‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/

16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫اله وية البش رية المركبة والتعدد الثقافي عند إدغار موران‬
‫‪Compound human identity and multiculturalism At Edgar Morin‬‬
‫مختبر‪ :‬األبعاد البنيات النماذج واملمارسات‬ ‫فلسفة‬ ‫ط‪ :‬بلخضر وحيد ‪Doc: Belakhdar Wahid‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية‪ ،‬جامعة وهران‪ ،2‬الجزائر‪.‬‬ ‫‪belakhdarwahid2018@gmail.com‬‬
‫مختبر‪ :‬األبعاد البنيات النماذج واملمارسات‬ ‫فلسفة‬ ‫إشراف‪ :‬أد‪ .‬دراس شهر زاد ‪Pr. Derras Shahrazade‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية‪ ،‬جامعة وهران‪ ،2‬الجزائر‪.‬‬ ‫‪derras.oran2@gmail.com‬‬
‫‪DOI : 10.46315/1714-009-003-024‬‬
‫اإلرسال‪ 2019/09/15 :‬القبول‪ 2020/04/23 :‬النشر‪2020/06/16 :‬‬

‫ملخص بالعربية‪:‬‬
‫يعد موضوع الهوية الثقافية من املوضوعات التي نالت حظا وافرا من اهتمام املفكرين في حضارة اليوم خصوصا وأنها تشهد‬
‫على أمراض متعددة‪ ،‬ناتجة عن أخطاء العزل والتبسيط واالختزال‪ ،‬هذه األمراض كلها ترد إلى ما يسمى بالذكاء األعمى بلغة‬
‫الفيلسوف الفرنس ي إدغار موران الذي يجد نفسه أمام رهان االعتراض على وحشية اإلنسان املعاصر وبربريته التي أنتجتها‬
‫العقالنية الحداثية‪ ،‬وأمام التنظير إلى عقالنية مغايرة منفتحة يستهدف من خاللها بلوغ الطبيعة البشرية الحقيقية القائمة‬
‫على الهوية األرضية املركبة‪ ،‬التي تراعي مبدأ التعدد واالختالف من أجل إغناء الخليط الثقافي الكوكبي‪.‬‬
‫الكلمات املفتاحية‪ :‬الحداثة؛ االختزال؛ الهوية؛ الثقافة؛ االختالف؛ التركيب؛ اإلنسان‪.‬‬
‫‪Abstract:‬‬
‫‪Culture identity, considers like an important subject by sophists in civilization of nowadays, specifically it's‬‬
‫‪suffered by many dilemmas caused by mistakes of Isolation, simplification and reduction, all of this it's named‬‬
‫‪(blind intelligence). In language of French philosopher Edger Morin.‬‬
‫‪This philosopher was against human brutality and barbarity which producted by modern rationality ,in same‬‬
‫‪time he has put other theory of rationality ,its purpose constitute in the knowledge of humanism true which‬‬
‫‪based on Composite Ground Identity ,where it spoke about the variety and diversity ,in order to complete a‬‬
‫‪good environment of culture in this planet.‬‬
‫‪Key words: modernity; Isolation; Identity; culture; diversity; composite; human being.‬‬
‫*‪ -‬مقدمة‪:‬‬
‫والتقني الكبير تحديات عديدة‪ ،‬خصوصا ما تعلق‬ ‫يواجه العالم في ظل العوملة‪ ،‬والتقدم العلمي‪ّ ،‬‬
‫فيها بمسألة الهوية التي تعد من أبرز املوضوعات التي تخوض فيها الحضارة الغربية والتي نجحت‬
‫من خاللها في فرض نفسها على بقية العالم مدعومة بالثورة التكنولوجية املتسارعة وثورة‬
‫املعلومات واالتصاالت التي ساهمت في إقصاء الهويات الحضارية األخرى والخصوصيات الثقافية‪،‬‬
‫وسيطرت نمط حضاري واحد تمكن من بسط هيمنته ونفوذه على العالم‪ ،‬وفرض ماديته التي‬
‫تشكل رؤيته إلى الكون والتاريخ‪ ،‬في مقابل افتقاده للبعد اإلنساني الحقيقي‪ ،‬انطالقا من تعامله مع‬
‫ّ‬
‫اإلنسان الالغربي الذي يعتبره هامشا وملحقا باملركز الغربي‪ ،‬وهو ما جعل من مشكلة الحضارة‬
‫الغربية مشكلة عاملية ينبغي تحليلها وفهمها في صلتها باملشكلة اإلنسانية عامة‪.‬‬
‫‪327‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫إن الحضارة الغربية القائمة على أسس فلسفة الحداثة قد كان لها دورا مهما في رصد مختلف‬
‫األعراض املرضية التي عرفتها الحضارة املعاصرة كاالغتراب‪ ،‬والتشيؤ‪ ،‬والنزعة الفردانية التي سعى‬
‫من خاللها الخطاب الحضاري الغربي إلى اختزال ثقافة اآلخر وفرض منطق متحيز عليه‪ ،‬ومن‬
‫خالل التالعب باملستويات التعميمية والتخصيصية له‪ ،‬ومن خالل نزعه وفصله عن سياق البناء‬
‫الحضاري‪ ،‬وهو ما جعل بعض من عقالء املجتمع البشري أمام حتمية املناقشة والرد على مثل‬
‫هذه األفكار وتوجيه انتقادات جذرية وعميقة للقيم التي تأسست عليها هذه العقالنية الحداثية‬
‫فتعالت أصوات من داخل الغرب ومن خارجه رافضة هذا النموذج‪ ،‬ومن قلب أوروبا برز إدغار‬
‫بشدة النموذج الحضاري الغربي الخاضع‬ ‫موران الفيلسوف وعالم االجتماع الفرنس ي الذي انتقد ّ‬
‫للفكر األناني املتمركز حول ذاته‪ ،‬مؤكدا على ضرورة تعليم الهوية األرضية املركبة‪ ،‬ومراعاة‬
‫التعدد‪ ،‬واالختالف الثقافي املوجود في العالم‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس يتبادر إلى أذهاننا التساؤل التالي‪:‬‬
‫كيف يمكن تجاوز ثنائية املركز والهامش التي خلقت االنشقاق واالنقسام بين البشر من أجل بناء‬
‫حياة مشتركة تتناغم فيها كل الثقافات؟ وهل يمكن الكف عن اعتبار التعدد الهوياتي القائم على‬
‫االختالفات العرقية واالثنية عوامل إلثارة الصراعات والحروب والنظر اليها كمصادر لتحقيق‬
‫هوية بشرية مركبة؟‬
‫أوال_ سيرة إدغارموران الفكرية‬
‫هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنس ي معاصر‪ ،‬ينحدر من أسرة يهودية يونانية‪ ،‬اسمه الحقيقي‬
‫إدغار ناحوم )‪ (Edgar nahom morin‬ولد بباريس في ‪ 08‬جويلية ‪ 1921‬درس التاريخ‪ ،‬وعلم‬
‫االجتماع‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬والفلسفة (موران‪ ،‬إ‪ ،)01 ،2009 ،‬ويعد من بين أحد أهم الفالسفة في‬
‫القرن الواحد والعشرين‪ ،‬ومن بين أبرز الفالسفة الذين صنعوا للفكر الفرنس ي مكانته خالل‬
‫العقود األخيرة‪.‬‬
‫اكتشف موران عالم السياسة من خالل مناشير األقليات اليسارية‪ ،‬ثم انتمى إلى الحزب الشيوعي‬
‫الفرنس ي كغيره من الفالسفة الفرنسيين على غرار روجي غارودي ‪(Roger garaudy‬‬
‫)‪ 1913_2012‬ولوي ألتوسير )‪ ،(Louis althusser 1918-1990‬ثم حركة املقاومة ضد النازية‬
‫(طرابيش ي‪ ،‬ج‪ ،)645 ،2006 ،‬أين كان قائدا للقوات الفرنسية برتبة مالزم‪ ،‬وقد كان لهذين‬
‫االلتزامين الخطورة الكبيرة على حياة إدغار موران‪ ،‬ألن سلطة االحتالل األملاني كانت تحكم‬
‫باإلعدام على كل منتسب للحزب الشيوعي‪ ،‬وكل منتم لتنظيمات املقاومة‪ ،‬حيث اعتبرت تجربة‬
‫الحادة لدى موران‪ ،‬فقد كان قبل التزامه‬ ‫ّ‬ ‫التهديد باملوت هذه أولى التجارب الفلسفية والوجدانية‬
‫صة لكنه داخل العمل السياس ي أخذ يصغي إلى‬ ‫مثقفا ذاتيا ال يعيش إال همومه الخا ّ‬ ‫السياس ي ّ‬

‫‪328‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫حريتي والتحرير كان‬ ‫صوت آخر وهو صوت الخارج وفي هذا الصدد يقول "إن االحتالل كان ّ‬
‫انهياري" (طاهر‪ ،‬ع‪ ،)25 ،2005 ،‬ألن املعنى الحقيقي والعميق للوجود يكمن في مدى استحضارنا‬
‫الدائم للموت والعيش في خطر حسب موران‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكن إدغار موران وبعد نهاية الحرب ابتعد رويدا رويدا عن املاركسية األرثوذوكسية طردا بسبب‬
‫انتقاده النهج الستاليني‪ ،‬وفصل من الحزب عام ‪ 1951‬دون أن يمنعه ذلك من متابعة نشاطه‬
‫امللتزم ضمن منظمات شتى مثل «لجنة املثقفين من أجل السلم» و«لجنة املثقفين ضد حرب‬
‫الج زائر» (طرابيش ي‪ ،‬ج‪)645 ،2006 ،‬‬
‫اشتغل إدغار موران في مساره الفكري على جميع االختصاصات والعلوم واملعارف من أجل‬
‫استيعاب نتائج وكشوفات هذه الحقول والدوائر‪ ،‬والوصول إلى فهم محايث وأوسع للطبيعة‬
‫البشرية (الخويلدي‪ ،‬ز‪ ،)43 ،2009 ،‬حيث نتج عن ذلك أكثر من سبعين كتاب في علم االجتماع‬
‫واللغة‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬والسياسة‪ ،‬واملعرفة‪ ،‬ترجمت أغلبها إلى ثمان وعشرين لغة في اثنين وأربعين‬
‫كرس لها جهده وفكره‪ ،‬ويحتوي هذا‬ ‫دولة‪ ،‬ويعتبر كتابه املعنون ب"املنهج" من أهم املؤلفات التي ّ‬
‫الكتاب على ستة أجزاء متتالية "طبيعة الطبيعة" ‪" 1977‬حياة الحياة" ‪" ،1980‬معرفة املعرفة"‬
‫‪" 1986‬األفكار" ‪" ،1991‬إنسانية اإلنسانية الهوية اإلنسانية" ‪" ،2001‬األخالق" ‪ّ ،2004‬‬
‫تبنى في‬
‫الجزء األول وجهة نظر فيزيائية لدى معالجة مقوالت النظام والفوض ى واملنظومة واملعلومة‪ ،‬وفي‬
‫ّ‬
‫الجزء الثاني ركز على العالقة بين الفلسفة والبيولوجيا‪ ،‬وفي الجزء الثالث عالج مسألة املعرفة من‬
‫زاوية أنثروبولوجية (موران‪ ،‬إ‪ ،)12 ،2012 ،‬وفي الجزء الرابع قام إدغار موران بتحليل ظاهرة‬
‫ّ‬
‫التعقيد في الفكر الفلسفي مركزا على مقوالت اللغة واملنطق والبراديغم‪ ،‬وفي الجزء الخامس عالج‬
‫مسألة الهوية‪ ،‬أما في الجزء السادس فيدرس العالقة القائمة بين املعرفة والواجب وبين الوعي‬
‫ّ‬
‫الفكري واألخالقي‪ ،‬وبين اإلرادة األخالقية والنتائج الالأخالقية (موران‪ ،‬إ‪. )13 ،2012 ،‬‬
‫لم يكتف إدغار موران بهذه األجزاء فقط بل كانت له سلسلة من الكتب نذكر بع ً‬
‫ضا منها‪" :‬تربية‬
‫املستقبل" ‪" ،2002‬الفكر واملستقبل" ‪" ،2004‬ثقافة أوربا وبربريتها" ‪“ ،2007‬النهج إنسانية‬
‫البشرية‪ ،‬الهوية البشرية" ‪" ،2009‬إلى أين يسير العالم؟ " ‪" ،2009‬هل نسير إلى الهاوية؟"‬
‫‪" ،2012‬تعليم الحياة بيان لتغييرالتربية"‪...2016 ،‬الخ‪.‬‬
‫إن بلوغ إدغار موران هذا املستوى لم يكن بمحض الصدفة بل كان نتيجة احتكاكه وتأثره بأفكار‬
‫وخصهم بكتاب أسماه "فالسفتي"‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫غيره من الفالسفة واملفكرين الذين عايشهم بالروح والزمن‪،‬‬
‫ّ‬
‫نذكر منهم هي راقليطس فيلسوف الجدليات الكبرى والذي يعتقد بأن "األضداد ال بقاء لها إال‬
‫وتحدها بعضها ببعض‪ ،‬وتنزع جميع دروس هي راقليطس نحو تأليف‬ ‫بفضل الوحدة التي تغلفها ّ‬
‫مذهب واحد فريد في عمقه فجميع تلك املتضادات تلتقي في تضاد واحد" (بريه‪ ،‬إ‪،)77 ،1982 ،‬‬
‫‪329‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ّ‬
‫وهو ما جعل إدغار موران منبهرا بفلسفته‪ ،‬وكذلك الفيلسوف الفرنس ي بليز باسكال الذي كان‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وقعه شديد األثر على إدغار موران‪ ،‬حيث وجد فيه ذلك الشيطان السقراطي‪ ،‬الذي جمع بين‬
‫والدين محتويا بذلك الحوارية الكبيرة في عصر النهضة‪ ،‬أي العالقة التعارضية والتكاملية‬ ‫العقل ّ‬
‫معا (نبيلة‪ ،‬ا‪ ،)85 ،2017 ،‬كما يمكن مالحظة تأثر إدغار موران بوضوح بفلسفة هيجل القائمة‬
‫على فكرة الجدل التي تعني التطور املنطقي للفكر أو للحقيقة من خالل االنتقال من الفكرة‬
‫ونقيضها إلى املركب من هذه املقابالت (نبيلة‪ ،‬ا‪ ،)87 ،2017 ،‬باإلضافة إلى بعض الفالسفة‬
‫املحدثين واملعاصرين الذين ذكرهم إدغار موران على غرار جون جاك روسو‪ ،‬رونييه ديكارت‪،‬‬
‫اسبينوزا‪ ،‬ايمانويل كانط‪ ،‬وكارل ماركس‪ ،‬وكذا فالسفة مدرسة فرانكفورت وعدد من األدباء‬
‫والعلماء‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أزمة العقل الحداثي‬
‫يعد العقل من أهم مميزات اإلنسان التي تميزه عن غيره من املوجودات‪ ،‬نظرا لألهمية البالغة‬
‫حدده العقل في حياة اإلنسان االجتماعية والثقافية والسياسية منذ القديم‪،‬‬ ‫والدور الكبير الذي ّ‬
‫وهو ما نلمسه عند اليونان بالخصوص‪ ،‬حيث يقول هيراقليطس‪" :‬بالعقل ترتفع إلى معرفة‬
‫قانون الصيرورة‪ ،‬وفي استيعاب هذا القانون يكمن واجب اإلنسان والطريق الوحيد إلى‬
‫السعادة‪ ،‬واإلنسان إذا فهم هذا يصبح سعيدا وراضيا‪( ".‬ستيس‪ ،‬و‪ ،)75 ،1984 ،‬وقد أكد عن‬
‫ذلك أيضا أرسطو حين جعل من املنطق آلة تساعد العقل وتعصمه من الوقوع في الخطأ‪ ،‬وفي‬
‫حل في املرتبة الثانية بعد النص الديني مع الفيلسوف توما‬ ‫العصور الوسطى نجد أن العقل قد ّ‬
‫ّ‬
‫اإلكويني من أجل إزالة اللبس والغموض عنه حتى ال يتناقض مع العقل‪ ،‬أما في العصر الحديث‬
‫ياض ي منه والطبيعي‪ ،‬وظهور‬ ‫فإن العقل اكتسب موقعا مميزا خصوصا بعد بروز العلم الجديد الر ّ‬
‫جهاز مفاهيمي مخالف للعصر الوسيط‪ ،‬وسيادة النزعة اإلنسانية التي أعادت االعتبار للعقل‬
‫البشري وآمنت بقدرته على فهم العالم والسيطرة على الطبيعة‪.‬‬
‫يعد الفيلسوف الفرنس ي رونييه ديكارت(‪ )1650-1596‬زعيم النزعة العقالنية في العصر الحديث‪،‬‬
‫والذي عمل على إضفاء النزعة العقلية على جميع نواحي حياة اإلنسان االجتماعية والسياسية‬
‫والعلمية من أجل تحريره من الخرافات امليتافيزيقية التي اكتسبها خالل العصور الوسطى‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬
‫أجل بناء معرفة صحيحة ومتكاملة يحتل فيها العقل موقعا مركزيا كونه "ال يعطي داللة إال‬
‫للموضوعات التي تستجيب ملبادئه ووحداته املنهجية (من هذه الوحدات املنهجية املالحظة‪،‬‬
‫ّ‬
‫الفرضية‪ ،‬التجربة‪ ،‬الصياغة الكمية لل واقعة الترييض أي استخدام اللغة الرياضية) وما ال‬
‫ّ‬
‫يقع أو يستجيب لهذه املبادئ واملناهج فهو من جنس الالمعقول‪ ،‬وبالتالي لزم اقصاؤه"‬
‫(بلعقروز‪ ،‬ع‪ ،)2017 ،‬فبروز العقالنية في العصر الحديث كان بمثابة ثورة أصبح اإلنسان من‬
‫‪330‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫خاللها يحدد مصيره بنفسه دون تدخل ألي قوى غيبية‪ ،‬فكانت هذه الثورة بمثابة "إعادة االعتبار‬
‫إلى اإلنسان كذات حرة واكتشاف دور العقل في فهم العالم والتخلص من هيمنة الذهنيات‬
‫التي تتقنع الدين وتتحالف مع قوى املال والسلطة" (بلعقروز‪ ،‬ع‪ ،)2017 ،‬فالعقل إذن أصبح‬
‫امليزان الذي يتم من خالله تحديد الصواب من الخطأ‪ ،‬وهو املصدر األساس ي للمعرفة و َبو َساطته‬
‫يمكننا البرهان واالستدالل‪.‬‬
‫غير أن هذه العقالنية التي كانت تهدف إلى تحرير اإلنسان وتحميله القدرة على تحديد مسار‬
‫حياته ومصيره بنفسه سرعان ما حادت عن أهدافها‪ ،‬واتجهت نحو طريق معاكس خصوصا بعد‬
‫دعم العقل املتواصل للعلم والقطيعة مع الوحي وبروز العقل األداتي الذي سار في إطار سيطرة‬
‫ّ‬
‫املادة‪ ،‬في مقابل عدم االهتمام بالقيم والغايات‪ ،‬وهو األمر الذي أكده فالسفة مدرسة فرانكفورت‬
‫على غرار أدورنو الذي قال عن العقل األداتي بأنه "ذلك العقل الذي سخر ألسوء مشاريع القتل‪،‬‬
‫بل وينبغي أن نمض ي إلى حد تجاوز الفكرة القائلة بالعقل الخالص‪ ،‬إذ ليس من وجود لعقل‬
‫خالص‪ ،‬وليس من وجود لعقالنية بدون شعور وبدون وجدان" (عادل‪ ،‬ه‪ ،)617 ،2015 ،‬وهي‬
‫الفكرة التي حاول تأكيدها الفيلسوف إدغار موران الذي حمل مطرقة النقد في طبيعة العقل‬
‫ّ‬
‫الحداثي ومخلفاته محاوال بذلك رسم معالم مشروع تنويري جديد لفلسفة الحداثة‪.‬‬
‫يرى إدغار موران بأن األزمة التي تنخر كوكبنا ليست أزمة معرفة أو ثقافة بل هي أعمق من ذلك‬
‫طياتها معنى الشمول واالتساع‪ ،‬تقود اإلنسانية إلى ما ال‬ ‫متصدع‪ ،‬تحمل في ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألنها أزمة عقل بشري‬
‫يحمد عقباه‪ ،‬والحال أن هذه الفوض ى التي توشك أن تسقط فيها البشرية تحمل في ذاتها فرصتها‬
‫األخيرة (موران‪ ،‬إ‪ ،)16 ،2012 ،‬وقد أشار إدغار موران في كتاباته إلى عدد من املظاهر واإلفرازات‬
‫املختلفة ألزمة العقل الحداثي نذكر منها‪:‬‬
‫‪ -1‬الفردانية‬
‫ّ‬
‫األنانية املفرطة‬ ‫ّ‬
‫انتقد إدغار موران الحضارة الغربية أشد االنتقادات ألنها شجعت على‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والفردانية القائمة على أساس التشريع للذات في انفصال كلي عن جميع أشكال األمر واإللزام‪،‬‬
‫سواء كان ذلك متعلقا بالكنيسة أو املجتمع أو أي سلطة خارجية (بوحناش‪ ،‬ن‪ ،)10 ،2003 ،‬وفي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفردانية هي في اآلن ذاته علة ونتيجة لالستقالليات‪ ،‬والحريات‬ ‫هذا الصدد يقول إدغار موران‪" :‬‬
‫واملسؤوليات الفردية‪ ،‬لكن من نتائجها السلبية تراجع العالقات التضامنية القديمة‪ ،‬وتشرذم‬
‫األشخاص‪ ،‬وضعف الحس باملسؤولية نحو الغير‪ ،‬وتنامي الشعور باألنانية‪ ،‬وامليل املتزايد ملا‬
‫الفردانية التي تعتبر من أبرز مظاهر أزمتنا‬ ‫ّ‬ ‫يسمى بانبثاث األنا ‪( ".‬موران‪ ،‬إ‪ ،)13 ،2010 ،‬بمعنى أن‬
‫ّ‬
‫الحضارية ملا تشكله من حالة اغتراب‪ ،‬تؤدي إلى اإلقصاء والالتواصل والصراع‪ ،‬وبالتالي تعميم‬

‫‪331‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫كثير من األحيان‪ ،‬وتغييب لروح التضامن واملحبة بين أفراد املجتمع‪ ،‬مما يعني‬ ‫اليأس والتشاؤم في ٍ‬
‫املعقدة لهويتنا بالضرورة‪.‬‬ ‫افتقادنا للوحدة ّ‬
‫الفردانية أو نزعة التمركز حول الذات صفة تالزم الناس في الحضارة املتفوقة التي‬ ‫ّ‬ ‫تبدو فكرة‬
‫تتجسد في الحضارة الغربية‪ ،‬وترتبط بالقدرة على قول األنا للذات فقط دون االكتراث بالعالم‬
‫وباآلخرين وتؤدي إلى التقوقع والتبسيط واإلقصاء واالختزالية ويقترح موران لنقد هذه املركزية‬
‫الذاتية املرور من الوعي بالتمركز الذاتي إلى التفكير الذاتي النقدي‪ ،‬وذلك باالعتراف بالغيرية‬
‫وبتثمين ظاهرة تكوثر الطبيعة البشرية بأن يقول أنا لآلخر ويتضامن مع جميع شرائح املجموعة‬
‫البشرية (الخويلدي‪ ،‬ز‪.)55 ،2009 ،‬‬
‫ّ‬
‫التقنية‬ ‫‪-2‬‬
‫يمكن القول إن فلسفة الحداثة قد قامت أيضا على أساس الوثوق األعمى في نتائج العلم‬ ‫ّ‬
‫والتقنية‪ ،‬حيث صار‪" :‬العالم منظورا إليه كعالقة رياضية وكجملة من الظواهر املوضوعية‬ ‫ّ‬
‫تنظمها علل وأسباب عقلية ّ‬ ‫ّ‬
‫تحددها حتميات فيزيائية ال دخل فيها لقوى متعالية‪ ،‬بحيث‬ ‫التي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أفرغ العالم من محتواه امليثولوجي الديني‪ ،‬وألبس لبوس املعقولية العلمية والدقة الرياضية‬
‫التطور العلمي والتقني الكبير هو‬ ‫والتجريد املوضوعي" (محمد‪ ،‬ا‪ ،)14 ،2006 ،‬وعليه فإن ّ‬
‫املسؤول عن إدخال اإلنسان في حالة من االغتراب والتقهقر بعد أن كان يظن نفسه سائرا نحو‬
‫التقدم واالزدهار‪.‬‬
‫إن التقنية املتمثلة في جملة الوسائل‪ ،‬واألدوات التي ابتكرها اإلنسان باالعتماد على العلم يراها‬
‫إدغار موران أداة لخدمة االستعباد واملوت وبإمكانها إبادة اإلنسانية ككل جراء إتاحتها األسلحة‬
‫النووية والكيماوية والبيولوجية‪ ،‬وتسببها في تدهور املحيط بعد أن أصبحت سفينة األرض‬
‫الفضائية ال تخضع للضبط السياس ي أو اإليتيقي‪ ،‬ولذلك فإن ما يبدو أن من شأنه أن يضمن‬
‫يسبب املخاطر‬ ‫التقدم املؤكد يتيح بطبيعة الحال إمكانية مخصوصة بالتقدم في املستقبل‪ ،‬لكنه ّ‬
‫ّ‬
‫أيضا ويزيد من عددها (موران‪ ،‬وآخ‪ ،)2009 ،‬بحيث يقول موران عن ذلك‪" :‬لقد مكن التقدم‬
‫العلمي من إنتاج األسلحة النووية وأسلحة أخرى للدمارالشامل كيماوية‪ ،‬وبيولوجية وأتاح لها‬
‫وتسبب التقدم التقني والصناعي في مسلسل من التدهور في املحيط‬ ‫ّ‬ ‫االنتشار الواسع‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الحيوي‪( ".‬موران‪ ،‬إ‪ ،)11 ،2012 ،‬وهذا دليل على أن التقدم التقني يحمل جانبا سلبيا يحضر‬
‫معه بربريته الوحشية التي تعود بالسوء على اإلنسان الذي أنتجها من خالل إلحاق ّ‬
‫الضرر بالبيئة‬
‫بالدمار على اإلنسان واألرض‪.‬‬ ‫وانتهاك الحق اإليكولوجي الذي ال يعود إال ّ‬

‫‪332‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫‪ -3‬التغريب‬
‫أدرك إدغار موران من خالل تحليله لواقع الحضارة الغربية وتشخيصه ألمراض العقل الحداثي‬
‫ّ‬
‫أن مشروع التغريب القائم أساسا على االنغالق حول الهوية الالتينية والدينية والقومية (موران‪،‬‬
‫وآخ‪ ،)62 ،2009 ،‬يعد من أبرز مقومات الحداثة وأهدافها الغربية التي يقف من ورائها علماء‬
‫ً‬
‫سياسة ومنظرين كثر على غرار األمريكي صمويل هنتنغتون الذي كتب في ربيع ‪ 1933‬مقاال موسوم‬
‫ب‪" :‬تصادم الحضارات"‪ ،‬تم نشره في مجلة "فورين أفريز" من أجل تقديم أطروحة جديدة‬
‫لألمريكيين حول املرحلة الجديدة التي تمر بها السياسة العاملية بعد نهاية الحرب العاملية‬
‫الثانية (سعيد‪ ،‬وآخ‪ ،)43 ،2009 ،‬والتي يعاد تشكيلها على أساس الهوية الثقافية‪ ،‬باعتبارها‬
‫العامل الرئيس ي في تحديد العالقات بين الشعوب‪ ،‬ويعتبر هنتنغتون فيها انتصار املعسكر الغربي‬
‫على املعسكر الشرقي هو بداية لصراع طويل ممتد بين الغرب النصراني والحضارة اإلسالمية‬
‫واآلسيوية نتيجة رفضهما للتغريب‪ ،‬وفي ذلك يقول هنتنغتون‪" :‬منذ منتصف التسعينيات‬
‫أصبحوا يترددون في إعالن تفوقهم على ثقافة الغرب‪ ،‬الحضارتان اآلسيوية واإلسالمية تقف‬
‫كل منهما منفردة في ثقافتها املتزايدة وتأكيد نفسها بالنسبة للغرب وأحيانا تتفقان معا‪".‬‬
‫(هنتنغتون‪ ،‬ص‪ )169 ،1999 ،‬فهنتنغتون يبدي تخوفه من الحضارتين اإلسالمية واآلسيوية ويرى‬
‫تفوق الغرب‬ ‫أن التحدي الذي يواجهه صانعوا السياسة في الغرب وأصحاب القرارات هو ضمان ّ‬
‫التفوق ضد البقية‪ ،‬وهو األمر الذي جعل من الفيلسوف إدغار موران يحذر من‬ ‫والدفاع عن هذا ّ‬
‫تفاقم الوضع الذي من شأنه أن يخلق بؤرا جديدة للصراع داخل األمم‪ ،‬تتزايد على إثرها‬
‫الصدمات واألحقاد واالنتفاضات وأعمال القمع والرعب‪ ،‬في ظل الهزات الكونية التي تتجابه فيها‬
‫الديانات فيما بينها في الشرق األوسط‪ ،‬والصراع اإلسرائيلي الفلسطيني املوجود في هذه املنطقة‬
‫الزلزالية‪ ،‬والذي يمثل في حد ذاته سرطانا ينذر انتقاله باالنتشار في أرجاء الكرة األرضية (موران‪،‬‬
‫وآخ‪ ،)63 ،2009 ،‬وفي ظل عجز أوربا عن إثبات وجودها سياسيا‪ ،‬وعجزها عن االنفتاح على اآلخر‬
‫ّ‬
‫الالغربي وإقصائها له‪ ،‬وعدم االعتراف بفضله مساهم في بناء حضارتها كاإلمبراطورية العثمانية‪،‬‬
‫باإلضافة إلى نسيانها أن املسيحية هي التي لم تبد في املاض ي تسامحا بالنسبة إلى أي ديانة أخرى‬
‫بينما كان اإلسالم األندلس ي والعثماني يقبل املسيحية واليهودية‪ ،‬وعليه فإن إصالح حضارة اليوم‬
‫ّ‬
‫وإنقاذها من شبح التدمير الذاتي لإلنسانية ال يمكن أن يكون إال من خالل إيجاد أشكال تطور‬
‫مغايرة لألشكال املستنسخة وفق النموذج الغربي (موران‪ ،‬وآخ‪ ،)65 ،2009 ،‬وبالتالي رفض كل ما‬
‫له صلة بمشروع التغريب‪.‬‬

‫‪333‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ثالثا‪ :‬ضرورة التفكيراملركب‬
‫ّ‬
‫املركب أو ّ‬
‫املعقد ‪ complexus‬هو ما تم نسجه ككل (موران‪ ،‬إ‪ ،)37 ،2002 ،‬وهو في الواقع مفهوم‬
‫حديث اإلنشاء واالستعمال‪ ،‬سواء في مجاالت البحث العلمي والدراسات اإلبستمولوجية أو في‬
‫مجال الفلسفة واإلنسانيات‪ ،‬ففي الفيزياء وعلم الفلك وعلم الحياة أجبرت الكشوفات العلمية‬
‫املتالحقة العلماء والدارسين على االعتراف بالتعقيد بوصفه واقعة علمية مخصوصة تتحرك في‬
‫فلكه املفاهيم اإلجرائية األخرى‪ ،‬وأوحت للفالسفة واألنثروبولوجيين بفكرة إنشاء فكر مركب‪،‬‬
‫تنوعها ّ‬
‫وتطورها وتناقضها‬ ‫يوحد بين املعارف واالختصاصات ويهدف إلى فهم الحقيقة اإلنسانية في ّ‬
‫وأخطائها وأزماتها‪...‬الخ (الكالعي‪ ،‬وآخ‪)348 ،2015 ،‬‬
‫ّ‬ ‫املركب أو ّ‬ ‫ّ‬
‫املعقد تشكل مشروعا فكريا مهما يتفق عليه عدد كبير من الفالسفة‬ ‫حيث باتت فكرة‬
‫والباحثين على غرار إدغار موران الذي جعل من فلسفته خليط مركب من نظريات متعددة من‬
‫األنثروبولوجيا والسبرانية املنظمة والقانون املركب وغيرها (عادل‪ ،‬ه‪ ،)619 ،2015 ،‬وهو ما دفعه‬
‫إلى الدعوة للتخلي عن النظرة األحادية لإلنسان وضرورة اإلقرار بالتعدد واالعتراف باآلخر إذ يقول‪:‬‬
‫"ينبغي للقرن الواحد والعشرين أن يتخلى عن الرؤية األحادية التي تنظر إلى اإلنسان من وجهة‬
‫نظر عقالنية (اإلنسان العاقل)‪ ،‬وتقنية (اإلنسان الصانع) ونفعية (اإلنسان االقتصادي)‪،‬‬
‫ومن وجهة نظر حاجاته الضرورية (اإلنسان النثري)‪ ،‬إن اإلنسان كائن مركب يتشكل من أزواج‬
‫من الخاصيات املتعارضة‪ ،‬العقل‪/‬الجنون‪ ،‬العمل‪/‬اللعب ال واقع‪/‬الخيال‪،‬‬
‫االقتصاد‪/‬التبذير‪ ،‬النثر‪/‬الشعر‪( ".‬موران‪ ،‬إ‪ ،)54 ،2002 ،‬فاإلنسان إذن هو كائن عاقل وعامل‬
‫وواقعي واقتصادي ونثري‪ ،‬وال يمكن اختزاله فقط في العقالنية أو التقنية‪ ،‬فإعادة االعتبار‬
‫لإلنسان وإعادة إدماجه في الطبيعة متوقف على إلزامية تبني الفكر املعقد‪ ،‬الذي يعبر عن ّ‬
‫تعقد‬
‫التعقد ‪ complexité‬ويعطي الكلمة لكل العلماء من‬ ‫ّ‬ ‫تعقد الطبيعة وطبيعة‬ ‫الواقع ويبحث في ّ‬
‫جميع االختصاصات انطالقا من البيولوجيا وعلماء النفس واالجتماع والتاريخ والجغرافيا واملناخ‬
‫ّ‬
‫إلى علماء األعصاب والتشريح والوراثة واللغة واالقتصاد والتقنيات الحديثة من أجل دراسة الكون‬
‫دراسة متكاملة تقترب من الجزئي وتعيد تنظيم الكلي (الخويلدي‪ ،‬ز‪.)61 ،2009 ،‬‬
‫التعقدية هذه ينبغي توافر شرط أساس ي يتمثل في ضرورة إصالح بنى هذا‬ ‫لكي يقوم الفكر بمهمته ّ‬
‫الفكر نفسه ألن األمر ال يقتصر على ترصيف معلومات متنوعة عن الطبيعة البشرية بل يتعدى‬
‫ذلك لفهم طبيعة هذه الطبيعة وإدراك الجانب الثقافي في هذه الطبيعة بإبراز نقاط الوصل‬
‫واألفكار الناظمة لها جميعا من أجل إدراك لحظات التأنسن ‪ ،hominisation‬يقول إدغار موران‪:‬‬
‫"إن إصالح الفكر مشكلة إنسانية وتاريخية هامة ولم يحدث في تاريخ البشرية أن كانت‬
‫مسؤوليات الفكر بهذا الثقل الذي صارت إليه اليوم‪( ".‬موران‪ ،‬إ‪ )61 ،2012 ،‬وبالتالي‪" :‬فإدغار‬
‫‪334‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫موران يشدد على أهمية النظر في إصالح الفكر البشري من خالل تحقيق التواصل بين الجسم‬
‫والروح وتجاوز الجدل العقيم بينهما خصوصا وأن الدماغ ينتمي إلى الدائرة البيولوجية‪ ،‬والروح‬
‫تنتمي إلى الدائرة الثقافية‪ ،‬وما يمكن القيام به ليس ضم الدائرتين ودمجهما في دائرة واحدة بل‬
‫تحقيق التواصل بينهما كدائرتين مستقلتين بين بعضهما‪( ".‬الخويلدي‪ ،‬ز‪.)49 ،2009 ،‬‬
‫املركب أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫من هنا يمكن القول ّ‬
‫املعقد هو عبارة عن ترياق إلصالح العقالنية الغربية‬ ‫إن الفكر‬
‫الحداثية املنغلقة‪ ،‬من خالل إدخالها في اإلطار التركيبي التكاملي بهدف التوصل إلى عقالنية‬
‫حقيقية منفتحة تكون ثمرة لنقاش األفكار باألدلة والبراهين دون احتكار أو اختزال لنظام أو نسق‬
‫معين لألفكار‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬تعليم الهوية األرضية‬
‫أصبح مفهوم الهوية مقولة مركزية داخل الدراسات الثقافية املعاصرة‪ ،‬بسبب االنتشار الكبير‬
‫ملظاهر العنف والفوض ى الناتجين عن حالة التعصب والتمييز العنصري التي أدت إلى إيذاء اآلخر‬
‫تعرف من‬‫وارتكاب املآثم في حقه‪ ،‬فالهوية هي مفهوم يتعلق باألوصاف الثقافية لألشخاص‪ ،‬التي ّ‬
‫خاللها بشكل وجداني‪ ،‬كما تهتم باملماثلة واملغايرة‪ ،‬وتعتبر إنشاء ثقافي‪ ،‬كون املصادر الخطابية‬
‫تعد مصادر ثقافية بطبعها‪ ،‬وبشكل خاص فنحن مشكلون كأفراد داخل‬ ‫مادية الهوية ّ‬ ‫تكون ّ‬ ‫التي ّ‬
‫أشخاصا (باركر‪ ،‬ك‪،2018 ،‬‬‫ً‬ ‫عملية اجتماعية يمكن فهمها عادة كمثاقفة ودونها ال يمكن أن نكون‬
‫‪ ،)381.382‬بمعنى أن ماهية الشخص تشكلها انتماءاته الثقافية‪ ،‬ودونها ال يمكن ملفهوم الهوية أن‬
‫يتضح لنا‪.‬‬
‫ينطلق إدغار موران في دراسته للهوية البشرية من تأكيده على األصل الواحد للبشر والذي‬
‫يتجسد من خالل املوروث الثقافي املشترك بين الجميع‪ ،‬على الرغم من االختالفات الفردية‬
‫ّ‬
‫واالجتماعية الظاهرة‪ ،‬حيث يقول‪" :‬إن املوروث الوراثي نفسه مشترك بين جميع البشر ويضم‬
‫جميع الصفات املوحدة األخرى (التشريحية‪ ،‬واملتعلقة بالشكل والدماغ) ويتيح التزاوج بين‬
‫جميع البشر‪ ،‬من أوربيين واسكيمو وأقزام‪ ،‬ويعيش كل فرد حياته ويكابد بوصفه فردا مميزا‪،‬‬
‫وهذه الخصوصية التي تميز كل شخص عن اآلخر مشتركة بين الجميع‪( ".‬موران‪ ،‬إ‪،)74 ،2009 ،‬‬
‫بمعنى أن التنوع الثقافي واالختالف العرقي واالثني ال يمنع من وجود روابط بيولوجية واجتماعية‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مشتركة‪ ،‬ناهيك عن اللغة التي تعد سمة جوهرية للوحدة البشرية التي يحظى من خاللها كل‬
‫مخلوق بشري بالقدرة على اإلفصاح عما في نفسه باإلضافة إلى وحدة االنفعاالت‪ ،‬والعواطف التي‬
‫ّ‬
‫تكون فطرية لدى الكائنات البشرية القديمة والحديثة كالتعبير عن الفرح‪ ،‬واللذة‪ ،‬والسعادة‪،‬‬
‫والحزن‪ ،‬والحب‪ ،‬والعطف‪ ،‬والصداقة واالحترام‪...‬الخ‪ ،‬وقد صدق فولتير حين قال‪ّ :‬إن للصينيين‬

‫‪335‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫متساو‪( .‬موران إ‪،2009 ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫واألوربيين العواطف نفسها وأنهم سيشعرون بالفرح والحزن على نحو‬
‫‪.)75.76‬‬
‫يجب علينا إذن أن نتعلم كيف نعيش فوق هذا الكوكب‪ ،‬وكيف نتقاسم األشياء بتساو وكيف‬
‫تعدديتنا‪ ،‬وأن نكون أكثر وعيا بأننا نعيش مع جميع الكائنات‬ ‫نتواصل‪ ،‬ونعترف بوحدتنا في إطار ّ‬
‫داخل محيط حيوي واحد نتخلى من خالله عن حلم السيطرة على الكون ونعمل أكثر على تنمية‬
‫الطموح نحو التعايش داخل كوكب األرض (موران‪ ،‬إ‪ ،)70 ،2002 ،‬وذلك متوقف حسب موران‬
‫على ضرورة إعادة تأسيس معنى لإلنسان من خالل اعتماد خطاب جديد حول عالقة األنا باآلخر‬
‫وفق نظرة متكاملة بين جميع األطراف‪" ،‬مع توفر الحد األدنى من التعايش واالندماج واإلحساس‬
‫باآلخر‪ ،‬ودون هذا الشعور بالتعاطف مع الغير واالنتماء إلى مجموعة سيكون الخراب وتجفيف‬
‫منابع الحياة من العالم اإلنساني‪( ".‬الخويلدي‪ ،‬وآخ‪.)1422 ،2014 ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولم يتوقف إدغار موران عند هذا الحد فقط بل اتخذ من التعاطف فضيلة بين الذوات لبناء‬
‫صا مع تنامي طرق‬ ‫الهوية املركبة كبديل للوضع البائس الذي آل إليه إنسان هذا العصر‪ ،‬خصو ً‬
‫تدميره وانحالله حيث يقول في هذا السياق "أنا أنفتح على اآلخر وأجعل من هذا اآلخر يثبت‬
‫هويته معي" (الخويلدي‪ ،‬وآخ‪ ،)1423 ،2014 ،‬فهويتنا إذن هي جمهرة من الهويات املتآلفة‬
‫ّ‬
‫والتعاطف هو اللحظة التي أحس فيها أنني أنت‪ ،‬وأكف عن اعتبارك مجرد موضوع بل إنني أدركك‬
‫كذات أخرى أتطابق معها وأجعلها متطابقة معي‪ ،‬وال شك أن الفهم هو الشرط األساس ي إلمكانية‬
‫التعاطف بين األنا واآلخر‪ ،‬فمثال‪" :‬إذا رأيت طفال يبكي سأفهمه ليس باالعتماد على قياس درجة‬
‫ملوحة دموعه‪ ،‬ولكن اعتمادا على الغوص في أعماقي واستخراج كل الشدائد التي عشتها في‬
‫طفولتي‪ ،‬إذ أجعل هذا الطفل متماهيا معي‪ ،‬كما أجعل نفس ي متماهية معه‪( ".‬موران‪ ،‬إ‪،‬‬
‫ّ‬
‫‪ ،)88 ،2002‬أي أن تعاطفي وشعوري بالحزن معه مكنني من فهمه وبالتالي التواصل معه‪ ،‬فال‬
‫ش يء إذن يمكن أن يحصل مستقبال بخصوص تطهير اإلنسان في الكون وتحقيق العيش املشترك‬
‫بين مختلف األعراق والثقافات دون هذا النمط من العالقات‪.‬‬
‫إن الهوية التي يقصدها إدغار موران ويؤكد على أهميتها لضمان مستقبل اإلنسانية هي‪" :‬الهوية‬
‫ّ‬
‫الكونية التي تضم االنتماء للعائلة والجهة والعرق واللغة والدين والوطن واملذهب الفلسفي‪،‬‬
‫والقارة واملحيط الجغرافي السياس ي في تركيب إنساني تعقيدي تعددي وفي تعايش حكيم‪،‬‬
‫يحافظ على تنوع الثقافات وتعدد املجتمعات واختالف األعراف‪( ".‬الخويلدي‪ ،‬وآخ‪،2014 ،‬‬
‫‪ ،)1424‬فمستقبل الهوية اإلنسانية مرتبط بمدى احترام الناس ملطلب انجاز الهوية األرضية أو‬
‫ّ‬
‫الكوكبية‪ ،‬التي لن تتحقق إال ضمن تحول الفرد إلى شخص كوني وتحول املجتمع إلى دائرة املجتمع‬
‫العاملي‪.‬‬
‫‪336‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫خامسا‪ :‬الوحدة املتنوعة للثقافة‬
‫يقصد بالثقافة في معناها الخاص تنمية بعض امللكات العقلية‪ ،‬أو تسوية بعض الوظائف‬
‫البدنية‪ ،‬ومنها تثقيف العقل‪ ،‬وتثقيف البدن‪ ،‬كأن تقول الثقافة الرياضية‪ ،‬والثقافة األدبية أو‬
‫الفلسفية‪ ،‬وباملعنى العام هي ما يتصف به الرجل الحاذق املتعلم من ذوق‪ ،‬وحس انتقادي وحكم‬
‫ّ‬
‫صحيح‪ّ ،‬أما إذا دلت الثقافة على معنى الحضارة‪ ،‬فسوف نلتمس لها وجهين‪ ،‬وجه ذاتي يتمثل في‬
‫ثقافة العقل‪ ،‬ووجه موضوعي يتمثل في مجموع العادات‪ ،‬واألوضاع االجتماعية‪ ،‬واآلثار الفكرية‪،‬‬
‫واألساليب الفنية واألدبية‪ ،‬والطرق العلمية والتقنية‪ ،‬وأنماط التفكير‪ ،‬واإلحساس‪ ،‬والقيم‬
‫الذائعة في مجتمع معين (صليبا‪ ،‬ج‪.)378.379 ،1982 ،‬‬
‫ّأما عند الفيلسوف إدغار موران فالثقافة تعني‪" :‬مجمل العادات‪ ،‬والتقاليد واملمارسات‪،‬‬
‫واملهارات‪ ،‬واملعارف‪ ،‬والقواعد‪ ،‬واملعايير‪ ،‬واملمنوعات‪ ،‬واالستراتيجيات واملعتقدات‪ ،‬واألفكار‪،‬‬
‫والقيم‪ ،‬واألساطير‪ ،‬والطقوس‪ ،‬التي تستمر من جيل إلى جيل وتتوالد داخل كل فرد‪ ،‬تنتج‬
‫التعقيد االجتماعي وتجدده‪( ".‬موران‪ ،‬إ‪ ،)77 ،2009 ،‬بمعنى أن الثقافة التي تبدو في ظاهرها‬
‫شديدة االختالف والتنوع هي واحدة في أصلها‪ ،‬ذلك أن جميع املجتمعات تتميز بطقوس دينية‬
‫وعبادات‪ ،‬وتقاليد‪ ،‬وقصائد شعرية‪ ،‬وطبوع موسيقية خاصة تساهم في إثراء البعد الثقافي‬
‫املشترك لإلنسانية‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن تعريف الثقافة البشرية حسب موران ال يمكن أن يضبط إال من خالل التنوع واالختالف ألن‬
‫الثقافة تتشكل من طريق الثقافات‪ ،‬وال يوجد مجتمع بشري قديم أو حديث من دون ثقافة تميزه‪،‬‬
‫والعالقة بين وحدة الثقافات وتنوعها أمر جوهري‪ ،‬فنحن نقول مثال األسطورة‪ ،‬لكن األسطورة ال‬
‫ّ‬
‫تنتشر إال من خالل األساطير‪ ،‬ونقول الشعر رغم أن الشعر ال يحرك مشاعرنا إال من خالل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األشعار‪ ،‬ونقول اللغة الخاصة رغم تنوع اللغات وثرائها على وجه األرض‪ ،‬ونقول املجتمع مع علمنا‬
‫ّ‬
‫أن إدراكه ال يتم إال من طريق األنماط املتنوعة للمجتمعات في تاريخ البشرية‪ ،‬والش يء نفسه‬
‫إن الوحدة هي التي تتيح هذه التعددية (موران‪ ،‬إ‪،‬‬ ‫للدين‪ ،‬والسحر لذلك يمكن القول ّ‬ ‫بالنسبة ّ‬
‫‪.)80 ،2009‬‬
‫انطالقا من هذا يدعو موران إلى تجنب إخفاء الوحدة عندما تتجلى االختالفات‪ ،‬وتجنب إخفاء‬
‫االختالفات عندما تظهر الوحدة‪ ،‬ألن االختالفات الشديدة قد تخفي الوحدة والوحدة األساسية‬
‫بإمكانها إخفاء االختالف (موران‪ ،‬إ‪ ،)2009،82 ،‬لذلك يؤكد على ضرورة انفتاح ثقافة ما وانغالقها‬
‫في الوقت نفسه‪ ،‬أي أن تنغلق باملحافظة على بنيتها وبعض من كلياتها الكبرى‪ ،‬باعتبار أن االنفتاح‬
‫الكلي يؤدي بها إلى الزوال واالنحالل والذوبان في الثقافة األخرى‪ ،‬وأن تنفتح جزئيا على الثقافات‬
‫األخرى ألن االنغالق التام يؤدي بدوره إلى االنحطاط والجمود وبالتالي االندثار‪ ،‬إذ يقول إدغار‬
‫‪337‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫موران في هذا الشأن‪" :‬إن االنفتاح على الذات واالنفتاح على اآلخر هما تحديدا وجهان لعملة‬
‫واحدة‪( ".‬الخويلدي‪ ،‬ز‪ ،)64 ،2009 ،‬بمعنى أن امليل نحو االنفتاح على الثقافات األخرى والتمازج‬
‫والتنوع في مقابل االنغالق الكلي هو الشرط الوحيد لتجديد وتطوير الخصوص ي واملساهمة في‬
‫إنتاج الكوني‪ ،‬لذلك نجد موران يحذر من الحضارة الغربية التي تعيش أزمات متعددة أمام‬
‫ّ‬
‫استفحال ظاهرة العوملة‪ ،‬التي أنتجت الفردانية واألنانية وحطمت جميع األشكال القديمة‬
‫وتسببت في قلق نفس ي وفكري في قلب اإلشباع املادي)‪ (Moran, E, , 2011, 22‬وخلقت‬ ‫للتضامن ّ‬
‫أفكارا فضيعة ال تمت بصلة لإلنسانية ومبادئها‪ .‬وأمام هذه النظرة القائمة على العزل واإلقصاء‬ ‫ً‬
‫فإن العالم سيكون عالم رعب وحرب‪ ،‬ومستقبل اإلنسانية سيكون محفوفا باملخاطر‬
‫والصراعات‪ ،‬والطريق الوحيد الذي ينبغي أن تسير فيه اإلنسانية مستقبال هو طريق االندماج‬
‫والتشارك والتعاون‪ ،‬من خالل التعود على اإلقامة مكان اآلخر واتخاذ هذا االلتقاء باآلخر كطريقة‬
‫إلنجاز اإلنسان لذاته‪ ،‬ثم تبني التصور الديمقراطي بوصفه اإلثبات االيتيقي لحقيقة العيش سويا‬
‫(الخويلدي‪ ،‬ز‪.)65 ،2009 ،‬‬
‫*‪ -‬خاتمة‬
‫يمكن القول باالستناد إلى ما سبق أن جهود الفيلسوف إدغار موران في قراءته لواقع الحضارة‬
‫املعاصرة بتجلياتها املختلفة وأبعادها املتنوعة‪ ،‬قد انصبت على جانبين اثنين‪ ،‬جانب نقدي‬
‫ّ‬
‫يستهدف النزعة التبسيطية واالختزالية التي شكلتها فلسفة الحداثة‪ ،‬وجانب تأسيس ي قائم على‬
‫بلورة فلسفة بديلة مبنية على ضرورة االعتراف بمدى تركيب العالم وتعقيد ظواهره‪ ،‬ولتوضيح‬
‫أكثر يجدر بنا أن نعرض أهم النتائج التي توصلنا إليها في بحثنا هذا ونجملها في النقاط التالية‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬شكل العقل تاريخيا أهمية كبيرة في تنظيم حياة االنسان ودورا بارزا في فهم العالم وما يحيط به‬
‫كما هائال من املعارف الصحيحة واملتكاملة‪ ،‬لكن وبالرغم من ذلك‬ ‫من تغيرات‪ ،‬وأكسب االنسان ّ‬
‫بات يمثل تهديدا لوجود االنسان ذاته‪ ،‬بعد أن أصبح خاضعا لقيم املادة‪ ،‬فاقدا للغاية وللقيم‬
‫الروحية‪ ،‬وقد تزامن ذلك مع بلورة املشروع التنويري للحداثة‪.‬‬
‫‪ -‬تسببت فلسفة الحداثة بفعل قيامها على التحرر املطلق وجعلها الذات مركزا لكل ش يء‪ ،‬ووثوقها‬
‫ّ‬
‫الالمحدود في نتائج العلم والتقنية‪ ،‬في تنامي الشعور باألنانية‪ ،‬وانعدام املسؤولية اتجاه اآلخر‬
‫املغيب عن الركب الحضاري‪ ،‬وتراجع قيم التضامن واملحبة والتسامح والتعايش‪ ،‬خصوصا بعد‬ ‫ّ‬
‫بروز املالمح الكبرى ملشروع التغريب املبني على أساس االنغالق التام حول الهوية الثقافية‬
‫ّ‬
‫الالتينية‪.‬‬
‫‪ -‬يرفض إدغار موران تلك الرؤية الدوغمائية التي تختزل االنسان في حدود العرق أو االيديولوجيا‪،‬‬
‫وينبذ بشكل واضح وصريح التصورات املذهبية والطائفية‪ ،‬ويدعوا في املقابل إلى االستثمار فيما‬
‫‪338‬‬
 ‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫هو مشترك بين الذوات‪ ،‬ويجعل من وجود اآلخر شرط ضروري ومهم في معرفة األنا‪ ،‬نظرا الشتراكه‬
‫معنا في تحديد مستقبل االنسانية‪ ،‬سواء كان هذا االنسان مشابها أو مخالفا لنا في سماته‬
‫الفيزيولوجية واالثنية والثقافية‪.‬‬
‫‪ -‬ال بد من تجاوز دائرة االنغالق واألنانية التي خلقت لنا عوالم خاصة‪ ،‬واالنفتاح والتعاطف مع‬
‫الجميع من أجل بعث رؤية جديدة في االنسان تحيي فيه روح األمل نحو القضاء على مظاهر القلق‬
‫واالضطراب واالغتراب‪ ،‬وتؤسس لثقافة االختالف واملشاركة والحب والتآخي والفعل وتعترف‬
‫األرضية التي أصبحت ضرورية لكل واحد منا‪ ،‬وتؤمن باملصير املشترك لإلنسانية‪ ،‬ويكون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالهوية‬
‫التعليم على هذا األساس هو املسؤول على توظيف هذه القيم بجعلها أهم أهدافه‪ ،‬حتى يبلغ‬
‫األدوار املنوطة به‪ ،‬ويحقق بذلك ما يسميه إدغار موران املواطنة الكوكبية‪.‬‬
‫*****‬
‫قائمة املصادرواملراجع‬
‫باركر‪ ،‬ك‪ .)2018( .‬معجم الدراسات الثقافية القاهرة‪ ،‬مصر‪ :‬رؤية للنشر ‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫بريه‪ ،‬إ‪ .)1982( .‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬الفلسفة اليونانية‪ ،‬لبنان‪ :‬دار الطليعة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫بوحناش‪ ،‬ن ‪ .)2003( .‬األخالق والرهانات اإلنسانية‪ ،‬املغرب‪ :‬إفريقيا الشرق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الخويلدي‪ ،‬ز‪ .)2009( .‬معان فلسفية‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪ :‬دار الفردق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الخويلدي‪ ،‬ز‪ .‬وآخ‪ .)2014 ( .‬الفلسفة الغربية املعاصرة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ :‬منشورات ضفاف‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ستيس‪ ،‬و‪ .)1984( .‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ :‬دار الثقافة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫صليبا‪ ،‬ج ‪ .) 1982 ( .‬املعجم الفلسفي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ :‬دار الكتاب اللبناني‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫طاهر‪ ،‬ع‪ .)2005( .‬نهايات الفضاء الفلسفي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ :‬مكتبة مدبولي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫طرابيش ي‪ ،‬ج‪ .)2006 ( .‬معجم الفالسفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ :‬دار الطليعة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عادل‪ ،‬ه‪ .)2015 ( .‬التقدم العلمي التقني وأزمة العالم‪(،‬قراءة في فلسفة إدغارموران املستقبلية)‪ ،‬مجلة‬ ‫‪-‬‬
‫األداب‪ ،‬ع‪ ،111 ،‬العراق‪.‬‬
‫الكالعي‪ ،‬م‪ .‬وآخ‪ .)2015( .‬الفلسفة الفرنسية املعاصرة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ :‬منشورات ضفاف‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫محمد‪ ،‬ا‪ .)2006 ( .‬هيدجر وسؤال الحداثة‪ ،‬املغرب‪ :‬إفريقيا الشرق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫موران‪ ،‬إ‪ .)2009( .‬النهج إنسانية البشرية الهوية البشرية‪ ،‬أبو ضبي‪ ،‬اإلمارات‪ :‬هيئة أبو ضبي للثقافة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫موران‪ ،‬إ‪ .)2012( .‬املنهج معرفة املعرفة‪ ،‬أنثروبولوجيا املعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ :‬املنظمة العربية للترجمة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫موران‪ ،‬إ‪ .)2012( .‬هل نسير إلى الهاوية ؟ املغرب‪ :‬إفريقيا الشرق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫موران‪ ،‬إ‪ .)2002 ( .‬تربية املستقبل‪ ،‬املعارف السبع لتربية املستقبل‪ ،‬املغرب‪ :‬دار توبقال‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫موران‪ ،‬إ‪ .)2010 ( .‬نحو سياسة حضارية‪ ،‬لبنان ‪ :‬الدار العربية للعلوم‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫موران‪ ،‬إ‪ .‬وآخ‪ .)2009( .‬هل ينحدر العالم ؟ سوريا‪ :‬دار الحوار‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫نبيلة‪ ،‬ا‪ .)2017( .‬صورة املعرفة في االبستمولوجيا التركيبية والتكاملية‪ ،‬األردن‪ :‬دار األيام‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫هنتنغتون‪ ،‬ص‪ .)1999( .‬صدام الحضارات وإعادة النظام العاملي‪ ،‬ط‪.2‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪339‬‬
‫مجلة دراسات إنسانية واجتماعية (‪ / )Journal of Social and Human Science Studies‬ج وهران‪ /02‬المجلد ‪ 09‬ع ‪2020 /06/ 16 /03‬‬
‫‪ISNN: 2253-0592 EISSN: 2588-199X / Prefix: 10.46315‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫*‪ -‬املراجع باللغة األجنبية‬

‫‪-‬‬ ‫‪Moran, E ( 2011) .La voie, pour l'avenir de l'humanité, France, fayard.‬‬
‫*‪ -‬امل واقع‬

‫‪ -‬بلعقروز‪،‬ع‪ .)2017( .‬أنماط العقالنية‪ ،‬رصد ونقد‪ ،‬االسترجاع من الرابط‪:‬‬

‫‪https://www.youtube.com/watch?v=ypDkqXoc26s‬‬

‫‪340‬‬