Professional Documents
Culture Documents
لماذا التجسد؟
لماذا التجسد؟
هذا الكتيب يجيب ببساطة عن بعض اﻷسئلة التي كثيرا ما يطرحها الشباب في اجتماعاتهم الكنسية.
مثﻼﹰ :لماذا تجسد السيد المسيح؟ وهل هذا يتعارض مع طبيعة الﻼهوت وقداسته؟ وما هي اﻷهداف
وراء هذه العقيدة المسيحية الهامة ،سواء من جهة خﻼص اﻹنسان من الخطية أو انكسار سطوة الشيطان عن
البشرية ،أو التعارف على إلهنا المحب ،وقد جاءنا في مذود متواضع حبا بنا.
وهذه الكلمات البسيطة هي إهداء متواضع لوليد المذود،
في عيد ميﻼده المجيد ،ونرجو أن يكون لها فائدة بصلوات قداسة البابا شنودة الثالث وسائر اﻷحبار
اﻷجﻼء.
ونعمة الرب تشملنا جميعا.
اﻷنبا موسى
اﻷسقف العام
-١لماذا التجسد؟
سؤال هام هو المسيحية كلها :سؤال طالما أثير في كل مكان وزمان .سؤال استدعى أن يسطر
الوحي اﻹلهي على يدي معلمنا يوحنا الحبيب إنجيله ورسائله ،ليوضح لنا حتمية التجسد لخﻼص البشرية،
واستحالة الخﻼص دون اﻹيمان بتجسد ا الكلمة .ففي إنجيل معلمنا يوحنا يستهل الوحي حديثه بالتحليق في
آفاق الﻼهوت العليا" :في البدء -أي في اﻷصل ،ومنذ اﻷزل -كان الكلمة ،والكلمة كان عند ا ،وكان ا
الكلمة" )يو (١ :١ثم يقود" :والكلمة صار جسدا" )أي اتخذ له جسدا فهو لم يكف عن كونه كلمة ا ( ،وحل
بيننا" ،ورأينا مجده" )يو .(١٤ :١
وفى رسائل معلمنا يوحنا يعتبر الرسول )بوحي من ا طبعا( أن" :كل روح يعترف بيسوع المسيح
أنه جاء في الجسد ،هو من ا ،وكل روح ﻻ يعترف بيسوع المسيح أنه جاء في الجسد فليس من ا .وهذا
أن يبقى هو روح ضد المسيح ،الذي سمعتم أنه يأتي واﻵن هو في العالم" ) ١يو .(٣-٢ :٤ولقد قصد ا
يوحنا الحبيب ،الذي طالما اتكأ على صدر السيد المسيح ،حتى نهاية القرن اﻷول شاهدا أمينﹰا على الفكر
الﻼهوتي المسيحى السليم كما تسلمه من الرب نفسه .فبينما استشهد بقية اﻻثني عشر وحتى بولس الرسول
قبيل سنة ٧٠ميﻼدية ،بقى يوحنا الحبيب حتى نهاية القرن اﻷول تقريبا لتثبيت العقيدة المسيحية السليمة في
مواجهة العديد من الهرطقات مثل:
-١هرطقة الغنوسيين
الذين تصوروا أن الخﻼص يمكن بالمعرفة العقﻼنية حيث كلمة Know= Gnosesأي يعرف.
وقالوا أن التأمل العقﻼني يطهر النفس ويخلصها .وأن السيد المسيح مجرد إنسان حل عليه روح علوي.
وإذا سلمنا بهذا فقدنا كل شيء ،فالخﻼص بالعقل يلغي ضرورة التجسد والفداء .وأن يكون المسيح
إنسانﹰا فمعني ذلك أن من فدانا محدود ،ففداؤه ناقص .لهذا رفضت الكنيسة هذه البدعة الخطيرة.
-٢هرطقة التهود
التي سادت لفترة على حياة بعض اليهود الداخلين إلى المسيحية -حيث لم يستطيعوا التحرر بسرعة
من أمجاد العبادة القديمة الشكلية وطقوسها وفرائضها الرمزية .فانبرى لهم معلمنا بولس الرسول ليوضح لهم
أمجاد المسيح والمسيحية ،خصوصا في رسالته إلى العبرانيين التي مفتاحها هو كلمة "أفضل" .فالسيد المسيح
أفضل من المﻼئكة بما ﻻ يقاس )ص ،(٢ :١وأفضل من موسى )ص ،(٣ومن يشوع )ص ،(٤ومن هرون
)ص ،(٥ووعده هو اﻷثبت )ص ،(٦وذبيحته كانت ترمز إليها تقدمة ملكي صادق )ص :(٧وكهنوته أفضل
من كهنوت هرون )ص ،(٨وعهده أفضل من العهد القديم )ص ،(٩وأقداسه أفضل من أقداس الهيكل )ص
،(١٠واﻹيمان به هو سر خﻼص اﻵباء )ص ،(١١وناموسه أكمل من ناموس موسى) ،(١٢ودمه أفضل من
دم الذ بائح )ص .(١٣ ،١٠
-٣هرطقة الدوسيتيين
الذين تصوروا جسد السيد المسيح غازيا وخياليا ،معتقدين أن المادة ﻻ يليق أن تدخل إلى حياة ا .
وهى البدعة التي تجددت فيما بعد بواسطة أوطاخي ،وما زالت أصداؤها ترن في التساؤﻻت حول التجسد إذ
يتساءلون:
)ا( هل التجسد ضد طبيعة ا ؟
)ب( هل التجسد ضد قداسة ا ؟
)ج( هل التجسد ضد قدرة ا ؟
)د( لماذا التجسد ...ألم يكن هناك حل آخر سواه؟
)ه( ما مدلول التجسد في حياتنا؟
وهذه اﻷسئلة الهامة يجب أن نستوعب إجابات عليها لعدة أسباب:
أوﻻﹰ :للتثبت من إيماننا الصخري ،الذي تحطمت على صخرته كل الهرطقات.
ثانيا :لندعم إخوتنا في المسيح على أساس المعرفة اﻷساسية الﻼزمة للخﻼص ،إذ يقول الكتاب
المقدس" :هلك شعبي من عدم المعرفة".
ثالثﹰا :ﻷن التخلي عن عقيدة التجسد هو بعينه التخلي عن نصيبنا في المسيح وفى الملكوت .فما دام
ا يستنكف أن يتخذ له جسدا إذن ،فهو لن يسكن فينا ،وهذا هو الهﻼك بعينه ،إذ كيف نحيا معه في الملكوت
ونحن ﻻ نشبهه قط.
لهذا قال الرسول" :عظيم هو سر التقوى ا ظهر في الجسد" ) ١تي .(١٦ :٣فالتجسد إذن هو سر
التقوى اﻹنسانية ،وبالتالي الخﻼص اﻷبدي.
-٥بالتجسد ....عرفنا ا
ﻻ شك أن هناك تناقض جذري بين طبيعة ا وطبيعة اﻹنسان .فا روح بسيط خالد يمﻸ كل مكان
سرمدي )أزلي أبدى( غير محدود وﻻ مدرك وﻻ متغير بينما اﻹنسان غير ذلك تماما .إنه مخلوق على صورة
ا في الحرية والبر والعقل ويتمتع بعنصر الروح التي تفكر فيما وراء المادة والطبيعة ...لكنه محدود وله
بداية،
فوق إدراك البشر من جهة العقل أو الحواس ،ولهذا تميل كنيستنا وهذا التسامي اﻹلهي يجعل ا
القبطية ،والﻼهوت الشرقي دوما إلى استخدام اﻷسلوب السلبي في التعبير عن إلهنا العظيم أي اﻷسلوب الذي
ما ﻻ يتناسب مع صفاته أكثر مما يورد من صفات إيجابية عنه تعالى .فنقول في القداس ينفي عن ا
الغريغوري مثﻼﹰ" .الذي ﻻ ينطق به ،غير المرئي ،غير المحوى ،غير المبتديء ،اﻷبدي ،غير الزمني الذي
ﻻ يحد ،غير المفحوص ،غير المستحيل ،خالق الكل ،مخلص الجميع" .وهنا نﻼحظ النفي المتكرر ،لما ﻻ
يتناسب مع ا ،وإثبات لبعض الصفات القليلة التي ينفرد بها ا كاﻷبدي ،الخالق ،المخلص.
من هنا لزم التجسد:
متساميا فوق اﻹدراك البشرى ،بحيث أن من يدخل إليه ما يسميه الﻼهوتيون ﻷنه إذا كان ا
"الضباب اﻹلهي" ) ...(Divine darknessﻷن نور ا يبهر العين فتبدو عمياء ﻻ تراه .نقول ،إذا كان ا
متساميا فوق الطبيعة البشرية إلى هذه الدرجة غير المحدودة ،فهل تبقى اﻷمور هكذا؟ كيف يتعرف إليه
اﻹنسان الضعيف الحسي ؟ كيف يقترب إليه؟ وكيف يتصاعد إلي عرشه اﻷعلى وهو تراب كثيف ورماد
خاطيء؟ إنها بالحقيقة مشكلة هامة!
محاوﻻت يائسة:
ولقد حاول ،الكثيرون منذ سقوط آدم أن يقتربوا إلى ا ،فارتدوا أمام القول الرهيب" :اﻹنسان ﻻ
يراني ويعيش" )خر .(٢٠ :٣٣ولما حاول موسى أن يرى "مجد" الرب ،خبأه الرب في مغارة ،وستر عليه
بيده ،وأجاز "جودته" أمامه .ولما اكتشف منوح أبو شمشون أنه رأى الرب في رؤيا صرخ قائﻼﹰ" :نموت ﻷننا
رأينا ا " )قض .(٢٢ :١٣وهكذا عاشت البشرية أجياﻻﹰ تلهث وراء هذه الرؤيا دون جدوى .وكان ا يتكلم
إلى البشر قديما عن طريق أنبيائه الذين يلهمهم بكﻼمه ويتراءى لهم في صور محسوسة للحظات :كامتﻼء
الخيمة بالضباب ،أو الصوت القادم من العليقة المشتعلة ،أو الرؤى واﻷحﻼم .وهكذا بقى ا عاليا في سمائه،
واﻹنسان هابطﹰا في طين اﻷرض وظلمة الحسيات.
وجاء الحل:
وذلك حين تجسد الكلمة اﻹلهية في صورة إنسان كقول الرسول "ا بعد ما كلم اﻵباء باﻷنبياء قديما
بأنواع وطرق كثيرة ،كلمنا في هذه اﻷيام اﻷخيرة في ابنه ،الذي جعله وارثﹰا لكل شيء ،الذي به أيضا عمل
العالمين" )عب .(٢-١ :١ولنﻼحظ هنا الفرق بين حرفي الجر "ب" و"في" .فا كان يكلمنا باﻷنبياء وأخيرا
كلمنا في ابنه .أي أنه أعلن نفسه لنا جسديا في صورة إنسان مثلنا في كل شيء ما خﻼ الخطية .وهكذا صار
اﻹله غير المرئي مرئيا ،وغير المحسوس محسوسا ،دون أن يكف عن كونه اﻹله الروح الماليء كل مكان
وزمان ،المتعالي على كل اﻷذهان.
المعلم الصالح:
ويشبه القديس أثناسيوس إلهنا في تجسده بالمعلم الصالح ،الذي ﻻ ينتظر من تﻼميذه أن يرتفعوا إلي
مستواه ،بل ينزل هو إلى مستواهم ليعرفهم مقاصده وتعاليمه .وهذا هو الوضع المنطقي والمقبول .أما أن
يبقى ا في علياء سمائه ،وينتظرنا حتى نتصاعد إليه رغم ضعفنا و ﹸترابيتنا ،فهذا هو عين المستحيل.
من هنا تجسد الرب ليقترب إلينا نحن الضعفاء ،وليتحدث إلينا باللغة التي نفهمها ،حتى يعلن لنا
حبه ،ويعرفنا بشخصه ،ويقودنا بنعمته إلى سمائه.