Professional Documents
Culture Documents
محنة جعفر الصادق
محنة جعفر الصادق
الصرب على ظنون احلكام من احملن ،واستدعاء احلكام للصابرين ،للتحقيق معهم يف هذه الظنون جبو إرهايب عنيف
من احملن أيضًا ،وإرسال عيون الدولة ملراقبة التصرفات ،وإحصاء األنفاس وإرصاد الكلمات من احملن كذلك .مث أليس من
احملنة أن يوصي اإلنسان أهله قبل كل استدعاء .ألنه ال يعلم مصريه وال ما جيري له خالل هذا االستدعاء .ألنه استدعاء
رمي. ليس للتك
تل ك هي حمن ة إمامن ا اجللي ل جعف ر الص ادق رض ي اهلل عن ه م ع أيب جعف ر املنص ور.
لقد حّد ث الصادق آباؤه األئمة الطيبون ،ح ّد ثوه عن خذالن الناس جلده أيب عبد اهلل احلسني ـ رضي اهلل عنه ـ يف
ساعة العسرة ،كما حّد ثوه عن اخليانة اليت كانت سببًا بإنزال الفاجعة العظمى بأهل البيت ،بيت النبوة والرسالة ،تكل اليت
س ّو دت وج ه ت اريخ األم ة اإلس المية ،حيث قت ل ابُن دعّيه ا ابَن نبيه ا ...وال ح ول وال ق وة إال باهلل.
كما رأى الصادق عمه اإلمام زيدًا ،كيف كانت هنايته وهناية أوالده ،حني اعتمد على من اعتمد ،فخانوا اإلمام
ونكثوا العهود ،فحّلت النكبة وكانت املصيبة ،حيث قتل اإلمام زيد قتلة آمثة ،مث نبش قربه من بعد ما ووري عليه الرتاب،
ربرة. اؤه ال اهر ،وذبح أبن ه الط لب جثمان فص
وقد مرت تلك الفاجعة ولكنها تركت ندوبًا يف نفس اإلمام الصادق صفي زيد ورفيق صباه ،وزادته حبال الشيعة
يف عصره ،الذين كانوا يغرون وال ينصرون ويتكلمون وال يفعلون ـ حيرضون وعند الشديدة يفرون ،وأن املغرور من خيدع
ل). وان هلم قب ه يف إخ ّر م اهلل وجه ام اهلدى علّي ك ال إم اق هبم( .كم
الطف. هب وم فاجعت ني ي بط احلس ام الس ال اإلم اق وكم
مث رأي ـ رضي اهلل عنه ـ أخريًا فعل املنصور بأوالد عمومته األخوين الكرميني حممد بن عبد اهلل بن احلسن وأخيه
إب راهيم حني خ رج األول يف املدين ة والث اين يف الع راق على حكم أيب جعف ر املنص ور.
وشاهد بأم عينيه حوادث احملن .ووقائع املصائب ،من مطاردة ومالحقة وتشريد وسجون ومصادرة أموال بأهل
البيت النبوي الكرمي حىت مل تنج من ذلك تلك الشيبة الطاهرة عميد هذا البيت الرفيع العماد عبد اهلل بن احلسن املثىن بن
ذا اخلروج. نة 145عقيب ه ًا س جن مكموم ات يف الس بط ،فم ن الس احلس
يف هذا اجلو اإلرهايب الفظيع ،عاش اإلمام الصادق ،فكان ال بد أن يصيبه شيء من ذيول ذلك اإلرهاب العنيف
ول و أن ه وق ف بعي دًا عن ذل ك اخلروج .ول و أن املنص ور ك ان يص انعه ال ود واالح رتام.
فاملنصور كان يتوجس خيفة من اإلمام اجلليل ،وهذه اهلواجس تدفع إىل الشك أحيان ًا ،وهناك من جيعل الشك
عنده يقينًا بالتزوير والدّس اللئيم .فكان يرسل عليه العيون واجلواسيس ،إلرصاد كلماته ،اليت كانت يلقيها يف حلقة درسه،
ّر فاته. ه وتص د حركات ا يرص كم
إال أن هذه املراقبة الشديدة ،اليت كان املنصور فيها بارعًا ،حبيث كانت تقع دون أن يشعر اإلمام بثقلها ،وإن كان
ا. يعلم بوجوده
الـوعـي – العـدد الثاني عشر -السـنـة األولى -رمضان 1408هـ -أيار 1988م
1
ولكن عن دما تبل غ ه ذه الش كوك منزل ة الظن الغ الب على التص ديق ،ال يت ك ان ي أيت هبا رج ال دائرة مباحثه ،فإنه
يس تدعيه بغ ري تك رمي ،وه و ذل ك اإلم ام الص ابر على فواج ع أه ل بيت ه ونكب ات ب ين عمومت ه.
حني حصل خروج األخوين الكرميني ،مهس رجال املباحث يف أذن املنصور أن اإلمام الصادق ،يؤيد خروجهما.
بل هو من ورائهما ،واحلقيقة خالف ذلك .فاستدعاه للتحقيق معه ،وقد استعمل املنصور يف هذا غلظة القول ،وسلك
سبيل اإلساءة يف هذا التحقيق ،ومل يراع نور اهلدى ،وطيب األرومة ،ووقار الشيخوخة ،اليت بلغت السبعني ،وال حرمة
ة العلم. رحم أو مكان لة ال رىب أو ص الق
ومن ذلك مناقشته وحتقيقه حني كان يف الكوفة بعد أن بلغ الصادق وصيته ألهله (قال املنصور :أنت يا جعفر ما
تدع حسدك وبغيك وفسادك على أهل البيت من بين العباس ،وما يزيدك اهلل بذلك إال شدة حسد ونكد ،وما تبلغ به ما
دره). تق
فقال اإلمام الصادق ،واهلل يا أمري املؤمنني ما فعلت شيئًا من ذلك :هذا ولقد كنت يف والية بين أمية وأنت تعلم
أهنم أعدى اخللق لنا ولكم ،وأهنم ال حق هلم يف هذا األمر ،فوا هلل ما بغيت عليهم وال بلغهم عين شيء مع جفائهم الذي
ك ان يل ،وكي ف أص نع ه ذا اآلن وأنت ابن عمي ،وأمس اخلل ق يب رمحًا ،وأك ثر عط اء وب رًا ،فكي ف أفع ل ذل ك ف اطرق
اعة. ور س املنص
مث قال :يا جعفر ما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشق عصى املسلمني؟ تريد أن
اء؟ ة واألولي ة بني الرعي رح الفتن دماء وتط ق ال تري
قال الصادق :ال واهلل يا أمري املؤمنني ما فعلنت وال هذه كتيب وال خطي وال خامتي ـ كان املنصور قد أخرج له كتبًا
ة. دعوهم إىل نقض البيع ان ت ل خراس إىل أه
فانتضى من السيف ذراع ًا فما زال يعاقبه وجعفر يعتذر إليه ،مث أغمد السيف واطرق ساعة مث رفع رأسه وقال
ادقًا). كص أظن
هذه أجوبة الصادق برقتها وصدقها ،وذاك كالم املنصور خبشونته وقسوته وكل منهما يعتز بسلطان يعتمد عليه.
فإمامن ا الص ادق يع تز بس لطان اهلل ال ذي ال يغلب ك ل س لطان ول و بع د حني.
واملنصور يعتز بسلطان احلكم وقوة اجلند .وهو زائل ولو بعد حني وما أن انتهت مسالة اخلروج خروج األخوين
الك رميني ح ىت اس تدعى املنص ور اإلم ام جعف ر من املدين ة املن ورة ،م رة أخ رى إىل بغ داد.
فكتب إىل واليه وابن عمه داود بن علي أن يسري إليه جعفر بن حممد وال يرخص له يف التلوم (التمكث) والبقاء
وكان القصد من ذلك ،هو التحقيق معه يف التهمة املوجه إليه بأنه جيمع الزكاة من مجيع اآلفاق وأنه مد هبا حممد بن عبد
ايل. ق الت ان التحقي ن فك اهلل بن احلس
نيس؟). ك املعلى بن خ ال يت جيبيه وال ال ذه األم اه رم ا جعف ور :ي (المنص
نني. ري املؤم ا أم كي اذ اهلل من ذل ادق :مع الص
اق؟ الطالق والعت كب ك من ذل ف على براءت ور :أال حتل المنص
ك. يء من ذل ان ش اك هم ف باهلل أن ادق :نعم أحل الص
اق. الطالق والعت فب ل حتل ور :ب المنص
الـوعـي – العـدد الثاني عشر -السـنـة األولى -رمضان 1408هـ -أيار 1988م
2
و. ه إال ه ذي ال إل ين باهلل ال ى بيمي ا ترض ادق :أم الص
ه علّي ؟ ور :ال تتفق المنص
ين. هم ذهب الفق ادق :وأين ي الص
المنصور :دع عنك هذا فإين أمجع الساعة بينك وبني الرجل الذي رفع عليك هذا حىت يواجهك .فأنوه بالرجل
وس ألوه حبض رة جعف ر فق ال :نعم ه ذا ص حيح .وه ذا جعف ر بن حمم د ال ذي قلت في ه م ا قلت.
حيح؟ هص ذي رفعت ل أن ال ا الرج ف أيه ادق :أحتل الص
الرج ل :نعم :مث ابت دأ ب اليمني فق ال :واهلل ال ذي ال إل ه إال ه و الط الب الغ الب احلي القي وم.
تحلفك. إنين اس كف ل يف ميين ادق :ال تعج الص
ذا اليمني؟ رت من ه ا أنك ور :م المنص
الص ادق :إن اهلل تع اىل حي ك رمي يس تحق من عب ده إذا أث ىن علي ه أن يعاجل ه بالعقوب ة ملدح ه ل ه ولكن ق ل أيه ا
ول. ا أق ر فيم ادق ب ويت لص ويل وق ه وأجلأ إىل ح ه وقوت رأ إىل اهلل من حول ل :أب الرج
ه. د اهلل ب و عب تحلف أب ف مبا اس ور :أحل المنص
(قال راوي هذا اخلرب فحلق الرجل هبذه اليمني ،فلم يستمم الكالم حىت خر ميت ًا فراع املنصور وارتعدت فرائصه،
وقال للصادق يا أبا عبد اهلل سر من عندي إىل حرم جدك إن اخرتت ذلك ،وإن اخرتت املقام عندنا مل نأل يف إكرامك
دًا). دها أب د بع ول أح وا هلل ال قبلت ق رك ،ف وب
على ه ذه األح وال املض طربة ،والنف وس القلق ة ال يت ال تع رف مص ريها احملت وم .وهبذه الظن ون املريب ة ال يت عقوبته ا
د. جن املؤب دام ،أو الس اإلع
وتل ك العي ون احملدق ة واألحاس يس املرهف ة ال يت حتص ي األنف اس ،وترص د الكالم:
وتل ك التحقيق ات ال يت تع دت ه ذا الع دد ال ذي ذكرهنا وال يت أىب احلك ام فيه ا أن ي رتكوا إمامن ا العظيم ،يف ه داءة
العلم يعلم الن اس الطيب من الق ول واملأثور من جوام ع الكالم النب وي ،وه و اإلم ام يف فق ه الكت اب والس نة.
كما مل يرتكوه وشأنه ،يسبح اهلل يف حمرابه ،مناجيًا بذكر اآلخرة ،ويدعو على أولئك الظاملني ،الذين فتكوا بالعرتة
النبوية الطاهرة ،وقطعوا أغصان الدوحة النبوية احملمدية ،مات الصادق موتة الصديقني والشهداء ،فعليه سالم اهلل ورضوانه
يف اخلال دين) م ات اإلم ام الص ادق رض ي اهلل عن ه س نة 148هـ ول ه من العم ر 68س نة .
الـوعـي – العـدد الثاني عشر -السـنـة األولى -رمضان 1408هـ -أيار 1988م
3