Professional Documents
Culture Documents
دعاء حسن عباس
دعاء حسن عباس
جامعـــــــــــــة دٌالــــــــــــــــــى
كلٌة العلوم االسالمٌة
قسم العقٌدة والفكر االسالمً
بإشراف
٤٢٤٤ ْ٣٦٦٥ـ
((وُنوحا إِ ْذ َن َ ِ
َىمَ ُو اد ٰى م ْن قَ ْب ُل فَ ْ
استَ َج ْب َنا لَ ُو فَ َن َّج ْي َناهُ َوأ ْ َ ً
ِم َن ا ْل َك ْر ِب ا ْل َع ِظ ِيم))
(األنبياء ،اآلية)67:
أ
اإلىــــداء
أىدي ثمرة جيدي المتواضع:
إلى
الشمعة التي احترقت لتضيء لي دروب الحياة ،إلى مصدر الحنان ومنبع االمان ،إلى
من تحت قدمييا ننال الجنان...
أمي الحنونة
من غذاني حبيم طوال عمري ،جواىر حياتي ونبض الحب في قمبي...
أخواتي
كل اصدقائي ،الى كل زمالئي ،الى كل من ذكرىم قمبي ولم يذكرىم قممي...
الباحثة
ب
شكر وامتنان
الباحثة
جـ
المحتوٌات
الوجاهٌة 1
13
المقدمة
الحمد هلل حمدا كثي ار طيبا لتوفيقيو لنا لكتابة ىذا البحث فيذا الموضوع مف أىـ
المواضيع التي يجب عمى اإلنساف تعمميا فأرجو أف أكوف قد وفقت لكتابتو وأف يناؿ
رضاكـ واعجابكـ الحمد هلل الذي بدونو ما كتب قممي وما نطؽ لساني وما تعمـ
عقمي وما كنت انا عمى ما عميو وال وفقت ليذه الكتابة أو أسردت عف ىذا الموضوع
شيئا والصالة والسالـ عمى نبيو الكريـ فصيح المساف أشرؼ اجمعيف .
وعميو تـ تقسـ البحث الى اربع مباحث المبحث األوؿ .السيرة الذاتية لمرازي
1
المبحث االول
ىو أبو بكر محمد بف يحيى بف زكريا الرازي ،مف عمماء القرف الثالث اليجري،
والدته:
ولد بمدينة الري جنوبي طيراف بفارس في سنة ٕٓ٘ ٕ٘ٔ-ىػ -ٕ٘ٓ( ٛٙ٘-ٛٙٗ /
ٔ
ٗ .)ٛٙوسمي بالرازي نسبة إلى ىذه المدينة.
سيرته:
ينتمي أبو بكر الرازي إلى القرف الثالث اليجري .فمقد تنقؿ في معيشتو بيف مدينة الري
وبغداد ثـ استقر بو الحاؿ في بغداد في زمف الخميفة العباسي المقتدر باهلل جعفر بف
المعتضد عضد الدولة ،أىتـ الرازي بأمور كثيرة منيا عالقة البيئة بالسالمة .واستخدـ
تمؾ الموىبة عندما استشاره الخميفة "المعتضد باهلل" عف الموقع الذي مف الممكف بناء
مستشفى فيو ،وبذكائو قاـ الرازي بتوزيع قطع مف المحـ في أماكف مختمفة مف ضواحي
مدينة بغداد ،وانتظر عدة أياـ ،بعدىا طاؼ عمى األماكف التي وضع القطع فييا ليرى
1جزاع ،طه ( ) 2001فلسفة األخالق عند أيب بكر الرازي ،املورد ،وزارة الثقافة واإلعالم -دائرة الشؤون الثقافية
2
إلقامة المستشفى ،أما إذا ظمت قطعة المحـ كما ىي دوف أف يصيبيا التمؼ ،أو تأخرت،
فيذا دليؿ عمى طيب ىواء المنطقة ،وصالحيتيا إلقامة المشروع .وعندما أنشأ الخميفة
مستشفى الري (عاـ ٕٜٛ-ٕٜٚىػ ٜٕٓ -ٜٕٛ/ـ) جمع أشير األطباء (فاؽ عددىـ
ثـ انتقى
المائة طبيب) ،واختار خمسيف منيـ ليكونوا طاقـ المستشفى فكاف الرازي منيـّ ،
ألطباء المستشفى.
عمؿ الرازي في بداية حياتو بالصرافة ،وكاف يحب الموسيقى و يضرب عمي العود
ويغني وينظـ الشعر في صغره .اعتبر المؤرخوف القدامى ىذه الموىبة ميزة مف ميزات
الرازي ،ومقدرة خاصة .ولكنو تػرؾ الغنػاء عندما التح ػى وجيػو قائال " :كؿ غناء يخرج
ٔ
مف بيف شارب ولحية ال يستظرؼ".
كاف الرازي مف أعظـ األطباء المسمميف في العصور الوسطى ،تتممذ في عموـ الطب
عمى يد عمي بن زين الطبري (صاحب أوؿ موسوعة طبية عالمية "فردوس الحكمة")،
والفمسفة عمى يد البمخي .وكاف الرازي متقناً لمينة الطب ،عارفاً بأوضاعيا وقوانينيا،
حتى اشتير وأصبح معروفاً فأخذوا الطمبة وطالبي العمـ مف جميع الجيات يقصدونو
1آيزن ،على ( )1936كيمياء الرازي ،جملة اجملمع العلمي العريب ،اجملمع العلمي العريب
3
لكي يتعمموا منو وكاف يصر عمى طالبو أف يواصموا الدراسات العميا في الطب إلث ارء
ذلؾ الميداف مف العموـ حيث أصبح بعد ذلؾ مرجع ًا أساسياً لمعظـ الحاالت المرضية
ٔ
الصعبة والمستعصية لذلؾ لقب "بجالينوس العرب".
شهرته:
قاؿ عنو النديم في كتابو الفيرست " :كاف الرازي أوحد دىره ،وفريد عصره ،قد جمع
ويصفو ابف أبي أصيبعة في كتابو "عيوف األنباء في طبقات األطباء" بقولو " :كاف
الرازي ذكياً فطناً رءوفا بالمرضى ،مجتيداً في عالجيـ وفي برئيـ بكؿ وجو يقدر عميو،
مواظباً لمنظر في غوامض صناعة الطب والكشؼ عف حقائقيا وأسرارىا وكذلؾ في
غيرىا مف العموـ بحيث انو لـ يكف لو دأب وال عناية في جؿ أوقاتو إال في االجتياد
وبسبب شيرتو واتقانو لمينة الطب أُطمقت عميو ألقاب عديدة منيا :أمير األطباء ،أبقراط
العرب ،منقذ المؤمنيف .كما وصؼ عمي أنو جالينوس العرب ،و قيؿ عنو " كاف الطب
4
ويعد الرازي مف ابرز األطباء المسمميف مف ناحية األصالة في البحث حتى أطمؽ عميو
مف أبرز ما قيؿ عنو عند وفاتو مجسداً بذلؾ براعتو في عموـ الطب " كاف الطب
ٔ
معدوما فأوجده أبقراط" ،وميتاً فأحياه جالينوس ،ومشتتاً فجمعو الرازي".
اظبا
يصا عمى القراءة ومو ً
كاف ذكياً ذو ذاكرة قوية ال يضيع وقتاً إال في التعمـ ،وكاف حر ً
عمييا ومدوناً كؿ ما يق أر وخاصة في المساء ،فقد كاف يضع سراجو في مشكاة عمى
حائط يواجيو ،ويناـ في فراشو عمى ظيره ممس ًكا بالكتاب حتى إذا ما غمبو النعاس وىو
يقوؿ النديـ في كتابو الفيرست " :ما دخمت عميو قط إال رأيتو ينسخ ،إما يسود أو يبيض
وظؿ طواؿ حياتو بيف تمؾ والتصنيؼ ،حتى قيؿ إنو إنما فقد بصره مف كثرة القراءة،
ومف إجراء التجارب الكيميائية في المعمؿ )ٕ( .إال أف بعض المؤرخيف يقولوف غير
ذلؾ فيقوؿ "ابف خمكاف" في كتابو "وفيات األعياف" أف الرازي " :صنؼ لمممؾ منصور
بف نوح الساماني صاحب خراساف ،كتاب ًا في إثبات صناعة الكيمياء ،وقصده بو مف
1محارنة ،نشأت ( ) 1998الرازي الطبيب أبو بكر حممد بن زكريا الرازي ،الرتاث العريب ،احتاد الكثاب العرب
5
بغداد فدفع لو الكتاب ،فأعجبو ،وشكره ،وحباه بألؼ دينار .وقاؿ لو :أردت أف تخرج ىذا
الذي ذكرت في الكتاب إلى الفعؿ ،فقاؿ لو الرازي :إف ذلؾ يحتاج إلى المؤف ،ويحتاج
إلى آالت وعقاقير صحيحة ،وفي إحكاـ صنعة ذلؾ كمو ،وكؿ ذلؾ كمفة .فقاؿ لو
منصور :كؿ ما احتجت إليو مف اآلالت أو العقاقير أو غيرىا ومما يميؽ بالصناعة،
احضره لؾ كامالً حتى تخرج ما ضمنتو كتابؾ ىذا إلى العمؿ .فمما رأى إصرار
المنصور أذعف ولكنو يقاؿ أنو عجز عف العمؿ .فقاؿ لو منصور :ما اعتقدت أف حكيماً
يرضى بتخميد الكذب في كتب ينسبيا إلى الحكمة ،يشغؿ بيا قموب الناس ،ويتعبيـ فيما
ال يعود عمييـ مف ذلؾ منفعة .ثـ قاؿ لو" :لقد كافأناؾ عمى قصدؾ وتعبؾ بما صار
إليؾ مف األلؼ دينار ،وال بد مف معاقبتؾ عمى تخميد الكذب" ،فحمؿ السوط عمى رأسو،
ثـ أمر أف يضرب بالكتاب حتى يتقطع ،ثـ جيزه وسيره إلى بغداد .فكاف ذلؾ الضرب
سبباً لنزوؿ الماء في عينيو ،الذي سبب لو العمى .وقاؿ" :قد أريت الدنيا" يذكر أنو قيؿ
لو" :اقدح يا رازي :فأجاب ،ال قد أبصرت مف الدنيا حتى مممت منيا ،فال حاجة لي إلى
ٔ
العينيف".
6
مؤلفاته:
حيث إنو أمتاز بكثرة الكتابة والتدويف فمقد كثرت مؤلفات الرازي وتعددت كما كانت
مؤلفاتو شاممة تجمع فييا مف عموـ اليوناف والينود باإلضافة إلى أبحاثو المبتكرة وآرائو
ومالحظاتو فمو ٕٕٓ كتاب ومخطوط ومقاؿ في مختمؼ جوانب العموـ ،ضاع جزء
كبير منيا وبقى بعض منيا متوفر حالياً في المكتبات الغربية .شممت مؤلفاتو ()٘ٙ
كتاباً في الطب )ٖٖ( ،كتاباً في الطبيعيات )ٚ( ،كتب في المنطقيات )ٔٓ( ،كتب في
الرياضيات والنجوميات )ٔٚ( ،كتاباً في الفمسفة )ٙ( ،كتب في ما وراء الطبيعة)ٔٗ( ،
واالختصارات ،و(ٔٔ) كتابا في مواضيع وفنوف متنوعة وقد امتازت مؤلفات الرازي
جميعيا بالعممية والموضوعية حيث حاوؿ االبتعاد منيا عف المصطمحات الغامضة ،أو
الخرافات التي كانت شائعة في تمؾ العصور .إف كتب الرازي في الكيمياء غنية
بالمعمومات التي جعمت مؤرخو العموـ يصنفونو "بمؤسس الكيمياء الحديثة في الشرؽ
ٔ
والغرب".
7
كما ألؼ كتب طبية مطولة ،ترجـ عدد منيا إلى الالتينية ،وظمت كمراجع أساسية
لدراسة الطب في أوربا حتى القرف )ٔٔىػ ٔٚـ) ،ولمؤلفاتو الطبية أكبر األثر في
إف مف أعظـ كتبو "تاريخ الطب وكتاب المنصوري في الطب و كتاب األدوية المفردة"
الذي يتضمف الوصؼ الدقيؽ لتشريح أعضاء الجسـ .وكتاب "الجامع" و"الكافي "
و"المدخؿ" و"الممكي" و"الفاخر" إال أف كتابي (الحاوي والمنصوري) يعتبراف عمى رأس
مؤلفاتو والييما يعود الفضؿ في شيرتو وذيوع صيتو في جميع البمداف .وكتاب "سر
األسرار" ىو و"الحاوي" يعتبر مف أعظـ كتب الطب التي ألفيا ،ومف المؤلفات األخرى
األسرار في الكيمياء الذي كاف مرجعاً في مدارس أوروبا مدة طويمة ،وكتابو في الحصبة
والجدري الذي عرض فيو أعراض المرضيف والتفرقة بينيما ،كما لو كتاب مف ال يحضره
طبيب المعروؼ باسـ طب الفقراء وفيو شرح الطرؽ المعالجة في غياب الطبيب منا
ٔ
يعدد األدوية المنتشرة التي يمكف الحصوؿ عمييا بسيولة.
ينسب الرازي الشفاء إلى آثار التفاعالت الكيميائية في أجساـ المرضى (ٖ).
1عبد الباقي ،أمحد ( )2006أبو بكر حممد بن زكريا الرازي ،املورد ،وزارة الثقافة واإلعالم -دائرة الشؤون الثقافية
8
إال أف الرازي لـ يغفؿ أخالقيات الطبيب فمقد كاف معروفا عنو أنو كاف يؤمف بسرية
المينة ،حيث ذكر ذلؾ في كتابو "في محنة الطبيب وتعيينو" وكتاب "أخالؽ الطبيب"
الذي شرح فيو العالقة اإلنسانية بيف الطبيب والمريض وبيف المريض والطبيب والعالقة
-1تاريخ الطب
حيث جمع فيو مقتطفات مف مصنفات اإلغريؽ و العرب .ولقد قاـ الطبيب الييودي
بحث الرازي في ىذا الكتاب أمراض الرأس و أوجاع العصب و التشنج ،كما عني فيو
ٔ
بأمراض العيوف و األنؼ و األسناف باإلضافة إلى أمور أخرى.
-2كتاب المنصوري
9
كتب الرازي كتاب المنصوري في عمـ الطب وذلؾ لممنصور بف إسحاؽ صاحب
خراساف ،وىو كتاب مختص ار نسبيا إال انو كاف مؤث ار في الطب سواء في الدولة
اإلسالمية أو األوروبية حيث ظؿ األطباء في أوروبا يعتمدوف عميو حتى القرف السابع
عشر اليجري ،جعمو الرازي في عشرة أبواب في الطب .ذكر الرازي في القسـ الثامف أو
التاسع منو تجارب أجراىا عمى الحيوانات الختبار أساليب جديدة في العالج و لمكشؼ
عف فاعميو بعض األدوية ،و ذلؾ قبؿ أف يجربيا عمى اإلنساف .ولقد كاف ىذا الجزء مف
كما ضـ ىذا الكتاب وصفا دقيقا لتشريح أعضاء الجسـ كمو(ٖ )ٗ,وطبع ألوؿ مرة في
"ميالنو "عاـ ٛٛٙىػ ٔ ٔٗٛـ ،وأعيد طبعو مرات عديدة ،وترجمت أجزاء منو إلى
ٔ
الفرنسية واأللمانية .وكذلؾ إلى الالتينية بواسطة جيرارد في عاـ ٔٔٛٚـ.
يعتبر أجمؿ كتب الرازي وأعظميا في صناعة الطب ،حيث يعتبر موسعو شاممو في
والعربي .يقع الكتاب في ثالثيف جزءا تتضمف ذكر األمراض ومداواتيا مما ىو موجود
في سائر الكتب الطبية التي صنفيا السابقوف ومف أتى بعدىـ حتى أيامو .ومما يدؿ
1أمني ،وديع ( ) 2006ابو بكر الرازي الطبيب الفيلسوف ،أدب ونقد ،حزب الثجمع الوطين الثقدمي الوحدوي
11
عمى خمقو وأمانتو العممية والتزامو بآداب المينة أنو كاف ينسب كؿ شيء نقمو إلى
ٔ
صاحبو.
وقد سماه (الرازي) الحاوي ألف كتابو ىذا يعد موسوعة عممية طبية تحوي كؿ الكتب
مجمدا.
ً واألقاويؿ الطبية القديمة مف أىؿ صناعة الطب ،ويقع في عشريف
والمادة الرئيسية في كتاب "الحاوي في الطب" ىي مذكرات شخصية سجؿ الرازي فييا
آراءه الخاصة ،وقصص مرضاه ،حيث دوف فيو أكثر مف ٓٓٓٔ حالو مف الحاالت
السريرية التي قاـ بمتابعتيا و تسجيؿ مالحظاتو و تجاربو الشخصية مع المرضي لدعـ
النظريات السابقة أو لدحضيا حيث كانت ىذه المعمومات قيمو جدا لكؿ األطباء في
عصره ومف أتوا بعده ( ، )ٙويوحي ترتيب المادة العممية في ىذه المذكرات بأف الرازي
ٕ
األوراؽ مخصصة لموضوع مف الموضوعات الطبية.
11
كتابو الحاوي في عمـ التداوي ترجـ إلى الالتينية وطبع ألوؿ مرة في بريشيا في شماؿ
وىو أضخـ كتاب طبع بعد اختراع المطبعة إيطاليا عاـ ٜٔٛىػ ٔٗٛٙ -ـ
الطبعة الالتينية إلى خمسة وعشريف مجمدا .تتضح ميارة الرازي في ىذا المؤلؼ الضخـ
إال إف بعض المؤرخيف يقولوف إف الرازي لـ يتـ الكتاب بنفسو و لكف تالميذه ىـ الذيف
أكمموه ،حيث ذكر أنو بعد وفاة الرازي قاـ ركف الدولة في عاـ ٖٕٚىػٜٖٜ/ـ بشراء
مذكرات الحاوي مف خديجة شقيقة الرازي وطمب مف طمبة الرازي أف يقوموا بوضع ىذه
المذكرات في طريقة تسمسمية تحت عناويف لألمراض المختمفة مع أجزاء منفصمة عف
مادة األدوية (يعادؿ حجـ الكتاب وفصولو ٖٕ جزء مف الطبعات الحديثة في الكتب).
أحدى أقدـ المخطوطات ليذا الكتاب موجود في المكتبة الوطنية لمطب في بريطانيا وىو
ذلؾ الجزء الخاص بأمراض الجياز اليضمي .وكذلؾ الصفحة األخيرة مف الكتاب
المذكور فيو بأف تاريخ االنتياء مف تدويف ىذا الكتاب كاف في ٜٔذي القعدة ٗٛٚىػ
12
الموافؽ ٖٓ نوفمبر ٗ .ٜٔٓتعتبر ىذه المخطوطة ىي ثالث أقدـ مخطوطة عربية طبية
ٔ
محفوظة إلي يومنا ىذا.
خاص ،حكمت عميو بالتفاىة ،لكنني بعد وفاتو ،أخرجت ما في الصندوؽ ،فإذا محتواه
يقع في ثالثيف جزءاً ،أطمؽ عميو األطباء (كتاب الحاوي) ألنو جمع فيو األمراض ،كما
-4الجدري والحصبة
في رسالتو الرائعة في "الجدري والحصبة" يقوـ بوصؼ ىذيف المرضيف ووضع
التشخيص ليما .حيث تعتبر األولى مف نوعيا بالنسبة ليذه األنواع مف األمراض،
وأوصى باالنتباه أثناء الفحص ،إلى القمب والنبض والتنفس والمفرزات والح اررة العالية
التي ترافؽ ىذه األمراض ،كما أكد عمى حماية العينيف والوجو والفـ لتحاشي التقرحات.
تـ إعادة طباعة ىذا الكتاب أربع مرات بيف عامي ٖٜٓىػٜٔٗٛ -ـ ،ؤٖٕٛىػ-
ٕ
ٔٛٙٙـ
13
كاف الرازي يؤمف بأف الفصد مفيد لعالج بعض األمراض .غير ما ذكره أرسطوطاليس
مف مدرسة اإلسكندرية القديمة( ،مف القرف الثالث إلى القرف الرابع -ؽ .ـ) ،ثـ تالميذ
أرسطوطاليس حيث كانوا جميعا يمنعوف مف الفصد ،ظنا منيـ بأنو يجمب المرض.
واذا أمعنا النظر في قوؿ الرازي" :وأخبرني مف كنت أق أر عميو أف المأموف افتصد" ثـ
قولو "وخبرني بعض مف كنت أتعمـ عنو الفصد" لستدلمنا عمى أف الرازي درس الطب
عمى أستاذ طيب ،ولكنو تعمـ الفصد عند فصاد مف غير األطباء ،ممف كانوا يمارسوف
-المنصوري في التشريح
-منافع األغذية
-سر الطب
-الكافي في الطب
-القولنج)الشمؿ((ٕ)
14
-الجامع الكبير
-سر األسرار
-المرشد
-صيدلة الطب
فقد كتب الرازي عدة مؤلفات في "الييولي" المادة وتوصؿ منذ وقت مبكر إلى أف المادة
تتركب مف أجزاء صغيرة ،تنقسـ بدورىا إلى أجزاء دقيقة ،تنتيي إلى أجزاء غاية في
ٔ
الدقة ال تقبؿ التجزئة ،وىو ما يطمؽ عميو اليوـ “الذرات"
وفاته:
عاما
ىناؾ روايات عديدة عف وفاه الرازي واألرجح انو توفي في الري عف عمر ستيف ً
في ٘ مف شعباف ٖٔٔىػ ٜٔمف نوفمبر ٖٕٜـ .إال اف تاريخ وفاتو تتواتر فبعض
المؤرخيف القدامى يذكر ٖٖٔ/ىػ /واآلخر ٖٕٓ /ىػ .،/ىذا وتذكر رواية أخري عف ابف
أبي أصيبعة إنو قتؿ خنقا ،ولـ يمت ميتة عادية.
1ابننن النننده ،الفارسننة ،القنناهرة 1929ص ،34-429ولسننليمان بننن حسننان بننن جلج ن ،طبقننات األطبنناء وا كمنناء،
حتقيق فؤاد سيد ،القاهرة ،معاد اآلثار الفرنسي 1955 ،ص77
15
المبحث الثاني
قاؿ ابف فارس في مقاييس المغة( :ع ج ز) العيف والجيـ والزاء أصالف صحيحاف ،يد ؿ
ٔ
أحدىما عمى الضعؼ ،واآلخر عمى مؤخر الشيء.
ومدار مادة ((عجز)) في المغة عمى التأخر عف الشيء ،والقصور عف فعمو ،ومنو داللة
اإلعجاز عمى (الفوت والسبؽ) ،وعدـ القدرة عمى اإلدراؾ.
اإلعجاز في االصطالح ىو" :إثبات القرآف عجز الخمؽ عف اإلتياف بما تحداىـ بو".
لكي يتـ اإلعجاز ويتحقؽ التسميـ بو البد مف توافر شروط ثالثة في األمر المعجز:
16
فيو الذي يدفع إلى المعارضة مف الخصـ ،وبغير ىذا ال يكترث أحد لدعواه ،عمى
خطورتيا.
كالدفاع عف معتقداتيـ ،وما ورثوه عف آبائيـ ،وما تواضعوا عميو مف نظـ حياتيـ،
وقواعد عباداتيـ ومعامالتيـ .فمف جاء بدعوة تعارض ىذا كمو ،وتسفو كؿ ما ىـ عميو،
وترمييـ بالضالؿ والغي ،كاف مف الطبيعي أف توجد البواعث لمعارضتو ،وخصوصا
ٔ
عند تحدييـ .
فمو ظير إنساف يدعي النبوة في أستراليا مثال ،وادعى أف معجزتو كتاب عربي أنزؿ
عميو ،وىو يتحدى بعضا مف العرب أف يأتوا بمثمو ،ولـ يتقدـ أحد لمعارضتو ،لـ يثبت
اإلعجاز بذلؾ ،لوجود الموانع التي تمنع القادريف عمى المعارضة مف مقابمة التحدي لبعد
مكانيـ منو .
فقد وجد التحدي بأبمغ صورة :تحداىـ أوال أف يأتوا بقراف مثمو( :فميأتوا بحديث مثمو إف
كانوا صادقيف) (الطور .)ٖٗ :ثـ تحداىـ أف يأتوا بعشر سور مثمو مفتريات( :أـ يقولوف
17
افتراه قؿ فاتوا بعشر سور مثمو مفتريات وادعوا مف استطعتـ مف دوف اهلل إف كنتـ
صادقيف) ىود ٖٔ
ثـ تحداىـ أف يأتوا بسورة مف مثمو( :أـ يقولوف افتراه قؿ فاتوا بسورة مف مثمو وادعوا مف
استطعتـ مف دوف اهلل إف كنتـ صادقيف) يونسٖٛ
وىذا كمو في القرآف المكي .ومع ىذا كمو عجزوا عف المعارضة ،وىـ فرساف البياف،
ورجاؿ البالغة والفصاحة ،والقراف يخمب ألبابيـ ،ويؤثر في عقوليـ وقموبيـ ،وال يممكوف
إال أف يقولوا( :ال تسمعوا ليذا القرآف والغوا فيو لعمّكـ تغمبوف )
وأكد ذلؾ تجديد التحدي في العيد المدني ،ففي سورة البقرة دعاىـ إلى التوحيد ،ثـ قاؿ:
(واف كنتـ في ريب مما نزلنا عمى عبدنا فاتوا بسورة مف مثمو ،وادعوا شيداءكـ مف دوف
اهلل إف كنتـ صادقيف .فاف لـ تفعموا ولف تفعموا فاتّقوا النار التي وقودىا الناس والحجارة
أعدت لمكافريف) البقرة ٖٕ.ٕٗ-
فينا سجؿ عمييـ أنيـ لف يفعموا ،بيذه الصيغة المستقبمية .وفي ىنا اقوى حافز ليـ عمى
المعارضة ،لو كاف لدييـ ما يعارضوف بو ،بؿ بذلوا األنفس واألمواؿ ،وقاتموا وقُتموا ،ولـ
ٔ
يستجيبوا لمتحدي.
وبيذا غمبوا وانقطعوا ،وحؽ عمييـ قوؿ اهلل تعالى( :قؿ لئف اجتمعت االنس والجف عمى
أف يأتوا بمثؿ ىذا القرآف الياتوف بمثمو ولو كاف بعضيـ لبعض ظييرا) اإلسراء.ٛٛ :
18
خصائص اإلعجاز:
أوؿ ما يالقيؾ ويسترعي انتباىؾ مف أسموب القرآف الكريـ خاصية تأليفو الصوتي في
شكمو وجوىره:
فبالنسبة لمشكؿ ما عميؾ سوى أف تدع القارئ المجود يق أر القرآفُ يرتمو حؽ ترتيمو نازال
بنفسو
قصيا ال تسمع
عمى ىوى القرآف ،وليس نازال بالقرآف عمى ىوى نفسو .ثـ انتبذ منو مكانا ّ
وغناتيا ،واتّصاالتيا
فيو جرس حروفو ،ولكف تسمع حركاتيا وسكناتيا ،ومداتيا ّ
وسكتاتيا ،ثـ ألؽ سمعؾ إلى ىذه المجموعة الصوتية ،وقد جردت تجريدا واُرسمت
ساذجة في اليواء .فستجد نفسؾ منيا بإزاء لحف عجيب ال تجده في كالـ آخر لوُ جرد
ٔ
ىذا التجريد ،وُ جود ىذا التجويد.
19
الجماؿ المُّغوي ماثال أمامؾ في مجموعة مختمفة مؤتمفة ال كركرة وال ثرثرة ،وال رخاوة وال
معاضمة ،ولنضرب لؾ مثال مف ىذا التناسؽ الصوتي في القرآف شكال وجوى ار بقولو
تعالى( :وقالوا تاهلل تفتأ تذكر يوسؼ حتى تكوف َحرضاً أو تكوف مف اليالكيف≪ (يوسؼ
النطؽ معا
٘ ،)ٛفنالحظ أف اآلية الكريمة جمعت كممات ثقيمة عمى السمع وثقيمة عمى ّ
مثؿ كممات (تاهلل ،تفتأ ،تذكر ،حرضا ) ،جاءت تمؾ األلفاظ خشنة اإليقاع لتصور ما
في قموب قائمييا مف ٍ
غمظة وخشونة ،فيـ إخوة يوسؼ الذيف ألقوه في الجب؛ ىذه األلفاظ
مناسبة لحاؿ مشاعرىـ تجاه أخييـ يوسؼ وتجاه حزف أبييـ عميو.
ولقد كاف مف الممكف أف يستعمؿ النص القرآني ألفاظاً أَرؽ منيا عمى السمع وأخؼ عمى
المساف:
فكممة :تاهلل :التَّاء أقؿ حروؼ القسـ استعماال ،وكاف مف الممكف أف تستعمؿ كممة "واهلل"
أو كممة "باهلل" ،والواو والباء أخؼ في مخارج الحروؼ مف التّاء.
ولكف النظـ القرآني حوليا إلى جممة ليا جرس صوتي مقبوؿ وايقاع جميؿ ..وكيؼ؟
التاء مف الحروؼ المتفجرة ،واذا كانت مفتوحة زادت قُوة انفجارىا ،ولكفُ يقمّؿ مف
انفجارىا وقوع سكوف بعدىا ،ألف السكوف بعدىا يمنع انفجار حرؼ التّاء مف طرؼ
المساف واألسناف والشفتيف.
1الشفا بثعريف حقوق املصطفى (صلى اهلل عليه ) ،القاضي عياض ’،349 ،1:حتقيق االُسثاذ علي حممد البجاوي.
21
لذلؾ نالحظ أف الكممات الثالث التي ابتدأت بحرؼ التّاء كاف عقب كؿ تاء منيا
سكوف ،ـّ ما منع االنفجار في الجرس الصوتي والمَّحف الموسيقي ،وحوؿ خشونة المَّفظ
إلى سالسة ورقَّة( :تاهلل تَفتَأ تذكر يوسؼ) كؿ تاء بعدىا سكوف.
إذا نفذت مف ىذا النظاـ المفظي إلى ذلؾ النظاـ المعنوي ،تجمى لؾ ما ىو أبيى وأبير،
ألننا في كالـ
ولقيؾ منو ما ىو أروع وأبدع .ومف ذلؾ" :البياف واإلجماؿ" في القرآفّ ،
البشر نجد تصوي ار لمعنى محدد واحد ،أما في كممات الوحي اإلليي في القرآف الكريـ
والحديث النبوي ،فنجد تصوي ار لمعديد مف المعاني ،وتبيانا لمكثير مف أوجو العمـ ،فالكممة
في القرآف والحديث كالجوىرة ،ليا أوجو متعددة ،إلى أي و ٍجو نظرت رأيت نو ار مبينا
وعمما عظيما ،يختمؼ عما رأيت في ما لو نظرت إلى وجو آخر منيا ،فإذا نظر
21
ينيؿ مف العمـ في كممات القرآف العظيـ ،ما لـ ينيمو السابقوف ،وال تنتيي معاني كممات
ٔ
القرآف ،وال تنضب.
نأخذ مثال يوضح لنا ىذا المفيوـ حيث يقوؿ اهلل تعالى( :واهلل يرزؽ مف يشاء بغير
حساب) البقرةّ ٕٕٔ :إنو حؽ ويقيف ،ولكنو فيو أقواال مختمفة ومعاني متعددة.
-يرى منيا قارئ :أف اهلل تعالى يرزؽ مف يشاء بغير محاسب يحاسبو.
-يرى منيا قارئ آخر :أف اهلل تعالى يرزؽ مف يشاء بغير تقتير ،فخزائنو ال
تفنى - .ويرى منيا قارئ ثالث :أف اهلل يرزؽ مف يشاء رزقا ال تقع تحت حساب أو
حصر .كؿ ىذه المعاني المختمفة صحيحة ،ف ُكمُّيا أوجو متعددة مف العمـ ،في كممة
ٕ
قرآنية واحدة .
وكثير مف اآليات القرآنية جاءت في أسموب بالغي عجيب ال نجده في كالـ البشر،
نأخذ مثاال عمى ذلؾ قولو تعالى ≫ :وأوحينا إلى أـ موسى أف أرضعيو ،فإذا خفت عميو
فالقيو في اليـ وال تخافي وال تحزنيّ ،إنا رادوه إليؾ وجاعموه مف المرسميف) القصص .ٚ
في ىذه اآلية الكثير مف أوجو اإلعجاز ،إال ّأننا نذكر منيا وجيا واحدا مف وجوه
اإلعجاز وىو ّأنيا آية واحدة نجد فييا :أمريف ونيييف وخبريف وبشارتيف .
22
ج -صورة َّ
النظم:
وباإلضافة إلى كوف المعاني في القرآف مسوقة عمى أبمغ سياؽ ،فإف كؿ ما ذكره منيا
مسوؽ كذلؾ عمى أتـ نظاـ وأحسنو وأكممو؛ ألنو إذا كانت الجمؿ في كالـ البشر ترتبط
بحروؼ العطؼ ،لكننا نجدىا في القرآف غير ذلؾ ،فيناؾ جمؿ متعددة في القرآف الكريـ
ال تربطيا حروؼ عطؼ ،وىي مع ذلؾ ترتبط ببعضيا ارتباطا وثيقا كما ترتبط لبنات
البنياف وكما تأتمؼ خاليا الجسـ وترتبط ببعضيا البعض في تكامؿ وشموؿ وانسجاـ .
نق أر مثال قولو تعالى في أوؿ سورة الرحمف( :الرحمف ،عمـ القرآف ،خمؽ اإلنساف ،عمّمو
البياف ،الشمس والقمر بحسباف) الرحمف ٔ ٘-ال يوجد حرؼ عطؼ واحد يربط ىذه
الجمؿ الخمس ،ومع ذلؾ نجدىا مرتبطة مع بعضيا البعض في المعنى ارتباطا وثيقا،
ٔ
وكأنيا جممة واحدة.
استيمت اآلية بالقوؿ( :الرحمف) والرحمف منو كؿ الرحمة والنعـ والخير لموجود جميعا،
وأجؿ ىذه النعـ عمى العباد ىي كممات اهلل عز وجؿ وعممو( :عمـ القراف) ومف كممات
اهلل تعالى كاف الوجود كمو ،فكؿ
مف في الوجود إنما خمؽ بكممة مف اهلل عز وجؿ ،وأكرـ المخموقات عند اهلل ىو
اإلنساف( :خمؽ االنساف) ،ولما كاف القرآف ىو مصدر العمـ واليداية وأف اإلنساف إنما
خمقو اهلل تعالى ليعبده عمى عمـ وعمى ىدى مف اهلل تعالى ،قاؿ تعالى ≫ :عممو
23
البياف ≪ وبعد ذلؾ عدد أنواع المخموقات األخرى التي سخرىا ليذا اإلنساف في دقة
وحساب ثابت( :الشمس والقمر بحسباف).
واجماال ،فإف العمماء قد تحدثوا عف لغة القرآف المعجزة فأجمعوا عمى ّأنيا لغة تخرؽ
العادة وتخرج عمى اإللؼ ،وىا ىو الباقالني في مؤلفو "إعجاز القرآف" يقوؿ عنيا( :إف
إعجازه في نظمو وتأليفو وذلؾ أف نظمو عمى تصرؼ وجوىو واختالؼ مذاىبو خارج
عف المعيود مف نظاـ جميع كالميـ ومبايف لممألوؼ مف ترتيب خطابيـ ،وعمى اختالؼ
ما يتصرؼ فيو مف الوجوه الكثيرة يجعؿ المختمؼ كالمؤتمؼ ،والمتبايف كالمتناسب وىذا
أمر عجيب يخرج بو الكالـ عف حد العادة ويتجاوز العرؼ) .عمى أف قارئ القرآف
المتدبر لو يممس بيسر ىذه الجوانب المتعددة مف مظاىر إعجازه المغوي ..إعجاز في
موقع الكممة مف السياؽ ..وىيئتيا مف االشتقاؽ وبنائيا في التصريؼ ..وحركتيا في
اإلعراب ..وجرسيا في الصوت ..وظالليا في الخياؿ ..ووحييا في البياف ..واعجاز في
اإلحكاـ تجعؿ التضاد توافقا ..والتبايف تجانسا ..والتنافر تجاذبا ،والترادؼ آحادا،
والتكرار أصالة ،والحذؼ ذك ار وابانة.
النظـ
فالكممات والجمؿ كميا مترابطة ترابطا تاما بدوف حروؼ عطؼ ،وذلؾ مف روعة ّ
القرآني ،الذي ال يستطيع أف يأتي بمثمو بشر؛ بحيث يحؽ لنا –عندئذ -أف نؤكد بدوف
تردد أنو مف الناحية المغوية البحثة ،كاف ظيور القرآف خمقا لمغة جديدة ،وألسموب جديد.
24
المبحث الثالث
فإف اهلل أنزؿ كتابو وجعمو ىدى لممتقيف ،الذيف أغمقوا أبواب الشيوات والشبيات فاتقوا
بذلؾ غضب رب األرض والسماوات فجزاىـ اهلل بأف يسر ليـ سبؿ طاعتو وفتح ليـ فى
الدنيا واآلخرة أبواب جنتو فإف فى الدنيا جنة مف لـ يدخميا لـ يدخؿ جنة اآلخرة والجزاء
مف جنس العمؿ قاؿ سبحانو ( ىذا ذكر واف لممتقيف لحسف مآب جنت عدف مفتحة ليـ
(ٔ)
وجعؿ سبحانو السعادة فى القرب منو ومالزمتو وجعؿ الشقاوة فى البعد األبواب )
عنو ومباعدتو فقاؿ سبحانو [ وننزؿ مف القراف ما ىو شفاء ورحمة لممؤمنيف وال يزيد
(ٕ)
وقاؿ أيضا [ ومف أعرض عف ذكرى فإف لو معيشة ضنكا الظالميف إال خسا ار ]
ونحشره يوـ القيامة أعمى قاؿ رب لـ حشرتني أعمى وقد كنت بصي ار قاؿ كذلؾ أتتؾ
آياتنا فنسيتيا وكذلؾ اليوـ تنسى ] وجعمو أحسف حديث تسمعو اآلذاف إلى يوـ القيامة
(ٖ)
فقاؿ [ اهلل نزؿ أحسف الحديث كتابا متشابيا مثانى
25
بالخيرية لمف تعممو وعممو فقاؿ رسوؿ اهلل ( خيركـ مف تعمـ القراف وحكـ رسوؿ اهلل
وعممو ) رواه البخارى وأخبر عميو السالـ عف شفاعة القراف ألىمو فقاؿ ( اق أروا القراف
فانو يأتى يوـ القيامة شفيعا ألصحابو ) (ٔ) وأخبر النبي بأف الرفعة الحقيقية فى رفعة
(( إف اهلل يرفع بيذا أىؿ القرآف وأف الميانة ىى ميانة مف حط قدره القراف قاؿ
الكتاب أقواما ويضع بو أخريف ) (فالقراف حياة القموب وبيجة النفوس يحيا بو العبد أىنأ
لحظات حياتو يييـ فى رياضو ويسبح فى جنانو .فيتنفس نسيميا الزكي ويبيج عينيو
بألوانيا الباىرة ويسمع أصوات أغصانيا المطربة فتكاد القموب تطير .قيؿ ألحدىـ أال
تناـ قاؿ :إف آيات القراف أطرف النوـ مف عيني ،ما أخرج مف أعجوبة إال دخمت فى
أخرى نعـ أييا الحبيب يأخذؾ كتاب اهلل فى جوالت وجوالت ترداد آفاؽ السماء تجوؿ
فى جنبات األرض واألحياء ،يقؼ بؾ عند زىرات الحقوؿ ويصعد بؾ الى مدارات
الكواكب والنجوـ يفتح بصرؾ وبصيرتؾ الى غاية إحكاـ واتقاف ما لو مثيؿ يكشؼ لؾ
فترى نفسؾ بعيف البصيرة إنسانا ضعيفا ضئيال فى ىذه األرض وكذلؾ األرض تبدو
ضئيمة فى ىذا الخصـ مف الفضاء واألفالؾ ؛ والكوف بمجراتو ونجومو يبدو ضئيال فى
1الزمر 82
26
محيط السماء الدنيا والسماء الثانية أعظـ مف السماء األولى وىكذا السماوات السبع ؛
وىف بالنسبة لمكرسي كحمقة فى فالة أي صحراء والكرسي فى العرش كحمقة فى فالة
(( ما السماوات السبع فى الكرسي إال كحمقة فى ممقاة بأرض فالة قاؿ رسوؿ اهلل
(ٔ)
وفضؿ العرش عمى الكرسي كفضؿ تمؾ الفالة عمى تمؾ الحمقة ))
ولعؿ ىذا مف أسرار اآليات التي وردت في أخر سورة الحشر حيث ذكر سبحانو أف ىذا
القرآف لو نزؿ عمى جبؿ لخشع لو وتصدع ثـ أردؼ ىذه اآلية بثالث آيات بيا صفات
الرحمف وأسماؤه وكأف اهلل يريد أف ينبو العبد الى ىذه الحقيقة الغائبة وىى أف االنتفاع
با لقرآف وأثره في القموب وحصوؿ المذة التامة عند تالوتو كؿ ىذا مرىوف بتعظيـ العبد
ربو ومعرفتو بموالة وىذا التعظيـ وتمؾ المعرفة إنما ييتدي إلييا مف أسمائو تعالى
وصفاتو والى ىذه الحقيقة أشار صاحب الظالؿ بقولو (( الحياة فى ظالؿ القرآف نعمة
إلى بيذا القرآف أنا العبد القميؿ الصغير أى تكريـ لإلنساف ىذا التكريـ الجميؿ
اهلل يتحدث َّ
)0( 1صحيح عن أبى ذر السلسلة الصحيحة لأللباني ج 4ص 472رقم 454ط المكتم االسمممى
الطبعة الثالثة 4952هـ
27
؛ أي رفعة لمعمر يرفعيا ىذا التنزيؿ أى مقاـ كريـ يتفضؿ بو عمى اإلنساف خالقو الكريـ
(ٔ)
ومف ثـ عشت فى ظالؿ القرآف ىادى ىادئ النفس مطمئف السريرة ))
نبو سبحانو وتعالى عمى فضؿ الفاتحة فقاؿ [ ولقد ءاتينؾ سبعاً مف المثانى والقرآف
(ٕ)
والسبع المثانى ىى الفاتحة عمى أصح األقواؿ وىى سبع آيات نزلت بمكة العظيـ ]
بعد سورة المدثر قالو ابف عباس وقتادة ورجحو ابف كثير وقيؿ نزلت مرتيف مرة بمكة
ومرة بالمدينو وذكر ابف كثير أف كمماتيا خمس وعشروف كممو وحروفيا مائة وثالثة
عشر حرفاً والقرآف العظيـ المذكور فى اآلية ىو الفاتحة أيضاً حيث حوت محاور القرآف
وقضاياه األساسية )) ودليؿ ذلؾ ما رواه البخاري عف أبى سعيد بف المعمى قاؿ :مر
وأنا أصمى فدعاني فمـ آتو حتى صميت ثـ أتيت فقاؿ ما منعؾ أف تأتيني بى النبى
فقمت :كنت أصمى فقاؿ :ألـ يقؿ اهلل [ يأييا الذيف أمنوا استجيبوا هلل ولمرسوؿ ] ثـ قاؿ
أال أعممؾ أعظـ سورة فى القرآف قبؿ أف أخرج مف المسجد فذىب النبى ليخرج فذكرتو
1فممى ظممم القممر ن سممي قط م رحمممه هللا جممـ 4ص 44ط ار الشممرو الطبعممة السممابعة عشممرة -
4445
2سورة الحجر 27
28
ف قاؿ :الحمد هلل رب العالميف ىى السبع المثانى والقرآف العظيـ الذى أوتيتو )) (ٔ) ومما
اذ سمع ورد فى فضميا أيضاً حديث ابف عباس قاؿ بينما جبريؿ قاعد عند النبى
نقيضا مف فوقو فرفع رأسو فقاؿ :ىذا باب مف السماء فتح اليوـ لـ يفتح قط اال اليوـ
ونزؿ منو ممؾ لـ ينزؿ قط إال اليوـ فسمـ وقاؿ :أبشر بنوريف أوتيتيما لـ يؤتيما نبي
قبمؾ فاتحة الكتاب وخواتيـ سورة البقرة لف تق أر بحرؼ منيا إال أعطيتو )) .رواه مسمـ
والمغفرة والسعادة فى الدنيا واآلخرة ) وعف أبى ىريرة عف رسوؿ اهلل قاؿ يقوؿ اهلل
تعالى :قسمت الصالة بيني وبيف عبدى نصفيف فنصفيا لى ونصفيا لعبدي ولعبدي ما
سأؿ إذا قاؿ العبد الحمد هلل رب العالميف قاؿ اهلل :حمدنى عبدى واذا قاؿ العبد :
الرحمف الرحيـ قاؿ اهلل :أثنى عمى عبدى واذا قاؿ :مالؾ يوـ الديف قاؿ اهلل :مجدني
عبدي واذا قاؿ :إياؾ نعبد واياؾ نستعيف قاؿ اهلل :ىذا بيني وبيف عبدى ولعبدي ما
سأؿ فإذا قاؿ اىدنا الصراط المستقيـ صراط المذيف أنعمت عمييـ غير المغضوب عمييـ
وال الضاليف قاؿ اهلل ىذا لعبدي ولعبدي ما سأؿ )) الشرع وقضاياه األساسية مما جعميا
بمكانة ليست لغيرىا مف السور يقوؿ اإلماـ ابف القيـ ٕ(( ونحف بعوف اهلل ننبو عمى
29
فضؿ القرآف وىدايتو بالكالـ عمى فاتحة الكتاب وأـ القراف وعمى بعض ما تضمنتو ىذه
السورة مف المطالب العالية وما تضمنتو كذلؾ مف الرد عمى الطوائؼ المبتدعة وما
تضمنتو مف منازؿ السائري ف ومقامات العارفيف والفرؽ بيف وسائميا وغاياتيا وبياف أنو ال
يقوـ غير ىذه السورة مقاميا ولذلؾ لـ ينزؿ اهلل فى التوراة وال فى اإلنجيؿ وال فى القراف
مثميا واهلل المستعاف )) ويقوؿ أيضا رحمة اهلل (( أوؿ ىذه السورة رحمة وأوسطيا ىداية
وأخرىا نعمة وحظ العبد مف النعمة عمى قدر حظو مف اليداية وحظو مف اليداية عمى
قدر حظو مف الرحمة فعاد األمر كمو الى نعمتو ورحمتو والنعمة والرحمة مف لوازـ
روبيتو ومتى تحققت فى العبد معانى الفاتحة مف عمـ ومعرفة وعمؿ وحاؿ فقد فاز مف
الكماؿ بأوفر نصيب وصارت عبوديتو هلل عبودية الخاصة المذيف ارتفعت درجاتيـ عف
(ٔ)
ويقوؿ صاحب الظالؿ فى معرض كالمو عف الفاتحة (( إف فى عواـ المتعبديف ))
ىذه السورة مف كميات العقيدة اإلسالمية و كميات التصور اإلسالمي وكميات المشاعر
والتوجييات ما يشير الى طرؼ مف حكمة اختيارىا لمتكرار في كؿ ركعة وبطالف كؿ
صالة ال تذكر فييا )) (ٖ) ويقوؿ العالمة عبدالرحمف السعدى مشيدا بفضميا إذ جمعت
ما لـ يجمعو غيرىا عمى قمة ألفاظيا (( وقد اشتممت السورة الكريمة عمى توحيد الربوبية
فى قولو تعالى [ رب العالميف ] )) وعمى توحيد األلوىية في قولو تعالي ((إياؾ نعبد))
1تهذي م ارج السالكين ص 41مجل 4راجعه محم بيومى ط مكتبة اإليمان 4942هـ 4447 -
31
وعمي توحيد األسماء والصفات دؿ عميو لفظ الحمد إذ ال يحمد إال مف ثبت لو صفات
الكماؿ بغير تعطيؿ وال تأويؿ وال تشبيو وعمى اثبات النبوة فى قولو تعالى [ اىدنا
الصراط المستقيـ ] وذلؾ ممتنع بغير رسالة وعمى الجزاء عمى األعماؿ فى قولو ((
مالؾ يوـ الديف )) وعمى اثبات القدر وأف العبد فاعؿ عمى الحقيقة فى قولو اىدنا
(ٔ)
ويعنى بإثبات القدر اف العبد يسأؿ ربو اليداية ألنو يعمـ أف الصراط المستقيـ ))
لمعبد فمعناىا أنو كذلؾ لو مشيئة فى ذلؾ فاهلل ىاديو والعبد ميتد واهلل أعمـ ويقوؿ
فى كتابو
األركاف األربعة مشي ار الى عجيب أمر الفاتحة حيث توافقا مع فتر الخمؽ ونفوسيـ عمى
اختالؼ طبقاتيـ وتفنف حاجاتيـ (( تأمؿ في سورة الفاتحة التي ىي الدرة الفريدة في
المعجزات السماوية وقطعو رائعة مف القطع البيانية لو اجتمع أذكياء العالـ وأدباء األمـ
العممممة عب م الرحمن السممع 1تيسممير الكممري الممرحمن فممى تفسممير كممم المنممان ج 4ص 9تمميلي
مراجعة عمء السعي ط ار الفكر بيروت 4940هـ 4440
31
المبحث الرابع
ومف ىذا المنطمؽ نتطرؽ إلى الحديث عف الوجوه البالغية التي وردت في سورة الفاتحة،
ٔ
دالالت التسمية :سورة الفاتحػة:
سورة الفاتحة مف السور ذات األسماء الكثيرة أنياىا صاحب االتقاف إلى نيؼ وعشريف
بيف ألقاب وصفات جرت عمى ألسنة القراء مف عيد السمؼ ،فأما تسميتيا فاتحة الكتاب
فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منيا قوؿ النبي صمى اهلل عميو وسمـ «:ال صالة
لمف ال يق أر بفاتِحة ِ
الك ِ
تاب» .وفاتحة مشتقة مف الفتح وىو إزالة حاجز عف مقصود،
ولوجو فصيغتيا تقتضي أف موصوفيا شيء يزيؿ حاجزا ،وليس مستعمال في حقيقتو بؿ
مستعمال في معنى أوؿ الشيء تشبييا لألوؿ بالفاتح؛ ألف الفاتح لمباب ىو أوؿ مف
يدخؿ ،فقيؿ الفاتحة في األصؿ مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة ،وانما سمي أوؿ الشيء
بالفاتحة إما تسمية لممفعوؿ بالمصدر اآلتي عمى وزف مبدأ المصدر ،واما عمى اعتبار
1حممد عبد املنعم خفاجي و د .عبد العزيز شرف ،حنو بالغة جديدة ،بريوت :مكثبة غريب ،2009 ،ص .33
32
الفاتحة اسـ فاعؿ ثـ جعمت اسما ألوؿ الشيء؛ إذ بذلؾ األوؿ يتعمؽ الفتح بالمجموع،
فاألصؿ فاتح الكتاب وأدخمت عميو ىاء التأنيث داللة عمى النقؿ مف الوصفية إلى
االسمية ،أي إلى معاممة االسـ في الداللة عمى ذات معينة ال عمى ذي وصؼ مثؿ
الغائبة في قولو تعالى« :وما مف غائبة في السماء واألرض إال في كتاب مبيف».
النمؿ.ٚٚ
إلى الكتاب ثـ صار ىذا المركب عمما بالعممية عمى ىذه السورة.وقد سميت بأـ القرآف،
ومنشؤه ،يعني افتتاحو الذي ىو وجود أوؿ أجزاء القرآف قد ظير فييا ،فجعمت كاألـ
ٔ
لمولد في أنيا األصؿ والمنشأ.
الثاني أف محتوياتيا تشتمؿ عمى أنواع مقاصد القرآف ،وىي ثالثة أنواع :الثناء عمى اهلل
ثناء جامعا لوصفو بجميع المحامد وتنزييو مف جميع النقائص ،وإلثبات تفرده باإلليية
واثبات البعث والجزاء ،وذلؾ مف قولو ( الحمد هلل) إلى قولو ( ممؾ يوـ الديف) ،واألوامر
33
«الثالث أنيا تشتمؿ معانييا عمى جميع معاني القرآف مف الحكـ النظرية واألحكاـ
العممية ،فإف معاني القرآف إما عموـ تقصد معرفتيا ،واما أحكاـ يقصد منيا العمؿ بيا.
وأما تسميتيا بالسبع المثاني فيي تسمية ثبتت بالسنة ،ففي صحيح البخاري عف أبي
سعيد ابف المعمى أف رسوؿ اهلل صمى اهلل عميو وسمـ قاؿ“ :الحمد هلل رب العالميف” ىي
السبع المثاني والقرآف العظيـ الذي أوتيتو .ووجو تسميتيا بذلؾ أنيا سبع آيات باتفاؽ
ٔ
القراء والمفسريف».
وقد وضعت سورة الفاتحة في أوؿ السور ألنيا تنزؿ منيا منزؿ ديباجة الخطبة أو
االستيالؿ .وىي سورة مكية وآياتيا سبع ؛ حيث إنيا أوؿ القرآف في الترتيب ال في
النزوؿ« ،وىي عمى قصرىا ووجازتيا قد حوت معاني القرآف العظيـ واشتممت عمى
مقاصده األساسية باإلجماؿ ،فيي تتناوؿ أصوؿ الديف وفروعو ،تتناوؿ العقيدة والعبادة
والتشريع واالعتقاد باليوـ اآلخر ،واإليماف بصفات اهلل الحسنى وافراده بالعبادة،
واالستعانة والدعاء والتوجو إليو عز وجؿ بطمب اليداية إلى الديف الحؽ والصراط
1حممد أمحد املرشدي وإخوانه ،األدب و النصوص والبالغة ،القاهرة :دار املعارف ،2009 ،ص .232-229
34
المستقيـ ،والتضرع إليو بالتثبيت عمى اإليماف ونيج سبيؿ الصالحيف ،وتجنب طريؽ
المغضوب عمييـ وال الضاليف ،وفييا األخبار عف قصص األمـ السابقيف ،واالطالع
عمى معارج السعداء ومنازؿ األشقياء ،وفييا التعبد بأمر اهلل سبحانو ونييو ،إلى غيرىا
ابتدأت السورة الكريمة بالبسممة« ،وىي اسـ لكممة باسـ اهلل ،صيغ ىذا االسـ عمى مادة
مؤلفة مف حروؼ الكممتيف ( باسـ) و ( اهلل) عمى طريقة تسمى النحت ،وىو صوغ فعؿ
ٍ
ماض عمى زنة فعمؿ مؤلفة مادتو مف حروؼ جممة ،أو حروؼ مركب إضافي مما
ينطؽ بو الناس ،اختصا ار عف ذكر الجممة كميا ،بقصد التخفيؼ لكثرة دوراف ذلؾ عمى
األلسنة».
وأشار البقاعي ( ت ٘ ٛٛىػ) في كتابو نظـ الدرر في تناسب اآليات والسور :إلى
قولة لمحرالي ،في تفسيره في غريب ألفاظ البسممة حيث قاؿ «:إف الباء معناىا أظيره
اهلل سبحانو مف حكمة التسبيب “االسـ”؛ ظيور ما غاب أو غمض لمقموب بواسطة
اآلذاف عمى صورة األفراد( ،اهلل) اسـ ما تعنو إليو القموب عند موقؼ العقوؿ فتألو فيو
35
الرحمف) شامؿ الرحمة لكافة
أي تتحير فتتأليو وتميو بو ،أي تغني بو عف كؿ شيء َّ (،
ٔ
ما تناولتو الربوبية ( ،الرحيـ) خاص الرحمة بما ترضاه اإلليية»
الحمد ِ
هلل) أنو المستحؽ لجميع المحامد ال لشيء غير ذاتو الحائز ولما أثبت بقولوُ (« :
لجميع الكماالت ،أشار إلى أنو يستحقو أيضا مف حيث كونو ربا مالكا منعما فقاؿ (
رب)»[ ،فالحمد هلل جممة خبرية لفظا إنشائية معنى ،وفي قولو ( هلل) فف االختصاص
لمداللة عمى أف جميع المحامد مختصة بو فمما كاف الحاؿ بيذه المثابة استعمؿ لفظ
ٕ
الحمد لتوسطو مع الغيبة في الخبر ،ولـ يقؿ الحمد لؾ .
وأشار بقولو( «:العالميف) إلى ابتداء الخمؽ تنبييا عمى االستدالالت بالمصنوع عمى
الصانع وبالبداءة عمى اإلعادة كما ابتدأ التوراة بذلؾ»« ،وىو وصؼ السـ الجاللة ،فإنو
بعد أف أسند الحمد إلى اسـ ذاتو تعالى تنبييا عمى االستحقاؽ الذي عقب بالوصؼ وىو
الرب ليكوف الوصؼ متعمقا بو أيضا ألف وصؼ المتعمؽ متعمؽ أيضا»ولما كانت مرتبة
الربوبية ال تستجمع الصالح إال بالرحمة أَتْبع ذلؾ بصفتي ( « :الرحمف الرحيـ) وىما
36
وصفاف مشتقاف مف رحـ» ،وذلؾ ترغيبا في لزوـ حمده وىي تتضمف تثنية تفصيؿ ما
شممو الحمد أصال فأصؿ الرحمة مف مقولة االنفعاؿ وآثارىا مف مقولة الفعؿ« ،فإذا
وِ
صؼ موصوؼ بالرحمة كاف معناه حصوؿ االنفعاؿ المذكور ،واذا أخبر عنو بأنو رحـ ُ
غيره فيو عمى معنى صدر عنو أثر مف آثار الرحمة ،إذ ال تكوف تعدية فعؿ رحـ إلى
المرحوـ إال عمى ىذا المعنى فميس لماىية الرحمة جزئيات وجودية ،فوصؼ اهلل تعالى
بصفات الرحمة في المغات ناشئ عمى مقدار عقائد أىميا فيما يجوز عمى اهلل ويستحيؿ،
وبيذا الصدد قاؿ الجميور « :إف الرحماف أبمغ مف الرحيـ بناء عمى أف زيادة المبنى
ٔ
تؤذف بزيادة المعنى».
ولما كاف الرب المنعوت بالرحمة قد ال يكوف مالكا ،وكانت الربوبية ال تتـ إال بالممؾ
المفيد لتماـ التصرؼ ،وكاف المالؾ قد ال يكوف مالكا ،وال يتـ ممكو إال بالممؾ المفيد
لمعزة ،المقروف بالييبة المثمرة لمبطش والقير ،المنتج لنفوذ األمر أتبع ذلؾ بقولو ( ممؾ
يوـ الديف) ترىيبا مف سطوات مجده ،وذلؾ إشارة إلى أنو ولي التصرؼ في الدنيا
واآلخرة ،وكممة ممؾ ترجع تصاريفيا إلى معنى الشدة والضبط ويوـ الديف في الظاىر
ىو يوـ ظيور انفراد الحؽ ،بإمضاء المجازاة حيث تسقط دعوى المدعيف ،وىو أوؿ يوـ
37
الحشر إلى الخمود فاألبد .فمما استجمع األمر استحقاقا وتحبيبا وترغيبا وترىيبا ،كاف مف
شأف كؿ ذي لب اإلقباؿ عميو وقصر اليمـ عميو ،فقاؿ عادال عف أسموب الغيبة ،إلى
الخطاب ليذا مقدما لموسيمة عمى طمب الحاجة ألنو أجدر باالجابة ( ّإياؾ)؛ أي يا مف
ىذه الصفات صفاتو نعبد إرشادا ليـ إلى ذلؾ ،وقد كاف قولو تعالى ( « :إياؾ نعبد)
التفاتا ألف ما سبؽ م ف أوؿ السورة إلى قولو إياؾ نعبد ،تعبير باالسـ الظاىر وىو اسـ
الجاللة وصفاتو ،وألىؿ البالغة عناية بااللتفات ألف فيو تجديد أسموب التعبير عف
المعنى بعينو» .ومعنى (نعبد) كما ورد في قولة الحرالي «:تبمغ الغاية في أنحاء
التذلؿ» ،وأعقبو بقولو مكر ار لمضمير حثًّا عمى المبالغة في طمب العوف ( واياؾ
نستعيف) إشارة إلى أف عبادتو ال تتييأ إال بمعونتو والى أف مالؾ ىذه اليداية بيده.
فانظر كيؼ ابتدأ سبحانو بالذات ثـ دؿ عميو باألفعاؿ ثـ رقي إلى الصفات ثـ رجع إلى
الذات إيماء إلى أنو األوؿ واآلخر المحيط« ،فمما حصؿ الوصوؿ إلى شعبة مف عمـ
األفعاؿ والصفات عمـ االستحقاؽ لألفراد بالعبادة فعمـ العجز عف الوفاء بالحؽ فطمب
ٔ
االعانة».
38
وقد قدـ الضميرلحصر العبادة واالستعانة بالية وحده وقدمت العبادة عمى االستعانة ألف
االستعانة ثمرتيا ،واعادة إياؾ مع الفعؿ الثاني تفيد أف كال مف العبادة واالستعانة
مقصود بالذات .وقد أتى بنوف الجمع في ( نعبد ) و ( نستعيف) والمتكمـ واحد .وأشار
بقولو (:اىدنا الصراط المستقيـ) «تمقينا ألىؿ لطفو وتنبييا عمى محؿ السموؾ الذي ال
وصوؿ بدونو ،وىذا الصراط األكمؿ وىو المحيط المترتب عمى الضالؿ الذي يعبر بو
عف حاؿ مف ال وجية لو» ،والصراط مستعار لمعنى الحؽ الذي يبمغ بو مدركو إلى
الفوز برضى اهلل ،والمستقيـ اسـ فاعؿ وىو الذي ال عوج فيو ،وىنا استعارة تصريحية
حيث شبو الديف الحؽ بالصراط المستقيـ الذي ليس بو أدؽ انحراؼ« ،ووجو الشبو
بينيما أف اهلل سبحانو وتعالى واف كاف متعاليا عف األمكنة لكف العبد الطالب الوصوؿ ال
ثـ أكد سبحانو وتعالى اإلخبار بأف ذلؾ لف يكوف إال بإنعامو منبيا بيذا التأكيد الذي
أفاده االبداؿ عمى عظمة ىذا الطريؽ ،فقاؿ (« :صراط الذيف أنعمت عمييـ) أشار ىنا
إلى أف االعتصاـ بو في اتباع رسمو ،ولما كاف سبحانو عاـ النعمة لكؿ موجود عدوا
كاف أو وليا ،وكاف حذؼ المنعـ بو إلرادة التعميـ مف باب تقميؿ المفظ لتكثير المعنى،
فكاف مف المعموـ أف محط السؤاؿ بعض أىؿ النعمة وىـ أىؿ الخصوصية» ،ثـ إف
اختيار وصؼ الصراط المستقيـ بأنو صراط الذيف أنعمت عمييـ دوف بقية أوصافو ،
وذلؾ تمييد البساط لإلجابة وىذا ما يسمى بالتفسير بعد اإلبياـ .ثـ أتبع «( غير
39
المغضوب عمييـ)ٔ أي الذيف تعامميـ معاممة الغضباف لمف وقع عميو غضبو وتعرفت ”
غير” لتكوف صفة لمذيف بإضافتيا إلى الضد فكاف مثؿ الحركة غير السكوف ،ولما كاف
المقصود مف “غير ” النفي ألف السياؽ لو ،وانما عبر بيا دوف أداة استثناء داللة عمى
بناء الكالـ بادئ بدء ،عمى إخراج المتمبس بالصفة وصونا لمكالـ عف إفياـ أف ما يعد
أقؿ ودوف ال ( ،وال الضاليف) عمـ مقدار النعمة عمى القسـ األوؿ وأنو ال نجاة إال
باتباعي ـ ،وأف مف حاد عف سبيميـ عامدا أو مخطئا شقي ليشمر أولو الجد عف ساؽ
العزـ وساعد الجيد في اقتفاء آثارىـ لمفوز بحسف جوارىـ في سيرىـ وقرارىـ» .فمما
صار يذكر الغضب جاء بالمفظ منحرفا عف ذكر الغاضب فأسند إليو النعمة لفظا وروي
ٕ
عنو لفظ الغضب تحننا ولطفا.
ونجد في ال سورة حضو ار لمتسجيع مف قبيؿ (الرحيـ /المستقيـ) ( نستعيف /الضاليف) ،ثـ
الفواصؿ المؤثرة في النفس القائمة عمى اتفاؽ مخارج الحروؼ أحيانا ( الرحمف /الديف/
نستعيف ،حيث يوجد تنويع في فواصؿ السورة مف قبؿ الحروؼ ما بيف النوف والميـ .وقد
اشتممت كممات السورة وتراكيبيا عمى أسرار بالغية جعمتيا في قمة البالغة واإلعجاز
41
الخاتمة
الحمد هلل تعالى الذي وفقنا في تقديـ ىذا البحث ،وىا ىي القطرات األخيرة في مشوار
ىذا البحث ،وقد كاف البحث يتكمـ عف (اسرار االعجاز في القراف الكريـ تفسير الرازي
لسورة الفاتحة انموذجا) ،وقد بذلنا كؿ الجيد والبذؿ لكي يخرج ىذا البحث في ىذا
الشكؿ.
ويعد الرازي مف ابرز األطباء المسمميف مف ناحية األصالة في البحث حتى أطمؽ عميو
مف أبرز ما قيؿ ".أبو الطب العربي" ،وكاف مف رواد البحث التجريبي في العموـ الطبية
عنو عند وفاتو مجسداً بذلؾ براعتو في عموـ الطب " كاف الطب معدوما فأوجده أبقراط"،
وميتاً فأحياه جالينوس ،ومشتتاً فجمعو الرازي .إف مف أعظـ كتبو "تاريخ الطب وكتاب
المنصوري في الطب و كتاب األدوية المفردة" الذي يتضمف الوصؼ الدقيؽ لتشريح
أعضاء الجسـ .وكتاب "الجامع" و"الكافي" و"المدخؿ" و"الممكي" و"الفاخر" إال أف كتابي
(الحاوي والمنصوري) يعتبراف عمى رأس مؤلفاتو والييما يعود الفضؿ في شيرتو وذيوع
41
المصادر
جزاع ،طو (ٕٔٓٓ) فمسفة األخالؽ عند أبي بكر الرازي ،المورد ،و ازرة الثقافة ٔ.
آيزف ،عمى ( )ٜٖٔٙكيمياء الرازي ،مجمة المجمع العممي العربي ،المجمع ٕ.
العممي العربي
حمارنة ،نشأت ( )ٜٜٔٛالرازي الطبيب أبو بكر محمد بف زكريا الرازي ،التراث ٖ.
عبد الباقي ،أحمد ( )ٕٓٓٙأبو بكر محمد بف زكريا الرازي ،المورد ،و ازرة الثقافة ٗ.
أميف ،وديع ( )ٕٓٓٙابو بكر الرازي الطبيب الفيمسوؼ ،أدب ونقد ،حزب ٘.
ابف أبي أصيبعة ،عيوف االنباء ،مرجع سابؽ ،جٔ ٛ-ٖٔٚ :وانظر السيرة .ٙ
42
كتاب ما الفرؽ ،لمرازي لمفروؽ بيف األمراض ،تحقيؽ وتقيـ وشرح صديقنا الزميؿ .ٚ
د .سمماف قطاية ،جامعة حمب ،معيد التراث( ٜٔٚٛ ،انظر خاصة
األطباء والحكماء ،تحقيؽ فؤاد سيد ،القاىرة ،معيد اآلثار الفرنسي ٜٔ٘٘ ،صٚٚ
ٔٔ .الشفا بتعريؼ حقوؽ المصطفى (صمى اهلل عميو ) ،القاضي عياض’،ٖٜٗ ،ٔ:
تحقيؽ االُستاذ عمي محمد البجاوي.
ٖٔ .عموـ القرآف ،محمد باقر الحكيـ ،ٕٔٚ :ونسب التعريؼ لمشييد الصدر
٘ٔ .تيسير الكريـ الرحمف فى تفسير كالـ المناف جٔ تأليؼ العالمة عبدالرحمف
43
.ٔٙمحمد عبد المنعـ خفاجي و د .عبد العزيز شرؼ ،نحو بالغة جديدة ،بيروت:
.ٔٚد .مكارـ محمود الديرى ،الروافد األدبية فى عصر صدر اإلسالـ ،القاىرة :جامعة
.ٔٛعبد القاىر الجرجاني ،دالئؿ اإلعجاز والرسالة الشافية وأسرار البالغة (دار
44