المحاضرة الثانية العلم والمعرفة العلمية

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 9

‫‪ -‬المميزات المعرفية لعلوم ماهو العلم‪:‬‬

‫العلم نش اط خ اص لم تكن ل ه على ال دوام ال الق وة وال االنتش ار الل ذين يع رف بهم ا الي وم‪.‬‬
‫جغرافيا‪ ،‬ظهر العلم في حوض البحر األبيض المتوسط وأوربا الغربية‪ ،‬ولم يمت د إلى أج زاء‬
‫الكرة األرضية األخرى إال مؤخرا )القرن ‪ (19‬وبشكل غير متكافئ ‪.‬‬

‫تاريخي ا‪ ،‬نس تطيع الق ول إن ل ه عق دين للميالد‪ :‬فق د ظه ر أوال‪ ،‬وبش كل خ اص‪ ،‬على ش كل‬
‫رياضيات ومنطق وعلم فل ك‪ ،‬وذل ك من ذ الق ديم‪ .‬ه ذه العل وم ال تي ذهبت به ا ش عوب معين ة‬
‫بالحوض المتوسطي كانت علوما تأملية خالصة ‪،‬بمعنى أنه في مجتم ع كمجتم ع أثين ا مثال لم‬
‫يكن لهذه العلوم أي ميل لخدمة أي تقدم تقني‪ ،‬بل ك انت وظيفته ا ال ترويح عن النفس وتثقي ف‬
‫المواطنين العاطلين عن العمل بإعطائهم تصورا معينا عن العالم‪ .‬وقد ظهر العلم بعد ذل ك في‬
‫القرن ‪ 17‬في أوربا الغربية في خضم منافسة مع النسق التج اري‪ ،‬ولكن بش كل أك ثر مغ ايرة‬
‫هذه المرة للسابق حيث ‪،‬وباعتباره ظل أبعد ما يكون عن الصبغة التأملية‪ ،‬فقد حاول تحص يل‬
‫المعارف المشبعة للحاجات العملية‪ .‬وهذا هو السبب في كون العلوم المنح درة من ه ذا المه د‬
‫الثاني‪ ،‬تختلف جذريا‪ ،‬من حيث م وضوعاتها ومناهجها‪ ،‬عن العل وم التأملي ة الخالص ة‪ :‬إنه ا‬
‫ستحاول معرفة الع الم المش خص الف يزيقي )في الق رن ‪ 17‬ك انت الفيزي اء تع ني ك ل عل وم‬
‫الطبيعة( وستطبق المنهج التجريبي إلنجاز هذه المهمة‪.‬‬

‫وال يتعلق األمر بادعاء أن كل األبحاث كانت لها غايات عملية وال أن كل االكتش افات أمكن‬
‫استيعابها كاكتشافات مشتقة من الحاجات التكنولوجية‪ ،‬وم ع ذل ك فق د ش ّك ل العلم المول ود في‬
‫القرن ‪ 16‬موضوع اهتمام البورجوازيين أو التجار ال ذين‪ ،‬م ع أنهم لم يمارس وه بأنفس هم ب ل‬
‫تركوا أمره لالختصاصيين‪ ،‬فإنهم حلموا بتملك العالم بواس طته‪ ،‬كم ا باش روا ذل ك فعلي ا عن‬
‫طريق نشاطهم االقتصادي‪ .‬وكما بشر بذلك "ديكارت"‪ ،‬ف إن العلم من ذ ذل ك الحين‪ ،‬اس تهدف‬
‫"جعلنا أسيادا متملكين للطبيعة"‪ .‬ولم يذهب بنا تجديد العلم في القرن ‪ 17‬بعيدا‪ ،‬فه و لم يفع ل‬
‫سوى أنه فتح أمام العلم قارة أخرى‪ :‬قارة "الفيزياء"‪ ،‬وساهم أيضا بالت دريج‪ ،‬وب روح نفعي ة‪،‬‬
‫في استخدام العلوم القديمة التأملية من رياضيات ومنطق في دراسة الطبيعة‪ .‬وهذا هو الس بب‬
‫في أننا عندما نتكلم اليوم عن العلم المعاصر‪ ،‬فإننا نتجاهلمكتسبات العلم القديم وعلوم الق رون‬
‫الوسطى‪ ،‬التي ال يمكن اعتبارها مكتسبات بدون معنى‪ ،‬لكي نشير ونعنيبش كل ج وهري العلم‬
‫اإلم بريقي أو التجري بي‪ ،‬ه ذان النعت ان الل ذان يش يران في نفس اآلن للموض وع )الطبيع ة(‬
‫وللمنهج)االختبار التجريبي(‪.‬‬

‫يعرف العلم على أنه" معرفة موضوعية تنشئ بين الظواهر عالقات كلي ة وض رورية تس مح‬
‫بالتنبؤ بالنتائج )المعلوالت( التي نحن قادرون على التحكم فيها تجريبي ا‪ ،‬أو تحدي د س ببها عن‬
‫طريق المالحظة"‪.‬‬

‫وعليه‪ ،‬يمكن تحديد مميزات العلم على النحو التالي‪:‬‬

‫إن العلم معرفة‪ :‬من زاوية النظ ر الوحي دة هات ه‪ ،‬يماث ل العلم م ا نس ميه المعرف ة‬ ‫‪-1‬‬
‫اإلمبريقية‪ ،‬بمعنى المعرفة المؤسسة على التجربة الفورية ال تي هي غالب ا خاطئ ة‬
‫)الن ار تح رق ـ الص وف يحتف ظ ب الحرارة‪...‬الخ(‪ ،‬والمعرف ة التقني ة )فن ص ناعة‬
‫البواخر على سبيل المثال(‪ .‬غ ير أن المقارن ة تتوق ف عن د ه ذا الح د‪ :‬إذ المعرف ة‬
‫اإلمبريقية وكذا المعرفة التقنية تتحددان بواسطة الحاجات الفورية ال تي تس تجيبان‬
‫لها )أتعرف على النجوم من أجل أن ترش دني‪ ،‬أس وق س يارتي لغ رض التنق ل …‬
‫الخ(‪ ،‬في حين لم تكن للمعرف ة العلمي ة أب دا تطبيق ات فوري ة‪ ،‬إنه ا إج راء ثق افي‬
‫وفكري خالـص ولو أنها أنشئت لغاية تطبيقات عملية مح ددة‪ .‬لق د اس تطاع علم اء‬
‫في دراس ة علم الق ذائف الوص ل إلى ق وانين فيزيائي ة لتحس ين مردودي ة قط ع‬
‫المدفعية‪ ،‬إال أنهم كانوا مطالبين باستخالص قوانين عامة ص الحة بالنس بة لجمي ع‬
‫األجسام المقذوفة‪ .‬وقد استخدمت هذه القوانين فيما بعد من ط رف رج ال المدفعي ة‬
‫ولكن أيضا في مجاالت عديدة ‪.‬‬
‫إن المعرفة العلمية معرفة موضوعية أو تنزع نح و الموض وعية‪ :‬فهي تتمث ل في‬ ‫‪-2‬‬
‫قض ايا )ق وانين( و‪/‬أو أنس قة من القض ايا )نظري ات( مطالب ة‪ ،‬وفي اآلن نفس ه‪،‬‬
‫باالس تجابة لمع ايير الص الحية )التماس ك المنطقي ال داخلي لقض ية أو نس ق من‬
‫القضايا( ولمعايير الحقيق ة )التط ابق بين القض ية والوق ائع(‪ .‬وه ذان النوع ان من‬
‫المعايير )خاصة المعايير الثانية( مس تقالن أو يح اوالن االس تقالل عن ك ل تق دير‬
‫ذاتي‪ .‬هك ذا يلغي العلم قض ايا اللغ ة الدارج ة أو الش عرية ال تي تتض من تناقض ا‬
‫داخليا‪ ،‬والقضايا المتناقضة مع أخ رى وأيض ا القض ايا ال تي تم تك ذيبها بواس طة‬
‫التجرب ة أو المالحظ ة‪ .‬وبإرض اء ه ذين الش رطين يس تطيع العلم أن ي دعي‬
‫الموضوعية والحصول على موافقة )إجم اع( الجماعة العلمية )المجتمع( ‪.‬هذا م ع‬
‫التأكيد على أن موضوعية المعرفة العلمية ال يتم تحصيلها بش كل ف وري ومباش ر‬
‫ألنها مسألة يمكن امتالكه ا بالت دريج نتيج ة التع ديل المتع اقب لألخط اء والت دقيق‬
‫واإلرهاف المستمرين للنظريات ‪.‬‬
‫يدرس العلم الظ واهر وال نع ني به ذا اللف ظ األش ياء أو الوق ائع ال تي يس تطيع أي‬ ‫‪-3‬‬
‫إنس ان مالحظته ا فيماحول ه‪ ،‬ب ل نع ني ب ه األش ياء أو الوق ائع المح ددة والمنتق اة‬
‫والمصنوعة من طرف العلماء‪ .‬فالكيمياء‪ ،‬على‬

‫‪ ،‬والفيزيائي‬ ‫كيميائيا‪H2O‬‬ ‫سبيل المثال‪ ،‬ال تدرس ماء الحنفية أو ماء معدنيا بل تدرس مركبا‬
‫الذي يريدتبدية قانون السقوط الحر لألجس ام ال يهتم باالنتح ار والس قوط من الناف ذة )بالنس بة‬
‫لألشخاص(‪.‬‬
‫يقيم العلم عالقات كلية وضرورية وبذلك يتجاهل الحاالت الخاصة والجزئية‪ ،‬وال‬ ‫‪-4‬‬
‫يهتم إال بالظواهر التي تحدث دائما في ظ روف مح ددة‪ .‬إن العالق ات المقام ة بين‬
‫حدوث الظواهر والشروط واألسباب التي تؤدي إلى حدوثها هي ضرورية بمع نى‬
‫أن الظاهرة ال يمكن أال تحدث عندما تجتم ع وتت وفر ش روط ح دوثها‪ .‬والعالق ات‬
‫المستخلصة بهذه الصورة تحمل صفة "قانون"‪.‬‬
‫يمِّ كن العلم من التنب ؤ انطالق ا من الق وانين ال تي ينش ئها‪ ،‬وهن ا يجب أن نم يز‬ ‫‪-5‬‬
‫بوض وح بين نش اطات وإمكاني ات العلم في مج ال التنب ؤ ونب وءات وتكهن ات‬
‫العرافين‪ .‬إن التنبؤ العلمي يفترض بالفعل التحكم الكام ل في س يرورة م ا‪ ،‬بمع نى‬
‫معرفة سبب ما وتأثير ما‪ ،‬ونتيج ة ل ذلك تت وفر له ذه المعرف ة م يزة مطلق ة‪ .‬على‬
‫سبيل المثال يمكن التنبؤ وبدقة المتناهية بحاالت الخسوف كما ه و الش أن بالنس بة‬
‫لمسارات المركب ات الفض ائية‪ .‬وإذا ك انت التنب ؤات المناخي ة )األرص اد الجوي ة(‬
‫والتي ليست بالسوء الذي يزعمه البعض ال تضمن في شيء الحال ة الجوي ة المثلى‬
‫)المتنبئ بها( لعطلنا األسبوعية أو الكبرى‪ ،‬فإن مرد ذلك فقط إلى التعق د والتفاع ل‬
‫بين الظواهر التي ال نعرفها بشكل جي د دائم ا‪ ،‬وإلى ص عوبة مالحظته ا باالمت داد‬
‫واالتساع الضروريين ‪.‬‬
‫وهك ذا ف إن العلم بفض ل موض وعيته‪ ،‬وبفض ل الض رورة المطلق ة للعالق ات ال تي يقيمه ا‪،‬‬
‫والتنبؤات التي يقوم بها‪ ،‬وأيضا بفضل التواضع والحذر المصاحبين لك ل قض ية من قض اياه‬
‫هو معرف ة من طبيع ة أخ رى مغ ايرة لطب ائع أن واع المع ارف األخ رى‪ ،‬ص حيحة ك انت أم‬
‫خاطئة‪.‬‬

‫العلم الوضعي في الميزان االبستمولوجي "الماركسي"‬

‫إن العلم إنجاز اجتماعي‪ ،‬فمكان والدته ووج وده ليس عالم ا واس عا من األفك ار أو "الحق ائق‬
‫العلمي ة" وإنم ا ه و المجتم ع ذات ه ال ذي يش كل ال ع اِلـم بالنس بة إلي ه ُم ن ِتج ا لألفك ار‬
‫والنظريات والتجارب‪ .‬إن هذا اإلنتاج له بدون ش ك س مة خاص ة‪ ،‬ف العلم ال ينتج البض ائع أو‬
‫اآلالت بشكل مباشر‪ ،‬وإنما في ظل الشروط االجتماعية التي تخضع لها اإلنتاجات األخ رى‪.‬‬
‫ويؤكد العديد من المفكرين المهتمين بتاريخ الفكر العلمي أن علوم الطبيعة ال تي ُيخ تزل إليه ا‬
‫العلم غالب ا ‪،‬ول دت م ع الح دث المتعل ق بميالد النس ق التج اري والرأس مالي ‪.‬فالبورجوازي ة‬
‫الص اعدة‪-‬ثم المتحكم ة في الس لطة‪ -‬وفي ف ت رة م ا قب ل الرأس مالية وفي نم ط اإلنت اج‬
‫الرأس مالي نفس ه‪ ،‬ك انت في حاج ة لنس ق إنت اجي يمكنه ا من االس تغالل المط رد‬
‫والمتناميللطبيعة‪ ،‬ويفترض هذا النسق اإلنت اجي وج ود عام ل من ن وع جدي د ض من العم ال‬
‫األحرار )بمعنى أكثر تحررا مناآلخرين( هو ال ع ا ِل ُم الذي ال يهتم إال باستخراج الق وانين‬
‫العامة للطبيعة‪ ،‬أما العمل المنتج بش كل خ اص كإنتاج الخيرات االس تهالكية واآلالت‪...‬إلخ‪،‬‬
‫فكان موكوال في البداية إلى المصانع‪ ،‬ثم أوكل إلى عامل تحول بسرعة إلى عام ل ض روري‬
‫مع تطور اإلنتاج‪ ،‬هو المهندس الذي ال تتمثل مهمته إال في استخدام اكتشافات العالم النظري ة‬
‫خاصة‪.‬‬ ‫في تطبيقات‬

‫في هذا الصدد‪ ،‬كتب "فريديريك إنجلز "‪ Frederick Engels‬في كتابه المادية التاريخية‪:‬‬

‫"موازاة لصعود البورجوازية نستنتج االنطالقة الكبرى للعلم‪،‬‬


‫وقد كانت العلوم مثل علم الفلك والميكانيكا والفيزياء والتشريح‬
‫والفيزيولوجيا قد نمت في ذلك الوقت؛ فلقد كانت البورجوازية في‬
‫حاجة‪ ،‬ألغراض تطوير اإلنتاج الصناعي‪ ،‬إلى علم يدرس‬
‫الخصائص الفيزيائية لألشياء الطبيعية وأشكال الفعل لدى قوى‬
‫الطبيعة ‪.‬وحتى ذلك الحين لم يكن العلم إال الخادم األمين للكنيسة‬
‫التي لم تسمح له أبدا بتجاوز الحدود الموضوعة من قبل اإليمان؛‬
‫لقد كان العلم حينها أي شيء ما عدا كونه علما‪ .‬ونتيجة لكون‬
‫البورجوازية ال تستطيع فعل أي شيء بدون االعتماد على العلم‪،‬‬
‫فإنها ستعلن العصيان في وجه الكنيسة‪ ،‬وستلتحق بذلك بحركة‬
‫الثورة"‪.‬‬

‫العلم في ظل النظ ام الرأس مالي‪ :‬ألن المعرفة العلمي ة ناجم ة عن ممارس ة تحوي ل الطبيع ة‪،‬‬
‫وألنها تتحول بدورها إلى عامل في عملية تحويل الطبيعة اإلنسانية‪ ،‬فإن تطورها يتم بانسجام‬
‫مع التغيرات الحاص لة في نم ط اإلنت اج؛ أوال في الص ناعة التقليدي ة ثم في الص ناعة‪ .‬عن دما‬
‫تتحول األشكال االجتماعية ما قبل الرأسمالية إلى بنيات رأس مالية‪ ،‬ف إن المعرف ة اإلمبريقي ة‬
‫الشعبية تغدو متحولة في الطور األول من العلم المعاصر‪.‬‬

‫إن العلم‪ ،‬كالرأسمالية‪ ،‬يشكالن قوة "ُم ـ ح ض رة" بداخل ح دود معين ة يمكن تجس يدها من‬
‫خالل المثالين التاليين‪ :‬فالثورة الجاليلية )نسبة إلى غ اليليو ج اليلي( في مي دان الكوس مولوجيا‬
‫دمرت نموذج "بطليموس" القائ ل بع الم ممرك ز ح ول األرض وم أمور بش كل كلي من قب ل‬
‫اإلله‪ ،‬وفيما بعد كان على داروين أن يجعل من اإلل ه ع امال هامش يا بخص وص خل ق الع الم‬
‫واإلنس انية‪ ،‬فب دا العلم هك ذا كمعرف ة نقدي ة ومح ررة لإلنس انية من ج بروت الخراف ة ال تي‬
‫بوجودها في نس ق الفك ر ال ديني ش كلت المفت اح والدعام ة اإليديولوجي ة للنظ ام االجتم اعي‬
‫السابق‪ .‬إن نمط اإلنتاج المؤسس على الرأسمالية يستلزم تجدي دا مس تمرا على جمي ع أص عدة‬
‫الحياة كخلق موضوعات جديدة وأفكار جديدة وتقنيات جدي دة وأش كال اجتماعي ة جدي دة‪ .‬إن ه‬
‫يتطلب كما يقول ماركس "تطور علوم الطبيعة إلى أقصى درجاتها "‪.‬‬

‫ويستمر ماركس موضحاكيف تصبح شروط العلم هاته ق وة منتجة مباشرة بقوله إن الطبيع ة‬
‫ال تنتج ال اآلالت والالقاطرات وال السكك الحديدية وال التلغراف وال الجرارات ‪. . .‬إلخ‪ ،‬إنه ا‬
‫منتجات الصناعة اإلنس انية من م واد طبيعيةمحول ة إلى أدوات‪ ،‬من إرادة إنس انية مفروض ة‬
‫على الطبيعة‪ ،‬أو من المساهمة اإلنسانية داخل الطبيع ة‪ ،‬إنه ا أدوات العق ل اإلنس اني مبتك رة‬
‫بفضل يد اإلنسان وقدرة الموضعة في المعرفة اإلنسانية‪ .‬إن تطور الرأسمال الثابت يشير إلى‬
‫أي م دى تح ولت المعرف ة االجتماعي ة إلى ق وة منتج ة مباش رة‪ ،‬وبالت الي‪ ،‬إلى أي درج ة تم‬
‫إخضاع شروط مسار الحياة االجتماعية ذاتها لرقابة ال ذكاء الع ام‪ ،‬وكي ف تم تحويله ا بش كل‬
‫موافق لها"‪ ،‬فليس العلم بمعنى عام غير منفصل عن سيرورة اإلنتاج‪.‬‬

‫تنوع العلوم وتقاطعها في لب التساؤل االبستمولوجي‬

‫قمنا لحد اآلن بفحص للعلم في وحدته‪ ،‬غير أن التشتت المطرد للعلوم يض طرنا للتس اؤل عن‬
‫عالق ات القراب ة ال تي تق وم فيم ا بينه ا في مجموعه ا‪ ،‬وعن االختالف ات ال تي تعم ل على‬
‫تعارضها فيما بينها‪ .‬إن تصنيف العلوم هو إذن ‪،‬وب ادئ ذي ب دء‪ ،‬ض رورة إبس تمولوجية تتم‬
‫بتحديد مواقع العلوم في عالقاتها ببعضها‪ ،‬أي ضرورة القيام بتصنيف للعلوم‪.‬‬

‫يمكن إجمال معايير التصنيف في ثالثة‪:‬‬

‫يمكن تص نيف العل وم إم ا حس ب موض وعها )مثال تمي يز التجريب يين بين العل وم‬ ‫‪-1‬‬
‫الصورية‪ :‬المنطق والرياضيات‪ ،‬وعلوم الطبيعة‪ :‬الفيزي اء ـ الكيمي اء ‪ ،‬البيولوجي ا‬
‫‪ . . .‬إلخ‪ ،‬والعلوم اإلنسانية‪ :‬علم النفس ‪،‬علم االجتماع ‪ ...‬إلخ( ‪.‬‬
‫أو حسب مناهجها من خالل التمييز بين العلوم الفرضية االستنتاجية كالرياضيات‬ ‫‪-2‬‬
‫والمنط ق‪ ،‬وعل وم المالحظ ة كعلم الفل ك‪ ،‬علم النب ات‪ ...‬إلخ‪ ،‬والعل وم التجريبي ة‬
‫كالفيزياء والبيولوجي ا وعلم النفس‪ ...‬إلخ ‪ -3‬أو حس ب وض عيتها‪ ،‬مثال التمي يز‬
‫فيما بين علوم تصنيفية كعلم الحيوان أو علم الفطريات‪ ...‬إلخ‪ ،‬العل وم االس تقرائية‬
‫كالفيزياء ما قب ل الكالس يكية‪ ،‬وربم ا الي وم علم االجتم اع األم بريقي وعلم النفس‬
‫التحليلي ‪،‬العلوم االستنتاجية كالفيزياء الكالس يكية‪ ،‬البيولوجي ا المعاص رة‪ ...‬إلخ‪،‬‬
‫والعلوم األكسي ومية‪ :‬كالرياضيات والفيزياء المعاصرة ‪.‬‬

‫وكيفما كان المعيار المستخدم فإننا نرى كيف تنبثق من كل ه ذه التص نيفات فك رة التراتبي ة‪،‬‬
‫وإعطاء قيمة لعلوم معينة على حس اب عل وم أخ رى‪ ،‬وه ذا أيض ا ب ديهي بالنس بة للتص نيف‬
‫حسب النتائج الذي ينتصر للتجريب )وهي الصفة المرفوضة فيما يبدو بشكل قطعي ومتعسف‬
‫لعلوم معين ة أثبتت وجوده ا كعلم الفل ك ب النظر لطبيعت ه(‪ ،‬وأيض ا بالنس بة للتص نيف حس ب‬
‫الوض عيات ال ذي يعطي للفيزي اء خاص ية االمتي از لجه وده ال تي تس تحق ذل ك في مج ال‬
‫الصورنة‪ ،‬وهذايصدق أيضا‪.‬‬
‫تصنيف "أوغست كونت" ‪) Auguste Comte‬تصنيف العلوم حسب تعقد الظواهر التي‬
‫تدرسها(‪:‬‬

‫في كتابه "دروس في الفلسفة الوضعية"‪ ،‬ينطل ق "أوغس ت ك ونت" من فك رة أن ه للحص ول‬
‫على تصنيف طبيعي وإيجابي )وضعي( للعلوم األساسية‪ ،‬يجب أن نبحث عن مب دأ التص نيف‬
‫من خالل مقارب ة مختل ف الظ واهر ال تي تهتم به ا العل وم للكش ف عن قوانينه ا‪ ،‬وم ا نري د‬
‫توضيحه هو التعالق الواقعي بين مختلف األبح اث العلمي ة ‪ ،Pluridisciplinarité‬والح ال أن ه ال‬
‫يمكن أن ينتج هذا االعتماد المتبادل إال من تعالق الظواهر المقابلة له ذه األبح اث‪) .‬المقص ود‬
‫بالتعالق هنا هو االعتماد المتبادل بين العلوم المختلف ة بعض ها على بعض‪ ،‬بمع نى أن علم م ا‬
‫تتعلق نتائجه ومناهجه وموضوعه بعلم آخر مع احتفاظ كل علم بخصوصيته الجوهرية( ‪.‬‬

‫وبأخذنا بعين االعتبار لكل الظواهر القابلة للمالحظ ة‪ ،‬ومن زاوي ة النظ ر هات ه‪ ،‬س نرى أن ه‬
‫يمكن تصنيفها في عدد قليل من الدرجات الطبيعية‪ ،‬مرتب ة بطريق ة تجع ل الدراس ة العقالني ة‬
‫لكل صنف دراس ة مؤسس ة على معرف ة الق وانين األساس ية للص نف الس ابق‪ ،‬وتص ير ب ذلك‬
‫أساس دراسة الصنف الالحق‪ .‬وهذا النظ ام وال ترتيب ه و مح دد بدرج ة البس اطة أو بدرج ة‬
‫عمومية الظواهر‪ ،‬حيث ينتج تعالقها المتتابع كنتيجة البساطة األكبر أو األصغر لدراستها‪.‬‬

‫إن تأمال أوليا لمجموع الظواهر الطبيعية يدفعنا إلى تقسيمها تبعا للمبدأ الذي أتينا على وضعه‬
‫في صنفين أساسيين كبيرين‪ ،‬يضم األول منهما كل ظ واهر األجس ام الخ ام‪ ،‬في حين يض م‬
‫الثاني كل ظواهر األجسام المنظمة )العضوية(‪.‬‬
‫هذه األخيرة هي بالفعل أكثر تعقدا أو خصوصية من األخرى‪ .‬ومن هنا ضرورة ع دم دراس ة‬
‫الظواهر الفيزيولوجية إال بعد دراسة ظواهر األجسام غير العضوية ‪.‬‬

‫لننتقل اآلن إلى التحديد األساسي للتصنيف الموالي الذي يحتمله‪ ،‬تبع ا لنفس القاع دة‪ ،‬ك ل من‬
‫هذين الصنفين الكبيرين للفلس فة الطبيعي ة‪ .‬ن رى أوال بالنس بة للفيزي اء الالعض وية‪ ،‬وبتقي دنا‬
‫دائما لخاصية العمومية واالعتماد في الظواهر‪ ،‬وج وب تقس يمها إلى قس مين متم ايزين تبع ا‬
‫لكونها تدرس الظواهر العامة للكون‪ ،‬أو بشكل خاص‪ ،‬تلك التي تعرضها األجسام األرض ية‪،‬‬
‫حيث نج د الفيزي اء الس ماوية أو علم الفل ك س واء أك ان هندس يا أم ميكانيكي ا‪ ،‬ثم الفيزي اء‬
‫األرضية‪ .‬وباعتب ار الظ واهر الفلكي ة ظ واهر أك ثر عمومي ة وبس اطة وتجري دا من غيره ا‪،‬‬
‫فبديهي أنه يجب أن تبتدئ الفلسفة الطبيعية بدراستها؛ ما دامت القوانين التي تخضع لها ت ؤثر‬
‫على قوانين كل الظواهر األخرى‪ ،‬والتي هي ذاتها‪ ،‬وبالعكس من ذلك‪ ،‬منفصلة عنها بصورة‬
‫جوهرية؛ ففي كل ظواهر الفيزياء األرضية نالحظ أوال النتائج العامة للجاذبية الكونية‪ ،‬وك ذا‬
‫بعض النتائج األخرى التي هي خاصة بها‪ ،‬والتي تـ عدل األولى‪.‬‬

‫وتندرج الفيزياء األرضية بدورها في صنافة أدنى‪ ،‬تبعا لنفس المبدأ‪ ،‬في قسمين مختلفين جدا‬
‫تبعا لما إذا كنا نتأمالألجسام من زاوية نظر ميكانيكية أم من زاوي ة نظ ر كيميائي ة‪ ،‬أي حيث‬
‫تتأتى الفيزياء بالمعنى التام للكلمة ثمالكيمياء‪ .‬ولكي يتم تصور ذلك بص ورة منهجي ة حقيقي ة‪،‬‬
‫يفترض بالبداهة وجود معرف ة س ابقة ]العلم الس ابق[؛ ذل ك ألن ك ل الظ واهر الكيميائي ة هي‬
‫بالضرورة أكثر تعقيدا من الظواهر الفيزيائية‪ ،‬وهي تتوقف عليها ب دون أن ت ؤثر فيه ا ‪.‬وك ل‬
‫منا يعرف بالفعل أن كل تفاعل كيميائي هو خاضع أوال لتأثير الثق ل والح رارة والكهرب اء ‪...‬‬
‫إلخ‪ ،‬ويعرض زيادة على ذلك شيئا ما خاصا‪ ،‬يعدل حركة العناصر السابقة‪.‬‬

‫تعرض كل الظواهر الحية نظامين أو نوعين من الظواهر المتميزة جوهريا‪ ،‬أي تلك المتعلقة‬
‫بالفرد وتلك المتعلقة بالن وع‪ ،‬خصوصا عن دما تك ون قابل ة لالجتم اع‪ ،‬ويعت بر ه ذا التمي يز‬
‫أساسيا وبالخصوص بالعالق ة م ع اإلنس ان؛ فه ذا الن وع أو النظ ام األخ ير من الظ واهر ه و‬
‫بالبداهة أكثر تعقيدا وخصوصية من األول‪ ،‬إنه يتوقف عليه دون أن يؤثر فيه‪ ،‬ومن هن ا ينتج‬
‫قطاعان كبيران بداخل الفيزياء العضوية‪ :‬الفيزيولوجيا بمع نى الكلم ة‪ ،‬والفيزي اء االجتماعي ة‬
‫األولى‪.‬‬ ‫المؤسسة على‬

‫إننا نالحظ أوال في كل الظواهر االجتماعية ت أثير الق وانين الفيزيولوجي ة ل دى الف رد‪ ،‬وف وق‬
‫ذلك ش يئا خاص ا يع دل تأثيراته ا‪ ،‬ويتعل ق بت أثير األف راد على بعض هم البعض‪ ،‬وه و معق د‬
‫باألخص لدى النوع اإلنساني‪ ،‬نتيجة تأثير كل جيل على الجيل الذي يليه‪ .‬من البديهي إذن أن ه‬
‫يجب لكي ندرس الظواهر االجتماعية بشكل مالئم أن ننطلق أوال من مع رفة معمقة بالقوانين‬
‫المتعلقة بالحياة الفردية‪.‬‬

‫كنتيجة لهذه المناقشة‪ ،‬تج د الفلس فة الوض عية ذاته ا مقس مة بش كل ط بيعي إلى خمس ة عل وم‬
‫أساسية‪ ،‬يتحدد تباينها بفعل اعتماد متبادل ض روري وث ابت ومؤس س باس تقالل عن أي رأي‬
‫افتراضي‪ ،‬على مجرد المقارنة المعمقة بين الظواهر المقابلة‪ ،‬وتلك العلوم هي‪:‬‬

‫علم الفلك‬ ‫‪-‬‬


‫الفيزياء‬ ‫‪-‬‬
‫الكيمياء‬ ‫‪-‬‬
‫الفيزيولوجيا‬ ‫‪-‬‬
‫وأخيرا الفيزياء االجتماعية‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫يكتسي تصنيف "كونت "أهمية كبيرة مقارنة بالتصنيفات األخ رى‪ ،‬فه و يص نف الظ واهر‪،‬‬
‫وبالتالي العلوم التي تشكل هذه الظواهر موضوعاتها حسب مستويات مختلفة‪ ،‬من البسيط إلى‬
‫المعقد‪ ،‬وبطريقة تجعلنا عندما نمر من مستوى أدنى إلى مس توى أعلى نج د مس بقا الظ واهر‬
‫مفسرة جزئيا ولن يتبقى أمام العلم من المستوى األعلى إال تقرير العالقاتالخاص ة القائم ة بين‬
‫الظواهر التي يدرسها‪.‬‬

‫إن التص نيف الكون تي في حقيقت ه التاريخي ة‪ ،‬كم ا في أش كال اس تغالله الالحق ة ه و وكك ل‬
‫تصنيف آخر‪ ،‬ليس محايدا‪ .‬وهو ككل تصنيف‪ ،‬كما سبق وقلنا يخفي تراتبية معينة؛ وتص نيف‬
‫"أ وغست كونت" هو بدون شك أحسن األمثلة على ذلك؛ ففي الوقت الذي ي دعي في ه أن ه ذا‬
‫التصنيف إيجابي ووضعي‪ ،‬بمعنى أنه محرر من كل ميتافيزياء‪ ،‬أو متطابق في نفس اآلن مع‬
‫تراتبية الوقائع المدروسة من قبل العلوم ومع التطور التاريخي لهذه األخيرة‪ ،‬فإنه كان موجها‬
‫بش كل كلي لكي يجع ل من السوس يولوجيا )الفيزي اء االجتماعي ة( التت ويج واالكتم ال بالنس بة‬
‫للمعرفة العلمي ة‪ ،‬وه ذا تحدي دا م ا يقودن ا إلى التس اؤل عن وض عية العل وم اإلنس انية ض من‬
‫تراتبية تصنيف العلوم‪.‬‬

You might also like