Professional Documents
Culture Documents
المحاضرة الثانية العلم والمعرفة العلمية
المحاضرة الثانية العلم والمعرفة العلمية
المحاضرة الثانية العلم والمعرفة العلمية
العلم نش اط خ اص لم تكن ل ه على ال دوام ال الق وة وال االنتش ار الل ذين يع رف بهم ا الي وم.
جغرافيا ،ظهر العلم في حوض البحر األبيض المتوسط وأوربا الغربية ،ولم يمت د إلى أج زاء
الكرة األرضية األخرى إال مؤخرا )القرن (19وبشكل غير متكافئ .
تاريخي ا ،نس تطيع الق ول إن ل ه عق دين للميالد :فق د ظه ر أوال ،وبش كل خ اص ،على ش كل
رياضيات ومنطق وعلم فل ك ،وذل ك من ذ الق ديم .ه ذه العل وم ال تي ذهبت به ا ش عوب معين ة
بالحوض المتوسطي كانت علوما تأملية خالصة ،بمعنى أنه في مجتم ع كمجتم ع أثين ا مثال لم
يكن لهذه العلوم أي ميل لخدمة أي تقدم تقني ،بل ك انت وظيفته ا ال ترويح عن النفس وتثقي ف
المواطنين العاطلين عن العمل بإعطائهم تصورا معينا عن العالم .وقد ظهر العلم بعد ذل ك في
القرن 17في أوربا الغربية في خضم منافسة مع النسق التج اري ،ولكن بش كل أك ثر مغ ايرة
هذه المرة للسابق حيث ،وباعتباره ظل أبعد ما يكون عن الصبغة التأملية ،فقد حاول تحص يل
المعارف المشبعة للحاجات العملية .وهذا هو السبب في كون العلوم المنح درة من ه ذا المه د
الثاني ،تختلف جذريا ،من حيث م وضوعاتها ومناهجها ،عن العل وم التأملي ة الخالص ة :إنه ا
ستحاول معرفة الع الم المش خص الف يزيقي )في الق رن 17ك انت الفيزي اء تع ني ك ل عل وم
الطبيعة( وستطبق المنهج التجريبي إلنجاز هذه المهمة.
وال يتعلق األمر بادعاء أن كل األبحاث كانت لها غايات عملية وال أن كل االكتش افات أمكن
استيعابها كاكتشافات مشتقة من الحاجات التكنولوجية ،وم ع ذل ك فق د ش ّك ل العلم المول ود في
القرن 16موضوع اهتمام البورجوازيين أو التجار ال ذين ،م ع أنهم لم يمارس وه بأنفس هم ب ل
تركوا أمره لالختصاصيين ،فإنهم حلموا بتملك العالم بواس طته ،كم ا باش روا ذل ك فعلي ا عن
طريق نشاطهم االقتصادي .وكما بشر بذلك "ديكارت" ،ف إن العلم من ذ ذل ك الحين ،اس تهدف
"جعلنا أسيادا متملكين للطبيعة" .ولم يذهب بنا تجديد العلم في القرن 17بعيدا ،فه و لم يفع ل
سوى أنه فتح أمام العلم قارة أخرى :قارة "الفيزياء" ،وساهم أيضا بالت دريج ،وب روح نفعي ة،
في استخدام العلوم القديمة التأملية من رياضيات ومنطق في دراسة الطبيعة .وهذا هو الس بب
في أننا عندما نتكلم اليوم عن العلم المعاصر ،فإننا نتجاهلمكتسبات العلم القديم وعلوم الق رون
الوسطى ،التي ال يمكن اعتبارها مكتسبات بدون معنى ،لكي نشير ونعنيبش كل ج وهري العلم
اإلم بريقي أو التجري بي ،ه ذان النعت ان الل ذان يش يران في نفس اآلن للموض وع )الطبيع ة(
وللمنهج)االختبار التجريبي(.
يعرف العلم على أنه" معرفة موضوعية تنشئ بين الظواهر عالقات كلي ة وض رورية تس مح
بالتنبؤ بالنتائج )المعلوالت( التي نحن قادرون على التحكم فيها تجريبي ا ،أو تحدي د س ببها عن
طريق المالحظة".
إن العلم معرفة :من زاوية النظ ر الوحي دة هات ه ،يماث ل العلم م ا نس ميه المعرف ة -1
اإلمبريقية ،بمعنى المعرفة المؤسسة على التجربة الفورية ال تي هي غالب ا خاطئ ة
)الن ار تح رق ـ الص وف يحتف ظ ب الحرارة...الخ( ،والمعرف ة التقني ة )فن ص ناعة
البواخر على سبيل المثال( .غ ير أن المقارن ة تتوق ف عن د ه ذا الح د :إذ المعرف ة
اإلمبريقية وكذا المعرفة التقنية تتحددان بواسطة الحاجات الفورية ال تي تس تجيبان
لها )أتعرف على النجوم من أجل أن ترش دني ،أس وق س يارتي لغ رض التنق ل …
الخ( ،في حين لم تكن للمعرف ة العلمي ة أب دا تطبيق ات فوري ة ،إنه ا إج راء ثق افي
وفكري خالـص ولو أنها أنشئت لغاية تطبيقات عملية مح ددة .لق د اس تطاع علم اء
في دراس ة علم الق ذائف الوص ل إلى ق وانين فيزيائي ة لتحس ين مردودي ة قط ع
المدفعية ،إال أنهم كانوا مطالبين باستخالص قوانين عامة ص الحة بالنس بة لجمي ع
األجسام المقذوفة .وقد استخدمت هذه القوانين فيما بعد من ط رف رج ال المدفعي ة
ولكن أيضا في مجاالت عديدة .
إن المعرفة العلمية معرفة موضوعية أو تنزع نح و الموض وعية :فهي تتمث ل في -2
قض ايا )ق وانين( و/أو أنس قة من القض ايا )نظري ات( مطالب ة ،وفي اآلن نفس ه،
باالس تجابة لمع ايير الص الحية )التماس ك المنطقي ال داخلي لقض ية أو نس ق من
القضايا( ولمعايير الحقيق ة )التط ابق بين القض ية والوق ائع( .وه ذان النوع ان من
المعايير )خاصة المعايير الثانية( مس تقالن أو يح اوالن االس تقالل عن ك ل تق دير
ذاتي .هك ذا يلغي العلم قض ايا اللغ ة الدارج ة أو الش عرية ال تي تتض من تناقض ا
داخليا ،والقضايا المتناقضة مع أخ رى وأيض ا القض ايا ال تي تم تك ذيبها بواس طة
التجرب ة أو المالحظ ة .وبإرض اء ه ذين الش رطين يس تطيع العلم أن ي دعي
الموضوعية والحصول على موافقة )إجم اع( الجماعة العلمية )المجتمع( .هذا م ع
التأكيد على أن موضوعية المعرفة العلمية ال يتم تحصيلها بش كل ف وري ومباش ر
ألنها مسألة يمكن امتالكه ا بالت دريج نتيج ة التع ديل المتع اقب لألخط اء والت دقيق
واإلرهاف المستمرين للنظريات .
يدرس العلم الظ واهر وال نع ني به ذا اللف ظ األش ياء أو الوق ائع ال تي يس تطيع أي -3
إنس ان مالحظته ا فيماحول ه ،ب ل نع ني ب ه األش ياء أو الوق ائع المح ددة والمنتق اة
والمصنوعة من طرف العلماء .فالكيمياء ،على
،والفيزيائي كيميائياH2O سبيل المثال ،ال تدرس ماء الحنفية أو ماء معدنيا بل تدرس مركبا
الذي يريدتبدية قانون السقوط الحر لألجس ام ال يهتم باالنتح ار والس قوط من الناف ذة )بالنس بة
لألشخاص(.
يقيم العلم عالقات كلية وضرورية وبذلك يتجاهل الحاالت الخاصة والجزئية ،وال -4
يهتم إال بالظواهر التي تحدث دائما في ظ روف مح ددة .إن العالق ات المقام ة بين
حدوث الظواهر والشروط واألسباب التي تؤدي إلى حدوثها هي ضرورية بمع نى
أن الظاهرة ال يمكن أال تحدث عندما تجتم ع وتت وفر ش روط ح دوثها .والعالق ات
المستخلصة بهذه الصورة تحمل صفة "قانون".
يمِّ كن العلم من التنب ؤ انطالق ا من الق وانين ال تي ينش ئها ،وهن ا يجب أن نم يز -5
بوض وح بين نش اطات وإمكاني ات العلم في مج ال التنب ؤ ونب وءات وتكهن ات
العرافين .إن التنبؤ العلمي يفترض بالفعل التحكم الكام ل في س يرورة م ا ،بمع نى
معرفة سبب ما وتأثير ما ،ونتيج ة ل ذلك تت وفر له ذه المعرف ة م يزة مطلق ة .على
سبيل المثال يمكن التنبؤ وبدقة المتناهية بحاالت الخسوف كما ه و الش أن بالنس بة
لمسارات المركب ات الفض ائية .وإذا ك انت التنب ؤات المناخي ة )األرص اد الجوي ة(
والتي ليست بالسوء الذي يزعمه البعض ال تضمن في شيء الحال ة الجوي ة المثلى
)المتنبئ بها( لعطلنا األسبوعية أو الكبرى ،فإن مرد ذلك فقط إلى التعق د والتفاع ل
بين الظواهر التي ال نعرفها بشكل جي د دائم ا ،وإلى ص عوبة مالحظته ا باالمت داد
واالتساع الضروريين .
وهك ذا ف إن العلم بفض ل موض وعيته ،وبفض ل الض رورة المطلق ة للعالق ات ال تي يقيمه ا،
والتنبؤات التي يقوم بها ،وأيضا بفضل التواضع والحذر المصاحبين لك ل قض ية من قض اياه
هو معرف ة من طبيع ة أخ رى مغ ايرة لطب ائع أن واع المع ارف األخ رى ،ص حيحة ك انت أم
خاطئة.
إن العلم إنجاز اجتماعي ،فمكان والدته ووج وده ليس عالم ا واس عا من األفك ار أو "الحق ائق
العلمي ة" وإنم ا ه و المجتم ع ذات ه ال ذي يش كل ال ع اِلـم بالنس بة إلي ه ُم ن ِتج ا لألفك ار
والنظريات والتجارب .إن هذا اإلنتاج له بدون ش ك س مة خاص ة ،ف العلم ال ينتج البض ائع أو
اآلالت بشكل مباشر ،وإنما في ظل الشروط االجتماعية التي تخضع لها اإلنتاجات األخ رى.
ويؤكد العديد من المفكرين المهتمين بتاريخ الفكر العلمي أن علوم الطبيعة ال تي ُيخ تزل إليه ا
العلم غالب ا ،ول دت م ع الح دث المتعل ق بميالد النس ق التج اري والرأس مالي .فالبورجوازي ة
الص اعدة-ثم المتحكم ة في الس لطة -وفي ف ت رة م ا قب ل الرأس مالية وفي نم ط اإلنت اج
الرأس مالي نفس ه ،ك انت في حاج ة لنس ق إنت اجي يمكنه ا من االس تغالل المط رد
والمتناميللطبيعة ،ويفترض هذا النسق اإلنت اجي وج ود عام ل من ن وع جدي د ض من العم ال
األحرار )بمعنى أكثر تحررا مناآلخرين( هو ال ع ا ِل ُم الذي ال يهتم إال باستخراج الق وانين
العامة للطبيعة ،أما العمل المنتج بش كل خ اص كإنتاج الخيرات االس تهالكية واآلالت...إلخ،
فكان موكوال في البداية إلى المصانع ،ثم أوكل إلى عامل تحول بسرعة إلى عام ل ض روري
مع تطور اإلنتاج ،هو المهندس الذي ال تتمثل مهمته إال في استخدام اكتشافات العالم النظري ة
خاصة. في تطبيقات
في هذا الصدد ،كتب "فريديريك إنجلز " Frederick Engelsفي كتابه المادية التاريخية:
العلم في ظل النظ ام الرأس مالي :ألن المعرفة العلمي ة ناجم ة عن ممارس ة تحوي ل الطبيع ة،
وألنها تتحول بدورها إلى عامل في عملية تحويل الطبيعة اإلنسانية ،فإن تطورها يتم بانسجام
مع التغيرات الحاص لة في نم ط اإلنت اج؛ أوال في الص ناعة التقليدي ة ثم في الص ناعة .عن دما
تتحول األشكال االجتماعية ما قبل الرأسمالية إلى بنيات رأس مالية ،ف إن المعرف ة اإلمبريقي ة
الشعبية تغدو متحولة في الطور األول من العلم المعاصر.
إن العلم ،كالرأسمالية ،يشكالن قوة "ُم ـ ح ض رة" بداخل ح دود معين ة يمكن تجس يدها من
خالل المثالين التاليين :فالثورة الجاليلية )نسبة إلى غ اليليو ج اليلي( في مي دان الكوس مولوجيا
دمرت نموذج "بطليموس" القائ ل بع الم ممرك ز ح ول األرض وم أمور بش كل كلي من قب ل
اإلله ،وفيما بعد كان على داروين أن يجعل من اإلل ه ع امال هامش يا بخص وص خل ق الع الم
واإلنس انية ،فب دا العلم هك ذا كمعرف ة نقدي ة ومح ررة لإلنس انية من ج بروت الخراف ة ال تي
بوجودها في نس ق الفك ر ال ديني ش كلت المفت اح والدعام ة اإليديولوجي ة للنظ ام االجتم اعي
السابق .إن نمط اإلنتاج المؤسس على الرأسمالية يستلزم تجدي دا مس تمرا على جمي ع أص عدة
الحياة كخلق موضوعات جديدة وأفكار جديدة وتقنيات جدي دة وأش كال اجتماعي ة جدي دة .إن ه
يتطلب كما يقول ماركس "تطور علوم الطبيعة إلى أقصى درجاتها ".
ويستمر ماركس موضحاكيف تصبح شروط العلم هاته ق وة منتجة مباشرة بقوله إن الطبيع ة
ال تنتج ال اآلالت والالقاطرات وال السكك الحديدية وال التلغراف وال الجرارات . . .إلخ ،إنه ا
منتجات الصناعة اإلنس انية من م واد طبيعيةمحول ة إلى أدوات ،من إرادة إنس انية مفروض ة
على الطبيعة ،أو من المساهمة اإلنسانية داخل الطبيع ة ،إنه ا أدوات العق ل اإلنس اني مبتك رة
بفضل يد اإلنسان وقدرة الموضعة في المعرفة اإلنسانية .إن تطور الرأسمال الثابت يشير إلى
أي م دى تح ولت المعرف ة االجتماعي ة إلى ق وة منتج ة مباش رة ،وبالت الي ،إلى أي درج ة تم
إخضاع شروط مسار الحياة االجتماعية ذاتها لرقابة ال ذكاء الع ام ،وكي ف تم تحويله ا بش كل
موافق لها" ،فليس العلم بمعنى عام غير منفصل عن سيرورة اإلنتاج.
قمنا لحد اآلن بفحص للعلم في وحدته ،غير أن التشتت المطرد للعلوم يض طرنا للتس اؤل عن
عالق ات القراب ة ال تي تق وم فيم ا بينه ا في مجموعه ا ،وعن االختالف ات ال تي تعم ل على
تعارضها فيما بينها .إن تصنيف العلوم هو إذن ،وب ادئ ذي ب دء ،ض رورة إبس تمولوجية تتم
بتحديد مواقع العلوم في عالقاتها ببعضها ،أي ضرورة القيام بتصنيف للعلوم.
يمكن تص نيف العل وم إم ا حس ب موض وعها )مثال تمي يز التجريب يين بين العل وم -1
الصورية :المنطق والرياضيات ،وعلوم الطبيعة :الفيزي اء ـ الكيمي اء ،البيولوجي ا
. . .إلخ ،والعلوم اإلنسانية :علم النفس ،علم االجتماع ...إلخ( .
أو حسب مناهجها من خالل التمييز بين العلوم الفرضية االستنتاجية كالرياضيات -2
والمنط ق ،وعل وم المالحظ ة كعلم الفل ك ،علم النب ات ...إلخ ،والعل وم التجريبي ة
كالفيزياء والبيولوجي ا وعلم النفس ...إلخ -3أو حس ب وض عيتها ،مثال التمي يز
فيما بين علوم تصنيفية كعلم الحيوان أو علم الفطريات ...إلخ ،العل وم االس تقرائية
كالفيزياء ما قب ل الكالس يكية ،وربم ا الي وم علم االجتم اع األم بريقي وعلم النفس
التحليلي ،العلوم االستنتاجية كالفيزياء الكالس يكية ،البيولوجي ا المعاص رة ...إلخ،
والعلوم األكسي ومية :كالرياضيات والفيزياء المعاصرة .
وكيفما كان المعيار المستخدم فإننا نرى كيف تنبثق من كل ه ذه التص نيفات فك رة التراتبي ة،
وإعطاء قيمة لعلوم معينة على حس اب عل وم أخ رى ،وه ذا أيض ا ب ديهي بالنس بة للتص نيف
حسب النتائج الذي ينتصر للتجريب )وهي الصفة المرفوضة فيما يبدو بشكل قطعي ومتعسف
لعلوم معين ة أثبتت وجوده ا كعلم الفل ك ب النظر لطبيعت ه( ،وأيض ا بالنس بة للتص نيف حس ب
الوض عيات ال ذي يعطي للفيزي اء خاص ية االمتي از لجه وده ال تي تس تحق ذل ك في مج ال
الصورنة ،وهذايصدق أيضا.
تصنيف "أوغست كونت" ) Auguste Comteتصنيف العلوم حسب تعقد الظواهر التي
تدرسها(:
في كتابه "دروس في الفلسفة الوضعية" ،ينطل ق "أوغس ت ك ونت" من فك رة أن ه للحص ول
على تصنيف طبيعي وإيجابي )وضعي( للعلوم األساسية ،يجب أن نبحث عن مب دأ التص نيف
من خالل مقارب ة مختل ف الظ واهر ال تي تهتم به ا العل وم للكش ف عن قوانينه ا ،وم ا نري د
توضيحه هو التعالق الواقعي بين مختلف األبح اث العلمي ة ،Pluridisciplinaritéوالح ال أن ه ال
يمكن أن ينتج هذا االعتماد المتبادل إال من تعالق الظواهر المقابلة له ذه األبح اث) .المقص ود
بالتعالق هنا هو االعتماد المتبادل بين العلوم المختلف ة بعض ها على بعض ،بمع نى أن علم م ا
تتعلق نتائجه ومناهجه وموضوعه بعلم آخر مع احتفاظ كل علم بخصوصيته الجوهرية( .
وبأخذنا بعين االعتبار لكل الظواهر القابلة للمالحظ ة ،ومن زاوي ة النظ ر هات ه ،س نرى أن ه
يمكن تصنيفها في عدد قليل من الدرجات الطبيعية ،مرتب ة بطريق ة تجع ل الدراس ة العقالني ة
لكل صنف دراس ة مؤسس ة على معرف ة الق وانين األساس ية للص نف الس ابق ،وتص ير ب ذلك
أساس دراسة الصنف الالحق .وهذا النظ ام وال ترتيب ه و مح دد بدرج ة البس اطة أو بدرج ة
عمومية الظواهر ،حيث ينتج تعالقها المتتابع كنتيجة البساطة األكبر أو األصغر لدراستها.
إن تأمال أوليا لمجموع الظواهر الطبيعية يدفعنا إلى تقسيمها تبعا للمبدأ الذي أتينا على وضعه
في صنفين أساسيين كبيرين ،يضم األول منهما كل ظ واهر األجس ام الخ ام ،في حين يض م
الثاني كل ظواهر األجسام المنظمة )العضوية(.
هذه األخيرة هي بالفعل أكثر تعقدا أو خصوصية من األخرى .ومن هنا ضرورة ع دم دراس ة
الظواهر الفيزيولوجية إال بعد دراسة ظواهر األجسام غير العضوية .
لننتقل اآلن إلى التحديد األساسي للتصنيف الموالي الذي يحتمله ،تبع ا لنفس القاع دة ،ك ل من
هذين الصنفين الكبيرين للفلس فة الطبيعي ة .ن رى أوال بالنس بة للفيزي اء الالعض وية ،وبتقي دنا
دائما لخاصية العمومية واالعتماد في الظواهر ،وج وب تقس يمها إلى قس مين متم ايزين تبع ا
لكونها تدرس الظواهر العامة للكون ،أو بشكل خاص ،تلك التي تعرضها األجسام األرض ية،
حيث نج د الفيزي اء الس ماوية أو علم الفل ك س واء أك ان هندس يا أم ميكانيكي ا ،ثم الفيزي اء
األرضية .وباعتب ار الظ واهر الفلكي ة ظ واهر أك ثر عمومي ة وبس اطة وتجري دا من غيره ا،
فبديهي أنه يجب أن تبتدئ الفلسفة الطبيعية بدراستها؛ ما دامت القوانين التي تخضع لها ت ؤثر
على قوانين كل الظواهر األخرى ،والتي هي ذاتها ،وبالعكس من ذلك ،منفصلة عنها بصورة
جوهرية؛ ففي كل ظواهر الفيزياء األرضية نالحظ أوال النتائج العامة للجاذبية الكونية ،وك ذا
بعض النتائج األخرى التي هي خاصة بها ،والتي تـ عدل األولى.
وتندرج الفيزياء األرضية بدورها في صنافة أدنى ،تبعا لنفس المبدأ ،في قسمين مختلفين جدا
تبعا لما إذا كنا نتأمالألجسام من زاوية نظر ميكانيكية أم من زاوي ة نظ ر كيميائي ة ،أي حيث
تتأتى الفيزياء بالمعنى التام للكلمة ثمالكيمياء .ولكي يتم تصور ذلك بص ورة منهجي ة حقيقي ة،
يفترض بالبداهة وجود معرف ة س ابقة ]العلم الس ابق[؛ ذل ك ألن ك ل الظ واهر الكيميائي ة هي
بالضرورة أكثر تعقيدا من الظواهر الفيزيائية ،وهي تتوقف عليها ب دون أن ت ؤثر فيه ا .وك ل
منا يعرف بالفعل أن كل تفاعل كيميائي هو خاضع أوال لتأثير الثق ل والح رارة والكهرب اء ...
إلخ ،ويعرض زيادة على ذلك شيئا ما خاصا ،يعدل حركة العناصر السابقة.
تعرض كل الظواهر الحية نظامين أو نوعين من الظواهر المتميزة جوهريا ،أي تلك المتعلقة
بالفرد وتلك المتعلقة بالن وع ،خصوصا عن دما تك ون قابل ة لالجتم اع ،ويعت بر ه ذا التمي يز
أساسيا وبالخصوص بالعالق ة م ع اإلنس ان؛ فه ذا الن وع أو النظ ام األخ ير من الظ واهر ه و
بالبداهة أكثر تعقيدا وخصوصية من األول ،إنه يتوقف عليه دون أن يؤثر فيه ،ومن هن ا ينتج
قطاعان كبيران بداخل الفيزياء العضوية :الفيزيولوجيا بمع نى الكلم ة ،والفيزي اء االجتماعي ة
األولى. المؤسسة على
إننا نالحظ أوال في كل الظواهر االجتماعية ت أثير الق وانين الفيزيولوجي ة ل دى الف رد ،وف وق
ذلك ش يئا خاص ا يع دل تأثيراته ا ،ويتعل ق بت أثير األف راد على بعض هم البعض ،وه و معق د
باألخص لدى النوع اإلنساني ،نتيجة تأثير كل جيل على الجيل الذي يليه .من البديهي إذن أن ه
يجب لكي ندرس الظواهر االجتماعية بشكل مالئم أن ننطلق أوال من مع رفة معمقة بالقوانين
المتعلقة بالحياة الفردية.
كنتيجة لهذه المناقشة ،تج د الفلس فة الوض عية ذاته ا مقس مة بش كل ط بيعي إلى خمس ة عل وم
أساسية ،يتحدد تباينها بفعل اعتماد متبادل ض روري وث ابت ومؤس س باس تقالل عن أي رأي
افتراضي ،على مجرد المقارنة المعمقة بين الظواهر المقابلة ،وتلك العلوم هي:
يكتسي تصنيف "كونت "أهمية كبيرة مقارنة بالتصنيفات األخ رى ،فه و يص نف الظ واهر،
وبالتالي العلوم التي تشكل هذه الظواهر موضوعاتها حسب مستويات مختلفة ،من البسيط إلى
المعقد ،وبطريقة تجعلنا عندما نمر من مستوى أدنى إلى مس توى أعلى نج د مس بقا الظ واهر
مفسرة جزئيا ولن يتبقى أمام العلم من المستوى األعلى إال تقرير العالقاتالخاص ة القائم ة بين
الظواهر التي يدرسها.
إن التص نيف الكون تي في حقيقت ه التاريخي ة ،كم ا في أش كال اس تغالله الالحق ة ه و وكك ل
تصنيف آخر ،ليس محايدا .وهو ككل تصنيف ،كما سبق وقلنا يخفي تراتبية معينة؛ وتص نيف
"أ وغست كونت" هو بدون شك أحسن األمثلة على ذلك؛ ففي الوقت الذي ي دعي في ه أن ه ذا
التصنيف إيجابي ووضعي ،بمعنى أنه محرر من كل ميتافيزياء ،أو متطابق في نفس اآلن مع
تراتبية الوقائع المدروسة من قبل العلوم ومع التطور التاريخي لهذه األخيرة ،فإنه كان موجها
بش كل كلي لكي يجع ل من السوس يولوجيا )الفيزي اء االجتماعي ة( التت ويج واالكتم ال بالنس بة
للمعرفة العلمي ة ،وه ذا تحدي دا م ا يقودن ا إلى التس اؤل عن وض عية العل وم اإلنس انية ض من
تراتبية تصنيف العلوم.