Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 6

‫هل الناس في الغرب سعداء؟‬

‫ثائر سالمة‪ ،‬أبو مالك‬


‫أما فهم السعادة والطمأنينة فيختلف الناس في فهمها‪ ،‬وفيما يقيمها في الواقع‪ ،‬فرب فقير يظن‬
‫ًا‬
‫سعادته في أن يغتني‪ ،‬ورب مريض يرى أن سعادته ال تتحقق إال أن يشفى شفاًء تام ‪ ،‬واملذاهب املادية‬
‫ًا‬
‫ترى السعادة بإشباع الغرائز والحاجات العضوية بأقصى درجة‪ ،‬وبإطالق الحريات وخصوص الحرية‬
‫الشخصية‪ ،‬فهم يفهمون السعادة على أنها "املتعة" أو "النشوة" أو "الرفاهية"‪ ،‬األمر الذي انعكس على‬
‫صورة فوضى مجتمعية ال حد لها‪ ،‬انعكست على صورة تفشي مشاكل العنف‪ ،‬واألمراض‪ ،‬والتفكك‬
‫األسري‪ ،‬واملخدرات والجريمة‪ ،‬وامتالء السجون بشكل غير مسبوق في التاريخ‪...،‬الخ‪ ،‬وأضحى امتالك‬
‫السلطة والشهرة واملال وتنميته بأي وسيلة غاية الغايات‪ ،‬األمر الذي أفرز طبقة قادرة على التحكم‬
‫َأ‬
‫بمقدرات الدول‪ ،‬وشعوبا عاملة عندها بما يقيم َو َد َه ا‪ ،‬فامتلك أقُّل من خمسة باملائة من السكان أكثر‬
‫ًا‬
‫من تسعين باملائة من الثروة‪ ،‬وامتلكوا كَّل السلطة أيضا‪ ،‬وتوزع الباقي على الباقي مصحوب بشظف‬
‫ًا‬
‫العيش (ديون هائلة على األفراد واألسر) ومشقة العمل‪ ،‬فكانت أسباب السعادة لديهم أسباب تعاسة‬
‫حقيقية!‬
‫وكان التركيز على اإلشباع املادي‪ ،‬والنشوة‪ ،‬واملتعة اآلنية‪ ،‬والفخر باإلنجازات‪ ،‬والثقة بمستوى‬
‫الرفاهية‪ ،‬مصحوبا بإغفال أهمية القيمة الروحية وضرورة إشباعها‪ ،‬األمر الذي أفضى لتصّو ر‬
‫منقوص عن الحياة‪ ،‬ومجافاة ألثر السعادة على النفس املتمثل بالطمأنينة والراحة النفسية‪ ،‬والسالم‬
‫النفسي‪ ،‬والرشد العقلي‪ ،‬واإليجابية‪ ،‬والرضا عن الذات‪ ،‬والذي ال يتم إال بالقناعة بصحة مرجعية‬
‫السلوك‪ ،‬ووضوح الهدف من الحياة‪ ،‬ووجود املعنى الحقيقي اإليجابي الذي يعيش اإلنسان ألجله‪،‬‬
‫وبالقناعة بصحة األفكار واملشاعر التي يمتلكها اإلنسان‪ ،‬والتي ُي سير بها حياته‪ ،‬والتي توفر له القدرة‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫الحقة على التعامل مع ضغوطات الحياة‪ ،‬بتفسيرها تفسير صحيح يفضي للرضا والطمأنينة‪ ،‬وليست‬
‫السعادة الحقة بالسعادة النسبية اآلنَّي ة املتقلبة‪ ،‬أو تلك الديناميكية املتغيرة‪ ،‬التي تنقلب إلى سلبية‬
‫قاتلة تدمر رضا اإلنسان عن ذاته‪ ،‬أو عن الظروف التي تكتنفه حين تقلبها‪.‬‬
‫إن الفصل الذي تم في الغرب بين اإلنسان الذي امتلك رفاهية في العيش‪ ،‬وبين املفاهيم واملقاييس‬
‫والقناعات التي سينبثق عنها النظام املسّي ر للسلوك‪ ،‬فاهتمت باألولى (الرفاهية)‪ ،‬وقطعت الحبل الُّس َّي‬
‫ِّر‬
‫بين ذلك اإلنسان وبين الثانية (أن تكون رفاهيته نتاج مفاهيم ومقاييس وقناعات صحيحة تسير‬
‫السلوك)‪ ،‬إنما هو إحداث شرٍخ فكري بين السعادة‪ ،‬وبين األساس الذي ال تنفصل عنه في الحياة‪ ،‬وهو‬
‫امتالك اإلنسان ملفاهيم ومقاييس وقناعات صحيحة‪ ،‬تسير السلوك‪ ،‬فالرفاهية ال تحقق الرضا عن‬
‫الذات بالضرورة‪ ،‬وال تحقق السالم الداخلي‪ ،‬وال الطمأنينة‪ ،‬بينما الصلة بين املفاهيم واملقاييس وبين‬
‫الرضا والطمأنينة والسالم الداخلي‪ ،‬وبين السعادة صلة دائمية‪ ،‬مهما تقلبت الظروف‪ ،‬والتي قد تتجلى‬
‫في صورة رفاهية‪ ،‬أو فقر‪ ،‬أو صحة أو مرض‪ ،‬فرب فقير مطمئن سعيد راض‪ ،‬ورب غني ال ينام الليل‬
‫من حيرته وتقلبه!‬
‫ولكننا نرى أن عصر الحضارة الغربية قد أتخم معجم األطباء بأنواع ال تحصى من األمراض‬
‫النفسية كاإلجهاد النفسي والقلق واالكتئاب واإلحباط واالنفصام والهستيريا والهلوسة وغيرها‪ ،‬كذلك‬
‫فإنك تجد أغنياء مشهورين في قمة املجد ينتحرون لخواء الحياة في نظرهم‪ ،‬فالفخر باإلنجاز‪ ،‬والشهرة‪،‬‬
‫واملال‪ ،‬والترف‪ ،‬والرفاهية ليست بضمانات حقيقية على تحقيق السعادة الدائمة‪ ،‬كيف ال‪ ،‬وقدرتها‬
‫كلها على تحقيق السعادة الحقيقية مرتبط بوجود القناعة بصحة مرجعيات السلوك‪ ،‬وبوجود املفاهيم‬
‫الصحيحة عن الحياة‪ ،‬فهذه وحدها الضمانة بأن ال تنقلب السعادة تعاسة حين يخبت وهج الشهرة‪ ،‬أو‬
‫ًا‬
‫يقل املال‪ ،‬أو تنقلب الرفاهية ضيق ‪ ،‬فيحار املرء كيف يفسر ذلك كله‪ ،‬فإذا لم يجد في مفاهيمه‬
‫ًا ًال‬
‫ومقاييسه الفكرية مرجعيات صحيحة تجعل سعادته مستدامة‪ ،‬أو حين تنقلب رفاهيته "روتين قات "‪،‬‬
‫فإنه أسرع ما يسير نحو هاوية االكتئاب والقلق ويتحطم رضاه عن نفسه أو عن مجتمعه!‬
‫"إن األهم من إشباع الغرائز والحاجات العضوية هو كيفية اإلشباع (أي تنظيمه) ال اإلشباع بحد‬
‫ذاته‪ ،‬فالقضية ليست كم يأكل الناس‪ ،‬وماذا يلبسون‪ ،‬وال كم يتملكون‪ ،‬بل القضية هي ماذا يأكلون‪،‬‬
‫وكيف يكسبون ما يشترون به ما يأكلون‪ ،‬وكيف يتملكون‪ ،‬هل النظام الذي ينظم حياتهم االقتصادية‬
‫يجعل تملكهم هذا يمر عبر نظام ديون ربوية تضعهم تحت ثقل ديون باهظة يدفعها اآلباء واألبناء‬
‫طوال أعمارهم؟ نظام مصمم بعناية ليزيد الغني غنى والفقير فقرا؟‬
‫فالقضية ليست هل يعيش الناس أم ال يعيشون‪ ،‬بل القضية كيف يعيشون‪ ،‬وهل يطغى إشباعهم‬
‫لغرائز وحاجات عضوية على حساب غيرها؟ أم هناك توازن في اإلشباع يتمثل في نظام ضابط يحقق‬
‫هذا التوازن؟ ألن عدم التوازن سيفضي حتما لالضطراب والحيرة والقلق‪ ،‬أي إلى الشقاء ال السعادة‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫هكذا يحكم بأنهم سعداء فعال أم سعادتهم موهومة‪ ،‬أو آنَّي ة‪ ،‬مبنية على مقاييس خطأ"‪.‬‬
‫وهذا ال يعني أن الناس ال يعيشون لحظات حياتهم في مسرات وهناء‪ ،‬إذ يتمتعون بمناظر جميلة‬
‫ونزهات لطيفة‪ ،‬ولكن املعنى أن توجد السعادة الحقيقية الناشئة عن التوازن في تنظيم حياة اإلنسان‪،‬‬
‫والطمأنينة الناشئة عن نمط العيش‪ ،‬وعن التفسير الصحيح ملعنى الحياة‪ ،‬إذ إن نقيض السعادة هو‬
‫ًا‬ ‫َّل‬
‫الشقاء‪ ،‬فالنظام الذي ال ينصف املجتمع سيجعل ُج ه شقي وإن كانت لديهم لحظات مسّر ات مؤقتة!‬

‫‪ 1‬بتصرف‪ ،‬عن محاضرة لألستاذ أحمد القصص بعنوان‪ :‬مفهوم السعادة في اإلسالم‪ ،‬إصدارات رابطة الوعي الثقافية‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫في برنامج على راديو السي بي سي الكندي‪ ،‬استضاف الفيلسوف لي ماكنتاير ‪ Lee McIntyre‬والذي‬
‫ًة‬
‫كانت له تجربة فريدة‪ ،‬حيث نصب في محطٍة لقطار األنفاق في نيويورك طاول وضع عليها لوحة كتب‬
‫عليها‪ :‬اسأل الفيلسوف!‬
‫وبعد مضي بعض الوقت توقفت امرأة في عقدها السادس وعلى وجهها كل مالمح الجدية‪ ،‬وخلعت‬
‫معطفها‪ ،‬والشال الذي يغطي رقبتها‪ ،‬وقالت في حزم‪ :‬أنا امرأة في العقد السادس من عمري‪ ،‬متقاعدة‬
‫عن العمل براتب مريح‪ ،‬لدي درجة علمية هي املاجستير ال يوجد عندي أسرٌة ‪ ،‬فأنا مطلقٌة ‪ ،‬وقد نهضُت‬
‫ًا‬
‫مؤخر من سرير الشفاء بعد عمليٍة خطيرٍة بقيت ندوُب ها في رقبتي‪ ،‬وأريد أن أعرف ماذا علَّي أن أفعله‬
‫ًا‬
‫باقي عمري؟ أريد سبب أعيش ألجله!‬
‫ًا‬
‫أال يذكرك سؤال هذه املرأة بحياتك أنت؟ هل تعرف سبب تعيش ألجله؟ ماذا عليك أن تفعل باقي‬
‫ًا‬
‫عمرك ليكون لعمرك ولحياتك معنى حقيقي ؟ أوليس واقع الحال أن حيواتنا مغطاة "بطبقات رقيقة"‬
‫ُة‬
‫ما أسهل أن تزول‪ ،‬لتنكشف حقيق أننا غارقون في هذه الحياة دون هدف أو وعي أو طرح تساؤالت‬
‫حقيقية‪ ،‬ننتظر أن نتقاعد كي نكتشف أن حياتنا العملية التي غطت غالبية الوقت‪ ،‬وأخذت شبابنا‬
‫وزهرة أعمارنا‪ ،‬واندمجنا فيها بصناعة املسار املنهي‪ ،‬واالرتقاء الوظيفي‪ ،‬والرخاء االقتصادي‪ ،‬والتسوق‬
‫والرحالت وعطل نهاية األسبوع‪ ،‬ومشاهدة آخر األفالم ومتابعة البطوالت الرياضية‪ ،‬أو حتى السعي‬
‫ألجل التغلب على الضنك واملشقة‪ ،‬وتأمين لقمة العيش‪ ،‬ودفع الفواتير‪ ،‬كي نكتشف أن هذه كلها ‪-‬مع‬
‫املتعة املصاحبة لكل شيء فيها‪ ،‬أو العناء‪ ،‬ومع أهميتها في حياتنا‪ -‬ليست السبب الحقيقي الذي ينبغي أن‬
‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬ ‫ًا‬
‫نعيش ألجله أو الذي ُو جدنا في هذا الكون الذي تم تصميمه وتعييره تعيير دقيق منضبط محكم خارق‬
‫ًا‬
‫لتوجد فيه الحياة ويكون مضياف لها‪ ،‬وليوجد فيه هذا املخلوق الذكي القادر على التساؤل‬
‫واالستكشاف والفهم واإلدراك‪،‬‬
‫َه‬
‫فإذا ما ارتفعت تلك "الغالالت الرقيقة" وما عاد لها َو ُج ها الذي صاحبها في رحلة الشباب وبناء‬
‫َل‬ ‫ُك ُق‬ ‫َأ َل‬
‫املستقبل والنظر بتفاؤل ملعيشٍة مريحٍة هانئٍة ‪َّ ،‬ح وقتها‪ ،‬وِب ِّل َّو ٍة ذلك السؤاُل الذي سأ ْتُه هذه‬
‫املرأة‪ ،‬ماذا علي أن أفعله فيما تبقى لي من عمر! ما هو السبب الذي سأعيش من أجله! فتعود الذاكرة‬
‫وقتها للوراء لتسأل‪ :‬هل كنُت أعيُش للسب الذي كان علَّي أن أعيَش له فيما مضى من عمر؟ هل عشُت‬
‫ِب‬
‫حياتي بشكل صحيح؟‬
‫ًا‬
‫قد ينتظر املرء فيه وقتا طويال ليكتشف أنه يعيش بال هدف‪ ،‬وأنه مفرغ تمام من عناصر الوجود‬
‫ًا‬
‫اإلنساني‪ ،‬وأنه مصاب بخواء روحي‪ ،‬يركض حياته كلها بال هدف‪ ،‬مشوب بالقلق والحيرة والتمزق‬
‫ًا‬
‫النفسي‪ ،‬ال يعرف جواب على سؤال‪ :‬ما معنى الحياة؟ على الرغم من أن هذا السؤال لصيق بالفكر‬
‫اإلنساني‪ ،‬وشرط أساسي إلدراك كينونة اإلنسان‪ ،‬كي ال يقع في الخواء الفكري‪ ،‬والفراغ األخالقي‪،‬‬
‫والشذوذ السلوكي!‬
‫فماذا عنك وأنت في رحلة كهذه في هذه الحياة الدنيا؟ أال ترى أهمية اإلجابة على نظائر هذه األسئلة‬
‫لتفسر لك سبب وجودك في الحياة‪ ،‬ومن أتى بك؟ وماذا بعدها؟ وماذا يراد منك؟ ملاذا جئت إلى هذه‬
‫الحياة؟‬
‫هل الحياة هي‪ :‬املسار املنهي؟ وأن تغرق في تفاصيله حتى تعيش ألجله‪ ،‬تنتظر نهاية الشهر لتحصل‬
‫ٌة‬
‫على الراتب‪ ،‬وتدفع الفواتير‪ ،‬وتستمر عجلة الحياة ‪-‬نمط العيش‪ -‬في روتيٍن صارٍخ كأنها متاه ال‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫تستطيع الخروج منها ‪-‬إال لحيظات قليلة ثم تعود إلى تلك املتاهة مرغم أو راغب ؟ فإذا ما ماَت أحُد نا‬
‫هذه الساعة‪ ،‬وهو في هذه املتاهة غير قادٍر على الخروج منها‪ ،‬فهل يستطيع وضع اإلصبع على املعنى‬
‫الحقيقي لحياته؟ إن السؤال املركزي في الحياة وال شك هو‪ :‬ما هي الغاية من الحياة؟ ملاذا أنت في هذا‬
‫الوجود؟‬
‫إنما مثل الحياة؛ بمسارها املنهي‪ ،‬وبمالها‪ ،‬وببنينها‪ ،‬وبمتعها الحسية واملعنوية‪ ،‬ومثل اإلنسان يحيا‬
‫تلك الحياة‪ ،‬كاملاء بالنسبة للسمكة‪ ،‬تسبح فيه‪ ،‬وال تدرك أنه املحيط من حولها‪ ،‬فهي تعيش‪ ،‬إال إنها لن‬
‫تستطيع أن تبلغ أن تكون الحياة بالنسبة لها هي املحيط بعجائبه وبجماله األخاذ‪ ،‬وبتوازنه وتنوعه‬
‫ًة‬ ‫ًة‬ ‫ًة‬
‫واستعداداته الستقبالها لتعيش في كنفه‪ ،‬فهي وإن كانت سمك شفاف صغير ‪ ،‬إال إنها قادرة على‬
‫العيش على أعماق ال يستطيعها اإلنسان بدون آالت قادرة على تحمل الضغوط الهائلة عليها‪ ،‬لكنها لم‬
‫تدرك ذلك‪ ،‬واقتصرت "حياتها" على االنشغال عنه بإشباع جوعاتها‪ ،‬واتقاء أعدائها‪ ،‬فلم تحفل بتأمل‬
‫ّخ‬
‫ذلك الجمال األ اذ للمحيط‪ ،‬وتدّب ر تهيئته ‪-‬على ضخامته‪ -‬ليكون حاضنة لها‪ ،‬وتهيئتها هي لتتمكن من‬
‫العيش فيه‪ ،‬وال بتدبر دورها في ذلك التوازن العظيم‪ ،‬لم تتأمل في صلتها بالوجود‪ ،‬وصلة الوجود بها‪،‬‬
‫لتدرك الغاية من وجودها‪ ،‬والهدف واملعنى الذي يترتب على ذلك‪ ،‬وكذلك اإلنسان الذي يعيش يومه‬
‫كأمسه في تلك املتاهة‪ ،‬دون تأمل وتفكر وتدبر وإدراك!‬
‫وليس من طبع الحياة تمام نعيمها‪ ،‬فإنما يتقلب اإلنسان من محنة إلى منحة‪ ،‬ومن نعيم إلى شقاء‪،‬‬
‫ومن سعادة إلى كدر‪ ،‬بل فوق ذلك‪ ،‬قد يتطور األمر بمن شقي وانكسرت روحه‪ ،‬وخوى قلبه‪ ،‬فيرتكس‬
‫في حال من التعاسة واإلجهاد النفسي‪ ،‬والقلق واالكتئاب‪ ،‬واإلحباط؛ وبعض من وصلت بهم الحال‬
‫لهذا‪ ،‬كانوا في قمة مجدهم‪ ،‬وعطائهم‪ ،‬وشهرتهم‪ ،‬وغناهم‪ ،‬إال إن نفوسهم خلت من السعادة القائمة‬
‫على الطمأنينة‪ ،‬واإليجابية‪ ،‬وعلى السالم الداخلي‪ ،‬والراحة النفسية‪ ،‬وعلى اإليمان‪ ،‬بدال من تلك‬
‫السعادة اآلنية القائمة على إشباع الغرائز والحاجات العضوية بأقصى درجة‪ ،‬وعلى إطالق الحريات‬
‫ًا‬
‫وخصوص الحرية الشخصية‪ ،‬تلك "السعادة" اآلنية التي تتأسس على أنها "املتعة" أو "النشوة"‪ ،‬أو‬
‫"الرفاهية" وتحقيق القيم املادية وحدها‪ ،‬فهذه سعادة ال تفضي إلى الطمأنينة‪ ،‬إذ إنها تغفل القيمة‬
‫الروحية‪ ،‬وتغفل التوازن في إشباع الغرائز والحاجات العضوية بين تحقيق القيم اإلنسانية والروحية‬
‫واملادية والخلقية‪ ،‬فالسعادة الحقيقية‪ ،‬والطمأنينة ناشئة عن نمط العيش الذي يحقق التوازن في‬
‫تنظيم حياة اإلنسان‪ ،‬ناشئة عن تحقيق اإلنسان لحياة فيها هدف‪ ،‬فيها "معنى" يعيش ألجله‪.‬‬
‫يقول عالم األعصاب واملحلل النفسي النمساوي (فكتور فرنكل) (‪" :)Vector Frankl‬لدى الكثير من‬
‫الناس اليوم وسائل تمكنهم من العيش‪ ،‬غير أنهم يفتقدون معنى يعيشون ألجله‪."2‬‬
‫حين يطرح الذين اكتووا بنار الحضارة الغربية على أنفسهم هذا السؤال‪ ،‬وتكشف عنهم تلك‬
‫الغالالت الرقيقة فإنهم حتما سيدركون وقتها أنهم ما عاشوا سعداء‪ ،‬وأن السعادة الحقيقية ليست تلك‬
‫املسرات اآلنية التي عايشوها من وقت آلخر!‬
‫ًا‬
‫وإذا ما قسنا عمر اإلنسان الفرد‪ ،‬ونظرنا إلى أيامه التي يقضيها في هذا الوجود‪ ،‬قياس إلى عمر‬
‫الكون‪ ،‬وإلى األبد‪ ،‬وجدناها لحظات قليلة‪ ،‬كلمٍح بالبصِر ‪ ،‬مع أنه يحب الخلود‪ ،‬فال بد إذن من صلة بينه‬
‫وبين سر الوجود‪ ،‬تربطه به بوشائج قربى وعرى ال تنفصم‪ ،‬فكما أن لوجوده غاية ومعنى ينبغي وضع‬
‫اليد عليها‪ ،‬فإنها وال شك امتداد لغاية وجود الوجود نفسه‪ ،‬كيف ال‪ ،‬وقد شاهدنا بأم العين أنه تم‬
‫ضبط الخصائص العامة لكوكب األرض كي يستقبل الحياة‪ ،‬ضمن نظام دقيق من التوازن البيئي‪ ،‬وتم‬
‫ضبط قوانين الطبيعة وقيم الثوابت والشروط الحدية للكون من أجل استقبال الحياة‪ ،‬لقد تهيأ الكون‬
‫إذن الستقبال هذا اإلنسان‪ ،‬وتمت تهيئة اإلنسان نفسه‪ ،‬بأجهزته وقدراته ليعيش هذه الحياة على هذا‬
‫الكوكب‪ ،‬فال بد إذن من إدراك وشائج القربى والعرى بين غاية الوجود وغاية اإلنسان‪ ،‬وال ينسجم‬
‫تصّو ر أن تكون خطة الوجود الكبرى هذه من أجل لحظٍة كلمٍح بالبصِر ثم يختفي اإلنساُن ‪-‬العاقل‬
‫املفكر‪ -‬من مسرح الوجود‪ ،‬بل يقتضي التصّو ر الصحيح أنه ال بد من حياة أخرى يبعث فيها ذلك‬
‫ًا‬
‫اإلنسان‪ ،‬تكون امتداد لتصوراته وأعماله واعتقاداته التي قام بها في حياته الدنيا‪.‬‬
‫هذا التصور املتكامل "هو وظيفة العقيدة الدينية الصحيحة‪ ،‬وذلك أثرها في النفس وفي الحياة ‪...‬‬
‫ٌة‬
‫وما تملك عقيد أخرى غيرها أن تصل الكائن الفاني بقوة األزل واألبد‪ ،‬وأن تمنح الفرد الضعيف ذلك‬
‫ًا‬
‫العون والسند"‪ ،3‬وهي توفر لإلنسان معين ال ينضب في مواجهة كدر العيش‪ ،‬ومحن الحياة‪ ،‬نابع من‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫اإليمان الحقيقي النابع عن فكر عقدي صحيح مبني على األدلة والبراهين‪ ،‬التي تمأل الجوانح إيمان ورض‬
‫ًا‬
‫وتسليم ‪ ،‬قائٍم على صلة حقيقية بخالق الكون واإلنسان والحياة‪ ،‬ومدبر أمرها‪ ،‬في ظل فهٍم دقيق‬
‫ًا‬
‫لتنظيم الحياة وفق ملسئولياٍت تقع على اإلنسان فيها‪ ،‬في ضمن نظاٍم َس َّخ َر ُهللا فيه لإلنسان ما يلزمه‬
‫للقيام بتلك املسئوليات على أتم وجه‪ ،‬تلك الصلة تجعل اإلنسان ينظر دائما إلى كل صروف الدهر‬
‫‪ 2‬مشكلة الشر ووجود هللا‪ ،‬د‪ .‬سامي عامري ص ‪26‬‬
‫‪ 3‬السالم العالمي واإلسالم‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬ص ‪8‬‬
‫ومسرات الحياة ومكدراتها‪ ،‬بإيجابية وأمل ورجاء‪ ،‬ومن امتلك ذلك اإليمان‪ ،‬واجه به كل مسببات‬
‫االكتئاب والقلق واإلحباط‪ ،‬فنفاها من حياته‪ ،‬وعاش بقلب سليم!‬

You might also like