Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 14

‫المقدمه ‪:‬‬

‫الفتح اإلسالمي لبالد المغرب‬


‫الَف ْت ُح اإلْس اَل ِم ُّي ِللَم ْغ ِر ِب أو الَغ ْز ُو اإلْس اَل ِم ُّي ِللَم ْغ ِر ِب ‪ ،‬وفي بعض المصادر ذات الصبغة القومَّية ُخ ُصوًص ا ُيعرُف‬
‫هذا الحدث باسم الَفْت ُح الَع َر ِبُّي ِللَم ْغ ِر ِب ‪ ،‬هو ِس لسلٌة من الحمالت والمعارك العسكرَّية التي خاضها الُمسلمون تحت‬
‫راية دولة الِخالفة الراشدة ُثَّم الدولة اُألموَّية ضَّد اإلمبراطورَّية البيزنطَّية ومن حالفها من قبائل البربر‪ ،‬على مدى‬
‫‪ 66‬سنة تقريًبا وانُتزعت على إثرها واليات شمال أفريقيا الرومَّية الباقية من يد البيزنطيين ودخلت في دولة‬
‫اإلسالم نهائًّي ا‪.‬‬
‫بدأت عملَّيات فتح المغرب في عهد الخليفة الراشد ُعمر بن الخَّط اب‪ ،‬عندما ُفتحت برقة وكانت تتبع والية مصر‬
‫الرومَّية‪ ،‬وطراُبلس على يد الصحابي عمرو بن العاص‪ .‬ولم يأذن ُعمر للُمسلمين بالتوُّغ ل أكثر بعد هذه الُنقطة‪،‬‬
‫ُمعتبًر ا أَّن تلك البالد ُمفِّر قة وُمشتتة للُمسلمين‪ ،‬كونها مجهولة وليس لهم عهٌد بها بعد‪ ،‬وُد خولها سيكون ُمغامرة قد ال‬
‫تكون محمودة العواقب‪ .‬وفي عهد الخليفة ُعثمان بن عَّفان سار الُمسلمون أبعد من برقة وفتحوا كامل والية إفريقية‬
‫الرومَّية‪ .‬توقفت حركة الُفتوح على الجبهة األفريقَّية الشمالَّية بعد مقتل ُعثمان النشغال الُمسلمين في إخماد وتهدئة‬
‫الفتن التي قامت بعد ذلك وطيلة عهد اإلمام علّي بن أبي طالب‪ ،‬ولم تستمر حركة الُفتوح والجهاد ضَّد ما تبَّقى من‬
‫مراكز القوى البيزنطَّية في شمال أفريقيا إاَّل بعد قيام الدولة اُألموَّية‪ ،‬فكانت في بدايتها حركة خجولة‪ُ ،‬ثَّم لَّما ابتدأ‬
‫العهد المرواني وهدأت أوضاع الخالفة اُألموَّية نسبًّي ا‪ ،‬وجد الخليفة اُألموي عبُد الملك بن مروان ُمتسًع ا من الوقت‬
‫ِليقوم بأعماٍل حربَّية في المغرب‪ ،‬فتابع الُمسلمون الزحف غرًبا طيلة عهده وعهد خَلِفه الوليد بن عبد الملك‪ ،‬حَّت ى‬
‫سقطت كامل بالد المغرب ِبيد الُمسلمين‪ ،‬وانسحبت منها آخر الحاميات الرومَّية‪ ،‬وأطاعت كاَّفة قبائل البربر‬
‫وانطوت تحت جناح الَّر اية اُألموَّية‪.‬‬
‫أقبل البربر على اعتناق اإلسالم ُمنُذ السنوات األولى للفتح اإلسالمي‪ ،‬وانضَّم الكثير منهم إلى الُجيوش الفاتحة‬
‫وشاركوا العرب في الغزوات والمعارك‪ ،‬ضَّد الروم وضَّد بني قومهم الذين لم يدخلوا اإلسالم بعد‪ ،‬واستمَّر البربر‬
‫يدخلون في اإلسالم تباًعا مع تقدم الُفتوحات‪ ،‬حَّت ى انتهى أكثرهم إلى ُقبول اإلسالم‪ ،‬وبقيت قَّلة صغيرة‬
‫على المسيحَّية واليهودَّية والوثنَّية‪ .‬كذلك‪ ،‬أَّث رت الُفتوحات في المغرب على ديُمغرافيا شبه الجزيرة العربَّية‪ ،‬إذ‬
‫فرغت بعض الُقرى والبلدات في الحجاز واليمن من أهلها بعد أن هاجروا ُك لهم للجهاد واستقَّر وا في البالد المفتوحة‬
‫حديًث ا ُثَّم التحقت بهم عائالتهم‪ ،‬ومن أبرز هؤالء بنو هالل القيسّيون‪ .‬ومع ُمرور الزمن‪ ،‬ونتيجة التثاقف واالختالط‬
‫طويل األمد‪ ،‬استعرب الكثير من البربر‪ ،‬وباألخص سكنة الُمدن منهم‪ ،‬واستمَّر قسٌم آخر وباألخص سكنة األرياف‬
‫يحتفظون بهوَّيتهم القومَّية الخاَّصة‪ .‬وقد ظهرت عبر التاريخ اإلسالمي للمغرب العديد من الُسالالت الحاكمة‬
‫البربرَّية التي حملت لواء الدفاع عن اإلسالم والُمسلمين‪ ،‬مثل الُمرابطين والُموحدين‪ ،‬كما أصبح المغرب أحد‬
‫مراكز الثقل اإلسالمي في العالم‪.‬‬
‫فتح المغرب‪ ..‬لماذا كان األصعب في تاريخ اإلسالم العسكري؟‬
‫كانت الفتوحات اإلسالمية للمغرب هي األصعب واألطول‪ ،‬في تاريخ الفتوحات اإلسالمية كلها‪ .‬فعلى رمال‬
‫صحاري بالد المغرب المترامية‪ ،‬وفي سهولها الفسيحة‪ ،‬وجبالها الشاهقة‪ ،‬خاض المسلمون عشرات المعارك‪،‬‬
‫وبذلوا أروع صور الجهاد في سبيل هللا‪ ،‬وفقدوا عشرات اآلالف من خيرة الرجال‪ ،‬من الصحابة ‪-‬رضي هللا عنهم‪-‬‬
‫والتابعين ووجوه العرب‪ .‬فمن المعروف أن العرب افتتحوا العراق والشام ومصر‪ ،‬في مدة ال تزيد عن ‪10‬‬
‫سنوات‪ ،‬أما هذه البالد‪ ،‬فقد استغرق فتحها زهاء ‪ 70‬عاما‪ ،‬من ‪23‬هـ حتى نهاية العقد التاسع الهجري‪.‬‬

‫كان البيزنطيون يريدون االحتفاظ بأفريقيا بأي ثمن‪ ،‬بعد أن طردهم المسلمون من مصر والشام‪ ،‬ولما كانت القوى‬
‫البحرية اإلسالمية بأفريقيا ال تزال ضعيفة‪ ،‬فقد تعرض المسلمون لضربات قاسية من األسطول البيزنطيقادة الفتح‬
‫اإلسالمي للمغرب‬

‫عمرو بن العاص (‪23‬هـ)‪ :‬وهو الذي دشن الفتوح في المغرب‪ ،‬وفتح برقة وطرابلس وفزان‪ ،‬قبل أن‬ ‫‪‬‬
‫يوقف الفاروق محاولة الفتح في هذه الجهة‪ ،‬ويقول كلمته المأثورة‪ ،‬إنها مفرقة فلن تغزوها ما بقيت‪.‬‬
‫عبد هللا بن سعد بن أبي سرح (‪27‬هـ)‪ :‬فاتح أفريقيا (تونس)‪ ،‬وبطل معركة سبيطلة الحاسمة‪ ،‬التي أنهت‬ ‫‪‬‬
‫وجود الروم البري في أفريقيا إلى األبد‪ ،‬وذلك في خالفة عثمان‪.‬‬
‫معاوية بن حديج السكوني (‪45‬هـ)‪ :‬فاتح بنزرت‪ ،‬وسوسة‪ ،‬وجلوالء‪ ،‬وذلك في خالفة معاوية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫عقبة بن نافع الفهري‪ :‬البطل الشجاع‪ ،‬رائد الفتوح المنظمة بالمغرب‪ ،‬والشخصية األبرز في فتوح‬ ‫‪‬‬
‫المغرب‪ ،‬وباني مدينة القيروان الخالدة‪ ،‬وذلك سنة ‪50‬هـ في خالفة معاوية‪ ،‬ثم سنة ‪62‬هـ في خالفة‬
‫يزيد‪.‬‬
‫أبو المهاجر دينار (‪55‬هـ)‪ :‬فاتح المغرب األوسط‪ ،‬حتى تلمسان‪ ،‬وذلك في خالفة معاوية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫زهير بن قيس البلوي (‪69‬هـ)‪ :‬وهو قائد المعركة الحاسمة في أفريقيا ضد البربر‪ ،‬التي قضت على‬ ‫‪‬‬
‫كسيلة‪ ،‬شيخ قبيلة أوربة الموالي للروم‪ ،‬والخصم العنيد للمسلمين‪ ،‬وذلك في خالفة عبد الملك‪.‬‬
‫حسان بن النعمان الغساني (‪74‬هـ)‪ :‬وهو الذي قضى على الكاهنة‪ ،‬في جبال أوراس بالمغرب األوسط‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫حيث كانت المقاومة األصعب التي واجهها المسلمون بالمغرب‪ ،‬وهو ‪-‬أيضا‪ -‬فاتح مدينة قرطاجة‬
‫الشهيرة‪ ،‬ومؤسس البحرية اإلسالمية بتونس‪ ،‬وذلك في خالفة عبد الملك‪.‬‬
‫موسى بن نصير (‪86‬هـ)‪ :‬وهو الذي أنجز المرحلة النهائية في فتوح المغرب‪ ،‬والتقدم نحو المحيط‬ ‫‪‬‬
‫األطلسي‪ ،‬واستكمل أطول فتح في تاريخ اإلسالم العسكري‪ ،‬ووضع أسس التقسيم اإلداري للمغرب‪،‬‬
‫وأرسى روح التالحم بين العرب والبربر‪ ،‬في إطار اإلسالم‪ ،‬وذلك في خالفة الوليد‪.‬‬

‫أسباب تلك المصاعب‬ ‫‪‬‬

‫وترجع المصاعب التي واجهها العرب أثناء فتحهم للمغرب‪ ،‬والمدة الطويلة التي استغرقها هذا الفتح‪ ،‬إلى أسباب‬
‫عدة؛ منها‪:‬‬

‫سعة بالد المغرب ووعورة تضاريسها‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫فالمغرب عبارة عن منطقة جبلية شاسعة تمتد من الشرق إلى الغرب (حوالي ‪ 4000‬كم) يحيط بها البحر المتوسط‬
‫شماال‪ ،‬والمحيط األطلسي غربا‪ .‬كذلك تحدها من الشمال سلسلة جبال الريف‪ ،‬التي تمتد من المحيط األطلسي إلى‬
‫قرب تلمسان (قاعدة المغرب األوسط) شرقا‪ .‬أما في الجنوب فهناك سلسلة جبال أطلس التي تمتد من المغرب‬
‫األقصى إلى المغرب األدنى‪.‬‬

‫كثرة قبائلها وبسالتها وعنفها في القتال‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫فإن ساكن هذه األوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات‪ ،‬فلم ُيغن فيهم الغلب األول الذي كان البن أبي سرح عليهم‬
‫شيئا‪ ،‬وعاودوا بعد ذلك للثورة والردة مرة بعد أخرى‪ ،‬وعظم اإلثخان من المسلمين فيهم‪ ،‬حتى قيل‪ ،‬إن البربر‬
‫ارتدت ‪ 12‬مرة‪ ،‬ولم تستقر كلمة اإلسالم فيهم إال لعهد والية موسى بن نصير‪ .‬فكانت مقاومتهم للمسلمين‪ ،‬ولذا‬
‫كانوا أشد عنفا من مقاومة الفرس والروم المدربين لهم‪.‬‬

‫الغارات البحرية البيزنطية على المسلمين‬ ‫‪‬‬

‫فقد كان البيزنطيون يريدون االحتفاظ بأفريقيا بأي ثمن‪ ،‬بعد أن طردهم المسلمون من مصر والشام‪ ،‬ولما كانت‬
‫القوى البحرية اإلسالمية بأفريقيا ال تزال ضعيفة‪ ،‬فقد تعرض المسلمون لضربات قاسية من األسطول البيزنطي‪،‬‬
‫الذي ركز قواه هناك‪ .‬لكون اإلمبراطور قسطنطين خليفة هرقل‪ ،‬بعد أن هزمه المسلمون في وقعة ذات الصواري (‬
‫‪ 34‬هـ)‪ ،‬نقل مقره إلى صقلية لحماية األم (روما)‪ ،‬قبل حماية البنت (القسطنطينية)‪.‬‬

‫قلة أعداد العرب الفاتحين وبعدهم عن قواعدهم‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫فقد كانت قلة أعداد المسلمين الفاتحين في المغرب‪ ،‬بالنسبة لمساحة البالد الشاسعة‪ ،‬وكذلك بالنسبة لكثافة سكانها‪،‬‬
‫تحول بينهم وتحويل فتوحاتهم إلى فتوح ثابتة ومستقرة‪ ،‬كما أن بعدهم عن مركزهم في الجزيرة العربية والشام‪ ،‬بل‬
‫وحتى في مصر‪ ،‬كان يحرمهم من المدد الواسع الكثيف‪.‬‬

‫الحروب األهلية التي لفحت دولة الخالفة بنيرانها‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫وذلك بعد مقتل الخليفة عثمان ‪-‬رضي هللا عنه‪ ،-‬ثم تجدد هذه الحروب بعد وفاة معاوية‪ ،‬وانتقال الخالفة بالوراثة‬
‫إلى ابنه يزيد‪ ،‬هذا األخير الذي لم يكن محّل إجماع المسلمين‪ .‬وقد نتج عن هذه الحروب إيقاف الفتح في المغرب‬
‫مرتين‪ ،‬ولسنوات عدة في المرة األولى‪ ،‬ولسنوات عدة في المرة الثانية‪.‬‬
‫أكرم هللا العرب المسلمين بعد تلك التضحيات الكبيرة التي قدموها في فتح المغرب بفتح إسبانيا‪ ،‬التي أدى البربر‬
‫الذين آمنوا بدين هللا بصدق وحمية‪ ،‬وانتقلوا من الهامشية إلى الفاعلية‪ ،‬دورا كبيرا وملموسا في فتحها‬

‫نتائج الفتح اإلسالمي للمغرب‬


‫على أن جهود العرب المسلمين وتضحياتهم الجسيمة في فتوح المغرب‪ ،‬التي لم يضحوا بمثلها في أي بلد آخر‬
‫فتحوه‪ ،‬لم تذهب سدى‪ ،‬وبفضلها دانت كل بالد المغرب لحكم اإلسالم‪ ،‬ودخل البربر أفواجا في دين هللا‪ .‬ولم يكتمل‬
‫القرن األول الهجري‪ ،‬حتى كانوا قد صاروا جميعا مسلمين صادقين في إسالمهم‪ ،‬ومتحمسين لرفع رايته‪ ،‬أكثر من‬
‫تحمس العرب أنفسهم‪ ،‬بل وتعّر بوا وصاروا يتحدثون العربية لغة القرآن والسنة‪ ،‬ويكتبون بها ويخطبون بها‬
‫بفصاحة‪ ،‬واكتسبوا ما تفيده تلك اللغة من تفكير وتعبير‪ ،‬فصارت لهم العقلية العربية نفسها‪ ،‬وصار يوجد فيهم‬
‫الفقهاء والشعراء والخطباء‪.‬‬

‫كذلك صارت حياتهم ومعامالتهم قائمة على أساس الشريعة اإلسالمية‪ .‬ولوال اإلسالم لما بقيت للعروبة بقية في هذه‬
‫الربوع‪ ،‬التي ظلت على مّر العصور هدفا للحمالت الصليبية المتعاقبة‪ ،‬وحسبك ‪ 130‬عاما استيطانا مسعورا‪،‬‬
‫وتغريبا مسموما‪ ،‬وفرَن َس ة حاقدة في الجزائر‪ .‬ودخول العروبة إلى هذه الربوع في ظل اإلسالم‪ ،‬هو الذي ضمن لها‬
‫المقومات األساسية‪ ،‬من لغة وحضارة‪ ،‬وفكر وثقافة‪ ،‬ودعم هذه المقومات بالروح والعقيدة‪ .‬ومن هذا المنطلق‪ ،‬حفظ‬
‫اإلسالم للعروبة في شمال أفريقيا مواقف وبطوالت على مر العصور‪ ،‬وأنجب لها أبطاال وقادة وُبناة حضارة‪.‬‬

‫كما أكرم هللا العرب المسلمين بعد تلك التضحيات الكبيرة التي قدموها في فتح المغرب‪ ،‬التي ُتّو جت بإسالم هذا‬
‫الشعب األبّي الشجاع (البربر)‪ ،‬بفتح إسبانيا التي أّد ى البربر ‪-‬الذين آمنوا بدين هللا بصدق وحمية‪ ،‬وانتقلوا من‬
‫الهامشية إلى الفاعلية‪ -‬دورا كبيرا وملموسا في فتحها‪ ،‬من خالل حملة عسكرية‪ ،‬كان على رأسها طارق بن زياد‬
‫البربري‪ ،‬وذلك حبا للعقيدة وتضحية من أجلها‪ ،‬ال طمعا في مغنم‪ ،‬أو حرصا على جاه‪.‬‬

‫ُنبوءة فتح المغرب في الُم عتقد اإلسالمي‬


‫ُيؤمن الُمسلمون بأَّن الرسوَل ُمحَّمدًا تنبأ وبَّش ر ِبفتح المغرب قبل ُحصول هذا األمر ِبسنواٍت عديدٍة‪ ،‬ووردت في ذلك‬
‫عَّد ة أحاديث‪ ،‬ومن ذلك حديٌث رواه اإلمام ُمسلم بن الحَّج اج في صحيحه عن جابر بن سُمرة عن نافع بن ُعتبة عن‬
‫الرسول أَّن ُه قال‪َ« :‬تْغ ُز وَن َج ِز يَر َة اْلَعَر ِب َف َي ْف َت ُح َه ا ُهللا‪ُ ،‬ثَّم َف اِر َس َف َي ْف َت ُح َه ا ُهللا‪ُ ،‬ثَّم َتْغ ُز وَن الُّر وَم َف َي ْف َت ُح َه ا ُهللا‪ُ ،‬ثَّم َتْغ ُز وَن‬
‫الَّد َّج اَل َف َي ْف َت ُحُه ُهللا»‪ ،‬ومن المعروف أَّن المغرب كان ُجزًءا من بالد الروم‪ ]1[.‬كذلك‪ ،‬تفَّر د الُمؤِّر خ المغربي أبو‬
‫العَّباس أحمد بن خالد الناصري ِبذكره ُنبوءة ُمخصصة تتناول فتح المغرب وحده في ُم ؤَّلفه حامل عنوان‬
‫«االستقصا أِل خبار دول المغرب األقصى»‪ ،‬فأورد قَّص ًة مفادها أَّن الرسول ُمحَّم ًد ا تنَّبأ بفتح المغرب‬
‫وإسالم البربر واشتراكهم مع سائر الُمسلمين في التمكين للدين الجديد‪ ،‬فقال أَّن ه خالل خالفة ُعمر بن الخَّط اب‪،‬‬
‫وبعد تمام فتح مصر‪ ،‬أتى سَّت ٌة من البربر ُم حِّلقين الُرؤوس واللحى إلى عمرو بن العاص وقالوا له أنهم رغبوا في‬
‫اإلسالم ألَّن ُجدودهم أوصوهم بذلك‪ ،‬فوجههم عمرو إلى ُعمر في المدينة الُم نَّو رة‪ ،‬ولَّما أتوه تحدثوا معه عن طريق‬
‫ُترجمان كونهم ال يعرفون العربَّية‪ ،‬فسألهم‪َ« :‬م ن َأْنُتم؟»‪ ،‬قالوا‪َ« :‬ن حُن َب نو َم اِز َي غ»‪ ،‬فقال ُعمر ِلُجلسائه‪َ« :‬ه ل‬
‫َس ِمْع ُتْم َقّط ِبِه ُؤ اَل ء؟» فقال شيٌخ من ُقريش‪َ« :‬ي ا َأِمير اْلُمؤمِنيَن َه ُؤ اَل ِء الَب رَب ِر ِمن ُذ ِّر َّية ِبر بُن َق يٍس بُن ِع ياَل ن خرج‬
‫ُم َغ اِض ًبا َأِلِبيِه َو ِإْخ َو تِه َفَقاُلوا "ِبر ِبر" َأي َأخذ اْلَب رَّية»‪ ،‬فسألهم ُعمر‪َ« :‬م ا َع اَل َمِتُك م ِفي ِباَل دُك ْم ؟» قالوا‪ُ« :‬نْك ِر ُم اْلَخ يَل‬
‫َو ُنِه يُن الِّن َس اء»‪ ،‬فقال لهم ُعمر‪َ« :‬أَلُك م َم َد اِئن؟» قالوا‪ :‬ال‪ ،‬قال‪َ« :‬أَلُك م َأْع اَل ٌم َت ْه َت ُد وَن ِبَه ا؟» قالوا‪ :‬ال‪ .‬فقال ُعمر‪:‬‬
‫«َو هللا َلَقد ُكْن ُت َمَع َر ُسول هللا ﷺ ِفي بعض َم َغ ازيِه َفَن َظ رُت ِإَلى ِقَّلِة اْلَج ْي ِش َو َب َك يُت َفَقاَل لي َر ُسوُل‬
‫هللا ﷺ‪َ" :‬ي ا ُع َم ر اَل َت ْح زن َف ِإَّن هللا َس ُيعُّز َه َذ ا الّد يَن ِبَقوٍم ِمَن اْلَم غِر ِب َلْي َس َلُهم َم َد اِئُن َو اَل ُحُصوٌن َو اَل َأْس َو اُق‬
‫َو اَل َع اَل َم اٌت َي ْه َت ُد وَن ِبَه ا ِفي الُّط ُرق"؛ َف اْلَح ْم د هلل اَّلِذي مَّن َع لَّي ِبُر ؤَيِتِه م»‬
‫أوضاع المغرب ُقبيل الُفتوحات اإلسالمَّية‬

‫الوضع السياسي‬

‫الُحدود التقريبَّية ِلمملكة الوندال في أقصى اتساعها حوالي سنة ‪476‬م‪.‬‬

‫كانت األوضاع السياسَّية في المغرب عشَّية الُفتوحات اإلسالمَّية ُمضطربة نتيجة القالقل والُحروب التي نشبت على‬
‫األراضي المغربَّية بين القبائل الجرمانَّية النازحة من القاَّر ة األوروپَّية والبيزنطيين‪ ،‬وبين البيزنطيين واألهالي‬
‫أنفسهم‪ .‬فقد كانت شمال أفريقيا المغاربَّية ُتشِّك ُل ُجزًءا من اإلمبراطورَّية الرومانَّية ُمنذ سنة ‪ 146‬ق‪.‬م‪ ،‬عندما تمَّك ن‬
‫الرومان من اجتياح وإسقاط مدينة قرطاج خالل أواخر الحرب البونيقَّية الثالثة‪ ،‬والقضاء على الُقَّو ة الُعظمى‬
‫الوحيدة في المنطقة القادرة على ُمنافسة روما وعظمتها‪ُ ،‬محولين جميع المناطق المغاربَّية التي كانت تتبع قرطاج‬
‫إلى والياٍت رومانَّية نمطَّية يحكم ُك ٌل منها «برقنص» (بالالتينية‪ )Proconsul :‬يتبع القيصر الروماني في‬
‫عاصمة ُملكه‪ ،‬وكان عليه جباية الضرائب من الُس َّك ان وإخضاع أي تمُّر د ورد االعتداءات عن ُحدود واليته‪.‬‬
‫واستمَّر ت المغرب خاضعًة للُرومان حَّت ى سنة ‪435‬م تقريًبا‪ ،‬إذ حصل خالل تلك الفترة من التاريخ أن أخذت‬
‫أحالف القبائل الجرمانَّية تتحَّر ك من شمال أوروَّپا ووسطها على ُط ول الُحدود الشمالَّية والشرقَّية لإلمبراطورَّية‬
‫الرومانَّية الغربَّية على طول نهرّي الطونة (الدانوب) والراين‪ ،‬وتمكنت في النهاية من اقتحام أراضي‬
‫اإلمبراطورَّية واحتاللها وتقاُسمها‪ .‬وفي أثناء هذا التحُّر ك الواسع اندفع حلف قبائل الوندال من الشمال إلى وسط‬
‫أوروَّپا‪ ،‬ومنها إلى الغال‪ُ ،‬ثَّم إلى شبه الجزيرة األيبيرَّية حيُث استقَّر ت فترة قصيرة من الوقت‪ُ ،‬ثَّم دفعتها قبائل‬
‫جرمانَّية ُأخرى أهمها السويف واآلالن إلى الجنوب‪ ،‬فاستقَّر ت في الطرف الجنوبي من شبه الجزيرة األيبيرَّية‬
‫جنوبي نهر الوادي الكبير‪ .‬وفي سنة ‪429‬م تقريًبا عبر الوندال إلى المغرب ِبقيادة ملكهم گنسريك‪ ]1 [ْ،‬وبلغت‬
‫أعدادهم وفق بعض المصادر ‪ 80,000‬شخص‪ ]2 [ْ،‬ووفق مصادر ُأخرى تراوحت بين ‪ 15,000‬و‪20,000‬‬
‫شخص‪ ]3 [ْ.‬ولم يحتل الوافدون الُجدد القطر المغربّي ُك َّله‪ ،‬وإَّن ما اقتصرت سيطرتهم على شمال والية إفريقية‪،‬‬
‫وسواحل المغرب األوسط‪ ،‬ومنطقة طنجة‪ ]3[،‬وقد أقاموا في تلك المناطق حوالي القرن من الزمن محوا في أثنائه‬
‫ُمعظم آثار الرومان وحضارتهم في البالد‪ ]4[،‬وأَّد ى هذا االستقالل السياسي عن روما إلى تعاظم ُنفوذ قبائل البربر‬
‫[‪]3‬‬
‫ُخ صوًص ا في المغربين األوسط واألقصى‪ ،‬فكَّو ن الُس َّك اُن مجموعاٍت ُمبعثرٍة انعدمت بينها الوحدة السياسَّية‪.‬‬

‫المغرب وسائر أرجاء اإلمبراطورَّية البيزنطَّية (بالُبرُتقالي الباهت) التي‬


‫استرَّد ها القائد الكبير‬

‫صرد ذهبي يظهر عليه نقٌش للهرقلين األب واالبن‬ ‫بيليساريوس ِللروم‪.‬‬
‫(اإلمبراطور الحًقا)‪ ،‬حاكَم ي إفريقية أواخر عهد القيصر فوقاس‪.‬‬

‫أَّد ت غزوات الجرمان إلى انهيار اإلمبراطورَّية الرومانَّية الغربَّية وانتقال ميراثها العتيق إلى شقيقتها الشرقَّية أو‬
‫البيزنطَّية‪ .‬وعندما توَّلى عرش اإلمبراطورَّية البيزنطَّية القيصر ُجستنيان األَّو ل (‪565 - 527‬م)‪ ،‬أطلق حملًة‬
‫دعاها «استعادة اإلمبراطورَّية» (بالالتينية‪ )Renovatio Imperii :‬هدف من خاللها استعادة كاَّفة األراضي‬
‫الغربَّية لإلمبراطورَّية الرومانَّية السابقة‪ ]4 [ْ،‬وفي ُمقدمتها إفريقية والمغربين األوسط واألقصى‪ .‬فأرسل حملًة‬
‫عسكرَّي ًة كبيرة على رأسها القائد المشهور بيليساريوس في شهر أيلول (سپتمبر) ‪533‬م‪ .‬وبعد قتاٍل عنيٍف بين‬
‫الروم والوندال تمَّك ن بيليساريوس من القضاء على المملكة الوندالَّية واستعاد للروم إفريقية وما تيسر له من سواحل‬
‫المغرب ُو صواًل إلى سبتة‪ ]4[.‬وقد حسب ُجستنيان ‪ -‬بعد أن أنهى أمر الوندال في شهر كانون األَّو ل (ديسمبر)‬
‫‪533‬م ‪ -‬أَّن ُه يستطيع إحياء الُسلطان الروماني القديم وما يتبعُه من مظاهر حضارَّية مثل تجديد الُمنشآت الرومانَّية‬
‫من ُمعسكرات ومالعب وُحصون وقالع وكنائس‪ ،‬ولكن تبَّين لُه أَّن زمان ذلك ُك َّله كان قد وَّلى بال رجعة‪ ،‬فقد‬
‫استقَّل البربر في الداخل استقالاًل تاًما وأصبحوا ال ُيدينون بالوالء إاَّل لقبائلهم وعشائرهم‪ ،‬وارتَّد الكثيرون منهم‬
‫عن المسيحَّية‪ ،‬وتضاَّمت ُصفوف جماعاتهم القبلَّية ِلصد أَّي ُمحاولٍة رومَّية للتدخل في شؤونهم‪ ،‬وُهدمت أو انهارت‬
‫الكثير من اآلثار الرومانَّية في بالدهم‪ ،‬وبالتالي اقتصر ُسلطان البيزنطيين على ما كان ِلقرطاج القديمة‪ ،‬وهو‬
‫الساحل الشمالّي إِل فريقية وما جاورها من المناطق التي فتحها بيليساريوس‪ ]4[.‬وفي السنوات القليلة التي سبقت الفتح‬
‫اإلسالمي‪ ،‬عّين قيصر الروم اإلمبراطور موريس أحد قادته العسكريين‪ ،‬وُيدعى هرقل‪ ،‬قائًد ا أعلى على المغرب‪،‬‬
‫بُرتبة بطريرك‪ ،‬وكان ذلك سنة ‪600‬م‪ُ .‬ثَّم حصل أن ُخ لع القيصر ساِلف الِذكر وُقتل على يد أحد ُضَّباطه الثانويين‬
‫وُيدعى «فوقاس»‪ُ ،‬ثَّم ترَّبع هذا على عرش اإلمبراطورَّية‪ ،‬وكان ُمستبًد ا غاشًما تدهورت خالل عهده أوضاع‬
‫اإلمبراطورَّية البيزنطَّية بشكٍل كبير‪ ،‬األمر الذي دفع هرقل حاكم إفريقية إلى إعالن العصيان‪ُ ،‬ثَّم دَّبر ُمؤامرة ِلخلع‬
‫اإلمبراطور‪ ،‬وشَّج عُه في ذلك موقف سكان شمال إفريقيا من البربر الذين أّيدوه نظًر ا ِلُحكمه العادل ُمقارنًة مع باقي‬
‫الًح َّك ام السابقين‪ ،‬فأرسل ابنه هرقل األصغر في حملٍة بحرَّيٍة استولت على سالونيك‪ ،‬ومنها سار‬
‫إلى الُقسطنطينَّية حيُث قبض على فوقاس وقطع رأسه وُتِّو ج إمبراطوًر ا سنة ‪610‬م‪ ]5 [ْ.‬شهد المغرب في أَّيام‬
‫اإلمبراطور هرقل عصًر ا من الَّسالم لم يعرفه األهالي من قبل‪ ،‬وتمتع البربر وهم األكثرية في المنطقة بالكثير من‬
‫[‪]4‬‬
‫الُح رَّية واالطمئنان‪ ،‬وعادت المسيحَّية تتسَّر ب إليهم‪.‬‬
‫وفي أواخر عهد هرقل عادت االضطرابات لتنتشر في المغرب‪ ،‬من واقع ُمحاولة الُحكومة البيزنطَّية فرض مذهبها‬
‫على كاَّفة أطياف الشعب‪ ،‬فأخذ البربر واألفارقة يلتفون حول بطاركتهم للدفاع عن عقيدتهم ضَّد اإلمبراطورَّية‪،‬‬
‫وانتهى األمر بأن نهض أحد القادة والقساوسة ُيسَّمى جرجير‪ ،‬واستقَّل عن الدولة وحكم ُمستعيًن ا ببقايا ُجند الروم‬
‫وُجنٍد بربرٍّي ُمرتزق‪ ،‬وضرب العمالت باسمه واتخذ من قرطاج عاصمًة له‪ُ ،‬ثَّم تركها وانسحب إلى الداخل‬
‫وتحَّص ن في ُسبيطلة خوًفا من أي ُهجوٍم رومٍّي ُمحتمل‪ .‬أَّما في بقَّية بالد المغرب فقد تحَّر ر البربر من ُسلطان‬
‫الروم وتالشت المسيحَّية من دواخل بالدهم للمَّر ة الثانية‪ .‬وفي تلك الفترة كان الُمسلمون قد‬
‫[‪]4‬‬
‫فتحوا الَّش ام ومصر وأخذوا يستعدون للسير إلى برقة‪ ،‬وهي مدخل المغرب‪.‬‬
‫الوضع اإلداري‬
‫المقاالت الرئيسية‪ :‬إفريقية الرومانَّية وموريطنية الطنجَّية وموريطنية القيصرَّية وأبرشَّية مصر‬

‫والية إفريقية الرومانَّية‬

‫والية برقة وكريت‬

‫قَّسم الرومان المغرب إلى عَّد ة واليات ُمنذ أَّيام إمبراطوريتهم الُعظمى‪ ،‬فكانت أدنى والياتهم المغربَّية هي‬
‫والية كريت وبرقة (بالالتينية‪ ،)Creta et Cyrene :‬وقد تأسست سنة ‪ 20‬ق‪.‬م واستمَّر ت حَّت ى‬
‫سنة ‪297‬م عندما ُقسمت إلى ُمقاطعتين هي‪ :‬ليبيا الُد نيا (بالالتينية‪ ،)Libya Inferior :‬وليبيا الُقصوى أو‬
‫برقة (بالالتينية‪ ،)Libya Superior :‬وابتداًء من سنة ‪370‬م ُألحقت تلك الُمقاطعتين ِبأبرشَّية مصر‪ ،‬التي كانت‬
‫تابعًة ِبدورها إلى والية الشرق اإلمبراطورَّية وفق ما نَّصت عليه وثيقة الكرامات العرضَّية (بالالتينية‪Notitia :‬‬
‫‪ .)Dignitatum‬تجاورت برقة مع ُمقاطعة طراُبلس (بالالتينية‪ )Tripolitania :‬بدايًة ‪ ،‬وكانت تتبع والية إيطاليا‬
‫اإلمبراطورَّية (بالالتينية‪ ،)Praefectura Praetorio Italiae :‬وفي وقٍت الحق ُألحقت ِبأبرشَّية إفريقية‪ ،‬مع‬
‫استمرار تبعَّيتها إلى والية إيطاليا‪ .‬وُعرفت المنطقة التي تقع جنوبي طراُبلس باسم «فَّز ان»‪ ،‬ولم يكن للروم سيطرة‬
‫ُمباشرة عليها نظًر ا لكونها صحراوَّية وجبلَّية وعرة بأكثر نواحيها‪ ،‬تتخللها بضع واحاٍت وُمستوطنات‪ .‬أَّما أقصى‬
‫المغرب فُقسم إلى ُمقاطعتين‪ :‬موريطنية القيصرَّية‪ ،‬وكانت تتبع أبرشَّية إفريقية كذلك‪ ،‬وموريطنية الطنجَّية التي‬
‫كانت تتبع أبرشَّية هسپانيا‪.‬‬

‫وبعد أن استرَّد البيزنطّيون إفريقية وما تالها من بالد من الوندال‪ ،‬أفردها اإلمبراطور ُجستنيان ِبنظاٍم خاٍص دقيٍق‬
‫من بين أنظمة سائر الواليات‪ ،‬وكان نظامه هذا ينطوي على الكثير من الحرص من أهلها ويرمي إلى جعلها مــورًد ا‬
‫من موارد المال والمؤونة للدولة‪ ،‬فلم تكد بشائر استعادتها ترد عليه حَّت ى رفــع إفريقية إلى مصاف واليات الدولــة‬
‫الُك برى‪ ،‬وأقــام على ُحكومتهــا عــاماًل مــدنًّي ا ال عســكرًّي ا‪ ،‬وأصبحت ُح دودها تمتــد من برقــة شــاملًة طــراُبلس‬
‫الغرب وحوض مجرد وجبال األوراس‪ُ ،‬ثَّم تأخذ في االقــتراب من الســاحل حَّت ى تنتهي عنــد طنجــة وســبتة‪ .‬أَّم ا في‬
‫[‬
‫الجنوب فقد شملت سهل مجرد وهضبة األوراس ُو صواًل إلى تبســة ومســكوال وتمجــاد ولمبــيزة وطبنــة والمســيلة‪.‬‬
‫‪ ]5‬وأقدم ُجستنيان على تقسيم البالد إلى سبعة أقساٍم إدارَّية جديدة هي‪ :‬الوالية الُقنصلَّية (شمال الُجمهورَّي ة الُتوُنســَّية‬
‫الُمعاصرة)‪ ،‬والوالية الداخلَّية (بيزاسيوم)‪ ،‬ووالية طراُبلس‪ ،‬ووالية نوميديا‪ ،‬ووالية ُموريطنية األولى (كالُهمــا في‬
‫شمال الجزائر الُمعاصرة)‪ ،‬ووالية ُموريطنية الثانية (شمال المملكة المغربَّي ة الُمعاصرة)‪ ،‬وســردانية‪ ]5[.‬وقــد امت ـَّد‬
‫ُسلطاُن اإلمبراطورَّية في أَّو ل األمر إلى أبعد من هذا الحد الرسمي‪ ،‬فدخل في طاعتها نفٌر من بدو البربر الضـاربين‬
‫على ُحدود الصحراء الُك برى‪ ،‬وُأقيمت المحارس على ُط ول الرباط األخير لكي تضمن طاعــة هــؤالء للدولــة وتــرد‬
‫عنها أذاهم‪ ،‬ولكَّن ُسلطانها أخذ يضعف شـيًءا فشـيًئ ا‪ ،‬فأخذت تنسـحُب إلى الشـمال‪ ،‬حَّت ى لم يبـق من أمالكهـا آخر‬
‫األمر إاَّل ساحٌل ضِّيق وبضع محارس حصينة في الــداخل‪ ،‬مثل تبســة وُس بيطلة‪ ،‬واحتــَّل الــبربر مــا خال ذلــك من‬
‫ُحصون‪ .‬وكانت برقة البيزنطَّي ة ال تكـاد تعـدو مـدائنها الخمس‪ ،‬وكـذلك طـراُبلس‪ .‬وكـان ُجسـتنيان قــد جمـع ِلحـاكم‬
‫إفريقية ُك ل الُس لطات‪ ،‬فكــان هــذا الحــاكم يحمــل من تبعــات الُحكم فــوق مــا ُيطيق‪ ،‬وكــان ُمثقاًل باأللقـاب وشــارات‬
‫الشرف‪ُ ،‬يرافقُه جيٌش من الُموظفين ويحف به األتباع والخدم‪ ،‬وُأطلقت يده في ُك ل شيء حَّت ى بلغ من اتســاع ُس لطته‬
‫أَّن ُكَّت اب ذلك العصر أعوزهم اللفظ الذي ُيعبرون به عن مقدار الُسلطة التي كــان يتمَّت ع بهــا ذلــك الحــاكم‪ ]5[.‬وُقبيل‬
‫الفتح اإلسالمي ببضع سنوات‪ ،‬أجرى الروم تغييراٍت جديدة على التقسيمات اإلدارَّي ة للمغــرب‪ ،‬فــاقُط تعت طــراُبلس‬
‫وبرقة من إفريقية وُد مجتا مع مصر ُمجــدًد ا‪ ]6 [ْ،‬وُد مجت الُموريطنَّيتــان الســابقتان تحت اســم «موريطنية األولى»‪،‬‬
‫وُد مجت مدينة سبتة مع ُمدن والية إسپانية (جنوب شبه الجزيرة األيبيرَّية) وُجزر البليار ِلُتشـِّك ل والية «موريطنية‬
‫الثانية»‪.‬‬

‫الوضع االقتصادي‬
‫كان اقتصاد الواليات والُمقاطعات المغربَّية البيزنطَّية يقوم على الزراعة‪ ،‬وشَّك لت إفريقية أغنى أقاليم المغرب من‬
‫حيُث الموارد الزراعَّية‪ ،‬كما كانت أكثرها ُس َّك اًن ا وُعمراًن ا‪ ،‬وأرقاها حضارًة‪ ،‬إاَّل أَّن أغلب المزارع الُك برى‪ ،‬كانت‬
‫ُملًك ا أِل ُرستقراطيين روم‪ ،‬وكان األهالي المغاربة يعملون في تلك المزارع وال ينالون ُحقوقهم‪ .‬أَّما الفاَّل حون‬
‫المغاربة‪ ،‬فلم تكن لهم أراضي واسعة‪ُ ،‬ثَّم إنهم ُأثقلوا بالضرائب الُمتنوعة التي ُفرضت عليهم من ِقبل الُحكومة‬
‫المركزَّية في الُقسطنطينَّية‪ ]3[.‬فقد كان الحاكم البيزنطّي ُمكلًفا بأن يجمع من الوالية مااًل طائاًل ‪ ،‬ألَّن األباطرة‬
‫الُمتالحقين كانوا يرغبون ِبترويم هذه المنطقة (صبغها بالصبغة الرومَّية) ِبأسرع وقٍت ُممكن ِلضمان والء أهلها‬
‫لإلمبراطورَّية‪ِ ،‬لُسهولة إمكانَّية استقاللهم وُخ روجهم عن الطاعة ِبسبب ُبعد الوالية عن مركز الُحكم‪ ،‬إضافًة إلى‬
‫االستعانة ِبمواردها‪ ،‬كما بموارد سائر الواليات‪ِ ،‬لتعويض ما ينضب من موارد الدولة ِبسبب الُفتوحات والُحروب‬
‫في أوروَّپا وآسيا‪ .‬وكان على الحاكم كذلك أن ُيرسل إلى العاصمة في ُك ِّل سنة عدًد ا من الُسفن الُمحَّملة بالغالل‬
‫ِلغذاء أهل الُقسطنطينَّية‪ ،‬وِلهذا كان ال ُبَّد من عدٍد كبيٍر من الُموظفين ِلتحصيل هذه الضرائب ُك لها‪ ،‬فكان العبء‬
‫ثقياًل على الواليات المغربَّية الفقيرة‪ ،‬وحَّت ى على إفريقية التي كانت أغناها‪ ،‬وقد قَّد ر الُمؤِّر خ والباحث الفرنسي‬
‫شارل ديل ُمرتبات الموظفين الروم وحدها بما ُيقابلها من الفرنكات الفرنسَّية سنة ‪1898‬م‪ ،‬فقال أنها كانت تبلغ‬
‫‪ 10,299,737‬فرنًك ا‪ ]8 [ْ،‬وقَّد رها الباحث والُمؤِّر ح المصري ُحسين ُمؤنس سنة ‪1947‬م ِبحوالي نصف‬
‫مليون ُجنيه مصري‪ ،‬وهذا بدون احتساب ما ُيرسل ِلخزينة اإلمبراطور الخاَّصة وما ُيدفع ِلُرؤساء البربر وما ُيجمع‬
‫من القمح‪ ،‬وأيًض ا دون تقدير نفقات الجيش البيزنطي الُمرابط في المغرب من سالٍح وُد روٍع ومالبس وغذاء‬
‫وصيانًة للمباني والُحصون واألسوار ودور الصناعة‪ ]5[.‬وقد انتشر الُموظفون البيزنطيون من عاصمة الوالية إلى‬
‫األرياف‪ ،‬فضَّمت ُك ل مدينة فرقة منهم‪ ،‬وقام في ُك ل قرية ُموظٌف واحد‪ ]9 [ْ.‬ولَّما كانت األعباء المالَّية ثقيلة على‬
‫هذه الُصورة‪ ،‬فلم يكن ِبإمكان الحاكم التفُّر غ للقيام ِبُشؤون الُحكم اُألخرى وُمراعاة مصالح المحكومين‪ ،‬انصرف‬
‫ُجهد الُحكومة ُك َّله إلى جمع المال‪ ،‬ومن البديهي أن تعجز الوالية عن الُنهوض بذلك العبء الثقيل‪ ،‬فلجأت الُحكومة‬
‫إلى أخذ الُس َّك ان بالُعنف للُحصول على مالها بالضغط واإلرهاق‪ ،‬فاشتَّط ت مع رعاياها اشتطاًط ا بالًغ ا‪ ،‬فلم يجد‬
‫هؤالء بًد ا من ترك مزارعهم ومتاجرهم والنجاة بأنُفسهم واحتراف الُلصوصَّية وقطع الُط رق واالعتداء على‬
‫اآلمنين‪ ]6[.‬كان نظام الضرائب في إفريقية البيزنطَّية يُد ُّل على استقصاٍء ُمنَّظ ٍم شامل ِلُك ل موارد البالد‪ ،‬فتتَّبع‬
‫الُمشِّر ع الرومي الثروة الخاَّصة في ُك ل ناحية وأثقلها بالمال‪ ،‬فُفرضت على الُممتلكات العقارَّية ضريبتا الدخل‬
‫والرأس‪ ،‬وُقِّد رت الُفروض الُمختلفة على الزراعة والتجارة والجمارك والمالحة‪ ،‬وبلغ من اهتمام الُحكومة‬
‫بالضرائب أن كان ُخ مسا الُموظفين ُمختصين بالتحصيل وأكثر من النصف يقومون ِبُشؤون المال‪ ]10 [ْ.‬وقد كان‬
‫معقواًل أن يصلح هذا النظام في واليٍة غنَّيٍة كمصر تكفي مواردها ِلسد المطالب الُحكومَّية ُك لها‪ ،‬أَّما إفريقية الفقيرة‬
‫‪.‬فال ِقبل لها ِبذلك‬

‫الوضع الديني‬

‫أطالل إحدى الكنائس البيزنطَّية القديمة في ُتوُنس‪.‬رسٌم تخُيلّي‬

‫للقِّد يس قبريانوس القرطاجي‪ُ ،‬مؤسس الكنيسة اإلفريقَّية‪.‬‬

‫كان المغرب أحد أكثر بالد اإلمبراطورَّية البيزنطَّية تنوًعا‬


‫من حيُث الدين‪ ،‬فكان قسٌم من سَّك انه‪ ،‬وأغلبهم من البربر‪،‬‬
‫وثنيين يعبدون عددًا من اآللهة أو‬
‫عناصر الطبيعة‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫ات‪،‬‬ ‫وف‪ ،‬والغاب‬ ‫ال‪ ،‬والكه‬ ‫ر‪ ،‬والجب‬ ‫ار‪ ،‬والبح‬ ‫ر‪ ،‬والن‬ ‫مس‪ ،‬والقم‬ ‫ماء‪ ،‬والش‬ ‫الس‬
‫واألحراش‪ ،‬والوديان‪ ،‬واألنه ار‪ ،‬واألحج ار‪ ،‬واألص نام‪ ،‬كمــا أظهــروا تــأثًر ا ببعض الُم عتق دات المص رَّية القديم ة‪،‬‬
‫فكانوا ُيقدسون بعض الحيوانــات ويشــربون دمائهــا للُحصول على قوتهــا الروحَّي ة‪ ،‬وُيقــدمون القــرابين ِلبعض تلــك‬
‫الظواهر والكائنات‪ ]7[،‬كما آمنوا بالشعوذة‪ ،‬واعتقدوا في بركة بعض األشخاص‪ ]8[،‬وهو ما أَّك د عليه ابن خلدون‪.‬‬
‫[‪ ]9‬ويذكر ابن أبي زرع أَّن بعض قبائل منطقة فاس كان لهم بيُت نار‪ ،‬مما يعني أَّن المجوسَّية كانت‬
‫معروفة بين بعض البربر‪ ]10[.‬كذلك كان ِلبعض قبائل ودان صنٌم من حجــارة مبــني على ربــوة ُيســَّمى «كــرزة»‪،‬‬
‫ُيقربون لُه القرابين ويستشفون به من أدوائهم ويتبَّر كون في أموالهم‪]11[.‬‬
‫إلى جـــانب الُمعتقـــدات الدينَّي ة البدائَّي ة‪ ،‬عـــرف المغـــرب الـــديانتين الســـماويتين الســـابقتين على اإلســـالم‪.‬‬
‫فاألفكــار اليهودَّي ة دخلت ُمنــذ وقٍت ُمبك ـٍر مــع الفينيق يين على األرجح‪ُ ،‬ثَّم مــع الُمهــاجرين اليهــود أَّي ام االضــطهاد‬
‫الروماني‪ .‬والظاهر أنها انتشرت في بعض القبائل إلى جانب الُمعتقدات المحلَّية‪ ]13[]12[.‬أَّما المسيحَّية‪ ،‬فقد أخذت‬
‫باالنتشار أواًل بين األفارقة في برقة وطراُبلس وإفريقية ابتداًء من القرن الثاني الميالدي‪ ،‬وكان أَّو ل أقــاليم المغــرب‬
‫ُد خواًل في المسيحَّية إقليُم برقــة‪ ،‬وكــان للمســيحَّية فيهــا تــاريٌخ طويل هــو ُج زٌء من ت اريخ المس يحَّية في مص ر‪ُ ،‬ثَّم‬
‫انتشرت في إفريقية‪ ،‬وأصبحت هذه األخيرة من مراكزها الرئيسَّية‪ ،‬وقامت فيها الكنــائس وامتـَّد ت ِبُص ورٍة ســطحَّيٍة‬
‫على طول الشريط الســاحلي في المغــربين األوســط واألقصى حَّت ى طنجــة‪ ]14[.‬وبــدأ تنظيم الكنيس ة اإلفريقَّي ة في‬
‫ُمنتصف القرن الثالث الميالدّي على يد القِّد يس قبريانوس القرطاجي‪ ،‬وانتشرت المسيحَّية بين كثيٍر من أهــالي البالد‬
‫الذين كانوا يلتمسون المبادئ التي ُتحقق لهم ما يصبون إليه من ســيادة العــدل واإلنصاف‪ .‬وقــد تعارضــت التعــاليم‬
‫المســيحَّية مــع المفــاهيم الرومانَّي ة القائمــة على تأليه األبــاطرة وعبــادتهم إلى جــانب آله ة روم ا‪ ،‬واستشــعرت‬
‫اإلمبراطورَّي ة بــالخطر لَّم ا رفض النصارى االلتحــاق بــالجيش الرومــاني والُمشــاركة في ُح روب الدولــة‪ ،‬فقــام‬
‫اإلمبراطور ديكي وس وطلب في ســنة ‪250‬م من جميع رعاياه أن ُيعلنــوا عن وطـنَّيتهم بــإعالنهم التمُّس ك بالديانــة‬
‫الوطنَّية والتنُّصل من ُك ل العبادات اُألخرى وخاَّص ًة المسيحَّية والمانوَّية‪ .‬فترك الكثيُر من النصارى المغاربة ديانتهم‬
‫حَّت ى قــال القــِّد يس قبريانوس كلمتــُه المشــهورة‪َ« :‬لَق د َك اَن َع َدَدُهم َأكَث ُر ِم ن ُق َّو ِة ِإيَم اِنِهم»‪ ]11 [ْ.‬واضــطهدت‬
‫اإلمبراطورَّية النصارى وعَّط لت كنائسهم وصادرت ُممتلكاتهم‪ ،‬وانتهى األمر ِبإعدام القِّد يس قبريانوس ِبقطع رأسه‪.‬‬
‫ْ[ ‪ ]12‬وعلى عهد دقلديانوس اشتَّد ت الدولة ضَّد المسيحيين الذين تشبثوا بدينهم‪ ،‬وقاموا ِبما ُيشبه العصيان المــدني‪،‬‬
‫وقاوموا اإلمبراطورَّية ِبشراسٍة وعناد‪ ،‬حَّت ى أَّن الكنيسة أعلنت حرم ان من ُيلقي الســالح من رحمتهــا‪ ]13 [ْ.‬وُر غم‬
‫أَّن الكنيسة نجحت في تنظيم نفسها وفي الُصمود بوجه االضطهادات الرومانَّية‪ ،‬إاَّل أنها بقيت مقصورًة على سواحل‬
‫المغرب ولم تصل إلى القبائل الضاربة في بوادي وجبال المغرب األقصى‪.‬‬
‫لوحـــة ِبريشـــة الرَّس ام الفرنســـي شـــارل أندريه ڤـــان لـــو ُتصِّو ر القـــِّد يس أوغســـطين ُيجـــادل دونـــات‬
‫الكبير ُمؤسس الدوناتَّية‪.‬لوحة ُفسيفسائَّية ُتصِّو ُر إلقاء أحد األسرى الدوناتيين إلى الُنمور كي تفترســه‪ ،‬عقاًب ا لــُه على‬
‫اعتناق مذهب ُمخالف للمـذاهب النصرانَّية المسـموح بهـا في اإلمبراطورَّي ة‪ ،‬في إشـارٍة إلى مـا عانـاُه أتبـاُع بعض‬
‫المذاهب المسيحَّية في المغرب قبل الفتح اإلسالمي‪.‬‬

‫وعرفت الكنيسـة المغربَّي ة إنقسـاًما خاًص ا بهـا‪ ،‬هـو المـذهب الـدوناتي ‪ -‬نسـبًة إلى صاحبه دون ات الكب ير‪ ،‬أسـقف‬
‫الوطنــيين‪ ،‬الــذي أعلن عــدم االعــتراف بــأي كــاهٍن مهمــا علت مرتبتــه طالمــا كــان ُمســتكيًن ا وراض ـًخ ا للُس لطات‬
‫اإلمبراطورَّية‪ ،‬وطلب االستشهاد في سبيل ذلك واستجاب لُه ُك ل الَّساخطين على اإلمبراطورَّية وخاَّص ًة من طبقــات‬
‫الكادحين‪]15[.‬‬
‫وعندما أصبحت المسيحَّية الديانة الرسمَّية لإلمبراطورَّي ة أَّي ام ُقس طنطين األَّو ل‪ ،‬وقــف هــذا األخير ضـَّد الدوناتَّي ة‬
‫واعتبرهم خارجين عن القانون‪ .‬وترَّت ب على تحالف اإلدارة والكنيسة ضَّد المذهب الدوناتي أن أصبح المذهب رمز‬
‫الُمقاومة الشعبَّية‪ ،‬وازداد انتشاره ِبزيادة انتشار الفقر والُبؤس بين األهالي الذين ثاروا ضَّد الُحكومة والطبقة الغنَّي ة‪،‬‬
‫ودعوا إلى الُمساواة‪ .‬وحاولت الُحكومة ُمجادلة أصحاب هذا المذهب‪ ،‬فكان القِّد يس أوغسطين ألد أعدائه‪ ،‬حيُث شَّهر‬
‫به وهاجم أساليبه العنيفة‪ ،‬وأباح للدولـة اسـتعمال العنـف ضـَّد أصحاب هـذا المـذهب ِلكسـر شـوكتهم وإعـادتهم إلى‬
‫حظيرة الكنيسة النيقَّية‪ .‬لكَّن النتيجة جاءت عكسَّية‪ ،‬إذ تحالف الكادحون والُفقراء مع الدوناتَّية‪ ،‬واستمَّر الصراع إلى‬
‫وفاة دونات سنة ‪355‬م‪ ،‬واتخذ شكل الثورة الوطنَّية في طراُبلس ونوميديا إلى سنة ‪375‬م‪ ]14 [ْ.‬وبعـد وفــاة دونـات‬
‫اســتمَّر أوغســطين في ُمحاربــة الُمنشــقين عن الكنيســة الوطنَّي ة والهراطق ة حَّت ى انتصرت الكنيســة اإلفريقَّي ة على‬
‫أعدائها‪ ،‬على أَّن الدوناتَّية استمَّر ت بعض جماعاتها إلى القرن الَّسادس الميالدّي ‪ .‬وعندما وقعت بالُد المغــرب تحت‬
‫ُحكم قبائــل الونــدال الجرمانَّي ة‪ ،‬ابتــدأ فصٌل جديد من ُفصول الصراع الــدينّي ‪ ،‬فقــد فــرض الونــدال على النــاس‬
‫مذهبهم اآلريوسي الذي يقــول بطبيعــة المســيح البشـرَّية‪ ،‬واضــطهدوا النصارى النيقــيين وصادروا أمالك الكنيســة‬
‫وأموالها وحَّو لوها إلى اآلريوسيين‪]16[.‬‬
‫ولَّما استعاد الروم البالد المغربَّية من الوندال‪ ،‬أخذت الدولة تعمل على حسم الخالفات الدينَّي ة‪ ،‬فاســتعاد البــيزنطّيون‬
‫الكنائس الُمغتصبة‪ ،‬وثأروا من اآلريوسيين أشد الثأر‪ ،‬واضطهدوا الدوناتَّية وكذلك اليهــود‪ ]17[،‬ولكَّن ذلــك لم يمنــع‬
‫انتشار مذاهب جديدة مثل النسطورَّية القائلة ِبُثنائَّية طبيعة المسيح‪ :‬اإللهَّية واإلنسانَّية‪ .‬ولم تنتِه مشاكل المسيحَّية عند‬
‫هذا الحد‪ ،‬إذ انقسم اليعاقبة أصحاب مذهب الطبيعة الواح دة‪ ،‬وهــو المــذهب الرســمي لإلمبراطورَّي ة البيزنطَّي ة على‬
‫أنُفسـهم‪ ،‬وتـدخلت اإلمـبراطورة ُثي ودورا زوجـة ُجســتنيان في سـبيل الُمحافظـة على وحـدة الكنيسـة‪ ]15 [ْ،‬وقــامت‬
‫ِبإجراءاٍت كان من نتيجتها ثورة أهـل إفريقية الـذين احتجـوا على اإلمـبراطور في الُقسـطنطينَّية والبابـا في رومـا‪.‬‬
‫واستخدم ُجستنيان ضَّد هم العنف واإلرهاب مما عمل على اتساع الُهَّو ة بين اإلمبراطورَّية وإفريقية‪]18[.‬‬
‫وِخالل هــذه الفــترة عــاود المــذهب الــدوناتي الُظ هــور بعــد أن انتشــرت المفاســد بين رجــال الكنيســة كالرش وة وقَّل ة‬
‫االنتظام والتحاسد‪ .‬ومــع مطلــع الق رن الس ابع الميالدّي ونتيجـًة ِلقيام إفريقية ِب دوٍر هــام في سياســة اإلمبراطورَّي ة‬
‫القاضية ِبخلع اإلمبراطور فوقاس وتزويد الجيش البيزنطي بالرجال ِلحرب الُفرس الساسانيين وإخراجهم من مصر‬
‫والَّش ام‪ ،‬أنعم هرقل عليهــا فشــهدت عصًر ا من الســالم‪ ،‬وتمتــع أهلهــا ِبقســٍط كبــيٍر من الُح رَّي ة الدينَّي ة واالطمئنــان‪،‬‬
‫واستغَّل البابا جرجير األَّو ل هذا الُهدوء فأرسل البعثات التبشيرَّية إلى المناطق الداخلَّية ِلنشـر المسـيحَّية بين الـبربر‪،‬‬
‫فنجحت بعضها بذلك‪ ]19[.‬وترتب على ذلك أن ازدهرت عالقة الكنيســة اإلفريقَّي ة ِبرومــا‪ ،‬مــع احتفاظهــا ِبعالقتهــا‬
‫اإلدارَّي ة مــع الُقســطنطينَّية‪ .‬وفي ســنة ‪638‬م ظهــر في إفريقية مــذهٌب جديد هــو مــذهب بطريرك الُقســطنطينَّية‬
‫سرجيوس األَّو ل‪ ،‬المشهور بالمذهب المونوثيليتي أو مذهب المشيئة الواحدة الذي يقول بالطبيعــة اإللهَّي ة واإلنســانَّية‬
‫مًعا للمسيح‪ ،‬وقد وقف إلى جانبه هرقل رغبًة منُه في اكتساب تأييد اليعاقبة وإنهــاء الصراعات المذهبَّي ة في البالد‪.‬‬
‫وعارضت الكنيسة اإلفريقَّية هذا المذهب‪ ،‬وانتهى األمر بأن أعلنت ُأسقفَّية قرطاج عدم صالحَّية اإلمــبراطور ِلُحكم‬
‫البالد والعباد وأَّن ُه يجب خلعه عن العرش‪ .‬وُسرعان ما تعَّقد الموقف أكثر مع الفتح اإلسالمّي ِلمصر‪ ،‬إذ وفــد بعض‬
‫القساوســـة اليعاقبـــة من مصر إلى إفريقية ِلنشـــر مـــذهبهم‪ ،‬وكـــان ِلحماســـهم في الـــدعوة أثٌر كبـــير في جعـــل‬
‫اإلمبراطور ُقسطنطين الثالث بن هرقل يسمح لهم ِبُممارسة شعائر مذهبهم ِبُح رَّية‪ .‬وأَّد ى انتشار مــذهبهم في إفريقية‬
‫إلى ُو قــوف قساوســة هــذه األخيرة في وجــه اإلمبراطورَّي ة وإلى انفصالهم شــيًءا فشــيًئ ا عنهــا‪ .‬وعنــدما تــوَّلى‬
‫اإلمبراطور ُقنسطانز العرش سنة ‪641‬م وكان ُمعتنًقا المونوثيليتَّية‪ ،‬لم يأل رئيس ُمعارضة هذا المذهب في إفريقية‪،‬‬
‫وهــو اُألســقف مكســيموس‪ ،‬لم يأل ُجه ـًد ا في دفــع ُس َّك ان المغــرب المســيحيين والــبربر إلى إعالن خلعهم ِلطاعــة‬
‫اإلمبراطور وتنصيب حاكم إفريقية البطريرك جرجير بن نيقيتاس على العــرش‪ ]19[،‬وكــان الُمســلمون حينهــا على‬
‫وشك أن يفرغوا من فتح مصر‪ ،‬وطرق باب المغرب‪.‬‬
‫الوضع العسكري‬
‫أطالل أحد الُحصون البيزنطَّية الُحدودَّية في إفريقية‪.‬‬

‫انتهجت الدولة في تنظيم المغرب البيزنطي ‪ -‬من الناحية العسكرَّية –‬


‫خَّطًة تختلُف عَّما اتبعتُه في والياتها اُألخرى كمصر والَّش ام‪ .‬فالمعروف‬
‫أَّن القَّو ة الحربَّية البيزنطَّية التي كانت تحمي مصر مثاًل كانت‬
‫ُتعسكُر في مراكز رئيسَّية مثل حصن بابليون واإلسكندرَّية‪ ،‬وُترابط‬
‫فرق صغيرة منها في مواضع ُأخرى كالفرما وُأم دنين‪ ،‬أَّما في إفريقية فقد‬
‫اتجهت عناية الدولة إلى إحاطة أمالكها ِبرباطاٍت قوَّي ٍة من الُحصون الُمتقاربــة‪ ،‬وأقــامت في ُك ِّل مربــٍط طائفـٌة من‬
‫الُجنود تستطيع حمايته والدفاع عنه؛ وأسرفت الدولة في ذلـك إسـراًفا يسـترعي النظـر‪ ،‬فلم تكتـف ِبربـاٍط واحـٍد بـل‬
‫أقامت ثالثة‪ ،‬وقَّس مت البالد إلى أربــع منــاطق عســكرَّية ِلُك ٍل منهــا عاصمتها الــتي ُترابــط فيهــا فرقــة يقودهــا قائــد‬
‫أو دوق‪ ،‬أَّم ا هـــذه األقســـام فهي‪ :‬طـــراُبلس وعاصمتها لمط ة‪ ،‬وبيزاســـيوم وعاصمتها تالبت‪ ،‬ونوميديا‬
‫وعاصمتها قيصرَّية‪ ،‬وُموريطنية وعاصمتها قسنطينة‪ .‬وهكذا أضحت البالد شبكة من الُحصون والقالع‪ .‬ولَّما كانت‬
‫الموارد ضــئيلة لم يكن في اإلمكــان الُمحافظــة على هــذه التحصينات في حالــٍة طِّيبــة‪ ،‬بــل عجــز الــروم عن ُمجــَّر د‬
‫االحتفاظ بها‪ ،‬فهي لم تكن متينة البناء ‪ -‬إذ ُأقيمت على عجل ‪ -‬واعتمد البيزنطّيون في إقامتها على ما كان قائًم ا في‬
‫البالد قبل ذلك من الُمنشآت الرومانَّية كالحَّمامات والمالعب والمعابد‪ ،‬فلم تكن منيعـة قوَّي ة كمـا الُحصون الفعلَّي ة‪[.‬‬
‫‪ ]20‬وقـــد ُروعي في اختيار مواقـــع هـــذه الُحصون أن تكـــون محـــارس تقـــوم على أبـــواب البالد ومنافـــذها‪:‬‬
‫فقامت قابس على باب سهل ُتوُنس تصُّد من ُيقبل شرًقا من الساحل‪ ،‬تلتها ُحصوٌن ُأخرى على الســاحل مثل يونكــا‬
‫ومغمداس‪ ،‬وقامت ُسبيُطلة على أحد المنافذ المطروقــة الـتي يسـُلكها من ُيريد االنتقـال من سـهل ُت وُنس إلى هض بة‬
‫األوراس ويُمُّر بها الرباط الثاني الذي يبدأ من ُسوسة ويُمر ِبمدرسومة وتالبت؛ يلي ذلك الربــاط الثالث الــذي تقــوُم‬
‫فيه سبيبة وممس وجلوالء‪ ]20[.‬طبيعي بعد ذلك أن يكون المغرب البــيزنطّي ضــعيٌف من الناحية الحربَّي ة‪ ،‬وُك َّلمــا‬
‫تقادم العهُد بالُّر وم في المغرب زاد الضعُف ُو ضوًح ا وخطًر ا‪ ،‬وكان أهُل البالد ُيالحظـون تخُّو ف البيزنطـيين منهم‪،‬‬
‫وال يكادون يتركون ُفرصًة لالشتباك معهم إاَّل انتهزوها‪ ،‬فزاد اآلهلــون مرانـًة وخبرًة في حين ضــُعف البــيزنطّيون‬
‫وسقطت هيبتهم‪ ،‬واضطُّر وا إلى التخّلي عَّما عجزوا عن الدفاع عنه من هذه المحــارس والُحصون‪ ،‬حَّت ى إذا أخذت‬
‫شمس القرن الَّسادس الميالدّي بـالمغيب كـان الـبربر قــد اسـتولوا على الربـاط الثالث وأخذوا يطمعـون في الربـاط‬
‫الثاني‪ ،‬وكان قياُم الُروم ِبمحارس هذا األخير إسمًّي ا فقط‪ ،‬إذ ُتركت العناية به لمن أحاط به من الُمزارعين والقرويين‬
‫يعتصمون فيه من الُمهاجمين من البربر‪ ،‬ولم يُك ف هؤالء عن اختراق هــذا النطــاق واجتياح مــا يليه من المــزارع‬
‫والبالد ونهبها‪ ،‬بحيُث لم تعد له أَّية قيمة حربَّية ُتذكر ُمنذ أوائل القرن الَّسابع الميالدّي ‪]20[.‬‬
‫موجة الُفتوح األولى (العصر الراشدي‬

‫دوافع فتح المغرب والتمهيدات‬


‫طالع أيًض ا‪ :‬الفتح اإلسالمي لمصر‬

‫خريطة ُت بِّين توُّس ع ُح دود دولــة الخالفــة الراشــدة بعــد ُد خول مصر في حظيرتهــا وتراجــع ُح دود اإلمبراطورَّي ة‬
‫البيزنطَّية في شمال أفريقيا‪.‬‬

‫أتَّم الُمسلمون ِبقيادة الصحابي عمرو بن العاص فتح مصر سنة ‪21‬هـ الُموافقة ِلسنة ‪642‬م بعد أن سقطت في أيديهم‬
‫قصبة الوالية‪ ،‬وهي مدينة اإلسكندرَّية‪ ،‬وانسحب منها الـروم شـمااًل ‪ُ .‬ثَّم شـرعوا ُينظمـون البالد الجديدة وتحصينها‬
‫للحيلولة دون أي ُمحاولٍة رومَّيٍة الستعادتها‪ ،‬ويظهر أَّن عمرو تطَّلع نحو الغرب بعــد ذلــك ِلتــأمين ُح دود مصر من‬
‫الخطـــر البـــيزنطي القـــائم في والية إفريقية‪ ،‬مثلمـــا كـــان فتح الجزي رة الُفراتَّي ة ضـــرورة عســـكرَّية ِلتـــأمين‬
‫ُفتوحات الَّش ام والع راق من الخطــر البــيزنطي ‪ -‬الفارســي‪ ،‬ال سـَّيما وأَّن برقــة وطــراُبلس ُتعتــبران امتــداًد ا طبيعًّي ا‬
‫ِلمصر‪ ،‬األمر الذي شَّج ع عمرو بن العاص على تنفيذ سياسـته الرامية إلى الزحـف غرًب ا‪ ]21[.‬وفي الحقيقـة‪ ،‬فإَّن ُه‬
‫يصعب استنباط أو الجزم ِبدوافع عمرو بن العاص التوُس عَّية باتجاه الغرب في أعقــاب فتح اإلســكندرَّية‪ ،‬فقــد تكــون‪:‬‬
‫ُجزًءا من الخَّط ة التي استهدفت مصر‪ ،‬أو نتيجة ُظ روٍف طارئة واجهت القيادة العســكرَّية‪ ،‬فارتــأت ضــرورة تــأمين‬
‫الغطاء الدفاعي ِللُحدود الغربَّية‪ِ ،‬بفتح مواقــع ُأخرى تشــغلها حاميات عســكرَّية ومراكــز ُمراقبــة‪ ،‬أو نتيجــة غريزة‬
‫التوُّسع لدى القائد الُمسلم‪]22[.‬‬
‫الواضح وفق بعض الُمؤرخين الُمعاصرين أَّن الحملة التي قام بها عمرو بن العاص في هــذا االتجــاه والــتي أثمــرت‬
‫عن فتح برقة وطراُبلس‪ ،‬لم تكن عماًل ُمخطًط ا له‪ ،‬إذ لم تكن ُهناك خَّط ة ُمسبقة للفتح الُمنَّظ م في ذلك الوقت‪ ،‬تتعــَّد ى‬
‫مصر‪ .‬وُرَّبما قَّد ر عمرو أن تكون للبيزنطيين ُقَّو اٌت في برقة وطراُبلس قد ُتغريهم بالتحُّص ن ُهنــاك والــترُّبص حَّت ى‬
‫تحين الُفرصة للثأر والعودة إلى مصر الستعادتها‪ ،‬فكان عليه فتح هذه المنطقة وتأمين مركز الُمســلمين في مصر‪[.‬‬
‫‪ِ ]22‬لذلك خرج ِبُقَّو اته من اإلسكندرَّية في سنة ‪22‬هـ الُموافقة ِلسنة ‪643‬م بعد أن اطمأَّن على استقرار األوضاع في‬
‫مصر‪ ،‬وتوَّج ه نحو برقة التابعة ِلإلمبراطورَّية البيزنطَّية‪ ،‬وتسكنها قبيلة لواتة البربرَّية‪.‬‬
‫المراجع ‪-:‬‬

‫‪ -1‬بوابه ويكيديا ‪ar.wikipedia.org‬‬


‫‪ -2‬الجزيزه اجينت ‪www.ajnet.me‬‬
‫كتاب‪“ :‬المغرب األقصى من الفتح اإلسالمي ‪3-‬‬
‫‪ -4‬اكاديميه ‪www.academia.edu‬‬

You might also like