Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 280

‫بنات الباشا‬

‫شيماء حممد‬ ‫إخراج داخلى ‪:‬‬


‫عبدالرمحن الصواف‬ ‫تصميم غالف ‪:‬‬
‫مراجعة لغوية ‪ :‬سارة قويسي‬

‫‪25614 / 2017‬‬ ‫رقم اإليداع‬


‫‪978 - 977 - 773 - 036 - 5‬‬ ‫‪ISBN‬‬
‫حقوق الطبع حمفوظة‬
‫الطبعة األوىل ‪2017‬‬
‫‪Dar.Ajial‬‬ ‫هاتف ‪(+2) 01224242437 :‬‬
‫الباشا‬
‫رواية‬
‫بنات‬
‫نورا ناجي‬
‫إهداء إىل‬

‫فاتيما‬

‫‪5‬‬
‫منى‬

‫اجلميع يعلم ما الذي حدث لنادية‪ ،‬لكن ال أحد جيرؤ عىل احلديث‪..‬‬

‫أقف يف مكاين املعتاد بالقرب من النافذة الصغرية التي ال يالحظها أحد يف‬
‫غرفتي يف الكوافري‪ ،‬والتي تكشف يل الطابق السفيل كله‪ ،‬حيث تقع الغرفة‬

‫يف هناية الضلع الثالث من الدور الثاين؛ غرفة منزوية صغرية‪ّ ،‬‬
‫صممها الباشا‬
‫برواق وهدوء‪.‬‬

‫غرفتي التي ّ‬
‫تضم مساحتني صغريتني متجاورتني‪ ،‬يف كل منهام حوض استحامم‬
‫وقاعدة أسمنتية جتلس عليها النساء؛ استعدا ًدا إلزالة الشعر باحلالوة‪ ،‬ثم‬
‫التكييس واحلماّ م املغريب والرتكي‪ ،‬وغريها من األسامء التي كتبها الباشا بنفسه‬
‫يف القائمة املع ّلقة عىل جدار كامل‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ضيقة تضم «ركنة وثرية ومائدة مشغولة‬
‫أ ّما خارجهام‪ ،‬فهناك صالة ّ‬
‫باألرابيسك»‪ ،‬عليها أكواب ّ‬
‫فضية وإبريق عريب حيتوي عىل مرشوب الكركدية‬
‫بدلاً من زجاجة النبيذ املوجودة يف الغرف املامثلة يف دول أخرى‪.‬‬

‫وحيب تطوير الكوافري‪ ،‬أو «البيويت سنرت»‪،‬‬


‫ّ‬ ‫ريا‪ ،‬يعرف كل يشء‪،‬‬
‫الباشا يسافر كث ً‬
‫كام يرى يف املراكز العاملية خارج مرص‪.‬‬

‫جدران الغرفة سميكة وعازلة للصوت‪ ،‬عليها لوحات ملونة رُ ُّ‬


‫تس الناظرين‪،‬‬
‫مصابيح موزعة باحرتاف لتوزيع إضاءة هادئة تصيبني يف هناية اليوم بالزغللة‬
‫والغثيان‪.‬‬

‫أجلس يف مكاين وراء «كاونرت صغري‪ ،‬أنتظر دخول سيدة أو أكثر ألقوم‬
‫بتحضريهن‪.‬‬

‫ال أحد يدخل الغرفة من العاملني‪ ،‬وال الباشا نفسه إال لظروف طارئة‪ ،‬إنهّ ا‬
‫قدس األقداس‪ ،‬التابو املحرم الذي تتعرى فيه النساء متا ًما وتنكشف‪ ،‬املعبد‬
‫املخولة لكشف العورات‪ ،‬وإزالة‬
‫ّ‬ ‫البعيد املنزوي‪ ،‬وأنا راهبة هذا املعبد‪،‬‬
‫األوساخ‪ ،‬وتغيري الروح نفسها لو شئنا الدقة‪.‬‬

‫أعرف كل يشء عن كل يشء‪ ،‬أراقب اجلميع من نافذيت املنزوية وال أحد يراين‪،‬‬
‫أسمع اهلمسات‪ ،‬وأتابع النظرات املختلسة‪ ،‬أستطيع قراءة األفكار دون أن‬

‫‪8‬‬
‫يتحدّ ث أحد‪ ،‬أعرف عالقة كل شخص يف الكوافري باآلخر‪ ،‬أعرف املكائد‬

‫التي تدبر‪ ،‬واملؤامرات التي حتاك‪ ،‬أجلس هبدوء يف انتظار ما سيحدث‪ ،‬دون‬

‫أتدخل‪ ،‬أو أع ّلق أو حتى أندهش‪.‬‬


‫أن ّ‬

‫مرة كل شهر ليعطيني راتبي الذي ال ُيسمن وال‬


‫يستدعيني الباشا إىل مكتبه ّ‬
‫يغني من جوع‪.‬‬

‫السخي الذي متنحه يل النساء‪ ،‬يشعرن‬


‫ّ‬ ‫أعتمد اعتام ًدا كاملاً عىل البقشيش‬
‫سيقاهنن املفتوحة‪ ،‬أزيل الشعر بال تأ ّف ٍ‬
‫ف‬ ‫ّ‬ ‫بالذنب الضطراري إىل اجللوس أمام‬

‫تتلوى بعض النساء حُ ْمنًا‪،‬‬


‫وتتبجح بعضهن‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وال تعب ٍ‬
‫ري‪ ،‬تستحي بعض النساء‬
‫مجيعا يغدقن ع ّ‬
‫يل باملال‪ ،‬أتناوله وال أشكر‪،‬‬ ‫هن ً‬ ‫ويتخشب بعضهن اآلخر؛ لك ّن ّ‬
‫هبزة رأس صامتة‪ ،‬وأذهب ألنتظر التي تليهن‪.‬‬
‫أكتفي ّ‬

‫كيف يمكن أال أعرف ما الذي حدث لنادية؟‬

‫يستدعيني الباشا بعد احلادث كام فعل مع اجلميع‪ ،‬لك ّنه عىل عكس ما فعل‬

‫معهم ال يقول شيئًا‪ ،‬يطرق برأسه صام ًتا‪ ،‬فأستمر يف التحديق إىل وجهه اجلميل‬

‫دقيق املالمح‪ ،‬الباشا وسيم جدً ا‪ ،‬إنّه األوسم يف املدينة كلها‪ ،‬املدينة الصغرية‬

‫بعضا‪ ،‬تسري النساء أمام الكوافري أملاً يف رؤيته‪،‬‬


‫التي يعرف سكأنهّ ا بعضهم ً‬

‫‪9‬‬
‫أي كوافري آخر ليكونن معه يف‬
‫يرضني بدفع ضعف املبلغ الذي يدفعنه يف ّ‬
‫املكان نفسه‪.‬‬

‫أناقتهن‪ ،‬يرتدين مالبسهن وكأنهّ ن ذاهبات إىل حفل األمري‪،‬‬


‫ّ‬ ‫تأيت النساء يف كامل‬
‫مكياجا كاملاً حتى ولو ُك ّن يردن إزالة شعر وجوههن‪.‬‬
‫ً‬ ‫يضعن‬

‫الغنيات يدفعن ثالثة أضعاف ليص ّفف ّ‬


‫هلن شعرهن بنفسه‪ ،‬يلمس خصالته‬ ‫ّ‬
‫بشكل مدروس‪ّ ،‬‬
‫يتعمد مداعبة ذقوهنن‪ ،‬أو مترير أنامله عىل أعناقهن خلسة‪،‬‬
‫فيكدن يصلن إىل النشوة‪.‬‬

‫وه ّن مستسلامت ليديه يف الغرفة اخلاصة التي يعمل هبا يف‬


‫أراقبهن من نافذيت ُ‬
‫مواجهتي متا ًما‪ ،‬حائطها زجاجي كبري ليرشف عىل املركز رغم أنّه ال يرى شيئًا‪،‬‬
‫هتتز النساء حرف ًيا عىل مقاعدهن‬
‫عىل عكس ما أراه أنا من نافذيت الصغرية‪ّ ،‬‬
‫أمامه‪ ،‬يلتصق هو بجانب املقعد‪ ،‬رائحته احللوة تزكم أنوفهن‪ ،‬يغمضن‬
‫منهن النهوض‪.‬‬
‫أعينهن‪ ،‬ينتهي من تصفيف الشعر فال تو ّد املرأة ّ‬
‫ّ‬

‫هو مص ّفف شعر حمدود املوهبة‪ ،‬لك ّنه يف غاية الذكاء‪ ،‬ساحر يعرف كيف‬
‫ّ‬
‫يستغل سحره الذي يكفل له كل هذا النجاح‪.‬‬

‫طرحتهن‪ ،‬أو يضفي ملسة أخرية عىل ترسحية‬


‫ّ‬ ‫هلن‬ ‫ّ‬
‫يعدل ّ‬ ‫تتأ ّمله العرائس وهو‬
‫فوقهن بدلاً منه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ختيلنه‬
‫شعرهن هبيام‪ ،‬يتم ّنني لو كان هو العريس املنتظر‪ ،‬ربام ّ‬
‫ّ‬

‫‪10‬‬
‫األول يف حياة العذراوات يف املدينة ولو خيالاً ‪ ،‬ساطع الوجه‪ُ ،‬ب ّني‬
‫إنّه الرجل ّ‬
‫الشعر‪ ،‬أزرق العينني‪ ،‬ال مثيل له يف املدينة‪.‬‬

‫أنا فقط التي ال أتأ ّثر برؤية الباشا‪ ،‬وال ّ‬


‫هتزين عيناه وال شعره‪ ،‬أرفع رأيس دون‬

‫أن ألتفت له‪ ،‬يرتبك كام يفعل دو ًما يف حرضيت‪ ،‬يسألني‪ :‬هل رأيت شيئًا؟ هل‬

‫سمعت شيئًا؟‬

‫أبتسم نصف ابتسامة‪ ،‬كيف مل أسمع ومل َأر واحلادث وقع يف حجريت‪ ،‬لقد‬

‫اختارت الفتاة غرفتي بالذات لتنتحر‪ ،‬مل تلتفت لطيبتي معها طيلة فرتة وجودها‬

‫هنا‪.‬‬

‫صباحا‪ ،‬لقد‬
‫ً‬ ‫كان من نصيبي أن أراها عارية ملقاة يف دمائها وأنا أفتح الباب‬

‫قضيت ساعتني ونصف أحاول إعادة حوض االستحامم الذي غطست فيه ومل‬

‫تقب إىل ما كان عليه مسب ًقا‪.‬‬


‫ّ‬

‫‪- -‬رأيت ما حدث مثل اجلميع‪ ،‬لقد قلت كل يشء يف املحرض‬

‫الرسمي‪.‬‬

‫يتصبب من جبينه‪ ،‬قويت تزعجه‪ ،‬يعلم أنيّ أعلم‪ ،‬ويعلم أنيّ‬


‫ّ‬ ‫هيز رأسه والعرق‬
‫ّ‬
‫أراه كام أرى اجلميع‪ُ ،‬عراة منزوعي شعر العانة واإلبطني‪ ،‬إنهّ م ضعاف هاشون‬

‫‪11‬‬
‫يف وجودي‪.‬‬

‫ال يشء يمكن أن جيعله خُيرج مني كلمة‪ ،‬لك ّنه يضيف بال دا ٍع‪:‬‬

‫‪- -‬أرجو عدم التحدّ ث يف هذا األمر مع أحد‪.‬‬

‫ّ‬
‫وكأن اخلرب مل ينترش يف املدينة يف حلظتني‪ ،‬نادية التي ال‬ ‫أومئ برأيس وال أر ّد‪،‬‬

‫يعرفها أحد‪ ،‬ومل َيرها أحد‪ّ ،‬‬


‫حتولت إىل نجمة ساطعة فجأة‪ ،‬التهمة املحرضة‬
‫سل ًفا لكل الفتيات الاليت ينتحرن أعدت هلا‪ ،‬والشائعات ال تعرف الرمحة‪ ،‬إ ّما‬
‫شائعة ضخمة وصادمة وإ ّما فال‪.‬‬

‫أهنض من مكاين دون أن ألتفت إليه‪ ،‬أخرج من مكتبي فيوقفني من جديد‪:‬‬

‫‪- -‬منى‪ ،‬أمل ختربك بيشء قبل أن‪...‬‬

‫أجز عىل أسناين حتى ال خترج م ّني شخرة حمرتمة يسمعها‬ ‫ّ‬
‫أظل ثابتة حلظتني‪ّ ،‬‬
‫اجلميع‪ ،‬أغلق الباب يف هدوء وأعود إىل مقعدي‪ ،‬أنظر إليه وأبتسم‪ ،‬وأرى‬
‫اهللع يف عينيه فأرىض‪.‬‬

‫‪- -‬باشا‪ ،‬ال أعتقد ّ‬


‫أن علينا احلديث يف هذا األمر ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬أنا أعلم‪،‬‬
‫وأنت تعلم‪ ،‬والفتاة ماتت وانتهى األمر‪.‬‬

‫الباشا ال ير ّد‪ ،‬أشعر أنّه سيفقد وعيه اآلن‪ ،‬يشري يل بيده أن أخرج‪ ،‬وكأنّه يطعنني‬

‫‪12‬‬
‫وركبتي اللتني ال تقويان عىل محيل‪،‬‬
‫َّ‬ ‫بسكينّ ‪ ،‬أحاول النهوض بجسمي املمتلئ‬
‫عيني‪.‬‬
‫جانبي ّ‬
‫ّ‬ ‫وضوحا عىل‬
‫ً‬ ‫االبتسامة تبهت عىل جانب فمي‪ ،‬والتجاعيد تزداد‬
‫ّ‬
‫ألمتكن من رشب‬ ‫املكيف رغم ّ‬
‫أن الطقس جيد؛‬ ‫أعود إىل حجريت‪ ،‬أشغل ّ‬
‫سيجارة دون أن أفسد أجواء معابد بوذا الذي يعتمده الباشا للحجرة‪ ،‬أمص‬
‫الدخان برسعة قبل أن تأيت عميلة محقاء ال تعرف ما الذي حدث يف هذه الغرفة‬
‫بالذات‪.‬‬

‫أفتح درج مكتبي بتلقائية‪ ،‬فأجد سلسلة ذهبية يتدىل منها صليب صغري‪ ،‬أرفعها‬
‫عيني‪ ،‬أعتقد أهنا من الذهب الصيني الرخيص‪ ،‬معها ورقة بخط نادية‬
‫ّ‬ ‫أمام‬
‫الطفويل‪ ،‬رسالة يل أنا بالذات‪:‬‬

‫إىل منى‪ ،‬صليب بدلاً من الذي فقدتِه يو ًما‪.‬‬

‫تدمع عيناي للمرة األوىل منذ رحيلها‪ ،‬أعلقه حول رقبتي وأهنض من مكاين‬
‫أللقي نظرة داخل حوض االستحامم الذي لفظت فيه نادية أنفاسها األخرية‪،‬‬
‫ّ‬
‫وكأن شيئًا مل‬ ‫ناصعا‬
‫ً‬ ‫وحدها يف ظالم أسوأ ليلة مرت عىل املدينة‪ ،‬أراه أبيض‬

‫يكن‪ّ ،‬‬
‫لكن الرائحة ال تزال كام هي‪ ،‬رائحة صديد عطنة احتلت فتحتي أنفي‬
‫وعشّ شت فيهام‪ ،‬ال أعرف إن كان بسبب قيامي بتنظيف املكان بنفيس‪ ،‬أم أنّني‬
‫أتوهم هذه الرائحة‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪13‬‬
‫أمص الدخان أكثر من السيجارة؛ آملة أن تتغ ّلب عليها‪ ،‬أشعل عود بخور‬
‫ّ‬
‫مستورد من جمايب الباشا‪ ،‬وأجلس يف مكاين ألنتظر‪.‬‬

‫أعرف ّ‬
‫أن ّأول َم ْن ستدخل ستكون هنال‪..‬‬
‫ُ‬
‫أنتظرها وأحضرّ املكان لقدومها‪ ،‬هنال التي هاتفتني ‪ّ 80‬‬
‫مرة منذ أن حدث ما‬

‫متر بسيارهتا كل يوم بجوار الكوافري املغلق منذ احلادث إىل اليوم‬
‫حدث‪ ،‬والتي ّ‬
‫ع ّلها تلمح شيئًا‪.‬‬

‫تصدق توقعايت بعد مخس دقائق‪ ،‬أراها تدخل من الباب والباشا يستقبلها‬

‫بنفسه برتحاب‪ّ ،‬أول زبونة بعد احلادث‪ ،‬جمرد دخوهلا سيجعل األخريات‬

‫يتجرأن عىل العودة‪.‬‬


‫ّ‬
‫أبتسم بجانب فمي‪ ،‬هنال التي اعتدن السخرية واهلمز واللمز عليها صارت‬

‫منقذهتن‪.‬‬

‫تصعد هنال والباشا يسندها بذراعه‪ ،‬تدخل معه إىل مكتبه قليلاً ‪ ،‬أعود أنا إىل‬

‫مقعدي واثقة أنهّ ا ستهرع إ ّيل بعد قليل‪ ،‬هنال تأيت هلذه الغرفة فقط كل ّ‬
‫مرة‪،‬‬

‫ال يعنيها باقي الغرف يف يشء‪ ،‬هذه الغرفة هي ما هيمها وهي رأس ماهلا‬

‫وحياهتا‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫مخس دقائق بالضبط وتدخل هنال‪ ،‬أبتسم هلا وهي حتكم إغالق الباب‪ ،‬جتلس‬
‫عىل األريكة وختلع حذاءها‪ ،‬تشعل سيجارة وتتل ّفت حوهلا وتقول‪ :‬هنا؟‬

‫هبزة من رأيس‪ ،‬نعم‪..‬‬


‫أجيب ّ‬

‫تنهض إىل الغرفة الصغرية التي شهدت موت نادية‪ ،‬تقف عىل الباب دقيقة‬
‫هتتز بعصبية‪ ،‬تعود إ ّيل من جديد وتسألني‪ ،‬ملاذا؟‬
‫وساقها ّ‬
‫‪- -‬ال أعرف فعلاً ‪ ،‬كنت أجلس معها ليلتها‪ ،‬مل ِ‬
‫تبد شيئًا‪ ،‬كام هي‪ ،‬نادية‬
‫اهلادئة احلزينة‪ ،‬مل ختربين بيشء فعلاً ‪ ،‬كل ما طل َب ْته أن أنزع شعر‬
‫جسمها كله‪ ،‬فعلت كام طلبت يف مخس دقائق‪ ،‬كانت كالعروس‪،‬‬
‫ربام علمت أن اجلميع سيفحص جسدها بعد ساعات‪ ،‬ربام أرادت‬
‫أن تبدو مجيلة بعد املوت‪.‬‬

‫‪- -‬أملك اهلواجس نفسها‪ ،‬أريد أن أبدو بخري حال عند تغسييل؛ لذا آيت‬
‫إليك كل أسبوع‪.‬‬

‫‪- -‬كنت أعتقد ّ‬


‫أن عملك هو ما حيرضك‪..‬‬
‫تضحك بصوت ٍ‬
‫عال ضحكتها الرنّانة الشهرية‪ ،‬تنزع مالبسها بال خجل‪،‬‬
‫وتدخل إىل الغرفة الثانية‪ ،‬تشري لألوىل قائلة ‪ :‬أخاف‪..‬‬

‫‪15‬‬
‫حيبذ اجللوس عار ًيا ضعي ًفا‬
‫أهز رأيس بال كالم‪ ،‬مهام بلغت صالبة هنال‪ ،‬ال أحد ّ‬
‫ّ‬
‫ًّ‬
‫هشا يف غرفة كانت مرسح جريمة منذ أيام‪.‬‬

‫أبدأ عميل بصمت‪ ،‬ترفع رأيس إىل وجهها‪..‬‬

‫‪- -‬هل كانت بن ًتا؟‬

‫فورا‪ ،‬وال أنطق سوى بكلمتني‪:‬‬


‫ترتفع الدماء إىل رأيس ً‬
‫‪- -‬ال أعرف‪..‬‬

‫‪- -‬منى‪ ،‬هل تعتقدين أنهّ ا فعلت ذلك بسبب هذا اليوم؟‬
‫أتنهد بصوت ٍ‬
‫عال‪ ،‬تزعجني هنال دائماً ‪ ،‬وتزعجني اليوم‬ ‫ضيق عيني وال أر ّد‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫أ ّ‬
‫أكثر‪.‬‬

‫‪- -‬ربام جيب عليك أنت أن ختربيني‪ ،‬أمل تذهب إىل املنزل معك؟‬

‫‪- -‬هي التي طلبت‪..‬‬

‫‪- -‬حسنًا ما الذي حدث بعدها؟‬

‫‪- -‬ال يشء جلسنا بعدها بشكل عادي‪ ،‬تناولنا القليل من الطعام‪ ،‬ثم‬
‫نامت‪ ،‬يف الصباح كانت قد اختفت‪.‬‬
‫‪- -‬يف الصباح جاءت إىل هنا‪ ،‬أكملت عملها كام تفعل دائماً ‪ ،‬مل ِ‬
‫حتك يل‬
‫شيئًا‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫‪- -‬لو مل ِ‬
‫حتك أنت ملا علمت‪.‬‬

‫والباشا؟‬

‫‪- -‬ال يشء‪ ،‬استدعاها إىل مكتبه ليسأهلا عن غياهبا الليلة املاضية‪ ،‬لك ّنه‬
‫ال حياسبها أبدً ا‪ ،‬منحها بعض األموال‪ ،‬وخرجت لتشرتي بعض‬
‫العصائر‪ ،‬الباشا طيب‪.‬‬

‫‪- -‬الباشا طيب؟‬

‫‪- -‬نعم‪ ،‬الرجل يف دوامة هذه الفرتة‪ ،‬مل يكن قد انتهى من إجراءات‬
‫استالم فلك ودفنها‪ ،‬حتى ورطته نادية بجثة جديدة‪ ،‬وهذه املرة يف‬
‫الكوافري‪.‬‬

‫تنفث دخان سيجارهتا‪ ،‬أكاد أنتهي فأرفع رأيس إليها‪ ،‬كانت تبكي فعلاً ‪...‬‬

‫‪- -‬كان يفرتض أن أموت أنا‪..‬‬

‫أطبطب عىل كتفها‪ ،‬أقول‪ :‬كلنا سنموت‪..‬‬

‫‪- -‬لك ّنها ماتت وحيدة‪..‬‬

‫هيمني أال أموت أمام أحد‪ ،‬ال أريد أن‬ ‫‪- -‬نحن ً‬
‫مجيعا وحيدون‪ ،‬ما ّ‬
‫أموت يف انفجار أو يف الشارع أو مكان عام‪ ،‬أريد أن أموت يف منزيل‬
‫بصمت‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪- -‬و َم ْن سيدفنك؟ ستتحولني إىل فضيحة أخرى عندما ّ‬
‫يشم اجلريان‬
‫الرائحة ويقتحمون بيتك ليجدوا جثة متح ّللة متع ّفنة‪.‬‬

‫أصمت والقشعريرة تغزو ظهري‪ ،‬ما الذي يمكنني أن أفعله؟ هل أستأجر‬

‫شخصا ليعيش معي ّ‬


‫حتس ًبا ليوم وفايت؟ أكمل ما أفعله بقليل من العصبية‬ ‫ً‬
‫فتتوجع‪ ،‬أعتذر ببعض الكلامت وأهنض‪ ،‬أدعوها لالغتسال قبل اخلروج‪.‬‬
‫ّ‬
‫أعود إىل مقعدي ألجيب عىل اهلاتف الداخيل‪ ،‬يسألني الباشا‪ :‬كل يشء متام؟‬
‫أجيبه بنعم‪ ،‬يبدو صوته أفضل قليلاً ‪ ،‬أنظر إىل الطابق األريض ألجد بعض‬
‫رس حتسن صوته‪،‬‬
‫الفتيات جيلسن عىل املقاعد العالية حتت أيدي العاملني‪ ،‬أعلم ّ‬
‫لو كان سألني كنت سأخربه ّ‬
‫بأن كل يشء عىل خري حال‪.‬‬

‫الناس ينسون كل يشء‪ ،‬ينسون االنفجار الذي هز املدينة منذ أيام‪ ،‬ينسون‬
‫موت أحبائهم‪ ،‬ينسون احلوادث املرعبة‪.‬‬

‫أمنحهم ً‬
‫عرضا جديدً ا أو بعض التخفيضات يف أسعار صبغة الشعر‪ ،‬أو خدمة‬
‫طابورا‪ ،‬ولو كانت جثة‬
‫ً‬ ‫لكي شعرها وسيقفن أمام الكوافري‬
‫جمانية لكل َم ْن تأيت َّ‬
‫الفتاة ال تزال فيه‪ ،‬سيقفن أمام املرشحة نفسها لو كانت تقيم هذه العروض‪.‬‬

‫خترج هنال ببشكري قصري واملاء يقطر عىل املوكيت الفخم فال هتتم‪ ،‬تتناول‬
‫شفتاي‬
‫ّ‬ ‫مالبسها وترتدهيا أمامي‪ ،‬أختلس بعض النظرات إىل جسمها فرتتعش‬

‫‪18‬‬
‫رغماً ‪ ،‬خترج حقيبتها ومتنحني بقشيشها الذي يساوي راتبي يف أسبوع‪ ،‬أشكرها‬
‫متر عىل الباشا من جديد يف‬
‫وأعود للجلوس يف مقعدي‪ ،‬تلوح يل بيدها وخترج‪ّ ،‬‬
‫مكتبه قبل املغادرة كام تفعل دائماً ‪ ،‬ال ّ‬
‫أهتم حتى بمراقبتها من النافذة أو الباب‬
‫املفتوح‪.‬‬

‫متر جيجي من أمام الباب املفتوح‪ ،‬تقف حلظة ثم تعود إ ّيل‪ ،‬تدخل رأسها من‬
‫ّ‬
‫الباب وتسألني كل يشء بخري؟‬

‫أجيب‪ :‬نعم‪ ،‬تنظر باجتاه الغرفة التي أغلقت باهبا‪ ،‬تبتلع ريقها وتطرق بأناملها‬
‫املطلية عىل حافة الباب بد ّقات رتيبة‪ ،‬ثم تستدير‪ ،‬ال جترؤ عىل الدخول منذ‬
‫احلادث‪ ،‬كانت معي وقت أن وجدنا الفتاة ملقاة يف احلوض‪ ،‬جريت الستدعاء‬
‫الباشا أو ّ‬
‫أي شخص‪ ،‬وعدت ألجدها تربت عىل رأس الفتاة بغرابة‪ ،‬تنظر إليها‬

‫نظرة مرعبة‪ ،‬مزيج من احلنو والتوحش‪ ،‬لقد أصابني اخلوف ّ‬


‫للمرة األوىل‪،‬‬
‫املوت ال خييفني‪ ،‬البرش هم من خييفونني فعلاً ‪.‬‬

‫رصخت فيها أال تلمس شيئًا‪ ،‬فبدت َك َم ْن أفاق فجأة‪ ،‬لتسارع إىل اخلروج‬
‫ودخول مكتب الباشا‪.‬‬

‫‪- -‬الكوافري ّ‬
‫يعج بغرباء األطوار‪..‬‬

‫ربام أكون أنا ً‬


‫أيضا واحدة منهم‪..‬‬

‫‪19‬‬
‫ال زلت أذكر كلامت احلاج الكبري ـ أبو الباشا ـ يل يوم ألتقيته‪ ،‬أحفظه وأحفظ‬
‫نصائحه العديدة‪ ،‬ال أعرف إن كان هناك يشء يف اإلسالم يمنع هذا فعلاً ‪ ،‬أم‬
‫أنهّ ا واحدة من خرافات املرصيني العديدة‪ ،‬يقول‪ :‬ال ختربي أحدً ا أن ِ‬
‫ّك مسيحية‪،‬‬
‫املسلامت ال حيببن االنكشاف عىل املسيحيات‪.‬‬

‫حاجبي يف دهشة‪ ،‬ما املشكلة يف االنكشاف أمام سيدة؟ صدقني هذا‬


‫ّ‬ ‫رفعت‬
‫ليس ما جيب عليهن أن خيفن منه‪ ،‬لك ّني أومأت باملوافقة فقط‪.‬‬

‫اسمي يمنحني حصانة ما‪ ،‬يمكن أن يناسب الدينني‪ ،‬أ ّما حيايت اخلاصة‪ ،‬فال‬
‫أحد يعرف عنها شيئًا وهذا أفضل‪.‬‬

‫أخلع الصليب املعلق يف رقبتي دو ًما داخل الكوافري‪ ،‬وأداري وشم معصمي‬
‫باألكامم الطويلة أو الغوايش الذهبية العريضة التي اعتدت تكديسها بمرور‬
‫السنني حتى باتت ال تنخلع من يدي‪.‬‬

‫يل احلاج حموه متا ًما‪ ،‬يعرف صدي ًقا يمكنه حمو األوشام يف ّ‬
‫حي‬ ‫يعرض ع ّ‬

‫الصاغة‪ ،‬أتردد قليلاً ‪ ،‬أخربه أنني قادرة عىل إخفائه بالكم الطويل والالصق‬
‫ً‬
‫معرتضا‪.‬‬ ‫الطبي واألساور‪ ،‬لكنه يبدو‬

‫‪- -‬أنت تستخدمني يديك‪ ،‬بالتأكيد سيظهر يو ًما إلحداهن‪..‬‬

‫أوافق عىل مضض‪ ،‬فيصحبني بعد انتهاء العمل إىل الصاغة‪ ،‬ورشة صغرية بني‬

‫‪20‬‬
‫املحالت جيلس فيها الرجل للحام الذهب وإعادة صياغته‪ ،‬يبدو أنه يمحي‬

‫الصلبان يف أوقات فراغه أو من أجل خاطر الباشا‪.‬‬

‫مل يكن األمر مؤملًا جسد ًيا‪ ،‬بعض احلرقان والتورم يف معصمي األيمن‪ ،‬لكن‬

‫ريا‪ ،‬كنت أشعر أنني أتنازل كام تنازلت وهربت من‬


‫احلرقة يف قلبي دامت كث ً‬
‫قبل‪ ،‬أتنازل عن ميويل‪ ،‬وأتنازل عن ديني‪ ،‬وأتنازل عن اختيارايت‪.‬‬
‫أقول لنفيس‪ ،‬ال هيم يا منى‪ِ ،‬‬
‫أنت حتملني صليبك عىل كتفيك‪..‬‬

‫من اإلسكندرية أصلاً ‪ ،‬أ ّما ما أتى يب إىل هذه املدينة الصغرية فأمر يطول رشحه‪،‬‬

‫لك ّنني أخترصه يف ذاكريت إىل ليلة واحدة‪ ،‬ليلة أتاين فيها أيب بصحبة أبونا من‬

‫القس فجلس بجواري هادئ‬


‫عصبيا كالعادة‪ ،‬أ ّما ّ‬
‫ًّ‬ ‫الكنيسة املجاورة‪ ،‬كان أيب‬

‫بشوشا‪ ،‬كنت أحبه فعلاً ‪ ،‬أرتاح لوجوده بجواري‪ ،‬أرقد يف الفراش‬


‫ً‬ ‫املالمح‪،‬‬

‫أمي تولول باخلارج دون انقطاع‪.‬‬


‫مقيدة‪ ،‬بينام ّ‬
‫كاملرىض ّ‬
‫‪- -‬يقول أبوك أنّك ممسوسة‪..‬‬

‫ال أر ّد‪،‬أدير وجههي ناحية احلائط اجلريي األصفر‪ّ ،‬‬


‫أركز عىل خربشات نقشتها‬

‫بالقلم اجلاف وأنا صغرية‪ ،‬أرقام وتواريخ ربام تواريخ االمتحانات يف املدرسة‬

‫ال أذكر‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫يطلب أبونا من والدي أن يرتكنا‪ ،‬أسمع صوت الباب وهو ُيغلق‪ّ ،‬‬
‫يظل الرجل‬

‫صام ًتا فال أعرف ما الذي أفعله‪ ،‬أرفع ظهري ألسنده إىل الوسادة الناشفة‬

‫خلفي‪ ،‬ربطة يدي تضيق فيحرقني جلدي أكثر‪.‬‬

‫‪- -‬لست ممسوسة‪ ،‬ربام جمنونة‪ ،‬أريد الذهاب إىل املستشفى‪..‬‬

‫‪- -‬يقول أبوك أنّك تتحدّ ثني بصوت خشن كالرجال‪ ،‬وأنّك ترفضني‬

‫الزواج‪ ،‬وأنّك‪ ،‬أنّك متيلني للنساء‪.‬‬

‫‪- -‬صويت خشن كام خلقني اهلل‪ ،‬ونعم أرفض الزواج‪ ،‬أنا أكره الرجال‪،‬‬

‫ال أميل هلم‪ ،‬هذه طبيعتي‪..‬‬

‫أخفض صويت‪ ،‬أشعر بالفضول يا أبونا‪ ،‬أحب النساء وجلساهتن وشكلهن‪،‬‬

‫خيفق قلبي وأشعر بأنّني‪..‬‬

‫يصفر وجهه قليلاً ‪ :‬ال تنطقي‪ ،‬ربام ّ‬


‫املس‬ ‫ّ‬ ‫‪- -‬يقاطعني بإشارة من يده‪،‬‬

‫أرحم‪ ،‬هل تريدين أن هتلكي؟‬

‫سن‬ ‫‪- -‬أعرف ما ّ‬


‫يلمح له‪ ،‬قرأت الكثري عن األمر منذ بدأ‪ ،‬منذ ّ‬
‫حتب‬
‫التاسعة وأنا أميل للبنات‪ ،‬اعتقد والدي أنّني خجولة‪ ،‬طفلة ال ّ‬
‫االختالط‪ ،‬يف فرتة املراهقة كان يشيد بأخالقي وأديب‪ ،‬أنا الوحيدة‬

‫‪22‬‬
‫التي ال حتادث األوالد يف املدرسة‪ ،‬أو ترسل هلم خطابات رس ّية‬
‫لتفضح يف املنطقة بعدها‪.‬‬

‫‪- -‬لسنا يف العرص احلجري يا أبونا‪ ،‬لقد قرأت كث ً‬


‫ريا‪.‬‬

‫كمس روح‬
‫ّ‬ ‫‪- -‬ترتعش يدا الرجل أكثر‪ ،‬يتم ّنى لو كان األمر أبسط‬
‫بعضا من ترانيمه ويرش ع ّ‬
‫يل قطرات من‬ ‫رشيرة‪ ،‬ربام حينها يتلو ً‬
‫املاء املقدّ س‪ ،‬ثم صفعتني عىل وجههي وانتهينا‪.‬‬

‫‪«- -‬ال تضلوا‪ ،‬ال زناة وال عبدة أوثان‪ ،‬وال فاسقون‪ ،‬وال مأبونون‪ ،‬وال‬
‫مضاجعو ذكور‪ .،‬يرثون ملكوت اهلل»‪.‬‬

‫‪- -‬اهلل ّ‬
‫حيب الضالني‪.‬‬

‫اخلطية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪- -‬لك ّنه يكره‬

‫‪- -‬اهلل خلقني هكذا‪.‬‬

‫‪- -‬أنت وامهة‪ ،‬خلق اهلل كامل‪ ،‬أنت من ُي ْن ِقصه بأفكارك‪.‬‬

‫‪- -‬إذن أقتل نفيس؟‬

‫‪- -‬إذن تعودي إىل اهلل‪.‬‬

‫ينهض بعصبية‪ ،‬األمر أكرب منه ومني‪ ،‬التسعينيات يف مرص‪ ،‬وقتها كنت أحكم‬

‫‪23‬‬
‫مصحة نفسية‪ ،‬لك ّني كنت أعلم أن هناك عاملًا‬
‫ّ‬ ‫عىل نفيس بالقتل أو باإليداع يف‬
‫آخر أفضل من هنا‪ ،‬عامل يمكنني فيه أن أفعل ما حيلو يل بعيدً ا عن كل هذه‬
‫الكراهية‪.‬‬

‫لك ّني بالتأكيد كنت خمطئة‪..‬‬


‫أحاول ّ‬
‫مط جسمي املربوط إىل الرسير‪ ،‬لسامع ما يدور باخلارج‪ ،‬يتحدّ ث أبونا‬
‫مع أيب ببعض كلامت‪ ،‬أسمع صوت أيب يعلو‪ ،‬يتوعدّ بقتيل‪ ،‬بينام حياول القس‬
‫هتدئته‪ ،‬خيربه أنّني مريضة‪ّ ،‬‬
‫وأن لكل يشء دواء‪.‬‬

‫‪- -‬الع ّفة هي العالج‪ ،‬ربام عليها منح نفسها إىل الدير لفرتة‪.‬‬
‫أترهبن؟‪ ،‬تنهار قواي يف حلظة‪ ،‬احلقيقة أنّني ّ‬
‫فكرت يف اليشء نفسه‪،‬‬ ‫‪ّ --‬‬
‫ّ‬
‫وأظل‬ ‫وأحب البقاء هناك‪ ،‬يغادر اجلميع بعد القدّ اس‬
‫ّ‬ ‫أحب الكنيسة‬
‫أنا جالسة مكاين أتأ ّمل صورة العذراء‪ ،‬مجيلة‪ ،‬قو ّية‪ُ ،‬ملهمة‪.‬‬

‫أمي ال ينتهي‪ ،‬يف املساء يدخل أيب إىل الغرفة‪ ،‬ينظر‬


‫النهار يميض وصوت بكاء ّ‬
‫إيل وإىل وجهي الشاحب الذي مل أغسله منذ أيام‪ ،‬بجواري بقايا الطعام مل ّ‬
‫متس‪،‬‬
‫يتنحنح ويعرض ع ّ‬
‫يل األمر وكأنّه سيأخذ برأيي‪.‬‬

‫‪- -‬جيب أن يكون هذا برغبتك‪ ،‬ستخضعني الختيارات وستمضني فرتة‬


‫يف الدير‪ ،‬ربام يمكنك بعدها اتخّ اذ قرارك‪ ،‬إ ّما االستمرار أو العودة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫أقاطعه‪..‬‬

‫‪- -‬أوافق‪.‬‬

‫ينظر إيل بدهشة وكأنّه مل يتو ّقع هذا‪...‬‬

‫‪- -‬هل‪ ،‬هل أنت ّ‬


‫متأكدة؟‬

‫‪- -‬نعم‪.‬‬

‫أحبه فعلاً ‪ ،‬ال أكره أحدً ا‪ ،‬يبدو‬


‫حيني رأسه ويبدو وكأنّه شاخ مخسني عا ًما‪ ،‬أنا ّ‬
‫أنّني سأليق بالفعل يف الرهبنة‪.‬‬

‫أحاول النوم دون نجاح‪ ،‬قلبي ّ‬


‫يدق يف عنقي‪ ،‬أحاول ّ‬
‫ختيل حيايت القادمة‪ ،‬هل‬
‫امللونة؟ باحلديث مع‬
‫سيسمح يل بمشاهدة األفالم األمريكية؟ بارتداء الفساتني ّ‬
‫صديقايت؟ بالذهاب إىل الكوافري؟‬

‫صباحا لتجدين‪ ،‬أكاد أموت من‬


‫ً‬ ‫أبدأ يف االرتعاش قرب الفجر‪ ،‬تدخل أمي ع ّ‬
‫يل‬
‫احلرارة‪ ،‬ترصخ‪ ،‬أسمعها جتري وتسقط األطباق يف املطبخ‪ ،‬حتاول صب املاء‬

‫املث ّلج عىل رأيس‪ ،‬ال أقاوم‪ ،‬ختلع ع ّني مالبيس مع والدي الذي استيقظ ً‬
‫فزعا‪،‬‬
‫ابنتهام الوحيدة‪ ،‬حتى ولو كنت جمنونة‪ ،‬ممسوسة‪ ،‬ضالة‪ ،‬خاطئة‪ ،‬شاذة‪..‬‬

‫تسمم من السلسلة‬ ‫ّ‬


‫يفك أيب قيد ذراعي احلديدي‪ ،‬معصمي ممزق متا ًما‪ ،‬ربام ّ‬

‫‪25‬‬
‫الصدئة‪ ،‬أحاول جتميع أفكاري‪ ،‬أسمع أيب يبكي ويطلب املغفرة من الرب‪،‬‬
‫أمت ّنى لو ِم ّت اآلن وانتهت القصة‪ .‬لك ّني بالتأكيد مل أفعل‪.‬‬

‫ألن أيب مل ّ‬
‫يتعود عىل طرق غرفة ابنته قبل‬ ‫مقيدة إىل رسيري مثل املجانني؛ ّ‬
‫أسبوع ّ‬
‫الدخول عليها فجأة‪ ،‬وألنّه أصيب بالرعب عندما رأين مع سارة عىل الرسير‪.‬‬

‫سارة‪..‬‬

‫جنسية بعينها‪ ،‬شعرها‬


‫ّ‬ ‫جتلس خلف البيانو بمالحمها املجهدة التي ال ّ‬
‫تدل عىل‬
‫ٍ‬
‫صاف‬ ‫لكن وجهها‬
‫أسود طويل حييط بوجهها اخلمري‪ ،‬تبدو يف األربعينيات‪ّ ،‬‬
‫متا ًما‪ ،‬تعزف سارة عىل البيانو مقطوعات هادئة لعازفني ال أعرفهم‪ ،‬ربام بيتهوفن‬
‫وباخ وموتسارت كام أقرأ أسامءهم يف املجالت املوضوعة عىل الكاونرت الذي‬
‫أقف خلفه أستقبل الضيوف املهمني‪ ،‬أسمع صوت عزفها من بعيد‪ ،‬أسمعه‬
‫اآلن جمدّ ًدا وأنا أهذي من احلرارة‪..‬‬

‫محام السباحة‪ ،‬يرسن‬


‫تنظر إيل وأنا أتأ ّمل السائحات النحيالت م ّتجهات إىل ّ‬
‫بثقة باملايوهات بال قلق‪ ،‬يربطن املناشف حول خصورهن أو ال يربطنها‪ ،‬أتأ ّمل‬
‫أتعرق قليلاً ‪ ،‬أمدّ يدي لتناول‬
‫تفاصيل األجسام اجلميلة‪ ،‬والوجوه الدقيقة‪ّ ،‬‬
‫منديل ألجدها ال ترفع عينيها من ع ّ‬
‫يل أنا‪.‬‬

‫أشعر باخلجل‪ ،‬فتضحك بجانب فمها‪ ،‬تنزع وردة محراء من الباقة أمامها‪،‬‬

‫‪26‬‬
‫وتقرتب م ّني ترتكها أمامي بر ّقة‪ ،‬أملح التجاعيد عىل جانبي فمها وعينيها‪ ،‬تبدو‬
‫يف األربعينات من هذا القرب‪.‬‬

‫‪- -‬أنت مجيلة يا منى‪.‬‬

‫‪- -‬وأنت ً‬
‫أيضا يا سارة‪.‬‬
‫مرة‪ ،‬قبلة يف اهلواء‪ ،‬ال تنزل عينيها من ع ّ‬
‫يل وهي‬ ‫ترسل يل بكوب من العصري ّ‬
‫تعزف‪..‬‬

‫خصيصا هلا‪ ،‬أقف‬


‫ً‬ ‫أصبحت أسعد باهتاممها‪ ،‬أنتظر نظراهتا بشغف‪ ،‬أتز ّين‬
‫أمام املرآة يف غرفتي‪ ،‬أجتر ّد من مالبيس‪ ،‬وأتأ ّمل جسدي‪ ،‬أضغط عىل ّ‬
‫ثدي‬
‫فأشعر باإلثارة‪ ،‬أجيد استخدام احلالوة كاملحرتفات‪ ،‬أزيل شعر جسمي كله‬

‫فأتلوى يف رسيري طيلة الليل‪ ،‬أحتسس نعومة جلدي‪ّ ،‬‬


‫وأختيل سارة‬ ‫كالعروس‪ّ ،‬‬
‫بجواري‪ ،‬حرارة جسمها اخلمري الناعم‪ ،‬وشعرها اجلميل‪ ،‬وعنقها املذهل‪.‬‬

‫ّ‬
‫أتذكر وسط هلوستي هذا اليوم الساكن قبل مغيب الشمس‪ ،‬يف غرفة اخلزانات‪،‬‬
‫أخلع حذائي عايل الكعب وأستبدله بحذائي املنخفض الذي يسمح يل باجلري‬
‫خلف املواصالت يف طريقي للعودة إىل املنزل‪ ،‬أشعر بيدين تطوقان خرصي‬
‫يعم املكان‪..‬‬
‫من اخللف‪ ،‬أعرف أنهّ ا هي‪ ،‬الغرفة خالية والسكون ّ‬
‫جتذبني سارة إليها‪ ،‬جسدي كله حيرتق وقلبي خيفق برسعة قصوى‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫شفتي بأصابعها‪ ،‬تنزهلا إىل عنقي‪ ،‬تضغط عىل صدري برفق‪ ،‬أكاد‬
‫َّ‬ ‫تداعب‬
‫يغشى ع ّ‬
‫يل‪..‬‬

‫أستدير ألواجهها‪ ،‬لكني أشعر بالغرفة كلها تدور‪ ،‬وسارة تبتسم فقط‪ ،‬أستسلم‬
‫للحظات‪ ،‬ثم أستعيد إدراكي باملكان والزمان‪ ،‬أدفعها برفق وأجري حافية وأنا‬
‫أمحل حذائي بيدي‪ ،‬ال أكتشف ذلك إال بعد مالمستي لألسفلت الساخن يف‬
‫الشارع‪ ،‬قدماي حترتقان‪..‬‬

‫مثلام حترتق رأيس اآلن‪..‬‬

‫أعود إىل غرفتي التي تدور يب هي األخرى‪ ،‬أرى وجه أيب وأ ّمي فوق رأيس من‬
‫عيني املغمضتني‪..‬‬
‫بني َّ‬
‫ال يمكن أن أختىل عن نفيس من أجل الكنيسة‪..‬‬

‫حيبني كام أنا أو أتركه ً‬


‫أيضا‪..‬‬ ‫عىل اهلل أن ّ‬
‫اعتاد أبواي عىل زيارات سارة‪ ،‬اعتقدا مثيل ّ‬
‫أن مفتاح احلياة يف صدرها صلي ًبا‪ ،‬مل‬
‫ريا البنتهام املنعزلة‬
‫السن‪ ،‬لك ّنهام سعدا بوجود صديقة أخ ً‬
‫ريا عن فارق ّ‬
‫يسأال كث ً‬
‫عن العامل‪ ،‬حتى كان اليوم الذي اقتحم فيه والدي الغرفة‪..‬‬

‫أ ّما عن وصويل إىل هذه املدينة الصغرية فكان بالصدفة التامة‪..‬‬

‫‪28‬‬
‫والدي أكثر لينًا‪ ،‬أهنض ألرتدي مالبيس‬
‫ّ‬ ‫أبدأ يف التعايف‪ ،‬نوبة املرض جتعل‬
‫وأحترك نحو باب الش ّقة بطبيعية‪ ،‬يعرتضني أيب متسائلاً إىل أين؟‬
‫ّ‬

‫مطولاً ‪ ،‬يشبهني كث ً‬
‫ريا‪ :‬وجه أبيض دائري طيب‪ ،‬وخدّ ان ممتلئان‪،‬‬ ‫أنظر إىل وجهه ّ‬
‫وشعر ناعم‪.‬‬

‫نملك العينني اخلرضاوين الضيقتني نفسها‪ ،‬أ ّما أ ّمي فكانت نحيفة سمراء بشعر‬
‫جمعد‪ ،‬أبتسم وأقول إىل العمل‪ ،‬أريد أخذ ما تب ّقى من راتبي هذا الشهر‪.‬‬
‫ّ‬
‫ينظر إيل أيب بشك‪ ،‬فأخربه أنّني بخري‪ ،‬ال أمحل سوى حقيبة يدي الصغرية‪،‬‬
‫ليس ع ّ‬
‫يل سوى قميص وت ّنورة وحذاء اقرتب من اهلالك‪.‬‬

‫يسمح يل معتقدً ا ّ‬
‫أن املرض طهرين‪ ،‬ربام عدت طبيعية‪ ،‬وكأنّه دور برد خرج مع‬
‫العرق واحلرارة‪.‬‬

‫التحرك‪ ،‬ال أعرف إىل أين‪،‬‬


‫ّ‬ ‫أتجّ ه ً‬
‫فورا إىل حمطة القطار‪ ،‬أقفز يف ّأول قطار بدأ يف‬
‫لك ّنني أشعر باالرتياح‪ ،‬جيب أن أهرب من هنا‪ ،‬ال أريد شيئًا‪ ،‬ال أعرف شيئًا‪،‬‬
‫أريد أن أبقى كام أنا‪ ،‬ال أريد أن أخضع جللسات غسيل مخ وال اخلروج من‬
‫جلدي‪.‬‬
‫«ال تخَ َ ا ُفوا َو َ‬
‫ال َت ْر َت ِع ُبوا‪َ ،‬ت َشدَّ ُدوا َو َت َش َّج ُعوا»‬ ‫َ‬

‫‪29‬‬
‫أنزل يف ّأول حمطة يعجبني شكلها‪ ،‬حوائط بيضاء‪ ،‬و ُق ّبة عالية بساعة دائرية‪،‬‬

‫ليست مزدمحة جدً ا‪ ،‬اهلواء لطيف‪ ،‬والناس ّ‬


‫طيبون‪ ،‬ليست ريفية وال حرضية‬

‫جدً ا‪ ،‬هواها ال خيتلف كث ً‬


‫ريا عن اإلسكندرية‪.‬‬

‫ال بحر؟ ال مشكلة‪..‬‬

‫أحاول السري يف الشارع الواسع الذي ال أعرفه‪ ،‬أبحث عن كنيسة ربام متنحني‬
‫ّ‬
‫املحطة‪،‬‬ ‫بعض املساعدة‪ ،‬أسأل بعض املارة فيشريوا يل باجتاه نفق مظلم بجوار‬
‫يرشحون يل الطريق‪ ،‬أجتاز النفق‪ ،‬وأعرب ميدا ًنا مزد ً‬
‫محا صغ ً‬
‫ريا‪ ،‬إىل شارع واسع‬
‫يبدو شعب ًيا ومحيم ًيا‪ ،‬ربام يمكنني الذوبان هنا بشكل جيد‪.‬‬
‫ّ‬
‫أفكر يف أيب وأمي اللذين بالتأكيد يموتان قل ًقا عيل اآلن‪ ،‬قبضة ُم ّرة تعترص‬
‫بطني فتتصاعد املرارة إىل حلقي‪ ،‬أقف حلظة اللتقاط أنفايس‪ ،‬وأكمل الطريق‪،‬‬
‫تبدو الكنيسة ظاهرة أمام عيني اآلن‪ ،‬أدخل بخطوات مرت ّددة‪ ،‬تستقبيل األم‬
‫املكرسة للكنيسة بابتسامة‪ ،‬راهبة طيبة يف منتصف العمر تسألني عماّ أحتاجه‪،‬‬
‫ّ‬
‫ملونة كبرية ملار جرجس‬
‫الكنيسة فارغة يف هذا الوقت‪ ،‬يف احلائط املواجه لوحة ّ‬
‫هيزم الشيطان‪..‬‬

‫أتأ ّمل اللوحة دون ر ّد‪ ،‬أكرب لوحة رأيتها ملار جرجس‪ .‬الراهبة تنتظرين يف صرب‪،‬‬
‫ريا‪ ،‬أنظر إليها‪ ،‬ال أملك شيئًا ألقوله‪.‬‬
‫أنتبه إليها أخ ً‬

‫‪30‬‬
‫‪- -‬يا ُأ ّمنا‪ ،‬ال بيت يل وال مال وال عمل‪ ،‬أريد املساعدة‪.‬‬

‫تصمت دقيقة‪ ،‬حتدّ ق يف مالبيس التي ال يبدو عليها عالمات الفقر الشديد‬

‫أو الترشّ د‪ ،‬تبتسم يف وجهي ثانية‪ ،‬ثم هترع للكالم مع القس‪ ،‬يعودان ً‬
‫معا‪،‬‬
‫ينظر إيل أبونا مطولاً فيشحب وجهي أكثر‪ ،‬يشبه قس كنيستي يف اإلسكندرية‪،‬‬
‫ريا هنا معهام‪،‬‬
‫ال أخافهام‪ ،‬ال أكرههام‪ ،‬عىل العكس‪ ،‬أشعر بالراحة واألمان أخ ً‬
‫ومع لوحة مار جرجس‪.‬‬

‫يقول القس مرح ًبا بك‪ ،‬هيمس يف وجه أمنا بكلامت‪ ،‬تشري يل دون كالم‬
‫فأتبعها‪،‬‬

‫‪- -‬ال ُيسمح لنا باستضافة أحد يف الكنيسة‪ ،‬لكن وجهك طيب‪.‬‬

‫لكن حلقي اجلاف يمنعني‪ ،‬تقودين حلجرة صغرية بال‬


‫أحاول شكرها بأ ّية كلمة ّ‬
‫أثاث‪ ،‬مقعد خشبي أقرب لدكك املدرسة‪ ،‬وسجادة ممزقة‪.‬‬

‫كنيسة بسيطة يف منطقة شعبية‪ ،‬ربام هذا أفضل ما لدهيم‪.‬‬

‫تنظر لوجهي املمتقع فتقول‪ :‬سآتيك ببعض الطعام‪.‬‬

‫أوشك عىل تقبيل يدهيا لك ّنها تربت عىل كتفي ومتيض‪ ،‬أهنار عىل األرض‪،‬‬

‫أمحلق يف السقف املتش ّقق فوقي‪ ،‬ترى ما الذي يفعله والداي اآلن‪ ،‬أيب ّ‬
‫الطيب‬

‫‪31‬‬
‫هلعا؟ يبحثان ع ّني يف األقسام واملستشفيات‪ّ ،‬أم أنهّ ام‬
‫وأمي املسكينة‪ ،‬جي ّننان ً‬
‫شكرا الرب لتخلصهام من لعنتي؟‬

‫يف الصباح أخرج بمالبيس نفسها التي كادت ختنقني‪ ،‬أسري يف السوق املجاور‬

‫أمر عىل املحالت الصغرية أسأهلم عملاً ‪ ،‬أريد ّ‬


‫أي‬ ‫أتأ ّمل الباعة وبضائعهم‪ّ ،‬‬
‫يشء جيلب يل بعض املال‪ ،‬ربام بعدها ّ‬
‫أمتكن من استئجار ش ّقة صغرية هنا وسط‬
‫الزحام والصخب والناس‪.‬‬

‫متعجبني‪ ،‬ينظرون إىل‬


‫ّ‬ ‫ولتنوريت القصرية‬
‫ّ‬ ‫ال يشء‪ ،‬ال أحد يعرفني‪ ،‬ينظرون إيل‬
‫صليبي املع ّلق عىل نحري بقلق‪ ،‬ينتهي الشارع وال أجرؤ عىل عبور النفق املظلم‬
‫إىل قلب املدينة من جديد‪..‬‬

‫تتحملني أمنا بصرب يف الكنيسة أسبوعني‪ ،‬كدت أيأس وأخجل من العودة‬


‫يف اليوم األخري‪ ،‬لكني أملح الكوافري الصغري املقابل فجأة وكأنه برز يل من‬
‫العدم‪.‬‬

‫أتر ّدد حلظة ثم أدخل إىل الكوافري الذي ُكتب عليه «كوافري مرمر»‪ ،‬أرى صورة‬
‫العذراء من جانب الستارة القامشية احلمراء املواربة عىل املدخل فأطمئن قليلاً ‪،‬‬
‫أدخل برسعة قبل أن أغيرّ رأيي‪.‬‬

‫يقصان شعرهيام‬
‫بالداخل مقعدان متهالكان عليهام امرأتان متقدّ متان يف العمر ّ‬

‫‪32‬‬
‫ويصبغانه‪ ،‬وورائهام تقف فتاتان بائستان ال تعرفان شيئًا سوى طريقة مزج‬
‫اللون وفرده عىل الورق املفضض بدقة‪.‬‬

‫رفعت أكربمها عينيها إ ّيل فتحرشج صويت حلظة قبل أن خيرج قو ًّيا وعال ًيا‪.‬‬

‫‪- -‬هل تريدون فتيات للعمل؟‬

‫تشري ّيل باالنتظار للحظة‪ ،‬تتحدّ ث يف هاتف داخيل يربط حتماً الكوافري بالش ّقة‬
‫التي تسكن فيها صاحبته أعاله‪.‬‬

‫‪- -‬اجليس ستأيت مدام مرمر بعد دقيقتني‪.‬‬

‫أنتظر بصرب‪ ،‬أتأ ّمل صور حنان ترك وسمرية سعيد بشعرهن اهلائش ونظرهتن‬
‫السعيدة‪ ،‬أتأ ّمل املستحرضات الرخيصة املوضوعة بإغراء يف واجهة زجاجية‬
‫متهالكة‪ ،‬كوافري صغري مسكني لك ّنه أفضل من ال يشء‪.‬‬

‫طيبة‪ ،‬أرى الصليب املدقوق عىل‬


‫تأيت املدام بعد نصف ساعة‪ ،‬ممتلئة بمالمح ّ‬
‫قصتي‬
‫رسخها وهي تصافحني‪ ،‬أتعمد إبراز صليبي أكثر‪ ،‬أخربها بنصف ّ‬
‫وسكني يف الكنيسة وحاجتي للعمل‪ ،‬تبتسم يف وجهي بحن ٍو‪ ،‬ثم تنادي عىل‬
‫فتاة من الفتاتني‪:‬‬

‫‪- -‬شيامء اصنعي لنا كوبني من الشاي‪..‬‬

‫‪33‬‬
‫تنظر إ َّيل وتسألني‪ :‬ما اسمك؟‬

‫‪- -‬منى‪..‬‬

‫‪- -‬عاشت األسامي‪..‬‬

‫عني‪ ،‬تعود بعد‬


‫تنهض وتغادر املحل‪ ،‬أراهن أنهّ ا ت ّتصل بأ ّمنا يف الكنيسة لتسأهلا ّ‬
‫عرشين دقيقة لتسألني ما الذي أجيد فعله؟‬

‫‪- -‬أنا أجيد التع ّلم‪ ،‬أجيد وضع املكياج‪ ،‬وتصفيف الشعر‪.‬‬

‫‪- -‬أملك فتاتني لكل هذا‪ ،‬وأنا أضع املكياج بنفيس للعرائس‪ ،‬هل‬
‫جتيدين الفتلة؟‬

‫‪- -‬ال‪ ،‬لك ّني جيدة جدً ا يف التعامل مع احلالوة‪..‬‬

‫‪- -‬تربق عينيها‪ ،‬تقول إن هذا ما حتتاجه متا ًما‪،‬‬

‫‪- -‬ربام ّ‬
‫أخصص حجرة باألعىل لتوضيب العرائس‪..‬‬

‫فأحتمس أنا ً‬
‫أيضا‪ ،‬أنحدر عرشات الدرجات يف حيايت‬ ‫ّ‬ ‫يسعدين محاسها‪،‬‬
‫العملية‪ ،‬لك ّني ال أهتم‪..‬‬

‫فليذهب دبلوم السياحة والفندقة إىل اجلحيم‪ ،‬ولتبدأ حيايت «كبالنة» كام كانت‬
‫سيسميني الباشا فيام بعد‪..‬‬
‫ّ‬ ‫تسميهن أ ّمي‪ ،‬خبرية عرائس كام‬
‫ّ‬

‫‪34‬‬
‫صباحا‪ ،‬تع ّلمني املدام كل‬
‫ً‬ ‫أواظب عىل الذهاب كل يوم من الساعة الثامنة‬

‫يشء‪ ،‬أتعلم حتى كيفية عقد الفتلة واستخدامها لنزع الشعريات الدقيقة من‬

‫أصابع اليدين والساقني‪ ،‬تعاملني كابنة‪ ،‬حتى أهنا تسمح يل باالنتقال إىل الشقة‬

‫تضم حجرتني اآلن لتوضيب العرائس بعد اإلقبال الذي اشتد يف‬
‫التي باتت ّ‬
‫الشهر األخري منذ أن بدأت العمل معها‪ ،‬أضع متاعي القليل الذي مجعته خالل‬

‫اإلقامة يف الكنيسة‪ ،‬وأنام عىل مرتبة قديمة منحتها يل بكرم‪.‬‬

‫لك ّني أتطلع ألشياء أخرى‪ ،‬أريد حريتي‪ ،‬أريد شقتي اخلاصة‪ ،‬بعيدً ا عن العامل‬

‫اجلديد الذي أوشك أن يكون محيم ًيا‪ ،‬توشك املدام عىل أن تصبح أ ّمي‪ ،‬ويوشك‬

‫أبونا عىل أن يصبح أيب بسبب إرصاره عىل املجيء وتف ّقد أحوايل كل فرتة‪.‬‬

‫أقف عىل باب املحل بملل‪ ،‬يوم شتوي فاتر ال ّ‬


‫تفضله النساء ملضاعفة أمل لسعة‬

‫مرتني‪ .‬تتو ّقف أمامي سيارة فارهة‪ ،‬ينزل منها رجل‬


‫احلالوة عىل أجسادهن ّ‬
‫نحيف‪ ،‬بشعر طويل‪ ،‬ورسوال واسع بخرص ساقط‪ ،‬يسألني عن مدام مرمر‬

‫فأجيبه بأنهّ ا غادرت‪.‬‬

‫ريا ملو ًنا‪ ،‬إنّه يدعوها حلفل خاص يف القاهرة جيمع مص ّففي‬
‫كتيا صغ ً‬
‫يعطيني ًّ‬
‫الشعر يف مرص‪ ،‬أشكره وأتابعه وهو يغادر بسيارته وأعود إىل الداخل‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫أتص ّفح ُ‬
‫الك ّتيب‪ ،‬أقرأ قائمة أسامء مص ّففي الشعر باملدينة‪ ،‬يستوقفني اسم‬
‫أي دا ٍع‪..‬‬
‫الباشا بال ّ‬

‫‪- -‬كوافري الباشا‪ ،‬مممم‪..‬‬

‫أعيد قراءة العنوان برسعة قبل أن تعود املدام‪ ،‬أحفظه عن ظهر قلب‪ ،‬وأضع‬
‫أمرا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الك ّتيب عىل الرف خلفي‪ ،‬وأعتزم ً‬
‫الطريق طويل طويل‪..‬‬

‫للمرة األوىل منذ شهور‪ ،‬أصل إىل ميدان املحطة‪ ،‬فأجد‬


‫أغادر النفق املظلم ّ‬
‫التباعني عىل العنوان‪ ،‬فيخربين بأنّه ّ‬
‫يمر‬ ‫جتمعا للميكروباصات‪ ،‬أسأل أحد ّ‬
‫ً‬
‫أمام الشارع من اخلارج وع ّ‬
‫يل أن أكمل بنفيس‪ ،‬أوافق وأنا ألقي بنفيس عىل‬
‫املقعد األمامي برسعة‪ ،‬أنتظر إىل أن يكمل حتميله قبل أن ينطلق‪.‬‬

‫يبدأ املطر يف اهلطول وأنا يف الشارع‪ ،‬أحاول مللمة ُسرتيت الباهتة التي اشرتيتها‬
‫كتفي‪ ،‬يف هذه اللحظات أشعر بالرثاء عىل نفيس وأفتقد بيتنا‬
‫من السوق حول َّ‬
‫الدافئ‪.‬‬

‫لتمزق قفيص الصدري‬


‫ّ‬ ‫أشم رائحة املطر فتهب عيل رائحة اإلسكندرية‬
‫بسكاكني‪ ،‬أتأ ّمل كوافري الباشا من اخلارج‪ّ ،‬‬
‫حمل صغري لك ّنه مغلق بزجاج معتم‬
‫فاخر‪ ،‬أدفع بابه إىل الداخل وأدلف مرت ّددة‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫يضج باحلركة رغم الشتاء‪ ،‬مقاعد متالصقة بسبب الزحام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ضيق لك ّنه‬
‫املكان ّ‬
‫وأكثر من مخس عرائس جالسات يف انتظار دورهن‪ ،‬أعرف الباشا الكبري من‬
‫النظرة األوىل‪ ،‬أتجّ ه إليه يف عزم فيتأملني هو من حذائي ّ‬
‫املمزق إىل سرتيت املبت ّلة‪،‬‬
‫أقف أمامه فريفع عينيه إ ّيل‪:‬‬

‫‪- -‬مساء اخلري‪ ،‬سمعت أن هناك وظائف شاغرة‪.‬‬

‫‪- -‬ما الذي جتيدينه؟‬

‫‪- -‬أنا أعمل يف كوافري مدام مرمر‪ ،‬أخفض صويت بخجل وأقول‪:‬‬
‫«بلاّ نة»‪.‬‬

‫‪- -‬جتيدين احلالوة؟‬

‫‪- -‬نعم‪ ،‬أستطيع إزالة شعر املرأة كاملاً يف نصف ساعة‪.‬‬

‫ال يرفع عينيه إيل‪ ،‬يقرأ بعض األوراق أمامه‪.‬‬

‫‪- -‬متى ستتمك ّنني من البدء؟‬

‫‪- -‬من اليوم؟‬

‫يرفع عينيه جمد ًدا إ َّيل‪ ،‬أين تسكنني؟‬

‫‪- -‬ال مكان‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫يبتسم‪ ،‬أفهم هذا الرجل ويفهمني فال داعي للكذب أو املحاورة‪..‬‬

‫ضيق يقود للطابق العلوي‬


‫يمكنك املبيت يف األعىل‪ ،‬يشري إىل سلم حديدي ّ‬
‫املخفي عن العيون‪.‬‬
‫أطلب اإلذن يف الغياب لساعتني‪ّ ،‬‬
‫أفكر كيف سأنقل أشيائي الصغرية دون‬
‫أن يالحظني أحد‪ ،‬أهرب جمدّ ًدا دون أسباب سوى عدم رغبتي يف احلديث‬
‫والتربير‪.‬‬

‫لك ّني أشعر أنّني عىل الطريق الصحيح‪ ،‬وكنت كذلك فعلاً ‪.‬‬
‫الكوافري هو بيئتي الطبيعية التي كان ع ّ‬
‫يل أن أكون فيها طيلة عمري‪ ،‬أنا لست‬
‫ّ‬
‫التحكم يف كينونتي‪ ،‬ملاذا خيلقني اهلل هبذا الشكل ثم‬ ‫رشيرة‪ ،‬لك ّني ال أستطيع‬
‫أمترد عىل خلقه وحايل؟ كيف أمتر ّد عىل‬
‫يطلب م ّني أن أتوب وأعود إليه‪ ،‬كيف ّ‬
‫حقيقتي؟‬

‫وحيمر وجهي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جتلس النساء أمامي عاريات مطمئنات‪ ،‬تنتصب خالياي كلها‪،‬‬
‫أداري سخونة َّ‬
‫يدي بسخونة احلالوة‪ ،‬وهي تنفرد وتنثني عىل جلدهن‪،‬‬
‫أحسدها وأكتفي باختالس النظر‪ ،‬ربام بلمس اجللد وشدّ ه‪ ،‬أشبع رغبايت‬
‫بالتخيل‪ ،‬أكتفي هبذا وال أزيد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫احلارقة‬

‫سيقاهنن‬
‫ّ‬ ‫ال أحد يالحظ أو خيطر يف باله ح ّتى ّ‬
‫أن الفتاة املسكينة التي جتلس أمام‬

‫‪38‬‬
‫أختيل للحظة أن يعرفن‬
‫املفتوحة ليست هبذه الرباءة التي تدّ عيها‪ ،‬أبتسم عندما ّ‬
‫احلقيقة‪ ،‬سيتساءلن أولاً ‪ ،‬ما هو حكم الدين يف هذا األمر؟ هل يتحم ّلن‬

‫الوزر؟‬

‫عىل عكس املثليني من الرجال يف مرص‪ ،‬جتدّ النساء صعوبة أكرب يف مالقاة‬

‫صاحبة‪ ،‬خاصة يف بلدة صغرية مثل هذه‪ ،‬حتى لو الحظت الفتاة أنهّ ا خمتلفة‪،‬‬

‫ستكتفي بالزواج واحلياة الطبيعية التقليدية‪ ،‬ربام ُتريض رغبتها بالعادة الرسية‬

‫كام أفعل طوال هذه السنني‪.‬‬

‫يل‪،‬‬ ‫أختيل سارة كل يوم‪ ،‬ال أرىض عنها بديلاً من بني كل األجسام التي ّ‬
‫متر ع ّ‬ ‫ّ‬
‫حتى هنال بالذبذبات اجلنسية التي خترج من جسمها فيشعر هبا الرجال والنساء‬
‫معا‪ ،‬مل تفلح يف حمو وجهها من ذاكريت‪.‬‬
‫ً‬
‫ريا‪ّ ،‬‬
‫وأفكر يف أ ّمي التي ماتت حرسة‪ ،‬وأيب الذي يعيش حياته اليوم‬ ‫ّ‬
‫أفكر فيها كث ً‬
‫يف أمريكا غري عابئ بيشء‪ ،‬ربام اعتقد أنّني ِم ُت‪ ،‬ربام حذفني من ذاكرته‪ ،‬الرجل‬

‫ووضعا مل أكن قادرة عىل تصديقه‪.‬‬


‫ً‬ ‫ترس الناظرين‪،‬‬
‫يملك عائلة جديدة ّ‬
‫متنحني الزبونات البقشيش الوفري‪ ،‬أمتكن من تأجري شقة صغرية قرب الكوافري‪،‬‬

‫يساعدين احلاج عىل تأسيسها‪ ،‬أشعر بنظراته خترتق روحي‪ ،‬هذا الرجل يفهمني‬

‫‪39‬‬
‫ويعرفني ويتجاهل كل يشء‪ ،‬ما يريده هو سري العمل وفقط‪ ،‬ال ينكر أن قسمي‬

‫اجلديد جيلب له ثروات طائلة‪.‬‬

‫طموحا ال يتوقف‪ ،‬كان عمره عرش سنوات فقط‬


‫ً‬ ‫أ ّما الباشا الصغري فيملك‬

‫الضيق‬
‫ّ‬ ‫الرسي‬
‫ّ‬ ‫عندما جئت أنا هنا‪ ،‬يلعب ويدور‪ ،‬حياول اخرتاق القسم‬
‫ً‬
‫ضاحكا‪.‬‬ ‫فيفر‬
‫باألعىل لك ّني أهنره ّ‬
‫تنظر النساء إىل وجهه اجلميل ويقلن اتركيه‪ ،‬الباشا الصغري يثري مشاعرهن منذ‬

‫هلن بدهشة وأغلق الباب يف وجهه‪.‬‬


‫الصغر‪ ،‬أنظر ّ‬

‫عضوا‬
‫ً‬ ‫لك ّني أسانده دائماً يف طموحاته‪ ،‬يأخذ برأي أبيه ورأيي بعدما أصبحت‬

‫قديماً دائماً يف العمل‪ ،‬أنصحه باستقدام عامالت جديدات وتطوير تزيني‬


‫العرائس‪ ،‬نسبة املحجبات تتزايد‪ ،‬فأقنعه برضورة إنشاء قسم للمحجبات‪.‬‬

‫متر وأنا ال أغادر الكوافري إال لشقتي الصغرية التي جتاوره‪ ،‬ال‬
‫عرش سنوات ّ‬
‫أكمل فيها سوى ساعات ألعود وأفتحه بنفيس‪ ،‬بت وكأنّني فرد من أفراده‪،‬‬
‫يعتمد ع ّ‬
‫يل احلاج يف كل يشء‪ ،‬أ ّما الباشا الصغري‪ ،‬فيكرب أمام عيني‪ ،‬ر ّبيته كام‬

‫أ ّمه التي مل يرها‪..‬‬

‫الباشا يف عمر العرشين فقط لك ّنه يملك َ‬


‫عقل رجلٍ يف منتصف العمر‪ ،‬إنّه‬

‫‪40‬‬
‫يطغى بحضوره عىل والده املرهق‪ ،‬يبدأ يف فرض آرائه‪ ،‬والدعوة إىل تأسيس‬
‫مركز كبري وضخم‪.‬‬

‫فورا‪.‬‬
‫يوافق أبوه احلاج عىل مضض فيبدأ العمل ً‬
‫باهرا‪ ،‬ينسحب‬
‫ً‬ ‫نجاحا‬
‫ً‬ ‫يأخذ منه املركز سنوات من العمل‪ ،‬لك ّنه ينجح‬
‫احلاج يف النهاية‪ ،‬يكتفي ببعض زيارات‪ ،‬بينام أنعزل أنا يف حجريت اجلديدة ال‬
‫يشء يزعجني سوى جيجي التي ظهرت من العدم‪ ،‬قروية محقاء تعتقد أنهّ ا‬
‫متوجة ببعض دروس املكياج‪ ،‬ورضبات الفرشاة التي ّ‬
‫تلطخ هبا وجه‬ ‫ملكة ّ‬
‫العرائس‪..‬‬

‫حتل حميل وتتولىّ مسؤوليايت‪ ،‬يعتمد عليها الباشا‪،‬‬


‫متتلك املكان شيئًا فيشء‪ّ ،‬‬

‫جتلس عىل مكتبه يف أثناء غيابه‪ ،‬أراها وهي تتد ّلل عليه‪ ،‬ال أعرف كيف أغوته‬
‫يتحول إىل طفل صغري أمامها‪ ،‬وكأنهّ ا ساحرة‬
‫ّ‬ ‫دون أن متلك ال مالاً وال مجالاً ‪،‬‬
‫فأتصيد هلا األخطاء‪ ،‬أعبرّ عن اشمئزازي منها أمام احلاج الذي‬
‫ّ‬ ‫قادرة‪ ،‬أ ّما أنا‬
‫أعلم جيدً ا أنّه يعرف كل يشء‪ ،‬ألقي بسؤال عابر عليه يف زيارة من زياراته التي‬
‫تزوجه؟‬
‫أصبحت قليلة‪ ،‬ملاذا ال ّ‬
‫ينظر إيل مطولاً ‪ ،‬فأتظاهر بتقليم أظافري‪ ،‬أنسحب بدعوى العمل وأعرف أنّه‬
‫بدأ جد ًيا يف التفكري‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫توضيب العروس كان يو ًما مثال ًيا‪ ،‬أرى جيجي من خلف النافذة تكاد يغشى‬
‫عليها‪ ،‬تقف بصعوبة يف انتظار خروج العروس من احلماّ م املغريب وارتداء‬
‫يتم توضيب العروس هنا‪ ،‬نزعت‬ ‫فستاهنا لتزينها بيدهيا‪ ،‬كان اقرتاحي ً‬
‫أيضا أن ّ‬
‫شعر جسدها شعرة شعرة‪ ،‬وكأنّني أعدّ ها لنفيس‪ ،‬كانت مجيلة ورقيقة وبنت‬
‫ّ‬
‫ستفك سحر جيجي عن الباشا؟‬ ‫ناس‪ ،‬فهل‬

‫شهران عىل العرس والعروسان يف جولة خارج البالد‪ ،‬جيجي تزداد نحولاً ‪،‬‬
‫ضيقة جديدة كل يوم‪،‬‬
‫تصبغ شعرها يف األسبوع مرتني‪ ،‬ترتدي مالبس ّ‬
‫بأي شكل‪ ،‬حماوالهتا تثري ضحكي لك ّني أحاول‬
‫املسكينة حتاول حماكاة زوجته ّ‬
‫التسامي عن ذلك‪.‬‬
‫عدوا‪ ،‬إنهّ ا حرشة حقرية أمت ّنى دهسها‪ّ ،‬‬
‫أفكر ملاذا‬ ‫أحبوا أعداءكم‪ ،‬لك ّنها ليست ً‬
‫ّ‬
‫واضحا‪..‬‬
‫ً‬ ‫ردا‬
‫أكرهها إىل هذا احلدّ ؟ لك ّني ال أجد ًّ‬

‫لكن نادية كانت متلك الر ّد‪ ،‬تغيظني بأفكارها السخيفة‪ ،‬تقول إنني أكره‬
‫ّ‬
‫جيجي؛ ألنني أحبها‪ ،‬أنظر إليها بغل وأطالبها بأن خترس‪ ،‬الفتاة احلمقاء التي‬
‫أتى هبا الباشا يوم عودته من شهر العسل حتاول التفلسف‪ ،‬الزلت أذكر يوم أن‬
‫دخل هبا ع ّ‬
‫يل ليطلب مني مساعدهتا عىل التعرف عىل املكان‪.‬‬

‫‪- -‬ع ّلميها شيئًا‪ ،‬ربام تصبح مساعدتك‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫أنظر إليها بدهشة‪ ،‬نحيلة‪ ،‬سمراء‪ ،‬بعينني سوداوين‪ ،‬شعرها أسود ّ‬
‫يغطي‬
‫اجلبني‪ ،‬أالحظ أنهّ ا تعرج قليللاً ‪ ،‬يرق قلبي ّ‬
‫ألي نقص يف سيدة أمامي‪ ،‬أشعر‬
‫أنهّ ا بشكل أو بآخر خمتلفة‪ ،‬إنهّ ا بائسة بام فيه الكفاية لتواجه العامل كأنثى‪ ،‬فام‬
‫بالك لو كانت ذات ع ّلة‪.‬‬

‫تعتاد الفتاة عىل املكان برسعة‪ ،‬جتلس بجواري للتحدّ ث‪ ،‬تفتح قلبها يل‪ ،‬كتومة‬
‫لك ّنها تلقي باملعلومة شيئًا فشيئًا‪ ،‬تسألني فجأة‪ِ ،‬‬
‫أنت مسيحية؟‬

‫ألتفت نحوها بعنف‪ ،‬من أخربك؟ أسأهلا بحدّ ة‪.‬‬

‫‪- -‬ال أحد‪ ،‬أنا أعرف‪..‬‬

‫وأجز عىل أسناين‪ ،‬أقرتب منها وصويت اخلشن يبدو أكثر إرعا ًبا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫أعقد حاجبي‬
‫ِ‬
‫إياك أن ختربي أحدً ا‪.‬‬

‫هتز رأسها بخوف وجتري خارج الغرفة‪ ،‬لك ّنها تعود يف املساء لتجلس بجواري‬
‫ّ‬
‫وتربت عىل كتفي‪.‬‬
‫احلمقاء تصعب ع ّ‬
‫يل‪ ،‬أبتسم هلا وأكمل السيجارة‪ ،‬أخربها بام قاله يل احلج ذات‬
‫يوم بعيد‪ ،‬فتهز رأسها يف فهم‪.‬‬

‫‪- -‬هذه حقيقة‪ ،‬يف الصعيد ال تكشف النساء رأسهن يف حضور‬


‫مسيحية‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫‪- -‬أنت صعيدية؟‬

‫هتز رأسها بال توضيح إن كان نعم أم ال‪ ،‬أريد أن أسأهلا ما الذي أتى بك إىل هنا‬
‫ّ‬
‫لك ّني أجتاهلها قليللاً ‪ ،‬ال يشء يمكن أن يثري دهشتي بعد كل هذا العمر‪.‬‬

‫تنتظر م ّني أن أنطق لك ّني أكتفي بالتدخني يف صمت‪..‬‬

‫‪- -‬أنا هاربة‪.‬‬

‫عيني هبدوء لتكمل‪:‬‬


‫أرفع هلا َّ‬
‫‪- -‬هربت من أهيل‪..‬‬

‫تقوهلا وتنظر إ َّيل يف عيني بقوة وثبات‪ ،‬نظرهتا تبدو وكأنهّ ا تكشف عن روحي‪،‬‬
‫وكأنهّ ا تقرأين‪ ،‬وكأنهّ ا تراين أخرج من باب بيتي يف اإلسكندرية ذات يوم مل أعد‬
‫أذكره‪.‬‬

‫هل كانت هي أنا أم كنت أنا هي وقتها‪...‬؟‬

‫يل منذ أن تركت منزل أهيل‪ ،‬كم مىض ع ّ‬


‫يل منذ أن تركت‬ ‫كم مىض من الوقت ع ّ‬

‫اإلسكندرية؟ أحلم بزيارهتا ولو مرة‪ ،‬أحلم برؤية أهيل ّ‬


‫مرة واحدة‪ ،‬بعد كل‬
‫هذه السنني‪.‬‬

‫علمت أن أمي ماتت بعد مغادريت بشهور‪ ،‬كنت أشتاق لرؤية سارة بشكل حاد‬

‫‪44‬‬
‫دفعني للسفر فجأة والعودة إىل اإلسكندرية بعد شهور من عميل يف كوافري‬
‫الباشا‪ ،‬أدخل الفندق بخطوات مرسعة؛ بح ًثا عنها خلف البيانو لكني ال أرى‬
‫أحدً ا‪.‬‬

‫أسأل اجلميع عن سارة‪ ،‬لكنها تبدو وكأهنا اختفت‪ ،‬وكأهنا مل توجد من البداية‪،‬‬
‫خيربونني أهنا توقفت عن املجيء بعد غيايب‪ ،‬وأهنم مل يروها ثانية وال يعلمون‬
‫هلا سكنًا‪.‬‬

‫لكني أعرف من أحد العاملني الذي يسكن بمقربة من بيتي القديم عن موت‬
‫أمي وهجرة أيب‪.‬‬

‫ال تقوى قدماي عىل محيل‪ ،‬لكنني ال أبكي‪ ،‬توقفت عن البكاء من وقتها‪ ،‬كنت‬
‫جافة متا ًما من الداخل‪ ،‬أشعر بجسمي ً‬
‫فارغا‪ ،‬وكأن أعضاءه ذبلت‪ ،‬جفت ثم‬
‫هتشمت‪.‬‬

‫أعوض هذا الفراغ باألكل‪ ،‬ال أتوقف عن األكل والتدخني إال للعمل‪ ،‬ثم‬
‫أعود إليهام من جديد‪.‬‬

‫أحتول من الفتاة النحيفة الفزعة‪ ،‬إىل السيدة البدينة غري املكرتثة بيشء‪ ،‬التي‬
‫جتلس يف غرفتها تتأمل ما حيدث باخلارج وتدخن‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫تأتيني نادية يو ًما وهي متسك هاتفها‪ ،‬تريني صورة عارضة أمريكية حسناء‬
‫وتشري إىل وجهها‪.‬‬

‫‪- -‬تشبهك متا ًما يا منى‪ ،‬لو كنت أنحف‪..‬‬

‫كانت الفتاة نسخة مني منذ عرشين عا ًما‪ ،‬أقرأ اسمها باإلنجليزية‬

‫‪- -‬متلك اسم عائلتي نفسه‪..‬‬

‫كنت أرتاب يف يشء‪ ،‬أطلب من نادية أن حتمل يل تطبيق إنستجرام عىل هاتفي‪،‬‬
‫تنشأ يل حسا ًبا وتأتيني بصفحة العارضة من جديد‪.‬‬

‫أجتول بني صورها حتى أراه‪..‬‬

‫أيب‪ ،‬كان هو بنفسه‪ ،‬مل يتغيرّ وكأن يو ًما مل يمر‪ ،‬ربام بدا أكثر امتال ًء ألصبح‬
‫نسخته أكثر‪ ،‬حيتضن ابنته وصبي آخر يبدو أنه شقيقها‪ ،‬بجوارمها سيدة شقراء‬
‫ال بد أهنا أمهام‪ ،‬أقرأ املكتوب حتت الصورة‪ ،‬كانت هتنئه بعيد ميالده‪ ،‬وتصفه‬
‫بأنه أفضل أب يف العامل‪.‬‬

‫أفضل أب يف العامل‪..‬‬

‫يقف بجوار ولديه يف الصورة ناس ًيا أخرى قد مر عليها السنني‪ ،‬أبدو وكأنني‬
‫أنا أمه وليس العكس فأغلق اهلاتف بغل‪..‬‬

‫‪46‬‬
‫أقرر الذهاب إىل اإلسكندرية يوم عطلتي‪ ،‬تقرتح نادية أن ترافقني‪ ،‬أوافق ألنّني‬
‫ّ‬
‫ال أعرف طريق ّ‬
‫أي يشء اآلن‪ ،‬مل أخرج خارج نطاق الشارع والشوارع املحيطة‬
‫مرات ُتعدّ عىل أصابع اليدين‪ ،‬أميش بصعوبة وأهلث طيلة الوقت‪ ،‬سيدة‬
‫إال ّ‬
‫سمينة وفتاة عرجاء تسريان جن ًبا إىل جنب يف ثنائي يثري الشفقة‪ ،‬لك ّنها تفعل‬
‫كل يشء بنفسها‪ ،‬حتجز لنا تذاكر القطار‪ ،‬وتناولني زجاجة املياه‪ ،‬وتساعدين يف‬
‫النزول والصعود‪ ،‬ومتيل عىل سائق التاكيس عنوان الفندق‪.‬‬

‫ً‬
‫كورنيشا‪،‬‬ ‫كان كل يشء خمتل ًفا‪ ،‬العامرات القبيحة حتيط بالكورنيش‪ ،‬الذي مل يعد‬
‫أتساءل أين البحر؟ ال أراه من املتاريس املحيطة به‪ ،‬أسوار عالية‪ ،‬وكازينوهات‬
‫تغلق الرؤية‪ .‬يضحك السائق ع ّ‬
‫يل ويقول أغلقوا علينا الرؤية‪ ،‬ال بديل عن‬
‫الدفع لرؤية البحر‪..‬‬

‫أشعر بالصدمة‪ ،‬أكاد أشم رائحته‪ ،‬أملحه بني احلني واآلخر عرب فرجات ضيقة‪،‬‬
‫العامرات مائلة عىل بعضها ً‬
‫بعضا‪ ،‬والشوارع مزدمحة رغم أنّنا الزلنا بعيدين‬
‫عن موسم الصيف‪.‬‬

‫أمليه عنوان الفندق‪ ،‬املكان الوحيد الذي أعرفه‪ ،‬ال يوجد فرصة ملقابلة سارة‬
‫وال حتى شخص ممن أعرفهم‪ ،‬لكني كنت أشعر باحلاجة للذهاب ورؤية‬
‫املكان‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫قدمي إليه‪ ،‬اللويب مل يعد كام‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫متهالكا‪ ،‬أجر‬ ‫وصلنا إىل الفندق‪ ،‬الذي بات عتي ًقا‬
‫كان‪ ،‬مل يعد هناك بيانو وال لوحات وال يشء‪ ،‬الكاونرت املزخرف بات خش ًبا‬
‫متآكللاً يقف خلفه شاب أسمر بشعر مشعث‪ ،‬ينتظر مني أن أنطق‪ ،‬مل يعد‬
‫هناك سياح وال نزالء‪ ،‬بعض الشباب املزعجني خيرجون ويدخلون بصخب‪،‬‬
‫ينقطون ما ًء ورمالاً عىل السجادة البالية‪.‬‬

‫أشعر بالفزع وأمتسك بنادية‪ ،‬أشدها لنخرج مرسعني‪.‬‬


‫أي مكان لنتناول شيئًا‪ ،‬ختتار مقهى مقابل ّ‬
‫يطل عىل‬ ‫أطلب منها أن نجلس يف ّ‬
‫البحر من نوافذه العريضة‪ ،‬الشباب والفتيات جيلسون لتدخني الشيشة ذكية‬
‫الرائحة‪ ،‬أطلب واحدة يل مع الشاي‪ ،‬وتطلب نادية عصري فواكه‪.‬‬

‫أدخن يف صمت وأنا أتأ ّمل البحر الذي مل أعد أعرفه‪ ،‬أتذكر سارة والبيانو‬
‫والورود احلمراء‪ ،‬أتذكر زمنًا آخر كان كل يشء خمتل ًفا‪.‬‬

‫معا رغم أنف‬


‫ريا اليوم‪ ،‬كنا لنبقى ً‬
‫لو كانت ال تزال هنا‪ ،‬لكان الوضع اختلف كث ً‬
‫اجلميع‪ ،‬كنت سأحافظ عىل شكيل‪ ،‬وصحتي وحيايت‪ ،‬مل أكن سأخاف شيئًا‪ ،‬مل‬
‫أكن ألهرب وأتركها‪ ،‬أنا جبانة‪ ،‬ختليت عنها وعن نفيس وعن اإلسكندرية‪.‬‬

‫أتناول هاتفي وأدخل عىل حساب أيب عىل إنستجرام‪ ،‬أيب العزيز الذي صار‬
‫ٍ‬
‫أعامل ثر ًيا وشه ً‬
‫ريا يف أمريكا‪ ،‬أجري عىل اسمه بعض البحث بمساعدة‬ ‫َ‬
‫رجل‬

‫‪48‬‬
‫تزوج عارضة أزياء روسية منذ عرشين عا ًما‪ ،‬وأنا‪ ،‬منى املسكينة‬
‫نادية‪ ،‬أعلم أنه ّ‬
‫الوحيدة التي تزن ‪ 90‬كيلو غرا ًما‪ ،‬متلك ً‬
‫أخا وأخ ًتا‪ ،‬عارضة أزياء ذهبية‪ ،‬تظهر‬
‫عىل أغلفة املجالت العاملية‪ ،‬وتسري عىل م ّنصات أسابيع املوضة‪ ،‬وتتفاخر‬
‫بأصوهلا العربية‪.‬‬

‫أيب الذي اتهّ مني بأنّني ممسوسة‪ ،‬يتفاخر بشهرة ابنته التي ظهرت عارية‬
‫عىل غالف جملتني من قبل‪ ،‬يصحبها إىل املهرجانات العاملية‪ ،‬يرتدي أفخم‬
‫البذالت‪ ،‬لقد نيس عامله اآلخر يف اإلسكندرية‪ ،‬نيس ابنته التي ّقيدها بحبل‬
‫غليظ يف الرسير عندما رآها مع امرأة‪ ،‬نيس أنّه أراد إرساهلا إىل الدير‪ ،‬نساها‬
‫بمجرد أن خطا بقدميه إىل ٍ‬
‫أرض جديدة‪.‬‬

‫املال والشهرة غيرّ ا أفكاره‪ ،‬فهل يتذكرين؟‬

‫أفتح يوتيوب ألراه يتحدّ ث مع مذيعة مثلية شهرية وحمبوبة بكل لطف‪ ،‬حيتضنها‬
‫يف بداية اللقاء وهنايته‪ ،‬حيكي عن رحلة كفاحه وفخره بابنته‪ ،‬وعن أصوله‬
‫العربية التي ال تعني كونه غري منفتح‪ ،‬إنّه يدافع عن حقوق مجيع البرش‪.‬‬

‫وامللونني ومجيع‬
‫ّ‬ ‫تعرض املذيعة صوره يف مظاهرات للدفاع عن حقوق املثليني‬

‫الديانات‪ ،‬ماذا لو تواصلت مع الصحافة األمريكية وقصصت عليهم ّ‬


‫قصتي‬
‫معك؟ ربام يعرضوا ع ّ‬
‫يل مليون دوالر أو أكثر‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫سبق صحفي‪ :‬ابنة امللياردير املرصي أبو عارضة األزياء الذهبية تعود لتكشف‬
‫أرساره‪..‬‬

‫بغل‪ ،‬تنظر إ َّيل نادية نظرهتا املليئة بالشفقة‪ ،‬فأسأهلا بحدّ ة‬


‫وأدخن ّ‬
‫ّ‬ ‫أغلق هاتفي‬
‫عماّ تنظر؟ تقول‪« :‬شايك برد»‪.‬‬

‫أرشبه برسعة وأطلب منها أن نعود أدراجنا‪ ،‬تعرض ع ّ‬


‫يل املبيت معي هذه الليلة‬
‫الس ّلم أمام باب الشقة املغلق‪ ،‬أعطيها‬
‫لك ّني أرفض متا ًما‪ ،‬أهتالك جالسة عىل ُّ‬
‫املفاتيح لتفتح يل الباب حتى أمتالك أنفايس‪ ،‬تفتحه وتيضء األنوار‪ ،‬وتعود يل‬
‫لتسندين حتى غرفتي‪ ،‬تساعدين يف تغيري مالبيس والرقاد عىل الرسير‪.‬‬

‫أنظر إىل السقف املش ّقق‪ ،‬أمامي صورة العذرا تنظر إ ّيل بوداعة كام تفعل دو ًما‪،‬‬
‫جتلس نادية بجواري مستكينة‪.‬‬

‫‪- -‬أعد لك بعض الطعام؟‬

‫‪- -‬ما جدوى احلياة يا نادية؟‬

‫‪- -‬ليس هلا جدوى سوى أن نعيشها‪.‬‬

‫‪- -‬أنا وحيدة متا ًما‪ ،‬ال عائلة يل وال ولد‪ ،‬ولن يكون‪ ،‬أمت ّنى أن أختفي‪،‬‬
‫أذوب‪ ،‬أتالشى‪ ،‬هل يمكن أن يتالشى املرء إال باملوت؟‬

‫‪50‬‬
‫تقرتب مني نادية‪ ،‬أرجتف رغماً عني‪ّ ،‬‬
‫تثبت نظراهتا ع ّ‬
‫يل‪ ،‬كانت نظراهتا حنونة‪،‬‬
‫عاطفية‪ّ ،‬‬
‫ذكرتني بنظرات سارة‪ ،‬متسح عىل شعري‪ ،‬حتيط بذراعيها خرصي‪،‬‬
‫هتم باحتضاين‪ ،‬أنتفض‪..‬‬
‫تقرب وجهها من وجهي‪ ،‬تبدو وكأنهّ ا ّ‬
‫ّ‬
‫‪- -‬ماذا تفعلني؟‬

‫تتمسك يب أكثر‪ ،‬ال أقاوم‪،‬‬


‫ّ‬ ‫ال ترد‪ ،‬حتتضني بقوة‪ ،‬أحاول دفعها عني لك ّنها‬
‫أشعر برغبة يف البكاء‪ ،‬أبكي فعلاً ‪ ،‬تربت عىل ظهري هبدوء‪ ،‬أشعر باخل ّفة‪،‬‬
‫أتعجب ممّا كنت‬ ‫أحترر قليلاً ‪ ،‬ختتفي ّ‬
‫الغصة يف حلقي‪ ،‬أشعر ببعض الراحة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫أفكر فيه منذ دقائق‪.‬‬

‫كيف جاءت هذه الفكرة إىل رأيس ولمِ َ؟‬

‫بالتحسن‪ ،‬تنهض وتبتسم يف وجهي‪ ،‬لك ّنها‬


‫ّ‬ ‫تربت نادية عىل ظهري أكثر فأشعر‬
‫مروعة‪.‬‬
‫عمرا‪ ،‬عيناها حزينتان وكأنهّ ا شهدت خربة ّ‬
‫تبدو وكأنهّ ا أكرب ً‬
‫خترج من احلجرة بعرجتها اخلفيفة‪ ،‬أسمع صوت باب الشقة ينغلق خلفها‪،‬‬
‫ختتفي نادية من أمام عيني‪ ،‬لك ّني مل أكن أعرف أنهّ ا ستختفي قري ًبا إىل األبد‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫جيجي‬

‫قوة‪..‬‬
‫عندما يزداد عدد كارهيك اعلم أنّك ازددت ّ‬
‫أقف أمام البانيو املمتلئ باملاء والدماء وال أرمش‪ ،‬ترسم منى الصليب عىل‬
‫صدرها فأنظر إليها بدهشة‪ ،‬مل أعلم أنهّ ا مسيحية سوى يوم ماتت نادية‪..‬‬

‫هترع إىل خارج الغرفة‪ ،‬بالتأكيد جتري لتهاتف الباشا أو الرشطة ال أعرف‪،‬‬
‫أبلع ريقي بصعوبة‪ ،‬ما الذي فعلته احلمقاء؟ وملاذا؟ تأيت إىل عقيل عرشات‬
‫السيناريوهات‪ ،‬ال يشء يربطها سوى الباشا‪ ،‬الباشا الذي خرجت منى‬
‫ٍ‬
‫غرفة نصف مظلمة مع جثة فال أشعر باخلوف‪،‬‬ ‫ملهاتفته‪ ،‬أنتبه إىل أنّني واقفة يف‬
‫وكأن محلاً قد انزاح عن كاهيل‪ ،‬تتوقف‬
‫ّ‬ ‫عىل العكس‪ ،‬أشعر ببعض الراحة‪،‬‬
‫طيبة جدً ا وظريفة‪ ،‬حتى إنّني يمكن أن‬
‫كراهيتي للفتاة بعد موهتا‪ ،‬تبدو اآلن ّ‬

‫‪53‬‬
‫أو ّدعها‪ ،‬أقرتب أكثر من جسد الفتاة اهلزيل النائم فارغ الدم‪ ،‬شعرها األسود‬
‫الفاحم مبعثر عىل جبينها‪ ،‬أمللمه للخلف برفق‪ ،‬ينخلع يف يدي فأجتمد‪ ،‬أمسك‬
‫الباروكة التي خرجت يف يدي‪ ،‬الفتاة كانت ترتدي باروكة طيلة الوقت!‬

‫التعرف عىل الشعر املستعار أبدً ا‪ّ ،‬‬


‫أركبه وأهذبه‬ ‫كيف خدعتني وأنا ال أخطئ ّ‬
‫وأصنعه أحيا ًنا‪.‬‬

‫شعرا قص ً‬
‫ريا بخصل‬ ‫عيني جتحظان أكثر‪ ،‬أنظر إىل رأسها فأجد ً‬
‫الصدمة جتعل َّ‬
‫غري متساوية‪ ،‬أشقر كالح‪ ،‬خشن للغاية‪ ،‬أكاد أملسه ألسمع رصخة منى التي‬
‫تدوي يف املكان‪ ،‬فترت ّدد وكأنهّ ا عويل عفريت‪ ،‬تطلب مني أ ّ‬
‫ال أملس‬ ‫عادت ّ‬
‫شيئًا‪.‬‬

‫حاجبي‪ ،‬أحاول تثبيت الباروكة عىل رأس الفتاة عىل عجل‪،‬‬


‫ّ‬ ‫أنظر إليها وأرفع‬
‫وأغادر الغرفة‪ ،‬ألتركها مع عزيزهتا قليللاً ‪ ،‬ربام تصاب بسكتة قلبية وأنتهي‬
‫منها هي األخرى‪.‬‬

‫أدخل إىل مكتب الباشا املقابل وأجلس عىل مقعده‪ ،‬أشعل سيجارة فأالحظ‬
‫أن أصابعي ترتعش بقوة‪ ،‬لست ثابتة اجلنان إىل هذا احلد‪ ،‬مشاهدة جثة فارغة‬
‫الدماء ليست شيئًا لطي ًفا وال معتا ًدا بالتأكيد‪.‬‬

‫ألتقط هاتفي وأضغط عىل اسم الباشا‪ ،‬ير ّد بعصبية‪ ،‬وأسمع صوت اهلواء‬

‫‪54‬‬
‫يسب ويلعن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يص ّفر من جانبيه‪ ،‬يقود سيارته كام هو واضح برسعة الربق‪،‬‬
‫ويقول‪ :‬يوم أسود من بدايته‪.‬‬
‫ِ‬
‫فلتأت الرشطة وتفحص‬ ‫أطالبه باهلدوء‪ ،‬حالة انتحار واضحة وال يشء يعنينا‪،‬‬
‫املكان وننتهي برسعة‪.‬‬

‫‪- -‬انتحار أو قتل‪ ،‬يف احلالتني فضيحة للسنرت‪.‬‬

‫وتتحول إىل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أفكر يف كلامته قليلاً ‪ ،‬يف مدينة صغرية مثل هذه الشائعات تكرب‬
‫أي شخص‪ ،‬أطمئنه ببعض الكلامت وأغلق اهلاتف قبل‬
‫فضائح ضخمة تبلع ّ‬
‫شخصا يف قيادته املجنونة‪..‬‬
‫ً‬ ‫أن يصدم‬
‫أعود بظهري للخلف ّ‬
‫وأفكر‪ ،‬مل أحب هذه الفتاة قط‪ ،‬ومن البداية أسأل الباشا‬
‫يتصبب عر ًقا ويشيح بعينيه‪ ،‬أسأله‪ :‬ما‬
‫ّ‬ ‫عنها فيتمتم ببعض الكلامت اخلائبة‪،‬‬
‫الذي تفعله وهي ال متلك خربة وال موهبة؟ تسري يف املكان بال عمل‪ ،‬تنام فيه‬

‫وتأكل وترشب وتتقاىض رات ًبا‪ ،‬أنظر إليه بشك ّ‬


‫فيقبلني يف جبيني ويقول‪ :‬فعل‬
‫خري‪ ،‬غلبانة ويتيمة وليس هلا أحد‪..‬‬

‫تعرج نادية بقدمها اليمنى‪ ،‬ربام شلل أطفال قديم أو حادث ال أهتم‪ّ ،‬‬
‫لكن هذا‬
‫ال يمنع أنهّ ا مجيلة‪ ،‬مخرية دقيقة املالمح‪ ،‬يتساقط شعرها األسود الناعم عىل‬
‫املكحلتني بال كحل‪ ،‬فتبدو كلوحة ف ّنية‪ ،‬ترتدي مالبس‬
‫ّ‬ ‫الضيق وعينيها‬
‫جبينها ّ‬

‫‪55‬‬
‫ضيقة بشكل مستفز‪ ،‬بلوزة بيضاء عىل توب أسود طويل الكمني وجيب ضيق‪،‬‬

‫جيدة طيلة الوقت‪ ،‬ال أعرف من أين تأيت هبا‪ ،‬لكن كل‬
‫مالبسها تبدو يف حالة ّ‬
‫هذا ال يمنع ّ‬
‫أن قوامها مثايل‪.‬‬

‫حيمر وجهه غض ًبا‬


‫أنظر إىل الباشا من جديد وأسأله رصاحة إن كانت تعجبه؟ ّ‬
‫مرة‪.‬‬ ‫وال ير ّد ع ّ‬
‫يل‪ ،‬يرتكني أحرتق ويذهب يف كل ّ‬
‫أسمع صوت الصخب من اخلارج فأعلم ّ‬
‫أن الرشطة وصلت ومعها باقي‬

‫حتول‪ ،‬عرشات األشخاص‬


‫العاملني يف الكوافري‪ ،‬أخرج برسعة فأرى العامل قد ّ‬
‫يدخلون من الباب الزجاجي الضخم‪ ،‬الباشا يقف يف املنتصف مع ضابطني‪،‬‬

‫منى وبضعة فتيات يقفن عىل جنب يبكني أو يتظاهرن بالبكاء‪ ،‬واألوالد يبدون‬

‫مصدومني بشكل واضح‪.‬‬

‫من قال ّ‬
‫إن وجود ُجثّة يف حمل العمل أمر لطيف‪..‬‬

‫يناديني الباشا فأرسع بالنزول‪ ،‬يسألني الضابط عماّ حدث فأخربه بأنّني وصلت‬

‫معا‪ ،‬صعدت‬
‫هذا الصباح ألجد منى تنتظر عىل الباب‪ ،‬فتحت املحل ودخلنا ً‬
‫معها لتساعدين يف يشء‪ ،‬لنجد الفتاة ملقاة غارقة يف دمها‪..‬‬

‫يكمل متابعة املوقف دون أن ينظر إ َّيل‪ ،‬أتبادل النظر أنا والباشا وأبدأ يف التوتر‪،‬‬

‫‪56‬‬
‫خيربين أنّني حتماً سأديل بأقوايل يف حتقيق رسمي‪ ،‬أنا ومنى وباقي العاملني ً‬
‫قطعا‪،‬‬
‫فأهز رأيس صامتة‪..‬‬

‫يبتعد صاعدً ا للدور الثاين‪ ،‬فأقف جوار الباشا‪ ،‬يتحسس قميصه بح ًثا عن علبة‬
‫سجائره فال جيدها‪ ،‬أناوله واحدة وأشعلها له‪ ،‬يشكرين بتمتمة بال معنى‪.‬‬

‫اليوم ينتهي بصعوبة بالغة‪ ،‬يغلقون املحل ويرتكون اجلميع يذهب مع أخذ‬
‫مجيعا للتحقيق‪.‬‬
‫األسامء والعناوين واألرقام‪ ،‬سيستدعوننا ً‬
‫أعلم ّ‬
‫أن املوضوع سينتهي بتقرير الطبيب الرشعي‪ ،‬أنا متأكدة ّ‬
‫أن الفتاة انتحرت‪،‬‬

‫أي يشء يدل عىل العنف‪ ،‬أنا ّأول من رآها‪ ،‬الفتاة ّ‬


‫قررت إهناء حياهتا‬ ‫ال يوجد ّ‬
‫قررت ترك جثتها لنا للعقاب ربام‪..‬‬
‫لك ّنها ّ‬
‫تكره الباشا؟ ربام‪ ،‬تكره اجلميع؟ إال منى‪ ،‬فلامذا اختارت غرفتها بالذات؟ ال‬
‫أعلم‪..‬‬

‫أغادر املكان وأتجّ ه إىل سياريت الصغرية املركونة عىل بعد شارعني‪ ،‬أجلس فيها‬
‫صامتة‪ ،‬أتناول العباءة والنقاب الصغري من عىل املقعد اخللفي‪ ،‬أرتدهيام عىل‬
‫عجل قبل العودة إىل املنزل‪.‬‬

‫ال يمكن أبدً ا أن يعرفني أحد خارج الكوافري‪ ،‬السبب بسيط جدً ا؛ ألنيّ أكون‬
‫امرأة أخرى بالفعل خارجه‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫واألم لطفلني مثاليني‪ ،‬أسري مع عائلتي يف السوبر‬
‫ّ‬ ‫الزوجة اللطيفة‬
‫نجالء‪ّ ،‬‬
‫ماركت‪ ،‬أختفي خلف نقاب قصري عىل عباية سوداء‪ ،‬أرى زبونة أضع‬

‫هلا مكياج مناسباهتا طيلة الوقت‪ ،‬نتحدّ ث ً‬


‫معا بالساعات‪ ،‬نتبادل األخبار‬
‫متر هنا من جانبي وال تنظر إيل حتى‪.‬‬
‫واحلكايات والنامئم داخل الكوافري‪ّ ،‬‬

‫قوة االختفاء‪ّ ،‬‬


‫قوة عزل نفسك عن‬ ‫قوة‪ّ ،‬‬
‫تتالمس كتفانا فال هتتم‪ ،‬النقاب ّ‬
‫قوة إسكات زوجي ً‬
‫أيضا‪ ،‬الذي يرى عميل حرا ًما بام فيه‬ ‫اآلخرين وقتام تريد‪ّ ،‬‬
‫الكفاية‪ ،‬فأطمئنه به معه‪ ،‬وأفعل ما حيلو يل بالداخل‪.‬‬

‫أهبط من سياريت يف الصباح الباكر‪ ،‬ال أحد يراين وأنا أنزل النقاب من عىل‬
‫رأيس‪ّ ،‬‬
‫أفك أزرار العباية املفتوحة‪ ،‬حتتها أرتدي مالبس خمتلفة‪ ،‬أحرص عىل‬
‫رشائها بتوقيع ماركات عاملية‪ ،‬عرب اإلنرتنت أو من القاهرة التي أذهب إليها‬
‫خصيصا‪ ،‬وحدي أو مع الباشا‪..‬‬
‫ً‬

‫شخصيتي‪ ،‬ووحده يمكن أن يناديني كيفام شاء‪ ،‬نجالء‪ ،‬جيجي‪،‬‬


‫َّ‬ ‫وحده يعرف‬
‫أي يشء يريده‪ ،‬أنا موجودة دائماً من أجله‪.‬‬
‫ّ‬

‫الضيقة‪ ،‬أسفلها‬
‫ّ‬ ‫أدخل الكوافري فيلتفت إ ّيل اجلميع‪ ،‬أرتدي الفساتني القصرية‬
‫الليجينج الضيق شبه الشفاف‪ ،‬واألحذية عالية الرقبة‪ ،‬شعري الطويل املصبوغ‬

‫بأي لون أريده يف ّ‬


‫أي وقت أريده‪ ،‬يتاميل عىل ظهري‪ ،‬ال ألتفت ألحد‪ ،‬أدخل‬ ‫ّ‬

‫‪58‬‬
‫فورا إىل مكتب الباشا‪ ،‬أجلس عليه ألدير املكان حتى يأيت‪ ،‬جيجي حمل الباشا‬
‫ً‬
‫أي وقت‪ ،‬ومتلك سلطاته نفسها‪..‬‬
‫يف ّ‬

‫أشعل سيجارة وأطلب فنجا ًنا من القهوة‪ ،‬تأتيني به نادية‪.‬‬

‫أي خدمة‬
‫أنظر إليها من أعىل ألسفل‪ ،‬تنظر إيل وتتظاهر باالحرتام‪ ،‬تقول‪ّ :‬‬
‫تانية؟ فأشيح بنظري عنها دون كلمة‪ ،‬ربام كانت تكرهني مثل اجلميع‪ ،‬لك ّنها‬

‫ال ختافني‪ ،‬ال ختاف أحدً ا؛ وهلذا أكرهها أكثر‪.‬‬

‫متمهلة‪ ،‬أملح عىل طرف بلوزهتا املرفوعة‬


‫ّ‬ ‫تعيد محل الصينية الفارغة وتغادر‬

‫ألعىل بعد االنحناء اسماً لعالمة أزياء معروفة‪ ،‬أعرف ّ‬


‫مقرها الفخم يف أحد‬

‫أكرب املوالت يف القاهرة‪ ،‬من أين أتت نادية بمثلها؟‬

‫أنادهيا جمدّ ًدا فتستدير بال كلمة‪ ،‬أسأهلا من أين أتت هبذه البلوزة‪ ،‬فتجيب بأنهّ ا‬

‫ملكها‪.‬‬

‫‪- -‬اجليس يا نادية نتحدّ ث قليلاً ‪..‬‬

‫جتلس الفتاة أمامي برت ّدد‪ ،‬تبتسم فتظهر أسناهنا البارزة لألمام قليلاً ‪ ،‬مجيلة‬

‫بالتأكيد‪ ،‬مغرية‪ ،‬ربام كنت عىل حق‪ ،‬الباشا ال يقاوم العامالت البائسات‬

‫القادمات من البالد الصغرية البعيدة بالتأكيد‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫نارا‪ ،‬أبتسم هلا ابتسامة مرعبة‪،‬‬
‫بعيني تكادان خترجان ً‬
‫َّ‬ ‫حترقني الفكرة وأشعر‬
‫أملح الفزع يف عينيها فأعيد‪:‬‬

‫‪- -‬من أين أتيت هبا؟ ال أريد كذ ًبا‪.‬‬

‫‪- -‬إنهّ ا ملكي‪.‬‬

‫‪- -‬ثمنها يساوي مرتبك ملدة عامني‪.‬‬

‫‪- -‬مل أش ِ‬
‫رتها من مرتبي‪ ،‬أملك مالبس مجيلة ً‬
‫أيضا يا مدام جيجي‪.‬‬

‫تنهض فجأة فأخبط عىل مكتبي بعنف‪:‬‬

‫‪- -‬جمنونة أنت؟ من قال لك أن تنهيض‪.‬‬

‫تعيد اجللوس ووجنتاها حممرتان‪ ،‬أحاول تلطيف اجلو‪ ،‬والتحدث بلهجة‬


‫أخرى ربام جتيب‪ ،‬اسأهلا عن حاجتها للعمل مادامت متلك مثل هذه املالبس‬
‫الثمينة‪ ،‬لكنها تلزم الصمت للحظات‪ ،‬ثم تتمتم‪:‬‬

‫‪- -‬ظروف‪.‬‬

‫املقربني م ّني‪،‬‬
‫أطلب منها رشح الظروف‪ ،‬أغرهيا بالكثري‪ ،‬وبأنهّ ا ستصبح من ّ‬
‫تعرف بالطبع ما الذي يعنيه هذا‪..‬‬

‫‪- -‬أنا ال أحتدّ ث مع أحد من األساس‪..‬‬

‫‪60‬‬
‫حينقني ردها‪ ،‬فأشري هلا بأن تنهض وأشعل سيجارة‪ ،‬أراقبها وهي هترع إىل غرفة‬
‫معا طيلة الوقت‪.‬‬
‫منى‪ ،‬تلتفت إليها وختتفي من أمام النافذة‪ ،‬جيلسان ً‬
‫تؤسس منى حل ًفا ع ّ‬
‫يل إذن‪..‬‬

‫تنظر إيل من نافذهتا الصغرية من غرفتها التي أراها تتط ّلع منها طيلة الوقت‪،‬‬
‫تراقبني وتراقب اجلميع وحتسب ّ‬
‫أن ال أحد يراها‪ ،‬أعرف أنهّ ا تعرف كل يشء‪،‬‬
‫لك ّني ال أهتم هبا وال بام تعرفه‪ ،‬أقرتب من اجلدار الزجاجي الذي ّ‬
‫يطل بأكمله‬

‫عىل اجلناج املقابل وعىل الطابق األريض‪ ،‬أبتسم ّ‬


‫بتوحش فتلتقي أعيننا‪ ،‬ال‬
‫ختافني ولك ّنها تكرهني بالتأكيد‪ ،‬الشعور متبادل‪ ،‬ثعبان يعيش بجواري وال‬
‫مجيعا إىل‬
‫حممية من احلاج‪ ،‬سبقتنا ً‬
‫أستطيع سحقه بكعب حذائي‪ .‬مشكلتها أنهّ ا ّ‬
‫بائسا‪ ،‬وستظل‬
‫ريا ً‬‫هنا‪ ،‬سبقت الباشا نفسه‪ ،‬تعمل مع أبيه منذ كان حملاً صغ ً‬
‫حتى لو غادر اجلميع‪.‬‬

‫ريا‪ ،‬أستقبله بابتسامة ال تظهر إال من أجله‪.‬‬


‫يصل الباشا أخ ً‬
‫يسألني عن األحوال فأجيبه‪ ،‬أريه قائمة احلجوزات‪ ،‬العرائس الاليت يردنه‬
‫بالذات‪ ،‬يمسك بيدي من أسفل الدفرت فأتظاهر باخلجل‪..‬‬

‫‪- -‬وحشتيني يا جيجي‪.‬‬

‫فورا‪ ،‬وأعرف ما يريد من نظرة‪ ،‬أخربه بأنّني سأنتظره بعد ساعتني‬


‫أفهم كالمه ً‬

‫‪61‬‬
‫يف مكاننا املعتاد‪ ،‬شخصيتي األخرى يلزمها بيت آخر بالتأكيد‪ ،‬أفعل فيه ما‬
‫أريد‪ ،‬لكن مع الباشا فقط‪.‬‬

‫أنا لست خائنة‪ ،‬أنا عاشقة‪ ،‬هناك فرق كبري بني األمرين‪.‬‬

‫بدأت العمل مع الباشا منذ كنت يف السابعة عرشة‪ ،‬كان هو يكربين ببضعة‬
‫أعوام‪ ،‬لك ّنه يملك كل اإلمكانيات التي جتعله ينتقل بمحل والده الصغري إىل‬
‫هذا املركز الضخم الذي نافس مراكز القاهرة واإلسكندرية‪.‬‬

‫أحببته من ّأول نظرة‪ ،‬يقف كالبدر املنري بجوار والده‪ ،‬شعره ال ُب ّني يتساقط عىل‬
‫عينيه الزرقاوين فأشعر بالدوار‪.‬‬

‫يسألني أبوه عن حمل إقامتي فأخربه باسم قريتي النائية التي ال يعرفها أحد‪،‬‬
‫عيني إليه‬
‫َّ‬ ‫فيحمر وجهي‪ ،‬أرفع‬
‫ّ‬ ‫ساخرا‬
‫ً‬ ‫اسمها املضحك جيعل الباشا يبتسم‬
‫فيصمت‪ ،‬يتأملني بنظرات فاحصة‪ ،‬يركز نظره عىل كل جزء من جسمي‪ ،‬أشعر‬
‫وكأنّه خيلع ع ّني مالبيس بنظراته‪ ،‬فأتعمد إظهار مفاتني أكثر‪ ،‬أطيل رقبتي‬
‫وفخذي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وأستند عىل ساق واحدة وأثني األخرى لريى منحنيات خرصي‬
‫أتظاهر بإسقاط حقيبتي وأنحني اللتقاطها فتهبط فتحة البلوزة الواسعة التي‬
‫ال خيفيها احلجاب الضيق املعقود عىل رقبتي بقوة‪.‬‬

‫أهنض وأنظر يف وجهه فأعلم أنّني أعجبه‪ ،‬يعيد والده سؤايل عن متى يمكنني‬

‫‪62‬‬
‫يتحمل‪ ،‬فأخربه‬
‫ّ‬ ‫البدء؟ فالفتاة التي تتولىّ ّ‬
‫كي الشعر ستذهب قري ًبا واملوسم ال‬
‫من اليوم لو أراد‪..‬‬

‫خيربين أن أبدأ من الغد‪ ،‬وأن أرتدي رسوالاً أسود‪ّ ،‬‬


‫وأي يشء باللون األمحر من‬
‫فوق‪ ،‬احلجاب جيب أن يكون أمحر ً‬
‫أيضا أو أخلعه بالداخل‪ ،‬فأبتسم وأومئ‬
‫برأيس يف احرتام‪..‬‬

‫أغادر املحل وأنا أكاد أرقص من الفرحة‪ ،‬العمل مل يكن اليشء الذي يسعدين‪،‬‬
‫أي كوافري يف املدينة يتم ّناين منذ أن تركت املحل السابق‪ ،‬لك ّنه الباشا‬ ‫أعلم ّ‬
‫أن ّ‬
‫الصغري الذي جيعلني سعيدة هبذا الشكل‪..‬‬

‫أعمل إىل جواره كل يوم‪ ،‬يع ّلمني ترسحيات جديدة حديثة‪ ،‬يلتصق يب من‬
‫اخللف وهو يمسك يدي ويع ّلمني كيفية استخدام املوس احلاد يف ّ‬
‫جز أطراف‬
‫الشعر بميل‪ ،‬يعلمني كيفية تنظيف األدوات‪ ،‬ووضعها يف حقيبة خاصة بكل‬
‫عامل‪ ،‬يضع أمامي كمية ضخمة من املجالت األجنبية لتوضيح طرق تطبيق‬
‫الصبغة واملكياج واملاسكات بأحدث التقنيات‪.‬‬

‫لقد كان هنماً للتجديد‪ ،‬يملك طموحات ال تكفي هلذه املدينة الصغرية‪ ،‬وال‬
‫محا بالعرائس والفتيات بسببه هو فقط‬
‫لذلك املحل الصغري‪ ،‬الذي بات مزد ً‬
‫اآلن‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫يقف إىل جواري يف املمر اجلانبي بخارج املحل ويقول‪ :‬ال بد من البحث عن‬
‫مكان أوسع‪ ،‬املمر جتلس فيه العرائس عىل كرايس خشبية غري مرحية‪ ،‬يتأ ّففن‬

‫محام واسع‪ ،‬وال يوجد مكان مريح ّ‬


‫مكيف للجلوس‪ ،‬فأوافقه‬ ‫من عدم وجود ّ‬
‫برأيس دون كالم‪.‬‬

‫يقرتب م ّني ويلتصق يب‪ ،‬مرفقه يالمس صدري متا ًما‪ّ ،‬‬
‫يتعمد حتريكه فوقه ألعىل‬
‫وأسفل فأتظاهر باخلجل‪ ،‬أبتعد خطوتني فينظر إيل ويبتسم بسخرية‪ ،‬يعود إىل‬
‫الداخل وأحاول أنا إيقاف قلبي من الدق هبذا الصوت املرتفع‪.‬‬

‫هو ً‬
‫أيضا ّ‬
‫حيبني‪ ،‬لكن ليس لدرجة الزواج‪ ،‬أنا يف النهاية جمرد عاملة‪ ،‬كوافرية‬
‫قادمة من قرية ال تظهر عىل اخلريطة‪ ،‬لعوب كام يقول ع ّني أبوه‪ ،‬يكرهني ً‬
‫أيضا‪،‬‬
‫اجلميع يكرهون جيجي كام أطلقت عىل نفيس داخل الكوافري ما عدا الباشا‪،‬‬
‫هو فقط من يتحدّ ث معي طيلة اليوم‪ ،‬يع ّلمني باستمرار‪ ،‬وأنا رسيعة التع ّلم‪،‬‬
‫يراقبه أبوه وهو غري ٍ‬
‫راض لك ّنه يصمت‪ ،‬فأنا يف النهاية ملك يمينه‪ ،‬يعتقد أنّني‬
‫ملكية خاصة‪ ،‬فال مانع من أن يلهو هبا ابنه قليلاً ‪..‬‬

‫أتعمد اإلبطاء يف عميل‪ ،‬أكوي الشعر ببطء شديد لدرجة تثري غضب الزبونة‪،‬‬
‫ّ‬
‫حتى ّ‬
‫يمل والده ويذهب‪ ،‬يذهب اجلميع ونبقى أنا وهو‪ ،‬وقتها ّ‬
‫أحتول ألرسع‬

‫كوافرية يف العامل‪ ،‬أهني اخلصالت املتب ّقية يف دقيقتني‪ ،‬وأدفعها ً‬


‫دفعا للذهاب‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫يغلق علينا باب املحل الصغري املنزوي‪ ،‬ننفصل عن العامل اخلارجي‪ ،‬أنسى‬
‫يقبلني دائماً يف جبهتي أولاً ‪ ،‬ويعيد ذلك وهو يمسك بك ّف َّي‬
‫كل يشء إال هو‪ّ ،‬‬
‫أضمه بقوة‪.‬‬
‫شفتي‪ ،‬عنقي‪ّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫فأذوب‪ ،‬هيبط إىل أنفي‪،‬‬

‫ركبتاي ترتعشان فيدفعني إىل احلائط‪ ،‬النريان تشتعل يف أذينَّ‪.‬‬


‫ً‬
‫حفاظا‬ ‫أنتفض وهو يعترص صدري‪ ،‬يفعل كل ما يريد إال شيئًا واحدً ا؛ ليس‬
‫ع ّ‬
‫يل بقدر ما هو حفاظ عىل نفسه‪.‬‬

‫ينتهي م ّني فيفلتني من بني يديه‪ّ ،‬‬


‫أتكوم أنا عىل األرض لدقائق‪ ،‬أهلث فيخربين‬
‫بأن أرسع يف تعديل مالبيس‪.‬‬

‫يعيد فتح الباب ورفع اجلرار‪ ،‬ويرتكه دقيقتني قبل أن يسمح يل بالذهاب‪.‬‬

‫شفتي آثار تقبيله‪ ،‬فأخرج‬


‫َّ‬ ‫أسري وحدي يف الشارع املظلم‪ ،‬أخاف أن تظهر عىل‬
‫املتوجه إىل قريتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫احلمرة من احلقيبة وأنا يف امليكروباص املتهالك‬

‫أضع طبقتني حتى ال يظهر االزرقاق أسفلهام‪ ،‬أعدّ ل احلجاب وأضيقه عىل‬
‫مقدمة ذقني‪.‬‬

‫ريا إىل البيت‪ ،‬أس ّلم أمي كل ما حصلت عليه من بقشيش إال قليلاً ‪.‬‬
‫أصل أخ ً‬
‫الطريقة الوحيدة حتى ال متنعني من العمل‪ ،‬وحتى ال متنعني من الباشا‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫مرة‪ ،‬تصدمني‬
‫أول ّ‬
‫املركز الكبري قارب عىل االنتهاء‪ ،‬يأخذين الباشا ألشاهده ّ‬
‫املساحة الضخمة‪ ،‬وديكوراته األقرب للبيوت القديمة «سلملك» أريض‬
‫تتوسطه نافورة نحاسية‪ ،‬و«حرملك» حماط بشبابيك من األرابيسك والقناديل‬
‫ّ‬
‫امل ّلونة الزجاجية‪ ،‬كام أشاهدها يف املسلسالت التارخيية‪.‬‬

‫فن املكياج يف القاهرة‪ ،‬سأسافر معه‬


‫قرر إحلاقي بدورة تدرييبة عىل ّ‬
‫خيربين أنّه ّ‬
‫ملدة ثالثة أيام‪ ،‬وع ّ‬
‫يل أن أستعد لذلك‪.‬‬

‫أمي عن فكرة السفر‪ ،‬ال أصدق‬ ‫يضع ً‬


‫مبلغا من املال يف يدي كاف ًيا إلسكات ّ‬
‫نفيس من السعادة‪ ،‬ثالثة أيام مع الباشا‪ ،‬وحدنا‪ ،‬دون اختباء‪ ،‬أو اضطرار‬
‫احلب وقو ًفا‪ ،‬أطري يف أحالمي‬
‫ّ‬ ‫للخروج وحدي دونه‪ ،‬دون اضطرار ملامرسة‬
‫وأستعدّ كالعروس من أجل هذه األيام الثالثة‪.‬‬

‫أنفقت كل ما أملك عىل رشاء املالبس الداخلية‪ :‬قمصان نوم زاهية ّ‬


‫أتذكرها‬
‫اآلن وأضحك‪ ،‬قروية ساذجة حتلم برحلة خيالية مع األمري‪.‬‬

‫أرتّب حقيبتي باهتامم‪ ،‬أغادر املنزل وأنا أطري من السعادة‪ ،‬الرحلة الشاقة يف‬

‫الضيق حتى املوقف أصبحت أمجل حلظات حيايت‪ّ ،‬‬


‫أتلهف للوصول‬ ‫األتوبيس ّ‬
‫واالنطالق يف الرحلة املنتظرة‪..‬‬

‫ريا ينتظر‪ ،‬وكل العاملني يصعدونه‬


‫أتوبيسا صغ ً‬
‫ً‬ ‫أقرتب من الكوافري ألجد‬

‫‪66‬‬
‫ببطء وكسل‪ ،‬ت ّتضح الرؤية يف عقيل‪ ،‬وأفهم أنهّ ا ليست إجازيت اخليالية مع أمري‬
‫أحالمي؛ إنهّ ا جمرد رحلة عمل مع باقي عماّ ل الكوافري‪ ،‬وأشخاص ال أعرفهم‪،‬‬
‫كلهم يف طريقهم للتدريب من أجل املركز الكبري‪.‬‬

‫لقد كنت واحدة ضمن ‪ 10‬فتيات وفتيان‪ ،‬حتى ُمنى مل يرتكها‪ ،‬جتلس‬
‫بجواري دون أن تدير وجهها يل‪ ،‬تنظر إىل مظهري وحقيبتي الضخمة وتبتسم‬
‫بسخرية‪..‬‬

‫‪- -‬هل كنت تعتقدين أنهّ ا رحلة استجامم؟‬

‫أشيح بوجهي عنها‪ ،‬تقبع طيلة الوقت يف الطابق الثاين الصغري من املحل اخلاص‬
‫بتجهيز العرائس‪ ،‬إنهّ ا موجودة منذ األبد‪ ،‬الباشا يعاملها باحرتام وكأنهّ ا أ ّمه‪،‬‬
‫رسي‪ ،‬ثم أستبعد الفكرة‪،‬‬ ‫واحلج ال يطيق االستغناء عنها؛ ربام ترافقه‪ّ ،‬‬
‫أفكر يف ّ‬
‫هي غري مغرية بمرافقة حتى اجلثث اهلامدة‪..‬‬

‫ثالثة أيام مل َأر فيها طيف الباشا‪ ،‬دروس مم ّلة ومشاهدة طرق تطبيق املكياج‬
‫متميزة فطر ًيا يف التنفيذ العميل‪ ،‬كنت‬
‫ّ‬ ‫عىل الشاشات الكبرية‪ ،‬لك ّني كنت‬
‫الوحيدة التي جتيد رسم العينني ومزج األلوان‪ ،‬أملك خربة طبيعية وذو ًقا راق ًيا‬
‫ال يناسب بيئتي‪ ،‬لك ّنه يناسب شخصيتي‪ ،‬أعرف أنّني سأكون خبرية التجميل‬
‫الوحيدة‪ ،‬ويروقني هذا اللقب‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫جاهزا باإلضاءة‬
‫ً‬ ‫بعد العودة‪ ،‬يستدعيني احلج إىل املركز‪ ،‬أدخل إليه ألجده‬

‫واملرايا وكل املعدّ ات‪ّ ،‬‬


‫أحترك كاملسحورة إىل الطابق العلوي‪ ،‬إىل املكتب الكبري‬
‫ذي اجلدران الزجاجية‪ ،‬وراءه جيلس احلج‪ ،‬وبجواره جيلس الباشا مسرتخ ًيا‪،‬‬
‫ويسارا دون أن ينظر إيل‪.‬‬
‫ً‬ ‫الدوار يمينًا‬
‫يتحرك بمقعده ّ‬
‫ّ‬
‫يقول أبوه إنّني سأكون خبرية التجميل اجلديدة يف املركز‪ ،‬ملوهبتي الطبيعية يف‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ويتعهد بإحضار املجالت‬


‫ّ‬ ‫يرص عىل أن أستمر يف التع ّلم ومتابعة الطرق اجلديدة‪،‬‬
‫ّ‬
‫األجنبية واملستحرضات األصلية إىل املركز‪ ،‬متا ًما كام ل ّقنه ابنه منذ قليل‪.‬‬

‫أهز برأيس موافقة وأتظاهر بالسعادة‪ ،‬أنظر بطرف عيني إليه فال ينظر إيل‪.‬‬
‫ّ‬

‫أغادر املكان وأعود إىل املحل‪ ،‬أكمل عميل بنصف عقل وبال قلب‪.‬‬

‫أ ّما زبونتي األوىل‪ ،‬فكانت العروس املختارة‪..‬‬

‫عروس الباشا جتلس حتت يدي بمالحمها األرستقراطية‪ ،‬فتاة نحيفة بال يشء‬
‫مميز سوى مالبسها الغالية‪ ،‬وآثار العز التي تظهر عىل هؤالء املدلالت الاليت‬
‫ّ‬
‫أعرفهن جيدً ا‪ ،‬خرجيات املدارس األجنبية‪ ،‬الاليت ينطقن القاف كا ًفا‪ ،‬أحفظهن‬
‫وأكرههن طوال عمري‪ ،‬أتعامل معهن يف الكوافري كل يوم‪ ،‬وأحب جتاهلهن‬
‫ومعاملتهن بسخف؛ انتقا ًما‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫أعلم أنهّ ا ابنة واحدة من أغنى عائالت القاهرة‪ ،‬درست يف جامعة الباشا‬
‫أجز رقبتها‬
‫أختيل أنّني ّ‬
‫نفسها ذات االسم االجنبي الفخم‪ ،‬ال أهتم بالتفاصيل‪ّ ،‬‬
‫بدلاً من وضع كريم األساس عليها‪ ،‬أرسم عينيها بد ّقة‪ ،‬لكني أمت ّنى لو نزعتهام‬
‫من حمجرهيام‪ ،‬إهنا زبونتي األوىل‪ ،‬امتحاين األول‪ ،‬وأنا ال أنوي الرسوب‪..‬‬

‫أضع هلا الرموش املستعارة‪ ،‬أنتهي من ظالل اجلفون‪ ،‬وأمحر اخلدود‪ ،‬وأقوم‬
‫بحيلة صغرية تع ّلمتها لتكبري الشفتني قبل وضع احلمرة‪ ،‬فتنظر لنفسها غري‬
‫مصدّ قة‪ ،‬تقول‪« :‬مل أتو ّقع أن تفعيل هذا»‪ ،‬كانت تريد ّ‬
‫التزين يف القاهرة لدى‬
‫وصمم عىل رأيه‪..‬‬
‫ّ‬ ‫أكرب الكوافريات‪ ،‬لكن الباشا رفض‬

‫متدّ يدها إىل حقيبتها امللقاة بجوار حذائها الريايض الذي استبدلته بحذاء‬
‫يساوي راتبي ملدة عامني‪ ،‬وخترج منها مائة جنيه‪ ،‬تضعها يف يدي وتبتسم‪،‬‬
‫فأهز برأيس دون صوت‪.‬‬
‫تقول‪ :‬مرييس‪ّ ،‬‬

‫حلقي حمتقن‪ ،‬ويداي متخشبتان عىل الورقة الكبرية‪ ،‬الورقة التي صارت‬
‫البقشيش الرسمي يل‪ ،‬أ ّية عروس تعلم أنهّ ا إن لن تضعها يف يدي قبل املكياج‪،‬‬
‫ريا بعد ذلك عند رؤية صور زفافها‪ ،‬ال أحد يستطيع اجلدال‪ ،‬مائة‬
‫فستندم كث ً‬
‫جنيه يل‪ ،‬ومخسون ملساعديت أقتسمها معها بعد ذلك‪.‬‬

‫لقد تع ّلمت الكثري من دروس املكياج التي أحلقني هبا الباشا‪ ،‬تع ّلمت أن أضع‬

‫‪69‬‬
‫طبقات من األلوان عىل وجهي حتى تيبس‪ ،‬مل أعد قابلة لالبتسام‪ ،‬أو البكاء‪،‬‬

‫مل أعد نجالء التي أتت من القرية املتطرفة‪ ،‬أنا اآلن جيجي‪ ،‬التي متلك ش ّقة‬

‫صغرية يف الشارع املجاور للمركز‪ ،‬ال تنطق أ ّمي مادام أمنحها النقود التي‬

‫تتحول كل يوم بشكل ملحوظ‪.‬‬


‫ّ‬ ‫تريدها‪ ،‬جيجي التي‬

‫تع ّلمت رشاء املالبس التي ترتدهيا املدام‪ ،‬تصفيف شعري كام تص ّففه‪ ،‬تع ّلمت‬

‫كيف آخذ ما أريد وقتام أريد‪..‬‬

‫يقرتب م ّني الباشا ليلة زفافه‪ ،‬نظرة ذنب صغرية تلوح يف عينيه‪ ،‬فأتص ّنع‬

‫ابتسامة‪ ،‬أقول مربوك بثقة‪ ،‬فينظر إيل بدهشة‪ ،‬هذه اللحظة حاسمة يل‪ ،‬عليه‬

‫أهتم‪ ،‬هذا فقط ما سيجعله يعود ويبقى‪ ،‬وهذا بالضبط ما‬


‫أن يعلم أنّني ال ّ‬
‫حدث‪.‬‬

‫يرتك الباشا عروسه اجلديدة ليتس ّلل إىل شقتي ليلاً ‪ ،‬تبدو هي كطيف ومهي‬

‫غري حقيقي‪ ،‬بعيدة ع ّني متا ًما‪ ،‬أنسى مالحمها التي حدّ دهتا بيدي يو ًما‪ ،‬تذوب‬

‫رسا يف الكوافري‪.‬‬ ‫وتتالشى وال أهتم‪ ،‬لكن ال يشء ّ‬


‫يظل ً‬

‫بالتأكيد هي من تك ّلمت أولاً ‪ ،‬احلديث خيرج من غرفة ُمنى املظلمة ككهف‬

‫اعرتاف ليرسي يف مجيع األماكن‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫ينظر إيل العاملون نظرات سخرية‪ ،‬تتهامس الفتيات يف غرفتهن الصغرية‬

‫اجلانبية‪ ،‬أقتحم املكان عليهن فيصمتن ويغيرّ ن املوضوع‪.‬‬

‫حتى املدام أصبحت تأيت كل يوم‪ ،‬جتلس مع الباشا يف مكتبه ألحرتق أنا‬

‫باخلارج‪.‬‬

‫أجلس عىل مقعدي العايل أمام العروس‪ ،‬أضع هلا املكياج بغلٍ حتى أكاد أثقب‬

‫وجهها‪ ،‬ترصخ فأعتذر وأحاول الرتكيز‪ ،‬أنتهي فال أطيق البقاء‪ ،‬أغادر املكان‬

‫وأهرع إىل شقتي‪.‬‬

‫جيدً ا أنّه سيأيت‪ ،‬لن يرتكني هكذا‬


‫أجلس آلكل أظافري يف انتظاره‪ ،‬أعرف ّ‬
‫ويذهب‪ ،‬يأيت فعلاً ‪ ،‬جيلس بجواري وحيتضني ّ‬
‫بقوة‪ ،‬أريد أن أبكي لك ّني أمنع‬
‫نفيس بكل طاقتي‪ ،‬هيمس يف أذين‪ ،‬أعتقد أن عليك البحث عن زوج يف أقرب‬

‫وقت‪ ،‬هذه هي الطريقة املثالية إليقاف الكالم‪ ،‬وإلبعاد األنظار‪ ،‬وللعودة كام‬

‫ُك ّنا‪ ،‬مع زيادة عائق واحد‪..‬‬

‫زوج‪..‬‬

‫أنا ال أخون زوجي مع الباشا‪ ،‬أنا أخون الباشا مع زوجي‪ ،‬وهو خيونني مع‬

‫لكن العامل ال يسمح لنا بذلك‪.‬‬


‫حقي وأنا من حقه‪ّ ،‬‬
‫زوجته‪ ،‬إنّه من ّ‬

‫‪71‬‬
‫أختار رجلاً من قريتي‪ ،‬مثال ًيا كام أريد‪ ،‬فق ً‬
‫ريا‪ ،‬ضعيف‪ ،‬ال يعمل‪ ،‬وأعرض عليه‬
‫الزواج فيوافق‪ ،‬وهو يعتقد أنّني أحضرّ له ًّ‬
‫فخا‪.‬‬

‫تتزوج مجيلة القرية التي أصبحت «هانم» تقود السيارة منه؟ أخربه‬
‫كيف ّ‬
‫أنّني أريد السرت‪ّ ،‬‬
‫وأن عميل يقودين للجنون‪ ،‬أز ّين العرائس وال أتز ّين ألحد‪،‬‬
‫يتظاهر باالقتناع بكالمي‪ ،‬نتزوج بصمت دون أن أتز ّين له وال لغريه‪ ،‬اختار‬
‫شقة بعيدة متا ًما عن الكوافري‪ ،‬شقة إجيار عادية‪ ،‬أفرشها أنا بكل يشء‪ ،‬يغدق‬

‫عيل الباشا باألموال ألكمل جتهيزايت‪ ،‬يرتاح ضمريه هبذا الشكل‪ ،‬وأنا ّ‬
‫أحب أن‬
‫طبعا‪.‬‬
‫أريح ضمريه ً‬
‫أريح ضمريه بعذاب العيش مع رجل ال أطيق رائحته‪ ،‬يقبل ع ّ‬
‫يل فأكتم أنفايس‪،‬‬
‫استمتاعا فيكمل‬
‫ً‬ ‫أجز عىل أسناين‬
‫أغمض عيني وأكتم رصخايت‪ ،‬يعتقد هو أنّني ّ‬

‫حريتي‪ّ ،‬‬
‫وحرية‬ ‫ما يفعله بفخر‪ ،‬هذا القذر مل يمنحني سوى يشء واحد فقط‪ّ ،‬‬
‫أرشع جسدي كاملاً للباشا‪ ،‬مل يعد ّ‬
‫حب املراهقني يكفينا‪ ،‬كان هذا الشخص‬ ‫أن ّ‬
‫رضيبة حتمية دفعتها ألكون له كاملة بال نقص‪ ،‬جمرد بوابة عبور إىل حيث أنتمي‬
‫فعلاً ‪ ،‬حضن الباشا فقط وال يشء غريه‪..‬‬

‫لكن احلياة ال تسري هكذا ببساطة‪..‬‬


‫ّ‬
‫حيارصين زوجي باالهتامات‪ ،‬ينظر إيل وخيرج الرشر من عينيه‪ ،‬ال يزال عاطلاً‬

‫‪72‬‬
‫ال يملك قوته‪ ،‬أمنحه املال عن طيب خاطر مقابل أن يصمت قليلاً ‪ ،‬يطالب‬
‫باملزيد‪ ،‬يريد افتتاح مرشوع خاص به‪ ،‬حمل اتصاالت وبيع كروت الشحن‬
‫ّ‬
‫سأفكر يف األمر‪ ،‬أبيع‬ ‫املنترشة يف هذه األيام انتشار النار يف اهلشيم‪ ،‬أخربه بأنّني‬
‫جز ًءا من الذهب الذي أشرتيته من عرقي‪.‬‬

‫يمنحني الباشا ما ينقص مقابل أن يتخ ّلص من صداع تلميحايت ّ‬


‫بأن زوجي‬
‫سيفضحنا‪ ،‬وبأنّه يعلم‪ّ ،‬‬
‫وبأن فكرته كانت أسوأ ما حدث يل‪.‬‬

‫يفتتح مرشوعه اخلاص الذي ّ‬


‫أرص عىل كتابته باسمي‪ ،‬وللغرابة ينجح‪ ،‬املحل‬
‫يصبح اثنني فثالثة‪ ،‬أشاركه يف كل يشء فال يقدر عىل االعرتاض‪ ،‬يزيد من‬
‫انتشارا‪ ،‬يطلق زوجي حليته‬
‫ً‬ ‫أقسام صيانة اهلواتف املحمولة التي كانت تزداد‬
‫يتحول لشخص آخر‪ ،‬هادئ م ّتزن ذي أتباع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويطالبني بااللتزام‪،‬‬

‫الضعيف مل يعد ضعي ًفا‪ ،‬يشرتي املزيد من املحالت دون رشاكتي‪ ،‬يعقد هو‬
‫صفقات جديدة مع جتار املدينة‪ ،‬يصبح اسماً معرو ًفا‪ ،‬يطالبني بالبقاء يف املنزل‪،‬‬
‫يتأ ّفف من مهنتي وخيربين أنهّ ا حرام‪ ،‬ال يمكن أن ُي ْع ِلم أتباعه ومريديه ّ‬
‫بأن‬
‫زوجته «كوافرية»‪ ،‬أوافق عىل ارتداء النقاب مقابل تركي يف عميل‪ ،‬يقبل‬
‫طرا‪ ،‬ربام ازدادت قوته لك ّني رشيكته األساسية التي ال يمكن اخلالص‬ ‫ّ‬
‫مض ً‬
‫مشمئزا كلام عدت مساء‪ ،‬لك ّنه حيافظ‬
‫ً‬ ‫يقربني‪ ،‬ينظر إيل‬
‫منها‪ ،‬احلمد هلل مل يعد ّ‬

‫‪73‬‬
‫عىل صورته أمام اجلميع كزوج سيد‪ ،‬أعلم أنّه يفعل ما يريد مع من يريد‪ ،‬ربام‬
‫تزوج واحدة أو اثنتني‪ ،‬ال يعنيني األمر يف يشء‪ ،‬ال يعنيني متا ًما‪.‬‬
‫ّ‬
‫أستمر يف حيايت التي اخرتهتا‪ ،‬عشيقة الباشا وذراعه اليمنى‪ ،‬ال تزال األحاديث‬
‫ّ‬
‫مستمرة عن عالقتنا لك ّني ال أهتم‪ ،‬لقد خت ّلصت من أفكاري وضعفي بمجرد‬
‫بأي شخص يتحدّ ث ما دام الكالم داخل حدود‬
‫ارتدائي هلذا الساتر‪ ،‬ال أهتم ّ‬
‫هذا الكوافري‪ ،‬ما دام الكالم عن جيجي وليس نجالء‪ ،‬أنا أخرى هنا‪ ،‬أخرى‬
‫وقوة‪ ،‬وليذهب اجلميع إىل اجلحيم‪.‬‬
‫أكثر ثقة ّ‬
‫أدخل كل صباح إىل الكوافري فيصمت اجلميع يف أثناء مروري‪.‬‬

‫أمر عىل مجيع الغرف‪ ،‬أتابع سري‬


‫أجلس يف مكتب الباشا حلني وصوله‪ ،‬ثم ّ‬
‫العمل‪ ،‬أتابع احلسابات‪ ،‬والنظافة‪ ،‬وشكاوى العميالت‪ ،‬ال ّ‬
‫متر كبرية أو‬
‫صغرية قبل املرور ع ّ‬
‫يل‪.‬‬
‫الباشا يثق ّ‬
‫يف ثقة عمياء‪ ،‬وأنا ال أريد سوى راحته‪.‬‬

‫ال أريد سوى هذه الساعات التي يقضيها معي كل أسبوع أو أسبوعني‪.‬‬

‫أحلم بأن أظهر معه أمام الناس‪ ،‬أحلم بميعاد رومانيس جيمع بيننا‪ ،‬أحلم بأن‬
‫أتز ّين له‪ ،‬أرتدي فستا ًنا مذهلاً ‪ ،‬وأن يصحبني ملطعم فاخر‪ ،‬ويفتح يل باب‬
‫السيارة بنفسه‪ ،‬أتأ ّبط ذراعه وأسري بجواره‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫أحلم بأن أرقص معه عىل موسيقى حاملة‪ ،‬وأن أطعمه بيدي ويطعمني بيده‪،‬‬
‫أحالم محقاء ملراهقة صغرية‪ ،‬لك ّنها كل آمايل يف احلياة‪.‬‬

‫مرة عاجلة نامرس فيها احلب برسعة السارقني‪ ،‬فيبتسم‬


‫أصارحه هبا بعد ّ‬
‫بسخرية وهو يرتدي مالبسه‪..‬‬

‫ذكريني أن نرقص أولاً ‪ ،‬كله من وقتك يا جيجي‪.‬‬


‫املرة القادمة ّ‬
‫‪ّ --‬‬
‫والغصة متأل حلقي‪ ،‬يغادر الشقة دون أن ينظر إيل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أبتسم جماملة‬

‫أستلقي مكاين حمدّ قة يف السقف املظلم بال أفكار‪َ ،‬م ْن يف هذا العامل متلك حياة‬
‫أكثر زي ًفا ِم ّني؟ أشعر بأنّني موصومة‪ ،‬غارقة يف مستنقع ال أستطيع اخلروج‬
‫منه‪.‬‬

‫أغوص فيه أكثر‪ ،‬الوحل يطبق عىل صدري‪ ،‬فال أستطيع التنفس‪.‬‬

‫أهنض من مكاين وأعيد ارتداء مالبيس‪ ،‬أضع النقاب عىل رأيس‪ ،‬العامل من‬
‫حويل يكتيس بالسواد‪.‬‬

‫جرا إىل الشارع‪ ،‬أركب سياريت للعودة إىل الكوافري‪.‬‬


‫قدمي ًّ‬
‫َّ‬ ‫أج ُّر‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫يتصل‪،‬ال أرد‪ ،‬أنتظر حتى أتوقف عىل مقربة من املحل‪،‬‬ ‫ّيرن هاتفي‪ ،‬زوجي‬
‫أنزع النقاب من عىل رأيس بعنف‪ ،‬شعري يتناثر حول وجهي‪ ،‬أمسك باهلاتف‬
‫يل سائلاً ‪ ،‬أين أنت؟‬
‫ألتصل أنا به‪ ،‬يرد ع ّ‬

‫‪75‬‬
‫‪- -‬يف العمل أين سأكون؟‬

‫‪- -‬هاتفك مغلق منذ ساعتني‪.‬‬

‫مرة؟‬ ‫‪- -‬كنت أعمل وماذا يف ذلك؟ هل هذه ّ‬


‫أول ّ‬

‫‪- -‬ال هذه ليست ّأول ّ‬


‫مرة يا هانم‪ ،‬متى تعودين؟‬

‫‪- -‬ليس هذا من شأنك مثلاً ؟‬


‫‪- -‬فع ً‬
‫ال؟ إذن ال تعودي‪ ،‬وال تفكري يف األوالد ألنّك لو فعلت‬
‫ِ‬
‫وأنت تعلمني كيف‪ ،‬لن أسمح هلم بالعيش‬ ‫سأفضحك يا نجالء‪،‬‬
‫مع زانية‪ ،‬ورقتك ستصلك إىل‪ ،‬إىل العمل‪.‬‬

‫ساقي ال تقويان عىل محيل‪.‬‬


‫َّ‬ ‫يغلق اهلاتف يف وجهي‪ ،‬أشعر أن‬
‫يفكر الباشا يف حياته ومنظره االجتامعي‪ ،‬بينام مل ّ‬
‫أفكر أنا يف‬ ‫طوال الوقت ّ‬

‫أوالدي قط‪.‬‬

‫أندفع وراء مشاعري كأ ّية مراهقة‪ ،‬أسمع وأطيع‪ ،‬ال أحلم سوى بقبلة ورقصة‬
‫وحضن وكلمة حلوة‪ ،‬واآلن ماذا؟‬

‫أنظر يف مرآة السيارة‪ ،‬يفزعني شكل وجهي املنتفخ‪ ،‬الكحل يبدو كبقع سوداء‬
‫عيني‪ ،‬أحاول مسحه باملنديل وتشذيب خصالت شعري بأصابعي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫حول‬
‫شفتي‪ ،‬أعدل مالبيس وأجته إىل املركز‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واضع بعض احلمرة عىل‬

‫‪76‬‬
‫أسأل عن الباشا لتجيبني الفتاة اجلالسة عىل الكاشري بأنّه مل يأت بعد‪ .‬أطلب‬

‫منها أن تبعث يل نادية بالقهوة عىل مكتبه‪.‬‬

‫أجلس وحدي وأنا آخذ أنفايس بصعوبة‪.‬‬

‫هل سيساعدين الباشا؟ أو ما الذي سأفعله وحدي؟ وحدي متا ًما يف مواجهة‬

‫عصبة كاملة‪ :‬طريق املحاكم الطويل‪ ،‬ونفوذ زوجي الذي ال يمكن ر ّده‪ ،‬حتى‬

‫أوالدي لو سألتهم سيختارونه هو بال تر ّدد‪.‬‬

‫أي يشء‪ ،‬وال نصف فرصة‪.‬‬


‫ال فرصة يل يف ّ‬

‫أفتح درج املكتب أمامي‪ ،‬أتأ ّمل علبة الرتامادول الكبرية التي يمنح منها الباشا‬

‫للعامل حباية أو اثنتني عىل سبيل املكافأة من حني آلخر‪ ،‬ماذا سيحدث لو ابتلعتها‬
‫كاملة‪ ،‬أعتقد أنّني ً‬
‫أيضا أستحق املكافأة‪ ،‬أبتسم للفكرة التي تعجبني‪..‬‬

‫تدخل نادية وتضع القهوة أمامي بصمت ثم تستدير مبتعدة‪..‬‬

‫ال أرفع عيني إليها‪ ،‬لك ّنها تتو ّقف فجأة ثم تعود إيل‪ ،‬وتقرتب م ّني كث ً‬
‫ريا فأنتبه‬

‫هلا‪ ،‬جتثو عىل ركبتيها أمامي‪ ،‬أنظر إليها بتساؤل‪.‬‬

‫وجنتي الساخنتني‪.‬‬
‫َّ‬ ‫تضع يدهيا عىل‬

‫‪- -‬ماذا؟‬

‫‪77‬‬
‫‪- -‬إنهّ م ال يتخ ّلون أبدً ا عن الزوجة من أجل العشيقة‪.‬‬

‫‪- -‬ماذا تقولني؟! هل جننت؟‬

‫هتتز‪ ،‬تنظر إيل بعطف غريب‪.‬‬


‫أرصخ فيها بعنف لك ّنها ال ّ‬

‫هذه الفتاة املخبولة تنظر إيل أنا بشفقة‪.‬‬

‫‪- -‬أنت لست مز ّيفة ولست موصومة‪ ،‬أنت قادرة عىل اخلروج من هذا‬
‫املستنقع‪.‬‬

‫‪- -‬اخرجي بره‪ ،‬حسابك سيكون عس ً‬


‫ريا عندما يصل الباشا‪.‬‬

‫كنت أنتفض غض ًبا وخو ًفا‪ ،‬جيجي التي خياف منها اجلميع تفلح فتاة محقاء‬
‫وعرجاء يف إخافتها‪.‬‬

‫وكأنهّ ا تقرأ أفكاري‪َ ،‬م ْن أخربها بكل هذا‪ ،‬هل يتحدّ ث معها الباشا‪ ،‬هل‬
‫أخربها بام بيننا‪َ ،‬م ْن تكون هي بالنسبة له؟ ستكون األيام القادمة سوداء عىل‬
‫رأس اجلميع‪.‬‬

‫عيني فقط‪ ،‬الغريب أنّني أصمت‪،‬‬


‫بوجنتي‪ ،‬تنظر يف ّ‬
‫ّ‬ ‫لك ّنها ترص عىل التشبث‬
‫وجنتي أكثر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أشعر بالرغبة يف البكاء‪ ،‬أبكي فعلاً ‪ ،‬فرتبت عىل‬

‫الغريب أنني أشعر ببعض التحسن‪ ،‬الفتاة غريبة فعلاً ‪ ،‬أشعر ببعض اخلوف‬

‫‪78‬‬
‫ناحيتها‪ ،‬ثم يتغيرّ هذا اخلوف إىل حب وثقة‪ ،‬أنظر إليها بدهشة‪ ،‬كانت األفكار‬
‫السوداء تبتعد عن رأيس‪ ،‬يعود إىل عقيل وجه طف َّ‬
‫يل‪ ،‬أشعر أن احلياة ليست هبذا‬
‫السوء‪ ،‬هناك عرشات الطرق التي أستطيع هبا نزع حقي‪ ،‬املعركة ليست صعبة‬
‫إىل هذا احلد‪ ،‬كيف سمحت لنفيس باالهنزام؟‬

‫حتى الباشا يبدو كأنه غري مؤثر‪ ،‬للمرة األوىل منذ سنني ال أشعر هبذا الثقب يف‬
‫روحي الذي ال يسده سوى حرضته‪ ،‬يمكنني أن أعيش من دونه‪ ،‬يمكنني أن‬
‫أستفيد منه دون أن أمنحه شيئًا‪.‬‬

‫بالتحسن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وجنتي أكثر فأشعر‬
‫ّ‬ ‫تربت نادية عىل‬

‫أبتسم هلا ممت ّنة‪ ،‬فتبدو وكأنهّ ا أ ّمتت مهمتها‪ ،‬لك ّنها تبدو وكأنهّ ا أكرب ً‬
‫عمرا‪ ،‬عيناها‬
‫مروعة‪ ،‬تنهض واقفة أمامي‪ ،‬تنظر إيل وتقول‪:‬‬
‫حزينتان وكأنهّ ا شهدت خربة ّ‬
‫هل فكرت يف كوافري جيجي؟‬

‫فورا بال كلمة أخرى‪.‬‬


‫أحاول أن أبتسم هلا‪ ،‬لك ّنها تغادر ً‬

‫‪79‬‬
‫هنال‬

‫هكذا حتدّ ثت العاهرة‪..‬‬

‫يصلح عنوان رواية‪ ،‬أو فيلم أجنبي من إخراج تارانتينو‪ ،‬ال يصدق بعضهم‬

‫أنّني أشاهد أفالم تارانتينو‪ ،‬ويضحكن حتى يسقطن عىل األرض إن علموا‬

‫أنيّ أقرأ‪.‬‬

‫جيدً ا ر ّد‬
‫املرات القليلة التي أضطر فيها إىل إدخال أحدهم إىل بيتي‪ ،‬أعلم ّ‬
‫يف ّ‬
‫فعله األول‪ ،‬الصدمة‪.‬‬

‫احلوائط مليئة بالكتب إىل السقف‪ ،‬كتب عىل األرائك‪ ،‬عىل مائدة الطعام‪،‬‬

‫بجوارالرسير‪ ،‬كتب وجمالت وجرائد‪ ،‬جهاز تلفزيون عمالق موصل هبارد‬

‫‪81‬‬
‫منفصل‪ ،‬عليه كمية أفالم مهولة تكفي لتعييني خبرية يف السينام العاملية يف وزارة‬
‫الثقافة‪.‬‬

‫هل هناك منصب كهذا؟ ربام جيدر هبم ذلك‪ ،‬هذه البالد ذاهبة إىل اجلحيم‬
‫بالتأكيد‪.‬‬
‫ّ‬
‫ألمتكن من اجللوس‪ ،‬لقد‬ ‫أضع معطفي عىل ظهر املقعد‪ ،‬أزيح بعض الكتب‬
‫قررت التو ّقف عن العمل اليوم؛ حدا ًدا عىل الفتاة املسكينة التي قتلت نفسها‬
‫ّ‬
‫يف الكوافري‪.‬‬

‫‪- -‬اسرتاحت‪.‬‬

‫عال كعاديت يف البيت حتى ال ُأ ّ‬


‫جن‪ ،‬أنسى متى كانت‬ ‫أحدّ ث نفيس بصوت ٍ‬
‫مرة حتدّ ثت فيها‪ّ ،‬‬
‫أظل أيا ًما بال صوت‪ ،‬أقرأ وأشاهد األفالم حتى أفقد‬ ‫آخر ّ‬
‫الوعي‪.‬‬

‫الزلت أذكر املرة األوىل التي أمسكت فيها كتا ًبا‪.‬‬

‫جيلسني الزبون عىل ساقيه ويغمس رأسه يف صدري‪ ،‬أنظر حويل حماولة تزكية‬
‫أمرر‬
‫الوقت كام أفعل عادة بفعل امللل‪ .‬تستوقفني املكتبة الضخمة خلف ظهره‪ّ ،‬‬
‫عيني عىل العناوين‪ ،‬مجل كبرية‪ ،‬كلامت تبدو مهمة‪ ،‬أحاول القراءة والرجل ّ‬
‫هيز‬
‫جسمي بال توقف‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫ذ‪ ..‬ذاكرة غانيايت احلزينات؟‬

‫يرفع الرجل رأسه بال فهم‪ ،‬أشري له نحو الكتاب وأسأله عن معناه‪ ،‬ينظر إيل‬
‫مرة أحتدّ ث‬ ‫ً‬
‫ضاحكا‪ ،‬ر ّد الفعل نفسه الذي سيقابلني يف كل ّ‬ ‫بال تصديق ويقهقه‬
‫فيها عن كتاب‪ ،‬أو أشرتي كتا ًبا‪ ،‬أو أمحل كتا ًبا‪.‬‬

‫ينهض من مكانه وخيرجه من املكتبة‪ ،‬يضعه بني يدي‪..‬‬

‫‪- -‬تعرفني القراءة يا هنال؟‬

‫‪- -‬بالتأكيد‪َ ،‬م ْن حتسبني؟‬

‫األمحق‪ ،‬لقد أهنيت معهد اخلدمة االجتامعية بتقدير جيد‪ ،‬النظرة السطحية يل‬
‫دائماً ما تكتئبني‪.‬‬

‫خربت عقول‬ ‫ّ‬


‫مسطحون‪ ،‬األفالم ّ‬ ‫يف هذا العامل‪ ،‬يعتقد اجلميع ّ‬
‫أن اجلميع‬
‫البرش‪.‬‬

‫‪- -‬خذي الكتاب إذن هدية م ّني‪ .‬أضعه يف حقيبة يدي‪ ،‬ويعود هو ملا‬
‫مرة باإلثارة‪ّ ،‬‬
‫وكأن هناك شيئًا ما ينتظرين‬ ‫وألول ّ‬
‫يفعله‪ ،‬أ ّما أنا فأشعر ّ‬
‫يف بيتي البائس بعد العودة‪.‬‬

‫أنت تعرف اجلملة الدائمة التي خيربونك هبا عن الكتب‪ ،‬كيف أنهّ ا نافذة‬
‫حتملك لعوامل أخرى‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫إنهّ ا مجلة صادقة فعلاً ‪ ،‬كانت الكتب طريقي للهرب‪ ،‬إنهّ ا مالذ الشخص‬

‫املحارص يف عامل ال يرغبه‪ ،‬إىل عامله اآلخر املناسب‪.‬‬

‫وأنا كنت حمارصة‪ ،‬وكانت الكتب يل مال ًذا‪.‬‬

‫أهنيت الكتاب يف ثالث ساعات‪ ،‬كنت أبكي يف كل صفحة‪ ،‬أبكي وألتهم‬

‫فورا إىل‬
‫السطور‪ ،‬وبعد االنتهاء كانت الساعة قد جتاوزت العارشة‪ ،‬توجهت ً‬
‫جيدً ا‪.‬‬
‫مكان أعرفه ّ‬
‫السور القديم املجاور ملستشفى ُ‬
‫احل ّميات‪ ،‬الذي يكتظ بباعة الكتب القديمة‬

‫أمر إصبعي عىل العناوين‪ ،‬يسألني‬


‫واملستعملة‪ ،‬أقف أمام كل فرشة بفضول‪ّ ،‬‬
‫البائع إن كنت أريد شيئًا‪.‬‬

‫ينظر إيل بفضول؛ فشكيل ال يوحي له بالقراءة‪.‬‬

‫أنظر إليه بنظرات تائهة‪ .‬تثبت عيناي عىل اللحام يف منتصف نظارته‪ ،‬أقول أريد‬

‫أي كتاب لـ لـ‪....‬‬


‫ّ‬

‫يقربه إىل نظارته ويقرأ‪ ،‬جابرييل‬


‫أنسى االسم فأخرج الكتاب من حقيبتي‪ّ ،‬‬
‫جارثيا ماركيز‪ ،‬بالطبع‪ ،‬لكنه صعب جدً ا لسيدة تبدأ القراءة‪.‬‬

‫‪- -‬قرأت هذا الكتاب وأعجبني‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫‪- -‬هذا حسن لكني أنصحك بالتمهل قليل‬

‫يعود يل برزمة كتب ضخمة‪ ،‬أعرف بعض العناوين التي هي نفس عناوين‬
‫ريا‪ ،‬يعرفني عىل عامل إحسان عبد القدوس‪ ،‬ومنه إىل‬
‫أفالم عربية أحبها كث ً‬
‫يوسف السباعي ونجيب حمفوظ‪ ،‬حتى ماركيز أهنى أعامله الكاملة قبل مرور‬
‫عام واحد عىل هذا اللقاء‪.‬‬

‫رصت زبونة مستديمة لدى الرجل ذي النظارات امللحومة‪ ،‬أظهر أمامه فيخرج‬
‫وخصيصا‪ ،‬يمتلئ املكان بالكتب‪ ،‬أقرأ وأقرأ فقط‪،‬‬
‫ً‬ ‫يل الكتب التي تركها جان ًبا‬
‫تدخلني الكتب إىل عوامل السينام‪ ،‬أبتاع حاس ًبا شخص ًيا للبحث عن املؤلفني‪،‬‬
‫أبحث عن أ ّية معلومة أقرأها‪ ،‬أمحل األفالم املأخوذة عن القصص‪.‬‬

‫لقد أصبحت مدمنة‪ ،‬أفضل من أن أكون منتحرة‪.‬‬

‫مهووسة أنا بفكرة املوت‪ّ ،‬‬


‫أفكر دائماً يف كيفية املوت‪ ،‬كيف سيحدث‪ ،‬متى؟‬
‫سيغسلني؟ ما الذي سيقولونه ع ّني؟‬
‫ّ‬ ‫أين؟ من سيكتشف جثتي؟ من‬

‫«عاهرة بنت كلب‪ ،‬احلمد هلل أنهّ ا ماتت واسرتحنا من نجاستها»‪.‬‬

‫نجسة‪..‬‬

‫هكذا قذفني أيب بالكلمة وكأنهّ ا بصقة تصيب وجهي كلام مررت من جانبه يف‬

‫‪85‬‬
‫أثناء خروجي من بيتنا يف الطابق األول من البيت املتهالك الذي يقع عىل جرس‬
‫السكة احلديدية يف الكفر القديم‪.‬‬

‫جيلس أيب دائماً عىل باب البيت ال يفعل شيئًا‪ ،‬جيلس بالفانلة ورسوال البيجاما‬
‫يدخن ويبصق عىل األطفال امل ّتسخني نصف العراة‪ ،‬الذين يلعبون‬
‫املتسخ‪ّ ،‬‬
‫ويسبون بعضهم بألفاظ أكثر قذارة منهم‪.‬‬
‫ّ‬
‫أمر من أمامه وأنا أرتدي مالبس املدرسة التي أحاول إبقاءها نظيفة ومهندمة‬
‫ّ‬
‫بقدر اإلمكان وسط كل هذه القذارة‪ ،‬أحاول مداراة جسمي الفائر الذي‬
‫عمرا ضعف عمري‪ ،‬ولمَ َّ شعري الطويل يف كعكة بسيطة‪ ،‬لك ّنه يتأ ّملني‬
‫يمنحني ً‬
‫ويرص عىل سبي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫من فوقي لتحتي بقرف‪،‬‬

‫نجسة‪..‬‬

‫يرص عىل نجاستي‪ ،‬مل أفهم‬


‫منذ أن أتتني الدورة الشهرية يف عمر العارشة وهو ّ‬
‫ما السبب؟ وما ذنبي يف البلوغ ّ‬
‫املبكر‪ ،‬كنت املصيبة التي ح ّلت عىل املنزل‬
‫مبكرا‪ ،‬والتهمة التي محلتها دون أن أعرف السبب‪ ،‬كان من الواجب أن أجلس‬
‫ً‬
‫يف املنزل ألساعد أمي يف خدمة البيوت‪ّ ،‬‬
‫لكن واحدة من السيدات الاليت‬
‫ختدمهن هدّ دهتا بأ ّ‬
‫ال تطلبها من جديد خلدمتها هي ومجيع جاراهتا إن منعتني‬
‫من مواصلة دراستي‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫تنظر إيل الفتيات بحسد منذ املرحلة اإلعدادية إىل اليوم‪ ،‬الفتاة الطويلة‬

‫ذات الثديني املكتنزين‪ ،‬والوحيدة التي رفعت يدها باستحياء‪ ،‬عندما ّ‬


‫مرت‬
‫األخصائية االجتامعية عىل الفصول توزّ ع الفوط الصحية املبعوثة من الرشكة‬
‫الشهرية لدعم الطالبات‪ ،‬تسأل من منكن أتتها الدورة؟‬

‫أكاد أذوب خجللاً ‪ ،‬أو ّفر القروش القليلة التي متنحها يل أمي ألشرتي علبة من‬
‫الفوط الصحية تكفيني شهرين‪ ،‬حيايت كلها باتت تدور حول هذه الفرتة من‬
‫الشهر‪ ،‬ال ّ‬
‫أفكر سوى فيها‪ ،‬أحسب وقت جميئها حتى ال تفاجئني يف املدرسة‬
‫أو الشارع‪ ،‬أطلب من السيدات الاليت ختدمهن أمي أن يبحثن يل يف خزانات‬
‫بناهتن عن املالبس القديمة الداكنة‪ ،‬أسأهلن باستحياء عن سبب األمل القاتل يف‬
‫أسفل بطني‪ ،‬فيضحكن‪.‬‬

‫كيسا من فوار سحري يقتل األمل‪.‬‬ ‫ُتناو ُلنِي إحداهن ً‬


‫قرصا مسكنًا‪ ،‬أو ً‬
‫أعرب الشارع الضيق‪ ،‬والفتحة التي صنعها الساكنون يف سور اجلرس ليتمكنوا‬
‫من العبور بدلاً من اللف حول السور‪.‬‬

‫أسري فوق قضبان السكة احلديدية وأكوام القاممة التي حتيطهام عىل اجلانبني‪،‬‬
‫طيور أبو قردان حت ّلق عليهام‪ ،‬والرائحة التي هي مزيج من القاممة املتع ّفنة‬
‫ورائحة اليوريا ملئات الرجال الذين يقضون حاجاهتم طيلة الليل عىل جانبي‬

‫‪87‬‬
‫السور تزكم أنفي‪ ،‬تلتقط عيني العضو الذكري لرجل حياول إدخاله إىل رسواله‬
‫التبول‪ ،‬يلمحني فيتمهل يف إغالق الرسوال‪ ،‬يبتسم ابتسامة املساطيل التي‬
‫بعد ّ‬
‫أعرفها‪ ،‬فأرسع من خطوايت ألعرب الطريق‪ ،‬وأصل إىل املدرسة‪.‬‬

‫وأحب املذاكرة‪ ،‬أحاول بالرغم من كل يشء أن أجتهد يف‬


‫ّ‬ ‫أحب املدرسة‬
‫ّ‬
‫درويس‪ ،‬ال أملك ترف الدروس اخلصوصية‪ ،‬وال ترف الغرفة اخلاصة يف‬
‫منزل ينام فيه اجلميع‪ :‬أيب وأمي وأخوان صغريان بجوار بعضهم ً‬
‫بعضا عىل‬
‫األرض‪ ،‬لك ّني أظل جالسة يف أبعد نقطة ممكنة عىل البالط البارد للحامم‪ ،‬أقرأ‬
‫الدروس حتى أنام‪.‬‬

‫أستيقظ عىل ملسات أيب اليومية جلسدي فأنتفض‪ ،‬يبعد يديه برسعة‪ ،‬يعدّ ل من‬
‫ساقي حول جسدي‪ ،‬يبصق عىل‬
‫ّ‬ ‫أضم‬
‫ّ‬ ‫رسوال بيجامته وينظر إيل باحتقار‪،‬‬
‫األرض بجواري‪ ،‬اعتدت ملساته منذ صغري‪ ،‬فلم أعد أندهش‪ ،‬أشعر بالغثيان‬
‫يتصاعد إىل حلقي‪ ،‬أشعر بأنّني نجسة فعلاً كام يقول‪.‬‬

‫أنتظر حتى خيرج إىل مكانه ّ‬


‫املفضل عىل عتبة الدار‪ ،‬وأغلق باب احلامم املتهالك‬
‫عيل‪ ،‬ال ترباس وال مفتاح يف هذا البيت‪ ،‬ال أبواب مغلقة وال ستائر‪.‬‬

‫أحاول إسناد الباب بساقي بينام أصب املاء عىل رأيس وجسمي برسعة‪ ،‬أحاول‬
‫ّ‬
‫حك النجاسة من عىل جسمي بالطوبة السوداء اخلشنة بال جدوى‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫يل أيب‪ ،‬وكام حكم ع ّ‬
‫يل صمت أمي املتواطئ‪،‬‬ ‫أنا نجسة منذ الصغر كام حكم ع ّ‬
‫وكام حكمت ع ّ‬
‫يل نظرات اجلريان التي ّ‬
‫تعريني كل يوم‪ ،‬ونظرات زمياليت‪،‬‬
‫ونظرات مدرسيني‪ ،‬ونظرات العابرين‪.‬‬

‫أنتظر اجلامعة بفارغ الصرب‪ ،‬أستلم املظروف وأجلس عىل مائدة ّأم خالد‪ ،‬بينام‬
‫القصية‪ ،‬جتلس ابنتها بجواري تساعدين عىل كتابة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تنظف أمي غرفة نومها‬
‫الرغبات ولصق الطوابع‪.‬‬

‫‪- -‬ما هي رغبتك األوىل يا هنال؟‬

‫أي يشء بعيد‪ ،‬اإلسكندرية مثلاً ‪.‬‬


‫‪ّ --‬‬

‫‪- -‬ملاذا؟ تريدين السفر والشحططة بعيدً ا عن أهلك؟‬

‫أنظر إليها مطولاً ‪ ،‬وجهها أبيض هادئ‪ ،‬عيناها ناعستان‪ ،‬ومالبسها طويلة‬
‫واسعة‪.‬‬
‫ّ‬
‫مضطرة لربط‬ ‫تتبدّ ى صديرية حتت جالبيتها نصف الش ّفافة بال خوف‪ ،‬هي غري‬
‫اإليشارب حول صدرها مرتني حتى ال تظهر استدارته؛ اتّقاء للعيون‪.‬‬

‫‪- -‬أريد معهد اخلدمة االجتامعية يف اإلسكندرية‪.‬‬

‫أريد أن أكون وحدي بعيدً ا عن البيت الصغري املزدحم‪ ،‬عن أمي التي ال أراها‬

‫‪89‬‬
‫حتى نسيت شكلها‪ ،‬عن أيب وملساته وصوته اخلشن املرعب الذي ّ‬
‫أتذكره اآلن‬

‫فريجتف قلبي‪ ،‬عن صوت القطار الذي ّ‬


‫يرج البيت املتهالك‪ ،‬عن شجار النساء‬
‫املتواصل طيلة اليوم يف الشارع‪ ،‬وشخر الرجال لبعضهم طيلة الليل وهم‬
‫وتعريني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتقاسمون احلشيش أمام فتحة اجلرس‪ ،‬عن النظرات التي تطاردين‬
‫وتتدخل يف تفاصيل جسمي واكتناز صدري‪ ،‬وميعاد‬
‫ّ‬ ‫وت ّتهمني باالنحطاط‪،‬‬
‫دوريت الشهرية‪.‬‬

‫معهد اخلدمة االجتامعية باإلسكندرية‬

‫حمطتي األوىل يف سبيل احلرية‪ ،‬أو هكذا حسبت‪.‬‬

‫اعرتاضات أيب يف السفر مل متنعني عن يشء‪ ،‬كنت أهني أوراق االلتحاق واملدينة‬
‫اجلامعية بال كالم‪.‬‬

‫كالمه ووهنه واحلشيش الذي يلف عقله طيلة الليل والنهار مل جيعله ً‬
‫قادرا عىل‬
‫االعرتاض سوى بكلامت مبهمة أسكتتها أمي ببضعة جنيهات‪ ،‬وأسك ّتها أنا‬
‫يت احتقار‪.‬‬
‫بنظر ّ‬

‫تلف أ ّمي عىل بيوت خمدوميها جتمع يل ً‬


‫بعضا من قطع املالبس الالئقة بفتاة يف‬
‫اجلامعة‪ ،‬أقيس بعضها لتعدّ ل من املقاسات بيدهيا‪ ،‬متسك ذقني بيدهيا‪ ،‬وتقول‪:‬‬
‫«ساحميني»‪..‬‬

‫‪90‬‬
‫‪- -‬عىل ماذا؟‬

‫تنظر إيل وتبتلع ريقها‪ ،‬ثم ختفض عينيها إىل األرض دون ر ّد‪.‬‬

‫أعرف ما الذي تعنيه فال أر ّد ً‬


‫أيضا‪ ،‬هذه األمور يف بيئتنا ليست باليشء الغريب‪،‬‬
‫ريا هبذه األشياء‪.‬‬
‫نحن ال هنتم كث ً‬

‫فيام بعد‪ ،‬عندما قرأت كث ً‬


‫ريا وشاهدت مئات األفالم‪ ،‬أدركت أن هناك عرشات‬

‫رصاخا عندما يتحرش ّ‬


‫هبن أفراد من عائالهتن‪،‬‬ ‫ً‬ ‫املدلالت الاليت يمألن الدنيا‬
‫احلبات املخدّ رة‪ ،‬بنات الطبقة‬
‫يذهبن للطبيب النفيس‪ ،‬ويبتلعن عرشات ّ‬
‫الثرية يكبرّ ن املواضيع‪ ،‬أ ّما نحن‪ ،‬البنات الاليت ولدتنا أمهاتنا وحدهن عىل‬
‫بالط البيت لتستقبلهن الداية بلطمة‪ ،‬ثم تلفهن بخرقة م ّتسخة وانتهى األمر‪،‬‬
‫وه ّن يلهون بأرجل حافية‪ ،‬ويأكلن الطني والقاممة دون أن يصبن‬
‫الاليت يكربن ُ‬
‫ريا هبذه األمور‪.‬‬
‫بالتيفويد‪ ،‬وال حتى النزلة املعوية‪ ،‬ال يتأثرن كث ً‬
‫أفكر فيه عىل أنه جمرد رجل أمحق ووغد أمت ّنى أن يموت حمرت ًقا وانتهى األمر‪.‬‬

‫لك ّني لن أوقف حيايت من أجل هذا‪ ،‬لن أجلس ألبكي وأندب وأكتئب يف‬
‫أجرب احلياة بعيدً ا‪ ،‬أريد أن أحتفي‬
‫غرفة مظلمة‪ ،‬أريد أن أطري وأبتعد‪ ،‬أريد أن ّ‬
‫ألول ّ‬
‫مرة بجسمي ومجايل دون خوف‪ ،‬اإلسكندرية تنتظرين‪ ،‬حياة اجلامعة‬ ‫ّ‬
‫تنتظرين‪ ،‬يمكنني أن أكون طبيعية للمرة األوىل يف حيايت‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫لكن الوضع مل يكن كذلك بالضبط‪.‬‬
‫ّ‬
‫املعهد كان مثل املدرسة متا ًما‪ ،‬أنا بطويل الفارع وشعري املنسدل‪ ،‬كنت مثل‬
‫املحجبات واملخمرات واملنقبات وامللتحني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اجلسم الغريب وسط كل هؤالء‬
‫النظرات التي هربت منها من َ‬
‫الك ْفر القديم يف املدينة الصغرية‪ ،‬ال ختتلف شيئًا‬
‫يف اإلسكندرية الكبرية‪.‬‬

‫إنهّ ا أكثر قسوة وتشد ًدا‪ ،‬سواء يف اجلامعة‪ ،‬أو يف املدينة اجلامعية‪.‬‬
‫اعتدت تل ّقي دعوات العودة إىل اهلل كل يوم‪ُ ،‬‬
‫«ك ّتيبات احلجاب قبل احلساب»‪،‬‬
‫لضمي إليهن‪ ،‬ثم االبتعاد‬
‫التو ّدد الزائف من الفتيات يف اجلامعات اإلسالمية ّ‬
‫فورا بعد رفيض بأدب‪.‬‬
‫ً‬

‫حتول لتحرش لفظي وجسدي‪ّ .‬‬


‫أمر من جانب جمموعة من الفتيات‬ ‫التو ّدد ّ‬
‫ببنطلون جينز وكنزة ثقيلة‪ ،‬تلقي إحداهن الكلمة عىل أذين‪:‬‬

‫نجسة‪..‬‬

‫أقف مكاين متجمدة‪ ،‬تشتعل النريان يف جسدي كله‪َ ،‬ن َفسيِ يتثاقل وقلبي ينبض‬
‫يف أذينّ‪ّ ،‬‬
‫أفكر يف االستدارة إليها ولطمها عىل وجهها‪ ،‬لك ّني أحتامل عىل نفيس‪،‬‬
‫أريد اجتياز العامني يف هذا املكان واحلصول عىل مؤهل يسمح يل بالعمل‬
‫واالنفصال وحدي بعيدً ا عن اجلميع‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫وأتوجه إىل الكورنيش‪ ،‬أجلس وحيدة يف الطقس البارد‪ ،‬رأيس‬
‫ّ‬ ‫أغادر املعهد‬
‫ٍ‬
‫خال متا ًما من األفكار‪.‬‬

‫يف جيبي ال أملك سوى عرشة جنيهات متب ّقية من املائة جنيه التي متنحها يل أمي‬
‫كل شهر‪ ،‬ويف قلبي هناك ثقب ي ّتسع كل يوم‪.‬‬

‫ي ّتسع ليبتلع مشاعري وأحالمي‪.‬‬

‫أشعر بالربودة تغلف عاملي‪ ،‬الربودة تغ ّلف كل يشء؛ لذا ما الذي يمنعني‬
‫أن أهنض من مكاين ألركب هذه السيارة التي يشري سائقها يل‪ ،‬ويفتح باهبا‬
‫كرسيها الوثري الدافئ؟ ما الذي يمنعني‬
‫ّ‬ ‫الفاخر‪ ،‬داع ًيا إ ّياي ألن أسرتيح عىل‬
‫أن أضاعف النقود يف جيبي؟ وأن أعرف طري ًقا يل؟‬

‫ال يشء يمنعني‪..‬‬

‫بأي يشء‪ ،‬ال مشاعر وال تأ ّفف‪ ،‬وال‬ ‫يف الواقع كان األمر ً‬
‫بسيطا جدً ا‪ ،‬مل أشعر ّ‬
‫خجل وال رعب وال يشء‪.‬‬

‫أترك الرجل ينهي ما يريده م ّني بكل راحة‪ ،‬بضع قطرات من دماء أثبتت هتمة‬
‫النجاسة ع ّ‬
‫يل أمام نفيس فقط‪ ،‬لك ّنها ّبرأتني منها أمام اجلميع‪.‬‬

‫يف اليوم الثاين‪ ،‬ابتعت بالنقود التي منحني إياها الرجل الكريم مالبس واسعة‬
‫فضفافة وطرحتني أنيقتني‪ ،‬منحتني جواز املرور لقلوب اجلميع يف املعهد‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫لقد استقبلوين استقبال األبطال والفاحتني‪.‬‬

‫ّ‬
‫واملفضلة لدى الفتيات‪ ،‬وحلم الفتيان األول‪.‬‬ ‫رصت املحبوبة‬

‫متحججة بالدراسة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يأيت ُخ َّطاب ومتو ّددون‪ ،‬فأصدّ هم بخجل‬

‫أصليّ مع البنات يف املصلىّ ‪ ،‬وأغادر املعهد برسعة ألبدّ ل مالبيس يف بار صغري‬
‫يف حمطة الرمل‪.‬‬

‫أذهب مع زبون أو اثنني قبل ميعاد إغالق املدينة اجلامعية‪.‬‬

‫عامان كامالن كانا كفيلني بامتالكي ثروة صغرية‪ ،‬ألعود إىل مدينتي بشكل‬
‫خمتلف وهبيئة خمتلفة‪.‬‬

‫متك ّنت من رشاء ش ّقة صغرية يف شارع عائلتي القديم نفسه‪ ،‬وإنام عىل الشارع‬
‫أي يشء‪ ،‬ال‬ ‫الرئيس الذي ال ّ‬
‫يطل عىل جرس السكة احلديدية‪ ،‬مل يسألوين عن ّ‬
‫مصدر األموال وال تغيرّ مظهري‪ ،‬حجة غبية يكاد األمحق يتبني ضعفها بأنني‬
‫وجدت عمللاً جيدً ا يف رشكة كربى كانت كافية إلسكاهتم‪ ،‬بينام تركتهم أنا إىل‬
‫وسط املدينة‪ ،‬إىل شقتي اجلديدة التي استأجرهتا قريبة من كوافري الباشا‪ ،‬حلمي‬
‫الذي حت ّقق‪.‬‬

‫أمر عىل هذا الكوافري وأحلم باجتياز أبوابه الزجاجية‪ ،‬فعلتها ّ‬


‫مرة‬ ‫منذ الصغر‪ّ ،‬‬
‫واحدة‪ ،‬عندما أرسلتني خمدومة أ ّمي إىل ابنتها العروس ببضعة حاجيات كانت‬

‫‪94‬‬
‫التوجه إىل هناك يوم عرسها‪ ،‬كنت أمجل من مجيع النساء داخل‬
‫ّ‬ ‫نسيتها قبل‬

‫املحل‪.‬‬

‫وكان هو أمجل َم ْن رأهتم عيني‪..‬‬

‫حترك ّ‬
‫يف‪ ،‬الباشا الذي تنظر إليه مجيع النساء وال ينظر‬ ‫مرة أشعر بيشء ّ‬
‫ألول ّ‬
‫ّ‬
‫ألحد‪.‬‬

‫أتسحب من جانبه وهو ينزل الدرج‪،‬‬


‫ّ‬ ‫أخجل من أن يراين هبذه اهليئة املزرية‪،‬‬

‫تسري بجواره سيدة جذابة تتحدّ ث بصوت حاد‪ ،‬تبدو وكأنهّ ا مسيطرة عليه‬
‫متا ًما‪ ،‬يستمع إليها بإنصات‪ ،‬يطرق ً‬
‫أرضا وال يرى العيون التي تتبعه بصمت‪،‬‬

‫يوقفه شاب من العاملني‪ ،‬يستشريه يف شعر فتاة جالسة أمامه‪ ،‬يلمسه بيده فأرى‬
‫حاجبي تعج ًبا‪ ،‬تصيح ّ‬
‫يف مرافقتي أن أسري‪ ،‬فأكمل صعود‬ ‫ّ‬ ‫الفتاة تنتفض‪ ،‬أرفع‬

‫الدرج وأنا أمحل احلقيبة الثقيلة إىل خمدومتي العروس‪.‬‬

‫املحمل بأبخرة «السشوار»‬


‫ّ‬ ‫وقعت يف غرام الكوافري‪ ،‬وصخبه‪ ،‬وهوائه‬

‫املقصات تعمل يف شعر النساء‪،‬‬


‫والكريامت ورائحة الشامبو العطرة‪ ،‬أصوات ّ‬
‫واحتكاك الفتلة عىل وجوههن‪ ،‬صوت املبارد يف أظافرهن‪ ،‬والغرفة البعيدة‬

‫شباكها وجه سيدة حزينة وحيدة‪.‬‬ ‫املغلقة ّ‬


‫تطل من ّ‬

‫‪95‬‬
‫أ ّما الباشا‪ ،‬فهو الوجه الوحيد الذي أسرتجعه يف الليايل الباردة الوحيدة اخلالية‬
‫من العمل‪.‬‬
‫لكي أندمج يف بلديت الصغرية بعد العودة‪ ،‬كان لزا ًما ع ّ‬
‫يل أن أتّبع األصول‪،‬‬
‫فهي ليست كاإلسكندرية‪ ،‬يكفي التمشية عىل كورنيشها دقيقتني لالسرتزاق‪،‬‬
‫البحر واسع ويكفي للعمل دون االختالط الكبري بشبكاهتا املع ّقدة‪.‬‬

‫كان يمكن أن أقيض حيايت بمساعدات بسيطة من صديقي جرسون البار‪،‬‬


‫ّ‬
‫السخي للحامية‪.‬‬ ‫مقابل بعض البقشيش‬

‫أ ّما ُهنا‪ ،‬فستار التغطية‪ ،‬والعالقات الرشعية أمر حتمي‪.‬‬

‫يتعرض يل أحد‪.‬‬
‫ال ّ‬ ‫هيمني حتماً أ ّ‬
‫هتمني يف يشء‪ ،‬لكن ّ‬
‫السمعة ال ّ‬
‫أن ّ‬
‫أمتكن من الذهاب واملجيء بحريتي‪ ،‬أريد أن أعيش هبدوء‪ ،‬ال أريد نظرات‬
‫تشيعني‪ ،‬ال ختتلف شيئًا عن نظرات اجلميع التي ظ ّلت تطاردين منذ‬
‫أخرى ّ‬
‫الوالدة إىل الرحيل‪.‬‬

‫أمحل كارت توصية من صاحب أشهر قاعة أفراح يف املدينة‪ ،‬زبوين العزيز‬
‫الدائم خالل عطالته مع أرسته السعيدة يف اإلسكندرية‪.‬‬

‫أتوجه إىل مقر فرقة شهرية ال تزال تقدّ م فقراهتا الغنائية واالستعراضية يف‬
‫ّ‬
‫األفراح‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫أبدو كحورية من اجلنة‪ ،‬أرتدي فستا ًنا أبيض ضي ًقا مفتوح الصدر‪ ،‬أستعرض‬
‫املرة بال إيشارب يربطهام‪ ،‬وال قمصان واسعة ختفيهام‪ ،‬أترك‬
‫ثدي املكتنزين هذه ّ‬
‫َّ‬
‫مكياجا هادئًا لك ّنه ٍ‬
‫كاف لتدويخ اجلميع‪.‬‬ ‫ً‬ ‫شعري منسدلاً وطويلاً ‪ ،‬أضع‬

‫أطرق باب الش ّقة احلقرية يف الطابق األريض بثقة‪ ،‬يفتح يل الباب شخص يفغر‬
‫انبهارا حني يراين‪ ،‬أسأله عن مدير الفرقة‪ ،‬فيفتح يل الباب بصمت‪ ،‬نصف‬
‫ً‬ ‫فاه‬
‫ساعة وكان األمر منته ًيا‪.‬‬

‫هنال مغ ّنية األفراح اجلديدة األكثر طل ًبا يف املدينة‪.‬‬

‫إن كان الباشا هو قبلة العرائس ليلة زفافهن‪ ،‬فـ «هنال» هي اختيار العرسان‬
‫األول ً‬
‫أيضا‪.‬‬

‫أنا فرصتهم األخرية لتأ ّمل مجال النساء قبل االرتباط الدائم بامرأة واحدة يف‬
‫بيت مغلق ال فرار منه‪.‬‬

‫يظل العريس حمدّ ًقا ّ‬


‫يف طيلة الليلة‪ّ ،‬‬
‫فأتأكد أنّني سأكون حمل عروسه الليلة عىل‬ ‫ّ‬

‫األقل يف أحالمه‪ ،‬مثلام سيكون الباشا حم ّله يف خيال عروسه‪.‬‬

‫هذا هو العدل إ ًذا؟‬

‫أنا والباشا نتضاجع كل ليلة يف خياالت عرسان املدينة‪ ،‬فامذا ع ّنا؟‬

‫‪97‬‬
‫أذهب إىل الكوافري كل أسبوع‪ ،‬أدخل أولاً إىل مكتبه‪ ،‬أجلس أمامه واضعة‬
‫سا ًقا فوق ساق‪.‬‬

‫إن كان اجلميع يتأ ّثرون بجسم هنال ووجهها ‪ ،‬فالباشا ال يتأ ّثر‪.‬‬
‫تطلق جيجي ع ّ‬
‫يل نظرات من نار من خلف زجاج املكتب‪ ،‬فأبتسم هلا بسخرية‬
‫وألتفت للباشا‪.‬‬

‫أخرج سيجارة‪ ،‬وأنحني عليه ألكشف عن صدري أكثر‪ ،‬فيشعلها يل دون أن‬
‫يرسق ولو نظرة‪ ،‬يعاملني الباشا كامرأة راقية‪ ،‬رغم كل ما يسمعه ع ّني‪ ،‬وما‬
‫يرت ّدد ع ّ‬
‫يل‪.‬‬

‫أسمع الضحكات واهلمهامت من العاملني يف الكوافري بأذين‪ ،‬أجتاهلها‪ ،‬بل‬


‫وأزيدها‪ ،‬لع ّله يسمعها‪ ،‬لعله يطلبني ذات يوم‪ ،‬بمقابل‪ ،‬دون مقابل‪ ،‬ال أبايل‪،‬‬
‫مرتني‪.‬‬
‫مرة‪ّ ،‬‬ ‫حب شعواء‪ ،‬ال ّ‬
‫أفكر يف الزواج مثلاً ‪ ،‬أريده فقط‪ّ ،‬‬ ‫قصة ّ‬
‫ال أريد ّ‬

‫باحلب‪ ،‬أن أشتهي رجلاً ما‪ّ ،‬‬


‫أحبه‬ ‫ّ‬ ‫للمرة األوىل يف حيايت اجلنس‬
‫أجرب ّ‬
‫أريد أن ّ‬
‫فعلاً ‪ ،‬أشعر به داخيل‪ ،‬مثلام أقرأ يف الكتب‪ ،‬مثلام أشاهد يف األفالم‪..‬‬

‫يتجاهلني الباشا بلطف‪ ،‬يتحدّ ث معي بشكل الئق‪.‬‬

‫أسأله عن لون الصبغة الذي يليق يب؟ ير ّد بشكل جاد‪ ،‬يلمس خصالت‬
‫شعري‪ّ ،‬‬
‫فيدق قلبي برسعة‪ ،‬أشعر باحلرارة يف وجهي وأذينّ‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫وجنتي مد ّل ًكا‪ ،‬أكاد أصل إىل النشوة التي‬
‫ّ‬ ‫أسأله عن برشيت اجلافة‪ ،‬فمدّ يده إىل‬
‫مل أصل إليها قط‪.‬‬
‫مرطبة‪ ،‬يتحدّ ث بجدّ ية شديدة‪ ،‬وأنا أنظر إليه ٍ‬
‫بوله‪.‬‬ ‫يل عدّ ة كريامت ّ‬
‫يقرتح ع ّ‬

‫تقتحم علينا جيجي الغرفة بال سبب‪.‬‬

‫‪- -‬الباشا جيب أن يبدأ العمل‪ ،‬اليوم عرائس كثرية‪ ،‬لع ّلك ستغ ّنني يف‬
‫فرح إحداهن؟‬

‫‪- -‬بالتأكيد‪.‬‬

‫أهنض من مكاين وأبتسم هلا بجانب فمي‪ ،‬نظرهتا ّ‬


‫تذكرين بنظرة أيب‪.‬‬

‫ريا‪ ،‬وال أعرف لمِ َ؟ ّ‬


‫أتوجه إىل الغرفة املقابلة عىل مهل‪.‬‬ ‫جيجي ّ‬
‫تذكرين به كث ً‬
‫ريا‪.‬‬ ‫أتعمدّ امليش ببطء إلغاظتها أكثر‪ ،‬أدخل إىل غرفتي ّ‬
‫املفضلة املظلمة أخ ً‬
‫«منى» جتلس هناك وحدها تتأمل يف الال يشء‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪- -‬مساء اخلري يا ُمنمن‪.‬‬

‫‪- -‬هنال‪ ،‬مل يفت أسبوع عىل زيارتك املاضية‪ ،‬شعرك مل يطل بعد‪ ،‬ما‬
‫الذي تفعلينه هنا؟‬

‫‪- -‬اجلذور بدأت يف الظهور‪ ،‬وأنا ال أطيق منظر الشعر‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫‪- -‬أنت جمنونة‪ ،‬هكذا ستحبسني الشعر أسفل اجللد‪.‬‬

‫‪- -‬أنا أحب النظافة‪ ،‬سأخرب الباشا أنّك تط ّفشني الزبائن‪.‬‬

‫تضحك ُمنى ضحكتها املكتومة‪.‬‬

‫مرة أراها‬
‫تنهض بصعوبة من مكاهنا‪ ،‬الدهون ترتاكم أكثر عىل جسمها يف كل ّ‬
‫فيها‪ّ ،‬‬
‫لكن وجهها كام هو‪ ،‬مالئكي وشاحب‪ ،‬مثل صورة «العذرا» التي أراها‬
‫يف األفالم األوروبية بالذات‪.‬‬

‫تدخل علينا نادية بال استئذان‪ُ ،‬جت ّر ساقها العرجاء وتبتسم يل‪.‬‬

‫أحبها بنظرهتا اخلاوية التي ال حتكم عىل أحد‪.‬‬


‫أرد هلا ابتسامتها بصمت‪ّ ،‬‬
‫الوحيدة التي ال تنظر إيل باحتقار أو شهوة أو حقد‪ ،‬تنظر إيل كام تنظر إىل ُمنى‬
‫أي شخص آخر‪.‬‬
‫أو الباشا أو جيجي‪ ،‬أو ّ‬

‫أشعر أنهّ ا تعيش يف عامل بعيد عن عاملنا‪ ،‬ربام تكون مصابة ببعض القصور‬
‫العقيل‪.‬‬

‫‪- -‬نادية‪ ،‬ناوليني املنشفة من اخلزانة وراءك‪.‬‬

‫متر من جانبي‪ ،‬تلمس شعري الطويل منبهرة‪.‬‬


‫فورا‪ّ ،‬‬
‫تنادهيا ُمنى فتطيع ً‬
‫‪- -‬أنت مجيلة جدً ا‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وأنت ً‬ ‫‪- -‬أشكرك‪،‬‬

‫تبتسم بخجل وترسع إىل ُمنى التي حتضرّ الغرفة‪ ،‬تغادرها فأدخل أنا‪ ،‬أخلع‬
‫مالبيس كلها وأجلس أمامها‪.‬‬

‫‪- -‬هل الفتاة متخ ّلفة عقل ًيا أو يشء من هذا القبيل؟‬

‫‪- -‬من؟ نادية؟‪ ،‬ال‪ ،‬أبدً ا‪ ،‬هي فقط ّ‬


‫طيبة جدً ا‪.‬‬

‫‪- -‬أشعر بأنهّ ا يف عامل آخر‪.‬‬

‫تلتفت نادية خلف كتفها ثم تنظر إيل‪.‬‬

‫هي فقط‪ ،‬أشعر أحيا ًنا وكأنهّ ا‪ ،‬تقرأ األفكار‪.‬‬


‫أضحك بصوت ٍ‬
‫عال متحرشج‪ ،‬تقرأ ماذا؟‬
‫‪- -‬وكأنهّ ا تقتحمني‪ ،‬تفهم ما الذي ّ‬
‫أفكر فيه‪ ،‬أو أو ّد فعله‪...‬‬

‫أجن مثل ُمنى‪...‬‬


‫متعجبة‪ ،‬هذا هو مستقبيل‪ ،‬أن ّ‬
‫ّ‬ ‫شفتي‬
‫ّ‬ ‫وأزم‬
‫حاجبي ّ‬
‫ّ‬ ‫أعقد‬

‫تعديني إن ِم ّت ذات يوم بأن ّ‬


‫تغسليني ِ‬
‫أنت يا ُمنى؟‬ ‫‪- -‬هل ِ‬

‫‪- -‬ال جيوز‪ ،‬أنا مسيحية هل نسيت ذلك؟‬


‫‪- -‬ال أحد يعرف‪ِ ،‬‬
‫ارتد أ ّية قطعة قامش عىل رأسك وسوف يدعونك‪،‬‬
‫ثم ال أحد سيقبل بتغسييل عىل كل األحوال‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫‪- -‬ملاذا حتملني ّ‬
‫هم الغسل هبذا الشكل‪ ،‬ستكونني يف عامل آخر لن‬
‫تشعري بيشء‪.‬‬

‫‪- -‬لك ّني أو ّد أن أقابل اهلل نظيفة‪.‬‬

‫ترفع ُمنى عينيها إ ّيل‪ ،‬تبدو يف غاية اجلد ّية‪.‬‬

‫‪- -‬هنال‪ ،‬أنت نظيفة فعلاً ‪ ،‬أنت كذلك‪.‬‬

‫ثم تكيس صوهتا بنربة ساخرة‪..‬‬

‫‪- -‬ثم أنك صغرية جدً ا‪ ،‬ماذا تركت يل إذن؟‬

‫خيتنق حلقي قليلاً ‪ ،‬تغادرين حتى أغتسل وأرتدي مالبيس‪ ،‬مل تكن هناك وأنا‬
‫سخيا‪ ،‬أتل ّفت بح ًثا عن نادية‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫بقشيشا‬ ‫أغادر الغرفة‪ ،‬أترك هلا يف درج مكتبها‬
‫ألمنحها هي األخرى فال أجدها‪.‬‬

‫أرى الباشا مستندً ا عىل ظهر مكتبه وجيجي واقفة أمامه وكأنهّ ا ستجلس يف‬
‫أحضانه‪.‬‬

‫يتودودان بال قلق أمام اجلميع‪ ،‬تنظر إيل بطرف عينيها وكأهنا تغيظني‪ ،‬فأرسع‬
‫بالرحيل من أمامهام‪.‬‬

‫التمهل‬
‫ّ‬ ‫أتعمد‬
‫أغادر الكوافري‪ ،‬تالحقني الضحكات املكتومة والغمز واللمز‪ّ ،‬‬
‫والتغنج يف مشيتي ألثري غيظ الفتيات وأعصاب الرجال أكثر‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫أي حجر‬
‫ريا عن ّ‬
‫مزيفون‪ ،‬يعتقدون أنهّ م أفضل وأذكى لك ّنهم ال يفرقون كث ً‬
‫ّ‬
‫أرضبه بطرف حذائي يف الشارع‪.‬‬

‫يصيب احلجر الفتاة اجلالسة عىل الرصيف أمامي‪ ،‬ترفع عينيها يل‪ ،‬نادية جتلس‬
‫متكومة مثل الشحاذين يف الظالم‪.‬‬

‫‪- -‬ملاذا جتلسني هنا؟‬

‫‪- -‬كنت أنتظرك‪.‬‬

‫‪- -‬آه‪ ،‬أنا كنت أبحث عنك‪.‬‬

‫أبحث يف حقيبتي عن عرشة جنيهات‪ ،‬لك ّنها توقفني‪ ،‬ال أريد نقو ًدا‪ ،‬أريد أن‬
‫آيت معك‪.‬‬

‫‪- -‬أين؟‬

‫‪- -‬أريد أن أشاهدك تغ ّنني‪ ،‬أنت مطربة أليس كذلك؟‬

‫املتحمسة جتعلني ال أريد أن أصدمها‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪- -‬أنظر إليها بشفقة‪ ،‬ابتسامتها‬

‫‪- -‬ترتكني عملك؟‬

‫‪- -‬الباشا لن يقول شيئًا‪.‬‬

‫‪- -‬ملاذا؟ هل تسحرين للباشا؟‬

‫‪103‬‬
‫تضحك‪ ،‬متيش بجواري دون انتظار إجابة‪ ،‬أفتح سياريت لرتكب بجواري‪.‬‬

‫ن ّتجه إىل الفرح الشعبي بقرية عىل أطراف املدينة‪ ،‬الطريق مظلم لك ّنه ليس بعيدً ا‪،‬‬
‫واحلقول ال تزال تدخل علينا رائحة نرض ًة للخرضة املبت ّلة بقطرات املاء‪.‬‬

‫لتشم النسيم ّ‬
‫املشبع بالرائحة‪ ،‬تغمض عينيها يف‬ ‫ّ‬ ‫خترج نادية رأسها من النافذة‬
‫سالم تام‪ ،‬بينام ّ‬
‫أفكر أنا يف الليلة الثقيلة القادمة‪..‬‬

‫أنبهها فتدخل رأسها‪ ،‬وتعدّ ل شعرها ومالبسها‪.‬‬


‫نكاد نصل‪ّ ،‬‬
‫أتو ّقف إىل جانب القاعة املضيئة باألنوار الزاعقة عىل جانب الطريق يف قلب‬
‫الظالم‪.‬‬

‫أعدّ ل من أمحر الشفاه وخصالت شعري‪ ،‬أخلع اجلاكيت املغلق‪ ،‬يف اللحظة‬
‫نفسها التي يفتح فيها باب السيارة مدير الفرقة الئماً إ ّياي عىل التأخري‪.‬‬

‫‪- -‬وماذا يف ذلك يا حسن‪ ،‬هل هو زفاف الدوقة كيت؟‬

‫‪- -‬من؟‬

‫‪- -‬ال أحد‪ ،‬لننتهي من هذه الليلة‪.‬‬

‫أي مكان لتشاهد‪ ،‬جتلس يف آخر‬


‫تدخل نادية خلفي فأوصيه بأن جيلسها يف ّ‬
‫الضيق والتوب الذي يكشف‬
‫القاعة عىل مائدة منزوية‪ ،‬أعتيل املرسح ببنطلوين ّ‬
‫نصف صدري‪ ،‬ف ُيص ّفر اجلميع بصوت مزعج يقتحم أذينّ‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫يتحول صويت إىل صوت آخر ال أعرفه‪ ،‬يناولني أحدهم زجاجة برية فأجترع‬
‫ّ‬
‫نصفها عىل مرتني وألقيها جان ًبا‪ ،‬الصفري ال يزال مشتعللاً ‪ ،‬والعروسة جالسة‬
‫تنظر إ ّيل من أعىل ألسفل‪ ،‬أ ّما العريس فيبدو منشغللاً بأمور أخرى مع‬
‫أصدقائه‪.‬‬

‫أنظر إىل نادية التي تنتظر غنائي متحمسة‪ ،‬تبدأ املوسيقى من خلفي‪ ،‬ودخان‬
‫هيبان ع ّ‬
‫يل من كل اجتاه‪..‬‬ ‫السجائر واحلشيش ّ‬
‫وأطهر اجلرح ده اليل تعبني وأذاين‬ ‫بحر الدموع فني أغسل منه أحزاين‬

‫أنا كنت فاعل خري يا صاحبي ويا‬ ‫وأعرص مهومي وأخ ّفف ُتقل ميزاين‬
‫الناس‬

‫لقيت جمِ ييل ومعرويف اتنسى وانداس‬ ‫وهم الناس‬ ‫وفوق كتايف بشيل ّ‬
‫مهي ّ‬
‫حتى أعز احلبايب بالرش جازاين‪....‬‬

‫بيخمره يف العسل ويدوبه دوبان‬ ‫عجان‬


‫سألت ع الصرب قالوا الصرب له ّ‬

‫أنا رحت أدور عليه وأسأل يف كل مكان‬ ‫لجَ ْل املَرار ينبلع ويريح التعبان‬

‫ورشبت من لف حنضل ميطيقوش اجلان‬


‫وملا آن األوان ِ‬
‫وعرتت يف العنوان‬

‫‪105‬‬
‫رحت لقيته جرب وبيقفل الدكان‬

‫كان اجلميع قد اعتىل املرسح للرقص عىل املوسيقى الصاخبة لألورج واملزمار‪،‬‬
‫بينام جتلس نادية وحيدة تقري ًبا وحدها‪ ،‬ساعة ونصف مستمرة من الغناء حتى‬
‫أرشت للفرقة بالتوقف‪.‬‬

‫نزلت من عىل املرسح وجلست بجوارها ألشعل سيجارة‪ ،‬جاءين حسن‬


‫ً‬
‫موشوشا يف أذين ببضع كلامت‪..‬‬

‫‪- -‬نادية سأغيب نصف ساعة‪ ،‬يستحسن أن تنتظريني يف السيارة‪،‬‬


‫يمكنك االستامع إىل بعض األغاين حتى أعود‪.‬‬

‫معا ونغادر الصخب إىل الصمت والظالم‬


‫تومئ برأسها مطيعة‪ ،‬ننهض ً‬
‫باخلارج‪ .‬أطمئن جللوسها يف السيارة وإغالق األبواب مع فتح النافذة بعض‬
‫اليشء لتتمكن من التنفس‪.‬‬

‫أويص حسن هبا حتى أعود‪.‬‬

‫السيارة األخرى تقف يف انتظاري عىل ُبعد أمتار‪ ،‬أرسع للركوب ربام مللاً أو‬
‫تله ًفا لالنتهاء من كل هذا‪.‬‬
‫ّ‬
‫ختيل الباشا مكان الزبون‪ ،‬كانت الرائحة قاسية للغاية‪،‬‬
‫املرة مل أستطع ّ‬
‫يف هذه ّ‬
‫ن ّفاذة بشكل يقتحم روحي نفسها‪ ،‬الرائحة هي احلاسة الوحيدة التي ال يمكن‬

‫‪106‬‬
‫ختيلها‪ ،‬الرائحة تعيدين إىل الواقع كلام ابتعدت عنه‪ ،‬جتذبني إىل‬
‫استبداهلا أو ّ‬
‫األرض فأفيق‪.‬‬

‫عيني متسائلة عماّ أفعله‪ ،‬أكاد أصاب بنوبة فزع‪ ،‬أرجتف وأنا أنظر إىل وجه‬
‫أفتح ّ‬
‫العجوز الذي يعتليني‪ ،‬إىل رائحة جسمه التي تشبه رائحة النفتالني والفينيك‪،‬‬
‫ومذاق فمه الذي يشبه الرتاب‪.‬‬

‫فيكبلني أكثر بيديه‪.‬‬


‫أشعر باالختناق وأو ّد النهوض ّ‬
‫عنقي يبدو وكأنّه قد ُش ّل‪ ،‬صويت ً‬
‫أيضا اختنق‪.‬‬
‫ّ‬
‫التحكم باجلسم‪َ ،‬ن َفسيِ يكاد يتو ّقف‪.‬‬ ‫إنّه كابوس من كوابيس فقد القدرة عىل‬
‫عيني وأنوي االستسالم للموت‪ ،‬لك ّني ّ‬
‫أفكر يف نادية التي تنتظرين‬ ‫ّ‬ ‫أغمض‬
‫وحيدة يف الظالم‪ ،‬جيب أن أعيدها‪ ،‬أشعر باملسؤولية جتاهها‪.‬‬

‫أدعو اهلل أن ينتهي بأرسع وقت ممكن‪ ،‬أغرب دعوة يمكن توجيهها هلل لك ّني‬
‫أفعلها بال ندم‪.‬‬

‫يستجيب يل فعلاً وأشعر باحلجر ينزاح عن صدري‪ ،‬أهنض برسعة وأنا أهلث‬
‫ألرتدي مالبيس‪ ،‬يلقي يف وجهي بالنقود‪ ،‬فأسأله‪ :‬ألن تعيدين إىل املكان؟‬

‫ال ير ّد ع ّ‬
‫يل‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫أنتعل احلذاء وأهرع خارج املنزل املتطرف يف الزراعات‪ ،‬أحاول تقدير املسافة‬
‫فال أستطيع‪.‬‬

‫أركض يف طريق القاعة وسط الظالم‪ ،‬أخرج هاتفي من احلقيبة وأيضء‬


‫عيني لك ّني ال أبكي‪،‬‬
‫تتجمد الدموع يف ّ‬
‫ّ‬ ‫الكشّ اف ألحاول تبديد بعض الظلمة‪،‬‬
‫أركض أكثر يف اهلواء البارد فأمتكن من التنفس‪.‬‬

‫اركيض يا هنال‪ ،‬اركيض‪ ،‬املسافة ليست بعيدة‪ ،‬حلظات وتكونني يف بيتك‪.‬‬

‫أرى ضوء السيارة من بعيد أشعلته نادية بخطأ أو بقصد ال أعرف‪ ،‬ربام تقرأ‬
‫األفكار فعلاً كام تقول ُمنى‪ ،‬أضحك بصوت ٍ‬
‫عال‪ ،‬أضحك وأنا أهلث‪ ،‬أقفز يف‬
‫السيارة بال كالم وأديرها للعودة‪.‬‬

‫ترمقني نادية بال كالم‪ ،‬أنظر إليها بطرف عيني‪..‬‬

‫‪- -‬ماذا تريدين أن تقويل؟ قويل أنا ال هيمني شيئًا‪.‬‬

‫‪- -‬أريد أن أقول إنك مجيلة جدً ا وصوتك رائع‪.‬‬

‫‪- -‬هل أنت محقاء؟ من اجلميلة ومن صاحبة الصوت الرائع‪ ،‬هل‬
‫تسخرين م ّني؟‬

‫ترتعش شفتاها وتبدو موشكة عىل البكاء‪ ،‬أشعر بالذنب‪ ،‬فأعتذر هلا‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫‪- -‬اقرتبنا عىل الوصول‪ ،‬هل ال زلت ُم ّ‬
‫رصة عىل البيات معي؟‬

‫‪- -‬نعم‪.‬‬

‫ريا عن الكوافري‪ ،‬لك ّنه ال ّ‬


‫يطل عليه يف الوقت ذاته‪.‬‬ ‫ال يبتعد البيت كث ً‬
‫نصعد إىل الطابق الرابع حيث تقع ش ّقتي الصغرية‪ ،‬أفتح الباب فتقف نادية‬
‫مبهورة أمام صفوف الكتب املرتاكمة‪.‬‬

‫أتركها وأنا أخلع مالبيس أمامها وألقيها عىل األرض يف طريقي إىل احلامم‪.‬‬
‫أسمعها تتناول كتا ًبا وتفتحه‪ ،‬تقرأ بصوت ٍ‬
‫عال‪:‬‬

‫«اجلنس هو العزاء الذى يلجأ إليه املرء عندما ال حيصل عىل احلب»‬

‫أقف مكاين حلظتني‪ ،‬ثم أعود إليها‪ ،‬أنتزع الكتاب من يدها؟ ذاكرة غانيايت‬
‫احلزينات‪ ،‬أسأهلا لمِ َ هذا الكتاب بالذات؟‬

‫‪- -‬ال أعرف‪َ ،‬مد ّدت يدي فتناولته‬

‫مرة أخرى‪ ،‬أتراجع‬


‫أنظر إليها بدهشة‪ ،‬ربام بعض اخلوف‪ ،‬أضع الكتاب يف يدها ّ‬
‫بظهري إىل اخللف‪.‬‬

‫‪- -‬يوجد طعام يف الثالجة افعيل ما تريدين‪.‬‬

‫‪- -‬أشكرك‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫أغلق الباب وأقف أسفل الدُّ ّ‬
‫ش‪ ،‬املياه الباردة تغمرين فأسند جبهتي عىل‬
‫احلائط‪ ،‬أتناول احلجر األسود الناشف‪.‬‬

‫أح ّك به جلد جسمي كأنّني‬


‫اليشء الوحيد الذي أخذته من بيتي القديم‪ُ ،‬‬
‫أمزقه فعلاً حتى أكشف عروقي‪ ،‬حتى ينبت جلد جديد‪،‬‬
‫سأمزقه‪ ،‬أمت ّنى أن ّ‬
‫جسم جديد نظيف‪ ،‬غري نجس‪.‬‬

‫أنظر للبانيو‪ ،‬االخرتاع املذهل الذي مل أستمتع به سوى قريب‪ ،‬أمد أطراف‬
‫أصابع قدمي إىل السدّ ادة فأزحيها حتى تغلق البالوعة‪ ،‬أمتدّ د بجسدي العاري‬
‫فيه‪.‬‬

‫املاء البارد مجيل‪ ،‬يرتفع شيئًا فشيئًا‪ ،‬يعدين بالكثري من اهلدوء والراحة‪.‬‬
‫نادية هنا‪ ،‬من اجلميل أ ّ‬
‫ال أكون وحدي‪ ،‬بالتأكيد ستحرص عىل سرت جسمي‬
‫بأي يشء قبل طلب املساعدة‪.‬‬
‫ّ‬

‫لعلها ت ّتصل ُبمنى أولاً فريقدوين يف رسيري هبدوء وبال فضائح‪.‬‬

‫املياه تغطي ذقني‪..‬‬

‫املاء رائع‪ ،‬إنّه الوسيلة املثالية للتطهري‪ ،‬كام أنّه يفصل بيني وبني الصخب‪،‬‬
‫والصفري‪ ،‬والروائح‪..‬‬

‫املياه تغطي أنفي‪..‬‬

‫‪110‬‬
‫أختيل الصمت الذي سيغمرين‪ ،‬اخل ّفة وانتهاء اهلموم والتفكري والذكريات‪.‬‬

‫املياه تغمر عيني وأذين‪..‬‬

‫صمت مجيل‪ ،‬فراغ دائم‪ ،‬ربام اجل ّنة هي االنتقال إىل بعد هادئ‪ ،‬ال يزعجنا فيه‬
‫أحد‪.‬‬

‫عيني فجأة‪..‬‬
‫املياه تنسحب من عىل ّ‬
‫ملوحة بالسدادة‪.‬‬
‫أفتحهام برسعة ألجد نادية جتلس عىل حافة البانيو‪ ،‬تبتسم ّ‬
‫ِ‬
‫نسيت إزالتها قبل االستحامم‪.‬‬ ‫‪- -‬يبدو أنّك‬

‫أفتح فمي فال أعرف كيف أر ّد‪ ،‬تتناول يدي لتضعها فيها‪ ،‬متسك ّ‬
‫كف يدي من‬
‫األسفل لألعىل‪ ،‬تضغط عليه بقوة فأشعر بالرغبة يف البكاء‪ ،‬أبكي فعلاً فرتبت‬
‫عىل يدي أكثر‪ ،‬كان البكاء مر ًحيا كغمر رأيس حتت املياه‪ ،‬أشعر بصفاء داخيل‬
‫يغمرين‪ ،‬للمرة األوىل منذ سنني أشعر أنني نظيفة‪ ،‬أنني متشبثة بحيايت‪ ،‬وأنني‬
‫خائفة من املوت وال أشتهيه كام كنت أعتقد‪.‬‬

‫تربت نادية عىل يدي أكثر فأشعر بالتحسن‪.‬‬

‫أبتسم هلا ممت ّنة‪ ،‬فتبدو وكأنهّ ا أ ّمتت مهمتها‪ ،‬لك ّنها تبدو وكأنهّ ا أكرب ً‬
‫عمرا‪ ،‬عيناها‬
‫مروعة‪ ،‬تنهض واقفة أمامي وحتاول اغتصاب‬
‫حزينتان وكأنهّ ا شهدت خربة ّ‬
‫ابتسامة‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫حتبي أن أق ّلدك؟‬
‫‪- -‬صوتك رائع ّ‬
‫أومئ برأيس بنعم‪.‬‬

‫تعدل من بلوزهتا قليلاً لتكشف جز ًءا من صدرها الضئيل‪ ،‬حتاول نكش شعرها‬
‫متحرشجا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الناعم‪ ،‬وتش ّنج وجهها ليبدو حا ًدا مثيل‪ ،‬تخُ رج صوهتا خشنًا‬

‫سألت ع الصرب قالوا الصرب له عجان‪ ،‬بيخمره يف العسل ويدوبه دوبان‪...‬‬

‫أدور عليه واسأل يف كل مكان‪...‬‬


‫جلل املرار ينبلع ويريح التعبان‪ ،‬أنا رحت ّ‬
‫ورشبت من ّ‬
‫لف حنضل ميطيقوش اجلان‪...‬‬

‫وملا آن األوان وعرتت يف العنوان‪...‬‬

‫رحت لقيته جرب وبيقفل الدكان‪...‬‬


‫أضحك بصوت ٍ‬
‫عال حتى أسعل‪ ،‬لكن ال يفوتني أ ّ‬
‫ال أالحظ هذه املسحة من‬
‫احلزن يف صوهتا‪.‬‬

‫هذه املسحة من احلزن التي كانت يف صويت أنا‪ ،‬والتي لسبب ما‪ ،‬انتقلت م ّني‬
‫إليها‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫ال أحد‬

‫أعرف أسامء اجلميع‪ ،‬وال أحد يعرف اسمي‪.‬‬

‫أجلس يف مكاين املعتاد عىل الكاشري بجوار املدخل الزجاجي الضخم‪ ،‬مكان‬

‫اسرتاتيجي جيعلني أتابع ما حيدث خارج وداخل الكوافري‪.‬‬

‫يل اجلميع دون التفات‪ ،‬يقفن أمامي دقيقتني يملينّ ع ّ‬


‫يل أسامءهن‪،‬‬ ‫يمر ع ّ‬
‫ّ‬
‫أناوهلن ورقة حتوي طلباهتن وأسامء‬
‫ّ‬ ‫وطلباهتن‪ ،‬أسج ّلها بدقة عىل الكمبيوتر‪،‬‬

‫«شكرا يا قمر»‪،‬‬
‫ً‬ ‫سيتولوه ّن‪ ،‬يلقني كلامت شكر مبهمة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫العاملني الذين‬

‫«مرييس يا مجيل»‪ ،‬أو يسألن عن شخص بعينه‪« :‬هل فالن متاح لصبغ الشعر‬

‫يا حبيبتي؟»‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫أنا القمر‪ ،‬اجلميل‪ ،‬حبيبتي‪ ،‬الفتاة التي ال متلك اسماً ‪ ،‬أو متلك واحدً ا ال يملك‬
‫أمهية املعرفة أو احلفظ‪.‬‬

‫خيتلف وجهي باختالف الشهور‪ ،‬كل بضعة أشهر تأيت فتاة وتذهب هلذا‬
‫املنصب‪ ،‬أنا نفيس هنا منذ ‪ 6‬أشهر‪ ،‬هذه أطول مدّ ة لفتاة كاشري‪ ،‬لوال احلاجة‬
‫لرتكت العمل ً‬
‫أيضا‪.‬‬

‫لذا يأيت مظروف راتبي بال اسم‪ ،‬ظرف أبيض ُكتِ َب عىل جانبه «كاشري»؛ حتى‬
‫هيتم بمعرفة اسم الفتاة الذي يأمتنها‬
‫الباشا الذي يعلم كل كبرية وصغرية ال ّ‬
‫عىل أمواله‪« ،‬فتاة الكاشري» ال ترسق‪ ،‬هي ليست ُم ِه ّمة حتى لدرجة ارتكاب‬
‫فعل الرسقة‪.‬‬

‫ومتكرر لدرجة امللل‪.‬‬


‫ّ‬ ‫أنا بال وجه‪ ،‬أو بوجه مألوف‬

‫تراين يف كل مكان وكل شارع يف هذه املدينة‪ ،‬برشيت بلون مبهم ليس باألبيض‬
‫وال األسمر‪.‬‬

‫عينان داكنتان‪ ،‬وطرحة ملت ّفة تربز خصلتي شعر مصبوغتني ببقايا لون كان يف‬
‫طبق ما بجواري بعد انتهاء أحد العاملني من الصبغ‪.‬‬

‫ضي ًقا ذا ُك ّمني ُم ّتسخني‪ ،‬وفوقهام بلوزة قصرية‪ ،‬وجيب جينز‬


‫أرتدي «توب» ّ‬
‫طويل‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫أنا ومثيل اآلالف‪ ،‬يرسن يف الشارع كل يوم للذهاب إىل العمل أو اجلامعة أو‬
‫خاصا‪.‬‬
‫طابعا ً‬
‫السوق‪ ،‬ال ميزة يل وال عيب‪ ،‬ال يشء يمنحني ً‬

‫ال يالحظني أحد‪ ..‬ال يعرفني أحد‪.‬‬

‫أجلس يف مكاين ‪ 10‬ساعات كل يوم‪ ،‬ال أهنض من خلف الكاشري إال للحامم‬
‫أحيا ًنا‪.‬‬

‫الشاي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال يشاركني أحد وجبة الغذاء وال رُشب‬

‫البنات يف الطابق األعىل ال ُي ِعدّ ونني منهن‪ ،‬واألوالد باألسفل ال حيدّ ثوين‬
‫ٍ‬
‫سؤال عن سعر منتج ما يبيعونه للزبونة حتى‬ ‫طلب لبعض ّ‬
‫الفكة‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬ ‫سوى‬
‫تزداد نسبة أرباحهم‪.‬‬

‫بفساتينهن البيضاء‪ ،‬يتأ ّبطن عريس األحالم الذي‬


‫ّ‬ ‫أتابع العرائس ينزلن الدرج‬
‫يتصبب عر ًقا وجيلاً أغرق به شعره‪.‬‬
‫ّ‬
‫حياول أن يبدو ّ‬
‫مهذ ًبا فيحمل لعروسه ذيل الفستان ويساعدها عىل عبور‬
‫املرتفعات واملنخفضات يف الطريق للسيارة املز ّينة بالورود التي تنتظرمها يف‬
‫اخلارج‪.‬‬

‫أنظر يف وجه العروس‪ ،‬ال تبدو خمتلفة ع ّني سوى بطبقات املكياج الثقيلة التي‬

‫‪115‬‬
‫وضعتها جيجي طبقة فوق األخرى‪ ،‬لك ّنها نجحت يف أن تبدو ظاهرة لرجل‬
‫واحد عىل األقل‪ ،‬رجل واحد أرادها هي بالذات لتشاركه حياته‪.‬‬

‫رسيعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أفيق عىل صوت زبونة تطالب برسعة تدوين طلباهتا حتى تنتهي‬

‫أرفع عيني ألجدين كام أنا‪ ،‬جالسة عىل الكاشري املرتفع‪ ،‬ال أحد يراين‪ ،‬أو يعلم‬
‫بوجودي‪.‬‬

‫وأدس ما تب ّقى من ساندوتش‬


‫ّ‬ ‫ينتهي يومي كام بدأ بال يشء يذكر‪ ،‬فأمللم حقيبتي‪،‬‬
‫اجلبن املقيل من املحل املجاور فيها ألعود إىل البيت‪.‬‬

‫ال أحد ينتظرين سوى أمي‪ ،‬ربام تنساين أحيا ًنا لوال ما أمحله هلا معي من نقود‪.‬‬

‫تسألني تعشيت؟ فأجيب بنعم‪.‬‬

‫الضيقة التي تشاركها فيها أختي الصغرى‪.‬‬


‫تدخل هي إىل غرفتها ّ‬
‫أخي حيتل الغرفة الثانية‪ ،‬بينام أنام أنا عىل الرسير يف الصالة‪.‬‬

‫الضيقة يف الدور األول‪ ،‬أضع مقعدً ا صغ ً‬


‫ريا أمام بعض‬ ‫ّ‬ ‫أخرج إىل الرشفة‬
‫أصص النباتات التي أشرتهيا أحيا ًنا من الفتاة التي تقف أمام مكتب البوسطة‬
‫يف طريقي للمنزل‪ ،‬أهتم هبا حينًا ثم أنساها فتذبل‪ ،‬ألقي هبا يف القاممة ثم أشرتي‬
‫من جديد‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫ّ‬
‫أرش البتونيا ببعض قطرات املاء‪ ،‬رغم أنهّ ا تكره املاء مثيل‪ ،‬تنتعش يف الربد‪،‬‬
‫وتذبل يف الصيف‪.‬‬

‫ك ّنا يف أواخر الشتاء‪ ،‬وكانت زهراهتا باللونني األمحر واألبيض مثل املهرج‬
‫تقرتب من الذبول‪.‬‬

‫أملسها ع ّلها تنتعش‪ ،‬فتذوي أكثر‪ ،‬أستسلم أمام إرصارها عىل الذبول‪ ،‬وأنتقل‬
‫إىل الرحيان‪ ،‬أرشه باملاء فيمنحني عطره النبيل‪ ،‬أتنفسه بعمق‪.‬‬

‫أخرج من حقيبتي بقايا الساندوتش وأجلس يف الرشفة من جديد‪ ،‬الوحدة‬


‫شعورا بأنّك مراقب‪.‬‬
‫ً‬ ‫غريبة‪ ،‬متنحك‬

‫رسيني يلتقطون يل‬


‫أختيل معجبني ّ‬ ‫ّ‬
‫وكأن هناك من يتابعني‪ّ ،‬‬ ‫أعتدل يف جلستي‬
‫الصور‪ ،‬أغرق يف أحالمي‪.‬‬

‫متر ساعة واثنتان وأنا يف عامل آخر‪ ،‬أفيق عىل صوت رصاخ إحدى اجلارات يف‬
‫ّ‬
‫فجرا‪.‬‬
‫زوجها العائد ً‬
‫أندس يف‬
‫ّ‬ ‫عيني بتعجب‪ ،‬لك ّني‬
‫أدخل من جديد إىل الصالة الصغرية‪ ،‬أدير فيها َّ‬
‫فرايش وأستغرق يف النوم‪.‬‬

‫أمي من بعيد لتوقظني‪ ،‬أهنض برسعة ألرتدي‬


‫يف الصباح‪ ،‬يأتيني صوت ّ‬
‫مالبيس‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫أوشك عىل وضع الطرحة عىل رأيس‪ ،‬ثم أتو ّقف حلظة‪ ،‬ما الذي سيحدث‬
‫لو لو أفعل؟ هل سيالحظ أحد؟ هل يمكن أن يسألني من يف الكوافري ملاذا‬
‫خلعت اإليشارب؟‬

‫أنزعه ٍّ‬
‫بغل وأل ّفه حول عنقي حتس ًبا‪ .‬أغادر املنزل فال توقفني أمي وال تسأل‬
‫عن تغيري‪.‬‬

‫يمر يب أخي يف طريقه للحامم فال يلتفت‪ ،‬أسري يف الشارع فال يالحظني أحد‪.‬‬

‫يف األفالم تتغيرّ حياة البطلة عندما ُتغيرّ من شكلها‪« ،‬نيولوك» ينقلها من الفتاة‬
‫القبيحة أضحوكة املدرسة إىل مجيلة اجلميالت‪.‬‬

‫أدخل من باب الكوافري‪ ،‬أستعدّ إلبداء اخلجل إن سألني أحدهم أين احلجاب‪،‬‬
‫لكن ال أحد يسأل‪.‬‬
‫ّ‬

‫صباح اخلري يا قمر‪..‬‬

‫تلقيها إحدى البنات وهي تقفز السلم املواجه صعو ًدا إىل الطابق األعىل‪ ،‬بينام‬
‫أجلس أنا مكاين بال حراك‪ ،‬تتوافد العميالت‪ ،‬ويمتلئ املكان شيئًا فشيئًا‪.‬‬

‫أهنض من مكاين للذهاب إىل احلامم‪ ،‬أصعد إىل الدور العلوي دون سؤال‪.‬‬

‫شبحا ال أحد يسأله إىل أين تذهب‪.‬‬


‫هذه ميزة كوين ً‬

‫‪118‬‬
‫أقف أمام األوفيس الصغري باألعىل وأطلب كو ًبا من الشاي‪ُ ،‬ي ِعدّ ه يل الصبي‬
‫دون أن ينظر‪.‬‬

‫بعصبية واضحة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أتناوله وأقف قليلاً أمام مكتب الباشا‪ ،‬يتحدّ ث يف اهلاتف‬

‫متر‬ ‫ّ‬
‫فأظل واقفة‪ ،‬حتى ّ‬ ‫لكن صوته يصل إ ّيل‪ ،‬أشعر بالفضول‬
‫ال أستبني ما يقول ّ‬
‫جيجي يف طريقها ملكتبه‪.‬‬

‫أحني رأيس إىل األرض وأتظاهر برشب الشاي‪ ،‬لك ّنها ال تنظر إيل من‬
‫األصل‪.‬‬

‫يراها فيلقي باهلاتف يف ركن الغرفة‪ ،‬جتلس أمامه يف حماولة للتهدئة‪ ،‬فأدخل أنا‬
‫حاجبي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إىل غرفة الفتيات املجاورة أسأل واحدة أن تشذب يل‬

‫‪- -‬اجليس يا مجيل‪..‬‬

‫أجلس أمامها لتنزع يل الشعريات برسعة‪ ،‬أنظر يف املرآة إىل شعري الطويل‪،‬‬
‫قصه؟ لك ّنها ال تر ّد‪.‬‬
‫أسأهلا هل يمك ّنك ّ‬

‫تأيت نادية من خلفي‪ ،‬تظهر من العدم كعادهتا‪ ،‬تتناول ًّ‬


‫مقصا من الدرج أمامي‬
‫سأقصه ِ‬
‫لك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتقول أنا‬

‫هبزة رأس واثقة‪.‬‬


‫أشعر باخلوف‪ ،‬هل أنت قادرة عىل ذلك؟ جتيب ّ‬

‫‪119‬‬
‫ٍ‬
‫خاص‪ ،‬ومتسك به خصلة خصلة‪ ،‬أرى اخلصالت‬ ‫ترش شعري باملاء من ٍّ‬
‫مرش‬
‫تسقط عىل األرض دون أن أستطيع النطق‪.‬‬

‫شعري يتناقص برسعة بالغة‪ ،‬فأرصخ فيها أن تتوقف‪ ،‬لك ّنها ال تفعل‪.‬‬

‫ريا مثل الصبيان‪ ،‬أهنض من مكاين وأرصخ ما الذي‬


‫ريا قص ً‬
‫أرى شعري قص ً‬
‫فعلتِه؟‬

‫‪- -‬تريدين ً‬
‫متييزا؟‬

‫أمرر أصابعي بني خصالت شعري‪ ،‬تتوقف‬


‫أنظر يف وجهها دون أن أفهم‪ّ ،‬‬
‫جيالن بجانبي‪ ،‬مجيل جدً ا‪َ ،‬م ْن ّ‬
‫قصه لك؟ تسألني‪.‬‬

‫أنظر إليها بدهشة‪ ،‬فعلاً مجيل؟‬

‫‪- -‬جدً ا‪ ،‬أنت الفتاة عىل الكاشري أليس كذلك؟‬

‫أهز رأيس ببطء وأغادر املكان‪ ،‬أعود إىل مقعدي هبدوء‪.‬‬


‫ّ‬

‫ينظر إيل اجلميع‪ ،‬يثنون عىل شعري‪ ،‬حتى ّ‬


‫إن أحدهم يقول اسمي للمرة‬
‫األوىل‪.‬‬

‫‪- -‬من ّ‬
‫قصته لك؟‬

‫•نادية‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫‪- -‬نادية من؟ العرجاء؟‬

‫أجد نفيس أجيب بنعم مع لسعة ذنب‪ ،‬تنظر إ ّيل نادية من األعىل‪ ،‬تتابعني يف‬
‫صمت‪ ،‬يمنحني شعري القصري جرأة ال أعرف من أين‪.‬‬

‫أدير عيني يف الوجوه‪.‬‬

‫أبتسم هلذا وأحادث ذاك‪ ،‬يقرتب أحدهم مني‪ ،‬يسألني إن كنت أريد طلب‬
‫بعض الطعام معهم فأجيب بنعم‪.‬‬

‫هذه ّأول مرة أشارك فيها طعامي مع أحدهم‪.‬‬

‫ربحا حتماً ‪.‬‬


‫املهمة األكثر ً‬
‫اآلن أفهم ملاذا تأيت كل هذه النساء إىل الكوافري‪ ،‬إنهّ ا ّ‬

‫يمنحهن القوة‪ ،‬جيعلهن قادرات عىل حتقيق ما يردنه‪.‬‬


‫ّ‬ ‫التميز‬
‫متييزا‪ّ ،‬‬ ‫ُك ّل ّ‬
‫هن يردن ً‬

‫الشعر واملكياج واملانيكري والباديكري ليست باألمور التافهة كام يقول الرجال‪،‬‬
‫يتحملنه يف سبيل احلصول عىل‬
‫ّ‬ ‫إنهّ ا أساسيات حياة املرأة‪ ،‬إنهّ ا األمل الذي‬
‫ووجوههن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مبتغاهن‪ ،‬نزع الشعر شعرة شعرة من أجسامهن‬
‫ّ‬

‫ختنقهن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫االستسالم بالساعات ملص ّفف الشعر‪ ،‬كتم البرشة بمستحرضات ثقيلة‬
‫هذه رضيبة القوة‪ ،‬هذه رضيبة طلب االهتامم‪.‬‬

‫ّ‬
‫وكأن َم ْن حويل‬ ‫أنظر إىل كل ما حويل بشكل خمتلف‪ ،‬أبدو واضحة شيئًا فشيئًا‪،‬‬

‫‪121‬‬
‫قص‬
‫بمحبة‪ ،‬يسألنني من ّ‬
‫ّ‬ ‫ارتدين النظارات فجأة لريونني‪ .‬حتدّ ثني الفتيات‬
‫شعرك؟ أنظر إىل نادية التي تسري بني اجلميع وكأنهّ ا كيان ومهي دون تو ّقف‪،‬‬
‫ِ‬
‫فعلت ما فعلته؟‬ ‫وأتساءل لمِ َ‬

‫أسري بخطوات بطيئة إىل املنزل‪ ،‬أستمتع باملعاكسات حتى السخيفة منها‪ ،‬يتف ّنن‬
‫املرصيون يف معاكساهتم التي حتوي إهانات فظة‪ ،‬يعتقدون أنهّ ا تسعد البنات‬
‫بشكل أو بآخر‪ ،‬ربام تكون فظاظتهم هي طريقتهم للفت االنتباه‪ ،‬طريقتهم‬
‫فعالة‪.‬‬
‫الغبية‪ ،‬نعم‪ ،‬لك ّنها ّ‬
‫ّ‬
‫أقف أمام مرآيت‪ ،‬أشعر ببعض االنتعاش الذي تشاركني فيه زهرات البتونيا‪،‬‬
‫تبدو اليوم أفضل حالاً ‪ ،‬أو أنّني سعيدة هلذه الدرجة‪.‬‬

‫أرشها باملاء‪ ،‬فتتفتح بتالهتا قليلاً ‪.‬‬


‫أجلس أمامها ّ‬

‫أزيل األوراق الذابلة والفروع املتكرسة‪ ،‬فتبدو أمجل‪.‬‬

‫أمي ما الذي فعلتِه بشعرك؟‬


‫تسألني ّ‬
‫‪- -‬قصيته‪ ،‬أليس أمجل؟‬

‫•بالتأكيد ال‪ ،‬هل استأذنتِني؟‬

‫يتهته أخي ببضع كلامت‪ ،‬يسألني لمِ َ خلعت احلجاب؟‬

‫‪122‬‬
‫‪- -‬هذا ليس من شأنك‬

‫•شأن َم ْن إذن؟‬

‫أتعجب من اهتاممهام املفاجئ‪ ،‬كنتام ال تالحظاين من قبل فام الذي حدث؟‬


‫ّ‬
‫لكن أمي توقفه‪.‬‬
‫هيب أخي لتعنيفي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫أنت حرة‪ ،‬تنهي كالمها‪ ،‬لك ّنك ستندمني‪.‬‬

‫عروسا أرتدي‬
‫ً‬ ‫عىل ماذا أندم؟ عىل التأ ّلق؟ عىل االهتامم؟ ربام ينتهي يب األمر‬
‫األبيض وأخرج من باب الكوافري‪.‬‬

‫أنظر لفتاة الكاشري اجلديدة اجلالسة يف سكون بشامتة‪ ،‬تتبدل األدوار وأتو ّقف‬
‫عن كوين ال أحد ولو لفرتة كافية أن أصري زوجة أحد‪ ،‬أو ّأم أحد‪.‬‬

‫أحالمي البسيطة هذه تكفيني ألسعد‪.‬‬

‫أسمع الفتيات كل يوم وهن يرددن‪ ،‬الزواج ليس كل يشء‪ ،‬أتابع منشورات‬
‫النساء القويات عىل الفيسبوك‪ ،‬مستقالت‪ ،‬نشطات‪ ،‬عامالت‪ ،‬لك ّني ال‬
‫أفهمهن‪.‬‬

‫هؤالء بكل بساطة‪ ،‬نسوة يملكن بيوهتن اخلاصة‪ ،‬مالبسهن األنيقة‪ ،‬مصدر‬
‫هلن بالرجل وال الزواج‪.‬‬
‫دخل ثابت‪ ،‬فال حاجة ّ‬

‫‪123‬‬
‫ربام تعيش كل منها حياهتا مع صديق أو عشيق‪ ،‬أ ّما أنا‪ ،‬فامذا ع ّ‬
‫يل أن أفعل؟‬

‫ضيقة باردة يف الشتاء وخانقة يف احلر‪ ،‬ال أعرف‬


‫أنام عىل رسير متهالك يف صالة ّ‬
‫«شكرا»‪ ،‬فال أسمع‪.‬‬
‫ً‬ ‫أحدً ا وال يعرفني أحد‪ ،‬أمت ّنى سامع كلمة لطيفة ولو‬

‫أحدّ ق يف سقف الغرفة بالساعات‪ ،‬الوحدة مقيتة‪ ،‬مؤملة‪.‬‬

‫الرجل فقط هو القادر عىل منحي بعض الدفء‪ ،‬بيت صغري ّ‬


‫أؤسسه بنفيس‪،‬‬
‫أرص املجات برتتيب معني‪ ،‬أضع أواين الزهر‬
‫ّ‬ ‫أختار كل كبرية وصغرية‪،‬‬
‫أخصص الرشفة الواسعة لزهوري التي لن تذبل هناك؛‬
‫ّ‬ ‫وأعلق اللوحات‪،‬‬
‫ألنّني سأعتني هبا جيدً ا كل يوم‪ ،‬أرشها بمرش ملون كبري‪ ،‬أجلس عىل أرجوحة‬
‫صغرية اشرتيتها أنا وزوجي كهد ّية مرور شهرين عىل لقائنا‪.‬‬

‫أتأمل الزهرات التي تكرب براحتها‪ ،‬أشعر ببعض الطمأنينة‪ ،‬وقتها فقط أصبح‬
‫أحدً ا‪.‬‬

‫األحالم مجيلة أ ّما الواقع فدائماً ما يكون عىل النقيض متا ًما‪ ،‬كانت األخبار‬
‫يف التلفزيون وعىل اإلنرتنت تتحدث منذ الصباح عن مدينتنا الصغرية التي‬
‫ال يأيت ذكرها قط‪ ،‬انفجار كبري هيز أرجاءها بشكل مل نعهده مسب ًقا‪ ،‬ينقلب‬
‫العامل فجأة‪ ،‬حيوهلا االنفجار إىل أشهر مدينة يف العامل‪ ،‬أقرأ اسمها عىل صفحات‬
‫مشاهري وكبار‪ ،‬أشخاص يمثلون كل ما أحلم به من وجود‪ ،‬يذكرون مدينتي‬

‫‪124‬‬
‫وكأهنم يمشون يف شوارعها كل يوم‪ ،‬لكي نصري «شيئًا» لكي نصبح «أحدً ا»‬
‫يلزمنا فعل صادم كانفجار يأيت من الال مكان‪.‬‬

‫لكنني مل أكن أدرك فداحة املوقف باخلارج بعد‪ ،‬أعيش يف حي بعيد وسكن‬

‫يبدو منفصلاً عن ّ‬
‫بقية املدينة‪ ،‬تنصحني أمي بعدم مغادرة املنزل اليوم فأرفض‬
‫متا ًما‪.‬‬

‫أسري يف الشارع يف طريقي للشفت املسائي بثقة مضطربة‪ ،‬أرتدي بنطلون جينز‬
‫ريا إىل الكاحلني‪ ،‬مع خلخال المع وحذاء ريايض‪ ،‬تيشريت بنصف ُكم‬
‫قص ً‬
‫اختارته معي جيالن‪ ،‬أكاد أصبح نسخة منها‪ ،‬لكن بال حجاب قصري إىل الوراء‬
‫كام تعقده‪.‬‬

‫شخصا حتى ولو كان نسخة‪ ،‬عىل األقل نسخة من عدد حمدود‬
‫ً‬ ‫أشعر أنّني‬
‫شائعا يف كل مكان‪.‬‬
‫وليس ً‬
‫تزداد حدّ ة املعاكسات فأشعر بالقلق‪ ،‬أحاول السري بشكل أرسع‪ ،‬يلطشني‬
‫ّ‬
‫بتشف‪،‬‬ ‫مؤخريت فأنتفض‪ ،‬أشعر بالرعب بينام يضحك هو‬
‫صبي صغري عىل ّ‬
‫ّ‬
‫فورا‪.‬‬
‫أشري لسيارة قادمة من بعيد‪ ،‬تتوقف فأركب ً‬
‫سيارات املالكي الصغرية التي يعمل أصحاهبا عليها طل ًبا لدخل إضايف‪ ،‬أميل‬
‫وأتشبث بحقيبتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫السائق عنوان الكوافري‬

‫‪125‬‬
‫العامل مرعب‪ ،‬األكثر إرعا ًبا هي نظرات السائق الغريبة يل يف مرآة السيارة‪.‬‬

‫ضيقة ومظلمة‪ ،‬يتعلل بازحام الشوارع الرئيسة بسبب‬


‫يدخل من شوارع ّ‬
‫فأتشبث بحقيبتي أكثر‪ ،‬أكتم أنفايس‬
‫ّ‬ ‫االنفجار الكبري الذي حدث هذا الصباح‪،‬‬

‫خو ًفا من أن يرش يل ً‬


‫خمدرا والزجاج مغلق‪ّ ،‬‬
‫أتذكر كل القصص التي قرأهتا‪،‬‬
‫ّ‬
‫سأمتكن من القفز من السيارة وهي‬ ‫أكتم نفيس أكثر فيحتقن وجهي‪ ،‬أفكر كيف‬
‫أحتسس الباب فأجده بال مقبض من الداخل‪ ،‬أشهق فينظر إيل جمدّ ًدا‪.‬‬
‫سائرة؟ ّ‬
‫‪- -‬آسفة جيب أن أنزل هنا‪.‬‬

‫•ملاذا؟ مل نصل بعد؟‬

‫‪- -‬نسيت حمفظتي يف املنزل أريد النزول‪.‬‬

‫يقف عىل جنب‪ ،‬متر دقيقتان كدت أموت فيهام‪ ،‬يرتجل هو من سيارته ليفتح‬
‫يل الباب من اخلارج‪ ،‬أدفعه به بقوة وأنزل من السيارة‪ ،‬جسمي كله يرتعش‪،‬‬
‫أسري بخطوات أقرب للركض يف الشوارع املظلمة‪ ،‬البيت قريب لكني أشعر‬
‫خمدرا بالفعل؟‬
‫بالتوهان‪ ،‬أشعر ببعض الدوخة‪ ،‬فهل رش يل ً‬
‫أقشعر‪ ،‬أركض‬
‫ّ‬ ‫أكاد أبكي من الرعب‪ ،‬صوت أ ّية خطوة من خلفي جيعلني‬
‫املتكس‪ ،‬أسقط عىل ركبتي‪ ،‬ال أبايل‪ ،‬أهنض من مكاين‬
‫رّ‬ ‫أرسع فأتعثّر بالرصيف‬
‫وأكمل الركض‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫يظهر البيت من بعيد وسط الظالم فأشعر وكأنّه مرفأ األمان‪ ،‬آخذ السالمل‬
‫ّ‬
‫وكأن هناك َم ْن يركض خلفي‪.‬‬ ‫درجتني درجتني‪،‬‬

‫أرضب بقبضتي يدي عىل الباب فتفتح يل أختي مفزوعة‪.‬‬

‫أدخل إىل البيت برسعة‪ ،‬ألقي بنفيس عىل الكريس اخلشبي املجاور للباب‪،‬‬
‫أمي نحوي‪ ،‬تنظر إىل مالبيس امل ّتسخة والقطع عىل ركبتي‪.‬‬
‫هترول ّ‬
‫‪- -‬ما الذي حدث؟‬

‫•ال شىء تعثّرت وأنا يف طريقي‪.‬‬

‫‪- -‬ملاذا رجعت؟‬

‫ال أعرف بام أرد‪ ،‬أخربها بأنيّ خائفة‪ ،‬خائفة من العامل‪ ،‬أشعر بأنّني هشّ ة وضعيفة‬
‫بعدما كنت أشعر بأنّني ال أحد‪.‬‬

‫‪- -‬خفت‪ ،‬كانت الشوارع مظلمة‪ ،‬واملعاكسات‪..‬‬

‫أمي من كتفي وهتزين بقوة‪..‬‬


‫•معاكسات؟ متسك يب ّ‬
‫‪- -‬هل فعل ِ‬
‫بك أحدهم شيئًا؟‬

‫واضحا‪ ،‬كان خو ًفا من‬


‫ً‬ ‫•أنظر إىل عينيها اللتني يبدو فيهام الذعر‬
‫املجتمع وليس خو ًفا ع ّ‬
‫يل‪ ،‬أظل صامتة فتهزين أكثر‪..‬‬

‫‪127‬‬
‫‪- -‬انطقي‪ ،‬هل مسك أحدهم؟‬

‫•ال‪ ،‬أبدً ا‪ ،‬أنا خفت من الظالم‪ ،‬مل ّ‬


‫أتعود عىل السري يف الظالم‪.‬‬

‫كتفي بغيظ‪ ،‬أدخل إىل غرفتها ألخرج عبايتي السوداء‬


‫ّ‬ ‫أنزع يدهيا من عىل‬
‫الطويلة‪ ،‬أعيد ربط اإليشارب عىل رأيس‪ ،‬أحتمي هبام عن اجلميع‪ ،‬عن أمي‪،‬‬
‫ونظرات اآلخرين‪ ،‬حترشاهتم وابتساماهتم اللزجة‪.‬‬

‫يل ولو كان خيالاً ‪ ،‬عن ظالم دامس أسري به‬


‫أحتمي هبام عن رائحة خمدّ ر يرش ع ّ‬

‫يف الشارع‪ ،‬عن سيارات بال مقابض‪ ،‬وأفكار يتجمدّ هلا عمودي الفقري‪.‬‬

‫أخرج من الغرفة فتنظر إيل أمي بال تعليق‪..‬‬

‫‪- -‬هكذا أفضل‪ ،‬أقول‪..‬‬

‫ال تر ّد ع ّ‬
‫يل‪ ،‬تنهض لتدخل إىل غرفتها من جديد‪ ،‬أنا أنا‪ ،‬فأنزل السالمل ببطء‪.‬‬

‫كان الظالم ال يزال معتماً ‪ ،‬لك ّني كنت جز ًءا منه‪ ،‬أشري لـ «توك توك» صغري‬
‫ينقلني إىل الشارع الرئيس بال خوف‪.‬‬

‫قدمي‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫ال ينظر إيل الصبي حتى‪ ،‬أناوله بعض اجلنيهات وأكمل السري عىل‬
‫أحد‪ ،‬أعود كام كنت ال أحد‪ ،‬أجلس عىل مقعدي ال أحد‪ ،‬ال يسألني أحد عن‬
‫التغيري املعاكس‪ ،‬ربام اعتقدوين فتاة كاشري جديدة خمتلفة‪ ،‬أظل ثابتة مكاين‪،‬‬

‫‪128‬‬
‫ملفاهتن التي ُكتبت فيها‬
‫ّ‬ ‫أدون أسامءهن‪ ،‬أمنحهن‬
‫أجيب عن أسئلة العميالت‪ّ ،‬‬
‫سيتوالهن من العاملني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫طلباهتن ومن‬
‫ّ‬

‫شكرا يا مجيلة‪ ،‬مرييس يا قمر‪ ،‬هل باسم موجود يا حبيبتي؟‬


‫ً‬
‫أتأمل الناس من حويل وال يراين أحد‪ ،‬أشعر ّ‬
‫بأن وجودي ومويت سواء‪ ،‬أحلم‬
‫مررته‬
‫بالتجمد مكاين‪ ،‬أتأمل «الكاتر» احلاد أمامي وأفكر‪ ،‬ماذا سيحدث لو ّ‬
‫ّ‬
‫عىل معصمي اآلن‪ ،‬هنا‪ ،‬وسط كل هذا احلشد‪ ،‬هل سينتبه يل أحد؟ هل سيشعر‬
‫يب أحد؟‬

‫تقف نادية أمامي وكأنهّ ا ظهرت من الال مكان كعادهتا‪ ،‬تبتسم يل‪ ،‬فال أقوى‬
‫حتى عىل ر ّد االبتسامة‪.‬‬

‫ّ‬
‫تلف نادية لتجلس بجواري خلف الكاشري‪ ،‬تناولني قطعة بسكويت فآخذها‬
‫بحركة آلية‪.‬‬

‫‪- -‬أنت تعنني يل الكثري‪..‬‬

‫•ماذا؟‬
‫ِ‬
‫أنت أحد بالنسبة يل‪ ،‬إنسان‪ ،‬امرأة مجيلة بشعرك‪ ،‬باإليشارب بأي يشء‪.‬‬

‫أنظر إليها بال فهم‪ ،‬متى حدّ ثتك عن كل هذه األشياء؟ تتناول يدي بني يدهيا‪،‬‬

‫‪129‬‬
‫قتتشبث هبا أكثر‪ ،‬أتوقف عن املحاولة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تضغط عليها بقوة‪ ،‬أحاول نزعها‬
‫أستسلم هلا متا ًما‪ ،‬أشعر وكأهنا متدين بالثقة‪ ،‬ال أبايل إن عرفني أحد أو ال‪،‬‬
‫يكفيني أنني أعرف نفيس‪ ،‬أنا مهمة أمام نفيس وكفى‪.‬‬

‫أضحك من فكرة أنني كنت أرغب يف قتل نفيس من أجل غرباء ال أراهم‬

‫سوى لبضعة ساعات يف اليوم‪ ،‬يمكنني يف ّ‬


‫أي وقت تركهم والرحيل‪ ،‬ال أحد‬
‫باق‪ ،‬اجلميع يرحل‪ ،‬لكنني باقية لنفيس فقط‪.‬‬

‫للتو‪ ،‬لكنها تبدو وكأنهّ ا‬


‫أنظر إليها وأنا أبتسم‪ ،‬أريد أن أحكي هلا ما اكتشفته ّ‬
‫مرهقة‪ ،‬تزداد التجاعيد حول فمها وعينيها‪ ،‬تعيد خصلتي شعر خلف أذنيها‬
‫وتنهض من جواري‪ ،‬تبتعد نادية بخطواهتا املتثاقلة‪.‬‬

‫ويف اليوم التايل أعلم بأنهّ ا ذهبت إىل األبد‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫جيالن‬

‫يطلبونني باالسم‪ ،‬جيالن وفتلتها األشهر يف هذا البلد‪.‬‬

‫أقف مستندة إىل احلائط يف غرفة البنات يف الدور العلوي‪ ،‬أنتظر الزبونات‬
‫عليهن دفع الضعف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لكي أشذب حواجبهن‪ ،‬من أجيل جيب‬
‫اخلصوصيات‪ّ ،‬‬
‫غري إكراميتي‪.‬‬

‫ألوك علكتي بصمت‪ ،‬وأنتظر‪ ،‬تناديني رهيام التي تتولىّ تنظيم العمل هلذا اليوم‪،‬‬
‫فأتجّ ه إىل الزبونة اجلديدة‪.‬‬

‫أضع بعض العطر عىل يدي‪ ،‬وأخرج فتلتي اخلاصة من درجي‪ ،‬أرتدي النظارة‬
‫الطبية وأقرتب من وجهها‪ ،‬وأبدأ عميل بصرب‪.‬‬

‫تتابعني الفتيات للتعلم‪ ،‬يقفن جواري يشاهدن كيف أنزع الشعريات بالفتلة‬

‫‪131‬‬
‫فقط دون استخدام امللقط وال املقص‪ ،‬أحف الشعر اخلفيف عىل جانبي الوجه‬
‫ً‬
‫بقشيشا‬ ‫وفوق الشفتني‪ ،‬ال أجرح برشة‪ ،‬ولو كانت برقة الورقة‪ ،‬متنحني الزبونة‬
‫سخيا‪ ،‬رسيعة‪ ،‬شاطرة وخفيفة اليد‪.‬‬
‫ًّ‬
‫الطبية‪ ،‬لتختفي املوجودات من أمامي‪ ،‬وأعود إىل مكاين من‬
‫ّ‬ ‫أنزع نظاريت‬
‫جديد‪.‬‬

‫يل يف املايض‪ ،‬أرتدي اجلينز ّ‬


‫الضيق القصري‪ ،‬الذي‬ ‫تتعرف ع ّ‬
‫إن رأيتني اليوم لن ّ‬
‫يظهر خلخايل الذهبي حول الكاحل‪ ،‬وحذاء ريايض ّ‬
‫ملون وبلوزات قصرية‬
‫ضيقة عىل الصدر‪ .‬ألف الطرحة للخلف خارج الكوافري‪ ،‬أ ّما داخله‪ ،‬فأترك‬
‫ّ‬
‫شعري يف ذيل حصان طويل‪.‬‬
‫ّ‬
‫ألمتكن من عالجه بالربوتني يف كوافري آخر حتى ال‬ ‫وفرت راتب ‪ 3‬أشهر‬
‫يعرف أحد حالته األصلية‪.‬‬

‫أمارس لعبتي ّ‬
‫املفضلة‪ ،‬أخلع النظارة فيختفي اجلميع من أمامي‪ ،‬أرتدهيا فال‬
‫أرى سوى منابت الشعر يف وجوه السيدات‪ ،‬أنفصل عن العامل‪ ،‬وأبتعد عنه‬
‫بإراديت‪ ،‬أنبذ نفيس بعدما نبذين اجلميع‪.‬‬

‫فتاة بائسة‪ ،‬بال جتارب عاطفية‪ ،‬وال كلمة إعجاب تدغدغ أذين سوى يف أحالم‬
‫يقظتي‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫أعيش يف واقع موا ٍز طيلة الوقت‪ ،‬فيه أنا أمرية األمريات‪ ،‬أرتدي فساتني صيفية‬

‫فأدوخ اجلميع‪ ،‬حتيط يب النظرات كام حتيط بنهال‬


‫ملونة‪ ،‬أسري يف الشارع ّ‬
‫قصرية ّ‬
‫التي تدلف من باب الكوافري كل أسبوع ليتأ ّملها اجلميع‪.‬‬

‫يمسها برش‪ ،‬هي جمرد فتاة مسكينة ال تشتهر‬


‫عاهرة‪ ،‬نجمة‪ ،‬وفتاة ملتزمة مل ّ‬
‫سوى بفتلتها‪.‬‬

‫فارسا عىل صهوة جواد‪ ،‬خيطفني من واقعي‬


‫ً‬ ‫يأتيني الباشا يف أحالم يقظتي‬
‫ٍ‬
‫بحسد‪ ،‬هذه هي السندريال التي‬ ‫البائس وحيملني إىل عامل آخر‪ ،‬تنظر إيل النساء‬

‫خطفت قلب الباشا إذن؟ يف عاملي أنا زوجته يو ًما‪ ،‬نتناقش حول مصاريف‬

‫األوالد وطلبات البيت‪ ،‬وعشيقته يو ًما‪ ،‬أتق ّلب معه عىل رسير مشتعل يف غرفة‬

‫محراء‪ ،‬هنرب من العامل ونداري عالقتنا عن اجلميع‪.‬‬

‫أنا غارقة يف أحالم يقظتي منذ الطفولة‪ ،‬منذ كنت أجلس يف الصف األخري يف‬

‫الفصل‪ ،‬نظاريت السميكة امللحومة‪ ،‬ذراعاها عىل وجهي املرتب‪ ،‬شعري ثائر‬
‫ّ‬
‫ألن أمي ال متلك الوقت الكايف لترسحيه يل قبل الذهاب إىل املدرسة‪.‬‬

‫أهنض بنفيس‪ ،‬أرتدي مالبيس‪ ،‬أمر عليها وهي جتلس أسفل البيت‪ ،‬تفرد‬

‫فرشتها مع بداية السوق‪ ،‬تبيع أمي الشباشب يف السوق أسفل بيتنا‪ ،‬جتلس‬

‫‪133‬‬
‫ّ‬
‫لتتمكن من‬ ‫زوجا أو اثنني‬
‫بخامرها األزرق ووجها املتعب‪ ،‬تدعو اهلل أن تبيع ً‬
‫إطعامي اليوم‪.‬‬

‫قرشا ألشرتي قلماً سنو ًنا ّ‬


‫ملو ًنا مثل الذي متلكه‬ ‫أطلب منها عىل استحياء ‪ً 75‬‬

‫بقية الفتيات يف الفصل‪.‬‬


‫ّ‬
‫‪- -‬وما الذي حدث لقلمك‪ ،‬هل بريتيه حتى انتهى؟‬
‫يتحسن ّ‬
‫خطي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وجنتاي‪ ،‬ال‪ ،‬لك ّني أريد «قلم سنون»‪ ،‬ربام‬
‫ّ‬ ‫•حتمر‬
‫ّ‬
‫تتنهد أ ّمي وخترج كيسها املربوط إىل صدرها من أسفل اخلامر‪.‬‬

‫أي يشء آخر‬


‫تعدّ عرشة قروش بخمس حتى جتمعها‪ ،‬وتقول‪ :‬ال تطلبي م ّني ّ‬
‫هذا الشهر‪.‬‬

‫أجري إىل املكتبة‪ ،‬أشرتي القلم امللون اجلميل‪ ،‬بسنونه ذات الرؤوس البيضاء‪،‬‬
‫وأدسها يف مؤخرته ليظهر السن الذي يليه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التي كلام انتهى أحدها أخرجها‬

‫أبتسم بفخر‪ ،‬وأمحله يف يدي وكأنّه إعالن عن قدريت عىل مواكبة اجلميع‪.‬‬

‫ال أعرف يل أ ًبا وال ً‬


‫أخا‪ ،‬أنا وحيدة مع أ ّمي منذ الصغر‪ ،‬املدرسة يف هناية الشارع‬
‫الذي أعيش فيه‪ ،‬السوق األكرب يف املدينة‪ ،‬نسمع صياح البائعني طيلة الوقت‪،‬‬
‫فال أنتبه للدرس‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫أخاف أن يسمعوا صوت أ ّمي لك ّنهم ليسوا يف حاجة لذلك‪.‬‬

‫ابنة بائعة الشباشب‪..‬‬

‫هذا اسمي منذ الصغر‪ ،‬أجلس وحيدة يف الديسك العريض؛ ّ‬


‫ألن ال أحد يقبل‬
‫باجللوس بجوار ابنة بائعة الشباشب‪ ،‬وحيدة منذ الصغر‪ ،‬ال أحد يقبل احلديث‬
‫ريا‪.‬‬
‫معي‪ ،‬رغم أنهّ م ال خيتلفون ع ّني كث ً‬
‫لكن أ ّمي وحدها من تبيع الشباشب فيه‪.‬‬
‫كلنا جريان يف شارع السوق‪ّ ،‬‬

‫أطلب من الفتاة اجلالسة أمامي ممحاة فرتفض‪.‬‬


‫درسة‪ ،‬تمُ ِس ُك بكراستي ّ‬
‫وتقطع ورقة الدرس‪.‬‬ ‫يل ا ُمل ّ‬
‫متر ع ّ‬

‫‪- -‬خطك سيئ‪ ،‬اعيدي كتابة الدرس من جديد‪.‬‬

‫تضحك ع ّ‬
‫يل الفتيات‪ ،‬يسقط م ّني القلم السنون اجلديد عىل األرض‪ ،‬تتناثر‬
‫السنون التي أدفعها من اخللف كلام انتهت ليخرج يل سن جديد‪.‬‬

‫السن واحدً ا خلف‬


‫أدس ّ‬‫أحاول مجعها بيدي‪ ،‬والوقت قد قارب عىل االنتهاء‪ّ ،‬‬
‫اآلخر‪ ،‬يتب ّقى مكان فارغ ال يظهر السن بدونه‪.‬‬

‫مشمئزة‪ :‬ابتعدي‬
‫ّ‬ ‫أنزل أسفل ّ‬
‫الدكة‪ ،‬أبحث عنه‪ ،‬أرفع قدم الفتاة أمامي فترصخ‬
‫ع ّني‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫السن فتكرسه‪ ،‬يتلف قلمي قبل أن أسعد به‪ ،‬أبكي بشدّ ة‪ ،‬وال أحد‬
‫تدوس عىل ّ‬
‫يراين‪.‬‬

‫ّ‬
‫يرن اجلرس فيخرجون‪ ،‬وأبقى أنا جالسة وحيدة أحاول إصالح قلم انتهى‬

‫قبل أن يبدأ‪.‬‬

‫أخرج من البوابة وسط عاصفة من رمال احلوش‪.‬‬

‫يتوقف األطفال لرشاء بعض احللوى أو «االستيكرزات» اجلديدة من بائعها‬

‫الواقف دائماً هناك‪ ،‬أ ّما أنا فأسري حتى فرشة أ ّمي للجلوس بجوارها‪.‬‬

‫يل الفتيات يرشن إ ّيل ويضحكن‪ ،‬أجتاهلهن‪ ،‬وأق ّلب يف الشباشب أمامي‪.‬‬
‫متر ع ّ‬
‫ّ‬
‫أرضا فال أرى‪ ،‬أتو ّقف عن رؤية ضحكات‬
‫الطبية السميكة‪ ،‬ألقيها ً‬ ‫أنزع ّ‬
‫نظاريت ّ‬
‫الفتيات‪ ،‬والسوق املزدحم‪ ،‬وأ ّمي بخامرها األزرق‪ ،‬ومالبيس امل ّتسخة وشعري‬
‫األشعث‪.‬‬

‫تتحول فيه أ ّمي إىل ملكة‪ ،‬وشباشبها إىل أحذية متأل اخلزانات‪،‬‬
‫أغرق يف عامل آخر ّ‬
‫وأجرهبا خارج القرص‪ ،‬تقف الفتيات يتأ ّملن مجايل‪ ،‬وفستاين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ألف بينها‬

‫امللونة اجلميلة ذات‬


‫صديقتهن‪ ،‬كل األقالم ّ‬
‫ّ‬ ‫يرسلن يل اهلدايا من أجل أن أصري‬

‫السنون‪ ،‬واملامحي املعطرة برائحة الفواكه‪ ،‬واملساطر الزجاجية التي تسبح فيها‬

‫‪136‬‬
‫السمكات الصغرية والنجوم الالمعة‪ ،‬واملقامل التي تعمل باألزرار‪ ،‬واحلقائب‬
‫ملونة عىل ظهرها‪ ،‬وكل «استيكرزات» العامل‪.‬‬
‫التي حتمل ساعة بعقارب ّ‬
‫ال تزال أ ّمي جتلس طيلة النهار عىل فرشتها‪ ،‬لك ّني تع ّلمت أ ّ‬
‫ال أخجل من‬

‫ذلك‪ ،‬مثلام تع ّلمت أن أهتم بشعري‪ ،‬وأ ّلفه بطرحة ّ‬


‫ملونة إىل اخللف فأداري‬
‫خشونته‪.‬‬

‫عيني بالكحل اخلفيف‪ ،‬وأرتدي مالبس املدرسة األصغر قياسني‪ ،‬أفتح‬


‫أحدّ د ّ‬
‫أزرار القميص العلوية‪ ،‬وأضع الكرافت عىل جانبني صدري وكأنّني أحدّ ده‪.‬‬

‫بعضهن‬
‫ّ‬ ‫أتع ّلم كل يشء وحدي‪ ،‬أتابع البائعات يف مدخل البيت يفتلن وجوه‬
‫مرة‪.‬‬
‫ألول ّ‬
‫منهن تعليمي‪ ،‬أمسك الفتلة ّ‬ ‫ً‬
‫بعضا‪ ،‬فأطلب ّ‬

‫تع ّلمني كيف أعقدها مرتني حول أصابعي‪ ،‬أضع الطرف اآلخر يف فمي‪،‬‬
‫وأمرر اخليط احلاد برسعة أسفل اجلذر عكس االجتاه فتخرج بسهولة‪،‬‬
‫وأشدّ ‪ّ ،‬‬
‫أجرب عىل يدي وساقي ووجه أمي‪ ،‬حتى ّ‬
‫أمتكن‬ ‫تصبح الفتلة لعبتي األثرية‪ّ ،‬‬
‫من تشذيب حاجبي بنفيس أمام مرآة‪.‬‬

‫أمتيز بقدريت‬
‫حواجبهن‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫أزداد د ّقة كل يوم‪ ،‬تأتيني البائعات يف البيت ألشذب‬
‫عىل رسم احلواجب كالف ّنانني‪ ،‬يمنحنني اهلدايا من الفواكه واخلضار‪ ،‬ربام قطعة‬

‫‪137‬‬
‫فأحتول من جيالن‬
‫أجرب تطوير مهاريت ونقلها إىل املدرسة‪ّ ،‬‬
‫مالبس أو بيجاما‪ّ ،‬‬
‫املنبوذة‪ ،‬إىل نجمة املرحلة اإلعدادية‪.‬‬

‫ريا يف الفسحة‪ ،‬يضعن يف‬


‫ألنوثتهن أخ ً‬
‫ّ‬ ‫تأتيني الفتيات الفائرات املنتبهات‬
‫أجلسهن عىل‬
‫ّ‬ ‫يدي مخسة جنيهات ويرشن حلواجبهن‪ ،‬نغلق علينا باب احلامم‪،‬‬
‫القاعدة وأخرج الفتلة‪ ،‬عرش دقائق لكل واحدة وننتهي‪.‬‬

‫لكن األمور ليست هبذه البساطة‪ ،‬كان جيب أن أتع ّلم ّ‬


‫أن احلياة قاسية وصعبة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ربام كان الز ًما أن أتع ّلمها هبذا الشكل‪.‬‬

‫يف عمر الرابعة عرشة‪ ،‬ما بني الطفولة واألنوثة كنت ال أزال أخطو‪ ،‬ربام وضعت‬
‫بعض الكحل دون أن تعلم أمي‪ ،‬ربام و ّفرت ثمن زبدة كاكاو محراء ابتاعها من‬
‫املحل املجاور ألصبغ هبا شفتي‪ ،‬ربام كنت أجيد الفتلة بالفعل‪ ،‬لك ّني إىل اليوم‬
‫ال أعرف إن كان هذا هو الذنب األسايس‪ ،‬أم ّ‬
‫أن هناك شيئًا آخر مل أعرفه‪.‬‬

‫املدرسة يف احلماّ م‪ ،‬ال نفعل شيئًا سوى تبادل خدمايت ببعض النقود التي‬
‫تضبطنا ّ‬
‫التحرر من كيس أ ّمي الضئيل املربوط دو ًما إىل صدرها‪ ،‬لك ّنها ترى هذا‬
‫ّ‬ ‫تتيح يل‬
‫كاف ًيا لكوين «مش مرتبية»‪.‬‬

‫‪- -‬فاجرة‪ ،‬هذا هو املتو ّقع منك‪..‬‬

‫الضيق إىل خارج البوابة‪.‬‬ ‫تشدّ ين ا ُمل ّ‬


‫درسة من ذراعي عرب احلوش ّ‬

‫‪138‬‬
‫اجلميع ينظر إ ّيل‪ ،‬الفتيات يطللن من الفصول عرب األسوار احلجرية العالية‪،‬‬
‫يتابعن فضيحة الفاجرة «بتاعة الفتلة»‪ ،‬كام سيطلقون ع ّ‬
‫يل لفرتة طويلة‪ ،‬ربام إىل‬
‫اليوم‪.‬‬

‫أدخل الغرفة الصغرية امللحقة بقسم النساء يف الطابق العلوي من الكوافري‪،‬‬


‫أقف يف الشباك الذي ّ‬
‫يطل عىل العامرة املجاورة‪ ،‬متتدّ أمامي رشفة كبرية تقف‬
‫فيها فتاة بالبيجاما تسقي زرعها‪.‬‬

‫أحلم بأن نتبادل األماكن‪ .‬أقف أنا هناك وسط األصص اململوءة بالورود‬
‫شباك مغلق بقضبان حديدية وكأنّنا سنهرب‪.‬‬
‫امللونة وتقف هي مكاين يف ّ‬
‫ّ‬
‫أشعل سيجارة منحتها يل ُمنى يف حلظة صفا‪ ،‬وأعيد ّ‬
‫تذكر هذا اليوم‪.‬‬

‫ساقي أمي‪ ،‬أقع فوق الشباشب امللقاة بعشوائية بعدما‬


‫ّ‬ ‫تلقي يب ا ُملدرسة عند‬

‫ق ّلبها املشرتون عرشات ّ‬


‫املرات منذ الصباح‪ ،‬تقول‪ :‬رفد أسبوع‪ ،‬حتى ترت ّبى‪،‬‬
‫تلطم أ ّمي وجنتيها وترصخ ّ‬
‫يف‪ :‬ماذا هببت؟‬

‫تشدّ ين من يدي إىل البيت‪ ،‬أ ّمي بوجهها املتعب احلزين كام هو‪ ،‬دون أن تتغيرّ‬
‫نظرهتا وال انفعاهلا حلظة‪ ،‬ترضبني بكلتا يدهيا‪ ،‬اللعاب فقط يتناثر من فمها‪،‬‬
‫فال أملك إال اإلشفاق عليها‪ ،‬أحاول مدارة وجهي بيدي‪ ،‬بينام تصعد النسوة‬
‫البائعات من السوق‪ ،‬يصدّ هنا ع ّني‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫‪- -‬روقي بالك يا أم جيالن‪ ،‬الفتاة صغرية وطائشة‪.‬‬

‫•ربام علينا تأديبها إذن‪..‬‬

‫ال تعرف أ ّمي ماذا فعلت بالضبط‪ ،‬أحاول أن أرشح هلا أنّني مل أفعل سوى‬
‫تشذيب حواجب الفتيات وقبض الثمن‪ ،‬لك ّنها ال تسمعني‪ ،‬ربام اعتقدتني‬

‫ألجتول مع الصبيان‪ ،‬أو ربام اعتقدتني ّ‬


‫تورطت يف عالقة‬ ‫ّ‬ ‫أهرب من املدرسة‬
‫مع مدّ رس كام ك ّنا نسمع حكايات مثرية تلوكها النسوة يف السوق عىل من ال‬
‫تعجبهن‪.‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ألمتكن من العودة‪،‬‬ ‫ثالثة أيام يف الفراش مل أبرحه‪ ،‬أنتظر انتهاء مدة تأديبي‬
‫الضيقة‪ ،‬واملدرسة الصغرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أضع سيناريوهات كثرية هلرويب من هذه احلارة‬
‫من البيت املمتلئ بالشباشب ورائحتها البالستيكية القاسية‪ ،‬ومن أ ّمي املتعبة‬
‫التي خترج مهها ّ‬
‫يف‪..‬‬

‫أسمع صوهتا قاد ًما مع أخريات‪ ،‬يرسن ببطء وكأنهّ ن خيفن إصدار صوت‪،‬‬
‫بقوة وال أعرف سب ًبا للكهرباء التي مألت اجلو فجأة بالتوتر‪ ،‬أحاول‬
‫يدق قلبي ّ‬
‫لكن يد أ ّمي كانت األسبق‪ ،‬تعيدين إليه بيد صارمة‬
‫النهوض من الفراش ّ‬
‫وتتمتم‪ :‬اصربي يا جيالن‪ ،‬دقيقتني وينتهي األمر‪.‬‬

‫‪ّ --‬‬
‫أي أمر؟ ما الذي ستفعلنه؟‬

‫‪140‬‬
‫بقوة إىل الرسير‪ ،‬بينام جتلس الثالثة أمام‬
‫كتفي ّ‬
‫يثبتن ّ‬
‫جتلس امرأتان خلف رأيس‪ّ ،‬‬
‫قدمي‪ ،‬تساعدها أ ّمي عىل خلع رسوال بيجامتي‪ ،‬ومالبيس الداخلية‪ ،‬تزيح‬
‫َّ‬
‫ّ‬
‫لتتمكن من الرؤية‪ ،‬أذكر وجهها املتص ّلب‪ ،‬وال مباالهتا وكأنهّ ا‬ ‫النقاب بيدها‬
‫حتضرّ وجبة اإلفطار ألوالدها‪ ،‬أرصخ‪ّ ،‬‬
‫أمتكن من فهم ما الذي حيدث‪ ،‬كانت‬
‫ريا عن رضورة اخلتان‪ ،‬تعدين بأكلة معتربة وعصري مانجو بعد‬
‫أ ّمي تتحدّ ث كث ً‬
‫االنتهاء‪ ،‬أفرح هبذا الوعد كطفلة مسكينة‪ ،‬إىل أن كربت وفهمت ما الذي‬
‫تتحدّ ث عنه بالضبط‪.‬‬

‫تعتقد أ ّمي أنهّ ا تقوم بتهذيبي‪ ،‬أرفسها بساقي فتتشبث هبا أكثر‪.‬‬

‫‪- -‬ماما‪ ،‬ال تفعيل‪ ،‬مل يعد أحد يفعل هذا‪ ،‬سأموت‪..‬‬

‫•لن متويت‪ُ ،‬ك ّلنا ِعشنا بعدها‪ ،‬هل تصدّ قني التلفزيون؟‬

‫‪- -‬أرصخ أكثر‪ ،‬أشعر بصويت خيتفي مثلام حيدث يف كوابييس‪ّ ،‬‬
‫أهز رأيس‬
‫حتى تسقط ّ‬
‫نظاريت عىل األرض‪ ،‬ختتفي الرؤية من حويل لك ّني أشعر‬
‫املمرضة التي جلبتها أ ّمي من مستشفى شعبي‬
‫بكل يشء‪ ،‬تفتح ّ‬
‫وجتز جز ًءا من‬
‫رفيعا ّ‬ ‫ً‬
‫مرشطا ً‬ ‫صغري يف هناية الشارع حقيبتها‪ ،‬تخُ رج‬
‫جسمي دون خمدّ ر‪ ،‬يغشى ع ّ‬
‫يل من األمل‪ ،‬وال أفيق سوى عىل نار‬
‫مؤملة تتصاعد يف جسمي‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫التبول أو احلركة‪ ،‬تتعجب أ ّمي من‬
‫أبكي ثالثة أيام يف حجريت‪ ،‬غري قادرة عىل ّ‬
‫بكائي‪ ،‬ومن رقادي الساهم عىل الرسير بال حراك‪.‬‬

‫الشباك املواجه يل ال يظهر سوى بقعة ضئيلة من السامء الزرقاء‪ ،‬أ ّثبت نظري‬
‫ّ‬
‫ويتوسع‪ ،‬وكأنّني أسري داخل‬
‫ّ‬ ‫الضعيف عليها‪ ،‬الرؤية ضبابية جتعل الشباك يمتدّ‬
‫السامء‪ ،‬أحلم بعامل آخر ٍ‬
‫بعيد عن املدرسة وعن البيت وعن الشارع‪ ،‬لك ّني ّ‬
‫مقيدة‬
‫بأملي‪ ،‬ال أقوى عىل اهلرب‪.‬‬

‫ّ‬
‫الصف‬ ‫أتعاىف بعد أيام‪ ،‬تنتهي فرتة رفدي وأعود إىل املدرسة‪ ،‬أعود إىل مكاين يف‬
‫األخري كمنبوذة بعدما تو ّقفت عن فتل حواجب الفتيات‪ ،‬وانتهت أمهيتي‬
‫هلن‪.‬‬
‫ّ‬
‫لك ّني أنتظر حتى االنتقال للثانوي الصناعي‪.‬‬

‫أحب امليش كل يوم ذها ًبا وإيا ًبا‬ ‫املدرسة بعيدة عن البيت‪ ،‬يف شارع هادئ ٍ‬
‫راق‪ّ ،‬‬
‫وحدي‪ ،‬أغرق يف عواملي اخلاصة‪.‬‬

‫أحب‪ ،‬أو أصادق مطربتي املفضلة‪.‬‬


‫أتزوج من املمثّل الذي ّ‬
‫ّ‬
‫يلوحون يل‬
‫رعيتي الذين ّ‬ ‫يف أحالمي أراين جالسة يف رشفة قرص كبري‪ّ ،‬‬
‫أطل عىل ّ‬
‫بأيدهيم‪ ،‬بجواري يقف األمري الذي ينقذين من بيتي ّ‬
‫الضيق‪ ،‬والشارع املزدحم‬
‫ببائعي السوق‪ ،‬أحترر من «بادهيات كارينا» الضيقة التي حتيط بجسمي فال‬

‫‪142‬‬
‫واسعا عاري الكتفني‪ ،‬ونسامت اهلواء تطيرّ‬
‫ً‬ ‫أستطيع التن ّفس‪ ،‬وأرتدي فستا ًنا‬
‫شعري‪.‬‬

‫أستعيد مكانتي يف املدرسة وتتصاعد أمهيتي بزيادة رغبة البنات يف رسم‬


‫حواجبهن‪.‬‬

‫القيود ضعيفة يف املدرسة الثانوية وتغري بالتمرد‪ ،‬لك ّني ّ‬


‫أظل كام أنا‪ ،‬هادئة‬
‫متا ًما‪ ،‬بالنظارة السميكة واحلجاب املثني إىل اخللف‪.‬‬

‫كنت ّ‬
‫أمر عىل مركز الباشا الذي يتم حتضريه يف طريقي كل يوم إىل املدرسة‪،‬‬
‫سنة بأكملها أتابع طالءه وجتهيزه وتركيب األبواب والنوافذ الزجاجية‪،‬‬
‫والتطعيامت اخلشبية باألرابيسك مثل القصور‪.‬‬

‫أشاهد الباشا يقف أمام املكان يتابع بصمت‪ ،‬يقف معه مساعدوه أحيا ًنا‪.‬‬

‫‪ّ --‬‬
‫أي خدمة؟‬

‫يفاجئني الباشا باحلديث وأنا أنظر إليه مبهورة‪ ،‬أرتبك‪ ،‬ال أعرف بام أرد‪.‬‬

‫•أأأأ‪ ،،،‬هل تريدون فتيات للعمل؟‬

‫‪- -‬ماذا جتيدين؟‬

‫•أنا ممتازة يف الفتلة‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫‪- -‬ممتازة؟ بكل ثقة؟‬

‫جربني‪.‬‬
‫•نعم‪ّ ،‬‬
‫‪- -‬حسن ًا لكن ليس اآلن‪ ،‬يمكنك العودة بعد أسبوعني‪ ،‬سأحتاج إىل‬

‫العديد من الفتيات اجلديدات‪ ،‬املكان م ّتسع‪.‬‬

‫أعود إىل البيت وقلبي يرقص‪ ،‬أسبوعان فقط يفصالنني عن هذا املكان الشبيه‬

‫بقصور أحالمي‪ ،‬عن الباشا الذي يبدو كفرسان احلواديت‪ ،‬املكان المع بشكل‬

‫المع لدرجة جتعلني أرى السوق‪ ،‬وسور املدرسة وبيتنا وكأنهّ ا‬


‫ختيله‪ٌ ،‬‬
‫ال يمكن ّ‬
‫مجيعا ّ‬
‫مغطاة باألتربة والغبار‪.‬‬ ‫ً‬

‫ختيلت‪ ،‬كل يشء المع‪ ،‬نظيف رائع‬


‫أ ّما من الداخل‪ ،‬فكان املركز أمجل مما ّ‬
‫اجلامل‪.‬‬

‫تتحرك يف صدري‪ ،‬كنت سعيدة وكأنّني‬


‫ّ‬ ‫مرة أشعر ببعض املشاعر‬
‫ألول ّ‬
‫ّ‬
‫فورا بمجرد رؤيته يل ممسكة‬
‫عثرت عىل كنزي اخلاص‪ ،‬وافق الباشا عىل تعييني ً‬
‫بالفتلة‪.‬‬

‫صعدت إىل الطابق العلوي‪ ،‬س ّلمني الباشا تيشريتني كـ «يونيفورم» ومريلة‬

‫صبغة‪ ،‬وحقيبة أنيقة هبا أدوايت‪ ،‬ومكان خلزانة يف غرفة البنات‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫مرة‪ ،‬أملك أدوات وأمهية ومنص ًبا‪ ،‬ومكا ًنا‬
‫ألول ّ‬
‫كنت أشعر أنّني أملك شيئًا ّ‬
‫أعيش وأعمل فيه بكل فخر‪ ،‬وليس خفا ًء يف دورات املياه القذرة يف املدرسة‪.‬‬

‫األول مع نقود اإلكراميات هات ًفا حدي ًثا بكامريا‪ ،‬حتى هذا‬
‫اشرتيت بمرتّبي ّ‬
‫الوقت كنت أملك هات ًفا صغ ً‬
‫ريا باألزرار‪ ،‬اشرتته يل أ ّمي بعدما دخلت املدرسة‬
‫الثانوية الصناعية‪ ،‬التي حصلت عىل دبلومها وأنا أعمل يف هذا املركز‪.‬‬

‫تكبرّ ت عن صديقات املدرسة منذ أن عملت‪ ،‬أ ّما أ ّمي فلم تصدّ ق أنّني قادرة‬
‫عىل اإلتيان بكل هذه األموال من الفتلة‪ ،‬حتى فرشتها صارت جمرد هواية‪،‬‬
‫جتلس عليها لتبادل األحاديث مع البائعات‪ ،‬وليس للرزق اجلدّ ي‪.‬‬

‫لكن أ ّمي مل‬ ‫الفتلة التي تمَ َ ّز َق ٌ‬


‫جزء من جسدي بسببها صارت عامد البيت‪ّ ،‬‬
‫تعرتف يو ًما هبذا‪.‬‬

‫حاجزا ضباب ًيا أمام الذكرى‪،‬‬


‫ً‬ ‫مل تعرتف يو ًما بجرمها نحوي‪ ،‬أما أنا‪ ،‬فوضعت‬
‫من الغريب قدرتنا عىل الغفران ملن نحبهم برغم فداحة فعلهم‪ ،‬أشعر وكأن‬
‫حبي جيربين عىل اخلضوع والنسيان‪ ،‬أشعر أحيا ًنا أن الكراهية قوة ال يملكها إال‬
‫من يستحقها‪ ،‬أما الضعفاء فمبتلون باحلب‪ ،‬مبتلون باسرتجاع مرارة الذكرى‬
‫وحدهم يف حلظات الصمت والسكون قبل النوم‪ ،‬دون حتى أن يملكوا القدرة‬
‫عىل الرصاخ أملًا‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫أمسك اهلاتف بني يدي‪ ،‬ألتقط يل الصور يف كل مكان‪ ،‬يف البيت‪ ،‬أمام املَ َرايا‪،‬‬
‫يف الكوافري‪ ،‬مع الزبونات‪ ،‬مع الفتيات‪ ،‬حتى الباشا وقف حلظة إىل جواري‬
‫مبتسماً وأنا ألتقط صورتنا ً‬
‫معا‪.‬‬

‫أصوره وهو يعمل‪،‬‬


‫توقف‪ ،‬أ ّدعي أنّني ّ‬
‫احلقيقة أنّني كنت ألتقط الصور له بال ّ‬
‫أصور ترسحية شعر العروس؛ أللتقط له الصور خلسة‪.‬‬
‫ّ‬
‫أنطلق ببطاقة الذاكرة إىل املكتبة املجاورة‪ ،‬جتلس رضا كعادهتا خلف الكمبيوتر‬
‫حتب غريها‪ ،‬تسألني طباعة؟ فأهز رأيس‬
‫العتيق‪ ،‬تسمع أغانيها الوطنية التي ال ّ‬
‫باإلجياب‪.‬‬

‫تنهض متململة من خلف املكتب‪ ،‬تتناول م ّني بطاقة الذاكرة‪ ،‬وتضعها يف‬
‫القارئ العتيق الذي مل يعد أحد يستخدمه‪ ،‬تضبط الصور عىل الشاشة وترسلها‬
‫جلهاز الطابعة‪.‬‬

‫‪- -‬ألوان أم أبيض وأسود؟‬

‫طبعا‪.‬‬
‫•ألوان ً‬
‫‪- -‬بالتأكيد‪ ،‬القمر األشقر جيب أن تطبع صوره باأللوان‪..‬‬

‫حيمر وجهي خجلاً ‪ ،‬أرصخ فيها بأنّني أطبع الصور لدراسة ترسحيات الشعر‪.‬‬
‫ّ‬
‫وهتز رأسها بال اهتامم‪.‬‬
‫تلوك علكتها بفمها املفتوح ّ‬

‫‪146‬‬
‫‪- -‬طبع ًا طبع ًا‪..‬‬

‫أنتزع منها األوراق بعنف‪ ،‬وألقي هلا بام طلبت‪ ،‬أهرع من جديد إىل الكوافري‪،‬‬
‫الضيقة التي ّ‬
‫تطل عىل املنور‪ ،‬أمام‬ ‫ّ‬ ‫إىل مكاين املنزوي يف غرفة البنات‪ ،‬الرشفة‬

‫احلديقة اخللفية الواسعة املمتلئة بأصص النباتات اخلرضاء‪ ،‬مكان هرويب‪،‬‬

‫عيني بشدّ ة‪،‬‬


‫أقرهبا من ّ‬
‫املكان الوحيد الذي أرتدي فيه نظارايت بخالف العمل‪ّ ،‬‬
‫أخبأه أسفل الكريس الثقيل املتهالك الذي ال جيلس عليه‬
‫وألتقط دفرتي الذي ّ‬
‫أحد‪.‬‬

‫دفرتي هو يف األصل أجندة وزّ عها علينا الباشا ضمن اآلالف التي وزّ عها يف‬

‫كل أنحاء املدينة بمناسبة السنة اجلديدة كام يفعل كل عام‪ ،‬دعاية حتمل صورته‬
‫يقف خلف رأس عروس مرتفع بالترسحية العالية‪ ،‬أتأ ّمل وجهه اجلميل حلظة‪،‬‬

‫ثم أفتح الدفرت للصق الصور اجلديدة‪ ،‬كان هذا هو متنفيس اخلاص‪ ،‬صوره‬
‫أقصهام وألصقها بجوار بعضهام ً‬
‫بعضا‪ ،‬مقرتبني‪ ،‬متالصقني كام‬ ‫وصوري‪ّ ،‬‬
‫نستحق أنا وهو أن نكون‪.‬‬

‫ماذا لو اختارين الباشا من بني اجلميع لينقذين من واقعي؟‬

‫التخيل وحده جيعلني قادرة عىل املواصلة‪ ،‬لكنه يف ذات الوقت يزيدين عزلة‬

‫‪147‬‬
‫ً‬
‫وإحباطا‪ ،‬أضع مئات السيناريوهات التي يمكن أن جتعل هذا ممكنًا‪ ،‬ثم أستيقظ‬
‫عىل جتاهله‪ ،‬أو مداعبته املستمرة جليجي‪ ،‬فينكرس قلبي‪.‬‬

‫معا‪ ،‬كلامت أغاين شريين وإليسا‬


‫أكتفي بكتابة اجلمل الرومانسية بجوار صورنا ً‬
‫باألمحر واألخرض‪ ،‬أضع قل ًبا بجوار صورته‪ ،‬وأكتب «عبايل حبيبي»‪.‬‬
‫ُأ َق ّب ُل الصور من جديد‪ ،‬وأغلق الدفرت‪ ،‬أخفيه بعناية‪ ،‬وأنزع ّ‬
‫نظاريت ألعود إىل‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫عزلتي االختيارية ّ‬
‫أسمع جيجي تنادي ع ّ‬
‫يل من اخلارج فأهرع إىل العمل‪ ،‬أنغمس فيه إىل املساء‪،‬‬
‫وأذهب‪.‬‬

‫يف اليوم التايل‪ ،‬كان كل يشء يبدو خمتل ًفا‪.‬‬

‫هتتز أمامي‪ ،‬حتى بدون‬


‫أدلف من باب الكوافري كالعادة‪ ،‬املوجودات الضبابية ّ‬
‫نظارات‪.‬‬

‫كانت االبتسامات الشامتة حادة وقاطعة‪ ،‬أكاد أراها عىل الوجوه املبهمة‬
‫املتشاهبة أمامي‪.‬‬
‫أنظر إىل فتاة الكاشري التي نسيت اسمها‪ ،‬لك ّنها تبدو يف عامل آخر ٍ‬
‫بعيد‪ ،‬أقول‬
‫صباح اخلري ألقرب كيان بجواري‪ ،‬لك ّنه ال ير ّد‪ ،‬يبتعد وجسمه ّ‬
‫هيتز أكثر‬
‫بابتسامة مكتومة‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫يف منتصف طريقي إىل الطابق األعىل‪ ،‬تدوي أغنية «عبايل حبيبي» بصوت‬
‫عال‪ ،‬يقشعر جسدي‪ ،‬وأشعر بالشعريات تنتصب أسفل رأيس‪ُ ،‬أ ِ‬
‫رسع اخلطى‬ ‫ٍ‬

‫أختبط يف السائرين فال أعتذر وال‬


‫إىل غرفة البنات‪ ،‬وشبه دوخة تعرتي رأيس‪ّ ،‬‬
‫يبالون‪.‬‬

‫الضحكات اخلافتة ترت ّدد من حويل‪ ،‬أبدو كالسائرين عرايا يف الكابوس‬

‫املقيت‪.‬‬

‫تتحول خطوايت إىل جري‪ ،‬أرسع لركني املنزوي‪ ،‬أمد يدي إىل حيث الدفرت‪،‬‬
‫ّ‬
‫فال أجده‪.‬‬

‫كانت الدنيا تدور يب‪ ،‬أرتدي نظارايت‪ ،‬وأبحث أكثر‪ ،‬أمدّ يدي إىل أسفل‬

‫الكريس‪ ،‬وأمامي يف الرشفة املجاورة‪ ،‬تسقي اجلارة نصف النائمة الزرع وهي‬

‫تنظر إيل بدهشة‪.‬‬

‫ساقاي ترجتفان وأنا أسري ببطء إىل مكتب الباشا‪ ،‬كنت أراهم اآلن بوضوح‪،‬‬
‫متيل ع ّ‬
‫يل فتاة من الفتيات وهي تغ ّني أغنية إليسا بصوت أخنف‪ ،‬أدفعها بيدي‬

‫بعيدً ا وأكمل السري‪.‬‬

‫تقف نادية أمامي‪ ،‬حتاول إمساكي بيدهيا فأدفعها هي األخرى‪ ،‬تستند عىل ظهر‬

‫‪149‬‬
‫كريس مرتفع قبل أن تسقط ً‬
‫أرضا‪ ،‬ال أبايل هبا رغم أنهّ ا الوحيدة التي مل تكن‬

‫تضحك‪.‬‬

‫هناك‪ ،‬أمام مكتب الباشا‪ ،‬كنت أرامها بوضوح‪ ،‬هو وجيجي جيلسان متالصقني‬

‫خلف املكتب‪ ،‬يتص ّفحان دفرتي الذي أعرف أنّه هو دون حتى إلقاء نظرة‬

‫مقربة‪ ،‬ويضحكان‪.‬‬
‫ّ‬
‫املحمر الساخر هيتز بال‬
‫ّ‬ ‫كانت عيناها دامعتني من كثرة الضحك‪ ،‬وهو بوجهه‬

‫صوت‪ ،‬ينتهك خصوصيايت بال مشكلة‪ ،‬يسخر من مشاعري علنًا أمام احلائط‬

‫متجمدة أمامهام حتى انتبها إ ّيل‪ ،‬كانت جيجي تكمل‬


‫ّ‬ ‫الزجاجي‪ ،‬كنت أقف‬
‫ً‬
‫مرتبكا‪.‬‬ ‫ضحكاهتا بال رمحة‪ ،‬أ ّما هو فنظر إ ّيل حلظة‬

‫أرى شفتيه تر ّددان اسمي‪ ،‬يناديني فأستدير إىل الناحية املقابلة‪ ،‬أخلع نظارايت‬

‫الضيقة‪ ،‬آخذ‬
‫ّ‬ ‫برسعة وكأنّني أدفن رأيس يف الرمال‪ ،‬أعود إىل الغرفة يف الرشفة‬

‫نفسا عمي ًقا حمملاً برائحة النعناع والرحيان من الرشفة أمامي‪.‬‬


‫ً‬

‫كانت نسامت الصباح ال تزال حانية‪ ،‬الشتاء يو ّدعنا هبدوء‪ ،‬وإليسا يف الداخل‬
‫تغ ّني أواخر ِّ‬
‫الشتا‪.‬‬

‫سيعود اجلميع إىل أعامهلم بعد قليل‪ ،‬وسأبقى أنا‪ ،‬ينقصني جزء جديد من‬

‫‪150‬‬
‫متزقه املشارط‪ ،‬وإنام قسوة اآلخرين التي ال ختتلف شيئًا ‪ ،‬ضحكاهتم‬
‫جسمي‪ ،‬مل ّ‬
‫اخلفية‪.‬‬
‫الباردة‪ ،‬وشامتتهم ّ‬
‫أنظر إىل قعر املنور الذي يبدو ال هنائ ًيا بال ّ‬
‫نظاريت‪ ،‬أتذكر «أليس يف بالد‬
‫العجائب» وهي هتوي إىل عامل آخر ٍ‬
‫بعيد وساخ ٍر‪ ،‬أضع قدمي عىل الكريس‬

‫فيهتز قليلاً ثم يثبت‪ ،‬فأصعد باألخرى‪.‬‬


‫ّ‬ ‫املتهالك‬

‫آخذ نفس ًا آخر‪ ،‬تنقصني خطوتني ألنتقل إىل عاملي الثاين البعيد‪ ،‬أحالمي غري‬

‫املمكنة‪ ،‬كل ما أبغاه‪ ،‬مكان مجيل برائحة النعناع والرحيان‪ ،‬هادئ‪ ،‬ساكن‪،‬‬

‫أحبها‪ ،‬بال برش‪ ،‬بال أ ّمي‪ ،‬بال الباشا‪ ،‬بال‬


‫أجلس فيه ألسمع املوسيقى التي ّ‬
‫أحد‪.‬‬

‫فتتشبث يب يدان قو ّيتان‪ ،‬تشدّ ين إىل اخللف‪ ،‬فأهوى‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أطل برأيس إىل األسفل‬

‫باملقعد الذي يعلن استسالمه حتت ثقيل عىل األرض‪.‬‬

‫مؤخرة‬
‫تتشبث يب نادية أكثر‪ ،‬كانت تبكي‪ ،‬أسمع نشيجها وهي ختفي أنفها يف ّ‬
‫ّ‬
‫رأيس‪ .‬أحاول نزع يدهيا فال أستطيع‪ ،‬تضغط ع ّ‬
‫يل أكثر‪ ،‬فأستسلم ليدهيا القو ّيتني‬

‫عىل عكس جسدها النحيف‪.‬‬

‫ّ‬
‫وكأن قلبي‬ ‫أشعر باخلفة‪ ،‬أحترر قليلاً ‪ ،‬ختتفي ّ‬
‫الغصة يف حلقي‪ ،‬أشعر باالكتامل‪،‬‬

‫‪151‬‬
‫أتعجب ممّا كنت ّ‬
‫أفكر فيه منذ دقائق‪ ..‬كيف جاءت‬ ‫ينمو جمدّ ًدا داخل صدري‪ّ ،‬‬
‫هذه الفكرة إىل رأيس ولمِ َ؟‬

‫أدير رأيس إىل نادية ونحن ال نزال راقدين عىل األرض‪ ،‬كانت ال تزال ختفي‬

‫ألول ّ‬
‫مرة حتى‬ ‫وجهها يف ظهري‪ ،‬لك ّنها عندما رفعته‪ ،‬كنت أراها بوضوح ّ‬
‫بدون النظارة‪.‬‬

‫أرى مالحمها اهلادئة احلزينة‪ ،‬هناك جتاعيد رفيعة غزت أسفل عينيها وجانبي‬
‫فمها‪.‬‬

‫تتو ّقف فيهام الدموع حلظة‪ّ ،‬‬


‫لتتعرج وتكمل مسارها‪.‬‬

‫ريا‪ ،‬كانت تنهض بتثاقل وهي‬


‫حررتني أخ ً‬
‫نظرت إىل وجهي حلظة أخرى‪ ،‬ثم ّ‬
‫كتفي بيدهيا‪ ،‬ثم استدارت لتبتعد بعرجتها التي بدت أثقل‪.‬‬
‫تستند إىل ّ‬
‫مرة أرى فيها نادية‪ّ ،‬‬
‫لكن وجهها يف هذه اللحظة بالذات‪،‬‬ ‫كانت هذه هي آخر ّ‬
‫كان قد ُح ِف َر يف ذاكريت إىل األبد‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫أم لوسيندا‬

‫أي اسم‪ ،‬ما دام مقرت ًنا هبذه احلروف‬


‫ناديني أم لوسيندا‪ ،‬أم لويس‪ ،‬أم لولو‪ّ ،‬‬
‫البهية التي تكون اسم ابنتي‪.‬‬

‫أما اسمي قبل جميئها فقد اقرتبت من نسيانه‪ ،‬أتذكره فقط عندما يرسل يل الباشا‬

‫مظروف راتبي الشهري‪ ،‬رغم أين أخربته ألف مرة أن يكتب عليه أم لوسيندا‪،‬‬

‫يضحك ويقول حارض يا أم لوسيندا‪ ،‬لكنه ينسى ذلك بعد حني‪..‬‬

‫تراين يف كل مكان يف الكوافري‪ ،‬ال أتوقف عن التجول‪ ،‬ممسكة بأدوايت‪ ،‬ال‬

‫فورا‪ ،‬وال بقعة‬


‫يمكن أن تفوتني خصلة شعر ملقاة عىل األرض دون كنسها ً‬
‫عىل املرايات‪ ،‬وال علبة سرباي موضوعة يف غري مكاهنا‪ ،‬وال منفضة سجائر غري‬

‫‪153‬‬
‫نظيفة‪ ،‬أنا أهم عنرص يف الكوافري‪ ،‬دائماً براق‪ ،‬يلمع‪ ،‬هذا اللمعان الذي خيطف‬
‫عني من يدخله كل مرة‪.‬‬

‫الباشا ال يستغنى عني‪ ،‬منذ اليوم األول الذي جلبني فيه جمدي زوجي إليه‬
‫للعمل‪ ،‬جمدي نفسه يعمل حارس األمن عىل الباب‪ ،‬وهو ً‬
‫أيضا َم ْن ينظم‬
‫السيارات باخلارج‪ ،‬سيارات الزفة لعرشين عروس يف اليوم يمكن أن تسبب‬
‫أزمة حقيقية لوال وجود جمدي‪.‬‬

‫ألنني أفضل عاملة‪ ،‬يسمح يل الباشا بجلب لويس معي‪ ،‬أتركها مع البنات يف‬
‫غرفتهن بالطابق األعىل‪ ،‬اجلميع حيب لوسيندا‪ ،‬كيف ال‪ ،‬وهي أمجل طفلة يف‬
‫العامل‪ ،‬هادئة ومطيعة‪ ،‬ال تفعل شيئًا‪ ،‬مل تعذبني ال يف محلها وال يف والدهتا‪.‬‬
‫ِ‬
‫حيميك يا لوسيندا‪ ،‬جئتني بعد شوقة‪.‬‬ ‫الرب‬

‫أنجبتها يف األربعني‪ ،‬مل يصدقني جمدي وأنا أخربه بأنني حامل‪ ،‬هو نفسه‬
‫تزوجني يف اخلامسة واخلمسني بعدما اكتشف فجأة أنه عاش عمره كله دون‬
‫زواج‪.‬‬

‫يعيش جمدي يف بيت من طابق واحد‪ ،‬بناه بنفسه عىل سور السكة احلديد‬
‫أمام سجن املدينة‪ ،‬متتد البيوت املبنية بدون ترخيص عىل امتداد هذا السور‬
‫بال رقيب‪ ،‬ال أحد يتعرض هلم‪ ،‬حمميني بحامية السجن نفسها‪ ،‬بينام أجتول أنا‬

‫‪154‬‬
‫بني الزائرين الواقفني يف حرارة الشمس يف انتظار البوابة لتفتح‪ ،‬أبيع املناديل‪،‬‬
‫وحبات التفاح الصغرية املغطاة بالكراميل يو ًما‪ ،‬أو بعض ثامر اجلميز‪ ،‬أو‬
‫أي يشء جتود به الدنيا واملزارعون يف قريتي ع ّ‬
‫يل به‪ ،‬لكسب‬ ‫التوت يف الربيع‪ّ ،‬‬
‫قوت اليوم‪.‬‬

‫أجلس بالطشت املعدين الصغري الذي حيوي ما أبيعه أمام باب بيت عم جمدي‬
‫كام أناديه‪ ،‬يسمح يل باجللوس يف الظل يف انتظار الزائرين قبل الزيارة وبعدها‪،‬‬
‫كان املكان مثال ًيا‪ ،‬أبيع ما معي يف ساعتني زمن‪ ،‬ثم أعود إىل قريتي من جديد‪.‬‬

‫يف أيام العطالت‪ ،‬أعمل يف تنظيف املنازل‪ ،‬أكايفء طيبة عم جمدي بتنظيف منزله‬
‫يف أعياد القيامة وامليالد بالذات‪ ،‬بيته مبني من الطوب واخلشب‪ ،‬ساحة صغرية‬
‫وضع هبا مائدة ومقعدين وجهاز تلفزيون‪ ،‬ثم سلم مصبوب من اخلرسانة بال‬
‫سور‪ ،‬يصل إىل الدور الثاين الذي هو عبارة عن غرفة واحدة هبا رسير متهالك‬
‫ودوالب وكنبة اسطمبويل قديمة‪.‬‬

‫ال يأخذ التنظيف سوى ساعتي زمن‪ ،‬أمسح األرض بالفنيك‪ ،‬وأعيد ترتيب‬
‫األثاث القليل‪ ،‬أشد املالءة عىل الرسير‪ ،‬وأضع له بعض الورد البلدي الذي‬
‫أبيعه يف األعياد‪ ،‬ينظر إليه ويبتسم‪ ،‬يقول البيت خمتلف بوجودك يا ست يا‬
‫رتيبة‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫حتمر وجنتاي املرشطتني بفعل الزمن‪ ،‬أربط اإليشارب األسود الصغري عىل‬
‫رأيس للخلف بإحكام وأرد‪ ،‬اهلل يكرمك يا عم جمدي‪.‬‬

‫أمر عىل البيوت املجاورة‪ ،‬أنظف هذا املنزل‪ ،‬أغسل الصحون ملنزل آخر‪،‬‬
‫«أزغط البط» ملنزل ثالث‪ ،‬أقوم بأ ّية مهمة ُتوكل إ ّيل‪ ،‬ألعود آخر النهار ببعض‬
‫اجلنيهات‪ ،‬التي أضعها يف يد أخي الذي أقيم معه يف داره‪ ،‬يف قرية صغرية عىل‬
‫ريا‪ ،‬حتى أنني ال أركب أ ّية مواصلة‪ ،‬أميش‬
‫مشارف املدينة‪ ،‬ال تبتعد عنها كث ً‬
‫قدمي كانتا‬
‫َّ‬ ‫بقدمي يف اخلف املسطح املتهالك‪ ،‬وكأنني أسري حافية‪ ،‬لكن‬
‫َّ‬ ‫املسافة‬
‫قد تعودتا عىل هذه املشقة من زمن‪ ،‬حتى أهنام قد كونتا طبقة صلبة‪ ،‬ربام أصلب‬
‫من اخلف ذاته‪.‬‬

‫أعيش مع أخي عوض‪ ،‬وزوجته وأطفاله‪ ،‬يف دار صغرية فقرية‪ ،‬هي دار أبانا يف‬
‫األصل‪ ،‬تزوج أخي فيها وأنجب وعاش‪ ،‬مل أسأله عن إرث بعد وفاة والدانا‪،‬‬
‫وهل يرث الفقري الفقري؟ يكفي أنه يرتكني أنام عىل فرشة يف الفسحة الصغرية‬
‫اخلارجية‪ ،‬بينام حيتشد هو وزوجته والصغار يف الغرفة الداخلية اخلانقة‪.‬‬

‫هناك عشة ملحقة نريب فيها بعض الدواجن والبط التعيس الذي ال يرس‬
‫الناظرين مثيل متا ًما‪ ،‬وكأهنا صفة موروثة يف عائلتنا حتى إىل احليوانات التي‬
‫تعيش حتت سقفنا‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫أستيقظ من الفجر‪ ،‬أحاول أن أكون خفيفة دائماً ‪ ،‬أغادر من الصباح؛ سع ًيا‬
‫للرزق متا ًما كام يفعل أخي‪ ،‬نحن أرزقية عىل باب اهلل‪ ،‬ال نستقر عىل عمل‪،‬‬
‫لكننا ال نعود إىل بام يسد رمق األطفال‪.‬‬

‫لذلك كانت دهشتي عارمة عندما طلبني عم جمدي للزواج‪،‬‬

‫عيني كالفتيات الصغريات‪ ،‬واالبتسامة ختجل حتى من الظهور عىل‬


‫ّ‬ ‫أبربش‬
‫شفتي‪...‬‬
‫َّ‬
‫‪- -‬أنا يا عم جمدي؟‬

‫مرة‪.‬‬
‫•نعم‪،‬أريد أن ائتنس بك يا ست رتيبة‪ ،‬الوحدة ّ‬
‫كنت قد لغيت فكرة الزواج من عقيل‪ ،‬هل يعقل أن تعود إ ّيل اآلن؟ أقرتب‬
‫من األربعني بثبات‪ ،‬حتى أن الشعريات البيضاء بدأت يف الظهور من أسفل‬
‫اإليشارب األسود الذي أعصب به رأيس دائماً كالعجائز‪.‬‬

‫‪- -‬لكن‪..‬أنا بائعة‪..‬عىل باب اهلل‬

‫•كلنا عىل باب اهلل يا ست رتيبة‪..‬‬

‫أنظر إىل عم جمدي بشكل خمتلف‪ ،‬كنا نقف أمام بيته يف الصباح الباكر‪ ،‬أمحل‬
‫«مشنة» هبا بضعة كيلوات من العنب األمحر‪ ،‬استطعت رشاءها من املزارعني‬
‫مكس‬
‫بزي العمل‪ ،‬قميص لبني رّ‬
‫لبيعها اليوم أمام السجن‪ ،‬وكان هو يقف ّ‬

‫‪157‬‬
‫وجيها رغم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حرشا يف رسوال أسود يشده فوق كرش عظيم‪ ،‬كان يبدو‬ ‫حيرشه‬

‫هرجلته‪ ،‬والشعريات البيضاء النابتة يف ذقنه‪ ،‬وشعره اخلشن األبيض الظاهر‬

‫من أسفل الكاب األسود مثل الضباط‪.‬‬

‫كانت االبتسامة مرسومة عريضة عىل وجهي اآلن‪ ،‬طلبت منه أن ينتظر‬

‫ألحدث أخي‪ ،‬وتركني هو ليذهب إىل العمل‪ ،‬مل ينس أن يرتك يل مفتاح بيته‪،‬‬

‫لو احتجت للراحة قليلاً ‪.‬‬

‫أمسك املفتاح يف راحتي وكأنني ملكت الدنيا‪ ،‬هل يمكن أن أحظى اآلن‬

‫بعد كل هذا العمر ببيت وزوج وحياة‪ ،‬بيت كامل ورسير بعد عمر كامل من‬

‫الفرش عىل األرض؟ أريكة وتلفزيون بل وصليب معلق عىل احلائط يمكني‬
‫تلمسه بدلاً من الصليب املرسوم يف نتيجة عتيقة هبتت ألواهنا املعلقة عىل حائط‬

‫دارنا دون تغيري منذ عرش سنوات‪.‬‬

‫وكأنني كنت يف حلم غريب‪ ،‬وكأن كل يشء حيدث لواحدة أخرى غريي‪ ،‬فيلم‬

‫عريب كاألفالم التي أشاهدها وأنا أنظف البيوت‪ ،‬يبدو أن طاقة النور انفتحت‬

‫قدمي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يل‪ ،‬بركات العذرا تلفني من رأيس إىل‬

‫أقف وسط الصالة الصغرية دون أن أيضء اللمبة الصفراء املتدلية من السقف‪،‬‬

‫‪158‬‬
‫بصيصا من النور النظيف املميز للصباح‬
‫ً‬ ‫الشباك املطل عىل السجن يدخل‬
‫الباكر‪ ،‬ونسامت لطيفة حتيط يب‪.‬‬

‫أقف أمام الصليب املعلق وأرفع عيني مبتهلة‪.‬‬

‫‪- -‬أشكرك يا يسوع‪.‬‬

‫مفتوحا منذ‬
‫ً‬ ‫يعود عم جمدي من عمله آخر النهار‪ ،‬أقف بجوار الباب الذي تركه‬
‫دخوله‪ ،‬جيلس عىل املائدة التي وضعت عليها طب ًقا من األرز وآخر من اخلضار‬
‫رسيعا‪ ،‬يكاد يطري من الفرحة بوجود غذاء ُمعد وجاهز فور‬
‫ً‬ ‫قمت بإعدادمها‬
‫وصوله‪ ،‬يسألني واألرز يتطاير من شدقيه‪:‬‬

‫‪- -‬متى يمكنني أن أفاتح أخيك؟‬

‫•أي وقت تريده يا عم جمدي‬

‫كنت أشعر بخجل مل أشعر به من قبل‪ ،‬وكأنني عدت إىل عمر السابعة عرش‪،‬‬
‫خيربين أنه سيزورنا غدً ا‪ ،‬أرشح له بالتفصيل العنوان الذي يتلخص يف اسم‬
‫القرية ثم السؤال عن دار عوض‪.‬‬

‫أسري إىل البيت دون الشعور بالوقت‪ ،‬دون االهتامم بالظالم‪ ،‬دون إلقاء قطع‬
‫احلجارة التي أمحلها دو ًما معي عىل الكالب الضالة اتقاء هلا‪ ،‬اليوم أنا متساحمة‬
‫مع كل الكائنات‪ ،‬فقط لو تسري كل األمور هكذا بسهولة ويرس‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫فورا أن هناك شيئًا ما غريب يف‪.‬‬
‫أدخل إىل الدار فتعرف زوجة أخي ً‬

‫‪- -‬ماذا بك؟‬

‫فورا ألصطدم بأرض الواقع‪،‬‬


‫هل تظهر السعادة هلذه الدرجة عىل وجهي؟ أعود ً‬
‫هل يقبل أخي أن أتزوج وأنتقل من بيته؟ أحرمه وأحرم أوالده من اجلنيهات‬
‫عيني فور سؤاهلا‪ ،‬أصمت قليلاً ‪ ،‬لكنني أرص‬
‫التي أربحها يوم ًيا؟ ختتفي ملعة ّ‬
‫عىل التشجع ومفاحتتها يف املوضوع لتفاتح هي أخي‪.‬‬

‫‪- -‬زواج؟ ح ًّقا؟‬

‫تنظر إيل وترفع حاجبيها‪ ،‬أقرر جتاهل تعبريات وجهها املتعجبة وأرجوها أن‬
‫تفاتح هي أخي‪ ،‬أخربها بأنه يعرف عم جمدي جيدً ا‪.‬‬

‫‪- -‬عم جمدي؟ إنه مثل أبيك‪..‬‬

‫•أنا لست صغرية يا رجاء‬

‫يدخل أخي من باب الدار يف اللحظة نفسها ‪ ،‬يضع جوالاً حيمله عىل كتفيه‬
‫ً‬
‫ملتقطا أنفاسه‪ ،‬تسارع رجاء ملساعدته‪ ،‬يسألنا فيام تتودودان‪..‬‬ ‫ً‬
‫أرضا وجيلس‬

‫جتيبه رجاء بصوت عال رغم رجائي‪..‬‬

‫‪- -‬رتيبة جاءها عدهلا‪..‬‬

‫‪160‬‬
‫ينظر إ ّيل عوض بدهشة‪..‬‬

‫‪- -‬ح ًّقا؟‬

‫أقف أمامه بخجل رغم أنني أخته الكربى‪ ،‬أمتتم باسم عم جمدي فقط دون‬

‫ناظرا إيل دون أي تعبري لعدة دقائق‪ ،‬ال أعرف ماذا‬


‫توضيحات‪ ،‬يظل أخي ً‬
‫أقول‪ ،‬لكنني فجأة أود قول الكثري‪ ،‬سأخربه أنني حرة‪ ،‬وأنني أود أن يكون يل‬

‫حياة وبيت بعيدً ا عن هنا‪.‬‬

‫أنني أريد فراش وأريكة ونافذة وتلفزيون ورجل أعد له غذاءه‪ ،‬إنني تعبت‬

‫من السري كل يوم من الفجر سع ًيا للرزق‪ ،‬وإنه رجل قوي وقادر عىل إطعام‬

‫أهل بيته‪.‬‬

‫لكني قبل أن أفتح فمي بكلمة‪ ،‬كان ينهض من مكانه‪ ،‬يعانقني بقوة‪ ،‬يقول‬

‫مربوك بسعادة حقيقية‪.‬‬

‫‪- -‬لقد استجاب الرب لصاليت‪ ،‬سأطمئن عليك يا رتيبة‪.‬‬

‫كانت رجاء تنظر إليه دون أن جترؤ عىل قول يشء‪ ،‬أما أنا فكانت دموعي تسيل‬

‫ذراعي حول أخي الذي ال أذكر متى أحتضني آخر مرة‪ ،‬ال‬
‫َّ‬ ‫بال صوت‪ ،‬أشد‬

‫أي شخص من األصل‪ ،‬كانت هذه جرعة كبرية من السعادة‬


‫أذكر متى ضمني ّ‬

‫‪161‬‬
‫مل أكن قادرة عىل حتملها‪ ،‬لكني رسعان ما اعتدهتا‪ ،‬بينام تسري األيام بسهولة‬
‫ويرس كام متنيت‪.‬‬

‫يتفق جمدي مع أخي عىل كل يشء‪ ،‬نتجه إىل الكنيسة القريبة يف املدينة لعقد‬
‫اجلبانيوت‪ ،‬يشرتي يل جمدي دبلة ذهبية حقيقية‪ ،‬أضعها يف يدي غري مصدقة‪،‬‬
‫ويشرتي لنفسه واحدة‪ ،‬كام يرص عىل رشاء سلسلة من الذهب الصيني من‬
‫املحل عىل ناصية شارع الصاغة‪ ،‬اختارها عىل شكل صليب صغري‪ ،‬يعقدها‬
‫هو حول رقبتي‪.‬‬

‫كنت قد ختليت عن اإليشارب الصغري‪ ،‬وتركت رجاء متشط شعري وتضع يل‬
‫بعض املساحيق‪ ،‬كنت أشعر بالفعل أنني مجيلة وكان جمدي يراين كذلك‪.‬‬

‫مل يكن هناك يشء لننتظره سوى وثيقة املوافقة عىل الزواج من الكاتدرائية؛‬
‫لذا قضيت الوقت يف جتهيز بعض املتاع القليل الذي هادتني به اجلارات‪،‬‬
‫كام منحتني رجاء بعض من جهازها‪ ،‬وأشرتيت أنا بعضه اآلخر بمدخرايت‬
‫القليلة‪.‬‬

‫أنتحي بعوض جان ًبا أسأله عام سيفعل بعد انقطاع دخيل يف البيت‪ ،‬خيربين أال‬
‫أقلق‪ ،‬وأن أهتم فقط بسعاديت‪ ،‬لكني كنت أفكر باالستمرار يف العمل بعد‬
‫الزواج ومساعدته‪ ،‬بالتأكيد لن يامنع جمدي‪ ،‬فهو طيب وابن حالل‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫يف يوم الزفاف‪ ،‬جاء جمدي الصطحايب يف سيارة أحد العاملني بالكوافري الذي‬
‫أرص عىل أن يزفه بنفسه‪ ،‬كان يرتدي بذلة سوداء ضيقة يبدو أنه استعارها من‬
‫أحد األصدقاء‪ ،‬لكنه بدا يف غاية اللطف‪ ،‬أما أنا‪ ،‬فأجرت فستا ًنا أبيض من‬
‫حمل قريب متعهد بأفراح قريتنا‪ ،‬أركب إىل جوار جمدي السيارة املزينة بالورود‬
‫كأنني أمرية‪ ،‬لننطلق إىل الكنيسة لعقد اإلكليل‪.‬‬

‫مل نقيم حفلاً بعدها‪ ،‬لكننا ذهبنا إىل مقهى قريب من الكوافري القديم‪ ،‬علمت‬
‫فيام بعد أن احلاج نفسه هو من قام باحلجز لنا فيه كهدية زفاف ملجدي‪ ،‬هناك‪،‬‬
‫كان بعض العاملني ينتظروننا لالحتفال‪ ،‬بينام حلق بنا أخي وزوجته وأطفاله‪.‬‬

‫رسيعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حتى احلاج جاء بنفسه مع ابنه ليبارك لنا‬

‫احلقيقة أنني شعرت بأنني هانم حقيقية‪ ،‬لقد انتقلت من مستوى إىل مستوى‬
‫آخر جديد ع ّ‬
‫يل‪ ،‬كنت منتشية بالفرحة‪ ،‬حتى أنني شعرت بعدها وكأنني‬
‫بالتأكيد أخذت نصيبي كله من السعادة يف هذه األيام‪ ،‬فكان حتم ًيا أن حيدث‬
‫يل كل ما حدث‪ ،‬لكنني رسعان ما أطرد أفكار الشيطان هذه من عقيل‪ ،‬وأعلم‬
‫أن كرم الرب ال يفنى‪ ،‬وعطاياه ال تنتهي‪.‬‬

‫عندما علمت أنني حامل‪ ،‬فهمت مجلة «كاد قلبي أن يتوقف» التي نقوهلا يف كل‬
‫موقف تافه ال يقارن‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫فوهتا القلب بالفعل‪ ،‬بعدما أخربين الطبيب يف‬
‫هذه املرة أشعر أن هناك دقة قد ّ‬
‫طواريء املستشفى اإلنجييل بالكلمة‪.‬‬

‫كنت قد توجهت إىل الطواريء بعد ذهاب جمدي إىل العمل بعد زواجنا بشهرين‬
‫متأخرا‪ ،‬يقف بنفسه مع الباشا الصغري‬
‫ً‬ ‫مبكرا ويعود‬
‫ً‬ ‫أو أكثر قليلاً ‪ ،‬كان يرحل‬
‫ليرشف عىل العامل الذين يعملون عىل إهناء املركز الكبري املنتظر افتتاحه‪ ،‬فلم‬
‫أرد إرهاقه باملزيد من العبء‪ ،‬كنت أشعر باإلعياء والغثيان‪ ،‬واعتقدت بأنني‬
‫مصابة بالربد الشديد‪ ،‬أقول للممرضة بتثاقل‪:‬‬

‫‪- -‬حييل مهدود يا سيسرت‪..‬‬

‫تسألني عن آخر ميعاد للدورة الشهرية‪ ،‬أخربها بأنني ال أتذكر‪ ،‬مل أكن أختيل‬
‫ممكن‪ ،‬تطلب عينة بول وتضع فيها اختبار للحمل‪ ،‬تعود إىل‬
‫ٌ‬ ‫حتى أن هذا‬
‫الطبيب الذي يطلب عينة دم للتأكد‪.‬‬

‫يأتيني الطبيب بالنتيجة بعد نصف ساعة‪ ،‬يقول مربوك‪ ،‬فأكاد أفقد الوعي‪،‬‬
‫يكتب يل يف الروشتة بعض املقويات‪ ،‬يقرأ يل األسامء واملواعيد فال أسمع شيئًا‪،‬‬
‫أتناوهلا من يده بيد ترجتف‪ ،‬أميش بحذر وكأنني يف شهوري األخرية‪ ،‬أقرر أن‬
‫أمر عىل جمدي يف الكوافري ألخربه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫واقف وسط العامل والرمال واألسمنت‪ ،‬العرق يغمر أسفل إبطيه‬ ‫كان هناك‬

‫‪164‬‬
‫ووجهه‪ ،‬وشعره األبيض أكثر ً‬
‫بياضا بفعل الرتاب‪ ،‬ربطة عنقه ملقاة عىل كتفه‪،‬‬
‫رائعا للغاية‪ ،‬وأنا كنت أضحك‬
‫والقميص خيرج من رسواله بفوىض‪ ،‬كان يبدو ً‬
‫بشدة حتى أنه التفت إىل صوت ضحكتي وأنا أقف بعيدً ا عىل رصيف املحل‬
‫املقابل‪.‬‬

‫مرسعا والدهشة تطل من مالحمه‪ ،‬يسألني ما الذي أتى يب‪ ،‬ال‬


‫ً‬ ‫يأيت باجتاهي‬
‫أستطيع التوقف عن الضحك‪ ،‬أريد أن أستجمع كلاميت ألخربه‪ ،‬لكني كنت‬

‫أضحك وأشعر بالدموع تنساب من ّ‬


‫عيني يف الوقت ذاته‪ ،‬يمسكني من كتفي‬
‫كرسيا فتفعل‪ ،‬أجلس وأنا ال أتوقف‬
‫ًّ‬ ‫ويطلب من السيدة يف املحل أن جتلب يل‬
‫عن البكاء والضحك‪ ،‬تربت السيدة عىل كتفي وهي تنظر إيل بشفقة‪ ،‬جيثو‬

‫جمدي عىل ركبتيه أمامي ويسألني ملهو ًفا عام حدث‪ ،‬أخ ً‬
‫ريا أستجمع قويت‬
‫وأخربه باجلملة‬

‫‪- -‬أنا حامل يا جمدي‪..‬ختيل أنا حامل‪..‬‬

‫مل ينطق جمدي بعدها‪ ،‬صمت حلظتني ثم بدأ يقهقه بقوة معي‪ ،‬يضحك ضحكته‬
‫املحرشجة التي أحبها‪ ،‬يضحك ويسعل وأنا أضحك وأبكي‪ ،‬والسيدة يف املحل‬
‫تضحك معنا وترضب ك ًّفا بكف‪.‬‬

‫الزلت أذكر جمدي وهو يقف يف منتصف الشارع أمامي وأمام العامل الكثريين‪،‬‬

‫‪165‬‬
‫وسط الرمل واألخشاب امللقاة وجبال الطوب وتالل األسمنت‪ ،‬ويرقص‬
‫ً‬
‫فاحتا ذراعيه‪.‬‬

‫الرجل الكبري ذو الشعر األبيض يرقص ويضحك واجلميع يضحك معه‪،‬‬


‫خيربهم أنه سيصبح أ ًبا فيشاركه العاملون الرقص يف منتصف الشارع‪.‬‬

‫إذا سألتني عن أسعد ثالث حلظات يف حيايت‪ ،‬ستكون هذه واحدة منهم‪،‬‬
‫الثالثة هي يوم طلبني جمدي للزواج‪ ،‬واألوىل بالطبع يوم رأيت لوسيندا للمرة‬
‫األوىل‪.‬‬

‫مل تكن شهور احلمل سهلة‪ ،‬كانت عذا ًبا شديدً ا حتملته بمفردي بدون شكوى‪،‬‬
‫كان جمدي حياول جاهدً ا مساعديت بكل الطرق‪ ،‬بينام كان أخي مشغولاً بالسعي‬
‫عىل رزقه طول الوقت‪ ،‬تأتيني زوجته يو ًما يف األسبوع ملساعديت بأعامل املنزل‬
‫ِ‬
‫أشتك قط‪ ،‬كنت أصيل كل يوم‬ ‫وتغيب طويلاً انشغالاً بأوالدها‪ ،‬لكنني مل‬
‫شكرا للرب عىل نعمته‪ ،‬أتاين جمدي بصورة كبرية للعذرا حتمل طفلها‪ ،‬أضعها‬
‫ً‬
‫أمام عيني وأحلم باليوم الذي سأمحل فيه طفلتي أنا األخرى‪.‬‬

‫وكأنني منذ أتيت إىل الدنيا كانت هذه هي مهمتي األسمى‪ ،‬أن أكون ًّأما‪ ،‬أم‬
‫لطفلة بالذات‪ ،‬أسميتها من قبل أن تأيت‪ ،‬ومل أبال بأن ختربين الطبيبة يف املستشفى‬
‫بجنسها يف الفحص الشهري‪ ،‬ألنني كنت أعلم أهنا لوسيندا‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫أرى لوسيندا وأشعر هبا من قبل أن تتكون‪ ،‬أرى بطني تكرب أمامي‪ ،‬أمسها‬
‫بحنان أعلم أنه يصلها‪ ،‬يأيت جمدي كل ليلة ليضع أذنه عىل بطني‪ ،‬ال يصدق أنه‬
‫هبذه الرسعة‪ ،‬صارت له حياة‪ ،‬وعائلة‪ ،‬أنه مل يعد وحيدً ا يعيش يف صمت‪ ،‬أن‬
‫هذا البيت مل يعد يرتدد فيه صوت القطار فقط‪ ،‬وصوت التلفزيون الذي مل يكن‬
‫يشعله إال قليلاً ‪ ،‬اليوم سيملؤه صوت طفلة حقيقية‪ ،‬تبكي وتلعب وتضحك‬
‫وتكرب وتذهب إىل املدرسة‪ ،‬ربام يعيش ليزوجها ً‬
‫أيضا‪ ،‬ويرى أطفاهلا وحيملهم‬
‫بيده‪.‬‬
‫ختربين الطبيبة أن فرصة الوالدة الطبيعية حمدودة يف سني هذا‪ ،‬وأهنا حتماً‬

‫ستضطر إىل اللجوء للوالدة القيرصية‪ ،‬أبتسم هلا وأخربها بأنني ال أبايل لو‬
‫قامت بشقي إىل نصفني إلخراج الطفلة‪ ،‬املهم أن تأيت سليمة‪.‬‬

‫تضحك الطبيبة وأضحك معها‪ ،‬كانت أيا ًما مجيلة‪.‬‬

‫أيام أستعد فيها لوصوهلا‪ ،‬أخيط هلا بنفيس فستا ًنا أبيض صغ ً‬
‫ريا ليستقبلها فور‬
‫والدهتا‪ ،‬يشرتي هلا جمدي كنزة وردية ورسوالاً يناسبان فتاة يف عمر السنتني‪،‬‬
‫ريا عليه‪ ،‬أخربه بأن مقاسهام كبري‪ ،‬فيزجمر قائلاً إهنا حتماً ستحتاجهام‬
‫أضحك كث ً‬
‫طبعا‪ ،‬أطبقهام وأضعهام يف الدوالب يف‬
‫ولو بعد حني‪ ،‬أطيب خاطره وأقول ً‬
‫مكان واضح لريامها دو ًما‪ ،‬حتى ترتدهيام له بعد عامني‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫يف يوم الوالدة‪ ،‬يأيت زميل جمدي من الكوافري بسيارته ليوصلنا‪ ،‬اسمه ماجد‪ ،‬هو‬
‫نفسه الذي زفنا يوم الفرح‪ ،‬أقوله له يا وش اخلري فيبتسم خجلاً ‪ ،‬يربت جمدي‬
‫متوترا يدخن كل دقيقة سيجارة ويلقيها دون‬
‫ً‬ ‫شاكرا‪ ،‬كان‬
‫ً‬ ‫عىل ظهره بعصبية‬
‫أن يكملها‪ ،‬أرى يديه ترتعشان‪ ،‬بينام أطبق أنا عىل الصليب املعلق يف عنقي‪،‬‬
‫أصيل إىل العذرا لتباركني وتبارك لوسيندا‪ ،‬نصل إىل املستشفى فأدخل إىل‬
‫غرفة االنتظار وحدي‪ ،‬أمحل بطانية كام طلبوا مني‪ ،‬وأجلس بروب العمليات‬
‫األخرض‪ ،‬وغطاء الشعر‪.‬‬

‫تركت مالبيس وصليبي مع جمدي لكني ال أتوقف عن الصالة‪ ،‬كان قلبي‬


‫رسيعا‪ ،‬أشعر برهبة ووحدة‪ ،‬لكني أتلمس بطني وأحتمي بفتايت‪ ،‬فأشعر‬
‫ً‬ ‫يدق‬
‫باألمان‪.‬‬

‫تدخلني املمرضة إىل الغرفة ناصعة البياض‪ ،‬يرتكوين وحدي دقيقتني‪ ،‬تدور‬
‫عيناي يف احليطان املغطاة بخزانات وأدوات غريبة‪ ،‬إىل الكشاف الضخم املعلق‬
‫يف السقف‪ ،‬فجأة أشعر بالعرشات حييطون يب‪ ،‬أنام عىل الرسير‪ ،‬يفردون ذراعي‬
‫عىل خشبتني كالصليب‪ ،‬كنت مصلوبة كاملسيح متا ًما‪ ،‬فزاد إيامين باقرتاب‬
‫خاليص‪ ،‬حيقنوين باملخدر ويضعون القناع عىل وجههي فأغيب عن الوعي‪.‬‬

‫ثم أفيق‪..‬‬

‫‪168‬‬
‫أشعر بحركاهتم من حويل‪ ،‬يدفعونني إىل املصعد فأحاول التحدث‬

‫‪- -‬أين ابنتي؟‬

‫تقرب ممرضة أذهنا إ ّيل لتفهم ما أقول‪..‬‬


‫‪- -‬بخري يا حبيبتي‪ ،‬سنجلبها ِ‬
‫لك بعد قليل‪..‬‬

‫•أشكرك‪..‬شكرا يارب‪..‬‬
‫ً‬
‫أشعر بالربد الشديد‪ ،‬أرجتف بقوة حتى أن أسناين تصطك‪ ،‬هناك أمل رهيب يف‬
‫ِ‬
‫أرجوك‪..‬بردانة‬ ‫بساقي‪ ،‬أقول غطيني‬
‫َّ‬ ‫بطني وظهري‪ ،‬ال أشعر‬
‫‪- -‬سأجلب ِ‬
‫لك بطانية أخرى‪..‬‬

‫أصل إىل جناح النساء‪ ،‬حيملونني من الرتوليل إىل الرسير‪ ،‬يضعونني برفق‬
‫لكنني أشعر أهنم يلقون يب من الدور العارش‪ ،‬أرصخ فيبكي جمدي بجواري‪،‬‬
‫أنظر إليه وهو ينحني ليلثم يدي‪ ،‬أربت عىل خده‪ ،‬وأسأله عن الطفلة‪.‬‬

‫‪- -‬قادمة‪ ،‬أخربتني املمرضة أهنا ستجلبها حالاً ‪.‬‬

‫ريا‪ ،‬حيملها جمدي‬


‫بجواره يقف أخي وزوجته‪ ،‬جتلب يل املمرضة لوسيندا أخ ً‬
‫ويقبلها وهو ال يتوقف عن البكاء‪ ،‬أمد يدي املرتعشة إليها‪ ،‬فيقرهبا إىل وجهي‪،‬‬
‫أرى وجهها للمرة األوىل‪ ،‬متغضن وأمحر‪ ،‬صغرية ومجيلة جدً ا‪ ،‬أشعر بالدموع‬
‫تسقط من عيني أنا األخرى‪ ،‬وأذهب يف سبات عميق‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫ورائعا‪ ،‬استبدل‬
‫ً‬ ‫عندما دخلنا إىل البيت مع لوسيندا‪ ،‬كان كل يشء مضيئًا‬
‫جمدي اللمبة الصفراء بأضواء النيون األبيض‪ ،‬طىل البيت كله باللون األبيض‪،‬‬
‫وأشرتى مائدة جديدة بثالثة مقاعد وكأهنا ستشاركنا األكل من اليوم األول‪.‬‬

‫ريا بجوار الرسير الكبري‪ ،‬وبعض األلعاب‬


‫رسيرا خشب ًيا صغ ً‬
‫ً‬ ‫اشرتى هلا ً‬
‫أيضا‬
‫املحشوة اجلميلة‪ ،‬كنت أتطلع إىل كل هذا بسعادة‪.‬‬

‫‪- -‬كيف حتملت كل هذا؟‬

‫•لوسيندا وش اخلري‪ ،‬منحني الباشا مكافأة‪ ،‬ثم وزع علينا مكافأة‬


‫أخرى بسبب افتتاح املركز الكبري‪ ،‬وال تنيس النقوط‪ ،‬أوالد حالل‬
‫يف الكوافري‪ ،‬حتى البنات نقطوين يا رتيبة‪..‬‬

‫‪- -‬أم لوسيندا‬

‫•ماذا؟‬

‫‪- -‬ناديني بأم لوسيندا‪ ،‬يا أبو لوسيندا‪..‬‬

‫نظر إيل وابتسم‪ ،‬بدا وكأنه يستطعم االسم اجلديد‪ ،‬من يومها وهو يناديني بأم‬
‫لويس‪ ،‬إال عندما نتعارك‪.‬‬

‫تتم لويس عامها األول وهي ال متنحني سوى الفرح‪ ،‬ال أنام وال أتوقف عن‬
‫خدمتها لكنني ال أشتكي‪ ،‬كان كل يشء له طعم جديد ورائع‪ ،‬تفتح عينيها‬

‫‪170‬‬
‫الزرقاوين الكبريتني فتضحك الدنيا‪ ،‬ينبت شعرها األشقر اخلشن‪ ،‬فأتباهى‬
‫به‪ ،‬وأبدأ بوضع التوك الصغرية وربطات الشعر امللونة‪.‬‬

‫أقيض بعض الوقت يف خياطة الفساتني امللونة‪ ،‬أو حكاية احلكايات‪ ،‬أو جتربة‬
‫اخلرضوات اجلديدة املهروسة‪ ،‬والفاكهة املختلفة هلا‪.‬‬

‫حتى أتى اليوم الذي سألني فيه جمدي إن كنت أود أن أعمل معه يف الكوافري‪.‬‬

‫خيربين أنني سأكون ولويس إىل جواره‪ ،‬سيحظى برؤيتنا أكثر بام أنه يعود ونحن‬
‫نائمون ويذهب ولويس نائمة‪ ،‬أو ينام طيلة النهار ويذهب بالليل‪.‬‬
‫‪- -‬كام أن الباشا سيجزل ِ‬
‫لك العطاء‪ ،‬يمكنك مساعدة أخيك كام كنت‬
‫تتمنني‪ ،‬ويمكنك اصطحاب لويس‪ ،‬ستتسىل بدلاً من اجللوس يف‬
‫البيت طيلة النهار‪.‬‬
‫أفكر جد ًيا يف العرض‪ ،‬يضغط ع ّ‬
‫يل بورقة عوض ألنه يعلم أنه يف حالة متعثرة‬
‫وأنني أود مساعدته‪ ،‬واحلقيقة أنني كنت أود ً‬
‫أيضا اخلروج من املنزل‪ ،‬ورؤية‬
‫البرش‪.‬‬

‫أوافق عىل العرض وأبدأ العمل يف املركز الضخم املبهر‪ ،‬أترك لويس يف غرفة‬
‫فورا‪ ،‬من ال‬
‫البنات‪ ،‬يتناوبن عىل االعتناء هبا‪ ،‬يقع كل من يراها يف غرامها ً‬
‫يمكنه حب لوسيندا اجلميلة‪ ،‬ال أعرف من أين ورثت هذا اجلامل‪ ،‬لكن جمدي‬

‫‪171‬‬
‫يرص أن والدته كانت تتمتع بعيون ملونة وشعر أشقر‪ ،‬فأهز رأيس موافقة حتى‬
‫ال يغضب‪.‬‬

‫أشعر أهنا جاءت مجيلة من كثر نظري إىل صورة العذرا‪ ،‬كنت أمتنى أن تأتيني‬
‫فتاة مجيلة الروح مثلها‪ ،‬ومجال الروح ينعكس حتماً عىل اخللقة‪ ،‬كانت لويس‬
‫مجيلة وطيبة‪ ،‬تداعبها البنات ويالعبنها ويشرتون هلا أكياس من احللويات‪،‬‬
‫بالذات نادية‪ ،‬الفتاة اجلميلة السمراء التي متلك عرجة بسيطة يف ساقها‪ ،‬كانت‬
‫شبه متفرغة‪ ،‬لذلك كانت لوسيندا جتلس معها معظم الوقت يف غرفة الست‬

‫منى‪ ،‬حتى الباشا يقبلها ويعطيها ً‬


‫قطعا من الشيكوالتة الثمينة‪ ،‬كنت أعلم أنه مل‬
‫ينجب‪ ،‬أدعو الرب أن يرزقه كام رزقني‪ ،‬وأعود أنا ولوسيندا كل ليلة حمملتان‬
‫بحقيبة مليئة بكل ما لذ وطاب‪.‬‬

‫لكن لويس مل تكن تأكل كل هذا‪ ،‬كانت ضعيفة للغاية‪ ،‬وكنت أتوسل هلا أن‬
‫تأكل‪ ،‬خيربين جمدي أن كل األطفال هكذا‪ ،‬وأهنا حتماً ستزداد وز ًنا كلام كربت‪،‬‬
‫كانت ستكمل العامني خالل شهور‪ ،‬لكنها مل تصل إىل الوزن املثايل بعد كام‬
‫أخربين الطبيب يف املستشفى عندما ذهبت إليه ليفحصها‪.‬‬

‫أشعر يف قلبي بأن هناك شيئًا غري طبيعي‪ ،‬زاد القلق عندما نادتني إحدى‬
‫الزبونات لتسألني عن لوسيندا التي تسري خلفي ممسكة بطرف جلبايب‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫‪- -‬هذه طفلتك؟‬

‫‪- -‬نعم‬

‫حتملها إىل ركبتيها‪ ،‬تتلمس عنقها وخلف أذنيها‪ ،‬تسألني عن االنتفاخ فيهام‪،‬‬
‫فأخربها أنني ال أعرف‪.‬‬

‫‪- -‬أنا طبيبة أطفال‪ ،‬ربام عليك أن تفحيص الطفلة‪ ،‬أين تذهبني عادة؟‬

‫‪- -‬املستشفى اإلنجييل‪.‬‬

‫خترج ورقة من حقيبتها وتكتب حرو ًفا باإلنجليزية‪ ،‬تناولني الورقة ومتنحني‬
‫إياها‪ ،‬تبتسم ملطفة األجواء‪.‬‬

‫‪- -‬ال تقلقي‪ ،‬فقط أعطي الورقة لطبيبك‪ ،‬فحص معتاد لألطفال حتى‬
‫ال نقلق‬

‫أشكرها لكني بالطبع أقلق‪ ،‬هذا الشعور بعدم األمان يلفني وكأنني رصت‬
‫عارية فجأة أمام اجلميع‪ ،‬أشعر أن قلبي يسقط يف بطني‪ ،‬وتتجمع القطرات‬
‫الباردة عىل جبيني‪.‬‬

‫أعلم أن السعادة املستمرة أكذوبة كبرية‪ ،‬هناك دائماً يشء ما حيدث‪ ،‬يشء ما‬
‫يذكرك بأن احلياة ال يمكن أن متنحك كل يشء‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫‪- -‬رب ال تدخلنا يف جتربة‪ ،‬لكن نجنا من الرشير‬

‫أجلس مع جمدي يف انتظار نتيجة التحاليل‪ ،‬كانت لويس قد استسلمت منذ‬


‫أيام ألخذ خزعة من ظهرها حتت املخدر بينام كاد قلبي يتوقف عليها‪ ،‬أنا التي‬
‫مل أكن قادرة عىل ختيل إجراء عملية اللوز هلا‪ ،‬أراهم وهم يغرزون إبرة طويلة‬
‫يف ظهرها بعد أن رفضت اخلروج وتركها وحيدة‪ ،‬فاضطروا إىل إلبايس رداء‬
‫معقم وكاممة وتركي إىل جوارها‪.‬‬

‫اليوم‪ ،‬ترتدي لويس الكنزة الوردية والرسوال األزرق اللذين اشرتامها هلا‬
‫ساقي‪ ،‬تداعب أنفي وفمي بيدها‬
‫َّ‬ ‫أبوها قبل مولدها للمرة األوىل‪ ،‬جتلس عىل‬
‫وتضحك‪ ،‬أنظر إليها‪ ،‬أمأل عيني بوجهها اجلميل‪ ،‬يربت جمدي عىل ركبتي‬
‫مشجعا‪ ،‬نجلس وحيدين يف الردهة شبه املظلمة‪ ،‬أمامي لوحة خشبية مكتوب‬
‫ً‬
‫عليها آية من إنجيل يوحنا‪...‬‬
‫ت‪َ ،‬ب ْل َأل ْجلِ جَم ِْد اهللِ‬ ‫ض َل ْي َ‬
‫س لِ ْل َم ْو ِ‬ ‫هذا المَْ َر ُ‬
‫َ‬

‫ً‬
‫ممسكا بأوراق‪ ،‬يداعب شعر‬ ‫يقرتب منا طبيب صغري السن‪ ،‬يقف أمام جمدي‬
‫لويس بيديه‪ ،‬حياول رسم ابتسامة لكنه يعجز عن ذلك‪ ،‬أفهم كل يشء دون‬
‫رشح‪ ،‬خيرب جمدي بتفاصيل أصبحت بعد ذلك هي عاملي وحيايت‪ ،‬خيربه عن‬
‫فورا إىل معهد األورام‪ ،‬والبدء يف العالج‪ ،‬وأن سنها الصغري‬
‫رضورة توجهنا ً‬

‫‪174‬‬
‫عيني‪ ،‬هل‬
‫يساعد عىل رسعة الشفاء‪ ،‬كان العامل يدور يب وحيايت كاملة متر أمام َّ‬
‫منحني الرب نعمته ليأخذها جمد ًدا وهبذه الرسعة؟‬

‫‪- -‬ملاذا يا رب؟‬

‫ينظر إيل الطبيب وجمدي فأكتشف أنني نطقتها بصوت عال‪ ،‬أبكي بصوت عال‬

‫خدي بيدهيا الصغريتني‪ ،‬أعلم أن جمدي حياول‬


‫ّ‬ ‫فينهرين جمدي‪ ،‬تربت لويس عىل‬

‫مصافحا الطبيب‪ ،‬يربت األخري عىل ظهره ويبتعد‪.‬‬


‫ً‬ ‫استجامع شجاعته‪ ،‬ينهض‬

‫يرفع جمدي رسواله عىل وسطه‪ ،‬يبدو وكأنه فقد نصف وزنه فجأة‪ ،‬تزداد‬

‫ظهورا‪ ،‬يأخذ مني الطفلة ليحملها هو‪ ،‬يسري هبا أمامي وأنا‬
‫ً‬ ‫التجاعيد يف وجهه‬

‫خلفهام بكتفني مهدلتني‪ ،‬كربت نصف عمري يف هذا اليوم‪ ،‬إن ُسئلت عن أسوأ‬

‫ثالث حلظات يف عمري‪ ،‬سأقول هذه اللحظة‪ ،‬هذه اللحظة‪ ،‬هذه اللحظة‪.‬‬

‫يستقبلوننا يف معهد األورام الصغري يف املدينة باحتفاء وتعاطف‪ ،‬هناك ً‬


‫أيضا‬

‫فرع ملستشفى األطفال للرسطان لكن الطبيب نصحنا بالذهاب إىل املعهد أولاً ‪،‬‬

‫يدرسون حالة لوسيندا جيدً ا‪ ،‬وجيرون هلا حتاليل أخرى وأشعة عىل الصدر‪.‬‬

‫أطلب من جمدي أن يذهب إىل العمل‪ ،‬ألننا سنحتاج إىل كل مليم اآلن‪ ،‬أحاول‬

‫التامسك من أجل ابنتي‪ ،‬أحاول التمسك بالقوة وباإليامن‪ ،‬وأتذكر العذرا التي‬

‫‪175‬‬
‫محلت يسوع وغادرت من القدس إىل مرص دون أن تعرف مصريمها‪ ،‬ال حتمل‬

‫معها سوى إيامهنا‪ ،‬فحاممها الرب‪.‬‬

‫يتفق األطباء عىل العالج الكيميائي املكثف ملدة شهر إىل شهر ونصف‪ ،‬بعدها‬

‫تبدأ مرحلة جديدة طب ًقا للنتائج‪.‬‬

‫ختربين طبيبة مهذبة ترتدي النظارات أن العالج يف حالة لويس نسبته عالية‬

‫جدً ا‪ ،‬وأنني جيب أن أتفائل‪.‬‬

‫‪- -‬يمكنها أن تشفى متا ًما خالل سنة‪ ،‬بعدها ثالث سنوات أخرى من‬

‫النقاهة وينتهي هذا الكابوس‪.‬‬

‫ال أتوقف عن الشكر والدعاء هلم‪ ،‬أشعر أنني ال أفهم أي يشء‪ ،‬لكنني أترك‬

‫هلم لوسيندا ليفعلوا هبا ما يشاءون‪ ،‬كانت تتأمل وكنت أنا أتأمل أكثر‪ ،‬أود أن‬

‫أمتص أملها هذا كله إ ّيل فال تشعر هي بيشء‪.‬‬

‫‪- -‬يارب انقل إ ّيل أملها يا رب‪..‬ياعذرا خففي عنها من أجل يسوع‬

‫خيربين األطباء أنني سأضطر للسفر كل أسبوع مرة واحدة إىل معهد األورام‬

‫الرئيس يف القاهرة‪ ،‬كانت الكلمة مرعبة بالنسبة يل‪ ،‬مل أذهب إىل هناك قط‪ ،‬وال‬

‫أعرف حتى كيف يذهبون‪ ،‬لكن الطبيبة تأخذين من ذراعي إىل سيدة جتلس‬

‫‪176‬‬
‫بجوار طفلها الذي يتلقى جرعته يف الوريد‪ ،‬تقول يل إن األمهات واآلباء‬

‫معا إىل املعهد‪ ،‬وأن بإمكاين االنضامم إليهم‪.‬‬


‫يتجمعون كل أحد للذهاب ً‬

‫واسعا‬
‫ً‬ ‫وقميصا‬
‫ً‬ ‫أجلس إىل جوار السيدة الشابة التي ترتدي رسوالاً من اجلينز‬

‫وحجا ًبا أبيض‪ ،‬تسألني عن حالة لوسيندا فأخربها بام فهمته‪ ،‬تكتب اسمي‬
‫واسم لوسيندا يف كتيب صغري حتمله‪ ،‬تقول سأحجز ِ‬
‫لك تذكرة يف القطار‪،‬‬

‫معا عربة واحدة حتى نأتنس‪ ،‬ويف املحطة ينتظرنا آباء آخرون‬
‫نحن نركب ً‬
‫بأتوبيس للذهاب إىل املعهد‪.‬‬

‫تطلب مني ثمن التذكرة فأناوله هلا‪ ،‬تؤكد عىل وجودي يف متام الساعة السابعة‬

‫صباحا يوم األحد فأهز رأيس موافقة‪.‬‬


‫ً‬ ‫والنصف‬

‫أخرب جمدي بكل ذلك فيبدو عليه القلق‪ ،‬هل سأمتكن من السفر وحدي‬

‫بالصغرية؟ فأخربه بأن السيدة ستكون معي‪ ،‬يوصلني يومها إىل املحطة بنفسه‪،‬‬
‫ويتأكد من شحن هاتفي برصيد ِ‬
‫كاف‪ ،‬ويضع يف يدي كل ما معه من نقود‪.‬‬

‫‪- -‬كوين معي عىل اهلاتف حلظة بلحظة‪.‬‬

‫أعده بذلك‪ ،‬أجد السيدة حنان تنتظرين مع آخرين‪ ،‬أطفال كثر يقفون أو‬

‫حيملهم آباؤهم وأمهاهتم عىل الرصيف يف انتظار قطار الثامنة إال الربع‪ ،‬الذي‬

‫‪177‬‬
‫ريا فنركب يف العربة رقم ‪ ،4‬التي ستصبح جز ًءا من جدول حيايت ملدة‬
‫يصل أخ ً‬
‫‪ 6‬أسابيع‪.‬‬

‫ساقي‪ ،‬فأغطيها‬
‫ّ‬ ‫أجلس مع لوسيندا يف العربة الباردة‪ ،‬تنام الصغرية عىل‬

‫بوشاحها‪ ،‬يشب األطفال األكرب عىل مقاعدهم لينظروا إىل الوافدة اجلديدة‪،‬‬

‫أنظر إىل وجوههم الصغرية اخلالية من شعر احلاجبني والرموش‪ ،‬رؤوسهم‬

‫الصلعاء متا ًما‪ ،‬أنقل برصي إىل لوسيندا‪ ،‬أشعر بقلبي يعترص عليها‪ ،‬ألهنا يف‬

‫طريقها لتفقد هي األخرى شعرها اخلشن األشقر الذي أحبه‪ ،‬رموش عينيها‬

‫وحاجبيها‪.‬‬

‫كانت الرحلة طويلة وشاقة‪ ،‬أما معهد األورام يف القاهرة فكان ضخماً مزد ً‬
‫محا‬
‫بالناس‪ ،‬لكن السيدة حنان ساعدتني يف االنتهاء من اإلجراءات األولية‪،‬‬

‫لتحصل لويس عىل جلستها‪.‬‬

‫يف طريق العودة كان كل األطفال نائمني‪ ،‬يف عربة الرسطان كام يسميها حمصلو‬

‫القطار كام عرفت فيام بعد‪ ،‬تسري فتاة شابة بني املقاعد‪ ،‬تدير عينيها بني األطفال‬

‫شاغرا إال بجواري‪ ،‬أمحل‬


‫ً‬ ‫املتشاهبني كلهم بتعجب‪ ،‬يبدو أهنا مل جتد مقعدً ا‬

‫حقيبتي لتجلس‪ ،‬تنظر إىل لوسيندا ثم إ ّيل‪ ،‬حتاول أن تبتسم يل لكنها ترتاجع‪،‬‬

‫‪178‬‬
‫نصف ابتسامة تيش بكل ما تريد قوله‪ ،‬تدمع عيناي فتدمع عيناها هي األخرى‪،‬‬
‫هتمس‪ :‬اهلل يشفيهالك‪ ،‬فأربت عىل كتفها هبدوء‪.‬‬

‫أصمم عىل العودة إىل العمل‪ ،‬رغم أن جمدي يطالبني باجللوس واالعتناء‬
‫بلويس يف البيت‪ ،‬أخربه بأهنا بخري‪ ،‬وأهنا ستصبح بخري‪ ،‬وأننا سنعيش حياتنا‬
‫بطبيعية‪.‬‬

‫كنت أصيح يف وجهه ألول مرة‪ ،‬بينام أمسك يف يدي بخصلة من شعرها اخلشن‬
‫التي خرجت يف يدي وأنا أمسده بأصابعي‪ ،‬حياول هتدئتي‪ ،‬فأصيح أكثر‪ ،‬يف‬
‫النهاية يرتكني ويذهب‪ ،‬فأتوقف بعد دقائق عن الرصاخ‪.‬‬

‫أمحل لوسيندا وأجته إىل الكوافري‪ ،‬كان اجلميع قد علم بمرضها‪ ،‬يستقبلونني‬
‫باألحضان والقبالت‪ ،‬حياولون مواسايت بالكلامت‪ ،‬يتناولن لويس من بني‬
‫يدي‪ ،‬حتملها الفتيات ويناولنها لبعضهن ً‬
‫بعضا‪ ،‬يبالغن يف تقبيلها وتدليلها‬ ‫ّ‬
‫أكثر من ذي قبل‪ ،‬أنتحي بنادية جان ًبا‪ ،‬وأطلب منها أن تقص شعر الفتاة متا ًما‪.‬‬

‫داع للرشح‪ ،‬هذه الفتاة تفهم متا ًما ما يدور يف رأس كل شخص يف‬
‫مع نادية ال ِ‬
‫هذا الكوافري‪ ،‬ربام كنت جاهلة أجيد القراءة والكتابة بصعوبة‪ ،‬لكني أعرف‬
‫أهنا خمتلفة عن اجلميع‪ ،‬ويف احلقيقة ال يشغل بايل كل هذا‪ ،‬إن كانت قادرة عىل‬
‫مساعديت‪ ،‬فلتكن حتى عفري ًتا‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫ريا‪ ،‬لكني أحاول‬
‫لكنها ال تفعل شيئًا‪ ،‬تكتفي بقص شعر لوسيندا التي تبكي كث ً‬
‫أن أرشح هلا أن كل األمريات يبدين هكذا اآلن‪ ،‬يشرتي هلا الباشا عروس‬

‫صغرية بال شعر‪ ،‬يقرتب منها مداع ًبا‪ ،‬جيلسها معه يف مكتبه وأنا أنظفه له‪،‬‬

‫أشكره عىل مواقفه الكثرية التي غمرنا فيها بالكرم‪.‬‬

‫تنتهي لويس من اجللسات الكيميائية‪ ،‬ويكتفي األطباء يف املعهد بأدوية أخرى‬

‫وجلسات وريدية كل أسبوع‪ ،‬خيربونني أهنا يف طريقها للشفاء‪ ،‬لكن الكابوس‬

‫مل ينتهي متا ًما‪ ،‬كنت أريد أن أنام وأستيقظ ألجدها كام كانت‪ ،‬شقراء مجيلة‬

‫صحيحة اجلسد بال رسطان‪.‬‬

‫يف هذا اليوم‪ ،‬كانت املدينة مشتعلة بأخبار االنفجار يف كنيستها‪ ،‬الكنيسة نفسها‬

‫التي شهدت زواجي‪ ،‬والتي كنت سأتوجه إليها مع لوسيندا اليوم للصالة لوال‬

‫جلسة عالجها يف املعهد‪.‬‬

‫مبكرا بعض اليشء‪ ،‬ويطلب مني أن أذهب إىل املنزل‬


‫يقرر الباشا إغالق املركز ً‬
‫وأطلب من جمدي املجيء الستالم النوبة الليلية قبل موعده الليلة‪ ،‬أهز رأيس‬

‫موافقة حلني مغادرة اجلميع‪.‬‬

‫مل يتبق سوى نادية‪..‬‬

‫‪180‬‬
‫هتبط إىل الطابق األريض فرتاين جالسة عىل األرض بجوار الباب‪ ،‬وبجواري‬

‫لويس‪.‬‬

‫تقرتب مني متسائلة‪ ،‬فأخربها عن االنفجار‬

‫‪- -‬نعم‪ ،‬أمر مؤسف ‪..‬‬

‫•لو مل تكن لوسيندا مريضة لكنا ميتتان اليوم‬

‫تنظر إيل وتبتسم ابتسامة خفيفة‪ ،‬هذه الفتاة تعلم كل يشء‪.‬‬

‫‪- -‬أريد أن أتأكد أن الرسطان سيختفي متا ًما‪..‬‬

‫•كيف يمكنك أن تفعلني؟‬

‫‪- -‬أنت تعرفني كيف‪..‬‬

‫كنت أنظر إليها وصدري يعلو وهيبط‪ ،‬هناك فرصة كبرية أن أبدو جمنونة لكني‬
‫ال أبايل‪ ،‬يداي ترتعشان‪ ،‬لكني مستعدة لتقبيل قدميها لو أرادت‪.‬‬

‫‪- -‬يا ست نادية أنت تعرفني كل يشء‪..‬‬

‫تنظر إيل بحزن عميق‪..‬‬

‫‪- -‬لكني ال أملك شيئًا‪..‬صدقيني‪ ،‬واهلل ال أملك شيئًا‪ ،‬لقد اكتشفت‬


‫الليلة أنني أرض وال أنفع‪..‬‬

‫‪181‬‬
‫•لكنك تنقذين النساء‪ ،‬انقذيني‪ ،‬سأموت لو فقدهتا‪..‬‬

‫تنظر إىل لوسيندا اجلالسة عىل األرض تنظر لنا وال تفهم شيئًا‪ ،‬إىل شعرها الذي‬
‫بدأ يف اإلنبات‪.‬‬

‫‪- -‬مل أستطع أن أنقذ السيدة فلك‪..‬تعرفينها؟ السيدة الطيبة التي ال‬
‫تؤذي أحدً ا‪.‬‬

‫•نعم‪ ،‬سمعت بام حدث‪ ،‬لكن‪..‬يمكنك التعويض اآلن‪..‬يمكنك أن‬


‫تنقذي طفلة‬

‫أمرا صع ًبا‪..‬مل أفعله إال قليلاً ‪ ،‬ثم أنه‪..‬‬


‫‪- -‬أنت تطلبني ً‬
‫أقاطعها دون أن تكمل‪..‬‬

‫‪- -‬لكنك قادرة عليه أليس كذلك؟‬

‫تنظر إيل وكأهنا تفكر‪ ،‬ثم حتمل الطفلة إليها‪ ،‬تبتسم فتبتسم هلا لوسيندا‪،‬‬
‫وتطوقها بذراعيها الصغريتني‪ ،‬تقرب نادية رأسها من رأس الصغرية‪ ،‬تتامس‬
‫جبهتيهام‪ ،‬فأشعر أنا بالوهن للحظات‪ ،‬وكأنني سقطت يف بئر عميق أو فقدت‬
‫اإلحساس بالوقت‪ ،‬مل أشعر سوى بلوسيندا متسك يدي ونحن واقفتان أمام‬
‫الباب‪ ،‬بينام تبتعد نادية إىل داخل الكوافري‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫تبدو خمتلفة أم أنني أنا التي ال أرى؟‬

‫ً‬
‫منكوشا كام‬ ‫أنظر إىل لوسيندا فأرى شعرها األشقر اخلشن طويلاً وفوضو ًيا‪،‬‬
‫عيني وأقرتب منها‪ ،‬أملسه بيدي‪ ،‬أجذبه وأشده‪ ،‬تتأوه‬
‫كان قبل كل هذا‪ ،‬أفرك َّ‬
‫لويس‪ ،‬فأمحلها معتذرة‪..‬‬

‫‪- -‬آسفة يا لويس‪ ،‬آسفة يا حبيبة ماما‬

‫أفتح الباب الزجاجي برسعة ألذهب إىل البيت‪ ،‬بينام أسمع خطوات نادية من‬
‫ورائي‪ ،‬أخرج بينام متسك نادية بالباب لتخرج من ورائي‪ ،‬ألتفت إليها ألحتضنها‬
‫بقوة‪ ،‬كانت حتاول تعديل شعر مستعار أسود وضعته برسعة عىل رأسها‪ ،‬أنظر‬
‫يف عينيها بقوة فتضع إصبعها عىل فمها مبتسمة تدعونني للصمت‪ ،‬أحتضنها‬
‫من جديد وأنا أبكي فتدفعني ألذهب‪ ،‬أخلع الصليب من حول عنقي‪ ،‬وأضعه‬
‫يف يدها فتضمها حوله شاكرة‪ ،‬تستند عىل الباب حلظة ثم خترج يف اجتاه املحل‬
‫املقابل‪.‬‬

‫يف اليوم التايل عرفت أن نادية‪ ،‬الفتاة الطيبة السمراء اجلميلة‪ ،‬قد ماتت‪ ،‬لكني‬
‫متأكدة أهنا رحلت إىل حيث تنتمي حقيقة‪ ،‬جنة الرب‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫ياسمني‬

‫كانت غرفتي زهرية‪..‬‬

‫اليوم بعد ‪ 5‬سنوات ونيف‪ ،‬هذا أكثر ما أذكره عنها‪ ،‬غرفتي كانت زهرية‬
‫اللون‪ ،‬زينت سقفها أنا وشقيقتي بالنجوم التي تتألق يف الظالم‪ ،‬نرقد يف املساء‬
‫نتأملها ونحلم‪ ،‬أحال ًما تبدو مضحكة مقارنة بأحالمي اليوم‪ ،‬بعدما اختفت‬
‫الغرفة الزهرية‪ ،‬والنجوم والسقف الذي حيمينا‪.‬‬

‫تسابقني ورد إىل بائع الذرة‪ ،‬نتناول منه كوبني‪ ،‬نلتقط احلبات الساخنة ونعود‬
‫إىل بيتنا مرسعني‪ ،‬أمي تنتظر ككل يوم عودتنا لتوضيب املائدة‪ ،‬ال يشء حيدث‬
‫يف احلياة‪ ،‬ال يشء سوى شغف انتظار عودة أبينا الغائب دو ًما يف البحر‪ ،‬حتى‬
‫مواعيد عودته ال نعرفها‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫أذكر ً‬
‫أيضا أن رائحة اهلواء كانت ختتلف‪ ،‬هواء حلب معبق بيشء ال أعرفه‪،‬‬
‫ربام لو شممته أنت ملا شعرت به عىل اإلطالق‪ ،‬إهنا هذه الرائحة التي ختترص‬
‫الوطن‪ ،‬والتي جتعلك تشعر براحة ما‪ ،‬أنت آمن‪ ،‬حتى لو كان وطنك ضائع‪،‬‬
‫كانت الثورة دائرة يف شوارع سوريا‪ ،‬وكانت حلب يف مأمن‪ ،‬مل ينزل أحد إىل‬
‫الشوارع إال بعض النازحني من أدلب يف حي صالح الدين‪ ،‬لكننا كنا بعيدين‬
‫متا ًما‪ ،‬مل أدر أن ما أراه عىل شاشة التلفزيون حيدث يف وطني‪ ،‬إال عندما رأيت‬
‫القلق باد ًيا عىل وجه أمي‪.‬‬

‫احلقيقة أنني أضحك اليوم عندما أتذكرين وورد وقتها‪ ،‬كان األمر بالنسبة لنا‬

‫ريا للغاية‪ ،‬حتى أنني متنيت ًّ‬


‫رسا لو تنتقل هذه األحداث إىل حلب‪ ،‬هذه‬ ‫مث ً‬
‫األمنية التي أندم عليها اليوم مائتي مرة‪ ،‬بعدما جاءت الثورة بأكملها إلينا يف‬
‫شهر رمضان من عام ‪.2012‬‬

‫مع أول انفجار حيدث يف حلب‪ ،‬كانت أمي قد حسمت رأهيا‪.‬‬

‫‪- -‬علينا الرحيل مع اآلخرين‪ ،‬لن أنتظر أن يتهدم البيت عىل رؤوسنا‬
‫أكثر من ذلك‪.‬‬

‫كانت العنارص املسلحة تتوغل أكثر يف حي هنانو‪ ،‬يف الوقت نفسه الذي كنت‬
‫أمللم فيه حاجيايت القليلة مع أمي وورد‪ ،‬أترك لعبي وكتبي الدراسية وألبومات‬

‫‪186‬‬
‫الصور‪ ،‬ونكتفي باملالبس وبعض األشياء الثمينة التي محلناها يف حقائب‬
‫الظهر‪ ،‬مل تأبه أمي بيشء سوى اخلروج وبأرسع طريقة من هنا‪.‬‬

‫نزحنا مع اجلريان يف سيارة صغرية تكدسنا فيها ً‬


‫مجيعا إىل طرطوس يف رحلة‬

‫قصرية‪ ،‬مل يكن الوضع خط ً‬


‫ريا حينها‪ ،‬كانت مثل أية أسفار أخرى‪ ،‬فلم نشعر‬
‫بفداحة املوقف‪ ،‬مل تسنح يل الفرصة أن ألقي نظرة أخرية عىل مدينتي‪ ،‬أن أشم‬
‫رائحتها‪ ،‬أميش يف شوارعها‪ ،‬أتأمل بناياهتا اجلميلة‪ ،‬أو أذهب للسوق القديم‪ ،‬مل‬
‫تسنح يل الفرصة لتوديع بائع الذرة الطيب‪ ،‬وال التقاط بعض من زهر الياسمني‬
‫املزهر دو ًما من رشفتنا‪ ،‬حتى النجوم يف سامء غرفتي تركتها هناك‪ ،‬كنت أعتقد‬
‫أننا سنعود‪ ،‬كنت قلقة عىل َم ْن سيسقي الورد‪ ،‬ومن سيطعم قطط البناية بعد‬
‫الرحيل‪ ،‬اليوم أمحل نفيس الذنب وأسأل‪ ،‬هل يمكن أن يكونوا قد بقوا هناك‪،‬‬
‫أسفل الركام‪ ،‬يف انتظار الشمس مرة أخرى؟‬

‫وعىل الرغم من أن األوضاع يف طرطوس مل تكن سيئة‪ ،‬إال أن أمي كانت قد‬
‫اعتزمت الرحيل من سوريا كلها‪.‬‬

‫‪- -‬نذهب إىل مرص‪ ،‬اإلسكندرية حيث يعود أبوك دو ًما‪.‬‬

‫كان أيب خريج األكاديمية البحرية يف اإلسكندرية‪ ،‬مهندس بحري جيوب‬


‫البحار طيلة العام بال هاتف ثابت‪ ،‬ويعود إىل امليناء يف اإلسكندرية قبل عودته‬

‫‪187‬‬
‫إلينا‪ ،‬عرفت أمي عىل الفور أن مدينتنا سقطت ولن تعود اآلن‪ ،‬وأيب أبدً ا لن‬
‫يتمكن من إجيادنا هناك‪.‬‬

‫ربام من اجليد أن أمي مل تنتظر‪ ،‬وقتها مل تكن هناك حاجة لتأشريات دخول إىل‬
‫ميناء اإلسكندرية‪ ،‬التي نقلتنا إليها سفينة صغرية تصل بني املينائني‪.‬‬

‫تصل أمي إىل امليناء فتمر إىل مكتب املهندسني البحريني هناك‪ ،‬يعرف اجلميع‬
‫أيب لكنهم ال يعرفون ميعاد عودته‪ ،‬تسأهلم أمي أن ال ينسوا إخباره بأن عائلته‬
‫هنا يف اإلسكندرية‪ ،‬وأهنا ستعود برقم هاتف قري ًبا‪.‬‬

‫كانت الرحلة ال تزال مثرية يل ولورد‪ ،‬نحن نسافر إىل بلد جديد‪ ،‬إىل مرص‬
‫التي نراها يف املسلسالت‪ ،‬ربام نرى أمحد السقا أو عمرو دياب هناك‪ ،‬نميش‬
‫ريا عن شوارع طرطوس‪ ،‬واحلامس‬
‫يف شوارع اإلسكندرية التي ال ختتلف كث ً‬
‫يغمرنا‪ ،‬بينام جترنا أمي ورائها واهلم باد ًيا عليها‪.‬‬

‫جتلسنا عىل مقهى بينام تذهب هي للبحث عن مسكن‪.‬‬

‫مفروشا ودائماً وملدة طويلة‪.‬‬


‫ً‬ ‫السامرسة منترشون يف كل مكان لكننا نود مسكنًا‬

‫تعود لنا مع شاب نحيف يسري بنا مسافات طويلة داخل الشوارع الرأسية‪،‬‬
‫ريا يف قلب اإلسكندرية‪ ،‬نبتعد عن البحر‪ ،‬وتبتعد رائحة سوريا شيئًا‬
‫نتوغل كث ً‬
‫فشيئًا‪ ،‬نصل إىل سوق كبري مزدحم‪ ،‬خلف حاجز القطار الضخم‪ ،‬نصعد إىل‬

‫‪188‬‬
‫شقة صغرية بال منفذ إال شباك عىل املنور‪ ،‬أكاد أرصخ يف أمي بأال تقبل‪ ،‬لكنها‬
‫تفعل ذلك‪.‬‬

‫جتلس منهكة عىل أحد الكرايس املحطمة بينام أدور أنا يف الغرفة الصغرية التي‬
‫خصصتها يل ولورد كاملجانني‪.‬‬

‫تعلمت أن أعيش يف هذه الغرفة ثالث سنوات‪...‬‬

‫مل تلحقنا أمي باملدرسة هنا‪ ،‬مل تفعل شيئًا سوى انتظار عودة أيب التي بدت‬

‫كحلم بعيد لن حيدث أبدً ا‪ ،‬كل يوم تذهب إىل امليناء ع َّلها تسمع عنه خ ً‬
‫ربا‪ ،‬ال‬
‫تعلم إن كان قد عاد إىل سوريا‪ ،‬أو ذهب إىل بلد آخر ال نعلم عنه شيئًا‪.‬‬

‫أجرب البحث عن اسمه عىل الفيسبوك بكل الطرق‪ ،‬أسأل يف صفحات‬


‫النازحني السوريني وبقايا عائلتنا املتناثرة بني تركيا واألردن ولبنان‪ ،‬بال نتيجة‪،‬‬
‫كانت أموالنا تنتهي‪ ،‬باعت أمي كل ما متلكه‪ ،‬حتى السلسلتني اللتان كانت‬
‫معا‪ ،‬باعتهام يف النهاية‪.‬‬
‫حتيطان بعنقينا أنا وأختي‪ ،‬وحتمل اسمينا ً‬
‫مل يكن هناك ٌّ‬
‫حل سوى العمل‪..‬‬

‫ً‬
‫منترشا مل أبتكره‪ ،‬لكني أخذت الكثري من الوقت إلقناع أمي‪ ،‬متنحني‬ ‫كان األمر‬
‫بعض النقود القليلة املتبقية‪ ،‬فأشرتي هبا كيزان الذرة النيئة من عىل الكورنش‪،‬‬
‫أسلقها بنفيس‪ ،‬وأضيف عىل بعضها التوابل وامللح‪ ،‬وعىل بعضها اآلخر السكر‬

‫‪189‬‬
‫رفيعا‪ ،‬أغلفها‬
‫وماء الزهر‪ ،‬أدهنها بالزبد أو العسل وأغرس فيها عو ًدا خشب ًيا ً‬
‫بالبالستيك وأرصها عىل املائدة الصغرية التي وضعتها أمي أمام باب البناية‪،‬‬
‫أقف أنا وورد بالتبادل عليها‪ ،‬يشرتي منا املارون شفقة أو إعجا ًبا بشكل الذرة‬
‫الغريب عليهم‪ ،‬أو ربام للتغزل يف مجالنا الشامي كام يقولون بعباراهتم‪.‬‬
‫ال أقوى عىل الرد‪ ،‬أكتفي هبز رأيس مبتسمة‪ ،‬يملون ع ّ‬
‫يل طلباهتم فأجيب‪:‬‬

‫‪- -‬تكرم عينك‪.‬‬

‫فتقهقه البنات فرحات باجلملة‪ ،‬ويسبل الشباب بأعينهم أكثر‪.‬‬

‫نكرب أنا وورد أكثر‪ ،‬تزداد األصناف عىل مائدتنا بعدما قبلت أمي املشاركة‪،‬‬
‫تعد بعض املخبوزات‪ ،‬والسلطات‪ ،‬ونغلفها بطريقتنا املرتبة يف األطباق‬
‫البالستيكية‪ ،‬أحيا ًنا أعد قائمة باألصناف املوجودة‪ ،‬أو التي يمكن طلبها‬
‫بحجز مسبق‪ ،‬أكتبها بيدي وأصور منها عدة نسخ لتوزيعها‪.‬‬

‫كنا يف عمر السادسة عرش‪ ،‬توأم متامثل بالعينني الزرقاوين نفسها‪ ،‬والوجه‬
‫األبيض اهلاديء‪ ،‬نعقد احلجاب بالطريقة نفسها فيحتار يف التفرقة بيننا‬
‫اجلميع‪.‬‬

‫كانت ورد أميل للهدوء والتقبل‪ ،‬بينام كنت أنا أكثر عصبية واختنا ًقا‪.‬‬

‫نرقد عىل ظهرينا اآلن نتأمل سق ًفا مظلماً بال نجوم‬

‫‪190‬‬
‫‪- -‬هل تعتقدين أن بيتنا قد تدمر؟‬

‫‪- -‬بالتأكيد‪..‬أال تشاهدين الصور عىل الفيسبوك؟‬

‫‪- -‬وغرفتنا؟‬

‫‪- -‬الغرفة جزء من البيت يا ياسمني‬

‫‪- -‬ملاذا لست حزينة؟‬

‫أنا يف غاية احلزن لكنني أتوقف عن التخيل‪ ،‬وأحلم أننا يو ًما سنعود لنجد كل‬
‫يشء‪.‬‬

‫كنت أحلم بذلك ً‬


‫أيضا‪ ،‬لكنني أدرك أنه لن حيدث اآلن‪ ،‬أختنق فأهرع إىل‬
‫الكورنيش‪ ،‬أنظر إىل آخر البحر‪ ،‬علني أرى طر ًفا من سوريا هناك‪ ،‬أشعر‬
‫باالختناق أكثر فأنسحب إىل البيت من جديد‪.‬‬

‫شخص أو اثنان لتصويري أمام املائدة‪ ،‬أعلم أهنم‬


‫ٌ‬ ‫يقف أمامي كل يوم‬
‫يرفعون الصورة عىل الفيسبوك داعني اجلميع للرشاء من السوريني املساكني‬
‫الذين يكسبون رزقهم من عرقهم‪ ،‬ال أرى هذه املنشورات عادة‪ ،‬فأنا أكون‬
‫عىل اجلانب اآلخر منها‪ ،‬ينرش صاحبها الصورة يف انتظار إبداءات اإلعجاب‬
‫كلمتي‬
‫ّ‬ ‫والتعليقات التي ستنهال عليه‪ ،‬وال ينسى ترك رقم هاتفه يف يدي مع‬
‫غزل‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫‪- -‬كلك ذوق‪..‬‬

‫شاعرا أنه فعل ما عليه‪.‬‬


‫ً‬ ‫أردد كاآلىل‪ ،‬بينام يبتعد‬

‫هتامجني الكوابيس يف املساء فأهنض مفزوعة‪ ،‬هتدئني شقيقتي بكلمتني وكوب‬


‫ماء‪ ،‬أعود إىل النوم فأحلم بشوارع حلب التي تعد هناك‪ ،‬هتامجني صور رمادية‬
‫أراها يف النرشات لبقايا مدينة ال أعرفها‪ ،‬أنساها شيئًا فشيئًا لكنها ال تغادر‬
‫أحالمي‪.‬‬

‫مل يكن سهلاً عىل أمي أخذ قرار مثل ترك اإلسكندرية‪ ،‬وتوديع فرصتنا يف‬
‫االلتقاء بأيب من جديد‪.‬‬

‫لكنها بدأت يف التفكري بعد نصيحة العديد من السوريات بالنزوح إىل‬


‫املحافظات األصغر األقل كلفة‪ ،‬كان ما نكسبه يكفينا بالكاد لدفع اإلجيار‬
‫وتناول ما يسد الرمق‪ ،‬بينام ال تتوقف أمي عن العمل يو ًما واحدً ا يف األسبوع‪،‬‬
‫إىل جانب األطعمة الرسيعة التي نبيعها‪ ،‬باتت تعد الطعام اجلاهز ملن يطلبه‪،‬‬
‫يأيت الزبائن ألخذه أحيا ًنا أو توصله هي بنفسها يف أحيان أخرى‪.‬‬

‫يف هذا اليوم‪ ،‬أرسلت أمي بورد إىل عنوان قريب عىل بعد عدة بنايات‬
‫بالطلب‪.‬‬

‫كنت أقف يف مكاين أمام املائدة عندما سمعت الرصاخ قاد ًما من بعيد‪ ،‬جريت‬

‫‪192‬‬
‫كام مل أجر وأنا أهرب من بيتنا يف احلرب‪ ،‬كنت أدعي اهلل أال تكون ورد‪ ،‬لكنها‬
‫كانت هي‪ ،‬تشدها امرأة من حجاهبا يف الشارع‪ ،‬وتنعتها بأبشع األلفاظ‪.‬‬

‫‪- -‬الساقطة السورية تغوي زوجي‪.‬‬

‫يتجمع الناس شيئًا فشيئًا‪ ،‬بينام ألقي نفيس عىل ورد أحاول انتزاعها من بني‬
‫يدي املرأة‪ ،‬خيرج رجل ضخم من البوابة ليجذب امرأته ال يردد سوى كلمة‬
‫ّ‬
‫فضحتينا‪.‬‬

‫تنظر إيل ورد ودموعها تغرق عينيها‪ ،‬بينام تنهال املرأة بالسباب علينا نحن‬
‫االثنتان‪.‬‬

‫‪- -‬يودون رسقة رجالنا‪ ..‬املرشدات يف الشوارع‬

‫تردد النساء الواقفات كالمها‪ ،‬يتفرجن علينا ونحن منهارات عىل األرض‪،‬‬
‫أحاول لف احلجاب عىل شعرها‪ ،‬بينام يرضب الرجال أيدهيم ك ًّفا بكف‪ ،‬ال‬
‫ينسى واحدٌ أو اثنان املعاكسة ومد اليد وسط كل هذا‪.‬‬

‫أهنض مع ورد لنعودا إىل املنزل‪.‬‬


‫تشيعنا شتائم املرأة واهتامات النساء‪ ،‬بينام ترفض ورد أن تقص ع ّ‬
‫يل ما حدث‬
‫بالداخل‪.‬‬
‫أحاول أن أجعلها حتكي يل‪ ،‬ماذا فعل الرجل بك؟ هل ملسك؟ هل ِ‬
‫آذاك؟‬

‫‪193‬‬
‫هتز رأسها نف ًيا بإرصار‪ ،‬تتوقف عن البكاء والكالم‪،‬ال تسأهلا أمي شيئًا‪ ،‬أمي ال‬
‫تسأل‪ ،‬هي تنتظر فقط‪.‬‬

‫نادرا‪..‬‬
‫مل تتحدث ورد بعدها إال ً‬
‫أما أمي فاكتفت بحزم متاعنا القليل واخلروج ليلاً ؛ بح ًثا عن سيارة تنقلنا‬
‫بعيدً ا‪ ،‬إىل مدينة بال بحر‪ ،‬بال أمل ال يف عودتنا وال عودة أيب‪.‬‬

‫ريا‪ ،‬أي أرض‬


‫ربام كانت املدينة اجلديدة صغرية وخانقة‪ ،‬لكنها مل تفرق معي كث ً‬
‫هي جمرد أرض ما دامت ليست أرض الوطن‪.‬‬

‫نبدأ من جديد رحلة البحث عن سكن‪ ،‬ال تنسى أمي السؤال عن حمالت‬
‫الذهب يف املدينة لبيع آخر ما متلكه‪ ،‬حمبس زواجها‪.‬‬

‫أنظر إىل عيني أمي وهي تتناول نقوده املعدودة التي خسف هبا البائع األرض‪،‬‬
‫وأرى فيها ما تعجز عن قوله لنا منذ سنني‪ ،‬أتواطأ معها بالصمت‪ ،‬وأكمل‬
‫الطريق للبحث عن شقة تضمنا‪.‬‬

‫كانت املدينة بال بحر‪ ،‬لكنها كانت أكثر كر ًما من اإلسكندرية‪.‬‬

‫يستقبلنا سكان العامرة املتواضعة بحفاوة غريبة علينا‪ ،‬حتى أن إحدى اجلارات‬
‫أرسلت لنا طعا ًما معدً ا كنوع من الرتحاب‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫‪- -‬يبدو أهنم ناس طيبيني‪.‬‬

‫تقول أمي وكأهنا تزيح عن كتفيها ًّ‬


‫مها‪ ،‬أوافقها الرأي وأجر ورد التي ال تزال‬

‫معا‪ ،‬أحاول بكل الطرق‬


‫جرا إىل غرفة جديدة تضمنا ً‬
‫تعاين من صدمتها ًّ‬
‫إخراجها من حالتها‪ ،‬أدعوها للنزول والتعرف عىل املدينة‪ ،‬أحاول إضحاكها‪،‬‬

‫أغني هلا أغانيها املفضلة بال جميب‪.‬‬

‫‪- -‬اتركيها قليلاً وستتحسن‪..‬‬

‫تنصحني أمي وتصمت ثانية‪ ،‬كنت أنت قد حتسنت يا أمي‪ ،‬أشعر أنني أعيش‬

‫مع امرأتني مكسورتني وأعجز عن إصالحهام‪ ،‬أنسى أنني أنا نفيس يف حاجة‬

‫إلصالح‪.‬‬

‫تعاود أمي مهامها يف إعداد الطعام السوري‪ ،‬بينام أتوىل إعداد صفحة عىل‬

‫الفيسبوك‪ ،‬وكتابة قائمة صغرية أطبعها يف حمل جماور تديره فتاة اسمها رضا‪.‬‬

‫تنصحني رضا بتوزيع الورقة يف مركز التجميل املقابل‪.‬‬

‫جاهزا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪- -‬العاملون سيشرتون منك كل يوم‪ ،‬معظمهم يبتاع طعامه‬

‫أشكرها عىل نصيحتها‪ ،‬وأنظر إىل املحل الفخم‪ ،‬يسمونه الباشا بيويت سنرت‪،‬‬

‫وتسميه رضا الكوافري‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫أدفع الباب الزجاجي بحذر‪ ،‬أخطو إىل الداخل‪ ،‬تفزعني ضخامة املكان‬
‫وازدحامه‪ ،‬اجلو املعبق بأبخرة السشوار والروائح النفاذة خترتق أنفي‪.‬‬

‫يسألني شاب يرتدي بذلة وقميص وربطة عنق عام يمكنه تقديمه‬

‫‪- -‬أريد توزيع قائمة طعامنا هنا‪.،‬هل تسمح يل بذلك؟‬

‫يبتسم سائلاً أنت سورية؟‬

‫أوميء برأيس باإلجياب‪ ،‬يتناول مني األوراق ويقول‪:‬‬

‫سأوزعها بنفيس‪ ،‬ما اسمك؟‬

‫‪- -‬ياسمني‪.‬‬

‫•حسنًا يا ياسمني‪ ،‬سأوزعها وسأكون أول الزبائن ً‬


‫أيضا‪.‬‬

‫‪- -‬كلك ذوق‪..‬‬

‫أعود مرسعة إىل أمي‪ ،‬أحكي هلا عن إنجازي الصغري‪ ،‬تبتسم بال جواب‪ ،‬أدخل‬
‫إىل ورد ألحكي هلا عن املحل الضخم املدهش‪ ،‬تستمع إ ّيل دون تعبري‪.‬‬

‫‪- -‬ربام علينا مساعدة أمي إذن‪..‬‬

‫•بالتأكيد‪ ،‬لن نالحق عىل الطلبات‪.‬‬

‫أقول بتفاؤل أود نقله إليها‪ ،‬لكنها هتز رأسها بصمت‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫كان مسرت وليد كام عرفت اسمه فيام بعد صاد ًقا يف وعده‪ ،‬مل متر ساعة إال ورن‬
‫هاتفي معلنًا عن أول طلبات الكوافري‪.‬‬

‫من وقتها وأنا أدخل وأخرج حمملة بالوجبات جلميع العاملني‪ ،‬حتى الباشا‪.‬‬

‫العامل داخل الكوافري خيتلف عن خارجه‪ ،‬كنت مبهورة‪ ،‬أدخل من الباب‬


‫الزجاجي فأنفصل عن ما هو خارجه‪ ،‬أنسى احلرب‪ ،‬والغربة‪ ،‬وأنسى صمت‬

‫أمي وأختى الدائم‪ ،‬أنسى غرفتي الزهرية وكتبي وألعايب ونجاميت‪ ،‬أنغمس ًّ‬
‫كليا‬
‫يف متابعة السيدات اجلميالت بالداخل‪ ،‬وهن يصففن شعورهن‪ ،‬تسمح يل‬
‫جيجي باجللوس جوارها وهي تضع املكياج للعرائس‪ ،‬حتى الباشا يسمح يل‬
‫بمشاهدته وهو يثبت التاج والطرحة‪ ،‬يرش السرباي املثبت‪ ،‬يثني اخلصالت‬
‫برسعة حول بعضها‪ ،‬يضفرها‪ ،‬أو يلفها عىل شكل كعكة عالية‪ ،‬يبتسم يل برقة‪،‬‬
‫مجيعا معي‪ ،‬ويشرتوا أكثر مما حيتاجون‪ ،‬فقط للمساعدة‪.‬‬
‫يتعاطفوا ً‬

‫أما نادية فكانت جتلسني معها يف غرفة السيدة منى‪ ،‬تطلب مني دائماً ‪ 4‬حبات‬
‫من الكبة وسلطة خرضاء‪ ،‬جتلس بجواري لتأكلهم بصمت‪ ،‬تناولني حبة كبة‪،‬‬
‫فأتناوهلا شاكرة‪ ،‬السيدة منى منشغلة دو ًما‪ ،‬لكنها تلقي ع ّ‬
‫يل السالم برفق‪،‬‬
‫وتدخل لتكمل عملها‪.‬‬

‫عندما بدأت نادية يف احلديث معي بالشامية‪ ،‬مل أستوعب ما تقول‪ ،‬كنت قد‬

‫‪197‬‬
‫تعودت عىل اللهجة املرصية خارج البيت حتى أتقنتها‪ ،‬كانت الشامية تبدو‬
‫منها وكأهنا خارجة من مسلسل هندي أو تركي مدبلج‬

‫‪- -‬هل تتحدثني الشامية؟‬

‫•نعم‬

‫‪- -‬ملاذا؟‬

‫ريا‪..‬‬
‫•ملاذا ماذا؟ عشت هناك كث ً‬
‫‪- -‬لست مضطرة‪..‬‬

‫•أود ذلك‬

‫لكنني مل أكن سعيدة بذلك‪ ،‬كان احلديث معها يبدو غري ًبا عىل مسمعي‪ ،‬يف البيت‬
‫الصمت كان الغالب عىل ثالثتنا‪ ،‬ويف اخلارج‪ ،‬كنت أستخدم الشامية بحساب‬
‫وألهداف جتارية بحتة‪ ،‬أعرف كيف ألقي بكلمة جتعل الزبائن يسعدون‪ ،‬أما‬
‫نادية‪ ،‬فقد ذكرتني بأيام بعيدة‪ ،‬أثارت يف جسمي قشعريرة‪ ،‬حنني ما جعل قلبي‬
‫رسيعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ينقبض‪ ،‬دوار عصف برأيس وجعلني أهنض‬

‫أخرج من الكوافري مرسعة‪ ،‬أجته إىل حمل رضا لرشاء علبة مياه غازية قبل العودة‬
‫إىل املنزل‪ ،‬تسألني رضا عام دهاين‪ ،‬فأجيبها بأنني بخري‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫تطلب مني اجللوس قليلاً ألن وجهي شاحب‪.‬‬

‫تلحق يب نادية هناك‪.‬‬

‫‪- -‬هل ضايقتك؟‬

‫•ال‪ ،‬لكنك ذكرتِني بالشام‪ ،‬وأنا ال أود التذكر‪.‬‬

‫‪- -‬هل ينسى أحد وطنه؟‬

‫•أنا أود النسيان‪ ،‬فال أمل يف العودة‪.‬‬

‫‪- -‬بالتأكيد هناك أمل‪.‬‬

‫أنظر لوجهها املبتسم دو ًما‪ ،‬كانت غريبة‪ ،‬هذا الود املبالغ فيه يشعرين بالتوتر‪،‬‬
‫أشكرها عىل مشاعرها الطيبة‪ ،‬وأتناول املياه الغازية من رضا ألعود إىل املنزل‪.‬‬

‫صمت طويل‪..‬‬

‫ال يشء حيدث يف هذا الفراغ الذي أسبح فيه طيلة الوقت‪ ،‬سوى إعداد‬
‫الوجبات‪ ،‬حتضريها ولفها بالورق الشفاف‪ ،‬تقف أمي يف املطبخ‪ ،‬تشاهد‬
‫املسلسالت وهي تعد الطعام‪ ،‬بينام جتلس ورد يف الغرفة‪ ،‬تتأمل الاليشء من‬
‫الشباك‪ ،‬أو تقرأ الكتب التي آتيها هبا من سور الكتب القديمة القريب الذي‬
‫اكتشفته منذ فرتة‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫أدخل كل نصف ساعة ألطمئن عليها‪ ،‬أذكرها برشب بعض املاء‪ ،‬أو تناول‬
‫الطعام‪ ،‬توافق مرة وترفض مرتني‪.‬‬

‫وأنا جمرد فتاة صغرية‪ ،‬مل أجتاوز السابعة عرش بعد‪ ،‬كنت أشعر أن هذا احلمل‬
‫كثري ع ّ‬
‫يل‪ ،‬أنام عىل ظهري ألتأمل السقف اخلايل من النجوم الالمعة‪ ،‬وأفكر‬
‫أنني أبذل كل جهدي‪ ،‬مل أقرص يف يشء‪ ،‬أو هل قرصت؟‬

‫اإلجابة عن سؤايل كانت قريبة جدً ا‬


‫ِ‬
‫فعلت هذا؟‬ ‫ملاذا يا ورد‬

‫كيف استطعت أن ترتكيني هبذه البساطة؟ لقد أتينا ً‬


‫معا إىل هذا العامل‪ ،‬وكان‬
‫معا‪ ،‬من غري املعقول أن يموت أحد التوأمني قبل اآلخر هبذه‬
‫ينبغي أن نرحل ً‬
‫البساطة‪ ،‬من املفرتض أن أشعر ِ‬
‫بك‪ ،‬كان من املفرتض أن أستيقظ وأن أنقذك‪،‬‬
‫كان من املفرتض أن أفهم أن هذه ليلتك األخرية‪.‬‬

‫تندسني إىل الفراش بجواري وأنا أهلو هباتفي املحمول غري عابئة‪ ،‬كنت أحاول‬
‫للمرة املليون البحث عن اسم أيب عىل الفيسبوك بال جدوى‪ ،‬وأنت تنظرين يل‬
‫فقط وتبتسمني‪.‬‬

‫حتيطيني بذراعك فأزحيه برفق‪ ،‬أطلب منك االبتعاد قليلاً ألنني مشغولة‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫مشغولة بِ َم؟ كيف مل أفهم أنك كنت حتضنيني للمرة األخرية؟ كيف مل أفهم‬
‫أنك تعرفني؟‬

‫ملاذا مل ختربيني بام حدث لك يف هذا اليوم املشئوم يف اإلسكندرية؟ وكيف‬


‫تكونني هبذا الضعف يا ورد؟‬

‫تقتلك كلامت امرأة محقاء؟ غارت عىل زوج ال يساوي شيئًا؟ أم قتلتك الغربة؟‬
‫أم فقدان كل يشء؟ أم ماذا؟‬

‫كنت أعتقد أنك ال تبالني؟ أنك ال تشعرين باملصيبة التي نحن فيها‪ ،‬لكنني‬
‫اكتشفت أن الوحيدة التي ال تشعر هي أنا‪.‬‬

‫أستيقظ من النوم ألجدك بجواري ال تتحركني‪ ،‬باردة للغاية‪ ،‬مبتسمة وكأنك‬


‫ريا وصلت إىل ما تبغينه‪.‬‬
‫أخ ً‬

‫أهزك برفق وشفتاي ترتعشان‪ ،‬أهزك أكثر وال جدوى‪.‬‬

‫ورد‬

‫ال تردين‬

‫ورد‪..‬أرجوك‬

‫كيف ترتكيني يا ورد؟ وماذا أقول ألمك؟‬

‫‪201‬‬
‫أجلس بجوارك هكذا لكم من الوقت؟ ساعة‪..‬اثنتان‪..‬ثالث‪ ،‬ال أعرف‪..‬يمر‬
‫الوقت دون أن أدري‪ ،‬ال أشعر سوى بذراعي أمك عىل كتفي‪ ،‬جتلس بجواري‬
‫دون كالم‪ ،‬مل ِ‬
‫تبك هي األخرى‪ ،‬ومل تنطق بأية كلمة من يومها‪..‬‬

‫توىل الباشا كل يشء‪ ،‬إجراءات الدفن‪ ،‬وشهادة الوفاة‪ ،‬والتغسيل‪.‬‬

‫تلتف الفتيات العامالت يف الكوافري حويل‪ ،‬حياولن حثي عىل الكالم أو رشب‬
‫بعض املاء‪ ،‬لكني كنت أجد أن التنفس نفسه فعل شديد الصعوبة‪.‬‬

‫ختتفي ورد أسفل الرتاب‪ ،‬يف أرض غريبة ال نعرفها‪ ،‬عىل بعد آالف األميال‬
‫من أرضنا‪.‬‬

‫خيتفي نصفي حتت الرتاب فأشعر بفقدان التوازن‪ ،‬وكأنني أسري بساق واحدة‪،‬‬
‫وذراع واحدة‪ ،‬وأرى بعني واحدة‪.‬‬

‫جتلس نادية بجواري طيلة الوقت‪ ،‬متسك بيدي‪ ،‬تسقيني بيدها‪ ،‬تزورين كل‬
‫يوم‪ ،‬ترص عىل إطعامي‪ ،‬الغريب أهنا كانت تشعرين فعلاً بالتحسن‪.‬‬

‫تتوقف أمي عن فعل احلياة‪ ،‬جتلس سامهة طيلة النهار‪ ،‬أدس يف فمها بعض‬
‫اخلبز باللبن أو الشوربة‪ ،‬أسقيها املاء بالشفاط‪ ،‬أمحلها محلاً يف املساء إىل الرسير‪،‬‬
‫أمحلها إىل احلامم أحيا ًنا‪ ،‬أو إىل املسبح لتحميمها بعد أن فقدت السيطرة عىل‬
‫نفسها‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫كانت احلياة تزداد قسوة‪ ،‬مل أكن قادرة سوى عىل سلق بعض أكواز الذرة وبيعها‬
‫أمام املنزل مثل السابق‪ ،‬فقط لرشاء بعض الطعام‪ ،‬أما اإلجيار فكان يرتاكم ع ّ‬
‫يل‬
‫دون حول مني وال قوة‪.‬‬

‫حتى هذا اليوم الذي استدعاين فيه الباشا إىل مكتبه‪..‬‬

‫أقف أمامه بصمت‪ ،‬ال أعرف ما الذي يريده مني اآلن‪ ،‬مل أعد قادرة عىل مدهم‬
‫أمرا آخر‪.‬‬
‫يل ً‬‫ال بالوجبات وال أية خدمات أخرى‪ ،‬لكنه يعرض ع ّ‬

‫‪- -‬ما رأيك لو تعملني معي‪ ،‬هنا يف الكوافري‪..‬‬

‫أي يشء؟ أنا ال أجيد ال تصفيف الشعر وال وضع‬


‫•أعمل؟ يف ّ‬
‫املكياج‪.‬‬

‫‪- -‬أفكر يف عمل قسم خاص للعناية بالبرشة واجلسم‪ ،‬بالتأكيد سيكون‬
‫له وقع أمجل عىل العميالت لو وضعنا بجواره «عىل يد اخلبرية‬
‫السورية»‪.‬‬

‫•لكني لست خبرية‪...‬‬

‫‪- -‬ال هيم‪ ،‬سأعلمك‪ ،‬لن يستغرق األمر يومني‪ ،‬إهنا أقنعة جاهزة‪،‬‬
‫تطبقينها عىل وجه العميلة‪ ،‬مع بعض التدليك واملساج بحركات‬
‫بسيطة‪ ،‬أنت ذكية ستتعلمني برسعة‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫أنظر إىل وجهه برتدد‪ ،‬ال أعرف ما الذي أقوله‪.‬‬

‫‪- -‬اسمعي يا ياسمني‪ ،‬أنت بحاجة لألموال‪ ،‬دخل ثابت وجيد‬


‫سيعيشك أنت وأمك‪ ،‬إىل جانب اإلكراميات التي ستمطرك هبا‬

‫العميالت‪ ،‬ثقي بكالمي أنا أود مساعدتك أولاً وأخ ً‬


‫ريا‪.‬‬

‫كان العرض مغر ًيا‪..‬عىل األقل أفضل من أن ألقى يف الشارع أنا وأمي بعد‬
‫شهور من عدم دفع اإلجيار‪ ،‬وشهور من تناول اخلبز باحلليب‪.‬‬

‫‪- -‬ها‪ ،‬ما رأيك؟‬

‫مرسعا بحامس ليقف‬


‫ً‬ ‫أوميء برأيس باإلجياب برتدد ال يزال باق ًيا‪ ،‬لكنه ينهض‬
‫بجواري‪ ،‬يربت عىل ظهري‪ ،‬برافو يا ياسمني‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬ما رأيك لو غرينا اسمك‪ ،‬ياسمني منترش يف مرص‪ ،‬أود منحك اسماً له‬
‫وقع شامي‪ ،‬سوالف مثلاً ؟‬

‫أمتتم بخفوت‪ ،‬أو ورد؟‬

‫‪- -‬ورد‪ ،‬أوكي ال مانع‪.‬‬

‫اخلبرية السورية ورد للعناية بالبرشة واجلسم‪.‬‬

‫يبدأ الباشا من فوره يف التحضري إلعداد القسم اجلديد يف الكوافري‪ ،‬أذهب كل‬

‫‪204‬‬
‫يوم للتدريب‪ ،‬الذي مل يكن صع ًبا بالفعل‪ ،‬أشاهد العديد من مقاطع الفيديو‬

‫عىل اليوتيوب وحدي دون أن يطلب مني‪ ،‬األمر الذي يسعده بشدة‪ ،‬يمدحني‬

‫ريا أمام اجلميع‪.‬‬


‫كث ً‬

‫يسألني عن اللون الذي أرغب فيه لطالء الغرفة‪ ،‬أقول بال تردد‪ ،‬الزهري‪.‬‬

‫ريا بعد االنتهاء منها‪ ،‬وكأنني أدخل إىل بيتنا يف الشام‪،‬‬


‫أدخل إىل غرفتي أخ ً‬
‫كانت مصممة عىل شكل البيوت السورية العتيقة‪.‬‬

‫فروع خرضاء متدلية من السقف‪ ،‬كرانيش وآرشات دائرية‪ ،‬ويف املنتصف‬

‫مائدة نحاسية عليها فناجني من القهوة‪ ،‬حتى مصفاة «امل ّتى احللبية» وفنجاهنا‬

‫وشفاطها موضوعني عليها‪ ،‬ال أدري من أين أتى هبا الباشا‪.‬‬

‫شيزلونج طويل موضوع لتتمدد عليه النساء‪ ،‬واحليطان باللون الزهري كام‬

‫طلبت‪ ،‬أما السقف‪ ،‬فتم لصق النجوم الفوسفورية عليه لتتأمله النساء وهن‬

‫راقدات‪.‬‬

‫جدارا كاملاً ‪،‬‬


‫ً‬ ‫كان قلبي ينبض بقوة‪ ،‬أقف أمام املرآة املذهبة الطويلة التي حتتل‬
‫أرى ورد فيها تنظر إيل‪ ،‬وتبتسم‪.‬‬

‫أرأيت يا ورد‪ ،‬لقد عدنا إىل الشام‪..‬‬

‫‪205‬‬
‫أملسها بأطراف أناميل‪ ،‬فيستبد يب احلنني أكثر‪ ،‬يطرق الباشا ع ّ‬
‫يل الباب‪ ،‬يقول‬
‫أول زبونة‪.‬‬

‫تدخل وتدخل معها نادية ملساعديت‪.‬‬

‫تتواىل الزبونات وتتواىل األيام‪ ،‬أدخل كل صباح إىل عاملي يف الشام‪ ،‬وأخرج يف‬
‫املساء إىل عامل آخر ال أعرفه‪ ،‬أعود إىل البيت حيث جتلس أمي‪ ،‬أطعمها بعض‬
‫اللقيامت‪ ،‬أمحمها وأجلسها بجواري لبعض الوقت حتى تنام‪.‬‬

‫احلياة تسري‪ ،‬لكنني متعبة‪ ،‬أشعر بعدم التوازن‪ ،‬ال أمل من البحث عن أيب‬
‫كل يوم عىل الفيسبوك‪ ،‬أترك رقم هاتفي مع أي شخص كان يعرفه ربام سأل‬
‫علينا يو ًما‪ ،‬خيتفي األمل رويدً ا رويدً ا‪ ،‬لكنه ال ينتهي متا ًما‪ ،‬أفكر أنه ربام يعود‬
‫مجيعا إىل بيتنا‪ ،‬ربام يظل بيتنا صامدً ا أمام‬
‫فتعود أمي إىل احلياة‪ ،‬ربام يعود فنعود ً‬
‫اهلجامت والصواريخ‪ ،‬ربام ختطئه كل القنابل‪ ،‬ربام يظل منتص ًبا وحيدً ا تسكنه‬
‫القطط الصغرية والعصافري والياممات‪ ،‬حيتمني يف غرفتي الزهرية من الرماد‬
‫والدخان والنريان وصوت الرصاص‪.‬‬

‫مرشوعا حمتملاً ‪ ،‬يتودد يل األوالد يف الكوافري‪،‬‬


‫ً‬ ‫اجلميع من حويل يعتربونني‬
‫يتعاملون معي باعتباري عروس لقطة‪ ،‬بالتأكيد قرأوا منشورات الفيسبوك‬
‫التي تنترش كالنار يف اهلشيم‪ ،‬عن مدى روعة العروس السورية‪ ،‬عن طاعتها‬

‫‪206‬‬
‫لزوجها‪ ،‬وكيف أهنا ال تكلف مليماً ‪ ،‬أن السوريات يتلهفن للزواج من مرصي‪،‬‬
‫للحصول عىل اإلقامة الدائمة‪ ،‬ووطن جديد‪ ،‬بدلاً من الترشد يف الشوارع‪،‬‬
‫يسخرون من بنات وطنهم‪ ،‬ويعددون يف مجال بنات الشام‪ ،‬شعرنا الناعم‬
‫وعيوننا امللونة‪ ،‬ومجال طهينا ورقتنا يف الفراش‪ ،‬يتساقط لعاب الرجال‪،‬‬
‫وينظرون يل كدجاجة مزينة يتصاعد منها طيب الرائحة‪.‬‬

‫أو كام فعل الباشا‪ ،‬مرشوع جتاري مربح‪.‬‬

‫السوريون جاءوا ليرسقوا قوت املرصيني‪ ،‬عباقرة يف التجارة‪ ،‬يترسسبون من‬


‫كل شق‪ ،‬يقيمون حمالت الشاورما‪ ،‬واملطاعم الشامية‪ ،‬يبيعون اهلواء بكلامهتم‬
‫املعسولة‪ ،‬يعملون يف مراكز التجميل‪ ،‬مثلام قال‪ ،‬تكفي كلمة خبرية سورية‬
‫لتتوافد النساء‪ ،‬حتى لو مل أكن أفقه شيئًا يف عامل التجميل‪ ،‬أنا دليل حي عىل‬
‫ذلك‪.‬‬

‫ال أحد يتكلم عن ضياع الوطن‪ ،‬عن انكساري الشخيص‪ ،‬عن رحلتي الصامتة‬
‫من غرفتي إىل مدينة ال أعرفها‪ ،‬عن الفراغ التام يف قلبي‪ ،‬عن فقداين يف حلظة‬
‫واحدة لعائلتي كلها‪ ،‬عن ضياع ألبوم الصور‪ ،‬وحكايات احلب األوىل‪،‬‬
‫وخربشات نقشتها أنا وورد عىل مقاعد املدرسة يف املرحلة االبتدائية‪ ،‬وظننا‬
‫أهنا باقية لألبد‪ ،‬كل هذا ٌ‬
‫دليل عىل مرورنا العابر من هنا يو ًما‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫عن خطواتنا األوىل‪ ،‬عن مالبس أول عيد احتفظت هبا أمنا يف صندوق صغري‬
‫أسفل الرسير‪ ،‬عن علبة مغلقة أسميتها األرشيف‪ ،‬حتوي ور ًدا جمف ًفا أشرتيته يف‬
‫الطريق للمدرسة‪ ،‬وكتيب صغري ضم كلامت ساذجة كتبتها يل رفيقايت يف هناية‬
‫عام درايس‪ ،‬وتذاكر الباص املقطعة‪ ،‬وريشة محامة هبطت يو ًما عىل كف يدي‬
‫وأنا أصيل يف املسجد األموي‪ ،‬وطرف من ثوب أمي الذي متزق بال أسباب‪،‬‬

‫فقصقصته ً‬
‫قطعا صغرية لتصنع منه عرائس قطنية يل ولورد‪ ،‬احتفظت أنا‬
‫بأقصوصة منه حتمل عطرها‪.‬‬

‫هل يعرف أحد التاريخ اإلنساين لسكان سوريا؟‬

‫التاريخ الشخيص لكل فرد من أهل حلب؟‬

‫التاريخ الرسي لكل فتاة ترعرعت يف هذا التشتت والتمزق والغربة‬


‫اإلجبارية؟‬

‫نحن جيل تربى عىل األمل‪ ،‬فكيف نحيا؟ وملاذا؟ وكيف نحلم بالعودة إىل وطن‬
‫مل يعد يعرفنا؟ وكيف نعيش يف وطن ال نعرفه؟‬

‫تنام أمي فتضيق يب الدنيا‪ ،‬خيتنق صدري وأشعر بالرغبة يف البكاء‪ ،‬أنزل إىل‬
‫الشارع املظلم‪ ،‬كانت رضا ال تزال فاحتة أبواهبا‪ ،‬أجته إىل املحل امليضء‪ ،‬أجلس‬
‫عىل الرصيف املرتفع أمامه‪ ،‬تأتيني بخطوات عالية‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫‪- -‬ما الذي جلبك يف هذه الساعة‪ ،‬أمل تسمعي عن االنفجار؟‬

‫•أريد علبة مياه غازية‪ ،‬واالنفجارات ال ختيفني‬

‫‪- -‬تناولني إياها يف يدي بصمت‪ ،‬باردة جدً ا‪ ،‬أفتحها برسعة وأخذ‬
‫رشفة كبرية‪.‬‬

‫أراها قادمة من الكوافري املفتوح املظلم‪ ،‬نادية التي تنام فيه كام أعلم‪ ،‬تفتح‬
‫الباب ببساطة وخترج‪ ،‬خترج من خلفها العاملة أم لوسيندا مع طفلتها اجلميلة‪،‬‬
‫حتضن نادية بشدة‪ ،‬حتمل طفلتها ثم تذهب يف االجتاه املعاكس‪ ،‬أتعجب بقاءها‬
‫هلذا الوقت معها يف الكوافري وحدمها‪ ،‬تستند نادية حلظة عىل الباب الزجاجي‬
‫وكأهنا تستجمع قواها‪ ،‬ثم تأيت يف اجتاهي‪ ،‬جتلس بجواري عىل الرصيف‪،‬‬
‫وترفع رأسها تتأمل النجوم الالمعة يف السامء‪.‬‬

‫‪- -‬هل تفتقدين وطنك؟‬

‫•أفتقد ما كنت عليه يف وطني‪.‬‬

‫‪- -‬انظري إىل السامء‪ ،‬إهنا نفسها التي كنت ترينها هناك‪.‬‬

‫أرفع رأيس ألرى ما تتحدث عنه‪ ،‬حتى السامء هنا تبدو خمتلفة‪.‬‬

‫‪- -‬ال‪ ،‬ليست كذلك‪ ،‬إهنا خمتلفة‪ ،‬اهلواء خمتلف‪ ،‬والنجوم خمتلفة‪ ،‬شكل‬
‫األرض خمتلف‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫‪- -‬فقط إن أردت رؤيتها كذلك‪.‬‬

‫أنظر إىل نادية بحدة‪ ،‬تبدو متعبة بشدة‪ ،‬جتاعيد قوية تغزو وجهها‪ ،‬حتى شعرها‬
‫يبدو خمتل ًفا‪ ،‬وكأنه مثبت عىل رأسها‪ ،‬وكأنه مائل بشكل ما‪.‬‬

‫كان اجلميع يتحدث‪ ،‬وكنت أسمع ما يقولونه عنها‪ ،‬ومل يكن هناك داع إلخفاء‬
‫هذا أكثر‪.‬‬

‫‪- -‬ملاذا مل تنقذي ورد؟‬

‫•ماذا؟‬

‫‪- -‬ال داع لإلخفاء‪ ،‬الكل يتحدث‪ ،‬جيالن‪ ،‬رضا‪ ،‬حتى منى تتحدث‪.‬‬

‫تصمت نادية دقيقة‪ ،‬تطرق برأسها ً‬


‫أرضا‪.‬‬

‫‪- -‬أنت تتعاطفني معي‪ ،‬متسكني بيدي وتطعميني‪ ،‬تقولني إنك‬


‫صديقتي‪ ،‬لكنك تركتيها متوت‪ ،‬ورد هي أنا‪ ،‬وأنا هي ورد‪ ،‬لقد مت‬
‫يوم ماتت ومل تنقذيني‪.‬‬

‫•لقد انتهت حكاية ورد‪ ،‬مل يكن هناك ما يمكن فعله‪ ،‬أما أنت‪،‬‬
‫فحكايتك مل ِ‬
‫تنته بعد‪.‬‬

‫‪- -‬ال‪ ،‬أنا انتهيت فعلاً ‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫متسك بيدي‪ ،‬تنظر إىل عيني مبارشة‪ ،‬أنت ياسمني‪ ،‬ال ِ‬
‫تنس ذلك‪..‬‬

‫‪- -‬ال تفعيل‪.‬‬

‫لكنها كانت تفعل ما تفعله دو ًما‪ ،‬مل أرد أن تنتزع احلزن من قلبي‪ ،‬كنت أريده أن‬
‫يظل‪ ،‬أريد أن تظل ورد يف قلبي لكنها كانت تنزعها بقسوة‪.‬‬

‫‪- -‬أنت ال تفيديني هكذا‪..‬‬


‫صدقيني أنا أفعل‪ ،‬قصتك مل ِ‬
‫تنته بعد‪..‬‬

‫‪- -‬أنا ال أريد‪..‬‬

‫•وأنا مل يعد لدي املزيد من الوقت‪..‬‬

‫أحاول نزع يدي من يدها لكنها تتشبث هبا أكثر‪ ،‬أبكي‪ ،‬ألول مرة أبكي منذ‬
‫موت ورد‪ ،‬أشعر هبا خترج مع دموعي‪ ،‬أبكي وأشهق فأحترر‪ ،‬أشعر أنني أتنفس‬
‫من جديد‪.‬‬

‫تظل ممسكة بيدي أكثر‪ ،‬أنظر إليها فأجدها تبكي معي‪ ،‬كانت هذه املرة األوىل‬
‫التي أرى فيها نادية تبكي‪ ،‬كانت تبكي بال صوت‪ ،‬وبال تعبري‪ ،‬دموع غزيرة‬
‫تغرق وجهها‪ ،‬تنعكس األضواء عليها بربيق ساطع فتبدو كالنجوم‪ ،‬كان‬
‫وجهها يعكس نجوم حلب كام أتذكرها‪ ،‬كان وجهها يف هذه اللحظة هو‬
‫الوطن‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫ريا فترتك يدي‪ ،‬أحاول‬
‫أثبت عيني عىل وجهها مشدوهة‪ ،‬أتوقف عن البكاء أخ ً‬
‫اإلمساك هبا لكنها تنهض وترتكني‪ ،‬تعود إىل الكوافري املظلم بخطى متعثرة‪،‬‬
‫تستند دقيقة عىل الباب الزجاجي قبل أن تدخل وتغلقه ورائها‪.‬‬

‫كانت هذه هي الليلة التي حلقت فيها نادية بورد‪..‬‬

‫‪212‬‬
‫فلك‬

‫ِ‬
‫عليك وحدك‪ ،‬تنظرين يف املرآة فتكتشفني أن‬ ‫يف يوم واحد‪ ،‬يفرغ البيت‬
‫أنت‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وجسمك‪ ،‬وأنّك مل تعودي ِ‬ ‫ِ‬
‫وشعرك‬ ‫ِ‬
‫وجهك‬ ‫السنني تركت آثارها عىل‬
‫هناك سيدة عجوز ال تعرفينها تنظر ِ‬
‫إليك‪.‬‬

‫ترصين عىل عقده عال ًيا كام‬


‫ال املالبس عادت تناسبك‪ ،‬وال الذيل حصان الذي ّ‬
‫ِ‬
‫عليك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كنت تفعلني طيلة عمرك‪ ،‬يليق‬

‫أتناول حقيبتي وأغلق الباب خلفي جيدً ا‪.‬‬


‫ّ‬
‫أتأكد مرتني أنّني أدرت املفتاح مرتني قبل أن أخرجه وأضعه يف احلقيبة‪.‬‬
‫ّ‬
‫ألتأكد من أنّه حمكم الغلق‪ ،‬ثم أنزل درجات السالمل‬ ‫مرة أخرى‬
‫أدفع الباب ّ‬
‫ببطء وأنا أستند إىل الدرابزين‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫أسري يف الشارع فينظر إ ّيل اجلميع‪ ،‬أرتدي كام كنت أرتدي طيلة عمري‪ ،‬جيب‬
‫قصرية وتوب ملو ًنا زاه ًيا‪ ،‬وحذاء بكعب ٍ‬
‫عال‪.‬‬

‫فاقعا‪.‬‬
‫عطرا ً‬
‫أعقد شعري عىل شكل ذيل حصان‪ ،‬وأضع ً‬
‫ال أتو ّقف حتى أدخل من باب الكوافري القريب من املنزل‪.‬‬

‫مرة كل شهر لصبغ شعري‪ ،‬ال أحتاج إىل ترديد ما أريده‪ ،‬فاجلميع‬
‫أزور الكوافري ّ‬
‫ٍ‬
‫سؤال‪.‬‬ ‫يعلم طلبي‪ ،‬أجلس عىل أقرب مقعد دون‬

‫دورا‪.‬‬
‫ال جيرؤ أحد عىل جعيل أنتظر ً‬
‫يقرتب م ّني الباشا مرح ًبا‪ ،‬ويشري ألحد العاملني ليبدأ العمل عىل شعري‬
‫برسعة‪.‬‬

‫يعرفون اللون املطلوب؛ األشقر الزاهي وال يشء سواه‪ ،‬لون شعري األصيل‬
‫يتحول إىل الرمادي الكئيب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قبل أن‬

‫انتظارا لغسل الصبغة‪ ،‬ال أحب أن يغسل يل شعري سوى‬


‫ً‬ ‫أجلس نصف ساعة‬
‫الفتاة السمراء الضئيلة‪ ،‬نادية‪ ،‬أرفض أن يمسه أحد غريها‪ ،‬فيرسعون يف تلبية‬
‫درسا قاس ًيا بلساين السليط‪ ،‬الباشا نفسه كان طال ًبا لدي‬
‫أوامري حتى ال ألق ّنهم ً‬
‫يف املدرسة االبتدائية‪.‬‬

‫ال يزال يناديني باسم ِمس فلك‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫أحب كيف خت ّلل أصابعها يف‬
‫ّ‬ ‫تنتهي نادية من غسل شعري‪ ،‬تدلكه ببطء‪،‬‬
‫أنت مرتاحة يا ِمس فلك؟ هل املاء‬
‫خصالته وكأنهّ ا متشّ طه برفق‪ ،‬تسألني هل ِ‬

‫دافئ؟ فأجيبها بنعم‪.‬‬

‫جت ّففه بـ «السشوار» قليلاً ‪ ،‬فأهنض ً‬


‫فورا‪.‬‬

‫أحب املكواه وال أجعلها تلمس خصالته‪ ،‬أتركه كام هو وأعقده ذيل حصان‬
‫ال ّ‬
‫من جديد‪ ،‬ثم ُأخ ِرج قلم الروج األمحر من حقيبتي‪.‬‬

‫ترتعش يدي قليلاً كام تفعل منذ سنوات‪ ،‬فال أهتم‪.‬‬

‫شفتي‪ ،‬خيرج اللون عنهام بعض اليشء‪ ،‬لك ّني ال أبايل‪ ،‬النتيجة‬
‫ّ‬ ‫أمرر القلم عىل‬
‫ّ‬
‫هيم‪.‬‬
‫ترضيني يف النهاية وهذا ما ّ‬
‫أخرج بضعة جنيهات من احلقيبة‪ ،‬أضعها يف يد نادية التي تتناوهلا شاكرة‪ُ ،‬متدّ‬
‫شفتي لك ّني أمنعها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يدها ملسح الروج اخلارج عن حدود‬

‫‪- -‬هل تعدّ لني ع ّ‬


‫يل يا محقاء؟‬

‫•بالتأكيد ال يا ِمس فلك‪.‬‬

‫ال يقبل الباشا أخذ مقابل م ّني‪ ،‬هذا واجبه جتاهي كمعلمته القديمة‪.‬‬

‫ال أعتربها صدقة وال إشفا ًقا‪ ،‬بل هو حقي الكامل‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫أغادر الكوافري وأنا أرفع رأيس عال ًيا‪ ،‬أسمعهم يتهامسون يف طريقي‬
‫للخروج‪.‬‬

‫تفلت من إحدى السيدات اجلالسات ِضحكة مكتومة‪ ،‬ال أنظر باجتاهها‪.‬‬


‫تعودت عىل مشاعر ِ‬
‫الغرية من النساء طيلة عمري‪ .‬حيسدونني عىل مجايل‪ ،‬وعىل‬ ‫ّ‬
‫قدريت عىل فعل ما أريده وقتام أريد‪.‬‬

‫كان أيب هو بطيل احلقيقي‪..‬‬

‫يشجع ّني دائماً عىل اتخّ اذ قرارايت بنفيس‪ ،‬يصحبني معه إىل مقر عمله كمدير‬
‫حسابات رشكة خاصة لتوريد أدوات الرصف الصحي‪.‬‬

‫كريس منخفض ليخرج أوراقه‪.‬‬


‫ّ‬ ‫جيلسني عىل مكتبه وجيلس هو بجواري عىل‬

‫يتنبأ يل بأنّني سأكون ذات شأن‬


‫أدور بكرسيه اجللدي العريض وأنا سعيدة‪ّ ،‬‬
‫عظيم‪.‬‬

‫‪- -‬أنت يا فلك بامئة ولد‪..‬‬

‫كنت طفلته الوحيدة‪ ،‬مل تنجب أ ّمي من بعدي ألسباب مل يستطع األطباء‬
‫حبه‪ ،‬فلم يعد يف حاجة ألطفال‬
‫لكن أيب مل حيزن‪ ،‬لقد منحني كل ّ‬
‫عالجها‪ّ ،‬‬
‫آخرين‪.‬‬

‫يدي‪ ،‬وأنا أعلم أنّك كل حيايت‪.‬‬


‫يقول منذ أن وضعتك الداية بني ّ‬

‫‪216‬‬
‫يع ّلق يل والدي يف غرفتي لوحة ٍ‬
‫خط عريب‪ٌ ،‬‬
‫«كل يف فلك»‪ ،‬رسمت حروفها يف‬
‫دائرة م ّتصلة‪.‬‬

‫خيربين ّ‬
‫بأن اآلية ُت ْقرأ من اليمني إىل اليسار والعكس‪.‬‬

‫تدع أحدً ا يقنعك‬ ‫مميز ورائع‪ ،‬أنت ُك ّلك ّ‬


‫مميزة‪ ،‬ال ِ‬ ‫‪- -‬اسمك يا فلك ّ‬
‫بالعكس‪.‬‬

‫أكرب وأنا أشعر بفراديت‪.‬‬

‫طيبة‪ ،‬تتبع أيب يف كل ما يقوله‪.‬‬


‫كانت أ ّمي سيدة ّ‬
‫مل تكن تغادر املنزل إال ملا ًما‪ ،‬أ ّما أنا‪ ،‬فكنت أصحبه دائماً ‪.‬‬

‫جيلسني معه عىل القهوة‪ ،‬يأخذين لزيارة أصدقائه‪ ،‬يشرتي يل أمجل الفساتني‪.‬‬

‫بشفتي احلمراوين‪ ،‬وعيني‬


‫ّ‬ ‫تضفر يل أ ّمي شعري األشقر ضفرية طويلة‪ ،‬تتفاخر‬
‫ّ‬
‫امللونتني برموشهام الطويلة‪.‬‬

‫أ ّما أيب فيفخر بإنجازايت يف كل مكان‪ ،‬أنجح يف املدرسة بدرجات ممتازة‪ ،‬فيربوز‬
‫الشهادة ويع ّلقها عىل حائط الصالون بفخر‪ ،‬أحصل عىل شهادات تقدير بسبب‬
‫زهوا‪.‬‬
‫رسومايت يف املدرسة‪ ،‬فيطري يب ًّ‬

‫حيرص عىل حضور االحتفال الذي أتس ّلم فيه مصح ًفا صغ ً‬
‫ريا وميدالية مفاتيح‬
‫عىل سبيل اجلائزة‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫وتزوجت وأنجبت‬
‫ّ‬ ‫لوال أيب لكنت معتادة‪ ،‬لكنت أهنيت دراستي اجلامعية‪،‬‬

‫أطفالاً حييطون يب هم وأطفاهلم اآلن‪.‬‬

‫لك ّني بسببه أسري وحدي يف الشارع عائدة إىل املنزل الفارغ‪.‬‬

‫أشمها يف بيت جدّ ي‬ ‫يل رائحة ِ‬


‫القدّ م؛ الرائحة التي كنت ّ‬ ‫فتهب ع ّ‬
‫ّ‬ ‫أفتح الباب‬

‫قديماً ‪ ،‬صارت اآلن رائحة بيتي‪ ،‬رائحتي أنا‪ ،‬التي أحاول التغ ّلب عليها بالعطور‬

‫الفاقعة‪.‬‬

‫خترجي يف كلية النوعية‬


‫توسط شهادايت املدرسية وشهادة ّ‬
‫أقف أمام صورته التي ّ‬
‫وأمهس‪:‬‬

‫‪- -‬اهلل يساحمك يا بابا‪..‬‬

‫بدأت االهتامم بأنوثتي يف وقت مبكر؛ يف الثانوية العامة‪.‬‬

‫أتطور يف اجلامعة إىل التنانري القصرية‬


‫ّ‬ ‫أبدأ يف ارتداء الفساتني القصرية‪ ،‬ثم‬

‫الضيقة املفتوحة‪.‬‬
‫والتوبات ّ‬
‫مل يامنع أيب كام ظننت أنّه سيفعل‪ ،‬عىل العكس‪ ،‬تركني أختار ما أريده بحرية‪،‬‬

‫أرتدي ما أريد‪ ،‬وأعقد شعري ذيل حصان طويل‪ ،‬حتى أنّني أضع املكياج بال‬

‫أي لوم‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪218‬‬
‫‪- -‬أنت امرأة ُح ّرة‪ ،‬وأنا أثق ِ‬
‫بك‪ ،‬افعيل كل ما تريدينه‪ ،‬ال أحد يستطيع‬
‫أن يمنعك‪.‬‬

‫تنظم‬ ‫رسا بأ ّ‬
‫ال أستمع إىل أيب‪ .‬أجلس يف حجريت بينام ّ‬ ‫أ ّما أ ّمي فكانت تنصحني ًّ‬
‫هي يل ِخزانة مالبيس‪.‬‬

‫بعضا‪ ،‬ثم تنظر إ ّيل‪:‬‬


‫ترتّب القطع وتطوهيا وتضعها فوق بعضها ً‬

‫‪- -‬الناس يتحدّ ثون‪ ،‬جيب أن تراعي أنّنا يف مدينة صغرية‪ ،‬البنت لبيتها‬
‫وزوجها‪.‬‬

‫التخرج والعمل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫•لك ّني ال أريد الزواج اآلن‪ ،‬أريد‬

‫‪- -‬وبعد ذلك؟ الزواج ً‬


‫طبعا‪..‬‬

‫أضحك عىل تفكري أ ّمي املحدود‪ ،‬أخرب أيب بام قالته ونحن نرشب الشاي يف‬
‫الرشفة‪ ،‬فيقهقه‪:‬‬

‫‪- -‬أ ّمك حمدودة الذكاء‪ ،‬ليست مثلك‪ ،‬أنت أفضل من ّ‬


‫أي أحد‪.‬‬
‫فخرا برأي والدي ّ‬
‫يف‪ ،‬ال أخذله قط‪ ،‬أنتهي من الدراسة اجلامعية بتقدير‬ ‫أتيه ً‬
‫ممتاز‪ ،‬وأستعدّ للتعيني يف اجلامعة‪.‬‬

‫لكن هذا مل حيدث قط‪ّ ،‬‬


‫يتم تعيني ابنة أستاذ كبري يف اجلامعة شاء حظي أن تكون‬

‫‪219‬‬
‫معي يف العام نفسه والقسم ذاته‪ ،‬وأمام هذه احلقيقة الواحدة‪ ،‬تصبح كل كلامت‬
‫والدي يل فجأة بال معنى‪.‬‬

‫أنا لست أفضل من ّ‬


‫أي أحد‪ ،‬هناك من هم أفضل مني باسمهم‪ ،‬وبنفوذهم‪،‬‬
‫وبعائالهتم‪.‬‬
‫يكاد أيب ينفجر ً‬
‫غيظا‪ ،‬خيربين بأنّه سيصلح هذا اخلطأ مهام تك ّلف األمر‪.‬‬

‫تشتعل يف نفيس ُشعلة من األمل‪.‬‬

‫أي يشء يل‪ ،‬أنتظره‬


‫قادرا عىل فعل ّ‬
‫كانت وعود أيب دائمة التحقيق‪ ،‬كنت أراه ً‬
‫يقرر الذهاب بنفسه إىل ُ‬
‫الك ّلية‪ ،‬ومواجهة العميد بالتالعب‬ ‫بلهفة بعد أن ّ‬
‫احلاصل‪ ،‬فال تسمح له السكرترية بالدخول‪.‬‬

‫يعلو صوته مطال ًبا بح ّقه وحقّ ابنته‪ ،‬فيخرج العميد من مكتبه‪ ،‬ويكون الر ّد‬
‫عليه هو الطرد‪.‬‬

‫ُيطرد والدي من مبنى الكلية‪ ،‬ليعود إىل البيت متهدّ ل الكتفني‪.‬‬

‫أسأله عماّ حدث فال ير ّد‪.‬‬

‫خيرب أ ّمي بأنّه يرغب يف النوم قليلاً ‪ ،‬تتبعه إىل الغرفة فيخربها بام حدث‪ ،‬ترتكه‬
‫لينام وخترج لتطلب م ّني أ ّ‬
‫ال أسأله جمدّ ًدا‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫بعد أسبوع مات أيب‪..‬‬

‫جالسا عىل مقعده ّ‬


‫املفضل أمام التليفزيون‪ ،‬بينام جتلس أ ّمي عىل األريكة‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫أحبه للعشاء‪.‬‬
‫تقرش َح ّبات البطاطس لصنع البوريه الذي ّ‬
‫مكررة لعادل إمام‪ ،‬ونضحك‪.‬‬
‫مجيعا مرسحية ّ‬
‫أجلس بجوارها‪ ،‬نشاهد ً‬

‫أذكر أنّني كنت أستدير ألخرب أ ّمي بيشء تافه عندما رأيت رأسه يميل فجأة‬
‫ليغادر العامل‪..‬‬

‫دون أن يقول شيئًا ذهب‪ ،‬دون أن خيربين حتى بام يشعر‪..‬‬

‫هكذا انكرس أيب فلم يصلحه يشء‪.‬‬

‫يمر‬
‫عطب الروح حيدث من كلمة واحدة‪ ،‬من فعل واحد‪ ،‬من موقف‪ ،‬ربام ّ‬
‫مرور الكرام وقتها‪ ،‬لك ّنه ّ‬
‫يظل هناك كامنًا‪ ،‬ليخرج هكذا‪ ،‬يف ميلة رأس عىل‬
‫عنق‪ ،‬يف موت مفاجئ‪.‬‬

‫أهزه ّ‬
‫بقوة‪،‬‬ ‫مل أكن شهدت مو ًتا من قبل‪ ،‬كان كل يشء غري ًبا ع ّ‬
‫يل‪ ،‬أرتعش وأنا ّ‬

‫أد ّلك صدره‪ ،‬أحاول ّ‬


‫صب املاء بالسكر يف حلقه‪.‬‬

‫كانت أ ّمي ترصخ بجواري‪ ،‬وأنا فقط أنادي عليه‪.‬‬

‫بابا‪ ،‬بابا‪ ،‬بابا‪ ،‬أرجوك أفق‪ ،‬من أجيل‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫مل جُيبني قط‪ ،‬عندها أدركت أنّه لن يفيق‪ ،‬وأنّنا امرأتان عاجزتان حتيطان به دون‬
‫بيدي عىل كل باب دون انتظار‪.‬‬
‫ُمعني‪ ،‬خرجت إىل سالمل العامرة‪ ،‬أطرق ّ‬
‫أطرق عىل أبواب العامرة كلها‪ ،‬أريد عو ًنا‪ ،‬أريد ً‬
‫منقذا‪..‬‬

‫كان اجلميع خيرج متسائلاً عام حيدث‪ ،‬نظرة واحدة إىل وجهي األصفر وارتعاشة‬
‫جسدي كانت كفيلة بأن يركضوا باجتاه باب شقتنا املفتوح‪.‬‬

‫أعود إليها ألجد حشدً ا من الرجال والنساء حول أيب‪.‬‬

‫كان الرجال حياولون مثيل إفاقته‪ ،‬لك ّنه كان قد ذهب‪.‬‬

‫تقرتب م ّني إحدى اجلارات وهي تبكي‪ ،‬تقول‪ِ :‬شدّ ي حيلك‪ ،‬فأرتعش أكثر‪.‬‬

‫يتو ّلوا املساعدة يف كل يشء‪.‬‬

‫كانت أ ّمي بائسة مثيل متا ًما‪ ،‬جتلس يف ركن الصالة التي خلت من األثاث‪ ،‬بعد‬
‫املعزيات يف الصالة املفروشة باحلرص‪،‬‬
‫كومته اجلارات يف حجرة ما الستقبال ّ‬
‫أن ّ‬
‫بينام َص ّ‬
‫ف الرجال الكرايس اخلشبية باألسفل‪ ،‬عىل سبيل الصوان الصغري‪.‬‬

‫يأيت املوت فجأة لينتزع من ُن ّ‬


‫حبهم من وسطنا قبل أن نخربهم بكل يشء‪.‬‬

‫أفكر يف عرشات األسئلة التي كنت أريد طرحها عىل أيب‪ ،‬يف عرشات اجلمل‬
‫التي كنت أريد أن أخربه هبا‪ ،‬يف االعتذار له عماّ حدث‪ ،‬وبأنّني ال أو ّد التعيني يف‬
‫أهم من سعاديت بتقدير العامل كله‪.‬‬ ‫اجلامعة من األصل‪ّ ،‬‬
‫وأن سعاديت بتقديره يل ّ‬

‫‪222‬‬
‫لك ّني مل أقل شيئًا‪ ،‬سمعت كالم أ ّمي ومل أحدّ ثه يف األمر‪ ،‬رغم أنّني كان ع ّ‬
‫يل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫يل أن ّ‬
‫أنفذ ما أريد كام نصحني دو ًما‪ ،‬لك ّني لن أنسى وصيته جمدّ ًدا‪.‬‬ ‫كان ع ّ‬

‫لن أنساها وأنا ّ‬


‫أقرر العمل يف مدرسة خاصة ابتدائية بعقد خاص دون انتظار‬
‫التعيني احلكومي‪.‬‬

‫ختربين أ ّمي أنّني سأفصل بعد عام‪ ،‬لك ّني ال أبايل‪ ،‬ك ّنا يف حاجة ألموال إضافية‬
‫فوق ما يأتينا من معاش أيب الذي تتضاءل قيمته بمرور األيام‪.‬‬

‫يف الواقع أستمر يف العمل فيها مخس سنوات كاملة بعقد خاص قبل تثبيتي‬
‫ريا‪.‬‬
‫أخ ً‬
‫ُ‬
‫كنت أع ّلم األطفال الرسم الذي ّ‬
‫أحبه‪.‬‬
‫كان األوالد ينظرون يل سامهني طيلة ِ‬
‫احل ّصة‪.‬‬

‫وزهورا‪ ،‬ويرسلون جوابات غرامية بدون‬


‫ً‬ ‫يرسمون يل مع لوحاهتم قلو ًبا‬
‫أسامء‪.‬‬
‫تتوافد ع ّ‬
‫يل السنني‪ ،‬والوجوه واألجيال‪ ،‬وال تتو ّقف الرسائل عن املجيء‪.‬‬

‫كنت يف الثالثينيات من العمر وال زلت عزباء‪ُ ،‬حلم لكل املدرسني الزمالء‪،‬‬
‫والتالميذ الذين يرونني فتاة األحالم‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫ّ‬
‫أتلذذ من هذه احلقيقة‪ ،‬وأستمر يف رفض العرسان املتقدّ مني‪ ،‬وأتعامل بجفاء‬
‫مع اجلميع‪ ،‬إال تالميذي‪.‬‬

‫أقرأ رسائلهم وأضحك‪ ،‬أحتفظ هبا إىل اليوم‪.‬‬

‫أملك رسالة من الباشا ً‬


‫أيضا‪ ،‬أهدّ ده هبا عندما ال ألقى الرتحيب الذي أريده‬
‫يف الكوافري‪.‬‬

‫الضيق امل ّلون‪ ،‬كل يوم‪ ،‬أسري غري عابئة‬


‫ّ‬ ‫كنت أرتدي اجليب القصري والتوب‬
‫باألنظار‪.‬‬

‫توقفني السيدات يف الشارع داعيات يل باهلداية‪ ،‬فأنظر إليهن بسخرية وأكمل‬


‫طريقي‪.‬‬

‫يف منتصف التسعينيات‪ّ ،‬‬


‫يقل توافد العرسان عىل بيتنا‪ ،‬فتبدأ أ ّمي يف القلق‪.‬‬

‫ّ‬
‫وكأن ال أحد‬ ‫‪- -‬الرجال يريدون فتاة ملتزمة للزواج‪ ،‬وأنت تسريين‬
‫يهُ ّمك‪.‬‬

‫هيمني بالفعل‪.‬‬
‫•ال أحد ّ‬
‫‪- -‬أنا لن أعيش ِ‬
‫لك‪.‬‬

‫•ال جيب أن يعيش يل أحد‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫ِ‬
‫وحدك‪ ،‬يا فلك‪ ،‬أريد أن أطمئن عليك قبل‬ ‫‪- -‬لن تستطيعي العيش‬
‫أن أموت‪.‬‬

‫•اطمئني يا أ ّمي‪ ،‬أنا بامئة رجل‪.‬‬

‫‪- -‬اهلل يسامح أبوك ويرمحه‪.‬‬

‫تتمتم هبذه الدعوة ك ّلام جاءت سرية الزواج‪ ،‬ك ّلام ذهبنا إىل ّ‬
‫أي مكان‪ ،‬إىل أي‬
‫زفاف‪ ،‬حتى إىل السوبر ماركت‪.‬‬

‫أنظر يف املرآة معجبة بشكيل‪.‬‬

‫احلقيقة ّ‬
‫أن ال أحد يستحق هذا اجلامل‪.‬‬

‫رائعا‪ ،‬خيتلف عن اجلميع حتى تقبل به‬


‫ممي ًزا للغاية‪ً ،‬‬
‫شخصا ّ‬
‫ً‬ ‫جيب أن يكون‬
‫فلك‪.‬‬

‫وكان هذا الشخص هو حممود‪ ،‬مدرس الرياضيات املنقول حدي ًثا‪ ،‬يصغرين‬
‫بعامني لك ّنني مل ِ‬
‫أبال‪.‬‬

‫أحبه‪ ،‬وأوافق عىل االقرتان‬


‫قررت أن يكون هذا هو سعيد احلظ‪ ،‬الذي ّ‬
‫لقد ّ‬
‫به‪.‬‬

‫كان حممود خجولاً للغاية‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫يطرق عىل باب الفصل فأفتح له‪ ،‬يتبادل معي بعض الكلامت بصوت هامس‪،‬‬
‫بينام يصيح الصبيان خلفنا بأصوات عالية جتعلني ال أسمع نصف كالمه‪ ،‬لك ّني‬
‫كنت أفهمه رغم ذلك‪.‬‬
‫حبنا حمدو ًدا عىل الكلامت البسيطة التي نتبادهلا يف ُ‬
‫«الطرقة»‪ ،‬أو عىل باب‬ ‫كان ّ‬
‫الفصول يف ِ‬
‫احلصص‪.‬‬

‫باحلب كام يفعل املراهقون‪.‬‬


‫ّ‬ ‫مل نتبادل كلامت الغرام‪ ،‬ومل نعرتف لبعضنا بعضنا‬

‫معا يف شوارع املدينة بعد املدرسة‪ ،‬يوصلني إىل مقربة من البيت‪.‬‬


‫نسري ً‬

‫أدعوه للصعود فريفض متا ًما‪.‬‬

‫يقول‪ :‬من غري الالئق أن يدخل البيت دون وجود رجل معنا‪.‬‬

‫للتهجم ع ّ‬
‫يل أنا وأ ّمي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪- -‬لك ّني أدعوك بنفيس‪ ،‬بالتأكيد لن تدخل‬

‫يضحك حممود بخجل‪ ،‬ويقول كلمة واحدة‪ :‬الناس‪..‬‬

‫ً‬
‫معرتضا‪.‬‬ ‫أقول فليذهبوا إىل اجلحيم‪ ،‬فيطأطأ بلسانه‬

‫أهتم هبم يو ًما‪ ،‬لك ّني مل أعلم أنهّ م عىل العكس‪،‬‬


‫برأي الناس الذين مل ّ‬
‫كان هيتم ّ‬
‫هيتمون يب‪ ،‬وحيسبون ع ّ‬
‫يل حركايت‪ ،‬وحيصون عدد أنفايس‪ ،‬ود ّقات قلبي‪،‬‬
‫قدمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وخطوات‬

‫‪226‬‬
‫يتهامس املدرسون يف املدرسة ع ّ‬
‫يل‪.‬‬

‫تتطوع واحدة يف تأكيد أنّني وإياه نجلس وحدنا دائماً يف غرفة الرسم‪.‬‬

‫يصل احلديث إىل مديرة املدرسة‪ ،‬فتستدعيني وحدي‪.‬‬

‫‪- -‬هل الكالم الذي سمعته حقيقي؟‬

‫•وما هو الكالم؟‬

‫‪- -‬أنت جتلسني مع املدرسني وحدكم يف غرفة الرسم؟‬

‫أي شخص وحدنا أو مع اآلخرين‪ ،‬يف غرفة الرسم‪،‬‬


‫•أنا أجلس مع ّ‬
‫أو فناء املدرسة‪ ،‬هذه ليست مشكلة بالنسبة يل‪.‬‬

‫‪- -‬إنهّ ا مشكلة للمدرسة‪.‬‬

‫•إذن عىل املدرسة ح ّلها‪.‬‬

‫تنظر إيل املديرة بدهشة‪ ،‬ال أتلعثم وال أحني رأيس‪ ،‬أقف أمامها بثقة تربكها‪،‬‬
‫فتكتفي بلفت نظر‪.‬‬

‫أخرج من مكتبها باحثة عن حممود ألخربه بام حدث‪ ،‬وأسخر معه من املديرة‪،‬‬
‫يدس وجهه يف‬
‫جالسا يف غرفة املدرسني‪ ،‬أشري له من بعيد فيتجاهلني‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫أجده‬
‫يصححها أمامه‪.‬‬
‫كراسة ّ‬

‫‪227‬‬
‫أجتمدّ يف مكاين دقيقة‪ ،‬ثم أفهم‪.‬‬

‫يومها رست إىل البيت وحدي للمرة األوىل منذ شهور‪ ،‬لك ّني مل أحزن‪.‬‬

‫يف الصباح التايل‪ ،‬كنت أسري مرفوعة الرأس يف فناء املدرسة‪ ،‬حيث يقف‬
‫مدرسو احلصة األوىل ٌّ‬
‫كل أمام فصله‪.‬‬

‫تطوعت بنرش األكاذيب ع ّني‪.‬‬ ‫أتوجه إىل ِمس صفاء ُم ّ‬


‫درسة اإلنجليزية‪ ،‬التي ّ‬ ‫ّ‬

‫كانت تضع أطنا ًنا من املكياج عىل وجهها‪ ،‬وترتدي حجا ًبا أمحر شدّ ت مقدمته‬

‫عال‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫لألمام ليبدو وجهها أطول‪ .‬أقف أمامها متا ًما وأقول‬

‫‪- -‬أشكرك يا صفاء عىل كشف احلمقى واجلبناء يف املدرسة أمام‬

‫عيني‪.‬‬
‫ّ‬
‫حيتقن وجهها وال تر ّد‪ ،‬ينظر إلينا األطفال بفضول‪ ،‬بينام هيبط صمت ثقيل عىل‬

‫الطابور الصباحي دائم اإلزعاج‪.‬‬

‫ألتفت وأعود إىل ُغرفة الرسم دون أن أنظر ألحد‪ ،‬لك ّني أملح حممود منزو ًيا يف‬

‫جدار حالك‪ ،‬يكاد خيتفي داخله فأنظر إليه باحتقار‪ ،‬وأكمل طريقي‪.‬‬

‫انتهى حممود من حيايت وقتام أشاح ببرصه عني‪ ،‬حتى أنّني حرضت زفافه بنفيس‬

‫عىل صفاء بعد شهور‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫كتفي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يومها ارتديت فستا ًنا أسود بال كتفني‪ ،‬وتركت شعري األشقر عىل‬

‫أحبه‪ ،‬وجلست مكاين أتط ّلع إليه وهو ّيزف‬


‫القوي الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫وضعت أمحر الشفاه‬

‫إىل الفتاة املعتادة‪.‬‬

‫لوال أيب لكنت معتادة‪.‬‬

‫اهلل يساحمك يا أيب‪ ،‬أمتتم ال إراد ًيا بدعوة أمي‪ ،‬فأشعر بالسكني خترتق قلبي‬

‫للمرة األوىل‪.‬‬

‫مل أحزن عىل حممود‪ ،‬لك ّني مت ّنيت لو كنت أجلس مكان الفتاة املعتادة بفستان‬

‫الزفاف األبيض املعتاد‪ ،‬الطرحة املعتادة‪ ،‬مع ُخصلة الشعر الكبرية املصبوغة‬

‫من األمام‪ ،‬واملكياج املعتاد‪.‬‬

‫أهنض من مكاين فتتجه إ ّيل العيون كلها‪ .‬أغادر القاعة الصغرية وأعود إىل‬

‫البيت‪.‬‬

‫تستقبلني أ ّمي بوجه عابس‪ ،‬فأطلب منها أ ّ‬


‫ال تلقي ع ّ‬
‫يل املحارضة نفسها‪ ،‬ولو‬

‫ليوم واحد‪ ،‬ألنيّ أريد أن أنام‪.‬‬

‫أستيقظ‪ ،‬وأنام‪.‬‬

‫أذهب إىل العمل وأعود منه‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫أسري يف الشوارع وحيدة‪ ،‬بال أصدقاء؛ ّ‬
‫ألن ال أحد جيرؤ عىل السري بجواري‪،‬‬
‫بال حبيب‪ ،‬بعد أن تو ّقف اجلميع عن طلب يدي‪ ،‬أو التو ّدد إ ّيل‪.‬‬

‫يف عيد ميالدي األربعني‪ ،‬رحلت أمي‪.‬‬

‫كان رحيلها غري مفاجئ‪ ،‬يف املستشفى بعد رحلة طويلة من املرض‪ ،‬لك ّنها‬
‫كانت سعيدة احلظ بوجودي إىل جوارها‪.‬‬

‫أخ ّلل أصابعي يف خصالت شعرها الرمادية‪ ،‬تشعر باالطمئنان ملجرد‬


‫وجودي‪.‬‬

‫تنظر إ ّيل مطولاً وتقول‪ :‬اهلل يسامح أبوك ويرمحه‪.‬‬

‫كنت اعتدت التعامل مع املوت‪.‬‬

‫مل أرتعش مثلام حدث من قبل‪ ،‬استقبلت اخلرب بثبات‪ ،‬وأهنيت أوراقها كلها‪.‬‬

‫أمتمت مراسم الدفن وتل ّقي العزاء‪ ،‬ثم أغلقت ع ّ‬


‫يل باب البيت للمرة األوىل‪،‬‬
‫وحدي‪.‬‬

‫أعيش وحدي يف البيت الكبري‪ ،‬يف صمت ال يقطعه سوى صوت التلفزيون‬
‫إن أشعلته‪.‬‬

‫أكتفي بالعمل‪ ،‬ورشب الشاي يف رُ‬


‫الشفة‪ ،‬ثم النوم بعد صالة العشاء مبارشة‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫ال أنام منذ أن رحلت أمي‪ ،‬نسيت النوم كام تقول الست؛ لكن ليس عن حالة‬
‫عشقية‪ ،‬بل هي حالة انتباه دائمة‪.‬‬

‫أشعر وكأنّني نائمة‪ ،‬لك ّنني يف الوقت ذاته مستيقظة جدً ا‪.‬‬

‫أكاد أرى حدود جسمي والفراش‪ ،‬واخلزانة‪ ،‬والترسحية‪ ،‬حدود كل املوجودات‬


‫يف الغرفة يف الظالم الدامس‪ ،‬بل يمكنني رؤية كل تفاصيل املنزل‪ ،‬والشارع‪،‬‬
‫واملدينة‪.‬‬

‫منتبهة لكل يشء‪ ،‬لكل صوت‪ ،‬أسمع اهلمسات‪ ،‬واخلطوات‪ ،‬صفري القطارات‬
‫يف املحطة البعيدة‪ ،‬أسمع صوت دعاء املص ّلني الذين يتوافدون عىل املسجد يف‬
‫الشارع املجاور‪.‬‬

‫أسمع صوت تن ّفس طفل اجلريان‪ ،‬وصوت تق ّلب شقيقته‪.‬‬

‫أتناول كل املهدئات واملنومات بال فائدة‪ ،‬نائمة وال نائمة‪.‬‬

‫أتوهم‪ّ ،‬‬
‫وأن هذه بالتأكيد جمرد أحالم‪ ،‬لك ّنني أعرف أنهّ ا‬ ‫خيربين الطبيب أنّني ّ‬
‫ليست كذلك‪.‬‬

‫أحاول اعتياد حيايت هبذا الشكل‪ ،‬النوم الال نوم هبذه الطريقة‪...‬‬

‫نصف حياة‪ ،‬نصف نوم‪ ،‬نصف عمل‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫متيض األيام برسعة ال تصدّ ق‪ ،‬رغم أنهّ ا يف الوقت نفسه بطيئة للغاية‪.‬‬

‫ّ‬
‫وكأن التي تسبقها‬ ‫أكاد أموت مللاً يف انتظار هناية الشهر‪ّ ،‬‬
‫لكن هناية العام تأيت‬
‫كانت باألمس‪.‬‬

‫موجهة رسم‪ ،‬فأمر عىل املدارس املختلفة‪ ،‬ال أختلىّ عن مالبيس‬


‫أتر ّقى ألصبح ّ‬
‫املعتادة‪ ،‬حتى لو كنت يف الطريق إىل قرية صغرية تابعة إلداريت بجوار املدينة‪،‬‬
‫ً‬
‫سليطا‪ ،‬حتى مل يعد أحد‬ ‫أخرس األلسنة بنظرايت احلادة ولساين الذي أصبح‬
‫قادرا عىل رفع عينيه يف عيني‪.‬‬
‫ً‬

‫أتر ّقى أكثر ألصبح ّ‬


‫موجهة أوىل‪ ،‬ولتنتهي رحلتي باجللوس يف اإلدارة طيلة‬
‫النهار لإلرشاف دون عمل يشء‪.‬‬

‫أتأمل يف الفراغ ألكتشف أنّني أصبحت ما كنت أخشاه دو ًما‪ ،‬معتادة‪ ،‬واألسوأ‬
‫وحيدة‪.‬‬

‫أقف أمام حائط اإلنجازات الذي أقامه يل والدي يف البيت‪ ،‬ال أجد سوى بضعة‬
‫والتخرج‪ ،‬وشهادات‬
‫ّ‬ ‫شهادات مثرية للضحك‪ ،‬الشهادة االبتدائية‪ ،‬والثانوية‪،‬‬
‫تقدير وشهادات أخرى ملونّة ال أعرف من أين حصلت عليها‪.‬‬

‫والدي وصور أخرى وحدي‪ ،‬ما اإلنجاز الذي فعلته سوى‬


‫ّ‬ ‫صوري مع‬
‫استمراري يف فعل ما أريده دون االهتامم بأحد؟‬

‫‪232‬‬
‫بعض اللوحات التي محلتها معي من املدرسة بعد انتهاء خدمتي‪ ،‬لوحات‬
‫ساذجة تريض مناهج الوزارة‪ ،‬ومرور املوجهني املفاجئ‪ ،‬أهم ما فيها هو كتابة‬
‫العام الدرايس واسم املديرة بخط واضح عىل جنب‪.‬‬

‫مل أملك موهبة حقيقية‪.‬‬


‫متفوقة ألنّني ّ‬
‫أنفذ ما يريده األساتذة يف املدرسة والكلية‪ ،‬وكنت‬ ‫كنت طالبة ّ‬
‫أطبق ما يريدونه يف الوزارة‪.‬‬
‫جيدة ألنّني كنت ّ‬
‫مدرسة ّ‬
‫ّ‬
‫يميز الف ّنانني احلقيقيني الذين درست أعامهلم‪.‬‬
‫مل أكن أملك هذا الوهج الذي ّ‬
‫أنظر إىل خطوطي املحنتفة‪ ،‬وألواين اجلامدة التي تتظاهر بالروعة وأعلم وحدي‬
‫احلقيقة‪.‬‬

‫ال ّ‬
‫أمتيز بيشء سوى مجال اختفى أسفل التجاعيد والشعر الرمادي‪ ،‬سوى بعض‬
‫قطع املالبس البالية‪ ،‬التي مل أغيرّ ها منذ ‪ 30‬عا ًما‪.‬‬

‫يقرر زمالئي إقامة حفل توديع يل بمناسبة خروجي عىل املعاش‪.‬‬


‫ّ‬
‫ريا عتي ًقا من القطيفة‬
‫أقف أمام املرآة ألرتدي مالبيس‪ ،‬أرتدي فستا ًنا قص ً‬
‫وشاحا أمحر حول رقبتي‪.‬‬
‫ً‬ ‫اخلرضاء‪ ،‬وأضع‬

‫أتأمل وجهي املرهق بتجاعيده‪ ،‬وشعري الذي اختلط فيه األشقر باألبيض‪،‬‬
‫فأقرر املرور عىل الكوافري اجلديد الذي افتتح قري ًبا من املنزل‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪233‬‬
‫أن صاحبه كان تلميذي؛ فأطالبه بمعاملة خاصة بكل تأ ّفف‪.‬‬
‫أعرف ّ‬

‫جيلسني بنفسه عىل املقعد ويأمر عامله بتلبية كل طلبايت‪.‬‬

‫مرة يف الشهر لصبغ شعري‪ ،‬وعدم السامح بمثل هذا اللون‬


‫أداوم عىل الذهاب ّ‬
‫الرمادي بالظهور أبدً ا‪.‬‬

‫مل أكن مقتنعة بأنّني كربت إىل هذا احلد‪ ،‬وأنّني مل أنجز شيئًا‪ ،‬وأنّني مل أح ّقق ما‬
‫تو ّقعه يل أيب‪ ،‬وال ما مت ّنته يل أ ّمي‪.‬‬

‫بالغصة‪ ،‬أين إنجازاتك يا‬


‫ّ‬ ‫أجلس عىل مقعدي الدائم يف صالة البيت‪ ،‬وأشعر‬
‫فلك؟ وأين اجلميع؟‬

‫مل أتو ّقف عن تأمل الفساتني البيضاء يف فتارين العرض يو ًما إىل هذه السن‪.‬‬

‫حان الوقت ملصارحة نفيس بأنّني مل أنجز شيئًا؛ ّ‬


‫ألن حلمي احلقيقي مل يكن‬
‫سوى ما رفضته طيلة عمري‪.‬‬

‫كنت أمت ّنى ارتداء الفستان األبيض‪ ،‬واألهم من ذلك‪ ،‬االستناد عىل رجل‬
‫بجواري‪.‬‬

‫تسوق رجل وامرأته‬


‫التفاصيل البسيطة التي أراها يف كل مكان من حويل‪ ،‬مثل ّ‬
‫يف السوبر ماركت‪ ،‬بمظهرمها املتعب البائس‪ ،‬وجداهلام حول متط ّلبات البيت‪،‬‬
‫جتعلني أدمع‪ ،‬وأحسدمها‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫جلوس سيدة بجوار زوجها يف عيادة الطبيب‪ ،‬تو ّقف امرأة أمام حمل يعرض‬

‫قمصان النوم‪ ،‬مستلزمات األطفال يف الصيدلية‪ ،‬فكرة الشعور بأنفاس حارة‬

‫تلفح عنقي وأنا نائمة‪.‬‬

‫كلها أفكار جتعلني أزداد ً‬


‫متسكا بأنّني مل أكرب‪.‬‬

‫بأن ّ‬
‫جل ما أمت ّناه اليوم هو ارتداء فستان‬ ‫عيني عىل احلقيقة‪ ،‬أصارح نفيس ّ‬
‫أفتح ّ‬
‫أبيض‪.‬‬

‫وجنتي‪ ،‬بأصابعه تتخ ّلل ُخصالت شعري‪.‬‬


‫ّ‬ ‫هو الشعور بلمسة رجل عىل‬

‫هو التع ّلق يف ذراعيه والسري معه‪ ،‬واجللوس بجواره لريانا اجلميع‪.‬‬

‫أريد النوم وهناك شخص ما بجواري‪ ،‬هيدهدين ويطبطب عىل كتفي‪.‬‬

‫أقف يف منتصف الصالة وأرصخ‪ :‬أنا وحيدة جدً ا‪.‬‬

‫املرة األوىل التي أعرتف‬


‫ال يسمعني أحد‪ ،‬لك ّني أسمع نفيس‪ ،‬كانت هذه هي ّ‬
‫فيها رصاحة هبذا‪ ،‬وكان هذا يكفي ليجعلني أشعر هبذه احلقيقة أكثر وأكثر‪.‬‬

‫يف هذه اللحظة عرفت ما ع ّ‬


‫يل فعله‪...‬‬

‫أنزل من البيت كل يوم ألمتشّ ى بني فتارين عرض فساتني الزفاف ال ّ‬


‫رباقة‬

‫اجلميلة‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫أختار الصباح الباكر الذي ّ‬
‫ختف فيه حركة الزبائن واملارة‪.‬‬

‫أدخل من الباب فتتأ ّملني البائعات بتعجب‪ ،‬يكن مل يفرغن بعد من كنس املحل‬
‫وتنظيفه‪ ،‬فأطلب قياس فستان واثنني‪ ،‬يسألنني ِ‬
‫لك أنت؟ فأجيب بنعم‪.‬‬

‫أحكي ّ‬
‫هلن قصة قمت بتأليفها طيلة الليل عن الفتاة املسكينة التي أرعاها من‬
‫ريا األسبوع القادم‪ ،‬وأو ّد مفاجأهتا‬
‫ستتزوج أخ ً‬
‫ّ‬ ‫الطفولة يف ملجأ األيتام‪ ،‬والتي‬
‫وابتياع فستان الزفاف هلا دون أن تعلم‪.‬‬

‫تتأ ّثر الفتيات بقص ّتي ويساعدنني بحامس يف االختيار‪ ،‬أقيس فستان ًاا بعد‬
‫اآلخر‪.‬‬

‫أتنفس بسهولة‪ ،‬وكأنّني وجدت الرداء‬


‫ّ‬ ‫أتأمل نفيس به أمام املرآة‪ ،‬أشعر بأنّني‬
‫ريا‪.‬‬
‫الذي يناسبني أخ ً‬
‫ومطرز لكمني قصريين مثل سندريال‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أستقر عىل فستان واحد يف النهاية‪ ،‬واسع‬
‫ّ‬
‫فورا وأغادر املحل مصحوبة بدعاء البائعة يل عن هذا اخلري الذي أقوم‬
‫أشرتيه ً‬
‫أصور هلا العروس يوم الزفاف ّ‬
‫فأؤكد هلا أنّني سأفعل‪.‬‬ ‫بفعله‪ ،‬تستحلفني أن ّ‬
‫يف اليوم التايل كنت قد أعددت كل يشء‪،‬‬

‫أضع الفستان يف شنطة بالستيكية خرضاء مع احلذاء الالمع عايل الكعب‪،‬‬


‫مرة‪.‬‬
‫أتوجه للكوافري‪ ،‬وأدخل ألجلس مكاين مثل كل ّ‬
‫والطرحة والتاج‪ّ ،‬‬

‫‪236‬‬
‫يأيت الباشا ليلقي ع ّ‬
‫يل التحية‪ ،‬ويأمر أحد صبيانه بالبدء يف صبغ شعري‪ ،‬ثم تأيت‬
‫نادية لغسله‪.‬‬

‫تنتهي من الغسيل‪ ،‬فأطلب منها أن تص ّفف يل شعري باملكواة اليوم‪ ،‬وترفعه‬


‫عال ًيا‪.‬‬

‫وراءك مناسبة مهمة يا ِمس فلك‪..‬‬


‫ِ‬ ‫‪- -‬يبدو أن‬

‫•نعم يا نادية اليوم مهم للغاية‪ ،‬لكن سأرتدي فستاين أولاً ‪.‬‬

‫أدخل إىل غرفة تغيري املالبس وأطلب منها مرافقتي‪ ،‬أخرج الفستان أمامها‬
‫فتضع يدهيا عىل فمها‪.‬‬

‫‪- -‬ماذا بك؟ هل هذه ّأول ّ‬


‫مرة ترين فيها فستان زفاف؟‬

‫•هل‪ ،‬تتزوجني يا ِمس فلك؟‬

‫‪- -‬نعم‪ ،‬زفايف اليوم‪.‬‬

‫•عىل َم ْن؟‬
‫‪- -‬ال شأن ِ‬
‫لك هبذا‪ ،‬لمِ َ تسألني؟‪ ،‬افعيل ما آمرك به‪ ،‬ساعديني يف‬
‫ارتدائه‪.‬‬

‫تساعدين نادية يف ارتداء الفستان األبيض‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫ّ‬
‫فيحل الصمت عىل اجلميع‪ ،‬ينظرون إيل وكأنّني عارية‪.‬‬ ‫أخرج به‬

‫تبدأ نادية يف تصفيف شعري‪ ،‬وتثبيت الطرحة والتاج‪ ،‬تنتهي فأخرج محريت‬
‫شفتي بنفيس‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وأمررها عىل‬
‫ّ‬
‫هترع نادية إىل مكتب الباشا ملناداته‪ ،‬فيخرج يف وقت قيامي من املقعد نفسه‪،‬‬
‫تضم مالبيس‪.‬‬
‫وأنا أمحل حقيبتي البالستيكية التي ّ‬
‫‪ِ - -‬مس فلك‪ ،‬أرجوك ال تغادري السنرت هكذا‪ ،‬الشوارع غري آمنة‬
‫اليوم‪ ،‬وعربات الرشطة يف كل مكان‪.‬‬

‫•وهل أرسق؟ ماذا جرى لك يا ولد‪ ،‬كيف جترؤ عىل إيقايف‪.‬‬

‫‪- -‬يمكنك البقاء هنا بالفستان‪ ،‬يمكنك اجللوس معي يف املكتب‪.‬‬

‫• ابتعد عن طريقي أريد اللحاق بالزفاف‪.‬‬

‫يتبادل الباشا ونادية األنظار‪ ،‬كانت الشوارع هادئة واجلميع يف بيوهتم؛ خو ًفا‬
‫من االنفجار احلاصل هذا الصباح يف كنيسة قريبة‪ ،‬أبعده عن طريقي وأخرج‬
‫من الباب بثقة‪ ،‬أرفع جانبي الفستان وطرحتي تتطاير خلفي برفق‪.‬‬

‫جتري نادية خلفي للحاق يب يف الشارع‪.‬‬

‫أنظر إليها فتقول‪ :‬سأمحل لك الطرحة‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫أشري هلا بأنهّ ا يمكنها ذلك‪ ،‬أكمل طريقي يف السري يف الشارع‪ ،‬املارة القليلون‬
‫يتو ّقفون للنظر إ ّيل‪ ،‬يرضبون كفوفهم ببعضها ً‬
‫بعضا‪.‬‬

‫يصيح أحدهم‪ :‬أين العريس يا عروسة‪ ،‬فتنظر إليه نادية نظرة خترسه‪.‬‬

‫متر‬
‫أسري يف الشارع الرئيس للمدينة وسط سيارات الرشطة واإلسعاف التي ّ‬
‫مرسعة من حويل‪ ،‬بأضوائها اخلاطفة وكأنهّ ا تز ّفني كام أردت‪.‬‬

‫املتعجبني الذين يريدون معرفة ما الذي‬


‫ّ‬ ‫يسري خلفي وخلف نادية بعض املارة‬

‫حيدث بالضبط‪ ،‬ال أهتم هبم‪.‬‬

‫أكمل يف طريقي الذي حدّ دته بد ّقة إىل املقهى املفتوح الشهري يف منتصف‬

‫الشارع‪.‬‬

‫متد يل نادية ذراعها فأتأبطه‪ ،‬كانت يدي باردة جدً ا‪ ،‬تدفئني سخونة يدها التي‬

‫ركبتي قليلاً ‪ ،‬كنت خجلة‬


‫ّ‬ ‫متسك هبا كفي بحرص‪ ،‬تبتسم يل فتتوقف رجفة‬

‫وخائفة‪ ،‬مل أكن قوية هلذه الدرجة التي حسبتها‪ ،‬أفزعني جتمهر اجلميع من‬

‫حويل‪ ،‬لكن نادية منحتني الثقة رغم كل يشء‪.‬‬

‫يتجمع املارة من‬


‫ّ‬ ‫نصل إىل املقهى فأجلس عىل مائدة وجتلس نادية بجواري‪.‬‬

‫حويل‪ ،‬فيهرع النادل إلبعادهم‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫أجلس واالبتسامة متلؤ وجهي‪ ،‬تنظر إيل نادية فتبتسم هي األخرى‪ ،‬تسألني‬
‫هل أنت سعيدة؟‬

‫‪- -‬أنا يف ّ‬
‫قمة السعادة‪..‬‬
‫يقرتب م ّني بائع ُ‬
‫الف ّل ليضع طو ًقا حول عنقي‪ ،‬وآخر حول ُعنق نادية‪ ،‬خترج له‬
‫نادية بعض اجلنيهات فريفض متا ًما‪.‬‬

‫‪- -‬والنبي شكلها حلو‪ ،‬مربوك يا عروسة‪.‬‬

‫تزداد سعاديت أكثر‪ ،‬وينترش اخلرب يف املدينة الصغرية برسعة أكثر‪ ،‬يمر األوالد‬
‫ليلتقطوا صوري هبواتفهم‪ ،‬يلتمع الفالش يف عيني فأبتسم هلم‪.‬‬

‫يتكون كلام ّ‬
‫فضه نادل املقهى‪.‬‬ ‫أجلس بثقة بينام ترتبك نادية من الزحام الذي ّ‬
‫تتو ّقف أمامنا سيارة رشطة‪ ،‬ينزل منها ضابط شاب ليسألني عماّ أفعله‬
‫بالضبط‪.‬‬

‫‪- -‬أجلس عىل مقهى كام ترى‪.‬‬

‫ملاذا ترتدين فستان عروس؟‬

‫ترد نادية‪ :‬وهل هناك قانون يمنع ذلك؟‬

‫ويرص عىل اصطحايب إىل املخفر‪ ،‬حتاول‬


‫ّ‬ ‫ينهضني الضابط من مقعدي برفق‪،‬‬
‫نادية إيقافه فيسأهلا عن قرابتها يل‪ ،‬تصمت فيطلب منها االبتعاد‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫‪- -‬األوامر التي صدرت يل هي اصطحاهبا إىل املخفر وحترير حمرض‬
‫إثبات حالة‪ ،‬خشية إيذائها لنفسها أو الغري‪.‬‬

‫لك ّنها مل ترض أحدً ا‪..‬‬

‫‪- -‬ربام ترض نفسها‪.‬‬

‫كنت مستسلمة متا ًما له‪ ،‬ألوح لنادية والضابط يفتح يل باب السيارة اخللفي‪،‬‬
‫يساعدين عىل الركوب ويغلق باب السيارة ع ّ‬
‫يل‪ ،‬تقرتب نادية من النافذة‪،‬‬
‫ترصخ‪.‬‬

‫‪- -‬سأخرب الباشا‪ ،‬سيخرجك ً‬


‫فورا‪..‬‬

‫أبتسم هلا وأستمر يف التلويح هلا بيدي‪ .‬هذه هي النهاية املثالية للحفل‪ ،‬ز ّفة‬
‫بالسيارة إىل حيث أستطيع االسرتخاء قليلاً ‪ ،‬لقد كان يو ًما ُمرهق ًا جدً ا‪.‬‬

‫تبتعد نادية عن ناظري‪ ،‬أريح رأيس عىل مسند األريكة اخللفية‪ ،‬اآلن يمكن أن‬
‫أغمض عيني قليلاً ‪ ،‬اآلن فقط يمكن أن أنام‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫زينب‬

‫يقول عيل‪:‬‬

‫جيدً ا‪،‬‬
‫وتشبثي ّ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫عينيك‬ ‫‪- -‬أغميض‬

‫عيني يف اللحظة نفسها التي ينطلق‬ ‫ُأ ِ‬


‫حكم ّ‬
‫ذراعي حول خرصه‪ ،‬أغمض ّ‬
‫ّ‬ ‫لف‬
‫بدراجته البخارية يف الشارع الفارغ‪ ،‬تبدأ املوسيقى يف االنسياب يف‬
‫هو فيها ّ‬
‫أرص عىل ارتدائي إياها‪.‬‬
‫السامعات الداخلية للخوذة التي ّ‬
‫أرصخ يف أذنه‪ :‬ما اسم هذه املوسيقى؟ جييب بيشء ال أسمعه‪ ،‬يكاد اهلواء‬

‫يل ّ‬
‫بقوة‬ ‫هتب ع ّ‬
‫يطريين فأرجع رأيس إىل الوراء‪ ،‬أستسلم له‪ ،‬ولرائحة النيل التي ّ‬
‫ونحن نصعد كوبري قرص النيل‪ ،‬كان يسري برسعة كبرية‪ ،‬وددت لو سألته‬
‫أن يبطئ قليلاً ‪ ،‬أن يبطئ لألبد‪ ،‬أن ّ‬
‫نظل هكذا مع ّلقني يف هذه اللحظة‪ ،‬هبذه‬

‫‪243‬‬
‫وجنتي‪ ،‬بعنف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تدوي يف آذاننا‪ ،‬برائحة النيل‪ ،‬واهلواء الذي يرضب‬
‫ّ‬ ‫املوسيقى‬
‫إنام بلذة‪.‬‬

‫تدمع عيناي وأنا أقف يف رشفة منزيل اليوم‪ ،‬أعوام عديدة مرت لدرجة أنني‬
‫ال أتذكرها‪ ،‬فأين اختفت املوسيقى إذن؟ أين اختفيت أنا‪ ،‬سقطت يف قعر‬
‫حس‪.‬‬
‫صامت‪ ،‬حيث ال هواء‪ ،‬وال رائحة‪ ،‬وال ّ‬
‫يرضب الصداع صدغي األيرس‪ ،‬أضع كوب الشاي عىل السور‪ ،‬باألسفل‪،‬‬
‫تضوي سيارات الرشطة بصوت ال يصل يل يف هذا الطابق املرتفع‪ ،‬تدور يف‬
‫ّ‬
‫الشوارع مع اإلسعاف‪ ،‬تنقل املصابني من الكنيسة إىل املستشفيات يف املدينة‪،‬‬
‫الشوارع فارغة‪ ،‬أفرغها صوت انفجار ال تعرفه‪ ،‬قطع الصمت وليته مل‬
‫يقطعه‪.‬‬

‫أتوسل إىل اهلواء أن ّ‬


‫هيب ولو‬ ‫عيني‪ّ ،‬‬
‫حبتي مسكن برشفة شاي‪ ،‬أغمض ّ‬
‫ّ‬ ‫أتناول‬
‫حية‪ ،‬ماذا كان اسم املوسيقى؟‬
‫أتنفس‪ ،‬أريد أن أشعر بأنّني ّ‬
‫ّ‬ ‫قليلاً ‪ ،‬أريد أن‬

‫نساء م ّتشحات باألسود جيرين يف الطريق‪ ،‬متى استعددن باألسود؟ هل علينا‬


‫زي جاهز هبذا اللون يف ِخزاناتنا اليوم؛ ّ‬
‫ألن املوت صار معتا ًدا هلذه‬ ‫حتضري ّ‬
‫الدرجة‪ ،‬يعلن عن نفسه‪ ،‬فنرتديه ونذهب الستقباله‪.‬‬

‫الرشفة فارغة‪ ،‬ولو من مقعد‪ ،‬فارغة مثيل‪ ،‬اعتدت الوقوف بالساعات‪ ،‬أرمق‬

‫‪244‬‬
‫الال يشء‪ ،‬البرش كالنمل من هنا‪ ،‬حتى االقرتاب منهم ممنوع ع ّ‬
‫يل‪ ،‬أنا يف برج‬
‫ٍ‬
‫عال‪ ،‬رغم أنيّ يف قعر غويط‪.‬‬

‫ريا عن هذه املوسيقى‪ ،‬شعرت بأنهّ ا كانت من فيلم أمريكي شهري‪،‬‬


‫بحثت كث ً‬
‫مهب رياح‪.‬‬
‫يطوحني كريشة يف ّ‬
‫إحساسها ّ‬
‫أستمع كل يوم إىل عرشات القطع بال جدوى‪ ،‬أرسل لعيل رسالة عىل الفيسبوك‬
‫أسأله‪ ،‬ماذا كان اسم املوسيقى يف هذه الليلة؟‬

‫جييبني‪ ،‬وما جدوى ذلك؟‬

‫املرة‪ ،‬يقاطعني متا ًما منذ زواجي‪.‬‬


‫اجليد أنّه ر ّد هذه ّ‬
‫من ّ‬
‫حب عارمة‪ ،‬لك ّنه كان هناك‪ ،‬وأنا كنت هناك‪ ،‬نقف متواجهني‬
‫قصة ّ‬
‫مل نكن يف ّ‬
‫يب قهوة صنعت عىل عجل مثل‬
‫يفصلنا نصف عمود أسمنتي‪ ،‬نضع عليه كو ّ‬
‫لقائنا‪ .‬يسألني‪ :‬هل أنت ّ‬
‫متأكدة من القرار؟ أجيبه بنعم‪.‬‬

‫‪- -‬أنت ال تعرفينه‪..‬‬

‫•هكذا نتزوج يف عائلتنا‪..‬‬

‫‪- -‬ال يوجد يشء كهذا‪...‬‬

‫تزوجت شقيقايت هكذا‪ ،‬وأنا سأتزوج بالطريقة‬


‫•أنت ال تفهم شيئًا‪ّ ،‬‬
‫نفسها‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫الثري ّ‬
‫املهذب ابن األصول‪ ،‬الذي يربط أبوه بأيب مصالح‬ ‫ّ‬ ‫‪- -‬العريس‬
‫مشرتكة‪ ،‬ال يوجد لدي سبب للرفض‪.‬‬

‫•هذا فيلم رخيص‪.‬‬

‫‪- -‬من أين تعتقد تأيت األفالم الرخيصة؟ من الواقع الرخيص‪.‬‬


‫•زينب‪ِ ،‬‬
‫أنت سعيدة؟‬

‫أبتسم وال أجيب‪ ،‬مل يسألني أحد قط‪ ،‬هذا السؤال‪ ،‬يسألونني زينب هل‬
‫مت؟ هل أهنيت الواجب؟ هل رت ِ‬
‫ّبت فراشك؟ هل راجعت‬ ‫حتم ِ‬ ‫ِ‬
‫أكلت؟ هل ّ‬
‫حمارضاتك؟ هل س ّلمت عىل ّ‬
‫عمتك؟‬
‫لكن أحدً ا مل يسألني عن سعاديت من قبل‪ ،‬زينب هل ِ‬
‫أنت مرتاحة؟ زينب هل‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫أنت مطمئنة؟ هل حتتاجني إىل حضن؟‬

‫األول‬
‫أروض قلبي عىل عدم الوقوع يف هواه منذ اليوم ّ‬
‫أنظر إىل عيل‪ ،‬كنت ّ‬
‫وأهز رأيس باإلجياب‪.‬‬
‫أتنهد ّ‬
‫للقائنا‪ّ ،‬‬

‫‪- -‬إذن ألف مربوك‪.‬‬

‫املخصصة لذلك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يلقي بكوب قهوته يف الفتحة‬

‫ينظر إيل ويغادر املكان‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫هكذا ببساطة دون أن خيربين عن اسم املوسيقى التي أسأله عنها منذ بداية‬
‫اللقاء‪ ،‬إىل اليوم ال يريد إخباري‪.‬‬

‫لك ّني أستطيع اسرتجاعها يف ذهني ك ّلام أردت‪.‬‬

‫أغمض ّ‬
‫عيني وأشغلها‪ ،‬فأبتعد عن هذه املدينة الصغرية إىل عامل آخر‪ ،‬تتحول‬
‫فيه احلياة إىل مكان أكثر قسوة‪ ،‬حيث أستطيع أن أعيش‪ ،‬وليس التظاهر بأنّني‬
‫أفعل‪.‬‬

‫ك ّلام خفت‪ ،‬أغمضت عيني وهربت إىل مكان آخر‪ ،‬كام فعلت عندما أوقفني أيب‬
‫يف ركن الغرفة‪ ،‬يمسك يف يديه برواية من روايات عبري‪ ،‬اقرتضتها من زميلة يل‬
‫يف املدرسة‪ ،‬كان وجهه متغيرّ ً ا وكأنّام قامت القيامة‪ ،‬خلفه تقف أ ّمي جامدة بال‬
‫مالمح‪ ،‬هي من جلبته لتأديبي بعد أن وجدت الرواية وسط ُك ُتبِي يف محالهتا‬
‫التفتيشية عىل غريف أنا وشقيقايت‪.‬‬

‫‪- -‬احلب امللتهب؟ ملن تقرأينها يا هانم؟ أخربيني اآلن؟‬

‫كنت أضع أصابعي يف فمي بعد صفعته املفاجئة يل حلظة اقتحامه لغرفتي‪،‬‬
‫أي وقت‪ ،‬حتى ولو كنا نغيرّ مالبسنا‪ ،‬خيلع األقفال‪،‬‬
‫كان أيب يقتحم غرفنا يف ّ‬
‫أي تغيري ملقابض البيت‪ ،‬ال باب ُيغلق‪ ،‬وال خصوصية‬
‫ويلغي املفاتيح بيده عند ّ‬
‫لبنت‪..‬‬

‫‪247‬‬
‫يمزقها أيب‬
‫أقسم أنهّ ا رواية صديقتي‪ ،‬وأنّني أقرأها عىل سبيل التسلية ال أكثر‪ّ ،‬‬
‫ويرص عىل االتّصال بوالدة صديقتي ليع ّلمها األصول‬
‫ّ‬ ‫قطعا صغرية أمام عيني‪،‬‬
‫ً‬
‫كام ذكر‪.‬‬

‫‪- -‬أرجو إبعاد ابنتك عن ابنتنا يا مدام‪ .‬نحن حمافظون ال نقبل هبذه‬
‫املساخر‪.‬‬
‫ِ‬
‫يكتف أيب هبذه اإلهانات العظيمة ملراهقة يف مدرسة ثانوية للراهبات‪ ،‬بل‬ ‫مل‬

‫وليحذر ا ُمل ّ‬
‫درسات‬ ‫ّ‬ ‫أتى إىل املدرسة نفسها‪ ،‬ليفضح الفتاة أمام اجلميع كام قال‪،‬‬
‫منها‪.‬‬

‫كنت أنا أمام ُف ّوهة املدفع بعد ذهابه‪ ،‬ليس بيدي حيلة‪ ،‬أعذرهم وهم يبتعدون‪،‬‬
‫وهم يتحاشونني كالوباء‪.‬‬

‫أذهب إىل املدرسة وحيدة‪ ،‬وأعود وحيدة‪.‬‬

‫التقبل واخلضوع ّ‬
‫كبقية شقيقايت األربع‪ ،‬وال‬ ‫غريبة وسط اجلميع‪ ،‬ال قادرة عىل ّ‬
‫التمر ّد والتصدّ ي كام أحلم كل ليلة‪.‬‬

‫أتق ّلب يف فرايش ّ‬


‫ألختيل سيناريوهات خمتلفة للهرب‪.‬‬

‫متر األيام ثقيلة‪ ،‬حمارصة‪ ،‬مراقبة‪ ،‬حتى أمت ّنى االختفاء ولو‬ ‫ال ّ‬
‫أنفذ واحدة منها‪ّ .‬‬
‫للحظات‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫أشم فيها بعض اهلواء‪ ،‬أجلس عىل النيل‪ ،‬أسري عىل الكورنيش‪ ،‬أترك نفيس‬
‫هكذا فقط‪ ،‬دقائق‪ ،‬ساعات‪ ،‬أيام‪.‬‬

‫يف اجلامعة ذهبت إىل النيل بال ُمعني‪.‬‬

‫عينه يل أيب كام فعل مع شقيقايت من قبيل‪،‬‬


‫أهرب من السائق اخلاص الذي ّ‬
‫للذهاب والعودة من وإىل اجلامعة اخلاصة البعيدة يف القاهرة اجلديدة‪ ،‬إىل بيتنا‬
‫حي املعادي‪.‬‬
‫الكبري يف ّ‬
‫أفر إىل قلب القاهرة وكأنّني أخرج إىل ُ‬
‫احلر ّية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫حرية معدودة بقدر ساعات املحارضات التي ال أحرضها‪.‬‬
‫أعود بعدها جمدّ ًدا ألنتظر عىل باب ُ‬
‫الك ّلية للذهاب إىل املنزل‪.‬‬

‫اخرتت كلية نظرية ال تتط ّلب جهدً ا ّ‬


‫للتفرغ ألحالمي‪.‬‬

‫ريا إلنجازايت العلمية بقدر إنجازايت يف الزواج‬


‫يف الواقع مل يكن والدي يأبه كث ً‬
‫القادم؛ لذا كانت فكرة طلب يدي ّ‬
‫املبكرة قبل إهنائي لدراستي بمثابة طوق‬
‫نجاة وخالص‪.‬‬

‫بينام يعتقد اجلميع أنّني أواظب عىل حضور حمارضايت‪ ،‬كنت أنا أواظب عىل‬
‫حضور األفالم يف سينام صغرية يف وسط البلد‪ ،‬ال يرتادها عادة سوى املثقفني‪،‬‬

‫‪249‬‬
‫تعرض أفال ًما أوروبية أو عربية مستقلة‪ ،‬أجلس وحدي بني عدد حمدود من‬
‫خالصاعىل الشاشة‪.‬‬
‫ً‬ ‫سحرا‬
‫ً‬ ‫األشخاص‪ ،‬أتابع‬

‫أنتظر حلني انتهاء الترتات كلها‪ ،‬أقرأ كل األسامء التي شاركت يف صنع هذا‬
‫السحر‪.‬‬

‫أبقى وحدي يف صالة شبه مظلمة‪ ،‬يستعدّ أصحاهبا لعرض الفيلم التايل‪ ،‬بينام‬
‫أنتظر أنا آخر اسم‪.‬‬

‫مشدوها‬
‫ً‬ ‫جالسا مثيل‪،‬‬
‫ً‬ ‫مرة ّ‬
‫يظل‬ ‫ال ينتظر معي سوى شخص واحد‪ ،‬يف كل ّ‬
‫لألسامء‪ ،‬ال ينتبه إ ّيل إ ّ‬
‫ال يف املغادرة‪ ،‬يفسح ّيل الطريق كل ّ‬
‫مرة بابتسامة‪.‬‬

‫جالسا‬
‫ً‬ ‫أعرب من جانبه ألعود من جديد إىل عاملي اآلخر‪ ،‬بينام ّ‬
‫يظل هو هناك‪،‬‬
‫عىل املقهى املقابل‪ ،‬ينتظر شيئًا ال أعرفه‪.‬‬

‫مرة‪ ،‬أستجمع شجاعتي كلها التي مل ختاطب رجلاً قط‪ ،‬أتجّ ه إليه وأقف‬
‫ذات ّ‬
‫أمامه‪ ،‬أسأله ماذا تنتظر؟‬
‫ألول مرة‪ ،‬يبدو أنّه ّ‬
‫تذكرين فجأة‪ ،‬يبتسم ويشري يل‬ ‫ينظر إيل وكأنّه يراين ّ‬
‫باجللوس‪...‬‬

‫‪- -‬فتاة الترتات‪ ،‬اجليس‪..‬‬

‫•هذا ما تطلقه ع ّ‬
‫يل؟‬

‫‪250‬‬
‫‪- -‬حتى أعرف اسمك‪.‬‬

‫ريا وأنا‬
‫هيمه أن يعرف‪ .‬كان يتحدّ ث كث ً‬
‫أي يشء آخر‪ ،‬ال ّ‬
‫ال يسألني عيل عن ّ‬
‫أسمع‪ ،‬يأخذين إىل أماكن مل أعرف وجودها حتى يف هذا البلد‪.‬‬

‫والدي‪ ،‬أتع ّلم املطالبة ببعض حقوقي‪ ،‬ومن بينها الذهاب‬


‫ّ‬ ‫أتع ّلم الكذب عىل‬
‫إىل اجلامعة دون سيارة وسائق‪.‬‬

‫أتع ّلم الزيادة يف االنقسام‪ ،‬كيف أبالغ يف إظهار الطاعة يف البيت‪.‬‬

‫كيف أطاوع بال جمادلة‪.‬‬

‫كيف أكسب ثقة والدي‪ ،‬فيمنحني ما أريد من مال وامتيازات خاصة مل حتدث‬
‫من قبل لشقيقايت‪.‬‬

‫يتباهى بطاعتي العمياء‪ ،‬وبعقيل الذي يوزن بلدً ا‪ ،‬بينام أنا أخرى خارج املنزل‪.‬‬

‫ّ‬
‫ألمتكن‬ ‫‪- -‬هل تعلم أن أهيل منحوين اجلنسية األمريكية فور مولدي؛‬
‫من اخلروج والدخول من هذا البلد الذي مل أغادره ح ًّقا إ ّ‬
‫ال جنينًا كام‬
‫أشاء‪ ،‬مثيل مثل بقية شقيقايت‪ ،‬لك ّنهم ويف الوقت ذاته‪ ،‬مل يمنحوين‬
‫ُح ّرية اخلروج والدخول من املنزل‪.‬‬

‫يل ما أقول‪ ،‬يضحك معي جماملاً ‪.‬‬


‫أضحك‪ ،‬فال يفهم ع ّ‬

‫‪251‬‬
‫ال يعرف من أنا وال من عائلتي وال من أين أتيت‪ ،‬أنا يف عينيه كنت فقط «فتاة‬
‫الترتات»‪.‬‬

‫ال يعلم أنّني أتابع الترتات فقط ألحسد األسامء عليها‪ ،‬أحسدهم عىل قدرهتم‬
‫الفن‪ ،‬عىل االختيار‪ ،‬والتعبري عن رأهيم‪.‬‬
‫التمرد‪ ،‬عىل ّ‬
‫ّ‬ ‫عىل‬

‫نحن يف نظر أيب جمرد ممتلكات خاصة‪ ،‬يقتنيها حلني التخ ّلص منها يف صفقة‬
‫جديدة من صفقاته‪ ،‬تعود عليه باملكسب أولاً ‪ ،‬إ ّما بالوجاهة االجتامعية‪ ،‬أو‬
‫بالعالقات‪ ،‬أو بضامن مادي مناسب‪.‬‬

‫ما الذي نريده أكثر من ذلك؟ حياة مرتفة ننتقل منها إىل كنف زوج أكثر ثرا ًء‪.‬‬

‫منزل فخم ننتقل منه إىل منزل أكثر فخامة‪.‬‬

‫مالبس حتمل أسامء عالمات عاملية‪ ،‬جيلبها لنا والدي من سفرياته املتعدّ دة غري‬
‫ّ‬
‫التحكم الذي ال‬ ‫املسموح لنا بمرافقته فيها‪ُ ،‬ح ّرية مظهرية‪ ،‬يكمن أسفلها كل‬
‫ختيله‪.‬‬
‫يمكن ّ‬
‫يدخل ع ّ‬
‫يل أيب كعادته الغرفة دون إذن‪ ،‬كانت املوسيقى ال تزال تفعم أذين‪،‬‬
‫يسمح يل باخلروج اآلن ليلاً مع األصدقاء الذين ال يعرف أنهّ م ليسوا سوى‬
‫«ع ّ‬
‫يل» وحده‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫أمرا عاد ًيا‪.‬‬
‫يضع يديه يف جيبي سرتته‪ ،‬ويقول وكأنّه خيربين ً‬
‫‪- -‬غدً ا مسا ًء حيرض ضيوف لنا‪ ،‬صديق قديم لطلب يدك البنه‪.‬‬

‫أنظر إليه وال أر ّد‪ ،‬يكمل حديثه دون تو ّقف‪ ،‬الفتى درس يف كليتك نفسها‪،‬‬
‫لك ّنه يسبقك بسنوات‪ ،‬ال أعتقد أنّكام تالقيتام من قبل‪.‬‬

‫يتنحنح مضي ًفا‪ :‬لن تعيشان يف القاهرة‪ ،‬العريس يملك مركز جتميل ضخم يف‬
‫هيم بالتأكيد‪ ،‬املرأة تعيش مع زوجها أينام‬
‫لكن املكان ال ّ‬
‫مدينته ال يمكن تركه‪ّ ،‬‬
‫أراد‪.‬‬

‫وعيشني وغيرّ حيايت بكلمتني وإيامءة‪ .‬خيرج دون انتظار للر ّد‪،‬‬
‫زوجني أيب‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫لتدخل بعده أ ّمي ُمه ّللة‪.‬‬

‫‪- -‬الفتى يف غاية الكامل‪ ،‬أنت حمظوظة جدً ا‪...‬‬

‫أنا حمظوظة جدً ا‪ ،‬كيف ال‪ ،‬وأنا أضمن حياة وبي ًتا وعيشة رغدة قبل إهناء‬
‫دراستي حتى‪ ،‬جيلس أيب مع أزواج شقيقايت ووالد العريس يف جانب‪.‬‬

‫يأيت وحده مع ابنه فقط‪ ،‬تلكزين شقيقايت فور رؤيته‪ّ ،‬‬


‫يتعجبن من مجاله وحسن‬
‫هندامه‪.‬‬

‫‪- -‬يالك من حمظوظة‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫يمطرنني بالكلمة حتى أكاد أؤمن هبا‪ ،‬جيلس معي صام ًتا مداع ًبا هاتفه‪ ،‬أشعر‬
‫وكأنّه هو اآلخر جمبور عىل هذه الزجية‪ ،‬لكن هل يجُ رب رجل اليوم؟‬

‫عيناي ال تفارق وجهه‪ ،‬فريفع برصه إ ّيل متعج ًبا‪ ،‬يضحك بشبه سخرية‪:‬‬

‫‪- -‬أنت جريئة جدً ا‪.‬‬

‫•ملاذا؟‬

‫‪- -‬تنظرين إيل‪ ،‬ومن املفرتض أن حيدث العكس‪.‬‬


‫•يمكنك النظر إ ّيل كام تريد‪ ،‬أمل ِ‬
‫تأت للمعاينة؟‬

‫تتغيرّ ابتسامته من سخرية إىل تقطيبة حرية‪.‬‬

‫ينظر إيل متسائلاً ‪ّ ،‬‬


‫لكن أيب ال يمهله وق ًتا‪ ،‬يقتحم جلستنا معلنًا ّ‬
‫بأن اخلطبة‬
‫األسبوع القادم‪.‬‬

‫‪- -‬ال داع خلطبة طويلة‪ ،‬أرى أن يكون الزواج بعد ستة أشهر‪ ،‬كافية‬
‫إلهناء التحضريات الالزمة‪.‬‬

‫ير ّد والده بطلبه الغريب يف أن يكون الزفاف وجتهيز العروس يف الكوافري‬


‫اخلاص هبم يف مدينتهم‪.‬‬

‫فورا‪.‬‬
‫ال أكاد أفتح فمي لالعرتاض حتى يوافق أيب ً‬
‫هتمس له أ ّمي متسائلة‪ ،‬والعائلة واألصدقاء كيف حيرضون؟‬

‫‪254‬‬
‫‪- -‬من يود حضور زفافنا يأت إلينا‪ ،‬املدينة ليست يف هناية العامل‪.‬‬

‫جيلل صوته بالضحكات بينام أحافظ أنا عىل الصمت‪ ،‬هذه األمور ال تعنيني‬
‫يف يشء‪ ،‬حتى اختيار الفستان تركته لوالديت وشقيقايت‪ ،‬جيلبونه من اخلارج‬
‫خصيصا‪ ،‬ينفق أيب عىل زفايف أضعاف ما أنفقه عىل شقيقايت‪ ،‬أسأل أ ّمي عن‬
‫ً‬
‫سبب كل هذا االحتفاء؟!‬

‫‪- -‬هذا الفتى الذي ال يعجبك يملك ثروة ال يمكن إحصاؤها‪ ،‬والدك‬
‫عبقري‪ ،‬سيتوسع يف مشاريعه بفضلهام‪.‬‬

‫احلاج سيرتك إدارة مركزه للفتى‪ ،‬ويتفرغ لالستثامر مع أبيك‪ ،‬ماكينة أموال بال‬
‫حساب‪ ،‬من يمكن أن يرفض؟‬

‫ثم تنظر إيل مستغربة‪ ،‬ثم كيف ال يعجبك‪ ،‬إنّه يعجب احلجر‪ ،‬يشبه نجوم‬
‫السينام يا محقاء‪ ،‬هل كنت حتلمني بنصفه؟‬

‫‪- -‬أأنا قبيحة هلذه الدرجة؟‬

‫•ال هيم‪ ،‬املهم سمعتنا التي ال تشوهبا شائبة‪ ،‬والتي جلبته إىل هنا‪.‬‬

‫تنهي كالمها بحزم وتغادر‪.‬‬

‫أقل منه مجالاً ‪ ،‬ألتوقع‬


‫أقف أمام املرآة ألتأمل وجهي‪ ،‬مل أكن قبيحة لك ّني كنت ّ‬
‫تعليقات احلضور يف زفافنا‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫يتزوج هذا البدر من هذه‪.‬‬
‫كيف ّ‬
‫شفتاي الرفيعتان‪ ،‬أنفي املستقيم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أمرر يدي عىل عنقي الطويل‪،‬‬
‫ّ‬
‫ما الذي جيعل رجلاً مثله‪« ،‬باشا» كام يطلقون عليه منذ الصغر‪ ،‬يستطيع االقرتان‬
‫بمن يشاء‪ ،‬يوافق هبذه البساطة؟‬

‫إال لو مل يكن األمر فار ًقا‪ ،‬أنا مثل غريي‪ ،‬جمرد امرأة تضاف إىل مظهره‬
‫أهم‪.‬‬
‫ليتفرغ إىل ما هو ّ‬
‫االجتامعي‪ّ ،‬‬
‫كنت أفهم الباشا دون أن أعرفه أكثر من أي شخص آخر‪ ،‬وكانت كل أفكاري‬
‫جتاهه ّ‬
‫تتأكد بمرور الوقت‪.‬‬
‫«الباشا» مجيل َ‬
‫الط ّلعة‪ ،‬جمرد وعاء أجوف‪ ،‬ال يفكر سوى يف نفسه‪ ،‬ال يشغل‬
‫رأسه اجلميل بمثل هذه اجلداالت الفارغة‪ ،‬مثل االعرتاض عىل عروس‬
‫يقرتحها أبوه‪ ،‬أو الذهاب ملقابلة امرأة ستصبح زوجته بعد شهور؛ إرضاء‬
‫للشكل االجتامعي‪.‬‬

‫معا عىل مائدة واحدة يف مطعم فخم عىل النيل‪.‬‬


‫نجلس ً‬
‫كان املكان يسعدين ويشعرين ببعض القدرة عىل التن ّفس‪ ،‬أ ّما هو‪ ،‬فكان يمسك‬
‫أشخاصا ويتابع أعاملاً ‪.‬‬
‫ً‬ ‫هباتفه خياطب‬

‫‪- -‬هل حتب النيل؟‬

‫‪256‬‬
‫‪ّ --‬‬
‫أحبه؟ إنّه رضوري للبقاء‪.‬‬

‫•ال أحتدّ ث عن فائدته اجليولوجية ملرص‪ ،‬النيل أكرب من جمرد وعاء‬


‫للرشب‪.‬‬

‫‪- -‬بالتأكيد‪ ،‬إنّه وعاء للتفريغ ً‬


‫أيضا‪،‬‬

‫يضحك ضحكته اجلانبية الساخرة فينقبض قلبي‪.‬‬

‫يعود ملواصلة ما يفعل دون أن يعبأ بوجودي‪.‬‬

‫ال يمر عليه مكان سوى بالسؤال عن تفاصيل سريه‪ ،‬ديكوراته‪ ،‬العاملني به‪.‬‬
‫‪ّ --‬‬
‫أفكر يف فتح سلسلة مطاعم‪ ،‬ربام مول جتاري ضخم‪ ،‬املدينة ال تزال‬
‫حيبون التجريب‪ ،‬إنهّ م يسافرون‬ ‫ً‬
‫أرضا خصبة للمشاريع‪ ،‬أهلها ّ‬
‫خصيصا إىل القاهرة لتجربة مطعم أو مول جديد‪.‬‬
‫ً‬
‫يستمر يف احلديث عن العمل‪ ،‬وأستمر أنا يف الصمت‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويتعجب من فكرة عدم مغادريت‪.‬‬
‫ّ‬ ‫خيربين عن سفرياته العديدة إىل اخلارج‪،‬‬

‫ً‬
‫جوازا أمريك ًيا إذن؟ عىل العموم هو مفيد لنا‪ ،‬يمكننا‬ ‫‪- -‬ملاذا متلكني‬
‫السفر يف شهر العسل‪ .‬أفكر يف لندن‪ .‬أملك أصدقا ًء كثريين هناك‪.‬‬

‫بعدها أو ّد الذهاب إىل دهب‪ ،‬للقاء أصدقاء آخرين يرغبون يف االحتفال بنا‪،‬‬
‫ما رأيك؟‬

‫‪257‬‬
‫ال ينتظر رأيي حقيقة‪ ،‬خيربين فقط بخط سرينا املقبل‪ ،‬كزوجني ال نعرف بعضنا‬
‫ختيل حيايت مع رجل ال أكاد أطيق‬ ‫ً‬
‫بعضا‪ ،‬أوافقه بإيامءة من رأيس‪ ،‬أحاول ّ‬
‫ابتسامته فال أستطيع‪.‬‬

‫أتو ّقف قليلاً عن التن ّفس حتى أشعر بالدوار‪ ،‬حيتقن رأيس ويكاد صدري‬
‫ينفجر‪ ،‬فأزفر بقوة‪.‬‬
‫التأوه بصوت ٍ‬
‫عال‪ ،‬حتى ولو كنت‬ ‫هكذا كانت طريقتي الوحيدة ألمتكن من ّ‬
‫جالسة وحدي؛ ألنّني ال أجرؤ حتى عىل التألمّ ‪.‬‬
‫يسألني «ع ّ‬
‫يل» من جديد يف اهلاتف‪ :‬هل أنت ّ‬
‫متأكدة ممّا تفعلني؟ أجيب بنعم‬
‫وأنا أكاد أرصخ‪ ،‬أنقذين‪ ،‬لك ّنه ال يفهم‪.‬‬
‫يصمت حلظة ويقول‪ :‬إذن‪ ،‬أرجو أ ّ‬
‫ال نتحدّ ث ثانية‪.‬‬

‫ينهي املكاملة دون عودة‪ ،‬حيذفني من حساباته عىل «الفيسبوك» وكل وسائل‬
‫متزوجة‪.‬‬
‫التواصل‪ ،‬بينام أستعدّ أنا من تغيري احلالة من خمطوبة إىل ّ‬
‫كانت آالف من الفتيات يتبعنني عىل الفيسبوك‪ ،‬يبدو أنهّ ن معجبات الباشا‪،‬‬
‫يتساءلن عن هذه السندريال التي خطفت فارسهن‪.‬‬

‫أختيل أنّه هبذه الفخامة يف املدينة‬


‫أدخل بخجل إىل املركز الضخم الذي مل ّ‬
‫الصغرية التي ال ييش مدخلها بكل هذا الرتف‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫يعرفني احلاج والده بمنى‪ ،‬أثريته يف املركز التي يبدو أنه يعتمد عليها يف كل‬
‫ّ‬
‫يشء‪ .‬تقودين إىل حجرة التجهيز‪.‬‬

‫بحنو كأنّني ابنتها‪ .‬تعدّ د يف مزايا الباشا وكأنّه النبي يوسف‪.‬‬


‫تعاملني ٍّ‬

‫طيب‪ ،‬لك ّنه‬ ‫‪ِ --‬‬


‫عليك أن تكوين بالذكاء الكايف المتالك قلبه‪ ،‬الباشا ّ‬
‫حيب التدليل‪.‬‬

‫ال أنطق بكلمة‪ ،‬تنتهي منى من كل يشء برسعة شديدة‪ ،‬حتى إنيّ ال أنتبه‪.‬‬

‫ّ‬
‫وكأن جسدي ليس ملكي‪ ،‬يف الواقع هو ليس كذلك‪.‬‬ ‫مهتمة‬
‫يف الواقع مل أكن ّ‬
‫اليوم تنتقل ملكيته من والدي إىل الباشا‪ ،‬االثنان من ح ّقهام اقتحام خصوصيته‬
‫وقتام يشاءان‪.‬‬
‫هذا ليس من ممتلكايت اخلاصة‪ِ ،‬‬
‫فل َم االهتامم إذن؟‬
‫تقودين إىل غرفة التجميل‪ ،‬وفيها تنتظرين فتاة فارعة جتلس عىل مقعد ٍ‬
‫عال أمام‬
‫كريس التجميل‪ ،‬تنظر إيل من أسفل ألعىل‪ ،‬وكأنهّ ا حتفر مالحمي يف عقلها‪،‬‬
‫حتدّ ثها منى بشامتة واضحة‪ ،‬وكأنهّ ا انترصت عليها يف لعبة ما‪.‬‬

‫‪- -‬عروس الباشا‪ِ ،‬‬


‫اعتن هبا يا جيجي‪..‬‬

‫تبتسم جيجي ابتسامة صفراء‪ ،‬جتلسني إىل املقعد وتبدأ يف وضع املكياج ببطء‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫عيني بفرشاة ظالل اجلفون‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تبدو عنيفة‪ ،‬حتى إنّني شعرت هبا تكاد تقتلع‬
‫لك ّني ال أنطق ولو باعرتاض‪.‬‬

‫عيني ألجد امرأة أخرى‪ ،‬تبدو خمتلفة‪ ،‬ربام مجيلة‪ ،‬لكن لست أنا حتماً ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أفتح‬
‫وهذا ال يشعرين بالسعادة‪.‬‬
‫ً‬
‫بقشيشا‪ ،‬نظراهتا القاسية ختجلني‪ ،‬فأتناول ورقة من‬ ‫أتناول حقيبتي ألعطيها‬
‫فئة املائة جنيه‪ ،‬أشعر بأنهّ ا تتساءل السؤال نفسه‪ :‬ملاذا أنا بالذات؟‬

‫ردا سوى احلظ‪ ،‬الذي يبدو سعيدً ا للكل‪ً ،‬‬


‫تعيسا يل‪.‬‬ ‫لك ّني بالفعل ال أملك ًّ‬

‫قصة الشخص املجاور له‪ ،‬نحن ُك ٌ‬


‫تب مغلقة خادعة‬ ‫ال أحد يدري بام حيدث يف ّ‬
‫لكن صفحاته كانت رمادية كئيبة‪،‬‬
‫ملون صاخب‪ّ ،‬‬
‫األغلفة‪ ،‬كتايب كان بغالف ّ‬
‫تمُ ِرض من يقرأه‪.‬‬

‫فجرا وذهب‪..‬‬
‫يف يوم زفافنا‪ ،‬تركني عرييس يف الساعة الرابعة ً‬
‫كنت قد تظاهرت بالنوم‪ ،‬بعد ساعات من اجللوس صامتني ال يشء بيننا‬
‫لنقوله‪.‬‬

‫جيلس بمالبسه ليداعب هاتفه كام أراه دو ًما‪ ،‬بينام أجلس أنا عىل الفراش‬
‫عيني َع ّلنِي أستيقظ ألجد نفيس يف مكان آخر‪ ،‬فيتناول‬ ‫صامتة‪ ،‬يف النهاية ُأ ِ‬
‫غلق ّ‬
‫هو مفاتيحه وخيرج‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫أرسع إىل رُ‬
‫الشفة اخلالية ألراقب سيارته تبتعد‪ ،‬أقف ألتأ ّمل الشارع الساكت‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أكرب شارع يف املدينة‪ ،‬ال منظر لدهيم أمجل منه‪ ،‬ال نيل‪ ،‬ال بحر‪ ،‬ال يشء‪ ،‬مدينة‬
‫بالغصات لغسل أحزاهنم‪ ،‬فلامذا إذن أضع‬
‫ّ‬ ‫مغلقة ال يوجد هبا ملجأ للمختنقني‬
‫تطل عىل ُكتلِ أسمنتية عالية؟‬
‫مقعدً ا يف رُشفة ّ‬

‫يف اليوم التايل ُك ّنا يف طريقنا إىل رحلته التي ّ‬


‫خططها وحده‪.‬‬

‫مقيدة إىل يد رجل ال أعرفه‪.‬‬


‫املرة األوىل التي أسافر فيها خارج البالد‪ ،‬أكون ّ‬
‫املستمرة‪ ،‬والتي‬
‫ّ‬ ‫يرتكني يف ُغرفة فندق صغرية‪ ،‬لينطلق هو يف مشاويره العديدة‬
‫خيربين بأنهّ ا ُم ِهمة للغاية من أجل عمله‪.‬‬

‫يسمح يل باخلروج وحدي للتمشية‪ ،‬فال تزيدين التمشية سوى ُغربة مضاعفة‪،‬‬
‫خييم عىل املدينة الباردة‪ ،‬ضباب يشبه ما‬
‫بال انبهار وال سعادة‪ ،‬ضباب كثري ّ‬
‫يعتمل داخيل‪.‬‬

‫أتداخل فيه‪ ،‬أطمئن له‪ ،‬فأكتفي باجللوس عىل مقعد يف حديقة‪ ،‬كعجوز يف‬
‫العرشين‪.‬‬

‫ليقرر بعدها العودة ً‬


‫رأسا إىل مرص‪ ،‬بالتحديد رشم الشيخ‪،‬‬ ‫ال نكمل أيا ًما قليلة ّ‬
‫متحمسا وكأنّنا نستمتع‬
‫ً‬ ‫ومنها إىل دهب بسيارة خاصة تنتظرنا يف املطار‪ ،‬كان‬
‫بوقتنا‪ ،‬بينام مل نتبادل سوى عرش مجل منذ زواجنا إىل هذا اليوم‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫مرة‪.‬‬
‫ألول ّ‬
‫ليلة وصولنا إىل دهب‪ ،‬اقرتب م ّني زوجي ّ‬
‫مل أفعل شيئًا سوى االستسالم له كأ ّية جثة‪ ،‬باردة متا ًما‪ ،‬ساكنة بشكل أحبطه‪،‬‬
‫بوضوح مل يتظاهر بإخفائه‪ ،‬يرفع وجهه ع ّني مستغر ًبا‪ ،‬يسألني إن كان يب خطب‬
‫ما فال أعرف بام أجيب‪.‬‬

‫بأي يشء‪ ،‬ال حزن‪ ،‬ال فرح‪ ،‬ال محاس‪ ،‬ال سعادة‪ ،‬وال أمل‪.‬‬
‫ال أشعر ّ‬

‫ينهي مهمته مرغماً ؛ خو ًفا عىل سمعته كرجل قبل ّ‬


‫أي يشء آخر‪ ،‬وينهض ليعود‬
‫إىل عامله وأعود إىل عاملي‪.‬‬

‫يف الصباح التايل‪ ،‬وبينام نتناول إفطارنا يف الشرُّ فة امل ّتصلة بالشاطئ عرب سالمل‬
‫تزوجتني؟‬
‫صخرية عريضة‪ ،‬أسأله ملاذا ّ‬
‫يرفع رأسه إ ّيل بابتسامته الساخرة نفسها‪ ،‬يضع فنجان قهوته جان ًبا‪ ،‬وير ّد‪:‬‬

‫‪- -‬ملاذا وافقت؟‬

‫•أنا جمربة‪ ،‬أ ّما أنت فال يشء جيربك‪.‬‬

‫‪- -‬وملاذا ال تريدين الزواج م ّني؟ رجل آخر؟‬

‫هيم؟‬
‫•ال‪ ،‬لكن هل هذا فقط هو ما ّ‬
‫أنت فقط تعرفني مصلحتك‪،‬‬ ‫أنت ِ‬
‫لست جمربة‪ِ ،‬‬ ‫هيم‪ِ ،‬‬
‫‪- -‬يف الواقع ال يشء ّ‬
‫ومصلحة والدك‪.‬‬

‫‪262‬‬
‫•وأن َت ما مصلحتك؟‬

‫‪- -‬ال يشء يف الواقع‪ّ ،‬‬


‫هيز كتفيه ببساطة‪ ،‬مل أشعر برغبة يف قول ال‪.‬‬

‫تصدمني وقاحته‪ ،‬مل يشعر برغبة يف قول ال فأمتلك حياة امرأة كاملة بال مشكلة‪،‬‬
‫واألدهى أنّه ينظر إيل مثل مجاد اشرتاه‪ ،‬متا ًما كام يراين والدي‪ ،‬مجاد باعه‪.‬‬

‫أهنض من مكاين‪ ،‬أشعر بالغثيان‪ ،‬أحاول االتجّ اه إىل البحر الستعادة قدريت عىل‬
‫التن ّفس‪ ،‬لك ّني أتعثّر عىل ّأول درجة من درجات السلم الصخري املرتفع‪.‬‬

‫ال أشعر بنفيس إ ّ‬


‫ال وأنا أتدحرج عىل الدرجات كلها‪ ،‬كان هو يصيح باسمي‬
‫مندفعا إ ّيل‪ ،‬بينام أرقد أنا عىل ظهري عىل رمال الشاطئ‪ ،‬أنظر إىل السامء التي‬
‫ً‬
‫ال تزال رفيقة بال شمس حارقة‪ ،‬إنام حيرقني أمل هائل يف ساقي اليمنى‪ ،‬أحاول‬
‫أحتسسها بيدي فال أشعر سوى بانثنائها الشديد حول نفسها‪ ،‬ال أستطيع‬
‫أن ّ‬
‫ألول مرة‪.‬‬ ‫التأوه‪ّ ،‬‬
‫أظل صامتة لتقتحم رؤيتي وجهها ّ‬

‫عيني بتمعن‪ ،‬ثم متسد بيدها‬ ‫تطل ع ّ‬


‫يل نادية بوجهها األسمر اهلادئ‪ ،‬تنظر إىل ّ‬ ‫ّ‬

‫تستمر هي‬
‫ّ‬ ‫عىل ساقي‪ ،‬يلحق هبا الباشا متسائلاً عماّ يب‪ ،‬يركع إىل جواري‪ ،‬بينام‬
‫ريا‪.‬‬
‫الوعي أخ ً‬
‫ّ‬ ‫بالتمسيد عىل ساقي‪ ،‬أفقد‬

‫أستيقظ يف فرايش‪ ،‬أعلم أنّني مل أغب عن الوعي سوى دقائق‪ ،‬كان الباشا يقف‬

‫‪263‬‬
‫بجواري وقد بدا عليه الذعر فعلاً ‪ ،‬فكرة فقدان عروسه يف شهر العسل بالتأكيد‬
‫ستدمر سمعته‪.‬‬
‫ّ‬
‫بجواره تقف نادية هادئة‪ ،‬تستند عىل ظهر مقعد بكلتا يدهيا‪ ،‬تنظر إيل دون‬
‫حديث‪.‬‬

‫‪- -‬هل أنت بخري؟ هل تستطيعني حتريك ساقك؟‬

‫•أتذكر األمل الرهيب يف ساقي لك ّنني أدرك أنّه زال اآلن‪ ،‬أحركها‬
‫فتستجيب‪.‬‬

‫‪- -‬غري معقول‪ ،‬لقد رأيتها بعيني منثنية متا ًما‪.‬‬

‫أراه ينظر إىل نادية بشك‪ ،‬تنظر هي يل نظرهتا الناعسة التي ال تيش بيشء‪ ،‬تقول‬
‫سالمتك يا هانم‪ ،‬وتستدير لتبتعد‪ّ ،‬‬
‫أمتكن من مالحظة عرجها الظاهر يف الساق‬
‫اليمنى‪.‬‬

‫متحمس‪ ،‬خيربين‬
‫ّ‬ ‫خيرج الباشا وراءها برسعة‪ ،‬يعود بعد نصف ساعة بوجه أمحر‬
‫بأن نادية تعمل يف هذا الفندق شيئًا ال يعرفه‪ ،‬ألنهّ ا هنا دائماً ‪ ،‬وهذه ليست املرة‬
‫ّ‬
‫األوىل التي تسرتعي انتباهه‪.‬‬

‫‪- -‬لمِ َ؟‬

‫•ال أعرف‪ ،‬إنهّ ا تقرأ الطالع للسيدات‪ ،‬حتدّ ثهن‪ ،‬وجتلس معهن‪،‬‬

‫‪264‬‬
‫التجول يف املكان طيلة‬
‫ّ‬ ‫بحرية‬
‫حيبوهنا وصاحب الفندق يسمح هلا ّ‬
‫ّ‬
‫الوقت‪ ،‬تنام يف أ ّية غرفة تو ّدها‪ ،‬إنهّ ا من البدو أصلاً لك ّنها ال متلك‬
‫عائلة عىل حدّ علمي‪.‬‬

‫‪- -‬أنت مهتم هبا كث ً‬


‫ريا‪.‬‬

‫•نعم أعتقد أنهّ ا مفيدة ملركزي‪.‬‬

‫‪َ --‬‬
‫فيم؟‬

‫حتبها النساء تكون مفيدة ملركزي‪ ،‬ثم إنهّ ا أنقذتك‪.‬‬


‫•أي فتاة ّ‬
‫ّ‬
‫‪- -‬أنقذتني؟ كيف؟‬

‫وهيز رأسه‪.‬‬
‫يبتسم ّ‬
‫‪- -‬أنت مل ت ِر ساقك عندما سقطت‪.‬‬

‫ينهي احلديث عائدً ا لسؤايل عن حال ساقي‪.‬‬

‫أي يشء بالنسبة له صفقة‬


‫حمبا جلمع كل ما هو فريد وغريب‪ّ ،‬‬
‫كان الباشا ًّ‬
‫واضحا‪ ،‬يعرفها جيدً ا‪ ،‬ربام يأيت إىل هذا الفندق فقط‬
‫ً‬ ‫رابحة‪ ،‬اهتاممه بنادية كان‬
‫ملتابعتها‪.‬‬

‫لك ّنني مل أفهم حينها ما أمهية نادية‪ ،‬فهمتها بعد ذلك‪ ،‬عندما ّ‬
‫أرص عىل أن ترافقنا‬
‫يف رحلة العودة‪ ،‬كان جيلس معها كل يوم مطولاً ليقنعها‪ ،‬يغرهيا باالمتيازات‬

‫‪265‬‬
‫واألموال حينًا‪ ،‬وبالعطف والتعامل الرائع حينًا‪ ،‬لك ّنها مل تكن تسمع منه‬
‫شيئًا‪.‬‬

‫تظل طيلة اجللسة تنظر باتجّ اهي عىل املائدة البعيدة‪ ،‬وكأنهّ ا‬
‫يف الواقع كانت ّ‬
‫تعرف ما أفكر فيه‪ ،‬وكأنهّ ا تقرأين‪ ،‬وتقرأ اضطرايب‪.‬‬

‫عندما قابلتني ليلة رحيلنا عىل الشاطئ وحدي‪ ،‬أعلنت موافقتها يف الصباح‬
‫عىل مرافقتنا‪.‬‬

‫ركبتي إىل ذقني‪ ،‬أحاول استنشاق‬


‫ّ‬ ‫أضم‬
‫كنت أجلس أمام البحر عىل الرمال‪ّ ،‬‬
‫أكرب قدر من هوائه قبل عوديت إىل املدينة‪ ،‬كان البحر يغسلني‪ ،‬فتمطر عيناي‬
‫بالدموع‪ ،‬جتلس هي بجواري لرتبت عىل كتفي‪ ،‬ال تسألني عماّ دهاين‪ ،‬لك ّنها‬
‫بالتحسن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فقط تربت عىل كتفي‪ ،‬والغريب أنّني أشعر‬

‫همة نادية يف املركز ويف بيتي طيلة السنوات التالية‪ ،‬أعيش‬


‫كانت هذه هي ُم ّ‬
‫الصبار الوحيدة التي حرصت عىل جلبها من غرفتي يف بيت أيب إىل‬
‫مثل زرعة ّ‬
‫الشرُّ فة اخلالية يف هذه الشقة الكبرية‪.‬‬

‫يأيت الباشا ويرحل دون حديث‪ ،‬يلمسني عىل مضض بني احلني واآلخر‪ ،‬فأنام‬
‫عىل ظهري متص ّلبة حلني انتهائه‪ ،‬أشعر وكأنّني دمية جنس بال مشاعر‪ ،‬ويشعر‬
‫هو باليشء ذاته‪ ،‬أشعر أنّني موصومة رغم أنّه حاليل‪ ،‬أفهم كيف ّ‬
‫أن ورقة ال‬

‫‪266‬‬
‫جنسا بني اثنني مهام اعرتف هبا العامل‪ ،‬بينام يحُ ّلله فقط ّ‬
‫احلب ولو عارضه‬ ‫حت ّلل ً‬
‫اجلميع‪.‬‬

‫يف اليوم التايل تأيت نادية لرتبت عىل كتفي‪ ،‬ولتخرج آثاره من جسدي‪ ،‬يرسلها يل‬
‫أفكر يف احلزن‪ ،‬قبل أن ّ‬
‫أفكر يف االنطواء‪ ،‬أو التقوقع‪ ،‬يرسلها لتمسحني‬ ‫قبل أن ّ‬

‫متا ًما‪ ،‬لتعيدين امرأة مربجمة‪ ،‬آكل وأرشب‪ ،‬وأنام وأستيقظ‪.‬‬

‫أظهر أمام اجلميع كزوجة الباشا السعيدة‪ ،‬حتى ال ّ‬


‫هيتز مركزه يف مدينة صغرية‬
‫تتداول هبا األخبار برسعة الربق‪.‬‬

‫قصصا عن‬
‫ً‬ ‫أغدق عليها باملالبس‪ ،‬أجلسها إىل جواري لتتحدّ ث‪ ،‬حتكي يل‬
‫الكوافري‪.‬‬

‫أعرف كل احلكايات التي ّ‬


‫متتصها من األخريات‪ ،‬أعرف حتى حكاية جيجي‪،‬‬
‫وما يفعله معها زوجي‪.‬‬

‫أتعاطف معها ومع ُحزهنا الدفني ومع زواجها اإلجباري مثيل حتى لو اختلفت‬
‫الغاية والكيفية‪ ،‬أكتشف أنهّ ا تطمح إىل موقعي الذي ال أريده‪.‬‬

‫أمت ّنى لو كنت قادرة عىل التنازل هلا عنه‪ ،‬أذهب بنفيس إىل الكوافري ألرى‬
‫أصحاب هؤالء احلكايات عن قرب‪ ،‬جيلسني الباشا يف مكتبه‪ ،‬بعيدة عن‬
‫ألراقبهن خو ًفا عليه‪ ،‬فال يزددن إال ً‬
‫نفورا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫اجلميع‪ ،‬حيسبن أنّني آيت‬

‫‪267‬‬
‫صصهن‪ ،‬أكتشف اجلوانب‬
‫ّ‬ ‫تع ّلمني نادية املساحمة‪ ،‬أتعاطف مع مجيع البنات ِ‬
‫وق‬
‫مشاعرهن الداخلية التي ال يفهمها أحد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قصة‪ ،‬تنقل يل نادية‬
‫الداخلية لكل ّ‬
‫ترشح يل بالتفصيل الشديد ما الذي يعنيه وجود امرأة يف هذا العامل‪ ،‬يف هذا‬
‫البلد‪.‬‬

‫أتوحد معهن‪ ،‬أكتشف ّ‬


‫أن العامل ميلء‬ ‫ّ‬ ‫أضع نفيس مكانهِ ّن كام تفعل نادية‪،‬‬
‫بحكايات تفوق حكايتي ُحز ًنا‪ ،‬وال تزيدين هذه احلقيقة إال ُق ّوة‪.‬‬

‫الضيقة‪ ،‬أقف يف إشارة املرور‪ ،‬أختنق من اهلواء‬


‫ّ‬ ‫أقود سياريت يف الشوارع‬

‫املتو ّقف رغم أنّنا يف بدايات الربيع‪ ،‬أحاول الوصول للكنيسة للت ّ‬
‫ربع بالدم كام‬
‫طالب الناشطون عىل الفيسبوك‪.‬‬

‫ال أجد مكا ًنا لركن السيارة‪ ،‬فأتركها بعيدً ا وأسري برت ّدد بني الصخب والبرش‬
‫الذين يتدافعون يف كل مكان‪ ،‬ال يعرف الباشا أنّني غادرت بعد دقائق من‬
‫االنفجار‪ ،‬مل أصدّ ق املنظر الذي أشاهده عىل الفيسبوك‪ ،‬مل أصدّ ق أن حيدث هذا‬
‫هنا بالذات‪ ،‬كنت أحتاج لرؤيته بعيني‪ ،‬لتقديم أ ّية مساعدة أستطيع فعلها‪.‬‬

‫كان الباب مغل ًقا‪ ،‬بينام حيتشد أهايل املدينة أمامه‪ ،‬أفراد الرشطة الذين جيرون‬
‫يف كل مكان‪ ،‬رجال اإلطفاء‪ ،‬وأطباء خيرجون بني احلني واآلخر بجسد إ ّما‬
‫حي ينبض للنقل بسيارات اإلسعاف‪.‬‬
‫ملفوف أو ٍّ‬

‫‪268‬‬
‫منشورا أسود عليه وجه املسيح‪ُ ،‬كتب عليه «طقس‬
‫ً‬ ‫أتناول من عىل األرض‬
‫أسبوع اآلالم»‪ ،‬وأسأل هل من طقوس أكثر من ذلك؟‬

‫كرمشا بفعل يد ظ ّلت مطبقة عليه رغم االنفجار‪ ،‬ثم هتاوت حني‬
‫ً‬ ‫كان املنشور ُم‬
‫النقل إىل اإلسعاف‪ ،‬آثار بصامت من دماء ّ‬
‫تغطي وجه املسيح فال أمسحها‪.‬‬

‫أضعه يف حقيبتي وأعود إىل السيارة‪ ،‬أشغل ّ‬


‫املكيف بأعىل طاقة‪ ،‬أحاول إزالة‬
‫رائحة الرتاب والدماء‪ ،‬لك ّني أنسى أنّني أمحل ً‬
‫بعضا منها يف حقيبتي‪.‬‬

‫عىل ظهره ُكتِبت آيات من اإلنجيل أحاول استبياهنا فال أستطيع‪ ،‬أضعها‬
‫بجواري عىل املقعد‪ ،‬ألتفت إليها بني احلني واآلخر‪.‬‬
‫« َفإِ َّن ُه ُه َو َذا ُح ْز ُن ُك ْم َ‬
‫هذا‪»..‬‬

‫أكاد أتبينّ اجلزء األول من اجلملة‪ ،‬أر ّدده طيلة الطريق حتى العودة‪ ،‬أصعد إىل‬
‫البيت ّ‬
‫حمطمة القوى‪ّ ،‬‬
‫أظل واقفة يف الشرُّ فة أتابع سيارات الرشطة واملطافئ‬
‫واإلسعاف حتى ّ‬
‫حيل الظالم‪ ،‬ترت ّدد املوسيقى يف ذهني مع اجلملة نفسها‪،‬‬
‫فأعود إىل املنشور الذي ج ّفت عليه الدماء‪.‬‬

‫ب َم ِشيئ َِة اهللِ‪»..‬‬ ‫« َفإِ َّن ُه ُه َو َذا ُح ْز ُن ُك ْم َ‬


‫هذا َع ْي ُن ُه بِ َح َس ِ‬

‫ّ‬
‫أركز يف قراءة باقي اآلية عندما يرن جرس الباب‪ ،‬أهنض ألفتحه بنفيس‪،‬‬

‫‪269‬‬
‫تتنفس برسعة‪ ،‬كانت مالبسها مبعثرة‪ ،‬تبدو وكأنهّ ا كانت‬
‫ّ‬ ‫تدخل نادية وهي‬
‫تركض‪...‬‬

‫‪- -‬الباشا موجود؟‬

‫•أليس يف السنرت؟‬

‫‪- -‬ال‪ ،‬لقد قبضت الرشطة عىل فلك‪..‬‬


‫تقص ع ّ‬
‫يل بكلامت متلعثمة ما حدث مع السيدة‬ ‫ِ‬
‫أجل ُسها ألحاول هتدئتها‪ّ ،‬‬
‫فلك‪.‬‬

‫كنت قد رأيت صورها ُتغ ِرق الفيسبوك وصفحة املدينة‪ ،‬حتى نسى الناس أن‬
‫انفجارا حدث منذ حلظات‪ ،‬أناوهلا كو ًبا من املاء‪ ،‬وأسأهلا عماّ تنوي فعله‪.‬‬
‫ً‬
‫تتحمل ثانية يف القسم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪- -‬جيب أن ّ‬
‫يتوسط الباشا إلخراجها‪ ،‬لن‬

‫عيني بشدة‪ ،‬أتناول احلاسب اللوحي من املائدة‪ ،‬أفتح هلا صفحة أخبار‬
‫أغمض ّ‬
‫املدينة عىل الفيسبوك ألخربها بالتحديثات‪.‬‬

‫ميتة يف السيارة‪،‬‬ ‫‪- -‬نادية‪ ،‬فلك ماتت‪ ،‬الرشطة ّ‬


‫رصحت بأنهّ م وجدوها ّ‬
‫مل تصل حتى إىل القسم‪.‬‬

‫تنظر إيل نادية بعدم تصديق‪ ،‬تدير عينيها يف وجهي دقيقة‪ ،‬تتناول م ّني احلاسب‬
‫اللوحي‪ ،‬تتأ ّمله بصمت‪ ،‬أتركها ملا تفعل وألقي نظرة أخرى عىل املنشور‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫االجتِ َه ِ‬
‫اد‪»..‬‬ ‫«ك ْم َأن َْش َأ ِف ُ‬
‫يك ْم‪ِ :‬م َن ْ‬ ‫َ‬

‫تنهض نادية من مكاهنا‪ ،‬تتجه إىل الباب كاملسحورين‪ ،‬أنادهيا فتتوقف‪:‬‬


‫ِ‬
‫بيديك يشء‪..‬‬ ‫‪- -‬مل يكن‬

‫•كان بيدي كل يشء‪..‬‬


‫‪- -‬هذا ليس حقيق ًيا‪ ،‬أنت وامهة‪ِ ،‬‬
‫أنت غري قادرة عىل منح احلياة‪.‬‬

‫•لكني كنت قادرة عىل إزاحة احلزن‪..‬‬

‫‪- -‬احلزن رضوري للمواصلة‪..‬‬

‫تستدير يل بعنف‪ ،‬تنظر إيل بعدم فهم‪ ،‬أجتهد اللتقاط أنفايس‪ ،‬أحاول التحدّ ث‬
‫برسعة يف وجهها‪ ،‬أحاول إخبارها بكل ما حضرّ ته من كالم‪ ،‬أخربها عن‬
‫متجسدً ا أمامي‪ ،‬يف كنيسة لطاملا‬
‫ّ‬ ‫حيا‬
‫احلزن الذي شممت رائحته اليوم‪ ،‬ورأيته ًّ‬
‫فرحا بعد فرح‪.‬‬
‫شهدت ً‬
‫ّ‬
‫لنتمكن من حتقيق ما‬ ‫‪- -‬احلزن جمرد حمطة‪ ،‬إنّه دفعة يمنحها لنا القدر‪،‬‬
‫ال نجرؤ عىل فعله‪.‬‬

‫•هل تقصدّ ين أنّني أقف يف طريق احلياة؟‬

‫نفسا عمي ًقا‪ ،‬واآلية ال تزال ترتدد يف رأيس‪..‬‬


‫آخذ ً‬
‫االحتِ َج ِ‬
‫اج‪»..‬‬ ‫« َب ْل ِم َن ْ‬

‫‪271‬‬
‫‪- -‬بسببك أنا أسرية هذا البيت‪ ،‬غري قادرة عىل املطالبة بحريتي‪ ،‬أعلم‬
‫أنّك تريدين مساعديت‪ ،‬لك ّني غري راغبة يف املساعدة‪..‬‬

‫« َب ْل ِم َن ا ْل َغ ْي ِظ‪»..‬‬
‫أحترر يا نادية‪ ،‬أريد أن ّ‬
‫أمتكن من املغادرة‪ ،‬وعدم العودة إىل أيب‪ ،‬أريد‬ ‫‪ ..‬أريد أن ّ‬
‫ح ّقي‪ ،‬وأريد املطالبة ّ‬
‫بحرية األخريات‪.‬‬
‫« َب ْل ِم َن خَْ‬
‫ال ْو ِ‬
‫ف‪»..‬‬

‫‪..‬أنا خائفة‪،‬أمضيت سنوات يف هذا املنزل أفكر يف قيمة حيايت‪َ ،‬م ْن أنا؟ ماذا‬
‫أفعل؟ جمرد مجاد ينتقل من ملكية أب إىل ملكية زوج‪ ،‬أنا اختصار مجيع القصص‬
‫التي حتكينها يل كل يوم‪ ،‬أنا القهر جمسدً ا‪ ،‬هل تعرفني ما معنى القهر يا نادية؟‬

‫تتقدّ م نادية خطوات إ ّيل‪ ،‬تقف أمامي متا ًما‪ ،‬تلمس وجهي بيدهيا فأبتعد بحركة‬
‫ال إرادية‪.‬‬

‫‪- -‬ال ختايف‪ ،‬أنا فقط أملسك‪..‬‬

‫« َب ْل ِم َن َّ‬
‫الش ْو ِق‪»..‬‬

‫‪ ..‬لقد أتيت إىل هنا من أجلك‪ ،‬رأيت تعاستك يف عينيك‪ ،‬فجئت ملساعدتك‪.‬‬

‫مل أكن أدرك أن هذا البلد حيوي كل هذا احلزن‪ ،‬واألهم أنّني مل أكن أدري أنّني‬
‫ال أساعد ح ًّقا‪..‬‬

‫‪272‬‬
‫ي ِة‪»..‬‬
‫« َب ْل ِم َن ا ْل َغ رَْ‬
‫‪- -‬احلق أنّك ساعدتيني‪ ،‬ساعدتيني عىل معرفة أنّني قادرة‪ ،‬وأنّني‬
‫أستطيع املواجهة‪ ،‬أستطيع الوقوف بجانب نفيس‪ ،‬أستطيع أن أكون‬
‫أنا‪ ،‬وال أن ّ‬
‫أظل جمرد سلعة ُتش َ‬
‫رتى وتباع‪ ،‬زخرف يز ّين حياة فارغة‪،‬‬
‫آيل يسري بالقوى الدافعة‪.‬‬

‫« َب ْل ِم َن االنْتِ َقا ِم‪»..‬‬


‫‪- -‬أنت قادرة عىل كل يشء‪ِ .‬‬
‫لست بحاجة إىل مساعديت‪.‬‬

‫وجنتي للمرة األخرية‪ ،‬تستدير نادية لتغادر البيت‪،‬‬


‫ّ‬ ‫تقوهلا يل وتبتسم‪ ،‬تربت عىل‬
‫تزداد عرجتها ثقلاً ‪ ،‬وانحنا ًء‪ ،‬أشعر بأنّني أريد أن أنادهيا‪ ،‬أحتضنها‪ ،‬أسحب أنا‬
‫مجيعا‪ ،‬لك ّني أجتمدّ مكاين‪..‬‬
‫هذه املرة حزهنا‪ ،‬بل أحزاهنا ً‬
‫من أين ِ‬
‫لك يا نادية بمن يستوعب كل هذا احلزن؟ كيف ستتطهرين منه؟‬
‫هذا َ‬
‫األ ْم ِر‪»..‬‬ ‫«فيِ ُك ِّل شيَ ْ ٍء َأ ْظ َه ْر ُت ْم َأن ُْف َس ُك ْم َأ َّن ُك ْم َأ ْب ِر َي ُاء فيِ َ‬

‫‪273‬‬
‫يف صباح اليوم التايل‪ ،‬أستيقظ عىل صوته يغادر البيت متعجلاً ‪ ،‬حتى إنّه‬
‫َنسيِ حافظته وعلبة سجائره‪.‬‬

‫أخرج إىل الشرُّ فة ألجده ينطلق بالسيارة برسعة ال أعهده عليها‪ ،‬ينقبض قلبي‪،‬‬
‫ُ‬
‫وأدرك ّ‬
‫أن يف األمر شيئًا‪.‬‬

‫أقف يف الشرُّ فة أتابع الناس خيرجون من جديد إىل أعامهلم‪ ،‬الشوارع الصامتة‬
‫منذ أمس تعود إىل احلياة‪ ،‬الطالب ي ّتجهون لدروسهم استعدا ًدا لالمتحانات‪.‬‬

‫اجلميع يسري ناس ًيا أو متناس ًيا ما قد حدث هنا‪ ،‬متجاهلاً ما سوف حيدث‪.‬‬

‫أسحب سيجارة من العلبة امللقاة عىل األرض بجوار اهلاتف‪ ،‬أخرج من جديد‬
‫نفسا عمي ًقا‪ ،‬أقول لنفيس‪:‬‬
‫إىل الشرُّ فة وأشعلها ببط‪ ،‬وآخذ ً‬

‫‪275‬‬
‫وتشبثي‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫عينيك‬ ‫‪- -‬أغميض‬

‫املوسيقى تدوي من جديد‪ ،‬ختتلط هبا صوت أجراس كنيسة قادمة من بعيد‪.‬‬
‫ّ‬
‫تدق د ّقات بطيئة متقطعة‪ ،‬حزينة تعلن عن موت‪ ،‬أو اثنني‪ ،‬ثالثة‪ ،‬أو ثالثني‪..‬‬

‫أسمع خطواته قادمة من خلفي‪ ،‬مرت ّددة‪ ..‬ال حتمل ثقل غروره املعتاد‪ ،‬يقف عىل‬
‫مؤخرة عنقي‪.‬‬
‫بعد مسافات عارمة م ّني‪ ،‬رغم أنيّ أكاد أشعر بأنفاسه تلحف ّ‬

‫يقول‪:‬‬

‫‪- -‬نادية ماتت‪..‬‬

‫أقول‪:‬‬

‫•طلقني يا باشا‪..‬‬

‫طنطا‬

‫‪2017-9-28‬‬

‫‪276‬‬
‫شكر خاص‬

‫ألمي‪ :‬مدحية العبادي‪.‬‬

‫أليب‪ :‬ناجي صقر‪.‬‬

‫أخوايت‪ :‬هنى ناجي‪ -‬نشوى ناجي‪.‬‬

‫رويدا حممود‪ -‬رغدة حممود‪.‬‬

‫شكر خاص‪..‬لألصدقاء الذين شاركوا يف مراجعة هذه الرواية‬


‫وتدقيقها‪:‬‬

‫حممد هشام عبيه‪ -‬مروة مجعة‪ -‬عالء حجازي‪ -‬أمحد عبد املجيد‬

‫‪-‬د‪.‬أمحد اجلوهري‪ -‬ياسمني عادل فؤاد‪ -‬آيات حممود‪ -‬غادة‬


‫عاطف‪ -‬أسامء خرض‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫شكر خاص‪..‬لألصدقاء الذين حتملوين يف أثناء كتابة هذه‬
‫الرواية‪:‬‬

‫‪-‬آيات جودت‪ -‬علياء طلعت‪ -‬عزة عالمة‪ -‬كاميليا حسني‪-‬‬


‫منار حازم‬

‫‪-‬ياسمني محدي‪ -‬بسنت خليفة‪ -‬سلمى صالح‪ -‬مها أمحد‬


‫الديب‬

‫‪-‬نورا طلعت‪ -‬هبة سامل‪ -‬حممد حامد‪.‬‬

‫‪278‬‬
279

You might also like