آذان يَ ْ‬‫ٌ‬ ‫ون بِها أ َ ْو‬
‫وب يَ ْع ِقلُ َ‬‫ُون لَ ُه ْم قُلُ ٌ‬ ‫ض فَتَك َ‬ ‫يروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫يَ ِ‬
‫ُور ( ‪) 46‬‬ ‫صد ِ‬ ‫وب الهتِي فِي ال ُّ‬ ‫َول ِك ْن ت َ ْع َمى ا ْلقُلُ ُ‬
‫[ عماء البصر والقلب ]‬
‫وب يَ ْع ِقلُونَ ِبها »ما جعلها عقال إال ليعقل عنه العبد‬ ‫ض فَت َ ُكونَ لَ ُه ْم قُلُ ٌ‬ ‫يروا ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫« أ َ فَلَ ْم يَ ِس ُ‬
‫ّللا أن العلم تحصيل القلب أمرا ما على حد ما هو عليه ذلك في‬ ‫بها ما يخاطبه بها ‪ ،‬فاعلم أيدك ه‬
‫نفسه ‪ ،‬معدوما كان ذلك األمر أو موجودا ‪ ،‬فالعلم هو الصفة التي توجب التحصيل من القلب ‪،‬‬
‫والعالم هو القلب والمعلوم هو ذلك األمر المحصل ‪ ،‬فالقلب مرآة مصقولة كلها وجه ال تصدأ‬
‫أبدا ‪ ،‬فإن أطلق يوما عليها أنها صدئت كما قال عليه السالم إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد‬
‫ّللا وتالوة القرآن ‪ ،‬فليس المراد بهذا الصدأ أنه طخاء طلع‬ ‫‪ -‬الحديث ‪ -‬وفيه أن جالءها ذكر ه‬
‫ّللا صدأ‬ ‫باّلل كان تعلقه بغير ه‬ ‫على وجه القلب ‪ ،‬ولكنه لما تعلق واشتغل بعلم األسباب عن العلم ه‬
‫على وجه القلب ألنه المانع من تجلي الحق إلى هذا القلب ‪ ،‬ألن الحضرة اإللهية متجلية على‬
‫الدوام ال يتصور في حقها حجاب عنا ‪ ،‬فلما لم يقبلها هذا القلب من جهة الخطاب الشرعي‬
‫المحمود ألنه قبل غيرها ‪ ،‬عبر عن قبول ذلك الغير بالصدإ والكن والقفل والعمى والران‬
‫وغير ذلك ‪ ،‬فالقلوب أبدا لم تزل مفطورة على الجالء مصقولة صافية ‪ ،‬فكل قلب تجلت فيه‬
‫الحضرة اإللهية فذلك قلب المشاهد المكمل العالم ‪ ،‬ومن لم تتجل له من كونها من الحضرة‬
‫ّللا‬
‫ّللا تعالى ‪ -‬تحقيق ‪ -‬اعلم أن ه‬ ‫ّللا تعالى المطرود من قرب ه‬ ‫اإللهية فذلك هو القلب الغافل عن ه‬
‫تعالى ابتلى اإلنسان ببالء ما ابتلى به أحدا من خلقه ‪ ،‬إما ألن يسعده أو يشقيه ‪ ،‬على حسب ما‬
‫يوفقه إلى استعماله ‪ ،‬فكان البالء الذي ابتاله به أن خلق فيه قوة تسمى الفكر ‪ ،‬وجعل هذه القوة‬
‫خادمة لقوة أخرى تسمى العقل ‪ ،‬وجبر العقل مع سيادته على الفكر أن يأخذ منه ما يعطيه ‪،‬‬
‫ولم يجعل للفكر مجاال إال في القوة الخيالية وجعل سبحانه القوة الخيالية محال جامعا لما تعطيه‬
‫القوة الحساسة ‪ ،‬وجعل له قوة يقال لها المصورة ‪ ،‬فال يحصل في القوة الخيالية إال ما أعطاه‬
‫الحس ‪ ،‬أو أعطته القوة المصورة من المحسوسات ‪،‬‬
‫وذلك‬

‫ص ‪173‬‬

‫‪173‬‬
‫ألن العقل خلق ساذجا ليس عنده من العلوم النظرية شيء ‪ ،‬وقيل للفكر ميز بين الحق والباطل‬
‫الذي في هذه القوة الخيالية ‪ ،‬فينظر بحسب ما يقع له ‪ ،‬فقد يحصل في شبهة ‪ ،‬وقد يحصل في‬
‫دليل عن غير علم منه بذلك ‪ ،‬ولكن في زعمه أنه عالم بصور الشبه من األدلة ‪ ،‬وأنه قد حصل‬
‫على علم ‪ ،‬ولم ينظر إلى قصور المواد التي استند إليها في اقتناء العلوم فيقبلها العقل منه‬
‫ّللا كلهف هذا العقل معرفته‬‫ويحكم بها ‪ ،‬فيكون جهله أكثر من علمه بما ال يتقارب ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫سبحانه ليرجع إليه فيها ال إلى غيره ‪ ،‬ففهم العقل نقيض ما أراد به الحق ‪ ،‬فاستند إلى الفكر‬
‫وجعله إماما يقتدى به ‪ ،‬وغفل عن الحق في مراده بالتفكر ‪ ،‬أنه خاطبه أن يتفكر فيرى أن‬
‫ّللا ‪ ،‬فيكشف له عن األمر على ما هو عليه ‪ ،‬فلم يفهم كل‬ ‫باّلل ال سبيل إليه إال بتعريف ه‬ ‫علمه ه‬
‫ّللا به‬
‫ّللا من أنبيائه ‪ ،‬وأوليائه ‪ ،‬فالذي ينبغي للعاقل أن يدين ه‬ ‫عقل هذا الفهم ‪ ،‬إال عقول خاصة ه‬
‫ّللا على كل شيء قدير ‪ ،‬نافذ االقتدار ‪ ،‬واسع العطاء ‪ ،‬ليس إليجاده‬ ‫في نفسه أن يعلم أن ه‬
‫تكرار ‪ ،‬بل أمثال تحدث في جوهر أوجده ‪ ،‬وشاء بقاءه ‪ ،‬ولو شاء أفناه مع األنفاس« أ َ ْو ٌ‬
‫آذان‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ْصار »فإنها أدركت بال شك ‪ ،‬قال رسول ه‬ ‫يَ ْس َمعُونَ ِبها فَإِنَّها ال ت َ ْع َمى ْاألَب ُ‬
‫وسلم ‪ :‬لوال تزييد في حديثكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع« َول ِك ْن ت َ ْع َمى‬
‫ُور »وهي أعين البصائر ‪ ،‬تعمى عن النظر في مقدمات األدلة وترتيبها«‬ ‫صد ِ‬ ‫وب الَّتِي فِي ال ُّ‬ ‫ْالقُلُ ُ‬
‫ُور »فبين مكان القلوب ‪ ،‬وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه ‪ ،‬من أن‬ ‫صد ِ‬ ‫وب الَّتِي فِي ال ُّ‬ ‫َول ِك ْن ت َ ْع َمى ْالقُلُ ُ‬
‫مركز الروح وهو الخليفة المستخلف على الجسم إنما هو القلب ‪ ،‬فليست اإلشارة للقلب النباتي‬
‫فإن األنعام يشاركوننا في ذلك ‪ ،‬لكن للسر المودع فيه وهو الخليفة ‪ ،‬والقلب النباتي قصره ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد‬ ‫قال صلهى ه‬
‫سائر الجسد أال وهي القلب ‪ ،‬فالقلب النباتي ال فائدة له إال من حيث هو مكان لهذا السر‬
‫المطلوب ‪ ،‬المتوجه عليه الخطاب ‪ ،‬والمجيب إذا ورد السؤال ‪ ،‬والباقي إذا فني الجسم والقلب‬
‫النباتي ‪ ،‬فنقول كذلك إذا صلح اإلمام صلحت الرعية وإذا فسد فسدت ‪ ،‬بذا جرت العادة‬
‫وارتبطت الحكمة اإللهية ‪ ،‬فالقلب ما دام في الصدور فهو أعمى ألن الصدر حجاب عليه ‪ ،‬فإذا‬
‫ّللا أن يجعله بصيرا خرج عن صدره فرأى ‪ ،‬فاألسباب صدور الموجودات ‪،‬‬ ‫أراد ه‬
‫والموجودات كالقلوب ‪ ،‬فما دام الموجود ناظرا إلى السبب الذي صدر عنه كان أعمى عن‬
‫ّللا أن يجعله بصيرا ترك النظر إلى السبب الذي أوجده‬ ‫ّللا الذي أوجده ‪ ،‬فإذا أراد ه‬ ‫شهود ه‬

‫ص ‪174‬‬

‫‪174‬‬
‫ّللا بصيرا ‪ ،‬فاألسباب‬
‫ّللا عنده ‪ ،‬ونظر من الوجه الخاص الذي من ربه إليه في إيجاده جعله ه‬ ‫ه‬
‫كلها ظلمات على عيون المسببات ‪ ،‬وفيها هلك من هلك من الناس ‪ ،‬فالعارفون يثبتونها وال‬
‫يشهدونها ‪ ،‬ويعطونها حقها وال يعبدونها ‪ ،‬وما سوى العارفين يعاملونها بالعكس ‪ ،‬يعبدونها‬
‫وال يعطونها حقها ‪ ،‬بل يغصبونها فيما تستحقه من العبودية التي هي حقها ويشهدونها وال‬
‫يثبتونها ‪ ،‬والعالم لم يزل في المعنى تحت تأثير األسباب ‪ ،‬فإن األسباب محال رفعها ‪ ،‬وكيف‬
‫وّللا‬
‫ّللا ليس له ذلك ‪ ،‬ولكن الجهل عم الناس فأعماهم وحيرهم وما هداهم ‪ ،‬ه‬ ‫يرفع العبد ما أثبته ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيهدي به من يشاء من‬
‫يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ‪ ،‬بالروح الموحى من أمر ه‬
‫عباده ‪ ،‬فقد أثبت الهداية بالروح ‪ ،‬وهذا وضع السبب في العالم ‪ ،‬فالوقوف عند األسباب ال‬
‫ّللا ‪ ،‬ولهذا جعل سبحانه األسباب مسببات ألسباب غيرها من األدنى حتى‬ ‫ينافي االعتماد على ه‬
‫ّللا سبحانه ‪ ،‬فهو السبب األول ال عن سبب كان به ‪ ،‬فالقلب في الصدور هو‬ ‫ينته فيها إلى ه‬
‫الرجوع ال واحد الصدور ‪ ،‬فإنا عن الحق صدرنا من كوننا عنده في الخزائن ‪ ،‬كما أعلمنا‬
‫فعلمنا ‪ ،‬فهو صدور لم يتقدهمه ورود ‪ ،‬فالحق المعتقد في القلب هو إشارة إلى القلب ‪ ،‬فاقلب‬
‫تجد ما ثبت في المعتقد ‪،‬‬
‫ُور »‬
‫صد ِ‬ ‫فقوله تعالى ‪َ «:‬ول ِك ْن ت َ ْع َمى ْالقُلُ ُ‬
‫وب الَّتِي فِي ال ُّ‬
‫على الوجهين الواحد من الوجهين للحصر وهي الصدور المعلومة والثاني للرجوع إلى الحق ‪،‬‬
‫ومن وجه آخر تعمى القلوب التي في الصدور عن الحق واألخذ به ‪ ،‬فلو كانت غير معرضة‬
‫عن الحق مقبلة عليه ألبصرت الحق فأقرت له بالربوبية في كل شيء ‪ ،‬فلما صدرت عن الحق‬
‫بكونها ولم تشهده في عينها عميت في صدورها عمن أوجدها ‪ ،‬فإن عمى القلوب أشد من عمى‬
‫األبصار ‪ ،‬فإن عمى القلوب يحول بينك وبين الحق ‪ ،‬وعمى البصر الذي لم يرقط صاحبه ليس‬
‫يحول إال بينك وبين األلوان خاصة ‪ ،‬ليس له إال ذلك ‪ ،‬وهذا العمى من الحجب التي احتجب‬
‫ّللا ‪ ،‬وكذلك الصمم والقفل والكن ‪.‬‬ ‫بها الخلق عن ه‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 47‬‬


‫سنَ ٍة ِم هما تَعُ ُّد َ‬
‫ون ) ‪( 47‬‬ ‫ّللاُ َو ْع َد ُه َو ِإ هن يَ ْوما ِع ْن َد َر ِبّكَ َكأ َ ْل ِ‬
‫ف َ‬ ‫ف ه‬ ‫ست َ ْع ِجلُونَكَ ِبا ْلعَذا ِ‬
‫ب َولَ ْن يُ ْخ ِل َ‬ ‫َويَ ْ‬
‫يعني من أيامنا هذه المعلومة المعروفة وهو هذا اليوم الصغير الذي من شروق الشمس إلى‬
‫شروق الشمس ‪ ،‬فبهذا الليل والنهار الموجودين في المعمور من األرض بهما تعد أيام األفالك‬

‫ص ‪175‬‬

‫‪175‬‬
‫وأيام الرب ‪ ،‬ونحن نعلم قطعا أن األماكن التي يكون فيها النهار ستة أشهر والليل كذلك أن‬
‫ذلك يوم واحد في حق ذلك الموضع ‪ ،‬فيوم ذلك الموضع ثالثمائة وستون يوما مما نعده ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 48‬إلى ‪] 52‬‬


‫ير ( ‪ ) 48‬قُ ْل يا أَيُّ َها النه ُ‬
‫اس ِإنهما‬ ‫ي ا ْل َم ِص ُ‬ ‫ي ظا ِل َمةٌ ث ُ هم أ َ َخ ْذتُها َو ِإلَ ه‬‫َوكَأ َ ِيّ ْن ِم ْن قَ ْريَ ٍة أ َ ْملَيْتُ لَها َو ِه َ‬
‫ق ك َِري ٌم ( ‪) 50‬‬ ‫ت لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫ين ( ‪ ) 49‬فَالهذ َ‬ ‫ِير ُم ِب ٌ‬ ‫أَنَا لَ ُك ْم نَذ ٌ‬
‫يم ( ‪َ ) 51‬وما أ َ ْر َ‬
‫س ْلنا ِم ْن قَ ْب ِلكَ ِم ْن‬ ‫ْحاب ا ْل َج ِح ِ‬‫ين أُول ِئكَ أَص ُ‬ ‫عاج ِز َ‬‫سعَ ْوا ِفي آيا ِتنا ُم ِ‬ ‫ِين َ‬‫َوالهذ َ‬
‫طان ث ُ هم يُحْ ِك ُم ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ش ْي ُ‬ ‫ّللاُ ما يُ ْل ِقي ال ه‬ ‫س ُخ ه‬ ‫طان فِي أ ُ ْمنِيهتِ ِه فَيَ ْن َ‬ ‫ش ْي ُ‬ ‫ي ٍ إِاله إِذا ت َ َمنهى أ َ ْلقَى ال ه‬
‫سو ٍل َوال نَبِ ّ‬ ‫َر ُ‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم ) ‪( 52‬‬ ‫ّللاُ َ‬
‫آياتِ ِه َو ه‬
‫ّللا في جميع حركاتهم ‪،‬‬ ‫األنبياء لهم العصمة من الشيطان ظاهرا وباطنا وهم محفوظون من ه‬
‫ّللا للناس ولهم المناجاة اإللهية ‪ ،‬فاألنبياء المرسلون معصومون من‬ ‫وذلك ألنهم قد نصبهم ه‬
‫المباح أن يفعلوه من أجل نفوسهم ‪ ،‬ألنهم يشرعون بأفعالهم وأقوالهم ‪ ،‬فإذا فعلوا مباحا يأتونه‬
‫للتشريع ليقتدى بهم ويعرفون األتباع الحكم اإللهي فيه ‪ ،‬فهو واجب عليهم ليبينوا للناس ما‬
‫أنزل إليهم ‪ ،‬واألنبياء معصومون أن يلقي الشيطان إليهم ‪ ،‬وكذلك األنبياء يعطى لكل نبي أجر‬
‫األمة التي بعث إليهم سواء آمنوا به أو كفروا ‪ ،‬فإن نية كل نبي يود لو أنهم آمنوا ‪ ،‬فيتساوى‬
‫األنبياء في أجر التمني ‪ ،‬ويتميز كل واحد عن صاحبه في الموقف باألتباع ‪ ،‬فالنبي يأتي ومعه‬
‫السواد األعظم ‪ ،‬وأقل وأقل حتى يأتي نبي ومعه الرجالن والرجل ‪ ،‬ويأتي النبي وليس معه‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم »فإن الحق لم يأت بالمعجزة‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫أحد والكل في أجر التبليغ سواء ‪ ،‬وفي األمنية« َو َّ‬
‫ّللا فيه من ذلك ‪ ،‬ولذلك اختلفت الدالالت من كل نبي‬ ‫قوته قبولها بما ركب ه‬ ‫إال لمن يعلم أن في ه‬
‫ّللا‬
‫وفي حق كل طائفة ‪ ،‬ولو جاءهم بآية ليس في وسعهم أن يقبلوها لجهلهم ما آخذهم ه‬
‫ّللا عليم حكيم عادل ‪.‬‬ ‫بإعراضهم وال بتوليهم عنها ‪ ،‬فإن ه‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 53‬إلى ‪] 54‬‬


‫ين لَ ِفي‬ ‫سيَ ِة قُلُوبُ ُه ْم َو ِإ هن ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ض َوا ْلقا ِ‬ ‫ِين ِفي قُلُو ِب ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫طان ِفتْنَة ِللهذ َ‬
‫ش ْي ُ‬ ‫ِليَجْ عَ َل ما يُ ْل ِقي ال ه‬
‫ق ِم ْن َر ِبّكَ فَيُ ْؤ ِمنُوا بِ ِه فَت ُ ْخبِتَ لَهُ قُلُوبُ ُه ْم‬‫ِين أُوتُوا ا ْل ِع ْل َم أَنههُ ا ْل َح ُّ‬
‫قاق بَ ِعي ٍد ( ‪َ ) 53‬و ِليَ ْعلَ َم الهذ َ‬‫ش ٍ‬ ‫ِ‬
‫يم) ‪( 54‬‬ ‫ست َ ِق ٍ‬ ‫ِين آ َمنُوا إِلى ِص ٍ‬
‫راط ُم ْ‬ ‫ّللا لَها ِد الهذ َ‬
‫َوإِ هن ه َ‬

‫ص ‪176‬‬

‫‪176‬‬
‫وصف الحق نفسه بأنه الهادي ‪ ،‬والهادي هو الذي يكون أمام القوم ليريهم الطريق ‪ ،‬وهو قوله‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِق ٍيم »فتقدم تعالى األشياء ليهديها إلى ما فيه سعادتها ‪ ،‬وتأخر عنها‬ ‫على ِ‬ ‫‪ِ «:‬إ َّن َر ِبهي َ‬
‫يط »‪ ،‬ليحفظها ممن يغتالها وهو العدم ‪ ،‬فإن العدم يطلبها كما يطلبها‬ ‫بقوله ‪ِ «:‬م ْن َورائِ ِه ْم ُم ِح ٌ‬
‫الوجود ‪ ،‬وهي في محل قابل للحكمين ليس في قوتها االمتناع إال بلطف اللطيف ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 55‬‬


‫يم (‬
‫ع ِق ٍ‬ ‫ساعَةُ بَ ْغتَة أ َ ْو يَأ ْ ِتيَ ُه ْم ع ُ‬
‫َذاب يَ ْو ٍم َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِفي ِم ْريَ ٍة ِم ْنهُ َحتهى تَأ ْ ِتيَ ُه ُم ال ه‬
‫َوال يَزا ُل الهذ َ‬
‫) ‪55‬‬
‫العقيم ما يوجب أن ال يولد منه ‪ ،‬فال تكون له والدة على مثله ‪ ،‬وسمى اليوم عقيما ألنه ال يوم‬
‫بعده أصال ‪ ،‬وهو من يوم األسبوع يوم السبت ‪ ،‬وهو يوم األبد ‪ ،‬فنهاره نور ألهل الجنة دائم‬
‫ال يزال أبدا ‪ ،‬وليله ظلمة على أهل النار ال يزال أبدا ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 56‬إلى ‪] 60‬‬


‫يم ( ‪َ ) 56‬والهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ت النه ِع ِ‬‫ت فِي َجنها ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫ّلِل يَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُه ْم فَالهذ َ‬
‫ا ْل ُم ْلكُ يَ ْو َمئِ ٍذ ِ ه ِ‬
‫ّللا ث ُ هم قُتِلُوا أ َ ْو‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫ِين ها َج ُروا فِي َ‬ ‫ين ) ‪َ ( 57‬والهذ َ‬ ‫َذاب ُم ِه ٌ‬ ‫َكفَ ُروا َو َكذهبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَ ُه ْم ع ٌ‬
‫ض ْونَهُ‬
‫ين ( ‪ ) 58‬لَيُد ِْخلَنه ُه ْم ُم ْد َخال يَ ْر َ‬ ‫ّللا لَ ُه َو َخ ْي ُر ه‬
‫الر ِازقِ َ‬ ‫سنا َو ِإ هن ه َ‬ ‫ّللاُ ِر ْزقا َح َ‬ ‫ماتُوا لَيَ ْر ُزقَنه ُه ُم ه‬
‫ص َرنههُ ه‬
‫ّللاُ ِإ هن‬ ‫علَ ْي ِه لَيَ ْن ُ‬
‫ي َ‬‫ب ِب ِه ث ُ هم بُ ِغ َ‬ ‫ب ِب ِمثْ ِل ما عُوقِ َ‬‫ّللا لَعَ ِلي ٌم َح ِلي ٌم ( ‪ ) 59‬ذ ِلكَ َو َم ْن عاقَ َ‬ ‫َو ِإ هن ه َ‬
‫ور ( ‪) 60‬‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫ّللا لَعَفُ ٌّو َ‬
‫هَ‬
‫ّللا إال بما أشهده‬ ‫ور »كل عاص ما اجترأ على ه‬ ‫غف ُ ٌ‬‫ّللا لَعَفُ ٌّو َ‬
‫ّللاُ »ولو بعد حين« ِإ َّن َّ َ‬ ‫ص َرنَّهُ َّ‬ ‫« لَيَ ْن ُ‬
‫من نعوته تعالى ‪ ،‬من العفو والتجاوز والصفح والمغفرة وعموم الرحمة وال سيما العفو‪.‬‬

‫ص ‪177‬‬

‫‪177‬‬
‫[سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 61‬‬
‫ير ( ‪) 61‬‬ ‫س ِمي ٌع بَ ِص ٌ‬ ‫هار ِفي الله ْي ِل َوأ َ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫هار َويُو ِل ُج النه َ‬ ‫ذ ِلكَ ِبأ َ هن ه َ‬
‫ّللا يُو ِل ُج الله ْي َل ِفي النه ِ‬
‫[ ايالج الليل والنهار]‬
‫اعلم أن األيام في الدنيا كل يوم هو ابن اليوم قبله ‪ ،‬وهما توأمان ليلة ونهار ‪ ،‬فالليلة أنثى‬
‫والنهار ذكر ‪ ،‬فيتناكحان فيلدان النهار والليل اللذين يأتيان بعدهما ‪ ،‬ويذهب األبوان فإنهما ال‬
‫يجتمعان أبدا ‪ ،‬وفي غشيان الليل النهار وإيالج بعضهما في بعض يكون والدة ما يتكون في‬
‫كل واحد منهما من األمور والكوائن التي هي من شؤون الحق ‪ ،‬فيكون الليل ذكرا والنهار‬
‫أنثى لما يتولهد في النهار من الحوادث ‪ ،‬ويكون النهار ذكرا والليل أنثى لما يتولد في الليل من‬
‫الحوادث ‪ ،‬فهذا التوالج إليجاد ما سبق في علمه أن يظهر فيه من األحكام واألعيان في العالم‬
‫العنصري ‪ ،‬فنحن أوالد الليل والنهار ‪ ،‬فما حدث في النهار فالنهار أمه والليل أبوه ‪ ،‬وما ولد‬
‫في الليل فالليل أمه والنهار أبوه ‪ ،‬وال يزال الحال في الدنيا ما دام الليل والنهار يغشى أحدهما‬
‫اآلخر ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 62‬‬


‫ي ا ْل َكبِ ُ‬
‫ير ( ‪) 62‬‬ ‫باط ُل َوأ َ هن ه َ‬
‫ّللا ُه َو ا ْلعَ ِل ُّ‬ ‫ق َوأ َ هن ما يَ ْدع َ‬
‫ُون ِم ْن دُونِ ِه ُه َو ا ْل ِ‬ ‫ذ ِلكَ بِأ َ هن ه َ‬
‫ّللا ُه َو ا ْل َح ُّ‬
‫ي »لذاته ال باإلضافة ‪ ،‬ألن الكل تحت ذل الحصر والتقييد والعجز ‪ ،‬لينفرد جالل‬ ‫« ُه َو ْالعَ ِل ُّ‬
‫ّللا بالكمال على اإلطالق فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع األمور‬ ‫ه‬
‫ّللا‬
‫الوجودية والنسب العدمية ‪ ،‬بحيث ال يمكن أن يفوته نعت منها ‪ ،‬وليس ذلك إال لمسمى ه‬
‫خاصة ‪ ،‬وليس علوه بالمكان وال المكانة ‪ ،‬فإن علو المكانة يختص بوالة األمر كالسلطان‬
‫والحكام والوزراء والقضاة وكل ذي منصب ‪ ،‬سواء كان فيه أهلية ذلك المنصب أو لم يكن ‪،‬‬
‫والعلو بالصفات ليس كذلك ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 63‬إلى ‪] 65‬‬


‫ير ( ‪ ) 63‬لَهُ ما‬ ‫يف َخ ِب ٌ‬ ‫ّللا لَ ِط ٌ‬
‫ض هرة ِإ هن ه َ‬ ‫ض ُم ْخ َ‬‫ص ِب ُح ْاأل َ ْر ُ‬ ‫ماء ماء فَت ُ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ّللا أ َ ْن َز َل ِم َن ال ه‬
‫أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ هن ه َ‬
‫س هخ َر لَ ُك ْم ما‬ ‫ي ا ْل َح ِمي ُد ( ‪ ) 64‬أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ّللا لَ ُه َو ا ْلغَنِ ُّ‬
‫ض َوإِ هن ه َ‬ ‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫فِي ال ه‬
‫ض إِاله بِ ِإ ْذنِ ِه إِ هن‬ ‫علَى ْاأل َ ْر ِ‬‫سما َء أ َ ْن تَقَ َع َ‬ ‫سكُ ال ه‬ ‫ض َوا ْلفُ ْلكَ تَجْ ِري فِي ا ْلبَحْ ِر بِأ َ ْم ِر ِه َويُ ْم ِ‬ ‫فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ُف َر ِحي ٌم) ‪( 65‬‬ ‫اس لَ َرؤ ٌ‬ ‫ّللا ِبالنه ِ‬ ‫هَ‬

‫ص ‪178‬‬

‫‪178‬‬
‫لرحمته بمن في األرض من الناس مع كفرهم بنعمه ‪ ،‬فال تهوي السماء ساقطة واهية حتى‬
‫ّللا صورة السماء على‬ ‫اس لَ َرؤ ٌ‬
‫ُف َر ِحي ٌم »فيمسك ه‬ ‫ّللا ِبالنَّ ِ‬
‫يزول الناس منها ‪ ،‬لذلك تمم« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا‬
‫ّللا هّلل ‪ ،‬ألنه ليس في خاطره إال ه‬
‫السماء ألجل اإلنسان الموحد الذي ال يمكن أن ينفي فذكره ه‬
‫ّللا الواحد األحد ‪ ،‬ولهذا‬
‫ّللا ‪ ،‬فليس إال ه‬
‫‪ ،‬فما عنده أمر آخر يدعي عنده ألوهية فينفيه بال إله إال ه‬
‫ّللا عليه وسلم ال تقوم الساعة حتى ال يبقى على وجه األرض من يقول‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫قال رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهذا هجير هذا اإلمام الذي يقبض آخرا وتقوم الساعة فتنشق السماء ‪ ،‬فهذا وأمثاله‬ ‫ّللا ه‬
‫ه‬
‫ّللا ما أمسكها إال من أجله أن تقع على األرض ‪.‬‬ ‫كان العمد ألن ه‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 66‬إلى ‪] 74‬‬


‫سكا ُه ْم‬ ‫ور ( ‪ِ ) 66‬ل ُك ِ ّل أ ُ هم ٍة َجعَ ْلنا َم ْن َ‬ ‫سان لَ َكفُ ٌ‬ ‫اْل ْن َ‬‫َو ُه َو الهذِي أَحْ يا ُك ْم ث ُ هم يُ ِميت ُ ُك ْم ث ُ هم يُحْ يِي ُك ْم إِ هن ْ ِ‬
‫يم ( ‪َ ) 67‬و ِإ ْن جا َدلُوكَ فَقُ ِل‬ ‫ع ِإلى َر ِبّكَ ِإنهكَ لَعَلى ُهدى ُم ْ‬
‫ست َ ِق ٍ‬ ‫عنهكَ فِي ْاأل َ ْم ِر َوا ْد ُ‬ ‫ناز ُ‬ ‫سكُوهُ فَال يُ ِ‬ ‫نا ِ‬
‫ون ( ‪ ) 69‬أ َ لَ ْم‬ ‫ّللاُ يَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُك ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة فِيما ُك ْنت ُ ْم فِي ِه ت َ ْخت َ ِلفُ َ‬ ‫ون ( ‪ ) 68‬ه‬ ‫ّللاُ أ َ ْعلَ ُم ِبما ت َ ْع َملُ َ‬‫ه‬
‫ير ) ‪( 70‬‬ ‫س ٌ‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا يَ ِ‬ ‫ب ِإ هن ذ ِلكَ َ‬ ‫ض ِإ هن ذ ِلكَ ِفي ِكتا ٍ‬ ‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ّللا يَ ْعلَ ُم ما ِفي ال ه‬ ‫ت َ ْعلَ ْم أ َ هن ه َ‬
‫ير (‬ ‫ين ِم ْن نَ ِص ٍ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫س لَ ُه ْم بِ ِه ِع ْل ٌم َوما ِلل ه‬ ‫س ْلطانا َوما لَ ْي َ‬ ‫ّللا ما لَ ْم يُنَ ِ ّز ْل بِ ِه ُ‬ ‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫َويَ ْعبُد َ‬
‫ط َ‬
‫ون‬ ‫س ُ‬ ‫ُون يَ ْ‬‫ِين َكفَ ُروا ا ْل ُم ْنك ََر يَكاد َ‬ ‫ف فِي ُو ُجو ِه الهذ َ‬ ‫ت ت َ ْع ِر ُ‬ ‫علَ ْي ِه ْم آياتُنا بَ ِيّنا ٍ‬ ‫‪َ ) 71‬وإِذا تُتْلى َ‬
‫س‬‫ِين َكفَ ُروا َو ِبئْ َ‬ ‫ّللاُ الهذ َ‬ ‫ع َد َها ه‬ ‫ار َو َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم آياتِنا قُ ْل أ َ فَأُنَ ِبّئ ُ ُك ْم ِبش ٍ َّر ِم ْن ذ ِل ُك ُم النه ُ‬ ‫ون َ‬ ‫ِبالهذ َ‬
‫ِين يَتْلُ َ‬
‫ّللا لَ ْن‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫ِين ت َ ْدع َ‬ ‫ست َ ِمعُوا لَهُ ِإ هن الهذ َ‬ ‫ب َمث َ ٌل فَا ْ‬ ‫اس ض ُِر َ‬ ‫ير ( ‪ ) 72‬يا أَيُّ َها النه ُ‬ ‫ا ْل َم ِص ُ‬
‫ب‬ ‫طا ِل ُ‬ ‫ف ال ه‬ ‫ضع ُ َ‬ ‫ست َ ْن ِقذُو ُه ِم ْنهُ َ‬ ‫ش ْيئا ال يَ ْ‬ ‫باب َ‬ ‫سلُ ْب ُه ُم الذُّ ُ‬ ‫يَ ْخلُقُوا ذُبابا َولَ ِو اجْ ت َ َمعُوا لَهُ َو ِإ ْن يَ ْ‬
‫يز) ‪( 74‬‬ ‫ي ع َِز ٌ‬ ‫ق قَد ِْر ِه ِإ هن ه َ‬
‫ّللا لَقَ ِو ٌّ‬ ‫ّللا َح ه‬‫وب ( ‪ ) 73‬ما قَد َُروا ه َ‬ ‫َوا ْل َم ْطلُ ُ‬

‫ص ‪179‬‬

‫‪179‬‬
‫[ المعرفة تتعلق بأمرين من كل معروف ]‬
‫المعرفة تتعلق بأمرين من كل معروف ‪ ،‬األمر الواحد الحق واآلخر الحقيقة ‪ ،‬فالحق من‬
‫مدارك العقول من جهة الدليل ‪ ،‬والحقيقة من مدارك الكشف والمشاهدة ‪ ،‬وليس ثم مدرك ثالث‬
‫البتة ‪ ،‬فلهذا قال حارثة أنا مؤمن حقا ‪ ،‬فأتى بالمدرك األول فكان عنده مؤيدا بالمدرك الثاني ‪،‬‬
‫ولكن سكت فقال له النبي عليه السالم فما حقيقة إيمانك ‪ ،‬يرى إن كان عنده المدرك الثاني ‪،‬‬
‫فأجابه باالستشراف واالطالع والكشف ‪ ،‬فقال له النبي عليه السالم عرفت فالزم ‪ ،‬فال تصح‬
‫المعرفة للشيء على الكمال إال بهاتين الحقيقتين الحق والحقيقة ‪،‬‬
‫ّللا تعالى بأنا عاجزون عن إدراك حق قدره ‪ ،‬فكيف لنا بحقيقة قدره ‪ ،‬وليس القدر‬ ‫فإذا أخبر ه‬
‫هنا إال المعرفة بما يقتضيه مقام األلوهية من التعظيم ‪ ،‬ونحن قد عجزنا عنه فأحرى أن نعجز‬
‫عن معرفة ذاته جلت وتعالت علوا كبيرا ‪ ،‬فلما عاين المحققون هذا اإلجالل وقطعوا أنهم ال‬
‫يقدرون قدره مع ما تقرر عندهم من التعظيم ‪ ،‬وقدر ما هم بالتقصير ‪،‬‬
‫فعرفوا أنه ليس في وسع المحدثات أن تقدر قدر القديم ‪ ،‬ألن ذلك موقوف على ضرب من‬
‫المناسبة الحقيقية ‪ ،‬وال مناسبة في مفاوز الحيرة لهذا الجالل ‪،‬‬
‫ّللا حق قدره فيما كيهف به نفسه مما ذكره في كتابه وعلى لسان رسوله من صفاته ‪،‬‬ ‫وما قدروا ه‬
‫فالحق ذكر عن نفسه أن العبد يتحرك بحركة يضحك بها ربه ‪ ،‬ويتعجب منها ربه وتبشبش له‬
‫من أجلها ربه ‪ ،‬ويفرح بها ربه ويرضى بها ربه ويسخط بها ربه ‪ ،‬وهذا حكم أثبته الحق ونفاه‬
‫دليل العقل ‪،‬‬
‫عز وجل ‪ ،‬وأنه لو ألزم نفسه اإلنصاف للزم حكم اإليمان‬ ‫فعرفنا أن العقل قاصر عما ينبغي هّلل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وال يعدل به عن طريقه الذي‬ ‫والتلقي ‪ ،‬وجعل النظر واالستدالل في الموضع الذي جعله ه‬
‫ّللا له ‪ ،‬وهو الطريق الموصل إلى كونه إلها واحدا ال شريك له في ألوهيته ‪ ،‬وال‬ ‫جعله ه‬
‫يتعرض لها لما هو عليه في نفسه ‪ ،‬فالحق قد أخبر عن نفسه أنه يجيب عبده إذا سأله ‪،‬‬
‫ويرضى عنه إذا أرضاه ‪ ،‬ويفرح بتوبة عبده إذا تاب ‪ ،‬فانظر يا عقل لمن تنازع ‪ ،‬فالحق أعلم‬
‫بنفسه ‪ ،‬فهو الذي نعت نفسه بهذا كله ‪،‬‬

‫ص ‪180‬‬

‫‪180‬‬
‫ّللا في ذلك لجهلنا بذاته وقد منعنا‬
‫ونعلم حقيقة هذا كله بحده وماهيته ‪ ،‬ولكن نجهل النسبة إلى ه‬
‫وحذرنا وحجر علينا التفكر في ذاته ‪ ،‬وأنت يا عقل بنظرك تريد أن تعلم حقيقة ذات خالقك ‪ ،‬ال‬
‫تسبح في غير ميدانك ‪ ،‬وال تتعد في نظرك معرفة المرتبة ‪ ،‬ال تتعرض للذات جملة واحدة ‪،‬‬
‫ّللا ال يقبل التقييد ‪ ،‬والعقل‬
‫ّللا فليترك عقله ويقدهم بين يديه شرعه ‪ ،‬فإن ه‬
‫ومن أراد الدخول على ه‬
‫تقييد ‪ ،‬بل له التجلي في كل صورة كما له أن يركبك في أي صورة شاء ‪ ،‬فله سبحانه التحول‬
‫ّللا حق قدره ‪ ،‬وما ثم حجاب وال ستر ‪ ،‬فما أخفاه إال ظهوره ‪ ،‬ولو‬ ‫في الصور ‪ ،‬وما قدروا ه‬
‫وقفت النفوس مع ما ظهر لعرفت األمر على ما هو عليه ‪ ،‬لكن طلبت أمرا غاب عنها فكان‬
‫طلبها عين حجابها ‪ ،‬فما قدرت ما ظهر حق قدره لشغلها بما تخيلت أنه بطن عنها ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬آية ‪] 75‬‬


‫ير ( ‪) 75‬‬
‫س ِمي ٌع بَ ِص ٌ‬ ‫اس ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ص َط ِفي ِم َن ا ْل َمالئِ َك ِة ُر ُ‬
‫سال َو ِم َن النه ِ‬ ‫ّللاُ يَ ْ‬
‫ه‬

‫س ًال »المالئكة خاصة هي الرسل منهم ‪ ،‬وهم المسلمون مالئكة ‪،‬‬ ‫ط ِفي ِمنَ ْال َمال ِئ َك ِة ُر ُ‬
‫ص َ‬‫ّللاُ يَ ْ‬
‫« َّ‬
‫وكل روح ال يعطى رسالة فهو روح ال يقال فيه ملك إال مجازا ‪ ،‬والرسالة في المالئكة دنيا‬
‫وآخرة ‪ ،‬ألنهم سفراء الحق لبعضهم وصنفهم ولمن سواهم من البشر في الدنيا واآلخرة ‪«،‬‬
‫اس » *والرسالة في البشر ال تكون إال في الدنيا ‪ ،‬وينقطع حكمها في اآلخرة ‪ ،‬وكذلك‬ ‫َو ِمنَ النَّ ِ‬
‫تنقطع في اآلخرة بعد دخول الجنة والنار نبوة التشريع ‪ ،‬والرسالة ال يقبلها الرسول إال بواسطة‬
‫روح قدسي أمين ينزل بالرسالة على قلبه ‪ ،‬وأحيانا يتمثل له الملك رجال ‪ ،‬وكل وحي ال يكون‬
‫بهذه الصفة ال يسمى رسالة بشرية ‪ ،‬وإنما يسمى وحيا أو إلهاما أو نفثا أو إلقاء أو وجودا ‪ ،‬وال‬
‫تكون الرسالة إال كما ذكرنا ‪ ،‬وال يكون هذا الوصف إال للرسول البشري ‪ ،‬وما عدا هذا من‬
‫ضروب الوحي فإنه يكون لغير النبي والرسول ‪ ،‬والفرق بين النبي والرسول أن النبي إذا ألقى‬
‫إليه الروح ما ذكرناه اقتصر بذلك الحكم على نفسه خاصة ‪ ،‬ويحرم أن يتبع غيره ‪ ،‬فهذا هو‬
‫النبي فإذا قيل له بلغ ما أنزل إليك إما لطائفة مخصوصة كسائر األنبياء ‪ ،‬وإما عامة للناس ولم‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬لم يكن لغيره قبله ‪ ،‬فسمي بهذا الوجه رسوال ‪،‬‬ ‫يكن ذلك إال لمحمد صلهى ه‬
‫والذي جاء به رسالة ‪ ،‬وما اختص به من الحكم في نفسه وحرم على غيره من ذلك الحكم هو‬
‫نبي مع كونه رسوال ‪ ،‬وأعني بالنبوة هنا نبوة التشريع ‪ ،‬فالرسالة والنبوة‬

‫ص ‪181‬‬

‫‪181‬‬
‫التي انقطعت هي ه‬
‫تنزل الحكم اإللهي على قلب البشر بواسطة الروح ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ( ‪ : ) 22‬اآليات ‪ 76‬إلى ‪] 77‬‬


‫ور ( ‪ ) 76‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ْ‬
‫ار َكعُوا‬ ‫ّللا ت ُ ْر َج ُع ْاأل ُ ُم ُ‬
‫ِيه ْم َوما َخ ْلفَ ُه ْم َوإِلَى ه ِ‬ ‫يَ ْعلَ ُم ما بَ ْي َن أ َ ْيد ِ‬
‫ون ( ‪) 77‬‬ ‫س ُجدُوا َوا ْعبُدُوا َربه ُك ْم َو ْ‬
‫افعَلُوا ا ْل َخ ْي َر لَعَله ُك ْم ت ُ ْف ِل ُح َ‬ ‫َوا ْ‬
‫هذه سجدة خالف مختلف فيها ‪ ،‬وهي سجدة الفالح واإليمان عن خضوع وذلة وافتقار ‪ ،‬فكان‬
‫ّللا قد أيه‬
‫فعل الخير بمبادرته للسجود عندما سمع هذه اآلية تتلى سببا إليمانه ‪ ،‬إذ كان ه‬
‫بالمؤمنين في هذه اآلية وأمرهم بالركوع والسجود له ‪ ،‬فالتحق بالمالئكة من كونهم يفعلون ما‬
‫يؤمرون ‪ ،‬فسجد العبد فأفلح بالفوز والنجاة« َوا ْفعَلُوا ْال َخي َْر »‪.‬‬
‫ال تندمن على خير تجود به *** وإن أغاظك من تعطيه واقترفا‬
‫فاّلل يرزق من يعطيه نعمته *** سواء أنكرها كفرا أو اعترفا‬ ‫ه‬
‫" لَعَلَّ ُك ْم ت ُ ْف ِل ُحونَ " الفالح هو البقاء والفوز والنجاة ‪.‬‬

‫[ سورة الحج ‪ ( 22 ) :‬آية ‪] 78‬‬


‫ِين ِم ْن َح َرجٍ ِملهةَ أَبِي ُك ْم إِ ْبرا ِهي َم‬
‫علَ ْي ُك ْم فِي ال ّد ِ‬ ‫ق ِجها ِد ِه ُه َو اجْ تَبا ُك ْم َوما َجعَ َل َ‬
‫ّللا َح ه‬‫َوجا ِهدُوا فِي ه ِ‬
‫علَى‬ ‫ش َهدا َء َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َوتَكُونُوا ُ‬
‫سو ُل ش َِهيدا َ‬ ‫الر ُ‬ ‫ين ِم ْن قَ ْب ُل َوفِي هذا ِليَك َ‬
‫ُون ه‬ ‫س ِل ِم َ‬‫س هما ُك ُم ا ْل ُم ْ‬
‫ُه َو َ‬
‫اّلِل ُه َو َم ْوال ُك ْم فَنِ ْع َم ا ْل َم ْولى َونِ ْع َم النه ِصي ُر (‬
‫الزكاةَ َوا ْعت َ ِص ُموا ِب ه ِ‬
‫صالةَ َوآتُوا ه‬ ‫اس فَأَقِي ُموا ال ه‬ ‫النه ِ‬
‫‪) 78‬‬
‫ّللا ‪ ،‬أي يتصفون بالجهاد ‪ ،‬أي في‬ ‫ّللا َح َّق ِجها ِد ِه »الهاء من جهاده تعود على ه‬ ‫« َوجا ِهدُوا ِفي َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬وذلك ألن الجهاد وقع فيه ‪ ،‬وال يعلم أحد‬ ‫حال جهاده صفة الحق ‪ ،‬أي ال يرون مجاهدا إال ه‬
‫ّللا وهو قوله ‪َ «:‬ح َّق ِجها ِد ِه »فنسب الجهاد إليه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإذا ردوا ذلك إلى ه‬ ‫ّللا إال ه‬
‫كيف الجهاد في ه‬
‫بإضافة الضمير ‪ ،‬فكان المجاهد ال هم ‪ ،‬أي ال يرون ألنفسهم عمال وإن كانوا محل ظهور‬
‫ّللا لموسى عليه السالم يا موسى اشكرني حق الشكر ‪ ،‬قال يا رب ومن يقدر على‬ ‫اآلثار ‪ .‬قال ه‬
‫ذلك ‪ ،‬قال إذا رأيت النعمة مني فقد شكرتني حق الشكر ‪ -‬أخرجه‬

‫ص ‪182‬‬

‫‪182‬‬
‫ّللا عن‬‫ّللا قَتَلَ ُه ْم »فكل عمل أضفته إلى ه‬‫ابن ماجة في سننه ‪ -‬قال تعالى ‪ «:‬فَلَ ْم ت َ ْقتُلُو ُه ْم َول ِك َّن َّ َ‬
‫ذوق ومشاهدة ‪ ،‬ال عن اعتقاد وحال بل عن مقام وعلم صحيح فقد أعطيت ذلك العمل حقه‬
‫ج »تأمل هذه اآلية‬ ‫ِين ِم ْن َح َر ٍ‬ ‫علَ ْي ُك ْم فِي ال هد ِ‬ ‫حيث رأيته ممن هو له« َوما َجعَ َل َ‬
‫فإن لها وجهين كبيرين قريبين خالف ما لها من الوجوه ‪ ،‬أي خففت عنكم في الحكم ‪ ،‬وما‬
‫أنزلت عليكم ما يحرجكم ‪،‬‬
‫ّللاُ نَ ْفسا ً ِإ َّال ُو ْسعَها »‬
‫ف َّ‬ ‫وينظر إلى هذا قوله تعالى ‪ «:‬ال يُ َك ِله ُ‬
‫ّللاُ نَ ْفسا ً ِإ َّال ما آتاها »‬ ‫ف َّ‬ ‫وقوله تعالى ‪ «:‬ال يُ َك ِله ُ‬
‫وقوله عليه السالم ‪ [ :‬بعثت بالحنيفية السمحاء ]‬
‫وقوله عليه السالم ‪ [ :‬إن الدين يسر ]‬
‫فال يكون الحق يراعي اليسر في الدين ورفع الحرج ويفتي المفتي بخالف ذلك ‪ ،‬فإن النفوس‬
‫أبت أن تقف عند األحكام المنصوص عليها ‪ ،‬فأثبتت لها علال وجعلتها مقصودة للشارع‬
‫وطردتها ‪ ،‬وألحقت المسكوت عنه في الحكم بالمنطوق به بعلة جامعة اقتضاها نظر الجاعل‬
‫المجتهد ‪ ،‬ولو لم يفعل لبقي المسكوت عنه على أصله من اإلباحة والعافية ‪ ،‬فكثرت األحكام‬
‫بالتعليل وطرد العلة والقياس والرأي واالستحسان ‪،‬‬
‫ّللا في ذلك رحمة أخرى لنا ‪ ،‬لوال أن الفقهاء‬ ‫ّللا جعل ه‬ ‫وما كان ربك نسيا ‪ ،‬ولكن بحمد ه‬
‫ّللا وال رسوله ‪،‬‬ ‫حجرت هذه الرحمة على العامة ‪ ،‬بإلزامهم إياها مذهب شخص معين لم يعينه ه‬
‫وال دل عليه ظاهر كتاب وال سنة صحيحة وال ضعيفة ‪،‬‬
‫ومنعوه أن يطلب رخصة في نازلته في مذهب عالم آخر اقتضاه اجتهاده ‪ ،‬وشددوا في ذلك‬
‫ّللا عليه‬‫وقالوا هذا يفضي إلى التالعب بالدين ‪ ،‬وتخيلوا أن ذلك دين ‪ ،‬وقد قال النبي صلهى ه‬
‫ّللا تصدق عليكم فاقبلوا صدقته ]‬ ‫وسلم ‪ [ :‬إن ه‬
‫ّللا بها على عباده ‪ ،‬وقد أجمعنا على تقرير حكم المجتهد وعلى تقليد‬ ‫فالرخص مما تصدق ه‬
‫العامي له في ذلك الحكم ألنه عنده عن دليل شرعي ‪ ،‬سواء كان صاحب قياس أو غير قائل به‬
‫‪ ،‬فتلك الرخصة التي رآها الشافعي في مذهبه على ما اقتضاه دليله ‪،‬‬
‫وقد قررها الشرع فيمنع المفتي من المالكية المالكي المذهب أن يأخذ برخصة الشافعي التي‬
‫تعبده بها الشارع –‬
‫وإنما أضفناها إلى الشارع ألن الشرع قررها ‪-‬بمنعه مما يقتضيه الدليل في األخذ به بأمر ال‬
‫يقتضيه الدليل الذي ال أصل له ‪ ،‬وهو ربط الرجل نفسه بمذهب خاص ال يعدل عنه إلى غيره‬
‫‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ويحجر عليه ما لم يحجر الشرع عليه ‪ ،‬وهذا من أعظم الطوام وأشق الكلف على عباد ه‬
‫فالذي وسع الشرع بتقرير حكم المجتهدين في هذه األمة ضيقه عوام الفقهاء ‪،‬‬
‫وأما األئمة مثل أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي فحاشاهم من هذا ‪،‬‬

‫ص ‪183‬‬

‫‪183‬‬
‫ما فعله واحد منهم قط ‪ ،‬وال نقل عنهم أنهم قالوا ألحد اقتصر علينا ‪ ،‬وال قلدني فيما أفتيك به ‪،‬‬
‫ّللا عنهم ‪،‬‬ ‫بل المنقول عنهم خالف هذا رضي ه‬
‫ج " رفع الحديث من النفس‬ ‫ِين ِم ْن َح َر ٍ‬ ‫علَ ْي ُك ْم فِي ال هد ِ‬ ‫والوجه اآلخر في قوله تعالى ‪َ ":‬وما َجعَ َل َ‬
‫عند توجه الحكم بما ال يوافق الغرض وتمجه النفس ‪ ،‬فكأنه خاطب المؤمنين ومن وجد الحرج‬
‫ليس بمؤمن ‪،‬‬
‫ج »فلإلنسان إذا توجه‬ ‫ِين ِم ْن َح َر ٍ‬ ‫علَ ْي ُك ْم فِي ال هد ِ‬
‫وهذا صعب جدا ‪ ،‬فإذا قال تعالى ‪َ «:‬وما َجعَ َل َ‬
‫عليه حكم بفتيا عالم من العلماء تصعب عليه أن يبحث عند العلماء المجتهدين ‪،‬‬
‫هل له في تلك النازلة حكم من الشرع أهون من ذلك ‪ ،‬فإن وجده عمل به وارتفع الحرج ‪ ،‬وإن‬
‫وجد اإلجماع في تلك النازلة على ذلك الحكم الذي صعب عليه ‪ ،‬قبله إن كان مؤمنا طيب‬
‫النفس ‪ ،‬وعادت حزونته سهولة ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فيصح بذلك عنده إيمانه ‪ ،‬وهي عالمة له على ثبوت‬ ‫ودفعه له قبوال لما حكم عليه به ه‬
‫اإليمان عنده ‪ ،‬ولما كان هذا المقام شامخا عسيرا على النفوس نيله ‪،‬‬
‫ّللا وإنما حكم‬ ‫أقسم بنفسه جل وتعالى عليه ‪ ،‬ولما لم يكن المحكوم عليهم يسمعون ذلك من ه‬
‫ّللا وخليفته في األرض ‪،‬‬ ‫ّللا الثابت صدقه ‪ ،‬النائب عن ه‬ ‫عليهم بذلك رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫لذلك أضاف االسم إليه عناية به وشرفا له صلهى ه‬
‫ش َج َر بَ ْينَ ُه ْم ث ُ َّم ال يَ ِجدُوا فِي أ َ ْنفُ ِس ِه ْم َح َرجا ً ِم َّما‬‫وك فِيما َ‬ ‫فقال ‪ «:‬فَال َو َر ِبه َك ال يُؤْ ِمنُونَ َحتَّى يُ َح ِ هك ُم َ‬
‫س ِله ُموا ت َ ْس ِليما ً »‬
‫ْت َويُ َ‬ ‫ضي َ‬ ‫قَ َ‬
‫س َّما ُك ُم ْال ُم ْس ِل ِمينَ ِم ْن قَ ْب ُل »‪،‬‬
‫يم ُه َو َ‬ ‫« ِملَّةَ أ َ ِبي ُك ْم ِإبْرا ِه َ‬
‫سو ُل‬ ‫فإبراهيم عليه السالم هو أبونا في اإلسالم وهو الذي سمانا مسلمين« َو ِفي هذا ِليَ ُكونَ َّ‬
‫الر ُ‬
‫ّللا تعالى به إلينا‬ ‫اس »فنشهد نحن على األمم بما أوحى ه‬ ‫علَى النَّ ِ‬‫ش َهدا َء َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َوت َ ُكونُوا ُ‬ ‫ش ِهيدا ً َ‬ ‫َ‬
‫من قصص أنبيائه مع أممهم ‪ ،‬فالشهادة بالخبر الصادق كالشهادة بالعيان الذي ال ريب فيه ‪،‬‬
‫مثل شهادة خزيمة ‪ ،‬بل الشهادة بالوحي أتم من الشهادة بالعين ‪ ،‬ألن خزيمة لو شهد شهادة‬
‫باّلل‬
‫اّلل »االعتصام ه‬ ‫ص ُموا ِب َّ ِ‬ ‫صالة َ َوآتُوا َّ‬
‫الزكاة َ َوا ْعت َ ِ‬ ‫عين لم تقم شهادته مقام اثنين ‪ «،‬فَأَقِي ُموا ال َّ‬
‫ّللا عليه وسلم في االستعاذة « وأعوذ بك منك »‬ ‫هو قوله صلهى ه‬
‫ير "‪.‬‬ ‫ص ُ‬ ‫فإنه ال يقاومه شيء من خلقه ‪ ،‬فال يستعاذ به إال منه« ُه َو َم ْوال ُك ْم فَنِ ْع َم ْال َم ْولى َونِ ْع َم النَّ ِ‬

‫ص ‪184‬‬

‫‪184‬‬
‫(‪ )23‬سورة المؤمنون مكيّة‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬ ‫س ِم ه ِ‬
‫ِب ْ‬
‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 2‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬‫الرحْ ِ‬ ‫ّللا ه‬ ‫س ِم ه ِ‬ ‫بِ ْ‬
‫ون ( ‪) 2‬‬ ‫شعُ َ‬
‫صالتِ ِه ْم خا ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 1‬الهذ َ‬
‫ِين ُه ْم فِي َ‬ ‫قَ ْد أ َ ْفلَ َح ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫[ الخشوع ]‬
‫الخشوع مقام الذلة والصغار ‪ ،‬وهو نعت محمود في الدنيا على قوم محمودين ‪ ،‬وهو نعت‬
‫محمود في اآلخرة في قوم مذمومين شرعا بلسان حق ‪ ،‬وهو حال ينتقل من المؤمنين في‬
‫اآلخرة إلى أهل العزة المتكبرين الجبارين ‪ ،‬الذين يريدون علوا في األرض من المفسدين في‬
‫األرض ‪ ،‬فالمؤمنون في صالتهم خاشعون ‪ ،‬وهم الخاشعون من الرجال والخاشعات من النساء‬
‫ّللا لهم مغفرة وأجرا عظيما ‪ ،‬وال يكون الخشوع حيث كان إال عن تجل إلهي على‬ ‫‪ ،‬الذين أعد ه‬
‫القلوب في المؤمن عن تعظيم وإجالل ‪ ،‬وفي الكافر عن قهر وخوف وبطش ‪،‬‬
‫ّللا إذا تجلى لشيء خشع له ] ‪ -‬أخرجه‬ ‫قال عليه السالم حين سئل عن كسوف الشمس [ إن ه‬
‫البزار –‬
‫وإذا وقع التجلي حصل الخشوع ‪ ،‬وخشوع كل خاشع على قدر علمه بربه ‪ ،‬وعلمه بربه على‬
‫قدر تجليه له ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬آية ‪] 3‬‬


‫ِين ُه ْم ع َِن الله ْغ ِو ُم ْع ِرض َ‬
‫ُون ( ‪) 3‬‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ع ِن اللَّ ْغ ِو »أي عن الذي أسقطه ه‬
‫ّللا عن أن يعتبر« ُم ْع ِرضُونَ »لكون الحق‬ ‫« َوالَّذِينَ ُه ْم َ‬
‫أسقطه ‪ ،‬يقال لما ال يعتد به في الدية من أوالد اإلبل لغو ‪ ،‬أي ساقط ‪ ،‬ومنه لغو اليمين إلسقاط‬
‫ّللا باإلعراض عنه ‪ ،‬فأعرضوا‬ ‫ّللا عليهم باإلعراض عما أمرهم ه‬
‫الكفارة والمؤاخذة بها ‪ ،‬فأثنى ه‬
‫ّللا اشترى من المؤمنين أنفسهم‬‫بأمره ولم يعرضوا بأنفسهم ‪ ،‬إذ المؤمن ال نفس له ‪ ،‬فإن ه‬
‫وأموالهم ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 4‬إلى ‪] 5‬‬


‫ظ َ‬
‫ون ) ‪( 5‬‬ ‫وج ِه ْم حافِ ُ‬
‫ِين ُه ْم ِلفُ ُر ِ‬
‫ون ( ‪َ ) 4‬والهذ َ‬
‫لزكا ِة فا ِعلُ َ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ِين ُه ْم ِل ه‬
‫راجع األحزاب آية ‪.35‬‬

‫ص ‪185‬‬

‫‪185‬‬
‫[سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 6‬إلى ‪]8‬‬
‫ين ( ‪ ) 6‬فَ َم ِن ا ْبتَغى َورا َء ذ ِلكَ فَأُول ِئكَ‬ ‫واج ِه ْم أ َ ْو ما َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُه ْم فَ ِإنه ُه ْم َ‬
‫غ ْي ُر َملُ ِ‬
‫وم َ‬ ‫ِإاله عَلى أ َ ْز ِ‬
‫ع ْه ِد ِه ْم راع َ‬
‫ُون ( ‪) 8‬‬ ‫ِين ُه ْم ِألَماناتِ ِه ْم َو َ‬ ‫ُون ( ‪َ ) 7‬والهذ َ‬ ‫ُه ُم العاد َ‬
‫بكالءته ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 9‬إلى ‪] 10‬‬


‫ون ) ‪( 10‬‬ ‫ون ( ‪ ) 9‬أُول ِئكَ ُه ُم ا ْل ِ‬
‫وارث ُ َ‬ ‫ظ َ‬‫صلَوا ِت ِه ْم يُحا ِف ُ‬ ‫ِين ُه ْم عَلى َ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫وهم أصحاب الصفات المرضية التي ذكرها تعالى والتي يحمدها ‪ ،‬ثم بشرهم تعالى بأنهم‬
‫الوارثون ‪.‬‬
‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬آية ‪] 11‬‬
‫ُون ) ‪( 11‬‬ ‫س ُه ْم فِيها خا ِلد َ‬ ‫ِين يَ ِرث ُ َ‬
‫ون ا ْل ِف ْرد َْو َ‬ ‫الهذ َ‬
‫الفردوس هي أوسط الجنات« ُه ْم فِيها خا ِلدُونَ »يبشرهم بالبقاء والدوام في النعيم ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 12‬إلى ‪] 13‬‬


‫ين ) ‪( 13‬‬ ‫ين ( ‪ ) 12‬ث ُ هم َجعَ ْلناهُ نُ ْطفَة فِي قَ ٍ‬
‫رار َم ِك ٍ‬ ‫ساللَ ٍة ِم ْن ِط ٍ‬
‫سان ِم ْن ُ‬ ‫َولَقَ ْد َخلَ ْقنَا ْ ِ‬
‫اْل ْن َ‬
‫وهو آدم األب عليه السالم هنا ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬آية ‪] 13‬‬


‫ين ( ‪) 13‬‬ ‫ث ُ هم َجعَ ْلنا ُه نُ ْطفَة ِفي قَ ٍ‬
‫رار َم ِك ٍ‬
‫ين »وهي نشأة األبناء في‬ ‫طفَةً »وهو الماء المهين ‪ ،‬فهو طور آخر« فِي قَ ٍ‬
‫رار َم ِك ٍ‬ ‫« ث ُ َّم َجعَ ْلناهُ نُ ْ‬
‫األرحام مساقط النطف ‪ ،‬فكنى عن ذلك بالقرار المكين ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬آية ‪] 14‬‬


‫ضغَةَ ِعظاما فَ َك َ‬
‫س ْونَا ا ْل ِعظا َم لَحْ ما ث ُ هم‬ ‫ضغَة فَ َخلَ ْقنَا ا ْل ُم ْ‬ ‫علَقَة فَ َخلَ ْقنَا ا ْلعَلَقَةَ ُم ْ‬‫ث ُ هم َخلَ ْقنَا النُّ ْطفَةَ َ‬
‫ين ( ‪) 14‬‬ ‫س ُن ا ْلخا ِل ِق َ‬‫ّللاُ أَحْ َ‬
‫باركَ ه‬ ‫أ َ ْنشَأْناهُ َخ ْلقا آ َخ َر فَت َ َ‬
‫ضغَةً »وهذا طور آخر« فَ َخلَ ْقنَا‬ ‫علَقَةً »وهو طور آخر« فَ َخلَ ْقنَا ْالعَلَقَةَ ُم ْ‬ ‫طفَةَ َ‬ ‫" ث ُ َّم َخلَ ْقنَا النُّ ْ‬
‫ظام لَ ْحما ً »هذا طور آخر ‪ ،‬وهذا كله إنما ذكره‬ ‫س ْونَا ْال ِع َ‬ ‫ضغَةَ ِعظاماً‪ ،‬وهذا طور آخر« فَ َك َ‬ ‫ْال ُم ْ‬
‫ليعدد نعمه التي اختصك بها وحباك ‪ ،‬وهذه كلها أشياء علهق وجود بعضها‬

‫ص ‪186‬‬

‫‪186‬‬
‫على بعض ‪ ،‬وقد تم البدن على التفصيل ‪ ،‬وهو الخلق الترابي اآلدمي ‪ ،‬فهو مسبب عن أشياء‬
‫هي أمهات الجسد اآلدمي وهي كثيرة ‪ ،‬انتقل في أطوار العالم من شكل إلى شكل حتى صار‬
‫على هذه الصفة ‪ ،‬فالجسد اآلدمي أصله شيء والصورة عرض فيه ‪ ،‬ثم أجمل خلق النفس‬
‫الناطقة الذي هو بها إنسان في هذه اآلية‬
‫عرفك بذلك أن المزاج ال أثر له في لطيفتك وإن‬ ‫فقال« ث ُ َّم أ َ ْنشَأْناهُ خ َْلقا ً آخ ََر »وهو طور آخر ‪ ،‬ه‬
‫لم يكن نصا لكن هو ظاهر ‪،‬‬
‫ور ٍة ما شا َء َر َّكبَ َك )‬
‫ص َ‬ ‫يِ ُ‬ ‫اك فَعَ َدلَ َك ِفي أ َ ه‬
‫س َّو َ‬ ‫وأبين منه قوله( فَ َ‬
‫ورةٍ ما شا َء َر َّكبَ َك )‬ ‫ص َ‬ ‫يِ ُ‬ ‫فالظاهر أنه لو اقتضى المزاج روحا خاصا معينا ما قال( فِي أ َ ه‬
‫وأي حرف نكرة مثل حرف ( ما ) ‪،‬‬
‫فإنه حرف يقع على كل شيء ‪ ،‬فأبان لك أن المزاج ال يطلب صورة بعينها ‪ ،‬ولكن بعد‬
‫حصولها تحتاج إلى هذا المزاج وترجع به ‪ ،‬فإنه بما فيه من القوى التي ال تدبره إال بها ‪ ،‬فإنه‬
‫بقواه لها كاآلالت لصانع النجارة أو البناء مثال ‪،‬‬
‫ّللا ما خلقك سدى‬ ‫فبيهن لك الحق بهذه اآليات مرتبة جسدك وروحك ‪ ،‬لتنظر وتتفكر فتعتبر أن ه‬
‫وإن طال المدى ‪،‬‬
‫فإن النشأة اإلنسانية مكونة من حس وخيال وعقل ‪ ،‬تجول بكلها أو ببعضها ‪،‬‬
‫فإما أن يجول اإلنسان بحسه وهو الكشف ‪ ،‬وإما أن يجول بعقله وهو حال فكره وتفكره ‪،‬‬
‫ّللا للعالم الخلق وجعل نفسه أحسن ألوليته في ذلك ‪ ،‬إذ لواله‬ ‫وإما أن يجول بخياله ‪ ،‬ثم أثبت ه‬
‫ما ظهرت أعيان هؤالء الخالقين‬
‫س ُن ْالخا ِل ِقينَ " ]‬ ‫ّللاُ أ َ ْح َ‬
‫بار َك َّ‬‫[ " فَت َ َ‬
‫س ُن ْالخا ِل ِقينَ »إثباتا لألعيان ليصح قوله ( ِلقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُرونَ )‬ ‫ّللاُ أ َ ْح َ‬
‫بار َك َّ‬‫فقال« فَت َ َ‬
‫*وأثنى على نفسه يعلمك صورة الثناء عليه لتشكره ال لتكفره‬
‫ّللا أحسنهم خلقا ‪ ،‬فإنه‬ ‫س ُن ْالخا ِل ِقينَ »تقديرا وإيجادا ‪ ،‬فذكر أن ث هم خالقين ه‬ ‫ّللاُ أ َ ْح َ‬
‫بار َك َّ‬ ‫فقال« فَت َ َ‬
‫ين )‬ ‫تعالى نسب الخلق إلى عباده فقال( َو ِإ ْذ ت َ ْخلُ ُق ِمنَ ِ ه‬
‫الط ِ‬
‫فهو تعالى أحسن الخالقين ألنه تعالى يخلق ما يخلق عن شهود ‪ ،‬والخالق من العباد ال يخلق إال‬
‫عن تصور ‪ ،‬يتصور من أعيان موجودة يريد أن يخلق مثلها أو يبدع مثلها ‪ ،‬وخلق الحق ليس‬
‫كذلك ‪ ،‬فإنه يبدع أو يخلق المخلوق على ما هو ذلك المخلوق عليه في نفسه وعينه ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫فما يكسوه إال حلة الوجود بتعلق يسمى اإليجاد ‪ ،‬فأضاف الحق الحسن إلى الخالقين غير أن ه‬
‫أحسن الخالقين ‪ ،‬والخلق من خصوص وصف اإلله ‪ ،‬ومن الناس من يقيم من أعماله وأنفاسه‬
‫نشأة ذات روح وجسد ‪ ،‬فبها يكون اإلنسان خالقا ‪ ،‬ويكون الحق أحسن الخالقين ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫وهذه الطبقة التي وصفها الحق بالحسن هم أهل اإلحسان ‪ ،‬فإن اإلحسان في العبادة أن تعبد ه‬
‫كأنك تراه ‪ ،‬فتعلم من هو الخالق على الحقيقة ‪ ،‬فلما كان‬

‫ص ‪187‬‬

‫‪187‬‬
‫نعت الخلق من خصوص وصف اإلله ‪ ،‬وقد أضاف الخلق إلى الخلق ‪ ،‬انفرد هو بالنظر إلى‬
‫س ُن ْالخا ِل ِقينَ »‬
‫ما أثبت من الخلق للخلق باألحسن في قوله« أ َ ْح َ‬
‫س ُن ْالخا ِل ِقينَ »‬‫ّللاُ أ َ ْح َ‬ ‫وهو معنى قوله« فَت َ َ‬
‫بار َك َّ‬
‫س ُن ْالخا ِل ِقينَ »‬‫والبركة الزيادة ‪ ،‬فزاد ( أحسن ) في قوله « أ َ ْح َ‬
‫وقال تعالى في الرد على عبدة األوثان ( أفمن يخلق كمن ال يخلق ) فنفى الخلق عن الخلق ‪،‬‬
‫فلو لم يرد عموم نفي الخلق عن الخلق لم تقم به حجة على من عبد فرعون وأمثاله ممن أمر‬
‫ّللا ‪ ،‬ولم يكن هؤالء ممن يدخل في عموم الخالقين في قوله«‬ ‫من المخلوقين أن يعبد من دون ه‬
‫ّللاُ أ َ ْح َ‬
‫س ُن‬ ‫س ُن ْالخا ِل ِقينَ »فإنهم لم يتصفوا باإلحسان في الخلق ‪ ،‬ومن وجه آخر« فَت َ َ‬
‫بار َك َّ‬ ‫أ َ ْح َ‬
‫ْالخا ِل ِقينَ »خلق الناس التقدير ‪ ،‬فللخلق التقدير وليس لهم إمضاؤه ‪ ،‬والخلق‬
‫في قوله تعالى( أ َ فَ َم ْن يَ ْخلُ ُق َك َم ْن ال يَ ْخلُ ُق )اإليجاد ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ ) : 23‬اآليات ‪ 15‬إلى ‪] 18‬‬


‫ون ( ‪َ ) 16‬ولَقَ ْد َخلَ ْقنا فَ ْوقَ ُك ْم َ‬
‫س ْب َع‬ ‫ون ( ‪ ) 15‬ث ُ هم ِإنه ُك ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ت ُ ْبعَث ُ َ‬ ‫ث ُ هم ِإنه ُك ْم بَ ْع َد ذ ِلكَ لَ َم ِيّت ُ َ‬
‫ض‬ ‫س َكنهاهُ فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ماء ماء بِقَ َد ٍر فَأ َ ْ‬
‫س ِ‬ ‫ين ( ‪َ ) 17‬وأ َ ْن َز ْلنا ِم َن ال ه‬ ‫ق غافِ ِل َ‬‫ق َوما ُكنها ع َِن ا ْل َخ ْل ِ‬ ‫َطرائِ َ‬
‫ون ) ‪( 18‬‬ ‫ب بِ ِه لَقاد ُِر َ‬ ‫َوإِنها عَلى ذَها ٍ‬
‫قال تعالى( ِإ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم )‬
‫ب ِب ِه لَقاد ُِرونَ »فعلق الذهاب باالقتدار‬ ‫على ذَها ٍ‬ ‫*فعلق الذهاب بالمشيئة ‪ ،‬وهنا قال تعالى« َو ِإنَّا َ‬
‫‪ ،‬فما به قدرته أراد وشاء ‪ ،‬فاعلم أن متعلق القدرة اإليجاد ال اإلعدام ‪،‬‬
‫فيتعرض هنا أمران ‪:‬‬
‫األمر الواحد أن الذهاب المراد هنا ليس اْلعدام وإنما هو انتقال من حال إلى حال ‪،‬‬
‫فمتعلق القدرة ظهور المحكوم عليه بالحال التي انتقل إليها ‪ ،‬فأوجدت القدرة له ذلك الحال ‪،‬‬
‫فما تعلقت إال باإليجاد ‪،‬‬
‫واألمر اآلخر أن وصفه باالقتدار على الذهاب ‪ ،‬أي ال مكره له على إبقائه في الوجود ‪،‬‬
‫فإن وجود عين غير القائم بنفسه ‪ ،‬أي بقاءه ‪ ،‬إنما هو مشروط بشرط ‪ ،‬بوجود ذلك الشرط‬
‫ّللا به في كل زمان ‪ ،‬وله أن يمنع وجود ذلك الشرط ‪،‬‬ ‫يبقى الوجود عليه ‪ ،‬وذلك الشرط يمده ه‬
‫وال بقاء للمشروط إال به ‪ ،‬فلم يوجد الشرط فانعدم المشروط ‪،‬‬
‫وهذا اإلمساك ليس متعلق القدرة ‪ ،‬وقد وصف نفسه بالقدرة على ذلك ‪ ،‬فلم يبق إال فرض‬
‫المنازع الذي يريد بقاءه ‪ ،‬فهو قادر على دفعه لما لم‬

‫ص ‪188‬‬

‫‪188‬‬
‫ّللا بقاءه ‪ ،‬فهو يقهر المنازع ‪ ،‬فال يبقى ما أراد المنازع بقاءه ‪ ،‬والقهر حكم من أحكام‬
‫يرد ه‬
‫االقتدار ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 19‬إلى ‪] 27‬‬


‫ش َج َرة‬ ‫ون ( ‪َ ) 19‬و َ‬ ‫يرةٌ َو ِم ْنها تَأ ْ ُكلُ َ‬ ‫ب لَ ُك ْم فِيها فَوا ِكهُ َكثِ َ‬ ‫ت ِم ْن نَ ِخي ٍل َوأَعْنا ٍ‬ ‫فَأ َ ْنشَأْنا لَ ُك ْم ِب ِه َجنها ٍ‬
‫س ِقي ُك ْم‬ ‫ين ( ‪َ ) 20‬و ِإ هن لَ ُك ْم فِي ْاأل َ ْن ِ‬
‫عام لَ ِع ْب َرة نُ ْ‬ ‫س ْينا َء ت َ ْنبُتُ ِبال ُّد ْه ِن َو ِص ْب ٍغ ِل ْْل ِك ِل َ‬‫ور َ‬ ‫ط ِ‬‫ج ِم ْن ُ‬ ‫ت َ ْخ ُر ُ‬
‫ون ( ‪) 21‬‬ ‫يرةٌ َو ِم ْنها تَأ ْ ُكلُ َ‬ ‫طو ِنها َولَ ُك ْم ِفيها َمنا ِف ُع َك ِث َ‬ ‫ِم هما ِفي بُ ُ‬
‫ون ( ‪) 22‬‬ ‫علَى ا ْلفُ ْل ِك تُحْ َملُ َ‬ ‫علَ ْيها َو َ‬ ‫َو َ‬
‫ون ( ‪) 23‬‬ ‫غ ْي ُرهُ أ َ فَال تَت هقُ َ‬
‫ّللا ما لَ ُك ْم ِم ْن إِل ٍه َ‬ ‫س ْلنا نُوحا إِلى قَ ْو ِم ِه فَقا َل يا قَ ْو ِم ا ْعبُدُوا ه َ‬ ‫َولَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َولَ ْو شا َء ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ض َل َ‬‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن قَ ْو ِم ِه ما هذا إِاله بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم يُ ِري ُد أ َ ْن يَتَفَ ه‬ ‫فَقا َل ا ْل َم ََل ُ الهذ َ‬
‫ين ) ‪( 24‬‬ ‫س ِم ْعنا ِبهذا فِي آبائِنَا ْاأل َ هو ِل َ‬ ‫َأل َ ْن َز َل َمالئِكَة ما َ‬
‫ون ( ‪) 26‬‬ ‫ص ْرنِي ِبما َكذهبُ ِ‬ ‫ب ا ْن ُ‬‫ين ) ‪ ( 25‬قا َل َر ّ ِ‬ ‫صوا ِب ِه َحتهى ِح ٍ‬ ‫ِإ ْن ُه َو ِإاله َر ُج ٌل ِب ِه ِجنهةٌ فَت َ َربه ُ‬
‫سلُ ْك ِفيها ِم ْن ُك ٍ ّل‬ ‫ور فَا ْ‬ ‫فار التهنُّ ُ‬‫صنَ ِع ا ْلفُ ْلكَ ِبأ َ ْعيُ ِننا َو َوحْ ِينا فَ ِإذا جا َء أ َ ْم ُرنا َو َ‬ ‫فَأ َ ْو َح ْينا ِإلَ ْي ِه أ َ ِن ا ْ‬
‫ِين َظلَ ُموا إِنه ُه ْم‬ ‫خاط ْبنِي فِي الهذ َ‬ ‫علَ ْي ِه ا ْلقَ ْو ُل ِم ْن ُه ْم َوال ت ُ ِ‬ ‫ق َ‬ ‫سبَ َ‬‫َز ْو َج ْي ِن اثْنَ ْي ِن َوأ َ ْهلَكَ إِاله َم ْن َ‬
‫ون ( ‪) 27‬‬ ‫ُم ْغ َرقُ َ‬
‫ور »قيل فيه يراد ضوء الفجر ‪ ،‬وهو المعلوم من لسان العرب ‪،‬‬ ‫« فَإِذا جا َء أ َ ْم ُرنا َو َ‬
‫فار التَّنُّ ُ‬
‫فإذا فار التنور أي ظهر الفجر ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 28‬إلى ‪] 53‬‬


‫ّلِل الهذِي نَ هجانا ِم َن ا ْلقَ ْو ِم‬ ‫ست َ َو ْيتَ أ َ ْنتَ َو َم ْن َمعَكَ َ‬
‫علَى ا ْلفُ ْل ِك فَقُ ِل ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬ ‫فَ ِإذَا ا ْ‬

‫ص ‪189‬‬

‫‪189‬‬
‫ت‬‫ين ( ‪ِ ) 29‬إ هن ِفي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬ ‫باركا َوأ َ ْنتَ َخ ْي ُر ا ْل ُم ْن ِز ِل َ‬ ‫ب أ َ ْن ِز ْل ِني ُم ْن َزال ُم َ‬
‫ين ) ‪َ ( 28‬وقُ ْل َر ّ ِ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫ال ه‬
‫سوال ِم ْن ُه ْم‬ ‫يه ْم َر ُ‬ ‫س ْلنا ِف ِ‬ ‫ين ) ‪ ( 31‬فَأ َ ْر َ‬ ‫ين ( ‪ ) 30‬ث ُ هم أ َ ْنشَأْنا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم قَ ْرنا آ َخ ِر َ‬ ‫َو ِإ ْن ُكنها لَ ُم ْبت َ ِل َ‬
‫ون ) ‪( 32‬‬ ‫غ ْي ُرهُ أ َ فَال تَتهقُ َ‬ ‫ّللا ما لَ ُك ْم ِم ْن إِل ٍه َ‬ ‫أ َ ِن ا ْعبُدُوا ه َ‬
‫قاء ْاآل ِخ َر ِة َوأَتْ َر ْفنا ُه ْم فِي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا ما هذا إِاله‬ ‫ِين َكفَ ُروا َو َكذهبُوا بِ ِل ِ‬ ‫َوقا َل ا ْل َم ََل ُ ِم ْن قَ ْو ِم ِه الهذ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 33‬ولَئِ ْن أ َ َط ْعت ُ ْم بَشَرا ِمثْلَ ُك ْم ِإنه ُك ْم‬ ‫ب ِم هما تَش َْربُ َ‬ ‫ون ِم ْنهُ َويَش َْر ُ‬ ‫بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم يَأ ْ ُك ُل ِم هما تَأ ْ ُكلُ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 35‬ه ْيهاتَ‬ ‫ون ( ‪ ) 34‬أ َ يَ ِع ُد ُك ْم أَنه ُك ْم ِإذا ِمت ُّ ْم َو ُك ْنت ُ ْم تُرابا َو ِعظاما أَنه ُك ْم ُم ْخ َر ُج َ‬ ‫س ُر َ‬ ‫ِإذا لَخا ِ‬
‫ين ) ‪( 37‬‬ ‫ي ِإاله َحياتُنَا ال ُّد ْنيا نَ ُموتُ َونَحْ يا َوما نَحْ ُن ِب َم ْبعُو ِث َ‬ ‫ُون ( ‪ِ ) 36‬إ ْن ِه َ‬ ‫عد َ‬ ‫َه ْيهاتَ ِلما تُو َ‬
‫ص ْرنِي بِما‬ ‫ب ا ْن ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 38‬قا َل َر ّ ِ‬ ‫ّللا َكذِبا َوما نَحْ ُن لَهُ بِ ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫افتَرى َ‬ ‫إِ ْن ُه َو إِاله َر ُج ٌل ْ‬
‫غثاء‬ ‫ق فَ َجعَ ْلنا ُه ْم ُ‬ ‫ص ْي َحةُ بِا ْل َح ّ ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 40‬فَأ َ َخذَتْ ُه ُم ال ه‬ ‫صبِ ُح هن ناد ِِم َ‬ ‫ع هما قَ ِلي ٍل لَيُ ْ‬ ‫ون ( ‪ ) 39‬قا َل َ‬ ‫َكذهبُ ِ‬
‫ين ( ‪) 42‬‬ ‫ين ) ‪ ( 41‬ث ُ هم أ َ ْنشَأْنا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم قُ ُرونا آ َخ ِر َ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫فَبُ ْعدا ِل ْلقَ ْو ِم ال ه‬
‫سولُها‬ ‫سلَنا تَتْرا ُك هل ما جا َء أ ُ همة َر ُ‬ ‫س ْلنا ُر ُ‬ ‫ون ( ‪ ) 43‬ث ُ هم أ َ ْر َ‬ ‫ستَأ ْ ِخ ُر َ‬ ‫ق ِم ْن أ ُ هم ٍة أ َ َجلَها َوما يَ ْ‬ ‫س ِب ُ‬ ‫ما ت َ ْ‬
‫س ْلنا ُموسى‬ ‫ون ( ‪ ) 44‬ث ُ هم أ َ ْر َ‬ ‫ِيث فَبُ ْعدا ِلقَ ْو ٍم ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ض ُه ْم بَ ْعضا َو َجعَ ْلنا ُه ْم أَحاد َ‬ ‫َكذهبُو ُه فَأَتْبَ ْعنا بَ ْع َ‬
‫ست َ ْكبَ ُروا َوكانُوا قَ ْوما عا ِل َ‬
‫ين‬ ‫ين ( ‪ِ ) 45‬إلى ِف ْرع َْو َن َو َمال ِئ ِه فَا ْ‬ ‫طان ُم ِب ٍ‬ ‫س ْل ٍ‬ ‫ون ِبآيا ِتنا َو ُ‬ ‫هار َ‬ ‫َوأَخا ُه ُ‬
‫ُون ( ‪ ) 47‬فَ َكذهبُو ُهما‬ ‫( ‪ ) 46‬فَقالُوا أ َ نُ ْؤ ِم ُن ِلبَش ََر ْي ِن ِمثْ ِلنا َوقَ ْو ُم ُهما لَنا عابِد َ‬

‫ص ‪190‬‬

‫‪190‬‬
‫ُون ( ‪َ ) 49‬و َجعَ ْلنَا ا ْب َن َم ْريَ َم‬ ‫تاب لَعَله ُه ْم يَ ْهتَد َ‬ ‫سى ا ْل ِك َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 48‬ولَقَ ْد آت َ ْينا ُمو َ‬ ‫فَكانُوا ِم َن ا ْل ُم ْهلَ ِك َ‬
‫ت‬ ‫س ُل ُكلُوا ِم َن ال ه‬
‫ط ِيّبا ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 50‬يا أَيُّ َها ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫ت قَ ٍ‬
‫رار َو َم ِع ٍ‬ ‫آو ْينا ُهما ِإلى َر ْب َو ٍة ذا ِ‬ ‫َوأ ُ همهُ آيَة َو َ‬
‫ون (‬ ‫واحدَة َوأَنَا َربُّ ُك ْم فَاتهقُ ِ‬
‫ع ِلي ٌم ( ‪َ ) 51‬وإِ هن ه ِذ ِه أ ُ همت ُ ُك ْم أ ُ همة ِ‬ ‫ون َ‬‫َوا ْع َملُوا صا ِلحا إِ ِنّي بِما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ون ( ‪) 53‬‬ ‫ب بِما لَ َد ْي ِه ْم فَ ِر ُح َ‬ ‫طعُوا أ َ ْم َر ُه ْم بَ ْينَ ُه ْم ُزبُرا ُك ُّل ِح ْز ٍ‬ ‫‪ ( 52‬فَتَقَ ه‬
‫ب ِبما لَ َد ْي ِه ْم فَ ِر ُحونَ »وما وقع ذلك إال من تعشق كل نفس بما هي عليه ‪ ،‬فلو تبيهن‬ ‫« ُك ُّل ِح ْز ٍ‬
‫لكل حزب مآله وما له ‪ ،‬لفرح من ينبغي له أن يفرح ‪ ،‬وحزن من ينبغي له أن يحزن ‪،‬‬
‫ب ِبما لَ َد ْي ِه ْم فَ ِر ُحونَ »وكل له شرب معلوم ‪ ،‬وسيردون فيعلمون ‪ ،‬كأنهم ما سمعوا(‬ ‫« ُك ُّل ِح ْز ٍ‬
‫س ُجو ِد )‬ ‫ع ْونَ إِلَى ال ُّ‬ ‫ق َويُ ْد َ‬ ‫ع ْن سا ٍ‬ ‫َف َ‬ ‫يَ ْو َم يُ ْكش ُ‬
‫ب بِما لَ َد ْي ِه ْم فَ ِر ُحونَ »إن العارفين كما هم اليوم يكونون غدا ‪،‬‬ ‫‪ -‬إشارة ال تفسير ‪ُ «-‬ك ُّل ِح ْز ٍ‬
‫أجسامهم في الجنان ‪ ،‬وقلوبهم في حضرة الرحمن ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 54‬إلى ‪]57‬‬


‫ين ( ‪) 55‬‬ ‫ون أَنهما نُ ِم ُّد ُه ْم ِب ِه ِم ْن ما ٍل َوبَ ِن َ‬
‫سبُ َ‬‫ين ( ‪ ) 54‬أ َ يَحْ َ‬ ‫فَذَ ْر ُه ْم ِفي َ‬
‫غ ْم َر ِت ِه ْم َحتهى ِح ٍ‬
‫ش ِفقُ َ‬
‫ون ( ‪57‬‬ ‫ِين ُه ْم ِم ْن َخ ْ‬
‫شيَ ِة َر ِبّ ِه ْم ُم ْ‬ ‫ون ( ‪ ) 56‬إِ هن الهذ َ‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫ع لَ ُه ْم فِي ا ْل َخ ْيرا ِ‬
‫ت بَ ْل ال يَ ْ‬ ‫نُ ِ‬
‫سار ُ‬
‫)‬
‫[ المشفقون ]‬
‫يقال ‪ :‬أشفقت منه فأنا مشفق إذا حذرته ‪ ،‬وال يقال ‪ :‬أشفقت منه إال في الحذر ‪ ،‬ويقال ‪ :‬أشفقت‬
‫ّللا من خاف‬ ‫عليه إشفاقا من الشفقة ‪ ،‬واألصل واحد أي حذرت عليه ‪ ،‬فالمشفقون من أولياء ه‬
‫ّللا ‪ ،‬مثل إشفاق‬ ‫ّللا بالبشرى مع إشفاقه على خلق ه‬ ‫على نفسه من التبديل والتحويل ‪ ،‬فإنه أ همنه ه‬
‫شر من المؤمنين ‪ ،‬وهم قوم ذوو كبد رطبة ‪ ،‬لهم حنان وعطف‬ ‫المرسلين على أممهم ‪ ،‬ومن ب ه‬
‫‪ ،‬إذا أبصروا مخالفة األمر اإللهي من أحد ارتعدت فرائصهم إشفاقا عليه أن ينزل به أمر من‬
‫السماء ‪ ،‬ومن كان بهذه المثابة فالغالب على أمره أنه محفوظ في أفعاله ‪ ،‬ال يتصور منه‬
‫مخالفة لما تحقق به من صفة اإلشفاق ‪ ،‬فلما كانت ثمرة اإلشفاق االستقامة على‬

‫ص ‪191‬‬

‫‪191‬‬
‫ّللا عليهم بأنهم مشفقون ‪ ،‬للتغير الذي يقوم بنفوسهم عند رؤية الموجب لذلك ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬أثنى ه‬
‫طاعة ه‬
‫واإلشفاق مأخوذ من الشفق الذي هو حمرة بقية ضوء الشمس إذا غربت ‪ ،‬أو إذا أرادت‬
‫الطلوع ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 58‬إلى ‪]60‬‬


‫ُون ( ‪َ ) 59‬والهذ َ‬
‫ِين يُ ْؤت ُ َ‬
‫ون‬ ‫ون ( ‪َ ) 58‬والهذ َ‬
‫ِين ُه ْم ِب َر ِبّ ِه ْم ال يُش ِْرك َ‬ ‫ت َر ِبّ ِه ْم يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ِين ُه ْم ِبآيا ِ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ون) ‪( 60‬‬ ‫راجعُ َ‬‫ما آت َ ْوا َوقُلُوبُ ُه ْم َو ِجلَةٌ أَنه ُه ْم ِإلى َر ِبّ ِه ْم ِ‬
‫[ الوجلون ]‬
‫إن القلوب مع الخيرات في وجل *** وإنها عندما تلقاه في خجل‬
‫ّللا عنهم« الَّذِينَ يُؤْ تُونَ »وجعل هنا ما بمعنى الذي ‪ ،‬ثم‬ ‫اعلم أن السبب الموجب لوجلهم قول ه‬
‫جاء ب « أتوا » بعد « ما » وكالمه صدق ‪ ،‬فأدركهم الوجل إذ قطعوا أنهم ال بد أن يقوم بهم‬
‫ّللا‬
‫ّللا لهم إذا خافوا ووجلوا من ذلك ‪ ،‬وتبديل ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فيكشف ه‬ ‫الدعوى فيما جاءوا به من طاعة ه‬
‫ْت ِإ ْذ َر َمي َ‬
‫ْت‬ ‫لفظة « ما » التي بمعنى الذي بلفظة « ما » النافية مثل قوله تعالى ( َوما َر َمي َ‬
‫ّللا أتى به ‪،‬‬ ‫ّللا َرمى ) هكذا يكون كشفه هنا للوجل ‪ ،‬ما يؤتون الذي أتوا به ‪ ،‬ولكن ه‬ ‫َول ِك َّن َّ َ‬
‫ّللا تعالى علل بقوله« أَنَّ ُه ْم ِإلى‬ ‫فأقامهم مقام نفسه فيما جاءوا به من األعمال الصالحة ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا وصفهم بأنهم الذين أتوا به ‪ ،‬فانظر ما أدق نظرهم‬ ‫راجعُونَ »فيما أتوا به ‪ ،‬مع كون ه‬ ‫َر ِبه ِه ْم ِ‬
‫في السبب الذي جعل في قلوبهم الوجل » ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬آية ‪] 61‬‬


‫ون) ‪( 61‬‬ ‫ت َو ُه ْم لَها سابِقُ َ‬‫ُون فِي ا ْل َخ ْيرا ِ‬
‫سارع َ‬‫أُولئِكَ يُ ِ‬
‫" أُولئِ َك " إشارة إلى هؤالء الذين يسارعون في الخيرات ‪ ،‬واإلسراع لمن أتى هرولة فافهم ‪،‬‬
‫ت »بالحق ‪َ «،‬و ُه ْم لَها سا ِبقُونَ » أي يسبقونها ويسبقون إليها ‪،‬‬ ‫سارعُونَ فِي ْال َخيْرا ِ‬‫فهم« يُ ِ‬
‫فالخيرات ثالثة ‪ :‬خيرات يكون السباق والمسارعة فيها ‪ ،‬وخيرات يكون السباق بها ‪ ،‬وخيرات‬
‫يكون السباق إليها ‪،‬‬
‫عوا إِلى َم ْغ ِف َرةٍ )‬ ‫وهي قوله ( سابِقُوا إِلى َم ْغ ِف َرةٍ ) ( َو ِ‬
‫سار ُ‬
‫والسرعة في السباق ال بد منها ‪ ،‬ألن السباق يعطي ذلك ‪ ،‬وهو فوق السعي ‪ ،‬فإتيانهم بسرعة ‪،‬‬
‫والزائد على السعي ما هو إال الهرولة وهي نعت إلهي‪.‬‬
‫ّللا بها عباده ‪ ،‬وألنهم السعداء‬
‫ت " وهي الطاعات التي أمر ه‬ ‫سارعُونَ فِي ْال َخيْرا ِ‬‫" أُولئِ َك يُ ِ‬
‫سارعوا لما أبصروا حسن‬

‫ص ‪192‬‬

‫‪192‬‬
‫النهاية بعين الموافقة والهداية« َو ُه ْم لَها سا ِبقُونَ »على نجب األعمال إلى مرضاته كما قال(‬
‫ض ُل ْال َك ِب ُ‬
‫ير )‬ ‫ّللا ذ ِل َك ُه َو ْالفَ ْ‬ ‫َو ِم ْن ُه ْم سا ِب ٌق ِب ْال َخيْرا ِ‬
‫ت ِبإِ ْذ ِن َّ ِ‬
‫والمسارعة في الخيرات هي كونه ال يتصرف في مباح ‪ ،‬بل هو في الواجبات ‪ ،‬فإذا خطر له‬
‫فرض قام إليه بال شك ‪ ،‬وإذا خطر له خاطر في مندوب فليحفظ أول الخاطر ‪ ،‬فإنه قد يكون‬
‫من إبليس فيثبت عليه ‪ ،‬فإذا خطر له أن يتركه إلى مندوب آخر هو أعلى منه وأولى فال يعدل‬
‫عن األول ‪ ،‬وليثبت عليه ويحفظ الثاني ‪ ،‬ويفعل األول وال بد ‪ ،‬فإذا فرغ منه شرع في الثاني‬
‫ليفعله أيضا ‪،‬‬
‫فهو في خير على كل حال ‪ ،‬ويرجع الشيطان خاسئا حيث لم يتفق له مقصوده ‪ ،‬ومن جهة‬
‫أخرى فإن المغفرة ال تصح إال بعد حصول فعل الخير الموجب لها ‪ ،‬فنحن نسارع في‬
‫الخيرات إلى المغفرة ‪ ،‬ولما كانت المسارعة إلى الخيرات وفي الخيرات تتضمن المشقة‬
‫ّللا هذه المشقة رحمة ‪ ،‬إما في باطن اإلنسان ‪ ،‬وهو‬ ‫والتعب ‪ ،‬ألن سرعة السير تشق ‪ ،‬أعقب ه‬
‫فتصرفه المحبة فال يحس بالمشقة وال بالتعب في رضى‬ ‫ه‬ ‫ّللا االلتذاذ بالطاعات ‪،‬‬ ‫الذي رزقه ه‬
‫المحبوب ‪ ،‬وإن كان بناء هذا الهيكل يضعف عن بعض التكاليف ‪ ،‬فإن الحب يهونه ويسهله ‪،‬‬
‫وإما في اآلخرة فال بد من الراحة ‪ ،‬ومن وصل إلى تحصيل الخير المحض ‪،‬‬
‫وهو قوله تعالى ‪ :‬كنت سمعه وبصره وأمثال هذا ‪ ،‬فقد وصل إلى السعادة األبدية ‪ ،‬وهو‬
‫الوصول المطلوب ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 62‬إلى ‪] 80‬‬


‫ون ( ‪ ) 62‬بَ ْل قُلُوبُ ُه ْم ِفي‬ ‫ق َو ُه ْم ال يُ ْظلَ ُم َ‬ ‫ق ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫تاب يَ ْن ِط ُ‬
‫سعَها َولَ َد ْينا ِك ٌ‬ ‫ف نَ ْفسا ِإاله ُو ْ‬ ‫َوال نُ َك ِلّ ُ‬
‫ون ) ‪َ ( 63‬حت هى إِذا أ َ َخ ْذنا ُمتْ َرفِ ِ‬
‫يه ْم‬ ‫عاملُ َ‬ ‫ُون ذ ِلكَ ُه ْم لَها ِ‬ ‫غ ْم َر ٍة ِم ْن هذا َولَ ُه ْم أَعْما ٌل ِم ْن د ِ‬ ‫َ‬
‫ون ( ‪ ) 65‬قَ ْد كانَتْ آياتِي‬ ‫ص ُر َ‬ ‫ون ) ‪ ( 64‬ال تَجْ أ َ ُروا ا ْليَ ْو َم إِنه ُك ْم ِمنها ال ت ُ ْن َ‬ ‫ب إِذا ُه ْم يَجْ أ َ ُر َ‬ ‫بِا ْلعَذا ِ‬
‫ون ) ‪( 66‬‬ ‫ص َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم فَ ُك ْنت ُ ْم عَلى أَعْقا ِب ُك ْم ت َ ْن ِك ُ‬
‫تُتْلى َ‬
‫ت آبا َء ُه ُم‬ ‫ون ( ‪ ) 67‬أ َ فَلَ ْم يَ هدبه ُروا ا ْلقَ ْو َل أ َ ْم جا َء ُه ْم ما لَ ْم يَأ ْ ِ‬ ‫سامرا ت َ ْه ُج ُر َ‬‫ين ِب ِه ِ‬ ‫ست َ ْك ِب ِر َ‬ ‫ُم ْ‬
‫ون ِب ِه ِجنهةٌ‬ ‫ون ( ‪ ) 69‬أ َ ْم يَقُولُ َ‬ ‫سولَ ُه ْم فَ ُه ْم لَهُ ُم ْن ِك ُر َ‬ ‫ين ) ‪ ( 68‬أ َ ْم لَ ْم يَ ْع ِرفُوا َر ُ‬ ‫ْاأل َ هو ِل َ‬
‫ص ‪193‬‬

‫‪193‬‬
‫سماواتُ‬ ‫ت ال ه‬ ‫ق أ َ ْهوا َء ُه ْم لَفَ َ‬
‫س َد ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 70‬ولَ ِو اتهبَ َع ا ْل َح ُّ‬ ‫كار ُه َ‬ ‫ق ِ‬ ‫ق َوأ َ ْكث َ ُر ُه ْم ِل ْل َح ّ ِ‬‫بَ ْل جا َء ُه ْم ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ُون ) ‪( 71‬‬ ‫يه هن بَ ْل أَت َ ْينا ُه ْم ِب ِذ ْك ِر ِه ْم فَ ُه ْم ع َْن ِذ ْك ِر ِه ْم ُم ْع ِرض َ‬ ‫ض َو َم ْن ِف ِ‬ ‫َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫ين ( ‪َ ) 72‬وإِنهكَ لَت َ ْدعُو ُه ْم إِلى ِص ٍ‬
‫راط‬ ‫ج َر ِبّكَ َخ ْي ٌر َو ُه َو َخ ْي ُر ه‬
‫الر ِازقِ َ‬ ‫سأَلُ ُه ْم َخ ْرجا فَ َخرا ُ‬ ‫أ َ ْم ت َ ْ‬
‫ون ( ‪َ ) 74‬ولَ ْو َر ِح ْمنا ُه ْم‬ ‫راط لَنا ِكبُ َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ون بِ ْاآل ِخ َر ِة ع َِن ال ِ ّ‬ ‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫يم ) ‪َ ( 73‬وإِ هن الهذ َ‬ ‫ست َ ِق ٍ‬‫ُم ْ‬
‫ب فَ َما‬ ‫ون ( ‪َ ) 75‬ولَقَ ْد أ َ َخ ْذنا ُه ْم ِبا ْلعَذا ِ‬ ‫ط ْغيانِ ِه ْم يَ ْع َم ُه َ‬ ‫ش ْفنا ما ِب ِه ْم ِم ْن ض ٍ ُّر لَلَ ُّجوا فِي ُ‬ ‫َو َك َ‬
‫ُون ) ‪( 76‬‬ ‫ض هرع َ‬ ‫ستَكانُوا ِل َر ِبّ ِه ْم َوما يَت َ َ‬ ‫ا ْ‬
‫ون ( ‪َ ) 77‬و ُه َو الهذِي أ َ ْنشَأ َ لَ ُك ُم‬ ‫س َ‬ ‫شدِي ٍد ِإذا ُه ْم ِفي ِه ُم ْب ِل ُ‬ ‫ب َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم بابا ذا عَذا ٍ‬ ‫َحتهى ِإذا فَتَحْ نا َ‬
‫ض َوإِلَ ْي ِه‬ ‫ون ( ‪َ ) 78‬و ُه َو الهذِي ذَ َرأ َ ُك ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫صار َو ْاأل َ ْفئِ َدةَ قَ ِليال ما ت َ ْ‬ ‫س ْم َع َو ْاأل َ ْب َ‬ ‫ال ه‬
‫ون) ‪( 80‬‬ ‫هار أ َ فَال ت َ ْع ِقلُ َ‬
‫الف الله ْي ِل َوالنه ِ‬ ‫اختِ ُ‬ ‫ون ( ‪َ ) 79‬و ُه َو الهذِي يُحْ يِي َويُ ِميتُ َولَهُ ْ‬ ‫تُحْ ش َُر َ‬

‫للعقل نور يدرك به أمورا مخصوصة ‪ ،‬ولإليمان نور به يدرك كل شيء ما لم يقع مانع ‪،‬‬
‫فبنور العقل تصل إلى معرفة األلوهية وما يجب لها ويستحيل ‪ ،‬وما يجوز منها فال يستحيل‬
‫وال يجب ‪ ،‬وبنور اإليمان يدرك العقل معرفة الذات وما نسب الحق إلى نفسه من النعوت ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 81‬إلى ‪] 86‬‬


‫ون ( ‪82‬‬ ‫ون ( ‪ ) 81‬قالُوا أ َ ِإذا ِمتْنا َو ُكنها تُرابا َو ِعظاما أ َ ِإنها لَ َم ْبعُوث ُ َ‬ ‫بَ ْل قالُوا ِمثْ َل ما قا َل ْاأل َ هولُ َ‬
‫ين ( ‪ ) 83‬قُ ْل ِل َم ِن ْاأل َ ْر ُ‬
‫ض َو َم ْن‬ ‫ير ْاأل َ هو ِل َ‬ ‫) لَقَ ْد ُو ِعدْنا نَحْ ُن َوآباؤُنا هذا ِم ْن قَ ْب ُل ِإ ْن هذا ِإاله أ َ ِ‬
‫ساط ُ‬
‫ون ) ‪( 85‬‬ ‫ّلِل قُ ْل أ َ فَال تَذَك ُهر َ‬ ‫سيَقُولُ َ‬
‫ون ِ ه ِ‬ ‫فِيها ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمو َن ( ‪َ ) 84‬‬
‫يم) ‪( 86‬‬ ‫ب ا ْلعَ ْر ِش ا ْلعَ ِظ ِ‬
‫س ْب ِع َو َر ُّ‬
‫ت ال ه‬ ‫سماوا ِ‬‫ب ال ه‬ ‫قُ ْل َم ْن َر ُّ‬

‫ص ‪194‬‬

‫‪194‬‬
‫وصف العرش بالعظيم جرما وقدرا ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 87‬إلى ‪] 88‬‬


‫علَ ْي ِه‬‫جار َ‬
‫ير َوال يُ ُ‬ ‫ش ْي ٍء َو ُه َو يُ ِج ُ‬ ‫ّلِل قُ ْل أ َ فَال تَتهقُ َ‬
‫ون ( ‪ ) 87‬قُ ْل َم ْن بِيَ ِد ِه َملَكُوتُ ُك ِ ّل َ‬ ‫ون ِ ه ِ‬‫سيَقُولُ َ‬ ‫َ‬
‫ون ) ‪( 88‬‬ ‫ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫وصف الحق نفسه تعالى في هذه اآلية بأنه قاهر كل شيء بقوله تعالى« َم ْن ِبيَ ِد ِه َملَ ُكوتُ ُك ِهل‬
‫ش ْيءٍ »فبيده تصريف كل شيء ‪ ،‬إذ هو موجد األسباب ‪ ،‬فهو محرك العالم ظاهرا وباطنا«‬ ‫َ‬
‫علَ ْي ِه »فال يفتقر وال يذل إال هّلل« إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ »فالناس في واد‬ ‫جار َ‬
‫ير َوال يُ ُ‬ ‫َو ُه َو يُ ِج ُ‬
‫باّلل في واد ‪.‬‬ ‫والعلماء ه‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 89‬إلى ‪] 91‬‬


‫ون ( ‪َ ) 90‬ما ات ه َخذَ ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ون ( ‪ ) 89‬بَ ْل أَت َ ْينا ُه ْم ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ق َو ِإنه ُه ْم لَكا ِذبُ َ‬ ‫س َح ُر َ‬ ‫ّلِل قُ ْل فَأَنهى ت ُ ْ‬ ‫سيَقُولُ َ‬
‫ون ِ ه ِ‬ ‫َ‬
‫ّللا‬ ‫س ْب َ‬
‫حان ه ِ‬ ‫ض ُ‬ ‫ق َولَعَال بَ ْع ُ‬
‫ض ُه ْم عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫ب ُك ُّل ِإل ٍه ِبما َخلَ َ‬ ‫كان َمعَهُ ِم ْن ِإل ٍه ِإذا لَذَ َه َ‬
‫ِم ْن َولَ ٍد َوما َ‬
‫ون ) ‪( 91‬‬ ‫ع هما يَ ِصفُ َ‬ ‫َ‬
‫ض »هذا االستدالل بالتنبيه على‬ ‫على بَ ْع ٍ‬ ‫ض ُه ْم َ‬ ‫َب ُك ُّل ِإل ٍه بِما َخلَقَ َولَعَال بَ ْع ُ‬ ‫قوله تعالى« ِإذا ً لَذَه َ‬
‫موضع الداللة ‪ ،‬فلم يقتصر على التعريف على طريق التسليم ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬آية ‪] 92‬‬


‫ُون ) ‪( 92‬‬ ‫ب َوالشهها َد ِة فَتَعالى َ‬
‫ع هما يُش ِْرك َ‬ ‫عا ِل ِم ا ْلغَ ْي ِ‬
‫راجع سورة األنعام آية ‪ [. 73‬سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 93‬إلى ‪] 96‬‬
‫ين ( ‪َ ) 94‬وإِنها عَلى‬ ‫ب فَال تَجْ عَ ْلنِي فِي ا ْلقَ ْو ِم ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ُون ( ‪َ ) 93‬ر ّ ِ‬ ‫عد َ‬‫ب إِ هما ت ُ ِريَ ِنّي ما يُو َ‬ ‫قُ ْل َر ّ ِ‬
‫س ِيّئَةَ نَحْ ُن أ َ ْعلَ ُم ِبما يَ ِصفُ َ‬
‫ون‬ ‫ي أَحْ َ‬
‫س ُن ال ه‬ ‫ون ( ‪ ) 95‬ا ْدفَ ْع ِبالهتِي ِه َ‬‫أ َ ْن نُ ِريَكَ ما نَ ِع ُد ُه ْم لَقاد ُِر َ‬
‫) ‪) 96‬‬
‫ادفع بالتي هي أحسن من اإلحسان‬

‫ص ‪195‬‬

‫‪195‬‬
‫[سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 97‬إلى ‪] 101‬‬
‫ون ( ‪َ ) 98‬حتهى‬ ‫ب أ َ ْن يَحْ ض ُُر ِ‬ ‫ين ( ‪َ ) 97‬وأَعُوذُ ِبكَ َر ّ ِ‬ ‫هياط ِ‬
‫ت الش ِ‬ ‫ب أَعُوذُ ِبكَ ِم ْن َه َمزا ِ‬ ‫َوقُ ْل َر ّ ِ‬
‫ون ( ‪ ) 99‬لَعَ ِلّي أ َ ْع َم ُل صا ِلحا فِيما ت َ َر ْكتُ َكاله إِنهها َك ِل َمةٌ‬ ‫ار ِجعُ ِ‬ ‫ب ْ‬‫إِذا جا َء أ َ َح َد ُه ُم ا ْل َم ْوتُ قا َل َر ّ ِ‬
‫ور فَال أ َ ْن َ‬
‫ساب بَ ْينَ ُه ْم‬ ‫ص ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 100‬فَ ِإذا نُ ِف َخ فِي ال ُّ‬ ‫خ إِلى يَ ْو ِم يُ ْبعَث ُ َ‬ ‫ُه َو قائِلُها َو ِم ْن َورائِ ِه ْم بَ ْر َز ٌ‬
‫ون ) ‪( 101‬‬ ‫يَ ْو َمئِ ٍذ َوال يَتَسا َءلُ َ‬
‫ّللا تعالى ‪ ( :‬اليوم ) يعني يوم القيامة ( أضع‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬يقول ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫يقول رسول ه‬
‫نسبكم وأرفع نسبي أين المتقون ) ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ ) : 23‬اآليات ‪ 102‬إلى ‪] 107‬‬


‫س ُروا‬ ‫ِين َخ ِ‬ ‫وازينُهُ فَأُولئِكَ الهذ َ‬ ‫ون ) ‪َ ( 102‬و َم ْن َخفهتْ َم ِ‬ ‫وازينُهُ فَأُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬ ‫فَ َم ْن ثَقُلَتْ َم ِ‬
‫ون ( ‪ ) 104‬أ َ لَ ْم تَك ُْن‬ ‫ار َو ُه ْم فِيها كا ِل ُح َ‬‫ُون ( ‪ ) 103‬ت َ ْلفَ ُح ُو ُجو َه ُه ُم النه ُ‬ ‫س ُه ْم فِي َج َهنه َم خا ِلد َ‬ ‫أ َ ْنفُ َ‬
‫ش ْق َوتُنا َو ُكنها قَ ْوما‬
‫علَ ْينا ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 105‬قالُوا َربهنا َ‬
‫غلَبَتْ َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم فَ ُك ْنت ُ ْم ِبها ت ُ َك ِذّبُ َ‬
‫آياتِي تُتْلى َ‬
‫ون ) ‪( 107‬‬ ‫عدْنا فَ ِإنها ظا ِل ُم َ‬‫ين ( ‪َ ) 106‬ربهنا أ َ ْخ ِرجْ نا ِم ْنها فَ ِإ ْن ُ‬ ‫ضا ِلّ َ‬
‫لوال أن نشء اآلخرة مثل نشء الدنيا ذو جسم طبيعي وروح ‪ ،‬ما صح من الشقي طلب وال‬
‫تضرع ‪ ،‬إذ لو لم يكن هناك أمر طبيعي لم يكن للنفس إذا جهلت من ينبهها على جهلها لعدم‬
‫إحساسها ‪ ،‬إذ ال حس لها إال بالجزء الطبيعي الذي هو الجسد المركب ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬آية ‪] 108‬‬


‫ون ) ‪( 108‬‬‫سؤُا ِفيها َوال ت ُ َك ِلّ ُم ِ‬ ‫قا َل ْ‬
‫اخ َ‬
‫وهو خطاب الجبار ألهل النار الذين هم أهلها ‪ ،‬يقول لهم ‪ :‬سخطي عليكم ال رضى‬

‫ص ‪196‬‬

‫‪196‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا تعالى هذا هو كالم الملك عن ه‬ ‫بعده ‪ ،‬فال أشد عليهم عذابا من هذا الخطاب ‪ ،‬وخطاب ه‬
‫ّللاُ يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة )‬
‫ّللا تعالى عباده شرف ‪ ،‬قال تعالى‪َ ( :‬وال يُ َك ِله ُم ُه ُم َّ‬
‫تعالى ‪ ،‬ألن كالم ه‬
‫وقد يكون خطابا من الحق لهم وهم في النار ‪ ،‬فخاطبهم وهم يسمعون ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬آية ‪] 109‬‬


‫ين ) ‪( 109‬‬‫اح ِم َ‬ ‫ار َح ْمنا َوأ َ ْنتَ َخ ْي ُر ه‬
‫الر ِ‬ ‫ون َربهنا آ َمنها فَا ْغ ِف ْر لَنا َو ْ‬ ‫كان فَ ِري ٌ‬
‫ق ِم ْن ِعبادِي يَقُولُ َ‬ ‫ِإنههُ َ‬
‫سبحانه وتعالى خير الراحمين من باب المفاضلة ‪ ،‬وما جاء قط عنه تعالى أنه خير اآلخذين ‪،‬‬
‫وال الباطشين وال المنتقمين وال المعذبين كما جاء خير الفاصلين ‪ ،‬وخير الغافرين ‪ ،‬وخير‬
‫الراحمين ‪ ،‬وخير الشاكرين ‪ ،‬وأمثال هذا ‪ ،‬مع كونه يبطش وينتقم ويأخذ ويهلك ويعذب ‪ ،‬ال‬
‫بطريق األفضلية فتدبر ذلك‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬اآليات ‪ 110‬إلى ‪]115‬‬


‫ُون ( ‪ِ ) 110‬إ ِنّي َج َز ْيت ُ ُه ُم ا ْليَ ْو َم‬ ‫ض َحك َ‬ ‫س ْو ُك ْم ِذ ْك ِري َو ُك ْنت ُ ْم ِم ْن ُه ْم ت َ ْ‬‫س ْخ ِريًّا َحتهى أ َ ْن َ‬ ‫فَات ه َخ ْذت ُ ُمو ُه ْم ِ‬
‫ين ( ‪ ) 112‬قالُوا‬ ‫سنِ َ‬ ‫ع َد َد ِ‬
‫ض َ‬ ‫ون ( ‪ ) 111‬قا َل َك ْم لَبِثْت ُ ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫صبَ ُروا أَنه ُه ْم ُه ُم ا ْلفائِ ُز َ‬ ‫بِما َ‬
‫ِين ( ‪ ) 113‬قا َل إِ ْن لَبِثْت ُ ْم إِاله قَ ِليال لَ ْو أَنه ُك ْم ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ون‬ ‫سئ َ ِل ا ْلعا ّد َ‬‫ض يَ ْو ٍم فَ ْ‬ ‫لَبِثْنا يَ ْوما أ َ ْو بَ ْع َ‬
‫ون ( ‪) 115‬‬ ‫عبَثا َوأَنه ُك ْم ِإلَ ْينا ال ت ُ ْر َجعُ َ‬ ‫س ْبت ُ ْم أَنهما َخلَ ْقنا ُك ْم َ‬‫(‪ (114‬أ َ فَ َح ِ‬
‫عبَثا ً »‬ ‫« أ َ فَ َح ِس ْبت ُ ْم أَنَّما َخلَ ْقنا ُك ْم َ‬
‫ض َوما بَ ْينَ ُهما ال ِع ِبينَ )‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫هو قوله تعالى( ما َخلَ ْقنَا ال َّ‬
‫ّللا لها العالم ‪ ،‬فإن الحق مع غناه في نفسه‬ ‫ومن هنا وقع التنبيه على معرفة الحكمة التي أوجد ه‬
‫عن العالمين ‪ ،‬لما خلقهم لم يمكن إال الرجوع إليهم واالشتغال بهم ‪ ،‬وحفظ العالم فإنه ما أوجده‬
‫عبثا ‪ ،‬فيرجع إليه سبحانه بحسب ما يطلبه كل شخص شخص ‪،‬‬
‫فلم يكن ذلك إال إظهارا لحكمة عموم الرجوع اإللهي إلى العباد بحسب أحوالهم ‪ ،‬فإنه عام‬
‫الرجوع ‪ ،‬فرجع على الطائعين بما وعد ‪ ،‬ورجع على العاصين بالمغفرة وإن عاقب ‪،‬‬
‫فإن الحال الذي قام فيه العبد إذا كان سوءا فإن لسان الحال يطلب من الحق ما يجازيه به‬
‫ويرجع به عليه ‪ ،‬إما على التخيير ‪،‬‬
‫وذلك ليس إال لحال المعصية القائم بالعاصي ‪ ،‬وإما على الوجوب بالتعيين ‪ ،‬فالرجوع اإللهي‬

‫ص ‪197‬‬

‫‪197‬‬
‫على العاصي إما باألخذ وإما بالمغفرة ‪ ،‬والرجوع على الطائع باإلحسان ‪ ،‬ولما كان الحكم‬
‫ّللا‬
‫ّللا أكثر رجوعا إلى العباد من العباد إليه ‪ ،‬فإن رجوع العباد إلى ه‬
‫للمشيئة اإللهية كان ه‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫ّللا إال ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فما رجعوا إلى ه‬
‫بإرجاع ه‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬آية ‪] 116‬‬


‫يم ( ‪) 116‬‬ ‫ب ا ْلعَ ْر ِش ا ْلك َِر ِ‬ ‫فَتَعالَى ه‬
‫ّللاُ ا ْل َم ِلكُ ا ْل َح ُّ‬
‫ق ال ِإلهَ ِإاله ُه َو َر ُّ‬
‫[ توحيد الحق ]‬
‫هذا هو التوحيد الحادي والعشرون في القرآن ‪ ،‬هو توحيد الحق ‪ ،‬وهو توحيد الهوية ‪ ،‬فال إله‬
‫إال هو من نعوت الحق ‪ ،‬فاألمر الذي ظهر فيه وجود العالم هو الحق ‪ ،‬وما ظهر إال في نفس‬
‫الرحمن ‪ ،‬وهو العماء فهو الحق« َربُّ ْالعَ ْر ِش » *الذي أعطاه الشكل اإلحاطي لكونه بكل‬
‫شيء محيطا ‪ ،‬فاألصل الذي ظهر فيه صور العالم بكل شيء من عالم األجسام محيط ‪ ،‬وليس‬
‫إال الحق المخلوق به ‪ ،‬فكأنه لهذا القبول كالظرف ‪ ،‬يبرز منه وجود ما يحوي عليه طبقا عن‬
‫طبق ‪ ،‬عينا بعد عين على الترتيب الحكمي ‪ ،‬فأبرز ما كان فيه غيبا ليشهده فيوحده ‪ ،‬فيوحده‬
‫باط ًالما َخلَ ْقنا ُهما إِ َّال‬ ‫سما َء َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ض َوما بَ ْينَ ُهما ِ‬ ‫مع صدوره عنه ‪ ،‬قال تعالى( َوما َخلَ ْقنَا ال َّ‬
‫ق )فهو عين واحدة وإن تعددت الصور فيه ‪ ،‬ثم تمم تعالى فقال« ْال َك ِر ِيم » *وصف‬ ‫بِ ْال َح ه ِ‬
‫العرش بأنه كريم ألنه بحركته أعطى ما في قوته لمن هو تحت إحاطته وقبضته ‪.‬‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬آية ‪] 117‬‬


‫هان لَهُ ِب ِه فَ ِإنهما ِحسابُهُ ِع ْن َد َر ِبّ ِه ِإنههُ ال يُ ْف ِل ُح ا ْلكا ِف ُر َ‬
‫ون (‬ ‫ّللا ِإلها آ َخ َر ال بُ ْر َ‬ ‫َو َم ْن يَ ْد ُ‬
‫ع َم َع ه ِ‬
‫‪)117‬‬
‫اعلم أن الشبهة تأتي في صورة البرهان ‪ ،‬وهذه اآلية ذم للمقلدة ال ألصحاب النظر وإن‬
‫أخطئوا والحضرة اإللهية تقبل جميع العقائد إال الشرك فإنها ال تقبله ‪ ،‬فإن الشريك عدم محض‬
‫‪ ،‬والوجود المطلق ال يقبل العدم ‪ ،‬والشريك ال شك أنه خارج عن شريكه بخالف ما يعتقد فيه‬
‫مما يتصف به الموصوف في نفسه ‪ ،‬فلهذا قلنا ال يقبل الشريك ألنه ما ث هم شريك حتى يقبل ‪،‬‬
‫وهذه أرجى آية للمشرك عن نظر جهد الطاقة ‪ ،‬وتخيله في شبهه أنها برهان ‪ ،‬فيقوم له العذر‬
‫ّللا إِلها ً آخ ََر ال بُ ْرهانَ لَهُ بِ ِه »يعني في زعمه ‪ ،‬فإنه ما اتخذه‬ ‫ّللا قال تعالى« َو َم ْن يَ ْد ُ‬
‫ع َم َع َّ ِ‬ ‫عند ه‬
‫إلها إال عن برهان في زعمه ‪ ،‬فدل على أنه من قام له برهان في نظره أنه غير‬

‫ص ‪198‬‬

‫‪198‬‬
‫مؤاخذ وإن أخطأ ‪ ،‬فما كان الخطأ له مقصودا ‪ ،‬وإنما كان قصده إصابة الحق على ما هو عليه‬
‫وّللا أوسع وأجل‬ ‫األمر ‪ ،‬فالحق عند اعتقاد كل معتقد بعد اجتهاده ‪ ،‬إال أن المراتب تتفاضل ‪ ،‬ه‬
‫وأعظم أن ينحصر في صفة تضبطه ‪ ،‬ومن استند إلى معبود موضوع فإنما استند إليه بظنه ال‬
‫بعلمه ‪ ،‬فلذلك أخذ به فشقي ‪ ،‬إال أن يعطي المجهود من نفسه في نفي الشريك ‪ ،‬فلم يعط فكره‬
‫وال نظره وال اجتهاده نفيه جملة واحدة ‪ ،‬ولم يبعث إليه رسول ولم تصل إليه دعوته ‪ ،‬فإن‬
‫جماعة من أهل النظر قالوا بعذر من هذه حالته ‪ ،‬وهو مأجور في نفس األمر مع أنه مخطئ ‪،‬‬
‫وليس بصاحب ظن ‪ ،‬بل هو قاطع ال عالم ‪ ،‬والقطع على الشيء ال يلزم أن يكون عن علم ‪،‬‬
‫ّللا تعالى« ال بُ ْرهانَ لَهُ بِ ِه »‬
‫بل ربما يستروح من قول ه‬
‫ّللا يعذره ‪ ،‬وال شك أن المجتهد الذي أخطأ في اجتهاده في األصول يقطع أنه على برهان‬ ‫أن ه‬
‫ّللا تعالى‬
‫فيما أداه إليه اجتهاده ونظره ‪ ،‬وإن كان ليس ببرهان في نفس األمر ‪ ،‬فقد يعذره ه‬
‫لقطعه بذلك عن اجتهاد ‪ ،‬كما قطع الصاحب أنه رأى دحية وكان المرئي جبريل ‪ ،‬فهذا قاطع‬
‫على غير علم فاجتهد فأخطأ ‪ ،‬وقد رأى بعض العلماء أن االجتهاد يسوغ في الفروع واألصول‬
‫ّللا جهد‬
‫‪ ،‬فإن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران ‪ ،‬وهذه اآلية تعطي النظر في معرفة ه‬
‫االستطاعة ‪ ،‬أصاب في ذلك المجتهد أو أخطأ ‪ ،‬بعد بذل الوسع في االجتهاد في ذلك ‪ ،‬فقد‬
‫ّللا مجازاة أصحاب البراهين الصحيحة ‪،‬‬ ‫يعتقد المجتهد فيما ليس ببرهان أنه برهان ‪ ،‬فيجازيه ه‬
‫وقد نبه سبحانه على ما يفهم منه ما ذكرناه بهذه اآلية بقوله« ال بُ ْرهانَ لَهُ بِ ِه »‬
‫يريد بالبرهان هنا في زعم الناظر ‪ ،‬فإنه من المحال أن يكون ث هم دليل في نفس األمر على إله‬
‫آخر ‪ ،‬فإنه في نفس األمر ليس إال إله واحد ‪ ،‬ولم يبق إال أن تظهر الشبهة بصورة البرهان‬
‫فيعتقد أنها برهان ‪ ،‬وليس في قوته أكثر من هذا ‪ ،‬فهو في زعمه أنه برهان ‪ ،‬ولم يكن برهانا‬
‫ّللا ما كلف نفسا إال ما آتاها ‪ ،‬وهو أمر يتفاضل فيه‬ ‫في نفس األمر فهو قد وفهى وسعه ‪ ،‬فإن ه‬
‫الناس فقال« فَإِنَّما ِحسابُهُ ِع ْن َد َر ِبه ِه »هل وفهى ما آتاه من النظر في ذلك أم ال ؟‬
‫« ِإنَّهُ ال يُ ْف ِل ُح ْالكافِ ُرونَ »وليس الكافر إال من علم ثم ستر ‪ ،‬وإن لم يعلم فما هو كافر ‪ ،‬فهذه‬
‫ّللا يتجاوز‬
‫ّللا بمن الحت له شبهة في إثبات الكثرة فاعتقد أنها برهان ‪ ،‬بأن ه‬ ‫اآلية رحمة من ه‬
‫عنه ‪ ،‬فإنه بذل وسعه في النظر ‪ ،‬وما أعطته قوته غير ذلك ‪ ،‬فليس للمشركين عن نظر أرجى‬
‫ّللا‬
‫ّللا من هذه اآلية ‪ ،‬وبقي الوعيد في حق المقلدين ‪ ،‬فبهم ألحق الشقاء ‪ ،‬حيث أهلهم ه‬ ‫في عفو ه‬
‫للنظر وما نظروا‬

‫ص ‪199‬‬

‫‪199‬‬
‫وال فكروا وال اعتبروا ‪ ،‬فإنه ما هو علم تقليد ‪ ،‬فالمخطئ مع النظر أولى وأعلى من اإلصابة‬
‫والمصيب مع التقليد ‪ ،‬إال في ذات الحق فإنه ال ينبغي أن يتصرف مخلوق فيها بحكم النظر‬
‫الفكري ‪ ،‬وإنما هو مع الخبر اإللهي فيما يخبر به عن نفسه ال يقاس عليه ‪ ،‬وال يزيد وال‬
‫ينقص وال يتأول ‪ ،‬وال يقصد بذلك القول وجها معينا ‪ ،‬بل يعقل المعنى ويجهل النسبة ‪ ،‬ويرد‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬ثم أمر نبيه ‪.‬‬
‫العلم بالنسبة إلى علم ه‬

‫[ سورة المؤمنون ( ‪ : ) 23‬آية ‪] 118‬‬


‫ين ( ‪) 118‬‬ ‫اح ِم َ‬ ‫الر ِ‬‫ار َح ْم َوأ َ ْنتَ َخ ْي ُر ه‬‫ب ا ْغ ِف ْر َو ْ‬‫َوقُ ْل َر ّ ِ‬
‫اح ِمينَ » ]‬ ‫ت َخي ُْر َّ‬
‫الر ِ‬ ‫[ « َوأ َ ْن َ‬
‫ار َح ْم »هذه الفرق التي وفهت النظر استطاعتها التي آتيتها ‪،‬‬ ‫فأمر نبيه أن يقول« َربه ِ ا ْغ ِف ْر َو ْ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫اح ِمينَ »فإنهم ما تعدوا ما آتاهم ه‬ ‫الر ِ‬ ‫فلم تصل إال إلى التعطيل أو الشرك« َوأ َ ْن َ‬
‫ت َخي ُْر َّ‬
‫ّللا عليه وسلم من حيث ال يشعرون ‪ ،‬فإذا نالتهم السعادة‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فيشفع هنا فيهم رسول ه‬
‫ّللا بسؤال الرسول فيهم إذ قال« َربه ِ ا ْغ ِف ْر َو ْ‬
‫ار َح ْم »حين‬ ‫بالخروج من النار ‪ ،‬وقد غفر لهم ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا بذلك ‪ ،‬وما أمره بهذا الدعاء إال ليجيبه ‪ ،‬فأجابه في ذلك ‪ ،‬فعرفوا قدر رسول ه‬ ‫أمره ه‬
‫ّللا عليه وسلم عند ذلك إذا دخلوا الجنة ‪ ،‬فينتمون إليه فيها ألنه السيد األكبر ‪ ،‬وهذا‬ ‫صلهى ه‬
‫الدعاء يعم كل من هو بهذه المثابة من وقت آدم إلى نفخة الصعق ‪ ،‬ألنه ما خصص في دعوته‬
‫إال من هذه صفته ‪ ،‬ومن ينبغي أن يرحم ويغفر له ‪ ،‬فكل موحد هّلل ولو بدليله وإن لم يكن مؤمنا‬
‫ّللا خاصة ال غيره ‪ ،‬ويشفع المؤمنون واألنبياء في أهل الكبائر من أهل‬ ‫ففي الجنة ‪ ،‬يدخله ه‬
‫اإليمان ‪ ،‬ألن األنبياء بعثت بالخير وهو اإليمان ‪ ،‬والموحدون الذين لم يؤمنوا لكونهم ما بعث‬
‫إليهم رسول ‪ ،‬أو كانوا في فترة ‪ ،‬فهم الذين يحشر كل واحد منهم أمة وحده ‪ ،‬فإن بعث في أمة‬
‫‪ -‬هو فيهم ‪ -‬رسول فلم يؤمن به مع علمه بأحدية خالقه دخل النار ‪ ،‬فما يخرج منها إال بإخراج‬
‫خالقه ‪ ،‬ألن الخلود في النار ال يكون بالنص ألهل التوحيد بأي وجه حصل لهم ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا دخل الجنة ]‬ ‫عليه وسلم [ من مات وهو يعلم أنه ال إله إال ه‬
‫ولم يقل يقول وال يؤمن ‪ ،‬وإنما ذكر العلم خاصة ‪ ،‬فال يبقى في النار إال مشرك أو معطل ال‬
‫عن شبهة وال عن نظر مستوف في النظر قوته ‪ ،‬فلم يبق في النار إال المقلدة الذين كان في‬
‫قوتهم واستعدادهم أن ينظروا فما نظروا‬
‫اح ِمينَ » من باب المفاضلة ‪ ،‬فمعلوم أنه ما يرحم أحد من‬ ‫‪ -‬مسئلة ‪ -‬قوله تعالى ‪َ « :‬خي ُْر َّ‬
‫الر ِ‬
‫المخلوقين أحدا إال بالرحمة التي أوجدها الرحمن فيه ‪ ،‬فهي رحمته تعالى ‪ ،‬ال رحمتهم ‪،‬‬
‫ظهرت‬

‫ص ‪200‬‬

‫‪200‬‬
‫ّللا على لسان‬
‫ّللا لمن حمده ] أن ذلك القول هو قول ه‬ ‫في صورة مخلوق ‪ ،‬كما قال في [ سمع ه‬
‫عبده ‪ ،‬فقوله تعالى الذي سمعه موسى أتم في الشرف من قوله تعالى على لسان قائل ‪ ،‬فوقع‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫التفاضل بالمحل الذي سمع منه القول المعلوم أنه قول ه‬
‫وكذلك أيضا رحمته من حيث ظهورها من مخلوق أدنى من رحمته بعبده في غير صورة‬
‫ّللا بعبده في صورة المخلوق تكون‬ ‫مخلوق ‪ ،‬فتعيهن التفاضل واألفضلية بالمحال ‪ ،‬إال أن رحمة ه‬
‫عظيمة ‪ ،‬فإنه يرحم عن ذوق ‪ ،‬فيزيل برحمته ما يجده الراحم من األلم في نفسه من هذا‬
‫المرحوم ‪ ،‬والحق ليس كذلك ‪ ،‬فرحمته خالصة ال يعود عليه منها إزالة ألم ‪ ،‬فهو خير‬
‫ّللا مطلقة ‪.‬‬
‫الراحمين ‪ ،‬فرحمة المخلوق عن شفقة ورحمة ه‬

‫( ‪ ) 24‬سورة النّور مدنيّة‬


‫الرحيم‬ ‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 2‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫ّللا ه‬ ‫س ِم ه ِ‬ ‫ِب ْ‬
‫الزانِيَةُ َو ه‬
‫الزانِي‬ ‫ون ( ‪ ) 1‬ه‬ ‫ت لَعَله ُك ْم تَذَك ُهر َ‬‫ت بَ ِيّنا ٍ‬‫ضناها َوأ َ ْن َز ْلنا فِيها آيا ٍ‬‫ورةٌ أ َ ْن َز ْلناها َوفَ َر ْ‬ ‫س َ‬ ‫ُ‬
‫اّلِل‬ ‫ّللا إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ت ُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون بِ ه ِ‬ ‫واح ٍد ِم ْن ُهما ِمائَةَ َج ْل َد ٍة َوال تَأ ْ ُخ ْذ ُك ْم بِ ِهما َرأْفَةٌ فِي د ِ‬
‫ِين ه ِ‬ ‫فَاجْ ِلدُوا ُك هل ِ‬
‫ين ( ‪) 2‬‬ ‫ش َه ْد عَذابَ ُهما طائِفَةٌ ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫َوا ْليَ ْو ِم ا ْآل ِخ ِر َو ْليَ ْ‬
‫[ حد الزنا ]‬
‫حد الزنا هو الرجم للثيب والجلد للبكر إال عند من يرى الجمع بين الحدهين على الثيب ‪ ،‬وأكثر‬
‫العلماء على خالف هذا القول ‪ ،‬وما عندي في مسائل األحكام المشروعة بأصعب من الزنا‬
‫خاصة ‪ ،‬ولو أقيم عليه الحد فإني أعلم أنه يبقى عليه بعد إقامة الحد مطالبات من مظالم العباد ‪،‬‬
‫ّللا ينزل كل شيء‬ ‫ّللا يحكم بها حيث يكون وزنها ‪ ،‬فإن ه‬ ‫أن للرأفة موطنا ال نتعداه وأن ه‬ ‫واعلم ه‬
‫منزلته وال يتعدى به حقيقته كما هو في نفسه ‪ ،‬فإن الذي يتعدى الحدود هو المتعدي ‪ ،‬فجاء‬
‫الميزان في إقامة الحدود فأزال حكم الرأفة من المؤمن ‪ ،‬فإذا رأف في إقامة الحد فليس بمؤمن‬
‫وال استعمل الميزان ‪ ،‬وكان من الذين يخسرون الميزان ؛ فيتوجه عليه بهذه‬

‫ص ‪201‬‬

‫‪201‬‬
‫ّللا يقول ‪َ «:‬وال تَأ ْ ُخ ْذ ُك ْم »يعني والة األمور«‬ ‫الرأفة اللوم حيث عدل بها عن ميزانها ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا »اعلم أن الرأفة من القلوب مثل جبذ وجذب ‪،‬‬ ‫ِين َّ ِ‬‫ِب ِهما َرأْفَةٌ ِفي د ِ‬
‫كذلك رأف ورفأ ‪ ،‬وهو من اإلصالح وااللتئام ‪ ،‬فالرأفة التئام الرحمة بالعباد ‪ ،‬ولذلك نهى‬
‫عنها في إقامة الحدود ال كل الحدود ‪ ،‬وإنما ذلك في حد الزاني والزانية ‪ ،‬فيؤدي ذلك إلى‬
‫ّللا جزاؤه ‪،‬‬ ‫ّللا الذي شرع ودين ه‬ ‫الفتور في إقامة ح هد ه‬
‫ثم قال ‪ِ «:‬إ ْن ُك ْنت ُ ْم تُؤْ ِمنُونَ ِب َّ ِ‬
‫اّلل »‬
‫فخص ألنه ث هم من يؤمن بالباطل« َو ْاليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر »يقول ‪ :‬وتؤمنون بإقامة ه‬
‫ّللا حدوده في اليوم‬ ‫ه‬
‫اآلخر ‪،‬‬
‫كأنه يقول لوالة األمور ‪ :‬طهروا عبادي في الدنيا قبل أن يفضحوا على رؤوس األشهاد ‪،‬‬
‫عذابَ ُهما طائِفَةٌ ِمنَ ْال ُمؤْ ِمنِينَ »‪.‬‬
‫ولذلك قال في هؤالء ‪َ «:‬و ْليَ ْش َه ْد َ‬
‫ينبه أن أخذهم في اآلخرة على رؤوس األشهاد ‪ ،‬فتعظم الفضيحة ‪ ،‬فإقامة الحدود في الدنيا‬
‫أستر ‪ ،‬فأمر الوالي بإقامة الحد نكاال من الزاني كما هو نكال في حق السارق ‪ ،‬وبيهن ذلك ‪،‬‬
‫وإقامة الحد إذا لم يكن نكاال فإنه طهارة ‪ ،‬وإن كان نكاال فال بد فيه من معقول الطهارة ألنه‬
‫يسقط عنه في اآلخرة بقدر ما أخذ به في الدنيا ‪ ،‬فسقط عن الزاني النكال وما سقط عن السارق‬
‫‪ ،‬فإن السارق قطعت يده وبقي مقيدا بما سرق ألنه مال الغير ‪ ،‬فقطع يده زجر وردع لما‬
‫يستقبل ‪ ،‬وبقي حق الغير عليه فلذلك جعله نكاال ‪ ،‬والنكل القيد ‪،‬‬
‫فما زال من القيد مع قطع يده وما تعرض في حد الزاني إلى شيء من ذلك ‪ ،‬وقد ورد في‬
‫الخبر أن ما سكت عن الحكم فيه بمنطوق فهو عافية ‪ ،‬أي دارس ال أثر له وال مؤاخذة فيه ‪،‬‬
‫ّللا له إقامة الحد ‪ ،‬فال ينبغي أن يقوم به غضب عند تعدي‬ ‫واعلم أن غير الحاكم ما عيهن ه‬
‫ّللا عليه وسلم من حيث ما هو حاكم ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الحدود ‪ ،‬فليس ذلك إال للحكام خاصة ولرسول ه‬
‫ّللا منه فهو غضب نفس وطبع أو‬ ‫والقاضي إن بقي معه الغضب على المحدود بعد أخذ حق ه‬
‫ألمر في نفسه لذلك المحدود ‪ ،‬ما هو غضب هّلل ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فال يغفل الحاكم عند إقامة الحدود‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإنه ما قام في ذلك مراعاة لحق ه‬ ‫فلذلك ال يأجره ه‬
‫عن النظر في نفسه ‪ ،‬وليحذر من التشفي الذي يكون للنفوس ‪ ،‬فإن وجد لذلك تشفيا فيعلم أنه ما‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫قام في ذلك هّلل وما عنده فيه خير من ه‬
‫وإذا فرح بإقامة الحد على المحدود إن لم يكن فرحه له لما سقط عن ذلك الحد في اآلخرة من‬
‫المطالبة وإال فهو معلول ‪ ،‬فمن غضب هّلل وكان حاكما وأقام الحد يزول عنه الغضب على ذلك‬
‫الشخص عند الفراغ منه ‪ ،‬ويرجع لذلك المحدود رحمة كله‪.‬‬

‫‪202‬‬

‫‪202‬‬
‫[سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 3‬إلى ‪] 4‬‬
‫علَى‬ ‫الزا ِنيَةُ ال يَ ْن ِك ُحها ِإاله ٍ‬
‫زان أ َ ْو ُمش ِْركٌ َو ُح ِ ّر َم ذ ِلكَ َ‬ ‫الزا ِني ال يَ ْن ِك ُح ِإاله زا ِنيَة أ َ ْو ُمش ِْركَة َو ه‬ ‫ه‬
‫ين َج ْلدَة‬‫ش َهدا َء فَاجْ ِلدُو ُه ْم ثَمانِ َ‬‫ت ث ُ هم لَ ْم يَأْتُوا بِأ َ ْربَعَ ِة ُ‬‫صنا ِ‬ ‫ون ا ْل ُمحْ َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 3‬والهذ َ‬
‫ِين يَ ْر ُم َ‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ون ) ‪( 4‬‬ ‫سقُ َ‬ ‫َوال ت َ ْقبَلُوا لَ ُه ْم شَهادَة أَبَدا َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْلفا ِ‬
‫ّللا في رمي المحصنات وإن صدقوا ‪ ،‬فجلد الرامي إنما كان لرميه‬ ‫اعلم أن العقوبة قد أوقعها ه‬
‫ولكونه ما جاء بأربعة شهداء ‪ ،‬وقد يكون الشهداء شهداء زور في نفس األمر وتحصل العقوبة‬
‫بشهادتهم في المرمي فيقتل ‪ ،‬وله األجر التام في األخرى مع ثبوت الحكم عليه في الدنيا ‪،‬‬
‫وعلى شهود الزور والمفتري العقوبة في األخرى ‪ ،‬وإن حكم الحق في الدنيا بقوله وشهادة‬
‫شهود الزور فيه ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 5‬إلى ‪] 9‬‬


‫ون أ َ ْزوا َج ُه ْم َولَ ْم‬ ‫ور َر ِحي ٌم ( ‪َ ) 5‬والهذ َ‬
‫ِين يَ ْر ُم َ‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫صلَ ُحوا فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ِين تابُوا ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ َوأ َ ْ‬ ‫ِإاله الهذ َ‬
‫ين ( ‪) 6‬‬ ‫اّلِل ِإنههُ لَ ِم َن ال ه‬
‫صا ِد ِق َ‬ ‫ت ِب ه ِ‬‫س ُه ْم فَشَها َدةُ أ َ َح ِد ِه ْم أ َ ْربَ ُع شَهادا ٍ‬
‫ش َهدا ُء ِإاله أ َ ْنفُ ُ‬‫يَك ُْن لَ ُه ْم ُ‬
‫ش َه َد أ َ ْربَ َع‬‫ذاب أ َ ْن ت َ ْ‬
‫ع ْن َها ا ْلعَ َ‬
‫ين ) ‪َ ( 7‬ويَد َْرؤُا َ‬ ‫كان ِم َن ا ْلكا ِذبِ َ‬ ‫علَ ْي ِه إِ ْن َ‬ ‫سةُ أ َ هن لَ ْعنَتَ ه ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫خام َ‬‫َوا ْل ِ‬
‫صا ِدقِ َ‬
‫ين‬ ‫كان ِم َن ال ه‬ ‫علَ ْيها إِ ْن َ‬ ‫ّللا َ‬
‫ب هِ‬ ‫ض َ‬‫غ َ‬‫سةَ أ َ هن َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 8‬وا ْل ِ‬
‫خام َ‬ ‫اّلِل إِنههُ لَ ِم َن ا ْلكا ِذبِ َ‬
‫ت بِ ه ِ‬‫شَهادا ٍ‬
‫)‪(9‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم في المرأة التي العنت زوجها وكذبت وعرف ذلك وقد حكم ه‬ ‫قال صلهى ه‬
‫بالمالعنة ‪ ،‬وفي نفس األمر صدق الرجل وكذبت المرأة‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬لكان لي ولها شأن ] فترك كشفه وعلمه لظاهر الحكم‬ ‫فقال صلهى ه‬
‫[ حكم الحاكم بعلمه]‬
‫‪-‬حكم الحاكم بعلمه ‪ -‬يترك الحاكم حكمه بما يعلم ويحكم بقول الشهود ‪ ،‬وليس ذلك عندنا إال‬
‫في األموال ال في النفوس وال في إقامة الحدود ‪ ،‬وعندي في هذه المسألة لو كنت عالما بأمر ما‬
‫وشهد الشهود بخالف علمي ‪ ،‬وال يجوز لي أن أحكم‬

‫ص ‪203‬‬

‫‪203‬‬
‫بعلمي إذا كنت ممن يقول بذلك ‪ ،‬استنبت في الحكم من ال علم له باألمر ‪ ،‬وتركت الحكم فيه ‪،‬‬
‫وهذا هو الوجه الصحيح عندي ‪ ،‬والذي أعمل به وإن كان في النفس منه شيء ‪ ،‬وهذا عندي‬
‫في الحكم في األموال ‪،‬‬
‫وأما الحكم في األبدان فال أحكم إال بعلمي إذا علمت البراءة ‪ ،‬فإن لم تكن البراءة وعلمت‬
‫صدق المفتري حكمت بالشهود وتركت علمي ‪ ،‬فالحاكم ال يجوز له أن يخالف علمه أصال ‪،‬‬
‫وذلك في األموال وأما في األبشار فما يجب عليه إمضاء الحكم على المحكوم عليه‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 10‬‬


‫اب َح ِكي ٌم ) ‪( 10‬‬ ‫علَ ْي ُك ْم َو َرحْ َمتُهُ َوأ َ هن ه َ‬
‫ّللا ت َ هو ٌ‬ ‫ّللا َ‬ ‫َولَ ْو ال فَ ْ‬
‫ض ُل ه ِ‬
‫إذا اتفق أن يؤاخذ التائب فما يأخذه إال الحكيم ال غيره من األسماء ‪ ،‬فإذا لم يؤاخذ فإنما يكون‬
‫ّللا تواب رحيم بطائفة ‪ ،‬وتواب حكيم بطائفة ‪.‬‬ ‫الحكم فيه للرحيم ‪ ،‬فإن ه‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 11‬‬


‫ام ِر ٍئ ِم ْن ُه ْم َما‬
‫سبُوهُ ش ًَّرا لَ ُك ْم بَ ْل ُه َو َخ ْي ٌر لَ ُك ْم ِل ُك ِ ّل ْ‬ ‫صبَةٌ ِم ْن ُك ْم ال تَحْ َ‬ ‫ع ْ‬ ‫اْل ْف ِك ُ‬
‫ِين جا ُؤ بِ ْ ِ‬‫إِ هن الهذ َ‬
‫َذاب ع َِظي ٌم ) ‪( 11‬‬ ‫اْلثْ ِم َوالهذِي ت َ َولهى ِك ْب َرهُ ِم ْن ُه ْم لَهُ ع ٌ‬ ‫ب ِم َن ْ ِ‬ ‫ا ْكت َ َ‬
‫س َ‬
‫ّللا قط من حيث نفسه ‪ ،‬وإنما وقعت فيه المخالفة ال منه ‪ ،‬من حركة المريد‬ ‫اللسان ما عصى ه‬
‫تحريكه ‪ ،‬فهو مجبور حيث لم يعط الدفع عن نفسه لكونه من آالت النفس ‪ ،‬فهو طائع من ذاته‬
‫ّللا سمع صاحبه لنطق اللسان الذاتي إذا جعلته النفس يتلفظ بمخالفة ما أراد الشرع‬ ‫‪ ،‬ولو فتح ه‬
‫أن يتلفظ به لبهت ‪ ،‬فإنه طائع بالذات شاهد عدل على محركه ‪،‬‬
‫وكذلك كل جارحة مصرفة من سمع وبصر وفؤاد وجلد وعصب وفرج ونفس وحركة ‪ ،‬لذلك‬
‫اإلثْ ِم »االكتساب تعمل في الكسب ‪ ،‬والموجد‬ ‫ب ِمنَ ْ ِ‬ ‫ئ ِم ْن ُه ْم َما ا ْكت َ َ‬
‫س َ‬ ‫قال تعالى ‪ِ «:‬ل ُك ِهل ْام ِر ٍ‬
‫مكتسب ألنه قد وصف بما اكتسب ‪ ،‬فقد كان عن هذا الوصف غير موصوف به إذ لم يكن ذلك‬
‫المكتسب ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 12‬إلى ‪] 13‬‬


‫س ِه ْم َخ ْيرا َوقالُوا هذا إِ ْفكٌ ُمبِ ٌ‬
‫ين ( ‪ ) 12‬لَ ْو ال‬ ‫ون َوا ْل ُم ْؤ ِمناتُ بِأ َ ْنفُ ِ‬
‫س ِم ْعت ُ ُموهُ َظ هن ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬ ‫لَ ْو ال إِ ْذ َ‬
‫ون) ‪( 13‬‬ ‫داء فَأُولئِكَ ِع ْن َد ه ِ‬
‫ّللا ُه ُم ا ْلكا ِذبُ َ‬ ‫ش َهدا َء فَ ِإ ْذ لَ ْم يَأْتُوا ِبال ُّ‬
‫ش َه ِ‬ ‫علَ ْي ِه ِبأ َ ْربَعَ ِة ُ‬
‫جا ُؤ َ‬

‫ص ‪204‬‬

‫‪204‬‬
‫ش َهدا َء »كما قرر في الحكم ‪ ،‬وكان الرامي في تلك القضية الخاصة‬ ‫علَ ْي ِه ِبأ َ ْربَعَ ِة ُ‬
‫" لَ ْو ال جا ُؤ َ‬
‫داء فَأُول ِئ َك ِع ْن َد َّ ِ‬
‫ّللا ُه ُم ْالكا ِذبُونَ "‪.‬‬ ‫كاذبا فيها« فَإِ ْذ لَ ْم يَأْتُوا ِبال ُّ‬
‫ش َه ِ‬
‫قوله « أولئك » يحتمل يريد بهذه اإلشارة هذه القضية الخاصة أو يريد عموم الحكم في ذلك‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 14‬إلى ‪] 15‬‬


‫َذاب ع َِظي ٌم ‪( 14‬‬ ‫ضت ُ ْم فِي ِه ع ٌ‬ ‫س ُك ْم فِيما أَفَ ْ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َو َرحْ َمتُهُ فِي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة لَ َم ه‬
‫ّللا َ‬
‫ض ُل ه ِ‬ ‫َولَ ْو ال فَ ْ‬
‫سبُونَهُ َه ِيّنا َو ُه َو ِع ْن َد ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫س لَ ُك ْم ِب ِه ِع ْل ٌم َوتَحْ َ‬‫ون ِبأ َ ْفوا ِه ُك ْم ما لَ ْي َ‬
‫سنَ ِت ُك ْم َوتَقُولُ َ‬‫) ِإ ْذ تَلَقه ْونَهُ ِبأ َ ْل ِ‬
‫ع َِظي ٌم ) ‪( 15‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬عظيم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫أي الذي هان على الجاهل بقدره من االفتراء على بيت رسول ه‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬ ‫عند ه‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 16‬‬


‫ُون لَنا أ َ ْن نَت َ َكله َم ِبهذا ُ‬
‫س ْبحانَكَ هذا بُه ٌ‬
‫ْتان ع َِظي ٌم ) ‪( 16‬‬ ‫َولَ ْو ال ِإ ْذ َ‬
‫س ِم ْعت ُ ُمو ُه قُ ْلت ُ ْم ما يَك ُ‬
‫البهتان أن ينسب إلى الشخص ما لم يكن منه ‪ ،‬واألعراض عند ذوي الهيئات والمروءات‬
‫أعظم في الحرمة من الدماء واألموال ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ ) : 24‬اآليات ‪ 17‬إلى ‪] 22‬‬


‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫ت َو ه‬ ‫ّللاُ لَ ُك ُم ْاآليا ِ‬
‫ين ( ‪َ ) 17‬ويُبَ ِيّ ُن ه‬ ‫ّللاُ أ َ ْن تَعُودُوا ِل ِمثْ ِل ِه أَبَدا ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ظ ُك ُم ه‬ ‫يَ ِع ُ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم ِفي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة‬ ‫ِين آ َمنُوا لَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫فاحشَةُ ِفي الهذ َ‬ ‫شي َع ا ْل ِ‬ ‫ون أ َ ْن ت َ ِ‬
‫ِين يُ ِحبُّ َ‬ ‫( ‪ِ ) 18‬إ هن الهذ َ‬
‫ُف َر ِحي ٌم ( ‪20‬‬ ‫ّللا َرؤ ٌ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َو َرحْ َمتُهُ َوأ َ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬
‫ض ُل ه ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 19‬ولَ ْو ال فَ ْ‬ ‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫َو ه‬
‫طان فَ ِإنههُ يَأ ْ ُم ُر‬
‫ش ْي ِ‬ ‫ت ال ه‬ ‫طوا ِ‬ ‫طان َو َم ْن يَتهبِ ْع ُخ ُ‬ ‫ش ْي ِ‬ ‫ت ال ه‬ ‫طوا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا ال تَتهبِعُوا ُخ ُ‬ ‫) يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َو َرحْ َمتُهُ ما َزكى ِم ْن ُك ْم ِم ْن أ َ َح ٍد أَبَدا َول ِك هن ه َ‬
‫ّللا يُ َز ِ ّكي‬ ‫ّللا َ‬
‫ض ُل ه ِ‬ ‫شاء َوا ْل ُم ْنك َِر َولَ ْو ال فَ ْ‬ ‫ِبا ْلفَحْ ِ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 21‬‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫َم ْن يَشا ُء َو ه‬
‫س ِبي ِل‬
‫ين ِفي َ‬ ‫هاج ِر َ‬ ‫ين َوا ْل ُم ِ‬ ‫سعَ ِة أ َ ْن يُ ْؤتُوا أُو ِلي ا ْلقُ ْربى َوا ْل َمسا ِك َ‬ ‫ض ِل ِم ْن ُك ْم َوال ه‬ ‫َوال يَأْت َ ِل أُولُوا ا ْلفَ ْ‬
‫ور َر ِحي ٌم) ‪( 22‬‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫ون أ َ ْن يَ ْغ ِف َر ه‬
‫ّللاُ لَ ُك ْم َو ه‬ ‫صفَ ُحوا أ َ ال ت ُ ِحبُّ َ‬ ‫ّللا َو ْليَ ْعفُوا َو ْليَ ْ‬ ‫هِ‬

‫ص ‪205‬‬

‫‪205‬‬
‫ّللا عنه لمسطح في قضية اإلفك ‪ ،‬وقد حلف أبو بكر‬ ‫نزلت هذه اآلية في توعد أبي بكر رضي ه‬
‫أن ال يعطي مسطحا ما كان يعطيه ‪ ،‬فنزلت اآلية« َوال يَأْت َ ِل »أي ال يحلف« أُولُوا ْالفَ ْ‬
‫ض ِل ِم ْن ُك ْم‬
‫سعَ ِة »يعني في الرزق« أ َ ْن يُؤْ تُوا »يعطوا« أ ُو ِلي ْالقُ ْربى »ذوي‬ ‫ّللا« َوال َّ‬‫»من له مال رزقه ه‬
‫ّللاُ لَ ُك ْم »‬ ‫ّللا َو ْليَ ْعفُوا َو ْليَ ْ‬
‫صفَ ُحوا أ َ ال ت ُ ِحبُّونَ أ َ ْن يَ ْغ ِف َر َّ‬ ‫سبِي ِل َّ ِ‬ ‫الرحم « َو ْال َمسا ِكينَ َو ْال ُم ِ‬
‫هاج ِرينَ فِي َ‬

‫ّللا لي ‪ ،‬وأعاد ما كان خصصه‬ ‫ّللا عنه بعد سمعها ‪ :‬بلى إني أحب أن يغفر ه‬‫فقال رضي ه‬
‫لمسطح وكفهر عن يمينه ‪ ،‬ففي الوعيد إذا لم يكن حدا مشروعا وكان لك الخيار فيه وعلمت أن‬
‫ّللا ‪ ،‬فلك أن ال تفي به وأن تتصف بالخلف فيه ‪،‬‬
‫تركه خير من فعله عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت‬‫فقد قال صلهى ه‬
‫الذي هو خير ]‬
‫وقال الشاعر ‪:‬‬
‫وإني إذا أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي‬
‫[ العقوبة بالكفارة ]‬
‫وإنما عوقب بالكفارة ألنه أمر بمكارم األخالق واليمين على ترك فعل الخير ‪ ،‬وهذا الترك من‬
‫وّللا فعهال لما يريد ال يقاس بالمخلوق وال يقاس المخلوق‬
‫مذام األخالق ‪ ،‬فعوقب بالكفارة ‪ ،‬ه‬
‫عليه ‪ ،‬وإنما األدلة الشرعية أتت بأمور تقرر عندنا منها أنه يعامل عباده باإلحسان وعلى قدر‬
‫ظنهم به ‪ ،‬فتبين أنه سبحانه ما يحمد خلقا من مكارم األخالق إال وهو تعالى أولى به بأن يعامل‬
‫به خلقه ‪ ،‬وال يذ هم شيئا من سفساف األخالق إال وكان الجناب اإللهي أبعد منه‪.‬‬

‫ص ‪206‬‬

‫‪206‬‬
‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 23‬إلى ‪] 24‬‬
‫ت لُ ِعنُوا ِفي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة َولَ ُه ْم ع ٌ‬
‫َذاب ع َِظي ٌم (‬ ‫ت ا ْل ُم ْؤ ِمنا ِ‬ ‫ت ا ْلغا ِفال ِ‬ ‫صنا ِ‬ ‫ون ا ْل ُمحْ َ‬ ‫ِين يَ ْر ُم َ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ون ( ‪) 24‬‬ ‫ِيه ْم َوأ َ ْر ُجلُ ُه ْم بِما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫سنَت ُ ُه ْم َوأ َ ْيد ِ‬ ‫علَ ْي ِه ْم أ َ ْل ِ‬ ‫) ‪23‬يَ ْو َم ت َ ْ‬
‫ش َه ُد َ‬
‫[ على من يقع العذاب ]‬
‫فما منك جزء إال وهو عالم ناطق ‪ ،‬فال يحجبنك أخذ سمعك عن نطقه ‪ ،‬فال تقل يوما ‪:‬‬
‫أنا وحدي ‪ ،‬ما أنت وحدك ولكنك في كثرة منك ‪ ،‬والجسم ال يأمر النفس ‪ ،‬إال بخير ‪ ،‬ولهذا‬
‫تشهد على النفس يوم القيامة جلود الجسم وجميع جوارحه ‪ ،‬وفي هذه اآلية اإلخبار بعلم‬
‫جوارح اإلنسان باألشياء فإن العمل للجوارح والنية للنفس ‪،‬‬
‫والجوارح ال تدري هل هذا العمل مشروع أم غير مشروع ‪ ،‬ولذلك إذا شهدت الجوارح‬
‫والجلود بما وقع منها من األعمال على النفس المدبرة لها ‪ ،‬ما تشهد بوقوع معصية وال طاعة‬
‫وإنما شهادتها بما عملته ‪،‬‬
‫وّللا يعلم حكمه في ذلك العمل ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ْ‬
‫علَ ْي ِه ْم أَل ِسنَت ُ ُه ْم َوأ َ ْيدِي ِه ْم َوأ َ ْر ُجلُ ُه ْم ِبما كانُوا يَ ْع َملُونَ "‬
‫ولهذا إذا كان يوم القيامة " ت َ ْش َه ُد َ‬
‫يعني بها ‪ ،‬ولم يشهدوا بكون ذلك العمل طاعة وال معصية ‪ ،‬فإن مرتبتهم ال تقتضي ذلك ‪ ،‬وما‬
‫سمي ذلك النطق شهادة إال تجوزا ‪ ،‬فالجوارح تشهد بالفعل ما تشهد بالحكم ‪ ،‬فإنها ما تفرق بين‬
‫الطاعة المشروعة والمعصية ‪ ،‬فإنها مطيعة بالذات ال عن أمر ‪ ،‬فبقي الحكم هّلل تعالى فيأخذه‬
‫ابتداء من غير نطق الجوارح ‪ ،‬فما وقعت المخالفة من الجوارح إال من حركة المريد تحريكها‬
‫محركها ‪ ،‬فإنه ما من جارحة إال وهي مسبحة‬ ‫ه‬ ‫‪ ،‬فهي مجبورة طائعة بالذات ‪ ،‬شاهد عدل على‬
‫هّلل مقدسة لجالله ‪ ،‬غير عالمة بما تصرفها فيه نفسها المدبرة لها ‪،‬‬
‫ّللا تعالى عبادته والوقوف بهذه الجوارح وبعالم ظاهره عندما حد له ‪ ،‬فلو‬ ‫المكلهفة التي كلهفها ه‬
‫علمت الجوارح ما تعلمه النفس من تعيين ما هو معصية وما هو طاعة ما وافقت على مخالفة‬
‫أصال ‪ ،‬فإنها ما تعاين شيئا من الموجودات إال مسبحا هّلل مقدسا لجالله ‪،‬‬
‫غير أنها قد أعطيت من الحفظ القوة العظيمة ‪ ،‬فال تصرفها النفس في أمر إال وتحتفظ على‬
‫ذلك األمر وتعلمه ‪ ،‬والنفس تعلم أن ذلك طاعة ومعصية ‪ ،‬وذلك يدل على أن الجوارح‬
‫ارتبطت بالنفس الناطقة ارتباط الملك بمالكه ‪ ،‬فال تشهد إال باألجنبية ‪ ،‬إذ ال بد من شهود عليه‬
‫‪ ،‬وإن لم يكن على ما قلناه وكان عين الشاهد عين المشهود عليه ‪ ،‬فهو إقرار ال شهادة ‪،‬‬

‫ص ‪207‬‬

‫‪207‬‬
‫ّللا تعالى أنه إقرار بل ذكر أنها شهادة ‪ ،‬فإذا وقع اإلنكار يوم القيامة عند السؤال من‬ ‫وما ذكر ه‬
‫ّللا لها ‪ :‬نبعث عليك شاهدا من نفسك ‪ ،‬فتقول في نفسها ‪ :‬من يشهد علي ؟‬ ‫هذه النفس ‪ ،‬يقول ه‬
‫ّللا ‪ :‬هل نرى ربنا يوم القيامة‬ ‫خرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال ‪ [ :‬قالوا يا رسول ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬والذي نفسي بيده ال تضارون في رؤية ربكم ‪ ،‬فيلقى‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫؟ قال رسول ه‬
‫العبد فيقول ‪ :‬أي قل ‪ :‬ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل واإلبل وأذرك ترأس‬
‫وتربع ؟ فيقول ‪ :‬بلى يا رب ؟ فيقول ‪ :‬أفظننت أنك مالقي ؟‬
‫فيقول ‪ :‬آمنت بك وبكتابك وبرسلك ‪ ،‬وصليت وصمت وتصدقت ‪ ،‬ويثني بخير ما استطاع ‪،‬‬
‫فيقول ‪ :‬هاهنا إذا ‪ ،‬قال ثم يقال له ‪ :‬اآلن نبعث شاهدا عليك ‪ ،‬ويتفكر في نفسه ‪ ،‬من ذا الذي‬
‫يشهد علي ؟‬
‫فيختم على فيه ويقال لفخذه ‪ :‬انطقي ‪ ،‬فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ‪ ،‬وذلك ليعذر من‬
‫ّللا عليه ]‬
‫نفسه وذلك المنافق ‪ ،‬وذلك الذي سخط ه‬
‫ّللا تعالى الجوارح عن تلك األفعال التي صرفها فيها ‪ ،‬فيقول للعين ‪ :‬قولي فيما صرفك‬ ‫فيسأل ه‬
‫‪ ،‬فتقول له ‪:‬‬
‫يا رب نظر بي إلى أمر كذا وكذا ‪ ،‬وتقول األذن ‪ :‬أصغى بي إلى كذا وكذا ‪ ،‬وتقول اليد ‪:‬‬
‫بطش بي في كذا وكذا ‪ ،‬يعني في غير حق فيما حرم عليه البطش فيه ‪ ،‬وتقول الرجل ‪:‬‬
‫ص َر َو ْالفُؤا َد ُك ُّل أُولئِ َك كانَ‬
‫س ْم َع َو ْالبَ َ‬
‫كذلك والجلود كذلك واأللسنة كذلك وجميع الجوارح ( ِإ َّن ال َّ‬
‫ّللا له ‪ :‬هل تنكر شيئا من ذلك ؟‬ ‫ع ْنهُ َم ْسؤ ًُال ) فيقول ه‬ ‫َ‬
‫ّللا ‪ :‬ألم أقل لك‬ ‫فيحار ‪ ،‬ويقول ‪ :‬ال ؛ والجوارح ال تعرف ما الطاعة وال المعصية ‪ ،‬فيقول ه‬
‫على لسان رسولي وفي كتبي ال تنظر إلى كذا ‪ ،‬وال تسمع كذا ‪ ،‬وال تسع إلى كذا ‪ ،‬وال تبطش‬
‫بكذا ؟‬
‫ويعين له جميع ما تعلق من التكليف بالحواس ‪ ،‬ثم يفعل كذلك في الباطن فيما حجر عليه من‬
‫سوء الظن وغيره ؛ فعليك بحفظ الجوارح ‪ ،‬فإنه من أرسل جوارحه أتعب قلبه ‪ ،‬فهذه اآلية‬
‫ّللا لنا أن كل جزء فينا شاهد عدل مزكى مرضي ‪ ،‬وذلك بشرى خير لنا ‪ ،‬ولكن‬ ‫إعالم من ه‬
‫أكثر الناس ال يعلمون صورة الخير فيها ‪ ،‬فإن األمر إذا كان بهذه المثابة يرجى أن يكون المآل‬
‫ّللا أجل وأعظم وأعدل من أن يعذب مكرها مقهورا ‪،‬‬ ‫إلى خير وإن دخل النار ‪ ،‬فإن ه‬
‫يمان )‬
‫اإل ِ‬ ‫وقد قال ‪ ( :‬إِ َّال َم ْن أ ُ ْك ِرهَ َوقَ ْلبُهُ ُم ْ‬
‫ط َمئِ ٌّن بِ ْ ِ‬
‫وقد ثبت حكم المكره في الشرع ‪ ،‬وعلم حد المكره الذي اتفق عليه والمكره الذي اختلف فيه ‪،‬‬
‫وهذه الجوارح من المكرهين المتفق عليهم أنهم مكرهون ‪ ،‬فتشهد هذه األعضاء بال شك على‬
‫النفس المدبرة لها السلطانة عليها ‪ ،‬والنفس‬

‫ص ‪208‬‬

‫‪208‬‬
‫ّللا عن حدوده والمسئولة عنها ‪ ،‬وهي مرتبطة بالحواس والقوى ال انفكاك‬ ‫هي المطلوبة عند ه‬
‫لها عن هذه األدوات الجسمية الطبيعية العادلة الزكية المرضية المسموع قولها ؛ وال عذاب‬
‫تحس باآلالم المحسوسة لسريان الروح‬ ‫ه‬ ‫للنفس إال بواسطة تعذيب هذه الجسوم ‪ ،‬وهي التي‬
‫الحيواني فيها ‪ ،‬وعذاب النفس بالهموم والغموم وغلبة األوهام واألفكار الرديئة ‪ ،‬وما ترى في‬
‫رعيتها مما تحس به من اآلالم ويطرأ عليها من التغييرات ‪ ،‬كل صنف بما يليق به من العذاب‬
‫‪ ،‬وقد أخبر بمآلها إليمانها إلى السعادة ‪ ،‬لكون المقهور غير مؤاخذ بما جبر عليه ‪ ،‬فاإلنسان‬
‫سعيد من حيث نشأته الطبيعية ومن حيث نشأة نفسه الناطقة بانفراد كل نشأة عن صاحبتها ‪،‬‬
‫وبالمجموع ظهرت المخالفة ‪ ،‬فما عذبت الجوارح باأللم إال إلحساسها باللذة فيما نالته من حيث‬
‫حيوانيتها ‪ ،‬وال عمل للنفوس إال بهذه األدوات ‪،‬‬
‫وال حركة في عمل لألدوات إال باألغراض النفسية ‪ ،‬فكما كان العمل بالمجموع وقع العذاب‬
‫بالمجموع ‪ ،‬ثم تقضي عدالة األدوات في آخر األمر إلى سعادة المؤمنين ‪ ،‬فيرتفع العذاب‬
‫الحسي ‪ ،‬ثم يقضى حكم الشرع الذي رفع عن النفس ما همت به ‪ ،‬فيرتفع أيضا العذاب‬
‫المعنوي عن المؤمن ‪ ،‬فال يبقى عذاب معنوي وال حسي على أحد من أهل اإليمان ‪،‬‬
‫وبقدر قصر الزمان في الدار الدنيا بذلك العمل لوجود اللذة فيه ‪ -‬وأيام النعيم قصار ‪ -‬تكون‬
‫الدراكة مع قصر الزمان المطابق لزمان العمل ‪ ،‬فإن‬ ‫مدة العذاب على النفس الناطقة الحيوانية ه‬
‫أنفاس الهموم طوال ‪ ،‬فما أطول الليل على أصحاب اآلالم وما أقصره بعينه على أصحاب‬
‫اللذات والنعيم ‪ ،‬فزمان الشدة طويل على صاحبه وزمان الرخاء قصير ‪،‬‬
‫يمس الجوارح من النار وأنواع العذاب فأما الجوارح‬ ‫ه‬ ‫فإذا عذبت النفس في دار الشقاء فبما‬
‫فتستعذب جميع ما يطرأ عليها من أنواع العذاب ‪،‬‬
‫ولذا سمي عذابا ألنهها تستعذبه كما يستعذب ذلك خزنة النار حيث تنتقم هّلل ‪ ،‬وكذلك الجوارح‬
‫ّللا محال لالنتقام من تلك النفس التي كانت تحكم عليها ‪ ،‬واآلالم تختلف على‬ ‫حيث جعلها ه‬
‫النفس الناطقة بما تراه في ملكها وبما تنقله إليها الروح الحيواني ‪،‬‬
‫الحس ينقل للنفس اآلالم في تلك األفعال المؤلمة ‪ ،‬والجوارح ما عندها إال النعيم الدائم في‬
‫ه‬ ‫فإن‬
‫جهنم ‪ ،‬مثل ما هي الخزنة عليه ممجدة هّلل تعالى مستعذبة لما يقوم بها من األفعال ‪،‬‬
‫كما كانت في الدنيا ‪ ،‬فيتخيل اإلنسان أن العضو يتألم إلحساسه في نفسه باأللم وليس كذلك إنما‬
‫هو المتألم بما تحمله الجارحة ‪،‬‬

‫ص ‪209‬‬

‫‪209‬‬
‫يحس به ‪ ،‬ولو‬‫ه‬ ‫فتبين لك إن كنت عاقال ‪ .‬من يحمل األلم منك ومن يحس به ممن ال يحمله وال‬
‫كانت الجوارح تتألم ألنكرت كما تنكر النفس ‪ ،‬وما كانت تشهد عليه ‪ ،‬فقد علمت يا أخي من‬
‫يعذهب منك ومن يتنعم وما أنت سواك ‪ ،‬فال تجعل رعيتك تشهد عليك فتبوء بالخسران ‪ ،‬وقد‬
‫ّللا الملك فيقال لك ‪ :‬ما فعلت برعيتك ؟‬ ‫والك ه‬
‫أال ترى الوالي الجائر إذا أخذه الملك وعذبه عند استغاثة رعيته به كيف تفرح الرعية باالنتقام‬
‫من واليها ؟‬
‫كذلك الجوارح يكشف لك يوم القيامة عن فرحها ونعيمها بما تراه في النفس التي كانت تدبرها‬
‫ّللا عظيمة عند الجوارح ‪،‬‬ ‫في واليتها عليها ‪ ،‬ألن حرمة ه‬
‫س ْمعُ ُك ْم َوال أَب ُ‬
‫ْصار ُك ْم َوال ُجلُو ُد ُك ْم )‪.‬‬ ‫قال تعالى ‪َ (:‬وما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْستَتِ ُرونَ أ َ ْن يَ ْش َه َد َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َ‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 25‬‬


‫ق ا ْل ُم ِب ُ‬
‫ين ( ‪) 25‬‬ ‫ون أ َ هن ه َ‬
‫ّللا ُه َو ا ْل َح ُّ‬ ‫ّللاُ دِينَ ُه ُم ا ْل َح ه‬
‫ق َويَ ْعلَ ُم َ‬ ‫يَ ْو َمئِ ٍذ يُ َو ِفّ ِ‬
‫يه ُم ه‬
‫ين »أي الظاهر ‪ ،‬فمن شهدت عليه جوارحه ‪ ،‬فما تعظم فضيحته من حيث شهادة‬ ‫« ْال َح ُّق ْال ُم ِب ُ‬
‫جوارحه عليه ‪ ،‬وإنما تعظم فضيحته من حيث عجزه وجهله بالذهب عن نفسه ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪]26‬‬


‫ت أُولئِكَ ُمبَ هرؤ َ‬
‫ُن‬ ‫ون ِلل ه‬
‫ط ِيّبا ِ‬ ‫ين َوال ه‬
‫ط ِيّبُ َ‬ ‫ط ِيّباتُ ِلل ه‬
‫ط ِيّ ِب َ‬ ‫ت َوال ه‬ ‫ين َوا ْل َخ ِبيث ُ َ‬
‫ون ِل ْل َخ ِبيثا ِ‬ ‫ا ْل َخ ِبيثاتُ ِل ْل َخ ِبيثِ َ‬
‫ق ك َِري ٌم ( ‪) 26‬‬ ‫ون لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬
‫ِم هما يَقُولُ َ‬

‫ّللا الطيبين للطيبات والطيبات للطيبين من كونه طيبا ]‬ ‫[ جعل ه‬


‫ّللا الطيبين للطيبات والطيبات للطيبين من كونه طيبا ‪ ،‬فالطيب من يميز الخبيث من‬ ‫جعل ه‬
‫الطيب ‪ ،‬وجعل تعالى الخبيثين للخبيثات والخبيثات للخبيثين من كونه حكيما ‪ ،‬فإنه هو الجاعل‬
‫ّللا أن الحالل طيب ال ينتج إال طيبا ‪،‬‬ ‫لألشياء والمميز بين األشياء واألحكام ‪ ،‬واعلم وفقك ه‬
‫ت‬ ‫الط ِيهبُونَ ِل َّ‬
‫لط ِيهبا ِ‬ ‫لط ِيه ِبينَ َو َّ‬
‫الط ِيهباتُ ِل َّ‬ ‫قال تعالى ‪ْ «:‬ال َخ ِبيثاتُ ِل ْل َخ ِبي ِثينَ َو ْال َخ ِبيثُونَ ِل ْل َخ ِبيثا ِ‬
‫ت َو َّ‬
‫»ففي هذا من االعتبار الصوفي والنظر اإللهي بعض ما نذكره اآلن ‪،‬‬
‫ّللا خبيثا فال يغذيه إال بالخبيثات من المطاعم ‪ ،‬وال تصدر األفعال‬ ‫وذلك أن من كان عند ه‬
‫ّللا تعالى‬
‫الخبيثات إال من الخبيثين ‪ ،‬وكذلك الطيبات من المطاعم وهي الحالل ‪ ،‬ال يغذي بها ه‬
‫إال من كان عنده من الطيبين ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ال تصدر منهم إال طيبات األفعال ‪ ،‬أو تلك المطاعم بأعيانها إنما‬ ‫وكذلك الطيبون عند ه‬
‫أ ههلت الخبيثات التي هي الحرام للخبيثين كما أهلوا لها ‪ ،‬وكذلك‬

‫ص ‪210‬‬

‫‪210‬‬
‫الطيبات مع الطيبين ‪ ،‬فإنه من أ ههل لشيء فقد أهل له ذلك الشيء ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 27‬‬


‫س ِلّ ُموا عَلى أ َ ْه ِلها ذ ِل ُك ْم َخ ْي ٌر‬ ‫ستَأْنِ ُ‬
‫سوا َوت ُ َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ال ت َ ْد ُخلُوا بُيُوتا َ‬
‫غ ْي َر بُيُوتِ ُك ْم َحتهى ت َ ْ‬
‫ون ) ‪( 27‬‬ ‫لَ ُك ْم لَعَله ُك ْم تَذَك ُهر َ‬
‫إذا جئت بيت قوم فاستأذن ثالث مرات ‪ ،‬فإن أذن لك وإال فارجع ‪ ،‬وال تنظر في بيت أخيك‬
‫من حيث ال يعرف بك ‪ ،‬فإنك إذا نظرت فقد دخلت ‪ ،‬وإنما جعل اإلذن من أجل البصر ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 28‬‬


‫ار ِجعُوا ُه َو أ َ ْزكى‬ ‫فَ ِإ ْن لَ ْم ت َ ِجدُوا فِيها أ َ َحدا فَال ت َ ْد ُخلُوها َحتهى يُ ْؤذَ َن لَ ُك ْم َوإِ ْن قِي َل لَ ُك ُم ْ‬
‫ار ِجعُوا فَ ْ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 28‬‬ ‫ون َ‬ ‫لَ ُك ْم َو ه‬
‫ّللاُ ِبما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ثبت في الحديث االستئذان ثالث ‪ ،‬فإن أذن لك وإال فارجع ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 29‬إلى ‪] 30‬‬


‫ُون َوما‬ ‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم ما ت ُ ْبد َ‬
‫ع لَ ُك ْم َو ه‬
‫سكُونَ ٍة فِيها َمتا ٌ‬ ‫ح أ َ ْن ت َ ْد ُخلُوا بُيُوتا َ‬
‫غ ْي َر َم ْ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ُجنا ٌ‬
‫س َ‬ ‫لَ ْي َ‬
‫ظوا فُ ُرو َج ُه ْم ذ ِلكَ أ َ ْزكى لَ ُه ْم ِإ هن ه َ‬
‫ّللا‬ ‫ضوا ِم ْن أ َ ْب ِ‬
‫صار ِه ْم َويَحْ فَ ُ‬ ‫ون ) ‪ ( 29‬قُ ْل ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين يَغُ ُّ‬ ‫ت َ ْكت ُ ُم َ‬
‫ون ) ‪( 30‬‬ ‫صنَعُ َ‬ ‫ير ِبما يَ ْ‬ ‫َخ ِب ٌ‬
‫العبد مأمور بأن ال ينظر إلى ما ال يحل له النظر إليه شرعا ‪ ،‬وبجميع ما يختص برأسه من‬
‫التكليف ‪ ،‬ومأمور بأن ال يسعى بأقدامه إلى ما ال يحل له السعي إليه وفيه ومنه ‪ ،‬وما بينهما‬
‫ّللا أن يحفظه في تصرفه ‪ ،‬من يد وبطن وفرج وقلب ‪ ،‬والغض نقص ما تمتد العين‬ ‫مما كلفه ه‬
‫إليه ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫وهذه اآلية والتي بعدها خطاب للنفس بالحياء ‪ ،‬فإنه من الحياء غض البصر عن محارم ه‬
‫والحياء منه فرض وسنة أي مستحب ‪ ،‬فإن النظر إلى عورة امرأتك وإن كان قد أبيح لك ولكن‬
‫استعمال الحياء فيه أفضل وأولى‪.‬‬

‫ص ‪211‬‬

‫‪211‬‬
‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 31‬‬
‫صار ِه هن َويَحْ فَ ْظ َن فُ ُرو َج ُه هن َوال يُ ْبد َ‬
‫ِين ِزينَت َ ُه هن ِإاله ما َظ َه َر ِم ْنها‬ ‫ض َن ِم ْن أ َ ْب ِ‬ ‫ض ْ‬ ‫ت يَ ْغ ُ‬ ‫َوقُ ْل ِل ْل ُم ْؤ ِمنا ِ‬
‫ِين ِزينَت َ ُه هن إِاله ِلبُعُولَتِ ِه هن أ َ ْو آبائِ ِه هن أ َ ْو ِ‬
‫آباء بُعُولَتِ ِه هن‬ ‫ض ِر ْب َن بِ ُخ ُم ِر ِه هن عَلى ُجيُوبِ ِه هن َوال يُ ْبد َ‬ ‫َو ْليَ ْ‬
‫ناء بُعُولَتِ ِه هن أ َ ْو إِ ْخوانِ ِه هن أ َ ْو بَنِي إِ ْخوانِ ِه هن أ َ ْو بَنِي أ َ َخواتِ ِه هن أ َ ْو نِسائِ ِه هن أ َ ْو ما‬ ‫أ َ ْو أ َ ْبنائِ ِه هن أ َ ْو أ َ ْب ِ‬
‫ِين لَ ْم يَ ْظ َه ُروا عَلى‬
‫ط ْف ِل الهذ َ‬ ‫الرجا ِل أ َ ِو ال ِ ّ‬ ‫غ ْي ِر أُو ِلي ْ ِ‬
‫اْل ْربَ ِة ِم َن ِ ّ‬ ‫ين َ‬‫َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُه هن أ َ ِو التها ِب ِع َ‬
‫ّللا َج ِميعا أَيُّ َها‬
‫ين ِم ْن ِزينَتِ ِه هن َوتُوبُوا ِإلَى ه ِ‬ ‫ض ِر ْب َن ِبأ َ ْر ُج ِل ِه هن ِليُ ْعلَ َم ما يُ ْخ ِف َ‬
‫ساء َوال يَ ْ‬ ‫ت ال ِنّ ِ‬ ‫ع َْورا ِ‬
‫ون ( ‪) 31‬‬ ‫ون لَعَله ُك ْم ت ُ ْف ِل ُح َ‬
‫ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫[ التوبة ]‬
‫التوبة قرين الحوبة ‪ ،‬عالمتها الندم ‪ ،‬مما جرى به القدم ‪ ،‬وتعلق به العلم في القدم ‪ ،‬ثم أقلع‬
‫ّللا عباده المؤمنين بالتوبة ‪،‬‬ ‫ّللا َج ِميعا ً أَيُّ َها ْال ُمؤْ ِمنُونَ »أمر ه‬ ‫فرجع ‪ ،‬عندما سمع« َوتُوبُوا ِإلَى َّ ِ‬
‫والتوبة تختلف باختالف المقامات ‪ ،‬فمنهم من رجع إليه من نفسه ‪ ،‬والعارف رجع إليه منه ‪،‬‬
‫والعلماء رجعوا إليه من رجوعهم إليه ‪ ،‬والعا همة رجعت من المخالفات إلى الموافقة ‪ ،‬وح هد‬
‫التوبة ترك الزلة في الحال والندم على ما فات ‪ ،‬والعزم على أنه ال يعود لما رجع عنه عند‬
‫ّللا بعد ذلك ما يريد ‪ ،‬والندم توبة وهو الركن األعظم ‪ ،‬وميم الندم‬ ‫علماء الرسوم ‪ ،‬ويفعل ه‬
‫منقلبة عن باء ‪ ،‬مثل الزم والزب ‪ ،‬وهو أثر حزنه على ما فاته يسمى ندبا ‪ ،‬والندب األثر ‪،‬‬
‫ّللا على عبده مقطوعا لها بالقبول ‪،‬‬ ‫فقلبت ميما وجعلت ألثر الحزن خاصة ؛ ولما كان توبة ه‬
‫وتوبة العبد في محل اإلمكان ‪،‬‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬فالعارفون يسألون‬ ‫لما فيها من العلل وعدم العلم باستيفاء حدودها وشروطها وعلم ه‬
‫من ربهم أن يتوب عليهم ‪ ،‬وحظهم من التوبة االعتراف والسؤال ال غير ذلك ‪ ،‬فهذا معنى‬
‫ّللا َج ِميعا ً »‬ ‫قوله« َوتُوبُوا إِلَى َّ ِ‬
‫ّللا بطريق العهد‬ ‫أي ارجعوا إلى االعتراف والدعاء ‪ ،‬كما فعل أبوكم آدم ‪ ،‬فإن الرجوع إلى ه‬
‫ّللا فيه خطر عظيم ‪ ،‬فإنه إن كان قد بقي عليه شيء من المخالفة ‪ ،‬فال‬ ‫وهو ال يعلم ما في علم ه‬
‫بد من نقض ذلك العهد ‪ ،‬فالتوبة‬

‫ص ‪212‬‬

‫‪212‬‬
‫التي طلب منا إنما هي صورة ما جرى من آدم عليه السالم ‪ ،‬أما العزم على عدم العودة كما‬
‫ّللا بكل وجه ‪ ،‬فإنه ال يخلو أن يكون‬ ‫يشترطه علماء الرسوم في حد التوبة فهو سوء أدب مع ه‬
‫ّللا فيه أنه ال يقع منه زلة في المستأنف أم ال ‪ ،‬فإن كان عالما بذلك فال فائدة في‬ ‫عالما بعلم ه‬
‫ّللا إلى ذلك وكان ممن قضى‬ ‫العزم على أن ال يعود بعد علمه أنه ال يعود ‪ ،‬وإن لم يعلم وعاهد ه‬
‫ّللا أنه يعود ‪ ،‬فعزمه بعد العلم أنه‬
‫ّللا وميثاقه ‪ ،‬وإن أعلمه ه‬
‫ّللا عليه أن يعود ‪ ،‬ناقض عهد ه‬ ‫ه‬
‫يعود مكابرة ‪ ،‬فعلى كل وجه ال فائدة للعزم في المستأنف ال لذي العلم وال لغير العالم ‪،‬‬
‫فالناصح نفسه من سلك طريقة آدم عليه السالم ‪ ،‬والتوبة المشروعة من المقامات المستصحبة‬
‫ّللا تعالى بالتوبة إال المؤمنين بقوله «‪:‬‬
‫إلى حين الموت ما دام مخاطبا بالتكليف ‪ ،‬ولم يأمر ه‬
‫ّللا َج ِميعا ً أَيُّ َها ْال ُمؤْ ِمنُونَ »وأيه بغير ألف لحكمة أخفاها يعرفها العالم وال يشعر بها‬
‫َوتُوبُوا إِلَى َّ ِ‬
‫المؤمن ‪ ،‬فهي باأللف هاء التنبيه إذا قال أيها المؤمنون ‪ ،‬وهي بغير األلف هي هويته ‪ ،‬قرأها‬
‫الكسائي برفع هاء « أيه » وحذف الواو اللتقاء الساكنين ‪،‬‬
‫يقول ‪ :‬هو المؤمنون ألنه المؤمن ‪ ،‬وما يسمع نداء الحق إال بالحق ‪ ،‬والسامع مؤمن‬
‫والسامعون كثيرون ‪ ،‬فهو المؤمنون ‪.‬‬
‫ساء »ليست العورة في المرأة إال السوءتين ‪ ،‬وإن أمرت المرأة بالستر فهو‬ ‫ت ال ِنه ِ‬
‫ع ْورا ِ‬‫« َ‬
‫مذهبنا لكن ال من كونها عورة ‪ ،‬وإنما ذلك حكم مشروع ورد بالستر ‪ ،‬وال يلزم أن يستر‬
‫الشيء لكونه عورة ‪ ،‬والوجه والكفان من المرأة ما هما بعورة ‪ ،‬ويبعد أن يكون القدمان عورة‬
‫تستر ‪.‬‬

‫[ سورة النور ‪ ( 24 ) :‬اآليات ‪ 32‬إلى ‪] 33‬‬


‫ّللاُ ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ِه‬ ‫ين ِم ْن ِعبا ِد ُك ْم َوإِمائِ ُك ْم إِ ْن يَكُونُوا فُقَرا َء يُ ْغنِ ِه ُم ه‬ ‫صا ِل ِح َ‬ ‫َوأ َ ْن ِك ُحوا ْاألَيامى ِم ْن ُك ْم َوال ه‬
‫ض ِل ِه َوالهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ّللاُ ِم ْن فَ ْ‬‫ُون نِكاحا َحتهى يُ ْغنِيَ ُه ُم ه‬ ‫ِين ال يَ ِجد َ‬ ‫ف الهذ َ‬ ‫ع ِلي ٌم ( ‪َ ) 32‬و ْليَ ْ‬
‫ست َ ْع ِف ِ‬ ‫س ٌع َ‬ ‫ّللاُ وا ِ‬‫َو ه‬
‫ّللا الهذِي‬
‫يه ْم َخ ْيرا َوآتُو ُه ْم ِم ْن ما ِل ه ِ‬ ‫تاب ِم هما َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُك ْم فَكاتِبُو ُه ْم ِإ ْن َ‬
‫ع ِل ْمت ُ ْم فِ ِ‬ ‫ون ا ْل ِك َ‬ ‫يَ ْبتَغُ َ‬
‫ض ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َو َم ْن‬‫صنا ِلت َ ْبتَغُوا ع ََر َ‬‫غاء ِإ ْن أ َ َرد َْن ت َ َح ُّ‬
‫علَى ا ْل ِب ِ‬ ‫آتا ُك ْم َوال ت ُ ْك ِر ُهوا فَتَياتِ ُك ْم َ‬
‫ور َر ِحي ٌم) ‪( 33‬‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫ّللا ِم ْن بَ ْع ِد ِإ ْكرا ِه ِه هن َ‬‫يُ ْك ِر ْه ُه هن فَ ِإ هن ه َ‬

‫ص ‪213‬‬

‫‪213‬‬
‫ض ِل ِه »روي أن بعض الصالحين لم‬ ‫ّللاُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫" َو ْليَ ْست َ ْع ِف ِ‬
‫ف الَّذِينَ ال يَ ِجدُونَ ِنكاحا ً َحتَّى يُ ْغ ِنيَ ُه ُم َّ‬
‫يكن له شيء من الدنيا ‪ ،‬فتزوج فجاءه ولد وما أصبح عنده شيء فأخذ الولد‬
‫ّللا ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬زنيت ؟‬ ‫وخرج ينادي به ‪ :‬هذا جزاء من عصى ه‬
‫ّللا يقول في كتابه العزيز ‪َ «:‬و ْليَ ْست َ ْع ِف ِ‬
‫ف الَّذِينَ ال يَ ِجدُونَ نِكاحا ً َحتَّى يُ ْغنِيَ ُه ُم‬ ‫قال ‪ :‬ال إنما سمعت ه‬
‫ّللا وتزوجت وأنا ال أجد نكاحا فافتضحت ‪ ،‬فرجع إلى منزله‬ ‫ض ِل ِه »فعصيت أمر ه‬ ‫ّللاُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫َّ‬
‫بخير كثير ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪34‬إلى ‪]35‬‬


‫ّللاُ‬
‫ين ) ‪ ( 34‬ه‬ ‫ِين َخلَ ْوا ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم َو َم ْو ِع َظة ِل ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ت َو َمثَال ِم َن الهذ َ‬‫ت ُمبَ ِيّنا ٍ‬ ‫َولَقَ ْد أ َ ْن َز ْلنا إِلَ ْي ُك ْم آيا ٍ‬
‫الزجا َجةُ كَأَنهها‬ ‫ح فِي ُزجا َج ٍة ُّ‬ ‫ح ا ْل ِمصْبا ُ‬ ‫ور ِه ك َِمشْكا ٍة فِيها ِمصْبا ٌ‬ ‫ض َمث َ ُل نُ ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ور ال ه‬ ‫نُ ُ‬
‫غ ْر ِبيه ٍة يَكا ُد َز ْيتُها يُ ِضي ُء َولَ ْو لَ ْم‬ ‫بار َك ٍة َز ْيتُونَ ٍة ال ش َْرقِيه ٍة َوال َ‬
‫ش َج َر ٍة ُم َ‬ ‫ي يُوقَ ُد ِم ْن َ‬ ‫َب د ِ ُّر ٌّ‬ ‫ك َْوك ٌ‬
‫ّللاُ ِب ُك ِ ّل‬
‫اس َو ه‬ ‫ّللاُ ْاأل َ ْمثا َل ِللنه ِ‬‫ب ه‬ ‫ض ِر ُ‬ ‫ور ِه َم ْن يَشا ُء َويَ ْ‬‫ّللاُ ِلنُ ِ‬
‫ور يَ ْهدِي ه‬ ‫ور عَلى نُ ٍ‬ ‫نار نُ ٌ‬
‫سهُ ٌ‬ ‫س ْ‬ ‫ت َ ْم َ‬
‫ع ِلي ٌم )‪( 35‬‬ ‫ش ْي ٍء َ‬ ‫َ‬

‫ض"]‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ّللاُ نُ ُ‬
‫ور ال َّ‬ ‫[ " َّ‬
‫ض »ال نقول فيه كما قال المفسرون معناه منور أو‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ّللاُ نُ ُ‬
‫ور ال َّ‬ ‫‪-‬الوجه األول ‪َّ «-‬‬
‫هاد ‪ ،‬فذلك له اسم خاص وهو الهادي الذي هداهم إلباءة حمل األمانة ‪ ،‬وإلى اإلتيان بالطاعة‬
‫ألمره ‪ ،‬وأما هنا فما قال ‪ :‬إال أنه نور السماوات واألرض ‪ ،‬والنور النفور ‪ ،‬ويؤيد ذلك التشبيه‬
‫بالمصباح على الوصف الخاص ‪ ،‬فإن مثل هذا النور المصباحي ينفر ظلمة الليل ‪،‬‬
‫بل هو عين نفور ظلمة الليل مع بقاء الليل ليال ‪ ،‬فإنه ليس من شرط وجود الليل وجود الظلمة‪،‬‬
‫وإنما عين الليل غروب الشمس إلى حين طلوعها سواء أعقب المحل نور آخر سوى نور‬
‫الشمس أو ظلمة ‪،‬‬
‫فقد يكون الليل وال ظلمة كما أنه قد يكون النهار وال ضوء ‪ ،‬فإن النهار ليس إال زمان طلوع‬
‫الشمس إلى غروبها وإن طلعت مكسوفة فال يزول الحكم عن كون النهار موجودا ‪ ،‬ولما فصل‬
‫الحق إضافة النور إلى السماوات وهو ما غاب من القوى‬

‫ص ‪214‬‬

‫‪214‬‬
‫ّللا تعالى ‪ :‬إنه عين نفورها‬ ‫وعال ‪ ،‬وإلى األرض وهو ما ظهر من القوى الحسية ودنا ‪ ،‬قال ه‬
‫عن ذاتها ‪ ،‬فلم يشهد إال هو ‪ ،‬فهو عين السماوات واألرض ‪ ،‬فإن الخلق ظلمة وال يقف للنور‬
‫فإنه ينفرها ‪،‬‬
‫والظلمة ال ترى النور ‪ ،‬وما ث هم إال نور الحق ‪ ،‬فمن النور ما يدرك به وال يدرك في نفسه ‪،‬‬
‫والنور ال يرى أبدا ‪ ،‬والظلمة وإن حجبت فإنها مرئية للمناسبة التي بينها وبين الرائي ‪ ،‬فإنه ما‬
‫ّللا عليه وسلم يقول في دعائه ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ث هم ظلمة وجودية إال ظلمة األكوان ‪ ،‬فكان رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم يطلب بهذا الدعاء أن يكون الحق بصره‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫واجعلني نورا ‪ ،‬فكان رسول ه‬
‫حتى يراه به ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬نور أنهى أراه ] فإنه ما رآه مني إال هويته ‪ ،‬وظلمتي ال‬ ‫ولهذا قال صلهى ه‬
‫ض »فهو الذي أنارت به العقول العلوية ‪ ،‬وهو قوله ‪:‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ّللاُ نُ ُ‬
‫ور ال َّ‬ ‫تدركه ‪ ،‬فقال« َّ‬
‫ض»‬ ‫السماوات ‪ ،‬والصور الطبيعية وهو قوله « َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ور »تسمى الحق بالنور ولم يتسم بالظلمة إذ كان النور وجودا والظلمة‬ ‫ّللاُ نُ ُ‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪َّ «-‬‬
‫عدما ‪ ،‬وإذ كان النور ال تغالبه الظلمة بل النور الغالب ‪ ،‬كذلك الحق ال يغالبه الخلق بل الحق‬
‫ت »وهي ما‬ ‫سماوا ِ‬
‫الغالب ‪ ،‬فسمى نفسه نورا ‪ ،‬فهو أصل الموجودات كلها من اسمه النور« ال َّ‬
‫ض »وهي ما سفل ‪ ،‬فاألجسام الطبيعية أصلها النور ‪ ،‬والطبيعة نور في أصلها ‪،‬‬ ‫عال « َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫فأول موجود العقل وهو القلم وهو نور إلهي إبداعي ‪ ،‬وأوجد عنه النفس وهو اللوح المحفوظ ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وما زالت األشياء تكثف حتى‬ ‫وهي دون العقل في النورية للوساطة التي بينها وبين ه‬
‫انتهت إلى األركان والمولدات ‪ ،‬وبما كان لكل موجود وجه خاص إلى موجده به كان سريان‬
‫النور فيه ‪ ،‬وبما كان له وجه إلى سببه به كان فيه الظلمة والكثافة ما فيه ‪ ،‬فلهذا كان األمر‬
‫كلما نزل أظلم وأكثف ‪،‬‬
‫فأين منزلة العقل من منزلة األرض ؟ كم بينهما من الوسائط ؟‬
‫واإلنسان آخر مولد فهو آخر األوالد ‪ ،‬مركب من حمأ مسنون صلصال ‪ ،‬فيه من األنوار‬
‫ّللا من‬
‫المعنوية والحسية والزجاجية ما فيه ‪ ،‬مما ال تجده في غيره من المولدات بما أعطاه ه‬
‫القوى الروحانية ‪ ،‬فما قبلها إال بالنورية التي فيه ‪ ،‬فلو ال النورية التي في األجسام الكثيفة ما‬
‫صح للمكاشف أن يكشف ما خلف الجدران وما تحت األرض ‪،‬‬
‫فال يدرك الشيء إن لم يكن فيه نور يدرك به من ذاته ‪ ،‬وهو عين وجوده واستعداده بقبول‬
‫إدراك األبصار بما فيها من األنوار له ‪ ،‬واختص اإلدراك بالعين عادة ‪ ،‬وإنما اإلدراك في‬
‫نفسه إنما هو لكل شيء ‪ ،‬فكل شيء يدرك بنفسه وبكل شيء أال ترى الرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫وسلم كيف كان يدرك من خلف ظهره كما‬

‫ص ‪215‬‬

‫‪215‬‬
‫كان يدرك من أمامه ‪ ،‬ولم يحجبه كثافة عظم الرأس وعروقه وعظامه وعصبه ومخه ‪ ،‬وذلك‬
‫ّللا إياها ولبعض األشخاص ‪ ،‬ومن هذا نعلم أن خلق األجسام‬ ‫خرق عادة لقوة إلهية أعطاه ه‬
‫الطبيعية أصلها من النور ‪ ،‬ولذلك إذا عرف اإلنسان كيف يصفهي جميع األجسام الكثيفة‬
‫الظلمانية أبرزها شفافة للنورية التي هي أصل ‪،‬‬
‫ّللا وبقي على‬ ‫مثل الزجاج إذا خلص من كدورة رمله يعود شفافا ‪ ،‬وما ترى جسما قط خلقه ه‬
‫أصل خلقته مستقيما قط ‪ ،‬ما يكون أبدا إال مائال لالستدارة ‪ ،‬ال من جماد وال من حيوان وال‬
‫سماء وال أرض وال جبل وال ورق وال حجر ‪ ،‬وسبب ذلك ميله إلى أصله وهو النور‬
‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬لوال النور ما ظهر للممكنات عين ‪ ،‬ولوال ما أنت في نفسك ذو نور عقلي ما‬
‫عرفته وذو نور بصري ما شهدته ‪ ،‬فما شهدته إال بالنور ‪ ،‬وما ث هم نور إال هو ‪ ،‬فما شهدته وال‬
‫عرفته إال به ‪ ،‬فهو نور السماوات من حيث العقول ‪ ،‬واألرض من حيث األبصار ‪ ،‬وما جعل‬
‫عز وجل صفة نوره إال بالنور الذي هو المصباح ‪ ،‬وهو نور أرضي ال سماوي ‪ ،‬فشبه‬ ‫ّللا ه‬‫ه‬
‫نوره بالمصباح ألنه لوال نزوله إلينا ما عرفناه ‪.‬‬
‫فلو ال النور لم تشهده عين *** ولوال العقل لم يعرفه كون‬
‫فبالنور الكوني واإللهي كان ظهور الموجودات التي لم تزل ظاهرة له في حال عدمها ‪ ،‬كما‬
‫هي لنا في حال وجودها ‪ ،‬فنحن ندركها عقال في حال عدمها وندركها عينا في حال وجودها ‪،‬‬
‫والحق يدركها عينا في الحالين ‪ ،‬فلو ال أن الممكن في حال عدمه على نور في نفسه ما قبل‬
‫الوجود وال تميز عن المحال ‪ ،‬فبنور إمكانه شاهده الحق ‪ ،‬وبنور وجوده شاهده الخلق ‪،‬‬
‫فبين الحق والخلق ما بين الشهودين ‪ ،‬فالحق نور في نور ‪ ،‬والخلق نور في ظلمة في حال‬
‫عدمه ‪ ،‬وأما في وجوده فهو نور على نور ‪ ،‬ألنه عين الدليل على ربه ‪ ،‬ولما كان الحق ال‬
‫ّللا لنا المثل ‪ ،‬وجعل لنا مثل نوره في‬ ‫يتمكن أن يشهد ويعلم إال بضرب مثل ‪ ،‬لهذا ضرب ه‬
‫السماوات واألرض‬
‫ي يُوقَ ُد ِم ْن َ‬
‫ش َج َرةٍ‬ ‫ب د ِ هُر ٌّ‬ ‫الزجا َجةُ َكأَنَّها َك ْو َك ٌ‬ ‫صبا ُح فِي ُزجا َج ٍة ُّ‬ ‫صبا ٌح ْال ِم ْ‬ ‫« َك ِم ْشكاةٍ فِيها ِم ْ‬
‫س ْسهُ ٌ‬
‫نار‬ ‫ضي ُء َولَ ْو لَ ْم ت َ ْم َ‬ ‫بار َك ٍة زَ ْيتُونَ ٍة ال ش َْرقِيَّ ٍة َوال غ َْر ِبيَّ ٍة يَكا ُد زَ ْيتُها يُ ِ‬
‫ُم َ‬
‫ّللا في الزيت لبقاء النور ‪،‬‬ ‫"والزيت مادة األنوار ‪ ،‬وهو مثل لإلمداد بالنور اإللهي الذي أودع ه‬
‫ّللاُ ِلنُ ِ‬
‫ور ِه "‬ ‫ور يَ ْهدِي َّ‬ ‫على نُ ٍ‬ ‫ور َ‬ ‫ّللا عنه ‪ " :‬نُ ٌ‬ ‫ثم ثم قال الشيخ ابن عطاء هللا رضي ه‬
‫ّللاُ ْاأل َ ْمثا َل »فجعله ضرب‬ ‫ب َّ‬ ‫من هذين النورين ‪ ،‬فيعلم المشبه والمشبه به« َم ْن يَشا ُء َويَض ِْر ُ‬
‫مثل للتوصيل ‪ ،‬ويجوز في ضرب األمثال المحال الذي ال يمكن وقوعه ‪ ،‬فكما‬

‫ص ‪216‬‬

‫‪216‬‬
‫ال يكون المحال الوجود وجودا بالفرض ‪ ،‬كذلك ال يكون الخلق حقا بضرب المثل ‪ ،‬فما هو‬
‫موجود بالفرض قد ال يصح أن يكون موجودا بالعين ‪ ،‬ولو كان عين المشبه ضرب المثل ‪،‬‬
‫لما كان ضرب مثل إال بوجه ‪ ،‬فال يصح أن يكون هنا ما وقع به التشبيه وضرب المثل‬
‫موجودا إال بالفرض ‪ ،‬فعلمنا بضرب هذا المثل أننا في غاية البعد منه تعالى في غاية القرب‬
‫أيضا ‪ ،‬ولهذا قبلنا ضرب المثل ‪ ،‬فجمعنا بين القرب والبعد ‪ ،‬وهو القريب البعيد ‪ ،‬قريب‬
‫بالمثل بعيد بالصورة ‪،‬‬
‫باّلل تعالى في‬ ‫ألن فرض الشيء ال يكون كهو وال عين الشيء ‪ ،‬فهذه اآلية من أسرار المعرفة ه‬
‫ّللا حفظه دائما لفني‬ ‫ارتباط اإلله بالمألوه والرب بالمربوب ‪ ،‬فإن المربوب والمألوه لو لم يتول ه‬
‫ّللا العالم‬
‫من حينه ‪ ،‬إذ لم يكن له حافظ يحفظه ويحفظ عليه بقاءه ‪ ،‬فمن فهم هذه اآلية علم حفظ ه‬
‫‪ ،‬فهو روح العالم الذي يستمد منه حياته ‪،‬‬
‫ّللا عن العالم في الغيب انعدم العالم ‪،‬‬ ‫ض » فلو احتجب ه‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ّللاُ نُ ُ‬
‫ور ال َّ‬ ‫قال تعالى ‪َّ «:‬‬
‫فمن هنا االسم الظاهر حاكم أبدا وجودا ‪ ،‬واالسم الباطن علما ومعرفة ‪ ،‬فباالسم الظاهر أبقى‬
‫العالم ‪ ،‬وباالسم الباطن عرفناه ‪ ،‬وباالسم النور شهدناه ‪ ،‬ثم مثهل فقال ‪َ «:‬مث َ ُل نُ ِ‬
‫ور ِه َك ِم ْشكا ٍة‬
‫صبا ٌح »وهو النور أي صفة نوره صفة المصباح ولم يقل صفة الشمس ‪،‬‬ ‫»وهي الكوة« فِيها ِم ْ‬
‫فإن اإلمداد في نور الشمس يخفى ‪ ،‬بخالف المصباح فإن الزيت والدهن يمده لبقاء اإلضاءة ‪،‬‬
‫ش َج َرةٍ »نسبة الجهات إليها نسبة واحدة ‪ ،‬منزهة عن االختصاص‬ ‫فهو باق بإمداد دهني ‪ِ «،‬م ْن َ‬
‫بحكم جهة ‪ ،‬وهو قوله« ال ش َْرقِيَّ ٍة َوال غ َْر ِبيَّ ٍة »وهذا اإلمداد من نور السبحات الظاهرة من‬
‫وراء سبحات العزة والكبرياء والجالل ‪ ،‬فما ينفذ من نور سبحات هذه الحجب هو نور‬
‫السماوات واألرض ‪ ،‬ومثله كمثل المصباح ‪ ،‬والنور الذي في الدهن معلوم غير مشهود ‪،‬‬
‫وضوء المصباح من أثره يدل عليه ‪ ،‬وعلى الحقيقة ما هو نور وإنما هو سبب لبقاء النور‬
‫واستمراره ‪ ،‬فالنور العلمي منفهر ظلمة الجهل من النفس ‪ ،‬فإذا أضاءت ذات النفس أبصرت‬
‫ارتباطها بربها في كونها وفي كون كل كون ‪ ،‬وجعل هذا النور في مشكاة وزجاجة مخافة‬
‫الهواء أن يحيره ويشتد عليه فيطفيه ‪ ،‬فكأن مشكاته وزجاجته نشأته الظاهرة والباطنة ‪ ،‬فإنهما‬
‫ّللا الليل والنهار ال يفترون ‪ -‬فنور‬ ‫من حيث هما معصومان ‪ ،‬فإنهما من الذين يسبحون بحمد ه‬
‫سراج أد هل على الحق من نور الشمس عند الناظرين بمشاهدتهم المادة التي بها بقاؤه ‪ -‬وأنزل‬ ‫ال ه‬
‫األنوار ما يفتقر إلى مادة وهو المصباح ‪ ،‬فإذا أنزل الحق نوره في التشبيه إلى مصباح وهو‬

‫ص ‪217‬‬

‫‪217‬‬
‫نور مفتقر إلى مادة تمده وهي الدهن ‪ ،‬فما هو أعلى منه من األنوار أقرب إلى التشبيه وأعلى‬
‫في التنزيه ‪ ،‬وإنما أعلمنا الحق بذلك وجاء بكاف الصفة في قوله« َك ِم ْشكا ٍة » إلى آخر اآلية ‪،‬‬
‫ّللا عليه‬ ‫إعالما أنه نور كل نور ‪ ،‬بل هو كل نور ‪ ،‬وشرع لنا طلب هذه الصفة ‪ ،‬فكان صلهى ه‬
‫وسلم يقول ‪ [ :‬واجعلني نورا ]‬
‫ّللا وإنما عيهن‬ ‫ّللا المثل في هذه اآلية لالسم ه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وما ضرب ه‬ ‫وكذلك كان صلهى ه‬
‫ض »فضرب المثل بالمصباح لذلك االسم‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫سبحانه اسما آخر ‪ ،‬وهو قوله« نُ ُ‬
‫ور ال َّ‬
‫النور المضاف إلى السماوات واألرض ‪ ،‬أي هكذا فافعلوا ‪ ،‬وال تضربوا األمثال هّلل فإني ما‬
‫ضربتها ‪ ،‬فنهينا أن نضرب المثل من هذا الوجه إال أن نعين اسما خاصا ينطبق المثل عليه ‪،‬‬
‫ّللا في هذه اآلية ‪ ،‬فإنه تعالى هنا لم‬ ‫فحينئذ يصح ضرب المثل لذلك االسم الخاص ‪ ،‬كما فعل ه‬
‫يطلق على نفسه اسم النور المطلق الذي ال يقبل اإلضافة‬
‫ض »ليعلمنا ما أراد بالنور هنا ‪ ،‬فأثهر حكم التعليم واإلعالم في‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ور ال َّ‬‫وقال ‪ «:‬نُ ُ‬
‫النور المطلق اإلضافة ‪ ،‬فقيدته عن إطالقه بالسماوات واألرض ‪ ،‬فلما أضافه نزل عن درجة‬
‫النور المطلق في الصفة ‪،‬‬
‫ور ِه »أي صفة نوره ‪ ،‬يعني المضاف إلى السماوات واألرض كمشكاة ‪ ،‬إلى أن‬ ‫فقال ‪َ «:‬مث َ ُل نُ ِ‬
‫ذكر المصباح ومادته ‪،‬‬
‫وأين صفة نور السراج ‪ -‬وإن كان بهذه المثابة ‪ -‬من صفة النور الذي أشرقت به السماوات‬
‫واألرض ؟‬
‫فعلهمنا سبحانه في هذه اآلية األدب في النظر في أسمائه إذا أطلقناها عليه باإلضافة كيف نفعل‬
‫ور ِه َم ْن يَشا ُء‬ ‫ّللاُ ِلنُ ِ‬
‫‪ ،‬وإذا أطلقناها عليه بغير اإلضافة كيف نفعل ‪ ،‬مثل قوله «‪ :‬يَ ْهدِي َّ‬
‫»فأضاف النور هنا إلى نفسه ال إلى غيره ‪ ،‬وجعل النور المضاف إلى السماوات واألرض‬
‫هاديا إلى معرفة نوره المطلق ‪ ،‬كما جعل المصباح هاديا إلى نوره المقيد باإلضافة ‪ ،‬وتمم‬
‫ّلل ْاأل َ ْمثا َل ِإ َّن‬
‫اس »ونهانا في موطن آخر فقال( فَال تَض ِْربُوا ِ َّ ِ‬ ‫ّللاُ ْاأل َ ْمثا َل ِللنَّ ِ‬
‫ب َّ‬‫وقال «‪َ :‬ويَض ِْر ُ‬
‫ّللا اسم جامع لجميع األسماء اإللهية ‪ ،‬محيط بمعانيها كلها ‪،‬‬ ‫ّللا يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ )فإن ه‬
‫َّ َ‬
‫وضرب األمثال يخص اسما واحدا معينا ‪ ،‬فنهينا أن نضرب المثل من هذا الوجه إال أن نعين‬
‫ّللا في‬ ‫اسما خاصا ينطبق المثل عليه ‪ ،‬فحينئذ يصح ضرب المثل لذلك االسم الخاص كما فعل ه‬
‫ّللا تعالى إخبارا بما هو األمر عليه‬ ‫هذه اآلية ‪ ،‬وهذا مثل ضربه ه‬
‫ي يُوقَ ُد‬ ‫ب د ِ هُر ٌّ‬‫الزجا َجةُ َكأَنَّها َك ْو َك ٌ‬
‫صبا ُح فِي ُزجا َج ٍة ُّ‬ ‫صبا ٌح ْال ِم ْ‬ ‫ور ِه َك ِم ْشكاةٍ فِيها ِم ْ‬ ‫فقال ‪َ «:‬مث َ ُل نُ ِ‬
‫بار َك ٍة زَ ْيتُونَ ٍة ال ش َْرقِيَّ ٍة َوال غ َْر ِبيَّ ٍة »‬
‫ش َج َرةٍ ُم َ‬ ‫ِم ْن َ‬
‫فالمشكاة والزجاجة والمصباح والزيت أربعة ‪ ،‬مثل على الوجود القائم على التربيع ‪ ،‬وهو‬
‫للحق كالبيت القائم على‬
‫ص ‪218‬‬

‫‪218‬‬
‫أربعة أركان ‪ ،‬توقد من شجرة هويته ‪ ،‬مباركة فهي ال شرقية وال غربية ‪ ،‬ال تقبل الجهات ‪،‬‬
‫ومباركة في خط االعتدال منزهة عن تأثير الجهات ؛ وعن هذه الزيتونة يكون الزيت وهو‬
‫المادة لظهور هذا النور ‪ ،‬فالخامس لألربعة هو الهوية وهو الزيتونة المنزهة عن الجهات كنهى‬
‫ه‬
‫كالمعز‬ ‫عنها بالشجرة ‪ ،‬من التشاجر ‪ ،‬وهو التضاد لما تحمله هذه الهوية من األسماء المتقابلة‬
‫والمذ هل والضار والنافع ؛ فهي الخزانة لإلمداد اإللهي للوجود الظاهر كله ‪ ،‬إمدادا باطنا بطون‬
‫الزيت في الشجرة ‪ ،‬وقولنا مثل على الوجود القائم على التربيع ‪ ،‬فإن الحصر منع أن يكون‬
‫سوى هذه األربعة ‪،‬‬
‫باط ُن ) فهي أربعة ال خامس لها إال هويته ‪،‬‬ ‫الظا ِه ُر َو ْال ِ‬
‫فهو القائل تعالى ‪ُ (:‬ه َو ْاأل َ َّو ُل َو ْاآل ِخ ُر َو َّ‬
‫على نُ ٍ‬
‫ور‬ ‫نار نُ ٌ‬
‫ور َ‬ ‫ضي ُء َولَ ْو لَ ْم ت َ ْم َ‬
‫س ْسهُ ٌ‬ ‫فما ث هم في العالم حكم إال من هذه األربعة« يَكا ُد زَ ْيتُها يُ ِ‬
‫»نور المصباح ظاهر يمده نور باطن في زيت ‪ ،‬أي نور من نور ‪ ،‬فأبدل حرف من بعلى لما‬
‫يفهم به من قرينة الحال ‪ ،‬وقد تكون على على بابها ‪ ،‬فإن نور السراج الظاهر يعلو حسا على‬
‫نور الزيت الباطن وهو المم هد للمصباح ‪ ،‬فلو ال رطوبة الدهن تمد المصباح لم يكن للمصباح‬
‫ذلك الدوام ‪ ،‬وكذلك إمداد التقوى للعلم العرفاني الحاصل منها في قوله تعالى ‪َ (:‬واتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا‬
‫َويُعَ ِله ُم ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ )‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬هّلل في قلب العبد عينان ‪:‬‬
‫عين بصيرة تنظر بالنور الذي يهدي به وهو علم اليقين ‪ ،‬وعين اليقين تنظر بالنور الذي يهدي‬
‫إليه وهو نور اليقين ‪ ،‬فإذا اتصل النور الذي يهدي به بالنور الذي يهدي إليه ‪ ،‬عاين اإلنسان‬
‫ملكوت السماوات واألرض ‪ ،‬والحظ سر القدر كيف تحكم في الخالئق ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪«:‬‬
‫ور ِه َم ْن يَشا ُء »وهو نور اليقين الذي تنظر به‬ ‫ّللاُ ِلنُ ِ‬
‫ور »لذلك قال تعالى ‪ «:‬يَ ْهدِي َّ‬ ‫على نُ ٍ‬ ‫نُو ٌر َ‬
‫عين اليقين‬
‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬نور الشرع صورة سراج مصباح ال تحركه األهواء لكونه في مشكاة ‪،‬‬
‫ومشكاته الرسول ‪ ،‬فهو محفوظ من األهواء التي تطفيه ‪ ،‬وذلك المصباح في زجاجة قلبه ‪،‬‬
‫وجسمه المصباح واللسان ترجمته ‪ ،‬واإلمداد اإللهي زيته ‪ ،‬والشجرة حضرة إمداده ‪ ،‬فقال‬
‫اس )وهو الشرع الموحى‬ ‫ور »وهو النور المجعول( َو َجعَ ْلنا لَهُ نُورا ً يَ ْم ِشي ِب ِه ِفي النَّ ِ‬ ‫تعالى ‪ «:‬نُ ُ‬
‫ور »وهو النور الذاتي ‪ ،‬فاجتمع نور البصر مع النور الخارج وهو الشرع« يَ ْهدِي‬ ‫على نُ ٍ‬ ‫به« َ‬
‫ّللا على النور اآلخر‬ ‫ور ِه َم ْن يَشا ُء »وهو أحد النورين ‪ ،‬والنور الواحد مجعول بجعل ه‬ ‫ّللاُ ِلنُ ِ‬ ‫َّ‬
‫فهو حاكم عليه ‪ ،‬والنور المجعول عليه هذا النور متلبس به مندرج فيه ‪ ،‬فال حكم إال للنور‬
‫المجعول وهو الظاهر ‪ ،‬وهذا حكم نور الشرع على نور العقل‪.‬‬

‫ص ‪219‬‬

‫‪219‬‬
‫فليس له سوى التسليم فيه *** وليس له سوى ما يصطفيه‬
‫فإن أولته لم تحظ منه *** بعلم في القيامة ترتضيه‬
‫ور »بصر التوفيق والهداية ‪ ،‬فإذا‬ ‫على نُ ٍ‬ ‫ور »نور الشرع« َ‬ ‫على نُ ٍ‬ ‫ور َ‬‫‪ -‬الوجه الرابع ‪ «-‬نُ ٌ‬
‫اجتمع النوران بان الطريق بالنورين ‪ ،‬فلو كان واحدا لما ظهر له ضوء ‪ ،‬وال شك أن نور‬
‫ّللا بصيرته‬ ‫الشرع قد ظهر كظهور نور الشمس ‪ ،‬ولكن األعمى ال يبصره ‪ ،‬كذلك من أعمى ه‬
‫لم يدركه فلم يؤمن به ‪ ،‬ولو كان نور عين البصيرة موجودا ولم يظهر للشرع نور بحيث أن‬
‫يجتمع النوران فيحدث الضوء في الطريق لما رأى صاحب نور البصيرة كيف يسلك ‪ ،‬ألنه في‬
‫طريق مجهولة ال يعرف ما فيها وال أين تنتهي به من غير دليل موقهف ‪ ،‬ولما كان القرب‬
‫بالسلوك والسفر إليه ‪ ،‬لذلك كان من صفته النور لنهتدي به في الطريق ‪ ،‬فإنه لوال ما دعاك‬
‫وبيهن لك طريق القربة وأخذ بناصيتك فيها ما تمكن لك أن تعرف الطريق التي تقرب منه ما‬
‫هي ‪ ،‬ولو عرفتها لم يكن لك حول وال قوة إال به‬
‫ض »الذي مثله بالمصباح شبهه النور اإللهي بنور‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫‪ -‬الوجه الخامس ‪ «-‬نُ ُ‬
‫ور ال َّ‬
‫المصباح وإن بعدت المناسبة ‪ ،‬ولكن اللسان العربي يعطي التفهم بأدنى شيء من متعلقات‬
‫التشبيه ‪ ،‬فتكون المعارف على حسب ما وقع به التشبيه ‪ ،‬ألن المعارف متنوعة بالذي يريد‬
‫صاحبها ‪ ،‬منها يدل عليه بأمر يناسبه ‪ -‬من وجه ما ‪ -‬مناسبة لطيفة لداللة غيبية ‪ ،‬كما قال «‪:‬‬
‫صبا ٌح »بشروطه من الزجاجة ‪ ،‬التنزيه الذي هو الجسم الشفاف‬ ‫َمث َ ُل نُ ِ‬
‫ور ِه َك ِم ْشكاةٍ فِيها ِم ْ‬
‫الصافي ‪ ،‬فكان قوله في الزجاجة مقام الصفا ‪ ،‬في المشكاة مقام الستر من األهواء ‪ ،‬فلم تصبه‬
‫بار َك ٍة »وهو اإلمداد« ال ش َْرقِيَّ ٍة َوال غ َْر ِبيَّ ٍة‬ ‫مقاالت القائلين فيه بأفكارهم «يُوقَ ُد ِم ْن َ‬
‫ش َج َرةٍ ُم َ‬
‫»في مقام االعتدال ال تميل عن غرض إلى شرق فيحاط بها علما ‪ ،‬وال إلى غرب فلم تعلم‬
‫ور »وجود على وجود ‪ ،‬وجود عيني على وجود مفتقر ‪.‬‬ ‫على نُ ٍ‬ ‫ور َ‬ ‫رتبتها« نُ ٌ‬
‫ّللا نور تعالى أن يماثله *** نور وقد الح لي في نار نبراس‬ ‫ه‬
‫لو قال خلق به من دون خالقه *** لكفروه وما في القول من باس‬
‫ألنه مثل لو قلته قيل هل *** لداء هذا الذي قد قال من آسي‬
‫ّللا له األمثال ‪ ،‬فيشهد الجامع بين المثل وبين ما ضرب‬ ‫فالولي هو من يعرف ما ضرب ه‬

‫ص ‪220‬‬

‫‪220‬‬
‫له ذلك المثل ‪ ،‬فهو عينه من حيث ذلك الجامع ‪ ،‬وما هو عينه من حيث ما هو مثل ‪ ،‬ولذلك‬
‫ور ِه »الممثهل به« َم ْن‬
‫ّللاُ »بما ضربه لعباده من هذا النور بالمصباح« ِلنُ ِ‬ ‫قال تعالى ‪ «:‬يَ ْهدِي َّ‬
‫ع ِلي ٌم »‬ ‫ّللاُ بِ ُك ِهل َ‬
‫ش ْيءٍ َ‬ ‫ّللاُ ْاأل َ ْمثا َل ِللنَّ ِ‬
‫اس َو َّ‬ ‫ب َّ‬
‫يَشا ُء َويَض ِْر ُ‬
‫ّللا كالمصباح من‬‫فهذا مصباح مخصوص ما هو كل مصباح ‪ ،‬فال ينبغي أن يقال ‪ :‬إن نور ه‬
‫كونه يكشف المصباح كل ما انبسط عليه نوره لصاحب بصر ‪،‬‬
‫ّللا ما ذكر ما ذكره من شروط هذا المصباح ونعوته وصفاته الممثل به‬ ‫مثل هذا ال يقال ‪ :‬فإن ه‬
‫ّللا يعلم كيف يضرب األمثال ‪-‬‬ ‫سدى ‪ ،‬فمثل هذا المصباح هو الذي يضرب به المثل ‪ ،‬فإن ه‬
‫قراءة ‪ -‬العارف يقف في التالوة على مصباح‬
‫صبا ُح فِي ُزجا َج ٍة »فيكون حديثه مع المصباح ال مع النور اإللهي ‪ ،‬واآلية مثل‬ ‫ثم يقول ‪ْ «:‬ال ِم ْ‬
‫وّللا هو النور ألنه نور السماوات‬ ‫ّللا ‪ ،‬ه‬
‫لقلب المؤمن التقي النقي الورع ‪ ،‬فليس له عامر إال ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وما بقي من الكالم‬‫واألرض ‪ ،‬فمثل القلب بالمشكاة فيها مصباح وهو النور ‪ ،‬نور العلم ه‬
‫فإنما هو من تمام كمال النور الذي وقع به التشبيه ‪ ،‬ما هو من التشبيه ‪ ،‬فال تغلط فتخطئ‬
‫الطريق إلى ما أبان الحق عنه في هذه اآلية ‪ ،‬فالقلب مشبه بالمشكاة والمشكاة الكوة‬
‫ّللا عليه وسلم في المنام فقلت ‪ :‬قوله تعالى «‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫‪ -‬تفسير من مبشرة ‪ -‬رأيت رسول ه‬
‫بار َك ٍة زَ ْيتُونَ ٍة »إلى آخر اآلية ‪ ،‬ما هذه الشجرة ؟ فقال ‪ :‬كنهى عن نفسه‬ ‫ش َج َرةٍ ُم َ‬‫يُوقَ ُد ِم ْن َ‬
‫سبحانه ‪ ،‬لذلك نفى عنها الجهات ‪ ،‬فإنه ال يتقيد بالجهات ‪ ،‬والغرب والشرق كناية عن الفرع‬
‫ّللا خالق المواد وأصلها ‪ ،‬ولوال هو ما كانت ‪ -‬في كالم طويل وتفصيل واضح‬ ‫واألصل ‪ ،‬فهو ه‬
‫‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 36‬‬


‫س ِبّ ُح لَهُ فِيها بِا ْلغُد ّ ُِو َو ْاآلصا ِل ) ‪( 36‬‬ ‫ّللاُ أ َ ْن ت ُ ْرفَ َع َويُ ْذك ََر فِي َها ا ْ‬
‫س ُمهُ يُ َ‬ ‫ِن ه‬‫ت أَذ َ‬‫فِي بُيُو ٍ‬
‫ّللاُ أ َ ْن ت ُ ْرفَ َع »‬
‫ت أَذِنَ َّ‬
‫ّللا إقامة الصلوات المفروضة بأماكن وهي المساجد فقال ‪ «:‬فِي بُيُو ٍ‬ ‫ربط ه‬
‫ّللا من البيوت المنسوبة إلى المخلوقين «‬ ‫ّللا أن ترفع حتى تتميز البيوت المنسوبة إلى ه‬ ‫أي أمر ه‬
‫َويُ ْذ َك َر ِفي َها ا ْس ُمهُ »باألذان واإلقامة والتالوة والذكر والموعظة« يُ َ‬
‫س ِبه ُح »‬
‫يقول ‪:‬‬
‫ّللا بالصالة فيها« بِ ْالغُد ه ُِو َو ْاآلصا ِل »‬ ‫يصلى« لَهُ فِيها »أي من أجل أن أمرهم ه‬
‫ّللا تعالى برفع المساجد‬ ‫ّللاُ أ َ ْن ت ُ ْرفَ َع َويُ ْذ َك َر فِي َها ا ْس ُمهُ »أمر ه‬
‫ت أَذِنَ َّ‬‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ «-‬فِي بُيُو ٍ‬
‫عما‬
‫ص ‪221‬‬

‫‪221‬‬
‫»ّلل« ِفي َها »في المساجد ‪ ،‬فهل ترفع عن‬ ‫س ِبه ُح »يصلي« لَهُ ه‬ ‫يجوز من العمل في البيوت« يُ َ‬
‫دخول الكفار فيها ‪ ،‬هي مسئلة خالف فيما يحرم من ذلك ‪ ،‬وأما تنزيهها عن ذلك على جهة‬
‫ّللاُ أ َ ْن ت ُ ْرفَ َع »أي أمر وحمله على الوجوب منع من‬ ‫الندب فال خالف فيه ‪ ،‬فمن خرج« أَذِنَ َّ‬
‫دخول الكفار جميع المساجد المشركين وغيرهم ‪ ،‬وأما المسجد الحرام الذي بمكة فقد ورد‬
‫النص بأن ال يقربه مشرك وأنه نجس ‪ ،‬فمن علل المنع بالنجاسة وجعل النجاسة لكفره وعلهل‬
‫المسجد لكونه مسجدا منع الكفار كيفما كانوا من جميع المساجد ‪ ،‬ومن رأى أن ذلك خاص‬
‫خص بالذكر وأن ما عدا المشرك وإن كان كافرا ال يتنزل منزلته منع‬ ‫ه‬ ‫بالمسجد الحرام ‪ ،‬ولهذا‬
‫ت »وجوز الدخول فيه لمن‬ ‫دخول المشرك المسجد الحرام وكل مسجد لقوله تعالى ‪ «:‬فِي بُيُو ٍ‬
‫ليس بمشرك ‪ ،‬ومن أخذ بالظاهر ولم يعلل منع المشرك خاصة من المسجد الحرام خاصة ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم حبس في المسجد في المدينة ثمامة بن أثال حين أسر وهو‬ ‫فإن النبي صلهى ه‬
‫مشرك وهو األوجه ‪ ،‬ولم يمنع غير المشرك من المسجد الحرام ومن المساجد ‪ ،‬ومنع المشرك‬
‫ّللاُ أ َ ْن ت ُ ْرفَ َع »إال أن يقترن بذلك أمر وحالة فال‬ ‫من سائر المساجد أولى لقوله تعالى ‪ «:‬أَذِنَ َّ‬
‫بأس ‪ ،‬وأما قوله تعالى في سورة البقرة ‪ «:‬أُول ِئ َك ما كانَ لَ ُه ْم أ َ ْن يَ ْد ُخلُوها ِإ َّال خا ِئ ِفينَ »ففيه‬
‫إباحة الدخول للكفار في المساجد على هذه الحالة من ظهور اإلسالم عليهم ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 37‬‬


‫ب‬ ‫الزكا ِة يَخافُ َ‬
‫ون يَ ْوما تَتَقَله ُ‬ ‫يتاء ه‬‫صال ِة َو ِإ ِ‬ ‫قام ال ه‬ ‫جارةٌ َوال بَ ْي ٌع ع َْن ِذ ْك ِر ه ِ‬
‫ّللا َو ِإ ِ‬ ‫يه ْم تِ َ‬ ‫ِرجا ٌل ال ت ُ ْل ِه ِ‬
‫صار ( ‪) 37‬‬ ‫وب َو ْاأل َ ْب ُ‬‫فِي ِه ا ْلقُلُ ُ‬
‫[ لحوق النساء بالرجال في الكمال ]‬
‫« ِرجا ٌل »هنا له وجه تعلق يطلبه « يسبح » بالفاعلية ‪ ،‬ووجه يطلبه االبتداء بالمبتدئية ‪،‬‬
‫وضمير« ال ت ُ ْل ِهي ِه ْم »يعود عليهم في الوجهين معا ‪ ،‬وقوله «‪ِ :‬رجا ٌل »المراد بالرجال في هذه‬
‫اس‬ ‫س ْلنا قَ ْبلَ َك ِإ َّال ِر ً‬
‫جاال )( َوأَذه ِْن فِي النَّ ِ‬ ‫ْراف ِرجا ٌل )( َوما أ َ ْر َ‬ ‫علَى ْاألَع ِ‬ ‫اآلية واآليات الثالث( َو َ‬
‫جاال )ما أراد بالرجال في هذه اآليات الذكران خاصة ‪ ،‬وإنما أراد الصنف‬ ‫وك ِر ً‬ ‫ج يَأْت ُ َ‬ ‫ِب ْال َح ه ِ‬
‫اإلنساني ذكرا أو أنثى ‪ ،‬فلم يذكر النساء ألن الرجل يتضمن المرأة ‪ ،‬فاكتفى بذكر الرجال دون‬
‫النساء تشريفا للرجال وتنبيها على لحوق النساء بالرجال ‪ ،‬فس همى النساء هنا رجاال ‪ ،‬فإن‬
‫درجة الكمال لم تحجر عليهن ‪ ،‬بل يكملن كما تكمل الرجال ‪ ،‬وثبت في الخبر كمال مريم‬
‫جارة ٌ »ال تشغلهم تجارة فهم في تجارتهم في ذكر‬ ‫وآسية امرأة فرعون« ال ت ُ ْل ِهي ِه ْم تِ َ‬

‫ص ‪222‬‬

‫‪222‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬كما قالت عائشة عن رسول ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬ألن التجارة على الحد المرسوم اإللهي من ذكر ه‬ ‫ه‬
‫ّللا على كل أحيانه ‪ ،‬مع كونه يمازح العجوز والصغير«‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إنه كان يذكر ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا »أي ال يلهيهم‬ ‫ع ْن ِذ ْك ِر َّ ِ‬ ‫َوال بَ ْي ٌع »فالتجارة أن يبيع ويشتري معا ‪ ،‬والبيع أن يبيع فقط « َ‬
‫ّللا وهو حاجب الباب ‪ ،‬فقال‬ ‫ّللا حين سمعوا المؤذن في هذا البيت يدعو إلى ه‬ ‫شيء عن ذكر ه‬
‫لهم ‪:‬‬
‫ي على الصالة ] أي أقبلوا على مناجاة ربكم ‪ ،‬فهؤالء الرجال بادروا من بيعهم وتجارتهم‬ ‫[ح ه‬
‫المعلومة في الدنيا إلى هذا الذكر عندما سمعوه ‪ ،‬ورد ‪ :‬المسجد بيت كل تقي ‪ ،‬فأضافه تعالى‬
‫ّللا تعالى ؛ واعلم أن القائلين باألسباب إذا اعتمدوا‬ ‫إلى المتقين من عباده وقد كان مضافا إلى ه‬
‫ّللا لحقوا باألخسرين أعماال ‪ ،‬وإذا أثبتوا األسباب واعتمدوا على‬ ‫عليها وتركوا االعتماد على ه‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬فأولئك األكابر من الرجال الذين ال تلهيهم‬ ‫ّللا ولم يتعدوا فيها منزلتها التي أنزلها ه‬ ‫ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وأثبت لهم الحق الرجولة في هذا الموطن ‪ ،‬ومن شهد له الحق‬ ‫تجارة وال بيع عن ذكر ه‬
‫ب فِي ِه‬‫الزكا ِة يَخافُونَ يَ ْوما ً تَتَقَلَّ ُ‬ ‫يتاء َّ‬‫صال ِة َو ِإ ِ‬
‫قام ال َّ‬
‫بأمر فهو على حق في دعواه إذا ادعاه« َو ِإ ِ‬
‫ّللا عليهم بالخوف ‪ ،‬فالتحقوا بالمإل األعلى في هذه الصفة ‪،‬‬ ‫ْصار »الخائفون أثنى ه‬ ‫وب َو ْاألَب ُ‬ ‫ْالقُلُ ُ‬
‫فإنه قال فيهم (‪ :‬يَخافُونَ َربَّ ُه ْم ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم َويَ ْفعَلُونَ ما يُؤْ َم ُرونَ )فمن كان بهذه المثابة تميز مع‬
‫ّللا خوفهم منه ‪ ،‬ولما‬ ‫ّللا أنهم خافوا اليوم لما يقع فيه لكون ه‬ ‫المأل األعلى ‪ ،‬ومن أدبهم مع ه‬
‫ّللا عليهم بأنهم يخافون يوما تتقلب فيه القلوب واألبصار ‪ ،‬فهذا خوف‬ ‫تحققوا بهذا األدب أثنى ه‬
‫ّللا‬
‫ب )فأهل األدب مع ه‬ ‫سو َء ْال ِحسا ِ‬ ‫الزمان ‪ ،‬وأما خوف الحال فهو قوله تعالى ‪َ (:‬ويَخافُونَ ُ‬
‫وفقوا له حيث وفقهم ‪ ،‬فإن كثيرا من الناس ال يتفطنون لهذا األدب وال يعرجون على ما خوفوا‬
‫ّللا إلى رسوله موسى عليه السالم ‪:‬‬ ‫باّلل ‪ ،‬أوحى ه‬ ‫به من األكوان وعلهقوا أمرهم ه‬
‫ّللا ‪ ، -‬فأمره‬ ‫يا موسى خفني وخف نفسك ‪ -‬يعني هواك ‪ -‬وخف من ال يخافني ‪ -‬وهم أعداء ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فمشاهدة العقاب تمنع من اإلدالل ‪ ،‬قال تعالى ‪(:‬‬ ‫بالخوف من غيره ‪ ،‬فامتثل األدباء أمر ه‬
‫ْصار )وقال( يَخافُونَ َربَّ ُه ْم ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم‪).‬‬ ‫وب َو ْاألَب ُ‬‫ب فِي ِه ْالقُلُ ُ‬
‫يَخافُونَ يَ ْوما ً تَتَقَلَّ ُ‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 38‬‬


‫ق َم ْن يَشا ُء بِغَ ْي ِر ِحسا ٍ‬
‫ب) ‪( 38‬‬ ‫ّللاُ يَ ْر ُز ُ‬
‫ض ِل ِه َو ه‬ ‫ّللاُ أَحْ َ‬
‫س َن ما ع َِملُوا َويَ ِزي َد ُه ْم ِم ْن فَ ْ‬ ‫ِليَجْ ِزيَ ُه ُم ه‬
‫ص ‪223‬‬

‫‪223‬‬
‫ّللاُ يَ ْر ُز ُق َم ْن يَشا ُء ِبغَي ِْر ِحسا ٍ‬
‫ب‬ ‫" َويَ ِزي ُد ُه ْم ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ِه »تلك الزيادة من جنات االختصاص« َو َّ‬
‫"عليه ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 39‬‬


‫آن ماء َحتهى ِإذا جا َءهُ لَ ْم يَ ِج ْدهُ َ‬
‫ش ْيئا َو َو َج َد‬ ‫سبُهُ ال ه‬
‫ظ ْم ُ‬ ‫ب ِب ِقيعَ ٍة يَحْ َ‬
‫سرا ٍ‬ ‫ِين َكفَ ُروا أَعْمالُ ُه ْم َك َ‬
‫َوالهذ َ‬
‫ب ) ‪( 39‬‬ ‫س ِري ُع ا ْل ِحسا ِ‬ ‫ّللا ِع ْن َدهُ فَ َوفهاهُ ِحسابَهُ َو ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫هَ‬
‫آن‬ ‫َّ‬
‫سبُهُ الظ ْم ُ‬ ‫ب ِب ِقيعَ ٍة يَ ْح َ‬‫سرا ٍ‬ ‫ّللا في أعمال الكفار فقال ‪َ «:‬ك َ‬ ‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬هذا مثل ضربه ه‬
‫ما ًء »وذلك لظمئه ‪ ،‬لوال ذلك ما حسبه ماء ‪ ،‬ألن الماء موضع حاجته ‪ ،‬فيلجأ إليه لكونه‬
‫مطلوبه ومحبوبه ‪ ،‬لما فيه من سر الحياة ‪ ،‬فجعل الحق في عين الرائي صورة الماء ‪ ،‬وهو‬
‫شيْئا ً »يعني‬ ‫ليس بالماء الذي يطلبه الظمآن ‪ ،‬فتجلى له في عين حاجته« َحتَّى ِإذا جا َءهُ لَ ْم يَ ِج ْدهُ َ‬
‫ّللا ِع ْن َدهُ »أي عند السراب حين لم يجده شيئا ‪ ،‬يعني‬ ‫الماء ‪ ،‬ون هكر وما قال الماء ‪َ «،‬و َو َج َد َّ َ‬
‫السراب‬
‫ّللا ِع ْن َدهُ »ل هما لم يكن السراب إال في عين الرائي الطالب الماء ‪،‬‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪َ «-‬و َو َج َد َّ َ‬
‫ّللا ِع ْن َدهُ »النقطاع‬ ‫فرجع هذا الرائي لنفسه لما لم يجد مطلوبه في تلك البقعة ‪َ «،‬و َو َج َد َّ َ‬
‫ّللا إال عند‬ ‫األسباب عنه فلجأ إليه في إغاثته بالماء أو المزيل لذلك الظمأ القائم به ‪ ،‬فما وجد ه‬
‫ّللا بكليته مثل الظمآن المضطر عندما يسفر له السراب‬ ‫االضطرار ‪ ،‬فإن المضطر يرجع إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه ال يوجد إال عند عدم‬ ‫ّللا ولهذا قلنا ‪ :‬إذا لم تجد شيئا وجدت ه‬ ‫عن عدم الماء فيرجع إلى ه‬
‫األشياء التي يركن إليها‬
‫[ ‪ -‬تحقيق ‪ -‬كل ما يعطيه الحس من المغاليط ليس على الحقيقة ]‬
‫‪-‬تحقيق ‪ -‬كل ما يعطيه الحس من المغاليط ليس على الحقيقة نسبة الغلط إلى الحس ‪ ،‬وإنما‬
‫الغلط للحاكم ‪ ،‬وهو أمر آخر وراء الحس‬
‫‪ -‬تفسير من باب اْلشارة ‪-‬إذا اعتبرنا« َوالَّذِينَ َكفَ ُروا »أي ستروا محبتهم ‪ ،‬وهم معطوفون‬
‫على من سبقهم من الرجال في اآلية السابقة ‪ ،‬وهؤالء الذين ستروا محبتهم من المحبين ‪ ،‬فإن‬
‫الحب يلطف أرواحهم لطافة السراب ‪ ،‬فإن السراب يحسبه الظمآن ماء لكونه مطلوبه ومحبوبه‬
‫لما فيه من سر الحياة ‪ ،‬وقال« بِ ِقيعَ ٍة »إشارة إلى مقام التواضع ‪ ،‬والظمآن إذا جاء السراب لم‬
‫وّللا‬
‫ّللا عنده عوضا من الماء ‪ ،‬فكأن قصده حسا للماء ‪ ،‬ه‬ ‫يجده شيئا ‪ ،‬وإذا لم يجده شيئا وجد ه‬
‫يقصد به إليه من حيث ال يشعر ‪ ،‬فكما أنه تعالى يمكر بالعبد من حيث ال يشعر ‪ ،‬كذلك يعتني‬
‫بالعبد في االلتجاء إليه والرجوع إليه واالعتماد عليه ‪ ،‬بقطع األسباب عنه عندما يبديها له من‬
‫ّللا عنده عند فقد الماء المتخيل له في السراب ‪ ،‬هو رجوعه‬ ‫حيث ال يشعر ‪ ،‬فوجود ه‬
‫ص ‪224‬‬

‫‪224‬‬
‫ّللا ‪ ،‬لما تقطعت به األسباب ‪ ،‬وتغلقت دون مطلوبه األبواب ‪ ،‬رجع إلى من بيده ملكوت‬ ‫إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬هذا فعله مع أحباه ‪ ،‬يردهم إليه اضطرارا واختيارا‬‫كل شيء ‪ ،‬وهو كان المطلوب به من ه‬
‫ّللا التي فرضها عليها ‪ ،‬وأنها المتصرفة عن‬ ‫‪ ،‬كذلك أرواح المحبين يحسبونها قائمة بحقوق ه‬
‫ّللا ‪ ،‬محبة هّلل ‪ ،‬وشوقا إلى مرضاته ‪ ،‬ليراها حيث أمرها ‪،‬‬ ‫أمر ه‬
‫فإذا كشف لها الغطاء واحتد بصرها ‪ ،‬وجدت نفسها كالسراب في شكل الماء ‪ ،‬فلم تر قائما‬
‫ّللا عين ما تخيلت أنه عينها ‪ ،‬فذهبت‬‫ّللا تعالى ‪ ،‬فوجدت ه‬ ‫ّللا إال خالق األفعال ‪ ،‬وهو ه‬
‫بحقوق ه‬
‫عينها عنها ‪ ،‬وبقي المشهود الحق بعين الحق ‪ ،‬كما فني السراب عن السراب ‪ ،‬والسراب‬
‫مشهود لنفسه وليس بماء ‪ ،‬كذلك الروح موجود في نفسه وليس بفاعل‬
‫باّلل مثل معرفتك بالسراب ]‬
‫[ معرفتك ه‬
‫‪-‬إشارة ال تفسير ‪ -‬إذا جئت إلى السراب لتجده كما أعطاك النظر لم تجده في شيئيته ما‬
‫باّلل مثل معرفتك بالسراب أنه ماء ‪ ،‬فإذا به ليس ماء وتراه‬‫أعطاك النظر ‪ ،‬كذلك معرفتك ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فالعجز عن‬‫ّللا وتحققت بالمعرفة عرفت أنك ما عرفت ه‬ ‫العين ماء ‪ ،‬فكذلك إذا قلت عرفت ه‬
‫باّلل يأخذ في النظر في العلم به ‪ ،‬فيفيده تقييد‬
‫معرفته هو المعرفة به ‪ ،‬فإن المتعطش إلى العلم ه‬
‫تنزيه أو تشبيه ‪ ،‬فإذا كشف الغطاء وهو حال وصول الظمآن إلى السراب لم يجده كما قيده‬
‫ّللا عنده غير مقيد بذلك التقييد الخاص ‪ ،‬بل له اإلطالق في التقييد ‪ ،‬فوفاه‬
‫فأنكره ‪ ،‬ووجد ه‬
‫حسابه أي تقديره ‪ ،‬فكأنه أراد صاحب هذا الحال أن يخرج الحق من التقييد فقال له الحق بقوله‬
‫‪ «:‬فَ َوفَّاهُ ِحسابَهُ »ال يحصل لك في هذا المشهد إال العلم بي أني مطلق عن التقييد ‪.‬‬

‫[ سورة النور ‪ ( 24 ) :‬آية ‪] 40‬‬


‫ظلُماتٌ بَ ْعضُها فَ ْو َ‬
‫ق‬ ‫حاب ُ‬
‫س ٌ‬ ‫ج ِم ْن فَ ْوقِ ِه َ‬
‫ج ِم ْن فَ ْوقِ ِه َم ْو ٌ‬
‫ي ٍ يَ ْغشاهُ َم ْو ٌ‬
‫ت فِي بَحْ ٍر لُ ِ ّج ّ‬ ‫ظلُما ٍ‬ ‫أ َ ْو َك ُ‬
‫ور ( ‪) 40‬‬ ‫ّللاُ لَهُ نُورا فَما لَهُ ِم ْن نُ ٍ‬ ‫ض إِذا أ َ ْخ َر َ‬
‫ج يَ َدهُ لَ ْم يَ َك ْد يَراها َو َم ْن لَ ْم يَجْ عَ ِل ه‬ ‫بَ ْع ٍ‬
‫ض »ظلمة الجو تقترن معها ظلمة البحر ‪ ،‬تقترن معها ظلمة الموج‬ ‫ضها فَ ْوقَ بَ ْع ٍ‬ ‫مات بَ ْع ُ‬‫ظلُ ٌ‬ ‫« ُ‬
‫‪ ،‬تقترن معها ظلمة تراكم الموج ‪ ،‬تقترن معها ظلمة السحاب التي تحجب أنوار الكواكب ‪«،‬‬
‫ِإذا أ َ ْخ َر َج يَ َدهُ لَ ْم يَ َك ْد يَراها »فوصفه بأنه ما رآها وال قارب رؤيتها ‪ ،‬فإنه نفى القرب بدخول لم‬
‫على يكاد ‪ ،‬وهو حرف نفي وجزم يدخل على األفعال المضارعة لألسماء فينفيها‬

‫ص ‪225‬‬

‫‪225‬‬
‫ّللاُ لَهُ نُورا ً " ]‬ ‫[" َو َم ْن لَ ْم يَ ْجعَ ِل َّ‬
‫ّللاُ لَهُ نُورا ً »‬ ‫« َو َم ْن لَ ْم يَ ْجعَ ِل َّ‬
‫ور »في القيامة‬ ‫‪ -‬الوجه األول ‪ «-‬نُورا ً »هنا من إيمانه« فَما لَهُ ِم ْن نُ ٍ‬
‫ور »وهو العلم ‪ ،‬والظلمة الجهل ‪،‬‬ ‫ّللاُ لَهُ نُورا ً فَما لَهُ ِم ْن نُ ٍ‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪َ «-‬و َم ْن لَ ْم يَ ْجعَ ِل َّ‬
‫ض »وهو جهل‬ ‫ضها فَ ْوقَ بَ ْع ٍ‬ ‫ظلُ ٌ‬
‫مات بَ ْع ُ‬ ‫ّللا تعالى هنا في هذه اآلية بالظلمات فقال ‪ُ «:‬‬ ‫وشبهه ه‬
‫على جهل ‪ ،‬وهو من جهل وال يعلم أنه جهل ‪ ،‬فنفى عنه أنه يقارب رؤية يده ‪ ،‬فكيف أن يراها‬
‫؟ وأدخل اليد هنا دون غيرها ألنها محل وجود االقتدار ‪ ،‬وبها يقع اإليجاد ‪ ،‬أي إذا أخرج‬
‫اقتداره ليراه لم يقارب رؤيته لظلمة الجهل ‪ ،‬ألنه لو رآه لرآه عين االقتدار اإللهي ‪ ،‬فظلمة‬
‫الليل ظلمة الطبع ‪ ،‬وظلمة البحر ظلمة الجهل وهو فقد العلم ‪ ،‬وظلمة الفكر ظلمة الموج ‪،‬‬
‫وظلمة الموج المتراكم ظلمة تداخل األفكار في الشبه ‪ ،‬وظلمة السحاب ظلمة الكفر ‪ ،‬فمن جمع‬
‫هذه الظلمات فقد خسر خسرانا مبينا‬
‫ور »لوال النور ما وجد للممكن عين‬ ‫ّللاُ لَهُ نُورا ً فَما لَهُ ِم ْن نُ ٍ‬
‫‪ -‬الوجه الثالث – " َو َم ْن لَ ْم يَ ْجعَ ِل َّ‬
‫ّللاُ لَهُ نُورا ً فَما لَهُ ِم ْن نُ ٍ‬
‫ور‬ ‫ّللا على ذلك بقوله «‪َ :‬و َم ْن لَ ْم يَ ْجعَ ِل َّ‬ ‫وال اتصف بالوجود ‪ ،‬فنبهنا ه‬
‫»فالنور المجعول في الممكن ما هو إال وجود الحق ألنه هو النور ‪ ،‬وقد قال تعالى (‪َ :‬ك َم ْن‬
‫ج ِم ْنها )وهو ما بقي من الممكنات في شيئية ثبوتها ‪ ،‬ال حكم لها‬ ‫خار ٍ‬‫ْس بِ ِ‬ ‫ت لَي َ‬ ‫َمثَلُهُ فِي ُّ‬
‫الظلُما ِ‬
‫في الوجود الحق ‪ ،‬فأزال الحق بنوره ظلمة الكون الحادث‬
‫‪ -‬الوجه الرابع ‪ -‬لما كان األمر سفرا وسلوكا ‪ ،‬اجتمع نور البصر مع النور من خارج وهو‬
‫نور الشرع ‪ ،‬فكشف ما في الطريق من المهالك والحيوانات المضرة ‪ ،‬فاجتنب كل ما يخاف‬
‫ّللاُ لَهُ نُورا ً‬
‫منها ويحذر ‪ ،‬وسلك محجة بيضاء ما فيها مهلك وال حيوان مضر« َو َم ْن لَ ْم يَ ْجعَ ِل َّ‬
‫ور »بعد أن ظهر مصباح الشرع لم ينطف وال زال ‪ ،‬فمن استدبره وأعرض عنه‬ ‫فَما لَهُ ِم ْن نُ ٍ‬
‫مشى في ظلمة ذاته ‪ ،‬وتلك الظلمة ظلمته فيكون ممن جنى على نفسه بإعراضه عن الشرع‬
‫واستدباره ‪ ،‬فهذا حكم من ترك الشرع واستقل بنظره ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 41‬‬


‫صالتَهُ‬ ‫ت ُك ٌّل قَ ْد َ‬
‫ع ِل َم َ‬ ‫صافها ٍ‬
‫ط ْي ُر َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َوال ه‬ ‫س ِبّ ُح لَهُ َم ْن فِي ال ه‬
‫سماوا ِ‬ ‫أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ هن ه َ‬
‫ّللا يُ َ‬
‫ون ( ‪) 41‬‬‫ع ِلي ٌم بِما يَ ْفعَلُ َ‬ ‫سبِي َحهُ َو ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫َوت َ ْ‬
‫[ روية رسول هللا تسبيح من في السماوات واألرض ]‬
‫ّللا عليه وسلم فقال له ‪ «:‬أ َ لَ ْم ت َ َر »ولم يقل ‪ :‬ألم‬ ‫« أ َ لَ ْم ت َ َر »خاطب الحق رسوله محمدا صلهى ه‬
‫تروا ؛‬

‫ص ‪226‬‬

‫‪226‬‬
‫ّللا عليه وسلم الذي أشهده وأراه ‪ ،‬فهو لنا إيمان‬ ‫فإنا ما رأينا ‪ ،‬فالمخاطب بهذه اآلية نبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم عيان ‪ ،‬فإنه صاحب الكشف حيث يرى ما ال نرى« أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا‬ ‫وهو لمحمد صلهى ه‬
‫ض »وهذا تسبيح فطري ذاتي عن تجل إلهي ‪ ،‬فانبعثوا إلى‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫س ِبه ُح لَهُ َم ْن فِي ال َّ‬ ‫يُ َ‬
‫ّللا فيها« َو َّ‬
‫الطي ُْر‬ ‫الثناء عليه من غير تكليف بل اقتضاء ذاتي ‪ ،‬وهي العبادة الذاتية التي أقامهم ه‬
‫ّللا وإياك أن البهائم أمم من جملة األمم ‪ ،‬لها تسبيحات تخص كل جنس‬ ‫ت »اعلم أيدنا ه‬ ‫صافَّا ٍ‬
‫َ‬
‫وصالة مثل ما لغيرها من المخلوقات ؛ فتسبيحهم ما يعلمونه من تنزيه خالقهم ‪ ،‬وأما صالتهم‬
‫ّللا ويسمعه من‬ ‫فلهم مع الحق مناجاة خاصة ‪ ،‬فكل شيء من المخلوقات له كالم يخصه يعلمه ه‬
‫ّللا سمعه إلدراكه ‪ ،‬وجميع ما يظهر من الحيوان من الحركات والصنائع التي ال تظهر إال‬ ‫فتح ه‬
‫من ذي عقل وفكر وروية ‪ ،‬وما يرى في ذلك من األوزان تدل على أن لهم علما في أنفسهم‬
‫بذلك كله ‪ ،‬ثم نرى منهم أمورا تد هل على أنهم ما لهم ما لإلنسان من التدبير العام ‪ ،‬فتعارضت‬
‫عند الناظرين في أمرهم األمور ‪ ،‬فانبهم أمرهم ‪ ،‬وربما سموا لذلك بهائم من إبهام األمر ‪ ،‬وما‬
‫أتي على من أتي عليه إال من عدم الكشف ‪ ،‬لذلك فال يعرفون من المخلوقات إال قدر ما‬
‫ّللا كل » أي كل‬ ‫يشاهدون منهم ‪ ،‬فالحيوانات كلها عندنا ذوات أرواح وعقول تعقل عن ه‬
‫صالتَهُ »‬ ‫ع ِل َم َ‬‫هؤالء« قَ ْد َ‬
‫ّللا عليه بنفس وجوده‬ ‫ّللا من قوله صالته ‪ ،‬أي صالة ه‬ ‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬الضمير يعود على ه‬
‫ورحمته به في ذلك‬
‫ّللا من جميع المخلوقات ‪ :‬ملك وإنسان‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬الصالة تضاف إلى كل ما سوى ه‬
‫ّللا الصالة في هذه اآلية‬ ‫وحيوان ونبات ومعدن بحسب ما فرضت عليه وعيهنت له ‪ ،‬فأضاف ه‬
‫إلى الكل« ت َ ْس ِبي َحهُ »الضمير يعود في تسبيحه على « كل » أي ما يسبح ربه به وهو صالته‬
‫له ‪ ،‬والتسبيح في لسان العرب الصالة ‪.‬‬
‫ّللا بن عمر وهو من العرب ‪ -‬وكان ال يتنفل في السفر ‪ -‬فقيل له في ذلك ‪ ،‬فقال ‪:‬‬ ‫قال عبد ه‬
‫س ْب ُع َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫ض َو َم ْن فِي ِه َّن ) ( َو ِإ ْن‬ ‫س ِبه ُح لَهُ ال َّ‬
‫سماواتُ ال َّ‬ ‫لو كنت مسبحا أتممت ؛ وقال تعالى ‪ (:‬ت ُ َ‬
‫ش ْيءٍ ِإ َّال يُ َ‬
‫س ِبه ُح ِب َح ْم ِد ِه )‬ ‫ِم ْن َ‬
‫ّللا ما خلق األشياء من أجل األشياء ‪ ،‬وإنما خلقها ليسبحه كل جنس من‬ ‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬إن ه‬
‫الممكنات بما يليق به من صالة وتسبيح ‪ ،‬لتسري عظمته في جميع األكوان وأجناس الممكنات‬
‫وأنواعها وأشخاصها ‪ ،‬فالكل له تعالى ملك ‪،‬‬
‫ّللا تعالى خلق األشياء له ال لنا ‪ ،‬وأعطى كل شيء خلقه ‪ ،‬وبإعادة الضمير‬ ‫ولذلك نقول ‪ :‬إن ه‬
‫ّللا وصف الحق نفسه بالصالة ‪ ،‬وما وصف نفسه بالتسبيح ‪ ،‬فع هم بهذه اآلية‬ ‫في صالته على ه‬

‫ص ‪227‬‬

‫‪227‬‬
‫ّللا هي رحمته ‪.‬‬
‫العالم األعلى واألسفل وما بينهما برحمته ‪ ،‬فإن صالة ه‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 42‬إلى ‪] 43‬‬


‫ف‬ ‫سحابا ث ُ هم يُ َؤ ِلّ ُ‬ ‫ير ( ‪ ) 42‬أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ هن ه َ‬
‫ّللا يُ ْز ِجي َ‬ ‫ّللا ا ْل َم ِص ُ‬
‫ض َوإِلَى ه ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬‫ّلِل ُم ْلكُ ال ه‬
‫َو ِ ه ِ‬
‫ماء ِم ْن ِجبا ٍل فِيها ِم ْن بَ َر ٍد‬ ‫س ِ‬ ‫ج ِم ْن ِخال ِل ِه َويُنَ ِ ّز ُل ِم َن ال ه‬ ‫ق يَ ْخ ُر ُ‬‫بَ ْينَهُ ث ُ هم يَجْ عَلُهُ ُركاما فَت َ َرى ا ْل َو ْد َ‬
‫صار ( ‪) 43‬‬ ‫ب ِب ْاأل َ ْب ِ‬‫سنا بَ ْرقِ ِه يَ ْذ َه ُ‬
‫يب ِب ِه َم ْن يَشا ُء َويَص ِْرفُهُ ع َْن َم ْن يَشا ُء يَكا ُد َ‬ ‫فَيُ ِص ُ‬
‫[ السحاب والبروق ]‬
‫وّللا‬
‫السحاب يتكون من الماء يكون بخارا ‪ ،‬فتصعد األبخرة للحرارة التي فيها فتتكون سحابا ‪ ،‬ه‬
‫يزجي السحاب والعين تشهد أن الريح يزجيها ‪ ،‬فبما في السحاب من الماء يثقل فينزل ‪ ،‬كما‬
‫صعد بما فيه من الحرارة ‪ ،‬فإن األصغر يطلب األعظم فإذا ثقل اعتمد على الهواء ‪ ،‬فانضغط‬
‫الهواء فأخذ سفال ‪ ،‬فحك وجه األرض فتقوت الحرارة التي في الهواء ‪ ،‬فطلب الهواء بما فيه‬
‫من الحرارة القوية الصعود يطلب الركن األعظم ‪ ،‬فوجد السحاب متراكما فمنعه من الصعود‬
‫ّللا في تلك الشعلة ملكا سماه برقا ‪ ،‬فأضاء به الجو ‪ ،‬ثم انطفأ‬ ‫تكاثفه فاشتعل الهواء ‪ ،‬فخلق ه‬
‫بقوة الريح كما ينطفئ السراج ‪ ،‬فزال ضوؤه مع بقاء عينه ‪ ،‬فزال كونه برقا ‪ ،‬وبقي العين‬
‫ّللا من ذلك‬ ‫ّللا ‪ ،‬ثم صدع الوجه الذي يلي األرض من السحاب ‪ ،‬فلما مازجه خلق ه‬ ‫كونا يسبح ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فكان بعد البرق ‪ ،‬ال بد من ذلك ما لم يكن البرق خلبا ‪ ،‬فكل‬ ‫ملكا سماه رعدا ‪ ،‬فسبح بحمد ه‬
‫برق يكون على ما ذكرناه ‪ ،‬ال بد أن يكون الرعد يعقبه ‪ ،‬ألن الهواء يصعد مشتعال فيخلقه‬
‫ّللا الرعد مسبحا بحمد ربه لما أوجده‬ ‫ملكا يسميه برقا ‪ ،‬وبعد هذا يصدع أسفل السحاب فيخلق ه‬
‫ّللا في زمان الصيف من حرارة الجو الرتفاع الشمس ‪،‬‬ ‫‪ ،‬وث هم بروق وهي مالئكة يخلقها ه‬
‫فتنزل األشعة الشمسية فإذا أحرقت ركن األثير زادت حرارة ‪ ،‬فاشتعل الجو من أعلى وما ث هم‬
‫سحاب ‪ ،‬ألن قوة الحرارة تلطف األبخرة الصاعدة على كثافتها ‪ ،‬فال يظهر للسحاب عين ‪،‬‬
‫َب‬ ‫ّللا من ذلك االشتعال بروقا خلهبا ال يكون معها رعد أصال« يَكا ُد َ‬
‫سنا بَ ْرقِ ِه يَ ْذه ُ‬ ‫فيخلق ه‬
‫ْصار »ألن البرق نور شعشعاني تذهب أشعته باألبصار‪.‬‬ ‫ِب ْاألَب ِ‬

‫ص ‪228‬‬

‫[سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 44‬‬


‫صار ) ‪( 44‬‬‫هار ِإ هن فِي ذ ِلكَ لَ ِع ْب َرة ِألُو ِلي ْاأل َ ْب ِ‬
‫ّللاُ الله ْي َل َوالنه َ‬
‫ب ه‬ ‫يُقَ ِلّ ُ‬
‫قال تعالى ‪ُ (:‬ك َّل يَ ْو ٍم ُه َو فِي شَأ ْ ٍن )فالعالم في كل نفس في تحول وانقالب في الشؤون اإللهية ‪،‬‬
‫فهو تعالى المحول القلوب في الليل والنهار بما يقلبها ‪ ،‬وفي السماء بما يوحي فيها ‪ ،‬وفي‬
‫األرض بما يقدر فيها ‪ ،‬وفيما بينهما بما ينزل فيه ‪ ،‬وفينا بما نكون عليه ‪ ،‬وهو معنا أينما كنا‬
‫فنتحول لتحوله ونتقلب لتقلبه« إِ َّن فِي ذ ِل َك لَ ِعب َْرة ً ِألُو ِلي ْاألَب ِ‬
‫ْصار »الختالف اآلثار ‪ ،‬وما ذاك‬
‫إال الختالف استعداد المحل ‪ ،‬ومن عرف ذلك عرف اختالف الملل والنحل ‪ ،‬فمن نظر في‬
‫حقائق األشياء عاش عيشة السعداء ‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬آية ‪] 45‬‬
‫شي عَلى ِرجْ لَ ْي ِن َو ِم ْن ُه ْم‬ ‫شي عَلى بَ ْط ِن ِه َو ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْم ِ‬ ‫ماء فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْم ِ‬
‫ق ُك هل دَابه ٍة ِم ْن ٍ‬ ‫ّللاُ َخلَ َ‬ ‫َو ه‬
‫ِير ( ‪) 45‬‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫ّللا عَلى ُك ِ ّل َ‬ ‫ّللاُ ما يَشا ُء إِ هن ه َ‬ ‫ق ه‬ ‫شي عَلى أ َ ْربَ ٍع يَ ْخلُ ُ‬ ‫َم ْن يَ ْم ِ‬
‫ِير »ال على ما ليس‬ ‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫ّللا َ‬ ‫طنِ ِه »وهي الحيهات« ِإ َّن َّ َ‬ ‫على بَ ْ‬ ‫« فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْم ِشي َ‬
‫بشيء ‪ ،‬فإن ال شيء ‪ ،‬ال يقبل الشيئية ‪ ،‬إذ لو قبلها ما كانت حقيقته ال شيء ‪ ،‬وال يخرج معلوم‬
‫عن حقيقته ‪ ،‬فال شيء محكوم عليه بأنه ال شيء أبدا ‪ ،‬وما هو شيء ‪ ،‬محكوم عليه بأنه شيء‬
‫شيْئا ً )قال له ‪(:‬‬ ‫ّللا تعالى فيها ‪ِ (:‬إذا أَرا َد َ‬ ‫أبدا ‪ ،‬ومن هنا تعلم شيئية األعيان الثبوتية التي قال ه‬
‫ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫ون )‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 46‬إلى ‪] 50‬‬


‫ون آ َمنها ِب ه ِ‬
‫اّلِل‬ ‫يم ( ‪َ ) 46‬ويَقُولُ َ‬ ‫ست َ ِق ٍ‬ ‫ّللاُ يَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء ِإلى ِص ٍ‬
‫راط ُم ْ‬ ‫ت َو ه‬ ‫ت ُمبَ ِيّنا ٍ‬ ‫لَقَ ْد أ َ ْن َز ْلنا آيا ٍ‬
‫ين ( ‪َ ) 47‬و ِإذا ُدعُوا‬ ‫سو ِل َوأ َ َط ْعنا ث ُ هم يَت َ َولهى فَ ِري ٌ‬
‫ق ِم ْن ُه ْم ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ َوما أُولئِكَ ِبا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫الر ُ‬
‫َو ِب ه‬
‫ق يَأْتُوا ِإلَ ْي ِه‬‫ُون ( ‪َ ) 48‬و ِإ ْن يَك ُْن لَ ُه ُم ا ْل َح ُّ‬ ‫ق ِم ْن ُه ْم ُم ْع ِرض َ‬‫سو ِل ِه ِليَحْ ُك َم بَ ْينَ ُه ْم ِإذا فَ ِري ٌ‬ ‫ِإلَى ه ِ‬
‫ّللا َو َر ُ‬
‫سولُهُ بَ ْل‬ ‫علَ ْي ِه ْم َو َر ُ‬‫ّللاُ َ‬
‫يف ه‬ ‫ون أ َ ْن يَ ِح َ‬ ‫ارتابُوا أ َ ْم يَخافُ َ‬‫ض أ َ ِم ْ‬ ‫ين ( ‪ ) 49‬أ َ فِي قُلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫ُم ْذ ِعنِ َ‬
‫ون) ‪( 50‬‬ ‫ظا ِل ُم َ‬ ‫أُولئِكَ ُه ُم ال ه‬

‫ص ‪229‬‬

‫‪229‬‬
‫سولُهُ " الحيف ميل إلى عدم الحق ‪.‬‬
‫علَ ْي ِه ْم َو َر ُ‬
‫ّللاُ َ‬ ‫" أ َ ْم يَخافُونَ أ َ ْن يَ ِح َ‬
‫يف َّ‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 51‬إلى ‪] 58‬‬


‫س ِم ْعنا َوأ َ َط ْعنا‬‫سو ِل ِه ِليَحْ ُك َم بَ ْينَ ُه ْم أ َ ْن يَقُولُوا َ‬ ‫ّللا َو َر ُ‬ ‫ين إِذا ُدعُوا إِلَى ه ِ‬ ‫كان قَ ْو َل ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫إِنهما َ‬
‫ون (‬‫ّللا َويَت ه ْق ِه فَأُولئِكَ ُه ُم ا ْلفائِ ُز َ‬ ‫ش هَ‬ ‫سولَهُ َويَ ْخ َ‬ ‫ّللا َو َر ُ‬ ‫ون ( ‪َ ) 51‬و َم ْن يُ ِط ِع ه َ‬ ‫َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬
‫س ُموا طاعَةٌ َم ْع ُروفَةٌ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا‬ ‫اّلِل َج ْه َد أ َ ْيمانِ ِه ْم لَئِ ْن أ َ َم ْرت َ ُه ْم لَيَ ْخ ُر ُج هن قُ ْل ال ت ُ ْق ِ‬
‫س ُموا ِب ه ِ‬ ‫‪َ ) 52‬وأ َ ْق َ‬
‫علَ ْي ِه ما ُح ِ ّم َل‬ ‫سو َل فَ ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَ ِإنهما َ‬ ‫الر ُ‬ ‫ّللا َوأ َ ِطيعُوا ه‬ ‫ون ) ‪ ( 53‬قُ ْل أ َ ِطيعُوا ه َ‬ ‫ير ِبما ت َ ْع َملُ َ‬ ‫َخ ِب ٌ‬
‫ّللاُ‬ ‫ع َد ه‬ ‫ين ) ‪َ ( 54‬و َ‬ ‫سو ِل إِاله ا ْلبَال ُ‬
‫غ ا ْل ُمبِ ُ‬ ‫علَى ه‬
‫الر ُ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ما ُح ِ ّم ْلت ُ ْم َوإِ ْن ت ُ ِطيعُوهُ ت َ ْهت َدُوا َوما َ‬ ‫َو َ‬
‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم‬ ‫ف الهذ َ‬ ‫ست َ ْخلَ َ‬
‫ض َك َما ا ْ‬ ‫ست َ ْخ ِلفَنه ُه ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ت لَيَ ْ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا ِم ْن ُك ْم َوع َِملُوا ال ه‬ ‫الهذ َ‬
‫ُون ِبي‬ ‫ارت َضى لَ ُه ْم َولَيُبَ ِ ّدلَنه ُه ْم ِم ْن بَ ْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم أ َ ْمنا يَ ْعبُدُونَنِي ال يُش ِْرك َ‬ ‫َولَيُ َم ِ ّكنَ هن لَ ُه ْم دِينَ ُه ُم الهذِي ْ‬
‫ون ) ‪( 55‬‬ ‫سقُ َ‬ ‫ش ْيئا َو َم ْن َكفَ َر بَ ْع َد ذ ِلكَ فَأُولئِكَ ُه ُم ا ْلفا ِ‬ ‫َ‬
‫ِين َكفَ ُروا‬ ‫سبَ هن الهذ َ‬ ‫ون ( ‪ ) 56‬ال تَحْ َ‬ ‫سو َل لَعَله ُك ْم ت ُ ْر َح ُم َ‬ ‫الزكاةَ َوأ َ ِطيعُوا ه‬
‫الر ُ‬ ‫صالةَ َوآتُوا ه‬ ‫َوأَقِي ُموا ال ه‬
‫ستَأ ْ ِذ ْن ُك ُم‬ ‫ير ) ‪ ( 57‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ِليَ ْ‬ ‫س ا ْل َم ِص ُ‬ ‫ار َولَ ِبئْ َ‬ ‫ض َو َمأْوا ُه ُم النه ُ‬ ‫ين ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ُم ْع ِج ِز َ‬
‫صال ِة ا ْلفَجْ ِر َو ِح َ‬
‫ين‬ ‫ت ِم ْن قَ ْب ِل َ‬ ‫الث َم هرا ٍ‬ ‫ِين لَ ْم يَ ْبلُغُوا ا ْل ُحلُ َم ِم ْن ُك ْم ث َ َ‬ ‫ِين َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُك ْم َوالهذ َ‬ ‫الهذ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم‬ ‫علَ ْي ُك ْم َوال َ‬ ‫س َ‬ ‫ت لَ ُك ْم لَ ْي َ‬‫الث ع َْورا ٍ‬ ‫شاء ث َ ُ‬ ‫صال ِة ا ْل ِع ِ‬ ‫ير ِة َو ِم ْن بَ ْع ِد َ‬ ‫ظ ِه َ‬ ‫ون ثِيابَ ُك ْم ِم َن ال ه‬ ‫ضعُ َ‬ ‫تَ َ‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم (‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ت َو ه‬ ‫ّللاُ لَ ُك ُم ْاآليا ِ‬‫ض كَذ ِلكَ يُبَ ِيّ ُن ه‬ ‫ض ُك ْم عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫علَ ْي ُك ْم بَ ْع ُ‬
‫ون َ‬ ‫ح بَ ْع َد ُه هن َط هوافُ َ‬ ‫ُجنا ٌ‬
‫) ‪58‬‬

‫ص ‪230‬‬

‫‪230‬‬
‫[ أول درجات التكليف ]‬
‫أول درجات التكليف إذا كان سبع سنين إلى أن يبلغ الحلم ‪ ،‬والبلوغ بالسن أو اإلنبات أو الحلم‬
‫ّللا خلقه كامال‬
‫للعاقل ‪ ،‬فيجب التكليف على العاقل إذا بلغ ‪ .‬واعلم أن الروح اإلنساني لما خلقه ه‬
‫ّللا الناس عليها ‪،‬‬
‫ّللا مقرا بربوبيته ‪ ،‬وهو الفطرة التي فطر ه‬
‫بالغا عاقال عارفا مؤمنا بتوحيد ه‬
‫ّللا له ملكا واستوى عليه ‪ ،‬جعل فيه قوى وآالت‬ ‫ّللا تعالى جعل له في الجسم الذي جعله ه‬
‫ثم إن ه‬
‫حسية ومعنوية ‪ ،‬وقيل له ‪ :‬خذ العلوم منها وصرفها على حد كذا وكذا ‪،‬‬
‫وجعلت له هذه اآلالت على مراتب ‪ ،‬فالقوى المعنوية كلها قوى كاملة إال قوة الخيال ‪ ،‬فإنها‬
‫خلقت ضعيفة والقوة الحساسة ‪ ،‬وجعلت هاتان القوتان تابعة للجسم ‪،‬‬
‫فكلما نما الجسم وكبر وزادت كميته كلما تقوى حسه وخياله ‪ ،‬فلم تكن لطيفة اإلنسان من حيث‬
‫ذاتها مدركة لما تعطيها هذه القوى إال بوساطتها ‪ ،‬فلو اتفق أن تعطيها هذه القوى المعلومات‬
‫ّللا قد‬
‫من أول ما يظهر الولد في عالم الحس قبلها الروح اإلنساني قبوال ذاتيا ‪ ،‬أال ترى أن ه‬
‫خرق العادة في بعض الناس في ذلك ؟ مثل كالم عيسى في المهد وصبي جريج ‪ ،‬هذا سبب‬
‫ّللا ‪ ،‬فلم‬
‫تأخير التكليف عن الروح اإلنساني إلى الحلم الذي هو حد كمال هذه القوى في علم ه‬
‫يبق عند ذلك عذر للروح اإلنساني في التخلف عن النظر والعمل بما كلفه ربه ‪ ،‬لذا قال تعالى‬
‫‪:‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 59‬إلى ‪] 61‬‬


‫ستَأْذَ َن الهذ َ‬
‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم كَذ ِلكَ يُبَ ِيّ ُن ه‬
‫ّللاُ لَ ُك ْم آياتِ ِه‬ ‫ستَأ ْ ِذنُوا َك َما ا ْ‬‫َو ِإذا بَلَ َغ ْاأل َ ْطفا ُل ِم ْن ُك ُم ا ْل ُحلُ َم فَ ْليَ ْ‬
‫ح أ َ ْن‬ ‫علَ ْي ِه هن ُجنا ٌ‬ ‫س َ‬ ‫ون ِنكاحا فَلَ ْي َ‬ ‫ساء الاله ِتي ال يَ ْر ُج َ‬ ‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم ( ‪َ ) 59‬وا ْلقَوا ِع ُد ِم َن ال ِنّ ِ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫َو ه‬
‫س‬ ‫ع ِلي ٌم ( ‪ ) 60‬لَ ْي َ‬ ‫س ِمي ٌع َ‬‫ّللاُ َ‬ ‫ت بِ ِزينَ ٍة َوأ َ ْن يَ ْ‬
‫ست َ ْع ِف ْف َن َخ ْي ٌر لَ ُه هن َو ه‬ ‫غ ْي َر ُمتَبَ ِ ّرجا ٍ‬ ‫ض ْع َن ثِيابَ ُه هن َ‬ ‫يَ َ‬
‫س ُك ْم أ َ ْن تَأ ْ ُكلُوا‬‫ج َوال عَلى أ َ ْنفُ ِ‬ ‫يض َح َر ٌ‬ ‫علَى ا ْل َم ِر ِ‬ ‫ج َوال َ‬ ‫علَى ْاألَع َْرجِ َح َر ٌ‬ ‫ج َوال َ‬ ‫علَى ْاألَعْمى َح َر ٌ‬ ‫َ‬
‫ت أ َ َخواتِ ُك ْم أ َ ْو بُيُو ِ‬
‫ت‬ ‫ت ِإ ْخوانِ ُك ْم أ َ ْو بُيُو ِ‬ ‫ت أ ُ همهاتِ ُك ْم أ َ ْو بُيُو ِ‬‫ت آبائِ ُك ْم أ َ ْو بُيُو ِ‬ ‫ِم ْن بُيُوتِ ُك ْم أ َ ْو بُيُو ِ‬
‫صدِي ِق ُك ْم‬ ‫ت خاالتِ ُك ْم أ َ ْو ما َملَ ْكت ُ ْم َمفاتِ َحهُ أ َ ْو َ‬ ‫ت أ َ ْخوا ِل ُك ْم أ َ ْو بُيُو ِ‬‫ع هماتِ ُك ْم أ َ ْو بُيُو ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ْمام ُك ْم أ َ ْو بُيُو ِ‬
‫أَع ِ‬
‫س ُك ْم ت َ ِحيهة ِم ْن‬ ‫س ِلّ ُموا عَلى أ َ ْنفُ ِ‬ ‫ح أ َ ْن تَأ ْ ُكلُوا َج ِميعا أ َ ْو أَشْتاتا فَ ِإذا َد َخ ْلت ُ ْم بُيُوتا فَ َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ُجنا ٌ‬‫س َ‬ ‫لَ ْي َ‬
‫ون) ‪( 61‬‬ ‫ت لَعَله ُك ْم ت َ ْع ِقلُ َ‬ ‫باركَة َط ِيّبَة كَذ ِلكَ يُبَ ِيّ ُن ه‬
‫ّللاُ لَ ُك ُم ْاآليا ِ‬ ‫ّللا ُم َ‬ ‫ِع ْن ِد ه ِ‬

‫ص ‪231‬‬

‫‪231‬‬
‫ّللا العبد إذا دخل بيتا خاليا من كل أحد أن يسلم على نفسه في قوله تعالى «‪:‬فَإِذا َدخ َْلت ُ ْم‬ ‫أمر ه‬
‫على أ َ ْنفُ ِس ُك ْم »فيكون العبد هنا مترجما عن الحق في سالمه ‪ ،‬ألنه قال ‪ «:‬ت َ ِحيَّةً‬ ‫س ِله ُموا َ‬
‫بُيُوتا ً فَ َ‬
‫بار َكةً »فجعل الحق العبد رسوال من عنده إلى نفس العبد بهذه التحية المباركة لما‬ ‫ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫ّللا ُم َ‬
‫ط ِيهبَةً »ألنها طيبة األعراف بسريانها من نفس الرحمن ‪ ،‬فأمرنا ه‬
‫ّللا‬ ‫فيها من زوائد الخير« َ‬
‫تعالى بالسالم علينا ‪ ،‬وهذا يدلك على أن اإلنسان ينبغي أن يكون في صالته أجنبيا عن نفسه‬
‫ّللا الصالحين‬ ‫بربه حتى يصح له أن يسلم عليه بكالم ربه في قوله ‪ ( :‬السالم علينا وعلى عباد ه‬
‫ّللا على عبده وأنت ترجمانه إليك‬ ‫ط ِيهبَةً »فهو سالم ه‬
‫بار َكةً َ‬ ‫) فإنه قال ‪ «:‬ت َ ِحيَّةً ِم ْن ِع ْن ِد َّ ِ‬
‫ّللا ُم َ‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬المئوف ال حرج عليه ]‬
‫ّللا عين بصيرته ‪،‬‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬المئوف ال حرج عليه ‪ ،‬والعالم كله مئوف ال حرج عليه لمن فتح ه‬
‫علَى ْاألَعْمى َح َر ٌج‬ ‫ولهذا قلنا ‪ :‬مآل العالم إلى الرحمة وإن سكنوا النار وكانوا من أهلها« لَي َ‬
‫ْس َ‬
‫يض َح َر ٌج »وما ث هم إال هؤالء ‪ ،‬فما ث هم إال مئوف ‪ ،‬فقد‬ ‫علَى ْال َم ِر ِ‬ ‫ج َح َر ٌج َوال َ‬ ‫علَى ْاألَع َْر ِ‬ ‫َوال َ‬
‫ّللا الحرج بالعرج العاثر فيه ‪ ،‬فإنه ما ث هم سواه وال أنت ‪ ،‬والمريض المائل إليه ‪ ،‬ألنه ما‬ ‫رفع ه‬
‫ث هم موجود يمال إليه إال هو ‪ ،‬واألعمى عن غيره ال عنه ‪ ،‬ألنه ال يتمكن العمى عنه وما ث هم إال‬
‫هو ‪ ،‬فالعالم كله أعمى أعرج مريض ‪.‬‬

‫[ سورة النور ( ‪ : ) 24‬اآليات ‪ 62‬إلى ‪] 64‬‬


‫جام ٍع لَ ْم يَ ْذ َهبُوا َحت هى‬
‫سو ِل ِه َو ِإذا كانُوا َمعَهُ عَلى أ َ ْم ٍر ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا ِب ه ِ‬
‫اّلِل َو َر ُ‬ ‫ون الهذ َ‬ ‫ِإنه َما ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫ض شَأْنِ ِه ْم‬ ‫ستَأْذَنُوكَ ِلبَ ْع ِ‬ ‫سو ِل ِه فَ ِإذَا ا ْ‬ ‫اّلِل َو َر ُ‬ ‫ستَأ ْ ِذنُونَكَ أُولئِكَ الهذ َ‬
‫ِين يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ِب ه ِ‬ ‫ِين يَ ْ‬ ‫ستَأ ْ ِذنُو ُه ِإ هن الهذ َ‬‫يَ ْ‬
‫سو ِل‬
‫الر ُ‬‫ور َر ِحي ٌم ( ‪ ) 62‬ال تَجْ عَلُوا دُعا َء ه‬ ‫غف ُ ٌ‬‫ّللا َ‬
‫ّللا ِإ هن ه َ‬ ‫شئْتَ ِم ْن ُه ْم َوا ْ‬
‫ست َ ْغ ِف ْر لَ ُه ُم ه َ‬ ‫فَأْذَ ْن ِل َم ْن ِ‬
‫ون ع َْن‬ ‫ِين يُخا ِلفُ َ‬‫ون ِم ْن ُك ْم ِلواذا فَ ْليَحْ ذَ ِر الهذ َ‬ ‫سلهلُ َ‬ ‫ّللاُ الهذ َ‬
‫ِين يَت َ َ‬ ‫ُعاء بَ ْع ِض ُك ْم بَ ْعضا قَ ْد يَ ْعلَ ُم ه‬
‫بَ ْينَ ُك ْم َكد ِ‬
‫ض قَ ْد‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ّلِل ما فِي ال ه‬ ‫َذاب أ َ ِلي ٌم ) ‪ ( 63‬أَال إِ هن ِ ه ِ‬ ‫أ َ ْم ِر ِه أ َ ْن ت ُ ِصيبَ ُه ْم فِتْنَةٌ أ َ ْو يُ ِصيبَ ُه ْم ع ٌ‬
‫ع ِلي ٌم) ‪( 64‬‬ ‫ش ْي ٍء َ‬ ‫ّللاُ ِب ُك ِ ّل َ‬ ‫ون ِإلَ ْي ِه فَيُنَ ِبّئ ُ ُه ْم ِبما ع َِملُوا َو ه‬ ‫يَ ْعلَ ُم ما أ َ ْنت ُ ْم َ‬
‫علَ ْي ِه َويَ ْو َم يُ ْر َجعُ َ‬
‫ص ‪232‬‬

‫‪232‬‬
‫) ‪ ( 25‬سورة الفرقان مكيّة‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫بِ ْ‬
‫ُون ِل ْلعالَ ِم َ‬
‫ين نَذِيرا ( ‪) 1‬‬ ‫ع ْب ِد ِه ِليَك َ‬ ‫باركَ الهذِي نَ هز َل ا ْلفُ ْر َ‬
‫قان عَلى َ‬ ‫تَ َ‬
‫ّللا أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ‪ ،‬ليلة النصف من شعبان ‪] ،‬‬ ‫[ اعلم أن ه‬
‫ّللا أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ‪ ،‬ليلة النصف من شعبان ‪ ،‬وأنزله قرآنا في شهر‬ ‫اعلم أن ه‬
‫رمضان ‪ ،‬كل ذلك إلى السماء الدنيا ‪ ،‬ومن هناك نزل في ثالث وعشرين سنة فرقانا نجوما ذا‬
‫آيات وسور ‪ ،‬لتعلم المنازل ‪ ،‬وتتبين المراتب ‪ ،‬فمن نزوله إلى األرض في شهر شعبان يتلى‬
‫فرقانا ‪ ،‬ومن نزوله في شهر رمضان يتلى قرآنا ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 2‬‬


‫ش ْي ٍء‬ ‫ض َولَ ْم يَت ه ِخ ْذ َولَدا َولَ ْم يَك ُْن لَهُ ش َِريكٌ ِفي ا ْل ُم ْل ِك َو َخلَ َ‬
‫ق ُك هل َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫الهذِي لَهُ ُم ْلكُ ال ه‬
‫فَقَد َهرهُ ت َ ْقدِيرا ( ‪) 2‬‬
‫ش ْيءٍ فَقَد ََّرهُ ت َ ْقدِيرا ً " ]‬‫[ " َو َخلَقَ ُك َّل َ‬
‫ش ْيءٍ فَقَد ََّرهُ ت َ ْقدِيرا ً »وأعلم أن‬ ‫أول أثر إلهي في الخلق التقدير ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪َ «:‬و َخلَقَ ُك َّل َ‬
‫الجوهر الثابت هو العماء ‪ ،‬وليس إال نفس الرحمن ‪ ،‬والعالم جميع ما ظهر فيه من الصور‬
‫فهي أعراض فيه ‪ ،‬وأما نضده على الظهور والترتيب ‪ ،‬فأرواح نورية إلهية مهيمة في صور‬
‫نورية خلقية إبداعية في جوهر نفس هو العماء ‪ ،‬ومن جملتها العقل األول ‪ ،‬وهو القلم ‪،‬‬

‫ص ‪233‬‬

‫‪233‬‬
‫ثم النفس وهو اللوح المحفوظ ‪ ،‬ثم الجسم ‪ ،‬ثم العرش ومقره وهو الماء الجامد والهواء‬
‫والظلمة ‪ ،‬ثم مالئكته ‪ ،‬ثم الكرسي ‪ ،‬ثم مالئكته ‪ ،‬ثم األطلس ‪ ،‬ثم مالئكته ‪ ،‬ثم فلك المنازل ‪،‬‬
‫ثم الجنات بما فيها ‪ ،‬ثم ما يختص بها وبهذا الفلك من الكواكب ‪ ،‬ثم األرض ‪ ،‬ثم الماء ‪ ،‬ثم‬
‫الهواء العنصري ‪ ،‬ثم النار ‪ ،‬ثم الدخان وفتق فيه سبع سماوات ‪:‬‬
‫سماء القمر ‪ ،‬وسماء الكاتب ‪ ،‬وسماء الزهرة ‪ ،‬وسماء الشمس ‪ ،‬وسماء األحمر ‪ ،‬وسماء‬
‫المشتري ‪ ،‬وسماء المقاتل ‪ ،‬ثم أفالكها المخلوقون منها ‪ ،‬ثم مالئكة النار والماء والهواء‬
‫واألرض ‪ ،‬ثم المولدات المعدن والنبات والحيوان ‪،‬‬
‫ثم نشأة جسد اإلنسان ‪ ،‬ثم ما ظهر من أشخاص كل نوع من الحيوان والنبات والمعدن ‪،‬‬
‫ثم الصور المخلوقات من أعمال المكلفين وهي آخر نوع ‪ ،‬هذا ترتيبه بالظهور في اإليجاد ‪.‬‬
‫وأما ترتيبه بالمكان الوجودي أو المتوهم ‪ ،‬فالمكان المتوهم المعقوالت التي ذكرناها إلى الجسم‬
‫الكل ‪ ،‬ثم العرش ‪ ،‬ثم الكرسي ‪ ،‬ثم األطلس ‪ ،‬ثم المكوكب ‪ -‬وفيه الجنات ‪ -‬ثم سماء زحل ‪،‬‬
‫ثم سماء المشتري ‪ ،‬ثم سماء المريخ ‪ ،‬ثم سماء الشمس ‪ ،‬ثم سماء الزهرة ‪ ،‬ثم سماء الكاتب ‪،‬‬
‫ثم سماء القمر ‪ ،‬ثم األثير ‪ ،‬ثم الهواء ‪ ،‬ثم الماء ‪ ،‬ثم األرض ‪.‬‬
‫وأما ترتيبه بالمكانة ‪:‬‬
‫فاإلنسان الكامل ‪ ،‬ثم العقل األول ‪ ،‬ثم األرواح المهيمة ‪ ،‬ثم النفس ‪ ،‬ثم العرش ‪ ،‬ثم الكرسي ‪،‬‬
‫ثم األطلس ‪ ،‬ثم الكثيب ‪ ،‬ثم الوسيلة ‪ ،‬ثم عدن ‪ ،‬ثم الفردوس ‪ ،‬ثم دار السالم ‪ ،‬ثم دار المقامة ‪،‬‬
‫ثم المأوى ‪ ،‬ثم الخلد ‪ ،‬ثم النعيم ‪ ،‬ثم فلك المنازل ‪ ،‬ثم البيت المعمور ‪ ،‬ثم سماء الشمس ‪ ،‬ثم‬
‫القمر ‪ ،‬ثم المشتري ‪ ،‬ثم زحل ‪ ،‬ثم الزهرة ‪ ،‬ثم الكاتب ‪ ،‬ثم المريخ ‪ ،‬ثم الهواء ‪ ،‬ثم الماء ‪ ،‬ثم‬
‫التراب ‪ ،‬ثم النار ‪ ،‬ثم الحيوان ‪ ،‬ثم النبات ‪ ،‬ثم المعدن ‪.‬‬
‫وفي الناس ‪ :‬الرسل ‪ ،‬ثم األنبياء ‪ ،‬ثم األولياء ‪ ،‬ثم المؤمنون ‪ ،‬ثم سائر الخلق ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ثم أمة موسى عليه السالم ‪ ،‬ثم األمم على منازل‬ ‫وفي األمم ‪ :‬أمة محمد صلهى ه‬
‫رسلها ‪ ،‬فنقول بعد هذا اإليجاز ‪ :‬إنه لما شاء سبحانه أن يوجد األشياء من غير موجود ‪ ،‬وأن‬
‫يبرزها في أعيانها بما تقتضيه من الرسوم والحدود ‪ ،‬لظهور سلطان األعراض والخواص‬
‫والفصول واألنواع واألجناس ‪ ،‬الدافعين شبه الشكوك ‪ ،‬والرافعين حجب االلتباس ‪ ،‬بوسائط‬
‫العبارات الشارحة ‪ ،‬والصفات الرسمية والذاتية ‪ ،‬النيرة النبراس ‪ ،‬انجلى في صورة العلم‬
‫صور الجواهر المتماثالت واألعراض المختلفات والمتماثالت والمتقابالت ‪ ،‬وفصل بين هذه‬
‫الذوات بين المتحيزات منها وغير المتحيزات ‪ ،‬كما انجلى في ذوات األعراض والجواهر‬
‫صور الهيئات والحاالت ‪ ،‬بالكيفيات وصور المقادير واألوزان المتصالت‬
‫ص ‪234‬‬

‫‪234‬‬
‫والمنفصالت بالكميات ‪ ،‬وصور األدوار والحركات الزمانيات ‪ ،‬وصور األقطار واألكوار‬
‫المكانيات ‪ ،‬والصور الحافظات الماسكات نظام العالم ‪ ،‬الحامالت أسباب المناقب والمثالب‬
‫العرضيات ‪ ،‬وأسباب المدائح أو المذام الشرعيات ‪ ،‬وأسباب الصالح والفساد الوضعيات‬
‫الحكميات ‪ ،‬وصور اإلضافات بين المالك والمملوك ‪ ،‬واآلباء واألبناء والبنات ‪ ،‬وصور‬
‫التمليك بالعبيد واإلماء الخارجات ‪ ،‬والحسن والجمال والعلم وأمثال ذلك الداخالت ‪ ،‬وصور‬
‫التوجهات الفعلية القائمة بالفاعالت ‪ ،‬وصور المنفعالت التي هي بالفعل والفاعالت مرتبطات ‪،‬‬
‫جالها بالشمس وضحاها والقمر إذا تالها ‪ ،‬والنهار إذا ه‬
‫جالها والليل إذا يغشاها ‪،‬‬ ‫وقال عندما ه‬
‫والسماء وما بناها ‪ ،‬واألرض وما طحاها ‪.‬‬
‫هذه حقائق اآلباء العلويات ‪ ،‬واألمهات السفليات ‪ ،‬ولها البقاء باإلبقاء ‪ ،‬مع استمرار التكوينات‬
‫والتلوينات بالتغيير واالستحاالت ‪ ،‬ليثبت عندها علم ما هي الحضرة اإللهية عليه من العزة‬
‫والثبات ‪ ،‬فهذا هو الذي أبرز سبحانه من المعلومات ‪ ،‬وال يجوز غير ذلك فإنه لم يبق سوى‬
‫الواجبات والمحاالت ‪.‬‬
‫فأول موجود أداره سبحانه فلك اإلشارات إدارة إحاطة معنوية ‪ ،‬وهو أول األفالك الممكنات‬
‫المحدثات المعقوالت ‪ ،‬وأول صورة ظهر في هذا الفلك العمائي صور الروحانيات المهيمات ‪،‬‬
‫الذي منها القلم اإللهي الكاتب العالم في الرساالت ‪ ،‬وهو العقل األول الفياض في الحكميات‬
‫واإلنباءات ‪ ،‬وهو الحقيقة المحمدية ‪ ،‬والحق المخلوق به ‪ ،‬والعدل ‪ ،‬عند أهل اللطائف‬
‫واإلشارات ‪ ،‬وهو الروح القدسي الكل ‪ ،‬عند أهل الكشوف والتلويحات ‪ ،‬فجعله عالما حافظا‬
‫باقيا تاما كامال فياضا كاتبا من دواة العلم ‪ ،‬تحركه يمين القدرة عن سلطان اإلرادة والعلوم‬
‫الجاريات إلى نهايات ‪ ،‬وهو مستوى األسماء اإللهيات ‪.‬‬
‫ثم أدار معدن فلك النفوس دون هذا الفلك وهو اللوح المحفوظ في النبوات ‪ ،‬وهو النفس‬
‫المنفعلة عند أصحاب اإلدراكات واإلشارات والمكاشفات ‪ ،‬فجعلها باقية تامة غير كاملة‬
‫وفائضة غير مفيضة فيض العقل ‪ ،‬فهي في محل القصور والعجز عن بلوغ الغايات ‪ ،‬ثم أوجد‬
‫الهباء في الكشف ‪ ،‬والهيولى في النظر ‪ ،‬والطبيعة في األذهان ‪ ،‬ال في األعيان ‪ ،‬فأول صورة‬
‫أظهر في ذلك الهباء صور األبعاد الثالثة فكان المكان ‪ ،‬فوجه عليه سبحانه سلطان األربعة‬
‫األركان ‪ ،‬فظهرت البروج الناريات والترابيات والهوائيات والمائيات ‪ ،‬فتميزت األكوان ‪،‬‬
‫وسمى هذا الجسم الشفاف اللطيف المستدير المحيط بأجسام العالم ‪ ،‬العرش العظيم الكريم ‪،‬‬

‫ص ‪235‬‬

‫‪235‬‬
‫واستوى عليه باسمه الرحمن ‪ ،‬استواء منزها عن الحد والمقدار ‪ ،‬معلوما عنده غير مكيف وال‬
‫معلوم للعقول واألذهان ‪ ،‬ثم أدار سبحانه في جوف هذا الفلك األول فلكا ثانيا ‪ ،‬سماه الكرسي ‪،‬‬
‫فتدلت إليه القدمان ‪ ،‬فانفرق فيه كل أمر حكيم بتقدير عزيز عليم ‪ ،‬وعنده أوجد الخيرات‬
‫الحسان ‪ ،‬والمقصورات في خيام الجنان ‪ ،‬ثم رتب فيه منازل األمور كلها ‪ ،‬وأحكمها في‬
‫روحانيات سخرها وح هكمها بالتأثيرات السبعية من ألف إلى ساعة عن اختالف الملوان ‪ ،‬وجعل‬
‫هذه المنازل بين وسط ممزوج ‪ ،‬وطرفي سعد مستقر ‪ ،‬ونحس مستمر ‪ ،‬بنزول المقدر المفرد‬
‫اإلنسان ‪ ،‬ثم أدار سبحانه في جوف هذا الفلك الثاني فلكا ثالثا ‪ ،‬وخلق فيه كوكبا سابحا من‬
‫الخنس الكنس ‪ ،‬مسخرا فقيرا ‪ ،‬أودع لديه كل أسود حالك ‪ ،‬وقرن به ضيق المسالك ‪ ،‬والوعر‬
‫والحزن والكرب والحزن وحسرات الفوت ‪ ،‬وسكرات الموت ‪ ،‬وأسرار الظلمات ‪ ،‬والمفازات‬
‫المهلكات ‪ ،‬واألشجار المثمرات ‪ ،‬واألفاعي والحيات ‪ ،‬والحيوانات المضرات ‪ ،‬والحرات‬
‫الموحشات ‪ ،‬والطرق الدارسات ‪ ،‬والعنا والمشقات ‪ ،‬وخلق عند مساعدته النفس الكلية الجبال‬
‫‪ ،‬لتسكين األرضين المدحيات ‪ ،‬وأسكن في هذا الفلك روحانية خليله إبراهيم عليه السالم ‪،‬‬
‫عبده ورسوله ‪.‬‬
‫ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا رابعا ‪ ،‬خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس ‪ ،‬أودع لديه‬
‫النخل الباسقات ‪ ،‬والعدل في القضايا والحكومات ‪ ،‬وأسباب الخير والسعادات ‪ ،‬والبيض‬
‫الحسان المنعمات ‪ ،‬واالعتداالت والتمامات ‪ ،‬وأسرار العبادات والقربات ‪ ،‬والصدقات‬
‫البرهانيات ‪ ،‬والصلوات النوريات ‪ ،‬وإجابة الدعوات ‪ ،‬والناظرين إلى الواقفين بعرفات ‪،‬‬
‫وقبول النسك بموضع رمي الجمرات ‪ ،‬وخلق عند مساعدته النفس الكلية تحليل المياه الجامدات‬
‫‪ ،‬وأسكن في هذا الفلك روحانية نبيه موسى عليه السالم عبده ونجيه ‪ .‬ثم أدار في جوف هذا‬
‫الفلك فلكا خامسا ‪ ،‬خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس ‪ ،‬أودع لديه حماية المذاهب‬
‫بالقواضب المرهفات ‪ ،‬والموازن السمهريات ‪ ،‬وتجميز قدور راسيات ‪ ،‬وملء جفون‬
‫كالجوابي المستديرات ‪ ،‬والتعصبات والحميات ‪ ،‬وإيقاع الفتن والحروب بين أهل الهدايات‬
‫والضالالت ‪ ،‬وتقابل الشبه المضالت ‪ ،‬واألدلة الواضحات بين أهل العقول السليمة والتخيالت‬
‫‪ ،‬وخلق عند مساعدته النفس الكل لتلطيف األهوية السخيفات ‪ ،‬وأسكن في هذا الفلك روح‬
‫رسوليه هارون ويحيى عليهما السالم موضحي سبيليه ‪ .‬ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا‬
‫سادسا ‪،‬‬
‫ص ‪236‬‬

‫‪236‬‬
‫خلق فيه كوكبا عظيما مشرقا سابحا ‪ ،‬وأودع لديه أسرار الروحانيات ‪ ،‬واألنوار المشرقات ‪،‬‬
‫والضياءات الالمعات ‪ ،‬والبروق الخاطفات ‪ ،‬والشعاعات النيرات ‪ ،‬واألجساد المستنيرات ‪،‬‬
‫والمراتب الكامالت ‪ ،‬واالستواءات المعتدالت ‪ ،‬والمعارف اللؤلؤيات واليواقيت العاليات ‪،‬‬
‫والجمع بين األنوار واألسرار الساريات ‪ ،‬ومعالم التأسيسات ‪ ،‬وأنفاس النور الجاريات ‪ ،‬وخلع‬
‫األرواح المدبرات ‪ ،‬وإيضاح األمور المبهمات ‪ ،‬وحل المسائل المشكالت ‪ ،‬وحسن إيقاع‬
‫السماع في النغمات ‪ ،‬وتوالي الواردات ‪ ،‬وترادف التنزالت الغيبيات ‪ ،‬وارتقاء المعاني‬
‫الروحانيات ‪ ،‬إلى أوج االنتهاءات ‪ ،‬ودفع العلل بالعالالت النافعات ‪ ،‬والكلمات المستحسنات ‪،‬‬
‫واألعراف العطريات ‪ ،‬وأمثال ذلك مما يطول ذكره ‪ ،‬وخلق عند مساعدته النفس الكل تحريك‬
‫الفلك األثير لتسخين العالم بهذه الحركات ‪ ،‬وأسكن في هذا الفلك إدريس النبي ‪ ،‬المخصوص‬
‫بالمكان العلي ‪.‬‬
‫ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا سابعا خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس ‪ ،‬أودع لديه‬
‫التصوير التام ‪ ،‬وحسن النظام ‪ ،‬والسماع الشهي ‪ ،‬والمنظر الرائق البهي ‪ ،‬والهيبة والجمال ‪،‬‬
‫واالنس والجالل ‪ ،‬وخلق عند مساعدته النفس الكل تقطير ماء رطب في كل ركن البخارات ‪،‬‬
‫وأسكن في هذا الفلك روحانية النبي الجميل يوسف عليه السالم ‪ .‬ثم أدار في جوف هذا الفلك‬
‫فلكا ثامنا ‪ ،‬خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس ‪ ،‬أودع لديه األوهام واإليهام ‪ ،‬والوحي‬
‫واإللهام ‪ ،‬ومهالك اآلراء الفاسدة والقياسات ‪ ،‬واألحالم الرديئة والمبشرات ‪ ،‬واالختراعات‬
‫الصناعيات واالستنباطات العمليات ‪ ،‬وما في األفكار من الغلطات واإلصابات ‪ ،‬والقوى‬
‫الفاعالت والوهميات ‪ ،‬والزجر والكهانات والفراسات ‪ ،‬والسحر والعزائم والطلسميات ‪ ،‬وخلق‬
‫عند مساعدته النفس الكل مزج البخارات الرطبة بالبخارات اليابسات ‪ ،‬وأسكن في هذا الفلك‬
‫روحانية روحه وكلمته عيسى عليه السالم عبده ورسوله وابن أمته ‪ .‬ثم أدار في جوف هذا‬
‫ّللا لديه الزيادة والنقصان ‪ ،‬والربو‬ ‫الفلك فلكا آخر تاسعا خلق فيه كوكبا سابحا أودع ه‬
‫واالستحاالت باالضمحالالت ‪ ،‬وخلق عند مساعدته النفس الكل إمداد المولدات بركن‬
‫العصارات ‪ ،‬وأسكن في هذا الفلك روحانية نبيه آدم عليه السالم عبده ورسوله وصفيه ‪،‬‬
‫وأسكن هذه األفالك المستديرات أصناف المالئكة الصافات التاليات ‪ ،‬فمنها القائمات والقاعدات‬
‫‪ ،‬ومنها الراكعات والساجدات ‪ ،‬كما قال تعالى إخبارا عنهم ( َوما ِمنَّا إِ َّال لَهُ َمقا ٌم‬

‫ص ‪237‬‬

‫‪237‬‬
‫َم ْعلُو ٌم )فهم عمار السماوات ‪ ،‬وجعل منهم األرواح المطهرات ‪ ،‬المعتكفين بأشرف الحضرات‬
‫ّللا من التكوينات ‪ ،‬فوكل باألرجاء‬
‫‪ ،‬وجعل منهم المالئكة المسخرات ‪ ،‬والوكالء على ما يخلقه ه‬
‫الزاجرات واألنباء المرسالت ‪ ،‬وباإللهام واللمات الملقيات ‪ ،‬وبالتفصيل والتصوير والترتيب‬
‫المقسمات ‪ ،‬وبالترغيب والترحيب الناشرات ‪ ،‬وبالترهيب الناشطات ‪ ،‬والتشتيت النازعات ‪،‬‬
‫وبالسوق السابحات ‪ ،‬وباالعتناء السابقات ‪ ،‬وباألحكام المدبرات ‪.‬‬
‫ثم أدار في جوف هذا الفلك كرة األثير ‪ ،‬أودع فيها رجوم المسترقات الطارقات ‪ ،‬ثم جعل دونه‬
‫وموج فيه‬
‫كرة الهواء أجرى فيه الذاريات العاصفات ‪ ،‬السابقات الحامالت المعصرات ‪ ،‬ه‬
‫البحور الزاخرات الكائنات من البخارات المستحيالت ‪ ،‬ويسمى دائرة كرة الزمهرير ‪ ،‬تتعلم‬
‫منه صناعة التقطير ‪ ،‬وأمسك في هذه الكرة أرواح األجسام الطائرات ‪ ،‬وأظهر في هاتين‬
‫الكرتين الرعود القاصفات ‪ ،‬والبروق الخاطفات ‪ ،‬والصواعق المهلكات ‪ ،‬واألحجار القاتالت‬
‫‪ ،‬والجبال الشامخات ‪ ،‬واألرواح الناريات الصاعدات النازالت ‪ ،‬والمياه الجامدات ‪ .‬ثم أدار‬
‫في جوف هذه الكرة كرة أودع فيها سبحانه ما أخبرنا به في اآليات البينات ‪ ،‬من أسرار إحياء‬
‫الموات ‪ ،‬وأجرى فيها األعالم الجاريات ‪ ،‬وأسكنها الحيوانات الصامتات ‪ ،‬ثم أدار في جوفها‬
‫كرة أخرى أودع فيها ضروب التكوينات من المعادن والنباتات والحيوانات ‪ ،‬فأما المعادن‬
‫عز وجل ثالث طبقات ‪:‬منها المائيات والترابيات والحجريات ‪ ،‬وكذلك النبات ‪ :‬منها‬ ‫فجعلها ه‬
‫النابتات والمغروسات والمزروعات ‪،‬‬
‫وكذلك الحيوانات ‪ :‬منها المولدات المرضعات والحاضنات والمعفنات ‪ ،‬ثم كون اإلنسان‬
‫مضاهيا لجميع ما ذكرناه من المحدثات ‪ ،‬ثم وهبه معالم األسماء والصفات ‪ ،‬فمهدت له هذه‬
‫المخلوقات المعجزات ‪ ،‬ولهذا كان آخر الموجدات ‪ ،‬فمن روحانيته صح له سر األولية في‬
‫البدايات ‪ ،‬ومن جسميته صح له اآلخرية في الغايات ‪ ،‬فبه بدأ األمر وختم ‪ ،‬إظهارا للعنايات‬
‫وأقامه خليفة في األرض ‪ ،‬ألن فيها ما في السماوات ‪ ،‬وأيده باآليات والعالمات والدالالت‬
‫ّللا به‬
‫والمعجزات ‪ ،‬واختصه بأصناف الكرامات ‪ ،‬ونصب به القضايا المشروعات ‪ ،‬ليميز ه‬
‫الخبيثات من الطيبات ‪ ،‬فيلحق الخبيث بالشقاوات في الدركات ‪ ،‬ويلحق الطيب بالسعادات في‬
‫الدرجات ‪ ،‬كما سبق في القبضتين اللتين هما صفتان للذات ‪ ،‬فسبحان مبدئ هذه اآليات ‪،‬‬
‫وناصب هذه الدالالت ‪ ،‬على أنه واحد قهار األرض والسماوات‪.‬‬
‫ص ‪238‬‬

‫‪238‬‬
‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 3‬‬
‫ض ًّرا َوال نَ ْفعا َوال‬ ‫ُون ِأل َ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم َ‬ ‫ش ْيئا َو ُه ْم يُ ْخلَقُ َ‬
‫ون َوال يَ ْم ِلك َ‬ ‫ون َ‬‫َوات ه َخذُوا ِم ْن دُو ِن ِه آ ِل َهة ال يَ ْخلُقُ َ‬
‫ُون َم ْوتا َوال َحياة َوال نُشُورا ) ‪( 3‬‬ ‫يَ ْم ِلك َ‬
‫من اتخذ إلها من غير دعوى منه ‪ ،‬بل هو في نفسه عبد ‪ ،‬غير راض بما نسب إليه ‪ ،‬وعاجز‬
‫عن إزالة ما ادعي فيه ‪ ،‬فإنه مظلوم حيث سلب عنه هذا المدعي ما يستحقه ‪ ،‬وهو كونه عبدا ‪،‬‬
‫ّللا له ال لنفسه ‪ ،‬فاتخاذ الشريك من مظالم العباد ‪.‬‬ ‫فظلمه فينتصر ه‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 4‬إلى ‪] 13‬‬


‫ظ ْلما َو ُزورا ( ‪) 4‬‬ ‫ون فَقَ ْد جا ُؤ ُ‬ ‫افتَراهُ َوأَعانَهُ َ‬
‫علَ ْي ِه قَ ْو ٌم آ َخ ُر َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا إِ ْن َهذا إِاله إِ ْفكٌ ْ‬ ‫َوقا َل الهذ َ‬
‫علَ ْي ِه بُ ْك َرة َوأ َ ِصيال ( ‪ ) 5‬قُ ْل أ َ ْن َزلَهُ الهذِي يَ ْعلَ ُم ال ِ ّ‬
‫س هر‬ ‫ي ت ُ ْملى َ‬ ‫ين ا ْكتَتَبَها فَ ِه َ‬ ‫ير ْاأل َ هو ِل َ‬ ‫ساط ُ‬‫َوقالُوا أ َ ِ‬
‫سو ِل يَأ ْ ُك ُل ال ه‬
‫طعا َم‬ ‫الر ُ‬‫غفُورا َر ِحيما ( ‪َ ) 6‬وقالُوا ما ِلهذَا ه‬ ‫كان َ‬‫ض ِإنههُ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫فِي ال ه‬
‫ُون َمعَهُ نَذِيرا ( ‪ ) 7‬أ َ ْو يُ ْلقى ِإلَ ْي ِه َك ْن ٌز أ َ ْو تَك ُ‬
‫ُون‬ ‫واق لَ ْو ال أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْي ِه َملَكٌ فَيَك َ‬
‫س ِ‬ ‫شي فِي ْاأل َ ْ‬ ‫َويَ ْم ِ‬
‫س ُحورا ) ‪( 8‬‬ ‫ون ِإاله َر ُجال َم ْ‬ ‫ون ِإ ْن تَت ه ِبعُ َ‬ ‫ظا ِل ُم َ‬‫لَهُ َجنهةٌ يَأ ْ ُك ُل ِم ْنها َوقا َل ال ه‬
‫باركَ الهذِي إِ ْن شا َء َجعَ َل لَكَ‬ ‫سبِيال ( ‪ ) 9‬ت َ َ‬ ‫ون َ‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫ضلُّوا فَال يَ ْ‬ ‫ض َربُوا لَكَ ْاأل َ ْمثا َل فَ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ظ ْر َك ْي َ‬‫ا ْن ُ‬
‫ع ِة‬
‫سا َ‬ ‫صورا ) ‪ ( 10‬بَ ْل َكذهبُوا بِال ه‬ ‫هار َويَجْ عَ ْل لَكَ قُ ُ‬ ‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫َخ ْيرا ِم ْن ذ ِلكَ َجنها ٍ‬
‫س ِمعُوا لَها تَغَيُّظا َو َزفِيرا (‬ ‫س ِعيرا ( ‪ِ ) 11‬إذا َرأَتْ ُه ْم ِم ْن َم ٍ‬
‫كان بَ ِعي ٍد َ‬ ‫ع ِة َ‬ ‫سا َ‬ ‫ب ِبال ه‬ ‫َوأ َ ْعتَدْنا ِل َم ْن َكذه َ‬
‫ين َدع َْوا ُهنا ِلكَ ثُبُورا) ‪( 13‬‬ ‫ض ِيّقا ُمقَ هرنِ َ‬‫‪َ ) 12‬و ِإذا أ ُ ْلقُوا ِم ْنها َمكانا َ‬

‫ص ‪239‬‬

‫‪239‬‬
‫ع ْوا ُهنا ِل َك ثُبُورا ً »فإن النفوس تكون‬ ‫" َو ِإذا أ ُ ْلقُوا ِم ْنها »يعني من جهنم« َمكانا ً َ‬
‫ض ِيهقا ً ُمقَ َّر ِنينَ َد َ‬
‫في أشد ألم ‪ ،‬وأضيق حبس ‪ ،‬إذا شقيت وحبست في المكان الضيق ‪ ،‬ألن األرواح من عالم‬
‫السعة واالنفساح باألصل ‪ ،‬فإذا انحصرت في هذا العالم الضيق بما اكتسبت كان الضيق عليها‬
‫أشد عذابا ‪ ،‬فإن الضيق نقيض الرحمة ‪ .‬والثبور الهالك ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 14‬‬


‫واحدا َوا ْدعُوا ثُبُورا َك ِثيرا ) ‪( 14‬‬
‫ال ت َ ْدعُوا ا ْليَ ْو َم ثُبُورا ِ‬
‫ثبورا ال يتناهى ‪ ،‬فإن عذابكم ال يتناهى ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 15‬إلى ‪] 17‬‬


‫ون كانَتْ لَ ُه ْم َجزاء َو َم ِصيرا ( ‪ ) 15‬لَ ُه ْم فِيها ما‬ ‫قُ ْل أ َ ذ ِلكَ َخ ْي ٌر أ َ ْم َجنهةُ ا ْل ُخ ْل ِد الهتِي ُو ِع َد ا ْل ُمتهقُ َ‬
‫ّللا‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫سؤُال ( ‪َ ) 16‬ويَ ْو َم يَحْ ش ُُر ُه ْم َوما يَ ْعبُد َ‬ ‫كان عَلى َر ِبّكَ َوعْدا َم ْ‬ ‫ِين َ‬ ‫ُن خا ِلد َ‬ ‫يَشاؤ َ‬
‫س ِبي َل ) ‪( 17‬‬ ‫ُالء أ َ ْم ُه ْم َ‬
‫ضلُّوا ال ه‬ ‫ضلَ ْلت ُ ْم ِعبادِي هؤ ِ‬ ‫فَيَقُو ُل أ َ أ َ ْنت ُ ْم أ َ ْ‬
‫النجاة مطلوبة لكل نفس وألهل كل ملة ‪ ،‬فهي محبوبة للجميع ‪ ،‬غير أنهم لما جهلوا الطريق‬
‫الموصل إليها فكل ذي نحلة وملة يتخيل أنه على الطريق الموصل إليها ‪ ،‬فالقدح الذي يقع بين‬
‫أهل الملل والنحل إنما هو من جهة الطرق التي سلوكها للوصول إليها ‪ ،‬ال من جهتها ‪ ،‬ولو‬
‫علم المخطئ طريقها أنه على خطأ ما أقام عليه ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 18‬إلى ‪] 19‬‬


‫كان يَ ْنبَ ِغي لَنا أ َ ْن نَت ه ِخذَ ِم ْن دُونِكَ ِم ْن أ َ ْو ِليا َء َول ِك ْن َمت ه ْعت َ ُه ْم َوآبا َء ُه ْم َحتهى‬ ‫س ْبحانَكَ ما َ‬ ‫قالُوا ُ‬
‫ص ْرفا َوال نَصْرا‬ ‫ون َ‬‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫ون فَما ت َ ْ‬ ‫سوا ال ِذّ ْك َر َوكانُوا قَ ْوما بُورا ( ‪ ) 18‬فَقَ ْد َكذهبُو ُك ْم بِما تَقُولُ َ‬ ‫نَ ُ‬
‫َو َم ْن يَ ْظ ِل ْم ِم ْن ُك ْم نُذ ِْقهُ عَذابا َك ِبيرا ) ‪( 19‬‬
‫ظ ْل ٍم )وليس إال الظلم الذي‬ ‫سوا ِإيمانَ ُه ْم ِب ُ‬ ‫الظلم هنا الذي جاء في قوله تعالى( الَّذِينَ آ َمنُوا َولَ ْم يَ ْل ِب ُ‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ع ِظي ٌم ) كذا فسره رسول ه‬ ‫ظ ْل ٌم َ‬ ‫ش ْر َك لَ ُ‬ ‫قال فيه لقمان البنه ( ال ت ُ ْش ِر ْك ِب َّ ِ‬
‫اّلل ِإ َّن ال ِ ه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫ص ‪240‬‬

‫‪240‬‬
‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 20‬إلى ‪] 23‬‬
‫ض ُك ْم‬ ‫واق َو َجعَ ْلنا بَ ْع َ‬ ‫س ِ‬ ‫ُون ِفي ْاأل َ ْ‬
‫طعا َم َويَ ْمش َ‬ ‫ون ال ه‬ ‫ين ِإاله ِإنه ُه ْم لَيَأ ْ ُكلُ َ‬
‫س ِل َ‬‫س ْلنا قَ ْبلَكَ ِم َن ا ْل ُم ْر َ‬‫َوما أ َ ْر َ‬
‫ون ِلقا َءنا لَ ْو ال أ ُ ْن ِز َل‬ ‫كان َربُّكَ بَ ِصيرا ( ‪َ ) 20‬وقا َل الهذ َ‬
‫ِين ال يَ ْر ُج َ‬ ‫ون َو َ‬ ‫صبِ ُر َ‬ ‫ض فِتْنَة أ َ ت َ ْ‬ ‫ِلبَ ْع ٍ‬
‫عت ُ ًّوا َكبِيرا ( ‪ ) 21‬يَ ْو َم يَ َر ْو َن‬ ‫عت َ ْوا ُ‬ ‫ست َ ْكبَ ُروا فِي أ َ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم َو َ‬ ‫علَ ْينَا ا ْل َمالئِكَةُ أ َ ْو نَرى َربهنا لَقَ ِد ا ْ‬ ‫َ‬
‫ون ِحجْ را َمحْ ُجورا ) ‪َ ( 22‬وقَد ِْمنا ِإلى ما ع َِملُوا ِم ْن‬ ‫ين َويَقُولُ َ‬ ‫ا ْل َمالئِكَةَ ال بُشْرى يَ ْو َمئِ ٍذ ِل ْل ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ع َم ٍل فَ َجعَ ْلناهُ َهباء َم ْنثُورا ) ‪( 23‬‬ ‫َ‬
‫ّللا ؟‬‫ّللا ‪ :‬أين ما أعطي لغير ه‬ ‫فمن الغيرة اإللهية أن الناس ينادي مناد فيهم من قبل ه‬
‫فيؤتى باألموال الجسام ‪ ،‬والعقار واألمالك ‪ ،‬ثم يقال ‪ :‬أين ما أعطي لوجهي ؟‬
‫فيؤتى بالكسر اليابسة ‪ ،‬والفلوس وقطع الفضة المحقرة ‪ ،‬والخليع من الثياب ‪ ،‬فغار الحق لذلك‬
‫أن يعطى لوجهه من نعمته مثل ذلك ‪ ،‬فأخذ الصدقة بيده ورباها حتى صارت مثل جبل أحد‬
‫ّللا ‪ ،‬فيجعله هباء‬ ‫أكبر ما يكون ‪ ،‬فيظهرها له على رؤوس األشهاد ‪ ،‬ويحقر ما أعطي لغير ه‬
‫منثورا ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 24‬‬


‫ستَقَ ًّرا َوأَحْ َ‬
‫س ُن َم ِقيال ) ‪( 24‬‬ ‫أَص ُ‬
‫ْحاب ا ْل َجنه ِة يَ ْو َمئِ ٍذ َخ ْي ٌر ُم ْ‬
‫ال مفاضلة بين الخير والشر ‪ ،‬فما كان خير أصحاب الجنة أفضل وأحسن إال من كونه واقعا‬
‫وجوديا محسوسا ‪ ،‬فهو أفضل من الخير الذي كان الكافر يتوهمه في الدنيا ‪ ،‬ويظن أنه يصل‬
‫إليه بكفره لجهله ‪ ،‬فلهذا قال فيه خير وأحسن ‪ ،‬فأتى ببنية المفاضلة ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 25‬‬


‫مام َونُ ِ ّز َل ا ْل َمالئِكَةُ ت َ ْن ِزيال ( ‪) 25‬‬ ‫سما ُء بِا ْلغَ ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫شقه ُ‬ ‫َويَ ْو َم ت َ َ‬
‫َمام »أي بسبب الغمام ‪ ،‬أي لتكون غماما ‪ ،‬فتفتح أبوابا كلها فتصير‬ ‫سما ُء ِب ْالغ ِ‬ ‫شقَّ ُق ال َّ‬‫« يَ ْو َم ت َ َ‬
‫غماما ‪ ،‬وقد كان المالئكة عمارها وهي سماء ‪ ،‬فيكونون فيها وهي غمام ‪ ،‬وفيها يأتون يوم‬
‫القيامة إلى الحشر التقديري ‪ ،‬والمالئكة في ظل من الغمام ‪ ،‬والظلل أبوابها‬
‫َت أَبْوابا ً )‬ ‫سما ُء فَكان ْ‬ ‫ت ال َّ‬ ‫ّللا تعالى( َوفُتِ َح ِ‬ ‫يقول ه‬
‫َمام َونُ ِ هز َل ْال َمالئِ َكةُ ت َ ْن ِز ً‬
‫يال»‬ ‫سما ُء بِ ْالغ ِ‬ ‫شقَّ ُق ال َّ‬‫وقال« يَ ْو َم ت َ َ‬

‫ص ‪241‬‬

‫‪241‬‬
‫ّللا للقضاء والفصل بين عباده يوم القيامة في تجلي القهر‬ ‫وهو إتيانهم في ذلك الغمام إلتيان ه‬
‫والرحمة ‪.‬‬
‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 26‬إلى ‪] 27‬‬
‫ض ال ه‬
‫ظا ِل ُم عَلى‬ ‫سيرا ( ‪َ ) 26‬ويَ ْو َم يَعَ ُّ‬
‫ع ِ‬ ‫علَى ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ين َ‬ ‫من َو َ‬
‫كان يَ ْوما َ‬ ‫لرحْ ِ‬
‫ق ِل ه‬‫ا ْل ُم ْلكُ يَ ْو َمئِ ٍذ ا ْل َح ُّ‬
‫س ِبيال ‪( 27 ).‬‬ ‫سو ِل َ‬ ‫يَ َد ْي ِه يَقُو ُل يا لَ ْيتَنِي ات ه َخ ْذتُ َم َع ه‬
‫الر ُ‬
‫ظا ِل ُم عَلى يَ َد ْي ِه " وهم الكفار المقلدة‬ ‫ض ال ه‬ ‫" َويَ ْو َم يَعَ ُّ‬
‫س ِبيال »‬
‫سو ِل َ‬ ‫"يَقُو ُل " القائل منهم « يا لَ ْيت َ ِني ات ه َخ ْذتُ َم َع ه‬
‫الر ُ‬
‫فإنه قد زالت العداوة العرضية ‪ ،‬فهم الذين بلغتهم دعوة الرسل عليهم السالم فردوها ولم‬
‫يعملوا بها ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 28‬إلى ‪] 29‬‬


‫ش ْي ُ‬
‫طان‬ ‫ضلهنِي ع َِن ال ِذّ ْك ِر بَ ْع َد ِإ ْذ جا َءنِي َو َ‬
‫كان ال ه‬ ‫يا َو ْيلَتى لَ ْيتَنِي لَ ْم أَت ه ِخ ْذ فُالنا َخ ِليال ( ‪ ) 28‬لَقَ ْد أ َ َ‬
‫سان َخذُوال ( ‪) 29‬‬ ‫ْل ْن ِ‬ ‫ِل ْ ِ‬
‫سان َخذُ ً‬
‫وال »فإنه قال ‪:‬‬ ‫إل ْن ِ‬ ‫ْطان »يعني شيطان اإلنس ال شيطان الجن« ِل ْ ِ‬ ‫شي ُ‬ ‫« َوكانَ ال َّ‬
‫ما أضلني عن الذكر إال فالن ‪ ،‬وسمى إنسانا مثله ‪ ،‬حيث أصغى إليه وقلده في مقالته ‪ ،‬وحال‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪.‬‬ ‫ّللا باتباعه ‪ ،‬وهو ما جاء به رسول ه‬ ‫بينه وبين اتباع ما أمره ه‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 30‬إلى ‪] 43‬‬


‫عد ًُّوا‬‫يٍ َ‬ ‫آن َم ْه ُجورا ( ‪َ ) 30‬وكَذ ِلكَ َجعَ ْلنا ِل ُك ِ ّل نَ ِب ّ‬ ‫ب ِإ هن قَ ْو ِمي ات ه َخذُوا هذَا ا ْلقُ ْر َ‬
‫سو ُل يا َر ّ ِ‬ ‫الر ُ‬‫َوقا َل ه‬
‫علَ ْي ِه ا ْلقُ ْر ُ‬
‫آن‬ ‫ِين َكفَ ُروا لَ ْو ال نُ ِ ّز َل َ‬
‫ين َوكَفى بِ َر ِبّكَ هادِيا َونَ ِصيرا ( ‪َ ) 31‬وقا َل الهذ َ‬ ‫ِم َن ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬
‫واحدَة كَذ ِلكَ ِلنُث َ ِبّتَ بِ ِه فُؤادَكَ َو َرت ه ْلناهُ ت َ ْرتِيال ( ‪َ ) 32‬وال يَأْتُونَكَ بِ َمث َ ٍل إِاله ِجئْناكَ بِا ْل َح ّ ِ‬
‫ق‬ ‫ُج ْملَة ِ‬
‫ون عَلى ُو ُجو ِه ِه ْم ِإلى َج َهنه َم أ ُ ْولئِكَ ش ٌَّر َمكانا َوأ َ َ‬
‫ض ُّل‬ ‫سيرا ) ‪ ( 33‬الهذ َ‬
‫ِين يُحْ ش َُر َ‬ ‫َوأَحْ َ‬
‫س َن ت َ ْف ِ‬
‫س ِبيال ) ‪( 34‬‬ ‫َ‬
‫سى ا ْل ِك َ‬
‫تاب‬ ‫َولَقَ ْد آت َ ْينا ُمو َ‬

‫ص ‪242‬‬

‫‪242‬‬
‫ِين َكذهبُوا ِبآيا ِتنا فَ َد هم ْرنا ُه ْم‬
‫اذ َهبا ِإلَى ا ْلقَ ْو ِم الهذ َ‬ ‫ون َو ِزيرا ( ‪ ) 35‬فَقُ ْلنَا ْ‬ ‫هار َ‬ ‫َو َجعَ ْلنا َمعَهُ أَخا ُه ُ‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫ين‬ ‫اس آيَة َوأ َ ْعتَدْنا ِلل ه‬ ‫س َل أ َ ْغ َر ْقنا ُه ْم َو َجعَ ْلنا ُه ْم ِللنه ِ‬ ‫تَد ِْميرا ( ‪َ ) 36‬وقَ ْو َم نُوحٍ لَ هما َكذهبُوا ُّ‬
‫الر ُ‬
‫ض َر ْبنا‬ ‫س َوقُ ُرونا بَ ْي َن ذ ِلكَ َكثِيرا ( ‪َ ) 38‬و ُكالًّ َ‬ ‫الر ِ ّ‬
‫ْحاب ه‬ ‫عَذابا أ َ ِليما ( ‪َ ) 37‬وعادا َوث َ ُمو َد َوأَص َ‬
‫لَهُ ْاأل َ ْمثا َل َو ُكالًّ تَبه ْرنا تَتْبِيرا ) ‪( 39‬‬
‫س ْو ِء أ َ فَلَ ْم يَكُونُوا يَ َر ْونَها بَ ْل كانُوا ال يَ ْر ُج َ‬
‫ون‬ ‫َولَقَ ْد أَت َ ْوا َ‬
‫علَى ا ْلقَ ْريَ ِة الهتِي أ ُ ْم ِط َرتْ َم َط َر ال ه‬
‫سوال ( ‪ِ ) 41‬إ ْن كا َد‬ ‫ّللاُ َر ُ‬
‫ث ه‬ ‫نُشُورا ) ‪َ ( 40‬و ِإذا َرأ َ ْوكَ ِإ ْن يَت ه ِخذُونَكَ ِإاله ُه ُزوا أ َ هذَا الهذِي بَعَ َ‬
‫س ِبيال (‬ ‫ض ُّل َ‬ ‫ذاب َم ْن أ َ َ‬
‫ين يَ َر ْو َن ا ْلعَ َ‬ ‫ون ِح َ‬ ‫ف يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ْو َ‬ ‫علَ ْيها َو َ‬ ‫لَيُ ِضلُّنا ع َْن آ ِل َه ِتنا لَ ْو ال أ َ ْن َ‬
‫صبَ ْرنا َ‬
‫علَ ْي ِه َو ِكيال) ‪( 43‬‬ ‫ُون َ‬ ‫‪ ) 42‬أ َ َرأ َ ْيتَ َم ِن ات ه َخذَ إِل َههُ َهواهُ أ َ فَأ َ ْنتَ تَك ُ‬
‫راجع الجاثية آية ‪. 23‬‬

‫عبد الهوى آبق عن ملك مواله *** وليس يخرج عنه فهو تياه‬
‫الحر من ملك األكوان أجمعها *** وليس يملكه مال وال جاه‬‫ه‬
‫لما كان الهواء إذا تحرك أقوى المؤثرات الطبيعية في األجسام واألرواح ‪ ،‬لم يكن ث هم أقوى من‬
‫ّللا فيه ‪،‬‬
‫الهواء إال اإلنسان ‪ ،‬حيث يقدر على قمع هواه بعقله الذي أوجده ه‬
‫فيظهر عقله في حكمه على هواه ‪ ،‬فإنه لقوة الصورة التي خلق عليها ‪ ،‬الرئاسة له ذاتية ‪،‬‬
‫ولكونه ممكنا الفقر والذلة له ذاتية ‪ ،‬فإذا غلهب فقره على رئاسته ‪ ،‬فظهر بعبوديته ولم يظهر‬
‫لربوبية الصورة فيه أثر ‪ ،‬لم يكن مخلوق أشد منه ‪.‬‬
‫ّللا األرض‬‫ّللا عليه وسلم قال ‪ [ :‬لما خلق ه‬‫ورد في الخبر عن أنس بن مالك عن النبي صلهى ه‬
‫جعلت تميد ‪ ،‬فخلق الجبال فقال بها عليها فاستقرت ‪ ،‬فعجبت المالئكة فقالوا ‪ :‬يا رب هل من‬
‫خلقك شيء أشد من الجبال ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم الحديد ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا رب‬

‫ص ‪243‬‬

‫‪243‬‬
‫فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم النار ‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم الماء ‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم الريح ‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح ؟‬
‫ّللا من القوة النافذة للهوى ما‬
‫قال ‪ :‬ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله [ فأعطى ه‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫يظهر بها على أكثر العقول إال أن يعصم ه‬
‫فإن الهوى يقول ‪ :‬أنا اإلله المعبود عند كل موجود ‪ ،‬فإنه يعرض عن العقل وما جاء به النقل ‪،‬‬
‫وتتبعه الشياطين والشهوة ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 44‬‬


‫س ِبيال ( ‪) 44‬‬‫ض ُّل َ‬‫عام بَ ْل ُه ْم أ َ َ‬
‫َاأل َ ْن ِ‬ ‫ون أ َ ْو يَ ْع ِقلُ َ‬
‫ون ِإ ْن ُه ْم ِإاله ك ْ‬ ‫ب أ َ هن أ َ ْكث َ َر ُه ْم يَ ْ‬
‫س َمعُ َ‬ ‫س ُ‬‫أ َ ْم تَحْ َ‬
‫عام »‬‫« ِإ ْن ُه ْم ِإ َّال َك ْاأل َ ْن ِ‬
‫ّللا أهل الضالل باألنعام نقصا باألنعام ‪ ،‬فقد أثنى‬ ‫يعني في الضالل الذي هو الحيرة ‪ ،‬وما شبهه ه‬
‫ّللا عليه وسلم على البهائم بقوله ‪ [ :‬لو يعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫أكلتم منها سمينا ] وإنما وقع التشبيه في الحيرة ‪ ،‬ال في المحار فيه ‪ ،‬فإن األنعام والبهائم عالمة‬
‫باّلل بالفطرة حائرة فيه ‪،‬‬ ‫ه‬
‫لذلك قال تعالى « إن هم إال كاألنعام فإن لهم قلوبا يعقلون بها ‪ ،‬وإن لهم أعينا يبصرون بها ‪،‬‬
‫وإن لهم آذانا يسمعون بها ‪ ،‬فأنزلوا أنفسهم منزلة األنعام « بل هم أضل سبيال » ألن األنعام‬
‫ّللا لهم هذه القوى التي توجب لصاحب البصر أن يعتبر ‪ ،‬ولصاحب األذن أن يعي ما‬ ‫ما جعل ه‬
‫يسمع ‪ ،‬ولصاحب القلب أن يعقل ؛ والسبيل الطريق ‪ ،‬فزادوا ضالال أي حيرة في الطريق التي‬
‫يطلبونها للوصول إلى معرفة ربهم من طريق أفكارهم ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وكذلك قال فيهم حيثما قال ‪ ،‬إنما جعل الزيادة في السبيل‬ ‫فهذه حيرة زائدة على الحيرة في ه‬
‫وليس إال الفكر والتفكر فيما منع التفكر فيه ‪ ،‬وهو النظر ‪ ،‬فقال تعالى( َو َم ْن كانَ فِي ه ِذ ِه‬
‫يال ) ‪ -‬راجع األعراف ‪. - 178‬‬ ‫س ِب ً‬
‫ض ُّل َ‬‫أَعْمى فَ ُه َو ِفي ْاآل ِخ َر ِة أَعْمى َوأ َ َ‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 45‬إلى ‪] 46‬‬


‫علَ ْي ِه َد ِليال ( ‪ ) 45‬ث ُ هم‬ ‫ظ هل َولَ ْو شا َء لَ َجعَلَهُ سا ِكنا ث ُ هم َجعَ ْلنَا الش ْهم َ‬
‫س َ‬ ‫ف َم هد ال ِ ّ‬ ‫أ َ لَ ْم ت َ َر إِلى َر ِبّكَ َك ْي َ‬
‫سيرا) ‪( 46‬‬ ‫ضناهُ ِإلَ ْينا قَ ْبضا يَ ِ‬ ‫قَبَ ْ‬
‫ص ‪244‬‬

‫‪244‬‬
‫ْف َم َّد ِ ه‬
‫الظ َّل » ]‬ ‫[ " أ َ لَ ْم ت َ َر ِإلى َر ِبه َك َكي َ‬
‫الظ َّل »قبض الظل ومدهه من اللطف ما إذا فكر فيه اإلنسان رأى‬ ‫ْف َم َّد ِ ه‬‫« أ َ لَ ْم ت َ َر ِإلى َر ِبه َك َكي َ‬
‫ّللا دليال على معرفته ‪.‬‬ ‫عظيم أمر ‪ ،‬ولهذا نصبه ه‬
‫الظ َّل »فال يدرك البصر عين امتداده حاال بعد حال ‪ ،‬فإنه ال‬ ‫ْف َم َّد ِ ه‬
‫فقال« أ َ لَ ْم ت َ َر ِإلى َر ِبه َك َكي َ‬
‫يشهد له حركة مع شهود انتقاله ‪ ،‬فهو عنده متحرك ال متحرك ‪ ،‬وكذلك في فيئه‬
‫وهو قوله« ث ُ َّم قَبَضْناهُ ِإلَيْنا قَبْضا ً يَ ِسيرا ً » فمنه خرج ‪ ،‬فإنه ال ينقبض إال إلى ما منه خرج ‪،‬‬
‫كذلك تشهده العين ‪ ،‬وقد قال تعالى وهو الصادق إنه قبضه إليه ‪ ،‬فعلمنا أن عين ما خرج منه‬
‫هو الحق ‪ ،‬ظهر بصورة خلق ‪ ،‬فيه ظل يبرزه إذا شاء ‪ ،‬ويقبضه إذا شاء لكن جعل الشمس‬
‫عليه دليال ولم يتعرض لتمام الداللة ‪ ،‬وهو كثافة الجسم الخارج الممتد عنه الظل ‪ ،‬فبالمجموع‬
‫كان امتداد الظل ‪ ،‬فهذا شمس ‪ ،‬وهذا جدار ‪ ،‬وهذا ظل ‪ ،‬وهذا حكم امتداد وقبض بفيء‬
‫ورجوع إلى ما منه بدأ فإليه عاد ‪ ،‬والعين واحدة ‪،‬‬
‫فهل يكون شيء ألطف من هذا ؟‬
‫فاألبصار وإن لم تدركه فما أدركت إال هو ‪ ،‬فإنه ما أحالنا إال على مشهود بقوله « أ َ لَ ْم ت َ َر ِإلى‬
‫الظ َّل »وما مده إال بشمس وذات كثيفة تحجب وصول نور الشمس إلى ما امتد‬ ‫ْف َم َّد ِ ه‬
‫َر ِبه َك َكي َ‬
‫عليه ظل هذه الذات ‪ ،‬وجهة خاصة ‪ ،‬ثم قبضه كذلك ‪ ،‬فهذه كيفية ما خاطبنا بها أن ننظر إليها‬
‫وما قال ‪ :‬فيها فكنا نصرف النظر تألقا إلى الفكر ‪ ،‬ولكن بأداة « إلى » أراد شهود البصر ‪،‬‬
‫وإن كانت األدوات يدخل بعضها في مكان بعض ‪،‬‬
‫ولكن ال يعرف ذلك إال بقرائن األحوال ‪ ،‬وهي إذا استحال أن يكون حكم هذه األداة بالوضع‬
‫في هذا الموضع ‪،‬‬
‫علمنا أنها بدل وعوض من أداة ما يستحقه ذلك الموضع ‪ ،‬وهذا معلوم في اللسان ‪ ،‬وبهذا‬
‫اللسان أنزل القرآن ‪ ،‬فال بد أن يجري به على ما تواطئوا عليه في لحنهم ‪،‬‬
‫فقرن الرؤية بـ « إلى » وجعل المرئي الكيف ‪ ،‬فلم يشهد هنا ذات الحق وهو يكيف مد الظل ‪،‬‬
‫وإنما رأينا مد الظالل عن األشخاص الكثيفة ‪ ،‬التي تحجب األنوار أن تنبسط على األماكن التي‬
‫تمتد فيها ظالل هذه األشخاص ‪ ،‬فعلمنا أن الرؤية في هذا الخطاب إنما متعلقها العلم بالكيف‬
‫المشهود الذي ذكرناه ‪،‬‬
‫ّللا سبحانه ال من غيره ‪ ،‬أي أنه لو أراد أن تكون األشخاص الكثيفة منصوبة ‪،‬‬ ‫وأن ذلك من ه‬
‫واألنوار في جهة منها بمنع تلك األشخاص انبساط النور على تلك األماكن فيسمى منعها ظالال‬
‫‪ ،‬أو يقبض تلك الظالل عن االنبساط على تلك األماكن وال يخلق فيها نورا آخر ‪،‬‬
‫وال ينبسط ذلك النور المحجوب على تلك األماكن لما قصرت إرادته عن ذلك ‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫‪ «:‬ث ُ َّم قَبَضْناهُ ِإلَيْنا قَبْضا ً يَ ِسيرا ً »وهو رجوع الظل‬
‫ص ‪245‬‬

‫‪245‬‬
‫إلى الشخص الممتد منه ببروز النور حتى يشهد ذلك المكان ‪ ،‬فجعل المقبوض إنما كان قبضه‬
‫ّللا ال إلى الجدار ‪ ،‬وفي الشاهد وما تراه العين أن سبب انقباض الظل وتشميره إلى جهة‬ ‫إلى ه‬
‫الشخص الكثيف إنما هو بروز النور ‪،‬‬
‫ّللا بضرب مثل الظل ‪ ،‬فأمرنا سبحانه بالنظر إليه ‪ ،‬والنظر إليه معرفته ‪،‬‬ ‫فهذه آية الداللة على ه‬
‫ولكن من حيث أنه مد الظل ‪ ،‬وهو إظهاره وجود عينك ‪ ،‬وما في المسائل اإللهية ما تقع فيها‬
‫الحيرة أكثر وال أعظم من مسئلة األفعال ‪ ،‬فما نظرت إليه من حيث أحدية ذاته في هذا المقام‬
‫وإنما نظرت إليه من حيث أحدية فعله في إيجادك في الداللة ‪،‬‬
‫وهذه اآلية دليل من قال بمنع تجليه سبحانه في األفعال ‪ ،‬أي في نسبة ظهور الكائنات‬
‫والمظاهر عن الذات التي تتكون عنها الكائنات ‪،‬‬
‫ض ) واألمر بينك وبين الحق في الوجود‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫وهو قوله تعالى ‪ ( :‬ما أ َ ْش َه ْدت ُ ُه ْم خ َْلقَ ال َّ‬
‫سماوا ِ‬
‫بين االقتدار اإللهي ‪ ،‬وبين القبول من الممكن ‪ ،‬فقبض الظل إليه ليعرفك بك وبنفسه ‪ ،‬ألنه ما‬
‫خرج الظل إال منك ‪ ،‬ولوال أنت لم يكن ظل ‪ ،‬ولوال الشمس أو النور لم يكن ظل ‪،‬‬
‫وكلما كثف الشخص تحققت أعيان الظالل ‪ ،‬فمهما ارتفع واحد من األمرين ‪ ،‬ارتفع الوجود‬
‫الحادث ‪ ،‬كذلك إذا ارتفع العين المشرق أو الجسم الكثيف الحائل عن نفوذ هذا اإلشراق فيه لما‬
‫حدث الظل ‪،‬‬
‫يال » الضمير في عليه يطلب الظل ألنه أقرب مذكور ‪،‬‬ ‫علَ ْي ِه َد ِل ً‬
‫س َ‬
‫ش ْم َ‬ ‫وقوله تعالى« ث ُ َّم َجعَ ْلنَا ال َّ‬
‫ّللا المثل في رؤيته يوم‬‫ويطلب االسم الرب ‪ ،‬وإعادته على الرب أوجه ‪ ،‬فإنه بالشمس ضرب ه‬
‫القيامة ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم [ ترون ربكم كما ترون الشمس بالظهيرة ]‬ ‫فقال على لسان نبيه صلهى ه‬
‫أي وقت الظهر ‪ ،‬وأراد عند االستواء بقبض الظل في الشخص في ذلك الوقت لعموم النور‬
‫ذات الرائي ‪ ،‬وهو حال فنائه عن رؤية نفسه في مشاهدة ربه ‪،‬‬
‫ثم قال« ث ُ َّم قَبَضْناهُ ِإلَ ْينا قَبْضا ً يَ ِسيرا ً »وهو عند االستواء ‪ ،‬ثم عاد إلى مده بدلوك الشمس وهو‬
‫بعد الزوال ‪ ،‬ألنه في هذا الوقت تثبت له المعرفة بربه من حيث مده الظل ‪،‬‬
‫وهنا تكون إعادة الضمير من « عليه » على الرب أوجه ‪ ،‬فإنه عند الطلوع يعاين مد الظل ‪،‬‬
‫فينظر ما السبب في مده ؟‬
‫فيرى ذاته حائلة بين الظل والشمس ‪ ،‬فينظر إلى الشمس فيعرف في مده ظله ما للشمس في‬
‫ذلك من األثر ‪ ،‬فكان الظل على الشمس دليال في النظر ‪ ،‬وكان الشمس على مد الظل دليال في‬
‫األثر ‪.‬‬
‫واعلم أن الممكنات التي أوجدها الحق تعالى هي لألعيان التي تتضمنها حضرة اإلمكان ‪-‬‬
‫وهي برزخ بين حضرة الوجود المطلق والعدم المطلق ‪ -‬بمنزلة الظالالت لألجسام ‪ ،‬بل هي‬
‫الظالالت‬

‫ص ‪246‬‬

‫‪246‬‬
‫الحقيقية ‪ ،‬وهي التي وصفها الحق سبحانه بالسجود له مع سجود أعيانها ‪ ،‬فما زالت تلك‬
‫األعيان ساجدة له قبل وجودها ‪ ،‬فلما وجدت ظالالتها ‪ ،‬وجدت ساجدة هّلل تعالى ‪ ،‬لسجود‬
‫أعيانها التي وجدت عنها ‪ ،‬من سماء وأرض وشمس وقمر ونجم وجبال وشجر ودواب وكل‬
‫موجود ‪،‬‬
‫ثم لهذه الظالالت ‪ -‬التي ظهرت عن تلك األعيان الثابتة من حيث ما تكونت أجساما ‪ -‬ظالالت‬
‫‪ ،‬أوجدها الحق لها دالالت على معرفة نفسها من أين صدرت ‪ ،‬ثم أنها تمتد مع ميل النور‬
‫أكثر من حد الجسم الذي تظهر عنه إلى ما ال يدركه طوال ‪ ،‬ومع هذا ينسب إليه ‪ ،‬وهو تنبيه‬
‫أن العين التي في البرزخ التي وجدت عنها ال نهاية لها مما تتصف به من األحوال واألعراض‬
‫والصفات واألكوان ‪،‬‬
‫فهو عالم ال يتناهى وما له طرف ينتهي إليه ‪ ،‬فإنه الحضرة الفاصلة بين الوجود المطلق والعدم‬
‫المطلق ‪ ،‬وأنت بين هذين الظاللين ذو مقدار ‪ ،‬فأنت موجود عن حضرة ال مقدار لها ‪ ،‬ويظهر‬
‫عنك ظل ال مقدار له ‪ ،‬فامتداده يطلب تلك الحضرة البرزخية ‪ ،‬وتلك الحضرة البرزخية هي‬
‫ظل الوجود المطلق من االسم النور ‪ ،‬الذي ينطلق على وجوده ‪ ،‬فلهذا نسميها ظال ‪ ،‬ووجود‬
‫األعيان ظل ذلك الظل ‪ ،‬والظالالت المحسوسة ظالالت هذه الموجودات في الحس ‪ ،‬ولما كان‬
‫الظل في حكم الزوال ال في حكم الثبات ‪،‬‬
‫وكانت الممكنات وإن وجدت في حكم العدم ‪ ،‬سميت ظالالت ليفصل بينها وبين من له الثبات‬
‫المطلق في الوجود ‪ ،‬وهو واجب الوجود ‪ ،‬وبين من له الثبات المطلق في العدم وهو المحال ‪،‬‬
‫لتتميز المراتب ‪ ،‬فاألعيان الموجودات إذا ظهرت ففي هذا البرزخ هي فإنه ما ت هم حضرة‬
‫تخرج إليه ‪ ،‬ففيها تكتسب حالة الوجود ‪ ،‬والوجود فيها متناه ما حصل منه ‪ ،‬واإليجاد فيها ال‬
‫ّللا على دوام الخلق والتكوين ‪ ،‬وعلى العين الثابتة ثم ظهورها‬ ‫ينتهي ‪ ،‬فهذا مثل ضربه ه‬
‫للوجود ‪:‬‬
‫انظر إلى نقص ظل الشخص فيه إذا *** ما الشمس تعلو فتفني ظله فيه‬
‫ذاك الدليل على تحريكه أبدا *** بدأ وفيئا وهذا القدر يكفيه‬
‫لو كان يسكن وقتا ما بدا أثر *** في الكون من كن وذاك الحكم من فيه‬
‫فالكون من نفس الرحمن ليس له *** أصل سواه فحكم القول يبديه‬
‫‪-‬اعتبار ‪ -‬ظلك على صورتك ‪ ،‬وأنت على الصورة ‪ ،‬فأنت ظل قام الدليل على أن التحريك‬
‫للحق ال لك ‪ ،‬كذلك التحريك لك ال للظل ‪ ،‬غير أنك تعترض‬

‫ص ‪247‬‬

‫‪247‬‬
‫فلم تعرف قدرك ‪ ،‬وظلك ال يعترض ‪ ،‬فيا من هو ظله أعلم بقدره منه متى تفلح ؟ ما مدهت‬
‫ّللا معك ‪ ،‬فأنت الظل وسيقبضك إليه ‪،‬‬ ‫الظالل لالستظالل ‪ ،‬وإنما مدهت لتكون سلهما إلى معرفة ه‬
‫فمن نظر إلى ظله عرف أن حكمه في الحركة والسكون من أصله ‪ ،‬فأراد الحق منك بهذه اآلية‬
‫أن تكون معه كظلك معك من عدم االعتراض عليه فيما يجريه عليك ‪ ،‬والتسليم والتفويض إليه‬
‫فيما تصرف فيك به ‪ ،‬وينبهك بذلك أن حركتك عين تحريكه ‪ ،‬وأن سكونك كذلك ‪ ،‬ما الظل‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن األمر كما شاهدته فهو المؤثر فيك‬ ‫يحرك الشخص ‪ ،‬كذلك فلتكن مع ه‬
‫ّللا ]‬
‫[ اإلنسان الكامل هو ظل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وصورته في الغيب‬‫ّللا في كل ما سوى ه‬ ‫‪-‬من باب اْلشارة ‪ -‬اإلنسان الكامل هو ظل ه‬
‫صورة الظل في الشخص الذي امتد عنه الظل ‪ ،‬أال ترى الشخص إذا امتد له ظل في األرض‬
‫‪ ،‬أليس له ظل في ذات الشخص الذي يقابله ذلك الظل الممتد ؟‬
‫فذلك الظل القائم بذات الشخص المقابل للظل الممتد ذلك هو األمر الذي بقي من اإلنسان ‪،‬‬
‫ّللا الممدود في الغيب ‪ ،‬ال يمكن خروجه أبدا وهو باطن الظل الممدود ‪ ،‬والظل‬ ‫الذي هو ظل ه‬
‫الممدود هو الظاهر ‪ ،‬فظاهر اإلنسان ما امتد من اإلنسان فظهر ‪ ،‬وباطنه ما لم يفارق الغيب‬
‫فال يعلم باطن اإلنسان أبدا ‪ ،‬وقبضه قبضا يسيرا عودته إلى غيبه ‪ ،‬فاعتبر في اإلشارة أن‬
‫اإلنسان الذي لم يزل يحفظ صورة الحق في نفسه ظل له ‪ ،‬واعلم أن اإلنسان لما كان مثال‬
‫الصورة اإللهية ‪ ،‬كالظل للشخص الذي ال يفارقه على كل حال ‪ ،‬غير أنه يظهر للحس تارة ‪،‬‬
‫ويخفى تارة ‪ ،‬فإذا خفي فهو معقول فيه ‪ ،‬وإذا ظهر فهو مشهود بالبصر لمن يراه ‪ ،‬فاإلنسان‬
‫الكامل في الحق معقول فيه ‪ ،‬كالظل إذا خفي في الشمس فال يظهر ‪ ،‬فلم يزل اإلنسان أزال‬
‫بأن له بصرا ‪ ،‬فلما مد الظل منه ظهر‬ ‫وأبدا ‪ ،‬ولهذا كان مشهودا للحق من كونه موصوفا ه‬
‫ْف َم َّد ِ ه‬
‫الظ َّل َولَ ْو شا َء لَ َجعَلَهُ سا ِكنا ً »أي ثابتا فيمن هو ظله فال‬ ‫بصورته« أ َ لَ ْم ت َ َر إِلى َر ِبه َك َكي َ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وال يزال مع ه‬
‫يمده ‪ ،‬فال يظهر له عين في الوجود الحسي إال هّلل وحده ‪ ،‬فلم يزل مع ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فاإلنسان الكامل الذي ال أكمل‬ ‫ّللا ‪ ،‬وما عدا اإلنسان الكامل فهو باق بإبقاء ه‬ ‫فهو باق ببقاء ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وهذا الكمال هو الغاية من العالم ‪ ،‬فحاز محمد صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫منه هو محمد صلهى ه‬
‫عليه وسلم درجة الكمال بتمام الصورة اإللهية ‪ ،‬والكمل من األناسي النازلين عن درجة هذا‬
‫ّللا وسالمه عليهم ‪ ،‬ومنزلة محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم من العالم‬ ‫الكمال هم األنبياء صلوات ه‬
‫كله منزلة النفس الناطقة من اإلنسان ‪ ،‬التي من دونها ال يكون إنسانا ‪ ،‬فحال العالم قبل ظهوره‬
‫ّللا عليه وسلم كان بمنزلة الجسد‬ ‫صلهى ه‬

‫ص ‪248‬‬

‫‪248‬‬
‫المسوى ‪ ،‬وحال العالم بعد موته بمنزلة النائم ‪ ،‬وحالة العالم ببعثه يوم القيامة بمنزلة االنتباه‬
‫ّللا عليه وسلم روح العالم ‪ ،‬وهذه اآلية ضرب مثال على خفاء‬ ‫واليقظة بعد النوم ‪ ،‬فهو صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في العالم قبل ظهور نشأته الظاهرة ‪ ،‬وبعد انتقاله إلى‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫ظهور رسول ه‬
‫الرفيق األعلى ‪ ،‬وأنه هو أكمل صورة إلهية في الظهور والخفاء لمن فهم المعنى ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم لم يختف من العالم اختفاء عدميا ‪ ،‬بل هو كالظل المندرج في‬ ‫وأنه بقبضه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم هو اآلن من العالم في صورة المحل الذي هو فيه‬ ‫أصله ‪ ،‬فروح العالم صلهى ه‬
‫روح اإلنسان عند النوم ‪ ،‬إلى يوم البعث ‪ ،‬الذي هو مثل يقظة النائم هنا ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم في ظهوره روحا وجسما وصورة ومعنى ‪،‬‬ ‫فالعالم اليوم بفقد جمعية محمد صلهى ه‬
‫نائم ال ميت ‪ ،‬فإنه تعالى ذكر الكيف ‪ ،‬والظل ال يخرج إال على صورة من مد منه ‪ ،‬فخلقه‬
‫رحمة ‪ ،‬فم هد الظل رحمة وافية ‪ ،‬فال أعظم رحمة من اإلنسان الكامل ‪ ،‬والنور من الصفات ‪،‬‬
‫والظل على صورة الذات‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬ما مد الظالل للراحة ‪ ،‬وإنما مدها لتكون سلما إلى معرفته فأنت ذلك الظل‬
‫وسيقبضك إليه ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 47‬‬


‫َو ُه َو الهذِي َجعَ َل لَ ُك ُم الله ْي َل ِلباسا َوالنه ْو َم ُ‬
‫سباتا َو َجعَ َل النه َ‬
‫هار نُشُورا ( ‪) 47‬‬

‫[ " َجعَ َل لَ ُك ُم اللَّ ْي َل ِلباسا ً " ]‬


‫سباتا ً" أي راحة طبيعية للناس‬ ‫" َجعَ َل لَ ُك ُم اللَّ ْي َل ِلباسا ً »ألهله يلبسونه فيسترهم« َوالنَّ ْو َم ُ‬
‫‪ -‬من باب اْلشارة ‪ُ «-‬ه َو الَّذِي َجعَ َل لَ ُك ُم اللَّ ْي َل ِلباسا ً »هذا ألهل الليل أي يسترهم عن أعين‬
‫ّللا‬
‫ّللا في عبادتهم ‪ ،‬لحجاب ظلمة الليل التي أرسلها ه‬ ‫األغيار فال يشهد أحد فعل أهل الليل مع ه‬
‫دونهم ‪ ،‬فيتمتعون في خلواتهم الليلية بحبيبهم فيناجونه من غير رقيب ‪ ،‬ألنه جعل النوم في‬
‫أعين الرقباء سباتا ‪ ،‬أي راحة ألهل الليل إلهية ‪ ،‬كما هو راحة للناس طبيعية ‪ ،‬فإذا نام الناس‬
‫استراح هؤالء مع ربهم ‪ ،‬وخلوا به حسا ومعنى فيما يسألونه من قبول توبة ‪ ،‬وإجابة دعوة ‪،‬‬
‫ومغفرة حوبة ‪ ،‬وغير ذلك ‪.‬‬
‫ّللا تعالى ينزل إليهم بالليل إلى السماء الدنيا فال يبقى بينه وبينهم‬ ‫فنوم الناس راحة لهم ‪ ،‬فإن ه‬
‫حجاب فلكي ‪ ،‬ونزوله إليهم رحمة بهم ‪ ،‬ورد في الخبر ‪ :‬كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل‬
‫نام عني ‪ ،‬أليس كل محب يطلب الخلوة بحبيبه ‪ ،‬ها أنا ذا قد تجليت لعبادي هل من داع‬
‫فأستجيب له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟‬
‫هل من مستغفر فأغفر له ؟ حتى ينصدع الفجر‪.‬‬

‫ص ‪249‬‬

‫‪249‬‬
‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 48‬‬
‫ماء ماء َط ُهورا ) ‪( 48‬‬
‫س ِ‬ ‫َي َرحْ َم ِت ِه َوأ َ ْن َز ْلنا ِم َن ال ه‬
‫ح بُشْرا بَ ْي َن يَد ْ‬
‫الريا َ‬ ‫َو ُه َو الهذِي أ َ ْر َ‬
‫س َل ِ ّ‬
‫ّللا خلق الماء طهورا ال ينجسه شيء ] فإذا حصلت النجاسة فيه‬ ‫ّللا عليه وسلم [ إن ه‬ ‫قال صلهى ه‬
‫بال شك ‪.‬‬
‫لكنها متميزة عن الماء ‪ -‬بقي الماء طاهرا على أصله ‪ ،‬إال أنه يعسر إزالة النجاسة منه ‪ ،‬فما‬
‫أباح الشارع من استعمال الماء الذي فيه النجاسة استعملناه ‪ ،‬وما منع من ذلك امتنعنا منه ألمر‬
‫الشرع ‪ ،‬مع عقلنا أن النجاسة في الماء ‪ ،‬وعقلنا أن الماء طهور في ذاته ال ينجسه شيء ‪ ،‬فما‬
‫منعنا الشارع من استعمال الماء الذي فيه النجاسة لكونه نجسا أو تنجس ‪ ،‬وإنما منعنا من‬
‫استعمال الشيء النجس لكوننا ال نقدر على فصل أجزائه من أجزاء الماء الطاهر ‪ ،‬فبين‬
‫النجاسة والماء برزخ مانع ال يلتقيان ألجله ‪ ،‬ولو التقيا لتن هجس الماء ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 49‬إلى ‪] 53‬‬


‫ص هر ْفنا ُه بَ ْينَ ُه ْم‬
‫ي َك ِثيرا ( ‪َ ) 49‬ولَقَ ْد َ‬ ‫س ه‬ ‫س ِقيَهُ ِم هما َخلَ ْقنا أ َ ْنعاما َوأَنا ِ‬
‫ي ِب ِه بَ ْلدَة َم ْيتا َونُ ْ‬ ‫ِلنُحْ ِي َ‬
‫شئْنا لَبَعَثْنا فِي ُك ِ ّل قَ ْريَ ٍة نَذِيرا ( ‪ ) 51‬فَال‬ ‫اس إِاله ُكفُورا ( ‪َ ) 50‬ولَ ْو ِ‬ ‫ِليَذهك ُهروا فَأَبى أ َ ْكث َ ُر النه ِ‬
‫ب فُراتٌ‬ ‫ج ا ْلبَحْ َر ْي ِن هذا ع َْذ ٌ‬
‫ين َوجا ِه ْد ُه ْم بِ ِه ِجهادا َكبِيرا ( ‪َ ) 52‬و ُه َو الهذِي َم َر َ‬ ‫ت ُ ِط ِع ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ج َو َجعَ َل بَ ْينَ ُهما بَ ْر َزخا َو ِحجْ را َمحْ ُجورا ( ‪) 53‬‬ ‫َوهذا ِم ْل ٌح أُجا ٌ‬
‫[ دور البحر في تصفية الهواء ]‬
‫«وهو الذي مرج البحرين هذا عذاب فرات » لمصالح العباد فيما يستعملونه من الشرب‬
‫وغير ذلك ‪َ «،‬وهذا ِم ْل ٌح أُجا ٌج »لمصالح العباد فيما يذهب به من عفونات الهواء ‪ ،‬فبما فيه من‬
‫الملوحة يصفي الجو من الوخم والعفونات التي تطرأ فيه من أبخرة األرض وأنفاس العالم ‪،‬‬
‫فيطرأ التعفين في الجو ‪ ،‬فيذهب ذلك التعفين ما في البحر من الملوحة ‪ ،‬فيصفو الجو ‪ ،‬وذلك‬
‫ّللا بخلقه‪.‬‬ ‫من رحمة ه‬

‫ص ‪250‬‬

‫‪250‬‬
‫[سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 54‬إلى ‪] 59‬‬
‫كان َربُّكَ قَدِيرا ( ‪َ ) 54‬ويَ ْعبُد َ‬
‫ُون ِم ْن‬ ‫سبا َو ِصهْرا َو َ‬ ‫ماء بَشَرا فَ َجعَلَهُ نَ َ‬ ‫ق ِم َن ا ْل ِ‬ ‫َو ُه َو الهذِي َخلَ َ‬
‫كان ا ْلكافِ ُر عَلى َر ِبّ ِه َظ ِهيرا ) ‪َ ( 55‬وما أ َ ْر َ‬
‫س ْلناكَ إِاله‬ ‫ّللا ما ال يَ ْنفَعُ ُه ْم َوال يَض ُُّر ُه ْم َو َ‬ ‫ُون ه ِ‬ ‫د ِ‬
‫سبِيال ( ‪57‬‬ ‫علَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر إِاله َم ْن شا َء أ َ ْن يَت ه ِخذَ إِلى َر ِبّ ِه َ‬ ‫شرا َونَذِيرا ( ‪ ) 56‬قُ ْل ما أ َ ْ‬
‫سئَلُ ُك ْم َ‬ ‫ُمبَ ِ ّ‬
‫ب ِعبا ِد ِه َخ ِبيرا ) ‪( 58‬‬ ‫س ِبّحْ ِب َح ْم ِد ِه َوكَفى ِب ِه ِبذُنُو ِ‬ ‫ي ِ الهذِي ال يَ ُموتُ َو َ‬ ‫علَى ا ْل َح ّ‬ ‫) َوت َ َو هك ْل َ‬
‫من فَ ْ‬
‫سئ َ ْل‬ ‫الرحْ ُ‬‫علَى ا ْلعَ ْر ِش ه‬ ‫ستَوى َ‬ ‫ست ه ِة أَيه ٍام ث ُ هم ا ْ‬
‫ض َوما بَ ْينَ ُهما فِي ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫الهذِي َخلَ َ‬
‫ِب ِه َخ ِبيرا ) ‪( 59‬‬
‫هذه اآلية دليل على أن األيام كانت موجودة بوجود حركة فلك البروج ‪ ،‬وهي األيام المعروفة‬
‫ّللا فيه السماوات‬ ‫عندنا ال غير ‪ ،‬فإذا دار فلك البروج دورة واحدة فذلك هو اليوم الذي خلق ه‬
‫واألرض ‪ ،‬ثم أحدث الليل والنهار عند وجود الشمس ‪ ،‬ال األيام ‪ ،‬واليوم أربع وعشرون ساعة‬
‫ّللا خلق العالم في ستة أيام ‪ ،‬بدأ به‬ ‫‪ ،‬وقد يسمى النهار وحده يوما بحكم االصطالح واعلم أن ه‬
‫يوم األحد ‪ ،‬وفرغ منه يوم الجمعة ‪،‬‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش » « ]‬ ‫[ « ث ُ َّم ا ْستَوى َ‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش " *فلما كان اليوم السابع من األسبوع وفرغ من العالم كان يشبه‬ ‫* "ث ُ َّم ا ْستَوى َ‬
‫المستريح الذي مسه اللغوب ‪ ،‬فاستلقى ووضع إحدى رجليه على األخرى ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬أنا الملك ؛ كذا ورد في األخبار النبوية ‪ ،‬فالفراغ اإللهي إنما كان من األجناس في الستة‬
‫من فَ ْسئ َ ْل ِب ِه »‬
‫الر ْح ُ‬ ‫األيام ‪ ،‬وأما أشخاص األنواع فال « َّ‬
‫ّللا من نبي وغيره ‪ ،‬ممن‬ ‫الضمير في به يعود على االستواء« َخ ِبيرا ً »وهو العارف من عباد ه‬
‫ّللا من عباده ‪ ،‬ألنه قال ‪):‬يُؤْ ِتي ْال ِح ْك َمةَ َم ْن يَشا ُء ) والخبير المسؤول يعني كل من حصل‬ ‫شاء ه‬
‫له ذلك ذوقا ‪ ،‬وصفته نزول القرآن على قلبه ‪ ،‬فكان قلبه عرشا الستواء القرآن ذوقا ‪ ،‬يعلم‬
‫لذوقه وخبرته اتصاف الرحمن باالستواء على العرش ما معناه ‪ ،‬فإذا أردت أن تسأل عن‬
‫حقيقة أمر ما ‪ ،‬فاسأل عنه من له فيه ذوق ‪ ،‬ومن ال ذوق له في األشياء فال تسأله فإنه ال‬
‫يخبرك إال باسم ما سألت عنه ال بحقيقته‪.‬‬

‫ص ‪251‬‬

‫‪251‬‬
‫[سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 60‬‬
‫س ُج ُد ِلما تَأ ْ ُم ُرنا َوزا َد ُه ْم نُفُورا ) ‪( 60‬‬ ‫من أ َ نَ ْ‬
‫الرحْ ُ‬ ‫من قالُوا َو َما ه‬ ‫لرحْ ِ‬ ‫س ُجدُوا ِل ه‬ ‫َو ِإذا ِقي َل لَ ُه ُم ا ْ‬
‫ّللا ‪ ،‬ولم يعلموا أنه عين الرحمن قيل ‪:‬‬ ‫لما كان المشركون ال يعلمون للحق إال مسمى ه‬
‫إن االسم الرحمن لم يكن عندهم ‪ ،‬وال سمعوا به قبل هذا ‪،‬‬
‫من » وهو سجود إنعام ال سجود قهر ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬ ‫لر ْح ِ‬
‫ّللا عليه وسلم« ا ْس ُجدُوا ِل َّ‬ ‫فلما قال لهم صلهى ه‬
‫وما الرحمن ؟‬
‫على طريق االستفهام ‪ ،‬وقد قيل ‪ :‬إنهم كانوا يعرفونه مركبا الرحمن الرحيم اسم واحد ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنهم‬‫كبعلبك ورام هرمز ‪ ،‬فلما أفرده بغير نسب أنكروه ‪ ،‬ولم تنكر العرب كلمة ه‬
‫ّللا ُز ْلفى )فعلموه ‪ ،‬ولما كان الرحمن يعطي االشتقاق من‬ ‫القائلون( ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم إِ َّال ِليُقَ ِ هربُونا إِلَى َّ ِ‬
‫الرحمة ‪ ،‬وهي صفة موجودة فيهم ‪ ،‬خافوا أن يكون المعبود الذي يدلهم عليه من جنسهم ‪،‬‬
‫فأنكروا وقالوا ‪:‬‬
‫وما الرحمن ؟ لما لم يكن من شرط كل كالم أن يفهم معناه ‪،‬‬
‫الر ْحمنَ ) لما كان اللفظان راجعين إلى ذات واحدة‬ ‫عوا َّ‬ ‫ّللا أ َ ِو ا ْد ُ‬
‫عوا َّ َ‬‫ولهذا قال تعالى ‪ ( :‬قُ ِل ا ْد ُ‬
‫‪ ،‬فما أنكره من أنكره ‪ -‬أعني االسم الرحمن ‪ -‬إال للقرب المفرط ‪ ،‬فإنه ال أقرب من الرحمة‬
‫باّلل إال لما‬‫إلى الخلق ‪ ،‬وما ث هم أقرب إليهم من وجودهم ‪ ،‬ووجودهم رحمة بال شك ‪ ،‬ولم يقروا ه‬
‫يتضمنه هذا االسم من الرحمة والقهر ‪ ،‬فعلم ‪ ،‬وجهل الرحمن ‪ ،‬فتخيلوا في الرحمن أنه شريك‬
‫هّلل الذي يقرون به ويتزلفون إليه ‪،‬‬
‫فأنكروا ذلك ولم ينكروا ذلك فيمن نصبوه إلها ‪ ،‬ألنهم عالمون بأسماء من نصبوهم آلهة من‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فعلموا بأسمائهم أنهم ليسوا في الحقيقة في األلوهة مثله ‪ ،‬وقد دلهم صلهى ه‬ ‫دون ه‬
‫من أ َ نَ ْس ُج ُد ِلما تَأ ْ ُم ُرنا َوزا َد ُه ْم‬
‫الر ْح ُ‬
‫وسلم بالسجود للرحمن على عبادة غيب ‪ ،‬فقالوا« َو َما َّ‬
‫ّللا الذي بيده االقتدار اإللهي‬ ‫نُفُورا ً »فزادهم هذا االسم نفورا لجهلهم به ‪ ،‬فإنهم ال يعرفون إال ه‬
‫ّللا زلفى‬‫واألخذ الشديد ‪ ،‬وهو الكبير عندهم المتعالي ‪ ،‬فهم لذلك يعبدون الشركاء ليقربوهم إلى ه‬
‫ويشفعوا عنده ‪ ،‬وأخطأ الكفار حيث رأوا أن الرحمن يناقض التكليف ‪ ،‬ورأوا أن األمر‬
‫بالسجود تكليف ‪ ،‬فال ينبغي أن يكون السجود لمن هو هذا االسم الرحمن ‪ ،‬لما فيه من المبالغة‬
‫في الرحمة ‪ ،‬فلو ذكره باالسم الذي يقتضي القهر ‪ ،‬ربما سارع الكافر إلى السجود خوفا ‪ ،‬كما‬
‫ّللا عليه وسلم من رؤساء الجاهلية حيث قال له ‪ :‬يا‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫صدر من الجبار عند رسول ه‬
‫ي م هما جئت به حتى أسمع ؛ فتال عليه ( حم السجدة ) فلما وصل إلى قوله تعالى(‬ ‫محمد أتل عل ه‬
‫ضوا فَقُ ْل أ َ ْنذَ ْرت ُ ُك ْم صا ِعقَةً ِمثْ َل صا ِعقَ ِة عا ٍد َوث َ ُمو َد )وهما من العرب ‪،‬‬ ‫فَإِ ْن أَع َْر ُ‬

‫ص ‪252‬‬

‫‪252‬‬
‫وحديثهما مشهور عندهم بالحجاز ‪ ،‬فلما سمع هذه اآلية ارتعدت فرائصه ‪ ،‬واصفر لونه ‪،‬‬
‫وضرط من شدة ما سمع ومعرفته بذلك ‪ ،‬وقال ‪ :‬هذا كالم جبار ؛ فما زادهم نفورا إال اقتران‬
‫التكليف باالسم الرحمن لجهلهم به ‪ ،‬ولو علم هذا الجاهل أن أمره تعالى بالسجود للرحمن ال‬
‫يناقض التكليف ‪ ،‬وإنما يناقض المؤاخذة ويزيد في الجزاء بالحسنى لبادر إلى ذلك ‪ ،‬كما بادر‬
‫ّللا عليه وسلم(‬‫ّللا لنبيه صلهى ه‬
‫المؤمن ‪ ،‬كما أن الكفار ما علموا في الغيب إال إلها واحدا ‪ ،‬قال ه‬
‫عوا فَلَهُ ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى )فتعجبوا من ذلك غاية العجب‬
‫الر ْحمنَ أَيًّا ما ت َ ْد ُ‬ ‫ّللا أ َ ِو ا ْد ُ‬
‫عوا َّ‬ ‫عوا َّ َ‬ ‫قُ ِل ا ْد ُ‬
‫ّللا ‪ ،‬وأن لكل واحد األسماء الحسنى ‪ ،‬وذلك ل هما‬ ‫‪ ،‬ألنهم تخيلوا أن مسمى الرحمن ليس هو ه‬
‫ّللا بصائرهم ‪ ،‬وكثهف أغطيتهم ‪ ،‬فلم يعقلوا عن ه‬
‫ّللا ما أراد بما أنزله ‪ -‬وهذه السجدة‬ ‫أعمى ه‬
‫للمؤمن تسمى سجدة االمتياز فإنه يسجدها عندما يتلو ليمتاز عن الكافر المنكر السمه الرحمن‬
‫‪ ،‬ويقع االمتياز بين االسم الرحمن وبين العارفين به يوم القيامة بالسجود الذي كان منهم عند‬
‫التالوة ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : (25‬اآليات ‪ 61‬إلى ‪] 63‬‬


‫سراجا َوقَ َمرا ُمنِيرا ( ‪َ ) 61‬و ُه َو الهذِي َجعَ َل‬ ‫ماء بُ ُروجا َو َجعَ َل فِيها ِ‬ ‫س ِ‬ ‫باركَ الهذِي َجعَ َل فِي ال ه‬ ‫تَ َ‬
‫ِين يَ ْمش َ‬
‫ُون‬ ‫من الهذ َ‬ ‫الرحْ ِ‬
‫شكُورا ) ‪َ ( 62‬و ِعبا ُد ه‬ ‫هار ِخ ْلفَة ِل َم ْن أَرا َد أ َ ْن يَذهك َهر أ َ ْو أَرا َد ُ‬
‫الله ْي َل َوالنه َ‬
‫ون قالُوا َ‬
‫سالما ( ‪) 63‬‬ ‫ض َه ْونا َو ِإذا خا َطبَ ُه ُم ا ْلجا ِهلُ َ‬ ‫علَى ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َ‬
‫[ عباد الرحمن ]‬
‫علَى‬ ‫شونَ َ‬ ‫من الَّذِينَ يَ ْم ُ‬ ‫اعلم أن هّلل عبادا من حيث اسمه الرحمن ‪ ،‬وهو قوله تعالى« َو ِعبا ُد َّ‬
‫الر ْح ِ‬
‫ض ه َْونا ً »وذلك من أثر الوقار ‪ ،‬الذي هو من الوقر ‪ ،‬وهو الثقل ‪ ،‬وإذا حصل الثقل‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫ضعف اإلسراع والحركة ‪ ،‬فسمى ذلك السكون وقارا أي سكون عن ثقل عارض ال عن مزاج‬
‫طبيعي ‪ ،‬فإن السكون الكائن عن األمر الذي يورث الهيبة والعظمة في نفس الشخص يسمى‬
‫وقارا وسكينة ‪ ،‬والسكون الطبيعي الذي يكون في اإلنسان من مزاجه لغلبة البرد والرطوبة‬
‫على الحرارة واليبس ال يسمى وقارا ‪ ،‬إنما الوقار نتيجة التعظيم والعظمة ‪ ،‬وهذا ال يكون إال‬
‫باّلل ‪ ،‬خفيا‬‫طبَ ُه ُم ْالجا ِهلُونَ »الجاهل من أشرك ه‬ ‫إذا تجلى لهم الحق في جالل الجمال« َو ِإذا خا َ‬
‫سالما ً »فلو أجابوهم النتظموا معهم في سلك الجهالة ‪ ،‬فإن كل‬ ‫كان الشرك أو جليا «قالُوا َ‬
‫إنسان ما يكلم إنسانا بأمر ما من األمور ابتداء أو مجيبا ‪ ،‬حتى ينصبغ‬

‫ص ‪253‬‬

‫‪253‬‬
‫بصفة ذلك األمر الذي يكلمه به ‪ ،‬كان ذلك ما كان ‪ ،‬فلم يتمكن لهؤالء أن يزيدوا على قولهم‬
‫سالما شيئا ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 64‬‬


‫س هجدا َوقِياما ) ‪( 64‬‬
‫ون ِل َر ِبّ ِه ْم ُ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ِين يَ ِبيت ُ َ‬
‫شغلهم هول المعاد عن الرقاد ‪ ،‬فعاملوا الحق بالتعظيم واإلجالل ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬آية ‪] 65‬‬


‫غراما ) ‪( 65‬‬‫كان َ‬
‫َذاب َج َهنه َم إِ هن عَذابَها َ‬
‫عنها ع َ‬
‫ف َ‬ ‫ِين يَقُولُ َ‬
‫ون َربهنَا اص ِْر ْ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫أي مهلكا ‪ ،‬فإن الغريم هو الذي لزمه الدين ‪ ،‬وبه سمي غريما ‪ ،‬ومقلوبه أيضا الرغام ‪ ،‬وهو‬
‫اللصوق بالتراب ‪ ،‬فإن الرغام التراب ‪ ،‬يقال ‪ :‬رغم أنفه ؛ إذ كان األنف محل العزة قوبل‬
‫بالرغام في الدعاء ‪ ،‬فألصقوه بالتراب ‪ ،‬فيكون الغرام حكمه في المغرم من المقلوب ‪ ،‬فهو‬
‫موصوف بالذلة ‪ ،‬ألن التراب أذل األذالء ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 66‬إلى ‪] 67‬‬


‫ستَقَ ًّرا َو ُمقاما ( ‪) 66‬‬ ‫ِإنهها سا َءتْ ُم ْ‬
‫َوالَّذِينَ ِإذا أ َ ْنفَقُوا لَ ْم يُس ِْرفُوا َولَ ْم يَ ْقت ُ ُروا َوكانَ بَيْنَ ذ ِل َك قَواما ً «) ‪َ ( 67‬والَّذِينَ ِإذا أ َ ْنفَقُوا لَ ْم‬
‫يُس ِْرفُوا »أي لم يوسعوا ما يخرج عن الحاجة« َولَ ْم يَ ْقت ُ ُروا »لم ينقصوا مما تمس إليه الحاجة«‬
‫َوكانَ بَيْنَ ذ ِل َك قَواما ً »وهو العدل في اإلنفاق ‪ ،‬فضمروا بطونهم بالصيام للسباق في حلبة‬
‫النجاة ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 68‬إلى ‪] 70‬‬


‫ّللاُ ِإاله ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ق َوال يَ ْزنُ َ‬
‫ون َو َم ْن‬ ‫س الهتِي َح هر َم ه‬ ‫ّللا ِإلها آ َخ َر َوال يَ ْقتُلُ َ‬
‫ون النه ْف َ‬ ‫ِين ال يَ ْدع َ‬
‫ُون َم َع ه ِ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ذاب يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة َويَ ْخلُ ْد ِفي ِه ُمهانا ( ‪ِ ) 69‬إاله َم ْن‬ ‫َف لَهُ ا ْلعَ ُ‬ ‫ق أَثاما ( ‪ ) 68‬يُضاع ْ‬ ‫يَ ْفعَ ْل ذ ِلكَ يَ ْل َ‬
‫غفُورا َر ِحيما (‬ ‫ّللاُ َ‬‫كان ه‬ ‫ت َو َ‬ ‫سنا ٍ‬ ‫س ِيّئاتِ ِه ْم َح َ‬ ‫ع َمال صا ِلحا فَأ ُ ْولئِكَ يُبَ ِ ّد ُل ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫تاب َوآ َم َن َوع َِم َل َ‬ ‫َ‬
‫) ‪70‬‬

‫ص ‪254‬‬

‫‪254‬‬
‫اعلم أنه لما لم يتمكن للتائب أن يرد عليه وارد التوبة إال حتى ينتبه من سنة الغفلة ‪ ،‬فيعرف ما‬
‫هو فيه من األعمال التي مآلها إلى هالكه وعطبه ‪ ،‬خاف ورأى أنه في أسر هواه ‪ ،‬وأنه مقتول‬
‫بسيف أعماله القبيحة ‪ ،‬فقال له حاجب الباب اإللهي ‪ :‬قد رسم الملك أنك إذا أقلعت عن هذه‬
‫المخالفات ‪ ،‬ورجعت إليه ووقفت عند حدوده ومراسمه ‪ ،‬أنه يعطيك األمان من عقابه ‪،‬‬
‫ويحسن إليك ويكون من جملة إحسانه أن كل قبيح أتيته يرد صورته حسنة ‪ ،‬ثم أعطاه التوقيع‬
‫ّللا ِإلها ً آخ ََر» ‪ . . .‬اآليات ‪ ،‬إلى قوله« ِإ َّال َم ْن‬ ‫اإللهي ‪ ،‬فإذا مكتوب فيه« َوالَّذِينَ ال يَ ْدعُونَ َم َع َّ ِ‬
‫ت »وذلك نتيجة العمل الصالح‬ ‫سنا ٍ‬
‫س ِيهئا ِت ِه ْم َح َ‬ ‫ع َم ًال صا ِلحا ً فَأ ُ ْول ِئ َك يُبَ ِ هد ُل َّ‬
‫ّللاُ َ‬ ‫ع ِم َل َ‬
‫تاب َوآ َمنَ َو َ‬
‫َ‬
‫ّللا سيئاته حسنات ‪ ،‬حتى يود لو أنه أتى جميع الكبائر الواقعة في العالم‬ ‫فيقع التبديل ‪ ،‬فيبدل ه‬
‫من العالم ‪ ،‬وهذا من الكرم اإللهي ‪ ،‬فال بد لطائفة من التبديل كبير بكبير ‪ ،‬ومن الناس من‬
‫يبدله له بالتوبة والعمل الصالح ‪ ،‬ومن الناس من يبدله له بعد أخذ العقوبة حقها منه ‪ ،‬وسبب‬
‫إنفاذ الوعيد في حق طائفة حكم المشيئة اإللهية ‪،‬‬
‫فإذا انتهت المدة طلبت المشيئة في أولئك تبديل العذاب الذي كانوا فيه بالنعيم المماثل له ‪ ،‬فإن‬
‫حكم المشيئة أقوى من حكم األمر ‪ ،‬وقد وقع التبديل باألمر فهو باإلرادة أحق بالوقوع ‪ ،‬ولوال‬
‫ما بين السيئ والحسن مناسبة تقتضي جمعهما في عين واحدة يكون بها حسنا سيئا ما قبل‬
‫التبديل ‪ ،‬ومثال ذلك ‪ :‬شخص في غاية الجمال طرأ عليه وسخ من غبار ‪،‬‬
‫فنظف من ذلك الوسخ العارض ‪ ،‬فبان جماله ‪ ،‬ثم كسي بزة حسنة فاخرة ‪ ،‬تضاعف بها جماله‬
‫وحسنه ‪ ،‬ولهذا وصف الذنوب بالمغفرة وهي الستر ‪ ،‬وما وصفها بذهاب العين ‪ ،‬وإنما يسترها‬
‫بثوب الحسن الذي يكسوها به ‪ ،‬ألنه تعالى ال يرد ما أوجده إلى عدم ‪ ،‬بل يوجد على الدوام وال‬
‫ّللا هذا العلم عن بعض عباده ‪ ،‬وأطلع عليه من شاء من عباده ‪ ،‬وهو من علم‬ ‫يعدم ‪ .‬وستر ه‬
‫غفُورا ً »‬
‫ّللاُ َ‬
‫الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا ‪ ،‬ولذلك قال الحق« َوكانَ َّ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬أي يستر عمن يشاء الوقوف على مثل هذا كشفا‬
‫ّللا تعالى إذا قبل توبة عبده‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬غفورا لذنوبهم السابقة ‪ ،‬أي سترها عنهم ‪ ،‬فإن ه‬
‫أنساه ذنبه فلم يذ هكره إياه ‪ ،‬فإنه إن ذكره أحضره بينه وبين الحق ‪ ،‬وهو قبيح الصورة ‪ ،‬فجعل‬
‫بينه وبين الحق صورة قبيحة تؤذن بالبعد فهذا فائدة النسيان ‪،‬‬
‫والستر من الحق على نوعين ‪:‬‬
‫إما أن يستر الذنوب جملة واحدة ‪،‬‬
‫وإما أن تبدل بحسنة فتحسن صورة تلك السيئة بالتوبة ‪ ،‬فتظهر له حسنة ‪ ،‬وذلك ليسرع العبد‬

‫ص ‪255‬‬

‫‪255‬‬
‫ّللا« َر ِحيما ً »بذلك الستر ‪ ،‬رحمة به لمعنى علمه سبحانه لم يعيهنه لنا ‪،‬‬‫في الرجعة إلى ه‬
‫والتبديل على وجوه ‪:‬‬
‫ّللا من تلك الكلمة ملكا ‪ ،‬فإن‬ ‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬اعلم أنه ما من كلمة يتكلم بها العبد إال ويخلق ه‬
‫ّللا وتلفظ بتوبته‬ ‫كانت خيرا كان ملك رحمة ‪ ،‬وإن كانت شرا كان ملك نقمة ‪ ،‬فإن تاب إلى ه‬
‫ّللا من تلك اللفظة ملك رحمة ‪ ،‬وخلع من المعنى الذي دل عليه ذلك اللفظ بالتوبة الذي قام‬ ‫خلق ه‬
‫بقلب ذلك التائب على ذلك الملك الذي كان خلقه من كلمة الشر خلعة رحمة ‪ ،‬وواخى بينه وبين‬
‫ّللا ؛ فإن كانت التوبة عامة ‪ ،‬خلع على‬ ‫الملك الذي خلقه من كلمة التوبة ‪ ،‬وهو قوله ‪ :‬تبت إلى ه‬
‫كل ملك نقمة كان مخلوقا لذلك العبد من كلمات شره خلع رحمة ‪ ،‬وجعل مصاحبا للملك‬
‫المخلوق من لفظة توبته ‪ ،‬فإنه إذا قال العبد ‪ :‬تبت إليك من كل شيء ال يرضيك ؛ كان في هذه‬
‫اللفظة من الخير جميعة كل شيء من الشر ‪ ،‬فخلق من هذا اللفظ مالئكة كثيرة بعدد كلمات‬
‫الشر التي كانت منه ‪ ،‬فإن اإلنسان أعطي لفظا يدل على األفراد ‪ ،‬وأعطي لفظا يدل على‬
‫االثنين ‪ ،‬وأعطي لفظا يدل على الكثرة ‪ ،‬فلفظة كل تدل على الكثرة ‪ ،‬فعلم أن قوله « تبت إلى‬
‫ّللا من كذا ‪،‬‬ ‫ّللا من كذا ‪ ،‬تبت إلى ه‬‫ّللا من كذا ‪ ،‬تبت إلى ه‬‫ّللا من كل شيء » ‪ ،‬أنه تبت إلى ه‬ ‫ه‬
‫ّللا من كلمة الجمع مالئكة بعدد ما تعمه تلك الكلمة ‪ ،‬وإنما قلنا بأن المالئكة‬ ‫فلهذا خلق ه‬
‫المخلوقة من كلمة الشر يخلع عليها خلع الخير ‪ ،‬وترجع مالئكة رحمة في حق هذا التائب ‪،‬‬
‫ويصاحب بينها وبين المالئكة المخلوقة من لفظة التوبة عن ذلك الشر ‪ ،‬لقوله تعالى« فَأ ُ ْولئِ َك‬
‫ت »فجعل التبديل في عين السيئة‬ ‫سنا ٍ‬
‫س ِيهئاتِ ِه ْم َح َ‬ ‫يُبَ ِ هد ُل َّ‬
‫ّللاُ َ‬
‫ّللا سيئاته حسنات ‪،‬‬ ‫ّللا في أجله بعد توبته فعمل عمال صالحا بدل ه‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬من أنسأ ه‬
‫ّللا فعله بما وفقه إليه من‬ ‫أي ما كان يتصرف به من السوء عاد يتصرف فيه حسنا ‪ ،‬فبدهل ه‬
‫طاعته ورحمته ‪ ،‬وغفر له جميع ما كان وقع منه قبل ذلك ‪ ،‬ولم يؤاخذه بشيء منه– ‪.‬‬
‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬في حق أهل الشهود الذي يرون ويشهدون األفعال كلها هّلل ‪ ،‬فما كان من‬
‫حسن أضافوه إليه تعالى خلقا فيهم ‪ ،‬وأضافوه إليهم من كونهم محال لظهوره ‪ ،‬وإن كان سيئا‬
‫ّللا حسن ما في ذلك المسمى‬ ‫ّللا ‪ ،‬فيريهم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيكونون حاكين قول ه‬‫أضافوه إليهم بإضافة ه‬
‫سوءا بأن يريه عين ما كان يراه سيئة حسنة ‪ ،‬وقد كان حسنها غائبا عنه بحكم الشرع ‪ ،‬فلما‬
‫وصل إلى موضع ارتفاع األحكام ‪ ،‬وهو الدار اآلخرة ‪ ،‬رأى عند كشف الغطاء حسن ما في‬
‫ّللا ال غيره ‪،‬‬
‫األعمال كلها ‪ ،‬ألنه ينكشف له أن العامل هو ه‬

‫ص ‪256‬‬

‫‪256‬‬
‫فهي أعماله تعالى ‪ ،‬وأعماله كلها كاملة الحسن ‪ ،‬ال نقض فيها وال قبح ‪ ،‬فإن السوء والقبح‬
‫ّللا سيئاتهم حسنات ‪ ،‬وما‬ ‫ّللا ال أعيانها ‪ ،‬فبدل ه‬ ‫الذي كان ينسب إليها إنما كان ذلك بمخالفة حكم ه‬
‫هو إال تبديل الحكم ال تبديل العين ‪ ،‬فمن حكم في نفسه لنفسه ‪ ،‬وندم في يومه على ما فرط فيه‬
‫من أمسه ‪ ،‬ليجبر بذلك ما فاته ‪ ،‬ويحيي منه بالندم ما أماته ‪ ،‬فإذا أقامه من قبره ‪ ،‬فذلك أوان‬
‫ّللا سيئاته حسنات ‪ ،‬وينقل من أسفل درجاته إلى أعلى الدرجات‬ ‫نشره ‪ ،‬وأوان حشره ‪ ،‬فيبدل ه‬
‫‪ ،‬حتى يود لو أنه أتى بقراب األرض خطايا ‪ ،‬أو لو حمل ذنوب البرايا ‪ ،‬لما يعاينه من حسن‬
‫التحويل ‪ ،‬وجميل صور التبديل ‪ ،‬فيفوز بالحسنيين ‪ ،‬وهنالك يعلم ما أخفى له فيه من قرة عين‬
‫‪ ،‬ففاز في الدنيا باتباع الهوى ‪ ،‬وفي اآلخرة بجنة المأوى ‪ ،‬فمن الناس من إذا حرم رحم ‪،‬‬
‫وجوزي جزاء من عصم ‪ ،‬فجزاء بعض المذنبين أعظم من جزاء المحسنين ‪ ،‬وال سيما أهل‬
‫ّللا يؤتيه من يشاء ‪ .‬لما نزلت هذه اآلية قال‬ ‫الكبائر ‪ ،‬والمنتظرين حلول الدوائر ‪ ،‬وذلك فضل ه‬
‫ّللا عنه ‪ :‬ومن لي بأن أوفق إلى العمل الصالح الذي اشترطه علينا‬ ‫وحشي قاتل حمزة رضي ه‬
‫في التبديل ؟‬
‫ّللا ال يَ ْغ ِف ُر أ َ ْن يُ ْش َر َك ِب ِه َويَ ْغ ِف ُر ما دُونَ ذ ِل َك ِل َم ْن يَشا ُء )‬
‫فجاءه الجواب ‪ِ (:‬إ َّن َّ َ‬
‫فقال وحشي ‪ :‬وما أدري هل أنا ممن شاء أن يغفر له أم ال ؟‬
‫ّللا يَ ْغ ِف ُر‬ ‫طوا ِم ْن َر ْح َم ِة َّ ِ‬
‫ّللا ِإ َّن َّ َ‬ ‫ِي الَّذِينَ أَس َْرفُوا َ‬
‫على أ َ ْنفُ ِس ِه ْم ال ت َ ْقنَ ُ‬ ‫فجاءه الجواب ‪ (:‬يا ِعباد َ‬
‫الر ِحي ُم ) فلما قرأ وحشي هذا قال ‪ :‬اآلن فأسلم ‪ ،‬ولهذا قال حاجب‬ ‫ور َّ‬ ‫وب َج ِميعا ً ِإنَّهُ ُه َو ْالغَفُ ُ‬
‫الذُّنُ َ‬
‫الباب اإللهي وهو الشارع‬
‫[ إن التائب من الذنب كمن ال ذنب له ] فيبدل سيئاته حسنات بالتوبة والعمل الصالح ‪.‬‬

‫[ سورة الفرقان ( ‪ : ) 25‬اآليات ‪ 71‬إلى ‪] 72‬‬


‫ور َوإِذا‬ ‫ُون ُّ‬
‫الز َ‬ ‫ش َهد َ‬ ‫ّللا َمتابا ) ‪َ ( 71‬والهذ َ‬
‫ِين ال يَ ْ‬ ‫تاب َوع َِم َل صا ِلحا فَ ِإنههُ يَت ُ ُ‬
‫وب إِلَى ه ِ‬ ‫َو َم ْن َ‬
‫َم ُّروا ِبالله ْغ ِو َم ُّروا ِكراما ( ‪) 72‬‬
‫ور »شهادة الزور الميل إلى الباطل عن الحق ‪ ،‬فإن الزور هو الميل«‬ ‫الز َ‬ ‫« َوالَّذِينَ ال يَ ْش َهدُونَ ُّ‬
‫ّللا النظر إليه ‪ ،‬فلم يتدنسوا بشيء منه‬ ‫َو ِإذا َم ُّروا ِباللَّ ْغ ِو َم ُّروا ِكراما ً »أي لم ينظروا لما أسقط ه‬
‫‪ ،‬فمروا به غير ملتفتين إليه « ِكراما ً »فما أثر فيهم ‪ ،‬فإنه مقام تستحليه النفوس ‪ ،‬وتقبل عليه‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬وهذه هي النفوس األبية أي التي تأبى الرذائل ‪،‬‬ ‫للمخالفة التي جبلها ه‬

‫ص ‪257‬‬

‫‪257‬‬
‫ّللا فيهم ‪(:‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬والتحقوا بهذه الصفة بالمإل األعلى ‪ ،‬الذين قال ه‬ ‫فهي نفوس الكرام من عباد ه‬
‫رام بَ َر َر ٍة ) فنعتهم بأنهم كرام ‪ ،‬فكل وصف يلحقك بالمإل األعلى فهو شرف في‬ ‫ِبأ َ ْيدِي َ‬
‫سفَ َر ٍة ِك ٍ‬
‫حقك ‪.‬‬
‫[ سورة الفرقان ( ‪ ) : 25‬اآليات ‪ 73‬إلى ‪] 77‬‬
‫ون َربهنا َه ْب‬ ‫ِين يَقُولُ َ‬ ‫ص ًّما َوع ُْميانا ( ‪َ ) 73‬والهذ َ‬ ‫علَ ْيها ُ‬ ‫ت َر ِبّ ِه ْم لَ ْم يَ ِخ ُّروا َ‬ ‫ِين ِإذا ذُ ِ ّك ُروا ِبآيا ِ‬‫َوالهذ َ‬
‫ين ِإماما ( ‪ ) 74‬أ ُ ْولئِكَ يُجْ َز ْو َن ا ْلغُ ْرفَةَ ِبما‬‫واجنا َوذُ ِ ّريهاتِنا قُ هرةَ أ َ ْعيُ ٍن َواجْ عَ ْلنا ِل ْل ُمت ه ِق َ‬
‫لَنا ِم ْن أ َ ْز ِ‬
‫ستَقَ ًّرا َو ُمقاما ( ‪ ) 76‬قُ ْل ما‬ ‫سنَتْ ُم ْ‬ ‫سالما ( ‪ ) 75‬خا ِلد َ‬
‫ِين ِفيها َح ُ‬ ‫صبَ ُروا َويُلَقه ْو َن ِفيها ت َ ِحيهة َو َ‬ ‫َ‬
‫ُون ِلزاما ( ‪) 77‬‬‫ف يَك ُ‬ ‫س ْو َ‬ ‫يَ ْعبَؤُا بِ ُك ْم َر ِبّي لَ ْو ال دُعا ُؤ ُك ْم فَقَ ْد َكذه ْبت ُ ْم فَ َ‬

‫( ‪ ) 26‬سورة الشّعراء مكيّة‬


‫الرحيم‬ ‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 5‬‬
‫يم‬‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬‫ّللا ه‬ ‫س ِم ه ِ‬‫ِب ْ‬
‫ين ( ‪ ) 3‬إِ ْن نَشَأ ْ‬ ‫سكَ أَاله يَكُونُوا ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫باخ ٌع نَ ْف َ‬
‫ين ( ‪ ) 2‬لَعَلهكَ ِ‬ ‫ب ا ْل ُمبِ ِ‬ ‫طسم ( ‪ ) 1‬تِ ْلكَ آياتُ ا ْل ِكتا ِ‬
‫ين ( ‪) 4‬‬ ‫خاض ِع َ‬
‫ِ‬ ‫ماء آيَة فَ َظلهتْ أَعْناقُ ُه ْم لَها‬ ‫س ِ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِم َن ال ه‬‫نُنَ ِ ّز ْل َ‬
‫ين ( ‪) 5‬‬ ‫ع ْنهُ ُم ْع ِر ِض َ‬‫ث ِإاله كانُوا َ‬ ‫من ُمحْ َد ٍ‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫يه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِم َن ه‬ ‫َوما يَأْتِ ِ‬
‫ث"]‬ ‫من ُم ْح َد ٍ‬‫الر ْح ِ‬ ‫[ " َوما يَأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِمنَ َّ‬
‫ّللا القديم األزلي ‪ -‬في حقنا نزل ‪ ،‬قال تعالى « َوما يَأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر‬ ‫لما كان القرآن ‪ -‬وهو كالم ه‬
‫ث »فنعته بالحدوث ألنه نزل على محدث ‪ ،‬وألنه حدث عنده ما لم يكن يعلمه‬ ‫من ُم ْح َد ٍ‬
‫الر ْح ِ‬ ‫ِمنَ َّ‬
‫‪ ،‬فالذي جاءهم إنما هو المتكلم به ‪ .‬واعلم أن الحديث قد يكون حديثا في‬

‫ص ‪258‬‬

‫‪258‬‬
‫نفس األمر ‪ ،‬وقد يكون حديثا بالنسبة إلى وجوده عندك في الحال ‪ ،‬وهو أقدم من ذلك الحدوث‬
‫ّللا ‪ ،‬وإن أردت به غير نفي األولية فقد‬ ‫‪ ،‬وذلك إن أردت بالقدم نفي األولية فليس إال كالم ه‬
‫يكون حادثا في نفسه ذلك الشيء عندك ‪ ،‬وقد يكون حادثا بحدوثه عندك ‪ ،‬أي ذلك زمان حدوثه‬
‫ّللا ‪ ،‬والكالم صفته فله القدم وإن حدث اإلتيان ‪ ،‬فوصف الحق الذكر بأنه‬ ‫‪ .‬والذكر كالم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فقد كان له‬ ‫محدث ألنه حدث عندهم ‪ ،‬وإن كان قديما في نفس األمر من حيث أنه كالم ه‬
‫الوجود وعين المخاطب مفقود ‪ ،‬فكان محدثا عندهم ال في عينه ‪ ،‬فذكر القرآن أمان ‪ ،‬ويجب به‬
‫اإليمان أنه كالم الرحمن ‪ ،‬مع تقطيع حروفه في اللسان ‪ ،‬ونظم حروفه فيما رقمه باليراع‬
‫البنان ‪ ،‬فحدثت األلواح واألقالم ‪ ،‬وما حدث الكالم ‪ ،‬وحكمت على العقول األوهام ‪ ،‬بما‬
‫عجزت عن إدراكه األفهام ‪ ،‬ذكر المخلوق ما يصح قدمه ‪ ،‬ولو ثبت الستحال عدمه ‪ ،‬فالحادث‬
‫ال يخلو من الحوادث ‪ ،‬لو حل بالحادث الذكر القديم ‪ ،‬لصح قول أهل التجسيم ‪ ،‬القديم ال يحل‬
‫وال يكون محال ‪ ،‬ولو كان محال لكان محال ‪ ،‬فال يوصف بغير وصفه ‪ ،‬فالذكر القديم ذكر‬
‫الحق ‪ ،‬وإن حكى ما نطق به الخلق ‪ ،‬كما أن ذكر الحادث ما نطق به لسان الخلق ‪ ،‬وإن تكلم‬
‫ضينَ »واإلعراض هو ما يقوم بك ‪ ،‬أو بمن يخاطبك ‪ ،‬أو‬ ‫ع ْنهُ ُم ْع ِر ِ‬ ‫الحق« ِإ َّال كانُوا َ‬
‫ه‬ ‫بالقرآن‬
‫ّللا إعراضهم عن ذكر الرحمن ‪ ،‬مع العلم منهم بأنه القرآن ‪ ،‬والقرآن كالمه‬ ‫يجالسك ‪ ،‬فذكر ه‬
‫وهو الذي حدث عندهم ‪ ،‬فذم تعالى من لم يتلقاه بالقبول ‪ .‬وكالمه علمه ‪ ،‬وعلمه ذاته ‪ ،‬فهو‬
‫الذي حدث عندهم فعنه أعرضوا‬
‫ث )وقال تعالى« َوما يَأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬قال تعالى( ما يَأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِم ْن َر ِبه ِه ْم ُم ْح َد ٍ‬
‫ث »فلم يجر السم من أسماء الشقاء ذكر في اإلتيان ‪ ،‬إنما هو رب أو رحمن‬ ‫من ُم ْح َد ٍ‬‫الر ْح ِ‬
‫ِمنَ َّ‬
‫‪ ،‬ليعلمنا بما في نفسه لنا ‪ ،‬فالرحمة والنعمة واإلحسان في البدء والعاقبة والمآل ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 6‬إلى ‪] 21‬‬


‫ض َك ْم أ َ ْنبَتْنا فِيها‬ ‫ُن ) ‪ ( 6‬أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا ِإلَى ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ستَه ِْزؤ َ‬ ‫يه ْم أ َ ْنبؤُا ما كانُوا ِب ِه يَ ْ‬ ‫سيَأْتِ ِ‬‫فَقَ ْد َكذهبُوا فَ َ‬
‫ين ( ‪َ ) 8‬و ِإ هن َربهكَ لَ ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬
‫يز‬ ‫كان أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫يم ( ‪ِ ) 7‬إ هن فِي ذ ِلكَ َآليَة َوما َ‬ ‫ِم ْن ُك ِ ّل َز ْوجٍ ك َِر ٍ‬
‫ين ) ‪( 10‬‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫ت ا ْلقَ ْو َم ال ه‬ ‫الر ِحي ُم ) ‪َ ( 9‬و ِإ ْذ نادى َربُّكَ ُموسى أ َ ِن ائْ ِ‬ ‫ه‬
‫صد ِْري َوال‬ ‫ق َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 12‬ويَ ِضي ُ‬ ‫خاف أ َ ْن يُ َك ِذّبُ ِ‬ ‫ب إِ ِنّي أ َ ُ‬ ‫ون ( ‪ ) 11‬قا َل َر ّ ِ‬ ‫قَ ْو َم فِ ْرع َْو َن أ َ ال يَتهقُ َ‬
‫ون ) ‪ ( 14‬قا َل َكاله‬ ‫خاف أ َ ْن يَ ْقتُلُ ِ‬
‫ب فَأ َ ُ‬ ‫ي ذَ ْن ٌ‬ ‫علَ ه‬‫ون ( ‪َ ) 13‬ولَ ُه ْم َ‬ ‫هار َ‬‫س ْل إِلى ُ‬ ‫ق ِلسانِي فَأ َ ْر ِ‬ ‫يَ ْن َط ِل ُ‬
‫ون ( ‪) 15‬‬ ‫ست َ ِمعُ َ‬‫اذ َهبا ِبآياتِنا إِنها َمعَ ُك ْم ُم ْ‬ ‫فَ ْ‬
‫سرائِي َل ( ‪ ) 17‬قا َل أ َ‬ ‫س ْل َمعَنا بَنِي ِإ ْ‬ ‫ين ) ‪ ( 16‬أ َ ْن أ َ ْر ِ‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬
‫سو ُل َر ّ ِ‬ ‫فَأْتِيا فِ ْرع َْو َن فَقُوال ِإنها َر ُ‬
‫ين ( ‪َ ) 18‬وفَعَ ْلتَ فَ ْعلَت َكَ الهتِي فَعَ ْلتَ َوأ َ ْنتَ ِم َن‬ ‫سنِ َ‬ ‫ع ُم ِركَ ِ‬ ‫لَ ْم نُ َر ِبّكَ فِينا َو ِليدا َولَ ِبثْتَ فِينا ِم ْن ُ‬
‫ين ) ‪( 20‬‬ ‫ين ( ‪ ) 19‬قا َل فَعَ ْلتُها ِإذا َوأَنَا ِم َن ال ه‬
‫ضا ِلّ َ‬ ‫ا ْلكا ِف ِر َ‬
‫ين) ‪( 21‬‬ ‫س ِل َ‬ ‫ب ِلي َر ِبّي ُح ْكما َو َجعَلَنِي ِم َن ا ْل ُم ْر َ‬ ‫فَفَ َر ْرتُ ِم ْن ُك ْم لَ هما ِخ ْفت ُ ُك ْم فَ َو َه َ‬
‫ص ‪259‬‬

‫‪259‬‬
‫قال هذا الكالم موسى عليه السالم لفرعون وآله ‪ ،‬فإنه لما وقع من موسى عليه السالم ما وقع‬
‫ّللا وضع‬‫ففر إلى النجاة ‪ ،‬التي يمكن أن تحصل له بالفرار ‪ ،‬فإنه علم أن ه‬ ‫من قتل القبطي ه‬
‫األسباب ‪ ،‬وجعل لها أثرا في العالم بما يوافق األغراض وبما ال يوافقها ‪،‬‬
‫وبما يالئم الطبع وبما ال يالئمه ‪ ،‬فرأى أن الفرار من األسباب اإللهية الموضوعة في بعض‬
‫المواطن لوجود النجاة ‪ ،‬فهو فرار طبيعي ‪ ،‬ألنه ذكر أن الخوف من السبب جعله يفر ‪ ،‬لكنه‬
‫معرى عن التعريف بما ذكرناه من الوضع اإللهي ‪،‬‬ ‫ه‬
‫فإن هذا كان قبل نبوته ومعرفته بما يريده الحق به ‪.‬‬
‫ويحتمل أن يكون فرار موسى عليه السالم الذي علله بالخوف من فرعون وقومه ‪ ،‬ما كان‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا أن يسلطهم عليه ‪ ،‬إذ له ذلك ‪ ،‬فإنه فعال لما يريد ‪ ،‬وال يدري ما في علم ه‬ ‫خوفه إال من ه‬
‫َب ِلي َر ِبهي ُح ْكما ً َو َجعَلَنِي ِمنَ ْال ُم ْر َ‬
‫س ِلينَ »فلما فر خوفا من‬ ‫فكان فراره إلى ربه ليعتز به« فَ َوه َ‬
‫فرعون ‪ ،‬تلقاه الحق بالنجاة ‪ ،‬وجمع بينه وبين رسول من رسله ‪،‬‬
‫ّللا به القبط وبني إسرائيل‬‫وهو شعيب عليهما السالم ‪ ،‬ثم أعطاه النبوة والحكم ‪ ،‬الذي خاطب ه‬
‫أن يكونوا عليه ‪ ،‬فوهبه ربه حكما وعلما ‪ ،‬وجعله من المرسلين إلى من خاف منهم ‪،‬‬
‫ّللا باآليات البينات ‪ ،‬ليشد منه ما ضعف مما يطلبه حكم الطبيعة في هذه‬ ‫باّلل ‪ ،‬وأيده ه‬
‫باالعتزاز ه‬
‫النشأة ‪ ،‬فجعله من المرسلين إلى من خاف أن يسلهط عليه ‪،‬‬
‫وهو فرعون ‪ ،‬فكان موسى عليه السالم خليفة رسوال ‪ ،‬ألن الرسول ال يكون حاكما حتى يكون‬
‫خليفة ‪ ،‬وكان ذلك نتيجة الفرار من‬
‫ص ‪260‬‬

‫‪260‬‬
‫فرعون وآله ‪ ،‬فأنتج له ذلك الفرار الحكم الذي هو اإلمامة والخالفة والرسالة ‪ ،‬مع كون السبب‬
‫الموجب الذي ذكره ‪ -‬تحقيق ‪ -‬ال شيء ألطف من الخواطر واألوهام ‪ ،‬وهي الحاكمة على‬
‫الكثائف ‪ ،‬لضعف الكثيف وقوة سلطان اللطيف ‪ ،‬الدليل التغير بالخوف ‪ ،‬والمخوف من حلوله‬
‫ما له عين وجودية ‪ .‬وقد أحدث الخوف في جسم الخائف حركة الهرب ‪ ،‬وطلب الستر‬
‫والمدافعة ‪ ،‬وما وقع شيء إال عين الخوف وهو لطيف ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬آية ‪] 22‬‬


‫ت بَنِي إِسْرائِي َل ) ‪( 22‬‬ ‫ي أ َ ْن َ‬
‫عبَّ ْد َ‬ ‫َوتِ ْل َك نِ ْع َمةٌ ت َ ُمنُّها َ‬
‫علَ َّ‬
‫" َوتِ ْل َك نِ ْع َمةٌ " هو قول فرعون( أ َ لَ ْم نُ َر ِبه َك فِينا َو ِليدا ً ؟‬
‫والمن يبطل اإلنعام ‪ ،‬ألنه استعجال الجزاء ‪ ،‬ولما كان من شأن‬ ‫ه‬ ‫)فتلك النعمة تربية فرعون ‪،‬‬
‫فرعون إذالل بني إسرائيل ‪ ،‬وموسى عليه السالم منهم ‪ ،‬وكان قد أعزه وتبناه ‪ ،‬فهذا معنى‬
‫ت بَنِي ِإ ْسرائِي َل "‪.‬‬ ‫عبَّ ْد َ‬‫قوله« أ َ ْن َ‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬آية ‪] 23‬‬


‫ين ) ‪( 23‬‬‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬
‫قا َل فِ ْرع َْو ُن َوما َر ُّ‬
‫ّللا رب العالمين ‪ ،‬فسأله فرعون ‪َ «:‬وما َربُّ ْالعالَ ِمينَ ؟ »يسأله‬
‫لما دعا موسى فرعون إلى ه‬
‫ّللا ال يجوز أن تطلب « بما » كما طلب فرعون ‪ ،‬فأخطأ في‬ ‫عن الماهية ‪ ،‬ولما كانت ذات ه‬
‫السؤال ‪ ،‬لهذا عدل موسى عليه السالم عن جواب سؤاله ‪ ،‬ألن السؤال إذا كان خطأ ال يلزم‬
‫الجواب عنه ‪ ،‬وكان المجلس مجلس عامة ‪ ،‬فلذلك تكلم موسى بما تكلم به ‪ ،‬وفي السؤال عن‬
‫الحق بلفظ« ما »خالف ‪ ،‬فإن الحق سبحانه ما نهى فرعون على لسان موسى عليه السالم عن‬
‫سؤاله ‪ ،‬بل أجاب بما يليق به الجواب عن ذاك الجناب العالي ‪،‬‬
‫وإن كان وقع الجواب غير مطابق للسؤال ‪ ،‬فذلك راجع الصطالح من اصطلح على أنه ال‬
‫يسأل بذلك إال عن الماهية المركبة ‪ ،‬واصطلح عن أن الجواب باألثر ال يكون جوابا لمن سأل‬
‫" بما " وهذا االصطالح ال يلزم الخصم ‪ ،‬فلم يمنع هذا السؤال بهذه الصيغة عليه ‪ ،‬إذ كانت‬
‫األلفاظ ال تطلب لنفسها ‪ ،‬وإنما تطلب لما تدل عليه من المعاني التي وضعت لها ‪،‬‬
‫فإنها بحكم الوضع ‪ ،‬وما كل طائفة وضعتها بإزاء ما وضعتها األخرى ‪ ،‬فيكون الخالف في‬
‫عبارة ال في حقيقة ‪ ،‬وال يعتبر الخالف إال في المعاني ‪ ،‬ومذهبنا في ذلك هو ‪ :‬أن ما ح هجر‬
‫الشرع علينا ح هجرناه ‪،‬‬

‫ص ‪261‬‬

‫‪261‬‬
‫وما أوجب علينا أن نخوض فيه خضنا فيه طاعة أيضا ‪ ،‬وما لم يرد فيه تحجير وال وجوب‬
‫فهو عافية ‪ ،‬إن شئنا تكلمنا فيه ‪ ،‬وإن شئنا سكتنا عنه ‪ ،‬وهذا ينطبق على أمهات المطالب‬
‫ّللا ‪ ،‬أو من رسوله‬
‫األربعة ‪ :‬هل ‪ ،‬وما ‪ ،‬وكيف ‪ ،‬ولم ؛ والنهي شرعا ال يكون إال ما يرد من ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فمن ادعى التحجير في إطالق هذه العبارات فعليه بالدليل ‪ ،‬واألولى‬‫صلهى ه‬
‫التوقف عن الحكم بالمنع أو الجواز ‪ ،‬إذ ال حكم إال للشرع فيما يجوز أن يتلفظ به أو ال يتلفظ‬
‫به ‪ ،‬يكون ذلك طاعة أو غير طاعة ‪ ،‬والحق سبحانه ال يقال فيه ‪ :‬إن له ماهية ‪ ،‬وإن سئل عنه‬
‫« بما » فالجواب بصفة التنزيه ‪ ،‬أو صفة الفعل ال غير ذلك ‪،‬‬
‫لذلك قال موسى عليه السالم ‪:‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬آية ‪] 24‬‬


‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َوما بَ ْينَ ُه َما ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُموقِنِ َ‬
‫ين ( ‪) 24‬‬ ‫سماوا ِ‬
‫ب ال ه‬
‫قا َل َر ُّ‬

‫« ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمو ِق ِنينَ »يقول إن استقر في قلوبكم ما يعطيه الدليل والنظر الصحيح من الدهال ‪،‬‬
‫باّلل‬
‫فأخذ موسى عليه السالم ‪ -‬العالم ‪ -‬في التعريف بماهية الحق ‪ - ،‬والرسل عندنا أعلم الخلق ه‬
‫‪ -‬فقال فرعون ‪ ،‬وقد علم أن الحق مع موسى فيما أجابه به ‪ ،‬إال أنه أوهم الحاضرين واستخفهم‬
‫‪ ،‬ألن السؤال منه إنما وقع بما طابقه الحق ‪ ،‬وهو قوله( َوما َربُّ ْالعالَ ِمينَ )فما سأله إال بذكر‬
‫ض َوما بَ ْينَ ُه َما »فطابق الجواب‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬
‫العالمين ‪ ،‬فقال موسى عليه السالم« َربُّ ال َّ‬
‫السؤال ‪ ،‬فقال فرعون لقومه ‪:‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬آية ‪] 25‬‬


‫قا َل ِل َم ْن َح ْولَهُ أ َ ال ت َ ْ‬
‫ست َ ِمعُ َ‬
‫ون ) ‪( 25‬‬
‫أسأله عن الماهية ‪ ،‬فيجيبني باألمور اإلضافية ‪ ،‬فغالطهم وهو ما سأل إال عن الرب المضاف ‪،‬‬
‫فقال له موسى ‪:‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬آية ‪] 26‬‬


‫ب آبائِ ُك ُم ْاأل َ هو ِل َ‬
‫ين ) ‪( 26‬‬ ‫قا َل َربُّ ُك ْم َو َر ُّ‬
‫فخصص اإلضافة لدعوى فرعون في قومه أنه ربهم األعلى ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬آية ‪] 27‬‬


‫ون) ‪( 27‬‬ ‫سولَ ُك ُم الهذِي أ ُ ْر ِ‬
‫س َل ِإلَ ْي ُك ْم لَ َمجْ نُ ٌ‬ ‫قا َل ِإ هن َر ُ‬
‫ص ‪262‬‬

‫‪262‬‬
‫لما رأى فرعون أن موسى عليه السالم ما أجابه على حد ما سأل ‪ ،‬ألنه تخيل أن سؤاله هذا‬
‫متوجه ‪ ،‬وما علم أن ذات الحق ال تدخل تحت مطلب « ما » ‪ ،‬وإنما تدخل تحت مطلب « هل‬
‫» وهل سؤال عن وجود المسؤول عنه هل هو متحقق أم ال ؟ فقال فرعون وقد علم ما وقع فيه‬
‫سولَ ُك ُم الَّذِي أ ُ ْر ِس َل ِإلَ ْي ُك ْم »ولوال ما علم‬‫من الجهل ‪ ،‬إشغاال للحاضرين لئال يتفطنوا لذلك« ِإ َّن َر ُ‬
‫الحق فرعون ما أثبت في هذا الكالم أنه أرسله مرسل ‪ ،‬وأنه ما جاء من نفسه ‪ ،‬ألنه دعا إلى‬
‫ون "‪-‬‬ ‫غيره ‪ ،‬وكذا نسبه فرعون إلى ما كان عليه موسى بقوله ‪ " :‬لَ َم ْجنُ ٌ‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬أي مستور عنكم فال تعرفونه ‪ ،‬فعرفه موسى بجوابه إياه ‪ ،‬وما عرفه‬
‫الحاضرون كما عرفه علماء السحرة ‪ ،‬وما عرفه الجاهلون بالسحر‬
‫ون »أي قد ستر عنه عقله ‪ ،‬ألن العاقل‬ ‫سولَ ُك ُم الَّذِي أ ُ ْر ِس َل إِلَ ْي ُك ْم لَ َم ْجنُ ٌ‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ « -‬إِ َّن َر ُ‬
‫ال يسأل عن ماهية شيء فيجيب بمثل هذا الجواب ‪ ،‬فقال له موسى لقرينة حال اقتضاها‬
‫المجلس ‪ ،‬ما قال إبراهيم عليه السالم لنمروذ ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬آية ‪] 28‬‬


‫ون ( ‪) 28‬‬ ‫ب َوما بَ ْينَ ُهما إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع ِقلُ َ‬
‫ق َوا ْل َم ْغ ِر ِ‬
‫ب ا ْل َمش ِْر ِ‬
‫قا َل َر ُّ‬
‫[ حال الشمس في كل لحظة ]‬
‫ق‬‫المشرق ال يسمى لطلوع القمر وال النجوم ‪ ،‬بل للشمس فقط ‪ ،‬ولذلك قال تعالى « َربُّ ْال َم ْش ِر ِ‬
‫ب »أي طلوع الشمس وغروبها ‪ ،‬ولو لم يقل « َوما بَ ْينَ ُهما »لجاز ‪ ،‬ألنه ليس بينهما‬ ‫َو ْال َم ْغ ِر ِ‬
‫شيء ‪ ،‬وذلك ألن عين حال الشروق في ذلك الحيهز هو عين استوائها وهو عين غروبها ‪ ،‬فكل‬
‫حركة واحدة من الشمس في حيهز واحد شروق واستواء وغروب ‪ ،‬فما ث هم ما ينبغي أن يقال ما‬
‫بينهما ‪ ،‬لكنه قال« َوما بَ ْينَ ُهما »لغموضه على الحاضرين ‪ ،‬فإنهم ال يعرفون ما فصلناه في‬
‫إجمال« َوما بَ ْينَ ُهما »فجاء بالمشرق والمغرب المعروف بالعرف ثم قال لهم « إن كنتم تعلمون‬
‫» فأحالهم على النظر العقلي ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ] 26‬اآليات ‪ 29‬إلى ‪] 30‬‬


‫ين ( ‪) 29‬‬ ‫غ ْي ِري َألَجْ عَلَنهكَ ِم َن ا ْل َم ْ‬
‫س ُجونِ َ‬ ‫قا َل لَئِ ِن ات ه َخ ْذتَ إِل َها َ‬
‫ين ) ‪( 30‬‬ ‫قا َل أ َ َولَ ْو ِجئْت ُكَ بِ َ‬
‫ش ْي ٍء ُمبِ ٍ‬
‫يظهر له المانع من تعديه عليه ‪ ،‬فلم يسع فرعون إال أن يقول له‪:‬‬

‫ص ‪263‬‬

‫‪263‬‬
‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬آية ‪] 31‬‬
‫صا ِد ِق َ‬
‫ين ) ‪( 31‬‬ ‫قا َل فَأ ْ ِ‬
‫ت ِب ِه ِإ ْن ُك ْنتَ ِم َن ال ه‬
‫حتى ال يظهر فرعون عند الضعفاء الرأي من قومه بعدم اإلنصاف ‪ ،‬فكانوا يرتابون فيه ‪،‬‬
‫وهي الطائفة التي استخفها فرعون فأطاعوه ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ‪ ( 26 ) :‬آية ‪] 32‬‬


‫ين ) ‪( 32‬‬ ‫بان ُم ِب ٌ‬ ‫فَأ َ ْلقى عَصا ُه فَ ِإذا ِه َ‬
‫ي ث ُ ْع ٌ‬
‫أي حية ظاهرة ‪ ،‬فجاءهم بما يناسب ما كانوا عليه ‪ ،‬وكذلك معجزة كل نبي هي ما يناسب‬
‫قومه ‪.‬‬
‫عصاهُ »وهي صورة ما عصى به فرعون موسى في إبائه‬ ‫‪ -‬تفسير من باب اْلشارة ‪ «-‬فَأ َ ْلقى َ‬
‫ي ث ُ ْع ٌ‬
‫بان ُم ِب ٌ‬
‫ين‪».‬‬ ‫عن إجابة دعوته« فَإِذا ِه َ‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 33‬إلى ‪] 46‬‬


‫ع ِلي ٌم ( ‪ ) 34‬يُ ِري ُد‬ ‫ْل َح ْولَهُ إِ هن هذا لَ ِ‬
‫ساح ٌر َ‬ ‫ين ( ‪ ) 33‬قا َل ِل ْل َم َ ِ‬ ‫اظ ِر َ‬ ‫ي بَ ْيضا ُء ِللنه ِ‬ ‫ع يَ َدهُ فَ ِإذا ِه َ‬‫َونَ َز َ‬
‫ون ) ‪ ( 35‬قالُوا أ َ ْر ِج ْه َوأَخاهُ َوا ْبعَ ْث فِي ا ْل َمدائِ ِن‬ ‫أ َ ْن يُ ْخ ِر َج ُك ْم ِم ْن أ َ ْر ِض ُك ْم بِسِحْ ِر ِه فَما ذا تَأ ْ ُم ُر َ‬
‫يم ) ‪( 37‬‬ ‫ع ِل ٍ‬
‫س هح ٍار َ‬ ‫ين ) ‪ ( 36‬يَأْت ُوكَ ِب ُك ِ ّل َ‬ ‫ش ِر َ‬ ‫حا ِ‬
‫ون ( ‪ ) 39‬لَعَلهنا نَت ه ِب ُع‬ ‫اس َه ْل أ َ ْنت ُ ْم ُمجْ ت َ ِمعُ َ‬ ‫وم ( ‪َ ) 38‬وقِي َل ِللنه ِ‬ ‫ت يَ ْو ٍم َم ْعلُ ٍ‬ ‫س َح َرةُ ِل ِميقا ِ‬‫فَ ُج ِم َع ال ه‬
‫س َح َرةُ قالُوا ِل ِف ْرع َْو َن أ َ ِإ هن لَنا َألَجْ را ِإ ْن ُكنها‬ ‫ين ( ‪ ) 40‬فَلَ هما جا َء ال ه‬ ‫س َح َرةَ ِإ ْن كانُوا ُه ُم ا ْلغا ِل ِب َ‬ ‫ال ه‬
‫ين ( ‪) 42‬‬ ‫ين ) ‪ ( 41‬قا َل نَعَ ْم َو ِإنه ُك ْم ِإذا لَ ِم َن ا ْل ُمقَ هر ِب َ‬ ‫نَحْ ُن ا ْلغا ِل ِب َ‬
‫ون ( ‪ ) 43‬فَأ َ ْلقَ ْوا ِحبالَ ُه ْم َو ِع ِصيه ُه ْم َوقالُوا بِ ِع هز ِة فِ ْرع َْو َن إِنها‬ ‫قا َل لَ ُه ْم ُموسى أ َ ْلقُوا ما أ َ ْنت ُ ْم ُم ْلقُ َ‬
‫س َح َرةُ‬ ‫ي ال ه‬ ‫ُون ( ‪ ) 45‬فَأ ُ ْل ِق َ‬‫ف ما يَأْفِك َ‬ ‫ي ت َ ْلقَ ُ‬ ‫ون ( ‪ ) 44‬فَأ َ ْلقى ُموسى عَصاهُ فَ ِإذا ِه َ‬ ‫لَنَحْ ُن ا ْلغا ِلبُ َ‬
‫ِين ) ‪( 46‬‬ ‫ساجد َ‬ ‫ِ‬
‫‪-‬راجع سورة طه ‪ :‬آية ‪.69‬‬

‫ص ‪264‬‬

‫ّللا ‪ ،‬وأن الذي رأوه ليس في مقدور‬


‫لما علم سحرة فرعون أن الذي جاء به موسى من عند ه‬
‫البشر ‪ ،‬فآمنوا بما جاء به موسى عن آخرهم ‪ ،‬وخروا سجدا عند هذه اآلية ‪ ،‬و ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 47‬إلى ‪] 48‬‬


‫ون ) ‪( 48‬‬‫هار َ‬
‫ب ُموسى َو ُ‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬
‫ين ( ‪َ ) 47‬ر ّ ِ‬ ‫قالُوا آ َمنها بِ َر ّ ِ‬
‫أي الرب الذي يدعو إليه موسى وهارون ‪ ،‬حتى يرتفع االلتباس ‪ ،‬فإنهم لو وقفوا على العالمين‬
‫‪ ،‬لقال فرعون ‪ :‬أنا رب العالمين ‪ ،‬إياي عنوا ‪ ،‬فزادوا رب موسى وهارون ‪ ،‬أي الذي يدعو‬
‫إليه موسى وهارون ‪ ،‬فارتفع اإلشكال ‪ ،‬فتوعدهم فرعون بالعذاب ‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 49‬إلى ‪] 80‬‬
‫طعَ هن أ َ ْي ِديَ ُك ْم‬‫ون َأل ُقَ ِ ّ‬
‫ف ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ْو َ‬ ‫سِحْ َر فَلَ َ‬ ‫عله َم ُك ُم ال ّ‬ ‫ير ُك ُم الهذِي َ‬ ‫قا َل آ َم ْنت ُ ْم لَهُ قَ ْب َل أ َ ْن آذَ َن لَ ُك ْم ِإنههُ لَ َك ِب ُ‬
‫ون ( ‪ ) 50‬إِنها‬ ‫ض ْي َر إِنها إِلى َر ِبّنا ُم ْنقَ ِلبُ َ‬ ‫ين ) ‪( 49‬قالُوا ال َ‬ ‫ص ِلّبَنه ُك ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫الف َو َأل ُ َ‬‫َوأ َ ْر ُجلَ ُك ْم ِم ْن ِخ ٍ‬
‫س ِر‬ ‫ين ( ‪َ ) 51‬وأ َ ْو َح ْينا إِلى ُموسى أ َ ْن أ َ ْ‬ ‫نَ ْط َم ُع أ َ ْن يَ ْغ ِف َر لَنا َربُّنا َخطايانا أ َ ْن ُكنها أ َ هو َل ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين ) ‪( 53‬‬ ‫ش ِر َ‬ ‫س َل فِ ْرع َْو ُن فِي ا ْل َمدائِ ِن حا ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 52‬فَأ َ ْر َ‬ ‫ِب ِعبادِي ِإنه ُك ْم ُمتهبَعُ َ‬
‫ون ( ‪) 56‬‬ ‫ون ( ‪َ ) 55‬و ِإنها لَ َج ِمي ٌع حاذ ُِر َ‬ ‫ظ َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 54‬و ِإنه ُه ْم لَنا لَغائِ ُ‬ ‫ش ْر ِذ َمةٌ قَ ِليلُ َ‬‫ُالء لَ ِ‬
‫ِإ هن هؤ ِ‬
‫يم ) ‪( 58‬‬ ‫قام ك َِر ٍ‬‫وز َو َم ٍ‬ ‫ون ( ‪َ ) 57‬و ُكنُ ٍ‬ ‫عيُ ٍ‬ ‫ت َو ُ‬ ‫فَأ َ ْخ َرجْ نا ُه ْم ِم ْن َجنها ٍ‬
‫عان قا َل‬ ‫ين ( ‪ ) 60‬فَلَ هما تَرا َءا ا ْل َج ْم ِ‬ ‫سرائِي َل ( ‪ ) 59‬فَأَتْبَعُو ُه ْم ُمش ِْرقِ َ‬ ‫كَذ ِلكَ َوأ َ ْو َرثْناها بَنِي إِ ْ‬
‫ِين ) ‪ ( 62‬فَأ َ ْو َح ْينا إِلى‬ ‫سيَ ْهد ِ‬ ‫ُون ( ‪ ) 61‬قا َل َكاله إِ هن َم ِعي َر ِبّي َ‬ ‫ْحاب ُموسى إِنها لَ ُمد َْرك َ‬ ‫أَص ُ‬
‫يم ) ‪( 63‬‬ ‫ط ْو ِد ا ْلعَ ِظ ِ‬‫ق كَال ه‬ ‫كان ُك ُّل فِ ْر ٍ‬ ‫ق فَ َ‬ ‫ض ِر ْب ِبعَصاكَ ا ْلبَحْ َر فَا ْنفَلَ َ‬ ‫ُموسى أ َ ِن ا ْ‬
‫ين (‬ ‫ين ( ‪ ) 65‬ث ُ هم أ َ ْغ َر ْقنَا ْاآل َخ ِر َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 64‬وأ َ ْن َج ْينا ُموسى َو َم ْن َمعَهُ أَجْ َم ِع َ‬ ‫َوأ َ ْزلَ ْفنا ث َ هم ْاآل َخ ِر َ‬
‫الر ِحي ُم ) ‪( 68‬‬ ‫يز ه‬ ‫ين ( ‪َ ) 67‬و ِإ هن َربهكَ لَ ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬ ‫كان أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫‪ِ ) 66‬إ هن فِي ذ ِلكَ َآليَة َوما َ‬
‫ُون ( ‪) 70‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم نَبَأ َ ِإ ْبرا ِهي َم ( ‪ِ ) 69‬إ ْذ قا َل ِأل َ ِبي ِه َوقَ ْو ِم ِه ما ت َ ْعبُد َ‬ ‫َواتْ ُل َ‬
‫ُون ) ‪( 72‬‬ ‫س َمعُونَ ُك ْم إِ ْذ ت َ ْدع َ‬ ‫ين ( ‪ ) 71‬قا َل َه ْل يَ ْ‬ ‫قالُوا نَ ْعبُ ُد أَصْناما فَنَ َظ ُّل لَها عا ِك ِف َ‬
‫ون ( ‪) 73‬‬ ‫أ َ ْو يَ ْنفَعُونَ ُك ْم أ َ ْو يَض ُُّر َ‬
‫ُون ( ‪ ) 75‬أ َ ْنت ُ ْم َوآبا ُؤ ُك ُم‬ ‫ون ( ‪ ) 74‬قا َل أ َ فَ َرأ َ ْيت ُ ْم ما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعبُد َ‬ ‫قالُوا بَ ْل َو َجدْنا آبا َءنا كَذ ِلكَ يَ ْفعَلُ َ‬
‫ِين ( ‪) 78‬‬ ‫ين ) ‪ ( 77‬الهذِي َخلَقَنِي فَ ُه َو يَ ْهد ِ‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫عد ٌُّو ِلي ِإاله َر ه‬ ‫ون ( ‪ ) 76‬فَ ِإنه ُه ْم َ‬ ‫ْاأل َ ْق َد ُم َ‬
‫ين) ‪( 80‬‬ ‫ش ِف ِ‬‫ضتُ فَ ُه َو يَ ْ‬ ‫ين ( ‪َ ) 79‬و ِإذا َم ِر ْ‬ ‫س ِق ِ‬ ‫َوالهذِي ُه َو يُ ْط ِع ُمنِي َويَ ْ‬

‫ص ‪265‬‬

‫‪265‬‬
‫[ أدب اإلضافة ]‬
‫ومن أدب إبراهيم عليه السالم قوله ‪:‬‬
‫ولم يقل يجوعني ‪.‬‬
‫ولم يقل أمرضني ‪ ،‬فأضاف الفعل المذموم والمكروه في الطبع والعادة والعرف إلى نفسه ‪،‬‬
‫إيثارا منه لجناب ربه ‪ ،‬حتى ال ينسب إليه ما جرى عليه لسان ذم ‪ ،‬كالذنب ‪ ،‬ولسان كراهة‬
‫الطبع ‪ ،‬كالمرض والجوع ‪ ،‬غيرة على الجناب اإللهي ‪ ،‬وفداء له بنفسه ‪ ،‬ثم قال« فَ ُه َو يَ ْش ِف ِ‬
‫ين‬
‫»فأضاف الشفاء إليه تعالى ‪ ،‬والمرض لنفسه ‪ ،‬وإن كان الكل من عنده ‪ ،‬ولكنه تعالى هو أدهب‬
‫ّللا على‬ ‫رسله ‪ ،‬إذ كان المرض ال تقبله النفوس ‪ ،‬والمرض شغل شاغل عن أداء ما أوجب ه‬
‫ّللا إلحساسه باأللم ‪ ،‬وهو في محل التكليف ‪ ،‬وما يحس باأللم إال الروح‬ ‫العبد أداءه من حقوق ه‬
‫الحيواني ‪ ،‬فيشغل الروح المدبر لجسده عما دعي إليه في هذه الدنيا ‪ ،‬فلهذا أضاف المرض‬
‫إليه ‪ ،‬والشفاء للحق ‪ ،‬وذلك من أدب اإلضافة واأللفاظ ‪ ،‬فالشافي مزيل األمراض ‪ ،‬ومعطي‬
‫األغراض ‪ ،‬فإن األمراض إنما تظهر أعيانها لعدم ما تطلبه األغراض ‪ ،‬فلو زال الغرض ‪،‬‬
‫لزال الطلب ‪ ،‬فكان يزول المرض ‪،‬‬
‫ورد في الخبر عنه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه قال‪:‬‬
‫[ أذهب الباس رب الناس ‪ ،‬اشف أنت الشافي ‪ ،‬ال شفاء إال شفاؤك ] وما ث هم شفاء إال شفاؤه ‪،‬‬
‫فإن الكل‬
‫ص ‪266‬‬

‫‪266‬‬
‫ين »فنص على الشافي ‪ ،‬وما ذكر شفاء لغيره ‪ ،‬فأزال‬ ‫خلقه ‪ ،‬ولهذا قال الخليل« فَ ُه َو يَ ْش ِف ِ‬
‫ّللا في األدوية من الشفاء ‪ ،‬وإزالة األمراض ‪،‬‬ ‫إبراهيم عليه السالم االحتمال ‪ ،‬لما جعل ه‬
‫ّللا عليه وسلم بقوله [ ال شفاء إال شفاؤك ] أن كل مزيل لمرض‬ ‫ويحتمل أن يريد محمد صلهى ه‬
‫ّللا الذي أودعه في ذلك المزيل ‪ ،‬فأثبت األسباب ‪،‬‬ ‫إنما هو شفاء ه‬
‫ّللا عليه وسلم مع تقرير األسباب ‪ ،‬ألن العالم ما يعرفون‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وهذا كان غرض رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ويحتمل لفظ النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا من غير سبب ‪ ،‬مع اعتقادهم أن الشافي هو ه‬ ‫شفاء ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فقال ال شفاء إال شفاؤك‬ ‫وسلم إثبات أشفية ‪ ،‬لكن ال تقوم في الفعل قيام شفاء ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فلما دخل االحتمال ‪ ،‬كان‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫واألول في التأويل أولى بمنصب رسول ه‬
‫البيان من هذا الوجه في خبر إبراهيم الخليل عليه السالم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم أن يبيهن أن األشفية التي تكون عند االستعمال أسبابها‬ ‫واقتضى مقام النبي صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ ال يتمكن رفع األسباب من العالم عادة ‪،‬‬ ‫أنها شفاء ه‬
‫ّللا ما خلق داء إال وخلق له دواء ‪ .‬وانظر إلى آداب النبوة التي ال يبلغها أدب ‪،‬‬ ‫وقد ورد أن ه‬
‫ضتُ » فهو نهاية في األدب ‪ ،‬ولم يقل ‪ :‬وإذا أمرضني ‪ ،‬لما كان‬ ‫عند قول الخليل« َو ِإذا َم ِر ْ‬
‫المرض عيبا عرفا أضاف المرض إلى نفسه ‪ ،‬إذ كان عيبا عنده ‪ ،‬فجمع عليه السالم في هذه‬
‫المسألة بين أدب نسبة المرض إلى نفسه ‪ ،‬وبين األدب في التعريف أن ذلك المرض حكم السم‬
‫إلهي من غير تصريح ‪ ،‬لكن بالتضمين واإلجمال ‪ ،‬وأضاف الشفاء إلى ربه إذ كان حسنا‬
‫ين »فنسب الشفاء إلى ربه ‪ ،‬ولم ينسب إليه المرض ‪ ،‬ألنه شر في العرف بين‬ ‫فقال« فَ ُه َو يَ ْش ِف ِ‬
‫ّللا أن نتبع ملة إبراهيم ‪ ،‬أخبر‬ ‫الناس ‪ ،‬وإن كان في طيه خير في حق المؤمن ‪ ،‬ولما أوحى ه‬
‫نبيه بحديث إبراهيم وقوله هذا تعليما له صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ليتأدب بأدبه ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم [ والشر ليس إليك ]‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فقال رسول ه‬
‫ين »بداية التحقيق‬ ‫فقول الخليل« فَ ُه َو يَ ْش ِف ِ‬
‫ّللا عليه وسلم [ ال شفاء إال شفاؤك ] نهاية النهاية ‪ ،‬فهي أت هم واإلتيان‬ ‫وقول النبي صلهى ه‬
‫ضتُ »فإن‬ ‫باألمرين أولى وأعم ‪ ،‬ومع هذا القصد من الخليل عليه السالم في قوله« َو ِإذا َم ِر ْ‬
‫الظاهر في اللفظ اإلضافة الحقيقية إليه فلذلك قال بعد قوله ‪:‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 81‬إلى ‪]82‬‬


‫ين ( ‪َ ) 81‬والهذِي أ َ ْط َم ُع أ َ ْن يَ ْغ ِف َر ِلي َخ ِطيئَتِي يَ ْو َم ال ّد ِ‬
‫ِين ) ‪( 82‬‬ ‫َوالهذِي يُ ِميتُنِي ث ُ هم يُحْ يِ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬وما‬
‫يقول إنه أخطأ ‪ ،‬وإن كان القصد األدب ‪ ،‬حيث نسب المرض لنفسه وما نسبه إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولذلك‬ ‫قصد إال األدب معه ‪ ،‬حتى ال يضيف ما هو عيب عندهم عرفا إلى ه‬

‫ص ‪267‬‬

‫‪267‬‬
‫عرف من غير تصريح ‪ ،‬لكن بالتضمين واإلجمال ولم يسم الخطيئة ما هي ‪« ،‬يَ ْو َم ال هد ِ‬
‫ِين‬ ‫ه‬
‫»يقول ‪ :‬يوم الجزاء ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 83‬إلى ‪] 99‬‬


‫ين ( ‪) 84‬‬ ‫ْق فِي ْاآل ِخ ِر َ‬ ‫سان ِصد ٍ‬ ‫ين ( ‪َ ) 83‬واجْ عَ ْل ِلي ِل َ‬ ‫صا ِل ِح َ‬ ‫ب َه ْب ِلي ُح ْكما َوأ َ ْل ِح ْقنِي ِبال ه‬ ‫َر ّ ِ‬
‫ين ( ‪َ ) 86‬وال ت ُ ْخ ِزنِي‬ ‫ضا ِلّ َ‬
‫كان ِم َن ال ه‬ ‫يم ( ‪َ ) 85‬وا ْغ ِف ْر ِأل َ ِبي ِإنههُ َ‬ ‫َواجْ عَ ْلنِي ِم ْن َو َرث َ ِة َجنه ِة النه ِع ِ‬
‫يم ( ‪) 89‬‬ ‫س ِل ٍ‬
‫ب َ‬ ‫ون ( ‪ِ ) 88‬إاله َم ْن أَتَى ه َ‬
‫ّللا ِبقَ ْل ٍ‬ ‫ون ) ‪ ( 87‬يَ ْو َم ال يَ ْنفَ ُع ما ٌل َوال بَنُ َ‬ ‫يَ ْو َم يُ ْبعَث ُ َ‬
‫ين ( ‪َ ) 91‬وقِي َل لَ ُه ْم أ َ ْي َن ما ُك ْنت ُ ْم‬ ‫ت ا ْل َج ِحي ُم ِل ْلغا ِو َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 90‬وبُ ِ ّر َز ِ‬ ‫ت ا ْل َجنهةُ ِل ْل ُمت ه ِق َ‬ ‫َوأ ُ ْز ِلفَ ِ‬
‫ون ) ‪( 93‬‬ ‫ص ُرونَ ُك ْم أ َ ْو يَ ْنت َ ِص ُر َ‬ ‫ّللا َه ْل يَ ْن ُ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ) ‪ِ ( 92‬م ْن د ِ‬ ‫ت َ ْعبُد َ‬
‫ون ( ‪) 95‬‬ ‫يس أَجْ َمعُ َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 94‬و ُجنُو ُد إِ ْب ِل َ‬ ‫غاو َ‬‫فَ ُك ْب ِكبُوا فِيها ُه ْم َوا ْل ُ‬
‫ين ( ‪) 97‬‬ ‫ضال ٍل ُم ِب ٍ‬‫اّلِل ِإ ْن ُكنها لَ ِفي َ‬ ‫ون ( ‪ ) 96‬ت َ ه ِ‬ ‫قالُوا َو ُه ْم فِيها يَ ْخت َ ِص ُم َ‬
‫ون ) ‪( 99‬‬ ‫ضلهنا ِإاله ا ْل ُمجْ ِر ُم َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 98‬وما أ َ َ‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ِإ ْذ نُ َ‬
‫س ّ ِوي ُك ْم ِب َر ّ ِ‬
‫تازوا ْاليَ ْو َم أَيُّ َها ْال ُم ْج ِر ُمونَ )‪.‬‬ ‫ّللا فيهم ‪َ (:‬و ْام ُ‬ ‫وهم أهل النار الذين هم أهلها ‪ ،‬الذين يقول ه‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 100‬إلى ‪] 101‬‬


‫يم ) ‪( 101‬‬
‫ِيق َح ِم ٍ‬
‫صد ٍ‬ ‫فَما لَنا ِم ْن شافِ ِع َ‬
‫ين ( ‪َ ) 100‬وال َ‬
‫أي شفيق ‪ ،‬فإن الحميم الصاحب الشفيق ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 102‬إلى ‪] 109‬‬


‫كان أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين (‬ ‫ين ( ‪ ) 102‬إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليَة َوما َ‬ ‫فَلَ ْو أ َ هن لَنا ك هَرة فَنَك َ‬
‫ُون ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين ( ‪ ) 105‬إِ ْذ قا َل لَ ُه ْم‬ ‫الر ِحي ُم ( ‪َ ) 104‬كذهبَتْ قَ ْو ُم نُوحٍ ا ْل ُم ْر َ‬
‫س ِل َ‬ ‫يز ه‬ ‫‪َ ) 103‬وإِ هن َربهكَ لَ ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬
‫ون ) ‪( 106‬‬ ‫ح أ َ ال تَتهقُ َ‬ ‫أ َ ُخو ُه ْم نُو ٌ‬
‫علَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر ِإ ْن‬
‫سئَلُ ُك ْم َ‬ ‫ون ) ‪َ ( 108‬وما أ َ ْ‬ ‫ّللا َوأ َ ِطيعُ ِ‬
‫ين ( ‪ ) 107‬فَاتهقُوا ه َ‬ ‫سو ٌل أ َ ِم ٌ‬
‫ِإ ِنّي لَ ُك ْم َر ُ‬
‫ين) ‪( 109‬‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬‫ي ِإاله عَلى َر ّ ِ‬ ‫أَجْ ِر َ‬

‫ص ‪268‬‬

‫‪268‬‬
‫[ طلب الرسل االجر ]‬
‫ّللا اإلنسان ال يسعى إال لنفسه ‪ ،‬ولهذا قرن بسعيه األجر حتى يسعى لنفسه ‪ ،‬بخالف من‬ ‫جعل ه‬
‫باّلل مرتبة ‪ ،‬فهم‬ ‫ال أجر له من العالم األعلى واألسفل ‪ ،‬وليس بعد الرسل ومرتبتهم في العلم ه‬
‫علَ ْي ِه »‬‫المطرقون والمنبهون ‪ ،‬ومع هذا فما منهم من رسول إال قيل له ‪ :‬قل أل همتك« ما أ َ ْسئَلُ ُك ْم َ‬
‫*أي على ما بلغتكم« ِم ْن أ َ ْج ٍر » *‪.‬‬
‫ولما كان أداء الرسائل عمال من المؤدي ألن المرسل استعمله في أداء رسالته لمن أرسله إليه ‪،‬‬
‫فوجب أجره عليه ‪ ،‬ألن المرسل إليه ما استعمله حتى يجب عليه أجره ‪ ،‬ولهذا قالت الرسل‬
‫على َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »‬ ‫ي إِ َّال َ‬‫ّللا ‪ ،‬تعريفا لألمم بما هو األمر عليه « إِ ْن أ َ ْج ِر َ‬ ‫ألممها عن أمر ه‬
‫*فإنه الذي استخدمه وأرسله ‪ ،‬فاألجر عليه ‪ ،‬فذكروا استحقاق األجر على من يستعملهم ‪ ،‬ولم‬
‫يقولوا ذلك إال عن أمره ‪،‬‬
‫علَ ْي ِه ِم ْن أ َ ْج ٍر » *‪.‬‬ ‫فإنه قال لكل رسول« قُ ْل ما أ َ ْسئَلُ ُك ْم َ‬
‫[ سورة الشعراء ‪ ( 26 ) :‬اآليات ‪ 110‬إلى ‪] 130‬‬
‫ون ( ‪ ) 111‬قا َل َوما ِع ْل ِمي ِبما‬ ‫ون ( ‪ ) 110‬قالُوا أ َ نُ ْؤ ِم ُن لَكَ َواتهبَعَكَ ْاأل َ ْرذَلُ َ‬ ‫ّللا َوأ َ ِطيعُ ِ‬ ‫فَاتهقُوا ه َ‬
‫ون ) ‪َ ( 113‬وما أَنَا بِ ِ‬
‫طار ِد‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫ون ( ‪ ) 112‬إِ ْن ِحسابُ ُه ْم إِاله عَلى َر ِبّي لَ ْو ت َ ْ‬ ‫كانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫ح لَتَكُونَ هن ِم َن‬ ‫ين ( ‪ ) 115‬قالُوا لَئِ ْن لَ ْم ت َ ْنت َ ِه يا نُو ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 114‬إِ ْن أَنَا إِاله نَذ ٌ‬
‫ِير ُمبِ ٌ‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫افتَحْ بَ ْينِي َوبَ ْينَ ُه ْم فَتْحا َونَ ِ ّجنِي‬ ‫ون ( ‪ ) 117‬فَ ْ‬ ‫ب ِإ هن قَ ْو ِمي َكذهبُ ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 116‬قا َل َر ّ ِ‬ ‫وم َ‬ ‫ا ْل َم ْر ُج ِ‬
‫ون ) ‪( 119‬‬ ‫ش ُح ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 118‬فَأ َ ْن َج ْيناهُ َو َم ْن َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْل ِك ا ْل َم ْ‬ ‫ي ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫َو َم ْن َم ِع َ‬
‫ين ( ‪) 121‬‬ ‫كان أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين ( ‪ِ ) 120‬إ هن فِي ذ ِلكَ َآليَة َوما َ‬ ‫ث ُ هم أ َ ْغ َر ْقنا بَ ْع ُد ا ْلباقِ َ‬
‫ين ( ‪ِ ) 123‬إ ْذ قا َل لَ ُه ْم أ َ ُخو ُه ْم ُهو ٌد‬ ‫س ِل َ‬ ‫الر ِحي ُم ( ‪َ ) 122‬كذهبَتْ عا ٌد ا ْل ُم ْر َ‬ ‫يز ه‬ ‫َو ِإ هن َربهكَ لَ ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬
‫ون ) ‪( 124‬‬ ‫أ َ ال تَتهقُ َ‬
‫علَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر إِ ْن‬ ‫ون ) ‪َ ( 126‬وما أ َ ْ‬
‫سئَلُ ُك ْم َ‬ ‫ّللا َوأ َ ِطيعُ ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 125‬فَاتهقُوا ه َ‬ ‫سو ٌل أ َ ِم ٌ‬ ‫إِ ِنّي لَ ُك ْم َر ُ‬
‫يع آيَة ت َ ْعبَث ُ َ‬
‫ون‬ ‫ون ِب ُك ِ ّل ِر ٍ‬‫ين ( ‪ ) 127‬أ َ ت َ ْبنُ َ‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ي ِإاله عَلى َر ّ ِ‬ ‫أَجْ ِر َ‬
‫ُون ( ‪( 129‬‬ ‫ون َمصانِ َع لَعَله ُك ْم ت َ ْخلُد َ‬ ‫) ‪َ ( 128‬وتَت ه ِخذُ َ‬
‫ين ) ‪( 130‬‬ ‫شت ُ ْم َجبه ِار َ‬ ‫شت ُ ْم بَ َط ْ‬ ‫َو ِإذا بَ َط ْ‬

‫ص ‪269‬‬

‫‪269‬‬
‫فإنه ال أحد من المخلوقين أشد بطشا وانتقاما من اإلنسان الحيوان ‪ ،‬وال مخلوق أعظم رحمة‬
‫من اإلنسان الكامل ‪ ،‬وإن كان ذا بطش شديد ‪ ،‬فاإلنسان الحيواني أشد بطشا منه ‪ ،‬ألنه يبطش‬
‫بما لم يخلق ‪ ،‬فال رحمة له فيه ‪ ،‬والحق يبطش بمن خلق ‪ ،‬فالرحمة مندرجة في بطشه حيث‬
‫كان ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ ) : 26‬اآليات ‪ 131‬إلى ‪] 155‬‬


‫ون ( ‪ ) 132‬أ َ َم هد ُك ْم ِبأ َ ْن ٍ‬
‫عام َوبَ ِن َ‬
‫ين (‬ ‫ون ( ‪َ ) 131‬واتهقُوا الهذِي أ َ َم هد ُك ْم ِبما ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫ّللا َوأ َ ِطيعُ ِ‬‫فَاتهقُوا ه َ‬
‫يم ) ‪( 135‬‬ ‫علَ ْي ُك ْم ع َ‬
‫َذاب يَ ْو ٍم ع َِظ ٍ‬ ‫خاف َ‬ ‫ون ( ‪ ) 134‬إِ ِنّي أ َ ُ‬ ‫عيُ ٍ‬ ‫ت َو ُ‬ ‫‪َ )133‬و َجنها ٍ‬
‫ين ( ‪137‬‬ ‫ق ْاأل َ هو ِل َ‬‫ين ) ‪ ( 136‬إِ ْن هذا إِاله ُخلُ ُ‬ ‫ع ْظتَ أ َ ْم لَ ْم تَك ُْن ِم َن ا ْلوا ِع ِظ َ‬ ‫علَ ْينا أ َ َو َ‬ ‫سوا ٌء َ‬ ‫قالُوا َ‬
‫ين (‬‫كان أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين ( ‪ ) 138‬فَ َكذهبُوهُ فَأ َ ْهلَ ْكنا ُه ْم إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليَة َوما َ‬ ‫) َوما نَحْ ُن ِب ُمعَذه ِب َ‬
‫الر ِحي ُم ) ‪( 140‬‬ ‫يز ه‬ ‫‪َ ) 139‬و ِإ هن َربهكَ لَ ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬
‫سو ٌل‬‫ون ( ‪ِ ) 142‬إنِّي لَ ُك ْم َر ُ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 141‬إ ْذ قا َل لَ ُه ْم أ َ ُخو ُه ْم صا ِل ٌح أ َ ال تَتهقُ َ‬ ‫س ِل َ‬ ‫َكذهبَتْ ث َ ُمو ُد ا ْل ُم ْر َ‬
‫ي ِإاله عَلى‬ ‫علَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر ِإ ْن أَجْ ِر َ‬ ‫سئَلُ ُك ْم َ‬‫ون ( ‪َ ) 144‬وما أ َ ْ‬ ‫ّللا َوأ َ ِطيعُ ِ‬‫ين ) ‪ ( 143‬فَاتهقُوا ه َ‬ ‫أ َ ِم ٌ‬
‫ين ) ‪( 145‬‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬
‫َر ّ ِ‬
‫ون ) ‪َ ( 147‬و ُز ُروعٍ َونَ ْخ ٍل َط ْلعُها‬ ‫عيُ ٍ‬ ‫ت َو ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 146‬فِي َجنها ٍ‬ ‫آمنِ َ‬ ‫ُون فِي ما ها ُهنا ِ‬ ‫أ َ تُتْ َرك َ‬
‫ون ) ‪( 150‬‬ ‫ّللا َوأ َ ِطيعُ ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 149‬فَات هقُوا ه َ‬ ‫ون ِم َن ا ْل ِجبا ِل بُيُوتا ِ‬
‫فار ِه َ‬ ‫َه ِضي ٌم ( ‪َ ) 148‬وت َ ْن ِحت ُ َ‬
‫ون ( ‪ ) 152‬قالُوا‬ ‫ص ِل ُح َ‬ ‫ض َوال يُ ْ‬ ‫ُون فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سد َ‬ ‫ِين يُ ْف ِ‬
‫ين ( ‪ ) 151‬الهذ َ‬ ‫س ِرفِ َ‬ ‫َوال ت ُ ِطيعُوا أ َ ْم َر ا ْل ُم ْ‬
‫ين (‬ ‫صا ِدقِ َ‬ ‫ت ِبآيَ ٍة ِإ ْن ُك ْنتَ ِم َن ال ه‬ ‫ين ( ‪ ) 153‬ما أ َ ْنتَ ِإاله بَش ٌَر ِمثْلُنا فَأ ْ ِ‬ ‫س هح ِر َ‬ ‫ِإنهما أ َ ْنتَ ِم َن ا ْل ُم َ‬
‫وم) ‪( 155‬‬ ‫ب يَ ْو ٍم َم ْعلُ ٍ‬ ‫ب َولَ ُك ْم ِ‬
‫ش ْر ُ‬ ‫ش ْر ٌ‬ ‫‪ ) 154‬قا َل ه ِذ ِه ناقَةٌ لَها ِ‬

‫ص ‪270‬‬

‫‪270‬‬
‫" قا َل ه ِذ ِه ناقَةٌ " يعني ناقة صالح ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 156‬إلى ‪] 193‬‬


‫ين ( ‪) 157‬‬ ‫صبَ ُحوا ناد ِِم َ‬ ‫يم ) ‪ ( 156‬فَعَقَ ُروها فَأ َ ْ‬ ‫َذاب يَ ْو ٍم ع َِظ ٍ‬ ‫وء فَيَأ ْ ُخذَ ُك ْم ع ُ‬ ‫س ٍ‬ ‫سوها بِ ُ‬ ‫َوال ت َ َم ُّ‬
‫ين ( ‪َ ) 158‬و ِإ هن َربهكَ لَ ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬
‫يز‬ ‫كان أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ذاب ِإ هن فِي ذ ِلكَ َآليَة َوما َ‬ ‫فَأ َ َخذَ ُه ُم ا ْلعَ ُ‬
‫ين ) ‪( 160‬‬ ‫س ِل َ‬ ‫وط ا ْل ُم ْر َ‬ ‫الر ِحي ُم ( ‪َ ) 159‬كذهبَتْ قَ ْو ُم لُ ٍ‬ ‫ه‬
‫ين ( ‪ ) 162‬فَاتهقُوا ه َ‬
‫ّللا‬ ‫َ‬
‫سو ٌل أ ِم ٌ‬ ‫ون ( ‪ِ ) 161‬إ ِنّي لَ ُك ْم َر ُ‬ ‫ط أ ال تَتهقُ َ‬ ‫َ‬ ‫ِإ ْذ قا َل لَ ُه ْم أ ُخو ُه ْم لُو ٌ‬
‫َ‬
‫ين ( ‪ ) 164‬أ َ‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ي إِاله عَلى َر ّ ِ‬ ‫علَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر إِ ْن أَجْ ِر َ‬ ‫سئَلُ ُك ْم َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 163‬وما أ َ ْ‬ ‫َوأ َ ِطيعُ ِ‬
‫ين ) ‪( 165‬‬ ‫ران ِم َن ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ون الذُّ ْك َ‬ ‫تَأْت ُ َ‬
‫ُون ( ‪ ) 166‬قالُوا لَئِ ْن لَ ْم ت َ ْنت َ ِه يا لُو ُ‬
‫ط‬ ‫واج ُك ْم بَ ْل أ َ ْنت ُ ْم قَ ْو ٌم عاد َ‬ ‫ق لَ ُك ْم َربُّ ُك ْم ِم ْن أ َ ْز ِ‬ ‫ون ما َخلَ َ‬ ‫َوتَذَ ُر َ‬
‫ب نَ ِ ّجنِي َوأ َ ْه ِلي ِم هما‬ ‫ين ) ‪َ ( 168‬ر ّ ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 167‬قا َل ِإ ِنّي ِلعَ َم ِل ُك ْم ِم َن ا ْلقا ِل َ‬ ‫لَتَكُونَ هن ِم َن ا ْل ُم ْخ َر ِج َ‬
‫ين ) ‪( 170‬‬ ‫ون ( ‪ ) 169‬فَنَ هج ْينا ُه َوأ َ ْهلَهُ أَجْ َم ِع َ‬ ‫يَ ْع َملُ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم َم َطرا فَسا َء‬ ‫ين ) ‪َ ( 172‬وأ َ ْم َط ْرنا َ‬ ‫ين ( ‪ ) 171‬ث ُ هم َد هم ْرنَا ْاآل َخ ِر َ‬ ‫ع ُجوزا ِفي ا ْلغا ِب ِر َ‬ ‫ِإاله َ‬
‫ين ( ‪َ ) 174‬وإِ هن َربهكَ لَ ُه َو‬ ‫كان أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫ين ( ‪) 173‬إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليَة َوما َ‬ ‫َم َط ُر ا ْل ُم ْنذَ ِر َ‬
‫الر ِحي ُم ) ‪( 175‬‬ ‫يز ه‬ ‫ا ْلعَ ِز ُ‬
‫ون ( ‪ِ ) 177‬إ ِنّي لَ ُك ْم‬ ‫ب أ َ ال تَتهقُ َ‬ ‫شعَ ْي ٌ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 176‬إ ْذ قا َل لَ ُه ْم ُ‬ ‫س ِل َ‬‫ْحاب ْاأل َ ْي َك ِة ا ْل ُم ْر َ‬ ‫ب أَص ُ‬ ‫َكذه َ‬
‫ي ِإاله‬ ‫علَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر ِإ ْن أَجْ ِر َ‬ ‫سئَلُ ُك ْم َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 179‬وما أ َ ْ‬ ‫ّللا َوأ َ ِطيعُ ِ‬ ‫ين ) ‪ ( 178‬فَاتهقُوا ه َ‬ ‫سو ٌل أ َ ِم ٌ‬ ‫َر ُ‬
‫ين ) ‪( 180‬‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫عَلى َر ّ ِ‬
‫يم ( ‪َ ) 182‬وال‬ ‫طاس ا ْل ُم ْ‬
‫ست َ ِق ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ين ( ‪َ ) 181‬و ِزنُوا ِبا ْل ِق ْ‬ ‫س ِر َ‬ ‫أ َ ْوفُوا ا ْل َك ْي َل َوال تَكُونُوا ِم َن ا ْل ُم ْخ ِ‬
‫ِين ( ‪َ ) 183‬واتهقُوا الهذِي َخلَقَ ُك ْم َوا ْل ِجبِلهةَ‬ ‫سد َ‬ ‫ض ُم ْف ِ‬ ‫اس أَشْيا َء ُه ْم َوال ت َ ْعث َ ْوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سوا النه َ‬ ‫ت َ ْب َخ ُ‬
‫ين ) ‪( 185‬‬ ‫س هح ِر َ‬ ‫ين ( ‪ ) 184‬قالُوا إِنهما أ َ ْنتَ ِم َن ا ْل ُم َ‬ ‫ْاأل َ هو ِل َ‬
‫ماء ِإ ْن‬ ‫س ِ‬ ‫سفا ِم َن ال ه‬ ‫علَ ْينا ِك َ‬ ‫س ِق ْط َ‬ ‫ين ) ‪ ( 186‬فَأ َ ْ‬ ‫ظنُّكَ لَ ِم َن ا ْلكا ِذ ِب َ‬ ‫َوما أ َ ْنتَ ِإاله بَش ٌَر ِمثْلُنا َو ِإ ْن نَ ُ‬
‫َذاب يَ ْو ِم‬ ‫ون ) ‪ ( 188‬فَ َكذهبُوهُ فَأ َ َخذَ ُه ْم ع ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 187‬قا َل َر ِبّي أ َ ْعلَ ُم ِبما ت َ ْع َملُ َ‬ ‫صا ِدقِ َ‬ ‫ُك ْنتَ ِم َن ال ه‬
‫ين ) ‪( 190‬‬ ‫كان أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ُم ْؤ ِم ِن َ‬
‫يم ( ‪ِ ) 189‬إ هن ِفي ذ ِلكَ َآليَة َوما َ‬ ‫َذاب يَ ْو ٍم ع َِظ ٍ‬‫كان ع َ‬ ‫ظله ِة ِإنههُ َ‬ ‫ال ُّ‬
‫ح‬‫الرو ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 192‬نَ َز َل بِ ِه ُّ‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫الر ِحي ُم ( ‪َ ) 191‬وإِنههُ لَت َ ْن ِزي ُل َر ّ ِ‬ ‫يز ه‬ ‫َوإِ هن َربهكَ لَ ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬
‫ين) ‪( 193‬‬ ‫ْاأل َ ِم ُ‬

‫ص ‪271‬‬

‫‪271‬‬
‫علَّ َمهُ ْالبَيانَ )‬ ‫علَّ َم ْالقُ ْرآنَ َخلَقَ ْ ِ‬
‫اإل ْنسانَ َ‬ ‫الر ْح ُ‬
‫من َ‬ ‫لما قال تعالى‪َّ ( :‬‬
‫فعلهم القرآن أين محله الذي ينزل عليه من العالم ‪ ،‬فنزل على قلب محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬
‫نزل به الروح األمين الذي هو روح القدس ‪ ،‬والروح هو الملقي إلى القلب علم الغيب على‬
‫وجه مخصوص ‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬آية ‪] 194‬‬


‫ين ( ‪) 194‬‬ ‫عَلى قَ ْل ِبكَ ِلتَك َ‬
‫ُون ِم َن ا ْل ُم ْنذ ِِر َ‬
‫[ نزول القرآن على قلب محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ]‬
‫لما نزل القرآن نزل على قلب محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وعلى قلوب التالين له دائما ‪ ،‬التي‬
‫في صدورهم في داخل أجسامهم ‪ ،‬ال أعني اللطيفة اإلنسانية التي ال تتحيز وال تقبل االتصاف‬
‫بالدخول والخروج ‪ ،‬فيقوم للنفس الناطقة القلب الذي في الصدر ‪ ،‬ليصير لها مقام المصحف‬
‫المكتوب للبصر ‪ ،‬فمن هنا تتلقاه النفس الناطقة ‪.‬‬
‫‪ -‬راجع المائدة آية ‪– 67‬‬

‫ّللا القلب الذي في داخل الجسم في صدره مصحفا وكتابا مرقوما ‪ ،‬تنظر فيه النفس‬ ‫فجعل ه‬
‫على قَ ْلبِ َك » *فظهر القرآن في قلبه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم على‬ ‫الناطقة ‪ ،‬فهذا قوله تعالى« َ‬
‫صورة لم يظهر بها في لسانه ‪،‬‬

‫ص ‪272‬‬

‫‪272‬‬
‫سده الخيال‬
‫ّللا جعل لكل موطن حكما ال يكون لغيره ‪ ،‬وظهر في القلب أحدي العين ‪ ،‬فج ه‬ ‫فإن ه‬
‫سمه ‪ ،‬فأخذه اللسان فصيره ذا حرف وصوت ‪ ،‬وقيد به سمع اآلذان ‪ ،‬ليترجم عن القرآن ‪،‬‬ ‫وق ه‬
‫ّللا ال عن الرحمن‬ ‫بما علمه الحق من البيان ‪ ،‬الذي لم يقبله إال اإلنسان ‪ ،‬فأبان أنه مترجم عن ه‬
‫‪ ،‬لما فيه من الرحمة والقهر والسلطان ‪ ،‬فقال تعالى ‪ ( :‬فَأ َ ِج ْرهُ َحتَّى يَ ْس َم َع َك َ‬
‫الم َّ ِ‬
‫ّللا (‬
‫ّللا عليه وسلم بلسانه أصواتا وحروفا ‪ ،‬سمعها األعرابي بسمع أذنه في‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫فتاله رسول ه‬
‫حال ترجمته ‪ ،‬فالكالم هّلل بال شك ‪ ،‬والترجمة للمتكلم به ‪ ،‬وال يزال القرآن ينزل على قلوب‬
‫ّللا عليه وسلم إلى يوم القيامة ‪ ،‬فنزوله في القلوب جديد ال يبلى ‪،‬‬ ‫أمة محمد صلهى ه‬
‫ّللا من حين نزوله يتلى حروفا وأصواتا إلى أن يرفع من‬ ‫فهو الوحي الدائم ‪ ،‬فال يزال كالم ه‬
‫الصدور ‪ ،‬ويمحى من المصاحف ‪ ،‬فال يبقى مترجم يقبل نزول القرآن عليه فال يبقى اإلنسان‬
‫المخلوق على الصورة« ِلت َ ُكونَ ِمنَ ْال ُم ْنذ ِِرينَ »أي المعلمين ‪ ،‬فذكر اإلنذار ‪،‬‬
‫وهكذا في قوله ( يلقي الروح على من يشاء من عباده لينذر ) من الزجر حيث ساق اإلعالم‬
‫بلفظة اإلنذار « ‪، » 1‬‬
‫فهو إعالم بزجر ‪ ،‬وهو البشير النذير ‪ ،‬والبشارة ال تكون إال عن إعالم ‪ ،‬فغلب في اإلنزال‬
‫الروحاني باب الزجر والخوف ‪ ،‬لما قام بالنفوس من الطمأنينة الموجبة إرسال الرسل ‪،‬‬
‫ّللا من نفوسهم راجعون ‪.‬‬ ‫ليعلموهم أنهم عن الدنيا إلى اآلخرة منقلبون ‪ ،‬وإلى ه‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬آية ‪] 195‬‬


‫ين ) ‪( 195‬‬‫ي ٍ ُم ِب ٍ‬
‫سان ع ََر ِب ّ‬
‫ِب ِل ٍ‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬انظر في القرآن بما أنزل على محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ال تنظر فيه بما أنزل‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم لسان‬ ‫على العرب ‪ ،‬فتخيب عن إدراك معانيه ‪ ،‬فإنه نزل بلسان رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم متكلم ‪ ،‬نزلت عن‬‫عربي مبين ‪ ،‬فإذا تكلمت في القرآن بما هو به محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن الخطاب على قدر السامع ‪ ،‬ال‬ ‫ذلك الفهم إلى فهم السامع من النبي صلهى ه‬
‫على قدر المتكلم ‪ ،‬وليس سمع النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬
‫وفهمه فيه فهم السامع من أمته فيه إذا تاله عليه ‪ -‬الفرق بين نزول القرآن على قلب النبي‬
‫ونزوله على قلب الولي ‪ -‬من جاءه القرآن عن ظهر غيب أعطي الرؤية من خلفه كما أعطيها‬
‫ّللا عليه وسلم من وجهين ‪:‬‬ ‫من أمامه ‪ ،‬إذ كان القرآن ال ينزل إال مواجهة ‪ ،‬فهو للنبي صلهى ه‬
‫وجه معتاد ‪ ،‬ووجه غير معتاد ‪ ،‬وهو للوارث من وجه غير معتاد ‪ ،‬فسمي ظهرا بحكم األصل‬
‫‪ ،‬وهو وجه بحكم الفرع ‪ ،‬والذي ينزل القرآن على قلبه ينزل بالفهم ‪ ،‬فيعرف ما يقرأ وإن كان‬
‫__________________________‬
‫) ‪( 1‬في األصل اإلنزال‪.‬‬

‫ص ‪273‬‬

‫‪273‬‬
‫بغير لسانه ‪ ،‬ويعرف معاني ما يقرأ ‪ ،‬وإن كانت تلك األلفاظ ال يعرف معانيها في غير القرآن‬
‫‪ ،‬ألنها ليست بلغته ‪ ،‬ويعرفها في تالوته إذا كان ممن ينزل القرآن على قلبه عند التالوة ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 196‬إلى ‪] 197‬‬


‫ين ( ‪ ) 196‬أ َ َولَ ْم يَك ُْن لَ ُه ْم آيَة أ َ ْن يَ ْعلَ َمهُ ُ‬
‫علَما ُء بَنِي ِإ ْ‬
‫سرائِي َل ) ‪( 197‬‬ ‫َو ِإنههُ لَ ِفي ُزبُ ِر ْاأل َ هو ِل َ‬
‫العلماء هم الذين علموا الكائنات قبل وجودها ‪ ،‬وأخبروا بها قبل حصول أعيانها ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 198‬إلى ‪] 214‬‬


‫ين ( ‪ ) 199‬كَذ ِلكَ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ما كانُوا بِ ِه ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ين ( ‪ ) 198‬فَقَ َرأَهُ َ‬ ‫ض ْاأل َ ْع َج ِم َ‬‫َولَ ْو نَ هز ْلناهُ عَلى بَ ْع ِ‬
‫ذاب ْاأل َ ِلي َم ( ‪ ) 201‬فَيَأْتِيَ ُه ْم‬ ‫ون ِب ِه َحتهى يَ َر ُوا ا ْلعَ َ‬ ‫ين ( ‪ ) 200‬ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫سلَ ْكناهُ فِي قُلُو ِ‬
‫ب ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫َ‬
‫ون ) ‪( 202‬‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫بَ ْغتَة َو ُه ْم ال يَ ْ‬
‫ون ( ‪ ) 204‬أ َ فَ َرأ َ ْيتَ ِإ ْن َمت ه ْعنا ُه ْم‬ ‫ون ( ‪ ) 203‬أ َ فَ ِبعَذا ِبنا يَ ْ‬
‫ست َ ْع ِجلُ َ‬ ‫فَيَقُولُوا َه ْل نَحْ ُن ُم ْن َظ ُر َ‬
‫ون‬‫ع ْن ُه ْم ما كانُوا يُ َمتهعُ َ‬ ‫ُون ( ‪ ) 206‬ما أ َ ْغنى َ‬ ‫عد َ‬ ‫ين ) ‪ ( 205‬ث ُ هم جا َء ُه ْم ما كانُوا يُو َ‬ ‫س ِن َ‬ ‫ِ‬
‫(‪)207‬‬
‫ين ( ‪َ ) 209‬وما تَنَ هزلَتْ بِ ِه‬ ‫ون ( ‪ِ ) 208‬ذ ْكرى َوما ُكنها ظا ِل ِم َ‬ ‫َوما أ َ ْهلَ ْكنا ِم ْن قَ ْريَ ٍة إِاله لَها ُم ْنذ ُِر َ‬
‫ون (‬ ‫س ْم ِع لَ َم ْع ُزولُ َ‬ ‫ون ( ‪ِ ) 211‬إنه ُه ْم ع َِن ال ه‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫ين ) ‪َ ( 210‬وما يَ ْنبَ ِغي لَ ُه ْم َوما يَ ْ‬ ‫هياط ُ‬‫الش ِ‬
‫‪)212‬‬
‫ين ) ‪( 214‬‬ ‫يرت َكَ ْاأل َ ْق َر ِب َ‬
‫ش َ‬ ‫ع ِ‬‫ين ( ‪َ ) 213‬وأ َ ْنذ ِْر َ‬ ‫ّللا ِإلها آ َخ َر فَتَك َ‬
‫ُون ِم َن ا ْل ُمعَذه ِب َ‬ ‫ع َم َع ه ِ‬ ‫فَال ت َ ْد ُ‬
‫ّللا عليه وسلم وقف على الصفا وجاء الناس يهرعون‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫لما نزلت هذه اآلية على رسول ه‬
‫ّللا شيئا‬ ‫إليه ‪ ،‬فقال ألكرم الناس عليه ‪ :‬يا فاطمة بنت محمد انظري لنفسك ‪ ،‬ال أغني عنك من ه‬
‫؛ وقال مثل هذه المقالة لجميع األقربين ‪ ،‬وكان عمه أبو لهب حاضرا فنفخ في يده ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫ّللا بإنذاره وال أدخل قلبه منه‬ ‫ما حصل بأيدينا مما قاله شيء ‪ ،‬وصدق أبو لهب ‪ ،‬فإنه ما نفعه ه‬
‫شيئا ‪ ،‬لما أراد به من الشقاء‪.‬‬

‫ص ‪274‬‬

‫‪274‬‬
‫[سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 215‬إلى ‪] 218‬‬
‫ص ْوكَ فَقُ ْل ِإ ِنّي بَ ِري ٌء ِم هما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ون (‬ ‫ين ( ‪ ) 215‬فَ ِإ ْن َ‬
‫ع َ‬ ‫ض َجنا َحكَ ِل َم ِن اتهبَعَكَ ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫َو ْ‬
‫اخ ِف ْ‬
‫ين تَقُو ُم ) ‪( 218‬‬ ‫يم ( ‪ ) 217‬الهذِي يَراكَ ِح َ‬ ‫الر ِح ِ‬‫يز ه‬ ‫علَى ا ْلعَ ِز ِ‬ ‫‪َ ) 216‬وت َ َو هك ْل َ‬
‫فيعلم حركاتك وسكناتك على التعيين والتفصيل ‪ ،‬وعم جميع أحوالك بقوله تعالى ‪:‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬آية ‪] 219‬‬


‫اجد َ‬
‫ِين ) ‪( 219‬‬ ‫س ِ‬‫َوتَقَلُّبَكَ ِفي ال ه‬
‫ّللا عليه وسلم في حال السجود ‪ ،‬من غير رفع‬ ‫إشارة منه تعالى إلى تنوع الحاالت عليه صلهى ه‬
‫يتخلل ذلك ‪ ،‬ولقد رفع وقام وركع ‪ ،‬وثنهى السجود ‪ ،‬ولم يثن حالة من حاالت صالته إال‬
‫السجود ‪ ،‬لشرفه في حق العبد ‪ ،‬فأكد بالتثنية في كل ركعة فرضا واجبا ‪ ،‬وركنا ال ينجبر إال‬
‫باإلتيان به ‪.‬‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬القلب إذا سجد ال يرفع أبدا ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬القلب إذا سجد ال يرفع أبدا ‪ ،‬ألن سجوده لألسماء اإللهية ال للذات ‪ ،‬فإنها هي التي‬
‫جعلته قلبا ‪ ،‬فهي تقلبه من حال إلى حال دنيا وآخرة ‪ ،‬فلهذا سمته قلبا ‪ ،‬فإذا تجلى له الحق مقلبا‬
‫‪ ،‬فيرى أنه في قبضة مقلبة ‪ ،‬وهو األسماء اإللهية التي ال ينفك مخلوق عنها ‪ ،‬فهي المتحكمة‬
‫في الخالئق ‪ ،‬فمن مشاهد لها ‪ -‬وهو الذي سجد قلبه ‪ -‬ومن غير مشاهد لها ‪ ،‬فال يسجد قلبه ‪،‬‬
‫وهو المدعي الذي يقول ‪ :‬أنا ؛ وعلى من هذا صفته يتوجه الحساب والسؤال يوم القيامة‬
‫والعقاب إن عوقب ‪ ،‬ومن سجد قلبه فال دعوى له ‪ ،‬فال حساب وال سؤال وال عقاب ‪ ،‬فال صفة‬
‫أشرف من صفة العلم ‪ ،‬فإنه المعطي السعادة في الدارين ‪ ،‬والراحة في المنزلتين ‪ .‬فإذا سجد‬
‫القلب لم يرفع ‪ ،‬ألنه سجد لربه ‪ ،‬وقبلته ربه ‪ ،‬وربه ال يزول ‪ ،‬وال ترتفع عن الوجود ربوبيته‬
‫‪ ،‬فالقلب ال يرفع رأسه من سجوده أبدا ‪ ،‬ألن قبلته ال ترتفع ‪.‬‬
‫اللهم اجعلنا ممن سجد قلبه وعرف ربه ‪.‬‬

‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 220‬إلى ‪] 224‬‬


‫ين ( ‪ ) 221‬تَنَ هز ُل عَلى ُك ِ ّل‬ ‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ( ‪َ ) 220‬ه ْل أُنَ ِبّئ ُ ُك ْم عَلى َم ْن تَنَ هز ُل الش ِ‬
‫هياط ُ‬ ‫إِنههُ ُه َو ال ه‬
‫شعَرا ُء يَتهبِعُ ُه ُم ا ْل ُ‬
‫غاو َ‬
‫ون‬ ‫ون ( ‪َ ) 223‬وال ُّ‬ ‫س ْم َع َوأ َ ْكث َ ُر ُه ْم كا ِذبُ َ‬ ‫يم ) ‪ ( 222‬يُ ْلقُ َ‬
‫ون ال ه‬ ‫اك أَثِ ٍ‬
‫أَفه ٍ‬
‫(‪)224‬‬

‫ص ‪275‬‬

‫‪275‬‬
‫فإن النظم المسمى شعرا من نفخ الشيطان ‪.‬‬
‫[ سورة الشعراء ( ‪ : ) 26‬اآليات ‪ 225‬إلى ‪] 227‬‬
‫ون ( ‪ ) 226‬إِاله الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ون ما ال يَ ْفعَلُ َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 225‬وأَنه ُه ْم يَقُولُ َ‬ ‫أ َ لَ ْم ت َ َر أَنه ُه ْم فِي ُك ِ ّل وا ٍد يَ ِهي ُم َ‬
‫ِين َظلَ ُموا‬ ‫سيَ ْعلَ ُم الهذ َ‬ ‫ص ُروا ِم ْن بَ ْع ِد ما ُ‬
‫ظ ِل ُموا َو َ‬ ‫ت َوذَك َُروا ه َ‬
‫ّللا َكثِيرا َوا ْنت َ َ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫ون ) ‪( 227‬‬ ‫ب يَ ْنقَ ِلبُ َ‬
‫ي ُم ْنقَلَ ٍ‬ ‫أَ ه‬
‫ّللا عليه وسلم لحسان بن ثابت ‪ ،‬لما أراد أن يهجو قريشا ينافح بذلك عن‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال رسول ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬لما هجته قريش ‪ ،‬وهو منها ‪ ،‬وعلم رسول ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬لحسن‬ ‫وسلم أن الذي انبعث إليه حسان ابن ثابت من هجاء قريش أن ذلك مما يرضي ه‬
‫قصده في ذلك ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ذلك إال لما رأى روح القدس الذي يجيئه ‪ ،‬قد جاء إلى‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وما علم رسول ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫حسان بن ثابت يؤيده من حيث ال يشعر ‪ ،‬ما دام ينافح عن عرض رسول ه‬
‫وسلم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم [ إني منهم ‪ ،‬فانظر ما تقول ‪ ،‬وكيف تقول ‪ ،‬وأت أبا‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فقال له رسول ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫بكر فإنه أعرف باألنساب ] فيخبرك حتى ال تقول كالما يعود على رسول ه‬
‫وسلم ‪ ،‬فتكون قد وقعت فيما وقعوا فيه ‪،‬‬
‫وّللا ألسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين ؛ ألنها ال يعلق بها‬ ‫فقال له حسان ابن ثابت ‪ :‬ه‬
‫ص ُروا‬ ‫ّللا َكثِيرا ً َوا ْنت َ َ‬ ‫ت َوذَ َك ُروا َّ َ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫شيء من العجين ‪ ،‬قال تعالى« ِإ َّال الَّذِينَ آ َمنُوا َو َ‬
‫ع ِملُوا ال َّ‬
‫ظ ِل ُموا »فلم يجعل الحق تعالى للشيطان على حسان سبيال ‪ ،‬فإنه كان ينافح بنظمه‬ ‫ِم ْن بَ ْع ِد ما ُ‬
‫ي‬ ‫سيَ ْعلَ ُم الَّذِينَ َ‬
‫ظلَ ُموا أ َ َّ‬ ‫ّللا عليه وسلم بتأييد الروح القدسي« َو َ‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫عن عرض رسول ه‬
‫ّللا قط بالمآب إليه سوءا‬ ‫ّللا عنده حسن المآب ‪ ،‬وما قرن ه‬ ‫ب يَ ْنقَ ِلبُونَ »وغاية األمر أن ه‬ ‫ُم ْنقَلَ ٍ‬
‫ظلَ ُموا أ َ َّ‬
‫ي‬ ‫سيَ ْعلَ ُم الَّذِينَ َ‬ ‫تصريحا ‪ ،‬وغاية ما ورد في ذلك في معرض التهديد في الفهم األول« َو َ‬
‫ّللا ما لم يكونوا يحتسبون قبل المؤاخذة لمن غفر له ‪ ،‬وبعد‬ ‫ب يَ ْنقَ ِلبُونَ »فسيعلمون من كرم ه‬ ‫ُم ْنقَلَ ٍ‬
‫ّللا واسعة ‪ ،‬ونعمته سابغة جامعة ‪ ،‬وأنفس العالم فيها‬ ‫المؤاخذة النقطاعها عنهم ‪ ،‬فرحمة ه‬
‫طامعة ‪ ،‬ألنه كريم من غير تحديد ‪ ،‬ومطلق الجود من غير تقييد‪.‬‬

‫ص ‪276‬‬

‫‪276‬‬
‫) ‪ ( 27‬سورة النّمل مكيّة‬
‫الرحيم‬ ‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 4‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬ ‫بِ ْ‬
‫صالةَ‬ ‫ون ال ه‬‫ِين يُ ِقي ُم َ‬ ‫ين ( ‪ ) 2‬الهذ َ‬ ‫ين ( ‪ُ ) 1‬هدى َوبُشْرى ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ب ُم ِب ٍ‬‫آن َو ِكتا ٍ‬ ‫طس تِ ْلكَ آياتُ ا ْلقُ ْر ِ‬
‫ون ِب ْاآل ِخ َر ِة َزيهنها لَ ُه ْم أَعْمالَ ُه ْم‬
‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫الزكاةَ َو ُه ْم ِب ْاآل ِخ َر ِة ُه ْم يُوقِنُ َ‬
‫ون ( ‪ِ ) 3‬إ هن الهذ َ‬ ‫ون ه‬ ‫َويُ ْؤت ُ َ‬
‫ون ) ‪( 4‬‬ ‫فَ ُه ْم يَ ْع َم ُه َ‬
‫جاء الحق بنون الكناية عن نفسه في قوله ‪ «:‬زَ يَّنَّا »‪ ،‬ونسب الحيرة إليهم بقوله« يَ ْع َم ُهونَ »أي‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو تنبيه أن يعتقد ذلك ‪ ،‬وأنه بقضائه‬ ‫يحارون بهذا التزيين لمن ينسبونه ‪ ،‬فال فاعل إال ه‬
‫وقدره ‪ ،‬إذ كل شيء بيده‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 5‬إلى ‪] 8‬‬


‫آن ِم ْن‬‫ون ( ‪َ ) 5‬و ِإنهكَ لَتُلَقهى ا ْلقُ ْر َ‬ ‫س ُر َ‬‫ب َو ُه ْم ِفي ْاآل ِخ َر ِة ُه ُم ْاأل َ ْخ َ‬‫سو ُء ا ْلعَذا ِ‬‫ِين لَ ُه ْم ُ‬‫أ ُ ْول ِئكَ الهذ َ‬
‫ب‬
‫شها ٍ‬ ‫سآتِي ُك ْم ِم ْنها بِ َخبَ ٍر أ َ ْو آتِي ُك ْم بِ ِ‬
‫ستُ نارا َ‬ ‫يم ( ‪ ) 6‬إِ ْذ قا َل ُموسى ِأل َ ْه ِل ِه إِ ِنّي آنَ ْ‬ ‫ع ِل ٍ‬‫يم َ‬‫لَد ُْن َح ِك ٍ‬
‫ّللا‬
‫حان ه ِ‬ ‫س ْب َ‬ ‫وركَ َم ْن فِي النه ِار َو َم ْن َح ْولَها َو ُ‬ ‫ِي أ َ ْن بُ ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 7‬فَلَ هما جا َءها نُود َ‬ ‫قَبَ ٍس لَعَله ُك ْم ت َ ْ‬
‫ص َطلُ َ‬
‫ين ) ‪( 8‬‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬
‫َر ّ ِ‬
‫لما خرج موسى عليه السالم ساعيا ألهله ‪ ،‬لما كانوا يحتاجون إليه من النار ‪ ،‬وشغل بطلبها‬
‫ّللا له في عين صورة‬ ‫الذي تقتضيه بشريته ‪ ،‬نودي في عين حاجته ‪ ،‬الفتقاره إليها ‪ ،‬فتجلى ه‬
‫ار َو َم ْن َح ْولَها‬ ‫ور َك َم ْن ِفي النَّ ِ‬ ‫ِي »ناداه منها« أ َ ْن بُ ِ‬ ‫حاجته« فَلَ َّما جا َءها »أي جاء إليها« نُود َ‬
‫سبْحانَ َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫»فبسعيه على عياله ‪ ،‬واستفراغه ‪ ،‬ناداه الحق وكلمه في عين حاجته وهي النار« َو ُ‬
‫َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »‬
‫ّللا قضاء مآربه ‪ ،‬فليقض‬ ‫‪ -‬نصيحة ‪ -‬اعلم أن ج هل الخير في السعي على الغير ‪ ،‬فمن أراد من ه‬
‫حاجة صاحبه ‪ ،‬وإن لم يستند فيها إلى جانبه ‪ ،‬ولو ذهب غير مذاهبه‪.‬‬

‫ص ‪277‬‬

‫‪277‬‬
‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬آية ‪] 9‬‬
‫يز ا ْل َح ِكي ُم ( ‪) 9‬‬ ‫يا ُموسى ِإنههُ أَنَا ه‬
‫ّللاُ ا ْلعَ ِز ُ‬
‫[ تجلى الحق لموسى عليه السالم في عين حاجته ]‬
‫فسبحان من عال في نزوله ‪ ،‬ونزل في علوه ‪ ،‬ثم لم يكن واحدا منهما ‪ ،‬ولم يكن إال هما ‪ ،‬ال‬
‫إله إال هو العزيز الحكيم ‪ ،‬فيعرف معرفة ال يشهد معروفها ‪ ،‬فإنه سبحانه تجلى لموسى عليه‬
‫السالم في عين حاجته ‪ ،‬فلم تكن نارا ‪ ،‬فال يرى الحق إال في االفتقار ‪ ،‬وال يتجلى إال في‬
‫صور االعتقادات وفي الحاجات ‪ ،‬وقلنا في ذلك من قصيدة لنا ‪:‬كنار موسى يراها عين حاجته‬
‫* وهي اإلله ولكن ليس يدريه‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬آية ‪] 10‬‬


‫ف‬ ‫ق عَصاكَ فَلَ هما َرآها ت َ ْهت َ ُّز كَأَنهها َج ٌّ‬
‫ان َولهى ُم ْد ِبرا َولَ ْم يُعَ ِقّ ْب يا ُموسى ال ت َ َخ ْ‬
‫ف ِإ ِنّي ال يَخا ُ‬ ‫َوأ َ ْل ِ‬
‫ون ( ‪) 10‬‬ ‫سلُ َ‬‫َي ا ْل ُم ْر َ‬
‫لَد ه‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬قلبت العصا ثعبانا ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬قلبت العصا ثعبانا ألن جزاء سيئة سيئة مثلها ‪ ،‬وهل جزاء اإلحسان إال اإلحسان ‪،‬‬
‫فجاءهم بما يناسب ما كانوا عليه ‪ ،‬وكذلك معجزة كل نبي هي ما يناسب قومه ‪ ،‬وخاف موسى‬
‫وهو في حال التمكين ‪ ،‬عقابا لقوله ‪ :‬إن معي ربي سيهدين ‪ ،‬فلما قدم نفسه كان الخوف‬
‫مصاحبا له ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪11‬إلى ‪] 14‬‬


‫ور َر ِحي ٌم ( ‪َ ) 11‬وأَد ِْخ ْل يَدَكَ فِي َج ْيبِكَ ت َ ْخ ُرجْ‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫وء فَ ِإ ِنّي َ‬‫س ٍ‬ ‫إِاله َم ْن َظلَ َم ث ُ هم بَ هد َل ُح ْ‬
‫سنا بَ ْع َد ُ‬
‫ين ( ‪ ) 12‬فَلَ هما‬ ‫س ِق َ‬ ‫ت إِلى فِ ْرع َْو َن َوقَ ْو ِم ِه إِنه ُه ْم كانُوا قَ ْوما فا ِ‬ ‫س ِع آيا ٍ‬ ‫وء فِي تِ ْ‬‫س ٍ‬‫غ ْي ِر ُ‬ ‫بَ ْيضا َء ِم ْن َ‬
‫س ُه ْم ُ‬
‫ظ ْلما‬ ‫ست َ ْيقَنَتْها أ َ ْنفُ ُ‬
‫ين ( ‪َ ) 13‬و َج َحدُوا ِبها َوا ْ‬ ‫جا َءتْ ُه ْم آياتُنا ُم ْب ِص َرة قالُوا هذا سِحْ ٌر ُم ِب ٌ‬
‫ِين ( ‪) 14‬‬ ‫سد َ‬ ‫كان عاقِبَةُ ا ْل ُم ْف ِ‬‫ف َ‬ ‫ظ ْر َك ْي َ‬ ‫علُ ًّوا فَا ْن ُ‬
‫َو ُ‬
‫« َو َج َحدُوا ِبها »الجاحد هنا هو الكاذب ‪ ،‬ألنه عالم بكذبه في المواطن التي كلهف أن يصدق‬
‫س ُه ْم »التيقن ‪ :‬هو‬ ‫فيها ‪ ،‬واإلقرار في ذلك األمر المطلوب منه المعلوم عنده« َوا ْست َ ْيقَنَتْها أ َ ْنفُ ُ‬
‫استقرار العلم في النفس ‪ ،‬فلو ال ما علموا ‪ ،‬ما تيقنوا أنها آيات ‪ ،‬يعني براهين‬

‫ص ‪278‬‬

‫‪278‬‬
‫ّللا للمرسل إليهم على‬ ‫ّللا ‪ ،‬فمع الدالالت التي نصبها ه‬ ‫على صدق الرسل فيما أخبروا به عن ه‬
‫صدق رسله واستيقنوها ‪ ،‬حملهم سلطان الحسد الغالب عليهم ‪ ،‬أن يجحدوا ما هم به عالمون‬
‫موقنون بصدقهم ‪ ،‬من حيث الداللة ‪ ،‬ال من حيث نور اإليمان المقذوف في القلب ‪ ،‬فإنه لم‬
‫يحصل عندهم من ذلك النور شيء ‪ ،‬فعلم أن اإليمان ال تعطيه إقامة الدليل ‪ ،‬بل هو نور إلهي‬
‫ّللا في قلب من شاء من عباده ‪ ،‬وقد يكون عقيب الدليل ‪ ،‬وقد ال يكون هناك دليل أصال ‪،‬‬ ‫يلقيه ه‬
‫وهؤالء عرفوا الحق ‪ ،‬وجحدوا بما دلهم عليهم ‪ ،‬فهؤالء جاحدون معاندون ‪ ،‬ثم ذكر تعالى‬
‫علُ ًّوا »على من أرسل إليهم ‪ ،‬فاندرج في ذلك‬ ‫ظ ْلما ً »أي ظلموا بذلك أنفسهم« َو ُ‬ ‫العلة فقال ‪ُ «:‬‬
‫ّللا من طلب علوا في األرض ‪ ،‬فإنه من رئاسة النفوس ‪ ،‬فقال ‪ «:‬فَا ْن ُ‬
‫ظ ْر‬ ‫ّللا فذم ه‬
‫علوهم على ه‬
‫ْف كانَ عاقِبَةُ ْال ُم ْف ِسدِينَ »ولما كان ال يلزم العالم بالحق اإلقرار به في الظاهر ‪ ،‬وإنما‬ ‫َكي َ‬
‫يستلزمه التصديق به في الباطن ‪ ،‬فهو مصدق به وإن كذهبه باللسان ‪ ،‬فقد عمل بما علم ‪ ،‬وهو‬
‫التصديق ‪ ،‬لكن ما كل عمل يعطي عموم النجاة ‪ ،‬بل يعطي من النجاة قدرا مخصوصا من‬
‫عموم أو خصوص ‪ .‬وأي آية كانت للعرب معجزة مثل القرآن ؟‬
‫تاب ِب ْال َح ه ِ‬
‫ق )‪.‬‬ ‫ّللا ن ََّز َل ْال ِك َ‬
‫وقد قال تعالى فيه ‪ (:‬ذ ِل َك ِبأ َ َّن َّ َ‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 15‬إلى ‪] 16‬‬


‫ين (‬ ‫ير ِم ْن ِعبا ِد ِه ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ضلَنا عَلى َكثِ ٍ‬ ‫ّلِل الهذِي فَ ه‬‫مان ِع ْلما َوقاال ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫سلَ ْي َ‬
‫داو َد َو ُ‬ ‫َولَقَ ْد آت َ ْينا ُ‬
‫ط ْي ِر َوأُوتِينا ِم ْن ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْي ٍء ِإ هن‬ ‫ق ال ه‬
‫ع ِلّ ْمنا َم ْن ِط َ‬ ‫داو َد َوقا َل يا أَيُّ َها النه ُ‬
‫اس ُ‬ ‫مان ُ‬‫سلَ ْي ُ‬ ‫ث ُ‬ ‫) ‪َ 15‬و َو ِر َ‬
‫ين ) ‪( 16‬‬ ‫ض ُل ا ْل ُم ِب ُ‬
‫هذا لَ ُه َو ا ْلفَ ْ‬
‫النطق سار في العالم كله ‪ ،‬وال يختص به اإلنسان ‪ ،‬كما جعلوه فصله المقوم له بأنه حيوان‬
‫ناطق ‪ ،‬فالكشف ال يقول بخصوص هذا الح هد في اإلنسان ‪ ،‬وإنما حد اإلنسان بالصورة اإللهية‬
‫خاصة ‪ ،‬ومن ليس له هذا الحد فليس بإنسان ‪ ،‬وإنما هو حيوان يشبه في الصورة ظاهر‬
‫اإلنسان ‪ ،‬فاطلب لصاحب هذا الوصف حدا يخصه ‪ ،‬كما طلبته لسائر الحيوان ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 17‬إلى ‪] 19‬‬


‫ُون ( ‪َ ) 17‬حتهى إِذا أَت َ ْوا عَلى وا ِد‬ ‫وزع َ‬ ‫ط ْي ِر فَ ُه ْم يُ َ‬
‫اْل ْن ِس َوال ه‬ ‫مان ُجنُو ُدهُ ِم َن ا ْل ِج ِّن َو ْ ِ‬
‫سلَ ْي َ‬
‫ش َر ِل ُ‬‫َو ُح ِ‬
‫ون (‬ ‫سلَ ْي ُ‬
‫مان َو ُجنُو ُدهُ َو ُه ْم ال يَ ْ‬
‫شعُ ُر َ‬ ‫النه ْم ِل قالَتْ نَ ْملَةٌ يا أَيُّ َها النه ْم ُل ا ْد ُخلُوا َمسا ِكنَ ُك ْم ال يَحْ ِط َمنه ُك ْم ُ‬
‫ي َوعَلى‬ ‫علَ ه‬‫شك َُر نِ ْع َمت َكَ الهتِي أ َ ْنعَ ْمتَ َ‬‫ب أ َ ْو ِز ْعنِي أ َ ْن أ َ ْ‬
‫ضاحكا ِم ْن قَ ْو ِلها َوقا َل َر ّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ ) 18‬فَتَبَ ه‬
‫س َم‬
‫ين) ‪( 19‬‬ ‫صا ِل ِح َ‬‫َي َوأ َ ْن أ َ ْع َم َل صا ِلحا ت َ ْرضاهُ َوأَد ِْخ ْلنِي ِب َرحْ َمتِكَ فِي ِعبا ِدكَ ال ه‬ ‫وا ِلد ه‬

‫ص ‪279‬‬

‫‪279‬‬
‫[ ال ترهب على الضعيف ]‬
‫ّللا ‪ ،‬فهم بين سائل في الصالح ‪ ،‬مثل سليمان‬
‫األنبياء وإن كانوا صالحين في نفس األمر عند ه‬
‫ّللا ‪ ،‬مثل يحيى وعيسى وإبراهيم ومحمد‬
‫عليه السالم ‪ ،‬ومشهود له به من الحق بشرى من ه‬
‫عليهم السالم ‪ ،‬فإن االسم الصالح من خصائص العبودية‬
‫ضاحكا ً ِم ْن قَ ْو ِلها »الضعيف الذي ليس له قوة مقاومتك ‪ ،‬ال ترهب عليه ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬إشارة ‪ «-‬فَتَبَ َّ‬
‫س َم‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 20‬إلى ‪] 21‬‬


‫شدِيدا أ َ ْو‬
‫ع ِذّبَنههُ عَذابا َ‬
‫ين ( ‪َ ) 20‬أل ُ َ‬ ‫ي ال أ َ َرى ا ْل ُه ْد ُه َد أ َ ْم َ‬
‫كان ِم َن ا ْلغائِبِ َ‬ ‫ط ْي َر فَقا َل ما ِل َ‬ ‫َوتَفَقه َد ال ه‬
‫ين ( ‪) 21‬‬ ‫س ْل ٍ‬
‫طان ُمبِ ٍ‬ ‫َأل َ ْذبَ َحنههُ أ َ ْو لَيَأْتِيَ ِنّي بِ ُ‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬ال تعمل إال عن بينة من ربك]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬ال تعمل إال عن بينة من ربك كما فعل سليمان ‪ ،‬وقد كان الحق مع الهدهد ‪ ،‬فلو‬
‫عذبه قبل البينة لظلمه ‪ ،‬فال تعجل أبدا بصفات القهر منك حتى يتبين لك موطنها ‪ ،‬وأما صفات‬
‫الرحمة فأطلقها وال تقيدها ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪) : 27‬اآليات ‪ 22‬إلى ‪] 23‬‬


‫غ ْي َر بَ ِعي ٍد فَقا َل أ َ َح ْطتُ ِبما لَ ْم ت ُ ِح ْط ِب ِه َو ِجئْت ُكَ ِم ْن َ‬
‫سبَ ٍإ ِبنَبَ ٍإ يَ ِق ٍ‬
‫ين ( ‪ِ ) 22‬إ ِنّي َو َج ْدتُ‬ ‫َث َ‬ ‫فَ َمك َ‬
‫ش ع َِظي ٌم ) ‪( 23‬‬ ‫ش ْي ٍء َولَها ع َْر ٌ‬ ‫ام َرأَة ت َ ْم ِل ُك ُه ْم َوأُوتِيَتْ ِم ْن ُك ِ ّل َ‬
‫ْ‬
‫المرأة هي بلقيس ‪ ،‬قيل ‪ :‬هي متولدة بين الجن واإلنس ‪ ،‬فإن أمها من اإلنس وأباها من الجن ‪،‬‬
‫ولو كان أبوها من اإلنس وأمها من الجن لكانت والدتها عندهم ‪ ،‬وكانت تغلب عليها الروحانية‬
‫ع ِظي ٌم »فهو سرير ملكها وهو لها عظيم‪.‬‬ ‫ش َ‬ ‫ع ْر ٌ‬‫‪ ،‬ولهذا ظهرت بلقيس عندنا« َولَها َ‬

‫ص ‪280‬‬

‫‪280‬‬
‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬آية ‪] 24‬‬
‫س ِبي ِل‬
‫ع ِن ال َّ‬ ‫ْطان أَعْمالَ ُه ْم فَ َ‬
‫ص َّد ُه ْم َ‬ ‫شي ُ‬ ‫ّللا َوزَ يَّنَ لَ ُه ُم ال َّ‬
‫ُون َّ ِ‬ ‫َو َج ْدتُها َوقَ ْو َمها يَ ْس ُجدُونَ ِلل َّ‬
‫ش ْم ِس ِم ْن د ِ‬
‫فَ ُه ْم ال يَ ْهتَدُونَ ) ‪( 24‬‬
‫ّللا وصراطه ‪ ،‬ولما كان الخبء النباتي تخرجه الشمس من‬ ‫فصدهم عن السبيل الذي هو قول ه‬
‫ّللا فيه من الرطوبة ‪ ،‬فجمع‬ ‫ّللا فيها من الحرارة ‪ ،‬ومساعدة الماء بما أعطى ه‬ ‫األرض بما أودع ه‬
‫بين الحرارة ومنفعل البرودة ‪ ،‬حتى ال تستقل الشمس بالفعل ‪ ،‬فظهرت الحياة في الحي‬
‫ّللا بإدراك المياه ‪ ،‬كان يرى للماء السلطنة‬ ‫العنصري ‪ ،‬وكان الهدهد ‪ -‬دون الطير ‪ -‬قد خصه ه‬
‫على بقية العناصر تعظيما لنفسه ‪ ،‬وحماية لمقامه ‪ ،‬حيث اختص بعلمه ليشهد له بالعلم بأشرف‬
‫األشياء ‪ ،‬حيث كان العرش المستوي عليه الرحمن على الماء ‪ ،‬فكان الهدهد يحامي عن مقامه‬
‫ّللا منه كل شيء‬ ‫‪ ،‬ووجد قوما يعبدون الشمس ‪ ،‬وهي على النقيض من طبع الماء ‪ ،‬الذي جعل ه‬
‫حي ‪ ،‬وعلم أنه لوال حرارة الشمس ما خرج الخبء ‪ ،‬وأنها مساعدة للماء ‪ ،‬فأدركته الغيرة في‬
‫ّللا »ينبه على‬ ‫ُون َّ ِ‬‫المنافر فوشى إلى سليمان عليه السالم بعابديها ‪ ،‬وزاد للتغليظ بقوله ‪ِ «:‬م ْن د ِ‬
‫موضع الغيرة ‪ ،‬والشمس وإن أخرجت خبء األرض بحرارتها ‪ ،‬فهي تخبأ الكواكب بإشراقها‬
‫‪ ،‬وتظهر المحسوسات األرضية بشروقها ‪ ،‬فلها حالة الخبء واإلظهار ‪ ،‬وبها حد الليل والنهار‬
‫‪ ،‬فزاحمت من يخرج الخبء في السماوات واألرض ‪ ،‬ويعلم ما يخفون وما يعلنون ‪ ،‬فابتلى‬
‫ّللا الماء فأصبح غورا ‪ ،‬وابتلى الشمس فأمست آفلة ‪ ،‬وفجر العيون فأظهر خبء الماء ‪ ،‬وفار‬ ‫ه‬
‫التنور فأظهر خبء الشمس ‪ ،‬فأخرج الخبء في السماوات واألرض فقال الهدهد ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬آية ‪] 25‬‬


‫ون َوما ت ُ ْع ِلنُ َ‬
‫ون (‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َويَ ْعلَ ُم ما ت ُ ْخفُ َ‬ ‫ج ا ْل َخ ْب َء فِي ال ه‬
‫سماوا ِ‬ ‫ّلِل الهذِي يُ ْخ ِر ُ‬ ‫أَاله يَ ْ‬
‫س ُجدُوا ِ ه ِ‬
‫‪)25‬‬
‫يقول إن الشمس التي يسجدون لها ‪ ،‬وإن اعتقدوا أنها تعلم ما يعلنون ‪ ،‬فالسجود لمن يعلم ما‬
‫يخفون وما يعلنون أولى ‪ ،‬ثم إنهم يسجدون للشمس لكونها تخرج لهم بحرارتها ما خبأت‬
‫ّللا لهم ‪ :‬ينبغي لكم أن تسجدوا للذي يخرج الخبء في‬ ‫األرض من النبات ‪ ،‬فقال ه‬

‫ص ‪281‬‬

‫‪281‬‬
‫السماوات ‪ ،‬وهو إخراجه ما ظهر من الكواكب بعد أفولها وخبئها ‪ ،‬ثم يظهرها طالعة من ذلك‬
‫ض » ما يخرجه من نباتها ‪ ،‬فالشمس ليس لها ذلك ‪ ،‬بل لظهورها يكون‬ ‫الخبء وفي « ْاأل َ ْر ِ‬
‫فاّلل أولى بأن يسجد له من سجودكم للشمس ‪ ،‬فإن‬ ‫خبء ما في السماوات من الكواكب ‪ ،‬ه‬
‫ّللا في‬ ‫ّللا كحكم الكواكب في األفول والطلوع ‪ ،‬فطلوعها من الخبء الذي يخرجه ه‬ ‫حكمها عند ه‬
‫السماء ‪ ،‬مثل سائر الكواكب ‪.‬‬
‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬آية ‪] 26‬‬
‫يم ) ‪( 26‬‬ ‫ب ا ْلعَ ْر ِش ا ْلعَ ِظ ِ‬‫ّللاُ ال ِإلهَ ِإاله ُه َو َر ُّ‬
‫ه‬
‫فوسع كل شيء رحمة وعلما ‪ ،‬واستوى على العرش العظيم ‪ ،‬إذ حكم على فلك الشمس بدورته‬
‫‪ ،‬وعلى الماء باستقراره وجريته ‪ ،‬فهما في كل درجة في خبء وظهور ‪ ،‬فو هحده الظهور‬
‫ّللاُ ال ِإلهَ‬
‫بظهوره ‪ ،‬وو هحده الخبء بسدل ستوره ‪ ،‬فعلم سبحانه ما يخفون وما يعلنون ‪ ،‬فهو« َّ‬
‫ِإ َّال ُه َو َربُّ ْالعَ ْر ِش ْالعَ ِظي ِم »‪ .‬وهذا هو التوحيد الثاني والعشرون في القرآن ‪،‬‬
‫[ توحيد الخبء ]‬
‫وهو توحيد الخبء ‪ ،‬وهو من توحيد الهوية ‪ ،‬والسجدة مختلف في موضعها ‪ ،‬فقيل ‪ :‬عند‬
‫قوله« ت ُ ْع ِلنُونَ »وقيل ‪ :‬عند قوله« َربُّ ْالعَ ْر ِش ْالعَ ِظ ِيم »وهي سجدة رجحان ‪ ،‬فإن الدليل هنا‬
‫ّللا أرجح منه في الداللة على ألوهة الشمس حين اتخذتموها إلها لما ذكرناه ‪.‬‬ ‫في جناب ه‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬آية ‪] 27‬‬


‫ين ) ‪( 27‬‬‫صد َْقتَ أ َ ْم ُك ْنتَ ِم َن ا ْلكا ِذ ِب َ‬
‫ظ ُر أ َ َ‬
‫سنَ ْن ُ‬
‫قا َل َ‬
‫فإن األخبار تشهد للمؤمن باإليمان والبهتان ‪ ،‬والدليل خبر الهدهد فيما أخبر به سليمان ‪ ،‬فإن‬
‫شهد له العيان ‪ ،‬أو الضرورة من الجنان ‪ ،‬وقع اإليمان ‪ ،‬وإن كذبه ألحقه بالبهتان ‪ ،‬فاألخبار ‪،‬‬
‫محك ومعيار ‪ ،‬تشهد لها اآلثار الصادقة ‪ ،‬واألنوار الشارقة ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 28‬إلى ‪] 29‬‬


‫ون ( ‪ ) 28‬قالَتْ يا أَيُّ َها ا ْل َم ََل ُ‬ ‫اذ َه ْب ِب ِكتا ِبي هذا فَأ َ ْل ِق ْه ِإلَ ْي ِه ْم ث ُ هم ت َ َو هل َ‬
‫ع ْن ُه ْم فَا ْن ُ‬
‫ظ ْر ما ذا يَ ْر ِجعُ َ‬ ‫ْ‬
‫تاب ك َِري ٌم ) ‪( 29‬‬ ‫ي ِك ٌ‬ ‫إِ ِنّي أ ُ ْل ِق َ‬
‫ي إِلَ ه‬
‫من حكمة بلقيس وعلو علمها كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب ‪ ،‬وما عملت ذلك إال لتعلم‬
‫أصحابها أن لها اتصاال إلى أمور ال يعلمون طريقها ‪ ،‬ألنه إذا جهل طريق األخبار‬

‫ص ‪282‬‬

‫‪282‬‬
‫الواصل إلى الملك ‪ ،‬خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرفاتهم ‪ ،‬فال يتصرفون إال في أمر‬
‫إذا وصل إلى سلطانهم عنهم يأمنون غائلة ذلك التصرف ‪ ،‬فلو تعين على يد من تصل األخبار‬
‫إلى ملكهم لصادقوه وأعظموا له الرشا حتى يفعلوا ما يريدون ‪ ،‬وال يصل ذلك إلى ملكهم ‪،‬‬
‫ُ‬
‫ي »ولم تسم من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها‬ ‫فكان قولها« أ ْل ِق َ‬
‫ي ِإلَ َّ‬
‫تاب َك ِري ٌم »أي يكرم عليها ‪.‬‬
‫وخواص مدبريها ‪ ،‬وبهذا استحقت التقدم عليهم« ِك ٌ‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬آية ‪]30‬‬


‫الر ِحيم ِ) ‪( 30‬‬ ‫من ه‬
‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬ ‫سلَ ْي َ‬
‫مان َوإِنههُ بِ ْ‬ ‫إِنههُ ِم ْن ُ‬
‫الر ِح ِيم " ]‬
‫من َّ‬ ‫الر ْح ِ‬ ‫[ قدم سليمان عليه السالم اسمه على قوله " َوإِنَّهُ بِس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫الر ِح ِيم »ألن ذلك أدب وقته‬ ‫من َّ‬‫الر ْح ِ‬ ‫قدم سليمان عليه السالم اسمه على قوله« َو ِإنَّهُ بِس ِْم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫وشرع وقته ‪ ،‬بالنسبة إلى أهل ملته وزمانه ‪ ،‬فكان ذلك اصطالحهم في ذلك الزمان ‪ ،‬فلم‬
‫تقتض الحكمة أن يخرج عن عادة أهل زمانه ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 31‬إلى ‪] 40‬‬


‫قاطعَة‬‫ين ( ‪ ) 31‬قالَتْ يا أَيُّ َها ا ْل َم ََل ُ أ َ ْفتُونِي فِي أ َ ْم ِري ما ُك ْنتُ ِ‬ ‫ي َوأْتُونِي ُم ْ‬
‫س ِل ِم َ‬ ‫علَ ه‬ ‫أَاله ت َ ْعلُوا َ‬
‫ظ ِري ما ذا‬ ‫شدِي ٍد َو ْاأل َ ْم ُر ِإلَ ْي ِك فَا ْن ُ‬ ‫ُون ( ‪ ) 32‬قالُوا نَحْ ُن أُولُوا قُ هو ٍة َوأُولُوا بَأ ْ ٍس َ‬ ‫ش َهد ِ‬ ‫أ َ ْمرا َحتهى ت َ ْ‬
‫سدُوها َو َجعَلُوا أ َ ِع هزةَ أ َ ْه ِلها أ َ ِذلهة َوكَذ ِلكَ‬ ‫ين ( ‪ ) 33‬قالَتْ ِإ هن ا ْل ُملُوكَ ِإذا َد َخلُوا قَ ْريَة أ َ ْف َ‬ ‫تَأ ْ ُم ِر َ‬
‫ون ) ‪( 35‬‬ ‫سلُ َ‬ ‫ناظ َرةٌ ِب َم يَ ْر ِج ُع ا ْل ُم ْر َ‬‫سلَةٌ ِإلَ ْي ِه ْم ِب َه ِديه ٍة فَ ِ‬
‫ون ( ‪َ ) 34‬و ِإ ِنّي ُم ْر ِ‬ ‫يَ ْفعَلُ َ‬
‫ون (‬ ‫ّللاُ َخ ْي ٌر ِم هما آتا ُك ْم بَ ْل أ َ ْنت ُ ْم ِب َه ِديه ِت ُك ْم ت َ ْف َر ُح َ‬ ‫ي ه‬ ‫مان قا َل أ َ ت ُ ِمدُّونَ ِن ِبما ٍل فَما آتا ِن َ‬ ‫سلَ ْي َ‬ ‫فَلَ هما جا َء ُ‬
‫ون ( ‪37‬‬ ‫ار ِج ْع إِلَ ْي ِه ْم فَلَنَأْتِيَنه ُه ْم بِ ُجنُو ٍد ال قِبَ َل لَ ُه ْم بِها َولَنُ ْخ ِر َجنه ُه ْم ِم ْنها أ َ ِذلهة َو ُه ْم صا ِغ ُر َ‬ ‫) ‪ْ 36‬‬
‫ين ( ‪ ) 38‬قا َل ِع ْف ِريتٌ ِم َن ا ْل ِج ِّن‬ ‫شها قَ ْب َل أ َ ْن يَأْتُونِي ُم ْ‬
‫س ِل ِم َ‬ ‫) قا َل يا أَيُّ َها ا ْل َملَؤُا أَيُّ ُك ْم يَأْتِينِي بِعَ ْر ِ‬
‫ين ( ‪ ) 39‬قا َل الهذِي ِع ْن َدهُ ِع ْل ٌم ِم َن‬ ‫ي أ َ ِم ٌ‬
‫علَ ْي ِه لَقَ ِو ٌّ‬ ‫قامكَ َو ِإ ِنّي َ‬‫أَنَا آتِيكَ ِب ِه قَ ْب َل أ َ ْن تَقُو َم ِم ْن َم ِ‬
‫ض ِل َر ِبّي‬ ‫ست َ ِق ًّرا ِع ْن َدهُ قا َل هذا ِم ْن فَ ْ‬ ‫ب أَنَا آتِيكَ ِب ِه قَ ْب َل أ َ ْن يَ ْرت َ هد ِإلَ ْيكَ َط ْرفُكَ فَلَ هما َرآهُ ُم ْ‬ ‫ا ْل ِكتا ِ‬
‫ي ك َِري ٌم) ‪( 40‬‬ ‫س ِه َو َم ْن َكفَ َر فَ ِإ هن َر ِبّي َ‬
‫غ ِن ٌّ‬ ‫شك ُُر ِلنَ ْف ِ‬ ‫شك ََر فَ ِإنهما يَ ْ‬‫شك ُُر أ َ ْم أ َ ْكفُ ُر َو َم ْن َ‬ ‫ِليَ ْبلُ َو ِني أ َ أ َ ْ‬

‫ص ‪283‬‬

‫‪283‬‬
‫ب " وهو آصف بن برخيا ]‬ ‫[ " قا َل الَّذِي ِع ْن َدهُ ِع ْل ٌم ِمنَ ْال ِكتا ِ‬
‫ب »وهو آصف بن برخيا ‪ ،‬وكان يعلم االسم األعظم ‪ ،‬الذي‬ ‫" قا َل الَّذِي ِع ْن َدهُ ِع ْل ٌم ِمنَ ْال ِكتا ِ‬
‫يفعل بالخاصية ‪ ،‬ولوال الكتاب ما علم ذلك ‪،‬‬
‫ط ْرفُ َك »فظهر بهذا األمر تعظيما‬‫يك بِ ِه قَ ْب َل أ َ ْن يَ ْرت َ َّد ِإلَي َْك َ‬
‫قال لسليمان عليه السالم ‪ «:‬أَنَا آتِ َ‬
‫لقدر سليمان عليه السالم عند أهل بلقيس وسائر أصحابه وما طوي عن سليمان عليه السالم‬
‫العلم بهذا االسم ‪ ،‬وإنما طوي عنه اإلذن في التصرف به ‪ ،‬تنزيها لمقامه ‪ ،‬فإنه رسول‬
‫مصرف العين إلى من أرسل إليه ‪ ،‬فما ظهر آصف بالقوة على اإلتيان بالعرش دون سليمان‬
‫عليه السالم إال ليعلم الحق أن شرف سليمان عظيم ‪ ،‬إذ كان لمن هو حسنة من حسناته هذا‬
‫القدر ‪ ،‬فكان ذلك من آصف بن برخيا إعالم الغير ‪ ،‬بأن التلميذ التابع ‪ ،‬إذا كان أمره بهذه‬
‫المثابة ‪ ،‬فما ظنك بالشيخ ؟ فيبقى قدر الشيخ مجهوال في غاية التعظيم ‪ ،‬فلو ظهر على سليمان‬
‫عليه السالم هذا الفعل ‪ ،‬لتوهم أن هذا غايته ‪ ،‬وظهور هذا الفعل على يد صاحبه أتم في حقه ‪،‬‬
‫إذ كان هذا التابع مصدقا به ‪ ،‬وقائما في خدمته بين يديه تحت أمره ونهيه ‪ ،‬فيزيد المطلوب‬
‫رغبة في هذا الرسول ‪ ،‬إذا رأى بركته قد عادت على تابعيه ‪ ،‬فيرجو هذا الداخل أن يكون له‬
‫بالدخول في أمره ما كان لهذا التابع ‪ ،‬والنفس مجبولة على الطمع ‪ ،‬وحب الرئاسة والتقدم«‬
‫ط ْرفُ َك »فإنه معلوم بالقدر الزماني ‪ ،‬أن رجوع الطرف إلى الناظر به أسرع‬ ‫قَ ْب َل أ َ ْن يَ ْرت َ َّد ِإلَي َْك َ‬
‫من قيام القائم من مجلسه ‪ ،‬ألن حركة البصر في اإلدراك إلى ما يدركه أسرع من قيام حركة‬
‫الجسم فيما يتحرك منه ‪ ،‬فإن الزمان الذي يتحرك فيه البصر عين الزمان الذي يتعلق بمبصره‬
‫مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور ‪ ،‬فإن زمان فتح البصر زمان تعلقه بفلك الكواكب الثابتة‬
‫‪ ،‬وزمان رجوع طرفه إليه هو عين زمان عدم إدراكه ‪ ،‬والقيام من مقام اإلنسان ليس كذلك ‪،‬‬
‫أي ليس له هذه السرعة‪.‬‬

‫ص ‪284‬‬

‫‪284‬‬
‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 41‬إلى ‪]42‬‬
‫ُون ( ‪ ) 41‬فَلَ هما جا َءتْ ِقي َل أ َ‬ ‫ُون ِم َن الهذ َ‬
‫ِين ال يَ ْهتَد َ‬ ‫ظ ْر أ َ ت َ ْهتَدِي أ َ ْم تَك ُ‬ ‫قا َل نَ ِ ّك ُروا لَها ع َْرشَها نَ ْن ُ‬
‫هكَذا ع َْرش ُِك قالَتْ كَأَنههُ ُه َو َوأُوتِينَا ا ْل ِع ْل َم ِم ْن قَ ْب ِلها َو ُكنها ُم ْ‬
‫س ِل ِم َ‬
‫ين ) ‪( 42‬‬
‫ش ِك ؟‬‫ع ْر ُ‬‫لما قامت لبلقيس شبهة بعد المسافة ‪ ،‬وقيل لها« أ َ ه َكذا َ‬
‫ت ‪َ :‬كأَنَّهُ ُه َو »وما كان إال هو ‪ ،‬ولكن حجبها بعد المسافة ‪ ،‬وحكم العادة ‪ ،‬وجهلها بقدر‬ ‫قالَ ْ‬
‫سليمان عليه السالم عند ربه ‪ ،‬فهذا حجبها أن تقول ‪ :‬هو هو ؛‬
‫فقالت ‪َ «:‬كأَنَّهُ ُه َو » وهو هو ‪ ،‬فجهلها أدخل كاف التشبيه فما شبهته إال بنفسه وعينه ال بغيره‬
‫‪ ،‬وإنما شوش عليها بعد المسافة المعتاد ‪ ،‬ولو شاهدت االقتدار اإللهي لعلمت أنه هو ‪ ،‬كما كان‬
‫هو من غير زيادة ‪،‬‬
‫فقولها‪َ " :‬كأَنَّهُ ُه َو " حصل لها من وقوفها مع الحركة المعهودة في قطع المسافة البعيدة ‪،‬‬
‫وعلمت بعد ذلك أنه هو ال غيره ‪ ،‬وهذا القول الذي صدر منها يدل عندي أنها لم تكن كما قيل‬
‫متولدة بين اإلنس والجان ‪ ،‬إذ لو كانت كذلك لما بعد عليها مثل هذا ‪ ،‬من حيث علمها بأبيها ‪،‬‬
‫وما تجده من نفسها من القوة على ذلك ‪ ،‬حيث كان أبوها من الجان على ما قيل ‪ .‬فهذا شهود‬
‫حاصل ‪ ،‬وعين مشهودة ‪ ،‬وعلم ما حصل ‪ ،‬ألن متعلق العلم المطلوب هنا إنما هو نسبة هذا‬
‫العرش المشهود إليها كما هو في نفس األمر ‪ ،‬ولم تعلم ذلك ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ ) : 27‬آية ‪] 43‬‬


‫ّللا ِإنهها كانَتْ ِم ْن قَ ْو ٍم كافِ ِر َ‬
‫ين ) ‪( 43‬‬ ‫صدهها ما كانَتْ ت َ ْعبُ ُد ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫َو َ‬
‫فلو شاهدت االقتدار اإللهي لعلمت أنه هو ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬آية ‪] 44‬‬


‫ح ُم َم هر ٌد ِم ْن‬ ‫ص ْر ٌ‬‫شفَتْ ع َْن ساقَ ْيها قا َل ِإنههُ َ‬ ‫سبَتْهُ لُ هجة َو َك َ‬‫ح فَلَ هما َرأَتْهُ َح ِ‬ ‫قِي َل لَ َها ا ْد ُخ ِلي ال ه‬
‫ص ْر َ‬
‫ين ( ‪) 44‬‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬‫ّلِل َر ّ ِ‬ ‫سلَ ْي َ‬
‫مان ِ ه ِ‬ ‫سلَ ْمتُ َم َع ُ‬ ‫سي َوأ َ ْ‬ ‫ب ِإ ِنّي َظلَ ْمتُ نَ ْف ِ‬ ‫ير قالَتْ َر ّ ِ‬ ‫وار َ‬ ‫قَ ِ‬
‫ص ْر َح » وكان الصرح أملس ال أمت فيه « فَلَ َّما َرأَتْهُ َح ِسبَتْهُ لُ َّجةً »أي ماء‬ ‫« ِقي َل لَ َها ا ْد ُخ ِلي ال َّ‬
‫ير » من‬ ‫وار َ‬ ‫ع ْن ساقَيْها " حتى ال يصيب الماء ثوبها « قا َل إِنَّهُ َ‬
‫ص ْر ٌح ُم َم َّر ٌد ِم ْن قَ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫شف َ ْ‬‫" َو َك َ‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ‬ ‫سلَيْمانَ » أي إسالم سليمان" ِ َّ ِ‬ ‫ظلَ ْمتُ نَ ْف ِسي َوأ َ ْسلَ ْمتُ َم َع ُ‬ ‫ت َربه ِ إِ ِنهي َ‬ ‫زجاج« قالَ ْ‬
‫" فما انقادت لسليمان ‪ ،‬وإنما انقادت هّلل رب العالمين ‪ ،‬وسليمان من العالمين ‪،‬‬

‫ص ‪285‬‬

‫‪285‬‬
‫سلَيْمانَ »فما يمر بشيء من العقائد إال مرت به‬ ‫فكان إسالم بلقيس إسالم سليمان إذ قالت« َم َع ُ‬
‫معتقدة ذلك‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬لما قالت بلقيس في عرشها " َكأَنَّهُ ُه َو " ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬لما قالت بلقيس في عرشها« َكأَنَّهُ ُه َو »عثور على علمها بتجديد الخلق في كل‬
‫زمان فأتت بكاف التشبيه ‪ ،‬وأراها صرح القوارير كأنه لجة ‪ ،‬وما كان لجة ‪ ،‬كما أن العرش‬
‫المرئي ليس عين العرش من حيث الصورة لقول سليمان عليه السالم« نَ ِ هك ُروا لَها َ‬
‫ع ْرشَها »‪،‬‬
‫والجوهر واحد ‪ ،‬وهذا سار في العالم كله أي تجديد الخلق مع األنفاس‬
‫ع ْن ساقَيْها " ]‬
‫ت َ‬‫شف َ ْ‬
‫[ ‪ -‬إشارة – " َو َك َ‬
‫ع ْن ساقَيْها »أي بينت أمرها ‪ ،‬ومنه كشف عن ساق األمر ‪.‬‬ ‫ت َ‬ ‫شف َ ْ‬
‫‪-‬إشارة ‪َ «-‬و َك َ‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 45‬إلى ‪] 50‬‬


‫ون ( ‪ ) 45‬قا َل يا‬ ‫يقان يَ ْخت َ ِص ُم َ‬ ‫ّللا فَ ِإذا ُه ْم فَ ِر ِ‬ ‫س ْلنا ِإلى ث َ ُمو َد أَخا ُه ْم صا ِلحا أ َ ِن ا ْعبُدُوا ه َ‬ ‫َولَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫ون ( ‪ ) 46‬قالُوا‬ ‫ّللا لَعَله ُك ْم ت ُ ْر َح ُم َ‬
‫ون ه َ‬ ‫ست َ ْغ ِف ُر َ‬ ‫سنَ ِة لَ ْو ال ت َ ْ‬ ‫س ِيّئ َ ِة قَ ْب َل ا ْل َح َ‬ ‫قَ ْو ِم ِل َم ت َ ْ‬
‫ست َ ْع ِجلُ َ‬
‫ون ِبال ه‬
‫سعَةُ‬ ‫كان فِي ا ْل َمدِينَ ِة تِ ْ‬ ‫ون ( ‪َ ) 47‬و َ‬ ‫ّللا بَ ْل أ َ ْنت ُ ْم قَ ْو ٌم ت ُ ْفتَنُ َ‬
‫طيه ْرنا بِكَ َوبِ َم ْن َمعَكَ قا َل طائِ ُر ُك ْم ِع ْن َد ه ِ‬ ‫ا ه‬
‫اّلِل لَنُبَ ِيّتَنههُ َوأ َ ْهلَهُ ث ُ هم لَنَقُولَ هن‬
‫س ُموا بِ ه ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 48‬قالُوا تَقا َ‬ ‫ص ِل ُح َ‬ ‫ض َوال يُ ْ‬ ‫ُون فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫سد َ‬ ‫َر ْه ٍط يُ ْف ِ‬
‫ون ) ‪( 49‬‬ ‫ِل َو ِل ِيّ ِه ما ش َِهدْنا َم ْه ِلكَ أ َ ْه ِل ِه َو ِإنها لَصا ِدقُ َ‬
‫ون ) ‪( 50‬‬ ‫شعُ ُر َ‬‫َو َمك َُروا َم ْكرا َو َمك َْرنا َم ْكرا َو ُه ْم ال يَ ْ‬
‫" َو ُه ْم ال يَ ْشعُ ُرونَ " أن عين ما اعتقدوه أنه مكرهم هو مكري بهم ‪ ،‬ووجود المكر اإللهي‬
‫ّللا مكر‬ ‫بالماكرين من حيث ال يشعرون ال يكون إال في الدنيا ‪ ،‬فإنهم في اآلخرة يعرفون أن ه‬
‫بهم في الدنيا ‪ ،‬بما بسط لهم فيها مما كان فيه هالكهم ‪ ،‬فهنا في الدنيا وقع المكر بهم ‪ ،‬حيث‬
‫ّللا بهم وهم‬ ‫وقع المكر منهم ‪ ،‬بل في بعض الوقائع أو أكثرها بل كلها أن عين مكرهم هو مكر ه‬
‫ال يشعرون‪.‬‬
‫ّللا به من حيث ال يشعر ‪ ،‬وقد يشعر بذلك المكر غير‬ ‫واعلم أن كل ممكور به إنما يمكر ه‬
‫الممكور به ‪ ،‬فإنه تعالى قال ‪َ «:‬و ُه ْم ال يَ ْشعُ ُرونَ » فمضمر" ُه ْم " هو المضمر في مكروا ‪،‬‬
‫ّللا بهؤالء هو عين مكرهم الذي اتصفوا به ‪ ،‬وهم ال يشعرون ‪ ،‬وهذا المكر اإللهي‬ ‫فكان مكر ه‬
‫ّللا في أمر‬ ‫إذا شعر به الممكور به زال كونه مكرا ‪ ،‬إال في حال واحد ‪ ،‬وذلك إذا شعر بمكر ه‬
‫أقامه فيه ‪ ،‬وأقام عليه ‪ ،‬وإقامته عليه بعد العلم أنه من مكر‬

‫ص ‪286‬‬

‫‪286‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ولم يزل اسم المكر عن الذي أقام على األمر الذي كان ال يشعر به أنه مكر‬ ‫ّللا مكر من ه‬
‫ه‬
‫ّللا في إقامته على ذلك األمر في حقه ‪ ،‬ثم قد يمكر بهم بأمر زائد على مكرهم ‪ ،‬فإنه‬ ‫من ه‬
‫أرسله سبحانه نكرة فقال ‪َ ":‬و َم َك ْرنا َم ْكرا ً " فدخل فيه عين مكرهم ‪ ،‬ومكر آخر زائد على‬
‫مكرهم ‪ ،‬ومن المكر اإللهي ما يقصد به ضرر العبد ‪ ،‬ومنه ما ال يقصد به ضرر العبد ‪ ،‬وإنما‬
‫يكون لحكمة أخرى ‪ ،‬يكون فيها سعادة العبد ‪ ،‬فإنه لوال المكر الخفي لما صح تكليف ‪ ،‬وال‬
‫ّللا إياه األعمال والسمع‬
‫ّللا المحمود في الممكور به ‪ ،‬تكليف ه‬ ‫طلب جزاء ‪ ،‬فإنه من مكر ه‬
‫ّللا ال‬
‫والطاعة له فيما كلف به ‪ ،‬واألمر يعطي في نفسه أن األعمال خلق هّلل في العبد ‪ ،‬وأن ه‬
‫يكلف نفسه ‪ ،‬وليس العامل إال هو وهذا قد شعر به بعض الناس ‪ ،‬وأقاموا على العمل وثابروا‬
‫عليه ‪ ،‬أعني عمل الخيرات‬
‫[ ‪ -‬نصيحة ‪ -‬من اعتمد على غير الحق ‪ ،‬جعل نصرته فيه مكرا من حيث ال يشعر ]‬
‫‪-‬نصيحة ‪ -‬من اعتمد على غير الحق ‪ ،‬جعل نصرته فيه مكرا من حيث ال يشعر ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 51‬إلى ‪] 59‬‬


‫ين ( ‪ ) 51‬فَتِ ْلكَ بُيُوت ُ ُه ْم خا ِويَة بِما‬ ‫كان عاقِبَةُ َم ْك ِر ِه ْم أَنها َد هم ْرنا ُه ْم َوقَ ْو َم ُه ْم أَجْ َم ِع َ‬ ‫ف َ‬ ‫ظ ْر َك ْي َ‬ ‫فَا ْن ُ‬
‫ون ( ‪َ ) 53‬ولُوطا‬ ‫ِين آ َمنُوا َوكانُوا يَتهقُ َ‬ ‫ون ) ‪َ ( 52‬وأ َ ْن َج ْينَا الهذ َ‬ ‫َظلَ ُموا إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليَة ِلقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُم َ‬
‫شه َْوة ِم ْن د ِ‬
‫ُون‬ ‫الرجا َل َ‬ ‫ون ِ ّ‬‫ون ) ‪ ( 54‬أ َ ِإنه ُك ْم لَتَأْت ُ َ‬ ‫فاحشَةَ َوأ َ ْنت ُ ْم ت ُ ْب ِص ُر َ‬ ‫ون ا ْل ِ‬ ‫ِإ ْذ قا َل ِلقَ ْو ِم ِه أ َ تَأْت ُ َ‬
‫ون ) ‪( 55‬‬ ‫ساء بَ ْل أ َ ْنت ُ ْم قَ ْو ٌم تَجْ َهلُ َ‬ ‫ال ِنّ ِ‬
‫ون ( ‪) 56‬‬ ‫ناس يَت َ َط هه ُر َ‬‫وط ِم ْن قَ ْريَتِ ُك ْم ِإنه ُه ْم أ ُ ٌ‬ ‫واب قَ ْو ِم ِه ِإاله أ َ ْن قالُوا أ َ ْخ ِر ُجوا آ َل لُ ٍ‬ ‫كان َج َ‬ ‫فَما َ‬
‫علَ ْي ِه ْم َم َطرا فَسا َء َم َط ُر‬ ‫ين ) ‪َ ( 57‬وأ َ ْم َط ْرنا َ‬ ‫ام َرأَتَهُ قَد ْهرناها ِم َن ا ْلغا ِب ِر َ‬ ‫فَأ َ ْن َج ْينا ُه َوأ َ ْهلَهُ ِإاله ْ‬
‫ُون ( ‪59‬‬ ‫آّلِلُ َخ ْي ٌر أ َ هما يُش ِْرك َ‬
‫ص َطفى ه‬ ‫ِين ا ْ‬ ‫سال ٌم عَلى ِعبا ِد ِه الهذ َ‬ ‫ّلِل َو َ‬ ‫ين ( ‪ ) 58‬قُ ِل ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬ ‫ا ْل ُم ْنذَ ِر َ‬
‫)‬
‫ّلل »اعلم أن الحمد والمحامد هي عواقب الثناء ‪ ،‬ولهذا يكون آخرا في‬ ‫« قُ ِل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬

‫ص ‪287‬‬

‫‪287‬‬
‫ّللا عليه وسلم في‬ ‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ )وقوله صلهى ه‬‫األمور ‪ ،‬كما ورد أن آخر دعواهم( أ َ ِن ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫الحمد ‪ :‬إنهها تمأل الميزان ‪ ،‬أي هي آخر ما يجعل في الميزان ‪ ،‬وذلك ألن التحميد يأتي عقيب‬
‫األمور ‪ ،‬ففي السراء يقال ‪ :‬الحمد هّلل المنعم المفضل ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو على قسمين ‪،‬‬ ‫وفي الضراء يقال ‪ :‬الحمد هّلل على كل حال ؛ والحمد هو الثناء على ه‬
‫ثناء عليه بما هو له ‪ ،‬كالتسبيح والتكبير والتهليل ‪ ،‬وثناء عليه بما يكون منه ‪ ،‬وهو الشكر على‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه المثني على‬ ‫ما أسبغ من اآلالء والنعم ‪ ،‬وله العواقب فإن مرجع الحمد ليس إال إلى ه‬
‫العبد والمثنى عليه ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أنت كما أثنيت على نفسك ]‬ ‫وهو قوله صلهى ه‬
‫وهو الذي أثنى به العبد عليه ‪ ،‬فرد الثناء له من كونه مثنيا اسم فاعل ‪ ،‬ومن كونه مثنيا عليه‬
‫ّللا‬
‫اسم مفعول ‪ ،‬فعاقبة الحمد في األمرين له تعالى ‪ .‬وتقسيم آخر ‪ ،‬وهو أن الحمد يرد من ه‬
‫مطلقا ومقيدا في اللفظ ‪ ،‬وإن كان مقيدا بالحال ‪ ،‬فإنه ال يصح في الوجود إطالق فيه ‪ ،‬ألنه ال‬
‫بد من باعث على الحمد ‪ ،‬وذلك الباعث هو الذي قيده وإن لم يتقيد لفظا ‪ " [،‬قُ ِل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل " ]‬
‫ّلل »فلم يقيد ‪ ،‬وأما المقيد فال بد أن يكون مقيدا بصفة فعل ‪،‬‬ ‫كأمره في قوله تعالى ‪ «:‬قُ ِل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫كقوله ( الحمد هّلل الذي خلق السماوات واألرض )‬
‫تاب )( والحمد هّلل فاطر السماوات ) وقد يكون مقيدا‬ ‫ع ْب ِد ِه ْال ِك َ‬ ‫على َ‬ ‫ّلل الَّذِي أ َ ْنزَ َل َ‬‫وكقوله( ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل الَّذِي لَ ْم يَت َّ ِخ ْذ َولَدا ً )‪.‬‬ ‫بصفة تنزيه ‪ ،‬كقوله( ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬

‫واعلم أن الحمد لما كان يعطي المزيد للحامد ‪ ،‬علمنا أن الحمد بكل وجه شكر ‪ ،‬كذلك ما‬
‫ّللا ‪ ،‬وال نحمده إال بما‬
‫أعطى المزيد من األذكار فهو شكر ‪ ،‬فهو حمد كله ‪ ،‬ألنه ثناء على ه‬
‫أعلمنا أن نحمده به ‪ ،‬فحمده مبناه على التوقيف ‪ ،‬وقد خالفنا في ذلك جماعة من علماء الرسوم‬
‫‪ ،‬ال من العلماء اإللهيين ‪ ،‬فإن التلفظ بالحمد على جهة القربة ال يصح إال من جهة الشرع ‪ ،‬فال‬
‫يتمكن أن يقال على جهة القربة وإن عقل أنه خير إال حتى يقول الحق اذكروني ‪ ،‬فإما أن‬
‫يطلق بكل ذكر ينسب إليه الحسن في العرف ‪ ،‬وهو من مكارم األخالق ‪ ،‬وإما أن يقيده فيعين‬
‫ّللا بما هو فاعل ثناء عرفي يثني به المخلوق على الخالق ‪ ،‬ما لم ينه‬
‫ذكرا خاصا فالثناء على ه‬
‫عنه إذا كان ذلك الثناء مما يعظم في العالم ‪ ،‬فقد يكون من حيث ما هو فاعل وليس بعظيم في‬
‫العالم ‪ ،‬فإذا ذكر بما هذا مثله نكر ‪ ،‬ومثاله أن يقول ‪ :‬الحمد هّلل خالق كل شيء ‪ ،‬فيدخل فيه كل‬
‫ه‬
‫معظم ومحقهر ‪ ،‬ومثال المعظم في العرف أن تقول ‪ :‬الحمد هّلل الذي خلق السماوات ‪،‬‬ ‫مخلوق‬
‫ومثل ذلك ‪ ،‬وال ينبغي أن يعين في الثناء خلق المحقر عرفا ‪ ،‬والمستقذر طبعا ‪ ،‬وإن دخل في‬
‫عموم كل‬

‫ص ‪288‬‬

‫‪288‬‬
‫شيء ‪ ،‬ولكن إذا عين ال يقتضيه األدب بل ينسب معيهنه إلى سوء األدب ‪ ،‬أو فساد العقيدة ‪ ،‬مع‬
‫صحة ذلك ‪ ،‬والكل منه ونعمته ‪ ،‬ولوال حقارة ذلك بالعرف لم نقل به ‪ ،‬فإني ما أرى شيئا ليس‬
‫ّللا به حيث أبرزه في الوجود ‪ ،‬فأعطاه الخير ‪ ،‬فليس‬ ‫عندي بعظيم ‪ ،‬ألني انظر بعين اعتناء ه‬
‫عندنا أمر محتقر ‪ ،‬فالكل نعمته ظاهرة وباطنة ‪ ،‬فظاهرة ما شوهد منها ‪ ،‬وباطنة ما علم ولم‬
‫ّللا وأهل النظر المستقيم مما ليس‬
‫يشهد ‪ ،‬وظاهرة التعظيم عرفا ‪ ،‬وباطنة التعظيم عند أهل ه‬
‫طفى »االصطفاء ال يكون إال بعد الخلق ‪ ،‬فإنه‬ ‫على ِعبا ِد ِه الَّذِينَ ا ْ‬
‫ص َ‬ ‫سال ٌم َ‬
‫بعظيم في الظاهر« َو َ‬
‫ما كل خلق مصطفى ‪ ،‬كما أنه ما كل مصطفى نبي ‪ ،‬وكل نبي مصطفى ‪ ،‬والمصطفون‬
‫بمنزلة الصفي من المغنم ‪ ،‬وهم نصيب الحق من الخلق ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 60‬إلى ‪] 62‬‬


‫ق ذاتَ بَ ْه َج ٍة ما َ‬
‫كان‬ ‫ماء ماء فَأ َ ْنبَتْنا ِب ِه َحدائِ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ض َوأ َ ْن َز َل لَ ُك ْم ِم َن ال ه‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫أ َ هم ْن َخلَ َ‬
‫ض قَرارا َو َجعَ َل‬ ‫ون ) ‪ ( 60‬أ َ هم ْن َجعَ َل ْاأل َ ْر َ‬ ‫ش َج َرها أ َ ِإلهٌ َم َع ه ِ‬
‫ّللا بَ ْل ُه ْم قَ ْو ٌم يَ ْع ِدلُ َ‬ ‫لَ ُك ْم أ َ ْن ت ُ ْن ِبتُوا َ‬
‫ّللا بَ ْل أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون‬ ‫حاجزا أ َ ِإلهٌ َم َع ه ِ‬ ‫ي َو َجعَ َل بَ ْي َن ا ْلبَحْ َر ْي ِن ِ‬ ‫س َ‬‫ِخاللَها أ َ ْنهارا َو َجعَ َل لَها َروا ِ‬
‫ض أ َ إِلهٌ َم َع ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫سو َء َويَجْ عَلُ ُك ْم ُخلَفا َء ْاأل َ ْر ِ‬
‫ف ال ُّ‬ ‫ش ُ‬ ‫ض َط هر إِذا دَعاهُ َويَ ْك ِ‬ ‫يب ا ْل ُم ْ‬‫( ‪ ) 61‬أ َ هم ْن يُ ِج ُ‬
‫ون ) ‪( 62‬‬ ‫قَ ِليال ما تَذَك ُهر َ‬
‫ّللا في دعائهم‬ ‫إن المضطر هو الذي دعا ربه عن ظهر فقر إليه ‪ ،‬وما منع الناس اإلجابة من ه‬
‫إياه إال كونهم يدعونه عن ظهر غنى ‪ ،‬اللتفاتهم إلى األسباب وهم ال يشعرون ‪ ،‬وينتجه عدم‬
‫اإلخالص ‪ .‬والمضطر المضمون له اإلجابة مخلص مخلص ‪ ،‬ما عنده التفات إلى غير من‬
‫ّللا تعالى قد ضمن‬ ‫توجه إليه ‪ ،‬فمن دعا عقيب عبودية االضطرار فقمن أن يستجاب له ‪ ،‬فإن ه‬
‫اإلجابة لمن اضطر في سؤاله ‪ -‬تحقيق ‪ -‬كل مخلوق االضطرار يصحبه دائما ألنه حقيقته ‪،‬‬
‫ومع اضطراره فقد كلهف ‪ ،‬فالذي ينبغي له أن يقف عندما كلهف ‪ ،‬فإن االضطرار المطلق ال‬
‫يرتفع عنه ‪ ،‬وإنما يرتفع عنه اضطرار خاص إلى كذا ‪ ،‬فجميع حركات الكون من جهة الحقيقة‬
‫اضطرارية مجبور فيها ‪ ،‬وإن كان االختيار في الكون موجودا نعرفه ‪ ،‬ولكن ث هم علم آخر‬
‫علمنا به أن المختار مجبور في اختياره ‪ ،‬بل تعطي الحقائق أن ال مختار ‪ ،‬ألنا رأينا‬

‫ص ‪289‬‬

‫‪289‬‬
‫االختيار من المختار اضطراريا ‪ ،‬أي ال بد أن يكون مختارا ‪ ،‬فاالضطرار أصل ثابت ال يندفع‬
‫يصحب االختيار ‪ ،‬وال يحكم على االضطرار االختيار ‪ ،‬فالوجود كله في الجبر الذاتي ‪ ،‬ال أنه‬
‫مجبور بإجبار من غير ‪ ،‬فإن المجبر للمجبور ‪ -‬الذي لوال جبره لكان مختارا ‪ -‬مجبور في‬
‫اختياره لهذا المجبور‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬آية ‪] 63‬‬


‫َي َرحْ َم ِت ِه أ َ ِإلهٌ َم َع ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ح بُشْرا بَ ْي َن يَد ْ‬ ‫الريا َ‬ ‫ت ا ْلبَ ِ ّر َوا ْلبَحْ ِر َو َم ْن يُ ْر ِ‬
‫س ُل ِ ّ‬ ‫أ َ هم ْن يَ ْهدِي ُك ْم ِفي ُ‬
‫ظلُما ِ‬
‫ُون ( ‪) 63‬‬ ‫ع هما يُش ِْرك َ‬ ‫تَعالَى ه‬
‫ّللاُ َ‬
‫ت ْالبَ ِ هر َو ْالبَ ْح ِر " ]‬
‫ظلُما ِ‬‫[ ‪ -‬من باب اْلشارة ‪ « -‬أ َ َّم ْن يَ ْهدِي ُك ْم فِي ُ‬
‫ت ْالبَ ِ هر َو ْالبَ ْح ِر »الظلمات ‪ :‬هي األكوان ‪ ،‬والبر هو‬ ‫ظلُما ِ‬ ‫‪-‬من باب اْلشارة ‪ «-‬أ َ َّم ْن يَ ْهدِي ُك ْم فِي ُ‬
‫الظاهر منها ‪ ،‬والبحر هو الباطن منها ‪ ،‬إشارة إلى المحسوس والمعلوم ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 64‬إلى ‪] 77‬‬


‫ّللا قُ ْل هاتُوا بُ ْرهانَ ُك ْم إِ ْن‬ ‫ض أ َ إِلهٌ َم َع ه ِ‬ ‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫ق ث ُ هم يُ ِعي ُدهُ َو َم ْن يَ ْر ُزقُ ُك ْم ِم َن ال ه‬ ‫أ َ هم ْن يَ ْب َدؤُا ا ْل َخ ْل َ‬
‫ون أَيه َ‬
‫ان‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫ّللاُ َوما يَ ْ‬‫ب إِاله ه‬‫ض ا ْلغَ ْي َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 64‬قُ ْل ال يَ ْعلَ ُم َم ْن فِي ال ه‬ ‫ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬
‫ون ( ‪) 66‬‬ ‫ع ُم َ‬ ‫هاركَ ِع ْل ُم ُه ْم فِي ْاآل ِخ َر ِة بَ ْل ُه ْم فِي ش ٍَّك ِم ْنها بَ ْل ُه ْم ِم ْنها َ‬ ‫ون ( ‪ ) 65‬بَ ِل اد َ‬ ‫يُ ْبعَث ُ َ‬
‫ون ) ‪ ( 67‬لَقَ ْد ُو ِعدْنا هذا نَحْ ُن َوآباؤُنا‬ ‫ِين َكفَ ُروا أ َ ِإذا ُكنها تُرابا َوآباؤُنا أ َ ِإنها لَ ُم ْخ َر ُج َ‬ ‫َوقا َل الهذ َ‬
‫ين ) ‪( 68‬‬ ‫ير ْاأل َ هو ِل َ‬ ‫ساط ُ‬‫ِم ْن قَ ْب ُل ِإ ْن هذا ِإاله أ َ ِ‬
‫علَ ْي ِه ْم َوال تَك ُْن‬ ‫ين ( ‪َ ) 69‬وال تَحْ َز ْن َ‬ ‫كان عا ِقبَةُ ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫ف َ‬ ‫ظ ُروا َك ْي َ‬ ‫ض فَا ْن ُ‬ ‫يروا ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫قُ ْل ِ‬
‫ين ( ‪ ) 71‬قُ ْل عَسى‬ ‫ون َمتى هذَا ا ْل َو ْع ُد إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 70‬ويَقُولُ َ‬ ‫ق ِم هما يَ ْمك ُُر َ‬ ‫ض ْي ٍ‬‫فِي َ‬
‫اس َولَ ِك هن‬ ‫علَى النه ِ‬ ‫ض ٍل َ‬‫ون ( ‪َ ) 72‬وإِ هن َربهكَ لَذُو فَ ْ‬ ‫ست َ ْع ِجلُ َ‬ ‫ض الهذِي ت َ ْ‬ ‫ِف لَ ُك ْم بَ ْع ُ‬ ‫ُون َرد َ‬ ‫أ َ ْن يَك َ‬
‫ون ) ‪( 73‬‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫أ َ ْكث َ َر ُه ْم ال يَ ْ‬
‫ض ِإاله‬ ‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ون ) ‪َ ( 74‬وما ِم ْن غائِبَ ٍة فِي ال ه‬
‫س ِ‬ ‫ُور ُه ْم َوما يُ ْع ِلنُ َ‬ ‫صد ُ‬ ‫َو ِإ هن َربهكَ لَيَ ْعلَ ُم ما ت ُ ِك ُّن ُ‬
‫ون (‬ ‫سرا ِئي َل أ َ ْكث َ َر الهذِي ُه ْم ِفي ِه يَ ْخت َ ِلفُ َ‬ ‫ص عَلى بَ ِني ِإ ْ‬ ‫آن يَقُ ُّ‬ ‫ين ) ‪ِ ( 75‬إ هن هذَا ا ْلقُ ْر َ‬ ‫ب ُم ِب ٍ‬ ‫ِفي ِكتا ٍ‬
‫ين) ‪( 77‬‬ ‫‪َ ) 76‬وإِنههُ لَ ُهدى َو َرحْ َمةٌ ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬

‫ص ‪290‬‬

‫‪290‬‬
‫كون القرآن هدى من ك هل آية محكمة ‪ ،‬وكل نص ورد في القرآن مما ال يدخله االحتمال ‪ ،‬وال‬
‫يفهم منه إال الظاهر بأول وهلة ‪،‬‬
‫صاص َحياة ٌ )‬
‫ِ‬ ‫ُون )وقوله( َولَ ُك ْم فِي ْال ِق‬
‫س إِ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬ ‫مثل قوله ‪َ (:‬وما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫اإل ْن َ‬
‫علَى َّ ِ‬
‫ّللا )‬ ‫صلَ َح فَأ َ ْج ُرهُ َ‬
‫عفا َوأ َ ْ‬ ‫وقوله( فَ َم ْن َ‬
‫وأمثال هذه اآليات مما ال يحصى كثرة« َو َر ْح َمةٌ ِل ْل ُمؤْ ِمنِينَ » *أما كونه رحمة فلما فيه مما‬
‫أوجبه الحق على نفسه من الوعد لعباده بالخير والبشرى ‪،‬‬
‫طوا ِم ْن َر ْح َم ِة َّ ِ‬
‫ّللا )‬ ‫مثل قوله ‪ (:‬ال ت َ ْقنَ ُ‬
‫الر ْح َمةَ ) وكل آية رجاء ‪.‬‬ ‫على نَ ْف ِس ِه َّ‬ ‫ب َربُّ ُك ْم َ‬ ‫وقوله ‪َ ( :‬كت َ َ‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 78‬إلى ‪]82‬‬


‫ق ا ْل ُم ِب ِ‬
‫ين‬ ‫علَى ا ْل َح ّ ِ‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا ِإنهكَ َ‬ ‫يز ا ْلعَ ِلي ُم ) ‪( 78‬فَت َ َو هك ْل َ‬ ‫ِإ هن َربهكَ يَ ْق ِضي بَ ْينَ ُه ْم ِب ُح ْك ِم ِه َو ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬
‫ين ( ‪َ ) 80‬وما أ َ ْنتَ ِبهادِي‬ ‫ص هم الدُّعا َء ِإذا َوله ْوا ُم ْد ِب ِر َ‬ ‫س ِم ُع ال ُّ‬ ‫س ِم ُع ا ْل َم ْوتى َوال ت ُ ْ‬ ‫( ‪ِ ) 79‬إنهكَ ال ت ُ ْ‬
‫ون ( ‪َ ) 81‬و ِإذا َوقَ َع ا ْلقَ ْو ُل‬ ‫س ِل ُم َ‬‫س ِم ُع ِإاله َم ْن يُ ْؤ ِم ُن ِبآيا ِتنا فَ ُه ْم ُم ْ‬ ‫ا ْلعُ ْمي ِ ع َْن َ‬
‫ضاللَ ِت ِه ْم ِإ ْن ت ُ ْ‬
‫ون ( ‪) 82‬‬ ‫اس كانُوا بِآياتِنا ال يُوقِنُ َ‬ ‫ض ت ُ َك ِلّ ُم ُه ْم أ َ هن النه َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم أ َ ْخ َرجْ نا لَ ُه ْم دَابهة ِم َن ْاأل َ ْر ِ‬
‫َ‬
‫[ دابة األرض التي تخرج في آخر الزمان ]‬
‫ض ت ُ َك ِله ُم ُه ْم »فأخبر تعالى أن هذه الدابة‬ ‫علَ ْي ِه ْم أ َ ْخ َر ْجنا لَ ُه ْم َدابَّةً ِمنَ ْاأل َ ْر ِ‬‫« َو ِإذا َوقَ َع ْالقَ ْو ُل َ‬
‫تكلمنا ‪ ،‬وذلك أنها إذا خرجت من أجياد ‪ ،‬وهي دابة أهلب كثيرة الشعر ‪ ،‬ال يعرف قبلها من‬
‫دبرها ‪ ،‬يقال لها الجساسة ‪ ،‬فتنفخ فتسم بنفخها وجوه الناس شرقا وغربا ‪ ،‬جنوبا وشماال ‪ ،‬برا‬
‫ّللا من إيمان وكفر ‪ ،‬فيقول من سمته‬ ‫وبحرا ‪ ،‬فيرتقم في جبين كل شخص ما هو عليه في علم ه‬
‫مؤمنا لمن سمته كافرا ‪ ،‬يا كافر أعطني كذا وكذا ‪ ،‬وما يريد أن يقول له ‪،‬‬

‫ص ‪291‬‬

‫‪291‬‬
‫فال يغضب لذلك االسم ‪ ،‬ألنه يعلم أنه مكتوب في جبينه كتابة ال يمكنه إزالتها ‪ ،‬فيقول الكافر‬
‫للمؤمن ‪ :‬نعم أو ال في قضاء ما طلب منه ‪ ،‬بحسب ما يقع ‪ ،‬فكالمها المنسوب إليها ما هو في‬
‫العموم سوى ما وسمت به الوجوه بنفختها ‪،‬‬
‫وإن كان لها كالم مع من يشاهدها أو يجالسها من أي أهل لسان كان ‪ ،‬فهي تكلمه بلسانه من‬
‫عرب أو عجم ‪،‬‬
‫على اختالف اصطالحاتهم ‪ ،‬يعلم ذلك كله ‪ ،‬وقد جاء حديثها في الخبر الصحيح الذي ذكره‬
‫مسلم في حديث الدجال ‪،‬‬
‫حين دلت تميما الداري عليه ‪ ،‬وقالت له ‪ :‬إنه إلى حديثك باألشواق ‪ ،‬وهي اآلن في جزيرة في‬
‫البحر الذي يلي جهة الشمال ‪ ،‬وهي الجزيرة التي فيها الدجال ‪ ،‬ثم أخبر تعالى أن طائفة من‬
‫العباد ال توقن بذلك وتخرجه بالتأويل عن ظاهره فقال ‪ «:‬أ َ َّن النَّ َ‬
‫اس كانُوا بِآياتِنا ال يُوقِنُونَ »‬
‫أي ال يستقر اإليمان باآليات التي هذه اآليات منها في قلوبهم ‪ ،‬بل يقبلون ذلك إيمانا ‪ ،‬وطائفة‬
‫منهم تتأول ذلك على غير الوجه الذي قصد له ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 83‬إلى ‪]88‬‬


‫ُون ( ‪َ ) 83‬حتهى إِذا جا ُؤ قا َل أ َ‬ ‫وزع َ‬ ‫ِب بِآياتِنا فَ ُه ْم يُ َ‬ ‫َويَ ْو َم نَحْ ش ُُر ِم ْن ُك ِ ّل أ ُ هم ٍة فَ ْوجا ِم هم ْن يُ َكذّ ُ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِبما َظلَ ُموا‬‫ون ) ‪َ ( 84‬و َوقَ َع ا ْلقَ ْو ُل َ‬ ‫طوا ِبها ِع ْلما أ َ هما ذا ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬ ‫َكذه ْبت ُ ْم ِبآياتِي َولَ ْم ت ُ ِحي ُ‬
‫هار ُم ْب ِصرا ِإ هن فِي ذ ِلكَ‬ ‫س ُكنُوا فِي ِه َوالنه َ‬ ‫ون ) ‪ ( 85‬أ َ لَ ْم يَ َر ْوا أَنها َجعَ ْلنَا الله ْي َل ِليَ ْ‬ ‫فَ ُه ْم ال يَ ْن ِطقُ َ‬
‫ض‬‫ت َو َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ع َم ْن فِي ال ه‬ ‫ور فَفَ ِز َ‬‫ص ِ‬ ‫ون ) ‪َ ( 86‬ويَ ْو َم يُ ْنفَ ُخ فِي ال ُّ‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫َآليا ٍ‬
‫ين ) ‪( 87‬‬ ‫ّللاُ َو ُك ٌّل أَت َ ْو ُه ِ‬
‫داخ ِر َ‬ ‫ِإاله َم ْن شا َء ه‬
‫ش ْي ٍء إِنههُ َخبِ ٌ‬
‫ير‬ ‫ّللا الهذِي أَتْقَ َن ُك هل َ‬‫ص ْن َع ه ِ‬
‫ب ُ‬ ‫سحا ِ‬ ‫ي ت َ ُم ُّر َم هر ال ه‬ ‫جامدَة َو ِه َ‬ ‫سبُها ِ‬ ‫َوت َ َرى ا ْل ِجبا َل تَحْ َ‬
‫ون ) ‪( 88‬‬ ‫بِما ت َ ْفعَلُ َ‬
‫فكل شيء محكم ‪ ،‬ألنه صنعة حكيم ‪ ،‬ومن هنا نظر من نظر إلى جمال الكمال ‪ ،‬وهو جمال‬
‫ّللا في غاية اإلحكام واإلتقان‬ ‫الحكمة ‪ ،‬فإن العالم خلقه ه‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬من خصائص المحمديين ]‬
‫ّللا ‪ ،‬أهل األدب ‪ ،‬جلساء الحق على بساط الهيبة‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬من خصائص المحمديين من أهل ه‬
‫‪ ،‬مع األنس الدائم ‪،‬‬

‫ص ‪292‬‬

‫‪292‬‬
‫االعتدال والثبات والسكون ‪ ،‬غير أن لهم سرعة الحركات في الباطن في كل نفس« َوت َ َرى‬
‫ب »‪.‬‬
‫سحا ِ‬ ‫جام َدة ً َو ِه َ‬
‫ي ت َ ُم ُّر َم َّر ال َّ‬ ‫ْال ِجبا َل ت َ ْح َ‬
‫سبُها ِ‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬اآليات ‪ 89‬إلى ‪] 91‬‬


‫س ِيّئ َ ِة فَ ُكبهتْ‬
‫ون ( ‪َ ) 89‬و َم ْن جا َء ِبال ه‬ ‫سنَ ِة فَلَهُ َخ ْي ٌر ِم ْنها َو ُه ْم ِم ْن فَ َزعٍ يَ ْو َمئِ ٍذ ِ‬
‫آمنُ َ‬ ‫َم ْن جا َء ِبا ْل َح َ‬
‫ب ه ِذ ِه ا ْلبَ ْل َد ِة‬‫ون ) ‪ِ ( 90‬إنهما أ ُ ِم ْرتُ أ َ ْن أ َ ْعبُ َد َر ه‬ ‫ُو ُجو ُه ُه ْم فِي النه ِار َه ْل تُجْ َز ْو َن ِإاله ما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬
‫ين ) ‪( 91‬‬ ‫س ِل ِم َ‬ ‫ش ْي ٍء َوأ ُ ِم ْرتُ أ َ ْن أَك َ‬
‫ُون ِم َن ا ْل ُم ْ‬ ‫الهذِي َح هر َمها َولَهُ ُك ُّل َ‬

‫ّللا يوم خلق السماوات واألرض فهو حرام‬ ‫قال صلهى ه‬


‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن هذا البلد حرمه ه‬
‫ّللا إلى يوم القيامة ] وخرج مسلم عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجال من بني ليث‬ ‫بحرمة ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فركب راحلته ‪،‬‬‫ّللا صلهى ه‬
‫عام فتح مكة بقتيل منهم فقتلوه ‪ ،‬فأخبر بذلك رسول ه‬
‫ّللا حبس عن مكة الفيل ‪ ،‬وسلط عليها رسوله والمؤمنين ‪ ،‬أال وإنها ال تحل‬ ‫فخطب فقال ‪ [ :‬إن ه‬
‫ألحد قبلي ‪ ،‬ولن تحل ألحد بعدي ‪ ،‬أال وإنها أحلت لي ساعة من نهار ‪ ،‬أال وإنها ساعتي هذه ‪،‬‬
‫وهي حرام ‪ ،‬ال يخبط شوكها ‪ ،‬وال يعضد شجرها ‪ ،‬وال يلقط ساقطتها ‪ ،‬إال لمنشد ‪ ،‬ومن قتل‬
‫له قتيل فهو بخير النظرين ‪ ،‬إما أن يعطى يعني الدية ‪ ،‬وإما أن يقاد أهل الفتيل ] ‪ -‬الحديث ‪-‬‬
‫ّللا وال‬
‫ّللا ‪ ،‬فال حمى وال حرم أعظم من حرم ه‬ ‫ّللا وحرمه ‪ ،‬وال موجود أعظم من ه‬ ‫فم هكة حمى ه‬
‫ّللا ولم يحرمها الناس ‪.‬‬
‫حماه في األماكن ‪ ،‬فإن مكة حرمها ه‬

‫[ سورة النمل ( ‪ ) : 27‬آية ‪] 92‬‬


‫ين ) ‪( 92‬‬ ‫ض هل فَقُ ْل إِنهما أَنَا ِم َن ا ْل ُم ْنذ ِِر َ‬ ‫َوأ َ ْن أَتْلُ َوا ا ْلقُ ْر َ‬
‫آن فَ َم ِن ا ْهتَدى فَ ِإنهما يَ ْهتَدِي ِلنَ ْف ِ‬
‫س ِه َو َم ْن َ‬
‫اعلم أن التالي إنما سمي تاليا لتتابع الكالم بعضه بعضا ‪ ،‬وتتابعه يقضي عليه بحرف الغاية ‪،‬‬
‫وهما من وإلى ‪ ،‬فينزل من كذا إلى كذا ‪ ،‬ولما كان القلب من العالم األعلى قال تعالى فيه( نَزَ َل‬
‫على قَ ْل ِب َك )وكان اللسان من العالم األنزل ‪ ،‬والحرف من عالم اللسان ‪،‬‬ ‫ين َ‬‫الرو ُح ْاأل َ ِم ُ‬ ‫ِب ِه ُّ‬

‫ص ‪293‬‬

‫‪293‬‬
‫ففصل اللسان اآليات وتال بعضها بعضا ‪ ،‬فيسمى اإلنسان تاليا من حيث لسانه ‪ ،‬فإنه المفصل‬
‫لما أنزل مجمال ‪.‬‬

‫[ سورة النمل ( ‪ : ) 27‬آية ‪] 93‬‬


‫سيُ ِري ُك ْم آياتِ ِه فَت َ ْع ِرفُونَها َوما َربُّكَ ِبغافِ ٍل َ‬
‫ع هما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ون ( ‪) 93‬‬ ‫َوقُ ِل ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫ّلِل َ‬

‫( ‪ ) 28‬سورة القصص مكيّة‬


‫الرحيم‬ ‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 7‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬‫ّللا ه‬‫س ِم ه ِ‬ ‫ِب ْ‬
‫ق ِلقَ ْو ٍم‬ ‫علَ ْيكَ ِم ْن نَبَ ِإ ُموسى َوفِ ْرع َْو َن ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 2‬نَتْلُوا َ‬ ‫ب ا ْل ُم ِب ِ‬‫طسم ( ‪ ) 1‬تِ ْلكَ آياتُ ا ْل ِكتا ِ‬
‫ف طائِفَة ِم ْن ُه ْم يُذَ ِبّ ُح‬ ‫ض ِع ُ‬ ‫ست َ ْ‬
‫شيَعا يَ ْ‬ ‫ض َو َجعَ َل أ َ ْهلَها ِ‬ ‫ون ( ‪ِ ) 3‬إ هن فِ ْرع َْو َن عَال فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ِين ) ‪( 4‬‬ ‫سد َ‬ ‫كان ِم َن ا ْل ُم ْف ِ‬ ‫ستَحْ ِيي ِنسا َء ُه ْم ِإنههُ َ‬ ‫أ َ ْبنا َء ُه ْم َويَ ْ‬
‫ين ( ‪) 5‬‬ ‫وارثِ َ‬‫ض َونَجْ عَلَ ُه ْم أَئِ همة َونَجْ عَلَ ُه ُم ا ْل ِ‬ ‫ض ِعفُوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫ِين ا ْ‬‫علَى الهذ َ‬ ‫َونُ ِري ُد أ َ ْن نَ ُم هن َ‬
‫ون ( ‪) 6‬‬ ‫هامان َو ُجنُو َد ُهما ِم ْن ُه ْم ما كانُوا يَحْ ذَ ُر َ‬ ‫َ‬ ‫ي فِ ْرع َْو َن َو‬ ‫ض َونُ ِر َ‬ ‫َونُ َم ِ ّك َن لَ ُه ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫علَ ْي ِه فَأ َ ْل ِقي ِه فِي ا ْليَ ِ ّم َوال تَخافِي َوال تَحْ َزنِي ِإنها‬ ‫ت َ‬ ‫َوأ َ ْو َح ْينا ِإلى أ ُ ِ ّم ُموسى أ َ ْن أ َ ْر ِض ِعي ِه فَ ِإذا ِخ ْف ِ‬
‫ين ( ‪) 7‬‬ ‫س ِل َ‬‫َرادُّوهُ ِإلَ ْي ِك َوجا ِعلُوهُ ِم َن ا ْل ُم ْر َ‬
‫[ سلطان الوحي ]‬
‫ال يتصور المخالف إذا كان الكالم وحيا ‪ ،‬فإن سلطانه أقوى من أن يقاوم ‪ ،‬وكذلك فعلت أم‬
‫موسى ولم تخالف ‪ ،‬مع أن الحالة تؤذن أنها ألقته في الهالك ‪ ،‬ولم تخالف وال ترددت وال‬
‫حكمت عليها البشرية بأن إلقاءه في اليم في تابوت من أخطر األشياء ‪ ،‬فدل ذلك على أن‬
‫الوحي أقوى سلطانا في نفس الموحى إليه من طبعه الذي هو عين نفسه ‪ ،‬وأرشد الحق‬

‫ص ‪294‬‬

‫‪294‬‬
‫تعالى في وحيه هذا إلى أم موسى عليه السالم عند الخوف أن تلقيه من يدها وتخرجه عن‬
‫ّللا تعالى يتواله بحفظه ويبقيه برحمته ‪ ،‬أال ترى إلى قوله تعالى( َحتَّى ِإذا أ َ َخذَ ِ‬
‫ت‬ ‫حفظها ‪ ،‬فإن ه‬
‫علَيْها أَتاها أ َ ْم ُرنا ) اآلية ‪ ،‬فعند زعم القدرة‬
‫ظ َّن أ َ ْهلُها أَنَّ ُه ْم قاد ُِرونَ َ‬
‫َت َو َ‬ ‫ْاأل َ ْر ُ‬
‫ض ُز ْخ ُرفَها َو َّ‬
‫ازيَّن ْ‬
‫عليها أخذت وزالت ‪.‬‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 8‬إلى ‪] 9‬‬


‫ين ( ‪8‬‬ ‫هامان َو ُجنُو َد ُهما كانُوا ِ‬
‫خاط ِئ َ‬ ‫َ‬ ‫عد ًُّوا َو َح َزنا ِإ هن ِف ْرع َْو َن َو‬ ‫فَا ْلتَقَ َطهُ آ ُل ِف ْرع َْو َن ِليَك َ‬
‫ُون لَ ُه ْم َ‬
‫ع ْي ٍن ِلي َولَكَ ال ت َ ْقتُلُوهُ عَسى أ َ ْن يَ ْنفَعَنا أ َ ْو نَت ه ِخذَهُ َولَدا َو ُه ْم ال‬ ‫ام َرأَتُ فِ ْرع َْو َن قُ هرتُ َ‬
‫ت ْ‬ ‫) َوقالَ ِ‬
‫ون) ‪( 9‬‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫يَ ْ‬
‫عي ٍْن ِلي َولَ َك »فبه قرت عينها بالكمال الذي حصل لها ‪ ،‬وكان‬ ‫ع ْونَ قُ َّرتُ َ‬ ‫ت ْام َرأَتُ فِ ْر َ‬ ‫" َوقالَ ِ‬
‫عسى أ َ ْن يَ ْنفَعَنا »وكذلك وقع ‪،‬‬ ‫ّللا عند الغرق" ال ت َ ْقتُلُوهُ َ‬ ‫قرة عين لفرعون باإليمان الذي أعطاه ه‬
‫ّللا نفعهما به عليه السالم ‪.‬‬ ‫فإن ه‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬آية ‪] 10‬‬


‫فارغا إِ ْن كادَتْ لَت ُ ْبدِي بِ ِه لَ ْو ال أ َ ْن َربَ ْطنا عَلى قَ ْلبِها ِلتَك َ‬
‫ُون ِم َن‬ ‫صبَ َح فُؤا ُد أ ُ ِ ّم ُموسى ِ‬ ‫َوأ َ ْ‬
‫ين «) ‪( 10‬‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ّللا عصمه من فرعون ‪.‬‬ ‫فارغا ً »من الهم الذي أصابها ‪ ،‬فإن ه‬ ‫صبَ َح فُؤا ُد أ ُ ِ هم ُموسى ِ‬
‫َوأ َ ْ‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 11‬إلى ‪] 12‬‬


‫علَ ْي ِه ا ْل َم ِ‬
‫راض َع ِم ْن‬ ‫ب َو ُه ْم ال يَ ْ‬
‫شعُ ُر َ‬
‫ون ( ‪َ ) 11‬و َح هر ْمنا َ‬ ‫ص َرتْ بِ ِه ع َْن ُجنُ ٍ‬ ‫صي ِه فَبَ ُ‬ ‫َوقالَتْ ِأل ُ ْختِ ِه قُ ِ ّ‬
‫ون ( ‪) 12‬‬ ‫ناص ُح َ‬ ‫قَ ْب ُل فَقالَتْ َه ْل أ َ ُدلُّ ُك ْم عَلى أ َ ْه ِل بَ ْي ٍ‬
‫ت يَ ْكفُلُونَهُ لَ ُك ْم َو ُه ْم لَهُ ِ‬

‫ّللا حرم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمه فأرضعته ‪،‬‬ ‫علَ ْي ِه ْال َم ِ‬
‫راض َع »ثم إن ه‬ ‫« َو َح َّر ْمنا َ‬
‫ّللا لها سرورها به‪.‬‬ ‫ليكمل ه‬

‫‪295‬‬

‫‪295‬‬
‫[سورة القصص ( ‪ : ) 28‬آية ‪] 13‬‬
‫ق َول ِك هن أ َ ْكث َ َر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون (‬ ‫ع ْينُها َوال تَحْ َز َن َو ِلت َ ْعلَ َم أ َ هن َو ْع َد ه ِ‬
‫ّللا َح ٌّ‬ ‫فَ َر َددْنا ُه ِإلى أ ُ ِ ّم ِه َك ْي تَقَ هر َ‬
‫‪) 13‬‬
‫ع ْينُها »بتربيته وتشاهد انتشاءه في حجرها« َوال ت َ ْحزَ نَ »‪.‬‬ ‫« فَ َر َد ْدناهُ ِإلى أ ُ ِ هم ِه َك ْي تَقَ َّر َ‬

‫[ سورة القصص ( ‪ ) : 28‬اآليات ‪ 14‬إلى ‪]15‬‬


‫ين ( ‪َ ) 14‬و َد َخ َل ا ْل َمدِينَةَ‬ ‫س ِن َ‬‫ستَوى آت َ ْينا ُه ُح ْكما َو ِع ْلما َوكَذ ِلكَ نَجْ ِزي ا ْل ُمحْ ِ‬ ‫ش هد ُه َوا ْ‬ ‫َولَ هما بَلَ َغ أ َ ُ‬
‫ستَغاثَهُ‬ ‫عد ّ ُِو ِه فَا ْ‬
‫شيعَتِ ِه َوهذا ِم ْن َ‬ ‫الن هذا ِم ْن ِ‬‫غ ْفلَ ٍة ِم ْن أ َ ْه ِلها فَ َو َج َد فِيها َر ُجلَ ْي ِن يَ ْقتَتِ ِ‬
‫ين َ‬ ‫عَلى ِح ِ‬
‫طان‬
‫ش ْي ِ‬ ‫ع َم ِل ال ه‬ ‫علَ ْي ِه قا َل هذا ِم ْن َ‬‫عد ّ ُِو ِه فَ َوك ََزهُ ُموسى فَقَضى َ‬ ‫علَى الهذِي ِم ْن َ‬ ‫شيعَتِ ِه َ‬ ‫الهذِي ِم ْن ِ‬
‫ين ( ‪) 15‬‬ ‫عد ٌُّو ُم ِض ٌّل ُم ِب ٌ‬ ‫إِنههُ َ‬
‫[ األدب في نسبة االفعال ]‬
‫إذا ساعد الشيطان على اإلنسان القدر السابق بالفعل فوقع منه الفعل ‪ ،‬ورأى أن ذلك من‬
‫ض ٌّل‬‫عد ٌُّو ُم ِ‬ ‫ْطان ِإنَّهُ َ‬
‫شي ِ‬ ‫ع َم ِل ال َّ‬‫الشيطان مؤمنا مصدقا كما قال موسى عليه السالم« هذا ِم ْن َ‬
‫ين »فعمل ‪ ،‬تاب إثر وعقيب وقوع الفعل ‪ ،‬والتوبة هنا الندم ‪ ،‬فإنه معظم أركان التوبة ‪ ،‬فقد‬ ‫ُمبِ ٌ‬
‫ورد أن الندم توبة ‪ ،‬فإن الحضور مع اإليمان عند وقوع المخالفة يرد ذلك العمل حيا بحياة‬
‫الحضور ‪ ،‬يستغفر لفاعله إلى يوم القيامة ‪ ،‬فالشيطان في هذه الحالة يكون قد سعى في‬
‫تضعيف الخير للعبد وهو ال يشعر ‪ ،‬فإن الحرص أعماه ‪ ،‬ويحور الوبال وإثم تلك المعصية‬
‫ّللا يسعد العبد بتلك اللمة من الشيطان‬ ‫ّللا تعالى بإبليس ‪ ،‬فإنه لو علم أن ه‬ ‫عليه ‪ ،‬وهذا من مكر ه‬
‫سعادة خاصة ما ألقى إليه شيئا من ذلك ‪ ،‬واألدب يقضي بأمر كلي أن ما حسن عرفا وشرعا‬
‫نسبه العبد للحق ‪ ،‬فأظهر الحق فيه وجاله للبصائر واألبصار ‪ ،‬وما قبح عرفا وشرعا نسبه‬
‫وجاله ‪ ،‬أو نسبه إلى الشيطان إن شاء وأظهر عين الشيطان‬ ‫ه‬ ‫إلى نفسه إن شاء وأظهر نفسه فيه‬
‫وجاله ‪.‬‬‫ه‬ ‫فيه‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 16‬إلى ‪] 17‬‬


‫ب بِما‬
‫الر ِحي ُم ( ‪ ) 16‬قا َل َر ّ ِ‬
‫ور ه‬‫سي فَا ْغ ِف ْر ِلي فَغَفَ َر لَهُ إِنههُ ُه َو ا ْلغَفُ ُ‬ ‫ب إِ ِنّي َظلَ ْمتُ نَ ْف ِ‬
‫قا َل َر ّ ِ‬
‫ين) ‪( 17‬‬ ‫ُون َظ ِهيرا ِل ْل ُمجْ ِر ِم َ‬‫ي فَلَ ْن أَك َ‬
‫علَ ه‬ ‫أ َ ْنعَ ْمتَ َ‬

‫ص ‪296‬‬

‫‪296‬‬
‫الظهير المعين ‪ ،‬وهو خبير بمن هو له نصير ‪.‬‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 18‬إلى ‪] 28‬‬


‫ستَص ِْر ُخهُ قا َل لَهُ ُموسى إِنهكَ‬ ‫ص َرهُ بِ ْاأل َ ْم ِس يَ ْ‬ ‫ست َ ْن َ‬‫ب فَ ِإذَا الهذِي ا ْ‬ ‫صبَ َح فِي ا ْل َمدِينَ ِة خائِفا يَت َ َرقه ُ‬ ‫فَأ َ ْ‬
‫عد ٌُّو لَ ُهما قا َل يا ُموسى أ َ ت ُ ِري ُد أ َ ْن‬ ‫ش ِبالهذِي ُه َو َ‬ ‫ين ( ‪ ) 18‬فَلَ هما أ َ ْن أَرا َد أ َ ْن يَ ْب ِط َ‬ ‫ي ُم ِب ٌ‬‫لَغَ ِو ٌّ‬
‫ون ِم َن‬ ‫ض َوما ت ُ ِري ُد أ َ ْن ت َ ُك َ‬ ‫ُون َجبهارا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ت َ ْقتُلَنِي كَما قَت َ ْلتَ نَ ْفسا ِب ْاأل َ ْم ِس ِإ ْن ت ُ ِري ُد ِإاله أ َ ْن تَك َ‬
‫ون ِبكَ‬ ‫سعى قا َل يا ُموسى ِإ هن ا ْل َم ََل َ يَأْت َ ِم ُر َ‬ ‫صى ا ْل َمدِينَ ِة يَ ْ‬ ‫ين ) ‪َ ( 19‬وجا َء َر ُج ٌل ِم ْن أ َ ْق َ‬ ‫ص ِل ِح َ‬ ‫ا ْل ُم ْ‬
‫ب نَ ِ ّجنِي ِم َن‬ ‫ب قا َل َر ّ ِ‬ ‫ج ِم ْنها خائِفا يَت َ َرقه ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 20‬فَ َخ َر َ‬ ‫اص ِح َ‬ ‫اخ ُرجْ إِ ِنّي لَكَ ِم َن النه ِ‬ ‫ِليَ ْقتُلُوكَ فَ ْ‬
‫سبِي ِل (‬ ‫سوا َء ال ه‬ ‫ين ( ‪َ ) 21‬ولَ هما ت َ َو هجهَ تِ ْلقا َء َم ْديَ َن قا َل عَسى َر ِبّي أ َ ْن يَ ْه ِديَنِي َ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫ا ْلقَ ْو ِم ال ه‬
‫ام َرأَت َ ْي ِن‬
‫ون َو َو َج َد ِم ْن دُونِ ِه ُم ْ‬ ‫سقُ َ‬ ‫اس يَ ْ‬ ‫علَ ْي ِه أ ُ همة ِم َن النه ِ‬ ‫‪َ )22‬ولَ هما َو َر َد ما َء َم ْديَ َن َو َج َد َ‬
‫سقى‬ ‫ير ( ‪ ) 23‬فَ َ‬ ‫ش ْي ٌخ َك ِب ٌ‬ ‫الرعا ُء َوأَبُونا َ‬ ‫صد َِر ِ ّ‬ ‫س ِقي َحتهى يُ ْ‬ ‫ودان قا َل ما َخ ْطبُكُما قالَتا ال نَ ْ‬ ‫تَذُ ِ‬
‫ير ( ‪ ) 24‬فَجا َءتْهُ ِإحْ دا ُهما‬ ‫ي ِم ْن َخ ْي ٍر فَ ِق ٌ‬ ‫ب ِإ ِنّي ِلما أ َ ْن َز ْلتَ ِإلَ ه‬ ‫ظ ِ ّل فَقا َل َر ّ ِ‬ ‫لَ ُهما ث ُ هم ت َ َولهى ِإلَى ال ِ ّ‬
‫علَ ْي ِه‬ ‫ص َ‬ ‫سقَ ْيتَ لَنا فَلَ هما جا َء ُه َوقَ ه‬ ‫عوكَ ِليَجْ ِزيَكَ أَجْ َر ما َ‬ ‫ياء قالَتْ ِإ هن أ َ ِبي يَ ْد ُ‬ ‫ستِحْ ٍ‬ ‫علَى ا ْ‬ ‫شي َ‬ ‫ت َ ْم ِ‬
‫ستَأ ْ ِج ْرهُ إِ هن‬ ‫تا ْ‬ ‫ين ) ‪ ( 25‬قالَتْ إِحْ دا ُهما يا أَبَ ِ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ف نَ َج ْوتَ ِم َن ا ْلقَ ْو ِم ال ه‬ ‫ص قا َل ال ت َ َخ ْ‬ ‫ص َ‬ ‫ا ْلقَ َ‬
‫ي هات َ ْي ِن عَلى أ َ ْن‬ ‫ين ( ‪ ) 26‬قا َل إِ ِنّي أ ُ ِري ُد أ َ ْن أ ُ ْن ِك َحكَ إِحْ دَى ا ْبنَت َ ه‬ ‫ي ْاأل َ ِم ُ‬ ‫ستَأ ْ َج ْرتَ ا ْلقَ ِو ُّ‬ ‫َخ ْي َر َم ِن ا ْ‬
‫ست َ ِج ُدنِي ِإ ْن شا َء‬ ‫علَ ْيكَ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ش ه‬ ‫عشْرا فَ ِم ْن ِع ْن ِدكَ َوما أ ُ ِري ُد أ َ ْن أ َ ُ‬ ‫ي ِح َججٍ فَ ِإ ْن أَتْ َم ْمتَ َ‬ ‫تَأ ْ ُج َرنِي ثَمانِ َ‬
‫ين ) ‪( 27‬‬ ‫صا ِل ِح َ‬ ‫ّللاُ ِم َن ال ه‬ ‫ه‬
‫ّللاُ عَلى ما نَقُو ُل َو ِكي ٌل) ‪( 28‬‬ ‫ي َو ه‬ ‫علَ ه‬‫ْوان َ‬ ‫عد َ‬ ‫ضيْتُ فال ُ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قا َل ذ ِلكَ بَ ْينِي َوبَ ْينَكَ أيه َما ْاأل َجلَ ْي ِن ق َ‬

‫ص ‪297‬‬

‫‪297‬‬
‫لما علم موسى عليه السالم قدر النساء ومنزلتهن استأجر نفسه في مهر امرأة عشر سنين ‪،‬‬
‫وأعني بالنساء األنوثة السارية في العالم ‪ ،‬وكانت في النساء أظهر‪.‬‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬آية ‪] 29‬‬


‫ور نارا قا َل ِأل َ ْه ِل ِه ْ‬
‫ام ُكثُوا ِإ ِنّي آنَ ْ‬
‫ستُ‬ ‫ط ِ‬ ‫ب ال ُّ‬‫س ِم ْن جانِ ِ‬ ‫سار ِبأ َ ْه ِل ِه آنَ َ‬
‫سى ْاأل َ َج َل َو َ‬ ‫فَلَ هما قَضى ُمو َ‬
‫ون ) ‪( 29‬‬ ‫ص َطلُ َ‬ ‫نارا لَعَ ِلّي آتِي ُك ْم ِم ْنها ِب َخبَ ٍر أ َ ْو َج ْذ َو ٍة ِم َن النه ِار لَعَله ُك ْم ت َ ْ‬
‫ّللا من الكالم لموسى عليه السالم ‪ ،‬حين خرج ساعيا ألهله لما كانوا‬ ‫فلو نظرت فيما أنتج ه‬
‫يحتاجون إليه من النار ‪ ،‬فبسعيه على عياله واستفراغه ناداه الحق وكلمه في عين حاجته وهي‬
‫النار ‪ ،‬فإنه عليه السالم قد استفرغه طلب النار ألهله ‪ ،‬وهو الذي أخرجه لما أمر به من‬
‫السعي على العيال ‪ ،‬واألنبياء أشد الناس مطالبة ألنفسهم للقيام بأوامر الحق ‪ ،‬فلم يكن في نفسه‬
‫سوى ما خرج إليه ‪ ،‬فلما أبصر حاجته وهي النار التي الحت له من الشجرة من جانب الطور‬
‫األيمن ناداه الحق من عين حاجته بما يناسب الوقت‬

‫[ إذا جئت إلى الحق فال تترك منك مع الكون شيئا]‬


‫‪-‬إشارة ‪ -‬إن سرت بأهلك ‪ ،‬أي إذا جئت إلى الحق فال تترك منك مع الكون شيئا ‪ ،‬بل احضر‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫بجمعيتك ‪ ،‬فال يكون لك خاطر تفرقة أبدا ‪ ،‬بل يكون مجموع الهم في دخولك على ه‬
‫وإذا خرجت من عند الحق اترك الكون عنده ‪ ،‬وإخراج بالحق إلى الحق ‪ ،‬فإنك إن سرت‬
‫بأهلك آنست نارا ‪ ،‬وكلمك العزيز جهارا‪.‬‬

‫ص ‪298‬‬

‫‪298‬‬
‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬آية ‪] 30‬‬
‫ش َج َر ِة أ َ ْن يا ُموسى ِإ ِنّي أ َنَا‬ ‫شاط ِئ ا ْلوا ِد ْاأل َ ْي َم ِن ِفي ا ْلبُ ْقعَ ِة ا ْل ُم َ‬
‫بار َك ِة ِم َن ال ه‬ ‫ِ‬ ‫فَلَ هما أَتاها نُود َ‬
‫ِي ِم ْن‬
‫ين ) ‪( 30‬‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬
‫ّللاُ َر ُّ‬
‫ه‬
‫فثبته الخطاب األول بالنداء ألنه خرج على أن يقتبس نارا أو يجد على النار هدى ‪ ،‬وهو قوله‬
‫‪ (:‬لَعَ ِلهي آتِي ُك ْم ِم ْنها ِب َخبَ ٍر ) أي من يدله على حاجته ‪ ،‬فكان منتظرا للنداء ‪ ،‬قد هيأ سمعه‬
‫وبصره لرؤية النار ‪ ،‬وسمعه لمن يدله عليها فالشجرة ظهر النور فيها للمكلهم موسى عليه‬
‫السالم ‪ ،‬فإنه كان طلب موسى عليه السالم النار ألهله ‪ ،‬ليصلح به عيشهم ‪ ،‬ونودي في شجرة‬
‫واديه ‪ ،‬من التشاجر ‪ ،‬وهو مقام تداخل المقامات ‪ ،‬ألنه مشهد للكالم ‪ ،‬والكالم متداخل المعاني‬
‫على كثرتها ‪ ،‬فأشبه الشجرة ‪ ،‬فنودي من الشجرة وفي النار ألنها مطلوبه ‪ ،‬فال يتغير عليه‬
‫الحال ‪ ،‬فيسرع باإلجابة من غير انتقال من حال إلى حال ‪ ،‬فإن النار تراءت له متعلقة‬
‫بالشجرة ‪ ،‬وأهل الكشف الذين يرون الوجود هّلل بكل صورة ‪ ،‬جعلوا الشجرة هي صورة‬
‫المتكلم ‪ ،‬كما كان الحق لسان العبد وسمعه وبصره بهويته ال بصفته ‪ ،‬كما يظهر في صورة‬
‫تنكر ويتحول إلى صورة تعرف ‪ ،‬وهو هو ال غيره ‪ ،‬إذ ال غير ‪ ،‬فما تكلم من الشجرة إال‬
‫الحق فالحق صورة شجرة ‪ ،‬وما سمع من موسى إال الحق فالحق صورة موسى من حيث هو‬
‫سامع ‪ ،‬كما هو الشجرة من حيث هو متكلم ‪ ،‬والشجرة شجرة وموسى موسى ال حلول ‪ ،‬ألن‬
‫الشيء ال يحل في ذاته ‪ ،‬فإن الحلول يعطي ذاتين ‪،‬‬
‫ّللا بالوحي كأنه سلسلة على صفوان‬ ‫وهنا إنما هو حكمان ‪ -‬مسئلة ‪ -‬إن المالئكة إذا تكلم ه‬
‫ّللا عليه وسلم كان إذا أنزل عليه الوحي كسلسلة على‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫تصعق المالئكة ‪ ،‬ورسول ه‬
‫صفوان يصعق ‪،‬‬
‫وهو أشد الوحي عليه ‪ ،‬فينزل جبريل على قلبه فيفنى عن عالم الحس ويرغو ويسجى إلى أن‬
‫يسرى عنه ‪ ،‬وإنه لينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيتفصد جبينه عرقا ‪ ،‬وموسى‬
‫ّللا تكليما بارتفاع الوسائط ‪ ،‬وما صعق وال زال عن حسه ‪ ،‬وقال‬ ‫ّللا عليه وسلم كلمه ه‬ ‫صلهى ه‬
‫وقيل له ‪ ،‬وهذا المقام أعظم من مقام الوحي بوساطة الملك ‪ ،‬فهذا الملك يصعق عند الكالم ‪،‬‬
‫وهذا أكرم البشر يصعق عند نزول الروح بالوحي ‪ ،‬وهذا موسى لم يصعق وال جرى عليه‬
‫شيء مع ارتفاع الوسائط ‪ ،‬وصعق لذلك الجبل ؟‬
‫اعلم أن موسى لما جاءه النداء بأمر مناسب لم ينكره وثبت ‪ ،‬فلما علم أن المنادي ربه وقد‬
‫صح له الثبوت ‪ ،‬وجاء النداء من خارج ال من نفسه ثبت ليوفي األدب حقه في‬

‫ص ‪299‬‬

‫‪299‬‬
‫االستماع ‪ ،‬فإنه لكل نوع من التجلي حكم ‪ ،‬وحكم نداء هذا التجلي التهيؤ لسماع ما يأتي به ‪،‬‬
‫فلم يصعق وال غاب عن شهوده ‪ ،‬فإنه خطاب مقيد بجهة ‪ ،‬مسموع بأذن ‪ ،‬وخطاب تفصيلي ‪،‬‬
‫فالمثبت لإلنسان على حسه وشهود محسوسه قلبه المدبر لجسده ‪ ،‬ولم يكن لهذا الكالم اإللهي‬
‫الموسوي توجه على القلب ‪ ،‬فليس للقلب هنا إال ما يتلقاه من سمعه وبصره وقواه حسبما جرت‬
‫به العادة ‪ ،‬فلم يتعد الحال حكمه في موسى عليه السالم ‪ ،‬وأما أمر محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬
‫فهو نزول قلبي وخطاب إجمالي كسلسلة على صفوان ‪ ،‬فاجعل بالك لهذا التشبيه ‪ ،‬فاشتغل‬
‫القلب بما نزل إليه ليتلقاه ‪ ،‬فغاب عن تدبير بدنه ‪ ،‬فسمي ذلك غشيا وصعقا ‪ ،‬وكذلك المالئكة ‪.‬‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 31‬إلى ‪] 34‬‬


‫ف إِنهكَ‬ ‫ان َولهى ُم ْد ِبرا َولَ ْم يُعَ ِقّ ْب يا ُموسى أ َ ْق ِب ْل َوال ت َ َخ ْ‬ ‫ق عَصاكَ فَلَ هما َرآها ت َ ْهت َ ُّز كَأَنهها َج ٌّ‬ ‫َوأ َ ْن أ َ ْل ِ‬
‫ض ُم ْم ِإلَ ْيكَ َجنا َحكَ ِم َن‬ ‫وء َوا ْ‬
‫س ٍ‬ ‫غ ْي ِر ُ‬‫سلُ ْك يَدَكَ فِي َج ْي ِبكَ ت َ ْخ ُرجْ بَ ْيضا َء ِم ْن َ‬ ‫ين ( ‪ ) 31‬ا ْ‬ ‫ِم َن ْاآل ِمنِ َ‬
‫ب‬
‫ين ( ‪ ) 32‬قا َل َر ّ ِ‬ ‫هانان ِم ْن َر ِبّكَ ِإلى فِ ْرع َْو َن َو َمالئِ ِه ِإنه ُه ْم كانُوا قَ ْوما فا ِ‬
‫س ِق َ‬ ‫ِ‬ ‫ب فَذانِكَ بُ ْر‬ ‫الر ْه ِ‬ ‫ه‬
‫ص ُح ِم ِنّي ِلسانا فَأ َ ْر ِ‬
‫س ْلهُ‬ ‫ْ‬
‫ون ُه َو أ َف َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 33‬وأ َ ِخي ُ‬
‫هار ُ‬ ‫خاف أ َ ْن يَ ْقتُلُ ِ‬‫ِإ ِنّي قَت َ ْلتُ ِم ْن ُه ْم نَ ْفسا فَأ َ ُ‬
‫ون ) ‪( 34‬‬ ‫خاف أ َ ْن يُ َك ِذّبُ ِ‬
‫ص ِ ّدقُنِي إِ ِنّي أ َ ُ‬‫َم ِعي ِردْءا يُ َ‬
‫هارون عليه السالم نبي بحكم األصل ‪ ،‬وأخذ الرسالة بسؤال أخيه موسى عليه السالم‬

‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬ال تطلب ردءا سواه ]‬


‫ّللا كفاه ‪ ،‬اطلب الردء من جنسك ‪ ،‬فإنه قد‬‫‪-‬إشارة ‪ -‬ال تطلب ردءا سواه ‪ ،‬فمن تو هكل على ه‬
‫شاء أن يكون أقوى لنفسك ‪ -‬فال تطلب ردءا سواه ‪ ،‬أي معينا ‪ ،‬واطلب الردء من جنسك ‪،‬‬
‫لخور الطبع ‪ ،‬فإذا كنت في مقام ال تقوى فيه على ما يقتضيه المقام األول ‪ ،‬فانزل إلى المقام‬
‫الثاني ‪ ،‬فهو بمنزلة قوله عليه السالم ‪ [ :‬اعقلها وتوكل ] ليكون القلب مطمئنا‪.‬‬

‫ص ‪300‬‬

‫‪300‬‬
‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 35‬إلى ‪] 38‬‬
‫ون ِإلَ ْيكُما ِبآيا ِتنا أ َ ْنتُما َو َم ِن اتهبَعَ ُك َما‬ ‫س ْلطانا فَال يَ ِصلُ َ‬ ‫ضدَكَ ِبأ َ ِخيكَ َونَجْ عَ ُل لَكُما ُ‬ ‫ع ُ‬‫ش ُّد َ‬ ‫سنَ ُ‬‫قا َل َ‬
‫س ِم ْعنا‬ ‫ت قالُوا ما هذا إِاله سِحْ ٌر ُم ْفتَرى َوما َ‬ ‫ون ( ‪ ) 35‬فَلَ هما جا َء ُه ْم ُموسى بِآياتِنا بَ ِيّنا ٍ‬ ‫ا ْلغا ِلبُ َ‬
‫ين ( ‪َ ) 36‬وقا َل ُموسى َر ِبّي أ َ ْعلَ ُم بِ َم ْن جا َء بِا ْل ُهدى ِم ْن ِع ْن ِد ِه َو َم ْن تَك ُ‬
‫ُون‬ ‫بِهذا فِي آبائِنَا ْاأل َ هو ِل َ‬
‫ع ِل ْمتُ لَ ُك ْم ِم ْن ِإل ٍه‬ ‫ون ( ‪َ ) 37‬وقا َل فِ ْرع َْو ُن يا أَيُّ َها ا ْل َم ََل ُ ما َ‬ ‫ظا ِل ُم َ‬ ‫لَهُ عاقِبَةُ الد ِهار ِإنههُ ال يُ ْف ِل ُح ال ه‬
‫ظنُّهُ‬‫ط ِل ُع ِإلى ِإل ِه ُموسى َو ِإ ِنّي َأل َ ُ‬ ‫ص ْرحا لَعَ ِلّي أ َ ه‬‫ين فَاجْ عَ ْل ِلي َ‬ ‫ط ِ‬‫علَى ال ِ ّ‬ ‫هامان َ‬‫ُ‬ ‫غ ْي ِري فَأ َ ْوقِ ْد ِلي يا‬ ‫َ‬
‫ين ) ‪( 38‬‬ ‫ِم َن ا ْلكا ِذ ِب َ‬
‫ع ِل ْمتُ لَ ُك ْم‬‫باّلل ‪ ،‬لكن الرئاسة وحبها غلب عليه في دنياه قال «ما َ‬ ‫لما كان عند فرعون علم ه‬
‫»ولم يقل ( ما علمت للعالم ) لما علم أن قومه يعتقدون فيه أنه إله لهم ‪ ،‬فأخبر بما هو األمر‬
‫عليه وصدق في إخباره بذلك ‪ ،‬فإنه علم أنه ليس في علمهم أن لهم إلها غير فرعون ‪ ،‬لذلك‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه ادعى‬ ‫غي ِْري »أي في اعتقادكم ‪ ،‬وهو على أي حال قد تكبر على ه‬ ‫قال« ِم ْن ِإل ٍه َ‬
‫ّللا بقوله لقومه( أَنَا َربُّ ُك ُم ْاألَعْلى )وما في علمي أن أحدا يقع منه هذا‬ ‫الربوبية لنفسه ونفاها عن ه‬
‫علَى‬ ‫القول وهو يجوع ويغوط وأمثال هذا إال فرعون ل هما استخف قومه« فَأ َ ْو ِق ْد ِلي يا ه ُ‬
‫امان َ‬
‫ّللا الذي يدعو إليه موسى‬ ‫ط ِل ُع إِلى إِل ِه ُموسى »ولم يقل إلى ه‬ ‫ص ْرحا ً لَعَ ِلهي أ َ َّ‬‫اجعَ ْل ِلي َ‬ ‫ين فَ ْ‬ ‫ِه‬
‫الط ِ‬
‫ّللا أن يطلق على أحد وما عصم إطالق إله فجعل قوله« ما‬ ‫ّللا عصم لفظ ه‬ ‫عليه السالم ‪ ،‬فإن ه‬
‫ط ِل ُع ِإلى ِإل ِه ُموسى َو ِإ ِنهي‬ ‫غي ِْري »ظنا بعد شك أو إثباتا في قوله ‪ «:‬لَعَ ِلهي أ َ َّ‬ ‫ع ِل ْمتُ لَ ُك ْم ِم ْن ِإل ٍه َ‬ ‫َ‬
‫ظنُّهُ ِمنَ ْالكا ِذ ِبينَ »‪.‬‬ ‫َأل َ ُ‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 39‬إلى ‪] 41‬‬


‫ون ( ‪ ) 39‬فَأ َ َخ ْذناهُ‬ ‫ق َو َظنُّوا أَنه ُه ْم إِلَ ْينا ال يُ ْر َجعُ َ‬
‫ض بِغَ ْي ِر ا ْل َح ّ ِ‬ ‫ست َ ْكبَ َر ُه َو َو ُجنُو ُدهُ فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َوا ْ‬
‫ين ) ‪َ ( 40‬و َجعَ ْلنا ُه ْم أَئِ همة يَ ْدع َ‬
‫ُون إِلَى‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫كان عاقِبَةُ ال ه‬ ‫ف َ‬ ‫َو ُجنُو َدهُ فَنَبَ ْذنا ُه ْم فِي ا ْليَ ِ ّم فَا ْن ُ‬
‫ظ ْر َك ْي َ‬
‫ون) ‪( 41‬‬ ‫ص ُر َ‬ ‫النه ِار َويَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ال يُ ْن َ‬

‫ص ‪301‬‬

‫‪301‬‬
‫فإن قيل كيف جعلهم أئمة وقد قال إلبراهيم عليه السالم لما سأله( َو ِم ْن ذُ ِ هريَّ ِتي )قال تعالى له(‬
‫الظا ِل ِمينَ )؟‬ ‫ع ْهدِي َّ‬
‫ال يَنا ُل َ‬
‫[ أن من نصبه الناس إماما فأئمتهم رجالن ‪ :‬ظالم وعادل ]‬
‫فاعلم أن من نصبه الناس إماما فأئمتهم رجالن ‪ :‬ظالم وعادل ‪ ،‬فالعادل هو الذي يقوم فيهم‬
‫ّللا ‪ ،‬وهم أئمة الهدى الذين‬ ‫بسنة نبيهم وهديه ‪ ،‬ويسلك بهم أوامر الحق المشروع لهم من عند ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وطائفة أخرى نصبهم الناس فظلموا وضلوا‬ ‫يأمرون بالقسط من الناس فهم ممن ينال عهد ه‬
‫ّللا بحكم تعيينهم باألمر بالتقدم ‪ ،‬ولكن‬ ‫وأضلوا وعدلوا عن الحق ‪ ،‬فهؤالء الذين لم ينالوا عهد ه‬
‫ار » بقضائنا ال بأمرنا« َويَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة ال‬
‫قال تعالى فيهم« َو َجعَ ْلنا ُه ْم أَئِ َّمةً يَ ْدعُونَ إِلَى النَّ ِ‬
‫ص ُرونَ »‪.‬‬ ‫يُ ْن َ‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 42‬إلى ‪] 44‬‬


‫سى‬‫ين ( ‪َ ) 42‬ولَقَ ْد آت َ ْينا ُمو َ‬ ‫َوأَتْبَ ْعنا ُه ْم فِي ه ِذ ِه ال ُّد ْنيا لَ ْعنَة َويَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ُه ْم ِم َن ا ْل َم ْقبُ ِ‬
‫وح َ‬
‫ون ( ‪) 43‬‬‫اس َو ُهدى َو َرحْ َمة لَعَله ُه ْم يَتَذَك ُهر َ‬ ‫ون ْاألُولى بَصا ِئ َر ِللنه ِ‬ ‫تاب ِم ْن بَ ْع ِد ما أ َ ْهلَ ْكنَا ا ْلقُ ُر َ‬
‫ا ْل ِك َ‬
‫ِين ) ‪( 44‬‬ ‫سى ْاأل َ ْم َر َوما ُك ْنتَ ِم َن الشها ِهد َ‬ ‫ض ْينا إِلى ُمو َ‬ ‫ي ِ إِ ْذ قَ َ‬
‫ب ا ْلغَ ْربِ ّ‬‫َوما ُك ْنتَ بِجانِ ِ‬
‫فإنه ليس حكم من شاهد األمور حكم من لم يشاهدها إال باإلعالم ‪ ،‬فللعيان حال ال يمكن أن‬
‫يعرفه إال صاحب العيان ‪ ،‬كما أن للعلم حاال ال يعرفه إال أولو العلم ‪.‬‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 45‬إلى ‪] 46‬‬


‫علَ ْي ِه ُم ا ْلعُ ُم ُر َوما ُك ْنتَ ثا ِويا ِفي أ َ ْه ِل َم ْديَ َن تَتْلُوا َ‬
‫علَ ْي ِه ْم آيا ِتنا َول ِكنها‬ ‫َول ِكنها أ َ ْنشَأْنا قُ ُرونا فَت َ َ‬
‫طاو َل َ‬
‫ور إِ ْذ نا َد ْينا َول ِك ْن َرحْ َمة ِم ْن َر ِبّكَ ِلت ُ ْنذ َِر قَ ْوما ما‬
‫ط ِ‬‫ب ال ُّ‬
‫ين ( ‪َ ) 45‬وما ُك ْنتَ بِجانِ ِ‬ ‫س ِل َ‬ ‫ُكنها ُم ْر ِ‬
‫ون ( ‪) 46‬‬ ‫أَتا ُه ْم ِم ْن نَذ ٍ‬
‫ِير ِم ْن قَ ْب ِلكَ لَعَله ُه ْم يَتَذَك ُهر َ‬
‫ور ِإ ْذ نَا َد ْينَا »موسى عليه السالم‪.‬‬ ‫ب ُّ‬
‫الط ِ‬ ‫ت ِبجانِ ِ‬ ‫« َوما ُك ْن َ‬

‫ص ‪302‬‬

‫‪302‬‬
‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 47‬إلى ‪] 55‬‬
‫سوال فَنَت ه ِب َع آيا ِتكَ‬ ‫ِيه ْم فَيَقُولُوا َربهنا لَ ْو ال أ َ ْر َ‬
‫س ْلتَ ِإلَ ْينا َر ُ‬ ‫َولَ ْو ال أ َ ْن ت ُ ِصيبَ ُه ْم ُم ِصيبَةٌ ِبما قَ هد َمتْ أ َ ْيد ِ‬
‫ي‬‫ي ِمثْ َل ما أُوتِ َ‬‫ق ِم ْن ِع ْندِنا قالُوا لَ ْو ال أُوتِ َ‬ ‫ين ( ‪ ) 47‬فَلَ هما جا َء ُه ُم ا ْل َح ُّ‬ ‫ُون ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫َونَك َ‬
‫ون (‬‫ران تَظا َهرا َوقالُوا إِنها بِ ُك ٍ ّل كافِ ُر َ‬ ‫ي ُموسى ِم ْن قَ ْب ُل قالُوا سِحْ ِ‬ ‫ُموسى أ َ َولَ ْم يَ ْكفُ ُروا بِما أُوتِ َ‬
‫ين ) ‪ ( 49‬فَ ِإ ْن لَ ْم‬ ‫ّللا ُه َو أ َ ْهدى ِم ْن ُهما أَت ه ِب ْعهُ ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬ ‫ب ِم ْن ِع ْن ِد ه ِ‬ ‫‪ ) 48‬قُ ْل فَأْتُوا ِب ِكتا ٍ‬
‫ّللا ِإ هن ه َ‬
‫ّللا‬ ‫ض ُّل ِم هم ِن اتهبَ َع َهواهُ ِبغَ ْي ِر ُهدى ِم َن ه ِ‬ ‫ون أ َ ْهوا َء ُه ْم َو َم ْن أ َ َ‬ ‫ست َ ِجيبُوا لَكَ فَا ْعلَ ْم أَنهما يَت ه ِبعُ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ون ) ‪( 51‬‬ ‫ص ْلنا لَ ُه ُم ا ْلقَ ْو َل لَعَله ُه ْم يَتَذَك ُهر َ‬‫ين ( ‪َ ) 50‬ولَقَ ْد َو ه‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ال ه‬
‫ق‬‫علَ ْي ِه ْم قالُوا آ َمنها بِ ِه إِنههُ ا ْل َح ُّ‬
‫ون ( ‪َ ) 52‬وإِذا يُتْلى َ‬ ‫تاب ِم ْن قَ ْب ِل ِه ُه ْم بِ ِه يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ِين آت َ ْينا ُه ُم ا ْل ِك َ‬
‫الهذ َ‬
‫صبَ ُروا َويَد َْرؤ َ‬
‫ُن‬ ‫ين ( ‪ ) 53‬أُولئِكَ يُ ْؤت َ ْو َن أَجْ َر ُه ْم َم هرت َ ْي ِن بِما َ‬ ‫س ِل ِم َ‬‫ِم ْن َر ِبّنا إِنها ُكنها ِم ْن قَ ْب ِل ِه ُم ْ‬
‫ع ْنهُ َوقالُوا لَنا‬ ‫س ِمعُوا الله ْغ َو أَع َْرضُوا َ‬ ‫ون ) ‪َ ( 54‬وإِذا َ‬ ‫س ِيّئَةَ َو ِم هما َر َز ْقنا ُه ْم يُ ْن ِفقُ َ‬ ‫سنَ ِة ال ه‬‫ِبا ْل َح َ‬
‫ين ( ‪(55‬‬ ‫علَ ْي ُك ْم ال نَ ْبت َ ِغي ا ْلجا ِه ِل َ‬ ‫سال ٌم َ‬ ‫أَعْمالُنا َولَ ُك ْم أَعْمالُ ُك ْم َ‬
‫علَ ْي ُك ْم ال نَ ْبت َ ِغي ْالجا ِه ِلينَ "‬ ‫سال ٌم َ‬ ‫" َوقالُوا لَنا أَعْمالُنا َولَ ُك ْم أَعْمالُ ُك ْم َ‬
‫لما يئسوا من إرشادهم وفالحهم سلموا األمر إليه ‪ ،‬واشتغلوا بما يزلفهم لديه ‪ ،‬فأعرضوا شرعا‬
‫وسلموا حقيقة ‪ ،‬فأثنى الحق تعالى عليهم لنقتدي بهم ونعرف أنا إذا سلكنا مسلكهم كان لنا‬
‫نصيب من ذلك الثناء‪.‬‬

‫ص ‪303‬‬

‫‪303‬‬
‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬آية ‪] 56‬‬
‫ِين ) ‪( 56‬‬ ‫ّللا يَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء َو ُه َو أ َ ْعلَ ُم ِبا ْل ُم ْهتَد َ‬
‫ِإنهكَ ال ت َ ْهدِي َم ْن أَحْ بَ ْبتَ َول ِك هن ه َ‬
‫ّللا عليه وسلم بعمه أبي طالب أن يؤمن فلم يفعل ‪ ،‬ونفذت فيه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫لقد حرص رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم« ِإنَّ َك ال ت َ ْهدِي َم ْن أ َ ْحبَب َ‬
‫ْت‬ ‫ّللا وحكمه ‪ ،‬وقال تعالى لنبيه صلهى ه‬ ‫سابقة علم ه‬
‫باّلل ‪ ،‬ال الهدى بمعنى البيان ‪ ،‬فالهدى‬ ‫»المقصود بالهدى هنا الهدى التوفيقي ‪ ،‬وما توفيقي إال ه‬
‫ّللا يَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء »وهو الذي يعطي السعادة لمن قام به ‪ ،‬فهو اختصاص من‬ ‫التوفيقي« َول ِك َّن َّ َ‬
‫ص ِب َر ْح َم ِت ِه َم ْن يَشا ُء « َو ُه َو أ َ ْعلَ ُم ِب ْال ُم ْهتَدِينَ » *أي بالقابلين للتوفيق‬ ‫ّللا( يَ ْخت َ ُّ‬
‫ه‬

‫[ ‪ -‬تحقيق ‪ -‬ال يصح أن يكون كالم اإلنسان مؤثرا في األشياء مطلقا في هذه الدار ‪ ،‬بل محله‬
‫الجنان ]‬
‫‪ -‬تحقيق ‪ -‬ال يصح أن يكون كالم اإلنسان مؤثرا في األشياء مطلقا في هذه الدار ‪ ،‬بل محله‬
‫ّللا‬ ‫الجنان ‪ ،‬فإنه ال أكبر من محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم وقد قال لعمه أبي طالب ‪ :‬قل ال إله إال ه‬
‫ّللا ) في محل المأمور ‪ ،‬وإن كان على بصيرة فيه ‪،‬‬ ‫‪ ،‬فما ظهرت عن نشأة أمره ( ال إله إال ه‬
‫ولكنه مأمور أن يأمر ‪ ،‬وهو حريص على األمة ‪،‬‬
‫ْت »أي إنك ال تقدر على من تريد أن تجعله محال‬‫فكان قوله تعالى ‪ِ «:‬إنَّ َك ال ت َ ْهدِي َم ْن أ َ ْحبَب َ‬
‫لظهور ما تريد إنشاءه فيه أن يكون محال لوجود إنشائك فيه ‪ ،‬فقد كان صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬
‫ّللا ؛ وهو يأبى ‪.‬‬
‫ّللا في أذني أشهد لك بها عند ه‬ ‫يقول لعمه ‪ :‬قل ال إله إال ه‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬آية ‪] 57‬‬


‫ف ِم ْن أ َ ْر ِضنا أ َ َولَ ْم نُ َم ِ ّك ْن لَ ُه ْم َح َرما ِ‬
‫آمنا يُجْ بى إِلَ ْي ِه ث َ َمراتُ‬ ‫ط ْ‬‫َوقالُوا إِ ْن نَتهبِ ِع ا ْل ُهدى َمعَكَ نُت َ َخ ه‬
‫ون ( ‪) 57‬‬ ‫ش ْي ٍء ِر ْزقا ِم ْن لَ ُدنها َول ِك هن أ َ ْكث َ َر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْيءٍ ِر ْزقا ً ِم ْن لَ ُدنَّا »ال من الجهات ‪ ،‬فإن‬ ‫" أ َ َولَ ْم نُ َم ِ هك ْن لَ ُه ْم َح َرما ً ِآمنا ً يُ ْجبى ِإلَ ْي ِه ث َ َمراتُ ُك ِهل َ‬
‫ش ْيءٍ »فع هم ‪ ،‬ولم يقل ذلك في‬ ‫الحق ما أضاف الرزق إلى غيره مع قوله تعالى ‪ «:‬ث َ َمراتُ ُك ِهل َ‬
‫غير مكة« َول ِك َّن أ َ ْكث َ َر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُمونَ »نسبوها إلى الجهات وما ذكروا الحق ‪.‬‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 58‬إلى ‪] 60‬‬


‫شتَها فَتِ ْلكَ َمسا ِكنُ ُه ْم لَ ْم ت ُ ْ‬
‫سك َْن ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم إِاله قَ ِليال َو ُكنها نَحْ ُن‬ ‫َو َك ْم أ َ ْهلَ ْكنا ِم ْن قَ ْريَ ٍة بَ ِط َرتْ َم ِعي َ‬
‫علَ ْي ِه ْم آياتِنا َوما‬ ‫سوال يَتْلُوا َ‬ ‫ث فِي أ ُ ِ ّمها َر ُ‬ ‫كان َربُّكَ ُم ْه ِلكَ ا ْلقُرى َحتهى يَ ْبعَ َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 58‬وما َ‬ ‫وارثِ َ‬ ‫ا ْل ِ‬
‫ش ْي ٍء فَ َمتا ُ‬
‫ع ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا‬ ‫ون ( ‪َ ) 59‬وما أُوتِيت ُ ْم ِم ْن َ‬ ‫ُكنها ُم ْه ِل ِكي ا ْلقُرى ِإاله َوأ َ ْهلُها ظا ِل ُم َ‬
‫ون) ‪. ( 60‬‬ ‫ّللا َخ ْي ٌر َوأ َ ْبقى أ َ فَال ت َ ْع ِقلُ َ‬
‫َو ِزينَتُها َوما ِع ْن َد ه ِ‬

‫ص ‪304‬‬

‫‪304‬‬
‫ّللا وزينة الشيطان وزينة الحياة الدنيا ‪،‬‬ ‫احذر من فتنة الحياة الدنيا وزينتها ‪ ،‬وفرق بين زينة ه‬
‫إذا جاءت الزينة مهملة غير منسوبة فإنك ال تدري من زيهنها لك ‪ ،‬فانظر ذلك في موضع آخر‬
‫واتخذه دليال على ما انبهم عليك ‪ ،‬مثل قوله‪ ( :‬زَ يَّنَّا لَ ُه ْم أَعْمالَ ُه ْم ) ومثل قولهم ( أفمن زين له‬
‫ّللا غير‬
‫سوء عمله ) ولم يذكر من زينه ‪ ،‬فتستدل على من زيهنه من نفس العمل ‪ ،‬فزينة ه‬
‫محرمة ‪ ،‬وزينة الشيطان محرمة ‪ ،‬وزينة الدنيا ذات وجهين ‪ :‬وجه إلى اإلباحة والندب ‪،‬‬
‫ّللا حلوة خضرة ‪ ،‬واستخلف فيها‬ ‫ووجه إلى التحريم ‪ ،‬والحياة الدنيا وطن االبتالء ‪ ،‬فجعلها ه‬
‫عباده ‪ ،‬فناظر كيف يعملون فيها ‪ ،‬بهذا جاء الخبر النبوي ‪ ،‬فاتق فتنتها وميهز زينتها وقل رب‬
‫ّللا إال العالم فهو خير وأبقى ‪ ،‬من حيث أنه‬ ‫ّللا َخي ٌْر َوأَبْقى »وما عند ه‬
‫زدني علما ‪َ «،‬وما ِع ْن َد َّ ِ‬
‫أعطى العلم بنفسه للعالم به ‪ ،‬أي من حيث أن العلم تابع للمعلوم ‪ ،‬وهو حكم ال يزال باقيا ‪ ،‬فإن‬
‫العلم تابع للمعلوم في الحادث والقديم ‪ ،‬فأعيان العالم محفوظون في خزائنه عنده ‪ ،‬وخزائنه‬
‫علمه ‪ ،‬ومختزنه نحن ‪ ،‬فنحن أثبتنا له حكم االختزان ‪ ،‬ألنه ما علمنا إال منا ‪،‬‬

‫[ ‪ -‬تحقيق ‪ -‬الزاهد في الدنيا ]‬


‫ّللا َخي ٌْر َوأَبْقى »والعارف مال إلى قوله‬
‫‪-‬تحقيق ‪ -‬الزاهد في الدنيا مال إلى قوله ‪َ «:‬وما ِع ْن َد َّ ِ‬
‫ّللاُ َخي ٌْر َوأَبْقى )‪.‬‬
‫تعالى ‪َ (:‬و َّ‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 61‬إلى ‪] 68‬‬


‫ع ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا ث ُ هم ُه َو يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ِم َن‬‫سنا فَ ُه َو القِي ِه َك َم ْن َمت ه ْعنا ُه َمتا َ‬ ‫عدْنا ُه َوعْدا َح َ‬ ‫أ َ فَ َم ْن َو َ‬
‫ون ( ‪ ) 62‬قا َل الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ع ُم َ‬ ‫ِين ُك ْنت ُ ْم ت َ ْز ُ‬
‫ي الهذ َ‬ ‫ِيه ْم فَيَقُو ُل أ َ ْي َن ش َُركا ِئ َ‬
‫ين ( ‪َ ) 61‬ويَ ْو َم يُناد ِ‬ ‫ض ِر َ‬ ‫ا ْل ُمحْ َ‬
‫غ َو ْينا تَبَ هرأْنا إِلَ ْيكَ ما كانُوا إِيهانا‬ ‫ِين أ َ ْغ َو ْينا أ َ ْغ َو ْينا ُه ْم كَما َ‬ ‫علَ ْي ِه ُم ا ْلقَ ْو ُل َربهنا هؤ ِ‬
‫ُالء الهذ َ‬ ‫ق َ‬‫َح ه‬
‫ذاب لَ ْو أَنه ُه ْم كانُوا‬
‫ست َ ِجيبُوا لَ ُه ْم َو َرأ َ ُوا ا ْلعَ َ‬ ‫ُون ) ‪َ ( 63‬وقِي َل ا ْدعُوا ش َُركا َء ُك ْم فَ َدع َْو ُه ْم فَلَ ْم يَ ْ‬ ‫يَ ْعبُد َ‬
‫س ِلي َن ) ‪( 65‬‬ ‫ِيه ْم فَيَقُو ُل ما ذا أ َ َج ْبت ُ ُم ا ْل ُم ْر َ‬
‫ُون ( ‪َ ) 64‬ويَ ْو َم يُناد ِ‬ ‫يَ ْهتَد َ‬
‫تاب َوآ َم َن َوع َِم َل صا ِلحا‬ ‫ون ) ‪ ( 66‬فَأ َ هما َم ْن َ‬ ‫علَ ْي ِه ُم ْاأل َ ْنبا ُء يَ ْو َمئِ ٍذ فَ ُه ْم ال يَتَسا َءلُ َ‬
‫فَعَ ِميَتْ َ‬
‫س ْب َ‬
‫حان‬ ‫كان لَ ُه ُم ا ْل ِخيَ َرةُ ُ‬
‫تار ما َ‬ ‫ق ما يَشا ُء َويَ ْخ ُ‬ ‫ين ( ‪َ ) 67‬و َربُّكَ يَ ْخلُ ُ‬ ‫ُون ِم َن ا ْل ُم ْف ِل ِح َ‬ ‫فَعَسى أ َ ْن يَك َ‬
‫ُون) ‪( 68‬‬ ‫ع هما يُش ِْرك َ‬ ‫ّللا َوتَعالى َ‬ ‫هِ‬

‫ص ‪305‬‬

‫‪305‬‬
‫[ " َو َرب َُّك يَ ْخلُ ُق " ]‬
‫« َو َرب َُّك يَ ْخلُ ُق »أي يقدهر ويوجد« ما يَشا ُء »لو كان وجود العالم لذات الحق ال للنسب اإللهية‬
‫لكان العالم مساوقا للحق في الوجود ‪ ،‬وليس كذلك ‪ ،‬فالنسب حكم هّلل أزال ‪ ،‬وهي تطلب تأخر‬
‫وجود العالم عن وجود الحق ‪ ،‬فيصح حدوث العالم ‪ ،‬وليس ذلك إال لنسبة المشيئة التي هي‬
‫مفتاح الغيب ‪ ،‬وسبق العلم بوجوده ‪ ،‬فكان وجود العالم مر هجحا على عدمه ‪ ،‬والوجود المرجح‬
‫ال يساوق الوجود الذاتي الذي ال يتصف بالترجيح ‪ ،‬فكل ما سوى الحق عرض زائل وغرض‬
‫تار »كذا فعل سبحانه في‬ ‫مائل وإن اتصف بالوجود ‪ ،‬فهو في نفسه في حكم المعدوم « َويَ ْخ ُ‬
‫جميع الموجودات ‪ ،‬فاختار من كل أمر في كل جنس أمرا ما ‪ ،‬كما اختار من األسماء الحسنى‬
‫ّللا ‪ ،‬واختار من الناس الرسل ‪ ،‬واختار من العباد المالئكة ‪ ،‬واختار من األفالك العرش‬ ‫كلمة ه‬
‫‪ ،‬واختار من األركان الماء ‪ ،‬واختار من الشهور رمضان ‪ ،‬واختار من العبادات الصوم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬واختار من أيام األسبوع يوم الجمعة ‪،‬‬ ‫واختار من القرون قرن النبي صلهى ه‬
‫واختار من أحوال السعادة في الجنة الرؤية ‪ ،‬واختار من األحوال الرضى ‪ ،‬واختار من‬
‫ّللا ‪ ،‬واختار من الكالم القرآن ‪ ،‬واختار من سور القرآن يس ‪ ،‬واختار من‬ ‫األذكار ال إله إال ه‬
‫ّللا أحد ‪ ،‬واختار من أدعية‬‫أي القرآن آية الكرسي ‪ ،‬واختار من قصار المفصل ‪ :‬قل هو ه‬
‫األزمنة دعاء عرفة ‪ ،‬واختار من المراكب البراق ‪ ،‬واختار من المالئكة الروح ‪ ،‬واختار من‬
‫األلوان البياض ‪ ،‬واختار من األكوان االجتماع ‪ ،‬واختار من اإلنسان القلب ‪ ،‬واختار من‬
‫األحجار الحجر األسود ‪ ،‬واختار من البيوت البيت المعمور ‪ ،‬واختار من األشجار السدرة ‪،‬‬
‫واختار من النساء مريم وآسية ‪ ،‬واختار من الرجال محمدا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬واختار من‬
‫الكواكب الشمس ‪ ،‬واختار من الحركات الحركة المستقيمة ‪ ،‬واختار من النواميس الشريعة‬
‫المنزلة ‪ ،‬واختار من البراهين البراهين الوجودية ‪ ،‬واختار من الصور الصورة اآلدمية ‪ ،‬لذلك‬
‫أبرزها على الصورة اإللهية ‪ ،‬واختار من األنوار ما يكون معه النظر ‪ ،‬واختار من النقيضين‬
‫اإلثبات ‪ ،‬ومن الضدين الوجود ‪ ،‬واختار الرحمة على الغضب ‪ ،‬واختار‬

‫ص ‪306‬‬

‫‪306‬‬
‫ّللا ‪ ،‬واختار من أصناف اإلرادات النية ‪،‬‬
‫من أحوال أفعال الصالة السجود ‪ ،‬ومن أقوالها ذكر ه‬
‫والتحقيق أنه ما ث هم حثالة وال كناسة فإن ربك يخلق ما يشاء ويختار ‪ ،‬والمختار هو المصطفى‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬فالنفوس نفايس ‪ ،‬فيختار األنفس ويبقي النفيس ‪ ،‬فهذا ما كان من اختيار ه‬

‫[ الجبر واالختيار ]‬
‫وّللا فعال لما يريد ‪ ،‬فنفى أن تكون لهم‬ ‫‪-‬الوجه األول ‪ «-‬ما كانَ لَ ُه ُم ْال ِخيَ َرة ُ »بل هي هّلل ‪ ،‬ه‬
‫الخيرة ‪ ،‬وعندنا أن [ ما ] هنا اسم ‪ ،‬وهو في موضع نصب على أنه مفعول بقوله ‪ :‬ويختار‬
‫الذي كان لهم الخيرة ‪ ،‬يعني فيه ‪ ،‬فإذا علم العبد ذلك سلهم الحكم فيه هّلل واستسلم ‪ ،‬وكان بحكم‬
‫ّللا فيه ‪ ،‬ال بحكم ما يختاره لنفسه في المنشط والمكره ‪ ،‬ويرى أن الكل له فيه‬ ‫وقت ما يمضيه ه‬
‫ّللا مثل هذا ‪-‬‬ ‫ّللا في كل ذلك بخير ‪ ،‬فإن كان وقته يعطي نعمة ‪ -‬وكان عقده مع ه‬ ‫خير ‪ ،‬فيعامله ه‬
‫ّللا فيها وأعين عليها ‪ ،‬وإن كان بالء رزق الصبر عليه‬ ‫رزقه الشكر عليها والقيام بحق ه‬
‫ّللا له مخرجا من حيث ال يحتسب ‪ ،‬فإذا اقتضى الحق أمرا وكان له بك‬ ‫والرضا به وجعل ه‬
‫عناية أجراه عليك ورزقك القيام بحقه‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬ال ينبغي للعبد أن يكون له اختيار مع سيده قال تعالى ‪َ «:‬و َرب َُّك يَ ْخلُ ُق ما‬
‫تار ما كانَ لَ ُه ُم ْال ِخيَ َرة ُ »فيما يختاره لهم ‪ ،‬فليس لهم أن يختاروا ‪ ،‬بل يقفون عند‬ ‫يَشا ُء َويَ ْخ ُ‬
‫ّللا تعالى ‪ -‬تحقيق الجبر واالختيار ‪ -‬العبد مجبور في‬ ‫المراسم الشرعية ‪ ،‬فإن الشارع هو ه‬
‫ّللا فاعل مختار فإن ذلك من أجل قوله ‪ :‬ويختار ‪،‬‬ ‫اختياره ‪ ،‬ومع أن ه‬
‫وقوله ‪ :‬ولو شئنا ‪ ،‬وال يفعل إال ما سبق به علمه ‪ ،‬وتبدل العلم محال ‪ ،‬وما رأيت أحدا تفطن‬
‫لهذا القول اإللهي ‪ ،‬فإن معناه في غاية البيان ‪ ،‬ولشدة وضوحه خفي ‪ ،‬فإنه سر القدر ‪ ،‬ومن‬
‫ّللا في كل ما يقضيه ويجريه على عباده وفيهم ومنهم‬ ‫وقف على هذه المسألة لم يعترض على ه‬
‫ع َّما يَ ْفعَ ُل َو ُه ْم يُ ْسئَلُونَ ) فالعبد مجبور في اختياره الذي ينسب إليه ‪،‬‬ ‫‪ ،‬ولهذا قال ‪ (:‬ال يُ ْسئ َ ُل َ‬
‫وهو أصل يشمل كل موجود ‪ ،‬ال أحاشي موجودا من موجود ‪ -‬نسبة االختيار إلى الحق تعالى‬
‫ّللا تعالى حتى يقال ‪:‬‬
‫‪ -‬يستحيل عندنا أن ينسب الجواز إلى ه‬
‫ّللا لك ‪ ،‬ويجوز أن يخلق ويجوز أن ال يخلق ‪ ،‬هذا‬ ‫ّللا لك ويجوز أن ال يغفر ه‬ ‫يجوز أن يغفر ه‬
‫ّللا ‪،‬‬‫ّللا محال ‪ ،‬ألنه عين االفتقار إلى المرجح لوقوع أحد الجائزين ‪ ،‬وما ث هم إال ه‬ ‫على ه‬
‫وأصحاب هذا المذهب قد افتقروا إلى ما التزموه من هذا الحكم إلى إثبات اإلرادة حتى يكون‬
‫الحق يرجح بها ‪ ،‬وال خفاء بما في هذا المذهب من الغلط ‪ ،‬فإنه يرجع الحق محكوما عليه بما‬
‫هو زائد على ذاته ‪ ،‬وهو عين ذات أخرى ‪ ،‬وإن لم يقل فيها صاحب هذا المذهب إن تلك الذات‬

‫ص ‪307‬‬

‫‪307‬‬
‫الزائدة عين الحق وال غير عينه ‪ ،‬فالذي نقول به ‪ :‬إن هذه العين المخلوقة من كونها ممكنة‬
‫تقبل الوجود وتقبل العدم ‪ ،‬فجائز أن تخلق فتوجد ‪ ،‬وجائز أن ال تخلق فال توجد ‪ ،‬فإذا وجدت‬
‫ّللا أتم ‪،‬‬‫ّللا ‪ ،‬يستقيم الكالم ويكون األدب مع ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وإذا لم توجد فبالمر هجح وهو ه‬
‫فبالمر هجح وهو ه‬
‫ّللاُ ) *و( لَ ْو أَرا َد َّ‬
‫ّللاُ‬ ‫بل هو الواجب أن يكون األمر كما قلنا ‪ ،‬وأما احتجاجهم بقوله ‪ (:‬لَ ْو شا َء َّ‬
‫) فهو عليهم هذا االحتجاج ال لهم ‪ ،‬لزومية أن لو حرف امتناع المتناع ولوال حرف امتناع‬
‫لوجود ‪ ،‬فاإلمكان للممكن هو الحكم الذي أظهر االختيار في المر هجح والذي عند المر هجح أمر‬
‫واحد ‪ ،‬وهو أحد األمرين ال غير ‪،‬‬
‫فما ث هم بالنظر إلى الحق إال أحدية محضة ال يشوبها اختيار ‪،‬‬
‫أال تراه يقول تعالى ‪ :‬لو شاء كذا لكان كذا ؛ فما شاء فما كان ذلك ‪ ،‬فنفى عن نفسه تعلق‬
‫المشيئة ‪ ،‬فنفى الكون عن ذلك المذكور ‪ ،‬فاالختيار تعلق خاص للذات أثبته الممكن إلمكانه في‬
‫القبول ألحد األمرين على البدل ‪ ،‬ولوال معقولية هذين األمرين ومعقولية القبول من الممكن ما‬
‫ثبت لإلرادة وال لالختيار حكم ‪ ،‬فإن المشيئة اإللهية ما عندها إال أمر واحد في األشياء ‪ ،‬وال‬
‫تزال األشياء على حكم واحد معيهن من الحكمين ‪ ،‬فمشيئة الحق في األمور عين ما هي األمور‬
‫عليه فزال الحكم ‪ ،‬فإن المشيئة إن جعلتها خالف عين األمر فإما أن تتبع األمر وهو محال ‪،‬‬
‫وإما أن يتبعها األمر ‪ ،‬وهو محال ‪ ،‬وبيان ذلك أن األمر هو أمر لنفسه كان ما كان ‪ ،‬فهو ال‬
‫يقبل التبديل ‪ ،‬فهو غير مشاء بمشيئة ليست عينه ‪ ،‬فالمشيئة عينه ‪ ،‬فال تابع وال متبوع ‪ ،‬فتحفظ‬
‫ّللا االختيار في المشيئة ‪ ،‬ألنه محال عليه الجواز ‪ ،‬ألنه محال أن‬ ‫من الوهم ‪ ،‬فمحال على ه‬
‫يكون هّلل مرجح يرجح له أمرا دون أمر ‪ ،‬فهو المرجح لذاته ‪ ،‬فالمشيئة أحدية التعلق ال اختيار‬
‫فيها ‪ ،‬ولهذا ال يعقل الممكن أبدا إال مر هجحا ‪ ،‬ولذلك أقول بالحكم اإلرادي لكني ال أقول‬
‫باالختيار ‪ ،‬فإن الخطاب باالختيار الوارد إنما ورد من حيث النظر إلى الممكن معرى عن‬
‫علته وسببيته‬
‫[ ‪ -‬نصيحة ‪ -‬ال يثبت العبد لنفسه ما نفاه الحق ]‬
‫‪-‬نصيحة ‪ -‬ال يثبت العبد لنفسه ما نفاه الحق عنه ‪ ،‬ويختار ما لم يختره له الحق ‪.‬‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 69‬إلى ‪] 70‬‬


‫ّللاُ ال إِلهَ إِاله ُه َو لَهُ ا ْل َح ْم ُد فِي ْاألُولى‬ ‫ُور ُه ْم َوما يُ ْع ِلنُ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 69‬و ُه َو ه‬ ‫صد ُ‬ ‫َو َربُّكَ يَ ْعلَ ُم ما ت ُ ِك ُّن ُ‬
‫ون) ‪( 70‬‬ ‫َو ْاآل ِخ َر ِة َولَهُ ا ْل ُح ْك ُم َوإِلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُ َ‬

‫‪308‬‬

‫‪308‬‬
‫هذا هو التوحيد الثالث والعشرون في القرآن ‪،‬‬
‫[ توحيد االختيار ]‬
‫تار )وهو من توحيد الهوية ‪ ،‬فإن الدليل يعطي‬ ‫وهو توحيد االختيار( َو َرب َُّك يَ ْخلُ ُق ما يَشا ُء َويَ ْخ ُ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا غيره من حيث نسبة العالم إلى ه‬ ‫أن ال يكون في العالم تفاضل ‪ ،‬وال مختار يفضل عند ه‬
‫فإن نسبته واحدة ‪ ،‬ورأينا األمر على غير هذا خرج ‪ ،‬وفي القرآن كثير من تفضيل كل جنس‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا يفضل على سائر الكتب المنزلة وهي كالم ه‬ ‫بعضه على بعض ‪ ،‬حتى القرآن وهو كالم ه‬
‫ّللا أنه كالمه بال شك ‪ ،‬فآية الكرسي‬ ‫والقرآن نفسه يفضل بعضه على بعض مع نسبته إلى ه‬
‫سيدة آي القرآن ‪ ،‬وهي قرآن ‪ ،‬فعلمنا من هذا أن الحكمة التي يقتضيها النظر العقلي ليست‬
‫ّللا في األمور هي الحكمة الصحيحة التي ال تعقل ‪ ،‬وإن كانت ال تعلم‬ ‫بصحيحة ‪ ،‬وأن حكمة ه‬
‫فما تجهل ‪ ،‬لكن ال تعيهن بمجرد فكر وال نظر ‪ ،‬فلما رأينا التفاضل واالختيار وقع في العالم‬
‫حتى في األذكار اإللهية المشروعة كما ذكرنا ‪ ،‬علمنا أن ث هم أمرا معقوال ما هو عين أعيان‬
‫الكائنات ‪ ،‬فإذا بذلك عين المشيئة ‪ ،‬فيها ظهر هذا التفضيل في الواحد ‪ ،‬والتفضيل في‬
‫ّللا‬
‫المتساوي ‪ ،‬والواحد ال يتصف بالتفضيل ‪ ،‬والمتساوي ال ينعت بالتفضيل ‪ ،‬فعلمنا أن سر ه‬
‫مجهول ال يعلمه إال هو ‪ ،‬فوجدناه توحيد االختيار في حضرة السر« ال إِلهَ إِ َّال ُه َو لَهُ ْال َح ْم ُد فِي‬
‫ْاألُولى »وهو حمد اإلجمال« َو ْاآل ِخ َرةِ »وهو حمد التفصيل ‪ ،‬فتميزت المحامد في العين‬
‫الواحدة فكان حمدها عينها« َولَهُ ْال ُح ْك ُم َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ »أي الحكم وهو القضاء ‪ ،‬فالضمير‬
‫في« ِإلَ ْي ِه »يعود على الحكم ‪ ،‬فإنه أقرب مذكور ‪ ،‬فال يعود على األبعد ويتعدى األقرب إال‬
‫بقرينة حال ‪ ،‬هذا هو المعلوم في اللسان الذي أنزل به القرآن فالقضاء الذي له المضي في‬
‫األمور هو الحكم اإللهي على األشياء بكذا ‪ ،‬والقدر ما يقع بوجوده في موجود معين المصلحة‬
‫المتعدية منه إلى غير ذلك الموجود ‪ ،‬فالقضاء يحكم على القدر ‪ ،‬والقدر ال حكم له في القضاء‬
‫‪ ،‬بل حكمه في المقدر ال غير بحكم القضاء ‪ ،‬فالقاضي حاكم والمقدهر مؤقت ‪ ،‬ولما أوجد‬
‫سبحانه كتابين من كونه سبحانه خلق من كل شيء زوجين ‪ ،‬فالقضاء وهو الحكم للكتاب األول‬
‫وهو األم ‪ ،‬ويطلبه حكم الكتاب الثاني وهو القدر الذي به تقوم الحجة ‪َ «،‬ولَهُ ْال ُح ْك ُم »بالكتاب‬
‫األول« َو ِإلَ ْي ِه »إلى هذا الكتاب« ت ُ ْر َجعُونَ »‪.‬‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 71‬إلى ‪] 73‬‬


‫ّللا يَأْتِي ُك ْم ِب ِض ٍ‬
‫ياء أ َ فَال‬ ‫غ ْي ُر ه ِ‬ ‫س ْر َمدا إِلى يَ ْو ِم ا ْل ِقيا َم ِة َم ْن إِلهٌ َ‬
‫علَ ْي ُك ُم الله ْي َل َ‬
‫ّللاُ َ‬‫قُ ْل أ َ َرأ َ ْيت ُ ْم إِ ْن َجعَ َل ه‬
‫ّللا‬
‫غ ْي ُر ه ِ‬‫س ْر َمدا ِإلى يَ ْو ِم ا ْل ِقيا َم ِة َم ْن ِإلهٌ َ‬ ‫علَ ْي ُك ُم النه َ‬
‫هار َ‬ ‫ون ( ‪ ) 71‬قُ ْل أ َ َرأ َ ْيت ُ ْم ِإ ْن َجعَ َل ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫س َمعُ َ‬ ‫تَ ْ‬
‫س ُكنُوا‬ ‫ون ( ‪َ ) 72‬و ِم ْن َرحْ َمتِ ِه َجعَ َل لَ ُك ُم الله ْي َل َوالنه َ‬
‫هار ِلت َ ْ‬ ‫ون فِي ِه أ َ فَال ت ُ ْب ِص ُر َ‬ ‫يَأْتِي ُك ْم ِبلَ ْي ٍل ت َ ْ‬
‫س ُكنُ َ‬
‫ون) ‪( 73‬‬ ‫شك ُُر َ‬‫ض ِل ِه َولَعَله ُك ْم ت َ ْ‬‫ِفي ِه َو ِلت َ ْبتَغُوا ِم ْن فَ ْ‬

‫ص ‪309‬‬

‫‪309‬‬
‫" َو ِم ْن َر ْح َم ِت ِه َجعَ َل لَ ُك ُم اللَّ ْي َل َوالنَّ َ‬
‫هار ِلت َ ْس ُكنُوا ِفي ِه »فأعاد الضمير على الليل« َو ِلت َ ْبتَغُوا ِم ْن‬
‫ض ِل ِه »يريد في النهار ‪ ،‬فأضمر لما يتضمنه النهار غالبا من الحركات في المعاش وقوام‬ ‫فَ ْ‬
‫النفوس ومصالح الخلق وتنفيذ األوامر وإظهار الصنائع وإقامة المصنوعات في نشأتها‬
‫وتحسين هيئاتها ‪ ،‬وإن كان الضميران يعودان على المعنى المقصود ‪ ،‬فقد يعمل الصانع بالليل‬
‫ويبيع ويشتري بالليل ‪ ،‬كما أنه ينام أيضا ويسكن بالنهار ‪ ،‬ولكن الغالب في األمور هو‬
‫المعتبر‪.‬‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 74‬إلى ‪] 75‬‬


‫ون ( ‪َ ) 74‬ونَ َزعْنا ِم ْن ُك ِ ّل أ ُ هم ٍة ش َِهيدا فَقُ ْلنا‬ ‫ع ُم َ‬‫ِين ُك ْنت ُ ْم ت َ ْز ُ‬
‫ي الهذ َ‬‫ِيه ْم فَيَقُو ُل أ َ ْي َن ش َُركائِ َ‬ ‫َويَ ْو َم يُناد ِ‬
‫ون ( ‪) 75‬‬ ‫ع ْن ُه ْم ما كانُوا يَ ْفت َ ُر َ‬ ‫ض هل َ‬ ‫ّلِل َو َ‬
‫ق ِه ِ‬‫هاتُوا بُ ْرهانَ ُك ْم فَعَ ِل ُموا أ َ هن ا ْل َح ه‬
‫ع ْن ُه ْم ما كانُوا يَ ْفت َ ُرونَ »فعلموا أنههم كانوا من الذين ال يعلمون‪.‬‬ ‫ض َّل َ‬ ‫ّلل َو َ‬ ‫« فَعَ ِل ُموا أ َ َّن ْال َح َّق ِ َّ ِ‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬آية ‪] 76‬‬


‫صبَ ِة‬‫وز ما إِ هن َمفاتِ َحهُ لَتَنُوأ ُ بِا ْلعُ ْ‬ ‫كان ِم ْن قَ ْو ِم ُموسى فَبَغى َ‬
‫علَ ْي ِه ْم َوآت َ ْيناهُ ِم َن ا ْل ُكنُ ِ‬ ‫ون َ‬ ‫قار َ‬ ‫إِ هن ُ‬
‫ين ( ‪) 76‬‬ ‫ب ا ْلفَ ِر ِح َ‬ ‫أُو ِلي ا ْلقُ هو ِة إِ ْذ قا َل لَهُ قَ ْو ُمهُ ال ت َ ْف َرحْ إِ هن ه َ‬
‫ّللا ال يُ ِح ُّ‬
‫ّللا ال يُ ِحبُّ ْالفَ ِر ِحينَ »‬ ‫« ِإ َّن َّ َ‬
‫[ الحزن ]‬
‫ّللا نهي قوم قارون له ‪ ،‬وهو فرح‬ ‫ّللا تعالى وإنما حكى ه‬ ‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬هذا ليس نهيا من ه‬
‫ّللا ال يحب الفرح بذلك الفرح ‪ ،‬ومن فرح بهذا‬ ‫خاص من شأن النفوس أن تفرح به ‪ ،‬وأن ه‬
‫األمر المعيهن مثل جمعه المال الذي يتركه بالموت في الدنيا وال يقدمه عاد فرحه بذلك ترحا ‪،‬‬
‫فحزن لفرحه على قدر فرحه ‪ ،‬فإن كان عظيما عظم‬

‫ص ‪310‬‬

‫‪310‬‬
‫حزنه ‪ ،‬وإن كان دون ذلك كان الحزن والترح بحسبه ‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬الحزن إذا فقد من القلب‬
‫في الدنيا خرب لحصول ضده ‪ ،‬إذ ال يخلو ‪ ،‬والدار الدنيا ال تعطي الفرح لما فيه من نفي‬
‫المحبة اإللهية عمن قام به ‪ ،‬فال يزال الحزن دائما أبدا ‪ ،‬وهو مقام مستصحب للعبد ما دام‬
‫مكلفا وفي اآلخرة ما لم يدخل الجنة ‪ ،‬فإنه ليس في الوسع اإلمكاني تحصيل جملة األمر ‪ ،‬فال‬
‫بد من فوت فال بد من حزن ‪.‬‬
‫الحزن مركبه صعب وغايته *** ذهابه فولهي ه‬
‫ّللا من حزنا‬
‫قلب الحزين هنا تقوى قواعده *** هناك والغرض المقصود منك هنا‬
‫فاّلل ليس يحب الفارح اللسنا‬
‫دار التكاليف دار ما بها فرح *** ه‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬آية ‪] 77‬‬


‫ّللاُ ِإلَ ْيكَ َوال‬ ‫س ْن كَما أَحْ َ‬
‫س َن ه‬ ‫س نَ ِصيبَكَ ِم َن ال ُّد ْنيا َوأَحْ ِ‬ ‫هار ْاآل ِخ َرةَ َوال ت َ ْن َ‬ ‫ّللاُ الد َ‬‫َوا ْبت َ ِغ فِيما آتاكَ ه‬
‫ِين ) ‪( 77‬‬ ‫سد َ‬ ‫ب ا ْل ُم ْف ِ‬ ‫ض ِإ هن ه َ‬
‫ّللا ال يُ ِح ُّ‬ ‫ت َ ْب ِغ ا ْلفَسا َد فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللاُ ِإلَي َْك » ]‬
‫سنَ َّ‬ ‫[ « َوأ َ ْح ِس ْن َكما أ َ ْح َ‬
‫ّللا كأنه يراه‬ ‫ّللاُ إِلَي َْك »اإلحسان الذي يسمى به العبد محسنا هو أن يعبد ه‬ ‫سنَ َّ‬ ‫« َوأ َ ْح ِس ْن َكما أ َ ْح َ‬
‫ّللا هو مقام رؤيته عباده في حركاتهم وتصرفاتهم ‪،‬‬ ‫‪ ،‬أي يعبده على المشاهدة ‪ ،‬وإحسان ه‬
‫فشهوده لكل شيء هو إحسانه ‪ ،‬فإنه بشهوده يحفظه من الهالك ‪ ،‬فكل حال ينتقل فيه العبد فهو‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ هو الذي نقله تعالى ‪ ،‬ولهذا سمي اإلنعام إحسانا ‪ ،‬فإنه ال ينعم عليك بالقصد‬ ‫من إحسان ه‬
‫إال من يعلمك ‪ ،‬ومن كان علمه عين رؤيته فهو محسن على الدوام ‪ ،‬فإنه يراك على الدوام ألنه‬
‫يعلمك دائما ‪ ،‬ولما كان سعي اإلنسان في حق الغير إنما يسعى لنفسه في نفس األمر ‪ ،‬لذا أمر‬
‫ّللا به عليك‬ ‫ّللا السعي عليه مما فتح ه‬ ‫باإلحسان ‪ ،‬فما زاد على ما يقوتك ويقوت من كلفك ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن جهلت‬ ‫فأوصله إنعاما منك إلى من شئت ‪ ،‬ممن تعلم منه أنه يستعمله في طاعة ه‬
‫فأوصله إلى من شئت ‪ ،‬فإنك لن تخيب من فائدته من كونك منعما بما سمي ملكا لك ‪ ،‬فأنت فيه‬
‫كربه النعمة ‪ ،‬فأنت نائبه وخليفته ‪ ،‬وقد رزق النبات والحيوان والطائع والعاصي ‪ ،‬فكن أنت‬
‫كذلك ‪ ،‬وتحرى الطائع جهد استطاعتك ‪ ،‬فإن ذلك أوفر لحظك وأعلى ‪ ،‬وفي حقك أولى‬
‫ّللا ال يُ ِحبُّ ْال ُم ْف ِسدِينَ »الفساد هنا المراد به تغيير الحكم‬ ‫ض إِ َّن َّ َ‬ ‫وأثنى« َوال تَب ِْغ ْالفَسا َد فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫اإللهي ‪ ،‬ال تغيير العين وال إبدال الصورة‪.‬‬

‫ص ‪311‬‬

‫‪311‬‬
‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 78‬إلى ‪]83‬‬
‫ش ُّد‬‫ون َم ْن ُه َو أ َ َ‬ ‫ّللا قَ ْد أ َ ْهلَكَ ِم ْن قَ ْب ِل ِه ِم َن ا ْلقُ ُر ِ‬
‫قا َل ِإنهما أُو ِتيتُهُ عَلى ِع ْل ٍم ِع ْندِي أ َ َولَ ْم يَ ْعلَ ْم أ َ هن ه َ‬
‫ج عَلى قَ ْو ِم ِه فِي ِزينَتِ ِه‬ ‫ون ( ‪ ) 78‬فَ َخ َر َ‬ ‫سئ َ ُل ع َْن ذُنُوبِ ِه ُم ا ْل ُمجْ ِر ُم َ‬ ‫ِم ْنهُ قُ هوة َوأ َ ْكث َ ُر َج ْمعا َوال يُ ْ‬
‫يم ( ‪َ ) 79‬وقا َل‬ ‫ظ ع َِظ ٍ‬ ‫ون إِنههُ لَذُو َح ٍ ّ‬ ‫قار ُ‬
‫ي ُ‬ ‫ُون ا ْل َحياةَ ال ُّد ْنيا يا لَ ْيتَ لَنا ِمثْ َل ما أُوتِ َ‬ ‫ِين يُ ِريد َ‬ ‫قا َل الهذ َ‬
‫صا ِب ُرو َن ( ‪80‬‬ ‫ّللا َخ ْي ٌر ِل َم ْن آ َم َن َوع َِم َل صا ِلحا َوال يُلَقهاها ِإاله ال ه‬ ‫ِين أُوتُوا ا ْل ِع ْل َم َو ْيلَ ُك ْم ث َ ُ‬
‫واب ه ِ‬ ‫الهذ َ‬
‫كان ِم َن‬ ‫ّللا َوما َ‬ ‫ُون ه ِ‬‫ص ُرونَهُ ِم ْن د ِ‬ ‫كان لَهُ ِم ْن فِئ َ ٍة يَ ْن ُ‬ ‫ض فَما َ‬ ‫دار ِه ْاأل َ ْر َ‬
‫س ْفنا ِب ِه َو ِب ِ‬ ‫) فَ َخ َ‬
‫ق ِل َم ْن‬ ‫الر ْز َ‬
‫ط ِّ‬ ‫س ُ‬ ‫ون َو ْيكَأ َ هن ه َ‬
‫ّللا يَ ْب ُ‬ ‫ِين ت َ َمنه ْوا َمكانَهُ ِب ْاأل َ ْم ِس يَقُولُ َ‬ ‫صبَ َح الهذ َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 81‬وأ َ ْ‬ ‫ال ُم ْنت َ ِص ِر َ‬
‫ون ) ‪( 82‬‬ ‫ف بِنا َو ْيكَأَنههُ ال يُ ْف ِل ُح ا ْلكافِ ُر َ‬ ‫س َ‬ ‫علَ ْينا لَ َخ َ‬
‫ّللاُ َ‬ ‫يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه َويَ ْقد ُِر لَ ْو ال أ َ ْن َم هن ه‬
‫ض َوال فَسادا َوا ْلعاقِبَةُ ِل ْل ُمت ه ِقي َن ( ‪) 83‬‬ ‫علُ ًّوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ُون ُ‬ ‫ِين ال يُ ِريد َ‬ ‫هار ْاآل ِخ َرةُ نَجْ عَلُها ِللهذ َ‬ ‫تِ ْلكَ الد ُ‬
‫َّار ْاآل ِخ َرة ُ »يريد دار السعادة ‪ ،‬فإن في اآلخرة منزل شقاوة ومنزل سعادة ‪ ،‬فالدار‬ ‫« تِ ْل َك الد ُ‬
‫علُ ًّوا فِي‬ ‫اآلخرة هنا الجنة خاصة دون النار« ن َْجعَلُها » اي نملكها ملكا« ِللَّذِينَ ال يُ ِريدُونَ ُ‬
‫ض َوال فَسادا ً »سواء حصل لهم ذلك المراد أو لم يحصل ‪ ،‬فقد أرادوه وحصل في نفوسهم‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا ذلوال والعبد هو الذليل ‪ ،‬والذلة ال تقتضي العلو ‪ ،‬فمن جاوز قدره‬ ‫‪ ،‬فإن األرض قد جعلها ه‬
‫هلك ‪ ،‬فليس للعبد أن يتصف بأوصاف سيده ال في حضرته وال عند إخوانه من العبيد وإن واله‬
‫عليهم ‪ ،‬فالرب رب إلى غير نهاية ‪ ،‬والعبد عبد إلى غير نهاية ‪ ،‬فإن الصفات النفسية ال تكون‬
‫مرادة للموصوف فيها ‪ ،‬فمن عال بغيره ولم يكن له حافظ يحفظ عليه علوه سقط وقوتل ‪،‬‬
‫ّللا منزلته ‪ ،‬ولما كانت‬ ‫فالعالي من أعلى ه‬

‫ص ‪312‬‬

‫‪312‬‬
‫ّللا منزلته علوه ‪ ،‬ومن عال‬ ‫ّللا ‪ -‬الذي له العلو الذاتي ‪ -‬حفظ على كل من أعلى ه‬ ‫الرفعة من ه‬
‫ّللا وأخذه للكبرياء الذي كان عليه في نفسه ‪ ،‬ولهذا قال‬ ‫بنفسه من الجبارين والمتكبرين قصمه ه‬
‫‪َ «:‬و ْالعاقِبَةُ ِل ْل ُمت َّ ِقينَ »‪ ،‬أي عاقبة العلو الذي عال به من أراد علوا في األرض يكون للمتقين ‪،‬‬
‫ّللا العلو في المنزلة في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فأما في اآلخرة فأمر الزم ال بد منه ‪ ،‬ألن‬
‫أي يعطيهم ه‬
‫ّللا‬
‫وعده صدق وكالمه حق ‪ ،‬والدار اآلخرة محل تميز المراتب وتعيين مقادير الخلق عند ه‬
‫ومنزلتهم منه تعالى ‪ ،‬فال بد من علو المتقين يوم القيامة ‪ ،‬وأما في الدنيا فإنه كل من تحقق‬
‫صدقه في تقواه وزهده ‪ ،‬فإن نفوس الجبارين والمتكبرين تتوفر دواعيهم إلى تعظيمه ‪ ،‬لكونهم‬
‫ما زاحموهم في مراتبهم ‪ ،‬فأنزلهم ما حصل في نفوسهم من تعظيم المتقين عن علوهم وقصدوا‬
‫خدمتهم والتبرك بهم ‪ ،‬وانتقل ذلك العلو الذي ظهروا به إلى هذا المتقي ‪ ،‬وكان عاقبة العلو‬
‫للمتقي والجبار ال يشعر ‪ ،‬ويلتذ الجبار إذا قيل فيه إنه قد تواضع ونزل إلى هذا المتقي ‪،‬‬
‫فيتخيل الجبار أن المتقي هو األسفل وأن الجبار نزل إليه ‪ ،‬بل علو الجبار انتقل إلى المتقي من‬
‫حيث ال يشعر ‪ ،‬ونزل الجبار تحت علو هذا المتقي ‪ ،‬ولو سئل المتقي عن علوه ما وجد عنده‬
‫منه شيء ‪ ،‬فثبت أن العلو في اإلنسان إنما هو تحققه بعبوديته ‪ ،‬وعدم خروجه واتصافه بما‬
‫ليس له بحقيقة ‪ ،‬فاحذر يا ولي أن تريد علوا في األرض فإن من أراده أراد الوالية ‪،‬‬
‫ّللا كلمتك فما‬‫وقال عليه السالم ‪ [ :‬إنها يوم القيامة حسرة وندامة ] ‪ ،‬والزم الخمول وإن أعلى ه‬
‫عز وجل ‪ ،‬والذي يلزمك‬ ‫أعلى إال الحق ‪ ،‬وإن رزقك الرفعة في قلوب الخلق ‪ ،‬فذلك إليه ه‬
‫التواضع والذلة واالنكسار ‪ ،‬فإنه إنما أنشأك من األرض فال تعلو عليها فإنها أمك ‪ ،‬ومن تكبر‬
‫ّللا فيما أعطاك ‪ ،‬من رفعة في األرض ‪ ،‬بوالية وتقدهم تخدم من‬ ‫على أمه فقد عقهها ‪ ،‬وراقب ه‬
‫أجله ويغشى بابك ويلزم ركابك ‪ ،‬فال تبرح ناظرا لعبوديتك وأصلك ‪ ،‬واعلم أن تلك الرفعة‬
‫إنما هي للرتبة والمنصب ال لذاتك ‪ ،‬فالذي أوصيك به أنك ال تريد علوا في األرض ‪ ،‬وإن‬
‫ّللا إال أن تكون في نفسك صاحب ذلة ومسكنة وخشوع ‪.‬‬ ‫ّللا ال تطلب أنت من ه‬ ‫أعطاك ه‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬آية ‪] 84‬‬


‫ت ِإاله ما‬ ‫س ِيّئ َ ِة فَال يُجْ َزى الهذ َ‬
‫ِين ع َِملُوا ال ه‬
‫س ِيّئا ِ‬ ‫سنَ ِة فَلَهُ َخ ْي ٌر ِم ْنها َو َم ْن جا َء ِبال ه‬
‫َم ْن جا َء ِبا ْل َح َ‬
‫ون) ‪( 84‬‬ ‫كانُوا يَ ْع َملُ َ‬

‫ص ‪313‬‬

‫‪313‬‬
‫س ِيهئ َ ِة فَال يُ ْجزَ ى الَّذِينَ َ‬
‫ع ِملُوا‬ ‫" َم ْن جا َء ِب ْال َح َ‬
‫سنَ ِة فَلَهُ َخي ٌْر ِم ْنها »وهو عشر أمثالها« َو َم ْن جا َء ِبال َّ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إنما هي أعمالكم ترد عليكم ] ‪.‬‬ ‫ت ِإ َّال ما كانُوا يَ ْع َملُونَ »قال صلهى ه‬ ‫س ِيهئا ِ‬
‫ال َّ‬

‫[ سورة القصص ( ‪ : ) 28‬اآليات ‪ 85‬إلى ‪] 86‬‬


‫آن لَرادُّكَ ِإلى َمعا ٍد قُ ْل َر ِبّي أ َ ْعلَ ُم َم ْن جا َء ِبا ْل ُهدى َو َم ْن ُه َو فِي َ‬
‫ضال ٍل‬ ‫علَ ْيكَ ا ْلقُ ْر َ‬
‫ض َ‬ ‫ِإ هن الهذِي فَ َر َ‬
‫تاب ِإاله َرحْ َمة ِم ْن َر ِبّكَ فَال تَكُونَ هن َظ ِهيرا‬ ‫ين ) ‪َ ( 85‬وما ُك ْنتَ ت َ ْر ُجوا أ َ ْن يُ ْلقى ِإلَ ْيكَ ا ْل ِك ُ‬ ‫ُم ِب ٍ‬
‫ين ( ‪) 86‬‬ ‫ِل ْلكا ِف ِر َ‬
‫ظ ِهيرا ً ِل ْلكافِ ِرينَ »أي معينا للكافرين ‪.‬‬ ‫« فَال ت َ ُكون ََّن َ‬

‫[ سورة القصص ( ‪ ) : 28‬اآليات ‪ 87‬إلى ‪] 88‬‬


‫ين ( ‪) 87‬‬ ‫ع ِإلى َر ِبّكَ َوال تَكُونَ هن ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬ ‫ّللا بَ ْع َد ِإ ْذ أ ُ ْن ِزلَتْ ِإلَ ْيكَ َوا ْد ُ‬
‫ت هِ‬ ‫ص ُّدنهكَ ع َْن آيا ِ‬‫َوال يَ ُ‬
‫ون )‪88‬‬ ‫ش ْي ٍء ها ِلكٌ ِإاله َوجْ َههُ لَهُ ا ْل ُح ْك ُم َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُ َ‬‫ّللا ِإلها آ َخ َر ال ِإلهَ ِإاله ُه َو ُك ُّل َ‬ ‫ع َم َع ه ِ‬ ‫َوال ت َ ْد ُ‬
‫)‬
‫[ وحدة الوجود ]‬
‫تفسير هذه اآلية من وجوه ‪ ،‬وذلك راجع إلى الضمير في قوله تعالى ‪ِ «:‬إ َّال َو ْج َههُ »فإنه من‬
‫وجه يعود على الشيء ‪ ،‬ومن وجه يعود على الحق ‪ ،‬فمن الوجه الذي يعود فيه الضمير على‬
‫ّللا إلها ‪ ،‬فن هكر المنهي‬ ‫ّللا ِإلها ً آخ ََر »نهى تعالى أن يدعو مع ه‬ ‫ع َم َع َّ ِ‬ ‫الحق يقول تعالى ‪َ «:‬وال ت َ ْد ُ‬
‫ّللا‬
‫عنه ‪ ،‬إذ لم يكن ث هم ‪ ،‬إذ لو كان ث هم لتعين ‪ ،‬ولو تعين لم يتنكر ‪ ،‬فدل على أنه من دعا مع ه‬
‫إلها آخر فقد نفخ في غير ضرم ‪ ،‬واستسمن ذا ورم ‪ ،‬وكان دعاؤه لحما على وضم ‪ ،‬ليس له‬
‫متعلق يتعين ‪ ،‬وال حق يتضح ويتبين ‪ ،‬فكان مدلول دعائه العدم المحض ‪ ،‬فلم يبق إال من له‬
‫ش ْيءٍ ها ِل ٌك » فكل شيء يتخيل فيه أنه شيء هالك في‬ ‫الوجود المحض« ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو « » ُك ُّل َ‬
‫عين شيئيته عن نسبة األلوهية إليه ال عن شيئيته« ِإ َّال َو ْج َههُ »فوجه الحق باق ‪ ،‬وهو ذو‬
‫الجالل واإلكرام واآلالء الجسام ‪ ،‬فالحق الخالص من كان في ذاته يعلم فال يجهل ‪ ،‬ويجهل فال‬
‫يحاط به علما ‪ ،‬فعلم من حيث أنه ال يحاط به علما ‪ ،‬وجهل من حيث أنه ال يحاط به علما ‪،‬‬
‫فعلم من حيث جهل ‪ ،‬فالعلم به عين الجهل به ‪ ،‬فإذا علمنا أن الحقيقة واحدة دون‬

‫ص ‪314‬‬

‫‪314‬‬
‫ّللا نفسه عين كل شيء بقوله تعالى «‪ُ :‬ك ُّل َ‬
‫ش ْيءٍ‬ ‫أن تنسب إلى قديم أو حديث ‪ ،‬نقول ‪ :‬جعل ه‬
‫ها ِل ٌك ِإ َّال َو ْج َههُ »ألن السبحات له ‪ ،‬فهي مهلكة ‪ ،‬والمهلك ال يكون هالكا ‪ ،‬فكل شيء هو‬
‫ّللا ‪ ،‬فما‬‫موجود تشاهده حسا وعقال ليس بهالك ‪ ،‬ألن وجه الشيء حقيقته ‪ ،‬فما في الوجود إال ه‬
‫في الوجود إال الخير وان تنوعت الصور ‪ ،‬فكل ما ظهر فما هو إال هو ‪ ،‬لنفسه ظهر ‪ ،‬فما‬
‫يشهده أمر وال يكثهره غير ‪،‬‬
‫ولذلك قال ‪ «:‬لَهُ ْال ُح ْك ُم َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ » أي من يعتقد أن كل شيء جعلناه هالكا ‪ ،‬وما عرف‬
‫ما قصدناه إذا رآه ما يهلك ‪ ،‬ويرى بقاء عينه مشهودا له دنيا وآخرة ‪ ،‬علم ما أردنا بالشيء‬
‫الهالك ‪ ،‬وأن كل شيء لم يتصف بالهالك فهو وجهي ‪ ،‬فعلم أن األشياء ليست غير وجهي فإنها‬
‫لم تهلك ‪ ،‬فرد حكمها إلي ‪ ،‬فهذا معنى قوله ‪َ «:‬وإِلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ »وهو معنى لطيف يخفى على‬
‫من لم يستظهر القرآن ‪ ،‬فالعالم لم يزل مفقود العين هالكا بالذات في حضرة إمكانه ‪ ،‬وأحكامه‬
‫يظهر بها الحق لنفسه بما هو ناظر من حقيقة حكم ممكن آخر ‪،‬‬
‫فالعالم هو الممد بذاته ما يظهر في الكون من الموجودات ‪ ،‬وليس إال الحق ال غيره ‪ ،‬وبعبارة‬
‫أخرى« لَهُ ْال ُح ْك ُم »وهو ما ظهر في عين األشياء ‪،‬‬
‫ي ‪ ،‬فيذهب حكم الغير ‪ ،‬فاألحكام في‬ ‫ثم قال ‪َ «:‬وإِلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ »أي مردكم من كونكم أغيارا إل ه‬
‫الحق صور العالم كله ‪ ،‬ما ظهر منه وما يظهر ‪ ،‬واألحكام منه ولهذا قال ‪ «:‬لَهُ ْال ُح ْك ُم »ثم‬
‫يرجع الكل إلى أنه عينه ‪ ،‬فهو الحاكم بكل حكم في كل شيء حكما ذاتيا ال يكون إال هكذا ‪،‬‬
‫فسمى نفسه بأسمائه ‪ ،‬فحكم عليه بها ‪ ،‬وسمى ما ظهر به من األحكام اإللهية في أعيان األشياء‬
‫ليميز بعضها عن بعض ‪،‬‬
‫فأعيان العالم ال يقال ‪ :‬إنها عين الحق وال غير الحق ‪ ،‬بل الوجود كله حق ‪ ،‬ولكن من الحق ما‬
‫يتصف بأنه مخلوق ‪ ،‬ومنه ما يوصف بأنه غير مخلوق ‪ ،‬لكنه كل موجود ‪ ،‬فإنه موصوف‬
‫بأنه محكوم عليه بكذا ‪ ،‬فالكل محكوم عليه ‪ ،‬كما حكمنا على كل شيء بالهالك ‪ ،‬وحكمنا على‬
‫وجهه باالستثناء من حكم الهالك ‪،‬‬
‫ومن ذلك يكون وجه الشيء حقيقته ‪ ،‬فالشيء هنا ما يعرض لهذه الذات ‪ ،‬فإن كان للعارض‬
‫وجه فما يهلك في نفسه ‪ ،‬وإنما يهلك بنسبته إلى ما عرض له ‪ ،‬فكل شيء وهو جميع صور‬
‫العالم «ها ِل ٌك »موصوف بالهالك يعني من حيث صوره ‪ ،‬فهو هالك بالصورة لالستحاالت ‪،‬‬
‫ش ْيءٍ »أي كل ما ينطلق عليه اسم شيء ‪ ،‬فهو هالك في‬ ‫ألن هالك خبر المبتدأ الذي هو« ُك ُّل َ‬
‫حال اتصافه بالوجود ‪ ،‬كما هو هالك في حال اتصافه بالهالك الذي‬

‫ص ‪315‬‬

‫‪315‬‬
‫هو العدم ‪ ،‬فال يزال كل شيء هالك كما لم يزل ‪ ،‬لم يتغير عليه نعت وال تغير على الوجود‬
‫نعت ‪ ،‬والموصوف بأنه موجود موجود ‪ ،‬والموصوف بأنه معدوم معدوم ‪ ،‬فإن وصف الممكن‬
‫بالوجود فهو مجاز ال حقيقة ‪ ،‬ألن الحقيقة تأبى أن يكون موجودا ‪ ،‬فإن العدم للممكن ذاتي ‪،‬‬
‫أي من حقيقة ذاته أن يكون معدوما« ِإ َّال َو ْج َههُ »‬
‫االستثناء هنا استثناء منقطع ‪ ،‬والضمير في وجهه يعود على الشيء ‪ ،‬ووجهه ذاته وعينه‬
‫وكونه وحقيقته ‪ ،‬فهي شيئية ذاته ‪ ،‬وهي المستثناة وال بد ‪ ،‬ألن الحقائق ال تتصف بالهالك ‪،‬‬
‫وإنما يتصف بالهالك األمور العوارض للحقائق من نسبة بعضها إلى بعض ‪ ،‬فكل شيء من‬
‫صور العالم هالك من حيث صورته ‪ ،‬إال من حقائقه فليس بهالك ‪ ،‬وال يتمكن أن يهلك ‪ ،‬فهو‬
‫غير هالك من حيث وجهه وحقيقته ‪ ،‬فتختلف عليه األحكام باختالف الصور ‪ ،‬فما ث هم إال هالك‬
‫وإيجاد في عين واحدة ‪ ،‬ومثال ذلك للتقريب ‪ ،‬أن صورة اإلنسان إذا هلكت ولم يبق لها في‬
‫الوجود أثر ‪ ،‬لم تهلك حقيقته التي يميزها الحد ‪ ،‬وهي عين الحد له ‪،‬‬
‫فنقول ‪ :‬اإلنسان حيوان ناطق ‪ ،‬وال نتعرض لكونه موجودا أو معدوما ‪ ،‬فإن هذه الحقيقة ال‬
‫تزال له وإن لم تكن له صورة في الوجود ‪ ،‬فالحقائق في العلم معقوالت ‪ ،‬وهي للحق معلومات‬
‫‪ ،‬وللحق وألنفسها معقوالت ‪ ،‬وال وجود لها في الوجود الوجودي وال في الوجود اإلمكاني ‪،‬‬
‫فيظهر حكمها في الحق فتنسب إليه وتسمى أسماء إلهية ‪ ،‬فينسب إليها من نعوت األزل ما‬
‫ينسب إلى الحق ‪ ،‬وتنسب أيضا إلى الخلق بما يظهر من حكمها فيه ‪ ،‬فينسب إليها من نعوت‬
‫الحدوث ما ينسب إلى الخلق ‪ ،‬فهي الحادثة القديمة ‪ ،‬واألبدية األزلية ‪ ،‬فالعالم إن نظرت‬
‫ش ْيءٍ ها ِل ٌك ِإ َّال‬
‫حقيقته وجدته عرضا زائال ‪ ،‬أي في حكم الزوال ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ُ «:‬ك ُّل َ‬
‫َو ْج َههُ »‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أصدق بيت قالته العرب قول لبيد ‪ :‬أال كل شيء ما‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫وقال رسول ه‬
‫ّللا باطل ] يقول ما له حقيقة يثبت عليها من نفسه ‪ ،‬فما هو موجود إال بغيره ‪ ،‬ولذلك قال‬ ‫خال ه‬
‫ّللا باطل ]‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أصدق بيت قالته العرب ‪ :‬أال كل شيء ما خال ه‬ ‫صلهى ه‬

‫ش ْيءٍ ها ِل ٌك »فإنه ال يبقى حالة أصال في العالم كونية وال إلهية ‪ ،‬وهو قوله‬ ‫‪-‬وجه آخر ‪ُ «-‬ك ُّل َ‬
‫تعالى ‪ُ (:‬ك َّل يَ ْو ٍم ُه َو فِي شَأ ْ ٍن )« إِ َّال َو ْج َههُ »يريد ذاته ‪ ،‬إذ وجه الشيء ذاته ‪ ،‬فال تهلك ‪ ،‬فكل‬
‫ما سوى ذات الحق فهو في مقام االستحالة السريعة والبطيئة ‪ ،‬وهو تبدله من صورة إلى‬
‫صورة دائما أبدا ‪ ،‬فالضمير في وجهه يعود على الشيء ‪ ،‬فالشيء هالك من حيث صورته ‪،‬‬
‫غير هالك من حيث وجهه‬

‫ص ‪316‬‬

‫‪316‬‬
‫وحقيقته ‪ ،‬وليس إال وجود الحق الذي ظهر به لنفسه ‪ «.‬لَهُ ْال ُح ْك ُم »أي لذلك الشيء الحكم في‬
‫الوجه ‪ ،‬فتختلف عليه األحكام باختالف الصور« َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ »في ذلك الحكم ‪ ،‬أي إلى ذلك‬
‫الشيء يرجع الحكم الذي حكم به على الوجه ‪ ،‬فما ثم إال هالك وإيجاد في عين واحدة ‪ ،‬ومن‬
‫هذه اآلية ال نثبت إطالق لفظ الشيئية على ذات الحق ‪ ،‬ألنها ما وردت وال خوطبنا بها ‪،‬‬
‫واألدب أولى ‪،‬‬
‫ش ْيءٍ ها ِل ٌك ِإ َّال َو ْج َههُ لَهُ ْال ُح ْك ُم َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ "‬
‫ّللا ِإلها ً آخ ََر ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو ُك ُّل َ‬ ‫" َوال ت َ ْد ُ‬
‫ع َم َع َّ ِ‬
‫[ توحيد الحكم ]‬
‫هذا هو التوحيد الرابع والعشرون في القرآن ‪ ،‬وهو توحيد الحكم بالتوحيد الذي إليه رجوع‬
‫الكثرة إذ كان عينها ‪ ،‬وهو توحيد الهوية« لَهُ ْال ُح ْك ُم »وهو القضاء« َوإِلَ ْي ِه »الضمير في إليه‬
‫يعود على الحكم فإنه أقرب مذكور ‪ ،‬فالقضاء الذي له المضي في األمور هو الحكم اإللهي‬
‫على األشياء« ت ُ ْر َجعُونَ »أي إلى القضاء ‪.‬‬

‫( ‪ ) 29‬سورة العنكبوت مكيّة‬


‫الرحيم‬‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 2‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬‫س ِم ه ِ‬
‫ِب ْ‬
‫اس أ َ ْن يُتْ َركُوا أ َ ْن يَقُولُوا آ َمنها َو ُه ْم ال يُ ْفتَنُ َ‬
‫ون ( ‪) 2‬‬ ‫ب النه ُ‬ ‫س َ‬‫ألم ( ‪ ) 1‬أ َ َح ِ‬

‫اس أ َ ْن يُتْ َر ُكوا أ َ ْن يَقُولُوا آ َمنَّا َو ُه ْم ال يُ ْفتَنُونَ » اآلية ]‬ ‫[ « أ َ َح ِس َ‬


‫ب النَّ ُ‬
‫ّللا وأحديته ‪ ،‬وأنه ال إله إال هو ‪ ،‬وأن كل شيء هالك إال‬ ‫لما ادعى المؤمن اإليمان بوجود ه‬
‫وجهه ‪ ،‬وأن األمر هّلل من قبل ومن بعد ‪ ،‬فلما ادعى بلسانه أن هذا مما انطوى عليه جنانه ‪،‬‬
‫وربط عليه قلبه ‪ ،‬احتمل أن يكون صادقا فيما ادعاه أنه صفة له ‪ ،‬ويحتمل أن يكون كاذبا في‬
‫ّللا إلقامة الحجة له أو عليه بما كلفه به من عبادته على االختصاص ‪،‬‬ ‫أنه صفة له ‪ ،‬فاختبره ه‬
‫ال العبادة السارية بسريان األلوهية ‪ ،‬ونصب له وبين عينيه األسباب ‪ ،‬وأوقف ما تمس حاجة‬
‫ّللا نورا‬
‫هذا المدعي على هذه األسباب ‪ ،‬فلم يقض له بشيء إال منها وعلى يديها ‪ ،‬فإن رزقه ه‬
‫يكشف به ويخترق به سدف األسباب ‪ ،‬فيرى الحق تعالى من ورائها مسببا اسم فاعل ‪ ،‬أو يراه‬
‫خالقا وموجدا لحوائجه التي اضطره إليها ‪ ،‬فذلك المؤمن الذي هو على نور من ربه وبينة من‬
‫أمره ‪ ،‬الصادق في دعواه ‪ ،‬الموفي حق المقام الذي ادعاه ‪ ،‬بالعناية اإللهية التي أعطاه ‪ ،‬ومن‬
‫ّللا منها ‪ ،‬وجعلها‬
‫ّللا له نورا فما له من نور ‪ ،‬قال بألوهية األسباب التي رزقه ه‬ ‫لم يجعل ه‬

‫ص ‪317‬‬

‫‪317‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فأضاف األلوهة إلى غير مستحقها ‪ ،‬فكذب في دعواه لكثرة األسباب ‪،‬‬
‫حجابا بينه وبين ه‬
‫والذي لم يقل بنسبة األلوهة لألسباب لكنه لم ير إال األسباب وما حصل له من الكشف ما‬
‫يخرجه منها مع توحيد األلوهية ‪ ،‬كان ذلك شركا خفيا ال يشعر به صاحبه أنه مشرك ‪.‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 3‬‬


‫ص َدقُوا َولَيَ ْعلَ َم هن ا ْلكا ِذ ِب َ‬
‫ين ) ‪( 3‬‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم فَلَيَ ْعلَ َم هن ه‬
‫ّللاُ الهذ َ‬
‫ِين َ‬ ‫َولَقَ ْد فَتَنها الهذ َ‬
‫ّللا‬
‫الفتنة هي االختبار ‪ ،‬وأصل هذا ما ركب فيهم من الدعاوى ‪ ،‬فجعل ما ابتالهم به ليعلم ه‬
‫ّللا لعباده الذين ادعوا اإليمان به بألسنتهم ‪.‬‬ ‫الصادق في دعواه من الكاذب ‪ ،‬ابتالء من ه‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 4‬‬


‫ون ( ‪) 4‬‬ ‫ت أ َ ْن يَ ْ‬
‫س ِبقُونا سا َء ما يَحْ ُك ُم َ‬ ‫س ِيّئا ِ‬ ‫ب الهذ َ‬
‫ِين يَ ْع َملُ َ‬
‫ون ال ه‬ ‫أ َ ْم َح ِ‬
‫س َ‬
‫[ وجه في سبق الرحمة ]‬
‫وجه ‪ -‬أي يسبقون بسيئاتهم مغفرتي وشمول رحمتي ‪ «،‬سا َء ما يَ ْح ُك ُمونَ »بل السبق هّلل‬
‫بالرحمة لهم ‪ ،‬هذا غاية الكرم ‪ ،‬وهذا ال يكون إال في الطائفة التي تقول بإنفاذ الوعيد فيمن‬
‫ّللا أن تلقاه‬‫ّللا في الموطن الذي يشاء ه‬ ‫يموت على غير توبة ‪ ،‬فإذا مات العاصي تلقته رحمة ه‬
‫فيه ‪ ،‬فإن اإلنسان إذا عصى فقد تعرض لالنتقام والبالء ‪ ،‬وأنه جار في شأو االنتقام بما وقع‬
‫ّللا يسابقه في هذه الحلبة من حيث ما هو غفار وعفو ومتجاوز ورحيم ورؤوف ‪،‬‬ ‫منه ‪ ،‬وأن ه‬
‫فالعبد يسابق بالمعاصي والسيئات الحق تعالى إلى االنتقام ‪ ،‬والحق أسبق فيسبق إلى االنتقام‬
‫قبل وصول العبد بالسيئات إليه فيجوزه بالغفار وأخواته من األسماء ‪ ،‬فإذا وصل العبد إلى آخر‬
‫الشأو في هذه الحلبة وجد االنتقام قد جاوزه الغفار ‪ ،‬وحال بينه وبين العصاة ‪ ،‬وهم كانوا‬
‫يحكمون على أنهم يصلون إليه قبل هذا ‪ ،‬ومن هذا يعلم جهل اإلنسان عند مسابقته هّلل ‪ ،‬فإنه‬
‫عمل في غير معمل ‪ ،‬وطمع في غير مطمع ‪ ،‬ومن كان في هذه الحال فال خفاء بجهله لو عقل‬
‫نفسه ‪.‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬اآليات ‪ 5‬إلى ‪] 6‬‬


‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ( ‪َ ) 5‬و َم ْن جا َه َد فَ ِإنهما يُجا ِه ُد‬
‫ت َو ُه َو ال ه‬ ‫ّللا فَ ِإ هن أ َ َج َل ه ِ‬
‫ّللا َآل ٍ‬ ‫َم ْن َ‬
‫كان يَ ْر ُجوا ِلقا َء ه ِ‬
‫ين) ‪( 6‬‬ ‫ي ع َِن ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ّللا لَغَنِ ٌّ‬ ‫ِلنَ ْف ِ‬
‫س ِه إِ هن ه َ‬

‫‪318‬‬

‫‪318‬‬
‫[ الذات اإللهية غنية عن العالمين]‬
‫اعلم أن الذات غنية عن العالمين ‪ ،‬الملك ما هو غني عن الملك إذ لوال الملك ما صح اسم‬
‫الملك ‪ ،‬فالمرتبة تعطي التقييد ال ذات الحق فالمخلوق كما يطلب الخالق من كونه مخلوقا ‪،‬‬
‫كذلك الخالق يطلب المخلوق من كونه خالقا ‪ ،‬ألنه ال يصح اسم الخالق وجودا وتقديرا إال‬
‫بالمخلوق وجودا وتقديرا ‪ ،‬وكذلك كل اسم إلهي يطلب الكون ‪ ،‬مثل الغفور والمالك والشكور‬
‫والرحيم وغير ذلك من األسماء ‪ ،‬ولما كان الحق من كونه إلها مرتبطا بالمألوه ارتباط السيادة‬
‫بوجود العبد ‪ ،‬فيلزم من حقيقة هذا االرتباط عقال ووجودا تصور المتضايفين ‪ ،‬ولما لم يكن‬
‫بين الحق والخلق مناسبة وال إضافة ‪ -‬بل هو الغني عن العالمين ‪ ،‬فال يكون ذلك إال لذات‬
‫الحق ‪ -‬فال يربطها كون ‪ ،‬وال تدركها عين ‪ ،‬وال يحيط بها حد ‪ ،‬وال يفيدها برهان ‪ ،‬وجدانها‬
‫ع ِن‬
‫ي َ‬ ‫غنِ ٌّ‬ ‫في العقل ضروري ‪ ،‬كما أن صفات التعلق التي تدخلها تحت القيد نظري« فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫ْالعالَ ِمينَ »فإن العالمين من العالمة ‪ ،‬والعالمة ال تدل إال على محدود ‪ ،‬فالعالم ال يدل على‬
‫العلم بذاته تعالى وإنما يدل على وجوده ‪.‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬اآليات ‪ 7‬إلى ‪] 8‬‬


‫س َن الهذِي كانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫ون‬ ‫س ِيّئاتِ ِه ْم َولَنَجْ ِزيَنه ُه ْم أَحْ َ‬
‫ع ْن ُه ْم َ‬
‫ت لَنُ َك ِفّ َر هن َ‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫َوالهذ َ‬
‫س لَكَ ِب ِه ِع ْل ٌم فَال ت ُ ِط ْع ُهما‬‫سنا َو ِإ ْن جاهَداكَ ِلتُش ِْركَ ِبي ما لَ ْي َ‬ ‫سان ِبوا ِل َد ْي ِه ُح ْ‬‫اْل ْن َ‬ ‫ص ْينَا ْ ِ‬ ‫( ‪َ ) 7‬و َو ه‬
‫ون ) ‪( 8‬‬ ‫ي َم ْر ِجعُ ُك ْم فَأُنَ ِبّئ ُ ُك ْم ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬
‫ِإلَ ه‬
‫‪-‬إشارة ال تفسير ‪ -‬ال تقف مع السبب الذي أوجدك وقرب منك حسا ‪ ،‬بل كن مع الذي أشهدك‬
‫ّللا بواسطة السبب ‪ ،‬وإلى هذا ينظر قوله تعالى ‪َ «:‬و ِإ ْن‬ ‫وأوجدك حقيقة ‪ ،‬وال تكن ممن يعرف ه‬
‫ْس لَ َك بِ ِه ِع ْل ٌم فَال‬
‫َداك ِلت ُ ْش ِر َك بِي »أي تنظرهما فتنحجب بهما في اإليجاد الطبيعي« ما لَي َ‬ ‫جاه َ‬
‫ت ُ ِط ْع ُهما »فإن كان لك بهما علم أنهما سببية ‪ ،‬فأثبتهما واشكرهما ‪.‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ ) : 29‬اآليات ‪ 9‬إلى ‪] 12‬‬


‫اس َم ْن يَقُو ُل آ َمنها ِب ه ِ‬
‫اّلِل‬ ‫ين ( ‪َ ) 9‬و ِم َن النه ِ‬ ‫صا ِل ِح َ‬ ‫ت لَنُد ِْخلَنه ُه ْم ِفي ال ه‬‫صا ِلحا ِ‬‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ّللا َولَئِ ْن جا َء نَص ٌْر ِم ْن َر ِبّكَ لَيَقُولُ هن إِنها ُكنها َمعَ ُك ْم أ َ‬‫ب هِ‬ ‫اس َكعَذا ِ‬ ‫ّللا َجعَ َل فِتْنَةَ النه ِ‬
‫ِي فِي ه ِ‬ ‫فَ ِإذا أُوذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َولَيَ ْعلَ َم هن ا ْل ُمنافِ ِق َ‬
‫ين‬ ‫ين ) ‪َ ( 10‬ولَيَ ْعلَ َم هن ه‬
‫ّللاُ الهذ َ‬ ‫ُور ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫صد ِ‬ ‫ّللاُ بِأ َ ْعلَ َم بِما فِي ُ‬
‫س ه‬ ‫َولَ ْي َ‬
‫ين ِم ْن‬ ‫س ِبيلَنا َو ْلنَحْ ِم ْل َخطايا ُك ْم َوما ُه ْم ِب ِ‬
‫حام ِل َ‬ ‫ِين آ َمنُوا ات ه ِبعُوا َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِللهذ َ‬‫) ‪َ ( 11‬وقا َل الهذ َ‬
‫ون) ‪( 12‬‬ ‫ش ْي ٍء ِإنه ُه ْم لَكا ِذبُ َ‬
‫َخطايا ُه ْم ِم ْن َ‬

‫ص ‪319‬‬

‫‪319‬‬
‫" ِإنَّ ُه ْم لَكا ِذبُونَ »في هذا القول ‪ ،‬بل هم حاملون خطاياهم ‪ ،‬والذين أضلوهم يحملون أيضا‬
‫خطاياهم ‪ ،‬وخطايا هؤالء مع خطاياهم ‪ ،‬وال ينقص هؤالء من خطاياهم من شيء ‪ ،‬يقول‬
‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة‬
‫دون أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ] وهو قوله تعالى ‪:‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 13‬‬


‫ع هما كانُوا يَ ْفت َ ُر َ‬
‫ون ) ‪( 13‬‬ ‫َولَيَحْ ِملُ هن أَثْقالَ ُه ْم َوأَثْقاال َم َع أَثْقا ِل ِه ْم َولَيُ ْ‬
‫سئَلُ هن يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة َ‬
‫وهو زمان مخصوص أقيموا فيه في حمل األثقال التي هي األوزار يوم يفر المرء من أخيه‬
‫وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ‪ ،‬لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 14‬‬


‫وفان َو ُه ْم‬
‫ط ُ‬ ‫ين عاما فَأ َ َخذَ ُه ُم ال ُّ‬
‫س َ‬‫سنَ ٍة ِإاله َخ ْم ِ‬ ‫يه ْم أ َ ْل َ‬
‫ف َ‬ ‫ث فِ ِ‬ ‫َولَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫س ْلنا نُوحا ِإلى قَ ْو ِم ِه فَلَ ِب َ‬
‫ون ) ‪( 14‬‬ ‫ظا ِل ُم َ‬
‫نوح أول رسول أرسل ‪ ،‬ومن كان قبله إنما كانوا أنبياء ‪ ،‬كل واحد على شريعة من ربه ‪ ،‬فمن‬
‫شاء دخل في شرعه معه ‪ ،‬ومن شاء لم يدخل ‪ ،‬فمن دخل ثم رجع كان كافرا ‪ ،‬ومن لم يدخل‬
‫فليس بكافر ‪ ،‬ومن أدخل نفسه في الفضول ‪ ،‬وكذب األنبياء كان كافرا ‪ ،‬ومن لم يفعل وبقي‬
‫على البراءة لم يكن كافرا ‪ ،‬فكان نوح عليه السالم أول شخص استفتحت به الرسالة ‪.‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬اآليات ‪ 15‬إلى ‪] 20‬‬


‫ين ) ‪َ ( 15‬وإِ ْبرا ِهي َم إِ ْذ قا َل ِلقَ ْو ِم ِه ا ْعبُدُوا ه َ‬
‫ّللا‬ ‫س ِفينَ ِة َو َجعَ ْلناها آيَة ِل ْلعالَ ِم َ‬ ‫ْحاب ال ه‬ ‫فَأ َ ْن َج ْيناهُ َوأَص َ‬
‫ون إِ ْفكا‬ ‫ّللا أ َ ْوثانا َوت َ ْخلُقُ َ‬
‫ُون ه ِ‬‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 16‬إِنهما ت َ ْعبُد َ‬ ‫َواتهقُوهُ ذ ِل ُك ْم َخ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫شك ُُروا‬ ‫ق َوا ْعبُدُوهُ َوا ْ‬ ‫الر ْز َ‬ ‫ُون لَ ُك ْم ِر ْزقا فَا ْبتَغُوا ِع ْن َد ه ِ‬
‫ّللا ِ ّ‬ ‫ّللا ال يَ ْم ِلك َ‬ ‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫ِين ت َ ْعبُد َ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫سو ِل ِإاله ا ْلبَال ُ‬
‫غ‬ ‫علَى ه‬
‫الر ُ‬ ‫ب أ ُ َم ٌم ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم َوما َ‬‫ون ( ‪َ ) 17‬و ِإ ْن ت ُ َك ِذّبُوا فَقَ ْد َكذه َ‬ ‫لَهُ ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُ َ‬
‫ير ) ‪( 19‬‬ ‫س ٌ‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا يَ ِ‬ ‫ق ث ُ هم يُ ِعي ُد ُه ِإ هن ذ ِلكَ َ‬
‫ّللاُ ا ْل َخ ْل َ‬
‫ِئ ه‬ ‫ف يُ ْبد ُ‬ ‫ين ) ‪ ( 18‬أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا َك ْي َ‬ ‫ا ْل ُم ِب ُ‬
‫على ُك ِ ّل‬ ‫شأَةَ ْاآل ِخ َرةَ إِ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ئ النه ْ‬ ‫ش ُ‬ ‫ق ث ُ هم ه‬
‫ّللاُ يُ ْن ِ‬ ‫ف بَ َدأ َ ا ْل َخ ْل َ‬ ‫ظ ُروا َك ْي َ‬ ‫ض فَا ْن ُ‬ ‫يروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫قُ ْل ِ‬
‫ِير) ‪( 20‬‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫َ‬

‫ص ‪320‬‬

‫‪320‬‬
‫اعلم أن الذات اإللهية منزهة عن أن يكون لها بعالم الكون والخلق واألمر مناسبة أو تعلق بنوع‬
‫ما من األنواع ‪ ،‬ألن الحقيقة تأبى ذلك ‪ ،‬مع كون أصل األشياء كلها وجود الحق تعالى ‪ ،‬إذ لو‬
‫لم يكن هذا األصل اإللهي موجودا ‪ ،‬والحق المخلوق به معقوال ‪ ،‬لما صح هذا الفرع المحدث‬
‫الكائن بعد أن لم يكن ‪ ،‬ولما تصور ‪ ،‬فإذا نظرنا العالم على ما هو عليه ‪ ،‬وعرفنا حقيقته‬
‫ومورده ومصدره ‪ ،‬ونظرنا ما الحاكم المؤثر في هذا العالم ‪ ،‬نجد أن األسماء الحسنى ظهرت‬
‫في العالم كله ظهورا ال خفاء به كليا ‪ ،‬وحصلت فيه آثارها وأحكامها ال بذواتها ولكن بأمثالها‬
‫ال بحقائقها لكن برقائقها ‪.‬‬
‫[ بدء الخلق ‪ :‬إيجاز البيان بضرب من اإلجمال ]‬
‫إيجاز البيان بضرب من اإلجمال ‪ :‬بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية‬
‫الرحمانية ‪ ،‬وال أين يحصرها لعدم التحيز ‪ -‬ومم وجد ؟‬
‫وجد من الحقيقة المعلومة التي ال تتصف بالوجود وال بالعدم ‪ -‬وفيم وجد ؟‬
‫في الهباء ‪ -‬وعلى أي مثال وجد ؟ على الصورة المعلومة في نفس الحق ‪ -‬ولم وجد ؟‬
‫إلظهار الحقائق اإللهية ‪ ،‬فأوجد العالم سبحانه ليظهر سلطان األسماء ‪ ،‬فإن قدرة بال مقدور ‪،‬‬
‫ورزاقا بال مرزوق ‪ ،‬ومغيثا بال مغاث ‪ ،‬ورحيما بال مرحوم ‪ ،‬حقائق‬ ‫ه‬ ‫وجودا بال عطاء ‪،‬‬
‫معطلة التأثير ‪ -‬وما غايته ؟‬
‫التخلص من المزجة فيعرف كل عالم حظه من منشئه من غير امتزاج ‪ ،‬فغايته إظهار حقائقه ‪،‬‬
‫ومعرفة أفالك األكبر من العالم وهو ما عدا اإلنسان ‪ ،‬والعالم األصغر يعني اإلنسان ‪ ،‬روح‬
‫العالم وعلته وسببه‬

‫ص ‪321‬‬

‫‪321‬‬
‫وأفالكه ومقاماته وحركاته وتفصيل طبقاته ‪.‬‬
‫ونظمنا في ترتيب نضد العالم ‪.‬‬
‫الحمد هّلل الذي بوجوده *** ظهر الوجود وعالم الهيمان‬
‫والعنصر األعلى الذي بوجوده *** ظهرت ذوات عوالم اإلمكان‬
‫من غير ترتيب فال متقدم *** فيه وال متأخر باآلن‬
‫حتى إذا شاء المهيمن أن يرى *** ما كان معلوما من األكوان‬
‫فتح القدير عوالم الديوان *** بوجود روح ثم روح ثان‬
‫ثم الهباء كذا الهيولى ثم جسم قابل *** لعوالم األفالك واألركان‬
‫فأداره فلكا عظيما واسمه الع *** رش الكريم ومستوى الرحمن‬
‫يتلوه كرسي انقسام كالمه *** فتلوح من أقسامه القدمان‬
‫من بعده فلك البروج وبعده *** فلك الكواكب مصدر األزمان‬
‫ثم النزول مع الخالء لمركز *** ليقيم فيه قواعد البنيان‬
‫فأدار أرضا ثم ماء فوقه *** كرة الهواء وعنصر النيران‬
‫من فوقه فلك الهالل وفوقه *** فلك يضاف لكاتب الديوان‬
‫من فوقه فلك لزهرة فوقه *** فلك الغزالة مصدر الملوان‬
‫من فوقه المريخ ثم المشتري *** ثم الذي يعزى إلى كيوان‬
‫ولكل جسم ما يشاكل طبعه *** خلق يسمى العالم النوراني‬
‫فهم المالئكة الكرام شعارهم *** حفظ الوجود من اسمه المحسان‬
‫فتحركت نحو الكمال فولدت *** عند التحرك عالم الشيطان‬
‫ثم المعادن والنبات وبعده *** جاءت لنا بعوالم الحيوان‬
‫والغاية القصوى ظهور جسومنا *** في عالم التركيب واألبدان‬
‫لما استوت وتعدلت أركانه *** نفخ اإلله لطيفة اإلنسان‬
‫وكساه صورته فعاد خليفة *** يعنو له األمالك والثقالن‬
‫وبدورة الفلك المحيط وحكمه *** أبدى لنا في عالم الحدثان‬
‫في جوف هذا األرض ماء أسودا *** نتنا ألهل الشرك والطغيان‬

‫ص ‪322‬‬

‫‪322‬‬
‫يجري على متن الرياح وعندها *** ظلمات سخط القاهر الديان‬
‫دارت بصخرة مركز سلطانه *** الروح اإللهي العظيم الشأن‬
‫ّللا عليه العالم ابتداء ‪ ،‬واعلم أن التفاضل في المعلومات على‬ ‫فهذا ترتيب الوضع الذي أنشأ ه‬
‫وجوه ‪ ،‬أعمها التأثير ‪ ،‬فكل مؤثر أفضل من أكثر المؤثر فيه ‪ ،‬من حيث ذلك التأثير خاصة ‪،‬‬
‫وقد يكون المفضول أفضل منه من وجه آخر ‪ ،‬وكذلك فضل العلة على معلولها ‪ ،‬والشرط على‬
‫مشروطه ‪ ،‬والحقيقة على المحقق ‪ ،‬والدليل على المدلول من حيث ما هو مدلول ال من حيث‬
‫عينه ‪ ،‬وقد يكون الفضل بعموم التعلق على ما هو أخص تعلقا منه كالعالم والقادر ‪ ،‬ولما كان‬
‫الوجود كله فاضال مفضوال ‪ ،‬أدى ذلك إلى المساواة ‪ ،‬وأن يقال ‪:‬‬
‫ال فاضل وال مفضول ‪ ،‬بل وجود شريف كامل ‪ ،‬تام ال نقص فيه ‪ ،‬وال سيما وليس في‬
‫المخلوقات على اختالف ضروبها أمر إال وهو مستند إلى حقيقة ونسبة إلهية ‪ ،‬وال تفاضل في‬
‫ّللا ‪ ،‬ألن األمر ال يفضل نفسه ‪ ،‬فال مفاضلة بين العالم من هذا الوجه ‪ ،‬وهو الذي يرجع إليه‬ ‫ه‬
‫عول أهل الجمع والوجود وبهذا سموا أهل الجمع ألنهم أهل‬ ‫األمر من قبل ومن بعد ‪ ،‬وعليه ه‬
‫واح َدة ٌ )فمن كشف األمر على ما هو عليه علم ما‬ ‫عين واحدة كما قال تعالى (‪َ :‬وما أ َ ْم ُرنا ِإ َّال ِ‬
‫ذكرناه في ترتيب العالم [ راجع سورة الفرقان اآلية ‪. ] 2‬‬

‫[ سورة العنكبوت ‪ ( 29 ) :‬اآليات ‪ 21‬إلى ‪] 27‬‬


‫ض َوال فِي‬ ‫ِب َم ْن يَشا ُء َويَ ْر َح ُم َم ْن يَشا ُء َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْقلَبُونَ ( ‪َ ) 21‬وما أ َ ْنت ُ ْم ِب ُم ْع ِج ِزينَ فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫يُعَذه ُ‬
‫ّللا َو ِلقائِ ِه أُولئِ َك‬ ‫ت َّ ِ‬ ‫ير ( ‪َ ) 22‬والَّذِينَ َكفَ ُروا ِبآيا ِ‬ ‫َص ٍ‬ ‫ي ٍ َوال ن ِ‬ ‫ّللا ِم ْن َو ِل ه‬‫ُون َّ ِ‬‫ماء َوما لَ ُك ْم ِم ْن د ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ال َّ‬
‫واب قَ ْو ِم ِه ِإالَّ أ َ ْن قالُوا ا ْقتُلُوهُ أ َ ْو‬
‫ذاب أ َ ِلي ٌم ( ‪ ) 23‬فَما كانَ َج َ‬ ‫ع ٌ‬ ‫سوا ِم ْن َر ْح َم ِتي َوأُول ِئ َك لَ ُه ْم َ‬ ‫يَ ِئ ُ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يُؤْ ِمنُونَ ( ‪َ ) 24‬وقا َل إِنَّ َما ات َّ َخ ْذت ُ ْم ِم ْن د ِ‬
‫ُون‬ ‫ار إِ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬ ‫َح ِ هرقُوهُ فَأ َ ْنجاهُ َّ‬
‫ّللاُ ِمنَ النَّ ِ‬
‫ض ُك ْم بَ ْعضا ً‬ ‫ض َويَ ْلعَ ُن بَ ْع ُ‬ ‫ّللا أ َ ْوثانا ً َم َو َّدة َ بَ ْينِ ُك ْم فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا ث ُ َّم يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة يَ ْكفُ ُر بَ ْع ُ‬
‫ض ُك ْم بِبَ ْع ٍ‬ ‫َّ ِ‬
‫ناص ِرينَ ) ‪( 25‬‬ ‫ار َوما لَ ُك ْم ِم ْن ِ‬ ‫َو َمأْوا ُك ُم النَّ ُ‬
‫يز ْال َح ِكي ُم ( ‪َ ) 26‬و َو َهبْنا لَهُ ِإسْحاقَ‬ ‫هاج ٌر ِإلى َر ِبهي ِإنَّهُ ُه َو ْالعَ ِز ُ‬ ‫وط َوقا َل ِإ ِنهي ُم ِ‬ ‫فَآ َمنَ لَهُ لُ ٌ‬
‫تاب َوآتَيْناهُ أ َ ْج َرهُ ِفي ال ُّد ْنيا َو ِإنَّهُ ِفي ْاآل ِخ َر ِة لَ ِمنَ‬ ‫وب َو َجعَ ْلنا ِفي ذُ ِ هريَّ ِت ِه النُّبُ َّوة َ َو ْال ِك َ‬ ‫َويَ ْعقُ َ‬
‫صا ِل ِحينَ ) ‪( 27‬‬ ‫ال َّ‬

‫ص ‪323‬‬

‫‪323‬‬
‫إسحاق عليه السالم موهوب من غير سؤال ‪ ،‬وإسماعيل عليه السالم جمع له بين الكسب‬
‫صا ِل ِحينَ‬
‫والوهب ‪ ،‬فهو مكسوب من جهة سؤال إبراهيم عليه السالم( َربه ِ هَبْ ِلي ِمنَ ال َّ‬
‫وب َو َجعَ ْلنا فِي ذُ ِ هريَّتِ ِه النُّبُ َّوة َ َو ْال ِك َ‬
‫تاب‬ ‫ع ِظ ٍيم ) « َويَ ْعقُ َ‬ ‫ْح َ‬ ‫)موهوب من جهة الفداء ( َوفَ َديْناهُ بِ ِذب ٍ‬
‫ّللا‬
‫ّللا ) أجر التبليغ فآتاه ه‬ ‫َوآتَيْناهُ أ َ ْج َرهُ فِي ال ُّد ْنيا »وهو قول كل نبي ( إن أجري إال على على ه‬
‫أجره في الدنيا بأن نجاه من النار ‪ ،‬فجعلها عليه بردا وسالما« َو ِإنَّهُ فِي ْاآل ِخ َرةِ لَ ِمنَ ال َّ‬
‫صا ِل ِحينَ‬
‫»لألجر ما نقصه كونه في الدنيا قد حصله بما يناله في اآلخرة شيء ‪ .‬ولما كان الصالح من‬
‫خصائص العبودية ‪ ،‬وذكر تعالى عن أنبيائه أنهم من الصالحين ‪،‬‬
‫صا ِل ِحينَ »من أجل الثالثة األمور التي‬ ‫ذكر عن إبراهيم الخليل« َوإِنَّهُ فِي ْاآل ِخ َرةِ لَ ِمنَ ال َّ‬
‫صدرت منه في الدنيا ‪ ،‬وهي قوله عن زوجته سارة ‪ :‬إنها أخته بتأويل ‪ ،‬وقوله ‪ :‬إني سقيم‬
‫اعتذارا ‪ ،‬وقوله ‪ :‬بل فعله كبيرهم إقامة حجة ‪ ،‬فبهذه الثالثة يعتذر يوم القيامة للناس إذا سألوه‬
‫أن يسأل ربه فتح باب الشفاعة ‪ ،‬فلهذا ذكر صالحه في اآلخرة إذ لم يؤاخذه بذلك ‪.‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬اآليات ‪ 28‬إلى ‪] 29‬‬


‫ين ( ‪ ) 28‬أ َ إِنه ُك ْم‬ ‫فاحشَةَ ما َ‬
‫سبَقَ ُك ْم بِها ِم ْن أ َ َح ٍد ِم َن ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ون ا ْل ِ‬ ‫َولُوطا إِ ْذ قا َل ِلقَ ْو ِم ِه إِنه ُك ْم لَتَأْت ُ َ‬
‫واب قَ ْو ِم ِه إِاله أ َ ْن قالُوا‬
‫كان َج َ‬ ‫ون فِي نادِي ُك ُم ا ْل ُم ْنك ََر فَما َ‬‫سبِي َل َوتَأْت ُ َ‬‫ون ال ه‬ ‫الرجا َل َوت َ ْق َطعُ َ‬ ‫ون ِ ّ‬ ‫لَتَأْت ُ َ‬
‫ين ) ‪( 29‬‬ ‫صا ِدقِ َ‬ ‫ّللا ِإ ْن ُك ْنتَ ِم َن ال ه‬ ‫ب هِ‬ ‫ائْتِنا ِبعَذا ِ‬
‫وذلك مبالغة منهم في التكذيب ‪ ،‬إذ لو احتمل عندهم صدق الرسول ما قالوا مثل هذا القول ‪،‬‬
‫فإن النفوس قد جبلت على جلب المنافع ودفع المضار عنها‪. .‬‬

‫[سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬اآليات ‪ 30‬إلى ‪] 43‬‬


‫ِين ( ‪َ ) 30‬ولَ هما جا َءتْ ُر ُ‬
‫سلُنا إِ ْبرا ِهي َم‬ ‫سد َ‬‫علَى ا ْلقَ ْو ِم ا ْل ُم ْف ِ‬ ‫ب ا ْن ُ‬
‫ص ْرنِي َ‬ ‫قا َل َر ّ ِ‬

‫ص ‪324‬‬

‫‪324‬‬
‫ين ( ‪ ) 31‬قا َل ِإ هن ِفيها لُوطا‬ ‫ِبا ْلبُشْرى قالُوا ِإنها ُم ْه ِلكُوا أ َ ْه ِل ه ِذ ِه ا ْلقَ ْريَ ِة ِإ هن أ َ ْهلَها كانُوا ظا ِل ِم َ‬
‫ين ( ‪َ ) 32‬ولَ هما أ َ ْن جا َءتْ‬ ‫ام َرأَتَهُ كانَتْ ِم َن ا ْلغا ِب ِر َ‬ ‫قالُوا نَحْ ُن أ َ ْعلَ ُم ِب َم ْن ِفيها لَنُنَ ِ ّجيَنههُ َوأ َ ْهلَهُ ِإاله ْ‬
‫ف َوال تَحْ َز ْن إِنها ُمنَ ُّجوكَ َوأ َ ْهلَكَ إِاله‬ ‫ضاق بِ ِه ْم ذَ ْرعا َوقالُوا ال ت َ َخ ْ‬ ‫َ‬ ‫سي َء بِ ِه ْم َو‬ ‫سلُنا لُوطا ِ‬ ‫ُر ُ‬
‫ماء بِما‬ ‫س ِ‬ ‫ون عَلى أ َ ْه ِل ه ِذ ِه ا ْلقَ ْريَ ِة ِرجْ زا ِم َن ال ه‬ ‫ين ( ‪ ) 33‬إِنها ُم ْن ِزلُ َ‬ ‫ام َرأَت َكَ كانَتْ ِم َن ا ْلغابِ ِر َ‬ ‫ْ‬
‫ون ) ‪َ ( 35‬و ِإلى َم ْديَ َن أَخا ُه ْم‬ ‫ون ( ‪َ ) 34‬ولَقَ ْد ت َ َر ْكنا ِم ْنها آيَة بَ ِيّنَة ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُ َ‬ ‫سقُ َ‬ ‫كانُوا يَ ْف ُ‬
‫ِين ) ‪( 36‬‬ ‫سد َ‬ ‫ض ُم ْف ِ‬ ‫ار ُجوا ا ْليَ ْو َم ْاآل ِخ َر َوال ت َ ْعث َ ْوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ّللا َو ْ‬‫شعَ ْيبا فَقا َل يا قَ ْو ِم ا ْعبُدُوا ه َ‬ ‫ُ‬
‫ين ( ‪َ ) 37‬وعادا َوث َ ُمو َد َوقَ ْد تَبَيه َن لَ ُك ْم ِم ْن‬ ‫دار ِه ْم جا ِث ِم َ‬ ‫صبَ ُحوا ِفي ِ‬ ‫الرجْ فَةُ فَأ َ ْ‬ ‫فَ َكذهبُو ُه فَأ َ َخذَتْ ُه ُم ه‬
‫ين ( ‪) 38‬‬ ‫ست َ ْب ِص ِر َ‬ ‫سبِي ِل َوكانُوا ُم ْ‬ ‫ص هد ُه ْم ع َِن ال ه‬ ‫طان أَعْمالَ ُه ْم فَ َ‬ ‫ش ْي ُ‬ ‫َمسا ِكنِ ِه ْم َو َزيه َن لَ ُه ُم ال ه‬
‫ض َوما كانُوا‬ ‫ست َ ْكبَ ُروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ت فَا ْ‬ ‫هامان َولَقَ ْد جا َء ُه ْم ُموسى بِا ْلبَ ِيّنا ِ‬ ‫َ‬ ‫ون َوفِ ْرع َْو َن َو‬ ‫قار َ‬ ‫َو ُ‬
‫ين ) ‪( 39‬‬ ‫سا ِب ِق َ‬
‫ص ْي َحةُ َو ِم ْن ُه ْم َم ْن َخ َ‬
‫س ْفنا‬ ‫حاصبا َو ِم ْن ُه ْم َم ْن أ َ َخذَتْهُ ال ه‬ ‫ِ‬ ‫فَ ُكالًّ أ َ َخ ْذنا ِبذَ ْن ِب ِه فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن أ َ ْر َ‬
‫س ْلنا َ‬
‫علَ ْي ِه‬
‫ون ( ‪) 40‬‬ ‫س ُه ْم يَ ْظ ِل ُم َ‬ ‫ّللاُ ِليَ ْظ ِل َم ُه ْم َول ِك ْن كانُوا أ َ ْنفُ َ‬ ‫كان ه‬ ‫ض َو ِم ْن ُه ْم َم ْن أ َ ْغ َر ْقنا َوما َ‬ ‫ِب ِه ْاأل َ ْر َ‬
‫ت لَبَيْتُ‬ ‫ت ات ه َخذَتْ بَ ْيتا َو ِإ هن أ َ ْو َه َن ا ْلبُيُو ِ‬ ‫ّللا أ َ ْو ِليا َء َك َمث َ ِل ا ْلعَ ْن َكبُو ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ِين ات ه َخذُوا ِم ْن د ِ‬ ‫َمث َ ُل الهذ َ‬
‫ون ( ‪) 41‬‬ ‫ت لَ ْو كانُوا يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ا ْلعَ ْن َكبُو ِ‬
‫يز ا ْل َح ِكي ُم ( ‪) 42‬‬ ‫ش ْي ٍء َو ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬ ‫ُون ِم ْن دُونِ ِه ِم ْن َ‬ ‫ّللا يَ ْعلَ ُم ما يَ ْدع َ‬ ‫إِ هن ه َ‬
‫َوتِ ْل َك ْاأل َ ْمثا ُل نَض ِْربُها‬

‫ص ‪325‬‬

‫‪325‬‬
‫اس َوما يَ ْع ِقلُها ِإاله ا ْلعا ِل ُم َ‬
‫ون ( ‪) 43‬‬ ‫ِللنه ِ‬
‫[ األمثال ما جاءت مطلوبة ألنفسها ]‬
‫األمثال ما جاءت مطلوبة ألنفسها ‪ ،‬وإنما جاءت ليعلم منها ما ضربت له ‪ ،‬وما نصبت من‬
‫ّللا العالم الخارج عن اإلنسان إال‬ ‫أجله ‪ ،‬فهي كآيات االعتبار كلها من القرآن ‪ ،‬وما خلق ه‬
‫ضرب مثال لإلنسان ‪ ،‬ليعلم أن كل ما ظهر في العالم هو فيه ‪ ،‬واإلنسان هو العين المقصودة ‪،‬‬
‫فهو مجموع الحكم ‪ ،‬ومن أجله خلقت الجنة والنار ‪ ،‬والدنيا واآلخرة ‪ ،‬واألحوال كلها‬
‫والكيفيات ‪ ،‬وفيه ظهر مجموع األسماء اإللهية ‪ ،‬وآثارها " َوما يَ ْع ِقلُها ِإ َّال ْالعا ِل ُمونَ "‬
‫ّللا أن العالم من علم علم الظاهر والباطن ‪ ،‬ومن لم يجمع بينهما فليس بعالم‬ ‫اعلم أيدك ه‬
‫خصوصي وال مصطفى ‪ ،‬وسبب ذلك أن حقيقة العلم تمنع صاحبها أن يقوم في أحواله بما‬
‫يخالف علمه ‪ ،‬فكل من ادعى علما وعمل بخالفه في الحال الذي يجب عليه عقال وشرعا‬
‫العمل به فليس بعالم ‪ ،‬وال ظاهر بصورة عالم ‪ ،‬وال تغالط نفسك فإن وبال ذلك ما يعود على‬
‫أحد إال عليك ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬قد نجد من يعلم وال يرزق التوفيق للعمل بعلمه ‪ ،‬فقد يكون العلم وال‬
‫عمل ‪،‬‬
‫قلنا ‪ :‬هذا غلط من القائل به ‪ ،‬ولتعلم أن مسمى العلم ينطلق اسمه على ما هو علم وما ليس بعلم‬
‫‪ ،‬وما نرى أحدا يتوقف بالعمل فيما يزعم أنه عالم به إال وفي نفسه احتمال ‪ ،‬ومن قام له في‬
‫شيء احتمال فليس بعالم به ‪ ،‬وال بمؤمن بمن أخبره بذلك إيمانا يوجب له العلم ‪،‬‬
‫مع أنك لو سألته لقال لك ‪ :‬ما نشك أن ما جاء به هذا الشخص حق ‪ ،‬يعني الرسول عليه السالم‬
‫‪ ،‬وأنا به مؤمن ‪،‬‬
‫فهذا قول ليس بصحيح إال في وقت دعواه عند بعض الناس ‪ ،‬ثم إذ خلي بفكره قام معه‬
‫االحتمال فكان ذلك الذي تخيل أنه علم أمرا عرض له ‪ ،‬فالعلم يعطي العمل من خلف حجاب‬
‫ّللا تعالى ما نصب اآليات وكثرها إال ليحصل بها العلم ‪،‬‬ ‫رقيق ‪ ،‬أال ترى أن ه‬
‫ّللا وتفاصيلها ‪،‬‬‫ّللا بحكم آيات ه‬ ‫لعلمه أن العلم إذا حصل لزم العمل فالعالم هو صاحب الفهم عن ه‬
‫وكل من ادعى علما من غير عمل فدعواه كاذبة إن تعلق به خطاب عمل ‪ ،‬وما تال عليك‬
‫سبحانه كالمه إال لتعقل عنه إن كنت عالما‪.‬‬

‫[سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪]44‬‬


‫ق إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليَة ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين ( ‪) 44‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ض ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫سماوا ِ‬
‫ّللاُ ال ه‬
‫ق ه‬ ‫َخلَ َ‬
‫[ الحق المخلوق به ]‬
‫اعلم أن األشياء على ثالث مراتب ال رابع لها ‪ ،‬والعلم ال يتعلق بسواها ‪ ،‬وما عداها‬

‫ص ‪326‬‬

‫‪326‬‬
‫فعدم محض ال يعلم وال يجهل وال هو متعلق بشيء ‪ ،‬فإذا فهمت هذا فنقول إن هذه األشياء‬
‫الثالثة منها ما يتصف بالوجود لذاته فهو موجود بذاته في عينه ال يصح أن يكون وجوده عن‬
‫عدم ‪ ،‬بل هو مطلق الوجود ال عن شيء فكان يتقدم عليه ذلك الشيء ‪ ،‬بل هو الموجد لجميع‬
‫األشياء وخالقها ومقدرها ومفصلها ومدبرها ‪ ،‬وهو الوجود المطلق الذي ال يتقيد سبحانه ‪،‬‬
‫ّللا الحي القيوم العليم المريد القدير الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ‪،‬‬ ‫وهو ه‬
‫باّلل تعالى وهو الوجود المقيد المعبر عنه بالعالم ‪ :‬العرش والكرسي والسماوات‬ ‫ومنها موجود ه‬
‫العلى وما فيها من العالم والخلق واألرض وما فيها من الدواب والحشرات والنبات وغير ذلك‬
‫من العالم ‪ ،‬فإنه لم يكن موجودا في عينه ثم كان ‪ ،‬من غير أن يكون بينه وبين موجده زمان‬
‫يتقدم به عليه فيتأخر هذا عنه ‪ ،‬فيقال فيه ‪ :‬بعد أو قبل ‪ ،‬هذا محال ؛‬
‫وإنما هو متقدم بالوجود كتقدم أمس على اليوم ‪ ،‬فإنه من غير زمان ألنه نفس الزمان ‪ ،‬فعدم‬
‫الزمان لم يكن في وقت ‪ ،‬لكن الوهم يتخيل أن بين وجود الحق ووجود الخلق امتدادا ‪،‬‬
‫وذلك راجع لما عهده في الحس من التقدم الزماني بين المحدثات وتأخره ‪،‬‬
‫وأما الشيء الثالث فما ال يتصف بالوجود وال بالعدم وال بالحدوث وال بالقدم ‪ ،‬وهو مقارن‬
‫لألزلي الحق أزال فيستحيل عليه أيضا التقدم الزماني على العالم والتأخر ‪ ،‬كما استحال على‬
‫الحق وزيادة ألنه ليس بموجود ‪ ،‬فإن الحدوث والقدم أمر إضافي يوصل إلى العقل حقيقة ما ‪.‬‬
‫وذلك أنه لو زال العالم لم نطلق على الواجب الوجود قديما ‪ ،‬وإن كان الشرع لم يجئ بهذا‬
‫االسم أعني القديم وإنما جاء باسمه األول واآلخر ‪ ،‬فإذا زلت أنت لم يقل ‪ :‬أوال وال آخرا إذ‬
‫الوسط العاقد األولية واآلخرية ليس ث هم ‪،‬‬
‫فال أول وال آخر ‪ ،‬وهكذا الظاهر والباطن وأسماء اإلضافات كلها ‪ ،‬فيكون موجودا مطلقا من‬
‫غير تقييد بأولية أو آخرية ‪ ،‬وهذا الشيء الثالث الذي ال يتصف بالوجود وال بالعدم مثله في‬
‫نفي األولية واآلخرية بانتفاء العالم كما كان الواجب الوجود سبحانه ‪،‬‬
‫وكذلك ال يتصف بالكل وال بالبعض ‪ ،‬وال يقبل الزيادة والنقص وأما قولنا فيه كما استحال على‬
‫الحق وزيادة ‪ ،‬فتلك الزيادة كونه ال موجودا وال معدوما ‪ ،‬فال يقال فيه ‪ :‬أول وآخر ‪ ،‬وكذلك‬
‫لنعلم أيضا أن هذا الشيء الثالث ليس العالم يتأخر عنه أو يحاذيه بالمكان ‪ ،‬إذ المكان من العالم‬
‫‪ ،‬وهذا أصل العالم وأصل الجوهر الفرد وفلك الحياة والحق المخلوق به وكل ما هو عالم من‬
‫الموجود المطلق ‪ ،‬وعن هذا الشيء الثالث ظهر العالم ‪ ،‬فهذا‬

‫ص ‪327‬‬

‫‪327‬‬
‫الشيء هو حقيقة حقائق العالم الكلية المعقولة في الذهن الذي يظهر في القديم قديما ‪ ،‬وفي‬
‫الحادث حادثا ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬هذا الشيء هو العالم صدقت وإن قلت ‪ :‬إنه الحق القديم سبحانه‬
‫صدقت ‪ ،‬وإن قلت ‪ :‬إنه ليس العالم وال الحق تعالى وأنه معنى زائد صدقت ‪ ،‬كل هذا يصح‬
‫عليه ‪ ،‬وهو الكلي األعم الجامع الحدوث والقدم ‪ ،‬وهو يتعدد بتعدد الموجودات ‪ ،‬وال ينقسم‬
‫بانقسام الموجودات ‪ ،‬وينقسم بانقسام المعلومات ‪ ،‬وهو ال موجود وال معدوم ‪ ،‬وال هو العالم‬
‫وهو العالم ‪ ،‬وهو غير وال هو غير ‪،‬‬
‫ألن المغايرة في الوجودين والنسبة انضمام شيء ما إلى شيء آخر ‪ ،‬فيكون منه أمر آخر‬
‫يسمى صورة ما واالنضمام نسبة ‪ ،‬فهذا الشيء الذي نحن بسبيله ال يقدر أحد أن يقف على‬
‫حقيقته عبارة ‪ ،‬لكن نومئ إليه بضرب من التشبيه والتمثيل ‪،‬‬
‫فنقول ‪ :‬نسبة هذا الشيء الذي ال يحد وال يتصف بالوجود وال بالعدم ‪ ،‬وال بالحدوث وال بالقدم‬
‫‪ ،‬إلى العالم كنسبة الخشبة إلى الكرسي والتابوت والمنبر والمحمل ‪ ،‬والفضة إلى األواني‬
‫واآلالت التي تصاغ منها كالمكحلة والقرط والخاتم ‪ ،‬فبهذا تعرف تلك الحقيقة ‪ ،‬فخذ هذه‬
‫النسبة وال تتخيل النقص فيه كما تتخيل النقص في الخشبة بانفصال المحبرة عنها ‪،‬‬
‫واعلم أن الخشبة صورة مخصوصة في العودية ‪ ،‬فال تنظر أبدا إال للحقيقة المعقولة الجامعة‬
‫التي هي العودية ‪ ،‬فتجدها ال تنقص وال تتبعض ‪ ،‬بل هي في كل كرسي ومحبرة على كمالها‬
‫من غير نقص وال زيادة ‪ ،‬وإن كان في صورة المحبرة حقائق كثيرة منها ‪ :‬الحقيقة العودية‬
‫واالستطالية والتربيعية والكمية وغير ذلك ‪ ،‬وكلها فيها بكمالها ‪ ،‬وكذلك الكرسي والمنبر ‪،‬‬
‫وهذا الشيء الثالث هو هذه الحقائق كلها بكمالها ‪ ،‬فسمه إن شئت حقيقة الحقائق ‪ ،‬فالمعقوالت‬
‫العشرة وهي الجوهر والعرض والحال والزمان والمكان والعدد واإلضافة والوضع وأن يفعل‬
‫تكون الحقيقة التي أوجد الحق من مادتها الموجودات العلويات والسفليات ‪ ،‬فهو‬ ‫وأن ينفعل ‪ ،‬ه‬
‫األم الجامعة لجميع الموجودات ‪ ،‬وهي معقولة في الذهن غير موجودة في العين ‪ ،‬وهو أن‬
‫تكون لها صورة ذاتية لكنها في الموجودات حقيقة من غير تبعيض وال زيادة وال نقص ‪،‬‬
‫فوجودها عن بروز أعيان الموجودات قديمها وحديثها ‪ ،‬ولوال أعيان الموجودات ما عقلناها ‪،‬‬
‫ولوالها ما عقلنا حقائق الموجودات ‪ ،‬فوجودها موقوف على وجود األشخاص ‪ ،‬والعلم‬
‫باألشخاص تفصيال موقوف على العلم بها ‪ ،‬إذ من ال يعرفها لم يفرق بين الموجودات ‪ .‬وقال‬
‫مثال ‪ :‬إن الجماد والملك والقديم شيء واحد ‪ ،‬إذ ال يعرف الحقائق‬

‫ص ‪328‬‬

‫‪328‬‬
‫وال بما ذا تتميز الموجودات بعضها عن بعض ‪ ،‬فهي متقدمة في العلم ظاهرة في الموجودات‬
‫‪ ،‬فإن أطلق عليها تأخر فلتأخر وجود الشخص ال لعينها ‪ ،‬فهي بالنظر إلى ذاتها كلية معقولة ال‬
‫تتصف بالوجود وال بالعدم ‪ ،‬وهي المادة لجميع الموجودات ‪ ،‬فقد ظهرت بكمالها بظهور‬
‫الموجودات ‪ ،‬وما بقي شيء يوجد بعد ‪ . -‬راجع سورة األنعام آية ‪ ، 73‬الحجر آية ‪، 85‬‬
‫سورة النحل آية ‪ « - 3‬إن في ذلك آلية لقوم يؤمنون » ‪.‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 45‬‬


‫صالةَ ت َ ْنهى ع َِن ا ْلفَحْ ِ‬
‫شاء َوا ْل ُم ْنك َِر َولَ ِذ ْك ُر ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ب َوأَقِ ِم ال ه‬
‫صالةَ إِ هن ال ه‬ ‫ي إِلَ ْيكَ ِم َن ا ْل ِكتا ِ‬
‫وح َ‬ ‫اتْ ُل ما أ ُ ِ‬
‫ون ( ‪) 45‬‬ ‫صنَعُ َ‬ ‫أ َ ْكبَ ُر َو ه‬
‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم ما ت َ ْ‬
‫[ كون الصالة تنهى عن الفحشاء والمنكر ]‬
‫شاء َو ْال ُم ْن َك ِر »الوجه األول يعني بصورتها ‪ ،‬فإن التكبيرة األولى‬ ‫ع ِن ْالفَ ْح ِ‬ ‫صالة َ ت َ ْنهى َ‬ ‫« ِإ َّن ال َّ‬
‫تحريمها ‪ ،‬والسالم منها تحليلها ‪ ،‬فالصالة تنهى عن الفحشاء والمنكر ‪ ،‬هكذا أخبر تعالى إنباء‬
‫عن حقيقة ألجل ما فيها من اإلحرام ‪ ،‬فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر بسبب تكبيرة اإلحرام ‪،‬‬
‫فإنه حرم على المصلي التصرف في غير الصالة ما دام في الصالة ‪ ،‬فذلك اإلحرام نهاه عن‬
‫الفحشاء والمنكر ‪ ،‬فإن اإلحرام المنع من التصرف في شيء مما يغاير كونه مصليا ‪ ،‬فانته‬
‫ّللا في نفس‬ ‫ّللا وطاعته ‪ ،‬وأجر من انته عن محارم ه‬ ‫المصلي ‪ ،‬فصح له أجر من عمل بأمر ه‬
‫الصالة وإن كان لم ينو ذلك ‪ ،‬فانظر ما أشرف الصالة كيف أعطت هذه المسألة العجيبة ! !‬
‫وهي أن اإلنسان إذا تصرف في واجب ‪ ،‬فإن له ثواب من تصرف في واجب ويتضمن شغله‬
‫بذلك الواجب عدم التفرغ لما نهي عنه أن يأتيه من الفحشاء والمنكر ‪ ،‬فيكون له ثواب من نوى‬
‫أن ال يفعل فحشاء وال منكرا ‪ ،‬فإن أكثر الناس تاركون ما لهم هذا النظر ‪ ،‬لعدم الحضور‬
‫ع ِن‬‫صالة َ ت َ ْنهى َ‬ ‫باستحضار األولى ‪ ،‬ولو لم يكن األمر كذلك لما أعطى فائدة في قوله «‪ِ :‬إ َّن ال َّ‬
‫شاء َو ْال ُم ْن َك ِر »فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر وال تنهى عن غيرها من الطاعات فيها مما‬ ‫ْالفَ ْح ِ‬
‫ال يخرجك فعله عن أن تكون مصليا شرعا ‪ - .‬الوجه الثاني ‪ -‬الصالة فعل العبد ‪ ،‬فهو بصالته‬
‫ممن ينهى عن الفحشاء والمنكر ‪ ،‬فيكون له بالصالة أجر من ينهى عن الفحشاء والمنكر وهو‬
‫لم يتكلم فله أجر عبادتين ‪ :‬أجر الصالة وهي عبادة ‪ ،‬وأجر النهي عن الفحشاء وهو عبادة ‪،‬‬
‫شاء »وهو ما ظهر من المخالفة‬ ‫فالصالة بذاتها تنهى عن« ْالفَ ْح ِ‬

‫ص ‪329‬‬

‫‪329‬‬
‫" َو ْال ُم ْن َك ِر " وهو ما تنكره القلوب ‪ ،‬وذلك الظاهر للتحريم والتحليل الذي فيها ‪.‬‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر »‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر » اآلية ]« َولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬ ‫[ « َولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬الصالة تشتمل على أقوال وأفعال ‪ ،‬فتحريك اللسان بالذكر من المصلي من‬
‫جملة أفعال الصالة ‪ ،‬والقول المسموع من هذا التحريك هو من أقوال الصالة ‪ ،‬وليس في‬
‫ّللا ‪ ،‬في حال قيام وركوع وخفض ورفع إال ما يقع به التلفظ من‬ ‫أقوالها شيء يخرج عن ذكر ه‬
‫ذكر نفسك بحرف ضمير ‪ ،‬أو ذكر صفة تسأله أن يعطيكها ‪ ،‬مثل ‪ :‬اهدني وارزقني ‪ ،‬ولكن‬
‫ّللا سمى القرآن ذكرا وفيه أسماء الشياطين والمغضوب عليهم ‪،‬‬ ‫هو ذكر شرعا هّلل ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا ‪،‬‬‫ّللا فذكرتهم بذكر ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإنه كالم ه‬ ‫والمتلفظ به يسمى ذكر ه‬
‫ّللا »فيها« أ َ ْكبَ ُر »يعني القول فيها أشرف أفعال المكلف ‪ ،‬فإنها‬ ‫فيكون قوله تعالى «‪َ :‬ولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬
‫ّللا »فيها« أ َ ْكبَ ُر »أعمالها وأكبر أحوالها ‪ ،‬أي ذكر ه‬
‫ّللا‬ ‫تشتمل على أفعال وأقوال ‪ ،‬أي« َولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬
‫ّللا في‬
‫أكبر ما فيها ‪ ،‬فهو أكبر من جملة أفعالها ‪ ،‬فإنها تشتمل على أقوال وأفعال ‪ ،‬فذكر ه‬
‫الصالة أكبر أحوال الصالة ‪ ،‬قال تعالى ‪ (:‬فَا ْذ ُك ُرونِي أ َ ْذ ُك ْر ُك ْم َوا ْش ُك ُروا ِلي َوال ت َ ْكفُ ُر ِ‬
‫ون‬
‫)والفاتحة تجمع الذكر والشكر ‪ ،‬وهي التي يقرؤها المصلي في قيامه ‪،‬‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ ) *وهو عين الذكر بالشكر ‪ ،‬إلى كل ذكر فيها وفي‬ ‫فالشكر فيها قوله ‪ْ (:‬ال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّللا في حال الصالة وشكره أعظم وأفضل من ذكره سبحانه في غير‬ ‫سائر الصالة ‪ ،‬فذكر ه‬
‫ّللا في الصالة أكبر من جميع أفعالها‬ ‫الصالة ‪ ،‬فإن الصالة خير موضوع العبادات ‪ ،‬فذكر ه‬
‫ّللا فيها كان جليسك في تلك العبادة ‪ ،‬فإنه أخبر أنه جليس من ذكره‬ ‫وأقوالها ‪ ،‬فإنك إن ذكرت ه‬
‫ّللا وبين المصلي في‬ ‫ّللا في الصالة أكبر فيها من أفعالها ‪ ،‬وفيه وقعت القسمة بين ه‬ ‫‪ ،‬فذكر ه‬
‫ّللا من األقوال ‪ ،‬والسجود من األفعال ‪ ،‬ألن الذكر‬ ‫الصالة ‪ ،‬فإن أفضل ما في الصالة ذكر ه‬
‫ّللا في الصالة أشرف أجزاء الصالة ‪ ،‬ال أن الذكر أشرف‬ ‫جزء منها وهو أكبر أجزائها ‪ ،‬فذكر ه‬
‫من الصالة ‪ ،‬فما كل الصالة ذكر ‪ ،‬فإن فيها الدعاء ‪ ،‬وقد فرق الحق بين الذكر والدعاء ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬من شغله ذكري عن مسألتي ؛ وهي الدعاء ‪ ،‬فما هو الذكر هنا الذكر الخارج عن الصالة‬
‫ّللا‬
‫حتى ترجحه على الصالة ‪ ،‬إنما هو الذكر الذي في الصالة ‪ ،‬فينبغي لكل من أراد أن يذكر ه‬
‫تعالى ويشكره باللسان والعمل أن يكون مصليا وذاكرا بكل ذكر نزل في القرآن ال في غيره ‪،‬‬
‫وينوي بذلك الذكر والدعاء الذي في القرآن ليخرج عن العهدة ‪ ،‬فإنه من ذكره بكالمه فقد خرج‬
‫ّللا ‪ ،‬ليكون في حال ذكره تاليا لكالمه ‪،‬‬ ‫من العهدة فيما ينسب في ذلك الذكر إلى ه‬
‫‪330‬‬
‫فيقول من التسبيحات ما في القرآن ‪ ،‬ومن التحميدات ما في القرآن ‪ ،‬ومن األدعية ما في‬
‫ّللا إياه في قوله ‪(:‬‬ ‫ّللا وبين ذكر ه‬ ‫القرآن ‪ ،‬فتقع المطابقة بين ذكر العبد بالقرآن ألنه كالم ه‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر »يعني في الصالة ‪ ،‬أي الذكر‬ ‫ّللا الذاكر له أيضا ‪َ «،‬ولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬ ‫فَا ْذ ُك ُرو ِني أ َ ْذ ُك ْر ُك ْم )فيذكر ه‬
‫ّللا لعبده حين يجيب سؤاله والثناء عليه ‪ ،‬أكبر من ذكر العبد ربه فيها ‪ ،‬وذكره‬ ‫الذي يكون من ه‬
‫كالمه ‪ ،‬فتكون المناسبة بين الذكرين ‪ ،‬فإن ذكره بذكر يخترعه لم تكن له تلك المناسبة بين‬
‫ّللا في ذكره للعبد وبين ذكر العبد ‪ ،‬فإن العبد ما ذكره هنا بما جاء في القرآن وال نواه ‪،‬‬ ‫كالم ه‬
‫وإن صادفه باللفظ ولكن هو غير مقصود ‪ ،‬ثم إن هذا الذكر بالقرآن جاء في الصالة فالتحق‬
‫ح اس َْم َر ِبه َك‬
‫س ِبه ِ‬
‫ّللا عليه وسلم لما نزلت ( َ‬ ‫ّللا عليه وسلم صلى ه‬ ‫باألذكار الواجبة مثل قوله صلهى ه‬
‫‪330‬‬
‫س ِبه ْح ِباس ِْم َر ِبه َك ْالعَ ِظ ِيم )اجعلوها في ركوعكم ‪،‬‬
‫ْاأل َ ْعلَى )اجعلوها في سجودكم وقوله في( فَ َ‬
‫ّللا أفضل ‪ ،‬فينبغي للمحقق أن يكون ذكره في الصالة باألذكار الواردة‬ ‫واألذكار الواجبة عند ه‬
‫في القرآن ‪ ،‬حتى يكون في ذكره تاليا ‪ ،‬فيجمع بين الذكر والتالوة معا في لفظ واحد ‪ ،‬فيحصل‬
‫على أجر التالين والذاكرين ‪ ،‬أعني الفضيلة ‪ ،‬وإذا ذكره من غير أن يقصد الذكر الوارد في‬
‫القرآن فهو ذاكر ال غير ‪ ،‬فينقصه من الفضيلة على قدر ما نقصه من القصد ‪ ،‬ولو كان ذلك‬
‫الذكر في القرآن غير أنه لم يقصده ‪ ،‬وقد ثبت أن األعمال بالنيات ‪ ،‬وإنما المرئ ما نوى ‪،‬‬
‫ّللا ؛ أن تقصد بذلك التهليل الوارد في القرآن ‪ ،‬مثل قوله تعالى‬ ‫فينبغي لك إن قلت ‪ :‬ال إله إال ه‬
‫ّللاُ )وكذلك التسبيح والتكبير والتحميد ‪ ،‬وأنت تعلم أن أنفاس اإلنسان‬ ‫‪ (:‬فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال إِلهَ إِ َّال َّ‬
‫نفيسة ‪ ،‬والنفس إذا مضى ال يعود ‪ ،‬فينبغي لك أن تخرجه في األنفس واألعز‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر »هذه اإلضافة تكون من كونه ذاكرا ومن‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬أن قوله تعالى «‪َ :‬ولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬
‫كونه مذكورا ‪ ،‬فهو أكبر الذاكرين ‪ ،‬فذكره نفسه لنفسه بنفسه أكبر من ذكره نفسه بخلقه ‪ ،‬فإنه‬
‫ّللا ال ينقطع ‪ ،‬وهو‬ ‫ّللا ما تنفد ‪ ،‬فذكر ه‬ ‫تعالى يذكر نفسه من كونه متكلما ‪ ،‬ولما كانت كلمات ه‬
‫صل ألن الكلمات تفصيل ال إجمال فيها ‪ ،‬فذكره أكبر األذكار ‪ ،‬والذكر وإن لم يخرج‬ ‫ذكر مف ه‬
‫ّللا قد جعل بعضه أكبر من بعض‬ ‫عنه فإن ه‬
‫ّللا فيقول ‪َ «:‬ولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬
‫ّللا »بهذا االسم‬ ‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬ثم يتوجه فيه قصد آخر من أجل االسم ه‬
‫الذي ينعت وال ينعت به ‪ ،‬ويتضمن جميع األسماء الحسنى وال يتضمنه شيء في حكم الداللة«‬
‫أ َ ْكبَ ُر »من كل اسم تذكره به سبحانه ؛ من رحيم وغفور ورب وشكور وغير ذلك ‪،‬‬

‫ص ‪331‬‬

‫‪331‬‬
‫ّللا ‪ ،‬لوجود االشتراك في جميع األسماء كلها ‪ ،‬قال‬ ‫فإنه ال يعطي في الداللة ما يعطى االسم ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬ال تقوم الساعة حتى ال يبقى على وجه األرض من يقول ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا أ َ ْكبَ ُر »فما قال رسول ه‬
‫ّللا فيه ‪َ «:‬ولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬‫ّللا ] وهو الذكر األكبر الذي قال ه‬ ‫ه‬
‫ّللا ؛ هذا إذا أخذنا أكبر بطريق أفعل من كذا ‪ -‬راجع الذكر باالسم‬ ‫وسلم ‪ :‬من يقول ال إله إال ه‬
‫المفرد سورة األحزاب آية ‪– 41‬‬
‫فإن لم تأخذها على أفعل من كذا فيكون إخبارا عن كبر الذكر من غير مفاضلة بأي اسم ذكر ‪،‬‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر‬
‫وهو أولى بالجناب اإللهي ‪ ،‬وإن كانت الوجوه كلها مقصودة في قوله تعالى« َولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬
‫ّللا من فرقان وتوراة وزبور وإنجيل وصحيفة عند كل‬ ‫»فإنه كل وجه تحتمله كل آية من كالم ه‬
‫عارف بذلك اللسان ‪ ،‬فإنه مقصود هّلل تعالى في حق ذلك المتأول لعلمه اإلحاطي سبحانه بجميع‬
‫الوجوه‬
‫ّللا هو القرآن ‪ ،‬فاذكره بالقرآن ال تكبره بتكبيرك ‪،‬‬ ‫ّللا أ َ ْكبَ ُر »ذكر ه‬
‫‪ -‬الوجه الرابع –" َولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬
‫إذ قد أمرك أن تكبره فقال ‪َ (:‬و َك ِبه ْرهُ ت َ ْك ِبيرا ً )فإذا كبرت ربك فكبره كما كبر نفسه وال تحكم‬
‫على ربك بعقلك‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر »اختلف علماء الشريعة في صفة لفظة التكبير‬ ‫‪ -‬مسألة ‪ -‬التكبير في الصالة بلفظ« َّ ِ‬
‫ّللا أكبر ‪ ،‬ومن قائل يجزئ بغير الصيغة مثل الكبير‬ ‫في الصالة ‪ ،‬فمن قائل ال يجزئ إال لفظة ه‬
‫‪ ،‬ومن قائل يجوز التكبير على المعنى كاألجل واألعظم ‪ ،‬واتباع السنة أولى ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم يقول ‪ [ :‬صلوا كما رأيتموني أصلي ] وما نقل إلينا قط إال‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فإن رسول ه‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر »تواترا ‪ ،‬فال نتحكم بسياق لفظ آخر ‪ ،‬فإنه ال بد لمن يعدل عنه أن يحرم‬ ‫هذا اللفظ« َّ ِ‬
‫فائدة ذلك االختصاص ‪ ،‬ويتصف بالمخالفة بال شك ‪،‬‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر »في تكبيرة اإلحرام لما خصص حاال من األحوال سماها صالة ‪ ،‬فهو‬ ‫يقول العبد« َّ ِ‬
‫ّللا أكبر أن يقيد ربي حال من األحوال ‪ ،‬بل األحوال كلها بيده لم يخرج عنه حال من‬ ‫يقول ‪ :‬ه‬
‫األحوال ‪ ،‬فكبره عن مثل هذا الحكم ‪ ،‬وهو كبرياء ال يشاركه فيه كون من األكوان ‪ ،‬ولذلك‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم ببنية المفاضلة ‪ ،‬ألن المشركين نسبوا األلوهة لغير ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫جاء رسول ه‬
‫ّللا عندهم أتم وأعظم باعترافهم ‪ ،‬فالمفاضلة في األسماء اإللهية إنما هي‬ ‫تعالى ‪ ،‬ونسبتها إلى ه‬
‫في المناسبة ال في األعيان ‪ ،‬ال أن الحجارة أفضل ‪ ،‬وال ما نحتوه ‪ ،‬وال ما نسبوا إليه األلوهية‬
‫من كوكب وغيره ‪ ،‬ألنه ال مفاضلة في األعيان ‪ ،‬ألنه ليس بين العبد والسيد ‪ ،‬وال الرب‬
‫والمربوب ‪ ،‬وال الخالق والمخلوق مفاضلة‪.‬‬

‫ص ‪332‬‬

‫‪332‬‬
‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬اآليات ‪ 46‬إلى ‪] 47‬‬
‫ِين َظلَ ُموا ِم ْن ُه ْم َوقُولُوا آ َمنها ِباله ِذي أ ُ ْن ِز َل‬
‫س ُن ِإاله الهذ َ‬‫ي أَحْ َ‬ ‫َوال تُجا ِدلُوا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب ِإاله ِباله ِتي ِه َ‬
‫تاب‬‫ون ( ‪َ ) 46‬وكَذ ِلكَ أ َ ْن َز ْلنا إِلَ ْيكَ ا ْل ِك َ‬ ‫إِلَ ْينا َوأ ُ ْن ِز َل إِلَ ْي ُك ْم َوإِل ُهنا َوإِل ُه ُك ْم ِ‬
‫واح ٌد َونَحْ ُن لَهُ ُم ْ‬
‫س ِل ُم َ‬
‫ون (‬ ‫ُالء َم ْن يُ ْؤ ِم ُن بِ ِه َوما يَجْ َح ُد بِآياتِنا إِاله ا ْلكافِ ُر َ‬
‫ون بِ ِه َو ِم ْن هؤ ِ‬ ‫ِين آت َ ْينا ُه ُم ا ْل ِك َ‬
‫تاب يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫فَالهذ َ‬
‫‪)47‬‬
‫فإنهم يسترونها وإن عرفوها حسدا منهم ونفاسة وظلما ‪.‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬اآليات ‪ 48‬إلى ‪] 50‬‬


‫ون ( ‪ ) 48‬بَ ْل ُه َو آياتٌ‬ ‫تاب ا ْل ُم ْب ِطلُ َ‬
‫الر َ‬ ‫طهُ بِيَ ِمينِكَ إِذا ْ‬ ‫ب َوال ت َ ُخ ُّ‬ ‫َوما ُك ْنتَ تَتْلُوا ِم ْن قَ ْب ِل ِه ِم ْن ِكتا ٍ‬
‫ون ( ‪َ ) 49‬وقالُوا لَ ْو ال أ ُ ْن ِز َل‬ ‫ظا ِل ُم َ‬ ‫ِين أُوتُوا ا ْل ِع ْل َم َوما يَجْ َح ُد ِبآياتِنا إِاله ال ه‬ ‫ُور الهذ َ‬ ‫صد ِ‬
‫بَ ِيّناتٌ فِي ُ‬
‫ين ) ‪( 50‬‬ ‫ّللا َو ِإنهما أَنَا نَذ ٌ‬
‫ِير ُم ِب ٌ‬ ‫علَ ْي ِه آياتٌ ِم ْن َر ِبّ ِه قُ ْل ِإنه َما ْاآلياتُ ِع ْن َد ه ِ‬ ‫َ‬
‫ّللا على لسانه وأمره بتبليغ ذلك ‪،‬‬ ‫ّللا بها ما أبان ه‬ ‫ّللا عليه وسلم التي بعثه ه‬ ‫إن من رحمته صلهى ه‬
‫فبلغ أنه ليس من شرط الرسالة ظهور العالمات على صدقه ‪ ،‬إنما هو شخص منذر مأمور‬
‫بتبليغ ما أمر بتبليغه ‪ ،‬هذا حظه ال يجب عليه غير ذلك ‪ ،‬فإن أتى بعالمة على صدقه فذلك‬
‫ّللا ليس ذلك بيده ‪ ،‬فأقام عذر األنبياء كلهم في ذلك ‪ ،‬فكان رحمة للرسل في هذا ‪ ،‬فجاء‬ ‫فضل ه‬
‫في القرآن قوله ‪ « :‬وقالوا لوال أنزلت عليه آيات من ربه » وهذا قول غير العرب ما هو قول‬
‫العرب ‪ ،‬ألنه جاء بالقرآن آية على صدقه للعرب ‪ ،‬إذ ال يعرف إعجازه وكونه آية غير العرب‬
‫‪ ،‬فلم يرد عنه أنه أظهر آية لكل من دعاه من غير العرب كاليهود والنصارى والمجوس ‪،‬‬
‫ّللا ال بحكم الوجوب عليه وال على غيره من الرسل ‪،‬‬ ‫ولكن أي شيء جاء من اآليات فذلك من ه‬
‫ين »ثم قال له‪: .‬‬ ‫ّللا َوإِنَّما أَنَا نَذ ٌ‬
‫ِير ُمبِ ٌ‬ ‫فقيل له ‪ «:‬قُ ْل »لهم« إِنَّ َما ْاآلياتُ ِع ْن َد َّ ِ‬

‫ص ‪333‬‬

‫‪333‬‬
‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 51‬‬
‫علَ ْي ِه ْم ِإ هن ِفي ذ ِلكَ لَ َرحْ َمة َو ِذ ْكرى ِلقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ( ‪51‬‬ ‫تاب يُتْلى َ‬ ‫أ َ َولَ ْم يَ ْك ِف ِه ْم أَنها أ َ ْن َز ْلنا َ‬
‫علَ ْيكَ ا ْل ِك َ‬
‫)‬
‫" ِإ َّن فِي ذ ِل َك لَ َر ْح َمةً »بهم فإنا أرسلناك رحمة للعالمين ‪ ،‬فضمنا القرآن جميع ما تعرف األمم‬
‫أنه آية على صدق من جاء به ‪ ،‬إذ لم يعلموا منه بقرائن األحوال أنه قرأ وال كتب وال طالع‬
‫وال عاشر وال فارق بلده ‪ ،‬بل كان أميا من جملة األميين ‪،‬‬
‫ّللا بأمور يعرفون أنه ال يعلمها من هو بهذه الصفة التي هو عليها هذا الرسول‬ ‫وأخبرهم عن ه‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫إال بإعالم من ه‬
‫فكان ما جاء في القرآن من ذلك آية كما قالوا وطلبوا ‪ ،‬وكان إعجازه للعرب خاصة إذ نزل‬
‫بلسانهم وصرفوا عن معارضته ‪ ،‬أو لم يكن في قوتهم ذلك من غير صرف حدث لهم ‪ ،‬فجاء‬
‫القرآن بما جاءت به الكتب قبله ‪ ،‬وال علم له بما جاء فيها إال من القرآن ‪،‬‬
‫ّللا ألن القرآن من‬ ‫وعلمت ذلك اليهود والنصارى وأصحاب الكتب ‪ ،‬فحصلت اآلية من عند ه‬
‫ّللا ‪.‬‬‫عند ه‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 52‬‬


‫ِين آ َمنُوا ِبا ْل ِ‬
‫باط ِل َو َكفَ ُروا‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َوالهذ َ‬ ‫ش ِهيدا يَ ْعلَ ُم ما فِي ال ه‬
‫سماوا ِ‬ ‫قُ ْل كَفى ِب ه ِ‬
‫اّلِل بَ ْينِي َوبَ ْينَ ُك ْم َ‬
‫ون ( ‪) 52‬‬ ‫س ُر َ‬ ‫اّلِل أُولئِكَ ُه ُم ا ْلخا ِ‬
‫ِب ه ِ‬
‫باط ِل »فسماهم الحق مؤمنين ‪ ،‬ولكن تحقق في إيمانهم بالباطل أنهم ما آمنوا‬ ‫« َوالَّذِينَ آ َمنُوا ِب ْال ِ‬
‫به من كونه باطال ‪ ،‬وإنما آمنوا به من كونهم اعتقدوا فيه ما اعتقده أهل الحق في الحق ‪ ،‬فمن‬
‫هنا نسب اإليمان إليهم ‪ ،‬وبما هو في نفس األمر على غير ما اعتقدوه سماه الحق لنا باطال ‪ ،‬ال‬
‫من حيث ما توهموه ‪ ،‬فأظهروا ما ليس بوجود وجودا ‪ ،‬وأزالوا في عقدهم وجود ما هو وجود‬
‫ّللا سترا ‪ ،‬فكان مستورا عنهم وجود الحق بما ستروه ‪ ،‬إذ لم يستروه حتى‬ ‫ّللا ‪ ،‬فسماه ه‬ ‫وهو ه‬
‫تصوروه وبعد التصور ستروه ‪ ،‬فكانوا كافرين« أُولئِ َك ُه ُم ْالخا ِس ُرونَ »فما ربحت تجارتهم‬
‫وما كانوا مهتدين ‪.‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬اآليات ‪ 53‬إلى ‪]56‬‬


‫ون (‬ ‫شعُ ُر َ‬‫ذاب َولَيَأْتِيَنه ُه ْم بَ ْغتَة َو ُه ْم ال يَ ْ‬
‫س ًّمى لَجا َء ُه ُم ا ْلعَ ُ‬ ‫ب َولَ ْو ال أ َ َج ٌل ُم َ‬ ‫ست َ ْع ِجلُونَكَ ِبا ْلعَذا ِ‬
‫َويَ ْ‬
‫ين ( ‪ ) 54‬يَ ْو َم يَ ْغشا ُه ُم ا ْلعَ ُ‬
‫ذاب ِم ْن‬ ‫ب َو ِإ هن َج َهنه َم لَ ُم ِحي َطةٌ ِبا ْلكافِ ِر َ‬
‫ست َ ْع ِجلُونَكَ ِبا ْلعَذا ِ‬
‫‪ )53‬يَ ْ‬
‫ِي الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ِإ هن‬ ‫ون ( ‪ ) 55‬يا ِعباد َ‬ ‫ت أ َ ْر ُج ِل ِه ْم َويَقُو ُل ذُوقُوا ما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬
‫فَ ْوقِ ِه ْم َو ِم ْن تَحْ ِ‬
‫ُون) ‪( 56‬‬ ‫اي فَا ْعبُد ِ‬ ‫سعَةٌ فَ ِإيه َ‬
‫أ َ ْر ِضي وا ِ‬

‫ص ‪334‬‬

‫‪334‬‬
‫َّاي فَا ْعبُد ِ‬
‫ُون "]‬ ‫ضي وا ِسعَةٌ فَإِي َ‬
‫[ تفسير من باب اْلشارة ‪ِ « :‬إ َّن أ َ ْر ِ‬
‫ّللا ) فهي إضافة خاصة ‪،‬‬ ‫ض َّ ِ‬ ‫ضي " فأضافها إليه أشد إضافة من قوله ‪ (:‬أ َ لَ ْم ت َ ُك ْن أ َ ْر ُ‬ ‫" ِإ َّن أ َ ْر ِ‬
‫ُون »يعني فيها ‪ ،‬ومما تعطيه هذه اآلية من وجه من الوجوه‬ ‫ثم قال ‪ «:‬وا ِسعَةٌ فَإِي َ‬
‫َّاي فَا ْعبُد ِ‬
‫ّللا ؟‬ ‫لطبقة خاصة من المؤمنين أنهم نظروا ما هي أرض ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فتلك أرضه الخاصة به ‪ ،‬المضافة إليه‬ ‫فقالوا ‪ :‬كل أرض موات ال يكون عليها ملك لغير ه‬
‫‪ ،‬البرئة من الشركة فيها ‪ ،‬البعيدة عن المعمور ‪ ،‬فإن األرض الميتة القريبة من العمران يمكن‬
‫أن يصل إليها بعض الناس فيحييها فيملكها بإحيائها ‪ ،‬والبعيدة من العمران سالمة من هذا‬
‫ّللا بالعبادة فيها إال ولها خصوص وصف ‪،‬‬ ‫التخيل ‪ ،‬فقالوا ما أمرنا ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ففيها نفس الرحمن ‪،‬‬ ‫وليس فيها من خصوص األوصاف إال كونها ليس فيها نفس لغير ه‬
‫فإذا عبد اإلنسان ربه في مثل هذه األرض وجد أنسا من تلك الوحشة التي كانت له في العمران‬
‫‪ ،‬ووجد لذة وطيبا في قلبه وانفراده ‪ ،‬وذلك كله من أثر نفس الرحمن الذي نفهس ه‬
‫ّللا به عنه ما‬
‫كان يجده من الغم والضيق والحرج في األرض المشتركة ‪،‬‬
‫وهذا ما أدى بعض العباد إلى السياحة ‪ ،‬فرأوا في هذه األرض من اآليات والعجائب‬
‫واالعتبارات ما دعاهم إلى النظر فيما ينبغي لمالك هذه األرض ‪،‬‬
‫ّللا قلوبهم بأنوار العلوم ‪ ،‬وفتح لهم في النظر في اآليات ‪ ،‬وهي العالمات الدالة على‬ ‫فأنار ه‬
‫ّللا تعالى‬ ‫عظمة من انقطعوا إليه وهو ه‬
‫‪ -‬تفسير من باب اْلشارة ‪ -‬ثم لتعلم أيها األخ الولي أن أرض بدنك هي األرض الحقيقية‬
‫الواسعة التي أمرك الحق أن تعبده فيها ‪ ،‬وذلك ألنه ما أمرك أن تعبده في أرضه إال ما دام‬
‫روحك يسكن أرض بدنك ‪ ،‬فإذا فارقها أسقط عنك التكليف مع وجود بدنك في األرض مدفونا‬
‫فيها ‪ ،‬فتعلم أن األرض ليست سوى بدنك ‪ ،‬وجعلها واسعة لما وسعته من القوى والمعاني التي‬
‫هاج ُروا فِيها )‬ ‫ال توجد إال في هذه األرض البدنية اإلنسانية ‪ ،‬وأما قوله ‪ (:‬فَت ُ ِ‬

‫[ إشارة ‪ :‬قلبك هو الكعبة في أرض بدنك ]‬


‫فإنها محل للهوى ومحل للعقل ‪ ،‬فتهاجروا من أرض الهوى منها إلى أرض العقل منها ‪ ،‬وأنت‬
‫في هذا كله فيها ما خرجت عنها ‪ ،‬فإن استعملك هواك أرداك وهلكت ‪،‬‬

‫ص ‪335‬‬

‫‪335‬‬
‫ّللا به ؛ فإن العقل السليم المبرأ من‬ ‫وإن استعملك العقل الذي بيده سراج الشرع نجوت وأنجاك ه‬
‫ّللا عين بصيرته إلدراك األمور على ما هي عليه ‪،‬‬ ‫صفات النقص والشبه هو الذي فتح ه‬
‫ّللا في أرض بدنه الواسعة‬ ‫فعاملها بطريق االستحقاق ‪ ،‬فأعطى كل ذي حق حقه ‪ ،‬ومن لم يعبد ه‬
‫ّللا في أرضه التي خلقه منها وما دمت في أرض بدنك الواسعة مع وجود عقلك‬ ‫فما عبد ه‬
‫ّللا‬
‫وسراج شرعك فأنت مأمور بعبادة ربك ‪ ،‬فهذه األرض البدنية لك على الحقيقة أرض ه‬
‫الواسعة التي أمرك أن تعبده فيها إلى حين موتك ‪،‬‬
‫ضي وا ِسعَةٌ فَإِي َ‬
‫َّاي فَا ْعبُد ِ‬
‫ُون "‬ ‫ِي الَّذِينَ آ َمنُوا ِإ َّن أ َ ْر ِ‬
‫وهو قوله تعالى ‪ " :‬قليا ِعباد َ‬
‫ّللا أرض بدنك جعل فيها كعبة وهو قلبك ‪ ،‬وجعل هذا البيت القلبي أشرف‬ ‫‪ -‬إشارة ‪ -‬لما خلق ه‬
‫البيوت في المؤمن ‪ ،‬فأخبر أن السماوات وفيها البيت المعمور ‪ ،‬واألرض وفيها الكعبة ‪،‬‬
‫ما وسعته وضاقت عنه ‪ ،‬ووسعه هذا القلب من هذه النشأة المؤمنة ‪،‬‬
‫باّلل سبحانه ‪ ،‬فهذا يدلك على أنها األرض الواسعة ‪ ،‬وأنها أرض‬ ‫والمراد هنا بالسعة العلم ه‬
‫عبادتك ‪ ،‬فتعبده كأنك تراه من حيث بصرك ‪ ،‬ألن قلبك محجوب أن يدركه بصرك ‪ ،‬فإنه في‬
‫ّللا كأنك تراه في ذاتك كما يليق بجالله ‪،‬‬ ‫الباطن منك ‪ ،‬فتعبد ه‬
‫وعين بصيرتك تشهده ‪ ،‬فإنه ظاهر لها ظهور علم ‪ ،‬فتراه بعين بصيرتك ‪ ،‬وكأنك تراه من‬
‫حيث بصرك ‪ ،‬فتجمع في عبادتك بين الصورتين ‪ ،‬بين ما يستحقه تعالى من العبادة في الخيال‬
‫‪ ،‬وبين ما يستحقه من العبادة في غير موطن الخيال ‪ ،‬فتعبده مطلقا ومقيدا ‪ ،‬وليس ذلك لغير‬
‫المحرم ‪ ،‬وبيته المعظم المكرم ‪ ،‬فكل من في‬ ‫ه‬ ‫هذه النشأة ‪ ،‬فلهذا جعل هذه النشأة المؤمنة حرمه‬
‫ّللا على الغيب إال اإلنسان الكامل المؤمن ‪ ،‬فإنه يعبده على المشاهدة ‪ ،‬وال يكمل‬ ‫الوجود يعبد ه‬
‫العبد إال باإليمان ‪ ،‬فله النور الساطع ‪ ،‬بل هو النور الساطع الذي يزيل كل ظلمة ‪ ،‬فإذا عبده‬
‫على الشهادة رآه جميع قواه ‪ ،‬فما قام بعبادته غيره ‪ ،‬وال ينبغي أن يقوم بها سواه ‪ ،‬فما ث هم من‬
‫حصل له هذا المقام إال المؤمن اإلنساني ‪ ،‬فإنه ما كان مؤمنا إال بربه ‪ ،‬فإنه سبحانه المؤمن ‪.‬‬

‫واعلم أنك إذا لم تكن بهذه المنزلة ‪ ،‬وما لك قدم في هذه الدرجة ‪ ،‬فأنا أدلك على ما يحصل لك‬
‫ّللا ما خلق الخلق على مزاج واحد ‪ ،‬بل جعله متفاوت‬‫به الدرجة العليا ‪ ،‬وهو أن تعلم أن ه‬
‫المزاج ‪ ،‬وهذا مشهود بالبديهة والضرورة ‪ ،‬لما بين الناس من التفاوت في النظر العقلي‬
‫واإليمان ‪ ،‬وقد حصل لك من طريق الحق أن اإلنسان مرآة أخيه ‪ ،‬فيرى منه ما ال يراه‬
‫الشخص من نفسه إال بواسطة مثله ‪،‬‬
‫واعلم أن المرائي مختلفة األشكال ‪،‬‬

‫ص ‪336‬‬

‫‪336‬‬
‫وأنها تصير المرئي عند الرائي بحسب شكلها من طول وعرض واستواء وعوج واستدارة ‪،‬‬
‫ونقص وزيادة وتعدد ‪ ،‬وكل شيء يعطيه شكل تلك المرآة ‪ ،‬وقد علمت أن الرسل أعدل الناس‬
‫ّللا في مزاجه‬‫مزاجا لقبولهم رساالت ربهم ‪ ،‬وكل شخص منهم قبل من الرسالة قدر ما أعطاه ه‬
‫من التركيب ‪ ،‬فما من نبي إال بعث خاصة إلى قوم معينين ‪ ،‬ألنه على مزاج خاص مقصور ‪،‬‬
‫ّللا إال برسالة عامة إلى جميع الناس كافة ‪ ،‬وال قبل‬
‫ّللا عليه وسلم ما بعثه ه‬ ‫وأن محمدا صلهى ه‬
‫هو مثل هذه الرسالة إال لكونه على مزاج عام يحوي على مزاج كل نبي ورسول ‪ ،‬فهو أعدل‬
‫األمزجة وأكملها ‪ ،‬وأقوم النشآت ‪ ،‬فإذا علمت هذا وأردت أن ترى الحق على أكمل ما ينبغي‬
‫أن يظهر به لهذه النشأة اإلنسانية ‪ ،‬فاعلم أنك ليس لك ‪ ،‬وال أنت على مثل هذا المزاج الذي‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وأن الحق مهما تجلى لك في مرآة قلبك ‪ ،‬فإنما تظهره لك مرآتك‬ ‫لمحمد صلهى ه‬
‫على قدر مزاجها وصورة شكلها ‪،‬‬
‫وقد علمت نزولك عن الدرجة التي صحت لمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في العلم بربه في نشأته‬
‫‪ ،‬فالزم اإليمان واالتباع ‪ ،‬واجعله أمامك مثل المرآة التي تنظر فيها صورتك وصورة غيرك ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ال بد أن يتجلى لمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في مرآته ‪،‬‬ ‫فإذا فعلت هذا ‪ ،‬علمت أن ه‬
‫وقد أعلمتك أن المرآة لها أثر في ناظر الرائي في المرئي ‪ ،‬فيكون ظهور الحق في مرآة محمد‬
‫ّللا عليه وسلم أكمل ظهور وأعدله وأحسنه ‪ ،‬لما هي مرآته عليه ‪،‬‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم فقد أدركت منه كماال لم تدركه من حيث‬ ‫فإذا أدركته في مرآة محمد صلهى ه‬
‫نظرك في مرآتك ‪ ،‬أال ترى في باب اإليمان وما جاء في الرسالة من األمور التي نسب الحق‬
‫لنفسه بلسان الشرع مما تحيله العقول ‪ ،‬ولوال الشرع واإليمان ما قبلنا من ذلك من حيث نظرنا‬
‫العقلي شيئا البتة ‪ ،‬بل نرده ابتداء ونج ههل القائل به ‪ ،‬فكما أعطاه بالرسالة واإليمان ما قصرت‬
‫العقول التي ال إيمان لها عن إدراكها ذلك من جانب الحق ‪،‬‬
‫كذلك قصرت أمزجتنا ومرائي عقولنا عند المشاهدة عن إدراك ما تجلى في مرآة محمد صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم أن تدركه في مرآتها ‪،‬‬
‫ه‬
‫وكما آمنت به في الرسالة غيبا ‪ ،‬شهدته في هذا التجلي النبوي عينا ‪،‬‬
‫فقد نصحتك وأبلغت لك النصيحة ‪ ،‬فال تطلب مشاهدة الحق إال في مرآة نبيك صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬واحذر أن تشهده في مرآتك ‪ ،‬أو تشهد النبي وما تجلى في مرآته في مرآتك ‪ ،‬فإنه‬
‫ينزل بك عن الدرجة العالية ‪ ،‬فالزم االقتداء واالتباع ‪ ،‬وال تطأ مكانا ال ترى فيه قدم نبيك ‪،‬‬
‫فضع قدمك على قدمه ‪ ،‬إن أردت أن تكون من أهل الدرجات العلى ‪ ،‬والشهود الكامل في‬
‫المكانة الزلفى ‪ ،‬وقد أبلغت لك النصيحة كما أمرت‪.‬‬

‫ص ‪337‬‬

‫‪337‬‬
‫[سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 57‬‬
‫ُك ُّل نَ ْف ٍس ذا ِئقَةُ ا ْل َم ْو ِ‬
‫ت ث ُ هم ِإلَ ْينا ت ُ ْر َجعُ َ‬
‫ون ) ‪( 57‬‬
‫من مات قامت قيامته ‪ ،‬وإن خفيت باألرض قامته ‪ ،‬وما مات أحد إال بحلول أجله ‪ ،‬وما قبض‬
‫إال دون أمله ‪ ،‬والفوت في الموت لكل ميت ‪ ،‬فإن الدار الدنيا محل بلوغ األمل ‪ ،‬ما لم يخترمه‬
‫األجل ‪ ،‬هي مزرعة اآلخرة فأين الزارع ؟ وفيها تكسب المنافع ‪ ،‬والموت للمؤمن تحفة ‪،‬‬
‫والنعش له محفة ‪ ،‬ينقله من العدوة الدنيا ‪ ،‬إلى العدوة القصوى ‪ ،‬حيث ال فتنة وال بلوى ‪ ،‬ليس‬
‫بخاسر وال مغبون ‪ ،‬من كان أمله المنون ‪ ،‬فإن فيه اللقاء اإللهي ‪ ،‬والبقاء الكياني« ث ُ َّم ِإلَيْنا‬
‫ّللا راجع ‪ ،‬ألنه االسم الجامع ‪.‬‬ ‫ت ُ ْر َجعُونَ »فالكل إلى ه‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬اآليات ‪ 58‬إلى ‪] 64‬‬


‫هار خا ِلد َ‬
‫ِين‬ ‫غ َرفا تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫ت لَنُبَ ّ ِوئَنه ُه ْم ِم َن ا ْل َجنه ِة ُ‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 59‬وكَأ َ ِيّ ْن ِم ْن دَابه ٍة ال‬ ‫صبَ ُروا َوعَلى َر ِبّ ِه ْم يَت َ َو هكلُ َ‬ ‫ِين َ‬ ‫ين ( ‪ ) 58‬الهذ َ‬ ‫عام ِل َ‬‫فِيها نِ ْع َم أَجْ ُر ا ْل ِ‬
‫ت‬‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫سأ َ ْلت َ ُه ْم َم ْن َخلَ َ‬
‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ) ‪َ ( 60‬ولَ ِئ ْن َ‬ ‫ّللاُ يَ ْر ُزقُها َو ِإيها ُك ْم َو ُه َو ال ه‬ ‫تَحْ ِم ُل ِر ْزقَ َها ه‬
‫ق ِل َم ْن يَشا ُء‬ ‫الر ْز َ‬
‫ط ِّ‬ ‫س ُ‬‫ّللاُ يَ ْب ُ‬
‫ُون ) ‪ ( 61‬ه‬ ‫ّللاُ فَأَنهى يُ ْؤفَك َ‬ ‫س َوا ْلقَ َم َر لَيَقُولُ هن ه‬ ‫س هخ َر الش ْهم َ‬ ‫ض َو َ‬ ‫َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 62‬‬ ‫ش ْي ٍء َ‬ ‫ِم ْن ِعبا ِد ِه َويَ ْقد ُِر لَهُ إِ هن ه َ‬
‫ّللا بِ ُك ِ ّل َ‬
‫ّللاُ قُ ِل ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫ّلِل‬ ‫ض ِم ْن بَ ْع ِد َم ْوتِها لَيَقُولُ هن ه‬ ‫ماء ماء فَأَحْ يا ِب ِه ْاأل َ ْر َ‬ ‫س ِ‬ ‫سأ َ ْلت َ ُه ْم َم ْن نَ هز َل ِم َن ال ه‬‫َولَئِ ْن َ‬
‫هار ْاآل ِخ َرةَ لَ ِه َ‬
‫ي‬ ‫ب َو ِإ هن الد َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 63‬وما ه ِذ ِه ا ْل َحياةُ ال ُّد ْنيا ِإاله لَه ٌْو َولَ ِع ٌ‬ ‫بَ ْل أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ال يَ ْع ِقلُ َ‬
‫ون ) ‪( 64‬‬ ‫وان لَ ْو كانُوا يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ا ْل َحيَ ُ‬
‫فسمى الحق الدار اآلخرة دار الحيوان لحياتها ‪ ،‬فأهلها يتنعمون فيها حسا ومعنى ‪ ،‬والجنة‬
‫أيضا أشد تنعما بأهلها الداخلين فيها ‪ ،‬ولهذا تطلب مألها من الساكنين ‪ ،‬فالكل حيوان ‪ ،‬فإن‬
‫الدار اآلخرة دار ناطقة ظاهرة الحياة ‪ ،‬ثابتة العين ‪ ،‬غير زائلة ‪ ،‬بعكس الدار الدنيا فإنها‬

‫ص ‪338‬‬

‫‪338‬‬
‫ّللا بدار‬
‫خفية الحياة ‪ ،‬فانية ذاهبة العين ‪ ،‬متبدلة الصورة والوضع والشكل ‪ ،‬فما سماها ه‬
‫الحيوان إال ألن األمر ينكشف فيها للعموم ‪ ،‬فما ترى فيها شيئا إال حيا ناطقا ‪ ،‬بخالف حالك‬
‫ّللا بأبصارنا عن إدراك حياة ما‬
‫في الدنيا ‪ ،‬فإنه في نفس األمر لكل صورة من العالم روح أخذ ه‬
‫تقول عنه إنه ليس بحيوان مما ليس له روح في الشاهد في نظر البصر في المعتاد ‪.‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ ) : 29‬آية ‪] 65‬‬


‫ون ( ‪) 65‬‬ ‫ِين فَلَ هما نَ هجا ُه ْم ِإلَى ا ْلبَ ِ ّر ِإذا ُه ْم يُش ِْر ُك َ‬ ‫فَ ِإذا َر ِكبُوا ِفي ا ْلفُ ْل ِك َدع َُوا ه َ‬
‫ّللا ُم ْخ ِل ِص َ‬
‫ين لَهُ ال ّد َ‬
‫ّللا غير المعتادة ‪،‬‬ ‫صينَ لَهُ ال هدِينَ »عندما بدت لهم آيات ه‬ ‫ّللا ُم ْخ ِل ِ‬ ‫« فَإِذا َر ِكبُوا فِي ْالفُ ْل ِك َد َ‬
‫ع ُوا َّ َ‬
‫ذهبت عنهم الغفلة« فَلَ َّما نَ َّجا ُه ْم إِلَى ْالبَ ِ هر إِذا ُه ْم يُ ْش ِر ُكونَ »فعادوا إلى شركهم بعد إخالصهم هّلل‪.‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 66‬‬


‫ون ) ‪( 66‬‬ ‫ف يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ِليَ ْكفُ ُروا ِبما آت َ ْينا ُه ْم َو ِليَت َ َمتهعُوا فَ َ‬
‫س ْو َ‬
‫تهديد من الحق حيث يقولون في النار( يا لَ ْيتَنا نُ َر ُّد )فيقول الحق تعالى ‪َ (:‬ولَ ْو ُردُّوا لَعادُوا ِلما‬
‫ع ْنهُ )كما عاد أصحاب الفلك إلى شركهم وبغيهم بعد إخالصهم هّلل ‪.‬‬ ‫نُ ُهوا َ‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 67‬‬


‫ّللا‬ ‫اس ِم ْن َح ْو ِل ِه ْم أ َ فَ ِبا ْل ِ‬
‫باط ِل يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون َو ِبنِ ْع َم ِة ه ِ‬ ‫ف النه ُ‬
‫ط ُ‬ ‫أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا أَنها َجعَ ْلنا َح َرما ِ‬
‫آمنا َويُت َ َخ ه‬
‫ون ) ‪( 67‬‬ ‫يَ ْكفُ ُر َ‬
‫فنسب الحق الجعل إليه ‪ ،‬وأطبق قلوب الكفار على ذلك ‪ ،‬فجعل في قلوبهم أن يشرعوا األمان‬
‫لكل من دخله والذ به ‪ ،‬جعل ذلك في قلوب المشركين وغيرهم‪. .‬‬

‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 68‬‬


‫ين‬ ‫ق لَ هما جا َءهُ أ َ لَ ْي َ‬
‫س فِي َج َهنه َم َمثْوى ِل ْلكافِ ِر َ‬ ‫ّللا َكذِبا أ َ ْو َكذه َ‬
‫ب ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫َو َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ِن ْ‬
‫افتَرى َ‬
‫(‪) 68‬‬

‫ص ‪339‬‬

‫‪339‬‬
‫[ سورة العنكبوت ( ‪ : ) 29‬آية ‪] 69‬‬
‫ين ( ‪) 69‬‬ ‫س ِن َ‬ ‫ّللا لَ َم َع ا ْل ُمحْ ِ‬ ‫سبُلَنا َو ِإ هن ه َ‬ ‫ِين جا َهدُوا ِفينا لَنَ ْه ِديَنه ُه ْم ُ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫سبُلَنا » اآلية ]‬ ‫[ « َوالَّذِينَ جا َهدُوا فِينا لَنَ ْه ِديَنَّ ُه ْم ُ‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬لما كان سبب الجهاد أفعاال تصدر من الذين أمرنا بقتالهم وجهادهم ‪ ،‬وتلك‬
‫ّللا خلقا وتقديرا ‪ ،‬فما جاهدنا إال فيه ال في العدو ‪ ،‬وإذا لم يكن عدوا إال بها ‪،‬‬ ‫األفعال أفعال ه‬
‫سبُلَنا »‬ ‫فإذا جاهدنا فيه ‪ ،‬ولكن بامتثال أمره ‪ ،‬قال« لَنَ ْه ِديَنَّ ُه ْم ُ‬
‫س ِبي ِل ِه )يعني السبيل التي لكم فيها السعادة ‪،‬‬ ‫ع ْن َ‬ ‫سبُ َل فَتَفَ َّرقَ ِب ُك ْم َ‬ ‫التي قال فيها ‪َ (:‬وال تَت َّ ِبعُوا ال ُّ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫وسبيل السعادة هي المشروعة ‪ ،‬فبيهن لنا سبلها ‪ ،‬فندخلها فال نرى مجاهدا ومجاهدا فيه إال ه‬
‫سبُلَنا »أي نبين لهم حتى يعلموا فيمن جاهدوا ‪ ،‬فيجاهدون عند‬ ‫فكان قوله تعالى «‪ :‬لَنَ ْه ِديَنَّ ُه ْم ُ‬
‫ّللا لَ َم َع ْال ُم ْح ِسنِينَ »واإلحسان أن تعبد ه‬
‫ّللا‬ ‫ذلك أو ال يجاهدون ‪ ،‬ولذلك تمم اآلية بقوله ‪َ «:‬و ِإ َّن َّ َ‬
‫كأنك تراه ‪ ،‬فإذا رأيته علمت أن الجهاد إنما كان منه وفيه‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬الرياضة لنفس اإلنسان والمجاهدة لهيكله ‪ ،‬فبالرياضة تهذبت أخالقه ‪،‬‬
‫وسهل انقياده ‪ ،‬وبالمجاهدة قل فضوله فظهر له ما فيه من األصول والفروع ‪ ،‬فعلم بالمجاهدة‬
‫من هو ؟ ولمن هو ؟‬
‫سبُلَنا »فمن علم أن الهداية إلى سبل ه‬
‫ّللا في‬ ‫وهذه هي السبل« َوالَّذِينَ جا َهدُوا فِينا لَنَ ْه ِديَنَّ ُه ْم ُ‬
‫الجهاد هرب إلى السلم من الحرب ‪ ،‬وال يجنح إلى السلم إال من كان مشهوده ضعفه أو من‬
‫ّللا لَ َم َع ْال ُم ْح ِسنِينَ "‬ ‫كانت العين مشهوده ‪ ،‬ولذا قال« َو ِإ َّن َّ َ‬
‫سبُلَنا »فأين أنت ؟‬ ‫‪-‬إشارة ‪َ «-‬والَّذِينَ جا َهدُوا فِينا لَنَ ْه ِديَنَّ ُه ْم ُ‬
‫بعد الجهاد تتضح السبل ‪ ،‬وعند ذلك يكون السلوك عليها ‪ ،‬وهو سفر ‪ ،‬والسفر قطعة من‬
‫العذاب ‪ ،‬فإنه منتقل من عذاب إلى عذاب ‪ ،‬فال راحة ‪.‬‬

‫الروم مكيّة‬
‫( ‪ ) 30‬سورة ّ‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬‫ّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 2‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬‫الرحْ ِ‬ ‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫بِ ْ‬
‫الرو ُم ) ‪( 2‬‬
‫ت ُّ‬ ‫ألم ( ‪ُ ) 1‬‬
‫غ ِلبَ ِ‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم إذا سمع أن الروم‬ ‫وفي قراءة غلبت بفتح الغين والالم ‪ ،‬وكان رسول ه‬
‫قد ظهرت على فارس يظهر السرور في وجهه ‪ ،‬مع كون الروم كافرين به صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ولكن الرسول لعلمه‬

‫ص ‪340‬‬

‫‪340‬‬
‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم كان منصفا ألنه علم أن مستند الروم لمن استند إليه أهل الحق ‪ ،‬ألنهم أهل‬
‫كتاب يؤمنون به ‪ ،‬لكنهم طرأت عليهم شبهة من تحريف أئمتهم ما أنزل عليهم حالت بينهم‬
‫وبين اإلقرار واإليمان بنبوة محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪.‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬آية ‪] 3‬‬


‫سيَ ْغ ِلبُ َ‬
‫ون ) ‪( 3‬‬ ‫غلَ ِب ِه ْم َ‬ ‫فِي أ َ ْدنَى ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َو ُه ْم ِم ْن بَ ْع ِد َ‬
‫سيَ ْغ ِلبُونَ »بضم الياء وفتح الالم ‪ ،‬وهذه القراءة تشير إلى‬‫وفي قراءة غلبت بفتح الغين والالم« َ‬
‫زمان فتح بيت المقدس ‪ ،‬حيث كان ظهور المسلمين في أخذ حج الكفار عام ثالث وثمانين‬
‫وخمسمائة هجرية ‪ ،‬أما اإلشارة إلى زمان فتح بيت المقدس فهو يعرف من عدد حروف« ألم‬
‫»وهو علم الج همل ‪ ،‬وذلك بأن تأخذ عدد حروف« ألم »بالجزم الصغير ‪ ،‬فتكون ثمانية‬
‫فتجمعها إلى ثمانية ( في بضع سنين ) فتكون ستة عشر ‪ ،‬فتزيل الواحد الذي لأللف لألس ‪،‬‬
‫فيبقى خمسة عشر ‪ ،‬فتمسكها عندك ‪ ،‬ثم ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير وهو الجزم ‪،‬‬
‫فتضرب ثمانية البضع في أحد وسبعين ‪ ،‬واجعل ذلك كله سنين ‪ ،‬يخرج لك من الضرب‬
‫خمسمائة وثمانية وستون ‪ ،‬فتضيف إليها الخمسة عشر التي رفعتها ‪ ،‬فتصير ثالثة وثمانين‬
‫وخمسمائة سنة ‪ ،‬وهو زمان فتح بيت المقدس ‪ ،‬وكان أبو الحكم عبد السالم ابن برجان قد ذكر‬
‫ّللا عنه ‪:‬‬
‫ذلك في كتاب له ‪ ،‬فكان فتح بيت المقدس كما ثم قال الشيخ ابن عطاء هللا رضي ه‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬آية ‪] 4‬‬


‫ون ( ‪) 4‬‬ ‫ّلِل ْاأل َ ْم ُر ِم ْن قَ ْب ُل َو ِم ْن بَ ْع ُد َويَ ْو َم ِئ ٍذ يَ ْف َر ُ‬
‫ح ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬ ‫س ِن َ‬
‫ين ِ ه ِ‬ ‫ِفي ِب ْ‬
‫ض ِع ِ‬
‫ّلل ْاأل َ ْم ُر ِم ْن قَ ْب ُل َو ِم ْن بَ ْع ُد »القبل والبعد من صيغ الزمان ‪ ،‬فال بد أن يكون الزمان أمرا‬ ‫« ِ َّ ِ‬
‫متوهما ال وجودا ‪ ،‬ولهذا أطلقه الحق على نفسه ‪ ،‬ولو كان الزمان أمرا وجوديا في نفسه ما‬
‫صح تنزيه الحق عن التقييد ‪ ،‬إذ كان حكم الزمان يقيده ‪ ،‬فعرفنا أن هذه الصيغ ما تحتها أمر‬
‫وجودي فالزمان هو ما يدخل األزل من التقديرات الزمانية فيه ‪ ،‬بتعيين توجهات الحق إليجاد‬
‫الكائنات في األزمان المختلفات التي يصحبها القبل والبعد واآلن ‪َ «.‬ويَ ْو َم ِئ ٍذ يَ ْف َر ُح ْال ُمؤْ ِمنُونَ »‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬اآليات ‪ 5‬إلى ‪] 7‬‬


‫ّللاُ َو ْع َد ُه‬
‫ف ه‬ ‫ّللا ال يُ ْخ ِل ُ‬
‫الر ِحي ُم ) ‪َ ( 5‬و ْع َد ه ِ‬
‫يز ه‬‫ص ُر َم ْن يَشا ُء َو ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬
‫ّللا يَ ْن ُ‬
‫ِبنَص ِْر ه ِ‬

‫ص ‪341‬‬

‫‪341‬‬
‫ون ظا ِهرا ِم َن ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َو ُه ْم ع َِن ْاآل ِخ َر ِة ُه ْم‬
‫ون ( ‪ ) 6‬يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫َول ِك هن أ َ ْكث َ َر النه ِ‬
‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون) ‪( 7‬‬ ‫غا ِفلُ َ‬

‫«يَ ْعلَ ُمونَ ظا ِهرا ً ِمنَ ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا »فعملوا بما علموا« َو ُه ْم َ‬
‫ع ِن ْاآل ِخ َرةِ ُه ْم غافِلُونَ »فلم يعملوا‬
‫لها ‪ ،‬فإنه أغفلهم عنها فنسوا آخرتهم وتركوا العمل لها ‪ ،‬ومنهم الفقهاء الذين يعلمون وال‬
‫يعملون ‪ ،‬ويقولون بالظاهر وال يعرفون الباطن ‪ ،‬فإن الرجل الكامل هو الذي أحكم العلم‬
‫والعمل ‪ ،‬فجمع بين الظاهر والباطن ‪.‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬آية ‪] 8‬‬


‫ق َوأ َ َج ٍل ُم َ‬
‫س ًّمى‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ض َوما بَ ْينَ ُهما إِاله ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫سماوا ِ‬
‫ّللاُ ال ه‬
‫ق ه‬ ‫س ِه ْم ما َخلَ َ‬ ‫أ َ َولَ ْم يَتَفَك ُهروا فِي أ َ ْنفُ ِ‬
‫ون ( ‪) 8‬‬‫قاء َر ِبّ ِه ْم لَكافِ ُر َ‬
‫اس ِب ِل ِ‬ ‫َو ِإ هن َكثِيرا ِم َن النه ِ‬
‫[ الحق المخلوق به ]‬
‫ّللا التي ال تنفد ‪ ،‬قال تعالى في وجود عيسى عليه السالم إنه‬ ‫اعلم أن الموجودات هي كلمات ه‬
‫ّللا سبحانه ما استوى على عرشه إال باالسم‬ ‫كلمته ألقاها إلى مريم وهو عيسى ‪ ،‬واعلم أن ه‬
‫الرحمن ‪ ،‬إعالما بذلك أنه ما أراد باإليجاد إال الرحمة بالموجودين ‪ ،‬ولم يذكر غيره من‬
‫ّللا عن‬ ‫األسماء ‪ ،‬وذكر االستواء على أعظم المخلوقات إحاطة من عالم األجسام ‪ ،‬ولما ذكر ه‬
‫نفسه أن له كالما ذكر أن له نفسا من االسم الرحمن الذي به استوى على العرش ‪ ،‬فلما علمنا‬
‫ّللا ما أعلمنا بذلك إال لنقف على‬ ‫أن له نفسا وأن له كالما وأن الموجودات كلماته ‪ ،‬علمنا أن ه‬
‫حقائق األمور بأنا على الصورة« أ َ َولَ ْم يَتَفَ َّك ُروا ِفي أ َ ْنفُ ِس ِه ْم »فنقبل جميع ما تنسبه األلوهة إليها‬
‫ّللا أنه باطن وظاهر ‪ ،‬وله نفس وكلمة وكلمات ‪،‬‬ ‫على ألسنة رسلها وكتبها المنزلة ‪ ،‬فلما عرفنا ه‬
‫نظرنا ما ظهر من ذلك ‪ ،‬ولم ينسب إلى ذاته النفس وما يحدث عنه ؟‬
‫فقلنا ‪ :‬عين النفس هو العماء ‪ ،‬فهو نفس المتنفس المقصود بالعبارة عنه ما يتنزل منزلة الريح‬
‫‪ ،‬وإنما يتنزل منزلة البخار ‪ ،‬فالنفس هذا حقيقته حيث كان ‪ ،‬فكان عنه العماء ‪ ،‬فكان ربنا قبل‬
‫خلق الخلق في عماء ‪ ،‬وهو النفس اإللهي ‪ ،‬وأبرز في هذا النفس اإللهي افتتاح الوجود بالكون‬
‫‪ ،‬إذ كان وال شيء معه ‪ ،‬فأوجد العالم وفتح صورته في العماء ‪ ،‬وهو النفس الذي‬

‫ص ‪342‬‬

‫‪342‬‬
‫هو الحق المخلوق به مراتب العالم وأعيانه ‪ ،‬وأبان منازله ‪ ،‬فجعل منه عالم األجسام وعالم‬
‫األرواح ‪ ،‬وجعل في النفس اإللهي علة اإليجاد من جانب الرحمة بالخلق ‪ ،‬ليخرجهم من شر‬
‫العدم إلى خير الوجود ‪ ،‬فلو تفكر اإلنسان في نفسه وفي الصورة التي خلق عليها ‪ ،‬وكونه ذا‬
‫نفس وحروف وكلمات ‪ ،‬ذا ظاهر وباطن ‪ ،‬وتف هكر في كل ما يتعلق بعلم الحروف وما يتكون‬
‫عنها من الكلمات ‪ ،‬لعلم أنه الحق وأن اإلنسان الكامل أقامه الحق برزخا بين الحق والعالم ‪،‬‬
‫فيظهر باألسماء اإللهية فيكون حقا ‪ ،‬ويظهر بحقيقة اإلمكان فيكون خلقا ‪ ،‬وكما أن الحضرة‬
‫اإللهية على ثالث مراتب ‪ :‬باطن وظاهر ‪ ،‬ووسط وهو ما يتميز به الظاهر عن الباطن‬
‫وينفصل عنه ‪ ،‬وهو البرزخ فله وجه إلى الباطن ووجه إلى الظاهر ‪ ،‬كذلك جعل اإلنسان على‬
‫ثالث مراتب ‪ ،‬عقل وحس وهما طرفان ‪ ،‬وخيال وهو البرزخ الوسط بين المعنى والحس« أ َ‬
‫َولَ ْم يَتَفَ َّك ُروا فِي أ َ ْنفُ ِس ِه ْم »فيروا اإلنسان الكامل المختصر الظاهر بحقائق الكون كله حديثه‬
‫ق»‬ ‫ض َوما بَ ْينَ ُهما »الثالث مراتب« ِإ َّال ِب ْال َح ه ِ‬
‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫سماوا ِ‬ ‫وقديمه« ما َخلَقَ َّ‬
‫ّللاُ ال َّ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬وهو نفس الرحمن ؛‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬باعتبار اإلنسان هو المخلوق على الصورة اإللهية ‪ ،‬فيكون اإلنسان الكامل‬
‫هو الحق المخلوق به ‪ ،‬أي المخلوق بسببه العالم ‪ ،‬فإن اإلنسان أكمل الموجودات وهو الغاية ‪،‬‬
‫ولما كانت الغاية هي المطلوبة بالخلق المتقدم عليها ‪ ،‬فما خلق ما تقدم عليها إال ألجلها وظهور‬
‫عينها ‪ ،‬ولوالها ما ظهر ما تقدمها ‪ ،‬فالغاية هو األمر المخلوق بسببه ما تقدم من أسباب‬
‫ظهوره ‪ ،‬وهو اإلنسان الكامل ؛ وإنما قلنا ‪ :‬الكامل ألن اسم اإلنسان قد يطلق على المشبه به‬
‫في الصورة ‪ ،‬وهو على الحقيقة حيوان في شكل إنسان ‪ ،‬ففي اإلنسان الكامل قوة كل موجود‬
‫في العالم وله جميع المراتب ‪ ،‬ولهذا اختص ‪ ،‬ومده بالصورة فجمع بين الحقائق اإللهية وهي‬
‫األسماء وبين حقائق العالم ‪ ،‬فإنه آخر موجود ‪ ،‬وما انته لوجوده النفس الرحماني حتى جاء‬
‫معه بقوة مراتب العالم كله ‪ ،‬فيظهر باإلنسان ما ال يظهر بجزء جزء من العالم وال بكل اسم‬
‫اسم من الحقائق اإللهية ‪ ،‬فكان اإلنسان أكمل الموجودات ‪ ،‬فكل ما سوى اإلنسان خلق إال‬
‫س ًّمى »كل أمر حادث في الدنيا قيل أجله كذا في الدنيا ‪ ،‬ألن‬ ‫اإلنسان فإنه خلق وحق« َوأ َ َج ٍل ُم َ‬
‫كل ما في الدنيا يجري إلى أجل مسمى فتنتهي فيه المدة باألجل ‪ ،‬فخاتمة ذلك الشيء ما ينتهي‬
‫إليه حكمه ‪ ،‬فانتهاء األنفاس في الحيوان آخر نفس يكون منه عند انتقاله إلى البرزخ ‪ ،‬ثم تنتهي‬
‫المدة في البرزخ إلى الفصل بينه وبين البعث ‪،‬‬

‫ص ‪343‬‬

‫‪343‬‬
‫ثم تنتهي المدة في القيامة إلى الفصل بينها وبين دخول الدارين ‪ ،‬ثم تنتهي المدة في النار في‬
‫حق من هو فيها من أهل الجنة إلى الفصل الذي بين اإلقامة فيها والخروج منها بالشفاعة‬
‫والمنة ‪ ،‬ثم تنتهي المدة في عذاب أهل النار الذين ال يخرجون منها إلى الفصل بين حال‬
‫العذاب وبين حصول حكم الرحمة التي وسعت كل شيء ‪ ،‬فهم يتنعمون في النار باختالف‬
‫أمزجتهم ‪ ،‬ثم ال يبقى بعد ذلك أجل ظاهر بالمدة ‪ ،‬ولكن آجال خفية دقيقة ‪ ،‬وذلك أن المحدث‬
‫الدائم العين ‪ ،‬من شأنه تقلب األحوال عليه ليلزمه االفتقار إلى دوام الوجود له دائما ‪ ،‬فال‬
‫قاء‬ ‫تفارق أحواله اآلجال ‪ ،‬فال يزال في أحواله بين سابقة وخاتمة« َو ِإ َّن َك ِثيرا ً ِمنَ النَّ ِ‬
‫اس ِب ِل ِ‬
‫َر ِبه ِه ْم لَكافِ ُرونَ »‪.‬‬

‫[ سورة الروم ‪ ( 30 ) :‬آية ‪] 9‬‬


‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم كانُوا أ َ َ‬
‫ش هد ِم ْن ُه ْم قُ هوة‬ ‫كان عاقِبَةُ الهذ َ‬
‫ف َ‬ ‫ض فَيَ ْن ُ‬
‫ظ ُروا َك ْي َ‬ ‫يروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ُ‬‫أ َ َولَ ْم يَ ِ‬
‫ّللاُ ِليَ ْظ ِل َم ُه ْم‬
‫كان ه‬ ‫ت فَما َ‬ ‫سلُ ُه ْم ِبا ْلبَ ِيّنا ِ‬ ‫ع َم ُروها أ َ ْكث َ َر ِم هما َ‬
‫ع َم ُروها َوجا َءتْ ُه ْم ُر ُ‬ ‫ض َو َ‬ ‫ثاروا ْاأل َ ْر َ‬ ‫َوأ َ ُ‬
‫ون ) ‪( 9‬‬ ‫َول ِك ْن كانُوا أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم يَ ْظ ِل ُم َ‬
‫يروا‬ ‫السير في األرض هو السياحة في نواحيها ليرى آثار ربه فيما يراه منها« أ َ َولَ ْم يَ ِس ُ‬
‫»بأقدامهم وأفكارهم ‪.‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬اآليات ‪ 10‬إلى ‪]11‬‬


‫ّللاُ يَ ْب َدؤُا‬
‫ُن ( ‪ ) 10‬ه‬ ‫ّللا َوكانُوا ِبها يَ ْ‬
‫ستَه ِْزؤ َ‬ ‫ت هِ‬ ‫سواى أ َ ْن َكذهبُوا ِبآيا ِ‬
‫ِين أَساؤُا ال ُّ‬ ‫كان عاقِبَةَ الهذ َ‬ ‫ث ُ هم َ‬
‫ون ( ‪) 11‬‬ ‫ق ث ُ هم يُ ِعي ُد ُه ث ُ هم ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُ َ‬‫ا ْل َخ ْل َ‬
‫ّللا هو الحكيم الخبير ‪ ،‬وهو على كل شيء قدير ‪ ،‬وأنه قبل كل شيء ‪،‬‬ ‫ّللاُ يَ ْب َدؤُا ْال َخ ْلقَ »إن ه‬ ‫« َّ‬
‫أوجد األشياء ال من شيء ‪ ،‬ولكن مع اتصافه بهذه القدرة المحققة ‪ ،‬النافذة المطلقة ‪ ،‬لم يوجد‬
‫المعادن ابتداء حتى خلق سبحانه وتعالى األفالك العلوية ‪ ،‬والروحانيات السماوية ‪ ،‬واللمحات‬
‫األفقية ‪ ،‬وأودع كل فلك روحانية كوكبية ‪ ،‬تحتوي على خاصية ‪ ،‬وعند وجودها خلق األرض‬
‫والماء والهواء واألثير ‪ ،‬ثم أوجد فيها منها دائرة الزمهرير ‪ ،‬ثم أجرى الشمس والقمر والنجوم‬
‫مسخرات بأمره ‪ ،‬وخص كل متكون عن هذه األجزاء بسر‬

‫ص ‪344‬‬

‫‪344‬‬
‫من مكنون سره ‪ ،‬فلما أكمل هذه األركان ‪ ،‬إلنشاء ما يريد من المعادن والنبات والحيوان ‪ ،‬أقام‬
‫النجوم الثابتة ‪ ،‬والبروج الحاكمة ‪ ،‬والكواكب السيارة وحركات أفالكها ‪ ،‬وفتح مسالك أمالكها‬
‫‪ ،‬فأقامها فكانت اآلباء العلويات واألمهات السفليات ‪ ،‬فتناكحا بالحقائق الروحانيات ‪ ،‬والرقائق‬
‫السماويات ‪ ،‬فتولد بينهما بنات الحكم المعدنيات والنباتيات والحيوانيات ‪ ،‬ثم أنشأ الحق بستانا‬
‫ذا أفنان ‪ ،‬فيه من كل وليد وقهرمان ‪ ،‬ومن الجواري الحسان ‪ ،‬والنخيل واألعناب والرمان ‪،‬‬
‫ضروب ألوان ‪ ،‬تنساب فيها الجداول انسياب الثعابين ‪ ،‬بين تلك األزهار والبساتين ‪ ،‬وابتنى‬
‫قصورا من الذهب والفضة البيضاء ‪ ،‬وأسكنها من كل جارية غضاء ‪ ،‬وفرشها بالحرير من‬
‫السندس واإلستبرق ‪ ،‬والعبقري المرقق ‪ ،‬وجعل حصاها الياقوت والمرجان والزمرد والجوهر‬
‫‪ ،‬وترابها فتيت المسك وأكمامها العنبر ‪ ،‬ثم أنشأ دارا أخرى ذات لهب وسعير ‪ ،‬وبرد‬
‫وزمهرير ‪ ،‬وقيود وأغالل ‪ ،‬وسرابيل من قطران ‪ ،‬وأفاعي كأنها البخت ‪ ،‬وأساود عظيمة‬
‫الشخت ‪ ،‬وعقارب مكونة من السحت ‪ ،‬وبيوت مظلمة ‪ ،‬ومسالك ضيقة ‪ ،‬وكروب وغموم ‪،‬‬
‫ومصائب وهموم ‪.‬‬
‫ّللا تعالى مع قدرته ونفوذ إرادته وقوة علمه ‪ ،‬لم يوجد شيئا من المعادن إال بعد خلق‬ ‫فإذا كان ه‬
‫ّللا ما أسكنك هذه الدار ‪ ،‬إال لتجعلها دار‬
‫هذه األدوات ‪ ،‬وأجرام هذه المسخرات ‪ ،‬فاعلم أن ه‬
‫وتعظم من سواك فعدلك ‪ ،‬وصورك فج هملك ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫اعتبار ‪ ،‬فتتفكر وتعتبر ‪ ،‬وتذكر وتزدجر ‪،‬‬
‫ووالك وملهكك ‪ ،‬وعلمك وحنهكك ‪ ،‬فإن كنت مطيعا لربك ‪ ،‬عادال في رعيتك ‪ ،‬فستصير إلى‬
‫ّللا ‪ ،‬وإن كنت عاصيا جائرا في حكمك ظالما ‪ ،‬فستصير إلى ضيق وعذاب وجحيم‬ ‫النعيم عند ه‬
‫ّللا قلبك ‪ ،‬وأنذر قومك ‪ ،‬وطهر ثوبك ‪ ،‬وال يحجبنك سلطان‬ ‫‪ ،‬فخف ربك وذنبك ‪ ،‬وأصلح مع ه‬
‫عادتك ‪ ،‬عن تحصيل أسباب سعادتك ‪ ،‬فإن الدنيا لمحة بارق ‪ ،‬وخيال طارق ‪ ،‬وكم من ملك‬
‫مثلك قد ملكها ‪ ،‬ثم رحل عنها وتركها ‪ ،‬وال بد لك من الرحلة عنها إلى اآلخرة ‪ ،‬فإما أن تعمر‬
‫ّللا تعالى ما جعلك ملكا على خلقه ‪ ( ،‬كلكم راع وكل‬ ‫درجها ‪ ،‬وإما أن تعمر دركها ‪ .‬واعلم أن ه‬
‫راع مسؤول عن رعيته ) وأقامك بين الباطل والحق في مقام حقه ‪ ،‬لقصور قدرته عن إصالح‬
‫الخلق وتدبيره ‪ ،‬وتصريفه في إظهار الملك وتسخيره ‪ ،‬وإنما ضرب لك بك مثال في عالم‬
‫الفناء ‪ ،‬لتستد هل به على ترتيب الملك اإللهي في دار البقاء ‪ ،‬ولهذا جعل هذه الدنيا ه‬
‫ظال زائال ‪،‬‬
‫وعرضا مائال ‪ ،‬وجعلك‬

‫ص ‪345‬‬

‫‪345‬‬
‫عنها راحال ‪ ،‬فهي جسر منصوب على بحر الهالك ‪ ،‬وميدان موضوع لمصارع ه‬
‫الهالك ‪ ،‬كم‬
‫أبادت من القرون الماضية ‪ ،‬واألمم الخالية ‪ ،‬والجبابرة المتألهين الطاغية ‪ ،‬والفضالء‬
‫والحكماء ‪ ،‬واألدباء والعقالء ‪ ،‬واألولياء واألنبياء ‪ ،‬فهل ترى لهم من باقية ؟ وأنت على‬
‫قارعة مذهبهم ‪ ،‬وعن قريب تلحق بهم ‪ ،‬فإما إلى نعيم في دار الخلود بجوار الصمد ‪ ،‬وإما إلى‬
‫عذاب األبد« ُه َو الَّذِي يَ ْب َدؤُا ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعي ُد ُهث ُ َّم ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ »فاجهد في تحصيل أدوات البقاء‬
‫والنجاة ‪ ،‬فإن الدنيا متاع قليل واآلخرة خير لمن اتقى ‪ ،‬والعارية مردودة ‪ ،‬وأعمالك بين يديك‬
‫وّللا‬
‫موجودة غير مفقودة ‪ ،‬في كتاب ال يغادر صغيرة وال كبيرة ‪ ،‬وال عالنية وال سريرة ( ه‬
‫يعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) فالسعادة كل السعادة في المحافظة على األمور الشرعية ‪،‬‬
‫والقيام بالحدود الوضعية ‪.‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬اآليات ‪ 12‬إلى ‪] 17‬‬


‫شفَعا ُء َوكانُوا‬ ‫ون ( ‪َ ) 12‬ولَ ْم يَك ُْن لَ ُه ْم ِم ْن ش َُركائِ ِه ْم ُ‬ ‫س ا ْل ُمجْ ِر ُم َ‬ ‫ساعَةُ يُ ْب ِل ُ‬‫َويَ ْو َم تَقُو ُم ال ه‬
‫ون ( ‪ ) 14‬فَأ َ هما الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا‬ ‫ساعَةُ يَ ْو َم ِئ ٍذ يَتَفَ هرقُ َ‬‫ين ) ‪َ ( 13‬ويَ ْو َم تَقُو ُم ال ه‬ ‫ِبش َُركا ِئ ِه ْم كا ِف ِر َ‬
‫ِين َكفَ ُروا َو َكذهبُوا بِآياتِنا َو ِل ِ‬
‫قاء‬ ‫ون ( ‪َ ) 15‬وأ َ هما الهذ َ‬ ‫ض ٍة يُحْ بَ ُر َ‬ ‫ت فَ ُه ْم فِي َر ْو َ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫َوع َِملُوا ال ه‬
‫ون ) ‪( 16‬‬ ‫ض ُر َ‬ ‫ب ُمحْ َ‬ ‫ْاآل ِخ َر ِة فَأُولئِكَ فِي ا ْلعَذا ِ‬
‫ون ) ‪( 17‬‬ ‫ص ِب ُح َ‬ ‫ين ت ُ ْ‬
‫ون َو ِح َ‬ ‫س َ‬ ‫ين ت ُ ْم ُ‬ ‫ّللا ِح َ‬
‫حان ه ِ‬‫س ْب َ‬ ‫فَ ُ‬
‫فجمع الصلوات الخمس في هذه اآلية قال تعالى ‪ ( :‬وسبحوه ) آي صلوا له( بُ ْك َرة ً َو َ‬
‫ع ِشيًّا )‪.‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬آية ‪] 18‬‬


‫ين ت ُ ْظ ِه ُر َ‬
‫ون ( ‪) 18‬‬ ‫شيًّا َو ِح َ‬
‫ع ِ‬
‫ض َو َ‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َولَهُ ا ْل َح ْم ُد فِي ال ه‬
‫سماوا ِ‬
‫« َولَهُ ْال َح ْم ُد »أي الثناء المطلق في السماوات واألرض ‪.‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬اآليات ‪ 19‬إلى ‪] 20‬‬


‫ي ِ َويُحْ ي ِ ْاأل َ ْر َ‬
‫ض بَ ْع َد َم ْو ِتها‬ ‫ج ا ْل َم ِيّتَ ِم َن ا ْل َح ّ‬ ‫ي ِم َن ا ْل َم ِيّ ِ‬
‫ت َويُ ْخ ِر ُ‬ ‫ج ا ْل َح ه‬
‫يُ ْخ ِر ُ‬

‫ص ‪346‬‬

‫‪346‬‬
‫ب ث ُ هم ِإذا أ َ ْنت ُ ْم بَش ٌَر ت َ ْنت َ ِ‬
‫ش ُر َ‬
‫ون) ‪( 20‬‬ ‫ون ( ‪َ ) 19‬و ِم ْن آيا ِت ِه أ َ ْن َخلَقَ ُك ْم ِم ْن تُرا ٍ‬
‫َوكَذ ِلكَ ت ُ ْخ َر ُج َ‬

‫اعلم أن الحق سبحانه ال يعين لفظا وال يقيد أمرا إال وقد أراد من عباده أن ينظروا فيه من‬
‫حيث ما خصصه وأفرده لتلك الحالة ‪ ،‬أو عيهنه بتلك العبارة ‪ ،‬ومتى لم ينظر الناظر في هذه‬
‫األمور بهذه العين فقد غاب عن الصواب المطلوب ‪ ،‬فإن النفوس ما تنبعث وتهتز إال لآليات‬
‫الخارقة للعادة ‪ .‬واآليات اإللهية منها معتاد وغير معتاد ‪ ،‬والقرآن قد ورد في اآليات المعتادة‬
‫كثير ‪ ،‬ومن آياته ‪ ،‬ومن آياته ويذكر أمورا معتادة ‪ ،‬ثم يقول إن في ذلك آليات ‪ ،‬ولكن ال ترفع‬
‫العامة بها رأسا لجري العادة الستيالء الغفلة وعدم الحضور‪. .‬‬
‫[ اآليات المعتادة واآليات غير المعتادة ]‬
‫إذا كانت اآليات تعتاد لم يكن *** لها أثر في نفس كل جهول‬
‫وما لم تكن تعتاد فهي لديهمو *** إذا نظروا فيها أدل دليل‬
‫وأما فحول القوم ال فرق عندهم *** لقد خصصوا منها بأقوم قيل‬
‫إذا جاءت اآليات تترى تراهمو *** سكارى لها خوفا بكل سبيل‬
‫فسبحان من أحياهمو واصطفاهمو *** وإنهمو فينا أقل قليل‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬آية ‪] 21‬‬


‫س ُك ْم أ َ ْزواجا ِلت َ ْ‬
‫س ُكنُوا ِإلَ ْيها َو َجعَ َل بَ ْينَ ُك ْم َم َودهة َو َرحْ َمة ِإ هن فِي ذ ِلكَ‬ ‫ق لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ْنفُ ِ‬‫َو ِم ْن آياتِ ِه أ َ ْن َخلَ َ‬
‫ون ( ‪) 21‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَك ُهر َ‬
‫َآليا ٍ‬
‫[ « َو ِم ْن آيا ِت ِه أ َ ْن َخلَقَ لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ُك ْم أ َ ْزواجا ً » اآلية ]‬
‫« َو ِم ْن آياتِ ِه أ َ ْن َخلَقَ لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ُك ْم أ َ ْزواجا ً »أعلم أن الزوجة مخلوقة من عين الزوج ونفسه«‬
‫ِلت َ ْس ُكنُوا ِإلَيْها َو َجعَ َل بَ ْينَ ُك ْم َم َو َّدة ً َو َر ْح َمةً »المودة المجعولة بين الزوجين هو الثبات على النكاح‬
‫الموجب للتوالد ‪ ،‬والرحمة المجعولة هو ما يجده كل واحد من الزوجين من الحنان إلى صاحبه‬
‫فيحن إليه ويسكن ‪ ،‬فمن حيث المرأة حنين الجزء إلى كله ‪ ،‬والفرع إلى أصله ‪ ،‬والغريب إلى‬
‫وطنه ‪ ،‬وحنين الرجل إلى زوجته حنين الكل إلى جزئه ‪ -‬ألنه به يصح عليه اسم الكل ‪،‬‬
‫وبزواله ال يثبت له هذا االسم ‪ -‬وحنين األصل إلى الفرع ألنه يمده ‪ ،‬فبالمودة والرحمة طلب‬
‫ّللا ذلك آية ‪،‬‬ ‫الكل جزأه ‪ ،‬والجزء كله ‪ ،‬فالتحما فظهر عن ذلك االلتحام أعيان األبناء ‪ ،‬وجعل ه‬
‫أي عالمة ودليال لقوم يتفكرون ‪ ،‬فقال ‪ِ «:‬إ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم‬

‫ص ‪347‬‬

‫‪347‬‬
‫يَتَفَ َّك ُرونَ »فإن من اآليات ما تغمض بحيث ال يدركها إال من له التفكر السليم ‪ ،‬فيعلمون أنه‬
‫ّللا جعل بينهما‬ ‫الحق ‪ ،‬وفائدة هذا التفكر أن اإلنسان إذا تزوج المرأة ووجد السكون إليها وأن ه‬
‫ّللا يريد التحامهما ‪ ،‬فإذا ارتفع السكون من أحدهما إلى صاحبه أو‬ ‫المودة والرحمة علم أن ه‬
‫منهما وزالت المودة ‪ -‬وهي ثبوت هذا السكون وبهذا سمي الود حبا لثبوته ‪ -‬وزالت الرحمة‬
‫ّللا قد أراد طالقهما ‪ ،‬وما يعرف ما‬ ‫من بينهما أو من أحدهما بصاحبه فأعرض عنه ‪ ،‬فيعلم أن ه‬
‫ّللا ما جعله آية إال لهم ‪ ،‬هذا المقصود بالتفكر هنا ‪ ،‬ألن‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن ه‬
‫قلناه إال أهل التفكر من عباد ه‬
‫ّللا محال ‪ ،‬فال يبقى إال التفكر في الكون ‪ ،‬ومتعلق الفكرة‬ ‫التفكر في ذات ه‬
‫[ لطيفة ‪ :‬الجمال العرضي حجاب على الجمال المطلق ]‬
‫األسماء الحسنى وسمات المحدثات‬
‫‪ -‬لطيفة ‪ -‬اعلم أن الجمال العرضي حجاب على الجمال المطلق ‪ ،‬والحسن البديع الفائق‬
‫المحقق ‪ ،‬القائم بذات الحق ‪ ،‬الذي ال يتقيد بالوقت ‪ ،‬وال يدرك بالنعت فقال ‪َ «:‬و ِم ْن آياتِ ِه أ َ ْن‬
‫َخلَقَ لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ُك ْم أ َ ْزواجا ً ِلت َ ْس ُكنُوا ِإلَيْها »فتعشقت نفسها بنفسها ‪ ،‬حتى ال تتعلق بغير جنسها‬
‫‪ ،‬فكان يذهب عنها ما كان لها من العز باألمس ‪ ،‬من حسن التقويم والنظام ‪ ،‬ويظهر التيه‬
‫عليها ممن نقص عن مقامها ‪ ،‬وتقاصر عن تمامها ‪ ،‬فبقيت بذلك عزتها عليها موقوفة ‪ ،‬وهمم‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُرونَ »فمن‬
‫غير جنسها إليها بالخدمة مصروفة ‪ .‬لذلك قال تعالى ‪ِ «:‬إ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫انحجب عن هذه األرواح المجسدة بهذا الحجاب عن هذا الجمال ‪ ،‬لم يزل في سفال العوال ‪،‬‬
‫ومن لم ينحجب به صح له المقام العال‪: .‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬آية ‪] 22‬‬


‫ين (‬ ‫سنَتِ ُك ْم َوأ َ ْلوانِ ُك ْم إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬
‫ت ِل ْلعا ِل ِم َ‬ ‫الف أ َ ْل ِ‬ ‫ض َو ْ‬
‫اختِ ُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬‫ق ال ه‬ ‫َو ِم ْن آياتِ ِه َخ ْل ُ‬
‫‪)22‬‬
‫ّللا فيها من اآليات في خلقه ‪ ،‬فكان منها التشاجر‬ ‫الف أ َ ْل ِسنَتِ ُك ْم َوأ َ ْلوانِ ُك ْم »التي جعل ه‬
‫اختِ ُ‬‫" َو ْ‬
‫ت ِل ْلعا ِل ِمينَ »‪.‬‬
‫الموجود في العالم الختالف األلسنة واأللوان ‪ِ « ،‬إ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬آية ‪] 23‬‬

‫ص ‪348‬‬

‫‪348‬‬
‫ون (‪)23‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْ‬
‫س َمعُ َ‬ ‫هار َوا ْب ِتغا ُؤ ُك ْم ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ِه ِإ هن ِفي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬ ‫َو ِم ْن آيا ِت ِه َمنا ُم ُك ْم ِبالله ْي ِل َوالنه ِ‬
‫من نظر إلى حسن نظم القرآن وجمعه ‪ ،‬ولما ذا قدم ما كان ينبغي في النظر العقلي في ظاهر‬
‫األمر أن يكون على غير هذا النظم ‪ ،‬فإن النهار البتغاء الفضل والليل للمنام ‪ ،‬تبين له من‬
‫خلف ستار هذه اآلية وحسن العبارة عنها الرافعة سترها ‪،‬‬
‫هار » أمر زائد على ما يفهم منه في العموم بقرائن األحوال في‬ ‫وهو قوله ‪َ «:‬منا ُم ُك ْم ِباللَّ ْي ِل َوالنَّ ِ‬
‫ّللا نبه بهذه اآلية على أن نشأة اآلخرة الحسية ال‬ ‫ابتغاء الفضل للنهار والمنام لليل ‪ ،‬وهو أن ه‬
‫تشبه هذه النشأة الدنياوية ‪ ،‬وأنها ليست بعينها ‪ ،‬بل تركيب آخر ومزاج آخر ‪ ،‬كما وردت به‬
‫الشرائع والتعريفات النبوية في مزاج تلك الدار ‪ ،‬وإن كانت هذه الجواهر عينها بال شك ‪ ،‬فإنها‬
‫التي تبعثر في القبور وتنشر ‪ ،‬ولكن يختلف التركيب والمزاج بأعراض وصفات تليق بتلك‬
‫الدار ال تليق بهذه الدار ‪ ،‬وإن كانت الصورة واحدة في العين والسمع واألذن والفم واليدين‬
‫والرجلين بكمال النشأة ‪ ،‬ولكن االختالف بيهن ‪ ،‬فمنه ما يشعر به ويحس ومنه ما ال يشعر به ‪،‬‬
‫ولما كانت صورة اإلنشاء في الدار اآلخرة على صورة هذه النشأة ‪ ،‬لم يشعر بما أشرنا إليه ‪،‬‬
‫ولما كان الحكم يختلف عرفنا أن المزاج اختلف ‪ ،‬فهذا الفرق بين حظ الحس والعقل ‪ ،‬فقال‬
‫هار ‪ » . . .‬اآلية ]‬ ‫تعالى ‪َ « [:‬و ِم ْن آياتِ ِه َمنا ُم ُك ْم بِاللَّ ْي ِل َوالنَّ ِ‬
‫هار » ولم يذكر اليقظة وهي من جملة اآليات ‪ ،‬فذكر المنام دون‬ ‫« َو ِم ْن آياتِ ِه َمنا ُم ُك ْم بِاللَّ ْي ِل َوالنَّ ِ‬
‫اليقظة في حال الدنيا ‪ ،‬فدل على أن اليقظة ال تكون إال عند الموت ‪ ،‬وأن اإلنسان نائم أبدا ما‬
‫لم يمت ‪ ،‬فذكر أنه في منام بالليل والنهار في يقظته ونومه ‪،‬‬
‫وفي الخبر [ الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ] أال ترى أنه لم يأت بالباء في قوله تعالى ‪َ «:‬والنَّ ِ‬
‫هار‬
‫»واكتفى بباء الليل ‪ ،‬ليحقق بهذه المشاركة أنه يريد المنام في حال اليقظة المعتادة ‪ ،‬فحذفها‬
‫مما يقوي الوجه الذي أبرزناه في هذه اآلية ‪ ،‬فالمنام هو ما يكون فيه النائم في حال نومه ‪،‬‬
‫فإذا استيقظ يقول ‪:‬‬
‫رأيت كذا وكذا ‪ ،‬فدل أن اإلنسان في منام ما دام في هذه النشأة في الدنيا إلى أن يموت ‪ ،‬فلم‬
‫يعتبر الحق اليقظة المعتادة عندنا في العموم ‪ ،‬بل جعل اإلنسان في منام في نومه ويقظته كما‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ]‬ ‫أوردناه في الخبر النبوي من قوله صلهى ه‬
‫فوصفهم بالنوم في الحياة الدنيا ‪ ،‬والعامة ال تعرف النوم في المعتاد إال ما جرت به العادة أن‬
‫ّللا عليه وسلم بل صرح أن اإلنسان في منام ما دام في الحياة‬ ‫يسمى نوما ‪ ،‬فنبه النبي صلهى ه‬
‫ّللا بما جاء به في قوله‬ ‫الدنيا حتى ينتبه في اآلخرة ‪ ،‬والموت أول أحوال اآلخرة ‪ ،‬فصدهقه ه‬
‫هار »وهو هذا المنام الذي صرح‬ ‫تعالى ‪َ «:‬و ِم ْن آياتِ ِه َمنا ُم ُك ْم ِباللَّ ْي ِل »وهو النوم العادي« َوالنَّ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ولهذا‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫به رسول ه‬

‫ص ‪349‬‬

‫‪349‬‬
‫جعل الدنيا عبرة جسرا يعبر ‪ ،‬أي تعبر كما تعبهر الرؤيا التي يراها اإلنسان في نومه ‪ ،‬فكما أن‬
‫الذي يراه الرائي في حال نومه ما هو مراد لنفسه إنما هو مراد لغيره ‪ ،‬فيعبر من تلك الصورة‬
‫المرئية في حال النوم إلى معناها المراد بها في عالم اليقظة إذا استيقظ من نومه ‪ ،‬كذلك حال‬
‫اإلنسان في الدنيا ما هو مطلوب للدنيا ‪ ،‬فكل ما يراه من حال وقول وعمل في الدنيا إنما هو‬
‫مطلوب لآلخرة ‪ ،‬فهناك يعبر ويظهر له ما رآه في الدنيا ‪ ،‬كما يظهر له في الدنيا إذا استيقظ ما‬
‫رآه في المنام ‪ ،‬فالدنيا جسر يعبر وال يعمر ‪ ،‬كاإلنسان في حال ما يراه من نومه يعبهر وال‬
‫يع همر ‪ ،‬فإنه إذا استيقظ ال يجد شيئا مما رآه ‪ ،‬من خير يراه أو شر ‪ ،‬وديار وبناء وسفر ‪،‬‬
‫وأحوال حسنة أو سيئة ‪،‬‬
‫فال بد أن يعبهر له العارف بالعبارة ما رآه فيقول له ‪ :‬تدل رؤياك لكذا ‪ ،‬على كذا ‪ ،‬فكذلك الحياة‬
‫الدنيا منام ‪ ،‬إذا انتقل إلى اآلخرة بالموت لم ينتقل معه شيء مما كان في يده وفي حسه ‪ ،‬من‬
‫دار وأهل ومال ‪ ،‬كما كان حين استيقظ من نومه لم ير شيئا في يده مما كان له حاصال في‬
‫رؤياه في حال نومه ‪،‬‬
‫فلهذا قال تعالى ‪ :‬إننا في منام بالليل والنهار ‪ ،‬وفي اآلخرة تكون اليقظة ‪،‬‬
‫ّللا عين بصيرته وعبر رؤياه هنا قبل الموت أفلح ‪ ،‬ويكون فيها‬ ‫وهناك تعبر الرؤيا ‪ ،‬فمن نور ه‬
‫مثل من رأى رؤيا ثم رأى في رؤياه أنه استيقظ ‪ ،‬فيقص ما رآه وهو في النوم على حاله على‬
‫بعض الناس الذين يراهم في نومه فيقول ‪ :‬رأيت كذا وكذا ‪ ،‬فيفسره ويعبره له ذلك الشخص‬
‫بما يراه في علمه بذلك ‪ ،‬فإذا استيقظ حينئذ يظهر له أنه لم يزل في منام ‪ ،‬في حال الرؤيا وفي‬
‫حال التعبير لها ‪ ،‬وهو أصح التعبير ‪،‬‬
‫وكذلك الفطن اللبيب في هذه الدار مع كونه في منامه يرى أنه استيقظ ‪ ،‬فيعبر رؤياه في منامه‬
‫لينتبه ويزدجر ويسلك الطريق األس هد ‪ ،‬فإذا استيقظ بالموت حمد رؤياه ‪ ،‬وفرح بمنامه وأثمرت‬
‫ّللا في هذه اآلية اليقظة وذكر المنام ‪ ،‬وأضافه إلينا بالليل‬
‫له رؤياه خيرا ‪ ،‬فلهذه الحقيقة ما ذكر ه‬
‫والنهار ‪ ،‬وكان ابتغاء الفضل فيه في حق من رأى في نومه أنه استيقظ في نومه فيعبر رؤياه ‪،‬‬
‫وهي حال الدنيا ‪ ،‬فهذا تفصيل آيات المنام بالليل والنهار واالبتغاء من الفضل ‪ ،‬وجعله« َآليا ٍ‬
‫ت‬
‫ّللا تعالى قال ‪َ (:‬وال‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهم أهل الفهم عن ه‬ ‫ِلقَ ْو ٍم يَ ْس َمعُونَ » *أي يفهمون عن ه‬
‫ت َ ُكونُوا َكالَّذِينَ قالُوا َ‬
‫س ِم ْعنا َو ُه ْم ال يَ ْس َمعُونَ )أي ال يفهمون ‪.‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬آية ‪] 24‬‬


‫ماء ماء فَيُحْ ِيي ِب ِه ْاأل َ ْر َ‬
‫ض بَ ْع َد َم ْوتِها ِإ هن‬ ‫س ِ‬ ‫ق َخ ْوفا َو َط َمعا َويُنَ ِ ّز ُل ِم َن ال ه‬‫َو ِم ْن آياتِ ِه يُ ِري ُك ُم ا ْلبَ ْر َ‬
‫ون) ‪( 24‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُ َ‬‫فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬

‫ص ‪350‬‬

‫‪350‬‬
‫للعقل نور يدرك به أمورا مخصوصة ‪ ،‬ولإليمان نور به يدرك كل شيء ما لم يقم مانع ‪،‬‬
‫فبنور العقل تصل إلى معرفة األلوهية وما يجب لها وما يستحيل ‪ ،‬وما يجوز منها فال يستحيل‬
‫وال يجب ‪ ،‬وبنور اإليمان يدرك العقل معرفة الذات وما نسب الحق إلى نفسه من النعوت ‪،‬‬
‫فإن للعقول حدا تقف عنده من حيث ما هي مفكرة ال من حيث ما هي قابلة ‪ ،‬فنقول في األمر‬
‫الذي يستحيل عقال ‪ :‬قد ال يستحيل نسبة إلهية كما نقول فيما يجوز عقال ‪ :‬يستحيل نسبة إلهية ‪.‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬اآليات ‪ 25‬إلى ‪]27‬‬


‫ون (‬ ‫ض إِذا أ َ ْنت ُ ْم ت َ ْخ ُر ُج َ‬ ‫ض بِأ َ ْم ِر ِه ث ُ هم إِذا دَعا ُك ْم َدع َْوة ِم َن ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َو ِم ْن آياتِ ِه أ َ ْن تَقُو َم ال ه‬
‫سما ُء َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫ق ث ُ هم يُ ِعي ُدهُ‬
‫ون ( ‪َ ) 26‬و ُه َو الهذِي يَ ْب َدؤُا ا ْل َخ ْل َ‬ ‫ض ُك ٌّل لَهُ قانِت ُ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬‫‪َ ) 25‬ولَهُ َم ْن فِي ال ه‬
‫يز ا ْل َح ِكي ُم ( ‪) 27‬‬ ‫ض َو ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫علَ ْي ِه َولَهُ ا ْل َمث َ ُل ْاألَعْلى فِي ال ه‬ ‫َو ُه َو أ َ ْه َو ُن َ‬
‫[ بدء الخلق واإلعادة ]‬
‫ّللا هو المبدئ ‪ ،‬فهو يبدئ كل شيء خلقا ‪ ،‬ثم يعيده أي‬ ‫« َو ُه َو الَّذِي يَ ْب َدؤُا ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعي ُدهُ »إن ه‬
‫يرجع الحكم إليه بأن يخلق ‪ ،‬فقوله ‪ «:‬يُ ِعي ُدهُ »أي يعيد الخلق أي يفعل في العين التي يريد‬
‫إيجادها ما فعل فيمن أوجدها ‪ ،‬وليس إال اإليجاد ‪ ،‬فإن الخلق يراد به المخلوق في موضع مثل‬
‫قوله ‪ (:‬هذا خ َْل ُق َّ ِ‬
‫ّللا )‬
‫ت)‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ويراد به الفعل مثل قوله ‪ (:‬ما أ َ ْش َه ْدت ُ ُه ْم خ َْلقَ ال َّ‬
‫فقوله تعالى ‪ُ «:‬ه َو الَّذِي يَ ْب َدؤُا ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعي ُدهُ »إنما يراد به هنا الفعل ال المخلوق ‪ ،‬فإن عين‬
‫المخلوقات ما زالت من الوجود من قوله ‪ُ «:‬ه َو الَّذِي يَ ْب َدؤُا ْالخ َْلقَ »وأعني به الذات القائمة‬
‫بنفسها ‪ ،‬وإنما انتقلت من الدنيا إلى البرزخ ‪،‬‬
‫كما تنتقل من البرزخ إلى الحشر إلى الجنة أو إلى النار ‪ ،‬وهي هي من حيث جوهرها ‪ ،‬ال أنها‬
‫عدمت ثم وجدت ‪ ،‬فتكون اإلعادة في حقها ‪،‬‬
‫فهو انتقال من وجود إلى وجود ‪ ،‬من مقام إلى مقام ‪ ،‬من دار إلى دار ‪،‬‬
‫ألن النشأة التي تخلق عليها في اآلخرة ما تشبه نشأة الدنيا إال في اسم النشء ‪ ،‬فنشأة اآلخرة‬

‫ص ‪351‬‬

‫‪351‬‬
‫ابتداء ‪ ،‬فلو عادت هذه النشأة لعاد حكمها معها ‪ ،‬ألن حكم كل نشأة لعينها ‪ ،‬وحكمها ال يعود‬
‫ّللا يحفظ عليه‬ ‫ّللا لم ينعدم ‪ ،‬فإن ه‬ ‫فال تعود ‪ ،‬والجوهر عينه ال غيره ‪ ،‬موجود من حين خلقه ه‬
‫وجوده بما يخلق فيه مما به بقاؤه ‪ ،‬فاإلعادة إنما هي في كون الحق يعود إلى اإليجاد بالنظر‬
‫إلى حكم ما فرغ من إيجاده من هذا المخلوق ‪ ،‬فكلما فرغ ابتداء عاد إلى حكم االبتداء ‪ ،‬هذا‬
‫حكم إلهي ال يزول ‪ ،‬فحكم اإلعادة ما خرج حكمها عن الحق ‪ ،‬فحكمها فيه ال في الخلق الذي‬
‫ّللا له ‪ ،‬فال يزال الحق يخلق‬ ‫هو المخلوق ‪ ،‬فالعالم بعد وجوده ينتقل في أحوال جديدة يخلقها ه‬
‫علَ ْي ِه »وليس هذا الهين عن صعوبة في االبتداء ‪ ،‬ولهذا‬ ‫ويعود إلى الخلق فيخلق« َو ُه َو أ َ ْه َو ُن َ‬
‫القول بالمفهوم ضعيف في الداللة ‪ ،‬ألنه ال يكون حقا في كل موضع« َولَهُ ْال َمث َ ُل ْاألَعْلى فِي‬
‫ض»‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬
‫ال َّ‬
‫اس )ابتداء ‪ ،‬وإعادتهم‬ ‫ق النَّ ِ‬ ‫ض أ َ ْكبَ ُر ِم ْن خ َْل ِ‬
‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬هو قوله ‪ (:‬لَخ َْل ُق ال َّ‬
‫أهون من ابتدائهم ‪ ،‬وابتداؤهم أهون من خلق السماوات واألرض‬
‫ض »وما ث هم‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني «‪َ -‬ولَهُ ْال َمث َ ُل ْاألَعْلى »في التجلي الصوري« فِي ال َّ‬
‫يز »الذي‬‫إال سماء وأرض ‪ ،‬وله المثل األعلى ‪ ،‬فله صورة في كل سماء وأرض« َو ُه َو ْالعَ ِز ُ‬
‫ال يرى من حيث هويته« ْال َح ِكي ُم »في تجليه حتى يقال إنه رئي ‪.‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬آية ‪] 28‬‬


‫س ُك ْم َه ْل لَ ُك ْم ِم ْن ما َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُك ْم ِم ْن ش َُركا َء فِي ما َر َز ْقنا ُك ْم فَأ َ ْنت ُ ْم فِي ِه‬ ‫ب لَ ُك ْم َمثَال ِم ْن أ َ ْنفُ ِ‬ ‫َ‬
‫ض َر َ‬
‫ون ( ‪) 28‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُ َ‬
‫ص ُل ْاآليا ِ‬ ‫سوا ٌء تَخافُونَ ُه ْم ك َِخيفَتِ ُك ْم أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُك ْم كَذ ِلكَ نُفَ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫س ُك ْم »أي كخيفتكم أمثالكم ‪ ،‬ال عين نفس الخائف ‪.‬‬ ‫« تَخافُونَ ُه ْم َك ِخيفَ ِت ُك ْم أ َ ْنفُ َ‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬آية ‪] 29‬‬


‫ّللاُ َوما لَ ُه ْم ِم ْن ِ‬
‫ناص ِر َ‬
‫ين ( ‪) 29‬‬ ‫ِين َظلَ ُموا أ َ ْهوا َء ُه ْم ِبغَ ْي ِر ِع ْل ٍم فَ َم ْن يَ ْهدِي َم ْن أ َ َ‬
‫ض هل ه‬ ‫بَ ِل اتهبَ َع الهذ َ‬
‫فحرمان الجهل أوقع بهم‪.‬‬

‫ص ‪352‬‬

‫‪352‬‬
‫[سورة الروم ( ‪ : ) 30‬آية ‪] 30‬‬
‫ِين ا ْلقَ ِيّ ُم‬
‫ّللا ذ ِلكَ ال ّد ُ‬
‫ق هِ‬‫علَ ْيها ال ت َ ْبدِي َل ِل َخ ْل ِ‬ ‫ّللا اله ِتي فَ َط َر النه َ‬
‫اس َ‬ ‫ِين َح ِنيفا ِف ْط َرتَ ه ِ‬ ‫فَأ َ ِق ْم َوجْ َهكَ ِلل ّد ِ‬
‫ون ( ‪) 30‬‬ ‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫َول ِك هن أ َ ْكث َ َر النه ِ‬
‫[ الفطرة ]‬
‫ّللا عن مشاهدة وعيان ‪،‬‬ ‫ّللا إلى ه‬ ‫ِين َحنِيفا ً »أي مائال في جميع أحوالك من ه‬ ‫" فَأَقِ ْم َو ْج َه َك ِلل هد ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن كل ما ينبغي أن يحال عنه عن أمر‬ ‫ّللا وإيثار لجناب ه‬ ‫ّللا عن أمر ه‬ ‫ومن نفسك إلى ه‬
‫علَيْها »إن اإليمان األصلي هو الفطرة التي فطر الناس عليها‬ ‫اس َ‬ ‫ط َر النَّ َ‬ ‫ّللا الَّ ِتي فَ َ‬
‫ت َّ ِ‬ ‫ط َر َ‬ ‫ّللا« ِف ْ‬ ‫ه‬
‫‪ ،‬وهو شهادتهم له سبحانه بالوحدانية في األخذ الميثاقي ‪،‬‬
‫فكل مولود يولد على ذلك الميثاق ‪ ،‬ولكن لما حصل في حصر الطبيعة بهذا الجسم محل‬
‫النسيان جهل الحالة التي كان عليها مع ربهه ونسيها ‪ ،‬فافتقر إلى النظر في األدلة على وحدانية‬
‫خالقه ‪ ،‬إذا بلغ إلى الحالة التي يعطيها النظر ‪ ،‬وإن لم يبلغ هذا الحد فحكمه حكم والديه ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا تعالى منهما تقليدا ‪ ،‬وإن كانا على أي دين كان ألحق بهما ‪،‬‬ ‫كانا مؤمنين أخذ بتوحيد ه‬
‫فالفطرة التي فطر الناس عليها هي( أ َ لَ ْستُ ِب َر ِبه ُك ْم قالُوا بَلى )فكل مولود يولد على هذه الفطرة‬
‫؛ وفطرة كل شيء هو ما يقع به الفصل بين الصور فيقال ‪ :‬هذا ليس هذا ‪ ،‬إذ قد يقال ‪ :‬هذا‬
‫ّللا التي فطر الناس عليها كونهم عبيده ‪ ،‬فمن‬ ‫عين هذا من حيث ما يقع به االشتراك ‪ ،‬ففطرة ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فبقوا على تلك الفطرة في توحيد‬ ‫ّللا الخلق عليها أن ال يعبدوا إال ه‬ ‫أحوال الفطرة التي فطر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولهذا‬ ‫ّللا ‪ ،‬بل جعلوا آلهة على طريق القربة إلى ه‬ ‫ّللا مسمى آخر هو ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فما جعلوا مع ه‬ ‫ه‬
‫قال ‪:‬‬
‫ّللا في المحل الذي‬ ‫ّللا ‪ ،‬فما عبد كل عابد إال ه‬ ‫سموهم ؛ فإنهم إذا سموهم بان أنهم ما عبدوا إال ه‬
‫نسب األلوهية له ‪ ،‬فصح بقاء التوحيد هّلل الذي أقروا به في الميثاق وأن الفطرة مستصحبة« ال‬
‫ّللا‪»-‬‬ ‫ق َّ ِ‬‫ت َ ْبدِي َل ِلخ َْل ِ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬وهو الفطرة وهو ما شهد به هّلل في أول مرة‬
‫ّللا »أي التبديل هّلل ليس للخلق تبديل ‪ ،‬وقد يكون معناه ال‬ ‫ق َّ ِ‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني – " ال ت َ ْبدِي َل ِلخ َْل ِ‬
‫ّللا كلماته فال تبديل لخلق ‪ ،‬ال تبديل‬ ‫ّللا من كونه أعطى كل شيء خلقه ‪ ،‬وخلق ه‬ ‫تبديل لخلق ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهي عبارة‬ ‫ّللا هي كلمات ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وإنما التبديل هّلل ‪ ،‬فيسوغ في هذه اآلية أن خلق ه‬ ‫لكلمات ه‬
‫عن الموجودات ‪،‬‬
‫كما قال في عيسى عليه السالم إنه كلمته ألقاها إلى مريم ‪ ،‬فنفى أن يكون للموجودات تبديل ‪،‬‬
‫بل التبديل هّلل ‪ ،‬وال سيما وظاهر اآلية يدل على هذا التأويل ‪،‬‬

‫ص ‪353‬‬

‫‪353‬‬
‫ّللا ما فطرنا إال على اإلقرار بربوبيته‬
‫ّللا بأن ه‬
‫أي ليس لهم في الفطرة تبديل ‪ ،‬وهذه بشرى من ه‬
‫ّللا نفى عنهم أن‬
‫‪ ،‬فما يتبدل ذلك اإلقرار بما ظهر من الشرك بعد ذلك في بعض الناس ‪ ،‬ألن ه‬
‫يكون لهم تبديل في ذلك بل هم على فطرتهم ‪ ،‬وإليها يعود المشرك يوم القيامة عند تبري‬
‫الشركاء منهم ‪ ،‬وإذا لم يضف التبديل إليهم فهي بشرى في حقهم بمآلهم إلى الرحمة ‪،‬‬
‫ّللا على مزاج‬
‫وإن سكنوا النار فبحكم كونها دارا ال كونها دار عذاب وآالم ‪ ،‬بل يجعلهم ه‬
‫يتنعمون به في النار ‪ ،‬بحيث لو دخلوا الجنة بذلك المزاج تألموا لعدم موافقة مزاجهم لما هي‬
‫عليه الجنة من االعتدال ‪.‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬اآليات ‪ 31‬إلى ‪] 41‬‬


‫ِين فَ هرقُوا دِينَ ُه ْم‬ ‫ين ( ‪ِ ) 31‬م َن الهذ َ‬ ‫صالةَ َوال تَكُونُوا ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬ ‫ين إِلَ ْي ِه َواتهقُوهُ َوأَقِي ُموا ال ه‬ ‫ُمنِي ِب َ‬
‫ين ِإلَ ْي ِه‬‫اس ض ٌُّر َدع َْوا َربه ُه ْم ُمنِي ِب َ‬ ‫س النه َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 32‬و ِإذا َم ه‬ ‫ب ِبما لَ َد ْي ِه ْم فَ ِر ُح َ‬ ‫شيَعا ُك ُّل ِح ْز ٍ‬ ‫َوكانُوا ِ‬
‫ُون ) ‪ِ ( 33‬ليَ ْكفُ ُروا ِبما آت َ ْينا ُه ْم فَت َ َمتهعُوا‬ ‫ق ِم ْن ُه ْم ِب َر ِبّ ِه ْم يُش ِْرك َ‬ ‫ث ُ هم ِإذا أَذاقَ ُه ْم ِم ْنهُ َرحْ َمة ِإذا فَ ِري ٌ‬
‫ُون ) ‪( 35‬‬ ‫س ْلطانا فَ ُه َو يَت َ َكله ُم ِبما كانُوا ِب ِه يُش ِْرك َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ُ‬ ‫ون ) ‪( 34‬أ َ ْم أ َ ْن َز ْلنا َ‬ ‫ف ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫فَ َ‬
‫س ْو َ‬
‫ون ( ‪) 36‬‬ ‫ط َ‬ ‫ِيه ْم إِذا ُه ْم يَ ْقنَ ُ‬ ‫س ِيّئَةٌ بِما قَ هد َمتْ أ َ ْيد ِ‬ ‫اس َرحْ َمة فَ ِر ُحوا بِها َوإِ ْن ت ُ ِص ْب ُه ْم َ‬ ‫َوإِذا أَذَ ْقنَا النه َ‬
‫ون ( ‪ ) 37‬فَآ ِ‬
‫ت‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ق ِل َم ْن يَشا ُء َويَ ْقد ُِر إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬ ‫الر ْز َ‬‫ط ِّ‬ ‫س ُ‬ ‫أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا أ َ هن ه َ‬
‫ّللا يَ ْب ُ‬
‫ّللا َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬
‫ون‬ ‫ُون َوجْ هَ ه ِ‬ ‫ِين يُ ِريد َ‬ ‫س ِبي ِل ذ ِلكَ َخ ْي ٌر ِللهذ َ‬ ‫ين َوا ْب َن ال ه‬ ‫س ِك َ‬‫ذَا ا ْلقُ ْربى َحقههُ َوا ْل ِم ْ‬
‫ّللا َوما آت َ ْيت ُ ْم ِم ْن َزكا ٍة‬ ‫اس فَال يَ ْربُوا ِع ْن َد ه ِ‬ ‫( ‪َ ) 38‬وما آت َ ْيت ُ ْم ِم ْن ِربا ِليَ ْربُ َوا فِي أ َ ْموا ِل النه ِ‬
‫ّللاُ الهذِي َخلَقَ ُك ْم ث ُ هم َر َزقَ ُك ْم ث ُ هم يُ ِميت ُ ُك ْم ث ُ هم يُحْ ِيي ُك ْم‬‫ون ( ‪ ) 39‬ه‬ ‫ض ِعفُ َ‬ ‫ّللا فَأُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْ‬ ‫ُون َوجْ هَ ه ِ‬ ‫ت ُ ِريد َ‬
‫ُون ) ‪( 40‬‬ ‫ع هما يُش ِْرك َ‬ ‫س ْبحانَهُ َوتَعالى َ‬ ‫ش ْي ٍء ُ‬ ‫َه ْل ِم ْن ش َُركا ِئ ُك ْم َم ْن يَ ْفعَ ُل ِم ْن ذ ِل ُك ْم ِم ْن َ‬
‫ض الهذِي ع َِملُوا لَعَله ُه ْم‬ ‫اس ِليُذِيقَ ُه ْم بَ ْع َ‬ ‫سبَتْ أ َ ْيدِي النه ِ‬ ‫َظ َه َر ا ْلفَسا ُد فِي ا ْلبَ ِ ّر َوا ْلبَحْ ِر بِما َك َ‬
‫ون ( ‪) 41‬‬ ‫يَ ْر ِجعُ َ‬

‫ص ‪354‬‬

‫‪354‬‬
‫ظ َه َر ْالفَسا ُد ِفي ْالبَ ِ هر " من خسف وغير ذلك وقحط ووباء وقتل وأسر « َو ْالبَ ْح ِر »وكذلك في‬ ‫" َ‬
‫اس »أي بما‬ ‫ت أ َ ْيدِي النَّ ِ‬
‫سبَ ْ‬
‫البحر مثل هذا مع غرق وتجرع غصص لزعزع ريح متلفة" ِبما َك َ‬
‫عملوا " لنذيقهم بعض الذي عملوا » وهو عين الجزاء وهو في الدنيا ‪ ،‬فيوم الدنيا أيضا هو‬
‫يوم الدين أي الجزاء ‪ ،‬لما فيه من إقامة الحدود‬
‫لذلك قال تعالى ‪ « :‬لنذيقهم بعض الذي عملوا » وهو عين الجزاء ‪ ،‬وهو أحسن في حق العبد‬
‫المذنب من جزاء اآلخرة ‪ ،‬ألن جزاء الدنيا مذ هكر وهو يوم عمل ‪ ،‬واآلخرة ليست كذلك ‪،‬‬
‫ولهذا قال في الدنيا " لَعَلَّ ُه ْم يَ ْر ِجعُونَ " يعني إلى ه‬
‫ّللا بالتوبة ‪،‬‬
‫فيوم الجزاء أيضا يوم الدنيا كما هو يوم اآلخرة ‪ ،‬وهو في الدنيا أنفع ‪ ،‬فما ابتليت البرية وهي‬
‫برية ‪ ،‬إنما هو جزاء ‪ ،‬ما هو ابتداء ‪.‬‬

‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬اآليات ‪ 42‬إلى ‪]47‬‬


‫ين ( ‪) 42‬‬ ‫كان أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ُمش ِْر ِك َ‬
‫ِين ِم ْن قَ ْب ُل َ‬ ‫كان عاقِبَةُ الهذ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ظ ُروا َك ْي َ‬ ‫ض فَا ْن ُ‬ ‫يروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫قُ ْل ِ‬
‫ُون ( ‪َ ) 43‬م ْن‬ ‫ص هدع َ‬ ‫ي يَ ْو ٌم ال َم َر هد لَهُ ِم َن ه ِ‬
‫ّللا يَ ْو َم ِئ ٍذ يَ ه‬ ‫ِين ا ْلقَ ِيّ ِم ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن يَأ ْ ِت َ‬
‫فَأ َ ِق ْم َوجْ َهكَ ِلل ّد ِ‬
‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا‬‫ي الهذ َ‬ ‫ُون ) ‪ِ ( 44‬ليَجْ ِز َ‬ ‫س ِه ْم يَ ْم َهد َ‬ ‫َكفَ َر فَعَلَ ْي ِه ُك ْف ُرهُ َو َم ْن ع َِم َل صا ِلحا فَ َِل َ ْنفُ ِ‬
‫ت‬
‫شرا ٍ‬ ‫ح ُمبَ ِ ّ‬‫الريا َ‬
‫س َل ِ ّ‬ ‫ين ( ‪َ ) 45‬و ِم ْن آياتِ ِه أ َ ْن يُ ْر ِ‬ ‫ب ا ْلكافِ ِر َ‬ ‫ض ِل ِه إِنههُ ال يُ ِح ُّ‬ ‫ت ِم ْن فَ ْ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ال ه‬
‫ون ) ‪( 46‬‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫ي ا ْلفُ ْلكُ ِبأ َ ْم ِر ِه َو ِلت َ ْبتَغُوا ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ِه َولَعَله ُك ْم ت َ ْ‬ ‫َو ِليُذِيقَ ُك ْم ِم ْن َرحْ َمتِ ِه َو ِلتَجْ ِر َ‬
‫كان َحقًّا‬‫ِين أَجْ َر ُموا َو َ‬ ‫ت فَا ْنتَقَ ْمنا ِم َن الهذ َ‬ ‫سال ِإلى قَ ْو ِم ِه ْم فَجا ُؤ ُه ْم ِبا ْلبَ ِيّنا ِ‬ ‫س ْلنا ِم ْن قَ ْب ِلكَ ُر ُ‬ ‫َولَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫ين) ‪( 47‬‬ ‫علَ ْينا نَص ُْر ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫َ‬

‫ص ‪355‬‬

‫‪355‬‬
‫ص ُر ْال ُمؤْ ِم ِنينَ » اآلية وكيف يظهر الكافرون على المؤمنين ؟ ]‬ ‫علَيْنا نَ ْ‬ ‫[ " َوكانَ َحقًّا َ‬
‫ص ُر ْال ُمؤْ ِم ِنينَ »لم يقيد الحق مؤمنا من مؤمن ‪ ،‬بل أوجب على نفسه نصر‬ ‫علَيْنا نَ ْ‬‫" َوكانَ َحقًّا َ‬
‫ّللا نوعان‬ ‫المؤمنين ‪ ،‬ولم يقل بمن ‪ ،‬بل أرسلها مطلقة وجالها محققة ‪ ،‬فالمؤمنون في كالم ه‬
‫باّلل وكفر بالطاغوت وهو الباطل فهم أهل الجنة المعبر عنهم‬ ‫وهم الكافرون ‪ ،‬فنوع آمن ه‬
‫باّلل وهو الحق فهم أهل النار المعبر عنهم‬ ‫بالسعداء ‪ ،‬والنوع اآلخر آمن بالباطل وكفر ه‬
‫باألشقياء ‪،‬‬
‫س َك ِب ْالعُ ْر َو ِة ْال ُوثْقى‬ ‫ت َويُؤْ ِم ْن ِب َّ ِ‬
‫اّلل فَقَ ِد ا ْست َ ْم َ‬ ‫الطا ُ‬
‫غو ِ‬ ‫عز وجل في حق السعداء( فَ َم ْن يَ ْكفُ ْر ِب َّ‬ ‫فقال ه‬
‫ّللا نصرهم ‪ ،‬واأللف والالم للعهد والتعريف ‪ ،‬وقال تعالى في‬ ‫) وهؤالء هم الذين حق على ه‬
‫اّلل أُولئِ َك ُه ُم ْالخا ِس ُرونَ )‬‫باط ِل َو َكفَ ُروا بِ َّ ِ‬ ‫حق األشقياء ( َوالَّذِينَ آ َمنُوا بِ ْال ِ‬
‫فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ‪ ،‬ولكن قد أطلق الحق نصرته هنا للمؤمنين ولم‬
‫ّللا تعالى في ظهور المشركين على المؤمنين في أوقات ‪،‬‬ ‫يخصص ‪ ،‬وهنا سر من أسرار ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فما ورد حتى نؤمن به ‪ ،‬إال أن اإليمان إذا قوي في صاحبه بما‬ ‫فتدبره تعثر عليه إن شاء ه‬
‫كان ‪ ،‬فله النصر على األضعف ‪ ،‬والميزان يخرج ذلك ‪ ،‬وقولي هذا ما كان لقوله( َوالَّذِينَ‬
‫باط ِل )فسماهم مؤمنين ‪ ،‬ولكن تحقق في إيمانهم بالباطل أنهم ما آمنوا به من كونه‬ ‫آ َمنُوا بِ ْال ِ‬
‫باطال ‪ ،‬وإنما من كونهم اعتقدوا فيه ما اعتقد أهل الحق في الحق ‪ ،‬فمن هنا نسب اإليمان إليهم‬
‫‪ ،‬وبما هو في نفس األمر على غير ما اعتقدوه سماه الحق لنا باطال ‪ ،‬ال من حيث ما توهموه ‪،‬‬
‫ي‬
‫فالنصر أجر اإليمان لذاته ‪ ،‬ولكن يقتضيه المؤمن وهو الذي صفته اإليمان ‪ ،‬وهو سبحانه وف ه‬
‫‪ ،‬فال بد من نصر اإليمان ‪ ،‬وال يظهر ذلك إال في المؤمن ‪ ،‬والمؤمن ال يتبعض فيه اإليمان ‪،‬‬
‫فاعلم ذلك ‪ ،‬وكل من تبعض فيه اإليمان ألجل تعداد األمور التي يؤمن بها ‪ ،‬فآمن المؤمن‬
‫ببعضها وكفر ببعضها فليس بمؤمن ‪ ،‬فما خذل إال من ليس بمؤمن ‪ ،‬فإن اإليمان حكمه أن يعم‬
‫ّللا ‪ ،‬فإذا ظهر الكافر‬ ‫وال يخص ‪ ،‬فلما لم يكن له وجود عين في الشخص لم يجب نصره على ه‬
‫على المؤمن في صورة الحكم الظاهر ‪ ،‬فليس ذلك بنصر الكافر عليه ‪ ،‬وإنما الذي يقابله لما‬
‫ولهى ‪ ،‬وأخلى له موضعه ‪ ،‬ظهر فيه الكافر ‪ ،‬وهذا ليس بنصر ‪ ،‬وإذا جعلت األلف والالم في‬
‫نصر المؤمنين للجنس ‪ ،‬فمن اتصف باإليمان فهو منصور ‪ ،‬ومن هنا يظهر المؤمنون بالباطل‬
‫في أوقات على الكافرين بالطاغوت ‪ ،‬فيجعلون ذلك الظهور نصرا ‪ ،‬ألن النصر عبارة ع همن‬
‫ظهر على خصمه ‪ ،‬فمن جعل األلف والالم للجنس جعل إيمان أهل الباطل بالباطل أقوى من‬
‫إيمان أهل الحق بالحق ‪ ،‬فالمؤمن من ال يولي الدبر ويتقدم ويثبت حتى يظفر أو يقتل ‪ ،‬ولهذا‬
‫ما‬

‫ص ‪356‬‬

‫‪356‬‬
‫ّللا المؤمن إذا ولهى دبره في القتال لغير قتال أو‬ ‫انهزم نبي قط لقوة إيمانه بالحق ‪ ،‬وقد توعد ه‬
‫انحياز إلى فئة تعضده ‪،‬‬
‫بار ‪َ ،‬و َم ْن يُ َو ِله ِه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ‬ ‫فقال ‪ (:‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا إِذا لَ ِقيت ُ ُم الَّذِينَ َكفَ ُروا زَ ْحفا ً فَال ت ُ َولُّو ُه ُم ْاأل َ ْد َ‬
‫ّللا ) فخاطب أهل اإليمان ‪،‬‬ ‫ب ِمنَ َّ ِ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ُدبُ َرهُ ِإ َّال ُمت َ َح ِ هرفا ً ِل ِقتا ٍل أ َ ْو ُمت َ َح ِيهزا ً ِإلى فِئ َ ٍة فَقَ ْد با َء بِغَ َ‬
‫وبقرائن األحوال علمنا أنه تعالى أراد المؤمنين بالحق ‪ ،‬وأرسل اآلية في اللفظ دون تقييد بمن‬
‫وقع اإليمان به ‪ ،‬لكن قرائن األحوال تخصص وتعطي العلم المقصود من ذلك ‪،‬‬
‫غير أن الحق ما أرسلها مطلقة إال ليقيم الحجة على الذين آمنوا بالباطل إذا هزمهم الكافرون‬
‫بالطاغوت لما دخلهم من خلل في إيمانهم بالباطل ‪،‬‬
‫وهو عندنا ليس بنصر ذلك الظهور الذي للمؤمنين بالباطل على الكافرين بالطاغوت ‪،‬‬
‫وإنما المؤمنون بالحق لما تراءى الجمعان ‪ ،‬كان في إيمانهم خلل ‪ ،‬فأثر فيه الجبن الطبيعي ‪،‬‬
‫فزلزل أقدامهم فانهزموا في حال حجاب عن إيمانهم بالحق ‪،‬‬
‫وال شك أن الخصم إذا رأى خصمه انهزم أمامه وفر وأخلى له مكانه ‪ ،‬ال بد أن يظهر عليه‬
‫ّللا لهم ‪ ،‬فما انتصروا على المؤمنين بالحق وإنما‬ ‫ويتبعه ‪ ،‬فإن شئت سميت ذلك نصرا من ه‬
‫انتصروا على وجه الخلل الذي دخل في إيمانهم واستتر عنهم بالخوف الطبيعي ‪ ،‬فكانوا كفارا‬
‫من ذلك الوجه ‪،‬‬
‫فكان نصرهم نصر الكفار بعضهم على بعض وهم المؤمنون بالباطل ‪ ،‬ألن هؤالء المؤمنين‬
‫بالحق آمنوا بما خوفهم به الطبع من القتل وهو باطل ‪ ،‬فآمنوا بالباطل لخوفهم من الموت ؛‬
‫ي يرزق ‪ ،‬فل هما آمنوا به أنه موت آمنوا بالباطل ‪ ،‬فهزم أهل الباطل‬ ‫والشهيد ليس بميت فإنه ح ه‬
‫أهل الباطل ‪ ،‬وهذا يسمى ظهورا ال نصرا ‪،‬‬
‫إال إذا جعلت األلف والالم للجنس فتشمل كل مؤمن بأمر ما من غير تعيين ‪ ،‬وليس المؤمن إال‬
‫من لم يدخل إيمانه بأمر ما خلل يقدح في إيمانه ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫ّللا في األرض ‪ ،‬ما قام بأحد وال اتصف به إال نصره ه‬ ‫ومن ذلك يعلم أن الصدق سيف ه‬
‫ّللا المؤمن الذي لم يدخله خلل في إيمانه على من‬ ‫ألن الصدق نعته والصادق اسمه ‪ ،‬فينصر ه‬
‫ّللا يخذله على قدر ما دخله من الخلل ‪ ،‬أي مؤمن كان من المؤمنين‬ ‫دخله خلل في إيمانه ‪ ،‬فإن ه‬
‫‪ ،‬فالمؤمن الكامل منصور أبدا ‪ ،‬ولهذا ما انهزم نبي قط وال ولي ‪ ،‬أال ترى يوم حنين لما‬
‫ّللا عند‬ ‫ّللا ‪ ،‬ثم رأوا كثرتهم فأعجبتهم كثرتهم فنسوا ه‬ ‫ّللا عنهم توحيد ه‬ ‫ادعت الصحابة رضي ه‬
‫ذلك فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا ‪ ،‬مع كون الصحابة مؤمنين بال شك ‪ ،‬ولكن دخلهم الخلل‬
‫ّللا‬
‫ّللا )فما أذن ه‬ ‫ت فِئَةً َكثِ َ‬
‫يرة ً ِبإِ ْذ ِن َّ ِ‬ ‫غلَبَ ْ‬
‫ّللا( َك ْم ِم ْن فِئ َ ٍة قَ ِليلَ ٍة َ‬
‫باعتمادهم على الكثرة ‪ ،‬ونسوا قول ه‬
‫هنا إال للغلبة ‪ ،‬فأوجدها‬

‫ص ‪357‬‬

‫‪357‬‬
‫ّللا إذا كانت الغلبة للكافرين‬ ‫ّللا ‪ ،‬ومن هنا نكون في راحة مع ه‬ ‫فغلبتهم الفئة القليلة بها عن إذن ه‬
‫على المسلمين ‪ ،‬فتعلم أن إيمانهم تزلزل ودخله الخلل ‪ ،‬وأن الكافرين فيما آمنوا به من الباطل‬
‫والمشركين لم يتخلخل إيمانهم وال تزلزلوا فيه ‪ ،‬فالنصر أخو الصدق حيث كان تبعه ‪ ،‬ولو‬
‫كان خالف هذا ما انهزم المسلمون قط ‪ ،‬كما أنه لم ينهزم نبي قط ‪ ،‬وأنت تشاهد غلبة الكفار‬
‫ونصرتهم في وقت ‪ ،‬وغلبة المسلمين ونصرتهم في وقت ‪ ،‬والصادق من الفريقين ال ينهزم‬
‫جملة واحدة ‪ ،‬بل ال يزال ثابتا حتى يقتل أو ينصرف من غير هزيمة ‪ ،‬ومن تفسير هذه اآلية‬
‫بوجه عام أن الموحد إذا أخلص في إيمانه وثبت نصر على قرنه بال شك ‪ ،‬فإذا طرأ عليه خلل‬
‫ولم يكن مصمت اإليمان وتزلزل خذله الحق ‪ ،‬وما وجد في نفسه قوة يقف بها لعدوه من أجل‬
‫ذلك الخلل فانهزم ‪ ،‬فلما رآه عدوه منهزما تبعه وظهرت الغلبة للعدو على المؤمن ‪ ،‬فما نصر‬
‫ّللا العدو وإنما خذل المؤمن لذلك الخلل الذي داخله ‪ ،‬فلما خذله لم يجد مؤيدا فانهزم بالضرورة‬ ‫ه‬
‫يتبعه عدوه ‪ ،‬فما هو نصر للعدو وإنما هو خذالن للمؤمن لما ذكرناه ‪ .‬وأما من جهة التحقيق‬
‫في هذه اآلية فإنه لما تقرر في نفس المشرك أن الحجر أو الكوكب أو ما كان من المخلوقات‬
‫أنه إله ‪ ،‬وهو مقام محترم لذاته ‪ ،‬تعيهن على المشرك احترام ذلك المنسوب إليه ‪ ،‬لكون‬
‫المشرك يعتقد أن تلك النسبة إليه صحيحة ولها وجه ‪ ،‬ولما علم سبحانه أن المشرك ما احترم‬
‫ذلك المخلوق إال لكونه إلها في زعمه ‪ ،‬نظر الحق إليه ألنه مطلوبه ‪ ،‬فإذا وفهى بما يجب لتلك‬
‫النسبة من الحق والحرمة ‪ ،‬وكان أشد احتراما لها من الموحد ‪ ،‬وتراءى الجمعان كانت الغلبة‬
‫للمشرك على الموحد ‪ ،‬إذ كان معه النصر اإللهي لقيامه بما يجب عليه من االحترام هّلل وإن‬
‫أخطأ النسبة ‪ ،‬وقامت الغفلة والتفريط في حق الموحد فخذل ‪ ،‬ولم تتعلق به الوالية ألنه غير‬
‫ي الَّذِينَ آ َمنُوا )وإنما قاتل ليقال ‪ ،‬فما قاتل هّلل ‪ ،‬فأي‬ ‫ّللاُ َو ِل ُّ‬
‫مشاهد إليمانه ‪ ،‬إذ يقول تعالى ‪َّ (:‬‬
‫شخص صدق في احترام األلوهية واستحضرها وإن أخطأ في نسبتها ولكن هي مشهوده كان‬
‫ّللا نصره واجبا عليه للموحد ‪ ،‬وإنما جعله للمؤمنين بما ينبغي‬ ‫النصر اإللهي معه ‪ ،‬فما جعل ه‬
‫لأللوهية من الحرمة ووفهى بها ‪ ،‬فالمؤمن منصور بال شك غير مخذول ‪ ،‬فمن خذل فلينظر من‬
‫ص ُر ْال ُمؤْ ِمنِينَ‬ ‫أين خذل ‪ ،‬فسيعدم من ذلك األين اإليمان فإن قوله تعالى ‪َ «:‬وكانَ َحقًّا َ‬
‫علَيْنا نَ ْ‬
‫»قول صدق‪.‬‬

‫ص ‪358‬‬

‫‪358‬‬
‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬اآليات ‪ 48‬إلى ‪] 54‬‬
‫سفا فَت َ َرى ا ْل َو ْد َ‬
‫ق‬ ‫ف يَشا ُء َويَجْ عَلُهُ ِك َ‬ ‫ماء َك ْي َ‬‫س ِ‬ ‫طهُ ِفي ال ه‬ ‫س ُ‬‫سحابا فَيَ ْب ُ‬ ‫ير َ‬ ‫ح فَت ُ ِث ُ‬ ‫الريا َ‬
‫س ُل ِ ّ‬ ‫ّللاُ الهذِي يُ ْر ِ‬ ‫ه‬
‫ون ( ‪َ ) 48‬وإِ ْن كانُوا ِم ْن‬ ‫ش ُر َ‬ ‫صاب بِ ِه َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه إِذا ُه ْم يَ ْ‬
‫ست َ ْب ِ‬ ‫ج ِم ْن ِخال ِل ِه فَ ِإذا أ َ َ‬ ‫يَ ْخ ُر ُ‬
‫ض‬‫ف يُحْ ي ِ ْاأل َ ْر َ‬ ‫ّللا َك ْي َ‬
‫ت هِ‬ ‫آثار َرحْ َم ِ‬ ‫ظ ْر إِلى ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 49‬فَا ْن ُ‬ ‫س َ‬ ‫قَ ْب ِل أ َ ْن يُنَ هز َل َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِم ْن قَ ْب ِل ِه لَ ُم ْب ِل ِ‬
‫س ْلنا ِريحا فَ َرأ َ ْوهُ‬ ‫ِير ( ‪َ ) 50‬ولَئِ ْن أ َ ْر َ‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫بَ ْع َد َم ْوتِها ِإ هن ذ ِلكَ لَ ُمحْ ي ِ ا ْل َم ْوتى َو ُه َو عَلى ُك ِ ّل َ‬
‫ص هم الدُّعا َء ِإذا َوله ْوا‬ ‫س ِم ُع ال ُّ‬ ‫س ِم ُع ا ْل َم ْوتى َوال ت ُ ْ‬ ‫ون ( ‪ ) 51‬فَ ِإنهكَ ال ت ُ ْ‬ ‫صفَ ًّرا لَ َظلُّوا ِم ْن بَ ْع ِد ِه يَ ْكفُ ُر َ‬ ‫ُم ْ‬
‫س ِم ُع ِإاله َم ْن يُ ْؤ ِم ُن ِبآيا ِتنا فَ ُه ْم‬ ‫ضاللَ ِت ِه ْم ِإ ْن ت ُ ْ‬ ‫ين ) ‪َ ( 52‬وما أ َ ْنتَ ِبها ِد ا ْلعُ ْمي ِ ع َْن َ‬ ‫ُم ْد ِب ِر َ‬
‫ف قُ هوة ث ُ هم َجعَ َل ِم ْن بَ ْع ِد قُ هو ٍة‬ ‫ض ْع ٍ‬‫ف ث ُ هم َجعَ َل ِم ْن بَ ْع ِد َ‬ ‫ض ْع ٍ‬‫ّللاُ الهذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن َ‬ ‫ون ( ‪ ) 53‬ه‬ ‫س ِل ُم َ‬ ‫ُم ْ‬
‫ِير ( ‪) 54‬‬ ‫ق ما يَشا ُء َو ُه َو ا ْلعَ ِلي ُم ا ْلقَد ُ‬ ‫ش ْيبَة يَ ْخلُ ُ‬‫ض ْعفا َو َ‬ ‫َ‬
‫ض ْعفٍ ‪ » . . .‬اآلية ]‬ ‫ّللاُ الَّذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن َ‬ ‫[ نصيحة وإشارة ‪َّ « :‬‬
‫»فاّلل تعالى خلقنا من ضعف وما خلقنا إال عليه ‪ ،‬فما أنشأ العالم‬ ‫ه‬ ‫ض ْعفٍ‬ ‫ّللاُ الَّذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن َ‬ ‫" َّ‬
‫إال منه وعليه ‪ ،‬فخلق اإلنسان فقيرا إلى ربه ‪ ،‬مسكينا ظاهر الضعف والحاجة بلسان الحال‬
‫والمقال ‪ ،‬وهكذا الطفل عند والدته ال يقدر على القيام ‪ ،‬فهو طريح قريب إلى أصله وهو‬
‫األرض ‪ ،‬وكذا المريض الذي ال يقدر على القيام والقعود ‪ ،‬ويبقى طريحا لضعفه وهو رجوعه‬
‫إلى أصله ‪ ،‬فالضعف أصل اإلنسان لكونه ممكنا ‪ ،‬والممكن ال يستطيع أن يدفع عن نفسه‬
‫ض ْعفٍ قُ َّوة ً‬ ‫ّللا له قوة عارضة وهو قوله ‪ «:‬ث ُ َّم َجعَ َل ِم ْن بَ ْع ِد َ‬ ‫الترجيح على كل حال ‪ ،‬ثم جعل ه‬
‫»لما نقلنا من حال الطفولة إلى حال الشباب والتكليف ‪ ،‬فهي قوة الشباب ‪ ،‬وذلك حال الفتوة‬
‫وفيها يسمى فتى ‪ ،‬وما قرن معها شيئا من الضعف ‪ ،‬فإن الفتوة ليس فيها شيء من الضعف ‪،‬‬
‫إذ هي حالة بين الطفولة والكهولة ‪ ،‬وهو عمر اإلنسان من زمان بلوغه إلى تمام األربعين من‬
‫والدته ‪ ،‬إال أنه مع هذه القوة ال يستقل ‪ ،‬فأمر بطلب المعونة ‪،‬‬

‫ص ‪359‬‬

‫‪359‬‬
‫ّللا تعالى اإلنسان إلى أصله من الضعف ‪ ،‬فإن القوة هّلل جميعا ‪ ،‬والعبد موطنه الضعف‬ ‫ثم ر هد ه‬
‫والعبودية ‪ ،‬والضعف مرتبته ‪ ،‬فإنه خلق من ضعف ابتداء ‪ ،‬ور هد إلى الضعف انتهاء ‪ ،‬فقال‬
‫ض ْعفا ً »‬‫عز وجل ‪ «:‬ث ُ َّم َجعَ َل ِم ْن بَ ْع ِد قُ َّوةٍ »قوة الشباب« َ‬ ‫ه‬
‫ش ْيبَةً »يعني وقارا أي سكونا لضعفه عن الحركة ‪ ،‬فإن‬ ‫يعني ضعف الكهولة إلى آخر العمر« َو َ‬
‫الوقار من الوقر وهو الثقل ‪ ،‬فقرن مع هذا الضعف الثاني الشيبة التي هي الوقار ‪ ،‬فإن الطفل‬
‫وإن كان ضعيفا فإنه متحرك جدا ‪،‬‬
‫روي أن إبراهيم عليه السالم لما رأى الشيب قال ‪ :‬يا رب ما هذا ؟ قال ‪:‬‬
‫الوقار ‪ ،‬قال ‪ :‬اللهم زدني وقارا ؛ فالضعف هو أول العالم وآخره ‪ ،‬فإنا ما وجدنا للقوة ذكرا‬
‫في األول وال في اآلخر ‪ ،‬بل جاءت في الوسط وهي محل الدعوى الواقعة في اإلنسان ‪ ،‬وإذا‬
‫نظرنا في معنى هذا الضعف الذي خلقنا منه لوجدناه عدم االستقالل باإليجاد ‪ ،‬فشرع لنا‬
‫االستعانة به في االقتدار ‪ ،‬ثم جعل لنا قوة غير مستقلة ‪ ،‬فإنه لوال أن للمكلف نسبة وأثرا في‬
‫العمل ما صح التكليف وال صح طلب المعونة من ذي القوة المتين ‪ ،‬فهو وإن خلقنا من ضعف‬
‫فإنه جعل فينا قوة لوالها ما كلفنا بالعمل والترك ‪ ،‬ألن الترك منع النفس من التصرف في‬
‫هواها ‪ ،‬وبهذا عمت القوة العمل والترك ‪ ،‬وقرن الشيب بالضعف الذي رجعنا إليه ‪ ،‬ليرينا‬
‫بذلك الشيب وهو نور أن ذلك الضعف ما هو ضعف ثان من أجل ما ن هكره ‪ ،‬فهو رجع إلى‬
‫الضعف األول ‪ ،‬فكان الضعف الثاني رجوعا إلى األصل ‪ ،‬فسمي هرما ‪ ،‬والشيب للشيخوخة ‪،‬‬
‫ّللا إلقامة النشأة اآلخرة عليه كما قامت النشأة الدنيا على‬ ‫وهذا الضعف األخير إنما أعده ه‬
‫الضعف ‪ ،‬وإنما كان هذا ليالزم اإلنسان ذاته الذلة واالفتقار وطلب المعونة والحاجة إلى خالقه‬
‫‪ ،‬ومع هذا كله يذهل عن أصله ويتيه بما يعرض له من القوة ‪ ،‬فإذا استوى قائما وبعد عن‬
‫ّللا في‬
‫أصله ( وهو األرض ) تفر عن وتجبهر وادعى القوة ‪ ،‬وقال ‪ :‬أنا ؛ فالرجل من كان مع ه‬
‫حال قيامه وصحته ‪ ،‬كحاله في اضطجاعه من المرض والضعف وهو عزيز‬
‫‪ -‬نصيحة ‪ -‬االعتناء بالصغير رحمة به لضعفه ‪ ،‬فإذا كبر وكل إلى نفسه ‪ ،‬فإن بقي في كبره‬
‫على أصله من الضعف صحبته الرحمة ‪ ،‬وإن تكبر عن أصله وادعى القوة المجعولة فيه بعد‬
‫ّللا في كبره برد الضعف إليه ‪ ،‬فاستقذره وليه وتمنى مفارقته ‪ ،‬وفي ضعف‬ ‫ضعفه أضاعه ه‬
‫صغره كان يشتهي حياته ويرغب في تقبيله وال يستقذره‬
‫ض ْعفٍ قُ َّوة ً »هذا حال وقت نظرك إن‬‫ض ْعفٍ ث ُ َّم َجعَ َل ِم ْن بَ ْع ِد َ‬ ‫ّللاُ الَّذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن َ‬‫‪ -‬إشارة ‪َّ «-‬‬
‫ش ْيبَةً »فنكصت على عقبك ‪ ،‬فانظر كيف تكون ؟‪.‬‬ ‫نظرت« ث ُ َّم َجعَ َل ِم ْن بَ ْع ِد قُ َّوةٍ َ‬
‫ض ْعفا ً َو َ‬

‫ص ‪360‬‬

‫‪360‬‬
‫[ سورة الروم ( ‪ : ) 30‬اآليات ‪ 55‬إلى ‪] 60‬‬
‫ُون ( ‪َ ) 55‬وقا َل‬ ‫ع ٍة كَذ ِلكَ كانُوا يُ ْؤفَك َ‬ ‫غ ْي َر سا َ‬ ‫ون ما لَ ِبثُوا َ‬ ‫ساعَةُ يُ ْق ِ‬
‫س ُم ا ْل ُمجْ ِر ُم َ‬ ‫َويَ ْو َم تَقُو ُم ال ه‬
‫ث َول ِكنه ُك ْم ُك ْنت ُ ْم‬ ‫ث فَهذا يَ ْو ُم ا ْلبَ ْع ِ‬‫ّللا إِلى يَ ْو ِم ا ْلبَ ْع ِ‬‫ب هِ‬ ‫يمان لَقَ ْد لَبِثْت ُ ْم فِي ِكتا ِ‬‫اْل َ‬ ‫ِين أُوتُوا ا ْل ِع ْل َم َو ْ ِ‬
‫الهذ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 57‬ولَقَ ْد‬ ‫ِين َظلَ ُموا َم ْعذ َِرت ُ ُه ْم َوال ُه ْم يُ ْ‬
‫ست َ ْعتَبُ َ‬ ‫ون ) ‪ ( 56‬فَيَ ْو َمئِ ٍذ ال يَ ْنفَ ُع الهذ َ‬ ‫ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ِين َكفَ ُروا ِإ ْن أ َ ْنت ُ ْم ِإاله‬ ‫اس فِي هذَا ا ْلقُ ْر ِ‬
‫آن ِم ْن ُك ِ ّل َمث َ ٍل َولَئِ ْن ِجئْت َ ُه ْم ِبآيَ ٍة لَيَقُولَ هن الهذ َ‬ ‫ض َر ْبنا ِللنه ِ‬
‫َ‬
‫ون ) ‪( 59‬‬ ‫ِين ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ب الهذ َ‬ ‫ّللاُ عَلى قُلُو ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 58‬كَذ ِلكَ يَ ْطبَ ُع ه‬ ‫ُم ْب ِطلُ َ‬
‫ون ( ‪) 60‬‬ ‫ِين ال يُو ِقنُ َ‬ ‫ست َ ِخفهنهكَ الهذ َ‬ ‫ق َوال يَ ْ‬ ‫ّللا َح ٌّ‬‫ص ِب ْر ِإ هن َو ْع َد ه ِ‬ ‫فَا ْ‬

‫( ‪ ) 31‬سورة لقمان مكيّة‬


‫الرحيم‬ ‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 10‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫ِب ْ‬
‫ين ( ‪) 3‬‬ ‫س ِن َ‬‫يم ( ‪ُ ) 2‬هدى َو َرحْ َمة ِل ْل ُمحْ ِ‬ ‫ب ا ْل َح ِك ِ‬
‫ألم ( ‪ِ ) 1‬ت ْلكَ آياتُ ا ْل ِكتا ِ‬
‫ون ) ‪( 4‬‬ ‫الزكاةَ َو ُه ْم بِ ْاآل ِخ َر ِة ُه ْم يُوقِنُ َ‬ ‫ون ه‬ ‫صالةَ َويُ ْؤت ُ َ‬ ‫ون ال ه‬ ‫الهذ َ‬
‫ِين يُ ِقي ُم َ‬
‫شت َ ِري لَه َْو ا ْل َحدِي ِ‬
‫ث‬ ‫اس َم ْن يَ ْ‬ ‫ون ) ‪َ ( 5‬و ِم َن النه ِ‬ ‫أُولئِكَ عَلى ُهدى ِم ْن َر ِبّ ِه ْم َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬
‫علَ ْي ِه‬
‫ين ( ‪َ ) 6‬و ِإذا تُتْلى َ‬ ‫ّللا ِبغَ ْي ِر ِع ْل ٍم َويَت ه ِخذَها ُه ُزوا أُولئِكَ لَ ُه ْم ع ٌ‬
‫َذاب ُم ِه ٌ‬ ‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫ِليُ ِض هل ع َْن َ‬
‫يم ( ‪) 7‬‬ ‫ب أ َ ِل ٍ‬
‫ش ْرهُ ِبعَذا ٍ‬‫س َم ْعها كَأ َ هن فِي أُذُنَ ْي ِه َو ْقرا فَبَ ِ ّ‬ ‫ست َ ْك ِبرا كَأ َ ْن لَ ْم يَ ْ‬
‫آياتُنا َولهى ُم ْ‬
‫" َكأ َ َّن فِي أُذُنَ ْي ِه َو ْقرا ً " وهو ثقل األسباب الدنيوية التي تصرفه عن اآلخرة ‪.‬‬

‫ص ‪361‬‬

‫‪361‬‬
‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬اآليات ‪ 8‬إلى ‪] 10‬‬
‫ّللا َحقًّا َو ُه َو‬
‫ِين ِفيها َو ْع َد ه ِ‬ ‫يم ( ‪ ) 8‬خا ِلد َ‬ ‫ت لَ ُه ْم َجنهاتُ النه ِع ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ي أ َ ْن ت َ ِمي َد بِ ُك ْم‬
‫س َ‬‫ض َروا ِ‬ ‫ع َم ٍد ت َ َر ْونَها َوأ َ ْلقى فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ت بِغَ ْي ِر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫يز ا ْل َح ِكي ُم ( ‪َ ) 9‬خلَ َ‬ ‫ا ْلعَ ِز ُ‬
‫يم ( ‪) 10‬‬ ‫ماء ماء فَأ َ ْنبَتْنا فِيها ِم ْن ُك ِ ّل َز ْوجٍ ك َِر ٍ‬ ‫س ِ‬ ‫ث فِيها ِم ْن ُك ِ ّل دابه ٍة َوأ َ ْن َز ْلنا ِم َن ال ه‬ ‫َوبَ ه‬
‫ع َم ٍد ت َ َر ْونَها »اإلنسان قطب الفلك وهو العمد ‪ ،‬أال تراه إذا انتقل من‬ ‫ت ِبغَي ِْر َ‬‫سماوا ِ‬ ‫« َخلَقَ ال َّ‬
‫الدنيا خربت ‪ ،‬وزالت الجبال وانشقت السماء وانكدرت النجوم ‪ ،‬فاإلنسان هو العين المقصودة‬
‫‪ ،‬فهو مجموع الحكم ‪ ،‬ومن أجله خلقت الجنة والنار ‪ ،‬واآلخرة واألحوال كلها والكيفيات ‪،‬‬
‫وفيه ظهر مجموع األسماء اإللهية وآثارها ‪ ،‬وهو المكلف المختار ‪ ،‬وهو المجبور في اختياره‬
‫‪ ،‬وله يتجلى الحق بالحكم والقضاء والفصل ‪ ،‬وعليه مدار العالم كله ‪،‬‬
‫ومن أجله كانت القيامة ‪ ،‬وبه أخذ الجان ‪ ،‬وله سخر ما في السماوات واألرض ‪ ،‬ففي حاجته‬
‫ّللا‬
‫يتحرك العالم كله علوا وسفال دنيا وآخرة ‪ ،‬فاإلنسان الكامل عمد السماء الذي يمسك ه‬
‫بوجوده السماء أن تقع على األرض ‪ ،‬فإذا زال اإلنسان الكامل وانتقل إلى البرزخ هوت السماء‬
‫ي أ َ ْن ت َ ِمي َد ِب ُك ْم "‬‫ض َروا ِس َ‬ ‫وانشقت " َوأ َ ْلقى ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا بعضها إلى بعض ‪ ،‬فلما خلق‬ ‫ّللا األرض مثل الكرة أجزاء ترابية وحجرية ‪ ،‬وضم ه‬ ‫*خلق ه‬
‫ّللا السماء بسط األرض بعد ذلك ليستقر عليها من خلقت له مكانا ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ولذلك مادت ‪ ،‬فخلق سبحانه الجبال فقال بها عليها دفعة واحدة ‪ ،‬فكل ما تراه عاليا شامخا فيها‬
‫ّللا به ليسكن ميدها ‪.‬‬ ‫فهو جبل ووتد ‪ ،‬ثقهلها ه‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ ) : 31‬آية ‪] 11‬‬


‫ين ( ‪) 11‬‬ ‫ون فِي َ‬
‫ضال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫ِين ِم ْن دُونِ ِه بَ ِل ال ه‬
‫ظا ِل ُم َ‬ ‫ّللا فَأ َ ُرونِي ما ذا َخلَ َ‬
‫ق الهذ َ‬ ‫ق هِ‬ ‫هذا َخ ْل ُ‬
‫[ اإلنسان الكامل قطب الفلك وهو العمد ]‬
‫إن الخلق يراد به المخلوق في موضع مثل قوله ‪ «:‬هذا خ َْل ُق َّ ِ‬
‫ّللا »فإن الفعل قد يكون نفس‬
‫المفعول بالشيئية واألشياء ‪،‬‬
‫ّللا‪.‬‬
‫ّللا »أي مخلوق ه‬ ‫فقوله تعالى ‪ «:‬هذا خ َْل ُق َّ ِ‬

‫ص ‪362‬‬

‫‪362‬‬
‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬آية ‪] 12‬‬
‫ي‬
‫غ ِن ٌّ‬ ‫س ِه َو َم ْن َكفَ َر فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫شك ُْر فَ ِإنهما يَ ْ‬
‫شك ُُر ِلنَ ْف ِ‬ ‫ّلِل َو َم ْن يَ ْ‬
‫شك ُْر ِ ه ِ‬‫مان ا ْل ِح ْك َمةَ أ َ ِن ا ْ‬
‫َولَقَ ْد آت َ ْينا لُ ْق َ‬
‫َح ِمي ٌد ( ‪) 12‬‬
‫ّللا بعبده إذا أنزل كل حكمة في‬ ‫ّلل »وهنا تظهر عناية ه‬ ‫« َولَقَ ْد آتَيْنا لُ ْقمانَ ْال ِح ْك َمةَ أ َ ِن ا ْش ُك ْر ِ َّ ِ‬
‫موضعها ‪.‬‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬آية ‪] 13‬‬


‫ش ْركَ لَ ُ‬
‫ظ ْل ٌم ع َِظي ٌم ( ‪) 13‬‬ ‫ظهُ يا بُنَ ه‬
‫ي ال تُش ِْر ْك بِ ه ِ‬
‫اّلِل إِ هن ال ِ ّ‬ ‫َوإِ ْذ قا َل لُ ْق ُ‬
‫مان ال ْبنِ ِه َو ُه َو يَ ِع ُ‬
‫[ الشرك ظلم عظيم لمن اتهخذ إلها من غير دعوى منه ]‬
‫ّللا آتاه الحكمة ‪،‬‬
‫ّللا أوصى بها ابنه ‪ ،‬فإن ه‬ ‫لما علم لقمان أن الشرك ظلم عظيم للشريك مع ه‬
‫وتصغير لقمان اسم ابنه تصغير رحمة ‪ ،‬ولهذا وصاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك فقال« ال‬
‫ع ِظي ٌم »وما ظهر هذا الظلم العظيم من موجود إال من هذا النوع‬ ‫ظ ْل ٌم َ‬
‫ش ْر َك لَ ُ‬ ‫ت ُ ْش ِر ْك ِب َّ ِ‬
‫اّلل ِإ َّن ال ِ ه‬
‫اإلنساني ‪ ،‬فإنه تقع أمور كثيرة يعظم في النفوس قدرها بحيث ال تتسع النفس لغيرها ‪ ،‬وال‬
‫باّلل ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬إِ َّن‬
‫سيما في األمور الهائلة التي تؤثر الخوف في النفوس ‪ ،‬ومنها الشرك ه‬
‫ع ِظي ٌم »في نفس الموحد ‪ ،‬يشاهد عظمته في نفس المشرك ال في نفسه ‪ ،‬فيشاهده‬ ‫ظ ْل ٌم َ‬ ‫ش ْر َك لَ ُ‬
‫ال ِ ه‬
‫ّللا إلها آخر ‪ ،‬وهو الظلم العظيم الذي ظلموا‬ ‫ظلمة عظيمة ‪ ،‬والمشركون هم الذين يجعلون مع ه‬
‫ّللا في وحدانية األلوهية له ‪ ،‬وظلموا الشريك في‬ ‫ّللا ‪ ،‬فظلموا ه‬ ‫به هذا المقول عليه إنه إله مع ه‬
‫نسبة األلوهية إليه ‪ ،‬فاتخاذ الشريك من مظالم العباد ؛ فإن من اتهخذ إلها من غير دعوى منه ‪،‬‬
‫بل هو في نفسه عبد غير راض بما نسب إليه ‪ ،‬وعاجز عن إزالة ما ادهعي فيه ‪ ،‬فإنه مظلوم‬
‫ّللا له ال لنفسه ‪،‬‬
‫حيث سلب عنه هذا المدعي ما يستحقه ‪ ،‬وهو كونه عبدا ‪ ،‬فظلمه ‪ ،‬فينتصر ه‬
‫ّللا المشركين بظلم الشريك ال بظلمه في أحديته ‪ ،‬فإن الذي جعلوه شريكا يتبرأ منهم يوم‬ ‫فيأخذ ه‬
‫القيامة ‪ ،‬حيث تظهر الحقوق إلى أربابها المستحقين لها ‪.‬‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬آية ‪] 14‬‬


‫سان بِوا ِل َد ْي ِه َح َملَتْهُ أ ُ ُّمهُ َو ْهنا عَلى َو ْه ٍن َوفِصالُهُ فِي عا َم ْي ِن أ َ ِن ا ْ‬
‫شك ُْر ِلي‬ ‫اْل ْن َ‬ ‫ص ْينَا ْ ِ‬‫َو َو ه‬
‫ير) ‪( 14‬‬ ‫ي ا ْل َم ِص ُ‬
‫َو ِلوا ِل َد ْيكَ إِلَ ه‬

‫ص ‪363‬‬

‫‪363‬‬
‫ير » اآلية ‪ -‬األسباب ]‬ ‫ص ُ‬‫ي ْال َم ِ‬‫[ أ َ ِن ا ْش ُك ْر ِلي َو ِلوا ِل َدي َْك ِإلَ َّ‬
‫ش ْهرا ً ) على أقل ما يولد من‬ ‫" َو ِفصالُهُ ِفي عا َمي ِْن »وقال تعالى ‪َ (:‬و َح ْملُهُ َو ِفصالُهُ ثَالثُونَ َ‬
‫زمن الحمل ويعيش ‪ ،‬وهو ستة أشهر حمال وسنتان رضاعا على التمام ‪ ،‬وإن أتم الحمل‬
‫المعتاد في الغالب وهو تسعة أشهر ‪ ،‬كانت مدة الرضاع حولين إال ربع حول ‪ ،‬وهي إحدى‬
‫وعشرون شهرا« أ َ ِن ا ْش ُك ْر ِلي »من الوجه الخاص ‪ ،‬فقدم نفسه سبحانه ليعرفك أنه السبب‬
‫األول واألولى ‪ ،‬ثم عطف وقال« َو ِلوا ِل َدي َْك »وذلك في مقام إيجاد عين العبد ‪ ،‬حيث كان‬
‫إيجاده عند سبب اجتماع والديه بالنكاح وتعبهما في إيجاده ‪ ،‬فقال « َو ِلوا ِل َدي َْك »من الوجه‬
‫ّللا عندها لتنسبها إليه سبحانه ‪ ،‬ويكون لها عليك فضل‬ ‫السببي وهي األسباب التي أوجدك ه‬
‫التقدم بالوجود خاصة ‪ ،‬ال فضل التأثير ‪ ،‬ألنه في الحقيقة ال أثر لها وإن كانت أسبابا لوجود‬
‫اآلثار ‪ ،‬فبهذا القدر صح لها الفضل ‪ ،‬وطلب منك الشكر ‪ ،‬وشكرهما هو أن تنسبهما إلى‬
‫ش َّد ِذ ْكرا ً )في قوله( فَا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫ّللا ) *«‬ ‫مالكهما وموجدهما ‪ «،‬أ َ ِن ا ْش ُك ْر ِلي »هو قوله( أ َ ْو أ َ َ‬
‫ّللا حقيقة ‪ ،‬وشكر السبب عن أمر‬ ‫َو ِلوا ِل َدي َْك »هو قوله« َك ِذ ْك ِر ُك ْم آبا َء ُك ْم »ففي هذه اآلية شكر ه‬
‫ّللا من لم يشكر الناس ]‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬ال يشكر ه‬ ‫ّللا عبادة من حيث أمرهم بشكره قال صلهى ه‬ ‫ه‬
‫ّللا هو المعطي لم يشكر غيره إال بأمره ‪،‬‬ ‫فمن علم أن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولذلك قال بعد أن شرك« ِإلَ َّ‬
‫ي‬ ‫ير »فالعامل في الكل حقا وخلقا ه‬ ‫ص ُ‬ ‫ي ْال َم ِ‬‫ولذلك تمم فقال« ِإلَ َّ‬
‫شرك في الشكر ‪.‬‬ ‫ير »فوحد بعد أن ه‬ ‫ص ُ‬‫ْال َم ِ‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬آية ‪] 15‬‬


‫س لَكَ ِب ِه ِع ْل ٌم فَال ت ُ ِط ْع ُهما َو ِ‬
‫صاح ْب ُهما ِفي ال ُّد ْنيا َم ْع ُروفا‬ ‫َو ِإ ْن جاهَداكَ عَلى أ َ ْن تُش ِْركَ ِبي ما لَ ْي َ‬
‫ون ) ‪( 15‬‬ ‫ي َم ْر ِجعُ ُك ْم فَأُنَ ِبّئ ُ ُك ْم بِما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬ ‫ي ث ُ هم إِلَ ه‬ ‫سبِي َل َم ْن أ َ َ‬
‫ناب إِلَ ه‬ ‫َواتهبِ ْع َ‬
‫أمر اإلنسان باإلحسان ألبويه والبر بهما ‪ ،‬وامتثال أوامرهما ما لم يأمره أحد األبوين بمخالفة‬
‫ْس لَ َك ِب ِه ِع ْل ٌم‬
‫على أ َ ْن ت ُ ْش ِر َك ِبي ما لَي َ‬ ‫اك َ‬ ‫أمر الحق فال يطيعه ‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ «:‬و ِإ ْن جاهَد َ‬
‫ي »فأمر باتباع المنيبين إلى‬ ‫ناب ِإلَ َّ‬ ‫س ِبي َل َم ْن أ َ َ‬ ‫صاح ْب ُهما فِي ال ُّد ْنيا َم ْع ُروفا ً َوات َّ ِب ْع َ‬
‫فَال ت ُ ِط ْع ُهما َو ِ‬
‫ي َم ْر ِجعُ ُك ْم فَأُنَ ِبهئ ُ ُك ْم ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُونَ "‪.‬‬ ‫ّللا ومخالفة نفوسهم إن أبت ذلك " ِإلَ َّ‬ ‫ه‬

‫ص ‪364‬‬

‫‪364‬‬
‫[سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬آية ‪] 16‬‬
‫ض يَأ ْ ِ‬
‫ت‬ ‫ت أ َ ْو ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ص ْخ َر ٍة أ َ ْو ِفي ال ه‬ ‫ي ِإنهها ِإ ْن تَكُ ِمثْقا َل َحبه ٍة ِم ْن َخ ْر َد ٍل فَتَك ُْن ِفي َ‬ ‫يا بُنَ ه‬
‫ير ( ‪) 16‬‬ ‫يف َخبِ ٌ‬‫ّللا لَ ِط ٌ‬‫ّللاُ إِ هن ه َ‬
‫بِ َها ه‬
‫[ الرزق مضمون وهو لمن يأكله ال لمن يجمعه ‪ -‬تنبيه ]‬
‫ينبه الحق بهذه اآلية على أن الرزق مضمون ‪ ،‬ال بد أن يوصله للعبد ‪ ،‬فإن رزقه ورزق‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫عياله ال بد أن يأت به ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ] كما أنه لن تموت نفس حتى‬ ‫قال صلهى ه‬
‫يأتيها أجلها المسمى ‪ ،‬وسواء كان الرزق قليال أو كثيرا ‪،‬‬
‫ي إِنَّها إِ ْن ت َكُ ِمثْقا َل َحبَّ ٍة ِم ْن خ َْر َد ٍل »أي أينما كانت مثقال هذه الحبة‬ ‫فيقول لقمان البنه ‪ «:‬يا بُنَ َّ‬
‫ص ْخ َرةٍ »أي عند ذي قلب قاس ال شفقة له على خلق‬ ‫من الخردل لقلتها بل خفائها« فَت َ ُك ْن فِي َ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ه‬
‫ش ُّد قَس َْوة ً )‬ ‫ي َك ْال ِح َ‬
‫جار ِة أ َ ْو أ َ َ‬ ‫ت قُلُوبُ ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِل َك فَ ِه َ‬ ‫قال تعالى ‪ (:‬ث ُ َّم قَ َ‬
‫س ْ‬
‫روي في النبوة األولى أن هّلل تعالى تحت األرض صخرة صماء ‪ ،‬في جوف تلك الصخرة‬
‫ّللا قد جعل له فيها غذاء ‪،‬‬ ‫حيوان ال منفذ له في الصخرة ‪ ،‬وأن ه‬
‫ّللا ويقول ‪ :‬سبحان من ال ينساني على بعد مكاني ؛ يعني من الموضع الذي تأتي‬ ‫وهو يسبح ه‬
‫ّللا في سباحة الكواكب‬ ‫ت »بما أودع ه‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّللا« أ َ ْو فِي ال َّ‬
‫منه األرزاق ‪ ،‬ال على بعد مكانها من ه‬
‫في أفالكها من التأثيرات في األركان لخلق أرزاق العالم أو األمطار أيضا ‪ ،‬فإن السماء في‬
‫لسان العرب ‪ :‬المطر ‪ ،‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫ض »بما فيها من القبول‬ ‫إذا سقط السماء بأرض قوم ؛ يعني بالسماء هنا المطر« أ َ ْو ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫والتكوين لألرزاق ‪ ،‬فإنها محل ظهور األرزاق ‪ ،‬كذلك الكوكب يسبح في الفلك وعن سباحته‬
‫يكون ما يكون في األركان األمهات من األمور الموجبة للوالدة ‪ ،‬فأينما كان مثقال هذه الحبة«‬
‫ّللاُ »ولم يقل يأت إليها ‪ ،‬ومن هذا يستدل أن صاحب الرزق من يأكله ال من يجمعه ‪،‬‬ ‫ت ِب َها َّ‬ ‫يَأ ْ ِ‬
‫ّللا يأتي به ‪ ،‬فهو تعالى اآلتي برزقك إليك حيث كنت وكان رزقك ‪ ،‬فهو يعلم موضعك‬ ‫فإن ه‬
‫يف »أي هو أخفى أن يعلم ويوصل إليه ‪ -‬أي إلى العلم‬ ‫ّللا لَ ِط ٌ‬‫ومقرك ويعلم عين رزقك« ِإ َّن َّ َ‬
‫ير »للطفه بمكان من يطلب تلك الخردلة منه ‪ ،‬لما له من الحرص‬ ‫به ‪ -‬من حبة الخردل« َخبِ ٌ‬
‫على دفع ألم الفقر عنه ‪ ،‬فإن الحيوان ما يطلب الرزق إال لدفع اآلالم ال غير‬
‫‪ -‬تنبيه –‬
‫ّللا بهذا التعريف لتأتيه أنت بما كلفك أن تأتيه به ‪ ،‬فإنك ترجوه فيما تأتيه به وال يرجوك‬ ‫نبهنا ه‬
‫فيما أتاك به ‪ ،‬فإنه غني عن العالمين وأنت من الفقراء إليه ‪ ،‬فإتيانك إليه بما‬

‫ص ‪365‬‬

‫‪365‬‬
‫كلفك اإلتيان به آكد في حقك أن تأتي به ‪ ،‬الفتقارك وحاجتك لما يحصل لك من المنفعة بذلك ‪.‬‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬اآليات ‪ 17‬إلى ‪] 18‬‬


‫صبِ ْر عَلى ما أَصابَكَ إِ هن ذ ِلكَ ِم ْن ع َْز ِم‬ ‫صالةَ َوأْ ُم ْر بِا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫وف َوا ْنهَ ع َِن ا ْل ُم ْنك َِر َوا ْ‬ ‫ي أَقِ ِم ال ه‬
‫يا بُنَ ه‬
‫ب ُك هل ُم ْختا ٍل‬ ‫اس َوال ت َ ْم ِش فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َم َرحا ِإ هن ه َ‬
‫ّللا ال يُ ِح ُّ‬ ‫ص ِعّ ْر َخدهكَ ِللنه ِ‬‫ور ( ‪َ ) 17‬وال ت ُ َ‬ ‫ْاأل ُ ُم ِ‬
‫ور ) ‪( 18‬‬ ‫فَ ُخ ٍ‬
‫فإنه ال يظهر بهذه الصفة إال من هو جاهل ‪ ،‬فإنه ال يخلو أن يفتخر على مثله أو على ربه‬
‫وخالقه ‪ ،‬فإن افتخر على مثله فقد افتخر على نفسه ‪ ،‬والشيء ال يفتخر على نفسه ‪ ،‬ففخره‬
‫واختياله جهل ‪ ،‬ومحال أن يفتخر على خالقه ‪ ،‬ألنه ال بد أن يكون عارفا بخالقه أو غير عارف‬
‫بأن له خالقا ‪ ،‬فإن عرف وافتخر عليه فهو جاهل بما ينبغي أن يكون لخالقه من نعوت الكمال ‪،‬‬
‫ّللا إال لجهله ‪ ،‬فإن الجهل مذموم ‪.‬‬ ‫وإن لم يعرف كان جاهال ‪ ،‬فما أبغضه ه‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ ) : 31‬اآليات ‪ 19‬إلى ‪] 20‬‬


‫ير ( ‪ ) 19‬أ َ لَ ْم ت َ َر ْوا‬ ‫ص ْوتُ ا ْل َح ِم ِ‬‫ت لَ َ‬ ‫ص ْوتِكَ إِ هن أ َ ْنك ََر ْاألَصْوا ِ‬ ‫ُض ِم ْن َ‬‫شيِكَ َوا ْغض ْ‬ ‫اق ِص ْد فِي َم ْ‬ ‫َو ْ‬
‫باطنَة َو ِم َن‬ ‫علَ ْي ُك ْم نِعَ َمهُ ظا ِه َرة َو ِ‬
‫سبَ َغ َ‬ ‫ض َوأ َ ْ‬ ‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫س هخ َر لَ ُك ْم ما فِي ال ه‬ ‫ّللا َ‬‫أ َ هن ه َ‬
‫ير ( ‪) 20‬‬ ‫ب ُمنِ ٍ‬ ‫ّللا ِبغَ ْي ِر ِع ْل ٍم َوال ُهدى َوال ِكتا ٍ‬
‫اس َم ْن يُجا ِد ُل فِي ه ِ‬ ‫النه ِ‬
‫ت »من ملك وكوكب سابح في فلك ‪ ،‬فمن المالئكة‬ ‫سماوا ِ‬ ‫س َّخ َر لَ ُك ْم ما فِي ال َّ‬ ‫« أ َ لَ ْم ت َ َر ْوا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫الموكل بالوحي واإللقاء ‪ ،‬ومنهم الموكل باألرزاق ‪ ،‬ومنهم الموكل بقبض األرواح ‪ ،‬ومنهم‬
‫الموكل بإحياء الموتى ‪ ،‬ومنهم الموكل باالستغفار للمؤمنين والدعاء لهم ‪ ،‬ومنهم الموكلون‬
‫ض »وما بينهما من الخلق جميعا منه‬ ‫بالغراسات في الجنة جزاء ألعمال العباد ‪َ «،‬وما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َج ِميعا ً‬ ‫سماوا ِ‬ ‫س َّخ َر لَ ُك ْم ما فِي ال َّ‬‫‪ ،‬قال تعالى في سورة الجاثية ( َو َ‬

‫ص ‪366‬‬

‫‪366‬‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُرونَ ) ‪.‬‬
‫ِم ْنهُ ِإ َّن ِفي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫فأدخل الحق العالم كله أجمع تحت تسخير هذا اإلنسان األرفع ‪ ،‬فما من مأل أعلى إال به مستعل‬
‫‪ ،‬وما من مأل أدنى إال يتضرع إليك ويبتهل ‪ ،‬فهم بين مستغفر لك ومص هل عليك ‪ ،‬وملك سالم‬
‫يوصله من الحق تعالى إليك ‪ ،‬وإذا كان السيد الحق يصلي عليك فكيف بمالئكته ؟ وإذا كان‬
‫ناظرا إليك فما ظنك بخليقته ؟ وما من فاكهة ونعمة عند تناهيها إال متضرعة لك خاضعة أن‬
‫ّللا من المنافع فيها ‪ ،‬فما في الوجود كله حقيقة وال دقيقة إال ومنك إليها‬ ‫تؤدي لك ما أودع ه‬
‫ومنها إليك رقيقة ‪ ،‬فانظر أين مرتبتك في الوجود ؟ فالعالم كله على الحقيقة أيها اإلنسان تحت‬
‫ّللا لإلنسان ومن أجله وسخر له ‪،‬‬ ‫تسخيرك ‪ ،‬إذ سلم من نظرك وتدبيرك ‪ ،‬فإن كل شيء خلقه ه‬
‫ّللا من حاجته إليه ‪ ،‬فهو فقير إلى كل شيء ليس له غنى عنه ‪،‬‬ ‫لما علم ه‬
‫ّللا له العالم كله ‪ ،‬فما من حقيقة صورية في العالم األعلى واألسفل إال وهي‬ ‫ولذلك استخدم ه‬
‫ّللا إياه لتوصله إليه« َوأ َ ْسبَ َغ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم‬ ‫ناظرة إلى هذا اإلنسان نظر كمال ‪ ،‬أمينة على سر أودعها ه‬
‫ّللا عظيمة ظاهرة وباطنة ‪ ،‬فظاهرة ما شوهد منها ‪ ،‬وباطنة ما‬ ‫باطنَةً »كل نعم ه‬ ‫نِعَ َمهُ ظا ِه َرة ً َو ِ‬
‫ّللا وأهل النظر المستقيم مما‬ ‫علم ولم يشهد ‪ ،‬وظاهرة التعظيم عرفا وباطنة التعظيم عند أهل ه‬
‫ّللا به حيث‬ ‫ليس بعظيم في الظاهر ‪ ،‬فال أرى شيئا ليس عندي بعظيم ‪ ،‬ألني انظر بعين اعتناء ه‬
‫أبرزه في الوجود ‪ ،‬فأعطاه الخير ‪ ،‬فليس عندنا أمر محتقر ‪ ،‬فالكل نعمته ظاهرة وباطنة ‪ ،‬وقد‬
‫أسبغها على عباده ‪ ،‬وكم من نعمة هّلل أخفاها شدة ظهورها ‪ ،‬واستصحاب كرورها على المنعم‬
‫عليه ومرورها ‪ ،‬ومن النعم الباطنة المعارف والعلم به ‪.‬‬

‫[ سورة لقمان ‪ ( 31 ) :‬اآليات ‪ 21‬إلى ‪] 22‬‬


‫ان‬‫ش ْيط ُ‬ ‫علَ ْي ِه آبا َءنا أ َ َولَ ْو َ‬
‫كان ال ه‬ ‫ّللاُ قالُوا بَ ْل نَتهبِ ُع ما َو َجدْنا َ‬ ‫َوإِذا قِي َل لَ ُه ُم اتهبِعُوا ما أ َ ْن َز َل ه‬
‫سكَ‬ ‫س ٌن فَقَ ِد ا ْ‬
‫ست َ ْم َ‬ ‫س ِل ْم َوجْ َههُ إِلَى ه ِ‬
‫ّللا َو ُه َو ُمحْ ِ‬ ‫ير ( ‪َ ) 21‬و َم ْن يُ ْ‬ ‫س ِع ِ‬ ‫ب ال ه‬ ‫يَ ْدعُو ُه ْم إِلى عَذا ِ‬
‫ور ( ‪) 22‬‬ ‫ّللا عاقِبَةُ ْاأل ُ ُم ِ‬
‫ِبا ْلعُ ْر َو ِة ا ْل ُوثْقى َو ِإلَى ه ِ‬
‫« َو َم ْن يُ ْس ِل ْم »وهو اإلسالم واالنقياد الذاتي للعبد ‪ ،‬ألنه تعالى قال« َو ْج َههُ »ووجه الشيء‬
‫ّللا‬
‫ّللا قد عصم هذا االسم أن يسمى به غير ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬ألن ه‬ ‫ّللا »وجاء هنا باالسم ه‬ ‫حقيقته وذاته« ِإلَى َّ ِ‬
‫‪ ،‬فال يفهم منه عند التلفظ به وعند رؤيته مرقوما إال هوية الحق ال غير« َو ُه َو ُم ْح ِس ٌن »أي‬
‫فعل ذلك عن شهود منه ‪ ،‬ألن اإلحسان أن ترى ربك في عبادتك ‪،‬‬

‫ص ‪367‬‬

‫‪367‬‬
‫فإن العبادة ال تصح من غير شهود ‪ ،‬وإن صح العمل فالعمل غير العبادة ‪ ،‬فإن العبادة ذاتية‬
‫للخلق ‪ ،‬والعمل عارض من الحق عرض له ‪ ،‬فتختلف األعمال منه وفيه والعبادة واحدة‬
‫س َك بِ ْالعُ ْر َوةِ ْال ُوثْقى »أي التي ال تتصف باالنخرام ‪ ،‬فكان عمل العبد في مقام‬ ‫العين« فَقَ ِد ا ْست َ ْم َ‬
‫الشهود من حيث قوله تعالى ‪ [ :‬كنت سمعه وكنت بصره وكنت يده ]‬
‫ّللا َرمى )فأرجع الحق هذا التفصيل كله إلى عين‬ ‫ْت ِإ ْذ َر َمي َ‬
‫ْت َول ِك َّن َّ َ‬ ‫وقوله تعالى ‪َ (:‬وما َر َمي َ‬
‫ور »‪.‬‬ ‫ّللا عاقِبَةُ ْاأل ُ ُم ِ‬
‫واحدة فقال ‪َ «:‬و ِإلَى َّ ِ‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ ) : 31‬اآليات ‪ 23‬إلى ‪] 26‬‬


‫ُور ‪( 23‬‬ ‫صد ِ‬‫ت ال ُّ‬‫ع ِلي ٌم بِذا ِ‬ ‫َو َم ْن َكفَ َر فَال يَحْ ُز ْنكَ ُك ْف ُرهُ إِلَ ْينا َم ْر ِجعُ ُه ْم فَنُنَ ِبّئ ُ ُه ْم بِما ع َِملُوا إِ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬
‫ت‬‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬‫سأ َ ْلت َ ُه ْم َم ْن َخلَ َ‬
‫يظ ( ‪َ ) 24‬ولَئِ ْن َ‬ ‫غ ِل ٍ‬‫ب َ‬ ‫ض َط ُّر ُه ْم إِلى عَذا ٍ‬ ‫)نُ َم ِت ّعُ ُه ْم قَ ِليال ث ُ هم نَ ْ‬
‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّلِل ما فِي ال ه‬ ‫ون ( ‪ ِ ) 25‬ه ِ‬ ‫ّلِل بَ ْل أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ّللاُ قُ ِل ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫ض لَيَقُولُ هن ه‬ ‫َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ي ا ْل َح ِمي ُد ( ‪) 26‬‬ ‫ّللا ُه َو ا ْلغَنِ ُّ‬
‫ِإ هن ه َ‬
‫ي ْال َح ِمي ُد »أي المثنى عليه بالغنى ‪ ،‬ألن صفة الغنى ال شيء أعلى منها ‪،‬‬ ‫ّللا ُه َو ْالغَ ِن ُّ‬
‫« ِإ َّن َّ َ‬
‫وهي صفة ذاتية للحق تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬آية ‪] 27‬‬


‫س ْبعَةُ أ َ ْب ُح ٍر ما نَ ِفدَتْ َك ِلماتُ ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ش َج َر ٍة أ َ ْقال ٌم َوا ْلبَحْ ُر يَ ُم ُّدهُ ِم ْن بَ ْع ِد ِه َ‬
‫ض ِم ْن َ‬ ‫َولَ ْو أ َ هن ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫يز َح ِكي ٌم ( ‪) 27‬‬ ‫ّللا ع َِز ٌ‬
‫ِإ هن ه َ‬
‫ّللا ؟ ]‬
‫[ ما هي كلمات ه‬
‫سبب نزول هذه اآلية أن اليهود قالوا ‪ :‬إنا أوتينا التوراة فيها موعظة وتفصيل كل شيء ‪ ،‬فال‬
‫ض ِم ْن‬ ‫ّللا تعالى« َولَ ْو أ َ َّن ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ّللا عليه وسلم ؛ فأنزل ه‬ ‫حاجة إلى ما جاء به محمد صلهى ه‬
‫ش َج َرةٍ أ َ ْقال ٌم» ‪ . . .‬اآلية ‪،‬‬ ‫َ‬
‫ّللا تعالى ما أفادته شجرة موسى‬ ‫أي لو كان ك هل ما في األرض من األشجار تفيد من كالم ه‬
‫ّللا وال حصل االستغناء عنها ‪.‬‬ ‫ّللا عليه وسلم ما نفدت كلمات ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا التي ال تنفد ‪ ،‬وهي تحدث أي تظهر دائما ‪ ،‬فالوجود‬ ‫واعلم أن الممكنات هي كلمات ه‬
‫واإليجاد ال يزال دائما ‪ ،‬فمخلوقاته ال تزال توجد وال يزال خالقا ‪.‬‬
‫ّللا سوى صور‬ ‫وليست كلمات ه‬

‫ص ‪368‬‬

‫‪368‬‬
‫الممكنات وهي ال تتناهى ‪ ،‬وما ال يتناهى ال ينفد وال يحصره الوجود ‪ ،‬من حيث ثبوته ال ينفد‬
‫‪ ،‬فإن خزانة الثبوت ال تعطي الحصر ‪ ،‬فإنه ليس التساعها غاية تدرك ‪ ،‬فكلما انتهيت في‬
‫ّللا في‬
‫وهمك في اتساعها إلى غاية فهو من وراء تلك الغاية ‪ ،‬ومن هذه الخزانة تظهر كلمات ه‬
‫الوجود على التتالي والتتابع أشخاصا بعد أشخاص ‪ ،‬وكلمات إثر كلمات ‪ ،‬والبحار واألقالم من‬
‫ّللا التي هي العالم هي نفس الرحمن ‪ ،‬ولهذا‬ ‫جملة الكلمات ‪ ،‬والمادة التي ظهرت فيها كلمات ه‬
‫عبهر عنه بالكلمات ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وصدرت هذه الكلمات عن تركيب يعبر عنه في‬ ‫فقيل في عيسى عليه السالم ‪ :‬إنه كلمة ه‬
‫ّللا كن ‪ ،‬وعنها تنشأ الكائنات ‪ ،‬وقد أخبر‬‫ّللا كلها عن كلمة ه‬‫اللسان العربي بلفظة كن ‪ ،‬فكلمات ه‬
‫ّللا أنه ما من شيء يريد إيجاده إال يقول له كن ‪ ،‬وجاء بلفظة كن ألنها لفظة وجودية ‪ ،‬فنابت‬ ‫ه‬
‫مناب جميع األوامر اإللهية ‪ ،‬فتظهر أعيان الكلمات وهو المعبر عنها بالعالم بكلمة كن ‪،‬‬
‫فالكلمة ظهورها في النفس الرحماني ‪ ،‬والكون ظهورها في العماء ‪ ،‬فيما هو للنفس يسمى‬
‫ّللا ال تنفد وهي‬
‫كلمة وأمرا ‪ ،‬وبما هو في العماء يسمى كونا وخلقا وظهور عين ؛ فكلمات ه‬
‫ّللا التي ال تنفد أبدا ‪.‬‬
‫أعيان موجوداته ‪ ،‬والوجود كله كلمات ه‬
‫واعلم أن فائدة الكالم اإلفهام بالمقاصد للسامعين ‪ ،‬واألحوال مفهمة وهي الكالم ‪ ،‬وال يخلو‬
‫موجود أن يكون على حال ما ‪ ،‬فحاله عين كالمه ‪ ،‬ألنه المفهم الذي ينظر إليه ما هو عليه في‬
‫وقته ‪ ،‬فال لسان أفصح من لسان األحوال ‪ ،‬وقرائن األحوال تفيد العلوم التي تجيء بطريق‬
‫العبارات ‪ ،‬والعبارات من جملة األحوال ‪ ،‬فانطلق في االصطالح اسم الكالم على العبارات ‪.‬‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬اآليات ‪ 28‬إلى ‪] 29‬‬


‫ير ( ‪ ) 28‬أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ هن ه َ‬
‫ّللا يُو ِل ُج الله ْي َل فِي‬ ‫س ِمي ٌع بَ ِص ٌ‬ ‫ما َخ ْلقُ ُك ْم َوال بَ ْعث ُ ُك ْم إِاله َكنَ ْف ٍس ِ‬
‫واح َد ٍة إِ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬
‫ّللا بِما‬‫س ًّمى َوأ َ هن ه َ‬‫س َوا ْلقَ َم َر ُك ٌّل يَجْ ِري إِلى أ َ َج ٍل ُم َ‬‫س هخ َر الش ْهم َ‬ ‫هار فِي الله ْي ِل َو َ‬ ‫هار َويُو ِل ُج النه َ‬ ‫النه ِ‬
‫ير ( ‪) 29‬‬ ‫ون َخ ِب ٌ‬ ‫ت َ ْع َملُ َ‬
‫س ًّمى » اآلية ]‬ ‫[ « ُك ٌّل يَ ْج ِري ِإلى أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫راجع سورة الحج آية ‪– 61 -‬‬

‫« ُك ٌّل »يثبت إلى وقت معين ثم يزول حكمه ال عينه ‪ ،‬فإنه تعالى قال ‪ «:‬يَ ْج ِري إِلى أ َ َج ٍل‬
‫س ًّمى »فإذا بلغ جريانه األجل زال جريانه وإن بقي عينه ‪.‬‬
‫ُم َ‬
‫ّللا تعالى جعل لكل صورة في العالم أجال تنتهي إليه في الدنيا واآلخرة ‪،‬‬ ‫واعلم أن ه‬

‫ص ‪369‬‬

‫‪369‬‬
‫ّللا الدوام والبقاء ‪ ،‬قال تعالى ‪«:‬‬‫إال األعيان القابلة للصور فإنه ال أجل لها ‪ ،‬بل لها منذ خلقها ه‬
‫س ًّمى »فجاء بكل وهي تقتضي اإلحاطة والعموم ‪،‬‬ ‫ُك ٌّل يَ ْج ِري ِإلى أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫وقد قلنا ‪ :‬إن األعيان القابلة للصور ال أجل لها ‪ ،‬فبما ذا خرجت عن حكم« ُك ٌّل »؟‬
‫قلنا ‪ :‬ما خرجت وإنما األجل الذي للعين إنما هو ارتباطها بصورة من الصور التي تقبلها ‪،‬‬
‫فهي تنتهي في القبول لها إلى أجل مسمى ‪ ،‬وهو انقضاء زمان تلك الصورة ‪ ،‬فإذا وصل‬
‫ّللا في هذا االرتباط انعدمت الصورة وقبلت العين صورة أخرى ‪ ،‬فقد‬ ‫األجل المعلوم عند ه‬
‫جرت األعيان إلى أجل مسمى في قبول صورة ما ‪ ،‬كما جرت الصورة إلى أجل مسمى في‬
‫ّللا لكل‬
‫ثبوتها لتلك العين الذي كان محل ظهورها ‪ ،‬فقد عم الكل األجل المسمى ‪ ،‬فقد قدر ه‬
‫شيء أجال ‪ ،‬في أمر ما ينتهي إليه ‪ ،‬ثم ينتقل إلى حالة أخرى يجري فيها أيضا إلى أجل مسمى‬
‫خالق على الدوام مع األنفاس ‪ ،‬فمن األشياء ما يكون مدة بقائه زمان وجوده وينتهي‬ ‫ّللا ه‬
‫‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا ذلك‬
‫إلى أجله في الزمان الثاني من زمان وجوده ‪ ،‬وهي أقصر مدة في العالم ‪ ،‬وفعل ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فلو بقيت زمانين فصاعدا التصفت‬ ‫ليصح االفتقار مع األنفاس من األعيان إلى ه‬
‫ّللا في تلك المدة ‪ ،‬وهذه مسئلة يقول بها األشاعرة من المتكلمين ‪ ،‬وموضع‬ ‫بالغنى عن ه‬
‫اإلجماع من الكل في هذه المسألة التي ال يقدرون على إنكارها الحركة ‪،‬‬
‫إال طائفتين ‪:‬‬
‫من يجعل الحركة نسبة ال وجود لها وهو الباقالني من المتكلمين ‪ ،‬وأصحاب الكمون والظهور‬
‫القائلون به ‪ ،‬وإن قال القائلون بالكمون والظهور بذلك فإنهم تحت حيطة« ُك ٌّل »بهذا المذهب ‪،‬‬
‫فإنه قد جرى في كمونة إلى أجل مسمى ‪ ،‬وهو زمان ظهوره ‪ ،‬فقد انقضت مدة كمونة ‪ ،‬وال‬
‫يلزم من جريانهم إلى األجل أن المراد عدمهم ‪ ،‬بل يجوز أن يكون له العدم ‪ ،‬ويجوز أن يكون‬
‫االنتقال مع بقاء العين الموصوفة بالجري ‪،‬‬
‫ويجوز أن يكون منه أجل يعدمه ‪ ،‬ومنه ما يكون له أجل بانتقاله يعدمه ‪ ،‬وهو الذي نذهب إليه‬
‫ونقول به ‪ ،‬فإنه ال بد لكل شيء من غاية ‪ ،‬واألشياء ال يتناهى وجودها فال تنتهي غاياتها ‪،‬‬
‫فاّلل يجدد في كل حين أشياء ‪ ،‬وكل شيء له غاية تلك الغاية أجله المسمى ‪ ،‬فليس األجل إال‬ ‫ه‬
‫ألحوال األعيان ‪ ،‬واألعيان غايتها عين ال غاية‪.‬‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬آية ‪] 30‬‬


‫ي ا ْل َك ِب ُ‬
‫ير) ‪( 30‬‬ ‫باط ُل َوأ َ هن ه َ‬
‫ّللا ُه َو ا ْلعَ ِل ُّ‬ ‫ق َوأ َ هن ما يَ ْدع َ‬
‫ُون ِم ْن دُونِ ِه ا ْل ِ‬ ‫ذ ِلكَ ِبأ َ هن ه َ‬
‫ّللا ُه َو ا ْل َح ُّ‬

‫ص ‪370‬‬

‫‪370‬‬
‫ير »بما‬‫ي »في شأنه وذاته عما يليق بسمات الحدوث وصفات المحدثات« ْال َك ِب ُ‬ ‫ّللا ُه َو ْالعَ ِل ُّ‬
‫" أ َ َّن َّ َ‬
‫نصبه المشركون من اآللهة ‪ ،‬ولهذا قال الخليل في معرض الحجة على قومه ‪ ،‬مع اعتقاده‬
‫ّللا هو الذي كسر األصنام المتخذة آلهة حتى جعلها جذاذا ‪ ،‬مع دعوى عابديها‬ ‫الصحيح أن ه‬
‫ّللا ُز ْلفى )فنسبوا الكبر له تعالى على آلهتهم ‪ ،‬فقال إبراهيم‬ ‫بقولهم( ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫ير ُه ْم هذا فَ ْسئَلُو ُه ْم ِإ ْن كانُوا يَ ْن ِطقُونَ )فلو نطقوا العترفوا بأنهم عبيد ‪،‬‬
‫عليه السالم( بَ ْل فَعَلَهُ َك ِب ُ‬
‫ّللا هو الكبير العلي العظيم ‪.‬‬ ‫وأن ه‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬آية ‪] 31‬‬


‫ت ِل ُك ِ ّل َ‬
‫صبه ٍار‬ ‫ّللا ِليُ ِريَ ُك ْم ِم ْن آياتِ ِه إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬
‫ت هِ‬ ‫أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ هن ا ْلفُ ْلكَ تَجْ ِري فِي ا ْلبَحْ ِر بِنِ ْع َم ِ‬
‫ُور ( ‪) 31‬‬ ‫شك ٍ‬ ‫َ‬
‫« ِليُ ِريَ ُك ْم ِم ْن آياتِ ِه »آياته هي الدالئل عليه ‪ ،‬ولما كانت الدار دار بالء ال يخلص فيها النعيم‬
‫عن البالء وقتا واحدا ‪ ،‬وأقله طلب الشكر من المنعم بها عليها ‪ ،‬وأي تكليف أشق منه على‬
‫النفس ؟‬
‫ور »إذا اشتد‬ ‫ش ُك ٍ‬
‫َّار َ‬
‫صب ٍ‬ ‫ت ِل ُك ِهل َ‬
‫يؤيد ذلك قوله تعالى في حق راكب البحر« إِ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫الريح عليه وبرد ‪ ،‬فبما فيها من النعمة يطلب منه الشكر عليها ‪ ،‬وبما فيها من الشدة والخوف‬
‫يطلب منه الصبر ‪.‬‬

‫[ سورة لقمان ( ‪: ) 31‬اآليات ‪ 32‬إلى ‪] 33‬‬


‫ِين فَلَ هما نَ هجا ُه ْم ِإلَى ا ْلبَ ِ ّر فَ ِم ْن ُه ْم ُم ْقت َ ِص ٌد َوما‬ ‫ّللا ُم ْخ ِل ِص َ‬
‫ين لَهُ ال ّد َ‬ ‫ج كَال ُّ‬
‫ظلَ ِل َدع َُوا ه َ‬ ‫شيَ ُه ْم َم ْو ٌ‬ ‫َو ِإذا َ‬
‫غ ِ‬
‫اخش َْوا يَ ْوما ال يَجْ ِزي وا ِل ٌد‬ ‫اس اتهقُوا َربه ُك ْم َو ْ‬ ‫ور ( ‪ ) 32‬يا أَيُّ َها النه ُ‬ ‫يَجْ َح ُد بِآياتِنا إِاله ُك ُّل َخت ه ٍار َكفُ ٍ‬
‫ق فَال تَغُ هرنه ُك ُم ا ْل َحياةُ ال ُّد ْنيا َوال‬ ‫ع َْن َولَ ِد ِه َوال َم ْولُو ٌد ُه َو ٍ‬
‫جاز ع َْن وا ِل ِد ِه َ‬
‫ش ْيئا إِ هن َو ْع َد ه ِ‬
‫ّللا َح ٌّ‬
‫ور ) ‪( 33‬‬ ‫اّلِل ا ْلغَ ُر ُ‬
‫يَغُ هرنه ُك ْم ِب ه ِ‬
‫يا ربنا أسمعتنا فسمعنا ‪ ،‬وأعلمتنا فعلمنا ‪ ،‬فاعصمنا ‪ ،‬وتعطف علينا ‪ ،‬فالمنصور من نصرته ‪،‬‬
‫باّلل العلي العظيم ‪.‬‬ ‫والمؤيد من أيدته ‪ ،‬والمخذول من خذلته ‪ ،‬فإنه ال حول وال قوة إال ه‬

‫[ سورة لقمان ( ‪ : ) 31‬آية ‪] 34‬‬


‫ب َ‬
‫غدا‬ ‫س ما ذا ت َ ْك ِ‬
‫س ُ‬ ‫ث َويَ ْعلَ ُم ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫حام َوما تَد ِْري نَ ْف ٌ‬ ‫ع ِة َويُنَ ِ ّز ُل ا ْلغَ ْي َ‬
‫سا َ‬ ‫ّللا ِع ْن َدهُ ِع ْل ُم ال ه‬
‫إِ هن ه َ‬
‫ير ) ‪( 34‬‬ ‫ع ِلي ٌم َخ ِب ٌ‬ ‫ض ت َ ُموتُ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ي ِ أ َ ْر ٍ‬
‫س ِبأ َ ّ‬
‫َوما تَد ِْري نَ ْف ٌ‬

‫ص ‪371‬‬

‫‪371‬‬
‫قوله تعالى‪َ " :‬ويَ ْعلَ ُم ما ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫حام »فإنه الخالق ما فيها وهو قوله تعالى ( يَ ْعلَ ُم ال ِ ه‬
‫س َّر )‬
‫* فإن السر النكاح ‪.‬‬

‫سجدة مكيّة‬ ‫( ‪ ) 32‬سورة ال ّ‬


‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 2‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫ِب ْ‬
‫ين (‪(2‬‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬
‫ب فِي ِه ِم ْن َر ّ ِ‬
‫ب ال َر ْي َ‬‫ألم ( ‪ ) 1‬ت َ ْن ِزي ُل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب »أنزله بصفة العلم ‪ ،‬وقلوب كلمات الحق محله ‪ ،‬وهو نزول يتنزه عن أن تدرك‬ ‫ت َ ْن ِزي ُل ْال ِكتا ِ‬
‫ْب فِي ِه »عند أهل الحقائق« ِم ْن َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »‪.‬‬ ‫ذاته« ال َري َ‬

‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬اآليات ‪ 3‬إلى ‪] 4‬‬


‫ِير ِم ْن قَ ْب ِلكَ لَعَله ُه ْم يَ ْهتَد َ‬
‫ُون‬ ‫ق ِم ْن َر ِبّكَ ِلت ُ ْنذ َِر قَ ْوما ما أَتا ُه ْم ِم ْن نَذ ٍ‬ ‫ون ْ‬
‫افتَرا ُه بَ ْل ُه َو ا ْل َح ُّ‬ ‫أ َ ْم يَقُولُ َ‬
‫علَى ا ْلعَ ْر ِش ما‬ ‫ستَوى َ‬ ‫ست ه ِة أَيه ٍام ث ُ هم ا ْ‬
‫ض َوما بَ ْينَ ُهما فِي ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫ّللاُ الهذِي َخلَ َ‬ ‫)‪ (3‬ه‬
‫ون ) ‪( 4‬‬ ‫يع أ َ فَال تَتَذَك ُهر َ‬ ‫ش ِف ٍ‬‫ي ٍ َوال َ‬ ‫لَ ُك ْم ِم ْن دُونِ ِه ِم ْن َو ِل ّ‬
‫راجع األعراف آية ‪. - 54 -‬‬

‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬اآليات ‪ 5‬إلى ‪] 8‬‬


‫سنَ ٍة ِم هما تَعُد َ‬
‫ُّون (‬ ‫ف َ‬ ‫دار ُه أ َ ْل َ‬
‫كان ِم ْق ُ‬ ‫ض ث ُ هم يَ ْع ُر ُ‬
‫ج ِإلَ ْي ِه ِفي يَ ْو ٍم َ‬ ‫ماء ِإلَى ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫يُ َد ِبّ ُر ْاأل َ ْم َر ِم َن ال ه‬
‫ش ْي ٍء َخلَقَهُ َوبَدَأ َ َخ ْل َ‬
‫ق‬ ‫س َن ُك هل َ‬ ‫الر ِحي ُم ) ‪ ( 6‬الهذِي أَحْ َ‬ ‫يز ه‬ ‫ب َوالشهها َد ِة ا ْلعَ ِز ُ‬ ‫) ‪5‬ذ ِلكَ عا ِل ُم ا ْلغَ ْي ِ‬
‫ين) ‪( 8‬‬ ‫ساللَ ٍة ِم ْن ٍ‬
‫ماء َم ِه ٍ‬ ‫سلَهُ ِم ْن ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 7‬ث ُ هم َجعَ َل نَ ْ‬ ‫سان ِم ْن ِط ٍ‬ ‫اْل ْن ِ‬ ‫ِْ‬

‫ص ‪372‬‬

‫‪372‬‬
‫ين " وهو الماء الذي استقر في رحم المرأة ‪.‬‬ ‫" ِم ْن ماءٍ َم ِه ٍ‬
‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬آية ‪] 9‬‬
‫صار َو ْاأل َ ْفئِ َدةَ قَ ِليال ما ت َ ْ‬
‫شك ُُر َ‬
‫ون ( ‪) 9‬‬ ‫س ْم َع َو ْاأل َ ْب َ‬ ‫ث ُ هم َ‬
‫س هواهُ َونَفَ َخ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫وح ِه َو َجعَ َل لَ ُك ُم ال ه‬
‫ّللا‬
‫س َّواهُ »فبعد تسوية أرض البدن وقبوله لالشتعال بما فيه من الرطوبة والحرارة ‪ ،‬نفخ ه‬ ‫« ث ُ َّم َ‬
‫ْصار َو ْاأل َ ْفئِ َدة َ »وهي القوى‬
‫س ْم َع َو ْاألَب َ‬ ‫فيه فاشتعل ‪ ،‬فكان ذلك االشتعال روحا له« َو َجعَ َل لَ ُك ُم ال َّ‬
‫يال ما ت َ ْش ُك ُرونَ ‪».‬‬ ‫والمعاني التي ال توجد إال في هذه األرض البدنية اإلنسانية« قَ ِل ً‬

‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬اآليات ‪ 10‬إلى ‪] 12‬‬


‫ون ( ‪ ) 10‬قُ ْل‬ ‫ق َجدِي ٍد بَ ْل ُه ْم بِ ِل ِ‬
‫قاء َر ِبّ ِه ْم كافِ ُر َ‬ ‫ض أ َ إِنها لَ ِفي َخ ْل ٍ‬ ‫ضلَ ْلنا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َوقالُوا أ َ إِذا َ‬
‫ون ) ‪َ ( 11‬ولَ ْو تَرى إِ ِذ ا ْل ُمجْ ِر ُم َ‬
‫ون‬ ‫ت الهذِي ُو ِ ّك َل ِب ُك ْم ث ُ هم إِلى َر ِبّ ُك ْم ت ُ ْر َجعُ َ‬ ‫يَت َ َوفها ُك ْم َملَكُ ا ْل َم ْو ِ‬
‫ون ) ‪( 12‬‬ ‫ار ِج ْعنا نَ ْع َم ْل صا ِلحا ِإنها ُموقِنُ َ‬ ‫س ِم ْعنا فَ ْ‬ ‫ص ْرنا َو َ‬ ‫س ِه ْم ِع ْن َد َر ِبّ ِه ْم َربهنا أ َ ْب َ‬
‫سوا ُر ُؤ ِ‬ ‫نا ِك ُ‬
‫يحشر المجرمون وهم أصحاب الشمال منكوسين ‪ ،‬أما السعداء فيحشرون على حال االستقامة‬
‫‪.‬‬
‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬آية ‪] 13‬‬
‫اس أَجْ َم ِع َ‬
‫ين‬ ‫ق ا ْلقَ ْو ُل ِم ِنّي َأل َ ْم ََل َ هن َج َهنه َم ِم َن ا ْل ِجنه ِة َوالنه ِ‬ ‫شئْنا َآلت َ ْينا ُك هل نَ ْف ٍس ُهداها َول ِك ْن َح ه‬ ‫َولَ ْو ِ‬
‫)‪)13‬‬
‫[ال حكم ألداة لو ]‬
‫ال حكم ألداة لو ‪ ،‬فإن كلمة لو لو زرعت ما نبت عنها شيء ويخسر البذر ‪ ،‬فمتى سمعت ‪ -‬لو‬
‫‪ -‬حيث سمعتها فال تنظر إلى ما تحتها ‪ ،‬فإن ما تحتها ما يوجد ‪ ،‬فال تخف منها وال من داللتها‬
‫‪ ،‬وليكن مشهودك الواقع خاصة‪.‬‬

‫ص ‪373‬‬

‫‪373‬‬
‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬اآليات ‪ 14‬إلى ‪] 15‬‬
‫ون ( ‪) 14‬‬ ‫سينا ُك ْم َوذُوقُوا ع َ‬
‫َذاب ا ْل ُخ ْل ِد ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬ ‫فَذُوقُوا ِبما نَ ِ‬
‫سيت ُ ْم ِلقا َء يَ ْو ِم ُك ْم هذا ِإنها نَ ِ‬
‫ست َ ْكبِ ُر َ‬
‫ون (‬ ‫سبه ُحوا بِ َح ْم ِد َر ِبّ ِه ْم َو ُه ْم ال يَ ْ‬ ‫س هجدا َو َ‬ ‫ِين إِذا ذُ ِ ّك ُروا بِها َخ ُّروا ُ‬ ‫إِنهما يُ ْؤ ِم ُن بِآياتِنَا الهذ َ‬
‫‪) 15‬‬
‫" ِإنَّما " إن حرف تحقيق وتنكير« يُؤْ ِم ُن ِبآياتِنَا »يقول ‪ :‬إن الذي يصدق بآياتنا أنها آيات نصبن‬
‫‪ ،‬لها دالالت على وجودنا وصدق أرسالنا ‪ ،‬ما هي عن همم نفوسهم هم« الَّذِينَ ِإذا ذُ ِ هك ُروا ِبها‬
‫»والتذكر ال يكون إال عن علم غفل عنه أو نسيان من عاقل ‪،‬‬
‫س َّجدا ً »‬
‫يقول ‪ :‬إنها مدركة بالنظر العقلي أنها دالالت على ما نصبناها عليه« خ َُّروا ُ‬
‫سبَّ ُحوا بِ َح ْم ِد َر ِبه ِه ْم »‬
‫فإذا ذكروا بها وقعوا على وجوههم « َو َ‬
‫فنزهوا ربهم بما نزه به نفسه على ألسنة رسلهم« َو ُه ْم ال يَ ْست َ ْكبِ ُرونَ »ولم يعطهم العلم األنفة‬
‫عن ذلك ‪ ،‬فيفرق بين مدارك عقله وما يعطيه نظره وبين ما يعطيه إيمانه ‪ ،‬فينزه ربه إيمانا‬
‫وعقال ‪ ،‬ويأخذ العلم والحكمة حيث وجدها ‪.‬‬

‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬آية ‪] 16‬‬


‫ون ( ‪) 16‬‬ ‫ُون َربه ُه ْم َخ ْوفا َو َط َمعا َو ِم هما َر َز ْقنا ُه ْم يُ ْن ِفقُ َ‬ ‫تَتَجافى ُجنُوبُ ُه ْم ع َِن ا ْل َم ِ‬
‫ضاج ِع يَ ْدع َ‬
‫ضاج ِع » اآلية ‪ ،‬إشارة من باب يحبهم ويحبونه ]‬ ‫ع ِن ْال َم ِ‬‫[ « تَتَجافى ُجنُوبُ ُه ْم َ‬
‫ضاج ِع " فإن الثواب لهم مشهود ‪ ،‬والقيامة وأهوالها والجنة والنار‬ ‫ع ِن ْال َم ِ‬
‫" تَتَجافى ُجنُوبُ ُه ْم َ‬
‫نوم‬
‫مشهودتان ‪ ،‬شغلهم هول المعاد عن الرقاد ‪ ،‬فيا ليت شعري من أقامهم من المضاجع حين ه‬
‫وّللا ‪ ،‬بل هو خلق فيهم طاعته ‪ ،‬وأثنى عليهم بأنهم‬ ‫غيرهم ؟ أترى ذلك من نفوسهم ؟ ال ه‬
‫أطاعوه ‪ ،‬فقال «‪َ :‬و ِم َّما َرزَ ْقنا ُه ْم يُ ْن ِفقُونَ »فمما رزقهم التجافي عن المضاجع وعن دار‬
‫الغرور ‪ ،‬ومما رزقهم الدعاء واالبتهال ‪ ،‬ومما رزقهم الخوف منه والطمع فيه ‪ ،‬فأنفقوا ذلك‬
‫كله عليه فقبله منهم‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬من باب ( يحبهم ويحبونه )‬
‫‪.‬نادى الحبيب ‪ :‬من الذي *** بالباب ؟ قلت ‪ :‬فتى دعي‬
‫قال ‪ :‬ادعى هل شاهد *** يدريه ؟ قلت له ‪ :‬معي‬
‫إن كنت أكذب سيدي *** حسبي شهادة أدمعي‬
‫وتسهدي وتبلدي *** وتوجعي وتفجعي‬
‫وتلهفي وتحيري *** وتسرعي بتشرعي‬

‫ص ‪374‬‬

‫‪374‬‬
‫ما زلت أسهر باكيا *** حتى بكاني مضجعي‬
‫شهدت بذلك زفرتي *** وسنا النجوم الطلهع‬
‫قوله ‪ « :‬وتسرعي بتشرعي » أي إنك ناديتني باإلسراع فيما شرعت ‪ ،‬وقد فعلته ‪ ،‬فهو أيضا‬
‫من شهودي على صدق دعواي ‪ ،‬وقوله ‪ « :‬حتى بكاني مضجعي » أي ومن الشهود مضجعي‬
‫حيث تجافى جنبي عنه ‪ ،‬فكنت ممن قيل فيهم في معرض الثناء اإللهي« تَتَجافى ُجنُوبُ ُه ْم َ‬
‫ع ِن‬
‫ْال َم ِ‬
‫ضاج ِع »‪.‬‬

‫[ سورة السجدة ( ‪ ) : 32‬اآليات ‪ 17‬إلى ‪] 18‬‬


‫كان ُم ْؤ ِمنا‬ ‫ون ( ‪ ) 17‬أ َ فَ َم ْن َ‬ ‫ي لَ ُه ْم ِم ْن قُ هر ِة أ َ ْعيُ ٍن َجزاء بِما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫س ما أ ُ ْخ ِف َ‬ ‫فَال ت َ ْعلَ ُم نَ ْف ٌ‬
‫ون ( ‪) 18‬‬ ‫ست َ ُو َ‬ ‫سقا ال يَ ْ‬ ‫كان فا ِ‬ ‫َك َم ْن َ‬
‫[ قرة العين ]‬
‫ي لَ ُه ْم »أي هؤالء الذين بهذه المثابة« ِم ْن قُ َّر ِة أ َ ْعيُ ٍن‬ ‫ُ‬ ‫« فَال ت َ ْعلَ ُم نَ ْف ٌ‬
‫س »فن هكر ونفى العلم« ما أ ْخ ِف َ‬
‫»يعني فيها ‪ ،‬فعلمنا على اإلجمال أنه أمر مشاهد ‪ ،‬لكونه قرنه باألعين ولم يقرنه باألذن وال‬
‫بشيء من اإلدراكات ‪ ،‬فتقر أعينهم بما شاهدوه ‪ ،‬فيعلمون ما أخفي لهم فيهم مما تقر به أعينهم‬
‫‪ ،‬ومتعلق الرؤية إدراك عين المرئي‬
‫ي لَ ُه ْم ِم ْن قُ َّرةِ‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬تفسير من باب اْلشارة ‪ -‬قال تعالى في صالة الليل« فَال ت َ ْعلَ ُم نَ ْف ٌ‬
‫س ما أ ْخ ِف َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬وجعلت قرة عيني في الصالة ] ألنه مناج ربه‬ ‫أ َ ْعيُ ٍن »يعني فيها ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫من حيث ما هو مصل ‪ ،‬وجليس من حيث ما هو ذاكر ‪.‬‬
‫ما قرة العين غير عيني *** فبيني كان الهوى وبيني‬
‫وّللا لوال وجود كوني ***ما الح عيني لغير عيني‬ ‫ه‬
‫فكونه ما رأيت فيه *** أكمل من صورتي وكوني‬
‫بالبين أوصلت كل بين *** فقام شكر البين بيني‬
‫ّللا في وجودي *** عند أداء الفروض عوني‬ ‫قد أحسن ه‬
‫أشهدني فيه علم ذاتي *** في هذه الدار قبل حيني‬
‫ّللا يا حبيبي *** ما بين أنفاسه وبيني‬ ‫فرق ه‬ ‫ال ه‬

‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬اآليات ‪ 19‬إلى ‪] 22‬‬


‫ت فَلَ ُه ْم َجنهاتُ ا ْل َمأْوى نُ ُزال ِبما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫ون ( ‪)19‬‬ ‫أ َ هما الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫صا ِلحا ِ‬

‫ص ‪375‬‬

‫‪375‬‬
‫ار ُكلهما أَرادُوا أ َ ْن يَ ْخ ُر ُجوا ِم ْنها أ ُ ِعيدُوا ِفيها َو ِقي َل لَ ُه ْم ذُوقُوا‬ ‫سقُوا فَ َمأْوا ُه ُم النه ُ‬ ‫َوأ َ هما الهذ َ‬
‫ِين فَ َ‬
‫ب ْاأل َ ْكبَ ِر‬ ‫ب ْاألَدْنى د َ‬
‫ُون ا ْلعَذا ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 20‬ولَنُذِيقَنه ُه ْم ِم َن ا ْلعَذا ِ‬ ‫َذاب النه ِار الهذِي ُك ْنت ُ ْم ِب ِه ت ُ َك ِذّبُ َ‬
‫ع َ‬
‫ع ْنها ِإنها ِم َن ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ين‬ ‫ض َ‬‫ت َر ِبّ ِه ث ُ هم أَع َْر َ‬
‫ون ( ‪َ ) 21‬و َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ْن ذُ ِ ّك َر ِبآيا ِ‬ ‫لَعَله ُه ْم يَ ْر ِجعُ َ‬
‫ون) ‪( 22‬‬ ‫ُم ْنت َ ِق ُم َ‬
‫اإلعراض عن اآليات التي نصبها الحق دالئل عليه دليل على عدم اإلنصاف واتباع الهوى‬
‫ّللا ما لم يكن يحتسب‬
‫المردي ‪ ،‬وهو علة ال يبرأ منها صاحبها بعد استحكامها حتى يبدو له من ه‬
‫‪ ،‬فعند ذلك يريد استعمال الدواء فال ينفع ‪ ،‬كالتوبة عند طلوع الشمس من مغربها ‪ ،‬ال ينفع‬
‫نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ‪ ،‬واإليمان عند حلول البأس وعند‬
‫االحتضار والتيقن بالمفارقة ‪.‬‬

‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬اآليات ‪ 23‬إلى ‪] 26‬‬


‫سرائِي َل ( ‪) 23‬‬ ‫تاب فَال تَك ُْن فِي ِم ْريَ ٍة ِم ْن ِلقائِ ِه َو َجعَ ْلناهُ ُهدى ِلبَنِي ِإ ْ‬ ‫سى ا ْل ِك َ‬‫َولَقَ ْد آت َ ْينا ُمو َ‬
‫ون ( ‪ِ ) 24‬إ هن َربهكَ ُه َو يَ ْف ِص ُل‬ ‫صبَ ُروا َوكانُوا ِبآياتِنا يُوقِنُ َ‬ ‫ُون ِبأ َ ْم ِرنا لَ هما َ‬‫َو َجعَ ْلنا ِم ْن ُه ْم أَئِ همة يَ ْهد َ‬
‫ون ( ‪ ) 25‬أ َ َولَ ْم يَ ْه ِد لَ ُه ْم َك ْم أ َ ْهلَ ْكنا ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم ِم َن‬ ‫بَ ْينَ ُه ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة فِيما كانُوا فِي ِه يَ ْخت َ ِلفُ َ‬
‫ون ( ‪) 26‬‬ ‫س َمعُ َ‬ ‫ت أ َ فَال يَ ْ‬
‫ُون ِفي َمسا ِك ِن ِه ْم ِإ هن ِفي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬‫ون يَ ْمش َ‬ ‫ا ْلقُ ُر ِ‬
‫[ ذكر أخبار القرون الماضية ]‬
‫ّللا بها‬
‫ّللا ما ذكر أخبار القرون الماضية إال لنكون على حذر من األسباب التي أخذهم ه‬ ‫اعلم أن ه‬
‫أخذته الرابية ‪ ،‬وبطش بهم البطش الشديد ‪ ،‬وأما الموت فأنفاس معدودة وآجال محدودة ‪ ،‬وليس‬
‫الخوف إال من أخذه وبطشه ال من لقائه ‪ ،‬فإن لقاءه يسر الولي ‪ ،‬والموت سبب اللقاء ‪ ،‬فهو‬
‫أسنى تحفة يتحفها المؤمن ‪ ،‬فكيف به إذا كان عالما ؟ بخ على بخ‪.‬‬

‫ص ‪376‬‬

‫‪376‬‬
‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬آية ‪] 27‬‬
‫ج ِب ِه َز ْرعا تَأ ْ ُك ُل ِم ْنهُ أ َ ْنعا ُم ُه ْم َوأ َ ْنفُ ُ‬
‫س ُه ْم أ َ‬ ‫ض ا ْل ُج ُر ِز فَنُ ْخ ِر ُ‬
‫ق ا ْلما َء ِإلَى ْاأل َ ْر ِ‬ ‫أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا أَنها نَ ُ‬
‫سو ُ‬
‫ون ( ‪) 27‬‬ ‫فَال يُ ْب ِص ُر َ‬
‫[ جميع الحواس ال تخطئ أبدا ]‬
‫إن العين ال تخطئ أبدا ‪ ،‬ال هي وال جميع الحواس ‪ ،‬فإن إدراك الحواس إدراك ذاتي ‪ ،‬وال‬
‫تؤثر العلل الظاهرة العارضة في الذاتيات ‪ ،‬وإدراك العقل على قسمين ‪ :‬إدراك ذاتي هو فيه‬
‫كالحواس ال يخطئ ‪ ،‬وإدراك غير ذاتي ‪ ،‬وهو ما يدركه باآللة التي هي الفكر وباآللة التي هي‬
‫الحس ‪ ،‬فالخيال يقلد الحس فيما يعطيه ‪ ،‬والفكر ينظر في الخيال فيجد األمور مفردات فيحب‬
‫أن ينشئ منها صورة يحفظها العقل ‪ ،‬فينسب بعض المفردات إلى بعض ‪ ،‬فقد يخطئ في‬
‫النسبة األمر على ما هو عليه وقد يصيب ‪ ،‬فيحكم العقل على ذلك الحد فيخطئ ‪ ،‬فالعقل مقلد ‪،‬‬
‫ولهذا اتصف بالخطإ ‪ ،‬وقد حصرت اآليات في السمع والبصر ‪ ،‬فإما شهود وإما خبر ‪.‬‬

‫[ سورة السجدة ( ‪ : ) 32‬اآليات ‪ 28‬إلى ‪] 30‬‬


‫ين ( ‪ ) 28‬قُ ْل يَ ْو َم ا ْلفَتْحِ ال يَ ْنفَ ُع الهذ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا إِيمانُ ُه ْم‬ ‫ون َمتى هذَا ا ْلفَتْ ُح إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬ ‫َويَقُولُ َ‬
‫ون ( ‪) 30‬‬ ‫ع ْن ُه ْم َوا ْنت َ ِظ ْر إِنه ُه ْم ُم ْنت َ ِظ ُر َ‬ ‫ون ( ‪ ) 29‬فَأَع ِْر ْ‬
‫ض َ‬ ‫َوال ُه ْم يُ ْن َظ ُر َ‬

‫( ‪ ) 33‬سورة األحزاب مدنيّة‬


‫الرحيم‬‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 4‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫ّللا ه‬‫س ِم ه ِ‬ ‫بِ ْ‬
‫ع ِليما َح ِكيما ( ‪َ ) 1‬واتهبِ ْع ما‬
‫كان َ‬‫ّللا َ‬ ‫ين َوا ْل ُمنافِ ِق َ‬
‫ين إِ هن ه َ‬ ‫ّللا َوال ت ُ ِط ِع ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ق هَ‬ ‫يا أَيُّ َها النهبِ ُّ‬
‫ي ات ه ِ‬
‫اّلِل َو ِكيال (‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا َوكَفى ِب ه ِ‬ ‫ون َخ ِبيرا ( ‪َ ) 2‬وت َ َو هك ْل َ‬ ‫كان ِبما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫يُوحى ِإلَ ْيكَ ِم ْن َر ِبّكَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللاُ ِل َر ُج ٍل ِم ْن قَ ْلبَ ْي ِن فِي َج ْوفِ ِه َوما‬‫‪ )3‬ما َجعَ َل ه‬

‫ص ‪377‬‬

‫‪377‬‬
‫ون ِم ْن ُه هن أ ُ همها ِت ُك ْم َوما َجعَ َل أ َ ْد ِعيا َء ُك ْم أ َ ْبنا َء ُك ْم ذ ِل ُك ْم قَ ْولُ ُك ْم ِبأ َ ْفوا ِه ُك ْم‬
‫َجعَ َل أ َ ْزوا َج ُك ُم الاله ِئي تُظا ِه ُر َ‬
‫س ِبي َل) ‪( 4‬‬ ‫ق َو ُه َو يَ ْهدِي ال ه‬ ‫ّللاُ يَقُو ُل ا ْل َح ه‬
‫َو ه‬
‫سبِي َل "أي يبينه لتمشي عليه فإنه الكفيل ‪.‬‬ ‫" َو ُه َو يَ ْهدِي ال َّ‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 5‬‬


‫س‬ ‫ّللا فَ ِإ ْن لَ ْم ت َ ْعلَ ُموا آبا َء ُه ْم فَ ِإ ْخوانُ ُك ْم فِي ال ّد ِ‬
‫ِين َو َموا ِلي ُك ْم َولَ ْي َ‬ ‫ط ِع ْن َد ه ِ‬ ‫ا ْدعُو ُه ْم ِآلبائِ ِه ْم ُه َو أ َ ْق َ‬
‫س ُ‬
‫غفُورا َر ِحيما ) ‪( 5‬‬ ‫ّللاُ َ‬
‫كان ه‬ ‫ح ِفيما أ َ ْخ َطأْت ُ ْم ِب ِه َول ِك ْن ما تَعَ همدَتْ قُلُوبُ ُك ْم َو َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ُجنا ٌ‬
‫َ‬
‫ّللا أولى ‪ ،‬جاء في الخبر النبوي‬ ‫ال يقال ابن إال لبنوة الصلب وإن جازت بنوة التبني ولكن قول ه‬
‫ّللا ]‬ ‫[ من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة ه‬
‫فبنوة التبنهي باالصطفاء والمرتبة واللفظ ‪ ،‬ولفظة االبن هي المنهي عنها ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 6‬‬


‫ض ِفي‬ ‫ض ُه ْم أ َ ْولى ِببَ ْع ٍ‬ ‫س ِه ْم َوأ َ ْزوا ُجهُ أ ُ همهات ُ ُه ْم َوأُولُوا ْاأل َ ْر ِ‬
‫حام بَ ْع ُ‬ ‫ين ِم ْن أ َ ْنفُ ِ‬
‫ي أ َ ْولى ِبا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫النه ِب ُّ‬
‫كان ذ ِلكَ فِي ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب‬ ‫ين إِاله أ َ ْن ت َ ْفعَلُوا إِلى أ َ ْو ِليائِ ُك ْم َم ْع ُروفا َ‬ ‫هاج ِر َ‬ ‫ين َوا ْل ُم ِ‬ ‫ّللا ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ب هِ‬ ‫ِكتا ِ‬
‫طورا ( ‪) 6‬‬ ‫س ُ‬ ‫َم ْ‬
‫[ إشارة ‪ :‬األب في الوالدة الدينية ]‬
‫ي أ َ ْولى ِب ْال ُمؤْ ِمنِينَ ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ِه ْم َوأ َ ْزوا ُجهُ أ ُ َّمهات ُ ُه ْم »‬‫« النَّ ِب ُّ‬
‫ّللا عليه وسلم األب في الوالدة الدينية ‪ ،‬فلذلك كان أولى بالمؤمنين من‬ ‫‪ -‬إشارة ‪ -‬فإنه صلهى ه‬
‫أنفسهم ‪ ،‬وأزواجه في هذه الوالدة المعنوية النفوس الطاهرات الصالحات ألن تكون موردا‬
‫ألسراره ‪ ،‬وهم الرجال العلماء ‪ ،‬والمؤمنون ليسوا رجاال بهذا االعتبار ألنهم أطفال في‬
‫باّلل ما ليس لك به علم فال تطعه ‪،‬‬ ‫الرضاع ‪ ،‬فأعط الطين حقه وإن جاهدك على أن تشرك ه‬
‫وصاحبه في الدنيا معروفا ‪ ،‬وانفر إلى رحمك الديني الذي هو أولى بك من نفسك ‪،‬‬
‫ي أ َ ْولى ِب ْال ُمؤْ ِمنِينَ ِم ْن‬ ‫قال تعالى في الرحم الديني ‪ «:‬النَّ ِب ُّ‬

‫ص ‪378‬‬

‫‪378‬‬
‫أ َ ْنفُ ِس ِه ْم َوأ َ ْزوا ُجهُ أ ُ َّمهات ُ ُه ْم »وقال ‪ِ (:‬إنَّ َما ْال ُمؤْ ِمنُونَ ِإ ْخ َوة ٌ ) ‪-‬‬
‫إشارة ثانية ‪ -‬الحق أولى بعباده المضافين إليه المميزين من غيرهم ‪ ،‬وهم الذين لم يزالوا‬
‫عباده في حالة االضطرار واالختيار ‪ ،‬من نفوسهم ‪ ،‬وما هو مع من لم يضف إليه بهذه المثابة‬
‫ّللا ال يتعدى قسمه ‪.‬‬ ‫‪ ،‬فلكل عالم حظ معلوم من ه‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 7‬‬


‫سى ا ْب ِن َم ْريَ َم َوأ َ َخ ْذنا‬ ‫َو ِإ ْذ أ َ َخ ْذنا ِم َن النه ِب ِيّ َ‬
‫ين ِميثاقَ ُه ْم َو ِم ْنكَ َو ِم ْن نُوحٍ َو ِإ ْبرا ِهي َم َو ُموسى َو ِعي َ‬
‫غ ِليظا ) ‪( 7‬‬ ‫ِم ْن ُه ْم ِميثاقا َ‬
‫ّللا في األرض ‪،‬‬ ‫وكان هذا الميثاق قبل وجود جسد آدم وهو الميثاق األول فإن الرسل خلفاء ه‬
‫فال بد لهم من ميثاق خاص في التبليغ ‪ ،‬حتى يمتاز التابع من المتبوع ‪ ،‬والميثاق الثاني لما‬
‫وجد آدم وقبض الحق على ظهره واستخرج منه بنيه كأمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 8‬‬


‫ين عَذابا أ َ ِليما ( ‪) 8‬‬ ‫ين ع َْن ِص ْدقِ ِه ْم َوأ َ َ‬
‫ع هد ِل ْلكافِ ِر َ‬ ‫صا ِدقِ َ‬‫سئ َ َل ال ه‬‫ِليَ ْ‬
‫ص ْدقِ ِه ْم " اآلية ]"‬ ‫ع ْن ِ‬ ‫[ « ِليَ ْسئ َ َل ال َّ‬
‫صا ِدقِينَ َ‬
‫ص ْدقِ ِه ْم »‬ ‫ع ْن ِ‬ ‫صا ِدقِينَ َ‬‫ِليَ ْسئ َ َل ال َّ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬ليسأل الصادقين فيما صدقوا فيه ‪ ،‬هل صدقوا فيما أمروا به وأبيح لهم ؟‬
‫أو هل صدقوا في إتيان ما حرم عليهم إتيانه مع كونهم صادقين ؟‬
‫ّللا وتوعد‬‫فيقال لهم ‪ :‬فيما صدقتم ؟ فإن النمامين صادقون ‪ ،‬والمغتابين صادقون ‪ ،‬وقد ذ همهم ه‬
‫على ذلك مع كونه صادقا ‪ ،‬فيسأل الصادق عن صدقه وال يسأل ذو الحق إذا قام به ‪،‬‬
‫فالغيبة والنميمة وأشباههما صدق ال حق إذ الحق ما وجب ‪ ،‬والصدق ما أخبر به على الوجه‬
‫الذي هو عليه ‪ ،‬وقد يجب فيكون حقا وقد ال يجب ويكون صدقا الحقا ‪ ،‬فلهذا يسأل الصادق‬
‫عن صدقه إن كان وجب عليه نجا ‪ ،‬وإن كان لم يجب عليه بل منع من ذلك هلك فيه ‪ ،‬فمن‬
‫علم الفرق بين الحق والصدق تعيهن عليه أن يتكلم في االستحقاق ‪،‬‬
‫ّللا يسأل الصادقين عن صدقهم فيما صدقوا‬ ‫فإن ه‬
‫ع ْن‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬سؤال الصادقين عن صدقهم من حيث إضافة الصدق إليهم ‪ ،‬ألنه قال « َ‬
‫ص ْدقِ ِه ْم »وما قال عن الصدق ‪ ،‬فإن أضاف الصادق إذا سئل صدقه إلى ربه ال إلى نفسه ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وكان صادقا في هذه اإلضافة أنها وجدت منه في حين صدقه في ذلك األمر في الدنيا ‪ ،‬ارتفع‬
‫عنه االعتراض ‪،‬‬

‫ص ‪379‬‬

‫‪379‬‬
‫باّلل ]‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو قوله المشروع ‪ [ :‬ال حول وال قوة إال ه‬ ‫فإن الصادق هو ه‬
‫فإذا كانت القوة به ‪ -‬وهي الصدق ‪ -‬فإضافتها إلى العبد إنما هو من حيث إيجادها فيه وقيامها‬
‫به ‪ ،‬وإن قال عند سؤال الحق إياه عن صدقه ‪ :‬إنه لما صدق في فعله أو قوله في الدنيا ‪ ،‬لم‬
‫باّلل كان منه ‪ ،‬كان صادقا في الجواب عند السؤال ‪ ،‬ونفعه ذلك عند‬ ‫يحضر في صدقه أن ذلك ه‬
‫ّللا في ذلك الموطن وحشر مع الصادقين ‪ ،‬وصدق في صدقه ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ع ْن ِ‬
‫ص ْدقِ ِه ْم »فإذا ثبت لهم جازاهم به وهو قوله تعالى ‪«:‬‬ ‫لهذا قال تعالى ‪ِ «:‬ليَ ْسئ َ َل ال َّ‬
‫صا ِدقِينَ َ‬
‫ص ْد ِق ِه ْم »‬
‫صا ِد ِقينَ ِب ِ‬
‫ّللاُ ال َّ‬
‫ي َّ‬‫ِليَ ْج ِز َ‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬من ال قدم له عند الحق ال صدق له ‪ ،‬ومن ال صدق له سقط حظه من الحق ‪،‬‬
‫والصدق مسؤول عنه ‪ ،‬فكيف غير الصدق ؟ ! ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬اآليات ‪ 9‬إلى ‪] 13‬‬


‫علَ ْي ِه ْم ِريحا َو ُجنُودا لَ ْم‬ ‫س ْلنا َ‬‫علَ ْي ُك ْم ِإ ْذ جا َءتْ ُك ْم ُجنُو ٌد فَأ َ ْر َ‬‫ّللا َ‬‫اذك ُُروا نِ ْع َمةَ ه ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا ْ‬‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ت‬
‫غ ِ‬ ‫سفَ َل ِم ْن ُك ْم َو ِإ ْذ زا َ‬ ‫ون بَ ِصيرا ( ‪ِ ) 9‬إ ْذ جا ُؤ ُك ْم ِم ْن فَ ْو ِق ُك ْم َو ِم ْن أ َ ْ‬ ‫ّللاُ ِبما ت َ ْع َملُ َ‬ ‫ت َ َر ْوها َو َ‬
‫كان ه‬
‫ون َو ُز ْل ِزلُوا‬ ‫ي ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ظنُونَا ) ‪ُ ( 10‬هنا ِلكَ ا ْبت ُ ِل َ‬ ‫اّلِل ال ُّ‬
‫ون بِ ه ِ‬ ‫ظنُّ َ‬ ‫اج َر َوت َ ُ‬
‫وب ا ْل َحن ِ‬ ‫ت ا ْلقُلُ ُ‬ ‫ْاأل َ ْب ُ‬
‫صار َوبَلَغَ ِ‬
‫سولُهُ إِاله‬ ‫ع َدنَا ه‬
‫ّللاُ َو َر ُ‬ ‫ض ما َو َ‬ ‫ِين فِي قُلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫ون َوالهذ َ‬ ‫شدِيدا ) ‪َ ( 11‬وإِ ْذ يَقُو ُل ا ْل ُمنافِقُ َ‬ ‫ِز ْلزاال َ‬
‫ق ِم ْن ُه ُم‬ ‫ِن فَ ِري ٌ‬‫ستَأْذ ُ‬ ‫ار ِجعُوا َويَ ْ‬ ‫ب ال ُمقا َم لَ ُك ْم فَ ْ‬ ‫غ ُرورا ( ‪َ ) 12‬و ِإ ْذ قالَتْ طائِفَةٌ ِم ْن ُه ْم يا أ َ ْه َل يَثْ ِر َ‬ ‫ُ‬
‫ُون ِإاله فِرارا ) ‪( 13‬‬ ‫ي ِبعَ ْو َر ٍة ِإ ْن يُ ِريد َ‬ ‫ون ِإ هن بُيُوتَنا ع َْو َرةٌ َوما ِه َ‬ ‫ي يَقُولُ َ‬‫النه ِب ه‬
‫ع ْو َرة ٌ »أي مائلة تريد السقوط لما استنفروا ‪ ،‬فأكذبهم‬ ‫حقيقة العورة الميل ‪ ،‬فقالوا ‪ِ «:‬إ َّن بُيُوتَنا َ‬
‫ي ِبعَ ْو َر ٍة ِإ ْن يُ ِريدُونَ ِإ َّال ِفرارا ً »يعني بهذا القول مما‬ ‫ّللا عند نبيه بقوله ‪َ «:‬وما ِه َ‬ ‫ه‬
‫قام لَ ُك ْم "]‬
‫ب ال ُم َ‬ ‫[ إشارة ‪ " :‬يا أ َ ْه َل يَثْ ِر َ‬
‫ب »هم المحمديون من العارفين‬ ‫قام لَ ُك ْم »« أ َ ْه َل يَثْ ِر َ‬ ‫ب ال ُم َ‬ ‫دعوتهم إليه ‪ -‬إشارة ‪ «-‬يا أ َ ْه َل يَثْ ِر َ‬
‫قام لَ ُك ْم »ال نهاية لما تطلبون«‬ ‫‪ ،‬ولكن من باب اإلشارة ال من باب النص والتفسير ‪ «،‬ال ُم َ‬
‫ار ِجعُوا »بالعجز عن الوصول أصال ‪ ،‬لتحقق المعرفة بالجناب األعز ‪ ،‬وهو‬ ‫فَ ْ‬

‫ص ‪380‬‬

‫‪380‬‬
‫ّللا‬
‫قول الصديق األكبر ‪ :‬العجز عن درك اإلدراك إدراك ؛ فما رأى شيئا عند ذلك إال ورأى ه‬
‫قبله ‪ ،‬فرجوعهم سفر القتناص علوم لم ينالوها في العروج ‪ ،‬فما لهم غاية يقفون عندها ‪ ،‬فهم‬
‫يظهرون في كل مرتبة بما تقتضيه تلك المرتبة ‪،‬‬
‫وإذا تكمل العبد كانت المراتب عنده على السواء ‪ ،‬ومتى نسبت الشخص إلى مقام بعينه فقد‬
‫رجحته في ذلك المقام ‪،‬‬
‫وإذا كان حكمه في كل مقام حكمه في الباقي كان ذلك عظيما ‪.‬‬
‫نفي المقام هو المكان وإنه *** لليثربي بسورة األحزاب‬
‫من كان فيه يكون مجهوال لذا *** ما ناله أحد بغير حجاب‬
‫رب المكان هو الذي يدعى إذا *** دعي الرجال بسيد األحباب‬
‫وله الوسيلة ال تكون لغيره *** وهو المقدهم من أولي األلباب‬
‫وهو اإلمام وما له من تابع *** وهو المصرف حاجب الحجاب‬

‫اعلم أن عبور المقامات واألحوال هو من خصائص المحمديين ‪ ،‬وال يكون إال ألهل األدب ‪،‬‬
‫جلساء الحق على بساط الهيبة مع األنس الدائم ‪ ،‬ألصحابه االعتدال والثبات والسكون ‪ ،‬غير‬
‫أن لهم سرعة الحركات في الباطن في كل نفس ‪،‬‬

‫مر السحاب ‪ ،‬إن تجلهى لهم الحق في صورة محدودة‬ ‫فترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر ه‬
‫أطرقوا ‪ ،‬فرأوه في إطراقهم مقلبا أحوالهم على غير الصورة التي تجلى لهم فيها فأورثهم‬
‫اإلطراق ‪ ،‬فهم بين تقييد وإطالق ‪ ،‬ال مقام يحكم عليهم ‪ ،‬فإنه ما ث هم ‪ ،‬فهم أصحاب مكان في‬
‫بساط النشأة ‪،‬‬
‫وهم أصحاب مكانة في عدم القرار ‪ ،‬فهم من حيث مكانتهم ومن حيث مكانهم ثابتون ‪ ،‬فهم‬
‫بالذات في مكانهم وهم باألسماء في مكانتهم ‪ ،‬والمكان ثبوت في المكانة ‪ ،‬فمن األسماء لهم‬
‫المقام المحمود ‪ ،‬والمكانة الزلفى في اليوم المشهود ‪ ،‬والزور والوفود ‪،‬‬
‫ومن الذات لهم المكان المحدود والمعنى المقصود والثبات على الشهود وحالة الوجود ‪،‬‬
‫ورؤيته في كل موجود ‪ ،‬في سكون وخمود ‪ ،‬واألمر الحقيقي للمكانة فإنه ال يصح الثبوت على‬
‫أمر واحد في الوجود ‪،‬‬
‫فالمكان ثبوت في المكانة كما نقول في التمكين ‪ :‬إنه تمكين في التلوين ‪ ،‬ال أن التلوين يضاد‬
‫التمكين ‪.‬‬

‫‪ -‬نصيحة ‪ -‬ال راحة مع الخلق ‪ ،‬فارجع إلى الحق فهو أولى بك ‪ ،‬إن عاشرتهم على ما هم‬
‫عليه بعدت منه ‪ ،‬فإنهم على ما ال يرضاه ‪ ،‬وإن لم تعاشرهم وقعوا فيك ‪ ،‬فال راحة‪.‬‬

‫ص ‪381‬‬

‫‪381‬‬
‫[سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬اآليات ‪ 14‬إلى ‪] 21‬‬
‫سيرا ( ‪َ ) 14‬ولَقَ ْد‬ ‫س ِئلُوا ا ْل ِفتْنَةَ َآلت َ ْوها َوما تَلَبهثُوا ِبها ِإاله يَ ِ‬ ‫طارها ث ُ هم ُ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِم ْن أ َ ْق ِ‬‫َولَ ْو د ُِخلَتْ َ‬
‫سؤُال ( ‪ ) 15‬قُ ْل لَ ْن يَ ْنفَعَ ُك ُم ا ْل ِف ُ‬
‫رار‬ ‫ّللا َم ْ‬
‫ع ْه ُد ه ِ‬
‫كان َ‬ ‫ْبار َو َ‬ ‫ون ْاألَد َ‬ ‫ّللا ِم ْن قَ ْب ُل ال يُ َولُّ َ‬ ‫كانُوا عا َهدُوا ه َ‬
‫ون إِاله قَ ِليال ( ‪ ) 16‬قُ ْل َم ْن ذَا اله ِذي يَ ْع ِص ُم ُك ْم ِم َن ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ت أ َ ِو ا ْلقَتْ ِل َوإِذا ال ت ُ َمتهعُ َ‬ ‫إِ ْن فَ َر ْرت ُ ْم ِم َن ا ْل َم ْو ِ‬
‫ّللا َو ِليًّا َوال نَ ِصيرا ( ‪ ) 17‬قَ ْد‬ ‫ُون ه ِ‬‫ُون لَ ُه ْم ِم ْن د ِ‬ ‫سوءا أ َ ْو أَرا َد ِب ُك ْم َرحْ َمة َوال يَ ِجد َ‬ ‫ِإ ْن أَرا َد ِب ُك ْم ُ‬
‫س ِإاله قَ ِليال ) ‪( 18‬‬ ‫ون ا ْلبَأ ْ َ‬
‫ين ِ ِْل ْخوانِ ِه ْم َهلُ هم ِإلَ ْينا َوال يَأ ْت ُ َ‬ ‫ين ِم ْن ُك ْم َوا ْلقائِ ِل َ‬ ‫ّللاُ ا ْل ُمعَ ّ ِوقِ َ‬
‫يَ ْعلَ ُم ه‬
‫علَ ْي ِه ِم َن‬‫ُور أ َ ْعيُنُ ُه ْم كَالهذِي يُ ْغشى َ‬ ‫ون ِإلَ ْيكَ تَد ُ‬‫ظ ُر َ‬ ‫ف َرأ َ ْيت َ ُه ْم يَ ْن ُ‬ ‫علَ ْي ُك ْم فَ ِإذا جا َء ا ْل َخ ْو ُ‬ ‫ش هحة َ‬ ‫أَ ِ‬
‫علَى ا ْل َخ ْي ِر أُولئِكَ لَ ْم يُ ْؤ ِمنُوا فَأَحْ بَ َط ه‬
‫ّللاُ‬ ‫ش هحة َ‬ ‫سنَ ٍة ِحدا ٍد أ َ ِ‬ ‫سلَقُو ُك ْم بِأ َ ْل ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ب ا ْل َخ ْو ُ‬ ‫ت فَ ِإذا ذَ َه َ‬ ‫ا ْل َم ْو ِ‬
‫ت ْاألَحْ ُ‬
‫زاب‬ ‫زاب لَ ْم يَ ْذ َهبُوا َوإِ ْن يَأ ْ ِ‬‫ون ْاألَحْ َ‬ ‫سبُ َ‬ ‫سيرا ( ‪ ) 19‬يَحْ َ‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا يَ ِ‬ ‫كان ذ ِلكَ َ‬ ‫أَعْمالَ ُه ْم َو َ‬
‫ون ع َْن أ َ ْنبائِ ُك ْم َولَ ْو كانُوا فِي ُك ْم ما قاتَلُوا إِاله قَ ِليال ( ‪20‬‬ ‫سئَلُ َ‬ ‫ب يَ ْ‬ ‫ُون فِي ْاألَعْرا ِ‬ ‫يَ َودُّوا لَ ْو أَنه ُه ْم باد َ‬
‫ّللا َكثِيرا (‬ ‫ّللا َوا ْليَ ْو َم ْاآل ِخ َر َوذَك ََر ه َ‬ ‫كان يَ ْر ُجوا ه َ‬‫سنَةٌ ِل َم ْن َ‬ ‫س َوةٌ َح َ‬ ‫ّللا أ ُ ْ‬
‫سو ِل ه ِ‬ ‫كان لَ ُك ْم فِي َر ُ‬ ‫) لَقَ ْد َ‬
‫‪) 21‬‬

‫ّللا أُس َْوة ٌ َح َ‬


‫سنَةٌ » اآلية ]‬ ‫سو ِل َّ ِ‬ ‫[ « لَقَ ْد كانَ لَ ُك ْم فِي َر ُ‬
‫سنَةٌ »لمن سمع القول فاتبع أحسنه ‪ ،‬وبهذه اآلية ثبتت‬ ‫ّللا أُس َْوة ٌ َح َ‬
‫سو ِل َّ ِ‬ ‫« لَقَ ْد كانَ لَ ُك ْم فِي َر ُ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإنه لو لم يكن معصوما ما صح التأسي به ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وتأيهدت عصمة رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم في جميع حركاته وسكناته وأفعاله وأحواله‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫سى برسول ه‬ ‫فنحن نتأ ه‬
‫وأقواله ‪ ،‬ما لم ينه عن شيء من ذلك على التعيين في كتاب أو سنهة ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا جعله أسوة يتأسى‬
‫ّللا في مقام العصمة للزمنا التأسي به فيما يقع منه من الذنوب إن لم ينص‬ ‫به ‪ ،‬فلو لم يقمه ه‬
‫نص‬
‫عليها ‪ ،‬كما ه‬

‫ص ‪382‬‬

‫‪382‬‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫على نكاح الهبة أن ذلك خالص له مشروع ‪ ،‬وهو حرام علينا ‪ ،‬وقال رسول ه‬
‫ّللا أُس َْوة ٌ َح َ‬
‫سنَةٌ »‬ ‫ّللا تعالى يقول ‪ «:‬لَقَ ْد كانَ لَ ُك ْم ِفي َر ُ‬
‫سو ِل َّ ِ‬ ‫وسلم [ خذوا عني مناسككم ] فإن ه‬
‫ّللا منا في‬ ‫ّللا عليه وسلم عن مراد ه‬ ‫وقال ‪ [ :‬من رغب عن سنتي فليس مني ] فأبان بفعله صلهى ه‬
‫العبادات ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬العلماء ورثة األنبياء ]‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫وقال رسول ه‬
‫فاعلم أن الورث على نوعين ‪ :‬معنوي ومحسوس ‪،‬‬
‫فالمحسوس منه ما يتعلق باأللفاظ واألفعال وما يظهر من األحوال ‪ ،‬فأما األفعال فإن ينظر‬
‫ّللا عليه وسلم يفعله مما أبيح للوارث أن يفعله اقتداء به ‪-‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫الوارث إلى ما كان رسول ه‬
‫ال مما هو مختص به عليه السالم مخلص له في نفسه ومع ربه ‪ -‬وفي عشرته ألهله وولده‬
‫وقرابته وأصحابه وجميع العالم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬الموضحة لما‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ويتبع الوارث ذلك كله في األخبار المروية عن رسول ه‬
‫كان عليه في أفعاله من صحيحها وسقيمها ‪ ،‬فيأتيها كلها على ح هد ما وردت ال يزيد عليها وال‬
‫ينقص منها ‪ ،‬وإن اختلفت فيها الروايات فليعمل بكل رواية ‪ ،‬وقتا بهذه ووقتا بهذه ولو مرة‬
‫واحدة ‪ ،‬ويدوم على الرواية التي ثبتت ‪ ،‬وال يخ هل بما روي من ذلك وإن لم يثبت من جهة‬
‫الطريق فال يبالي ‪ ،‬إال أن يتعلق بتحليل أو تحريم فيغلب الحرمة في حق نفسه فهو أولى به ‪،‬‬
‫فإنه من أولي العزم ‪ ،‬وما عدا التحليل أو التحريم فليفعل بكل رواية ‪ ،‬وإذا أفتى ‪ -‬إن كان من‬
‫أهل الفتيا ‪ -‬وتتعارض األدلة السمعية بالحكم من كل وجه ‪ ،‬ويجهل التاريخ وال يقدر على‬
‫الجمع ‪ ،‬فيفتي بما هو أقرب لرفع الحرج ‪ ،‬ويعمل هو في حق نفسه باألشد فإنه في حقه األس هد‬
‫ّللا عليه وسلم في‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫‪ ،‬وهذا من الورث اللفظي فإنه المفتى به ‪ ،‬فيصلي صالة رسول ه‬
‫ليله ونهاره ‪ ،‬وعلى كيفيتها في أحوالها وكمياتها في أعدادها ‪ ،‬ويصوم كذلك ‪ ،‬ويعامل أهله‬
‫من مزاح وج هد كذلك ‪ ،‬ويكون على أخالقه في مأكله ومشربه وما يأكل وما يشرب ‪ ،‬كأحمد بن‬
‫حنبل فإنه كان بهذه المثابة ‪ ،‬روينا عنه أنه ما أكل البطيخ حتى مات ‪ ،‬وكان يقال له في ذلك‬
‫فيقول ‪:‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وك هل ما كان من فعل لم يجد فيه‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫ما بلغني كيف كان يأكله رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم فعله بكيفية خاصة ‪ ،‬وإن كان من الكميات‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫حديثا يبين فيه أن رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬كان يصوم حتى‬ ‫بكمية خاصة ولكن ورد فيه حديث فاعمل به ‪ ،‬كصومه صلهى ه‬
‫نقول ‪ :‬إنه ال يفطر ‪ ،‬ويفطر حتى نقول ‪ :‬إنه ال يصوم ‪ ،‬ولم يوقت الراوي فيه توقيتا ‪ ،‬فصم‬
‫أنت كذلك وأفطر كذلك ‪ ،‬وأكثر من صوم شعبان وال تت هم صوم شهر قط بوجه من الوجوه إال‬
‫شهر رمضان ‪ ،‬وكل صوم أو فعل مأمور به وإن لم يرو فيه فعله فاعمل به ألمره ‪ ،‬وهذا‬
‫ّللا‪:‬‬
‫معنى قول ه‬

‫ص ‪383‬‬

‫‪383‬‬
‫ّللا فَات َّ ِبعُو ِني يُ ْح ِب ْب ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ )‬ ‫( ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ت ُ ِحبُّونَ َّ َ‬
‫سنَةٌ »ما لم يخصص‬ ‫ّللا أُس َْوة ٌ َح َ‬ ‫ّللا يقول ‪ «:‬لَقَ ْد كانَ لَ ُك ْم ِفي َر ُ‬
‫سو ِل َّ ِ‬ ‫فلتتبعه في كل شيء ألن ه‬
‫شيئا من ذلك بنهي عن فعله ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬صلوا كما رأيتموني أصلي ] وقال في الحج [ خذوا عني‬ ‫وقال صلهى ه‬
‫مناسككم ] وإن حججت فإن قدرت على الهدي فادخل به محرما بالحج أو العمرة ‪ ،‬وإن‬
‫حججت مرة أخرى فادخل أيضا إن قدرت على الهدي محرما بالحج ‪ ،‬وإن لم تجد هديا فاحذر‬
‫أن تدخل محرما بالحج ‪،‬‬
‫ولكن ادخل متمتعا بعمرة مفردة ‪ ،‬فإذا طفت وسعيت فحل من إحرامك الحل كله ‪ ،‬ثم بعد ذلك‬
‫أحرم بالحج وانسك نسيكة كما أمرت ‪،‬‬
‫واعزم على أن ال تخ هل بشيء من أفعاله وما ظهر من أحواله مما أبيح لك من ذلك ‪ ،‬والتزم‬
‫ّللا ما‬ ‫آدابه كلها جهد االستطاعة ‪ ،‬ال تترك شيئا من ذلك إذا ورد مما أنت مستطيع عليه ‪ ،‬فإن ه‬
‫كلفك إال وسعك ‪ ،‬فابذله وال تترك منه شيئا ‪ ،‬فإن النتيجة لذلك عظيمة ال يقدر قدرها ‪ ،‬وهي‬
‫ّللا إياك ‪ ،‬وقد علمت حكم الحب من المحب ‪ -‬الحديث –‬ ‫محبة ه‬
‫وأما الورث المعنوي فما يتعلق بباطن األحوال من تطهير النفس من مذام األخالق وتحليتها‬
‫ّللا عليه وسلم من ذكر ربه على كل أحيانه ‪ ،‬وليس إال‬ ‫بمكارم األخالق ‪ ،‬وما كان عليه صلهى ه‬
‫الحضور والمراقبة آلثاره سبحانه في قلبك وفي العالم ‪ ،‬فال يقع في عينك وال يحصل في‬
‫سمعك وال يتعلق بشيء قوة من قواك ‪ ،‬إال ولك في ذلك نظر واعتبار إلهي ‪ ،‬تعلم موقع‬
‫ّللا عليه وسلم فيما روت عنه عائشة‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الحكمة اإللهية في ذلك ‪ ،‬فهكذا كان حال رسول ه‬
‫‪ ،‬وكذلك إن كنت من أهل االجتهاد في االستنباط لألحكام الشرعية ‪ ،‬فأنت وارث نبوة شرعية‬
‫‪ ،‬فإنه تعالى قد شرع لك في تقرير ما أدى إليه اجتهادك ودليلك من الحكم ‪ ،‬أن تشرعه لنفسك‬
‫ّللا لك فيه ‪،‬‬ ‫وتفتي به غيرك إذا سئلت ‪ ،‬وإن لم تسأل فال ‪ ،‬فإن ذلك أيضا من الشرع الذي أذن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن الورث المعنوي ما يفتح عليك به من الفهم في‬ ‫ما هو من الشرع الذي لم يأذن به ه‬
‫ّللا تعالى إال ليتمم‬ ‫ّللا عليه وسلم ما بعثه ه‬ ‫الكتاب وفي حركات العالم كله ‪ ،‬فالرسول صلهى ه‬
‫مكارم األخالق ‪ ،‬فأحواله كلها مكارم أخالق ‪ ،‬فهو مبين لها بالحال وهو أتم وأعدل وأمضى‬
‫في الحكم من القول ‪. :‬‬
‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬اآليات ‪ 22‬إلى ‪] 23‬‬
‫سولُهُ َوما زا َد ُه ْم‬ ‫ّللاُ َو َر ُ‬‫َق ه‬ ‫صد َ‬‫سولُهُ َو َ‬ ‫ع َدنَا ه‬
‫ّللاُ َو َر ُ‬ ‫زاب قالُوا هذا ما َو َ‬ ‫ون ْاألَحْ َ‬ ‫َولَ هما َرأ َ ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫علَ ْي ِه فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن قَضى‬ ‫ص َدقُوا ما عا َهدُوا ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ين ِرجا ٌل َ‬ ‫س ِليما ( ‪ِ ) 22‬م َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ِإاله ِإيمانا َوت َ ْ‬
‫نَحْ بَهُ َو ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْنت َ ِظ ُر َوما بَ هدلُوا ت َ ْبدِيال) ‪( 23‬‬

‫ص ‪384‬‬

‫‪384‬‬
‫ِيال »في أخذ الميثاق الذي أخذ عليهم ‪ ،‬فوفوا به ‪ ،‬وقيل فيهم ‪ :‬صدقوا ‪ ،‬ألنهم‬ ‫" َوما بَ َّدلُوا ت َ ْبد ً‬
‫غالبوا فيه وفي الوفاء به الدعاوى المركوزة في النفوس ‪ ،‬التي أخرجت بعض من أخذ عليه‬
‫ّللا في الوفاء‬
‫ّللا ‪ ،‬فليس الرجل إال من صدق مع ه‬ ‫الميثاق أو أكثره عن الوفاء بما عاهد عليه ه‬
‫ّللا في األرض ‪ ،‬ما قام بأحد وال اتصف به إال نصره"‬ ‫بما أخذ عليه ‪ ،‬والصدق سيف ه‬
‫[ فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن قَضى ن َْحبَهُ » اآلية ]‬
‫ّللا ‪ ،‬ألن الصدق نعته ‪ ،‬والصادق اسمه ‪ ،‬فقوله تعالى ‪ «:‬فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن قَضى ن َْحبَهُ »أي من وفي‬ ‫ه‬
‫بعهده ‪ ،‬وهو العهد الخالص في أخذ الميثاق ‪ ،‬فإن النحب العهد« َو ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْنت َ ِظ ُر »ألن العبد‬
‫باّلل«‬
‫ّللا لعلمه ه‬‫ّللا يفعل ما يريد ‪ ،‬فال يأمن مكر ه‬ ‫ما دام في الحياة الدنيا ال يأمن التبديل ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا منهم ‪ ،‬فما أعظم بشارتها من آية ‪ ،‬وال بلغ‬ ‫ِيال »هللف رجال بهذه المثابة جعلنا ه‬ ‫َوما بَ َّدلُوا ت َ ْبد ً‬
‫ّللا‬
‫ّللا من العشرة ‪ ،‬صح عن رسول ه‬ ‫إلينا تعيين أحد من أهل هذه الصفة إال طلحة بن عبيد ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه قال ‪ [ :‬هذا ممن قضى نحبه ] وهو في الحياة الدنيا فأمن من التبديل ‪.‬‬ ‫صلهى ه‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 24‬‬


‫كان َ‬
‫غفُورا‬ ‫علَ ْي ِه ْم إِ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ين إِ ْن شا َء أ َ ْو يَت ُ َ‬
‫وب َ‬ ‫ين بِ ِص ْدقِ ِه ْم َويُعَذّ َ‬
‫ِب ا ْل ُمنافِ ِق َ‬ ‫صا ِدقِ َ‬‫ّللاُ ال ه‬
‫ي ه‬ ‫ِليَجْ ِز َ‬
‫َر ِحيما «) ‪( 24‬‬
‫ص ْدقِ ِه ْم »بعد أن يسأل الصادقين عن صدقهم ‪ ،‬فإذا ثبت لهم جازاهم به ‪،‬‬ ‫صا ِدقِينَ بِ ِ‬‫ّللاُ ال َّ‬
‫ي َّ‬
‫ِليَ ْج ِز َ‬
‫ّللا فيما وعدهم به ‪ ،‬فجزاء الصدق الصدق اإللهي ‪ ،‬وجزاء ما صدق‬ ‫وجزاؤهم به هو صدق ه‬
‫فيه من العمل والقول بحسب ما يعطيه ذلك العمل أو القول ‪ ،‬فهذا معنى الجزاء ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬اآليات ‪ 25‬إلى ‪] 26‬‬


‫ّللاُ قَ ِويًّا ع َِزيزا (‬ ‫ين ا ْل ِقتا َل َو َ‬
‫كان ه‬ ‫ّللاُ ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا بِغَ ْي ِظ ِه ْم لَ ْم يَنالُوا َخ ْيرا َو َكفَى ه‬
‫ّللاُ الهذ َ‬ ‫َو َر هد ه‬
‫ْب فَ ِريقا‬
‫الرع َ‬ ‫يه ْم َوقَذَ َ‬
‫ف فِي قُلُو ِب ِه ُم ُّ‬ ‫ياص ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫ب ِم ْن َ‬‫ِين ظا َه ُرو ُه ْم ِم ْن أ َ ْه ِل ا ْل ِكتا ِ‬
‫‪َ ) 25‬وأ َ ْن َز َل الهذ َ‬
‫ون فَ ِريقا) ‪( 26‬‬ ‫س ُر َ‬‫ون َوتَأ ْ ِ‬ ‫ت َ ْقتُلُ َ‬

‫ص ‪385‬‬

‫‪385‬‬
‫إذا كانت اليد بالنواصي أنزلت العصم من الصياصي ‪ ،‬ولم تغنها ما عندها من الصياصي ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬اآليات ‪ 27‬إلى ‪] 29‬‬


‫ش ْي ٍء قَدِيرا ( ‪) 27‬‬ ‫ّللاُ عَلى ُك ِ ّل َ‬ ‫ِيار ُه ْم َوأ َ ْموالَ ُه ْم َوأ َ ْرضا لَ ْم ت َ َطؤُها َو َ‬
‫كان ه‬ ‫ض ُه ْم َود َ‬ ‫َوأ َ ْو َرث َ ُك ْم أ َ ْر َ‬
‫واجكَ ِإ ْن ُك ْنت ُ هن ت ُ ِرد َْن ا ْل َحياةَ ال ُّد ْنيا َو ِزينَتَها فَتَعالَ ْي َن أ ُ َم ِت ّ ْعك هُن َوأ ُ َ‬
‫س ِ ّرحْ ك هُن‬ ‫ي قُ ْل ِأل َ ْز ِ‬‫يا أَيُّ َها النه ِب ُّ‬
‫ت‬‫سنا ِ‬ ‫ّللا أ َ َ‬
‫ع هد ِل ْل ُمحْ ِ‬ ‫هار ْاآل ِخ َرةَ فَ ِإ هن ه َ‬ ‫سولَهُ َوالد َ‬ ‫سراحا َج ِميال ( ‪َ ) 28‬و ِإ ْن ُك ْنت ُ هن ت ُ ِرد َْن ه َ‬
‫ّللا َو َر ُ‬ ‫َ‬
‫ِم ْنك هُن أَجْ را ع َِظيما ) ‪( 29‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم ما جرى ‪ ،‬أداه ذلك إلى االنفراد مع ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫لما جرى من نساء رسول ه‬
‫وهجرهن ‪ ،‬فآلى من نسائه شهرا ‪ ،‬فلما فرغ الشهر ناجاه الحق بآية التخيير ‪ ،‬فخيهر نساءه ‪،‬‬
‫فإنه كان المطلوب بذلك التوقيت ما فتح له به ‪ ،‬فإن الحق يجري مع العبد في فتحه على حسب‬
‫قصده والسبب الذي أداه إلى االنفراد به ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 30‬‬


‫علَى ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫كان ذ ِلكَ َ‬ ‫َف لَ َها ا ْلعَ ُ‬
‫ذاب ِض ْعفَ ْي ِن َو َ‬ ‫ش ٍة ُمبَ ِيّنَ ٍة يُضاع ْ‬
‫فاح َ‬ ‫ي ِ َم ْن يَأ ْ ِ‬
‫ت ِم ْنك هُن بِ ِ‬ ‫يا نِسا َء النهبِ ّ‬
‫سيرا) ‪( 30‬‬ ‫يَ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم ولفعل الفاحشة ‪.‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ض ْعفَي ِْن »وذلك لمكانة رسول ه‬ ‫ف لَ َها ْالعَ ُ‬
‫ذاب ِ‬ ‫ع ْ‬‫" يُضا َ‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 31‬‬


‫سو ِل ِه َوت َ ْع َم ْل صا ِلحا نُ ْؤ ِتها أَجْ َرها َم هرت َ ْي ِن َوأ َ ْعتَدْنا لَها ِر ْزقا ك َِريما‬ ‫َو َم ْن يَ ْقنُتْ ِم ْنك هُن ِ ه ِ‬
‫ّلِل َو َر ُ‬
‫(‪)31‬‬

‫القنوت هو الطاعة هّلل ورسوله ‪ ،‬واألجر هنا للعمل الصالح الذي عملته ‪ ،‬وكان مضاعفا للعمل‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬في مقابلة قوله تعالى في حقهن ‪ «:‬يا نِسا َء‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الصالح ومكانة رسول ه‬
‫ض ْعفَي ِْن‪».‬‬ ‫ف لَ َها ْالعَ ُ‬
‫ذاب ِ‬ ‫ع ْ‬
‫ش ٍة ُمبَ ِيهنَ ٍة يُضا َ‬
‫فاح َ‬ ‫ي ِ َم ْن يَأ ْ ِ‬
‫ت ِم ْن ُك َّن ِب ِ‬ ‫النَّ ِب ه‬

‫ص ‪386‬‬

‫‪386‬‬
‫[سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 32‬‬
‫ض ْع َن ِبا ْلقَ ْو ِل فَيَ ْط َم َع الهذِي ِفي قَ ْل ِب ِه‬ ‫ست ُ هن كَأ َ َح ٍد ِم َن ال ِنّ ِ‬
‫ساء ِإ ِن اتهقَ ْيت ُ هن فَال ت َ ْخ َ‬ ‫ي ِ لَ ْ‬
‫يا ِنسا َء النه ِب ّ‬
‫ض َوقُ ْل َن قَ ْوال َم ْع ُروفا ) ‪( 32‬‬ ‫َم َر ٌ‬
‫كالم المرأة يثير الشهوة بالطبع ‪ ،‬وال سيما إن كان في كالمها خضوع وانكسار ‪ ،‬وفي خيال‬
‫وّللا قد نهاهن عن الخضوع في القول ‪ ،‬ففي هذه اآلية‬ ‫السامع أنها أنثى وفي قلبه مرض ‪ ،‬ه‬
‫إباحة كالم النساء الرجال على وصف خاص ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪]33‬‬


‫الزكاةَ َوأ َ ِط ْع َن ه َ‬
‫ّللا‬ ‫صالةَ َوآتِ َ‬
‫ين ه‬ ‫ج ا ْلجا ِه ِليه ِة ْاأل ُولى َوأَقِ ْم َن ال ه‬ ‫َوقَ ْر َن فِي بُيُوتِك هُن َوال تَبَ هرجْ َن تَبَ ُّر َ‬
‫س أ َ ْه َل ا ْلبَ ْي ِ‬
‫ت َويُ َط ِ ّه َر ُك ْم ت َ ْط ِهيرا ( ‪) 33‬‬ ‫الرجْ َ‬ ‫ع ْن ُك ُم ِ ّ‬ ‫ب َ‬ ‫ّللاُ ِليُ ْذ ِه َ‬
‫سولَهُ إِنهما يُ ِري ُد ه‬ ‫َو َر ُ‬
‫ت ‪ » . . .‬اآلية ]‬ ‫س أ َ ْه َل ْالبَ ْي ِ‬ ‫الر ْج َ‬‫ع ْن ُك ُم ِ ه‬‫ب َ‬ ‫ّللاُ ِليُ ْذ ِه َ‬
‫[ « ِإنَّما يُ ِري ُد َّ‬
‫ي ِ »أعلمهن أن ذلك كله مما ورد في هذه اآلية وما قبلها بكونهن أزواجه صلهى‬ ‫« يا نِسا َء النَّ ِب ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا عليه وسلم حتى ال ينسبن إلى قبيح ‪ ،‬فيعود ذلك العار على بيت رسول ه‬ ‫ه‬
‫ت »الرجس هو القذر عند العرب ‪ ،‬هكذا‬ ‫س أ َ ْه َل ْالبَ ْي ِ‬ ‫الر ْج َ‬‫ع ْن ُك ُم ِ ه‬‫ب َ‬ ‫ّللاُ ِليُ ْذ ِه َ‬
‫وسلم« إِنَّما يُ ِري ُد َّ‬
‫ط ِهيرا ً »من دنس األقوال المنسوبة إلى‬ ‫ط ِ هه َر ُك ْم ت َ ْ‬‫حكى الفراء ‪ ،‬والمعني به هنا الفحش« َويُ َ‬
‫ّللا عليه وسلم وأهل بيته تطهيرا ليذهب عنهم الرجس وهو‬ ‫ّللا رسوله صلهى ه‬ ‫الفحش ‪ ،‬فطهر ه‬
‫ّللا‬
‫كل ما يشينهم ‪ ،‬فال يضاف إليهم إال مطهر ‪ ،‬مثل سلمان الفارسي الذي قال فيه رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم [ سلمان منا أهل البيت ]‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا لهم بالتطهير وذهاب الرجس عنهم ‪ ،‬وإذا كان ال يضاف إليهم إال مطهر مقدس ‪،‬‬ ‫وشهد ه‬
‫وحصلت لهم العناية اإللهية بمجرد اإلضافة ‪ ،‬فما ظنك بأهل البيت في نفوسهم ؟ فهم‬
‫ّللا‬
‫ّللا قد شرك أهل البيت مع رسول ه‬ ‫المطهرون بل هم عين الطهارة ‪ ،‬فهذه اآلية تدل على أن ه‬
‫ّللاُ ما تَقَد ََّم ِم ْن ذَ ْن ِب َك َوما تَأ َ َّخ َر )وأي وسخ‬ ‫ّللا عليه وسلم في قوله تعالى ‪ِ (:‬ليَ ْغ ِف َر لَ َك َّ‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا أهل البيت‬ ‫وقذر أقذر من الذنوب وأوسخ ‪ ،‬فال رجس أرجس من المعاصي ‪ ،‬وقد طهر ه‬
‫ّللا صدق وقد سبقت به اإلرادة اإللهية ‪،‬‬ ‫تطهيرا ‪ ،‬وهو خبر والخبر ال يدخله النسخ ‪ ،‬وخبر ه‬
‫ّللا به عنهم من التطهير وذهاب الرجس ‪،‬‬ ‫فكل ما ينسب إلى أهل البيت مما يقدح فيما أخبر ه‬

‫ص ‪387‬‬

‫‪387‬‬
‫فإنما ينسب إليهم من حيث اعتقاد الذي ينسبه ‪ ،‬ألنه رجس بالنسبة إليه ‪ ،‬وذلك الفعل عينه‬
‫ّللا سبحانه نبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ارتفع حكم الرجس عنه في حق أهل البيت ‪ ،‬فطهر ه‬
‫بالمغفرة من الذنوب ودخل الشرفاء أوالد فاطمة كلهم ومن هو من أهل البيت مثل سلمان‬
‫ّللا‬
‫الفارسي إلى يوم القيامة في حكم هذه اآلية من الغفران ‪ ،‬فهم المطهرون اختصاصا من ه‬
‫ّللا به ‪ ،‬وال يظهر حكم هذا الشرف‬ ‫ّللا عليه وسلم وعناية ه‬ ‫وعناية بهم ‪ ،‬لشرف محمد صلهى ه‬
‫ألهل البيت إال في الدار اآلخرة ‪ ،‬فإنهم يحشرون مغفورا لهم ‪ ،‬وأما في الدنيا فمن أتى منهم‬
‫ّللا تعالى في قوله ‪«:‬‬ ‫باّلل وبما أنزله أن يصدق ه‬‫حدا أقيم عليه ‪ ،‬وينبغي لكل مسلم مؤمن ه‬
‫ّللا تعالى أنه طهرهم وأذهب عنهم‬ ‫ط ِ هه َر ُك ْم ت َ ْ‬
‫ط ِهيرا ً »فأخبر ه‬ ‫س أ َ ْه َل ْالبَ ْي ِ‬
‫ت َويُ َ‬ ‫ع ْن ُك ُم ِ ه‬
‫الر ْج َ‬ ‫ِليُ ْذ ِه َ‬
‫ب َ‬
‫ّللا لهم في‬
‫الرجس ‪ ،‬وخبره صدق ‪ ،‬وهذا يدل على عصمة أهل البيت في حركاتهم ‪ ،‬وحفظ ه‬
‫ّللا قد عفا عنهم فيه ‪،‬‬ ‫ذلك ‪ ،‬وليس ذلك لغيرهم ‪ ،‬فيعتقد في جميع ما يصدر من أهل البيت أن ه‬
‫ّللا بتطهيره وذهاب‬ ‫فال ينبغي لمسلم أن يلحق المذمة بهم ‪ ،‬وال ما يشنأ أعراض من قد شهد ه‬
‫ّللا بهم ‪ ،‬فبالنسبة لحقوقنا‬ ‫الرجس عنه ‪ ،‬ال بعمل عملوه وال بخير قدموه ‪ ،‬بل سابق عناية من ه‬
‫وما لنا أن نطالبهم به ‪ ،‬فنحن مخيرون إن شئنا أخذنا وإن شئنا تركنا ‪ ،‬والترك أفضل عموما ‪،‬‬
‫فكيف في أهل البيت ؟ فإذا نزلنا عن طلب حقوقنا وعفونا عنهم في ذلك ‪ ،‬أي فيما أصابوا منا‬
‫ّللا عليه وسلم ما طلب‬ ‫ّللا اليد العظمى والمكانة الزلفى ‪ ،‬فإن النبي صلهى ه‬ ‫كانت لنا بذلك عند ه‬
‫ّللا إال المودة في القربى ‪ ،‬وفيه سر صلة الرحم ‪ ،‬ومن لم يقبل سؤال نبيه فيما‬ ‫منها عن أمر ه‬
‫سأل فيه مما هو قادر عليه بأي وجه يلقاه غدا أو يرجو شفاعته ؟ وهو ما أسعف نبيه صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫أخص قرابته ‪ ،‬وأرجو‬ ‫ه‬ ‫عليه وسلم فيما طلب منه من المودة في قرابته ‪ ،‬فكيف بأهل بيته ؟ فهم‬
‫أن يكون عقب علي بن أبي طالب وسلمان تلحقهم العناية كما ألحقت أوالد الحسن والحسين‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫وعقبهم وموالي أهل البيت لقوله صلهى ه‬
‫ّللا واسعة واعلم أن الشياطين ألقت إلى أهل البدع واألهواء‬ ‫[ مولى القوم منهم ] فإن رحمة ه‬
‫أصال صحيحا ال يشكون فيه ‪ ،‬ثم طرأت عليهم التلبيسات من عدم الفهم حتى ضلوا ‪ ،‬وأكثر ما‬
‫ظهر ذلك في الشيعة وال سيما اإلمامية منهم ‪ ،‬فدخلت عليهم شياطين الجن أوال بحب أهل‬
‫ّللا ‪ ،‬وكذلك هو ‪ ،‬لو وقفوا‬ ‫البيت واستفراغ الحب فيهم ‪ ،‬ورأوا أن ذلك من أسنى القربات إلى ه‬
‫وال يزيدون عليه ‪ ،‬إال أنهم تعدوا من حب أهل البيت إلى طريقين ‪ :‬منهم من تعدهى إلى بغض‬
‫الصحابة وسبهم حيث لم يقدموهم ‪ ،‬وتخيلوا أن أهل البيت أولى بهذه المناصب‬

‫ص ‪388‬‬

‫‪388‬‬
‫الدنيوية ‪ ،‬فكان منهم ما قد عرف واستفاض ‪ ،‬وطائفة زادت إلى سب الصحابة القدح في‬
‫ّللا جل جالله ‪ ،‬حيث لم ينصوا‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم وفي جبريل عليه السالم وفي ه‬ ‫رسول ه‬
‫على رتبتهم وتقديمهم في الخالفة ‪ ،‬حتى أنشد بعضهم [ ما كان من بعث األمين أمينا ]‬
‫وهذا كله واقع من أصل صحيح ‪ ،‬وهو حبه أهل البيت ‪ ،‬أنتج في نظرهم فاسدا فضلوا وأضلوا‬
‫‪ ،‬فانظر ما أدى إليه الغلو في الدين ‪ ،‬أخرجهم عن الح هد فانعكس أمرهم إلى الضد ‪ -‬إشارة ‪ -‬إذا‬
‫ّللا في كتابه لنا ‪ ،‬فما ظنك بأهل القرآن‬
‫ّللا بأهل البيت النبوي المحمدي كما ذكر ه‬
‫كانت عناية ه‬
‫ّللا وخاصته ؟ وأقل األهلية في ذلك حمل حروفه محفوظة في الصدور ‪ ،‬فإن‬ ‫الذين هم أهل ه‬
‫تخلهق بما حمل وتحقق به وكان من صفاته فبخ على بخ ‪،‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬سلمان منها‬ ‫ّللا تعالى بسلمان الفارسي أن قال فيه رسول ه‬
‫ومن عناية ه‬
‫ّللا بهذه المثابة بأن يشرف المضاف إليهم بشرفهم ‪،‬‬‫أهل البيت ] وإذا كانت منزلة مخلوق عند ه‬
‫ّللا تعالى هو الذي اجتباهم وكساهم حلة الشرف ‪ ،‬كيف يا ولي‬‫وشرفهم ليس ألنفسهم ‪ ،‬وإنما ه‬
‫بمن أضيف إلى من له الحمد والمجد والشرف لنفسه وذاته ؟ فهو المجيد سبحانه وتعالى ‪،‬‬
‫فالمضاف إليه من عباده الذين هم عباده ‪ ،‬وهم الذين ال سلطان لمخلوق عليهم في اآلخرة ‪ ،‬وما‬
‫تجد في القرآن عبادا مضافين إليه سبحانه إال السعداء خاصة ‪ ،‬وجاء اللفظ في غيرهم بالعباد ‪،‬‬
‫فما ظنك بالمعصومين المحفوظين منهم القائمين بحدود سيدهم الواقفين عند مراسمه ؟ فشرفهم‬
‫أعلى وأتم ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : (33‬آية ‪] 34‬‬


‫كان لَ ِطيفا َخ ِبيرا ) ‪( 34‬‬ ‫ّللا َوا ْل ِح ْك َم ِة ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫ت هِ‬ ‫َو ْ‬
‫اذك ُْر َن ما يُتْلى ِفي بُيُو ِتك هُن ِم ْن آيا ِ‬
‫ّللا به لطيفا خبيرا ‪ ،‬لطيفا من حيث أنه علهمه من‬ ‫من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ‪ ،‬وكان ه‬
‫ّللا على كل‬
‫ّللا هو المعلم ‪ ،‬ثم اختبره فكان خبيرا ‪ ،‬وكان ه‬ ‫حيث لم يعلم فعلم ‪ ،‬وما علم أن ه‬
‫شيء قديرا ‪ ،‬فمن سأل الحكمة ‪ ،‬فقد سأل النعمة ‪ ،‬ومن أعطي الحكمة ‪ ،‬فقد أوتي الرحمة ‪،‬‬
‫فإن سرمد العذاب بعد ذلك هذا المالك ‪ ،‬فما هو م همن عمت وجوده الرحمة ‪ ،‬وال كان من أهل‬
‫الحكمة ‪ ،‬فإن قال بالرجوع إليها ‪ ،‬وحكم بذلك عليهم وعليها ‪ ،‬فذلك الحكيم العليم ‪ ،‬المسمى‬
‫بالرءوف الرحيم ‪ ،‬وهو الشديد العقاب ‪ ،‬ألنه لشدته في ذلك أعقب أهل النار حسن المآب‪.‬‬

‫ص ‪389‬‬

‫‪389‬‬
‫[سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 35‬‬
‫ت‬‫صادِقا ِ‬ ‫ين َوال ه‬ ‫صا ِد ِق َ‬‫ت َوال ه‬ ‫ين َوا ْلقا ِنتا ِ‬ ‫ت َوا ْلقا ِن ِت َ‬ ‫ين َوا ْل ُم ْؤ ِمنا ِ‬‫ت َوا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬
‫س ِلما ِ‬ ‫ين َوا ْل ُم ْ‬‫س ِل ِم َ‬‫ِإ هن ا ْل ُم ْ‬
‫صائِ ِم َ‬
‫ين‬ ‫ت َوال ه‬ ‫ين َوا ْل ُمت َ َ‬
‫ص ّدِقا ِ‬ ‫ص ِ ّدقِ َ‬‫ت َوا ْل ُمت َ َ‬ ‫شعا ِ‬ ‫ين َوا ْلخا ِ‬ ‫ش ِع َ‬‫ت َوا ْلخا ِ‬ ‫صابِرا ِ‬ ‫ين َوال ه‬ ‫صابِ ِر َ‬ ‫َوال ه‬
‫ّللاُ لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرة‬
‫ع هد ه‬ ‫ت أَ َ‬ ‫ّللا َكثِيرا َوالذها ِكرا ِ‬ ‫ين ه َ‬ ‫ت َوالذها ِك ِر َ‬ ‫ين فُ ُرو َج ُه ْم َوا ْلحافِظا ِ‬ ‫ت َوا ْلحافِ ِظ َ‬ ‫صائِما ِ‬ ‫َوال ه‬
‫َوأَجْ را ع َِظيما ( ‪) 35‬‬
‫ت ‪ » . . .‬اآلية طبقات األولياء]‬ ‫[ « ِإ َّن ْال ُم ْس ِل ِمينَ َو ْال ُم ْس ِلما ِ‬
‫ّللا بهذه النعوت سدى ‪،‬‬ ‫ّللا أقواما من النساء والرجال بصفات ومنزلة ‪ ،‬فما نعتهم ه‬ ‫نعت ه‬
‫والمتصفون بهذه األوصاف قد طالبهم الحق بما تقتضيه هذه الصفات ‪ ،‬وما تثمر لهم من‬
‫ّللا باإلسالم وهو‬ ‫ت »وهؤالء توالهم ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬إِ َّن ْال ُم ْس ِل ِمينَ َو ْال ُم ْس ِلما ِ‬ ‫المنازل عند ه‬
‫ّللا ال غير ‪ ،‬فإذا وفهى العبد اإلسالم بجميع لوازمه وشروطه‬ ‫انقياد خاص لما جاء من عند ه‬
‫وقواعده فهو مسلم ‪ ،‬وإن انتقص شيئا من ذلك فليس بمسلم فيما أخ هل به من الشروط ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ]‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال رسول ه‬
‫واليد هنا بمعنى القدرة ‪ ،‬أي سلم المسلمون مما هو قادر على أن يفعل بهم مما ال يقتضيه‬
‫ّللا فيهم ‪ ،‬فأتى باألعم ‪ ،‬وذكر اللسان ألنه قد يؤذي بالذكر من ال‬ ‫اإلسالم ‪ ،‬من التعدي لحدود ه‬
‫يقدر على إيصال األذى إليه بالفعل ‪ ،‬وهو البهتان هنا خاصة ال الغيبة ‪ ،‬فإنه قال ‪ :‬المسلمون‬
‫ولو قال ‪ :‬الناس لدخلت الغيبة وغير ذلك من سوء القول ‪ ،‬فلم يثبت الشارع اإلسالم إال لمن‬
‫سلم المسلمون ‪ ،‬وهم أمثاله في السالمة ‪ ،‬فالمسلمون هم المعتبر في هذا الحديث ‪ ،‬وهم‬
‫المقصود ‪ ،‬فإن المسلمين ال يسلمون من لسان من يقع فيهم إال حتى يكونوا أبرياء مما نسب‬
‫إليهم ‪ ،‬ولذلك فسرناه بالبهتان ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ [ :‬إذا قلت في أخيك ما ليس فيه فذلك البهتان ‪ ،‬وفي رواية‬ ‫فإن النبي صلهى ه‬
‫فقد بهته ] فخاب سهمك الذي رميته به ‪ ،‬فإنه ما وجد منفذا ‪ ،‬فإنك نسبت إليه ما ليس هو عليه‬
‫ّللا مسلمين ‪ ،‬فمن وقع فيمن هذه صفته فليس بمسلم ‪ ،‬ألن ذلك الوصف الذي وصف‬ ‫‪ ،‬فسماهم ه‬
‫المسلم به ورماه به ولم يكن المسلم محال له عاد على قائله ‪ ،‬فلم يكن الرامي له بمسلم ‪ ،‬فإنه ما‬
‫سلم مما قال إذ عاد عليه سهم كالمه الذي رماه به ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬من قال ألخيه كافر فقد باء به أحدهما ]‬ ‫قال صلهى ه‬
‫اس قالُوا أ َ نُؤْ ِم ُن‬ ‫وقال تعالى في حق قوم قيل لهم ‪ِ (:‬آمنُوا َكما آ َمنَ النَّ ُ‬

‫ص ‪390‬‬

‫‪390‬‬
‫سفَها ُء َول ِك ْن ال يَ ْعلَ ُمونَ )‬ ‫ّللا فيهم ( أَال ِإنَّ ُه ْم ُه ُم ال ُّ‬
‫سفَها ُء ) قال ه‬‫َكما آ َمنَ ال ُّ‬
‫فأعاد الصفة عليهم لما لم يكن المسلمون المؤمنون أهل سفه ‪ ،‬فليس المسلم إال من سلم من‬
‫جميع العيوب األصلية والطارئة ‪ ،‬فال يقول في أحد شرا وال يؤثر فيه إذا قدر عليه شرا أصال‬
‫ّللا عليه‬ ‫‪ ،‬وليس إقامة الحدود بشر فإنه خير فال يخرجه ذلك عن اإلسالم ‪ ،‬فإن النبي صلهى ه‬
‫وسلم اشترط سالمة المسلمين ‪ ،‬ومن آذاك ابتداء عن قصد منه فليس بمسلم ‪،‬‬
‫فإنك ما سلمت منه ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم يقول ‪ [ :‬من سلم المسلمون ] فال يقدح القصاص في اإلسالم ‪،‬‬ ‫والنبي صلهى ه‬
‫فإنك ما آذيت مسلما من حيث آذاك ‪ ،‬فإن المسلم ال يؤذي المسلم ‪ ،‬بل أسقط القصاص في الدنيا‬
‫القصاص في اآلخرة ‪ ،‬فقد أنعم عليه بضرب من النعم ‪ ،‬فإن عفا وأصلح ولم يؤاخذه وتجاوز‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬بشرط ترك المطالبة في اآلخرة ‪ ،‬وحق ه‬ ‫عن سيئته فذلك المقام العالي وأجره على ه‬
‫ثابت قبله ألنه تعدى حده ‪ ،‬فقدح في إسالمه قدر ما تعدى ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬إن عصى المسلم ربه في‬
‫غير المسلم هل يكون مسلما بذلك أم ال ؟‬
‫سولَهُ لَعَنَ ُه ُم َّ‬
‫ّللاُ ِفي ال ُّد ْنيا‬ ‫ّللا يقول ‪ِ (:‬إ َّن الَّذِينَ يُؤْ ذُونَ َّ َ‬
‫ّللا َو َر ُ‬ ‫قلنا ‪ :‬ال يكون مسلما ‪ ،‬فإن ه‬
‫َو ْاآل ِخ َرةِ ) والمسلم ال يكون ملعونا ‪،‬‬
‫ّللا وحده ‪ ،‬قلنا ‪ :‬كل‬ ‫فلقائل أن يقول ‪ :‬هنا بالمجموع كانت اللعنة ‪ ،‬ونحن إنما قلنا ‪ :‬من آذى ه‬
‫ّللا من القول ما‬ ‫ّللا وحده في زعمه فقد آذى المسلمين ‪ ،‬فإن المسلم يتأذى إذا سمع في ه‬ ‫من آذى ه‬
‫ّللا ما ال يليق به‬ ‫ال يليق به ‪ ،‬فهو مؤاخذ من جهة ما تأذى به المسلمون ‪ ،‬من قولهم « ‪ » 1‬في ه‬
‫‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬فإن لم يعرف ذلك المسلمون منه حتى يتأذوا من ذلك ‪،‬‬
‫قلنا ‪ :‬حكم ذلك حكم الغيبة ‪ ،‬فإنه لو عرف من اغتيب تأذى ‪ ،‬وهو مؤاخذ بالغيبة فهو مؤاخذ‬
‫ّللا وإن لم يعرف بذلك مسلم ‪،‬‬ ‫بإيذائه ه‬
‫ّللا ] ‪ ،‬فالمسلم من كان بهذه المثابة ‪،‬‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬ال أحد أصبر على أذى من ه‬ ‫قال صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ت »المؤمنون والمؤمنات توالهم ه‬ ‫وهو السعيد المطلق وقليل ما هم ‪َ «:‬و ْال ُمؤْ ِمنِينَ َو ْال ُمؤْ ِمنا ِ‬
‫باإليمان الذي هو القول والعمل واالعتقاد ‪ ،‬وحقيقته االعتقاد شرعا ولغة ‪ ،‬وهو في القول‬
‫والعمل شرعا ال لغة ‪ ،‬فالمؤمن من كان قوله وفعله مطابقا لما يعتقده في ذلك الفعل ‪ ،‬فأولئك‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬المؤمن من‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا لهم مغفرة وأجرا عظيما ‪ ،‬قال رسول ه‬ ‫من الذين أعد ه‬
‫أمنه الناس على أموالهم ]‬
‫يخص مؤمنا وال مسلما ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬المؤمن من أمن جاره بوائقه ] ولم‬ ‫وقال صلهى ه‬
‫بل قال ‪ :‬الناس والجار من غير تقييد ‪ ،‬فإن المسلم قيهده بسالمة المسلمين ‪ ،‬ففرق بين المسلم‬

‫) ‪( 1‬الضمير هنا يعود على غير المسلمين الذين آذاهم المسلم‪.‬‬

‫ص ‪391‬‬

‫‪391‬‬
‫والمؤمن بما قيده به وبما أطلقه ‪ ،‬فعلمنا أن لإليمان خصوص وصف ‪ ،‬وهو التصديق تقليدا‬
‫من غير دليل ‪ ،‬ليفرق بين اإليمان والعلم ‪ ،‬والمؤمن الذي اعتبره الشرع من أهل هذه اآلية له‬
‫عالمتان في نفسه إذا وجدهما كان من المؤمنين ‪،‬‬
‫العالمة الواحدة أن يصير الغيب له كالشهادة ‪ ،‬من عدم الريب فيما يظهر على المشاهد لذلك‬
‫األمر الذي وقع به اإليمان ‪ ،‬من اآلثار في نفس المؤمن كما يقع في نفس المشاهد له ‪ ،‬فيعلم أنه‬
‫مؤمن بالغيب ‪ ،‬والعالمة الثانية أن يسري األمان منه في نفس العالم كله ‪،‬‬
‫فيأمنوه على القطع على أموالهم وأنفسهم وأهليهم ‪ ،‬من غير أن يتخلل ذلك األمان تهمة في‬
‫أنفسهم من هذا الشخص ‪ ،‬وانفعلت ألمانته النفوس ‪ ،‬فذلك هو المشهود له بأنه من المؤمنين ‪،‬‬
‫ومهما لم يجد هاتين العالمتين فال يغالط نفسه وال يدخلها مع المؤمنين ‪،‬‬
‫س ُه ْم َوأ َ ْموالَ ُه ْم )‬‫ّللا ا ْشتَرى ِمنَ ْال ُمؤْ ِمنِينَ أ َ ْنفُ َ‬ ‫قال تعالى‪ِ ( :‬إ َّن َّ َ‬
‫ت »هم الذين‬ ‫فمن ادعى اإليمان وزعم أن له نفسا يملكها فليس بمؤمن« َو ْالقانِتِينَ َو ْالقانِتا ِ‬
‫ّللا بالقنوت ‪ ،‬وهو الطاعة هّلل في كل ما أمر به ونهى عنه ‪ ،‬وهذا ال يكون إال بعد‬ ‫توالهم ه‬
‫ّلل قا ِن ِتينَ ) أي طائعين فأمر بطاعته ‪،‬‬ ‫نزول الشرائع ‪ ،‬قال تعالى‪َ ( :‬وقُو ُموا ِ َّ ِ‬
‫والساجدون هّلل على قسمين ‪ :‬منهم من يسجد طوعا ‪ ،‬ومنهم من يسجد كرها ‪،‬‬
‫فالقانت يسجد طوعا ‪ ،‬وتصحيح طاعتهم هّلل وقنوتهم أن يكون الحق لهم بهذه الموازنة ‪ ،‬كما‬
‫قال ‪ ( :‬فَا ْذ ُك ُرونِي أ َ ْذ ُك ْر ُك ْم )‬
‫ي شبرا تقربت إليه ذراعا ] فالحق مع العبد على قدر ما هو العبد مع الحق ‪،‬‬ ‫[ ومن تقرب إل ه‬
‫ّللا به من األجر‬ ‫ّللا ‪ ،‬ال من حيث ما وعده ه‬ ‫ّللا من حيث ما هو عبد ه‬ ‫ومن شرط القانت أن يطيع ه‬
‫والثواب لمن أطاعه ‪ ،‬وأما األجر الذي يحصل للقانت ‪،‬‬
‫فذلك من حيث العمل الذي يطلبه ال من حيث الحال الذي أوجب له القنوت ‪،‬‬
‫ت ِم ْن ُك َّن ِ َّ ِ‬
‫ّلل‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪َ (:‬و َم ْن يَ ْقنُ ْ‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا تعالى في القانتات من نساء رسول ه‬ ‫قال ه‬
‫سو ِل ِه َوت َ ْع َم ْل صا ِلحا ً نُؤْ تِها أ َ ْج َرها َم َّرتَي ِْن‬ ‫َو َر ُ‬
‫)فاألجر هنا للعمل الصالح الذي عملته ‪ ،‬وكان مضاعفا في مقابلة‬
‫ض ْعفَي ِْن‬‫ذاب ِ‬ ‫ف لَ َها ْالعَ ُ‬ ‫ع ْ‬ ‫ش ٍة ُمبَ ِيهنَ ٍة يُضا َ‬ ‫ت ِم ْن ُك َّن ِب ِ‬
‫فاح َ‬ ‫ي ِ َم ْن يَأ ْ ِ‬ ‫قوله تعالى في حقهن ‪ (:‬يا ِنسا َء النَّ ِب ه‬
‫)‬
‫ّللا عليه وسلم ولفعل الفاحشة ‪ ،‬كذلك ضوعف األجر للعمل الصالح‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫لمكانة رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وبقي القنوت معرى عن األجر ‪ ،‬فإنه أعظم من‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ومكانة رسول ه‬
‫األجر فإنه ليس بتكليف ‪ ،‬وإنما الحقيقة تطلبه ‪ ،‬وهو حال يستصحب العبد في الدنيا واآلخرة ‪،‬‬
‫والقنوت مع العبودية في دار التكليف ال مع األجر ‪ ،‬ذلك هو القنوت المطلوب ‪ ،‬والحق إنما‬
‫ينظر للعبد في طاعته بعين باعثه على تلك الطاعة ‪،‬‬
‫ولهذا قال تعالى آمرا‪:‬‬

‫ص ‪392‬‬

‫‪392‬‬
‫ّلل قا ِن ِتينَ ) ولم يسم أجرا ‪ ،‬وال جعل القنوت إال من أجله ال من أجل أمر آخر«‬ ‫( َوقُو ُموا ِ َّ ِ‬
‫ّللا بالصدق في أقوالهم وأفعالهم‬ ‫ت » هم الذين توالهم ه‬ ‫صادِقا ِ‬ ‫صا ِد ِقينَ َوال َّ‬ ‫َوال َّ‬
‫علَ ْي ِه ) فهذا من صدق أحوالهم ‪ ،‬والصدق في القول‬ ‫ّللا َ‬‫ص َدقُوا ما عا َهدُوا َّ َ‬ ‫فقال تعالى ‪ِ (:‬رجا ٌل َ‬
‫معلوم وهو ما يخبر به ‪ ،‬وصدق الحال ما يفي به في المستأنف ‪ ،‬وهو أقصى الغاية في الوفاء‬
‫ألنه شديد على النفس فال يقع الوفاء به في الحال والقول إال من األشداء األقوياء ‪ ،‬وال سيما‬
‫في القول ‪ ،‬فإنك لو حكيت كالما عن أحد كان بالفاء فجعلت بدله واوا لم تكن من هذه الطائفة ‪،‬‬
‫تعرف السامع أنك نقلت‬ ‫فانظر ما أغمض هذا المقام وما أقواه ‪ ،‬فإن نقلت الخبر على المعنى ه‬
‫على المعنى ‪ ،‬فتكون صادقا من حيث إخبارك عن المعنى عند السامع ‪ ،‬وال تسمى صادقا من‬
‫حيث نقلك لما نقلته ‪،‬‬
‫فإنك ما نقلت عين لفظ من نقلت عنه ‪ ،‬وال تسمى كاذبا فإنك قد عرفت السامع أنك نقلت المعنى‬
‫‪ ،‬فأنت مخبر للسامع عن فهمك ال عمن تحكي عنه ‪ ،‬فأنت صادق عنده في نقلك عن فهمك ‪ ،‬ال‬
‫عن الرسول أو من تخبر عنه أن ذلك مراده بما قال ‪،‬‬
‫فالصدق في المقال عسير جدا ‪ ،‬قليل من الناس من يفي به ‪ ،‬إال من أخبر السامع أنه ينقل على‬
‫المعنى فيخرج من العهدة ‪ ،‬فالصدق في الحال أهون منه إال أنه شديد على النفوس ‪ ،‬فإنه‬
‫يراعي جانب الوفاء لما عاهد من عاهد عليه ‪،‬‬
‫ّللا الجزاء بالصدق والسؤال عنه فقال ‪ ( :‬ليجزي الصادقين بصدقهم )‬ ‫وقد قرن ه‬
‫ّللا فيما وعدهم به«‬‫ولكن بعد أن يسأل الصادقين عن صدقهم ‪ ،‬وجزاؤهم به هو صدق ه‬
‫ّللا على‬
‫ّللا بالصبر ‪ ،‬وهم الذين حبسوا نفوسهم مع ه‬ ‫ت »هؤالء توالهم ه‬ ‫صا ِبرا ِ‬‫صا ِب ِرينَ َوال َّ‬ ‫َوال َّ‬
‫ّللا جزاءهم على ذلك من غير توقيت ‪،‬‬ ‫طاعته من غير توقيت ‪ ،‬فجعل ه‬
‫ب ) فما وقهت لهم فإنهم لم يوقتوا ‪ ،‬فعم‬ ‫صابِ ُرونَ أ َ ْج َر ُه ْم بِغَي ِْر ِحسا ٍ‬
‫فقال تعالى ‪ (:‬إِنَّما يُ َوفَّى ال َّ‬
‫صبرهم جميع المواطن التي يطلبها الصبر ‪ ،‬فكما حبسوا نفوسهم على الفعل بما أمروا به ‪،‬‬
‫حبسوها أيضا على ترك ما نهوا عن فعله ‪ ،‬فلم يوقتوا فلم يوقهت لهم األجر ‪ ،‬وهم الذين أيضا‬
‫ّللا في رفعها عنهم ‪ ،‬بدعاء‬ ‫حبسوا نفوسهم عند وقوع الباليا والرزايا بهم عن سؤال ما سوى ه‬
‫الغير أو شفاعة أو طب ‪ ،‬إن كان من البالء الموقوف إزالته على الطب ‪،‬‬
‫ّللا في رفع ذلك البالء عنهم ‪ ،‬أال ترى إلى أيوب عليه‬ ‫وال يقدح في صبرهم شكواهم إلى ه‬
‫اح ِمينَ ) ومع هذا أثنى‬ ‫ت أ َ ْر َح ُم َّ‬
‫الر ِ‬ ‫ي الض ُُّّر َوأ َ ْن َ‬
‫سنِ َ‬
‫السالم سأل ربه رفع البالء عنه بقوله ‪َ (:‬م َّ‬
‫ّللا في رفع الضرر‬ ‫عليه بالصبر وشهد له به ‪ ،‬فلو كان الدعاء إلى ه‬

‫ص ‪393‬‬

‫‪393‬‬
‫ّللا به على أيوب بالصبر وقد أثنى عليه‬ ‫ورفع البالء يناقض الصبر المشروع المطلوب لم يثن ه‬
‫ّللا أن ال يسأل العبد رفع البالء عنه ‪ ،‬ألن فيه رائحة من مقاومة‬ ‫به ‪ ،‬بل من سوء األدب مع ه‬
‫القهر اإللهي بما يجده من الصبر وقوته ‪،‬‬
‫وهذا ال يناقض الرضا بالقضاء ‪ ،‬فإن البالء إنما هو عين المقضي ال القضاء ‪ ،‬فيرضى‬
‫ت»‬ ‫ّللا في رفع المقضي عنه ‪ ،‬فيكون راضيا صابرا « َو ْالخا ِش ِعينَ َو ْالخا ِشعا ِ‬ ‫بالقضاء ويسأل ه‬
‫ّللا بالخشوع من ذل العبودية القائم بهم ‪ ،‬لتجلي سلطان الربوبية على قلوبهم في‬ ‫قوم توالهم ه‬
‫ّللا لهم في قلوبهم في هذه‬ ‫الدار الدنيا ‪ ،‬فينظرون إلى الحق سبحانه من طرف خفي ‪ ،‬يوجده ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فمن كانت حالته‬ ‫الحالة ‪ ،‬خفي عن إدراك كل مدرك إياه ‪ ،‬بل ال يشهد ذلك النظر منهم إال ه‬
‫هذه في الدار الدنيا من رجل أو امرأة فهو الخاشع وهي الخاشعة ‪ ،‬فيشبه القنوت من وجه إال‬
‫أن القنوت يشترط فيه األمر اإللهي ‪ ،‬والخشوع ال يشترط فيه إال التجلي الذاتي ‪،‬‬
‫وكلتا الصفتين تطلبهما العبودية ‪ ،‬فال يتحقق بهما إال عبد خالص العبودية والعبودة ‪،‬‬
‫وله حال ظاهر في الجوارح التي لها الحركات ‪ ،‬وحال باطن في القلوب ‪ ،‬فيورث في الظاهر‬
‫سكونا ويؤثر في الباطن ثبوتا ‪ ،‬والقنوت يورث في الظاهر بحسب ما ترد به األوامر من‬
‫حركة وسكون ‪ ،‬فإن كان القانت خاشعا فحركته في سكون وال بد إن ورد األمر بالتحرك ‪،‬‬
‫ويورث القنوت في الباطن انتقاالت أدق من األنفاس ‪ ،‬متوالية مع األوامر اإللهية الواردة عليه‬
‫في عالم باطنه ‪ ،‬فالخاشع في قنوته في الباطن ثبوته على قبول تلك األوامر الواردة عليه من‬
‫غير أن يتخللها ما يخرجها عن أن تكون مشهودة لهذا الخاشع ‪،‬‬
‫ّللا« َو ْال ُمت َ َ‬
‫ص ِ هدقِينَ‬ ‫فالخاشع والقانت خشوعه وقنوته أخوان متفقان في الموفقين من عباد ه‬
‫ّللا فيه مما افتقر إليه خلق‬ ‫ّللا بجوده ليجودوا بما استخلفهم ه‬ ‫ت »وهم الذين توالهم ه‬ ‫َو ْال ُمت َ َ‬
‫ص هدِقا ِ‬
‫باّلل ‪ ،‬فالكلمة الطيبة صدقة ‪،‬‬ ‫ّللا الخلق إليهم لغناهم ه‬‫ّللا ‪ ،‬فأحوج ه‬ ‫ه‬
‫ولما كان حالهم التعمل في اإلعطاء ال العمل ‪ ،‬دل على أنهم متكسبون في ذلك ‪ ،‬لنظرهم أن‬
‫ذلك ليس لهم وإنما هو هّلل ‪ ،‬فال يدعون فيما ليس لهم ‪ ،‬فال منة لهم في الذي يوصلونه إلى‬
‫ّللا من جميع الحيوانات ‪ ،‬وكل متغذ عليهم لكونهم مؤدين أمانة كانت بأيديهم‬ ‫الناس أو إلى خلق ه‬
‫أوصلوها إلى مستحقيها ‪،‬‬
‫فال يرون أن لهم فضال عليهم فيما أخرجوه ‪ ،‬وهذه الحالة ال يمدحون بها إال مع الدوام‬
‫ّللا باإلمساك الذي يورثهم‬ ‫ت » قوم توالهم ه‬ ‫صائِما ِ‬
‫صائِ ِمينَ َوال َّ‬
‫والدءوب عليها في كل حال« َوال َّ‬
‫ّللا تعالى عن كل شيء أمرهم الحق أن يمسكوا‬ ‫الرفعة عند ه‬

‫ص ‪394‬‬

‫‪394‬‬
‫عنه أنفسهم وجوارحهم ‪ ،‬فمنه ما هو واجب ومندوب ‪ ،‬والصوم المعهود داخل فيه ‪ ،‬والمقام‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن الصوم هو الرفعة ‪ ،‬قال الشاعر‬ ‫األكمل لمن تحقق بهذا اإلمساك ‪ ،‬فأورثه الرفعة عند ه‬
‫ت »وهو خصوص‬ ‫‪ :‬إذا صام النهار وهجر ؛ أي ارتفع النهار « َو ْالحافِ ِظينَ فُ ُرو َج ُه ْم َو ْالحافِظا ِ‬
‫ّللا ‪،‬‬‫من عموم حفظ حدود ه‬
‫ّللاُ لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرة ً »أي سترا ‪ ،‬ألن الفرج عورة تطلب الستر ‪ ،‬فهو إنباء‬ ‫ولهذا قال فيهم ‪ «:‬أ َ َ‬
‫ع َّد َّ‬
‫عن حقيقة والحافظون فروجهم على طبقتين ‪ :‬منهم من يحفظ فرجه عما أمر بحفظه منه وال‬
‫يحفظه مما رغب في استعماله ‪ ،‬ألمور إلهية وحكم ربانية أظهرها إبقاء النوع على طريق‬
‫القربة ‪ ،‬ومنهم من يحفظ فرجه إبقاء على نفسه لغلبة عقله على طبعه ‪ ،‬وغيبته عما سنه أهل‬
‫السنن من الترغيب في ذلك ‪ ،‬فإن انفتح له عين وانفرج له طريق إلى ما تعطيه حقيقة الوضع‬
‫المرغب في النكاح فذلك صاحب فرج فلم يحفظه الحفظ الذي أشرنا إليه ‪ ،‬وأما صاحب الشرع‬
‫الحافظ به فال بد له من الفتح ‪ ،‬ولكن إذا اقترنت مع الحفظ الهمة« َوالذَّا ِك ِرينَ َّ َ‬
‫ّللا َكثِيرا ً‬
‫ّللا بإلهام الذكر ليذكروه فيذكرهم ‪،‬‬ ‫ت »وهم الذين توالهم ه‬ ‫َوالذَّا ِكرا ِ‬
‫قال تعالى ‪ ( :‬فَا ْذ ُك ُرو ِني أ َ ْذ ُك ْر ُك ْم )‬
‫وقال ‪ [ :‬من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ‪ ،‬ومن ذكرني في مأل ذكرته في مأل خير منه ]‬
‫ّللا‬
‫ّللا جليسهم ‪ ،‬لهذا ختم ه‬ ‫والذكر أعلى المقامات كلها ‪ ،‬ولما كان الذاكرون أعلى الطوائف ألن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ذكرانهم وإناثهم ‪ ،‬فالذاكر هو الرجل الذي له‬ ‫بجلسائه وبذكرهم صفات المقربين من أهل ه‬
‫ّللا تعالى مع الذاكرين له بمعية اختصاص ‪ ،‬وما ث هم‬ ‫الدرجة على غيره من أهل المقامات ‪ ،‬فإن ه‬
‫إال مزيد علم ‪ ،‬به يظهر الفضل ‪ ،‬فكل ذاكر ال يزيد علما في ذكره بمذكوره فليس بذاكر ‪ ،‬وإن‬
‫ذكر بلسانه ‪ ،‬ألن الذاكر هو الذي يعمه الذكر كله ‪ ،‬فذلك هو جليس الحق ‪ ،‬فال بد من حصول‬
‫الفائدة ‪ ،‬ألن العالم الكريم الذي ال يتصور فيه بخل ال بد أن يهب جليسه أمرا لم يكن عنده ‪ ،‬إذ‬
‫ليس هنالك بخل ينافي الجود ‪ ،‬فلم يبق إال المحل القابل ‪ ،‬وال يجالس إال ذو محل قابل ‪ ،‬فذلك‬
‫ّللا من حيث االسم الذي يذكرونه به ‪،‬‬ ‫هو جليس الحق ‪ ،‬وهم على الحقيقة جلساء ه‬
‫ّللا كثيرا‬
‫ّللا بعد الذاكرات شيئا ‪ ،‬فالذاكرون ه‬ ‫وهذه مسئلة ال يعرفها كثير من الناس ‪ ،‬وما ذكر ه‬
‫والذاكرات آخر الطوائف ‪ ،‬ليس بعدهم أحد له نعت يذكر ‪ ،‬فختم بهم جلساءه ‪،‬‬
‫وقوله تعالى ‪َ «:‬كثِيرا ً »أي في كل حال ‪ ،‬هذا معنى الكثير ‪ ،‬فإنه من الناس من يكون له هذه‬
‫الحالة في أوقات ما ‪ ،‬ثم ينحجب ‪ ،‬ومن ذلك أن كل صفة علوية إلهية ال تنبغي إال هّلل ويكون‬

‫ص ‪395‬‬

‫‪395‬‬
‫باّلل يذلون تحت‬
‫مظهرها في المخلوقين ( مثل الغنى والعزة والجبروت ) ‪ ،‬فإن العلماء ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وأعلى الذكر أن نذكره‬
‫سلطانها وال تحجبهم المظاهر عنها وال يعرف ذلك إال العلماء ه‬
‫بكالمه من حيث علمه بذلك ال من حيث علمنا ‪ ،‬فيكون هو الذي يذكر نفسه ال نحن« أ َ َ‬
‫ع َّد َّ‬
‫ّللاُ‬
‫ّللا لهم المغفرة واألجر العظيم قبل وقوع الذنب المقدر‬ ‫لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرة ً َوأ َ ْجرا ً َ‬
‫ع ِظيما ً »هؤالء أعد ه‬
‫عليهم عناية منه ‪ ،‬فد هل ذلك على أنهم من العباد الذين ال تضرهم الذنوب التي وقعت منهم‬
‫بالقدر المحتوم ‪ ،‬ال انتهاكا للحرمة اإللهية ‪ ،‬وقد ورد في الصحيح في الخبر اإللهي [ اعمل ما‬
‫شئت فقد غفرت لك ] ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 36‬‬


‫ُون لَ ُه ُم ا ْل ِخيَ َرةُ ِم ْن أ َ ْم ِر ِه ْم َو َم ْن‬
‫سولُهُ أ َ ْمرا أ َ ْن يَك َ‬
‫ّللاُ َو َر ُ‬
‫ضى ه‬ ‫كان ِل ُم ْؤ ِم ٍن َوال ُم ْؤ ِمنَ ٍة إِذا قَ َ‬
‫َوما َ‬
‫ضالال ُم ِبينا ( ‪) 36‬‬ ‫ض هل َ‬ ‫سولَهُ فَقَ ْد َ‬ ‫ّللا َو َر ُ‬‫ص هَ‬ ‫يَ ْع ِ‬
‫ّللا ؟ ]‬
‫ّللا تعالى ‪ :‬ومن يعص الرسول فقد عصى ه‬ ‫[ لم لم يقل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬كما أنزله في الطاعة ‪ ،‬ألن طاعة‬ ‫ولم يقل تعالى ‪ :‬ومن يعص الرسول فقد عصى ه‬
‫المخلوق هّلل ذاتية وعصيانه بالواسطة ‪ ،‬فلو أنزل الرسول هنا كما أنزله في الطاعة لم يكن إلها‬
‫‪ ،‬وهو إله ‪ ،‬فال يعصى إال بحجاب ‪ ،‬وليس الحجاب سوى عين الرسول ‪ ،‬ونحن اليوم أبعد في‬
‫المعصية للرسول من أصحابه إلى من دونهم إلينا ‪ ،‬فنحن ما عصينا إال أولي األمر منا في‬
‫ّللا به ونهى عنه ‪ ،‬فنحن أقل مؤاخذة وأعظم أجرا ‪ ،‬ألن للواحد‬ ‫وقتنا ‪ ،‬وهم العلماء منا بما أمر ه‬
‫منا أجر خمسين ممن يعمل بعمل الصحابة ‪،‬‬
‫ض َّل‬‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬للواحد منهم أجر خمسين يعملون مثل عملكم ] « فَقَ ْد َ‬ ‫يقول صلهى ه‬
‫الال ُمبِينا ً »الضالل هو الحيرة ‪.‬‬ ‫ض ً‬ ‫َ‬
‫وقال تعالى ‪ُ «:‬مبِينا ً »ألنهم أوقعوا أنفسهم في الحيرة لكونهم عبدوا ما نحتوا بأيديهم ‪ ،‬وعلموا‬
‫ّللا بقصور نظرهم‬ ‫ّللا شيئا ‪ ،‬فهي شهادة من ه‬ ‫أنه ال يسمع وال يبصر وال يغني عنهم من ه‬
‫وعقولهم ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 37‬‬


‫سكَ َما‬‫ّللا َوت ُ ْخ ِفي فِي نَ ْف ِ‬
‫ق هَ‬‫علَ ْيكَ َز ْو َجكَ َوات ه ِ‬ ‫علَ ْي ِه أ َ ْم ِ‬
‫س ْك َ‬ ‫علَ ْي ِه َوأ َ ْنعَ ْمتَ َ‬ ‫َوإِ ْذ تَقُو ُل ِللهذِي أ َ ْنعَ َم ه‬
‫ّللاُ َ‬
‫ق أ َ ْن ت َ ْخشاهُ فَلَ هما قَضى َز ْي ٌد ِم ْنها َو َطرا َز هوجْ ناكَها ِل َك ْي ال‬ ‫ّللاُ أ َ َح ُّ‬
‫اس َو ه‬ ‫ّللاُ ُم ْبدِي ِه َوت َ ْخشَى النه َ‬ ‫ه‬
‫كان أ َ ْم ُر ه ِ‬
‫ّللا َم ْفعُوال (‬ ‫ج فِي أ َ ْزواجِ أ َ ْد ِعيائِ ِه ْم ِإذا قَ َ‬
‫ض ْوا ِم ْن ُه هن َو َطرا َو َ‬ ‫علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين َح َر ٌ‬ ‫يَك َ‬
‫ُون َ‬
‫‪)37‬‬

‫ص ‪396‬‬

‫‪396‬‬
‫ّللا تعالى نبيه بنكاح زوجة من تبناه ]‬ ‫[ ابتلى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بنكاح زوجة من تبناه ‪ ،‬وكان لو فعله عند العرب مما يقدح‬ ‫ّللا نبيه صلهى ه‬
‫ابتلى ه‬
‫ّللا تعالى إال ليتمم مكارم األخالق ‪ ،‬فأحواله كلها مكارم‬ ‫ّللا ‪ ،‬وما بعثه ه‬ ‫في مقامه ‪ ،‬وهو رسول ه‬
‫أخالق ‪ ،‬فهو مبين لها بالحال ‪ ،‬والرجل الكامل واقف مع ما تمسك عليه المروءة العرفية حتى‬
‫ّللا الحتم ‪ ،‬فإنه بحسب ما يؤمر ‪ ،‬فإن كان عرضا نظر إلى قرائن األحوال ‪ ،‬فإن‬ ‫يأتي أمر ه‬
‫كانت قرينة الحال تخيره بقي على األمر العرفي الذي يشهد له بمكارم األخالق ‪،‬‬
‫ّللا َوخات َ َم النَّ ِب ِيهينَ )فهو واقف مع‬ ‫ولذلك قال ‪ (:‬ما كانَ ُم َح َّم ٌد أَبا أ َ َح ٍد ِم ْن ِرجا ِل ُك ْم َول ِك ْن َر ُ‬
‫سو َل َّ ِ‬
‫ّللا لهم عن العلة‬
‫ّللا عليه وسلم حتى ال ترد دعوة الحق ‪ ،‬فأبان ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وكانت خشيته صلهى ه‬ ‫حكم ه‬
‫في ذلك ‪ ،‬وهو رفع الحرج عن المؤمنين في مثل هذا الفعل ‪ ،‬وكل معلل علهه الحق فإنه واقع ‪،‬‬
‫ّللا واقع ‪.‬‬ ‫كما أنه كل ترج من ه‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 38‬‬


‫كان أ َ ْم ُر ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ِين َخلَ ْوا ِم ْن قَ ْب ُل َو َ‬ ‫سنهةَ ه ِ‬
‫ّللا ِفي الهذ َ‬ ‫ّللاُ لَهُ ُ‬
‫ض ه‬ ‫ي ِ ِم ْن َح َرجٍ ِفيما فَ َر َ‬
‫علَى النه ِب ّ‬ ‫ما َ‬
‫كان َ‬
‫قَدَرا َم ْقدُورا ) ‪( 38‬‬
‫الكامل له الوجود والجالل والهيبة ‪ ،‬ألن موطن الحكم عند المتحقق الكامل ال ينبغي أن يلحظ‬
‫فيه اإلرادة العاصية ‪ ،‬وإنما ينبغي أن يلحظ فيه اإلرادة اآلمرة ‪ ،‬ومرتبة اآلمر من كونه آمرا ال‬
‫ّللا قَ َدرا ً َم ْقدُورا ً »وهكذا المؤمن الكامل‬ ‫ّللا« َوكانَ أ َ ْم ُر َّ ِ‬ ‫من كونه مريدا ‪ ،‬فالنبي واقف مع حكم ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا به على لسان رسوله صلهى ه‬ ‫اإليمان ما هو مع الناس ‪ ،‬وإنما هو مع ما يحكم ه‬
‫الذي باإليمان به ثبت اإليمان له ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ‪ ( 33 ) :‬اآليات ‪ 39‬إلى ‪] 40‬‬


‫سيبا ( ‪ ) 39‬ما‬ ‫اّلِل َح ِ‬ ‫ّللا َويَ ْخش َْونَهُ َوال يَ ْخش َْو َن أ َ َحدا ِإاله ه َ‬
‫ّللا َوكَفى ِب ه ِ‬ ‫ت هِ‬ ‫ون ِرساال ِ‬ ‫ِين يُبَ ِلّغُ َ‬‫الهذ َ‬
‫ع ِليما (‬ ‫ّللاُ ِب ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْي ٍء َ‬ ‫ين َو َ‬
‫كان ه‬ ‫ّللا َوخات َ َم النه ِب ِيّ َ‬
‫سو َل ه ِ‬‫كان ُم َح هم ٌد أَبا أ َ َح ٍد ِم ْن ِرجا ِل ُك ْم َول ِك ْن َر ُ‬
‫َ‬
‫‪)40‬‬

‫ص ‪397‬‬

‫‪397‬‬
‫ّللا تعالى عنه أن‬
‫ّللا عليه وسلم أنه أبو زيد بن حارثة ‪ ،‬نفى ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫لما ادهعي في رسول ه‬
‫يكون أبا ألحد من رجالنا ‪ ،‬لرفع المناسبة وتمييزا للمرتبة ‪ ،‬ففصل بينه وبينهم بالرسالة والختم‬
‫ّللا عليه وسلم ما عاش له ولد ذكر من ظهره تشريفا له ‪ ،‬لكونه سبق في علم‬ ‫‪ ،‬أال تراه صلهى ه‬
‫ّللا أنه خاتم النبيين ‪.‬‬
‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬الذكور منهم ‪ :‬القاسم ‪ ،‬وبه كان يكنهى ‪ ،‬ثم الطيب ‪ ،‬ثم الطاهر‬ ‫‪ -‬أوالده صلهى ه‬
‫ّللا عنها ‪ ،‬غير سيدنا إبراهيم عليه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وجميع أوالده عليهم السالم من خديجة رضي ه‬ ‫‪ ،‬وعبد ه‬
‫السالم فأمه مارية القبطية ‪ ،‬سريته صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم« َوخات َ َم النَّ ِب ِيهينَ »فثبت بهذه اآلية أن‬
‫محمدا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم آخر األنبياء ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬كنت نبيا وآدم بين الماء والطين ] فبطن كونه خاتم النبيين في هذا‬ ‫قال صلهى ه‬
‫الحديث ‪ ،‬وكان من ظهوره نبيا وآدم بين الماء والطين أن استفتح به مراتب البشر ‪،‬‬
‫ّللا نور نبيك يا جابر ]‬
‫فقال [ أول ما خلق ه‬
‫ّللا به النبيين بعد بعثته صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ببشريته ‪،‬‬ ‫وختم ه‬
‫إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فال نبي بعدي وال رسول ]‬ ‫فظهر كونه خاتم النبيين بقوله ‪ [ :‬ه‬
‫يعني أن الرسالة ‪ -‬وهي البعثة إلى الناس بالتشريع لهم ‪ -‬والنبوة قد انقطعت ‪،‬‬
‫ّللا حكم يكون عليه ليس هو شرعنا الذي جئنا به ‪ ،‬فال رسول‬ ‫أي ما بقي من يشرع له من عند ه‬
‫بعدي يأتي بشرع يخالف شرعي إلى الناس ‪ ،‬وال نبي فال نبوة تشريع بعده وال نبي يكون على‬
‫شرع ينفرد به عند ربه يكون عليه ‪ ،‬فصرح أنه خاتم نبوة التشريع ‪،‬‬
‫ولو أراد غير ما ذكرناه لكان معارضا لقوله ‪ [ :‬إن عيسى عليه السالم ينزل فينا حكما مقسطا‬
‫يؤمنا بنا ]‬
‫أي بالشرع الذي نحن عليه ‪ ،‬وال نشك فيه أنه رسول ونبي ‪ ،‬فعلمنا أنه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬
‫أراد أنه ال شرع بعده ينسخ شرعه ‪ ،‬ودخل بهذا القول كل إنسان في العالم من زمان بعثته إلى‬
‫يوم القيامة ‪ ،‬فإن كان عيسى عليه السالم بعده ‪ ،‬وهو من أولي العزم والرسل وخواص األنبياء‬
‫ولكن زال حكمه عن هذا المقام لحكم الزمان عليه الذي هو لغيره ‪،‬‬
‫فينزل فينا وليا وارثا خاتما ذا نبوة مطلقة ‪ ،‬يشركه فيها األولياء المحمديون ‪ ،‬قد حيل بينه وبين‬
‫نبوة التشريع والرسالة ‪ ،‬وال ولي بعده أي عيسى عليه السالم بنبوة مطلقة ‪ ،‬كما أن محمدا‬
‫ّللا عليه وسلم خاتم النبوة نبوة التشريع خاصة ‪.‬‬ ‫صلهى ه‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 41‬‬


‫ّللا ِذ ْكرا َكثِيرا ) ‪( 41‬‬ ‫ِين آ َمنُوا ْ‬
‫اذك ُُروا ه َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫أي في كل حال ‪.‬‬
‫فالحمد هّلل الذي قد وقى *** من شر ما يمكن أن يحذرا‬

‫ص ‪398‬‬

‫‪398‬‬
‫لوال كتاب سابق فيكمو *** نبذتمو لفعلكم بالعرا‬
‫ما شرع الرحمن أذكاره *** إال لكي تعصمكم كالعرى‬
‫ألنها أعصم ما يتقى *** لما به الرحمن قد قدهرا‬
‫تعوذوا منه به أسوة *** بسيد يعلم ما قررا‬
‫ّللا ]‬
‫ّللا ه‬ ‫[ الذكر باالسم المفرد ‪ :‬ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬فينبغي للذاكر إذا ذكر ه‬ ‫ّللا ال يضاهيه شيء من كل كالم مقرب إلى ه‬ ‫واعلم أن كالم ه‬
‫ّللا به ليكون‬ ‫متى ذكره أن يحضر في ذكره ذلك ذكرا من األذكار الواردة في القرآن ‪ ،‬فيذكر ه‬
‫ّللا وال‬‫ّللا به نفسه ‪ ،‬فال يحمد ه‬ ‫قارئا في الذكر ‪ ،‬وإذا كان قارئا فيكون حاكيا للذكر الذي ذكر ه‬
‫يسبحه وال يهلله إال بما ورد في القرآن عن استحضار منه لذلك ‪ -‬بحث في الذكر باالسم‬
‫ّللا بالكثرة من شيء إال من الذكر ‪ ،‬فقال ‪ «:‬ا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫ّللا ِذ ْكرا ً َكثِيرا ً »‬ ‫المفرد ‪ -‬ما أمر ه‬
‫ّللا َكثِيرا ً َوالذَّا ِكرا ِ‬
‫ت)‬ ‫وقال ‪َ (:‬والذَّا ِك ِرينَ َّ َ‬
‫ّللا »‬‫ّللا خاصة معرى عن التقييد ‪ ،‬فقال« ا ْذ ُك ُروا َّ َ‬ ‫وما أتى الذكر قط إال باالسم ه‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر )‬
‫وما قال ‪ :‬بكذا وقال ‪َ (:‬ولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬
‫وما قال ‪ :‬بكذا ‪ ،‬ومثل ذلك من اآليات التي أمر فيها بالذكر ‪،‬‬
‫وقال تعالى ‪ :‬في الحديث القدسي [ من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ‪ ،‬ومن ذكرني في مأل‬
‫ذكرته في مأل خير منه »‬
‫ّللا خاصة ‪،‬‬ ‫ّللا ِذ ْكرا ً َكثِيرا ً »هو تكرار هذا االسم ولم يذكر إال االسم ه‬ ‫فقوله تعالى ‪ «:‬ا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬ال تقوم الساعة حتى ال يبقى على وجه األرض من يقول ه‬ ‫وقد قال صلهى ه‬
‫ّللا ]‬ ‫ه‬
‫فأتى به مرتين ولم يكتف بواحدة ‪ ،‬وأثبت بذلك أنه ذكر على االنفراد ‪ ،‬ولم ينعته بشيء ‪،‬‬
‫نزل إليهم ‪ ،‬فلو ال‬ ‫ّللا عليه وسلم مأمور أن يبيهن للناس ما ه‬ ‫وس هكن الهاء من االسم ‪ ،‬وهو صلهى ه‬
‫ّللا له حفظ العالم الذي يكون فيه هذا الذكر ‪ ،‬لم يقرن بزواله زوال الكون‬ ‫ّللا ه‬
‫أن قول اإلنسان ه‬
‫الذي زال منه ‪ ،‬وهو الدنيا ‪،‬‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر )‬
‫وقال تعالى ‪َ (:‬ولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬
‫ّللا صلهى‬ ‫فلهذا الذكر المفرد إنتاج أمر عظيم في قلب الذاكر به ال ينتجه غيره وما قيد رسول ه‬
‫ّللا في هذا الحديث بأمر زائد على هذا اللفظ ‪ ،‬ألنه ذكر الخاصة من عباد‬ ‫ّللا عليه وسلم االسم ه‬ ‫ه‬
‫ّللا بهم عالم الدنيا ‪ ،‬وكل دار يكونون فيها ؛ فإذا لم يبق منهم أحد لم يبق للدنيا‬ ‫ّللا الذين يحفظ ه‬ ‫ه‬
‫ّللا باق في ذلك الوقت ‪ ،‬ولكن‬ ‫ّللا من أجله ‪ ،‬فتزول وتخرب وكم من قائل ه‬ ‫سبب حافظ يحفظها ه‬
‫ما هو ذاكر باستحضار ‪ ،‬فال يعتبر اللفظ دون استحضار ‪،‬‬
‫وقد قال بعض العلماء بالرسوم ‪ :‬إنه لم ير هذا الذكر الرتفاع الفائدة عنده فيه ‪ ،‬إذ كل مبتدأ ال‬
‫بد له من خبر ‪،‬‬
‫فيقال له ‪ :‬ال‬

‫ص ‪399‬‬

‫‪399‬‬
‫يلزم ذلك في اللفظ ‪ ،‬بل له خبر ظاهر ال في اللفظ ‪ ،‬كإضافة إلى تنزيه أو ثناء بفعل ‪ ،‬ومعلوم‬
‫أنه إذا ذكر أمر ما ‪ ،‬وكرر على طريق التأكيد له ‪ ،‬أنه يعطي من الفائدة ما ال يعطيه من ليس‬
‫ّللا‬
‫ّللا ذكر لفظة ه‬ ‫له هذا الحكم ‪ ،‬فمن هذه اآلية وأمثالها ومن الحديث الذي ذكرناه ‪ ،‬ر هجح أهل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وذكر لفظه ( هو ) على األذكار التي تعطي النعت ‪ ،‬ووجدوا لها فوائد ؛‬ ‫ه‬
‫واعلم أن الذكر ليس بأن تذكر اسمه ‪ ،‬بل لتذكر اسمه من حيث ما هو مدح له وحمد ‪ ،‬إذ‬
‫ّللا نفس‬
‫ّللا ه‬
‫ّللا بذكرهم ه‬‫الفائدة ترتفع بذكر االسم من حيث داللته على العين ‪ ،‬وما قصد أهل ه‬
‫داللة اللفظ على العين ‪ ،‬وإنما قصدوا هذا االسم أو الهو ‪ ،‬من حيث أنهم علموا أن المسمى بهذا‬
‫االسم أو هذا الضمير هو من ال تقيده األكوان ومن له الوجود التام ‪ ،‬فإحضار هذا في نفس‬
‫ّللا لم ينتج‬‫الذاكر عند ذكر االسم بذلك وقعت الفائدة ‪ ،‬فإنه ذكر غير مقيد ‪ ،‬فإذا قيده بال إله إال ه‬
‫ّللا لم يتمكن أن يحضر إال مع حقيقة ما يعطيه‬ ‫له إال ما تعطيه هذه الداللة ‪ ،‬وإذا قيده بسبحان ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وكل ذكر مقيد ال ينتج إال ما تقيد به ‪،‬‬ ‫ّللا أكبر ‪ ،‬وال حول وال قوة إال ه‬ ‫التسبيح ‪ ،‬وكذلك ه‬
‫ّللا أنه ما يعطيه إال‬‫ال يمكن أن يجني منه ثمرة عامة ‪ ،‬فإن حالة الذاكر تقيده ‪ ،‬وقد عرفنا ه‬
‫بحسب حاله في قوله ‪ [ :‬إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ] ‪ -‬الحديث –‬
‫ّللا وحدها أو ضميرها من غير تقييد ‪ ،‬فما قصدوا لفظة دون‬ ‫فلهذا رجحت الطائفة ذكر لفظة ه‬
‫استحضار ما يستحقه المسمى ‪ ،‬وبهذا يكون ذكر الحق عبده باسم عام لجميع الفضائل الالئقة‬
‫ّللا ‪ ،‬فالذكر من العبد باستحضار والذكر من‬ ‫به ‪ ،‬التي تكون في مقابلة ذكر العبد ربه باالسم ه‬
‫الحق بحضور ‪ ،‬ألنا مشهودون له معلومون ‪ ،‬وهو لنا معلوم ال مشهود ‪ ،‬فلهذا كان لنا‬
‫االستحضار وله الحضور‬
‫– شروط الذكر ‪ -‬قوله تعالى ‪ [:‬شروط الذكر ] ا ْذ ُك ُروا َّ َ‬
‫ّللا ِذ ْكرا ً َك ِثيراً‪ .‬ما قيهد حال طهارة من‬
‫ّللا إال على طهر ‪ ،‬أو قال ‪:‬‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [:‬إني كرهت أن أذكر ه‬ ‫حال ‪ ،‬فكما قال النبي صلهى ه‬
‫على طهارة ]‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬الحمد هّلل على كل حال ]‬ ‫فقد قال صلهى ه‬
‫ّللا على جميع أحواله ال‬ ‫ّللا عليه وسلم يذكر ه‬ ‫ّللا عنها ‪ [ :‬كان النبي صلهى ه‬ ‫وقالت عائشة رضي ه‬
‫تمنعه إال الجنابة ]‬
‫ّللا ال يختص بالقول فقط ‪ ،‬بل تصرف العبد إذا رزق التوفيق في‬ ‫لذلك فإن الذكر في طريق ه‬
‫ّللا تعالى من واجب أو مندوب إليه ‪ ،‬ويسمى ذلك‬ ‫جميع حركاته ‪ ،‬ال يتحرك إال في طاعة ه‬
‫ذكرا هّلل ‪ ،‬أي لذكره في ذلك الفعل أنه هّلل بطريق القربة سمي ذكرا ‪،‬‬
‫ّللا على كل أحيانه ]‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إنه كان يذكر ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫لذلك قالت عائشة عن رسول ه‬
‫فع همت جميع أحواله‬

‫ص ‪400‬‬

‫‪400‬‬
‫في يقظة ونوم وحركة وسكون ‪ ،‬تريد أنه ما تصرف وال كان على حال من األحوال إال في‬
‫ّللا ‪ ،‬فذلك‬‫ّللا فجميع الطاعات كلها من فعل وترك إذا فعلت أو تركت ألجل ه‬ ‫أمر مقرب إلى ه‬
‫ّللا ذكر فيها ومن أجله فعلت أو تركت على حكم ما شرع فيها ‪،‬‬ ‫ّللا أي ه‬
‫من ذكر ه‬
‫[ إشارة للعارفين ‪ :‬الغيرة ]‬
‫باّلل ‪ -‬إشارة للعارفين ‪ -‬يغار أكثر أهل الطريق وال سيما‬
‫وهذا هو ذكر الموفقين من العلماء ه‬
‫ّللا بين العامة ‪ ،‬فيذكرونه بقلوب غافلة عن الحضور عما يجب هّلل‬ ‫أهل الورع منهم أن يذكر ه‬
‫من التعظيم ‪ ،‬وقد أخطئوا في ذلك ‪ ،‬فإن القلب وإن غفل عن الذكر الذي هو حضوره مع‬
‫ّللا من لسان هذا الذاكر ‪ ،‬فخطر بالقلب‬‫المذكور ‪ ،‬فإن اإلنسان من كونه سميعا قد سمع ذكر ه‬
‫ووعى ما جاء به هذا الذاكر ‪ ،‬ولم يجئ إال بذكر اللسان الذي وقع بالسمع ‪ ،‬فجرد له هذا القلب‬
‫ّللا بلسانه موافقة لذكر ذلك المذ هكر له ‪ ،‬والقلب‬
‫ما يناسبه من الذاكرين منه وهو اللسان ‪ ،‬فذكر ه‬
‫مشغول في شأنه الذي كان فيه ‪ ،‬مع أنه لم يشتغل عن تحريك اللسان بالذكر ‪ ،‬فلم يشغله شأن‬
‫ّللا عن غفلة قط ‪ ،‬وما بقي إال حضور باستفراغ له أو حضور بغير‬ ‫عن شأن ‪ ،‬فما ذكر أحد ه‬
‫استفراغ ‪ ،‬بل بمشاركة ‪ ،‬ولكن زمان أمره اللسان بالذكر ما هو زمان اشتغاله بغيره ‪ ،‬فما‬
‫ذكره غافل قط أي عن غفلة في حال أمر القلب اللسان بالذكر إال في حال ذكر اللسان ‪ ،‬ثم إن‬
‫ّللا لم‬‫اللسان قد وفهى حقه في العالنية من الذكر ‪ ،‬فإنه من األشياء المسبحة هّلل ‪ ،‬فمن غار على ه‬
‫يعرفه ‪ ،‬وإنما يغار له ال عليه ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪) : 33‬آية ‪] 42‬‬


‫س ِبّ ُحو ُه بُ ْك َرة َوأ َ ِصيال ( ‪) 42‬‬
‫َو َ‬
‫ص ً‬
‫يال »يعني صالة الغداة والعشي ‪ ،‬فأمرنا‬ ‫س ِبه ُحوهُ »أي صلوا له ‪ ،‬ولهذا قال ‪ «:‬بُ ْك َرة ً َوأ َ ِ‬ ‫« َو َ‬
‫هنا بالصالة بكرة وأصيال ‪ ،‬فإن في ذلك غذاء العقول واألرواح ‪ ،‬كما أن غذاء الجسم في هذه‬
‫ع ِشيًّا )ورزق كل مخلوق بحسب ما تطلبه حقيقته ‪،‬‬ ‫األوقات في قوله ‪ (:‬لَ ُه ْم ِر ْزقُ ُه ْم فِيها بُ ْك َرة ً َو َ‬
‫فاألرواح غذاؤها التسبيح ‪ ،‬فقيل لها ‪ :‬سبحه أي صل له في هذه األوقات واذكره على كل حال‬
‫‪ ،‬فقيد التسبيح وما قيد الذكر ‪ ،‬فعلمنا أن التسبيح ذكر خاص مربوط بهذه األوقات‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 43‬‬


‫كان ِبا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين َر ِحيما (‬ ‫ت إِلَى النُّ ِ‬
‫ور َو َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َو َمالئِ َكتُهُ ِليُ ْخ ِر َج ُك ْم ِم َن ال ُّ‬
‫ظلُما ِ‬ ‫ص ِلّي َ‬
‫ُه َو الهذِي يُ َ‬
‫‪)43‬‬

‫ص ‪401‬‬

‫‪401‬‬
‫مسمى الصالة يضاف إلى ثالثة وإلى رابع ثالثة بمعنيين ‪ ،‬بمعنى شامل وبمعنى غير شامل ‪،‬‬
‫ّللا وصف نفسه‬ ‫فتضاف الصالة إلى الحق بالمعنى الشامل ‪ ،‬والمعنى الشامل هو الرحمة ‪ ،‬فإن ه‬
‫اح ِمينَ )‬ ‫بالرحيم ووصف عباده بها فقال ‪ (:‬أ َ ْر َح ُم َّ‬
‫الر ِ‬
‫علَ ْي ُك ْم َو َمالئِ َكتُهُ ‪ » . . .‬اآلية]‬ ‫ص ِلهي َ‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ُ « [:‬ه َو الَّذِي يُ َ‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وقال رسول ه‬
‫ّللا من عباده الرحماء ]‬ ‫[ إنما يرحم ه‬
‫علَ ْي ُك ْم »أي يرحمكم بأن يخرجكم من الظلمات إلى النور ‪ ،‬يقول‬ ‫ص ِلهي َ‬ ‫قال تعالى ‪ُ «:‬ه َو الَّذِي يُ َ‬
‫من الضاللة إلى الهدى ‪ ،‬ومن الشقاوة إلى السعادة ‪ ،‬وتضاف إلى المالئكة بمعنى الرحمة‬
‫واالستغفار والدعاء للمؤمنين ‪،‬‬
‫علَ ْي ُك ْم َو َمالئِ َكتُهُ »فصالة المالئكة ما ذكرناها ‪،‬‬ ‫ص ِلهي َ‬ ‫قال تعالى ‪ُ «:‬ه َو الَّذِي يُ َ‬
‫عز وجل في حق المالئكة( َويَ ْست َ ْغ ِف ُرونَ ِللَّذِينَ آ َمنُوا (ويقولون (‪ :‬فَا ْغ ِف ْر ِللَّذِينَ تابُوا‬ ‫ّللا ه‬ ‫قال ه‬
‫ت )اللهم استجب فينا صالح دعاء المالئكة ‪،‬‬ ‫س ِيهئا ِ‬ ‫ذاب ْال َج ِح ِ‬
‫يم َوقِ ِه ُم ال َّ‬ ‫ع َ‬ ‫س ِبيلَ َك َوقِ ِه ْم َ‬ ‫َواتَّبَعُوا َ‬
‫وتضاف الصالة إلى البشر بمعنى الرحمة والدعاء واألفعال المخصوصة المعلومة شرعا ‪،‬‬
‫صالة َ )‬‫فجمع البشر هذه المراتب المسماة صالة ‪ ،‬قال تعالى آمرا لنا‪َ ( :‬وأ َ ِقي ُموا ال َّ‬
‫ّللا من جميع المخلوقات ملك وإنسان وحيوان ونبات‬ ‫*وتضاف الصالة إلى كل ما سوى ه‬
‫ومعدن بحسب ما فرضت عليه وعيهنت له ‪،‬‬
‫ت ُك ٌّل قَ ْد َ‬
‫ع ِل َم‬ ‫صافَّا ٍ‬‫الطي ُْر َ‬‫ض َو َّ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫س ِبه ُح لَهُ َم ْن فِي ال َّ‬ ‫قال تعالى ‪ (:‬أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا يُ َ‬
‫صالتَهُ َوت َ ْس ِبي َحهُ )‬
‫َ‬
‫علَ ْي ُك ْم »فتفسيره‬ ‫ص ِلي َ‬‫ه‬ ‫َّ‬
‫فأضاف الصالة إلى الكل والتسبيح ‪ ،‬أما قوله تعالى هنا «‪ُ :‬ه َو الذِي يُ َ‬
‫من وجوه‬
‫علَ ْي ُك ْم »الصالة المنسوبة إلى الحق هي رحمته بعباده ‪،‬‬ ‫ص ِلهي َ‬ ‫‪ -‬الوجه األول ‪ُ «-‬ه َو الَّذِي يُ َ‬
‫فأخبر أنه يصلي علينا ‪ ،‬والمفهوم من هذا أمران ‪:‬‬
‫األمر الواحد أنه يصلي علينا فينبغي لنا أن نذكره بالمدح والثناء ونصلي له بكرة وأصيال ‪،‬‬
‫ّللا فإنه يصلي عليكم ‪ ،‬فإنه لما أمرنا بالذكر والصالة قال‬ ‫واألمر اآلخر أنكم إذا صليتم وذكرتم ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬صلى‬ ‫علَ ْي ُك ْم »فصالتنا وذكرنا له سبحانه بين صالتين من ه‬ ‫ص ِلهي َ‬ ‫‪ُ «:‬ه َو الَّذِي يُ َ‬
‫علينا فصلينا فصلى علينا ‪ ،‬فمن صالته األولى علينا صلينا له ‪،‬‬
‫ومن صالته الثانية علينا كانت السعادة لنا بأن جنينا ثمرة صالتنا له وذكرنا ‪،‬‬
‫لذلك جاءت إقامة الصالة المفروضة بالفعل الماضي [ قد قامت الصالة ]‬
‫ّللا على العبد ليقوم العبد إلى الصالة ‪ ،‬فيقيم بقيامه نشأتها‬ ‫أراد قيام صالة ه‬
‫علَ ْي ُك ْم »أي يؤخر ذكره عن ذكركم‬ ‫ص ِلهي َ‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني– " ُه َو الَّذِي يُ َ‬

‫ص ‪402‬‬

‫‪402‬‬
‫حتى تذكروه ‪ ،‬قال تعالى ‪ (:‬فَا ْذ ُك ُرو ِني أ َ ْذ ُك ْر ُك ْم )‬
‫ّللا عليه وسلم مخبرا عن ربه ‪ [ :‬من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن‬ ‫وقال صلهى ه‬
‫ذكرني في مأل ذكرته في مأل خير منه ]‬
‫فهو المصلي عن سابق ذكر العبد ‪ ،‬وال تذكرونه حتى يوفقكم ويلهمكم ذكره ‪ ،‬فيذكركم بذكره‬
‫إياكم ‪ ،‬فتذكرونه به أو بكم ‪ ،‬فيذكركم بكم وبه‬
‫ّللا عليه وسلم في عروجه إلى المقام الذي ال يتعداه‬ ‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬لما وصل الرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم الرفرف ‪ ،‬فنزل عن‬ ‫البراق وليس في قوته أن يتعداه ‪ ،‬تدلى إلى الرسول صلهى ه‬
‫البراق واستوى على الرفرف ‪ ،‬وصعد به الرفرف وفارقه جبريل ‪ ،‬فسأله الصحبة فقال ‪ :‬إنه‬
‫ال يطيق ذلك ؛ وقال له ‪َ (:‬وما ِمنَّا إِ َّال لَهُ َمقا ٌم َم ْعلُو ٌم )‬
‫ّللا عليه وسلم إلى مقامه الذي ال يتعداه الرفرف ‪،‬‬ ‫ولما وصل المعراج الرفرفي بالرسول صلهى ه‬
‫ز هج به في النور زجة غمره النور من جميع نواحيه ‪ ،‬ولم ير معه أحدا يأنس به وال يركن إليه‬
‫ّللا وعبده ‪ ،‬فأعطته‬ ‫‪ ،‬وقد أعطته المعرفة أنه ال يصح األنس إال بالمناسب ‪ ،‬وال مناسبة بين ه‬
‫ّللا عليه وسلم هذه المعرفة الوحشة النفراده بنفسه ‪ ،‬وهذا مما يدلك أن اإلسراء كان‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ألن األرواح ال تتصف بالوحشة وال االستيحاش ‪ ،‬فلما علم ه‬ ‫بجسمه صلهى ه‬
‫منه ذلك وكيف ال يعلمه وهو الذي خلقه في نفسه ؟ !‬
‫وطلب عليه السالم الدنو بقوة المقام الذي هو فيه ‪ ،‬فنودي بصوت يشبه صوت أبي بكر ‪،‬‬
‫فحن لذلك وأنس به ‪ ،‬وتعجب من ذلك اللسان في ذلك‬ ‫تأنيسا له إذ كان أنيسه في المعهود ‪ ،‬ه‬
‫الموطن ‪ ،‬وكيف جاءه من العلو وقد تركه باألرض ؟‬
‫وقيل له في ذلك النداء ‪ [ :‬يا محمد قف ‪ ،‬إن ربك يصلي ] فأخذه لهذا الخطاب انزعاج وتعجب‬
‫ص ِلهي َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َو َمالئِ َكتُهُ‬ ‫ّللا تعالى فتال عليه في ذلك المقام« ُه َو الَّذِي يُ َ‬ ‫‪ ،‬كيف تنسب الصالة إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فسكن روعه مع كونه‬ ‫ور »فعلم ما المراد بنسبة الصالة إلى ه‬ ‫ت ِإلَى النُّ ِ‬ ‫ِليُ ْخ ِر َج ُك ْم ِمنَ ُّ‬
‫الظلُما ِ‬
‫سبحانه ال يشغله شأن عن شأن ‪ ،‬ولكن قد وصف نفسه بأنه ال يفعل أمرا حتى يفرغ من أمر‬
‫غ لَ ُك ْم أَيُّهَ الثَّقَ ِ‬
‫الن )‬ ‫سنَ ْف ُر ُ‬
‫آخر فقال ‪َ (:‬‬
‫فمن هذه الحقيقة قيل له ‪ [ :‬قف إن ربك يصلي ] أي ال يجمع بين شغلين ‪ ،‬يريد بذلك العناية‬
‫وّللا‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬حيث يقيمه في مقام التفرغ له ‪ ،‬فهو تنبيه على العناية به ‪ ،‬ه‬ ‫بمحمد صلهى ه‬
‫أجل وأعلى في نفوس العارفين به من ذلك ‪ ،‬فإن الذي ينال اإلنسان من المتفرغ إليه أعظم‬
‫وأمكن من الذي يناله ممن ليس له حال التفرغ إليه ‪ ،‬ألن تلك األمور تجذبه عنه ‪ ،‬فهذا في‬
‫حال النبي عليه السالم وتشريفه ‪ ،‬فكان معه في هذا المقام بمنزلة ملك استدعى بعض عبيده‬
‫ليقربه ويشرفه ‪ ،‬فلما دخل حضرته وقعد في منزلته طلب أن ينظر إلى‬

‫ص ‪403‬‬

‫‪403‬‬
‫الملك في األمر الذي وجه إليه فيه ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬تربص قليال فإن الملك في خلوته يعزل لك خلعة‬
‫ّللا بقوله تعالى ‪ُ «:‬ه َو‬ ‫سر له صالة ه‬ ‫تشريف يخلعها عليك ‪ ،‬فما كان شغله عنه إال به ‪ ،‬ولذلك ف ه‬
‫علَ ْي ُك ْم »فشرف بأن قيل له ‪ :‬إنما غاب عنك من أجلك وفي حقك ‪ -‬الوجه الرابع ‪-‬‬ ‫ص ِلهي َ‬ ‫الَّذِي يُ َ‬
‫يِ )‬ ‫علَى النَّبِ ه‬‫صلُّونَ َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َو َمالئِ َكتُهُ »عموما وقال ‪ِ (:‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا َو َمالئِ َكتَهُ يُ َ‬ ‫ص ِلهي َ‬ ‫« ُه َو الَّذِي يُ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َو َمالئِ َكتُهُ‬‫ص ِلهي َ‬ ‫خصوصا بخصوص صالة ‪ ،‬وقد جاء بالمالئكة في قوله ‪ُ «:‬ه َو الَّذِي يُ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم »ثم قال ‪ِ «:‬ليُ ْخ ِر َج ُك ْم‬ ‫»بعد ما ذكرنا وفصل بنا بين صالته وبين المالئكة ‪ ،‬بقوله« َ‬
‫ّللا وبين المالئكة في الصالة على‬ ‫»فأفرد الخروج إليه ‪ ،‬وما جاء بضمير جامع يجمع بين ه‬
‫ّللا عليه وسلم من‬ ‫ي ِ ) فعمنا كلنا والنبي صلهى ه‬ ‫علَى النَّبِ ه‬ ‫صلُّونَ َ‬
‫المؤمنين كما فعل في قوله ‪ (:‬يُ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم »وأفرد نفسه في ذلك ثم قال «‪َ :‬و َمالئِ َكتُهُ »فأفرد‬ ‫ص ِلهي َ‬
‫جملتنا بقوله ‪ُ «:‬ه َو الَّذِي يُ َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فلجميع الخلق توحيد الصالة‬ ‫المالئكة بالصالة على العباد وفيهم النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم وحده فيما أخبرنا به ‪،‬‬ ‫وخص النبي صلهى ه‬ ‫ه‬ ‫ّللا وتوحيد الصالة من المالئكة ‪،‬‬ ‫من ه‬
‫وأما قوله« َو َمالئِ َكتُهُ »أي أيضا يصلون عليكم بما قد شرع لها من ذلك وهو قوله( َربَّنا‬
‫ش ْيءٍ َر ْح َمةً َو ِع ْلما ً )اآلية فصالة المالئكة علينا كصالتنا على الجنازة سواء لمن‬ ‫ت ُك َّل َ‬‫َو ِس ْع َ‬
‫ور »ابتداء منه‬ ‫الظلُما ِ‬
‫ت إِلَى النُّ ِ‬ ‫عقل ‪ ،‬فهي شفاعة ‪ ،‬ثم قال «‪ِ :‬ليُ ْخ ِر َج ُك ْم »بالم السبب« ِمنَ ُّ‬
‫ت)‬ ‫ومنهة ‪ ،‬وبدعاء المالئكة وهو قولهم ‪َ (:‬وقِ ِه ُم ال َّ‬
‫س ِيهئا ِ‬
‫فإن السيئات ظلمات ‪ ،‬فمنهم من يخرج من ظلمات الجهل إلى نور العلم ‪ ،‬ومن ظلمات‬
‫المخالفة إلى نور الموافقة ‪ ،‬ومن ظلمات الضالل إلى نور الهدى ‪ ،‬ومن ظلمات الشرك إلى‬
‫نور التوحيد ‪ ،‬ومن ظلمات الشقاء والتعب إلى نور السعادة والراحة ‪ ،‬فكما أن الصالة اإللهية‬
‫وهي عموم رحمته بمخلوقاته ‪ ،‬كذلك صالة المالئكة تامة الخلقة ‪ ،‬فإنها دعت للذين تابوا‬
‫ت )فعمت ‪ ،‬فما بقي أمر إال دخل في صالة المالئكة من طائع‬ ‫س ِيهئا ِ‬
‫وقالت أيضا( َوقِ ِه ُم ال َّ‬
‫وعاص على أنواع الطاعات والمعاصي ‪،‬‬
‫ثم قال ‪َ «:‬وكانَ ِب ْال ُمؤْ ِمنِينَ »أي المصدقين« َر ِحيما ً »أي رحمهم لما صدقوا به من وجوده‬
‫الذي هو أعم من التصديق بالتوحيد ‪ ،‬فإنه يندرج بعد اإليمان بالوجود اإللهي كل ما يجب به‬
‫اإليمان على طبقاته ثم قال ‪:‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 44‬‬


‫ع هد لَ ُه ْم أَجْ را ك َِريما) ‪( 44‬‬
‫سال ٌم َوأ َ َ‬
‫ت َ ِحيهت ُ ُه ْم يَ ْو َم يَ ْلقَ ْونَهُ َ‬

‫ص ‪404‬‬

‫‪404‬‬
‫سال ٌم »أي إذا وقع اللقاء بشر بالسالمة أنه ال يشقى بعد اللقاء أبدا ‪ ، .‬هللف‬ ‫" ت َ ِحيَّت ُ ُه ْم يَ ْو َم يَ ْلقَ ْونَهُ َ‬
‫رجال يلقونه في الحياة الدنيا ويبشرون بالسالم ‪ ،‬وث هم من يلقاه إذا مات ‪ ،‬وث هم من يلقاه عند‬
‫البعث ‪ ،‬وث هم من يلقاه في تفاصيل مواقف القيامة على كثرتها ‪ ،‬ومنهم من يلقاه بعد دخول النار‬
‫ّللا بالسالم فال يشقى بعد ذلك اللقاء ‪ ،‬فلهذا جعل‬ ‫وبعد عذابه فيها ‪ ،‬ومتى وقع اللقاء حيهاه ه‬
‫السالم عند اللقاء ‪ ،‬ولم يعين وقتا مخصوصا لتفاوت الطبقات في لقائه ‪ ،‬فآخر الق يلقاه المؤمن‬
‫ع َّد لَ ُه ْم أ َ ْجرا ً َك ِريما ً‬‫بوجوده خاصة ‪ ،‬فإنه قال ‪ِ (:‬ب ْال ُمؤْ ِمنِينَ )ولم يقيد فال نقيد ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وأ َ َ‬
‫ّللا إلها إلى ما هو‬ ‫»كل أجر على قدر ما عنده من اإليمان ‪ ،‬وأقلهم أجرا ‪ ،‬المؤمن بوجود ه‬
‫ّللا رحمته بخلقه ‪ ،‬وصالة الحق كائنة على كل موجود وهي عموم‬ ‫أعظم في اإليمان ‪ ،‬فصالة ه‬
‫رحمته بمخلوقاته ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬اآليات ‪ 45‬إلى ‪] 46‬‬


‫سراجا ُمنِيرا‬ ‫ّللا ِب ِإ ْذنِ ِه َو ِ‬ ‫ي ِإنها أ َ ْر َ‬
‫س ْلناكَ شا ِهدا َو ُمبَ ِ ّ‬
‫شرا َونَذِيرا ( ‪َ ) 45‬ودا ِعيا ِإلَى ه ِ‬ ‫يا أَيُّ َها النه ِب ُّ‬
‫(‪(46‬‬
‫ّللا عليه وسلم سراج منير ]‬ ‫[ الرسول صلهى ه‬
‫ّللا »وهو حرف غاية ‪ ،‬وهو‬ ‫من شرط من يدعى اإلجابة إلى ذلك ‪ ،‬وجعله بإلى في قوله« ِإلَى َّ ِ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫انتهاء المطلوب ‪ ،‬فتضمنت حرف إلى أن المدعو ال بد أن يكون له سعي من نفسه إلى ه‬
‫فقال تعالى« ِبإِ ْذنِ ِه »أي بأمره ‪،‬‬
‫لم يكن ذلك من نفسك وال من عقلك ونظرك ‪ ،‬فافتقر المدعو إلى نور يكشف به ما يصده عن‬
‫مطلوبه ‪ ،‬ويحرمه الوصول إليه لما دعاه ‪ ،‬مثل الشبه المضلة لإلنسان في نظره إذا أراد‬
‫ّللا بالعلم من حيث عقله ‪،‬‬ ‫القرب من ه‬
‫فجعل الحق شرعه سراجا منيرا ‪ ،‬يتبين لذلك المدعو بالسراج الطريق الموصلة إلى من دعاه‬
‫ّللا عليه وسلم« ِسراجا ً ُمنِيرا ً »أي يظهر به للمدعو ما يمنعه من‬ ‫إليه ؛ وجعل الرسول صلهى ه‬
‫الوصول فيجتنبه على بصيرة ‪ ،‬ولما كان السراج مفتقرا إلى اإلمداد بالدهن لبقاء الضوء ‪،‬‬
‫كان الرسول سراجا منيرا لإلمداد اإللهي الذي هو الوحي ‪ ،‬وجعله منيرا أي ذا نور لما فيه من‬
‫ّللا يمده بنور الوحي‬ ‫ّللا عليه وسلم سراج منير ‪ ،‬ألن ه‬ ‫االستعداد لقبول هذا اإلمداد ‪ ،‬فهو صلهى ه‬
‫ّللا عباده ‪،‬‬
‫اإللهي في دعائه إلى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في‬ ‫ّللا لرسوله صلهى ه‬ ‫فهو نور ممدود بإمداد إلهي ال بإمداد عقلي ‪ ،‬وهذا إجابة ه‬
‫دعائه بقوله لربه ‪:‬‬
‫[ واجعلني نورا ] ‪.‬‬

‫ص ‪405‬‬

‫‪405‬‬
‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬اآليات ‪ 47‬إلى ‪] 50‬‬
‫ين َو َد ْع أَذا ُه ْم‬ ‫ين َوا ْل ُمنا ِف ِق َ‬‫ضال َك ِبيرا ) ‪َ ( 47‬وال ت ُ ِط ِع ا ْلكا ِف ِر َ‬ ‫ّللا فَ ْ‬‫ين ِبأ َ هن لَ ُه ْم ِم َن ه ِ‬ ‫ش ِر ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬
‫َوبَ ِ ّ‬
‫ت ث ُ هم‬ ‫ِين آ َمنُوا إِذا نَ َكحْ ت ُ ُم ا ْل ُم ْؤ ِمنا ِ‬ ‫اّلِل َو ِكيال ( ‪ ) 48‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫ّللا َوكَفى بِ ه ِ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫َوت َ َو هك ْل َ‬
‫س ِ ّر ُحو ُه هن‬ ‫علَ ْي ِه هن ِم ْن ِع هد ٍة ت َ ْعتَدُّونَها فَ َم ِت ّعُو ُه هن َو َ‬ ‫سو ُه هن فَما لَ ُك ْم َ‬ ‫َطله ْقت ُ ُمو ُه هن ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن ت َ َم ُّ‬
‫ور ُه هن َوما َملَكَتْ‬ ‫ي ِإنها أَحْ لَ ْلنا لَكَ أ َ ْزوا َجكَ الالهتِي آت َ ْيتَ أ ُ ُج َ‬ ‫سراحا َج ِميال ( ‪ ) 49‬يا أَيُّ َها النه ِب ُّ‬ ‫َ‬
‫ت خاالتِكَ الالهتِي ها َج ْر َن‬ ‫ت خا ِلكَ َوبَنا ِ‬ ‫ع هماتِكَ َوبَنا ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ع ِ ّمكَ َوبَنا ِ‬ ‫ت َ‬ ‫علَ ْيكَ َوبَنا ِ‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫يَ ِمينُكَ ِم هما أَفا َء ه‬
‫صة لَكَ ِم ْن د ِ‬
‫ُون‬ ‫ست َ ْن ِك َحها خا ِل َ‬ ‫ي أ َ ْن يَ ْ‬
‫ي ِ ِإ ْن أَرا َد النه ِب ُّ‬‫سها ِللنه ِب ّ‬ ‫ام َرأَة ُم ْؤ ِمنَة ِإ ْن َو َهبَتْ نَ ْف َ‬ ‫َمعَكَ َو ْ‬
‫علَ ْيكَ َح َر ٌ‬
‫ج‬ ‫ُون َ‬‫واج ِه ْم َوما َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُه ْم ِل َك ْيال يَك َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم فِي أ َ ْز ِ‬ ‫ضنا َ‬ ‫ع ِل ْمنا ما فَ َر ْ‬ ‫ين قَ ْد َ‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫غفُورا َر ِحيما ( ‪) 50‬‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫كان ه‬‫َو َ‬
‫ّللا عليه وسلم ]‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫[ نكاح الهبة خاص برسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وهو له‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫هذه اآلية نص على نكاح الهبة أن ذلك خالص لرسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ألنه لما لم يكن في‬ ‫مشروع وهو حرام علينا ‪ ،‬فهذا مما اختص به محمد صلهى ه‬
‫األنكحة أفضل من نكاح الهبة ‪ ،‬ألنه ال عن عوض كاالسم الواهب الذي يعطي لينعم ‪ ،‬اختص‬
‫ّللا صلهى‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فنكاح الهبة خاص لرسول ه‬ ‫به لفضله أفضل الخلق وهو محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم حرام على األمة بال خالف ‪.‬‬ ‫ه‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 51‬‬


‫علَ ْيكَ ذ ِلكَ‬
‫ح َ‬‫ت ُ ْر ِجي َم ْن تَشا ُء ِم ْن ُه هن َوت ُ ْؤ ِوي ِإلَ ْيكَ َم ْن تَشا ُء َو َم ِن ا ْبتَغَ ْيتَ ِم هم ْن ع ََز ْلتَ فَال ُجنا َ‬
‫ّللاُ‬
‫كان ه‬ ‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم ما ِفي قُلُو ِب ُك ْم َو َ‬ ‫أَدْنى أ َ ْن تَقَ هر أ َ ْعيُنُ ُه هن َوال يَحْ َز هن َويَ ْر َ‬
‫ض ْي َن ِبما آت َ ْيت َ ُه هن ُكلُّ ُه هن َو ه‬
‫ع ِليما َح ِليما) ‪( 51‬‬ ‫َ‬

‫ص ‪406‬‬

‫‪406‬‬
‫زوجات النبي الالتي كان يساوي بينهن في القسمة أربع ‪ :‬عائشة وحفصة وأم سلمة وزينت‬
‫بنت جحش ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 52‬‬


‫سنُ ُه هن ِإاله ما َملَ َكتْ يَ ِمينُكَ‬‫ال يَ ِح ُّل لَكَ ال ِنّسا ُء ِم ْن بَ ْع ُد َوال أ َ ْن تَبَ هد َل ِب ِه هن ِم ْن أ َ ْزواجٍ َولَ ْو أ َ ْع َجبَكَ ُح ْ‬
‫ش ْي ٍء َرقِيبا ) ‪( 52‬‬ ‫ّللاُ عَلى ُك ِ ّل َ‬ ‫َو َ‬
‫كان ه‬
‫ّللا عليه وسلم وإيثارا لهن ومراعاتهن بعد أن‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫نزلت هذه اآلية جبرا ألزواج رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم فاختاروه ‪ ،‬وكانت هذه اآلية ‪ .‬من أشق آية نزلت على‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫خيهرهن رسول ه‬
‫ي من دنياكم ثالث ‪:‬‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬حبب إل ه‬ ‫ّللا عليه وسلم لقوله صلهى ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫النساء والطيب ‪ ،‬وجعلت قرة عيني في الصالة ]‬
‫فأبقى عليه تعالى رحمة به لما جعل في قلبه من حب النساء ملك اليمين ‪ ،‬وقوله تعالى ‪َ «:‬ولَ ْو‬
‫أ َ ْع َجبَ َك ُح ْسنُ ُه َّن »تقوية للحكم بتحريم ذلك عليه ‪،‬‬
‫ّللا صلهى‬ ‫وّللا ما مات رسول ه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ه‬ ‫ّللا ليعذب قلب نبيه صلهى ه‬ ‫قالت عائشة [ ما كان ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫ت يَ ِمينُ َك »جواريه صلهى ه‬ ‫ّللا عليه وسلم حتى أح هل له النساء ]« إِ َّال ما َملَ َك ْ‬ ‫ه‬
‫مارية بنت شمعون القبطية ‪ ،‬ولدت له سيدنا إبراهيم عليه السالم ‪ ،‬وريحانة بنت زيد من بني‬
‫قريظة من بني النضير ‪.‬‬
‫ش ْيءٍ َرقِيبا ً »‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫ش ْيءٍ َرقِيبا ً » اآلية ]« َوكانَ َّ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫ّللاُ َ‬‫[ « َوكانَ َّ‬
‫ظ ُهما )أي العالم األعلى واألسفل ‪ ،‬فال يزال‬ ‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬هو معنى قوله تعالى( َوال يَ ُؤ ُدهُ ِح ْف ُ‬
‫الحق مراقبا لعالم األجسام والجواهر العلوية والسفلية ‪ ،‬كلما انعدم منها عرض به وجوده خلق‬
‫خالق على الدوام‬ ‫في ذلك الزمان عرضا مثله أو ضده يحفظه به من العدم في كل زمان ‪ ،‬فهو ه‬
‫‪ ،‬والعالم مفتقر إليه تعالى على الدوام افتقارا ذاتيا ‪ ،‬من عالم األعراض والجواهر ‪ ،‬وهذه‬
‫مراقبة الحق خلقه لحفظ الوجود عليه ‪ ،‬وهذه هي الشؤون التي عبر عنها في كتابه أنه كل يوم‬
‫في شأن ‪ ،‬وال يشغله شأن عن شأن‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬ومراقبة أخرى للحق في عباده ‪ ،‬وهي نظره إليهم فيما كلفهم من أوامره‬
‫ونواهيه ورسم لهم من حدوده ‪ ،‬وهذه مراقبة كبرياء ووعيد ‪ ،‬فمنهم من وكل به من يحصي‬
‫عتِي ٌد (‬‫يب َ‬‫ظ ِم ْن قَ ْو ٍل إِ َّال لَ َد ْي ِه َرقِ ٌ‬ ‫عليهم جميع ما يفعلونه ‪ ،‬مثل قوله ‪ (:‬ما يَ ْل ِف ُ‬
‫ومثل قوله ‪ِ (:‬كراما ً كاتِبِينَ يَ ْعلَ ُمونَ ما ت َ ْفعَلُونَ )‬
‫ع َّما ت َ ْع َملُونَ )‬
‫ّللاُ ِبغافِ ٍل َ‬
‫ين () َو َما َّ‬ ‫مام ُم ِب ٍ‬ ‫صيْناهُ فِي ِإ ٍ‬ ‫ش ْيءٍ أ َ ْح َ‬‫ب ما قالُوا )( َو ُك َّل َ‬ ‫سنَ ْكت ُ ُ‬
‫وقوله‪َ ( :‬‬
‫*فهو سبحانه ال يغفل عن حاالت عبده في حركاته وسكناته ‪ ،‬وال يشغله عن مراقبته شيء ‪،‬‬

‫ص ‪407‬‬

‫‪407‬‬
‫وليس في الحضرات من يعطي التنبيه على أن الحق معنا بذاته في قوله ‪َ (:‬و ُه َو َمعَ ُك ْم أَيْنَ ما‬
‫ُك ْنت ُ ْم )إال هذا االسم الرقيب وهذه الحضرة ‪ ،‬ألنه على الحقيقة من الرقبى ‪ ،‬والرقبى أن تملك‬
‫رقبة الشيء بخالف العمرى ‪ ،‬فإذا ملكت رقبة الشيء تبعته صفاته كلها وما ينسب إليه ‪،‬‬
‫على ُك ِهل َ‬
‫ش ْيءٍ »‬ ‫والرقيب اسم فاعل« َ‬
‫*وهو المرقب عليه ‪ ،‬فإنه المشهود لكل شيء ‪ ،‬فيرقب العبد في جميع حركاته وسكناته ‪،‬‬
‫ويرقبه العبد في جميع آثاره في قلبه وخواطره وحركاته وحركات ما خرج عنه من العالم ‪،‬‬
‫فأسعد العبيد من يراقب سيده مراقبة سيده إياه ‪ ،‬فيراقب الحق مراقبة عبده لمن يراقب ‪ ،‬فيكون‬
‫ّللا مع‬
‫معه بحيث يرى منه ‪ ،‬ومن ملك المراقبة كان له التصرف كيف شاء في المراقب ‪ ،‬فإن ه‬
‫مسرح العين في تصرفه‬ ‫ه‬ ‫عبده حيث كان ‪ ،‬فالعبد وإن كان مقيدا بالشرع ‪ ،‬فإن الشرع قد جعله‬
‫‪ ،‬ويحمده الميزان ويذمه ‪ ،‬والمراقب معه أينما كان من محمود ومذموم ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 53‬‬


‫ناظ ِرينَ ِإناهُ َول ِك ْن ِإذا‬ ‫غي َْر ِ‬ ‫عام َ‬ ‫ط ٍ‬‫ي ِ ِإالَّ أ َ ْن يُؤْ ذَنَ لَ ُك ْم ِإلى َ‬ ‫وت النَّ ِب ه‬‫يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ال ت َ ْد ُخلُوا بُيُ َ‬
‫ي فَيَ ْست َ ْحيِي‬ ‫ث إِ َّن ذ ِل ُك ْم كانَ يُؤْ ذِي النَّبِ َّ‬ ‫ط ِع ْمت ُ ْم فَا ْنت َ ِش ُروا َوال ُم ْست َأْنِ ِسينَ ِل َحدِي ٍ‬‫ُد ِعيت ُ ْم فَا ْد ُخلُوا فَإِذا َ‬
‫ب ذ ِل ُك ْم أ َ ْ‬
‫ط َه ُر‬ ‫راء ِحجا ٍ‬ ‫سأ َ ْلت ُ ُمو ُه َّن َمتاعا ً فَ ْسئَلُو ُه َّن ِم ْن َو ِ‬ ‫ق َو ِإذا َ‬ ‫ّللاُ ال يَ ْست َ ْحيِي ِمنَ ْال َح ه ِ‬
‫ِم ْن ُك ْم َو َّ‬
‫ّللا َوال أ َ ْن ت َ ْن ِك ُحوا أ َ ْزوا َجهُ ِم ْن بَ ْع ِد ِه أَبَدا ً ِإ َّن ذ ِل ُك ْم‬
‫سو َل َّ ِ‬‫ِلقُلُوبِ ُك ْم َوقُلُوبِ ِه َّن َوما كانَ لَ ُك ْم أ َ ْن ت ُؤْ ذُوا َر ُ‬
‫ق »وذلك ليس من صفات الخلق ‪ ،‬من ال‬ ‫ّللاُ ال يَ ْست َ ْح ِيي ِمنَ ْال َح ه ِ‬‫ع ِظيما ً ( ‪َ «) 53‬و َّ‬ ‫كانَ ِع ْن َد َّ ِ‬
‫ّللا َ‬
‫يكون إال ما يريد ال يستحي من العبيد ‪ ،‬فإن استحى في حال ما ‪ ،‬فلطلب االسم المسمى ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬اآليات ‪ 54‬إلى ‪] 55‬‬


‫علَ ْي ِه هن فِي آبائِ ِه هن َوال‬
‫ح َ‬ ‫ع ِليما ( ‪ ) 54‬ال ُجنا َ‬ ‫ش ْي ٍء َ‬ ‫كان بِ ُك ِ ّل َ‬ ‫ش ْيئا أ َ ْو ت ُ ْخفُوهُ فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬ ‫إِ ْن ت ُ ْبدُوا َ‬
‫ناء أ َ َخواتِ ِه هن َوال نِسائِ ِه هن َوال ما َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُه هن‬
‫ناء ِإ ْخوانِ ِه هن َوال أ َ ْب ِ‬
‫أ َ ْبنائِ ِه هن َوال ِإ ْخوانِ ِه هن َوال أ َ ْب ِ‬
‫ش ْي ٍء ش َِهيدا) ‪( 55‬‬ ‫كان عَلى ُك ِ ّل َ‬ ‫ّللا َ‬ ‫ّللا ِإ هن ه َ‬ ‫َوات ه ِق َ‬
‫ين ه َ‬

‫ص ‪408‬‬

‫‪408‬‬
‫وهو رؤية عباده في حركاتهم وتصرفاتهم ‪ ،‬فشهوده لكل شيء هو إحسانه ‪ ،‬فإنه بشهوده‬
‫يحفظه من الهالك ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 56‬‬


‫س ِليما ( ‪) 56‬‬ ‫علَ ْي ِه َو َ‬
‫س ِلّ ُموا ت َ ْ‬ ‫صلُّوا َ‬ ‫ي ِ يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َ‬ ‫علَى النه ِب ّ‬ ‫ون َ‬ ‫صلُّ َ‬‫ّللا َو َمالئِ َكتَهُ يُ َ‬
‫ِإ هن ه َ‬
‫ّللا عليه وسلم بمرتبة لم تعط ألحد سواه]‬ ‫[ تميز النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم من‬ ‫علَ ْي ُك ْم َو َمال ِئ َكتُهُ »فعمنا كلنا والنبي صلهى ه‬ ‫ص ِلهي َ‬ ‫ّللا تعالى ‪ُ «:‬ه َو الَّذِي يُ َ‬ ‫قال ه‬
‫جملتنا ‪ ،‬وأفرد نفسه في ذلك كما أفرد مالئكته بالصالة على العباد وفيهم النبي ‪ ،‬فلجميع الخلق‬
‫ّللا عليه وسلم وحده‬ ‫وخص النبي صلهى ه‬ ‫ه‬ ‫ّللا وتوحيد الصالة من المالئكة ‪،‬‬ ‫توحيد الصالة من ه‬
‫ي ِ »فهي خصوص صالة فإن‬ ‫صلُّونَ َ‬
‫علَى النَّبِ ه‬ ‫ّللا َو َمالئِ َكتَهُ يُ َ‬ ‫فيما أخبرنا به بقوله ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا عليه وسلم على‬ ‫صلُّونَ »يجمع الحق والمالئكة ‪ ،‬فتميز النبي صلهى ه‬ ‫الضمير في قوله «‪ :‬يُ َ‬
‫ّللا ومالئكته ‪،‬‬ ‫سائر البشر بمرتبة لم يعطها أحد سواه ‪ ،‬بأن جمع له بصالة جامعة اشترك فيها ه‬
‫ومعلوم أن الصالة في الجمعية ما هي الصالة في حال اإلفراد فإن الحالتين متميزتان ‪ ،‬ففاز‬
‫ّللا عليه وسلم على سائر البشر في‬ ‫ّللا عليه وسلم بهذه الصالة ‪ ،‬فثبت شرفه صلهى ه‬ ‫النبي صلهى ه‬
‫نعرف به فذلك‬ ‫هذه المرتبة ‪ ،‬فإنه شرف محقق الوجود بالتعريف ‪ ،‬وإن ساواه أحد ممن لم ه‬
‫شرف إمكاني ‪ ،‬فتعين فضله بالتعيين على من لم يتعين ‪ ،‬وإن كان قد صلى عليه مثل هذا في‬
‫نفس األمر ولم نخبر ‪ ،‬فثبت له الفضل بكل حال ‪ ،‬ويتضح في قوله تعالى ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا َو َمالئِ َكتَهُ‬
‫ي ِ »أنه لو لم يكن من شرف المالئكة على سائر المخلوقات إال جمع الضمير‬ ‫صلُّونَ َ‬
‫علَى النَّ ِب ه‬ ‫يُ َ‬
‫ّللا لكفاهم ‪ ،‬وما احتيج بعد ذلك إلى دليل آخر ‪ ،‬ونصب المالئكة‬ ‫صلُّونَ »بينهم وبين ه‬ ‫في« يُ َ‬
‫ّللا‬
‫بالعطف حتى يتحقق أن الضمير جامع للمذكورين قبل ‪ ،‬وال يتمكن للمالئكة أن تلحق صالة ه‬
‫على عبده ‪ ،‬فإنها ال تتعدى مرتبتها ‪ ،‬فيكون الحق ينزل في هذه الصالة إلى صالة المالئكة‬
‫ّللا على‬ ‫ألجل الضمير الجامع ‪ ،‬فتكون صالة ه‬

‫ص ‪409‬‬

‫‪409‬‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫النبي من مقام صالة المالئكة على النبي ‪ ،‬ثم أمرنا تعالى أن نصلي عليه صلهى ه‬
‫س ِله ُموا ت َ ْس ِليما ً »فأمرنا أن نصلي عليه بمثل هذه الصالة‬ ‫صلُّوا َ‬
‫علَ ْي ِه َو َ‬ ‫فقال ‪ «:‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا َ‬
‫الجامعة بصالتنا عليه ‪ ،‬والصالة على النبي في الصالة وغيرها دعاء من العبد المصلي لمحمد‬
‫ّللا عليه وسلم بظهر الغيب ‪ ،‬وقد علهمنا كيف نصلي عليه أي كيف ندعو له ‪ ،‬وقد أمرنا‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم [ أنه‬‫أن ندعو له بالوسيلة والمقام المحمود ‪ ،‬وقد ورد في الصحيح عنه صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫من دعا بظهر الغيب قال له الملك ولك بمثله وفي رواية ولك بمثليه ] فشرع ذلك رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم وأمر بها ليعود هذا الخير من الملك على المصلي عليه من أمته صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫صلهى ه‬
‫س ِله ُموا ت َ ْس ِليما ً »فأكده بالمصدر ‪ ،‬فقد يحتمل أن يريد‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وأمر بالسالم عليه بقوله ‪َ «:‬و َ‬
‫بذلك السالم المذكور في التشهد ‪ ،‬ويحتمل أن يريد به السالم من الصالة ‪ ،‬أي إذا فرغتم من‬
‫ّللا عليه وسلم فسلموا من صالتكم تسليما « ‪ ، » 1‬فالصالة على‬ ‫الصالة على النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في التشهد فرض ‪ ،‬والتعوذ من األربع المأمور بها في التشهد واجب‬ ‫النبي صلهى ه‬
‫‪ ،‬وهي أن يتعوذ من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المحيا وفتنة الممات ومن فتنة‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم بالتعوذ منها لكان االقتداء برسول ه‬ ‫المسيح الدجال ‪ ،‬ولو لم يأمر النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أولى ‪ ،‬إذ كان التعوذ منها من فعله ‪ ،‬فكيف وقد انضاف إلى فعله أمره‬ ‫صلهى ه‬
‫أمته بذلك ؟‬
‫ّللا عليه وسلم أنه كان يسلم‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫وأما التسليم من الصالة فهو واجب ‪ ،‬والثابت عن رسول ه‬
‫ّللا أن‬ ‫ّللا عليه وسلم عن كيفية الصالة التي أمرهم ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫تسليمتين ‪ ،‬سأل المؤمنون رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬قولوا ‪ :‬اللهم صل على محمد‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫يصلوها عليه ‪ ،‬فقال لهم رسول ه‬
‫وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ] أي مثل صالتك على إبراهيم‬
‫ّللا صلهى‬ ‫وعلى آل إبراهيم ‪ ،‬ويظهر من هذا الحديث فضل إبراهيم عليه السالم على رسول ه‬
‫ّللا أمرنا بالصالة‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬إذ طلب أن يصلي عليه مثل الصالة على إبراهيم ‪ ،‬فاعلم أن ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ولم يأمرنا بالصالة على آله في القرآن ‪ ،‬وجاء اإلعالم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫على رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم إيانا الصالة عليه بزيادة الصالة على اآلل ‪ ،‬فما طلب‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫في تعليم رسول ه‬
‫ّللا عليه مثل صالته على إبراهيم من حيث أعيانهما ‪ ،‬فإن‬ ‫ّللا عليه وسلم الصالة من ه‬ ‫صلهى ه‬
‫يخص بها نبي قبله ال‬ ‫ه‬ ‫خص بأمور لم‬
‫ه‬ ‫ّللا عليه وسلم أتم ‪ ،‬إذ قد‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫العناية اإللهية برسول ه‬
‫ّللا عليه مثل‬
‫إبراهيم وال غيره ‪ ،‬وذلك من صالته تعالى عليه ‪ ،‬فكيف يطلب الصالة من ه‬
‫صالته على إبراهيم من حيث عينه ؟ إنما المراد من ذلك أن الصالة على الشخص قد تصلى‬
‫عليه من حيث عينه‬

‫) ‪( 1‬راجع اإلشارة في نهاية البحث‪.‬‬

‫ص ‪410‬‬

‫‪410‬‬
‫ومن حيث ما يضاف إليه غيره ‪ ،‬فكأن الصالة عليه من حيث ما يضاف إليه غيره هي الصالة‬
‫من حيث المجموع ‪ ،‬إذ للمجموع حكم ليس للواحد إذا انفرد ‪ .‬واعلم أن آل الرجل في لغة‬
‫باّلل المؤمنون به‬
‫العرب هم خاصته األقربون ‪ ،‬وخاصة األنبياء وآلهم هم الصالحون ‪ ،‬العلماء ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ومرتبة النبوة والرسالة قد ارتفعت في‬ ‫‪ ،‬وقد علمنا أن إبراهيم كان من آله أنبياء ورسل ه‬
‫ّللا له‬
‫ّللا عليه وسلم في أمته نبي يشرع ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫الشاهد في الدنيا ‪ ،‬فال يكون بعد رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم وال رسول ‪ ،‬وما منع المرتبة وال حجرها من حيث ال‬ ‫بخالف شرع محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم فيمن حفظ القرآن ‪ ،‬إن النبوة قد أدرجت بين‬ ‫تشريع وال سيما وقد قال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وقال في المبشرات إنها جزء من أجزاء النبوة ‪،‬‬ ‫جنبيه أو كما قال صلهى ه‬
‫فوصف بعض أمته بأنهم قد حصل لهم المقام وإن لم يكونوا على شرع يخالف شرعه ‪ ،‬وقد‬
‫أن عيسى عليه السالم ينزل فينا حكما مقسطا عدال‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ -‬ه‬ ‫علمنا ‪ -‬بما قال لنا صلهى ه‬
‫ّللا ونبيه ‪ ،‬وهو ينزل بعده ‪ ،‬فله‬
‫فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ‪ ،‬وال نشك قطعا أنه رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وما له مرتبة التشريع عند نزوله ‪ ،‬فعلمنا بقوله‬‫عليه السالم مرتبة النبوة بال شك عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم إنه [ ال نبي بعدي وال رسول ] وأن النبوة قد انقطعت والرسالة ‪ ،‬إنما‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا من‬
‫يريد بهما التشريع ‪ ،‬فلما كانت النبوة أشرف مرتبة وأكملها ‪ ،‬ينتهي إليها من اصطفاه ه‬
‫عباده ‪ ،‬علمنا أن التشريع في النبوة أمر عارض بكون عيسى عليه السالم ينزل فينا حكما من‬
‫غير تشريع ‪ ،‬وهو نبي بال شك ‪ ،‬فخفيت مرتبة النبوة في الخلق بانقطاع التشريع ‪ ،‬ومعلوم أن‬
‫آل إبراهيم من النبيين والرسل الذين كانوا بعده ‪ ،‬مثل إسحاق ويعقوب ويوسف ومن انتسل‬
‫ّللا ‪ ،‬أراد‬
‫منهم من األنبياء والرسل بالشرائع الظاهرة الدالة على أن لهم مرتبة النبوة عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن يلحق أمته ‪ -‬وهم آله العلماء الصالحون منهم ‪ -‬بمرتبة النبوة‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫ّللا وإن لم يشرعوا ‪ ،‬ولكن أبقى لهم من شرعه ضربا من التشريع ‪ ،‬فقال ‪ [ :‬قولوا ‪ :‬اللهم‬ ‫عند ه‬
‫صل على محمد وعلى آل محمد ] أي صل عليه من حيث ما له آل [ كما صليت على إبراهيم‬
‫وعلى آل إبراهيم ] أي من حيث أنك أعطيت آل إبراهيم النبوة تشريفا إلبراهيم ‪ ،‬فظهرت‬
‫ي وعلى آلي بأن تجعل لهم مرتبة‬ ‫نبوتهم بالتشريع ‪ ،‬وقد قضيت أن ال شرع بعدي ‪ ،‬فص هل عل ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن ألحق آله‬‫ّللا صلهى ه‬‫النبوة عندك ‪ ،‬وإن لم يشرعوا ‪ ،‬فكان من كمال رسول ه‬
‫باألنبياء في المرتبة ‪ ،‬وزاد على إبراهيم بأن شرعه ال ينسخ ‪ ،‬وبعض شرائع إبراهيم ومن‬
‫ّللا عليه وسلم الصالة عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫بعده نسخت الشرائع بعضها بعضا ‪ ،‬وما علهمنا رسول ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫على هذه الصورة إال بوحي من ه‬

‫ص ‪411‬‬

‫‪411‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وأن الدعوة في ذلك مجابة ‪ ،‬فقطعنا أن في هذه األمة من لحقت درجته درجة‬ ‫وبما أراه ه‬
‫ّللا عليه وسلم وأكد بقوله‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا ال في التشريع ‪ ،‬ولهذا بيهن رسول ه‬ ‫األنبياء في النبوة عند ه‬
‫ّللا رسوله صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫‪ [ :‬فال رسول بعدي وال نبي ] فأكد بالرسالة من أجل التشريع ‪ ،‬فأكرم ه‬
‫عليه وسلم بأن جعل آله شهداء على أمم األنبياء ‪ ،‬كما جعل األنبياء شهداء على أممهم ‪ ،‬ثم أنه‬
‫خص هذه األمة أعني علماءها ‪ ،‬بأن شرع لهم االجتهاد في األحكام ‪ ،‬وقرر حكم ما أداه إليه‬ ‫ه‬
‫اجتهادهم ‪ ،‬وتعبدهم به وتعبد من قلدهم به ‪ ،‬كما كان حكم الشرائع لألنبياء ومقلديهم ‪ ،‬ولم يكن‬
‫ّللا وحي علماء هذه األمة في اجتهادهم ‪ ،‬كما‬ ‫مثل هذا ألمة نبي ما لم يكن بوحي منزل ‪ ،‬فجعل ه‬
‫ّللاُ )فالمجتهد ما حكم إال بما أراه‬ ‫اس بِما أ َ َ‬
‫راك َّ‬ ‫قال لنبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ِ (:‬لت َ ْح ُك َم بَيْنَ النَّ ِ‬
‫ّللا في اجتهاده ‪ ،‬فهذه نفحات من نفحات التشريع ما هو عين التشريع ‪ ،‬فآلل محمد صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ه‬
‫ّللا ‪ ،‬تظهر في اآلخرة ‪ ،‬وما‬ ‫عليه وسلم ‪ ،‬وهم المؤمنون من أمته العلماء ‪ ،‬مرتبة النبوة عند ه‬
‫لها حكم في الدنيا إال هذا القدر من االجتهاد المشروع ‪ ،‬فلم يجتهدوا في الدين واألحكام إال‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن اتفق أن يكون أحد من أهل البيت بهذه المثابة من العلم واالجتهاد‬ ‫بأمر مشروع عند ه‬
‫ولهم هذه المرتبة كالحسن والحسين وجعفر وغيرهم من أهل البيت ‪ ،‬فقد جمعوا بين األهل‬
‫ّللا عليه وسلم هم أهل بيته خاصة ‪ ،‬ليس هذا عند العرب‬ ‫واآلل ‪ ،‬فال تتخيل أن آل محمد صلهى ه‬
‫‪ ،‬فإن اآلل ال يضاف بهذه الصفة إال للكبير القدر في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬فلهذا قيل لنا قولوا [ ‪:‬‬
‫اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ] أي من حيث ما ذكرناه ال من‬
‫حيث أعيانهما خاصة دون المجموع ‪ ،‬فهي صالة من حيث المجموع ‪ ،‬وذكرناه ألنه تقدم‬
‫ّللا عليه وسلم قد ثبت أنه سيد‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فرسول ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫بالزمان على رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬كيف تحمل الصالة عليه كالصالة على‬ ‫الناس يوم القيامة ‪ ،‬ومن كان بهذه المثابة عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه‬‫إبراهيم من حيث أعيانهما ؟ فلم يبق إال ما ذكرناه ‪ ،‬روي عن النبي صلهى ه‬
‫قال ‪ [ :‬علماء هذه األمة كأنبياء سائر األمم ] وفي رواية [ أنبياء بني إسرائيل ] وإن كان إسناد‬
‫هذا الحديث ليس بالقائم ‪ ،‬ولكن أوردناه تأنيسا للسامعين أن علماء هذه األمة قد التحقت‬
‫باألنبياء في الرتبة ‪ ،‬وتلخيص ما ذكرناه هو أن يقول المصلي [ اللهم صل على محمد ] بأن‬
‫تجعل آله من أمته [ كما صليت على إبراهيم ] بأن جعلت آله أنبياء ورسال في المرتبة عندك ‪،‬‬
‫[وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم ] بما أعطيتهم من التشريع والوحي ‪ ،‬فأعطاهم‬
‫الحديث فمنهم المحدثون ‪ ،‬وشرع لهم االجتهاد وقرره حكما شرعيا ‪،‬‬

‫ص ‪412‬‬

‫‪412‬‬
‫ّللا عنه ( أي الشيخ‬
‫فأشبهت األنبياء في ذلك ‪ -‬وهذا التفسير عن واقعة إلهية ‪ ،‬يقول رضي ه‬
‫األكبر ) ‪.‬‬
‫وهذه مسئلة عظيمة جليلة القدر ‪ ،‬لم نر أحدا ممن تقدمنا تعرض لها وال قال فيها مثل ما وقع‬
‫ّللا في عباده أخفياء ال يعرفهم سواه‬ ‫لنا في هذه الواقعة ‪ ،‬إال إن كان وما وصل إلينا ‪ ،‬فإن ه‬
‫‪ -‬وجه آخر ‪ -‬لكي ننال ما ناله إبراهيم عليه السالم من الخلة على قدر ما يعطيه حالنا ‪ ،‬قال‬
‫لنا ‪ [ :‬قولوا ‪ :‬اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ] والمؤمنون آله‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫[ كما صليت على إبراهيم ] وما اختص به إال الخلة ‪ ،‬فلما دعونا بها لرسول ه‬
‫ّللا عنه علينا عشرا ‪ ،‬فقام تعالى عن‬ ‫ّللا دعاءنا فيه لنتخذ عنده يدا بذلك ‪ ،‬فصلى ه‬ ‫وسلم أجاب ه‬
‫ّللا عليه وسلم بالمكافأة ‪ ،‬عناية منه به عليه السالم وتشريفا لنا ‪ ،‬حيث لم تكمل‬ ‫نبيه صلهى ه‬
‫المكافأة في ذلك لملك وال غيره ‪،‬‬
‫ّللا فيما دعوناه فيه لنبيه صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم عن ذلك لما حصلت اإلجابة من ه‬ ‫فقال النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬لو كنت متخذ خليال التخذت أبا بكر خليال ‪ ،‬ولكن صاحبكم ] يعني نفسه‬ ‫ه‬
‫ّللا ] ولو صحت له هذه الخلة من قبل دعاء أمته له بذلك لكان غير مفيد صالتنا عليه‬ ‫[ خليل ه‬
‫‪ ،‬أي دعاءنا له بذلك ‪ ،‬وحكم الخلة ما ظهر هنا ‪ ،‬وإنما يظهر ذلك في اآلخرة ‪ ،‬ففي اآلخرة‬
‫تنال الخلة لظهور حكمها هناك ‪ ،‬وأما الذي يظهر منها هنا لوامع تبدو وتؤذن بأنه قد أ ههل لها‬
‫واعتنى به‬
‫ّللا أن تكون لمخلوق على مخلوق منة لتكون المنة هّلل ‪ ،‬فما خلق مخلوقا‬ ‫‪ -‬تحقيق ‪ -‬من غيرة ه‬
‫إال وجعل لمخلوق عليه يدا بوجه ما ‪،‬‬
‫فإن أراد الفخر مخلوق على مخلوق لما كان منه إليه ‪ ،‬نكس رأسه ما كان من مخلوق آخر إليه‬
‫باّلل ال يخطر لهم ذلك ‪ ،‬لمعرفتهم بحقائق األمور وما‬ ‫‪ ،‬واألنبياء والرسل والكمل من العلماء ه‬
‫ّللا به العالم ‪ ،‬وما يستحقه جالله مما ينبغي أن يفرد به وال يشارك فيه ‪ ،‬فنصب األسباب‬ ‫ربط ه‬
‫ّللا عليه وسلم(‬‫وأوقف األمور بعضها على بعض لما تقتضيه الحكمة ‪ ،‬فقال لرسوله صلهى ه‬
‫س َك ٌن لَ ُه ْم )فهذا فخر ويد ومنة ‪ ،‬يتعرض فيها علة ومرض ‪ ،‬ولكن‬ ‫صالت َ َك َ‬‫علَ ْي ِه ْم ِإ َّن َ‬
‫ص ِهل َ‬
‫َو َ‬
‫ّللا نبيه من ذلك ‪ ،‬فجعل سبحانه في مقابلة هذه العلة دواء كما هي أيضا دواء لما هو لها‬ ‫عصم ه‬
‫علَ ْي ِه »فإن افتخرنا بالصالة عليه على طريق‬ ‫صلُّوا َ‬
‫دواء ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا َ‬
‫تصور في الجواز العقلي أن يمتن بصالته‬ ‫ه‬ ‫المنة ‪ ،‬وجدناه قد صلى علينا حين أمر بذلك ‪ ،‬وان‬
‫علينا ‪ ،‬منعته من ذلك صالتنا عليه أن يذكر هذا ‪ ،‬مع كونه السيد األعظم ‪ ،‬ولكن لم يترك له‬
‫سبحانه المنة على خلقه ‪ ،‬ليكون هو سبحانه المنعم الممتن على عباده بجميع ما هم فيه ‪ ،‬وما‬
‫ّللا من الوفاء‬ ‫يكون منهم في حق ه‬

‫ص ‪413‬‬

‫‪413‬‬
‫[إشارة ‪ :‬مراتب الرجال في التسليم من الصالة ]‬
‫س ِله ُموا ت َ ْس ِليما ً »يريد به السالم من الصالة ‪ .‬اعلم أن‬
‫بعهوده ‪ -‬إشارة ‪ -‬من قوله تعالى ‪َ «:‬و َ‬
‫المسلهم من صالته رجالن ‪ ،‬لهما طريقان ‪ ،‬فإن كانا في شخص واحد فقد جمعت له الحقيقتان ‪،‬‬
‫فالعالي من سلهم لكونه انفصل عن أمر ما إلى أمر ما ‪ ،‬إلى اسم ما ‪ ،‬عن اسم آخر ‪ ،‬فيكون‬
‫سالم توديع وإقبال ‪ ،‬إما من جليل إلى جالل ‪ ،‬أو من جميل إلى جمال ‪ ،‬والدون من سلهم على‬
‫الرحمن وعلى األكوان ‪ ،‬فسالمه على الرحمن النفصاله ‪ ،‬وسالمه على األكوان لرجوعه إليهم‬
‫واتصاله ‪ ،‬ولهذا ال يسلم المصلي على يساره إال إذا جاوره مثله ‪ ،‬فيظهر فيه ظلهه ‪ ،‬ومن خرج‬
‫عن هاتين الحقيقتين لم يصح سالمه ‪ ،‬وال قبل كالمه ‪ ،‬فإنه لم يكن عند الحق فينفصل عنه‬
‫بسالم ‪ ،‬ولم يغب عن الكون فيسلهم عليه عند اإللمام ‪ ،‬وهذه صالة العوام ‪ ،‬بريئة من الكمال‬
‫والتمام ‪ ،‬ليس لها انتظام وال التحام ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 57‬‬


‫ّللاُ ِفي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة َوأ َ َ‬
‫ع هد لَ ُه ْم عَذابا ُم ِهينا ( ‪) 57‬‬ ‫سولَهُ لَعَنَ ُه ُم ه‬
‫ّللا َو َر ُ‬ ‫ِين يُ ْؤذُ َ‬
‫ون ه َ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ّللا نفسه بأنه يؤذى ‪ ،‬ولم يؤاخذ عن‬ ‫ّللا »بالتكلم فيه بما ال ينبغي ‪ ،‬فوصف ه‬ ‫« إِ َّن الَّذِينَ يُؤْ ذُونَ َّ َ‬
‫أذاه في الوقت من آذاه ‪ ،‬فأمهلهم ولم يؤاخذهم ‪ ،‬وجعل له ذلك األذى االسم الصبور ‪ ،‬فوصف‬
‫نفسه بالصبور ‪ ،‬وذكر لنا من يؤذيه وبما ذا يؤذيه ‪ ،‬وطلب من عباده رفع األذى مع قدرته‬
‫على أن ال يخلق فيهم ما خلق ‪ ،‬مع بقاء اسم الصبور عليه ‪ ،‬ليعلمنا أنا إذا شكونا إليه ما نزل‬
‫بنا من البالء ‪ ،‬أن تلك الشكوى إليه ال تقدح في نسبة الصبر إلينا ‪ ،‬فنحن مع هذه الشكوى إليه‬
‫في رفع البالء عنا صابرون ‪ ،‬كما هو صابر مع تعريفنا وإعالمه إيانا بمن يؤذيه وبما يؤذيه ‪،‬‬
‫لننتصر له وندفع عنه ذلك وهو الصبور ‪ ،‬فمن كان عدوا هّلل فهو عدو للمؤمن ‪،‬‬
‫ّللا ] لكونه قادرا على األخذ وما يأخذ ‪،‬‬ ‫وقد ورد في الخبر [ ليس من أحد أصبر على أذى من ه‬
‫ويمهل باسمه الحليم ‪،‬‬
‫وقد كذهب وشتم ورد في الصحيح [ شتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ‪ ،‬وكذبني ابن آدم ولم‬
‫يكن ينبغي له ]‬
‫( الحديث ) فقوله ولم يكن ينبغي له ذلك لما له عليه تعالى من فضل إخراجه من الشر الذي‬
‫هو العدم إلى الخير الذي بيده تعالى وهو الوجود ‪ ،‬فكان التعريف بذلك ليرجع المكذب عن‬
‫تكذيبه ‪ ،‬والشاتم عن شتمه ‪ ،‬فإن الدنيا موطن الرجوع والقبول منه ‪ ،‬واآلخرة وإن كانت‬
‫وعرف‬‫ه‬ ‫موطن الرجوع ولكن ليست بموطن قبول ‪ ،‬واتصف الحق بالصبر على أذى العبد ‪،‬‬
‫أهل االعتناء من المؤمنين بذلك‬

‫ص ‪414‬‬

‫‪414‬‬
‫ّللا أعظم الجزاء ‪ ،‬فال أرفع ممن‬ ‫‪-‬صورة الشاكي ‪ -‬ليدفعوا عنه ذلك األذى ‪ ،‬فيكون لهم من ه‬
‫ّللاُ ِفي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة »أي أبعدهم ‪،‬‬ ‫سولَهُ لَعَنَ ُه ُم َّ‬ ‫ّللا أذى« ِإ َّن الَّذِينَ يُؤْ ذُونَ َّ َ‬
‫ّللا َو َر ُ‬ ‫يدفع عن ه‬
‫عذابا ً ُم ِهينا ً »لو‬ ‫واللعنة البعد ‪ ،‬وسببه وقوع األذى منهم ‪ ،‬فوجبت عليهم اللعنة « َوأ َ َ‬
‫ع َّد لَ ُه ْم َ‬
‫كان األمر كما يتوهمه من ال علم له من عدم مباالة الحق بأهل الشقاء ‪ ،‬ما وقع األخذ بالجرائم‬
‫ّللا نفسه بالغضب ‪ ،‬وال كان البطش الشديد ‪ ،‬فهذا كله من المباالة والتهمم‬ ‫‪ ،‬وال وصف ه‬
‫بالمأخوذ ‪ ،‬إذ لو لم يكن له قدر ما عذب وال استع هد له ‪ ،‬وقد قال في أهل الشقاء‪َ " :‬وأ َ َ‬
‫ع َّد لَ ُه ْم‬
‫عذابا ً ُم ِهينا ً "‪.‬‬
‫َ‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 58‬‬


‫سبُوا فَقَ ِد احْ ت َ َملُوا بُهْتانا َوإِثْما ُم ِبينا ) ‪( 58‬‬ ‫ين َوا ْل ُم ْؤ ِمنا ِ‬
‫ت ِبغَ ْي ِر َما ا ْكت َ َ‬ ‫ِين يُ ْؤذُ َ‬
‫ون ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫البهت أعظم من الجور ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 59‬‬


‫علَ ْي ِه هن ِم ْن َجالبِيبِ ِه هن ذ ِلكَ أ َدْنى أ َ ْن‬
‫ين َ‬ ‫ساء ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين يُ ْدنِ َ‬ ‫واجكَ َوبَناتِكَ َونِ ِ‬ ‫يا أَيُّ َها النهبِ ُّ‬
‫ي قُ ْل ِأل َ ْز ِ‬
‫غفُورا َر ِحيما ) ‪( 59‬‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫يُ ْع َر ْف َن فَال يُ ْؤذَ ْي َن َو َ‬
‫كان ه‬
‫ق ْال َجنَّ ِة‬
‫علَ ْي ِهما ِم ْن َو َر ِ‬
‫فان َ‬
‫ص ِ‬ ‫العورة في المرأة السوأتان فقط ‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ (:‬و َ‬
‫ط ِفقا يَ ْخ ِ‬
‫)فسوى بين آدم وحواء في ستر السوأتين وهما العورتان ‪ ،‬وإن أمرت المرأة بالستر فهو‬ ‫ه‬
‫مذهبنا ‪ ،‬ال من كونها عورة وإنما ذلك حكم مشروع ورد بالستر ‪ ،‬وال يلزم أن يستر الشيء‬
‫لكونه عورةذ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬منهن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي‬ ‫أزواج النبي صلهى ه‬
‫ّللا عنهما ‪ ،‬ومنهن‬ ‫بن كالب ‪ ،‬ماتت قبل الهجرة ‪ ،‬وعائشة بنت أبي بكر الصديق رضي ه‬
‫ّللا عنهما ‪ ،‬ومنهن أم سلمة واسمها هند بنت أمية بن‬ ‫حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي ه‬
‫ّللا ابن مخزوم ‪ ،‬وهي آخر من مات من أزواجه بعده ‪ ،‬ومنهن سودة بنت‬ ‫المغيرة ابن عبد ه‬
‫زمعة ابن عبد شمس بن عبد و هد بن نضر بن مالك بن جابر بن عامر بن لؤي بن غالب بن‬
‫فهر ‪ ،‬ومنهم أم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان بن الحارث بن أمية بن عبد شمس بن عبد‬
‫مناف ابن قصي بن كالب ‪ ،‬ومنهن زينت بنت جحش بن رباب بن أسد بن خزيمة ‪ ،‬وأمها‬
‫ّللا عليه وسلم بنت عبد المطلب ‪ ،‬وهي أول من مات من أزواجه بعده ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫عمة رسول ه‬
‫وهي أول من‬

‫ص ‪415‬‬

‫‪415‬‬
‫حملت جنازتها على نعش ‪ ،‬ومنهن زينب بنت خزيمة وهي أم المساكين ‪ ،‬وهي من عبد مناف‬
‫ابن هالل بن عامر بن صعصعة ‪ ،‬توفيت في حياته عليه السالم ‪ ،‬ومنهن ميمونة بنت الحارث‬
‫ّللا بن هالل بن عامر بن صعصعة ‪ ،‬وهي‬ ‫ابن حرب بن بحر بن الحرص بن رومية بن عبد ه‬
‫التي وهبت نفسها للنبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وقيل الواهبة نفسها خولة بنت حكيم السلمي ‪،‬‬
‫وقيل ‪:‬‬
‫أم شريك ‪ ،‬وقيل ‪ :‬زينب بنت جحش ‪ ،‬ومنهن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن الحارث‬
‫بن عابد بن مالك بن المصطلق بن خزاعة ‪ ،‬سباها النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في غزوة‬
‫ي بن أخطب ‪ ،‬من بني النضير ‪ ،‬سباها يوم خيبر‬ ‫المريسيع وتزوج بها ‪ ،‬ومنهن صفية بنت حي ه‬
‫ّللا عليه وسلم بال خالف ‪ ،‬ومات صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫فهؤالء إحدى عشر امرأة دخل بهن صلهى ه‬
‫وسلم عن تسع منهن ‪ :‬ميمونة ‪ ،‬وسودة ‪ ،‬وصفية ‪ ،‬وجويرية ‪ ،‬وأم حبيبة ‪ ،‬وعائشة ‪ ،‬وحفصة‬
‫‪ ،‬وأم سلمة ‪ ،‬وزينب بنت جحش ‪ ،‬ومات في حياته منهن ‪ :‬خديجة بنت خويلد ‪ ،‬وزينب بنت‬
‫خزيمة أم المساكين ‪.‬‬
‫بناته صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬أكبرهن رقية ثم زينب ثم أم كلثوم ‪ ،‬ثم فاطمة ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬اآليات ‪ 60‬إلى ‪] 67‬‬


‫ون فِي ا ْل َمدِينَ ِة لَنُ ْغ ِريَنهكَ ِب ِه ْم ث ُ هم ال‬ ‫ِين فِي قُلُو ِب ِه ْم َم َر ٌ‬
‫ض َوا ْل ُم ْر ِجفُ َ‬ ‫ون َوالهذ َ‬ ‫لَئِ ْن لَ ْم يَ ْنت َ ِه ا ْل ُمنافِقُ َ‬
‫سنهةَ ه ِ‬
‫ّللا فِي‬ ‫ين أ َ ْينَما ث ُ ِقفُوا أ ُ ِخذُوا َوقُ ِت ّلُوا ت َ ْقتِيال ( ‪ُ ) 61‬‬ ‫يُجا ِو ُرونَكَ فِيها ِإاله قَ ِليال ( ‪َ ) 60‬م ْلعُونِ َ‬
‫ع ِة قُ ْل ِإنهما ِع ْل ُمها‬ ‫سا َ‬ ‫اس ع َِن ال ه‬ ‫سئَلُكَ النه ُ‬ ‫ّللا ت َ ْبدِيال ) ‪( 62‬يَ ْ‬ ‫ِين َخلَ ْوا ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْن ت َ ِج َد ِل ُ‬
‫سنه ِة ه ِ‬ ‫الهذ َ‬
‫س ِعيرا‬ ‫ين َوأ َ َ‬
‫ع هد لَ ُه ْم َ‬ ‫ُون قَ ِريبا ( ‪ِ ) 63‬إ هن ه َ‬
‫ّللا لَعَ َن ا ْلكا ِف ِر َ‬ ‫ساعَةَ تَك ُ‬ ‫ّللا َوما يُد ِْريكَ لَعَ هل ال ه‬ ‫ِع ْن َد ه ِ‬
‫ب ُو ُجو ُه ُه ْم فِي النه ِار‬ ‫ُون َو ِليًّا َوال نَ ِصيرا ) ‪ ( 65‬يَ ْو َم تُقَله ُ‬ ‫ِين فِيها أَبَدا ال يَ ِجد َ‬ ‫) ‪ ) 64‬خا ِلد َ‬
‫سوال ( ‪َ ) 66‬وقالُوا َربهنا إِنها أ َ َط ْعنا سا َدتَنا َو ُكبَرا َءنا‬ ‫ّللا َوأ َ َط ْعنَا ه‬
‫الر ُ‬ ‫ون يا لَ ْيتَنا أ َ َط ْعنَا ه َ‬ ‫يَقُولُ َ‬
‫س ِبيال ) ‪( 67‬‬ ‫ضلُّونَا ال ه‬ ‫فَأ َ َ‬
‫سيد القوم هو رئيسهم الذي له الرئاسة عليهم‪.‬‬

‫‪466‬‬

‫‪416‬‬
‫[سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬اآليات ‪ 68‬إلى ‪] 69‬‬
‫ب َوا ْلعَ ْن ُه ْم لَ ْعنا َك ِبيرا ) ‪( 68‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ال تَكُونُوا كَالهذ َ‬
‫ِين‬ ‫َربهنا آ ِت ِه ْم ِض ْعفَ ْي ِن ِم َن ا ْلعَذا ِ‬
‫ّللا َو ِجيها ) ‪( 69‬‬ ‫كان ِع ْن َد ه ِ‬
‫ّللاُ ِم هما قالُوا َو َ‬ ‫آذَ ْوا ُموسى فَبَ هرأَهُ ه‬
‫كانت براءة موسى بفرار الحجر بثوب موسى عليه السالم حتى بدت لقومه سوأته ‪ ،‬ليعلموا‬
‫ّللا إياه بذلك ؟‬
‫كذبهم فيما نسبوه إليه ‪ ،‬أترى فرار الحجر هل كان عن غير أمر ه‬
‫ّللا »لهذه البراءة« َو ِجيها ً »‪.‬‬ ‫ّللا« فَبَ َّرأَهُ َّ‬
‫ّللاُ ِم َّما قالُوا َوكانَ ِع ْن َد َّ ِ‬ ‫بل كان بوحي من ه‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 70‬‬


‫سدِيدا ) ‪( 70‬‬ ‫ّللا َوقُولُوا قَ ْوال َ‬ ‫ِين آ َمنُوا اتهقُوا ه َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫يا رب وهل لمخلوق حول أو قوة إال بك ؟ وأي قول لنا إال ما تقولنا ؟ فاجعل نطقنا ذكرك ‪،‬‬
‫ّللا عباده المؤمنين أن يقولوا عند الشهود بنور اإليمان ‪ :‬ال‬ ‫وقولنا تالوة كتابك ‪ ،‬وهنا أمر ه‬
‫ّللا ؛ فقالوا قوال سديدا ‪ ،‬فإذا قالوه أصلح لهم أعمالهم وغفر لهم ذنوبهم ‪،‬‬ ‫فاعل إال ه‬
‫فقال تعالى ‪:‬‬
‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 71‬‬
‫فاز فَ ْوزا ع َِظيما ) ‪( 71‬‬
‫سولَهُ فَقَ ْد َ‬ ‫ص ِلحْ لَ ُك ْم أَعْمالَ ُك ْم َويَ ْغ ِف ْر لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُك ْم َو َم ْن يُ ِط ِع ه َ‬
‫ّللا َو َر ُ‬ ‫يُ ْ‬
‫ّللا بينه وبين ربوبيته ‪ ،‬وأقامه عبدا في جميع أحيانه ‪ ،‬يخاف ويرجو إيمانا ‪،‬‬ ‫فالسعيد من حال ه‬
‫وال يخاف وال يرجى عيانا ‪.‬إنما العبد من يخاف ويرجو * ليس بالعبد من يخاف ويرجى‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 72‬‬


‫ض َوا ْل ِجبا ِل فَأَبَ ْي َن أ َ ْن يَحْ ِم ْلنَها َوأ َ ْ‬
‫شفَ ْق َن ِم ْنها َو َح َملَ َها‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ضنَا ْاألَمانَةَ َ‬
‫علَى ال ه‬
‫سماوا ِ‬ ‫إِنها ع ََر ْ‬
‫كان َظلُوما َج ُهوال) ‪( 72‬‬ ‫سان إِنههُ َ‬ ‫اْل ْن ُ‬
‫ِْ‬

‫ص ‪467‬‬

‫‪417‬‬
‫ض َو ْال ِجبا ِل ‪ » . . .‬اآلية ]‬
‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫علَى ال َّ‬ ‫ضنَا ْاألَمانَةَ َ‬
‫ع َر ْ‬‫[" ِإنَّا َ‬
‫ضنَا ْاألَمانَةَ‪ ،‬وأي أمانة أعظم من النيابة عن الحق في عباده ‪ ،‬فال يصرفهم إال بالحق‬ ‫ع َر ْ‬‫« ِإنَّا َ‬
‫ض َو ْال ِجبا ِل »كان‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫علَى ال َّ‬
‫سماوا ِ‬ ‫‪ ،‬فال بد من الحضور الدائم ومن مراقبة التصريف« َ‬
‫عرض األمانة على السماوات واألرض والجبال بوحي يناسبها ‪ ،‬مثل قوله تعالى ‪:‬‬
‫( وأوحى في كل سماء أمرها )« فَأَبَيْنَ أ َ ْن يَ ْح ِم ْلنَها »ألنها كانت عرضا ال أمرا ‪،‬‬
‫فلهذا أبت السماوات واألرض القبول ‪ ،‬لعلمها أنها تقع في الخطر ‪ ،‬فال تدري ما يؤول إليها‬
‫ّللا لمن حملها ‪،‬‬ ‫أمرها في ذلك ‪ ،‬وأبين أن يحملنها من أجل الذم الذي كان من ه‬
‫ّللا وصف حاملها بالظلم والجهل ببنية المبالغة ‪ ،‬فإن حاملها ظلوم لنفسه ‪ ،‬جهول بقدر‬ ‫وهو أن ه‬
‫األمانة « َوأ َ ْشفَ ْقنَ ِم ْنها »أي خفن أن ال يقمن بحقها ‪ ،‬فاستبرأن ألنفسهن ‪،‬‬
‫فهل ترى إباية السماوات واألرض والجبال عن حمل األمانة وإشفاقهن منها ‪ ،‬عن غير علم‬
‫ّللا فيها ؟ وعلمهم بالفرق بين العرض‬ ‫بقدر األمانة وما يؤول إليه أمر من حملها فلم يحفظ حق ه‬
‫واألمر ‪،‬‬
‫فلما كان عرض تخيير احتاطوا ألنفسهم وطلبوا السالمة ‪ ،‬ولما أمرهم الحق تعالى باإلتيان‬
‫فقال للسماوات واألرض (‬
‫ّللا ‪ ،‬وحذرا أن يؤتى بهما على كره ‪،‬‬ ‫ط ْوعا ً أ َ ْو َك ْرها ً قالَتا أَتَيْنا طائِ ِعينَ )طاعة ألمر ه‬ ‫ائْتِيا َ‬
‫وّللا ‪ ،‬بل الحمل لألمانة كان لمجرد الجهل من الحامل ‪،‬‬ ‫ّللا لجهلها ؟ ال ه‬ ‫أترى إباية من ذكر ه‬
‫ّللا بالجهل على المبالغة فيه والظلم لنفسه فيها لغيره إال الحامل لها وهو اإلنسان ‪،‬‬ ‫وهل نعت ه‬
‫ّللا أن‬
‫فعلمت األرض ومن ذكر قدر األمانة وأن حاملها على خطر ‪ ،‬فإنه ليس على يقين من ه‬
‫ّللا بالعرض أنه يريد ميزان العقل ‪ ،‬فكان عقل األرض‬ ‫يوفقه ألدائها إلى أهلها ‪ ،‬وعلمت مراد ه‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬فإن‬
‫والجبال والسماء أوفر من عقل اإلنسان ‪ ،‬حيث لم يدخلوا أنفسهم فيما لم يوجب ه‬
‫طلب حمل األمانة كان عرضا ال أمرا ‪ ،‬وجعل بعض علماء الرسوم هذه اإلباية واإلشفاق حاال‬
‫ال حقيقة ‪ ،‬وكذلك قوله عنهما( قالَتا أَتَيْنا طائِ ِعينَ )قول حال ال خطاب ‪،‬‬
‫وهذا كله ليس بصحيح ‪ ،‬وال مراد في هذه اآليات ‪ ،‬بل األمر على ظاهره كما ورد ‪ ،‬وهكذا‬
‫سان »عرضا أيضا لما وجد في نفسه من قوة الصورة التي‬ ‫اإل ْن ُ‬‫يدركه أهل الكشف« َو َح َملَ َها ْ ِ‬
‫ّللا آدم على صورته أطلق عليه جميع أسمائه الحسنى ‪ ،‬وبقوتها‬ ‫خلق عليها ‪ ،‬ألنه لما خلق ه‬
‫حمل األمانة المعروضة ‪ ،‬وما أعطته هذه الحقيقة أن يردها كما أبت السماوات واألرض‬
‫وال »‬ ‫ظلُوما ً َج ُه ً‬ ‫والجبال حملها« ِإنَّهُ كانَ َ‬
‫باّلل عين الجهل به ‪،‬‬ ‫وال »ألن العلم ه‬ ‫ظلُوما ً »لو لم يحملها « َج ُه ً‬ ‫‪ -‬الوجه األول ‪ِ «-‬إنَّهُ كانَ َ‬
‫فالعجز عن درك اإلدراك إدراك‬

‫ص ‪418‬‬

‫‪418‬‬
‫عرض بنفسه إلى أمر عظيم إذا كان عارفا‬ ‫ظلُوما ً »لنفسه حيث ه‬ ‫‪-‬الوجه الثاني ‪ِ «-‬إنَّهُ كانَ َ‬
‫وال »وذلك لجهل اإلنسان ذلك‬ ‫بقدر األمانة ‪ ،‬وإذا لم يوفق ألدائها كان ظالما لنفسه ولغيره« َج ُه ً‬
‫ّللا فيه من‬
‫من نفسه وبقدر ما تحمل وحمل ‪ ،‬وإن كان عالما بقدرها فما هو عالم بما في علم ه‬
‫ّللا فيه ‪ ،‬ألنه جهل هل يؤدي األمانة إلى أهلها أم ال‬ ‫التوفيق إلى أدائها ‪ ،‬بل هو جهول كما شهد ه‬
‫؟ فكان قبول اإلنسان األمانة اختيارا ال جبرا ‪ ،‬فخان فيها ألنه وكل إلى نفسه وخذل ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬من طلب اإلمارة وكل إليها ‪ ،‬ومن أعطيها من غير‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫قال رسول ه‬
‫ّللا به ملكا يسدده ]‬ ‫ّللا أو وكل ه‬ ‫طلب بعث ه‬
‫ت إِلى أ َ ْه ِلها ) فما حملها أحد‬‫ّللا يَأ ْ ُم ُر ُك ْم أ َ ْن ت ُ َؤدُّوا ْاألَمانا ِ‬
‫فقال لنا تعالى لما حملنا األمانة ( إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا إال اإلنسان ‪،‬‬
‫من خلق ه‬
‫وال يخلو إما أن يحملها عرضا أو جبرا ‪ ،‬فإن حملها عرضا فقد خاطر بنفسه ‪،‬‬
‫وإن حملها جبرا فهو مؤد لها على كل حال ‪ ،‬ومن ذلك نعلم أن من العالم ما هو مجبور فيما‬
‫كلهف حمله ‪ ،‬وهو المعبر عنه بفرائض األعيان وفرائض الكفاية ‪ ،‬ما لم يقم به واحد فيسقط‬
‫الفرض عن الباقي ‪،‬‬
‫ومن العالم ما لم يجبر في الحمل وإنما عرض عليه ‪ ،‬فإن قبله فما قبله إال لجهله بقدر ما حمل‬
‫من ذلك ‪ ،‬كاإلنسان لما عرضت عليه األمانة وحملها ‪ ،‬كان لذلك ظلوما لنفسه جهوال بقدرها ‪،‬‬
‫والسماوات واألرض والجبال لما عرضت عليهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها ‪ ،‬لمعرفتهن‬
‫بقدر ما حملوا ‪ ،‬فلم يظلموا أنفسهم ‪ ،‬فما وصف أحد من المخلوقات بظلمه لنفسه إال اإلنسان ‪،‬‬
‫فكان خلق السماوات واألرض أكبر من خلق الناس في المنزلة ‪،‬‬
‫فإنهن كن أعلم بقدر األمانة من اإلنسان فبهذا كن أيضا أكبر من خلق الناس في المنزلة من‬
‫ّللا لما عرض عليه األمانة وقبلها‬ ‫العلم ‪ ،‬فإنهن ما وصفن بالجهل كما وصف اإلنسان ‪ ،‬فإن ه‬
‫كان بحكم األصل ظلوما جهوال ‪ ،‬فإنه خوطب بحملها عرضا ال أمرا ‪ ،‬فإن حملها جبرا أعين‬
‫عليها ‪،‬‬
‫فكان اإلنسان ظلوما لنفسه جهوال ‪ ،‬يعني بقدر األمانة ‪ ،‬فهي ثقيلة في المعنى وإن كانت خفيفة‬
‫في التحمل ‪ ،‬فكانت السماوات واألرض والجبال في هذه المسألة أعلم من اإلنسان ‪ ،‬ولم تكن‬
‫في الحقيقة أعلم ‪ ،‬وإنما اإلنسان لما كان مخلوقا على الصورة اإللهية ‪،‬‬
‫ّللا من القوة بما ذكرناه ‪ ،‬فهان عليه حملها ‪ ،‬ثم‬ ‫وكان مجموع العالم ‪ ،‬اغتر بنفسه وبما أعطاه ه‬
‫إنه رأى الحق قد أ ههله للخالفة من غير عرض عليه مقامها ‪ ،‬فتحقق أن األهلية فيه موجودة ‪،‬‬
‫ولم تقو السماوات على االنفراد وال األرض على االنفراد وال الجبال على االنفراد قوة جمعية‬
‫اإلنسان ‪ ،‬فلهذا أبين أن يحملنها وأشفقن منها ‪،‬‬

‫ص ‪419‬‬

‫‪419‬‬
‫وما علم اإلنسان ما يطرأ عليه من العوارض في حملها ‪ ،‬فسمي بذلك العارض خائنا ‪ ،‬فإنه‬
‫مجبول على الطمع والكسل ‪ ،‬وما قبلها إال من كونه عجوال ‪ ،‬فلو فسح الحق له في الزمان‬
‫حتى يفكر في نفسه ‪ ،‬وينظر في ذاته وفي عوارضه ‪ ،‬لبان له قدر ما عرض عليه ‪ ،‬فكان يأبى‬
‫كما أبته السماء وغيرها ممن عرضت عليه ‪ ،‬ومن األمانة التي حملها اإلنسان الصفات اإللهية‬
‫‪ ،‬وهي على قسمين ‪:‬‬
‫صفة إلهية تقتضي التنزيه ‪ ،‬كالكبير والعلي ‪،‬‬
‫وصفة إلهية تقتضي التشبيه ‪ ،‬كالمتكبر والمتعالي ‪،‬‬
‫وما وصف الحق به نفسه مما يتصف به العبد ‪ ،‬فمن جعل ذلك نزوال من الحق إلينا جعل‬
‫األصل للعبد ‪ ،‬ومن جعل ذلك للحق صفة إلهية ال تعقل نسبتها إليه لجهلنا به ‪ ،‬كان العبد في‬
‫اتصافه بها يوصف بصفة ربانية في حال عبوديته ‪ ،‬فيكون جميع صفات العبد التي يقول فيها‬
‫ال تقتضي التنزيه ‪ ،‬هي صفات الحق تعالى ال غيرها ‪ ،‬غير أنها لما تلبس بها العبد انطلق‬
‫عليها لسان استحقاق للعبد ‪ ،‬واألمر على خالف ذلك ‪ ،‬وهذا هو الذي يرتضيه المحققون ‪ ،‬وهو‬
‫قريب إلى األفهام إذا وقع اإلنصاف ‪ ،‬وذلك أن العبد ما استنبطه وال وصف الحق به ابتداء من‬
‫نفسه ‪ ،‬وإنما الحق وصف بذلك نفسه على ما بلهغت رسله وما كشفه ألوليائه ‪ ،‬ونحن ما كنا‬
‫نعلم هذه الصفات إال لنا ال له بحكم الدليل العقلي ‪ ،‬فلما جاءت الشرائع بذلك ‪ ،‬وقد كان هو ولم‬
‫نكن نحن ‪ ،‬علمنا أن هذه الصفات هي له بحكم األصل ‪ ،‬ثم سرى حكمها فينا منه ‪ ،‬فهي له‬
‫حقيقة وهي لنا مستعارة ‪ ،‬إذ كان وال نحن ‪ ،‬فاإلنسان ظلوم بما غصب من هذه الصفات من‬
‫حيث جعلها لنفسه حقيقة ‪ ،‬جهول بمن هي له وبأنها غصب في يده ‪ ،‬فمن أراد أن يزول عنه‬
‫وصف الظلم والجهالة فليرد األمانة إلى أهلها ‪ ،‬واألمر المغصوب إلى صاحبه ‪ ،‬واألمر في‬
‫ذلك هين جدا ‪ ،‬والعامة تظن أن ذلك صعب وليس كذلك ‪.‬‬

‫[ سورة األحزاب ( ‪ : ) 33‬آية ‪] 73‬‬


‫ين َوا ْل ُم ْؤ ِمنا ِ‬
‫ت‬ ‫علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ّللاُ َ‬
‫وب ه‬ ‫ين َوا ْل ُمش ِْركا ِ‬
‫ت َويَت ُ َ‬ ‫ت َوا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ين َوا ْل ُمنافِقا ِ‬
‫ّللاُ ا ْل ُمنافِ ِق َ‬
‫ِب ه‬‫ِليُعَذّ َ‬
‫غفُورا َر ِحيما) ‪( 73‬‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫َو َ‬
‫كان ه‬

‫ص ‪420‬‬

‫‪420‬‬
‫) ‪ ( 34‬سورة سبا مكيّة‬
‫الرحيم‬ ‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 2‬‬
‫يم‬‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬ ‫س ِم ه ِ‬ ‫بِ ْ‬
‫ض َولَهُ ا ْل َح ْم ُد فِي ْاآل ِخ َر ِة َو ُه َو ا ْل َح ِكي ُم ا ْل َخ ِب ُ‬
‫ير‬ ‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّلِل الهذِي لَهُ ما فِي ال ه‬ ‫ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫ج فِيها َو ُه َو‬ ‫ماء َوما يَ ْع ُر ُ‬‫س ِ‬ ‫ج ِم ْنها َوما يَ ْن ِز ُل ِم َن ال ه‬ ‫ض َوما يَ ْخ ُر ُ‬ ‫( ‪ ) 1‬يَ ْعلَ ُم ما يَ ِل ُج فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ور ( ‪) 2‬‬‫الر ِحي ُم ا ْلغَفُ ُ‬ ‫ه‬
‫[ إشارة ال تفسير ‪ :‬على اإلنسان أن يعلم ما يلج في أرض طبيعته ]‬
‫ّللا فيها حين‬ ‫‪-‬إشارة ال تفسير ‪ -‬على اإلنسان أن يعلم ما يلج في أرض طبيعته من بذر ما بذر ه‬
‫سواها وعدلها ‪ ،‬وما يخرج منها من العبارات عما فيها ‪ ،‬واألفعال العملية الصناعية على‬
‫مراتبها ‪ ،‬ألن الذي يخرج عن األرض مختلف األنواع ‪ ،‬وذلك زينة األرض ‪ ،‬فما يخرج عن‬
‫أرض طبيعة اإلنسان وجسده فهو زينة له ‪ ،‬من فصاحة في عبارة وأفعال صناعية محكمة ‪،‬‬
‫كما يعلم ما ينزل من سماء عقله ‪ ،‬بما ينظر فيه من شرعه في معرفة ربه ‪ ،‬وذلك هو التنزيل‬
‫اإللهي على قلبه ‪ ،‬وما يعرج فيها من كلمه الطيب على براق العمل الصالح الذي يرفعه إلى‬
‫صا ِل ُح‬‫ب )وهو ما خرج من األرض( َو ْالعَ َم ُل ال َّ‬ ‫صعَ ُد ْال َك ِل ُم َّ‬
‫الط ِيه ُ‬ ‫ّللا ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ِ (:‬إلَ ْي ِه يَ ْ‬ ‫ه‬
‫يَ ْرفَعُهُ )وهو ما أخرجته األرض أيضا ‪ ،‬فالذي ينزل من السماء هو الذي يلج في األرض ‪،‬‬
‫والذي يخرج من األرض ‪ ،‬وهو ما ظهر عن الذي ولج فيها ‪ ،‬هو الذي يعرج في السماء ‪،‬‬
‫فعين النازل هو عين الوالج ‪ ،‬وعين الخارج هو عين العارج ‪.‬‬

‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪ 3‬إلى ‪]6‬‬


‫ع ْنهُ ِمثْقا ُل ذَ هر ٍة‬ ‫ب َ‬ ‫ب ال يَ ْع ُز ُ‬ ‫ساعَةُ قُ ْل بَلى َو َر ِبّي لَتَأْتِيَنه ُك ْم عا ِل ِم ا ْلغَ ْي ِ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ال تَأْتِينَا ال ه‬
‫َوقا َل الهذ َ‬
‫ي‬‫ين ( ‪ِ ) 3‬ليَجْ ِز َ‬ ‫ب ُم ِب ٍ‬ ‫صغَ ُر ِم ْن ذ ِلكَ َوال أ َ ْكبَ ُر ِإاله فِي ِكتا ٍ‬ ‫ض َوال أ َ ْ‬ ‫ت َوال فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫فِي ال ه‬
‫سعَ ْوا فِي آياتِنا‬ ‫ِين َ‬ ‫ق ك َِري ٌم ) ‪َ ( 4‬والهذ َ‬ ‫ت أُولئِكَ لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫الهذ َ‬
‫ِين أُوتُوا ا ْل ِع ْل َم الهذِي أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْيكَ ِم ْن‬ ‫َذاب ِم ْن ِرجْ ٍز أ َ ِلي ٌم ( ‪َ ) 5‬ويَ َرى الهذ َ‬ ‫ين أُول ِئكَ لَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫عاج ِز َ‬‫ُم ِ‬
‫يز ا ْل َح ِمي ِد) ‪( 6‬‬ ‫راط ا ْلعَ ِز ِ‬
‫ق َويَ ْهدِي إِلى ِص ِ‬ ‫َر ِبّكَ ُه َو ا ْل َح ه‬

‫ص ‪422‬‬

‫‪421‬‬
‫" َويَ َرى الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم الَّذِي أ ُ ْن ِز َل ِإلَي َْك ِم ْن َر ِبه َك ُه َو ْال َح َّق "‪.‬‬
‫وانسب إلى الباري ما قال وما * جاء به شرع ولكن ابتدأ‬
‫مما لو أن العقل يبقى وحده * ما قاله معتقدا وقدها‬
‫فإن يكن بعد سؤال قاله * فهو دواء وهو بالبرهان دا‬
‫فالحق ما قرره الشرع ولو * دل على كل محال وبدا‬
‫فالمؤمن الحق بهذا مؤمن * وكل من أوله قد اعتدى‬
‫ألنه ظن وبعض الظن قد * يكون إثما قائدا نحو الردى‬

‫يز ْال َح ِمي ِد »فإن معاملة الحق وعبادته ال تدرك باالجتهاد ‪ ،‬بل بما‬
‫راط ْالعَ ِز ِ‬
‫ص ِ‬ ‫« َويَ ْهدِي إِلى ِ‬
‫يشرعه الحق ويبيهنه ‪ ،‬لما كان قدره مجهوال وما ينبغي لجالله غير معلوم ‪.‬‬

‫[ سورة سبإ ( ‪ : (34‬اآليات ‪ 7‬إلى ‪] 10‬‬


‫ق َجدِي ٍد ) ‪( 7‬‬ ‫ِين َكفَ ُروا َه ْل نَ ُدلُّ ُك ْم عَلى َر ُج ٍل يُنَ ِبّئ ُ ُك ْم ِإذا ُم ِ ّز ْقت ُ ْم ُك هل ُم َم هز ٍ‬
‫ق ِإنه ُك ْم لَ ِفي َخ ْل ٍ‬ ‫َوقا َل الهذ َ‬
‫ضال ِل ا ْلبَ ِعي ِد ( ‪) 8‬‬ ‫ب َوال ه‬ ‫ون بِ ْاآل ِخ َر ِة فِي ا ْلعَذا ِ‬ ‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ّللا َكذِبا أ َ ْم بِ ِه ِجنهةٌ بَ ِل الهذ َ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫أ َ ْفتَرى َ‬
‫ض أ َ ْو‬
‫ف بِ ِه ُم ْاأل َ ْر َ‬ ‫ض إِ ْن نَشَأ ْ نَ ْخ ِ‬
‫س ْ‬ ‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫ِيه ْم َوما َخ ْلفَ ُه ْم ِم َن ال ه‬ ‫أ َ فَلَ ْم يَ َر ْوا إِلى ما بَ ْي َن أ َ ْيد ِ‬
‫ضال‬ ‫داو َد ِمنها فَ ْ‬‫ب ( ‪َ ) 9‬ولَقَ ْد آت َ ْينا ُ‬ ‫ع ْب ٍد ُمنِي ٍ‬ ‫ماء ِإ هن فِي ذ ِلكَ َآليَة ِل ُك ِ ّل َ‬ ‫س ِ‬ ‫سفا ِم َن ال ه‬ ‫س ِق ْط َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِك َ‬ ‫نُ ْ‬
‫ط ْي َر َوأَلَنها لَهُ ا ْل َحدِي َد) ‪( 10‬‬ ‫يا ِجبا ُل أ َ ّ ِو ِبي َمعَهُ َوال ه‬

‫ص ‪422‬‬

‫‪422‬‬
‫[إشارة ‪ :‬القلوب القاسية يلينها الزجر والوعيد ]‬
‫داو َد ِمنَّا فَض ًْال‬
‫« َولَقَ ْد آتَيْنا ُ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬لما كانت عطاياه تعالى لألنبياء والرسل عليهم السالم اختصاصا إلهيا ‪ ،‬فهي‬
‫مواهب ليست جزاء ‪ ،‬وال يطلب عليها منهم جزاء فإعطاؤه إياهم على طريق اإلنعام‬
‫داو َد ِمنَّا فَض ًْال »فلم يقرن به جزاء يطلبه منه‬ ‫واإلفضال ‪ ،‬قال تعالى في حق داود « َولَقَ ْد آتَيْنا ُ‬
‫‪ ،‬وال أخبر أنه أعطاه هذا الذي ذكره جزاء ‪،‬‬
‫داو َد ِمنَّا فَض ًْال »أي معرفة به سبحانه ال يقتضيها عمله ‪ ،‬فلو‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪َ « -‬ولَقَ ْد آتَيْنا ُ‬
‫سلَيْمانَ‬
‫داو َد ُ‬
‫اقتضاها عمله لكانت جزاء ‪ ،‬ووهب له فضال سليمان عليه السالم فقال ( َو َو َهبْنا ِل ُ‬
‫) « يا ِجبا ُل أ َ ه ِوبِي َمعَهُ َو َّ‬
‫الطي َْر »‬
‫‪ -‬لغة ‪ :‬ال يكون ما بعد النداء أبدا إال منصوبا ‪ ،‬إما لفظا وإما معنى ‪ ،‬ولهذا عطف بالمنصوب‬
‫على الموضع‬
‫الطي َْر »بالنصب ‪ ،‬عطفا على موضع الجبال وإن كان مرفوعا في اللفظ‬ ‫في قوله تعالى ‪َ «:‬و َّ‬
‫في أوقات ‪ ،‬ولهذا قرئ أيضا والطير بالرفع ؛ قال تعالى في حق داود فيما أعطاه على طريق‬
‫اإلنعام عليه ترجيع الجبال معه بالتسبيح ‪ ،‬فتسبح لتسبيحه ليكون له عملها ‪ ،‬وكذلك الطير«‬
‫َوأَلَنَّا لَهُ ْال َحدِي َد »‪ -‬إشارة ‪َ «-‬وأَلَنَّا لَهُ ْال َحدِي َد »القلوب القاسية يلينها الزجر والوعيد تليين النار‬
‫الحديد ‪ ،‬وإنما الصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة ‪ ،‬فإن الحجارة تكسرها وتكلسها النار وال‬
‫ّللا ‪ ،‬أي ال يتهقى الشيء إال‬ ‫تلينها ‪ ،‬وما أالن له الحديد إال لعمل الدروع الواقية ‪ ،‬تنبيها من ه‬
‫بنفسه ‪ ،‬ألن الدرع يتهقى بها السنان والسيف والسكين والنصل ‪ ،‬فاتقيت الحديد بالحديد ‪ ،‬فجاء‬
‫الشرع المحمدي ب [ أعوذ بك منك ] فهذا روح تليين الحديد ‪ ،‬فهو المنتقم الرحيم ‪.‬‬

‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪ 11‬إلى ‪] 13‬‬


‫سلَيْمانَ‬ ‫ير ( ‪َ ) 11‬و ِل ُ‬ ‫ص ٌ‬ ‫س ْر ِد َوا ْع َملُوا صا ِلحا ً ِإ ِنهي ِبما ت َ ْع َملُونَ بَ ِ‬ ‫ت َوقَ هد ِْر فِي ال َّ‬ ‫أ َ ِن ا ْع َم ْل سا ِبغا ٍ‬
‫عيْنَ ْال ِق ْ‬
‫ط ِر َو ِمنَ ْال ِج ِهن َم ْن يَ ْع َم ُل بَيْنَ يَ َد ْي ِه ِبإِ ْذ ِن َر ِبه ِه‬ ‫س ْلنا لَهُ َ‬
‫ش ْه ٌر َوأ َ َ‬ ‫ش ْه ٌر َو َروا ُحها َ‬ ‫غد ُُّوها َ‬ ‫الري َح ُ‬ ‫ِه‬
‫يب‬
‫حار َ‬ ‫ير ) ‪ ( 12‬يَ ْع َملُونَ لَهُ ما يَشا ُء ِم ْن َم ِ‬ ‫س ِع ِ‬‫ب ال َّ‬
‫عذا ِ‬ ‫ع ْن أ َ ْم ِرنا نُ ِذ ْقهُ ِم ْن َ‬ ‫َو َم ْن يَ ِز ْ‬
‫غ ِم ْن ُه ْم َ‬
‫ش ُك ُ‬
‫ور‬ ‫ِي ال َّ‬ ‫ش ْكرا ً َوقَ ِلي ٌل ِم ْن ِعباد َ‬ ‫ت ا ْع َملُوا آ َل ُ‬
‫داو َد ُ‬ ‫ُور را ِسيا ٍ‬ ‫ب َوقُد ٍ‬ ‫فان َك ْال َجوا ِ‬ ‫َوتَماثِي َل َو ِج ٍ‬
‫(‪.(13‬‬

‫ص ‪423‬‬

‫‪423‬‬
‫لما طلب الحق الشكر على العمل طلبه من آل داود ولم يتعرض لذكر داود ‪ ،‬ليشكر اآلل على‬
‫ما أنعم به على داود ‪ ،‬فهو في حق داود عطاء نعمة وإفضال ‪ ،‬وفي حق آله غير ذلك لطلب‬
‫ش ْكرا ً »هذا هو الشكر العملي ببذل ما عندهم من‬ ‫المعاوضة ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬ا ْع َملُوا آ َل ُ‬
‫داو َد ُ‬
‫ّللا على المحتاجين من عباده ‪ ،‬فإن الشكر منه لفظي وعلمي وعملي ‪.‬‬ ‫نعم ه‬
‫ور » اآلية ]‬ ‫ش ُك ُ‬‫ِي ال َّ‬ ‫[ « َوقَ ِلي ٌل ِم ْن ِعباد َ‬
‫ور »‬ ‫ش ُك ُ‬ ‫« َوقَ ِلي ٌل ِم ْن ِعباد َ‬
‫ِي ال َّ‬
‫ّللا ببنية‬
‫يعني المبالغة في الشكر لجهلهم بالنعم أنها نعم يجب الشكر عليها ‪ ،‬والشكور من عباد ه‬
‫ّللا في حقهم وفي حق عباده نعمة إلهية‬ ‫ّللا ‪ ،‬الذين يرون جميع ما يكون من ه‬ ‫المبالغة هم خاصة ه‬
‫سرهم ذلك أم ساءهم فهم يشكرون على كل حال ‪ ،‬وهذا الصنف قليل بالوجود‬ ‫‪ ،‬سواء ه‬
‫ّللا إيانا بقلتهم ‪ ،‬فإنهم يعملون ما تعيهن على جميع األعضاء والقوى الظاهرة‬ ‫وبتعريف ه‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫والباطنة في كل حال بما يليق به ‪ ،‬وفي كل زمان بما يليق به ‪ ،‬مما أمر به ه‬
‫ّللا حق الشكر ‪ ،‬وذلك بأن يرى النعمة منه ‪ ،‬ذكر ابن ماجة‬ ‫والمبالغة في الشكر هو أن يشكر ه‬
‫في سننه حديثا وهو‬
‫ّللا سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى اشكرني حق الشكر ‪ ،‬فقال موسى عليه السالم ‪:‬‬ ‫[ أن ه‬
‫ومن يقدر على ذلك يا رب ؟‬
‫فقال له ‪ :‬إذا رأيت النعمة مني فقد شكرتني ]‬
‫فمن ال يرى النعمة إال منه فقد شكره حق الشكر ‪ ،‬أال تراها من األسباب التي سدلها بينك وبينه‬
‫ّللا بما يكون‬
‫عند إرداف النعم ‪ ،‬وهذا هو الشكر العلمي ‪ ،‬وأما الشكر اللفظي فهو الثناء على ه‬
‫ّللا على المسمى نعمة في العرف خاصة ‪،‬‬ ‫منه ‪ ،‬وأما الشاكرون من العباد فهم الذين يشكرون ه‬
‫ّللا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر تنفل حتى‬ ‫ّللا عليه وسلم بأن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫شر رسول ه‬ ‫لما ب ه‬
‫تورمت قدماه ‪ ،‬فسئل في ذلك فقال [ ‪ :‬أفال أكون عبدا شكورا ] وعبادة الشكر عبادة مغفول‬
‫ور »وما بأيدي الناس من عبادة الشكر على‬ ‫ش ُك ُ‬ ‫عنها ‪ ،‬ولهذا قال تعالى «‪َ :‬وقَ ِلي ٌل ِم ْن ِعباد َ‬
‫ِي ال َّ‬
‫ّللا يزيدون على مثل هذا‬ ‫النعماء إال قولهم ‪ :‬الحمد هّلل والشكر هّلل ‪ ،‬لفظ ما فيه كلفة ‪ ،‬وأهل ه‬
‫ش ْكرا ً »ولم يقل قولوا ‪،‬‬ ‫اللفظ العمل باألبدان والتوجه بالهمم ‪ ،‬قال تعالى «‪:‬ا ْع َملُوا آ َل ُ‬
‫داو َد ُ‬
‫واألمة المحمدية أولى بهذه الصفة من كل أمة ‪ ،‬إذ كانت خير أمة أخرجت للناس فقال تعالى‬
‫ور »ببنية المبالغة ‪ ،‬ليعم شكر التكليف وشكر التبرع ‪ ،‬فشكر التبرع‬ ‫ش ُك ُ‬ ‫ِي ال َّ‬ ‫«‪َ :‬وقَ ِلي ٌل ِم ْن ِعباد َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وشكر التكليف ما وقع به األمر‬ ‫[ أفال أكون عبدا شكورا ] قول النبي صلهى ه‬
‫ّللا ) وبين الشكرين ما بين الشكورين‪.‬‬ ‫ّللا ) ( واشكروا نعمة ه‬ ‫مثل ( واشكروا ه‬

‫ص ‪424‬‬

‫‪424‬‬
‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪ 14‬إلى ‪] 19‬‬
‫ت ا ْل ِج ُّن‬ ‫سأَتَهُ فَلَ هما َخ هر تَبَيهنَ ِ‬ ‫ض تَأ ْ ُك ُل ِم ْن َ‬ ‫علَ ْي ِه ا ْل َم ْوتَ ما َدله ُه ْم عَلى َم ْو ِت ِه ِإاله دَابهةُ ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ض ْينا َ‬ ‫فَلَ هما قَ َ‬
‫س َكنِ ِه ْم آيَةٌ‬ ‫سبَ ٍإ فِي َم ْ‬ ‫كان ِل َ‬‫ين ( ‪ ) 14‬لَقَ ْد َ‬ ‫ب ا ْل ُم ِه ِ‬ ‫ب ما لَبِثُوا فِي ا ْلعَذا ِ‬ ‫ون ا ْلغَ ْي َ‬‫أ َ ْن لَ ْو كانُوا يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ور ( ‪) 15‬‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫ب َ‬ ‫شك ُُروا لَهُ بَ ْل َدةٌ َط ِيّبَةٌ َو َر ٌّ‬ ‫شما ٍل ُكلُوا ِم ْن ِر ْز ِ‬
‫ق َر ِبّ ُك ْم َوا ْ‬ ‫ين َو ِ‬‫تان ع َْن يَ ِم ٍ‬ ‫َجنه ِ‬
‫ش ْي ٍء‬ ‫س ْي َل ا ْلعَ ِر ِم َوبَ هد ْلنا ُه ْم ِب َجنهت َ ْي ِه ْم َجنهت َ ْي ِن ذَوات َ ْي أ ُ ُك ٍل َخ ْم ٍط َوأ َثْ ٍل َو َ‬
‫علَ ْي ِه ْم َ‬ ‫س ْلنا َ‬ ‫فَأَع َْرضُوا فَأ َ ْر َ‬
‫ور ( ‪َ ) 17‬و َجعَ ْلنا بَ ْينَ ُه ْم‬ ‫جازي ِإاله ا ْل َكفُ َ‬ ‫سد ٍْر قَ ِلي ٍل ( ‪ ) 16‬ذ ِلكَ َج َز ْينا ُه ْم ِبما َكفَ ُروا َو َه ْل نُ ِ‬ ‫ِم ْن ِ‬
‫ين‬‫آم ِن َ‬ ‫ي َوأَيهاما ِ‬ ‫يروا ِفيها لَيا ِل َ‬ ‫س ُ‬ ‫س ْي َر ِ‬ ‫بار ْكنا ِفيها قُرى ظا ِه َرة َوقَد ْهرنا ِفي َها ال ه‬ ‫َوبَ ْي َن ا ْلقُ َرى اله ِتي َ‬
‫ِيث َو َم هز ْقنا ُه ْم ُك هل ُم َم هز ٍ‬
‫ق‬ ‫س ُه ْم فَ َجعَ ْلنا ُه ْم أَحاد َ‬ ‫فارنا َو َظلَ ُموا أ َ ْنفُ َ‬
‫س ِ‬ ‫) ‪ ( 18‬فَقالُوا َربهنا با ِع ْد بَ ْي َن أ َ ْ‬
‫ُور ( ‪) 19‬‬ ‫شك ٍ‬ ‫صبه ٍار َ‬ ‫ت ِل ُك ِ ّل َ‬ ‫إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬
‫ق »هم أهل سبأ ‪ ،‬وتفرقهم معلوم ‪.‬‬ ‫« َو َم َّز ْقنا ُه ْم ُك َّل ُم َم َّز ٍ‬

‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪ 20‬إلى ‪]21‬‬


‫علَ ْي ِه ْم ِم ْن‬
‫كان لَهُ َ‬
‫ين ( ‪َ ) 20‬وما َ‬ ‫يس َظنههُ فَاتهبَعُو ُه ِإاله فَ ِريقا ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِإ ْب ِل ُ‬
‫ق َ‬ ‫َولَقَ ْد َ‬
‫ص هد َ‬
‫ظ ( ‪21‬‬ ‫ش ْي ٍء َح ِفي ٌ‬
‫طان إِاله ِلنَ ْعلَ َم َم ْن يُ ْؤ ِم ُن بِ ْاآل ِخ َر ِة ِم هم ْن ُه َو ِم ْنها فِي ش ٍَّك َو َربُّكَ عَلى ُك ِ ّل َ‬‫س ْل ٍ‬ ‫ُ‬
‫)‬
‫ظ » اآلية ]‬ ‫ش ْي ٍء َح ِفي ٌ‬
‫[ « َو َربُّكَ عَلى ُك ِ ّل َ‬
‫ّللا تعالى ما‬ ‫ّللا ‪ ،‬ال الحفظ العرضي ‪ ،‬فإن ه‬ ‫يظ »الحفظ الذي يعلمه ه‬ ‫ش ْيءٍ َح ِف ٌ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫« َو َرب َُّك َ‬
‫رأيناه يحفظ على كل عين صورتها ‪ ،‬بل الواقع غير ذلك وهو مطلق الحفظ ‪ ،‬فليس الحفظ ما‬
‫يتخيل من حفظ الصور على أعيانها ‪ ،‬ولكنه حفظ التغيير واالستحاالت ‪ ،‬فالحافظ‬

‫ص ‪425‬‬

‫‪425‬‬
‫ّللا للعالم إنما هو لبقاء الثناء عليه بلسان المحدثات ‪،‬‬
‫يحفظ على كل شيء حكم التغيير ‪ ،‬وحفظ ه‬
‫بالتنزيه عما هي عليه من االفتقار ‪ ،‬فلم يكن الحفظ لالهتمام به وال للعناية ‪ ،‬بل ليكون مجاله ‪،‬‬
‫وليظهر أحكام أسمائه ‪ ،‬والحفظ ال يكون إال ممن ال يغالب على محفوظه وال يقاوى على‬
‫باّلل ‪ ،‬وال يزال حافظا له ‪ ،‬فلو انقطع الحفظ لزال العالم ‪.‬‬
‫حفظه ‪ ،‬فال يزال العالم محفوظا ه‬

‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪ 22‬إلى ‪] 23‬‬


‫ض َوما‬ ‫ت َوال ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ُون ِمثْقا َل ذَ هر ٍة ِفي ال ه‬ ‫ّللا ال يَ ْم ِلك َ‬ ‫ُون ه ِ‬‫ِين َزع َْمت ُ ْم ِم ْن د ِ‬ ‫قُ ِل ا ْدعُوا الهذ َ‬
‫ير ( ‪َ ) 22‬وال ت َ ْنفَ ُع الشهفاعَةُ ِع ْن َدهُ إِاله ِل َم ْن أَذ َ‬
‫ِن لَهُ‬ ‫ش ْر ٍك َوما لَهُ ِم ْن ُه ْم ِم ْن َظ ِه ٍ‬ ‫يهما ِم ْن ِ‬ ‫لَ ُه ْم فِ ِ‬
‫ير ( ‪) 23‬‬ ‫ي ا ْل َكبِ ُ‬
‫ق َو ُه َو ا ْلعَ ِل ُّ‬‫ع ع َْن قُلُوبِ ِه ْم قالُوا ما ذا قا َل َربُّ ُك ْم قالُوا ا ْل َح ه‬ ‫َحتهى إِذا فُ ِ ّز َ‬
‫[ الصالة على الميت شفاعة من المصلي عليه ]‬
‫عةُ ِع ْن َدهُ ِإ َّال ِل َم ْن أَذِنَ لَهُ "‬
‫شفا َ‬‫" َوال ت َ ْنفَ ُع ال َّ‬
‫ّللا تعالى لنا بالصالة على الميت ‪ ،‬وهو ال يأذن وفي نفسه أن ال يقبل سؤال السائل ‪،‬‬ ‫وقد أذن ه‬
‫فقد أذن لنا أن نشفع فيه بالصالة عليه ‪ ،‬فقد تحققنا اإلجابة بال شك ‪ ،‬والصالة على الميت‬
‫شفاعة من المصلي عليه عند ربه ‪ ،‬وال تكون الشفاعة إال لمن ارتضى الحق أن يشفع فيه ‪،‬‬
‫ولم يرتض سبحانه من عباده إال العصاة من أهل التوحيد ‪ ،‬سواء كان عن دليل أو إيمان ‪،‬‬
‫ولهذا شرع تلقين الميت ليكون الشفيع على علم بتوحيد من يشفع فيه ‪ ،‬وكل من قال إن الميت‬
‫وّللا‬
‫إذا كان من أهل الصالة عليه وصلي عليه ال تقبل الشفاعة فما عنده خبر جملة واحدة ‪ ،‬ال ه‬
‫‪ ،‬بل ذلك الميت سعيد بال شك ‪ ،‬ولو كانت ذنوبه عدد الرمل والحصى والتراب ‪ ،‬أما المختصة‬
‫ّللا يصلح بين عباده يوم القيامة ‪،‬‬ ‫باّلل من ذلك فمغفورة ‪ ،‬وأما ما يختص بمظالم العباد فإن ه‬ ‫ه‬
‫فعلى كل حال ال بد من الخير ولو بعد حين ‪ ،‬ولهذا ينبغي للمصلي على الميت إذا شفع في‬
‫ّللا أن ال يخص جناية بعينها ‪ ،‬وليعم ذكره ما ينطلق عليه به أنه مسيء إساءة‬ ‫صالته عند ه‬
‫ّللا التجاوز عن سيئاته مطلقا ‪ ،‬وأن يعترف عن الميت‬ ‫تحول بينه وبين سعادته ‪ ،‬وليسأل ه‬
‫ّللا إن شاء عمه بالتجاوز ‪ ،‬وإن‬ ‫بجميع السيئات ‪ ،‬وإن لم يحضر المصلي التعميم في ذلك فإن ه‬
‫شاء عامل الميت بحسب ما وقعت فيه الشفاعة من الشافع ‪ ،‬ولهذا ينبغي للمصلي على الميت‬
‫ّللا له في التخليص من العذاب ‪،‬‬ ‫أن يسأل ه‬

‫ص ‪426‬‬

‫‪426‬‬
‫ال في دخول الجنة ‪ ،‬ألنه ما ث هم دار ثالثة ‪ ،‬إنما هي جنة أو نار ‪ ،‬وذلك أنه إن سأل في دخول‬
‫ّللا يقبل سؤاله فيه ‪ ،‬ولكن قد يرى في الطريق أهواال عظاما ‪ ،‬فلهذا ينبغي‬ ‫الجنة ال غير فإن ه‬
‫ّللا من صلى عليه مما يحول بينه وبين العافية‬ ‫أن تكون شفاعة المصلي في أن ينجي ه‬
‫وّللا أسأل لنا وإلخواننا إذا جاء أجلنا أن يكون‬ ‫واستصحابها له ‪ ،‬فإن ذلك أنفع في حق الميت ‪ ،‬ه‬
‫المصلي علينا عبدا محبوبا عند ربه ‪ ،‬يكون الحق سمعه وبصره ولسانه ‪ ،‬لنا وإلخواننا‬
‫وأوالدنا وآبائنا وأهلينا ومعارفنا وجميع المسلمين من الجن واإلنس ‪ ،‬آمين بعزته وكرمه ‪.‬‬
‫ّللا وإياك بروح منه أن المالئكة أرواح في أنوار أو لو أجنحة ‪ ،‬وأن نزول الوحي‬ ‫واعلم أيدنا ه‬
‫على قلوب المالئكة ‪ ،‬والقلب هو المدبر للجسد ‪ ،‬فاشتغل القلب بما نزل إليه ليتلقاه فغاب عن‬
‫ّللا بالوحي على صورة خاصة وتعلقت به‬ ‫تدبير بدنه ‪ ،‬فسمي بذلك غشيا وصعقا ‪ ،‬فإذا تكلم ه‬
‫أسماعهم كأنه سلسلة على صفوان ‪ ،‬وهو وحي إجمالي ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم عن المالئكة في طريان هذا الحال فقال ‪ [ :‬إن المالئكة إذا‬ ‫وقد أخبر النبي صلهى ه‬
‫ّللا بالوحي كأنه سلسلة على صفوان ‪ ،‬ضربت المالئكة بأجنحتها خضعانا ‪ -‬أي لهذا‬ ‫تكلم ه‬
‫ّللا ثم ينادون فيفيقون ]‬ ‫التشبيه ‪ -‬فتصعق المالئكة ‪ ،‬وهو أشد الوحي ‪ ،‬فيصعقون ما شاء ه‬
‫ع ْن قُلُوبِ ِه ْم )وهو إفاقتهم من صعقتهم ‪ ،‬وهنا يقع‬ ‫ع َ‬‫وهو قوله تعالى في حقهم ‪َ (:‬حتَّى إِذا فُ ِ هز َ‬
‫ّللا عنهم‬ ‫التفصيل فيما أجمل ‪ ،‬فأخبر ه‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ «-‬قالُوا ما ذا قا َل َربُّ ُك ْم »وهنا وقف ‪ ،‬فيقول بعضهم لبعض وهو قوله تعالى«‬
‫قالُوا ْال َح َّق »وهو من قول المالئكة– ‪.‬‬
‫‪-‬الوجه الثاني ‪ « -‬قالُوا ما ذا ؟ »وهنا وقف ‪ ،‬فاستفهموا بعد صعقتهم أي يقول بعضهم‬
‫لبعض« ما ذا ؟ » « قا َل »أي فيقول بعضهم‬
‫أو قال القائل ‪َ «:‬ربُّ ُك ْم »وهنا وقف ‪ ،‬إعالما بأن كالمه عين ذاته ‪،‬‬
‫فيقول بعضهم وهو قوله ‪ «:‬قالُوا »لهذا القائل« ْال َح َّق »أي الحق يقول ‪ ،‬بالنصب ‪ ،‬أي قال‬
‫الحق كذا علمناه‬
‫‪-‬الوجه الثالث ‪ -‬لما أفاقوا وزال الخطاب اإلجمالي المشبه وزالت البديهة «قالُوا ما ذا ؟‬
‫»وهنا وقف ‪ ،‬ثم يجيبهم فقال لهم ‪َ «:‬ربُّ ُك ْم »وهو قوله‪ " :‬قا َل َربُّ ُك ْم "‪ ،‬فما صعقوا عند هذا‬
‫القول بل ثبتوا و( قالُوا ْال َح َّق ( أي قال الحق ‪ ،‬أي قال ربنا القول الحق ‪ ،‬يعنون ما فهموه من‬
‫ي ْال َكبِ ُ‬
‫ير "‬ ‫الوحي أو قوله «قا َل َربُّ ُك ْم »أو هما معا وهو الصحيح« َو ُه َو ْالعَ ِل ُّ‬
‫ي »عن هذا النزول« ْال َكبِ ُ‬
‫ير‬ ‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬أن يكون هذا من قول المالئكة قالوا« َو ُه َو ْالعَ ِل ُّ‬
‫»عن هذا التشبيه في هذه النسبة ‪ ،‬وهي كسلسلة على صفوان ‪،‬‬
‫ير »عن هذا‬ ‫ي ْال َك ِب ُ‬
‫أي« َو ُه َو ْالعَ ِل ُّ‬

‫ص ‪427‬‬

‫‪427‬‬
‫التشبيه ‪ ،‬ولكن هكذا نسمع ‪ ،‬فجاءوا في ذكرهم باالسم العلي في كبريائه إن كان من قولهم ‪،‬‬
‫ير »أو يكون حكاية الحق عن قولهم ‪ ،‬والعالون‬ ‫ي ْال َك ِب ُ‬ ‫ّللا« َو ُه َو ْالعَ ِل ُّ‬ ‫فإنه محتمل أن يكون قول ه‬
‫ت ِمنَ ْالعا ِلينَ )‬
‫ت أ َ ْم ُك ْن َ‬‫ّللا فيهم إلبليس لما أبى السجود( أ َ ْست َ ْكبَ ْر َ‬ ‫الذين قال ه‬
‫هم الذين قالوا لهؤالء المالئكة الذين أفاقوا« َربَّ ُك ُم »‬
‫*وهم الذين نادوهم ‪ ،‬وهم العالون ‪ ،‬فلهذا جاء باالسم العلي ‪ ،‬فمن علم أن للمالئكة قلوبا أو علم‬
‫ّللا تعالى ما أسمعهم في الوحي الذي أصعقهم إال ما يناسب من الوحي (‬ ‫القلوب ما هي علم أن ه‬
‫باّلل على بعضهم ‪ ،‬وهو‬ ‫ُك َّل يَ ْو ٍم ُه َو ِفي شَأ ْ ٍن ) ومن هذه اآلية علمنا بتفاضل المالئكة في العلم ه‬
‫باّلل ‪،‬‬‫قولهم ‪َ (:‬وما ِمنَّا إِ َّال لَهُ َمقا ٌم َم ْعلُو ٌم ) أي في العلم ه‬
‫وذلك لما ورد من االستفهام في قول من قال منهم« ما ذا »‬
‫*وقد رفعت التهمة عنهم فيما بينهم ‪ ،‬وتصديق بعضهم بعضا ‪ ،‬وانصباغ بعضهم بما عند‬
‫باّلل ‪ ،‬فيفيد بعضهم بعضا ‪ ،‬وذلك قوله‬ ‫بعض مما يكون عليه ذلك البعض من صورة العلم ه‬
‫عنهم ‪ ":‬قالُوا ْال َح َّق " ابتداء ‪ ،‬ولم ينازعوا عندما قال لهم المسؤول« َربَّ ُك ُم »‬
‫ش ْي ٌء ) فلم يروه إال في الهوية ‪ ،‬وهي ما غاب عنهم من الحق في‬ ‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫*‪ ،‬ثم أقيموا في( لَي َ‬
‫عين ما تجلى ‪ ،‬وتلك الهوية هي روح صورة ما تجلى ‪ ،‬فنسبوا إليها أعني إلى الهوية من(‬
‫ي»‬ ‫ش ْي ٌء )العلو فقالوا ‪َ «:‬و ُه َو ْالعَ ِل ُّ‬ ‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬‫لَي َ‬
‫ير » *من الكبرياء عن الحصر ‪ ،‬فهو العظيم بذاته ‪،‬‬ ‫*عن التقييد في صورة ما تجلى لهم« ْال َكبِ ُ‬
‫بخالف األسباب المعظمة ‪ ،‬وهو الكبير واضع األسباب ‪ ،‬وأمرنا بتعظيمها ‪ ،‬ومن ال عظمة له‬
‫ذاتية لنفسه فعظمته عرض في حكم الزوال ‪ ،‬فالكبير على اإلطالق من غير تقييد وال مفاضلة‬
‫ّللا‬
‫هو ه‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬في هذه اآلية انته كالم المالئكة عند قوله ‪ «:‬ما ذا قا َل َربُّ ُك ْم قالُوا ْال َح َّق »ثم‬
‫ّللا ال من قول المالئكة ‪ ،‬أي‬ ‫ير »فهو من قول ه‬ ‫ي ْال َكبِ ُ‬ ‫ّللا ‪َ «:‬و ُه َو ْالعَ ِل ُّ‬ ‫يقول تعالى ‪ :‬أي فقال ه‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬ ‫هذه النسبة من حيث هويته ‪ ،‬ومن هذه اآلية يظهر عجز المالئكة عن معرفة ه‬

‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪ 24‬إلى ‪] 26‬‬


‫ين (‬ ‫ضال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫ّللاُ َوإِنها أ َ ْو إِيها ُك ْم لَعَلى ُهدى أ َ ْو فِي َ‬
‫ض قُ ِل ه‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫قُ ْل َم ْن يَ ْر ُزقُ ُك ْم ِم َن ال ه‬
‫ون ) ‪ ( 25‬قُ ْل يَجْ َم ُع بَ ْينَنا َربُّنا ث ُ هم يَ ْفت َ ُح‬
‫ع هما ت َ ْع َملُ َ‬ ‫ع هما أَجْ َر ْمنا َوال نُ ْ‬
‫سئ َ ُل َ‬ ‫ون َ‬‫سئَلُ َ‬ ‫) ‪24‬قُ ْل ال ت ُ ْ‬
‫ح ا ْلعَ ِلي ُم) ‪( 26‬‬ ‫ق َو ُه َو ا ْلفَتها ُ‬ ‫بَ ْينَنا ِبا ْل َح ّ ِ‬

‫ص ‪428‬‬

‫‪428‬‬
‫من الفتح اإللهي النصر على األعداء والقهر لهم ‪ ،‬والرحمة باألولياء والعطف عليهم ‪.‬‬

‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪ 27‬إلى ‪] 28‬‬


‫س ْل َ‬
‫ناك ِإالَّ َكافَّةً‬ ‫يز ْال َح ِكي ُم ( ‪َ ) 27‬وما أ َ ْر َ‬
‫ّللاُ ْالعَ ِز ُ‬
‫ش َركا َء َكالَّ بَ ْل ُه َو َّ‬ ‫ي الَّذِينَ أ َ ْل َح ْقت ُ ْم بِ ِه ُ‬
‫قُ ْل أ َ ُرونِ َ‬
‫اس ال يَ ْعلَ ُمونَ ) ‪( 28‬‬ ‫اس بَ ِشيرا ً َونَذِيرا ً َول ِك َّن أ َ ْكث َ َر النَّ ِ‬ ‫ِللنَّ ِ‬
‫اس »فضمت شريعته جميع الناس ‪ ،‬فال‬ ‫ناك ِإ َّال َكافَّةً »من الكفت وهو الضم" ِللنَّ ِ‬ ‫س ْل َ‬ ‫" َوما أ َ ْر َ‬
‫يسمع به أحد إال لزمه اإليمان به ‪ ،‬وضمت شريعته الجن واإلنس فعم بشريعته اإلنس والجن ‪،‬‬
‫وكانت باللسان العربي فعم كل لسان ‪ ،‬فنقل شرعه بالترجمة فعم اللغات ‪ ،‬ولم يكن ذلك لغيره‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ألن‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وكانت األنبياء في العالم نواب رسول ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم عن هذا المقام بأمور ‪،‬‬ ‫الناس من آدم إلى آخر إنسان ‪ ،‬وقد أبان صلهى ه‬
‫وّللا لو كان موسى حيا ما وسعه إال أن يتبعني ]‬ ‫ّللا عليه وسلم [ ه‬ ‫منها قوله صلهى ه‬
‫وقوله في نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان ‪:‬‬
‫إنه يؤمنا ‪ -‬أي يحكم فينا ‪ -‬بسنة نبينا عليه السالم ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ‪ ،‬ولو كان‬
‫ّللا عليه وسلم قد بعث في زمان آدم لكانت األنبياء وجميع الناس تحت حكم‬ ‫محمد صلهى ه‬
‫شريعته إلى يوم القيامة حسا ‪،‬‬
‫فجميع األنبياء هم أرساله ونوابه في األرض لغيبة جسمه ‪ ،‬ولو كان جسمه موجودا ما كان‬
‫ألحد شرع معه ‪ ،‬ولهذا لم يبعث عامة إال هو خاصة ‪،‬‬
‫فهو الملك والسيد ‪ ،‬وكل رسول سواه فبعث إلى قوم مخصوصين ‪ ،‬فلم تعم رسالة أحد من‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫الرسل سوى رسالته صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم إلى يوم القيامة ملكه ‪،‬‬ ‫فمن زمان آدم عليه السالم إلى زمان بعث محمد صلهى ه‬
‫وتقدمه في اآلخرة على جميع الرسل وسيادته فمنصوص على ذلك في الصحيح عنه ‪ ،‬مثل‬
‫قوله ‪:‬‬
‫[ أنا سيد الناس يوم القيامة ] بإخباره إيانا بالوحي الذي أوحي به إليه ‪،‬‬
‫وقوله ‪ [ :‬أنا سيد ولد آدم وال فخر ] بالراء وفي رواية بالزاي وهو التبجح بالباطل ‪ ،‬فثبتت له‬
‫ّللا عليه وسلم بعث إلى الناس كافة‬ ‫السيادة والشرف على أبناء جنسه من البشر ‪ ،‬فمحمد صلهى ه‬
‫بالنص ‪،‬‬
‫ولم يقل ‪ :‬أرسلناك إلى هذه األمة خاصة ‪ ،‬وال إلى أهل هذا الزمان إلى يوم القيامة خاصة ‪،‬‬
‫ّللا عليه‬ ‫وإنما أخبره أنه مرسل إلى الناس كافة ‪ ،‬والناس من آدم إلى يوم القيامة ‪ ،‬فقال صلهى ه‬
‫وسلم ‪ [ :‬كنت نبيا وآدم بين الماء‬

‫ص ‪429‬‬

‫‪429‬‬
‫والطين ]فأعلم بنبوته ‪ ،‬فكان الرسل واألنبياء عليهم السالم نوابه حتى ظهوره بجسمه صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم أوال ‪ ،‬نسب‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإنه ل هما لم يتقدم في عالم الحس وجود عينه صلهى ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وإن كان مفقود‬ ‫كل شرع إلى من بعث به ‪ ،‬وهو في الحقيقة شرع محمد صلهى ه‬
‫العين من حيث ال يعلم ذلك ‪ ،‬كما هو مفقود العين اآلن وفي زمان نزول عيسى عليه السالم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫والحكم بشرعه ‪ ،‬فجميع الشرائع التي كانت في األمم فهي شرائع محمد صلهى ه‬
‫بأيدي نوابه ‪ ،‬فإنه المبعوث إلى الناس كافة ‪ ،‬وما يلزم رؤية شخصه ‪ ،‬فكما و هجه في زمان‬
‫ظهور جسمه عليا ومعاذا إلى اليمن لتبليغ الدعوة ‪ ،‬كذلك و هجه الرسل واألنبياء إلى أممهم من‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فالناس أمته من آدم إلى يوم‬ ‫حين كان نبيا وآدم بين الماء والطين ‪ ،‬فدعا الكل إلى ه‬
‫القيامة ‪ ،‬وجميع الرسل نوابه بال شك ‪ ،‬فلما ظهر بنفسه لم يبق حكم إال له ‪ ،‬وال حاكم إال رجع‬
‫ّللا بشرعه جميع الشرائع فال يخرج هذا النسخ ما تقدم من الشرائع أن تكون‬ ‫إليه ‪ ،‬وأما نسخ ه‬
‫ّللا عليه وسلم في القرآن‬ ‫ّللا قد أشهدنا في شرعه الظاهر المنزل به صلهى ه‬ ‫من شرعه ‪ ،‬فإن ه‬
‫والسنة النسخ ‪ ،‬مع إجماعنا واتفاقنا على أن ذلك المنسوخ شرعه الذي بعث به إلينا ‪ ،‬فنسخ‬
‫بالمتأخر المتقدم ‪ ،‬فكان تنبيها لنا هذا النسخ الموجود في القرآن والسنة على أن نسخه لجميع‬
‫الشرائع المتقدمة ال يخرجها عن كونها شرعا له ‪ ،‬وكان نزول عيسى عليه السالم في آخر‬
‫الزمان حاكما بغير شرعه أو بعضه الذي كان عليه في زمان رسالته ‪ ،‬وحكمه بالشرع‬
‫المحمدي المقرر اليوم دليال على أنه ال حكم ألحد اليوم من األنبياء عليهم السالم مع وجود ما‬
‫ّللا عليه وسلم في شرعه ‪ ،‬ويدخل في ذلك ما هم عليه أهل الذمة من أهل الكتاب ‪،‬‬ ‫قرره صلهى ه‬
‫ما داموا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ‪ ،‬فإن حكم الشرائع على األحوال فخرج من هذا‬
‫المجموع كله أنه ملك وسيد على جميع بني آدم ‪ ،‬وأن جميع من تقدمه كان ملكا له وتبعا ‪،‬‬
‫والحاكمون فيه نواب عنه ‪ ،‬فبعثته العامة إشعار بأن جميع ما تقدمه من الشرائع بالزمان إنما‬
‫هو من شرعه ‪ ،‬فنسخ ببعثته منها ما نسخ وأبقى منها ما أبقى ‪ ،‬كما نسخ ما قد كان أثبته حكما‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬ال تفضلوني ]‬ ‫‪ ،‬فإن قيل فقوله صلهى ه‬
‫ّللا فضله ‪ ،‬فإن ذلك ليس لنا ‪ ،‬وإن كان قد ورد ( أُولئِ َك الَّذِينَ‬ ‫فالجواب ‪ :‬نحن ما فضلناه بل ه‬
‫ّللاُ فَ ِب ُهدا ُه ُم ا ْقت َ ِد ْه )‬
‫َه َدى َّ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫لما ذكر األنبياء عليهم السالم فهو صحيح ‪ ،‬فإنه قال فبهداهم وهداهم من ه‬
‫[ جميع الشرائع هي شرع محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بأيدي نوابه ]‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬أي الزم شرعك الذي ظهر به نوابك من إقامة الدين وال‬ ‫وهو شرعه صلهى ه‬
‫تتفرقوا فيه ‪ ،‬فلم يقل ‪ :‬فبهم اقتده ‪ ،‬وفي قوله ‪َ (:‬وال تَتَفَ َّرقُوا فِي ِه )تنبيه على أحدية الشرائع ‪،‬‬

‫ص ‪430‬‬

‫‪430‬‬
‫وقوله ‪ (:‬اتَّبَ َع ِملَّةَ ِإبْرا ِه َ‬
‫يم َح ِنيفا ً )‬
‫ّللا ال من غيره ‪ ،‬وانظر قوله‬ ‫*وهو الدين ‪ ،‬فهو مأمور باتباع الدين ‪ ،‬فإن الدين إنما هو من ه‬
‫عليه السالم ‪ [ :‬لو كان موسى حيا ما وسعه إال أن يتبعني ] فأضاف االتباع إليه ‪ ،‬وأمر صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم باتباع الدين وهدى األنبياء ال بهم ‪ ،‬فإن اإلمام األعظم إذا حضر ال يبقى لنائب‬ ‫ه‬
‫من نوابه حكم إال له ‪ ،‬فإذا غاب حكم النواب بمراسمه ‪ ،‬فهو الحاكم غيبا وشهادة ‪ ،‬ومن ذلك‬
‫ّللا الحكم في كلماته‬‫ّللا ‪ ،‬فقد آتاه ه‬
‫ّللا عليه وسلم أوتي جوامع الكلم ‪ ،‬والعالم كلمات ه‬ ‫كونه صلهى ه‬
‫‪ ،‬وع هم وختم به الرسالة والنبوة ‪ ،‬كما بدأ به باطنا ختم به ظاهرا ‪ ،‬فله األمر النبوي من قبل‬
‫ومن بعد‬
‫‪ -‬نصيحة ‪ -‬اعلم أن الرسل أعدل الناس مزاجا لقبولهم رساالت ربهم ‪ ،‬وكل شخص منهم قبل‬
‫ّللا في مزاجه من التركيب ‪ ،‬فما من نبي إال بعث خاصة إلى قوم‬ ‫من الرسالة قدر ما أعطاه ه‬
‫ّللا عليه وسلم ما بعثه إال برسالة‬ ‫معينين ‪ ،‬ألنه على مزاج خاص مقصور وإن محمدا صلهى ه‬
‫عامة إلى جميع الناس كافة ‪ ،‬وال قبل مثل هذه الرسالة إال لكونه على مزاج يحوي على مزاج‬
‫كل نبي ورسول ‪،‬‬
‫فهو أعدل األمزجة وأكملها وأقوم النشآت ‪ ،‬فإذا علمت هذا وأردت أن ترى الحق على أكمل ما‬
‫ينبغي أن يظهر به لهذه النشأة اإلنسانية ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وأن الحق‬ ‫فاعلم أنك ليس لك وال أنت على مثل هذا المزاج الذي لمحمد صلهى ه‬
‫مهما تجلى لك في مرآة قلبك فإنما تظهره لك مرآتك على قدر مزاجها وصورة شكلها ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم في العلم بربه في نشأته‬ ‫وقد علمت نزولك عن الدرجة التي صحت لمحمد صلهى ه‬
‫‪ ،‬فالزم اإليمان واالتباع ‪ ،‬واجعله أمامك مثل المرآة التي تنظر فيها صورتك وصورة غيرك ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم في مرآته ‪،‬‬‫ّللا تعالى ال بد أن يتجلى لمحمد صلهى ه‬ ‫فإذا فعلت هذا علمت أن ه‬
‫والمرآة لها أثر في ناظر الرائي في المرئي ‪ ،‬فيكون ظهور الحق في مرآة محمد صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم أكمل ظهور وأعدله وأحسنه ‪ ،‬لما هي مرآته عليه ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم فقد أدركت منه كماال لم تدركه من حيث‬ ‫فإذا أدركته في مرآة محمد صلهى ه‬
‫نظرك في مرآتك ‪ ،‬أال ترى في باب اإليمان وما جاء في الرسالة من األمور التي نسب الحق‬
‫لنفسه بلسان الشرع مما تحيله العقول ؟‬
‫ولوال الشرع واإليمان به لما قبلنا من ذلك من حيث نظرنا العقلي شيئا البتة ‪ ،‬بل نرده ابتداء‬
‫ونج ههل القائل به ‪ ،‬فكما أعطاه بالرسالة واإليمان ما قصرت العقول التي ال إيمان لها عن‬
‫إدراكها ذلك من جانب الحق ‪،‬‬
‫كذلك قصرت أمزجتنا ومرائي عقولنا عند المشاهدة عن إدراك ما تجلى في مرآة محمد صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم أن تدركه في مرآتها ‪ ،‬وكما آمنت به في الرسالة غيبا شهدته في هذا التجلي‬ ‫ه‬
‫النبوي عينا ‪ ،‬فقد نصحتك وأبلغت لك في النصيحة ‪ ،‬فال تطلب مشاهدة الحق‬

‫ص ‪431‬‬

‫‪431‬‬
‫إال في مرآة نبيك صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬واحذر أن تشهده في مرآتك ‪ ،‬أو تشهد النبي وما تجلى‬
‫في مرآته من الحق في مرآتك ‪ ،‬فإنه ينزل بك ذلك عن الدرجة العالية ‪،‬‬
‫فالزم االقتداء واالتباع ‪ ،‬وال تطأ مكانا ال ترى فيه قدم نبيك ‪ ،‬فضع قدمك على قدمه إن أردت‬
‫أن تكون من أهل الدرجات العلى والشهود الكامل في المكانة الزلفى ‪،‬‬
‫وّللا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ‪.‬‬ ‫وقد أبلغت لك في النصيحة كما أمرت ‪ ،‬ه‬

‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪ 29‬إلى ‪] 37‬‬


‫ع ْنهُ ساعَة‬ ‫ون َ‬‫ستَأ ْ ِخ ُر َ‬ ‫ين ( ‪ ) 29‬قُ ْل لَ ُك ْم ِميعا ُد يَ ْو ٍم ال ت َ ْ‬ ‫ون َمتى هذَا ا ْل َو ْع ُد إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬ ‫َويَقُولُ َ‬
‫آن َوال بِالهذِي بَ ْي َن يَ َد ْي ِه َولَ ْو تَرى‬ ‫ِين َكفَ ُروا لَ ْن نُ ْؤ ِم َن بِهذَا ا ْلقُ ْر ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 30‬وقا َل الهذ َ‬ ‫ست َ ْق ِد ُم َ‬
‫َوال ت َ ْ‬
‫ض ِعفُوا ِللهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ست ُ ْ‬‫ِين ا ْ‬‫ض ا ْلقَ ْو َل يَقُو ُل الهذ َ‬ ‫ض ُه ْم إِلى بَ ْع ٍ‬ ‫ون َم ْوقُوفُ َ‬
‫ون ِع ْن َد َر ِبّ ِه ْم يَ ْر ِج ُع بَ ْع ُ‬ ‫ظا ِل ُم َ‬ ‫إِ ِذ ال ه‬
‫ض ِعفُوا أ َ نَحْ ُن‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫ِين ا ْ‬‫ست َ ْكبَ ُروا ِللهذ َ‬ ‫ين ( ‪ ) 31‬قا َل الهذ َ‬
‫ِين ا ْ‬ ‫ست َ ْكبَ ُروا لَ ْو ال أ َ ْنت ُ ْم لَ ُكنها ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫ا ْ‬
‫ض ِعفُوا ِللهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫ِين ا ْ‬ ‫ين ( ‪َ ) 32‬وقا َل الهذ َ‬ ‫ص َددْنا ُك ْم ع َِن ا ْل ُهدى بَ ْع َد ِإ ْذ جا َء ُك ْم بَ ْل ُك ْنت ُ ْم ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫َ‬
‫س ُّروا النهدا َمةَ لَ هما‬ ‫هار ِإ ْذ تَأ ْ ُم ُرونَنا أ َ ْن نَ ْكفُ َر ِب ه ِ‬
‫اّلِل َونَجْ عَ َل لَهُ أ َ ْندادا َوأ َ َ‬ ‫ست َ ْكبَ ُروا بَ ْل َم ْك ُر الله ْي ِل َوالنه ِ‬ ‫ا ْ‬
‫ون ) ‪( 33‬‬ ‫ِين َكفَ ُروا َه ْل يُجْ َز ْو َن إِاله ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫ذاب َو َجعَ ْلنَا ْاأل َ ْغال َل فِي أَع ِ‬
‫ْناق الهذ َ‬ ‫َرأ َ ُوا ا ْلعَ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 34‬وقالُوا نَحْ ُن‬ ‫س ْلت ُ ْم بِ ِه كافِ ُر َ‬‫ِير إِاله قا َل ُمتْ َرفُوها إِنها بِما أ ُ ْر ِ‬ ‫س ْلنا فِي قَ ْريَ ٍة ِم ْن نَذ ٍ‬ ‫َوما أ َ ْر َ‬
‫ق ِل َم ْن يَشا ُء َويَ ْقد ُِر َول ِك هن‬ ‫الر ْز َ‬
‫ط ِّ‬ ‫س ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 35‬قُ ْل ِإ هن َر ِبّي يَ ْب ُ‬ ‫أ َ ْكث َ ُر أ َ ْمواال َوأ َ ْوالدا َوما نَحْ ُن ِب ُمعَذه ِب َ‬
‫ون ( ‪َ ) 36‬وما أ َ ْموالُ ُك ْم َوال أ َ ْوال ُد ُك ْم ِبالهتِي تُقَ ِ ّربُ ُك ْم ِع ْندَنا ُز ْلفى ِإاله َم ْن آ َم َن‬ ‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫أ َ ْكث َ َر النه ِ‬
‫ون) ‪( 37‬‬ ‫آمنُ َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ف ِبما ع َِملُوا َو ُه ْم فِي ا ْلغُ ُرفا ِ‬ ‫ض ْع ِ‬ ‫َوع َِم َل صا ِلحا فَأُولئِكَ لَ ُه ْم َجزا ُء ال ِ ّ‬

‫ص ‪432‬‬

‫‪432‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ليس للعقل فيها حكم بوجه من الوجوه ‪ ،‬فإذا شرع الشارع‬ ‫ّللا ال تعلم إال من ه‬ ‫القربات إلى ه‬
‫القربات فهي على حد ما شرع ‪ ،‬وما منع من ذلك أن يكون قربة فليس للعقل أن يجعلها قربة ‪،‬‬
‫ع ِملُوا َو ُه ْم فِي‬
‫ف بِما َ‬ ‫ع ِم َل صا ِلحا ً فَأُولئِ َك لَ ُه ْم َجزا ُء ال ِ ه‬
‫ض ْع ِ‬ ‫لذلك قال تعالى ‪ «:‬إِ َّال َم ْن آ َمنَ َو َ‬
‫ت ِآمنُونَ »‪ -‬إشارة ‪ -‬لم يحصل له أمان الغرفة ‪ ،‬إال من قنع في شربه بالغرفة ‪ ،‬فمن‬ ‫ْالغُ ُرفا ِ‬
‫اغترف نال الدرجات ‪ ،‬ومن شرب ليرتوي ع همر الدركات ‪ ،‬فما ارتوى من شرب ‪ ،‬وروي من‬
‫اغترف غرفة بيده وطرب ‪.‬‬

‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪38‬إلى ‪] 39‬‬


‫س ُ‬
‫ط‬ ‫ون ( ‪ ) 38‬قُ ْل إِ هن َر ِبّي يَ ْب ُ‬ ‫ض ُر َ‬ ‫ب ُمحْ َ‬‫ين أُولئِكَ فِي ا ْلعَذا ِ‬ ‫عاج ِز َ‬ ‫سعَ ْو َن فِي آياتِنا ُم ِ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ِين يَ ْ‬
‫الر ِازقِ َ‬
‫ين (‬ ‫ق ِل َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه َويَ ْقد ُِر لَهُ َوما أ َ ْنفَ ْقت ُ ْم ِم ْن َ‬
‫ش ْي ٍء فَ ُه َو يُ ْخ ِلفُهُ َو ُه َو َخ ْي ُر ه‬ ‫الر ْز َ‬
‫ِّ‬
‫‪)39‬‬

‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬اإلنفاق إهالك ‪ ،‬ومن أهلك شيئا فقد فقده ‪ ،‬وفي« يُ ْخ ِلفُهُ »قراءتان ‪ :‬بفتح الياء‬
‫ّللا يخلفه بهويته ‪ ،‬فإنه ما ينفق حتى يشهد العوض ‪،‬‬ ‫وضمها ‪ ،‬فبالفتح ما أنفقتم من شيء فإن ه‬
‫ّللا عنده ‪ ،‬فهو يخلفه ‪،‬‬
‫فهو إذا فقد الشيء لم يجده ‪ ،‬وإذا لم يجده وجد ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وبالضم كما عاد الضمير على‬ ‫ّللا ِع ْن َدهُ )فحيث فنيت األسباب يوجد ه‬
‫وهو قوله ‪َ (:‬و َج َد َّ َ‬
‫فاّلل مخلف ‪ ،‬ومن أيقن بالخلف‬ ‫الشيء من يخلفه ال يخلف إال مثله ال عينه ‪ ،‬فإذا أنفق اإلنسان ه‬
‫جاد باألعطية ‪ ،‬وحتى على قراءة الضم فإنه يفيد المعنى األول ‪ ،‬فأي سبب يكون للمنفق بعد‬
‫اإلنفاق يسد مسد ما أنفقه ‪ ،‬من أمر ظاهر أو باطن ‪ ،‬حتى اليقين أو االستغناء عن األمر الذي‬
‫كان يصل إليه بذلك الذي أنفقه في عين تحصيله لذلك الشيء ‪ ،‬فهو مجعول من هوية الحق ‪،‬‬
‫أو هوية الحق ‪ ،‬فانظر يا أخي كيف جعل هويته خلفا من نفقتك ‪ ،‬وإنك أحييت من تصدقت‬
‫ّللا به حياة أبدية ‪ ،‬ألنه إن لم يكن الحق حياتك فال حياة ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬لو كان ذلك‬ ‫عليه فأحياك ه‬
‫لنصب الياء ورفع الالم ‪ ،‬قلنا ‪ :‬الهوية عين الذات ‪ ،‬والهوية تخلف الشيء المتصدق به باسم‬
‫إلهي تكون به حياة ذلك المنفق ‪ ،‬وأسماؤه‬

‫ص ‪433‬‬

‫‪433‬‬
‫خرج مسلم‬
‫ليست غيره ‪ ،‬ولكن هكذا تقع العبارة عنها لما يعقل في ذلك من اختالف النسب ‪ ،‬ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬ما من يوم يصبح فيه‬ ‫في صحيحه عن أبي هريرة قال ‪ :‬قال رسول ه‬
‫العباد إال وملكان ينزالن يقول أحدهما ‪ :‬اللهم أعط منفقا خلفا ‪ ،‬ويقول اآلخر ‪ :‬اللهم أعط‬
‫ممسكا تلفا ] ومعنى ذلك الحديث أن الملك اآلخر الذي يقول ‪ :‬اللهم أعط ممسكا تلفا ‪ ،‬أي ما «‬
‫‪ » 1‬أعطيت المنفق حتى يتلف ماله مثل صاحبه ‪،‬‬
‫فكأنه يقول ‪ :‬اللهم ارزق الممسك اإلنفاق حتى ينفق ‪ ،‬فإن كنت لم تقدهر في سابق علمك أن‬
‫ينفقه باختياره ‪ ،‬فاتلف ماله حتى تأجره فيه أجر المصاب فيصيب خيرا ‪ ،‬فإن المالئكة لسان‬
‫خير ‪ ،‬فال تدعو المالئكة بالشر على المؤمنين ‪ ،‬فهو دعاء خير بكل وجه ‪ -‬الوجه الثاني «‪-‬‬
‫َوما أ َ ْنفَ ْقت ُ ْم ِم ْن َ‬
‫ش ْيءٍ فَ ُه َو يُ ْخ ِلفُهُ »إن أنفق ليبتني مجدا في ألسنة الخلق فهو لما أنفق ‪.‬‬

‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪ 40‬إلى ‪] 46‬‬


‫س ْبحانَكَ أ َ ْنتَ‬ ‫ُون ( ‪ ) 40‬قالُوا ُ‬ ‫ُالء ِإيها ُك ْم كانُوا يَ ْعبُد َ‬‫َويَ ْو َم يَحْ ش ُُر ُه ْم َج ِميعا ث ُ هم يَقُو ُل ِل ْل َمالئِ َك ِة أ َ هؤ ِ‬
‫ون ( ‪ ) 41‬فَا ْليَ ْو َم ال يَ ْم ِلكُ بَ ْع ُ‬
‫ض ُك ْم‬ ‫ُون ا ْل ِج هن أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ِب ِه ْم ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫َو ِليُّنا ِم ْن دُو ِن ِه ْم بَ ْل كانُوا يَ ْعبُد َ‬
‫ون ( ‪) 42‬‬ ‫َذاب النه ِار الهتِي ُك ْنت ُ ْم بِها ت ُ َك ِذّبُ َ‬
‫ِين َظلَ ُموا ذُوقُوا ع َ‬ ‫ض ًّرا َونَقُو ُل ِللهذ َ‬ ‫ض نَ ْفعا َوال َ‬ ‫ِلبَ ْع ٍ‬
‫كان يَ ْعبُ ُد آبا ُؤ ُك ْم َوقالُوا‬ ‫ع هما َ‬ ‫ت قالُوا ما هذا إِاله َر ُج ٌل يُ ِري ُد أ َ ْن يَ ُ‬
‫ص هد ُك ْم َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم آياتُنا بَ ِيّنا ٍ‬ ‫َوإِذا تُتْلى َ‬
‫ين ( ‪َ ) 43‬وما‬ ‫ق لَ هما جا َء ُه ْم ِإ ْن هذا ِإاله سِحْ ٌر ُم ِب ٌ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِل ْل َح ّ ِ‬ ‫ما هذا ِإاله ِإ ْفكٌ ُم ْفتَرى َوقا َل الهذ َ‬
‫ِير ) ‪( 44‬‬ ‫س ْلنا ِإلَ ْي ِه ْم قَ ْبلَكَ ِم ْن نَذ ٍ‬ ‫سونَها َوما أ َ ْر َ‬ ‫ب يَد ُْر ُ‬ ‫آت َ ْينا ُه ْم ِم ْن ُكت ُ ٍ‬
‫ير ( ‪ ) 45‬قُ ْل‬ ‫كان نَ ِك ِ‬
‫ف َ‬ ‫س ِلي فَ َك ْي َ‬‫شار ما آت َ ْينا ُه ْم فَ َكذهبُوا ُر ُ‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم َوما بَلَغُوا ِم ْع َ‬ ‫ب الهذ َ‬ ‫َو َكذه َ‬
‫صاح ِب ُك ْم ِم ْن ِجنه ٍة ِإ ْن ُه َو ِإاله‬ ‫ّلِل َمثْنى َوفُرادى ث ُ هم تَتَفَك ُهروا ما ِب ِ‬ ‫واح َد ٍة أ َ ْن تَقُو ُموا ِ ه ِ‬
‫ظ ُك ْم ِب ِ‬ ‫ِإنهما أ َ ِع ُ‬
‫شدِي ٍد) ‪( 46‬‬ ‫ب َ‬ ‫َي عَذا ٍ‬ ‫ير لَ ُك ْم بَ ْي َن يَد ْ‬
‫نَ ِذ ٌ‬

‫) ‪( 1‬ما ‪ :‬هنا اسم موصول أي الذي‪.‬‬

‫ص ‪434‬‬

‫‪434‬‬
‫ّللا في كونه ما أمرك‬ ‫ّللا ‪ ،‬إذا رأيت من فعل ه‬ ‫واح َدةٍ »وهي أن تقوم من أجل ه‬ ‫ظ ُك ْم ِب ِ‬ ‫" قُ ْل ِإنَّما أ َ ِع ُ‬
‫ّلل َمثْنى َوفُرادى »فقوله في القيام مثنى ‪،‬‬ ‫أن تقوم له فيه ‪ ،‬إما غيرة وإما تعظيما «أ َ ْن تَقُو ُموا ِ َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فقمت هّلل بكتاب أو سنة ‪ ،‬ال تقوم عن‬ ‫باّلل ورسوله ‪ ،‬فإنه من أطاع الرسول قد أطاع ه‬ ‫ه‬
‫باّلل خاصة أو لرسوله خاصة ‪،‬‬ ‫هوى نفس وال غيرة طبيعية وال تعظيم كوني« َوفُرادى »إما ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬ال أرى أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الحديث عني فيقول ‪:‬‬ ‫كما قال صلهى ه‬
‫وّللا لمثل القرآن أو أكثر ]‬ ‫ي قرآنا ؛ إنه ه‬ ‫أتل به عل ه‬
‫ّللا فيه الروح‬ ‫ّللا عليه وسلم [ أو أكثر ] في رفع المنزلة ‪ ،‬فإن القرآن بينه وبين ه‬ ‫فقوله صلهى ه‬
‫ّللا إليه ‪ ،‬ومعلوم أن القرب في اإلسناد أعظم من البعد فيه ‪ ،‬ولو‬ ‫األمين ‪ ،‬والحديث من ه‬
‫بشخص واحد ينقص في الطريق ‪ ،‬فبهذا كان الحديث أكثر من القرآن ‪ ،‬وغايته أن يكون إذا‬
‫ّللا عليه وسلم إلى األكثرية إال واألمر‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫نزل عن هذه الطبقة مثله ‪ ،‬وما عدل رسول ه‬
‫أكثر بال شك ‪ ،‬فال ينبغي لواعظ أن يخرج في وعظه عن الكتاب أو السنة‬
‫وقد يكون قوله ‪َ «:‬مثْنى »يريد به التعاون في القيام هّلل تعالى في ذلك األمر ‪ ،‬وصورة التعاون‬
‫أن الشرع في نفس األمر أنكر هذا الفعل ممن صدر عنه عليه ‪ ،‬فينبغي للعالم المؤمن أن يقوم‬
‫المشرع في ذلك فيعينه ‪ ،‬فيكون اثنان هو والشرع ‪ ،‬وفرادى أن يكون هذا المنكر ال يعلم‬ ‫ه‬ ‫مع‬
‫أنه معين للشرع في إنكاره ووعظه ‪ ،‬فيقول قد انفردت بهذا األمر ‪ ،‬وما هو إال معين للشرع‬
‫وللملك الذي يقول بلمته للفاعل ال تفعل ‪ ،‬إذ يقول له الشيطان بلمته افعل ‪ ،‬فيكون مع الملك‬
‫ّللا به أن ينهاه‬ ‫ّللا به أن ينهاه فيما كلفه ه‬ ‫مثنى ‪ ،‬فإن الملك مكلهف بأن ينهى العبد الذي قد ألزمه ه‬
‫عنه ‪ ،‬فيساعده اإلنسان على ذلك ‪ ،‬فيكون ممن قام هّلل في ذلك مثنى ‪ ،‬ويكون هذا الوعظ مع‬
‫ّللا عليه وسلم مثنى« ث ُ َّم تَتَفَ َّك ُروا ما ِب ِ‬
‫صاح ِب ُك ْم ِم ْن ِجنَّ ٍة ‪ِ ،‬إ ْن ُه َو ِإ َّال نَذ ٌ‬
‫ِير‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وعظ رسول ه‬
‫شدِي ٍد »وال تكون الفكرة إال في دليل على صدقه أنه رسول من عند ه‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫ب َ‬ ‫عذا ٍ‬ ‫ي َ‬ ‫لَ ُك ْم بَيْنَ يَ َد ْ‬
‫وهذا يعني أنه يوصل إلى معرفة الرسول بالدليل ‪.‬‬
‫[ سورة سبإ ( ‪) : 34‬آية ‪] 47‬‬
‫ش ِهي ٌد) ‪( 47‬‬ ‫ش ْيءٍ َ‬‫على ُك ِهل َ‬‫ّللا َو ُه َو َ‬‫علَى َّ ِ‬ ‫سأ َ ْلت ُ ُك ْم ِم ْن أ َ ْج ٍر فَ ُه َو لَ ُك ْم ِإ ْن أ َ ْج ِر َ‬
‫ي ِإالَّ َ‬ ‫قُ ْل ما َ‬

‫ص ‪435‬‬

‫‪435‬‬
‫سأ َ ْلت ُ ُك ْم ِم ْن أ َ ْج ٍر فَ ُه َو لَ ُك ْم » اآلية ]‬
‫[ "قُ ْل ما َ‬
‫ي ِإ َّال‬ ‫سأ َ ْلت ُ ُك ْم ِم ْن أ َ ْج ٍر »فيما بلغه عن ه‬
‫ّللا إليهم« فَ ُه َو لَ ُك ْم » « ِإ ْن أ َ ْج ِر َ‬ ‫‪-‬الوجه األول ‪ «-‬قُ ْل ما َ‬
‫ّللا »فإنه تعالى هو الذي استخدمه في التبليغ ‪ .‬واعلم أن أجر التبليغ على قدر ما ناله في‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫َ‬
‫البالغ من المشقة من المخالفين له من أمته التي بعث إليها ‪ ،‬ولما قاساه ‪ ،‬وال يعلم قدر ذلك من‬
‫ّللا تعالى له المنة على عباده بأن هداهم لإليمان برسله ‪ ،‬فوجب‬ ‫ّللا ‪ ،‬واعلم أن ه‬ ‫كل رسول إال ه‬
‫ّللا عليه وسلم عليه‬ ‫ّللا عنهم بأن جعل أجر رسوله صلهى ه‬ ‫ّللا وحالوة الرسول ‪ ،‬فيضمنها ه‬ ‫شكر ه‬
‫ّللا به ‪ ،‬وذلك على نوعين‬ ‫‪ ،‬وضم في ذلك األجر ما يجب على المؤمنين من الحالوة لما هداهم ه‬
‫ّللا تعالى فضهل‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن ه‬‫‪ :‬النوع الواحد على قدر معرفتهم بمنزلته ممن أرسله إليهم وهو ه‬
‫بعضهم على بعض ‪ ،‬والنوع الثاني على قدر ما جاء به في رسالته ‪ ،‬مما هو بشرى لصاحب‬
‫ّللا ‪ ،‬فما كان ينبغي أن يقابله به ذلك الرجل هو‬ ‫تلك الصفة التي من قامت به كان سعيدا عند ه‬
‫الذي يعطيه الحق ‪ ،‬فإن ساوى حال المؤمن قدر الرسالة كان ‪ ،‬وإن قصر حاله عما تقتضيه‬
‫ّللا يكرمه ‪ ،‬ال ينظر إلى جهل الجاهل بتعظيم قدرها ‪ ،‬فيوفيه‬ ‫تلك الرسالة من التعظيم فإن ه‬
‫الحق تعالى على قدر علمه فيها ‪ ،‬فانظر ما للرسول عليه السالم من األجور ‪ ،‬فأجر التبليغ‬
‫أجر استحقاق ‪ ،‬وأما من سأل من الصحابة عن أمر من األمور ‪ ،‬مما لم ينزل فيه قرآن ‪ ،‬فنزل‬
‫ّللا عنه فيه ‪،‬‬ ‫فيه قرآن من أجل سؤاله ‪ ،‬فإن للرسول على ذلك السائل أجر استحقاق ينوب ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬وأما من رد رسالته من أمته التي بعث إليها فإن له عند ه‬ ‫زائدا على األجر الذي له من ه‬
‫ّللا أيضا على عدد من رد ذلك‬ ‫أيضا أجر المصيبة ‪ ،‬وللمصاب فيما يحب أجر ‪ ،‬فأجره على ه‬
‫من أمته ‪ ،‬بلغوا ما بلغوا ‪ ،‬وله من أجر المصاب أجر مصائب العصاة ‪ ،‬فإنه نوع من أنواع‬
‫الرزايا في حقه ‪ ،‬فإنه ما جاء بأمر يطلب العمل به ‪ ،‬إال والذي يترك العمل به قد عصى ‪،‬‬
‫ّللا الوفاء به لكل رسول ‪ -‬الوجه الثاني ‪«-‬‬ ‫فللرسول أجر المصيبة والرزية ‪ ،‬وهذا كله على ه‬
‫ّللا عليه وسلم بفضيلة لم‬ ‫ّللا تعالى اختص محمدا صلهى ه‬ ‫سأ َ ْلت ُ ُك ْم ِم ْن أ َ ْج ٍر فَ ُه َو لَ ُك ْم »فإن ه‬
‫قُ ْل ما َ‬
‫ينلها غيره من الرسل ‪،‬‬
‫علَ ْي ِه ِم ْن أ َ ْج ٍر )‬
‫فإنه تعالى قال لكل رسول( قُ ْل ما أ َ ْسئَلُ ُك ْم َ‬
‫ّللا عليه وسلم إلى حكم الرسل قبله‬ ‫*وعاد فضل هذه الفضيلة على أمته ‪ ،‬ورجع حكمه صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فأمره الحق أن يأخذ أجره الذي له على رسالته من أمته ‪ ،‬وهو أن‬ ‫في إبقاء أجره على ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن يقول ألمته ( ال أ َ ْسئَلُ ُك ْم َ‬
‫علَ ْي ِه‬ ‫يوادوا قرابته ‪ ،‬فبعد أن قال تعالى لنبيه صلهى ه‬
‫أ َ ْجرا ً ) أي على تبليغ ما جئت به إليكم ( ِإ َّال ْال َم َو َّدة َ فِي ْالقُ ْربى )ولم يقل إنهه ليس له أجر على‬
‫ّللا وال إنهه‬
‫ه‬

‫ص ‪437‬‬

‫‪436‬‬
‫يسر به فقيل له بعد هذا ‪ :‬قل ألمتك‬ ‫ّللا ‪ ،‬وذلك ليجدد له النعم بتعريف ما ه‬ ‫بقي له أجر على ه‬
‫علَى َّ ِ‬
‫ّللا »فما أسقط‬ ‫سأ َ ْلت ُ ُك ْم ِم ْن أ َ ْج ٍر فَ ُه َو لَ ُك ْم ِإ ْن أ َ ْج ِر َ‬
‫ي ِإ َّال َ‬ ‫أمرا ما قاله رسول ألمته« قُ ْل ما َ‬
‫األجر عن أمته في مودتهم للقربى ‪ ،‬وإنما رد ذلك األجر بعد تعيينه عليهم ‪ ،‬فعاد ذلك األجر‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فيعود فضل المودة على أهل المودة‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫عليهم الذي كان يستحقه رسول ه‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم من األجر إال ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫‪ ،‬فما يدري أحد ما ألهل المودة في قرابة رسول ه‬

‫[ سورة سبإ ( ‪ : ) 34‬اآليات ‪ 48‬إلى ‪] 54‬‬


‫باط ُل َوما يُ ِعي ُد ( ‪49‬‬ ‫ِئ ا ْل ِ‬ ‫ق َوما يُ ْبد ُ‬ ‫ب ( ‪ ) 48‬قُ ْل جا َء ا ْل َح ُّ‬ ‫عاله ُم ا ْلغُيُو ِ‬‫ق َ‬ ‫قُ ْل إِ هن َر ِبّي يَ ْقذ ُ‬
‫ِف بِا ْل َح ّ ِ‬
‫يب (‬‫س ِمي ٌع قَ ِر ٌ‬
‫ي َر ِبّي إِنههُ َ‬ ‫وحي إِلَ ه‬ ‫سي َوإِ ِن ا ْهت َ َديْتُ فَبِما يُ ِ‬ ‫ضلَ ْلتُ فَ ِإنهما أ َ ِض ُّل عَلى نَ ْف ِ‬ ‫) قُ ْل إِ ْن َ‬
‫ب ( ‪َ ) 51‬وقالُوا آ َمنها ِب ِه َوأَنهى لَ ُه ُم‬ ‫كان قَ ِري ٍ‬‫‪َ ) 50‬ولَ ْو تَرى إِ ْذ فَ ِزعُوا فَال فَ ْوتَ َوأ ُ ِخذُوا ِم ْن َم ٍ‬
‫كان بَ ِعي ٍد ) ‪( 52‬‬ ‫ش ِم ْن َم ٍ‬ ‫الت ه ُ‬
‫ناو ُ‬
‫شت َ ُه َ‬
‫ون‬ ‫كان بَ ِعي ٍد ( ‪َ ) 53‬و ِحي َل بَ ْينَ ُه ْم َوبَ ْي َن ما يَ ْ‬ ‫ب ِم ْن َم ٍ‬ ‫َوقَ ْد َكفَ ُروا ِب ِه ِم ْن قَ ْب ُل َويَ ْق ِذفُ َ‬
‫ون ِبا ْلغَ ْي ِ‬
‫ب ( ‪) 54‬‬ ‫كَما فُ ِع َل ِبأَشْيا ِع ِه ْم ِم ْن قَ ْب ُل ِإنه ُه ْم كانُوا ِفي ش ٍَّك ُم ِري ٍ‬

‫( ‪ ) 35‬سورة فاطر مكيّة‬


‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬
‫ّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬ ‫س ِم ه ِ‬ ‫ِب ْ‬
‫ع يَ ِزي ُد‬ ‫سال أُو ِلي أَجْ ِن َح ٍة َمثْنى َوث ُ َ‬
‫الث َو ُربا َ‬ ‫ض جا ِع ِل ا ْل َمال ِئ َك ِة ُر ُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫فاط ِر ال ه‬
‫ّلِل ِ‬ ‫ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫ِير ( ‪) 1‬‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫ّللا عَلى ُك ِ ّل َ‬ ‫ق ما يَشا ُء إِ هن ه َ‬ ‫فِي ا ْل َخ ْل ِ‬
‫ض»‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫فاط ِر ال َّ‬ ‫« ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل ِ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬الفطر الفتق قال تعالى ‪ ( :‬أو لم يروا أن السماوات واألرض كانتا رتقا‬
‫ففتقناهما )‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ْ «-‬ال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل‬

‫ص ‪437‬‬

‫‪437‬‬
‫ض ) إذ الفطرة هي‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ّللاُ نُ ُ‬
‫ور ال َّ‬ ‫ض »هو قوله تعالى ‪َّ (:‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫فاط ِر ال َّ‬
‫ِ‬
‫النور الذي تشق به ظلمة الممكنات ويقع به الفصل بين الصور ‪،‬‬
‫فيقال ‪ :‬هذا ليس هذا ‪ ،‬إذ قد يقال ‪ :‬هذا عين هذا من حيث ما يقع به االشتراك ‪ ،‬والعالم كله‬
‫وّللا مظهرها ‪.‬‬
‫سماء وأرض ليس غير ذلك ‪ ،‬وبالنور ظهرت ‪ ،‬ه‬
‫فهو نورها ‪ ،‬ففطر السماء واألرض به ‪ ،‬فبه تميزت األشياء وانفصلت وتعينت في ظهورها ‪،‬‬
‫فما تميزت األعيان في وجودها إال بالفطرة التي فصلت بين العين ووجودها ‪ ،‬وهو من أغمض‬
‫باّلل ‪ ،‬كشفه‬ ‫ما يتعلق به علم العلماء ه‬
‫س ًال ‪ " . . .‬اآلية ‪ -‬أجنحة المالئكة ]‬ ‫[ " جا ِع ِل ْال َمالئِ َك ِة ُر ُ‬
‫س ًال »المالئكة من المألكة وهي الرسالة« أُو ِلي أ َ ْجنِ َح ٍة‬ ‫عسير وزمانه يسير« جا ِع ِل ْال َمالئِ َك ِة ُر ُ‬
‫ق ما يَشا ُء »المالئكة أو لو أجنحة على طبقاتها في األجنحة ‪،‬‬ ‫ع يَ ِزي ُد فِي ْالخ َْل ِ‬ ‫َمثْنى َوث ُ َ‬
‫الث َو ُربا َ‬
‫فأعالهم أقلهم أجنحة ‪ ،‬وأقلهم أجنحة من له جناحان ‪ ،‬فمن المالئكة من له جناحان إلى ستمائة‬
‫جناح إلى ما فوق ذلك ‪ ،‬وأجنحة المالئكة للنزول ال للصعود ‪ ،‬وأجنحة األجسام العنصرية‬
‫للصعود ال للنزول ‪ ،‬ألن المالئكة تجري بطبعها الذي عليه صورة أجسامها إلى أفالكها التي‬
‫عنها كان وجودها ‪ ،‬فإذا نزلت إلى األرض نزلت طائرة بتلك األجنحة ‪،‬‬
‫وهي إذا رجعت إلى أفالكها ترجع بطبعها بحركة طبيعية وإن حركت أجنحتها ‪ ،‬حتى إنهها لو‬
‫لم تحرك أجنحتها لصعدت إلى مقرها ومقامها بذاتها ‪ ،‬وأجسام الطير العنصري يحرك جناحه‬
‫للصعود ‪ ،‬ولو ترك تحريك جناحه أو بسطه لنزل إلى األرض بطبعه ‪،‬‬
‫فما يبسط جناحه في النزول إال للوزن في النزول ‪ ،‬ألنه إن لم يزن في نزوله وبقي على طبعه‬
‫تأذى من نزوله لقوة حكم الطبع ‪ ،‬فحركة الجناح في النزول حركة حفظ ‪.‬‬
‫ّللا تعالى ما جعل لألرواح أجنحة إال للمالئكة منهم ‪ ،‬ألنهم السفراء من حضرة األمر‬ ‫واعلم أن ه‬
‫إلى خلقه ‪ ،‬فال بد لهم من أسباب يكون لهم بها النزول والعروج ‪ ،‬فإن موضوع الحكمة يعطي‬
‫هذا ‪ ،‬فجعل لهم أجنحة على قدر مراتبهم في الذي يسرون به من حضرة الحق أو يعرجون‬
‫إليه من حضرة الخلق ‪ ،‬فهم بين الخلق واألمر يترددون ‪،‬‬
‫ولذلك قالوا ‪َ (:‬وما نَتَن ََّز ُل ِإ َّال ِبأ َ ْم ِر َر ِبه َك ) فإذا نزلت هذه السفرة على القلوب فإن رأتها قلوبا‬
‫طاهرة قابلة للخير أعطتها من علم ما جاءت به على قدر ما يسعها استعدادها ‪ ،‬وإن رأتها‬
‫قلوبا دنسة ليس فيها خير نهتها عن البقاء على تلك الحال وأمرتها بالطهارة بما نص لها‬
‫ّللا ‪ ،‬وإن‬ ‫باّلل فبالعلم به مما يطلبه الفكر وجاء به الخبر النبوي عن ه‬ ‫الشارع ‪ ،‬إن كان في العلم ه‬
‫كان في األكوان فبعلم األحكام واعتقاداتها ‪،‬‬

‫ص ‪438‬‬

‫‪438‬‬
‫واعلم أنه ليس لمخلوق كسب وال تعمل في تحصيل مقام لم يخلق عليه ‪ ،‬بل قد وقع الفراغ من‬
‫ذلك ‪ ،‬فجميع األحوال اختصاص ‪ ،‬والكسب اختصاص ‪،‬‬
‫فإذا علمت هذا علمت أن المالئكة ما لها كسب بل هي مخلوقة في مقاماتها ال تتعداها ‪ ،‬فال‬
‫تكتسب مقاما وإن زادت علوما ولكن ليس عن فكر واستدالل ‪،‬‬
‫ألن نشأتهم ال تعطي ذلك مثل ما تعطيه نشأة اإلنسان ‪،‬‬
‫والقوى التي هم عليها المالئكة المعبر عنها باألجنحة ‪ ،‬وقد صح في الخبر أن جبريل له‬
‫ستمائة جناح ‪ ،‬فهذه القوى الروحانية ليس لها في كل ملك تصرف فيما فوق مقام صاحبها ‪،‬‬
‫مثل الطائر عندنا الذي يهوي سفال ويصعد علوا ‪ ،‬وأجنحة المالئكة إنما تنزل بها إلى من هو‬
‫دونها ؛ وليس لها قوة تصعد بها فوق مقامها ‪،‬‬
‫فإذا نزلت بها من مقامها إلى ما هو دونه رجعت علوا من ذلك الذي نزلت إليه إلى مقامها ال‬
‫تتعداه ‪ ،‬فما أعطيت األجنحة إال من أجل النزول كما أن الطائر ما أعطي الجناح إال من أجل‬
‫الصعود ‪ ،‬فإذا نزل نزل بطبعه وإذا عال عال بجناحه ‪ ،‬والملك على خالف ذلك ‪،‬‬
‫إذا نزل نزل بجناحه وإذا عال عال بطبعه ‪ ،‬وأجنحة المالئكة للنزول إلى ما دون مقامها‬
‫والطائر جناحه للعلو إلى ما فوق مقامه ‪ ،‬وذلك ليعرف كل موجود عجزه وأنه ال يتمكن له أن‬
‫ّللا إياها ‪،‬‬
‫يتصرف بأكثر من طاقته التي أعطاه ه‬
‫ّللا بالكمال في اإلطالق ‪ ،‬لذلك قال‬
‫فالكل تحت ذل الحصر والتقييد والعجز ‪ ،‬لينفرد جالل ه‬
‫ِير »‪.‬‬ ‫على ُك ِهل َ‬
‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬ ‫تعالى مت همما« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 2‬‬


‫س ْك فَال ُم ْر ِ‬
‫س َل لَهُ ِم ْن بَ ْع ِد ِه َو ُه َو ا ْلعَ ِزي ُز‬ ‫اس ِم ْن َرحْ َم ٍة فَال ُم ْم ِ‬
‫سكَ لَها َوما يُ ْم ِ‬ ‫ّللاُ ِللنه ِ‬‫ما يَ ْفتَحِ ه‬
‫ا ْل َح ِكي ُم ) ‪( 2‬‬
‫[ إمساك الحق تعالى عطاء ]‬
‫اس ِم ْن َر ْح َم ٍة »وهو العطاء اإللهي« فَال ُم ْم ِس َك لَها َوما يُ ْم ِس ْك »وهو المنع‬ ‫ّللاُ ِللنَّ ِ‬
‫ح َّ‬ ‫« ما يَ ْفت َ ِ‬
‫ّللا ما أمسك شيئا عن إرساله إال وإمساكه عطاء‬ ‫اإللهي« فَال ُم ْر ِس َل لَهُ ِم ْن بَ ْع ِد ِه »واعلم أن ه‬
‫من وجه ال يعرفه صاحب ذلك الغرض ‪ ،‬مثل المستسقي ‪ ،‬فقد أعطاه الغرض وأمسك عنه‬
‫الغيث ليستسقيه ‪ ،‬فيقام في عبادة ذاتية من افتقار ‪ ،‬فأعطاه ما هو األولى به ‪،‬‬
‫وهذا عطاء الكرم ‪ ،‬فال تنظر إلى جهلك ‪ ،‬وراقب علمه بالمصالح فيك فتعرف أن إمساكه‬
‫عطاء ‪ ،‬فمن مسكه عطاء ‪ ،‬كيف تنظره مانعا وال تنظره معطيا ؟‬
‫وما تسمى بالمانع إال لكونك جعلته مانعا حيث لم تنل منه غرضك ‪ ،‬فما منع إال لمصلحة‪.‬‬

‫ص ‪439‬‬

‫‪439‬‬
‫[سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 3‬‬
‫ض ال‬ ‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫ّللا يَ ْر ُزقُ ُك ْم ِم َن ال ه‬ ‫ق َ‬
‫غ ْي ُر ه ِ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َه ْل ِم ْن خا ِل ٍ‬‫ّللا َ‬
‫اذك ُُروا ِن ْع َمتَ ه ِ‬‫اس ْ‬ ‫يا أَيُّ َها النه ُ‬
‫ُون ) ‪( 3‬‬ ‫إِلهَ إِاله ُه َو فَأَنهى ت ُ ْؤفَك َ‬
‫ّللا خالق والعبد مخلوق ‪ ،‬ولما كان العابد في أصل كونه مفتقرا‬ ‫أجمع الرب والمربوب على أن ه‬
‫إلى سبب فلم يخرج عن حقيقته ‪ ،‬وسببه رزقه الذي به بقاء عينه ‪ ،‬فتخيله المحجوب في‬
‫األسباب الموضوعة ‪ ،‬وهو تخيل صحيح أنه في األسباب الموضوعة ‪ ،‬لكن بحكم الجعل ال‬
‫ماء »بما ينزل منها من أرزاق‬ ‫س ِ‬ ‫ّللا الذي يرزقكم« ِمنَ ال َّ‬ ‫بحكم ذاتها ‪ ،‬فجاعل كونها رزقا هو ه‬
‫ض »بما يخرج منها من أرزاق األجسام ‪ ،‬فهو الرزاق الذي بيده الرزق ‪،‬‬ ‫األرواح« َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا يَ ْر ُزقُ ُك ْم ِمنَ‬
‫غي ُْر َّ ِ‬
‫ق َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ه َْل ِم ْن خا ِل ٍ‬
‫ّللا َ‬ ‫اس ا ْذ ُك ُروا نِ ْع َم َ‬
‫ت َّ ِ‬ ‫فقال تعالى منبها« يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫ض ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو فَأَنَّى تُؤْ فَ ُكونَ »‬ ‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫ال َّ‬
‫[ توحيد العلة ]‬
‫فهذا هو التوحيد الخامس والعشرون في القرآن ‪ ،‬وهو توحيد العلة ‪ ،‬وهو من توحيد الهوية ‪،‬‬
‫لو لم يو هحد بالعلة كما يو هحد بغيرها لم يكن إلها ‪ ،‬ألن من شأن اإلله أن ال يخرج عنه وجود‬
‫ّللا‬
‫ّللا الحجب على بعض أبصار عباد ه‬ ‫شيء ‪ ،‬إذ لو خرج عنه لم يكن له حكم فيه ‪ ،‬فلما أرسل ه‬
‫ولم يدركوا إال مسمى الرزق ال مسمى الرزاق ‪،‬‬
‫قالوا هذا ‪ ،‬فقيل لهم ما هو هذا ‪ ،‬هو في هذا مجعول من الذي خلقكم ‪ ،‬فكما خلقكم هو رزقكم ‪،‬‬
‫فال تعدلوا به ما هو له ومنه ‪ ،‬فأنتم ومن اعتمدتم عليه سواء ‪ ،‬فال تعتمدوا على أمثالكم ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ ) : 35‬اآليات ‪ 4‬إلى ‪]6‬‬


‫اس إِ هن َو ْع َد ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ور ( ‪ ) 4‬يا أَيُّ َها النه ُ‬ ‫س ٌل ِم ْن قَ ْب ِلكَ َوإِلَى ه ِ‬
‫ّللا ت ُ ْر َج ُع ْاأل ُ ُم ُ‬ ‫َوإِ ْن يُ َك ِذّبُوكَ فَقَ ْد ُك ِذّبَتْ ُر ُ‬
‫عد ٌُّو فَات ه ِخذُوهُ‬
‫طان لَ ُك ْم َ‬
‫ش ْي َ‬
‫ور ( ‪ ) 5‬إِ هن ال ه‬ ‫ق فَال تَغُ هرنه ُك ُم ا ْل َحياةُ ال ُّد ْنيا َوال يَغُ هرنه ُك ْم بِ ه ِ‬
‫اّلِل ا ْلغَ ُر ُ‬ ‫َح ٌّ‬
‫ير ( ‪) 6‬‬ ‫س ِع ِ‬ ‫ب ال ه‬ ‫عد ًُّوا ِإنهما يَ ْدعُوا ِح ْزبَهُ ِليَكُونُوا ِم ْن أَصْحا ِ‬ ‫َ‬
‫[ إشارة ‪ :‬حكمة من أحد عقالء المجانين ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬وقفت على واحد من عقالء المجانين ‪ ،‬والناس قد اجتمعوا عليه وهو ينظر‬

‫ص ‪440‬‬

‫‪440‬‬
‫ّللا يا مساكين ‪ ،‬فإنكم من طين خلقتم ‪ ،‬وأخاف أن تطبخ النار‬ ‫إليهم ‪ ،‬وهو يقول لهم ‪ :‬أطيعوا ه‬
‫هذه األواني فتردها ف هخارا ‪ ،‬فهل رأيتم قط آنية من طين تكون فخارا من غير أن تطبخها نار ؟‬
‫يا مساكين ال يغرنكم إبليس بكونه يدخل النار معكم ‪،‬‬
‫ّللا من نار ‪،‬‬‫ّللا يقول ( َأل َ ْم َأل َ َّن َج َهنَّ َم ِم ْن َك َو ِم َّم ْن تَبِعَ َك ِم ْن ُه ْم أ َ ْج َم ِعينَ ) إبليس خلقه ه‬
‫وتقولون ‪ :‬ه‬
‫فهو يرجع إلى أصله ‪ ،‬وأنتم من طين تتحكم النار في مفاصلكم ‪ ،‬يا مساكين انظروا إلى إشارة‬
‫الحق في خطابه إبليس بقوله ‪َ (:‬أل َ ْم َأل َ َّن َج َهنَّ َم ِم ْن َك )وهنا وقف ‪ ،‬وال تقرأ ما بعدها ‪،‬‬
‫نار )فمن دخل بيته وجاء إلى‬ ‫ج ِم ْن ٍ‬ ‫مار ٍ‬ ‫ان ِم ْن ِ‬ ‫فقال له ‪َ (:‬ج َهنَّ َم ِم ْن َك )وهو قوله ‪َ (:‬خلَقَ ْال َج َّ‬
‫داره واجتمع بأهله ما هو مثل الغريب الوارد عليه ‪ ،‬فهو راجع إلى ما به افتخر ‪ ،‬قال ‪ (:‬أَنَا‬
‫نار ) *فسروره رجوعه إلى أصله ‪ ،‬وأنتم يا مناحيس تفتخر بالنار طينتكم‬ ‫َخي ٌْر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن ٍ‬
‫‪ ،‬فال تسمعوا من إبليس ‪ ،‬وال تطيعوا واهربوا إلى محل النور تسعدوا ‪ ،‬يا مساكين أنتم عمي‬
‫ما تبصرون الذي أبصره أنا‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬اآليات ‪ 7‬إلى ‪] 8‬‬


‫ير ( ‪ ) 7‬أ َ‬ ‫ت لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرةٌ َوأَجْ ٌر َكبِ ٌ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫شدِي ٌد َوالهذ َ‬ ‫َذاب َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا لَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫الهذ َ‬
‫سكَ‬ ‫ّللا يُ ِض ُّل َم ْن يَشا ُء َويَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء فَال ت َ ْذ َه ْب نَ ْف ُ‬ ‫سنا فَ ِإ هن ه َ‬ ‫ع َم ِل ِه فَ َرآهُ َح َ‬ ‫سو ُء َ‬‫فَ َم ْن ُز ِيّ َن لَهُ ُ‬
‫ون ) ‪( 8‬‬ ‫صنَعُ َ‬ ‫ع ِلي ٌم ِبما يَ ْ‬ ‫ّللا َ‬ ‫ت ِإ هن ه َ‬‫سرا ٍ‬‫علَ ْي ِه ْم َح َ‬‫َ‬
‫سنا ً »اآلية ‪ -‬الحد الضابط لإلحسان‬ ‫ع َم ِل ِه فَ َرآهُ َح َ‬
‫سو ُء َ‬ ‫قال تعالى موعدا ومبينا« أ َ فَ َم ْن ُز ِيهنَ لَهُ ُ‬
‫ّللا كأنك تراه ‪ ،‬وما عدا هذا فهو سوء عمل فيراه حسنا ‪ ،‬إما ببذل الوسع في‬ ‫في العمل أن تعبد ه‬
‫االجتهاد فيكون وفهى األمر حقه ولكنه أخطأ ‪ ،‬وهو صاحب عمل ‪ ،‬فيكون رؤية سوء العمل‬
‫حسنا بعد االجتهاد ‪ ،‬وإما أن يكون في المشيئة فال يدري بما يختم له ‪ ،‬إذا لم يكن عن استيفاء‬
‫االجتهاد بقدر الوسع ورآه حسنا عن غير اجتهاد ‪ ،‬وهذه اآلية موطن حيرة ‪ ،‬فقد قال تعالى ‪«:‬‬
‫سنا ً »ببنية ما لم يسم فاعله ‪ ،‬فال يدري من زيهنه ؟ هل هو‬ ‫ع َم ِل ِه فَ َرآهُ َح َ‬‫سو ُء َ‬‫أ َ فَ َم ْن ُز ِيهنَ لَهُ ُ‬
‫ع َم ِل ِه‬
‫سو ُء َ‬‫ّللا ؟ أو تزيين الشيطان ؟ أو تزيين الحياة الدنيا ؟ ولكن من قوله تعالى ‪ُ «:‬‬ ‫تزيين ه‬
‫ّللا يقول في‬ ‫»عرفت من زينه وإن لم يذكره ‪ ،‬ومع هذا فاالحتمال ال يرتفع عنه تعالى ‪ ،‬فإن ه‬
‫مثل هذا( زَ يَّنَّا لَ ُه ْم أَعْمالَ ُه ْم فَ ُه ْم يَ ْع َم ُهونَ )فجاء بنون الكناية‬

‫ص ‪441‬‬

‫‪441‬‬
‫ض ُّل َم ْن يَشا ُء »أي يحيره في مثل هذا ‪ ،‬حيث وصفه‬ ‫عن نفسه ‪ ،‬ولذا قال تعالى ‪ «:‬فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا يُ ِ‬
‫بالسيهئ والحسن ‪ ،‬فإن سوء العمل ما كان يتصف بالحسن بالرؤية حتى قبل العمل صفة الحسن‬
‫في وجه من الوجوه الوجودية ‪،‬‬
‫فهو سوء بالخبر حسن بالرؤية ‪ ،‬فكأن الرؤية ال تصدق الخبر ‪ ،‬وشاهد الرؤية أقطع ‪ ،‬والناس‬
‫يطلبون أن يصدهق الخبر الخبر والخبر الرؤية ‪ ،‬ولم نر أحدا يطلب أن يصدق الخبر الرؤية‬
‫كما يصدق الخبر الخبر ‪ ،‬وهنا كان موطن الحيرة ‪،‬‬
‫فإنه من المكر اإللهي الذي يعطي الحسن في السوء ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ «:‬ويَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء »أي‬
‫يوفق لإلصابة في معنى السوء والحسن لهذا العمل ما معناه ‪ ،‬وكيف ينبغي أن يأخذه ‪ ،‬فإذا‬
‫جاءت الزينة مهملة غير منسوبة فإنك ال تدري من زينها لك ‪ ،‬فانظر ذلك في موضع آخر‬
‫واتخذه دليال على ما انبهم عليك ‪،‬‬
‫مثل قوله‪ ( :‬زَ يَّنَّا لَ ُه ْم أَعْمالَ ُه ْم )‬
‫ع َم ِل ِه »ولم يذكر من زينه ‪ ،‬فتستدل على من زينه من نفس‬ ‫سو ُء َ‬ ‫ومثل قوله ‪ «:‬أ َ فَ َم ْن ُز ِيهنَ لَهُ ُ‬
‫ّللا غير محرمة ‪ ،‬وزينة الشيطان محرمة ‪،‬‬ ‫العمل ‪ ،‬فزينة ه‬
‫وزينة الدنيا ذات وجهين‪:‬‬
‫وجه إلى اْلباحة والندب ووجه إلى التحريم ‪ ،‬فمن أراد أن يعتصم من التزيين فليقف عند‬
‫ظاهر الكتاب والسنة ‪ ،‬ال يزيد على الظاهر شيئا ‪ ،‬فإن التأويل قد يكون من التزيين ‪ ،‬فما‬
‫ّللا وآمن به ‪ ،‬فهذا متبع ليس للتزيين‬ ‫أعطاه الظاهر جرى عليه ‪ ،‬وما تشابه وكل علمه إلى ه‬
‫ض ُّل َم ْن يَشا ُء َويَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء »‬ ‫ّللا« فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا يُ ِ‬ ‫عليه سبيل ‪ ،‬وال يقوم عليه حجة عند ه‬
‫ت »أي‬ ‫سرا ٍ‬‫علَ ْي ِه ْم َح َ‬ ‫فهو الذي يرزق اإلصابة في النظر والذي يرزق الخطأ« فَال ت َ ْذهَبْ نَ ْف ُ‬
‫س َك َ‬
‫ّللا بسعادة الجميع ‪،‬‬ ‫فال تكترث لهم حسرة عليهم ‪ ،‬فهي بشرى من ه‬
‫ّللا عليه وسلم وبين إنسانيته ‪ ،‬فهو إنسان في كل حال ‪،‬‬ ‫فإنه ما حيل بينه صلهى ه‬
‫وال تزول الحسرات عنه ‪ -‬وهو إنسان كامل ‪ -‬إال باطالعه على سعادتهم في المآل ‪ ،‬فال يبالي‬
‫من العوارض ‪ ،‬فإن السوء للعمل عارض بال شك والحسن له ذاتي ‪ ،‬وكل عارض زائل وكل‬
‫ع ِلي ٌم »‬‫ّللا َ‬‫ذاتي باق ال يبرح« ِإ َّن َّ َ‬
‫صنَعُونَ » من كل ما يظهر فيكم من األعمال وعنكم ‪ ،‬وفي هذه‬ ‫أي خبير عن ابتالء« بِما يَ ْ‬
‫ّللا فيها عبده المؤمن الحجة إذا كان فطنا ‪ ،‬فإن‬ ‫ّللا ‪ ،‬يلقن ه‬ ‫اآلية لطيفة وسر خفي من لطف ه‬
‫المحب ما أحب إال ما هو جمال عنده ‪ ،‬ال بد من حكم ذلك ‪،‬‬
‫ففي هذه اآلية ما رأى العبد سوء عمله حسنا ‪ ،‬وإنما رأى الزينة التي زين له بها ‪ ،‬فإذا كان‬
‫يوم القيامة ورأى قبح العمل فر منه ‪،‬‬
‫فيقال له ‪ :‬هذا الذي كنت تحبه وتتعشق به وتهواه ‪،‬‬
‫فيقول المؤمن ‪ :‬لم يكن حين أحببته بهذه الصورة وال بهذه الحلية ‪ ،‬أين‬

‫ص ‪442‬‬

‫‪442‬‬
‫ي؟‬‫الزينة التي كانت عليه وحببته إل ه‬
‫ترد عليه ‪ ،‬فإني ما تعلقت إال بالزينة ال به ‪ ،‬لكن لما كان محلها كان حبي له بحكم التبع ‪،‬‬
‫ّللا سوءه حسنا ‪،‬‬‫ّللا ‪ :‬صدق عبدي لوال الزينة ما استحسنه ‪ ،‬فردوا عليه زينته ‪ ،‬فيبدل ه‬ ‫فيقول ه‬
‫ّللا سيئاتهم حسنات )‬
‫فيرجع حبه فيه إليه ويتعلق به ( أولئك الذين يبدل ه‬
‫ّللا تعالى‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا وال كالم المبلغ عن ه‬
‫فال ينبغي للمؤمن الكيس أن يهمل شيئا من كالم ه‬
‫ع ِن ْال َهوى )‬
‫يقول فيه( َوما يَ ْن ِط ُق َ‬
‫ّللا ما جاء به إال رحمة بالسامع ‪ ،‬وهو إن كان فطنا كان له ‪ ،‬وإن كان‬ ‫فإن كالم المبلغ عن ه‬
‫حمارا كان عليه‬
‫‪ -‬نصيحة ‪ -‬إن اإلنسان إذا كان في شيء لم ير حقيقته ومعناه ‪ ،‬وإذا صار عنه أجنبيا رآه ‪،‬‬
‫والنفس إذا التبست بشهوتها وغرضها ‪ ،‬وتعشقت بعلهتها ومرضها ‪ ،‬ال ترى سوى ما هي فيه ‪،‬‬
‫ولهذا تصطنعه وتصطفيه ‪ ،‬فانظر إلى ما يستقبحه الشرع فاجتنبه ‪ ،‬وإلى ما يستحسنه فبادر‬
‫إليه وامتثله ‪ ،‬وال يغرنك غدهار ‪ ،‬مدخول النصيحة غرار ‪ ،‬فعليك باتباع العلم ‪ ،‬واالستسالم‬
‫للشيخ فيما و هجه عليك من الحكم ‪ ،‬وطهارة النفس ‪ ،‬ومحاسن األخالق ‪ ،‬وجميل الوفاق‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬اآليات ‪ 9‬إلى ‪] 10‬‬


‫ض بَ ْع َد َم ْوتِها كَذ ِلكَ‬‫ت فَأَحْ يَ ْينا ِب ِه ْاأل َ ْر َ‬ ‫س ْقناهُ ِإلى بَلَ ٍد َم ِيّ ٍ‬ ‫سحابا فَ ُ‬ ‫ير َ‬ ‫ح فَتُثِ ُ‬ ‫الريا َ‬ ‫س َل ِ ّ‬ ‫ّللاُ الهذِي أ َ ْر َ‬ ‫َو ه‬
‫ب َوا ْلعَ َم ُل ال ه‬
‫صا ِل ُح‬ ‫صعَ ُد ا ْل َك ِل ُم ال ه‬
‫ط ِيّ ُ‬ ‫كان يُ ِري ُد ا ْل ِع هزةَ َ ِ ه ِ‬
‫لِلَف ا ْل ِع هزةُ َج ِميعا ِإلَ ْي ِه يَ ْ‬ ‫ُور ( ‪َ ) 9‬م ْن َ‬ ‫النُّش ُ‬
‫ور ( ‪) 10‬‬ ‫شدِي ٌد َو َم ْك ُر أُولئِكَ ُه َو يَبُ ُ‬ ‫َذاب َ‬ ‫ت لَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫س ِيّئا ِ‬ ‫ون ال ه‬ ‫يَ ْرفَعُهُ َوالهذ َ‬
‫ِين يَ ْمك ُُر َ‬
‫صا ِل ُح يَ ْرفَعُهُ »‬ ‫ب َو ْالعَ َم ُل ال َّ‬ ‫صعَ ُد ْال َك ِل ُم َّ‬
‫الط ِيه ُ‬ ‫« ِإلَ ْي ِه يَ ْ‬
‫ب »وهو عين شكل الكلمة من حيث ما هو شكل مسبح‬ ‫صعَ ُد ْال َك ِل ُم َّ‬
‫الط ِيه ُ‬ ‫‪ -‬الوجه األول ‪ «-‬إِلَ ْي ِه يَ ْ‬
‫هّلل تعالى ‪ ،‬ولو كانت كلمة كفر ‪ ،‬فإن ذلك يعود وباله على المتكلم بها ال عليها ‪،‬‬
‫فإن الحروف اللفظية تتشكل في الهواء ‪ ،‬فإذا تشكلت قامت بها أرواحها ‪ ،‬فيكون شغلها تسبيح‬
‫ب»‬ ‫صعَ ُد ْال َك ِل ُم َّ‬
‫الط ِيه ُ‬ ‫ربها ‪ ،‬وتصعد علوا إليه ‪ ،‬فقوله تعالى ‪ِ «:‬إلَ ْي ِه يَ ْ‬
‫يعظم ويم هجد ويقدهس ‪-‬‬ ‫ّللا سبحانه ه‬ ‫ّللا مطهرة ‪ ،‬هذا كالم ه‬ ‫أي األرواح الطيبة فإنها كلمات ه‬
‫المكتوب في المصاحف ‪ -‬ويقرأ على جهة‬

‫ص ‪443‬‬

‫‪443‬‬
‫ّللا من الكفر والسب ‪ ،‬وهي‬ ‫ّللا ‪ ،‬وفيه جميع ما قالت اليهود والنصارى في حق ه‬ ‫القربة إلى ه‬
‫كلمات كفر عاد وبالها على قائلها ‪ ،‬وبقيت الكلمات على بابها تتولى يوم القيامة عذاب‬
‫أصحابها أو نعيمهم‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬إن الكلمة إذا خرجت تجسدت في صورة ما هي عليه من طيب وخبث ‪،‬‬
‫فالخبيث يبقى فيما تجسد فيه ما له من صعود ‪ ،‬والطيب من الكلم إذا ظهرت صورته وتشكلت‬
‫ّللا من عمله براقا ‪-‬‬ ‫‪ ،‬فإن كانت الكلمة الطيبة تقتضي عمال وعمل صاحبها بذلك العمل ‪ ،‬أنشأ ه‬
‫ّللا صعود رفعة يتميز بها عن الكلم‬ ‫أي مركوبا ‪ -‬لهذه الكلمة ‪ ،‬فيصعد به هذا العمل إلى ه‬
‫صا ِل ُح يَ ْرفَعُهُ »أي األعمال تظهر في صورة مراكب‬ ‫الخبيث ‪ ،‬فقوله تعالى ‪َ «:‬و ْالعَ َم ُل ال َّ‬
‫لألرواح الطيبة ‪ ،‬فهو براق الكلم الطيب الذي يسري به إليه تعالى وينزل به عليه ‪ ،‬فإن كانت‬
‫األعمال صالحة صعدت ورفعت الروح الطيبة إلى درجاتها حيث كانت من عليين ‪ -‬إشارة ‪-‬‬
‫ب"‬ ‫صعَ ُد ْال َك ِل ُم َّ‬
‫الط ِيه ُ‬ ‫ما ث هم إال عبد ورب ‪ ،‬فإليه تصعد وإليك ينزل كما قال ‪ِ ":‬إلَ ْي ِه يَ ْ‬
‫وقال ‪ [ :‬ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ] ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬اآليات ‪ 11‬إلى ‪] 12‬‬


‫ض ُع إِاله بِ ِع ْل ِم ِه‬ ‫ب ث ُ هم ِم ْن نُ ْطفَ ٍة ث ُ هم َجعَلَ ُك ْم أ َ ْزواجا َوما تَحْ ِم ُل ِم ْن أ ُ ْنثى َوال ت َ َ‬ ‫ّللاُ َخلَقَ ُك ْم ِم ْن تُرا ٍ‬
‫َو ه‬
‫ير ( ‪َ ) 11‬وما‬ ‫س ٌ‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا يَ ِ‬ ‫ب ِإ هن ذ ِلكَ َ‬ ‫ع ُم ِر ِه ِإاله فِي ِكتا ٍ‬
‫ص ِم ْن ُ‬ ‫َوما يُعَ هم ُر ِم ْن ُمعَ هم ٍر َوال يُ ْنقَ ُ‬
‫ون لَحْ ما َط ِريًّا‬ ‫ج َو ِم ْن ُك ٍ ّل تَأ ْ ُكلُ َ‬
‫ب فُراتٌ سائِ ٌغ شَرابُهُ َوهذا ِم ْل ٌح أُجا ٌ‬ ‫ران هذا ع َْذ ٌ‬ ‫ست َ ِوي ا ْلبَحْ ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫ون (‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫ض ِل ِه َولَعَله ُك ْم ت َ ْ‬ ‫واخ َر ِلت َ ْبتَغُوا ِم ْن فَ ْ‬
‫سونَها َوت َ َرى ا ْلفُ ْلكَ فِي ِه َم ِ‬ ‫ون ِح ْليَة ت َ ْلبَ ُ‬
‫ست َ ْخ ِر ُج َ‬
‫َوت َ ْ‬
‫) ‪12‬‬
‫رات »عذب من اللذة ‪ ،‬فهو صفة الماء« َو ِم ْن ُك ٍهل‬ ‫ب فُ ٌ‬ ‫ع ْذ ٌ‬ ‫راجع سورة الفرقان آية رقم ‪َ «53‬‬
‫عز وجل ما جعل التكوينات التي هي دواب البحر في البحر‬ ‫ّللا ه‬ ‫ط ِريًّا »اعلم أن ه‬ ‫تَأ ْ ُكلُونَ لَ ْحما ً َ‬
‫الملح إال في العذب منه خاصة ‪،‬‬
‫سونَها »يكون‬ ‫فلو ال وجود الهواء فيه والماء العذب ما تكون فيه حيوان « َوت َ ْست َ ْخ ِر ُجونَ ِح ْليَةً ت َ ْلبَ ُ‬
‫الجوهر في الصدف عن ماء فرات في ملح أجاج ‪ ،‬فصدفته جسمه وملحه طبيعته ‪ ،‬ولهذا ظهر‬
‫حكم الطبيعة في صدفته فإن الملحة‬

‫ص ‪444‬‬

‫‪444‬‬
‫البياض ‪ ،‬وهو بمنزلة النور الذي يكشف به ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 13‬‬


‫س َوا ْلقَ َم َر ُك ٌّل يَجْ ِري ِأل َ َج ٍل ُم َ‬
‫س ًّمى‬ ‫هار فِي الله ْي ِل َو َ‬
‫س هخ َر الش ْهم َ‬ ‫هار َويُو ِل ُج النه َ‬
‫يُو ِل ُج الله ْي َل فِي النه ِ‬
‫ير ) ‪( 13‬‬ ‫ُون ِم ْن قِ ْط ِم ٍ‬
‫ُون ِم ْن دُونِ ِه ما يَ ْم ِلك َ‬ ‫ّللاُ َربُّ ُك ْم لَهُ ا ْل ُم ْلكُ َوالهذ َ‬
‫ِين ت َ ْدع َ‬ ‫ذ ِل ُك ُم ه‬
‫بالفلك المدار ظهرت الدهور واألعصار ‪ ،‬وبالشمس ظهر الليل والنهار ‪ ،‬من خفايا األمور المد‬
‫والجزر في األنهار والبحور ‪ ،‬أمن القمر مدهه وجزره ؟ أم من غير ذلك فكيف أمره ؟ هو عبد‬
‫ونزله منزل الوبل والطل ‪ ،‬ال شك أن األمور‬ ‫مأمور مثل سائر األمور ‪ ،‬مدهه ماد الظل ‪ ،‬ه‬
‫ّللا مجهولة ‪ ،‬والنفوس على طلب العلم به مجبولة ‪.‬‬ ‫معلولة ‪ ،‬والكيفية من ه‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬اآليات ‪ 14‬إلى ‪] 15‬‬


‫س ِمعُوا َما ا ْستَجابُوا لَ ُك ْم َويَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة يَ ْكفُ ُرونَ ِب ِش ْر ِك ُك ْم َوال‬ ‫عو ُه ْم ال يَ ْس َمعُوا دُعا َء ُك ْم َولَ ْو َ‬ ‫ِإ ْن ت َ ْد ُ‬
‫ي ْال َح ِمي ُد ) ‪( 15‬‬ ‫ّللاُ ُه َو ْالغَ ِن ُّ‬ ‫اس أ َ ْنت ُ ُم ْالفُقَرا ُء ِإلَى َّ ِ‬
‫ّللا َو َّ‬ ‫ير ( ‪ ) 14‬يا أَيُّ َها النَّ ُ‬ ‫يُنَ ِبهئ ُ َك ِمثْ ُل َخ ِب ٍ‬

‫[ تسمية الحق باسم كل ما يفتقر إليه ]‬


‫لما سبق في علمه تعالى أنه يخلق قوما ويخلق فيهم السؤال إلى األغيار ‪ ،‬ويحجبهم عن العلم‬
‫به أنه هو المسؤول في كل عين مسؤولة يفتقر إليها ‪ ،‬من جماد ونبات وحيوان وملك وغير‬
‫ّللا ‪ ،‬أي هو المسؤول على الحقيقة ‪ ،‬فإنه بيده ملكوت كل‬ ‫ذلك ‪ ،‬أخبر أن الناس فقراء إلى ه‬
‫شيء ‪،‬‬
‫ّللا »فنحن فقراء إلى أسمائه ‪،‬‬‫س أ َ ْنت ُ ُم ْالفُقَرا ُء إِلَى َّ ِ‬
‫ّللا هو األصل فقال ‪ «:‬يا أَيُّ َها النَّا ُ‬
‫فالفقر إلى ه‬
‫ّللا أمر ذاتي ال يمكن‬
‫ولذلك أتى باالسم الجامع لألسماء اإللهية ‪ ،‬واالفتقار في كل ما سوى ه‬
‫ّللا حاال وعقدا دون غيره سبحانه ‪،‬‬ ‫االنفكاك عنه ‪ ،‬ولذلك كان االفتقار إلى ه‬
‫ّللا بكل اسم هو لمن يفتقر إليه فيما يفتقر إليه ‪ ،‬وهو من باب الغيرة‬ ‫ففي هذا الخطاب تسمية ه‬
‫اإللهية حتى ال يفتقر إلى غيره ‪ ،‬والشرف فيه إلى العالم بذلك ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وهم‬
‫فإن من الناس من افتقر إلى األسباب الموضوعة كلها ‪ ،‬وقد حجبتهم في العامة عن ه‬
‫على الحقيقة ما افتقروا في نفس األمر هإال إلى من بيده قضاء حوائجهم وهو ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولهذا قال‬
‫ّللا‬
‫بعض العلماء بأن ه‬

‫ص ‪445‬‬

‫‪445‬‬
‫ّللا إلى الناس لعلمه‬‫قد تسمى بكل ما يفتقر إليه في الحقيقة ‪ ،‬ودليلهم هذه اآلية ‪ ،‬وهي تنبيه من ه‬
‫ّللا عين فهمه في القرآن وعلم أنه الصدق‬ ‫ّللا ‪ ،‬فمن فتح ه‬‫بفقرهم إليه ‪ ،‬فإن أحدا ما افتقر إال إلى ه‬
‫والحق الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه ‪ ،‬علم أن األسباب التي يفتقر إليها‬
‫ّللا في هذه اآلية بكل‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬وقد تسمى ه‬
‫اإلنسان إنما هي صور تجل حجبت الخالئق عن ه‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫ما يفتقر إليه ‪ ،‬فكل ما يفتقر إليه فهو اسم ه‬
‫إذ ال فقر إال إليه ‪ ،‬وإن لم يطلق عليه لفظ من ذلك فنحن إنما نعتبر المعاني التي تفيد العلوم ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فما اقتصر عليه من األلفاظ في اإلطالق‬ ‫وأما التحجير في اإلطالق عليه سبحانه فذلك إلى ه‬
‫اقتصرنا عليه ‪ ،‬فإنا ال نسميه إال بما سمى به نفسه ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فالحق تعالى يقبل صفات الخلق ال أسماءه بالتفصيل ‪،‬‬ ‫وما منع من ذلك منعناه أدبا مع ه‬
‫ولكن يقبلها باإلجمال ‪ ،‬وكونه ال يقبل أسماء العالم بالتفصيل ‪ ،‬أعني بذلك أسماء األعالم ‪ ،‬وما‬
‫عدا األسماء األعالم فيقبلها الحق على التفصيل ‪،‬‬
‫فإن الحق ما له اسم علم ال يدل على معنى سوى ذاته ‪ ،‬فكل أسمائه مشتقة تنزلت له منزلة‬
‫األعالم ‪ ،‬وتدل هذه اآلية على سر االقتدار اإللهي في كل شيء ‪ ،‬فال شيء ينفع إال به ‪ ،‬وال‬
‫يضر إال به ‪ ،‬وال ينطق إال به ‪ ،‬وال يتحرك إال به ‪ ،‬وحجب العالم بالصور فنسبوا كل ذلك إلى‬
‫ّللا حق وهو خبر ‪،‬‬‫أنفسهم وإلى األشياء ‪ ،‬وكالم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن في فطرة كل إنسان افتقارا‬
‫ومثل هذه األخبار ال يدخلها النسخ ‪ ،‬فال فقر إال إلى ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫لموجود يستند إليه وهو ه‬
‫ّللا ال غيره ‪ ،‬وفي هذه اآلية‬‫فيقول الحق للناس ‪ :‬ذلك االفتقار الذي تجدونه في أنفسكم متعلقه ه‬
‫تسمى الحق لنا باسم كل ما يفتقر إليه غيرة منه أن يفتقر إلى غيره ‪ ،‬وكان في هذا الخطاب‬
‫هجاء للناس ‪ ،‬حيث لم يعرفوا ذلك إال بعد التعريف اإللهي في الخطاب الشرعي على ألسنة‬
‫الرسل عليهم السالم ‪ ،‬ومع هذا أنكر ذلك خلق كثير ‪ ،‬وخصوه بأمور معينة يفتقر إليه فيها ‪ ،‬ال‬
‫في كل األمور من اللوازم التابعة للوجود ‪ ،‬التي تعرض مع اآلنات للخلق ‪،‬‬
‫وكان ينبغي لنا لو كنا متحققين بفهم هذه اآلية أن نبكي بدل الدموع دما ‪ ،‬حيث جهلنا هذا األمر‬
‫من نفوسنا إلى أن وقع به التعريف اإللهي ‪ ،‬فكيف حال من أنكره وتأوله وخصصه ؟‬
‫فإن اإلنسان وإن كان في نفس األمر عبدا ‪ ،‬ويجد في نفسه ما هو عليه من العجز والضعف ‪،‬‬
‫واالفتقار إلى أدنى األشياء ‪ ،‬والتألم من قرصة البرغوث ‪،‬‬
‫ويعرف هذا كله من نفسه ذوقا ‪ ،‬ومع هذا فإنه يظهر بالرئاسة والتقدم ‪ ،‬وكلما تمكن من التأثير‬
‫في غيره فإنه يؤثر ‪ ،‬ويجد‬

‫ص ‪446‬‬

‫‪446‬‬
‫ّللا على صورته ‪ ،‬وله تعالى العزة والكبرياء‬ ‫في نفسه طلب ذلك كله وحبه ذلك ‪ ،‬ألنه خلقه ه‬
‫والعظمة ‪ ،‬فسرت هذه األحكام في العبد ‪ ،‬فإنها أحكام تتبع الصورة التي خلق عليها اإلنسان‬
‫ّللا هم الذين لم يصرفهم خلقهم على الصورة عن الفقر والذلة والعبودية ‪،‬‬ ‫وتستلزمها ‪ ،‬فرجال ه‬
‫وإذا وجدوا هذا األمر الذي اقتضاه خلقهم على الصورة وال بد ‪ ،‬ظهروا به في المواطن التي‬
‫عيهن لهم الحق أن يظهروا بذلك فيها ‪،‬‬
‫المقرب ال يبقي له القرب والجلوس مع الحق والتحدث معه اسما إلهيا من األسماء المؤثرة‬ ‫ه‬ ‫فإن‬
‫في العالم وال من أسماء التنزيه ‪ ،‬وإنما يدخل عليه بالذلة لشهود ه‬
‫عزه ‪ ،‬وبالفقر لشهود غناه ‪،‬‬
‫ي»‬ ‫ّللاُ ُه َو ْالغَنِ ُّ‬
‫وبالتهيؤ لنفوذ قدرته« َو َّ‬
‫باّلل ]‬
‫[ بحث في الغنى ه‬
‫ي عليه بهذه الصفة ‪ ،‬فكان االسم‬‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬هو الغني عنكم ‪ ،‬فالغنى هّلل ‪ ،‬وهو المثن ه‬
‫ّللا الغني‬
‫الغني هّلل ‪ ،‬واإلنسان فقير ‪ ،‬وفقره ال يكون إال إلى ه‬
‫ّللا تعالى ال يعلم بالدليل أبدا ‪ ،‬لكن يعلم أنه موجود‬ ‫ي »اعلم أن ه‬ ‫ّللاُ ُه َو ْالغَنِ ُّ‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪َ «-‬و َّ‬
‫ّللا تعالى وبين خلقه‬
‫‪ ،‬وأن العالم مفتقر إليه افتقارا ذاتيا ال محيص عنه البتة ‪ ،‬إذ ال مناسبة بين ه‬
‫من جهة المناسبة التي بين األشياء ‪ ،‬وهي مناسبة الجنس أو النوع أو الشخص ‪،‬‬
‫فليس لنا علم متقدم بشيء فندرك به ذات الحق لما بينهما من المناسبة ‪ ،‬فليس بين الباري‬
‫والعالم مناسبة فيعلم بعلم سابق بغيره أبدا ‪ ،‬كما يزعم بعضهم من استدالل الشاهد على الغائب‬
‫بالعلم واإلرادة والكالم وغير ذلك ‪،‬‬
‫ثم يقدسه بعد ما قد حمله على نفسه وقاسه بها« ْال َح ِمي ُد »يعني بأسمائه ‪ ،‬وجاء بالحميد على‬
‫وزن فعيل ‪ ،‬فع هم اسم الفاعل بالداللة الوضعية واسم المفعول ‪ ،‬فهو الحامد المحمود ‪ ،‬وإليه‬
‫ترجع عواقب الثناء كلها ‪ ،‬وما يثنى عليه إال بنا من حيث وجودنا ‪ ،‬فهو المثنى عليه بكل ما‬
‫يفتقر إليه ‪،‬‬
‫فمن كونه محمودا وهو قول ‪ [ :‬الحمد هّلل ] ال لغيره ‪ ،‬فإنه ما في العالم لفظ ال يدل على ثناء‬
‫ّللا أو على‬‫ّللا ‪ ،‬فإنه ال يخلو أن يثني المثني على ه‬ ‫البتة ‪ ،‬أعني ثناء جميال ‪ ،‬وأن مرجعه إلى ه‬
‫ّللا فما يحمده إال بما يكون فيه‬
‫ّللا فحمد من هو أهل الحمد ‪ ،‬وإذا حمد غير ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإذا حمد ه‬
‫غير ه‬
‫ّللا إياها وأوجده عليها ‪ ،‬إما في جبلته أو في‬ ‫من نعوت المحامد ‪ ،‬وتلك النعوت مما منحه ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫تخلقه فتكون مكتسبة له ‪ ،‬وعلى كل وجه فهي من ه‬
‫فكان الحق معدن كل خير وجميل ‪ ،‬فرجع عاقبة الثناء على المخلوق بتلك المحامد على من‬
‫ّللا ‪ ،‬وما من لفظ يكون له وجه إلى مذموم إال وفيه وجه إلى‬ ‫ّللا ‪ ،‬فال محمود إال ه‬ ‫أوجدها وهو ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن حيث ما هو مذموم ال حكم له ‪ ،‬ألن‬ ‫محمود ‪ ،‬فهو من حيث أنه محمود يرجع إلى ه‬
‫مستند‬

‫ص ‪447‬‬

‫‪447‬‬
‫الذم عدم ‪ ،‬فال يجد متعلقا ‪ ،‬فيذهب ويبقى الحمد لمن هو له ‪ ،‬فال يبقى لهذا اللفظ المعيهن إال‬
‫وجه الحمد عند الكشف ‪ ،‬ويذهب عنه وجه الذم ‪ ،‬أي ينكشف له أن ال وجه للذم ‪،‬‬
‫عز وجل ‪،‬‬ ‫ّللا ه‬ ‫فعادت عواقب الثناء إلى ه‬
‫فاّلل هو الغني الذي ال يفتقر ‪ ،‬الحميد‬
‫وأما من كونه حامدا فمن حيث أنه حمد نفسه بنفسه ‪ ،‬ه‬
‫الذي ترجع إليه عواقب الثناء من الحامد والمحمود ‪ .‬ومبدأ الحمد غنى الحق عن العالمين ‪،‬‬
‫وقدهم الفقر على الغنى في اللفظ ‪ ،‬ألن مبدأ الحمد من الخلق هو االفتقار إلى الحق تعالى ‪،‬‬
‫وغنى الحق مقدهم في المعنى على فقر الخلق إليه ‪ ،‬فإن الغنى عن الخلق هّلل أزال ‪،‬‬
‫ّللا من حيث غناه أزال ‪ ،‬واعلم أن الحمد هّلل تمأل الميزان ‪،‬‬ ‫والفقر للممكن في حال عدمه إلى ه‬
‫ّللا وحمد هّلل ‪ ،‬فما مأل الميزان إال الحمد ‪،‬‬ ‫ألنه كل ما في الميزان فهو ثناء على ه‬
‫فالتسبيح حمد وكذلك التهليل والتكبير والتمجيد والتعظيم والتوقير والتعزيز ‪ ،‬وأمثال ذلك كله‬
‫حمد ‪ ،‬فالحمد هّلل هو العام الذي ال أعم منه ‪ ،‬وكل ذكر فهو جزء منه ‪ ،‬والحمد على ثالثة‬
‫أنحاء في التمام والكمال ‪ ،‬وأتمها واحد منها ‪،‬‬
‫وذلك حمد الحامد نفسه يتطرق إليه االحتمال ‪ ،‬فال يكون له ذلك الكمال ‪ ،‬فيحتاج إلى قرينة‬
‫حال وعلم يصدق الحامد فيما حمد به نفسه ‪ ،‬فإنه قد يصف واصف نفسه بما ليس هو عليه ‪،‬‬
‫وكذلك حكمه إذا حمده غيره يتطرق أيضا إليه االحتمال ‪،‬‬
‫حتى يستكشف عن ذلك ‪ ،‬فينقص عن درجة اإلبانة والتحقيق ‪ ،‬والحمد الثالث حمد الحمد ‪ ،‬وما‬
‫في المحامد أصدق منه ‪ ،‬فإنه عين قيام الصفة به ‪ ،‬فال محمود إال من حمده الحمد ‪ ،‬ال من حمد‬
‫نفسه وال من حمده غيره ‪ ،‬فإذا كان عين الصفة عين الموصوف عين الواصف كان الحمد‬
‫ّللا ‪،‬‬‫عين الحامد والمحمود ‪ ،‬وليس إال ه‬
‫باّلل ‪ -‬يرى البعض‬ ‫فهو عين حمده سواء أضيف ذلك الحمد إليه أو إلى غيره ‪ -‬بحث في الغنى ه‬
‫ّللا‬
‫باّلل تعالى من أعظم المراتب ‪ ،‬وحجبهم ذلك عن التحقيق بالتنبيه على الفقر إلى ه‬ ‫أن الغنى ه‬
‫باّلل بحكم التضمين ‪ ،‬لمحبتهم في الغنى الذي هو‬ ‫الذي هو صفتهم الحقيقية ‪ ،‬فجعلوها في الغنى ه‬
‫خروج عن صفتهم ‪ ،‬والرجل إنما هو من عرف قدره ‪ ،‬وتحقق بصفته ولم يخرج عن موطنه ‪،‬‬
‫وأبقى على نفسه خلعة ربه ولقبه واسمه الذي لقبه به وسماه ‪،‬‬
‫ي ْال َح ِمي ُد "‪.‬‬
‫ّللاُ ُه َو ْالغَنِ ُّ‬ ‫فقال‪ " :‬أ َ ْنت ُ ُم ْالفُقَرا ُء إِلَى َّ ِ‬
‫ّللا َو َّ‬
‫باّلل عما سواه ‪ ،‬وليس ذلك عندنا مقاما محمودا ‪ ،‬فإن‬ ‫وكان غاية الغنى في العبد أن يستغني ه‬
‫في ذلك قدرا لما سوى الحق ‪ ،‬وتميزا عن نفسه ‪ ،‬فلرعونة النفس وجهالتها أرادت أن تشارك‬
‫باّلل ‪ ،‬وتتصف‬ ‫ربها في اسم الغني ‪ ،‬فرأت أن تتسمى بالغني ه‬

‫ص ‪448‬‬

‫‪448‬‬
‫به حتى ينطلق عليها اسم الغني ‪ ،‬وتخرج عن اسم الفقير ‪ ،‬وهذا من غوائل النفوس المبطونة‬
‫ّللا أنه عبد كهو ال فرق ‪ ،‬ويرى أن‬ ‫فيها ‪ ،‬وصاحب مقام العبودة يسري ذوقه في كل ما سوى ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا محل جريان تعريفات الحق له ‪ ،‬فيفتقر إلى كل شيء فإنه ما يفتقر إال إلى ه‬ ‫كل ما سوى ه‬
‫ّللا الناس على يديه فهو عن ذلك في نفسه‬ ‫‪ ،‬وال يرى أن شيئا يفتقر إليه في نفسه ‪ ،‬وإن أفاد ه‬
‫ّللا ‪ ،‬غير أنه ال يطلقه‬‫بمعزل ‪ ،‬ويرى أن كل اسم تسمى به شيء مما يعطيه فائدة أن ذلك اسم ه‬
‫ّللا العالم على قدم واحدة إال في شيء واحد وهو‬ ‫عليه حكما شرعيا وأدبا إلهيا ‪ ،‬فما خلق ه‬
‫االفتقار ‪ ،‬فالفقر له ذاتي والغنى له أمر عرضي ‪ ،‬فالعبد له الفقر المطلق إلى سيده ‪،‬‬
‫والحق له الغنى المطلق عن العالم ‪ ،‬فالعالم المحقق ال يزال األمر الذاتي من كل شيء ومن‬
‫نفسه مشهودا له دائما دنيا وآخرة ‪ ،‬فال يزال عبدا فقيرا تحت أمر سيده ‪ ،‬ال يستغني عن ربه ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫فإن الحقيقة تأبى أن يفتقر إلى غير ه‬
‫ّللا على اإلطالق ‪ ،‬والفقر حاصل منهم ‪ ،‬فعلمنا أن الحق قد‬ ‫ّللا أن الناس فقراء إلى ه‬ ‫وقد أخبر ه‬
‫ظهر في صورة كل ما يفتقر إليه فيه ‪ ،‬والفقير من يتناول األسباب على أوضاعها الحكمية ال‬
‫يخل بشيء منها ‪ ،‬وهو الذي يفتقر إلى كل شيء وإلى نفسه وال يفتقر إليه شيء ‪ ،‬وهو العبد‬
‫اس »‬ ‫ّللا يقول من باب الغيرة اإللهية « يا أَيُّ َها النَّ ُ‬ ‫المحض عند المحققين فإن ه‬
‫ّللا »فكنهى عن نفسه في هذه اآلية بكل ما يفتقر‬ ‫وما خص مؤمنا وال غيره« أ َ ْنت ُ ُم ْالفُقَرا ُء ِإلَى َّ ِ‬
‫إليه ‪ ،‬أي فما افتقرتم إليه من األشياء هو لنا وبأيدينا ‪،‬‬
‫وما هو لنا ال يطلب إال منا ‪ ،‬فإلينا االفتقار ال إليه ‪ ،‬إذ هو غير مستقل إال بنا ‪ ،‬فما افتقر فقير‬
‫ّللا ال تظهر‬
‫ّللا ‪ ،‬عرف ذلك الشخص أو لم يعرفه ‪ ،‬وهذا الفقير المتحقق بفقره إلى ه‬ ‫إال إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيفتقر إليه من ذلك الوجه فصح له مطلق الفقر ‪ ،‬فإن الذلة‬ ‫باّلل وال بغير ه‬ ‫عليه صفة غنى ه‬
‫ّللا تعالى واعتمد‬
‫واالفتقار ال تكون من الكون إال هّلل تعالى ‪ ،‬فكل من تذلل وافتقر إلى غير ه‬
‫عليه وسكن في كل أمره إليه فهو عابد وثن ‪ ،‬والمفتقر إليه يسمى وثنا ‪ ،‬ويسميه المفتقر إلها«‬
‫ي ْال َح ِمي ُد »أي المثنى عليه بصفة الغني عن العالم ‪.‬‬ ‫ّللاُ ُه َو ْالغَنِ ُّ‬
‫َو َّ‬

‫خزائن الجود ما انسدت مغالقها *** لو انتهت النتهى في العالم الفقر‬


‫وفقره دائم ال ينتهي أبدا *** كذاك نائله ال ينقضي عمر‬
‫الفقر بالذات ذاتي لصاحبه *** ولو يدوم له من ربه اليسر‬
‫ما قلت إال الذي قال اإلله لنا *** فينا ففي كل يسر مدرج عسر‬

‫ص ‪449‬‬

‫‪449‬‬
‫[سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪]16‬‬
‫ق َجدِي ٍد ( ‪) 16‬‬ ‫ِإ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم َويَأ ْ ِ‬
‫ت ِب َخ ْل ٍ‬
‫ق َجدِي ٍد »إيجاد المعدوم ‪ ،‬فإن له االقتدار‬ ‫« إِ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم »إعدام الموجود« َويَأ ْ ِ‬
‫ت بِخ َْل ٍ‬
‫وّللا‬
‫واالقتدار ال يكون عنه إال الوجود ‪ ،‬فأبى االقتدار إال الوجود ‪ ،‬وعلق اإلرادة باإلعدام ‪ ،‬ه‬
‫تعالى ال يعدم األشياء القائمة بأنفسها بعد وجودها ‪ ،‬وال يتصف بإعدام أحوالها وال أعراضها‬
‫ّللا عليها‬ ‫بعد وجودها ‪ ،‬وإنما األشياء تكون على أحوال ‪ ،‬فتزول تلك األحوال عنها فيخلع ه‬
‫أحواال غيرها ‪ ،‬أمثاال كانت أو أضدادا ‪ ،‬مع جواز إعدام األشياء بمسكه اإلمداد بما به بقاء‬
‫ت‬‫أعيانها ‪ ،‬لكن قضى القضية أن ال يكون األمر إال هكذا ‪ ،‬ولذلك قال ‪ «:‬إِ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم َويَأ ْ ِ‬
‫ق َجدِي ٍد »ولكن ما فعل ‪.‬‬ ‫بِخ َْل ٍ‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 17‬‬


‫يز ) ‪( 17‬‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا ِبعَ ِز ٍ‬ ‫َوما ذ ِلكَ َ‬
‫بممتنع ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 18‬‬


‫كان ذا قُ ْربى‬
‫ش ْي ٌء َولَ ْو َ‬ ‫ع ُمثْقَلَةٌ ِإلى ِح ْم ِلها ال يُحْ َم ْل ِم ْنهُ َ‬‫واز َرةٌ ِو ْز َر أ ُ ْخرى َو ِإ ْن ت َ ْد ُ‬
‫َوال ت َ ِز ُر ِ‬
‫س ِه َو ِإلَى ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ب َوأَقا ُموا ال ه‬
‫صالةَ َو َم ْن ت َ َزكهى فَ ِإنهما يَت َ َزكهى ِلنَ ْف ِ‬ ‫ِين يَ ْخش َْو َن َربه ُه ْم ِبا ْلغَ ْي ِ‬
‫ِإنهما ت ُ ْنذ ُِر الهذ َ‬
‫ير ( ‪) 18‬‬ ‫ا ْل َم ِص ُ‬
‫واز َرة ٌ ِو ْز َر أ ُ ْخرى »في اآلخرة ألنها دار تمييز ‪ ،‬فال تصيب العقوبة إال أهلها ‪.‬‬ ‫« َوال ت َ ِز ُر ِ‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 19‬‬


‫ير ) ‪( 19‬‬‫ست َ ِوي ْاألَعْمى َوا ْلبَ ِص ُ‬
‫َوما يَ ْ‬
‫أي ال يستوي األعمى وهو الذي ال يفهم فيعلم ‪ ،‬وال البصير الذي يفهم فيعلم ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 20‬‬


‫َوال ال ُّ‬
‫ظلُماتُ َوال النُّ ُ‬
‫ور ) ‪( 20‬‬
‫وال ظلمات الضالل وال نور الهدى ‪ ،‬وال ظلمات الشرك وال نور التوحيد ‪ ،‬وال ظلمات الشقاء‬
‫والتعب وال نور السعادة والراحة ‪ ،‬وال ظلمات الجهل وال نور العلم ‪ ،‬وال ظلمات‬

‫ص ‪450‬‬

‫‪450‬‬
‫المخالفة وال نور الموافقة ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬اآليات ‪ 21‬إلى ‪] 24‬‬


‫س ِم ُع َم ْن يَشا ُء َوما‬ ‫ست َ ِوي ْاألَحْ يا ُء َوال ْاأل َ ْمواتُ إِ هن ه َ‬
‫ّللا يُ ْ‬ ‫ور ( ‪َ ) 21‬وما يَ ْ‬ ‫ظ ُّل َوال ا ْل َح ُر ُ‬‫َوال ال ِ ّ‬
‫شيرا َونَذِيرا‬
‫ق بَ ِ‬ ‫ِير ( ‪ِ ) 23‬إنها أ َ ْر َ‬
‫س ْلناكَ ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫ور ( ‪ِ ) 22‬إ ْن أ َ ْنتَ ِإاله نَذ ٌ‬ ‫س ِم ٍع َم ْن فِي ا ْلقُبُ ِ‬ ‫أ َ ْنتَ ِب ُم ْ‬
‫ِير ( ‪) 24‬‬ ‫َو ِإ ْن ِم ْن أ ُ هم ٍة ِإاله َخال فِيها نَذ ٌ‬
‫[ الخلق كله أمم ‪ ،‬وفي كل أمة نذير من جنسها ]‬
‫ّللا‬
‫ِير »كل أمة على حسب ما تعطيه حقيقتها وتقبل رقيقتها ‪ ،‬فإن ه‬ ‫" َوإِ ْن ِم ْن أ ُ َّم ٍة إِ َّال خَال فِيها نَذ ٌ‬
‫ير بِ َجنا َح ْي ِه إِ َّال أ ُ َم ٌم أ َ ْمثالُ ُك ْم )‬‫تعالى يقول ‪َ (:‬وال طائِ ٍر يَ ِط ُ‬
‫فألحق البهائم باألمم وحكم بذلك وع هم ‪ ،‬وكل أمة في أفقها ناطقة وفي أوجها عاشقة ‪ ،‬فليس في‬
‫الوجود جماد وال حيوان إال ناطق بلسان ‪ ،‬لسان ذات ال لسان حال ‪ ،‬والقائل بخالف هذا قائل‬
‫محال ‪،‬‬
‫وفي كل أمة من األمم نذير من جنسها على حسب نفسها ‪ ،‬فعمت الشرائع جميع الخالئق ‪،‬‬
‫فن هكر األمة ون هكر النذير ‪ ،‬والنذير قد يكون لكل واحد منهم نذير في ذاته ‪ ،‬وقد يكون للنوع من‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫جنسه ‪ ،‬ال بد من ذلك ‪ ،‬من حيث ال يعلمه وال يشهده إال من أشهده ه‬
‫باّلل وبأمور اآلخرة ‪،‬‬ ‫وهذه اآلية ليست بنص في الرسالة إنما هي نص أن في كل أمة عالما ه‬
‫وذلك هو النبي ال الرسول ‪ ،‬ولو كان الرسول لقال ‪ :‬إليها ‪ ،‬ولم يقل ‪ :‬فيها ‪،‬‬
‫باّلل ‪ ،‬ومن‬ ‫ونحن نقول ‪ :‬إنه كان فيما قبل نوح عليه السالم ‪ -‬وهو أول رسول ‪ -‬أنبياء عالمون ه‬
‫شاء وافقهم ودخل معهم في دينهم وتحت حكم شريعتهم كان ‪ ،‬ومن لم يشأ لم يكلف ذلك ‪،‬‬
‫وكان إدريس عليه السالم منهم ‪ ،‬وما من شيء في الوجود إال وهو أمة من األمم ‪ ،‬فإنه تعالى‬
‫ما يعذب ابتداء ولكن يعذب جزاء ‪ ،‬فإن الرحمة ال تقتضي في العذاب إال الجزاء للتطهير ‪،‬‬
‫ولوال التطهير ما وقع العذاب ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم في الكالب ‪ :‬إنها أمة من األمم ]‬ ‫وقد [ قال صلهى ه‬
‫فعمت الرسالة اإللهية جميع األمم ‪ ،‬صغيرهم وكبيرهم ‪ ،‬فما من أمة إال وهي تحت خطاب‬
‫ّللا أمة من األمم ‪ ،‬فطرهم‬ ‫إلهي على لسان نذير بعث إليها منها وفيها ‪ ،‬فإن كل جنس من خلق ه‬
‫ّللا على عبادة تخصهم أوحى بها إليهم في نفوسهم ‪ ،‬فرسولهم من ذواتهم ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ّللا بإلهام خاص جبلهم عليه ‪ ،‬كعلم بعض الحيوانات بأشياء يقصر عن إدراكها‬ ‫إعالم من ه‬
‫المهندس النحرير ‪ ،‬وعلمهم على اإلطالق بمنافعهم فيما يتناولونه من الحشائش والمآكل‬
‫وتجنب ما يضرهم من ذلك ‪ ،‬كل ذلك‬

‫ص ‪451‬‬

‫‪451‬‬
‫ِير »أي يقوم بسياستها لبقاء المصلحة في حقها ‪ ،‬سواء كان‬ ‫في فطرتهم ‪ ،‬أما قوله تعالى ‪ «:‬نَذ ٌ‬
‫ذلك الشرع إلهيا أو سياسيا ‪ ،‬على كل حال تقع المصلحة به ‪ ،‬في القرن الذي يظهر فيه ‪ ،‬وذلك‬
‫ّللا ال بوحي نزل عليه يعلم به‬
‫ّللا وإرادته ‪ ،‬أو نذير بإرادة ه‬
‫بالنسبة للبشر ‪ ،‬فهو إما نذير بأمر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فما من طائفة إال وهي تحت ناموس شرعي حكمي أو وضع حكمي ‪ ،‬فال‬ ‫أنه من عند ه‬
‫تخلو أمة من مخالفة تقع منها لناموسها كان ما كان ‪ ،‬فقد عمت النواميس جميع األمم‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 25‬‬


‫ب ا ْل ُمنِ ِ‬
‫ير ( ‪25‬‬ ‫الزبُ ِر َوبِا ْل ِكتا ِ‬
‫ت َوبِ ُّ‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم جا َءتْ ُه ْم ُر ُ‬
‫سلُ ُه ْم بِا ْلبَ ِيّنا ِ‬ ‫َوإِ ْن يُ َك ِذّبُوكَ فَقَ ْد َكذه َ‬
‫ب الهذ َ‬
‫)‬
‫ّللا إصالح خلقه *** وكان بهم داء الطمأنينة اصطفى‬ ‫ولما أراد ه‬
‫إماما كريما منهم متطلعا *** ألسرار أرواح العلى متشوفا‬
‫فأنزله فيهم طبيبا محكما *** أمينا عليما بالسقام وبالشفا‬
‫وجاء بآيات تؤيد صدقه *** تراها برأي العين إن كنت منصفا‬
‫ّللا منها على شفا‬ ‫فأنقذنا من لفح نار تسعرت *** وكنا لعمر ه‬
‫وأظهر أسرارا وأبدى سبيلها *** لتحصيلها من بعد ما كان قد عفا‬

‫[ سبب وضع الشريعة في العالم ]‬


‫سبب وضع الشريعة في العالم أمران فيهما سران ‪:‬‬
‫صاص َحياة ٌ‬
‫ِ‬ ‫األمر الواحد صالح العالم ‪ ،‬وهو منهج األنبياء ‪ ،‬ويؤيده قوله تعالى ‪َ (:‬ولَ ُك ْم ِفي ْال ِق‬
‫)‪ ،‬وسره أن نصر المؤمنين حق عليه ‪ ،‬واألمر اآلخر ‪ ،‬إثبات ذل العبودية ‪ ،‬وظهور عز‬
‫الربوبية ‪ ،‬وسره حكم سلطان اسميه ( المعز المذل ) ‪،‬‬
‫فتنبه لما رمزناه ‪ ،‬وفك المع همى الذي لغزناه ‪ ،‬الطمأنينة بما ال حقيقة له توجب التكليف ‪ ،‬وما‬
‫ث هم شيء إال وله حقيقة فقد لزمك الوقوف ‪ ،‬ما من أمة إال قد اطمأنت ‪ ،‬فلما جاءتها الرسالة أنهت‬
‫لعبئها ثم حنهت ‪ ،‬لوال الوعيد والوعد ‪ ،‬ما سعي في الوفاء بالعهد ‪،‬‬
‫فالحقائق لها رقائق ‪ ،‬غاب عنها أهل العالئق والعوائق ‪ ،‬والحال عالقة المريد ‪ ،‬وحب الكشف‬
‫نهاية من لم يذق لذة المزيد ‪ ،‬وكل من شاهد أمرا ليس ذلك المشهود عليه ‪ ،‬فذلك‬

‫ص ‪452‬‬

‫‪452‬‬
‫األمر فيه وراجع إليه ‪ ،‬فليحذر أن يقول ‪ :‬إنه في الكون الخارج ال محالة ‪ ،‬فيثبت عند‬
‫المحققين محاله ‪ ،‬ومن لم يفرق بين نفسه وغيره ‪ ،‬فال يميز بين شره وخيره ‪ ،‬فهذا سبب وضع‬
‫الشرع ‪ ،‬الموافق للعقل والطبع ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬اآليات ‪ 26‬إلى ‪] 27‬‬


‫ماء ماء فَأ َ ْخ َرجْ نا ِب ِه‬
‫س ِ‬ ‫ّللا أ َ ْن َز َل ِم َن ال ه‬
‫ير ( ‪ ) 26‬أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ هن ه َ‬ ‫كان نَ ِك ِ‬
‫ف َ‬ ‫ث ُ هم أ َ َخ ْذتُ الهذ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا فَ َك ْي َ‬
‫سو ٌد ( ‪) 27‬‬ ‫يب ُ‬ ‫ف أ َ ْلوانُها َو َ‬
‫غرا ِب ُ‬ ‫ت ُم ْخت َ ِلفا أ َ ْلوانُها َو ِم َن ا ْل ِجبا ِل ُج َد ٌد ِب ٌ‬
‫يض َو ُح ْم ٌر ُم ْخت َ ِل ٌ‬ ‫ث َ َمرا ٍ‬
‫[ سبب زرقة السماء ‪ ،‬وأثر البعد في التلوين العارض]‬

‫إن الزرقة التي ننسبها إلى السماء ونصفها بها فتلك اللونية لجرم السماء لبعدها عنك في‬
‫اإلدراك البصري ‪ ،‬كما ترى الجبال إذا بعدت عنك زرقا ‪ ،‬وليس الزرقة إال لبعدها عن نظر‬
‫العين ‪ ،‬كما ترى الجبل البعيد عن نظرك أسود ‪ ،‬فإذا جئته قد ال يكون كما أبصرته ‪ ،‬فإن‬
‫األلوان على قسمين ‪ :‬لون يقوم بجسم المتلون ‪ ،‬ولون يحدث للبصر عند نظره إلى الجسم ألمر‬
‫عارض يقوم بين الرائي والمرئي ‪ ،‬مثل هذا ومثل األلوان التي تحدث في المتلون باللون‬
‫الحقيقي ‪ ،‬لهيئات تطرأ فيراها الناظر على غير لونها القائم بها الذي يعرفه ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 28‬‬


‫ّللا‬ ‫ف أ َ ْلوانُهُ كَذ ِلكَ ِإنهما يَ ْخشَى ه َ‬
‫ّللا ِم ْن ِعبا ِد ِه ا ْلعُلَما ُء ِإ هن ه َ‬ ‫اب َو ْاأل َ ْن ِ‬
‫عام ُم ْخت َ ِل ٌ‬ ‫اس َوالد َهو ّ ِ‬‫َو ِم َن النه ِ‬
‫ور ) ‪( 28‬‬ ‫يز َ‬
‫غفُ ٌ‬ ‫ع َِز ٌ‬
‫باّلل المرضي عنهم المطلوب منهم الرضى ‪،‬‬ ‫الخشية من خصائص العلماء ه‬
‫ي َربَّهُ )فالخشية من صفات العلم الذي‬ ‫ع ْنهُ ذ ِل َك ِل َم ْن َخ ِش َ‬
‫ضوا َ‬ ‫ع ْن ُه ْم َو َر ُ‬‫ّللاُ َ‬ ‫ي َّ‬ ‫ض َ‬ ‫قال تعالى ‪َ (:‬ر ِ‬
‫يعطي الخشية الالزمة له ‪ ،‬وعلى قدر العلم بها تكون الخشية المنسوبة إلى العالم ‪،‬‬
‫باّلل ‪ ،‬لعلمهم بأنه‬ ‫فالعلم يورث الخشية والخشية تعطي الخشوع ‪ ،‬وهذه صفة العلماء العارفين ه‬
‫يعلم حركاتهم وسكناتهم على التعيين والتفصيل ‪،‬‬
‫وكل عالم عندنا لم تظهر عليه ثمرة علمه وال حكم عليه علمه فليس بعالم ‪ ،‬وإنما هو ناقل ‪،‬‬
‫يز »وعزته‬ ‫ع ِز ٌ‬ ‫ّللا هذه اآلية بقوله ‪ «:‬إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫وأتمم ه‬

‫ص ‪453‬‬

‫‪453‬‬
‫امتناعه ‪ ،‬فهو الذي يخاف ويرجى ويسأل ويجيب إن شاء وإن شاء ‪ ،‬فهو عزيز عن أن‬
‫يتصف بالخوف والرجاء وعن مثل هذا ‪ ،‬وهو أيضا عزيز أي يمتنع أن يؤثر فيه أمر يحول‬
‫ور »بما ستر ‪ ،‬وجاء ببنية المبالغة في‬ ‫غف ُ ٌ‬‫بينه وبين عموم مغفرته على عباده ‪ ،‬ولذلك قال« َ‬
‫ّللا وأسراره‬
‫الغفران بعمومها ‪ ،‬فهي رجاء مطلق للعصاة على طبقاتهم ‪ ،‬فإنه لما كانت علوم ه‬
‫الراجعة إليه تعالى وإلى أسمائه وإلى العالم قد سترها عن الخلق كلهم بالمجموع ‪ ،‬فال يعلم‬
‫المجموع وال واحد من الخلق ‪ ،‬لكن له العلم باآلحاد ‪ ،‬فعند واحد ما ليس عند اآلخر ‪ ،‬فهو‬
‫بالمجموع حاصل ال حاصل ‪ ،‬فهو حاصل عند المجموع غير حاصل عند واحد ‪ ،‬فعند واحد‬
‫غف ُ ٌ‬
‫ور »‪.‬‬ ‫ع ِز ٌ‬
‫يز َ‬ ‫باّلل ما ليس عند اآلخر ‪ ،‬فلذلك قال ‪ «:‬إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫من العلم ه‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 29‬‬


‫جارة لَ ْن‬
‫ون تِ َ‬ ‫س ًّرا َوعَالنِيَة يَ ْر ُج َ‬ ‫صالةَ َوأ َ ْنفَقُوا ِم هما َر َز ْقنا ُه ْم ِ‬ ‫ّللا َوأَقا ُموا ال ه‬ ‫تاب ه ِ‬ ‫ون ِك َ‬ ‫ِين يَتْلُ َ‬‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ور ( ‪) 29‬‬ ‫تَبُ َ‬
‫[ صدقة السر وصدقة العلن ]‬
‫ّللا قال ‪ :‬كنا عند‬ ‫عالنِيَةً » *خرج مسلم عن جرير بن عبد ه‬ ‫« َوأ َ ْنفَقُوا ِم َّما َرزَ ْقنا ُه ْم ِس ًّرا َو َ‬
‫ّللا عليه وسلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة ‪ ،‬مجتابي النمار متقلدين‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫السيوف ‪ ،‬عامتهم من مضر ‪ ،‬بل كلهم من مضر ‪ ،‬فتمعر وجه رسول ه‬
‫لما رأى بهم من الفاقة ‪ ،‬فدخل ثم خرج فأمر بالال فأذن ‪ ،‬وأقام فصلى بهم ثم خطب فقال ‪ [ :‬يا‬
‫أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجاال كثيرا‬
‫ّللا كان عليكم رقيبا (يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا اتَّقُوا‬ ‫ّللا الذي تساءلون به واألرحام إن ه‬ ‫ونساء واتقوا ه‬
‫ير بِما ت َ ْع َملُونَ )تصدق رجل من ديناره ‪ ،‬من‬ ‫ت ِلغَ ٍد َواتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا َخبِ ٌ‬ ‫س ما قَ َّد َم ْ‬ ‫ظ ْر نَ ْف ٌ‬‫ّللا َو ْلت َ ْن ُ‬
‫َّ َ‬
‫درهمه ‪ ،‬من ثوبه ‪ ،‬من صاع بره ‪ ،‬من صاع تمره ‪ ،‬حتى قال ‪ :‬ولو بشق تمرة ‪ ،‬قال ‪ :‬فجاء‬
‫رجل بصرة من األنصار تكاد كفه تعجز عنها ‪ ،‬بل عجزت ‪ ،‬قال ‪ :‬ثم تتابع الناس حتى رأيت‬
‫ّللا عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫كومين من طعام وثياب ‪ ،‬حتى رأيت وجه رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬من سن في اإلسالم سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فقال رسول ه‬
‫بها من بعده من غير أن ينتقص من أجورهم شيئا ‪ ،‬ومن سن في اإلسالم سنة سيئة كان عليه‬
‫وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينتقص من أوزارهم شيئا‬
‫[ وإخفاء الصدقة شرط في نيل‬

‫ص ‪454‬‬

‫‪454‬‬
‫المقام العالي ]‪ ،‬ومنها أن تخفي كونها صدقة فال يعلم المتصدق عليه أنه بين يدي المتصدق ‪،‬‬
‫ّللا عنه عن النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ [ :‬سبعة‬ ‫خرج البخاري عن أبي هريرة رضي ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ورجل‬
‫ّللا في ظله يوم ال ظل إال ظله ‪ ،‬إمام عادل وشاب نشأ في ( طاعة ) عبادة ه‬
‫يظلهم ه‬
‫ّللا اجتمعا عليه وتفرقا عليه ‪ ،‬ورجل دعته امرأة‬
‫قلبه متعلق بالمساجد ‪ ،‬ورجالن تحابا في ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ‪ ،‬حتى ال تعلم شماله‬ ‫ذات منصب وجمال فقال ‪ :‬إني أخاف ه‬
‫ّللا خاليا ففاضت عيناه ]‬
‫ما تنفق يمينه ‪ ،‬ورجل ذكر ه‬
‫والكامل من الناس يعلن في وقت في الموضع الذي يرى أن الحق رجح فيه اإلعالن ‪ ،‬ويسر‬
‫بها في وقت في الموضع الذي يرى أن الحق يرجح فيه اإلسرار ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬آية ‪] 30‬‬


‫ُور ) ‪( 30‬‬
‫شك ٌ‬ ‫ض ِل ِه ِإنههُ َ‬
‫غفُ ٌ‬
‫ور َ‬ ‫ور ُه ْم َويَ ِزي َد ُه ْم ِم ْن فَ ْ‬
‫ِليُ َو ِفّيَ ُه ْم أ ُ ُج َ‬
‫نسبة الشكر إليه تعالى ببنية المبالغة في حق من أعطاه من العمل ما تعين على جميع أعضائه‬
‫وقواه الظاهرة والباطنة ‪ ،‬في كل حال بما يليق به ‪ ،‬وفي كل زمان بما يليق به ‪ ،‬فيشكره الحق‬
‫على كل ذلك باالسم الشكور ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ‪ ( 35 ) :‬اآليات ‪ 31‬إلى ‪] 32‬‬


‫ير (‬ ‫ير بَ ِص ٌ‬ ‫ّللا ِب ِعبا ِد ِه لَ َخ ِب ٌ‬
‫ص ّدِقا ِلما بَ ْي َن يَ َد ْي ِه ِإ هن ه َ‬ ‫ق ُم َ‬ ‫َوالهذِي أ َ ْو َح ْينا ِإلَ ْيكَ ِم َن ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب ُه َو ا ْل َح ُّ‬
‫س ِه َو ِم ْن ُه ْم ُم ْقت َ ِص ٌد َو ِم ْن ُه ْم‬‫ص َطفَ ْينا ِم ْن ِعبادِنا فَ ِم ْن ُه ْم ظا ِل ٌم ِلنَ ْف ِ‬ ‫تاب الهذ َ‬
‫ِين ا ْ‬ ‫) ‪31‬ث ُ هم أ َ ْو َرثْنَا ا ْل ِك َ‬
‫ير) ‪( 32‬‬ ‫ض ُل ا ْل َك ِب ُ‬ ‫ت ِب ِإ ْذ ِن ه ِ‬
‫ّللا ذ ِلكَ ُه َو ا ْلفَ ْ‬ ‫ق ِبا ْل َخ ْيرا ِ‬ ‫سا ِب ٌ‬
‫طفَيْنا ِم ْن ِعبادِنا‬ ‫ص َ‬ ‫تاب"هو القرآن المحفوظ من التحريف والزيادة «الَّذِينَ ا ْ‬ ‫"ث ُ َّم أ َ ْو َرثْنَا ْال ِك َ‬
‫باّلل ‪ ،‬فإنه ما تقدم لنبي قط قبل نبوته‬ ‫ّللا ال يتقدم له نظر عقلي في العلم ه‬ ‫"المصطفى من عباد ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وال ينبغي له ذلك ‪ ،‬وكذلك كل ولي مصطفى ‪ ،‬وسبب ذلك أن النظر‬ ‫نظر عقلي في العلم ه‬
‫ّللا بأمر ما يميزه به عن سائر األمور ‪ ،‬وال يقدر على نسبة عموم‬ ‫يقيده في ه‬

‫ص ‪455‬‬

‫‪455‬‬
‫الوجود هّلل ‪ ،‬فما عنده سوى تنزيه مجرد ‪ ،‬فإذا عقد عليه ‪ ،‬فكل ما أتاه من ربه فخالف عقده ‪،‬‬
‫ّللا به عصمه قبل‬ ‫فإنه يرده ويقدح في الداللة التي تعضد ما جاءه من عند ربه ‪ ،‬فمن اعتنى ه‬
‫اصطفائه من علوم النظر ‪ ،‬واصطنعه لنفسه وحال بينه وبين طلب العلوم النظرية ‪ ،‬ورزقه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬هذا في هذه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا على لسان رسول ه‬ ‫باّلل وبما جاء من عند ه‬ ‫اإليمان ه‬
‫األمة التي عمت دعوة رسولها ‪ ،‬وإن سعد صاحب النظر العقلي فإنه ال يكون أبدا في مرتبة‬
‫باّلل إال من حيث إيمانه وتقواه ‪ ،‬وهذا هو وارث األنبياء في هذه‬ ‫الساذج الذي لم يكن عنده علم ه‬
‫الصفة ‪ ،‬فهو معهم وفي درجتهم هذه ‪ ،‬فالمصطفى هو الولي ‪،‬‬
‫ثم قال في المصطفين ‪ «:‬فَ ِم ْن ُه ْم ظا ِل ٌم ِلنَ ْف ِس ِه »ومن ظلم لنفسه حمل األمانة« فَ ِم ْن ُه ْم ظا ِل ٌم ِلنَ ْف ِس ِه‬
‫»‬
‫وهو آدم ومن كان بهذه المثابة ‪ .‬واعلم أن للنفس حقا فإذا جني عليها وعفوت فأنت الظالم‬
‫المصطفى ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ومنهم ظالم‬ ‫وهو األول من الثالثة ‪ ،‬لم يأخذ لها حقها ممن ظلمها ‪ ،‬وعاد أجرها على ه‬
‫ي في الدنيا نؤخره لك‬ ‫لنفسه ‪ ،‬وهو أن يمنعها حقها من أجلها ‪ ،‬أي الحق الذي لك يا نفسي عل ه‬
‫إلى اآلخرة ‪ ،‬وبادر هنا إلى الكد واالجتهاد وأخذ بالعزائم ‪ ،‬واجتنب الميل إلى الرخص ‪ ،‬وهذا‬
‫كله حق لها ‪ ،‬فهو ظالم لنفسه نفسه من أجل نفسه ‪،‬‬
‫ولهذا قال فيمن اصطفاهم« فَ ِم ْن ُه ْم ظا ِل ٌم ِلنَ ْف ِس ِه »أي من أجل نفسه ليسعدها ‪ ،‬فما ظلمها إال لها ‪،‬‬
‫فمن ورثة الكتاب الظالم لنفسه بما يجهدها عليه ‪ ،‬فهو يظلم نفسه فيما لها من الحق لنفسه ‪ ،‬فهو‬
‫في الوقت صاحب عذاب وألم ال يريد دفعه عنه ‪ ،‬ألنه استعذبه وهان عليه حمله في جنب ما‬
‫يطلبه ‪ ،‬فإنه يطلب سعادته ‪ ،‬وهو ظالم لنفسه أي من أجل نفسه بأنه ال يوفيها حقها ‪ ،‬لنزوله‬
‫في العلم عن رتبة من يعلم أن حقائقه التي هو عليها ال تتداخل ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫وال تتعدى كل حقيقة مرتبتها ‪ ،‬وال تقبل إال ما يليق بها ‪ ،‬فإن اإلنسان مجموع أمور أنشأه ه‬
‫عليها ‪ ،‬طبيعية وروحانية وإلهية ‪ ،‬فال تقبل العين إال السهر والنوم وما يختص بها ‪ ،‬وال تقبل‬
‫من الثواب إال المشاهدة والرؤية ‪ ،‬واألذن ال تقبل في الثواب إال الخطاب ‪ ،‬إذ ليس الشهود‬
‫للسمع ‪،‬‬
‫والكامل يسعى لقواه على قدر ما تطلبه ‪ ،‬وهو إمام ناصح لرعيته ليس بغاش لها ‪،‬‬
‫فإن ظلمها فإنما يظلمها لها في زعمه ‪،‬‬
‫ّللا أبي الدرداء في حالهما ‪،‬‬ ‫وذلك لجهله بما علم غيره من ذلك ‪ ،‬كسلمان الفارسي وأخيه في ه‬
‫ّللا عليه وسلم سلمان ‪ ،‬فإنه كان يعطي كل ذي حق حقه ‪ ،‬فيصوم‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫فرجح رسول ه‬
‫ويفطر ‪ ،‬ويقوم وينام ‪ ،‬وكان أبو الدرداء مع كونه مصطفى ظالما لنفسه ‪ ،‬يصوم فال يفطر ‪،‬‬
‫ويقوم فال ينام ‪ ،‬هذا هو‬

‫ص ‪456‬‬

‫‪456‬‬
‫ّللا فقد ظلم‬ ‫ّللا ‪ ،‬ال ظلم يتعدى الحدود اإللهية ‪ ،‬فإن من يتعدى حدود ه‬ ‫ظلم المصطفين من عباد ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو يظلم لها ال يظلمها ‪ ،‬فيعطى كل ذي حق‬ ‫نفسه ‪ ،‬وأما الظالم لنفسه فلعلمه بقدرها عند ه‬
‫حقه إال الحق ‪ ،‬فإنه ال يعطيه كل حقه ‪ ،‬بل يعطيه من حقه تعالى ما يسمى به أديبا ‪ ،‬وما ال‬
‫يسمى به أديبا يظلمه فيه من أجل نفسه ‪ ،‬حتى يلحق برتبة األنبياء ‪ ،‬فمثل هذا الظلم من الفضل‬
‫اإللهي على عبده ‪ ،‬فمن كان مشهده هذا سمي ظالما لنفسه مع أنه مصطفى ‪ ،‬وما أوقفه على‬
‫ص ٌد »وهو الذي اقتصد في كل موطن على‬ ‫ذلك إال علمه بالكتاب ‪ ،‬فهو يحكم به ‪َ «،‬و ِم ْن ُه ْم ُم ْقت َ ِ‬
‫ّللا السابقون إلى الخيرات على طريق‬ ‫ما يقتضيه حكم الموطن ال بحكم نفسه ‪ ،‬وهم أهل ه‬
‫االقتصاد من إعطاء كل ذي حق حقه ‪ ،‬فمشهد الظالم ما يجب للحق فال ينسبه إليه ‪ ،‬ومشهد‬
‫المقتصد المواطن وما تستحق ‪ ،‬فالظالم يدخل في حكم المقتصد ‪ ،‬ولهذا كان المقتصد وسطا ‪،‬‬
‫ألنه على حقيقة ليست للطرفين ‪ ،‬وفيه حكم الطرفين ‪ ،‬ما يحتاج إليه أو يندرج فيه« َو ِم ْن ُه ْم‬
‫ت »وأما السابق بالخيرات فهو الذي يتهيأ لحكم المواطن قبل قدومها عليه ‪،‬‬ ‫سا ِب ٌق ِب ْال َخيْرا ِ‬
‫وتجتمع هذه األحوال في الشخص الواحد ‪ ،‬فيكون ظالما مقتصدا سابقا بالخيرات« ِبإِ ْذ ِن َّ ِ‬
‫ّللا‬
‫ير »الضمير من« ُه َو »يعود على السبق الذي‬ ‫ض ُل ْال َك ِب ُ‬
‫ّللا« ذ ِل َك ُه َو ْالفَ ْ‬
‫»أي كل ذلك بأمر ه‬
‫يدل عليه اسم الفاعل ‪ ،‬فالمصطفون عند أولي األلباب ‪ ،‬ثالثة بنص الكتاب ‪ ،‬ظالم لنفسه في‬
‫أبناء جنسه ‪ ،‬والثاني مقتصد وعليه المعتمد ‪ ،‬فإنه حكيم الوقت بعيد عن المقت ‪ ،‬والثالث سابق‬
‫بالخيرات إلى الخيرات ‪ ،‬وهو الساعي صاحب السمع الواعي ‪ ،‬وأما المقتصد فما زاد على‬
‫زاده على قدر اجتهاده ‪ ،‬وأما الظالم فهو المحكوم عليه للحاكم ‪ ،‬فمن ظلم ما حكم ‪ ،‬ومن‬
‫اقتصد ما اعتضد ‪ ،‬وقنع واكتفى ‪ ،‬ومن سبق حاز األمر وظفر ‪ ،‬والكتاب قد شمل الجميع ‪،‬‬
‫وإن كان فيهم األرفع والرفيع ‪ ،‬فالكل وارث فإنه حارث ‪ ،‬وأصحاب السهام متفاضلون ‪ ،‬فمنهم‬
‫المقلون ومنهم المكثرون ‪ ،‬فما تميز الرجال إال باألحوال في األعمال ‪ ،‬فكن من شئت من‬
‫ّللا عليه وسلم [ العلماء‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫هؤالء ‪ ،‬وهؤالء الثالثة هم الورثة الذين قال فيهم رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم علما وعمال وحاال ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫ورثة األنبياء ] والوارث الكامل من ورث رسول ه‬
‫فقوله تعالى في الوارث المصطفى إنه ظالم لنفسه يريد حال أبي الدرداء وأمثاله من الرجال ‪،‬‬
‫الذين ظلموا أنفسهم ألنفسهم ‪ ،‬أي من أجل أنفسهم حتى يسعدوها في اآلخرة ‪ ،‬وذلك أن رسول‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ [ :‬إن لنفسك عليك حقا ‪ ،‬ولعينك عليك حقا ]‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ه‬

‫ص ‪457‬‬

‫‪457‬‬
‫فإذا صام اإلنسان دائما وسهر ليله ولم ينم ‪ ،‬فقد ظلم نفسه في حقها وعينه في حقها ‪،‬‬
‫وذلك الظلم لها من أجلها ‪ ،‬ولهذا قال‪ " :‬ظا ِل ٌم ِلنَ ْف ِس ِه " فإنه أراد بها العزائم وارتكاب األشد ‪،‬‬
‫سنة باألمرين ألجل الضعفاء ‪،‬‬ ‫لما عرف منها ومن جنوحها إلى الرخص والبطالة ‪ ،‬وجاءت ال ه‬
‫ّللا تعالى بقوله ‪ «:‬ظا ِل ٌم ِلنَ ْف ِس ِه » الظلم المذموم في الشرع ‪ ،‬فإن ذلك ليس بمصطفى ‪،‬‬ ‫فلم يرد ه‬
‫وأما الصنف الثاني من ورثة الكتاب فهو المقتصد ‪ ،‬وهو الذي يعطي نفسه حقها من راحة‬
‫الدنيا ‪ ،‬ليستعين بذلك على ما يحملها عليه من خدمة ربها ‪ ،‬في قيامه بين الراحة وأعمال البر‬
‫‪ ،‬وهو حال بين حالين ‪ ،‬بين العزيمة والرخصة ‪ ،‬ففي قيام الليل يسمى المقتصد متهجدا ‪ ،‬ألنه‬
‫يقوم وينام ‪ ،‬وعلى مثل هذا تجري أفعاله ‪ ،‬وأما السابق بالخيرات وهو المبادر إلى األمر قبل‬
‫دخول وقته ليكون على أهبة واستعداد ‪ ،‬وإذا دخل الوقت كان متهيأ ألداء فرض الوقت ‪ ،‬ال‬
‫يمنعه من ذلك مانع ‪ ،‬كالمتوضئ قبل دخول الوقت ‪ ،‬والجالس في المسجد قبل دخول وقت‬
‫الصالة ‪ ،‬فإذا دخل الوقت كان على طهارة وفي المسجد ‪ ،‬فيسابق إلى أداء فرضه وهي‬
‫الصالة ‪ ،‬وكذلك إن كان له مال أخرج زكاته وعيهنها ليلة فراغ الحول ‪ ،‬ودفعها لربها في أول‬
‫ساعة من الحول الثاني للعامل الذي يكون عليها ‪ ،‬وكذلك في جميع أفعال البر كلها يبادر إليها‬
‫ّللا عليه وسلم لبالل ‪ [ :‬بم سبقتني إلى الجنة ؟ ] فقال ‪ :‬بالل ما أحدثت‬ ‫‪ ،‬كما قال النبي صلهى ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬بهما‬ ‫قط إال توضأت ‪ ،‬وال توضأت إال صليت ركعتين ‪ ،‬فقال رسول ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بين‬ ‫] فهذا وأمثاله من السابق بالخيرات ‪ ،‬وهو كان حال رسول ه‬
‫المشركين في شبابه وحداثة سنه ‪ ،‬ولم يكن مكلهفا بشرع ‪ ،‬فانقطع إلى ربه وتحنث وسابق إلى‬
‫ّللا الرسالة ‪.‬‬ ‫الخيرات ومكارم األخالق ‪ ،‬حتى أعطاه ه‬
‫القلب بيت وإن العلم يسكنه *** بالعلم يحيى فال تطلب سوى العلم‬
‫ما ثم علم يكون الحق يمنحه *** إال الكتاب لمن قد خص بالفهم‬
‫فيه فتبدو علوم كلها عجب *** لكل قلب سليم حائز الحكم‬
‫أو سابق أو إمام ظل مقتصدا *** يرجو النجاة فما ينفك عن وهم‬
‫إن النجاة لتأتي القوم طائعة *** وتأت قوما إذا جاءت على الرغم‬

‫[ إشارة ‪ :‬صح لنا ورث الكتاب ألنه أعطاه لنا من غير اكتساب ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬قال النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم [ العلماء ورثة األنبياء ]‬
‫وقال [ علماء هذه األمة أنبياء سائر‬

‫ص ‪458‬‬

‫‪458‬‬
‫األمم ] ‪.‬‬
‫الولي يخرج بصورة النبي ‪ ،‬ال ينسخ شريعة ‪ ،‬وال يثبت أخرى ‪ ،‬وال يسأل على تعليمه أجرا‬
‫‪ ،‬وإنما صح لنا ورث الكتاب ‪ ،‬لكونه أعطاه لنا من غير اكتساب ‪ ،‬وكل وارث مصطفى ‪،‬‬
‫ومن سواه على شفا ‪ ،‬وإنما ألحق الوارث منا بالنبي السالف ‪ ،‬ألنه لإللقاء النبوي ذائق ولمقامه‬
‫العلي كاشف ‪ ،‬فهي موهوبة ومكسوبة ‪ ،‬وطالبة ومطلوبة ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬اآليات ‪ 33‬إلى ‪] 35‬‬


‫ير ( ‪) 33‬‬ ‫عد ٍْن يَ ْد ُخلُونَها يُ َحله ْو َن فِيها ِم ْن أَسا ِو َر ِم ْن ذَ َه ٍ‬
‫ب َولُ ْؤلُؤا َو ِلبا ُ‬
‫س ُه ْم فِيها َح ِر ٌ‬ ‫َجنهاتُ َ‬
‫ُور ( ‪ ) 34‬الهذِي أ َ َحلهنا َ‬
‫دار ا ْل ُمقا َم ِة‬ ‫شك ٌ‬ ‫ور َ‬ ‫عنها ا ْل َح َز َن إِ هن َربهنا لَغَفُ ٌ‬
‫ب َ‬ ‫ّلِل الهذِي أ َ ْذ َه َ‬
‫َوقالُوا ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫وب ) ‪( 35‬‬ ‫سنا فِيها لُغُ ٌ‬ ‫ب َوال يَ َم ُّ‬ ‫سنا فِيها نَ َ‬
‫ص ٌ‬ ‫ض ِل ِه ال يَ َم ُّ‬ ‫ِم ْن فَ ْ‬
‫ب‬‫ص ٌ‬ ‫سنا فِيها نَ َ‬ ‫سميت منزل الكرامة دار المقامة ‪ ،‬ألنها مقيمة على العهد ال تقبل الضد« ال يَ َم ُّ‬
‫وب »فإن الراحة والرحمة مطلقة في الجنة كلها ‪ ،‬فكل من في الجنة متنعم ‪،‬‬ ‫سنا فِيها لُغُ ٌ‬ ‫َوال يَ َم ُّ‬
‫وكل ما فيها نعيم ‪ ،‬فحركتهم ما فيها نصب ‪ ،‬وأعمالهم ما فيها لغوب ‪ ،‬إال راحة النوم ما‬
‫عندهم ألنهم ما ينامون ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬اآليات ‪ 36‬إلى ‪] 37‬‬


‫ع ْن ُه ْم ِم ْن عَذا ِبها كَذ ِلكَ نَجْ ِزي‬ ‫ف َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم فَيَ ُموتُوا َوال يُ َخفه ُ‬
‫نار َج َهنه َم ال يُ ْقضى َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا لَ ُه ْم ُ‬
‫َوالهذ َ‬
‫غ ْي َر الهذِي ُكنها نَ ْع َم ُل أ َ َولَ ْم‬
‫ون فِيها َربهنا أ َ ْخ ِرجْ نا نَ ْع َم ْل صا ِلحا َ‬ ‫ص َط ِر ُخ َ‬ ‫ور ( ‪َ ) 36‬و ُه ْم يَ ْ‬ ‫ُك هل َكفُ ٍ‬
‫ير ( ‪) 37‬‬ ‫ين ِم ْن نَ ِص ٍ‬ ‫ِير فَذُوقُوا فَما ِلل ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫نُعَ ِ ّم ْر ُك ْم ما يَتَذَك ُهر ِفي ِه َم ْن تَذَك َهر َوجا َء ُك ُم النهذ ُ‬
‫غي َْر الَّذِي ُكنَّا نَ ْع َم ُل »فإنهم في هذه الحال‬ ‫ط ِر ُخونَ فِيها َربَّنا أ َ ْخ ِر ْجنا نَ ْع َم ْل صا ِلحا ً َ‬ ‫ص َ‬ ‫« َو ُه ْم يَ ْ‬
‫ّللا في إنفاذ الوعيد فيهم ‪.‬‬ ‫علموا صدق ه‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬اآليات ‪38‬إلى ‪] 39‬‬


‫ف‬‫ُور ( ‪ُ ) 38‬ه َو الهذِي َجعَلَ ُك ْم َخال ِئ َ‬ ‫صد ِ‬ ‫ت ال ُّ‬ ‫ض ِإنههُ َ‬
‫ع ِلي ٌم ِبذا ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ب ال ه‬ ‫ّللا عا ِل ُم َ‬
‫غ ْي ِ‬ ‫ِإ هن ه َ‬
‫ض فَ َم ْن َكفَ َر فَعَلَ ْي ِه ُك ْف ُرهُ َوال يَ ِزي ُد ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ين ُك ْف ُر ُه ْم ِع ْن َد َر ِبّ ِه ْم إِاله َم ْقتا َوال يَ ِزي ُد ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ين‬ ‫فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ُك ْف ُر ُه ْم إِاله َخسارا) ‪( 39‬‬

‫ص ‪459‬‬

‫‪459‬‬
‫ض »وهي محل الخفض ‪ ،‬إذ الخفض ال يليق بالجناب‬ ‫" ُه َو الَّذِي َجعَلَ ُك ْم خَال ِئ َ‬
‫ف ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫العالي ‪ ،‬فلهذا أقام له نائبا فيه ليعلم أنه عبد ‪ ،‬فمن الخالفة ثبت أنه عبد فقير ‪ ،‬ما له قوة من‬
‫استخلفه ‪ ،‬بل الخالفة خلعت عليه ‪ ،‬يزيلها متى شاء ويجعلها على غيره ‪ ،‬ولو استخلف‬
‫اإلنسان في السماء مع وجوده على الصورة لم يشاهد عبوديته في رفعته ‪ ،‬للصورة والمكان‬
‫والمكانة ‪ ،‬فربما طغى ‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬اآليات ‪ 40‬إلى ‪] 42‬‬


‫ش ْركٌ‬‫ض أ َ ْم لَ ُه ْم ِ‬ ‫ّللا أ َ ُرونِي ما ذا َخلَقُوا ِم َن ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ُون ه ِ‬‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫ِين ت َ ْدع َ‬‫قُ ْل أ َ َرأ َ ْيت ُ ْم ش َُركا َء ُك ُم الهذ َ‬
‫ض ُه ْم بَ ْعضا إِاله‬
‫ون بَ ْع ُ‬ ‫ت أ َ ْم آت َ ْينا ُه ْم ِكتابا فَ ُه ْم عَلى بَ ِيّنَ ٍة ِم ْنهُ بَ ْل إِ ْن يَ ِع ُد ال ه‬
‫ظا ِل ُم َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫فِي ال ه‬
‫س َك ُهما ِم ْن أ َ َح ٍد ِم ْن‬ ‫ض أ َ ْن ت َ ُزوال َولَئِ ْن زالَتا إِ ْن أ َ ْم َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫سكُ ال ه‬ ‫غ ُرورا (‪ (40‬إِ هن ه َ‬
‫ّللا يُ ْم ِ‬ ‫ُ‬
‫ِير لَيَكُونُ هن أ َ ْهدى‬ ‫اّلِل َج ْه َد أ َ ْيمانِ ِه ْم لَئِ ْن جا َء ُه ْم نَذ ٌ‬
‫س ُموا ِب ه ِ‬ ‫غفُورا ( ‪َ ) 41‬وأ َ ْق َ‬ ‫كان َح ِليما َ‬ ‫بَ ْع ِد ِه ِإنههُ َ‬
‫ِير ما زا َد ُه ْم ِإاله نُفُورا ( ‪) 42‬‬ ‫ِم ْن ِإحْ دَى ْاأل ُ َم ِم فَلَ هما جا َء ُه ْم نَذ ٌ‬
‫ّللا عليه وسلم« ما زا َد ُه ْم ِإ َّال‬ ‫ِير »يعني دعاء الحق على لسان الرسول صلهى ه‬ ‫« فَلَ َّما جا َء ُه ْم نَذ ٌ‬
‫نُفُورا ً »‪.‬‬

‫[ سورة فاطر ( ‪ : ) 35‬اآليات ‪ 43‬إلى ‪] 45‬‬


‫سنهتَ‬ ‫ون ِإاله ُ‬ ‫ظ ُر َ‬ ‫ئ ِإاله ِبأ َ ْه ِل ِه فَ َه ْل يَ ْن ُ‬ ‫ق ا ْل َم ْك ُر ال ه‬
‫س ِيّ ُ‬ ‫س ِيّ ِئ َوال يَ ِحي ُ‬ ‫ض َو َم ْك َر ال ه‬ ‫ستِ ْكبارا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ا ْ‬
‫ض‬ ‫يروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ّللا تَحْ ِويال ( ‪ ) 43‬أ َ َولَ ْم يَ ِ‬ ‫ت هِ‬ ‫سنه ِ‬‫ّللا ت َ ْبدِيال َولَ ْن ت َ ِج َد ِل ُ‬
‫ت هِ‬ ‫ين فَلَ ْن ت َ ِج َد ِل ُ‬
‫سنه ِ‬ ‫ْاأل َ هو ِل َ‬
‫ش ْي ٍء‬ ‫ّللاُ ِليُ ْع ِج َز ُه ِم ْن َ‬
‫كان ه‬ ‫ش هد ِم ْن ُه ْم قُ هوة َوما َ‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم َوكانُوا أ َ َ‬ ‫كان عا ِقبَةُ الهذ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ظ ُروا َك ْي َ‬‫فَيَ ْن ُ‬
‫سبُوا ما‬ ‫اس بِما َك َ‬ ‫ّللاُ النه َ‬ ‫ؤاخذُ ه‬ ‫ع ِليما قَ ِديرا ) ‪َ ( 44‬ولَ ْو يُ ِ‬ ‫كان َ‬ ‫ض إِنههُ َ‬ ‫ت َوال فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫فِي ال ه‬
‫ّللا َ‬
‫كان بِ ِعبا ِد ِه‬ ‫س ًّمى فَ ِإذا جا َء أ َ َجلُ ُه ْم فَ ِإ هن ه َ‬ ‫ت َ َركَ عَلى َظه ِْرها ِم ْن دَابه ٍة َول ِك ْن يُ َؤ ِ ّخ ُر ُه ْم إِلى أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫بَ ِصيرا) ‪( 45‬‬

‫ص ‪460‬‬

‫‪460‬‬
‫) ‪( 36‬سورة يس مكيّة‬
‫الرحيم‬‫الرحمن ّ‬‫ّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫سورة يس من القرآن قلب القرآن ‪ ،‬ومن قرأها كان كمن قرأ القرآن عشر مرات ‪ ،‬فهي تقوم‬
‫مقام القرآن عشر مرات ‪.‬‬
‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫ِب ْ‬
‫يس ) ‪( 1‬‬
‫نداء مرخم ‪ ،‬أراد يا سيد ‪ ،‬فر هخم ‪ ،‬كما قال ‪ :‬يا أبا هر يا أبا هريرة ‪ ،‬فأثبت له السيادة بهذا‬
‫االسم ‪ ،‬وجعله مرخما للتسليم الذي تطلبه الرحمة ‪ ،‬والقطع مما بقي منه في الغيب الذي ال‬
‫يمكن خروجه ‪ ،‬فصورته في الغيب صورة الظل في الشخص الذي امتد عنه الظل ‪ ،‬أال ترى‬
‫الشخص إذا امتد له ظل في األرض ‪ ،‬أليس له ظل في ذات الشخص الذي يقابله ذلك الظل‬
‫الممتد ؟ فذلك الظل القائم بذات الشخص المقابل للظل الممتد ‪ ،‬ذلك هو األمر الذي بقي من‬
‫ّللا الممدود في الغيب ‪ ،‬ال يمكن خروجه أبدا ‪ ،‬وهو باطن الظل الممتد‬ ‫اإلنسان ‪ ،‬الذي هو ظل ه‬
‫ّللا في‬
‫‪ ،‬والظل الممدود هو الظاهر ‪ ،‬فال غيب أكمل من غيب اإلنسان الكامل الذي هو ظل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فأظهره من النفس الرحماني الخارج من قلب القرآن سورة‬ ‫كل ما سوى ه‬

‫ص ‪461‬‬

‫‪461‬‬
‫ّللا للوجود ‪،‬‬
‫يس ‪ ،‬فال غيب أكمل من غيب اإلنسان وهو على صورة موجده ‪ ،‬فلما أبرزه ه‬
‫أبرزه على االستقامة وأعطاه الرحمة ‪ ،‬ففتح به مغاليق األمور علوا وسفال ‪ ،‬فأمد األمثال بذاته‬
‫‪ ،‬وأمد غير األمثال بمثله ‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬اآليات ‪ 2‬إلى ‪] 10‬‬


‫يز‬‫يم ( ‪ ) 4‬ت َ ْن ِزي َل ا ْلعَ ِز ِ‬ ‫ست َ ِق ٍ‬
‫راط ُم ْ‬
‫ين ( ‪ ) 3‬عَلى ِص ٍ‬ ‫س ِل َ‬ ‫يم ( ‪ِ ) 2‬إنهكَ لَ ِم َن ا ْل ُم ْر َ‬ ‫آن ا ْل َح ِك ِ‬
‫َوا ْلقُ ْر ِ‬
‫ون ) ‪( 6‬‬ ‫يم ) ‪ِ ( 5‬لت ُ ْنذ َِر قَ ْوما ما أ ُ ْنذ َِر آبا ُؤ ُه ْم فَ ُه ْم غا ِفلُ َ‬ ‫الر ِح ِ‬
‫ه‬
‫ي إِلَى‬ ‫ون ) ‪ ( 7‬إِنها َجعَ ْلنا فِي أَعْناقِ ِه ْم أ َ ْغالال فَ ِه َ‬ ‫ق ا ْلقَ ْو ُل عَلى أ َ ْكث َ ِر ِه ْم فَ ُه ْم ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫لَقَ ْد َح ه‬
‫ش ْينا ُه ْم فَ ُه ْم ال‬‫سدًّا فَأ َ ْغ َ‬
‫سدًّا َو ِم ْن َخ ْل ِف ِه ْم َ‬
‫ِيه ْم َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 8‬و َجعَ ْلنا ِم ْن بَ ْي ِن أ َ ْيد ِ‬ ‫ْاأل َ ْذ ِ‬
‫قان فَ ُه ْم ُم ْق َم ُح َ‬
‫ون ) ‪( 10‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم أ َ أ َ ْنذَ ْرت َ ُه ْم أ َ ْم لَ ْم ت ُ ْنذ ِْر ُه ْم ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫سوا ٌء َ‬
‫ون ( ‪َ ) 9‬و َ‬ ‫يُ ْب ِص ُر َ‬
‫ت أ َ ْم لَ ْم ت َ ُك ْن ِمنَ ْالوا ِع ِظينَ )‬ ‫ظ َ‬ ‫ع ْ‬ ‫علَيْنا أ َ َو َ‬ ‫سوا ٌء َ‬‫وذلك ألنهم قالوا( َ‬
‫ّللا عليه وسلم وعرفه بأن حالهم ما ذكروه عن نفوسهم ‪.‬‬ ‫ّللا حكى لنبيه صلهى ه‬ ‫فكأن ه‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬اآليات ‪ 11‬إلى ‪] 12‬‬


‫ش ْرهُ بِ َم ْغ ِف َر ٍة َوأَجْ ٍر ك َِر ٍ‬
‫يم ( ‪ ) 11‬إِنها نَحْ ُن‬ ‫ب فَبَ ِ ّ‬
‫من بِا ْلغَ ْي ِ‬
‫الرحْ َ‬ ‫ي ه‬‫ش َ‬‫إِنهما ت ُ ْنذ ُِر َم ِن اتهبَ َع ال ِذّ ْك َر َو َخ ِ‬
‫ين ( ‪) 12‬‬
‫مام ُم ِب ٍ‬
‫ص ْيناهُ فِي ِإ ٍ‬ ‫ش ْي ٍء أَحْ َ‬ ‫آثار ُه ْم َو ُك هل َ‬ ‫ب ما قَ هد ُموا َو َ‬ ‫نُحْ ي ِ ا ْل َم ْوتى َونَ ْكت ُ ُ‬
‫[ إشارة ‪ :‬اإلمام المبين ]‬
‫مام‬
‫صيْناهُ »فإن اإلحصاء ال يكون إال في الموجود« فِي ِإ ٍ‬ ‫ش ْيءٍ »له شيئية وجودية« أ َ ْح َ‬ ‫« َو ُك َّل َ‬
‫ين »‬ ‫ُم ِب ٍ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬فقوله تعالى ‪ :‬أحصيناه ‪ ،‬دليل على أنه ما أودع في اإلمام المبين إال علوما‬
‫متناهية ‪ ،‬واإلمام المبين هو اللوح المحفوظ الحاوي على المحو واإلثبات ‪ ،‬فكل شيء فيه ‪،‬‬
‫وكاتبه القلم األعلى ‪ ،‬ثم تنزل الكتبة مراتبها في الديوان اإللهي ‪ ،‬فاللوح‬

‫ص ‪462‬‬

‫‪462‬‬
‫المحفوظ ال محو فيه ‪ ،‬كل أمر فيه ثابت ‪ ،‬وهو الذي يرفع إلى الحق ‪ ،‬وأما الذي بأيدي الكتبة‬
‫ّللا عليه وسلم لما ذكر حديث اإلسراء فقال ‪ [ :‬حتى ظهرت لمستوى أسمع‬ ‫‪ -‬وهو قوله صلهى ه‬
‫فيه صريف األقالم ]‬
‫ّللا ‪ ،‬من إثبات ما‬‫ّللا من عند ه‬
‫ّللا وفيه ما يثبت ‪ ،‬على قدر ما تأتي به إليهم رسل ه‬ ‫ففيه ما يمحو ه‬
‫شاء ومحو ما شاء ‪ ،‬ثم ينقل إلى الدفتر األعلى ‪ ،‬فيقابل باللوح المحفوظ فال يغادر حرفا ‪ ،‬فتعلم‬
‫ّللا قد أحاط بكل شيء علما‬ ‫الكتبة عند ذلك أن ه‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪-‬اإلمام المبين هو كتاب فيه ما يتكون عن المكلفين خاصة ‪ ،‬فال تزال الكتابة‬
‫فيه ما دام التكليف ‪ ،‬وبه تقوم الحجة هّلل على المكلفين ‪ ،‬وبه يطالبهم ‪ ،‬ال بأم الكتاب الذي فيه‬
‫ّللا في كتابه أنه‬
‫القضاء ‪ ،‬فهذا اإلمام هو الحق المبين الذي يحكم به الحق تعالى ‪ ،‬الذي أخبرنا ه‬
‫أمر نبيه أن يقول لربه ‪ :‬احكم بالحق ‪ ،‬يريد هذا الكتاب ‪ ،‬وهو كتاب اإلحصاء ‪ ،‬فال يغادر‬
‫صغيرة وال كبيرة إال أحصاها ‪ ،‬وكل صغير وكبير مستطر ‪ -‬إشارة ال تفسير ‪ -‬إن اإلمام على‬
‫الحقيقة المبين من كان كل شيء مأموما به ‪ ،‬وهذا ال يصح في موجود ما لم يصح له المثلية‬
‫اللغوية الفرقانية ‪ ،‬فإذا صحت المثلية صح وجود اإلمام ‪ ،‬وإذا صح وجود اإلمام بطلت اإلمامة‬
‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫ش ْي ٌء )وجاء في الخبر‬ ‫في حق غيره ‪ ،‬قال تعالى (‪ :‬لَي َ‬
‫ّللا آدم على صورته ]‬ ‫[ خلق ه‬
‫ض َخ ِليفَةً )فالعالم أسفله وأعاله محصي في اإلنسان ‪ ،‬فسماه‬ ‫وقال تعالى ‪ِ (:‬إ ِنهي جا ِع ٌل فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫البعض اإلمام المبين ‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬اآليات ‪13‬إلى ‪] 19‬‬


‫ون ( ‪ ) 13‬إِ ْذ أ َ ْر َ‬
‫س ْلنا إِلَ ْي ِه ُم اثْنَ ْي ِن فَ َكذهبُو ُهما‬ ‫سلُ َ‬ ‫ْحاب ا ْلقَ ْريَ ِة إِ ْذ جا َء َها ا ْل ُم ْر َ‬ ‫ض ِر ْب لَ ُه ْم َمثَال أَص َ‬ ‫َوا ْ‬
‫الرحْ ُ‬
‫من‬ ‫ون ( ‪ ) 14‬قالُوا ما أ َ ْنت ُ ْم إِاله بَش ٌَر ِمثْلُنا َوما أ َ ْن َز َل ه‬ ‫سلُ َ‬ ‫ث فَقالُوا إِنها إِلَ ْي ُك ْم ُم ْر َ‬ ‫فَعَ هز ْزنا بِثا ِل ٍ‬
‫علَ ْينا ِإاله‬
‫ون ( ‪َ ) 16‬وما َ‬ ‫سلُ َ‬ ‫ون ) ‪ ( 15‬قالُوا َربُّنا يَ ْعلَ ُم ِإنها ِإلَ ْي ُك ْم لَ ُم ْر َ‬ ‫ش ْي ٍء ِإ ْن أ َ ْنت ُ ْم ِإاله ت َ ْك ِذبُ َ‬‫ِم ْن َ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم (‬
‫سنه ُك ْم ِمنها ع ٌ‬ ‫ين ) ‪ ( 17‬قالُوا ِإنها ت َ َطيه ْرنا ِب ُك ْم لَئِ ْن لَ ْم ت َ ْنت َ ُهوا لَنَ ْر ُج َمنه ُك ْم َولَيَ َم ه‬ ‫غ ا ْل ُم ِب ُ‬‫ا ْلبَال ُ‬
‫ون) ‪( 19‬‬ ‫س ِرفُ َ‬ ‫‪ ) 18‬قالُوا طا ِئ ُر ُك ْم َمعَ ُك ْم أ َ ِإ ْن ذُ ِ ّك ْرت ُ ْم بَ ْل أ َ ْنت ُ ْم قَ ْو ٌم ُم ْ‬

‫ص ‪463‬‬

‫‪463‬‬
‫الطائر الحظ « قالُوا طا ِئ ُر ُك ْم َمعَ ُك ْم »أي حظكم ونصيبكم معكم من الخير والشر ‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬اآليات ‪ 20‬إلى ‪] 37‬‬


‫سئَلُ ُك ْم‬‫ين ( ‪ ) 20‬اتهبِعُوا َم ْن ال يَ ْ‬ ‫س ِل َ‬‫سعى قا َل يا قَ ْو ِم اتهبِعُوا ا ْل ُم ْر َ‬ ‫صا ا ْل َمدِينَ ِة َر ُج ٌل يَ ْ‬ ‫َوجا َء ِم ْن أ َ ْق َ‬
‫ون ( ‪ ) 22‬أ َ أَت ه ِخذُ ِم ْن‬ ‫ي ال أ َ ْعبُ ُد الهذِي فَ َط َرنِي َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُ َ‬ ‫ُون ( ‪َ ) 21‬وما ِل َ‬ ‫أَجْ را َو ُه ْم ُم ْهتَد َ‬
‫ون ( ‪ِ ) 23‬إ ِنّي ِإذا لَ ِفي‬ ‫ش ْيئا َوال يُ ْن ِقذُ ِ‬ ‫ع ِنّي شَفا َ‬
‫عت ُ ُه ْم َ‬ ‫من ِبض ٍ ُّر ال ت ُ ْغ ِن َ‬ ‫الرحْ ُ‬ ‫دُونِ ِه آ ِل َهة ِإ ْن يُ ِرد ِْن ه‬
‫ون ( ‪ِ ) 25‬قي َل ا ْد ُخ ِل ا ْل َجنهةَ قا َل يا لَ ْيتَ قَ ْو ِمي‬ ‫س َمعُ ِ‬ ‫ين ) ‪ِ ( 24‬إ ِنّي آ َم ْنتُ ِب َر ِبّ ُك ْم فَا ْ‬ ‫ضال ٍل ُم ِب ٍ‬ ‫َ‬
‫ين ( ‪َ ) 27‬وما أ َ ْن َز ْلنا عَلى قَ ْو ِم ِه ِم ْن‬ ‫غفَ َر ِلي َر ِبّي َو َجعَلَنِي ِم َن ا ْل ُم ْك َر ِم َ‬ ‫ون ( ‪ ) 26‬بِما َ‬ ‫يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ُون‬‫خامد َ‬ ‫واحدَة فَ ِإذا ُه ْم ِ‬ ‫ص ْي َحة ِ‬ ‫ين ) ‪ ( 28‬إِ ْن كانَتْ إِاله َ‬ ‫ماء َوما ُكنها ُم ْن ِز ِل َ‬ ‫س ِ‬ ‫بَ ْع ِد ِه ِم ْن ُج ْن ٍد ِم َن ال ه‬
‫ُن ( ‪ ) 30‬أ َ لَ ْم يَ َر ْوا‬ ‫ستَه ِْزؤ َ‬ ‫سو ٍل إِاله كانُوا ِب ِه يَ ْ‬ ‫يه ْم ِم ْن َر ُ‬ ‫علَى ا ْل ِعبا ِد ما يَأْتِ ِ‬ ‫س َرة َ‬ ‫( ‪ ) 29‬يا َح ْ‬
‫ون‬‫ض ُر َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 31‬و ِإ ْن ُك ٌّل لَ هما َج ِمي ٌع لَ َد ْينا ُمحْ َ‬ ‫ون أَنه ُه ْم ِإلَ ْي ِه ْم ال يَ ْر ِجعُ َ‬ ‫َك ْم أ َ ْهلَ ْكنا قَ ْبلَ ُه ْم ِم َن ا ْلقُ ُر ِ‬
‫ون ) ‪َ ( 33‬و َجعَ ْلنا فِيها‬ ‫ض ا ْل َم ْيتَةُ أَحْ يَ ْيناها َوأ َ ْخ َرجْ نا ِم ْنها َحبًّا فَ ِم ْنهُ يَأ ْ ُكلُ َ‬ ‫( ‪َ ) 32‬وآيَةٌ لَ ُه ُم ْاأل َ ْر ُ‬
‫ون ) ‪( 34‬‬ ‫ب َوفَ هج ْرنا ِفيها ِم َن ا ْلعُيُ ِ‬ ‫ت ِم ْن نَ ِخي ٍل َوأَعْنا ٍ‬ ‫َجنها ٍ‬
‫ج ُكلهها‬ ‫ق ْاأل َ ْزوا َ‬
‫حان الهذِي َخلَ َ‬ ‫س ْب َ‬ ‫ون ( ‪ُ ) 35‬‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫ِيه ْم أ َ فَال يَ ْ‬ ‫ِليَأ ْ ُكلُوا ِم ْن ث َ َم ِر ِه َوما ع َِملَتْهُ أ َ ْيد ِ‬
‫هار فَ ِإذا‬ ‫سلَ ُخ ِم ْنهُ النه َ‬ ‫ون ) ‪َ ( 36‬وآيَةٌ لَ ُه ُم الله ْي ُل نَ ْ‬ ‫س ِه ْم َو ِم هما ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ض َو ِم ْن أ َ ْنفُ ِ‬ ‫ِم هما ت ُ ْنبِتُ ْاأل َ ْر ُ‬
‫ون) ‪( 37‬‬ ‫ُه ْم ُم ْظ ِل ُم َ‬

‫ص ‪464‬‬

‫‪464‬‬
‫سميت مدة استنارة الجو من مشرق الشمس إلى مغربها نهارا التساع النور فيه ‪ ،‬مأخوذ من‬
‫النهر الذي هو اتساع الماء في المسيل الذي يجري فيه ‪ ،‬ومدة الظلمة من غروب الشمس إلى‬
‫طلوعها هو الليل ‪ ،‬واليوم مجموع الليل والنهار معا ‪ ،‬وأبان سبحانه أن الليل أم النهار ‪ ،‬وأن‬
‫النهار متولد عنه ‪ ،‬كما ينسلخ المولود من أمه إذا اخرج منها ‪ ،‬والحية من جلدها‬
‫فقال ‪َ «:‬وآيَةٌ لَ ُه ُم اللَّ ْي ُل نَ ْسلَ ُخ ِم ْنهُ النَّ َ‬
‫هار »‬
‫فجعل الليل أصال ‪ ،‬والنهار كان غيبا فيه ‪ ،‬ثم سلخ منه النهار كما نسلخ الشاة من جلدها ‪ ،‬فكان‬
‫الظهور لليل والنهار مبطون فيه ‪ ،‬وليس معنى السلخ معنى التكوير ‪،‬‬
‫فالنهار متأخر عن الليل ألنه مسلوخ منه ‪ ،‬ولذلك فإن العرب في الزمان العربي وفي‬
‫اصطالحهم وما تواطئوا عليه يقدمون الليل على النهار ‪ ،‬على عكس العجم الذين حسابهم‬
‫بالشمس يقدمون النهار على الليل ‪،‬‬
‫ظ ِل ُمونَ »وإذا حرف يدل على زمان الحال أو‬ ‫ولهم وجه بهذه اآلية وهو قوله ‪ «:‬فَإِذا ُه ْم ُم ْ‬
‫االستقبال ‪ ،‬وال يكون الموصوف بأنه مظلم إال بوجود الليل في هذه اآلية ‪،‬‬
‫فكان النهار غطاء عليه ثم سلخ منه أي أزيل ‪ ،‬فإذا هم مظلمون ‪ ،‬أي ظهر الليل الذي حكمه‬
‫الظلمة ‪ ،‬فإذا الناس مظلمون ‪،‬‬
‫وأعلم الحق تعالى بهذه اآلية أن النور مبطون في الظلمة ‪ ،‬فلو ال النور ما كانت الظلمة ‪ ،‬فإنه‬
‫تعالى لم يقل « نسلخ منه النور » إذ لو أخذ منه النور النعدم وجود الظالم ‪ ،‬إن كان أخذ عدم‬
‫‪ ،‬وإن كان أخذ انتقال تبعه حيث ينتقل ‪ ،‬إذ هو عين ذاته ‪ ،‬والنهار من بعض األنوار المتولدة‬
‫عن شروق الشمس ‪ ،‬فلو ال أن للظلمة نورا ذاتيا لها ما صح أن تكون ظرفا للنهار ‪،‬‬
‫وال صح أن تدرك ‪ ،‬وهي مدركة ‪ ،‬وال يدرك الشيء إن لم يكن فيه نور ‪ ،‬ويدرك به من ذاته ‪،‬‬
‫وهو عين وجوده واستعداده بقبول إدراك األبصار بما فيها من األنوار له ‪،‬‬
‫واختص اإلدراك بالعين عادة ‪ ،‬ومن ذلك نعلم أن الليل ظل النور ‪ ،‬والنهار لما سلخ من الليل‬
‫ظهر نورا ‪ ،‬فظهرت األشياء التي كانت مستورة بالليل ‪ ،‬ظهرت بنور النهار ‪ ،‬فلم يشبه النهار‬
‫الليل وأشبه النور ‪ ،‬فإنه لو سلخ من الظل جميعه أمر ما لخرج على صورة الظل ‪،‬‬
‫والظل على صورة ما هو ظل له ‪ ،‬فالخارج من الظل المسلوخ منه على صورة الشخص ‪،‬‬
‫فلذلك خرج النهار لما سلخ من الليل على صورة النور ‪،‬‬
‫‪ -‬تنبيه هذه هي عملية التصوير الشمسي‪- .‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬آية ‪] 38‬‬


‫يز ْالعَ ِل ِيم) ‪( 38‬‬
‫ِير ْالعَ ِز ِ‬
‫س ت َ ْج ِري ِل ُم ْستَقَ ٍ هر لَها ذ ِل َك ت َ ْقد ُ‬ ‫َوال َّ‬
‫ش ْم ُ‬

‫ص ‪465‬‬

‫‪465‬‬
‫قرأ ابن مسعود « والشمس تجري ال مستقر لها » وهذا من حكم التقليب ‪ ،‬فترى الشمس التي‬
‫هي علة الليل والنهار تجري ال مستقر لها ‪ ،‬ليال وال نهارا ‪ ،‬فإن الشمس ال مستقر لها عند من‬
‫علمها وما جهلها ‪ ،‬فيقال ‪ :‬الشمس رجعت في زيادة النهار ونقصه وما عندها رجوع ‪ ،‬بل هي‬
‫على طريقها ‪ ،‬فمن أغاليط النفس ‪ ،‬القول برجوع الشمس ‪ ،‬وما رجعت ‪ ،‬وال نزلت وال‬
‫ارتفعت ‪ ،‬هي في فلكها سابحة ‪ ،‬غادية رائحة ‪ ،‬غدوها ورواحها حكم البصر ‪ ،‬وما يعطيه في‬
‫الكرة النظر ‪ ،‬وقرأ غير ابن مسعود« ِل ُم ْستَقَ ٍ هر لَها »فلها مستقر يراه عين المؤمن في اإليمان‬
‫بالخبر ‪ ،‬وكل ذلك صحيح ‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬آية ‪] 39‬‬


‫ِيم ) ‪( 39‬‬‫ون ا ْلقَد ِ‬ ‫َوا ْلقَ َم َر قَد ْهرناهُ َم ِ‬
‫ناز َل َحتهى عا َد كَا ْلعُ ْر ُج ِ‬
‫[ بحث في فلك المنازل ]‬
‫« َو ْالقَ َم َر »ولم يسمه بدرا وال هالال ‪ ،‬فإنه في هاتين الحالتين ما له سوى منزلة واحدة بل‬
‫ناز َل »إال في القمر ‪ ،‬فللقمر درج التداني والتدلي ‪ ،‬وله األخذ‬ ‫اثنتين ‪ ،‬فال يصدق قوله « َم ِ‬
‫ناز َل »مقادير التقاسيم التي في فلك البروج‬ ‫بالزيادة والنقص ‪ ،‬فهو يتغير في أحواله« قَد َّْرناهُ َم ِ‬
‫‪ ،‬عيهنها الحق تعالى لنا ‪ ،‬إذ لم يميزه البصر بهذه المنازل المعينة في الفلك المكوكب ‪ ،‬واسمه‬
‫فلك المنازل ‪ ،‬وهو من تقدير العزيز العليم ‪ ،‬وجعلها ثماني وعشرين منزلة ‪ ،‬مقسمة على اثني‬
‫عشر برجا ‪ ،‬فلكل برج منزلتان وثلث ‪ ،‬والقمر أحد السبعة الجواري التي في السماوات السبع‬
‫‪ ،‬والتي تقطع في فلك البروج بين سريع وبطيء ‪ ،‬ويوم كل كوكب منها بقدر قطعه فلك‬
‫البروج ‪ ،‬فأسرعها قطعا القمر ‪ ،‬فإن يومه ثمانية وعشرون يوما من أيام الدورة الكبرى التي‬
‫تقدر بها هذه األيام ‪ ،‬وهي األيام المعهودة عند الناس ‪ ،‬فأقصر أيام لكواكب يوم القمر ‪،‬‬
‫ومقداره ثمانية وعشرون يوما مما تعدون ‪ -‬بحث في فلك المنازل ‪ -‬هو في جوف الفلك‬
‫األطلس الذي هو السماء ذات البروج كحلقة في فالة ‪ ،‬وهذا الفلك أرض الجنة ‪ ،‬واألطلس‬
‫ّللا في مقعر هذا الفلك ثماني‬ ‫ّللا ‪ ،‬وعيهن ه‬ ‫سماؤها ‪ ،‬وبينهما فضاء ال يعلم منتهاه إال من أعلمه ه‬
‫وعشرين منزلة مع ما أضاف إلى هذه الكواكب التي سميت منازل لقطع السيارة فيها ‪ ،‬وال‬
‫فرق بينها وبين سائر الكواكب األخرى التي ليست بمنازل في سيرها ‪ ،‬وفيما يختص به من‬
‫األحكام في نزولها الذي ذكرناه في البروج قال تعالى «‪َ :‬و ْالقَ َم َر قَد َّْرناهُ َم ِ‬
‫ناز َل »يعني هذه‬
‫المنازل المعينة في الفلك المكوكب ‪ ،‬وهي كالمنطقة بين الكواكب‬

‫ص ‪466‬‬

‫‪466‬‬
‫من الشرطين إلى الرشا ‪ ،‬وهي تقديرات وفروض في هذا الجسم ‪ ،‬وال تعرف أعيان هذه‬
‫المقادير إال بهذه الكواكب ‪ ،‬كما أنه ما عرفت أنها منازل إال بنزول السيارة فيها ‪ ،‬ولوال ذلك‬
‫ما تميزت عن سائر الكواكب إال بأشخاصها ‪ ،‬وكواكب المنازل تتكون من كوكب واحد‬
‫كالصرفة ‪ ،‬إلى اثنين كالذراع ‪ ،‬إلى ثالثة كالبطين والشرطين ‪ ،‬إلى أربعة كالجبهة ‪ ،‬إلى‬
‫خمسة كالعوالي ‪ ،‬إلى ستة كالدبران ‪ ،‬إلى سبعة كالثريا ‪ ،‬إلى تسعة كالنعائم ‪،‬‬
‫وليس للثمانية وجود في المنازل ‪ ،‬والسيارة ال نزول لها وال سكون ‪ ،‬بل هي قاطعة أبدا ‪ ،‬وقد‬
‫يكون مرورها على عين كواكب المنزلة ‪،‬‬
‫وقد يكون فوقها وتحتها ‪ ،‬على الخالف الذي في حد المنزلة ما هو ‪ ،‬فسميت منزلة مجازا ‪،‬‬
‫فإن الذي يحل فيها ال استقرار له ‪ ،‬وإنه سابح كما كان قبل وصوله إليها في سباحته ‪ ،‬فراعى‬
‫المسمي ما يراه البصر من ذلك ‪ ،‬فإنه ال يدرك الحركة ببصره إال بعد المفارقة ‪ ،‬فبذلك القدر‬
‫يسميها منزلة ‪،‬‬
‫ّللا لكل كوكب من هذه الكواكب قطعا في الفلك األطلس ‪،‬‬ ‫ألنه حظ البصر فغلهبه وجعل ه‬
‫ليحصل من الخزائن التي في بروجه وبأيدي مالئكته االثني عشر من علوم التأثير ما تعطيه‬
‫حقيقة كل كوكب ‪ ،‬وجعلها على طبائع مختلفة ‪،‬‬
‫والنور الذي فيها وفي سائر السيارة من نور الشمس ‪ ،‬وبسباحة هذه الكواكب تحدث أفالكا في‬
‫ّللا في جوف هذا الفلك سبع سماوات طباقا ‪ ،‬أجساما شفافة ‪،‬‬ ‫هذا الفلك أي طرقا ‪ ،‬وجعل ه‬
‫وجعل في كل سماء منها كوكبا وهي الجواري ‪ ،‬منها القمر في السماء الدنيا ‪ ،‬وأوحى في كل‬
‫سماء أمرها ‪،‬‬
‫وجعل إمضاء األمور التي أودعها السماوات في عالم األركان عند سباحة هذه الجواري ‪،‬‬
‫وجعلهم نوابا متصرفين بأمر الحق لتنفيذ هذه األمور التي أخذوها من خزائن البروج في السنة‬
‫بكمالها ‪ ،‬وقدهر لها المنازل المعلومة التي في الفلك المكوكب ‪،‬‬
‫ّللا بين السماء السابعة‬
‫وجعل لها اقترنات وافتراقات ‪ ،‬كل ذلك بتقدير العزيز العليم ‪ ،‬وجعل ه‬
‫والفلك المكوكب كراسي عليها صور كصور الثقلين ‪ ،‬وستور مرفوعة بأيدي مالئكة مطهرة‬
‫ليس لهم إال مراقبة تلك الصور ‪ ،‬وبأيديهم تلك الستور ‪،‬‬
‫فإذا نظر الملك إلى الصورة قد سمجت وتغيرت عما كانت عليه من الحسن أرسل الستر بينها‬
‫ّللا مراقبا تلك الصورة ‪،‬‬
‫وبين سائر الصور ‪ ،‬فال يعرفون ما طرأ ‪ ،‬وال يزال الملك من ه‬
‫فإذا رأى تلك الصورة قد زال عنها ذلك القبح وحسنت رفع الستر فظهرت في أحسن زينة ‪،‬‬
‫وتسبيح تلك الصور وهؤالء األرواح الملكية الموكلة بالستور‬
‫[ سبحان من‬

‫ص ‪467‬‬

‫‪467‬‬
‫أظهر الجميل وستر القبيح ]‬
‫وخلق تعالى في كل سماء عالما من األرواح والمالئكة يعمرونها ‪ ،‬فأما المالئكة فهم السفراء‬
‫النازلون بمصالح العالم ‪ ،‬وما يحدث عن حركات الكواكب كلها وعن حركة األطلس ال علم‬
‫لهؤالء السفرة بذلك حتى تحدث ‪ ،‬فلكل واحد منهم مقام معلوم ال يتعداه ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬كل ذلك تقدير من العزيز العليم ‪.‬‬
‫وباقي العالم شغلهم التسبيح والصالة والثناء على ه‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬آية ‪]40‬‬


‫س يَ ْنبَ ِغي لَها أ َ ْن ت ُ ْد ِر َك ْالقَ َم َر َوال اللَّ ْي ُل سابِ ُق النَّ ِ‬
‫هار َو ُك ٌّل فِي فَلَكٍ يَ ْسبَ ُحونَ ) ‪( 40‬‬ ‫ال ال َّ‬
‫ش ْم ُ‬

‫الفلك ال يكون إال مستديرا ‪ ،‬ففي كل سماء فلك وهو الذي تحدثه سباحة كوكب ذلك السماء ‪،‬‬
‫فالكواكب تسبح في أفالكها ‪ ،‬لكل فلك كوكب ‪ ،‬فعدد األفالك بعدد الكواكب ‪ ،‬لذلك قال تعالى‬
‫‪َ «:‬و ُك ٌّل فِي فَلَكٍ يَ ْسبَ ُحونَ »‬
‫واألفالك لوال سباحة الكواكب ما ظهر لها عين في السماوات ‪ ،‬فهي فيها كالطرق في األرض‬
‫‪ ،‬يحدث كونها طريقا بالماشي فيها ‪ ،‬فهي أرض من حيث عينها ‪،‬‬
‫وطريق من حيث المشي فيها ‪ ،‬ودل ذلك على أن الكواكب السابحة تقطع في الثابتة ‪،‬‬
‫والثابتة والسابحة تقطع في الفلك المحيط ‪ ،‬فدل على أن الكواكب الثابتة تقطع في فلك البروج‬
‫األطلس ‪ ،‬والفلك الشيء المستدير ‪،‬‬
‫فالكواكب تقطع في فلك واحد وهو فلك البروج ‪ ،‬ولكل واحد منها فلك يخصه يسبح فيه ‪ ،‬ال‬
‫يشاركه فيه غيره ‪ ،‬وهكذا كل موجود له طريق يخصه ال يسلك عليها أحد غيره روحا وطبعا‬
‫‪ ،‬فال يجتمع اثنان في مزاج واحد أبدا ‪،‬‬
‫وال يجتمع اثنان في منزلة واحدة أبدا ‪ ،‬فاألمر في جميع المخلوقات وإن جمعهم مقام فإنه‬
‫يفرقهم مقام‬
‫س يَ ْنبَ ِغي لَها أ َ ْن ت ُ ْد ِر َك ْالقَ َم َر »في علو المرتبة والشرف ‪،‬‬ ‫‪ -‬إشارة ال تفسير ‪َ «-‬ال ال َّ‬
‫ش ْم ُ‬
‫فالشمس تشير إلى عالم الشهادة والقمر إلى عالم الغيب ‪ ،‬فإن آية القمر ممحوة عن العالم‬
‫ّللا في‬
‫الظاهر ‪ ،‬وآية الشمس ظاهرة ‪ ،‬فكان ذلك للعارفين تقوية لكتم آياتهم التي أعطاهم ه‬
‫بواطنهم وأجراها فيهم‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬اآليات ‪ 41‬إلى ‪] 51‬‬


‫ون ) ‪َ ( 41‬و َخلَ ْقنا لَ ُه ْم ِم ْن ِمثْ ِل ِه ما يَ ْر َكبُ َ‬
‫ون ( ‪42‬‬ ‫ش ُح ِ‬ ‫َوآيَةٌ لَ ُه ْم أَنها َح َم ْلنا ذُ ِ ّريهت َ ُه ْم فِي ا ْلفُ ْل ِك ا ْل َم ْ‬
‫ون ) ‪ِ ( 43‬إاله َرحْ َمة ِمنها َو َمتاعا ِإلى ِح ٍ‬
‫ين (‬ ‫ص ِري َخ لَ ُه ْم َوال ُه ْم يُ ْنقَذُ َ‬ ‫) َو ِإ ْن نَشَأ ْ نُ ْغ ِر ْق ُه ْم فَال َ‬
‫‪) 44‬‬

‫ص ‪468‬‬

‫‪468‬‬
‫ون ) ‪( 45‬‬ ‫َو ِإذا ِقي َل لَ ُه ُم اتهقُوا ما بَ ْي َن أ َ ْيدِي ُك ْم َوما َخ ْلفَ ُك ْم لَعَله ُك ْم ت ُ ْر َح ُم َ‬
‫ين ( ‪َ ) 46‬و ِإذا ِقي َل لَ ُه ْم أ َ ْن ِفقُوا ِم هما‬ ‫ع ْنها ُم ْع ِر ِض َ‬ ‫ت َر ِبّ ِه ْم ِإاله كانُوا َ‬ ‫يه ْم ِم ْن آيَ ٍة ِم ْن آيا ِ‬ ‫َوما تَأ ْ ِت ِ‬
‫ضال ٍل‬ ‫ّللاُ أ َ ْطعَ َمهُ إِ ْن أ َ ْنت ُ ْم إِاله فِي َ‬‫ِين آ َمنُوا أ َ نُ ْط ِع ُم َم ْن لَ ْو يَشا ُء ه‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِللهذ َ‬ ‫ّللاُ قا َل الهذ َ‬ ‫َر َزقَ ُك ُم ه‬
‫واحدَة‬
‫ص ْي َحة ِ‬ ‫ون إِاله َ‬ ‫ظ ُر َ‬ ‫ين ( ‪ ) 48‬ما يَ ْن ُ‬ ‫ون َمتى هذَا ا ْل َو ْع ُد إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬ ‫ين ) ‪َ ( 47‬ويَقُولُ َ‬ ‫ُمبِ ٍ‬
‫ون ) ‪( 50‬‬ ‫ون ت َ ْو ِصيَة َوال ِإلى أ َ ْه ِل ِه ْم يَ ْر ِجعُ َ‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫ون ) ‪ ( 49‬فَال يَ ْ‬ ‫تَأ ْ ُخذُ ُه ْم َو ُه ْم يَ ِخ ِ ّ‬
‫ص ُم َ‬
‫ون) ‪( 51‬‬ ‫سلُ َ‬ ‫ث ِإلى َر ِبّ ِه ْم يَ ْن ِ‬ ‫ور فَ ِإذا ُه ْم ِم َن ْاألَجْ دا ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫َونُ ِف َخ فِي ال ُّ‬

‫[من أين ضل القائلون بالتناسخ ؟ ]‬


‫ّللا على صورة القرن ‪ ،‬وسمي بالصور من باب تسمية الشيء باسم‬ ‫اعلم أن الصور أوجده ه‬
‫الشيء ‪ ،‬إذا كان مجاورا له أو كان منه بسبب ‪ ،‬فإن الروح إذا أعرض عن هذا الجسم الذي‬
‫كانت حياته به ‪ ،‬تجلى على صورة من الصور الذي هو البرزخ ‪ ،‬وهو بالصاد جمع صورة ‪،‬‬
‫فحييت به تلك الصورة في البرزخ ‪ ،‬فلما كان هذا القرن محال لجميع الصور البرزخية التي‬
‫تنتقل إليها األرواح بعد الموت وفي النوم ‪ ،‬سمي صورا جمع صورة ‪ ،‬وشكله شكل القرن‬
‫أعاله واسع وأسفله ضيق ‪ ،‬على شكل العالم ‪ ،‬أين سعة العرش من ضيق األرض ؟ وتنتقل‬
‫دراكة بجميع القوى‬‫القوى مع الروح إلى تلك الصورة البرزخية نوما وموتا ‪ ،‬ولهذا تكون ه‬
‫سواء ‪ ،‬ومن هنا زل القائلون بالتناسخ لما رأوا أو سمعوا أن األنبياء قد نبهت على انتقال‬
‫األرواح إلى هذه الصور البرزخية ‪ ،‬وتكون فيها على صورة األخالق ‪ ،‬كقوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫وسلم في نسمة المؤمن ‪:‬‬
‫إنه طير أخضر ‪ ،‬فرأى أهل التناسخ تلك األخالق في الحيوانات ‪ ،‬فتخيلوا في قول األنبياء‬
‫والرسل والعلماء أن ذلك راجع إلى هذه الحيوانات التي في الدار الدنيا ‪ ،‬وأنها ترجع إلى‬
‫التخليص ‪ ،‬وذكروا ما قد علمت من مذهبهم ‪ ،‬فأخطئوا في النظر وفي تأويل أقوال الرسل وما‬
‫جاء في ذلك من الكتب المنزلة ‪ ،‬فما أتي عليهم إال من سوء التأويل في القول الصحيح‪.‬‬

‫ص ‪469‬‬

‫‪469‬‬
‫[سورة يس ( ‪ : ) 36‬آية ‪] 52‬‬
‫ون ( ‪) 52‬‬ ‫ق ا ْل ُم ْر َ‬
‫سلُ َ‬ ‫ص َد َ‬ ‫الرحْ ُ‬
‫من َو َ‬ ‫قالُوا يا َو ْيلَنا َم ْن بَعَثَنا ِم ْن َم ْرقَدِنا هذا ما َو َ‬
‫ع َد ه‬
‫« هذا »لها وجه تعلق إلى« ما» ‪ ،‬ووجه إلى« َم ْرقَدِنا »‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬اآليات ‪ 53‬إلى ‪] 57‬‬


‫ش ْيئا‬
‫س َ‬ ‫ون ( ‪ ) 53‬فَا ْليَ ْو َم ال ت ُ ْظلَ ُم نَ ْف ٌ‬ ‫ض ُر َ‬ ‫واحدَة فَ ِإذا ُه ْم َج ِمي ٌع لَ َد ْينا ُمحْ َ‬ ‫ص ْي َحة ِ‬ ‫ِإ ْن كانَتْ ِإاله َ‬
‫ون ( ‪ُ ) 55‬ه ْم‬ ‫شغُ ٍل فا ِك ُه َ‬ ‫ون ( ‪ِ ) 54‬إ هن أَص َ‬
‫ْحاب ا ْل َجنه ِة ا ْليَ ْو َم ِفي ُ‬ ‫َوال تُجْ َز ْو َن ِإاله ما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬
‫ُون ( ‪) 57‬‬ ‫ُن ( ‪ ) 56‬لَ ُه ْم فِيها فا ِك َهةٌ َولَ ُه ْم ما يَ هدع َ‬ ‫علَى ْاألَرائِ ِك ُمت ه ِكؤ َ‬ ‫َوأ َ ْزوا ُج ُه ْم فِي ِظال ٍل َ‬
‫[ حشر األجسام في اآلخرة ]‬
‫لوال حشر األجسام في اآلخرة لقامت بنفوس الزهاد والعارفين في اآلخرة حسرة الفوت ‪،‬‬
‫ّللا في اآلخرة جنة حسية‬ ‫ولتعذبوا لو كان االقتصار على الجنات المعنوية ال الحسية ‪ ،‬فخلق ه‬
‫وجنة معنوية ‪ ،‬وأباح لهم في الجنة الحسية ما تشتهي أنفسهم ‪ ،‬ورفع عنهم ألم الحاجات ‪،‬‬
‫فشهواتهم كاإلرادة من الحق إذا تعلقت بالمراد تكون ‪ ،‬فما أكل أهل السعادة لدفع ألم الجوع ‪،‬‬
‫باّلل من حيث ما كلفهم ‪ -‬فهم يجزون في األمور‬ ‫وال شربوا لدفع ألم العطش ولما اشتغلوا هنا ه‬
‫بالميزان الذي ح هد لهم ‪ ،‬خائفين من أن يطففوا أو يخسروا الميزان ‪ -‬جعل لهم سبحانه االشتغال‬
‫في اآلخرة بالجنة الحسية ألجسامهم الطبيعية ‪ ،‬والعارفون وغير العارفين في هذه الصورة‬
‫الحسية على السواء ‪ ،‬ويفوز العارفون بما يزيدون عليه من جنات المعاني ‪ ،‬واالشتغال‬
‫ّللا معهم من حيث نفوسهم‬ ‫بالشهوات هنا منع العامة وعلماء الرسوم في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وأهل ه‬
‫ّللا من وجه آخر ‪ ،‬فكما أنه ما حجبهم في الدنيا ما‬ ‫النباتية والحيوانية في هذا الشغل ‪ ،‬وهم مع ه‬
‫هم عليه من الحاجة إلى الغذاء مع قوة سلطانه في الدنيا لدفع اآلالم ‪ ،‬آالم الجوع والعطش‬
‫ّللا‬
‫واإلحساس بأنواع األشياء المؤلمة ‪ ،‬كذلك ال يحجبهم في اآلخرة نعيم الجنان المحسوس عن ه‬
‫في االتصاف بأسمائه التي تليق بالدار اآلخرة ‪ ،‬ألن لها أسماء ال يعلمها اليوم أحد أصال‪.‬‬

‫ص ‪470‬‬

‫‪470‬‬
‫[سورة يس ( ‪ : ) 36‬اآليات ‪ 58‬إلى ‪] 59‬‬
‫تازوا ا ْليَ ْو َم أَيُّ َها ا ْل ُمجْ ِر ُم َ‬
‫ون ( ‪) 59‬‬ ‫ام ُ‬‫يم ( ‪َ ) 58‬و ْ‬
‫ب َر ِح ٍ‬‫سال ٌم قَ ْوال ِم ْن َر ّ ٍ‬
‫َ‬
‫[ طوائف أهل النار ]‬
‫المجرمون هم الذين يدخلون النار باالستحقاق خاصة ‪ ،‬بأن يكونوا أهال لسكنى هذه الدار التي‬
‫هي جهنم ‪ ،‬من جن وإنس ‪ ،‬وهم أهلها الذي يعمرونها فال يخرجون منها أبدا ‪ ،‬ولهذا يقال لهم‬
‫تازوا ْاليَ ْو َم أَيُّ َها ْال ُم ْج ِر ُمونَ »أي أهل االستحقاق الذين يستحقون سكنى هذه‬ ‫يوم القيامة« َو ْام ُ‬
‫الدار ‪ ،‬يمتازون عن الذين يخرجون منها بشفاعة الشافعين وسابق العناية اإللهية في الموحدين‬
‫إلى الدار اآلخرة وهي الجنة ‪ ،‬فإنه ما عدا المجرمين وإن دخلوا النار فال بد أن يخرجوا منها‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬وهم الذين ما عملوا خيرا قط ‪ ،‬وهؤالء المجرمون أربع‬ ‫بشفاعة الشافعين ‪ ،‬أو بمنة ه‬
‫ّللا كفرعون وأمثاله ممن‬ ‫طوائف ‪ ،‬كلها في النار ال يخرجون منها ‪ ،‬وهم المتكبرون على ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وكذلك نمرود وغيره ‪ ،‬والطائفة الثانية المشركون ‪ ،‬وهم‬ ‫ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن ه‬
‫ّللا إلها آخر ‪ ،‬والطائفة الثالثة المعطلة وهم الذين نفوا اإلله جملة واحدة فلم‬ ‫الذين يجعلون مع ه‬
‫يثبتوا إلها للعالم ‪ ،‬والطائفة الرابعة المنافقون وهم الذين أظهروا اإلسالم من إحدى هذه‬
‫الطوائف للقهر الذي حكم عليهم ‪ ،‬فخافوا على دمائهم وأموالهم وذراريهم ‪ ،‬وهم في نفوسهم‬
‫على ما هم عليه من اعتقاد ‪ ،‬فهؤالء أربعة أصناف هم الذين هم أهل النار ال يخرجون منها‬
‫ّللا أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال ‪:‬‬ ‫من جن وإنس ‪ ،‬قالت عائشة ‪ :‬يا رسول ه‬
‫نعم إذا كثر الخبث بالمدينة ‪ ،‬فيعم الهالك الصالح والطالح ‪ ،‬ويمتازون في القيامة ‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬اآليات ‪ 61‬إلى ‪] 65‬‬


‫ون (‬‫ض هل ِم ْن ُك ْم ِجبِالًّ َكثِيرا أ َ فَلَ ْم تَكُونُوا ت َ ْع ِقلُ َ‬ ‫ست َ ِقي ٌم ( ‪َ ) 61‬ولَقَ ْد أ َ َ‬ ‫ط ُم ْ‬ ‫َوأ َ ِن ا ْعبُدُونِي هذا ِصرا ٌ‬
‫ون ( ‪ ) 64‬ا ْليَ ْو َم‬ ‫صلَ ْو َها ا ْليَ ْو َم بِما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكفُ ُر َ‬
‫ُون ( ‪ ) 63‬ا ْ‬ ‫عد َ‬ ‫‪ ) 62‬ه ِذ ِه َج َهنه ُم الهتِي ُك ْنت ُ ْم تُو َ‬
‫ون) ‪( 65‬‬ ‫سبُ َ‬ ‫ش َه ُد أ َ ْر ُجلُ ُه ْم ِبما كانُوا يَ ْك ِ‬ ‫نَ ْختِ ُم عَلى أ َ ْفوا ِه ِه ْم َوت ُ َك ِلّ ُمنا أ َ ْيد ِ‬
‫ِيه ْم َوت َ ْ‬

‫ص ‪471‬‬

‫‪471‬‬
‫[الجوارح شاهد مصدق يوم القيامة ]‬
‫كن في كل زمان صاحب علم وعمل ‪ ،‬وهو الذي حرضك الشرع عليه وأمرك به ‪ ،‬وندبك إليه‬
‫ّللا تعالى‬
‫‪ ،‬فاسع في نجاة نفسك ونجاة رعيتك بتمشيتهم على الطريقة الواضحة الشرعية ‪ ،‬فإن ه‬
‫يقيمهم يوم القيامة شهداء لك بالعدل وحسن النقيبة والسيرة والمعاشرة ‪ ،‬وإن عدلت بهم إلى‬
‫طريق المخالفات والمحظورات انعكس عليك ‪ ،‬وأوقفهم الحق يوم القيامة شهداء عليك بقبح‬
‫السيرة وسوء المعاشرة ‪ ،‬فالجوارح شاهد مصدهق يوم القيامة لمن تشهد عليه أو له ‪ ،‬فإن الجسم‬
‫الذي تولدت عنه النفس الناطقة له من الحق أنها ما دامت مدبرة له ال تحرك جوارحه إال في‬
‫ّللا على لسان الشارع لها ‪ ،‬فهذا ما يستحقه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬في األماكن واألحوال التي عيهنها ه‬
‫طاعة ه‬
‫الجسم على النفس الناطقة لما له عليها من حق الوالدة ‪ ،‬فمن النفوس من هو ابن بار فيسمع‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن النفوس ما هو ابن عاق فال يسمع وال يطيع ‪،‬‬ ‫ألبويه ويطيع ‪ ،‬وفي رضاهما رضى ه‬
‫فالجسم ال يأمر النفس إال بخير ‪ ،‬ولهذا يشهد على ابنه يوم القيامة جلود الجسم وجميع جوارحه‬
‫‪ ،‬فإن هذا االبن قهرها وصرفها حيث يهوى ‪ ،‬فلو ال شهادة المرء على نفسه بما شهدت به‬
‫جلوده وجوارحه ما ثبت كتاب وال كان حكم ‪ ،‬وما عذب من اعترف ‪ ،‬فإن الكرم اإللهي ال‬
‫يقتضيه ‪ ،‬والجوارح رعية ما هي الوالي فشكت الوالي ‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬اآليات ‪ 66‬إلى ‪] 69‬‬


‫س ْخنا ُه ْم‬
‫ون ( ‪َ ) 66‬ولَ ْو نَشا ُء لَ َم َ‬ ‫صرا َط فَأَنهى يُ ْب ِص ُر َ‬ ‫سنا عَلى أ َ ْعيُنِ ِه ْم فَا ْ‬
‫ستَبَقُوا ال ِ ّ‬ ‫َولَ ْو نَشا ُء لَ َط َم ْ‬
‫ق أ َ فَال‬
‫سهُ فِي ا ْل َخ ْل ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 67‬و َم ْن نُعَ ِ ّم ْر ُه نُنَ ِ ّك ْ‬ ‫ستَطاعُوا ُم ِضيًّا َوال يَ ْر ِجعُ َ‬ ‫عَلى َمكانَتِ ِه ْم فَ َما ا ْ‬
‫ين ( ‪) 69‬‬ ‫آن ُم ِب ٌ‬ ‫ش ْع َر َوما يَ ْنبَ ِغي لَهُ ِإ ْن ُه َو ِإاله ِذ ْك ٌر َوقُ ْر ٌ‬ ‫عله ْمنا ُه ال ِ ّ‬‫ون ( ‪َ ) 68‬وما َ‬ ‫يَ ْع ِقلُ َ‬
‫ش ْع َر ‪ » . . .‬اآلية ]‬ ‫علَّ ْمناهُ ال ِ ه‬
‫[ « َوما َ‬
‫صال ‪ ،‬والشعر من الشعور ‪ ،‬فمحله اإلجمال ال‬ ‫ش ْع َر »ألنه أرسل مبيهنا مف ه‬ ‫علَّ ْمناهُ ال ِ ه‬
‫" َوما َ‬
‫ش ْع َر »لقولهم هو شاعر ‪ ،‬فإن الشعر‬ ‫علَّ ْمناهُ ال ِ ه‬
‫التفصيل وهو خالف البيان ‪ ،‬وقال تعالى ‪َ «:‬وما َ‬
‫محل اإلجمال والرموز واأللغاز والتورية ‪ ،‬أي ما رمزنا له شيئا وال لغزناه ‪ ،‬وال خاطبناه‬
‫بشيء ونحن نريد شيئا آخر ‪ ،‬وال أجملنا له الخطاب ‪ ،‬ألنه تعالى بعثه بالبيان الشافي ‪ ،‬ووضع‬
‫الشعر ليس على هذا البناء ‪ ،‬وإن كان يقع فيه البيان« َوما يَ ْنبَ ِغي لَهُ إِ ْن ُه َو »يعني هذا الذي‬

‫ص ‪472‬‬

‫‪472‬‬
‫بعثناه به« ِإ َّال ِذ ْك ٌر »ألنه أخذه عن مجالسة من الحق لما شاهده ‪ ،‬حين جذبناه وغيبناه عنه‬
‫وأحضرناه بنا عندنا ‪ ،‬فكنا سمعه وبصره ‪ ،‬ثم رددناه إليكم لتهتدوا به في ظلمات الجهل‬
‫والكون ‪ ،‬فكنا لسانه الذي يخاطبكم به ‪،‬‬
‫آن »أي جمع أشياء كان‬‫ثم أنزلنا عليه مذ هكرا يذكره بما شاهده ‪ ،‬فهو ذكر له لذلك« َوقُ ْر ٌ‬
‫ين »أي ظاهر له ‪،‬‬‫شاهدها عندنا« ُم ِب ٌ‬
‫صل ‪ ،‬في عين الجمع ‪ ،‬لعلمه بأصل ما شاهده‬ ‫ما فيه لغز وال رمز كما هو في الشعر ‪ ،‬فهو مف ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فما أخذه عن شعور‬ ‫وعاينه في ذلك التقريب األنزه األقدس الذي نال منه صلهى ه‬
‫‪،‬‬
‫فإنه كل ما عيهنه صاحب الشعور في المشعور به فإنه حدس ‪ -‬ولو وافق األمر ويكون علما ‪-‬‬
‫فما هو على بصيرة ‪ ،‬وهذا هو الفرق بين العلم والشعور ‪ ،‬فحظ الشعور من العلم أن تعلم أن‬
‫خلف الباب أمرا ما على الجملة ‪ ،‬ال يعلم ما هو ‪ ،‬وأما العلم فال يكون حصوله إال عن كشف‬
‫بعد فتح الباب ‪ ،‬يعطيه الجود اإللهي ويبديه ويوضحه ‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬آية ‪] 70‬‬


‫ين ( ‪) 70‬‬ ‫علَى ا ْلكافِ ِر َ‬ ‫ق ا ْلقَ ْو ُل َ‬ ‫ِليُ ْنذ َِر َم ْن َ‬
‫كان َحيًّا َويَ ِح ه‬
‫[ المستغرقون بهذه الدار الدنيا أموات غير أحياء ]‬
‫المستغرقون بهذه الدار الدنيا أموات غير أحياء وما يشعرون ‪ ،‬والمؤمنون قد تهيئوا للحياة فال‬
‫بستهم ‪ ،‬فانسحب عليهم اسم الحياة وإن لم يتحققوا بها ‪ ،‬ولذلك وعدوا مهلة بسوف والسين ‪،‬‬
‫ع ِظيما ً )فبمالبسة الحياة يسمعون من النبي صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ف نُؤْ ِتي ِه أ َ ْجرا ً َ‬ ‫قال سبحانه وتعالى ‪ (:‬فَ َ‬
‫س ْو َ‬
‫ّللا جارية بالمناسبة ‪ ،‬فال يسمع‬
‫عليه وسلم ألنه قد صار حياة محضة ال موت فيها ‪ ،‬وحكمة ه‬
‫ّللا عليه وسلم « لتنذر من كان حيا » وقيل له( ِإنَّ َك ال‬ ‫من الحي إال حي ‪ ،‬ولذلك قيل له صلهى ه‬
‫ور )وقد نادى قتلى مشركي بدر وأخبر‬ ‫ت ِب ُمس ِْم ٍع َم ْن فِي ْالقُبُ ِ‬ ‫تُس ِْم ُع ْال َم ْوتى )وقيل له( َوما أ َ ْن َ‬
‫أنهم يسمعون قوله ‪ ،‬فمن البسته الحياة سمع من الحي وأسمع الميت ‪ ،‬ألنه بجزئه الحي ناسب‬
‫الحي فاستمد منه ‪ ،‬وبجزئه الميت ناسب الميت فأمده ‪.‬‬

‫[ سورة يس ‪ ( 36 ) :‬آية ‪] 71‬‬


‫أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا أَنها َخلَ ْقنا لَ ُه ْم ِم هما ع َِملَتْ أ َ ْيدِينا أ َ ْنعاما فَ ُه ْم لَها ما ِلك َ‬
‫ُون ( ‪) 71‬‬
‫[ كل يد خالقة في العالم هي يد الحق ‪ ،‬يد ملك وتصريف ]‬
‫ّللا في تشريف خلق آدم عليه السالم باليدين قوله معرفا األناسي الحيوانيين بكمال األناسي‬ ‫زاد ه‬
‫المكملين« أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا »الضمير في يروا يعود على األناسي الحيوانيين ‪ «،‬أَنَّا َخلَ ْقنا لَ ُه ْم »أي‬
‫من أجلهم ‪ ،‬الضمير في« لَ ُه ْم »يعود على األناسي الكمل المقصودين من العالم بالخطاب‬

‫ص ‪473‬‬

‫‪473‬‬
‫ت أ َ ْيدِينا »واأليدي ليست سوى أيدي األسباب ‪ ،‬فهي إضافة تشريف ‪ ،‬ال بل‬ ‫ع ِملَ ْ‬
‫اإللهي « ِم َّما َ‬
‫تحقيق ‪ ،‬يقال ‪ :‬ضرب األمير اللص ‪ ،‬وقطع األمير يد السارق ‪،‬‬
‫وإنما وقع القطع من يد بعض الوزعة ‪ ،‬واألمر بالقطع من األمير ‪ ،‬فنسب القطع إلى األمير ‪،‬‬
‫فأضاف هنا عمل الخلق إلى األيدي اإللهية وع هم األسماء اإللهية بالنون من أيدينا ‪،‬‬
‫وذلك لتمام التشريف الذي شرف به آدم عليه السالم في إضافة خلقه إلى يديه« أ َ ْنعاما ً »وهي‬
‫ّللا ‪ ،‬بخالف اإلنسان الحيواني ‪ ،‬فإنه‬ ‫من إنعامه عليهم« فَ ُه ْم لَها ما ِل ُكونَ »فملكوها بتمليك ه‬
‫ّللا عليه بذلك ‪ ،‬فيتصرف في المخلوقات اإلنسان‬ ‫يملكها عند نفسه بنفسه ‪ ،‬غافال عن إنعام ه‬
‫الحيوان بحكم التبعية ‪ ،‬ويتصرف اإلنسان الكامل فيها بحكم التمليك اإللهي ‪ ،‬فتصرفه فيها بيد‬
‫ت أ َ ْيدِينا »فجمع‬‫ع ِملَ ْ‬
‫ّللا ‪ ،‬فكل مخلوق في العالم فمضاف خلقه إلى يد إلهية ‪ ،‬ألنه قال ‪ِ «:‬م َّما َ‬ ‫ه‬
‫كل يد خالقة في العالم ‪ ،‬فهي يده ‪ ،‬يد ملك وتصريف ‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬اآليات ‪ 72‬إلى ‪] 73‬‬


‫ب أ َ فَال يَ ْ‬
‫شك ُُر َ‬
‫ون‬ ‫شار ُ‬ ‫َوذَله ْلناها لَ ُه ْم فَ ِم ْنها َركُوبُ ُه ْم َو ِم ْنها يَأ ْ ُكلُ َ‬
‫ون ) ‪َ ( 72‬ولَ ُه ْم ِفيها َمنا ِف ُع َو َم ِ‬
‫( ‪) 73‬‬
‫اختص الحيوان في هذه اآلية ‪ ،‬باإلذالل لظهور حكم القصد فيه ‪ ،‬وألنه مستعد لإلباية لما هو‬
‫عليه من اإلرادة ‪ ،‬فلما توجه عليه االسم المذل صار حكمه تحت حكم من ال إرادة له وال قدرة‬
‫‪ ،‬لما تعطي هاتان الصفتان من العز لمن قامتا به ‪ ،‬فالحيوان مس هخر بطريق اإلذالل لحمل‬
‫األثقال ‪ ،‬أثقال اإلنسان وركوبه واستخدامه إياها في مصالحه ‪ .‬واعلم أن البهائم وإن كانت‬
‫ّللا لإلنسان ‪ ،‬فال تغفل عن كونك مسخرا لها بما تقوم به من النظر في‬ ‫مسخرة مذللة من ه‬
‫مصالحها ‪ ،‬في سقيها وعلفها ‪ ،‬وما يصلح لها من تنظيف أماكنها ‪ ،‬ومباشرة القاذورات‬
‫واألزبال من أجلها ‪ ،‬ووقايتها من الحر والبرد المؤذيات لها ‪ ،‬فهذا وأمثاله من كون الحق‬
‫ّللا أحوجك‬ ‫سخرك لها ‪ ،‬وجعل في نفسك الحاجة إليها ‪ ،‬فال فضل لك عليها بالتسخير ‪ ،‬فإن ه‬
‫إليها أكثر مما أحوجها إليك ‪ ،‬وجعل فيك الحاجة إليها ‪ ،‬وجميع البهائم تفر منك ممن لها آلة‬
‫الفرار ‪ ،‬وما هذا إال الستغنائها عنك ‪ ،‬وما جبلت عليه من العلم بأنك ضار لها ‪ ،‬ثم طلبك لها‬
‫فباّلل من تكون البهائم أغنى‬ ‫وبذل مجهودك في تحصيل شيء منها دليل على افتقارك إليها ‪ ،‬ه‬
‫منه كيف‬

‫ص ‪474‬‬

‫‪474‬‬
‫يحصل في نفسه أنه أفضل منها ؟ !‬
‫ّللا ما يعرف األمور إال من شهدها ذوقا وعاينها ‪،‬‬
‫فو ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬لو تعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا‬ ‫قال رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم على حسن استعدادهم وسوء استعدادنا ‪،‬‬ ‫] فانظر في تنبيهه صلهى ه‬
‫حتى أنه من كان بهذه المثابة من الفكرة من الموت فغايته أن يحصل له استعداد البهائم ‪ ،‬وهو‬
‫ثناء على من حصل في هذا المقام وارتفاع في حقه ‪،‬‬
‫ّللا أن تشاركها في‬‫وكيف ينظر البهائم دون اإلنسان في االحتقار ‪ ،‬وغاية الثناء عليك من ه‬
‫صفتها ‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬اآليات ‪ 74‬إلى ‪] 77‬‬


‫ون نَص َْر ُه ْم َو ُه ْم لَ ُه ْم ُج ْن ٌد‬
‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫ون ) ‪ ( 74‬ال يَ ْ‬ ‫ص ُر َ‬ ‫ّللا آ ِل َهة لَعَله ُه ْم يُ ْن َ‬ ‫َوات ه َخذُوا ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬
‫اْل ْن ُ‬
‫سان‬ ‫ون ( ‪ ) 76‬أ َ َولَ ْم يَ َر ْ ِ‬ ‫ون َوما يُ ْع ِلنُ َ‬ ‫ون ) ‪ ( 75‬فَال يَحْ ُز ْنكَ قَ ْولُ ُه ْم ِإنها نَ ْعلَ ُم ما يُ ِ‬
‫س ُّر َ‬ ‫ض ُر َ‬ ‫ُمحْ َ‬
‫ين ( ‪) 77‬‬ ‫أَنها َخلَ ْقنا ُه ِم ْن نُ ْطفَ ٍة فَ ِإذا ُه َو َخ ِصي ٌم ُم ِب ٌ‬
‫[ اإلنسان بيهن الخصومة ‪ ،‬ظاهر بها ]‬
‫ّللا‬
‫«فهو خصيم مبين » أي بيهن الخصومة ظاهر بها ‪ ،‬وذلك لدعواه في الربوبية ‪ ،‬وما خلقه ه‬
‫إال عبدا ‪ ،‬فال يتجاوز قدره ‪ ،‬فنازع ربه في ربوبيته ‪ ،‬وما نازعه مخلوق إال هو ‪،‬‬
‫ووصف خصومته باإلبانة ‪ ،‬فإنه ما من خصام يكون من مخلوق في أمر ما ‪ -‬خالف دعوى‬
‫الربوبية ‪ -‬إال وهو ممكن أن الحق بيده في ذلك ‪ ،‬ويخفى على السامع والحاكم ‪ ،‬فال يدري هل‬
‫الحق معه أو مع خصمه ؟‬
‫وهل هو صادق في دعواه أو هو كاذب ؟‬
‫لالحتمال المتطرق في ذلك ‪ ،‬إال دعواه في الربوبية فإنه يعلم من نفسه ويعلم كل سامع من‬
‫ين »‬ ‫َصي ٌم ُم ِب ٌ‬ ‫ّللا ‪ ،‬فلهذا قيل فيه« خ ِ‬ ‫ّللا أنه كاذب في دعواه ‪ ،‬وأنه عبد ‪ ،‬ولذلك خلقه ه‬ ‫خلق ه‬
‫أي ظاهر الظلم في خصومته ‪ ،‬فمن نازع ربه في ربوبيته كيف يكون حاله ؟‬
‫ثم إن هذا اإلنسان ليته يسعى في ذلك في حق نفسه ‪ ،‬فإنه يعلم من نفسه أنه ليس له حظ في‬
‫ّللا ‪ ،‬من حجر أو نبات أو حيوان أو إنسان مثله‬ ‫الربوبية ‪ ،‬ثم يعترف بالربوبية لخلق من خلق ه‬
‫أو جان أو ملك أو كوكب ‪ ،‬فإنه ما بقي صنف من المخلوقات إال وقد عبد منه ‪ ،‬وما عبده إال‬
‫اإلنسان الحيوان ‪ ،‬فأشقى الناس من باع آخرته بدنيا غيره ‪،‬‬
‫ومن هلك فيما ال يحصل بيده منه شيء ‪ ،‬فيشهد على نفسه أنه أجهل الناس بغيره ‪ ،‬وأعلم‬
‫الناس بنفسه ‪ ،‬ألنه ما ادعاها لنفسه ‪ ،‬ومن ادعاها لنفسه فإنما استخف قومه ‪ ،‬فجميع‬
‫ّللا إال بعض الناس ‪ ،‬فاإلنسان ألد الخصام ‪،‬‬ ‫المخلوقات عبدوا ه‬

‫ص ‪475‬‬

‫‪475‬‬
‫حيث خاصم فيما هو ظاهر الظلم فيه ‪ ،‬وليس إال الربوبية ‪ ،‬وهل رأيتم عبدا يخاصم ربه إال إذا‬
‫خرج عن عبوديته وزاحم سيده في ربوبيته ؟ ‪.‬‬

‫[ سورة يس ( ‪ ) : 36‬اآليات ‪ 78‬إلى ‪] 82‬‬


‫ي َر ِمي ٌم ( ‪ ) 78‬قُ ْل يُحْ ِيي َها الهذِي أ َ ْنشَأَها‬ ‫ي َخ ْلقَهُ قا َل َم ْن يُحْ ي ِ ا ْل ِعظا َم َو ِه َ‬‫س َ‬ ‫ب لَنا َمثَال َونَ ِ‬ ‫َو َ‬
‫ض َر َ‬
‫ض ِر نارا فَ ِإذا أ َ ْنت ُ ْم ِم ْنهُ‬ ‫ش َج ِر ْاأل َ ْخ َ‬
‫ع ِلي ٌم ( ‪ ) 79‬الهذِي َجعَ َل لَ ُك ْم ِم َن ال ه‬ ‫ق َ‬ ‫أ َ هو َل َم هر ٍة َو ُه َو ِب ُك ِ ّل َخ ْل ٍ‬
‫ق ِمثْلَ ُه ْم بَلى َو ُه َو‬ ‫ض ِبقاد ٍِر عَلى أ َ ْن يَ ْخلُ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫س الهذِي َخلَ َ‬ ‫ُون ( ‪ ) 80‬أ َ َولَ ْي َ‬ ‫تُو ِقد َ‬
‫ُون ) ‪( 82‬‬ ‫ش ْيئا أ َ ْن يَقُو َل لَهُ ك ُْن فَيَك ُ‬‫ق ا ْلعَ ِلي ُم ( ‪ ) 81‬إِنهما أ َ ْم ُرهُ إِذا أَرا َد َ‬ ‫ا ْل َخاله ُ‬
‫[ األمر اإللهي أمران ‪ ،‬بالواسطة وبرفع الوسائط ]‬
‫« ِإنَّما أ َ ْم ُرهُ »األمر أمران ‪ :‬أمر بواسطة ‪ ،‬وأمر برفع الوسائط ‪ ،‬فأمره سبحانه برفع الوسائط‬
‫يتصور أن يعصى ‪ ،‬ألنه بكن ‪ ،‬إذ كن ال تقال إال لمن هو موصوف بلم يكن ‪ ،‬وما هو‬ ‫ه‬ ‫ال‬
‫موصوف بلم يكن ما يتصور منه اإلباية ‪ ،‬وإذا كان األمر اإللهي بالواسطة فال يكون بكن ‪،‬‬
‫فإنها من خصائص األمر العدمي الذي ال يكون بواسطة ‪ ،‬وإنما يكون األمر بما يدل على‬
‫الفعل ‪ ،‬فيؤمر بإقامة الصالة وإيتاء الزكاة ‪،‬‬
‫فيقال له ‪ :‬أقم الصالة ‪ ،‬وآت الزكاة ‪ ،‬فاشتق له من اسم الفعل اسم األمر ‪ ،‬فيطيعه من شاء‬
‫منهم ويعصيه من شاء منهم ‪ ،‬واإلنسان ال يقدر على رفع ما تكون في نفسه ‪ ،‬فإن كن إنما‬
‫تعلقت بما تكون في نفس اإلنسان ‪ ،‬فكان الحكم لما تكون فيمن تكون ‪ ،‬فآمن وال بد ‪ ،‬أو صلى‬
‫وال بد ‪ ،‬أو صام وال بد ‪ ،‬على حسب ما تعطيه حقيقة األمر الذي تعلق به كن ‪ ،‬وقد يرد أمر‬
‫الواسطة وال يرد األمر اإللهي ‪ ،‬فال يجد المخاطب آلة يفعل بها ‪ ،‬فيظهر كأنه عاص ‪ ،‬وإنما‬
‫هو عاجز فاقد في الحقيقة ‪ ،‬ألنه ما تكون فيه ما أمر به أن يتكون عنه ‪ ،‬فال أطوع من الخلق‬
‫ألوامر الحق ‪ ،‬أي لقبول ما أمر الحق بتكوينه فيه ‪ ،‬ولكن ال يشعرون ‪ ،‬وليست األوامر التي‬
‫أوجبنا طاعتها ‪ ،‬إال األوامر اإللهية ‪ ،‬ال األوامر الواردة على ألسنة الرسل ‪ ،‬فإن اآلمر من‬
‫الخلق طائع فيما أمر ‪ ،‬ألنه لو لم يؤمر بأن يأمر ما أمر ‪ ،‬فلو أن الذي أمره يسمع المأمور‬
‫بذلك األمر أمره المتثل ‪،‬‬

‫ص ‪476‬‬

‫‪476‬‬
‫ّللا ال يعصى إذا ورد بغير الوسائط ‪ ،‬فاألمر اإللهي ال يخالف اإلرادة اإللهية ‪ ،‬فإنها‬ ‫فإن أمر ه‬
‫داخلة في حدهه وحقيقته ‪،‬‬
‫وإنما وقع االلتباس من تسميتهم صيغة األمر ‪ -‬وليست بأمر ‪ -‬أمرا ‪ ،‬والصيغة مرادة بال شك ‪،‬‬
‫فأوامر الحق إذا وردت على ألسنة المبلغين فهي صيغ األوامر ال األوامر ‪ ،‬فتعصى ‪ ،‬وقد‬
‫يأمر اآلمر بما ال يريد وقوع المأمور به ‪،‬‬
‫ون »‬‫شيْئا ً أ َ ْن يَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬ ‫ّللا« ِإذا أَرا َد َ‬ ‫فما عصى أحد قط أمر ه‬
‫لم يكن لألعيان في حال عدمها شيء من النسب إال السمع ‪ ،‬فكانت األعيان مستعدة في ذواتها‬
‫في حال عدمها لقبول األمر اإللهي إذا ورد عليها بالوجود ‪ ،‬فلما أراد بها الوجود قال لها« ُك ْن‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬بالكالم‬
‫»فكانت وظهرت في أعيانها ‪ ،‬فكان الكالم اإللهي أول شيء أدركته من ه‬
‫الذي يليق به سبحانه ‪،‬‬
‫واألصل ثبوت العين ال وجودها ‪ ،‬ولم تزل بهذا النعت موصوفة ‪ ،‬وبقبولها سماع الخطاب إذا‬
‫خوطبت منعوتة ‪ ،‬فهي مستعدة لقبول نعت الوجود ‪ ،‬مسارعة لمشاهدة المعبود ‪ ،‬فلما قال لها‬
‫في حال عدمها« ُك ْن »كانت ‪ ،‬فبانت بنفسها وما بانت‬
‫‪ -‬بحث –‬
‫السماع اإللهي هو أول مراتب الكون ‪ ،‬وبه يقع الختام ‪ ،‬فأول وجود الكون بالسماع ‪ ،‬وآخر‬
‫انتهائه من الحق السماع ‪ ،‬ويستمر النعيم في أهل النعيم والعذاب في أهل العذاب ‪ ،‬فأما في‬
‫ّللا فامتثل ‪ ،‬فظهر عينه في الوجود‬ ‫مكون فإنما ظهر عن قول كن ‪ ،‬فأسمعه ه‬ ‫ابتداء كون كل ه‬
‫وكان عدما ‪ ،‬فسبحان العالم بحال من قال له ‪ :‬كن فكان ‪ ،‬فأول شيء ناله الممكن مرتبة‬
‫السماع اإللهي ‪ ،‬فإن كن صفة قول ‪ ،‬قال تعالى ‪ِ (:‬إنَّما قَ ْولُنا )والسماع متعلقه القول ‪ .‬وأما في‬
‫ون )فخاطبهم وهم يسمعون ‪ ،‬وأما في حق أهل‬ ‫سؤُا فِيها َوال ت ُ َك ِله ُم ِ‬ ‫االنتهاء في حق الكفار( ْ‬
‫اخ َ‬
‫الجنة فبعد الرؤية والتجلي الذي هو أعظم النعم عندهم في علمهم ‪،‬‬
‫فيقول ‪ [ :‬هل بقي لكم شيء ؟ فيقولون ‪ :‬يا ربنا وأي شيء بقي لنا ؟‬
‫نجيتنا من النار ‪ ،‬وأدخلتنا الجنة ‪ ،‬وملكتنا هذا الملك ‪ ،‬ورفعت الحجاب بيننا وبينك فرأيناك ‪،‬‬
‫وأي شيء بقي يكون عندنا أعظم مما نلناه ؟‬
‫فيقول سبحانه ‪ :‬رضاي عنكم فال أسخط عليكم أبدا ]‬
‫فأخبرهم بالرضا ودوامه وهم يسمعون ‪ ،‬فذلك أعظم نعيم وجدوه ‪ ،‬فختم بالسماع كما بدأ ‪ ،‬ثم‬
‫استصحبهم السماع دائما ما بين بدايتهم وغاية مراتب نعيمهم ‪ ،‬فطوبى لمن كانت له أذن واعية‬
‫لما يورده الحق في خطابه ‪.‬‬
‫[ سورة يس ( ‪ : ) 36‬آية ‪] 83‬‬
‫ون) ‪( 83‬‬ ‫ش ْي ٍء َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُ َ‬
‫حان الهذِي ِبيَ ِد ِه َملَكُوتُ ُك ِ ّل َ‬ ‫فَ ُ‬
‫س ْب َ‬

‫ص ‪477‬‬

‫‪477‬‬
‫صافّات مكيّة‬‫) ‪ ( 37‬سورة ال ّ‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬ ‫ّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬ ‫الر ِح ِ‬‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫بِ ْ‬
‫صفًّا ) ‪( 1‬‬ ‫ت َ‬‫صافها ِ‬
‫َوال ه‬
‫صفًّا »وهم المالئكة‬ ‫صافَّا ِ‬
‫ت َ‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬فقال «‪َ :‬وال َّ‬
‫ّللا تعالى بالمالئكة التي تصف عند ه‬ ‫أقسم ه‬
‫ّللا األفالك المستديرات ‪ ،‬فهي‬ ‫ع همار السماء الرابعة ‪ ،‬أو هم أصناف المالئكة التي أسكنها ه‬
‫الصافات التاليات ‪ ،‬فمنها القائمات والقاعدات ‪ ،‬ومنها الراكعات الساجدات ‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫إخبارا عنهم( َوما ِمنَّا إِ َّال لَهُ َمقا ٌم َم ْعلُو ٌم )فهم عمار السماوات ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 2‬‬


‫ت َزجْ را ) ‪( 2‬‬
‫اجرا ِ‬ ‫فَ ه‬
‫الز ِ‬
‫وهم من المالئكة المسخرات الموكلين باألرجاء وهم المالئكة ع همار الهواء ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 3‬‬


‫فَالتها ِليا ِ‬
‫ت ِذ ْكرا ) ‪( 3‬‬
‫والتاليات يتلو بعضها بعضا ‪ ،‬فالرسالة يتلو بعضها بعضا ‪ ،‬وهم المالئكة ع همار فلك الثوابت ‪،‬‬
‫وك هل هؤالء أنبياء ملكيون عبدوا ه‬
‫ّللا بما وصفهم به فهم في مقامهم ال يبرحون ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 4‬إلى ‪] 6‬‬


‫ق ( ‪ ) 5‬إِنها َزيهنها‬ ‫ب ا ْل َم ِ‬
‫شار ِ‬ ‫ض َوما بَ ْينَ ُهما َو َر ُّ‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬
‫ب ال ه‬ ‫واح ٌد ( ‪َ ) 4‬ر ُّ‬ ‫إِ هن إِل َه ُك ْم لَ ِ‬
‫ب)‪(6‬‬ ‫سما َء ال ُّد ْنيا ِب ِزينَ ٍة ا ْلكَوا ِك ِ‬
‫ال ه‬
‫فلك الكواكب الثابتة هو أكبر فلك يقطع في الفلك األطلس ‪ ،‬وإنما سميت الكواكب ثابتة ألن‬
‫األعمار ال تدرك حركتها لقصر األعمار ‪ ،‬ألن كل كوكب منها يقطع الدرجة من الفلك‬
‫األقصى في مائة سنة ‪ ،‬فيحسب ثالثمائة وستين درجة ‪ ،‬كل درجة مائة سنة ‪ ،‬ولما فتق‬

‫ص ‪478‬‬

‫‪478‬‬
‫ّللا السماوات من رتقها ودارت ‪ ،‬كانت شفافة في ذاتها وجرمها حتى ال تكون سترا لما وراءها‬ ‫ه‬
‫‪ ،‬فأدركنا باألبصار ما في الفلك الثامن وهو فلك الكواكب الثابتة ‪ ،‬فيتخيل أنها في السماء الدنيا‬
‫ألن البصر ال يدركها هإال فيها ‪ ،‬فوقع الخطاب بحسب ما تعطيه الرؤية ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 7‬‬


‫مار ٍد ) ‪( 7‬‬
‫طان ِ‬ ‫َو ِح ْفظا ِم ْن ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْي ٍ‬
‫وهو أعظم الشياطين ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 8‬‬


‫ب)‪(8‬‬ ‫ْل ْاألَعْلى َويُ ْقذَفُ َ‬
‫ون ِم ْن ُك ِ ّل جانِ ٍ‬ ‫ون إِلَى ا ْل َم َ ِ‬
‫س همعُ َ‬
‫ال يَ ه‬
‫كل ما تولد من نور فهو المأل األعلى ‪ ،‬وكل ما تولد من الطبيعة فهو المأل األسفل ‪ ،‬وأكمل‬
‫العالم من جمع بينهما ‪ ،‬وهو البرزخ الذي بجهاته ميزهما أو بجمعيته ميزهما بالعلو والسفل ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 9‬إلى ‪] 10‬‬


‫ب ( ‪) 10‬‬
‫هاب ثاقِ ٌ‬
‫ش ٌ‬ ‫ف ا ْل َخ ْطفَةَ فَأَتْبَعَهُ ِ‬
‫ب ( ‪ ) 9‬إِاله َم ْن َخ ِط َ‬
‫واص ٌ‬
‫َذاب ِ‬‫ُد ُحورا َولَ ُه ْم ع ٌ‬
‫[ الشهب هي ذوات األذناب ]‬
‫ب »فيعطي الضوء العظيم الذي تراه في أثره ‪ ،‬ويبقي ذلك الضوء في أثره‬ ‫« فَأَتْبَعَهُ ِش ٌ‬
‫هاب ثاقِ ٌ‬
‫طريقا ‪ ،‬والشهب هي ذوات األذناب تبدو لسرعة اندفاعها من األثير الذي هو هواء محترق ال‬
‫مشتعل ‪ ،‬وهو متصل بالهواء ‪ ،‬فإذا اتصل األثير بالهواء بسرعة تحرك ذوات األذناب ‪ ،‬أثرت‬
‫في أجزاء الهواء الرطبة اشتعاال ‪ ،‬فبدت الكواكب ذوات األذناب ‪ ،‬وذلك لسرعة اندفاعها‬
‫تظهر في رأي العين تلك األذناب ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 11‬إلى ‪] 35‬‬


‫ب ( ‪ ) 11‬بَ ْل ع َِج ْبتَ‬ ‫الز ٍ‬
‫ين ِ‬ ‫ش ُّد َخ ْلقا أ َ ْم َم ْن َخلَ ْقنا ِإنها َخلَ ْقنا ُه ْم ِم ْن ِط ٍ‬‫ست َ ْف ِت ِه ْم أ َ ُه ْم أ َ َ‬‫فَا ْ‬
‫س ِخ ُرو َن ( ‪َ ) 14‬وقالُوا‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ون ( ‪َ ) 13‬وإِذا َرأ َ ْوا آيَة يَ ْ‬ ‫ون ) ‪َ ( 12‬وإِذا ذُ ِ ّك ُروا ال يَ ْذك ُُر َ‬ ‫س َخ ُر َ‬ ‫َويَ ْ‬
‫ون ) ‪ ( 16‬أ َ َوآبا ُؤنَا‬ ‫ين ) ‪ ( 15‬أ َ إِذا ِمتْنا َو ُكنها تُرابا َو ِعظاما أ َ إِنها لَ َم ْبعُوث ُ َ‬ ‫إِ ْن هذا إِاله سِحْ ٌر ُمبِ ٌ‬
‫ون (‬‫ظ ُر َ‬‫واح َدةٌ فَ ِإذا ُه ْم يَ ْن ُ‬ ‫ي َزجْ َرةٌ ِ‬ ‫ون ) ‪ ( 18‬فَ ِإنهما ِه َ‬ ‫داخ ُر َ‬‫ون ( ‪ ) 17‬قُ ْل نَعَ ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ِ‬ ‫ْاأل َ هولُ َ‬
‫ون ( ‪) 21‬‬ ‫ص ِل الهذِي ُك ْنت ُ ْم ِب ِه ت ُ َك ِذّبُ َ‬‫ِين ) ‪ ( 20‬هذا يَ ْو ُم ا ْلفَ ْ‬ ‫‪َ ) 19‬وقالُوا يا َو ْيلَنا هذا يَ ْو ُم ال ّد ِ‬

‫ص ‪479‬‬

‫‪479‬‬
‫اط‬ ‫ّللا فَا ْهدُو ُه ْم ِإلى ِصر ِ‬ ‫ُون ( ‪ِ ) 22‬م ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ِين َظلَ ُموا َوأ َ ْزوا َج ُه ْم َوما كانُوا يَ ْعبُد َ‬ ‫احْ ش ُُروا الهذ َ‬
‫ون ) ‪( 25‬‬ ‫ص ُر َ‬ ‫ون ( ‪ ) 24‬ما لَ ُك ْم ال تَنا َ‬ ‫س ُؤلُ َ‬ ‫يم ( ‪َ ) 23‬و ِقفُو ُه ْم ِإنه ُه ْم َم ْ‬ ‫ا ْل َج ِح ِ‬
‫ون ( ‪ ) 27‬قالُوا إِنه ُك ْم ُك ْنت ُ ْم‬ ‫ض يَتَسا َءلُ َ‬ ‫ض ُه ْم عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫ون ( ‪َ ) 26‬وأ َ ْقبَ َل بَ ْع ُ‬ ‫س ِل ُم َ‬ ‫بَ ْل ُه ُم ا ْليَ ْو َم ُم ْ‬
‫ست َ ْ‬
‫س ْل ٍ‬
‫طان‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِم ْن ُ‬ ‫كان لَنا َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 29‬وما َ‬ ‫ين ( ‪ ) 28‬قالُوا بَ ْل لَ ْم تَكُونُوا ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫تَأْتُونَنا ع َِن ا ْليَ ِم ِ‬
‫ين ) ‪( 30‬‬ ‫بَ ْل ُك ْنت ُ ْم قَ ْوما طا ِغ َ‬
‫ين ( ‪ ) 32‬فَ ِإنه ُه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ فِي‬ ‫ون ) ‪ ( 31‬فَأ َ ْغ َو ْينا ُك ْم ِإنها ُكنها غا ِو َ‬ ‫علَ ْينا قَ ْو ُل َر ِبّنا ِإنها لَذائِقُ َ‬ ‫ق َ‬ ‫فَ َح ه‬
‫ين ) ‪ِ ( 34‬إنه ُه ْم كانُوا ِإذا ِقي َل لَ ُه ْم ال ِإلهَ ِإاله‬ ‫ُون ( ‪ِ ) 33‬إنها كَذ ِلكَ نَ ْفعَ ُل ِبا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫شت َ ِرك َ‬ ‫ب ُم ْ‬ ‫ا ْلعَذا ِ‬
‫ون) ‪( 35‬‬ ‫ست َ ْكبِ ُر َ‬ ‫ّللاُ يَ ْ‬
‫ه‬

‫[هو توحيد التعجب ]‬


‫هذا هو التوحيد السادس والعشرون في القرآن ‪ ،‬وهو توحيد التهعجب ‪ ،‬وهو توحيد ه‬
‫ّللا ال الهوية‬
‫‪ ،‬فقوله« يَ ْست َ ْك ِب ُرونَ »أي يستعظمون ذلك ويتعجبون منه ‪ ،‬فقالوا ‪ (:‬أ َ َجعَ َل ْاآل ِل َهةَ ِإلها ً ِ‬
‫واحدا ً‬
‫جاب )أي الكثرة في عين الواحد ‪ ،‬ما سمعنا بهذا في آبائنا األولين ‪ ،‬فما أنكروه‬ ‫ع ٌ‬ ‫ش ْي ٌء ُ‬ ‫ِإ َّن هذا لَ َ‬
‫وال ردوه بل استعظموه واستكبروه ‪ ،‬وتعجبوا كيف تكون األشياء شيئا واحدا ؟ واستكبروا مثل‬
‫هذا الكالم من مثل هذا الشخص ‪ ،‬حيث علموا أنه منهم وما شاهد إال ما شاهدوه ‪ ،‬فمن أين له‬
‫هذا الذي ادعاه ؟ فحجبهم الحس عن معرفة االختصاص اإللهي ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 36‬إلى ‪] 48‬‬


‫هق ا ْل ُم ْر َ‬
‫س ِل َ‬
‫ين ( ‪) 37‬‬ ‫صد َ‬ ‫ون ) ‪ ( 36‬بَ ْل جا َء ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ق َو َ‬ ‫تاركُوا آ ِل َه ِتنا ِلشا ِع ٍر َمجْ نُ ٍ‬ ‫ون أ َ ِإنها لَ ِ‬
‫َويَقُولُ َ‬
‫ون ( ‪) 39‬‬ ‫يم ( ‪َ ) 38‬وما تُجْ َز ْو َن إِاله ما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬ ‫ب ْاأل َ ِل ِ‬
‫إِنه ُك ْم لَذائِقُوا ا ْلعَذا ِ‬

‫ص ‪480‬‬

‫‪480‬‬
‫ّللا ا ْل ُم ْخلَ ِص َ‬
‫ين ) ‪( 40‬‬ ‫ِإاله ِعبا َد ه ِ‬
‫يم ( ‪ ) 43‬عَلى‬ ‫ت النه ِع ِ‬
‫ون ( ‪ِ ) 42‬في َجنها ِ‬ ‫ق َم ْعلُو ٌم ( ‪ ) 41‬فَوا ِكهُ َو ُه ْم ُم ْك َر ُم َ‬
‫أُول ِئكَ لَ ُه ْم ِر ْز ٌ‬
‫ين ) ‪( 45‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم بِكَأ ْ ٍس ِم ْن َم ِع ٍ‬
‫طاف َ‬
‫ين ( ‪ ) 44‬يُ ُ‬ ‫س ُر ٍر ُمتَقابِ ِل َ‬
‫ُ‬
‫ون ( ‪َ ) 47‬و ِع ْن َد ُه ْم ِ‬
‫قاصراتُ‬ ‫ع ْنها يُ ْن َزفُ َ‬‫غ ْو ٌل َوال ُه ْم َ‬ ‫ين ( ‪ ) 46‬ال فِيها َ‬ ‫بَ ْيضا َء لَذه ٍة ِللش ِهاربِ َ‬
‫ين) ‪( 48‬‬ ‫ف ِع ٌ‬ ‫ال ه‬
‫ط ْر ِ‬

‫فبالحياء قصر الطرف ‪ ،‬فهن قاصرات الطرف ‪ ،‬فال يشاهدن في نظرهن أحسن من أزواجهن‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 49‬إلى ‪] 55‬‬


‫ون ( ‪ ) 50‬قا َل قائِ ٌل ِم ْن ُه ْم إِ ِنّي‬ ‫ض يَتَسا َءلُ َ‬ ‫ض ُه ْم عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫ون ( ‪ ) 49‬فَأ َ ْقبَ َل بَ ْع ُ‬ ‫ض َم ْكنُ ٌ‬ ‫كَأَنه ُه هن بَ ْي ٌ‬
‫ين ( ‪ ) 52‬أ َ ِإذا ِمتْنا َو ُكنها تُرابا َو ِعظاما أ َ ِإنها‬ ‫ين ) ‪ ( 51‬يَقُو ُل أ َ ِإنهكَ لَ ِم َن ا ْل ُم َ‬
‫ص ِ ّدقِ َ‬ ‫كان ِلي قَ ِر ٌ‬ ‫َ‬
‫يم ) ‪( 55‬‬ ‫واء ا ْل َج ِح ِ‬
‫س ِ‬ ‫طلَ َع فَ َرآ ُه فِي َ‬‫ون ( ‪ ) 54‬فَا ه‬ ‫ط ِلعُ َ‬ ‫ون ) ‪ ( 53‬قا َل َه ْل أ َ ْنت ُ ْم ُم ه‬ ‫لَ َمدِينُ َ‬
‫ّللا في سورة الكهف المضروب بهما المثل ‪،‬‬ ‫هذه قصة الرجلين اللذين ذكرهما ه‬
‫وهو قوله تعالى ‪َ (:‬واض ِْربْ لَ ُه ْم َمث َ ًال َر ُجلَي ِْن )إلى آخر اآليات في قصتهما في الدنيا ‪،‬‬
‫ين يَقُو ُل‬‫وذكر في الصافات حديثهما في اآلخرة في قوله تعالى‪ " :‬قا َل قائِ ٌل ِم ْن ُه ْم ِإ ِنهي كانَ ِلي قَ ِر ٌ‬
‫ص ِ هدقِينَ » وفيها ذكر المعاتبة‬ ‫أ َ ِإنَّ َك لَ ِمنَ ْال ُم َ‬
‫ِين » لما اطلع فرآه في سواء الجحيم ‪،‬‬ ‫ت لَت ُ ْرد ِ‬ ‫اّلل ِإ ْن ِك ْد َ‬
‫وفي قوله ‪ «:‬ت َ َّ ِ‬
‫ّللا وإياك أن درجات الجنة على عدد دركات‬ ‫عةَ قائِ َمةً ) *فاعلم وفقنا ه‬ ‫سا َ‬ ‫وهو قوله ‪ (:‬ما أ َ ُ‬
‫ظ ُّن ال َّ‬
‫النار ‪ ،‬فما من درج إال ويقابله درك من النار ‪،‬‬
‫وذلك أن األمر والنهي ال يخلو اإلنسان إما أن يعمل باألمر أو ال يعمل ‪ ،‬فإذا عمل به كانت له‬
‫درجة في الجنة معينة لذلك العمل خاصة ‪،‬‬
‫وفي موازنة هذه الدرجة المخصوصة لهذا العمل الخاص إذا تركه اإلنسان درك في النار ‪ ،‬لو‬
‫سقطت حصاة من تلك الدرجة من الجنة لوقعت على خط استواء في ذلك‬

‫ص ‪481‬‬

‫‪481‬‬
‫الدرك من النار ‪ ،‬فإذا سقط اإلنسان من العمل بما أمر فلم يعمل ‪ ،‬كان ذلك الترك لذلك العمل‬
‫واء ْال َج ِح ِيم »فاالطالع على‬
‫س ِ‬ ‫عين سقوطه إلى ذلك الدرك ‪ ،‬قال تعالى ‪ «:‬فَ َّ‬
‫اطلَ َع فَ َرآهُ ِفي َ‬
‫الشيء من أعلى إلى أسفل ‪ ،‬والسواء حد الموازنة على االعتدال ‪ ،‬فما رآه إال في ذلك الدرك‬
‫الذي في موازنة درجته ‪ ،‬فإن العمل الذي نال به هذا الشخص تلك الدرجة تركه هذا الشخص‬
‫اآلخر الذي كان قرينه في الدنيا بعينه ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 56‬‬


‫ِين ) ‪( 56‬‬‫اّلِل إِ ْن ِكدْتَ لَت ُ ْرد ِ‬
‫قا َل ت َ ه ِ‬
‫معاتبة على قوله له في الدنيا ( ما أظن الساعة قائمة ) ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 57‬‬


‫َولَ ْو ال نِ ْع َمةُ َر ِبّي لَ ُك ْنتُ ِم َن ا ْل ُمحْ َ‬
‫ض ِر َ‬
‫ين ( ‪) 57‬‬
‫[ نصيحة ‪ :‬ال تصاحب إال من ترى معه الزيادة في دينك ]‬
‫‪-‬نصيحة ‪ -‬ال تصاحب أحدا إال من ترى معه الزيادة في دينك ‪ ،‬فإن نقص منه فاهرب منه‬
‫كهروبك من األسد بل أشد ‪ ،‬فإن األسد يهدم دنياك فيعطيك الدرجات ‪ ،‬وقرين السوء يحرمك‬
‫الدنيا واآلخرة ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 58‬إلى ‪]60‬‬


‫أ َ فَما نَحْ ُن ِب َم ِيّ ِت َ‬
‫ين ( ‪ِ ) 58‬إاله َم ْوتَتَنَا ْاألُولى َوما نَحْ ُن ِب ُمعَذه ِب َ‬
‫ين ( ‪ِ ) 59‬إ هن هذا لَ ُه َو ا ْلفَ ْو ُز‬
‫ا ْلعَ ِظي ُم ) ‪( 60‬‬
‫اعلم أن أحدا ال يؤاخذه على ما جناه سوى ما جناه ‪ ،‬فهو الذي آخذ نفسه ‪ ،‬فال يلومن إال نفسه ‪،‬‬
‫ومن اتقى مثل هذا فقد فاز فوزا عظيما ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ‪ ( 37 ) :‬آية ‪] 61‬‬


‫ون ) ‪( 61‬‬ ‫ِل ِمثْ ِل هذا فَ ْليَ ْع َم ِل ا ْل ِ‬
‫عاملُ َ‬
‫ّللا أضاف األعمال إلينا ‪ ،‬وعيهن لنا محالها وأماكنها‬
‫إذ وال بد من إضافة العمل إلينا ‪ ،‬فإن ه‬
‫عز وجل عن أعمال معينة‬ ‫وأزمنتها وأحوالها ‪ ،‬وأمرنا بها وجوبا وندبا وتخييرا ‪ ،‬كما أنه نهانا ه‬
‫عيهن لها محالها وأماكنها وأزمانها وأحوالها ‪ ،‬تحريما وتنزيها ‪ ،‬وجعل لذلك كله جزاء بحساب‬

‫ص ‪482‬‬

‫‪482‬‬
‫وبغير حساب ‪ ،‬من أمور ملذة وأمور مؤلمة ‪ ،‬دنيا وآخرة ‪ ،‬وخلقنا وخلق فينا من يطلب‬
‫الجزاء الملذ وينفر بالطبع عن الجزاء المؤلم ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ ) : 37‬اآليات ‪ 62‬إلى ‪] 64‬‬


‫ش َج َرةٌ ت َ ْخ ُر ُ‬
‫ج‬ ‫ين ( ‪ِ ) 63‬إنهها َ‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫الزقُّ ِ‬
‫وم ( ‪ِ ) 62‬إنها َجعَ ْلناها فِتْنَة ِلل ه‬ ‫أ َ ذ ِلكَ َخ ْي ٌر نُ ُزال أ َ ْم َ‬
‫ش َج َرةُ ه‬
‫يم ) ‪( 64‬‬ ‫ص ِل ا ْل َج ِح ِ‬‫فِي أ َ ْ‬
‫ّللا تعالى في القرآن إال ثمرات الجنة ‪ ،‬فإنه جعلها منزل موافقة ‪ ،‬وذكر الشجرة في‬ ‫ما ذكر ه‬
‫النار فقال ‪ « :‬إنها شجرة تخرج من أصل الجحيم » فإنها دار نزاع وتشاجر ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 65‬إلى ‪] 67‬‬


‫ون ( ‪ ) 66‬ث ُ هم ِإ هن‬
‫ط َ‬ ‫ون ِم ْنها فَما ِلؤ َ‬
‫ُن ِم ْن َها ا ْلبُ ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 65‬فَ ِإنه ُه ْم َآل ِكلُ َ‬
‫هياط ِ‬
‫ُس الش ِ‬ ‫َط ْلعُها كَأَنههُ ُرؤ ُ‬
‫علَ ْيها لَش َْوبا ِم ْن َح ِم ٍ‬
‫يم ) ‪( 67‬‬ ‫لَ ُه ْم َ‬
‫أهل النار يجوعون ويظمئون ‪ ،‬ألن المقصود منهم أن يتألموا ‪ ،‬فإنهم في دار بالء فيأكلون عن‬
‫جوع ويشربون عن عطش ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 68‬إلى ‪] 89‬‬


‫ين ( ‪ ) 69‬فَ ُه ْم عَلى ِ‬
‫آثار ِه ْم‬ ‫يم ( ‪ِ ) 68‬إنه ُه ْم أ َ ْلفَ ْوا آبا َء ُه ْم ضا ِلّ َ‬ ‫ث ُ هم ِإ هن َم ْر ِجعَ ُه ْم َ ِْللَى ا ْل َج ِح ِ‬
‫ين ) ‪( 72‬‬ ‫يه ْم ُم ْنذ ِِر َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 71‬ولَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫س ْلنا فِ ِ‬ ‫ض هل قَ ْبلَ ُه ْم أ َ ْكث َ ُر ْاأل َ هو ِل َ‬‫ُون ) ‪َ ( 70‬ولَقَ ْد َ‬ ‫يُه َْرع َ‬
‫ين ( ‪َ ) 74‬ولَقَ ْد نادانا نُو ٌ‬
‫ح‬ ‫ّللا ا ْل ُم ْخلَ ِص َ‬‫ين ( ‪ِ ) 73‬إاله ِعبا َد ه ِ‬ ‫كان عا ِقبَةُ ا ْل ُم ْنذَ ِر َ‬ ‫ف َ‬ ‫ظ ْر َك ْي َ‬‫فَا ْن ُ‬
‫يم ) ‪َ ( 76‬و َجعَ ْلنا ذُ ِ ّريهتَهُ ُه ُم ا ْلباقِ َ‬
‫ين (‬ ‫ون ( ‪َ ) 75‬ونَ هج ْيناهُ َوأ َ ْهلَهُ ِم َن ا ْلك َْر ِ‬
‫ب ا ْلعَ ِظ ِ‬ ‫فَلَنِ ْع َم ا ْل ُم ِجيبُ َ‬
‫‪) 77‬‬
‫ين ( ‪ِ ) 79‬إنها كَذ ِلكَ نَجْ ِزي‬ ‫سال ٌم عَلى نُوحٍ فِي ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 78‬‬ ‫علَ ْي ِه فِي ْاآل ِخ ِر َ‬ ‫َوت َ َر ْكنا َ‬
‫ين ( ‪) 80‬‬ ‫سنِ َ‬ ‫ا ْل ُمحْ ِ‬

‫ص ‪483‬‬

‫‪483‬‬
‫ين ( ‪) 82‬‬ ‫ين ( ‪ ) 81‬ث ُ هم أ َ ْغ َر ْقنَا ْاآل َخ ِر َ‬‫ِإنههُ ِم ْن ِعبا ِدنَا ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬
‫يم ( ‪ِ ) 84‬إ ْذ قا َل ِأل َ ِبي ِه َوقَ ْو ِم ِه ما ذا‬ ‫س ِل ٍ‬
‫ب َ‬‫شيعَ ِت ِه َ ِْل ْبرا ِهي َم ( ‪ِ ) 83‬إ ْذ جا َء َربههُ ِبقَ ْل ٍ‬ ‫َو ِإ هن ِم ْن ِ‬
‫ين ) ‪( 87‬‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ُون ( ‪ ) 86‬فَما َظنُّ ُك ْم بِ َر ّ ِ‬ ‫ّللا ت ُ ِريد َ‬ ‫ُون ) ‪ ( 85‬أ َ إِ ْفكا آ ِل َهة د َ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ت َ ْعبُد َ‬
‫س ِقي ٌم) ‪( 89‬‬ ‫وم ( ‪ ) 88‬فَقا َل إِ ِنّي َ‬ ‫فَنَ َظ َر نَ ْظ َرة فِي النُّ ُج ِ‬
‫إشارة إلى حكمة علوية صدرت من االسم الحكيم ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 90‬إلى ‪] 95‬‬


‫ون ( ‪ ) 91‬ما لَ ُك ْم ال ت َ ْن ِطقُ َ‬
‫ون (‬ ‫غ إِلى آ ِل َهتِ ِه ْم فَقا َل أ َ ال تَأ ْ ُكلُ َ‬
‫ين ( ‪ ) 90‬فَرا َ‬ ‫فَت َ َوله ْوا َ‬
‫ع ْنهُ ُم ْدبِ ِر َ‬
‫ون ) ‪( 94‬‬ ‫ين ( ‪ ) 93‬فَأ َ ْقبَلُوا إِلَ ْي ِه يَ ِزفُّ َ‬ ‫ض ْربا بِا ْليَ ِم ِ‬
‫علَ ْي ِه ْم َ‬
‫غ َ‬ ‫‪ ) 92‬فَرا َ‬
‫ون ) ‪( 95‬‬ ‫قا َل أ َ ت َ ْعبُد َ‬
‫ُون ما ت َ ْن ِحت ُ َ‬
‫وقع التوبيخ بهذه اآلية ‪ ،‬وأخذوا بجهلهم حيث عبدوا من يعلمون أنه ليس بفاعل ‪،‬‬
‫فإن إضافة الفعل إلى المخلوقين فيه إشكال ولبس ‪،‬‬
‫وإن كانت القدرة التي للمخلوقين ذوي األفعال ال تزيد على قدرة العابد إياهم ‪ ،‬فهي قاصرة عن‬
‫سريانها في جميع األفعال ‪،‬‬
‫فإن القدرة الحادثة ال تخلق المتحيهزات من أعيان الجواهر واألجسام ‪ ،‬فعبدوا من لم يخلق‬
‫أعيانهم ‪ ،‬ولهذا وبخهم بقوله تعالى ‪ (:‬أ َ فَ َم ْن يَ ْخلُ ُق َك َم ْن ال يَ ْخلُ ُق أ َ فَال تَذَ َّك ُرونَ )‬
‫وبهذا القدر أخذ عبدة المخلوقين ذوي األفعال ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 96‬‬


‫ون ) ‪( 96‬‬ ‫ّللاُ َخلَقَ ُك ْم َوما ت َ ْع َملُ َ‬
‫َو ه‬
‫رد الحق كل صورة في العالم تظهر عن األسباب المنشئة لها إلى نفسه في الخلق ‪ ،‬فقال في‬
‫ّللاُ َخلَقَ ُك ْم َوما ت َ ْع َملُونَ »فهو خالقك وخالق ما أضاف عمله إليك ‪ ،‬فأنت العامل ال‬ ‫كل عامل« َو َّ‬
‫ّللا َرمى )‬ ‫ْت ِإ ْذ َر َمي َ‬
‫ْت َول ِك َّن َّ َ‬ ‫العامل ‪ ،‬كما قال ‪َ (:‬وما َر َمي َ‬
‫والعمل ليس لجسم‬

‫ص ‪484‬‬

‫اإلنسان بما هو جسم ‪ ،‬وإنما العمل فيه لقواه ‪ ،‬وقد أخبر أن العمل الذي يظهر من اإلنسان‬
‫المضاف إليه أنه هّلل خلق ‪ ،‬فاألعمال خلق هّلل مع كونها منسوبة إلينا ‪،‬‬
‫فلم ينسبها إليه من جميع الوجوه ‪ ،‬وأضاف العمل إلينا بهذا الحكم مع كون ذلك العمل خلقا له‬
‫وإبداعا ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ومن ذلك تعلم أن ظاهر الشريعة ستر على حقيقة حكم التوحيد بنسبة كل شيء إلى ه‬
‫فأنت مكلهف من حيث وجود عينك ‪ ،‬محل للخطاب ‪ ،‬وهو العامل بك من حيث أنه ال فعل لك ‪،‬‬
‫إذ الحدث ال أثر له في عين الفعل ‪ ،‬ولكن له حكم في الفعل ‪،‬‬

‫‪484‬‬
‫إذ كان ما كلفه الحق من حركة وسكون ال يعمله الحق إال بوجود المتحرك والساكن ‪ ،‬فإن‬
‫الحق تعالى عن الحركة والسكون أو يكون محال لتأثيره في نفسه ‪،‬‬
‫فقوله تعالى ‪َ «:‬وما ت َ ْع َملُونَ » أثبت بالضمير ‪ ،‬ونفى بالفعل الذي هو خلق ‪ ،‬أي خلق ما‬
‫تعملون ‪،‬‬
‫فالعمل لك والخلق هّلل ‪ ،‬فنسب العمل إليهم وإيجاده هّلل تعالى ‪ ،‬فإن أفعال العباد وإن ظهرت‬
‫ّللا ما ظهر لهم فعل أصال ‪ ،‬والخلق قد يكون بمعنى اإليجاد ويكون بمعنى التقدير ‪،‬‬ ‫منهم لوال ه‬
‫كما أنه قد يكون بمعنى الفعل ‪ ،‬وما أضاف الحق إليه تعالى عين ما أضافه إليك إال لتعلم أن‬
‫األمر الواحد له وجوه ‪ ،‬فمن حيث ما هو عمل أضافه إليك ويجازيك عليه ‪،‬‬
‫ومن حيث هو خلق هو هّلل تعالى ‪ ،‬فالعمل لك والخلق هّلل ‪ ،‬وبين الخلق والعمل فرقان في‬
‫ّللا الفعل للعبد ونسب الناس الفعل للمخلوق ‪ ،‬وإن كان الحق أصاره إلى‬ ‫المعنى واللفظ ‪ ،‬فنسب ه‬
‫ذلك فصار ‪ ،‬فنسبة صار تجعل الفعل للعبد ‪ ،‬ونسبة أصار تجعل الفعل هّلل ‪،‬‬
‫وظهور الفعل من العبد المخلوق باالختيار والقصد والمباشرة حقيقة مشهودة للبصر ‪ ،‬والفعل‬
‫من المخلوق من كون الحق أصاره إلى ذلك فكان له كاآللة للفاعل ‪،‬‬
‫واآللة هي المباشرة للفعل ‪ ،‬وينسب الفعل لغير اآللة بصرا وعقال ‪ ،‬وبهذا القدر تعلق الجزاء‬
‫والتكليف لوجود االختيار من اآللة ‪ ،‬وهي مسئلة دقيقة في غاية الغموض ‪ ،‬وال دليل في العقل‬
‫يخرج الفعل عن العبد ‪ ،‬وال جاء به نص من الشارع ال يحتمل التأويل ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وليس للعبد وال‬
‫ّللا ‪ ،‬ووجود أسبابها كلها باألصالة من ه‬ ‫فاألفعال من المخلوقين مقدرة من ه‬
‫لمخلوق فيها باألصالة مدخل إال من حيث ما هو مظهر لها ‪،‬‬
‫ومظهر اسم فاعل واسم مفعول ‪ ،‬فما عمل أحد إال ما أ ههل له ‪ ،‬ممن كبهره أو هلله ‪ ،‬وما هو إال‬
‫من حيث أنه محل لظهوره ‪ ،‬وفتيلة لسراجه ونوره ‪،‬‬
‫ّللا )‬ ‫ّللا تعالى ‪ (:‬فَأ َ ِج ْرهُ َحتَّى يَ ْس َم َع َك َ‬
‫الم َّ ِ‬ ‫يقول ه‬
‫ّللا لمن حمده ]‬
‫ويقول وهو القائل على لسان عبده ‪ [ :‬سمع ه‬
‫ويقول ‪ [ :‬كنت سمعه الذي يسمع به‬

‫ص ‪485‬‬

‫‪485‬‬
‫وبصره ولسانه ويده ورجله وغير ذلك ]‬
‫قوال شافيا ‪ ،‬ألنه ذكر أحكامها فقال [ ‪ :‬الذي يبطش بها ويسعى بها ويتكلم به ويسمع به‬
‫ويبصر به ويعلم ]‬
‫ومعلوم أنه يسمع بسمعه أو بذاته يسمع ‪ ،‬وعلى كل حال فجعل الحق هويته عين سمع عبده‬
‫وبصره ويده وغير ذلك ‪،‬‬
‫ِس لَ َك )والجن يقول ‪ (:‬أَنَا َخي ٌْر ِم ْنهُ )‬
‫ِك َونُقَ هد ُ‬‫س ِبه ُح ِب َح ْمد َ‬‫والملك مع علمه بذلك يقول ‪َ (:‬ون َْح ُن نُ َ‬
‫*والرسول يقول ‪ ( :‬ما قلت لهم إال ما أمرتني به )‬
‫ومن الناس من يقول ‪ (:‬أ َ إِنَّا لَ َم ْردُودُونَ فِي ْالحافِ َرةِ )والسماوات واألرض والجبال تأبى وتشفق‬
‫من حمل األمانة وتقول ‪:‬‬
‫( أتينا طائعين ) وقال الهدهد ‪ ( :‬أحطت ) علما ( بما لم تحط به ) وقالت نملة ‪ (:‬يا أَيُّ َها النَّ ْم ُل‬
‫ْمان َو ُجنُو ُدهُ )‬ ‫سلَي ُ‬ ‫ا ْد ُخلُوا َمسا ِكنَ ُك ْم ال يَ ْح ِط َمنَّ ُك ْم ُ‬
‫علَ ْي ِه ْم أ َ ْل ِسنَت ُ ُه ْم َوأ َ ْيدِي ِه ْم َوأ َ ْر ُجلُ ُه ْم )‬
‫ّللا ‪ (:‬يَ ْو َم ت َ ْش َه ُد َ‬
‫وقال ه‬
‫ش ْيءٍ )‬ ‫طقَ ُك َّل َ‬ ‫ّللاُ الَّذِي أ َ ْن َ‬ ‫طقَنَا َّ‬ ‫وقالت الجلود ‪ (:‬أ َ ْن َ‬
‫س ِبه ُح بِ َح ْم ِد ِه )‬ ‫ش ْيءٍ إِ َّال يُ َ‬ ‫وقال ‪َ (:‬وإِ ْن ِم ْن َ‬
‫فما ترك شيئا من المخلوقات إال وأضاف الفعل إليه ‪ ،‬فما في العالم إال من نسب الفعل إليه ‪،‬‬
‫باّلل أن الفعل هّلل ال لغيره ‪،‬‬ ‫أي إلى نفسه ‪ ،‬مع علم العلماء ه‬
‫ّللاُ َخلَقَ ُك ْم َوما ت َ ْع َملُونَ »فأضاف العمل إليهم وهو خالقه وموجده ‪ ،‬أعني العمل‬ ‫وّللا يقول ‪َ «:‬و َّ‬ ‫ه‬
‫‪ ،‬فهذه المسألة ال يتخلص فيها توحيد أصال ‪ ،‬ال من جهة الكشف وال من جهة الخبر ‪ ،‬فاألمر‬
‫مربوط بين حق وخلق ‪ ،‬وما ث هم عقل يد هل على خالف هذا ‪ ،‬وال خبر إلهي في شريعة تخلص‬
‫الفعل من جميع الجهات إلى أحد الجانبين ‪ ،‬وما ث هم إال كشف وشرع وعقل ‪ ،‬وهذه الثالثة ما‬
‫خلصت شيئا وال يخلص أبدا دنيا وال آخرة‬
‫ّللا سبحانه‬ ‫‪ -‬من باب اْلشارة ال التفسير ‪ -‬قال أهل اإلشارة « ما » هنا نافية ‪ .‬فمن كرم ه‬
‫ّللا ورسوله ‪ ،‬وما بأيديهم من‬ ‫وتعالى أن يخلق في عباده طاعته ويثني عليهم بأنهم أطاعوا ه‬
‫الطاعة شيء ‪ ،‬غير أنهم محل لها ‪ ،‬فمن كرمه أنه أثنى عليهم بخلق هذه الصفات واألفعال‬
‫فيهم ومنهم ‪ ،‬ثم أثنى عليهم بأن أضاف ذلك كله إليهم ‪ ،‬إذ كانوا محال للصفات المحمودة شرعا‬
‫‪ ،‬فهذه أعظم آية وردت في ثبوت الحيرة في العالم ‪ ،‬فمن وقف مع المقالة المشروعة وجعل‬
‫لها الحكم على ما أعطاه النظر العقلي من نقيض ما دل عليه الشرع ‪،‬‬
‫ّللا له فرقانا يفرق به بين‬ ‫فذلك السالم الناجي ‪ ،‬ومن زاد على الوقوف العمل بالتقوى ‪ ،‬جعل ه‬
‫أصحاب النحل والملل وما تعطيه األدلة العقلية ‪ ،‬التي تزيل حكم الشرع عند القائل بها ‪،‬‬
‫فيتأولها ليردها إلى دليل عقله ‪ ،‬فهو على خطر وإن أصاب ‪ ،‬فعليك بفرقان التقوى فإنه عن‬
‫شهود وصحة وجود‬
‫ّللاُ َخلَقَ ُك ْم َوما ت َ ْع َملُونَ » فهو العامل ]‬ ‫[ لطيفة « َو َّ‬
‫ّللاُ َخلَقَ ُك ْم َوما‬ ‫‪-‬لطيفة ‪َ «-‬و َّ‬
‫ص ‪486‬‬

‫‪486‬‬
‫ت َ ْع َملُونَ »فهو العامل ‪ ،‬فالعارف يبذل المجهود وهو على بينة من ربه أن ه‬
‫ّللا هو العامل لما هو‬
‫العبد له عامل ‪ ،‬ولوال ذلك ما كان التكليف ‪ ،‬فال بد من نسبة في العمل للعبد ‪ ،‬فالنسبة إلى‬
‫الخلق والعمل للحق ‪ ،‬فهو تشريف ‪،‬‬
‫أعني إضافة العمل إليه ‪ ،‬سواء شعر بذلك العبد أو لم يشعر ‪ .‬واعلم أنه ما من عمل إال وهو‬
‫ّللا وتوحيده ‪،‬‬
‫أمر وجودي ‪ ،‬وما من أمر وجودي إال وهو داللة على وجود ه‬
‫سواء كان ذلك األمر مذموما عرفا وشرعا أو محمودا عرفا وشرعا ‪ ،‬والتوحيد المؤثر في‬
‫ّللا من جميع الوجوه ‪ ،‬فال يبالي فيما يظهر‬‫إزالة حكم الشريعة كمن ينسب األفعال كلها إلى ه‬
‫عليه من مخالفة أو موافقة ‪ ،‬فمثل هذا التوحيد يجب التنزيه منه لظهور هذا األثر ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فاألعمال خلق هّلل مع كونها منسوبة إلينا ‪ ،‬فلم تنسب إليه‬
‫فإنه خرق للشريعة ورفع لحكم ه‬
‫ّللا تعالى خلق األفعال كلها ‪ ،‬ثم قسمها إلى محمود ومذموم ‪ ،‬فانظر حيث‬ ‫من كل الوجوه ‪ ،‬فإن ه‬
‫يقيمك ‪ ،‬فإن أقامك في مذموم فاعلم أنك في الوقت ممقوت ‪،‬‬
‫فاستدرك باإلزالة والتفرغ واإلنابة ‪ ،‬وإذا أقامك في محمود فاعلم أنك في الوقت محبوب ‪ ،‬فإن‬
‫فعلت ما ال يرضي الحق منك فارجع على نفسك بالمذمة والتقصير ‪ ،‬فأنت مأجور في هذه‬
‫الشركة ‪ ،‬بل هو حقيقة التوحيد ‪ ،‬فإن توحيدا بغير أدب ليس بتوحيد ‪ ،‬فإن لم تر العيب من‬
‫نفسك ‪ ،‬وال رجعت عليها بالذم ‪ ،‬وال ندمت على فعلك ‪ ،‬لم يصح لك توبة ‪ ،‬وإذا لم تتب لم تكن‬
‫محبوبا وال تنفعك تلك الحقيقة في الدنيا وال في اآلخرة‬
‫ّللا كنت راشدا ]‬
‫[ إشارة ‪ :‬إذا تركت ما هّلل عند ه‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬كما أن اإلنسان إذا ترك ما للناس عند الناس أحبه الناس ‪ ،‬كذلك إذا تركت ما هّلل عند‬
‫ّللا ولم تطمع فيه ‪ ،‬وال أضفت شيئا إلى نفسك من جميع أفعالك ‪ ،‬كنت على الحقيقة زاهدا‬ ‫ه‬
‫وعلى التوحيد راشدا ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ ) : 37‬اآليات ‪ 97‬إلى ‪] 102‬‬


‫ين ( ‪) 98‬‬ ‫يم ) ‪ ( 97‬فَأَرادُوا ِب ِه َك ْيدا فَ َجعَ ْلنا ُه ُم ْاأل َ ْ‬
‫سفَ ِل َ‬ ‫قالُوا ا ْبنُوا لَهُ بُ ْنيانا فَأ َ ْلقُوهُ فِي ا ْل َج ِح ِ‬
‫ين ( ‪ ) 100‬فَبَش ْهرنا ُه ِبغُ ٍ‬
‫الم‬ ‫صا ِل ِح َ‬‫ب َه ْب ِلي ِم َن ال ه‬ ‫ِين ( ‪َ ) 99‬ر ّ ِ‬ ‫سيَ ْهد ِ‬‫ب ِإلى َر ِبّي َ‬ ‫َوقا َل ِإ ِنّي ذا ِه ٌ‬
‫ظ ْر ما ذا‬‫نام أ َ ِنّي أ َ ْذبَ ُحكَ فَا ْن ُ‬
‫ي إِ ِنّي أَرى فِي ا ْل َم ِ‬ ‫ي قا َل يا بُنَ ه‬
‫س ْع َ‬‫يم ) ‪ ( 101‬فَلَ هما بَلَ َغ َمعَهُ ال ه‬ ‫َح ِل ٍ‬
‫ين) ‪( 102‬‬ ‫صابِ ِر َ‬ ‫ست َ ِج ُدنِي إِ ْن شا َء ه‬
‫ّللاُ ِم َن ال ه‬ ‫ت ْ‬
‫افعَ ْل ما ت ُ ْؤ َم ُر َ‬ ‫تَرى قا َل يا أَبَ ِ‬

‫ص ‪487‬‬

‫‪487‬‬
‫[لم ابتلي إبراهيم عليه السالم بذبح ابنه]‬
‫اعلم أن رؤيا األنبياء وحي ‪ ،‬ولكنه إذا رأى صاحب الرؤيا سواء كان نبيا أو غير نبي األمر‬
‫كما هو في نفسه فليس بحلم ‪ ،‬وإنما ذلك كشف ال حلم ‪،‬‬
‫سواء كان في نوم أو يقظة ‪ ،‬كما أن الحلم قد يكون في اليقظة كما هو في النوم ‪ ،‬كصورة دحية‬
‫التي ظهر بها جبريل عليه السالم في اليقظة ‪ ،‬فدخلها التأويل ‪ ،‬وال يدخل التأويل النصوص ‪،‬‬
‫فالحلم في النوم يفسد المعنى عن صورته ‪ ،‬ألنه ألحقه بالحس وليس بمحسوس حتى يراه من ال‬
‫علم له بأصله فيحكم عليه بما رآه من الصورة التي رآه عليها ‪ ،‬ويجيء العارف بذلك فيعبر‬
‫تلك الصورة إلى المعنى الذي جاءت له وظهر بها ‪ ،‬فيردها إلى أصلها ‪،‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫كما أفسد الحلم العلم فأظهره في صورة اللبن وليس بلبن ‪ ،‬فرده رسول ه‬
‫بتأويل رؤياه إلى أصله وهو العلم ‪ ،‬فجرد عنه تلك الصورة ‪ ،‬كذلك قول إبراهيم البنه وقد رأى‬
‫أنه يذبح ابنه ‪ ،‬فأخذ بالظاهر على أن األمر كما رآه ‪ ،‬وما كان إال الكبش ‪،‬‬
‫وهو الذبح العظيم ظهر في صورة ابنه ‪ ،‬فرأى أنه يذبح ابنه فذبح الكبش ‪،‬‬
‫فهو تأويل رؤياه على غير علم منه قال إبراهيم عليه السالم البنه‬
‫نام أ َ ِنهي أ َ ْذبَ ُح َك »والمنام حضرة الخيال ‪ ،‬فلم يعبرها وكان كبشا ظهر في‬ ‫«إِ ِنهي أَرى فِي ْال َم ِ‬
‫صورة ابن إبراهيم عليه السالم في المنام ‪ ،‬فصدق إبراهيم الرؤيا ‪ ،‬ألن األنبياء يعطون العلم‬
‫في مرائيهم ‪ ،‬العلم في نفس الرؤيا ‪ ،‬فيستغنون عن التأويل لوجود النص في الخطاب البرزخي‬
‫‪ ،‬ولذلك لم يحتج إبراهيم إلى تأويل ‪،‬‬
‫بل قال ‪ِ «:‬إ ِنهي أَرى فِي ْال َم ِ‬
‫نام أ َ ِنهي أ َ ْذبَ ُح َك »‬
‫ولذلك قال تعالى ‪َ (:‬وفَ َديْناهُ )يعني تلك الصورة ‪ ،‬وهي ابنه التي رآها إبراهيم عليه السالم ‪،‬‬
‫صا ِل ِحينَ )‬
‫ولما بشر إبراهيم عليه السالم في إجابة دعائه في قوله ‪َ (:‬ربه ِ هَبْ ِلي ِمنَ ال َّ‬
‫وّللا غيور ‪ ،‬فابتاله بذبحه وهو أشد عليه من ابتالئه‬ ‫ّللا سواه ‪ ،‬ه‬ ‫شر به ألنه سأل من ه‬ ‫ابتلي فيما ب ه‬
‫بنفسه ‪ ،‬وذلك أنه ليس له في نفسه منازع سوى نفسه ‪،‬‬
‫فبأدنى خاطر يردها فيقل جهاده ‪ ،‬وابتالؤه بذبح ابنه ليس كذلك ‪ ،‬لكثرة المنازعين فيه ‪ ،‬فيكون‬
‫جهاده أقوى ‪ ،‬ولما ابتلي بذبح ما سأله من ربه ‪ ،‬وتحقق نسبة االبتالء وصار بحكم الواقعة ‪،‬‬
‫شر بإسحاق عليه السالم من غير سؤال ‪،‬‬ ‫فكأنه قد ذبح وإن كان حيا ‪ ،‬ب ه‬
‫فجمع له بين الفداء وبين البدل مع بقاء المبدل منه ‪ ،‬فجمع له بين الكسب والوهب ‪ ،‬فالذبح‬
‫مكسوب من جهة السؤال وموهوب من جهة الفداء ‪ ،‬فإن فداءه لم يكن‬

‫ص ‪464‬‬

‫‪488‬‬
‫مسؤوال ‪ ،‬وإسحاق موهوب ‪ ،‬فلما كان إسماعيل قد جمع له بين الكسب والوهب في العطاء ‪،‬‬
‫فكان مكسوبا موهوبا ألبيه فكانت حقيقة كاملة ‪ ،‬لذلك كان محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في صلبه‬
‫‪ ،‬فكانت في شريعتنا ضحايانا فداء لنا من النار ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 103‬‬


‫فَلَ هما أ َ ْ‬
‫سلَما َوتَلههُ ِل ْل َج ِب ِ‬
‫ين ( ‪) 103‬‬
‫[ إشارة ‪ :‬بادر إبراهيم إلى ضيافة ربه بولده ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬اتخذ إبراهيم عليه السالم ابنه قربانا ‪ ،‬ليصح كرمه حقيقة وبرهانا ‪ ،‬فإنه قصد قرى‬
‫الواحد المالك ‪ ،‬وذلك أنه لما نزل إلى قلبه ‪ ،‬تعينت عليه ضيافة ربه ‪ ،‬ولم يضفه بنفسه دون‬
‫غيره ‪ ،‬ألنه لم يكن له فيها منازعون ينازعونه ‪ ،‬فإن نفسه لم يكن له فيها منازع ‪ ،‬وأما الولد‬
‫فكانت أمه تنازعه فيه ‪ ،‬والنفس تنازع فيه من نسبة األبوة ‪ ،‬والعجلة من الشيطان إال في‬
‫خمسة ‪ ،‬منها تقديم الطعام للضيف ‪ ،‬لذا بادر إبراهيم إلى ضيافة ربه بولده ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 104‬إلى ‪] 105‬‬


‫صد ْهقتَ ُّ‬
‫الر ْؤيا إِنها كَذ ِلكَ نَجْ ِزي ا ْل ُمحْ ِ‬
‫سنِ َ‬
‫ين ) ‪( 105‬‬ ‫َونا َد ْيناهُ أ َ ْن يا إِ ْبرا ِهي ُم ( ‪ ) 104‬قَ ْد َ‬
‫وما قال له ‪ :‬صدقت في الرؤيا أنه ابنك ‪ ،‬ألنه ما عبهرها ‪ ،‬بل أخذ بظاهر ما رأى ‪ ،‬والرؤيا‬
‫تطلب التعبير ‪ ،‬فلو صدق في الرؤيا لذبح ابنه ‪ ،‬وإنما صدق الرؤيا في أن ذلك عين ولده ‪ ،‬وما‬
‫ّللا إال الذبح العظيم في صورة ولده ‪.‬‬ ‫كان عند ه‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 106‬‬


‫إِ هن هذا لَ ُه َو ا ْلبَال ُء ا ْل ُمبِ ُ‬
‫ين ) ‪( 106‬‬
‫أي االختبار المبين ‪ ،‬أي الظاهر ‪ ،‬ويعني االختبار في العلم ‪ ،‬هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا‬
‫من التعبير أم ال ؟‬
‫ألنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير ‪ ،‬فما وفهى الموطن حقه وصدهق الرؤيا ‪ ،‬وكل عذاب‬
‫في الدنيا يكون بالء ‪ ،‬إذ كانت دار اختبار ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 107‬‬


‫يم ( ‪) 107‬‬‫َوفَ َد ْيناهُ ِب ِذ ْبحٍ ع َِظ ٍ‬
‫« َوفَ َديْناهُ »من أسر الهالك يعني تلك الصورة وهي ابنه التي رآها إبراهيم عليه السالم« ِب ِذب ٍ‬
‫ْح‬
‫ع ِظ ٍيم »وهو الكبش ففداه ربه بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤيا إبراهيم عليه السالم‬ ‫َ‬

‫ص ‪465‬‬

‫‪489‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا وهو ال يشعر ‪ ،‬فالتجلي الصوري في حضرة الخيال يحتاج إلى علم آخر ‪ ،‬فجعل ه‬ ‫عند ه‬
‫ه‬
‫وعظمه وجعله فداء ولد إبراهيم ‪ ،‬نبي ابن نبي ‪ ،‬فليس في‬ ‫الكبش قيمة روح نبي مكرم ‪،‬‬
‫الحيوان بهذا االعتبار أرفع درجة من الغنم ‪ ،‬وهي ضحايا هذه األمة ‪.‬‬
‫فداء نبي ذبح ذبح لقربان *** وأين ثؤاج كبش من نوس إنسان‬
‫ّللا العظيم عناية *** بنا أو به لم أدر من أي ميزان‬ ‫ه‬
‫وعظمه ه‬
‫وال شك أن البدن أعظم قيمة *** وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان‬
‫فيا ليت شعري كيف ناب بذاته *** شخيص كبيش عن خليفة رحمان‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 108‬إلى ‪] 138‬‬


‫سنِ َ‬
‫ين (‬ ‫سال ٌم عَلى إِ ْبرا ِهي َم ) ‪ ( 109‬كَذ ِلكَ نَجْ ِزي ا ْل ُمحْ ِ‬ ‫ين ( ‪َ ) 108‬‬ ‫علَ ْي ِه فِي ْاآل ِخ ِر َ‬ ‫َوت َ َر ْكنا َ‬
‫ين ) ‪( 112‬‬ ‫صا ِل ِح َ‬‫ق نَ ِبيًّا ِم َن ال ه‬ ‫سحا َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 111‬وبَش ْهرناهُ ِب ِإ ْ‬ ‫‪ِ ) 110‬إنههُ ِم ْن ِعبا ِدنَا ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين ( ‪َ ) 113‬ولَقَ ْد َمنَنها عَلى‬ ‫س ِه ُم ِب ٌ‬ ‫س ٌن َوظا ِل ٌم ِلنَ ْف ِ‬ ‫حاق َو ِم ْن ذُ ِ ّريهتِ ِهما ُمحْ ِ‬‫س َ‬ ‫علَ ْي ِه َوعَلى ِإ ْ‬ ‫بار ْكنا َ‬ ‫َو َ‬
‫ص ْرنا ُه ْم فَكانُوا‬‫يم ) ‪َ ( 115‬ونَ َ‬ ‫ب ا ْلعَ ِظ ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 114‬ونَ هج ْينا ُهما َوقَ ْو َم ُهما ِم َن ا ْلك َْر ِ‬ ‫هار َ‬ ‫ُموسى َو ُ‬
‫ين ) ‪( 117‬‬ ‫ستَبِ َ‬‫تاب ا ْل ُم ْ‬
‫ين ) ‪َ ( 116‬وآت َ ْينا ُه َما ا ْل ِك َ‬ ‫ُه ُم ا ْلغا ِلبِ َ‬
‫سال ٌم عَلى‬ ‫ين ( ‪َ ) 119‬‬ ‫علَ ْي ِهما فِي ْاآل ِخ ِر َ‬ ‫ست َ ِقي َم ( ‪َ ) 118‬وت َ َر ْكنا َ‬ ‫صرا َط ا ْل ُم ْ‬ ‫َو َه َد ْينا ُه َما ال ِ ّ‬
‫ين ( ‪) 121‬‬ ‫سنِ َ‬ ‫ون ( ‪ِ ) 120‬إنها كَذ ِلكَ نَجْ ِزي ا ْل ُمحْ ِ‬ ‫هار َ‬ ‫ُموسى َو ُ‬
‫ين ( ‪) 122‬‬ ‫ِإنه ُهما ِم ْن ِعبا ِدنَا ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ُون بَ ْعال َوتَذَ ُر َ‬
‫ون‬ ‫ون ( ‪ ) 124‬أ َ ت َ ْدع َ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 123‬إ ْذ قا َل ِلقَ ْو ِم ِه أ َ ال تَتهقُ َ‬ ‫س ِل َ‬‫ياس لَ ِم َن ا ْل ُم ْر َ‬
‫َو ِإ هن ِإ ْل َ‬
‫ض ُر َ‬
‫ون (‬ ‫ين ) ‪ ( 126‬فَ َكذهبُو ُه فَ ِإنه ُه ْم لَ ُمحْ َ‬ ‫ب آبا ِئ ُك ُم ْاأل َ هو ِل َ‬ ‫ّللا َربه ُك ْم َو َر ه‬
‫ين ( ‪ ) 125‬ه َ‬ ‫س َن ا ْلخا ِل ِق َ‬ ‫أَحْ َ‬
‫ين ( ‪) 129‬‬ ‫علَ ْي ِه فِي ْاآل ِخ ِر َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 128‬وت َ َر ْكنا َ‬ ‫ّللا ا ْل ُم ْخلَ ِص َ‬‫‪ ) 127‬إِاله ِعبا َد ه ِ‬

‫ص ‪490‬‬

‫‪490‬‬
‫ين ( ‪ِ ) 131‬إنههُ ِم ْن ِعبا ِدنَا ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬
‫ين‬ ‫س ِن َ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 130‬إنها كَذ ِلكَ نَجْ ِزي ا ْل ُمحْ ِ‬ ‫س َ‬‫سال ٌم عَلى ِإلْيا ِ‬ ‫َ‬
‫ع ُجوزا‬ ‫ين ( ‪ِ ) 134‬إاله َ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 133‬إ ْذ نَ هج ْينا ُه َوأ َ ْهلَهُ أَجْ َم ِع َ‬ ‫( ‪َ )132‬و ِإ هن لُوطا لَ ِم َن ا ْل ُم ْر َ‬
‫س ِل َ‬
‫ين ) ‪( 137‬‬ ‫صبِ ِح َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ُم ْ‬
‫ون َ‬‫ين ( ‪َ ) 136‬وإِنه ُك ْم لَت َ ُم ُّر َ‬ ‫ين ( ‪ ) 135‬ث ُ هم َد هم ْرنَا ْاآل َخ ِر َ‬ ‫فِي ا ْلغابِ ِر َ‬
‫ون) ‪( 138‬‬ ‫َوبِالله ْي ِل أ َ فَال ت َ ْع ِقلُ َ‬
‫أي تعلمون منهم في الصباح ما تعلمون منهم في الليل ‪ ،‬فالليل والصباح عندهم سواء في‬
‫العبرة ‪ ،‬فهذا معنى قوله« أ َ فَال ت َ ْع ِقلُونَ »‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ‪ ( 37 ) :‬اآليات ‪ 139‬إلى ‪] 145‬‬


‫ش ُحو ِن ( ‪ ) 140‬فَسا َه َم فَ َ‬
‫كان ِم َن‬ ‫ين ( ‪ ) 139‬إِ ْذ أَبَ َ‬
‫ق إِلَى ا ْلفُ ْل ِك ا ْل َم ْ‬ ‫س ِل َ‬ ‫س لَ ِم َن ا ْل ُم ْر َ‬ ‫َوإِ هن يُونُ َ‬
‫ين ( ‪) 141‬فَا ْلتَقَ َمهُ ا ْل ُحوتُ َو ُه َو ُم ِلي ٌم ( ‪) 142‬‬ ‫ا ْل ُم ْد َح ِض َ‬
‫ين ) ‪( 143‬‬ ‫كان ِم َن ا ْل ُم َ‬
‫س ِبّ ِح َ‬ ‫فَلَ ْو ال أَنههُ َ‬
‫راء َو ُه َو َ‬
‫س ِقي ٌم ( ‪) 145‬‬ ‫ون ( ‪ ) 144‬فَنَبَ ْذنا ُه ِبا ْلعَ ِ‬ ‫ث فِي بَ ْطنِ ِه ِإلى يَ ْو ِم يُ ْبعَث ُ َ‬ ‫لَلَ ِب َ‬
‫[ لم يولد أحد من ولد آدم والدتين سوى يونس عليه السالم ]‬
‫ّللا ليونس عليه السالم دعاءه ‪ ،‬فنجاه من الغم من ظلمة بطن الحوت والبحر ‪ ،‬فقذفه‬ ‫استجاب ه‬
‫الحوت من بطنه ‪ ،‬فلم يولد أحد من ولد آدم والدتين سوى يونس عليه السالم ‪ ،‬فخرج ضعيفا‬
‫س ِقي ٌم »ورباه باليقطين ‪ ،‬فإن ورقه ناعم وال ينزل عليه الذباب فقال ‪.‬‬ ‫كالطفل كما قال ‪َ «:‬و ُه َو َ‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ ) : 37‬آية ‪] 146‬‬


‫ش َج َرة ِم ْن يَ ْق ِط ٍ‬
‫ين ) ‪( 146‬‬ ‫َوأ َ ْنبَتْنا َ‬
‫علَ ْي ِه َ‬
‫فإن ورق اليقطين مثل القطن في النعومة ‪ ،‬بخالف سائر ورق األشجار كلها ‪ ،‬فإن فيها خشونة‬
‫‪ ،‬فمن لطفه تعالى أنبت عليه شجرة من يقطين ‪ ،‬إذ خرج كالفرخ ‪ ،‬فلو نزل عليه الذباب آذاه‪.‬‬

‫ص ‪491‬‬

‫‪491‬‬
‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪]147‬‬
‫ُون ) ‪( 147‬‬ ‫ف أ َ ْو يَ ِزيد َ‬
‫س ْلنا ُه ِإلى ِمائ َ ِة أ َ ْل ٍ‬
‫َوأ َ ْر َ‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فلما نزل الحق في جماله في هذه اآلية‬
‫فجاء بأو التي للشك ‪ ،‬وهذا محال على ه‬
‫مباسطة معنا ‪ ،‬والشك منوط بنا ‪ ،‬فقام للعبد ضرب من المناسبة ‪ ،‬فإن كان العبد جاهال حمل‬
‫ربه على نفسه ووصفه بالشك فض هل ‪ ،‬وإن كان محققا هرب إلى قوله تعالى( َوأ َ ْحصى ُك َّل‬
‫ع َددا ً )فوقف على سر ذلك ‪ ،‬وألحق الشك بالرؤية البشرية المعتادة على الخطاب‬ ‫ش ْيءٍ َ‬ ‫َ‬
‫المتعارف بين العرب بالكثرة ‪ ،‬فيعود الشك على المخلوق ‪ ،‬وإن أراد إحصاء العدد وأراد أن‬
‫ينزه نفسه من غير الوجه الذي نزه بارئه ‪ ،‬فليأخذها على إرادة الكثرة ال عن العدد ‪ ،‬وإن كانت‬
‫ال تخلو عن عدد محقق ‪ ،‬ولكن لم يرد القائل هنا اإلعالم بتعيين العدد ‪ ،‬وإنما تعلقت اإلرادة‬
‫باإلعالم بالكثرة ‪ ،‬فهذه الصيغة إذا كانت المتعارفة بين المرسل إليهم ال يريدون بها الوقوف‬
‫على عدد محقق ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 148‬‬


‫ين ( ‪) 148‬‬‫فَآ َمنُوا فَ َمت ه ْعنا ُه ْم إِلى ِح ٍ‬

‫« فَآ َمنُوا »أرضى ه‬


‫ّللا تعالى يونس عليه السالم في أمته فنفعها إيمانها ولم يفعل ذلك مع أمة‬
‫ين »لما اشتد البالء على قوم يونس ‪ ،‬وكانت اللحظة الزمانية عندهم في‬ ‫قبلها «فَ َمت َّ ْعنا ُه ْم ِإلى ِح ٍ‬
‫وقت رؤية العذاب كالسنة أو أطول ‪ ،‬ذكر أنه تعالى جعل في مقابلة هذا الطول الذي وجدوه‬
‫في نفوسهم أن متعهم إلى حين ‪ ،‬فبقوا في نعيم الحياة زمنا طويال لم يكن يحصل لهم لوال هذا‬
‫البالء ‪ ،‬فانظر ما أحسن إقامة الوزن في األمور ‪ ،‬وقد قيل إن الحين الذي جعله غاية تمتعهم‬
‫وّللا أعلم ‪.‬‬
‫أنه القيامة ه‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 149‬إلى ‪] 150‬‬


‫ُون ) ‪( 150‬‬ ‫ون (‪ )149‬أ َ ْم َخلَ ْقنَا ا ْل َمال ِئكَةَ ِإناثا َو ُه ْم شا ِهد َ‬
‫ست َ ْف ِت ِه ْم أ َ ِل َر ِبّكَ ا ْلبَناتُ َولَ ُه ُم ا ْلبَنُ َ‬
‫فَا ْ‬
‫ّللا على المشركين نسبة األنوثة إلى المالئكة بقوله ‪ «:‬أ َ ْم َخلَ ْقنَا ْال َمالئِ َكةَ إِناثا ً َو ُه ْم شا ِهدُونَ‬ ‫أنكر ه‬
‫»‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ ) : 37‬اآليات ‪ 151‬إلى ‪] 153‬‬


‫علَى‬
‫ت َ‬ ‫ون ( ‪ ) 152‬أ َ ْ‬
‫ص َطفَى ا ْلبَنا ِ‬ ‫ّللاُ َو ِإنه ُه ْم لَكا ِذبُ َ‬ ‫أَال ِإنه ُه ْم ِم ْن ِإ ْف ِك ِه ْم لَيَقُولُ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 151‬ولَ َد ه‬
‫ين) ‪( 153‬‬ ‫ا ْلبَ ِن َ‬

‫ص ‪492‬‬

‫‪492‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فحكموا عليه بأنه اصطفى البنات‬
‫جعلت هذه الطائفة هّلل ما يكرهون ‪ ،‬فقالوا المالئكة بنات ه‬
‫على البنين ‪ ،‬فتوجه عليهم الحكم باإلنكار في حكمهم ‪ ،‬مع كونهم يكرهون ذلك لنفوسهم ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 154‬إلى ‪] 158‬‬


‫ين ( ‪ ) 156‬فَأْتُوا‬ ‫س ْل ٌ‬
‫طان ُم ِب ٌ‬ ‫ون ( ‪ ) 155‬أ َ ْم لَ ُك ْم ُ‬ ‫ون ( ‪ ) 154‬أ َ فَال تَذَك ُهر َ‬‫ف تَحْ ُك ُم َ‬ ‫ما لَ ُك ْم َك ْي َ‬
‫ت ا ْل ِجنهةُ ِإنه ُه ْم‬ ‫سبا َولَقَ ْد َ‬
‫ع ِل َم ِ‬ ‫ين ( ‪َ ) 157‬و َجعَلُوا بَ ْينَهُ َوبَ ْي َن ا ْل ِجنه ِة نَ َ‬ ‫ِب ِكتا ِب ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬
‫ون ) ‪( 158‬‬ ‫ض ُر َ‬ ‫لَ ُمحْ َ‬
‫ّللا تعالى لما خلق األرواح النورية والنارية أعني المالئكة‬ ‫يعني بالجنة هنا المالئكة ‪ ،‬فإن ه‬
‫شرك بينهما في أمر وهو االستتار عن أعين الناس ‪ ،‬مع حضورهم معهم في‬ ‫والجان ‪ ،‬ه‬
‫ّللا الطائفتين من األرواح جنا ‪ ،‬أي مستورين عنا فال‬ ‫مجالسهم وحيث كانوا ‪ ،‬ولهذا سمى ه‬
‫سبا ً »والجنة‬ ‫ّللا« َو َجعَلُوا بَ ْينَهُ َوبَيْنَ ْال ِجنَّ ِة نَ َ‬ ‫نراهم ‪ ،‬فقال تعالى في الذين قالوا إن المالئكة بنات ه‬
‫من المالئكة هم الذين يالزمون اإلنسان ويتعاقبون فينا بالليل والنهار وال نراهم عادة ‪ ،‬وإذا‬
‫ّللا الحجاب‬ ‫عز وجل أن يراهم من يراهم من اإلنس من غير إرادة منهم لذلك ‪ ،‬رفع ه‬ ‫ّللا ه‬ ‫أراد ه‬
‫ّللا الملك والجن بالظهور لنا‬ ‫ّللا أن يدركهم ‪ ،‬فيدركهم ‪ ،‬وقد يأمر ه‬ ‫عن عين الذي يريد ه‬
‫ّللا الغطاء عنا فنراهم رأي العين ‪ ،‬فقد نراهم أجسادا على‬ ‫فيتجسدون لنا فنراهم ‪ ،‬أو يكشف ه‬
‫ت ْال ِجنَّةُ ِإنَّ ُه ْم‬ ‫ع ِل َم ِ‬‫صور ‪ ،‬وقد نراهم ال على صور بشرية بل نراهم على صور أنفسهم « َولَقَ ْد َ‬
‫ّللا إلى اإلنسان‬ ‫ض ُرونَ »الجنة هنا قد تكون المالئكة والشياطين ‪ ،‬فإن المالئكة رسل من ه‬ ‫لَ ُم ْح َ‬
‫ّللا ‪ ،‬فهم‬ ‫موكلون به ‪ ،‬حافظون كاتبون أفعالنا ‪ ،‬والشياطين مسلطون على اإلنسان بأمر ه‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫مرسلون إلينا من ه‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 159‬إلى ‪] 164‬‬


‫ين ( ‪ ) 160‬فَ ِإنه ُك ْم َوما ت َ ْعبُد َ‬
‫ُون (‬ ‫ّللا ا ْل ُم ْخلَ ِص َ‬
‫ون ( ‪ِ ) 159‬إاله ِعبا َد ه ِ‬ ‫ع هما يَ ِصفُ َ‬ ‫ّللا َ‬ ‫س ْب َ‬
‫حان ه ِ‬ ‫ُ‬
‫يم ) ‪( 163‬‬ ‫ين ( ‪ِ ) 162‬إاله َم ْن ُه َو صا ِل ا ْل َج ِح ِ‬ ‫‪ ) 161‬ما أ َ ْنت ُ ْم َ‬
‫علَ ْي ِه ِبفاتِنِ َ‬
‫َوما ِمنها ِإاله لَهُ َمقا ٌم َم ْعلُو ٌم) ‪( 164‬‬

‫ص ‪493‬‬

‫‪493‬‬
‫[إشارة ‪ :‬من قول المالئكة ( َوما ِمنَّا ِإ َّال لَهُ َمقا ٌم َم ْعلُو ٌم ) ]‬
‫فمنهم أهل العروج بالليل والنهار ‪ ،‬من الحق إلينا ومنا إلى الحق ‪ ،‬في كل صباح ومساء ‪ ،‬وما‬
‫يقولون إال خيرا في حقنا ‪ ،‬ومنهم المستغفرون لمن في األرض ‪ ،‬ومنهم المستغفرون للمؤمنين‬
‫لغلبة الغيرة اإللهية عليهم كما غلبت الرحمة على المستغفرين لمن في األرض ‪ ،‬ومنهم‬
‫الموكلون بإيصال الشرائع ‪ ،‬ومنهم أيضا الموكلون باللمات ‪ ،‬ومنهم الموكلون باإللهام وهم‬
‫يكون‬‫الموصلون العلوم إلى القلوب ‪ ،‬ومنهم الموكلون باألرحام ‪ ،‬ومنهم الموكلون بتصوير ما ه‬
‫ّللا في األرحام ‪ ،‬ومنهم الموكلون بنفخ األرواح ‪ ،‬ومنهم الموكلون باألرزاق ‪ ،‬ومنهم الموكلون‬ ‫ه‬
‫ّللا بإجرائه مالئكة ‪ ،‬كما منهم‬ ‫ّللا في العالم إال وقد و هكل ه‬ ‫باألمطار ‪ ،‬وما من حادث يحدث ه‬
‫أيضا الصافات والزاجرات والتاليات والمقسمات والمرسالت والناشرات والنازعات‬
‫والناشطات والسابقات والسابحات والملقيات والمدبرات ‪ ،‬وهم جميعا تحت سلطان الوالة‬
‫ّللا في خلقه ‪ ،‬ومن ذلك في عروج الرسول‬ ‫االثني عشر ‪ ،‬مالئكة البروج ‪ ،‬فإنهم ينفذون أوامر ه‬
‫ّللا عليه وسلم لما وصل إلى المقام الذي ال يتعداه البراق ‪ ،‬وليس في قوته أن يتعداه ‪،‬‬ ‫صلهى ه‬
‫تدلى إلى الرسول الرفرف فنزل عن البراق واستوى على الرفرف وصعد به الرفرف ‪،‬‬
‫وفارقه جبريل ‪ ،‬فسأله الصحبة فقال ‪ :‬إنه ال يطيق ذلك ‪ ،‬وقال له« َوما ِمنَّا إِ َّال لَهُ َمقا ٌم َم ْعلُو ٌم‬
‫ّللا كل صنف بعضه على بعض ‪ ،‬فاعترفت المالئكة بأن لهم حدودا يقفون‬ ‫»فبالمقامات فضل ه‬
‫عندها ال يتعدونها ‪ ،‬وذلك أن كل واحد منهم على شريعة من ربه متعبد بعبادة خاصة ‪ ،‬ومن‬
‫ذلك يعلم أن المالئكة مع كونها لها مقامات معلومة ال تتعداها ‪ ،‬لها الترقي بالعلم ال بالعمل ‪،‬‬
‫ّللا تعالى أنه علهمهم األسماء على لسان آدم عليه السالم ‪ ،‬فزادهم علما إلهيا لم يكن‬ ‫وقد عرفنا ه‬
‫عندهم ‪ -‬إشارة ‪ -‬اعلم أن المالئكة قالت« َوما ِمنَّا ِإ َّال لَهُ َمقا ٌم َم ْعلُو ٌم »وهكذا كل موجود ما عدا‬
‫ّللا مقامات‬ ‫الثقلين ‪ ،‬وإن كان الثقالن أيضا مخلوقين في مقامهما ‪ ،‬غير أن الثقلين لهما في علم ه‬
‫معينة مقدرة عنده غيبت عنهما ‪ ،‬إليها ينتهي كل شخص منهما بانتهاء أنفاسه ‪ ،‬فآخر نفس هو‬
‫مقامه المعلوم الذي يموت عليه ‪ ،‬ولهذا دعوا إلى السلوك فسلكوا‬

‫ص ‪494‬‬

‫‪494‬‬
‫علوا بإجابة الدعوة المشروعة ‪ ،‬وسفال بإجابة األمر اإلرادي من حيث ال يعلمون إال بعد وقوع‬
‫المراد ‪ ،‬فكل شخص من الثقلين ينتهي في سلوكه إلى المقام المعلوم الذي خلق له ‪،‬‬
‫ومنهم شقي وسعيد ‪ ،‬وكل موجود سواهما فمخلوق في مقامه فلم ينزل عنه ‪،‬‬
‫ّللا ال شقاء‬
‫فلم يؤمر بسلوك إليه ألنه فيه ‪ ،‬من ملك وحيوان ونبات ومعدن ‪ ،‬فهو سعيد عند ه‬
‫يناله ‪،‬‬
‫فقد دخل الثقالن في قول المالئكة « َوما ِمنَّا ِإ َّال لَهُ َمقا ٌم َم ْعلُو ٌم »عند ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وال يتمكن لمخلوق‬
‫ّللا ممكن ‪،‬‬
‫من العالم أن يكون له علم بمقامه إال بتعريف إلهي ‪ ،‬ال بكونه فيه ‪ ،‬فإن كل سوى ه‬
‫ومن شأن الممكن أن ال يقبل مقاما معينا لذاته ‪ ،‬وإنما ذلك لمرجحه بحسب ما سبق في علمه به‬
‫‪،‬‬
‫ولذلك يقال في الثقلين ‪ :‬إن المقامات مكاسب ‪ ،‬وهي استيفاء الحقوق المرسومة شرعا على‬
‫التمام ‪ ،‬فإذا قام العبد في األوقات بما تعين عليه من المعامالت وصنوف المجاهدات‬
‫والرياضات التي أمره الشارع أن يقوم بها ‪ ،‬وعيهن نعوتها وأزمانها وما ينبغي لها ‪ ،‬وشروطها‬
‫التمامية والكمالية الموجبة صحتها ‪ ،‬فحينئذ يكون صاحب مقام ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ‪( 37 ) :‬اآليات ‪ 165‬إلى ‪] 166‬‬


‫ون ) ‪( 166‬‬‫س ِبّ ُح َ‬ ‫صافُّ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 165‬و ِإنها لَنَحْ ُن ا ْل ُم َ‬ ‫َو ِإنها لَنَحْ ُن ال ه‬
‫أثنت المالئكة على أنفسهم بعد معرفتهم وتعريفهم بمقامهم ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 167‬إلى ‪] 171‬‬


‫ين ( ‪ ) 168‬لَ ُكنها ِعبا َد ه ِ‬
‫ّللا‬ ‫ون ( ‪ ) 167‬لَ ْو أ َ هن ِع ْندَنا ِذ ْكرا ِم َن ْاأل َ هو ِل َ‬ ‫َوإِ ْن كانُوا لَيَقُولُ َ‬
‫سبَقَتْ َك ِل َمتُنا ِل ِعبا ِدنَا‬
‫ون ( ‪َ ) 170‬ولَقَ ْد َ‬ ‫ف يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ين ) ‪ ( 169‬فَ َكفَ ُروا بِ ِه فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫ا ْل ُم ْخلَ ِص َ‬
‫ين ) ‪( 171‬‬ ‫ا ْل ُم ْر َ‬
‫س ِل َ‬
‫بما سبقت به المشيئة ‪ ،‬فقد سبقت المشيئة بما سبقت ‪ ،‬وما تعلقت المشيئة اإللهية بكونه فال بد‬
‫من كونه ‪ ،‬فالخاتمة هي عين السابقة ‪ ،‬وإنما سميت سابقة من أجل تقديمها على الخاتمة ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 172‬إلى ‪]173‬‬


‫ون ( ‪) 173‬‬‫ون ( ‪َ ) 172‬وإِ هن ُج ْندَنا لَ ُه ُم ا ْلغا ِلبُ َ‬ ‫ور َ‬ ‫ص ُ‬ ‫إِنه ُه ْم لَ ُه ُم ا ْل َم ْن ُ‬
‫[ « َو ِإ َّن ُج ْن َدنا لَ ُه ُم ْالغا ِلبُونَ » اآلية ]‬
‫" لَ ُه ُم ْالغا ِلبُونَ »لمن نازعه في ملكه ‪ ،‬وهنا أضاف الحق الجند إلى نفسه بضمير الكناية‬

‫ص ‪495‬‬

‫‪495‬‬
‫عن ذاته ‪ ،‬ولم يصرح باسم إلهي معيهن منصوص عليه ‪ ،‬اكتفاء بتسميتهم جندا ‪،‬‬
‫واألجناد ال تكون إال للملك ‪ ،‬فاإلضافة إليه سبحانه من اسمه الملك ‪ ،‬فهم عبيد الملك ‪،‬‬
‫وبيهن أنهم أهل عدة ‪ ،‬إذ كانت العدة من خصائص األجناد التي تقع بها الغلبة على األعداء ‪،‬‬
‫واألعداء الذين في مقابلة هؤالء األجناد الشياطين واألهواء والمصارف المذمومة كلها ‪،‬‬
‫وسلطانهم الهوى ‪،‬‬
‫وعدة هؤالء الجند التقوى والمراقبة والحياء والخشية والصبر واالفتقار ‪،‬‬
‫والميدان الذي يكون فيه المصاف والمقابلة إذا تراءى الجمعان بينهم وبين األعداء ‪ ،‬هو العلم‬
‫في حق بعض األجناد ‪،‬‬
‫واإليمان في حق بعضهم ‪ ،‬والعلم واإليمان معا في حق الطبقة الثالثة من الجند ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫واآللة التي يدفع بها العدو المنازع هو الدليل القطعي من جهة النظر عند العلماء بتوحيد ه‬
‫أو بخرق العادة عند أهل اإليمان الذين لهم علم ضروري يجدونه في أنفسهم ‪ ،‬فتقوم لهم خرق‬
‫ّللا وأعداءهم كما يدفعه صاحب الدليل‬ ‫العوائد مقام األدلة للعالم ‪ ،‬فيدفعون بخرق العوائد أعداء ه‬
‫‪ ،‬وكل شخص يقدر على دفع عدو بآلة تكون عنده فهو من جنده سبحانه وتعالى ‪ ،‬الذين لهم‬
‫الغلبة والقهر ‪،‬‬
‫وهو التأييد اإللهي الذي به يقع ظهورهم على األعداء ‪ ،‬وأما قوله تعالى ‪ «:‬لَ ُه ُم ْالغا ِلبُونَ‬
‫»الذين ال يغلبون ؛ فمنهم الريح العقيم ‪،‬‬
‫ومنهم الطير التي أرسلت على أصحاب الفيل ‪ ،‬وكذلك كل جند ليس لمخلوق فيه تصرف ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬نصرت بالصبا ]‬ ‫قال صلهى ه‬
‫وقال ‪ [ :‬نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر ]‬
‫وتختلف الجند ‪ ،‬فإن جند الرياح ما هي جند الطير ‪ ،‬ما هي جند المعاني الحاصلة في نفوس‬
‫األعداء كالروع والجبن ‪ ،‬ومنته كل جند إلى فعله الذي و هجه إليه من حصار قلعة وضرب‬
‫مصاف أو غارة أو كبسة ‪ ،‬كل جند له خاصية في نفس األمر ال يتعداها ‪ ،‬قال تعالى في‬
‫علَ ْي ِه ِإ َّال َجعَلَتْهُ َك َّ‬
‫الر ِم ِيم )وقال‬ ‫ت َ‬ ‫ش ْيءٍ أَت َ ْ‬ ‫جارةٍ )وقال في الريح( ما تَذَ ُر ِم ْن َ‬ ‫الطير( ت َ ْر ِمي ِه ْم ِب ِح َ‬
‫ْب يُ ْخ ِربُونَ بُيُوت َ ُه ْم ِبأ َ ْيدِي ِه ْم )‪.‬‬ ‫ف ِفي قُلُو ِب ِه ُم ُّ‬
‫الرع َ‬ ‫في الرعب( َوقَذَ َ‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 174‬إلى ‪] 177‬‬


‫ون ( ‪ ) 175‬أ َ فَ ِبعَذا ِبنا يَ ْ‬
‫ست َ ْع ِجلُ َ‬
‫ون (‬ ‫ف يُ ْب ِص ُر َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 174‬وأ َ ْب ِص ْر ُه ْم فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫ع ْن ُه ْم َحتهى ِح ٍ‬ ‫فَت َ َو هل َ‬
‫ين ) ‪( 177‬‬ ‫ح ا ْل ُم ْنذَ ِر َ‬
‫صبا ُ‬‫‪ ) 176‬فَ ِإذا نَ َز َل ِبسا َحتِ ِه ْم فَسا َء َ‬
‫ّللا عليه وسلم ال يغير على مدينة إذا جاءها ليال حتى يصبح ‪ ،‬فإن سمع أذانا‬ ‫كان النبي صلهى ه‬
‫أمسك‬

‫ص ‪496‬‬

‫‪496‬‬
‫وإال أغار ‪ ،‬وكان يتلو إذا لم يسمع أذانا [ إنا إذا نزلنا بساحة قوم ‪ ،‬فساء صباح المنذرين ]‬
‫فلو أجمع أهل مدينة على ترك سنة وجب قتالهم ‪ ،‬ولو تركها واحد لم يقتل ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬اآليات ‪ 178‬إلى ‪] 180‬‬


‫ب ا ْل ِع هز ِة‬ ‫س ْب َ‬
‫حان َر ِبّكَ َر ّ ِ‬ ‫ف يُ ْب ِص ُر َ‬
‫ون ) ‪ُ ( 179‬‬ ‫ين ( ‪َ ) 178‬وأ َ ْب ِص ْر فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫ع ْن ُه ْم َحتهى ِح ٍ‬
‫َوت َ َو هل َ‬
‫ون ( ‪) 180‬‬ ‫ع هما يَ ِصفُ َ‬ ‫َ‬
‫[ تنزيه الحق عن وصف الواصفين ]‬
‫ّللا ‪ ،‬فيقول‬ ‫ّللا عليه وسلم في حق كل ناظر في صفات ه‬ ‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬الخطاب لمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ضمير هذا الكاف ‪ ،‬أي ربك الذي أرسلك إليهم‬ ‫سبْحانَ َر ِبه َك »لمحمد صلهى ه‬ ‫له« ُ‬
‫‪ ،‬لتعرفهم بما أرسلك به إليهم وأنزله بوساطتك عليهم« َربه ِ ْال ِع َّزةِ »العزة االمتناع ‪ ،‬والتسبيح‬
‫تنزيه ‪ ،‬والتنزيه بعد عما نسب إليه من الصاحبة والولد ‪،‬‬
‫فذكر سبحانه أنهه امتنعت ذاته أن تكون محال لما وصفه به الملحدون ‪ ،‬فإن العزة المنع ‪ ،‬فالحق‬
‫منزه الذات لنفسه ‪ ،‬ما تنزه بتنزيه عبده إياه ‪ ،‬وتنزيه الخلق الحق إنما هو علم ال عمل ‪ ،‬إذ لو‬
‫المنزه سبحانه محال ألثر هذا العمل ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ّللا الذي هو‬ ‫كان التنزيه من الخلق إلههم عمال لكان ه‬
‫سبْحانَ َر ِبه َك َربه ِ ْال ِع َّزةِ »أي هو الممتنع لنفسه أن يقبل ما وصفوه به في‬ ‫فكان قوله تعالى ‪ُ «:‬‬
‫نظرهم وحكموا عليه بعقولهم ‪ ،‬وأن الحق ال يحكم عليه الخلق ‪ ،‬والعقل والعاقل خلق ‪ ،‬وإنما‬
‫يعرف الحق من الحق بما أنزله إلينا أو أطلعنا عليه كشفا وشهودا ‪ ،‬بوحي إلهي ‪ ،‬أو برسالة‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫رسول ثبت صدقه وعصمته فيما يبلغه عن ه‬
‫صفُونَ »العياذ برب العزة عما يصفون ‪ ،‬يريد‬ ‫ع َّما يَ ِ‬
‫فدخل تحت قوله تعالى في تنزيه نفسه« َ‬
‫مما يطلق عليه مما ال ينبغي لجالله من الصاحبة والولد واألنداد ‪ ،‬وعما يصفه به عباده مما‬
‫تعطيهم أدلتهم في زعمهم بالنظر الفكري ‪،‬‬
‫فالفيلسوف نفى عن الحق العلم بمفردات العالم الواقعة في الحس ‪ ،‬ألن حصول هذا العلم على‬
‫وّللا منزه عن الحواس ‪ ،‬وأما المتكلم األشعري فانتقل من تنزيهه عن‬ ‫التعيين إنما هو للحس ه‬
‫التشبيه بالمحدث إلى التشبيه بالمحدث ‪،‬‬
‫فقال مثال في استوائه على العرش ‪ :‬إنه يستحيل عليه أن يكون استواؤه استواء األجسام ألنه‬
‫ليس بجسم ‪ ،‬لما في ذلك من الحد والمقدار وطلب المخصص المرجح للمقادير ‪ ،‬فيثبت له‬
‫االفتقار ‪ ،‬بل استواؤه كاستواء الملك على ملكه ‪ ،‬وأنشدوا في ذلك استشهادا على ما ذهبوا إليه‬
‫من االستواء‪.‬‬

‫ص ‪497‬‬

‫‪497‬‬
‫قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراقف‬
‫شبهوا استواء الحق على العرش باستواء بشر على العراق ‪ ،‬واستواء بشر محدث ‪ ،‬فشبهوه‬
‫صفُونَ »من حيث نظرهم ‪،‬‬ ‫ع َّما يَ ِ‬
‫بالمحدث ‪ ،‬والقديم ال يشبه المحدث ‪ ،‬فقال تعالى تنزيها« َ‬
‫باّلل ال يقبل التحول إلى الجهل وال الدخول عليه ‪ ،‬وما من دليل‬ ‫واستدلوا بعقولهم أن العلم ه‬
‫عقلي إال ويقبل الدخل والشبهة ‪ ،‬ولهذا اختلف العقالء ‪،‬‬
‫فكل واحد من المخالفين عنده دليل مخالفه شبهة لمخالفه ‪ ،‬لكونه خالف دليل هذا اآلخر ‪ ،‬فعين‬
‫أدلتهم هي عين شبهاتهم ‪ ،‬فأين الحق ؟ وأين الثقة ؟‬
‫وأصل الفساد إنما وقع من حيث ح هكموا الخلق على الحق الذي أوجدهم ‪ ،‬فمن وصف الحق‬
‫إنما وصف نفسه ‪ ،‬وال يعرف منه إال نفسه ‪ ،‬ألن رب العزة ال يعيهنه وصف ‪ ،‬وال يقيده نعت ‪،‬‬
‫وال يدل على حقيقته اسم خاص ‪،‬‬
‫وإن لم يكن الحكم ما ذكرناه فما هو رب العزة ‪ ،‬فإن العزيز هو المنيع الحمى ‪ ،‬ومن يوصل‬
‫إليه بوجه ما من وصف أو نعت أو علم أو معرفة فليس بمنيع الحمى ‪،‬‬
‫باّلل سبحانه ‪،‬‬ ‫صفُونَ »فالعلم بالسلب هو العلم ه‬ ‫ع َّما يَ ِ‬
‫ولذلك عمم بقوله« َ‬
‫وّلل األسماء ما له الصفات ‪ ،‬فإنه تنزه عن الصفة ال عن االسم ‪ ،‬فالحق سبحانه ال يعرف في‬ ‫ه‬
‫ليس كمثله شيء ‪ ،‬وفيما ذكره في سورة اإلخالص ‪،‬‬
‫صفُونَ »‬ ‫وفي عموم قوله بالتسبيح الذي هو التنزيه« َربه ِ ْال ِع َّزةِ َ‬
‫ع َّما يَ ِ‬
‫والعزة تقتضي المنع أن يوصل إلى معرفته ‪ ،‬وإن كان تعبدنا بما وصف به نفسه شرعا ‪،‬‬
‫فنقرره في موضعه ونقوله كما أمرنا به على جهة القربة إليه ‪،‬‬
‫وما ظفر باألمر إال من جمع بين التنزيه والتشبيه ‪ ،‬فقال بالتنزيه من وجه عقال وشرعا ‪ ،‬وقال‬
‫بالتشبيه من وجه شرعا ال عقال ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ‪،‬‬ ‫والشهود يقضي بما جاءت به الرسل إلى أممها في ه‬
‫فكل واصف فإنما هو واقف مع نعت مخصوص ‪،‬‬
‫ّللا نفسه عن ذلك النعت من حيث تخصيصه ‪ ،‬ال من حيث أنه له ‪ ،‬فإن له أحدية‬ ‫فينزه ه‬
‫المجموع ال أحدية كل واحد من المجموع ‪،‬‬
‫والواصف إنما يصفه بأحدية كل واحد من المجموع ‪ ،‬فهو المخاطب أعني من نعته بذلك ‪،‬‬
‫صفُونَ »لذلك ما ورد خبر بالصفات ‪ ،‬لما فيها من اآلفات‬ ‫سبْحانَ َر ِبه َك َربه ِ ْال ِع َّزةِ َ‬
‫ع َّما يَ ِ‬ ‫بقوله« ُ‬
‫‪ ،‬أال ترى من جعله موصوفا ‪،‬‬
‫كيف يقول ‪ :‬إن لم يكن كذلك كان مئوفا ‪ ،‬وما علم أن الذات إذا قام كمالها على الوصف ‪ ،‬فإنه‬
‫حكم عليها بالنقص الخالص الصرف ‪ ،‬من لم يكن كماله لذاته ‪ ،‬افتقر بالدليل في الكمال إلى‬
‫صفاته ‪ ،‬وصفاته ما هي عينه ‪ ،‬فقد جهل‬

‫ص ‪498‬‬

‫‪498‬‬
‫صفُونَ »فأوقف العالم‬ ‫سبْحانَ َر ِبه َك َربه ِ ْال ِع َّز ِة َ‬
‫ع َّما يَ ِ‬ ‫القائل ‪:‬إن الصفة كونه ‪ ،‬فقال تعالى ‪ُ «:‬‬
‫في مقام الجهل والعجز والحيرة ‪ ،‬ليعرف العارفون ما طلب منهم من العلم به ‪ ،‬وما ال يمكن‬
‫أن يعلم ‪ ،‬فيتأدبون وال يتجاوزون مقاديرهم ‪ ،‬كما قالت اليهود في الخبر النبوي المشهور ‪ :‬من‬
‫كون الحق يضع األرض يوم القيامة على إصبع والسماوات على إصبع ‪ -‬الحديث –‬
‫ّللا حق قدره )‬ ‫ّللا عليه وسلم ( ما قدروا ه‬ ‫فقرأ النبي صلهى ه‬
‫فصاحب علم النظر الواقف مع عقله ‪ ،‬المتحكم على الحق بدليله ‪ ،‬هيهات أن يدرك األلوهية ‪،‬‬
‫وأين األلوهية من الكون ؟ !‬
‫وأين المحدث من حضرة العين ؟ !‬
‫كيف يدرك من له شبه من ال شبه له ؟ للعقل عقل مثله ‪ ،‬وليس للحق حق مثله ‪ ،‬محال وجود‬
‫ذاتين وإلهين ‪ ،‬ال يشبه شيئا ‪ ،‬وال يتقيد بشيء ‪ ،‬وال يحكم عليه شيء ‪ ،‬بل ما يضاف إليه إال‬
‫بقدر ما تمس حاجة الممكن المقيهد إليه ‪ ،‬فالعقل ما عرفه ‪ ،‬كيف يلتمس بأمر هو خلقه عاجزا‬
‫فقيرا مستمدا ؟‬
‫ْس َك ِمثْ ِل ِه‬
‫صفُونَ »( لَي َ‬ ‫سبْحانَ َر ِبه َك َربه ِ ْال ِع َّز ِة َ‬
‫ع َّما يَ ِ‬ ‫ّللا عن إدراك المدركين علوا كبيرا« ُ‬ ‫تعالى ه‬
‫ير )فال يطلب بالعقول ‪ ،‬ما ال يصح إليه الوصول‬ ‫ص ُ‬ ‫س ِمي ُع ْالبَ ِ‬
‫ش ْي ٌء َو ُه َو ال َّ‬
‫َ‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬اعلم أن عين العبد ال تستحق شيئا من حيث عينه ‪ ،‬ألنه ليس بحق أصال ‪،‬‬
‫والحق هو الذي يستحق ما يستحق ‪ ،‬فجميع األسماء التي في العالم ويتخيل أنها حق للعبد حق‬
‫هّلل ‪ ،‬فاالستحقاق بجميع األسماء الواقعة في الكون الظاهرة الحكم إنما يستحقها الحق ‪ ،‬والعبد‬
‫يتخلق بها ‪ ،‬وليس للعبد سوى عينه ‪،‬‬
‫وال يقال في الشيء ‪ :‬إنه يستحق عينه ‪ ،‬فإن عينه هويته ‪ ،‬فال حق وال استحقاق ‪ ،‬وكل ما‬
‫عرض أو وقع عليه اسم من األسماء إنما وقع على األعيان من كونها مظاهر ‪ ،‬فما وقع اسم‬
‫إال على وجود الحق في األعيان ‪ ،‬واألعيان على أصلها ال استحقاق لها ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو المسمى‬ ‫فالوجود هّلل وما يوصف به من أية صفة كانت إنما المسمى بها هو مسمى ه‬
‫بكل اسم والموصوف بكل صفة والمنعوت بكل نعت ‪،‬‬
‫صفُونَ »من أن يكون له شريك في األسماء كلها ‪،‬‬ ‫سبْحانَ َر ِبه َك َربه ِ ْال ِع َّز ِة َ‬
‫ع َّما يَ ِ‬ ‫ولذلك قال ‪ُ «:‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬أسماء أفعاله أو صفاته أو ذاته ‪ ،‬فما في الوجود إال ه‬ ‫فالكل أسماء ه‬
‫واألعيان معدومة في عين ما ظهر فيها ‪ ،‬فالصفات هّلل حقيقة جهلنا معناها بالنسبة إليه ‪،‬‬
‫وعرفنا معناها بالنسبة إلينا ‪ ،‬من وجه معرفتنا بمعناها إذا نسبت إلينا ‪،‬‬
‫ومن كون الباري اتصف بها على طريقة مجهولة عندنا ‪ ،‬فال نعرف كيف ننسبها إليه لجهلنا‬
‫بذاته ‪ ،‬فتكون أصال فيه عارضة فينا ‪ ،‬فال نستحق شيئا ال‬

‫ص ‪499‬‬

‫‪499‬‬
‫ّللا‬
‫من أسمائه وال مما نعتقد فيها أنها أسماؤنا ‪ ،‬وهذا موضع حيرة ومزلة قدم ‪ ،‬إال لمن كشف ه‬
‫عن بصيرته ‪،‬‬
‫ّللا تجوزا ‪،‬‬
‫فقوله تعالى فيما وصف به نفسه مما هو عند النظار صفة للخلق حقيقة وأخذوه في ه‬
‫من جوع وظمأ ومرض وغضب ورضى وسخط وتعجب وفرح وتبشبش ‪ ،‬إلى قدم ويد وعين‬
‫وذراع ‪،‬‬
‫ّللا على ألسنة الرسل ‪ ،‬وما ورد من ذلك في الكالم‬ ‫وأمثال ذلك ‪ ،‬مما وردت به األخبار عن ه‬
‫ّللا المعبر عنه بصحيفة وقرآن وفرقان وتوراة وإنجيل وزبور ‪،‬‬ ‫المنسوب إلى ه‬
‫فاألمر عند المحققين أن هذه كلها صفات حق ال صفات خلق ‪،‬‬
‫وأن الخلق اتصف بها مزاحمة للحق ‪ ،‬كما اتصف العالم أيضا بجميع األسماء اإللهية الحسنى‬
‫‪ ،‬فالكل أسماؤه من غير تخصيص ‪ ،‬هذا مذهب المحققين فيه فإنه صادق ‪،‬‬
‫ولهذا نحن في ذلك على التوقيف ‪ ،‬فال نصفه إال بما وصف به نفسه ‪ ،‬وال نسميه إال بما سمى‬
‫به نفسه ‪ ،‬ال نخترع له اسما ‪ ،‬وال نحدث له حكما ‪ ،‬وال نقيم به صفة‬
‫صفُونَ »هي حضرة ال تقبل التنزيه وال‬ ‫ع َّما يَ ِ‬‫سبْحانَ َر ِبه َك َربه ِ ْال ِع َّز ِة َ‬
‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ُ «-‬‬
‫التشبيه ‪ ،‬فيتنزه عن الحد بنفي التنزيه الذي كان يتخيله المنزه ‪ ،‬فإن التنزيه يحدهه ويشير إليه‬
‫ويقيده ‪ ،‬ويتنزه عن المقدار بنفي التشبيه‬
‫‪ -‬الوجه الرابع ‪ -‬التسبيح تنزيه ما هو ثناء بأمر ثبوتي ‪ ،‬ألنه ال يثنى عليه إال بما هو أهل له‬
‫‪ ،‬وما هو له ال يقع فيه المشاركة ‪ ،‬وما أثني عليه إال بأسمائه ‪،‬‬
‫وما من اسم له سبحانه عندنا معلوم إال وللعبد التخلق به واالتصاف به على قدر ما ينبغي له ‪،‬‬
‫فلما لم يتمكن في العالم أن يثنى عليه بما هو أهله ‪ ،‬جعل الثناء عليه تسبيحا من كل شيء ‪،‬‬
‫س ِبه ُح بِ َح ْم ِد ِه )أي بالثناء الذي يستحقه وهو أهله ‪،‬‬ ‫ولهذا أضاف الحمد إليه فقال( يُ َ‬
‫صفُونَ »‬ ‫سبْحانَ َر ِبه َك َربه ِ ْال ِع َّزةِ َ‬
‫ع َّما يَ ِ‬ ‫وليس إال التسبيح ‪ ،‬فإنه سبحانه يقول« ُ‬
‫والعزة المنع من الوصول إليه بشيء من الثناء عليه الذي ال يكون إال له ‪ ،‬عما يصفون ‪ ،‬وكل‬
‫مثن واصف ‪ ،‬فذكر سبحانه تسبيحه على كل حال ومن كل عين ‪.‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 181‬‬


‫ين ) ‪( 181‬‬ ‫علَى ا ْل ُم ْر َ‬
‫س ِل َ‬ ‫سال ٌم َ‬
‫َو َ‬
‫وهم المرحومون السالمون ‪ ،‬فما جاءت الرسل عليهم السالم إال بما أحالته األدلة النظرية وبما‬
‫أثبتته ‪ ،‬فصدهق أهل النظر في نظرهم ‪ ،‬وأكذبهم في نظرهم ‪ ،‬فوقعت الحيرة عند أرباب النظر‬
‫‪ ،‬فإذا سلهموا له ما قاله عن نفسه على ألسنة رسله ‪ ،‬وانقادوا إليهم ‪ ،‬فإن انقيادهم‬

‫ص ‪500‬‬

‫‪500‬‬
‫ينزلهم منزلتهم ‪ ،‬فإنهم ما انقادوا إليهم من حيث أعيانهم ‪ ،‬فإنهم أمثالهم ‪ ،‬وإنما انقادوا إلى الذي‬
‫جاءوا من عنده ‪ ،‬ونقلوا عنه ما أخبر به عن نفسه على ما يعلم نفسه ‪ ،‬ال على تأويل من وصل‬
‫ّللا ‪ ،‬فيقف الناظر موقف التسليم لما ورد ‪ ،‬مع فهمه‬ ‫ّللا فيه إال بإعالم ه‬
‫إليه ذلك ‪ ،‬فال يعلم مراد ه‬
‫فيه أنه على موضوع ما ‪ ،‬هو في ذلك اللسان الذي جاء به هذا الرسول ال بد من ذلك ‪ ،‬ألنه ما‬
‫جاء به بهذا اللسان إال لنعرف أنه على حقيقة ما وضع له ذلك اللفظ في ذلك اللسان ‪ ،‬ولكن‬
‫تجهل النسبة ‪ ،‬فنسلم إليه علم النسبة مع عقلنا األدلة بالوضع االصطالحي في ذلك اللحن‬
‫س ِلينَ »أي واجب عليهم‬ ‫علَى ْال ُم ْر َ‬
‫الخاص ‪ ،‬فننقاد إليه كما انقاد المرسلون ‪ ،‬ولهذا قال« َ‬
‫االنقياد بقوله « وسالم » فنكون أمثالهم ‪ ،‬ث هم قال ‪:‬‬

‫[ سورة الصافات ( ‪ : ) 37‬آية ‪] 182‬‬


‫ين ) ‪( 182‬‬‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫َوا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫ّلِل َر ّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فعواقب‬
‫والحمد هّلل أي عواقب الثناء إذ كل ما جاءوا به إنما قصدوا به الثناء على ه‬
‫[ إشارة ‪ :‬الحمد هّلل ]‬
‫ّللا بما نزه نفسه عنه وبما نزهه العباد به ‪ ،‬فإن الحمد العاقب ‪ ،‬فعواقب الثناء ترجع‬ ‫الثناء على ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وعاقب األمر آخره« َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »من حيث ثبوته في ربوبيته بما يستحقه الرب‬ ‫إلى ه‬
‫من النعوت المقدسة ‪ ،‬وهو سيد العالم ومربيهم ومغذيهم ومصلحهم ‪ ،‬ال إله إال هو العزيز‬
‫ّللا رب العالمين‬
‫ّللا عليه وسلم حمد ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫الحكيم ‪ ،‬ومن سياق اآليات دل على أن رسول ه‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »جاءت في‬
‫عقيب نصره وظفره بخيبر ‪ ،‬فهو حمد نعمة ‪ -‬إشارة ‪ْ «-‬ال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫أول سورة الفاتحة ‪ ،‬وفي وسط سورة يونس ‪ ،‬وفي آخر سورة الصافات ‪ ،‬فعمت الطرفين‬
‫والواسطة ‪.‬‬

‫( ‪ ) 38‬سورة ص مكيّة‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬
‫ّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬ ‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬‫س ِم ه ِ‬
‫بِ ْ‬
‫آن ذِي ال ِذّ ْك ِر ( ‪) 1‬‬
‫ص َوا ْلقُ ْر ِ‬
‫[ حرف الصاد ]‬
‫أقسم الحق تعالى عند ذكر حرف الصاد بمقام جوامع الكلم ‪ ،‬فإن الصاد حرف من حروف‬
‫الصدق ‪ ،‬والصون ‪ ،‬والصورة ‪ ،‬فهو حرف شريف عظيم ‪ ،‬وتضمنت هذه السورة‬

‫ص ‪501‬‬

‫‪501‬‬
‫من أوصاف األنبياء عليهم السالم ومن أسرار العالم كله الخفية عجائب وآيات ‪ ،‬وكل من له‬
‫نصيب من هذه السورة يحصل له من بركات األنبياء عليهم السالم المذكورين في هذه السورة‬
‫‪ ،‬ويلحق األعداء الكفار ما في هذه السورة من البؤس ال من المؤمنين ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 2‬إلى ‪] 3‬‬


‫ناص‬ ‫قاق ( ‪َ ) 2‬ك ْم أ َ ْهلَ ْكنا ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم ِم ْن قَ ْر ٍن فَنا َد ْوا َوالتَ ِح َ‬
‫ين َم ٍ‬ ‫ش ٍ‬ ‫ِين َكفَ ُروا فِي ِع هز ٍة َو ِ‬
‫بَ ِل الهذ َ‬
‫(‪)3‬‬
‫فإن العطاء عام والنفع خاص ‪ ،‬عم التنادي وما عمت اإلباية ‪ ،‬لما لم تقع هنا اإلنابة ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 4‬‬


‫ساح ٌر َكذه ٌ‬
‫اب ( ‪) 4‬‬ ‫َوع َِجبُوا أ َ ْن جا َء ُه ْم ُم ْنذ ٌِر ِم ْن ُه ْم َوقا َل ا ْلكافِ ُر َ‬
‫ون هذا ِ‬
‫ّللا تعالى عليه]‬ ‫ّللا عليه وسلم ومنة ه‬ ‫[ إشارة ‪ :‬في حق الرسول صلهى ه‬
‫ّللا تعالى عليه ‪ :‬كأن الحق تعالى يقول‬ ‫ّللا عليه وسلم ومنة ه‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬في حق الرسول صلهى ه‬
‫له ‪ :‬عبدي خرقت لك الحجاب ‪ ،‬وأظهرت لك األمر العجاب ‪ ،‬حتى أتيت قومك باللباب ‪ ،‬فقالوا‬
‫‪ :‬ساحر كذاب ‪.‬‬
‫ه‬
‫الخالق ‪،‬‬ ‫عبدي وهبتك أسرار األخالق ‪ ،‬وملكتك مفتاح اسمي‬
‫فقال الكافرون ‪ :‬إن هذا إال اختالق ‪ .‬عبدي ملكتك سر النون من قولي كن فيكون ‪،‬‬
‫فقالوا ‪ :‬ساحر مجنون ‪ ،‬عبدي أتيتهم بأسرار الكوثر ‪ ،‬فقالوا ‪:‬إن هذا إال سحر يؤثر ‪.‬‬
‫عبدي أعطتك ألقوا في زمامها ‪ ،‬ورفعت لك المعاني معارفها وأعالمها ‪ ،‬فجريت سابقا ‪ ،‬في‬
‫حلبة الناظم والناثر ‪،‬‬
‫فقالوا ‪ :‬ما هذا رسول بل هو شاعر ‪ .‬عبدي كشفت لهم عن النور المبين ‪ ،‬وأطلعتهم على علم‬
‫اليقين ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن هذا إال أساطير األولين ‪.‬‬
‫أما شرح ما في هذه اإلشارة ‪ ،‬فقوله ‪ « :‬خرقت لك الحجاب » أي أشهدتك أسرار الغيب ‪،‬‬
‫حتى عرفت ما تعطيه خواص األشياء في أزمنة مخصوصة ‪،‬‬
‫وقوله ‪ « :‬وهبتك أسرار األخالق » هو ما أعطي من جوامع الكلم ‪ ،‬إذ كان القرآن معجزته ‪،‬‬
‫وقوله ‪ « :‬ملكتك سر النون » هو ما يظهر من الرسول من االقتدار الذي ال ينبغي أن يكون‬
‫إال هّلل تعالى ‪ ،‬من إحياء الموتى وأشباهه ‪ ،‬ويريد « بأسرار الكوثر » علما خاصا ‪ ،‬كما أن‬
‫الكوثر خاصة مائه أنه من شرب منه ال يظمأ ‪ ،‬فكذلك هذا العلم الذي هو بهذه المثابة ‪ ،‬من‬
‫شرب منه ما يروى ‪،‬‬
‫قوله ‪ « :‬أعطتك القوافي زمامها والمعاني » إلى آخر الفصل ‪ ،‬يريد داللة األلفاظ بحكم‬
‫التطابق على المعاني على طريق اإلعجاز‬

‫ص ‪502‬‬

‫‪502‬‬
‫بعدم المعارضة ‪ ،‬وقوله « النور المبين » و « علم اليقين »‬
‫س ِل ِم ْن قَ ْب ِل َك )‪.‬‬ ‫يريد قوله تعالى ( ما يُقا ُل لَ َك ِإ َّال ما قَ ْد ِقي َل ِل ُّ‬
‫لر ُ‬

‫[ سورة ص ‪ ( 38 ) :‬آية ‪] 5‬‬


‫ُجاب ( ‪) 5‬‬
‫ش ْي ٌء ع ٌ‬ ‫واحدا ِإ هن هذا لَ َ‬ ‫أ َ َجعَ َل ْاآل ِل َهةَ ِإلها ِ‬
‫[ اإلله ال يكون بالجعل ]‬
‫واح ٌد ال ِإلهَ ِإ َّال‬
‫قال المشركون لما دعوا إلى توحيد اإلله في ألوهته بقوله تعالى‪َ ( :‬و ِإل ُه ُك ْم ِإلهٌ ِ‬
‫الر ِحي ُم ) أكثروا التعجب‬ ‫من َّ‬‫الر ْح ُ‬‫ُه َو َّ‬
‫ّللا لنا عن المشرك أنه قال هكذا ‪ ،‬إما لفظا‬ ‫واحدا ً »فهي حكاية ه‬ ‫وقالوا ‪ «:‬أ َ َجعَ َل ْاآل ِل َهةَ إِلها ً ِ‬
‫ّللا إلها آخر من واحد فما زاد ‪ ،‬وكان ذلك من أجل‬ ‫وإما معنى ‪ ،‬والمشرك هو من جعل مع ه‬
‫ّللا ‪ ،‬المشهود له عندهم بالعظمة على الجميع ‪،‬‬ ‫اعتقادهم فيما عبدوه أنهم آلهة دون ه‬
‫ّللا ُز ْلفى )‬
‫والذي قالوا فيه( ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫جاب »فالناس يحملون هذا القول على أنه من قول الكفار ‪ ،‬حيث دعاهم إلى‬ ‫ع ٌ‬ ‫" ِإ َّن هذا لَ َ‬
‫ش ْي ٌء ُ‬
‫توحيد إله وهم يعتقدون كثرتها ‪ ،‬وما علموا أن جعل األلوهية من الكثيرين أعجب ‪ ،‬ففي‬
‫الحقيقة ليس العجب ممن و هحد ‪،‬‬
‫وإنما العجب ممن كثر اآللهة بال دليل وال برهان ‪ ،‬وهذا القول عندنا من قول الحق ‪ ،‬أو قول‬
‫الرسول ‪،‬‬
‫واحدا ً »والتعجب أنه بأول العقل يعلم اإلنسان أن اإلله ال‬ ‫وأما قول الكفار فانته في قوله« ِإلها ً ِ‬
‫يكون بجعل جاعل ‪ ،‬فإنه إله لنفسه ‪،‬‬
‫ولهذا وقع التوبيخ بقوله تعالى ‪ (:‬أ َ ت َ ْعبُدُونَ ما ت َ ْن ِحتُونَ ) واإلله في ضرورة العقل ال يتأثر ‪،‬‬
‫وقد كان هذا خشبة يلعب بها أو حجرا يستجمر به ‪ ،‬ثم أخذه وجعله إلها يذل ويفتقر إليه‬
‫ويدعوه خوفا وطمعا ‪ ،‬فمن مثل هذا يقع التعجب مع وجود العقل عندهم ‪ ،‬فوقع التعجب من‬
‫ذلك ‪ ،‬ليعلم من حجب العقول عن إدراك ما هو لها بديهي وضروري ‪ ،‬ذلك لتعلموا أن األمور‬
‫ّللا ‪ ،‬وأن الحكم فيها هّلل ‪ ،‬وأن العقول ال تعقل بنفسها ‪ ،‬وإنما تعقل ما تعقله بما يلقي إليها‬ ‫بيد ه‬
‫ربها وخالقها ‪ ،‬ولهذا تتفاوت درجاتها ‪ ،‬فمن عقل مجعول عليه قفل ‪ ،‬ومن عقل محبوس في‬
‫كن ‪ ،‬ومن عقل طلع على مرآته صدأ ‪ ،‬فلو كانت العقول تعقل لنفسها ‪ ،‬لما أنكرت توحيد‬ ‫ه‬
‫موجدها في قوم وعقلته في قوم ‪ ،‬والحد والحقيقة فيها على السواء ‪ ،‬فلهذا جعلنا قوله تعالى«‬
‫ّللا عند قولهم« أ َ َجعَ َل ْاآل ِل َهةَ ِإلها ً ِ‬
‫واحدا ً‬ ‫جاب »ليس من قول الكفار بل قال ه‬ ‫ع ٌ‬ ‫ش ْي ٌء ُ‬ ‫ِإ َّن هذا لَ َ‬
‫»« إن هذا لشيء عجاب » حيث جعلوا اإلله الواحد آلهة ‪ ،‬وخصوص وصفه أنه إله ‪ ،‬وبه‬
‫يتميز ‪ ،‬فال يتكثر بما به يتميز ‪ ،‬ويشهد لهذا النظر قولهم فيما‬

‫ص ‪503‬‬

‫‪503‬‬
‫ّللا ُز ْلفى )فهم يعلمون أنهم نصبوهم آلهة ‪ ،‬ولهذا‬ ‫ّللا عنهم ( ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬ ‫حكى ه‬
‫وقع الذم عليهم بقوله( أ َ ت َ ْعبُدُونَ ما ت َ ْن ِحتُونَ ؟ ) واإلله من له الخلق واألمر من قبل ومن بعد ‪.‬‬
‫ّللا »أن يطلق على أحد ‪ ،‬وما عصم لفظ إله ‪ ،‬فكثرت اآللهة‬ ‫ّللا تعالى عصم لفظ « َّ ِ‬ ‫واعلم ه‬
‫أن ه‬
‫وّللا واحد معروف ال يجهل ‪،‬‬ ‫في العالم لقبولها التنكير ‪ ،‬ه‬
‫ّللا ُز ْلفى )‬
‫أقرت بذلك عبدة اآللهة فقالت ‪ (:‬ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫وما قالت ‪ :‬إلى إله كبير هو أكبر منها ؛ ولهذا أنكروا ما جاء به صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في‬
‫ّللا ‪ ،‬ولو أنكروه ما كانوا‬
‫القرآن والسنة من أنه إله واحد من إطالق اإلله عليه ‪ ،‬وما أنكروا ه‬
‫مشركين ‪ ،‬فبمن يشركون إذا أنكروه ؟‬
‫واحدا ً ؟ »‬‫باّلل ‪ ،‬فقالوا ‪ «:‬أ َ َجعَ َل ْاآل ِل َهةَ إِلها ً ِ‬ ‫فما أشركوا إال بإله ال ه‬
‫ّللا ليس عند المشركين بالجعل ‪.‬‬ ‫ّللا ؟ فإن ه‬ ‫وما قالوا ‪ :‬أجعل اآللهة ه‬
‫ومن ذلك قول السامري( هذا ِإل ُه ُك ْم َو ِإلهُ ُموسى ) في الجعل ‪ ،‬ولم يقل ‪ :‬هذا ه‬
‫ّللا الذي يدعوكم‬
‫ط ِل ُع ِإلى ِإل ِه ُموسى )‬ ‫إليه موسى ؛ وقول فرعون( لَعَ ِلهي أ َ َّ‬
‫ّللا الذي يدعو إليه موسى عليه السالم ؛‬ ‫ولم يقل ‪ :‬إلى ه‬
‫غي ِْري )‪.‬‬ ‫ع ِل ْمتُ لَ ُك ْم ِم ْن إِل ٍه َ‬
‫وقال ‪ (:‬ما َ‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 6‬إلى ‪]7‬‬


‫س ِم ْعنا ِبهذا‬ ‫ص ِب ُروا عَلى آ ِل َهتِ ُك ْم ِإ هن هذا لَ َ‬
‫ش ْي ٌء يُرا ُد ( ‪ ) 6‬ما َ‬ ‫امشُوا َوا ْ‬ ‫ق ا ْل َم ََل ُ ِم ْن ُه ْم أ َ ِن ْ‬
‫َوا ْن َطلَ َ‬
‫ق)‪(7‬‬ ‫فِي ا ْل ِمله ِة ْاآل ِخ َر ِة ِإ ْن هذا ِإاله ْ‬
‫اختِال ٌ‬
‫لما جاءهم التعريف على يدي واحد منهم ‪ ،‬ولم يعرفوا العناية اإللهية واالختصاص الرباني‬
‫واالختالق لم يكن فيما تعجبوا منه ‪ ،‬ألنه لو أحالوه بالكلية ما تعجبوا ‪ ،‬وإنما نسبوا االختالق‬
‫لمن جاء به إذ كان من جنسهم ومما يجوز عليه ذلك ‪ ،‬حتى يتبين لهم برؤية اآليات فيعلمون‬
‫ّللا الذي عبد هؤالء هذه المسماة آلهة عندهم‬ ‫أنه ما اختلق هذا الرسول ‪ ،‬وأنه جاءه من عند ه‬
‫ّللا الكبير المتعال ‪ ،‬واالختالق الكذب لهذا قالوا‪:‬‬ ‫على جهة القربة إلى ه‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 8‬إلى ‪] 9‬‬


‫ب ( ‪ ) 8‬أ َ ْم ِع ْن َد ُه ْم‬‫عذا ِ‬ ‫أ َ أ ُ ْن ِز َل َ‬
‫علَ ْي ِه ال ِذه ْك ُر ِم ْن بَ ْينِنا بَ ْل ُه ْم فِي ش ٍهَك ِم ْن ِذ ْك ِري بَ ْل لَ َّما يَذُوقُوا َ‬
‫ب]»‬ ‫يز ْال َو َّها ِ‬
‫ب ( ‪ [) 9‬قوله تعالى ‪ْ « :‬العَ ِز ِ‬ ‫يز ْال َو َّها ِ‬
‫خَزائِ ُن َر ْح َم ِة َر ِبه َك ْالعَ ِز ِ‬
‫االسم الوهاب أول اسم يطلب أن يظهر أثره في األعيان لفقرها ‪ ،‬والوهب امتنان على‬

‫ص ‪504‬‬

‫‪504‬‬
‫الموهوب له ‪ ،‬ويبتدئ بإعطاء الوجود لكل عين ‪ ،‬ولما كان الوهب له تعالى ذاتيا فإنه ال يقدح‬
‫في غناه عن كل شيء ‪ ،‬فكان العزيز الوهاب ‪ ،‬فإنه عز أن يكون غناه علة لشيء ‪ ،‬ألن العلة‬
‫تطلب معلولها ‪ ،‬والوهب ليس كذلك ‪ ،‬فإنه امتنان على الموهوب له ‪ ،‬والوهاب هو الذي يعطي‬
‫لينعم ال لطلب شكر وال عوض ‪.‬‬

‫[ سورة ص ‪ ( 38 ) :‬اآليات ‪ 10‬إلى ‪] 15‬‬


‫ب ( ‪ُ ) 10‬ج ْن ٌد ما ُهنا ِلكَ َمه ُْزو ٌم‬ ‫سبا ِ‬‫ض َوما بَ ْينَ ُهما فَ ْليَ ْرتَقُوا ِفي ْاأل َ ْ‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫أ َ ْم لَ ُه ْم ُم ْلكُ ال ه‬
‫ب ( ‪َ ) 11‬كذهبَتْ قَ ْبلَ ُه ْم قَ ْو ُم نُوحٍ َوعا ٌد َوفِ ْرع َْو ُن ذُو ْاأل َ ْوتا ِد ( ‪َ ) 12‬وث َ ُمو ُد َوقَ ْو ُم‬ ‫ِم َن ْاألَحْ زا ِ‬
‫ب ) ‪( 14‬‬ ‫س َل فَ َح ه‬
‫ق ِعقا ِ‬ ‫الر ُ‬
‫ب ُّ‬ ‫زاب ( ‪ ) 13‬إِ ْن ُك ٌّل إِاله َكذه َ‬ ‫وط َوأَص ُ‬
‫ْحاب ْاأل َ ْي َك ِة أُولئِكَ ْاألَحْ ُ‬ ‫لُ ٍ‬
‫واق ) ‪( 15‬‬ ‫واحدَة ما لَها ِم ْن فَ ٍ‬ ‫ص ْي َحة ِ‬ ‫ُالء إِاله َ‬ ‫ظ ُر هؤ ِ‬ ‫َوما يَ ْن ُ‬
‫فوحد الصيحة ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 16‬‬


‫ب «) ‪( 16‬‬ ‫طنا قَ ْب َل يَ ْو ِم ا ْل ِحسا ِ‬
‫ع ِ ّج ْل لَنا قِ ه‬ ‫َوقالُوا َربهنا َ‬
‫طنا »أي نصيبنا« قَ ْب َل يَ ْو ِم ْال ِحسا ِ‬
‫ب »قالوا ذلك سخرية ‪.‬‬ ‫ع ِ هج ْل لَنا قِ َّ‬‫َوقالُوا َربَّنا َ‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 17‬‬


‫داو َد ذَا ْاأل َ ْي ِد ِإنههُ أ َ هو ٌ‬
‫اب ( ‪) 17‬‬ ‫ع ْبدَنا ُ‬ ‫ون َو ْ‬
‫اذك ُْر َ‬ ‫ص ِب ْر عَلى ما يَقُولُ َ‬
‫ا ْ‬
‫« ذَا ْاأل َ ْي ِد »أي صاحب القوة ‪ ،‬ما هو جمع يد ‪ ،‬فكان فيما أعطاه الحق على طريق اإلنعام‬
‫عليه القوة ‪ ،‬ونعته بها ‪.‬‬

‫[ سورة ص ‪ ( 38 ) :‬آية ‪] 18‬‬


‫ْراق ) ‪( 18‬‬ ‫ي ِ َو ْ ِ‬
‫اْلش ِ‬ ‫س ِبّحْ َن ِبا ْلعَ ِ‬
‫ش ّ‬ ‫س هخ ْرنَا ا ْل ِجبا َل َمعَهُ يُ َ‬
‫ِإنها َ‬
‫ّللا بن عمر وهو عربي في النافلة في السفر ‪:‬لو كنت مسبحا‬ ‫السبحة صالة النافلة ‪ ،‬يقول عبد ه‬
‫أتممت ؛ واإلشراق أول النهار ‪ ،‬وصالة اإلشراق أربع ركعات ‪ ،‬وهي غير صالة الضحى ‪،‬‬
‫فإنها ثمان ركعات بعد صالة اإلشراق‪.‬‬

‫ص ‪505‬‬

‫‪505‬‬
‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 19‬إلى ‪] 20‬‬
‫ب ( ‪) 20‬‬ ‫ش َددْنا ُم ْل َكهُ َوآت َ ْينا ُه ا ْل ِح ْك َمةَ َوفَ ْ‬
‫ص َل ا ْل ِخطا ِ‬ ‫اب ( ‪َ ) 19‬و َ‬‫ُورة ُك ٌّل لَهُ أ َ هو ٌ‬
‫ط ْي َر َمحْ ش َ‬‫َوال ه‬
‫[ الحكمة ‪ ،‬ومن هم الحكماء على الحقيقة ]‬
‫الحكمة علم تفصيلي عملي ‪ ،‬والعلم بالمجمل علم تفصيلي ‪ ،‬فإنه فصله عن العلم التفصيلي ‪،‬‬
‫ولوال ذلك لم يتميز المجمل من المفصل ‪ ،‬فمن الحكمة العلم بالمجمل والتجميل والمفصل‬
‫والتفصيل ‪ ،‬والحكمة صفة تحكم ويحكم بها وال يحكم عليها ‪،‬‬
‫فصرفته ‪ ،‬ال من حكم الحكمة ‪ ،‬فإنه من حكم الحكمة له المشيئة‬ ‫ه‬ ‫فإن الحكيم من حكمته الحكمة‬
‫فيها ‪،‬‬
‫ومن حكمته الحكمة فهي المصرفة له ‪ ،‬وإذا قامت الصفة بالموصوف أعطته حكمها عطاء‬
‫واجبا ‪،‬‬
‫ّللا تعالى على داود بأن آتاه الحكمة فقال ‪َ «:‬وآتَيْناهُ ْال ِح ْك َمةَ »عمال بإعطاء كل ذي حق‬ ‫فامتن ه‬
‫حقه ‪،‬‬
‫وال يفعل ذلك حتى يعلم ما يستحقه كل ذي حق من الحق ‪ ،‬وليس إال بتبيين الحق له ذلك ‪،‬‬
‫ّللا تعالى فأعطاه الحكمة«‬ ‫ولذلك أضافه إليه تعالى فقال ‪َ «:‬وآتَيْناهُ ْال ِح ْك َمةَ »وهي هبة من ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫صل في علم ه‬ ‫ب »في المقال ‪ ،‬وهو من الحكمة ‪ ،‬واألمر كله مف ه‬ ‫ص َل ْال ِخطا ِ‬ ‫َوفَ ْ‬
‫ّللا إجمال ‪ ،‬وإنما وقع اإلجمال عندنا وفي حقنا وفينا ظهر ‪ ،‬فمن كشف التفصيل في‬ ‫ما عند ه‬
‫ّللا الحكمة وفصل الخطاب ‪ ،‬وليس إال‬ ‫عين اإلجمال علما أو عينا أو حقا فذلك الذي أعطاه ه‬
‫ّللا من كل وجه فقد أوتي الحكمة وفصل‬ ‫الرسل والورثة خاصة ‪ ،‬فإنه من أوتي الفهم عن ه‬
‫الخطاب ‪ ،‬وهو تفصيل الوجوه والمرادات من الكالم ‪ ،‬وفصل الخطاب من المقال ‪،‬‬
‫وسلطانه في قلت وقال ‪ ،‬والقول يطلب السمع ‪ ،‬ويؤذن بالجمع ‪ ،‬فالحكيم يجري مع كل حال‬
‫وموطن بحسب ذلك الحال وذلك الموطن ‪ ،‬فإنه لفصل الخطاب موطن ‪ ،‬تعطي الحكمة‬
‫لصاحبها أن ال يظهر منه في ذلك الموطن إال فصل الخطاب ‪،‬‬
‫وهو اإليجاز في البيان في موطنه ‪ ،‬لسامع خاص لذي حال خاص ؛ واإلسهاب في البيان في‬
‫موطنه ‪ ،‬لسامع خاص ذي حال خاص ‪ ،‬ومراعاة األدنى أولى من مراعاة األعلى ‪،‬‬
‫فإن ذلك من الحكمة ‪ ،‬فإن الخطاب لإلفهام ‪ ،‬فإذا كرر المتكلم الكالم ثالث مرات حتى يفهم‬
‫ّللا للناس يراعي األدنى ‪،‬‬ ‫ّللا عليه وسلم فيما يبلغه عن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫عنه ‪ ،‬كما كان كالم رسول ه‬
‫ما يراعي من فهم من أول مرة ‪ ،‬فيزيد صاحب الفهم في التكرار أمورا لم تكن عنده ‪،‬‬
‫أفادها إياه التكرار ‪ ،‬واألدنى الذي لم يفهم فهم األول فهم بالتكرار ما فهمه األول بالقول األول‬
‫‪ ،‬أال ترى العالم الفهم المراقب‬

‫ص ‪506‬‬

‫‪506‬‬
‫أحواله يتلو المحفوظ عنده من القرآن ‪ ،‬فيجد في كل تالوة معنى لم يجده في التالوة األولى ‪،‬‬
‫والحروف المتلوة هي بعينها ما زاد فيها شيء ‪ ،‬وال نقص ‪ ،‬وإنما الموطن والحال تجدد ‪ ،‬وال‬
‫بد من تجدده ‪ ،‬فإن زمان التالوة األولى ما هو زمان التالوة الثانية ‪ ،‬فالحكماء على الحقيقة هم‬
‫ّللا الرسل واألنبياء واألولياء ‪ ،‬ال الحكماء باللقب ‪ ،‬إال أن الحكماء باللقب أقرب إلى العلم‬
‫أهل ه‬
‫من غيرهم ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 21‬إلى ‪] 24‬‬


‫ع ِم ْن ُه ْم قالُوا ال‬ ‫راب ( ‪ ) 21‬إِ ْذ َد َخلُوا عَلى ُ‬
‫داو َد فَفَ ِز َ‬ ‫س هو ُروا ا ْل ِمحْ َ‬ ‫َو َه ْل أَتاكَ نَبَأ ُ ا ْل َخص ِْم إِ ْذ ت َ َ‬
‫راط‬
‫ص ِ‬ ‫واء ال ِ ّ‬
‫س ِ‬ ‫ق َوال تُش ِْط ْط َوا ْهدِنا إِلى َ‬ ‫ض فَاحْ ُك ْم بَ ْينَنا بِا ْل َح ّ ِ‬ ‫ْمان بَغى بَ ْعضُنا عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫ف َخص ِ‬ ‫ت َ َخ ْ‬
‫واح َدةٌ فَقا َل أ َ ْك ِف ْلنِيها َوع هَزنِي فِي‬ ‫ي نَ ْع َجةٌ ِ‬ ‫ون نَ ْع َجة َو ِل َ‬ ‫سعُ َ‬ ‫س ٌع َوتِ ْ‬ ‫( ‪ ) 22‬إِ هن هذا أ َ ِخي لَهُ تِ ْ‬
‫ض ُه ْم‬ ‫طاء لَيَ ْب ِغي بَ ْع ُ‬‫عاج ِه َو ِإ هن َكثِيرا ِم َن ا ْل ُخلَ ِ‬ ‫سؤا ِل نَ ْع َجتِكَ ِإلى نِ ِ‬ ‫ب ( ‪ ) 23‬قا َل لَقَ ْد َظلَ َمكَ ِب ُ‬ ‫ا ْل ِخطا ِ‬
‫داو ُد أَنهما فَتَنها ُه فَا ْ‬
‫ست َ ْغفَ َر َربههُ‬ ‫ت َوقَ ِلي ٌل ما ُه ْم َو َظ هن ُ‬ ‫صا ِلحا ِ‬‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫ض ِإاله الهذ َ‬ ‫عَلى بَ ْع ٍ‬
‫ناب ( ‪) 24‬‬ ‫َو َخ هر را ِكعا َوأ َ َ‬
‫« َوقَ ِلي ٌل ما ُه ْم »‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬يقول ‪ :‬ما هم قليل ‪ ،‬يعني كثير ‪ ،‬أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهو قوله‬
‫س َو ْالقَ َم ُر َوالنُّ ُجو ُم‬ ‫ش ْم ُ‬‫ض َوال َّ‬ ‫ت َو َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّللا يَ ْس ُج ُد لَهُ َم ْن فِي ال َّ‬‫تعالى ‪ (:‬أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ َّن َّ َ‬
‫اس )‬ ‫ير ِمنَ النَّ ِ‬‫ش َج ُر َوالد ََّوابُّ َو َكثِ ٌ‬ ‫َو ْال ِجبا ُل َوال َّ‬
‫باّلل ‪ ،‬فإن‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ [ -‬ما ] من وجه قد تكون زائدة ‪ ،‬فيكون القليل هم من آمن ه‬
‫باّلل بل بأنفسهم فهم‬ ‫ّللا ال ه‬ ‫باّلل ‪ ،‬وأما الموحدون الذين وحدوا ه‬ ‫ّللا ه‬ ‫الموحدين هم الذين وحدوا ه‬
‫اّلل إِ َّال َو ُه ْم ُم ْش ِر ُكونَ )ومن رحمة‬ ‫الذين أشركوا في توحيده ‪ ،‬قال تعالى ‪َ (:‬وما يُؤْ ِم ُن أ َ ْكث َ ُر ُه ْم بِ َّ ِ‬
‫وّللا ما يوجد إال عند ظن العبد‬ ‫ّللا بخلقه أن خلق الظن فيهم وجعله من بعض وزعة الوهم ‪ ،‬ه‬ ‫ه‬
‫داو ُد »والظن‬ ‫ظ َّن ُ‬ ‫ّللا مخلوق أبدا ‪ ،‬قال تعالى «‪َ :‬و َ‬ ‫به فليظن به خيرا ‪ ،‬ولوال الظن ما عصى ه‬
‫هنا على‬

‫ص ‪507‬‬

‫‪507‬‬
‫بابه «أَنَّما فَتَنَّاهُ »أي اختبرناه ‪ ،‬فإن الفتنة في اللسان االختبار ‪ ،‬تقول العرب ‪ :‬فتنت الفضة‬
‫ّللا ‪ ،‬بل ما‬ ‫على النار أي اختبرتها ؛ والفتنة االبتالء ‪ ،‬وليس االبتالء مما يحط درجة العبد عند ه‬
‫اس بِ ْال َح ه ِ‬
‫ق‬ ‫اح ُك ْم بَيْنَ النَّ ِ‬
‫ّللا إال األمثل فاألمثل من عباده ‪ ،‬فإن الحق أوصى داود بقوله ‪ (:‬فَ ْ‬ ‫يبتلي ه‬
‫ّللا الحائل بينه وبين‬ ‫َوال تَتَّبِ ِع ْال َهوى )« فَا ْست َ ْغفَ َر َربَّهُ »فاستغفر داود ربهه أي طلب الستر من ه‬
‫الهوى المضل ليتصل به ‪ ،‬فيؤثر في الحكم الذي أرسل به ‪ ،‬فطلب طلبا مؤكدا الستر من ربه ‪،‬‬
‫ّللا فيما طلب‬ ‫ناب »ورجع إلى ه‬ ‫فإن االستفعال يؤذن بالتوكيد« َوخ ََّر را ِكعا ً »ووقع خاضعا« َوأ َ َ‬
‫ال لحوله وقوته ‪ ،‬فكان سقوطه إلى األرض اختيارا قبل أن تسقطه األهواء ‪ ،‬فكان ركوعه‬
‫ّللا وستره ‪،‬‬ ‫رجوعا إلى أصله من نفسه ‪ ،‬فهو عين الستر الذي طلبه في االستغفار ‪ ،‬فعصمه ه‬
‫سه ‪.‬‬
‫فما خر داود عن زلة أتى بها ‪ ،‬بل رجوعا إلى أ ه‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 25‬‬


‫ب ( ‪) 25‬‬ ‫فَغَفَ ْرنا لَهُ ذ ِلكَ َو ِإ هن لَهُ ِع ْندَنا لَ ُز ْلفى َو ُح ْ‬
‫س َن َمآ ٍ‬
‫«فَغَفَ ْرنا لَهُ ذ ِل َك »فقضينا حاجته فيما رجع إلينا فيه ‪ ،‬وسترناه عن األغيار ‪ ،‬فجهل قدره ‪ ،‬مع‬
‫تصريحنا بخالفته عنا في الحكم في عبادي والتحكم والتصريف« َوإِ َّن لَهُ ِع ْن َدنا لَ ُز ْلفى »‬
‫ب»‬ ‫تقريب مما هو له منا ‪ ،‬ال يرجع من ذلك إلى األكوان واألغيار شيء« َو ُحسْنَ َمآ ٍ‬
‫وخاتمة حسنة ‪ ،‬والسجدة هنا ليست من عزائم السجود ‪ ،‬وقد سجدها داود عليه السالم توبة‬
‫وشكرا معا ‪،‬‬
‫وهي لمن سجدها سجدة شكر ‪ -‬إشارة ‪ -‬لما كان آدم أول من ظهر فيه أحكام األسماء اإللهية ‪،‬‬
‫ولم يزل يرتقي في أطوار بنيه ‪ ،‬ألن خالفته لم تكن منبسطة تماما لقلة عدد هذا النوع معه ‪،‬‬
‫ولذلك كان نوح عليه السالم أول الرسل حتى بلغ ذلك إلى داود عليه السالم ‪ ،‬ومن ث هم وقع‬
‫النص على خالفته في األرض ‪ ،‬وتزوج تسعا وتسعين امرأة ضرب مثال من األسماء ‪ ،‬فلما‬
‫طمع في الظهور باسم الذات ‪ ،‬ضرب له المثل المعروف السابق ذكره ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 26‬‬


‫ق َوال تَتهبِ ِع ا ْل َهوى فَيُ ِضلهكَ َ‬
‫ع ْن‬ ‫ض فَاحْ ُك ْم بَ ْي َن النه ِ‬
‫اس بِا ْل َح ّ ِ‬ ‫داو ُد إِنها َجعَ ْلناكَ َخ ِليفَة فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫يا ُ‬
‫ب) ‪( 26‬‬ ‫سوا يَ ْو َم ا ْل ِحسا ِ‬‫شدِي ٌد بِما نَ ُ‬ ‫ّللا لَ ُه ْم ع ٌ‬
‫َذاب َ‬ ‫ون ع َْن َ‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫ِين يَ ِضلُّ َ‬
‫ّللا إِ هن الهذ َ‬
‫سبِي ِل ه ِ‬
‫َ‬

‫ص ‪508‬‬
‫[ داود عليه السالم نص على خالفته باالسم ومع ذلك نهي عن اتباع الهوى ‪] .‬‬
‫ض »لمن تقدمك أو نيابة عنا ؛ وصرح الحق بالخالفتين‬ ‫داو ُد ِإنَّا َجعَ ْل َ‬
‫ناك َخ ِليفَةً ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫"يا ُ‬
‫على التعيين في حق آدم وداود عليهما السالم ‪،‬‬
‫ض َخ ِليفَةً )يريد آدم وبنيه ‪،‬‬ ‫فقال تعالى في خالفة آدم ‪ (:‬إِ ِنهي جا ِع ٌل فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض »وسبب ذلك لما لم‬ ‫داو ُد ِإنَّا َجعَ ْل َ‬
‫ناك َخ ِليفَةً فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫وقال تعالى في داود عليه السالم« يا ُ‬
‫يجعل في حروف اسم داود حرفا من حروف االتصال جملة واحدة ‪،‬‬

‫‪508‬‬
‫فما في اسمه حرف يتصل بحرف آخر من حروف اسمه ‪ ،‬فكان داود عليه السالم في داللة‬
‫ّللا بخالفته في القرآن في‬
‫اسمه عليه ‪ ،‬أشبه بني آدم بآدم في داللة اسمه عليه ‪ ،‬فصرح ه‬
‫األرض كما صرح بخالفة آدم في األرض ‪ ،‬فإن حروف آدم غير متصلة بعضها ببعض ‪،‬‬
‫وحروف داود كذلك ‪ ،‬إال أن آدم فرق بينه وبين داود بحرف الميم الذي يقبل االتصال القبلي‬
‫ّللا به آخرا حتى ال يتصل به حرف سواه ‪،‬‬ ‫والبعدي ‪ ،‬فأتى ه‬
‫وجعل قبله واحدا من الحروف الستة التي ال تقبل االتصال البعدي ‪ ،‬فأخذ داود من آدم ثلثي‬
‫مرتبة األسماء ( األلف والدال ) ‪،‬‬
‫ّللا داود في هذه اآلية‬
‫ّللا عليه وسلم ثلثيه أيضا ‪ ،‬وهو الميم والدال ‪ .‬وشرف ه‬ ‫وأخذ محمد صلهى ه‬
‫بتعيينه باسمه في الخالفة في األرض ‪ ،‬وجمع له بين أداة المخاطب وبين ما شرفه به ‪ ،‬وهذا‬
‫شرف لم يجمع ألبيه آدم ال في تعيينه باالسم ‪،‬‬
‫وال جمع له بين أداة المخاطب وبين ما شرفه به كما حصل لداود عليه السالم في هذه اآلية ‪،‬‬
‫وذلك جبرا لقلب داود عليه السالم بعد أن جحد آدم الستين سنة التي أعطاها له ‪،‬‬
‫ّللا به من النفاسة‬
‫ّللا أراد تأديب داود عليه السالم لما يعطيه الذكر الذي سماه ه‬ ‫ورغم ذلك فإن ه‬
‫ّللا به عليه ‪،‬‬
‫على أبيه ‪ ،‬وال سيما وقد تقدم من أبيه في حقه ما تقدم من الجحد لما امتن ه‬
‫ّللا بذكر اسمه في الخالفة ‪ ،‬قال له من أجل ما ذكرناه من تطرق النفاسة التي في‬ ‫فلما جبره ه‬
‫ق »الذي أوحيت به إليك وأنزلته عليك ‪،‬‬ ‫اس بِ ْال َح ه ِ‬
‫اح ُك ْم بَيْنَ النَّ ِ‬
‫طبع هذه النشأة« فَ ْ‬
‫ّللا وإنفاذ كلماته ال غير« َوال‬
‫أي احكم بما يقتضيه أمر الحق المشروع ‪ ،‬وهو تمشية أوامر ه‬
‫تَت َّ ِب ِع ْال َهوى »وهو ما خالف شرعك ‪ ،‬وهو إرادة النفوس التي يخالفها حكم الحق ‪ ،‬فيحتمل قوله‬
‫تعالى« َوال تَت َّ ِب ِع ْال َهوى »يعني هوى نفسه ‪ ،‬أي ال تحكم بكل ما يخطر لك ‪ ،‬ويحتمل ال تتبع‬
‫ّللا به إليك ‪،‬‬
‫هوى أحد يشير عليك بخالف ما أوحى ه‬
‫فإنه تعالى قال« َوال تَتَّبِ ِع ْال َهوى »ولم يقل تعالى ‪ :‬هواك ‪ ،‬أي ال تحكم بما يهوى‬

‫ص ‪509‬‬

‫‪509‬‬
‫كل أحد منك ‪ ،‬فإنه لو كان هوى غيره نهي أن يتبعه ‪ ،‬فاتبعه ‪ ،‬فما يتبعه إال بهوى نفسه ‪،‬‬
‫فطاوع نفسه في ذلك ‪ ،‬فلذلك تعين أنه أراد بالهوى نفسه ال غيره ‪ ،‬وهو أن يأمره بمخالفة ما‬
‫ّللا به أن يفعله أو ينهاه عنه ‪ ،‬فقوله تعالى ‪َ «:‬وال تَتَّبِ ِع ْال َهوى »يعني محابك ‪ ،‬بل اتبع‬ ‫أمره ه‬
‫ّللا له‬
‫محابي وهو الحكم بما رسمته لك ‪ ،‬فشغله ذلك الحذر عن الفرح بما حصل له من تعيين ه‬
‫باسمه ‪ ،‬ولكن حصل له الفرح وأخذ حظه منه قبل أن يصل إليه زمان« َوال تَت َّ ِب ِع ْال َهوى‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو ما شرعه لدار القرار التي‬ ‫ّللا ‪ ،‬فأمره بمراقبة سبيل ه‬ ‫ّللا »ال عن ه‬ ‫س ِبي ِل َّ ِ‬‫ع ْن َ‬ ‫ضلَّ َك َ‬ ‫فَيُ ِ‬
‫ع ْن َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫ضلَّ َك َ‬ ‫هي محل سعادتك ‪ ،‬فكان قوله تعالى لخليفته داود عليه السالم ‪ «:‬فَيُ ِ‬
‫عة ً‬‫ّللا تعالى يقول ‪ِ (:‬ل ُك ٍهل َجعَ ْلنا ِم ْن ُك ْم ِش ْر َ‬ ‫ّللا لك على الخصوص ‪ ،‬فإن ه‬ ‫»وهو ما شرعه ه‬
‫َو ِم ْنهاجا ً )والهوى يحيرك ويتلفك ‪ ،‬ويع همي عليك السبيل الذي شرعته لك وطلبت منك المشي‬
‫عليه ‪ ،‬وهو الحكم به ‪ ،‬فالهوى هنا محاب اإلنسان ‪ ،‬فأمره الحق بترك محابه إذا وافق غير‬
‫الطريق المشروعة له ‪ ،‬ألن الهوى يهوي بمتبعه عن درجة الخالفة التي أ ههلت لها وأ ههلت لك ‪،‬‬
‫ع ْن َ‬
‫س ِبي ِل‬ ‫ضلُّونَ َ‬ ‫فالرجل هو الذي رأى الحق حقا فاتبعه ‪ ،‬وحكم الهوى وقمعه ‪ِ «،‬إ َّن الَّذِينَ يَ ِ‬
‫ّللا اتباع الهوى«‬ ‫ّللا »وهو ما شرعه لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله ‪ ،‬والضالل عن سبيل ه‬ ‫َّ ِ‬
‫وّللا أعلم يوم الدنيا ‪ ،‬حيث لم يحاسبوا نفوسهم‬ ‫ب »يحتمل ه‬ ‫سوا يَ ْو َم ْال ِحسا ِ‬ ‫شدِي ٌد بِما نَ ُ‬ ‫ذاب َ‬‫ع ٌ‬ ‫لَ ُه ْم َ‬
‫ّللا عليه وسلم [ ‪ :‬حاسبوا أنفسكم قبل أن‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فيه ‪ ،‬فإن النسيان الترك ‪ ،‬يقول رسول ه‬
‫تحاسبوا ] فإن يوم الدنيا أيضا هو يوم الدين ‪ ،‬أي يوم الجزاء لما فيه من إقامة الحدود ‪ ،‬ليذيقهم‬
‫بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ‪ ،‬ولم يقل تعالى لداود عليه السالم ‪ :‬فإنك إن ضللت عن‬
‫ّللا لك عذاب شديد ؛ فتلطف به في الخطاب ثانيا ‪.‬‬ ‫سبيل ه‬
‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 27‬‬
‫ظ ُّن الَّذِينَ َكفَ ُروا فَ َو ْي ٌل ِللَّذِينَ َكفَ ُروا ِمنَ النَّ ِ‬
‫ار‬ ‫باطالً ذ ِل َك َ‬ ‫ض َوما بَ ْينَ ُهما ِ‬ ‫سما َء َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫َوما َخلَ ْقنَا ال َّ‬
‫باط ًال »فما هي عبث فإن الخالق‬ ‫ض َوما بَ ْينَ ُهما ِ‬ ‫سما َء َو ْاأل َ ْر َ‬
‫«) ‪َ ( 27‬وما َخلَ ْقنَا »أي قدهرنا« ال َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬لذلك‬ ‫حكيم ‪ ،‬فإذا قدرها فما تكون عبثا وال باطال ‪ ،‬فإن ذلك لحكمة فيها يعلمها من علهمه ه‬
‫ار‪».‬‬ ‫ظ ُّن الَّذِينَ َكفَ ُروا فَ َو ْي ٌل ِللَّذِينَ َكفَ ُروا ِمنَ النَّ ِ‬‫قال ‪ «:‬ذ ِل َك َ‬

‫ص ‪510‬‬

‫‪510‬‬
‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 28‬إلى ‪]29‬‬
‫ض أ َ ْم نَجْ عَ ُل ا ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ين كَا ْلفُ هج ِار (‬ ‫ِين ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سد َ‬ ‫ت كَا ْل ُم ْف ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫أ َ ْم نَجْ عَ ُل الهذ َ‬
‫ب ) ‪( 29‬‬ ‫باركٌ ِليَ هدبه ُروا آياتِ ِه َو ِليَتَذَك َهر أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬ ‫تاب أ َ ْن َز ْلناهُ إِلَ ْيكَ ُم َ‬
‫‪ِ ) 28‬ك ٌ‬
‫ّللا عليه وسلم يخاطب به ثالث‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا في حق ما أنزل من القرآن إن رسول ه‬ ‫يقول ه‬
‫ّللا ال‬
‫طبقات من الناس ‪ ،‬فهو في حق طائفة ( بالغ ) يسمعون حروفه إيمانا بها أنها من عند ه‬
‫يعرفون غير ذلك ‪ -‬سورة إبراهيم آية ‪-52‬‬
‫وطائفة تاله عليها« ِليَ َّدب َُّروا آيا ِت ِه »أي يتفكروا فيها وفي معاني القرآن ‪ ،‬حتى يعلموا أن اآلتي‬
‫بها لم يأت بها من نفسه ‪ ،‬بل هي من عند مرسله سبحانه ‪،‬‬
‫وتدبر القرآن من كونه قرآنا وفرقانا ‪ ،‬فللقرآن موطن ‪ ،‬وللفرقان موطن ‪ ،‬فقم في كل موطن‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنها ال تشهد إال بصدق ‪،‬‬ ‫باستحقاقه تحمدك المواطن ‪ ،‬والمواطن شهداء عدل عند ه‬
‫ب »أرباب العقول ما كانوا قد علموه قبل ‪،‬‬ ‫وطائفة ثالثة قال فيها« َو ِليَتَذَ َّك َر أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫فإن التذكر ال يكون إال عن علم غفل عنه أو نسيان من عاقل ‪ ،‬أي ما جاءوا بما تحيله األدلة‬
‫الغامض إدراكها ‪ ،‬فإنها لب الدالالت ‪ ،‬فينتبهون من نوم غفلتهم ويتذكرون بعقولهم ما كانوا قد‬
‫نسوه ‪،‬‬
‫وهذا يدلك على أنهم كانوا على علم متقدم في شيئية الثبوت وأخذ العهد ‪ ،‬فمن باب اإلشارة‬
‫سمي هذا الجنس بالناس ‪ ،‬اسم فاعل من النسيان معرفا باأللف والالم ‪ ،‬ألنه نسي أن الحق‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫سمعه وبصره وجميع قواه في حال كونه كله نورا ‪ ،‬وهو المقام الذي سأله رسول ه‬
‫عليه وسلم من ربه أن يقيم فيه أبدا ‪،‬‬
‫ّللا من أسمائه النور ‪ ،‬بل هو النور ‪ ،‬للحديث الثابت [ نور أنهى‬ ‫فقال ‪ [ :‬واجعلني نورا ] فإن ه‬
‫أراه ] فلما لم يتذكر الناسي هذه الحال ‪ ،‬وهو في نفسه عليها غافل عنها ‪ ،‬خاطبه الحق مذكرا‬
‫ب »ما كانوا قد نسوه ‪.‬‬ ‫له بها في القرآن الذي تعبده بتالوته« ِليَ َّدب َُّروا آياتِ ِه َو ِليَتَذَ َّك َر أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬

‫[ سورة ص ( ‪ ) : 38‬آية ‪]30‬‬


‫اب ) ‪( 30‬‬‫مان ِن ْع َم ا ْلعَ ْب ُد ِإنههُ أ َ هو ٌ‬
‫سلَ ْي َ‬ ‫َو َو َه ْبنا ِل ُ‬
‫داو َد ُ‬
‫ّللا تعالى لداود ‪ ،‬والهبة عطاء الواهب بطريق اإلنعام ‪ ،‬ال بطريق الوفاق أو‬ ‫سليمان هبة ه‬
‫االستحقاق ‪ ،‬فهو النعمة السابغة ‪ ،‬والحجة البالغة ‪ ،‬والضربة الدامغة‪.‬‬
‫ص ‪511‬‬

‫‪511‬‬
‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 31‬إلى ‪] 32‬‬
‫صا ِفناتُ ا ْل ِجيا ُد ( ‪ ) 31‬فَقا َل ِإ ِنّي أَحْ بَبْتُ ُح ه‬
‫ب ا ْل َخ ْي ِر ع َْن ِذ ْك ِر َر ِبّي‬ ‫ي ِ ال ه‬
‫ش ّ‬‫علَ ْي ِه ِبا ْلعَ ِ‬
‫ض َ‬‫ِإ ْذ ع ُِر َ‬
‫ب ( ‪) 32‬‬ ‫وارتْ بِا ْل ِحجا ِ‬ ‫َحتهى ت َ َ‬
‫ع ْن ِذ ْك ِر َر ِبهي " ]‬ ‫[ قول سليمان عليه السالم " أ َ ْحبَبْتُ ُحبَّ ْال َخي ِْر َ‬
‫ع ْن ِذ ْك ِر َر ِبهي »ألنه سماه خيرا ‪ ،‬والخير‬ ‫يقول سليمان عليه السالم« ِإ ِنهي أ َ ْحبَبْتُ ُحبَّ ْال َخي ِْر َ‬
‫ع ْن ِذ ْك ِر َر ِبهي »إياه بالخيرية أحببته ‪ ،‬فأحب عليه السالم حب الخير ‪،‬‬ ‫ّللا فقال ‪َ «:‬‬ ‫منسوب إلى ه‬
‫ّللا إياه ‪ ،‬أو حب الخير من حيث وصف الخير بالحب ‪ ،‬والخير‬ ‫وحب الخير إما أن يريد حب ه‬
‫ال يحب إال األخيار ‪ ،‬فإنهم محل وجود عينه ‪ ،‬فكذلك سليمان عليه السالم قال «‪ :‬أ َ ْحبَبْتُ ُحبَّ‬
‫ْال َخي ِْر »أي أنا في حبي كالخير في حبه ‪ ،‬ولهذا لما توارت بالحجاب ‪ ،‬أعني الصافنات الجياد ‪،‬‬
‫اشتاق إليها ‪ ،‬ألنه فقد المحل الذي أوجب له هذه الصفة الملذوذة ‪ ،‬فإنها كانت مجلى له فقال ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ ) : 38‬آية ‪] 33‬‬


‫وق َو ْاألَع ِ‬
‫ْناق ) ‪( 33‬‬ ‫س ِ‬ ‫سحا ِبال ُّ‬ ‫ي فَ َط ِف َ‬
‫ق َم ْ‬ ‫عل َ ه‬
‫ُردُّوها َ‬
‫فطفق يمسح بيده على أعرافها وسوقها فرحا وإعجابا بخير ربه ‪:‬‬
‫إن الفتى من رأى األفراس توصله *** به فيمسح باألعناق والسوق‬
‫حبا لها عندما كانت أدلته *** عليه لم يرها جاءت لتشقيق‬
‫وكيف جاءت لتشقيق وإن لها *** تسبيح خالقها حقا بتصديق‬
‫ّللا كرمها جودا وأهلها *** لكل صالحة تأهيل معشوق‬ ‫ه‬
‫وأما المفسرون الذي جعلوا التواري للشمس ‪ ،‬فليس للشمس هنا ذكر ‪ ،‬وال للصالة التي‬
‫يزعمون ‪ ،‬ومساق اآلية ال يدل على ما قالوه بوجه ظاهر البتة ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪]34‬‬


‫سدا ث ُ هم أ َ َ‬
‫ناب ) ‪( 34‬‬ ‫مان َوأ َ ْلقَ ْينا عَلى ك ُْر ِ‬
‫س ِيّ ِه َج َ‬ ‫َولَقَ ْد فَتَنها ُ‬
‫سلَ ْي َ‬
‫سلَيْمانَ »ليس تلك‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬وأما استرواح المفسرين فيما فسروه بقوله ‪َ «:‬ولَقَ ْد فَتَنَّا ُ‬
‫الفتنة وهو االختبار إذا كان متعلقه الخيل وال بد ‪ ،‬فيكون اختبار سليمان عليه السالم‬

‫ص ‪512‬‬

‫‪512‬‬
‫إذا رآها هل يحبها عن ذكر ربه لها ؟ أو هل يحبها لعينها ؟‬
‫فأخبر صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه أحبها عن ذكر ربه إياها ‪ ،‬النفسها ‪ ،‬مع حسنها وجمالها‬
‫وحاجته إليها ‪ ،‬وهي جزء من الملك الذي طلب أن ال ينبغي ألحد من بعده ‪ ،‬فأجابه الحق إلى‬
‫ما سأل في المجموع ‪،‬‬
‫عطاؤُنا »‪.‬‬
‫ورفع الحرج عنه فقال له ‪ [:‬بحث الفرق بين األجسام واألجساد ]« هذا َ‬

‫سدا ً »فأقام إبليس لعنه ه‬


‫ّللا صورة‬ ‫سلَيْمانَ َوأ َ ْلقَيْنا َ‬
‫على ُك ْر ِس ِيه ِه َج َ‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪َ «-‬ولَقَ ْد فَتَنَّا ُ‬
‫الجنة في الخيال المنفصل لسليمان عليه السالم ‪ ،‬ليفتنه بها وال علم لسليمان عليه السالم بذلك ‪،‬‬
‫ألن الصورة المحسوسة التي تظهر فيها الروحانيات تسمى أجسادا ‪ ،‬فصنعت سحرة الجان‬
‫لسليمان عليه السالم أرضا من الذهب األصفر ورصعتها بالدر والياقوت والجوهر ‪ ،‬تريد فتنته‬
‫ولم يعلم ‪ ،‬فحسن ظنه بربه واعتقدها من عوائد أفضاله وبشائر إقباله ‪ ،‬فسجد شكرا هّلل حيث‬
‫أتحفه بها ‪ ،‬وزاد في معاملته صبرا‬
‫ّللا له جنة محسوسة يتنعم بها ‪ ،‬وأثبتها له جنة قدس‬ ‫وهو قوله تعالى ‪ " :‬ثم أناب" فأبقاها ه‬
‫صه بها مدة ما أمهله ‪،‬‬ ‫معجلة يراها مكاشفة عين ‪ ،‬وخ ه‬
‫ورجع إبليس خاسرا ألنه أراد بذلك فتنته ‪ -‬بحث الفرق بين األجسام واألجساد ‪ -‬األجسام هي‬
‫هذه المعروفة في العموم لطيفها وشفافها وكثيفها ‪ ،‬ما يرى منها وما ال يرى ‪،‬‬
‫واألجساد هي ما يظهر فيها األرواح في اليقظة الممثلة في صور األجسام ‪ ،‬وما يدركه النائم‬
‫في نومه من الصور المشبهة باألجسام فيما يعطيه الحس ‪ ،‬وهي في نفسها ليست باألجسام ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 35‬‬


‫ب ا ْغ ِف ْر ِلي َو َه ْب ِلي ُم ْلكا ال يَ ْنبَ ِغي ِأل َ َح ٍد ِم ْن بَ ْعدِي إِنهكَ أ َ ْنتَ ا ْل َو هه ُ‬
‫اب ) ‪( 35‬‬ ‫قا َل َر ّ ِ‬
‫قوله « ال ينبغي » أنه يريد ال ينبغي ظهوره في الشاهد للناس ألحد ‪ ،‬وإن حصل بالقوة لبعض‬
‫ّللا عليه وسلم مع العفريت الذي فتك عليه ‪ ،‬فأراد أن يقبضه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الناس ‪ ،‬كمسألة رسول ه‬
‫ّللا‬
‫ويربطه بسارية من سواري المسجد حتى ينظر الناس إليه ‪ ،‬فتذكر دعوة أخيه سليمان فرده ه‬
‫خاسئا ؛ فعلمنا من هذه القصة أنه أراد الظهور في ذلك ألعين الناس ‪ ،‬ويحتمل أن الملك الذي‬
‫ّللا أجاب‬
‫ال ينبغي ألحد من بعده ‪ ،‬الظهور بالمجموع على طريق التصرف فيه ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫ّللا عليه وسلم بدعوة أخيه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫سليمان عليه السالم إلى ما طلب منه بأن ذكر رسول ه‬
‫سليمان حتى ال يمضي ما قام بخاطره من إظهار ذلك ‪ ،‬ومن هذه اآلية نعلم أن حب العارف‬
‫للمال والدنيا ال يقدح في حبه هّلل واآلخرة ‪ ،‬فإنه ما يحبه منه ألمر ما إال ما يناسب ذلك األمر‬
‫في اإللهيات ‪،‬‬

‫ص ‪513‬‬

‫‪513‬‬
‫ّللا ؟‬
‫أترى سليمان عليه السالم سأل ما يحجبه عن ه‬
‫اب »فما أليق‬‫ت ْال َو َّه ُ‬‫ّللا ؟ هيهات ‪ ،‬بل هي صفة كمالية سليمانية« ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬‫أو سأل ما يبعده عن ه‬
‫هذا االسم بهذا السؤال‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬ارغب في ملك ال ينبغي لسواك ‪ ،‬أي ال يكون ملكك سواك ‪ ،‬بل يكون ملكك‬
‫عبوديتك ‪ ،‬فتكون أنت عين ملكك ‪ ،‬وتكون نفسك في ملكك تردها وتحكم عليها ‪ ،‬فهذا هو‬
‫الملك الذي ال يشارك فيه ‪ ،‬فلمثل هذا فليعمل العاملون ‪ ،‬وفي مثله فليتنافس المتنافسون‬
‫‪ -‬لطيفة ‪ -‬ال يعرف لذة االتصاف بالعبودية إال من ذاق اآلالم عند اتصافه بالربوبية واحتياج‬
‫ّللا أرزاق العباد على يديه حسا ‪،‬‬ ‫الخلق إليه ‪ ،‬مثل سليمان عليه السالم حين طلب أن يجعل ه‬
‫فجمع ما حضره من األقوات في ذلك الوقت ‪ ،‬فخرجت دابة من دواب البحر فطلبت قوتها ‪،‬‬
‫فقال لها ‪ :‬خذي من هذا قدر قوتك في كل يوم ‪ ،‬فأكلته حتى أتت على آخره ‪،‬‬
‫ّللا يعطيني كل يوم مثل هذا عشر مرات ‪ ،‬وغيري من‬ ‫فقالت ‪ :‬زدني فما وفيت برزقي ‪ ،‬فإن ه‬
‫الدواب أعظم مني وأكثر رزقا ‪،‬‬
‫فتاب سليمان عليه السالم إلى ربه ‪ ،‬وعلم أنه ليس في وسع المخلوق ما ينبغي للخالق تعالى ‪،‬‬
‫ّللا ملكا ال ينبغي ألحد من بعده ‪ ،‬فاستقال من سؤاله حين رأى ذلك ‪ ،‬واجتمعت‬ ‫فإنه طلب من ه‬
‫الدواب عليه تطلب أرزاقها من جميع الجهات ‪ ،‬فضاق لذلك ذرعا ‪،‬‬
‫ّللا تمم هذه النعمة‬ ‫ّللا سؤاله وأقاله ‪ ،‬وجد من اللذة لذلك ما ال يقدر قدره ‪ ،‬ثم إن ه‬ ‫فلما قبل ه‬
‫لسليمان عليه السالم بدار التكليف فقال ‪.‬‬

‫[ سورة ص ‪ ( 38 ) :‬آية ‪]36‬‬


‫صاب ) ‪( 36‬‬ ‫ث أَ َ‬
‫الري َح تَجْ ِري بِأ َ ْم ِر ِه ُرخاء َح ْي ُ‬ ‫فَ َ‬
‫س هخ ْرنا لَهُ ِ ّ‬
‫ّللا الريح مأمورة ‪ ،‬يعلمنا أنها تعقل ‪ ،‬وال يسمى الهواء ريحا إال إذا تحرك وتموج ‪ ،‬فإذا‬ ‫فجعل ه‬
‫اشتدت حركته كان زعزعا ‪ ،‬وإن لم يشتد كان رخاء أي ريحا لينا ‪ .‬والريح ذو روح يعقل‬
‫كسائر أجسام العالم ‪ ،‬وهبوبه تسبيحه ‪ ،‬والتسخير الذي اختص به سليمان وفضل به على غيره‬
‫ّللا له من الملك الذي ال ينبغي ألحد من بعده ‪ ،‬هو كونه عن أمره ‪،‬‬ ‫‪ ،‬وجعله ه‬
‫ض‬‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س َّخ َر لَ ُك ْم ما فِي ال َّ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ّللا يقول في حقنا كلنا من غير تخصيص( َو َ‬ ‫فإن ه‬
‫َج ِميعا ً ِم ْنهُ )وقد ذكر تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك ‪ ،‬ولكن ال عن أمرنا ‪ ،‬بل عن أمر ه‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬فما اختص سليمان إن عقلت إال باألمر من غير جمعية وال همة ‪ ،‬بل بمجرد األمر ‪ ،‬فكان‬
‫من سليمان مجرد التلفظ باألمر لمن أراد تسخيره من غير همة وال جمعية‪.‬‬

‫ص ‪514‬‬

‫‪514‬‬
‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 37‬إلى ‪] 38‬‬
‫ين ِفي ْاألَصْفا ِد ) ‪( 38‬‬
‫ين ُمقَ هر ِن َ‬
‫اص ( ‪َ ) 37‬وآ َخ ِر َ‬ ‫اء َو َ‬
‫غ هو ٍ‬ ‫ين ُك هل بَنه ٍ‬
‫هياط َ‬
‫َوالش ِ‬
‫ثم قال تعالى لسليمان عليه السالم إتماما لنعمته عليه ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 39‬‬


‫ب ( ‪) 39‬‬ ‫س ْك ِبغَ ْي ِر ِحسا ٍ‬ ‫امنُ ْن أ َ ْو أ َ ْم ِ‬
‫هذا عَطاؤُنا فَ ْ‬
‫امنُ ْن »أي أعط« أ َ ْو أ َ ْم ِس ْك »فرفع عنه الحجر في‬
‫عطاؤُنا »ولم يقل لك وال لغيرك« فَ ْ‬ ‫« هذا َ‬
‫التصريف باالسم المانع والمعطي ‪ ،‬وما حجب هذا الملك سليمان عليه السالم عن ربه ه‬
‫عز‬
‫ّللا‬
‫وّلل عباد سليمانيون يقول ه‬‫ب »يعني لست محاسبا عليه ‪ ،‬ه‬ ‫وجل ‪ ،‬أما قوله تعالى« بِغَي ِْر ِحسا ٍ‬
‫ب »وهم سبعون ألفا في هذه األمة ‪ ،‬قد نعتهم‬ ‫امنُ ْن أ َ ْو أ َ ْم ِس ْك بِغَي ِْر ِحسا ٍ‬‫عطاؤُنا فَ ْ‬ ‫لهم ‪ «:‬هذا َ‬
‫ّللا عليه وسلم في الخبر الصحيح ‪ ،‬وعكاشة منهم بالنص عليه ‪.‬‬ ‫النبي صلهى ه‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 40‬‬


‫ب ( ‪) 40‬‬ ‫س َن َمآ ٍ‬ ‫َوإِ هن لَهُ ِع ْندَنا لَ ُز ْلفى َو ُح ْ‬
‫ب »أي ما ينقصه هذا الملك من ملك‬ ‫« َو ِإ َّن لَهُ ِع ْن َدنا »يعني في اآلخرة« لَ ُز ْلفى َو ُحسْنَ َمآ ٍ‬
‫اآلخرة شيء ‪ ،‬كما يفعله مع غيره حيث أنقصه من نعيم اآلخرة على قدر ما تنعم به في الدنيا ‪،‬‬
‫ط ِيهباتِ ُك ْم فِي َحياتِ ُك ُم ال ُّد ْنيا َوا ْست َ ْمت َ ْعت ُ ْم ِبها )‪.‬‬‫قال تعالى في حق قوم( أ َ ْذ َه ْبت ُ ْم َ‬

‫[ سورة ص ( ‪ ) : 38‬اآليات ‪ 41‬إلى ‪] 42‬‬


‫ُض بِ ِرجْ ِلكَ‬
‫ارك ْ‬
‫ب ( ‪ْ ) 41‬‬
‫ب َوعَذا ٍ‬ ‫طان بِنُ ْ‬
‫ص ٍ‬ ‫ش ْي ُ‬
‫ي ال ه‬ ‫وب إِ ْذ نادى َربههُ أ َ ِنّي َم ه‬
‫سنِ َ‬ ‫ع ْبدَنا أَيُّ َ‬ ‫اذك ُْر َ‬‫َو ْ‬
‫َراب ( ‪) 42‬‬ ‫بار ٌد َوش ٌ‬ ‫س ٌل ِ‬ ‫هذا ُم ْغت َ َ‬
‫بار ٌد »لما كان عليه من فرط حرارة األلم ‪ ،‬فس هكنه‬ ‫س ٌل »يعني ماء « ِ‬ ‫ض ِب ِر ْج ِل َك هذا ُم ْغت َ َ‬‫ار ُك ْ‬ ‫« ْ‬
‫َراب »إلزالة العطش الذي هو من النصب والعذاب الذي مسه به الشيطان‬ ‫ّللا ببرد الماء « َوش ٌ‬ ‫ه‬
‫ركض أيوب برجله عن أمر ربه ‪ ،‬فأزال بتلك الركضة آالمه ‪ ،‬ونبع الماء الذي هو سر الحياة‬
‫السارية في كل حي طبيعي ‪ ،‬فمن ماء خلق ‪ ،‬وبه بريء ‪ ،‬فجعله رحمة له ‪ ،‬وهو قوله تعالى‪.‬‬

‫ص ‪515‬‬

‫‪515‬‬
‫[سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 43‬‬
‫ب ) ‪( 43‬‬ ‫َو َو َه ْبنا لَهُ أ َ ْهلَهُ َو ِمثْلَ ُه ْم َمعَ ُه ْم َرحْ َمة ِمنها َو ِذ ْكرى ِألُو ِلي ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫ّللا هذا من‬
‫ّللا ‪ ،‬وال قاوم االقتدار اإللهي بصبره ‪ ،‬وعلم ه‬ ‫لما لم يناقض الصبر الشكوى إلى ه‬
‫ّللا أهله ومثلهم معهم ‪ ،‬وجعل الحق تعالى ذكرى لنا وله عليه‬ ‫أيوب عليه السالم ‪ ،‬أعطاه ه‬
‫ّللا تعالى بأيوب عليه السالم فيما نذره تعليما لنا ‪ ،‬ليتميز في الموفين بالنذر‬ ‫السالم ‪ ،‬ورفق ه‬
‫فقال ‪.‬‬

‫[ سورة ص ‪ ( 38 ) :‬آية ‪] 44‬‬


‫َو ُخ ْذ بِيَ ِدكَ ِض ْغثا فَا ْ‬
‫ض ِر ْب بِ ِه َوال تَحْ نَ ْث إِنها َو َجدْناهُ صابِرا نِ ْع َم ا ْلعَ ْب ُد إِنههُ أ َ هو ٌ‬
‫اب ( ‪) 44‬‬
‫ّللا ال تقدح في الصبر ]‬ ‫[ الشكوى إلى ه‬

‫َث »ال تعود لسانك الحنث ‪ ،‬وبر يمينك ولو بالضغث ‪،‬‬ ‫ض ْغثا ً فَاض ِْربْ ِب ِه َوال ت َ ْحن ْ‬ ‫" َو ُخ ْذ ِبيَد َ‬
‫ِك ِ‬
‫ّللا عليه وسلم لسترهم عما يعرض‬ ‫وهو قبضة الحشيش ‪ ،‬وجعلت الكفارة في أمة محمد صلهى ه‬
‫لهم من العقوبة في الحنث ‪ ،‬والكفارة عبادة واألمر بها أمر بالحنث إذا رأى خيرا مما حلف‬
‫عليه ‪ ،‬فراعى اإليمان« ِإنَّا َو َج ْدناهُ صابِرا ً »ال يرفع اسم الصبر عن العبد إذا حل به بالء فسأل‬
‫ّللا تعالى في رفع ذلك البالء ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه فقال ‪«:‬‬ ‫اح ِمينَ )وأثنى ه‬
‫الر ِ‬‫ت أ َ ْر َح ُم َّ‬ ‫ي الض ُُّّر َوأ َ ْن َ‬
‫سنِ َ‬‫كما فعل أيوب عليه السالم فقال ‪َ (:‬م َّ‬
‫ِإنَّا َو َج ْدناهُ صا ِبرا ً نِ ْع َم ْالعَ ْب ُد »فما قص الحق عليك أمر أيوب عليه السالم إال لتهتدي بهداه ‪،‬‬
‫إذا كان الرسول سيد البشر يقال له( أُول ِئ َك الَّذِينَ َه َدى َّ‬
‫ّللاُ فَ ِب ُهدا ُه ُم ا ْقت َ ِد ْه )فما ظنك بالتابع ؟‬
‫ولذلك إذا ابتالك الحق بضر فاسأله رفعه عنك ‪ ،‬وال تقاومه بالصبر عليه ‪ ،‬وما سماك صابرا‬
‫اب »أي‬ ‫إال لكونك حبست نفسك عن سؤال غير الحق في كشف الضر الذي أنزله بك« ِإنَّهُ أ َ َّو ٌ‬
‫ر هجاع إلينا فيما ابتليناه به ‪ ،‬وأثنى عليه بالعبودية ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا ال تقدح في الصبر ‪ ،‬بل من آداب العبودية الشكوى إلى ه‬ ‫وهذا يدل على أن الشكوى إلى ه‬
‫ّللا في رفع البالء أو دفعه‬ ‫في رفع الضر والبالء ‪ ،‬فليس الصبر حبس النفس عن الشكوى إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬والركون إلى ذلك‬ ‫‪ ،‬وإنما الصبر حبس النفس عن الشكوى إلى غير ه‬
‫ّللا آدم على صورته ] »‬ ‫[ إشارة ‪ :‬أعظم الفتن الخبر « خلق ه‬
‫ّللا بها اإلنسان تعريفه إياه بأن خلقه على صورته ‪،‬‬ ‫الغير ‪ -‬إشارة ‪ -‬أعظم الفتن التي فتن ه‬
‫ليرى هل يقف مع عبوديته وإمكانه ؟‬
‫أو يزهو من أجل مكانة صورته ؟‬
‫إذ ليس له من الصورة إال حكم األسماء ‪ ،‬فيتحكم في العالم تحكم المستخلف القائم بصورة‬
‫الحق على الكمال وكذلك‬

‫ص ‪516‬‬

‫‪516‬‬
‫ّللا عليه وسلم يحكيه عن ربه ‪ :‬إن العبد إذا تقرب إلى‬ ‫من تأييد هذه الفتنة ‪ ،‬قول النبي صلهى ه‬
‫ّللا بالنوافل أحبه ‪ ،‬فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ‪ ،‬وذكر اليد‬ ‫ه‬
‫والرجل ‪ -‬الحديث –‬
‫وإذا علم العبد أنه بهذه المثابة يسمع بالحق ويبصر بالحق ويبطش بالحق ويسعى بالحق ال‬
‫بنفسه ‪ ،‬وبقي مع هذا النعت اإللهي عبدا محضا فقيرا ‪ ،‬ويكون شهوده من الحق وهو بهذه‬
‫المثابة ‪ ،‬كون الحق ينزل إلى عباده بالفرح بتوبتهم ‪ ،‬والتبشيش لمن يأتي إلى بيته ‪ ،‬والتعجب‬
‫من الشاب الذي قمع هواه ‪ ،‬واتصافه بالجوع نيابة عن جوع عبده ‪،‬‬
‫وبالظمإ نيابة عن ظمأ عبده ‪ ،‬وبالمرض نيابة عن مرض عبده ‪ ،‬مع علمه بما تقتضيه عزة‬
‫ربوبيته وكبريائه في ألوهيته ‪ ،‬فما أثر هذا النزول في جبروته األعظم وال في كبريائه األنزه‬
‫األقدم ‪،‬‬
‫كذلك العبد إذا أقامه الحق نائبا فيما ينبغي للرب تعالى يقول العبد ‪ :‬ومن كمال الصورة التي‬
‫قال إنه خلقني عليها أن ال يغيب عني مقام إمكاني ‪ ،‬ومنزلة عبوديتي ‪ ،‬وصفة فقري وحاجتي‬
‫‪ ،‬كما كان الحق في حال نزوله إلى صفتنا حاضرا في كبريائه وعظمته ‪،‬‬
‫فيكون الحق مع العبد إذا وفهى بهذه الصفة ‪ ،‬يثني عليه بأنه نعم العبد إنه أواب ‪ ،‬حيث لم يؤثر‬
‫فيه هذه الوالية اإللهية وال أخرجته عن فقره واضطراره ؛ ومن تجاوز حدهه في التقريب‬
‫ّللا والمقت ‪ ،‬فاحذر نفسك فإن الفتنة باالتساع أعظم من‬ ‫انعكس إلى الضد ‪ ،‬وهو البعد من ه‬
‫الفتنة بالحرج والضيق ‪ ،‬فإن كنت صاحب غرض ‪،‬‬
‫وتحس بمرض وألم فاحبس نفسك عن الشكوى لغير من آلمك بحكمه عليك ‪ ،‬كما فعل أيوب‬
‫عليه السالم ‪ ،‬وهو األدب اإللهي الذي علمه أنبياءه ورسله ‪ ،‬فإنه ما آلمك وحكم عليك بخالف‬
‫غرضك إال لتسأله في رفع ذلك عنك ‪،‬‬
‫ّللا مع اإلحساس بالبالء وعدم موافقة الغرض فقد قاوم القهر اإللهي ‪،‬‬ ‫فإن من لم يشك إلى ه‬
‫ّللا في رفعه ال إلى غيره ‪ ،‬ويبقى عليه اسم الصبر كما قال‬ ‫فاألدب كل األدب في الشكوى إلى ه‬
‫تعالى في رسوله أيوب عليه السالم« ِإنَّا َو َج ْدناهُ صا ِبرا ً »في وقت االضطراب والركون إلى‬
‫ّللا ‪ ،‬إال إلينا ‪ ،‬ال إلى سبب من األسباب ‪.‬‬
‫األسباب ‪ ،‬فلم يضطرب وال ركن إلى شيء غير ه‬
‫فإنه ال بد طبعا عند اإلحساس من االضطراب وتغير المزاج ‪ ،‬بخالف اآلالم النفسية إذا وردت‬
‫األمور التي من شأنها أن تتألم النفوس عند ورودها ‪ ،‬فقد يتلقاها بعض العباد وال أثر لها فيه‬
‫أحس بها تحرك لها طبعا ‪ ،‬إال إن شغله عنها أمر يزيل‬ ‫ه‬ ‫على ظاهره ‪ ،‬واألمور المؤلمة إذا‬
‫ّللا عليهما‪.‬‬
‫إحساسه ‪ ،‬وكالمنا في ذلك مع اإلحساس كأيوب وذي النون سالم ه‬

‫ص ‪517‬‬

‫‪517‬‬
‫[سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 45‬إلى ‪] 47‬‬
‫صار ( ‪ِ ) 45‬إنها أ َ ْخلَصْنا ُه ْم ِبخا ِل َ‬
‫ص ٍة‬ ‫وب أُو ِلي ْاأل َ ْيدِي َو ْاأل َ ْب ِ‬ ‫حاق َويَ ْعقُ َ‬‫س َ‬ ‫اذك ُْر ِعبادَنا ِإ ْبرا ِهي َم َو ِإ ْ‬‫َو ْ‬
‫يار ( ‪)47‬‬ ‫ص َطفَ ْي َن ْاأل َ ْخ ِ‬‫ِذ ْك َرى الد ِهار ) ‪َ ( 46‬وإِنه ُه ْم ِع ْندَنا لَ ِم َن ا ْل ُم ْ‬
‫[ معنى المصطفين األخيار ]‬
‫ّللا بالخيرة قال تعالى ‪(:‬‬ ‫يار »وهم الذين توالهم ه‬ ‫المصطفون من بين الخالئق باجتبائه« ْاأل َ ْخ ِ‬
‫أُولئِ َك لَ ُه ُم ْال َخيْراتُ )‬
‫جمع خيرة وهي الفاضلة من كل شيء ‪ ،‬والفضل يقتضي الزيادة على ما يقع فيه االشتراك مما‬
‫ال يشترك فيه من ليس من ذلك الجنس ‪.‬‬
‫باّلل على‬ ‫فاألخيار كل من زاد على جميع األجناس بأمر ال يوجد في غير جنسه ‪ ،‬من العلم ه‬
‫طريق خاص ال يحصل إال ألهل ذلك الجنس ‪ ،‬ثم في هذا الجنس العالم بهذا العلم الخاص الذي‬
‫به سموا أخيارا منهم من أعطي اإلفصاح عما علمه ‪ ،‬ومنهم من لم يعط اإلفصاح عما علمه‬
‫في نفسه ‪ ،‬فالذي أعطي اإلفصاح أخير ممن هو دونه ‪ ،‬وهو المستحق بهذا االسم ‪ ،‬فإن الخير‬
‫بالكسر الكالم ‪ ،‬يقال ‪ :‬في فالن كرم وخير ‪ ،‬أي كرم وفصاحة ‪ ،‬فإذا أعطي الفصاحة عما‬
‫عنده اهتدى به من سمع منه فكانت المنفعة به أتم ‪ ،‬فكان أفضل من غيره ‪ ،‬ولهذا ورد في‬
‫أوصاف المرسلين ‪ ،‬ألن الرسول ال بد أن يكون مؤيدا بالنطق ‪ ،‬ليبين لمن أرسل إليه ما أرسل‬
‫به إليه ‪ ،‬فهم األخيار أصحاب هذه الفضيلة ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 48‬إلى ‪] 62‬‬


‫س َن َمآ ٍ‬
‫ب‬ ‫يار ( ‪ ) 48‬هذا ِذ ْك ٌر َو ِإ هن ِل ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ين لَ ُح ْ‬ ‫س َع َوذَا ا ْل ِك ْف ِل َو ُك ٌّل ِم َن ْاأل َ ْخ ِ‬ ‫سما ِعي َل َوا ْليَ َ‬ ‫َو ْ‬
‫اذك ُْر ِإ ْ‬
‫ُون فِيها بِفا ِك َه ٍة َكثِ َ‬
‫ير ٍة‬ ‫واب ( ‪ُ ) 50‬مت ه ِكئِ َ‬
‫ين فِيها يَ ْدع َ‬ ‫عد ٍْن ُمفَت ه َحة لَ ُه ُم ْاأل َ ْب ُ‬ ‫ت َ‬ ‫( ‪َ ) 49‬جنها ِ‬
‫راب ) ‪( 52‬‬ ‫ف أَتْ ٌ‬ ‫ط ْر ِ‬ ‫قاصراتُ ال ه‬ ‫ب ( ‪َ ) 51‬و ِع ْن َد ُه ْم ِ‬ ‫َوشَرا ٍ‬
‫طا ِغ َ‬
‫ين‬ ‫ب ( ‪ِ ) 53‬إ هن هذا لَ ِر ْزقُنا ما لَهُ ِم ْن نَفا ٍد ( ‪ ) 54‬هذا َو ِإ هن ِلل ه‬ ‫ُون ِليَ ْو ِم ا ْل ِحسا ِ‬ ‫عد َ‬ ‫هذا ما تُو َ‬
‫ق ) ‪( 57‬‬ ‫سا ٌ‬‫غ ه‬ ‫س ا ْل ِمها ُد ( ‪ ) 56‬هذا فَ ْليَذُوقُوهُ َح ِمي ٌم َو َ‬ ‫صلَ ْونَها فَ ِبئْ َ‬ ‫ب ) ‪َ ( 55‬ج َهنه َم يَ ْ‬ ‫لَش هَر َمآ ٍ‬
‫ج ُم ْقت َ ِح ٌم َمعَ ُك ْم ال َم ْر َحبا ِب ِه ْم ِإنه ُه ْم صالُوا النه ِار ( ‪) 59‬‬ ‫ج ( ‪ ) 58‬هذا فَ ْو ٌ‬ ‫ش ْك ِل ِه أ َ ْزوا ٌ‬
‫َوآ َخ ُر ِم ْن َ‬
‫رار ( ‪) 60‬قالُوا َربهنا َم ْن قَ هد َم لَنا هذا‬ ‫س ا ْلقَ ُ‬ ‫قالُوا بَ ْل أ َ ْنت ُ ْم ال َم ْر َحبا بِ ُك ْم أ َ ْنت ُ ْم قَد ْهمت ُ ُموهُ لَنا فَبِئْ َ‬
‫ْرار) ‪( 62‬‬ ‫فَ ِز ْدهُ عَذابا ِض ْعفا فِي النه ِار ( ‪َ ) 61‬وقالُوا ما لَنا ال نَرى ِرجاال ُكنها نَعُ ُّد ُه ْم ِم َن ْاألَش ِ‬

‫ص ‪518‬‬

‫‪518‬‬
‫يقول أهل النار هذا القول عندما ال يرون من كانوا يعدونهم من األشرار ‪ ،‬وهو من دخل النار‬
‫من أمة محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم التي بعث إليها في مشارق األرض ومغاربها ‪ ،‬فال تخلد أمة‬
‫ّللا صلهى‬ ‫محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في النار ‪ ،‬فال يبقى في النار موحد ممن بعث إليه رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪.‬‬
‫ه‬

‫[ سورة ص ‪ ( 38 ) :‬اآليات ‪ 63‬إلى ‪] 64‬‬


‫ص ُم أ َ ْه ِل النه ِار ( ‪) 64‬‬
‫ق تَخا ُ‬ ‫صار ( ‪ِ ) 63‬إ هن ذ ِلكَ لَ َح ٌّ‬ ‫ع ْن ُه ُم ْاأل َ ْب ُ‬
‫غتْ َ‬ ‫أَت ه َخ ْذنا ُه ْم ِ‬
‫س ْخ ِريًّا أ َ ْم زا َ‬
‫[ اختصام المأل األعلى ]‬
‫ت أ ُ ْخرا ُه ْم‬
‫ت أُوال ُه ْم ِأل ُ ْخرا ُه ْم (و ( قالَ ْ‬ ‫فوصفهم بالمخاصمة وهي المشاجرة ‪ ،‬ومنها( قالَ ْ‬
‫ِألُوال ُه ْم )وغير ذلك مما ورد في القرآن ‪ ،‬وذلك الخصام هو نفس عذابهم في تلك الحال ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 65‬‬


‫ار ( ‪) 65‬‬‫واح ُد ا ْلقَ هه ُ‬ ‫قُ ْل ِإنهما أَنَا ُم ْنذ ٌِر َوما ِم ْن ِإل ٍه ِإاله ه‬
‫ّللاُ ا ْل ِ‬
‫ار »للمنازعين له في ألوهيته من عباده ‪،‬‬‫واح ُد »في ألوهيته« ْالقَ َّه ُ‬ ‫ّللاُ ْال ِ‬
‫« َوما ِم ْن إِل ٍه إِ َّال َّ‬
‫والمزاحمين له في أفعاله ‪ ،‬والقهار لمن نازعه من عباده بجهالة ولم يتب ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ ) : 38‬اآليات ‪ 66‬إلى ‪] 69‬‬


‫ار ) ‪ ( 66‬قُ ْل ُه َو نَبَأ ٌ ع َِظي ٌم ( ‪ ) 67‬أ َ ْنت ُ ْم َ‬
‫ع ْنهُ‬ ‫يز ا ْلغَفه ُ‬ ‫ض َوما بَ ْينَ ُه َما ا ْلعَ ِز ُ‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬‫ب ال ه‬ ‫َر ُّ‬
‫ون ) ‪( 69‬‬ ‫ْل ْاألَعْلى ِإ ْذ يَ ْخت َ ِص ُم َ‬‫كان ِلي ِم ْن ِع ْل ٍم ِبا ْل َم َ ِ‬ ‫ُون ( ‪ ) 68‬ما َ‬ ‫ُم ْع ِرض َ‬
‫الخالف فيما عال عن رتبة المولد من األركان أقل وإن كان ال يخلو ‪ ،‬أال ترى إلى المأل‬
‫األعلى كيف يختصمون ؟‬
‫ّللا بذلك‬ ‫ّللا عليه وسلم علم بالمإل األعلى إذ يختصمون حتى أعلمه ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وما كان لرسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم« ما كانَ ِلي ِم ْن ِع ْل ٍم ِب ْال َم َ ِ‬
‫إل ْاألَعْلى ِإ ْذ‬ ‫‪ ،‬فقال تعالى مخبرا عن نبيه صلهى ه‬
‫ص ُمونَ »‬‫يَ ْخت َ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن اختصام المأل األعلى في الكفارات ‪ ،‬ونقل األقدام إلى‬ ‫وقال النبي صلهى ه‬

‫ص ‪519‬‬

‫‪519‬‬
‫الصالة في الجماعات ‪ ،‬وإسباغ الوضوء في المكاره ‪ ،‬والتعقيب « ‪ » 1‬في المساجد إثر‬
‫الصلوات ] فمعنى ذلك أي هذه األعمال أفضل ؟‬
‫ومعنى أفضل على وجهين ‪:‬‬
‫ّللا من هذه األعمال ‪،‬‬‫الواحد أي األعمال أحب إلى ه‬
‫والوجه اآلخر أي األعمال أعظم درجة في الجنة للعامل بها ‪ ،‬فنزاع المالئكة هنا في األولى ؛‬
‫وقد ورد اختصام مالئكة الرحمة ومالئكة العذاب في الشخص الذي مات بين القريتين ؛‬
‫ومن اختصام المأل األعلى أن مالئكة التوحيد والوحدات ‪ -‬وهم من مالئكة العرش الذين ال‬
‫يرون إال الكلمة الواحدة وهي الرحمة العامة ‪ -‬إذا جمعهم مع المقسمات ‪ -‬وهم من مالئكة‬
‫الكرسي أي المقسمات أمرا الذين ال يشهدون إال انقسام الكلمة إلى رحمة وغضب ‪ -‬إذا جمعهم‬
‫مجلس واحد وجرت بينهما مفاوضات في األمر اختصما ‪،‬‬
‫ألنهما على النقيض ‪ ،‬وهذا من جملة ما يختصم فيه المأل األعلى ‪ ،‬فيقول الصنف الواحد‬
‫بالوحدة ‪ ،‬ويقول اآلخر باالنقسام والثنوية ‪.‬‬
‫فالخصام من حكم المالئكة ألنها تحت حكم الطبيعة ‪ ،‬ولوال أن المأل األعلى له جزء من‬
‫الطبيعة ‪ ،‬ومدخل من حيث هيكله النوري ‪ ،‬ما وصفهم الحق بالخصام ‪ ،‬وال يختصم المأل‬
‫األعلى إال من حيث المظهر الطبيعي الذي يظهر فيه ‪ ،‬كظهور جبريل في صورة دحية ‪،‬‬
‫وكذلك ظهورهم في الهياكل النورية المادية ‪ ،‬وهي هذه األنوار التي تدركها الحواس ‪ ،‬فإنها ال‬
‫تدركها إال في مواد طبيعية عنصرية ‪ ،‬وأما إذا تجردت عن هذه الهياكل فال خصام وال نزاع ‪،‬‬
‫إذ ال تركيب ‪.‬‬

‫ولنبين أوال سبب االختصام فنقول ‪ :‬هذه اآلية مما يدل على أن المالئكة من عالم الطبيعة‬
‫مخلوقون ‪ ،‬مثل األناسي غير أنهم ألطف ‪ ،‬كما أن الجن ألطف من اإلنسان مع كونهم من نار‬
‫من مارجها ‪ ،‬والنار من عالم الطبيعة ‪ ،‬فكذلك المالئكة عليهم السالم من عالم الطبيعة ‪ ،‬وهم‬
‫ع همار األفالك والسماوات ‪ ،‬فإنهم يختصمون ‪ ،‬والخصام من الطبيعة ألنها مجموع أضداد ‪،‬‬
‫والمنازعة والمخالفة هي عين الخصام ‪ ،‬وال يكون إال بين ضدين ‪ ،‬فلو ال أن المالئكة في‬
‫ّللا عنهم أنهم يختصمون ‪،‬‬‫نشأتها على صورة نشأتنا ‪ ،‬أي أن نشأتها عنصرية ‪ ،‬ما ذكر ه‬
‫والخصام ال يكون إال مع األضداد ‪ ،‬فالمالئكة عليهم السالم لو لم تكن األنوار التي خلقت منها‬
‫موجودة من الطبيعة ‪ ،‬مثل السماوات التي عمرتها هؤالء المالئكة ‪ ،‬فإنها كانت دخانا ‪ ،‬فكانت‬
‫ّللا ع همار‬
‫السماوات أجساما شفافة ‪ ،‬ألن كمية الحرارة واليبس فيه أكثر من الرطوبة ‪ ،‬وخلق ه‬
‫كل فلك من طبيعة فلكه ‪ ،‬فلذلك‬

‫ّللا‪.‬‬
‫) ‪( 1‬التعقيب هو الجلوس في المسجد بعد الفراغ من الصالة لذكر ه‬

‫ص ‪520‬‬

‫‪520‬‬
‫كانت المالئكة من عالم الطبيعة ‪ ،‬وإن كانت أجسامهم نورية فمن نور الطبيعة ‪ ،‬كنور السراج‬
‫‪ ،‬فأثر فيهم حكم الطبيعة الخصام لما فيها من التقابل والتضاد ‪ ،‬والضد والمقابل منازع لمقابله‬
‫‪ ،‬فهذه هي الحقيقة التي أورثتهم الخصومة ‪ ،‬ونعتوا بأنهم يختصمون ألن الخصام ال يكون إال‬
‫فيمن ركب من الطبائع لما فيها من التضاد ‪ ،‬فال بد فيمن يتكون عنها أن يكون على حكم‬
‫األصل ‪ ،‬فالنور الذي خلقت منه المالئكة نور طبيعي ‪ ،‬فكانت فيها الموافقة من وجه والمخالفة‬
‫من وجه ‪ ،‬فهذا سبب اختالف المأل األعلى فيما يختصمون فيه ‪ .‬ومما دعا المأل األعلى إلى‬
‫الخصام التخيير في الكفارات ‪ ،‬والتخيير حيرة فإنه يطلب األرجح أو األيسر ‪ ،‬وال يعرف ذلك‬
‫ّللا يعلمهم بما هو األفضل عنده من هذه األعمال واألحب إليه ما تنازعوا ‪،‬‬ ‫إال بالدليل ‪ ،‬فلو أن ه‬
‫ّللا‬
‫ولو أنهم يكشفون ارتباط درجات الجنان بهذه األعمال لحكموا بالفضيلة لألعلى منها ‪ ،‬وإنما ه‬
‫سبحانه غيهب عنهم ذلك ‪ ،‬فهم في هذه المسألة بمنزلة علماء البشر إذا قعدوا في مجلس مناظرة‬
‫فيما بينهم في مسئلة من الحيض الذي ال نصيب لهم فيه ‪ ،‬بخالف المسائل التي لهم فيها نصيب‬
‫‪ ،‬وإنما قلنا ذلك ألن الكفارات إنما هي إلحباط ما خالف فيه المكلف ربه من أوامره ونواهيه ‪،‬‬
‫ّللا ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون به ‪ ،‬وما‬‫ّللا لهم بالعصمة أنهم ال يعصون ه‬ ‫والمالئكة قد شهد ه‬
‫بلغنا أن عندهم نهي ‪ ،‬وإذا لم يعصوا وكانوا مطيعين فليس لهم في أعمال الكفارات قدم ‪ ،‬فهم‬
‫يختصمون فيما ال قدم لهم فيه ‪ ،‬وكذلك ما بقي من األعمال التي ال قدم لهم فيها ‪ ،‬فهم مطهرون‬
‫فال يتطهرون فال يتصفون في طهارتهم باإلسباغ واإلبالغ في ذلك وغير اإلسباغ ‪ ،‬وكذلك‬
‫المشي إلى مساجد الجماعات لشهود الصلوات ليس لهم هذا العمل ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬فإنهم يسعون‬
‫إلى مجالس الذكر ‪،‬‬
‫ويقول بعضهم لبعض ‪ :‬هلموا إلى بغيتكم ‪.‬‬
‫فاعلم أن الذكر ما هو عين الصالة ‪ ،‬ونحن إنما نتكلم في عمل خاص في الجماعة ليس لهم فيه‬
‫دخول مثل ما لبني آدم ‪ ،‬فإنهم ليسوا على صور بني آدم بالذات ‪ ،‬وإنما لهم التشكل فيهم ‪ ،‬وقد‬
‫ّللا عليه وسلم الصلوات بالفعل ‪ ،‬وتلك من جبريل‬‫ّللا صلهى ه‬
‫علم جبريل عليه السالم رسول ه‬
‫حكاية يحكيها للتعليم والتعريف باألوقات ؛ وأما التعقيب إثر الصلوات فإنما ذلك للمصلين على‬
‫هذه الهيئة المخصوصة التي ليست للمالئكة ‪ ،‬فما اختصموا في أمر هو صفتهم ‪ ،‬فلهذا ضربنا‬
‫مسئلة الحيض مثال ‪ ،‬وسبب ذلك أن المالئكة تدعو بني آدم في لماتها إلى العمل الصالح‬
‫وترغبهم في األفضل ‪ ،‬فلهذا اختصمت في األفضل حتى تأمرهم به ‪ .‬وأما‬

‫ص ‪521‬‬

‫‪521‬‬
‫ّللا عليه وسلم كفارات جمع كفهارة ببنية المبالغة ‪ ،‬إنباء بذلك على أنه لصورة العمل‬ ‫قوله صلهى ه‬
‫الواحد أنواع كثيرة من البالء ‪ ،‬وأن الكفارات إنما شرعت لتكون حجابا بين العبد وبين ما‬
‫عرض إليه نفسه من حلول الباليا بالمخالفات التي عملها ‪ ،‬مأمورا كان بذلك العمل أو منهيا‬ ‫ه‬
‫عنه ‪ ،‬فكانت الكفارات عواصم من القواصم ‪ ،‬كما أن للشيء الواحد وإن لم يكن معصية‬
‫كفارات مختلفة ‪ ،‬مثل الحاج يحلق رأسه ألذى يجده ‪ ،‬أو المتمتع أو المظاهر أو من حلف على‬
‫ي عمل مكفر فعل سقط عنه اآلخر‬ ‫يمين فرأى خيرا منها ‪ ،‬فإن مثل هذا له كفارات مختلفة ‪ ،‬أ ه‬
‫‪ ،‬فقام هذا العمل الواحد مقام ما بقي مما سقط عنه ‪ ،‬فيتصور خطاب المالئكة أي كفارات‬
‫التخيير أولى بأن يفعل ‪ ،‬أو لما ذا تكون كفارة وما عمل شيئا تجب أن تتوجه فيه العقوبة حتى‬
‫تكون هذه الكفارة تدفعه ‪ ،‬فالمأل األعلى يختصمون في مثل هذا أيضا ‪ ،‬ولكي تخرج من‬
‫الحيرة فإذا خيرك الحق في أمور فانظر إلى ما قدم منها بالذكر فاعمل به ‪ ،‬فإنه ما قدمه حتى‬
‫تهمم به وبك ‪ ،‬فكأنه نبههك على األخذ به ‪ ،‬فما تزول الحيرة عن التخيير إال باألخذ بالمتقدم ‪،‬‬
‫صفا َو ْال َم ْر َوة َ ِم ْن‬
‫ّللا عليه وسلم حين أراد السعي في حجة الوداع( ِإ َّن ال َّ‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫تال رسول ه‬
‫ّللا به ] فبدأ بالصفا ‪ ،‬وهذا عين ما أمرتك به إلزالة حيرة‬ ‫شَعا ِئ ِر َّ ِ‬
‫ّللا )ثم قال [ ‪ :‬أبدأ بما بدأ ه‬
‫ّللا أسوة حسنة ‪ ،‬والظاهر من هذه اآلية في هذا األمر أن‬ ‫التخيير ‪ ،‬لقد كان لكم في رسول ه‬
‫المالئكة لهم نظر فكري يناسب خلقهم ‪ ،‬فإنه لما نبهت الشريعة باختصام المأل األعلى علمنا أنه‬
‫من عالم الطبيعة ‪ ،‬وأن للطبيعة في المالئكة أثرا كما أن لألركان في أجسام المولدات أثرا ‪،‬‬
‫فإن أردت أن ترفعه عنها ‪ ،‬وتنزله منزلتها منها ‪ ،‬فقل ‪ :‬الختالف األسماء ‪ ،‬وهذا أوضح ما‬
‫يكون من اإليماء ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 70‬إلى ‪] 71‬‬


‫ين ( ‪ ) 70‬إِ ْذ قا َل َربُّكَ ِل ْل َمالئِ َك ِة إِ ِنّي خا ِل ٌ‬
‫ق بَشَرا ِم ْن ِط ٍ‬
‫ين‬ ‫ي إِاله أَنهما أَنَا نَذ ٌ‬
‫ِير ُمبِ ٌ‬ ‫إِ ْن يُوحى إِلَ ه‬
‫)‪(71‬‬
‫ّللا‬
‫سمي اإلنسان بشرا من المباشرة ‪ ،‬لمباشرة الحق خلقه بيديه بحسب ما يليق بجالله ‪ ،‬فإن ه‬
‫ي )واختص اإلنسان‬ ‫خلقه برفع الوسائط مع المباشرة فقال( ما َمنَعَ َك أ َ ْن ت َ ْس ُج َد ِلما َخلَ ْقتُ ِبيَ َد َّ‬
‫بهذا االسم مع مباشرة الحق لخلق الموجودات ‪ ،‬ألن اإلنسان أكمل الموجودات خلقا ‪ ،‬وكل نوع‬
‫من الموجودات ليس له ذلك الكمال في الوجود ‪ ،‬فاإلنسان أتم المظاهر ‪،‬‬

‫ص ‪522‬‬

‫‪522‬‬
‫فاستحق اسم البشر دون غيره من األعيان ‪ ،‬وسرت هذه الحقيقة في البنين فلم يوجد أحد منهم‬
‫إال عن مباشرة ‪ ،‬حتى في وجود عيسى عليه السالم لما تمثهل لها الروح بشرا سويا ‪ ،‬فجعله‬
‫واسطة بينه تعالى وبين مريم في إيجاد عيسى ‪ ،‬تنبيها على المباشرة بقوله ‪ (:‬بَشَرا ً َ‬
‫س ِويًّا )‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 72‬‬


‫وحي فَقَعُوا لَهُ ِ‬
‫ساجد َ‬
‫ِين ( ‪) 72‬‬ ‫س هو ْيتُهُ َونَفَ ْختُ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬ ‫فَ ِإذا َ‬
‫[ سجود المالئكة آلدم عليه السالم ]‬
‫اعلم أنه لما أقام الحق تعالى اإلنسان بهذا المقام األكمل ‪ ،‬ورداه برداء المعلم األجمل ‪ ،‬فنظرت‬
‫إليه الروحانيات العلى بعين التعظيم ‪ ،‬وذلك قبل وجود مركبه البهيم ‪ ،‬فإنه تعالى قال لهم ‪(:‬‬
‫ض َخ ِليفَةً )فلم يزل عالي الكلمة بعلم األسماء ‪ ،‬مميزا لتفاصيل األشياء ‪،‬‬ ‫ِإ ِنهي جا ِع ٌل فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫إلى أن أخذت مقاماتها األمالك ‪ ،‬ودارت بأشواقها األفالك ‪ ،‬وانفعلت األكوان لذلك الدور ‪،‬‬
‫وانعطف المكور عليها بعد الكور ‪ ،‬وظهرت المولدات الجسمانيات والجسميات ‪ ،‬ذوات‬
‫الكميات والكيفيات ‪ ،‬كالمعدن والنبات والحيوان ‪ ،‬وليس لإلنسان وجود في األعيان ‪ ،‬حتى إذا‬
‫بلغت الدورة المخصوصة ‪ ،‬وتوجهت الكلمة المنصوصة ‪ ،‬من الحضرة العلية المأنوسة ‪،‬‬
‫بإيجاد هذه الكلمة الهوية المحروسة ‪ ،‬قبض الحق سبحانه‬
‫‪ -‬كما روي ‪ -‬من األرض قبضة من حيث ال يعلمون ‪ ،‬وخمر طينته بيديه من غير تشبيه وال‬
‫تكييف وهم ال يشعرون ‪ ،‬وسواه متجاور األضداد ‪ ،‬وميهزه بالحركة المستقيمة من بين سائر‬
‫األوالد ‪ ،‬وأعطته قوى هذه البنية التصرف بالحركة المنكوسة واألفقية ‪ ،‬ثم أنطق الفهوانية في‬
‫الروحانيات بخالفته ‪ ،‬فطعنت من فورها في نيابته ‪ ،‬ولو عاينت تشريف اليدين ‪ ،‬ما حجبتهم‬
‫مجاورة الضدين ‪ ،‬وألنه سبحانه ما ذكر لمالئكته إال خالفته في األرض ‪ ،‬وما تعرض‬
‫للمالئكة ‪ ،‬فلما ظهر من المالئكة في حق آدم ما ظهر ‪ ،‬قام ذلك الترجيح منهم ألنفسهم ‪،‬‬
‫ّللا في ذلك ‪ ،‬فقام لهم ذلك مقام خطايا‬‫وكونهم أولى من آدم بذلك ‪ ،‬ورجحوا نظرهم على علم ه‬
‫بني آدم ‪ ،‬فكان سببا لسيادة آدم على المالئكة ‪ ،‬فأمروا بالسجود له لتثبيت سيادته عليهم ‪ ،‬فقال‬
‫وحي فَقَعُوا لَهُ ِ‬
‫ساجدِينَ »‬ ‫س َّو ْيتُهُ َونَفَ ْختُ ِفي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫تعالى ‪ «:‬فَإِذا َ‬

‫ّللا سبحانه المالئكة بالسجود لمعلمهم سجود أمر ‪ -‬كسجود الناس إلى الكعبة ‪ -‬وتشريف ‪،‬‬
‫فأمر ه‬
‫ال سجود عبادة ‪ ،‬فهذا السجود كالتواضع والخضوع ‪ ،‬واإلقرار بالسبق والفخر والشرف‬

‫ص ‪523‬‬

‫‪523‬‬
‫ّللا سبحانه ‪ ،‬ودليل قاطع على ثبوت‬‫والتقدم له ‪ ،‬كتواضع التلميذ لمعلمه ‪ ،‬وذلك تشريف من ه‬
‫إرادته ‪ ،‬يختص برحمته من عباده من يشاء ‪ ،‬فلما نفخ فيه الروح األنزه ‪ ،‬والسر الحاكم المتأله‬
‫‪ ،‬عرفت المالئكة حينئذ قدر هذا البيت األعلى ‪ ،‬والمحل األشرف األسنى ‪ ،‬فأوقفهم الحق بين‬
‫يديه طالبين ‪ ،‬وأمرهم فوقعوا له ساجدين ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 73‬‬


‫ون ( ‪) 73‬‬ ‫س َج َد ا ْل َمال ِئكَةُ ُكلُّ ُه ْم أَجْ َمعُ َ‬
‫فَ َ‬
‫[ تحقيق ‪ :‬تقسيم األمر إلى حق وخلق ]‬
‫‪-‬تحقيق ‪ -‬اعلم أن األمر حق وخلق ‪ ،‬وأنه وجود محض لم يزل وال يزال ‪ ،‬وإمكان محض لم‬
‫يزل وال يزال ‪ ،‬وعدم محض لم يزل وال يزال ‪ ،‬فالوجود المحض ال يقبل العدم أزال وأبدا ‪،‬‬
‫والعدم المحض ال يقبل الوجود أزال وأبدا ‪ ،‬واإلمكان المحض يقبل الوجود لسبب ‪ ،‬ويقبل العدم‬
‫ّللا ليس غيره ‪،‬‬ ‫لسبب أزال وأبدا ‪ ،‬فالوجود المحض هو ه‬
‫والعدم المحض هو المحال وجوده ليس غيره ‪ ،‬واإلمكان المحض هو العالم ليس غيره ‪،‬‬
‫ومرتبته بين الوجود المحض والعدم المحض ‪ ،‬فبما ينظر منه إلى العدم يقبل العدم ‪ ،‬وبما‬
‫ينظر منه إلى الوجود يقبل الوجود ‪ ،‬فمنه ظلمة وهو الطبيعة ‪ ،‬ومنه نور وهو النفس الرحماني‬
‫الذي يعطي الوجود لهذا الممكن ؛ فالعالم حامل محمول ‪،‬‬
‫فبما هو حامل هو صورة وجسم وفاعل ‪ ،‬وبما هو محمول هو روح ومعنى ومنفعل ‪ ،‬فما من‬
‫صورة محسوسة أو خيالية أو معنوية إال ولها تسوية من جانب الحق وتعديل ‪ ،‬كما يليق بها‬
‫وبمقامها وحالها ‪ ،‬وذلك قبل التركيب ‪،‬‬
‫أعني اجتماعها مع المحمول الذي تحمله ‪ ،‬فإذا سواها الرب بما شاء ‪-‬من قول أو يد أو يدان‬
‫أو أيد ‪ ،‬وما ث هم سوى هذه األربعة ‪ ،‬ألن الوجود على التربيع قام ‪ -‬وعدله ‪ ،‬وهو التهيؤ‬
‫واالستعداد للتركيب والحمل ‪ ،‬تسلمه الرحمن فوجه عليه نفسه‬
‫وحي )‬‫س َّو ْيتُهُ َونَفَ ْختُ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫وهو روح الحق في قوله ( فَإِذا َ‬
‫وهو عين هذا النفس قبلته تلك الصورة ‪ ،‬واختلف قبول الصور بحسب االستعداد ‪ ،‬فإذا كانت‬
‫الصورة عنصرية واشتعلت فتيلتها بذلك النفس ‪ ،‬سميت حيوانا عند ذلك االشتعال ‪،‬‬
‫وإن لم يظهر لها اشتعال وظهر لها في العين حركة وهي عنصرية سميت نباتا ‪ ،‬وإن لم يظهر‬
‫لها اشتعال وال حركة أعني في الحس وهي عنصرية سميت معدنا وجمادا ‪.‬‬

‫وقد عرفنا الحق أن سبب الحياة في صور المولدات إنما هو النفخ اإللهي ‪ ،‬وهو النفس الذي‬
‫ّللا به اإليمان فأظهره ‪،‬‬
‫أحيا ه‬
‫قال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن ] فحييت بذلك‬

‫ص ‪524‬‬

‫‪524‬‬
‫النفس الرحماني صورة اإليمان في قلوب المؤمنين واألحكام المشروعة ‪ ،‬وهذا الروح المنفوخ‬
‫ّللا ‪ ،‬فال يراه إال به ‪ ،‬وال يسمع كالمه إال به ‪ ،‬فإنه يتعالى‬
‫هو السر الذي عند المخلوق من ه‬
‫ويتقدس أن يدرك إال به ‪ ،‬فكل العناصر تجتمع على هذا السر اإللهي وتشتمل عليه ‪ ،‬وبه‬
‫سبهحت الصورة بحمده ‪ ،‬وحمدت ربها إذ ال يحمده سواه ‪ ،‬ولو حمدته الصورة من حيث هي ال‬
‫من حيث هذا السر لم يظهر الفضل اإللهي وال االمتنان على هذه الصورة ‪ ،‬وقد ثبت االمتنان‬
‫له على جميع الخالئق ‪ ،‬فثبت أن الذي كان من المخلوق هّلل من التعظيم والثناء إنما كان من‬
‫ذلك السر اإللهي ‪ ،‬ففي كل شيء من روحه ‪ ،‬وليس شيء فيه ‪ ،‬فالحق هو الذي حمد نفسه ‪،‬‬
‫وسبح نفسه ‪ ،‬وما كان من خير إلهي لهذه الصورة عند ذلك التحميد والتسبيح فمن باب المنة ال‬
‫من باب االستحقاق الكوني ‪ ،‬فإن جعل الحق له استحقاقا فمن حيث أنه أوجب‬

‫[ إشارة ‪ :‬أثر المزاج في الروح ] ذلك على نفسه ‪.‬‬


‫‪ -‬إشارة ‪ -‬األرواح المنفوخة في األجسام من أصل مقدس نقي ‪ ،‬فإن كان المحل طيب المزاج‬
‫ّللا الذين هم خلفاؤه‬
‫زاد الروح طيبا ‪ ،‬وإن كان غير طيب خبهثه وصيهره بحكم مزاجه ‪ ،‬فرسل ه‬
‫أطهر الناس محال ‪ ،‬فهم المعصومون ‪ ،‬فما زادوا الطيب إال طيبا ‪،‬‬
‫وما عداهم من الخلفاء منهم من يلحق بهم ‪ ،‬وهم الورثة في الحال والفعل والقول ‪،‬‬
‫ومنهم من يختل بعض اختالل وهم العصاة ‪ ،‬ومنهم من يكثر منه ذلك االختالل وهم المنافقون‬
‫‪ ،‬ومنهم المنازع والمحارب وهم الكفار والمشركون ‪،‬‬
‫ّللا إليهم الرسل ليعذروا من نفوسهم إذا عاقبهم بخروجهم عليه واستنادهم إلى غيره‬ ‫فيبعث ه‬
‫ّللا إنما أرسلهم من كونه ملكا إلى النفوس‬
‫الذي أقاموه إلها فيهم من أنفسهم ‪ ،‬واإلرسال من ه‬
‫الناطقة من عباده لكونهم مدبرين مدائن هياكلهم ‪،‬‬
‫ّللا رسله إلى هذه النفوس الناطقة ‪،‬‬
‫ورعاياهم جوارحهم الظاهرة ‪ ،‬وقواهم الباطنة ‪ ،‬فيبعث ه‬
‫وهي التي تنفذ في الجوارح ما تنفذ من طاعة ومخالفة ‪ ،‬ولها قبول الرسالة واإلقبال على‬
‫ّللا من االستعداد من توفيق‬
‫الرسول والتحفي به أو اإلهانة ‪ ،‬وقد يكون الرد بحسب ما أعطاها ه‬
‫أو خذالن ‪ ،‬فجعل النفوس ملوكا على أبدانها ‪ ،‬وآتاها ما لم يؤت أحدا من العالمين ‪،‬‬
‫وهو طاعة رعاياها لها ‪ ،‬فالجوارح والقوى ال تعصي لها أمرا بوجه من الوجوه ‪،‬‬
‫وسائر الملوك الذين رعاياهم غير متصلين بهم قد يعصون أوامر ملوكهم ‪ ،‬كما أن من هؤالء‬
‫الملوك من قد يعصي ما أمره به الملك الحق سبحانه وتعالى على لسان رسوله إليهم وقد يطيع‬
‫ّللا إليهم ‪ ،‬أثبت لهم كونهم ملوكا ‪ ،‬فإن الرسل عرفاء ال تمشي إال بين‬ ‫‪ ،‬فتوجيه الرسل وبعث ه‬

‫ص ‪525‬‬

‫‪525‬‬
‫الملوك ال بين الرعايا ‪ ،‬فلما أنزلهم الحق منزلته في الملك ‪ ،‬علمنا أنه لوال ث هم مناسبة تقتضيه‬
‫ما كان هذا ‪ ،‬فإذا المناسبة في أصل الخلقة ‪،‬‬
‫واله وملهكه وجعله خليفة عنه ‪ ،‬فما كانت‬ ‫وحي ) فهو ه‬ ‫وهي قوله تعالى ‪َ (:‬ونَفَ ْختُ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫الرسل إال إلى والته ‪ ،‬فهذه إشارة إلى أن النفس الناطقة هي المخاطبة من الحق بواسطة‬
‫الرسول ‪ ،‬ولما كانت صورة اإلنسان األول المخلوق باليدين على الصورة اإللهية الجامعة ‪،‬‬
‫وتوجه عليها الرحمن بنفسه ‪،‬‬
‫ونفخ فيها روحا من أمره ‪ ،‬فحمل اإلنسان األول في تلك النفخة علم األسماء اإللهية التي لم‬
‫يحملها صورة العقل أول مخلوق ‪ ،‬فخرج على صورة الحق ‪ ،‬وفيه انته حكم النفس ‪ ،‬إذ ال‬
‫أكمل من صورة الحق ‪،‬‬
‫وحي فَقَعُوا لَهُ ِ‬
‫ساجدِينَ )‬ ‫س َّو ْيتُهُ َونَفَ ْختُ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫فقال تعالى ‪ (:‬فَإِذا َ‬
‫س َج َد ْال َمالئِ َكةُ ُكلُّ ُه ْم أ َ ْج َمعُونَ »‪.‬‬
‫« فَ َ‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 74‬‬


‫كان ِم َن ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ين ) ‪( 74‬‬ ‫ست َ ْكبَ َر َو َ‬ ‫إِاله إِ ْب ِل َ‬
‫يس ا ْ‬
‫ّللا إبليس كافرا ‪ ،‬ألنه يستر عن العباد طريق سعادتهم التي جاء بها الشرع في حق كل‬ ‫سمى ه‬
‫ّللا رب العالمين ‪ ،‬ويعلم أن‬
‫إنسان بما يقدر عليه من ذلك ‪ ،‬ولم يقل من المشركين ‪ ،‬ألنه يخاف ه‬
‫ّللا واحد ‪ -‬راجع البقرة آية ‪- .34‬‬ ‫ه‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 75‬‬


‫ين ) ‪( 75‬‬‫ست َ ْكبَ ْرتَ أ َ ْم ُك ْنتَ ِم َن ا ْلعا ِل َ‬
‫َي أ َ ْ‬
‫س ُج َد ِلما َخلَ ْقتُ بِيَد ه‬ ‫يس ما َمنَعَكَ أ َ ْن ت َ ْ‬ ‫قا َل يا إِ ْب ِل ُ‬
‫عرف بذلك إبليس لما ادعى‬ ‫ّللا خلق آدم بيديه على جهة التشريف لقرينة الحال ‪ ،‬حين ه‬ ‫إن ه‬
‫الشرف على آدم بنشأته ‪ ،‬فما توجهت اليدان إال على طينة آدم وطبيعته ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬ما‬
‫ي »فما أضاف الحق آدم إلى يديه إال على جهة التشريف‬ ‫َمنَعَ َك أ َ ْن ت َ ْس ُج َد ِلما َخلَ ْقتُ ِبيَ َد َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه لم يجمع سبحانه لشيء مما‬ ‫واالختصاص على غيره ‪ ،‬والتنويه لتعلم منزلته عند ه‬
‫خلقه من أول موجود إلى آخر مولود وهو الحيوان بين يديه تعالى إال اإلنسان وهذه النشأة‬
‫البدنية الترابية ‪ ،‬بل خلق كل ما سواها إما عن أمر إلهي ‪ ،‬أو عن يد واحدة ‪،‬‬
‫ون )فهذا عن أمر إلهي ‪ ،‬وورد في‬ ‫ش ْيءٍ ِإذا أ َ َر ْدناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬ ‫قال تعالى ‪ِ (:‬إنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫الخبر [ إن‬

‫ص ‪526‬‬

‫‪526‬‬
‫عز وجل خلق جنة عدن بيده ‪ ،‬وكتب التوراة بيده ‪ ،‬وغرس شجرة طوبى بيده ‪ ،‬وخلق آدم‬ ‫ّللا ه‬
‫ه‬
‫الذي هو اإلنسان بيديه ]‬
‫ّللا آلدم في خلقه بين يديه ‪ ،‬علمنا أنه قد أعطاه صفة الكمال فخلقه كامال جامعا ‪،‬‬ ‫فلما جمع ه‬
‫ولهذا قبل األسماء كلها ؛ وقد وردت األخبار واآليات بتوحيد اليد اإللهية وتثنيتها وجمعها ‪،‬‬
‫وما ثنهاها إال في خلق آدم عليه السالم وهو اإلنسان الكامل ‪،‬‬
‫وال شك أن التثنية برزخ بين الجمع واإلفراد ‪ ،‬بل هي أول الجمع ‪ ،‬والتثنية تقابل الطرفين‬
‫بذاتها ‪ ،‬فلها درجة الكمال ‪ ،‬ألن المفرد ال يصل إلى الجمع إال بها ‪ ،‬والجمع ال ينظر إلى‬
‫المفرد إال بها ‪ ،‬فباإلنسان الكامل ظهر كمال الصورة ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو البيت المعمور بالحق لما‬ ‫فهو قلب لجسم العالم الذي هو عبارة عن كل ما سوى ه‬
‫وسعه وال يسوغ هنا حمل اليدين على القدرة لوجود التثنية ‪ ،‬وال على أن تكون اليد الواحدة‬
‫النعمة ‪ ،‬واألخرى يد القدرة ‪ ،‬فإن ذلك سائغ في كل موجود ‪ ،‬فال شرف آلدم بهذا التأويل ‪ ،‬فال‬
‫ي »خالف ما ذكرناه مما يصح به التشريف ‪،‬‬ ‫بد أن يكون لقوله« ِبيَ َد َّ‬
‫ّللا كمال هذه النشأة اإلنسانية جمع لها بين يديه ‪ ،‬وأعطاها جميع حقائق العالم ‪،‬‬ ‫فإنه لما أراد ه‬
‫وتجلى لها في األسماء كلها ‪ ،‬فحازت الصورة اإللهية ‪ ،‬والصورة الكونية وجعلها روحا للعالم‬
‫‪ ،‬وجعل أصناف العالم له كاألعضاء من الجسم للروح المدبر له ‪،‬‬
‫فلو فارق العالم هذا اإلنسان مات العالم ‪ ،‬كما يتعطل الدنيا بمفارقة اإلنسان ‪ ،‬فالدار الدنيا‬
‫جارحة من جسد العالم الذي اإلنسان روحه ‪ ،‬ولكونه جامعا قابل الحضرتين بذاته ‪ ،‬فصحت له‬
‫الخالفة ‪ ،‬وتدبير العالم وتفصيله ‪ ،‬فإذا لم يحز إنسان رتبة الكمال فهو حيوان ‪ ،‬تشبه صورته‬
‫ّللا ما خلق أوال من هذا النوع إال الكامل وهو آدم عليه‬ ‫الظاهرة صورة اإلنسان ‪ ،‬فإن ه‬
‫ين )وكذلك‬ ‫ت »في نظرك ؟ بقوله ‪ (:‬أَنَا َخي ٌْر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن ٍ‬
‫نار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬ ‫السالم «أ َ ْست َ ْكبَ ْر َ‬
‫ت »؟‬ ‫ّللا أخبر عنه أنه استكبر فقوله تعالى« أ َ ْست َ ْكبَ ْر َ‬ ‫كان ‪ ،‬فإن ه‬
‫ت ِمنَ ْالعا ِلينَ »أي أنك في نفس‬ ‫على من هو مثلك يعني عنصريا« أ َ ْم ُك ْن َ‬
‫[ العالون من المالئكة ]‬
‫األمر خير منه فكنت من العالين عن العنصر ‪ ،‬ولست كذلك ‪ ،‬ويعني بالعالين من عال بذاته‬
‫ّللا‬
‫عن أن يكون عنصريا في نشأته النورية العنصرية وإن كان طبيعيا ‪ ،‬فهو علو المكانة عند ه‬
‫ّللا الذين لم يدخلوا تحت‬ ‫‪ ،‬فهنا ظهر جهل إبليس ‪ ،‬وقد يريد بالعالين المالئكة المهيمة في جالل ه‬
‫األمر بالسجود ‪ ،‬فهم المهيمون الكروبيون ‪ ،‬وهم أرواح ما هم مالئكة ‪ ،‬فإن المالئكة هم الرسل‬
‫من هذه األرواح ‪ ،‬كجبريل عليه السالم وأمثاله ‪ ،‬فإن األلوكة هي الرسالة في‬

‫ص ‪527‬‬

‫‪527‬‬
‫ّللا ما ذكر أنه خاطب‬ ‫لسان العرب ‪ ،‬ولم تدخل األرواح المهيمة فيمن خوطب بالسجود ‪ ،‬فإن ه‬
‫إال المالئكة ‪،‬‬
‫ّللا خلق آدم‬ ‫ّللا ‪ ،‬ال تعلم أن ه‬ ‫ت ِمنَ ْالعا ِلينَ »وهم هذه األرواح المهيمة في جالل ه‬ ‫فقال ‪ «:‬أ َ ْم ُك ْن َ‬
‫باّلل ‪ ،‬أي هل أنت من هؤالء الذين ذكرناهم فلم تؤمر بالسجود ؟‬ ‫وال شيئا لشغلهم ه‬
‫فالعالون هم العابدون بالذات ال باألمر ‪ ،‬ما أمروا بالسجود ألنهم ما جرى لهم ذكر في تعريف‬
‫ّللا إيانا ‪ ،‬ومن العالين اللوح والقلم فال يتمكن لهم إنكار آدم اإلنسان الكامل ‪،‬‬ ‫ه‬
‫والقلم قد سطره ‪ ،‬واللوح قد حواه ‪،‬‬
‫سطر رتبته وما يكون منه ‪ ،‬واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه ‪،‬‬ ‫فإن القلم لما سطره ه‬
‫ّللا خلقها في العماء وهيهمها في جالله ‪ ،‬ثم خلق الخلق فشغلهم‬ ‫وأما األرواح المهيمة فإن ه‬
‫ّللا خلق أحدا ‪،‬‬ ‫هيمانهم في جالل جماله أن يروا سواه ‪ ،‬فهم الذين ال يعرفون أن ه‬
‫ّللا لذاته‬ ‫فأعالهم الحق أن يكون شيء من الخلق لهم مشهودا وال نفوسهم ‪ ،‬فهم عبيد اختصهم ه‬
‫‪ ،‬والتجلي لهم دائم ‪ ،‬وهم فيه هائمون ال يعلمون ما هم فيه ‪ ،‬فهم ال يشهدون علو الحق ‪ ،‬ألنه‬
‫ال يشهد علو الحق إال من شهد نفسه ‪،‬‬
‫وهم في أنفسهم غائبون ‪ ،‬فهم أرفع األرواح العلوية ‪ ،‬وكل روح ال يعطي رسالة فهو روح ‪،‬‬
‫ال يقال فيه ‪ :‬ملك إال مجازا ‪.‬‬
‫فالعالون ليسوا بمالئكة من حيث االسم ‪ ،‬فإنه موضوع للرسل منهم خاصة ‪ ،‬فمعنى المالئكة‬
‫الرسل ‪ ،‬وهو من المقلوب وأصله مألكة ‪ ،‬واأللوكة الرسالة والمألكة الرسالة ‪ ،‬فما تختص‬
‫ّللا للمالئكة(‬ ‫بجنس دون جنس ‪ ،‬ولهذا دخل إبليس في الخطاب باألمر بالسجود لما قال ه‬
‫ا ْس ُجدُوا )‬
‫ّللا فأبى ‪ ،‬فالرسالة جنس حكم يعم‬ ‫*ألنه ممن كان يستعمل في الرسالة فهو رسول ‪ ،‬فأمره ه‬
‫األرواح الكرام البررة السفرة والجن واإلنس ‪ ،‬من كل صنف من أرسل ‪ ،‬فكان قوله تعالى‬
‫ي »بحسب ما يليق بجالله على جهة التشريف اإللهي‬ ‫إلبليس« ما َمنَعَ َك أ َ ْن ت َ ْس ُج َد ِلما َخلَ ْقتُ ِبيَ َد َّ‬
‫الذي خص به آدم بخلقه بيديه ‪ ،‬إذ اليد بمعنى القدرة ال شرف فيها على من شرف عليه ‪،‬‬
‫واليد بمعنى النعمة مثل ذلك ‪ ،‬فإن النعمة والقدرة عمت جميع الموجودات ‪ ،‬فال بد أن يكون‬
‫لقوله بيدي أمر معقول له بخصوص وصف بخالف هذين وهو المفهوم من لسان العرب الذي‬
‫نزل القرآن بلغتهم ‪،‬‬
‫ت ِمنَ‬‫ت أ َ ْم ُك ْن َ‬‫فإذا قال صاحب اللسان ‪ :‬إنه فعل هذا بيده ‪ ،‬فالمفهوم منه رفع الوسائط «أ َ ْست َ ْكبَ ْر َ‬
‫ْالعا ِلينَ »على طريق االستفهام بما هو به عالم ‪ ،‬ليقيم شهادته على نفسه بما ينطق به ‪.‬‬
‫ّللا قادر أن يكون‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن ه‬
‫‪-‬مسئلة ‪ -‬هذه اآلية من أدل األدلة على إثبات األسباب عند ه‬

‫ص ‪528‬‬

‫‪528‬‬
‫آدم ابتداء من غير تخمير وال توجه يديه وال تسوية وال تعديل لنفخ روح ‪ ،‬بل يقول له ‪:‬‬
‫كن فيكون ‪ ،‬ومع هذا خمر طينته بيديه وسواه وعدله ‪ ،‬ثم نفخ فيه الروح ‪ ،‬وعلمه األسماء ‪،‬‬
‫وأوجد األشياء على ترتيب ‪ .‬فقال إبليس ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ ) : 38‬آية ‪] 76‬‬


‫ين ) ‪( 76‬‬ ‫قا َل أَنَا َخ ْي ٌر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن ٍ‬
‫نار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬
‫ّللا بقوله ‪ ،‬وكان من الكافرين‬
‫ّللا ‪ ،‬وما كان من العالين ‪ ،‬فأخذه ه‬ ‫فاستكبر على آدم ال على أمر ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه حين أمر بالسجود آلدم ‪ ،‬وألحقه بالمإل األعلى في الخطاب بذلك ‪ ،‬فحرمه ه‬ ‫نعمة ه‬
‫لشؤم النشأة العنصرية ‪ -‬راجع سورة األعراف آية ‪. - 11‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 77‬إلى ‪] 82‬‬


‫ب فَأ َ ْن ِظ ْرنِي‬
‫ِين ( ‪ ) 78‬قا َل َر ّ ِ‬ ‫اخ ُرجْ ِم ْنها فَ ِإنهكَ َر ِجي ٌم ( ‪َ ) 77‬و ِإ هن َ‬
‫علَ ْيكَ لَ ْعنَتِي ِإلى يَ ْو ِم ال ّد ِ‬ ‫قا َل فَ ْ‬
‫وم ) ‪( 81‬‬ ‫ين ( ‪ِ ) 80‬إلى يَ ْو ِم ا ْل َو ْق ِ‬
‫ت ا ْل َم ْعلُ ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 79‬قا َل فَ ِإنهكَ ِم َن ا ْل ُم ْن َظ ِر َ‬ ‫ِإلى يَ ْو ِم يُ ْبعَث ُ َ‬
‫ين ) ‪( 82‬‬ ‫قا َل فَبِ ِع هزتِكَ َأل ُ ْغ ِويَنه ُه ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫باّلل تعالى فقال‬ ‫كأن إبليس يري الحق أنه يعلم من نشأة اإلنسان قبوله لكل ما يلقى إليه ‪ ،‬فأقسم ه‬
‫‪ «:‬فَبِ ِع َّزتِ َك َأل ُ ْغ ِويَنَّ ُه ْم أ َ ْج َم ِعينَ »وهو مجبور في اإلغواء وإن كان من اختياره إبرارا لقسمه‬
‫بربه ‪ ،‬فإنه وإن سبق له الشقاء فله شبهة يستند إليها في امتثال أمر سيده ‪ ،‬بعد أن حقت الكلمة‬
‫كلمة العذاب عليه بقوله تعالى ‪ :‬اذهب ‪ ،‬واستفزز ‪ ،‬وأجلب ‪ ،‬وعدهم ‪.‬‬
‫فإنه يجد لذلك تنفيسا ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬آية ‪] 83‬‬


‫ِإاله ِعبادَكَ ِم ْن ُه ُم ا ْل ُم ْخلَ ِص َ‬
‫ين ) ‪( 83‬‬
‫ّللا إليه مما ألقى إليهم ‪ ،‬وفيهم من نور‬ ‫يعني الذين اصطنعهم الحق لنفسه ‪ ،‬فهم الذين أخلصهم ه‬
‫س ْل ٌ‬
‫طان )‬ ‫علَ ْي ِه ْم ُ‬
‫ْس لَ َك َ‬
‫الحفظ والعصمة ‪ ،‬ولذلك قال تعالى ‪ِ (:‬إ َّن ِعبادِي لَي َ‬
‫ّللا تولى حفظهم وتعليمهم بما جعل فيهم من التقوى ‪ ،‬فلما اتخذوا‬ ‫*أي قوة وقهر وحجة ‪ ،‬ألن ه‬
‫ّللا جل جالله وقاية لم يجد اللعين من أين يدخل عليهم بشيء ‪ ،‬فإنه أينما تولى منه ليدخل‬ ‫ه‬

‫ص ‪529‬‬

‫‪529‬‬
‫ّللا يحفظه ‪ ،‬فال يستطيع الوصول‬ ‫عليه بما يخرجه عن دينه وعلمه ‪ ،‬وجد في تلك الجهة وجه ه‬
‫ّللا سؤاله فقال له (‪ :‬ا ْذهَبْ )اآلية رقم ‪ 63‬سورة‬
‫إليه بالوسوسة ‪ .‬ولما سأل إبليس ذلك أجاب ه‬
‫اإلسراء ‪ -‬يعني إلى ما سألته مني ‪ ،‬وذكر له جزاءه وجزاء من اتبعه من اإلنس ‪ ،‬فكان جزاء‬
‫الشيطان أن رده إلى أصله الذي منه خلقه ‪ ،‬والذي اتبعه كذلك ‪ ،‬فقال ‪.‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 84‬إلى ‪] 85‬‬


‫ق أَقُو ُل ( ‪َ ) 84‬أل َ ْم ََل َ هن َج َهنه َم ِم ْنكَ َو ِم هم ْن ت َ ِبعَكَ ِم ْن ُه ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫ين ) ‪( 85‬‬ ‫قا َل فَا ْل َح ُّ‬
‫ق َوا ْل َح ه‬
‫ّللا ما جعل جزاءهما إال جهنم وفيها عذاب إبليس‬ ‫فغلهب جزاء اإلنسان على جزاء إبليس ‪ ،‬فإن ه‬
‫‪ ،‬فإن جهنم برد كلها ما فيها شيء من النارية ‪ ،‬فهو عذاب إلبليس أكثر من متبعه ‪ ،‬وإنما كان‬
‫ذلك ألن إبليس طلب أن يشقي الغير ‪ ،‬فحار وباله عليه لما قصده ‪ ،‬فهو تنبيه من الحق لنا أن‬
‫ال نقصد وقوع ما يؤدي إلى الشقاء ألحد ‪ ،‬فعذاب الشياطين من الجن في جهنم أكثر ما يكون‬
‫بالزمهرير ال بالحرور ‪ ،‬وقد يعذب بالنار ‪ ،‬وبنو آدم أكثر عذابهم بالنار ‪ ،‬وسميت جهنم جهنما‬
‫ّللا‬
‫ّللا فلما أزال ه‬
‫ألنها كريهة المنظر ‪ ،‬والجهام السحاب الذي هرق ماءه ‪ ،‬والغيث رحمة ه‬
‫الغيث من السحاب بإنزاله أطلق عليه اسم الجهام ‪ ،‬لزوال الرحمة الذي هو الغيث منه ‪ ،‬كذلك‬
‫ّللا من جهنم ‪ ،‬فكانت كريهة المنظر والمخبر ‪ ،‬وسميت أيضا جهنم لبعد قعرها‬ ‫الرحمة أزالها ه‬
‫يقال ‪ :‬ركية جهنام ‪ ،‬انظر اإلشارة سورة فاطر آية رقم ‪. 6‬‬

‫[ سورة ص ( ‪ : ) 38‬اآليات ‪ 86‬إلى ‪] 88‬‬


‫علَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر َوما أَنَا ِم َن ا ْل ُمت َ َك ِلّ ِف َ‬
‫ين ( ‪ِ ) 86‬إ ْن ُه َو ِإاله ِذ ْك ٌر ِل ْلعالَ ِم َ‬
‫ين ) ‪( 87‬‬ ‫قُ ْل ما أ َ ْ‬
‫سئَلُ ُك ْم َ‬
‫ين ( ‪) 88‬‬ ‫َولَت َ ْعلَ ُم هن نَبَأَهُ بَ ْع َد ِح ٍ‬

‫( ‪ ) 39‬سورة ّ‬
‫الزمر مكيّة‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬
‫ّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬‫الرحْ ِ‬
‫ّللا ه‬ ‫س ِم ه ِ‬‫بِ ْ‬
‫يز ا ْل َح ِك ِ‬
‫يم) ‪( 1‬‬ ‫ّللا ا ْلعَ ِز ِ‬ ‫ت َ ْن ِزي ُل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب ِم َن ه ِ‬

‫ص ‪530‬‬

‫‪530‬‬
‫ّللا تعالى فهو بحسب ما يليق بجالله من غير تكييف وال تشبيه وال تصور ‪،‬‬ ‫كل ما ينسب إلى ه‬
‫بل كما تعطيه ذاته وما ينبغي أن ينسب إليها من ذلك ( ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو ) « ْالعَ ِز ُ‬
‫يز »‬
‫*فال يصل أحد إلى العلم وال إلى الظفر بحقيقته« ْال َح ِكي ُم » *الذي نزل لعباده في كلماته ه‬
‫فقرب‬
‫البعيد في الخطاب لحكمة أرادها تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 2‬‬


‫ق فَا ْعبُ ِد ه َ‬
‫ّللا ُم ْخ ِلصا لَهُ ال ّد َ‬
‫ِين ( ‪) 2‬‬ ‫ِإنها أ َ ْن َز ْلنا ِإلَ ْيكَ ا ْل ِك َ‬
‫تاب ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ّللا ُم ْخ ِلصا ً لَهُ ال هدِينَ » اآلية ]‬ ‫[ « فَا ْعبُ ِد َّ َ‬
‫ّللا عبدا خالصا محضا ‪،‬‬ ‫ّللا ُم ْخ ِلصا ً لَهُ ال هدِينَ »أي طهر عبادتك من العلل حتى تعبد ه‬ ‫« فَا ْعبُ ِد َّ َ‬
‫ّللا من طريقين ‪:‬‬‫ال تشوبه علة وال مرض في عبادته وال عبوديته ‪ ،‬فإن الموحد يعبد ه‬
‫من طريق الذات من كونها تستحق وصف األلوهية ‪ ،‬ومن طريق األلوهية ‪ ،‬فالسعيد الجامع‬
‫بينهما ‪ ،‬ألن العبد مركب من حرف ومعنى ‪ ،‬فالحرف للحرف والمعنى للمعنى ‪ ،‬فلذلك ال نعبد‬
‫الذات معراة عن وصفها باأللوهية ‪ ،‬ولم تعبد األلوهية من غير نسبتها إلى موصوف بها ‪ ،‬فلم‬
‫تقم العبادة إال على ما تقتضيه حقيقة العبد وهو التركيب ‪ ،‬ال على ما تقتضيه حقيقة الحق وهو‬
‫األحدية ‪ ،‬التي ال تتعلق وال يتعلق بها فإنها للذات ‪ ،‬فلبه إذا دعاك الحق إليه ‪ ،‬ال رغبة فيما في‬
‫يديه ‪ ،‬فإنك إن أحببته لذلك ‪ ،‬فأنت هالك ‪ ،‬وكنت لمن أجبت ‪ ،‬وأخطأت وما أصبت ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا ال بد أن يوفيك حقك ‪ ،‬فمن كان عبدا لغير ه‬ ‫واستعبدك الطمع واسترقك ‪ ،‬وأنت تعلم أن ه‬
‫فما عبد إال هواه ‪ ،‬وأخذ به العدو عن طريق هداه ‪ ،‬ما اختزن األشياء إال لك ‪ ،‬فقصر أملك‬
‫وأخلص هّلل عملك ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪]3‬‬


‫ِين ات ه َخذُوا ِم ْن دُونِ ِه أ َ ْو ِليا َء ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإاله ِليُقَ ِ ّربُونا ِإلَى ه ِ‬
‫ّللا ُز ْلفى ِإ هن‬ ‫ص َوالهذ َ‬ ‫ِين ا ْلخا ِل ُ‬
‫ّلِل ال ّد ُ‬ ‫أَال ِ ه ِ‬
‫ار ( ‪) 3‬‬‫ِب َكفه ٌ‬ ‫ّللا ال يَ ْهدِي َم ْن ُه َو كاذ ٌ‬ ‫ون ِإ هن ه َ‬‫ّللا يَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُه ْم فِي ما ُه ْم فِي ِه يَ ْخت َ ِلفُ َ‬ ‫هَ‬
‫ص»‬ ‫ْ‬ ‫ّلل ال هد ُ‬
‫ِين الخا ِل ُ‬ ‫« أال ِ َّ ِ‬‫َ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬أال إنه العهد الذي خلص لنفسه في وفاء العبد به ‪ ،‬ما استخلصه العبد من‬
‫الشيطان ‪ ،‬وال من الباعث عليه من خوف وال رغبة وال جنة وال نار ‪ ،‬فقد يكون الباعث‬
‫ّللا ‪ ،‬فيكون‬ ‫للمكلف مثل هذه األمور في الوفاء بعهد ه‬

‫ص ‪531‬‬

‫‪531‬‬
‫العبد من المخلصين ‪ ،‬ويكون الدين بهذا الحكم مستخلصا من حد من يعطي المشاركة فيه ‪،‬‬
‫ّللا من بني آدم من ظهورهم‬‫فيميل العبد به عن الشريك ‪ ،‬والعهد الخالص هو الذي لما أخذ ه‬
‫ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ‪ ،‬ثم ولد كل بني آدم على الفطرة ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬كل مولود يولد على الفطرة ]‬ ‫وهو قوله صلهى ه‬
‫وهو الميثاق الخالص لنفسه ‪ ،‬الذي ما ملكه أحد غصبا فاستخلص منه ‪ ،‬بل لم يزل خالصا‬
‫لنفسه في نفس األمر طاهرا مطهرا ‪ ،‬فإذا ولد المولود ونشأ محفوظا قبل التكليف ‪ ،‬ولم يرزأ‬
‫في عهده هذا بشيء مما ذكرناه آنفا ‪ ،‬فبقي عهده على أصله خالصا ‪،‬‬
‫وهو الدين الخالص ‪ -‬ال المخلص ‪ -‬من غير شوب خالطه حتى يستخلصوه منه ‪ ،‬فهو صاحب‬
‫العهد الخالص فال يشقى ‪ ،‬وأهل العهد الخالص على منابر ال يحزنهم الفزع األكبر على‬
‫نفوسهم وال على أحد ‪ ،‬ألنهم لم يكن لهم تبع في الدنيا ‪ ،‬وكل من كان له تبع في الدنيا فإنه وإن‬
‫أمن على نفسه فإنه ال يأمن على من بقي وعلى تابعه ‪ ،‬لكونه ال يعلم هل قصر وفرط فيما أمر‬
‫به أم ال ؟ فيحزنه الفزع األكبر عليه‬
‫ص »أي المستخلص من أيدي ربوبية األكوان ‪ ،‬وال يكون ذلك‬ ‫ِين ْالخا ِل ُ‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ « -‬ال هد ُ‬
‫ّللا إذا اعتنى بهم استخلصهم من ربوبية األسباب ‪ ،‬فإذا‬ ‫إال من المخلصين بفتح الالم ‪ ،‬فإن ه‬
‫استخلصهم كانوا مخلصين بكسر الالم فالدين الخالص ال يشوبه شيء من عمل ألجل ثواب أو‬
‫ّللا في إتيانه إن‬
‫ّللا إن كان واجبا ‪ ،‬أو إتيان ما رغب ه‬ ‫خوف عقاب ‪ ،‬وإنما يقصد امتثال أمر ه‬
‫كان تطوعا‪.‬‬
‫ّللا ُز ْلفى " وهم الذين يجعلون مع‬
‫" َوالَّذِينَ ات َّ َخذُوا ِم ْن دُونِ ِه أ َ ْو ِليا َء ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫ّللا إلها آخر ‪.‬‬ ‫ه‬
‫ّللا بالغيب عين عبادته بالشهادة ‪ ،‬فإن اإلنسان وكل عابد ال يصح أن‬ ‫ّللا أن عبادة ه‬ ‫اعلم أيدك ه‬
‫يعبد معبوده إال عن شهود ‪ ،‬إما بعقل أو ببصر أو بصيرة ‪ ،‬فالبصيرة يشهده العابد بها فيعبده ‪،‬‬
‫وإال فال تصح له عبادة ‪ ،‬فما عبد إال مشهودا ال غائبا ‪،‬‬
‫ّللا كأنك تراه ] فأمره باالستحضار وأمره بتصوره في‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬اعبد ه‬ ‫لذلك قال صلهى ه‬
‫ّللا على العباد تنزيهه وال تخيله ‪ ،‬وإنما حجر عليه أن يكون محسوسا‬ ‫الخيال مرئيا ‪ ،‬فما حجر ه‬
‫له ‪ ،‬وأعظم من الشرك ال يكون ‪،‬‬
‫ّللا ُز ْلفى » فما عبدوا الشركاء ألعيانهم ‪ ،‬فإن‬ ‫وقد قال المشرك« ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم إِ َّال ِليُقَ ِ هربُونا إِلَى َّ ِ‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫ّللا أبدا ‪ ،‬فما أخذوا لكونهم عبدوهم ‪ ،‬فإن المشرك ما جحد ه‬ ‫العبادة هّلل ال تكون لغير ه‬
‫بل أقر به وأقر له بالعظمة والكبرياء على من اتخذه قربة إليه ‪ ،‬فلو ال وضع اسم األلوهية على‬
‫الشريك ما عبدوه ‪ ،‬فإن نفوس األناسي باألصالة تأنف من عبادة المخلوقين ‪ ،‬وال سيما‬

‫ص ‪532‬‬

‫‪532‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ال يتعبدهم مخلوق ‪ ،‬فما‬ ‫من أمثالها ‪ ،‬فأصحبوا عليها االسم اإللهي حتى ال يتعبدهم غير ه‬
‫باّلل في وضع هذا االسم على المخلوق إال التنزيه هّلل الكبير المتعالي ‪،‬‬ ‫جعل المشرك يشرك ه‬
‫ولكن ال بد من أخذ المشركين لتعديهم باالسم غير محله وموضعه ‪ ،‬ولم يرد عليه أمر بذلك من‬
‫ّللا ال يأمر خلقه وال يصح أن يأمر‬ ‫ّللا ‪ ،‬ومن المحال أن ترد عبادة وإن ورد سجود ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ه‬
‫خلقه بعبادة مخلوق ‪ ،‬ويجوز أن يأمرنا بالسجود للمخلوق ‪ ،‬فمن سجد عبادة لمخلوق عن أمر‬
‫ّللا كان طاعة وسعد‬ ‫ّللا فقد شقي ‪ ،‬ومن سجد غير عابد لمخلوق عن أمر ه‬ ‫ّللا أو عن غير أمر ه‬ ‫ه‬
‫ّللا فما وقعت المؤاخذة إال لكون ما وقع‬ ‫ّللا في قلبه إلى ه‬ ‫‪ ،‬فإن المشرك وإن أفرد عظم عظمة ه‬
‫ّللا ‪ ،‬في حق أشخاص معينين ‪ ،‬ونقل االسم إلى أولئك األشخاص ‪ ،‬فمن‬ ‫من ذلك عن غير أمر ه‬
‫هذا يعلم أنه ال يصح شرك عام وال تعطيل عام ‪ ،‬وإنما هي أسماء سموها أطلقوها على أعيان‬
‫ّللا ‪ ،‬فأخذوا بعدم التوقيف ‪ ،‬والسبب في نسبة األلوهية لهذه‬ ‫محسوسة وموهومة عن غير أمر ه‬
‫الصور المعبودة ‪ ،‬هو أن الحق لما تجلى لهم في أخذ الميثاق تجلى لهم في مظهر من المظاهر‬
‫اإللهية ‪ ،‬فذلك الذي أجرأهم على أن يعبدوه في الصور ‪ ،‬ومن قوة بقائهم على الفطرة أنهم ما‬
‫عبدوه على الحقيقة في الصور ‪ ،‬وإنما عبدوا الصور لما تخيلوا فيها من رتبة التقريب‬
‫كالشفعاء ‪ ،‬ومن ذلك نعلم أن العالم لم يزل في حال عدمه مشاهدا لواجب الوجود ‪ ،‬ولهذا لم‬
‫ينكره أحد من الممكنات في حال وجوده ‪ ،‬إال أن هذا الموجود اإلنساني وحده من بين العالم‬
‫أشرك بعضه به ممن غلب عليه حجاب الطبع ‪ ،‬وهو ما اعتاد أن يسمع ويطيع ويعبد باألصالة‬
‫إال لرب يشهده ‪ ،‬وقد صير ذلك المعبود حجاب الطبع غيبا له ‪ ،‬فاتخذ ما اتخذ من الموجودات‬
‫التي يشهدها ويراها ‪ ،‬إما من العالم السماوي كالكواكب ‪ ،‬وإما من العالم األسفل كالعناصر أو‬
‫ما تولد عنها ‪ ،‬ربا يعبده على المشاهدة التي اعتادها ‪ ،‬وسكنت نفسه بها إليه ‪ ،‬وتوهم في نظره‬
‫ّللا ه‬
‫عز‬ ‫أن ذلك المتخذ إلها يشهد الحق ‪ ،‬وأنه أقرب إليه منه ‪ ،‬فعبهد نفسه له خدمة ليقربه إلى ه‬
‫ّللا عنهم أنهم قالوا« ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم »يعني اآللهة التي اتخذوها للعبادة« ِإ َّال‬
‫وجل ‪ ،‬كما أخبر ه‬
‫ّللا ُز ْلفى »فأكدوه بزلفى ‪ ،‬واتخذوهم شهداء ولذا قال تعالى ‪ ( :‬وادعوا شهداءكم‬ ‫ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫إن كنتم صادقين ) حيث زعموا أنها تشهد لهم أنهم على الحق ‪ ،‬ورغم أن المشركين جعلوا‬
‫العظمة والكبرياء هّلل ‪ ،‬وجعلوا اآللهة التي اتخذوها كالسدنة والحجاب ‪ ،‬فإن قرائن األحوال تدل‬
‫على القطع بمؤاخذتهم ‪ ،‬لكونهم اتخذوها عن‬

‫ص ‪533‬‬

‫‪533‬‬
‫نظرهم ال عن وضع إلهي ‪ ،‬ولم يفرقوا بين ما هو وضع هّلل في خلقه وبين ما وضعوه ألنفسهم‬
‫من أنفسهم ‪ ،‬مثال ذلك ‪ ،‬ما وضعه الحق لعباده من تقبيل الحجر األسود والسجود ‪ ،‬وجعل‬
‫الكعبة قبلة ‪ ،‬إلى غير ذلك ‪ ،‬فيقال للمشركين ‪ :‬وإن كنتم ما عبدتم كل من عبدتموه إال بتخيلكم‬
‫أن األلوهة صفته ‪ ،‬فما عبدتم غيرها ‪ ،‬ليس األمر كذلك ‪ ،‬فإنكم شهدتم على أنفسكم أنكم ما‬
‫ّللا زلفى ‪ ،‬فأقررتم مع شرككم أن ث هم إلها كبيرا ‪ ،‬هذه اآللهة خدمتكم‬
‫تعبدونها إال لتقربكم إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهذه دعوى بغير برهان ‪ ،‬فإذ وقد اعترفوا أنهم عبدوا الشريك ليقربهم‬ ‫إياها تقربكم من ه‬
‫ّللا زلفى ‪ ،‬فتح القائل على نفسه باب االعتراض عليه ‪ ،‬بأن يقال له ‪ :‬ومن أين علمتم أن‬ ‫إلى ه‬
‫ّللا هذه المكانة بحيث أن جعلها معبودة‬‫هذه الحجارة أو غيرها لها عند ه‬

‫ّللا ‪ ،‬وقولك ‪:‬إله ]‬ ‫فرق بين قولك ‪ :‬ه‬ ‫[ تحقيق ‪ :‬ه‬


‫لكم ؟ ‪ -‬راجع سورة يونس آية ‪18 - -‬‬
‫‪ -‬تحقيق –‬
‫ّللا نصب األسباب وأزال حكم األرباب قال المشركون« ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫إن ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬لكان لهم في ذلك مندوحة‬ ‫ُز ْلفى »فلو قالوا « ما نتخذهم » وأبقوا العبودية لجناب ه‬
‫ّللا ال يدخله تنكير ‪،‬‬ ‫بوضع األسباب اإللهية المقررة في العالم ‪ .‬واعلم أن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وقولك ‪ :‬إله ‪،‬‬ ‫واإلله يدخله التنكير ‪ ،‬فيقال ‪ :‬إله ؛ ففرق بين قولك ‪ :‬ه‬
‫وّللا واحد معروف ال يجهل ‪ ،‬أقرت بذلك عبدة اآللهة‬ ‫فكثرت اآللهة في العالم لقبولها التنكير ‪ ،‬ه‬
‫ّللا ُز ْلفى »‬
‫قالت« ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم في‬ ‫وما قالت ‪ :‬إلى إله كبير هو أكبر منها ‪ ،‬ولهذا أنكروا ما جاء به صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولو أنكروه ما كانوا‬ ‫القرآن والسنة من أنه إله واحد ‪ ،‬من إطالق اإلله عليه ‪ ،‬وما أنكروا ه‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫مشركين ‪ ،‬فبمن يشركون إذا أنكروه ؟ ! فما أشركوا إال بإله ال ه‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 4‬‬


‫واح ُد ا ْلقَ هه ُ‬
‫ار ( ‪) 4‬‬ ‫ّللاُ ا ْل ِ‬
‫س ْبحانَهُ ُه َو ه‬ ‫ق ما يَشا ُء ُ‬ ‫ّللاُ أ َ ْن يَت ه ِخذَ َولَدا ال ْ‬
‫ص َطفى ِم هما يَ ْخلُ ُ‬ ‫لَ ْو أَرا َد ه‬
‫[ أيوجد المحال ؟ ]‬
‫وجوز ذلك ‪،‬‬
‫ه‬ ‫طفى »فجعله من قبيل اإلمكان ‪ ،‬فأجاز التبني‬ ‫ص َ‬‫ّللاُ أ َ ْن يَت َّ ِخذَ َولَدا ً َال ْ‬
‫« لَ ْو أَرا َد َّ‬
‫واالصطفاء جعل ‪ ،‬والمجعول ينافي الكفاءة للجاعل ‪ ،‬فجعل ذلك استدالال بالتنبيه على موضع‬
‫الداللة ‪ِ «،‬م َّما يَ ْخلُ ُق ما يَشا ُء »بقي تعلق االصطفاء ‪ ،‬بمن يتعلق ؟ هل بالصاحبة ؟ مثل قوله‬
‫تعالى ‪ (:‬لَ ْو أ َ َر ْدنا أ َ ْن نَت َّ ِخذَ لَ ْهوا ً )يعني الولد ( َالت َّ َخ ْذناهُ ِم ْن لَ ُدنَّا)‬

‫ص ‪534‬‬

‫‪534‬‬
‫وما له ظهور إال من الصاحبة التي هي األم ‪ ،‬فيكون االصطفاء في حق الصاحبة ‪ ،‬أو يكون‬
‫يعلق االصطفاء للبنوة ؟ فذلك التبني ال البنوة ‪ ،‬فنفى تعلق اإلرادة باتخاذ الولد ‪ ،‬واإلرادة ال‬
‫تتعلق إال بمعدوم ‪ ،‬فإن لو حرف امتناع ‪ ،‬ولكنه امتناع شيء المتناع غيره ‪ ،‬فإذا جاء حرف ال‬
‫بعد لو كان لو حرف امتناع لوجود ‪ ،‬ولم يأت في هذه اآلية ال ‪ ،‬فنفى أن تتعلق اإلرادة باتخاذ‬
‫الولد ‪ ،‬ولم يقل ‪ :‬أن يلد ولدا ؛ فإنه يقول ( لم يلد ) والولد المتخذ يكون موجود العين من غير‬
‫أن يكون ولدا ‪ ،‬فيتبنى بحكم االصطفاء ‪ ،‬والتقريب في المنزلة أن ينزله من نفسه منزلة الولد‬
‫من الوالد الذي يكون عليه والدة ‪ ،‬والحقيقة تمنع الوالدة والتبني ‪ ،‬ألن النسبة مرتفعة عن‬
‫ّللا لجميع الخلق نسبة واحدة ال تفاضل فيها ‪ ،‬إذ التفاضل يستدعي‬ ‫الذات ‪ ،‬والنسبة اإللهية من ه‬
‫الكثرة ‪ ،‬فلهذا أتى بلفظة لو ولم يجعل بعدها لفظة ال ‪ ،‬فكان حرف امتناع ‪ ،‬أي لم يقع ذلك وال‬
‫صاحبَةً َوال َولَدا ً )بعد‬ ‫ِ‬ ‫يقع ‪ ،‬المتناع الذات أن توصف بما ال تستحقه ‪ ،‬ولهذا قال( َما ات َّ َخذَ‬
‫قوله( َوأَنَّهُ تَعالى َج ُّد َر ِبهنا )فوصفه بالعلو عن قيام هذا الوصف لعظمة الرب المضاف إلى‬
‫ّللا ؟ فكيف بالذات من‬ ‫المربوب بالذكر ‪ ،‬فكيف بالرب من غير إضافة لفظية ؟ فكيف باالسم ه‬
‫غير اسم ؟ فجاء بحرف لو فدل على االمتناع ‪،‬‬
‫فلم يكن من الوجهين ‪ :‬ال التبني وال اصطفاء الصاحبة ‪ ،‬وأعظم من هذا التنزيه ال يكون ‪،‬‬
‫وهذه اآلية دليل على أن قدرة الحق مطلقة على إيجاد المحال لو شاء وجوده ‪ ،‬كما ذكره عن‬
‫طفى‬ ‫ص َ‬ ‫ّللاُ أ َ ْن يَت َّ ِخذَ َولَدا ً َال ْ‬
‫نفسه ما هو محال في العقل بما يعطيه دليله ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬لَ ْو أَرا َد َّ‬
‫ِم َّما يَ ْخلُ ُق ما يَشا ُء »فألحقه بالنسبة إلى المشيئة اإللهية بدرجة اإلمكان ‪ ،‬والعقل قد دل على أن‬
‫ذلك محال ‪ ،‬ال من كونه لم يرده ‪ ،‬فكانت هذه اآلية أولها جرح ‪ ،‬جرح به العقل في صحة دليله‬
‫ّللاُ ْال ِ‬
‫واح ُد‬ ‫سبْحانَهُ »أي هو المنزه « ُه َو َّ‬ ‫ليبطله ‪ ،‬ثم داوى ذلك الجرح في آخر اآلية بقوله« ُ‬
‫ْالقَ َّها ُر »‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬أن يكون ألحديته ثان –‬
‫ّللا تعالى لو أراد إيجاد ما هو محال الوجود لنفسه‬ ‫الوجه الثاني ‪ -‬ذهب بعض الناس إلى أن ه‬
‫ألوجده ‪ ،‬وإنما لم يوجده لكونه ما أراد وجود المحال الوجود ‪ ،‬فصاحب هذا القول يقول ‪ :‬إن‬
‫الحق أعطى المحال محاله والواجب وجوبه والممكن إمكانه ‪ ،‬فهذا القائل ال يدري ما يقول ‪،‬‬
‫فإنه سبحانه واجب الوجود لنفسه ‪ ،‬فهو كما قال القائل ‪ :‬أراد أن يعربه فأعجمه ‪ ،‬فإنه أراد أن‬
‫ينسب إليه تعالى نفوذ االقتدار ‪ ،‬ولم يعلم متعلق االقتدار ما هو ؟ فعلهقه بما ال يقتضيه ‪ ،‬وصير‬
‫الحق‬

‫ص ‪535‬‬

‫‪535‬‬
‫ّللا تعالى « لو أراد أن يتخذ‬
‫من قبيل الممكنات من حيث ال يشعر ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬فما فائدة إخبار ه‬
‫ولدا » فعلق اإلرادة بالمحال لنفسه ؟ فكيف أدخله تحت نفي تعلق اإلرادة التي ال يدخل تحتها‬
‫إال الممكن ‪ ،‬وهو الذي أشار إليه هذا الذي جهلناه وخطأناه في قوله ؟ فاعلم أن هذا من غاية‬
‫الكرم اإللهي ‪ ،‬حيث أنه قد سبق في علمه إيجاد مثل هذا الشخص من فساد العقل الذي قد‬
‫قضى به له في قسمه ‪ ،‬فلما قضى بهذا ‪ ،‬علم أن عقله ال بد أن يعتقد مثل هذا ‪ ،‬وهو غاية‬
‫ّللا تعالى بنفي تعلق اإلرادة بالمحال الوقوع لنفسه ‪ ،‬فيأخذ الكامل العقل من‬‫باّلل ‪ ،‬فأخبر ه‬
‫الجهل ه‬
‫ذلك نفي تعلق اإلرادة بما ال يصح أن تتعلق به ‪ ،‬ويأخذ منه هذا الضعيف العقل أنه سبحانه‬
‫لوال ما قال ‪ :‬لو ‪ ،‬وإال كان يفعل ‪ ،‬فيستريح إلى ذلك وال ينكسر قلبه ‪ ،‬حيث أراد نفوذ االقتدار‬
‫ّللا‬
‫ّللا به عليه فيزيد شكرا ‪ ،‬حيث لم يجعل ه‬ ‫اإللهي وقصد خيرا ‪ ،‬وليعلم الكامل العقل ما فضله ه‬
‫ّللا قد فضله عليه بدرجة لم ينلها من قصر عقله هذا‬‫عقله مثل هذا الناقص العقل ‪ ،‬فيعلم أن ه‬
‫ّللا على‬
‫ّللا يقدر على المحال ‪ ،‬والذي ينبغي أن يقال ‪ :‬إن ه‬
‫القصور ‪ ،‬ولذلك قالت جماعة ‪ :‬إن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬والقدرة تطلب محلها الذي تتعلق به ‪ ،‬فالعالم العاقل يعلم متعلق‬
‫كل شيء قدير ‪ ،‬كما قال ه‬
‫كل نسبة فيضيفها إليها ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 5‬‬


‫علَى الله ْي ِل َو َ‬
‫س هخ َر‬ ‫هار َويُك ّ َِو ُر النه َ‬
‫هار َ‬ ‫علَى النه ِ‬ ‫ق يُك ّ َِو ُر الله ْي َل َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ض ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬‫َخلَ َ‬
‫ار ) ‪( 5‬‬ ‫يز ا ْلغَفه ُ‬ ‫س ًّمى أَال ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬‫س َوا ْلقَ َم َر ُك ٌّل يَجْ ِري ِأل َ َج ٍل ُم َ‬‫الش ْهم َ‬
‫هار َويُ َك ه ِو ُر النَّ َ‬
‫هار‬ ‫لما كان زمان الليل والنهار دوريا ‪ ،‬لهذا قال تعالى ‪ «:‬يُ َك ه ِو ُر اللَّ ْي َل َ‬
‫علَى النَّ ِ‬
‫كور العمامة ‪ ،‬فيخفي كل واحد منهما بظهور اآلخر ‪ ،‬فالتكوير بتسخير‬ ‫علَى اللَّ ْي ِل »من ه‬‫َ‬
‫األنوار ‪ ،‬وتحريك األكوار بضروب األدوار ‪ ،‬واختالف األحوال واألطوار ‪ ،‬على عالم‬
‫االنشقاق واالنفطار ‪ ،‬إليجاد اإلنسان الذي خلقه في أحسن تقويم ‪ ،‬لذلك قال تعالى‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 6‬‬


‫عام ثَما ِنيَةَ أ َ ْزواجٍ يَ ْخلُقُ ُك ْم ِفي‬
‫واح َد ٍة ث ُ هم َجعَ َل ِم ْنها َز ْو َجها َوأ َ ْن َز َل لَ ُك ْم ِم َن ْاأل َ ْن ِ‬
‫َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس ِ‬
‫ّللاُ َربُّ ُك ْم لَهُ ا ْل ُم ْلكُ ال إِلهَ إِاله ُه َو فَأَنهى‬
‫ث ذ ِل ُك ُم ه‬‫ت ثَال ٍ‬ ‫ظلُما ٍ‬‫ق فِي ُ‬ ‫ون أ ُ همهاتِ ُك ْم َخ ْلقا ِم ْن بَ ْع ِد َخ ْل ٍ‬
‫ط ِ‬‫بُ ُ‬
‫ون) ‪( 6‬‬ ‫تُص َْرفُ َ‬

‫ص ‪536‬‬

‫‪536‬‬
‫[ إشارة ‪ :‬ال يتمكن لإلنسان المشي في ظلمة باطنه إال بسراج العلم ]‬
‫ق »وهو الخلق في الرحم"‬ ‫ون أ ُ َّمها ِت ُك ْم خ َْلقا ً ِم ْن بَ ْع ِد خ َْل ٍ‬
‫ط ِ‬‫" يَ ْخلُقُ ُك ْم ِفي بُ ُ‬
‫ث »ظلمة الرحم وظلمة المشيمة وظلمة البطن ‪.‬‬ ‫ظلُما ٍ‬
‫ت ثَال ٍ‬ ‫فِي ُ‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬إذا ولد اإلنسان اندرجت ظلمته فيه ‪ ،‬فكان ظاهره نورا وباطنه ظلمة ‪ ،‬فال يتمكن‬
‫له المشي في ظلمة باطنه إال بسراج العلم ‪ ،‬إن لم يكن له هذا السراج فإنه ال يهتدي« ذ ِل ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ‬
‫ص َرفُونَ »هذا هو التوحيد السابع والعشرون في القرآن ‪،‬‬ ‫َربُّ ُك ْم لَهُ ْال ُم ْلكُ ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو فَأَنَّى ت ُ ْ‬
‫وهو توحيد اإلشارة ‪ ،‬فما في الكون مشار إليه إال هو« فَأَنَّى ت ُ ْ‬
‫ص َرفُونَ »‬
‫ألن اإلشارة ال تقع من المشير إال ألمر حادث عنده ‪ ،‬وإن لم يكن في عينه في نفس األمر‬
‫حادثا ‪ ،‬ولكنه يعلم أنه حدث عنده ‪ ،‬وما يحدث أمر عند من يحدث عنده ‪ ،‬إال وال بد أن يجهل‬
‫أمره عندما يحدث عنده ‪ ،‬لشغله بحدوثه عنده وأثره فيه ‪ ،‬فيشير إليه في ذلك الوقت وفي تلك‬
‫الحالة رفيقه ‪ ،‬وهو على نوعين ‪- :‬‬
‫إذ ما له رفيق سوى اثنين ‪ -‬إما عقله السليم وإما شرعه المعصوم ‪ ،‬وما ث هم إال هذا ‪ ،‬ألنه ما ث هم‬
‫من يقول له في هذه اإلشارة«‬
‫ّللاُ َربُّ ُك ْم لَهُ ْال ُم ْلكُ ال إِلهَ إِ َّال ُه َو »إال أحد هذين القرينين ‪ ،‬إما العقل السليم أو الشرع‬ ‫ذ ِل ُك ُم َّ‬
‫المعصوم ‪ ،‬وما عدا هذين فإنه يقول له خالف ما قال هذان القرينان ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬هذا الدهر‬
‫وتصرفه ‪،‬‬
‫ويقول اآلخر ‪ :‬هذه الطبيعة وأحكامها ‪ ،‬ويقول اآلخر ‪ :‬هذا حكم الدور ‪ ،‬فيصرفه كل قائل إلى‬
‫ّللا من يشاء ويهدي من يشاء‬ ‫ص َرفُونَ »فيضل ه‬ ‫ما يراه ‪ ،‬فهو قول هذين القرينين« فَأَنَّى ت ُ ْ‬
‫بالقرآن ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 7‬‬


‫واز َرةٌ‬
‫ضهُ لَ ُك ْم َوال ت َ ِز ُر ِ‬
‫شك ُُروا يَ ْر َ‬ ‫ع ْن ُك ْم َوال يَ ْرضى ِل ِعبا ِد ِه ا ْل ُك ْف َر َو ِإ ْن ت َ ْ‬ ‫ي َ‬ ‫غنِ ٌّ‬ ‫ِإ ْن ت َ ْكفُ ُروا فَ ِإ هن ه َ‬
‫ّللا َ‬
‫ُور ( ‪) 7‬‬ ‫صد ِ‬‫ت ال ُّ‬ ‫ون ِإنههُ َ‬
‫ع ِلي ٌم ِبذا ِ‬ ‫ِو ْز َر أ ُ ْخرى ث ُ هم ِإلى َر ِبّ ُك ْم َم ْر ِجعُ ُك ْم فَيُنَ ِبّئ ُ ُك ْم ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬
‫« َوال يَ ْرضى ِل ِعبا ِد ِه ْال ُك ْف َر »لما كان العلم تابعا للمعلوم ‪ ،‬والرضا إرادة ‪ ،‬فال تناقض بين‬
‫األمر واإلرادة ‪ ،‬وإنما النقض بين األمر وما أعطاه العلم التابع للمعلوم ‪ ،‬فهو فعال لما يريد ‪،‬‬
‫وما يريد إال ما هو عليه المعلوم ‪ ،‬والحكم للعلم ال لألمر ‪ ،‬فصح قوله تعالى ‪َ «:‬وال‬

‫ص ‪537‬‬

‫‪537‬‬
‫ّللا من سفساف األخالق ‪ ،‬وما لنا من األمر‬ ‫يَ ْرضى ِل ِعبا ِد ِه ْال ُك ْف َر »وكذا كل عمل ال يرضي ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهي مرادة‬‫اإللهي إال صيغة األمر ‪ ،‬وهي من جملة المخلوقات في لفظ الداعي إلى ه‬
‫ضهُ لَ ُك ْم »وكذا كل عمل‬
‫ّللا ‪ ،‬فتنبه واعتبر« َوإِ ْن ت َ ْش ُك ُروا يَ ْر َ‬
‫معلومة كائنة في فم الداعي إلى ه‬
‫ّللا من مكارم األخالق ‪ ،‬فتتبع الشرع تعلم كل صفة علق الذم بها فاجتنبها ‪.‬‬ ‫يرضي ه‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 8‬‬


‫كان يَ ْدعُوا ِإلَ ْي ِه ِم ْن‬
‫ي ما َ‬ ‫سان ض ٌُّر دَعا َربههُ ُم ِنيبا ِإلَ ْي ِه ث ُ هم ِإذا َخ هولَهُ ِن ْع َمة ِم ْنهُ نَ ِ‬
‫س َ‬ ‫اْل ْن َ‬ ‫س ِْ‬ ‫َو ِإذا َم ه‬
‫ب النه ِار ) ‪( 8‬‬ ‫سبِي ِل ِه قُ ْل ت َ َمت ه ْع بِ ُك ْف ِركَ قَ ِليال إِنهكَ ِم ْن أَصْحا ِ‬
‫ّلِل أ َ ْندادا ِليُ ِض هل ع َْن َ‬
‫قَ ْب ُل َو َجعَ َل ِ ه ِ‬
‫إن اإلنسان لو نشأ على الخير والنعم طول عمره ‪ ،‬لم يعرف قدر ما هو فيه حتى يبتلى ‪ ،‬فإذا‬
‫سه الضر عرف قدر ما هو فيه من النعم والخيرات ‪ ،‬عند ذلك عرف قدر المنعم ‪.‬‬ ‫م ه‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 9‬‬


‫ساجدا َوقا ِئما يَحْ ذَ ُر ْاآل ِخ َرةَ َويَ ْر ُجوا َرحْ َمةَ َر ِبّ ِه قُ ْل َه ْل يَ ْ‬
‫ست َ ِوي الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫أ َ هم ْن ُه َو قا ِنتٌ آنا َء الله ْي ِل ِ‬
‫ب(‪)9‬‬ ‫ون إِنهما يَتَذَك ُهر أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫ِين ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون َوالهذ َ‬
‫[ الرجاء يتلو الخوف ]‬
‫اعلم أن أول األمر خوف والرجاء يتلوه ‪ ،‬فإن تقدمه الرجاء فقد فاته الخوف ‪ ،‬فإن الماضي ال‬
‫يسترجع ‪ ،‬فالتقدم للخوف وقد فاته وذهب عنه ‪ ،‬ومن له بردهه ؟ والرجاء في المحل قد منعه‬
‫سلطانه ‪ ،‬فالمؤمن من تساوى خوفه ورجاؤه ‪ ،‬بحيث أنه ال يفضل واحد صاحبه عنده ‪ ،‬ألنه‬
‫استعمل كل شيء في محله ‪ ،‬وأول نشء اإلنسان ضعف ‪ ،‬ولضعفه يتقدمه الخوف على نفسه ‪،‬‬
‫ثم تكون له القوة بعد هذا الضعف ‪ ،‬فيأتيه الرجاء بقوته ‪ ،‬فإنه يتقوى نظره في العلوم‬
‫والتأويالت ‪ ،‬فيعظم رجاؤه في جانب الحق ‪ ،‬ولكن العاقل ال يتعدى به موطنه ‪ ،‬فإذا خطر له‬
‫من قوة الرجاء ما يوجب استعمال الخوف عند العاقل العارف ‪ ،‬عزل الرجاء عن االنفراد‬
‫بالحكم وأشرك معه الخوف ‪ ،‬فذلك المؤمن ‪ ،‬فال يزال كذلك إلى أن تكمل ذاته الكمال الذي‬
‫ّللا في الورث النبوي ‪ ،‬في هذا الزمان المحمدي الذي أغلق فيه باب نبوة‬ ‫ينتهي إليه أولياء ه‬
‫التشريع والرسالة ‪ ،‬وبقي باب حكم االختصاص بالعلوم اإللهية واألسرار‬

‫ص ‪538‬‬

‫‪538‬‬
‫ّللا ممن استوى خوفه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وأول داخل عليه أهل الذكر ‪ ،‬جعلنا ه‬ ‫مفتوحا ‪ ،‬يدخل عليه أهل ه‬
‫ورجاؤه في الحياة الدنيا إلى حين موته عند االحتضار ‪ ،‬فيغلب رجاؤه على خوفه« قُ ْل ه َْل‬
‫ت لَي َ‬
‫ْس‬ ‫يَ ْست َ ِوي الَّذِينَ يَ ْعلَ ُمونَ َوالَّذِينَ ال يَ ْعلَ ُمونَ »وهو قوله تعالى ‪َ (:‬ك َم ْن َمثَلُهُ فِي ُّ‬
‫الظلُما ِ‬
‫ج ِم ْنها )‬‫خار ٍ‬
‫بِ ِ‬
‫باّلل أسنى الكرامات ‪ ،‬ألن موطنه الدنيا وهو المطلوب ‪ ،‬وبه تقع المنفعة ولو لم‬ ‫اعلم أن العلم ه‬
‫يعمل به ‪ ،‬فالعلماء هم اآلمنون من التلبيس ‪ ،‬فإن العلم أسنى تحفة وأعظم كرامة ‪ ،‬ولو قامت‬
‫عليك به الحجة ‪ ،‬فإنه يجعلك تعترف وال تحاجج ‪ ،‬فإنك تعلم ما لك وما عليك وما له ‪ ،‬وما أمر‬
‫ّللا عليه وسلم أن يطلب منه الزيادة من شيء إال من العلم ‪ ،‬ألن الخير كله‬ ‫ّللا تعالى نبيه صلهى ه‬ ‫ه‬
‫فيه ‪ ،‬وهو الكرامة العظمى ‪ ،‬والبطالة مع العلم أحسن من الجهل مع العمل ‪ ،‬وال أعني بالعلم‬
‫باّلل والدار اآلخرة ‪ ،‬وما تستحقه الدار الدنيا وما خلقت له وألي شيء وضعت ‪ ،‬حتى‬ ‫إال العلم ه‬
‫يكون اإلنسان من أمره على بصيرة حيث كان ‪ ،‬فال يجهل من نفسه وال من حركاته شيئا ‪،‬‬
‫ّللا شقاوة‬ ‫ّللا وهو السعادة ‪ ،‬وإذا أراد ه‬ ‫والعلم صفة إحاطية إلهية ‪ ،‬فهي أفضل ما في فضل ه‬
‫العبد أزال عنه العلم ‪ ،‬فإنه لم يكن العلم له ذاتيا بل اكتسبه ‪ ،‬وما كان مكتسبا فجائز زواله ‪،‬‬
‫ويكسوه حلة الجهل ‪ ،‬فإن عين انتزاع العلم جهل ‪ ،‬وال يبقى عليه من العلم إال العلم بأنه قد‬
‫ّللا تعالى عليه هذا العلم بانتزاع العلم لما تعذب ‪ ،‬فإن الجاهل‬ ‫انتزع عنه العلم ‪ ،‬فلو لم يبق ه‬
‫الذي ال يعلم أنه جاهل فارح مسرور ‪ ،‬لكونه ال يدري ما فاته ‪ ،‬فلو علم أنه قد فاته خير كثير‬
‫يسو‬
‫ما فرح بحاله ولتألم من حينه ‪ ،‬فما تألم إال بعلمه ما فاته أو مما كان عليه فسلبه ‪ ،‬لذلك لم ه‬
‫تعالى بين الذين يعلمون والذين ال يعلمون ‪ ،‬فإنه ما وضع حكما إال ليستعمل في محكوم عليه‬
‫ولو لم يرد استعماله لكان عبثا ‪ ،‬ولو لم يوجد من يستعمل فيه ذلك الحكم ومن يعمل به لكان‬
‫أيضا عبثا وقد أخبر سبحانه وتعالى عباده بشرف العلم حيث وصف به نفسه ‪ ،‬فبالعلم الشرف‬
‫التام ‪ ،‬وليس في الصفات أعم تعلقا منه ‪ ،‬لتعلقه بالواجبات والجائزات والمستحيالت ‪ ،‬وغيره‬
‫من الصفات ليس كذلك ‪،‬‬
‫واعلم أن الشرف الذي للعلم شرفان ‪ :‬من حيث ذاته ‪ ،‬ومن حيث معلومه ‪،‬‬
‫فالذي له من حيث ذاته ‪ ،‬كونه يوصلك إلى حقيقة الشيء على ما هي عليه ‪ ،‬ويزيل عنك‬
‫أضداده إذا قام بك ‪ ،‬كالجهل بذلك المعلوم والظن والشك والغفلة وما ضاده ‪ ،‬والذي له من‬
‫حيث معلومه فمعلومه يكسبه ذلك الشرف ‪ ،‬فكما أن بعض المعلومات أشرف من بعض ‪،‬‬
‫كذلك بعض العلوم‬

‫ص ‪539‬‬

‫‪539‬‬
‫أشرف من بعض ‪ ،‬فكثير بين من قام به العلم بأوصاف الحق تعالى وأفعاله ‪ ،‬وبين من قام به‬
‫العلم بأن زيدا في الدار وخالدا في السوق ‪ ،‬فكما أنه ليس بين المعلومين مناسبة في الشرف ‪،‬‬
‫ّللا سبحانه وتعالى مدح‬ ‫كذلك العلمان ‪ ،‬فهذا هو الشرف الطارئ على العلم من المعلوم ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫من قامت به صفة العلم وأثنى عليه ‪ ،‬ووصف بها عباده كما وصف نفسه في غير موضع من‬
‫ّللاُ أَنَّهُ ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو َو ْال َمالئِ َكةُ َوأُولُوا ْال ِع ْل ِم قائِما ً ِب ْال ِقس ِ‬
‫ْط‬ ‫ش ِه َد َّ‬
‫الكتاب العزيز ‪ ،‬كقوله تعالى ‪َ (:‬‬
‫)فأخبر تعالى أن العلماء هم الموحدون على الحقيقة ‪ ،‬والتوحيد أشرف مقام ينته إليه ‪ ،‬وليس‬
‫وراءه مقام إال التشبيه والتعطيل ‪ ،‬فمن زلهت قدمه عن صراط التوحيد رسما أو حاال وقع في‬
‫الشرك ‪ ،‬فمن زلت قدمه في الرسمي فهو مؤبد الشقاء ال يخرج من النار أبدا ‪ ،‬ال بشفاعة وال‬
‫بغيرها ‪ ،‬ومن زلت قدمه في الحالي فهو صاحب غفلة ‪ ،‬يمحوها الذكر وما شاكله ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا وعنايته ‪ ،‬وليس الفرع كذلك ‪ ،‬وكقوله أيضا جل‬ ‫بمن ه‬ ‫األصل باق يرجى أن يجبر فرعه ‪ ،‬ه‬
‫علَّ ْمناهُ ِم ْن لَ ُدنَّا ِع ْلما ً )وهو علم اإللهام ‪ ،‬فالعالم أيضا‬ ‫ثناؤه في صاحب موسى عليه السالم( َو َ‬
‫ّللا ِم ْن ِعبا ِد ِه ْالعُلَما ُء )فالعالم صاحب‬ ‫صاحب إلهام وأسرار ‪ ،‬وكقوله تعالى ‪ِ (:‬إنَّما يَ ْخشَى َّ َ‬
‫ّللا العالم‬ ‫الخشية ‪ ،‬وكقوله تعالى ‪َ (:‬وما يَ ْع ِقلُها ِإ َّال ْالعا ِل ُمونَ )فالعالم أيضا صاحب الفهم عن ه‬
‫الرا ِس ُخونَ فِي ْال ِع ْل ِم )فالعالم هو الراسخ الثابت‬ ‫ّللا وتفاصيلها ‪ ،‬وكقوله تعالى ‪َ (:‬و َّ‬ ‫بحكم آيات ه‬
‫الذي ال تزيله الشبه وال تزلزله الشكوك ‪ ،‬لتحققه بما شاهده من الحقائق بالعلم ‪ ،‬وكقوله تعالى‬
‫علَما ُء بَنِي ِإسْرائِي َل )فالعلماء هم الذين علموا الكائنات قبل‬ ‫‪ (:‬أ َ َولَ ْم يَ ُك ْن لَ ُه ْم آيَةً أ َ ْن يَ ْعلَ َمهُ ُ‬
‫ّللا تعالى نبيه‬ ‫وجودها ‪ ،‬وأخبروا بها قبل حصول أعيانها ‪ ،‬وهي الصفة الشريفة التي أمر ه‬
‫ّللا عليه وسلم بالزيادة منها ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ (:‬وقُ ْل َربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلما ً )ولم يقل له ذلك‬ ‫محمدا صلهى ه‬
‫في غيره من الصفات ‪ ،‬وإنما أكثرنا هذا في العلم ‪ ،‬ألن في زماننا قوما ال يحصى عددهم ‪،‬‬
‫غلب عليهم الجهل بمقام العلم ‪ ،‬ولعبت بهم األهواء حتى قالوا ‪ :‬إن العلم حجاب ؛ ولقد صدقوا‬
‫وّللا حجاب عظيم ‪ ،‬يحجب القلب عن الغفلة والجهل وأضداده ‪ ،‬فما‬ ‫في ذلك لو اعتقدوه ‪ ،‬أي ه‬
‫ّللا بالحظ الوافر منها ‪ ،‬وكيف ال يفرح بهذه الصفة ويهجر من أجلها‬ ‫أشرفها من صفة ‪ ،‬حبانا ه‬
‫الكونان ‪ ،‬ولها شرفان كبيران عظيمان ؟‬
‫ّللا سبحانه وصف بها نفسه ‪ ،‬والشرف اآلخر أنه مدح بها أهل خاصته من‬ ‫الشرف الواحد أن ه‬
‫من علينا سبحانه ولم يزل مانها بأن جعلنا ورثة أنبيائه فيها ‪ ،‬فقال‬ ‫أنبيائه ومالئكته ‪ ،‬ثم ه‬

‫ص ‪540‬‬

‫‪540‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬العلماء ورثة األنبياء ] واعلم أن حد العلم وحقيقته المطلقة معرفة‬ ‫صلهى ه‬
‫الشيء على ما هو عليه ‪ ،‬والمفيدة العمل به ‪ ،‬وهو الذي يعطيك السعادة األبدية ‪ ،‬وال تخالف‬
‫فيه ‪ ،‬وكل من ادعى علما من غير عمل به ‪ ،‬فدعواه كاذبة إن تعلق به خطاب للعمل ‪ ،‬وإذا‬
‫تحقق ما أردناه وما أشرنا إليه ‪ ،‬فليقل من شاء ما شاء ‪ ،‬وكل حجة تناقض ما أشرنا إليه‬
‫وّللا غفور رحيم ‪ .‬واعلم أن العلم نور من أنوار‬ ‫ّللا ومغفرة ‪ ،‬ه‬
‫فداحضة ‪ ،‬وعلى قائلها توبة من ه‬
‫ّللا تعالى يقذفه في قلب من أراده من عباده ‪ ،‬قال تعالى( أ َ َو َم ْن كانَ َميْتا ً فَأ َ ْحيَيْناهُ َو َجعَ ْلنا لَهُ‬ ‫ه‬
‫اس )وهو العلم ‪ ،‬وهو معنى قائم بنفس العبد ‪ ،‬يطلعه على حقائق األشياء‬ ‫نُورا ً يَ ْم ِشي ِب ِه ِفي النَّ ِ‬
‫‪ ،‬وهو للبصيرة كنور الشمس للبصر مثال ‪ ،‬بل أتم وأشرف ‪ ،‬وأجناس العلوم كثيرة ‪ :‬منها علم‬
‫النظر وعلم الخبر وعلم النبات وعلم الحيوان وعلم الرصد إلى غير ذلك من العلوم ‪ ،‬ولكل‬
‫جنس من هذه العلوم وأمثالها فصول تقومها وفصول تقسمها ‪ ،‬فلننظر ما نحتاج إليه في أنفسنا‬
‫مما تقترن به سعادتنا ‪ ،‬فنأخذه ونشتغل به ‪ ،‬ونترك ما ال نحتاج إليه احتياجا ضروريا ‪ ،‬مخافة‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬والذي نحتاج إليه من فصول هذه‬ ‫فوت الوقت ‪ ،‬حتى تكون األوقات لنا إن شاء ه‬
‫األجناس فصالن ‪ :‬فصل يدخل تحت جنس النظر وهو علم الكالم ‪ ،‬ونوع آخر يدخل تحت‬
‫جنس الخبر وهو الشرع ‪ ،‬والمعلومات الداخلة تحت هذين النوعين التي نحتاج إليها في‬
‫تحصيل السعادة ثمانية ‪ :‬وهي الواجب والجائز والمستحيل والذات والصفات واألفعال وعلم‬
‫السعادة وعلم الشقاوة ‪ ،‬فهذه الثمانية واجب طلبها على كل طالب نجاة نفسه ‪ ،‬وعلم السعادة‬
‫والشقاوة موقوف على معرفة ثمانية أشياء أيضا ‪ ،‬منها خمسة أحكام ‪ :‬وهي الواجب‬
‫والمحظور والمندوب والمكروه والمباح ‪ ،‬وأصول هذه األحكام ثالثة ال بد من معرفتها ‪:‬‬
‫الكتاب والسنة المتواترة واإلجماع ‪ ،‬ومعرفة هذه األشياء ال بد منها ‪ ،‬والناس في تحصيلها‬
‫على مرتبتين ‪:‬عالم ومقلد لعالم ‪ ،‬فإذا علمها الطالب وصح نظره فيها توجهت عليه وظائف‬
‫التكليف ‪ ،‬فاختصت من اإلنسان بثمانية أعضاء ‪ :‬العين واألذن واللسان واليد والبطن والفرج‬
‫والرجل والقلب ‪ ،‬والعلم بتكليفات هذه األعضاء هو العلم باألعمال القائدة إلى السعادة إذا عمل‬
‫بها ‪ ،‬ولما كان أصل السعادة موافقتنا للحق تعالى فيما أمر به ونهى ‪ ،‬وموافقته التوحيد في‬
‫باطن العبد بنفي األغيار ‪ ،‬فإن أول ما يجب عليك ‪ -‬إن رزقت الموافقة والتوفيق ‪ -‬العلم‬
‫باألمور التي مهدناها ‪ ،‬فإذا علمتها توجه عليك العمل بها ‪ ،‬وإن كان طالب العلم في عمل من‬
‫حيث‬

‫ص ‪541‬‬

‫‪541‬‬
‫طلبه ‪ ،‬ولكن يعطيك العلم العمل بأمور أخر توجه عليك بها خطاب الشارع ‪ ،‬كما أن العلم لم‬
‫يصح طلبه إال بالعلم ‪ ،‬فمن حصل له العلم باألحكام التي يحتاج إليها في مقامه ‪ ،‬فال يكثر مما‬
‫ال يحتاج إليه ‪ ،‬فإن التكثير مما ال حاجة فيه سبب في تضييع الوقت عما هو أهم ‪ ،‬وذلك أنه‬
‫يعول أن يلقي نفسه في درجة الفتيا في الدين ‪ -‬ألن في البلد من ينوب عنه في ذلك ‪-‬‬ ‫من لم ه‬
‫حتى ال يتعين عليه طلب األحكام كلها في حق الغير ‪ ،‬طلب فضول العلم ؛ فيأخذ منها ما توجه‬
‫عليه في الوقت من علم تكليف ذلك الوقت ‪ ،‬والعلم الذي يعم كل إنسان في الحال عند البلوغ‬
‫على أحد أنواعه وشروطه من اإلسالم وسالمة العقل ‪ ،‬علم العقائد بواضحات األدلة وإن كانت‬
‫فطرته تعطي النظر والنجح فيه ‪ ،‬ومن لم يكن ذلك في فطرته ‪ -‬وكان جامدا ‪ -‬يخاف عليه إن‬
‫فتح له باب النظر إليراد شبهات الملحدة ‪ ،‬فمثل هذا يعطى العقائد تقليدا مسلمة ‪ ،‬ويزجر عن‬
‫يعرف بقواعد‬ ‫النظر إن أراده في ذلك العلم بأشد الزجر ‪ ،‬فإذا صحت عقيدته بالعلم أو التقليد ‪ ،‬ه‬
‫عرف ترتب عليه أن يعرف أوقات العبادات ‪ ،‬فإذا دخل وقت الصالة مثال تعين‬ ‫اإلسالم ‪ ،‬فإذا ه‬
‫عليه أن يعرف الطهارة وما تيسر من القرآن ‪ ،‬ثم يعلم الصالة ‪ ،‬ال يحتاج إلى غير هذا ‪ ،‬فإذا‬
‫أدركه رمضان وجب عليه أن ينظر في علم الصيام ‪ ،‬فإن أخذه الحج وجب عليه حينئذ علمه ‪،‬‬
‫فإن كان له مال وحال عليه الحول تعين عليه علم زكاة ذلك الصنف من المال ال غير ‪ ،‬فإن‬
‫باع واشترى وجب عليه علم البيوع والمصارفة ‪ ،‬وهكذا سائر األحكام ال تجب عليه إال عندما‬
‫يتعلق به الخطاب ‪ ،‬فذلك وقت الحاجة إليها ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬يضيق الوقت عن نيل علم ما خوطب‬
‫به في ذلك الوقت ‪ ،‬قلنا ‪:‬‬
‫لسنا نريد عند حلول الوقت المعيهن ‪ ،‬وإنما نريد بقربه بحيث أن يكون له من الزمان قدر ما‬
‫يحصل ذلك العلم المخاطب به ‪ ،‬ويدخل عقيبه وقت العمل ‪ ،‬وهكذا ينبغي أن تقرأ العلوم‬
‫وتنظر المعارف ‪ ،‬ويربط اإلنسان نفسه بما فيه سعادته ونجاته ‪ ،‬وليعمر أوقاته بما هو أولى به‬
‫‪ ،‬وليحذر العبد أن تفتح له خزائن الغفالت تصرفه في المباحات ‪ ،‬وليمألها بالذكر وأشباه‬
‫المندوبات ‪ ،‬وهذا ال يصح له ما لم يعرف الواجبات حتى يسرع إليها ويؤديها ‪ ،‬والمحظورات‬
‫حتى يجتنبها ‪ ،‬والمندوبات حتى يرغب فيها والمكروهات حتى يحفظ نفسه منها ‪ ،‬والمباحات‬
‫باّلل من الغفلة ‪ ،‬وتحقيق هذه المعاني التي هي أم األحكام أصول الفقه ‪ ،‬ويعرف‬ ‫حتى يتعوذ ه‬
‫ّللا‬
‫أيضا ما تحت كل واحد منها على التشخيص مما يلزمه كما تقدم ‪ ،‬ومعرفة هذا من كتاب ه‬

‫ص ‪542‬‬

‫‪542‬‬
‫ّللا عليه وسلم وإجماع العلماء ‪ ،‬فإذا عرفت هذا والزمت العمل‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫تعالى وسنة رسول ه‬
‫فأنت الموفق السعيد فال يستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون « ِإنَّما يَتَذَ َّك ُر أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫ب‬
‫»هذا إعالم بأنهم علموا ثم طرأ النسيان على بعضهم ‪ ،‬فمنهم من استمر عليه حكم النسيان ‪،‬‬
‫ّللا فنسيهم ‪ ،‬ومنهم من ذ هكر فتذ هكر ‪ ،‬وهم أولو األلباب وهم أرباب العقول التي لها ألباب‬ ‫فنسوا ه‬
‫ّللا ‪ ،‬مما ال يقبله‬ ‫‪ ،‬وهو الفهم فيما يرد على العقول ‪ ،‬بما فيها من صفة القبول لما يرد من ه‬
‫العقل الذي ال لب له من حيث فكره ‪ ،‬فمن رزق الفهم فقد رزق العلم ‪ ،‬وما كل من رزق العلم‬
‫كان صاحب فهم ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 10‬‬


‫سعَةٌ إِنهما‬
‫ّللا وا ِ‬
‫ض هِ‬ ‫سنَةٌ َوأ َ ْر ُ‬ ‫ِين أَحْ َ‬
‫سنُوا فِي ه ِذ ِه ال ُّد ْنيا َح َ‬ ‫ِين آ َمنُوا اتهقُوا َربه ُك ْم ِللهذ َ‬‫قُ ْل يا ِعبا ِد الهذ َ‬
‫ب ) ‪( 10‬‬ ‫ون أَجْ َر ُه ْم ِبغَ ْي ِر ِحسا ٍ‬
‫صا ِب ُر َ‬ ‫يُ َوفهى ال ه‬
‫ب »معيهن علمه عندنا ‪،‬‬ ‫ب » اآلية «] ِبغَي ِْر ِحسا ٍ‬ ‫صا ِب ُرونَ أ َ ْج َر ُه ْم ِبغَي ِْر ِحسا ٍ‬
‫[ « ِإنَّما يُ َوفَّى ال َّ‬
‫ّللا مقيد معلوم ‪ ،‬فاألجور المقيدة عندنا من عشر إلى سبعمائة ضعف ‪ ،‬والصبر يعم‬ ‫وعند ه‬
‫جميع األعمال ‪ ،‬ألنه حبس النفس على األعمال المشروعة ‪ ،‬فلهذا لم يأخذه المقدار ‪ ،‬واألعمال‬
‫تأخذها المقادير ‪ ،‬فعلى قدر ما يقام فيه المكلهف من األعمال إلى حين موته ‪ ،‬فهو يحبس نفسه‬
‫عليها ‪ ،‬حتى يصح له حال الصبر واسم الصابر ‪ ،‬فيكون أجره غير معلوم وال مقدهر عنده‬
‫ّللا على طاعته ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن الصابرين لما حبسوا أنفسهم مع ه‬ ‫جملة واحدة ‪ ،‬وإن كان معلوما عند ه‬
‫ّللا جزاءهم على ذلك من غير توقيت ‪،‬‬ ‫وعند وقوع الباليا والرزايا بهم من غير توقيت ‪ ،‬جعل ه‬
‫ب »فما وقهت لهم فإنهم لم يوقهتوا ‪ ،‬فع هم صبرهم‬ ‫صا ِب ُرونَ أ َ ْج َر ُه ْم ِبغَي ِْر ِحسا ٍ‬
‫فقال «‪ِ :‬إنَّما يُ َوفَّى ال َّ‬
‫جميع المواطن التي يطلبها الصبر ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 11‬إلى ‪] 14‬‬


‫ُون أ َ هو َل ا ْل ُم ْ‬
‫س ِل ِم َ‬
‫ين ( ‪) 12‬‬ ‫ِين ) ‪َ ( 11‬وأ ُ ِم ْرتُ ِأل َ ْن أَك َ‬ ‫قُ ْل ِإ ِنّي أ ُ ِم ْرتُ أ َ ْن أ َ ْعبُ َد ه َ‬
‫ّللا ُم ْخ ِلصا لَهُ ال ّد َ‬
‫ّللا أ َ ْعبُ ُد ُم ْخ ِلصا لَهُ دِي ِني ) ‪( 14‬‬
‫يم ( ‪ ) 13‬قُ ِل ه َ‬ ‫َذاب يَ ْو ٍم ع َِظ ٍ‬
‫صيْتُ َر ِبّي ع َ‬ ‫ع َ‬ ‫خاف ِإ ْن َ‬ ‫قُ ْل ِإ ِنّي أ َ ُ‬
‫وهو ما تعبهده به في هذا الموضع‪.‬‬

‫ص ‪543‬‬

‫‪543‬‬
‫[سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 15‬إلى ‪] 17‬‬
‫يه ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة أَال‬
‫س ُه ْم َوأ َ ْه ِل ِ‬
‫س ُروا أ َ ْنفُ َ‬ ‫ين الهذ َ‬
‫ِين َخ ِ‬ ‫س ِر َ‬ ‫شئْت ُ ْم ِم ْن دُو ِن ِه قُ ْل ِإ هن ا ْلخا ِ‬‫فَا ْعبُدُوا ما ِ‬
‫ف‬ ‫ظلَ ٌل ذ ِلكَ يُ َخ ّ ِو ُ‬ ‫ظلَ ٌل ِم َن النه ِار َو ِم ْن تَحْ تِ ِه ْم ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 15‬لَ ُه ْم ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم ُ‬ ‫ران ا ْل ُمبِ ُ‬
‫س ُ‬ ‫ذ ِلكَ ُه َو ا ْل ُخ ْ‬
‫غوتَ أ َ ْن يَ ْعبُدُوها َوأَنابُوا إِلَى ه ِ‬
‫ّللا لَ ُه ُم‬ ‫ِين اجْ تَنَبُوا ال ه‬
‫طا ُ‬ ‫ون ( ‪َ ) 16‬والهذ َ‬ ‫ّللاُ بِ ِه ِعبا َدهُ يا ِعبا ِد فَاتهقُ ِ‬ ‫ه‬
‫ش ْر ِعبا ِد ) ‪( 17‬‬ ‫ا ْلبُشْرى فَبَ ِ ّ‬
‫اإلنسان ما دام حيا إذا كان كافرا يرجى له اإلسالم ‪ ،‬وإذا كان مسلما يخاف عليه الكفر ‪ ،‬فإن‬
‫شر ‪ ،‬ومع البشرى يرتفع الخوف لصدق المخبر ‪،‬‬ ‫الدنيا ما هي دار طمأنينة لمخلوق ما لم يب ه‬
‫ويبقى الحكم للحياء والخشوع ‪ ،‬والبشرى إظهار عالمة حصولها في البشرة ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 18‬‬


‫ّللاُ َوأُولئِكَ ُه ْم أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫ب‬ ‫سنَهُ أُولئِكَ الهذ َ‬
‫ِين َهدا ُه ُم ه‬ ‫ون أَحْ َ‬
‫ون ا ْلقَ ْو َل فَيَت ه ِبعُ َ‬‫ست َ ِمعُ َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ِين يَ ْ‬
‫) ‪( 18‬‬
‫سنَهُ » اآلية ]‬ ‫[ « الَّذِينَ يَ ْست َ ِمعُونَ ْالقَ ْو َل فَيَت َّ ِبعُونَ أ َ ْح َ‬
‫الَّذِينَ يَ ْست َ ِمعُونَ ْالقَ ْو َل »فهي بشرى من الحق لمن تحقق بهذا السمع ‪ ،‬بأنه من أهل الهداية‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وهي الكرامة الكبرى ‪ ،‬والقول ما بين حسن وأحسن« فَيَتَّبِعُونَ أ َ ْح َ‬
‫سنَهُ‬ ‫والعقل عن ه‬
‫»واالتباع إنما هو فيما حدهه لك في قوله ورسمه ‪ ،‬فتمشي حيث مشى بك ‪ ،‬وتقف حيث وقف‬
‫بك ‪ ،‬وتنظر فيما قال لك انظر ‪ ،‬وتسلم فيما قال لك سلهم ‪ ،‬وتعقل فيما قال لك اعقل ‪ ،‬وتؤمن‬
‫فيما قال لك آمن ‪ ،‬فإن اآليات اإللهية الواردة في الذكر الحكيم متنوعة ‪ ،‬وتنوع لتنوعها وصف‬
‫المخاطب ‪ ،‬فمنها آيات لقوم يتفكرون ‪ ،‬وآيات لقوم يعقلون ‪ ،‬وآيات لقوم يسمعون ‪ ،‬وآيات‬
‫للمؤمنين ‪ ،‬وآيات للعالمين ‪ ،‬وآيات للمتقين ‪ ،‬وآيات ألولي النهى ‪ ،‬وآيات ألولي األلباب ‪،‬‬
‫نزل كل آية وغيرها‬ ‫صل وال تتعد إلى غير ما ذكر بل ه‬ ‫صل كما ف ه‬ ‫وآيات ألولي األبصار ‪ ،‬فف ه‬
‫بموضعها ‪ ،‬وانظر فيمن خاطب بها فكن أنت المخاطب بها ‪ ،‬فإنك مجموع ما ذكر ‪ ،‬فإنك‬
‫المنعوت بالبصر والنهى واللب والعقل والفكر والعلم واإليمان والسمع والقلب ‪ ،‬فاظهر بنظرك‬
‫بالصفة التي نعتك بها في تلك اآلية‬

‫ص ‪544‬‬

‫‪544‬‬
‫ّللا «أُول ِئ َك الَّذِينَ‬
‫الخاصة ‪ ،‬تكن ممن جمع له القرآن فاجتمع عليه ‪ ،‬وتكن من الذين هداهم ه‬
‫ّللاُ »أي وفقهم بما أعطاهم من البيان إلى معرفة الحسن واألحسن ‪ ،‬وبيهن لهم الحسن من‬ ‫هَدا ُه ُم َّ‬
‫ب »بما حفظهم من االستمداد لبقاء‬ ‫ذلك من القبيح ‪ ،‬فشهد لهم الوهاب« َوأُولئِ َك ُه ْم أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫نوره ‪ ،‬فعقلوا ما أردنا ‪ ،‬وهو من لب الشيء المصون بالقشر ‪ ،‬فيعني بأولي األلباب‬
‫المستخرجين لبه األمر المستور بالقشر صيانة له ‪ ،‬فإن العين ال تقع إال على الحجاب ‪،‬‬
‫والمحجوب ألولي األلباب ‪ ،‬فهم الغواصون على خفايا األمور وحقائقها ‪ ،‬المستخرجون‬
‫كنوزها ‪ ،‬والحالهون عقودها ورموزها ‪ ،‬والعالمون بما تقع به اإلشارات في الموضع الذي ال‬
‫تسمح فيه العبارات ‪ ،‬فحسن القول يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ‪ ،‬ويقف بك على‬
‫المعاني الغامضة فيوضحها لك ‪ ،‬وعالمة من علم أحسن القول االتباع لما دل عليه ذلك القول‬
‫‪ ،‬فيقابل الطول بالطول ‪ ،‬هل جزاء اإلحسان إال اإلحسان ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ ) : 39‬آية ‪] 19‬‬


‫علَ ْي ِه َك ِل َمةُ ا ْلعَذا ِ‬
‫ب أ َ فَأ َ ْنتَ ت ُ ْن ِقذُ َم ْن ِفي النه ِار ) ‪( 19‬‬ ‫أ َ فَ َم ْن َح ه‬
‫ق َ‬
‫علَ ْي ِه َك ِل َمةُ ْالعَذا ِ‬
‫ب »أي إذا سقط‬ ‫حق وجب وسقط ‪ ،‬يقال ‪ :‬وجب الحائط إذا سقط« أ َ فَ َم ْن َح َّق َ‬ ‫ه‬
‫ار »خاطب الحق‬ ‫ّللا ورسوله« أ َ فَأ َ ْن َ‬
‫ت ت ُ ْن ِقذُ َم ْن فِي النَّ ِ‬ ‫العذاب على المعذهب به ‪ ،‬وهو الذي آذى ه‬
‫بذلك أكرم المكلفين عليه فإنه ما يبدل القول لديه ‪ ،‬وال يكون عنه إال ما سبق به علمه ‪،‬‬
‫فمشيئته واحدة ‪ ،‬ألنه إذا أسلم فليس من أهل النار ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ‪ ( 39 ) :‬اآليات ‪ 20‬إلى ‪] 21‬‬


‫ّللا ال‬‫هار َو ْع َد ه ِ‬‫ف َم ْبنِيهةٌ تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫ف ِم ْن فَ ْوقِها ُ‬
‫غ َر ٌ‬ ‫غ َر ٌ‬ ‫ِين اتهقَ ْوا َربه ُه ْم لَ ُه ْم ُ‬
‫ل ِك ِن الهذ َ‬
‫ض ث ُ هم‬ ‫سلَ َكهُ يَنابِي َع فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ماء ماء فَ َ‬
‫س ِ‬ ‫ّللا أ َ ْن َز َل ِم َن ال ه‬
‫ّللاُ ا ْل ِميعا َد ( ‪ ) 20‬أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ هن ه َ‬ ‫ف ه‬ ‫يُ ْخ ِل ُ‬
‫صفَ ًّرا ث ُ هم يَجْ عَلُهُ ُحطاما ِإ هن فِي ذ ِلكَ لَ ِذ ْكرى ِألُو ِلي‬ ‫ج ِب ِه َز ْرعا ُم ْخت َ ِلفا أ َ ْلوانُهُ ث ُ هم يَ ِهي ُج فَتَراهُ ُم ْ‬ ‫يُ ْخ ِر ُ‬
‫ب ) ‪( 21‬‬ ‫ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫اعلم أن الماء ماءان ‪ :‬ماء ملطف مقطر في غاية الصفاء والتخليص وهو ماء الغيث ‪ ،‬فإنه‬

‫ص ‪545‬‬

‫‪545‬‬
‫ماء مستحيل من أبخرة كثيفة ‪ ،‬قد أزال التقطير ما كان تعلق به من الكثافة ‪ ،‬والماء اآلخر ماء‬
‫لم يبلغ من اللطافة هذا المبلغ ‪ ،‬وهو ماء العيون واألنهار ‪ ،‬فإنه ينبع من األحجار ممتزجا‬
‫بحسب البقعة التي ينبع بها ويجري عليها ‪ ،‬ويختلف طعمه فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج‬
‫ومنه مر زعاف ‪ ،‬وماء الغيث على حالة واحدة ‪ ،‬ماء نمير خالص سلسال سائغ شرابه ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪]22‬‬


‫ّللا أُول ِئكَ‬ ‫ور ِم ْن َر ِبّ ِه فَ َو ْي ٌل ِل ْلقا ِ‬
‫سيَ ِة قُلُوبُ ُه ْم ِم ْن ِذ ْك ِر ه ِ‬ ‫سال ِم فَ ُه َو عَلى نُ ٍ‬ ‫صد َْر ُه ِل ْ ِ‬
‫ْل ْ‬ ‫ّللاُ َ‬ ‫ح ه‬ ‫أ َ فَ َم ْن ش ََر َ‬
‫ين ( ‪) 22‬‬ ‫ضال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫فِي َ‬
‫ْالم ‪ » . . .‬اآلية ]‬ ‫إلس ِ‬ ‫ص ْد َرهُ ِل ْ ِ‬‫ّللاُ َ‬ ‫[ « أ َ فَ َم ْن ش ََر َح َّ‬
‫يسمى اْليمان ‪ -‬الذي هو نور ‪ -‬بحكم سرايته في الظاهر وتليينه إياه وانقياد الظاهر له‬
‫ور ِم ْن َر ِبه ِه‬
‫على نُ ٍ‬ ‫ْالم فَ ُه َو َ‬
‫إلس ِ‬ ‫ص ْد َرهُ ِل ْ ِ‬ ‫وألحكامه إسالما ‪ ،‬قال تعالى ‪ «:‬أ َ فَ َم ْن ش ََر َح َّ‬
‫ّللاُ َ‬
‫»فالصدر حقيقة ما يصلح أن يصدر منه األحكام وتتعين منه اآلثار ‪ ،‬كما يقال لمن يصدر منه‬
‫األمر والنهي من األناسي أنه صدر ؛ ولما يتعيهن منه حكم اليمنة واليسرى واألقصى واألدنى‬
‫صدر الدار ‪ ،‬وكذلك يسمى نحر اإلنسان صدرا ألنه يتعين به حكم يمنته ويسرته ‪ ،‬فيسمى‬
‫ظاهر الجوهر اإلنساني المتعلق بروحه الحيوانية صدرا ‪ ،‬باعتبار ما يصدر من األحكام‬
‫الروحانية كالعلوم واألخالق الجميلة المعتدلة ‪ ،‬واألحكام والصفات الجسمانية كالغضب‬
‫والشهوة واألخالق المنحرفة الرذيلة بغلبتها عليه ‪ ،‬وشرحه فتحه وفتقه وإخراجه عن تمام‬
‫أحكام الهوى الشيطانية وظالم الطبيعة الحيوانية ‪ ،‬بعد أن كان هو والروح الحيوانية وجميع‬
‫أحكامهما وصفاتهما رتقا غير متميز ‪ ،‬بل أحكامه مستورة مغلوبة ممتزجة بأحكامها ‪ ،‬وبهذا‬
‫الشرح والفتق المذكور تظهر آثاره ‪ ،‬فتظهر النفس لوامة ‪ ،‬أو تغلب على آثارها فتصير‬
‫مطمئنة ‪ ،‬بعد أن كانت عند غلبة الحيوانية أمارة بالسوء ‪ ،‬فبهذا الشرح والفتق المذكور تقبل‬
‫سراية نور اإليمان ‪ ،‬فيحس بأن له خالقا ‪ ،‬منه مبدؤه وإليه معاده ومنتهاه ‪ ،‬يلزمه االنقياد‬
‫ألوامره وزواجره ‪ ،‬حتى يصير بذلك أهال للرجوع ‪ ،‬فتنقاد النفس وتستسلم ظاهرا وباطنا ‪ ،‬إما‬
‫رغبة فيه أو فيما عنده ‪ ،‬واإلشارة إلى ما قلنا ‪ :‬إن الصدر شرحه معنوي ‪ ،‬ما ورد في حديث‬
‫المعراج أن جبريل نزل ففرج عن صدري ثم غسله ‪ ،‬ثم جاء بطست ممتلئ حكمة فأفرغه في‬
‫صدري ‪ ،‬ولما كان اإليمان والحكمة غير محسوسين يكون محلهما معنويا غير‬

‫ص ‪546‬‬

‫‪546‬‬
‫محسوس ‪ ،‬وتحقيق ذلك ما قررناه ‪ ،‬ويؤكد ذلك وضع الوزر ‪ ،‬الذي معناه إزالة أثر االنحراف‬
‫الذي هو من خصائص الشيطان عنه على أثر ذلك ‪ ،‬وشرح الصدر في سورة ألم نشرح« فَ ُه َو‬
‫ور ِم ْن َر ِبه ِه »من سلك على شرع األنبياء والرسل ‪ ،‬ولم يتعد حدود ما قرروه ‪ ،‬واتقوا‬
‫على نُ ٍ‬ ‫َ‬
‫ّللا ‪ ،‬فهم على نور من ربهم ‪.‬‬
‫ّللا ولزموا األدب مع ه‬ ‫ه‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 23‬إلى ‪] 28‬‬


‫ِين يَ ْخش َْو َن َربه ُه ْم ث ُ هم ت َ ِل ُ‬
‫ين‬ ‫ش ِع ُّر ِم ْنهُ ُجلُو ُد الهذ َ‬ ‫ي ت َ ْق َ‬‫ث ِكتابا ُمتَشا ِبها َمثا ِن َ‬ ‫س َن ا ْل َحدِي ِ‬‫ّللاُ نَ هز َل أَحْ َ‬
‫ه‬
‫ّللاُ فَما لَهُ ِم ْن ها ٍد‬ ‫ّللا يَ ْهدِي بِ ِه َم ْن يَشا ُء َو َم ْن يُ ْ‬
‫ض ِل ِل ه‬ ‫ّللا ذ ِلكَ ُهدَى ه ِ‬ ‫ُجلُو ُد ُه ْم َوقُلُوبُ ُه ْم إِلى ِذ ْك ِر ه ِ‬
‫ون (‬ ‫سبُ َ‬ ‫ين ذُوقُوا ما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْك ِ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫ب يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة َوقِي َل ِلل ه‬ ‫سو َء ا ْلعَذا ِ‬ ‫) ‪( 23‬أ َ فَ َم ْن يَت ه ِقي بِ َوجْ ِه ِه ُ‬
‫ي فِي‬ ‫ون ( ‪ ) 25‬فَأَذاقَ ُه ُم ه‬
‫ّللاُ ا ْل ِخ ْز َ‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫ث ال يَ ْ‬ ‫ذاب ِم ْن َح ْي ُ‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم فَأَتا ُه ُم ا ْلعَ ُ‬‫ب الهذ َ‬ ‫‪َ ) 24‬كذه َ‬
‫اس فِي هذَا ا ْلقُ ْر ِ‬
‫آن‬ ‫ض َر ْبنا ِللنه ِ‬‫ون ) ‪َ ( 26‬ولَقَ ْد َ‬ ‫ذاب ْاآل ِخ َر ِة أ َ ْكبَ ُر لَ ْو كانُوا يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َولَعَ ُ‬
‫ون ) ‪( 27‬‬ ‫ِم ْن ُك ِ ّل َمث َ ٍل لَعَله ُه ْم يَتَذَك ُهر َ‬
‫ون ) ‪( 28‬‬ ‫غ ْي َر ذِي ِع َوجٍ لَعَله ُه ْم يَتهقُ َ‬ ‫قُ ْرآنا ع ََر ِبيًّا َ‬
‫ّللا سبحانه كتابنا هذا وقدسه عن التحريف سماه قرآنا مهموزا ‪ ،‬ولما جمع فيه ما‬ ‫لما طهر ه‬
‫تفرق في سائر الصحف والكتب وجميع ما يحتاج إليه من المعارف والعلوم سماه قرانا بغير‬
‫همز ‪ ،‬ولما أبان به عن الحق المطلوب وحسن نظمه وبالغته وجعله مغايرا لسائر الكتب بما‬
‫حفظه به من التحريف جعله عربيا‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 29‬إلى ‪] 30‬‬


‫يان َمثَال ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫ّلِل بَ ْل‬ ‫سلَما ِل َر ُج ٍل َه ْل يَ ْ‬
‫ست َ ِو ِ‬ ‫ون َو َر ُجال َ‬ ‫س َ‬ ‫ّللاُ َمثَال َر ُجال فِي ِه ش َُركا ُء ُمتَشا ِك ُ‬
‫ب ه‬ ‫ض َر َ‬‫َ‬
‫ون) ‪( 30‬‬ ‫ون ( ‪ ) 29‬إِنهكَ َم ِيّتٌ َوإِنه ُه ْم َم ِيّت ُ َ‬‫أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬

‫ص ‪547‬‬

‫‪547‬‬
‫ّللا عليه وسلم مع الحق سبحانه تعالى مع قطعه بأنه يموت ‪ ،‬فإن‬ ‫انظر إلى أدب الرسول صلهى ه‬
‫ت َو ِإنَّ ُه ْم َم ِيهتُونَ »كيف استثنى لما أتى البقيع ووقف على القبور وسلهم‬ ‫ّللا يقول له ‪ِ «:‬إنَّ َك َم ِيه ٌ‬ ‫ه‬
‫عليهم قال ‪ [ :‬وإنا إن شاء هللا بكم الحقون ] فاستثنى في أمر مقطوع به ‪ ،‬فبقي على األصل‬
‫ّللا تعالى لقوله ‪(:‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬لما أتى في قوله [ الحقون ] باسم الفاعل استثنى امتثاال ألمر ه‬ ‫أدبا مع ه‬
‫ّللاُ )والموت أشرف من القتل ‪ ،‬فإنه صفة‬ ‫ش ْيءٍ ِإ ِنهي فا ِع ٌل ذ ِل َك غَدا ً ِإ َّال أ َ ْن يَشا َء َّ‬ ‫َوال تَقُولَ َّن ِل َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ألن األكابر ال يتميزون بخرق العوائد ‪ ،‬فهم مع الناس عموما‬ ‫األشرف صلهى ه‬
‫في جميع أحوالهم بظواهرهم ‪ ،‬وصحبة الرفيق األعلى أولى ‪ ،‬والرفيق بعبده أرفق ‪ ،‬وهو عليه‬
‫أشفق ‪ ،‬اختار الرفيق ‪ ،‬من أبان الطريق ‪ ،‬وهو بالفضل حقيق ‪ ،‬خيهر فاختار ‪ ،‬ورحل عنا‬
‫وسار ‪ ،‬ليلحق بالمتقدم السابق ‪ ،‬ويلتحق به المتأخر الالحق ‪ ،‬فلعلمه بأنه ال بد من االجتماع ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم لم يمت قلبه]‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫اختار[ تحقيق ‪ :‬كما أنه لم ينم قلب رسول ه‬
‫الخروج من الضيق إلى االتساع‬
‫‪ -‬تحقيق –‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬كنت نبيا وآدم بين الماء والطين ] يريد أن العلم بنبوته حصل له‬ ‫قال صلهى ه‬
‫وآدم بين الماء والطين ‪ ،‬واستصحبه ذلك إلى أن أوجد جسمه ‪ ،‬فلم يشرك كما أشرك أهله حتى‬
‫ّللا على كل أحيانه ‪،‬‬ ‫بعث للناس كافة ‪ ،‬فكان يذكر ه‬
‫ّللا عليه وسلم عن نفسه وهو الصادق [ إنه تنام عينه وال ينام قلبه ] فأخبر عن قلبه‬ ‫وقال صلهى ه‬
‫ّللا يقول له‬ ‫أنه ال ينام عند نوم عينه عن حسه ‪ ،‬فكذلك موته إنما مات حسا كما نام حسا ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وحياته‬ ‫ت »وكما أنه لم ينم قلبه لم يمت قلبه ‪ ،‬فاستصحبته الحياة من حين خلقه ه‬ ‫‪ِ «:‬إنَّ َك َم ِيه ٌ‬
‫إنما هي مشاهدة خالقه دائما ال تنقطع ‪ ،‬فهذه حياته من غير موت معنوي وإن مات حسا ‪.‬‬
‫[ سورة الزمر ( ‪ ) : 39‬اآليات ‪ 31‬إلى ‪] 33‬‬
‫ْق‬
‫صد ِ‬ ‫ّللا َو َكذه َ‬
‫ب بِال ِ ّ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ون ) ‪ ( 31‬فَ َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ْن َكذَ َ‬ ‫ث ُ هم إِنه ُك ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ِع ْن َد َر ِبّ ُك ْم ت َ ْخت َ ِص ُم َ‬
‫ق ِب ِه أُولئِكَ ُه ُم‬ ‫ص هد َ‬
‫ْق َو َ‬
‫صد ِ‬ ‫ين ( ‪َ ) 32‬والهذِي جا َء ِبال ِ ّ‬ ‫س فِي َج َهنه َم َمثْوى ِل ْلكافِ ِر َ‬ ‫ِإ ْذ جا َءهُ أ َ لَ ْي َ‬
‫ون ) ‪( 33‬‬ ‫ا ْل ُمتهقُ َ‬
‫ّللا عليه وسلم في هذه اآلية بالذي جاء بالصدق ‪ ،‬فهو‬ ‫كنهى سبحانه وتعالى عن محمد صلهى ه‬
‫ص َّدقَ بِ ِه »وهو اآلخر الصديق ‪ ،‬فالخبر ال يكون أبدا إال من األول ‪،‬‬ ‫األول الصادق« َو َ‬
‫والتصديق ال يكون أبدا إال من اآلخر ‪ ،‬فالصدق متعلقه الخبر ومحله الصادق ‪ ،‬وليس بصفة‬
‫ألصحاب األدلة ‪ ،‬وال للعلماء الذين آمنوا بما أعطتهم اآليات والمعجزات من األدلة على صدق‬
‫دعواه ‪،‬‬

‫ص ‪548‬‬

‫‪548‬‬
‫فذلك علم ‪ ،‬والصدق نور يظهر على قلب العبد ‪ ،‬يصدق به هذا المخبر ‪ ،‬ويكشف بذلك النور‬
‫أنه صدق ‪ ،‬ويرجع عنه برجوع المخبر ‪ ،‬ألن النور يتبع المخبر حيث مشى ‪ ،‬والصدق بالدليل‬
‫ليس هذا حكمه ‪ ،‬إن رجع المخبر لم يرجع لرجوعه ‪ ،‬فإن األحكام المشروعة أخبار إلهية‬
‫يدخلها النسخ ‪ ،‬والتصديق يتبع الحكم ‪ ،‬فيثبت ما دام المخبر يثبته ‪ ،‬ويرفعه ما دام المخبر‬
‫يرفعه ‪ ،‬والمخبر صادق في الحالتين ‪ ،‬ولذلك تمم فقال ‪ «:‬أُولئِ َك ُه ُم ْال ُمتَّقُونَ »المفلحون‬
‫الباقون بهذا الحكم ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 34‬إلى ‪] 42‬‬


‫س َوأ َ الهذِي ع َِملُوا‬ ‫ع ْن ُه ْم أ َ ْ‬ ‫ين ) ‪ِ ( 34‬ليُ َك ِفّ َر ه‬
‫ّللاُ َ‬ ‫سنِ َ‬ ‫ُن ِع ْن َد َر ِبّ ِه ْم ذ ِلكَ َجزا ُء ا ْل ُمحْ ِ‬ ‫لَ ُه ْم ما يَشاؤ َ‬
‫ع ْب َدهُ َويُ َخ ّ ِوفُونَكَ ِبالهذ َ‬
‫ِين‬ ‫كاف َ‬ ‫ّللاُ ِب ٍ‬ ‫س ه‬ ‫ون ( ‪ ) 35‬أ َ لَ ْي َ‬ ‫س ِن الهذِي كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫َويَجْ ِزيَ ُه ْم أَجْ َر ُه ْم ِبأَحْ َ‬
‫ّللاُ‬
‫س ه‬ ‫ّللاُ فَما لَهُ ِم ْن ُم ِض ٍ ّل أ َ لَ ْي َ‬ ‫ّللاُ فَما لَهُ ِم ْن ها ٍد ( ‪َ ) 36‬و َم ْن يَ ْه ِد ه‬ ‫ض ِل ِل ه‬ ‫ِم ْن دُونِ ِه َو َم ْن يُ ْ‬
‫ّللاُ قُ ْل أ َ فَ َرأ َ ْيت ُ ْم‬‫ض لَيَقُولُ هن ه‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫سأ َ ْلت َ ُه ْم َم ْن َخلَ َ‬ ‫قام ) ‪َ ( 37‬ولَئِ ْن َ‬ ‫يز ذِي ا ْنتِ ٍ‬ ‫ِبعَ ِز ٍ‬
‫شفاتُ ض ِ ُّر ِه أ َ ْو أَرا َد ِني ِب َرحْ َم ٍة َه ْل ُه هن‬ ‫ّللاُ ِبض ٍ ُّر َه ْل ُه هن كا ِ‬ ‫ي ه‬ ‫ّللا ِإ ْن أَرا َد ِن َ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫ما ت َ ْدع َ‬
‫ون ) ‪( 38‬‬ ‫علَ ْي ِه يَت َ َو هك ُل ا ْل ُمت َ َو ِ ّكلُ َ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ي ه‬ ‫سبِ َ‬ ‫سكاتُ َرحْ َمتِ ِه قُ ْل َح ْ‬ ‫ُم ْم ِ‬
‫َذاب يُ ْخ ِزي ِه‬ ‫ون ( ‪َ ) 39‬م ْن يَأْتِي ِه ع ٌ‬ ‫ف ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ْو َ‬ ‫عام ٌل فَ َ‬ ‫قُ ْل يا قَ ْو ِم ا ْع َملُوا عَلى َمكانَتِ ُك ْم إِ ِنّي ِ‬
‫س ِه َو َم ْن‬ ‫ق فَ َم ِن ا ْهتَدى فَ ِلنَ ْف ِ‬ ‫اس ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫تاب ِللنه ِ‬ ‫علَ ْيكَ ا ْل ِك َ‬ ‫َذاب ُم ِقي ٌم ( ‪ِ ) 40‬إنها أ َ ْن َز ْلنا َ‬ ‫علَ ْي ِه ع ٌ‬ ‫َويَ ِح ُّل َ‬
‫ين َم ْوتِها َوالهتِي لَ ْم‬ ‫س ِح َ‬ ‫ّللاُ يَت َ َوفهى ْاأل َ ْنفُ َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِب َو ِكي ٍل ( ‪ ) 41‬ه‬ ‫علَ ْيها َوما أ َ ْنتَ َ‬ ‫ض هل فَ ِإنهما يَ ِض ُّل َ‬ ‫َ‬
‫س ًّمى ِإ هن فِي ذ ِلكَ‬ ‫س ُل ْاأل ُ ْخرى ِإلى أ َ َج ٍل ُم َ‬ ‫علَ ْي َها ا ْل َم ْوتَ َويُ ْر ِ‬ ‫سكُ الهتِي قَضى َ‬ ‫نامها فَيُ ْم ِ‬‫ت َ ُمتْ فِي َم ِ‬
‫ون) ‪( 42‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَك ُهر َ‬ ‫َآليا ٍ‬

‫ص ‪550‬‬

‫«‬

‫‪549‬‬
‫ّللا في حياته في دار‬ ‫نامها »وهو من توفاه ه‬ ‫ت ِفي َم ِ‬ ‫س ِحينَ َم ْو ِتها َوالَّ ِتي لَ ْم ت َ ُم ْ‬
‫ّللاُ يَت َ َوفَّى ْاأل َ ْنفُ َ‬
‫َّ‬
‫الدنيا ‪ ،‬أي آتاه من الكشف ما يأتي الميت عند االحتضار ‪ ،‬إذ كانت الوفاة عبارة عن إتيان‬
‫»فاّلل يمسك نفس الذي قضى عليه الموت في النوم‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫علَ ْي َها ْال َم ْو َ‬
‫الموت «فَيُ ْم ِسكُ الَّتِي قَضى َ‬
‫إذا هو نام ( وهي النفس اإلنسانية الناطقة ) « َويُ ْر ِس ُل ْاأل ُ ْخرى »وهي النفس الحيوانية« ِإلى‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُرونَ * » المتفكر ناظر‬
‫س ًّمى » *وهو وقت قبض الروح« ِإ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬ ‫أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫إلى قوة مخلوقة فيصيب ويخطئ ‪ ،‬وإذا أصاب يقبل دخول الشبهة عليه بالقوة التي أفادته‬
‫اإلصابة ‪ ،‬فهو بين البصر والبصيرة ‪ ،‬لم يبق مع البصر وال يخلص للبصيرة ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 43‬إلى ‪] 45‬‬


‫ون ( ‪ ) 43‬قُ ْل ِ ه ِ‬
‫ّلِل‬ ‫ش ْيئا َوال يَ ْع ِقلُ َ‬ ‫شفَعا َء قُ ْل أ َ َولَ ْو كانُوا ال يَ ْم ِلك َ‬
‫ُون َ‬ ‫ّللا ُ‬‫ُون ه ِ‬‫أ َ ِم ات ه َخذُوا ِم ْن د ِ‬
‫ون ) ‪َ ( 44‬و ِإذا ذُ ِك َر ه‬
‫ّللاُ َوحْ َدهُ‬ ‫ض ث ُ هم ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫الشهفاعَةُ َج ِميعا لَهُ ُم ْلكُ ال ه‬
‫ون ( ‪) 45‬‬ ‫ش ُر َ‬ ‫ون ِب ْاآل ِخ َر ِة َو ِإذا ذُ ِك َر الهذ َ‬
‫ِين ِم ْن دُونِ ِه ِإذا ُه ْم يَ ْ‬
‫ست َ ْب ِ‬ ‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫وب الهذ َ‬ ‫ش َمأ َ هزتْ قُلُ ُ‬ ‫ا ْ‬
‫ّللا تعالى لجناب المؤمنين ]‬ ‫[ تحقيق ‪ :‬إيثار ه‬
‫باّلل ‪ ،‬أي انقبضت لما‬ ‫وب الَّذِينَ ال يُؤْ ِمنُونَ بِ ْاآل ِخ َرةِ »وما قال ه‬ ‫ت قُلُ ُ‬‫ّللاُ َو ْح َدهُ ا ْش َمأ َ َّز ْ‬
‫" َوإِذا ذُ ِك َر َّ‬
‫وجدت من ألم نسبة الوحدة هّلل في األلوهية ‪ ،‬ومما يدل على جهلهم بالتوحيد قولهم( أ َ َجعَ َل‬
‫جاب ) « َو ِإذا ذُ ِك َر الَّذِينَ ِم ْن دُونِ ِه ِإذا ُه ْم يَ ْست َ ْب ِش ُرونَ »‪-‬‬ ‫ع ٌ‬ ‫ش ْي ٌء ُ‬‫واحدا ً ِإ َّن هذا لَ َ‬ ‫ْاآل ِل َهةَ ِإلها ً ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬وأن القدرة‬ ‫ّللا إيثار لجناب المؤمنين الذين لم يروا فاعال إال ه‬ ‫تحقيق ‪ -‬هذه اآلية من ه‬
‫الحادثة واألمور الموقوفة على األسباب ال أثر لها في الفعل ‪ ،‬فإن الذين أشركوا جعلوا الشريك‬
‫ّللا وحده رأوا‬ ‫كالوزير هّلل ‪ ،‬معينا على ظهور بعض األفعال الحاصلة في الوجود ‪ ،‬فلما ذكر ه‬
‫أن هذا الذاكر لم يوف األمر حقه ‪ ،‬فأداهم ذلك إلى االشمئزاز ‪ ،‬ألنهم لم يقبلوا توحيد األفعال‬
‫ّللا تعالى‪.‬‬ ‫فذمهم ه‬

‫ص ‪551‬‬

‫‪550‬‬
‫[سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 46‬إلى ‪] 47‬‬
‫ب َوالشهها َد ِة أ َ ْنتَ تَحْ ُك ُم بَ ْي َن ِعبا ِدكَ ِفي ما كانُوا‬ ‫ض عا ِل َم ا ْلغَ ْي ِ‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫فاط َر ال ه‬ ‫قُ ِل الله ُه هم ِ‬
‫الفتَد َْوا بِ ِه ِم ْن‬‫ض َج ِميعا َو ِمثْلَهُ َمعَهُ ْ‬ ‫ِين َظلَ ُموا ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 46‬ولَ ْو أ َ هن ِللهذ َ‬ ‫فِي ِه يَ ْخت َ ِلفُ َ‬
‫ون ) ‪( 47‬‬ ‫سبُ َ‬‫ّللا ما لَ ْم يَكُونُوا يَحْ ت َ ِ‬ ‫ب يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة َوبَدا لَ ُه ْم ِم َن ه ِ‬
‫وء ا ْلعَذا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ُ‬
‫ّللا ما لَ ْم يَ ُكونُوا يَ ْحت َ ِسبُونَ » اآلية ]‬ ‫[ " َوبَدا لَ ُه ْم ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا ما لَ ْم يَ ُكونُوا يَ ْحت َ ِسبُونَ‬
‫البدا هو أن يظهر ما لم يكن ظهر ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ «:‬وبَدا لَ ُه ْم ِمنَ َّ ِ‬
‫»فع هم ‪ ،‬فبدا لكل طائفة تعتقد أمرا ما مما األمر ليس عليه نفي ذلك المعتقد ‪ ،‬وما تعرض في‬
‫اآلية بما انتفى ذلك ‪ ،‬هل بالعجز أو بمعرفة النقيض ؟ وكال األمرين كائن في الدار اآلخرة ففي‬
‫ّللا كذا وكذا ‪ ،‬فإذا انكشف الغطاء ‪ ،‬رأى صورة‬ ‫الهوية فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن ه‬
‫معتقده وهي حق فاعتقدها ‪ ،‬وانحلت العقدة فزال االعتقاد وعاد علما بالمشاهدة ‪ ،‬وبعد احتداد‬
‫البصر ال يرجع كليل النظر ‪ ،‬فيبدو لبعض العبيد باختالف التجلي في الصور عند الرؤية‬
‫ّللا »في هويته« ما لَ ْم‬ ‫خالف معتقده ‪ ،‬ألنه ال يتكرر ‪ ،‬فيصدق عليه في الهوية« َوبَدا لَ ُه ْم ِمنَ َّ ِ‬
‫يَ ُكونُوا يَ ْحت َ ِسبُونَ »فيها قبل كشف الغطاء ‪ ،‬أما في الجزاء فقوله تعالى «‪َ :‬وبَدا لَ ُه ْم ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا ما‬
‫لَ ْم يَ ُكونُوا يَ ْحت َ ِسبُونَ »شائعة في الشقي والسعيد ‪ ،‬ففي السعيد ‪ ،‬فيمن مات على غير توبة وهو‬
‫يقول بإنفاذ الوعيد ‪ ،‬فيغفر له فكان الحكم للمشيئة ‪ ،‬فسبقت بسعادتهم ‪ ،‬فتبين لهم عند ذلك أنهم‬
‫ّللا تعالى عندما يلقاه المؤمنون يستحيون‬ ‫اعتقدوا في ذلك خالف ما هو ذلك األمر عليه ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا من الخير ما لم يكونوا‬ ‫منه لما عاملوه به من المخالفة ألوامره تعالى ‪ ،‬فبدا لهم من ه‬
‫يحتسبون من مكارم األخالق ‪ ،‬فإن األدلة الشرعية أتت بأمور تقرر عندنا منها ‪ :‬أنه يعامل‬
‫عباده باإلحسان ‪ ،‬وعلى قدر ظنهم به ‪ ،‬فإن الحق هو الخير المحض الذي ال شر فيه ‪ ،‬وما‬
‫سنوا ظنكم برب هذه صفته ‪ ،‬وحققوا رجاءكم بمعروف هذه‬ ‫يبدو من الخير إال الخير ‪ ،‬فح ه‬
‫ّللا لقاءهم ‪ ،‬ومع‬ ‫معرفته ‪ ،‬وأما المجرمون فعند ما يلقونه يخافون منه ‪ ،‬فلقوه على كره فكره ه‬
‫هذه الكراهة فال بد من اللقاء للجزاء ‪ ،‬كان الجزاء ما كان ‪ ،‬فإنهم لما استيقظوا من نوم غفلتهم‬
‫‪ ،‬ووصلوا إلى منزل وحطوا عن رحالهم ‪ ،‬طلبوا ما‬

‫ص ‪551‬‬

‫‪551‬‬
‫قصدوه ‪ ،‬فقيل لهم ‪ :‬من أول قدم فارقتموه ‪ ،‬فما ازددتم منه إال بعدا ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬يا ليتنا نرد ‪،‬‬
‫وال سبيل إلى ذلك ‪ ،‬فلهذا وصفوا بالحجاب عن ربهم الذي قصدوه بالتوجه على غير الطريق‬
‫الذي شرع لهم ‪ ،‬فقال تعالى ‪:‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ ) : 39‬اآليات ‪ 48‬إلى ‪] 52‬‬


‫اْل ْن َ‬
‫سان ض ٌُّر‬ ‫س ِْ‬ ‫ُن ( ‪ ) 48‬فَ ِإذا َم ه‬ ‫ستَه ِْزؤ َ‬ ‫حاق ِب ِه ْم ما كانُوا ِب ِه يَ ْ‬
‫سبُوا َو َ‬ ‫س ِيّئاتُ ما َك َ‬ ‫َوبَدا لَ ُه ْم َ‬
‫ون (‬ ‫ي ِفتْنَةٌ َول ِك هن أ َ ْكث َ َر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬‫دَعانا ث ُ هم ِإذا َخ هو ْلنا ُه ِن ْع َمة ِمنها قا َل ِإنهما أُو ِتيتُهُ عَلى ِع ْل ٍم بَ ْل ِه َ‬
‫س ِيّئاتُ ما‬ ‫ون ) ‪ ( 50‬فَأَصابَ ُه ْم َ‬ ‫سبُ َ‬ ‫ع ْن ُه ْم ما كانُوا يَ ْك ِ‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم فَما أ َ ْغنى َ‬
‫‪ ) 49‬قَ ْد قالَ َها الهذ َ‬
‫ين ( ‪) 51‬أ َ َولَ ْم‬ ‫سبُوا َوما ُه ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬ ‫س ِيّئاتُ ما َك َ‬ ‫سيُ ِصيبُ ُه ْم َ‬ ‫ِين َظلَ ُموا ِم ْن هؤ ِ‬
‫ُالء َ‬ ‫سبُوا َوالهذ َ‬ ‫َك َ‬
‫ون ( ‪) 52‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ق ِل َم ْن يَشا ُء َويَ ْقد ُِر إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬ ‫الر ْز َ‬
‫ط ِّ‬ ‫س ُ‬ ‫يَ ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫ّللا يَ ْب ُ‬
‫[ شمول الرحمة ]‬
‫ّللا الرزق لعباده لبغوا‬ ‫يختلف البسط الختالف المحال واألحوال ‪ ،‬فأما في محل الدنيا فلو بسط ه‬
‫في األرض ‪ ،‬فأنزل بقدر ما يشاء ‪ ،‬وأطلق في الجنة البسط لكونها ليست بمحل تعن وال تعد ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 53‬‬


‫ّللا يَ ْغ ِف ُر الذُّنُ َ‬
‫وب َج ِميعا‬ ‫طوا ِم ْن َرحْ َم ِة ه ِ‬
‫ّللا ِإ هن ه َ‬ ‫س َرفُوا عَلى أ َ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم ال ت َ ْقنَ ُ‬ ‫ِين أ َ ْ‬ ‫ِي الهذ َ‬ ‫قُ ْل يا ِعباد َ‬
‫الر ِحي ُم ) ‪( 53‬‬ ‫ور ه‬ ‫ِإنههُ ُه َو ا ْلغَفُ ُ‬
‫عز وجل يقول [ أنا عند ظن‬ ‫ّللا عليه وسلم فيما رواه عن ربه أنه ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ثبت عن رسول ه‬
‫باّلل علما بأنه يعفو ويغفر ويتجاوز ‪ ،‬وليكن داعيك‬ ‫عبدي بي فليظن بي خيرا ] فاجعل ظنك ه‬
‫طوا ِم ْن‬ ‫ِي الَّذِينَ أَس َْرفُوا َ‬
‫على أ َ ْنفُ ِس ِه ْم ال ت َ ْقنَ ُ‬ ‫اإللهي إلى هذا الظن قوله تعالى ‪ «:‬قُ ْل يا ِعباد َ‬
‫وب َج ِميعا ً »فهذه اآلية إشارة إلى عموم الرحمة اإللهية ‪ ،‬وأن المآل‬ ‫ّللا يَ ْغ ِف ُر الذُّنُ َ‬
‫ّللا ِإ َّن َّ َ‬
‫َر ْح َم ِة َّ ِ‬
‫إليها ‪ ،‬فإنه تعالى قالها للمسرفين على أنفسهم ‪ ،‬ولم يخص مسرفا من مسرف ‪ ،‬فقال تعالى‬
‫ِي »فأضافهم إلى نفسه كما أضاف إلى نفسه نفوسهم في خلقها ‪ ،‬فهم عبيد‬ ‫لنبيه« قُ ْل يا ِعباد َ‬
‫العموم ‪،‬‬

‫ص ‪552‬‬

‫‪552‬‬
‫ألنه أضافهم إليه مع كونهم مسرفين ‪ ،‬على اإلطالق في اإلسراف ‪ ،‬ونهاهم أن يقنطوا من‬
‫ّللا باإلضافة إليه ‪ ،‬واإلضافة إليه تشريف« الَّذِينَ‬ ‫ّللا ‪ ،‬فهؤالء العبيد المذكورون ذكرهم ه‬ ‫رحمة ه‬
‫على أ َ ْنفُ ِس ِه ْم »وما ذكر سرفا من سرف ‪ ،‬فع هم جميع حاالت المسرفين في السرف ‪،‬‬ ‫أَس َْرفُوا َ‬
‫واإلسراف خروج عن الحد والمقدار ‪ ،‬فأسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود سيدهم ‪ ،‬وجاء‬
‫باالسم الناقص الذي يعم كل مسرف مع إضافة العباد إليه ‪ ،‬ألنهم عباده ‪ ،‬وكفى شرفا شرف‬
‫ّللا »فإن الذي أزاغكم إصبع الرحمن ‪ ،‬فإن قلب‬ ‫طوا ِم ْن َر ْح َم ِة َّ ِ‬ ‫ّللا تعالى« ال ت َ ْقنَ ُ‬
‫اإلضافة إلى ه‬
‫ّللا للرحمة خلقكم ولهذا تسمى بالرحمن ‪،‬‬ ‫العبد بين إصبعي الرحمن يقلبه كيف يشاء ‪ ،‬فإن ه‬
‫واستوى به على العرش ‪ ،‬وأرسل أكمل الرسل وأجلهم قدرا وأعمهم رسالة رحمة للعالمين ‪،‬‬
‫ّللا وسعت كل شيء ‪ ،‬وأنتم من األشياء ‪ ،‬فنهاك عن القنوط ‪ ،‬وما نهاك عنه يجب‬ ‫ورحمة ه‬
‫عليك االنتهاء عنه ‪ ،‬ثم أخبر وخبره صدق ال يدخله نسخ ‪ ،‬فإنه لو دخله نسخ لكان كذبا ‪،‬‬
‫وب َج ِميعا ً »وصف ه‬
‫ّللا الذنوب بالمغفرة‬ ‫ّللا يَ ْغ ِف ُر الذُّنُ َ‬
‫ّللا محال ‪ ،‬فقال ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬ ‫والكذب على ه‬
‫ّللا وكرمه على عبيده ‪ ،‬فهو يسترها‬ ‫وهي الستر ‪ ،‬وما وصفها بذهاب العين ليظهر فضل ه‬
‫بثوب الحسن الذي يكسوها به ‪ ،‬ألنه تعالى ال يرد ما أوجده إلى عدم ‪ ،‬بل يوجد على الدوام وال‬
‫يعدم ‪ ،‬فالقدرة فعالة دائما ‪ ،‬فهو ال يمحو الذنوب بل يبدلها بالحسنى ‪ ،‬فيكسو الذنب حلة الحسن‬
‫‪ ،‬وهو هو بعينه ‪ ،‬واعلم أن الذنوب من حكم االسم اآلخر ‪ ،‬ألن ذلك األمر بمنزلة الذنب من‬
‫الرأس ‪ ،‬متأخرة عنه ‪ ،‬ألن أصله طاعة ‪ ،‬فإنه ممتثل للتكوين إذ قيل له كن ‪ ،‬فما وجد إال‬
‫مطيعا ‪ ،‬ثم عرض له بعد ذلك مخالفة األمر المسمى ذنبا ‪ ،‬فأشبه الذنب في التأخر ‪ ،‬والعرض‬
‫ال بقاء له ‪ ،‬وإن كان له حكم في حال وجوده ولكن يزول ‪ ،‬فهذا يدلك على أن المآل إلى‬
‫ّللا ‪ ،‬ولو بعد حين ‪ ،‬ثم إن للذنب من معنى الذنب صفتين شريفتين ‪ ،‬إذا علمها‬ ‫السعادة إن شاء ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وذلك أن ذنب الدابة له صفتان شريفتان ‪ :‬ستر عورتها ‪،‬‬ ‫اإلنسان عرف منزلة الذنب عند ه‬
‫ّللا ومغفرته ‪ ،‬وشبه ذلك مما ال‬ ‫وبه تطرد الذباب عنها بتحريكها إياه ‪ ،‬وكذلك الذنب فيه عفو ه‬
‫يشعر به ‪ ،‬م هما يتضمنه من األسماء اإللهية يطرد عن صاحبه أذى االنتقام والمؤاخذة ‪ ،‬وهما‬
‫بمنزلة الذباب الذي يؤذي الدابة ‪،‬‬
‫ّللا بقوم يذنبون فيغفر لهم ] ولم يقل فيعاقبهم‬ ‫قال تعالى في الحديث القدسي [ لو لم تذنبوا لجاء ه‬
‫‪ ،‬فغلهب المغفرة وجعل لها الحكم ‪ ،‬فقال ‪ «:‬إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا يَ ْغ ِف ُر الذُّنُ َ‬
‫وب َج ِميعا ً »وما خص‬

‫ص ‪553‬‬

‫‪553‬‬
‫ذنبا من ذنب ‪ ،‬كما لم يخص إسرافا من إسراف ‪ ،‬كما لم يخص في إرسال محمد صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم عالما من عالم ‪ ،‬فكما جاء بالمغفرة والرحمة في حق التائب وصاحب العمل‬
‫ّللا تعالى‬ ‫الصالح ‪ ،‬جاء بهما في حق المسرفين الذين لم يتوبوا ‪ ،‬ونهاهم عن القنوط ‪ ،‬وما قرن ه‬
‫مغفرته هنا حين أطلقها بتوبة وال عمل صالح ‪ ،‬وأكد ذلك بقوله« َج ِميعا ً »مع ارتفاع القنوط أو‬
‫مع وجوده ‪ ،‬فما أبقى شيئا من الذنوب ‪ ،‬فال يتسرمد العذاب ‪ ،‬وهذا عموم رحمة وعفو ومغفرة‬
‫ّللا ال يَ ْغ ِف ُر أ َ ْن يُ ْش َر َك ِب ِه )‬
‫‪ ،‬وهو خبر ال يدخله النسخ ‪ ،‬فيجمع بين قوله هذا وبين قوله( ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم يحكم عليه إصبع الرحمن فيئول إلى الرحمن ‪ ،‬وأمور‬ ‫*فيؤاخذ على الشرك ما شاء ه‬
‫أخر من الزيغ مما دون الشرك يغفر منها ما يغفر بعد العقوبة ‪ ،‬وهم أهل الكبائر الذين‬
‫يخرجون من النار بالشفاعة بعد ما رجعوا حمما ‪ ،‬مع كونهم ليسوا بمشركين ‪ ،‬واإليمان بذلك‬
‫واجب ‪ ،‬ومنها ما يغفر ابتداء من غير عقوبة ‪ ،‬فال بد من المآل إلى الرحمة ‪ ،‬ولو قال تعالى‬
‫ّللا قد تكون المغفرة قبل األخذ‬ ‫هنا ‪ :‬إن الرحمن لم يعذب أحدا من المسرفين ‪ .‬فلما جاء باالسم ه‬
‫ّللا بقوله« ِإنَّهُ ُه َو »فجاء بالضمير الذي يعود عليه« ْالغَفُ ُ‬
‫ور‬ ‫وقد تكون بعد األخذ ‪ ،‬ولذلك ختم ه‬
‫الر ِحي ُم »‬
‫َّ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬من كونه سبقت رحمته غضبه ‪ ،‬فبالغ وما خص إسرافا من إسراف وال دارا‬
‫من دار ‪ ،‬فال بد من شمول الرحمة والمغفرة على من أسرف على نفسه ‪ ،‬فالذي غفر هو‬
‫الغفور الرحيم لذاته ‪ ،‬فإنه جاء باأللف والالم للشمول في عمارة الدارين ‪ ،‬فال بد من شمول‬
‫الرحمة ‪ ،‬وجاء بالرحيم آخرا أي مآلهم وإن أخذوا إلى الرحمة ‪ ،‬فجمع الحق لهؤالء العبيد‬
‫ّللا ‪ ،‬بين شرف اإلضافة‬ ‫الذين أسرفوا على أنفسهم ‪ ،‬الذين نهاهم سبحانه أن يقنطوا من رحمة ه‬
‫إليه وبشرهم أنه يغفر الذنوب جميعا ‪ ،‬ولم يعين وقتا ‪ ،‬فقد تكون المغفرة سابقة لبعض العبيد ‪،‬‬
‫الحقة لبعض العبيد ‪ ،‬هذا إذا قصد العبد فعل الذنب معتقدا أنه ذنب ‪ ،‬فكيف حال من لم يتعمد‬
‫ّللا من المؤمنين ‪ ،‬فإنهم ال‬ ‫إتيان الذنب ؟ ومن حكم الرحمة اجترأ من اجترأ على مخالفة أوامر ه‬
‫ّللا‬
‫يقنطون من رحمة ه‬
‫الر ِحي ُم »لما كان عذر العالم مقبوال في نفس األمر ‪ ،‬لكونهم‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ِ «-‬إنَّهُ ُه َو ْالغَفُ ُ‬
‫ور َّ‬
‫ّللا مآل الجميع إلى الرحمة ‪ ،‬فهو الغفور لما ستر من ذلك‬ ‫مجبورين في اختيارهم ‪ ،‬لذلك جعل ه‬
‫عن قلوب من لم يعلمه بصورة األمر ‪ ،‬رحمة به ألنه الرحيم في غفرانه ‪ ،‬لعلمه بأن مزاجه ال‬
‫يقبل‬
‫[ تحقيق ‪ :‬طمع إبليس في شموله بالرحمة ]‬
‫ّللا لزاد‬ ‫ّللا من عين المنة ‪ ،‬ولو قنط من رحمة ه‬ ‫‪-‬تحقيق ‪ -‬هذا وأمثاله أطمع إبليس في رحمة ه‬
‫عصيانه عصيانا ‪ ،‬وإن كانت‬

‫ص ‪554‬‬

‫‪554‬‬
‫دار النار مسكنه ألنه من أهلها ‪ ،‬وإن حارت عليه أوزار من اتبعه ممن هو من أهل النار ‪ ،‬فما‬
‫ّللا ال انقطاع له ‪ ،‬ألنه خارج عن الجزاء الوفاق‬ ‫حمل إال ما هو منقطع بالغ إلى أجل ‪ ،‬وفضل ه‬
‫ّللا ال تخص محال من محل وال دارا من دار ‪ ،‬بل وسعت كل شيء ‪ ،‬وأكثر من هذا‬ ‫‪ ،‬ورحمة ه‬
‫اإلفصاح اإللهي في مآل عباده إلى الرحمة ما يكون ‪ ،‬مع عمارة الدارين الجنة وجهنم ‪ ،‬وأن‬
‫ّللا ال مانع له ‪ ،‬وإنما االسم المانع إنما‬
‫لكل واحد منهما مألها ‪ ،‬ال يخرجون منها ‪ ،‬فعطاء ه‬
‫متعلقه أن نعيم زيد ممنوع عن عمرو ‪ ،‬كما أن نعيم عمرو ممنوع عن زيد ‪ ،‬فهذا حكم المانع‬
‫ال أنه يمنع شمول الرحمة ‪ ،‬واإليمان يقطع بصدق هذا القول الذي جاء في هذه اآلية ‪ ،‬ولكن ال‬
‫يظهر حكمه مشاهدة عين إال في المسرفين وهم المذنبون ‪ ،‬فكأنه تعالى قال لهم ‪:‬‬
‫اعصوا حتى تعرفوا ذوقا صدق قولي في مغفرتي ؛ وإذا كان أمير المؤمنين المأمون يقول ‪:‬‬
‫لو علم الناس حبي في العفو لتقربوا إلي بالجرائم ‪ ،‬وهو مخلوق ‪ ،‬فما ظنك بالكريم المطلق‬
‫ّللا التوبة ‪ ،‬وإياك والدعوى ‪،‬‬
‫ّللا لهم من غير توبة ‪ ،‬وث هم قوم يعطيهم ه‬‫الكرم ؟ فث هم قوم يغفر ه‬
‫فحيث كانت الدعوى كان االختبار ‪ ،‬ومن وصف نفسه بأمر توجه عليه االختبار ‪ ،‬وإذا ادعيت‬
‫فليكن دعواك بحق ‪ ،‬وانتظر البالء أي االختبار ‪ ،‬وإن لم تدع فهو أولى بك ‪.‬‬
‫عم بالغفران أصحاب الذنوب *** بعد أخذ وابتداء للعموم‬
‫غير أن األمر قد قسمه *** بين سكنى في جنان وجحيم‬
‫وكال الصنفين في رحمته *** في التذاذ دائم فيه مقيم‬
‫زمهرير عند محرور جدى *** » ‪« 1‬وحرور عند مقرور نعيم‬
‫ليكون الكل في رحمته *** إنه قال هو البر الرحيم‬
‫فقد يكون غفرانه ابتداء ‪ ،‬وبعد أخذ ‪ ،‬وهذا يجب اإليمان به ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 54‬إلى ‪] 56‬‬


‫ون ( ‪َ ) 54‬وات ه ِبعُوا أَحْ َ‬
‫س َن‬ ‫ص ُر َ‬‫ذاب ث ُ هم ال ت ُ ْن َ‬ ‫س ِل ُموا لَهُ ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن يَأْتِيَ ُك ُم ا ْلعَ ُ‬
‫َوأَنِيبُوا ِإلى َر ِبّ ُك ْم َوأ َ ْ‬
‫ون ( ‪ ) 55‬أ َ ْن تَقُو َل نَ ْف ٌ‬
‫س‬ ‫ما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْي ُك ْم ِم ْن َر ِبّ ُك ْم ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن يَأْتِيَ ُك ُم ا ْلعَ ُ‬
‫ذاب بَ ْغتَة َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْ‬
‫شعُ ُر َ‬
‫ين) ‪( 56‬‬ ‫اخ ِر َ‬‫س ِ‬ ‫ّللا َو ِإ ْن ُك ْنتُ لَ ِم َن ال ه‬ ‫ب هِ‬ ‫س َرتى عَلى ما فَ هر ْطتُ ِفي َج ْن ِ‬ ‫يا َح ْ‬
‫_________________________‬
‫) ‪( 1‬جدى ‪ :‬عطاء‪.‬‬

‫‪555‬‬
‫ّللا ]‬
‫[ جنب ه‬
‫س يا َحس َْرتى »اآلية ‪ ،‬فأنث ‪،‬‬ ‫النفس عند العرب تذكر وتؤنث ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ «:‬أ َ ْن تَقُو َل نَ ْف ٌ‬
‫ْت بِها )بتاء مفتوحة خطاب‬ ‫فقال( بَلى قَ ْد جا َءتْ َك )بكاف مكسورة خطاب المؤنث( آياتِي فَ َكذَّب َ‬
‫ّللا »فتعلم ما فاتها‬ ‫ب َّ ِ‬ ‫طتُ فِي َج ْن ِ‬ ‫على ما فَ َّر ْ‬ ‫س يا َحس َْرتى َ‬ ‫المذكر والعين واحدة «أ َ ْن تَقُو َل نَ ْف ٌ‬
‫من اإليمان بالرسول واتباع سنهته ‪ ،‬فإنه إذا كانت الصورة التي يتجلى فيها الحق هي ظلة غمام‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ومما يدل على ذلك‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وجنبها سنة رسول ه‬ ‫الشريعة ‪ ،‬فرأسها كتاب ه‬
‫سنَ‬ ‫سنَ ما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْي ُك ْم ِم ْن َر ِبه ُك ْم )مع قوله في أثناء السورة( َّ‬
‫ّللاُ ن ََّز َل أ َ ْح َ‬ ‫قوله تعالى ( َوات َّ ِبعُوا أ َ ْح َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ألنه ال ينطق عن الهوى إن‬ ‫ّللا وكذا سنة رسوله صلهى ه‬ ‫ث )فعلم أنه كتاب ه‬ ‫ْال َحدِي ِ‬
‫ّللا عليه وسلم حذر‬ ‫هو إال وحي يوحى ‪ ،‬فلما مهد األمر بالمتابعة لكتابه وسنة رسوله صلهى ه‬
‫ّللا »وذلك‬ ‫ب َّ ِ‬ ‫طتُ فِي َج ْن ِ‬ ‫على ما فَ َّر ْ‬ ‫من إتيان عذابه قبل ذلك ومن قول النفس« يا َحس َْرتى َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ .‬والجنب جنبان ‪ :‬جنب حسي‬ ‫كالصريح في أن الجنب هو سنة رسوله صلهى ه‬
‫ّللا بن سالم‬ ‫ّللا الحكيم الترمذي بسنده إلى عبد ه‬ ‫وجنب معنوي حقيقي ‪ ،‬وقد روى أبو عبد ه‬
‫ّللا معه على العرش ‪ ،‬وذلك يتخرج‬ ‫ّللا عليه وسلم يجلسه ه‬ ‫ّللا عنه ‪ ،‬أن النبي صلهى ه‬ ‫رضي ه‬
‫ّللا تعالى فيها ظلة غمامة ‪ ،‬وهي أنوار آياته ‪ ،‬وفي تلك الصورة‬ ‫على أن الصورة التي يتجلى ه‬
‫ّللا وسنة‬ ‫ّللا عليه وسلم يتجلى ألمته في ظل سنته ‪ ،‬وكتاب ه‬ ‫يتجلى على العرش ‪ ،‬ونبينا صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فمن‬ ‫ّللا ‪ ،‬محمد رسول ه‬ ‫ّللا عليه وسلم ال يفترقان ‪ ،‬كما ال تفارق ال إله إال ه‬ ‫رسوله صلهى ه‬
‫هاهنا صحت المجالسة له مع ربه على عرشه ‪ ،‬ووضح بهذا حسرة النفوس التي شقيت‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ألنها تشهد هنالك حقيقة معية ربه له تعالى‬ ‫بمخالفته على تفريطها في جنب ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫ومجالسته ‪ .‬وألنهم كانوا يسخرون من الذين آمنوا في اتباعهم لرسوله صلهى ه‬
‫اخ ِرينَ »وبقولها ‪:‬‬ ‫س ِ‬ ‫أردفت حسرتها بقولها« َوإِ ْن ُك ْنتُ لَ ِمنَ ال َّ‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 57‬إلى ‪] 58‬‬


‫ذاب لَ ْو أ َ هن ِلي ك هَرة‬ ‫ين ( ‪ ) 57‬أ َ ْو تَقُو َل ِح َ‬
‫ين ت َ َرى ا ْلعَ َ‬ ‫أ َ ْو تَقُو َل لَ ْو أ َ هن ه َ‬
‫ّللا َهدانِي لَ ُك ْنتُ ِم َن ا ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ين ) ‪( 58‬‬ ‫س ِن َ‬ ‫فَأَك َ‬
‫ُون ِم َن ا ْل ُمحْ ِ‬
‫ّللا عليها بقوله‪:‬‬ ‫فرد ه‬

‫ص ‪556‬‬

‫‪556‬‬
‫[سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 59‬إلى ‪] 60‬‬
‫ين ( ‪َ ) 59‬ويَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ت َ َرى‬ ‫ست َ ْكبَ ْرتَ َو ُك ْنتَ ِم َن ا ْلكا ِف ِر َ‬ ‫بَلى قَ ْد جا َءتْكَ آيا ِتي فَ َكذه ْبتَ ِبها َوا ْ‬
‫ين ) ‪( 60‬‬ ‫س فِي َج َهنه َم َمثْوى ِل ْل ُمت َ َك ِبّ ِر َ‬ ‫س َو هدةٌ أ َ لَ ْي َ‬ ‫علَى ه ِ‬
‫ّللا ُو ُجو ُه ُه ْم ُم ْ‬ ‫ِين َكذَبُوا َ‬‫الهذ َ‬
‫ّللا تعالى ذلك دواء لألرواح ‪ ،‬لتقف مع ضعف مزاجها‬ ‫هذا مآل المتكبرين وصفتهم ‪ ،‬ذكر ه‬
‫األقرب في ظهور عينها وهو البدن ‪ ،‬وال تظهر في قوتها األصلية التي لها من النفخ اإللهي ‪،‬‬
‫ّللا بما ذكر من وصف المتكبرين‬ ‫فخوفها ه‬ ‫فإنها إن فعلت ذلك لم يكن شيء أشد تكبرا منها ‪ ،‬ه‬
‫ومآلهم واسوداد وجوههم ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 61‬إلى ‪] 62‬‬


‫ق ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْي ٍء‬ ‫ّللاُ خا ِل ُ‬
‫ون ( ‪ ) 61‬ه‬ ‫سو ُء َوال ُه ْم يَحْ َزنُ َ‬‫س ُه ُم ال ُّ‬ ‫ِين اتهقَ ْوا ِب َم َ‬
‫فازتِ ِه ْم ال يَ َم ُّ‬ ‫َويُنَ ِ ّجي ه‬
‫ّللاُ الهذ َ‬
‫ش ْي ٍء َو ِكي ٌل ) ‪( 62‬‬ ‫َو ُه َو عَلى ُك ِ ّل َ‬
‫صل وأعلم وقدر‬ ‫وقد بين تعالى ما خلق باآللة وبغير اآللة ‪ ،‬وبكن وبيده وبيديه وبأيد ‪ ،‬وف ه‬
‫وأوجد وجمع ووحد ‪ ،‬فقال ‪ :‬إني ونحن وأنا وإنا ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 63‬‬


‫ون ) ‪( 63‬‬ ‫س ُر َ‬ ‫ّللا أُولئِكَ ُه ُم ا ْلخا ِ‬
‫ت هِ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِبآيا ِ‬‫ض َوالهذ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫لَهُ َمقا ِلي ُد ال ه‬
‫النكاح المقالد ‪ ،‬واإلقليد الذي يكون به الفتح ‪ ،‬فيظهر ما في خزائن الجود ‪ ،‬ولما كان وجود‬
‫هار ) *و( يُ ْغ ِشي اللَّ ْي َل النَّ َ‬
‫هار ) *قال‬ ‫العالم عن نكاح زماني ليلي ونهاري( يُو ِل ُج اللَّ ْي َل فِي النَّ ِ‬
‫ض » *وهو المنكوح ‪ ،‬فمن عال من‬ ‫ت » *وهو الناكح« َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫تعالى ‪ «:‬لَهُ َمقا ِلي ُد ال َّ‬
‫هذين الزوجين فله الذكورية وهو السماء ‪ ،‬ومن سفل من هذين الزوجين فله األنوثة وهو‬
‫األرض ‪ ،‬ونكاحهما المقالد ‪ ،‬ويظهر عن ذلك األرواح الفاعلة والجثث الطبيعية القابلة‬
‫ّللا أُولئِ َك ُه ُم ْالخا ِس ُرونَ »‪.‬‬‫ت َّ ِ‬ ‫لالنفعال المنفعلة« َوالَّذِينَ َكفَ ُروا ِبآيا ِ‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 64‬إلى ‪]65‬‬


‫ِين ِم ْن قَ ْب ِلكَ لَئِ ْن‬
‫ي إِلَ ْيكَ َوإِلَى الهذ َ‬ ‫ون ) ‪َ ( 64‬ولَقَ ْد أ ُ ِ‬
‫وح َ‬ ‫ّللا تَأ ْ ُم ُرو ِنّي أ َ ْعبُ ُد أَيُّ َها ا ْلجا ِهلُ َ‬
‫قُ ْل أ َ فَغَ ْي َر ه ِ‬
‫س ِر َ‬
‫ين) ‪( 65‬‬ ‫ع َملُكَ َولَتَكُونَ هن ِم َن ا ْلخا ِ‬ ‫أَش َْر ْكتَ لَيَحْ بَ َط هن َ‬

‫ص ‪557‬‬

‫‪557‬‬
‫ّللا عليه وسلم ال يشرك ‪ ،‬فالمقصود من أشرك من أمته‬ ‫ت »وقد علم أنه صلهى ه‬‫«لَ ِئ ْن أ َ ْش َر ْك َ‬
‫فهذه صفته ‪ ،‬فإنه المخاطب والمقصود أمته ‪ ،‬وهذا مثل قولهم ‪ :‬إياك أعني فاسمعي يا جارة ‪،‬‬
‫فإنه معلوم أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ‪ ،‬وهو على بينة من ربه في مآله ‪ ،‬فعلمنا‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫بقرائن األحوال أنه المخاطب ‪ ،‬والمراد غيره ال هو ‪ ،‬والوحي كان قبل رسول ه‬
‫عليه وسلم ولم يجيء خبر إلهي أن بعده وحيا ‪ ،‬كما ذكر في هذه اآلية ولم يذكر وحيا بعده ‪،‬‬
‫ع َملُ َك‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم «لَيَ ْحبَ َ‬
‫ط َّن َ‬ ‫وإن لم يلزم هذا فسبيل الوحي انقطع بموت رسول ه‬
‫»كسائر العبادات من الصوم والصالة ‪ ،‬لم يكن ذلك مشروعا لعدم الشرط المصحح وهو‬
‫اإليمان ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬اآليات ‪ 66‬إلى ‪] 67‬‬


‫ضتُهُ يَ ْو َم‬ ‫ض َج ِميعا قَ ْب َ‬ ‫ق قَد ِْر ِه َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫ّللا َح ه‬‫ين ( ‪َ ) 66‬وما قَد َُروا ه َ‬ ‫ّللا فَا ْعبُ ْد َوك ُْن ِم َن الشها ِك ِر َ‬
‫بَ ِل ه َ‬
‫ُون ( ‪) 67‬‬ ‫ع هما يُش ِْرك َ‬ ‫سماواتُ َم ْط ِويهاتٌ ِبيَ ِمينِ ِه ُ‬
‫س ْبحانَهُ َوتَعالى َ‬ ‫ا ْل ِقيا َم ِة َوال ه‬
‫[ القبضة واليمين ]‬
‫ّللا َح َّق قَ ْد ِر ِه »لما كان األمر العظيم يجهل قدره وال يعلم ويعز الوصول إليه ‪،‬‬ ‫" ما قَ َد ُروا َّ َ‬
‫تنزلت الشرائع بآداب التوصل فقبلها أولو األلباب ‪ ،‬قالت اليهود في الخبر النبوي المشهور ‪،‬‬
‫من كون الحق يضع األرض يوم القيامة على إصبع ‪ ،‬والسماوات على إصبع ‪ -‬الحديث –‬
‫ض َج ِميعا ً‬ ‫ّللا َح َّق قَ ْد ِر ِه » « َو ْاأل َ ْر ُ‬ ‫ّللا عليه وسلم هذه اآلية« َوما قَ َد ُروا َّ َ‬ ‫فقرأ النبي صلهى ه‬
‫ضتُهُ يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة »اعلم أن كل جسم أرض لروحه ‪ ،‬وما ث هم إال جسم وروح ‪ ،‬غير أن‬ ‫قَ ْب َ‬
‫ّللا وجود األرواح‬ ‫األجسام على قسمين ‪ :‬عنصرية ونورية ‪ ،‬وهي أيضا طبيعية ‪ ،‬فربط ه‬
‫بوجود األجسام ‪ ،‬وبقاء األجسام ببقاء األرواح ‪ ،‬فاألرواح تابعة لألجسام ليست األجسام تابعة‬
‫لألرواح ‪ ،‬فإذا قبض على األجسام فقد قبض على األرواح فإنها هياكلها ‪ ،‬فأخبر أن الكل‬
‫قبضته ليستخرج ما فيها ‪ ،‬ليعود بذلك عليها ‪،‬‬
‫وّللا بكل شيء محيط ) ومن أحاط بك فقد قبض عليك ‪ ،‬ألنه ليس لك منفذ‬ ‫وهو قوله تعالى ‪ ( :‬ه‬
‫مع وجود اإلحاطة ‪ -‬القبضة واليمين ‪ -‬نظر العقل بما يقتضيه الوضع ‪ ،‬أنه منع أوال أن يقدر‬
‫قدره ‪ ،‬لما يسبق إلى العقول‬

‫ص ‪558‬‬

‫‪558‬‬
‫الضعيفة من التشبيه والتجسيم ‪ ،‬عند ورود اآليات واألخبار التي تعطي من وجه ما من‬
‫وجوهها ذلك ‪ ،‬ثم قال بعد هذا التنزيه الذي ال يعقله إال العالمون « َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫ض َج ِميعا ً قَ ْب َ‬
‫ضتُهُ‬
‫»عرفنا من وضع اللسان العربي أن يقال ‪ :‬فالن في قبضتي ‪ ،‬يريد أنه تحت حكمي ‪ .‬وإن كان‬
‫ليس في يدي منه شيء البتة ‪ ،‬ولكن أمري فيه ماض وحكمي عليه قاض ‪ ،‬مثل حكمي على ما‬
‫ملكته يدي حسا وقبضت عليه ‪ ،‬وكذلك أقول ‪ :‬مالي في قبضتي ‪ ،‬أي في ملكي وأني متمكن‬
‫في التصرف فيه ‪ ،‬أي ال يمنع نفسه مني ‪ ،‬فإذا صرفته ففي وقت تصرفي فيه ‪ ،‬كان أمكن لي‬
‫أن أقول ‪ :‬هو في قبضتي ‪ ،‬لتصرفي فيه ‪ ،‬وإن كان عبيدي هم المتصرفون فيه عن إذني ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬عدل العقل إلى روح القبضة ومعناها وفائدتها ‪ ،‬وهو‬ ‫فلما استحالت الجارحة على ه‬
‫ملك ما قبضت عليه في الحال وإن لم يكن لها ‪ ،‬أعني للقابض فيما قبض عليه شيء ‪ ،‬ولكن‬
‫ض »في الدار اآلخرة‬ ‫هو في ملك القبضة قطعا ‪ ،‬فهكذا العالم في قبضة الحق تعالى« َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫تعيين بعض األمالك ‪ ،‬كما تقول ‪ :‬خادمي في قبضتي ‪ ،‬وإن كان خادمي من جملة من في‬
‫قبضتي ‪ ،‬فإنما ذكرته اختصاصا لوقوع نازلة « واليمين » عندنا محل التصريف المطلق‬
‫القوي ‪ ،‬فإن اليسار ال يقوى قوة اليمين ‪ ،‬فكنى باليمين عن التمكن في الطي ‪ ،‬فهي إشارة إلى‬
‫تمكن القدرة من الفعل ‪ ،‬فوصل إلى إفهام العرب بألفاظ تعرفها وتسرع بالتلقي لها ‪،‬‬
‫قال الشاعر ‪:‬‬
‫إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين‬
‫وليس للمجد راية محسوسة ‪ ،‬فال تتلقاها جارحة يمين ‪ ،‬فكأنه يقول ‪ :‬لو ظهر للمجد راية‬
‫محسوسة ‪ ،‬لما كان محلها أو حاملها إال يمين عرابة األوسي ‪ ،‬أي صفة المجد به قائمة وفيه‬
‫كاملة ‪ ،‬فلم تزل العرب تطلق ألفاظ الجوارح على ما ال يقبل الجارحة الشتراك بينهما من‬
‫طريق المعنى ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ ) : 39‬آية ‪] 68‬‬


‫ّللاُ ث ُ هم نُ ِف َخ فِي ِه أ ُ ْخرى‬ ‫ت َو َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض ِإاله َم ْن شا َء ه‬ ‫ق َم ْن فِي ال ه‬
‫سماوا ِ‬ ‫ور فَ َ‬
‫ص ِع َ‬ ‫ص ِ‬ ‫َونُ ِف َخ فِي ال ُّ‬
‫ون ( ‪) 68‬‬ ‫فَ ِإذا ُه ْم ِقيا ٌم يَ ْن ُ‬
‫ظ ُر َ‬
‫[ بحث في الصور ]‬
‫ّللا من حين نزوله يتلى حروفا وأصواتا إلى أن يرفع من الصدور ويمحى‬ ‫ال يزال كالم ه‬

‫ص ‪559‬‬

‫‪559‬‬
‫علَّ َم ْالقُ ْرآنَ‬ ‫من َ‬ ‫الر ْح ُ‬
‫من المصاحف ‪ ،‬فال يبقى مترجم يقبل نزول القرآن عليه من قوله تعالى (‪َّ :‬‬
‫علَّ َمهُ ْالبَيانَ )فإذا بقيت صورة جسم اإلنسان مثل أجسام الحيوان ‪ ،‬وزالت‬ ‫َخلَقَ ْ ِ‬
‫اإل ْنسانَ َ‬
‫الصورة اإللهية بالتجريد ‪،‬‬
‫ّللا خلق آدم على صورته ] نفخ في‬ ‫وهي صورة اإلنسان الكامل الذي قال فيه الحق [ إن ه‬
‫الصور ‪ ،‬فصعق من في السماوات واألرض إلى يوم النشور ‪ ،‬وهو يوم الظهور ‪ ،‬الذي ال‬
‫ضد له ‪،‬‬
‫ت »يحتمل أن تكون المالئكة ‪،‬‬ ‫سماوا ِ‬‫ص ِعقَ َم ْن ِفي ال َّ‬
‫ور فَ َ‬ ‫ص ِ‬ ‫وأما قوله تعالى ‪َ «:‬ونُ ِف َخ ِفي ال ُّ‬
‫ض »فالصعق يقع على من في السماوات واألرض‬ ‫ويحتمل أن تكون األرواح« َو َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫‪ ،‬بما في ذلك أرواح البشر التي سبق أن فارقت األجساد ‪ ،‬فيصعق العالم أصحاب السماع« إِ َّال‬
‫ّللاُ »من خلقه ومن هذه األرواح ‪ ،‬لذلك لم يكن األجل المسمى‬ ‫َم ْن شا َء َّ‬
‫س ًّمى ِع ْن َدهُ )هو الموت ‪ ،‬ألنه استثنى ال يصعقون فال يموتون ‪ ،‬فإما‬ ‫في قوله تعالى ‪َ (:‬وأ َ َج ٌل ُم َ‬
‫أن يكونوا على حقائق ال تقبل الموت ‪ ،‬فيكون استثناء منقطعا ‪ ،‬وإما أن يكونوا على مزاج‬
‫يقبل الموت ولكن لم يسمعوا النفخ ‪ ،‬فلم يدركهم فلم يصعقوا ‪ ،‬فيكون استثناء متصال «ث ُ َّم نُ ِف َخ‬
‫فِي ِه أ ُ ْخرى »فثنهى النفخ ‪ ،‬وتسمى نفخة البعث ونفخة الفزع ‪ ،‬فيفيقون ويفزعون إلى ربهم ‪،‬‬
‫والمالئكة ليست لهم آخرة ‪ ،‬فإنهم ال يموتون فيبعثون ‪ ،‬ولكن صعق وإفاقة« فَإِذا ُه ْم قِيا ٌم‬
‫ّللا عليه وسلم عن الصور ‪ :‬ما هو ؟‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ظ ُرونَ »‪ -‬بحث في الصور ‪ -‬سئل رسول ه‬ ‫يَ ْن ُ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬هو قرن من نور ألقمه إسرافيل ] فأخبر أن شكله شكل القرن ‪،‬‬ ‫فقال صلهى ه‬
‫ّللا سبحانه إذا قبض األرواح من‬ ‫فوصف بالسعة والضيق ‪ ،‬فإن القرن واسع ضيق ‪ ،‬ولتعلم أن ه‬
‫هذه األجسام الطبيعية ‪ -‬حيث كانت ‪ -‬والعنصرية ‪ ،‬أودعها صورا جسدية في مجموع هذا‬
‫القرن النوري ‪ ،‬فجميع ما يدركه اإلنسان بعد الموت في البرزخ من األمور ‪ ،‬إنما يدركه بعين‬
‫الصورة التي هو فيها في القرن وبنورها ‪ ،‬وهو إدراك حقيقي ‪ ،‬ومن الصور هنالك ما هي‬
‫مقيدة عن التصرف ‪ ،‬ومنها ما هي مطلقة كأرواح األنبياء كلهم وأرواح الشهداء ‪ ،‬ومنها ما‬
‫يكون لها نظر إلى عالم الدنيا في هذه الدار ‪ ،‬ومنها ما يتجلى للنائم في حضرة الخيال التي هي‬
‫فيه ‪ ،‬وهو الذي تصدق رؤياه أبدا ‪ ،‬وكذلك قوم فرعون يعرضون على النار في تلك الصور‬
‫غدوة وعشية ‪ ،‬وال يدخلونها ‪ ،‬فإنهم محبوسون في ذلك القرن وفي تلك الصورة ‪ ،‬ويوم القيامة‬
‫يدخلون أشد العذاب ‪ ،‬وهو العذاب المحسوس ال المتخيل ‪ ،‬الذي كان لهم في حال موتهم‬
‫بالعرض ‪ ،‬وكل إنسان في البرزخ مرهون بكسبه محبوس في صور‬

‫ص ‪560‬‬

‫‪560‬‬
‫[ بحث في الحشر ]‬
‫أعماله إلى أن يبعث يوم القيامة من تلك الصور في النشأة اآلخرة ‪ -‬بحث في الحشر ‪ -‬اعلم أن‬
‫ّللا حين أوجده مدبرا لصورة طبيعية حسية له ‪ ،‬سواء كان في الدنيا أو‬ ‫الروح اإلنساني أوجده ه‬
‫في البرزخ أو في الدار اآلخرة أو حيث كان ‪ ،‬فأول صورة لبستها الصورة التي أخذ عليه فيها‬
‫الميثاق باإلقرار بربوبية الحق عليه ‪ ،‬ثم إنه حشر من تلك الصورة إلى هذه الصورة الجسمية‬
‫الدنياوية ‪ ،‬وحبس بها في رابع شهر من تكوين صورة جسده في بطن أمه إلى ساعة موته ‪،‬‬
‫فإذا مات حشر إلى صورة أخرى من حين موته إلى وقت سؤاله ‪ ،‬فإذا جاء وقت سؤاله حشر‬
‫من تلك الصورة إلى جسده الموصوف بالموت ‪ ،‬فيحيا به ويؤخذ بأسماع الناس وأبصارهم عن‬
‫ّللا تعالى بالكشف عن ذلك من نبي أو ولي من الثقلين ‪،‬‬ ‫حياته بذلك الروح ‪ ،‬إال من خصه ه‬
‫وأما سائر الحيوان فإنهم يشاهدون حياته وما هو فيه عينا ‪ ،‬ثم يحشر بعد السؤال إلى صورة‬
‫أخرى في البرزخ يمسك فيها ‪ -‬بل تلك الصورة هي عين البرزخ ‪ ،‬والنوم في ذلك على السواء‬
‫‪ -‬إلى نفخة البعث ‪ ،‬فيبعث من تلك الصورة ويحشر إلى الصورة التي كان فارقها في الدنيا إن‬
‫كان بقي عليه سؤال ‪ ،‬فإن لم يكن من أهل ذلك الصنف حشر إلى الصورة التي يدخل بها الجنة‬
‫‪ ،‬والمسؤول يوم القيامة إذا فرغ من سؤاله حشر في الصورة التي يدخل بها الجنة أو النار ‪،‬‬
‫وأهل النار كلهم مسؤولون ‪ ،‬فإذا دخل السعداء الجنة واستقروا فيها ثم دعوا إلى الرؤية‬
‫وبادروا ‪ ،‬حشروا في صورة ال تصلح إال للرؤية ‪ ،‬فإذا عادوا حشروا في صورة تصلح للجنة‬
‫‪ ،‬وفي كل صورة ينسى صورته التي كان عليها ‪ ،‬ويرجع حكمه إلى حكم الصورة التي انتقل‬
‫إليها وحشر فيها ‪ ،‬فإذا دخل سوق الجنة ورأى ما فيه من الصور ‪ ،‬فأية صورة رآها‬
‫واستحسنها حشر فيها ‪ ،‬فال يزال في الجنة دائما يحشر من صورة إلى صورة إلى ما ال نهاية‬
‫له ‪ ،‬ليعلم بذلك االتساع اإللهي ‪ ،‬ولو تفطنت لعرفت أنك اآلن كذلك ‪ ،‬تحشر في كل نفس في‬
‫صورة الحال التي أنت عليها ‪ ،‬ولكن يحجبك عن ذلك رؤيتك المعهودة ‪ ،‬وإن كنت تحس‬
‫بانتقالك في أحوالك التي عليها تتصرف في ظاهرك وباطنك ‪ ،‬ولكن ال تعلم أنها صور لروحك‬
‫تدخل فيها في كل آن وتحشر فيها ‪ ،‬واعلم أن األرواح لما كانت حياتها ذاتية لها لم يصح فيها‬
‫موت البتة ‪ ،‬ولما كانت الحياة في األجسام بالعرض قام بها الموت والفناء ‪ ،‬فإن حياة الجسم‬
‫الظاهرة من آثار حياة الروح كنور الشمس الذي في األرض من الشمس ‪ ،‬فإذا مضت الشمس‬
‫تبعها نورها وبقيت األرض مظلمة ‪،‬‬

‫ص ‪561‬‬

‫‪561‬‬
‫كذلك الروح إذا رحل عن الجسم إلى عالمه الذي جاء منه ‪ ،‬تبعته الحياة المنتشرة منه في‬
‫الجسم الحي ‪ ،‬وبقي الجسم في صورة الجماد في رأى العين ‪ ،‬فيقال ‪ :‬مات فالن ؛ وتقول‬
‫الحقيقة ‪:‬‬
‫تارة ً أ ُ ْخرى )كما رجع الروح أيضا‬ ‫رجع إلى أصله ( ِم ْنها َخلَ ْقنا ُك ْم َوفِيها نُ ِعي ُد ُك ْم َو ِم ْنها نُ ْخ ِر ُج ُك ْم َ‬
‫إلى أصله حتى البعث والنشور ‪ ،‬ويكون من الروح تجل للجسم بطريق العشق ‪ ،‬فتلتئم أجزاؤه‬
‫وتتركب أعضاؤه بحياة لطيفة جدا ‪ ،‬تحرك األعضاء للتأليف ‪ ،‬اكتسبته من التفات الروح ‪ ،‬فإذا‬
‫استوت البنية وقامت النشأة الترابية ‪ ،‬تجلى له الروح بالرقيقة اإلسرافيلية في الصور المحيط ‪،‬‬
‫فتسري الحياة في أعضائه ‪ ،‬فيقوم شخصا سويا كما كان أول مرة« ث ُ َّم نُ ِف َخ فِي ِه أ ُ ْخرى فَإِذا ُه ْم‬
‫قِيا ٌم يَ ْن ُ‬
‫ظ ُرونَ »‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 69‬‬


‫ق‬ ‫داء َوقُ ِض َ‬
‫ي بَ ْينَ ُه ْم ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫ش َه ِ‬ ‫ور َر ِبّها َو ُو ِض َع ا ْل ِك ُ‬
‫تاب َو ِجي َء ِبالنه ِب ِيّ َ‬
‫ين َوال ُّ‬ ‫ض ِبنُ ِ‬ ‫َوأَش َْرقَ ِ‬
‫ت ْاأل َ ْر ُ‬
‫ون ( ‪) 69‬‬ ‫َو ُه ْم ال يُ ْظلَ ُم َ‬
‫ور َر ِبهها »‬ ‫ض بِنُ ِ‬ ‫« َوأ َ ْش َرقَ ِ‬
‫ت ْاأل َ ْر ُ‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪َ (-‬كما بَ َدأ َ ُك ْم تَعُودُونَ )( قُ ْل يُ ْحيِي َها الَّذِي أ َ ْنشَأَها أ َ َّو َل َم َّرةٍ )فإما شقي وإما سعيد‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬يعني أرض المحشر ‪ ،‬يقول تعالى ‪ :‬ما ث هم شمس ‪ ،‬وعدم النور ظلمة ‪ ،‬وال بد‬
‫ّللا للفصل والقضاء ‪ ،‬فال يأتي إال في اسمه‬ ‫من الشهود فال بد من النور ‪ ،‬وهو يوم يأتي فيه ه‬
‫النور ‪ ،‬فتشرق األرض بنور ربها ‪ ،‬وتعلم كل نفس بذلك النور ما قدمت وأخرت ‪ ،‬ألنها تجده‬
‫محضرا ‪ ،‬يكشف لها هذا النور ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ ) : 39‬اآليات ‪ 70‬إلى ‪] 71‬‬


‫ِين َكفَ ُروا ِإلى َج َهنه َم ُز َمرا‬ ‫يق الهذ َ‬ ‫س َ‬ ‫ون ) ‪َ ( 70‬و ِ‬ ‫َو ُو ِفّيَتْ ُك ُّل نَ ْف ٍس ما ع َِملَتْ َو ُه َو أ َ ْعلَ ُم ِبما يَ ْفعَلُ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم آيا ِ‬
‫ت َر ِبّ ُك ْم‬ ‫ون َ‬ ‫َحتهى ِإذا جاؤُها فُتِ َحتْ أ َ ْبوابُها َوقا َل لَ ُه ْم َخ َزنَتُها أ َ لَ ْم يَأْتِ ُك ْم ُر ُ‬
‫س ٌل ِم ْن ُك ْم يَتْلُ َ‬
‫ين ( ‪) 71‬‬ ‫علَى ا ْلكا ِف ِر َ‬ ‫ب َ‬‫َويُ ْنذ ُِرونَ ُك ْم ِلقا َء يَ ْو ِم ُك ْم هذا قالُوا بَلى َول ِك ْن َحقهتْ َك ِل َمةُ ا ْلعَذا ِ‬
‫ت أَبْوابُها »أبواب جهنم سبعة هي ‪ :‬باب الجحيم ‪ ،‬وباب سقر ‪ ،‬وباب السعير ‪،‬‬ ‫« فُتِ َح ْ‬

‫ص ‪562‬‬

‫‪562‬‬
‫وباب الحطمة ‪ ،‬وباب لظى ‪ ،‬وباب الحامية ‪ ،‬وباب الهاوية ‪ ،‬وسميت األبواب بصفات ما‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫وراءها مما أعدت له ‪ ،‬ووصف الداخلون فيها بما ذكر ه‬

‫[ سورة الزمر ‪ ( 39 ) :‬اآليات ‪ 72‬إلى ‪] 73‬‬


‫ِين اتهقَ ْوا َربه ُه ْم‬
‫يق الهذ َ‬ ‫س َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 72‬و ِ‬ ‫س َمثْ َوى ا ْل ُمت َ َك ِبّ ِر َ‬‫ِين فِيها فَ ِبئْ َ‬ ‫قِي َل ا ْد ُخلُوا أ َ ْب َ‬
‫واب َج َهنه َم خا ِلد َ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِط ْبت ُ ْم فَا ْد ُخلُوها‬ ‫ِإلَى ا ْل َجنه ِة ُز َمرا َحتهى ِإذا جاؤُها َوفُتِ َحتْ أ َ ْبوابُها َوقا َل لَ ُه ْم َخ َزنَتُها َ‬
‫سال ٌم َ‬
‫ِين ( ‪) 73‬‬ ‫خا ِلد َ‬
‫ت أَبْوابُها »إذا جاء‬ ‫ت أَبْوابُها »وقيل في حق السعداء « َوفُتِ َح ْ‬ ‫‪-‬لغة ‪ -‬قيل في حق األشقياء« فُتِ َح ْ‬
‫بواو العطف راعى ما يقع به االشتراك في الصورة الظاهرة ‪ ،‬وإذا أزال الواو راعى ما يقع به‬
‫التمييز واالنفراد الذي به حقيقة ذلك الشيء ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 74‬‬


‫ث نَشا ُء فَ ِن ْع َم أَجْ ُر‬ ‫ص َدقَنا َو ْع َد ُه َوأ َ ْو َرثَنَا ْاأل َ ْر َ‬
‫ض نَتَبَ هوأ ُ ِم َن ا ْل َجنه ِة َح ْي ُ‬ ‫ّلِل الهذِي َ‬‫َوقالُوا ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫ين ( ‪) 74‬‬ ‫ا ْل ِ‬
‫عام ِل َ‬
‫ْث نَشا ُء »ال حيث يمشى بهم ‪ ،‬فإنه في الجنة ارتفع عنه االفتقار العرضي‬ ‫« نَتَبَ َّوأ ُ ِمنَ ْال َجنَّ ِة َحي ُ‬
‫ّللا خاصة ‪ ،‬يسكن حيث شاء ويأكل من حيث يشاء‬ ‫إلى األشياء ‪ ،‬وما بقي عنده إال الفقر إلى ه‬
‫من ثمرها ‪ ،‬فقد ارتفع التحجير ‪ ،‬وذلك في جنات األعمال التي هي ما بين الثمانين إلى السبعين‬
‫عام ِلينَ »فلم يحجر‬ ‫‪ ،‬ال تزيد وال تنقص ‪ ،‬على عدد شعب اإليمان ‪ ،‬ولذلك قال« فَنِ ْع َم أ َ ْج ُر ْال ِ‬
‫بهذا لمن عمل بكل عمل ‪ ،‬فإن اإلنسان في الدنيا أي عمل عمله من األعمال ‪ -‬أعمال اإليمان ‪-‬‬
‫ال يحجر عليه إذا شاء عمله ‪ ،‬فيتبوأ من الجنة حيث يشاء من حيث العمل بجميع شعب اإليمان‬
‫كلها ‪ ،‬التي هي بعدد الجنات العملية ‪.‬‬

‫[ سورة الزمر ( ‪ : ) 39‬آية ‪] 75‬‬


‫ق َو ِقي َل ا ْل َح ْم ُد‬ ‫ون ِب َح ْم ِد َر ِبّ ِه ْم َوقُ ِض َ‬
‫ي بَ ْينَ ُه ْم ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫َوت َ َرى ا ْل َمال ِئكَةَ َحا ِفّ َ‬
‫ين ِم ْن َح ْو ِل ا ْلعَ ْر ِش يُ َ‬
‫س ِبّ ُح َ‬
‫ين) ‪( 75‬‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ّلِل َر ّ ِ‬
‫ِه ِ‬

‫ص ‪563‬‬

‫‪563‬‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬المالئكة الحافون حول العرش ما لهم سباحة إال في العماء الذي ظهر فيه‬
‫ّللا تعالى من نور العرش الذي استوى عليه الرحمن ‪ ،‬فإنهم‬ ‫العرش ‪ ،‬وهؤالء المالئكة خلقهم ه‬
‫إليه يتوجهون وعليه يعولون ‪ ،‬وحوله يحومون وبه يطوفون ‪ ،‬وحيثما كانوا فإليه يشيرون ‪،‬‬
‫فمتى حدث في الكون حادثة أو نزلت به نازلة ‪ ،‬رفعوا أيدي المسألة والتضرع إلى جهة عرشه‬
‫‪ ،‬يطلبون الشفا ويستعفون عن الخطا ‪ ،‬ألن موجد الكون ال جهة له يشار إليها ‪ ،‬وال أينية له‬
‫يقصدونها ‪ ،‬وال كيفية له يعرفونها ‪ ،‬فلو لم يكن العرش جهة يتوجهون إليه للقيام بخدمته ‪،‬‬
‫وألداء طاعته ‪ ،‬لضلوا في طلبهم ‪ ،‬فهو سبحانه إنما أوجد العرش إظهارا لقدرته ‪ ،‬ال محال‬
‫لذاته ‪ ،‬وأوجد الوجود ال لحاجة إليه ‪ ،‬وإنما هو إظهار ألسمائه وصفاته‬

‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬هذا العرش الذي تحف به المالئكة ما هو العرش الذي استوى عليه الرحمن‬
‫ّللا به‬
‫‪ ،‬فإن الثاني قد عمر الخالء ‪ ،‬وإنما العرش الذي تحف به المالئكة هو العرش الذي يأتي ه‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »عند الفراغ‬‫للفصل والقضاء يوم القيامة ‪ ،‬ولذلك تمم اآلية بقوله« َوقِي َل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫من القضاء ‪ ،‬فذلك العرش يوم القيامة تحمله الثمانية األمالك ‪ ،‬وذلك بأرض المحشر ونسبة‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫العرش إلى تلك األرض نسبة الجنة إلى عرض الحائط في قبلة رسول ه‬
‫ق»‬ ‫ي بَ ْينَ ُه ْم بِ ْال َح ه ِ‬
‫ض َ‬ ‫‪ ،‬من غير أن يوسع الضيق أو يضيق الواسع ‪َ «،‬وقُ ِ‬

‫اعلم أن الحكم للرحمة ‪ ،‬ويوم القيامة يوم العدل في القضاء ‪ ،‬وإنما تأتي الرحمة في القيامة‬
‫ليشهد األمر ‪ ،‬حتى إذا انته حكم العدل وانقضت مدته في المحكوم عليه ‪ ،‬تولت الرحمة الحكم‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »‪ -‬إشارة ‪ -‬من قام بالالم وحده ‪ ،‬ووقف على‬
‫فيه إلى غير نهاية« َو ِقي َل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ما حصل عنده ‪ ،‬وجاوزه إلى مطلعه وحده ‪ ،‬ولم ير مثله وال ضده ‪ ،‬وملك وعيده ووعده ‪،‬‬
‫وأمن قربه وبعده ‪ ،‬وعرف أنه ال يأتي أحد بعده ‪ ،‬قال ‪ :‬الحمد هّلل الذي صدقنا وعده – شرح‬
‫[ إشارة ‪ :‬من قام بالالم وحده ]‬
‫هذه اإلشارة ‪ -‬قوله « من قام بالالم وحده » يريد أن الالم للفناء ‪ ،‬فيكون القائم الحق ال هو ‪،‬‬
‫باّلل » فقد‬
‫ألنك تقول « الحمد هّلل » فجعلته حامدا لنفسه ‪ ،‬قائما بحمده ‪ ،‬وإذا قلت « الحمد ه‬
‫جعلت الباء لالستعانة ‪ ،‬فالالم له ‪ ،‬والباء لنا ‪،‬‬
‫ولذلك قال ‪ :‬العلماء لي والعارفون بي « ‪ - » 1‬قوله « ووقف على ما حصل عنده » يعني‬
‫تميزت له نفسه بما كشف الحق له من المراتب ‪ ،‬قوله «‬
‫ولم ير مثله وال ضده » يعني لشغله بربه ‪ ،‬أو بموازنة نفسه مع ربه فيما‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫) ‪( 1‬راجع كتابنا شرح كلمات الصوفية ‪ « ،‬أبو العباس بن العريف الصنهاجي » ص ‪310‬‬
‫‪.‬‬
‫ص ‪564‬‬

‫‪564‬‬
‫و هجه عليها ‪ ،‬قوله « وملك وعيده ووعده » أي لم يؤثر فيه ال رغبة وال رهبة ‪ ،‬أي ال صفة‬
‫حكمت عليه ‪ ،‬فهو عبد ذات ال عبد صفة ‪ ،‬قوله « وأمن قربه وبعده »‬
‫أي لم يتأثر لألسماء المؤثرات في القرب والبعد ‪ ،‬وأما الوعد والوعيد فآلثار األسماء ‪،‬‬
‫وقوله « وعرف أنه ال يأتي أحد بعده » أي ال يأتي أحد بعد بأكمل من هذا المقام ‪ ،‬وإنما‬
‫يتفاوتون في استصحابه أو عدم استصحابه ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬الحمد هّلل الذي صدقنا وعده‪.‬‬

‫‪565‬‬
‫المراجع‬
‫‪- 1‬كتاب الفتوحات المكية ‪ -‬طبعة الميمنية ‪.‬‬
‫` ‪-‬كتاب الشاهد ‪.‬‬
‫‪- 3‬كتاب تلقيح األذهان ‪.‬‬
‫‪- 4‬إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‬
‫‪- 5‬كتاب عنقاء مغرب ‪.‬‬
‫‪- 6‬كتاب النجاة من حجب االشتباه ‪.‬‬
‫‪- 7‬كتاب ذخائر األعالق ترجمان األشواق ‪.‬‬
‫‪- 8‬كتاب التنزالت الموصلية ‪.‬‬
‫‪- 9‬كتاب عقلة المستوفز ‪.‬‬
‫‪- 10‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪.‬‬
‫‪- 11‬كتاب المشاهد القدسية ‪.‬‬
‫‪- 12‬كتاب فصوص الحكم ‪.‬‬
‫‪- 13‬كتاب نقش الفصوص ‪.‬‬
‫‪- 14‬كتاب روح القدس في محاسبة النفس ‪.‬‬
‫‪- 15‬كتاب اإلسرا إلى مقام األسرى ‪.‬‬
‫‪- 16‬كتاب اإلسفار عن نتائج األسفار ‪.‬‬
‫‪- 17‬كتاب القسم اإللهي ‪.‬‬
‫‪- 18‬كتاب اإلعالم بإشارات أهل اإللهام ‪.‬‬
‫‪- 19‬كتاب رد اآليات المتشابهات إلى اآليات المحكمات ‪.‬‬
‫‪- 20‬كتاب مواقع النجوم‪.‬‬

‫‪566‬‬

‫‪566‬‬
‫‪- 21‬كتاب التراجم‬
‫‪- 22‬كتاب الجالل والجمال ‪.‬‬
‫‪- 23‬كتاب الشأن ‪.‬‬
‫‪- 24‬ديوان الشيخ األكبر ‪.‬‬
‫‪- 25‬كتاب الوصية ‪.‬‬
‫‪- 26‬كتاب إنشاء الجداول والدوائر ‪.‬‬
‫‪- 27‬كتاب األمر المحكم المربوط ‪.‬‬
‫‪- 28‬كتاب مسامرة األبرار ومحاضرة األخيار ‪.‬‬
‫‪- 29‬كتاب تاج الرسائل ‪.‬‬
‫‪- 30‬كتاب شعب اإليمان ‪.‬‬
‫‪- 31‬كتاب شجرة الكون ( المعراج ) ‪.‬‬
‫‪- 32‬كتاب المسائل ‪.‬‬
‫‪- 33‬كتاب الكتب ‪.‬‬
‫‪- 34‬كتاب مسائل ابن سودكين‪.‬‬

‫‪567‬‬
‫مراجع جمع آيات رحمة من الرحمن‬
‫سورة الكهف‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ ) 6 ( 93 / 3‬ف ح ‪ ) 7 ( 410 / 3‬ف ح ‪ ) 10 ( 433 / 4‬ف ح ‪233 / 2‬‬
‫) ‪( 13‬ف ح ‪ - 233 / 2‬ح ‪ - 243 ، 242 ، 241 / 1‬كتاب الشاهد ( ‪ ) 17‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫) ‪252 ( 18‬ف ح ‪ ) 22 ( 546 / 3‬ف ح ‪ - 545 / 3‬ح ‪ - 336 / 4‬ح ‪- 345 / 3‬‬
‫كتاب تلقيح األذهان ( ‪ ) 24‬ف ح ‪ - 261 / 2‬ح ‪ ) 25 ( 85 / 3‬ف ح ‪ ) 28 ( 9 / 2‬ف‬
‫ح ‪3 / 18 -‬ح ‪ - 149 / 2‬ح ‪ - 18 / 3‬ح ‪ - 149 / 2‬ح ‪ - 20 ، 18 / 3‬ح ‪- 170 / 4‬‬
‫ح ‪ - 220 / 3‬ح ‪ - 152 / 4‬كتاب الشاهد ( ‪ ) 29‬ف ح ‪ - 18 / 3‬إيجاز البيان آية ‪- 121‬‬
‫ح ‪ - 220 / 3‬ح ‪ ) 30 ( 265 / 2‬ف ح ‪ - 388 / 3‬ح ‪ - 34 ، 117 / 4‬إيجاز البيان آية‬
‫‪ ) 32 ( 145‬ف ح ‪ ) 36 ( 679 / 2‬ف ح ‪ ) 42 ( 679 / 2‬كتاب الشاهد ( ‪ ) 45‬ف ح‬
‫‪ - 297 / 4‬ح ‪ ) 46 ( 302 / 2‬ف ح ‪ ) 47 ( 125 / 4‬ف ح ‪ / 492 ( 48 ) 3‬ف ح ‪1‬‬
‫‪ ) 49 ( 309 /‬ف ح ‪ ) 50 ( 406 / 3‬ف ح ‪ - 367 / 3‬ح ‪- 134 / 1‬إيجاز البيان آية‬
‫‪ ) 51 ( 35‬كتاب عنقاء مغرب ‪ -‬ف ح ‪ - 606 ، 70 / 2‬ح ‪ / 296 - 4‬ح ‪ - 70 / 2‬ح ‪1‬‬
‫‪ - 195 /‬ح ‪ - 289 / 4‬إيجاز البيان آية ‪ - 164‬ف ح ‪ / 557 - 3‬ح ‪ ) 54 ( 137 / 2‬ف‬
‫ح ‪ ) 57 ( 217 ، 436 ، 217 / 3‬ف ح ‪ ( 60 ) 440 / 4‬ف ح ‪ - 439 ، 24 / 2‬كتاب‬
‫النجاة ( ‪ ) 62‬ف ح ‪ - 397 / 1‬كتاب النجاة ( ‪ ) 63‬ف ح ‪ - 393 / 1‬كتاب النجاة ( ‪) 64‬‬
‫ف ح ‪ ) 65 ( 397 / 1‬ف ح ‪ - 393 / 1‬ح ‪ / 644 - 2‬ح ‪ - 336 / 3‬ح ‪153 ، 55 / 4‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 158 ، 76 / 2‬كتاب ذخائر األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 558 / 3‬ح ‪ - 158 ، 41 / 2‬ح ‪4‬‬
‫‪ - 153 /‬ح ‪ - 420 / 2‬ح ‪ - 153 / 4‬ح ‪ - 644 ، / 1142‬ح ‪ - 558 / 3‬ح ‪406 / 3‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 420 / 2‬ح ‪ ) 66 ( 31 / 1‬ف ح ‪ / 262 ( 67 ) 2‬ف ح ‪ ) 68 ( 19 / 2‬ف ح‬
‫‪ - 41 / 2‬ح ‪ - 199 / 1‬ح ‪ - 51 / 2‬ح ‪ / 199 - 1‬ح ‪ - 19 / 2‬ح ‪ - 199 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ) 70 ( 261 ، 489 ، 261 ، 19‬ف ح ‪ / 427 ( 73 ) 4‬ف ح ‪ ) 74 ( 345 / 4‬ف ح‬
‫‪ - 79 / 2‬ح ‪ - 432 / 4‬ح ‪ ( 77 ) 605 ، 260 / 2‬ف ح ‪ ) 78 ( 261 / 2‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ) 79 ( 262‬ف ح‬

‫‪568‬‬
‫‪ ) 80 ( 481 / 2‬ف ح ‪ ) 81 ( 59 / 4‬ف ح ‪ ) 82 ( 393 / 1‬ف ح ‪ / 386 - 4‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 393‬ح ‪ - 261 ، 489 ، 261 ، 79 ، 261 / 2‬ح ‪ - 319 / 4‬ح ‪ / 205 - 1‬كتاب‬
‫النجاة ‪ -‬ف ح ‪ - 403 / 4‬ح ‪ ) 86 ( 450 / 3‬كتاب ذخائر األعالق ) ‪ ( 89‬كتاب ذخائر‬
‫األعالق ( ‪ ) 98‬ف ح ‪ ) 104 ( 330 / 3‬ف ح ‪ - 250 / 4‬كتاب التنزالت الموصلية (‬
‫‪ ) 105‬ف ح ‪ - 315 / 1‬ح ‪ - 266 / 2‬كتاب عقلة المستوفز ) ‪ ( 107‬ف ح ‪( 142 / 3‬‬
‫‪ ) 109‬ف ح ‪ - 90 / 2‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ ( 110 ) 459 ، / 3902‬ف ح ‪3‬‬
‫‪ - 50 ، 225 /‬ح ‪ - 664 / 1‬ح ‪ - 23 ، 225 ، 23 ، 337 ، 191 ، 225 / 3‬كتاب‬
‫النجاة ‪ -‬كتاب المشاهد ‪ -‬ف ح ‪ - 221 / 2‬ح ‪355 - ، 478 / 3‬ح ‪ - 221 / 1‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 355 ، 478‬ح ‪ - 536 / 4‬ح ‪ - 221 / 2‬ح ‪ - 477 / 3‬ح ‪2 / 581 .‬‬
‫سورة مريم‬
‫) ‪( 2‬ف ح ‪ ) 3 ( 153 / 4‬ف ح ‪ ) 4 ( 417 / 2‬ف ح ‪ ( 5 ) 475 / 2‬فصوص الحكم‬
‫فص ‪ ) 6 ( 20‬فصوص الحكم فص ‪ ) 7 ( 20‬نقش الفصوص ‪ -‬ف ح ‪ - 417 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 346‬فصوص الحكم فص ‪ - 20‬ح ‪ - 415 / 4‬نقش الفصوص ‪ -‬ح ‪ ( 8 ) 346 / 3‬ف‬
‫ح ‪ ) 9 ( 509 / 3‬ف ح ‪ - 254 / 3‬ح ‪ - 167 / 4‬ح ‪ - 254 / 3‬روح القدس ‪ -‬ف ح ‪1‬‬
‫‪/ 202 -‬ح ‪ - 672 / 2‬ح ‪ - 254 / 3‬ح ‪ - 672 / 2‬ح ‪ ) 11 ( 10 / 4‬كتاب تلقيح‬
‫األذهان ( ‪ ) 12‬ف ح ‪ - 446 / 1‬ح ‪ ) 15 ( 415 ، 117 ، 235 / 4‬ف ح ‪، / 893‬‬
‫‪ ( 17 ) 347‬ف ح ‪ - 223 / 1‬ح ‪ - 472 ، 470 / 2‬ح ‪ - 390 / 3‬ح ‪ - 70 / 2‬ح ‪1 /‬‬
‫) ‪223 ( 18‬فصوص الحكم فص ‪ ) 19 ( 15‬فصوص الحكم فص ‪ - 15‬ف ح ‪405 / 2‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 182 / 3‬ح ‪ - 138 / 1‬ح ‪ - 182 / 3‬ح ‪ - 405 / 2‬ح ‪ ) 20 ( 237 / 1‬كتاب‬
‫النجاة ‪ -‬كتاب اإلسراء ( ‪ ) 21‬ف ح ‪ - 458 / 1‬ح ‪ - 56 / 2‬ح ‪ ) 22 ( 458 / 1‬ف ح ‪2‬‬
‫‪ ) 23 ( 689 /‬ف ح ‪ - 514 / 3‬ح ‪ - 491 / 2‬ح ‪ ) 25 ( 11 / 3‬ف ح ‪ - 417 / 2‬ح‬
‫‪ - 116 / 4‬كتاب النجاة ‪ -‬كتاب اإلسراء ( ‪ ) 28‬ف ح ‪ ) 29 ( 347 / 3‬ف ح ‪، / 2791‬‬
‫‪ - 280‬ح ‪ ) 30 ( 116 ، 411 ، 336 / 4‬ف ح ‪ - 387 / 2‬ح ‪ - 116 / 4‬ح ‪/ 2‬‬
‫) ‪387 ( 31‬ف ح ‪ - 116 / 4‬ح ‪ - 116 / 1‬ح ‪ - 387 / 2‬ح ‪ - 116 / 4‬ح ‪596 / 1‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 387 / 2‬ح ‪ - 116 / 4‬ح ‪ - 387 / 2‬ح ‪ - 116 / 4‬ح ‪ ) 32 ( 387 / 2‬ف ح‬
‫‪ / 596 - 1‬ح ‪ - 116 / 4‬ح ‪ - 596 / 1‬ح ‪ - 387 / 2‬ح ‪ - 116 / 4‬ح ‪ - 387 / 2‬ح‬
‫‪ / 89 ( 33 ) - 3‬كتاب األعالق ‪ -‬كتاب التنزالت الموصلية ‪ /‬الباب ‪ - 49‬ف ح ‪/ 347 3‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 287 / 2‬ح‬

‫‪569‬‬
‫‪- 116 / 4‬ح ‪ - 387 / 2‬كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 39‬ف ح ‪ - 316 / 1‬ح ‪/ 352 4‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 300 ، 641 ، 316 / 1‬ح ‪ ) 40 ( 481 ، 468 / 3‬ف ح ‪ - 317 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ( 41 ) 516 ، 503‬ف ح ‪ - 91 / 2‬ح ‪ ) 44 ( 106 / 4‬ف ح ‪ ) 45 ( 207 / 3‬ف ح‬
‫‪/ 511 - 1‬ح ‪ - 48 / 4‬ح ‪ ) 52 ( 207 / 3‬ف ح ‪ - 375 / 2‬ح ‪) 53 ( 406 / 4‬‬
‫فصوص الحكم فص ‪ - 24‬ف ح ‪ - 217 ، 263 / 4‬ح ‪ ) 56 ( 585 / 1‬ف ح ‪- 50 / 3‬‬
‫كتاب اإلسفار عن نتائج األسفار ‪ -‬ف ح ‪ - 348 / 3‬كتاب اإلسفار ( ‪ ) 57‬ف ح ‪445 / 2‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 341 / 3‬ح ‪ - 170 / 2‬ح ‪ - 348 / 3‬كتاب النجاة ‪ -‬كتاب اإلسراء ) ‪ ( 58‬ف ح ‪1‬‬
‫‪ ) 61 ( 511 /‬كتاب ذخائر األعالق ( ‪ ) 62‬ف ح ‪ - 724 / 1‬ح ‪ - 564 / 3‬كتاب‬
‫األعالق ( ‪ ) 63‬ف ح ‪ - 302 / 1‬ح ‪ ) 64 ( 402 / 4‬ف ح ‪ - 256 / 2‬إيجاز البيان آية‬
‫‪ - 99‬ف ح ‪ - 187 / 1‬ح ‪ - 334 / 3‬ح ‪ - 638 / 2‬ح ‪ - 400 / 3‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح‬
‫‪ ) 67 ( 685 / 2‬ف ح ‪ - 415 / 3‬ح ‪- 13 ، 95 ، 62 ، 95 ، 686 ، 95 ، 686 / 2‬‬
‫كتاب القسم اإللهي ‪ -‬ف ح ‪ - 433 / 4‬ح ‪ ) 68 ( 736 / 1‬كتاب القسم اإللهي ( ‪ ) 71‬ف‬
‫ح ‪ - 315 / 1‬ح ‪ - 440 / 3‬ح ‪ - 623 / 1‬ح ‪) 85 ( 440 / 3‬ف ح ‪ - 41 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 37‬ح ‪ - 156 / 2‬ح ‪ - 269 / 1‬ح ‪ - 213 ، 41 / 3‬ح ‪ / 210 - 1‬ح ‪ - 213 / 3‬ح‬
‫‪ - 210 / 1‬ح ‪ - 87 / 2‬ح ‪ - 736 / 1‬ح ‪ - 210 / 1‬ح ‪ / 31 - 3‬ح ‪ - 269 / 1‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 86 ( 210‬فصوص الحكم ‪ /‬فص ‪ ) 91 ( 10‬ف ح ‪ ( 93 ) 166 / 3‬ف ح ‪، 27 / 2‬‬
‫‪ - 617 ، 516‬ح ‪ ) 96 ( 539 / 3‬ف ح ‪. 337 / 2‬‬
‫سورة طه‬
‫ف ح ‪ ) 5 ( 206 ، 86 / 4‬ف ح ‪ - 88 / 1‬ح ‪ - 692 / 2‬ح ‪ - 61 / 3‬ح ‪ - 44 / 1‬ح ‪3‬‬
‫‪/ 444 -‬ح ‪ - 408 / 4‬ح ‪ - 242 / 2‬كتاب التنزالت الموصلية ‪ -‬ف ح ‪ - 102 / 2‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 232 ، / 431‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ / 390 - 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 109 ، 101‬ح ‪ - 540 / 1‬ح ‪ - 363 ، 420 ، 101 / 3‬كتاب اإلعالم ) ‪( 6‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 243‬ح ‪ - 437 / 2‬ح ‪ - 526 / 3‬ح ‪ ) 7 ( 274 / 4‬إيجاز البيان آية ‪ - 34‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 686 ، 412‬ح ‪ - 372 / 4‬ح ‪ - 128 ، 686 ، 412 / 2‬ح ‪4 / 353 -‬ح ‪- 373 / 3‬‬
‫ح ‪ ) 8 ( 412 / 2‬ف ح ‪ - 412 / 2‬ح ‪ - 323 / 1‬ح ‪ - 465 ، / 3253‬ح ‪ - 99 / 1‬ح‬
‫‪ - 447 / 3‬ح ‪ - 99 / 1‬ح ‪ - 163 ، 42 ، 163 / 1‬ح ‪/ 441 - 3‬ح ‪ - 163 / 1‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 441‬ح ‪ ) 10 ( 344 / 4‬ف ح ‪ - 301 / 3‬كتاب اإلسفار ‪ -‬ح ‪ ) 11 ( 336 / 3‬ف ح‬

‫‪570‬‬
‫‪ ( 12 ) 2 / 269‬ف ح ‪ - 119 / 3‬ح ‪ - 192 / 1‬كتاب رد اآليات المتشابهات ‪ -‬ف ح ‪1‬‬
‫) ‪/ 193 ( 13‬ف ح ‪ ) 14 ( 413 / 2‬ف ح ‪ - 413 / 2‬ح ‪( 17 50 ، 412 ، 41 / 4‬‬
‫)ف ح ‪ ) 18 ( 277 / 2‬ف ح ‪ ) 19 ( 277 / 2‬ف ح ‪ ) 20 ( 277 / 2‬ف ح ‪277 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ) ‪1 / 234 ( 21‬ف ح ‪ - 277 / 2‬ح ‪ - 234 / 1‬ح ‪ - 277 / 2‬ح ‪ - 234 / 1‬كتاب‬
‫اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 22‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 25‬ف ح ‪/ 132 ( 35 ) 3‬‬
‫ف ح ‪ ) 39 ( 134 / 3‬كتاب رد اآليات المتشابهات ‪ -‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪) 40‬‬
‫كتاب فصوص الحكم ‪ /‬فص ‪ ) 41 ( 25‬ف ح ‪ ) 44 ( 32 / 3‬ف ح ‪ - 406 ، 3 / 472‬ح‬
‫‪ - 276 / 2‬ح ‪ - 264 / 3‬ح ‪ - 276 / 2‬ح ‪ - 533 ، 264 / 3‬ح ‪ - 276 ، 2 / 411‬ح‬
‫‪ - 264 / 3‬ح ‪ - 411 ، 276 ، 411 / 2‬ح ‪ - 264 / 3‬ح ‪ ( 45 ) 46 ، / 4302‬ف ح‬
‫‪ ) 46 ( 533 ، 264 / 3‬ف ح ‪ - 486 / 2‬ح ‪ - 323 / 4‬ح ‪( 48 ) 118 ، / 5332‬‬
‫ف ح ‪ ) 49 ( 533 / 3‬ف ح ‪ - 90 / 2‬ح ‪ ) 50 ( 533 / 3‬ف ح ‪/ 90 - 2‬ح ‪291 / 4‬‬
‫‪ - 274 ،‬ح ‪ - 220 / 3‬ح ‪ - 274 / 4‬ح ‪ - 95 / 2‬ح ‪ - 505 / 3‬ح ‪ - 679 / 1‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 449‬ح ‪ - 244 / 2‬ح ‪ - 405 / 3‬ح ‪ - 454 ، 109 / 2‬ح ‪ / 184 - 1‬ح ‪، 96 / 2‬‬
‫‪ - 45 ، 60 ، 217 ، 97‬ح ‪ - 274 / 4‬ح ‪ - 446 / 3‬ح ‪- 672 / 2‬ح ‪ - 306 / 1‬ح ‪2‬‬
‫‪ - 60 ، 96 ، 60 /‬ح ‪ - 405 / 3‬ح ‪ - 263 / 4‬ح ‪ - 269 / 2‬ح ‪3 / 398 -‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 299 ، 654‬ح ‪ ) 52 ( 533 / 3‬ف ح ‪ ) 53 ( 317 ، 533 / 3‬ف ح ‪( 248 / 3‬‬
‫‪ ) 54‬ف ح ‪ - 39 ، 465 / 2‬ح ‪ ) 55 ( 347 / 4‬كتاب عقلة المستوفز ‪-‬ف ح ‪415 / 4‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 526 / 1‬ح ‪ - 250 / 3‬ح ‪ ) 66 ( 527 ، 526 / 1‬ف ح ‪ / 234 - 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 311‬ح ‪ - 109 / 4‬ح ‪ - 576 / 2‬ح ‪ - 288 ، 507 / 3‬ح ‪ - 311 / 2‬ح ‪3 / 288 -‬‬
‫ح ‪ - 109 / 4‬ح ‪ ) 67 ( 108 / 3‬ف ح ‪ ) 68 ( 158 ، 235 / 1‬كتاب رد اآليات‬
‫المتشابهات ‪ -‬ف ح ‪ ) 69 ( 235 / 1‬ف ح ‪ - 235 ، 158 ، 235 / 1‬ح ‪ / 567 - 2‬ح‬
‫‪ - 235 ، 158 / 1‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 70‬ف ح ‪ - 235 / 1‬ح ‪( 72 ) 410 / 2‬‬
‫كتاب فصوص الحكم ‪ /‬فص ‪ ) 73 ( 25‬ف ح ‪ - 686 / 1‬ح ‪ ) 74 ( 107 / 4‬ف ح ‪3 /‬‬
‫) ‪245 ( 75‬ف ح ‪ ) 77 ( 314 / 4‬إيجاز البيان آية ‪ ) 78 ( 51‬إيجاز البيان آية ‪( 51‬‬
‫‪ ) 79‬ف ح ‪ - 612 / 2‬كتاب رد اآليات المتشابهات ( ‪ ) 81‬ف ح ‪/ 297 - 1‬ح ‪169 / 2‬‬
‫( ‪ ) 82‬ف ح ‪ ) 83 ( 476 / 1‬كتاب اإلسفار ( ‪ ) 84‬كتاب اإلسفار ‪ -‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب‬
‫النجاة ( ‪ ) 85‬كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪ ( 86 ) 584 / 1‬كتاب اإلسفار ( ‪ ) 88‬كتاب اإلسفار ‪-‬‬
‫كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪) 89‬ف ح ‪ ) 90 ( 413 / 2‬كتاب اإلسفار ( ‪ ) 91‬كتاب‬
‫اإلسفار ( ‪ ) 93‬كتاب اإلسفار ( ‪ ) 94‬ف ح ‪-277 / 2‬‬

‫‪571‬‬
‫فصوص الحكم ‪ /‬فص ‪ - 24‬كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪ ) 95 ( 277 / 2‬كتاب اإلسفار ) ‪( 96‬‬
‫كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪ - 237 ، 168 / 1‬ح ‪ - 346 / 3‬فصوص الحكم ‪ /‬فص ‪ - 15‬ف ح‬
‫‪/ 237 ( 97 ) 1‬ف ح ‪ - 413 / 2‬فصوص الحكم ‪ /‬فص ‪ ) 98 ( 24‬ف ح ‪( 413 / 2‬‬
‫) ‪99‬ف ح ‪ ) 101 ( 94 / 3‬ف ح ‪ ) 102 ( 77 / 3‬ف ح ‪) 107 ( 306 ، 305 / 1‬‬
‫ف ح ‪ / 219 - 2‬ح ‪ ) 108 ( 439 ، 486 / 3‬ف ح ‪ - 511 / 2‬ح ‪ - 439 / 3‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 493 ، 313 ، 453‬ح ‪ ) 110 ( 431 / 4‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 307 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 345‬ح ‪ / 376 - 3‬ح ‪ ) 111 ( 671 / 2‬ف ح ‪ - 671 ، 182 / 2‬ح ‪- 166 / 1‬‬
‫كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 114‬ف ح ‪ - 83 / 1‬ف ح ‪ - 400 / 4‬ح ‪ - 83 / 1‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 400‬ح ‪ - 166 ، / 831‬ح ‪ - 400 ، 54 / 3‬ح ‪ - 83 / 1‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬ف ح‬
‫‪ - 612 ، 117 ، 612 / 2‬ح ‪ - 166 / 1‬ح ‪ - 117 / 2‬ح ‪ - 151 / 3‬ح ‪ - 671 / 2‬ح‬
‫‪430 - ، 22 / 4‬ح ‪ - 399 ، 151 / 3‬ح ‪ - 44 / 2‬ح ‪ - 166 / 1‬ح ‪ - 498 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 57‬ح ‪ - 552 ، 213 ، / 552 2‬ح ‪ - 676 / 1‬ح ‪ - 203 / 2‬ح ‪ - 729 / 1‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 457‬ح ‪/ 166 - 1‬ح ‪ - 562 / 3‬ح ‪ - 531 / 2‬ح ‪ - 351 / 3‬ح ‪) 115 ( 430 / 4‬‬
‫ف ح ‪ - 381 ، 156 ، / 3813‬كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪ - 407 / 2‬ح ‪) 119 ( 663 / 1‬‬
‫كتاب اإلسراء ( ‪ ) 120‬ف ح ‪ ) 121 ( 565 ، 467 / 2‬ف ح ‪ - 430 / 4‬ح ‪- 381 / 3‬‬
‫كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪ - 381 / 4‬ح ‪ - 407 / 2‬ح ‪ - 351 / 3‬ح ‪ - 523 / 1‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 306‬ح ‪ ) 122 ( 86 / 2‬ف ح ‪ - 751 / 1‬ح ‪ - 141 / 2‬ح ‪ - 656 / 1‬ح ‪141 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ / 230 - 4‬ح ‪ - 656 / 1‬ح ‪ - 230 / 4‬ح ‪ - 141 / 2‬ح ‪ - 656 / 1‬ح ‪- 365 / 4‬‬
‫كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 125‬كتاب رد اآليات المتشابهات ( ‪ ) 126‬كتاب رد اآليات‬
‫المتشابهات ( ‪ ) 130‬ف ح ‪ ) 131 ( 419 ، 95 ، 419 / 4‬ف ح ‪481 ( ، 125 / 4‬‬
‫) ‪132‬ف ح ‪ ) 134 ( 542 / 1‬ف ح ‪ ) 135 ( 16 / 4‬كتاب المشاهد ‪.‬سورة األنبياء‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ - 48 - 380 / 3‬كتاب التراجم ( ‪ ) 2‬ف ح ‪ - 226 / 4‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪3‬‬
‫‪ - 365 /‬ح ‪ - 239 / 2‬ح ‪ - 315 / 4‬ح ‪ - 239 / 2‬ح ‪ - 315 / 4‬ح ‪- 367 / 1‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 226‬ح ‪ - 367 ، 551 / 1‬ح ‪ - 63 / 2‬ح ‪ - 365 / 3‬ح ‪ - 402 / 4‬كتاب األعالق ‪-‬‬
‫ف ح ‪ - 428 ، 63 / 2‬ح ‪ - 363 / 4‬ح ‪ - 190 / 2‬ح ‪ ) 7 ( 127 / 3‬ف ح ‪2 / 190‬‬
‫) ‪( 8‬ف ح ‪ ) 16 ( 149 ، 133 / 1‬ف ح ‪ ) 17 ( 415 / 2‬ف ح ‪ - 163 / 3‬ح‬

‫‪572‬‬
‫‪ ) 19 ( 93 / 4‬ف ح ‪ ) 20 ( 93 / 4‬ف ح ‪ - 67 / 3‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪500 -‬ح ‪ ) 22 ( 108 ، 89 / 2‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪ - 619 / 2‬ح ‪ - 680 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪619 -‬ح ‪ - 262 / 1‬ح ‪ - 13 / 4‬ح ‪ - 289 / 2‬ح ‪ - 13 / 4‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪-‬‬
‫ف ح ‪ ) 23 ( 137 ، 80 / 3‬ف ح ‪ - 240 / 4‬ح ‪ - 405 / 1‬كتاب الجالل والجمال ‪ -‬ف‬
‫ح ‪ - 560 ، 64 / 2‬ح ‪ ) 25 ( 364 / 4‬ف ح ‪ ) 28 ( 414 / 2‬ف ح ‪/ 414 ( 29 2‬‬
‫)ف ح ‪ ) 30 ( 137 ، 136 ، 437 ، 136 / 4‬ف ح ‪ - 293 / 1‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪2‬‬
‫‪ - 455 /‬ح ‪ - 140 / 1‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪ - 293 / 1‬ح ‪332 ، / 2931 ، / 3243‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 174 / 2‬ح ‪ - 133 / 1‬ح ‪219 - ، 174 ، 219 ، 452 / 2‬ح ‪ - 356 / 4‬ح ‪2‬‬
‫‪ - 462 /‬ح ‪ - 219 / 4‬ح ‪ ) 31 ( 436 / 2‬عقلة المستوفز ) ‪( 33‬ف ح ‪، 291 / 1‬‬
‫‪ - 265‬ح ‪ - 438 / 3‬ح ‪ - 265 / 1‬ح ‪ - 433 / 2‬ح ‪ / 121 ( 35 ) 1‬ف ح ‪351 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ ) 37 ( 126 / 4‬ف ح ‪ ) 47 ( 427 / 4‬ف ح ‪ - 646 ، 645 ، 183 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 48 ( 294 ، 315‬ف ح ‪ ) 49 ( 107 / 2‬ف ح ‪ - 375 / 3‬ح ) ‪2 / 65 ( 50‬ف ح‬
‫‪ ) 58 ( 65 / 2‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 60‬ف ح ‪/ 243 - 1‬ح ‪ - 233 / 2‬ح ‪4‬‬
‫‪ ) 63 ( 357 /‬ف ح ‪ - 243 / 1‬ح ‪ - 323 / 4‬ح ‪ / 243 - 1‬ح ‪ - 323 / 4‬ح ‪350 / 3‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 243 / 1‬ح ‪ - 350 / 3‬ح ‪ - 243 / 1‬ح ‪ / 350 - 3‬ح ‪ - 323 / 4‬ح ‪( 243 / 1‬‬
‫‪ ) 65‬ف ح ‪ ) 67 ( 409 / 2‬ف ح ‪ ( 68 ) 310 / 3‬ف ح ‪ ) 69 ( 243 / 1‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 746 ، 723 ، 45‬ح ‪ ) 73 ( 307 / 4‬ف ح ‪( 78 ) 17 / 2‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب‬
‫النجاة ( ‪ ) 79‬فصوص الحكم ‪ -‬كتاب تلقيح األذهان ‪ -‬ف ح ‪ - 121 / 3‬كتاب نقش‬
‫الفصوص ( ‪ ) 83‬ف ح ‪ - 29 / 2‬ح ‪ - 216 / 4‬ح ) ‪2 / 343 ( 84‬ف ح ‪ - 29 / 2‬ح‬
‫‪ - 143 / 4‬كتاب اإلعالم ( ‪ ) 87‬ف ح ‪- 414 / 2‬ح ‪ - 210 / 1‬ح ‪ - 414 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 212‬ح ‪ ) 88 ( 412 / 2‬كتاب نقش الفصوص ‪ -‬ف ح ‪ - 356 / 4‬ح ‪ - 412 / 2‬كتاب‬
‫نقش الفصوص ( ‪ ) 89‬ف ح ‪ ) 91 ( 27 / 4‬ف ح ‪/ 199 ( 96 ) 4‬ف ح ‪( 330 / 3‬‬
‫‪ ) 98‬ف ح ‪ - 591 / 2‬ح ‪ - 118 / 3‬إيجاز البيان آية ‪ ) 99 ( 25‬ف ح ‪100 ( 725 / 1‬‬
‫) ف ح ‪ ) 101 ( 725 / 1‬ف ح ‪ - 725 / 1‬ح ‪ / 118 ( 102 ) 3‬ف ح ‪، 506 / 3‬‬
‫‪ - 118‬ح ‪ ) 103 ( 641 ، 259 / 1‬ف ح ‪ - 546 / 1‬ح ‪3 / 51 -‬ح ‪ - 546 / 1‬ح ‪2‬‬
‫‪ - 81 ، 510 /‬ح ‪ - 546 / 1‬ح ‪ - 125 / 2‬ح ‪ - 51 / 3‬ح ‪ - 655 / 1‬ح ‪ - 532 / 2‬ح‬
‫‪ - 546 / 1‬ح ‪ ) 104 ( 125 / 2‬كتاب تلقيح األذهان ‪ -‬ف ح ‪ ) 105 ( 471 / 2‬كتاب‬
‫التراجم ‪ -‬ح ‪ ) 107 ( 27 / 2‬ف ح ‪ / 411 - 2‬ح ‪ - 567 ، 519 / 3‬ح ‪ - 127 / 2‬ح‬

‫‪573‬‬
‫‪ - 519 ، 3 / 567‬ح ‪ - 215 / 1‬ح ‪ - 163 / 4‬ح ‪ - 127 / 2‬ح ‪، 93 ، 116 / 3‬‬
‫‪ - 398‬ح ‪ - 210 / 1‬ح ‪ - 519 ، 568 ، 567 / 3‬ح ‪ - 127 / 2‬ح ‪، 144 ، 143 / 3‬‬
‫‪ - 519‬ح ‪ ) 108 ( 420 ، 411 / 2‬ف ح ‪ ) 112 ( 735 / 1‬ف ح ‪ - 92 ، 52 / 2‬ح‬
‫‪- 235 / 4‬ح ‪ - 92 / 2‬ح ‪ - 579 / 1‬ح ‪ - 235 / 4‬ح ‪ - 579 / 1‬ح ‪، 76 ، 364 / 3‬‬
‫‪ - 364‬ح ‪ - 26 / 4‬ح ‪ - 597 / 1‬ح ‪ - 476 / 3‬ح ‪ - 54 / 4‬ح ‪. 112 / 3‬‬

‫سورة الحج‬
‫) ‪( 2‬ف ح ‪ ) 5 ( 388 ، 337 / 4‬ف ح ‪ - 247 ، 248 / 3‬ح ‪ - 109 / 2‬ح ‪332 / 1‬‬
‫‪536 - ،‬ح ‪ - 40 / 2‬ح ‪ - 415 / 4‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪ - 517 / 3‬إيجاز البيان آية ‪23‬‬
‫‪ -‬ف ح ‪ - 415 / 4‬ح ‪ ) 7 ( 517 / 3‬إيجاز البيان آية ‪ ) 8 ( 67‬ف ح ‪/ 152 ( 10 ) 3‬‬
‫ف ح ‪ ) 18 ( 543 ، 453 / 4‬ف ح ‪ - 511 ، 368 / 1‬ح ‪ - 328 / 2‬ح ‪/ 511 - 1‬ح‬
‫‪ - 305 / 2‬ح ‪ - 130 / 3‬ح ‪ - 511 ، 247 / 1‬ح ‪ - 130 / 3‬ح ‪- 305 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 306‬ح ‪ - 511 / 1‬ح ‪ - 328 / 2‬ح ‪ - 407 / 4‬ح ‪ - 305 / 2‬ح ‪( 25 ) 511 / 1‬‬
‫ف ح ‪ - 480 / 4‬ح ‪ - 380 / 3‬ح ‪ - 35 ، 521 / 4‬كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 26‬ف‬
‫ح ‪ ) 27 ( 702 ، 699 ، 666 ، 48 ، 47 ، 665 ، 50 / 1‬ف ح ‪/ 747 - 1‬ح ‪9 / 4‬‬
‫( ‪ ) 28‬ف ح ‪ - 735 / 1‬ح ‪ ) 29 ( 488 / 3‬ف ح ‪ - 590 ، 685 ، 721 / 1‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 230‬ح ‪ - 718 / 1‬ح ‪ - 520 / 3‬ح ‪ ( 30 ) 702 ، 708 ، 718 / 1‬ف ح ‪115 / 4‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 527 / 3‬ح ‪ - 399 / 1‬ح ‪ - 115 / 4‬ح ‪ ) 31 ( 229 / 3‬ف ح ‪/ 57 - 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ) 32 ( 485‬ف ح ‪ - 109 ، 413 ، 109 / 4‬ح ‪ - 527 / 3‬ح ‪- 672 / 2‬ح ‪398 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 6 / 4‬ح ‪ - 672 / 2‬ح ‪ - 527 / 3‬ح ‪ - 589 / 1‬ح ‪ - 527 / 3‬ح ‪ - 540 / 2‬ح‬
‫‪ - 527 / 3‬ح ‪ - 672 / 2‬ح ‪ - 527 / 3‬ح ‪ - 398 / 1‬ح ‪ ( 33 ) 413 / 4‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 34 ( 588‬إيجاز البيان آية ‪ - 4‬ف ح ‪ ) 35 ( 36 / 2‬ف ح ‪ / 36 ( 36 ) 2‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 564‬ح ‪ - 339 / 4‬ح ‪ ) 37 ( 754 ، 753 ، 588 / 1‬ف ح ‪، 754 ، / 5881‬‬
‫‪ - 588‬ح ‪ - 6 / 4‬ح ‪ ) 40 ( 598 / 2‬كتاب التنزالت الموصلية ) ‪ ( 41‬ف ح ‪( 33 / 2‬‬
‫‪ ) 46‬ف ح ‪ - 6 / 4‬ح ‪ - 125 ، 91 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ - 8‬ف ح ‪- 101 ، 13 / 3‬‬
‫إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪ - 83 / 4‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ - 652 / 2‬ح ‪، 340 / 4‬‬
‫‪ - 185‬ح ‪ - 13 / 3‬ح ‪ - 389 / 4‬ح ‪ ( 47 ) 213 / 3‬ف ح ‪ - 62 / 3‬ح ‪ - 441 / 2‬ح‬
‫‪ ) 52 ( 62 ، 548 / 3‬ف ح ‪ / 379 ( 54 ) 3 - 655 ، 515 / 1‬ف ح ‪55 ( 92 / 3‬‬
‫) ف ح ‪ ) 60 ( 564 / 3‬ف ح ‪ - 379 / 4‬ح ‪ ( 61 ) 122 / 3‬ف ح ‪-548 ، 561 / 3‬‬

‫‪574‬‬
‫كتاب الشأن ( ‪ ) 62‬كتاب فصوص الحكم ‪ -‬ف ح ‪ - 54 / 3‬فصوص الحكم ( ‪ ) 65‬ف ح‬
‫‪ ( 74 ) 438 ، / 4363‬كتاب الجالل والجمال ‪ -‬ف ح ‪ - 407 / 4‬ح ‪ - 515 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫) ‪407 ( 75‬ف ح ‪ ) 77 ( 258 ، 257 ، 254 / 2‬ف ح ‪ - 511 / 1‬الديوان ‪- 217 /‬‬
‫ف ح ‪ ) 78 ( 511 / 1‬ف ح ‪ - 148 / 2‬كتاب القسم اإللهي ‪ -‬ف ح ‪ - 620 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪685 -‬كتاب القسم اإللهي ‪ -‬ف ح ‪ - 50 / 3‬ح ‪. 85 / 4‬‬

‫سورة المؤمنون‬
‫) ‪( 2‬ف ح ‪ - 193 / 2‬ح ‪ ) 3 ( 501 / 1‬ف ح ‪ ) 8 ( 38 / 2‬ف ح ‪ ) 10 ( 39 / 2‬ف‬
‫ح ‪ ) 11 ( 27 / 4‬ف ح ‪ ) 12 ( 27 / 4‬ف ح ‪ ) 13 ( 331 / 1‬ف ح ‪ - 310 / 2‬ح ‪1‬‬
‫) ‪/ 331 ( 14‬كتاب روح القدس ‪ -‬ف ح ‪ - 331 / 1‬ح ‪ - 473 / 3‬ح ‪ - 345 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪434 -‬روح القدس ‪ -‬ف ح ‪ - 39 / 2‬ح ‪ - 101 / 3‬ح ‪ - 86 / 4‬ح ‪، 471 ، 511 / 2‬‬
‫‪511 -‬كتاب الشاهد ‪ -‬كتاب نقش الفصوص ( ‪ ) 18‬ف ح ‪ ) 27 ( 365 / 3‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫) ‪493 ( 53‬كتاب المشاهد ‪ -‬ف ح ‪ ) 57 ( 402 / 4‬ف ح ‪ ) 60 ( 37 / 2‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫) ‪164 ( 61‬ف ح ‪ - 421 / 4‬ح ‪ - 4 / 1‬ح ‪ - 39 / 2‬ح ‪ - 421 / 4‬ح ‪، 453 / 1‬‬
‫‪ - 453 ، 284‬ح ‪ ) 80 ( 556 / 3‬ف ح ‪ ) 86 ( 44 / 1‬ف ح ‪ ) 88 ( 436 / 2‬ف ح‬
‫‪ ( 91 ) 405 ، 528 ، / 2843‬ف ح ‪ ) 96 ( 579 / 2‬ف ح ‪ ) 101 ( 24 / 4‬ف ح‬
‫‪ / 237 ( 107 ) 4‬ف ح ‪ ) 108 ( 351 / 3‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬إيجاز البيان آية ‪174‬‬
‫‪-‬ف ح ‪ ) 109 ( 4 / 3‬ف ح ‪ ) 115 ( 553 / 3‬ف ح ‪ - 415 / 2‬ح ‪374 ، 306 / 3‬‬
‫) ‪( 116‬ف ح ‪ ) 117 ( 436 ، 415 / 2‬ف ح ‪ - 71 / 3‬ح ‪ - 409 / 2‬ح ‪- 309 / 3‬‬
‫ح ‪ - 405 / 1‬ح ‪ - 412 ، 477 ، 412 ، 559 ، 612 / 2‬ح ‪، 309 ، 94 ، 285 / 3‬‬
‫) ‪94 ( 118‬ف ح ‪. 553 ، 285 / 3‬‬

‫سورة النور‬
‫) ‪( 2‬ف ح ‪ - 635 / 1‬ح ‪ - 304 / 4‬ح ‪ - 334 / 3‬ح ‪ - 304 ، 234 / 4‬إيجاز البيان‬
‫آية ‪ - 55‬ف ح ‪ - 304 / 4‬ح ‪ ) 4 ( 334 / 3‬ف ح ‪ ) 9 ( 562 / 2‬ف ح ‪ / 524 - 1‬ح‬
‫‪ - 181 ، 180 / 3‬ح ‪ ) 10 ( 654 / 1‬ف ح ‪ ) 11 ( 302 / 4‬ف ح ‪ - 510 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 13 ( 425‬ف ح ‪ ) 15 ( 562 / 2‬ف ح ‪ ) 16 ( 540 / 2‬ف ح ‪ ( 22 ) 68 / 4‬ف ح‬
‫‪ - 47 / 4‬إيجاز البيان آية ‪ - 224‬ف ح ‪ - 47 / 4‬ح ‪ ) 24 ( 285 / 1‬كتاب التراجم ‪ -‬ف‬
‫ح ‪ - 171 / 3‬ح ‪ - 560 ، 451 / 2‬ح ‪ - 436 / 4‬ح ‪ - 75 ، 510 / 3‬ح ‪4 / 62 -‬ح‬
‫‪ - 75 / 3‬ح ‪ - 474 / 4‬ح ‪ - 75 / 3‬ح ‪ - 474 / 4‬ح ‪ - 75 / 3‬ح ‪ / 474 - 4‬ح‬

‫‪575‬‬
‫‪1 / 559 -‬ح ‪ - 510 / 3‬ح ‪ - 559 / 1‬ح ‪ ) 25 ( 75 / 3‬ف ح ‪ - 380 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪( 26 ) 436‬ف ح ‪ - 264 / 4‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 27‬ف ح ‪ ) 28 ( 473 / 4‬ف ح‬
‫‪ / 473 ( 30 ) 4‬ف ح ‪ - 531 / 1‬ح ‪ - 125 / 4‬ح ‪ ) 31 ( 338 ، 339 / 1‬كتاب‬
‫مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪ - 143 ، 142 ، 139 / 2‬ح ‪ ) 33 ( 408 ، 523 ، 408 / 1‬ف‬
‫ح ‪ / 487 ( 35 ) 4‬ف ح ‪ - 39 / 4‬ح ‪ - 432 / 2‬ح ‪ - 217 / 1‬ح ‪ - 647 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 392‬ح ‪1 / 740 -‬ح ‪ - 65 ، 392 / 3‬ح ‪ - 154 / 2‬ح ‪ - 659 / 1‬ح ‪ - 154 / 2‬ح‬
‫‪ - 393 ، / 3941‬ح ‪ - 198 / 3‬ح ‪ - 193 / 1‬ح ‪ - 198 / 3‬ح ‪ - 193 / 1‬كتاب‬
‫التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ - 357 / 3‬ح ‪ - 313 / 4‬ح ‪ - 687 / 2‬ح ‪ - 192 / 1‬كتاب‬
‫األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 434 / 1‬الديوان ‪ - 136 /‬ف ح ‪ - 345 / 4‬ح ‪ - 421 / 4‬كتاب‬
‫المبشرات ( ‪ ) 36‬ف ح ‪ - 541 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ ) 37 ( 116‬إيجاز البيان آية ‪ - 3‬ف‬
‫ح ‪ - 10 / 4‬ح ‪ - 541 / 1‬ح ‪ - 10 / 4‬ح ‪ - 541 / 1‬ح ‪ - 38 ، 611 / 2‬كتاب‬
‫التدبيرات اإللهية ( ‪ ) 38‬ف ح ‪ - 309 / 1‬كتاب نقش الفصوص ( ‪) 39‬ف ح ‪، 338 / 2‬‬
‫‪ - 455 ، 268‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 268 / 2‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪531 ، 455 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 573 / 1‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 338 / 2‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪127 ، 338 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ ) 40 ( 454 / 3‬ف ح ‪ - 619 ، 660 / 2‬ح ‪ / 243 - 3‬ح ‪ - 660 ، 659 / 2‬ح‬
‫‪ - 276 / 3‬ح ‪ - 312 / 4‬ح ‪ ) 41 ( 357 / 3‬ف ح ‪ / 276 - 3‬ح ‪ - 328 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 386‬ح ‪ - 328 / 2‬ح ‪ - 488 / 3‬ح ‪386 - ، 540 ، 721 / 1‬ح ‪ - 200 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 43 ( 540‬ف ح ‪ - 402 / 2‬ح ‪ - 396 / 4‬ح ‪632 ( 44 ) ، 402 / 2‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 45 ( 396 ، 159‬ف ح ‪ - 171 / 2‬كتاب األعالق ( ‪ ) 50‬ف ح ‪ ) 58 ( 434 / 4‬ف‬
‫ح ‪ - 594 / 1‬ح ‪ ) 61 ( 691 / 2‬ف ح ‪ - 429 / 1‬ح ‪- 126 / 2‬ح ‪. 435 / 4‬‬

‫سورة الفرقان‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ ) 2 ( 94 / 3‬ف ح ‪ ) 3 ( 444 ، 443 / 3‬ف ح ‪ ) 13 ( 241 / 3‬ف ح‬
‫‪ / 391 - 3‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬كتاب األعالق ( ‪ ) 17‬كتاب األعالق ( ‪ ) 19‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫) ‪185 ( 23‬ف ح ‪ ) 24 ( 589 / 1‬ف ح ‪ ) 25 ( 322 / 1‬ف ح ‪ - 4 / 3‬إيجاز البيان‬
‫آية ‪ ) 26 ( 210‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬ف ح ‪ ) 43 ( 270 / 3‬ف ح ‪، 451 ، / 2262‬‬
‫‪ ( 44 ) 583‬ف ح ‪ - 489 / 3‬ح ‪ - 149 / 4‬ح ‪ ) 45 ( 489 / 3‬ف ح ‪ / 238 - 4‬ح‬
‫‪ - 607 / 2‬ح ‪ - 224 / 4‬ح ‪ - 458 / 1‬ح ‪ - 606 ، 607 / 2‬ح ‪ - 224 / 4‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 458‬ح ‪ - 269 ، 47 / 3‬كتاب التراجم ‪ -‬ف ح ‪-435 ، 374 / 4‬‬

‫‪576‬‬
‫ح ‪3 / 279 -‬ح ‪ - 281 ، 187 ، 186 ، 190 / 3‬ح ‪ - 374 / 4‬كتاب الشاهد ( ‪) 47‬‬
‫ف ح ‪ ) 48 ( 237 / 1‬ف ح ‪ ) 53 ( 518 / 3‬ف ح ‪ ) 59 ( 453 / 3‬ف ح ‪- 140 / 1‬‬
‫ح ‪ - 12 ، / 11 4‬ح ‪ - 431 / 3‬ح ‪ - 391 / 2‬ح ‪ ) 60 ( 300 ، 128 / 3‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 310‬ح ‪ - 411 / 2‬ح ‪ - 512 / 1‬ح ‪ - 411 / 2‬ح ‪ - 108 / 1‬ح ‪- 310 ، 430 / 3‬‬
‫ح ‪ / 411 - 2‬ح ‪ - 512 / 1‬ح ‪ - 310 / 3‬ح ‪ ) 63 ( 512 / 1‬ف ح ‪ - 267 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 105‬ح ‪ ) 64 ( 203 / 4‬ف ح ‪ ) 65 ( 17 / 2‬ف ح ‪ ) 67 ( 339 / 2‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 183‬ح ‪/ 342 - 1‬ح ‪ ) 70 ( 17 / 2‬ف ح ‪ - 255 / 1‬ح ‪ - 123 / 4‬ح ‪- 352 / 3‬‬
‫ح ‪- 141 / 2‬ح ‪ - 240 / 4‬ح ‪ - 352 / 3‬ح ‪ - 639 ، 141 ، 492 ، 141 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 34 ، 27‬ح ‪ - 403 / 3‬ح ‪ - 34 / 4‬ح ‪ - 639 / 2‬ح ‪72 ( 417 ، 256 ، 255 / 1‬‬
‫) ف ح ‪.37 ، / 6202‬‬

‫سورة الشعراء‬
‫) ‪( 5‬ف ح ‪ - 63 / 2‬ح ‪ - 367 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ - 22‬ف ح ‪ - 129 / 4‬كتاب‬
‫األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 77 / 2‬ح ‪ - 357 ، 363 / 4‬ح ‪ - 127 / 3‬ح ‪ - 129 / 4‬ح ‪/ 742‬‬
‫‪ ( 21 ) 329 ، 74 ، 190 ،‬ف ح ‪ - 155 / 2‬ح ‪ - 125 ، 264 / 3‬ح ‪ - 183 / 4‬ح‬
‫‪ - 125 ، 3 / 264‬ح ‪ - 183 / 4‬ح ‪ - 155 / 2‬ح ‪ ) 22 ( 420 / 2‬ف ح ‪( 155 / 2‬‬
‫) ‪23‬ف ح ‪ - 20 / 4‬ح ‪ - 90 / 3‬ح ‪ - 194 / 1‬ح ‪ ) 24 ( 175 / 4‬ف ح ‪( 20 / 4‬‬
‫) ‪25‬ف ح ‪ ) 26 ( 20 / 4‬ف ح ‪ ) 27 ( 20 / 4‬ف ح ‪ - 90 / 3‬ح ‪) 28 ( 20 / 4‬‬
‫كتاب المشاهد ‪ -‬كتاب النجاة ‪ -‬ف ح ‪ ) 30 ( 20 / 4‬فصوص الحكم ‪ /‬فص ‪( 31 ) 25‬‬
‫فصوص الحكم ( ‪ ) 32‬فصوص الحكم ( ‪ ) 46‬ف ح ‪ - 235 / 1‬فصوص الحكم ) ‪( 48‬‬
‫فصوص الحكم ‪ -‬ف ح ‪ ) 78 ( 235 / 1‬ف ح ‪ ) 79 ( 204 / 1‬ف ح ‪) 80 ( 204 / 1‬‬
‫ف ح ‪ - 204 ، 1 / 672‬ح ‪ - 275 / 4‬ح ‪ - 393 / 1‬ح ‪ - 275 ، 97 / 4‬ح ‪393 / 1‬‬
‫( ‪) 82‬ف ح ‪ ) 99 ( 393 / 1‬ف ح ‪ ) 101 ( 298 / 1‬ف ح ‪ ) 109 ( 686 / 1‬ف ح‬
‫‪ ( 130 ) 168 ، / 1203‬ف ح ‪ ) 155 ( 281 / 3‬ف ح ‪ ) 193 ( 727 / 1‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 108‬ح ‪ ( 194 ) 568 ، 2 / 71‬ف ح ‪ - 108 ، 157 / 3‬ح ‪ - 427 / 4‬ح ‪568 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ / 427 - 4‬ح ‪ ) 197 ( 93 ، 94 / 3‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 214‬ف ح ‪610 / 2‬‬
‫) ‪( 218‬ف ح ‪ ) 219 ( 322 / 3‬ف ح ‪ ) 224 ( 102 ، 34 / 2‬ف ح ‪227 ( 51 / 4‬‬
‫) ف ح ‪ / 403 - 2‬ح ‪ - 51 / 4‬ح ‪.391 / 3‬‬

‫‪577‬‬
‫سورة النمل‬
‫) ‪( 4‬ف ح ‪ - 150 ، 197 ، 150 / 2‬إيجاز البيان آية ‪ ) 8 ( 212‬ف ح ‪ - 256 / 3‬ح‬
‫‪ - 70 / 2‬ح ‪ - 256 / 3‬كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 9‬ف ح ‪277 - ، 269 ، 74 / 2‬ح‬
‫‪ ) 10 ( 119 / 3‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 14‬ف ح ‪ - 138 / 4‬ح ‪3 / 243 -‬ح‬
‫‪ - 526 / 4‬ح ‪ - 83 / 3‬ح ‪ - 374 ، 306 / 2‬ح ‪ - 354 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ - 7‬ف ح ‪3‬‬
‫‪ - 83 /‬ح ‪ - 28 / 2‬ح ‪ - 243 / 3‬ح ‪ ) 16 ( 526 / 4‬ف ح ‪/ 154 ( 19 ) 3‬ف ح ‪1‬‬
‫‪ - 230 /‬كتاب النجاة ( ‪ ) 21‬كتاب النجاة ( ‪ ) 23‬كتاب األعالق ( ‪ ) 24‬إيجاز البيان آية‬
‫‪ - 12‬ف ح ‪ ) 25 ( 415 / 2‬ف ح ‪) 26 ( 512 / 1‬ف ح ‪ - 415 / 2‬ح ‪( 512 / 1‬‬
‫‪ ) 27‬ف ح ‪ ) 29 ( 359 / 4‬كتاب فصوص الحكم ‪ /‬فص ‪ ) 30 ( 16‬كتاب اإلسراء ‪-‬‬
‫كتاب النجاة ( ‪ ) 40‬ف ح ‪ - 73 / 4‬ح ‪ - 120 /‬كتاب نقش الفصوص ‪ -‬ف ح ‪- 120 / 2‬‬
‫كتاب فصوص الحكم ‪ /‬فص ‪ ) 42 ( 16‬ف ح ‪ / 664 - 1‬ح ‪ - 15 / 2‬ح ‪ - 496 / 1‬ح ‪2‬‬
‫‪ - 495 ، 483 /‬ح ‪ - 496 / 1‬ح ‪ ( 43 ) 495 / 2‬ف ح ‪ ) 44 ( 483 / 2‬كتاب‬
‫فصوص الحكم ‪ /‬فص ‪ - 16‬كتاب نقش الفصوص ‪ -‬كتاب األعالق ( ‪ ) 50‬إيجاز البيان آية‬
‫‪ - 16‬ف ح ‪ - 536 / 2‬ح ‪ - 362 / 1‬ح ‪ / 530 - 2‬ح ‪ - 145 / 4‬ح ‪ - 530 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 145‬كتاب الشاهد ( ‪ ) 59‬ف ح ‪ - 96 / 4‬ح ‪ ) 62 ( 118 / 2‬ف ح ‪503 ، 507 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 4 / 3‬ح ‪ ) 63 ( 687 / 1‬ف ح ‪ / 4 ( 77 ) 3‬ف ح ‪ ) 82 ( 96 / 3‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ) 88 ( 258‬ف ح ‪ ) 89 ( 386 ، 345 / 2‬ف ح ‪ ) 91 ( 170 / 3‬ف ح ‪( 757 / 1‬‬
‫‪ ) 92‬ف ح ‪. 94 / 3‬‬

‫سورة القصص‬
‫) ‪( 7‬ف ح ‪ - 78 / 2‬كتاب رد اآليات المتشابهات ( ‪ ) 9‬كتاب فصوص الحكم ‪ /‬فص ( ‪25‬‬
‫) ‪10‬كتاب فصوص الحكم ( ‪ ) 12‬كتاب فصوص الحكم ( ‪ ) 13‬كتاب فصوص الحكم (‬
‫) ‪15‬ف ح ‪ - 362 / 1‬ح ‪ ) 17 ( 470 / 2‬ف ح ‪ ) 28 ( 386 / 4‬ف ح ‪( 256 / 3‬‬
‫‪) 29‬ف ح ‪ - 215 ، 256 / 3‬كتاب النجاة ( ‪ ) 30‬ف ح ‪ - 215 / 3‬كتاب األعالق ‪ -‬ف‬
‫ح ‪ - 70 / 4‬ح ‪ ) 34 ( 215 / 3‬ف ح ‪ - 349 / 3‬كتاب النجاة ( ‪ ) 38‬ف ح ‪، / 1783‬‬
‫‪ - 355‬ح ‪ - 301 / 1‬ح ‪ - 136 / 4‬ح ‪ - 178 / 3‬ح ‪ ) 41 ( 136 / 4‬إيجاز البيان آية‬
‫‪ ) 44 ( 122‬ف ح ‪ ) 46 ( 195 / 3‬كتاب األعالق ( ‪ ) 55‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 56‬ف‬
‫ح ‪ - 314 ، 180 / 4‬ح ‪ - 498 ، 14 / 3‬ح ‪ - 181 / 2‬ح ‪ ( 57 ) 60 / 4‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 604‬كتاب التراجم ( ‪ ) 60‬ف ح ‪ - 107 ، 494 / 4‬ح ‪) 68 ( 6 / 1‬ف ح ‪- 539 / 2‬‬
‫ح ‪ - 397 / 3‬ح ‪ - 169 / 2‬ح ‪ - 417 / 4‬ح ‪ - 539 ، 417 / 2‬ح ‪- 405 ، 1 / 385‬‬
‫ح‬

‫‪578‬‬
‫‪ - 201 ، 4 / 30‬ح ‪ - 375 ، 356 / 3‬ف مقدمة ‪ - 41 /‬إيجاز البيان آية ‪) 70 ( 195‬‬
‫ف ح ‪ - 416 / 2‬ح ‪ ) 73 ( 112 / 3‬ف ح ‪ ) 75 ( 207 ، 493 ، 207 / 1‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫) ‪350 ( 76‬ف ح ‪ - 440 ، 128 / 4‬ح ‪ ) 77 ( 187 ، 186 / 2‬ف ح ‪ - 344 / 2‬ح‬
‫‪/ 349 - 3‬ح ‪ - 114 / 4‬ح ‪ ) 83 ( 459 / 3‬ف ح ‪ - 383 / 1‬ح ‪ - 244 / 4‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪173 -‬ح ‪ - 244 / 4‬ح ‪ - 173 / 1‬ح ‪ - 57 / 3‬ح ‪ - 753 / 1‬ح ‪ - 57 / 3‬كتاب‬
‫الوصية ‪ -‬ف ح ‪ - 458 / 4‬كتاب الوصية ( ‪ ) 84‬ف ح ‪ - 170 / 3‬ح ‪( 86 ) 175 / 1‬‬
‫ف ح ‪ ) 88 ( 386 / 4‬ف ح ‪ - 417 / 4‬ح ‪ - 417 / 2‬ح ‪ - 419 / 3‬ح ‪ - 100 / 2‬ح‬
‫‪ - 419 ، / 373 3‬ح ‪ - 417 / 4‬ح ‪ - 419 / 3‬ح ‪ - 99 / 2‬ح ‪ - 255 / 3‬ح ‪، 99 / 2‬‬
‫‪224 -‬ح ‪ - 349 / 4‬ح ‪ - 443 ، 419 ، 255 / 3‬ح ‪ - 313 / 2‬ح ‪ - 255 / 3‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 416 ، 99‬ح ‪. 112 / 3‬‬

‫سورة العنكبوت‬
‫) ‪( 2‬ف ح ‪ ) 3 ( 248 / 3‬ف ح ‪ ) 4 ( 249 / 3‬ف ح ‪ ) 6 ( 473 ، 252 / 3‬ف ح‬
‫‪ / 72 - 3‬ح ‪ - 226 / 2‬ح ‪ ) 8 ( 160 / 3‬كتاب المشاهد القدسية ( ‪ ) 12‬ف ح ‪/ 303 1‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 195 / 3‬ح ‪ ) 13 ( 650 / 2‬ف ح ‪ - 77 / 3‬إيجاز البيان آية ‪) 14 ( 49‬ف ح ‪3‬‬
‫‪ ) 20 ( 50 /‬كتاب إنشاء الدوائر ‪ -‬ف ح ‪ - 120 ، 118 / 1‬كتاب عقلة المستوفز ( ‪) 27‬‬
‫كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪ ) 29 ( 230 ، 723 / 1‬ف ح ‪) 38 ( 252 / 3‬ف ح ‪( 149 / 2‬‬
‫‪ ) 43‬ف ح ‪ - 189 / 1‬ح ‪ - 243 ، 242 ، 417 / 3‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 44‬كتاب‬
‫إنشاء الدوائر ( ‪ ) 45‬ف ح ‪ - 111 / 4‬ح ‪ - 119 / 2‬ح ‪ - 421 ، / 5421‬ح ‪119 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 542 / 1‬ح ‪ - 119 / 2‬ح ‪ - 257 ، 462 ، 542 / 1‬ح ‪2 / 119 -‬ح ‪462 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 169 / 2‬ح ‪ - 257 ، 650 ، 543 ، 542 / 1‬ح ‪ / 111 - 4‬ح ‪543 ، 542 / 1‬‬
‫‪ - 257 ،‬ح ‪ - 119 ، 400 ، 119 / 2‬ح ‪ - 438 / 3‬ح ‪ - 404 ، / 1192‬ح ‪413 / 1‬‬
‫‪ - 415 ،‬ح ‪ ) 47 ( 494 / 3‬كتاب فصوص الحكم فص ‪ ( 50 ) 10‬ف ح ‪( 145 / 3‬‬
‫‪ ) 51‬ف ح ‪ ) 52 ( 145 / 3‬ف ح ‪ ) 56 ( 284 ، 133 ، 325 / 4‬ف ح ‪، 247 / 3‬‬
‫‪ ) 57 ( 250 ، 249 ، 224‬ف ح ‪ ) 64 ( 352 / 4‬ف ح ‪ - 317 / 1‬ح ‪2 / 86 -‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 244 /‬ح ‪ ) 65 ( 451 / 4‬ف ح ‪ ) 67 ( 208 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ ) 69 ( 126‬ف ح‬
‫‪ - 148 ، 145 ، 148 / 2‬ح ‪ - 412 / 4‬كتاب األمر المحكم المربوط ‪.‬سورة الروم‬
‫) ‪( 2‬ف ح ‪ - 60 / 1‬ح ‪ ) 3 ( 592 / 2‬ف ح ‪ ) 4 ( 60 / 1‬ف ح ‪( 362 ، 290 / 1‬‬
‫‪)8‬فح‬

‫‪579‬‬
‫‪ - 396 ، 2 / 390‬ح ‪ ) 9 ( 512 / 3‬ف ح ‪ ) 11 ( 443 / 4‬كتاب التنزالت الموصلية (‬
‫) ‪17‬ف ح ‪ ) 18 ( 539 / 1‬ف ح ‪ ) 20 ( 539 / 1‬ف ح ‪ - 498 ، 460 / 1‬الديوان ‪/‬‬
‫‪ ) 21 ( 148‬ف ح ‪ - 428 / 2‬ح ‪ - 18 / 3‬ح ‪ - 206 / 1‬ح ‪557 - ، 428 / 2‬كتاب‬
‫التنزالت الموصلية ( ‪ ) 22‬ف ح ‪ ) 23 ( 419 / 2‬ف ح ‪( 24 208 ، 206 ، 207 / 1‬‬
‫)ف ح ‪ ) 27 ( 44 / 1‬ف ح ‪ - 289 / 4‬ح ‪ - 149 / 2‬ح ‪، 363 ، 116 ، 326 / 3‬‬
‫‪ ( 28 ) 116‬إيجاز البيان آية ‪ - 10‬كتاب األعالق ( ‪ ) 29‬ف ح ‪ / 48 ( 30 ) 4‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 722‬ح ‪ - 616 / 2‬ح ‪ - 70 / 2‬ح ‪ - 24 / 3‬ح ‪534 - ، 69 / 2‬ح ‪ - 347 / 4‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 230 ، 255 ، 117 /‬ح ‪ ) 41 ( 534 / 2‬ف ح ‪ ( 47 ) 391 ، 476 ، 261 / 4‬ف‬
‫ح ‪ - 328 / 3‬ح ‪ - 325 ، 283 / 4‬ح ‪ - 167 / 3‬ح ‪ - 283 / 4‬ح ‪ - 328 / 3‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 247‬كتاب التراجم ( ‪ ) 54‬ف ح ‪ - 281 / 4‬ح ‪ - 213 / 1‬ح ‪4 / 11 -‬ح ‪- 275 / 1‬‬
‫ح ‪ - 282 ، 11 ، 281 / 4‬ح ‪ - 241 / 1‬ح ‪ - 11 / 4‬ح ‪ / 275 - 1‬ح ‪ - 29 / 2‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 379 /‬ح ‪ - 282 / 4‬ح ‪ - 241 / 1‬ح ‪281 - ، 11 ، 281 / 4‬ح ‪- 213 ، 275 / 1‬‬
‫ح ‪ - 415 / 4‬كتاب الشاهد ‪.‬‬

‫سورة لقمان‬
‫) ‪( 7‬ف ح ‪ ) 10 ( 25 / 4‬كتاب التراجم ‪ -‬ف ح ‪ ) 11 ( 459 ، 418 ، 417 / 3‬ف ح‬
‫‪4 / 289 -‬كتاب عنقاء مغرب ( ‪ ) 12‬ف ح ‪ ) 13 ( 217 / 2‬كتاب فصوص الحكم فص‬
‫‪23 -‬كتاب نقش الفصوص ‪ -‬ف ح ‪ - 354 / 3‬ح ‪ - 241 / 4‬ح ‪، 241 ، 355 / 3‬‬
‫‪ ( 14 ) 355‬إيجاز البيان آية ‪ - 233‬ف ح ‪ - 171 / 3‬ح ‪ - 142 / 1‬كتاب األعالق ‪ -‬ف‬
‫ح ‪3 / 171 -‬ح ‪ - 142 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ - 200‬ف ح ‪ - 204 / 2‬ح ‪ - 309 / 4‬ح‬
‫‪2 / 204 -‬ح ‪ ) 15 ( 64 / 1‬ف ح ‪ - 506 / 1‬ح ‪ - 114 / 4‬ح ‪ - 359 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫) ‪114 ( 18‬ف ح ‪ ) 20 ( 342 / 2‬ف ح ‪ - 38 / 3‬كتاب إنشاء الدوائر ‪ -‬ف ح ‪/ 60 1‬‬
‫‪-‬ح ‪ ) 22 ( 256 ، 350 ، 97 / 4‬ف ح ‪ ) 26 ( 118 / 4‬ف ح ‪ ( 27 ) 265 / 3‬كتاب‬
‫رد اآليات المتشابهات ‪ -‬ف ح ‪ - 65 / 4‬ح ‪ - 525 / 3‬ف ح ‪ - 65 ، 166 / 4‬ح ‪3 /‬‬
‫‪525 -‬ح ‪ - 552 ، 423 ، 459 ، 90 / 2‬ح ‪ ) 29 ( 436 / 1‬ف ح ‪639 ، 552 / 2‬‬
‫‪-‬ح ‪ ) 30 ( 246 / 3‬ف ح ‪ ) 31 ( 322 / 4‬ف ح ‪ - 696 / 1‬ح ‪ ( 33 ) 564 / 3‬ف‬
‫ح ‪ ) 34 ( 238 / 1‬ف ح ‪. 412 / 2‬‬

‫سورة السجدة‬
‫) ‪( 2‬ف ح ‪ ) 8 ( 63 / 1‬ف ح ‪ ) 12 ( 250 / 3‬ف ح ‪ - 485 / 3‬ح ‪) 13 ( 170 / 2‬‬
‫فح‬

‫‪580‬‬

‫‪580‬‬
‫) ‪4 / 426 ( 15‬ف ح ‪ ) 16 ( 512 / 1‬ف ح ‪ - 89 ، 17 / 2‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب‬
‫النجاة ( ‪ ) 17‬ف ح ‪ - 538 / 3‬ف ح ‪ - 117 ، 89 / 2‬ح ‪ - 542 / 3‬الديوان ‪( 148 /‬‬
‫) ‪22‬ف ح ‪ ) 26 ( 440 / 4‬ف ح ‪ ) 27 ( 115 / 3‬ف ح ‪ - 628 / 2‬ح ‪. 351 / 3‬‬

‫سورة األحزاب‬
‫) ‪( 4‬ف ح ‪ - 731 / 1‬ح ‪ ) 5 ( 332 / 4‬ف ح ‪ ) 6 ( 437 / 4‬كتاب تلقيح األذهان ‪-‬ف‬
‫ح ‪ ) 7 ( 229 / 3‬ف ح ‪ - 58 / 4‬كتاب النجاة ( ‪ ) 8‬ف ح ‪249 - ، 468 ، 249 / 3‬ح‬
‫‪ - 28 / 2‬كتاب الشاهد ( ‪ ) 13‬ف ح ‪ - 407 / 1‬كتاب األعالق ‪ -‬كتاب النجاة ‪ -‬كتاب‬
‫المشاهد ‪ -‬ف ح ‪ - 386 / 2‬كتاب الشاهد ( ‪ ) 21‬ف ح ‪456 - ، 397 / 4‬ح ‪- 153 / 3‬‬
‫ح ‪ - 711 / 1‬ح ‪ - 501 / 3‬ح ‪ ) 23 ( 181 / 4‬ف ح ‪ - 10 / 4‬ح ‪3 / 328 -‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 24 ( 57‬ف ح ‪ ) 26 ( 28 / 2‬ف ح ‪ ) 29 ( 340 / 4‬ف ح ‪ / 460 ( 30 ) 1‬ف ح‬
‫‪ ) 31 ( 27 / 2‬ف ح ‪ ) 32 ( 27 / 2‬ف ح ‪ ) 33 ( 486 / 1‬ف ح ‪ / 126 - 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 196‬ح ‪ - 126 / 2‬ح ‪ - 196 / 1‬ح ‪ - 513 / 2‬ح ‪ - 196 / 1‬إيجاز البيان آية ‪- 231‬‬
‫ف ح ‪ - 282 ، 196 / 1‬كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪ ) 34 ( 197 / 1‬ف ح ‪) 35 ( 365 / 4‬‬
‫ف ح ‪ - 30 ، 397 ، 30 ، 29 ، 26 ، 23 / 2‬ح ‪- 474 ، 457 / 3‬ح ‪ - 397 / 2‬ح‬
‫‪ - 212 / 3‬ح ‪ ) 36 ( 23 ، 397 ، 30 / 2‬ف ح ‪ ( 37 ) 106 ، 122 / 4‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 38 ( 302 ، 181 ، 180‬كتاب القسم اإللهي ‪ -‬ف ح ‪ ( 40 ) 181 / 4‬ف ح ‪513 / 3‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 181 / 4‬كتاب المسامرات ‪ -‬ف ح ‪ - 513 / 3‬ح ‪ - 48 / 2‬ح ‪ - 513 / 3‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ) 41 ( 48‬ف ح ‪ - 539 / 1‬الديوان ‪ - 107 /‬ف ح ‪ - 461 / 4‬ح ‪ - 229 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 299‬ح ‪ - 229 / 2‬ح ‪ - 299 / 3‬ح ‪ - 229 ، 228 / 2‬ح ‪ / 36 - 4‬ح ‪ - 713 / 1‬ح‬
‫‪ ) 42 ( 36 / 4‬ف ح ‪ ) 43 ( 539 / 1‬ف ح ‪754 - ، 539 ، 386 / 1‬ح ‪- 119 / 2‬‬
‫ح ‪ - 190 / 4‬ح ‪ - 119 / 2‬ح ‪ - 54 / 3‬ح ‪539 ( 46 ) ، 540 ، 539 / 1‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 642‬ح ‪ - 111 / 3‬ح ‪ ) 50 ( 664 ، 462 / 1‬ف ح ‪ - 153 / 3‬ح ‪ - 146 / 1‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 512 /‬ح ‪ ) 51 ( 637 / 1‬كتاب المسامرات ( ‪ ) 52‬ف ح ‪ / 193 - 2‬إيجاز البيان آية‬
‫‪ - 221‬ف ح ‪ - 193 / 2‬كتاب المسامرات ‪ -‬ف ح ‪ - 208 / 2‬ح ‪ - 73 / 4‬ح ‪- 208 / 2‬‬
‫ح ‪ - 455 / 1‬ح ‪ ) 53 ( 254 / 4‬ف ح ‪ ) 55 ( 356 / 4‬ف ح ‪ ) 56 ( 344 / 2‬ف ح‬
‫‪( 57 ) 540 ، 722 ، 546 ، 544 ، 431 ، 387 ، 481 ، 539 ، 529 ، 539 / 1‬‬
‫ف ح ‪ - 730 / 1‬ح ‪ - 317 / 4‬ح ‪ - 680 ، 356 / 1‬ح ‪ - 206 / 2‬ح ‪ - 317 / 4‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 36 /‬ح ‪ - 317 / 4‬ح ‪ - 36 / 3‬ح ‪ - 318 / 4‬ح ‪730 - ، 612 / 1‬ح ‪463 / 3‬‬

‫‪581‬‬
‫) ‪( 58‬ف ح ‪ ) 59 ( 381 / 3‬ف ح ‪ - 408 / 1‬كتاب المسامرات ( ‪ ) 67‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪( 69 ) 340‬ف ح ‪ ) 70 ( 241 ، 490 / 3‬ف ح ‪ - 238 / 1‬ح ‪ ) 71 ( 241 / 3‬ف ح‬
‫‪ / 241 ( 72 ) 1‬ف ح ‪ - 185 / 4‬ح ‪ - 58 / 2‬ح ‪ - 138 / 4‬ح ‪ - 629 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪185 - ، 292‬ح ‪ - 333 ، 2 ، 490 / 3‬ح ‪ - 185 / 4‬ح ‪ - 170 / 2‬ح ‪ - 185 / 4‬ح‬
‫‪ - 2 / 3‬ح ‪ - 519 / 2‬ح ‪ - 2 / 3‬ح ‪ - 138 / 4‬ح ‪ - 630 ، 20 ، 421 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪. 691‬‬

‫سورة سبأ‬
‫) ‪( 2‬ف ح ‪ ) 6 ( 458 / 3‬ف ح ‪ ) 10 ( 246 / 2‬كتاب فصوص الحكم فص ‪ - 17‬كتاب‬
‫نقش الفصوص ‪ -‬ف ح ‪ - 593 / 2‬فصوص الحكم فص ‪ ) 13 ( 17‬كتاب فصوص الحكم‬
‫فص ‪- 17‬ف ح ‪ - 202 / 2‬ح ‪ - 242 / 4‬ح ‪ - 564 / 3‬ح ‪ - 202 / 2‬ح ‪ - 242 / 4‬ح‬
‫‪ / 202 - 2‬ح ‪ - 503 / 1‬كتاب نقش الفصوص ( ‪ ) 19‬كتاب األعالق ( ‪ ) 21‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪- 182‬ح ‪ ) 23 ( 405 ، 120 / 3‬ف ح ‪ - 528 / 1‬ح ‪ - 159 / 4‬ح ‪ - 215 / 3‬ح ‪4‬‬
‫‪/ 195 -‬ح ‪ - 215 / 3‬ح ‪ - 195 / 4‬ح ‪ - 215 / 3‬ح ‪ - 255 / 2‬ح ‪ - 215 / 3‬ح ‪2‬‬
‫‪/ 14 -‬ح ‪ - 195 / 4‬ح ‪ - 78 / 2‬ح ‪ - 195 / 4‬ح ‪ - 215 / 3‬ح ‪ - 195 / 4‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪255 -‬ح ‪ - 159 / 4‬ح ‪ - 399 / 1‬ح ‪ - 215 / 3‬ح ‪ - 195 / 4‬ح ‪ ) 26 ( 78 / 2‬ف‬
‫ح ) ‪2 / 588 ( 28‬ف ح ‪ - 143 / 3‬ح ‪ - 221 / 4‬ح ‪ - 134 / 2‬ح ‪ - 135 / 1‬ح ‪2‬‬
‫‪/ 139 -‬ح ‪ - 135 / 1‬ح ‪ - 134 / 2‬ح ‪ - 135 / 1‬ح ‪ - 139 / 2‬ح ‪ - 135 / 1‬ح ‪2‬‬
‫‪ - 134 ، 138 ، / 134‬ح ‪ - 135 / 1‬ح ‪ - 413 / 3‬ح ‪ - 135 / 1‬ح ‪، 413 / 3‬‬
‫‪ ( 37 ) 251‬ف ح ‪ - 452 / 1‬ح ‪ ) 39 ( 351 / 4‬ف ح ‪ - 148 / 4‬ح ‪، 571 / 1‬‬
‫‪ ) 46 ( 576‬ف ح ‪ - 563 ، 561 / 3‬ح ‪ ) 47 ( 620 / 2‬ف ح ‪. 23 / 4‬‬

‫سورة فاطر‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ - 568 / 1‬ح ‪ - 67 ، 70 / 2‬ح ‪ ) 4 ( 54 ، 385 ، 261 / 3‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫) ‪310 ( 3‬ف ح ‪ ) 6 ( 417 ، 166 / 2‬ف ح ‪ ) 8 ( 249 / 1‬ف ح ‪ - 388 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 141 ، 150 ، 141‬ح ‪ - 494 / 4‬ح ‪ - 309 / 3‬ح ‪ - 141 / 2‬ح ‪ - 270 / 4‬كتاب‬
‫تاج الرسائل ( ‪ ) 10‬ف ح ‪ - 191 / 1‬ح ‪ - 33 / 3‬ح ‪ - 191 / 1‬ح ‪ - 228 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 523 ، 33‬ح ‪ ) 12 ( 296 / 2‬إيجاز البيان آية ‪ - 11‬ف ح ‪ - 453 / 2‬ح ‪/ 390 ( 3‬‬
‫) ‪13‬ف ح ‪ ) 15 ( 357 / 4‬ف ح ‪ - 601 ، 263 / 2‬ح ‪ - 35 / 3‬ح ‪ - 249 / 4‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 469‬ح ‪ - 196 / 4‬ح ‪ - 544 / 3‬ح ‪ - 228 / 1‬ح ‪ - 601 ، 263 / 2‬ح ‪، / 124‬‬
‫‪ - 212‬ح‬

‫ص ‪582‬‬

‫‪582‬‬
‫‪2 / 63 -‬ح ‪ - 35 / 3‬ح ‪ - 92 / 1‬ح ‪ - 263 / 2‬ح ‪ - 212 ، 286 / 4‬ح ‪- 405 / 3‬‬
‫ح ‪4 / 286 -‬ح ‪ - 100 / 2‬ح ‪ - 286 / 4‬ح ‪ - 272 ، 19 ، 272 ، 19 / 3‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 16‬ح ‪ - 228 / 1‬ح ‪ - 63 / 2‬ح ‪ - 262 / 1‬ح ‪ - 200 / 2‬ح ‪ - 262 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 590‬ح ‪3 / 460 -‬الديوان ‪ ) 16 ( 194 /‬إيجاز البيان آية ‪ - 21‬ف ح ‪، 169 / 2‬‬
‫‪ ( 18 ) 539‬ف ح ‪ ) 19 ( 160 / 2‬ف ح ‪ ) 20 ( 121 / 3‬ف ح ‪) 24 ( 539 / 1‬‬
‫كتاب عنقاء مغرب ‪ -‬إيجاز البيان الفاتحة آية ‪ - 4‬ف ح ‪ - 352 ، 50 ، 491 / 3‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪147 -‬ح ‪ ) 25 ( 388 ، 153 / 3‬كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 27‬ف ح ‪( 459 / 3‬‬
‫) ‪28‬ف ح ‪ - 383 / 1‬ح ‪ - 130 / 4‬ح ‪ - 193 / 2‬ح ‪ - 360 / 1‬ح ‪ - 322 / 3‬ح ‪4‬‬
‫‪ - 130 ، / 54‬ح ‪ - 322 / 3‬ح ‪ ) 29 ( 131 ، 5 / 4‬ف ح ‪( 590 ، 579 ، 573 / 1‬‬
‫) ‪30‬ف ح ‪ ) 32 ( 202 / 2‬ف ح ‪ - 417 / 4‬ح ‪ - 402 / 3‬ح ‪- 9 ، 360 ، 136 / 2‬‬
‫ح ‪4 / 417 -‬ح ‪ - 136 / 2‬ح ‪ - 424 / 4‬ح ‪ - 160 ، 532 / 2‬ح ‪ - 73 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪104 -‬ح ‪ - 395 ، 417 ، 395 ، 354 ، 164 ، 73 / 4‬ح ‪ - 22 / 2‬ح ‪- 352 / 4‬‬
‫كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 35‬ف ح ‪ - 338 / 4‬ح ‪ ) 37 ( 321 / 1‬ف ح ‪( 243 / 3‬‬
‫) ‪39‬ف ح ‪ ) 42 ( 643 / 2‬ف ح ‪. 226 / 3‬‬

‫سورة يس‬
‫ف ح ‪ - 172 / 2‬ح ‪ ) 1 ( 464 / 1‬ف ح ‪ - 693 / 2‬ح ‪ ) 10 ( 279 / 3‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪( 12 ) 278‬ف ح ‪ - 287 / 4‬ح ‪ - 180 / 1‬ح ‪ - 287 ، 83 / 4‬ح ‪) 19 ( 112 / 3‬‬
‫ف ح ‪/ 377 ( 37 ) 2‬ف ح ‪ - 141 ، 388 / 1‬كتاب الشأن ‪ -‬ف ح ‪، 716 ، 141 / 1‬‬
‫‪ - 660‬ح ‪ - 647 / 2‬ح ‪ ) 38 ( 12 / 3‬ف ح ‪ - 396 ، 198 / 4‬ح ‪ - 493 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪396 ( 39 ) ، 377‬ف ح ‪ - 111 / 3‬ح ‪ - 440 / 2‬ح ‪ - 436 / 3‬ح ‪ - 440 / 2‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 436 /‬ح ‪ - 431 / 2‬ح ‪ ) 40 ( 438 ، 436 / 3‬ف ح ‪ - 443 ، 433 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 141‬ح ‪ / 53 - 3‬عقلة المستوفز ( ‪ ) 51‬ف ح ‪ ) 52 ( 66 / 3‬إيجاز البيان آية ‪57 ( 3‬‬
‫) ف ح ‪ ) 59 ( 641 / 1‬ف ح ‪ - 220 / 3‬ح ‪ - 301 ، 298 ، 302 / 1‬ح ‪- 220 / 3‬‬
‫ح ‪ / 301 - 1‬إيجاز البيان آية ‪ ) 65 ( 31‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ - 412 / 1‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 171 /‬ح ‪ ) 69 ( 419 / 4‬ف ح ‪ - 274 / 2‬ح ‪ - 458 / 3‬ح ‪ - 56 / 1‬ح ‪/ 458 3‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 56 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ - 149‬ف ح ‪ - 458 / 3‬ح ‪ - 56 / 1‬ح ‪/ 58 ( 70 ) 3‬‬
‫كتاب تلقيح األذهان ( ‪ ) 71‬ف ح ‪ - 294 / 3‬ح ‪ - 297 / 4‬ح ‪ ( 73 ) 294 / 3‬ف ح ‪2‬‬
‫‪ - 465 /‬ح ‪ ) 77 ( 490 / 3‬ف ح ‪ ) 82 ( 355 / 3‬ف ح ‪ - 588 / 2‬ح ‪، / 424 4‬‬
‫‪ - 430‬ح‬

‫ص ‪583‬‬

‫‪583‬‬
‫‪ - 741 ، 1 / 168‬ح ‪4 / 3‬‬

‫سورة الصافات‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ - 448 / 1‬ح ‪ ) 2 ( 446 / 3‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬ف ح ‪) 3 ( 446 / 3‬‬
‫ف ح ‪ ) 6 ( 257 ، 256 / 2‬ف ح ‪ - 548 / 3‬كتاب اإلسفار ( ‪ ) 7‬ف ح ‪( 8 516 / 1‬‬
‫)ف ح ‪ ) 10 ( 531 / 3‬ف ح ‪ ) 35 ( 450 / 2‬ف ح ‪ ) 48 ( 417 / 2‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪356 -‬ح ‪ ) 55 ( 530 / 1‬ف ح ‪ ) 56 ( 679 / 2‬ف ح ‪ ) 57 ( 679 / 2‬كتاب مواقع‬
‫النجوم ( ‪ ) 60‬ف ح ‪ ) 61 ( 113 / 4‬ف ح ‪ ) 64 ( 113 / 4‬كتاب اإلسراء ( ‪ ) 67‬ف‬
‫ح ‪ ) 89 ( 565 / 3‬كتاب اإلسراء ( ‪ ) 95‬ف ح ‪ ) 96 ( 612 / 2‬ف ح ‪20 ، 213 / 4‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 348 / 1‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬ف ح ‪ - 378 ، 347 / 1‬ح ‪ - 396 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪227 -‬ح ‪ - 727 ، 171 / 1‬ح ‪ - 350 / 4‬ح ‪ - 212 ، 211 ، 566 / 3‬ح ‪- 89 / 2‬‬
‫ح ‪ - 410 ، 126 / 4‬ح ‪ - 203 / 2‬ح ‪ - 348 / 1‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬كتاب التدبيرات‬
‫اإللهية ( ‪ ) 102‬ف ح ‪ - 240 / 4‬فصوص الحكم ‪ -‬كتاب النجاة ‪ -‬كتاب اإلسفار ( ‪) 103‬‬
‫كتاب النجاة ( ‪ ) 105‬كتاب فصوص الحكم ( ‪ ) 106‬كتاب فصوص الحكم ‪ -‬إيجاز البيان آية‬
‫‪ ) 107 ( 50‬ف ح ‪ - 629 / 1‬ح ‪ - 240 / 4‬كتاب فصوص الحكم ‪ -‬ف ح ‪، 564 / 1‬‬
‫‪ ) 138 ( 596‬ف ح ‪ ) 145 ( 240 / 1‬ف ح ‪ ( 146 ) 212 / 1‬كتاب نقش الفصوص (‬
‫‪ ) 147‬كتاب الجالل والجمال ( ‪ ) 148‬كتاب الجالل والجمال ‪-‬ف ح ‪) 150 ( 415 / 2‬‬
‫ف ح ‪ ) 153 ( 367 / 3‬ف ح ‪ ) 158 ( 162 / 3‬ف ح ‪ / 367 ( 164 ) 3‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 296‬ح ‪ - 184 ، 54 / 3‬ح ‪ - 255 / 2‬ح ‪ - 258 / 1‬ح ‪ / 385 ( 166 ) 2‬ف ح ‪2‬‬
‫‪ ) 171 ( 520 /‬ف ح ‪ ) 173 ( 535 ، 334 / 2‬ف ح ‪ - 140 / 3‬ح ‪( 42 ، 35 / 2‬‬
‫‪ ) 177‬ف ح ‪ ) 180 ( 338 / 1‬ف ح ‪ - 536 / 3‬ح ‪- 344 ، 697 / 1‬ح ‪- 536 / 3‬‬
‫ح ‪ - 401 / 2‬ح ‪ - 536 / 3‬ح ‪ - 542 / 2‬ح ‪ - 93 / 1‬ح ‪ - 412 / 4‬ح ‪ - 580 / 2‬ح‬
‫‪ - 372 ، 132 / 4‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 372 / 4‬ح ‪ - 53 / 2‬ح ‪3 / 538 -‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 283‬ح ‪ ) 181 ( 148 / 3‬ف ح ‪ ) 182 ( 537 ، 196 / 3‬ف ح ‪196 ، / 537 3‬‬

‫‪.‬سورة ص‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ ) 3 ( 71 / 1‬ف ح ‪ ) 4 ( 350 / 4‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ) ‪ ( 5‬ف ح‬
‫‪ - 590 / 2‬إيجاز البيان آية ‪ - 163‬ف ح ‪ - 106 ، 254 / 4‬ح ‪409 - ، 590 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 248 ، 94‬ح ‪ - 591 ، 590 / 2‬ح ‪ - 254 / 4‬ح ‪ ) 7 ( 178 / 3‬ف ح ‪2 / 417 -‬‬
‫كتاب النجاة ( ‪ ) 9‬ف ح ‪ ) 15 ( 57 / 2‬ف ح ‪ ( 16 ) 190 / 3‬الديوان ‪ ) 17 ( 93 /‬ف‬
‫ح‬
‫ص ‪584‬‬

‫‪584‬‬
‫‪2 / 468 -‬كتاب فصوص الحكم فص ‪ ) 18 ( 17‬ف ح ‪ ) 20 ( 471 / 4‬ف ح ‪269 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪4 / 258 -‬ح ‪ - 456 / 3‬فصوص الحكم ‪ -‬ف ح ‪ - 269 / 2‬ح ‪ - 456 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 258 ، 338 ، 25‬ح ‪ ) 24 ( 240 / 1‬ف ح ‪ - 305 / 2‬ح ‪ - 655 ، 133 / 4‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 513‬ح ‪ - 155 / 4‬ح ‪ - 513 / 1‬ح ‪ - 155 / 4‬كتاب تلقيح األذهان ( ‪ ) 26‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪96 -‬ف ح ‪ - 155 / 4‬ح ‪ - 191 / 3‬ح ‪ - 107 ، 155 / 4‬ح ‪ - 96 / 2‬ح ‪، 138 / 3‬‬
‫‪ - 138 ، 364‬ح ‪ - 336 / 2‬ح ‪ - 191 / 3‬ح ‪ - 107 ، 48 / 4‬ح ‪، 308 ، 336 / 2‬‬
‫‪404 -‬ح ‪ - 476 / 4‬ح ‪ ) 27 ( 191 / 3‬ف ح ‪ ) 29 ( 191 / 3‬ف ح ‪، 513 / 1‬‬
‫‪ - 504‬ح ‪ - 472 / 3‬ح ‪ ) 30 ( 618 ، 401 ، 513 / 1‬كتاب فصوص الحكم ( ‪) 32‬‬
‫ف ح ‪ / 207 ( 33 ) 2‬كتاب النجاة ‪ -‬الديوان ‪ - 440 /‬ف ح ‪ ) 34 ( 207 / 2‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 544 ، 207‬ح ‪ - 133 / 1‬كتاب تلقيح األذهان ‪ -‬ف ح ‪ - 544 / 2‬ح ‪( 35 186 / 3‬‬
‫)ف ح ‪ - 585 / 1‬كتاب نقش الفصوص ‪ -‬ف ح ‪ - 585 ، 584 ، 585 / 1‬كتاب النجاة‬
‫‪-‬ف ح ‪ ) 36 ( 173 / 1‬ف ح ‪ - 585 / 1‬ح ‪ - 450 / 2‬كتاب فصوص الحكم فص ‪( 16‬‬
‫‪) 39‬ف ح ‪ - 585 / 1‬كتاب نقش الفصوص ‪ -‬ف ح ‪ ) 40 ( 188 / 2‬ف ح ‪( 207 / 2‬‬
‫‪ ) 42‬كتاب فصوص الحكم فص ‪ - 18‬كتاب نقش الفصوص ( ‪ ) 43‬كتاب نقش الفصوص (‬
‫) ‪44‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب نقش الفصوص ‪ -‬ف ح ‪ - 206 / 2‬ح ‪ - 408 / 4‬ح ‪، 29 / 2‬‬
‫‪ - 189 ، 206‬ح ‪ ) 47 ( 143 / 4‬ف ح ‪ ) 62 ( 36 ، 39 / 2‬ف ح ‪( 64 ) 126 / 2‬‬
‫إيجاز البيان آية ‪ - 36‬ف ح ‪ ) 65 ( 299 / 1‬ف ح ‪ - 619 / 2‬ح ‪ ) 69 ( 323 / 4‬ف ح‬
‫‪ - 251 / 2‬ح ‪ - 26 / 3‬ح ‪ - 391 / 4‬ح ‪ - 586 / 1‬ح ‪ - 432 / 3‬ح ‪ - 586 / 1‬ح ‪2‬‬
‫‪/ 93 -‬ح ‪ - 26 / 3‬ح ‪ - 651 / 2‬ح ‪ - 447 / 4‬ح ‪ - 26 / 3‬ح ‪ - 472 / 2‬ح ‪/ 26 3‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 408 / 4‬ح ‪ - 26 / 3‬ح ‪ - 408 / 4‬ح ‪ - 26 / 3‬ح ‪ - 391 / 4‬ح ‪ / 137 - 3‬ح‬
‫‪ ) 71 ( 391 / 4‬ف ح ‪ - 70 / 2‬ح ‪ - 410 / 4‬ح ‪ ) 72 ( 70 / 2‬كتاب عقلة المستوفز ‪-‬‬
‫ف ح ‪ - 751 / 1‬كتاب التدبيرات اإللهية ( ‪ ) 73‬ف ح ‪ - 426 / 2‬ح ‪ - 168 / 1‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 279 ، 278‬ح ‪ ) 74 ( 426 / 2‬ف ح ‪ ) 75 ( 426 / 2‬ف ح ‪/ 4 - 2‬ح ‪، 351 / 3‬‬
‫‪ - 291‬ح ‪ - 122 / 1‬ح ‪ - 67 / 2‬ح ‪ - 295 / 3‬ح ‪468 - ، 4 / 2‬ح ‪ - 291 / 3‬كتاب‬
‫فصوص الحكم ‪ -‬ف ح ‪ - 312 / 4‬ح ‪ - 137 ، 291 / 3‬ح ‪ - 174 ، / 4682‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 245‬ح ‪ - 70 ، 255 / 2‬ح ‪ ) 76 ( 300 / 3‬ف ح ‪ ( 82 ) 468 / 2‬ف ح ‪368 / 3‬‬
‫‪ -‬ح ‪ ) 83 ( 718 / 1‬ف ح ‪ - 467 / 2‬ح ‪ ) 85 ( 368 ، 381 / 3‬ف ح ‪ - 368 / 3‬ح‬
‫‪.134 / 1‬‬

‫ص ‪585‬‬

‫‪585‬‬
‫سورة الزمر‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ ) 2 ( 310 / 2‬ف ح ‪ - 362 / 1‬ح ‪ - 591 / 2‬ح ‪ ) 3 ( 345 / 4‬ف ح ‪4‬‬
‫‪/ 57 -‬ح ‪ - 221 / 2‬إيجاز البيان آية ‪ - 196‬ف ح ‪ - 301 / 1‬ح ‪، 377 ، 376 / 3‬‬
‫‪ - 308 ، 243 ، 77 ، 376‬إيجاز البيان آية ‪ - 25‬ف ح ‪ - 308 / 3‬ح ‪408 ، 409 / 2‬‬
‫‪-‬ح ‪ ) 4 ( 178 / 3‬ف ح ‪ - 579 / 2‬ح ‪ - 162 / 3‬ح ‪ - 92 / 4‬ح ‪ - 162 / 3‬ح ‪4 /‬‬
‫‪93 -‬ح ‪ - 580 / 2‬ح ‪ - 162 / 3‬ح ‪ - 614 ، 580 / 2‬ح ‪ ) 5 ( 84 / 3‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪395 -‬كتاب عقلة المستوفز ( ‪ ) 6‬ف ح ‪ - 62 / 2‬ح ‪ - 265 / 3‬ح ‪) 7 ( 418 / 2‬ف ح‬
‫‪ - 182 / 4‬ح ‪ ) 8 ( 359 / 1‬كتاب التدبيرات اإللهية ( ‪ ) 9‬ف ح ‪ - 312 ، / 1524‬ح‬
‫‪ - 370 / 2‬ح ‪ - 478 ، 245 / 3‬ح ‪ - 145 / 4‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪، 120 / 3‬‬
‫‪ ) 10 ( 121‬ف ح ‪ - 539 / 3‬ح ‪ ) 14 ( 28 / 2‬ف ح ‪) 17 ( 468 / 3‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 537‬ح ‪ ) 18 ( 70 / 2‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪ - 105 / 4‬كتاب التنزالت الموصلية‬
‫‪ -‬ف ح ‪ - 39 / 2‬ح ‪ - 339 / 1‬ح ‪ ) 19 ( 417 ، 105 / 4‬ف ح ‪، 217 ، / 58 3‬‬
‫‪ ( 21 ) 240‬ف ح ‪ ) 22 ( 332 / 1‬كتاب شعب اإليمان ‪ -‬ف ح ‪ / 82 ( 28 ) 3‬إيجاز‬
‫البيان المقدمة ( ‪ ) 30‬ف ح ‪ - 634 / 1‬ح ‪ - 356 ، 415 / 4‬ح ‪/ 109 ( 33 ) 2‬ف ح‬
‫‪ - 644 / 2‬ح ‪ ) 42 ( 218 / 3‬ف ح ‪ - 37 / 2‬ح ‪ - 507 / 4‬ح ‪/ 111 ( 45 ) 3‬‬
‫إيجاز البيان الفاتحة ‪ - 3‬ف ح ‪ ) 47 ( 328 / 3‬ف ح ‪619 - ، 55 / 2‬كتاب فصوص‬
‫الحكم فص ‪ - 12‬ف ح ‪ - 278 / 3‬ح ‪ - 277 / 4‬ح ‪ - 285 / 1‬ح ‪ - 277 ، / 3464‬ح‬
‫‪ ) 52 ( 532 / 1‬ف ح ‪ ) 53 ( 224 / 4‬ف ح ‪ - 446 / 4‬ح ‪ - 183 ، 148 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 4‬ح ‪ - 171 / 2‬ح ‪ - 567 ، 183 / 3‬ح ‪ - 446 / 4‬ح ‪ - 171 / 2‬ح ‪، 567 / 3‬‬
‫‪ - 183‬ح ‪ - 240 ، 446 / 4‬ح ‪ - 734 / 1‬ح ‪ - 393 ، 567 / 3‬ح ‪ / 304 - 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 183 ، 353 ، 388‬ح ‪ - 171 / 2‬ح ‪ - 148 / 3‬ح ‪ - 304 ، 446 / 4‬ح ‪، 183 / 3‬‬
‫‪ - 148 ، 567‬ح ‪ - 4 / 4‬ح ‪ - 309 / 3‬إيجاز البيان الفاتحة ‪ - 3‬ف ح ‪ - 433 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 4‬ح ‪ - 353 / 3‬ح ‪ - 239 / 4‬الديوان ‪ ) 56 ( 152 /‬ف ح ‪/ 289 - 3‬ح ‪- 278 / 2‬‬
‫كتاب رد اآليات المتشابهات ( ‪ ) 59 - 58‬كتاب رد اآليات المتشابهات ( ‪ ) 60‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 62 ( 276‬ف ح ‪ ) 63 ( 369 / 3‬ف ح ‪ / 266 ( 65 ) 4‬ف ح ‪ - 410 ، 138 / 2‬ح‬
‫‪ - 238 / 3‬إيجاز البيان ( ‪ ) 67‬ف ح ‪ / 419 - 4‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 115 / 2‬ح ‪1‬‬
‫‪ ) 68 ( 95 /‬ف ح ‪ - 135 ، 108 / 3‬ح ‪2 / 41 -‬ح ‪ - 22 / 3‬ح ‪ - 587 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 22 ، 190‬ح ‪ - 160 / 4‬ح ‪ - 316 / 1‬ح ‪ - 627 / 2‬ح ‪ ) 69 ( 55 / 1‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ) 71 ( 485‬ف ح‬

‫ص ‪586‬‬

‫‪586‬‬
‫) ‪1 / 303 ( 73‬ف ح ‪ ) 74 ( 303 / 1‬ف ح ‪ - 180 / 4‬إيجاز البيان آية ‪ - 36‬ف ح‬
‫) ‪2 / 87 ( 75‬ف ح ‪ - 431 ، 420 / 3‬كتاب شجرة الكون ‪ -‬ف ح ‪ - 436 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪492 -‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة‪.‬‬

‫ص ‪587‬‬

‫‪587‬‬
‫فهرس الجزء الثالث‬
‫سورة الكهف‬
‫ّللا ‪3‬‬
‫إشارة ‪ -‬أحسن زينة على األرض رجال ه‬
‫بحث في الفتوة ‪4‬‬
‫ْت ِم ْن ُه ْم فِرارا ً » ‪. . .‬اآلية ‪6‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم لَ َولَّي َ‬
‫ت َ‬ ‫اطلَ ْع َ‬‫« لَ ِو َّ‬
‫س َك َم َع الَّذِينَ يَ ْدعُونَ َربَّ ُه ْم ِب ْالغَداةِ ‪» . . .‬اآلية ‪8‬‬ ‫ص ِب ْر نَ ْف َ‬‫« َوا ْ‬
‫ّللا ‪11‬‬ ‫نصيحة ‪ -‬اصبر نفسك مع أحباب ه‬
‫ّللا ال يضيع أجر من أحسن عمال ‪12‬‬ ‫تحقيق ‪ :‬إن ه‬
‫عدم تجلي الحق في األفعال وهو تعلق القدرة بالمقدور ‪17‬‬
‫إشارة ‪ -‬مجمع البحرين ‪19‬‬
‫إشارة ‪ -‬لم كان الدليل حوتا ؟ ‪19‬‬
‫عبْدا ً ِم ْن ِعبادِنا ‪» . .‬اآلية ‪20‬‬ ‫تفسير من باب اإلشارة ‪ «:‬فَ َو َجدا َ‬
‫استدراك ‪ -‬العلم وسوء الخلق ال يجتمعان ‪22‬‬
‫مراتب العلوم ‪ :‬علم العقل ‪ -‬علم األحوال ‪ -‬علم األسرار ‪22‬‬
‫حكمة تأخير االستثناء على الفعل ‪26‬‬
‫من كان وقته الكشف أنكر عليه ولم ينكر هو على أحد ‪27‬‬
‫ع ْن أ َ ْم ِري »أدب اإلضافة ‪29‬‬ ‫قول الخضر« َوما فَعَ ْلتُهُ َ‬
‫إشارة ‪ :‬سفينتك مركبك فاخرقه بالمجاهدة ‪30‬‬
‫يأجوج ومأجوج ‪32‬‬
‫ت َر ِبهي ‪» . . .‬اآلية ‪33‬‬ ‫« قُ ْل لَ ْو كانَ ْالبَ ْح ُر ِمدادا ً ِل َك ِلما ِ‬

‫‪588‬‬

‫‪588‬‬
‫شرف العالم بعضه على بعض بالمراتب ‪34‬‬
‫ّللا عليه وسلم أن يقول« قُ ْل ِإنَّما أَنَا بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم » *؟‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫إشارة ‪ :‬لم أمر الحق رسول ه‬
‫‪35‬‬
‫تحقيق ‪ :‬إخالص العمل هّلل من الشرك ‪37‬سورة مريم‬
‫ذكر الرحمة العبد ‪38‬‬
‫اسم يحيى عليه السالم ‪39‬‬
‫تعجب زكريا عليه السالم ورد الحق عليه ‪40‬‬
‫دقيقة ‪ :‬لم غلب على أمة عيسى القول بالصورة ‪44‬‬
‫خروج عيسى عليه السالم على صورة جبريل في المعنى واالسم والصورة ‪44‬‬
‫نقصان المرأة عن الرجل في العلم باألحدية الذاتية ‪45‬‬
‫مدة حمل عيسى عليه السالم ‪ ،‬والشاهدان ببراءة أمه ‪46‬‬
‫هارونَ »‪47‬‬
‫ت ُ‬ ‫قول بني إسرائيل لمريم عليها السالم ‪ «:‬يا أ ُ ْخ َ‬
‫ي ‪* » . . .‬اآلية ‪49‬‬ ‫علَ َّ‬
‫سال ُم َ‬
‫قول عيسى عليه السالم ‪َ «:‬وال َّ‬
‫يوم الحسرة ‪50‬‬
‫صفة الصدهيق ‪52‬‬
‫ّللا فال تناجه إال بكالمه ‪54‬‬ ‫نصيحة ‪ :‬إذا ناجيت ه‬
‫الوهب ‪54‬‬
‫إدريس عليه السالم ما مات إلى اآلن ‪56‬‬
‫الجنات الثالث ‪ :‬جنة األعمال ‪ ،‬وجنة االختصاص ‪ ،‬وجنة الميراث ‪58‬‬
‫نصيحة ‪ :‬ينبغي لك أن تحزن على ما يفوتك من جنة األعمال ‪58‬‬
‫تنزل األرواح واستنزالها ‪59‬‬
‫ّللا في اإلنسان علم كل شيء ‪60‬‬ ‫أودع ه‬
‫ّللا في شيئية وجودك على حالك إذ لم تكن شيئا ‪61‬‬ ‫نصيحة ‪ :‬كن مع ه‬
‫الحشر الروحاني والجسماني ‪62‬‬

‫‪589‬‬

‫‪589‬‬
‫الصراط يوم القيامة هو علم الشريعة في الدنيا ‪63‬‬
‫كيف يحشر المتقون إلى الرحمن ؟ ‪64‬‬
‫حكم العبادة للممكن في حال عدمه أمكن فيه منها في حال وجوده ‪66‬سورة طه‬
‫الرحمن على العرش استوى ‪67‬‬
‫المسألة األولى ‪ :‬األلفاظ التي تعطي التشبيه والتجسيم ‪67‬‬
‫المسألة الثانية ‪ :‬في االستواء ‪69‬‬
‫المسألة الثالثة ‪ :‬في معنى العرش ‪70‬‬
‫المسألة الرابعة ‪ :‬في تفسير اآلية ‪71‬‬
‫س َّر َوأ َ ْخفى »اآلية ‪72‬‬ ‫إشارة ‪ :‬قراءة ألبي العباس العريبي ‪ «72‬يَ ْعلَ ُم ال ِ ه‬
‫التوحيد السادس عشر وهو توحيد اإلبدال ‪73‬‬
‫األسماء الحسنى كلها للمرتبة ‪74‬‬
‫تجلي الحق لموسى عليه السالم في صورة النار ‪76‬‬
‫إشارة ‪ :‬خلع النعلين ‪78‬‬
‫التوحيد السابع عشر وهو توحيد االستماع وهو توحيد األناية ‪78‬‬
‫تفسير من باب إشارة ‪ :‬اإلنيتان المتميزتان ‪79‬‬
‫األعيان ال تنقلب ‪80‬‬
‫إشارة ‪ :‬سنعيدها سيرتها األولى ‪81‬‬
‫إشارة ‪ :‬تخرج بيضاء من غير سوء ‪81‬‬
‫إشارة ‪ :‬إلقاء موسى في التابوت وفي اليم ‪82‬‬
‫إيمان فرعون ‪ -‬قوله تعالى ‪ «:‬لَعَلَّهُ يَتَذَ َّك ُر أ َ ْو يَ ْخشى »‪84‬‬
‫قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السالم« ِإنَّنِي َمعَ ُكما أ َ ْس َم ُع َوأَرى »‪85‬‬
‫ش ْيءٍ خ َْلقَهُ ‪» . . .‬اآلية ‪86‬‬ ‫توحيد ‪ «-‬الَّذِي أَعْطى ُك َّل َ‬
‫‪590‬‬

‫‪590‬‬
‫ّللا تعالى العقل خلقه ‪91‬‬ ‫رقيقة ‪ -‬إعطاء ه‬
‫« ِم ْنها َخلَ ْقنا ُك ْم َو ِفيها نُ ِعي ُد ُك ْم ‪» . . .‬اآلية ‪93‬‬
‫فعل الساحر ‪94‬‬
‫س فِي نَ ْف ِس ِه ِخيفَةً ُموسى »اآلية ‪95‬‬ ‫« فَأ َ ْو َج َ‬
‫صنَعُوا »اآلية ‪96‬‬ ‫ف ما َ‬ ‫ق ما فِي يَ ِمينِ َك ت َ ْلقَ ْ‬ ‫« َوأ َ ْل ِ‬
‫إشارة ‪ :‬من ألقى نفسه في بحر إرادة مواله توالها بلطف حكمته ‪97‬‬
‫ّللاُ َخي ٌْر َوأَبْقى »اآلية ‪98‬‬ ‫« َو َّ‬
‫المحروم كل المحروم من ال يعلق همته هنا بتحصيل المعالي من األمور ‪99‬‬
‫نسبة األفعال إلى المخلوقين فيها إشكال ‪100‬‬
‫ِك ‪» . . .‬اآلية ‪101‬‬ ‫إشارة ‪ «:‬قا َل فَإِنَّا قَ ْد فَتَنَّا قَ ْو َم َك ِم ْن بَ ْعد َ‬
‫سو ِل »اآلية ‪104‬‬ ‫ضةً ِم ْن أَث َ ِر َّ‬
‫الر ُ‬ ‫ضتُ قَ ْب َ‬
‫إشارة ‪ :‬حياة القلوب في اتباع الشرائع ‪ «102‬فَقَبَ ْ‬
‫التوحيد الثامن عشر وهو توحيد السعة وهو توحيد التنزيه ‪105‬‬
‫« خا ِلدِينَ ِفي ِه ‪» . . .‬اآلية أي في حمل الوزر ال في العذاب ‪106‬‬
‫طونَ بِ ِه ِع ْلما ً »اآلية ‪108‬‬ ‫توحيد ‪َ «-‬وال يُ ِحي ُ‬
‫الوحي وحيان ‪ :‬وحي قرآن ووحي فرقان ‪َ «109‬وقُ ْل َربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلما ً »اآلية ‪109‬‬
‫ّللا ‪112‬‬ ‫تحقيق ‪ :‬الدعاء من العبد إظهار االفتقار إلى ه‬
‫ي ‪» . . .‬اآلية ‪112‬‬ ‫ع ِه ْدنا ِإلى آ َد َم ِم ْن قَ ْب ُل فَنَ ِس َ‬ ‫« َولَقَ ْد َ‬
‫االجتهاد ال يسوع مع وجود النص في المسألة ‪113‬‬
‫األمر اإللهي ال يخالف اإلرادة ‪114‬‬
‫لوال خطيئة آدم ما ظهرت سيادته في الدنيا ‪115‬‬
‫ضعف القول بتسرمد العذاب ‪116‬‬
‫ص ‪591‬‬

‫‪591‬‬
‫النساء زهرة حيث كن ‪118‬‬
‫« َو ِر ْز ُق َر ِبه َك َخي ٌْر َوأَبْقى »اآلية ‪118‬‬
‫صوا ‪» . . .‬اآلية ‪120‬‬ ‫ص فَت َ َربَّ ُ‬‫توحيد ‪ «-‬قُ ْل ُك ٌّل ُمت َ َر ِبه ٌ‬
‫سورة األنبياء‬
‫وصف الذكر وهو القرآن بأنه محدث وهو قديم ‪121‬‬
‫ما هي األجساد ؟ ‪123‬‬
‫هار ال يَ ْفت ُ ُرونَ »اآلية ‪125‬‬ ‫س ِبه ُحونَ اللَّ ْي َل َوالنَّ َ‬‫« يُ َ‬
‫الدليل العقلي على أحدية الخالق وهو مستند اإلمام الواحد ‪126‬‬
‫تحقيق ‪ :‬من احتج عليك بما سبق فهي حجة ال تنفع قائلها ‪128‬‬
‫التوحيد التاسع عشر وهو توحيد االقتدار والتعريف ‪ ،‬توحيد اإلناية ‪128‬‬
‫تحقيق ‪ :‬كما أن لكل أجل كتاب فلكل عمل جزاء ‪129‬‬
‫ي ٍ »اآلية ‪130‬‬ ‫ش ْيءٍ َح ه‬ ‫ماء ُك َّل َ‬ ‫« َو َجعَ ْلنا ِمنَ ْال ِ‬
‫تنفس األسماء بالهواء المذاب في الماء وأثر الرطوبة الجوية في الحياة ‪131‬‬
‫الزمان أمر متوهم ال حقيقة له ‪133‬‬
‫ّللا الموت تمحيصا لدعوى عباده في محبته ‪134‬‬ ‫خلق ه‬
‫تجسد المعاني ‪135‬‬
‫فتوة إبراهيم عليه السالم ‪ -‬ومن صفات الفتوة ‪137‬‬
‫قول إبراهيم عليه السالم« بَ ْل فَعَلَهُ َك ِب ُ‬
‫ير ُه ْم »‪138‬‬
‫النار تحرق بحقيقتها ال بصورتها ‪140‬‬
‫إشارة ‪ :‬إذا لم تراقب خواطرك فإنها تتصرف فيما ال ينبغي ‪141‬‬
‫الفهم درجة عليا في المحدثات ‪142‬‬
‫ّللا ال تقدح في الصبر ‪142‬‬ ‫الشكوى إلى ه‬
‫إشارة ‪ :‬الصبر مقاومة وهو سوء أدب في حق الكامل ‪143‬‬
‫‪592‬‬

‫‪592‬‬
‫التوحيد العشرون وهو توحيد الغم وهو توحيد المخاطب « أنت » ‪144‬‬
‫وحنا »اآلية ‪145‬‬ ‫قوله تعالى عن مريم عليها السالم« فَنَفَ ْخنا ِفيها ِم ْن ُر ِ‬
‫يأجوج ومأجوج ‪145‬‬
‫ع ْنها ُم ْبعَدُونَ »اآلية ‪147‬‬ ‫ت لَ ُه ْم ِمنَّا ْال ُحسْنى أُولئِ َك َ‬ ‫سبَقَ ْ‬ ‫« ِإ َّن الَّذِينَ َ‬
‫من هم الذين ال يحزنهم الفزع األكبر ؟ ‪148‬‬
‫بحث في اإلعادة ‪149‬‬
‫ناك ِإ َّال َر ْح َمةً ِل ْلعالَ ِمينَ »اآلية ‪149‬‬ ‫س ْل َ‬‫« َوما أ َ ْر َ‬
‫ق ‪» . . .‬اآلية ‪151‬‬ ‫اح ُك ْم بِ ْال َح ه ِ‬‫« قا َل َربه ِ ْ‬
‫سورة الحج‬
‫ت »اآلية ‪154‬‬ ‫علَ ْي َها ْالما َء ا ْهت َ َّز ْ‬
‫ت َو َربَ ْ‬ ‫هام َدة ً فَإِذا أ َ ْنزَ ْلنا َ‬
‫ض ِ‬ ‫« َوت َ َرى ْاأل َ ْر َ‬
‫داك ‪» . . .‬اآلية ‪156‬‬ ‫ت يَ َ‬ ‫« ذ ِل َك ِبما قَ َّد َم ْ‬
‫ّللا عليه وسلم سجود كل شيء ‪157‬‬ ‫ّللا تعالى محمدا صلهى ه‬ ‫أشد ه‬
‫بحث في اإلرادة ‪159‬‬
‫إشارة ‪ :‬قلب العبد كالكعبة تطوف به الخواطر ‪161‬‬
‫نصيحة ‪ :‬ال تزد في العهود ويكفيك ما جبرت عليه ‪163‬‬
‫إشارة ‪ :‬طواف القدوم وطواف الوداع ‪165‬‬
‫ّللا وتعظيمها ‪167‬‬ ‫شعائر ه‬
‫صفات المخبتين ‪169‬‬
‫اعتبار من إشعار البدن ‪170‬‬
‫ص ُرهُ »اآلية ‪172‬‬ ‫ّللاُ َم ْن يَ ْن ُ‬ ‫ص َر َّن َّ‬‫« َولَيَ ْن ُ‬
‫ُور »اآلية ‪173‬‬
‫صد ِ‬‫وب الَّتِي فِي ال ُّ‬ ‫ْصار َول ِك ْن ت َ ْع َمى ْالقُلُ ُ‬ ‫« فَإِنَّها ال ت َ ْع َمى ْاألَب ُ‬
‫هار فِي اللَّ ْي ِل » *اآلية ‪178‬‬ ‫هار َويُو ِل ُج النَّ َ‬ ‫« يُو ِل ُج اللَّ ْي َل فِي النَّ ِ‬
‫المعرفة تتعلق بأمرين الحق والحقيقة ‪180‬‬
‫حق الجهاد ‪182‬‬

‫‪593‬‬

‫‪593‬‬
‫رفع الحرج عن األمة ‪183‬‬
‫سورة المؤمنون‬
‫س ُن ْالخا ِل ِقينَ »اآلية ‪187‬‬
‫ّللاُ أ َ ْح َ‬
‫بار َك َّ‬ ‫الخشوع ‪ «185‬فَت َ َ‬
‫إشارة ‪ :‬العارفون كما هم اليوم يكونون غدا ‪191‬‬
‫المشفقون ‪191‬‬
‫« َوالَّذِينَ يُؤْ تُونَ ما آت َ ْوا َوقُلُوبُ ُه ْم َو ِجلَةٌ »اآلية ‪192‬‬
‫التوحيد الحادي والعشرون توحيد الحق وهو توحيد الهوية ‪198‬‬
‫ّللا إِلها ً آخ ََر ال بُ ْرهانَ لَهُ بِ ِه »اآلية ‪198‬‬‫ع َم َع َّ ِ‬‫« َو َم ْن يَ ْد ُ‬
‫اح ِمينَ » *‪200‬‬ ‫مسئلة ‪ :‬قوله تعالى« َخي ُْر َّ‬
‫الر ِ‬
‫سورة النور‬
‫حد الزنا ‪201‬‬
‫حكم الحاكم بعلمه ‪203‬‬
‫الفرق بين التواب الرحيم وبين التواب الحكيم ‪204‬‬
‫حكمة العقوبة بالكفارة ‪206‬‬
‫على من يقع العذاب ‪ ،‬على النفس الناطقة أم على الجوارح ‪207‬‬
‫ّللا الطيبين للطيبات من كونه طيبا ‪210‬‬ ‫جعل ه‬
‫حد التوبة ‪212‬‬
‫ض »اآلية ‪214‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ور ال َّ‬‫ّللاُ نُ ُ‬‫« َّ‬
‫قراءة ‪221‬‬
‫تفسير من مبشرة ‪221‬‬
‫لحوق النساء بالرجال في درجة الكمال ‪222‬‬
‫األكابر من الرجال ‪223‬‬

‫‪594‬‬

‫‪594‬‬
‫تحقيق ‪ :‬كل ما يعطيه الحس من المغاليط ‪ ،‬إنما الغلط للحاكم ‪224‬‬
‫تفسير من باب اإلشارة ‪ -‬الذين ستروا محبتهم ‪224‬‬
‫باّلل مثل معرفتك بالسراب ‪225‬‬ ‫إشارة ‪ :‬معرفتك ه‬
‫ور »اآلية ‪226‬‬ ‫ّللاُ لَهُ نُورا ً فَما لَهُ ِم ْن نُ ٍ‬ ‫« َو َم ْن لَ ْم يَ ْجعَ ِل َّ‬
‫ّللا عليه وسلم تسبيح من في السماوات واألرض ‪226‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رؤية رسول ه‬
‫صالتَهُ َوت َ ْس ِبي َحهُ »اآلية ‪227‬‬ ‫ع ِل َم َ‬ ‫« ُك ٌّل قَ ْد َ‬
‫السحاب وأنواع البروق ‪228‬‬
‫أول درجات التكليف ‪231‬‬
‫إشارة ‪ :‬المئوف ال حرج عليه ‪232‬‬
‫سورة الفرقان‬
‫ّللا تعالى الكتاب فرقانا في ليلة النصف من شعبان ‪233‬‬ ‫أنزل ه‬
‫ش ْيءٍ فَقَد ََّرهُ ت َ ْقدِيرا ً »اآلية ‪ -‬العماء وخلق العالم ‪233‬‬ ‫« َو َخلَقَ ُك َّل َ‬
‫ْت َم ِن ات َّ َخذَ ِإل َههُ هَواهُ »اآلية ‪243‬‬ ‫« أ َ َرأَي َ‬
‫الظ َّل ‪» . . .‬اآلية ‪245‬‬ ‫ْف َم َّد ِ ه‬ ‫« أ َ لَ ْم ت َ َر إِلى َر ِبه َك َكي َ‬
‫اعتبار ‪ :‬أنت ظل قام الدليل على أن التحريك للحق ال لك ‪247‬‬
‫ّللا ‪248‬‬ ‫إشارة ‪ :‬اإلنسان الكامل هو ظل ه‬
‫ّللا تعالى من مد الظل ‪249‬‬ ‫إشارة ‪ :‬معرفة ه‬
‫إشارة ‪ :‬الليل لباس ألهل المحبة يسترهم ‪249‬‬
‫دور البحر في تصفية الهواء ‪250‬‬
‫«ثم استوى على العرش فسأل به خبيرا » اآلية ‪251‬‬
‫سجدة االمتياز للمؤمن ‪252‬‬
‫عباد الرحمن ‪253‬‬
‫ت »اآلية ‪254‬‬ ‫سنا ٍ‬ ‫س ِيهئاتِ ِه ْم َح َ‬ ‫« فَأ ُ ْولئِ َك يُبَ ِ هد ُل َّ‬
‫ّللاُ َ‬
‫‪595‬‬

‫‪595‬‬
‫سورة الشعراء‬
‫ث »اآلية ‪258‬‬ ‫من ُم ْح َد ٍ‬
‫الر ْح ِ‬‫« َوما يَأ ْ ِتي ِه ْم ِم ْن ِذ ْك ٍر ِمنَ َّ‬
‫تحقيق ‪ :‬الخواطر واألوهام هي الحاكمة على الكثائف ‪261‬‬
‫حال الشمس في كل لحظة هو شروق واستواء وغروب ‪263‬‬
‫تفسير من باب اإلشارة ‪264‬‬
‫من أدب اإلضافة ‪ -‬ومعنى الحديث [ ال شفاء إال شفاؤك ] ‪266‬‬
‫طلب الرسل األجر من رب العالمين ‪269‬‬
‫ّللا عليه وسلم وأمته ‪272‬‬ ‫نزول القرآن على قلب محمد صلهى ه‬
‫الفرق بين نزول القرآن على قلب النبي ونزوله على قلب الولي ‪273‬‬
‫إشارة ‪ :‬القلب إذا سجد ال يرفع أبدا ‪275‬‬
‫ّللا واسعة ونعمته سابغة جامعة ‪276‬سورة النمل‬ ‫رحمة ه‬
‫نصيحة ‪ :‬ج هل الخير في السعي على الغير ‪277‬‬
‫تجلي الحق تعالى لموسى عليه السالم في عين حاجته ‪278‬‬
‫إشارة ‪ :‬لم قلبت العصا ثعبانا ‪278‬‬
‫إشارة ‪ :‬ال ترهب على الضعيف ‪280‬‬
‫إشارة ‪ :‬ال تعمل إال عن بينة من ربك ‪280‬‬
‫التوحيد الثاني والعشرون وهو توحيد الخبء ‪282‬‬
‫تقديم اسم سليمان عليه السالم شرع وقته ‪283‬‬
‫الذي أتى بالعرش هو آصف بن برخيا ‪284‬‬
‫إشارة ‪ :‬من قول بلقيس« َكأَنَّهُ ُه َو »‪286‬‬
‫ع ْن ساقَيْها »‪286‬‬ ‫ت َ‬‫شف َ ْ‬
‫إشارة ‪ :‬من فعل بلقيس« َو َك َ‬
‫نصيحة ‪ :‬من اعتمد على غير الحق جعل نصرته فيه مكرا ‪287‬‬
‫‪596‬‬

‫‪596‬‬
‫ّلل ‪* » . . .‬اآلية ‪288‬‬ ‫« َوقُ ِل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫تحقيق ‪ :‬كل مخلوق االضطرار يصحبه دائما ألنه حقيقته ‪289‬‬
‫ت ْالبَ ِ هر َو ْالبَ ْح ِر ‪» . . .‬اآلية ‪290‬‬ ‫إشارة ‪ «:‬أ َ َّم ْن يَ ْهدِي ُك ْم فِي ُ‬
‫ظلُما ِ‬
‫دابة األرض التي تخرج في آخر الزمان ‪291‬‬
‫ّللا ‪292‬‬
‫إشارة ‪ :‬من خصائص المحمديين من أهل ه‬
‫سورة القصص‬
‫سلطان الوحي أقوى من أن يقاوم ‪294‬‬
‫األدب في نسبة األفعال ‪296‬‬
‫إشارة ‪ :‬إذا جئت إلى الحق فال تترك منك مع الكون شيئا ‪298‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم وبين كالم الحق‬ ‫مسئلة ‪ :‬الفرق بين أثر نزول الوحي على رسول ه‬
‫لموسى عليه السالم ‪299‬‬
‫إشارة ‪ :‬ال تطلب ردءا سواه ‪300‬‬
‫األئمة رجالن ظالم وعادل ‪302‬‬
‫تحقيق ‪ :‬خطأ من قال إذا خرج الكالم من القلب وقع في القلب ‪304‬‬
‫تحقيق ‪ :‬الزاهد والعارف ‪305‬‬
‫«وربك يخلق من يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة » اآلية ‪306‬‬
‫تحقيق الجبر واالختيار ‪ :‬العبد مجبور في اختياره ‪307‬‬
‫نسبة االختيار إلى الحق تعالى ‪307‬‬
‫نصيحة ‪ :‬ال يختار العبد ما لم يختره له الحق ‪308‬‬
‫التوحيد الثالث والعشرون وهو توحيد االختيار ‪309‬‬
‫ّللا ال يُ ِحبُّ ْالفَ ِر ِحينَ »اآلية ‪ -‬الحزن في الدنيا ‪310‬‬ ‫« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللاُ ِإلَي َْك »اآلية ‪311‬‬ ‫سنَ َّ‬ ‫« َوأ َ ْح ِس ْن َكما أ َ ْح َ‬
‫« َو ْالعاقِبَةُ ِل ْل ُمت َّ ِقينَ » *اآلية ‪ -‬عدم العلو في األرض ‪312‬‬
‫ش ْيءٍ ها ِل ٌك ِإ َّال َو ْج َههُ »اآلية ‪ -‬وحدة الوجود ‪314‬‬ ‫« ُك ُّل َ‬
‫ص ‪597‬‬

‫‪597‬‬
‫التوحيد الرابع والعشرون وهو توحيد الحكم بالتوحيد ‪317‬‬
‫سورة العنكبوت‬
‫اس أ َ ْن يُتْ َر ُكوا أ َ ْن يَقُولُوا آ َمنَّا َو ُه ْم ال يُ ْفتَنُونَ »اآلية ‪317‬‬
‫ب النَّ ُ‬ ‫« أ َ َح ِس َ‬
‫وجه في سبق الرحمة ‪318‬‬
‫الذات اإللهية غنية عن العالمين ‪319‬‬
‫بدء الخلق ‪ :‬إيجاز البيان بضرب من اإلجمال ‪321‬‬
‫إسحاق عليه السالم موهوب ‪ ،‬وإسماعيل عليه السالم جمع له بين الكسب والوهب ‪324‬‬
‫األمثال ما جاءت مطلوبة ألنفسها ‪326‬‬
‫الحق المخلوق به ‪327‬‬
‫كون الصالة تنهى عن الفحشاء والمنكر ‪329‬‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر »اآلية ‪330‬‬ ‫« َولَ ِذ ْك ُر َّ ِ‬
‫مسألة ‪ :‬التكبير في الصالة ‪332‬‬
‫ضي وا ِسعَةٌ فَإِي َ‬
‫َّاي فَا ْعبُدُو ِن »‪335‬‬ ‫تفسير من باب اإلشارة ‪ِ «:‬إ َّن أ َ ْر ِ‬
‫إشارة ‪ :‬قلبك هو الكعبة في أرض بدنك ‪336‬‬
‫ّللا عليه وسلم أعدل األمزجة وأكملها ‪337‬‬ ‫محمد صلهى ه‬
‫سبُلَنا »اآلية ‪340‬‬ ‫« َوالَّذِينَ جا َهدُوا فِينا لَنَ ْه ِديَنَّ ُه ْم ُ‬
‫إشارة ‪ :‬السفر قطعة من العذاب ‪340‬‬
‫سورة الروم‬
‫على الج همل ‪341‬‬
‫الحق المخلوق به ‪342‬‬
‫اآليات المعتادة واآليات غير المعتادة ‪347‬‬
‫‪598‬‬

‫‪598‬‬
‫« َو ِم ْن آيا ِت ِه أ َ ْن َخلَقَ لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ُك ْم أ َ ْزواجا ً »اآلية ‪347‬‬
‫لطيفة ‪ :‬الجمال العرضي حجاب على الجمال المطلق ‪348‬‬
‫هار ‪» . . .‬اآلية ‪349‬‬ ‫« َو ِم ْن آياتِ ِه َمنا ُم ُك ْم بِاللَّ ْي ِل َوالنَّ ِ‬
‫بدء الخلق واإلعادة ‪351‬‬
‫القول بالمفهوم ضعيف في الداللة ‪352‬‬
‫ّللا »اآلية ‪353‬‬ ‫ق َّ ِ‬ ‫الفطرة ‪ «353‬ال ت َ ْبدِي َل ِلخ َْل ِ‬
‫ما ابتليت البرية وهي برية ‪ ،‬إنما هو جزاء ‪ ،‬ما هو ابتداء ‪355‬‬
‫ص ُر ْال ُمؤْ ِمنِينَ »اآلية وكيف يظهر الكافرون على المؤمنين ؟ ‪356‬‬ ‫علَيْنا نَ ْ‬ ‫« َوكانَ َحقًّا َ‬
‫تالزم النصر مع الصدق ‪358‬‬
‫ّللاُ الَّذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن َ‬
‫ض ْعفٍ ‪» . . .‬اآلية ‪360‬‬ ‫نصيحة وإشارة ‪َّ «:‬‬
‫سورة لقمان‬
‫اإلنسان الكامل قطب الفلك وهو العمد ‪362‬‬
‫الشرك ظلم عظيم لمن اتهخذ إلها من غير دعوى منه ‪363‬‬
‫ير »اآلية ‪ -‬األسباب ‪364‬‬ ‫ص ُ‬ ‫ي ْال َم ِ‬ ‫« أ َ ِن ا ْش ُك ْر ِلي َو ِلوا ِل َدي َْك إِلَ َّ‬
‫الرزق مضمون وهو لمن يأكله ال لمن يجمعه ‪ -‬تنبيه ‪365‬‬
‫ّللا عظيمة ظاهرة وباطنة ‪367‬‬ ‫كل نعم ه‬
‫ّللا ؟ ‪368‬‬ ‫ما هي كلمات ه‬
‫س ًّمى »اآلية ‪369‬‬ ‫« ُك ٌّل يَ ْج ِري ِإلى أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫سورة السجدة‬
‫ال حكم ألداة لو ‪373‬‬
‫ضاج ِع »اآلية ‪ ،‬إشارة من باب يحبهم ويحبونه ‪374‬‬ ‫ع ِن ْال َم ِ‬ ‫« تَتَجافى ُجنُوبُ ُه ْم َ‬
‫قرة العين ‪375‬‬
‫ذكر أخبار القرون الماضية ‪376‬‬
‫‪599‬‬

‫‪599‬‬
‫جميع الحواس ال تخطئ أبدا ‪377‬‬
‫سورة األحزاب‬
‫إشارة ‪ :‬األب في الوالدة الدينية ‪378‬‬
‫إشارة ‪ :‬الحق أولى بعباده المضافين إليه ‪379‬‬
‫ص ْدقِ ِه ْم »اآلية ‪379‬‬ ‫ع ْن ِ‬ ‫صا ِدقِينَ َ‬ ‫« ِليَ ْسئ َ َل ال َّ‬
‫قام لَ ُك ْم »‪380‬‬ ‫ب ال ُم َ‬ ‫إشارة ‪ «:‬يا أ َ ْه َل يَثْ ِر َ‬
‫نصيحة ‪ :‬ال راحة مع الخلق فارجع إلى الحق فهو أولى بك ‪381‬‬
‫سنَةٌ »اآلية ‪382‬‬ ‫ّللا أُس َْوة ٌ َح َ‬
‫سو ِل َّ ِ‬ ‫« لَقَ ْد كانَ لَ ُك ْم فِي َر ُ‬
‫« فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن قَضى ن َْحبَهُ »اآلية ‪385‬‬
‫ت ‪» . . .‬اآلية ‪387‬‬‫س أ َ ْه َل ْالبَ ْي ِ‬ ‫ع ْن ُك ُم ِ ه‬
‫الر ْج َ‬ ‫ب َ‬ ‫ّللاُ ِليُ ْذ ِه َ‬
‫« ِإنَّما يُ ِري ُد َّ‬
‫ت ‪» . . .‬اآلية طبقات األولياء ‪390‬‬ ‫« ِإ َّن ْال ُم ْس ِل ِمينَ َو ْال ُم ْس ِلما ِ‬
‫ّللا ؟ ‪396‬‬
‫ّللا تعالى ‪ :‬ومن يعص الرسول فقد عصى ه‬ ‫لم لم يقل ه‬
‫ّللا تعالى نبيه بنكاح زوجة من تبناه ‪397‬‬ ‫ابتلى ه‬
‫ّللا ‪399‬‬ ‫ّللا ه‬
‫الذكر باالسم المفرد ‪ :‬ه‬
‫شروط الذكر ‪400‬‬
‫إشارة للعارفين ‪ :‬الغيرة ‪401‬‬
‫علَ ْي ُك ْم َو َمالئِ َكتُهُ ‪» . . .‬اآلية ‪402‬‬ ‫ص ِلهي َ‬ ‫« ُه َو الَّذِي يُ َ‬
‫ّللا عليه وسلم سراج منير ‪405‬‬ ‫الرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪406‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫نكاح الهبة خاص برسول ه‬
‫ش ْيءٍ َرقِيبا ً »اآلية ‪407‬‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫« َوكانَ َّ‬
‫ّللا عليه وسلم بمرتبة لم تعط ألحد سواه ‪409‬‬ ‫تميز النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم كالصالة على إبراهيم ‪410‬‬ ‫ما معنى الصالة على النبي صلهى ه‬
‫ّللا أن تكون المنة هّلل وحده ‪413‬‬ ‫تحقيق ‪ :‬من غيرة ه‬
‫إشارة ‪ :‬مراتب الرجال في التسليم من الصالة ‪414‬‬
‫ص ‪600‬‬

‫‪600‬‬
‫ّللا عليه وسلم وبناته ‪415‬‬ ‫أزواج النبي صلهى ه‬
‫ض َو ْال ِجبا ِل ‪» . . .‬اآلية ‪417‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫علَى ال َّ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ضنَا ْاألَمانَةَ َ‬ ‫ع َر ْ‬ ‫« ِإنَّا َ‬
‫سورة سبأ‬
‫إشارة ال تفسير ‪ :‬على اإلنسان أن يعلم ما يلج في أرض طبيعته ‪421‬‬
‫إشارة ‪ :‬القلوب القاسية يلينها الزجر والوعيد ‪423‬‬
‫ور »اآلية ‪424‬‬ ‫ش ُك ُ‬ ‫« َوقَ ِلي ٌل ِم ْن ِعباد َ‬
‫ِي ال َّ‬
‫يظ »اآلية ‪425‬‬ ‫ش ْيءٍ َح ِف ٌ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫« َو َرب َُّك َ‬
‫الصالة على الميت شفاعة من المصلي عليه ‪426‬‬
‫فزع على قلوبهم ‪ » . . .‬اآلية ‪426‬‬ ‫«حتى إذا ه‬
‫اس »اآلية ‪ -‬شمول الرسالة المحمدية من آدم عليه السالم إلى يوم‬ ‫س ْل َ‬
‫ناك ِإ َّال َكافَّةً ِللنَّ ِ‬ ‫« َوما أ َ ْر َ‬
‫القيامة ‪429‬‬
‫ّللا عليه وسلم بأيدي نوابه ‪430‬‬ ‫جميع الشرائع هي شرع محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أكمل ظهور وأعدله ‪431‬‬ ‫نصيحة ‪ -‬ظهور الحق في مرآة محمد صلهى ه‬
‫إشارة ‪ :‬من اغترف نال الدرجات ‪433‬‬
‫المالئكة لسان خير على المؤمنين ال تدعو عليهم بشر ‪434‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن الحديث لمثل القرآن أو أكثر ] الحديث ‪435‬‬ ‫قوله صلهى ه‬
‫سأ َ ْلت ُ ُك ْم ِم ْن أ َ ْج ٍر فَ ُه َو لَ ُك ْم »اآلية ‪436‬‬ ‫" قُ ْل ما َ‬
‫سورة فاطر‬
‫الفرق بين العين ووجودها ‪438‬‬
‫س ًال ‪» . . .‬اآلية ‪ -‬أجنحة المالئكة ‪438‬‬ ‫« جا ِع ِل ْال َمالئِ َك ِة ُر ُ‬
‫إمساك الحق تعالى عطاء ‪439‬‬
‫التوحيد الخامس والعشرون وهو توحيد العلة ‪440‬‬
‫إشارة ‪ :‬حكمة من أحد عقالء المجانين ‪440‬‬
‫‪601‬‬

‫‪601‬‬
‫نصيحة ‪ :‬اإلنسان إذا كان في شيء لم ير حقيقته ومعناه ‪443‬‬
‫إشارة ‪ :‬ما ث هم إال عبد ورب ‪444‬‬
‫تسمية الحق باسم كل ما يفتقر إليه ‪445‬‬
‫باّلل ‪448‬‬
‫بحث في الغنى ه‬
‫الخلق كله أمم ‪ ،‬وفي كل أمة نذير من جنسها ‪451‬‬
‫سبب وضع الشريعة في العالم ‪452‬‬
‫سبب زرقة السماء ‪ ،‬وأثر البعد في التلوين العارض ‪453‬‬
‫كل عالم لم تظهر عليه ثمرة علمه وال حكم عليه علمه فليس بعالم ‪453‬‬
‫صدقة السر وصدقة العلن ‪454‬‬
‫الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات ‪455‬‬
‫إشارة ‪ :‬صح لنا ورث الكتاب ألنه أعطاه لنا من غير اكتساب ‪458‬‬
‫سورة يس« يس »اآلية ‪461‬‬

‫‪602‬‬
‫إشارة ‪ :‬اإلمام المبين ‪463‬‬
‫نظرية التصوير الشمسي ‪465‬‬
‫قراءة ابن مسعود « والشمس تجري ال مستقر لها » ‪466‬‬
‫بحث في فلك المنازل ‪466‬‬
‫إشارة ‪ :‬ال الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ‪468‬‬
‫من أين ضل القائلون بالتناسخ ؟ ‪469‬‬
‫حشر األجسام في اآلخرة ‪470‬‬
‫طوائف أهل النار ‪471‬‬
‫الجوارح شاهد مصدق يوم القيامة ‪472‬‬
‫علَّ ْمناهُ ال ِ ه‬
‫ش ْع َر ‪» . . .‬اآلية ‪472‬‬ ‫« َوما َ‬
‫المستغرقون بهذه الدار الدنيا أموات غير أحياء ‪473‬‬
‫‪602‬‬

‫‪603‬‬
‫كل يد خالقة في العالم هي يد الحق ‪ ،‬يد ملك وتصريف ‪474‬‬
‫اإلنسان بيهن الخصومة ‪ ،‬ظاهر بها ‪475‬‬
‫األمر اإللهي أمران ‪ ،‬بالواسطة وبرفع الوسائط ‪476‬‬
‫بحث ‪ -‬السماع اإللهي هو أول مراتب الكون ‪477‬‬
‫سورة الصافات‬
‫الشهب هي ذوات األذناب ‪479‬‬
‫التوحيد السادس والعشرون وهو توحيد التعجب ‪480‬‬
‫نصيحة ‪ :‬ال تصاحب إال من ترى معه الزيادة في دينك ‪482‬‬
‫توحيد الفعل ال يخلص ‪ ،‬ال كشفا وال شرعا وال عقال ‪485‬‬
‫وّللا خلقكم وما تعملون ‪486‬‬ ‫إشارة ال تفسير ‪ :‬ه‬
‫ّللاُ َخلَقَ ُك ْم َوما ت َ ْع َملُونَ »فهو العامل ‪487‬‬ ‫لطيفة« َو َّ‬
‫ّللا كنت راشدا ‪487‬‬ ‫إشارة ‪ :‬إذا تركت ما هّلل عند ه‬
‫لم ابتلي إبراهيم عليه السالم بذبح ابنه ‪488‬‬
‫إشارة ‪ :‬بادر إبراهيم إلى ضيافة ربه بولده ‪489‬‬
‫لم يولد أحد من ولد آدم والدتين سوى يونس عليه السالم ‪491‬‬
‫س ْلناهُ ِإلى ِمائ َ ِة أ َ ْلفٍ أ َ ْو يَ ِزيدُونَ »كيف جاء الحق بلفظ أو وهي للشك ؟ ‪492‬‬ ‫« َوأ َ ْر َ‬
‫إشارة ‪ :‬من قول المالئكة( َوما ِمنَّا ِإ َّال لَهُ َمقا ٌم َم ْعلُو ٌم )‪494‬‬
‫« َو ِإ َّن ُج ْن َدنا لَ ُه ُم ْالغا ِلبُونَ »اآلية ‪495‬‬
‫تنزيه الحق عن وصف الواصفين ‪497‬‬
‫هّلل األسماء ما له الصفات ‪498‬‬
‫إشارة ‪ :‬الحمد هّلل ‪501‬‬
‫سورة ص‬
‫حرف الصاد ‪501‬‬
‫‪603‬‬

‫‪604‬‬
‫ّللا تعالى عليه ‪502‬‬
‫ّللا عليه وسلم ومنة ه‬ ‫إشارة ‪ :‬في حق الرسول صلهى ه‬
‫اإلله ال يكون بالجعل ‪503‬‬
‫ب »‪504‬‬ ‫يز ْال َو َّها ِ‬
‫قوله تعالى ‪ْ «:‬العَ ِز ِ‬
‫الحكمة ‪ ،‬ومن هم الحكماء على الحقيقة ‪506‬‬
‫إشارة ‪ :‬ضرب مثال لألسماء اإللهية المائة ‪508‬‬
‫داود عليه السالم نص على خالفته باالسم ومع ذلك نهي عن اتباع الهوى ‪509 .‬‬
‫قول سليمان عليه السالم« أ َ ْحبَبْتُ ُحبَّ ْال َخي ِْر َ‬
‫ع ْن ِذ ْك ِر َر ِبهي ‪»512‬‬
‫ق »اآلية ‪512‬‬ ‫ق َو ْاألَعْنا ِ‬ ‫سو ِ‬‫ط ِفقَ َمسْحا ً بِال ُّ‬‫ي فَ َ‬ ‫علَ َّ‬
‫« ُردُّوها َ‬
‫بحث الفرق بين األجسام واألجساد ‪513‬‬
‫إشارة ‪ :‬أرغب في ملك ال ينبغي لسواك ‪514‬‬
‫لطيفة ‪ :‬لذة االتصاف بالعبودية ‪514‬‬
‫ّللا ال تقدح في الصبر ‪516‬‬ ‫الشكوى إلى ه‬
‫ّللا آدم على صورته » ‪516‬‬ ‫إشارة ‪ :‬أعظم الفتن الخبر « خلق ه‬
‫معنى المصطفين األخيار ‪518‬‬
‫اختصام المأل األعلى ‪519‬‬
‫سجود المالئكة آلدم عليه السالم ‪523‬‬
‫تحقيق ‪ :‬تقسيم األمر إلى حق وخلق ‪524‬‬
‫إشارة ‪ :‬أثر المزاج في الروح ‪525‬‬
‫العالون من المالئكة ‪527‬‬
‫سورة الزمر‬
‫ّللا ُم ْخ ِلصا ً لَهُ ال هدِينَ »اآلية ‪531‬‬ ‫« فَا ْعبُ ِد َّ َ‬
‫الدين الخالص ‪531‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وقولك ‪ :‬إله ‪534‬‬ ‫فرق بين قولك ‪ :‬ه‬ ‫تحقيق ‪ :‬ه‬
‫أيوجد المحال ؟ ‪535‬‬

‫‪604‬‬

‫‪605‬‬
‫إشارة ‪ :‬ال يتمكن لإلنسان المشي في ظلمة باطنه إال بسراج العلم ‪537‬‬
‫الرجاء يتلو الخوف ‪538‬‬
‫فضل العلم وأنه أسنى الكرامات ‪539‬‬
‫ب »اآلية ‪543‬‬ ‫صابِ ُرونَ أ َ ْج َر ُه ْم بِغَي ِْر ِحسا ٍ‬ ‫« ِإنَّما يُ َوفَّى ال َّ‬
‫سنَهُ »اآلية ‪544‬‬‫« الَّذِينَ يَ ْست َ ِمعُونَ ْالقَ ْو َل فَيَت َّ ِبعُونَ أ َ ْح َ‬
‫ْالم ‪» . . .‬اآلية ‪546‬‬ ‫إلس ِ‬ ‫ص ْد َرهُ ِل ْ ِ‬
‫ّللاُ َ‬ ‫« أ َ فَ َم ْن ش ََر َح َّ‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم لم يمت قلبه ‪548‬‬ ‫تحقيق ‪ :‬كما أنه لم ينم قلب رسول ه‬
‫الصدق متعلقه الخبر ومحله الصادق ‪548‬‬
‫ّللا تعالى لجناب المؤمنين ‪550‬‬ ‫تحقيق ‪ :‬إيثار ه‬
‫ّللا ما لَ ْم يَ ُكونُوا يَ ْحت َ ِسبُونَ »اآلية ‪551‬‬ ‫« َوبَدا لَ ُه ْم ِمنَ َّ ِ‬
‫شمول الرحمة ‪552‬‬
‫تحقيق ‪ :‬طمع إبليس في شموله بالرحمة ‪554‬‬
‫ّللا ‪556‬‬ ‫جنب ه‬
‫القبضة واليمين ‪558‬‬
‫بحث في الصور ‪560‬‬
‫بحث في الحشر ‪561‬‬
‫لغة ‪ :‬ذكر واو العطف وحذفها ‪563‬‬
‫إشارة ‪ :‬من قام بالالم وحده ‪564‬‬

‫‪605‬‬

‫‪606‬‬

You might also like