Professional Documents
Culture Documents
تحليل السياسات العمومية
تحليل السياسات العمومية
المحمدية
ذ .اإلدريسي
2
تعريف السياسات العمومية:
يعرف هارولد السويل Harold LASSWELLالسياسات العمومية بأنها "برنامج أو مخطط
حكومي يتضمن مجموعة من األهداف والقيم والرهانات والبدائل والقرارات واألدوات
العملية ".
أما دافيد إسطون David EASTONفقد أولى اهتماما بالغا بالسياسات العمومية من وجهة
تحليل النسق السياسي كنتيجة ومحصلة في حياة المجتمع من خالل تفاعلها الصحيح مع البيئة
الشاملة التي تشكل فيها المؤسسات والمرتكزات والسلوكيات أصوال للظاهرة السياسية التي
يتعامل معها النسق السياسي ،فعرفها بأنها" :توزيع القيم (الحاجات المادية والمعنوية) في
المجتمع بطريقة سلطوية آمرة ،من خالل القرارات واألنشطة اإللزامية الموزعة لتلك القيم،
في إطار عملية تفاعلية بين المدخالت والمخرجات والتغذية العكسية ".
ويرى غابرييل ألموند Gabreil ALMONDأن السياسة العمومية تمثل" :محصلة عملية
منتظمة عن تفاعل المدخالت والمخرجات (مطالب +دعامات) والمخرجات (قرارات
وسياسات عمومية) للتعبير عن أداء النسق السياسي في قدراته االستخراجية والتنظيمية
والتوزيعية والرمزية ،واالستجابة الدولية من خالل القرارات والسياسات المتخذة ".
وعلى نفس المسار نحت ، Barbara MACLELLANفعرفت السياسات العمومية بأنها:
"مجموعة من النشاطات والتوجهات الناجمة عن العمليات الحكومية استجابة للمطالب
الموجهة من النسق االجتماعي إلى النسق السياسي".
يستخلص من مجموع التعاريف التي قدمها النموذج األنجلوساكسوني أن السياسات العمومية
هي نتيجة من نتائج النسق السياسي ،تتفاعل مع بيئته الشاملة ألنها ال تكون فاعلة ما لم
تراعي ظروف البيئة المحيطة بها .فالسياسات العمومية عند كل هؤالء الباحثين هي مجموعة
من القضايا والمفاهيم األولية المتعددة والمتنوعة ،والتي تضم األهداف والوسائل التقنية عند
كل من سيمون ودال ، SIMON et R. DAHLوقرارات ومدخالت ومخرجات عند كل من
EASTONو ALMONDو ، MACLELLANوأفعال وممارسات سياسية عند Charles
.JONESمن هنا إذن فإن السياسات العمومية تصبح في النهاية محددة باعتبارها تجمعا أو
مركبا من :المشاكل ،والفاعلين ،واالستراتيجيات ،والوسائل والموارد ،والقيم ،واألفعال،
والمنافع ،والبدائل ،واألهداف ،واآلثار ،وقابلية كل هذه العمليات للتقييم .
Thomas DYE أمام هذا التعقيد والتعدد في التعاريف الخاصة بالسياسات العمومية ،اختار
إعادة توجيه مسالة تعريف السياسات العمومية ،فبعد أن عدد أكثر من 40تعريفا للسياسات
العمومية إلى حدود سنة ،1972قدم تعريفا مبسطا وشامال لخصه كما يلي" :السياسات
العمومية هي ما تقرر الحكومات فعله وعدم فعله" ،فعوض البحث في مضمون تعريف
السياسات العمومية أختار DYEالتركيز في تعريفه هذا للسياسات العمومية على من يصنع
3
وينتج هذه السياسات ،وأيضا في إظهار القيمة الحقيقية للمكانة التي تحتلها صياغة البدائل في
عملية رسم السياسات العمومية ،وأن الحكومات تتحمل المسؤولية عند تبنيها لهذا البديل دون
آخر.
أما لدى الفرنسيين فيمكن اإلشارة هنا إلى التعاريف التالية :
يعرف بيير مولر Pierre MULLERالسياسات العمومية بأنها" :برنامج عمل متناسق،
تحاول بواسطته سلطة عمومية وطنية أو محلية إحداث تغيير في البيئة أو المحيط الثقافي
واالجتماعي واالقتصادي للفاعلين االجتماعيين بشكل عام في إطار قطاعي او جزئي" .أما
Patrice DURANTفقد عرف السياسات العمومية بانها" :التأثير الناشئ عن نسق من
األفعال واألنشطة حول مشكل خاص يمس السلطة العمومية ويستدعي تدخلها" .غير أن
Jean Claude THOENIGقد اعتمد طريقة مغايرة لتعريف السياسات العمومية تنطلق من
تحديد العناصر األساسية التي يمكن أن تؤسس لظهور سياسة عمومية ما ،والتي حددها في
خمسة عناصر أساسية على الشكل التالي:
-المادة أو المضمون :بحيث تتشكل أو تتكون السياسة العمومية من مجموعة من الموارد
واالجراءات المحددة والملموسة التي تشكل هذه المادة :كالموارد المالية والموارد الفكرية
والمعرفية ،والموارد البشرية ،ثم القوانين واالعفاءات والمساعدات.
-القرارات :وتشمل اشكال التوجيه التي يمكن أن تكون أقل سلطوية من الموارد المالية
والبشرية والرمزية ،بمعنى اآللية التي عبرها يتم تحديد وتخصيص الجهة أو العينة التي
ستخصص لها هذه الموارد.
-السياسة العمومية تندرج في اإلطار العام للفعل أو النشاط :بمعنى أن يكون هناك تناسق
أو انسجام بين مختلف االجراءات المتخذة ،مما يعطي للسياسة معنى محدد.
-لكل سياسة عمومية شريحتها أو شرائحها االجتماعية :والمقصود هنا األفراد
والجماعات والمجاالت أو التنظيمات التي تستفيد من هذه السياسة أو الموجهة لها هذه
السياسة.
-السياسة العمومية تحدد أهدافها التي تريد الوصول إليها بدقة سواء على المدى
المتوسط أو البعيد .
كما يعرفها Vincent LUMIEUXبأنها "مجموعة من القرارات المترابطة التي يقرها فاعل
أو مجموعة من الفاعلين السياسيين" .ويالحظ من هذا التعريف أن القصد من الفاعل أو
مجموعة الفاعلين ال يعني الحكومة فقط ،بل يتوسع ليشمل أيضا المؤسسات األخرى
وجماعات الضغط (أحزاب سياسية ،نقابات ،مجتمع مدني)...والتي تدفع الحكومات لتبني
سياسة عمومية معينة.
4
على هذا األساس إذن يمكن اعتبار السياسة العمومية بمثابة نتاج فعل أو تصرف حكومي
يرتبط ا رتباطا وثيقا بمهام ووظائف الحكومة ،وكل عمل خاص أو صادر عن منظمة غير
حكومية ال يعتبر سياسة عمومية .وبالتالي يقصد من هذا الحصر تلك األفعال التي تدخل في
صميم مهام الحكومة (ضمان المصلحة العامة ،حماية المواطنين ،الحفاظ على النظام العام،
ضمان التماسك االجتماعي و حماية التراب الوطني ) ،والمهام السيادية (البعثات
الديبلوماسية ،السيادة االقتصادية والرعاية االجتماعية) .كما يقصد به أيضا كل سياسة
عمومية تتم صياغتها كجواب يهدف حل مشكلة ،أو يستجيب لمتطلبات المواطنين .بمعنى كل
مشكلة أو ظاهرة تستوجب بالضرورة حال حكوميا ،وإذا تم استخدام السياسة العمومية
كوسيلة لتقديم الجواب من أجل معالجة المشكل فإنها بذلك تقدم حلوال ،فيصبح الحل جزءا ال
يتجزأ من السياسة العمومية.
بناء على ما سبق ،يمكن القول أن السياسة العمومية تعتبر أيضا بمثابة التزام حكومي اتجاه
المواطنين .مما يعني أنها تشكل إطارا موجها لصناع القرار من أجل اتخاذ القرارات
واالجراءات الالزمة .كما يمثل المرجعية السياسية المتاحة للمواطنين والتي على أساسها تتم
مساءلة أو محاسبة الحكومات.
ولتوضيح ذلك سنحاول مقاربة السياسات العمومية في دورتها الكاملة ومختلف المراحل التي
تمر بها في جانبها العملي وليس فقط النظري بالرغم من العالقة الثابتة بين ما هو نظري وما
هو عملي ومهني .
5
مراحل السياسات العمومية
إن التحليل عبر المراحل ال يشكل في الواقع نظرية متكاملة لتحليل الفعل العمومي،
بل بالعكس من ذلك يشكل طريقة أو منهجية لتحليل السياسات العمومية .إن هذه المقاربة
تعتمد بمثابة إطار للتحليل يقوم على أساس تعاقب المراحل المتوالية .بمعنى شبكة منظمة
على أساس مراحل للفعل تمكن من بناء وإعداد سياسة عمومية أو تقسيم مسار سياسي إلى
مراحل مختلفة ومتوالية.
ويمكن القول أن هدف هذه المقاربة هو إعداد نموذج مثالي للفعل العمومي ولطريقة
اشتغاله أو وظيفته ،ولبناء إطار قار وثابت وعام بما فيه الكفاية حتى يمكن تعميمه وتطبيقه
على أية سياسة عمومية ،وهيكلة وعقلنة تحليل السياسات العمومية أيضا .وحسب شارل
جونز Charles. O. JONESفإن "الكشف عن طريقة اشتغال المسار السياسي" 1هو الهدف
الرئيسي للتحليل ،كما يتعلق األمر في نفس الوقت بتوضيح غموض وتعقيدات الفعل العمومي
وفك خيوطه .إن التحليل بناء على تعاقب المراحل المتوالية ،يمنح الباحث مجموعة من
األدوات واآلليات لمساعدته على اإلجابة عن هذه األسئلة بناء على عملية التقطيع الزمني إلى
مراحل.
وفي هذا السياق ،يعتبر هارولد السويل H. LASSWELLأول من حلل السياسات
العمومية أو البرامج الحكومية (حسب التعبير األمريكي) ،باعتبارها مسارات سياسية ،بمعنى
مجموعة من القضايا المنظمة والمرتبة في الزمان ،وتديرها مجموعة من اآلليات
والميكانيزمات الخاصة .2بحيث وضع شبكة مفاهيمية تتكون من سبعة لحظات أو مراحل
وظيفية تمر بها أية سياسة عمومية خالل مسارها الكامل وهي:3
Intelligence -اإلدراك واالستعالم
Promotion -الترويج والتعزيز
Prescription -التوصيف والحل
-االحتجاج والحوار Invocation
Application -التنفيذ والتطبيق
-اإلنهاء أو االنتهاء Termination
4
.Appraisal -ثم أخيرا التقييم
ومنذ هذا النموذج ،تواترت العديد من األبحاث التي سارت على نهج المقاربة التي
تتعاطى مع المسارات السياسية على أساس المراحل الزمنية المتوالية .لكن تبقى المقاربة
1
- JONES. C. O : « An introduction to the study of public policy », Belmont, Duxbury Press, 1970.
2
LASWELL Harold Dwight: « Politics : who gets what, when and how », Magnolin, P. smith. 1950
3
- LASWELL Harold Dwigth : « The décision process : seven catégories of functional analysis »,
college Park (MD). University of Mayland, 1956.
4
- Ibid.
6
سنة Charles. O. JONES األكثر اعتمادا بشكل عام هي المقاربة التي وضعها شارل جونز
1970في كتابه تحت عنوان" :مقدمة لدراسة السياسة العمومية" «An Introduction to the
study of public policy »5والذي عمل من خالله على تقسيم المسار أو المسلسل السياسي إلى
خمسة مراحل أساسية ،بحيث تتشكل كل مرحلة من هذه المراحل من مجموعة من األنشطة
حددها فيما يلي:
Problem identification تحديد المشكل المولد للسياسة العمومية -
Program development تطوير وصياغة البرامج -
Program Implementation تنفيذ السياسة -
Program evaluation التقييم -
Program Termination إنهاء أو انتهاء السياسة العمومية -
إن خصوصية نموذج "جونز" ،كما أشار إلى ذلك Jean Claude THOENIG6هو أنه يربط كل
مرحلة بنظام من الفعل الخاص بها ،وكل مرحلة تضم مجموعة من الفاعلين لهم رهاناتهم
التي تحركهم ،ثم منظومة من العالقات المتبادلة باإلضافة إلى أنماط أو أشكال محددة من
القواعد للضبط االجتماعي سواء داخل أجهزة السلطة أو في محيطها مثل (تدخالت المؤسسة
التشريعية ،والدواوين الوزارية ،القطاعات الوزارية ،اإلدارة العمومية ،وأيضا الجماعات
الضاغطة ،واإلعالم ....إلخ) .إن انفتاح هذا النموذج على مختلف الفاعلين ،حكوميين أو
خواص ،هي مسألة ذات أهمية بالغة ،فهو يحول في حقيقة األمر دون هيمنة أو تغول
المعالجة القانونية أو التشريعية على الفعل العمومي ،ويساعد على اكتساب رؤية
سوسيولوجية تساعد على إعداد كيف يمكن لمختلف أنماط الرأي العام أن يتحولوا إلى
فاعلين في المسلسل أو المسار السياسي الذي يعنيهم ،واألكثر من ذلك فإنه يأخذ بعين
االعتبار بيئة الفعل العمومي في تعقيداتها.
إن الجانب األكثر جاذبية في التحليل المبني على المراحل ،يتمثل بشكل أكيد في قدرته على
ترتيب وتنظيم اآلليات السياسية ،وبشكل أوسع أيضا ،الواقع األكثر تعقيدا الذي يصطدم به
الباحث .إن تنظيم هذه اآلليات والميكانيزمات وفق شبكة للتحليل المحددة سلفا ،تسمح بتحديد
العمل والقضايا واإلشكاليات ،وأيضا أصناف الفاعلين ولحظات السياسة العمومية .غير أن
العقبة في ذلك تتمثل في أن التشكيل البعدي يستحضر ويطرح بشكل سريع .لكن الخطر هنا
يكمن في تشكيل الواقع وفقا أو تبعا لنموذج معين.
ومن خالل هذا المظهر األخير ،فإنه من الطبيعي أن تكون خاصية النموذج المثالي لتعاقب
المراحل هي التي أعطتها هذا النجاح .لقد كان لهذا اإلطار التحليلي أثر واضح في حقل
5
- JONES Charles O : « An Introduction to the study of public policy », third edition, Publishing
company, 1984.
6
- THOENIG Jean Claude : « L’analyse des politiques publiques », In Madeleine GRAWITZ ET Jean
LECA (dir) : « Traité de science politique », Tome 4, Paris, PUF, 1985. P : 1- 53
7
تحليل السياسات العمومية بسبب طابعه العام مند ،1970بحيث سمح لباحثين من آفاق معرفية
مختلفة لتبني هذ ا النموذج والعمل وفق آلياته وأدواته المعرفية .وبكل تأكيد فإن عدم ارتباطه
بتيار فكري أو نظري خاص قد أدى إلى أن تشكلت في أحضانه مشاريع واتجاهات بحثية
متنوعة .بحيث اهتمت العديد منها بمسألة المراحل لذاتها ،كما تطورت مجموعات كاملة
لتحليل السياسات العمومية تهتم بقضايا متعددة مثل :نشأة السياسة العمومية ،والوضع على
جدول األعمال الحكومي ،ومسلسل اتخاذ القرار وتحول رهانات تنفيذ أو تقييم السياسة
العمومية.
لكنه ومنذ بداية ثمانينات القرن العشرين ،بدأت توجه لهذه المقاربة انتقادات متعددة في
الواليات المتحدة األمريكية بشكل خاص ،نظرا لهيمنة هذا اإلطار التحليلي وتأثيره الكبير
على تحليل السياسات العمومية ،وأيضا المنظور التبسيطي الذي طبق به مما جلب لها
مجموعة من االنتقادات .ففي سنة 1987اعتبر 7NAKAMURAأن نموذج جونز تحول لما
يشبه كتاب مدرسي يستعمله السياسيون بشكل تبسيطي .كما سار P. SABATIERعلى نفس
النهج ،حيث نشر سنة 1999كتابا تحت عنوان" :نظرية المسار السياسي" Theories of the
policy processحاول من خالله تسليط الضوء على المقاربات الجديدة التي تحلل السياسات
العمومية بناء على المراحل المتتالية ،بحيث أشار في مقدمة كتابه" :لقد تجاوزت المقاربة
عبر المراحل المتوالية جدواها ،وينبغي استبدالها بوضع إطار نظري أفضل".8
غير أن هناك بعض االنتقادات التي وجهت للمقاربة عبر المراحل ،والتي يجب أخذها بعين
االعتبار ،وخاصة األكثر أهمية منها مثل :تشبيه مسار السياسية العمومية بالخط المستقيم.
لكنه في الواقع وخالفا لما يمكن أن تقترحه أو تقدمه هذه الشبكة التحليلية ،فإن المسار
السياسي أو ما يرتبط به من فاعلين أو أنشطة ،يتصفون دائما بالديناميكية والحركية ،إلى حد
الفوضى أو الالنظام ،أما االستقرار فهو دائما شكلي أو مظهري إلى حد إعادة البناء أو
التشكيل .عمليا ،فإن ذلك يعني أن المراحل يمكنها أن تتداخل إلى حد االنصهار ،أو تنقلب في
الوقت أو الزمن ،أو أن تغيب بعض المراحل بشكل كلي .والنتيجة هي أنه يمكن إنهاء سياسة
عمومية دون أن تسبقها مرحلة تقييم قبلي ،ويمكن البدء في عملية تنفيذها قبل استكمال عملية
اتخاذ القرار شكليا كعدم نشر النص القانوني الذي تستند إليه هذه السياسة مثال ،وهو ما
يطرح مسألة حدود كل مرحلة وتسلسلها ،ألن كل المتغيرات المعنية أو المقصودة في مسار
سياسي تتكيف وتنضبط ويعاد تجديد كل واحدة منها تبعا لألخرى باستمرار .أين يبدأ القرار
وأين ينتهي؟ وكيف يمكن تحديدها وتعريفها؟ ما هي المؤشرات والعالمات الواضحة التي
تدل على انتهاء سياسة عمومية أو برنامج حكومي ما؟ هذا مع العلم أننا نلحظ دائما على أن
7
- NAKAMURA (Robert) et SAMLL WOOD )Frank( : « The Politics of Policy Implementation »,
New York. ST Martin's Press Inc. 1980. P : 14
8
- SABATIER Paul. A : « theories of the policy process », Blonder (colo), Westview Press, 2007. p:
3-14
8
هناك إعادة توجيه لهذه السياسة أو البرنامج وليس إنهاؤها في الحقيقة من خالل إعادة تعريف
وتوجيه المشكل.
إن هذه المالحظة األخيرة تحيل إلى التساؤل حول القيمة اإلرشادية أو التوجيهية للتحليل عبر
المراحل المتتالية ،وهو ما يسميه كل من 9P. MULLER et Yves SURELبتوجيهات لحل
المشاكل أو المشكل ،ألن هذه المقاربة ترتكز على فرضية عقالنية ،بناء عليها ،تهدف
السياسة العمومية إلى حل المشاكل المطروحة على السلطات العمومية .في حين أن بعض
مفاهيم ومقاربات الفعل العمومي قد تطورت منذ هذا التاريخ ،والتي استهدفت التعاطي مع
السياسات العمومية على أنها تعبير عن رؤية المجتمع لذاته ،أو طريقة للتعبير عن المشاكل
العمومية أو عن العالقة الخاصة بالعالم كما هو الشأن بالنسبة للمقاربات الفكرية للسياسات
العمومية.
وأخيرا فإنه يبدو شيئا مبالغا فيه ،اعتبار هذه المقاربة بأنها تبسيطية لمجرد أنها حاولت
تقريب فهم ميكانيزمات تطور مسار أو مسلسل سياسي وتسهيل عملية تحليله .وعلى النقيض
من ذ لك فإنه من االنصاف القول أنه من الصعب إيجاد مجموعة واحدة من المراحل بل جملة
من المراحل المتوازية في تفاعالتها الثابتة والتي تتم في الوقت نفسه وعلى مستويات مختلفة.
ومهما يكن األمر ،فإننا سنستعين بهذه المقاربة لدراسة المسار الذي تمر به السياسة
العمومية ،والتي نحددها في ستة مراحل أساسية تتمثل في:
أوال :مرحلة تحديد المشكل المولد للسياسة العمومية
ثانيا :مرحلة الوضع على جدول األعمال الحكومي
ثالثا :مرحلة اتخاذ القرار
رابعا :مرحلة إعداد وصياغة السياسة العمومية
خامسا :مرحلة التنفيذ
سادسا :وأخيرا مرحلة التقييم .
9
- MULLER (Pierre) et SUREL (Yves) : « L’analyse des politiques publiques », Paris, Montchrestien,
coll. « clefs-Politiques ». 1998.
9
الفصل األول :تحديد المشكل المولد للسياسة العمومية
يمكن تعريف المشكل االجتماعي بأنه" :كل ظاهرة غير عادية في نظر الفاعلين
االجتماعيين والسياسيين ،بمعنى كل وضعية اجتماعية تطرح مشكال ما" .وقد عرفه باجيولو
PAGGIOLOبأنه" :إدراك أو تمييز يقوم به الفاعلون الختالل ما ،بين ما هو قائم (الثابت)
وبين ما يجب أن يكون (واجب التحرك) ،وما يمكن أن يكون (إمكانية الفعل)" .أما جون
كينغدون John KINGDONفيعتبر "أن المشكل االجتماعي يوجد عندما يبدأ األفراد في
االعتقاد أو التفكير أنه باإلمكان القيام بشيء ما لتغيير الوضعية" .10وكذلك عرف Jean
Gustav PADIOLEAUالمشكل بأنه "كل ظاهرة مختلة والتي تستدعي نقاشا عموميا ،وتدخال
من طرف السلطة العمومية الشرعية" .أما Aron. B. VILDAVSKYفقد اقترح تعريفا
موسعا يعتبر أن "كل مشكل وجد له حال فهو سياسة عمومية".11
في التحليل األنطربولوجي ينظر إلى "المشكل االجتماعي على أنه يشكل بناء اجتماعيا،
أي فعل ثقافي يتأتى من بنية فكرية وأخالقية" ،12فمن جهة توجد معتقدات في أي مجتمع
حول وضعيات أو قضايا تؤدي إلى والدة أو نشأة مشكل ما ،ومن جهة أخرى فإن الطابع
األخالقي تتم ترجمته بواسطة مواقف وأحكام تحدد على أن هذه القضايا أو األحداث هي غير
مقبولة وغير أخالقية ،وهو ما يعني ذلك أنه من الضروري إحداث تغيير ما .فكل مشكل
عمومي هو اجتماعيا قابل للتكييف والتأويل لينشأ حوله مسار من المسؤوليات لدى هذا
الفاعل أو ذاك في المجتمع.
إن بنية المشاكل العمومية هي ساحة من الصراع التي عليها تدخل مجموعة من
الجماعات والفاعلين والمؤسسات (التي تقحم دائما مجموعة من الهيئات العمومية) في
صراع وتنافس من أجل التخصيص أو عدم التخصيص ثم تحديد المسؤولية.
إن تعريف أو تحديد مفهوم المشكل االجتماعي ،يشكل في الواقع إطارا للنقاش والنزاع:
إما ألن امتيازات ما يمكن التوافق بشأنها ،أو ألن إكراهات ما قد تم فرضها ،وأيضا مبادئ
جوهرية أو قيم ومعتقدات أعيد فيها النظر .كما أنه من النادر أن يكون تحديد مفهوم المشكل
نهائيا وال يقبل التغيير والتعديل ،ألن الفاعلين يعتمدون دائما استراتيجيات إعادة تحديد مفهوم
المشكل من أجل توسيع القاعدة االجتماعية المعنية أو من أجل الحصول على دعم ومساندة
10
- KINGDON John : « Agendas, alternatives and public policies », New York. (N.Y). Longman,
1995.
11
- VILDAVSKY Aron : « Speaking Truth to power . The art and craft of policy analysis », New
Brunswik (N. J), Transaction Publishers, 1987.
12
- KUBLER. D. et DE MAILLARD. J : « Analyser les politiques publiques », Presses Universitaire
de Grenoble. Paris. 2009
10
R.أربعة COBB et C. ELDER وتعبئة جماعات جديدة .وعلى هذا األساس عدد كل من
ثوابت أو معايير أساسية ليتمكن مشكل ما أن يمس جمهورا واسعا :
13
أ -غموض تعريف المشكل ،ألن المثل يقول أن المبهم أو الغامض يساعد على استمالة
تحالفات واسعة.
ب -أن المشكل يجب التعبير عنه بلغة بسيطة وغير معقدة.
ج -االستمرارية على المستوى الزمني ،ألن المشكل الذي ال يستمر من الصعب تحديده في
الزمان.
ح -الطابع المتكامل للمشكل.
إن صياغة مشكل اجتماعي ما تتم دائما على أرضية الرموز الوطنية التي نعني بها
هنا :القيم والعادات وأيضا القواعد العاطفية المحركة والمعبئة لكونها مشتركة بين أوساط
مختلفة .فالفاعلون السياسيون يعرفون جيدا كيف يمكن استغالل وتوظيف الرموز كما هو
الشأن بالنسبة للقيم الدينية أو األخالق الدينية ،أو المصلحة الوطنية العليا ،والمصلحة العامة،
والتماسك المجتمعي ،ومتطلبات العيش المشترك ،واحترام المقدسات ،ومستقبل االقتصاد
الوطني ،والعدالة االجتماعية....وغيرها ،وهو ما يعني استراتيجية التعميم .فكلما تم تحويل
مشكل اجتماعي إلى رهان له صدى عاطفي كلما ارتفعت مصداقيته وازداد دعم الجمهور له
بشكل أكبر .وفي هذا السياق ،فإن وسائل االعالم على اختالف أشكالها تلعب دورا كبيرا في
مسار أو مسلسل تسريع الرهانات وأيضا توسيع قاعدة الشرائح االجتماعية المطالبة بذلك.
كما أن تعريف المشكل االجتماعي المولد للسياسة العمومية يختلف من حيث الزمان
والمكان :بحيث هناك مشاكل تعود إلى فترات زمنية سابقة ولم يتم االعتراف بها ولم ينشأ
حولها مسلسل للتسييس ،لكونها تشكل مشكال يتطلب أن تعتمد له حلوال ولكن بشكل متأخر
كثيرا ،ومثال ذ لك مشاكل التلوث والبيئة والتغيرات المناخية التي ترتبط تاريخيا بمسلسل
التصنيع ،أو تعود لمخلفات الثورة الصناعية لما يقرب من قرنين من الزمن ولم تبدأ عملية
االعتراف بها كمشكل إال خالل سبعينات القرن العشرين ،وبشكل رسمي خالل العشرية
األخيرة لنفس القرن.14
أما على مستوى المكان ،ففي كثير من األحيان وعلى مستوى المجتمع الواحد واإلقليم
الجغرافي الواحد ،فإن ما يعتبر مشكال اجتماعيا في منطقة أو جهة ما ،ال يعتبر كذلك في
منطقة أخرى ،ومثال ذلك زواج القاصرات في المغرب لوجود مناطق ال تعتبر هذه الظاهرة
13
- COBB (Roger W) and ELDER (Charles D) : « The politics of Agenda-building : An alternative
perspective for modern Democraty Theory », The journal of Politics, 33 (4), 1971, p : 892 – 915.
14
- KUBLER. D. et DE MAILLARD. J : « Analyser les politiques publiques », Op. Cit. p :
11
على أنها تشكل مشكال اجتماعيا ،ألن ذلك ال يتناقض أو ال يتعارض مع منظومتها العرفية
والعادات االجتماعية التي تؤطر قيمها الثقافية.
كما أن مشكال اجتماعيا يمكن أن تعطاه تعاريف متعددة ،لكونها تكون دائما متطابقة
مع مصالح ومنافع الفاعلين الذي يتبنون هذ المشكل .لكن السؤال هو كيف يمكن أن يصبح أو
أن يتحول من مشكل اجتماعي إلى قضية عمومية أو سياسة عمومية؟ إن هذه المسألة تتم من
خالل عمليتين اثنتين:
أوال ،الخصوصيات العامة .وثانيا ،حل المشكل هو من اختصاص الدولة .فمن المعروف أن
الحقل االجتماعي هو اإلطار الذي تنشأ وتتكون فيه المشاكل االجتماعية ،ولكي تتحول إلى
رهان سياسي ثم إلى سياسة عمومية يقتضي األمر أن يتبناه فاعل ما ينخرط في صياغة
استراتيجية للتسييس هدفها حمل هذا المشكل ونقله من الحقل االجتماعي إلى الحقل السياسي
لفرضه كموضوع للنقاش العمومي ،ودفع الفاعلين اآلخرين إلى االنخراط في هذا النقاش
وتحديد مواقفهم من ذ لك عبر استراتيجياتهم الخاصة الداعمة أو الرافضة .لكنه ال يمكن أن
يتحول إلى سياسة عمومية إال إذا تبنته الحكومة وأدرجته على جدول أعمالها السياسي من
أجل أن توجد له البدائل والحلول المالئمة.15
فالعالقة التي تربط المشكل االجتماعي بالفاعل هي عالقة نفعية ،فالفاعلون الذين
يستثمرون هذه المشاكل عبر تحملهم وتبنيهم لها حتى تشكل رهانا للصراع في إطار النقاش
العمومي ،هي عالقة شبيهة بعالقة المقاول بمجال استثماره .كما أن المشكل الذي ال يتبناه أي
فاعل ،كيف ما كان عموميا أو خاصا ،يعني أن ليس له مالك أو متبني ،وبالتالي من الصعب
أن يرتقي هذا المشكل إلى موضوع للنقاش العمومي أو أن يتحول إلى سياسة عمومية.
وباعتبار التعريف هو نتاج لمسار جماعي ،فإن كل مشكل عمومي يبني مسارا مهنيا
مختلفا ،يلخصه D. CEFAIفي المراحل األربعة التالية:16
أ -تحويل المصاعب الخاصة أو المشاكل المعاشة في صمت إلى مشاكل عمومية معلنة.
ب -انتعاش الخطاب االصالحي لألضرار وإعداد وصياغة المطالب ،وتثبيت استقرار
المشكل العمومي المشرعن عبر تدخل السلطة العمومية.
ت -المأسسة وإضفاء الطابع البيروقراطي على المشكل العمومي.
ث -نشر وتنفيذ برنامج الفعل العمومي.
وفي نفس السياق ركز العديد من الباحثين والمتخصصين في سوسيولوجيا المشاكل
االجتماعية على دراسة المسارات التي عبرها تتحول االحتجاجات والنزاعات إلى مشاكل
15
- Ibid
16
- CEFAI (D) : « La construction des Problèmes publics. Définitions de situations dans des arènes
publiques ». Dans Reseaux, Vol. 14. 75 ; 1996, P : 43 - 66
12
عمومية ،بحيث أشار S. HILGARTNERإلى أن قدرات وطاقة تحمل الفضاءات العمومية
تؤثر كثيرا في انتقاء المشاكل العمومية .17وفي نموذجه العام حول االستدالل على مسارات
الفعل الجماعي يميز F. CHATEAURAYNAUDبين ستة مراحل تتفاوت عبرها القوة
التعبيرية لهذه المسارات الجماعية ،وهي:
-1نشأة المسار الجماعي
-2النزاع والتنافس
-3الشجب واإلدانة
-4التعبئة السياسية
-5توحيد المعايير
18
-6االنطالق من جديد
فبخصوص المرحلة األولى التي تهمنا بشكل خاص ،يشدد على أنه لكي ينشأ أو
يتكون مسار جماعي" ،يجب عزل العناصر الجديدة وإعادة إدماجها في فضاء النقاش حتى
يمكن للفاعلين السياسيين استيعابها" .أما االنتقال إلى المرحلة الثانية فيتطلب أن تدرج األفعال
والوقائع في إطار تبريري مالئم ،وإذا كان المشكل المعني مرتبطا بجهاز محدد (استراتيجية
مثال) ،فإن فرص الذهاب مباشرة إلى الهدف دون الذهاب إلى النزاع أو المنافسة هي األكثر.
كما أن فرص االنطالق من جديد هي مرتبطة بالطريقة واألسلوب الذي تنخرط بواسطته
األوساط المعنية في التفاعل مع حاملي هذه األسباب أو هذه الرهانات.
ويرى J . G. PADIOLEAUأن "المشكل ينشأ عندما يدرك الفاعلون االجتماعيون الفرق
أو الفاصل بين ما هو ممكن وما يمكن أن يكون ،وما يجب أن يكون" .19هذه الفوارق تتوقف
على أفضليات الفاعلين وعلى وضوح مواقفهم وتأويالتهم لظاهرة أو مشكل عمومي من
خالل الحلول التي يعود االختصاص فيها للسلطات العمومية .وهو مسار يلخصه
W.FELSTINERفي ثالثة مراحل:20
Naming أ -الوعي بوجود المشكل
Blaming ب -من يتحمل المسؤولية
Claiming ت -إيجاد الحلول
17
- HILGARTNER (S) et BOSK. S . L. « The rise and fall of social Problems : A public Arenas
Model », Americain Journal of Sociology. Vol. 94/1, 1988. P : 53 – 78.
18
- CHATEAURAYNAUD (F). « Argumenter dans un champ de forces. Essai de balistique
sociologiques », Paris, Pétra, 2011.
19
- PADIOLEAU Jean – Gustave : « L’ordre social : Principes d’analyse sociologique »,Paris,
L’Harmattan, 1986. Voir aussi : PADIOLEAU Jean – Gustave : « L’Etat au concret », Paris, Presses
Universitaires de France. 1982.
20
- FLESTINER. W., ABEL R. L, Austin SARAT « L’émergence et la transformation des litiges :
réaliser, reprocher, réclamer », dans Revue POLITIX ? Vol. 16, 1991.P :41 – 54.
13
فمن خالل هذه المراحل الثالثة يمكن إعادة رسم تاريخ المسارات ومعرفة مالكيها وأيضا
أماكن أو مواقع نشأة المشاكل االجتماعية .وبالنسبة H.S. BECKERفإن المالكين للمشاكل
العمومية هم مقاولي األخالق أو تجار االخالق في صراع دائم من أجل حسم تعريف
المشاكل والحفاظ على مراقبتها عبر فرض تعريفهم للمشكل العمومي ،ألن ذلك أساسي
وضروري للدفاع عن مصالحهم ومنافعهم ،خاصة عندما نكون في مجتمع إعالمي مفرط
يسهل فيه انتقاد المشاكل العمومية .21وهو ما عبر عنه F. CHATEAURAYNAUDبأن
المعطيات والمعلومات الزائدة والمفرطة التي تتيحها تكنلوجيا المعلوميات يمكن في الواقع أن
تسرع نشأة المشكل العمومي.22
فمن الناحية المبدئية ،السياسة العمومية هي التي تجيب عن المشكل العمومي الذي يتم
تحديد مفهومه وصياغته بواسطة أطراف معينة ،وترمي من وراء ذلك إلى تعبئة الرأي العام
حول أهمية وضرورة تبني هذه السياسة العمومية لقدرتها على تقديم الحل المناسب لهذا
المشكل .ولتوضيح ذلك أكثر ،سنتناول بالتحليل النقط األربع التالية:
المشكل االجتماعي والنقاش العمومي -
اإلطار التحليلي للمشكل العمومي -
من المشكل كمرحلة إلى المشكل كمسار أو مسلسل -
وأخيرا تعريف المشكل العمومي عند كل منCOBB et ELDER : -
أوال :المشكل االجتماعي والنقاش العمومي
ينحدر مفهوم النقاش العمومي من حقول وتخصصات معرفية مختلفة :كعلم السياسة
وعلم االجتماع وعلوم االعالم والتواصل وأيضا األنطروبولوجيا .إن هذا التنوع في مصادر
مفهوم النقاش العمومي يجعل من الصعب رسم مسار تطوره الحقيقي والدقيق ،لكن يمكن
رسم أهم استعماالته وخصائصه .وبشكل عام فإن النقاش العمومي يستخدم لدراسة المواضيع
والمشاكل المختلفة التي تخترق الفضاء العمومي :كالتعبئة الجماعية والمشاكل العمومية
وبشكل حديث الديموقراطية التشاركية.
ففي علم السياسة ،نجد له أثرا في كتابات Frederick. G. BAILEY23التي تحيل إلى
وضعيات التفاعل والمنافسة والمواجهة ،وفي السياسات العمومية تحيل بشكل أكثر دقة إلى
التفاعالت على المسرح السياسي والصراعات المؤسساتية ،حيث المواجهة من أجل موارد
الجماعات االجتماعية .وكل مستوى من هذا النقاش العمومي يطابقه ويماثله ترتيب أو تنسيق
من التفاعالت ذات الموارد النموذجية .كما أن Theodore LOWIقدم نموذجا تحليليا للربط بين
21
- BECKER H.S. : « Outsiders : studies in the sociology of Deviance », New York, Free Press, 1997.
22
- CHATEAURAYNAUD (F). « Argumenter dans un champ de forces. Essai de balistique
sociologiques », op. cit.
23
- BAILEY Frederick George : « Humburggery and Manipulation: The art of leadership », Cornell
University Press ,2019,
14
المجال السياسي والسياسة العمومية ،والذي يدافع من خالله عن فكرة أن كل صنف من
أصناف السياسات العمومية يحدد بنية أو طريقة وشكل المناقشة السياسية الخاصة به،24
ويحددها في أربعة أصناف :السياسة التوزيعية ،والسياسة المؤسسية ،وسياسة إعادة التوزيع،
والسياسة التقنينية.
لكن في علم االجتماع حظي موضوع النقاش العمومي باهتمام كبير باعتباره مفهوما
إرشاديا ،ويتقاسم نتيجة مماثلة للخاصيات التي أغفلها مفهوم الفضاء العمومي لدراسة وتحليل
األماكن المتعددة التي تناقش فيها المشاكل العمومية :كالبرلمان ،والمحاكم ،ووسائل االعالم،
والنقاشات التلفزية ،والبرامج اإلذاعية ،والمدونات االلكترونية ،والمنتديات الفكرية ،وشبكات
التواصل االجتماعي ،وكلها تمثل أماكن مفضلة للمقارعات والمواجهات الفكرية وتمارس
ضغوطا وإكراهات مختلفة على ديناميكية النقاش والحوار ،وبنية المبادالت ،وعلى
مسلسالت اتخاد القرار .أما النقاش العمومي المؤسساتي فإنه يشتغل طبقا لقواعد
البيروقراطية والتي تشكل موضوعا لالعتراف القانوني والتي يقابلها نقاش عمومي غير
منظم أو غير مهيكل ،والذي يمكن في سياقه أن يأخذ الرأي العام شكال محددا.
وتبعا لألبحاث والدراسات التي تناولت مسألة نشأة وبناء المشاكل العمومية ،وخاصة
الدراسة التي نشرها كل من ، Charles. L. BOSK et Stephen HILGARNER25والمساهمة التي
قدمها Daniel CEFAIحول مفهوم النقاش العمومي انطالقا من دراسة ميدانية تناولت
سوسيولوجيا "العام" أو "العمومي" وأيضا المقاربة البراغماتية لإلعالنات العمومية .26كما
ساهمت أيضا مدرسة شيكاغو لعلم االجتماع من خالل أعمال Robert. E. PARK, Evring
، GOFFMAN et H. MEAD 27وأيضا فلسفة John DEWEY28في إعادة التفكير في مفهوم
"العمومي" أو "العام" Le Publicوكيفية تأطيره للنقاش العمومي بشكل يتعدى مقاربة
الفضاء العمومي كما وضعها كل من .29Jurgen HABERMAS et A. ARRENDT
إن الفاعلين المشاركين أو المنخرطين في مسار إعداد ووضع السياسة العمومية ال
يمتلكون نفس آليات ووسائل التأثير ،ألن مفهوم النقاش العمومي يمكن من فهم العالقة
والروابط بين الفاعلين ،وأيضا الموارد التي يوظفونها ويعبئونها من أجل فرض رؤيتهم
ومفهومهم للمشكل .هذا المفهوم عمل HILGANTNERعلى تطويره حتى يساعد على فهم
االطار الوظيفي والمهني للمشكل العمومي ومساره .فكل نقاش عمومي يتميز بسمات خاصة
24
- LOWI Theodore : « four systems of policy, politics and choice », Pulic Administration Review,
32/4, 1972 ? P : 298 – 310.
25
- Stephen HILGARNER et Charles. L. BOSK : « The rise and fall of social problems : A Public
Arenas Model », in American Journal of sociology. Vol. 94/1, 1988. P : 53 – 78.
26
- CEFAI (D) : « La construction des Problèmes publics. Définitions de situations dans des arènes
publiques », Op. cit.
28
- DEWEY. J : « The public and its Problems », Athens, Ohio University Press, 1991.
29
- HABERMAS Jurgen : « L’Espace public. Archéologie de la publicité comme dimension
constitutive de la société bourgeoise », Paris, Payot, Reed. 1988.
15
به مثل حدة التنافس والصراع من أجل البقاء ،أو الحفاظ على مكانته في طابور الوضع على
جدول األعمال الحكومي ،وطريقة انتقاء الفاعلين المهيمنين .أما طابعه العمومي فيستقيه
ويستوحيه من كون المشاكل موضوع النقاش تستدعي دائما تدخل السلطة العمومية .والطابع
العمومي يتطلب أيضا أن يكون مصحوبا ومقترنا بالدعاية واالشهار ،حتى يصبح بارزا
ومعروفا لدى جمهور واسع.
وفي إطار هذ النقاش ينخرط الفاعلون مثل "المقاوالت الخاصة والمؤسسات العمومية
واألشخاص الذاتيين واألفراد ومنظمات المجتمع المدني واألحزاب السياسية والنقابات
والهيئات والمؤسسات والزعامات وغيرها ،عبر توظيف تأويالتهم لألحداث ،وحججهم
وبرامجهم الخاصة والتحالفات التي يقيمونها ،والنزاعات التي ينخرطون فيها ،والمشتركات
التي تجمعهم وأشكال التضامن التي تربطهم ،ومن خالل التصادم بين بعضهم البعض
فينتظمون في إطار وكاالت لألعمال تشتغل على مواضيع وقضايا محددة أو مؤسسات
وخطابات وممارسات وينتهون بتكوين ومأسسة شبكات للفرص والتوقعات .أما مواردهم
فتتمثل في سجالت البرامج والمخططات التي تأخذ شكل تمثالت مجردة تعمل مثل
مصفوفات الفهم المشتركـ ،والتي تتكون من احتياطات التجارب التي تستطيع فرض
إكراهات اللغة والمفردات والتعابير مثل" :تدفقات الهجرة ،اقتصاد المعرفة ،النمو األخضر
أو االقتصاد األخضر ،الركود مفاهيميا ونظريا ،األفضليات الوطنية ،التنمية المستدامة ،أو
نسقيا كتلك التي عبرها تبنى الحقيقة االجتماعية أو (الواقع االجتماعي) ،وشرعنة الفاعلين
في الفضاء العمومي.
كما أن الوسائل المادية للنقاش العمومي تتكون من شبكات التفاعل والتواصل
االجتماعي التي تمكن من الولوج الروتيني واالعتيادي إلى المؤسسات المكلفة بتدبير مشكل
عمومي ما ،ووكاالت األخبار وجماعات الضغط ،والقواعد التي تضعها المؤسسات ،وتشمل
أيضا موارد بشرية وتكنلوجية ومالية .وهي موارد موزعة في أغلب األحيان بشكل غير
متكافئ مما يجعل بعض الفاعلين أقوى من غيرهم ويجعل بالمقابل عملية التحكم في مشكل
عمومي ما قابلة للتحول واالنتقال من فاعل آلخر تبعا لصراعات السلطة في الفضاء
العمومي .وهي عينة من الفاعلين يسميها " S.HALLالمحددون األوائل للمشكل العمومي"،30
والذين يكتسبون هذه الوضعية بفعل أولويتهم في ولوج المؤسسات والمنتديات االعالمية .لكن
قوة هؤالء الفاعلين ال تتوقف عند استثمارهم لمؤسسات الدولة واالعالم ،بل عندما تنحصر
في مجال محدد للفعل كسلطة تحديد وتعريف األفعال واألنشطة االجتماعية ،كما هو األمر
مثال بالنسبة للمؤسسات العمومية أو الخاصة التي تحتكر المعطيات االحصائية وضوابط
تحليلها ( اقتصادية اجتماعية نوعية قطاعية ،).....والتي تتم معالجتها باالعتماد على
تكنولوجيا المعلوميات.
30
- HALL. S et CRITCHER. C : « Policing the crisis, Mugging, the State and Law and Order »,
london Macmillan. 1993.
16
إن إمكانية التأثير في عملية تحديد وتعريف المشكل العمومي هي مسألة أساسية
وجوهرية ،وتتم من خالل عملية التبني المتزايدة التي تطرح مع مسألة تعريف المشكل،
وتفرض نفسها في فضاء عمومي ،ويتم استعادتها من طرف فاعلين آخرين تتجاوز قوتهم
شرعية مالك المشكل العمومي ،مما يدعم شرعية التعريف الخاص "بالمالك المهيمن"،
ويساهم على تقديم المشكل العمومي في إطار تفسيري يالئم مصالح ومنافع الفاعل األساسي
مما يجعل من الصعب استبداله أو تعويضه .من هنا إذن يمكن استخالص أن للمؤسسات
سلطة وقوة حاسمة في مجال بناء وتعريف المشاكل العمومية .ألن نشأة مشكل عمومي ال
تتوقف فقط على الموارد التي يتوفر عليها الفاعل ،ولكن على قوة وصالبة اإلطار التحليلي
الذي يتبناه ويدافع عنه للمشكل العمومي .فما المقصود إذن باإلطار التحليلي للمشكل
العمومي؟
ثانيا :اإلطار التحليلي للمشكل العمومي.
أن االطار التحليلي للمشكل العمومي هو بناء اجتماعي مشترك M. RHINARD يعتبر
يشمل العمليات التالية:31
أ -تعريف المشكل العمومي
ب -اقتراح الحلول
ت -تبرير الفعل
وسيرا على نفس النهج ،أوضحت العديد من الدراسات الالحقة أن المشكل العمومي ذو
اإلطار التحليلي الضعيف وغير المقنع تكون حظوظه قليلة لولوج الفضاء العمومي ،ألن هذه
األطر التحليلية تسمح للفاعلين من أن يقيموا في الفضاء العمومي روابط مهمة بين األفعال
واألنشطة الجديدة والسابقة ،ثم المعطيات التي يمتلكونها وكيفية تحليلها من جهة ،والقيم
والمنافع ودوافع العمل في إطار مسار السياسة العمومية من جهة أخرى .كما أن المنافسة بين
الفاعلين من أجل فرض تصوراتهم وأراءهم توازيها مجموعة من األطر التحليلية والتفسيرية
لنفس الظاهرة أو نفس المشكل العمومي ،مما يغدي الصراع والتنافس بين الفاعلين في
الفضاء العمومي .كما أنه خالل فترات الشك والغموض أو األزمات يتمكن الفاعلون بواسطة
هذ ه األطر التحليلية من دمج وتركيب قيمهم ومنافعهم النوعية مع اختيارات السياسة
العمومية .فاإلطار التحليلي يصبح أقوى بعد إضفاء الطابع المؤسسي عليه عن طريق نشر
وتوزيع االستراتيجيات ،والتي حددها SNOWفيما يلي:32
ترابط وتواصل األطر التحليلية أ-
31
- RHINARD. M : « le cadrage de la politique antiterroriste de l’UE, dans la construction des
problèmes publics en Europe, CAMPANA A, et AL Strasbourg, Presses Universitaires de Strasbourg,
2008.
32
- SNOW. A, ROCHFORD. E, et AL. « Frame Alignement Processes : Micromobilization and
Movement participation, In The Americain sociological Review, Vol. 51, 1986. P : 464 – 481.
17
ب -تضخيم األطر التحليلية (األكثر تأقلما مع الفضاء العمومي هو الذي يضمن القدرة على
االستمرارية)
ت -توسع األطر التحليلية لتشمل مؤسسات ورؤى متقاربة يفتح إمكانية مراقبة األطر
التحليلية األخرى.
ث -تحول األطر التحليلية (بما يؤدي إلى ظهور توجهات جديدة تصاحبها تغيرات جوهرية
في السياق قد ينتج عنه تنافر معرفي أو تناقض في المبادئ).
وتشكل أعمال J.R.GUSFILD 33تفسيرا عمليا لهذه النقط األربع ،عندما أوضح كيف تغير
اإلطار التحليلي والتفسيري لمشكل حوادث السير على الطرقات في الواليات المتحدة
األمريكية بفعل ضغط مختلف الفاعلين من أجل منع شرب الخمر أثناء السياقة .وعبر الوقت،
تشكل إطار تحليلي وتأويلي لمشكل الخمر عند السياقة والذي سيصبح مهيمنا الحقا :إذ انتقلنا
من إطار تحليلي يعتبر "حادثة السير قضاء وقدر" والذي حظي بمساندة وتأييد كبيرين من
طرف شركات صناعة السيارات إلى إطار تحليلي أخر يعتبر "حادثة السير جريمة" ،جعلت
من السائق متهما ومجرما ،والمسؤول األول والوحيد عن حوادث السير المميتة على
الطرقات .ولتفعيل ذلك منعت السلطات العمومية شرب الخمر عند السياقة مع توظيف
واستعمال احتجاجات ضحايا حوادث السير على الطرقات ،وأبعدت ،أي السلطات العمومية،
كل األطر التحليلية األخرى التي كان بإمكانها أن توضح بشكل مختلف ومقنع أن حوادث
السير على الطرقات تحصل أيضا بسبب غياب السالمة التقنية والميكانيكية للمركبات أو
العربات ،ونوعية الطرقات ،وسن السائق .كما أشار J.R.GUSFILDأيضا لدور الجهاز
البيروقراطي في دعم هذا االتجاه عبر إنتاج وانتقاء اإلحصائيات وتقارير الخبراء التي
وضعت كلها في خدمة مصالح ومنافع طبقة محافظة على القيم التقليدية البروتستانتية ،وهو
ما أسعد في النهاية كال من شركات صناعة السيارات والسلطات العمومية بعدم إثارة السالمة
التقنية للسيارات أو العربات وأيضا جودة البنية الطرقية اللتين قد تم السكوت عنهما ،وبالتالي
أضحى من الصعب تغيير اإلطار التحليلي لمشكل عمومي ،ألنه بمجرد ما يكتسي صفة
الرسمية يصبح أو يتحول إلى "إطار غير مفكر فيه" ،أي ال يسمح بإعادة طرحه للنقاش
العمومي ،ويتم إخفاء وإبعاد كل األطر التحليلية األخرى للمشكل.34
ثالثا :من المشكل كمرحلة إلى المشكل كمسار أو مسلسل
سنحاول من خالل هذه النقطة تحديد اإلطار التحليلي المعتمد لدراسة مسلسل نشأة
السياسة العمومية وخاصة مفهوم المشكل ،وأيضا العناصر والديناميات التي يمكن أن تساهم
في هذا المسلسل طبقا لمقاربة J. KINGDONالتي تم اعتمادها وتوضيحها من خالل التجارب
الفرنسية والكندية (كيبيك) من طرف V. LEMIEUXفي كتابه "دراسة السياسات العمومية:
33
- GUSFIELD. J. R. « The culture of Public Problems : Drinking-Driving and the Symbolic order »,
chicago, The University of chicago Press, 1980.
34
- Ibid
18
الفاعلون وسلطتهم" ،35وكل هذه العناصر سيتم االعتماد عليها لتحليل مفهوم المشكل المولد
للسياسة العمومية باعتباره يشكل مسارا كامال.
باإلضافة لما سبق ،سنعتمد االبحاث والدراسات التي اهتمت أيضا بالتركيز على
مسار المشكل ،واالهتمام أيضا بتعريف وإعادة تحديد مفهوم المشكل باعتباره عنصرا
مفترضا أو احتماليا للوضع على جدول األعمال الحكومي( ،بحيث يعتبر الوضع على جدول
األعمال إحدى المكونات األساسية لمسلسل نشأة وتشكل السياسة العمومية) ،ثم أيضا سنعمل
على استكمال هذه الشبكة أو اإلطار التحليلي بتناول مفهوم المشكل ومساره بالتطرق لبعض
النماذج التحليلية األخرى في هذا اإلطار وخاصة نموذج ،COBB et ELDER 36دون إغفال
المشترك بين هذه المقاربات التحليلية لمسألة نشأة مسار السياسة العمومية والوضع على
جدول األعمال الحكومي لمشكل عمومي.
فكما هو الشأن بالنسبة لباقي الحقول المعرفية في العلوم االجتماعية ،فإن دراسة
السياسة العمومية تواجه تحديا كبيرا يتعلق بطريقة أو منهجية تقسيم هذا المجال حتى يمكن
دراسة مكوناته بشكل أعمق .إن أولى األجوبة لهذا السؤال ،تكمن في المقاربة الخاصة
بتعاقب أو تسلسل المراحل (في شكل خط مستقيم) ،والتي تفترض االستمرارية بين نشأة أو
ظهور المشكل المولد للسياسة العمومية ووضعه على جدول األعمال الحكومي وتقسيمها إلى
مراحل .وبالرغم من االنتقادات التي وجهت لهذه المقاربة من حيث أن األفعال واألنشطة
االجتماعية من الصعب ترتيبها وتصنيفها في مرحلة مستقلة عن األخرى التي تليها أو
تسبقها ،لذلك استبدل البعض تحليل السياسة العمومية بناء على مقاربة المراحل بالحديث عن
مسار السياسة العمومية .لكن السؤال الذي يطرح هو :كم من مسار يمكن تعداده للسياسة
العمومية؟ وما هو عدد المسارات التي تتقاطع أو تتداخل فيما بينها؟ بحيث حددها البعض في
ثالثة مسارات :التشكل أو النشأة ،الصياغة ثم التنفيذ.
غير أن J. KINGDON37قد اعتمد إطارا تحليليا ال يستند كثيرا على المراحل ولكن
على عناصر أخرى يسميها بالتيارات أو النوافذ لدراسة مسار تشكل السياسة العمومية .بحيث
يعتبر أن نشأة مسار السياسة العمومية يتوقف على الحضور أو الوجود المتزامن لمجموعة
من العناصر والعوامل ،يرتبها KINGDONفي ثالثة مجموعات كبرى لهذه العناصر أو
العوامل ،ويسميها بالتيارات The Streamsأو .les courants
أ -تيار المشاكل
ب -تيار الحلول
35
- LEMIEUX Vincent : « L’Etude des politiques Publiques : Les acteurs et leur pouvoir », 3eme
Edition Revue et augmentée. Sainte – foy : Presses de l’université de Laval, 2009.
36
- COBB (Roger W) et ELDER (Charles D) : « The Politics of Agenda-Building : An Alternative
Perspective for Modern Democratic Theory », The journal of politics, 33/4 , 1971, p : 892 – 915.
37
- KINGDON John : « Agendas, Alternatives and Public Policies », New York (N. L), Longman,
1995.
19
ت -تيار السياسة
وحتى ال يفهم أنها تبرز في شكل تراتبي أو تتابعي على شكل مراحل ،يعترف
KINGDONعلى أن هذه التيارات الثالث يمكنها أن تخترق كل مسارات السياسات العمومية.
وعلى المستوى النظري يمكن أن تحمل من قبل كل الفاعلين السياسيين وذلك على الشكل
التالي:
-1تيار المشاكل :يعتبر ،KINGDONأن هذا التيار يمكنه أن يبرز من خالل مسارات أو عبر
قنوات مختلفة :كالمؤشرات االحصائية مثال ،أو األزمات والكوارث ،ونتائج تقييم آثار
البرامج والسياسات القائمة .من هنا فإن KINGDONيعتبر أن "إعطاء تعريف للمشكل
يرتبط بالقيم التي يتملكها الفاعلون السياسيون".
-2تيار الحلول :تشكل األفكار والمقترحات بالنسبة لتيار الحلول حسب KINGDONما يشبه
اإلطار المختلط الذي يفعل فيه مبدأ االختيار :بحيث تحظى بعض األفكار والمقترحات
بقيمة زائدة ،في حين تفقد األخرى أهميتها ويتم إقصاؤها ،ولكي تستطيع المقترحات
واألفكار الحفاظ على بقاءها ومكانتها في هذا الخليط يجب أن تتوفر فيها الشروط التالية:
أ -أن تكون مقنعة وذات فعالية ومصداقية على المستوى التقني والعملي.
ب -أن تحظى بموافقة باقي الخبراء وأيضا الرأي العام والمسؤولين العموميين ،وبالتالي فإن
محاوالت اإلقناع هي التي تميز هذا التيار.38
-3تيار السياسة :يشمل أو يضم مجموعة من القضايا التي تؤثر في االختيارات
السياسية ،كاألفكار السائدة أو المهيمنة في مرحلة زمنية معينة ،ثم أنشطة الفاعلين
السياسيين ( التي يمكن أن تكون هجومية أو دفاعية) ،تغيير السياسيين أو النخبة
السياسية ،المفاوضات وتشكيل التحالفات ،وهي كلها عمليات أو مواقف تميز هذا
التيار عن باقي التيارات األخرى.
إن اإلطار التحليلي الذي اعتمده J. KINGDONيحاول مالئمة أو تكييف نموذج "علبة
القمامة" Garbage Can Modelأو boîte à ordureكأحد النماذج التحليلية المعتمدة في
سوسيولوجيا التنظيمات ،والذي وضعه كل من COHEN, MARCH et OLSEN 39بحيث اقترح
هؤالء مقاربة نظرية هدفها وضع نموذج يحاكي مسار اتخاد القرار في مختلف التنظيمات.
بحيث يفترضون أن العديد من المنظمات ال تشتغل طبقا لنموذج عقالني خالص ،أي أن كل
شيء فيها منظم طبقا لألهداف المتبعة حسب منطق يقوم في المقام األول بتحديد المشاكل ،ثم
وضع البدائل وانتقاء أحدها كحل معتمد ومالئم ،بل بالعكس من ذلك ،فإن الفوضويات
المنظمة هي تنظيمات تتسم وتتميز بتفضيالت مثيرة للمشاكل ،وبمشاركة سلسة ومائعة.
38
- Ibid
39
- COHEN (Michael), MARCH (James. G) et OLSEN (Johan) : « A Garbage Can Model of
Organisational choice », Administration science Quartely, 17/1, 1972, p : 1- 25
20
فالدراسات التي تناولت الجامعات ،باعتبارها تشكل نموذجا للفوضويات المنظمة توحي أن
أي منظمة يمكن اعتبارها ،لغايات محددة ،كمجموعات اختيار أو فرص لالختيار ،بحثا عن
مشاكل ورهانات ومشاعر وعواطف إليجاد وضعيات تقريرية يمكن من خاللها أو عبرها
الحقا أن تكون حلوال تبحث عن رهانات قد تشكل من جهة جوابا ،ومن جهة أخرى فرصة
لمقررين يبحثون عن مهمة أو وظيفة".
إن أصالة تحليل KINGDONفي هذا الجانب هو قدرته على تكييف "نموذج علبة القمامة"
المخصص مبدئيا لدراسة وتحليل مسار السياسة العمومية .وكما هو األمر عند كل من
COHEN, MARCH et OLSENاحتفظ KINGDONبالفكرة القائلة أن مسارات السياسات
العمومية ال تتبع نموذجا عقالنيا يمكن التنبؤ به مسبقا ،بل ينطلق KINGDONمن مسلمة تقوم
على أن التيارات الثالثة تتمتع باستقاللية نسبية عن بعضها البعض ،وأن السياسة العمومية
ليست بالضرورة نتاجا أو حصيلة نظام محدد بشكل مسبق للتيارات الثالثة التي أعلنها :تيار
المشكل وتيار الحل ثم تيار السياسية .ولتجاوز ذلك يعترف KINGDONأن التكامل
ضروري بين هذه التيارات لنشأة سياسة عمومية حول مشكل ما.
-4التكامل بين تيارين أساسيين لدراسة النشأة :تيار المشاكل وتيار السياسة.
لقد استوحى KINGDONتصوره هذا من مفهوم "الخيارات والفرص المتاحة" الذي بلوره
كل من COHEN, MARCH et OLSENبحيث أولى أهمية كبيرة لما أسماه النوافذ السياسية
windows of opportunityللتعبير عن لحظات التقارب هاته لتكامل التيارات المختلفة،
ولمعالجة المشاكل العمومية وحلها:
أ -عند حدوث مشكل ما
ب -تكامل الحلول المخصصة لمشكلة ما
40
ت -ثم مناخ سياسي مالئم
من جهته على شرح األنماط الممكنة لتكامل السياسات وترابطها من LEMIEUX كما عمل
خالل نمطين اثنين:
التكامل الضيق ،والتكامل الرخو أو الضعيف ،وكالهما يمكنان من التعبير عن
االختالالت القائمة بين أشكال التكامالت ،بحيث يحدث التكامل الضيق بين تيارين عندما
يكون مستوى االعتماد المتبادل بينهما كبيرا لدرجة أن استقاللية بعضهما عن البعض اآلخر
ضعيفة .أما التكامل الرخو أو الضعيف فيحدث عندما يحتفظ كل واحد من التيارات باستقاللية
كبيرة عن اآلخر.
40
- KINGDON John : « Agendas, Alternatives and Public Policies ». op. cit
21
وما دام أننا نتناول مفهوم المشكل في السياسة العمومية ،فإن مسار نشأة السياسة
العمومية حسب كل من LEMIEUXو KINGDONفهو مخترق بتيارين اثنين فقط من
التيارات الثالثة ،تيار المشاكل وتيار السياسة" :في مسار النشأة ،فإن تيار المشاكل وتيار
السياسة يتكامالن بشكل ضيق ،ألن المشاكل هي دائما ،بشكل أو بآخر ،تكون مخترقة
بالسياسة ،وهذ ه األخيرة من جانبها أيضا تخترقها المشاكل .في حين يكون التكامل هشا
وضعيفا مع تيار الحلول ،ولكي تكون هناك نشأة ،يتطلب األمر وجود حلول ممكنة
وفعلية" .41فما المقصود بالمشكل إذن ؟
المشكل هو وضعية أو حالة غير عادية أو أصبحت غير مقبولة .عمليا أغلب الباحثين
الذ ين كتبوا حديثا عن السياسات العمومية ومسألة الوضع على جدول األعمال الحكومي بما
فيهم KINGDONيجمعون على القول أن المشكل هو بناء اجتماعي يرتبط أساسا بإدراك
الفاعلين وتأويالتهم أكثر منه فعل حقيقي .فاألهمية التي يوليها هؤالء الفاعلين لعملية
التأويل هاته تنحدر أو تنبثق من افتراض بنائي أو بنيوي بالرغم من اختالفها الكبير .ف
KINGDONمثال ،يركز كثيرا على مسألة تعريف المشكل وعلى اآلثار التي يمكن أن يرتبها
على نشأة السياسة العمومية .لكن ينبغي التأكيد مسبقا على أن التوسع في تعريف المشكل هي
عملية معقدة وصعبة للغاية هنا ،ألنه كثيرا ما تؤدي إلى طمس الحدود التي أقامها
،KINGDONوالتي تم توضيحها سابقا عند تناولنا لتياري المشاكل والسياسة.
إن دراسة مسألة تعريف المشكل تتقاطع دائما ،كما سنراه الحقا ،مع األبحاث
والدراسات حول استراتيجيات التعبئة (تكييف تعريف المشكل مع نوعية الجمهور أو
الشرائح االجتماعية التي نريد تعبئتها وإقناعها) ،لهذا فهي تندرج في صلب تيار السياسة،
وهي ظاهرة تساهم في تقارب وتكامل التيارين االثنين .فعلى سبيل المثال ،حاول كل من
JOLY et MARISفي مقالة لهما أن يبرهنا على هذا التداخل والتشابك بين السياسة ومسألة
تعريف وإعادة تعريف المشكل العمومي .بحيث واستنادا لمنهجية تحليل اإلطار استهدفت هذه
الدراسة معرفة طريقة الفاعلين في مجال التعبئة والتجميع إلعطاء معنى محدد للمشكل
العمومي وتوسيع جمهوره أو شرائحه".
وبالرغم من هذه االختالفات النظرية ،فإن ذلك ال يقلل بتاتا من أهمية تعريف المشكل
وتغيراته بالموازاة مع تقدم مسار نشأة السياسة العمومية الذي يبقى عامال أساسيا لنشأة
السياسة العمومية المرتبطة بهذا المشكل ،أو على األقل لوضعه على جدول االعمال الرسمي
أو جدول االعمال العام .وعليه سنحاول مقاربة كيف حلل كل من COBB et ELDERتأثير
المشكل على عملية الوضع على جدول األعمال الحكومي.
41
- LEMIEUX Vincent. Op. Cit.
22
COBB et ELDER رابعا :تعريف المشكل العمومي عند
يحتل كتاب « « Participating in american politics :The dynamics of agenda buildingلكل من
COBB et ELDERمكانة أساسية في األدبيات الخاصة بتحليل عملية الوضع على جدول
األعمال . 42فالباحثان يضعان مقاربتهما في إطار تصور أوسع للمشاركة في النسق
الديموقراطي األمريكي .بحيث حاوال اإلجابة عن سؤال في ظل أية شروط يمكن لرهان أو
مشكل ما أن يجد له مكانا في جدول األعمال النسقي ومن بعده جدول األعمال المؤسساتي
(جدول األعمال العام ومن ثم جدول األعمال الرسمي) ،وإثارة رأي المقررين العموميين أو
لمنعه (أي المشكل) من اجتياز هذا المسار .فتعريف المشكل يحتل مكانة محورية أو عنصرا
أساسيا للتعبئة حول رهان معين.
وحسب COBB et ELDERفإن الوضع على جدول األعمال النسقي لرهان ما أو
مشكل ما يسبق عملية الوضع على جدول األعمال المؤسساتي وأيضا القرارات التي ترتبط
به .فبدل التركيز على المسلسل التقريري ،أعطا هذين الباحثين األهمية واألولوية لفهم
المسارات االجتماعية الما قبل سياسية للمشكل .وهو ما أعطى أهمية خاصة لعملية تعبئة
الجماعات المنظمة وغير المنظمة أو الرأي العام ،أو بشكل عام المجتمع المدني .فالتأكيد
والتركيز ينصب هنا على الصراع والمنافسة لفرض االعتراف بهذا الرهان قبل أن يخضع
لمسلسل التسييس ،ألن عملية بناء الرهان أو الرهانات تتم دائما عبر الصراع والتنافس بين
43
المجموعات مما يؤدي إلى تعبئة سياسية حول نفس الرهان.
فحسب " COBB et ELDERفإن التنافس والصراع يتوسع عندما ينتقل من مجموعة
ضيقة إلى أخرى أوسع منها .والخالصة هي أنه كلما كان حجم الجمهور المتأثر بالمشكلة
كبيرا وواسعا ،كلما كانت هناك فرص أكبر أو إمكانية كبيرة لهذا الرهان أن يجد له مكانا
على جدول األعمال العام .لكنهما يقران أن ذلك ال يعني في كل الحاالت أن كل الرهانات
يجب أن تعبئ جمهورا واسعا من أجل أن توضع على جدول االعمال المؤسساتي أو
الرسمي ،بل هناك احتماالت كبيرة للنجاح إذا كان الصراع بارزا وجليا لفئة عريضة من
الناس".44
ومن هنا فإن مشكال اجتماعيا أو عموميا يمكن أن يمتد ليشمل أربعة أصناف أو نماذج
من الجمهور (بحيث يختلف العدد باختالف الرهانات) الذي يشكل دوائر متحدة المركز ،وكل
دائرة تضم عددا من األشخاص أكبر من سابقتها .وهذه الدوائر أو األنماط من الجمهور يتم
ترتيبها من األشد انخراطا في رهان ما ولكنها ضيقة إلى األقل انخراطا ولكنها أكثر اتساعا.
بمعنى كلما كان االنخراط في رهان ما كبيرا كلما ضاق شكل وحجم الدائرة ،وكلما كان
42
– - COBB R. W et ELDER C. D « Participating in American Politics : The dynamics of Agenda
Building », Baltimore, John Hopkins University Press. 1972 . p : 85
43
- Ibid
44
- Ibid
23
االنخراط قليال كلما كان شكل وحجم الدائرة متسعا ،وبالتالي نحصل على المجموعات التالية
من الجمهور:
أ -المجموعات المنخرطة
ب -المجموعات المعبأة
ت -الجمهور المستنير
45
ث -العامة
وتبعا لهذ ا النموذج ،فإن الرهان يتسع لدى نماذج الجمهور الثالثة األولى ويأخذ مكانته في
جدول األعمال العام ويكون له احتماالت كثيرة إلثارة انتباه المقررين ليدرج على جدول
األعمال الرسمي أو المؤسساتي.
يقر كل من COBB et ELDERأن تعريف المشكل يعكس كثيرا طبيعة الرموز المستعملة،
نظرا ألهميتها في توسع وانتشار رهان معين وتشكيله إلطار تحليلي من أجل دراسة كيف
يمكن لرهان أن يصبح مالئما لمختلف أنواع الجمهور .وحيث أن الرهانات يتم بناؤها ،فإنها
تتقاسم أبعادا مشتركة يحددها كل من COBB et ELDERوفق تصنيف خماسي األبعاد وهي:
أ -درجة التجريد
ب -األهمية واآلثار االجتماعية
ت -التوافقات الزمنية
ث -التعقيد
ج -التجارب السابقة.46
ثم يستعرضان بعد ذلك "العالقة بين أنواع وأصناف الرهانات ونوع الدعم الذي يوازيه كل
47
صنف".
45
- Ibid
46
- Ibid
47
- Ibid
24
الفصل الثاني :مرحلة الوضع على جدول األعمال الحكومي
إن تحليل السياسات العمومية ملزم أوال ،بفهم مسارات الوضع على جدول األعمال
الحكومي للمشاكل .بمعنى السياقات والتحوالت والظروف التي تجعل بعض المشاكل تحظى
باهتمام السلطات العمومية أو بتدخلها لمتابعة هذا المشكل أو هذه المشاكل .وهذا ما أثبت أن:
أ -ليس هناك مسلسال مستقيما أو ميكانيكيا ،يجعل من أي مشكل اجتماعي مشكال سياسيا
بالضرورة الحتمية.
ب -الوضع على جدول األعمال الحكومي للرهانات (المشاكل) هو نتاج وظيفة عالقة القوة
السياسية ،وأيضا بسبب منطق الوسطاء ،والنشاط االستباقي لإلدارة والبيروقراطية ،ثم
نتاجا للضغط الذي تمارسه جماعات الضغط ودور المؤسسات في هذا المسلسل الخاص
بالوضع على جدول األعمال .فما المقصود بجدول األعمال الحكومي أو السياسي؟
56
- GARRAUD Phiippe : « Politiques nationales : élaboration de l’Agenda », l’Année Sociologique
40 ? pp : 17- 41.
57
- Ibid
28
معارضة (أو واحدة فقط تدفع اآلخرين لتحديد مواقعهم ومواقفهم) ،بحيث تتبنى موضوعا أو
قضية تتحول الحقا إلى موضوع للسياسات العمومية .ويمكن أن يتعلق األمر هنا بمسألة
انعدام األمن أو الهجرة التي تعيد األحزاب السياسية طرحها في حمالتها وبرامجها االنتخابية
التي تتعهد بإعطاء األولوية واألسبقية في السياسات العمومية.58
ت -نموذج اإلعالم:
يتميز هذا النموذج بالدور المستقل نسبيا الذي يقوم به اإلعالم في تبني قضية أو حملها
وفرضها في النقاش العمومي ،وذ لك من خالل فرض بعض مجاالت الفعل أو النشاط على
الحكومة .إن منطق الوساطة هنا يفترض أن وسائل اإلعالم لها وظيفة مركزية في إثارة
بعض القضايا قد تهم المجال األمني أو الصحي أو االجتماعي أو االقتصادي أو السياسي.
فوسائل االعالم تعتبر بحق أداة للتعبئة االجتماعية والسياسية.59
ث -نموذج التوقع أو الحدس:
وهو ما يسميه " Ph. GARRAUDبالتعبئة من طرف المركز" التي يلعب فيها الفاعلون
اإلداريون دورا مهما من خالل تبنيهم لبعض القضايا والمشاكل .وخالفا لنموذج العرض
السياسي فإن هذا الشكل من الوضع على جدول األعمال الحكومي ال يتطلب أن تتحول قضية
ما إلى موضوع للصراع والمنافسة السياسية ،ألن األمر يتعلق هنا بالمعارف والخبرات
واالعتقادات المعبأة من طرف األطر العليا والخبراء بمختلف تخصصاتهم وتوجهاتهم العلمية
والمعرفية من داخل دهاليز الحكومات.60
ج -نموذج الفعل الجماعاتي الصامت:
يقوم هذا النموذج على أساس فعل أو نشاط الجماعات المنظمة والصامتة في دوائر
الحكومات ،والتي تستطيع إدراج قضايا أو مشاكل تهمها على جدول األعمال الحكومي بشكل
صامت ،أي بدون اللجوء إلى الصراع والمنافسة السياسية وال حتى عملية التعبئة أو تقديم
العرض السياسي .فالجماعات المنظمة تتحرك وتتعبأ بشكل سري في إطار أقسام إدارية تقيم
معها عالقات من أجل دفعها لتحمل أو لتبني مشكل معين .كما هو األمر مثال بالنسبة
للعسكريين في مجال صناعة السالح باالرتباط مع المركب الصناعي العسكري .أو بالنسبة
لخبراء الصحة باالرتباط أيضا مع مركب صناعة األدوية .أو العاملين في إدارة الضرائب
في عالقتهم مع الشركات بمختلف أصنافها ومجاالت عملها ،وأيضا اإلدارة المكلفة بالسكنى
والمقاوالت العقارية الكبرى .بحيث هناك العديد من الدراسات واألبحاث تؤكد حجم
التواطؤات أو العالقات السرية التي توجد بين المقاولين والصناعيين من جهة ،واإلدارة من
58
- Ibid
59
- Ibid
60
- Ibid
29
جهة أخرى ،التي تقود في النهاية إلى إدراج بعض البرامج التي تعبر عن مصالح ومنافع هذه
الفئة أو تلك من الصناعيين أو المقاولين بمختلف مجاالت عملهم .وهده الصورة أو العالقة
نالحظها أيضا بين هؤالء الصناعيين من جهة والبرلمانيين من جهة أخرى عندما يتعلق
األمر بالتصويت في البرلمان على القانون المالي للسنة ،وعلى إجراءات أو قضايا محددة
تهم المنافع والمصالح المتبادلة بين هاتين الكتلتين.61
إن التمييز بين هذه النماذج المختلفة يجد أهميته في كونه يمكن من معرفة العوامل
والديناميات المتداخلة والقادرة على نقل مشكل عمومي إلدراجه على جدول األعمال .إن
المسلسالت أو المسارات الواقعية لها منحى لتركيب وحمل العديد من هذه الديناميات .فهذه
النماذج هي في الحقيقة تشكل نماذج مثالية تمكن من توضيح خصوصيات بعض المسلسالت
االجتماعية في حين أن المسلسالت الواقعية هي في الحقيقة معقدة ومختلطة بحيث تتالقى
وتتداخل فيها العديد من هذه النماذج حتى يمكن إدراج مشكل ما على جدول األعمال
الحكومي.
61
- Ibid
30
الفصل الثالث :القرار العمومي ،مراحله ،إكراهاته ،ومقارباته
لقد طور علماء السياسة والعلوم االجتماعية عددا من النماذج والمداخل والمفاهيم
لتحليل السياسات العمومية وعناصرها الفرعية ،ومنها عمليات اتخاد القرار أو القرارات .بل
إن التنظير حول السياسات العمومية زاد من اهتمامهم بالدراسة الميدانية لها ،علما أن التنظير
وما يطرحه من نظريات ومنطلقات تعد ضرورية ألغراض التحليل والبحث ،وتسهيل
االتصاالت وتقديم االيضاحات الالزمة لفهم عملية صنع السياسات العمومية ،فبدون هذه
النظريات اإلرشادية والمعايير المنهجية يتعذر التحليل والتركيز على العناصر األساسية
وتحديد المعلومات الالزمة لذلك.
لكنه يبدو من الصعب اإلحاطة بتعريف محدد ودقيق لمفهوم القرار العمومي نظرا
لحداثة االستعمال االصطالحي لهذا المفهوم في مختلف األدبيات األكاديمية وخاصة منها
المهتمة بعلم السياسة والسياسات العمومية ،بالنظر إلى تعقد وتشابك خيوط الدوائر المتحكمة
في صياغة القرار من خالل رصد التحديات التي أصبحت تواجه الدولة الحديثة .وتتلخص
الخصائص التي وضعها ) JAMOUS (Hللقرار العمومي فيما يلي:62
عام :بمعنى أنه يوجه للمصلحة العامة وال يخص فئة دون أخرى. -
سياسي :بمعنى أنه ال يتخذ من طرف الخواص بل يتخذ من طرف السلطات العمومية، -
وهو ما يعطيه هذه الصيغة أو الصفة.
سلطوي :بمعنى أنه يفرض سلطة اإلكراه الشرعي الذي تمتلكه السلطة العمومية، -
وبالتالي فهو يفرض باسم المصلحة ومشروعية السلطة التي استقته بشكل ديموقراطي.
وبناء على ذلك ،فكل ما يخرج عن هذه القاعدة ال يعتبر قرارا عموميا ،فالقرارات التي تتخذ
على مستوى المقاوالت والمؤسسات الخاصة أو في مؤسسات ذات طبيعة خارجة عن
المؤسسات العمومية :كاألحزاب والنقابات والجمعيات ال يمكن اعتبارها قرارات عمومية .إن
من بين الشروط المهمة في تحديد ماهية القرار العمومي هي توفر شروط اجتماعية مالئمة،
ألن بروز أي وعي عام لدى المجتمع يقابل بالضرورة بتطوير الدولة آلليتها للتعامل مع هذا
الحدث واإلجابة عن مجموع المطالب التي يفرضها.
فالدولة تحتاط دائما من أن يتجاوزها المجتمع ،فتأخذ بعين االعتبار كل تغير أو تحول داخله
وتحسب له حسابه وإال حدث خلل وظيفي تكون له نتائج سلبية على النسق برمته ،فالقرار
ليس إال إجابة على مطالب اجتماعية عامة .والسلطة العمومية في هذه الحالة توجه جميع
إداراتها الخاصة والمختصة للتكيف مع المتغيرات الحاصلة التي تأخذ بعين االعتبار الفاعل
المقرر والمرجعية التي على أساسها يتخذ القرار.
62
- JAMOUS (H) : « sociologie de la décision », Paris, SNRS, 1969 .
31
ويمكن تحديد مفهوم القرار كما عرفه Lucien SFEZكما يلي" :القرار هو تسلسل لعملية
غير قابلة للتجزيئ والتقسيم وليس له تاريخ نشأة ،ألن النشأة أو التشكل هي عملية مستمرة
ومتواصلة" .63كما عرفه كل من Bertrand BADIE et Jacques FESTLIبأنه (أي القرار):
"اختيار واع اتخذه الفاعل ،فردا أو جماعة ،من بين مجموعة من االختيارات التي تعرض
أمامه بشكل علني بهدف حل مشكلة ظهرت أثناء المناقشة" .ويعرف ENHARDT John Low
القرار بأنه" :عملية تمثل طورا من االجراءات التي تحول المشاكل إلى سياسة" .أما P. H.
LEVINفيعتبر "القرار هو عمل مدروس قام صاحب القرار باتخاذه باتجاه مجموعة من
األفعال لها خصوصيتها ،وهو أيضا عمل يؤخذ على ضوء خطة عمل حيث يمكن تصنيف
عناصره الرئيسية إلى ناتج العمل وحصيلة المنتوج".64
يستخلص من خالل هذه التعاريف ،أن اتخاد القرار يؤدي دائما ،بشكل أو بآخر ،إلى
إحداث قطيعة ونهاية مزدوجة في آن واحد ،في الزمان والمكان .قطيعة في الزمان ،ألن
القرار يبدوا دائما مثل لحظة ينتقل فيها نسق الفعل العمومي من منطق إلى آخر مثل مجرى
الماء تحدد ما قبله وما بعده .ثم قطيعة في المجال ،ألن هذه القطيعة الزمنية ترافق دائما بما
يشبه إعادة تصويب نسق الفعل العمومي ،وذلك من خالل تمكن بعض الفاعلين من تحقيق
أهدافهم في حين يفشل البعض األخر في تحقيقها ،أما الفئة الثالثة فتقصى بشكل كلي من هذا
النسق لعدم قدرتها على التفاعل معه ومسايرة تطوراته.
وفي هذا السياق ،تبدو رغبة الباحثين دائما في إعادة تشكيل منطق العمل الخاص بكل فاعل
في مسلسل اتخاذ القرار ،وذلك من خالل تحديد المتغيرات التي تمكن من شرح وتفسير
لماذا؟ وكيف؟ تم تشكيل ونسج هذا االختيار العمومي أو ذاك .
ليس من السهل إذن تحديد ،بشكل دقيق وعملي ،المراحل والديناميات التي عبرها ينتقل نسق
الفعل العمومي .وأيضا من الصعب تحديد بدقة اللحظة الزمنية التخاذ القرار في سياسة
عمومية ما .إن كل هذه العوامل يجب أخذها بعين االعتبار ،والتي يمكن تلخيصها في بعدين
اثنين لتحليل هذه المرحلة الدقيقة من مسلسل وضع السياسات العمومية ،وهما:
عدم إمكانية تحديد بداية ما للقرار .ألن القرار هو مسلسل ال تحدد نتائجه بشكل بديهي -
وأيضا ليس دائما يقيني أو قطعي .فعندما نكون بصدد مسلسل اتخاذ القرار تفتح معه
بشكل موازي مرحلة من عدم القدرة على تحديد لحظته األولى.
ثم الطابع الديناميكي والمتحول لمسلسل اتخاد القرار .إن عدم القدرة على التحديد -
الزمني لبداية القرار يفسر حقيقة من خالل أنه ال يجب أن نعتبر القرار بمثابة فعل
منعزل ،بل بالعكس من ذلك ،فإن القرار يأخذ شكل تدفق متواصل ومستمر من القرارات
63
- SFEZ Lucien : « La décision », Paris, Ed. PUF. Coll. Que sais-je ?? 1984
64
- KUBLER Daniel et DE MAILLARD Jacques : « Analyser les politiques publiques », Paris, Presse
Universitaire de Grenoble ; 2009. Pp : 41 - 65
32
والتوافقات المؤقتة أو المرحلية ،التي تتخذ عند مختلف مستويات نسق الفعل العمومي،
والذي يجب تحليله كما لو أنه يمثل مجموعة من المسلسالت أو مسارات اتخاذ القرار.
فطبيعة األسئلة إذن تتغير ،ألن األمر ال يتعلق بالبحث عن قرار مرجعي أو أساسي ،وال
عن من اتخذ القرار؟ ولماذا؟ ولكن المطلوب هو التساؤل كيف يسمح تحليل منطق الفعل
في هذه التدفقات القرارية Les flux décisionnelsبإعادة تشكيل وتركيب الترابطات
التي تقود إلى النتائج الملحوظة.
أوال :مراحل القرار
إذا كانت مختلف المقاربات عبر المراحل للسياسات العمومية تعتبر أن اتخاد القرار يشكل
مرحلة محددة وقابلة للتحديد والتمييز ،فإن مقاربة جونز JONESتذهب خالف ذلك وتعتبر
أن اتخاذ القرار في السياسات العمومية يتم خالل مرحلتين اثنتين ،وهما :مرحلة التشكل أو
وضع التصورات األولية ،ثم مرحلة الشرعنة.65
المرحلة األولى :التشكل
المقصود بالتشكل أوال ،هو العمل المتعلق باختيار األجوبة الخاصة بمسائل سياسية ،أي
المسلسل الذي بموجبه تعمل السلطات الحكومية على إعطاء أجوبة لهذا المشكل أو هذه
األزمة .وعمليا فإن هذا المجهود يمكن أن يتم أو يترجم من خالل العديد من األنشطة المختلفة
مثل:
-إجراء الدراسات االقتصادية والمالية واالجتماعية والتقنية ،التي تتطلبها عملية فهم مشكل
اجتماعي محدد.
-تنظيم مناظرات أو ندوات أو موائد مستديرة يشارك فيها الباحثون والمختصون والخبراء،
أو يستدعى إليها الشركاء االجتماعيون واالقتصاديون والمؤسسات المختصة ومكونات
المجتمع المدني.
-اللقاءات الحوارية بين الفاعلين األساسيين في مسار اتخاذ القرار العمومي.
والغرض من هذه اللقاءات واألنشطة هو مساعدة المقررين وتمكينهم من تملك رؤية محددة
وطرح مختلف الحلول الممكنة ،ثم تقييم اآلثار السياسية واالجتماعية والمالية والتقنية .إن هذه
المرحلة التي يتم فيها انتقاء الحلول ينتج عنها دائما انفعاالت المقررين ،وخاصة إذا كانت
الرهانات جوهرية وأساسية ،كما هو األمر خالل مراحل الكوارث واألوبئة الكبرى
واألزمات والنزاعات المسلحة .ويحصل ذلك ألن السلطات العمومية تندفع كثيرا ،لكنها ال
- MULLER Piere et SUREL Yves : « L’Analyse des politiques publiques », Paris, Ed.
65
66
- Ibid. p : 105
67
- Ibid. P : 106
34
-وخالفا لما سبق ،فإن المراقبة الزائدة التي تفرضها أو تمارسها الدواوين الوزارية يمكنها
أن تشل أو أن تعيق مسلسل اتخاذ القرار أو قد تؤدي إلى اتخاذ قرارات ضعيفة على
المستوى التقني.
-واقع العمل الحكومي من خالل انتقال المعلومات وتحديد االختصاصات ووضوحها لدى
كل طرف.
وفي الواقع ،يتطلب األمر ،األخذ بعين االعتبار في هذا الجانب أن مساطر اتخاذ القرار
تشكل ،سواء أحببنا ذلك أم ال ،ميكانيزما أوليا لتحديد إطار القرار الذي يهدف إلى تحديد
استقاللية من يتخذ القرار .
-2القرار باعتباره رهانا للسلطة.
كل مسلسل التخاذ القرار يشكل رهانا يتصارع أو يتنافس حوله مجموعة من الفاعلين الذين
يضع كل واحد منهم استراتيجياته للسلطة متناقضة في أغلب األحيان .فالقرار من هذه
الناحية ،يشكل حقال حقيقيا للقوة ،ويشمل فاعلين مختلفين من حيث كل واحد له منطقه
الخاص ،وهم كالتالي:68
فاعلين ينتمون للحقل السياسي بالمفهوم الضيق للحقل مثل: أ-
األحزاب السياسية -
التيارات والجماعات المنتمية لألحزاب السياسية -
المنتخبون البرلمانيون والمنتخبون المحليون -
المؤسسات واألجهزة -
فاعلين إداريين مثل: ب-
الدواوين الوزارية -
اإلدارات المركزية -
المكاتب والمؤسسات العمومية والشركات الوطنية -
الكوربوراتية والشبكات -
المستويات الترابية والمجالية -
68
- Ibid. p : 108
35
ج -الجماعات الضاغطة:
النقابات والمقاوالت واالتحادات المهنية. -
اللوبيات -
الجماعات غير المنظمة -
جمعيات المجتمع المدني -
حقل القوة الذي يضيف مجال السياسة البيروقراطية. -
إن الديناميات الداخلية الخاصة بفضاء الفعل العمومي تحدث تأثيرات مختلفة على القرار
العمومي (أو عملية اتخاد القرار) ،وأوالها هو تشكيل القرار كرهان جماعي ،بحيث يتخد
مسار االختيار شكل مواجهة حادة بين فاعلين يعملون على تطوير أشكال تنافسية للفعل
الجماعي .ومن هذه الناحية فإن الخيارات المتاحة تصبح إلى حد ما مطبوعة باستراتيجيات
مختلف األطراف المتنافسة أو المتصارعة حول القرار .
فكل هذه المجموعات تعمل من أجل تقديم منطق تبريري يهدف إلى توجيه القرار في هذا
االتجاه أو ذاك .لكنه يبدو شيئا عاديا ،أن الحوار أو النقاش العمومي ليس نقاشا تقنيا بالمعنى
الضيق ،حتى لو كانت الحجج التي يقدمها مختلف األطراف الفاعلة هي حجج تقنية ،وهو ما
يلزم الباحث أو المحلل بتحديد مختلف المشاركين في لعبة السلطة هاته من أجل تسليط
الضوء على مبررات الفعل التي يتبناها كل طرف .انطالقا من ذلك ،فإن للقرار توجه دائم
هدفه إقامة تسوية شاقة تتم دائما عبر مفاوضات طويلة ،حتى حول قضايا تقنية .
لكن اال ختيار النهائي ،ال يحدد من خالل هذه الخصوصيات التقنية ،بل انطالقا من كونه تدافع
عنه هذه الوزارة أو هذه المصلحة أو هذا المرفق أو هذه الجماعة الضاغطة أو تلك .فالقرار
يكون في النهاية مطابقا النتصار هذا الفاعل أو ذاك .وبشكل مماثل فإن القرار يمكن أن يكون
على شك ل توافق نتج عن مسلسل طويل من التفاوض بما فيها مواضيع تهم هذه التقنيات .وفي
هذا السياق فإن هناك شكلين لتنظيم المفاوضات ،وهما:69
أ -القرار السلطوي :في هذا النموذج تعمل السلطات الحكومية على فرض طرق وأشكال
التفاوض ،ثم مضمون القرار ،وذلك من خالل تقديم وعرض ذلك على مختلف الفاعلين
المعنيين في هذا المجال بصيغة الموافقة على العرض الحكومي أو رفضه.
ب -القرار التفاوضي :يأخذ هذا النموذج من القرارات شكل طاولة للحوار أو مناظرة أو
منتدى ،حيث يكون كل الفاعلين سواء لكفاءتهم أو ألن ذلك يمس مصالحهم ،مطالبون
69
- LASCOUMES, P. « L’éco – Pouvoir. Environnement et politiques », Paris, La découverte, 1994.
36
بتقديم آراءهم ومقترحاتهم ،وبذلك تصبح عملية اتخاذ القرار بمثابة محصلة توافقية أو
تشاركية بين مختلف هؤالء الفاعلين .
إن هذين الصنفين من القرار ال يوجدان في الحقيقة إال نظريا أي نموذجين مثاليين للقرار.
ألنه في الواقع ،كل قرار يجمع بين المفاوضات وأنماط أخرى أو هو خليط من المفاوضات
والتالعب والممارسات السلطوية .وقليلة هي حاالت القرارات السلطوية التي ال تفتح على
التفاوض أو المفاوضات .إن طابع المفاجأة في هذه المرحلة يدفع الفاعلين في غالب األحيان،
إلى تغيير تصوراتهم حول هذه الرهانات والمشاكل .وبالعكس من ذلك ،فإن العديد من
المسارات القرارية التفاوضية ،ونظرا الستحالة االتفاق والتوافق ،تنتهي بقرارات سلطوية أو
استبدادية .فمن المؤكد ،وفي كل األحوال ،فإن أالعيب السلطة تقود في غالب األحيان أو
دائما إلى نتيجة مختلفة عن تلك المتوقعة أو المنتظرة منذ البداية مع الذين شاركوا في مسار
اتخاد القرار .إن إمكانية عدم إصدار القرار التي يمكن أن ينتهي بها مسار سياسي ،تتطلب
إعادة تشكيل التسلسل المنطقي المتشابك لفهم تبدل وتحول مسلسل اتخاذ القرار الذي ال يتبع
دائما خطا مستقيما .
- 3المنظور البيروقراطي:
وبارتباط مع مرحلة وضع المشكل على جدول األعمال الحكومي ،تعمل كل إدارة على
إعادة تشكيل مفهومها الخاص بالقرار وتمثلها للمشكل من خالل تاريخها وماضيها ومكانتها
في عملية تقسيم العمل اإلداري والسياسي ،ومن خالل خبراتها ووظيفتها المتميزة ،ومن
خالل صراعاتها ومنافستها القائمة ضد مصالح وقطاعات أخرى .وفي كل األحوال فإن
القطاعات المختلفة التي تشارك في مسلسل اتخاد القرار تنحو دائما نحو إدخال مصالحها
وامتيازاتها الخاصة والدفاع عنها (باعتبارها جزء من هذا الكل البيروقراطي) خالل عملية
بناء التحديد النهائي الذي سيعطى للمشكل بعد النقاش العمومي .وفي نفس اإلطار ،تنحو
اإلدارا ت (أو األجهزة اإلدارية) إلى نسيان وتجاهل األبعاد الخارجية للفعل العمومي (أو
السياسة العمومية) كاألهداف المعلنة لفائدة المصلحة العامة مثل :محاربة البطالة ،ودعم
الصناعة الوطنية ،وتأهيل المقاولة الخاصة ،وحماية البيئة ،واالنتصار في حرب مثال ،لفائدة
األبعاد الداخلية المرتبطة بالمصالح والمنافع الخاصة بالبيروقراطية اإلدارية مثل :الرفع من
مكانة وزارة ما ضد وزارة أخرى .وبشكل آخر ،فإن تكتيكات البيروقراطية سوف توظف
كمنظور وموجه يساهم في تفكيك رموز القرار وشفراته.70
إن تحليل مسلسل اتخاذ القرار يمر في الحقيقة عبر منهجية مزدوجة للبحث ،تتطلب أوال،
تحديد خريطة أو شبكة مختلف المنتديات والفضاءات التي تنتشر فيها أساليب السلطة
المرتبطة بهذا المسلسل ،لكن يتطلب األمر أيضا هدم وتفكيك استراتيجيات مختلف
المشاركين في عملية اتخاد القرار وتحديد منطق الفعل لدى كل فاعل والتي تمكن من فهم
70
- MULLER Pierre et SUREL Yves : « L’Analyse des politiques publiques». op. cit. P: 110 - 111
37
71واستيعاب المواقف المتبناة ،وأيضا استراتيجيات التبرير ومختلف التحالفات .إن هذه
الطريقة أو المنهجية هي التي تميز في فرنسا األعمال الكالسيكية لكل من 72JAMOUS H.و
GREMION Catherine 73و 74PADIOLEAUو ، 75J.C.THOENIوكل عملية تغيير
وتحويل تقود المحالة إلى طرح مسألة عقالنية الفعل العمومي أو السياسة العمومية.
ثالثا :المقاربات النظرية لعملية اتخاد القرار
سنحاول في هذا المحور مقاربة أربعة نماذج نظرية تناولت بالدراسة والتحليل عملية اتخاذ
القرار في السياسات العمومية ،ويتعلق األمر بالنماذج التالية:
نموذج االختيار العقالني -
النموذج التراكمي -
نموذج الفحص المختلط -
نموذج االختيار العمومي. -
-1نموذج االختيار العقالني :
يستند هذا النموذج إلى افتراض اقتصادي يعتبر أن السياسة العقالنية هي تلك التي تحقق أكبر
منفعة اجتماعية ،بمعنى أن على الحكومة أن تختار السياسات العمومية التي تحقق مكاسب
ومنافع وفوائد كبيرة للمجتمع وبأقل قدر من التكاليف المطلوبة .ينتج عن هذا المنطلق النظر
إلى السياسات العمومية كنموذج التخاذ القرارات ،من خالل مسارين اثنين يمكن الوصول
إليهما عبر نموذج االختيار العقالني وهما:
-ال ينبغي لصانعي قرارات السياسات العمومية تبني سياسة عمومية إذا كانت تكلفتها
الشاملة تزيد أو تفوق حجم الفوائد والمنافع التي تحققها للشرائح االجتماعية الموجهة -
إليها.
-يجب على متخذي القرارات تبني السياسات العمومية التي تزيد فوائدها ومنافعها على
تكلفة تحقيقها.
يؤكد ذلك أن السياسة العمومية تكون عقالنية عندما يتحقق فرق إيجابي بين القيم المادية
والمعنوية التي تم تحقيقها والقيم التي تمت التضحية بها ،مما يؤكد أفضلية البديل الذي تم
71
- MULLER Piere et SUREL Yves : « L’Analyse des politiques publiques », Op. Cit. p :112
72
- JAMOUS ; H : « Sociologie de la décision », Paris, CNRS, 1969.
73
- GREMION. C : « Profession : décideurs. Pouvoir des hauts fonctionnaires et réforme de l’Etat »,
Paris, Gautier – Villars. 1979 :
74
- PADIOLEAU Jean- Gustave : « L’Etat au concret », Paris, PUF. 1982.
75
- THOENIG. J. C : « L’ère des technocrates », Paris, L’Harmattan, 1987.
38
اعتماده على حساب البدائل التي تم التخلي عنها .وهذه المعادلة ال تعني التضحية بالقيم
االج تماعية من أجل إعالء القيم المادية ذات الخاصية المالية والنقدية ،ألن العقالنية تشمل
جميع القيم المادية والمعنوية وأيضا االقتصادية واالجتماعية والسياسية واألخالقية سواء
المتخلى عنها أو التي يمكن تحقيقها عبر السياسة العمومية ،وليس فقط القيم المحددة ماديا أو
ماليا .ولتحليل المعطيات الخاصة بنموذج االختيار العقالني في السياسات العمومية ،فإننا
سنقاربه من خالل المحاور التالية:
أ -المرتكزات األساسية للنموذج العقالني في عملية اتخاد القرار .وتشمل الخطوات
التالية:
أن متخذ القرار يواجه مشكلة محددة يستدعي األمر دراستها بشكل متأني ألنها جديرة -
باالهتمام مقارنة بالمشكالت األخرى.
أن متخذ القرار يؤدي دوره تبعا لوضوح األهداف والقيم والغايات باإلضافة إلى وضوح -
الترتيب واألهمية حسب لدرجات األفضلية في هذه السياسة العمومية.
ينبغي فحص وتدقيق ،جميع البدائل المتعددة والمختلفة لغرض مواجهة المشكلة المحددة . -
دراسة وتحليل النتائج المتوقعة من البدائل على أساس الفرق بين المنفعة الممكن تحقيقها -
والتكلفة الضرورية لذلك.
-يخضع كل بديل جرى اختياره ،لعملية القياس والمقارنة لما يتوقع منه من منافع ونتائج
مقارنة بالبدائل األخرى حتى يمكن تحديد األفضل.
، -يتولى المقرر في النموذج العقالني ،بناء على الخطوات السابقة ،اختيار البديل األمثل
الذي يتضمن تحقيق المنفعة المطلوبة ،وكذلك القيم واألهداف المنتظرة منه ،لكونه يعتبر
أفضل البديل من بين باقي البدائل األخرى.
ب -مبررات العقالنية لدى نموذج االختيار العقالني في السياسات العمومية.
يعتبر العديد من علماء السياسة أن العقالنية هي شرط أساسي في عملية اتخاد القرار في
السياسات العمومية ،والبد لها من معايير عقالنية صرفة تحكم عملية اتخاذ القرارات
وتوجه السلوك االنساني لمتخذي القرارات في السياسات العمومية .كما أن التأكيد على
العقالنية في اتخاذ القرارات تمليه مجموعة من المبررات األساسية التي ينبغي أخذها
بعين االعتبار في عملية صنع السياسة العمومية ،وهي كالتالي:
-أن هناك جزءا هاما في السلوك االنساني يعتبر سلوكا عقالنيا ،ألنه عندما نتحرى السلوك
غير العقالني فإنه يتم استخدام معايير عقالنية ،وبالتالي فإن التسليم بالعقالنية يعتبر أكثر
39
أهمية من إنكارها ،وخاصة من زاوية وضع النماذج والفرضيات للتعرف على السلوك
االنساني لمتخذ القرارات وتحليل هذا السلوك .
-يجمع العديد من علماء االجتماع على ضرورة تغليب الطابع العقالني على السلوك الفردي
االنساني.
-أن كل تصرف تترتب عنه نتائج محددة في السياسة العمومية ،مما يتطلب شرحا لهذه
النتائج أمام الرأي العام ولفائدة المعنيين بذلك في إطار عقالني .وعقلنة السلوك هاته تشكل
شرطا جوهريا ،على صانع القرار أن يدخلها في حساباته قبل أن يتخذ قراره النهائي .
-إن المنظور العام في النموذج العقالني التخاذ القرار يميل إلى تغليب البعد العقالني على
البعد غير العقالني ،ألن البعد األول يمكن فهمه وإدراكه بسهولة خالفا للبعد الثاني الذي
تؤطره نوازع قد تكون خفية ومجهولة تماما.76
-هناك احتمال أن تكون بعض قرارات السياسات العمومية غير عقالنية خاصة عندما يكون
البعض اآلخر من تلك القرارات يتصف بالعقالنية ،مما يجعل القرارات غير العقالنية
مهددة باإلخفاق خاصة إذا ما أثبتت القرارات العقالنية نجاعتها وقدرتها على تحقيق
االهداف المرجوة منها ،وهو ما يفرض تبني منهجيتها وتجنب الالعقالنية لتفادي اإلخفاق.
ت -تفسير أليات نموذج االختيار العقالني المعتمد في اتخاد القرارات.
يتصف البعد التحليلي في نموذج االختيار العقالني التخاذ القرارات في السياسة العمومية
بطابع الشمولية ،الذي يفترض أن جميع القيم واالفضليات يمكن قياسها في المجتمع بصورة
كلية ،كما يمكن التعرف عليها بسهولة .فال يكفي التعرف الجزئي والمحدود على قيم ومطالب
جماعة محددة دون التعرف الكلي والعقالني لقيم ومطالب المجتمع بصورة كلية وعقالنية .لذا
ينبغي أن يمتلك متخذ القرار في السياسات العمومية فهما وإدراكا كامال للقيم المجتمعية من
جهة ،وأن تتوفر لديه معلومات ومعطيات كاملة حول السياسة البديلة المطروحة من جهة
أخرى ،باإلضافة إلى استحضار القدرة على التنبؤ الدقيق بنتائج السياسة العمومية وأثارها
االيجابية منها أو السلبية ،ثم القدرة على تحديد الفرق بين منفعة السياسة العمومية وتكلفتها
الشاملة .كما ينبغي أن يتوفر صانع القرار في السياسة العمومية على نظام عقالني يحدد
كيفية اتخاذ هذه القرارات وضبط توجهاته ،ألن النموذج العقالني الشامل يستهدف التعرف
على حجم البرامج والمخططات الحكومية من خالل ضبط الموارد العامة للدولة ،وتحديد
_ 76جيمس دورتي و روبيرت بالسيغرا ف" :النظريات المتضاربة في العالقات الدولية" ،ترجمة وليد عبدالحي ،بيروت ،المؤسسة
الجامعية للدراسات1985 .ن ص.310 _ 309 :
40
طريقة وضعها حتى تتسع لتشمل كل هذه البرامج والمخططات واالستراتيجيات ،وحصر
النفقات العامة عليها باألولوية. 77
يرى "روبيرت دال " Robert DAHLبخصوص نموذج االختيار العقالني ،أن التفضيالت
السياسية غالبا ما يغلب عليها طابع عدم اليقين ،والتي يمكن تجاوزها من خالل إجراء بحث
شمولي مبني على إجابات عقالنية قبل تحديد أي خيار لهذه السياسة العمومية .ويمكن أن
يتضمن هذا البحث الذي يجرى في إطار النموذج العقالني الشامل مجموعة من الخطوات
لمواجهة مشكلة ما ،وذلك كما يلي:78
-يهتم متخذ القرار العقالني بتوضيح القيم واألهداف والمقاصد الخاصة بالقرار ثم ترتيبها
بشكل منطقي
-يضع جدوال ترتيبيا بأهم الطرق والوسائل الكفيلة بتحقيق أهداف هذا القرار.
-يحدد النتائج ذات األهمية التي ستترتب عن كل سياسة عمومية بديلة.
-مقارنة النتائج التي تترتب عن كل سياسة بديلة مع األهداف التي حددها المقرر كخطوة
أولى.
-اختيار السياسة العمومية ذات النتائج األقرب لألهداف التي حددها المقرر.
وبالرغم من ما يتضمنه النموذج العقالني من مقومات وأدوات علمية لتحليل كيفية اتخاد
القرار في السياسات العمومية ،فإن العديد من الباحثين يعتبرون أن هذا النموذج مضلل
وغير مفيد في صنع القرارات ،ألنه يعجز عن إثبات مدى وجود العقالنية المطلقة من
عدمها.
-2النموذج التراكمي
يعود الفضل لشارلز ليندبلوم Charles LINDBLOM 79في وضع النموذج التراكمي أو
التدريجي الذي يعتبر عملية صنع القرار واتخاذه في السياسات العمومية الراهنة ،ما هي في
الحقيقة إال استمرارية للسياسات العمومية السابقة ،حتى وإن تغيرت الحكومات ،بنوع من
التعديالت والتغييرات التدريجية أو كما يسميها LINDBLOMبالتراكمية المجزأة ،تعبيرا عن
رغبة صانعي القرارات ومتخذيها في تجزيئ المشاكل العمومية عند صياغة القرارات حتى
يمكن اختيار القرار الذي يمكنه حل المشكل االجتماعي أو العمومي .ويتقاطع LINDBLOM
في موقفه هذا مع أفكار H.SIMONالذي يعتبر من أبرز المنتقدين لنموذج االختيار العقالني
77
- Thomas. R. DYE : « Understanding Public Policy », 7eme Ed. New Jersey, Prentice Hall,
Englewood Cliffs, 1992. P : 30 -31
_ 78روبيرت دال" :التحليل السياسي الحديث" ،ترجمة عال أبو زيد ،القاهرة ،مؤسسة األهرام ،1993 ،ص186 :
79
- LINDBLOM Charles : « The policy Making Process », 2eme Ed. New Jersey, Englewood
Prentice-hall, 1980. P : 14 – 27.
41
والعقالنية المطلقة في اتخاذ القرار ،عندما اقترح استبدال مفهوم السلوك العقالني المطلق
بالسلوك المقبول أو العقالنية المحدودة ، la Rationalité Limitéeألن صانع القرار ال يتوفر
على جدول ي شمل جميع البدائل المتاحة أمامه فيختار منها البديل الذي يتطابق مع معاييره
وأهدافه ،بل ما يقوم به صانع القرار هو استعراض البدائل الممكنة ثم يختار من بينها البديل
الذي يحقق الحد األدنى وليس الحد األقصى للمعايير التي يضعها هدفا له .80بمعنى أن صناع
القرار أو متخذي القرارات يتجنبون القرارات غير المقبولة أو غير المرضية إلى حين أن
يعثروا على القرار المقبول حتى يتمكنوا من تطبيقه .وهو ما يجعل مفهوم العقالنية حسب
أطروحة SIMONمفهوما معدال بحيث يصبح هامش العقالنية بمثابة هامش وسطي للتكيف
بين العوامل العقالنية والعوامل غير العقالنية ،ألن صانع السياسة العمومية يتعامل مع
الظروف التي تحد من إمكانية العقالنية فيه مما يلزمه باللجوء إلى اختيار البديل المقبول
لتحقيق األهداف .
انطالقا من العناصر LINDBLOM ويمكن مقاربة النموذج التراكمي كما وضعه
التالية:
أ" -لندبلوم " LINDBLOMونموذج االختيار العقالني
يعتبر "لندبلوم" أن نموذج االختيار العقالني في اتخاذ قرارات السياسات العمومية ال يمت
للواقع بصلة ،وذلك نظرا للعوامل التالية: 81
-أن عملية صنع القرار من الناحية الواقعية نادرا ما تتبع الخطوات المتوالية والثابتة التي
اعتمدها نموذج االختيار العقالني وفي أحيان أخرى قد ال تتبعها بتاتا.
-يجعل الضعف المعرفي لدى صانع القرار عن المشكلة التي يواجهها كما لو أن القرارات
تصنع غالبا في ظل عدم اليقين ،وإذا ما أجلت عملية اتخاذ القرار إلى حين توفر شروط
العقالنية المطلقة ،فإن ذلك ال طائل منه وقد لن يصدر القرار أبدا .
-عدم القدرة على التعامل مع المشكالت المعقدة في ظل نقص المعلومات والمعطيات،
وصعوبة اإللمام بجميع البدائل وتبويبها وجدولتها ضمن عملية منسقة بشكل دقيق يؤدي
في غالب األحيان إلى ظهور مشاكل جديدة في التوقيت يصعب التفرغ لدراستها بالشكل
المطلوب.
-يواجه صانعو السياسات العمومية إكراهات فعلية وحقيقة عند قيامهم بتحديد األهداف
الواقعية أو القابلة للتنفيذ مما يحول في كثير من األحيان دون إمكانية وضع خطة متكاملة
تتضمن تحديد جميع األبعاد والمتغيرات ذات الصلة بتلك األهداف .
80
- SIMON. H : « Administrative behavior. A study of decision – making processes in administrative
Organisation », New York, free Press. 1957.
81
- Ibid
42
-أن الوسائل الكمية واالحصائية وبحوث العمليات كمداخل مساعدة في عملية اتخاد القرار ال
تصلح للتعامل مع جميع المشاكل ،ألن بعضها ال يمكن إخضاعه لألرقام والحسابات
الرياضية.
إن النموذج التراكمي ،كما يرى ليندبلوم ،قابل للتحقق فعليا ألن عملية تخطيط السياسات
العمومية واتخاد القرارات الحكومية تتم في إطار ضيق وبأقل عدد من البدائل المتاحة .كما
أن صانع القرار الفعلي ال يستطيع تحقيق أكثر من تغيير محدود وجزئي في طبيعة المشكل
المولد لقرار السياسة العمومية ،خالفا لما نادى به أنصار نموذج االختيار العقالني .82
وما يميز النموذج التراكمي عن سابقه ،هو أخده بعين االعتبار للتوافق والتراضي بين
المقررين في السياسة العمومية ،وإعطاء مكانة أساسية لمسألة التنازالت والمساومات بين
الفاع لين في صنع القرار ،مما يجعل التغييرات محدودة في هوامش ضيقة ،يتجاوب فيها
صناع القرار في السياسة العمومية مع آراء ومطالب األطراف المتباينة .
ينطلق النموذج التراكمي من قاعدة أساسية تعتبر السياسات العمومية عملية ديناميكية
ومتحركة ومتداخلة بين مختلف األجهزة والمؤسسات الحكومية ،ومختلف الفاعلين الخواص
على أساس الصراع والتنافس على موارد وقيم هذه السياسة العمومية وكيفية توزيعها ،مما
يعطي للعامل السياسي مكانة جوهرية ومحورية أغفلها وتجاهلها نموذج االختيار العقالني.
وقد عبر "روبيرت دال " Robert DAHLعن ذلك بالقول :أنه يمكن مواجهة عدم اليقين في
الواقع المعاش بأكثر من طريقة مفيدة ،وخاصة البحث عن حلول مقبولة للمشاكل بدال من
البحث عن حلول مطلقة وكاملة .كما يمكن اتخاد قرارات أولية ثم معرفة ما سيترتب عنها
الحقا من خالل المعلومات التي ولدها القرار األول ،وبناء عليها يتم تغيير األهداف بما فيها
األهداف الجوهرية ،بناء على فرضية أن القرارات التي يتم اتخاذها ما هي إال سلسلة ال
متناهية من الخطوات التي بإمكانها تصحيح األخطاء بشكل ال يتوقف ،وبالرغم من ذلك،
يمكن استعمال النموذج التراكمي باالنطالق من وضع قائم ومعروف ،ثم القيام بتغييرات
صغيرة تدريجيا في االتجاه المرغوب فيه ومالحظة الوضعية التي ستكون عليها الخطوة
الالحقة ،وهكذا إلى ما ال نهاية من الخطوات االضافية التدريجية التي تعبر في األخير عن
تحول أو تغيير عميق .كما أن الخيارات المحدودة هي سقف ما يملكه هذا الفرد أو ذاك في
سبيل اتخاذ أو صنع قرارات السياسة العمومية ،وهذا هو منطلق النموذج التراكمي
ومرتكزاته الفكرية.83
82
- LINDNLOOM Charles : « The sciences of Muddling Throuth », PAR, Vol : 19, N 2, 1957 , P : 7-
88
- 83روبيرت دال :التحليل السياسي الحديث ،مرجع سبق ذكره ،ص.188 – 187 :
43
المنطلقات المنهجية للنموذج التراكمي التخاذ القرارات: ب-
يحدد ليندبلوم LINDBLOMهذه المنطلقات المنهجية المتبعة التخاذ القرار في السياسة
العمومية في النقط التالية:84
-إن التحليل العلمي للسلوك ،وكذا اختيار األهداف والغايات المطلوب تحقيقها ،هي عمليات
متداخلة ومترابطة فيما بينها وليست مستقلة أو منفصلة عن بعضها البعض .
-إن متخذ القرار يأخذ بعين االعتبار بعض البدائل دون األخرى ،في حدود ارتباطها
بالسياسات العمومية محل التنفيذ والسياسة العمومية موضع عملية اتخاذ القرار .
-ينبغي أن تتركز عملية المفاضلة بين البدائل المطروحة على النتائج المهمة التي يسمح كل
بديل تحقيقها والتي تشكل جوهر العالقة مع األهداف دون غيرها.
-يسمح النموذج التراكمي أو التدريجي بإعادة النظر في العالقة القائمة بين األهداف
والوسائل .ويسمح أيضا بإحالل التناسب بينهما بحيث يمكن إجراء التطويع لألهداف
والوسائل بشكل متوافق بينهما ،مما يسهل السيطرة على المشكلة التي يواجهها متخذ
القرار ،ويصبح بالتالي بمقدوره إجراء التغيير المطلوب والمستمر لقراراته دون حصول
خلل في ذلك.
-إن القرارات والسياسات هي حصيلة لألخذ والعطاء وتوافق متبادل بين المشاركين في
عملية صنع قرارات السياسات العمومية .لذا يسهل النموذج التراكمي مسألة التوافقات
السياسية والتوصل إلى بناء اتفاق بشأن المواضيع والقضايا المختلف حولها بين األطراف
المتصارعة ،وذلك بشكل مختلف عن نموذج االختيار العقالني الذي يقوم على قاعدة "كل
شيء أو ال شيء ".
-يقلل النموذج التراكمي من ارتكاب األخطاء عند اتخاذ القرارات بسبب ظروف عدم التأكد
التي يعمل في ظلها متخذو أو صانعو القرارات ،ويساعدهم على خفض التكلفة المترتبة
عن المغامرة والعشوائية المتبعة عند تغيير هذه القرارات .
في ضوء ما سبق ،يمكن القول أن النموذج التراكمي أو التدريجي يفضل االشتغال بناء على
األهداف المحدودة والخطوات القصيرة القادرة على مسايرة ومواكبة تحوالت البيئة
وتغيراتها ،عوض التركيز على األهداف الكبرى التي يصعب تحقيقها في أغلب الحاالت.
فالنموذج التراكمي يركز على األهداف قصيرة األمد وليس على التخطيط طويل األمد.
84
- LINDBLOM Charles : « The policy Making Process », Op. Cit.
44
-3نموذج الفحص المختلط
يرتبط هذا النموذج "بأميطاي إتزيوني " Amitai ETZIONIالذي حاول إيجاد نموذج توفيقي
لعملية صنع القرار واتخاذه ،يأخذ الجوانب اإليجابية والعملية من النموذجين السابقين :نموذج
االختيار العقالني والنموذج التراكمي ،وذلك بما يجعل عملية اتخاذ القرار تستفيد في آن واحد
من معطيات العقالنية ومعطيات التراكمية ،ويجعل السياسات العمومية تتصف بالحركية
والديناميكية وأيضا بالعملية والواقعية من جهة ،ويجنبها من جهة أخرى مثالية العقالنية
المطلقة وثقل التراكمية ورتابتها .85وتكمن خصائص وضوابط نموذج الفحص المختلط
التخاذ القرارات في العناصر التالية:
أ -انتقادات إتزيوني ETZIONIلنموذج االختيار العقالني:
االنتقادية لنموذج االختيار العقالني على النقط التالية: ETZIONI تقوم رؤية إتزيوني
-أن نموذج االختيار العقالني يغلب عليه الغموض وعدم الواقعية عندما يعتبر أن المقرر
يمتلك المعرفة العقالنية الشاملة والضرورية التخاذ قراره بجميع الخيارات والبدائل وما
يترتب من نتائج محتملة عن كل واحد من هذه البدائل .في حين أنه من الناحية الواقعية
والعملية يصعب عليه تحقيق ذلك.
-يبالغ نموذج االختيار العقالني عندما يدعي أن قدرته المعرفية والتحليلية الدقيقة تمكنه من
تصنيف بدائل اتخاذ القرار حسب أهميتها أو منفعتها ،التحكم في موضوعات القرارات
ومحتوياتها ،نظرا للصعوبة التي يطرحها تنوع القيم وتعدد المتغيرات التي تخترق مسار
اتخاد القرار.
-إن نموذج االختيار العقالني هو نموذج مثالي تغلب عليه النظرة الطوباوية ،ألن صانع
القرار هو في األخير كائن بشري ليس بمقدوره امتالك العقالنية المطلقة ،كما أن األهداف
بدورها ال تخضع لطريقة عملية ثابتة ،وال تترجم دائما إلى أرقام أو أن يتم ترتيبها حسب
أهميتها ،ألن األفراد قد يختلفون حول أبسط القضايا.
للنموذج التراكمي: ETZIONI ب -انتقادات إتزيوني
للنموذج التراكمي في النقط التالية: ETZIONI تنحصر انتقادات إتزيوني
-يرتكز النموذج التراكمي عند "لندبلوم " LINDBLOMعلى فرضية محورية وهي أن
االنسان ال يستطيع اإللمام بجميع بدائل القرار وإنما يركز فقط على بدائل السياسات
التي تختلف اختالفا جزئيا أو سطحيا عن السياسات العمومية القائمة ،وال يهتم بنتائج
البدائل كلها ،ويتبنى تعريفا واحدا للمشكلة القائمة بطريقة تراكمية أو تدريجية تعكس
85
- ETZIONI Amitai : « Mixel seanning : Athird Approach to decision Making », PAR Vol : XXVII.
Decembre. 1967. P : 385 – 392.
45
أشكال المساومة بين الفئات االجتماعية المختلفة مثل :األحزاب السياسة ،وجماعات
الضغط ،والنقابات واالتحادات المهنية في حل هذه المشكلة عبر سياسة عمومية
تحظى بالتوافق أو إجماع األطراف المعنية ،وتأخذ بعين االعتبار المصالح الخاصة
بالفئات االجتماعية المتنوعة والمتعددة.
ويرى إتزيوني ETZIONIأن هذه الفرضية التي تبنى عليها القرارات ال تعني اتباع منهج
تشاركي في اتخاد القرارات ،بل هي فرضية هشة تعبر فقط عن رغبات الفاعلين األقوياء
على حساب الفاعلين الثانويين ،والمجموعات الصغيرة التي تعيش على هامش الحياة
االجتماعية واالقتصادية والسياسية وبالتالي تبقى بعيدة وغير قادرة على الـتأثير في قرارات
السياسات العمومية.86
-يركز النموذج التراكمي على ماضي المؤسسة وحاضرها ،وال يهتم بالتحوالت المحتملة
مستقبال وإمكانية تأثيرها على الفاعلين المعنيين باتخاذ القرار ،بسبب بطئ وتعثر عملية
التخطيط للمستقبل ،وأيضا عدم قدرتها على مواكبة التغييرات التي تطرأ في السياسات
العمومية ،مما يزيد من مخاطر عدم قدرة النموذج التراكمي على بلوغ أي من األهداف
المحددة سلفا .
-إن النموذج التراكمي يصلح التخاذ القرارات الصغيرة وال يتناسب مع القرارات
االستراتيجية أو الكبيرة مثل :إعالن الحرب ،وحل األزمات البنيوية ،وأيضا التحوالت
الجوهرية التي قد تمس السياسات العمومية ،ألن مثل هذه القرارات الكبرى هي التي تحدد
المسارات المستقبلية للمجتمعات.87
على هذا األساس إذن ،دعا "إتزيوني" إلى ضرورة إيجاد نموذج بديل يستطيع الجمع بين
القرارات األساسية والكبرى والقرارات الصغرى أو التراكمية حتى تتطابق مع األهداف
الكلية لهذه القرارات .وهو ما يسعى الوصول إليه نموذج الفحص المختلط كخيار ثالث في
صنع قرارات السياسات العمومية .كما يرى "إتزيوني" أن عمليتي التخطيط والتنفيذ هما
وظيفتان مت كاملتان ضمن مسار السياسة العمومية ،وهو ما يعني أن مرحلة إعداد السياسة
العمومية تتطلب تبني النموذج العقالني ،بينما مرحلة تنفيد السياسة العمومية تتطلب تبني
واعتماد النموذج التراكمي .ألن العقالنية تسهل تحديد الخطوط العريضة لمجال السياسة
العمومية ،بينما األسا ليب التراكمية أو التدريجية تؤدي إلى تفكيك تلك السياسة العمومية
وجعلها متطابقة مع مقتضيات الواقع السياسي واالجتماعي لإلدارة الحكومية.88
لذا فإن نموذج الفحص المختلط يسمح لمتخذي قرارات السياسات العمومية ،باستثمار
أو استعمال طرق ومرتكزات نموذج االختيار العقالني ،باإلضافة إلى النموذج التراكمي في
86
- Ibid
87
Ibid
88
Ibid
46
وقت واحد ،وضمن حاالت وأوضاع مختلفة ،حيث يسمح أيضا بالتوظيف المناسب لكال
النموذجين في وقت واحد ،وضمن وضعيات وحاالت مختلفة عندما يكون نموذج االختيار
العقالني هو األنسب لحلها ومعالجتها.
ت -االطار الفكري لنموذج الفحص المختلط:
يشكل نموذج الفحص المختلط ردا على السلبيات والنقائص التي اعترت كال من نموذج
االختيار العقالني وأيضا النموذج التراكمي .ويمكن تلخيص ذلك في نقطتين اثنتين:
-أن نموذج الفحص المختلط يشكل وصفا واقعيا للخيار األمثل الذي يمكن لمتخذ القرار أن
يتبناه في الوضعيات الكبرى والمتنوعة.
-أن نموذج الفحص المختلط يرقى إلى دليل عملي لمتخذي القرارات ،بحيث يتيح
االستمرارية في المتابعة وإدخال التغييرات على التنفيذ ونتائجه.
لقد مزج إتزيوني ETZIONIبين نموذج االختيار العقالني الذي استقى منه نظرته الكلية
والشمولية ،والنموذج التراكمي واستقى منه هو اآلخر نظرته التجزيئية وتركيزه على
األجزاء والتفاصيل ،ليخلص في النهاية إلى دمج بين النموذجين يقوم على أساس البحث
والتحليل واالختيار والتقييم بين ما هو خالصات إجمالية كما وضعها وحددها نموذج
االختيار العقالني وبين ما هو بناء تأسيسي كما وضعه النموذج التراكمي ،لذا شكل هذا الدمج
والتوحيد منطلقا أساسيا لمعرفة وتحليل وتقييم البرامج العمومية القائمة ضمن السياسات
العمومية بصورة واضحة ومدركة ،ومع بيان الجوانب الخاصة بالبناء السياسي واالقتصادي
واالجتماعي وتحليل متغيرات ذلك ،ومدى تأثيرها على عملية اتخاذ القرار بكل ما له عالقة
89
بعمليات السياسات العمومية على صعيد النشأة والتنفيذ والتقييم.
-4نموذج االختيار العمومي
إن نموذج االختيار العمومي هو نموذج يتعاطى مع السياسات العمومية باعتبارها فضاء
للقرار الجماعي وليس الفردي الذي يعبر عن مجموعة من األشخاص الباحثين عن تحقيق
مصالحهم ومنافعهم الذاتية .واالختيار العمومي هو مقاربة تحليلية لكيفية صنع القرار واتخاذه
في السياسات العمومية ،ولكن بناء على مفاهيم ومقاييس وأدوات اقتصادية وليست سياسية.
وهو ما يؤكد أن االختيار العمومي هو مقاربة اقتصادية لتحليل كيفية اتخاد القرار في
السياسات العمومية والذي يقوم على مرتكزين اثنين:90
األول :يرتكز االختيار العمومي على دراسة السلوك االقتصادي لألفراد والجماعات لتحليل
اختياراتهم في السياسات العمومية.
89
- Ibid
90
- DYE Thomas . Op. Cit. p : 39
47
الثاني :أن هذا السلوك يستند إلى االختيار العقالني الذي ينطلق من عقالنية الفرد الذي يعمل
دائما على توسيع وتنويع منافعه .ومن هنا فإن مكانة االختيار العمومي تندرج ضمن
السياقات الفكرية التي تحلل عملية اتخاد القرار في السياسات العمومية انطالقا من المعطيات
االقتصادية ،باعتبار هذا القرار هو اختيار عمومي تفضيلي يحقق الخيارات الفردية عبر
القرارات الجماعية.91
إن األساس االقتصادي لنموذج االختيار العمومي يتم التعبير عنه بشكل أفضل من خالل ما
تمنحه عملية االختيار من بدائل مرتبطة بقانوني العرض والطلب ،وتوجيه الموارد
واألهداف ،والمنافسة في ظل نظام السوق ،وهي آليات وأدوات يمكن استعمالها والبناء عليها
في عمليات أخرى لالختيار ،كاالختيارات السياسية ،واتخاذ القرار في مجال السياسات
العمومية أو تحديد من هي الجهة التي تتولى صناعة القرار ،وتلك التي تتولى تنفيذه وكذا
المؤسسات الحكومية وهيئات المجتمع المدني التي ال تهدف لتحقيق الربح المادي .لكن تطبيق
اآلليات االقتصادية في عملية اتخاذ القرار يستند إلى الفرضيات التالية:
-يسعى متخذ القرار إلى تحقيق أحسن النتائج بناء على األهداف المحددة ووفق الموارد التي
يتوفر عليها ،وأيضا القيود واإلكراهات التي يواجهها.
-كل تغيير في هذه القيود واالكراهات ينتج عنه تغييرات مماثلة في االختيارات
والتفضيالت.
-تنشغل النظرية االقتصادية بدراسة ومعرفة البيئة التي يتم فيها االختيار ،والتي يحاول فيها
متخذ القرار تحديد اختياره األفضل بناء على مؤشرات ومقاييس اجتماعية.
-تتخذ النظرية االقتصادية من منطلق االختيار أسلوبا لها ،ويتسع ذلك ليشمل نتائج هذا
االختيار والقرارات التي تنتج عنه ،وآثار التغيرات التي تحصل في الموارد المتاحة ،ثم
إكراهات هذه القيود على االختيار.
-ينشغل االختيار العمومي بتطبيق كل هذه العناصر التي تشكل األساس االقتصادي على
عملية اتخاذ القرار في حقل السياسات العمومية ،وقياس السلوك االنساني عند اتخاذ قرار
معين كاختيار بين مجموعة من الخيارات على أساس احتساب المنفعة والتكلفة.
تستند المرتكزات الفكرية لنموذج االختيار العمومي وكيفية اتخاذ القرار في السياسات
العمومية إلى كل من:
-نموذج االختيار العقالني ،ألن االختيار العمومي يشمل الحاجات والسلع العامة
والخدمات الواسعة التي تعكس العالقة بين صنع قرارات السياسة العمومية واتخاذها،
91
- MUELLER Dennis. C. et Autres : « Choix Public : Analyse Economique des décisions publiques »,
Traduction de la 3eme Edition Américaine. Economica. Paris. 2010. P : 1-2
48
وميول األفراد وتوجهاتهم الفردية والجماعية ،وأيضا بين متطلبات الحكومات
والمؤسسات ومختلف الفاعلين مقابل طرق العمل ،وبين رهانات المنتجين ونوعية
االنتاج من جهة ورغبات المستهلكين من جهة أخرى.
-يستند االختيار العمومي إلى أفضلية باريطو (أو الوضع األمثل) التي تستند إلى مبدأ
أخالقي ،يقوم على أساس أن األفضلية أو شروط الوضع األمثل لتحسين الوضع العام
لبعض الفئات االجتماعية يجب أن ال يتم على حساب الوضع العام لغيرهم من الفئات
األخرى ،بمعنى أن ال يسبب ذلك ضررا لآلخرين .وهو ما يشكل أسلوبا لتجنب
التحيز والتحلي بالموضوعية عند وضع البدائل ،وخاصة منها البديل العام في اتخاذ
قرارات السياسات العمومية .بحيث يمكن على أساس ذلك تقييم سياسة عمومية ،أو
قرار عمومي ،أو برنامج عمل ،للقول بأنه مالئم أو أفضل عندما يكون جميع
المتأثرين به يقرون بأفضليته بناء على مبدأ التفاوض أو التوافق ،واالجماع كأساليب
عمل اقتصادية قابلة للتطبيق في مجال السياسات العمومية.
-يؤسس نموذج االختيار العمومي ،مناهجه التحليلية على فرضية أساسية وجوهرية
تعتبر أن جميع المجاالت سياسية كانت أم اجتماعية واقتصادية ،أو من جماعات أو
ناخبين ومرشحين ،وبيروقراطيين ومشرعين ودافعي الضرائب ،وكذلك الحكومات
وجماعات المصالح ،كلهم يعملون من أجل مصالحهم ومنافعهم الخاصة سواء في
االقتصاد والتجارة أو السياسة واالدارة.
-كما يستند نموذج االختيار العمومي لمرجعية فكرية ترجع تشكل النظم السياسية
والحكومات ،وكل أشكال التنظيم السياسي واالداري ،إلى كونها اختيار عمومي يستند
إلى ما يشبه العقد االجتماعي بينها واألفراد المرتبطين بها ،مقابل منافعهم الخاصة
وحماية حياتهم وحرياتهم وممتلكاتهم ،وهو ما جعل نموذج االختيار العمومي يستوعب
الدور الذي على الدول والحكومات القيام به ،وخاصة الدور والوظائف التي ال يستطيع
السوق القيام بها ،ومعالجة األزمات واالختالالت ،وتولي الخدمات العمومية عبر آلية
السياسات العمومية واتخاذ القرارات بشأنها.92
92
- DYE Thomas : op. cit. p : 39 – 40
49
الفصل الرابع :صياغة السياسة العمومية
تتصف عملية صياغة السياسة العمومية بالتعقيد والتشابك حينا وبالغموض حينا آخر،
فهي ليست بسيطة أو سهلة ،بحيث يشارك أو يساهم في صياغتها فاعلون وأطراف وجهات
متعددة على المستويين الداخلي والخارجي ،لكل واحد منهم مصالحه ومنافعه الخاصة،
وأيضا القيم والمبادئ التي تؤطره وتحدد أهدافه من االنخراط في صياغة هذه السياسة ،ال
تتطابق وأهداف األطراف األخرى بشكل كلي أو جزئي .كما تختلف وتتناقض طرق
ومبررات صياغة السياسة العمومية هي األخرى بحسب تباين واختالف مبررات األطراف
المشاركة في صياغتها ،وما ينتج عنها من قرارات ملزمة للجميع بعد اكتسابها صفة السياسة
العمومية ،وما يطرحه ذلك من صعوبة التوفيق بين أهداف ومصالح الفاعلين وجماعات
المصالح ومخت لف األطراف المتباينة مصالحها ،والمؤثرة في مسلسل السياسات العمومية.
إن عملية صياغة السياسة العمومية ال يمكن فهمها ما لم تؤخذ بعين االعتبار مختلف
العناصر التي تكونها كتعريف من يتولى رسم السياسة العمومية وكيفية صياغتها ،والوقت
المناسب لذلك ،ونتائج التفاعالت التي تحصل بين الفاعلين في صياغتها .ولتوضيح ذلك البد
من معرفة الخطوات التي تمر بها عملية صياغة السياسة العمومية.
الخطوة األولى :صياغة بدائل السياسة العمومية:
تشمل هذه المرحلة القيام بالعديد من العمليات الضرورية ،كجمع المعطيات والبيانات،
ووضع البدائل الممكنة لصياغة سياسة عمومية ،والتي تتم على الشكل التالي:
-1تحديد طبيعة المشكل العمومي المولد للسياسة العمومية ،وكذا القضايا العامة المرتبطة
به ،والناتجة عن مطالب الشرائح االجتماعية المستهدفة.
-2إن إدراج المشكل العمومي على جدول األعمال الحكومي في النظم السياسية
الديموقراطية ،يدفع الفاعلون األساسيون من صناع القرار ،إلى االستعانة بما يجري من
نقاش عمومي مع الرأي العام ،والباحثين ،والخبراء في مجال المشكل العمومي المطروح،
وبآراء جماعات الضغط المعنية بهذا المشكل ،وبما يقترح من حلول وآراء بديلة لحل هذه
المشكلة .بحيث تلجأ هذه األطراف إلى اتباع آليات متعددة لجمع المعطيات والمعلومات،
والحقائق ،واآلراء ،والمقترحات والتصورات والحلول ،من أجل بناء تصور أو حل
متماسك .وذلك من خالل عقد الندوات ،واللقاءات الفكرية ،والمناظرات ،بمشاركة باحثين
متخصصين في مجال المشكل العمومي ،ومراكز األبحاث والدراسات ،وهيئات المجتمع
المدني ،والمؤسسات العمومية ،وإجراء الدراسات المالية واالقتصادية واالجتماعية
والتقنية ،لمعرفة التكلفة العامة التي يتطلبها حل هذا المشكل العمومي ،واآلثار المفترضة
لهذه السياسة العمومية على الوضع االجتماعي واالقتصادي للشرائح االجتماعية المعنية،
وذلك كله من أجل صياغة البدائل الممكنة والمناسبة ،بناء على ما توفر من معلومات
50
ومعطيات حقيقية ،وما هي الخيارات المتاحة والمطروحة من جانب الفاعلين المنخرطين
في هذه العملية ،وما هي االمكانات والموارد المتنوعة المطلوبة .بمعنى ،أن مرحلة تشكل
أو صياغة السياسة العمومية هي مرحلة مفتوحة أيضا للنقاش والتفاوض ،والضغط
المتبادل بين األطراف المختلفة ،المعنية باتخاذ قرار السياسة العمومية التباع بديل أو حل
معين للمشكلة المطروحة.
الخطوة الثانية :اختيار البديل المناسب
تجري في هذه المرحلة عملية اختيار البديل أو الحل المناسب بعد مناقشة كل بديل من
بدائل السياسة العمومية المطروحة ،والتي يمكن أن تكون في شكل استراتيجيات ،أو
مخططات ،أو برامج ،أو مشاريع قوانين ،أو قوانين تنظيمية تحدد كيفية إنشاء مؤسسات
معينة أو هيئات عامة لتتولى اإلشراف على تدبير وتنفيذ هذه السياسة العمومية .وقد يكون
هناك بديل يشمل كل هذه المكونات .وتخضع بدائل السياسة العمومية المقترحة للنقاش داخل
أروقة األجهزة الحكومية ومؤسساتها ،طبقا لمساطرها الدستورية والمبادئ والقواعد المعمول
بها ،وقد تتم هذه النقاشات في مؤتمرات عامة ،أو خاصة باألحزاب السياسية والجماعات
الضاغطة من نقابات واتحادات مهنية ،وتكتالت منفعية أو مصلحية ،وهيئات المجتمع المدني
بكل أطيافه ،وأثناء الحمالت االنتخابية ،وعبر وسائل اإلعالم واالتصال المختلفة ،أو عبر
استثمار الفضاء العمومي لالحتجاج العلني .بحيث يؤدي هذا التفاعل إلى توفير الشروط
الضرورية الختيار البديل المالئم لطبيعة المشكل االجتماعي من جهة ،وتعبيرا عن المصالح
والمنافع المتباينة التي يدافع عنها الفاعلون المنخرطون في عملية صياغة ورسم هذه السياسة
العمومية من جهة أخرى .غير أن النقاش العمومي الذي يجري بين الفاعلين في عملية
صياغة السياسات العمومية يأخذ في غالب األحيان أحد األساليب أو النماذج التالية :
أ -المساومة :يعرف "جيمس أندرسون" المساومة بأنها" :عملية تفاوض بين طرفين أو أكثر
ممن يمتلكون السلطة أو الترخيص للتوافق على حل معين ،ليس مطلوبا أن يكون حال مثاليا،
ولكن يعبر بشكل كلي أو جزئي عن مصالح وأهداف الطرفين أو األطراف المعنية.93
فالمساومة من خالل هذا التعريف ،هي محاولة الوصول إلى توافق على تبادل المنافع
والمصالح المشتركة بين أطراف هذه المساومة بناء على معادلة (رابح – رابح) ،وهي حالة
أو وضعية يقتنع فيها كل طرف من هذه األطراف أنه لن يحقق أهدافه ومنافعه الكلية أو
الجزئية إال بالتنازل عما يرغب فيه الطرف اآلخر من هذه المصالح والمنافع في الزمان
والمكان ،والكيفية التي يتم بها التوافق .ومن أهم شروط المساومة نذكر :توافر الرغبة لدى
أطراف المساومة ووجود منفعة أو مصلحة يمتلكها طرف ما يرغب بها الطرف الثاني .لكن
قد يحدث عدم امتالك أطراف المساومة نفس القوة واإلمكانات لكل منهما ،وهو ما يؤدي إلى
- 93أندرسون جيمس" :صنع السياسات العامة" ،ترجمة عامر الكبيسي ،الطبعة الولى ،عمان ،دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة.
.1999
51
تقديم الطرف األضعف لتنازالت أكبر حتى يستطيع الحصول على مصلحته أو منفعته
لصالح الطرف األقوى ،وهو ما يسمى بالمساومة غير المتكافئة .في حين فإن المساومة
المتوازنة هي التي يكون فيها طرفا المساومة يمتلكان نفس القوة ،ونفس مستوى الحاجة
للحصول على المنفعة أو المصلحة موضوع المساومة.
كما يمكن أن تكون المساومة مبهمة أو ضمنية بطبيعتها عندما تحصل بين أطراف
حول وعود مستقبلية وليس آنية .كاالتفاقات التي تتم بين الفرق البرلمانية عندما يقوم فريق
برلماني بدعم التصويت لصالح فريق أخر أثناء المناقشات والتصويت على مشروع أو
مقترح ما مقابل وعد بالحصول على تأييد الفريق اآلخر مستقبال حول قضية معينة .كما يمكن
أن تكون علنية عندما تحدد أطراف المساومة مطالبها وشروطها كتابة تفاديا للغموض
وااللتباس الذي يميز المساومة الضمنية والشفوية.94
ب -المنافسة :لقد عرفها البعض بأنها "نشاط يمارسه طرفان أو أكثر ،بهدف الوصول إلى
الغاية نفسها" .95بمعنى أن المنافسة تتم في الواقع بين طرفين أو أكثر يبحثان كالهما عن
تحقيق مصالحهما ومنافعهما أو شيء ما يتميز بالندرة النسبية ،وأن إمكانية حصول أي منهما
عليه كليا أو جزئيا يمنع الطرف اآلخر من الحصول عليه بنفس الكمية والقدر ،كالمنافسة بين
الشركات والمقاوالت للسيطرة على قدر معين من المبيعات واألرباح ،أو المنافسة بين
األحزاب السياسية على أصوات الهيئة الناخبة في االنتخابات ،وتنافس الدول فيما بينها على
الموارد االقتصادية والمواقع االستراتيجية.
ومن الشروط الواجب توفرها لحصول المنافسة :وجود طرفين أو أكثر ،ووجود هدف معين
يتصف بالندرة النسبية التي تلبي حاجات جميع األطراف المتنافسة ،وأن تكون لكل طرف من
اطراف المنافسة الرغبة في السيطرة عليه واحتكاره بشكل كلي ومنع اآلخرين من الحصول
عليه .فالفرق بين المنافسة والمساومة كوضعيات اجتماعية موضوعية ،هو أنه في األولى
يعمد كل طرف في المنافسة إلى تحقيق أهدافه على حساب اآلخر ،أما في المساومة فكل
طرف يلجأ إلى تحقيق أهدافه ومنافعه بناء على التوافق والتراضي مع الطرف اآلخر.
ج -الصراع :الصراع هو حالة من التفاعل والمجابهة بين طرفين ،تنتهي بانتصار أحد
األطراف على الطرف اآلخر وفوزه بما خاض الصراع من أجله ،وتحميل الطرف الخاسر
أو المنهزم تكاليف عملية الصراع .ويمكن للصراع أن يكون سلميا وال يستهدف إلحاق األذى
بالطرف اآلخر ،وينتهي عند مستوى التهديد .وقد يكون عنيفا فيلحق الضرر باألطراف
94
- MITCHELL/ Joyce. M, et MITCHELL William. C : « Political analysis and Political policy : An
introduction to Political science », Chicago, Rand and company. 1969. P : 447
- 95المنوفي كمال" :أ صول نظم السياسة المقارنة" ،الطبعة األولى ،شركة الربيعان للنشر والتوزيع ,1987 ,ص296 :
52
المتصارعة أو بعضها كمقابل للحصول على ما يجري حوله الصراع ،وينتهي بفوز أحدهما
وهزيمة الطرف اآلخر وفقدانه للشيء موضوع الصراع.96
د -القرارات السلطوية :المقصود بها هو إصدار األوامر والتعليمات في بنية تراتبية من
األعلى إلى األسفل ،وتقابل بالطاعة واالمتثال لقرارات الرؤساء مقابل التحفيز بالثواب
للمؤيدين وبالعقاب للمعارضين والرافضين ،وهو أسلوب يعتمد كثيرا في رسم السياسات
العمومية في األنظمة الشمولية واالستبدادية.97
وخالفا لذلك يمكن اعتماد اإلقناع والتعاون بين األطراف المعنية بصياغة السياسة العمومية،
عندما يستطيع أحد هذه األطراف إقناع الطرف أو األطراف االخرى بأهمية العرض أو
القضية المعروضة عليه من الطرف االخر ،بناء على معلومات أو معطيات جديدة أو
مصالح ومنافع وامتيازات لم تكن معلنة سابقا .ولتحقيق ذلك تنخرط األطراف في مسار من
التعاون فيما بينها ،بناء على قاعدة إقناع األطراف بعضها بأهداف البعض اآلخر لتحقيق
أهداف مشتركة .ويشكل التعاون آلية ال يمكن إنكار اللجوء إليها بين مختلف الفاعلين في
مسار رسم وصياغة السياسة العمومية بين الجماعات االجتماعية ،واالحزاب السياسية،
والجماعات الضاغطة ،والمؤسسات العمومية ،ومختلف األجهزة الحكومية .
الخطوة الثالثة :تبني الحل.
بعد مرحلة وضع البدائل المتاحة واستعراضها ،تأتي مرحلة اختيار الحل أو البديل المناسب
استنادا إلى معايير محددة للمفاضلة بين الخيارات المطروحة للتوصل إلى الخيار األمثل
لدعمه وإضفاء الشرعية عليه .غير أن ذلك يتم في سياق المشكل العمومي الذي يلعب دورا
حاسما في تحديد المعايير التي سيتم على أساسها اختيار هذا البديل المناسب أو الحل المعتمد.
ومن المعايير التي يتم االستناد إليها خالل عملية اختيار الحل أو البديل المالئم نذكر:
-الفاعلية :والهدف منها هو معرفة هل سينتج عن هذا البديل النتائج المرجوة منه أم ال؟
-الكفاءة :وتعتمد كمعيار لتحليل الناتج الحاصل بين المنفعة التي يمكن لهذا البديل تحقيقها
والتكلفة الكلية التي يتطلبها ،وأيضا اآلثار االجتماعية والكيفية التي سيؤثر بها هذا البديل
على الجماعة المستهدفة.
-العدالة :والمقصود بها كمعيار ،هل يضمن البديل المعتمد توزيعا عادال للتكلفة والمنفعة
على الفئات والشرائح المستهدفة وغير المستهدفة؟
-إمكانية تطبيق الحل :ويقصد بذلك مدى توفر المناخ السياسي والمؤسساتي واإلداري
والقانوني الالزم لتطبيق فعال وكفئ للبديل الذي تم اختياره أم ال.
96
- Mitchell. Op. cit. p : 460
-أندرسون جيمس :مرجع سبق ذكره ,ص111 : 97
53
-مرونة الحل :وتعني هنا هل البديل المعتمد يمتلك المرونة التي تمكنه من استيعاب
التطورات والتحوالت التي قد تطرأ مستقبال أم ال؟ ومدى قدرته على التكيف معها أم ال؟
-الوعي العام :ومعناه مستوى التعبئة االجتماعية ،والوعي السائد حول طبيعة القضية
المثارة ،واالستراتيجية المتبعة لعالج هذه المشكلة.
لكن ما يجب التأكيد عليه ،هو أن االختيار بين بدائل السياسة المختلفة المتاحة أمام متخذي
القرار ،وهي عملية أيضا سياسية بامتياز ،تخضع إما لمنطق إما المساومة أو المنافسة أو
الصراع .
بعد اختيار البديل النهائي أو مجموعة البدائل السياسية المالئمة لمعالجة المشكل
العمومي القائم ،يلي ذلك مرحلة صياغة السياسة العمومية وإصدارها على شكل استراتيجية
متكاملة أو مجموعة برامج متناسقة أو مخططات محددة ،أو في صورة قرارات وتعليميات
وتشريعات وإجراءات تنظيمية ومؤسساتية ،وأهداف ومبادئ وآثار وأنظمة للتمويل.
وبموجب ذلك تصبح السياسة العمومية قائمة وتنقلنا إلى المرحلة التي تليها وهي مرحلة
التنفيذ.
54
الفصل الخامس :تنفيذ السياسة العمومية
تعتبر مسألة تنفيذ السياسة العمومية موضوعا خصبا وغنيا ،بحيث أعطيت له العديد من
التعاريف من لدن باحثين متعددين يختلفون من حيث المرجعيات الفكرية والحقول المعرفية
التي ينتمون إليها.
فقد عرف SAPRU. R. Kتنفيذ السياسة العمومية بأنها" :عملية تستهدف القيام بأفعال وأنشطة
وإجراءات فاعلة ومؤثرة من قبل فاعلين في القطاعين العام والخاص ،طبقا لما رصدته
السياسة العمومية من موارد وما حددته من أهداف ،بشكل يجعل االدارة العمومية قادرة على
اتخاذ االجراءات التنفيذية وإنجازها بالفعالية والمالئمة المطلوبتين".98
أما R. NAKAMURA et F.S. WOODفقد حددا المقصود بتنفيذ السياسة العمومية" :هي تلك
المجموعة من األفعال واألنشطة العامة والخاصة التي يؤديها األفراد والجماعات من أجل
تحقيق األهداف المرسومة مسبقا في قرارات السياسة العمومية".99
كما عرف كل من Ch. HAM et M. HILLعملية تنفيذ السياسة العمومية بأنها" :مرحلة تتصف
بالمرونة الدائمة وتتحول فيها السياسة العمومية إلى حقيقة فعلية بشكل يجعل منها سياسة
الستمرار الفعل قصد تحقيق األهداف".100
بناء على هذه التعاريف يمكن القول أن عملية تنفيذ السياسة العمومية يقصد بها تلك العملية
الفعلية التي تجعل السياسة العمومية إطارا خصبا للفعل واألداء ،قصد تحويلها أو نقلها من
وضعية األفكار والبدائل والقرارات إلى حالة ميدانية للفعل التنفيذي والتطبيقي حتى تشمل
جميع الحدود والفضاءات من إعالنها كسياسة إلى مالحظة آثارها الحقيقية التي تعبر عن ما
حدث ويحدث من تفاعالت عكسية بواسطة األجهزة االدارية والبيروقراطية المعنية بأداء
وظيفة التنفيذ التي تتوالها السلطة التنفيذية .
أوال :السلطة التنفيذية
تعتبر السلطة التنفيذية هيئة تختص بتنفيذ القوانين والقرارات اإلدارية والسياسية للدولة،
وتمارس السلطة التنفيذية إلى جانب عدد من الوزراء ،وكتاب الدولة ،واإلدارات المركزية،
والمصالح الجهوية والمحلية ،وشبكة من المؤسسات والهيئات ،واللجان واألجهزة اإلدارية
الحكومية ومن الموظفين ،بناء على اختصاصات محددة بموجب القوانين .وتختلف الجهة
التي تمارس السلطة التنفيذية في مستوياتها العليا ،باختالف النظام السياسي السائد في كل
دولة :إذ يمارسها رئيس الدولة في بعض الدول كما هو الشأن في الواليات المتحدة
98
- SAPRU. R. K : « Public Policy », New Delhi : sterling Publishers Private Limited. 1994
99
- NAKAMURA (Robert) et SAMLL WOOD Frank : « The Politics of Policy Implementation »,
New York. ST Martins Press Inc. 1980. P : 14
100
- HAM Christopher et HILL Michael : « The Policy Process in the modern capitalist state ». New
York. Harvester Wheatsheaf . 1984
55
األمريكية ،أو رئيس الحكومة كما هو األمر في بريطانيا ،أو هي موكولة دستوريا لرئيس
الدولة ورئيس الوزراء وفق توزيع دقيق لالختصاصات والصالحيات كما هو عليه األمر في
فرنسا.
ويعهد للسلطة التنفيذية ،في كل هذه النماذج ،باختصاصات واسعة وخطيرة ،كتنفيذ القوانين،
وإصدار المراسيم والقرارات ،وحفظ األمن الداخلي والدفاع الخارجي ،وحفظ النظام العام،
والصحة والتعليم والتخطيط ،واإلعالم والثقافة ،والصناعة والتجارة ،والمالية العامة ،وحماية
حقوق وحريات المواطنين وممتلكاتهم الخاصة والعامة ،وإدارة العالقات الخارجية
والديبلوماسية للدولة .كما يعهد إليها أيضا ببعض االختصاصات في ظل الظروف
االستثنائية فتتولى صالحيات واسعة تقيد من مجال القانون والحريات الشخصية ،كما هو
الوضع مع حالة الطوارئ الصحية إبان جائحة كورونا فيروس .
وفي المغرب ينص الفصل 89من دستور ،2011على أنه" :تمارس الحكومة السلطة
التنفيذية ،وتعمل الحكومة تحت سلطة رئيسها ،على تنفيذ البرنامج الحكومي ،وعلى ضمان
تنفيذ القوانين .واإلدارة موضوعة تحت تصرفها .101وتتألف السلطة التنفيذية طبقا للفصل 87
من دستور 2011من رئيس الحكومة والوزراء وكتاب الدولة.102
وباإلضافة لهذه األدوار والصالحيات ،تضطلع السلطة التنفيذية أيضا برسم ووضع
السياسات العمومية وتنفيذها ،نظرا لما تمتلكه من وسائل وإمكانات وموارد عمومية تمكنها
من القيام بذلك ،وخاصة األجهزة اإلدارية والبيروقراطية العامة ،وهيئاتها ومؤسساتها
المتنوعة التي تتدخل في مسار السياسة العمومية ،والتي يمكنها ذاك من إعاقة رسم السياسات
العمومية تماما كقدرتها على تنفيذها أو عدم تنفيذها ،نظرا لكثرة المشاكل االجتماعية،
والقضايا التي تتطلب كفاءات وخبرات معرفية وفنية لرسم هذه السياسات أو تنفيذها ،والتي
ال تتوفر إال للسلطة التنفيذية بالمقارنة مع باقي السلط األخرى في الدولة .
وينص الدستور المغربي لسنة 2011في الفصل 92على أنه "يتداول مجلس الحكومة تحت
رئاسة رئيس الحكومة في القضايا والفصول التالية:
-السياسة العامة للدولة قبل عرضها على المجلس الوزاري
-السياسات العمومية
103
-السياسات القطاعية
كما ينص أيضا في فصله 100على أن "تخصص باألسبقية جلسة في كل أسبوع ألسئلة
أعضاء مجلسي البرلمان وأجوبة الحكومة .....تقدم األجوبة على األسئلة المتعلقة بالسياسة
-الفصل 89من دستور 2011 101
56
العامة من قبل رئيس الحكومة ،وتخصص لهذه األسئلة جلسة واحدة كل شهر وتقدم األجوبة
عنها أمام المجلس الذي يعنيه األمر (إما مجلس النواب أو مجلس المستشارين) خالل الثالثين
يوما الموالية إلحالة األسئلة على رئيس الحكومة".104
ويمكن أيضا لرئيس الحكومة طبقا للفصل 101من الدستور أن "يعرض أمام البرلمان
الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة ،إما بمبادرة منه ،أو بطلب من ثلث أعضاء مجلس النواب،
أو من أغلبية أعضاء مجلس المستشارين .وتخصص جلسة سنوية من قبل البرلمان لمناقشة
السياسات العمومية وتقييمها" .105كما يمكن لرئيس الحكومة طبقا للفصل 103من الدستور
أن يربط لدى مجلس النواب ،مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها بتصويت يمنح الثقة بشأن
تصريح يدلي به في موضوع السياسة العامة ،أو بشأن نص يطلب الموافقة عليه".106
والسلطة التنفيذية ال يمكنها أن تؤدي دورها في مجال تنفيذ السياسات العمومية إال بواسطة ما
تتوفر عليه من أجهزة إدارية متعددة ومتنوعة .ألن هذه األجهزة اإلدارية المختلفة هي
المسؤولة عن تنفيذ السياسات العمومية ،بناء على المقاربة التشاركية .بحيث تتولى الوحدات
والهيئات واألجهزة والمؤسسات اإلدارية العمل على تنفيذ توجهات وقرارات السياسة
العمومية ،وكل ما يرتبط بحاجيات المواطنين وقضاياهم المختلفة .تعمل هذه الوحدات
االدارية مركزيا ومحليا في حدود تخصصها واختصاصها القانوني والمكاني ،وحدود
االمكانات المتوفرة لديها ،على تنفيذ أهداف السياسات العمومية بصورة موسعة ومرنة ،ألنها
تمارس هذه المهمة أو الوظيفة في ظل وجود قوانين مؤطرة وواضحة أحيانا وغامضة أحيانا
أخرى ،بل منعدمة حينا آخر ،وفي ظل قواعد عامة مطلقة تسمح لألجهزة اإلدارية بالعمل
على تنفيذ السياسات العمومية واتخاذ القرارات المالءمة.
وباإلضافة لألجهزة اإلدارية المعنية أصال بتنفيذ السياسة العمومية ،هناك جهات أخرى
عديدة تساهم في عملية التنفيذ بتناسق مع المقولة القائلة أن" :السياسة العمومية تصنع مثلما
تنفذ ،وتنفذ مثلما تصنع ،ويتم تشريعها في ضوء االمكانات المتوفرة لتطبيقها ،ويتم تطبيقها
أيضا في ضوء عملية تشريعها أو صنعها" ،وهو ما يبرر حالة التأثير المتبادل في مسار
السياسة العمومية صنعا وتنفيذا.
ثانيا :الجهات المؤثرة في منفذي السياسات العمومية
وإذا كانت عملية تنفيذ السياسة العمومية باعتبارها عملية تقنية تتوالها السلطة التنفيذية
وأجهزتها اإلدارية التي تتعدد بتعدد أنواع السياسات العمومية ،فإن هناك جهات أخرى
متعددة أيضا تمارس وتؤدي دور التأثير المباشر أو غير المباشر على من يتولى تنفيذ
57
السياسات العمومية ،ويمكن حصر هذه الجهات التي تؤثر في مسار تنفيذ السياسات العمومية
في الفاعلين من المؤسسات والهيئات والتنظيمات التالية:
السلطة التشريعية أ-
نظرا لدورها في صناعة السياسة العمومية عبر المناقشة والتعديل والتصويت والمراقبة
وأيضا التقييم .تمارس البرلمانات تأثيرا على مختلف طرق التنفيذ اإلداري ،وما تملكه من
آليات للضغط على هذه األجهزة بوسائل مختلفة ومتنوعة ،والتي يمكن حصرها فيما يلي:
-تؤدي وظيفة التشريع وإصدار قوانين واضحة ودقيقة ،إلى تقليص هامش السلطة التقديرية
التي تتمتع بها األجهزة اإلدارية في اتباع المساطر ،واإلجراءات اإلدارية ،والمدة الزمنية،
وكيفية صرف االعتمادات المالية وطريقة األداء ،وأيضا احترام االختصاصات النوعية
والمجالية.
-تمارس السلطة التشريعية سلطة المراقبة والتتبع والمساءلة السياسية لألجهزة اإلدارية في
شخص رئيس الحكومة ،أو الوزير المكلف بالقطاع الذي ينتمي إليه الجهاز اإلداري
المعني بتنفيذ الساسة العمومية ،وأيضا سلطة إجراء تقييم السياسات العمومية عبر آليات
وطرق مختلفة للوقوف على مدى احترام الحكومات وأجهزتها اإلدارية في تنفيذ السياسات
العمومية طبقا لإلجراءات والضوابط والقوانين التي أصدرتها السلطة التشريعية ،وبما
يخدم تحقيق األهداف واآلثار المعلنة سلفا.
-يتوقف تحديد وحصر االعتمادات المالية السنوية المخصصة لألجهزة اإلدارية من أجل
أداء وظيفتها التنفيذية ،وتنظيم هياكلها بما يتناسب مع متطلبات السياسة العمومية ،على
موافقة السلطة التشريعية حين ممارستها لصالحياتها المالية أو رفضها لهذه االعتمادات.
-ينص الدستور المغربي لسنة 2011في الفصل ،70باإلضافة للفصول 100و 101
و 103التي سبقت اإلشارة إليها بالتحليل ،يمارس البرلمان السلطة التشريعية .ويصوت
على القوانين ،ويراقب عمل الحكومة ،ويقيم السياسات العمومية.107
السلطة القضائية ب-
تمارس السلطة القضائية في هذا الجانب دورا مزدوجا ،فهي:
أوال ،تقوم بدور تنفيذ السياسة القضائية بشكل عام ومختلف السياسات العمومية المرتبطة
بالمجال القضائي والجنائي والحقوق والحريات العامة وسياسة محاربة الجريمة المنظمة،
والسهر على تنفيد قواعد وإجراءات المعامالت المدنية واالسرية والتجارية وغيرها.
108
- WIHTE Michael. J : « The Ombusdsman and Public Administration », PAR. N5. VOL. 43. 1983 .
P : 467 - 469
- 109أندرسون جيمس" :صنع السياسة العامة" ،مصدر سبق ذكره .ص127 :
110
- GICQUE Jean et HAURIOU André: « droit constitutionnel et Institutions Politiques », Ed.
Montechrestien 1985 .
59
أما كولمان وروزبرج ) (James Coleman et Carl Rosbergفيعتبران األحزاب السياسية بأنها:
"اتحادات منظمة رسميا ،ذات غرض واضح ومعلن يتمثل في الحصول أو الحفاظ على
السيطرة الشرعية (سواء بشكل منفرد ،أو بالتآلف ،أو بالتنافس االنتخابي مع اتحادات
مشابهة) على مناصب وسياسات الحكم في دولة ذات سيادة فعلية أو متوقعة".111
لكن يعتبر كل من "البالومبارا ) (J .Laplombaraوفينر )" (M. Weinerفي كتابهما "األحزاب
السياسية والنمو السياسي" ،أن "الحزب السياسي يوجد إذا توفرت أربعة شروط موضوعية،
وذلك على الشكل التالي:
" -1أنه تنظيم دائم ،أي تنظيم يعد أمله في الحياة السياسية أعلى وأكبر من أمل قادته في
وقت ما.
-2أن يتوفر له تنظيم محلي وطيد وبشكل جيد ودائم ظاهريا ،ويقيم صالت منتظمة
ومتنوعة مع المستوى الوطني.
-3إرادة واعية للقادة الوطنيين للتنظيم جهويا ومحليا ألخذ السلطة وممارستها ،لوحدهم
أو مع الغير ،وليس فقط للتأثير عليها.
-4االهتمام بالبحث عن الدعم الشعبي من خالل االنتخابات أو بأي طريقة أخرى في
حدود النظام".112
انطالقا من هذه التعاريف ،يتضح أن ظاهرة األحزاب السياسية يمكن أن تدرس من خالل
زوايا مختلفة ،سياسية واجتماعية واقتصادية وتنظيمية وقانونية ،وبأدوات ومناهج تحليلية
متباينة .إال أن دراسة األحزاب السياسية مازالت تمثل تحديا للباحثين والمتخصصين ،وتشكل
واحدة من القضايا المعقدة نتيجة لمجموعة من العوامل منها الداخلية ومنها الخارجية.
وبالرغم من اختالف تصنيفات األحزاب السياسية بناء على المعيار الوظيفي أو المعيار
االيديولوجي ،فإن األحزاب السياسية تمارس مجموعة من الوظائف المتقاربة والمتشابهة
فيما بينها رغم هذا التباين على مستوى التصنيف .
وفي هذا السياق ،ينص الفصل 7من الدستور المغربي لسنة 2011عند تناوله لوظائف
األحزاب السياسية على ما يلي" :تعمل األحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين
وتكوينهم السياسي ،وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية ،وفي تدبير الشأن العام ،وتساهم في
التعبير عن إرادة الناخبين ،والمشاركة في ممارسة السلطة ،على أساس التعددية والتناوب،
بالوسائل الديموقراطية ،وفي نطاق المؤسسات الدستورية" .113لكن من المتفق عليه بين
111
- COLEMAN James and ROSBERG Carl: « Political parties and National integration in tropical
Africa », Berkeley, californie. University of california press, 1966, p: 2.
112
- LAPLOMBARA Joseph and WEINER Myrom: «The origin and development of political
parties», in LAPLOMBARA Joseph and WEINER Myrom: «Political Parties and Political
development», Princeton, Princeton University Press, 1966, p: 4
- 113الفصل 7من دستور 2011
60
أغلب الباحثين ،أن األحزاب السياسية تمارس مجموعة من الوظائف التي يمكن تلخيصها
كالتالي:
-مساهمتها في بناء الحياة السياسية الوطنية على قواعد وآليات وضوابط يحتكم إليها الجميع
في ظل المنافسة السياسية.
-اختيار المرشحين للمشاركة في العمليات االنتخابية باعتبارها إحدى اآلليات األساسية
المتفق عليها لبناء وتجديد المؤسسات ،والوصول لممارسة المهام والمسؤوليات السياسية
في الدولة.
-وظيفة الدمج االجتماعي باعتبارها إطارا أو فضاء النتماء األفراد والجماعات بناء على
أصولهم االجتماعية والفلسفة التي يدافعون عنها ،وليس للونهم أو دينهم أو لغتهم أو
منطقتهم أو جنسهم.
-أداء وظيفة الوساطة بين النسق السياسي وبيئته االجتماعية مما يجعل من األحزاب
السياسية أداة لعقلنة الصراعات االجتماعية وليس إلغاءها .
-ممارسة السلطة السياسية بشكل منفرد ،أو في إطار التحالف ،طبقا لآلليات واإلجراءات
القانونية المتفق عليها النتقال السلطة أو التناوب عليها بالطرق السلمية .
كما تؤدي األحزاب السياسية دورا مهما في التعبير عن الرأي العام ،وتوفير شروط
المشاركة في صياغة السياسات العمومية وتنفيذها ،من خالل دورها في صياغة المطالب
المجتمعية ،والقضايا العامة التي تناقش عند وضع السياسات العمومية ،وتعبئة الشرائح
االجتماعية حولها ،وعملها أيضا من أجل إقناع الفئات االجتماعية بتبني مواقفها التي تعلنها
للضغط على الحكومات ،وممارسة وسائل الرقابة السياسية عليها .
وتمارس األحزاب السياسية شكال آخر من التأثير على مسار صنع السياسات العمومية عندما
تتسلم زمام السلطة السياسية ،التي تمنحها إمكانية تجديد بنياتها أو تغييرها وتحديد مساراتها،
وتوجيه عملية وضع السياسة العمومية طبقا للفلسفة السياسية واالختيارات التي تتبناها .وفي
كل األحوال ،فإن األحزاب السياسية سواء كانت داخل السلطة أو خارجها ،فهي تمارس
رقابة سياسية على بعضها البعض :فأحزاب المعارضة تراقب الحكومة في كيفية وضعها
للسياسات العمومية وتنفيذها .بينما تتولى أحزاب السلطة شرح سياسات الحكومة والدفاع
عنها ،وإقناع الرأي العام بأهميتها وقدرتها على تحقيق المصلحة العامة.
وبناء على هذه االمكانات ،تمارس األحزاب السياسية تأثيرا كبيرا على عملية وضع
السياسات العمومية وتنفيذها ،سواء كانت داخل السلطة أو خارجها ،إما باستعمال إمكانات
السلطة العمومية أو بالتعبئة االجتماعية والفضاء العمومي ،وبالهيئات االجتماعية التي
تؤطرها إذا كانت خارج السلطة السياسية .
61
ح -مجموعات الضغط
هي مجموع القوى الخارجية عن اإلدارة العمومية ،والتي تملك قدرة التأثير والضغط على
منفذ السياسة العمومية من أجل جعله يأخذ بعين االعتبار مصالحها ومنافعها وامتيازاتها
المادية والمعنوية مثل التأثيرات والضغوط التي تمارسها اللوبيات والنقابات واالتحادات
المهنية ،وشبكات المنافع ،وهيئات المجتمع المدني ،على القطاعات الوزارية المختلفة،
واإلدارات العمومية التابعة لها ،مثل ضغط القطاعات الصناعية أو الفالحية أو المقاولين
العقاريين أو العاملين في مجال التصدير واالستيراد على مختلف القطاعات اإلدارية التي
تتقاطع مجاالت عملها مع مصالح مجموعات الضغط هاته .كما يمكن أن تشكل عملية التنفيذ
تشجيعا ألصحاب المصالح والجماعات الضاغطة بمختلف مكوناتها على التدخل في كيفية
تنفيذ قرارات اإلدارة بشكل يزكي ويدعم مصالح ومنافع األجهزة والهيئات اإلدارية أيضا.
وهي عالقة قد تتحول إلى ما يشبه التحالفات المصلحية بين القوى الضاغطة واإلدارة
العمومية ،يجعل بعض العناصر والقوى أكثر تأثيرا على عملية تنفيذ اإلدارة للسياسة
العمومية ،وفي نشاطاتها ومخرجاتها التي تكون محط اهتمام هذه المكونات المختلفة من
مصالح إدارية ،وجماعات المنافع ،والبيئة االجتماعية.
خ -وسائل اإلعالم:
تضم وسا ئل االعالم مجموعات ومؤسسات لها من اإلمكانات والقدرات ما يؤهلها للتأثير
بشكل هائل على عملية تنفيذ السياسة العمومية والجهة التي تتولى هذا التنفيذ ،حيث يمكن
لوسائل االعالم بمختلف أشكالها وأصنافها :المكتوبة والسمعية والبصرية واإلليكترونية ،أن
تؤثر على عملية التنفيذ بكل األشكال إيجابية كانت أو سلبية ،بطرق وأساليب مختلفة وتشمل:
-التقارير المزيفة ونشر معلومات ومعطيات غير صحيحة إما تمجيدية تضخم من نوعية
وفعالية التنفيذ ،أو سلبية وعدمية تقلل من حجم المنجزات ونوعيتها وأهميتها .كما يمكن
لوسائل االعالم اإلثارة المبكرة للصعوبات والخروقات المختلفة التي قد تعتري تنفيذ
السياسات والبرامج والمخططات الحكومية إما بسبب الفساد أو انعدام الكفاءة أو التحايل أو
غيرها.
-ونظرا لقدرة وسائل اإلعالم التأثير على عملية تنفيذ السياسات العمومية ،فإن ذلك بإمكانه
أن يؤدي إلى إقامة ونسج عالقات تواطئية مصلحية ومنفعية متبادلة ،بين الهيئات اإلدارية
واألجهزة التنفيذية من جهة ووسائل اإلعالم من جهة أخرى ،بهدف خدمة مصالح ومنافع
الطرفين على حساب التنفيذ األمثل لمكونات السياسة العمومية وأهدافها المحددة سلفا .
62
ه -الوسطاء:
المقصود بالوسطاء هم مجموعة من األفراد والجماعات والهيئات والمؤسسات والتنظيمات
التي تناط بها مسؤوليات ووظائف معينة من قبل المسؤولين الحكوميين بهدف تسهيل عملية
تنفيذ السياسة العمومية ،كهيئات الخبراء في المجاالت المختلفة من موظفي الدولة أو موظفي
الجماعات الترابية أو من القطاع الخاص .وتطلق عليهم هذه التسمية نظرا لدورهم وقدراتهم
في إدارة عملية تنفيذ البرامج والمشاريع والمخططات الحكومية والسياسات العمومية.
وما يميز الوسطاء في هذه العملية هو أسلوب عملهم وخبرتهم وكفاءتهم العالية في إدارة
عملية التنفيذ ،وما يفرضه ذلك من سرعة في التفويض من قبل الحكومة أو اإلدارة
المركزية ،وذلك من أجل التنفيذ الناجع بناء على تحديد أولوياته ،وتوضيح أهدافه وفصل
العمليات بين المستويين المركزي والمحلي ،ومراقبة البرامج والمشاريع وتقييمها على
مختلف المستويات القبلية والموازية والبعدية.
ثالثا :متطلبات عملية تنفيذ السياسة العمومية
إن التنفيذ باعتباره عملية تستهدف تحويل مقومات السياسة العمومية إلى فعل ينتج قيما مادية
ومعنوية ليس باألمر السهل ،بل يشكل عملية عسيرة ومعقدة وتتداخل فيه عناصر متعددة
ومختلفة تشمل الموارد البشرية والمالية واللوجيستيكية وعامل الوقت والكفاءات المختلفة،
بحيث يمكن القول أن تنفيذ السياسة العمومية يشمل الخطوات التالية:
-المعرفة الحقيقية بما يراد فعله
-توفير االمكانات والموارد المطلوبة ،كالتمويل الالزم والكفاءات البشرية المالئمة.
-القدرة على السيطرة وتنظيم الموارد من أجل تحقيق أهداف السياسة العمومية.
-المزج بين الجوانب التشريعية والتنظيمية وعدم االكتفاء بإصدار التشريعات فقط ،بل أن
يتماشى ذلك مع برامج بخطوات تنفيذية واضحة.
-المزج بين الفعل الحكومي والفعل غير الحكومي في صيغة العمل التشاركي بين القطاع
العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني.
-ضمان المشاركة الشعبية في تنفيذ السياسة العمومية والحرص على تحقيق هذه السياسة
أهدافها األساسية التي حددها صانع القرار الحكومي.
-كما يعتمد نجاح تنفيذ السياسة العمومية على نوعية الظروف السياسية واالقتصادية
واالجتماعية السائدة ،واالهتمام اإلعالمي واالنخراط الشعبي ومختلف القطاعات المعنية
بهذه السياسة العمومية محل التنفيذ.
63
-تجزيئ السياسة العمومية إلى مستويات قابلة للتنفيذ حسب الموارد المالية والبشرية
والزمنية إلى استراتيجية ومخططات وبرامج.
-إجراء التقييمات الضرورية القبلية والموازية والبعدية لقياس مدى نجاح تنفيذ السياسة
العمومية.
-إخراج وسن النصوص القانونية والتنظيمية الضرورية لتنفيذ السياسة العمومية بما يحقق
مبدأي الشرعية والمشروعية.
-تشكيل وإنشاء الهيئات واللجان وخلق المؤسسات الضرورية الستكمال متابعة تنفيذ
السياسة العمومية.
رابعا :مقاربات واستراتيجيات تنفيذ السياسات العمومية.
هناك العديد من المقاربات واالستراتيجيات الحكومية المتبعة لتنفيذ السياسات العمومية ،وهي
كالتالي:
Top-down -المقاربة التنازلية
Bottom-up -المقاربة التصاعدية
Hybride -المقاربة المختلطة أو الهجينة
تعود البدايات األولى لطرح مفهوم أو مشكل توطين السياسة العمومية وكيفية تنفيذها إلى
بداية سنوات السبعينات من القرن العشرين من خالل أعمال كل من PRESSMAN et
WILDAVSKYفي دراستهما حول فشل السياسة الفيديرالية األمريكية في خلق فرص
الشغل ،114ففي سنة 1966خصصت إحدى الوكاالت الفيديرالية األمريكية (اإلدارة األمريكية
للتنمية االقتصادية) ،دعما ماليا للمقاوالت العاملة في مدينة أوكالند من أجل خلق فرص
الشغل واستيعاب العاطلين عن العمل لفترة طويلة .وخصصت هذه الوكالة 23مليون دوالر
لتمويل هذا البرنامج بهدف خلق 3000فرصة عمل وإنجاح هذا البرنامج الطموح .لكن ثالث
سنوات بعد بداية تنفيذ هذه السياسة تم صرف 4ماليين دوالر ولم يتم خلق إال 60فرصة
عمل فقط .فالسياسة بهذه النتيجة لم يتم توطينها أو تنفيذها بالشكل الذي حدده الفاعلون الذين
صاغوا ووضعوا هذه السياسة.
من هنا اعتبر كل من PRESSMAN et WILDAVSKYأن مشكل عدم قدرة توطين هذه
السياسة هو سبب فشلها ،مما يتطلب تحليال رصينا لذلك .كما أن العديد من الدراسات قد
114
-PRESSMAN. J. L. et WILDAVSKY.A : « Implementation », 2eme Edi. Berkley, CA : University
of California Press. أنظر أيضا.
PARSONS. W : « Public Policy : An Introduction to the Theorie and the practiceof the policy
analisis », Cheltenham, UK. Edward Elgard Publishing.
64
أثبتت نفس المشكل ،بمعنى تحقيق أهداف السياسة العمومية من حيث فعالية الطريقة التي تنفذ
بها.115
لقد اهتم العديد من الباحثين منذ بداية سنوات السبعينات من القرن العشرين بدراسة هذه
المرحلة من مسلسل السياسة العمومية .بحيث هيمنت على هذه الدراسات مقاربتين اثنتين
وهما المقاربة التنازلية (من أعلى إلى أسفل) ،Top- Downوالمقاربة التصاعدية (من أسفل
إلى أعلى) ، Bottom – up.فما مضمون هاتين الطريقتين ؟
لتنفيذ السياسة العمومية. Top – Down أ -المقاربة التنازلية
نشأت هذه المقاربة أو الطريقة التنازلية منذ أواخر سنوات الستينات وبداية سنوات السبعينات
من القرن العشرين .وتهتم بمسألة تنفيذ السياسة العمومية من منظور الذين يتولون صياغة
وهندسة السياسة العمومية .ألن مرحلة التنفيذ هي مرحلة مستقلة ومنفصلة عن مرحلة
صياغة السياسة العمومية .ويمكن اعتبارها بمثابة مسلسل تراتبي يحيل إلى تطبيق وتنفيذ
القرارات الصادرة عن السلطة المركزية .فواضعوا السياسة العمومية يحددون مركزيا كيف
سيتم تنفيذ هذه السياسة العمومية من طرف المنفذين .116وقد وضعت هذه المقاربة العقالنية
العديد من االستراتيجيات من أجل تنفيذ فعال وناجح .وأهم هذه االستراتيجيات ما يلي:
-تحديد األهداف على المستوى المركزي
-التحديد الواضح للغايات والوسائل والمساطر.
-توقع نتائج قابلة للقياس بشكل يمكن من تقييم مدى إمكانية تحقيق األهداف
-تضييق مجال السلطة التقديرية لإلدارة المنفذة وتضييق حرية الفعل والتصرف للمنفذين
لهذه السياسة العمومية الذين يتوجب عليهم تنفيذها طبقا لألهداف المحددة والتوجيهات
المعطاة من قبل المقرر .
-نقل المعلومة بشكل تنازلي على شكل تفاعالت دقيقة ومفصلة بمساطر وبرامج عملية.
-استعمال إجراءات تحفيزية وعقابية.117
إن هذه المقاربة التقنية والعقالنية وذات االتجاه األحادي ،وبالرغم من استعماالتها المتعددة
في تنفيذ العديد من السياسات العمومية في مواقع دولية مختلفة ،فإن النتائج التي تحققت من
خاللها كانت مخيبة كثيرا ،مما جعلها عرضة لجملة من االنتقادات تتمحور حول مسالة
115
- PRESSMAN. J. L. et WILDAVSKY.A : « Implementation », Op. cit. Aussi
- VAN METTER, D. C et VAN HORN, C. E : « The Policy implementation process : Aconceptual
framework. Administration and Society, 6/4, pp : 445 - 487
116
- LAZIN F. A : « Lessons for the study of Policy Implementation : project renewal In Israel »,
Governance, 8/2 ? P : 261 - 280
117
- Ibid
65
أساسية وهي أن التقيد بمنظور المقررين في التنفيذ غالبا ما يؤدي إلى سيطرة نوع من
الالمباالة واالهمال لدى الفاعلين اآلخرين ،118والمنفذين أيضا لهذه السياسة ،والذين يعتبرون
أن القواعد والمعايير المعتمدة مركزيا ال تحترم وال تعبر ال عن آراء ومواقف األجهزة
المنفذة وال عن مختلف أوجه الواقع ومختلف التحديات التي تطرح على أرض الواقع .كما ال
تحترم أيضا االستقاللية المهنية للفاعلين المستهدفين بهذه التحوالت والتغييرات أو
االصالحات ،ألن السياسة العمومية توطن من خالل قدرتها على التكيف مع طرق المنفذين
فتسلك خطا تطوريا غير مستقيم خالفا لما بنيت عليه المقاربة التنازلية.119
لتنفيذ السياسة العمومية Bottom - Up المقاربة التصاعدية ب-
ظهرت المقاربة التصاعدية منذ أواخر سنوات السبعينات وبداية ثمانينات القرن العشرين.
وقد اعتبرت بمثابة حل بديل للمقاربة التنازلية ،وتعتمد منطقا تحليليا يأخذ بعين االعتبار رأي
المجموعة التي تباشر عملية تنفيذ السياسة العمومية أو التي تقدم الخدمة المقصودة .فهذه
المقاربة تعتمد انتقال االهتمام من الجهة المقررة إلى الجهة التي تتولى عملية التنفيذ،
باإلضافة إلى األفراد واألشخاص في قاعدة الهرم ،كالبيروقراطية التي تعمل في الميدان
والتي تلعب دورا محوريا في عملية التنفيذ وتمارس تأثيرا فعليا من خالل ما تدخله من
تأويالت وتعديالت على السياسة العمومية ،وأيضا ما يلحق السياسة العمومية من تفسيرات
وتأويالت من لدن مختلف الفاعلين والتفاعالت مع مختلف الجماعات الضاغطة المعنية بهذه
السياسة العمومية.120
فالمركز ال يهتم بمعرفة كيفية أداء هذه المهام وال بالشكل الذي أنجزت به ،وهل هو موحد
ومتناسق من الناحية العملية والفعلية أم ال .من هنا إذن فإن التعدد في أشكال وطرق التنفيذ
يشكل أسلوبا أساسيا ومحوريا لدى هذه المقاربة لتطوير وتحسين الفعل العمومي .لذلك تلزم
هذه المقاربة التصاعدية كل الفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين بوضع نماذج مبسطة لتنفيذ
السياسة العمومية تتميز بما يلي:
-أن تصاغ في شكل قاعدة للمعطيات حول المحاور الكبرى واألساسية لهذه السياسة.
-ترك هامش من المرونة وسلطة التقدير في التصرف للمنفذين وللفاعلين المحليين في
اختيار ووضع استراتيجياتهم وطرقهم للتنفيذ ،والتركيز بشكل أساسي على الموارد لدعم
المواقف والنماذج الوسطية ،كمدخل لالعتراف بأهمية الدور الذي يباشره الفاعلون
118
- SABATIER. P. A : « Top-Down and bottom-up approaches to implementation research : Acritical
and suggested synthesis », Journal of Public Policy, 6, P : 21 – 48. Aussi :
- FULLAN. M : « The new meaning of Educational change», 4eme Ed. New York. Teachers college
Press. 2007
119
- TYACK, D. et CUBAN. L: «Tenkering Toward Utopia : Acentury of Public school Reform ».
Cambridge, MA: Havard University Press. 2009
120
- FITZ.J, H, HALPIN . D et POWER. S : « Implementation researc and Education policy. Practice
and prospect». British journal of educational Studies. 42/1. P: 53 – 67.
66
الميدانيون في توطين السياسة العمومية ،نظرا لمعرفتهم العملية ،ومشاركتهم اإليجابية في
مسلسل توطين أو تغيير وإصالح السياسة العمومية .هذا إضافة إلى أن نجاح السياسات
االصالحية أو التغييرية تتطلب اعتماد المقاربة التصاعدية في التنفيذ.
ففي الواليات المتحدة مثال ،تلجأ العديد من الواليات إلى المركزية األدوار واالختصاصات
ومنحها للفاعلين المحليين أو الميدانيين من أجل تفعيل وتحسين حكامة السياسات العمومية،
ومنح هؤالء الفاعلين المحليين إمكانية أوسع لتنفيذ ومراقبة مسار سياسة عمومية معينة،
كالمشاركة في اعتماد وتحديد الموارد المالية الضرورية وكيفية صرفها ،واختيار الموارد
البشرية ونوعيتها .لكن وبالرغم من ذلك ،فإن الالمركزية وعدم التركيز لم يحققا األهداف
المرجوة منهما .وهي نفسها النتائج التي تمت مالحظتها وتسجيلها في فرسا أيضا بشأن العديد
من السياسات العمومية ،وخاصة السياسة الترابية وتدبير المجال ،التي تم تنفيذها عبر
المقاربة التصاعدية كأسلوب جديد لتدبير الفعل العمومي الذي استند على العمليات التالية:
-االستقاللية النسبية للفاعلين والمؤسسات.
-الالمركزية اإلدارية وعدم تمركز السلطة.
-تنوع األساليب والمناهج المعتمدة في التنفيذ.
لكن كل هذا أدى بشكل عكسي إلى جو من االرتباك وعدم الوضوح ،فأضحى المشكل
األساسي و الجوهري للتدبير الترابي يكمن عمليا في كيفية تدبير االعتمادات المتبادلة
واختالالت التنسيق في فضاء قراري منقسم ومجزأ .وهي انتقادات تنطبق أيضا على الحالة
المغربية في كيفية تدبير الجماعات الترابية للشأن المحلي ،وتنفيذ السياسة العمومية في بعدها
المحلي والجهوي.121
كما واجهت كل من بريطانيا وأستراليا نفس المشكل عندما تم اعتماد المقاربة التصاعدية
لتنفيذ السياسات التعليمية أو التربوية :ففي أستراليا وخاصة في والية فكتوريا اعتمدت
السلطات التعليمية سنة 1992الالمركزية اإلدارية وعدم تمركز السلطة والمسؤولية ومنحها
للمؤسسات التعليمية (في إطار ما سمي بمدرسة المستقبل) .لكن النتائج كانت سلبية أيضا
وغير فعالة مما دفع السلطات المختصة إلى استرجاع االختصاصات التي تنازلت عنها لفائدة
الفاعلين المحليين والعودة إلى مركزة التنفيذ عبر المركزية والتمركز .بحيث سجلت مجموعة
من المشاكل المرتبطة باإلصالحات التي تم تنفيذها وتوطينها استنادا للمقاربة التصاعدية
مثل:122
121
- VAN ZANTEN, A. « les politiques d’Education» , Paris. Presses Universitaires de France. (Que
sais-je ?). 2004.
122
- GATHER THURLER, M: « Innover au cœur de l’Etablissement scolaire », Paris. ESF. 2000.
67
-غياب التنسيق بين مختلف الفاعلين المتدخلين.
-تحقيق تغييرات فوقية وشكلية ال ترقى إلى األهداف المطلوبة.
-ضعف المجهود المبذول وضيق في الوقت المخصص لذلك.
-ضعف مستوى الفعالية.
-ضعف أثار هذه االصالحات على مستوى التعلم لدى التالميذ .
وبناء على ما سبق ،يمكن القول أن هذه المقاربة ال تساعد على تحقيق األهداف المرصودة
مسبقا وتعرضت بالتالي لمجموعة من االنتقادات .123تنطبق هذه المالحظات واالنتقادات
أيضا على طريقة تدبير السلطات الحكومية المختصة في المغرب للسياسة التعليمية ومجموع
االصالحات المرتبطة بها مند سنة :2000من الميثاق الوطني للتربية والتكوين والقانون
01-00واالستقاللية الناقصة للجامعة ،والبرنامج االستعجالي ،والرؤية الوطنية للتربية
والتكوين ،وقانون اإلطار وما يرتبط به من إشكاليات لغة التدريس وتنويع مصادر تمويل
التعليم ،وطبيعة الصالحيات الممنوحة لألكاديميات الجهوية للتربية التكوين ،وإشكالية
االنتقال من نظام االجازة إلى نظام البكالوريوس .
إن هذه المحاوالت المتعددة لتغيير مقاربات تنفيذ السياسات العمومية ،والتي ظهرت خالل
سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن العشرين ،مكنت الباحثين من استخالص
أن ال المقاربة التنازلية التي بنت استراتيجيتها لتنفيذ السياسات العمومية على أساس مركزية
القرار وتمركز السلطة وتبعية األجهزة المنفذة ،وال المقاربة التصاعدية التي اعتمدت
استراتيجيتها على الالمركزية وعدم التمركز ومنح اختصاصات تنفيذية وتقريرية واسعة
للجهات المنفذة ،تصلح لتنفيذ السياسات العمومية عندما يتم استعمالها بشكل منفصل
وأحادي . 124وهو ما أدى إلى التفكير في اعتماد مقاربات أخرى بديلة خالل العشرية األخيرة
من القرن العشرين ،نظرا ألن ال المركزية والتمركز وال الالمركزية والالتمركز اتسمتا
بالفعالية والنجاعة في التنفيذ وتحقيق األهداف التي حددتها السياسة العمومية .فاألولى تتبنى
نظاما مبالغ فيه وصارم للوصاية والمراقبة .أما الثانية التي اعتمدت الالمركزية وعدم
التمركز فقد أفضت إلى نوع من الفوضى نظرا لغياب التنسيق وتعدد المقررين .فكال
المقاربتين قد تعرضتا لمجموعة من االنتقادات لكن الحكومات لم تكن تملك دائما ،وفي كلتا
الحالتين ،بديال لذلك واستمرت في االعتقاد أن هذه االستراتيجيات أو المقاربات بالرغم من
هذه االنتقادات بإمكانها تحقيق األهداف التي حددتها كل سياسة عمومية ،لكن مع االستمرار
123
- SABATIER . P. A: «Top-Down and bottom-up approaches to implementation research : Acritical
and suggested synthesis», Op. Cit. P: 21 – 48
124
- DATNOW. A, HUBBARD. L, et MEHAN, H : « Educational Reform implementation : A co-
constructed process », Center for researchon Education Diversity and Excellence. 1998 : (En ligne).
(www. Cal.org /crede/pubs/research .
68
في البحث عن بديل لها .وهو ما ساهم في ظهور مقاربة ثالثة لتجاوز هذه النقائص سميت
بالمقاربة المختلطة أو الهجينة.
ج -المقاربة المختلطة كاستراتيجية لتنفيذ السياسات العمومية
يتعلق األمر بطريقة جديدة ومختلفة لفهم واستيعاب التعقيدات الممكنة ،والتوفيق بين المآزق
والمعضالت األساسية التي يصعب في كثير من األحيان إصالحها أو حلها من أجل إنجاح
تنفيذ االصالحات المستدامة .بحيث تميزت سنوات الثمانيات والتسعينات من القرن العشرين
بظروف اقتصادية واجتماعية متغيرة ومتحولة بشكل متسارع ودائم ،وبتغير جوهري في
المنظومة االيديولوجية وطبيعة النظم السياسية ،وبتحول كبير في منظومة القيم االجتماعية
التي غيرت من نظرة المواطن إلى المؤسسات السياسية واإلدارية ،والسياسيين أيضا.
وبموازاة هذه المرحلة ،تراجعت األنساق أو األنظمة التعليمية بشكل كبير نظرا لضعف
قدرتها على مواكبة هذا التحول الكبير ،وتكوين مواطنين قادرين على المساهمة واالندماج
في الفرص التي يوفرها هذا العالم الجديد ،وتتطلب كفاءات عالية عجز النظام التعليمي على
تكوينها .
ففي العديد من الدول ،أظهرت الحكومات والمواطنين رغبة كبيرة في إدخال تغييرات كبيرة
على نظمها التعليمية ،وتجد هذه الرغبة تفسيرها في ذهنية المواطنين والسياسيين إليجاد
التطابق المفقود بين اقتصاد وطني معولم وتنافسي ،وضعف جودة النظم التعليمية الوطنية
التي لم تستطع مواكبة المتطلبات الجديدة لسوق الشغل .على هذا األساس ،بدأ إيالء األهمية
واألولوية لإلصالحات الكبرى يرى النور من جديد ،وخاصة خالل العشرية األخيرة من
القرن العشرين ،من أجل إنهاء االنتقادات الموجهة للنظم التعليمية الوطنية حتى تستطيع
تكوين مواطنين يملكون الكفايات المعرفية والعلمية المطلوبة ،وقادرين على العيش والتطور
داخل عالم معولم ويتعقد بشكل سريع.125
لقد شجع السياق الدولي حقيقة ،السياسيين والحكومات على تبني االصالحات الكبرى في
مجال التربية والتكوين لكونها تشكل خزانا ومصدرا لحل مشاكلهم االقتصادية واالجتماعية،
من خالل تبني استراتيجيات جديدة مختلطة لتنفيذ السياسات الجديدة ،والتي تتطلب إشراك
وتعبئة الفاعلين الميدانيين ،من خالل منحهم مسؤوليات حقيقة وفعلية يوازيها قدرا أكبر من
المساءلة والمحاسبة عن مدى تحقيق األهداف المنشودة .وتجد أسباب ومبررات الدعوة إلى
تبني آلية المساءلة والمحاسبة مصدرها في السياق االجتماعي واالقتصادي والسياسي
125
- « Anational at Risk , the Imperative for Educational Reform », A reportto the Nation and the
secretary of Education The National Commission on Excellence in Education. April 1983
69
المطبوع بالعولمة والكونية ،والذي تنتمي إليه المنظومة التعليمية وما يفرضه عليها من
ضرورات االستجابة والتكيف ،عبر تحقيق األهداف المنتظرة من المنظومة التعليمية.126
وقد أدى ذلك إلى استنتاج خالصتين اثنتين :فمن جهة ،سمح بخلق توازن بين طموحات عامة
الناس في تحقيق أهدافها التعليمية والمعرفية ،وتحسين أداء المؤسسات التعليمية في الوصول
لنفس األهداف ،ومن جهة أخرى ،فإن هذه االصالحات الكبرى قد دفعت إلى تسليط الضوء
على االستراتيجيات الحكومية المختلطة المعتمدة لتحقيق فعالية هذه االصالحات والمساهمة
في بلوغ تنمية حقيقة ومستدامة.127
شكلت السياسة التعليمية إذن مجاال خصبا لتطوير العديد من المقاربات في مجال السياسات
العمومية ،ومن أهمها النموذج الخاص بتوطين السياسات الذي شكل موضوعا الستراتيجيات
حكومية مختلطة لتنفيذ السياسات العمومية ،ومكن من طرح السمات البارزة لهذا المفهوم
الجديد .لكن هذا المفهوم لم يشكل في الغالب موضوعا لالهتمام إال في تخصصين معرفيين
حاوال تقديم أولى التحليالت العلمية في هذا المجال ،ويتعلق األمر بحقلي السياسات العمومية
وسوسيولوجيا التربية .ويمكن حصر أربعة أبعاد أساسية تميز هذه المقاربة المختلطة لتوطين
السياسات العمومية ،وهي:
أوال :القيادة أو االدارة المشتركة ،والتي تتشكل من قطب مركزي تتواله الحكومة ,قطب
المركزي يتواله الفاعلون على األرض أو المنفذون .ثانيا :مجال السلطة والمساومة.
ثالثا :تطور وتحول السياسة العمومية أثناء التنفيذ .ورابعا وأخيرا ،بيئة السياسة العمومية
وسياقها العام.128
-1القيادة واإلدارة المشتركة:
إن الخاصية األساسية للمقاربة المختلطة هي الجمع بين المركزية والالمركزية في اتخاد
قرارات تنفيذ السياسة العمومية ،في إطار حكامة عمودية تستهدف التأطير بشكل منسق
ألفعال وأنشطة الفاعلين ،الذين تم تكليفهم بامتيازات سلطة المبادرة التي يجب أن تتم أو تتخذ
داخل الرواق أو االطار الذي حددته السلطة العليا ،مما يجعل من التنفيذ عملية مستمرة
ومتواصلة ينشأ فيها مسلسل تفاعلي متفاوض بشأنه ،ويأخذ مكانه ،شيئا فشيئا ،في العالقة بين
أولئك الذين يتولون صياغة السياسة العمومية وأولئك الذين يتولون مهمة تنفيذها .بمعنى أن
126
- Organisation de Cooperation et de Développement Economiques (OCDE): « Apprendre à
apprendre, penser pour apprendre », Paris. Ed. de l’OCDE. 1993.
127
- LIETHWOOD,K. JANTZKI, D. et MASCALL, B. « A Framework for research on large – scale
reforme ». Journal of Educational change. 3 ? 2002, p: 7- 33.
128
- LESSARD. C, HENRIPIN. M. et LAROCHELLE . M : « les politiques d’éducation au Québec.
Université de Montréal. Faculté des sciences de l’éducation. Département d’administration et
; fondement de l’éducation. 2004
70
عملية تنفيذ السياسة العمومية ال يجب أن تتم بمعزل عن الجهة التي تولت صياغتها ووضع
خطوطها العريضة ،بل يتطلب األمر أن يشتغل القطبين بشكل متزامن ومشترك .
فعلى مستوى االستراتيجية الحكومية لتوطين السياسة العمومية ،تتصرف الحكومة بمثابة
موجه ومنسق بين الفاعلين الميدانيين ،والمؤسسات واألجهزة المعنية حول رؤية واضحة
ومتناسقة ،وأهداف دقيقة ومحددة ،للرفع من انسجام وتناسق العمليات المتخذة ،ودفع الفاعلين
الميدانيين لتنفيذ المهام واألدوار المنوطة بهم في إطار هذه السياسة على أحسن وجه .كما
تلتزم الحكومات بتوفير الموارد المختلفة والضرورية كالمالية والبشرية واللوجستيكية
والقانونية ،وتبسيط مساطر وظروف استعمالها بشكل متناسق ومتواصل خالل مرحلة
توطين السياسة العمومية ،بكل ما يتطلبه ذلك من دعم وتحفيز المنفذين بمختلف األشكال،
وتوفير التجهيزات الضرورية ،وتخصيص الوقت الكافي ،وإيجاد التمويل المالئم ،والتكوين
129
المستمر.
وأخيرا فإنه من األهمية بمكان ،أن تمارس السلطة الحكومية في إطار وظائفها وصالحياتها،
ضغطا وتأثيرا على الفاعلين الميدانيين ،عبر آلية إجراء التقييمات الضرورية القبلية
والموازية الجزئية والعامة ،تشمل المدخالت ،والنتائج ،ومدى تحقيق األهداف ،وسير
مسلسل السياسة العمومية برمته ،وذلك كله من أجل تفعيل مسؤولية الفاعلين الميدانيين عن
أفعالهم وأعمالهم بناء على رؤية تستهدف تجويد عملية التنفيذ وليس معاقبة المنفذين.
أما المطلوب من القطب الالمركزي ،وحسب دراسات متعددة أنجزها العديد من الباحثين في
مجال السياسة التعليمية ،فقد حددوا على ضوئها مهام الفاعلين الميدانيين وتشمل ما يلي:
-تفادي التعامل مع الهيئات المنفذة من أساتذة وإداريين وموجهين على أنهم مجرد تقنيين،
بل باعتبارهم محترفين يمتلكون معارف متخصصة ،وتجارب خاصة ،عن الفضاء أو
المجال الذي يعملون فيه ،وأيضا معطيات ومعلومات ضرورية إلنجاح تنفيذ السياسة ال
يملكها عادة واضعوا السياسة العمومية ،ألن األنشطة التعليمية والتربوية ال يمكن برمجتها
بشكل مسبق ألنها جزء من عملية الخلق واالبداع التي يتولى األساتذة أو الهيأة
البيداغوجية تصميم ووضع برامجها التي تتالءم مع وضعيات وميوالت ،وقدرات التالميذ
والطلبة .وهو ما يحدث العديد من التغيرات والتحوالت على السياسة عندما تتصل أو
تحتك بالواقع العملي للمؤسسات التعليمية ،وتجعل من الصعب بمكان ،تطبيق االصالح أو
السياسة بشكل حرفي لمقتضيات النسخة األصلية كما صاغها واضعوا السياسة.130
129
- LIETHWOOD,K. JANTZKI, D. et MASCALL, B. « A Framework for research on large – scale
reforme », Op. Cit. p : 7- 33.
130
- BONAMI . M, et GARANT ,M : « Systèmes scolaires et pilotage de l’innovation : émergence et
implantation du changemet », Bruxelles : DE Boeck Université. 1996
71
-ويتعلق األمر هنا كخطوة أولى ضمن االستراتيجية الالمركزية للحكومة تمتيع الفاعلين
الميدانيين بهامش من االستقاللية في العمل ،يسمح لهم بتنفيذ السياسة بشكل يتالءم وينسجم
مع محيطها وسياقها ،ألنه من الناحية العملية يعتبر الفاعلون الميدانيون األقرب واألقدر
على اتخاد القرارات األكثر مالءمة للتنفيذ .كما أن الالمركزية والالتمركز يساعدان على
الرفع من مستوى تعبئة وانخراط الفاعلين الميدانيين في عملية توطين السياسة العمومية
موضوع التنفيذ .ويتطلب األمر أيضا ،خلق بنيات وهياكل مهنية قوية قادرة على تعزيز
وتدعيم تعلم الكفاءات الجديدة ،يستطيع عبرها الفاعلون الميدانيون تثمين تجاربهم
وخبراتهم العملية ،وتقاسم التجارب ،حتى يمكن تطوير رؤية مشتركة حول الصيغ العملية
لتنفيذ السياسة العمومية بين مختلف األقطاب المركزية والالمركزية على أساس
الشراكة .131
-2دائرة القوة والمساومة:
يستند البعد الثاني إلى دائرة القوة والمساومة ،بمعنى نقطة االلتقاء بين حركتين اثنتين:
المركزية والالمركزية اللتان تنشآن هذه الدائرة أو الزاوية ،ألن لكل الفاعلين مصالح ومنافع
يدافعون عنها .فالحوار والنقاش والتفاهم تشكل آليات وقنوات مهمة وفعالة من أجل الوصول
إلى توافقات تسهل عملية التنفيذ األمثل .لذا فإن توطين السياسات يمكن النظر إليه باعتباره
مسارا سياسيا وتدبيريا متواصال ينشأ في إطاره مسلسل من التفاعالت والتوافقات ،مع
مرور الزمن ،بين أولئك الذين صاغوا السياسة موضوع التنفيذ وأولئك الذين يتوقف عليهم
تنفيذها .ألن السلطة والمصالح والمنافع تحتل مكانة محورية في ديناميكية هذه العالقة.
فالتوطين إذن يشكل فعليا وعمليا مسلسال من التفاوض التفاعلي بين من هم مسؤولون عن
إثارة التغيير والتحول وصياغة مساراته والذين ينتظر منهم توطينه وتنفيذه على أرض
الواقع. 132
إن الكتابات حول المقاربة المختلطة لتنفيذ السياسات العمومية التعليمية قد تناولت العديد من
االستراتيجيات ،الرامية إلى تسهيل التوافقات والتقارب في اآلراء التي تعبئها السياسة
العمومية وحقيقة تنفيذها على أرض الواقع .فاالستراتيجية األولى في هذا المجال ،تتطلب
التكوين المالئم لمختلف الفاعلين الميدانيين والمواطنين ،ألن كل تحول أو تغيير يتطلب فهما
حقيقيا لطبيعته ووسائل توطينه .إضافة إلى تبادل المعلومات والمعطيات الصحيحة وإشراك
الفاعلين الميدانيين في تحديد مفهوم التغيير وكيفية إدارة مساره ،من أجل تحفيز وتيسير
انخراطهم وتعبئتهم والحصول على دعمهم الضروري .ألن المطلوب من الفاعلين الميدانيين
هو االنخراط في كل مستويات توطين هذه السياسة العمومية أو إدارة هذا التغيير .كما يجب
األخذ بعين االعتبار التحالفات القائمة ،وضمان وجود تحالف سياسي يدعم مسلسل التحول،
131
- ELMORE, R : « School reform from the Inside out : Policy, Practice and performance »,
Cambridge, UK : Harvard Education Press.2004
132
- Ibid.
72
وفتح الحوار وتشجيعه مع الرأي العام ،والمجتمع المدني ،حول األهداف والمعايير والغايات
من مسار التحول.133
يبدو إذن أنه من األهمية بمكان ،انخراط الفاعلون الميدانيون في نقاش عمومي ،يشمل
مختلف عناصر السياسة العمومية ومسلسل تحولها ،حتى يحصل توافق وتراضي حول
مختلف العناصر المكونة للسياسة العمومية .
-3تطور وتحول السياسة العمومية أثناء التنفيذ
يتعلق البعد الثالث بمسألة تطور السياسة العمومية التي تعتبر نتيجة لألبعاد األخرى (اإلدارة
المشتركة ،ودائرة القوة والمساومة ،وبيئة السياسة العمومية وسياقها العام) .والمقصود بهذا
البعد هو أن السياسة العمومية ليست عملية جامدة ،بل تتصف دائما بالتطور والتحول .وكما
هو األمر بالنسبة لتوطين السياسة العمومية ،فإنه من المهم اإلشارة إلى أن السياسات
العمومية ليست جامدة ،كما أن التحوالت التي تمس األنساق التعليمية هي عادة من أنماط
مختلفة ومتطورة.134
ونظرا ألن االصالحات التي تتبناها الحكومات وتنخرط فيها ،يطبعها التعقيد ،وطريقة
تنفيذها ال يمكن تحديدها مسبقا وبكل جزئياتها ،فإن السياسات العمومية يمكن تعديلها عبر
الممارسة العملية أثناء االلتقاء أو التقاطع بين قطبي المركزية والالمركزية ،بواسطة
الفاعلين الميدانيين الذين يتوفرون على هامش من المرونة واالستقاللية في العمل ،وأيضا
بواسطة العناصر المكونة للسياق الذي يتم فيه تنفيذ هذه السياسة .فالفاعلون الذين يتولون
وضع وصياغة السياسة العمومية عليهم معرفة وتوقع أن مسلسل التحول يتم عبر مرحلة
زمنية غير قصيرة ،حتى يمكن خاللها تعديل أو تغيير هذه السياسة.
وبخصوص استراتيجية تحديد وتوصيف السياسة مع مرور الوقت ،دعا بعض الباحثين
السلطات الحكومية إلى اعتماد برامج التنفيذ التجريبي في مواقع ضيقة ،وبعينات محدودة ،ثم
يلي ذلك تجارب على المستوى الوطني بعينات متوسطة ومواقع متعددة نسبيا ،وبعد ذلك
تحليل المعطيات والنتائج المحصل عليها من كل هذه التجارب المختلفة في مستوياتها
وعيناتها ،ومجاالتها الجغرافية ،لمعرفة النتائج وردود األفعال ثم االنتقال أخيرا إلى إدخال
االصالحات والتعديالت المالئمة أثناء سريان مسلسل التنفيذ ،بناء على المعطيات المحصل
عليها ،إما عبر المالحظة أو من خالل عمليات التقييم القبلي والموازي ،وأيضا األفعال
وردود األفعال الصادرة عن األنساق الفرعية لمجال التعليم.
133
- FULLAN, M. « The New meaning of Educational change « , (4eme Ed), New York, Teachers
college Press. 2007.
134
- Ibid
73
بيئة السياسة العمومية وسياقها العام: 4-
يتمثل البعد الرابع للمقاربة المختلطة في ضرورة األخذ بعين االعتبار بيئة السياسة العمومية،
والسياق العام الذي وضعت فيه ،وتقرر في ظله توطينها .وتكمن أهمية بيئة السياسة العمومية
في تأثيرها من جهة ،على شروط اختيار االستراتيجيات الحكومية ،ومن جهة أخرى ،تؤثر
على مسلسل توطين وتنفيذ السياسة العمومية في شموليته ،ألنه من مصلحة السلطات
الحكومية تبني تقنيات أكثر فعالية لتوطين السياسة العمومية ،مما يستوجب معه االعتراف
والتعاطي مع مختلف الوضعيات والمواقف التي يفرضها التفاعل مع البيئة العامة للسياسة
العمومية ،والعمل أيضا ،على تكيفها مع كل المتغيرات التي تفرضها البيئة على مسار
توطين السياسة العمومية.
إن نتائج السياسة وفعالية استراتيجية توطينها تتعلق بدرجة وشكل التفاعل بين هذه
االستراتيجيات ،واالكراهات المرتبطة بالوضعية السياسية ،ألن الجهة التي تضع السياسة
ملزمة ومطالبة بتبني استراتيجية للتوطين أو التنفيذ تالءم مختلف الوضعيات سلبية كانت أم
إيجابية ،لهذا يحظى عنصر بيئة السياسة العمومية وسياقها العام بأهمية كبيرة لدى المقاربة
المختلطة لتنفيذ السياسة العمومية.
الئحة المراجع
-1باللغة العربية
-المنوفي كمال" :أ صول نظم السياسة المقارنة" ،الطبعة األولى ،شركة الربيعان للنشر
والتوزيع1987 ,
_ جيمس دورتي و روبيرت بالسيغراف" :النظريات المتضاربة في العالقات الدولية"،
ترجمة وليد عبدالحي ،بيروت ،المؤسسة الجامعية للدراسات1985 .
_ روبيرت دال" :التحليل السياسي الحديث" ،ترجمة عال أبو زيد ،القاهرة ،مؤسسة األهرام،
1993
-أندرسون جيمس" :صنع السياسات العامة" ،ترجمة عامر الكبيسي ،الطبعة األولى ،عمان،
دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة.1999 .
74
الئحة المراجع باللغات األجنبية
75
HALL. S et CRITCHER. C: «Policing the crisis, Mugging, the State and Law and
Order», london Macmillan. 1993.
RHINARD. M: «le cadrage de la politique antiterroriste de l’UE, dans la construction
des problèmes publics en Europe, CAMPANA A, et AL Strasbourg, Presses
Universitaires de strasbourg, 2008.
SNOW. A, ROCHFORD. E, et AL. «Frame Alignement Processes :
Micromobilization and Movement participation, dans Americain sociological Review,
Vol. 51, 1986.
GUSFIELD. J. R. «The culture of Public Problems :Drinking-Driving and the
Symbolic order», chicago, The University of chicago Press, 1980.
LEMIEUX Vincent: «L’Etude des politiques Publiques : Les acteurs et leur pouvoir»,
3eme Edition Revue et augmentée. Sainte – foy : Presses de l’université de Laval,
2009 .
COBB (Roger W) et ELDER (Charles D): «The Politics of Agenda-Building: An
Alternative Perspective for Modern Democratic Theory», The journal of politics, 33/4,
1971.
KINGDON John: «Agendas, Alternatives and Public Policies», New York (N. L),
Longman, 1995.
COHEN (Michael), MARCH (James. G) et OLSEN (Johan): «A Garbage Can Model
of Organisational choice », Administration science Quartely, 17/1, 1972.
COBB R. W et ELDER C. D: «Participating in American Politics: The dynamics of
Agenda – Building », Baltimore, John Hopkins University Press. 1972 .
BAUMGARTNER Frank: «Policy Dynamics », chcago, Universite of chicago Press.
2002 .
KUBLER. D. et DE MAILLARD. J: «Analyser les politiques publiques», Presses
Universitaire de Grenoble. Paris. 2009.
GARRAUD Phiippe: «Politiques nationales: élaboration de l’Agenda», l’Année
Sociologique 40. 1990
JAMOUS (H): «sociologie de la décision», Paris, SNRS, 1969.
SFEZ Lucien: «La décision », Paris, Ed. PUF. Coll. Que sais-je ? 1984.
MULLER Piere et SUREL Yves: «L’Analyse des politiques publiques», Paris, Ed.
MONTCHRESTIEN. 1998.
LASCOUMES, P. «L’éco – Pouvoir. Environnement et politiques», Paris, La
découverte, 1994.
GREMION. C: «Profession : décideurs. Pouvoir des hauts fonctionnaires et réforme
de l’Etat », Paris, Gautier – Villars. 1979.
PADIOLEAU Jean- Gustave: «L’Etat au concret», Paris, PUF. 1982.
THOENIG. J. C: «L’ère des technocrates», Paris, L’Harmattan, 1987 .
Thomas. R. DYE : «Understanding Public Policy», 7eme Ed. New Jersey, Prentice
Hall, Englewood Cliffs, 1992.
LINDBLOM Charles: «The policy Making Process», 2eme Ed. New Jersey,
Englewood Prentice-hall, 1980.
SIMON. H: «Administrative behavior. A study of decision–making processes in
administrative Organisation», New York, free Press. 1957.
76
LINDNLOOM Charles: «The sciences of Muddling Throuth», PAR, Vol : 19, N 2,
1957.
ETZIONI Amitai: «Mixel seanning: A third Approach to decision Making», PAR
Vol: XXVII. Decembre. 1967.
MUELLER Dennis. C. «Choix Public : Analyse Economique des décisions
publiques», Traduction de la 3eme Edition Américaine. Economica. Paris. 2010.
MITCHELL/ Joyce. M, et MITCHELL William. C: «Political analysis and Political
policy: An introduction to Political science», Chicago, Rand and company. 1969.
SAPRU. R. K: «Public Policy», New Delhi: sterling Publishers Private Limited. 1994
NAKAMURA (Robert) et SAMLL WOOD Frank: «The Politics of Policy
Implementation», New York. ST Martins Press Inc. 1980.
HAM Christopher et HILL Michael: «The Policy Process in the modern capitalist
state». New York. Harvester Wheatsheaf. 1984.
WIHTE Michael. J: «The Ombusdsman and Public Administration», PAR. N5. VOL.
43. 1983.
GICQUE Jean et HAURIOU André: «droit constitutionnel et Institutions Politiques»,
Ed. Montechrestien 1985.
COLEMAN James and ROSBERG Carl: «Political parties and National integration in
tropical Africa», Berkeley, californie. University of california press, 1966.
LAPLOMBARA Joseph and WEINER Myrom: «The origin and development of
political parties», in LAPLOMBARA Joseph and WEINER Myrom: «Political Parties
and Political development», Princeton, Princeton University Press, 1966.
PRESSMAN. J. L. et WILDAVSKY.A: «Implementation», 2eme Edi. Berkley, CA:
University of California Press.
PARSONS. W: «Public Policy : An Introduction to the Theorie and the practice of the
policy analisis», Cheltenham, UK. Edward Elgard Publishing.
VAN METTER, D. C et VAN HORN, C. E: «The Policy implementation process:
Aconceptual framework. Administration and Society, 6/4.
LAZIN F. A: «Lessons for the study of Policy Implementation: project renewal In
Israel», Governance, 8/2.
SABATIER. P. A: «Top-Down and bottom-up approaches to implementation
research: Acritical and suggested synthesis», Journal of Public Policy.
FULLAN. M: «The new meaning of Educational change», 4eme Ed. New York.
Teachers college Press. 2007.
TYACK, D. et CUBAN. L: «Tenkering Toward Utopia: Acentury of Public school
Reform». Cambridge, MA: Havard University Press.
FITZ.J, H, HALPIN. D et POWER. S: «Implementation researc and Education policy.
Practice and prospect». British journal of educational Studies. 42/1.
VAN ZANTEN, A. «les politiques d’Education «Paris. Presses Universitaires de
France. (Que sais-je ?). 2004 .
GATHER THURLER, M: «Innover au cœur de l’Etablissement scolaire», Paris. ESF.
2000.
DATNOW. A, HUBBARD. L, et MEHAN, H : «Educational Reform
implementation: A co-constructed process», Center for researchon Education
Diversity and Excellence. 1998: (En ligne). (www. Cal.org /crede/pubs/research
77
« A national at Risk, the Imperative for Educational Reform », A reportto the Nation
and the secretary of Education b The National Commission on Excellence in
Education. April 1983.
Organisation de Cooperation et de Développement Economiques (OCDE):
«Apprendre à apprendre penser pour apprendre», Paris. Ed. l’OCDE. 1993.
LIETHWOOD,K. JANTZKI, D. et MASCALL, B. «A Framework for research on
large – scale reforme». Journal of Educational change. 3 ? 2002.
LESSARD. C, HENRIPIN. M. et LAROCHELLE. M: «les politiques d’éducation au
Québec. Université de Montréal. Faculté des sciences de l’éducation. Département
d’administration et fondement de l’éducation. 2004.
BONAMI . M, et GARANT, M: «Systèmes scolaires et pilotage de l’innovation:
émergence et implantation du changemet», Bruxelles : DE Boeck Université. 1996
ELMORE, R : «School reform from the Inside out : Policy, Practice and
performance», Cambridge, UK : Harvard Education Press . 2004
FULLAN, M. «The New meaning of Educational change », (4eme Ed), New York, Teachers
college Press. 2007.
78
الفهرس
مقدمة
الفصل األول :تحديد المشكل المولد للسياسة العمومية
أوال :المشكل والنقاش العمومي
ثانيا :اإلطار التحليلي للمشكل العمومي
ثالثا :من المشكل كمرحلة إلى المشكل كمسار
رابعا :نموذج التيارات عند KINGDON
79
الفصل الخامس :تنفيذ السياسة العمومية
أوال :السلطة التنفيذية
ثانيا :الجهات المؤثرة في منفذي السياسة العمومية
ثالثا :متطلبات عملية تنفيذ السياسة العمومية
- 1المقاربة التنازلية Top Downلتنفيذ السياسة العمومية
-2المقاربة التصاعدية Bottom Upلتنفيذ السياسة العمومية
-3المقاربة المختلطة كاستراتيجية لتنفيذ السياسات العمومية.
الئحة المراجع
الفهرس
80