الإنسان والمكان: تفاعلات متبادلة

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 41

‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬

‫‪2009‬‬

‫اإلنسان والمكان ‪ :‬تفاعالت متبادلة‬

‫أ‪.‬د سامي مهدي العزاوي‬


‫مدير مركز ابحاث الطفولة واألمومة‬
‫تـقـديــــــــم ‪-:‬‬
‫يركز علم النفس البيئي ‪ ,‬باعتباره احد الفروع الحديثة لعلم النفس على دراسة‬
‫السلوك البشري في إطاره البيئي ‪ ,‬وهو المكان الذي نعيش به ‪ ,‬ونستجيب لمختلف‬
‫التنبيهات من خالله ‪.‬أذ تختلف استجابات اإلنسان للمنبهات تبعا" للمكان الذي يحيط‬
‫ب ه ‪ .‬فاالس تجابات تختل ف م ابين الم دن والري ف ‪,‬المن اطق الس احلية عن المن اطق‬
‫الصحراوية ‪,‬األماكن المكتظة بالسكان عن المناطق المنعزلة ‪......‬الخ‬
‫إن العام ل المش ترك بين ك ل ه ذه االس تجابات تتف ق في أن البش ر والطبيع ة‬
‫المتمثلة بالمكان أقاما فيما بينهما عالقة تفاعلية متبادلة ناسفين للنظرية القائلة بان‬
‫(( الطبيعة هيئات سلبيا" كمسرح النجازات البش ر )) ((س يمونز ‪ 1997 ,‬ص ‪))15‬‬
‫‪.‬‬
‫أن هذه الحقائق يؤكد عليها مختلف علماء التخطيط الحضري واإلقليمي الذين‬
‫تحول وا من المعالج ات النظري ة لعالق ة اإلنس ان م ع المك ان إلى الم داخل التطبيقي ة‬
‫(( تكنولوجية بشرية ومعمارية )) فتحول التخطيط من هندسة معمارية إلى هندسة‬
‫اجتماعية ‪ ,‬حيث أصبحت األهداف اجتماعية ‪ ,‬ووسائل تحقيقها اقتصادية وعمرانية‬
‫( العم ر ‪ 8..2 ,‬ص ‪ )2‬فالت داخل بين غاي ات اإلنس ان وأهداف ه الس امية في الحي اة‬
‫تحدده عوامل المكان ‪ ,‬وما تتوافر فيـه من إمكانـات اقتصادية واجتماعية وطبيعية ‪.‬‬
‫ومن خالل إدراكنـا للعالق ة التفاعلي ة للس لوك البشـري م ع المك ان ال ذي يحتويـه ‪,‬‬
‫نحاول تسليط الضوء في هذه الورقة المتواضعة على ‪-:‬‬
‫‪ -‬خصوصية المكان ‪.‬‬
‫‪ -‬حدود المكان بيننا وبين اآلخرين ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫‪ -‬اآلثار النفسية لالزدحام والضوضاء ‪.‬‬


‫‪ -‬مكان التعلم وانعكاساته على سلوك المتعلم ‪.‬‬

‫خصوصية المكان في المنظور السايكولوجي ‪-:‬‬


‫أن اإلجابة عن اآلث ار السلوكية الفردية واالجتماعية التي يتركها المك ان في‬
‫حياة اإلنسان تتطلب إيضاح المفاهيم المتعلقة بالمكان النفسي للفرد والذي يتسم على‬
‫العموم بالخصوصية ‪ ,‬فحاجة اإلنسان الن يبقى على جزء من حياته الخاصة بعيدا"‬
‫عن أذان وعي ون اآلخ رين احتي اج بش ري يح اول بق در اإلمك ان أن يحتف ظ ب ه دون‬
‫تدخل اآلخرين ‪ .‬والحاجة للخصوصية التعني العزلة المكانية‪ ,‬واللخصوصية أربع‬
‫ح االت فص لها وس تن ‪ Westin‬نقًال عن (( إب راهيم ‪ 1997 ,‬ص ‪ )) .21‬على‬
‫النحو األتي ‪-:‬‬
‫‪ -1‬الوحدة أو االنفراد في مكان ما بعيدا" عن أنظار اآلخرين‪-:‬‬
‫وه ذه الحال ة الخاص ة نحتاجه ا عن د التوج ه لس رير الن وم أو ال ذهاب إلى‬
‫حج رة الدراس ة ‪ ,‬أو الكتاب ة ‪ ,‬أو االس تلقاء الح ر ‪ .‬إذ غالب ا" م ا يفض ل الف رد من‬
‫اآلخرين عدم كسر وحدته‬
‫‪ -2‬المكان العائلي ‪-:‬‬
‫وهذا المكان يكون غالبا" الثنين أو أكثر ويتقاسمون العيش في مكان واحد ‪,‬‬
‫كالمنزل ‪ ,‬أو السيارة ‪ ,‬أو الحديقة العامة لمناقشة أمور العالقة لآلخرين بها ‪.‬‬
‫‪ -3‬المجهولية المكانية ‪-:‬‬
‫وهي حالـة من الخصوصية يلتجأ لها كبار الفنانين والرياضيين والسياسيين ‪,‬‬
‫حينم ا يح اولون اختي ار أم اكن اليع رفهم فيه ا اح د‪ ,‬كي يحقق وا نوع ا" م ا من‬
‫خصوص يتهم التي غالبا" ما يفقدوها بسبب تدخل اآلخرين في متابعة كل حرك اتهم‬
‫وتصرفاتهم إلى حد حبس أنفاسهم ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫‪ -4‬مكان لمراجعة النفس ‪-:‬‬


‫وغالبًا مايحتاج رجال السياسة واإلدارة الى أماكن منعزلة عن اآلخرين ‪,‬‬
‫تمنحهم الفرصة لمراجعة النفس عند أتحاذ قرارات حاسمة ‪ ,‬من خالل فحص‬
‫المعطيات المتوفرة لديهم قبل أتحاذ تلك القرارات ‪.‬‬

‫الحدود المكانية بيننا وبين اآلخرين‬


‫كثيرا" ما يتسائل الناس عن مقدار المسافة المكانية بين صديقان عزيزان يتبادالن‬
‫الكالم ‪ ,‬أو بين الط الب وأس تاذه ‪ ,‬أو بين شخص ين غري بين ‪,‬أو بين شخص ين من‬
‫جنسين مختلفين والناس فيما يرى هول ‪ Hall‬نقال " عن (( إبراهيم ‪ ,‬مصدر سابق‬
‫)) يستخدمون المسافة المكانية بأربع طرق عند احتكاكهم باآلخرين وهي ‪-:‬‬
‫‪ -1‬المسافة الوثيقة ‪-:‬‬
‫والتي تتضمن اللمس البدني واالحتك اك ‪ ,‬وهي عالمة على وجود عالقات‬
‫صداقة حميمة بينهما ومن أمثلتها ‪ ,‬وضع الذراعيين حول كتف األخر ‪ ,‬أو ال رقص‬
‫المشترك ‪.‬‬
‫‪ -2‬المسافة الشخصية ‪-:‬‬
‫وهي مس افة غ ير منظ ورة يض عها الف رد بين ه وبين اآلخ رين وال تي تص ل‬
‫مابين قدمين إلى أربعة تبعا" للحضارة التي يعيش فيها الفرد ‪.‬‬
‫‪ -3‬المسافة االجتماعية ‪-:‬‬
‫وهي المس افة ال تي تفص ل بينن ا وبين اآلخ رين عن د االن دماج في نش اطات‬
‫اجتماعي ة مختلف ة ‪ .‬ففي المناقش ات االجتماعي ة يجلس الن اس أو يقف ون متق اربين‬
‫بطريقة تمكنهم من اإلنصات لما يقوله كل منهم ‪.‬‬

‫‪ -4‬المسافة العامة الرسمية ‪-:‬‬

‫‪3‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫وهي المس افة الرس مية ال تي تح دد عالق ة األط راف المتباين ة في التفاع ل‬
‫االجتم اعي كالمس افة بين الطالب واألس تاذ في المحاض رة ‪ ,‬أو الخطيب والجمه ور‬
‫في دور العبادة واألماكن العامة‪.‬‬

‫اآلثار النفسية لالزدحام والضوضاء‬


‫أن اكتظاظ األماكن باإلفراد وما ينتج عنه من ازدحام‪ ,‬وضوضاء ‪ ,‬وتلوث للجو‬
‫أحيانا" بسبب التدخين أو التنفس وما يصاحبه من انتقال فيروسات عن أالشخاص‬
‫المرضى في الجو يؤدي في كثير من األحيان إلى العديد من المشكالت االجتماعية‬
‫والصحية‪ ,‬كنتاج طبيعي للمدينة الحديثة التي جعلت الناس ينتقلون من أماكنهم‬
‫الطبيعية والتزاحم في أماكن ضيقة داخل المدن ‪.‬‬
‫وغالبا" ما يستجيب األفراد لالزدحام تبعا" لطبيعة الموقف الناتج عنه ‪ ,‬فنوع‬
‫األشخاص المزدحمين ((أصدقاء ‪ ,‬غرباء)) وطبيعة النشاط السائد في موقف‬
‫االزدحام ((مشاهدة مسرحية ‪ ,‬االنتظار في محطة القطارات )) وكذلك الخبرة‬
‫السابقة في المواقف المزدحمة فكثير من الناس يتقبلون االزدحام في المالعب نتيجة‬
‫لخبراتهم السابقة بالتفاعل االجتماعي الناتج عن تشجيع فريق يحبونه ويدعمونه‬
‫اجتماعيا" بينما يتذمرون وتظهر عليهم مظاهر السلوك العدواني حين االنتظار لمدة‬
‫طويلة للحصول على تأشيره سفر لدخول بلد ما ‪.‬‬

‫مكان التعلم وانعكاساته على سلوك المتعلم‬


‫تؤثر البيئة (( المكان )) التي تتم بها عملية التعليم والتعلم تأثيرا" مباشرا" وغير‬
‫مباشر على سلوك الطلبة ‪ .‬فقد كشفت دراسة تحليلية عميقة أجريت على حجم‬
‫الصف ‪ ,‬عن وجود عالقة دالة بين حجم الصف ومواقف كل من المعلم والطالب ‪.‬‬
‫وان تأثير المعلم المرغوب فيه مرتبط بصفوف صغيرة الحجم في تأثيره على مفهوم‬

‫‪4‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫الذاتي ‪ ,‬وحب المدرسة والمشاركة الصفية وكذلك تفريد التعليم ‪ ,‬وإ يجاد مناخ صفي‬
‫أفضل ‪.‬‬
‫وأشارت دراسة أخرى إلى إن سلوك الطالب ومواقف االنجاز أو عدمه تتأثر‬
‫بمتغيرات البيئة الصفية ‪ ,‬مثل طريقة ترتيب المقاعد وازدحامها ‪ .‬وان التعديالت‬
‫التي أدخلت على غرفة الصف أظهرت تغيرا" في سلوك الطالب المكاني ‪.‬‬
‫وازدادت من التفاعل مع المواد الدراسية وقللت من فرص المقاطعة في الكالم ‪.‬‬
‫وزادت من نسبة التساؤالت المهمة ‪ (( .‬قطامي ‪ 1992,‬ص ‪. ))271‬‬
‫وتشير المالحظة اليومية لسلوك الطلبة بمختلف مستوياتهم إلى ازدياد السلوك‬
‫العدواني‪ ,‬فيما يتعلق بتحطيم األثاث‪ ,‬واستخدام عبارات نابية في البيئات التعليمية‬
‫المزدحمة في الطالب ‪.‬‬
‫مــــــــــا العمـــــــل ؟‬
‫مما سبق يتضح أن المسافة المكانية أو الشخصية تتأثر بعوامل متعددة منها ‪:‬‬
‫العمر ‪ ,‬الجنس ‪ ,‬المركز االجتماعي ‪ ,‬الحضارة والديانة ‪.‬فاالطفال مثال" نسمح لهم‬
‫باالقتراب الوثيق منا أكثر من الكبار أو اإلفراد مـن الجنس األخر ‪ ,‬وكذلك الغرباء ‪.‬‬
‫والحضارة العربية اإلسالمية تسمح لإلفراد باالحتكاك والتقبيل فيما بينهم كتعبير‬
‫وجداني عن التفاعل ألصميمي بين المسلمين ‪ ,‬في حين التحبذ الكثير من‬
‫الحضارات األخرى مثل هذا السلوك ولكي نتوصل إلى أفضل شكل لتحديد العالقة‬
‫المكانية بين اإلفراد فإننا نحتاج إلى ‪-:‬‬
‫‪ -1‬ضرورة ضبط التغير االجتماعي والتكنولوجي ‪ ,‬بحيث نقلل من نتائجه‬
‫السلبية على الناس ‪.‬‬
‫‪ -2‬أشراك متخصصين في التخطيط الحضاري من الجغرافيين والمهندسين‬
‫المعماريين ‪ ,‬وعلماء االجتماع والتربية في وضع التصميم المعماري للمدن الحديثة‬
‫كي توظف توظيفا" ايجابيا" لخدمة اإلنسان من حيث بناءه الصحي وعالقته‬
‫باآلخرين وفعاليته ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫‪ -3‬أيالء مسألة المسافة الشخصية واالجتماعية والرسمية أهمية خاصة في‬


‫تكوين شخصية الطالب الجامعي ‪.‬‬

‫المــصـــــــــادر‬
‫‪ -‬أيان ج ‪ .‬سيمونز (‪(( )1997‬البيئة واإلنسان عبر العصور )) ترجمة السيد‬
‫محمد عثمان ‪ .‬عالم المعرفة الكويت‪.‬‬
‫‪ -‬مضر خليل العمر (‪(( ) 8..2‬البحث المكاني ‪ :‬بداياته واتجاهاته ))‬
‫منشورات وحدة األبحاث المكانية ‪ ,‬الورقة األولى ‪.‬‬
‫‪ -‬نايفة قطامي (‪ (()1993‬أساسـيات علم النفس المدرسي)) دار الشروق عمان‬
‫‪.‬‬
‫‪ -‬عبد الستار ابراهيم (‪(()1997‬اسس علم النفس )) دار المريخ الرياض‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫االنســان والمكـان‬

‫أ‪.‬د ليث كريم حمد‬


‫رئيس قسم الدراسات العليا‬
‫كلية التربية االساسية‬
‫المقدمـة ‪-:‬‬
‫إن موضوع عالقة االنسان بالمكان كان مثار جدل كثير واهتمام كبير بين‬
‫المفكرين والفالسفة منذ القدم ‪ .‬ال بل ان المكان الهم الشعراء واالدباء وربما صار‬
‫إطارا لعلم العلماء وفقه الفقهاء‪ .‬اال ان معالجة هذه العالقه والبحث فيها في اطار‬
‫فلسفي تتبناه مجموعة من المفكرين بما يشكل فرقا او مدارس فلسفية يعود الى‬
‫القرن التاسع عشر الميالدي ‪ ,‬وتبلورت في هذا االطار فلسفات وايديولوجيات توجه‬
‫طبيعة العالقة بين االنسان والمكان في محاوله جادة لرسم حدود هذه العالقة‬
‫وخطوطها العامة ‪ .‬فغذا اردنا مثال ان نجري بحثا في اآلداب واالخالقيات فإن اول‬
‫ما يتبادر الى الى اذهاننا اخالقيات المكان وآدابه ‪ .‬أو بحثا في المكان وعاداته فالبد‬
‫اوال ان نحدد اي سكان في أي مكان ‪.‬‬
‫والكون كله مكان واالرض مكان والقارة مكان والبيت الذي نعيش فيه مكان‬
‫وعلى صغره فيه مكان محترم وآخر ليس كذلك ‪ .‬كاترينا القاتلة كانت في مكان‬
‫وانفلونزا الطيور تنتقل من مكان الى مكان والذهب والنفط والمياه والجراد‬
‫والبعوض والحرب والسالم كل في مكان ‪.‬‬
‫فهل ان االنسان اختار المكان أم ان المكان يرسم صورة االنسان ؟‬

‫اوال ‪ :‬فلسفة االنسان والمكان ‪-:‬‬

‫‪7‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫ـ الفلسفة الحتمية(‪-: )Desterminism‬‬


‫الفكر الحتمي فلسفة واضحة المعاني تبلور على يدر االلماني ( فريدريك راتزل‬
‫) واتبعه بعض الجغرافيين خالل القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ويبدو‬
‫ان الجغرافيين اول من تبنوا الفلسفة الحتمية في تفسير عالقة االنسان بالمكان اال ان‬
‫الحتمية ظهرت في معظم العلوم االنسانية وفحوى هذه الفلسفة كائنسلبي امام البيئة‬
‫وهي تؤثر فيه تأثيرا كبيرا وان دوره االذعان لما تمليه عليه الطبيعه في المكان‬
‫والزمان ويرى اصحاب هذه الفلسفة ان البيئة تحدد نوع تفكير االنسان واليك هذا‬
‫النموذج من االراء والمقوالت الحتمية ‪.‬‬
‫( أعطني خريطة دولة ما ‪ ,‬ومعلومات وافيه عن موقعها ومائها ومناخها ‪,‬‬
‫ومظاهر الطبيعة االخرى ‪ .....‬بامكاني في ضوء ذلك ان احدد لك اي نوع من‬
‫االنسان يمكن ان يعيش في هذه الدولة واي دور يمكن ان تمثله هذه الدولة في‬
‫التاريخ )‪.‬‬
‫وآراء اخرى حاولت تفسير التباين بين الناس وخصائصهم انما يرجع الى قوة‬
‫الطبيعة ‪ .‬وكثر نقاد هذه الفلسفة ومن أكبر المآخذ عليها انها الغت ارادة االنسان‬
‫وجعلته صنيعة المكان ‪.‬‬

‫ـ الفلسفة االمكانية (‪-: )Possibilism‬‬


‫اول من اطلق هذا المفهوم ( لوسيان فيفر ) والمقصود باالمكانية ان لالنسان‬
‫حرية االختيار فيما تقدمه له البيئة من خيارات مختلفه على وفق تباين البيئات‬
‫مناخيا وتضاريسيا وانه ال يوجد شيء محتم بل ان أمام االنسان خيارات وبدائل‬
‫توفرها الطبيعة بما يتناسب مع طموحاته وقدراته وبالتالي فالعالقه بين االنسان‬
‫والمكان تبرزها مصالح االنسان وهذا عكس الحال في الفلسفة الحتمية فالنسان هو‬
‫الذي يحدد طرق وطبيعة استغالل البيئة وقد دعم هذه النظرية ما تحقق من انجازات‬

‫‪8‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫واسعة في مجاالت الصناعة والتقنيات وامكانيات السيطرة على البيئة واستثمار‬


‫مواردها ‪.‬‬
‫ـ الفلسفة االحتمالية ( ‪-: )Probabilism‬‬
‫وهـذه الفلسـفة حاولت التوفيـق بين الحتميـة واالمكانية ومن اشهر دعاتها‬
‫( جريفت تايلور ‪ 9‬وقد وضح دور البيئة في قولة ان البيئة تسمح لك باالسراع حينا‬
‫والتريث حينا والتوقف حينا آخر وهو الذي قال بحتمية الخطوه خطوه وان استغالل‬
‫البيئة من قبل االنسان بما تسمح به البيئة فمنها ما يوفر الكثير ومنها ال يعطي اال‬
‫القليل ‪ .‬واالنسان ال يستطيع تغيير البيئة تغييرا جوهريا بل ان فعله ال يعدو كونه‬
‫تعديال او تحسينا بما يخدم مصلحته ‪ .‬ويرى العض ان هذه الفلسفة حافظت على‬
‫روح الفلسفة الحتمية وفحواها ‪.‬‬

‫ـ الفلسفة الندية (‪-: )Cofrontation‬‬


‫ويرى اصحاب هذا المنظور ان االنسان والبيئة في صراع جاد القرار صيغة‬
‫التعايش في الزمان والمكان ومثلما ان لالنسان وسائله واساليبه في تطويع البيئة‬
‫وتوجيهها فهي االخرى ايضا لها القدرة على مواجهة التحديات والحد من تدخالت‬
‫االنسان وتحدياته لها لذلك يرى هؤالء ان هناك موازنة بين فعل االنسان ومقاومة‬
‫الطبيعة وذلك من اجل وضع حد للتعايش بين الطرفين في الزمان والمكان ثم يبدا‬
‫تحدي آخر من االنسـان ومقاومة من الطبيعة وصوال الى مسـتوى مـن التعايش‬
‫وهكذا ‪.‬‬

‫ـ فلسفة جايا (‪-: )Gaia‬‬


‫وهذه فلسفة السبعينيات من القرن الماضي بعد وضوح الكثير عن كوكب‬
‫االرض الذي ينبض بالحياة في اجواء الفضاء المعتمه بكل مكوناته التي يبدو معها‬
‫وكأنما هو كائن حي واحد وقدرة االحياء فيه على صنع هذه البيئة الالزمه للحياة‬

‫‪9‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫ويشير (لفلوك) الى ان ( جايا ) كيان حي معقد يشمل على المجموع الحيوي بحيث‬
‫يتشكل من الكل نظام في التفاعالت ذاتية التنظيم هدفه تحقيق البيئة الفيزياويه‬
‫والكيمياويه الفضلى للحياة على االرض ويشكل االنسان اهم نوع حي في هذا النظام‬
‫المعقد ويعد القوه االكبر لتقرير االتزان فيه ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬المكان أو مجال الحياة (‪-: )Life space‬‬


‫في اللغة – الموضع والمستقر نسبة الى من هم فيه وال يكون مكانا بالنسبة لنا‬
‫حتى ندركه بالعقل او بالحواس وعليه فادراك المكان بالعقل على قدر وسعه‬
‫وبالحواس على قوتها او ضعفها ‪ .‬وللمكان عناصر مادية لها معنى تأخذ معناها من‬
‫الوظيفة المتعارف عليها لهذا المكان او الوقائع والحوادث التي حدثت فيه ‪.‬‬
‫فبالنسبة للفرد ‪ :‬فإن نشاطه سواء أكان غال ام فكرا ام انجازا ينظر اليه على انه‬
‫تغير في احد ظروف المكان في وحدة زمن محددة فالمكان الذي يحيى فيه الفرد‬
‫يشمل مجاله الحيوي الذي ينشط فيه وبيئته النفسية كما يدركها ويفهمها ‪.‬‬
‫اما بالنسبة الى الجماعة ‪ :‬فالمكان قوامة الجماعة وبيئتها كما تدركها وتفهمها‬
‫الجماعه وتحديد خصائص اي مكان انما يرتبط بالزمن الذي تم فيه تحديد هذه‬
‫الخصائص والحقائق الموجودة في لحظة من الزمن ويمكن تمييز ثالثة مجاالت‬
‫تكون التغيرات فيها ذات اهمية لسيكولوجينا المكان ‪-:‬‬
‫‪ .1‬مجال الحياة ‪ :‬ونقصد به الحيز الذي نتحرك فيه وننشط فيه وندركه على‬
‫قدر معين وضحناه آنفا ‪ .‬وهو االنسان وبيئته السيكولوجية كما تتمثل له ومكوناته‬
‫ونشاطه – حاجاته االن – والدوافع التي تتولد عنها – ثم حالته االنفعاليه في هذه‬
‫اللحظة – وما مدى وضوح الهدف في ذهنه – وما درجة قلقه لتحقيق هذا الهدف –‬
‫وما نوع المعايير التي يحكم بها النتائج ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫‪ .2‬العمليات المادية واالجتماعية الكثيرة التي التؤثر في المكان في تلك اللحظة‬


‫اي ان المكان يتصف بالنشاط الذي يشغله في هذه اللحظة وقد يكون النشاط الظاهر‬
‫هو النشاط االقوى الذي تستجيب له عناصر المكان المادية واالجتماعيه ‪.‬‬
‫‪ .3‬حدود المكان ‪ :‬وبما ان المكان يتكون من عناصر مادية واجتماعية تؤثر في‬
‫مجاله الحيوي في تلك اللحظة فان عملية االدراك ترتبط ارتباطا وثيقا بالعناصر‬
‫المادية كما تتأثر بها اعضاء الحس في تلك اللحظة فيكون الفعل او النشاط متناسبا‬
‫مع عملية االدراك في حدودها المادية الخارجية ‪ .‬فما ال ندركه ال يؤثر في سلوكنا‬
‫وان كان موجودا وما نتوهم ادراكه يؤثر في سلوكنا وان لم يكن موجودا فحدود‬
‫المكان ما ندركه في لحظة ما من عناصر مادية واجتماعيه ويمكن ان تطلق علىه‬
‫البيئة البيئة النفسية االجتماعية‪.‬‬
‫ان حالة االنسان الفرد كشخص التنفصل عن بيئته النفسية فحالة الشخص بعد‬
‫التشجيع غير حالته بعد التثبيط وحالته في اجواء متسامحة غير حالته في اجواء‬
‫متشددة والعالقة االيجابية بين الفرد وآالخرين غير العالقة السلبية والطفل الذي‬
‫يجلس في حظن امه غير الطفل الذي بين يدي غريب ‪ .‬وتخيل ان طفال ينمو في‬
‫عائلة مرفهة متميزة وآخر ينمو في عائلة معدمة مضطهدة ‪.‬‬

‫‪ .4‬طبيعة العالقه بين االنسان – المكان – السلوك ‪-:‬‬


‫فالمكان ‪ :‬هو الوسط الموضوعي الخارجي وما فيه من عناصر ومكونات تعمل‬
‫كمنبهات لنشاط الفرد في لحظة معينه وهي منطقه ادراكيه حركيه تقع على الحدود‬
‫بين مناطق الشخص الباطنيه والخارجيه ‪ ،‬وهي تفهم من خالل ‪-:‬‬
‫ـ الحاجات الداخلية التي توجه النشاط الحركي للفرد فنسميها المنطقة الحركيه ‪.‬‬
‫ـ المنطقة المتوسطة وهي تاثير مكونات المكان كمنبهات تنشأ عن تغيرات‬
‫المكان والمنطقه المتوسطة ذات عالقه بالجهاز االدراكي للشخص ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫ـ التفاعل بين االنسان والمكان كما يدرك يدرك عناصرها ووظائفها والعالقة‬
‫بينها بما يحدد خصائص المكان وهذه الخصائص تكون فيما بعد البيئة النفسية‬
‫للفرد في تلك اللحظة فإن فهمه وادراكه يختلف من واحد الى آخر على وفق‬
‫المتغيرات التي ذكرناها آنفا ‪.‬‬
‫أما االنسان ‪ :‬فهوالشخص بصفاته وخصائصه من ( حاجات ‪ -‬قيم – معتقدات‬
‫– اجهزة حسية وادراكية – وغيرها ) وهي تتفاعل مع بعضها البعض ومع عناصر‬
‫المكان لتنتج مجال الحياة الراهن ‪.‬‬
‫والشخص يفهم من المكان الذي هو فيه ‪ ,‬واننا قد ندركه من العناصر المكانية‬
‫في زمن محدد فيأخذ صفات وخصائص المكان فتكون بالنسبة لنا حقائق سيكولوجية‬
‫ترسم بيئة سيكولوجية تتناسب مع مستوى التوتر الذي تحدثه العالقة بين االنسان‬
‫والمكان ‪.‬‬
‫واالنسان ‪ :‬يأخذ معناه من المكان والمكان يأخذ معناه من االنسان والمكان اسبق‬
‫من االنسان ‪.‬‬

‫استنتاجات وتطبيقات ‪:‬‬


‫سيظل المكان من الموضوعات الرئيسة التي تشغل العالم في القرن الواحد‬
‫والعشرين وان هناك حقيقة واقعة تتحكم في حياة االنسان تحكما كامال إن هناك‬
‫ثالثـة انظمة رئيسـة المخرج منها هي النظام الحيوي والنظام االجتماعي والنظام‬
‫التقني ‪.‬‬
‫والنظام الحيوي البيولوجي هو منظومة الطبيعة او حيز الحياة ‪ ،‬وان منظومة‬
‫الطبيعة تتغير من مكان الى آخر في معطياتها على االقل بما يحدد تواجد االنسان‬
‫والمنظومة االجتماعية الذي بدوره يشكل المنظومة التقنيه هذا وان مشكالت المكان‬
‫تنجم عن فشـل التفاعالت بين عناصر االنظمة الثالثـة او تعارضها وعليه نرى ‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫‪ .1‬ان موضوع المكان لم يعد امرا داخليا في حدود معينه فالمكان يتأثر بغيره‬
‫ويؤثر في غيره خاصة ما يتعلق بالمنظومة التقنية التي تعمل في ذلك المكان ‪.‬‬

‫‪ .2‬اننا النعرف كل شيء عن المكان الذي نحن فيه وربما نعرفه اقل مما‬
‫النعرفه وان للمكان اجزاء مترابـطة كل واحد فيـها يكمل اآلخر والجهـل لبعض‬
‫االجزاء يجعل من معرفتنا له ناقصة والمعرفة الناقصة تحول دون التوازن‬
‫واالستقرار ‪.‬‬

‫‪ .3‬اينما حل االنسان فهو سيد المكان وان كل االحياء االخرى في المنظومة‬


‫البيولوجية ان لم تكن في خدمته فأنه يحاول ان يتخلص منها وقد حدث الكثير من‬
‫ذلك منذ نزول االنسان على االرض والى االن وربما انقرضت الكثير من االحياء‬
‫شديدة الفائدة بسببسوء استغالل االنسان لها ‪.‬‬

‫‪ .4‬وللمكان نفوذ سياسي عندما يتمتع هذا المكان بمميزات وخصائص تؤهله‬
‫لتقديم المزيد من المعطيات المتفرده التي تفرض تأثيرها على االماكن االخرى‬
‫وكذلك نفوذ ديني او اجتماعي وغيرها ‪.‬‬

‫‪ .5‬وللمكان دور في التربية والتعليم وان االنسان وبيئته يجب ان ينظر اليها من‬
‫منطلق ان االنسان بدوره محور النشاط والحياة يوظف المكان ومعطياته لصالحه وان ما‬
‫في المكان من معطيات ليس لجيل واحد وانما هي امانه يطورها الجيل ثم يهديها للجيل‬
‫الذي يليه ‪.‬‬

‫‪ .6‬ومهما كانت الطبيعة فإنها ال ترتقى اطالقا الى مستوى التقديس او نساوي االنسان‬
‫بالكائنات الحية االخرى كما اليجوز ان نعطي االنسان الحق المطلق في السيطره‬
‫واالستغالل ‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫‪ .7‬واستجابة لتطور علوم الطبيعية وعلوم البيئة ظهر على مستوى التربية والتعليم ما‬
‫يسمى بالتربية السكانية الرتباطها الوثيق بالتنمية االقتصادية واالجتماعية ‪.‬‬

‫‪ .8‬وتنبه المربون الى التربية البيئية فنادوا بضروره وضع فلسفة للتربية البيئية‬
‫او اطار مفاهيمي نظري لها يستند اليه تطوير برامج التربية البيئية وتقويمها ‪.‬‬
‫المراجـع‬
‫‪.1‬كمال دسوقي ‪ /‬دينامية الجماعة في علم االجتماع وعلم النفس االجتماعي –‬
‫القاهره ‪ -‬المطبعة الفنية الحديثة – ‪.1969‬‬
‫‪.2‬محمد سعيد الصياريني ‪ /‬نحو اساس فلسفي للتربية البيئية – مجلة البصائر‬
‫االردنية – ‪.1998‬‬
‫‪ .3‬قاسم حسين صالح ‪ /‬االنسان من هو ‪ – ....‬بغداد – دار الشؤون الثقافية‬
‫العامة – ‪. 1986‬‬
‫‪ .4‬حسام آللوسي ‪ /‬الفلسفة واالنسان – منشورات دار الحكمة – بغداد –‬
‫‪. 1990‬‬
‫‪ .5‬مكتب اليونسكو االقليمي ‪ /‬برنامج التربية السكانية – عمان – الشركة‬
‫الجديدة – منشورات عام ‪. 1992‬‬

‫" تم ترتيب المراجع بحسب اولوية االستفاده منها "‬

‫‪14‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫جدلية اإلنسان – المكان – الزمان‬

‫أ‪.‬د‪ .‬مضر خليل عمر‬


‫وحدة األبحاث المكانية‬

‫ليس لإلنسان في دنياه الفانية إال المكان والزمان الذي يعيشه ‪ ،‬ومنذ األزل وهو‬
‫يجهد نفسه في استيعاب المكان وإ دراكه و فهم الزمن و مجرياته ‪ .‬وأثمرت جهوده‬
‫ه ذه العل وم جميع ا ‪ .‬ف البعض ق د رك ز على الطبيع ة و مكوناته ا ‪ ،‬واآلخ ر انص ب‬
‫اهتمامه على اإلنسان و نشاطاته ‪ ،‬و منهم من حاول سبر أغوار اإلنسان لفهم كنهـه‬
‫‪ ،‬والبـعض حلق في أجـواء فكريـة تنئى عن المكان والزمان قصـد فهمهما ‪.‬‬
‫وفي جميع هذه كان اإلنسان و خدمته هو الهدف المعلن وغير المعلن (فرادا و‬
‫مجموع ات) ‪ .‬فدراس ة المك ان ه دفها اإلنس ان ألن ه يعيش في ه وينش ط ‪ ،‬ودراس ة‬
‫الزمن ألنه من نتائـج حركـة اإلنسـان والمادة ( الطبيعة والكون) وتفاعلهما مـع بعض‬
‫‪.‬‬
‫في ه ذا المق ال ‪ ،‬نس لط الض وء على العالق ة الجدلي ة بين اإلنس ان و المك ان‬
‫والزم ان وم ا تفت ق عن ه فك ر بعض الرج ال ال ذين ش غلتهم ه ذه الجدلي ة ردح ا من‬
‫الزمن ‪ ،‬ومن أماكن مختلفة من الكرة األرضية ‪ .‬وسأبتعد قدر اإلمكان عن كتابات‬
‫الجغرافيين كي أوضح أن المكان ليس حكرا لهم ‪ ،‬بل انه موضوع اهتم به الجميع‬
‫كل ضمن تخصصه واهتماماته ‪.‬‬

‫اإلنسـان و المكان‬

‫‪15‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫يشير األستاذ محمد علي المحمود في مقال له عن جدلية اإلنسان والمك ان إلى أن‬
‫عنصر المك ان " ال يقتصر على الجغرافيا ‪ ،‬وإ نما يشمل الواقعة االجتماعية ككل "‬
‫وبه ذا فل ه " أهمي ة ك برى في س ياق تحلي ل الظ واهر اإلنس انية ‪ ،‬ذات الط ابع الع ام" ‪.‬‬
‫وان عنصر المكان "مشدود إلى حقول معرفية ال حصر لها ‪ ،‬حتى وإ ن كانت هذه‬
‫الحق ول – من حيث المرجعي ة التخصص ية – تتمح ور ح ول تخصص ين اث نين ‪،‬‬
‫يشكالن الدعامة األساسية لها ‪ ،‬وهما علم النفس االجتماعي ‪ ،‬وعلم اجتماع المعرفة‬
‫‪ ".‬وحسب رأيه فانه من عالم " هذين التخصصين ‪ ،‬تستمد معظم الرؤى التحليلية –‬
‫واعية وغير واعية – آلياتها في مقاربة جدلية اإلنسان والمكان" ‪ .‬فعلماء االجتماع‬
‫يرك زون على دور المجتم ع (مجموع ة من النـاس ت ربطهم رواب ط و يعيش ون في‬
‫مكان محدد) وفي زمن محدد ‪.‬‬
‫ورك ز عم ر م نيب إدل بي على تبادلي ة الت أثير بين اإلنس ان والمك ان ‪ " ،‬إذ يس هم‬
‫المك ان في تش كيل وعي اإلنس ان بوج وده ‪ ،‬ويطب ع فك ره و هويت ه – وقب ل ذل ك كل ه‬
‫فيزيولوجيت ه – بطابع ه ‪ ،‬فيم ا يس هم اإلنس ان في إض فاء خص ائص إنس انيته على‬
‫المكان بتبدل صفاته وبنيته ‪ ،‬وأنسنة فضائه ‪ ،‬وهذه العالقة التأثيرية المتبادلة تتحول‬
‫بفعل التعود على مر الزمن إلى عالقة حميمة ‪ ،‬يترك هدمها او قمعها آثارا كارثية‬
‫على الطرفين " ‪.‬‬
‫فشخصية المكان يرسمها اإلنسان ‪ ،‬و خصائص اإلنسان و سماته تتحدد بنسب‬
‫متباينة بالمكان ‪ .‬وال يعني هذا االعتقاد بالحتم الطبيعي (الجغرافي) ‪ ،‬بل إن التأثير‬
‫موجود (سلبا وإ يجابا) ولكنه ليس العامل الوحيد و الحتمي ‪ ،‬انه يتفاعل مع عوامل‬
‫أخرى ذاتية وموضوعية في جدلية صارخة أحيانا و هامسة أحيانا كثيرة ‪ .‬فشخصية‬
‫الموصلي غير شخصية البصري ‪ ،‬والبغدادي غير ابن العمارة ‪ .‬وفي الوقت نفسه‬
‫فان شخصية اإلخوة في البيت الواحد مختلفة (ومتناقضة أحيانا) ‪ .‬فعند الحديث عن‬
‫التأثير يقصد به األكثر احتماال (المنوال في المصطلح اإلحصائي) ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫ولهذا السبب يقول اإلدلبي " ولما كان للمكان حضوره المؤسس والبناء لعالقات‬
‫المجتمع بفعل تفاعل اإلنسان مع محيطه الجغرافي و أشيائه ‪ ،‬فان لإلنسان بالمقابل‬
‫دوره في تش كيل القيم الخاص ة به ذا المك ان ع بر مجموع ة العالق ات والس لوكيات‬
‫اإلنسانية التي تصبح فيما بعد رموزا داللية تشكل في مجموعها صفات مكان ما " ‪.‬‬
‫وللتوضيح نشير إلى تباين القيم الخاصة بين سكان منطقة الفضل و سكان المنصور‬
‫مثال ‪ ،‬وس كان الك رادة وس كان الكريع ات في بغ داد ‪ .‬وق د رس م المع نيون ب القيم‬
‫االجتماعية و تمحورها مكانيا جزرا حضارية (البعض يسميها ثقافات فرعية) ضمن‬
‫الحضارة األم (البغدادية هنا) ‪.‬‬
‫وتق ود نش اطات المجتم ع قيم ه ‪ ،‬العلي ا منه ا على وج ه الخص وص ‪ ،‬و تتجس د‬
‫واقعي ا بالتراتبي ة االجتماعي ة ال تي تص نع المك ان والمكان ة (محم د عي محم ود) ‪.‬‬
‫وال دليل على ذل ك تاريخي ا يع ود إلى دويالت الم دن حيث التوزي ع االجتم اعي –‬
‫المكاني لسكانها ‪ ،‬ومدرسة شيكاغو للبيئة االجتماعية التي قدمت األدلة اإلحصائية‬
‫على ال تراتب االجتم اعي – االقتص ادي – المك اني لس كان الم دن الكب يرة ‪ .‬فاإلنس ان‬
‫ينظم مكانه ليبرز خصائصه الذاتية واالجتماعية ‪.‬‬
‫ك ان ه ذا على المس توى االجتم اعي ‪ ،‬أم ا على المس توى الف ردي (الشخص ي)‬
‫فنج د كت اب الس ير الذاتي ة يرك زون على المك ان وأث ره على شخص ية المبح وث و‬
‫أفكاره ونتاجه األدبي أو العلمي ‪ .‬وفي األدب فان "الفضاء الجغرافي" واإلشارة إليه‬
‫ل ه أهميت ه في تش كيل الص ورة في ذهن و مخيل ة المتلقي للتع رف على خص ائص‬
‫األمكن ة وص فاتها ‪ .‬وع ودة إلى عم ر م نيب ال ذي يؤك د أن عنص ر المك ان " ال يمكن‬
‫النظر إليه من منطلق عزلة عن بقية العناصر السردية األخرى (الزمن ‪ ،‬الشخصية‬
‫‪ ، )... ،‬والسيما عنصر الزمن ‪ ،‬إذ (يستحيل وجود مكان ارضي ‪ ،‬أو غير ارضي‬
‫ال يتض من كمي ة من ال زمن وج دت بوجوده واس تمرت باس تمراره) ‪ ,‬كم ا أن المك ان‬
‫(ال تتجلى ابرز صفاته الجمالية إال من خالل الزمان واإلنسان)" ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫ويعترف محمد شكري بدور المكان في حياته حيث يقول " لي ارتباط كبير جدا‬
‫بالمكان ‪ ،‬أنا أقدر ما يسمى بجمالية المكان في القصة أو الرواية على الرغم من أنه‬
‫مذهب كالسيكي واقعي ولكني مرتبط جدا باألماكن ‪ ،‬وأحيانا ال أعرف كيف أكتب‬
‫ح تى أك ون جالس ا في مك ان معين " ‪ .‬فعلى ال رغم من ع دم اعتناق ه الم ذهب‬
‫الكالسيكي إال انه يقر أهمية المكان له و في كتاباته ‪ .‬أما إدوارد سعيد فقد خرج من‬
‫المك ان لين اور " في أف ق البالغ ة والفلس فة والسياس ة والت اريخ في آن مع ا ‪ ،‬فه و ال‬
‫يغ ادر المك ان على مس توى الواقع ة ‪ ،‬جغرافي ا ‪ ،‬إال من أج ل أن يع ود إلي ه رمزي ا‬
‫ليحتويه ويعلن انتماءه إليه ‪ ،‬وعدم تخليه عنه ‪ ،‬واإلمساك به حتى الرمق األخير" ‪.‬‬
‫وعند مراجعة العنوانات األدبية و الفنية نجد للمكان حضور يلفت النظر ‪ ،‬فعلى‬
‫س بيل المث ال ال الحص ر ‪ ،‬المك ان في قص ص ولي د إخالص ‪ ،‬خ ارج المك ان ‪ ،‬أن ا‬
‫والمك ان ‪ ،‬الب ئر األول ‪ ،‬فلس فة المك ان في الش عر الع ربي ‪ ،‬فاعلي ة المك ان في بن اء‬
‫القصيدة عند ذي الرمة ‪ .‬وعلى مستوى المسلسالت التلفازية نجد ‪ :‬بنت الحت ة ‪ ،‬بين‬
‫القصرين ‪ ،‬قصر الشوق ‪ ،‬باب الحارة ‪ ،‬أين مكاني والعديد غيرها ‪.‬‬

‫المكان والزمان‬
‫لقد شغل موضوعي المكان والزمان الفالسفة من القديم ‪ ،‬وهم متفقون على إنهما‬
‫من أش كال الم ادة ‪ ،‬ولكنهم منش غلون في ج دل مف اده ‪ :‬ه ل هم ا حقيق يين أم إنهم ا‬
‫تجريدان ال يوجدان إال في وعي اإلنسان ؟ ويرى البعض أنه بمجرد االدعاء بوج ود‬
‫الشيء (جسم) نكون قد حددنا مكانا معينا له ‪ ،‬ولهذا فان المكان هو ما يتعلق باالين‬
‫‪ ،‬وبالت الي يح دد خاص ية معين ة لش يء معين كالم ادة ‪ .‬وله ذا يخلص عب د الغف ور‬
‫بالريسول إلى القول " فالمكان ليس جسما ‪ ،‬بل هو الشرط األساسي لكيان الجسم ‪،‬‬
‫إذ ال يمكنن ا أن نتص ور جس ما م ا إذا لم تنطب ق علي ه ش روط مكاني ة (حجم ‪ ،‬ط ول ‪،‬‬
‫ارتف اع ‪ )...‬ومن ثم ة نس تطيع انطالق ا من دراس ة حال ة الجس م أن نفهم أو نس تنبط‬
‫الكثير عن المكان " ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫وال يرتبط المكان بالمادة فقط ‪ ،‬بل يشير األب روبير الكرملي إلى " إن الدراسة‬
‫الفلس فية للطبيع ة ليس ت فق ط دراس ة موض وع مس تقل عن اإلنس ان ‪ ،‬وإ نم ا دراس ة‬
‫العالق ات أو الح وار بين اإلنس ان والطبيع ة ال تي هي من حول ه ‪ ،‬ومن خالل ه ذا‬
‫الحوار تكتمل الطبيعة بمعرفة اإلنسان لها ‪ ،‬وان اإلنسان يكتمل بمعرفته للطبيعة ‪،‬‬
‫فهناك تعامل جـدلي بينهما" ‪ .‬والطبيـعة هي المكان الذي لم يصنـعه اإلنسـان ‪.‬‬
‫وج اء اينش تين بالنظري ة النس بية لترب ط المك ان بالزم ان وتظه ر مف اهيم تتج اوز‬
‫االستيعاب اإلدراكي الحسي لتظهر الحقيقة في معادالت رياضية جد مجردة و معقدة‬
‫‪ .‬فالمكان والزمان عنده ال يوجدان بنفسيهما معزولين عن المادة بل هما جزء من‬
‫العالق ة المتبادل ة المتش ابكة الكلي ة ال تي يفق دان فيه ا اس تقاللهما وي برزان كج انبين‬
‫نسبيين للزمان والمكان المتكاملين اللذين ال ينقسمان ‪ .‬و ترى الفلسفة المادية أن ال‬
‫وجود للحقيقة خارجهما (المكان و الزمان) ‪ .‬لذا فالوجود مرهون بالمكان والزمان‬
‫‪.‬‬
‫أم ا الفيلس وف كان ط (كنت) ف يرى أن الزم ان ليس تص ورا كلي ا ‪ ،‬ولكن ه ش كل‬
‫خ الص للعي ان الحس ي ‪ .‬وذل ك ألن الم رء ال يس تطيع أن يتص ور غ ير زم ان واح د‬
‫وحدي ‪ ،‬أما األزمنة المختلفة فليست إال أجزاء لهذا الزمان ‪ ،‬وإ ذا كان الزمان واحد‬
‫‪ ،‬فهو ال يقبل أن يكون ذا تصور بل عيان ‪ .‬ويضيف " إن األشياء في ذاتها ال تأتي‬
‫إلى عقولنا كما هي دون تغيير ‪ ،‬بل البد أن تمر بهذا اإلطار ‪ ،‬إطار الزمان والمكان‬
‫‪ ،‬فت ترتب وفق ا ل ه ‪ ،‬فكأنم ا بمج رد أن تص بح مدرك ة ‪ ،‬الب د أن تظه ر على هيئ ة‬
‫الزم ان و (المك ان) ‪ ،‬ونحن ال نعرفه ا كم ا هي في ذاته ا ‪ ،‬ب ل كم ا تب دو لن ا وله ذا‬
‫فنحن ال نع رف إال الظ واهر" ‪ .‬ويج د أن المك ان واح د فري د في ج وهره ‪ ،‬والتعددي ة‬
‫في ه تس تند فق ط على التح ديات ‪ ،‬ويع ني ه ذا أن المك ان عن ده ح دس أولي وال يتع دد‬
‫المكان ذاته ‪ .‬وأن المكان ليس في الحقيقة ال متناهيا ‪ ،‬وهو يدور شأنه شأن سطح‬
‫الك رة األرض ية ‪ .‬وخالف ا عن ال زمن ‪ ،‬ف ان المك ان قاب ل لالنعك اس حيث نس تطيع‬
‫السير فيه باتجاهات متعاكسة ونستطيع العودة إلى نقطة البداية ‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫ويخلص إلى القول " إذا كان المكان والزمان ثابتين بالمعنى العام للوجود حيث‬
‫المكان الذي ال يحويه مكانا إال نفسه ‪ .‬أما الزمان فسائر بالوجود ‪ .‬وأن التغيير الذي‬
‫يح دث ليس منهم ا ‪ ،‬وإ نم ا من الم ادة القابل ة للتغي ير واالنتق ال ‪ ،‬إال أن الم ادة ال تق وم‬
‫بذلك لوال الحركة التي فيـها ‪ ،‬إذن الحركـة والتغيير هما سبـب اإلحسـاس والزمن ‪.‬‬
‫وبإيجاز ‪ ،‬تستخلص السمات المبينة في أدناه من الجدليات ذات الصلة ‪-:‬‬
‫‪ ‬حجـج المكان ‪-:‬‬
‫‪ -‬المكان ذو أبعاد ثالثة ‪ ،‬أما الزمن فليس له إال بعد واحد ‪.‬‬
‫‪ -‬يعبر المكان عن توزيع األشياء الموجودة وجودا تلقائيا ‪.‬‬
‫‪ -‬يعبر المكان عن تتالي الظواهر ‪.‬‬
‫‪ -‬من الممكن تخيل ال شيء في المكان ‪ ،‬ولكن من المستحيل تخيل ال مكان ‪.‬‬
‫‪ -‬المكان ليس تصورا تجريبيا ‪ ،‬هو مجرد من التجربة الخارجية ‪ ،‬وذلك ألن‬
‫المك ان مف ترض مق دما في دالل ة اإلحساس ات على ش يء خ ارجي ‪ ،‬والتجرب ة ممكن ة‬
‫فقط من خالل مثول المكان ‪.‬‬
‫‪ -‬المكان تمثل ضروري أولي ‪ ،‬يشكل األساس لجميع االدراكات الخارجية ‪ ،‬إذ‬
‫ال يمكنن ا أن نتخي ل أن ليس هن اك مك ان ‪ ،‬وم ع ذل ك يمكنن ا أن نتخي ل الالش يء في‬
‫المكان ‪.‬‬
‫‪ -‬المكان ليس تصورا منطقيا أو عاما للعالقات بين األشياء بوجه عام ‪ ،‬إذ أن‬
‫هناك فقط مكان واحد ‪ ،‬تكون ما ندعوه " أمكنة " أجزاء له وليست أمثلة ‪.‬‬
‫‪ ‬حجـج الزمان ‪-:‬‬
‫‪ -‬يعبر الزمن عن تتابع الظواهر حيث تحل الواحدة محل األخرى ‪.‬‬
‫‪ -‬الزمان ال يرتد ‪ ،‬بمعنى أن كل عملية مادية ال تتطور إال في اتجاه واحد من‬
‫الماضي إلى المستقبل ‪.‬‬
‫‪ -‬إن الحرك ة هي ماهي ة الزم ان والمك ان ‪ ،‬وان الم ادة و الحرك ة و الزم ان‬
‫والمكان ال تنفصل عن بعض ‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫‪ -‬بما أن المادة مرئية والزمان غير مرئي ‪ ،‬فهو ليس مظهرا من مظاهرها ‪،‬‬
‫وإ نما هو متطلب شرطي مستقل و متداخل لها ليس إال ‪.‬‬
‫‪ -‬ت أنيب الض مير يع بر عن عج ز تج اه الماض ي ‪ ،‬و ه و في ال وقت نفس ه يع بر‬
‫عن بعد التقدم ‪.‬‬
‫‪ ‬الزمكان ‪-:‬‬
‫‪ -‬مصطلح حديث منحوت من كلمتي الزمان والمكان ليعبر عن الفضاء رباعي‬
‫األبع اد ال ذي أدخلت ه النظري ة النس بية ليك ون فض اء الح دث ب دال من المك ان المطل ق‬
‫الفارغ في نظرية الكم ‪.‬‬
‫‪ -‬والمصطلح ببساطة شديدة يعني السفر عبر الزمان والمكان في آن واحد ‪.‬‬
‫‪ -‬من خالل ه ج اءت فك رة الس فر ع بر ال زمن ‪ ،‬لتمنح اإلنس ان أمال خيالي ا في‬
‫تغيير حاضره و مستقبله ‪ ،‬بل وربما مستقبل العالم أيضا ‪.‬‬

‫اإلبـداع اإلنسـاني في المكان والزمان‬


‫درس كون ار تورنكفست ‪ Gunnar Tornqvist‬مائة عالم ن ال جائزة نوبل ‪،‬‬
‫ومن جنس يات مختلف ة وفي أزمن ة متباين ة ‪ .‬درس س يرهم الذاتي ة قاص دا معرف ة‬
‫العوامل الموضوعية (البيئية) التي ساعدت على نبوغهم و تقدمهم على غيرهم في‬
‫األداء و األفكار ‪ .‬لقد بحـث عن ظروف المكان والزمان الالزمين لإلبداع الفكري ‪.‬‬
‫ال أريـد أن الخص البحث ‪ ،‬ولكني اعرض أبـرز ما جاء فيـه مـن نتائج ‪-:‬‬
‫‪ -‬بالنسبة للعديد من العلماء المميزين كان للمدرسة أهمية خاصـة في حياتهم ‪.‬‬
‫فهم يتحدثون بحرارة عن كفاءة مدرسيهم الذين أيقظوا االهتمام ات فيهم وأثروا على‬
‫ترك يزهم في دراس تهم الالحق ة ‪ .‬وك انوا يتح دثون عن الم دارس بتخص ص معين و‬
‫طلب محدد ‪ ،‬لذا تحدوا قدرات الطلبة اآلخرين بما فيهم الممنوحين هدايا و جوائز‬
‫في تلك المدارس ‪ .‬إذن المدرسة كمكان تعلم وبمواصفات معينة كانت عامال بارزا‬

‫‪21‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫في اإلبداع الفكري لهؤالء العلماء ‪ .‬فمدارس المتميزين يمكن أن تكون أماكن نبوغ‬
‫وإ بداع وتنافس يثمر الخير للبلد والعلم ‪.‬‬
‫‪ -‬إن بيئة اإلبداع يجب أن ينظر لها مبدئيا كأماكن و مجاميع جذبت الكفاءات‬
‫ضمن تخصص علمي محدد ‪ .‬وتأسست هذه التقاليد ‪ ،‬جزئيا ‪ ،‬نتيجة جذب األماكن‬
‫و المؤسس ات ذاته ا ألش خاص معي نين ولف ترة زمنية طويلة ‪ .‬وفي ح االت مح ددة ‪،‬‬
‫فق د احت اجت ق وة الج ذب ه ذه ح وافز و دفع ا من أش خاص من خ ارج المي دان‬
‫التخصص ي ‪ ،‬وك ذلك المفك رين ‪ .‬وفي ح االت أخ رى ‪ ،‬ف ان ق وة الج ذب ق د ت أثرت‬
‫بالبيئ ة حيث الف ائض االقتص ادي و ظ روف العم ل الحازم ة ‪ .‬وفي األم اكن حيث‬
‫تتواف ق ه ذه الش ؤون ف ان الج ذب يك ون قوي ا بش كل خ اص ‪ .‬أي إن مؤسس ات علمية‬
‫(بحثي ة) معين ة ق د ش كلت أم اكن ج ذب لألذكي اء و المب دعين ليلتق وا ويتح اوروا و‬
‫يتع اونوا و يب دعوا ‪ .‬والمراك ز والوح دات البحثي ة هي المقص ودة ‪ ،‬إض افة إلى‬
‫النوادي الخاصة برجال العلم و المفكرين ‪.‬‬
‫‪ -‬إن التع دد و التن وع يع ززان العملي ات اإلبداعي ة ‪ ،‬بينم ا التش ابه و التوحي د‬
‫ألنس قي التج انس ال يعمالن ذل ك ‪ .‬والعدي د من األمثل ة الموثق ة ق د أعطت انطباع ا‬
‫خاص ا ب ان بيئ ة اإلب داع في بعض األوق ات ك انت عب ارة عن فوض ى ‪ .‬والمالحظ ة‬
‫الهامة التي أخذت عن العملية اإلبداعية و التجديد الشامل بأنهما يبدأان حيثما تتطـابق‬
‫الكفاءة المميزة و صالت حميمة مـع حالـة الالاسـتقرار و الالضـمان ‪ .‬وهناك الكثير‬
‫عن تض مين ك ل عملي ة إبداعي ة ‪ ،‬وس واء أك انت معني ة باالبتك ار التق ني أو تغي ير‬
‫جذري في البحث أو فن جديد ‪ ،‬تضمينها لما يمكن تسميته بالال استقرار البنيوي ‪ .‬و‬
‫هذا الال استقرار البنيوي يسهل عملية خروج األفكار عن النمط الموجود و الضوابط‬
‫الصارمة المحيطة بها ‪ .‬هنا جاء الزمن ‪ ،‬الزمن الصعب ‪ ،‬سيادة الفوضى والخروج‬
‫عن الم ألوف ‪ ،‬والحاج ة إلثب ات الوج ود والخ روج إلى الع الم ال ذي أص بح ب أمس‬
‫الحاج ة لش يء يبه ره و يجع ل أنفاس ه تق ف وروح ه تس تكين ‪ ،‬وبالت الي تتالش ى‬

‫‪22‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫الفوضى ‪ .‬فالتنوع والتعدد مصدر قوة اقتصادية واجتماعية وحضارية ‪ ،‬ولكنه نقط ة‬
‫ضعف عندما يستغل ألغراض سياسية دنيئة ‪.‬‬
‫‪ -‬الظ اهرة المم يزة في مختل ف الس ير الذاتي ة تركيزه ا على أهمي ة ال بيت و‬
‫المدرسة في إيقاظ و تطوير الطاقة اإلبداعية عند األشخاص ‪ .‬وبتتبع حياة مبدعين‬
‫فرادا و ما توحيه سيرهم الذاتية ‪ ،‬فهناك حاالت عامة تؤثر على جغرافية اإلبداع ‪.‬‬
‫وهي ‪ :‬العالق ات حيث أدركته ا جي دا الدراس ات الس ابقة عن البيئ ات ‪ .‬و المعطى‬
‫الجديد المضاف هو الفائض االقتصادي ‪ ،‬و أهمية سماح البيئات المختلفة للبدائل و‬
‫الف رص للخ روج عن الم ألوف في القيم و أنم اط األفك ار ‪ .‬و المالحظ ة األخ رى أن‬
‫المناقش ات و اللق اءات تسمح بتجمع األش خاص المب دعين مع بعض و تشكيل أفكارا‬
‫يمكن أن تقود إلى تجديد شامل ‪ .‬و بالختام فهناك سبب وجيه لتكرار القول ‪ :‬كيف‬
‫أن ع ددا قليال من مس ارات حي اة أش خاص يعكس التغ يرات الجذري ة في المجتم ع‬
‫األكبر ‪ .‬نجد هنا المكان بأكثر من صيغة ‪ ،‬المنزل ‪ ،‬المدرسة ‪ ،‬أماكن اللقاء (نوادي‬
‫ومكتب ات) ‪ ،‬وبالت الي انش غال ه ؤالء المب دعين عن من س واهم ب العلم دون االنخ راط‬
‫بمسارات الفوضى السائدة في زمانهم ‪.‬‬

‫مجرد تساؤالت‬
‫‪ -‬هل أدركنا ماهية المكان ؟‬
‫‪ -‬هل استوعبنا عالقتنا به ؟‬
‫‪ -‬ما السبيل لتنميته ؟‬
‫‪ -‬أليس التنوع مصدر قوة ؟ لماذا نسمح ألن يكون نقطة ضعف ؟‬
‫‪ -‬ه ل يمكن أن تش ع عن الالاس تقرار و الالأم ان الح اليين في وطنن ا ومض ات‬
‫إبداع تعيد الثقة وتطمئن بالنفوس الحائرة ؟‬
‫‪ -‬أليس الحوار سبيل جيد لحل المشكالت والنهوض من الكبوة ؟‬
‫‪ -‬أليس المسكن موضوعا جيدا للدراسة كمكان ؟‬

‫‪23‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫‪ -‬أليست المدرسة بحاجة إلى دراسة كمكان ؟ لنعيد لها مكانتها وأهميتها ‪.‬‬
‫‪ -‬ألسنا بحاجة إلى االهتم ام بأم اكن يلتقي بها من نأمل بهم خيرا و نحميهم من‬
‫شذاذ اآلفاق ؟‬
‫‪ -‬السنا بحاجة إلى مبدعين ينقذونا من محنتنا ؟ وال أقول سياسيين و العياذ باهلل‬
‫‪.‬‬
‫‪ -‬السنا بحاجة إلى مراكز و وحدات بحثية تجمع من يريد خدمة بلده بعلمه و‬
‫يط ور نفس ه و بالت الي المؤسس ات التعليمي ة في البل د ؟ وال أق ول اإلب داع رغم ان ه‬
‫الهاجس و المقصود ‪.‬‬

‫موقع موسوعة ويكيبيديا (الزمكان) ‪-:‬‬


‫‪http://ar.wikipedia.org/wiki/‬‬
‫‪%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%85%D9%83%D8%A7‬‬
‫‪%D9%86‬‬
‫محمد بن علي المحمود ‪ ،‬التقليدي ‪ ..‬جدلية اإلنسان والمكان ‪ ،‬جريدة الرياض‬
‫الخميس ‪ 21‬رجب ‪1429‬هـ ‪ 24-‬يوليو‪2008‬م ‪ -‬العدد ‪، 14640‬‬
‫‪http://www.alriyadh.com/2008/07/24/article361883.html‬‬

‫الزمان والمكان شكالن من ‪...........‬‬


‫‪http://www.marxists.org/arabic/glossary/terms/11.htm‬‬
‫بحث ‪ /‬الزمان والمكان عند كانط‬

‫سمير اسطيفو شبال‬


‫‪http://www.alqosh.net/ssh49.htm‬‬

‫‪24‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫تأثير البيئة الطبيعية على شخصية الفرد العراقي‬

‫د ‪ .‬ندى موسى عباس‬


‫جامعة ديالى ‪ /‬كلية التربية‬
‫قسم التاريخ‬

‫المقدمـة ‪-:‬‬
‫كي ف ت ؤثر نوعي ة الترب ة وطبيع ة الجب ال أو الس هول وأص ناف النبات ات على‬
‫شخص ية اإلنس ان وم ا ه و دوره ا في تش كيل نم ط حيات ه وص ياغة أفك اره وخل ق‬
‫حض ارته ؟ وإ لى أي ح د يص ل ه ذا الت أثير في س لوكياته وردود فعل ه وص ناعته‬
‫لألح داث ؟ وم ا أهمي ة معرف ة ذل ك في الدراس ات التاريخي ة وم ا قيمت ه العلمي ة ؟‬
‫وكيف يؤثر تباين الفروق بين سكان الجبال والسهول والصحاري والغابات واألنه ار‬
‫والبحار واختالف المناخ على نفسية الفرد العراقي ؟ هذه األسئلة وغيرها كثيرًا ما‬
‫ترد في ذهن الباحثة عند دراستها لألحداث التاريخية في العراق وهي تدرك تمام ًا‬
‫م دى الحاج ة الماس ة والملح ة إلى المعرف ة الجغرافي ة الج ادة لموق ع وس احة ومك ان‬
‫األحداث مما يسمى بالجغرافية التاريخية ‪.‬‬
‫تحاول الباحثة من خالل تركيزها على تأثير البيئة الطبيعية في الناحية‬
‫السيكولوجية للفرد العراقي معرفة دور التأثيرات البيئية في السمات العامة‬
‫لشخصية الفرد العراقي ‪ ،‬مما يساعد في فهم نواحي عديدة من تاريخه الطويل‬
‫والعريق ؛ وابرز دوافعه النفسية المسببة لثوراته وتمرداته الكثيرة التي عجت بها‬
‫أرضه في مناطق معينة بينما عم الهدوء والسكون في مناطق أخرى ؟ وأجالء‬

‫‪25‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫الغموض عن الكثير من الحوادث التاريخية ‪ .‬ألن البيئة الطبيعية للعراق متنوعة‬


‫فقد درجت الباحثة مالحظاتها عن كل منطقة جغرافية من مناطق العراق المتنوعة‬
‫على حدة فللمناخ والماء والتضاريس في كل منطقة تأثير مختلف عن بقية المناطق‬
‫ولذا فأن العراق كما يحتوي أعراق و طوائف متنوعة وأديان ومذاهب مختلفة فأنه‬
‫أيضًا يتنوع بسمات وشخصيات أفراده كل حسب ظروف منطقته الجغرافية ‪ ،‬وتبعا‬
‫لذلك تنوع المجتمع العراقي (الواحد في هذا البلد الواحد) ؛ وتنوعت شخصيات‬
‫أفراده السيكولوجية والسسيولوجية والثقافية والحضارية ‪ ،‬والحديث هنا عن صفات‬
‫عامة ألفراد كٍل حسب بيئته وموقعه الجغرافي ‪...‬‬
‫طرحت الباحثة أفكار البحث في العالقة بين البيئة العراقية وشخصية الفرد‬
‫العراقي من خالل التركيز على المسائل الثالث المؤثرة في شخصية الفرد العراقي‬
‫والتـي هي المناخ والتضاريس والمياه ( األنهار ) وتنوعت الطروحات لهذه المسائل‬
‫بحسب تنوع المناطق الجغرافية للعراق ‪ ،‬وقد استندت في أفكارها على مالحظات‬
‫وآراء الباحثين والعلماء والكتاب والصحفيين ‪ ،‬وبدأت ورقتها بإعطاء نبذة ممهدة‬
‫عن أهمية تأثير هذه المسائل في شخصية عموم البشر ‪.‬‬

‫التمهيـد ‪-:‬‬
‫لعل الباحث حسن عثمان هو خير من أوضح أهمية المعرفة البيئية في‬
‫الدراسات التاريخية برؤيته إن تاريخ اإلنسان يتوقف تبعًا (( لنوع تفاعله مع بيئته‬
‫ومواجهته لظروفها فالسهول والجبال والصحاري والوديان واألنهار والبحار‬
‫والخلجان والغابات والجزر‪ ...‬والرياح ونوع الثروة الطبيعية والموقع الجغرافي‬
‫‪ )) ...‬فكل ذلك يؤثر تأثيرًا واضحًا على اإلنسان في (( لغته ونبرة صوته وفي لون‬
‫بشرته وعينيه وشعره وفي أساطيره وأديانه وفي ملكاته العقلية وفي فكره وفلسفته‬
‫وصوفيته وفي أدبه وفي موسيقاه وفي هندسته ومعماره وفي علمه وفي طبه ودوائه‬
‫وفي رسمه وتصويره ونحته وفي خلقه وسيكولوجيته وفي مدنه وحقوله وقراه وفي‬

‫‪26‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫قوانينه وشرائعه وفي حرفه ومهنته وفي فقره وغناه وفي حياته السياسية‬
‫واالجتماعية واالقتصادية وفي مذلته وإ بائه وفي سير معاركه وفي حربه وسالمه‬
‫(‪)1‬‬
‫‪. ))...‬‬
‫إن اإلنسان ومهما بلغت نجاحات التكنولوجية لن يستطيع التخلص من‬
‫تأثيرات البيئة الطبيعية إال في حدود أضعافها أو تقليل نسبتها ‪ ،‬فهي على كل حال‬
‫تدخل في صناعة حياته المادية والروحية والتغاضي عنها على كل حال لن يخدم‬
‫البحوث والدراسات االجتماعية والنفسية والحضارية فضًال عن التاريخية ‪ ،‬ونؤيد‬
‫ما ذهب إليه سليم مطر من إن تأثيرات األرض الجيوجولية والتضاريس والمناخ‬
‫وطبيعة المياه والحرارة وحتى الريح والغبار الزالت حتى اآلن تتحكم باإلنسان‬
‫وتؤثر في األفراد وطبيعة الشـعوب وهي تتراكم عبر ميراث أجياله رغم كل‬
‫(‪)2‬‬
‫الثورات التقنية ‪.‬‬

‫ترك العلماء والمؤرخون العرب المسلمون والغربيون ومن الكتاب والباحثين‬


‫قدماء ومحدثين ومعاصرين عددا غير قليل من النظريات واآلراء في تأثير البيئة‬
‫الطبيعية على حياة اإلنسان وبنيته وال تزال هذه النظريات تمثل األساس في الكثير‬
‫من البحوث والدراسات في المجاالت المتنوعة ‪ ،‬فعلى سبيل المثال نظرية أبن‬
‫خلدون بتأثير العامل الطبيعي في توجيه نشاطات اإلنسان بمجاالتها االجتماعية‬
‫وإ شارة‬ ‫(‪)3‬‬
‫والعمرانية ‪ ،‬فضًال عن دوره في تحديد ألوان البشر وأحوالهم وأخالقهم‬
‫أبن المقفع إلى تأثير البيئة في تكوين اللغة العربية ودورها في تطوير طباع وسجايا‬
‫العرب ووافقه الفارابي هذه الرؤية ؛ فأرجع الخلق والشيم الطبيعية إلى أثر البيئة‬
‫والموقع الجغرافي وما يتصل بذلك من مميزات في الهواء والحياة وأنواع النبات‬
‫(‪)4‬‬
‫والحيوان ‪.‬‬

‫يمكن القول هنا إننا إذا ما حللنا تأثيرات البيئة الطبيعية يصبح من الممكن فهم‬
‫المميزات العامة للشعوب وتحديد النظم والقوانين المالئمة لها؛ فمونتسكيو مثًال‬

‫‪27‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫يعتقد إن المناخ هو السبب الرئيسي في تشكيل المميزات الفيزيقية والحضارية‬


‫كما إن الفروق بين األجناس ترجع لتأثير البيئة الطبيعية‬ ‫(‪)5‬‬
‫للمجتمعات المختلفة ‪،‬‬
‫كما‬ ‫(‪)6‬‬
‫على اإلنسان نفسيًا وعضويًا وذلك وفقًا لما يؤكده العالم األلماني هردر ‪.‬‬
‫يمكن تبين مدى تطور المجتمع وتنميته بمالحظة مدى التفاعل بين اإلنسان وبيئته‬
‫الطبيعية التي يراها ‪ ،‬وفي هذا الخصوص نعتبر كتاب المدينة والمناخ للعالم‬
‫األمريكي هنتوكت من البحوث الجديرة باالهتمام ‪ ،‬فهو يعتبر المناخ وحده كعامل‬
‫يقرر نوعية وكميـة مدنيـة كل مجتمع من المجتمعات في جميع المجاالت (‪.)7‬‬
‫وعمومًا فإن النظم الحضارية هي استجابة ميكانيكية لبيئة اإلنسان الطبيعية وهي‬
‫التي تمده بالمادة والروحية التي تنطبع بتا حضارته ‪ ،‬ومع إن موضوع العالقة بين‬
‫وكذلك مسالة الربط بين البيئة‬ ‫(‪)8‬‬
‫اإلنسان والبيئة قديـم ومنذ عهد النهضـة األوربية ‪،‬‬
‫وصناعة الحضارات ‪ ،‬إال إن جمال حمدان قدم لنا بعدًا جديدًا للعالقة بين اإلنسان‬
‫والطبيعة في المكان والزمان فهو ينظر لها بشكل متوازن فال ينحاز إلى طرف على‬
‫حساب اآلخر ‪ ،‬ففي رأيه إن العالقة بين اإلنسان المصري ونهر النيل مثال هي التي‬
‫(‪)9‬‬
‫أدت إلى صياغة الحضارة المصرية على الوجهيـن المادي والروحي ‪...‬‬
‫والبعض من الفالسفة منهم توركو أعتبر الحضارة ما هي إال تفاعل العوامل‬
‫(‪)10‬‬
‫الجغرافية والحياتية والسيكولوجية ‪.‬‬

‫إن درجة التفاعل بين اإلنسان والبيئة تزداد كلما زادت المعرفة اإلنسانية ودقة‬
‫التنظيم االجتماعي في محاوالته لتخفيف أثر الطبيعة عليه ‪ ،‬وفي كل األحوال لن‬
‫تعمل العوامل الطبيعية تأثيرها في اإلنسان بشكل منفرد إنما تكون مالزمة للعوامل‬
‫البيولوجية وهما يعمال معًا ولكن بخطين مستقلين ومتوازنين فال البيولوجية تلغي‬
‫عمل األولى وال الطبيعية تطغى على الثانية ‪ ،‬وثمرة عمل االثنين تظهر في‬
‫السمات(الصفات) الشخصية لإلنسان ( مزاجه وسلوكياته وسكناته ونشاطاته‬
‫وقدراته الذهنية والفكرية وطريقة معاملته لنفسه ) التي تميزه عن غيره قليال أو‬
‫كثيرًا ما اليمكن أن يشبهه في ذلك إنسان آخر إال نادرًا ‪ .‬وفي ذلك فإننا نذهب‬

‫‪28‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫مذهب توينبي في كون جميع العوامل البيولوجية وعوامل البيئة ال يمكن أن تعمل‬
‫كل بمفردها فهي كل ٍ متعدد وليست كًال مفردًا ‪ ،‬ومع انهما ال يملكان عوامل‬
‫مشتركة إال إنهما يتظافران ليعمال بتناغم واتساق متكاملين فيؤلفا نمطًا من العالقات‬
‫ونرى أن هذه العالقات المتأثرة بخصوصية البيئة الطبيعية واالجتماعية‬ ‫(‪)11‬‬
‫بينهما ‪,‬‬
‫تخرج لنا بميزات تقرر االختالفات بين الشعوب ‪.‬‬

‫الشخصية العراقيـة والبيئة الطبيعية ‪-:‬‬

‫في تصورنا إن العراقي ابن بيئته متجانس معها متشكل على نسقها متكيف‬
‫مع ظروفها ‪ ،‬يعمل متحدًا معها ال متحٍد لها وحضارته هي نتاج انسجامه‬
‫السيكولوجي معها ؛ فبيئته قد وفرت له إمكانيات لعيشه مريحة وسهلة ولكنه السهل‬
‫الممتنع ! فهذه البيئة مشكلتها إنها متقلبة تخبئ له الكثير من المفاجأة المنغصة التي‬
‫تجعله يعيش في ضغط نفسي ما بين كدٍر وسرور ‪ ،‬أي البد لنيل العسل من أبر‬
‫النحل ومن المؤكد إن ذلك ترك أثره الواضح في شخصيته ‪ ،‬وهذا التصور متأتي‬
‫من وحي نظرية توينبي في االستجابة والتحدي إذ تكون البيئة هي المسيطرة على‬
‫اإلنسان وعليه أن يحصل على بعض المهارات التي تمكنه من تحدي ظروف بيئته‬
‫ونحن نرى هذا التحدي هو نوع من التأقلم ومحاولة غير مباشرة‬ ‫(‪)12‬‬
‫الطبيعية ‪.‬‬
‫لالنسجام مع واقع البيئة ‪ ،‬وعادًة ما يكون هذا التأقلم نسبيًا مع الظروف المتنوعة‬
‫للبيئة ‪.‬‬

‫يقع العراق عند أبن خلدون في اإلقليم المعتدل الوسط بين المنطقة الحارة‬
‫والبـاردة ‪ ،‬ولذلك فهو في أفضل المناطق لحياة اإلنسان ولحضارته ‪ ،‬وإ ن (( مناطق‬
‫العرب هي في األقاليم المعتدلة وسكانها من البشر أعدل أجسامًا وألوانًا وأخالقا‬
‫وأديانًا حتى النبؤات فإنما توجد في األكثر فيها ولم نقف على خبر بعثٍة في األقاليم‬

‫‪29‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫الجنوبية وال الشمالية وذلك أن األنبياء والرسل إنما يختُّص بهم أكمل النوع في‬
‫خلقهم وأخالقهم يتم القبول بما يأتيهم به األنبياء من عند اهلل ((كنتم خير أمة أخرجت‬
‫للناس)) ويستمر في وصفه لهذا االعتدال بقوله (( فهم أكمل لوجود االعتدال لهم‬
‫فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم ومالبسهم وأقواتهم وصنائعهم يتخذون‬
‫البيوت المنجدة بالحجارة المنمقة بالصناعة ويتناغمون في أسجادة اآلالت والمواعين‬
‫ويذهبون في ذلك إلى الغاية وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب والفضه‬
‫والحديد والنحاس والرصاص والقصدير ويتصرفون في معامالتهم بالنقدين‬
‫العزيزين ويبعدون عن االنحراف في عامة أحوالهم وهؤالء أهل المغرب والشام‬
‫والحجاز واليمن والعراقيين والهند والسند والصين وكذلك األندلس ‪ ...‬ومن كان مع‬
‫هؤالء أو قريبًا منهم في هذه األقاليم المعتدلة ولهذا كان العراق والشام أعدل هذه‬
‫)) ‪)13( .‬‬
‫كلها ألنها وسط من جميع الجهات‬

‫تقسم البيئة الطبيعية العراقية على ثالثة أقسام فبيئة جبلية وشبه الجبلية‬
‫وتضم المحافظات الشمالية ‪ :‬السليمانية وأربيل وزاخو ودهوك والموصل وكركوك‬
‫وتكريت‪ ،‬وبيئة سهلية منبسطة ورسوبية لها امتداد من الغرب في البادية‬
‫الصحراوية وشبه الصحراوية والجزيرة (مابين دجلة والفرات ) ‪ ،‬وبيئة منبسطة‬
‫اعتبرناه مركز الوسط ‪ :‬بغداد وديالى ‪ ،‬وبيئة تنوعت بين منطقة صحراوية ومنطقة‬
‫شواطئ النهرين وسواحل الخليج فهي تمثل محافظات الوسط والجنوب ‪ :‬األنبار‬
‫وبابل وواسط والنجف وكربالء والديوانية والمثنى وميسان وذي قار والبصرة ‪.‬‬

‫لقد صنعت لنا البيئة العراقية المتنوعة هذه مهن معينة كل حسب منطقته‬
‫البيئية وطريقة الري فيها ونوع المحاصيل المزروعة وبالتالي فان ذلك يعني‬
‫شخصيات متنوعة في السلوكيات والتفكير واالهتمامات والنظرة للحياة وقيمها‬
‫كالمال والكرم والبخل ونوع الملبس وأسلوب العيش وغير ذلك ‪...‬؛ فضًال عن‬
‫االختالف في البنية الجسمانية ؛ فمزارعي الفواكه والتبغ في الشمال لهم نمط من‬

‫‪30‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫الشخصية مغاير لنمط شخصية مزارعي الفواكه من فالحي البساتين في بغداد‬


‫وديالى ووسط العراق والبصرة ‪ ،‬كما تختلف بالتأكيد عن نمط مزارعي الحنطة‬
‫والخضروات في السهول والوديان وعن نمط مزارعي الشلب في مناطق الفرات‬
‫األوسط وعن رعاة اإلبل واألغنام في البوادي والصحراء وكل هؤالء يختلفون عن‬
‫نمط سكان األهوار مع إن الجميع لهم خصائص وسمات مشتركة عامة كهوية‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)14‬‬
‫عراقية ومؤثر بيئي موحد متمثل بنهري دجلة والفرات‬

‫المنطقة الشـمالية ‪:‬‬

‫إن منطق ة ش مال الع راق أرض معط اء جميل ة خالب ة تش كلت من الجب ال‬
‫والودي ان والغاب ات والش الالت والسهول الرس وبية الخص بة وتربته ا الجي دة ومياهه ا‬
‫الوف يرة ونباتاته ا المتنوع ة ك ل ه ذه الرفاهي ة غ ير المح دودة انعكس ت بوض وح على‬
‫شخص ية س كانها فق د تم يزوا بالص دق وال ذكاء والق وة والش جاعة والج رأة والص بر‬
‫واحترام الغير وحب العلم وقد برز منهم أسماء المعة نذكر منهم المشاهير المؤرخ‬
‫أبن األثير واخوته وأبن خلكان ومحمد كرد علي وغيرهم في مجال السياسة والنشاط‬
‫العسكري كثيرون إذ كانت القوى الحاكمة في العراق تفضلهم كمقاتلين في جيوشها‬
‫خاصة وبشكل واضح في عهد الخالفة العباسية ‪ ،‬أما الروح المرحة فما أراها إال‬
‫انعك اس لجمالي ة المنطق ة ال تي أعطتهم ص فاء في ال روح وطمأنين ة في النفس ‪،‬‬
‫ونف ترض أنهم على ال دوام ق وة في الص راعات ال تي يش تركون فيه ا ؛ ولكنهم ال‬
‫يص نعوها على أي ة ح ال ‪ ،‬كم ا إن حض ارتهم تس تند إلى م ا تج ود ب ه ب يئتهم وهي‬
‫الغني ة خاص ة من ناحي ة فن األل وان فانعكس ت بمالبس هم الفلكلوري ة ذات ألوانه ا‬
‫الزاهية البهيجة ‪ ،‬واألصالة في الحرف اليدوية وطرق تخزين المواد الغذائية للشتاء‬
‫البارد والطويل ‪. . .‬‬

‫‪31‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫وم ا ن راه ه و اعتق اد ق ديم فك ل من هيب وقراط ( الج و والم اء واألق اليم)‬
‫مونتس كيو ( روح الق انون) ي رون أن س كان الجب ال ذات المن اخ الب ارد واألمط ار‬
‫الغزي رة يتص فون بالطب اع الحمي دة ونق اء النفس والق وة الجس دية والش جاعة ‪ ،‬و أم ا‬
‫س ليم مط ر فنج ده يش ير إلى إن س كان المنطق ة الش مالية يس ود بينهم نم ط البح ر‬
‫المتوس ط حيث ال رأس ال دائري المرب ع وه و نم ط اآلس يوية (القفقاس ي واألناض ولي‬
‫واإليراني والكردي والتركستاني) وللبيئة الجبلية تأثير في تقوية عضالت األرجل ‪،‬‬
‫وهم يميل ون إلى الص رامة والح ذر وال روح العملي ة والحربي ة فحض ارتهم خ ير‬ ‫(‪)15‬‬

‫ش اهد اآلش ورية إذ تمث ال اإلل ه آش ور إل ه الح رب والق وة وغ يره من التماثي ل ال تي‬
‫تجس د ص ور البطول ة والمع ارك الحربي ة الش امخة وفي العه دين العثم اني والملكي‬
‫وتمنح الجب ال والتالل‬ ‫(‪)16‬‬
‫ظه ر واض حًا س يادة ال روح العس كرية بين ع امتهم ‪،‬‬
‫والهضاب عادًة نوع من العزلة تساعد الناس في الحفاظ على أصالة لغتهم وتراثهم‬
‫وخص ائص شخص يتهم حيث يتح دد اختالطهم فض ًال عن ص فاء ذهنهم ‪ ،‬كم ا تح دد‬
‫طبيعة الحياة بالجبال شكل أجسامهم ‪ ،‬ومع كل ذلك فان لهم خصوصية تجمعهم مع‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)17‬‬
‫باقي العراقيين‬

‫العاصمة بغداد ‪-:‬‬

‫تميزت بغداد بموقعها الجغرافي الوسط بين البيئات الطبيعية العراقية ؛‬


‫تتصل بالشمال والجنوب بنهر دجلة وقربها من نهر الفرات منحها اتصاال بالوسط‬
‫؛ فأصبحت وسطًا حضاريا وسياسيا واجتماعيا ؛ فهي تمثل كل العراقيين في‬

‫‪32‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫الدولة فأهلها يجمعون بين صفات البيئات الطبيعية ومميزات األفراد‪،‬وكان منتهى‬
‫الذكاء من أبي جعفر المنصور وخيارا مناسبًا لكل العصور ‪ ,‬ولعل هذا هو سر‬
‫نجاح العباسيين في عهدهم األول ؛ فبغداد مجمع األسواق ومركز تجمع األفراد من‬
‫مختلف البيئات والذين ما يلبثوا أن ينصهروا في مجتمعها المتنوع المفتوح‪ ,‬ومحفلها‬
‫الثقافي والسياسي واالجتماعي أعطى لسكانها من الناحية السيكولوجية بعدا ايجابيا‬
‫مثيرًا ومنشطا منحهم روحية اإلبداع الحضاري ‪ ,‬مع ما يتخلله من جدل وخالف‬
‫وتوتر وصراع ‪ .‬إن هواء بغداد نقي وماءها عذب وتربتها خصبة فخضرتها وافرة‬
‫وهذه عوامل ترق الطباع وتفتح القرائح فهذا شاعرنا علي بن الجهم يقدم على‬
‫الخليفة المتوكل العباسي فيمدحه بقصيدة ملؤها صورًا من بيئته الصحراوية الخشنة‬
‫الجلفة ‪,‬فما كان من الخليفة إال أن أسكنه في أحد قصوره ببغداد ليتحول بشعره بـعد‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)18‬‬
‫مدة إلى شـاعر يقطر رقة وعذوبة في أوصافـه ومعانيه وتصويره‬

‫منطقة ديالى ‪:‬‬

‫هي منطقة بساتين على األعم األغلب وقد ساعدها في ذلك نهر ديالى القادم‬
‫من منطقة جبلية مرتفعة على إن أهم خاصية به هو إنه ينخفض بمستواه تدريجيًا‬
‫فينساب بهدوء لتخرج منه قنوات عالية تصلح إلسقاء البساتين سيحًا وفي الوقت‬
‫نفسه فإن نهر ديالى التي أخذت المنطقة تسميتها منه هو مبزل للبساتين إذ تصب فيه‬
‫المياه المتبقية منها ‪ .‬ويالحظ إن مجرى األنهار األخرى كخريسان وغيرها كانت‬
‫ثابتة على الدوام وهذا ضمن لمدنها القدم فلم يطرأ عليها تغيير كبير من حيث‬

‫‪33‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫مواقعها وأسماءها فغدت محطات آمنة في فترة الحوادث التاريخيـة التي كان يمر‬
‫بها العراق ‪ .‬وإ ن هذه الميزة أضفت على شخصية سكان المنطقة طابع الهدوء فال‬
‫مفاجئات وال كوارث وال قلق من مشاكل طبيعية فمالوا إلى الدعة والوداعة‬
‫والمهادنة والطمأنينة والسكينة ( حد الجمود في أحيان ) والتفاؤل والوسطية وحب‬
‫الحياة وطول البال ‪.‬‬

‫منطقة الوسـط والجنوب ‪-:‬‬

‫المنطقة الرسوبية وسط وجنوب العراق هي كما يعتبرها علي الوردي ‪-‬‬
‫البودقة الرئيسة ‪ -‬ففيها تبلورت شخصية الفرد العراقي التي تميز بها بشكل عام‬
‫فهي موطن أقدم الحضارات العالمية وهي ‪ -‬منطقة السواد ‪ -‬التي رآها العرب‬
‫المسلمين مزدحمة بالخضرة والزروع والسكان ‪ ،‬وهي – مخزن غالل العالم – كما‬
‫يحلو لبعض الباحثين وصفها لذا نجدها األكثر ازدحاما باألحداث التاريخية مليئة‬
‫بالحياة الصاخبة ال تعرف الهدوء أو الدعة ‪ ،‬مع كل ما تحتويه من غنًى ولذلك‬
‫أسباب وإ ذا عرف السبب بطل العجب !‬

‫إن أرض نهري دجلة والفرات شديدة االنحدار وهذا هو سبب قوة جريانهما‬
‫وخاصة نهر دجلة (خمسة أقدام في الميل الواحد) فلهما قدرة عالية وكبيـرة على‬
‫‪ .‬والجريان بقوة شديدة‬ ‫(‪)19‬‬
‫كسـر السدود واجتياح األراضي الزراعية المجاورة‬
‫تستطيع بها أن تحدث كارثة بتكسر السدود واجتياح األراضي الزراعية المجاورة ‪،‬‬
‫كما إنهما يرتفعان بدون سابق إنذار وسلوكهما دائمًا مفاجئ ‪ ،‬أما فيضانهما فيحدث‬
‫في آذار ونيسان وأيار وهو موسم متأخر جدًا بالنسبة للزروع الشتوية ومبكر جدًا‬
‫بالنسبة للنباتات الصيفية ‪ ،‬وإ نهما رغم عذوبة مائهما ينتهيان بكثير من الطما‬
‫واألمالح المحلولة ألنهما يجريان بين صحاري جبسيه وأراض مالحة ‪ )20( ،‬وهما‬

‫‪34‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫في تبدل مستمر بخط سيرها إذا لم تكرى من كميات الغرين التي تترسب في قعر‬
‫مجراها ‪ ،‬وهو كثيرًا ما يحدث عبر مراحل التاريخ بسبب االضطراب السياسي أو‬
‫ضعف الحكومات ‪ ،‬مما يعني توالي اندثار في مدنها لتظهر مدن جديدة أو تظهر‬
‫األهوار ‪ ،‬ويرافق ذلك أيضا ظهور األراضي السبخة ( األراضي المالحة ) بسبب‬
‫غمرها بالمياه وما تتركه هذه المياه من ملوحة وهي مشكلة زراعية كبيرة تحتاج‬
‫دائمًا إلى كري األنهار وإ صالح األراضي وتنظيم الري ‪.‬‬

‫عند السفر بين بعض المحافظات تبرز لسكان المدن في طريقهم أراضي قفر‬
‫جرداء وكأنها من أطراف الصحراء ثم فجأة تقفز أمامهم البساتين والخضرة‬
‫المحاذية لألنهار وهكذا األمر كلما أرادوا السفر يعانون من برد شتاٍء قارص ومن‬
‫حر صيٍف قائظ ‪ ،‬هذا األمر أنعكس على نفسية العراقي في االنتقال من حالة إلى‬
‫حالة فهو في تغير مستمر وتلون ال يعرف االستقرار والثبات ‪ ،‬أما سكان الصحراء‬
‫أو أطرافها فتعودوا على طرق واحدة في الصحراء إذا ما غيروها تعرضوا‬
‫للمخاطر أو الهالك فهم يسلكون طرق أجدادهم ال يغيروها ألنها بنظرهم توصلهم‬
‫إلى الواحات والعيون انعكس ذلك في عقلهم الباطن فهم متشددون في اآلراء‬
‫ويخشون التجديد في أي ميدان من الميادين حديون ويتعاملون بقسوة ‪.‬‬

‫وفي‬ ‫(‪)21‬‬
‫يعتقد الكثيرون إن الشخصيـة العراقية هي شخصية خالفية متناقضة‬
‫نفس الوقت فهي شخصية ذكية يقظة نشطة حماسية تمجد القوة ال يفوتها االنتباه إلى‬
‫العواقب وأن كانت تهدر الكثير من طاقاتها هذه في سلبيات اجتماعية ‪ ،‬إن الطبيعة‬
‫العراقية لم ولن تعطي العراقي شعور بالطمأنينة فهي متقلبة غير مستقرة وبالتالي‬
‫ليست جامدة تتغير بسهولة وبسرعة وهذا لن يمنحه الهدوء أوالمهادنة وال التفاؤل‬
‫والوسطية ‪ ،‬وهذا هو السر وراء ثوراته وعدم مسالمته للحكومات ‪ ،‬وهو في ذلك‬
‫(‪)22‬‬
‫مختلف تماما عن شخصية أخيه المصري ‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫يقول المراياتي إن الشخصية العراقية هي شخصية (( قلقة مضطربة متطرفة‬


‫حذرة ولكن قلقها قلق وادع واضطرابها اضطراب منتج واستجاباتها استجابات‬
‫مبدعة وتطرفها قاس ال يعرف الوسط أما ثورة وتمرد وعصيان أو خضوع وسكون‬
‫وخنوع على أن هذه السمات والصفات والقدرات التبدو على وتيرة واحدة عند كل‬
‫ويتساءل‬ ‫(‪)23‬‬
‫األفراد نظرًا للعوامل األخرى البيولوجية والنفسية واالجتماعية ‪. ))...‬‬
‫الكثيرون عن غلبت العصبية والتوتر في مناقشات العراقي وعدم مناقشته األمور‬
‫في هدوء وروية دون أن يفقد صبره وينفعل ويسب ويكفر ويخّو ن ؟ ولماذا ال يقلل‬
‫من سرعة رده وتفريطه في الغضب واالنفجار العاطفي المدمر وتقلبه المفاجئ من‬
‫المباركة المفرطة إلى اللعن المنهمر كالشالل ؟‬

‫يعتقد الجيزاني إن ميل العراقي إلى العنف والتعصب في حل أغلب نزاعاته‬


‫وعلى العموم نرى إن هذه‬ ‫(‪)24‬‬
‫لها أسبابها لعل من أبرزها الطبيعية والمناخية ‪،‬‬
‫(‪)25‬‬
‫الظاهرة يشترك بها العراقي مع الكثير من أفراد المجتمعات المجاورة لبلده ؛‬
‫فالمالحظ إن في مراحل االنتقال بين الفصول األربعة يكون هناك اتسـاع حراري ما‬
‫بين ارتفاع شديد وانخفاض شديد ‪.‬‬

‫نؤيد تماما ما يراه سالم عبود من إن الوردي خلط في نظريته العوامل‬


‫النفسية بالبيئية وهو ما تسبـب في التداخل بين األسباب والنتائج (( المتعلقة بسلسلة‬
‫األفعال والنوازع )) ؛ فالغضب والحقد واستسهال امتهان الضعيف إلى حد السيادة‬
‫وتمجيد القوة صفات سلوكية وتعبيرات نفسية ‪ ،‬التخلق االزدواج بل ترافقه وتعمقه‬
‫وهي أعراض تشير الى االزدواج األساسي ‪ ،‬وهنا يظهر تنازع الشخصية بين‬
‫قطبين (( العنف وكل مايرافقه من مشاعر متنوعة ؛ االنفعال السريع الغضب ‪،‬التكبر‬
‫‪،‬المفاخرة الكاذبة ‪،‬الصـلف التحجر العقلي والحقد واللؤم والخضوع وما يرافقه من‬
‫أحاسيس ونوازع الكبت التـزلف الكذب المصـانعة النفاق )) وهنا نالحظ إن‬
‫النقيضين يقودان من منطلقين نفسيين متعاكسين إلى نتائج سلوكية متشابهة ؛ الميل‬ ‫((‬

‫‪36‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫إلى اللؤم والحقد وفقدان الثقة باآلخرين‪ ,‬مقرونًا بالعنف والتلذذ بالضعيف واستسهال‬
‫اإليذاء واإلسراف في الطموح في الصنف األول وفي الثاني مقرونًا بالخنوع والميل‬
‫إلى المصانعة والوشاية والتشفي واالنتقام واالعتماد على الغير واإلسراف في‬
‫‪.‬‬ ‫)) (‪)26‬‬
‫الخيال‬

‫أمتهن الكثير من سكان المحافظات الجنوبية إلى عهود قريبة مهنة رئيسية‬
‫هي الزراعة وكانت البيئة هي السبب وراء هذه المهنة فوجود مساحات األراضي‬
‫المنبسطة المفتوحة الصالحة للزراعة وتوفر الموارد المائية والمناخ المناسب للنمو‬
‫‪ ،‬وقد تكيف الكثير من البدو على مهنة الزراعة ممن فضـلوا السـكن في المدن‬
‫‪ ،‬ولوحظ أن بشرتهم تغلب عليها السمرة‬ ‫(‪)27‬‬
‫وتركوا حرفتـهم التقليدية الرعي‬
‫المتأثرة ببيئة منطقة الخليج والمحيط الهندي وحيث الرأس المستطيل ‪ ،‬ويعتقد سليم‬
‫‪ ،‬كما ثبت من‬ ‫(‪)28‬‬
‫مطر أنهم يميلون إلى اللين واالرتخاء والروح الخيالية والدينية‬
‫قرون هيبوقراط إن سكان األقاليم المكشوفة الجافة يتصفون بنحافة القامة وحب‬
‫التحكم ‪ ،‬أما مونتسكيو فيرى إن أهل هذه المناطق يميلون إلى النظام الملكي !! وإ ذا‬
‫وقع عليهم حيف أو ظلم فأنهم قد يتقوقعون ليحمون أنفسهم إال إنهم سرعان ما‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)29‬‬
‫ينتفضون لينتصروا ألنفسهم‬

‫تعد منطقة البصرة أعظم مزرعة للنخيل والذي ساعدها هو مد وجزر الخليج‬
‫العربي في سقي البساتين سيحًا (مدًا) وكان الجزر هو مبزل يصفيها من األمالح‬
‫قليًال أو كثيرًا ‪ ،‬أثرت فيها أكثر بكثير من تأثير النهر والبساتين على أهل ديالى ‪،‬‬
‫كما ترك شط العرب (ملتقى النهرين) تأثيره على البصرة بشكل واضح فهي‬
‫نهرية بحرية (عراقية خليجية ) فأهلها يميلون إلى تذوق المغامرات البعيدة المرتبطة‬
‫بالتجارة وحب الرحالت االستكشافية ‪ ،‬ومن تراثها قصص السند باد البحري أو‬
‫البري ‪ ،‬وما سجله الكتاب العرب المسلمين في وصف حالة التغرب عندهم في‬
‫األصقاع النائية لفترات طويلة بسعيهم في التجارة ؛ فتجارهم أغنى التجار واألكثر‬

‫‪37‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫حيوية ونشـاط ؛ وفي ذلك يقول الجاحظ وهو من أهلها ‪ (( :‬ليس في األرض بلدة‬
‫واسطة وال بادية شاسعة وال طرف من أطراف الدنيا إال وأنت واجد به البصري‬
‫‪ ،‬وقد عرفوا بسبب ذلك بشدة الترحيب بالغريب والحفاوة به وبإكرامه‪،‬‬ ‫)) (‪)30‬‬
‫‪...‬‬
‫ومن تأثيرات النهر (أو البحر) يعتقد إن امتهانهم لحرفة صيد السمك تصبح عندهم‬
‫‪ ،‬ومن صفاتهم السلوكية التي يمكن مالحظها إ بالقياس‬ ‫(‪)31‬‬
‫قوة في عضالت أيديهم‬
‫من تفسير أبن خلدون ألثر المناخ في طبائع الشعوب أن ارتفاع درجات الحرارة‬
‫تجعل الناس يصبحون أسرع فرحًا وسرورًا وأكثر انبساطا وطربًا(‪. )32‬‬

‫على منطقة األهوار وقف الرحالة غافن يونغ حائرًا في وصف إنسانها ((‬
‫وطبيعتها الجغرافية وامتداداتها التاريخية إال إن مجمل حصيلة كشوفاته التي توصل‬
‫إليها من عيشه الطويل فيها وتعمقه في دراسة ظروفها قد سجلت عوامل التكوين‬
‫النفسي والفكري لسكان األهوار في ثالث مجاالت وهي الجغرافية والتاريخ والواقع‬
‫الراهن ‪ ))...‬ويستمر في حديثه عن عرب األهوار بأنهم شجعان في األزمات‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)33‬‬
‫وعندهم نوازع تحدي الخطر الذي نتج عن البيئة الطبيعية‬

‫الهوامش‬
‫‪ .1‬منهـج البـحث التاريـخي ‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ط ‪، 1996 ،7‬‬
‫ص ‪. 33‬‬
‫‪ .2‬مطر ‪ ،‬سليم ‪ :‬مقاالت في الهوية (الحوار المتمدن) ‪،‬‬
‫‪ Salim@Salimmatar.com‬العدد ‪. 28/11/2003 ، 666 :‬‬
‫‪ .3‬ابن خلدون ‪ ،‬عبد الرحمن بن محمد ‪ :‬مقدمة ابن خلدون ‪ ،‬دار أحياء التراث‬
‫العربي ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬د‪ .‬ت ‪ ،‬ص ‪. 82‬‬

‫‪38‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫‪ .4‬مكي ‪ ،‬يوس ف ‪ :‬جدلي ة الجغرافي ة والت اريخ ‪ ،‬مجل ة الخليج اإلماراتي ة ‪،‬‬
‫الخميس ‪ / 6‬آذار ‪ ، 2008 ،‬المرك ز اإلعالمي لجماع ة األخ وان المس لمين في‬
‫سورية ‪. 16/4/2008 ،‬‬
‫‪ .5‬م ‪ .‬ن والموقع ‪.‬‬
‫‪ .6‬ش كارة ‪ ،‬ع ادل عب د الحس ين ‪ :‬نظري ة هوبه اوس في التنمي ة االجتماعي ة‬
‫وتطبيقاته ا على سياس ة تنمي ة المجتم ع العش ائري في الع راق ‪ ،‬مطبع ة دار الس الم ‪،‬‬
‫بغداد ‪ ، 1975 ،‬ص ص ‪. 229 – 228‬‬
‫‪ .7‬م ‪ .‬ن والصفحات‪.‬‬
‫‪ .8‬م‪ .‬ن والصفحات‪.‬‬
‫‪ .9‬الك برتي‪،‬عب د الس تار ‪ :‬قص ة اإلس الم ‪ ،‬إس الم اون الين نت ‪-19/4/2001‬‬
‫‪ ، webmaster@islamstory.com 2007 / /20‬جغرافي ون ‪ ،‬جم ال‬
‫حمدان ‪ ،‬الثالثاء ‪ / 20 ،‬نوفمبر ‪ 2007 /‬م ‪.‬‬
‫‪.10‬شكاره ‪ :‬م ‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪.426‬‬
‫كاشف ‪ ،‬سيدة إسماعيل ‪ :‬مصادر التاريخ اإلسالمي ومناهج البحث فيه ‪,‬‬
‫مطبعة السعادة ‪ ,‬مصر ‪ ,‬ط‪ , 1976 , 2‬ص‪. 39‬‬
‫‪.11‬إسماعيل ‪ ،‬محي الدين ‪ :‬توينبي ‪ ،‬وزارة األعالم ‪ ،‬بغداد ‪ ،‬بال رقم طبعة ‪،‬‬
‫‪ 1977‬م ‪ ،‬ص ص ‪ ، 62 – 53‬صـبحي ‪ ،‬أحمد محمود ‪ :‬في فلسـفة التاريـخ ‪ ،‬دار‬
‫المعرفـة الجامعيـة ‪ ،‬مصـر ‪ ،‬بال رقم طبـعة ‪ 2000 ،‬م ‪ ،‬ص ص ‪. 275 – 267‬‬
‫‪.12‬أبن خلدون ‪ :‬م ‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 85‬‬
‫‪.13‬عبود ‪ ،‬سالم ‪ :‬مقدمة لدراسة الشخصية العراقية ‪moilto: ،‬‬
‫‪ ، Salam333000@ yahoo. Se‬الحوار المتمدن ‪ ،‬العدد ‪/ 12 ، 1766 :‬‬
‫‪. 2006 / 16‬‬
‫‪ .14‬مطر ‪ :‬م ‪ .‬س والمكان ‪.‬‬
‫‪.15‬م ‪ .‬ن والصفحة ‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫‪ .16‬م ‪ .‬ن والصفحة ‪.‬‬


‫‪.17‬ديوان علي بن الجهم‬
‫‪ .18‬مطر ‪ :‬م ‪ .‬س والمكان ‪.‬‬
‫‪.19‬عبود ‪ :‬م ‪ .‬س ونفس المكان ‪.‬‬
‫‪.20‬المهدي ‪ ،‬محمد ‪ :‬الشخصية المصرية ‪. 2007 / 3 / 26 ،‬‬
‫‪.21‬حميد‪ ،‬عالء ‪:‬إشكاليات بناء النسق االيكولوجيفي ‪،‬العراق اليوم ‪ ،‬أفاق‬
‫إستراتيجية ‪ ،Thursday/ JUL /07 ،‬ص ص ‪. 7-1‬‬
‫‪ .22‬كاظـم ‪ :‬التسـامح في المجتـمع العراقي ‪ ,‬النبـأ ‪ ,‬جـمادي األول ‪ ,‬العدد ‪. 72‬‬
‫‪ .23‬م ‪ .‬ن والمكان ‪.‬‬
‫‪.24‬عبود ‪ :‬م ‪ .‬س والمكان ‪.‬‬
‫‪ .25‬السرجاني ‪ ,‬راغب ‪ :‬الجغرافية ‪ ,‬الحضارة العلمية ‪ ،‬موقع قصة اإلسالم ‪،‬‬
‫‪. 2006 /5 / 1‬‬
‫‪ .26‬مطر ‪ :‬م ‪ .‬ن والمكان ‪.‬‬
‫‪ .27‬م ‪ .‬ن والصفحات‪.‬‬
‫‪ .28‬م ‪ .‬ن والمكان ‪.‬‬
‫‪ .29‬التجارة ‪ ،‬ص‪. 79‬‬
‫‪ .30‬مطر ‪ :‬م ‪ .‬س ‪ ،‬ص ص ‪. 6 – 5‬‬
‫‪ .31‬ابن خلدون ‪ :‬م ‪ .‬س ‪ ،‬ص ‪. 86‬‬
‫‪ .32‬الزم ‪ ،‬عبد العزيز ‪ :‬العودة الى األهوار ‪ ،‬محاولة لدراسة شخصية ساكن‬
‫األهوار العراقية ‪ ،‬الزوراء ‪. 2008/ 4 / 7 ،‬‬
‫‪.33‬ممكن مراجعة عدد آخر من المراجع التي لم تسعها الهوامش مثل ‪ :‬الوردي‬
‫‪ ،‬علي ‪ :‬دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ‪ ،‬منشورات سعيد بن جبير ‪ ،‬قم المقدسة‬
‫‪ ،‬ط‪1426 ، 1‬هـ ‪ 2005 /‬؛ مزي ري ‪ ،‬ش عبان ‪ :‬جمالي ات الطبيع ة في كوردستـان‬
‫العراق وأثرها في الرسـم العراقي المعاصر ‪ ،‬موقع منتديـات كورد ميديا ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫مجلة ديالى ‪/‬‬ ‫العدد االربعون‬
‫‪2009‬‬

‫‪41‬‬

You might also like