Professional Documents
Culture Documents
رواية بنات الباشا PDF - نورا ناجي
رواية بنات الباشا PDF - نورا ناجي
فاتيما
5
منى
اجلميع يعلم ما الذي حدث لنادية ،لكن ال أحد جيرؤ عىل احلديث..
أقف يف مكاين املعتاد بالقرب من النافذة الصغرية التي ال يالحظها أحد يف
غرفتي يف الكوافري ،والتي تكشف يل الطابق السفيل كله ،حيث تقع الغرفة
يف هناية الضلع الثالث من الدور الثاين؛ غرفة منزوية صغريةّ ،
صممها الباشا
برواق وهدوء.
غرفتي التي ّ
تضم مساحتني صغريتني متجاورتني ،يف كل منهام حوض استحامم
وقاعدة أسمنتية جتلس عليها النساء؛ استعدا ًدا إلزالة الشعر باحلالوة ،ثم
التكييس واحلماّ م املغريب والرتكي ،وغريها من األسامء التي كتبها الباشا بنفسه
يف القائمة املع ّلقة عىل جدار كامل.
7
ضيقة تضم «ركنة وثرية ومائدة مشغولة
أ ّما خارجهام ،فهناك صالة ّ
باألرابيسك» ،عليها أكواب ّ
فضية وإبريق عريب حيتوي عىل مرشوب الكركدية
بدلاً من زجاجة النبيذ املوجودة يف الغرف املامثلة يف دول أخرى.
أجلس يف مكاين وراء «كاونرت صغري ،أنتظر دخول سيدة أو أكثر ألقوم
بتحضريهن.
ال أحد يدخل الغرفة من العاملني ،وال الباشا نفسه إال لظروف طارئة ،إنهّ ا
قدس األقداس ،التابو املحرم الذي تتعرى فيه النساء متا ًما وتنكشف ،املعبد
املخولة لكشف العورات ،وإزالة
ّ البعيد املنزوي ،وأنا راهبة هذا املعبد،
األوساخ ،وتغيري الروح نفسها لو شئنا الدقة.
أعرف كل يشء عن كل يشء ،أراقب اجلميع من نافذيت املنزوية وال أحد يراين،
أسمع اهلمسات ،وأتابع النظرات املختلسة ،أستطيع قراءة األفكار دون أن
8
يتحدّ ث أحد ،أعرف عالقة كل شخص يف الكوافري باآلخر ،أعرف املكائد
التي تدبر ،واملؤامرات التي حتاك ،أجلس هبدوء يف انتظار ما سيحدث ،دون
يستدعيني الباشا بعد احلادث كام فعل مع اجلميع ،لك ّنه عىل عكس ما فعل
معهم ال يقول شيئًا ،يطرق برأسه صام ًتا ،فأستمر يف التحديق إىل وجهه اجلميل
دقيق املالمح ،الباشا وسيم جدً ا ،إنّه األوسم يف املدينة كلها ،املدينة الصغرية
9
أي كوافري آخر ليكونن معه يف
يرضني بدفع ضعف املبلغ الذي يدفعنه يف ّ
املكان نفسه.
هو مص ّفف شعر حمدود املوهبة ،لك ّنه يف غاية الذكاء ،ساحر يعرف كيف
ّ
يستغل سحره الذي يكفل له كل هذا النجاح.
10
األول يف حياة العذراوات يف املدينة ولو خيالاً ،ساطع الوجهُ ،ب ّني
إنّه الرجل ّ
الشعر ،أزرق العينني ،ال مثيل له يف املدينة.
أن ألتفت له ،يرتبك كام يفعل دو ًما يف حرضيت ،يسألني :هل رأيت شيئًا؟ هل
سمعت شيئًا؟
أبتسم نصف ابتسامة ،كيف مل أسمع ومل َأر واحلادث وقع يف حجريت ،لقد
اختارت الفتاة غرفتي بالذات لتنتحر ،مل تلتفت لطيبتي معها طيلة فرتة وجودها
هنا.
صباحا ،لقد
ً كان من نصيبي أن أراها عارية ملقاة يف دمائها وأنا أفتح الباب
قضيت ساعتني ونصف أحاول إعادة حوض االستحامم الذي غطست فيه ومل
الرسمي.
11
يف وجودي.
ال يشء يمكن أن جيعله خُيرج مني كلمة ،لك ّنه يضيف بال دا ٍع:
ّ
وكأن اخلرب مل ينترش يف املدينة يف حلظتني ،نادية التي ال أومئ برأيس وال أر ّد،
أجز عىل أسناين حتى ال خترج م ّني شخرة حمرتمة يسمعها ّ
أظل ثابتة حلظتنيّ ،
اجلميع ،أغلق الباب يف هدوء وأعود إىل مقعدي ،أنظر إليه وأبتسم ،وأرى
اهللع يف عينيه فأرىض.
الباشا ال ير ّد ،أشعر أنّه سيفقد وعيه اآلن ،يشري يل بيده أن أخرج ،وكأنّه يطعنني
12
وركبتي اللتني ال تقويان عىل محيل،
َّ بسكينّ ،أحاول النهوض بجسمي املمتلئ
عيني.
جانبي ّ
ّ وضوحا عىل
ً االبتسامة تبهت عىل جانب فمي ،والتجاعيد تزداد
ّ
ألمتكن من رشب املكيف رغم ّ
أن الطقس جيد؛ أعود إىل حجريت ،أشغل ّ
سيجارة دون أن أفسد أجواء معابد بوذا الذي يعتمده الباشا للحجرة ،أمص
الدخان برسعة قبل أن تأيت عميلة محقاء ال تعرف ما الذي حدث يف هذه الغرفة
بالذات.
أفتح درج مكتبي بتلقائية ،فأجد سلسلة ذهبية يتدىل منها صليب صغري ،أرفعها
عيني ،أعتقد أهنا من الذهب الصيني الرخيص ،معها ورقة بخط نادية
ّ أمام
الطفويل ،رسالة يل أنا بالذات:
تدمع عيناي للمرة األوىل منذ رحيلها ،أعلقه حول رقبتي وأهنض من مكاين
أللقي نظرة داخل حوض االستحامم الذي لفظت فيه نادية أنفاسها األخرية،
ّ
وكأن شيئًا مل ناصعا
ً وحدها يف ظالم أسوأ ليلة مرت عىل املدينة ،أراه أبيض
يكنّ ،
لكن الرائحة ال تزال كام هي ،رائحة صديد عطنة احتلت فتحتي أنفي
وعشّ شت فيهام ،ال أعرف إن كان بسبب قيامي بتنظيف املكان بنفيس ،أم أنّني
أتوهم هذه الرائحة.
ّ
13
أمص الدخان أكثر من السيجارة؛ آملة أن تتغ ّلب عليها ،أشعل عود بخور
ّ
مستورد من جمايب الباشا ،وأجلس يف مكاين ألنتظر.
أعرف ّ
أن ّأول َم ْن ستدخل ستكون هنال..
ُ
أنتظرها وأحضرّ املكان لقدومها ،هنال التي هاتفتني ّ 80
مرة منذ أن حدث ما
متر بسيارهتا كل يوم بجوار الكوافري املغلق منذ احلادث إىل اليوم
حدث ،والتي ّ
ع ّلها تلمح شيئًا.
تصدق توقعايت بعد مخس دقائق ،أراها تدخل من الباب والباشا يستقبلها
بنفسه برتحابّ ،أول زبونة بعد احلادث ،جمرد دخوهلا سيجعل األخريات
منقذهتن.
تصعد هنال والباشا يسندها بذراعه ،تدخل معه إىل مكتبه قليلاً ،أعود أنا إىل
مقعدي واثقة أنهّ ا ستهرع إ ّيل بعد قليل ،هنال تأيت هلذه الغرفة فقط كل ّ
مرة،
ال يعنيها باقي الغرف يف يشء ،هذه الغرفة هي ما هيمها وهي رأس ماهلا
وحياهتا.
14
مخس دقائق بالضبط وتدخل هنال ،أبتسم هلا وهي حتكم إغالق الباب ،جتلس
عىل األريكة وختلع حذاءها ،تشعل سيجارة وتتل ّفت حوهلا وتقول :هنا؟
تنهض إىل الغرفة الصغرية التي شهدت موت نادية ،تقف عىل الباب دقيقة
هتتز بعصبية ،تعود إ ّيل من جديد وتسألني ،ملاذا؟
وساقها ّ
- -ال أعرف فعلاً ،كنت أجلس معها ليلتها ،مل ِ
تبد شيئًا ،كام هي ،نادية
اهلادئة احلزينة ،مل ختربين بيشء فعلاً ،كل ما طل َب ْته أن أنزع شعر
جسمها كله ،فعلت كام طلبت يف مخس دقائق ،كانت كالعروس،
ربام علمت أن اجلميع سيفحص جسدها بعد ساعات ،ربام أرادت
أن تبدو مجيلة بعد املوت.
- -أملك اهلواجس نفسها ،أريد أن أبدو بخري حال عند تغسييل؛ لذا آيت
إليك كل أسبوع.
15
حيبذ اجللوس عار ًيا ضعي ًفا
أهز رأيس بال كالم ،مهام بلغت صالبة هنال ،ال أحد ّ
ّ
ًّ
هشا يف غرفة كانت مرسح جريمة منذ أيام.
- -منى ،هل تعتقدين أنهّ ا فعلت ذلك بسبب هذا اليوم؟
أتنهد بصوت ٍ
عال ،تزعجني هنال دائماً ،وتزعجني اليوم ضيق عيني وال أر ّدّ ، ُ
أ ّ
أكثر.
- -ربام جيب عليك أنت أن ختربيني ،أمل تذهب إىل املنزل معك؟
- -ال يشء جلسنا بعدها بشكل عادي ،تناولنا القليل من الطعام ،ثم
نامت ،يف الصباح كانت قد اختفت.
- -يف الصباح جاءت إىل هنا ،أكملت عملها كام تفعل دائماً ،مل ِ
حتك يل
شيئًا.
16
- -لو مل ِ
حتك أنت ملا علمت.
والباشا؟
- -ال يشء ،استدعاها إىل مكتبه ليسأهلا عن غياهبا الليلة املاضية ،لك ّنه
ال حياسبها أبدً ا ،منحها بعض األموال ،وخرجت لتشرتي بعض
العصائر ،الباشا طيب.
- -نعم ،الرجل يف دوامة هذه الفرتة ،مل يكن قد انتهى من إجراءات
استالم فلك ودفنها ،حتى ورطته نادية بجثة جديدة ،وهذه املرة يف
الكوافري.
تنفث دخان سيجارهتا ،أكاد أنتهي فأرفع رأيس إليها ،كانت تبكي فعلاً ...
هيمني أال أموت أمام أحد ،ال أريد أن - -نحن ً
مجيعا وحيدون ،ما ّ
أموت يف انفجار أو يف الشارع أو مكان عام ،أريد أن أموت يف منزيل
بصمت.
17
- -و َم ْن سيدفنك؟ ستتحولني إىل فضيحة أخرى عندما ّ
يشم اجلريان
الرائحة ويقتحمون بيتك ليجدوا جثة متح ّللة متع ّفنة.
الناس ينسون كل يشء ،ينسون االنفجار الذي هز املدينة منذ أيام ،ينسون
موت أحبائهم ،ينسون احلوادث املرعبة.
أمنحهم ً
عرضا جديدً ا أو بعض التخفيضات يف أسعار صبغة الشعر ،أو خدمة
طابورا ،ولو كانت جثة
ً لكي شعرها وسيقفن أمام الكوافري
جمانية لكل َم ْن تأيت َّ
الفتاة ال تزال فيه ،سيقفن أمام املرشحة نفسها لو كانت تقيم هذه العروض.
خترج هنال ببشكري قصري واملاء يقطر عىل املوكيت الفخم فال هتتم ،تتناول
شفتاي
ّ مالبسها وترتدهيا أمامي ،أختلس بعض النظرات إىل جسمها فرتتعش
18
رغماً ،خترج حقيبتها ومتنحني بقشيشها الذي يساوي راتبي يف أسبوع ،أشكرها
متر عىل الباشا من جديد يف
وأعود للجلوس يف مقعدي ،تلوح يل بيدها وخترجّ ،
مكتبه قبل املغادرة كام تفعل دائماً ،ال ّ
أهتم حتى بمراقبتها من النافذة أو الباب
املفتوح.
متر جيجي من أمام الباب املفتوح ،تقف حلظة ثم تعود إ ّيل ،تدخل رأسها من
ّ
الباب وتسألني كل يشء بخري؟
أجيب :نعم ،تنظر باجتاه الغرفة التي أغلقت باهبا ،تبتلع ريقها وتطرق بأناملها
املطلية عىل حافة الباب بد ّقات رتيبة ،ثم تستدير ،ال جترؤ عىل الدخول منذ
احلادث ،كانت معي وقت أن وجدنا الفتاة ملقاة يف احلوض ،جريت الستدعاء
الباشا أو ّ
أي شخص ،وعدت ألجدها تربت عىل رأس الفتاة بغرابة ،تنظر إليها
رصخت فيها أال تلمس شيئًا ،فبدت َك َم ْن أفاق فجأة ،لتسارع إىل اخلروج
ودخول مكتب الباشا.
- -الكوافري ّ
يعج بغرباء األطوار..
19
ال زلت أذكر كلامت احلاج الكبري ـ أبو الباشا ـ يل يوم ألتقيته ،أحفظه وأحفظ
نصائحه العديدة ،ال أعرف إن كان هناك يشء يف اإلسالم يمنع هذا فعلاً ،أم
أنهّ ا واحدة من خرافات املرصيني العديدة ،يقول :ال ختربي أحدً ا أن ِ
ّك مسيحية،
املسلامت ال حيببن االنكشاف عىل املسيحيات.
اسمي يمنحني حصانة ما ،يمكن أن يناسب الدينني ،أ ّما حيايت اخلاصة ،فال
أحد يعرف عنها شيئًا وهذا أفضل.
أخلع الصليب املعلق يف رقبتي دو ًما داخل الكوافري ،وأداري وشم معصمي
باألكامم الطويلة أو الغوايش الذهبية العريضة التي اعتدت تكديسها بمرور
السنني حتى باتت ال تنخلع من يدي.
يل احلاج حموه متا ًما ،يعرف صدي ًقا يمكنه حمو األوشام يف ّ
حي يعرض ع ّ
الصاغة ،أتردد قليلاً ،أخربه أنني قادرة عىل إخفائه بالكم الطويل والالصق
ً
معرتضا. الطبي واألساور ،لكنه يبدو
أوافق عىل مضض ،فيصحبني بعد انتهاء العمل إىل الصاغة ،ورشة صغرية بني
20
املحالت جيلس فيها الرجل للحام الذهب وإعادة صياغته ،يبدو أنه يمحي
مل يكن األمر مؤملًا جسد ًيا ،بعض احلرقان والتورم يف معصمي األيمن ،لكن
من اإلسكندرية أصلاً ،أ ّما ما أتى يب إىل هذه املدينة الصغرية فأمر يطول رشحه،
لك ّنني أخترصه يف ذاكريت إىل ليلة واحدة ،ليلة أتاين فيها أيب بصحبة أبونا من
بالقلم اجلاف وأنا صغرية ،أرقام وتواريخ ربام تواريخ االمتحانات يف املدرسة
ال أذكر.
21
يطلب أبونا من والدي أن يرتكنا ،أسمع صوت الباب وهو ُيغلقّ ،
يظل الرجل
صام ًتا فال أعرف ما الذي أفعله ،أرفع ظهري ألسنده إىل الوسادة الناشفة
- -يقول أبوك أنّك تتحدّ ثني بصوت خشن كالرجال ،وأنّك ترفضني
- -صويت خشن كام خلقني اهلل ،ونعم أرفض الزواج ،أنا أكره الرجال،
22
التي ال حتادث األوالد يف املدرسة ،أو ترسل هلم خطابات رس ّية
لتفضح يف املنطقة بعدها.
كمس روح
ّ - -ترتعش يدا الرجل أكثر ،يتم ّنى لو كان األمر أبسط
بعضا من ترانيمه ويرش ع ّ
يل قطرات من رشيرة ،ربام حينها يتلو ً
املاء املقدّ س ،ثم صفعتني عىل وجههي وانتهينا.
«- -ال تضلوا ،ال زناة وال عبدة أوثان ،وال فاسقون ،وال مأبونون ،وال
مضاجعو ذكور .،يرثون ملكوت اهلل».
- -اهلل ّ
حيب الضالني.
اخلطية.
ّ - -لك ّنه يكره
ينهض بعصبية ،األمر أكرب منه ومني ،التسعينيات يف مرص ،وقتها كنت أحكم
23
مصحة نفسية ،لك ّني كنت أعلم أن هناك عاملًا
ّ عىل نفيس بالقتل أو باإليداع يف
آخر أفضل من هنا ،عامل يمكنني فيه أن أفعل ما حيلو يل بعيدً ا عن كل هذه
الكراهية.
- -الع ّفة هي العالج ،ربام عليها منح نفسها إىل الدير لفرتة.
أترهبن؟ ،تنهار قواي يف حلظة ،احلقيقة أنّني ّ
فكرت يف اليشء نفسه، ّ --
ّ
وأظل وأحب البقاء هناك ،يغادر اجلميع بعد القدّ اس
ّ أحب الكنيسة
أنا جالسة مكاين أتأ ّمل صورة العذراء ،مجيلة ،قو ّيةُ ،ملهمة.
24
أقاطعه..
- -أوافق.
- -نعم.
املث ّلج عىل رأيس ،ال أقاوم ،ختلع ع ّني مالبيس مع والدي الذي استيقظ ً
فزعا،
ابنتهام الوحيدة ،حتى ولو كنت جمنونة ،ممسوسة ،ضالة ،خاطئة ،شاذة..
25
الصدئة ،أحاول جتميع أفكاري ،أسمع أيب يبكي ويطلب املغفرة من الرب،
أمت ّنى لو ِم ّت اآلن وانتهت القصة .لك ّني بالتأكيد مل أفعل.
ألن أيب مل ّ
يتعود عىل طرق غرفة ابنته قبل مقيدة إىل رسيري مثل املجانني؛ ّ
أسبوع ّ
الدخول عليها فجأة ،وألنّه أصيب بالرعب عندما رأين مع سارة عىل الرسير.
سارة..
أشعر باخلجل ،فتضحك بجانب فمها ،تنزع وردة محراء من الباقة أمامها،
26
وتقرتب م ّني ترتكها أمامي بر ّقة ،أملح التجاعيد عىل جانبي فمها وعينيها ،تبدو
يف األربعينات من هذا القرب.
- -وأنت ً
أيضا يا سارة.
مرة ،قبلة يف اهلواء ،ال تنزل عينيها من ع ّ
يل وهي ترسل يل بكوب من العصري ّ
تعزف..
ّ
أتذكر وسط هلوستي هذا اليوم الساكن قبل مغيب الشمس ،يف غرفة اخلزانات،
أخلع حذائي عايل الكعب وأستبدله بحذائي املنخفض الذي يسمح يل باجلري
خلف املواصالت يف طريقي للعودة إىل املنزل ،أشعر بيدين تطوقان خرصي
يعم املكان..
من اخللف ،أعرف أنهّ ا هي ،الغرفة خالية والسكون ّ
جتذبني سارة إليها ،جسدي كله حيرتق وقلبي خيفق برسعة قصوى.
27
شفتي بأصابعها ،تنزهلا إىل عنقي ،تضغط عىل صدري برفق ،أكاد
َّ تداعب
يغشى ع ّ
يل..
أستدير ألواجهها ،لكني أشعر بالغرفة كلها تدور ،وسارة تبتسم فقط ،أستسلم
للحظات ،ثم أستعيد إدراكي باملكان والزمان ،أدفعها برفق وأجري حافية وأنا
أمحل حذائي بيدي ،ال أكتشف ذلك إال بعد مالمستي لألسفلت الساخن يف
الشارع ،قدماي حترتقان..
أعود إىل غرفتي التي تدور يب هي األخرى ،أرى وجه أيب وأ ّمي فوق رأيس من
عيني املغمضتني..
بني َّ
ال يمكن أن أختىل عن نفيس من أجل الكنيسة..
28
والدي أكثر لينًا ،أهنض ألرتدي مالبيس
ّ أبدأ يف التعايف ،نوبة املرض جتعل
وأحترك نحو باب الش ّقة بطبيعية ،يعرتضني أيب متسائلاً إىل أين؟
ّ
مطولاً ،يشبهني كث ً
ريا :وجه أبيض دائري طيب ،وخدّ ان ممتلئان، أنظر إىل وجهه ّ
وشعر ناعم.
نملك العينني اخلرضاوين الضيقتني نفسها ،أ ّما أ ّمي فكانت نحيفة سمراء بشعر
جمعد ،أبتسم وأقول إىل العمل ،أريد أخذ ما تب ّقى من راتبي هذا الشهر.
ّ
ينظر إيل أيب بشك ،فأخربه أنّني بخري ،ال أمحل سوى حقيبة يدي الصغرية،
ليس ع ّ
يل سوى قميص وت ّنورة وحذاء اقرتب من اهلالك.
يسمح يل معتقدً ا ّ
أن املرض طهرين ،ربام عدت طبيعية ،وكأنّه دور برد خرج مع
العرق واحلرارة.
29
أنزل يف ّأول حمطة يعجبني شكلها ،حوائط بيضاء ،و ُق ّبة عالية بساعة دائرية،
أحاول السري يف الشارع الواسع الذي ال أعرفه ،أبحث عن كنيسة ربام متنحني
ّ
املحطة، بعض املساعدة ،أسأل بعض املارة فيشريوا يل باجتاه نفق مظلم بجوار
يرشحون يل الطريق ،أجتاز النفق ،وأعرب ميدا ًنا مزد ً
محا صغ ً
ريا ،إىل شارع واسع
يبدو شعب ًيا ومحيم ًيا ،ربام يمكنني الذوبان هنا بشكل جيد.
ّ
أفكر يف أيب وأمي اللذين بالتأكيد يموتان قل ًقا عيل اآلن ،قبضة ُم ّرة تعترص
بطني فتتصاعد املرارة إىل حلقي ،أقف حلظة اللتقاط أنفايس ،وأكمل الطريق،
تبدو الكنيسة ظاهرة أمام عيني اآلن ،أدخل بخطوات مرت ّددة ،تستقبيل األم
املكرسة للكنيسة بابتسامة ،راهبة طيبة يف منتصف العمر تسألني عماّ أحتاجه،
ّ
ملونة كبرية ملار جرجس
الكنيسة فارغة يف هذا الوقت ،يف احلائط املواجه لوحة ّ
هيزم الشيطان..
أتأ ّمل اللوحة دون ر ّد ،أكرب لوحة رأيتها ملار جرجس .الراهبة تنتظرين يف صرب،
ريا ،أنظر إليها ،ال أملك شيئًا ألقوله.
أنتبه إليها أخ ً
30
- -يا ُأ ّمنا ،ال بيت يل وال مال وال عمل ،أريد املساعدة.
تصمت دقيقة ،حتدّ ق يف مالبيس التي ال يبدو عليها عالمات الفقر الشديد
أو الترشّ د ،تبتسم يف وجهي ثانية ،ثم هترع للكالم مع القس ،يعودان ً
معا،
ينظر إيل أبونا مطولاً فيشحب وجهي أكثر ،يشبه قس كنيستي يف اإلسكندرية،
ريا هنا معهام،
ال أخافهام ،ال أكرههام ،عىل العكس ،أشعر بالراحة واألمان أخ ً
ومع لوحة مار جرجس.
يقول القس مرح ًبا بك ،هيمس يف وجه أمنا بكلامت ،تشري يل دون كالم
فأتبعها،
- -ال ُيسمح لنا باستضافة أحد يف الكنيسة ،لكن وجهك طيب.
أوشك عىل تقبيل يدهيا لك ّنها تربت عىل كتفي ومتيض ،أهنار عىل األرض،
أمحلق يف السقف املتش ّقق فوقي ،ترى ما الذي يفعله والداي اآلن ،أيب ّ
الطيب
31
هلعا؟ يبحثان ع ّني يف األقسام واملستشفياتّ ،أم أنهّ ام
وأمي املسكينة ،جي ّننان ً
شكرا الرب لتخلصهام من لعنتي؟
يف الصباح أخرج بمالبيس نفسها التي كادت ختنقني ،أسري يف السوق املجاور
أتر ّدد حلظة ثم أدخل إىل الكوافري الذي ُكتب عليه «كوافري مرمر» ،أرى صورة
العذراء من جانب الستارة القامشية احلمراء املواربة عىل املدخل فأطمئن قليلاً ،
أدخل برسعة قبل أن أغيرّ رأيي.
يقصان شعرهيام
بالداخل مقعدان متهالكان عليهام امرأتان متقدّ متان يف العمر ّ
32
ويصبغانه ،وورائهام تقف فتاتان بائستان ال تعرفان شيئًا سوى طريقة مزج
اللون وفرده عىل الورق املفضض بدقة.
رفعت أكربمها عينيها إ ّيل فتحرشج صويت حلظة قبل أن خيرج قو ًّيا وعال ًيا.
تشري ّيل باالنتظار للحظة ،تتحدّ ث يف هاتف داخيل يربط حتماً الكوافري بالش ّقة
التي تسكن فيها صاحبته أعاله.
أنتظر بصرب ،أتأ ّمل صور حنان ترك وسمرية سعيد بشعرهن اهلائش ونظرهتن
السعيدة ،أتأ ّمل املستحرضات الرخيصة املوضوعة بإغراء يف واجهة زجاجية
متهالكة ،كوافري صغري مسكني لك ّنه أفضل من ال يشء.
33
تنظر إ َّيل وتسألني :ما اسمك؟
- -منى..
- -أنا أجيد التع ّلم ،أجيد وضع املكياج ،وتصفيف الشعر.
- -أملك فتاتني لكل هذا ،وأنا أضع املكياج بنفيس للعرائس ،هل
جتيدين الفتلة؟
- -ربام ّ
أخصص حجرة باألعىل لتوضيب العرائس..
فأحتمس أنا ً
أيضا ،أنحدر عرشات الدرجات يف حيايت ّ يسعدين محاسها،
العملية ،لك ّني ال أهتم..
فليذهب دبلوم السياحة والفندقة إىل اجلحيم ،ولتبدأ حيايت «كبالنة» كام كانت
سيسميني الباشا فيام بعد..
ّ تسميهن أ ّمي ،خبرية عرائس كام
ّ
34
صباحا ،تع ّلمني املدام كل
ً أواظب عىل الذهاب كل يوم من الساعة الثامنة
يشء ،أتعلم حتى كيفية عقد الفتلة واستخدامها لنزع الشعريات الدقيقة من
أصابع اليدين والساقني ،تعاملني كابنة ،حتى أهنا تسمح يل باالنتقال إىل الشقة
تضم حجرتني اآلن لتوضيب العرائس بعد اإلقبال الذي اشتد يف
التي باتت ّ
الشهر األخري منذ أن بدأت العمل معها ،أضع متاعي القليل الذي مجعته خالل
لك ّني أتطلع ألشياء أخرى ،أريد حريتي ،أريد شقتي اخلاصة ،بعيدً ا عن العامل
اجلديد الذي أوشك أن يكون محيم ًيا ،توشك املدام عىل أن تصبح أ ّمي ،ويوشك
أبونا عىل أن يصبح أيب بسبب إرصاره عىل املجيء وتف ّقد أحوايل كل فرتة.
ريا ملو ًنا ،إنّه يدعوها حلفل خاص يف القاهرة جيمع مص ّففي
كتيا صغ ً
يعطيني ًّ
الشعر يف مرص ،أشكره وأتابعه وهو يغادر بسيارته وأعود إىل الداخل.
35
أتص ّفح ُ
الك ّتيب ،أقرأ قائمة أسامء مص ّففي الشعر باملدينة ،يستوقفني اسم
أي دا ٍع..
الباشا بال ّ
أعيد قراءة العنوان برسعة قبل أن تعود املدام ،أحفظه عن ظهر قلب ،وأضع
أمرا. ُ
الك ّتيب عىل الرف خلفي ،وأعتزم ً
الطريق طويل طويل..
يبدأ املطر يف اهلطول وأنا يف الشارع ،أحاول مللمة ُسرتيت الباهتة التي اشرتيتها
كتفي ،يف هذه اللحظات أشعر بالرثاء عىل نفيس وأفتقد بيتنا
من السوق حول َّ
الدافئ.
36
يضج باحلركة رغم الشتاء ،مقاعد متالصقة بسبب الزحام،
ّ ضيق لك ّنه
املكان ّ
وأكثر من مخس عرائس جالسات يف انتظار دورهن ،أعرف الباشا الكبري من
النظرة األوىل ،أتجّ ه إليه يف عزم فيتأملني هو من حذائي ّ
املمزق إىل سرتيت املبت ّلة،
أقف أمامه فريفع عينيه إ ّيل:
- -أنا أعمل يف كوافري مدام مرمر ،أخفض صويت بخجل وأقول:
«بلاّ نة».
37
يبتسم ،أفهم هذا الرجل ويفهمني فال داعي للكذب أو املحاورة..
لك ّني أشعر أنّني عىل الطريق الصحيح ،وكنت كذلك فعلاً .
الكوافري هو بيئتي الطبيعية التي كان ع ّ
يل أن أكون فيها طيلة عمري ،أنا لست
ّ
التحكم يف كينونتي ،ملاذا خيلقني اهلل هبذا الشكل ثم رشيرة ،لك ّني ال أستطيع
أمترد عىل خلقه وحايل؟ كيف أمتر ّد عىل
يطلب م ّني أن أتوب وأعود إليه ،كيف ّ
حقيقتي؟
وحيمر وجهي،
ّ جتلس النساء أمامي عاريات مطمئنات ،تنتصب خالياي كلها،
أداري سخونة َّ
يدي بسخونة احلالوة ،وهي تنفرد وتنثني عىل جلدهن،
أحسدها وأكتفي باختالس النظر ،ربام بلمس اجللد وشدّ ه ،أشبع رغبايت
بالتخيل ،أكتفي هبذا وال أزيد.
ّ احلارقة
سيقاهنن
ّ ال أحد يالحظ أو خيطر يف باله ح ّتى ّ
أن الفتاة املسكينة التي جتلس أمام
38
أختيل للحظة أن يعرفن
املفتوحة ليست هبذه الرباءة التي تدّ عيها ،أبتسم عندما ّ
احلقيقة ،سيتساءلن أولاً ،ما هو حكم الدين يف هذا األمر؟ هل يتحم ّلن
الوزر؟
عىل عكس املثليني من الرجال يف مرص ،جتدّ النساء صعوبة أكرب يف مالقاة
صاحبة ،خاصة يف بلدة صغرية مثل هذه ،حتى لو الحظت الفتاة أنهّ ا خمتلفة،
ستكتفي بالزواج واحلياة الطبيعية التقليدية ،ربام ُتريض رغبتها بالعادة الرسية
يل، أختيل سارة كل يوم ،ال أرىض عنها بديلاً من بني كل األجسام التي ّ
متر ع ّ ّ
حتى هنال بالذبذبات اجلنسية التي خترج من جسمها فيشعر هبا الرجال والنساء
معا ،مل تفلح يف حمو وجهها من ذاكريت.
ً
رياّ ،
وأفكر يف أ ّمي التي ماتت حرسة ،وأيب الذي يعيش حياته اليوم ّ
أفكر فيها كث ً
يف أمريكا غري عابئ بيشء ،ربام اعتقد أنّني ِم ُت ،ربام حذفني من ذاكرته ،الرجل
يساعدين احلاج عىل تأسيسها ،أشعر بنظراته خترتق روحي ،هذا الرجل يفهمني
39
ويعرفني ويتجاهل كل يشء ،ما يريده هو سري العمل وفقط ،ال ينكر أن قسمي
الضيق
ّ الرسي
ّ عندما جئت أنا هنا ،يلعب ويدور ،حياول اخرتاق القسم
ً
ضاحكا. فيفر
باألعىل لك ّني أهنره ّ
تنظر النساء إىل وجهه اجلميل ويقلن اتركيه ،الباشا الصغري يثري مشاعرهن منذ
عضوا
ً لك ّني أسانده دائماً يف طموحاته ،يأخذ برأي أبيه ورأيي بعدما أصبحت
متر وأنا ال أغادر الكوافري إال لشقتي الصغرية التي جتاوره ،ال
عرش سنوات ّ
أكمل فيها سوى ساعات ألعود وأفتحه بنفيس ،بت وكأنّني فرد من أفراده،
يعتمد ع ّ
يل احلاج يف كل يشء ،أ ّما الباشا الصغري ،فيكرب أمام عيني ،ر ّبيته كام
40
يطغى بحضوره عىل والده املرهق ،يبدأ يف فرض آرائه ،والدعوة إىل تأسيس
مركز كبري وضخم.
فورا.
يوافق أبوه احلاج عىل مضض فيبدأ العمل ً
باهرا ،ينسحب
ً نجاحا
ً يأخذ منه املركز سنوات من العمل ،لك ّنه ينجح
احلاج يف النهاية ،يكتفي ببعض زيارات ،بينام أنعزل أنا يف حجريت اجلديدة ال
يشء يزعجني سوى جيجي التي ظهرت من العدم ،قروية محقاء تعتقد أنهّ ا
متوجة ببعض دروس املكياج ،ورضبات الفرشاة التي ّ
تلطخ هبا وجه ملكة ّ
العرائس..
جتلس عىل مكتبه يف أثناء غيابه ،أراها وهي تتد ّلل عليه ،ال أعرف كيف أغوته
يتحول إىل طفل صغري أمامها ،وكأنهّ ا ساحرة
ّ دون أن متلك ال مالاً وال مجالاً ،
فأتصيد هلا األخطاء ،أعبرّ عن اشمئزازي منها أمام احلاج الذي
ّ قادرة ،أ ّما أنا
أعلم جيدً ا أنّه يعرف كل يشء ،ألقي بسؤال عابر عليه يف زيارة من زياراته التي
تزوجه؟
أصبحت قليلة ،ملاذا ال ّ
ينظر إيل مطولاً ،فأتظاهر بتقليم أظافري ،أنسحب بدعوى العمل وأعرف أنّه
بدأ جد ًيا يف التفكري.
41
توضيب العروس كان يو ًما مثال ًيا ،أرى جيجي من خلف النافذة تكاد يغشى
عليها ،تقف بصعوبة يف انتظار خروج العروس من احلماّ م املغريب وارتداء
يتم توضيب العروس هنا ،نزعت فستاهنا لتزينها بيدهيا ،كان اقرتاحي ً
أيضا أن ّ
شعر جسدها شعرة شعرة ،وكأنّني أعدّ ها لنفيس ،كانت مجيلة ورقيقة وبنت
ّ
ستفك سحر جيجي عن الباشا؟ ناس ،فهل
شهران عىل العرس والعروسان يف جولة خارج البالد ،جيجي تزداد نحولاً ،
ضيقة جديدة كل يوم،
تصبغ شعرها يف األسبوع مرتني ،ترتدي مالبس ّ
بأي شكل ،حماوالهتا تثري ضحكي لك ّني أحاول
املسكينة حتاول حماكاة زوجته ّ
التسامي عن ذلك.
عدوا ،إنهّ ا حرشة حقرية أمت ّنى دهسهاّ ،
أفكر ملاذا أحبوا أعداءكم ،لك ّنها ليست ً
ّ
واضحا..
ً ردا
أكرهها إىل هذا احلدّ ؟ لك ّني ال أجد ًّ
لكن نادية كانت متلك الر ّد ،تغيظني بأفكارها السخيفة ،تقول إنني أكره
ّ
جيجي؛ ألنني أحبها ،أنظر إليها بغل وأطالبها بأن خترس ،الفتاة احلمقاء التي
أتى هبا الباشا يوم عودته من شهر العسل حتاول التفلسف ،الزلت أذكر يوم أن
دخل هبا ع ّ
يل ليطلب مني مساعدهتا عىل التعرف عىل املكان.
42
أنظر إليها بدهشة ،نحيلة ،سمراء ،بعينني سوداوين ،شعرها أسود ّ
يغطي
اجلبني ،أالحظ أنهّ ا تعرج قليللاً ،يرق قلبي ّ
ألي نقص يف سيدة أمامي ،أشعر
أنهّ ا بشكل أو بآخر خمتلفة ،إنهّ ا بائسة بام فيه الكفاية لتواجه العامل كأنثى ،فام
بالك لو كانت ذات ع ّلة.
تعتاد الفتاة عىل املكان برسعة ،جتلس بجواري للتحدّ ث ،تفتح قلبها يل ،كتومة
لك ّنها تلقي باملعلومة شيئًا فشيئًا ،تسألني فجأةِ ،
أنت مسيحية؟
وأجز عىل أسناين ،أقرتب منها وصويت اخلشن يبدو أكثر إرعا ًبا:
ّ أعقد حاجبي
ِ
إياك أن ختربي أحدً ا.
هتز رأسها بخوف وجتري خارج الغرفة ،لك ّنها تعود يف املساء لتجلس بجواري
ّ
وتربت عىل كتفي.
احلمقاء تصعب ع ّ
يل ،أبتسم هلا وأكمل السيجارة ،أخربها بام قاله يل احلج ذات
يوم بعيد ،فتهز رأسها يف فهم.
43
- -أنت صعيدية؟
هتز رأسها بال توضيح إن كان نعم أم ال ،أريد أن أسأهلا ما الذي أتى بك إىل هنا
ّ
لك ّني أجتاهلها قليللاً ،ال يشء يمكن أن يثري دهشتي بعد كل هذا العمر.
تقوهلا وتنظر إ َّيل يف عيني بقوة وثبات ،نظرهتا تبدو وكأنهّ ا تكشف عن روحي،
وكأنهّ ا تقرأين ،وكأنهّ ا تراين أخرج من باب بيتي يف اإلسكندرية ذات يوم مل أعد
أذكره.
علمت أن أمي ماتت بعد مغادريت بشهور ،كنت أشتاق لرؤية سارة بشكل حاد
44
دفعني للسفر فجأة والعودة إىل اإلسكندرية بعد شهور من عميل يف كوافري
الباشا ،أدخل الفندق بخطوات مرسعة؛ بح ًثا عنها خلف البيانو لكني ال أرى
أحدً ا.
أسأل اجلميع عن سارة ،لكنها تبدو وكأهنا اختفت ،وكأهنا مل توجد من البداية،
خيربونني أهنا توقفت عن املجيء بعد غيايب ،وأهنم مل يروها ثانية وال يعلمون
هلا سكنًا.
لكني أعرف من أحد العاملني الذي يسكن بمقربة من بيتي القديم عن موت
أمي وهجرة أيب.
ال تقوى قدماي عىل محيل ،لكنني ال أبكي ،توقفت عن البكاء من وقتها ،كنت
جافة متا ًما من الداخل ،أشعر بجسمي ً
فارغا ،وكأن أعضاءه ذبلت ،جفت ثم
هتشمت.
أعوض هذا الفراغ باألكل ،ال أتوقف عن األكل والتدخني إال للعمل ،ثم
أعود إليهام من جديد.
أحتول من الفتاة النحيفة الفزعة ،إىل السيدة البدينة غري املكرتثة بيشء ،التي
جتلس يف غرفتها تتأمل ما حيدث باخلارج وتدخن.
45
تأتيني نادية يو ًما وهي متسك هاتفها ،تريني صورة عارضة أمريكية حسناء
وتشري إىل وجهها.
كانت الفتاة نسخة مني منذ عرشين عا ًما ،أقرأ اسمها باإلنجليزية
كنت أرتاب يف يشء ،أطلب من نادية أن حتمل يل تطبيق إنستجرام عىل هاتفي،
تنشأ يل حسا ًبا وتأتيني بصفحة العارضة من جديد.
أيب ،كان هو بنفسه ،مل يتغيرّ وكأن يو ًما مل يمر ،ربام بدا أكثر امتال ًء ألصبح
نسخته أكثر ،حيتضن ابنته وصبي آخر يبدو أنه شقيقها ،بجوارمها سيدة شقراء
ال بد أهنا أمهام ،أقرأ املكتوب حتت الصورة ،كانت هتنئه بعيد ميالده ،وتصفه
بأنه أفضل أب يف العامل.
أفضل أب يف العامل..
يقف بجوار ولديه يف الصورة ناس ًيا أخرى قد مر عليها السنني ،أبدو وكأنني
أنا أمه وليس العكس فأغلق اهلاتف بغل..
46
أقرر الذهاب إىل اإلسكندرية يوم عطلتي ،تقرتح نادية أن ترافقني ،أوافق ألنّني
ّ
ال أعرف طريق ّ
أي يشء اآلن ،مل أخرج خارج نطاق الشارع والشوارع املحيطة
مرات ُتعدّ عىل أصابع اليدين ،أميش بصعوبة وأهلث طيلة الوقت ،سيدة
إال ّ
سمينة وفتاة عرجاء تسريان جن ًبا إىل جنب يف ثنائي يثري الشفقة ،لك ّنها تفعل
كل يشء بنفسها ،حتجز لنا تذاكر القطار ،وتناولني زجاجة املياه ،وتساعدين يف
النزول والصعود ،ومتيل عىل سائق التاكيس عنوان الفندق.
ً
كورنيشا، كان كل يشء خمتل ًفا ،العامرات القبيحة حتيط بالكورنيش ،الذي مل يعد
أتساءل أين البحر؟ ال أراه من املتاريس املحيطة به ،أسوار عالية ،وكازينوهات
تغلق الرؤية .يضحك السائق ع ّ
يل ويقول أغلقوا علينا الرؤية ،ال بديل عن
الدفع لرؤية البحر..
أشعر بالصدمة ،أكاد أشم رائحته ،أملحه بني احلني واآلخر عرب فرجات ضيقة،
العامرات مائلة عىل بعضها ً
بعضا ،والشوارع مزدمحة رغم أنّنا الزلنا بعيدين
عن موسم الصيف.
أمليه عنوان الفندق ،املكان الوحيد الذي أعرفه ،ال يوجد فرصة ملقابلة سارة
وال حتى شخص ممن أعرفهم ،لكني كنت أشعر باحلاجة للذهاب ورؤية
املكان.
47
قدمي إليه ،اللويب مل يعد كام
َّ ً
متهالكا ،أجر وصلنا إىل الفندق ،الذي بات عتي ًقا
كان ،مل يعد هناك بيانو وال لوحات وال يشء ،الكاونرت املزخرف بات خش ًبا
متآكللاً يقف خلفه شاب أسمر بشعر مشعث ،ينتظر مني أن أنطق ،مل يعد
هناك سياح وال نزالء ،بعض الشباب املزعجني خيرجون ويدخلون بصخب،
ينقطون ما ًء ورمالاً عىل السجادة البالية.
أدخن يف صمت وأنا أتأ ّمل البحر الذي مل أعد أعرفه ،أتذكر سارة والبيانو
والورود احلمراء ،أتذكر زمنًا آخر كان كل يشء خمتل ًفا.
أتناول هاتفي وأدخل عىل حساب أيب عىل إنستجرام ،أيب العزيز الذي صار
ٍ
أعامل ثر ًيا وشه ً
ريا يف أمريكا ،أجري عىل اسمه بعض البحث بمساعدة َ
رجل
48
تزوج عارضة أزياء روسية منذ عرشين عا ًما ،وأنا ،منى املسكينة
نادية ،أعلم أنه ّ
الوحيدة التي تزن 90كيلو غرا ًما ،متلك ً
أخا وأخ ًتا ،عارضة أزياء ذهبية ،تظهر
عىل أغلفة املجالت العاملية ،وتسري عىل م ّنصات أسابيع املوضة ،وتتفاخر
بأصوهلا العربية.
أيب الذي اتهّ مني بأنّني ممسوسة ،يتفاخر بشهرة ابنته التي ظهرت عارية
عىل غالف جملتني من قبل ،يصحبها إىل املهرجانات العاملية ،يرتدي أفخم
البذالت ،لقد نيس عامله اآلخر يف اإلسكندرية ،نيس ابنته التي ّقيدها بحبل
غليظ يف الرسير عندما رآها مع امرأة ،نيس أنّه أراد إرساهلا إىل الدير ،نساها
بمجرد أن خطا بقدميه إىل ٍ
أرض جديدة.
أفتح يوتيوب ألراه يتحدّ ث مع مذيعة مثلية شهرية وحمبوبة بكل لطف ،حيتضنها
يف بداية اللقاء وهنايته ،حيكي عن رحلة كفاحه وفخره بابنته ،وعن أصوله
العربية التي ال تعني كونه غري منفتح ،إنّه يدافع عن حقوق مجيع البرش.
وامللونني ومجيع
ّ تعرض املذيعة صوره يف مظاهرات للدفاع عن حقوق املثليني
49
سبق صحفي :ابنة امللياردير املرصي أبو عارضة األزياء الذهبية تعود لتكشف
أرساره..
أنظر إىل السقف املش ّقق ،أمامي صورة العذرا تنظر إ ّيل بوداعة كام تفعل دو ًما،
جتلس نادية بجواري مستكينة.
- -أنا وحيدة متا ًما ،ال عائلة يل وال ولد ،ولن يكون ،أمت ّنى أن أختفي،
أذوب ،أتالشى ،هل يمكن أن يتالشى املرء إال باملوت؟
50
تقرتب مني نادية ،أرجتف رغماً عنيّ ،
تثبت نظراهتا ع ّ
يل ،كانت نظراهتا حنونة،
عاطفيةّ ،
ذكرتني بنظرات سارة ،متسح عىل شعري ،حتيط بذراعيها خرصي،
هتم باحتضاين ،أنتفض..
تقرب وجهها من وجهي ،تبدو وكأنهّ ا ّ
ّ
- -ماذا تفعلني؟
51
جيجي
قوة..
عندما يزداد عدد كارهيك اعلم أنّك ازددت ّ
أقف أمام البانيو املمتلئ باملاء والدماء وال أرمش ،ترسم منى الصليب عىل
صدرها فأنظر إليها بدهشة ،مل أعلم أنهّ ا مسيحية سوى يوم ماتت نادية..
هترع إىل خارج الغرفة ،بالتأكيد جتري لتهاتف الباشا أو الرشطة ال أعرف،
أبلع ريقي بصعوبة ،ما الذي فعلته احلمقاء؟ وملاذا؟ تأيت إىل عقيل عرشات
السيناريوهات ،ال يشء يربطها سوى الباشا ،الباشا الذي خرجت منى
ٍ
غرفة نصف مظلمة مع جثة فال أشعر باخلوف، ملهاتفته ،أنتبه إىل أنّني واقفة يف
وكأن محلاً قد انزاح عن كاهيل ،تتوقف
ّ عىل العكس ،أشعر ببعض الراحة،
طيبة جدً ا وظريفة ،حتى إنّني يمكن أن
كراهيتي للفتاة بعد موهتا ،تبدو اآلن ّ
53
أو ّدعها ،أقرتب أكثر من جسد الفتاة اهلزيل النائم فارغ الدم ،شعرها األسود
الفاحم مبعثر عىل جبينها ،أمللمه للخلف برفق ،ينخلع يف يدي فأجتمد ،أمسك
الباروكة التي خرجت يف يدي ،الفتاة كانت ترتدي باروكة طيلة الوقت!
شعرا قص ً
ريا بخصل عيني جتحظان أكثر ،أنظر إىل رأسها فأجد ً
الصدمة جتعل َّ
غري متساوية ،أشقر كالح ،خشن للغاية ،أكاد أملسه ألسمع رصخة منى التي
تدوي يف املكان ،فترت ّدد وكأنهّ ا عويل عفريت ،تطلب مني أ ّ
ال أملس عادت ّ
شيئًا.
أدخل إىل مكتب الباشا املقابل وأجلس عىل مقعده ،أشعل سيجارة فأالحظ
أن أصابعي ترتعش بقوة ،لست ثابتة اجلنان إىل هذا احلد ،مشاهدة جثة فارغة
الدماء ليست شيئًا لطي ًفا وال معتا ًدا بالتأكيد.
ألتقط هاتفي وأضغط عىل اسم الباشا ،ير ّد بعصبية ،وأسمع صوت اهلواء
54
يسب ويلعن،
ّ يص ّفر من جانبيه ،يقود سيارته كام هو واضح برسعة الربق،
ويقول :يوم أسود من بدايته.
ِ
فلتأت الرشطة وتفحص أطالبه باهلدوء ،حالة انتحار واضحة وال يشء يعنينا،
املكان وننتهي برسعة.
وتتحول إىل
ّ ّ
أفكر يف كلامته قليلاً ،يف مدينة صغرية مثل هذه الشائعات تكرب
أي شخص ،أطمئنه ببعض الكلامت وأغلق اهلاتف قبل
فضائح ضخمة تبلع ّ
شخصا يف قيادته املجنونة..
ً أن يصدم
أعود بظهري للخلف ّ
وأفكر ،مل أحب هذه الفتاة قط ،ومن البداية أسأل الباشا
يتصبب عر ًقا ويشيح بعينيه ،أسأله :ما
ّ عنها فيتمتم ببعض الكلامت اخلائبة،
الذي تفعله وهي ال متلك خربة وال موهبة؟ تسري يف املكان بال عمل ،تنام فيه
تعرج نادية بقدمها اليمنى ،ربام شلل أطفال قديم أو حادث ال أهتمّ ،
لكن هذا
ال يمنع أنهّ ا مجيلة ،مخرية دقيقة املالمح ،يتساقط شعرها األسود الناعم عىل
املكحلتني بال كحل ،فتبدو كلوحة ف ّنية ،ترتدي مالبس
ّ الضيق وعينيها
جبينها ّ
55
ضيقة بشكل مستفز ،بلوزة بيضاء عىل توب أسود طويل الكمني وجيب ضيق،
جيدة طيلة الوقت ،ال أعرف من أين تأيت هبا ،لكن كل
مالبسها تبدو يف حالة ّ
هذا ال يمنع ّ
أن قوامها مثايل.
منى وبضعة فتيات يقفن عىل جنب يبكني أو يتظاهرن بالبكاء ،واألوالد يبدون
من قال ّ
إن وجود ُجثّة يف حمل العمل أمر لطيف..
يناديني الباشا فأرسع بالنزول ،يسألني الضابط عماّ حدث فأخربه بأنّني وصلت
معا ،صعدت
هذا الصباح ألجد منى تنتظر عىل الباب ،فتحت املحل ودخلنا ً
معها لتساعدين يف يشء ،لنجد الفتاة ملقاة غارقة يف دمها..
يكمل متابعة املوقف دون أن ينظر إ َّيل ،أتبادل النظر أنا والباشا وأبدأ يف التوتر،
56
خيربين أنّني حتماً سأديل بأقوايل يف حتقيق رسمي ،أنا ومنى وباقي العاملني ً
قطعا،
فأهز رأيس صامتة..
يبتعد صاعدً ا للدور الثاين ،فأقف جوار الباشا ،يتحسس قميصه بح ًثا عن علبة
سجائره فال جيدها ،أناوله واحدة وأشعلها له ،يشكرين بتمتمة بال معنى.
اليوم ينتهي بصعوبة بالغة ،يغلقون املحل ويرتكون اجلميع يذهب مع أخذ
مجيعا للتحقيق.
األسامء والعناوين واألرقام ،سيستدعوننا ً
أعلم ّ
أن املوضوع سينتهي بتقرير الطبيب الرشعي ،أنا متأكدة ّ
أن الفتاة انتحرت،
أغادر املكان وأتجّ ه إىل سياريت الصغرية املركونة عىل بعد شارعني ،أجلس فيها
صامتة ،أتناول العباءة والنقاب الصغري من عىل املقعد اخللفي ،أرتدهيام عىل
عجل قبل العودة إىل املنزل.
ال يمكن أبدً ا أن يعرفني أحد خارج الكوافري ،السبب بسيط جدً ا؛ ألنيّ أكون
امرأة أخرى بالفعل خارجه.
57
واألم لطفلني مثاليني ،أسري مع عائلتي يف السوبر
ّ الزوجة اللطيفة
نجالءّ ،
ماركت ،أختفي خلف نقاب قصري عىل عباية سوداء ،أرى زبونة أضع
أهبط من سياريت يف الصباح الباكر ،ال أحد يراين وأنا أنزل النقاب من عىل
رأيسّ ،
أفك أزرار العباية املفتوحة ،حتتها أرتدي مالبس خمتلفة ،أحرص عىل
رشائها بتوقيع ماركات عاملية ،عرب اإلنرتنت أو من القاهرة التي أذهب إليها
خصيصا ،وحدي أو مع الباشا..
ً
الضيقة ،أسفلها
ّ أدخل الكوافري فيلتفت إ ّيل اجلميع ،أرتدي الفساتني القصرية
الليجينج الضيق شبه الشفاف ،واألحذية عالية الرقبة ،شعري الطويل املصبوغ
58
فورا إىل مكتب الباشا ،أجلس عليه ألدير املكان حتى يأيت ،جيجي حمل الباشا
ً
أي وقت ،ومتلك سلطاته نفسها..
يف ّ
أي خدمة
أنظر إليها من أعىل ألسفل ،تنظر إيل وتتظاهر باالحرتام ،تقولّ :
تانية؟ فأشيح بنظري عنها دون كلمة ،ربام كانت تكرهني مثل اجلميع ،لك ّنها
أنادهيا جمدّ ًدا فتستدير بال كلمة ،أسأهلا من أين أتت هبذه البلوزة ،فتجيب بأنهّ ا
ملكها.
جتلس الفتاة أمامي برت ّدد ،تبتسم فتظهر أسناهنا البارزة لألمام قليلاً ،مجيلة
بالتأكيد ،مغرية ،ربام كنت عىل حق ،الباشا ال يقاوم العامالت البائسات
59
نارا ،أبتسم هلا ابتسامة مرعبة،
بعيني تكادان خترجان ً
َّ حترقني الفكرة وأشعر
أملح الفزع يف عينيها فأعيد:
- -مل أش ِ
رتها من مرتبي ،أملك مالبس مجيلة ً
أيضا يا مدام جيجي.
- -ظروف.
املقربني م ّني،
أطلب منها رشح الظروف ،أغرهيا بالكثري ،وبأنهّ ا ستصبح من ّ
تعرف بالطبع ما الذي يعنيه هذا..
60
حينقني ردها ،فأشري هلا بأن تنهض وأشعل سيجارة ،أراقبها وهي هترع إىل غرفة
معا طيلة الوقت.
منى ،تلتفت إليها وختتفي من أمام النافذة ،جيلسان ً
تؤسس منى حل ًفا ع ّ
يل إذن..
تنظر إيل من نافذهتا الصغرية من غرفتها التي أراها تتط ّلع منها طيلة الوقت،
تراقبني وتراقب اجلميع وحتسب ّ
أن ال أحد يراها ،أعرف أنهّ ا تعرف كل يشء،
لك ّني ال أهتم هبا وال بام تعرفه ،أقرتب من اجلدار الزجاجي الذي ّ
يطل بأكمله
61
يف مكاننا املعتاد ،شخصيتي األخرى يلزمها بيت آخر بالتأكيد ،أفعل فيه ما
أريد ،لكن مع الباشا فقط.
أنا لست خائنة ،أنا عاشقة ،هناك فرق كبري بني األمرين.
بدأت العمل مع الباشا منذ كنت يف السابعة عرشة ،كان هو يكربين ببضعة
أعوام ،لك ّنه يملك كل اإلمكانيات التي جتعله ينتقل بمحل والده الصغري إىل
هذا املركز الضخم الذي نافس مراكز القاهرة واإلسكندرية.
أحببته من ّأول نظرة ،يقف كالبدر املنري بجوار والده ،شعره ال ُب ّني يتساقط عىل
عينيه الزرقاوين فأشعر بالدوار.
يسألني أبوه عن حمل إقامتي فأخربه باسم قريتي النائية التي ال يعرفها أحد،
عيني إليه
َّ فيحمر وجهي ،أرفع
ّ ساخرا
ً اسمها املضحك جيعل الباشا يبتسم
فيصمت ،يتأملني بنظرات فاحصة ،يركز نظره عىل كل جزء من جسمي ،أشعر
وكأنّه خيلع ع ّني مالبيس بنظراته ،فأتعمد إظهار مفاتني أكثر ،أطيل رقبتي
وفخذي،
َّ وأستند عىل ساق واحدة وأثني األخرى لريى منحنيات خرصي
أتظاهر بإسقاط حقيبتي وأنحني اللتقاطها فتهبط فتحة البلوزة الواسعة التي
ال خيفيها احلجاب الضيق املعقود عىل رقبتي بقوة.
أهنض وأنظر يف وجهه فأعلم أنّني أعجبه ،يعيد والده سؤايل عن متى يمكنني
62
يتحمل ،فأخربه
ّ البدء؟ فالفتاة التي تتولىّ ّ
كي الشعر ستذهب قري ًبا واملوسم ال
من اليوم لو أراد..
أغادر املحل وأنا أكاد أرقص من الفرحة ،العمل مل يكن اليشء الذي يسعدين،
أي كوافري يف املدينة يتم ّناين منذ أن تركت املحل السابق ،لك ّنه الباشا أعلم ّ
أن ّ
الصغري الذي جيعلني سعيدة هبذا الشكل..
أعمل إىل جواره كل يوم ،يع ّلمني ترسحيات جديدة حديثة ،يلتصق يب من
اخللف وهو يمسك يدي ويع ّلمني كيفية استخدام املوس احلاد يف ّ
جز أطراف
الشعر بميل ،يعلمني كيفية تنظيف األدوات ،ووضعها يف حقيبة خاصة بكل
عامل ،يضع أمامي كمية ضخمة من املجالت األجنبية لتوضيح طرق تطبيق
الصبغة واملكياج واملاسكات بأحدث التقنيات.
لقد كان هنماً للتجديد ،يملك طموحات ال تكفي هلذه املدينة الصغرية ،وال
محا بالعرائس والفتيات بسببه هو فقط
لذلك املحل الصغري ،الذي بات مزد ً
اآلن.
63
يقف إىل جواري يف املمر اجلانبي بخارج املحل ويقول :ال بد من البحث عن
مكان أوسع ،املمر جتلس فيه العرائس عىل كرايس خشبية غري مرحية ،يتأ ّففن
يقرتب م ّني ويلتصق يب ،مرفقه يالمس صدري متا ًماّ ،
يتعمد حتريكه فوقه ألعىل
وأسفل فأتظاهر باخلجل ،أبتعد خطوتني فينظر إيل ويبتسم بسخرية ،يعود إىل
الداخل وأحاول أنا إيقاف قلبي من الدق هبذا الصوت املرتفع.
هو ً
أيضا ّ
حيبني ،لكن ليس لدرجة الزواج ،أنا يف النهاية جمرد عاملة ،كوافرية
قادمة من قرية ال تظهر عىل اخلريطة ،لعوب كام يقول ع ّني أبوه ،يكرهني ً
أيضا،
اجلميع يكرهون جيجي كام أطلقت عىل نفيس داخل الكوافري ما عدا الباشا،
هو فقط من يتحدّ ث معي طيلة اليوم ،يع ّلمني باستمرار ،وأنا رسيعة التع ّلم،
يراقبه أبوه وهو غري ٍ
راض لك ّنه يصمت ،فأنا يف النهاية ملك يمينه ،يعتقد أنّني
ملكية خاصة ،فال مانع من أن يلهو هبا ابنه قليلاً ..
أتعمد اإلبطاء يف عميل ،أكوي الشعر ببطء شديد لدرجة تثري غضب الزبونة،
ّ
حتى ّ
يمل والده ويذهب ،يذهب اجلميع ونبقى أنا وهو ،وقتها ّ
أحتول ألرسع
64
يغلق علينا باب املحل الصغري املنزوي ،ننفصل عن العامل اخلارجي ،أنسى
يقبلني دائماً يف جبهتي أولاً ،ويعيد ذلك وهو يمسك بك ّف َّي
كل يشء إال هوّ ،
أضمه بقوة.
شفتي ،عنقيّ ،
َّ فأذوب ،هيبط إىل أنفي،
يعيد فتح الباب ورفع اجلرار ،ويرتكه دقيقتني قبل أن يسمح يل بالذهاب.
أضع طبقتني حتى ال يظهر االزرقاق أسفلهام ،أعدّ ل احلجاب وأضيقه عىل
مقدمة ذقني.
ريا إىل البيت ،أس ّلم أمي كل ما حصلت عليه من بقشيش إال قليلاً .
أصل أخ ً
الطريقة الوحيدة حتى ال متنعني من العمل ،وحتى ال متنعني من الباشا.
65
مرة ،تصدمني
أول ّ
املركز الكبري قارب عىل االنتهاء ،يأخذين الباشا ألشاهده ّ
املساحة الضخمة ،وديكوراته األقرب للبيوت القديمة «سلملك» أريض
تتوسطه نافورة نحاسية ،و«حرملك» حماط بشبابيك من األرابيسك والقناديل
ّ
امل ّلونة الزجاجية ،كام أشاهدها يف املسلسالت التارخيية.
أرتّب حقيبتي باهتامم ،أغادر املنزل وأنا أطري من السعادة ،الرحلة الشاقة يف
66
ببطء وكسل ،ت ّتضح الرؤية يف عقيل ،وأفهم أنهّ ا ليست إجازيت اخليالية مع أمري
أحالمي؛ إنهّ ا جمرد رحلة عمل مع باقي عماّ ل الكوافري ،وأشخاص ال أعرفهم،
كلهم يف طريقهم للتدريب من أجل املركز الكبري.
لقد كنت واحدة ضمن 10فتيات وفتيان ،حتى ُمنى مل يرتكها ،جتلس
بجواري دون أن تدير وجهها يل ،تنظر إىل مظهري وحقيبتي الضخمة وتبتسم
بسخرية..
أشيح بوجهي عنها ،تقبع طيلة الوقت يف الطابق الثاين الصغري من املحل اخلاص
بتجهيز العرائس ،إنهّ ا موجودة منذ األبد ،الباشا يعاملها باحرتام وكأنهّ ا أ ّمه،
رسي ،ثم أستبعد الفكرة، واحلج ال يطيق االستغناء عنها؛ ربام ترافقهّ ،
أفكر يف ّ
هي غري مغرية بمرافقة حتى اجلثث اهلامدة..
ثالثة أيام مل َأر فيها طيف الباشا ،دروس مم ّلة ومشاهدة طرق تطبيق املكياج
متميزة فطر ًيا يف التنفيذ العميل ،كنت
ّ عىل الشاشات الكبرية ،لك ّني كنت
الوحيدة التي جتيد رسم العينني ومزج األلوان ،أملك خربة طبيعية وذو ًقا راق ًيا
ال يناسب بيئتي ،لك ّنه يناسب شخصيتي ،أعرف أنّني سأكون خبرية التجميل
الوحيدة ،ويروقني هذا اللقب.
67
جاهزا باإلضاءة
ً بعد العودة ،يستدعيني احلج إىل املركز ،أدخل إليه ألجده
أهز برأيس موافقة وأتظاهر بالسعادة ،أنظر بطرف عيني إليه فال ينظر إيل.
ّ
أغادر املكان وأعود إىل املحل ،أكمل عميل بنصف عقل وبال قلب.
عروس الباشا جتلس حتت يدي بمالحمها األرستقراطية ،فتاة نحيفة بال يشء
مميز سوى مالبسها الغالية ،وآثار العز التي تظهر عىل هؤالء املدلالت الاليت
ّ
أعرفهن جيدً ا ،خرجيات املدارس األجنبية ،الاليت ينطقن القاف كا ًفا ،أحفظهن
وأكرههن طوال عمري ،أتعامل معهن يف الكوافري كل يوم ،وأحب جتاهلهن
ومعاملتهن بسخف؛ انتقا ًما.
68
أعلم أنهّ ا ابنة واحدة من أغنى عائالت القاهرة ،درست يف جامعة الباشا
أجز رقبتها
أختيل أنّني ّ
نفسها ذات االسم االجنبي الفخم ،ال أهتم بالتفاصيلّ ،
بدلاً من وضع كريم األساس عليها ،أرسم عينيها بد ّقة ،لكني أمت ّنى لو نزعتهام
من حمجرهيام ،إهنا زبونتي األوىل ،امتحاين األول ،وأنا ال أنوي الرسوب..
أضع هلا الرموش املستعارة ،أنتهي من ظالل اجلفون ،وأمحر اخلدود ،وأقوم
بحيلة صغرية تع ّلمتها لتكبري الشفتني قبل وضع احلمرة ،فتنظر لنفسها غري
مصدّ قة ،تقول« :مل أتو ّقع أن تفعيل هذا» ،كانت تريد ّ
التزين يف القاهرة لدى
وصمم عىل رأيه..
ّ أكرب الكوافريات ،لكن الباشا رفض
متدّ يدها إىل حقيبتها امللقاة بجوار حذائها الريايض الذي استبدلته بحذاء
يساوي راتبي ملدة عامني ،وخترج منها مائة جنيه ،تضعها يف يدي وتبتسم،
فأهز برأيس دون صوت.
تقول :مرييسّ ،
حلقي حمتقن ،ويداي متخشبتان عىل الورقة الكبرية ،الورقة التي صارت
البقشيش الرسمي يل ،أ ّية عروس تعلم أنهّ ا إن لن تضعها يف يدي قبل املكياج،
ريا بعد ذلك عند رؤية صور زفافها ،ال أحد يستطيع اجلدال ،مائة
فستندم كث ً
جنيه يل ،ومخسون ملساعديت أقتسمها معها بعد ذلك.
لقد تع ّلمت الكثري من دروس املكياج التي أحلقني هبا الباشا ،تع ّلمت أن أضع
69
طبقات من األلوان عىل وجهي حتى تيبس ،مل أعد قابلة لالبتسام ،أو البكاء،
مل أعد نجالء التي أتت من القرية املتطرفة ،أنا اآلن جيجي ،التي متلك ش ّقة
صغرية يف الشارع املجاور للمركز ،ال تنطق أ ّمي مادام أمنحها النقود التي
تع ّلمت رشاء املالبس التي ترتدهيا املدام ،تصفيف شعري كام تص ّففه ،تع ّلمت
يقرتب م ّني الباشا ليلة زفافه ،نظرة ذنب صغرية تلوح يف عينيه ،فأتص ّنع
ابتسامة ،أقول مربوك بثقة ،فينظر إيل بدهشة ،هذه اللحظة حاسمة يل ،عليه
يرتك الباشا عروسه اجلديدة ليتس ّلل إىل شقتي ليلاً ،تبدو هي كطيف ومهي
غري حقيقي ،بعيدة ع ّني متا ًما ،أنسى مالحمها التي حدّ دهتا بيدي يو ًما ،تذوب
70
ينظر إيل العاملون نظرات سخرية ،تتهامس الفتيات يف غرفتهن الصغرية
حتى املدام أصبحت تأيت كل يوم ،جتلس مع الباشا يف مكتبه ألحرتق أنا
باخلارج.
أجلس عىل مقعدي العايل أمام العروس ،أضع هلا املكياج بغلٍ حتى أكاد أثقب
وجهها ،ترصخ فأعتذر وأحاول الرتكيز ،أنتهي فال أطيق البقاء ،أغادر املكان
وقت ،هذه هي الطريقة املثالية إليقاف الكالم ،وإلبعاد األنظار ،وللعودة كام
زوج..
أنا ال أخون زوجي مع الباشا ،أنا أخون الباشا مع زوجي ،وهو خيونني مع
71
أختار رجلاً من قريتي ،مثال ًيا كام أريد ،فق ً
ريا ،ضعيف ،ال يعمل ،وأعرض عليه
الزواج فيوافق ،وهو يعتقد أنّني أحضرّ له ًّ
فخا.
تتزوج مجيلة القرية التي أصبحت «هانم» تقود السيارة منه؟ أخربه
كيف ّ
أنّني أريد السرتّ ،
وأن عميل يقودين للجنون ،أز ّين العرائس وال أتز ّين ألحد،
يتظاهر باالقتناع بكالمي ،نتزوج بصمت دون أن أتز ّين له وال لغريه ،اختار
شقة بعيدة متا ًما عن الكوافري ،شقة إجيار عادية ،أفرشها أنا بكل يشء ،يغدق
عيل الباشا باألموال ألكمل جتهيزايت ،يرتاح ضمريه هبذا الشكل ،وأنا ّ
أحب أن
طبعا.
أريح ضمريه ً
أريح ضمريه بعذاب العيش مع رجل ال أطيق رائحته ،يقبل ع ّ
يل فأكتم أنفايس،
استمتاعا فيكمل
ً أجز عىل أسناين
أغمض عيني وأكتم رصخايت ،يعتقد هو أنّني ّ
حريتيّ ،
وحرية ما يفعله بفخر ،هذا القذر مل يمنحني سوى يشء واحد فقطّ ،
أرشع جسدي كاملاً للباشا ،مل يعد ّ
حب املراهقني يكفينا ،كان هذا الشخص أن ّ
رضيبة حتمية دفعتها ألكون له كاملة بال نقص ،جمرد بوابة عبور إىل حيث أنتمي
فعلاً ،حضن الباشا فقط وال يشء غريه..
72
ال يملك قوته ،أمنحه املال عن طيب خاطر مقابل أن يصمت قليلاً ،يطالب
باملزيد ،يريد افتتاح مرشوع خاص به ،حمل اتصاالت وبيع كروت الشحن
ّ
سأفكر يف األمر ،أبيع املنترشة يف هذه األيام انتشار النار يف اهلشيم ،أخربه بأنّني
جز ًءا من الذهب الذي أشرتيته من عرقي.
الضعيف مل يعد ضعي ًفا ،يشرتي املزيد من املحالت دون رشاكتي ،يعقد هو
صفقات جديدة مع جتار املدينة ،يصبح اسماً معرو ًفا ،يطالبني بالبقاء يف املنزل،
يتأ ّفف من مهنتي وخيربين أنهّ ا حرام ،ال يمكن أن ُي ْع ِلم أتباعه ومريديه ّ
بأن
زوجته «كوافرية» ،أوافق عىل ارتداء النقاب مقابل تركي يف عميل ،يقبل
طرا ،ربام ازدادت قوته لك ّني رشيكته األساسية التي ال يمكن اخلالص ّ
مض ً
مشمئزا كلام عدت مساء ،لك ّنه حيافظ
ً يقربني ،ينظر إيل
منها ،احلمد هلل مل يعد ّ
73
عىل صورته أمام اجلميع كزوج سيد ،أعلم أنّه يفعل ما يريد مع من يريد ،ربام
تزوج واحدة أو اثنتني ،ال يعنيني األمر يف يشء ،ال يعنيني متا ًما.
ّ
أستمر يف حيايت التي اخرتهتا ،عشيقة الباشا وذراعه اليمنى ،ال تزال األحاديث
ّ
مستمرة عن عالقتنا لك ّني ال أهتم ،لقد خت ّلصت من أفكاري وضعفي بمجرد
بأي شخص يتحدّ ث ما دام الكالم داخل حدود
ارتدائي هلذا الساتر ،ال أهتم ّ
هذا الكوافري ،ما دام الكالم عن جيجي وليس نجالء ،أنا أخرى هنا ،أخرى
وقوة ،وليذهب اجلميع إىل اجلحيم.
أكثر ثقة ّ
أدخل كل صباح إىل الكوافري فيصمت اجلميع يف أثناء مروري.
ال أريد سوى هذه الساعات التي يقضيها معي كل أسبوع أو أسبوعني.
أحلم بأن أظهر معه أمام الناس ،أحلم بميعاد رومانيس جيمع بيننا ،أحلم بأن
أتز ّين له ،أرتدي فستا ًنا مذهلاً ،وأن يصحبني ملطعم فاخر ،ويفتح يل باب
السيارة بنفسه ،أتأ ّبط ذراعه وأسري بجواره.
74
أحلم بأن أرقص معه عىل موسيقى حاملة ،وأن أطعمه بيدي ويطعمني بيده،
أحالم محقاء ملراهقة صغرية ،لك ّنها كل آمايل يف احلياة.
أستلقي مكاين حمدّ قة يف السقف املظلم بال أفكارَ ،م ْن يف هذا العامل متلك حياة
أكثر زي ًفا ِم ّني؟ أشعر بأنّني موصومة ،غارقة يف مستنقع ال أستطيع اخلروج
منه.
أغوص فيه أكثر ،الوحل يطبق عىل صدري ،فال أستطيع التنفس.
أهنض من مكاين وأعيد ارتداء مالبيس ،أضع النقاب عىل رأيس ،العامل من
حويل يكتيس بالسواد.
75
- -يف العمل أين سأكون؟
أوالدي قط.
أندفع وراء مشاعري كأ ّية مراهقة ،أسمع وأطيع ،ال أحلم سوى بقبلة ورقصة
وحضن وكلمة حلوة ،واآلن ماذا؟
أنظر يف مرآة السيارة ،يفزعني شكل وجهي املنتفخ ،الكحل يبدو كبقع سوداء
عيني ،أحاول مسحه باملنديل وتشذيب خصالت شعري بأصابعي،
َّ حول
شفتي ،أعدل مالبيس وأجته إىل املركز.
ّ واضع بعض احلمرة عىل
76
أسأل عن الباشا لتجيبني الفتاة اجلالسة عىل الكاشري بأنّه مل يأت بعد .أطلب
هل سيساعدين الباشا؟ أو ما الذي سأفعله وحدي؟ وحدي متا ًما يف مواجهة
عصبة كاملة :طريق املحاكم الطويل ،ونفوذ زوجي الذي ال يمكن ر ّده ،حتى
أفتح درج املكتب أمامي ،أتأ ّمل علبة الرتامادول الكبرية التي يمنح منها الباشا
للعامل حباية أو اثنتني عىل سبيل املكافأة من حني آلخر ،ماذا سيحدث لو ابتلعتها
كاملة ،أعتقد أنّني ً
أيضا أستحق املكافأة ،أبتسم للفكرة التي تعجبني..
ال أرفع عيني إليها ،لك ّنها تتو ّقف فجأة ثم تعود إيل ،وتقرتب م ّني كث ً
ريا فأنتبه
وجنتي الساخنتني.
َّ تضع يدهيا عىل
- -ماذا؟
77
- -إنهّ م ال يتخ ّلون أبدً ا عن الزوجة من أجل العشيقة.
- -أنت لست مز ّيفة ولست موصومة ،أنت قادرة عىل اخلروج من هذا
املستنقع.
كنت أنتفض غض ًبا وخو ًفا ،جيجي التي خياف منها اجلميع تفلح فتاة محقاء
وعرجاء يف إخافتها.
وكأنهّ ا تقرأ أفكاريَ ،م ْن أخربها بكل هذا ،هل يتحدّ ث معها الباشا ،هل
أخربها بام بينناَ ،م ْن تكون هي بالنسبة له؟ ستكون األيام القادمة سوداء عىل
رأس اجلميع.
الغريب أنني أشعر ببعض التحسن ،الفتاة غريبة فعلاً ،أشعر ببعض اخلوف
78
ناحيتها ،ثم يتغيرّ هذا اخلوف إىل حب وثقة ،أنظر إليها بدهشة ،كانت األفكار
السوداء تبتعد عن رأيس ،يعود إىل عقيل وجه طف َّ
يل ،أشعر أن احلياة ليست هبذا
السوء ،هناك عرشات الطرق التي أستطيع هبا نزع حقي ،املعركة ليست صعبة
إىل هذا احلد ،كيف سمحت لنفيس باالهنزام؟
حتى الباشا يبدو كأنه غري مؤثر ،للمرة األوىل منذ سنني ال أشعر هبذا الثقب يف
روحي الذي ال يسده سوى حرضته ،يمكنني أن أعيش من دونه ،يمكنني أن
أستفيد منه دون أن أمنحه شيئًا.
بالتحسن.
ّ وجنتي أكثر فأشعر
ّ تربت نادية عىل
أبتسم هلا ممت ّنة ،فتبدو وكأنهّ ا أ ّمتت مهمتها ،لك ّنها تبدو وكأنهّ ا أكرب ً
عمرا ،عيناها
مروعة ،تنهض واقفة أمامي ،تنظر إيل وتقول:
حزينتان وكأنهّ ا شهدت خربة ّ
هل فكرت يف كوافري جيجي؟
79
هنال
يصلح عنوان رواية ،أو فيلم أجنبي من إخراج تارانتينو ،ال يصدق بعضهم
أنّني أشاهد أفالم تارانتينو ،ويضحكن حتى يسقطن عىل األرض إن علموا
أنيّ أقرأ.
جيدً ا ر ّد
املرات القليلة التي أضطر فيها إىل إدخال أحدهم إىل بيتي ،أعلم ّ
يف ّ
فعله األول ،الصدمة.
احلوائط مليئة بالكتب إىل السقف ،كتب عىل األرائك ،عىل مائدة الطعام،
81
منفصل ،عليه كمية أفالم مهولة تكفي لتعييني خبرية يف السينام العاملية يف وزارة
الثقافة.
هل هناك منصب كهذا؟ ربام جيدر هبم ذلك ،هذه البالد ذاهبة إىل اجلحيم
بالتأكيد.
ّ
ألمتكن من اجللوس ،لقد أضع معطفي عىل ظهر املقعد ،أزيح بعض الكتب
قررت التو ّقف عن العمل اليوم؛ حدا ًدا عىل الفتاة املسكينة التي قتلت نفسها
ّ
يف الكوافري.
- -اسرتاحت.
جيلسني الزبون عىل ساقيه ويغمس رأسه يف صدري ،أنظر حويل حماولة تزكية
أمرر
الوقت كام أفعل عادة بفعل امللل .تستوقفني املكتبة الضخمة خلف ظهرهّ ،
عيني عىل العناوين ،مجل كبرية ،كلامت تبدو مهمة ،أحاول القراءة والرجل ّ
هيز
جسمي بال توقف.
82
ذ ..ذاكرة غانيايت احلزينات؟
يرفع الرجل رأسه بال فهم ،أشري له نحو الكتاب وأسأله عن معناه ،ينظر إيل
مرة أحتدّ ث ً
ضاحكا ،ر ّد الفعل نفسه الذي سيقابلني يف كل ّ بال تصديق ويقهقه
فيها عن كتاب ،أو أشرتي كتا ًبا ،أو أمحل كتا ًبا.
األمحق ،لقد أهنيت معهد اخلدمة االجتامعية بتقدير جيد ،النظرة السطحية يل
دائماً ما تكتئبني.
- -خذي الكتاب إذن هدية م ّني .أضعه يف حقيبة يدي ،ويعود هو ملا
مرة باإلثارةّ ،
وكأن هناك شيئًا ما ينتظرين وألول ّ
يفعله ،أ ّما أنا فأشعر ّ
يف بيتي البائس بعد العودة.
أنت تعرف اجلملة الدائمة التي خيربونك هبا عن الكتب ،كيف أنهّ ا نافذة
حتملك لعوامل أخرى.
83
إنهّ ا مجلة صادقة فعلاً ،كانت الكتب طريقي للهرب ،إنهّ ا مالذ الشخص
فورا إىل
السطور ،وبعد االنتهاء كانت الساعة قد جتاوزت العارشة ،توجهت ً
جيدً ا.
مكان أعرفه ّ
السور القديم املجاور ملستشفى ُ
احل ّميات ،الذي يكتظ بباعة الكتب القديمة
أنظر إليه بنظرات تائهة .تثبت عيناي عىل اللحام يف منتصف نظارته ،أقول أريد
84
- -هذا حسن لكني أنصحك بالتمهل قليل
يعود يل برزمة كتب ضخمة ،أعرف بعض العناوين التي هي نفس عناوين
ريا ،يعرفني عىل عامل إحسان عبد القدوس ،ومنه إىل
أفالم عربية أحبها كث ً
يوسف السباعي ونجيب حمفوظ ،حتى ماركيز أهنى أعامله الكاملة قبل مرور
عام واحد عىل هذا اللقاء.
رصت زبونة مستديمة لدى الرجل ذي النظارات امللحومة ،أظهر أمامه فيخرج
وخصيصا ،يمتلئ املكان بالكتب ،أقرأ وأقرأ فقط،
ً يل الكتب التي تركها جان ًبا
تدخلني الكتب إىل عوامل السينام ،أبتاع حاس ًبا شخص ًيا للبحث عن املؤلفني،
أبحث عن أ ّية معلومة أقرأها ،أمحل األفالم املأخوذة عن القصص.
نجسة..
هكذا قذفني أيب بالكلمة وكأنهّ ا بصقة تصيب وجهي كلام مررت من جانبه يف
85
أثناء خروجي من بيتنا يف الطابق األول من البيت املتهالك الذي يقع عىل جرس
السكة احلديدية يف الكفر القديم.
جيلس أيب دائماً عىل باب البيت ال يفعل شيئًا ،جيلس بالفانلة ورسوال البيجاما
يدخن ويبصق عىل األطفال امل ّتسخني نصف العراة ،الذين يلعبون
املتسخّ ،
ويسبون بعضهم بألفاظ أكثر قذارة منهم.
ّ
أمر من أمامه وأنا أرتدي مالبس املدرسة التي أحاول إبقاءها نظيفة ومهندمة
ّ
بقدر اإلمكان وسط كل هذه القذارة ،أحاول مداراة جسمي الفائر الذي
عمرا ضعف عمري ،ولمَ َّ شعري الطويل يف كعكة بسيطة ،لك ّنه يتأ ّملني
يمنحني ً
ويرص عىل سبي.
ّ من فوقي لتحتي بقرف،
نجسة..
86
تنظر إيل الفتيات بحسد منذ املرحلة اإلعدادية إىل اليوم ،الفتاة الطويلة
أكاد أذوب خجللاً ،أو ّفر القروش القليلة التي متنحها يل أمي ألشرتي علبة من
الفوط الصحية تكفيني شهرين ،حيايت كلها باتت تدور حول هذه الفرتة من
الشهر ،ال ّ
أفكر سوى فيها ،أحسب وقت جميئها حتى ال تفاجئني يف املدرسة
أو الشارع ،أطلب من السيدات الاليت ختدمهن أمي أن يبحثن يل يف خزانات
بناهتن عن املالبس القديمة الداكنة ،أسأهلن باستحياء عن سبب األمل القاتل يف
أسفل بطني ،فيضحكن.
أسري فوق قضبان السكة احلديدية وأكوام القاممة التي حتيطهام عىل اجلانبني،
طيور أبو قردان حت ّلق عليهام ،والرائحة التي هي مزيج من القاممة املتع ّفنة
ورائحة اليوريا ملئات الرجال الذين يقضون حاجاهتم طيلة الليل عىل جانبي
87
السور تزكم أنفي ،تلتقط عيني العضو الذكري لرجل حياول إدخاله إىل رسواله
التبول ،يلمحني فيتمهل يف إغالق الرسوال ،يبتسم ابتسامة املساطيل التي
بعد ّ
أعرفها ،فأرسع من خطوايت ألعرب الطريق ،وأصل إىل املدرسة.
أستيقظ عىل ملسات أيب اليومية جلسدي فأنتفض ،يبعد يديه برسعة ،يعدّ ل من
ساقي حول جسدي ،يبصق عىل
ّ أضم
ّ رسوال بيجامته وينظر إيل باحتقار،
األرض بجواري ،اعتدت ملساته منذ صغري ،فلم أعد أندهش ،أشعر بالغثيان
يتصاعد إىل حلقي ،أشعر بأنّني نجسة فعلاً كام يقول.
أحاول إسناد الباب بساقي بينام أصب املاء عىل رأيس وجسمي برسعة ،أحاول
ّ
حك النجاسة من عىل جسمي بالطوبة السوداء اخلشنة بال جدوى.
88
يل أيب ،وكام حكم ع ّ
يل صمت أمي املتواطئ، أنا نجسة منذ الصغر كام حكم ع ّ
وكام حكمت ع ّ
يل نظرات اجلريان التي ّ
تعريني كل يوم ،ونظرات زمياليت،
ونظرات مدرسيني ،ونظرات العابرين.
أنتظر اجلامعة بفارغ الصرب ،أستلم املظروف وأجلس عىل مائدة ّأم خالد ،بينام
القصية ،جتلس ابنتها بجواري تساعدين عىل كتابة
ّ ّ
تنظف أمي غرفة نومها
الرغبات ولصق الطوابع.
أنظر إليها مطولاً ،وجهها أبيض هادئ ،عيناها ناعستان ،ومالبسها طويلة
واسعة.
ّ
مضطرة لربط تتبدّ ى صديرية حتت جالبيتها نصف الش ّفافة بال خوف ،هي غري
اإليشارب حول صدرها مرتني حتى ال تظهر استدارته؛ اتّقاء للعيون.
أريد أن أكون وحدي بعيدً ا عن البيت الصغري املزدحم ،عن أمي التي ال أراها
89
حتى نسيت شكلها ،عن أيب وملساته وصوته اخلشن املرعب الذي ّ
أتذكره اآلن
اعرتاضات أيب يف السفر مل متنعني عن يشء ،كنت أهني أوراق االلتحاق واملدينة
اجلامعية بال كالم.
كالمه ووهنه واحلشيش الذي يلف عقله طيلة الليل والنهار مل جيعله ً
قادرا عىل
االعرتاض سوى بكلامت مبهمة أسكتتها أمي ببضعة جنيهات ،وأسك ّتها أنا
يت احتقار.
بنظر ّ
90
- -عىل ماذا؟
تنظر إيل وتبتلع ريقها ،ثم ختفض عينيها إىل األرض دون ر ّد.
لك ّني لن أوقف حيايت من أجل هذا ،لن أجلس ألبكي وأندب وأكتئب يف
أجرب احلياة بعيدً ا ،أريد أن أحتفي
غرفة مظلمة ،أريد أن أطري وأبتعد ،أريد أن ّ
ألول ّ
مرة بجسمي ومجايل دون خوف ،اإلسكندرية تنتظرين ،حياة اجلامعة ّ
تنتظرين ،يمكنني أن أكون طبيعية للمرة األوىل يف حيايت.
91
لكن الوضع مل يكن كذلك بالضبط.
ّ
املعهد كان مثل املدرسة متا ًما ،أنا بطويل الفارع وشعري املنسدل ،كنت مثل
املحجبات واملخمرات واملنقبات وامللتحني.
ّ اجلسم الغريب وسط كل هؤالء
النظرات التي هربت منها من َ
الك ْفر القديم يف املدينة الصغرية ،ال ختتلف شيئًا
يف اإلسكندرية الكبرية.
إنهّ ا أكثر قسوة وتشد ًدا ،سواء يف اجلامعة ،أو يف املدينة اجلامعية.
اعتدت تل ّقي دعوات العودة إىل اهلل كل يومُ ،
«ك ّتيبات احلجاب قبل احلساب»،
لضمي إليهن ،ثم االبتعاد
التو ّدد الزائف من الفتيات يف اجلامعات اإلسالمية ّ
فورا بعد رفيض بأدب.
ً
نجسة..
أقف مكاين متجمدة ،تشتعل النريان يف جسدي كلهَ ،ن َفسيِ يتثاقل وقلبي ينبض
يف أذينّّ ،
أفكر يف االستدارة إليها ولطمها عىل وجهها ،لك ّني أحتامل عىل نفيس،
أريد اجتياز العامني يف هذا املكان واحلصول عىل مؤهل يسمح يل بالعمل
واالنفصال وحدي بعيدً ا عن اجلميع.
92
وأتوجه إىل الكورنيش ،أجلس وحيدة يف الطقس البارد ،رأيس
ّ أغادر املعهد
ٍ
خال متا ًما من األفكار.
يف جيبي ال أملك سوى عرشة جنيهات متب ّقية من املائة جنيه التي متنحها يل أمي
كل شهر ،ويف قلبي هناك ثقب ي ّتسع كل يوم.
أشعر بالربودة تغلف عاملي ،الربودة تغ ّلف كل يشء؛ لذا ما الذي يمنعني
أن أهنض من مكاين ألركب هذه السيارة التي يشري سائقها يل ،ويفتح باهبا
كرسيها الوثري الدافئ؟ ما الذي يمنعني
ّ الفاخر ،داع ًيا إ ّياي ألن أسرتيح عىل
أن أضاعف النقود يف جيبي؟ وأن أعرف طري ًقا يل؟
بأي يشء ،ال مشاعر وال تأ ّفف ،وال يف الواقع كان األمر ً
بسيطا جدً ا ،مل أشعر ّ
خجل وال رعب وال يشء.
أترك الرجل ينهي ما يريده م ّني بكل راحة ،بضع قطرات من دماء أثبتت هتمة
النجاسة ع ّ
يل أمام نفيس فقط ،لك ّنها ّبرأتني منها أمام اجلميع.
يف اليوم الثاين ،ابتعت بالنقود التي منحني إياها الرجل الكريم مالبس واسعة
فضفافة وطرحتني أنيقتني ،منحتني جواز املرور لقلوب اجلميع يف املعهد.
93
لقد استقبلوين استقبال األبطال والفاحتني.
ّ
واملفضلة لدى الفتيات ،وحلم الفتيان األول. رصت املحبوبة
متحججة بالدراسة.
ّ يأيت ُخ َّطاب ومتو ّددون ،فأصدّ هم بخجل
أصليّ مع البنات يف املصلىّ ،وأغادر املعهد برسعة ألبدّ ل مالبيس يف بار صغري
يف حمطة الرمل.
عامان كامالن كانا كفيلني بامتالكي ثروة صغرية ،ألعود إىل مدينتي بشكل
خمتلف وهبيئة خمتلفة.
متك ّنت من رشاء ش ّقة صغرية يف شارع عائلتي القديم نفسه ،وإنام عىل الشارع
أي يشء ،ال الرئيس الذي ال ّ
يطل عىل جرس السكة احلديدية ،مل يسألوين عن ّ
مصدر األموال وال تغيرّ مظهري ،حجة غبية يكاد األمحق يتبني ضعفها بأنني
وجدت عمللاً جيدً ا يف رشكة كربى كانت كافية إلسكاهتم ،بينام تركتهم أنا إىل
وسط املدينة ،إىل شقتي اجلديدة التي استأجرهتا قريبة من كوافري الباشا ،حلمي
الذي حت ّقق.
94
التوجه إىل هناك يوم عرسها ،كنت أمجل من مجيع النساء داخل
ّ نسيتها قبل
املحل.
حترك ّ
يف ،الباشا الذي تنظر إليه مجيع النساء وال ينظر مرة أشعر بيشء ّ
ألول ّ
ّ
ألحد.
تسري بجواره سيدة جذابة تتحدّ ث بصوت حاد ،تبدو وكأنهّ ا مسيطرة عليه
متا ًما ،يستمع إليها بإنصات ،يطرق ً
أرضا وال يرى العيون التي تتبعه بصمت،
يوقفه شاب من العاملني ،يستشريه يف شعر فتاة جالسة أمامه ،يلمسه بيده فأرى
حاجبي تعج ًبا ،تصيح ّ
يف مرافقتي أن أسري ،فأكمل صعود ّ الفتاة تنتفض ،أرفع
95
أ ّما الباشا ،فهو الوجه الوحيد الذي أسرتجعه يف الليايل الباردة الوحيدة اخلالية
من العمل.
لكي أندمج يف بلديت الصغرية بعد العودة ،كان لزا ًما ع ّ
يل أن أتّبع األصول،
فهي ليست كاإلسكندرية ،يكفي التمشية عىل كورنيشها دقيقتني لالسرتزاق،
البحر واسع ويكفي للعمل دون االختالط الكبري بشبكاهتا املع ّقدة.
يتعرض يل أحد.
ال ّ هيمني حتماً أ ّ
هتمني يف يشء ،لكن ّ
السمعة ال ّ
أن ّ
أمتكن من الذهاب واملجيء بحريتي ،أريد أن أعيش هبدوء ،ال أريد نظرات
تشيعني ،ال ختتلف شيئًا عن نظرات اجلميع التي ظ ّلت تطاردين منذ
أخرى ّ
الوالدة إىل الرحيل.
أمحل كارت توصية من صاحب أشهر قاعة أفراح يف املدينة ،زبوين العزيز
الدائم خالل عطالته مع أرسته السعيدة يف اإلسكندرية.
أتوجه إىل مقر فرقة شهرية ال تزال تقدّ م فقراهتا الغنائية واالستعراضية يف
ّ
األفراح.
96
أبدو كحورية من اجلنة ،أرتدي فستا ًنا أبيض ضي ًقا مفتوح الصدر ،أستعرض
املرة بال إيشارب يربطهام ،وال قمصان واسعة ختفيهام ،أترك
ثدي املكتنزين هذه ّ
َّ
مكياجا هادئًا لك ّنه ٍ
كاف لتدويخ اجلميع. ً شعري منسدلاً وطويلاً ،أضع
أطرق باب الش ّقة احلقرية يف الطابق األريض بثقة ،يفتح يل الباب شخص يفغر
انبهارا حني يراين ،أسأله عن مدير الفرقة ،فيفتح يل الباب بصمت ،نصف
ً فاه
ساعة وكان األمر منته ًيا.
إن كان الباشا هو قبلة العرائس ليلة زفافهن ،فـ «هنال» هي اختيار العرسان
األول ً
أيضا.
أنا فرصتهم األخرية لتأ ّمل مجال النساء قبل االرتباط الدائم بامرأة واحدة يف
بيت مغلق ال فرار منه.
97
أذهب إىل الكوافري كل أسبوع ،أدخل أولاً إىل مكتبه ،أجلس أمامه واضعة
سا ًقا فوق ساق.
إن كان اجلميع يتأ ّثرون بجسم هنال ووجهها ،فالباشا ال يتأ ّثر.
تطلق جيجي ع ّ
يل نظرات من نار من خلف زجاج املكتب ،فأبتسم هلا بسخرية
وألتفت للباشا.
أخرج سيجارة ،وأنحني عليه ألكشف عن صدري أكثر ،فيشعلها يل دون أن
يرسق ولو نظرة ،يعاملني الباشا كامرأة راقية ،رغم كل ما يسمعه ع ّني ،وما
يرت ّدد ع ّ
يل.
أسأله عن لون الصبغة الذي يليق يب؟ ير ّد بشكل جاد ،يلمس خصالت
شعريّ ،
فيدق قلبي برسعة ،أشعر باحلرارة يف وجهي وأذينّ.
98
وجنتي مد ّل ًكا ،أكاد أصل إىل النشوة التي
ّ أسأله عن برشيت اجلافة ،فمدّ يده إىل
مل أصل إليها قط.
مرطبة ،يتحدّ ث بجدّ ية شديدة ،وأنا أنظر إليه ٍ
بوله. يل عدّ ة كريامت ّ
يقرتح ع ّ
- -الباشا جيب أن يبدأ العمل ،اليوم عرائس كثرية ،لع ّلك ستغ ّنني يف
فرح إحداهن؟
- -بالتأكيد.
- -هنال ،مل يفت أسبوع عىل زيارتك املاضية ،شعرك مل يطل بعد ،ما
الذي تفعلينه هنا؟
99
- -أنت جمنونة ،هكذا ستحبسني الشعر أسفل اجللد.
مرة أراها
تنهض بصعوبة من مكاهنا ،الدهون ترتاكم أكثر عىل جسمها يف كل ّ
فيهاّ ،
لكن وجهها كام هو ،مالئكي وشاحب ،مثل صورة «العذرا» التي أراها
يف األفالم األوروبية بالذات.
تدخل علينا نادية بال استئذانُ ،جت ّر ساقها العرجاء وتبتسم يل.
أشعر أنهّ ا تعيش يف عامل بعيد عن عاملنا ،ربام تكون مصابة ببعض القصور
العقيل.
100
أيضا. ِ
وأنت ً - -أشكرك،
تبتسم بخجل وترسع إىل ُمنى التي حتضرّ الغرفة ،تغادرها فأدخل أنا ،أخلع
مالبيس كلها وأجلس أمامها.
- -هل الفتاة متخ ّلفة عقل ًيا أو يشء من هذا القبيل؟
101
- -ملاذا حتملني ّ
هم الغسل هبذا الشكل ،ستكونني يف عامل آخر لن
تشعري بيشء.
خيتنق حلقي قليلاً ،تغادرين حتى أغتسل وأرتدي مالبيس ،مل تكن هناك وأنا
سخيا ،أتل ّفت بح ًثا عن نادية
ًّ ً
بقشيشا أغادر الغرفة ،أترك هلا يف درج مكتبها
ألمنحها هي األخرى فال أجدها.
أرى الباشا مستندً ا عىل ظهر مكتبه وجيجي واقفة أمامه وكأنهّ ا ستجلس يف
أحضانه.
يتودودان بال قلق أمام اجلميع ،تنظر إيل بطرف عينيها وكأهنا تغيظني ،فأرسع
بالرحيل من أمامهام.
التمهل
ّ أتعمد
أغادر الكوافري ،تالحقني الضحكات املكتومة والغمز واللمزّ ،
والتغنج يف مشيتي ألثري غيظ الفتيات وأعصاب الرجال أكثر.
102
أي حجر
ريا عن ّ
مزيفون ،يعتقدون أنهّ م أفضل وأذكى لك ّنهم ال يفرقون كث ً
ّ
أرضبه بطرف حذائي يف الشارع.
يصيب احلجر الفتاة اجلالسة عىل الرصيف أمامي ،ترفع عينيها يل ،نادية جتلس
متكومة مثل الشحاذين يف الظالم.
أبحث يف حقيبتي عن عرشة جنيهات ،لك ّنها توقفني ،ال أريد نقو ًدا ،أريد أن
آيت معك.
- -أين؟
103
تضحك ،متيش بجواري دون انتظار إجابة ،أفتح سياريت لرتكب بجواري.
ن ّتجه إىل الفرح الشعبي بقرية عىل أطراف املدينة ،الطريق مظلم لك ّنه ليس بعيدً ا،
واحلقول ال تزال تدخل علينا رائحة نرض ًة للخرضة املبت ّلة بقطرات املاء.
لتشم النسيم ّ
املشبع بالرائحة ،تغمض عينيها يف ّ خترج نادية رأسها من النافذة
سالم تام ،بينام ّ
أفكر أنا يف الليلة الثقيلة القادمة..
أعدّ ل من أمحر الشفاه وخصالت شعري ،أخلع اجلاكيت املغلق ،يف اللحظة
نفسها التي يفتح فيها باب السيارة مدير الفرقة الئماً إ ّياي عىل التأخري.
- -من؟
104
يتحول صويت إىل صوت آخر ال أعرفه ،يناولني أحدهم زجاجة برية فأجترع
ّ
نصفها عىل مرتني وألقيها جان ًبا ،الصفري ال يزال مشتعللاً ،والعروسة جالسة
تنظر إ ّيل من أعىل ألسفل ،أ ّما العريس فيبدو منشغللاً بأمور أخرى مع
أصدقائه.
أنظر إىل نادية التي تنتظر غنائي متحمسة ،تبدأ املوسيقى من خلفي ،ودخان
هيبان ع ّ
يل من كل اجتاه.. السجائر واحلشيش ّ
وأطهر اجلرح ده اليل تعبني وأذاين بحر الدموع فني أغسل منه أحزاين
أنا كنت فاعل خري يا صاحبي ويا وأعرص مهومي وأخ ّفف ُتقل ميزاين
الناس
لقيت جمِ ييل ومعرويف اتنسى وانداس وهم الناس وفوق كتايف بشيل ّ
مهي ّ
حتى أعز احلبايب بالرش جازاين....
أنا رحت أدور عليه وأسأل يف كل مكان لجَ ْل املَرار ينبلع ويريح التعبان
105
رحت لقيته جرب وبيقفل الدكان
كان اجلميع قد اعتىل املرسح للرقص عىل املوسيقى الصاخبة لألورج واملزمار،
بينام جتلس نادية وحيدة تقري ًبا وحدها ،ساعة ونصف مستمرة من الغناء حتى
أرشت للفرقة بالتوقف.
السيارة األخرى تقف يف انتظاري عىل ُبعد أمتار ،أرسع للركوب ربام مللاً أو
تله ًفا لالنتهاء من كل هذا.
ّ
ختيل الباشا مكان الزبون ،كانت الرائحة قاسية للغاية،
املرة مل أستطع ّ
يف هذه ّ
ن ّفاذة بشكل يقتحم روحي نفسها ،الرائحة هي احلاسة الوحيدة التي ال يمكن
106
ختيلها ،الرائحة تعيدين إىل الواقع كلام ابتعدت عنه ،جتذبني إىل
استبداهلا أو ّ
األرض فأفيق.
عيني متسائلة عماّ أفعله ،أكاد أصاب بنوبة فزع ،أرجتف وأنا أنظر إىل وجه
أفتح ّ
العجوز الذي يعتليني ،إىل رائحة جسمه التي تشبه رائحة النفتالني والفينيك،
ومذاق فمه الذي يشبه الرتاب.
أدعو اهلل أن ينتهي بأرسع وقت ممكن ،أغرب دعوة يمكن توجيهها هلل لك ّني
أفعلها بال ندم.
يستجيب يل فعلاً وأشعر باحلجر ينزاح عن صدري ،أهنض برسعة وأنا أهلث
ألرتدي مالبيس ،يلقي يف وجهي بالنقود ،فأسأله :ألن تعيدين إىل املكان؟
ال ير ّد ع ّ
يل.
107
أنتعل احلذاء وأهرع خارج املنزل املتطرف يف الزراعات ،أحاول تقدير املسافة
فال أستطيع.
أرى ضوء السيارة من بعيد أشعلته نادية بخطأ أو بقصد ال أعرف ،ربام تقرأ
األفكار فعلاً كام تقول ُمنى ،أضحك بصوت ٍ
عال ،أضحك وأنا أهلث ،أقفز يف
السيارة بال كالم وأديرها للعودة.
- -هل أنت محقاء؟ من اجلميلة ومن صاحبة الصوت الرائع ،هل
تسخرين م ّني؟
ترتعش شفتاها وتبدو موشكة عىل البكاء ،أشعر بالذنب ،فأعتذر هلا.
108
- -اقرتبنا عىل الوصول ،هل ال زلت ُم ّ
رصة عىل البيات معي؟
- -نعم.
أتركها وأنا أخلع مالبيس أمامها وألقيها عىل األرض يف طريقي إىل احلامم.
أسمعها تتناول كتا ًبا وتفتحه ،تقرأ بصوت ٍ
عال:
«اجلنس هو العزاء الذى يلجأ إليه املرء عندما ال حيصل عىل احلب»
أقف مكاين حلظتني ،ثم أعود إليها ،أنتزع الكتاب من يدها؟ ذاكرة غانيايت
احلزينات ،أسأهلا لمِ َ هذا الكتاب بالذات؟
- -أشكرك.
109
أغلق الباب وأقف أسفل الدُّ ّ
ش ،املياه الباردة تغمرين فأسند جبهتي عىل
احلائط ،أتناول احلجر األسود الناشف.
أنظر للبانيو ،االخرتاع املذهل الذي مل أستمتع به سوى قريب ،أمد أطراف
أصابع قدمي إىل السدّ ادة فأزحيها حتى تغلق البالوعة ،أمتدّ د بجسدي العاري
فيه.
املاء البارد مجيل ،يرتفع شيئًا فشيئًا ،يعدين بالكثري من اهلدوء والراحة.
نادية هنا ،من اجلميل أ ّ
ال أكون وحدي ،بالتأكيد ستحرص عىل سرت جسمي
بأي يشء قبل طلب املساعدة.
ّ
املاء رائع ،إنّه الوسيلة املثالية للتطهري ،كام أنّه يفصل بيني وبني الصخب،
والصفري ،والروائح..
110
أختيل الصمت الذي سيغمرين ،اخل ّفة وانتهاء اهلموم والتفكري والذكريات.
صمت مجيل ،فراغ دائم ،ربام اجل ّنة هي االنتقال إىل بعد هادئ ،ال يزعجنا فيه
أحد.
عيني فجأة..
املياه تنسحب من عىل ّ
ملوحة بالسدادة.
أفتحهام برسعة ألجد نادية جتلس عىل حافة البانيو ،تبتسم ّ
ِ
نسيت إزالتها قبل االستحامم. - -يبدو أنّك
أفتح فمي فال أعرف كيف أر ّد ،تتناول يدي لتضعها فيها ،متسك ّ
كف يدي من
األسفل لألعىل ،تضغط عليه بقوة فأشعر بالرغبة يف البكاء ،أبكي فعلاً فرتبت
عىل يدي أكثر ،كان البكاء مر ًحيا كغمر رأيس حتت املياه ،أشعر بصفاء داخيل
يغمرين ،للمرة األوىل منذ سنني أشعر أنني نظيفة ،أنني متشبثة بحيايت ،وأنني
خائفة من املوت وال أشتهيه كام كنت أعتقد.
أبتسم هلا ممت ّنة ،فتبدو وكأنهّ ا أ ّمتت مهمتها ،لك ّنها تبدو وكأنهّ ا أكرب ً
عمرا ،عيناها
مروعة ،تنهض واقفة أمامي وحتاول اغتصاب
حزينتان وكأنهّ ا شهدت خربة ّ
ابتسامة.
111
حتبي أن أق ّلدك؟
- -صوتك رائع ّ
أومئ برأيس بنعم.
تعدل من بلوزهتا قليلاً لتكشف جز ًءا من صدرها الضئيل ،حتاول نكش شعرها
متحرشجا.
ً الناعم ،وتش ّنج وجهها ليبدو حا ًدا مثيل ،تخُ رج صوهتا خشنًا
هذه املسحة من احلزن التي كانت يف صويت أنا ،والتي لسبب ما ،انتقلت م ّني
إليها.
112
ال أحد
أجلس يف مكاين املعتاد عىل الكاشري بجوار املدخل الزجاجي الضخم ،مكان
«شكرا يا قمر»،
ً سيتولوه ّن ،يلقني كلامت شكر مبهمة:
ُ العاملني الذين
«مرييس يا مجيل» ،أو يسألن عن شخص بعينه« :هل فالن متاح لصبغ الشعر
يا حبيبتي؟».
113
أنا القمر ،اجلميل ،حبيبتي ،الفتاة التي ال متلك اسماً ،أو متلك واحدً ا ال يملك
أمهية املعرفة أو احلفظ.
خيتلف وجهي باختالف الشهور ،كل بضعة أشهر تأيت فتاة وتذهب هلذا
املنصب ،أنا نفيس هنا منذ 6أشهر ،هذه أطول مدّ ة لفتاة كاشري ،لوال احلاجة
لرتكت العمل ً
أيضا.
لذا يأيت مظروف راتبي بال اسم ،ظرف أبيض ُكتِ َب عىل جانبه «كاشري»؛ حتى
هيتم بمعرفة اسم الفتاة الذي يأمتنها
الباشا الذي يعلم كل كبرية وصغرية ال ّ
عىل أمواله« ،فتاة الكاشري» ال ترسق ،هي ليست ُم ِه ّمة حتى لدرجة ارتكاب
فعل الرسقة.
تراين يف كل مكان وكل شارع يف هذه املدينة ،برشيت بلون مبهم ليس باألبيض
وال األسمر.
عينان داكنتان ،وطرحة ملت ّفة تربز خصلتي شعر مصبوغتني ببقايا لون كان يف
طبق ما بجواري بعد انتهاء أحد العاملني من الصبغ.
114
أنا ومثيل اآلالف ،يرسن يف الشارع كل يوم للذهاب إىل العمل أو اجلامعة أو
خاصا.
طابعا ً
السوق ،ال ميزة يل وال عيب ،ال يشء يمنحني ً
أجلس يف مكاين 10ساعات كل يوم ،ال أهنض من خلف الكاشري إال للحامم
أحيا ًنا.
الشاي.
ّ ال يشاركني أحد وجبة الغذاء وال رُشب
البنات يف الطابق األعىل ال ُي ِعدّ ونني منهن ،واألوالد باألسفل ال حيدّ ثوين
ٍ
سؤال عن سعر منتج ما يبيعونه للزبونة حتى طلب لبعض ّ
الفكة ،أو ٍ سوى
تزداد نسبة أرباحهم.
أنظر يف وجه العروس ،ال تبدو خمتلفة ع ّني سوى بطبقات املكياج الثقيلة التي
115
وضعتها جيجي طبقة فوق األخرى ،لك ّنها نجحت يف أن تبدو ظاهرة لرجل
واحد عىل األقل ،رجل واحد أرادها هي بالذات لتشاركه حياته.
رسيعا.
ً أفيق عىل صوت زبونة تطالب برسعة تدوين طلباهتا حتى تنتهي
أرفع عيني ألجدين كام أنا ،جالسة عىل الكاشري املرتفع ،ال أحد يراين ،أو يعلم
بوجودي.
ال أحد ينتظرين سوى أمي ،ربام تنساين أحيا ًنا لوال ما أمحله هلا معي من نقود.
116
ّ
أرش البتونيا ببعض قطرات املاء ،رغم أنهّ ا تكره املاء مثيل ،تنتعش يف الربد،
وتذبل يف الصيف.
ك ّنا يف أواخر الشتاء ،وكانت زهراهتا باللونني األمحر واألبيض مثل املهرج
تقرتب من الذبول.
أملسها ع ّلها تنتعش ،فتذوي أكثر ،أستسلم أمام إرصارها عىل الذبول ،وأنتقل
إىل الرحيان ،أرشه باملاء فيمنحني عطره النبيل ،أتنفسه بعمق.
متر ساعة واثنتان وأنا يف عامل آخر ،أفيق عىل صوت رصاخ إحدى اجلارات يف
ّ
فجرا.
زوجها العائد ً
أندس يف
ّ عيني بتعجب ،لك ّني
أدخل من جديد إىل الصالة الصغرية ،أدير فيها َّ
فرايش وأستغرق يف النوم.
117
أوشك عىل وضع الطرحة عىل رأيس ،ثم أتو ّقف حلظة ،ما الذي سيحدث
لو لو أفعل؟ هل سيالحظ أحد؟ هل يمكن أن يسألني من يف الكوافري ملاذا
خلعت اإليشارب؟
أنزعه ٍّ
بغل وأل ّفه حول عنقي حتس ًبا .أغادر املنزل فال توقفني أمي وال تسأل
عن تغيري.
يمر يب أخي يف طريقه للحامم فال يلتفت ،أسري يف الشارع فال يالحظني أحد.
يف األفالم تتغيرّ حياة البطلة عندما ُتغيرّ من شكلها« ،نيولوك» ينقلها من الفتاة
القبيحة أضحوكة املدرسة إىل مجيلة اجلميالت.
أدخل من باب الكوافري ،أستعدّ إلبداء اخلجل إن سألني أحدهم أين احلجاب،
لكن ال أحد يسأل.
ّ
تلقيها إحدى البنات وهي تقفز السلم املواجه صعو ًدا إىل الطابق األعىل ،بينام
أجلس أنا مكاين بال حراك ،تتوافد العميالت ،ويمتلئ املكان شيئًا فشيئًا.
أهنض من مكاين للذهاب إىل احلامم ،أصعد إىل الدور العلوي دون سؤال.
118
أقف أمام األوفيس الصغري باألعىل وأطلب كو ًبا من الشايُ ،ي ِعدّ ه يل الصبي
دون أن ينظر.
بعصبية واضحة.
ّ أتناوله وأقف قليلاً أمام مكتب الباشا ،يتحدّ ث يف اهلاتف
متر ّ
فأظل واقفة ،حتى ّ لكن صوته يصل إ ّيل ،أشعر بالفضول
ال أستبني ما يقول ّ
جيجي يف طريقها ملكتبه.
أحني رأيس إىل األرض وأتظاهر برشب الشاي ،لك ّنها ال تنظر إيل من
األصل.
يراها فيلقي باهلاتف يف ركن الغرفة ،جتلس أمامه يف حماولة للتهدئة ،فأدخل أنا
حاجبي.
ّ إىل غرفة الفتيات املجاورة أسأل واحدة أن تشذب يل
أجلس أمامها لتنزع يل الشعريات برسعة ،أنظر يف املرآة إىل شعري الطويل،
قصه؟ لك ّنها ال تر ّد.
أسأهلا هل يمك ّنك ّ
119
ٍ
خاص ،ومتسك به خصلة خصلة ،أرى اخلصالت ترش شعري باملاء من ٍّ
مرش
تسقط عىل األرض دون أن أستطيع النطق.
شعري يتناقص برسعة بالغة ،فأرصخ فيها أن تتوقف ،لك ّنها ال تفعل.
- -تريدين ً
متييزا؟
- -من ّ
قصته لك؟
•نادية.
120
- -نادية من؟ العرجاء؟
أجد نفيس أجيب بنعم مع لسعة ذنب ،تنظر إ ّيل نادية من األعىل ،تتابعني يف
صمت ،يمنحني شعري القصري جرأة ال أعرف من أين.
أبتسم هلذا وأحادث ذاك ،يقرتب أحدهم مني ،يسألني إن كنت أريد طلب
بعض الطعام معهم فأجيب بنعم.
الشعر واملكياج واملانيكري والباديكري ليست باألمور التافهة كام يقول الرجال،
يتحملنه يف سبيل احلصول عىل
ّ إنهّ ا أساسيات حياة املرأة ،إنهّ ا األمل الذي
ووجوههن.
ّ مبتغاهن ،نزع الشعر شعرة شعرة من أجسامهن
ّ
ختنقهن،
ّ االستسالم بالساعات ملص ّفف الشعر ،كتم البرشة بمستحرضات ثقيلة
هذه رضيبة القوة ،هذه رضيبة طلب االهتامم.
ّ
وكأن َم ْن حويل أنظر إىل كل ما حويل بشكل خمتلف ،أبدو واضحة شيئًا فشيئًا،
121
قص
بمحبة ،يسألنني من ّ
ّ ارتدين النظارات فجأة لريونني .حتدّ ثني الفتيات
شعرك؟ أنظر إىل نادية التي تسري بني اجلميع وكأنهّ ا كيان ومهي دون تو ّقف،
ِ
فعلت ما فعلته؟ وأتساءل لمِ َ
أسري بخطوات بطيئة إىل املنزل ،أستمتع باملعاكسات حتى السخيفة منها ،يتف ّنن
املرصيون يف معاكساهتم التي حتوي إهانات فظة ،يعتقدون أنهّ ا تسعد البنات
بشكل أو بآخر ،ربام تكون فظاظتهم هي طريقتهم للفت االنتباه ،طريقتهم
فعالة.
الغبية ،نعم ،لك ّنها ّ
ّ
أقف أمام مرآيت ،أشعر ببعض االنتعاش الذي تشاركني فيه زهرات البتونيا،
تبدو اليوم أفضل حالاً ،أو أنّني سعيدة هلذه الدرجة.
122
- -هذا ليس من شأنك
•شأن َم ْن إذن؟
عروسا أرتدي
ً عىل ماذا أندم؟ عىل التأ ّلق؟ عىل االهتامم؟ ربام ينتهي يب األمر
األبيض وأخرج من باب الكوافري.
أنظر لفتاة الكاشري اجلديدة اجلالسة يف سكون بشامتة ،تتبدل األدوار وأتو ّقف
عن كوين ال أحد ولو لفرتة كافية أن أصري زوجة أحد ،أو ّأم أحد.
أسمع الفتيات كل يوم وهن يرددن ،الزواج ليس كل يشء ،أتابع منشورات
النساء القويات عىل الفيسبوك ،مستقالت ،نشطات ،عامالت ،لك ّني ال
أفهمهن.
هؤالء بكل بساطة ،نسوة يملكن بيوهتن اخلاصة ،مالبسهن األنيقة ،مصدر
هلن بالرجل وال الزواج.
دخل ثابت ،فال حاجة ّ
123
ربام تعيش كل منها حياهتا مع صديق أو عشيق ،أ ّما أنا ،فامذا ع ّ
يل أن أفعل؟
أتأمل الزهرات التي تكرب براحتها ،أشعر ببعض الطمأنينة ،وقتها فقط أصبح
أحدً ا.
األحالم مجيلة أ ّما الواقع فدائماً ما يكون عىل النقيض متا ًما ،كانت األخبار
يف التلفزيون وعىل اإلنرتنت تتحدث منذ الصباح عن مدينتنا الصغرية التي
ال يأيت ذكرها قط ،انفجار كبري هيز أرجاءها بشكل مل نعهده مسب ًقا ،ينقلب
العامل فجأة ،حيوهلا االنفجار إىل أشهر مدينة يف العامل ،أقرأ اسمها عىل صفحات
مشاهري وكبار ،أشخاص يمثلون كل ما أحلم به من وجود ،يذكرون مدينتي
124
وكأهنم يمشون يف شوارعها كل يوم ،لكي نصري «شيئًا» لكي نصبح «أحدً ا»
يلزمنا فعل صادم كانفجار يأيت من الال مكان.
لكنني مل أكن أدرك فداحة املوقف باخلارج بعد ،أعيش يف حي بعيد وسكن
يبدو منفصلاً عن ّ
بقية املدينة ،تنصحني أمي بعدم مغادرة املنزل اليوم فأرفض
متا ًما.
أسري يف الشارع يف طريقي للشفت املسائي بثقة مضطربة ،أرتدي بنطلون جينز
ريا إىل الكاحلني ،مع خلخال المع وحذاء ريايض ،تيشريت بنصف ُكم
قص ً
اختارته معي جيالن ،أكاد أصبح نسخة منها ،لكن بال حجاب قصري إىل الوراء
كام تعقده.
شخصا حتى ولو كان نسخة ،عىل األقل نسخة من عدد حمدود
ً أشعر أنّني
شائعا يف كل مكان.
وليس ً
تزداد حدّ ة املعاكسات فأشعر بالقلق ،أحاول السري بشكل أرسع ،يلطشني
ّ
بتشف، مؤخريت فأنتفض ،أشعر بالرعب بينام يضحك هو
صبي صغري عىل ّ
ّ
فورا.
أشري لسيارة قادمة من بعيد ،تتوقف فأركب ً
سيارات املالكي الصغرية التي يعمل أصحاهبا عليها طل ًبا لدخل إضايف ،أميل
وأتشبث بحقيبتي.
ّ السائق عنوان الكوافري
125
العامل مرعب ،األكثر إرعا ًبا هي نظرات السائق الغريبة يل يف مرآة السيارة.
يقف عىل جنب ،متر دقيقتان كدت أموت فيهام ،يرتجل هو من سيارته ليفتح
يل الباب من اخلارج ،أدفعه به بقوة وأنزل من السيارة ،جسمي كله يرتعش،
أسري بخطوات أقرب للركض يف الشوارع املظلمة ،البيت قريب لكني أشعر
خمدرا بالفعل؟
بالتوهان ،أشعر ببعض الدوخة ،فهل رش يل ً
أقشعر ،أركض
ّ أكاد أبكي من الرعب ،صوت أ ّية خطوة من خلفي جيعلني
املتكس ،أسقط عىل ركبتي ،ال أبايل ،أهنض من مكاين
رّ أرسع فأتعثّر بالرصيف
وأكمل الركض.
126
يظهر البيت من بعيد وسط الظالم فأشعر وكأنّه مرفأ األمان ،آخذ السالمل
ّ
وكأن هناك َم ْن يركض خلفي. درجتني درجتني،
أدخل إىل البيت برسعة ،ألقي بنفيس عىل الكريس اخلشبي املجاور للباب،
أمي نحوي ،تنظر إىل مالبيس امل ّتسخة والقطع عىل ركبتي.
هترول ّ
- -ما الذي حدث؟
ال أعرف بام أرد ،أخربها بأنيّ خائفة ،خائفة من العامل ،أشعر بأنّني هشّ ة وضعيفة
بعدما كنت أشعر بأنّني ال أحد.
127
- -انطقي ،هل مسك أحدهم؟
يف الشارع ،عن سيارات بال مقابض ،وأفكار يتجمدّ هلا عمودي الفقري.
ال تر ّد ع ّ
يل ،تنهض لتدخل إىل غرفتها من جديد ،أنا أنا ،فأنزل السالمل ببطء.
كان الظالم ال يزال معتماً ،لك ّني كنت جز ًءا منه ،أشري لـ «توك توك» صغري
ينقلني إىل الشارع الرئيس بال خوف.
قدمي ،ال
ّ ال ينظر إيل الصبي حتى ،أناوله بعض اجلنيهات وأكمل السري عىل
أحد ،أعود كام كنت ال أحد ،أجلس عىل مقعدي ال أحد ،ال يسألني أحد عن
التغيري املعاكس ،ربام اعتقدوين فتاة كاشري جديدة خمتلفة ،أظل ثابتة مكاين،
128
ملفاهتن التي ُكتبت فيها
ّ أدون أسامءهن ،أمنحهن
أجيب عن أسئلة العميالتّ ،
سيتوالهن من العاملني.
ّ طلباهتن ومن
ّ
تقف نادية أمامي وكأنهّ ا ظهرت من الال مكان كعادهتا ،تبتسم يل ،فال أقوى
حتى عىل ر ّد االبتسامة.
ّ
تلف نادية لتجلس بجواري خلف الكاشري ،تناولني قطعة بسكويت فآخذها
بحركة آلية.
•ماذا؟
ِ
أنت أحد بالنسبة يل ،إنسان ،امرأة مجيلة بشعرك ،باإليشارب بأي يشء.
أنظر إليها بال فهم ،متى حدّ ثتك عن كل هذه األشياء؟ تتناول يدي بني يدهيا،
129
قتتشبث هبا أكثر ،أتوقف عن املحاولة،
ّ تضغط عليها بقوة ،أحاول نزعها
أستسلم هلا متا ًما ،أشعر وكأهنا متدين بالثقة ،ال أبايل إن عرفني أحد أو ال،
يكفيني أنني أعرف نفيس ،أنا مهمة أمام نفيس وكفى.
أضحك من فكرة أنني كنت أرغب يف قتل نفيس من أجل غرباء ال أراهم
130
جيالن
أقف مستندة إىل احلائط يف غرفة البنات يف الدور العلوي ،أنتظر الزبونات
عليهن دفع الضعف،
ّ لكي أشذب حواجبهن ،من أجيل جيب
اخلصوصياتّ ،
غري إكراميتي.
ألوك علكتي بصمت ،وأنتظر ،تناديني رهيام التي تتولىّ تنظيم العمل هلذا اليوم،
فأتجّ ه إىل الزبونة اجلديدة.
أضع بعض العطر عىل يدي ،وأخرج فتلتي اخلاصة من درجي ،أرتدي النظارة
الطبية وأقرتب من وجهها ،وأبدأ عميل بصرب.
تتابعني الفتيات للتعلم ،يقفن جواري يشاهدن كيف أنزع الشعريات بالفتلة
131
فقط دون استخدام امللقط وال املقص ،أحف الشعر اخلفيف عىل جانبي الوجه
ً
بقشيشا وفوق الشفتني ،ال أجرح برشة ،ولو كانت برقة الورقة ،متنحني الزبونة
سخيا ،رسيعة ،شاطرة وخفيفة اليد.
ًّ
الطبية ،لتختفي املوجودات من أمامي ،وأعود إىل مكاين من
ّ أنزع نظاريت
جديد.
أمارس لعبتي ّ
املفضلة ،أخلع النظارة فيختفي اجلميع من أمامي ،أرتدهيا فال
أرى سوى منابت الشعر يف وجوه السيدات ،أنفصل عن العامل ،وأبتعد عنه
بإراديت ،أنبذ نفيس بعدما نبذين اجلميع.
فتاة بائسة ،بال جتارب عاطفية ،وال كلمة إعجاب تدغدغ أذين سوى يف أحالم
يقظتي.
132
أعيش يف واقع موا ٍز طيلة الوقت ،فيه أنا أمرية األمريات ،أرتدي فساتني صيفية
خطفت قلب الباشا إذن؟ يف عاملي أنا زوجته يو ًما ،نتناقش حول مصاريف
األوالد وطلبات البيت ،وعشيقته يو ًما ،أتق ّلب معه عىل رسير مشتعل يف غرفة
أنا غارقة يف أحالم يقظتي منذ الطفولة ،منذ كنت أجلس يف الصف األخري يف
الفصل ،نظاريت السميكة امللحومة ،ذراعاها عىل وجهي املرتب ،شعري ثائر
ّ
ألن أمي ال متلك الوقت الكايف لترسحيه يل قبل الذهاب إىل املدرسة.
أهنض بنفيس ،أرتدي مالبيس ،أمر عليها وهي جتلس أسفل البيت ،تفرد
فرشتها مع بداية السوق ،تبيع أمي الشباشب يف السوق أسفل بيتنا ،جتلس
133
ّ
لتتمكن من زوجا أو اثنني
بخامرها األزرق ووجها املتعب ،تدعو اهلل أن تبيع ً
إطعامي اليوم.
أجري إىل املكتبة ،أشرتي القلم امللون اجلميل ،بسنونه ذات الرؤوس البيضاء،
وأدسها يف مؤخرته ليظهر السن الذي يليه.
ّ التي كلام انتهى أحدها أخرجها
أبتسم بفخر ،وأمحله يف يدي وكأنّه إعالن عن قدريت عىل مواكبة اجلميع.
134
أخاف أن يسمعوا صوت أ ّمي لك ّنهم ليسوا يف حاجة لذلك.
تضحك ع ّ
يل الفتيات ،يسقط م ّني القلم السنون اجلديد عىل األرض ،تتناثر
السنون التي أدفعها من اخللف كلام انتهت ليخرج يل سن جديد.
مشمئزة :ابتعدي
ّ أنزل أسفل ّ
الدكة ،أبحث عنه ،أرفع قدم الفتاة أمامي فترصخ
ع ّني.
135
السن فتكرسه ،يتلف قلمي قبل أن أسعد به ،أبكي بشدّ ة ،وال أحد
تدوس عىل ّ
يراين.
ّ
يرن اجلرس فيخرجون ،وأبقى أنا جالسة وحيدة أحاول إصالح قلم انتهى
قبل أن يبدأ.
الواقف دائماً هناك ،أ ّما أنا فأسري حتى فرشة أ ّمي للجلوس بجوارها.
يل الفتيات يرشن إ ّيل ويضحكن ،أجتاهلهن ،وأق ّلب يف الشباشب أمامي.
متر ع ّ
ّ
أرضا فال أرى ،أتو ّقف عن رؤية ضحكات
الطبية السميكة ،ألقيها ً أنزع ّ
نظاريت ّ
الفتيات ،والسوق املزدحم ،وأ ّمي بخامرها األزرق ،ومالبيس امل ّتسخة وشعري
األشعث.
تتحول فيه أ ّمي إىل ملكة ،وشباشبها إىل أحذية متأل اخلزانات،
أغرق يف عامل آخر ّ
وأجرهبا خارج القرص ،تقف الفتيات يتأ ّملن مجايل ،وفستاين،
ّ ّ
ألف بينها
السنون ،واملامحي املعطرة برائحة الفواكه ،واملساطر الزجاجية التي تسبح فيها
136
السمكات الصغرية والنجوم الالمعة ،واملقامل التي تعمل باألزرار ،واحلقائب
ملونة عىل ظهرها ،وكل «استيكرزات» العامل.
التي حتمل ساعة بعقارب ّ
ال تزال أ ّمي جتلس طيلة النهار عىل فرشتها ،لك ّني تع ّلمت أ ّ
ال أخجل من
بعضهن
ّ أتع ّلم كل يشء وحدي ،أتابع البائعات يف مدخل البيت يفتلن وجوه
مرة.
ألول ّ
منهن تعليمي ،أمسك الفتلة ّ ً
بعضا ،فأطلب ّ
تع ّلمني كيف أعقدها مرتني حول أصابعي ،أضع الطرف اآلخر يف فمي،
وأمرر اخليط احلاد برسعة أسفل اجلذر عكس االجتاه فتخرج بسهولة،
وأشدّ ّ ،
أجرب عىل يدي وساقي ووجه أمي ،حتى ّ
أمتكن تصبح الفتلة لعبتي األثريةّ ،
من تشذيب حاجبي بنفيس أمام مرآة.
أمتيز بقدريت
حواجبهنّ ،
ّ أزداد د ّقة كل يوم ،تأتيني البائعات يف البيت ألشذب
عىل رسم احلواجب كالف ّنانني ،يمنحنني اهلدايا من الفواكه واخلضار ،ربام قطعة
137
فأحتول من جيالن
أجرب تطوير مهاريت ونقلها إىل املدرسةّ ،
مالبس أو بيجاماّ ،
املنبوذة ،إىل نجمة املرحلة اإلعدادية.
يف عمر الرابعة عرشة ،ما بني الطفولة واألنوثة كنت ال أزال أخطو ،ربام وضعت
بعض الكحل دون أن تعلم أمي ،ربام و ّفرت ثمن زبدة كاكاو محراء ابتاعها من
املحل املجاور ألصبغ هبا شفتي ،ربام كنت أجيد الفتلة بالفعل ،لك ّني إىل اليوم
ال أعرف إن كان هذا هو الذنب األسايس ،أم ّ
أن هناك شيئًا آخر مل أعرفه.
املدرسة يف احلماّ م ،ال نفعل شيئًا سوى تبادل خدمايت ببعض النقود التي
تضبطنا ّ
التحرر من كيس أ ّمي الضئيل املربوط دو ًما إىل صدرها ،لك ّنها ترى هذا
ّ تتيح يل
كاف ًيا لكوين «مش مرتبية».
138
اجلميع ينظر إ ّيل ،الفتيات يطللن من الفصول عرب األسوار احلجرية العالية،
يتابعن فضيحة الفاجرة «بتاعة الفتلة» ،كام سيطلقون ع ّ
يل لفرتة طويلة ،ربام إىل
اليوم.
أحلم بأن نتبادل األماكن .أقف أنا هناك وسط األصص اململوءة بالورود
شباك مغلق بقضبان حديدية وكأنّنا سنهرب.
امللونة وتقف هي مكاين يف ّ
ّ
أشعل سيجارة منحتها يل ُمنى يف حلظة صفا ،وأعيد ّ
تذكر هذا اليوم.
تشدّ ين من يدي إىل البيت ،أ ّمي بوجهها املتعب احلزين كام هو ،دون أن تتغيرّ
نظرهتا وال انفعاهلا حلظة ،ترضبني بكلتا يدهيا ،اللعاب فقط يتناثر من فمها،
فال أملك إال اإلشفاق عليها ،أحاول مدارة وجهي بيدي ،بينام تصعد النسوة
البائعات من السوق ،يصدّ هنا ع ّني.
139
- -روقي بالك يا أم جيالن ،الفتاة صغرية وطائشة.
ال تعرف أ ّمي ماذا فعلت بالضبط ،أحاول أن أرشح هلا أنّني مل أفعل سوى
تشذيب حواجب الفتيات وقبض الثمن ،لك ّنها ال تسمعني ،ربام اعتقدتني
أسمع صوهتا قاد ًما مع أخريات ،يرسن ببطء وكأنهّ ن خيفن إصدار صوت،
بقوة وال أعرف سب ًبا للكهرباء التي مألت اجلو فجأة بالتوتر ،أحاول
يدق قلبي ّ
لكن يد أ ّمي كانت األسبق ،تعيدين إليه بيد صارمة
النهوض من الفراش ّ
وتتمتم :اصربي يا جيالن ،دقيقتني وينتهي األمر.
ّ --
أي أمر؟ ما الذي ستفعلنه؟
140
بقوة إىل الرسير ،بينام جتلس الثالثة أمام
كتفي ّ
يثبتن ّ
جتلس امرأتان خلف رأيسّ ،
قدمي ،تساعدها أ ّمي عىل خلع رسوال بيجامتي ،ومالبيس الداخلية ،تزيح
َّ
ّ
لتتمكن من الرؤية ،أذكر وجهها املتص ّلب ،وال مباالهتا وكأنهّ ا النقاب بيدها
حتضرّ وجبة اإلفطار ألوالدها ،أرصخّ ،
أمتكن من فهم ما الذي حيدث ،كانت
ريا عن رضورة اخلتان ،تعدين بأكلة معتربة وعصري مانجو بعد
أ ّمي تتحدّ ث كث ً
االنتهاء ،أفرح هبذا الوعد كطفلة مسكينة ،إىل أن كربت وفهمت ما الذي
تتحدّ ث عنه بالضبط.
تعتقد أ ّمي أنهّ ا تقوم بتهذيبي ،أرفسها بساقي فتتشبث هبا أكثر.
- -ماما ،ال تفعيل ،مل يعد أحد يفعل هذا ،سأموت..
•لن متويتُ ،ك ّلنا ِعشنا بعدها ،هل تصدّ قني التلفزيون؟
- -أرصخ أكثر ،أشعر بصويت خيتفي مثلام حيدث يف كوابييسّ ،
أهز رأيس
حتى تسقط ّ
نظاريت عىل األرض ،ختتفي الرؤية من حويل لك ّني أشعر
املمرضة التي جلبتها أ ّمي من مستشفى شعبي
بكل يشء ،تفتح ّ
وجتز جز ًءا من
رفيعا ّ ً
مرشطا ً صغري يف هناية الشارع حقيبتها ،تخُ رج
جسمي دون خمدّ ر ،يغشى ع ّ
يل من األمل ،وال أفيق سوى عىل نار
مؤملة تتصاعد يف جسمي.
141
التبول أو احلركة ،تتعجب أ ّمي من
أبكي ثالثة أيام يف حجريت ،غري قادرة عىل ّ
بكائي ،ومن رقادي الساهم عىل الرسير بال حراك.
الشباك املواجه يل ال يظهر سوى بقعة ضئيلة من السامء الزرقاء ،أ ّثبت نظري
ّ
ويتوسع ،وكأنّني أسري داخل
ّ الضعيف عليها ،الرؤية ضبابية جتعل الشباك يمتدّ
السامء ،أحلم بعامل آخر ٍ
بعيد عن املدرسة وعن البيت وعن الشارع ،لك ّني ّ
مقيدة
بأملي ،ال أقوى عىل اهلرب.
ّ
الصف أتعاىف بعد أيام ،تنتهي فرتة رفدي وأعود إىل املدرسة ،أعود إىل مكاين يف
األخري كمنبوذة بعدما تو ّقفت عن فتل حواجب الفتيات ،وانتهت أمهيتي
هلن.
ّ
لك ّني أنتظر حتى االنتقال للثانوي الصناعي.
أحب امليش كل يوم ذها ًبا وإيا ًبا املدرسة بعيدة عن البيت ،يف شارع هادئ ٍ
راقّ ،
وحدي ،أغرق يف عواملي اخلاصة.
142
واسعا عاري الكتفني ،ونسامت اهلواء تطيرّ
ً أستطيع التن ّفس ،وأرتدي فستا ًنا
شعري.
كنت ّ
أمر عىل مركز الباشا الذي يتم حتضريه يف طريقي كل يوم إىل املدرسة،
سنة بأكملها أتابع طالءه وجتهيزه وتركيب األبواب والنوافذ الزجاجية،
والتطعيامت اخلشبية باألرابيسك مثل القصور.
أشاهد الباشا يقف أمام املكان يتابع بصمت ،يقف معه مساعدوه أحيا ًنا.
ّ --
أي خدمة؟
يفاجئني الباشا باحلديث وأنا أنظر إليه مبهورة ،أرتبك ،ال أعرف بام أرد.
143
- -ممتازة؟ بكل ثقة؟
جربني.
•نعمّ ،
- -حسن ًا لكن ليس اآلن ،يمكنك العودة بعد أسبوعني ،سأحتاج إىل
أعود إىل البيت وقلبي يرقص ،أسبوعان فقط يفصالنني عن هذا املكان الشبيه
بقصور أحالمي ،عن الباشا الذي يبدو كفرسان احلواديت ،املكان المع بشكل
صعدت إىل الطابق العلوي ،س ّلمني الباشا تيشريتني كـ «يونيفورم» ومريلة
144
مرة ،أملك أدوات وأمهية ومنص ًبا ،ومكا ًنا
ألول ّ
كنت أشعر أنّني أملك شيئًا ّ
أعيش وأعمل فيه بكل فخر ،وليس خفا ًء يف دورات املياه القذرة يف املدرسة.
األول مع نقود اإلكراميات هات ًفا حدي ًثا بكامريا ،حتى هذا
اشرتيت بمرتّبي ّ
الوقت كنت أملك هات ًفا صغ ً
ريا باألزرار ،اشرتته يل أ ّمي بعدما دخلت املدرسة
الثانوية الصناعية ،التي حصلت عىل دبلومها وأنا أعمل يف هذا املركز.
تكبرّ ت عن صديقات املدرسة منذ أن عملت ،أ ّما أ ّمي فلم تصدّ ق أنّني قادرة
عىل اإلتيان بكل هذه األموال من الفتلة ،حتى فرشتها صارت جمرد هواية،
جتلس عليها لتبادل األحاديث مع البائعات ،وليس للرزق اجلدّ ي.
145
أمسك اهلاتف بني يدي ،ألتقط يل الصور يف كل مكان ،يف البيت ،أمام املَ َرايا،
يف الكوافري ،مع الزبونات ،مع الفتيات ،حتى الباشا وقف حلظة إىل جواري
مبتسماً وأنا ألتقط صورتنا ً
معا.
تنهض متململة من خلف املكتب ،تتناول م ّني بطاقة الذاكرة ،وتضعها يف
القارئ العتيق الذي مل يعد أحد يستخدمه ،تضبط الصور عىل الشاشة وترسلها
جلهاز الطابعة.
طبعا.
•ألوان ً
- -بالتأكيد ،القمر األشقر جيب أن تطبع صوره باأللوان..
حيمر وجهي خجلاً ،أرصخ فيها بأنّني أطبع الصور لدراسة ترسحيات الشعر.
ّ
وهتز رأسها بال اهتامم.
تلوك علكتها بفمها املفتوح ّ
146
- -طبع ًا طبع ًا..
أنتزع منها األوراق بعنف ،وألقي هلا بام طلبت ،أهرع من جديد إىل الكوافري،
الضيقة التي ّ
تطل عىل املنور ،أمام ّ إىل مكاين املنزوي يف غرفة البنات ،الرشفة
دفرتي هو يف األصل أجندة وزّ عها علينا الباشا ضمن اآلالف التي وزّ عها يف
كل أنحاء املدينة بمناسبة السنة اجلديدة كام يفعل كل عام ،دعاية حتمل صورته
يقف خلف رأس عروس مرتفع بالترسحية العالية ،أتأ ّمل وجهه اجلميل حلظة،
ثم أفتح الدفرت للصق الصور اجلديدة ،كان هذا هو متنفيس اخلاص ،صوره
أقصهام وألصقها بجوار بعضهام ً
بعضا ،مقرتبني ،متالصقني كام وصوريّ ،
نستحق أنا وهو أن نكون.
التخيل وحده جيعلني قادرة عىل املواصلة ،لكنه يف ذات الوقت يزيدين عزلة
147
ً
وإحباطا ،أضع مئات السيناريوهات التي يمكن أن جتعل هذا ممكنًا ،ثم أستيقظ
عىل جتاهله ،أو مداعبته املستمرة جليجي ،فينكرس قلبي.
كانت االبتسامات الشامتة حادة وقاطعة ،أكاد أراها عىل الوجوه املبهمة
املتشاهبة أمامي.
أنظر إىل فتاة الكاشري التي نسيت اسمها ،لك ّنها تبدو يف عامل آخر ٍ
بعيد ،أقول
صباح اخلري ألقرب كيان بجواري ،لك ّنه ال ير ّد ،يبتعد وجسمه ّ
هيتز أكثر
بابتسامة مكتومة.
148
يف منتصف طريقي إىل الطابق األعىل ،تدوي أغنية «عبايل حبيبي» بصوت
عال ،يقشعر جسدي ،وأشعر بالشعريات تنتصب أسفل رأيسُ ،أ ِ
رسع اخلطى ٍ
املقيت.
تتحول خطوايت إىل جري ،أرسع لركني املنزوي ،أمد يدي إىل حيث الدفرت،
ّ
فال أجده.
كانت الدنيا تدور يب ،أرتدي نظارايت ،وأبحث أكثر ،أمدّ يدي إىل أسفل
الكريس ،وأمامي يف الرشفة املجاورة ،تسقي اجلارة نصف النائمة الزرع وهي
ساقاي ترجتفان وأنا أسري ببطء إىل مكتب الباشا ،كنت أراهم اآلن بوضوح،
متيل ع ّ
يل فتاة من الفتيات وهي تغ ّني أغنية إليسا بصوت أخنف ،أدفعها بيدي
تقف نادية أمامي ،حتاول إمساكي بيدهيا فأدفعها هي األخرى ،تستند عىل ظهر
149
كريس مرتفع قبل أن تسقط ً
أرضا ،ال أبايل هبا رغم أنهّ ا الوحيدة التي مل تكن
تضحك.
هناك ،أمام مكتب الباشا ،كنت أرامها بوضوح ،هو وجيجي جيلسان متالصقني
خلف املكتب ،يتص ّفحان دفرتي الذي أعرف أنّه هو دون حتى إلقاء نظرة
مقربة ،ويضحكان.
ّ
املحمر الساخر هيتز بال
ّ كانت عيناها دامعتني من كثرة الضحك ،وهو بوجهه
صوت ،ينتهك خصوصيايت بال مشكلة ،يسخر من مشاعري علنًا أمام احلائط
أرى شفتيه تر ّددان اسمي ،يناديني فأستدير إىل الناحية املقابلة ،أخلع نظارايت
الضيقة ،آخذ
ّ برسعة وكأنّني أدفن رأيس يف الرمال ،أعود إىل الغرفة يف الرشفة
كانت نسامت الصباح ال تزال حانية ،الشتاء يو ّدعنا هبدوء ،وإليسا يف الداخل
تغ ّني أواخر ِّ
الشتا.
سيعود اجلميع إىل أعامهلم بعد قليل ،وسأبقى أنا ،ينقصني جزء جديد من
150
متزقه املشارط ،وإنام قسوة اآلخرين التي ال ختتلف شيئًا ،ضحكاهتم
جسمي ،مل ّ
اخلفية.
الباردة ،وشامتتهم ّ
أنظر إىل قعر املنور الذي يبدو ال هنائ ًيا بال ّ
نظاريت ،أتذكر «أليس يف بالد
العجائب» وهي هتوي إىل عامل آخر ٍ
بعيد وساخ ٍر ،أضع قدمي عىل الكريس
آخذ نفس ًا آخر ،تنقصني خطوتني ألنتقل إىل عاملي الثاين البعيد ،أحالمي غري
املمكنة ،كل ما أبغاه ،مكان مجيل برائحة النعناع والرحيان ،هادئ ،ساكن،
مؤخرة
تتشبث يب نادية أكثر ،كانت تبكي ،أسمع نشيجها وهي ختفي أنفها يف ّ
ّ
رأيس .أحاول نزع يدهيا فال أستطيع ،تضغط ع ّ
يل أكثر ،فأستسلم ليدهيا القو ّيتني
ّ
وكأن قلبي أشعر باخلفة ،أحترر قليلاً ،ختتفي ّ
الغصة يف حلقي ،أشعر باالكتامل،
151
أتعجب ممّا كنت ّ
أفكر فيه منذ دقائق ..كيف جاءت ينمو جمدّ ًدا داخل صدريّ ،
هذه الفكرة إىل رأيس ولمِ َ؟
أدير رأيس إىل نادية ونحن ال نزال راقدين عىل األرض ،كانت ال تزال ختفي
ألول ّ
مرة حتى وجهها يف ظهري ،لك ّنها عندما رفعته ،كنت أراها بوضوح ّ
بدون النظارة.
أرى مالحمها اهلادئة احلزينة ،هناك جتاعيد رفيعة غزت أسفل عينيها وجانبي
فمها.
152
أم لوسيندا
أما اسمي قبل جميئها فقد اقرتبت من نسيانه ،أتذكره فقط عندما يرسل يل الباشا
مظروف راتبي الشهري ،رغم أين أخربته ألف مرة أن يكتب عليه أم لوسيندا،
153
نظيفة ،أنا أهم عنرص يف الكوافري ،دائماً براق ،يلمع ،هذا اللمعان الذي خيطف
عني من يدخله كل مرة.
الباشا ال يستغنى عني ،منذ اليوم األول الذي جلبني فيه جمدي زوجي إليه
للعمل ،جمدي نفسه يعمل حارس األمن عىل الباب ،وهو ً
أيضا َم ْن ينظم
السيارات باخلارج ،سيارات الزفة لعرشين عروس يف اليوم يمكن أن تسبب
أزمة حقيقية لوال وجود جمدي.
ألنني أفضل عاملة ،يسمح يل الباشا بجلب لويس معي ،أتركها مع البنات يف
غرفتهن بالطابق األعىل ،اجلميع حيب لوسيندا ،كيف ال ،وهي أمجل طفلة يف
العامل ،هادئة ومطيعة ،ال تفعل شيئًا ،مل تعذبني ال يف محلها وال يف والدهتا.
ِ
حيميك يا لوسيندا ،جئتني بعد شوقة. الرب
أنجبتها يف األربعني ،مل يصدقني جمدي وأنا أخربه بأنني حامل ،هو نفسه
تزوجني يف اخلامسة واخلمسني بعدما اكتشف فجأة أنه عاش عمره كله دون
زواج.
يعيش جمدي يف بيت من طابق واحد ،بناه بنفسه عىل سور السكة احلديد
أمام سجن املدينة ،متتد البيوت املبنية بدون ترخيص عىل امتداد هذا السور
بال رقيب ،ال أحد يتعرض هلم ،حمميني بحامية السجن نفسها ،بينام أجتول أنا
154
بني الزائرين الواقفني يف حرارة الشمس يف انتظار البوابة لتفتح ،أبيع املناديل،
وحبات التفاح الصغرية املغطاة بالكراميل يو ًما ،أو بعض ثامر اجلميز ،أو
أي يشء جتود به الدنيا واملزارعون يف قريتي ع ّ
يل به ،لكسب التوت يف الربيعّ ،
قوت اليوم.
أجلس بالطشت املعدين الصغري الذي حيوي ما أبيعه أمام باب بيت عم جمدي
كام أناديه ،يسمح يل باجللوس يف الظل يف انتظار الزائرين قبل الزيارة وبعدها،
كان املكان مثال ًيا ،أبيع ما معي يف ساعتني زمن ،ثم أعود إىل قريتي من جديد.
يف أيام العطالت ،أعمل يف تنظيف املنازل ،أكايفء طيبة عم جمدي بتنظيف منزله
يف أعياد القيامة وامليالد بالذات ،بيته مبني من الطوب واخلشب ،ساحة صغرية
وضع هبا مائدة ومقعدين وجهاز تلفزيون ،ثم سلم مصبوب من اخلرسانة بال
سور ،يصل إىل الدور الثاين الذي هو عبارة عن غرفة واحدة هبا رسير متهالك
ودوالب وكنبة اسطمبويل قديمة.
ال يأخذ التنظيف سوى ساعتي زمن ،أمسح األرض بالفنيك ،وأعيد ترتيب
األثاث القليل ،أشد املالءة عىل الرسير ،وأضع له بعض الورد البلدي الذي
أبيعه يف األعياد ،ينظر إليه ويبتسم ،يقول البيت خمتلف بوجودك يا ست يا
رتيبة.
155
حتمر وجنتاي املرشطتني بفعل الزمن ،أربط اإليشارب األسود الصغري عىل
رأيس للخلف بإحكام وأرد ،اهلل يكرمك يا عم جمدي.
أمر عىل البيوت املجاورة ،أنظف هذا املنزل ،أغسل الصحون ملنزل آخر،
«أزغط البط» ملنزل ثالث ،أقوم بأ ّية مهمة ُتوكل إ ّيل ،ألعود آخر النهار ببعض
اجلنيهات ،التي أضعها يف يد أخي الذي أقيم معه يف داره ،يف قرية صغرية عىل
ريا ،حتى أنني ال أركب أ ّية مواصلة ،أميش
مشارف املدينة ،ال تبتعد عنها كث ً
قدمي كانتا
َّ بقدمي يف اخلف املسطح املتهالك ،وكأنني أسري حافية ،لكن
َّ املسافة
قد تعودتا عىل هذه املشقة من زمن ،حتى أهنام قد كونتا طبقة صلبة ،ربام أصلب
من اخلف ذاته.
أعيش مع أخي عوض ،وزوجته وأطفاله ،يف دار صغرية فقرية ،هي دار أبانا يف
األصل ،تزوج أخي فيها وأنجب وعاش ،مل أسأله عن إرث بعد وفاة والدانا،
وهل يرث الفقري الفقري؟ يكفي أنه يرتكني أنام عىل فرشة يف الفسحة الصغرية
اخلارجية ،بينام حيتشد هو وزوجته والصغار يف الغرفة الداخلية اخلانقة.
هناك عشة ملحقة نريب فيها بعض الدواجن والبط التعيس الذي ال يرس
الناظرين مثيل متا ًما ،وكأهنا صفة موروثة يف عائلتنا حتى إىل احليوانات التي
تعيش حتت سقفنا.
156
أستيقظ من الفجر ،أحاول أن أكون خفيفة دائماً ،أغادر من الصباح؛ سع ًيا
للرزق متا ًما كام يفعل أخي ،نحن أرزقية عىل باب اهلل ،ال نستقر عىل عمل،
لكننا ال نعود إىل بام يسد رمق األطفال.
مرة.
•نعم،أريد أن ائتنس بك يا ست رتيبة ،الوحدة ّ
كنت قد لغيت فكرة الزواج من عقيل ،هل يعقل أن تعود إ ّيل اآلن؟ أقرتب
من األربعني بثبات ،حتى أن الشعريات البيضاء بدأت يف الظهور من أسفل
اإليشارب األسود الذي أعصب به رأيس دائماً كالعجائز.
أنظر إىل عم جمدي بشكل خمتلف ،كنا نقف أمام بيته يف الصباح الباكر ،أمحل
«مشنة» هبا بضعة كيلوات من العنب األمحر ،استطعت رشاءها من املزارعني
مكس
بزي العمل ،قميص لبني رّ
لبيعها اليوم أمام السجن ،وكان هو يقف ّ
157
وجيها رغم
ً ً
حرشا يف رسوال أسود يشده فوق كرش عظيم ،كان يبدو حيرشه
كانت االبتسامة مرسومة عريضة عىل وجهي اآلن ،طلبت منه أن ينتظر
ألحدث أخي ،وتركني هو ليذهب إىل العمل ،مل ينس أن يرتك يل مفتاح بيته،
أمسك املفتاح يف راحتي وكأنني ملكت الدنيا ،هل يمكن أن أحظى اآلن
بعد كل هذا العمر ببيت وزوج وحياة ،بيت كامل ورسير بعد عمر كامل من
الفرش عىل األرض؟ أريكة وتلفزيون بل وصليب معلق عىل احلائط يمكني
تلمسه بدلاً من الصليب املرسوم يف نتيجة عتيقة هبتت ألواهنا املعلقة عىل حائط
وكأنني كنت يف حلم غريب ،وكأن كل يشء حيدث لواحدة أخرى غريي ،فيلم
عريب كاألفالم التي أشاهدها وأنا أنظف البيوت ،يبدو أن طاقة النور انفتحت
قدمي.
َّ يل ،بركات العذرا تلفني من رأيس إىل
أقف وسط الصالة الصغرية دون أن أيضء اللمبة الصفراء املتدلية من السقف،
158
بصيصا من النور النظيف املميز للصباح
ً الشباك املطل عىل السجن يدخل
الباكر ،ونسامت لطيفة حتيط يب.
مفتوحا منذ
ً يعود عم جمدي من عمله آخر النهار ،أقف بجوار الباب الذي تركه
دخوله ،جيلس عىل املائدة التي وضعت عليها طب ًقا من األرز وآخر من اخلضار
رسيعا ،يكاد يطري من الفرحة بوجود غذاء ُمعد وجاهز فور
ً قمت بإعدادمها
وصوله ،يسألني واألرز يتطاير من شدقيه:
كنت أشعر بخجل مل أشعر به من قبل ،وكأنني عدت إىل عمر السابعة عرش،
خيربين أنه سيزورنا غدً ا ،أرشح له بالتفصيل العنوان الذي يتلخص يف اسم
القرية ثم السؤال عن دار عوض.
أسري إىل البيت دون الشعور بالوقت ،دون االهتامم بالظالم ،دون إلقاء قطع
احلجارة التي أمحلها دو ًما معي عىل الكالب الضالة اتقاء هلا ،اليوم أنا متساحمة
مع كل الكائنات ،فقط لو تسري كل األمور هكذا بسهولة ويرس.
159
فورا أن هناك شيئًا ما غريب يف.
أدخل إىل الدار فتعرف زوجة أخي ً
تنظر إيل وترفع حاجبيها ،أقرر جتاهل تعبريات وجهها املتعجبة وأرجوها أن
تفاتح هي أخي ،أخربها بأنه يعرف عم جمدي جيدً ا.
يدخل أخي من باب الدار يف اللحظة نفسها ،يضع جوالاً حيمله عىل كتفيه
ً
ملتقطا أنفاسه ،تسارع رجاء ملساعدته ،يسألنا فيام تتودودان.. ً
أرضا وجيلس
160
ينظر إ ّيل عوض بدهشة..
أقف أمامه بخجل رغم أنني أخته الكربى ،أمتتم باسم عم جمدي فقط دون
أنني أريد فراش وأريكة ونافذة وتلفزيون ورجل أعد له غذاءه ،إنني تعبت
من السري كل يوم من الفجر سع ًيا للرزق ،وإنه رجل قوي وقادر عىل إطعام
أهل بيته.
لكني قبل أن أفتح فمي بكلمة ،كان ينهض من مكانه ،يعانقني بقوة ،يقول
كانت رجاء تنظر إليه دون أن جترؤ عىل قول يشء ،أما أنا فكانت دموعي تسيل
ذراعي حول أخي الذي ال أذكر متى أحتضني آخر مرة ،ال
َّ بال صوت ،أشد
161
مل أكن قادرة عىل حتملها ،لكني رسعان ما اعتدهتا ،بينام تسري األيام بسهولة
ويرس كام متنيت.
يتفق جمدي مع أخي عىل كل يشء ،نتجه إىل الكنيسة القريبة يف املدينة لعقد
اجلبانيوت ،يشرتي يل جمدي دبلة ذهبية حقيقية ،أضعها يف يدي غري مصدقة،
ويشرتي لنفسه واحدة ،كام يرص عىل رشاء سلسلة من الذهب الصيني من
املحل عىل ناصية شارع الصاغة ،اختارها عىل شكل صليب صغري ،يعقدها
هو حول رقبتي.
كنت قد ختليت عن اإليشارب الصغري ،وتركت رجاء متشط شعري وتضع يل
بعض املساحيق ،كنت أشعر بالفعل أنني مجيلة وكان جمدي يراين كذلك.
مل يكن هناك يشء لننتظره سوى وثيقة املوافقة عىل الزواج من الكاتدرائية؛
لذا قضيت الوقت يف جتهيز بعض املتاع القليل الذي هادتني به اجلارات،
كام منحتني رجاء بعض من جهازها ،وأشرتيت أنا بعضه اآلخر بمدخرايت
القليلة.
أنتحي بعوض جان ًبا أسأله عام سيفعل بعد انقطاع دخيل يف البيت ،خيربين أال
أقلق ،وأن أهتم فقط بسعاديت ،لكني كنت أفكر باالستمرار يف العمل بعد
الزواج ومساعدته ،بالتأكيد لن يامنع جمدي ،فهو طيب وابن حالل.
162
يف يوم الزفاف ،جاء جمدي الصطحايب يف سيارة أحد العاملني بالكوافري الذي
أرص عىل أن يزفه بنفسه ،كان يرتدي بذلة سوداء ضيقة يبدو أنه استعارها من
أحد األصدقاء ،لكنه بدا يف غاية اللطف ،أما أنا ،فأجرت فستا ًنا أبيض من
حمل قريب متعهد بأفراح قريتنا ،أركب إىل جوار جمدي السيارة املزينة بالورود
كأنني أمرية ،لننطلق إىل الكنيسة لعقد اإلكليل.
مل نقيم حفلاً بعدها ،لكننا ذهبنا إىل مقهى قريب من الكوافري القديم ،علمت
فيام بعد أن احلاج نفسه هو من قام باحلجز لنا فيه كهدية زفاف ملجدي ،هناك،
كان بعض العاملني ينتظروننا لالحتفال ،بينام حلق بنا أخي وزوجته وأطفاله.
رسيعا.
ً حتى احلاج جاء بنفسه مع ابنه ليبارك لنا
احلقيقة أنني شعرت بأنني هانم حقيقية ،لقد انتقلت من مستوى إىل مستوى
آخر جديد ع ّ
يل ،كنت منتشية بالفرحة ،حتى أنني شعرت بعدها وكأنني
بالتأكيد أخذت نصيبي كله من السعادة يف هذه األيام ،فكان حتم ًيا أن حيدث
يل كل ما حدث ،لكنني رسعان ما أطرد أفكار الشيطان هذه من عقيل ،وأعلم
أن كرم الرب ال يفنى ،وعطاياه ال تنتهي.
عندما علمت أنني حامل ،فهمت مجلة «كاد قلبي أن يتوقف» التي نقوهلا يف كل
موقف تافه ال يقارن.
163
فوهتا القلب بالفعل ،بعدما أخربين الطبيب يف
هذه املرة أشعر أن هناك دقة قد ّ
طواريء املستشفى اإلنجييل بالكلمة.
كنت قد توجهت إىل الطواريء بعد ذهاب جمدي إىل العمل بعد زواجنا بشهرين
متأخرا ،يقف بنفسه مع الباشا الصغري
ً مبكرا ويعود
ً أو أكثر قليلاً ،كان يرحل
ليرشف عىل العامل الذين يعملون عىل إهناء املركز الكبري املنتظر افتتاحه ،فلم
أرد إرهاقه باملزيد من العبء ،كنت أشعر باإلعياء والغثيان ،واعتقدت بأنني
مصابة بالربد الشديد ،أقول للممرضة بتثاقل:
تسألني عن آخر ميعاد للدورة الشهرية ،أخربها بأنني ال أتذكر ،مل أكن أختيل
ممكن ،تطلب عينة بول وتضع فيها اختبار للحمل ،تعود إىل
ٌ حتى أن هذا
الطبيب الذي يطلب عينة دم للتأكد.
يأتيني الطبيب بالنتيجة بعد نصف ساعة ،يقول مربوك ،فأكاد أفقد الوعي،
يكتب يل يف الروشتة بعض املقويات ،يقرأ يل األسامء واملواعيد فال أسمع شيئًا،
أتناوهلا من يده بيد ترجتف ،أميش بحذر وكأنني يف شهوري األخرية ،أقرر أن
أمر عىل جمدي يف الكوافري ألخربه.
ٌ
واقف وسط العامل والرمال واألسمنت ،العرق يغمر أسفل إبطيه كان هناك
164
ووجهه ،وشعره األبيض أكثر ً
بياضا بفعل الرتاب ،ربطة عنقه ملقاة عىل كتفه،
رائعا للغاية ،وأنا كنت أضحك
والقميص خيرج من رسواله بفوىض ،كان يبدو ً
بشدة حتى أنه التفت إىل صوت ضحكتي وأنا أقف بعيدً ا عىل رصيف املحل
املقابل.
جمدي عىل ركبتيه أمامي ويسألني ملهو ًفا عام حدث ،أخ ً
ريا أستجمع قويت
وأخربه باجلملة
مل ينطق جمدي بعدها ،صمت حلظتني ثم بدأ يقهقه بقوة معي ،يضحك ضحكته
املحرشجة التي أحبها ،يضحك ويسعل وأنا أضحك وأبكي ،والسيدة يف املحل
تضحك معنا وترضب ك ًّفا بكف.
الزلت أذكر جمدي وهو يقف يف منتصف الشارع أمامي وأمام العامل الكثريين،
165
وسط الرمل واألخشاب امللقاة وجبال الطوب وتالل األسمنت ،ويرقص
ً
فاحتا ذراعيه.
إذا سألتني عن أسعد ثالث حلظات يف حيايت ،ستكون هذه واحدة منهم،
الثالثة هي يوم طلبني جمدي للزواج ،واألوىل بالطبع يوم رأيت لوسيندا للمرة
األوىل.
مل تكن شهور احلمل سهلة ،كانت عذا ًبا شديدً ا حتملته بمفردي بدون شكوى،
كان جمدي حياول جاهدً ا مساعديت بكل الطرق ،بينام كان أخي مشغولاً بالسعي
عىل رزقه طول الوقت ،تأتيني زوجته يو ًما يف األسبوع ملساعديت بأعامل املنزل
ِ
أشتك قط ،كنت أصيل كل يوم وتغيب طويلاً انشغالاً بأوالدها ،لكنني مل
شكرا للرب عىل نعمته ،أتاين جمدي بصورة كبرية للعذرا حتمل طفلها ،أضعها
ً
أمام عيني وأحلم باليوم الذي سأمحل فيه طفلتي أنا األخرى.
وكأنني منذ أتيت إىل الدنيا كانت هذه هي مهمتي األسمى ،أن أكون ًّأما ،أم
لطفلة بالذات ،أسميتها من قبل أن تأيت ،ومل أبال بأن ختربين الطبيبة يف املستشفى
بجنسها يف الفحص الشهري ،ألنني كنت أعلم أهنا لوسيندا.
166
أرى لوسيندا وأشعر هبا من قبل أن تتكون ،أرى بطني تكرب أمامي ،أمسها
بحنان أعلم أنه يصلها ،يأيت جمدي كل ليلة ليضع أذنه عىل بطني ،ال يصدق أنه
هبذه الرسعة ،صارت له حياة ،وعائلة ،أنه مل يعد وحيدً ا يعيش يف صمت ،أن
هذا البيت مل يعد يرتدد فيه صوت القطار فقط ،وصوت التلفزيون الذي مل يكن
يشعله إال قليلاً ،اليوم سيملؤه صوت طفلة حقيقية ،تبكي وتلعب وتضحك
وتكرب وتذهب إىل املدرسة ،ربام يعيش ليزوجها ً
أيضا ،ويرى أطفاهلا وحيملهم
بيده.
ختربين الطبيبة أن فرصة الوالدة الطبيعية حمدودة يف سني هذا ،وأهنا حتماً
ستضطر إىل اللجوء للوالدة القيرصية ،أبتسم هلا وأخربها بأنني ال أبايل لو
قامت بشقي إىل نصفني إلخراج الطفلة ،املهم أن تأيت سليمة.
أيام أستعد فيها لوصوهلا ،أخيط هلا بنفيس فستا ًنا أبيض صغ ً
ريا ليستقبلها فور
والدهتا ،يشرتي هلا جمدي كنزة وردية ورسوالاً يناسبان فتاة يف عمر السنتني،
ريا عليه ،أخربه بأن مقاسهام كبري ،فيزجمر قائلاً إهنا حتماً ستحتاجهام
أضحك كث ً
طبعا ،أطبقهام وأضعهام يف الدوالب يف
ولو بعد حني ،أطيب خاطره وأقول ً
مكان واضح لريامها دو ًما ،حتى ترتدهيام له بعد عامني.
167
يف يوم الوالدة ،يأيت زميل جمدي من الكوافري بسيارته ليوصلنا ،اسمه ماجد ،هو
نفسه الذي زفنا يوم الفرح ،أقوله له يا وش اخلري فيبتسم خجلاً ،يربت جمدي
متوترا يدخن كل دقيقة سيجارة ويلقيها دون
ً شاكرا ،كان
ً عىل ظهره بعصبية
أن يكملها ،أرى يديه ترتعشان ،بينام أطبق أنا عىل الصليب املعلق يف عنقي،
أصيل إىل العذرا لتباركني وتبارك لوسيندا ،نصل إىل املستشفى فأدخل إىل
غرفة االنتظار وحدي ،أمحل بطانية كام طلبوا مني ،وأجلس بروب العمليات
األخرض ،وغطاء الشعر.
تدخلني املمرضة إىل الغرفة ناصعة البياض ،يرتكوين وحدي دقيقتني ،تدور
عيناي يف احليطان املغطاة بخزانات وأدوات غريبة ،إىل الكشاف الضخم املعلق
يف السقف ،فجأة أشعر بالعرشات حييطون يب ،أنام عىل الرسير ،يفردون ذراعي
عىل خشبتني كالصليب ،كنت مصلوبة كاملسيح متا ًما ،فزاد إيامين باقرتاب
خاليص ،حيقنوين باملخدر ويضعون القناع عىل وجههي فأغيب عن الوعي.
ثم أفيق..
168
أشعر بحركاهتم من حويل ،يدفعونني إىل املصعد فأحاول التحدث
•أشكرك..شكرا يارب..
ً
أشعر بالربد الشديد ،أرجتف بقوة حتى أن أسناين تصطك ،هناك أمل رهيب يف
ِ
أرجوك..بردانة بساقي ،أقول غطيني
َّ بطني وظهري ،ال أشعر
- -سأجلب ِ
لك بطانية أخرى..
أصل إىل جناح النساء ،حيملونني من الرتوليل إىل الرسير ،يضعونني برفق
لكنني أشعر أهنم يلقون يب من الدور العارش ،أرصخ فيبكي جمدي بجواري،
أنظر إليه وهو ينحني ليلثم يدي ،أربت عىل خده ،وأسأله عن الطفلة.
169
ورائعا ،استبدل
ً عندما دخلنا إىل البيت مع لوسيندا ،كان كل يشء مضيئًا
جمدي اللمبة الصفراء بأضواء النيون األبيض ،طىل البيت كله باللون األبيض،
وأشرتى مائدة جديدة بثالثة مقاعد وكأهنا ستشاركنا األكل من اليوم األول.
•ماذا؟
نظر إيل وابتسم ،بدا وكأنه يستطعم االسم اجلديد ،من يومها وهو يناديني بأم
لويس ،إال عندما نتعارك.
تتم لويس عامها األول وهي ال متنحني سوى الفرح ،ال أنام وال أتوقف عن
خدمتها لكنني ال أشتكي ،كان كل يشء له طعم جديد ورائع ،تفتح عينيها
170
الزرقاوين الكبريتني فتضحك الدنيا ،ينبت شعرها األشقر اخلشن ،فأتباهى
به ،وأبدأ بوضع التوك الصغرية وربطات الشعر امللونة.
أقيض بعض الوقت يف خياطة الفساتني امللونة ،أو حكاية احلكايات ،أو جتربة
اخلرضوات اجلديدة املهروسة ،والفاكهة املختلفة هلا.
حتى أتى اليوم الذي سألني فيه جمدي إن كنت أود أن أعمل معه يف الكوافري.
خيربين أنني سأكون ولويس إىل جواره ،سيحظى برؤيتنا أكثر بام أنه يعود ونحن
نائمون ويذهب ولويس نائمة ،أو ينام طيلة النهار ويذهب بالليل.
- -كام أن الباشا سيجزل ِ
لك العطاء ،يمكنك مساعدة أخيك كام كنت
تتمنني ،ويمكنك اصطحاب لويس ،ستتسىل بدلاً من اجللوس يف
البيت طيلة النهار.
أفكر جد ًيا يف العرض ،يضغط ع ّ
يل بورقة عوض ألنه يعلم أنه يف حالة متعثرة
وأنني أود مساعدته ،واحلقيقة أنني كنت أود ً
أيضا اخلروج من املنزل ،ورؤية
البرش.
أوافق عىل العرض وأبدأ العمل يف املركز الضخم املبهر ،أترك لويس يف غرفة
فورا ،من ال
البنات ،يتناوبن عىل االعتناء هبا ،يقع كل من يراها يف غرامها ً
يمكنه حب لوسيندا اجلميلة ،ال أعرف من أين ورثت هذا اجلامل ،لكن جمدي
171
يرص أن والدته كانت تتمتع بعيون ملونة وشعر أشقر ،فأهز رأيس موافقة حتى
ال يغضب.
أشعر أهنا جاءت مجيلة من كثر نظري إىل صورة العذرا ،كنت أمتنى أن تأتيني
فتاة مجيلة الروح مثلها ،ومجال الروح ينعكس حتماً عىل اخللقة ،كانت لويس
مجيلة وطيبة ،تداعبها البنات ويالعبنها ويشرتون هلا أكياس من احللويات،
بالذات نادية ،الفتاة اجلميلة السمراء التي متلك عرجة بسيطة يف ساقها ،كانت
شبه متفرغة ،لذلك كانت لوسيندا جتلس معها معظم الوقت يف غرفة الست
لكن لويس مل تكن تأكل كل هذا ،كانت ضعيفة للغاية ،وكنت أتوسل هلا أن
تأكل ،خيربين جمدي أن كل األطفال هكذا ،وأهنا حتماً ستزداد وز ًنا كلام كربت،
كانت ستكمل العامني خالل شهور ،لكنها مل تصل إىل الوزن املثايل بعد كام
أخربين الطبيب يف املستشفى عندما ذهبت إليه ليفحصها.
أشعر يف قلبي بأن هناك شيئًا غري طبيعي ،زاد القلق عندما نادتني إحدى
الزبونات لتسألني عن لوسيندا التي تسري خلفي ممسكة بطرف جلبايب.
172
- -هذه طفلتك؟
- -نعم
حتملها إىل ركبتيها ،تتلمس عنقها وخلف أذنيها ،تسألني عن االنتفاخ فيهام،
فأخربها أنني ال أعرف.
- -أنا طبيبة أطفال ،ربام عليك أن تفحيص الطفلة ،أين تذهبني عادة؟
خترج ورقة من حقيبتها وتكتب حرو ًفا باإلنجليزية ،تناولني الورقة ومتنحني
إياها ،تبتسم ملطفة األجواء.
- -ال تقلقي ،فقط أعطي الورقة لطبيبك ،فحص معتاد لألطفال حتى
ال نقلق
أشكرها لكني بالطبع أقلق ،هذا الشعور بعدم األمان يلفني وكأنني رصت
عارية فجأة أمام اجلميع ،أشعر أن قلبي يسقط يف بطني ،وتتجمع القطرات
الباردة عىل جبيني.
أعلم أن السعادة املستمرة أكذوبة كبرية ،هناك دائماً يشء ما حيدث ،يشء ما
يذكرك بأن احلياة ال يمكن أن متنحك كل يشء.
173
- -رب ال تدخلنا يف جتربة ،لكن نجنا من الرشير
اليوم ،ترتدي لويس الكنزة الوردية والرسوال األزرق اللذين اشرتامها هلا
ساقي ،تداعب أنفي وفمي بيدها
َّ أبوها قبل مولدها للمرة األوىل ،جتلس عىل
وتضحك ،أنظر إليها ،أمأل عيني بوجهها اجلميل ،يربت جمدي عىل ركبتي
مشجعا ،نجلس وحيدين يف الردهة شبه املظلمة ،أمامي لوحة خشبية مكتوب
ً
عليها آية من إنجيل يوحنا...
تَ ،ب ْل َأل ْجلِ جَم ِْد اهللِ ض َل ْي َ
س لِ ْل َم ْو ِ هذا المَْ َر ُ
َ
ً
ممسكا بأوراق ،يداعب شعر يقرتب منا طبيب صغري السن ،يقف أمام جمدي
لويس بيديه ،حياول رسم ابتسامة لكنه يعجز عن ذلك ،أفهم كل يشء دون
رشح ،خيرب جمدي بتفاصيل أصبحت بعد ذلك هي عاملي وحيايت ،خيربه عن
فورا إىل معهد األورام ،والبدء يف العالج ،وأن سنها الصغري
رضورة توجهنا ً
174
عيني ،هل
يساعد عىل رسعة الشفاء ،كان العامل يدور يب وحيايت كاملة متر أمام َّ
منحني الرب نعمته ليأخذها جمد ًدا وهبذه الرسعة؟
ينظر إيل الطبيب وجمدي فأكتشف أنني نطقتها بصوت عال ،أبكي بصوت عال
يرفع جمدي رسواله عىل وسطه ،يبدو وكأنه فقد نصف وزنه فجأة ،تزداد
ظهورا ،يأخذ مني الطفلة ليحملها هو ،يسري هبا أمامي وأنا
ً التجاعيد يف وجهه
خلفهام بكتفني مهدلتني ،كربت نصف عمري يف هذا اليوم ،إن ُسئلت عن أسوأ
ثالث حلظات يف عمري ،سأقول هذه اللحظة ،هذه اللحظة ،هذه اللحظة.
فرع ملستشفى األطفال للرسطان لكن الطبيب نصحنا بالذهاب إىل املعهد أولاً ،
يدرسون حالة لوسيندا جيدً ا ،وجيرون هلا حتاليل أخرى وأشعة عىل الصدر.
أطلب من جمدي أن يذهب إىل العمل ،ألننا سنحتاج إىل كل مليم اآلن ،أحاول
التامسك من أجل ابنتي ،أحاول التمسك بالقوة وباإليامن ،وأتذكر العذرا التي
175
محلت يسوع وغادرت من القدس إىل مرص دون أن تعرف مصريمها ،ال حتمل
يتفق األطباء عىل العالج الكيميائي املكثف ملدة شهر إىل شهر ونصف ،بعدها
ختربين طبيبة مهذبة ترتدي النظارات أن العالج يف حالة لويس نسبته عالية
- -يمكنها أن تشفى متا ًما خالل سنة ،بعدها ثالث سنوات أخرى من
ال أتوقف عن الشكر والدعاء هلم ،أشعر أنني ال أفهم أي يشء ،لكنني أترك
هلم لوسيندا ليفعلوا هبا ما يشاءون ،كانت تتأمل وكنت أنا أتأمل أكثر ،أود أن
- -يارب انقل إ ّيل أملها يا رب..ياعذرا خففي عنها من أجل يسوع
خيربين األطباء أنني سأضطر للسفر كل أسبوع مرة واحدة إىل معهد األورام
الرئيس يف القاهرة ،كانت الكلمة مرعبة بالنسبة يل ،مل أذهب إىل هناك قط ،وال
أعرف حتى كيف يذهبون ،لكن الطبيبة تأخذين من ذراعي إىل سيدة جتلس
176
بجوار طفلها الذي يتلقى جرعته يف الوريد ،تقول يل إن األمهات واآلباء
واسعا
ً وقميصا
ً أجلس إىل جوار السيدة الشابة التي ترتدي رسوالاً من اجلينز
وحجا ًبا أبيض ،تسألني عن حالة لوسيندا فأخربها بام فهمته ،تكتب اسمي
واسم لوسيندا يف كتيب صغري حتمله ،تقول سأحجز ِ
لك تذكرة يف القطار،
معا عربة واحدة حتى نأتنس ،ويف املحطة ينتظرنا آباء آخرون
نحن نركب ً
بأتوبيس للذهاب إىل املعهد.
تطلب مني ثمن التذكرة فأناوله هلا ،تؤكد عىل وجودي يف متام الساعة السابعة
أخرب جمدي بكل ذلك فيبدو عليه القلق ،هل سأمتكن من السفر وحدي
بالصغرية؟ فأخربه بأن السيدة ستكون معي ،يوصلني يومها إىل املحطة بنفسه،
ويتأكد من شحن هاتفي برصيد ِ
كاف ،ويضع يف يدي كل ما معه من نقود.
أعده بذلك ،أجد السيدة حنان تنتظرين مع آخرين ،أطفال كثر يقفون أو
حيملهم آباؤهم وأمهاهتم عىل الرصيف يف انتظار قطار الثامنة إال الربع ،الذي
177
ريا فنركب يف العربة رقم ،4التي ستصبح جز ًءا من جدول حيايت ملدة
يصل أخ ً
6أسابيع.
ساقي ،فأغطيها
ّ أجلس مع لوسيندا يف العربة الباردة ،تنام الصغرية عىل
بوشاحها ،يشب األطفال األكرب عىل مقاعدهم لينظروا إىل الوافدة اجلديدة،
الصلعاء متا ًما ،أنقل برصي إىل لوسيندا ،أشعر بقلبي يعترص عليها ،ألهنا يف
طريقها لتفقد هي األخرى شعرها اخلشن األشقر الذي أحبه ،رموش عينيها
وحاجبيها.
كانت الرحلة طويلة وشاقة ،أما معهد األورام يف القاهرة فكان ضخماً مزد ً
محا
بالناس ،لكن السيدة حنان ساعدتني يف االنتهاء من اإلجراءات األولية،
يف طريق العودة كان كل األطفال نائمني ،يف عربة الرسطان كام يسميها حمصلو
القطار كام عرفت فيام بعد ،تسري فتاة شابة بني املقاعد ،تدير عينيها بني األطفال
حقيبتي لتجلس ،تنظر إىل لوسيندا ثم إ ّيل ،حتاول أن تبتسم يل لكنها ترتاجع،
178
نصف ابتسامة تيش بكل ما تريد قوله ،تدمع عيناي فتدمع عيناها هي األخرى،
هتمس :اهلل يشفيهالك ،فأربت عىل كتفها هبدوء.
أصمم عىل العودة إىل العمل ،رغم أن جمدي يطالبني باجللوس واالعتناء
بلويس يف البيت ،أخربه بأهنا بخري ،وأهنا ستصبح بخري ،وأننا سنعيش حياتنا
بطبيعية.
كنت أصيح يف وجهه ألول مرة ،بينام أمسك يف يدي بخصلة من شعرها اخلشن
التي خرجت يف يدي وأنا أمسده بأصابعي ،حياول هتدئتي ،فأصيح أكثر ،يف
النهاية يرتكني ويذهب ،فأتوقف بعد دقائق عن الرصاخ.
أمحل لوسيندا وأجته إىل الكوافري ،كان اجلميع قد علم بمرضها ،يستقبلونني
باألحضان والقبالت ،حياولون مواسايت بالكلامت ،يتناولن لويس من بني
يدي ،حتملها الفتيات ويناولنها لبعضهن ً
بعضا ،يبالغن يف تقبيلها وتدليلها ّ
أكثر من ذي قبل ،أنتحي بنادية جان ًبا ،وأطلب منها أن تقص شعر الفتاة متا ًما.
داع للرشح ،هذه الفتاة تفهم متا ًما ما يدور يف رأس كل شخص يف
مع نادية ال ِ
هذا الكوافري ،ربام كنت جاهلة أجيد القراءة والكتابة بصعوبة ،لكني أعرف
أهنا خمتلفة عن اجلميع ،ويف احلقيقة ال يشغل بايل كل هذا ،إن كانت قادرة عىل
مساعديت ،فلتكن حتى عفري ًتا.
179
ريا ،لكني أحاول
لكنها ال تفعل شيئًا ،تكتفي بقص شعر لوسيندا التي تبكي كث ً
أن أرشح هلا أن كل األمريات يبدين هكذا اآلن ،يشرتي هلا الباشا عروس
صغرية بال شعر ،يقرتب منها مداع ًبا ،جيلسها معه يف مكتبه وأنا أنظفه له،
مل ينتهي متا ًما ،كنت أريد أن أنام وأستيقظ ألجدها كام كانت ،شقراء مجيلة
يف هذا اليوم ،كانت املدينة مشتعلة بأخبار االنفجار يف كنيستها ،الكنيسة نفسها
التي شهدت زواجي ،والتي كنت سأتوجه إليها مع لوسيندا اليوم للصالة لوال
180
هتبط إىل الطابق األريض فرتاين جالسة عىل األرض بجوار الباب ،وبجواري
لويس.
كنت أنظر إليها وصدري يعلو وهيبط ،هناك فرصة كبرية أن أبدو جمنونة لكني
ال أبايل ،يداي ترتعشان ،لكني مستعدة لتقبيل قدميها لو أرادت.
181
•لكنك تنقذين النساء ،انقذيني ،سأموت لو فقدهتا..
تنظر إىل لوسيندا اجلالسة عىل األرض تنظر لنا وال تفهم شيئًا ،إىل شعرها الذي
بدأ يف اإلنبات.
- -مل أستطع أن أنقذ السيدة فلك..تعرفينها؟ السيدة الطيبة التي ال
تؤذي أحدً ا.
تنظر إيل وكأهنا تفكر ،ثم حتمل الطفلة إليها ،تبتسم فتبتسم هلا لوسيندا،
وتطوقها بذراعيها الصغريتني ،تقرب نادية رأسها من رأس الصغرية ،تتامس
جبهتيهام ،فأشعر أنا بالوهن للحظات ،وكأنني سقطت يف بئر عميق أو فقدت
اإلحساس بالوقت ،مل أشعر سوى بلوسيندا متسك يدي ونحن واقفتان أمام
الباب ،بينام تبتعد نادية إىل داخل الكوافري.
182
تبدو خمتلفة أم أنني أنا التي ال أرى؟
ً
منكوشا كام أنظر إىل لوسيندا فأرى شعرها األشقر اخلشن طويلاً وفوضو ًيا،
عيني وأقرتب منها ،أملسه بيدي ،أجذبه وأشده ،تتأوه
كان قبل كل هذا ،أفرك َّ
لويس ،فأمحلها معتذرة..
أفتح الباب الزجاجي برسعة ألذهب إىل البيت ،بينام أسمع خطوات نادية من
ورائي ،أخرج بينام متسك نادية بالباب لتخرج من ورائي ،ألتفت إليها ألحتضنها
بقوة ،كانت حتاول تعديل شعر مستعار أسود وضعته برسعة عىل رأسها ،أنظر
يف عينيها بقوة فتضع إصبعها عىل فمها مبتسمة تدعونني للصمت ،أحتضنها
من جديد وأنا أبكي فتدفعني ألذهب ،أخلع الصليب من حول عنقي ،وأضعه
يف يدها فتضمها حوله شاكرة ،تستند عىل الباب حلظة ثم خترج يف اجتاه املحل
املقابل.
يف اليوم التايل عرفت أن نادية ،الفتاة الطيبة السمراء اجلميلة ،قد ماتت ،لكني
متأكدة أهنا رحلت إىل حيث تنتمي حقيقة ،جنة الرب.
183
ياسمني
اليوم بعد 5سنوات ونيف ،هذا أكثر ما أذكره عنها ،غرفتي كانت زهرية
اللون ،زينت سقفها أنا وشقيقتي بالنجوم التي تتألق يف الظالم ،نرقد يف املساء
نتأملها ونحلم ،أحال ًما تبدو مضحكة مقارنة بأحالمي اليوم ،بعدما اختفت
الغرفة الزهرية ،والنجوم والسقف الذي حيمينا.
تسابقني ورد إىل بائع الذرة ،نتناول منه كوبني ،نلتقط احلبات الساخنة ونعود
إىل بيتنا مرسعني ،أمي تنتظر ككل يوم عودتنا لتوضيب املائدة ،ال يشء حيدث
يف احلياة ،ال يشء سوى شغف انتظار عودة أبينا الغائب دو ًما يف البحر ،حتى
مواعيد عودته ال نعرفها.
185
أذكر ً
أيضا أن رائحة اهلواء كانت ختتلف ،هواء حلب معبق بيشء ال أعرفه،
ربام لو شممته أنت ملا شعرت به عىل اإلطالق ،إهنا هذه الرائحة التي ختترص
الوطن ،والتي جتعلك تشعر براحة ما ،أنت آمن ،حتى لو كان وطنك ضائع،
كانت الثورة دائرة يف شوارع سوريا ،وكانت حلب يف مأمن ،مل ينزل أحد إىل
الشوارع إال بعض النازحني من أدلب يف حي صالح الدين ،لكننا كنا بعيدين
متا ًما ،مل أدر أن ما أراه عىل شاشة التلفزيون حيدث يف وطني ،إال عندما رأيت
القلق باد ًيا عىل وجه أمي.
احلقيقة أنني أضحك اليوم عندما أتذكرين وورد وقتها ،كان األمر بالنسبة لنا
- -علينا الرحيل مع اآلخرين ،لن أنتظر أن يتهدم البيت عىل رؤوسنا
أكثر من ذلك.
كانت العنارص املسلحة تتوغل أكثر يف حي هنانو ،يف الوقت نفسه الذي كنت
أمللم فيه حاجيايت القليلة مع أمي وورد ،أترك لعبي وكتبي الدراسية وألبومات
186
الصور ،ونكتفي باملالبس وبعض األشياء الثمينة التي محلناها يف حقائب
الظهر ،مل تأبه أمي بيشء سوى اخلروج وبأرسع طريقة من هنا.
وعىل الرغم من أن األوضاع يف طرطوس مل تكن سيئة ،إال أن أمي كانت قد
اعتزمت الرحيل من سوريا كلها.
187
إلينا ،عرفت أمي عىل الفور أن مدينتنا سقطت ولن تعود اآلن ،وأيب أبدً ا لن
يتمكن من إجيادنا هناك.
ربام من اجليد أن أمي مل تنتظر ،وقتها مل تكن هناك حاجة لتأشريات دخول إىل
ميناء اإلسكندرية ،التي نقلتنا إليها سفينة صغرية تصل بني املينائني.
تصل أمي إىل امليناء فتمر إىل مكتب املهندسني البحريني هناك ،يعرف اجلميع
أيب لكنهم ال يعرفون ميعاد عودته ،تسأهلم أمي أن ال ينسوا إخباره بأن عائلته
هنا يف اإلسكندرية ،وأهنا ستعود برقم هاتف قري ًبا.
كانت الرحلة ال تزال مثرية يل ولورد ،نحن نسافر إىل بلد جديد ،إىل مرص
التي نراها يف املسلسالت ،ربام نرى أمحد السقا أو عمرو دياب هناك ،نميش
ريا عن شوارع طرطوس ،واحلامس
يف شوارع اإلسكندرية التي ال ختتلف كث ً
يغمرنا ،بينام جترنا أمي ورائها واهلم باد ًيا عليها.
تعود لنا مع شاب نحيف يسري بنا مسافات طويلة داخل الشوارع الرأسية،
ريا يف قلب اإلسكندرية ،نبتعد عن البحر ،وتبتعد رائحة سوريا شيئًا
نتوغل كث ً
فشيئًا ،نصل إىل سوق كبري مزدحم ،خلف حاجز القطار الضخم ،نصعد إىل
188
شقة صغرية بال منفذ إال شباك عىل املنور ،أكاد أرصخ يف أمي بأال تقبل ،لكنها
تفعل ذلك.
جتلس منهكة عىل أحد الكرايس املحطمة بينام أدور أنا يف الغرفة الصغرية التي
خصصتها يل ولورد كاملجانني.
مل تلحقنا أمي باملدرسة هنا ،مل تفعل شيئًا سوى انتظار عودة أيب التي بدت
كحلم بعيد لن حيدث أبدً ا ،كل يوم تذهب إىل امليناء ع َّلها تسمع عنه خ ً
ربا ،ال
تعلم إن كان قد عاد إىل سوريا ،أو ذهب إىل بلد آخر ال نعلم عنه شيئًا.
ً
منترشا مل أبتكره ،لكني أخذت الكثري من الوقت إلقناع أمي ،متنحني كان األمر
بعض النقود القليلة املتبقية ،فأشرتي هبا كيزان الذرة النيئة من عىل الكورنش،
أسلقها بنفيس ،وأضيف عىل بعضها التوابل وامللح ،وعىل بعضها اآلخر السكر
189
رفيعا ،أغلفها
وماء الزهر ،أدهنها بالزبد أو العسل وأغرس فيها عو ًدا خشب ًيا ً
بالبالستيك وأرصها عىل املائدة الصغرية التي وضعتها أمي أمام باب البناية،
أقف أنا وورد بالتبادل عليها ،يشرتي منا املارون شفقة أو إعجا ًبا بشكل الذرة
الغريب عليهم ،أو ربام للتغزل يف مجالنا الشامي كام يقولون بعباراهتم.
ال أقوى عىل الرد ،أكتفي هبز رأيس مبتسمة ،يملون ع ّ
يل طلباهتم فأجيب:
نكرب أنا وورد أكثر ،تزداد األصناف عىل مائدتنا بعدما قبلت أمي املشاركة،
تعد بعض املخبوزات ،والسلطات ،ونغلفها بطريقتنا املرتبة يف األطباق
البالستيكية ،أحيا ًنا أعد قائمة باألصناف املوجودة ،أو التي يمكن طلبها
بحجز مسبق ،أكتبها بيدي وأصور منها عدة نسخ لتوزيعها.
كنا يف عمر السادسة عرش ،توأم متامثل بالعينني الزرقاوين نفسها ،والوجه
األبيض اهلاديء ،نعقد احلجاب بالطريقة نفسها فيحتار يف التفرقة بيننا
اجلميع.
كانت ورد أميل للهدوء والتقبل ،بينام كنت أنا أكثر عصبية واختنا ًقا.
190
- -هل تعتقدين أن بيتنا قد تدمر؟
- -وغرفتنا؟
أنا يف غاية احلزن لكنني أتوقف عن التخيل ،وأحلم أننا يو ًما سنعود لنجد كل
يشء.
191
- -كلك ذوق..
مل يكن سهلاً عىل أمي أخذ قرار مثل ترك اإلسكندرية ،وتوديع فرصتنا يف
االلتقاء بأيب من جديد.
يف هذا اليوم ،أرسلت أمي بورد إىل عنوان قريب عىل بعد عدة بنايات
بالطلب.
كنت أقف يف مكاين أمام املائدة عندما سمعت الرصاخ قاد ًما من بعيد ،جريت
192
كام مل أجر وأنا أهرب من بيتنا يف احلرب ،كنت أدعي اهلل أال تكون ورد ،لكنها
كانت هي ،تشدها امرأة من حجاهبا يف الشارع ،وتنعتها بأبشع األلفاظ.
يتجمع الناس شيئًا فشيئًا ،بينام ألقي نفيس عىل ورد أحاول انتزاعها من بني
يدي املرأة ،خيرج رجل ضخم من البوابة ليجذب امرأته ال يردد سوى كلمة
ّ
فضحتينا.
تنظر إيل ورد ودموعها تغرق عينيها ،بينام تنهال املرأة بالسباب علينا نحن
االثنتان.
تردد النساء الواقفات كالمها ،يتفرجن علينا ونحن منهارات عىل األرض،
أحاول لف احلجاب عىل شعرها ،بينام يرضب الرجال أيدهيم ك ًّفا بكف ،ال
ينسى واحدٌ أو اثنان املعاكسة ومد اليد وسط كل هذا.
193
هتز رأسها نف ًيا بإرصار ،تتوقف عن البكاء والكالم،ال تسأهلا أمي شيئًا ،أمي ال
تسأل ،هي تنتظر فقط.
نادرا..
مل تتحدث ورد بعدها إال ً
أما أمي فاكتفت بحزم متاعنا القليل واخلروج ليلاً ؛ بح ًثا عن سيارة تنقلنا
بعيدً ا ،إىل مدينة بال بحر ،بال أمل ال يف عودتنا وال عودة أيب.
نبدأ من جديد رحلة البحث عن سكن ،ال تنسى أمي السؤال عن حمالت
الذهب يف املدينة لبيع آخر ما متلكه ،حمبس زواجها.
أنظر إىل عيني أمي وهي تتناول نقوده املعدودة التي خسف هبا البائع األرض،
وأرى فيها ما تعجز عن قوله لنا منذ سنني ،أتواطأ معها بالصمت ،وأكمل
الطريق للبحث عن شقة تضمنا.
يستقبلنا سكان العامرة املتواضعة بحفاوة غريبة علينا ،حتى أن إحدى اجلارات
أرسلت لنا طعا ًما معدً ا كنوع من الرتحاب.
194
- -يبدو أهنم ناس طيبيني.
تنصحني أمي وتصمت ثانية ،كنت أنت قد حتسنت يا أمي ،أشعر أنني أعيش
مع امرأتني مكسورتني وأعجز عن إصالحهام ،أنسى أنني أنا نفيس يف حاجة
إلصالح.
تعاود أمي مهامها يف إعداد الطعام السوري ،بينام أتوىل إعداد صفحة عىل
الفيسبوك ،وكتابة قائمة صغرية أطبعها يف حمل جماور تديره فتاة اسمها رضا.
جاهزا.
ً - -العاملون سيشرتون منك كل يوم ،معظمهم يبتاع طعامه
أشكرها عىل نصيحتها ،وأنظر إىل املحل الفخم ،يسمونه الباشا بيويت سنرت،
195
أدفع الباب الزجاجي بحذر ،أخطو إىل الداخل ،تفزعني ضخامة املكان
وازدحامه ،اجلو املعبق بأبخرة السشوار والروائح النفاذة خترتق أنفي.
يسألني شاب يرتدي بذلة وقميص وربطة عنق عام يمكنه تقديمه
- -ياسمني.
أعود مرسعة إىل أمي ،أحكي هلا عن إنجازي الصغري ،تبتسم بال جواب ،أدخل
إىل ورد ألحكي هلا عن املحل الضخم املدهش ،تستمع إ ّيل دون تعبري.
196
كان مسرت وليد كام عرفت اسمه فيام بعد صاد ًقا يف وعده ،مل متر ساعة إال ورن
هاتفي معلنًا عن أول طلبات الكوافري.
من وقتها وأنا أدخل وأخرج حمملة بالوجبات جلميع العاملني ،حتى الباشا.
أمي وأختى الدائم ،أنسى غرفتي الزهرية وكتبي وألعايب ونجاميت ،أنغمس ًّ
كليا
يف متابعة السيدات اجلميالت بالداخل ،وهن يصففن شعورهن ،تسمح يل
جيجي باجللوس جوارها وهي تضع املكياج للعرائس ،حتى الباشا يسمح يل
بمشاهدته وهو يثبت التاج والطرحة ،يرش السرباي املثبت ،يثني اخلصالت
برسعة حول بعضها ،يضفرها ،أو يلفها عىل شكل كعكة عالية ،يبتسم يل برقة،
مجيعا معي ،ويشرتوا أكثر مما حيتاجون ،فقط للمساعدة.
يتعاطفوا ً
أما نادية فكانت جتلسني معها يف غرفة السيدة منى ،تطلب مني دائماً 4حبات
من الكبة وسلطة خرضاء ،جتلس بجواري لتأكلهم بصمت ،تناولني حبة كبة،
فأتناوهلا شاكرة ،السيدة منى منشغلة دو ًما ،لكنها تلقي ع ّ
يل السالم برفق،
وتدخل لتكمل عملها.
عندما بدأت نادية يف احلديث معي بالشامية ،مل أستوعب ما تقول ،كنت قد
197
تعودت عىل اللهجة املرصية خارج البيت حتى أتقنتها ،كانت الشامية تبدو
منها وكأهنا خارجة من مسلسل هندي أو تركي مدبلج
•نعم
- -ملاذا؟
ريا..
•ملاذا ماذا؟ عشت هناك كث ً
- -لست مضطرة..
•أود ذلك
لكنني مل أكن سعيدة بذلك ،كان احلديث معها يبدو غري ًبا عىل مسمعي ،يف البيت
الصمت كان الغالب عىل ثالثتنا ،ويف اخلارج ،كنت أستخدم الشامية بحساب
وألهداف جتارية بحتة ،أعرف كيف ألقي بكلمة جتعل الزبائن يسعدون ،أما
نادية ،فقد ذكرتني بأيام بعيدة ،أثارت يف جسمي قشعريرة ،حنني ما جعل قلبي
رسيعا.
ً ينقبض ،دوار عصف برأيس وجعلني أهنض
أخرج من الكوافري مرسعة ،أجته إىل حمل رضا لرشاء علبة مياه غازية قبل العودة
إىل املنزل ،تسألني رضا عام دهاين ،فأجيبها بأنني بخري.
198
تطلب مني اجللوس قليلاً ألن وجهي شاحب.
أنظر لوجهها املبتسم دو ًما ،كانت غريبة ،هذا الود املبالغ فيه يشعرين بالتوتر،
أشكرها عىل مشاعرها الطيبة ،وأتناول املياه الغازية من رضا ألعود إىل املنزل.
صمت طويل..
ال يشء حيدث يف هذا الفراغ الذي أسبح فيه طيلة الوقت ،سوى إعداد
الوجبات ،حتضريها ولفها بالورق الشفاف ،تقف أمي يف املطبخ ،تشاهد
املسلسالت وهي تعد الطعام ،بينام جتلس ورد يف الغرفة ،تتأمل الاليشء من
الشباك ،أو تقرأ الكتب التي آتيها هبا من سور الكتب القديمة القريب الذي
اكتشفته منذ فرتة.
199
أدخل كل نصف ساعة ألطمئن عليها ،أذكرها برشب بعض املاء ،أو تناول
الطعام ،توافق مرة وترفض مرتني.
وأنا جمرد فتاة صغرية ،مل أجتاوز السابعة عرش بعد ،كنت أشعر أن هذا احلمل
كثري ع ّ
يل ،أنام عىل ظهري ألتأمل السقف اخلايل من النجوم الالمعة ،وأفكر
أنني أبذل كل جهدي ،مل أقرص يف يشء ،أو هل قرصت؟
تندسني إىل الفراش بجواري وأنا أهلو هباتفي املحمول غري عابئة ،كنت أحاول
للمرة املليون البحث عن اسم أيب عىل الفيسبوك بال جدوى ،وأنت تنظرين يل
فقط وتبتسمني.
حتيطيني بذراعك فأزحيه برفق ،أطلب منك االبتعاد قليلاً ألنني مشغولة.
200
مشغولة بِ َم؟ كيف مل أفهم أنك كنت حتضنيني للمرة األخرية؟ كيف مل أفهم
أنك تعرفني؟
تقتلك كلامت امرأة محقاء؟ غارت عىل زوج ال يساوي شيئًا؟ أم قتلتك الغربة؟
أم فقدان كل يشء؟ أم ماذا؟
كنت أعتقد أنك ال تبالني؟ أنك ال تشعرين باملصيبة التي نحن فيها ،لكنني
اكتشفت أن الوحيدة التي ال تشعر هي أنا.
ورد
ال تردين
ورد..أرجوك
201
أجلس بجوارك هكذا لكم من الوقت؟ ساعة..اثنتان..ثالث ،ال أعرف..يمر
الوقت دون أن أدري ،ال أشعر سوى بذراعي أمك عىل كتفي ،جتلس بجواري
دون كالم ،مل ِ
تبك هي األخرى ،ومل تنطق بأية كلمة من يومها..
تلتف الفتيات العامالت يف الكوافري حويل ،حياولن حثي عىل الكالم أو رشب
بعض املاء ،لكني كنت أجد أن التنفس نفسه فعل شديد الصعوبة.
ختتفي ورد أسفل الرتاب ،يف أرض غريبة ال نعرفها ،عىل بعد آالف األميال
من أرضنا.
خيتفي نصفي حتت الرتاب فأشعر بفقدان التوازن ،وكأنني أسري بساق واحدة،
وذراع واحدة ،وأرى بعني واحدة.
جتلس نادية بجواري طيلة الوقت ،متسك بيدي ،تسقيني بيدها ،تزورين كل
يوم ،ترص عىل إطعامي ،الغريب أهنا كانت تشعرين فعلاً بالتحسن.
تتوقف أمي عن فعل احلياة ،جتلس سامهة طيلة النهار ،أدس يف فمها بعض
اخلبز باللبن أو الشوربة ،أسقيها املاء بالشفاط ،أمحلها محلاً يف املساء إىل الرسير،
أمحلها إىل احلامم أحيا ًنا ،أو إىل املسبح لتحميمها بعد أن فقدت السيطرة عىل
نفسها.
202
كانت احلياة تزداد قسوة ،مل أكن قادرة سوى عىل سلق بعض أكواز الذرة وبيعها
أمام املنزل مثل السابق ،فقط لرشاء بعض الطعام ،أما اإلجيار فكان يرتاكم ع ّ
يل
دون حول مني وال قوة.
أقف أمامه بصمت ،ال أعرف ما الذي يريده مني اآلن ،مل أعد قادرة عىل مدهم
أمرا آخر.
يل ًال بالوجبات وال أية خدمات أخرى ،لكنه يعرض ع ّ
- -أفكر يف عمل قسم خاص للعناية بالبرشة واجلسم ،بالتأكيد سيكون
له وقع أمجل عىل العميالت لو وضعنا بجواره «عىل يد اخلبرية
السورية».
- -ال هيم ،سأعلمك ،لن يستغرق األمر يومني ،إهنا أقنعة جاهزة،
تطبقينها عىل وجه العميلة ،مع بعض التدليك واملساج بحركات
بسيطة ،أنت ذكية ستتعلمني برسعة.
203
أنظر إىل وجهه برتدد ،ال أعرف ما الذي أقوله.
كان العرض مغر ًيا..عىل األقل أفضل من أن ألقى يف الشارع أنا وأمي بعد
شهور من عدم دفع اإلجيار ،وشهور من تناول اخلبز باحلليب.
لكن ،ما رأيك لو غرينا اسمك ،ياسمني منترش يف مرص ،أود منحك اسماً له
وقع شامي ،سوالف مثلاً ؟
يبدأ الباشا من فوره يف التحضري إلعداد القسم اجلديد يف الكوافري ،أذهب كل
204
يوم للتدريب ،الذي مل يكن صع ًبا بالفعل ،أشاهد العديد من مقاطع الفيديو
عىل اليوتيوب وحدي دون أن يطلب مني ،األمر الذي يسعده بشدة ،يمدحني
يسألني عن اللون الذي أرغب فيه لطالء الغرفة ،أقول بال تردد ،الزهري.
مائدة نحاسية عليها فناجني من القهوة ،حتى مصفاة «امل ّتى احللبية» وفنجاهنا
شيزلونج طويل موضوع لتتمدد عليه النساء ،واحليطان باللون الزهري كام
طلبت ،أما السقف ،فتم لصق النجوم الفوسفورية عليه لتتأمله النساء وهن
راقدات.
205
أملسها بأطراف أناميل ،فيستبد يب احلنني أكثر ،يطرق الباشا ع ّ
يل الباب ،يقول
أول زبونة.
تتواىل الزبونات وتتواىل األيام ،أدخل كل صباح إىل عاملي يف الشام ،وأخرج يف
املساء إىل عامل آخر ال أعرفه ،أعود إىل البيت حيث جتلس أمي ،أطعمها بعض
اللقيامت ،أمحمها وأجلسها بجواري لبعض الوقت حتى تنام.
احلياة تسري ،لكنني متعبة ،أشعر بعدم التوازن ،ال أمل من البحث عن أيب
كل يوم عىل الفيسبوك ،أترك رقم هاتفي مع أي شخص كان يعرفه ربام سأل
علينا يو ًما ،خيتفي األمل رويدً ا رويدً ا ،لكنه ال ينتهي متا ًما ،أفكر أنه ربام يعود
مجيعا إىل بيتنا ،ربام يظل بيتنا صامدً ا أمام
فتعود أمي إىل احلياة ،ربام يعود فنعود ً
اهلجامت والصواريخ ،ربام ختطئه كل القنابل ،ربام يظل منتص ًبا وحيدً ا تسكنه
القطط الصغرية والعصافري والياممات ،حيتمني يف غرفتي الزهرية من الرماد
والدخان والنريان وصوت الرصاص.
206
لزوجها ،وكيف أهنا ال تكلف مليماً ،أن السوريات يتلهفن للزواج من مرصي،
للحصول عىل اإلقامة الدائمة ،ووطن جديد ،بدلاً من الترشد يف الشوارع،
يسخرون من بنات وطنهم ،ويعددون يف مجال بنات الشام ،شعرنا الناعم
وعيوننا امللونة ،ومجال طهينا ورقتنا يف الفراش ،يتساقط لعاب الرجال،
وينظرون يل كدجاجة مزينة يتصاعد منها طيب الرائحة.
ال أحد يتكلم عن ضياع الوطن ،عن انكساري الشخيص ،عن رحلتي الصامتة
من غرفتي إىل مدينة ال أعرفها ،عن الفراغ التام يف قلبي ،عن فقداين يف حلظة
واحدة لعائلتي كلها ،عن ضياع ألبوم الصور ،وحكايات احلب األوىل،
وخربشات نقشتها أنا وورد عىل مقاعد املدرسة يف املرحلة االبتدائية ،وظننا
أهنا باقية لألبد ،كل هذا ٌ
دليل عىل مرورنا العابر من هنا يو ًما.
207
عن خطواتنا األوىل ،عن مالبس أول عيد احتفظت هبا أمنا يف صندوق صغري
أسفل الرسير ،عن علبة مغلقة أسميتها األرشيف ،حتوي ور ًدا جمف ًفا أشرتيته يف
الطريق للمدرسة ،وكتيب صغري ضم كلامت ساذجة كتبتها يل رفيقايت يف هناية
عام درايس ،وتذاكر الباص املقطعة ،وريشة محامة هبطت يو ًما عىل كف يدي
وأنا أصيل يف املسجد األموي ،وطرف من ثوب أمي الذي متزق بال أسباب،
فقصقصته ً
قطعا صغرية لتصنع منه عرائس قطنية يل ولورد ،احتفظت أنا
بأقصوصة منه حتمل عطرها.
نحن جيل تربى عىل األمل ،فكيف نحيا؟ وملاذا؟ وكيف نحلم بالعودة إىل وطن
مل يعد يعرفنا؟ وكيف نعيش يف وطن ال نعرفه؟
تنام أمي فتضيق يب الدنيا ،خيتنق صدري وأشعر بالرغبة يف البكاء ،أنزل إىل
الشارع املظلم ،كانت رضا ال تزال فاحتة أبواهبا ،أجته إىل املحل امليضء ،أجلس
عىل الرصيف املرتفع أمامه ،تأتيني بخطوات عالية.
208
- -ما الذي جلبك يف هذه الساعة ،أمل تسمعي عن االنفجار؟
- -تناولني إياها يف يدي بصمت ،باردة جدً ا ،أفتحها برسعة وأخذ
رشفة كبرية.
أراها قادمة من الكوافري املفتوح املظلم ،نادية التي تنام فيه كام أعلم ،تفتح
الباب ببساطة وخترج ،خترج من خلفها العاملة أم لوسيندا مع طفلتها اجلميلة،
حتضن نادية بشدة ،حتمل طفلتها ثم تذهب يف االجتاه املعاكس ،أتعجب بقاءها
هلذا الوقت معها يف الكوافري وحدمها ،تستند نادية حلظة عىل الباب الزجاجي
وكأهنا تستجمع قواها ،ثم تأيت يف اجتاهي ،جتلس بجواري عىل الرصيف،
وترفع رأسها تتأمل النجوم الالمعة يف السامء.
- -انظري إىل السامء ،إهنا نفسها التي كنت ترينها هناك.
أرفع رأيس ألرى ما تتحدث عنه ،حتى السامء هنا تبدو خمتلفة.
- -ال ،ليست كذلك ،إهنا خمتلفة ،اهلواء خمتلف ،والنجوم خمتلفة ،شكل
األرض خمتلف.
209
- -فقط إن أردت رؤيتها كذلك.
أنظر إىل نادية بحدة ،تبدو متعبة بشدة ،جتاعيد قوية تغزو وجهها ،حتى شعرها
يبدو خمتل ًفا ،وكأنه مثبت عىل رأسها ،وكأنه مائل بشكل ما.
كان اجلميع يتحدث ،وكنت أسمع ما يقولونه عنها ،ومل يكن هناك داع إلخفاء
هذا أكثر.
•ماذا؟
- -ال داع لإلخفاء ،الكل يتحدث ،جيالن ،رضا ،حتى منى تتحدث.
•لقد انتهت حكاية ورد ،مل يكن هناك ما يمكن فعله ،أما أنت،
فحكايتك مل ِ
تنته بعد.
210
متسك بيدي ،تنظر إىل عيني مبارشة ،أنت ياسمني ،ال ِ
تنس ذلك..
لكنها كانت تفعل ما تفعله دو ًما ،مل أرد أن تنتزع احلزن من قلبي ،كنت أريده أن
يظل ،أريد أن تظل ورد يف قلبي لكنها كانت تنزعها بقسوة.
أحاول نزع يدي من يدها لكنها تتشبث هبا أكثر ،أبكي ،ألول مرة أبكي منذ
موت ورد ،أشعر هبا خترج مع دموعي ،أبكي وأشهق فأحترر ،أشعر أنني أتنفس
من جديد.
تظل ممسكة بيدي أكثر ،أنظر إليها فأجدها تبكي معي ،كانت هذه املرة األوىل
التي أرى فيها نادية تبكي ،كانت تبكي بال صوت ،وبال تعبري ،دموع غزيرة
تغرق وجهها ،تنعكس األضواء عليها بربيق ساطع فتبدو كالنجوم ،كان
وجهها يعكس نجوم حلب كام أتذكرها ،كان وجهها يف هذه اللحظة هو
الوطن.
211
ريا فترتك يدي ،أحاول
أثبت عيني عىل وجهها مشدوهة ،أتوقف عن البكاء أخ ً
اإلمساك هبا لكنها تنهض وترتكني ،تعود إىل الكوافري املظلم بخطى متعثرة،
تستند دقيقة عىل الباب الزجاجي قبل أن تدخل وتغلقه ورائها.
212
فلك
ِ
عليك وحدك ،تنظرين يف املرآة فتكتشفني أن يف يوم واحد ،يفرغ البيت
أنت. ِ
وجسمك ،وأنّك مل تعودي ِ ِ
وشعرك ِ
وجهك السنني تركت آثارها عىل
هناك سيدة عجوز ال تعرفينها تنظر ِ
إليك.
213
أسري يف الشارع فينظر إ ّيل اجلميع ،أرتدي كام كنت أرتدي طيلة عمري ،جيب
قصرية وتوب ملو ًنا زاه ًيا ،وحذاء بكعب ٍ
عال.
فاقعا.
عطرا ً
أعقد شعري عىل شكل ذيل حصان ،وأضع ً
ال أتو ّقف حتى أدخل من باب الكوافري القريب من املنزل.
مرة كل شهر لصبغ شعري ،ال أحتاج إىل ترديد ما أريده ،فاجلميع
أزور الكوافري ّ
ٍ
سؤال. يعلم طلبي ،أجلس عىل أقرب مقعد دون
دورا.
ال جيرؤ أحد عىل جعيل أنتظر ً
يقرتب م ّني الباشا مرح ًبا ،ويشري ألحد العاملني ليبدأ العمل عىل شعري
برسعة.
يعرفون اللون املطلوب؛ األشقر الزاهي وال يشء سواه ،لون شعري األصيل
يتحول إىل الرمادي الكئيب.
ّ قبل أن
214
أحب كيف خت ّلل أصابعها يف
ّ تنتهي نادية من غسل شعري ،تدلكه ببطء،
أنت مرتاحة يا ِمس فلك؟ هل املاء
خصالته وكأنهّ ا متشّ طه برفق ،تسألني هل ِ
أحب املكواه وال أجعلها تلمس خصالته ،أتركه كام هو وأعقده ذيل حصان
ال ّ
من جديد ،ثم ُأخ ِرج قلم الروج األمحر من حقيبتي.
شفتي ،خيرج اللون عنهام بعض اليشء ،لك ّني ال أبايل ،النتيجة
ّ أمرر القلم عىل
ّ
هيم.
ترضيني يف النهاية وهذا ما ّ
أخرج بضعة جنيهات من احلقيبة ،أضعها يف يد نادية التي تتناوهلا شاكرةُ ،متدّ
شفتي لك ّني أمنعها.
ّ يدها ملسح الروج اخلارج عن حدود
ال يقبل الباشا أخذ مقابل م ّني ،هذا واجبه جتاهي كمعلمته القديمة.
215
أغادر الكوافري وأنا أرفع رأيس عال ًيا ،أسمعهم يتهامسون يف طريقي
للخروج.
يشجع ّني دائماً عىل اتخّ اذ قرارايت بنفيس ،يصحبني معه إىل مقر عمله كمدير
حسابات رشكة خاصة لتوريد أدوات الرصف الصحي.
كنت طفلته الوحيدة ،مل تنجب أ ّمي من بعدي ألسباب مل يستطع األطباء
حبه ،فلم يعد يف حاجة ألطفال
لكن أيب مل حيزن ،لقد منحني كل ّ
عالجهاّ ،
آخرين.
216
يع ّلق يل والدي يف غرفتي لوحة ٍ
خط عريبٌ ،
«كل يف فلك» ،رسمت حروفها يف
دائرة م ّتصلة.
خيربين ّ
بأن اآلية ُت ْقرأ من اليمني إىل اليسار والعكس.
جيلسني معه عىل القهوة ،يأخذين لزيارة أصدقائه ،يشرتي يل أمجل الفساتني.
أ ّما أيب فيفخر بإنجازايت يف كل مكان ،أنجح يف املدرسة بدرجات ممتازة ،فيربوز
الشهادة ويع ّلقها عىل حائط الصالون بفخر ،أحصل عىل شهادات تقدير بسبب
زهوا.
رسومايت يف املدرسة ،فيطري يب ًّ
حيرص عىل حضور االحتفال الذي أتس ّلم فيه مصح ًفا صغ ً
ريا وميدالية مفاتيح
عىل سبيل اجلائزة.
217
وتزوجت وأنجبت
ّ لوال أيب لكنت معتادة ،لكنت أهنيت دراستي اجلامعية،
لك ّني بسببه أسري وحدي يف الشارع عائدة إىل املنزل الفارغ.
قديماً ،صارت اآلن رائحة بيتي ،رائحتي أنا ،التي أحاول التغ ّلب عليها بالعطور
الفاقعة.
الضيقة املفتوحة.
والتوبات ّ
مل يامنع أيب كام ظننت أنّه سيفعل ،عىل العكس ،تركني أختار ما أريده بحرية،
أرتدي ما أريد ،وأعقد شعري ذيل حصان طويل ،حتى أنّني أضع املكياج بال
أي لوم.
ّ
218
- -أنت امرأة ُح ّرة ،وأنا أثق ِ
بك ،افعيل كل ما تريدينه ،ال أحد يستطيع
أن يمنعك.
تنظم رسا بأ ّ
ال أستمع إىل أيب .أجلس يف حجريت بينام ّ أ ّما أ ّمي فكانت تنصحني ًّ
هي يل ِخزانة مالبيس.
- -الناس يتحدّ ثون ،جيب أن تراعي أنّنا يف مدينة صغرية ،البنت لبيتها
وزوجها.
التخرج والعمل.
ّ •لك ّني ال أريد الزواج اآلن ،أريد
أضحك عىل تفكري أ ّمي املحدود ،أخرب أيب بام قالته ونحن نرشب الشاي يف
الرشفة ،فيقهقه:
219
معي يف العام نفسه والقسم ذاته ،وأمام هذه احلقيقة الواحدة ،تصبح كل كلامت
والدي يل فجأة بال معنى.
يعلو صوته مطال ًبا بح ّقه وحقّ ابنته ،فيخرج العميد من مكتبه ،ويكون الر ّد
عليه هو الطرد.
خيرب أ ّمي بأنّه يرغب يف النوم قليلاً ،تتبعه إىل الغرفة فيخربها بام حدث ،ترتكه
لينام وخترج لتطلب م ّني أ ّ
ال أسأله جمدّ ًدا.
220
بعد أسبوع مات أيب..
أذكر أنّني كنت أستدير ألخرب أ ّمي بيشء تافه عندما رأيت رأسه يميل فجأة
ليغادر العامل..
يمر
عطب الروح حيدث من كلمة واحدة ،من فعل واحد ،من موقف ،ربام ّ
مرور الكرام وقتها ،لك ّنه ّ
يظل هناك كامنًا ،ليخرج هكذا ،يف ميلة رأس عىل
عنق ،يف موت مفاجئ.
أهزه ّ
بقوة، مل أكن شهدت مو ًتا من قبل ،كان كل يشء غري ًبا ع ّ
يل ،أرتعش وأنا ّ
221
مل جُيبني قط ،عندها أدركت أنّه لن يفيق ،وأنّنا امرأتان عاجزتان حتيطان به دون
بيدي عىل كل باب دون انتظار.
ُمعني ،خرجت إىل سالمل العامرة ،أطرق ّ
أطرق عىل أبواب العامرة كلها ،أريد عو ًنا ،أريد ً
منقذا..
كان اجلميع خيرج متسائلاً عام حيدث ،نظرة واحدة إىل وجهي األصفر وارتعاشة
جسدي كانت كفيلة بأن يركضوا باجتاه باب شقتنا املفتوح.
تقرتب م ّني إحدى اجلارات وهي تبكي ،تقولِ :شدّ ي حيلك ،فأرتعش أكثر.
كانت أ ّمي بائسة مثيل متا ًما ،جتلس يف ركن الصالة التي خلت من األثاث ،بعد
املعزيات يف الصالة املفروشة باحلرص،
كومته اجلارات يف حجرة ما الستقبال ّ
أن ّ
بينام َص ّ
ف الرجال الكرايس اخلشبية باألسفل ،عىل سبيل الصوان الصغري.
أفكر يف عرشات األسئلة التي كنت أريد طرحها عىل أيب ،يف عرشات اجلمل
التي كنت أريد أن أخربه هبا ،يف االعتذار له عماّ حدث ،وبأنّني ال أو ّد التعيني يف
أهم من سعاديت بتقدير العامل كله. اجلامعة من األصلّ ،
وأن سعاديت بتقديره يل ّ
222
لك ّني مل أقل شيئًا ،سمعت كالم أ ّمي ومل أحدّ ثه يف األمر ،رغم أنّني كان ع ّ
يل
ذلك.
يل أن ّ
أنفذ ما أريد كام نصحني دو ًما ،لك ّني لن أنسى وصيته جمدّ ًدا. كان ع ّ
ختربين أ ّمي أنّني سأفصل بعد عام ،لك ّني ال أبايل ،ك ّنا يف حاجة ألموال إضافية
فوق ما يأتينا من معاش أيب الذي تتضاءل قيمته بمرور األيام.
يف الواقع أستمر يف العمل فيها مخس سنوات كاملة بعقد خاص قبل تثبيتي
ريا.
أخ ً
ُ
كنت أع ّلم األطفال الرسم الذي ّ
أحبه.
كان األوالد ينظرون يل سامهني طيلة ِ
احل ّصة.
كنت يف الثالثينيات من العمر وال زلت عزباءُ ،حلم لكل املدرسني الزمالء،
والتالميذ الذين يرونني فتاة األحالم.
223
ّ
أتلذذ من هذه احلقيقة ،وأستمر يف رفض العرسان املتقدّ مني ،وأتعامل بجفاء
مع اجلميع ،إال تالميذي.
ّ
وكأن ال أحد - -الرجال يريدون فتاة ملتزمة للزواج ،وأنت تسريين
يهُ ّمك.
هيمني بالفعل.
•ال أحد ّ
- -أنا لن أعيش ِ
لك.
224
ِ
وحدك ،يا فلك ،أريد أن أطمئن عليك قبل - -لن تستطيعي العيش
أن أموت.
تتمتم هبذه الدعوة ك ّلام جاءت سرية الزواج ،ك ّلام ذهبنا إىل ّ
أي مكان ،إىل أي
زفاف ،حتى إىل السوبر ماركت.
احلقيقة ّ
أن ال أحد يستحق هذا اجلامل.
وكان هذا الشخص هو حممود ،مدرس الرياضيات املنقول حدي ًثا ،يصغرين
بعامني لك ّنني مل ِ
أبال.
225
يطرق عىل باب الفصل فأفتح له ،يتبادل معي بعض الكلامت بصوت هامس،
بينام يصيح الصبيان خلفنا بأصوات عالية جتعلني ال أسمع نصف كالمه ،لك ّني
كنت أفهمه رغم ذلك.
حبنا حمدو ًدا عىل الكلامت البسيطة التي نتبادهلا يف ُ
«الطرقة» ،أو عىل باب كان ّ
الفصول يف ِ
احلصص.
يقول :من غري الالئق أن يدخل البيت دون وجود رجل معنا.
للتهجم ع ّ
يل أنا وأ ّمي. ّ - -لك ّني أدعوك بنفيس ،بالتأكيد لن تدخل
ً
معرتضا. أقول فليذهبوا إىل اجلحيم ،فيطأطأ بلسانه
226
يتهامس املدرسون يف املدرسة ع ّ
يل.
تتطوع واحدة يف تأكيد أنّني وإياه نجلس وحدنا دائماً يف غرفة الرسم.
•وما هو الكالم؟
تنظر إيل املديرة بدهشة ،ال أتلعثم وال أحني رأيس ،أقف أمامها بثقة تربكها،
فتكتفي بلفت نظر.
أخرج من مكتبها باحثة عن حممود ألخربه بام حدث ،وأسخر معه من املديرة،
يدس وجهه يف
جالسا يف غرفة املدرسني ،أشري له من بعيد فيتجاهلنيّ ،
ً أجده
يصححها أمامه.
كراسة ّ
227
أجتمدّ يف مكاين دقيقة ،ثم أفهم.
يومها رست إىل البيت وحدي للمرة األوىل منذ شهور ،لك ّني مل أحزن.
يف الصباح التايل ،كنت أسري مرفوعة الرأس يف فناء املدرسة ،حيث يقف
مدرسو احلصة األوىل ٌّ
كل أمام فصله.
كانت تضع أطنا ًنا من املكياج عىل وجهها ،وترتدي حجا ًبا أمحر شدّ ت مقدمته
عال: ٍ
بصوت ٍ لألمام ليبدو وجهها أطول .أقف أمامها متا ًما وأقول
عيني.
ّ
حيتقن وجهها وال تر ّد ،ينظر إلينا األطفال بفضول ،بينام هيبط صمت ثقيل عىل
ألتفت وأعود إىل ُغرفة الرسم دون أن أنظر ألحد ،لك ّني أملح حممود منزو ًيا يف
جدار حالك ،يكاد خيتفي داخله فأنظر إليه باحتقار ،وأكمل طريقي.
انتهى حممود من حيايت وقتام أشاح ببرصه عني ،حتى أنّني حرضت زفافه بنفيس
228
كتفي،
ّ يومها ارتديت فستا ًنا أسود بال كتفني ،وتركت شعري األشقر عىل
اهلل يساحمك يا أيب ،أمتتم ال إراد ًيا بدعوة أمي ،فأشعر بالسكني خترتق قلبي
للمرة األوىل.
مل أحزن عىل حممود ،لك ّني مت ّنيت لو كنت أجلس مكان الفتاة املعتادة بفستان
الزفاف األبيض املعتاد ،الطرحة املعتادة ،مع ُخصلة الشعر الكبرية املصبوغة
أهنض من مكاين فتتجه إ ّيل العيون كلها .أغادر القاعة الصغرية وأعود إىل
البيت.
أستيقظ ،وأنام.
229
أسري يف الشوارع وحيدة ،بال أصدقاء؛ ّ
ألن ال أحد جيرؤ عىل السري بجواري،
بال حبيب ،بعد أن تو ّقف اجلميع عن طلب يدي ،أو التو ّدد إ ّيل.
كان رحيلها غري مفاجئ ،يف املستشفى بعد رحلة طويلة من املرض ،لك ّنها
كانت سعيدة احلظ بوجودي إىل جوارها.
مل أرتعش مثلام حدث من قبل ،استقبلت اخلرب بثبات ،وأهنيت أوراقها كلها.
أعيش وحدي يف البيت الكبري ،يف صمت ال يقطعه سوى صوت التلفزيون
إن أشعلته.
230
ال أنام منذ أن رحلت أمي ،نسيت النوم كام تقول الست؛ لكن ليس عن حالة
عشقية ،بل هي حالة انتباه دائمة.
أشعر وكأنّني نائمة ،لك ّنني يف الوقت ذاته مستيقظة جدً ا.
منتبهة لكل يشء ،لكل صوت ،أسمع اهلمسات ،واخلطوات ،صفري القطارات
يف املحطة البعيدة ،أسمع صوت دعاء املص ّلني الذين يتوافدون عىل املسجد يف
الشارع املجاور.
أتوهمّ ،
وأن هذه بالتأكيد جمرد أحالم ،لك ّنني أعرف أنهّ ا خيربين الطبيب أنّني ّ
ليست كذلك.
أحاول اعتياد حيايت هبذا الشكل ،النوم الال نوم هبذه الطريقة...
231
متيض األيام برسعة ال تصدّ ق ،رغم أنهّ ا يف الوقت نفسه بطيئة للغاية.
ّ
وكأن التي تسبقها أكاد أموت مللاً يف انتظار هناية الشهرّ ،
لكن هناية العام تأيت
كانت باألمس.
أتأمل يف الفراغ ألكتشف أنّني أصبحت ما كنت أخشاه دو ًما ،معتادة ،واألسوأ
وحيدة.
أقف أمام حائط اإلنجازات الذي أقامه يل والدي يف البيت ،ال أجد سوى بضعة
والتخرج ،وشهادات
ّ شهادات مثرية للضحك ،الشهادة االبتدائية ،والثانوية،
تقدير وشهادات أخرى ملونّة ال أعرف من أين حصلت عليها.
232
بعض اللوحات التي محلتها معي من املدرسة بعد انتهاء خدمتي ،لوحات
ساذجة تريض مناهج الوزارة ،ومرور املوجهني املفاجئ ،أهم ما فيها هو كتابة
العام الدرايس واسم املديرة بخط واضح عىل جنب.
ال ّ
أمتيز بيشء سوى مجال اختفى أسفل التجاعيد والشعر الرمادي ،سوى بعض
قطع املالبس البالية ،التي مل أغيرّ ها منذ 30عا ًما.
أتأمل وجهي املرهق بتجاعيده ،وشعري الذي اختلط فيه األشقر باألبيض،
فأقرر املرور عىل الكوافري اجلديد الذي افتتح قري ًبا من املنزل.
ّ
233
أن صاحبه كان تلميذي؛ فأطالبه بمعاملة خاصة بكل تأ ّفف.
أعرف ّ
مل أكن مقتنعة بأنّني كربت إىل هذا احلد ،وأنّني مل أنجز شيئًا ،وأنّني مل أح ّقق ما
تو ّقعه يل أيب ،وال ما مت ّنته يل أ ّمي.
مل أتو ّقف عن تأمل الفساتني البيضاء يف فتارين العرض يو ًما إىل هذه السن.
كنت أمت ّنى ارتداء الفستان األبيض ،واألهم من ذلك ،االستناد عىل رجل
بجواري.
234
جلوس سيدة بجوار زوجها يف عيادة الطبيب ،تو ّقف امرأة أمام حمل يعرض
بأن ّ
جل ما أمت ّناه اليوم هو ارتداء فستان عيني عىل احلقيقة ،أصارح نفيس ّ
أفتح ّ
أبيض.
هو التع ّلق يف ذراعيه والسري معه ،واجللوس بجواره لريانا اجلميع.
اجلميلة.
235
أختار الصباح الباكر الذي ّ
ختف فيه حركة الزبائن واملارة.
أدخل من الباب فتتأ ّملني البائعات بتعجب ،يكن مل يفرغن بعد من كنس املحل
وتنظيفه ،فأطلب قياس فستان واثنني ،يسألنني ِ
لك أنت؟ فأجيب بنعم.
أحكي ّ
هلن قصة قمت بتأليفها طيلة الليل عن الفتاة املسكينة التي أرعاها من
ريا األسبوع القادم ،وأو ّد مفاجأهتا
ستتزوج أخ ً
ّ الطفولة يف ملجأ األيتام ،والتي
وابتياع فستان الزفاف هلا دون أن تعلم.
تتأ ّثر الفتيات بقص ّتي ويساعدنني بحامس يف االختيار ،أقيس فستان ًاا بعد
اآلخر.
236
يأيت الباشا ليلقي ع ّ
يل التحية ،ويأمر أحد صبيانه بالبدء يف صبغ شعري ،ثم تأيت
نادية لغسله.
•نعم يا نادية اليوم مهم للغاية ،لكن سأرتدي فستاين أولاً .
أدخل إىل غرفة تغيري املالبس وأطلب منها مرافقتي ،أخرج الفستان أمامها
فتضع يدهيا عىل فمها.
•عىل َم ْن؟
- -ال شأن ِ
لك هبذا ،لمِ َ تسألني؟ ،افعيل ما آمرك به ،ساعديني يف
ارتدائه.
237
ّ
فيحل الصمت عىل اجلميع ،ينظرون إيل وكأنّني عارية. أخرج به
تبدأ نادية يف تصفيف شعري ،وتثبيت الطرحة والتاج ،تنتهي فأخرج محريت
شفتي بنفيس.
ّ وأمررها عىل
ّ
هترع نادية إىل مكتب الباشا ملناداته ،فيخرج يف وقت قيامي من املقعد نفسه،
تضم مالبيس.
وأنا أمحل حقيبتي البالستيكية التي ّ
ِ - -مس فلك ،أرجوك ال تغادري السنرت هكذا ،الشوارع غري آمنة
اليوم ،وعربات الرشطة يف كل مكان.
يتبادل الباشا ونادية األنظار ،كانت الشوارع هادئة واجلميع يف بيوهتم؛ خو ًفا
من االنفجار احلاصل هذا الصباح يف كنيسة قريبة ،أبعده عن طريقي وأخرج
من الباب بثقة ،أرفع جانبي الفستان وطرحتي تتطاير خلفي برفق.
238
أشري هلا بأنهّ ا يمكنها ذلك ،أكمل طريقي يف السري يف الشارع ،املارة القليلون
يتو ّقفون للنظر إ ّيل ،يرضبون كفوفهم ببعضها ً
بعضا.
يصيح أحدهم :أين العريس يا عروسة ،فتنظر إليه نادية نظرة خترسه.
متر
أسري يف الشارع الرئيس للمدينة وسط سيارات الرشطة واإلسعاف التي ّ
مرسعة من حويل ،بأضوائها اخلاطفة وكأنهّ ا تز ّفني كام أردت.
أكمل يف طريقي الذي حدّ دته بد ّقة إىل املقهى املفتوح الشهري يف منتصف
الشارع.
متد يل نادية ذراعها فأتأبطه ،كانت يدي باردة جدً ا ،تدفئني سخونة يدها التي
وخائفة ،مل أكن قوية هلذه الدرجة التي حسبتها ،أفزعني جتمهر اجلميع من
239
أجلس واالبتسامة متلؤ وجهي ،تنظر إيل نادية فتبتسم هي األخرى ،تسألني
هل أنت سعيدة؟
- -أنا يف ّ
قمة السعادة..
يقرتب م ّني بائع ُ
الف ّل ليضع طو ًقا حول عنقي ،وآخر حول ُعنق نادية ،خترج له
نادية بعض اجلنيهات فريفض متا ًما.
تزداد سعاديت أكثر ،وينترش اخلرب يف املدينة الصغرية برسعة أكثر ،يمر األوالد
ليلتقطوا صوري هبواتفهم ،يلتمع الفالش يف عيني فأبتسم هلم.
يتكون كلام ّ
فضه نادل املقهى. أجلس بثقة بينام ترتبك نادية من الزحام الذي ّ
تتو ّقف أمامنا سيارة رشطة ،ينزل منها ضابط شاب ليسألني عماّ أفعله
بالضبط.
240
- -األوامر التي صدرت يل هي اصطحاهبا إىل املخفر وحترير حمرض
إثبات حالة ،خشية إيذائها لنفسها أو الغري.
كنت مستسلمة متا ًما له ،ألوح لنادية والضابط يفتح يل باب السيارة اخللفي،
يساعدين عىل الركوب ويغلق باب السيارة ع ّ
يل ،تقرتب نادية من النافذة،
ترصخ.
أبتسم هلا وأستمر يف التلويح هلا بيدي .هذه هي النهاية املثالية للحفل ،ز ّفة
بالسيارة إىل حيث أستطيع االسرتخاء قليلاً ،لقد كان يو ًما ُمرهق ًا جدً ا.
تبتعد نادية عن ناظري ،أريح رأيس عىل مسند األريكة اخللفية ،اآلن يمكن أن
أغمض عيني قليلاً ،اآلن فقط يمكن أن أنام.
241
زينب
يقول عيل:
جيدً ا،
وتشبثي ّ
ّ ِ
عينيك - -أغميض
يل ّ
بقوة هتب ع ّ
يطريين فأرجع رأيس إىل الوراء ،أستسلم له ،ولرائحة النيل التي ّ
ونحن نصعد كوبري قرص النيل ،كان يسري برسعة كبرية ،وددت لو سألته
أن يبطئ قليلاً ،أن يبطئ لألبد ،أن ّ
نظل هكذا مع ّلقني يف هذه اللحظة ،هبذه
243
وجنتي ،بعنف،
ّ تدوي يف آذاننا ،برائحة النيل ،واهلواء الذي يرضب
ّ املوسيقى
إنام بلذة.
تدمع عيناي وأنا أقف يف رشفة منزيل اليوم ،أعوام عديدة مرت لدرجة أنني
ال أتذكرها ،فأين اختفت املوسيقى إذن؟ أين اختفيت أنا ،سقطت يف قعر
حس.
صامت ،حيث ال هواء ،وال رائحة ،وال ّ
يرضب الصداع صدغي األيرس ،أضع كوب الشاي عىل السور ،باألسفل،
تضوي سيارات الرشطة بصوت ال يصل يل يف هذا الطابق املرتفع ،تدور يف
ّ
الشوارع مع اإلسعاف ،تنقل املصابني من الكنيسة إىل املستشفيات يف املدينة،
الشوارع فارغة ،أفرغها صوت انفجار ال تعرفه ،قطع الصمت وليته مل
يقطعه.
الرشفة فارغة ،ولو من مقعد ،فارغة مثيل ،اعتدت الوقوف بالساعات ،أرمق
244
الال يشء ،البرش كالنمل من هنا ،حتى االقرتاب منهم ممنوع ع ّ
يل ،أنا يف برج
ٍ
عال ،رغم أنيّ يف قعر غويط.
245
الثري ّ
املهذب ابن األصول ،الذي يربط أبوه بأيب مصالح ّ - -العريس
مشرتكة ،ال يوجد لدي سبب للرفض.
أبتسم وال أجيب ،مل يسألني أحد قط ،هذا السؤال ،يسألونني زينب هل
مت؟ هل أهنيت الواجب؟ هل رت ِ
ّبت فراشك؟ هل راجعت حتم ِ ِ
أكلت؟ هل ّ
حمارضاتك؟ هل س ّلمت عىل ّ
عمتك؟
لكن أحدً ا مل يسألني عن سعاديت من قبل ،زينب هل ِ
أنت مرتاحة؟ زينب هل ّ
ِ
أنت مطمئنة؟ هل حتتاجني إىل حضن؟
األول
أروض قلبي عىل عدم الوقوع يف هواه منذ اليوم ّ
أنظر إىل عيل ،كنت ّ
وأهز رأيس باإلجياب.
أتنهد ّ
للقائناّ ،
املخصصة لذلك.
ّ يلقي بكوب قهوته يف الفتحة
246
هكذا ببساطة دون أن خيربين عن اسم املوسيقى التي أسأله عنها منذ بداية
اللقاء ،إىل اليوم ال يريد إخباري.
أغمض ّ
عيني وأشغلها ،فأبتعد عن هذه املدينة الصغرية إىل عامل آخر ،تتحول
فيه احلياة إىل مكان أكثر قسوة ،حيث أستطيع أن أعيش ،وليس التظاهر بأنّني
أفعل.
ك ّلام خفت ،أغمضت عيني وهربت إىل مكان آخر ،كام فعلت عندما أوقفني أيب
يف ركن الغرفة ،يمسك يف يديه برواية من روايات عبري ،اقرتضتها من زميلة يل
يف املدرسة ،كان وجهه متغيرّ ً ا وكأنّام قامت القيامة ،خلفه تقف أ ّمي جامدة بال
مالمح ،هي من جلبته لتأديبي بعد أن وجدت الرواية وسط ُك ُتبِي يف محالهتا
التفتيشية عىل غريف أنا وشقيقايت.
كنت أضع أصابعي يف فمي بعد صفعته املفاجئة يل حلظة اقتحامه لغرفتي،
أي وقت ،حتى ولو كنا نغيرّ مالبسنا ،خيلع األقفال،
كان أيب يقتحم غرفنا يف ّ
أي تغيري ملقابض البيت ،ال باب ُيغلق ،وال خصوصية
ويلغي املفاتيح بيده عند ّ
لبنت..
247
يمزقها أيب
أقسم أنهّ ا رواية صديقتي ،وأنّني أقرأها عىل سبيل التسلية ال أكثرّ ،
ويرص عىل االتّصال بوالدة صديقتي ليع ّلمها األصول
ّ قطعا صغرية أمام عيني،
ً
كام ذكر.
- -أرجو إبعاد ابنتك عن ابنتنا يا مدام .نحن حمافظون ال نقبل هبذه
املساخر.
ِ
يكتف أيب هبذه اإلهانات العظيمة ملراهقة يف مدرسة ثانوية للراهبات ،بل مل
وليحذر ا ُمل ّ
درسات ّ أتى إىل املدرسة نفسها ،ليفضح الفتاة أمام اجلميع كام قال،
منها.
كنت أنا أمام ُف ّوهة املدفع بعد ذهابه ،ليس بيدي حيلة ،أعذرهم وهم يبتعدون،
وهم يتحاشونني كالوباء.
التقبل واخلضوع ّ
كبقية شقيقايت األربع ،وال غريبة وسط اجلميع ،ال قادرة عىل ّ
التمر ّد والتصدّ ي كام أحلم كل ليلة.
متر األيام ثقيلة ،حمارصة ،مراقبة ،حتى أمت ّنى االختفاء ولو ال ّ
أنفذ واحدة منهاّ .
للحظات.
248
أشم فيها بعض اهلواء ،أجلس عىل النيل ،أسري عىل الكورنيش ،أترك نفيس
هكذا فقط ،دقائق ،ساعات ،أيام.
بينام يعتقد اجلميع أنّني أواظب عىل حضور حمارضايت ،كنت أنا أواظب عىل
حضور األفالم يف سينام صغرية يف وسط البلد ،ال يرتادها عادة سوى املثقفني،
249
تعرض أفال ًما أوروبية أو عربية مستقلة ،أجلس وحدي بني عدد حمدود من
خالصاعىل الشاشة.
ً سحرا
ً األشخاص ،أتابع
أنتظر حلني انتهاء الترتات كلها ،أقرأ كل األسامء التي شاركت يف صنع هذا
السحر.
أبقى وحدي يف صالة شبه مظلمة ،يستعدّ أصحاهبا لعرض الفيلم التايل ،بينام
أنتظر أنا آخر اسم.
مشدوها
ً جالسا مثيل،
ً مرة ّ
يظل ال ينتظر معي سوى شخص واحد ،يف كل ّ
لألسامء ،ال ينتبه إ ّيل إ ّ
ال يف املغادرة ،يفسح ّيل الطريق كل ّ
مرة بابتسامة.
جالسا
ً أعرب من جانبه ألعود من جديد إىل عاملي اآلخر ،بينام ّ
يظل هو هناك،
عىل املقهى املقابل ،ينتظر شيئًا ال أعرفه.
مرة ،أستجمع شجاعتي كلها التي مل ختاطب رجلاً قط ،أتجّ ه إليه وأقف
ذات ّ
أمامه ،أسأله ماذا تنتظر؟
ألول مرة ،يبدو أنّه ّ
تذكرين فجأة ،يبتسم ويشري يل ينظر إيل وكأنّه يراين ّ
باجللوس...
•هذا ما تطلقه ع ّ
يل؟
250
- -حتى أعرف اسمك.
ريا وأنا
هيمه أن يعرف .كان يتحدّ ث كث ً
أي يشء آخر ،ال ّ
ال يسألني عيل عن ّ
أسمع ،يأخذين إىل أماكن مل أعرف وجودها حتى يف هذا البلد.
كيف أكسب ثقة والدي ،فيمنحني ما أريد من مال وامتيازات خاصة مل حتدث
من قبل لشقيقايت.
يتباهى بطاعتي العمياء ،وبعقيل الذي يوزن بلدً ا ،بينام أنا أخرى خارج املنزل.
ّ
ألمتكن - -هل تعلم أن أهيل منحوين اجلنسية األمريكية فور مولدي؛
من اخلروج والدخول من هذا البلد الذي مل أغادره ح ًّقا إ ّ
ال جنينًا كام
أشاء ،مثيل مثل بقية شقيقايت ،لك ّنهم ويف الوقت ذاته ،مل يمنحوين
ُح ّرية اخلروج والدخول من املنزل.
251
ال يعرف من أنا وال من عائلتي وال من أين أتيت ،أنا يف عينيه كنت فقط «فتاة
الترتات».
ال يعلم أنّني أتابع الترتات فقط ألحسد األسامء عليها ،أحسدهم عىل قدرهتم
الفن ،عىل االختيار ،والتعبري عن رأهيم.
التمرد ،عىل ّ
ّ عىل
نحن يف نظر أيب جمرد ممتلكات خاصة ،يقتنيها حلني التخ ّلص منها يف صفقة
جديدة من صفقاته ،تعود عليه باملكسب أولاً ،إ ّما بالوجاهة االجتامعية ،أو
بالعالقات ،أو بضامن مادي مناسب.
ما الذي نريده أكثر من ذلك؟ حياة مرتفة ننتقل منها إىل كنف زوج أكثر ثرا ًء.
مالبس حتمل أسامء عالمات عاملية ،جيلبها لنا والدي من سفرياته املتعدّ دة غري
ّ
التحكم الذي ال املسموح لنا بمرافقته فيهاُ ،ح ّرية مظهرية ،يكمن أسفلها كل
ختيله.
يمكن ّ
يدخل ع ّ
يل أيب كعادته الغرفة دون إذن ،كانت املوسيقى ال تزال تفعم أذين،
يسمح يل باخلروج اآلن ليلاً مع األصدقاء الذين ال يعرف أنهّ م ليسوا سوى
«ع ّ
يل» وحده.
252
أمرا عاد ًيا.
يضع يديه يف جيبي سرتته ،ويقول وكأنّه خيربين ً
- -غدً ا مسا ًء حيرض ضيوف لنا ،صديق قديم لطلب يدك البنه.
أنظر إليه وال أر ّد ،يكمل حديثه دون تو ّقف ،الفتى درس يف كليتك نفسها،
لك ّنه يسبقك بسنوات ،ال أعتقد أنّكام تالقيتام من قبل.
يتنحنح مضي ًفا :لن تعيشان يف القاهرة ،العريس يملك مركز جتميل ضخم يف
هيم بالتأكيد ،املرأة تعيش مع زوجها أينام
لكن املكان ال ّ
مدينته ال يمكن تركهّ ،
أراد.
وعيشني وغيرّ حيايت بكلمتني وإيامءة .خيرج دون انتظار للر ّد،
زوجني أيبّ ،
ّ
لتدخل بعده أ ّمي ُمه ّللة.
أنا حمظوظة جدً ا ،كيف ال ،وأنا أضمن حياة وبي ًتا وعيشة رغدة قبل إهناء
دراستي حتى ،جيلس أيب مع أزواج شقيقايت ووالد العريس يف جانب.
253
يمطرنني بالكلمة حتى أكاد أؤمن هبا ،جيلس معي صام ًتا مداع ًبا هاتفه ،أشعر
وكأنّه هو اآلخر جمبور عىل هذه الزجية ،لكن هل يجُ رب رجل اليوم؟
عيناي ال تفارق وجهه ،فريفع برصه إ ّيل متعج ًبا ،يضحك بشبه سخرية:
•ملاذا؟
- -ال داع خلطبة طويلة ،أرى أن يكون الزواج بعد ستة أشهر ،كافية
إلهناء التحضريات الالزمة.
فورا.
ال أكاد أفتح فمي لالعرتاض حتى يوافق أيب ً
هتمس له أ ّمي متسائلة ،والعائلة واألصدقاء كيف حيرضون؟
254
- -من يود حضور زفافنا يأت إلينا ،املدينة ليست يف هناية العامل.
جيلل صوته بالضحكات بينام أحافظ أنا عىل الصمت ،هذه األمور ال تعنيني
يف يشء ،حتى اختيار الفستان تركته لوالديت وشقيقايت ،جيلبونه من اخلارج
خصيصا ،ينفق أيب عىل زفايف أضعاف ما أنفقه عىل شقيقايت ،أسأل أ ّمي عن
ً
سبب كل هذا االحتفاء؟!
- -هذا الفتى الذي ال يعجبك يملك ثروة ال يمكن إحصاؤها ،والدك
عبقري ،سيتوسع يف مشاريعه بفضلهام.
احلاج سيرتك إدارة مركزه للفتى ،ويتفرغ لالستثامر مع أبيك ،ماكينة أموال بال
حساب ،من يمكن أن يرفض؟
ثم تنظر إيل مستغربة ،ثم كيف ال يعجبك ،إنّه يعجب احلجر ،يشبه نجوم
السينام يا محقاء ،هل كنت حتلمني بنصفه؟
•ال هيم ،املهم سمعتنا التي ال تشوهبا شائبة ،والتي جلبته إىل هنا.
255
يتزوج هذا البدر من هذه.
كيف ّ
شفتاي الرفيعتان ،أنفي املستقيم.
ّ أمرر يدي عىل عنقي الطويل،
ّ
ما الذي جيعل رجلاً مثله« ،باشا» كام يطلقون عليه منذ الصغر ،يستطيع االقرتان
بمن يشاء ،يوافق هبذه البساطة؟
إال لو مل يكن األمر فار ًقا ،أنا مثل غريي ،جمرد امرأة تضاف إىل مظهره
أهم.
ليتفرغ إىل ما هو ّ
االجتامعيّ ،
كنت أفهم الباشا دون أن أعرفه أكثر من أي شخص آخر ،وكانت كل أفكاري
جتاهه ّ
تتأكد بمرور الوقت.
«الباشا» مجيل َ
الط ّلعة ،جمرد وعاء أجوف ،ال يفكر سوى يف نفسه ،ال يشغل
رأسه اجلميل بمثل هذه اجلداالت الفارغة ،مثل االعرتاض عىل عروس
يقرتحها أبوه ،أو الذهاب ملقابلة امرأة ستصبح زوجته بعد شهور؛ إرضاء
للشكل االجتامعي.
256
ّ --
أحبه؟ إنّه رضوري للبقاء.
ال يمر عليه مكان سوى بالسؤال عن تفاصيل سريه ،ديكوراته ،العاملني به.
ّ --
أفكر يف فتح سلسلة مطاعم ،ربام مول جتاري ضخم ،املدينة ال تزال
حيبون التجريب ،إنهّ م يسافرون ً
أرضا خصبة للمشاريع ،أهلها ّ
خصيصا إىل القاهرة لتجربة مطعم أو مول جديد.
ً
يستمر يف احلديث عن العمل ،وأستمر أنا يف الصمت.
ّ
ويتعجب من فكرة عدم مغادريت.
ّ خيربين عن سفرياته العديدة إىل اخلارج،
ً
جوازا أمريك ًيا إذن؟ عىل العموم هو مفيد لنا ،يمكننا - -ملاذا متلكني
السفر يف شهر العسل .أفكر يف لندن .أملك أصدقا ًء كثريين هناك.
بعدها أو ّد الذهاب إىل دهب ،للقاء أصدقاء آخرين يرغبون يف االحتفال بنا،
ما رأيك؟
257
ال ينتظر رأيي حقيقة ،خيربين فقط بخط سرينا املقبل ،كزوجني ال نعرف بعضنا
ختيل حيايت مع رجل ال أكاد أطيق ً
بعضا ،أوافقه بإيامءة من رأيس ،أحاول ّ
ابتسامته فال أستطيع.
أتو ّقف قليلاً عن التن ّفس حتى أشعر بالدوار ،حيتقن رأيس ويكاد صدري
ينفجر ،فأزفر بقوة.
التأوه بصوت ٍ
عال ،حتى ولو كنت هكذا كانت طريقتي الوحيدة ألمتكن من ّ
جالسة وحدي؛ ألنّني ال أجرؤ حتى عىل التألمّ .
يسألني «ع ّ
يل» من جديد يف اهلاتف :هل أنت ّ
متأكدة ممّا تفعلني؟ أجيب بنعم
وأنا أكاد أرصخ ،أنقذين ،لك ّنه ال يفهم.
يصمت حلظة ويقول :إذن ،أرجو أ ّ
ال نتحدّ ث ثانية.
ينهي املكاملة دون عودة ،حيذفني من حساباته عىل «الفيسبوك» وكل وسائل
متزوجة.
التواصل ،بينام أستعدّ أنا من تغيري احلالة من خمطوبة إىل ّ
كانت آالف من الفتيات يتبعنني عىل الفيسبوك ،يبدو أنهّ ن معجبات الباشا،
يتساءلن عن هذه السندريال التي خطفت فارسهن.
258
يعرفني احلاج والده بمنى ،أثريته يف املركز التي يبدو أنه يعتمد عليها يف كل
ّ
يشء .تقودين إىل حجرة التجهيز.
ال أنطق بكلمة ،تنتهي منى من كل يشء برسعة شديدة ،حتى إنيّ ال أنتبه.
ّ
وكأن جسدي ليس ملكي ،يف الواقع هو ليس كذلك. مهتمة
يف الواقع مل أكن ّ
اليوم تنتقل ملكيته من والدي إىل الباشا ،االثنان من ح ّقهام اقتحام خصوصيته
وقتام يشاءان.
هذا ليس من ممتلكايت اخلاصةِ ،
فل َم االهتامم إذن؟
تقودين إىل غرفة التجميل ،وفيها تنتظرين فتاة فارعة جتلس عىل مقعد ٍ
عال أمام
كريس التجميل ،تنظر إيل من أسفل ألعىل ،وكأنهّ ا حتفر مالحمي يف عقلها،
حتدّ ثها منى بشامتة واضحة ،وكأنهّ ا انترصت عليها يف لعبة ما.
تبتسم جيجي ابتسامة صفراء ،جتلسني إىل املقعد وتبدأ يف وضع املكياج ببطء.
259
عيني بفرشاة ظالل اجلفون،
ّ تبدو عنيفة ،حتى إنّني شعرت هبا تكاد تقتلع
لك ّني ال أنطق ولو باعرتاض.
عيني ألجد امرأة أخرى ،تبدو خمتلفة ،ربام مجيلة ،لكن لست أنا حتماً ،
ّ أفتح
وهذا ال يشعرين بالسعادة.
ً
بقشيشا ،نظراهتا القاسية ختجلني ،فأتناول ورقة من أتناول حقيبتي ألعطيها
فئة املائة جنيه ،أشعر بأنهّ ا تتساءل السؤال نفسه :ملاذا أنا بالذات؟
فجرا وذهب..
يف يوم زفافنا ،تركني عرييس يف الساعة الرابعة ً
كنت قد تظاهرت بالنوم ،بعد ساعات من اجللوس صامتني ال يشء بيننا
لنقوله.
جيلس بمالبسه ليداعب هاتفه كام أراه دو ًما ،بينام أجلس أنا عىل الفراش
عيني َع ّلنِي أستيقظ ألجد نفيس يف مكان آخر ،فيتناول صامتة ،يف النهاية ُأ ِ
غلق ّ
هو مفاتيحه وخيرج.
260
أرسع إىل رُ
الشفة اخلالية ألراقب سيارته تبتعد ،أقف ألتأ ّمل الشارع الساكت، ِ
أكرب شارع يف املدينة ،ال منظر لدهيم أمجل منه ،ال نيل ،ال بحر ،ال يشء ،مدينة
بالغصات لغسل أحزاهنم ،فلامذا إذن أضع
ّ مغلقة ال يوجد هبا ملجأ للمختنقني
تطل عىل ُكتلِ أسمنتية عالية؟
مقعدً ا يف رُشفة ّ
يسمح يل باخلروج وحدي للتمشية ،فال تزيدين التمشية سوى ُغربة مضاعفة،
خييم عىل املدينة الباردة ،ضباب يشبه ما
بال انبهار وال سعادة ،ضباب كثري ّ
يعتمل داخيل.
أتداخل فيه ،أطمئن له ،فأكتفي باجللوس عىل مقعد يف حديقة ،كعجوز يف
العرشين.
261
مرة.
ألول ّ
ليلة وصولنا إىل دهب ،اقرتب م ّني زوجي ّ
مل أفعل شيئًا سوى االستسالم له كأ ّية جثة ،باردة متا ًما ،ساكنة بشكل أحبطه،
بوضوح مل يتظاهر بإخفائه ،يرفع وجهه ع ّني مستغر ًبا ،يسألني إن كان يب خطب
ما فال أعرف بام أجيب.
بأي يشء ،ال حزن ،ال فرح ،ال محاس ،ال سعادة ،وال أمل.
ال أشعر ّ
يف الصباح التايل ،وبينام نتناول إفطارنا يف الشرُّ فة امل ّتصلة بالشاطئ عرب سالمل
تزوجتني؟
صخرية عريضة ،أسأله ملاذا ّ
يرفع رأسه إ ّيل بابتسامته الساخرة نفسها ،يضع فنجان قهوته جان ًبا ،وير ّد:
هيم؟
•ال ،لكن هل هذا فقط هو ما ّ
أنت فقط تعرفني مصلحتك، أنت ِ
لست جمربةِ ، هيمِ ،
- -يف الواقع ال يشء ّ
ومصلحة والدك.
262
•وأن َت ما مصلحتك؟
تصدمني وقاحته ،مل يشعر برغبة يف قول ال فأمتلك حياة امرأة كاملة بال مشكلة،
واألدهى أنّه ينظر إيل مثل مجاد اشرتاه ،متا ًما كام يراين والدي ،مجاد باعه.
أهنض من مكاين ،أشعر بالغثيان ،أحاول االتجّ اه إىل البحر الستعادة قدريت عىل
التن ّفس ،لك ّني أتعثّر عىل ّأول درجة من درجات السلم الصخري املرتفع.
تستمر هي
ّ عىل ساقي ،يلحق هبا الباشا متسائلاً عماّ يب ،يركع إىل جواري ،بينام
ريا.
الوعي أخ ً
ّ بالتمسيد عىل ساقي ،أفقد
أستيقظ يف فرايش ،أعلم أنّني مل أغب عن الوعي سوى دقائق ،كان الباشا يقف
263
بجواري وقد بدا عليه الذعر فعلاً ،فكرة فقدان عروسه يف شهر العسل بالتأكيد
ستدمر سمعته.
ّ
بجواره تقف نادية هادئة ،تستند عىل ظهر مقعد بكلتا يدهيا ،تنظر إيل دون
حديث.
•أتذكر األمل الرهيب يف ساقي لك ّنني أدرك أنّه زال اآلن ،أحركها
فتستجيب.
أراه ينظر إىل نادية بشك ،تنظر هي يل نظرهتا الناعسة التي ال تيش بيشء ،تقول
سالمتك يا هانم ،وتستدير لتبتعدّ ،
أمتكن من مالحظة عرجها الظاهر يف الساق
اليمنى.
متحمس ،خيربين
ّ خيرج الباشا وراءها برسعة ،يعود بعد نصف ساعة بوجه أمحر
بأن نادية تعمل يف هذا الفندق شيئًا ال يعرفه ،ألنهّ ا هنا دائماً ،وهذه ليست املرة
ّ
األوىل التي تسرتعي انتباهه.
•ال أعرف ،إنهّ ا تقرأ الطالع للسيدات ،حتدّ ثهن ،وجتلس معهن،
264
التجول يف املكان طيلة
ّ بحرية
حيبوهنا وصاحب الفندق يسمح هلا ّ
ّ
الوقت ،تنام يف أ ّية غرفة تو ّدها ،إنهّ ا من البدو أصلاً لك ّنها ال متلك
عائلة عىل حدّ علمي.
َ --
فيم؟
وهيز رأسه.
يبتسم ّ
- -أنت مل ت ِر ساقك عندما سقطت.
لك ّنني مل أفهم حينها ما أمهية نادية ،فهمتها بعد ذلك ،عندما ّ
أرص عىل أن ترافقنا
يف رحلة العودة ،كان جيلس معها كل يوم مطولاً ليقنعها ،يغرهيا باالمتيازات
265
واألموال حينًا ،وبالعطف والتعامل الرائع حينًا ،لك ّنها مل تكن تسمع منه
شيئًا.
تظل طيلة اجللسة تنظر باتجّ اهي عىل املائدة البعيدة ،وكأنهّ ا
يف الواقع كانت ّ
تعرف ما أفكر فيه ،وكأنهّ ا تقرأين ،وتقرأ اضطرايب.
عندما قابلتني ليلة رحيلنا عىل الشاطئ وحدي ،أعلنت موافقتها يف الصباح
عىل مرافقتنا.
يأيت الباشا ويرحل دون حديث ،يلمسني عىل مضض بني احلني واآلخر ،فأنام
عىل ظهري متص ّلبة حلني انتهائه ،أشعر وكأنّني دمية جنس بال مشاعر ،ويشعر
هو باليشء ذاته ،أشعر أنّني موصومة رغم أنّه حاليل ،أفهم كيف ّ
أن ورقة ال
266
جنسا بني اثنني مهام اعرتف هبا العامل ،بينام يحُ ّلله فقط ّ
احلب ولو عارضه حت ّلل ً
اجلميع.
يف اليوم التايل تأيت نادية لرتبت عىل كتفي ،ولتخرج آثاره من جسدي ،يرسلها يل
أفكر يف احلزن ،قبل أن ّ
أفكر يف االنطواء ،أو التقوقع ،يرسلها لتمسحني قبل أن ّ
قصصا عن
ً أغدق عليها باملالبس ،أجلسها إىل جواري لتتحدّ ث ،حتكي يل
الكوافري.
أتعاطف معها ومع ُحزهنا الدفني ومع زواجها اإلجباري مثيل حتى لو اختلفت
الغاية والكيفية ،أكتشف أنهّ ا تطمح إىل موقعي الذي ال أريده.
أمت ّنى لو كنت قادرة عىل التنازل هلا عنه ،أذهب بنفيس إىل الكوافري ألرى
أصحاب هؤالء احلكايات عن قرب ،جيلسني الباشا يف مكتبه ،بعيدة عن
ألراقبهن خو ًفا عليه ،فال يزددن إال ً
نفورا. ّ اجلميع ،حيسبن أنّني آيت
267
صصهن ،أكتشف اجلوانب
ّ تع ّلمني نادية املساحمة ،أتعاطف مع مجيع البنات ِ
وق
مشاعرهن الداخلية التي ال يفهمها أحد،
ّ قصة ،تنقل يل نادية
الداخلية لكل ّ
ترشح يل بالتفصيل الشديد ما الذي يعنيه وجود امرأة يف هذا العامل ،يف هذا
البلد.
املتو ّقف رغم أنّنا يف بدايات الربيع ،أحاول الوصول للكنيسة للت ّ
ربع بالدم كام
طالب الناشطون عىل الفيسبوك.
ال أجد مكا ًنا لركن السيارة ،فأتركها بعيدً ا وأسري برت ّدد بني الصخب والبرش
الذين يتدافعون يف كل مكان ،ال يعرف الباشا أنّني غادرت بعد دقائق من
االنفجار ،مل أصدّ ق املنظر الذي أشاهده عىل الفيسبوك ،مل أصدّ ق أن حيدث هذا
هنا بالذات ،كنت أحتاج لرؤيته بعيني ،لتقديم أ ّية مساعدة أستطيع فعلها.
كان الباب مغل ًقا ،بينام حيتشد أهايل املدينة أمامه ،أفراد الرشطة الذين جيرون
يف كل مكان ،رجال اإلطفاء ،وأطباء خيرجون بني احلني واآلخر بجسد إ ّما
حي ينبض للنقل بسيارات اإلسعاف.
ملفوف أو ٍّ
268
منشورا أسود عليه وجه املسيحُ ،كتب عليه «طقس
ً أتناول من عىل األرض
أسبوع اآلالم» ،وأسأل هل من طقوس أكثر من ذلك؟
كرمشا بفعل يد ظ ّلت مطبقة عليه رغم االنفجار ،ثم هتاوت حني
ً كان املنشور ُم
النقل إىل اإلسعاف ،آثار بصامت من دماء ّ
تغطي وجه املسيح فال أمسحها.
عىل ظهره ُكتِبت آيات من اإلنجيل أحاول استبياهنا فال أستطيع ،أضعها
بجواري عىل املقعد ،ألتفت إليها بني احلني واآلخر.
« َفإِ َّن ُه ُه َو َذا ُح ْز ُن ُك ْم َ
هذا»..
أكاد أتبينّ اجلزء األول من اجلملة ،أر ّدده طيلة الطريق حتى العودة ،أصعد إىل
البيت ّ
حمطمة القوىّ ،
أظل واقفة يف الشرُّ فة أتابع سيارات الرشطة واملطافئ
واإلسعاف حتى ّ
حيل الظالم ،ترت ّدد املوسيقى يف ذهني مع اجلملة نفسها،
فأعود إىل املنشور الذي ج ّفت عليه الدماء.
ّ
أركز يف قراءة باقي اآلية عندما يرن جرس الباب ،أهنض ألفتحه بنفيس،
269
تتنفس برسعة ،كانت مالبسها مبعثرة ،تبدو وكأنهّ ا كانت
ّ تدخل نادية وهي
تركض...
•أليس يف السنرت؟
كنت قد رأيت صورها ُتغ ِرق الفيسبوك وصفحة املدينة ،حتى نسى الناس أن
انفجارا حدث منذ حلظات ،أناوهلا كو ًبا من املاء ،وأسأهلا عماّ تنوي فعله.
ً
تتحمل ثانية يف القسم.
ّ - -جيب أن ّ
يتوسط الباشا إلخراجها ،لن
عيني بشدة ،أتناول احلاسب اللوحي من املائدة ،أفتح هلا صفحة أخبار
أغمض ّ
املدينة عىل الفيسبوك ألخربها بالتحديثات.
تنظر إيل نادية بعدم تصديق ،تدير عينيها يف وجهي دقيقة ،تتناول م ّني احلاسب
اللوحي ،تتأ ّمله بصمت ،أتركها ملا تفعل وألقي نظرة أخرى عىل املنشور.
270
االجتِ َه ِ
اد».. «ك ْم َأن َْش َأ ِف ُ
يك ْمِ :م َن ْ َ
تستدير يل بعنف ،تنظر إيل بعدم فهم ،أجتهد اللتقاط أنفايس ،أحاول التحدّ ث
برسعة يف وجهها ،أحاول إخبارها بكل ما حضرّ ته من كالم ،أخربها عن
متجسدً ا أمامي ،يف كنيسة لطاملا
ّ حيا
احلزن الذي شممت رائحته اليوم ،ورأيته ًّ
فرحا بعد فرح.
شهدت ً
ّ
لنتمكن من حتقيق ما - -احلزن جمرد حمطة ،إنّه دفعة يمنحها لنا القدر،
ال نجرؤ عىل فعله.
271
- -بسببك أنا أسرية هذا البيت ،غري قادرة عىل املطالبة بحريتي ،أعلم
أنّك تريدين مساعديت ،لك ّني غري راغبة يف املساعدة..
« َب ْل ِم َن ا ْل َغ ْي ِظ»..
أحترر يا نادية ،أريد أن ّ
أمتكن من املغادرة ،وعدم العودة إىل أيب ،أريد ..أريد أن ّ
ح ّقي ،وأريد املطالبة ّ
بحرية األخريات.
« َب ْل ِم َن خَْ
ال ْو ِ
ف»..
..أنا خائفة،أمضيت سنوات يف هذا املنزل أفكر يف قيمة حيايتَ ،م ْن أنا؟ ماذا
أفعل؟ جمرد مجاد ينتقل من ملكية أب إىل ملكية زوج ،أنا اختصار مجيع القصص
التي حتكينها يل كل يوم ،أنا القهر جمسدً ا ،هل تعرفني ما معنى القهر يا نادية؟
تتقدّ م نادية خطوات إ ّيل ،تقف أمامي متا ًما ،تلمس وجهي بيدهيا فأبتعد بحركة
ال إرادية.
« َب ْل ِم َن َّ
الش ْو ِق»..
..لقد أتيت إىل هنا من أجلك ،رأيت تعاستك يف عينيك ،فجئت ملساعدتك.
مل أكن أدرك أن هذا البلد حيوي كل هذا احلزن ،واألهم أنّني مل أكن أدري أنّني
ال أساعد ح ًّقا..
272
ي ِة»..
« َب ْل ِم َن ا ْل َغ رَْ
- -احلق أنّك ساعدتيني ،ساعدتيني عىل معرفة أنّني قادرة ،وأنّني
أستطيع املواجهة ،أستطيع الوقوف بجانب نفيس ،أستطيع أن أكون
أنا ،وال أن ّ
أظل جمرد سلعة ُتش َ
رتى وتباع ،زخرف يز ّين حياة فارغة،
آيل يسري بالقوى الدافعة.
273
يف صباح اليوم التايل ،أستيقظ عىل صوته يغادر البيت متعجلاً ،حتى إنّه
َنسيِ حافظته وعلبة سجائره.
أخرج إىل الشرُّ فة ألجده ينطلق بالسيارة برسعة ال أعهده عليها ،ينقبض قلبي،
ُ
وأدرك ّ
أن يف األمر شيئًا.
أقف يف الشرُّ فة أتابع الناس خيرجون من جديد إىل أعامهلم ،الشوارع الصامتة
منذ أمس تعود إىل احلياة ،الطالب ي ّتجهون لدروسهم استعدا ًدا لالمتحانات.
اجلميع يسري ناس ًيا أو متناس ًيا ما قد حدث هنا ،متجاهلاً ما سوف حيدث.
أسحب سيجارة من العلبة امللقاة عىل األرض بجوار اهلاتف ،أخرج من جديد
نفسا عمي ًقا ،أقول لنفيس:
إىل الشرُّ فة وأشعلها ببط ،وآخذ ً
275
وتشبثي..
ّ ِ
عينيك - -أغميض
املوسيقى تدوي من جديد ،ختتلط هبا صوت أجراس كنيسة قادمة من بعيد.
ّ
تدق د ّقات بطيئة متقطعة ،حزينة تعلن عن موت ،أو اثنني ،ثالثة ،أو ثالثني..
أسمع خطواته قادمة من خلفي ،مرت ّددة ..ال حتمل ثقل غروره املعتاد ،يقف عىل
مؤخرة عنقي.
بعد مسافات عارمة م ّني ،رغم أنيّ أكاد أشعر بأنفاسه تلحف ّ
يقول:
أقول:
•طلقني يا باشا..
طنطا
2017-9-28
276
شكر خاص
حممد هشام عبيه -مروة مجعة -عالء حجازي -أمحد عبد املجيد
277
شكر خاص..لألصدقاء الذين حتملوين يف أثناء كتابة هذه
الرواية:
278
279