Download as odt, pdf, or txt
Download as odt, pdf, or txt
You are on page 1of 3

‫المبحث األول‪ :‬مفهوم ونشأة نظرية المرفق العام‬

‫إن البحث في نظرية المرفق العام يستدعي منا الرجوع إلى التطور الذي لوحظ على مهام الدولة في بداية‬
‫القرن العشرين‪ ،‬بحيث لم تعد تقوم بمهام إدارية محضة فقط‪ ،‬بل أضحت تؤدي مهاما تقنية نتيجة لتنامي‬
‫تدخالتها في ميادين جديدة‪ ،‬وهذا ما أدى إلى أفول معيار السلطة العامة‪ ،‬الذي كان يخضع األعمال‬
‫الصادرة عن اإلدارة كسلطة آمرة وناهية ألحكام القانون اإلداري وينعقد االختصاص فيما يخص‬
‫منازعاتها للقضاء اإلداري‪ ،‬وبذلك ظهر مفهوم المرفق العام ‪ ،‬الذي أصبح بمثابة األساس الذي قامت عليه‬
‫نظريات ومبادئ القانون اإلداري‪ ،‬لكونه مظهرا رئيسيا من مظاهر تدخل الدولة إلشباع الحاجات العامة‬
‫لألفراد‪ ، 1‬وهذا ما يجعلنا نسلط الضوء على ظهور ونشأة نظرية المرافق العمومية في (المطلب األول) و‬
‫كذلك على مضمون المرافق العمومية من خالل تحديد تطور مفهومها والوقوف عند تعريفها وتحديد‬
‫‪.‬عناصره األساسية ( المطلب الثاني)‬
‫المطلب األول‪ :‬نشأة نظرية المرفق العام‬
‫تتطور فكرة المرفق العام بتطور مفهوم الحاجة العامة التي تقوم الدولة بتلبيتها‪ .‬وإذا انطلقنا من بداية‬
‫القرن التاسع عشر نجد أن مفهوم الحاجة العامة كان محددا أنذاك في توفير األمن الخارجي والداخلي‬
‫والفصل في المنازعات التي كانت تنشأ بين األفراد‪ .‬فكان أمرا طبيعيا أن تكون المرافق العامة التي‬
‫تنظمها الدولة وتسيرها محدودة العدد أيضا‪ ،‬وهي مرافق الدفاع واألمن والقضاء‪ .‬فكان أمرا طبيعيا كذلك‬
‫أن يكون القانون العام المنسجم مع هذه المرافق مصطبغا بفكرة السيادة والسلطة العامة وأن يكون القانون‬
‫‪2‬‬
‫اإلداري المتسم بصبغة األمر والنهي مستندا إلى فكرة السلطة العامة‪.‬‬
‫ولكن فقهاء ذلك العصر قد بينوا أن الدولة ال تبدو في جميع تصرفاتها بمظهر السلطة العامة فهي قد تتجرد‬
‫عن هذا المظهر وتتصرف كاألفراد العاديين إذا ما قبلت مختارة أن تتعامل في إطار القانون الخاص‪.‬‬
‫وتبعا لذلك فقد ميز هؤالء الفقهاء في تصرفات اإلدارة بين نوعين‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التصرفات أو األعمال التي تظهر فيها الدولة باعتبارها سلطة عامة‪ ،‬وهي ما أطلقوا عليه تسمية‬
‫"أعمال السلطة" وتتجلى هذه التصرفات فيما يصدر عن إرادة اإلدارة اآلمرة من أوامر ونواه لألفراد مع‬
‫ضرورة الخضوع لها جبرا وإال تعرضوا للجزاءات التي يستحقونها‪ ،‬فنشاط اإلدارة من هذا القبيل يختلف‬
‫عن نشاط األفراد لذلك اقتضى األمر استبعاد قواعد القانون الخاص وتطبيق قواعد القانون اإلداري على‬
‫هذه التصرفات أو األعمال اإلدارية مع خضوعها الختصاص القضاء اإلداري فيما يتعلق بالمنازعات‬
‫المتعلقة بها‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التصرفات أو األعمال التي تظهر فيها الدولة كاألفراد العاديين عندما تتجرد مختارة عن سلطتها‬
‫العامة فتقف على قدم المساواة مع سائر األفراد‪ ،‬كأن تتعاقد اإلدارة في ظل القانون الخاص فتكون بذلك‬
‫خاضعة إلى أحكام قواعد القانون الخاص وبالتالي الختصاص القضاء العادي فيما يتعلق بالمنازعات‬
‫الحاصلة بشأنها‪ ،‬وهذه األعمال هي ما أطلق عليها الفقهاء "التصرفات العادية" ‪،ACTES DE GESTION‬‬
‫وهكذا كان المعيار المميز والمحدد لمجال القانون العادي أو القانون اإلداري يستند على فكرة السلطة‬
‫‪3‬‬
‫العامة‪.‬‬
‫وإذا كانت فكرة السيادة أو السلطان قد وجدت أساسها منذ مطلع القرن التاسع عشر حيث كانت‬
‫االيديولوجية السائدة تتجلى في الحرية الفردية ات واالقتصادية‪ ،‬وباقتصار دور الدولة على الدفاع عن‬
‫سالمة الدولة خارجيا وداخليا وبإنشاء وتسيير مرافق الدفاع واألمن والقضاء‪ ،‬إال أن هذه الفكرة سرعان‬
‫ما انتقدت وبشدة حتى هجرت تماما مع بداية منتصف القرن التاسع عشر وذلك لصعوبة التمييز بين أعمال‬
‫السلطة و التصرفات العادية‪ ،‬ونتيجة ظهور حاجات من نوع جديد ال تقوم على فكرة ما للدولة من السيادة‬
‫‪ . 1‬عبد القادر باينة‪ ،‬أشكال النشاط اإلداري‪ ،‬مطبعة المعارف الجديدة‪ ،‬الرباط‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2006‬ص‪.10‬‬
‫‪ 2‬مليكة الصروخ‪ ،‬نظرية المرافق العامة الكبرى دراسة مقارنة‪ ،‬مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ص‪.1992 .9‬‬
‫‪ 3‬نفس المرجع السابق ص ‪.9‬‬
‫أو السلطان وإنما تقتضيها المصلحة العامة فغدت الجماهير في كل مكان تطالب الدولة بالتدخل إلشباع تلك‬
‫الحاجات العامة فوجدت الدولة نفسها مضطرة و مرغمة القتحام مجاالت جديدة ليس فقط إلنشاء وتسيير‬
‫المرافق التقليدية وإنما لتقديم خدمات أساسية لألفراد كالتعليم والخدمات االجتماعية وتوزيع الماء‬
‫والكهرباء والنقل بالسكك الحديدية ‪ ...‬الخ‪ .‬وذلك في صورة مشروعات عامة تنشؤها الدولة وتقوم‬
‫‪4‬‬
‫بتسييرها أو تشرف على تسييرها بشكل يحقق الغرض الذي قامت من أجل تحقيقه‪.‬‬
‫وبظهور هذه المرافق الجديدة وازدياد نموها برزت للعيان حركة اإلدارة ونشاطها في سبيل المصلحة‬
‫العامة‪ .‬وحينئذ تبين بوضوح أن حاجة اإلدارة لقانون من تحقيق للخدمات كون اإلدارة صاحبة السلطة‬
‫والسيادة وإنما على مقتضيات حسن سير المرافق العامة مستقل ومتميز عن المبادئ األساسية التي يقوم‬
‫‪5‬‬
‫عليها القانون الخاص ال يستند على وما تسعى إليه وسليم الحاجات العامة ألفراد المجتمع‪.‬‬
‫ولقيام هذه المرافق العامة بالهدف الذي قامت من أجل تحقيقه اقتضى األمر أن تؤدى هذه الخدمات بصفة‬
‫منتظمة‪ ،‬وعلى أساس التساوي في المعاملة بين المنتفعين‪ ،‬وأن تتمكن اإلدارة من التعديل في نظم تلك‬
‫المرافق بما يجعلها تستجيب لحاجة المنتفعين بها‪ ،‬وبتحررها من وسائل القانون الخاص التي قد تعرقل‬
‫تحقيق تلك األغراض‪ .‬فأصبح المعيار الجديد في تمييز اختصاص القضاء اإلداري والقضاء العادي‬
‫وبالتالي تطبيق قواعد القانون العام وقواعد القانون الخاص يستند باألساس على فكرة المرفق العام بدل‬
‫السلطة العامة‪ .‬وتبعا لذلك فإن ما يتعلق بنشاط المرفق العام يتصل بالقانون اإلداري فيخضع الختصاص‬
‫القضاء اإلداري‪ ،‬وما ال يتصل بنشاط المرفق العام يتصل بالقانون الخاص فيخضع الختصاص القضاء‬
‫العادي‪ ،‬وتأكد هذا المعيار الجديد منذ أواخر القرن التاسع عشر بسلسلة من أحكام مجلس الدولة الفرنسي‬
‫ومحكمة التنازع وعلى رأسها حكم التنازع الشهير في قضية (‪ )Blanco‬الصادر في ‪ 8‬فبراير ‪،1873‬‬
‫وحكم مجلس الدولة في قضية ‪ ،Terrier‬و تمثل الفترة الممتدة من ‪ 1870‬إلى ‪ 1914‬العصر الذهبي‬
‫للمنازعة اإلدارية‪ ،‬حيث وضع لها مجلس الدولة األسس اعتمادا على مفهوم المرفق العمومي‪ ،‬وهو‬
‫المفهوم الذي سيبرز الفقه للدفاع عنه في إطار مدرسة المرفق العمومي‪ ،‬انطالقا من حكم بالنكو‪ ،‬حيث‬
‫اعتبر مجلس الدولة المرفق العمومي معيارا الختصاص القضاء اإلداري‪ ،‬وهذا في األحكام المتتالية‬
‫المتمثلة في‪:‬‬
‫‪ -‬حكم ‪ Terrier‬في ‪ 06‬من فبراير ‪.1903‬‬
‫‪ -‬حكم ‪ Feutry‬في ‪.1908‬‬
‫‪ -‬حكم ‪ Théron‬في ‪.1910‬‬
‫‪6‬‬
‫‪ -‬حكم ‪ l’arrêt Compagnie générale françaises des tramways‬في ‪.1910‬‬
‫لقد حظي مفهوم المرفق العمومي على الصعيد الفقهي بالقبول‪ ،‬وتجمع فريق من الفقه للدفاع عنه منطويين‬
‫تحت مدرسة المرفق العمومي أو مدرسة بوردو‪ ،‬الجامعة التي كان يدرس فيها عميد هذه المدرسة وأكثر‬
‫المدافعين عنها األستاذ ليون دوجي ‪DUGUIT‬والتي امتد إشعاعها إلى جامعات أخرى مثل جامعة باريس‬
‫بفضل األستاذ ‪ Jèze‬تضم هذه المدرسة أبرز المدافعين عن هذه الفكرة وهم من عمالقة فقهاء القانون‬
‫اإلداري الفرنسي ‪ Bonnard‬و‪.Rolland‬‬

‫‪ 4‬حسن حوات‪ ،‬المرافق العامة‪ .‬الطبعة األولى‪ ،‬ص‪13‬‬


‫‪ 5‬نفس المرجع السابق ص‪14‬‬
‫‪ 6‬مارية بوجداين‪ ،‬المرافق العمومية الكبرى‪ .‬الطبعة الثانية‪ .2023،‬ص‪17‬‬

You might also like