Professional Documents
Culture Documents
الآيديولوجيا والسياسة
الآيديولوجيا والسياسة
سؤال اآليديولوجيا هو في الواقع كتلة كبيرة من األسئلة ،فهي تلك القوة الكامنة في العقول تدفع الناس إلى اإليمان بمنظومة
محكمة ،بل أحيانًا مقفلة من األفكار ،وتحديدًا في المجال السياسي .األساتذة الدكاترة مالك عبيد أبو شهيوة ،محمود محمد خلف،
مصطفى عبد هللا خشيم في جامعة طرابلس بليبيا ،قاموا بجهد فريد لالجابة عن ذلك السؤال في عمل كبير وعميق من مجلدين
بعنوان «اآليديولوجيا والسياسة ـ دراسة في اآليديولوجيات السياسية المعاصرة» .استعرض الباحثون في البداية جملة من
التعريفات األكاديمية والفكرية لآليديولوجيا.
ال شك أن األساتذة الثالثة قاموا بمغامرة علمية وسياسية في ذات الوقت ،فقد أصدروا تلك الدراسة في بداية العقد التاسع من
القرن الماضي .في تلك األيام كانت اآليديولوجيا جزءًا من كل شيء في ليبيا سياسيًا واقتصاديًا وفكريًا واجتماعيًا على األقل من
الناحية النظرية .الكتاب األخضر الذي ألفه القذافي كان عمًال آيديولوجيًا شامًال ،االقتراب من تلك المنطقة مغامرة سياسية بقدر
ما هي فكرية .استطاع األساتذة أن يخوضوا تلك المغامرة بقدرة علمية موضوعية لم يطلها ضغط الواقع السياسي.
استعرض األساتذة تعريفات اآليديولوجيا التي ساقها علماء السياسة واالجتماع وحتى علماء النفس في مراحل من التاريخ.
استحضر المجلد األول التعريف الذي ساقه الدكتور عبد هللا العروي في كتابه «مفهوم اآليديولوجيا» ،وهو أنها مفهوم حديث
نسبيًا ،جاء إلينا من الفكر الفرنسي بعد ثورة ،1789وترجمتها هي علم األفكار ،وكان الهدف من المفهوم الجديد هو أن يحل
محل «الميتافيزيقا» التي كانت غير ذات قيمة بعد الثورة الفرنسية ،والتي عملت على تغيير كل شيء لتأكيد انفصالها عن النظام
القديم .في تلك المرحلة كان الصراع بين األفكار أعتى مما هو بين السالح .نابليون هاجم المفكرين والمثقفين الذين عارضوا
توجهاته االستبدادية مقدما مصطلحًا جديدًا هو «اآليديوفوبيا» أي الخوف من الفكر .مع ظهور البرجوازجية برزت تيارات
فكرية أهمها الالهوتيون والعقالنيون .الفكر الماركسي وهو الذي أنتج قوة سياسية آيديولوجية ـ الشيوعية ـ في القرن العشرين،
قام على أسس اقتصادية في زمن التحوالت الكبيرة التي شهدها العالم بعد انطالق الثورة الصناعية .محور الفكر الذي بناه
ماركس وإنغلز كان دافعه تحقيق العدالة للطبقة العاملة التي تنتج وال تنال نصيبها الحقيقي مما تنتجه .بعد قيام االتحاد السوفياتي
كأول نظام سياسي شيوعي ،اتسع مدى ذلك الفكر نظريًا وسياسيًا وبعد الحرب العالمية الثانية ،فرضه ستالين نظامًا سياسيًا على
عدد من دول أوروبا الشرقية.
قام فالديمير إيلتشن لينين بتطويع أفكار ماركس إلى الواقع الروسي وطور الكثير من األفكار الماركسية من خالل كتاباته
الفكرية والسياسية .أوضح لينين الحاجة إلى القيادة والتنظيم ،وأن الحزب هو الذي يقوم بمهمة تعليم الجماهير وتعبئتها بالروح
الثورية ويقودهم إلى الحركة .تأسس االتحاد السوفياتي وأصبح قوة عسكرية وسياسية ضاربة ،لكنه انهار كقصر من الرمل على
شاطئ تضربه األمواج .لقد نخرته اآليديولوجيا التي كانت أداة للتحريك ثم صارت عامًال للجمود واالنهيار.
عرض الباحثون الشيوعية الماوية كإطار نظري وتطبيقاتها السياسية واالقتصادية .يرى ماو أن قيادة الثورة الصينية ال بد أن
تكون لطبقتي العمال والفالحين وتستند فكرة ماو تسي تونغ الرئيسية في هذا الصدد إلى أن العمال والفالحين يكونون األغلبية
العظمى من الشعب الصيني .لقد كان للوضع السياسي واالجتماعي الخاص للصين تأثير كبير على المضمون اآليديولوجي
وانعكاس له في ذات الوقت .كانت القومية الصينية عامًال مهمًا في الثورة الصينية ،حيث إنها أخذت وقتًا طويًال مقارنة بغيرها
من الثورات ،وخاصة الثورة الروسية في سنة ،1917فكانت الثورة الصينية على جبهتين :الجبهة الداخلية وهي محاربة حركة
الكومنتاج التي يقودها شين كيان شيك وأعوانه من البريطانيين واألميركيين ،والجبهة الخارجية وهي اليابان التي تحتل شرق
الصين .وهكذا تداخلت القومية مع الحزب وجيش التحرير الشعبي مما تالزم مع أفكار الحزب وسياساته.
خاض ماو حروبًا داخلية متواصلة في كل المجاالت السياسية واالقتصادية والثقافية ،بل كانت ثورات لم تخُل من العنف ،أبعد
فيها العديد من قيادات الحزب وفرض سياسات اقتصادية تسببت في موت الماليين ،وفرض كتابه األحمر على الجميع عبر
الثورة الثقافية ليكون دينًا جديدًا للشعب الصيني .التجربة الصينية في كل تحوالتها ،قدمت نموذجًا جديدًا لآليديولوجيا في تجليات
عدة .لقد حارب ماو بسالحه وأفكاره لتحرير الصين وتوحيدها ،لكنه ضحى بالماليين من البشر الذين ماتوا جوعًا وسخرة عنيفة
تحت سوط أفكاره التي ال تقبل النقاش من خارج الحزب أو من داخله.
في المؤتمر الثالث عشر للحزب الشيوعي الذي انعقد سنة 1987شهدت الصين تحوًال كبيرًا وحاسمًا ،حيث بدأت مسيرة إنهاء
اآليديولوجيا المقدسة وبدأت مرحلة البناء والتحديث ولم يبق من الحزب الشيوعي إال قوته األمنية واإلدارية المسخرة للتطوير
االقتصادي.
هل الليبرالية آيديولوجيا ،وهل هي المقابل النقيض للفكر الماركسي؟ تنطلق الليبرالية من مقولة «إن السوق صنع اإلنسان»،
ويرى ماكفيرسن أن الليبرالية قبلت حقيقة االنقسام الطبقي وبنت عليها أسسها العلمية التطبيقية .إن أول من ساهموا في صياغة
الليبرالية قد قدموا سلسلة من التفسيرات العقالنية ،والتي بدأت من االفتراضات التي ُبني عليها السوق الرأسمالي وقوانين
االقتصاد السياسي التقليدية .واستندوا إليها في تبرير الحاجة إلى الحكومة والنظام الذي يسمح باختيارها .المفكرون الذين
خاضوا في مكونات الليبرالية كثر ونسجوا الخيوط الرابطة بين عناصرها رغم االختالفات في بعض التحليالت .المرتكز
األساسي هو التكامل بين الليبرالية في جانبها االقتصادي مع الديمقراطية في الجانب السياسي.
القومية شكلت اآليديولوجيا التي ساهمت في قيام الدول ،وهي تدفع الجماعات إلى التالحم واالنخراط في جماعة سياسية واحدة،
وكلما سمعنا كلمتي ،نحن وهم ،طاف النفس القومي .القومية مثل غيرها من اآليديولوجيات السياسية األخرى تعتبر أداة أو
وسيلة للوصول للسلطة والتشبث بها من جانب جماعات سياسية معينة.
لقد مرت اإلنسانية بحقب تدافعت فيها األفكار ،وتفاعلت فيها الفلسفة واألديان وخاض البشر صراعات مسلحة رسمت خرائط
البلدان ورسمت مسار الثروات وكانت اآليديولوجيا نتاجًا للحراك البشري فكريًا وعلميًا .اليوم نعيش في عالم تجاوز تقديس
الفكر المعلب الذي يقدم للناس في حقنة اسمها اآليديولوجيا ،وصفة جاهزة معبأة بسائل األحالم واآلمال تحل مشاكل الناس
بمقوالت وشعارات ال تخلو من تصنيف اآلخر .لكن رغم ذلك ،ال يزال التطرف الفكري يفعل فعله في شتى البقع ،حيث يسطو
العنف على بعض العقول ليخدرها ويدفعها لقتل اآلخر .اآليديولوجيا تبقى جبًال من المتفجرات النائمة أو اليقظة قي بعض
الرؤوس وإن تراجع دورها التنظيمي السياسي كسلم للسلطة.