Professional Documents
Culture Documents
حاكم صالح في كتابه الأيديولوجيا وتَمثيلاتُها الفَلسفية في الفكرِ العراقي الحديث 90 عاماً من البيئات التنافسية المتصارعة
حاكم صالح في كتابه الأيديولوجيا وتَمثيلاتُها الفَلسفية في الفكرِ العراقي الحديث 90 عاماً من البيئات التنافسية المتصارعة
بغداد ـ «القدس العريب» :يسعى الكاتب واملرتجم علي حاكم صاحل إىل فهم حتوالت األيديولوجيا يف
الفكر العراقي املعاصر من خالل قراءة الواقع التارخيي واملعريف والفلسفي هلذا الفكر بدءا منذ تأسيس
الدولة العراقية وصوال إىل املرحلة الراهنة اليت مثلت خالصة أكثر من مثانني عاما من هذه التحوالت.
ويشري حاكم يف كتابه «األيديولوجيا ومَت ثيالهُت ا الَف لسفية ..يف الفكِر العراقي اَحلديث» ،الذي صدر
مؤخرًا ،إىل أنه يف السنوات األخرية ،انعطَف العراقيون ينظرون يف أنفِس هم ،ويتأملون تارَخيهم
احلديث ،ويقلبون صَف حاِته ،ويطرحون تساؤالت عديدة ،يدور حمورها حول سبب ،أو أسباب ،فشل
العراق احلديث دولة وجمتمعا .وهذه الدراسة استندت إىل فرضية أساسية مفادها أن قدرا واسعا من
الفكر العراقي اهنمك بعد قيام ما يسمى باحلكم الوطين ،على حنو طبيعي ومتوقع ،يف البحث عن،
والتفكري يف ،النظام السياسي االجتماعي .وال شك يف أن تأسيس الدولة العراقية كان نتيجة تضافر
عوامل داخلية وخارجية ،وأيا كان االجتاه الذي مييل له الرأي يف هذا الصدد ،فإنه ملن املؤكد أن
العراقيني اضطلعوا هم أنفسهم شيئا فشيئا يف البحث عن النظام السياسي االجتماعي املناسب ،والعمل
بطرق عديدة على تثبيته وتكريسه والدفاع عنه .بدأ األمُر خطوات وإجراءات ومطالبات بسيطة
ومتهيدية ،يف طبيعة احلال ،ونضج حلوال ورؤى يف بيئة تنافسية ومتصارعة ،فاألمر مل يكن منذ البداية
رهَن خياراِت العراقيني فقط ،ومل يكونوا هم أنفسهم متجهني اجتاها واحدا فقط .ويف شروط تارخيية
حملية ودولية تبلورت خطابات عاجلت املسألة السياسية االجتماعية جزئيا أو كليا ،ضمنيا أو صراحة،
بصورة مباشرة أو غري مباشرة ،وصبت مجيعها يف ،أو دارت يف فلك ،اجتاهات متباينة هي االجتاهات
األيديولوجية الرئيسية ،اليت تنتخُبها الدراسة تعبريا عن الفكر العراقي ،وتزيد عليها متثيالهتا الفلسفية.
قسم حاكم دراسته إىل متهيد (األيديولوجيا والفلسفة) ،ومثانية فصول :الدولة العراقية احلديثة :البداية
والشرعية ،سردية األمة العربية ،أيديولوجيا حزب البعث العريب االشرتاكي ،الفكرة املاركسية
واأليديولوجيا الشيوعية ،املاركسية منهجا ورؤية ،الفكرة اإلسالمية من اإلصالح إىل األيديولوجيا
الثورية ،بناء الفكرة اإلسالمية نظريا ،االجتماع العراقي هوية وطنية .غري أن التساؤل الرئيسي الذي
سعت الدراسة لطرحه ،هو :ما نوع اإلجابات واخلطط اليت طرحت وما طبيعُتها وغاياهتا؟ وهل كان
العراق ،اإلنسان واجملتمع ،موضوعا لإلصالح والبناء والتطوير فعال ،أم أنه ُأمهَل لصاحل تشييد
مؤسسات ونظام سياسي خدمت مشروعات مزقت ،يف النهاية ،اجملتمع العراقي وغيبت إنساَنه؟
ويف حماولة من حاكم لفهم الرتابط بني األيديولوجيا ومتثيالهتا الفلسفية ،يرى أن األيديولوجيا
والفلسفة تفرتض إحدامها األخرى ،الفلسفُة هي إحدى متثيالت األيديولوجيا وصورها ،وختتلف
بطبيعتها عن التمثيالت األيديولوجية األخرى .تتعلق األيديولوجيا بالُبعد العملي والتطبيقي لألساس
النظري الفلسفي .فاأليديولوجيا هي اإلجابات املختلفة واملتنوعة اليت قدمها أفراد أو فئات أو أحزاب
عن السؤال الناظم للفكِر العراقي يف برامج ومشروعات متفاوتة ومتباينة ضمت السياسي واالجتماعي
يف وحدة واحدة ،أما الفلسفي فهو األساس النظري ،الضمين أو الصريح ،الذي يشكل جزءا من وعي
اإلجابة أو ال وعيها.
مبينا أن اإلجاباُت الكربى اليت ُقدمت عن مسألة النظام السياسي االجتماعي توزعت على أربع
إجابات؛ ثالث منها هي سرديات ،أو أيديولوجيات ،كربى :القومية العربية ،واملاركسية،
واإلسالمية؛ هي إجابات كربى ألهنا تفسرياٌت للماضي واحلاضر واملستقبل ،ومشروعاٌت صممت،
نظريا ،ما «جيب» أن تكون عليه حياة العراقيني ،ورمست صراعاهُت ا تاريخ الدولة العراقية ،وانغمرت
جهود فلسفية ،بطريقتها اخلاصة ،يف متثيل هذه األيديولوجيات .وبطبيعة احلال ،ليس سوى أيديولوجيا
القومية العربية اليت نفذت منطَق «الواجب» على أرض الواقع ،وبقيت األخريتان نظريتني ،ولكن هذا
ال مينع من التدقيق يف هذا املنطق الوجويب ،الذي انتظمهم مجيعا َعرب قراءة األفكار .وجيب التأكيد هنا
أنه ما من واحدة من هذه األيديولوجيات ُبنيت يف فردوس ،فجميعها ظهرت وانبنت يف واقع زاخر
بالتنافس والتصارع ،وتشكل منطُق كل واحدة منها على وفق ذلك .وكانت مكونات هذه املنطقيات
متشاهبة أو حىت متطابقة.
ومثة إجابة رابعة ،هي الوطنية العراقية ،اليت َعمدت إىل بناء اهلوية ليس َعرب البناء النظري اجملرد ،أو
البناء املاهوي الثابت ،وال َعرب وضع تعريفات وعناصر ومقومات متييزية ،وليس َعرب جتاهل االجتماع
العراقي ،بل كان منطلقها وغايتها اإلنسان العراقي ،والوجود االجتماعي ،واملشكلة االجتماعية
العراقية ،اليت هي سياسية من حيث أسباهبا وطبيعتها وامتداداهتا .هذا ال يعين أن هلا منطقا خاصا تتميز
به بشكل حاد عن غريها من االجتاهات األيديولوجية ،فلرمبا تداخلت حدودها ومكونات خطاباهتا،
ولكن ما كان مييزها هو أهنا انتهجت الواقعية االجتماعية يف التفكري يف النظام االجتماعي العراقي،
ومتيزت هذه اإلجابُة ،أيضا ،عن تلك األيديولوجيات بأهنا مل تشكل تيارا واحدا ومستمرا ،وحىت
تعبرياهتا السياسية كانت حمدودة ،وكانت صياغاهتا الفلسفية نقدية تناثرت يف مواقف وآراء ،ومل
تتكون كنظرية تامة متكاملة ،وهذه ،هي طبيعة كل توجه اجتماعي يدعو إىل اإلصــالح الوطــين
معـ ـتــمدا الواقعية والعلمية ال احل ـمــاسة الثورية الشعاراتية وال التوقعات اليوتوبية.
وخيلص حاكم إىل أنه يف مجيع األيديولوجيات الرئيسية القومية واملاركسية واإلسالمية مثة تفاوت بني
الفكر وموضوعه املفرتض ،فاجته الفكر إىل موضوعات يتومهها ويتخيلها وحيلم هبا ضمن آلياته
اخلاصة ،ومن مث يفرض نتائج ما توصل إليه على الواقع العراقي ،املوضوع املفرتض ،كعينة اختبارية:
أيديولوجيات تفكر مبنطق كلي ال يقيم للخصوصية احمللية اعتبارا ،تنطبق مقوالهتا على كل واقع على
حد سواء ،إىل منطق قومي ،كان جل مهه بناء أمة متخيلة ،وتصيري الواقع على وفق ذلك ،إىل منطق
ديين مشويل ،يف الغالب ،كغريه من أيديولوجيات ،يضع على عاتقه الوصاية على اجملتمع ،ويزعم
امتالك احلقيقة ،وعلى أساس فهمه هلذه احلقيقة ،جيب أن ُيصاغ الواقع االجتماعي ،فضال عما خيرتمه
من انقسام طائفي جوهري .وتنامت رفقة ذلك ختييالت بطولية ،وألقى أيديولوجيون عراقيون على
أنفسهم مهمات أوسع من قدراهتم وقابلياهتم ،وختيلوا أنفسهم بروسيا العرب .وكان ذلك شبه نسق
فكري اندرج فيه أغلب القوميني تقريبا .وبالتأكيد ما كان هلذه التخييالت أن تفعل شيئا لوال وجود
قوة مادية اقتصادية عسكرية عززهتا ،وأسهمت قبل ذلك بنشوئها وانتشارها أيديولوجيا ،ولكن أيضا
أسهمت يف استنفادها وحتوهلا ،.يف األخري ،عوامل اهنيار الدولة نفسها
مضيفا أنه يف الوقت الذي مل جيد فيه امللك فيصل األول العراقيني أمة واحدة ،مضت أيديولوجيات
تتخيل أمة وتسعى إىل حتقيقها يف اخليال ،أما الواقع احلسي الذي يعيشون فيه ،فكان ومها بالنسبة هلم،
ال يصح التفكري فيه ،حىت بلغ األمر بأحدهم ،سعدون محادي ،أن أنكَر الزمَن احلاضر وعده جمرد
نقطة رياضية .وكانت هذه هي املعضلة احلقيقية ،اليت شخصها املفكر العراقي الواقعي علي الوردي،
الذي رأى ببصريته الثاقبة منذ مخسينيات القرن العشرين املآالت الكارثية اليت تقودنا إليها
أيديولوجيات وأفكار سادت املناخ الفكري وهيمنت عليه كخيارات فكرية هنائية ووحيدة.
وينتهي حاكم يف دراسته إىل أن هذا احلكم يصدق على الكتابة الفلسفية يف العراق ،عانيا بذلك تلك
اليت كانت متثيالت أليديولوجيات ،وحنن مهما حبثنا اليوم فلن جند فيها ولو نصا فلسفيا واحدا يلقي
الضوء علينا حنن العراقيني ،ألن للفلسفة يف العراق تارخيا آخر (أو ال تاريخ هلا باألحرى) ال صلة له
بتاريخ العامل االجتماعي الذي ظهرت فيه ،فتارخيها رمبا يواكب أو يلتحق بتواريخ أخرى خارجية،
ويسري يف ظلها كنسخة باهتة ال معىن هلا .إن جهود ياسني خليل ،مثال ،لبناء نظرية للعلم يف جمتمع ال
ينتج العلم ،وقراءة الرتاث العريب على وفق ذلك ،وحتديد فعالية الفلسفة على الطريقة العلمية املعاصرة
هو مسعى ال تاريخ وطنيا له ،بل يتصل بتاريخ آخر يف أمكنة أخرى ،وال يعين الفكر العراقي بشيء
ال من قريب وال من بعيد .وحينما نتناوله اليوم ،فإنه لن يتحدث إلينا إال كما يتحدث نص مرتجم
عن االنكليزية أو األملانية.
املمارسة السياسية االجتماعية وحدها معيار هنائي وأساسي للتحقق من مدى مالءمة احللول والقيم
الفكرية ،وهي امليدان الوحيد لنجاعة اخلطط الفكرية النظرية ،اليت تعمل ،نظريا و/أو فعليا ،على
صياغة واقع جمتمع معني .وهذا أمر ميكن بلوغه من خالل التفكري العلمي واجلماعي واحلر ،وهي
شروط ثالثة غابت عن توجهات الفكر يف العراق احلديث ،وحل حملها تفكري أحادي حزيب فئوي
رغبوي .ومل تكن القنوات اليت جرى عربها الفكر العراقي غري اإلثنية والطائفية ،واحلزبية الضيقة،
واأليديولوجيا كبؤرة للنظر والتنظري ،وما عدا ذلك من قيم املدينة واملدنية والتحضر والوطنية العراقية
احلقيقية قد قمعت بقسوة ،وأمهلت ،وضاع صوهتا يف ضجيج أيديولوجيا اليمني واليسار على حد
سواء .ويف ظل بيئة فكرية كهذه قلقة ومريبة وغري مستقرة ومناورة كان من الطبيعي أال ينمو فكر
فلسفي عقالين ،فارتفع صوت التفلسف املتحزب ،وبلغ حدود الدعاية الفجة .واستحال االجتماع
العراقي حياة ال اجتماعية.
علي حاكم صاحل« :األيديولوجيا ومَت ثيالهُت ا الَف لسفية ..يف الفكِر العراقي اَحلديث»
دار الكتاب اجلديد ،بريوت 2016
400.صفحة
علي حاكم صاحل يف كتابه «األيديولوجيا ومَت ثيالهُت ا الَف لسفية ..يف الفكِر العراقي احلديث» 90 :عامًا
من البيئات التنافسية املتصارعة