Professional Documents
Culture Documents
هل الناس في الغرب سعداء؟
هل الناس في الغرب سعداء؟
1بتصرف ،عن محاضرة لألستاذ أحمد القصص بعنوان :مفهوم السعادة في اإلسالم ،إصدارات رابطة الوعي الثقافية ،بيروت.
في برنامج على راديو السي بي سي الكندي ،استضاف الفيلسوف لي ماكنتاير Lee McIntyreوالذي
ًة
كانت له تجربة فريدة ،حيث نصب في محطٍة لقطار األنفاق في نيويورك طاول وضع عليها لوحة كتب
عليها :اسأل الفيلسوف!
وبعد مضي بعض الوقت توقفت امرأة في عقدها السادس وعلى وجهها كل مالمح الجدية ،وخلعت
معطفها ،والشال الذي يغطي رقبتها ،وقالت في حزم :أنا امرأة في العقد السادس من عمري ،متقاعدة
عن العمل براتب مريح ،لدي درجة علمية هي املاجستير ال يوجد عندي أسرٌة ،فأنا مطلقٌة ،وقد نهضُت
ًا
مؤخر من سرير الشفاء بعد عمليٍة خطيرٍة بقيت ندوُب ها في رقبتي ،وأريد أن أعرف ماذا علَّي أن أفعله
ًا
باقي عمري؟ أريد سبب أعيش ألجله!
ًا
أال يذكرك سؤال هذه املرأة بحياتك أنت؟ هل تعرف سبب تعيش ألجله؟ ماذا عليك أن تفعل باقي
ًا
عمرك ليكون لعمرك ولحياتك معنى حقيقي ؟ أوليس واقع الحال أن حيواتنا مغطاة "بطبقات رقيقة"
ُة
ما أسهل أن تزول ،لتنكشف حقيق أننا غارقون في هذه الحياة دون هدف أو وعي أو طرح تساؤالت
حقيقية ،ننتظر أن نتقاعد كي نكتشف أن حياتنا العملية التي غطت غالبية الوقت ،وأخذت شبابنا
وزهرة أعمارنا ،واندمجنا فيها بصناعة املسار املنهي ،واالرتقاء الوظيفي ،والرخاء االقتصادي ،والتسوق
والرحالت وعطل نهاية األسبوع ،ومشاهدة آخر األفالم ومتابعة البطوالت الرياضية ،أو حتى السعي
ألجل التغلب على الضنك واملشقة ،وتأمين لقمة العيش ،ودفع الفواتير ،كي نكتشف أن هذه كلها -مع
املتعة املصاحبة لكل شيء فيها ،أو العناء ،ومع أهميتها في حياتنا -ليست السبب الحقيقي الذي ينبغي أن
ًا ًا ًا ًا ًا
نعيش ألجله أو الذي ُو جدنا في هذا الكون الذي تم تصميمه وتعييره تعيير دقيق منضبط محكم خارق
ًا
لتوجد فيه الحياة ويكون مضياف لها ،وليوجد فيه هذا املخلوق الذكي القادر على التساؤل
واالستكشاف والفهم واإلدراك،
َه
فإذا ما ارتفعت تلك "الغالالت الرقيقة" وما عاد لها َو ُج ها الذي صاحبها في رحلة الشباب وبناء
َل ُك ُق َأ َل
املستقبل والنظر بتفاؤل ملعيشٍة مريحٍة هانئٍة َّ ،ح وقتها ،وِب ِّل َّو ٍة ذلك السؤاُل الذي سأ ْتُه هذه
املرأة ،ماذا علي أن أفعله فيما تبقى لي من عمر! ما هو السبب الذي سأعيش من أجله! فتعود الذاكرة
وقتها للوراء لتسأل :هل كنُت أعيُش للسب الذي كان علَّي أن أعيَش له فيما مضى من عمر؟ هل عشُت
ِب
حياتي بشكل صحيح؟
ًا
قد ينتظر املرء فيه وقتا طويال ليكتشف أنه يعيش بال هدف ،وأنه مفرغ تمام من عناصر الوجود
ًا
اإلنساني ،وأنه مصاب بخواء روحي ،يركض حياته كلها بال هدف ،مشوب بالقلق والحيرة والتمزق
ًا
النفسي ،ال يعرف جواب على سؤال :ما معنى الحياة؟ على الرغم من أن هذا السؤال لصيق بالفكر
اإلنساني ،وشرط أساسي إلدراك كينونة اإلنسان ،كي ال يقع في الخواء الفكري ،والفراغ األخالقي،
والشذوذ السلوكي!
فماذا عنك وأنت في رحلة كهذه في هذه الحياة الدنيا؟ أال ترى أهمية اإلجابة على نظائر هذه األسئلة
لتفسر لك سبب وجودك في الحياة ،ومن أتى بك؟ وماذا بعدها؟ وماذا يراد منك؟ ملاذا جئت إلى هذه
الحياة؟
هل الحياة هي :املسار املنهي؟ وأن تغرق في تفاصيله حتى تعيش ألجله ،تنتظر نهاية الشهر لتحصل
ٌة
على الراتب ،وتدفع الفواتير ،وتستمر عجلة الحياة -نمط العيش -في روتيٍن صارٍخ كأنها متاه ال
ًا ًا
تستطيع الخروج منها -إال لحيظات قليلة ثم تعود إلى تلك املتاهة مرغم أو راغب ؟ فإذا ما ماَت أحُد نا
هذه الساعة ،وهو في هذه املتاهة غير قادٍر على الخروج منها ،فهل يستطيع وضع اإلصبع على املعنى
الحقيقي لحياته؟ إن السؤال املركزي في الحياة وال شك هو :ما هي الغاية من الحياة؟ ملاذا أنت في هذا
الوجود؟
إنما مثل الحياة؛ بمسارها املنهي ،وبمالها ،وببنينها ،وبمتعها الحسية واملعنوية ،ومثل اإلنسان يحيا
تلك الحياة ،كاملاء بالنسبة للسمكة ،تسبح فيه ،وال تدرك أنه املحيط من حولها ،فهي تعيش ،إال إنها لن
تستطيع أن تبلغ أن تكون الحياة بالنسبة لها هي املحيط بعجائبه وبجماله األخاذ ،وبتوازنه وتنوعه
ًة ًة ًة
واستعداداته الستقبالها لتعيش في كنفه ،فهي وإن كانت سمك شفاف صغير ،إال إنها قادرة على
العيش على أعماق ال يستطيعها اإلنسان بدون آالت قادرة على تحمل الضغوط الهائلة عليها ،لكنها لم
تدرك ذلك ،واقتصرت "حياتها" على االنشغال عنه بإشباع جوعاتها ،واتقاء أعدائها ،فلم تحفل بتأمل
ّخ
ذلك الجمال األ اذ للمحيط ،وتدّب ر تهيئته -على ضخامته -ليكون حاضنة لها ،وتهيئتها هي لتتمكن من
العيش فيه ،وال بتدبر دورها في ذلك التوازن العظيم ،لم تتأمل في صلتها بالوجود ،وصلة الوجود بها،
لتدرك الغاية من وجودها ،والهدف واملعنى الذي يترتب على ذلك ،وكذلك اإلنسان الذي يعيش يومه
كأمسه في تلك املتاهة ،دون تأمل وتفكر وتدبر وإدراك!
وليس من طبع الحياة تمام نعيمها ،فإنما يتقلب اإلنسان من محنة إلى منحة ،ومن نعيم إلى شقاء،
ومن سعادة إلى كدر ،بل فوق ذلك ،قد يتطور األمر بمن شقي وانكسرت روحه ،وخوى قلبه ،فيرتكس
في حال من التعاسة واإلجهاد النفسي ،والقلق واالكتئاب ،واإلحباط؛ وبعض من وصلت بهم الحال
لهذا ،كانوا في قمة مجدهم ،وعطائهم ،وشهرتهم ،وغناهم ،إال إن نفوسهم خلت من السعادة القائمة
على الطمأنينة ،واإليجابية ،وعلى السالم الداخلي ،والراحة النفسية ،وعلى اإليمان ،بدال من تلك
السعادة اآلنية القائمة على إشباع الغرائز والحاجات العضوية بأقصى درجة ،وعلى إطالق الحريات
ًا
وخصوص الحرية الشخصية ،تلك "السعادة" اآلنية التي تتأسس على أنها "املتعة" أو "النشوة" ،أو
"الرفاهية" وتحقيق القيم املادية وحدها ،فهذه سعادة ال تفضي إلى الطمأنينة ،إذ إنها تغفل القيمة
الروحية ،وتغفل التوازن في إشباع الغرائز والحاجات العضوية بين تحقيق القيم اإلنسانية والروحية
واملادية والخلقية ،فالسعادة الحقيقية ،والطمأنينة ناشئة عن نمط العيش الذي يحقق التوازن في
تنظيم حياة اإلنسان ،ناشئة عن تحقيق اإلنسان لحياة فيها هدف ،فيها "معنى" يعيش ألجله.
يقول عالم األعصاب واملحلل النفسي النمساوي (فكتور فرنكل) (" :)Vector Franklلدى الكثير من
الناس اليوم وسائل تمكنهم من العيش ،غير أنهم يفتقدون معنى يعيشون ألجله."2
حين يطرح الذين اكتووا بنار الحضارة الغربية على أنفسهم هذا السؤال ،وتكشف عنهم تلك
الغالالت الرقيقة فإنهم حتما سيدركون وقتها أنهم ما عاشوا سعداء ،وأن السعادة الحقيقية ليست تلك
املسرات اآلنية التي عايشوها من وقت آلخر!
ًا
وإذا ما قسنا عمر اإلنسان الفرد ،ونظرنا إلى أيامه التي يقضيها في هذا الوجود ،قياس إلى عمر
الكون ،وإلى األبد ،وجدناها لحظات قليلة ،كلمٍح بالبصِر ،مع أنه يحب الخلود ،فال بد إذن من صلة بينه
وبين سر الوجود ،تربطه به بوشائج قربى وعرى ال تنفصم ،فكما أن لوجوده غاية ومعنى ينبغي وضع
اليد عليها ،فإنها وال شك امتداد لغاية وجود الوجود نفسه ،كيف ال ،وقد شاهدنا بأم العين أنه تم
ضبط الخصائص العامة لكوكب األرض كي يستقبل الحياة ،ضمن نظام دقيق من التوازن البيئي ،وتم
ضبط قوانين الطبيعة وقيم الثوابت والشروط الحدية للكون من أجل استقبال الحياة ،لقد تهيأ الكون
إذن الستقبال هذا اإلنسان ،وتمت تهيئة اإلنسان نفسه ،بأجهزته وقدراته ليعيش هذه الحياة على هذا
الكوكب ،فال بد إذن من إدراك وشائج القربى والعرى بين غاية الوجود وغاية اإلنسان ،وال ينسجم
تصّو ر أن تكون خطة الوجود الكبرى هذه من أجل لحظٍة كلمٍح بالبصِر ثم يختفي اإلنساُن -العاقل
املفكر -من مسرح الوجود ،بل يقتضي التصّو ر الصحيح أنه ال بد من حياة أخرى يبعث فيها ذلك
ًا
اإلنسان ،تكون امتداد لتصوراته وأعماله واعتقاداته التي قام بها في حياته الدنيا.
هذا التصور املتكامل "هو وظيفة العقيدة الدينية الصحيحة ،وذلك أثرها في النفس وفي الحياة ...
ٌة
وما تملك عقيد أخرى غيرها أن تصل الكائن الفاني بقوة األزل واألبد ،وأن تمنح الفرد الضعيف ذلك
ًا
العون والسند" ،3وهي توفر لإلنسان معين ال ينضب في مواجهة كدر العيش ،ومحن الحياة ،نابع من
ًا ًا
اإليمان الحقيقي النابع عن فكر عقدي صحيح مبني على األدلة والبراهين ،التي تمأل الجوانح إيمان ورض
ًا
وتسليم ،قائٍم على صلة حقيقية بخالق الكون واإلنسان والحياة ،ومدبر أمرها ،في ظل فهٍم دقيق
ًا
لتنظيم الحياة وفق ملسئولياٍت تقع على اإلنسان فيها ،في ضمن نظاٍم َس َّخ َر ُهللا فيه لإلنسان ما يلزمه
للقيام بتلك املسئوليات على أتم وجه ،تلك الصلة تجعل اإلنسان ينظر دائما إلى كل صروف الدهر
2مشكلة الشر ووجود هللا ،د .سامي عامري ص 26
3السالم العالمي واإلسالم ،سيد قطب ،ص 8
ومسرات الحياة ومكدراتها ،بإيجابية وأمل ورجاء ،ومن امتلك ذلك اإليمان ،واجه به كل مسببات
االكتئاب والقلق واإلحباط ،فنفاها من حياته ،وعاش بقلب سليم!