Professional Documents
Culture Documents
كلية التربية-مقرر مادة آسيا الحديث والمعاصر -س4 شعبة تاريخ - نالدكتور محمد صبري - 1
كلية التربية-مقرر مادة آسيا الحديث والمعاصر -س4 شعبة تاريخ - نالدكتور محمد صبري - 1
وعلى المدن الرئيسية والقضاء .وفي إطار األخذ بالفكر الكونفوشيوسي ،تم تأكيد
عدة مبادئ أخالقية وإدارية واجتماعية وفكرية مثل النزاهة ،والميل للخدمة
العامة ،ومحبة المعرفة .ومن تالقي المفاهيم الكونفوشيوسية مع القيم الحربية
التقليدية ،ولد القانون غير المكتوب للساموراي (المحاربين) ،ويعرف بـ
"البوشيدو" أو "طريق الجندي"(.)1
وفي سبيل العمل على استمراره أيضا ،اتجه نظام طوكوجاوا اإلقطاعي إلى
انتهاج سياسة قامت على تجميد بنيان المجتمع من خالل القيود والضوابط التي
فرضت على كل طبقة من طبقاته ،فكان لكل منها زيها الخاص ،وعاداتها وقيمها
السلوكية الخاصة بها ،والتي تختلف كثيرا عن الطبقات األخرى .وكان التمييز
واضحا بين فئة المحاربين (الساموراي) وبين طبقة العامة من الفالحين .ومن ثم
أصبح المجتمع في ذلك العصر يشتمل على مجموعة من الفئات اإلجتماعية التي
يعلو بعضها تبعا لدرجة سموها أو تدنيها من الناحية اإلجتماعية.
وفي ظل حكم طوكوجاوا كانت تركيبة المجتمع تتكون وفقا للترتيب التالي:
أسرة طوكوجاوا ببيوتها الثالثة ،وتأتي على قمة الهرم اإلجتماعي بما امتلكته من
سلطة وثروة .ثم مجموعة الدايميونات (أي كبار السادة اإلقطاعيين) .ثم يليهم فئة
المحاربين (الساموراي) الذين كانوا يشكلون جنود الجيش ،ويشغلون وظائف
اإلدارة في المقاطعات ،ويعيشون على مخصصات عينية من األرز يدفعها
الدايميونات لهم سنويا .ثم الفالحين الذين كانوا يشكلون أكثر من %80من
السكان ،ولم يكن من حقهم حمل السالح أو األلقاب العائلية ،بل يرتبطون باألرض
وال يستطيعون العمل بغير مهنة الفالحة وفقا لشروط محددة .ثم تأتي فئة
الحرفيين ،ويليهم التجار ،والذين قبعوا عند قاعدة الهرم اإلجتماعي .وأخيرا كان
هناك "المنبوذون" أحط فئات المجتمع ،وتكونوا من الجزارين والدباغين وصناع
السالل واألخفاف .ولقد كانت الفئات األخيرة ال تحظى باعتراف الس ْل َ
طة ،وال
تنال منها سوى اإلحتقار واإلزدراء واإلمتهان ،على أساس أنها كانت تعتبرهم
أدنى من البشر منزلة ،ومن ثم ال تدرجهم ضمن طبقات المجتمع .وعلى الرغم
من أن هذه التكوينة اإلجتماعية كانت متشابهة إلى حد كبير مع العصر السابق
على عصر طوكوجاوا ،إال أنها سوف تشهد تغيرات واضحة ،حيث ستلعب
الثروة دورا مهما في ذلك ،وهو ما سيمهد ويساعد على التغيير في عهد ميجي(.)1
ولقد عملت أسرة طوكوجاوا ما في وسعها أيضا من أجل استمرار عزلة
اليابان .وتأكيدا لذلك صدر قرار إمبراطوري في عام 1635م يحظر مجرد بناء
أية سفينة تكون لها القدرة على المالحة في أعالي البحار .وفي عام 1636م صدر
قرار إمبراطوري آخر يحرم على كل ياباني مغادرة أرض اليابان ،وبلغت العقوبة
على من يخالف ذلك حد اإلعدام .كذلك تم إغالق حدود اليابان في وجه جميع
األجانب على مدار مئتي عام ،ولم يستثن من ذلك سوى الهولنديين والصينيين.
كان ذلك يعود إلى الخوف من انتشار المسيحية ،والذي يتصل بدوره باإلستقرار
السياسي في البالد .فالبرتغاليون وصلوا إلى اليابان منذ عام 1542م بأسلحة أكثر
تطورا ،ورحب نبالء (دايميونات) غرب اليابان بهم ألنهم كانوا يقاتلون من أجل
استقاللهم المحلي ،بل إن أحدهم أرسل مبعوثا في عام 1551م إلى البرتغاليين،
وكان األمل يداعب بعض الرؤساء اإلقطاعيين الذين كانت سلطاتهم آخذة في
التدهور في هذه المناطق ،ومن ثم لم يقدر لهم أن يلعبوا دورا في الصراع الناشب
في ذلك الوقت باليابان.
وعلى ذلك فإن سياسة الغزلة التي فرضها الشوجونات من أسرة طوكوجاوا
منذ عام 1637م بمنع جميع أنواع اإلتصال باألجانب ،كان لها ما يبررها لسببين:
األول :من أجل األمن الداخلي ،واستمرار الشوجونية في الحكم وحماية نظامها
من ثورات النبالء األقوياء الذين قد يستعينوا بدول أجنبية بعقد محالفات معها
للوصول إلى الحكم أو لإلنفصال ،أو على األقل للحصول على أسلحة متطورة
لمناوأة النظام .ذلك أن طابع حكم الدايميونات اإلقطاعي والسلطات الواسعة التي
كان يتمتع بها بعض أمرائهم في غرب البالد جعل اليابان عرضة للتآمر
الخارجي .كما كانت بعض العشائر أن تتحدى مجتمعة أسرة طوكوجاوا؛ مثل
أسرة "تشوشو" التي كانت تقبض على مقاليد األمور في ١٣مقاطعة من مقاطعات
اليابان (البالغة ،)65وأسرة "ساتسوما" التي كان لها السلطان في جزيرة كيوشو.
من هنا كان خوف حكومة الشوجن من احتماالت قيام اتصال بين هذه العشائر
المناوئة وبين القوى الغربية التي بدأت تصل هذه المناطق.
الثاني :الحيلولة دون اتصال األجانب بالشعب الياباني .فقد اتضح أن اعتناق
المسيحية عن طريق المنصرين يخلق تعاطفا بين المسيحيين اليابانيين ومعلميهم
من األجانب ،كما اتضح ذلك من العصيان الذي قام به المسيحيون اليابانيون سنة
1637م في "بشمبارا" ،وتلقى العون من البرتغاليين ،واستدعى القضاء عليه
تجهيز جيش ضخم من قبل الشوجن .كان اليابانيون على علم تام بنشاط
البرتغاليين والهولنديين واإلسبان واإلنجليز بجزر المحيط الهادئ ،وخاصة في
الفلبين وملقا وجاوا .وقد زاد اهتمام الشوجن بمتابعة التحركات األوربية ،بعد أن
سمعوا في عام 1622م عن خطة إسبانية لغزو اليابان .وكانت إسبانيا تحتفظ بقوة
بحرية ضخمة في الفلبين ،وكانت اليابان المنطقة الوحيدة التي تستطيع إسبانيا
مهاجمتها دون الصدام مع البرتغال ،حسب التقسيم الذي أجراه البابا بين البرتغال
وإسبانيا .كان رد الفعل ضد هذه األنباء قويا وحاسما ،حيث أمرت حكومة الشوجن
بترحيل جميع اإلسبان من اليابان ،ثم وضعت سياستها الخاصة بالقضاء على
المسيحية في اليابان موضع التنفيذ ،وحرمان األجانب من كل فرصة تمكنهم من
الحصول على موطئ قدم في اليابان(.)1
غير أن سياسة شوجونية طوكوجاوا القائمة على العزلة لم تكن لتستمر ،كما
لم تكن تعني أن جميع سبل اإلتصال بالغرب قد قطعت .فمن ناحية لم يكن
الشوجونات في طلب لجنة خاصة لفحص طريقة عمل وأداء قطع المدفعية التي
أهدتها لهم شركة الهند الشرقية الهولندية ،وتقديم تقرير عنها .وفي سنة 1605م
حضر مدفعي هولندي وأقام لستة شهور في اليابان .وهكذا استطاع اليابانيون،
حتى قبل أن تعيد اليابان فتح أبوابها للغرب ،أن يتعلموا شيئا عن وسائل الدفاع
الحديثة ،ومنها أدركت اليابان مدى ضعفها بالنسبة لألمم األوربية.
وقد ظلت هذه العزلة قائمة حتى وصلت سفن "القومودور بري" أمام سواحل
اليابان في عام 1853م .والحقيقة أنه منذ بداية القرن التاسع عشر أخذ اتصال
اليابان بالعالم الخارجي يزداد ،رغم كل المحاوالت التي بذلها الشوجونات
لمواصلة سياسة العزلة .لقد كان الروس قد وصلوا إلى المحيط الهادئ في المناطق
الواقعة شماال .كما استقرت سلطة اإلنجليز في بالد الهند ،وأخذوا يظهرون قدرا
من القلق بسبب سياسة العزلة التي تنتهجها اليابان .غير أن هذه العزلة كانت
مصحوبة بمتابعة األحداث من حول اليابان(.)1
1علي محمد بركات :مرجع سابق ،ص .32 ،31ومصطلح "القومودور" يعني
"عميد بحري" أو "قائد مجموعة سفن".
غرب المحيط الهادئ وبين الصين تمر متفادية خليج اليابان ،رغم الحاجة إليه،
بسبب سوء معاملة البحارة اليابانيين لألجانب .ومع استخدام السفن البخارية على
نطاق واسع منذ منتصف القرن التاسع عشر ،تفاقمت المشكلة ،مما جعل الحاجة
ماسة لوجود محطات للتزود بالفحم .وعلى الرغم من تعديل اليابان لبعض نظامها
الصارم في مواجهة األجانب أثناء حرب األفيون ،حيث جعلت من حق السفن
األجنبية التزود بالماء والزاد بدال من إطالق النار على السفن التي ترسو على
شواطئها دون إنذار مسبق ،إال أن ذلك لم يكن كافيا لألمريكيين والغربيين.
وحقيقة األمر أن األمريكيين شرعوا منذ سنة 1815م في إجراء مباحثات
ترمي إلى فتح أبواب اليابان الموصدة ،فبعثت بـ "الكومودور بيدل" إلى "خليج
إيدو" في سنة 1846م ،لكن جهوده لم تسفر عن شئ ملموس .على أن مطامع
رجال أعمال األمريكيين في التوسع التجاري بمنطقة المحيط الهادئ من ناحية،
ونظر الحكومة األمريكية العتبارات استراتيجية من ناحية ثانية ،وأمل البعثات
التنصيرية من ناحية ثالثة في ممارسة مهامهم التنصيرية في اليابان ...كل ذلك
حمل الحكومة األمريكية على اتخاذ إجراء حاسم في هذا السبيل(.)1
والواقع أن اليابان كانت ،دون غيرها من دول الشرق األقصى ،أعلم بنيات
الدول الغربية وأصح تقديرا لقواها ،بسبب وجود عدد متزايد من المهتمين
بالمعارف الغربية ،والذين كانوا يطبقون على مسائل الدفاع القومي تلك المعارف
التي حصلوا عليها .إضافة إلى ذلك كانت هزيمة الصين في حربي األفيون حافزا
عظيما فتح أعينهم على ذلك الخطر الغربي الذي أدركوا أنه آت لهم في يوم من
األيام ،ومن ثم قاموا -في المدة التي أعقبت معاهدة نانكين 1842م -بنشاط كبير
للغاية لتقوية دفاعات الجزر اليابانية وضمان استقاللها(.)2
ص.166
2فوزي درويش :مرجع سابق ،ص.57
بانيكار :مرجع سابق ،ص .214 ،213رءوف عباس حامد :مرجع سابق، 3
ص.43
1في ذلك الوقت وقعت عدة اعتداءات على األجانب من بعض رجال الساموراي،
وتم إحراق المفوضية اإلنجليزية في سنة 1862م .وفي العام التالي تم إحراق
المفوضية األمريكية .كان رد الفعل الغربي عنيفا .ففي أغسطس 1863م دخلت
وحدات إنجليزية إلى "خليج كاشوجيما" ،وقصفت المدينة بالقنابل ،ثم قام أسطول
متحالف في سبتمبر بقصف وتدمير "قالع شوشو" وإبادتها ،األمر الذي ساعد
على إضعاف مركز حكومة الشوجن .فوزي درويش :مرجع سابق ،ص.59
2بانيكار :مرجع سابق ،ص.215
وأخذت تنمو تدريجيا حتى جعلت نظام العزلة كله يهتز من أساسه ،كما هيأت
الظروف لمرحلة جديدة ،ووضعت اليابان على أبواب العصر الحديث(.)1
ففي مسعاهم لإلستقرار والعزلة ،لم يتوصل حكام أسرة "الطوكوجاوا"
إلبطال تأثيرات قوى التغيير إبطاال تاما ،وال إيقاف تيار التطور الطبيعي .ومن
المؤكد أن تجميد المؤسسات السياسية في بلد من البالد هو أسهل من إيقاف اآلليات
التي تتحكم في حياته اإلقتصادية واإلجتماعية ،وهذا ما حدث في اليابان التي أدت
الوحدة السياسية والسالم الداخلي التي شهدتهما في عصر طوكوجاوا إلى إيجاد
الفرصة لنمو سوق قومي في النهاية نتيجة تطور التجارة ،رغم أنف النظام
الحاكم(.)2
لقد شهدت اليابان في عصر طوكوجاوا بعض التطور للرأسمالية التجارية.
وقد ارتبط هذا النمو بوجود ثالثة مراكز تجارية مهمة في كل من "أوساكا"
و"إيدو /طوكيو" و"نجازاكي" .كان ظهور هذه المراكز نتيجة لعوامل عديدة.
فأوساكا نشأ مركزها التجاري ألن حكومة طوكوجاوا لم ترغب في إقامة روابط
تجارية داخلية مباشرة بين اإلقطاعيات وبعضها البعض ،ومن ثم عملت على أن
يكون لكل أمير من أمراء اإلقطاع (الدايميونات) مستودعا يبيع فيه منتجات
إقطاعيته ،ويتعامل مع وسطاء التجارة في تلك المدينة .أما مركز إيدو فنشأ
باعتبار المدينة عاصمة الشوجون آنذاك ،والمركز اإلداري لليابان .ومع زيادة
سكانها (كانوا حوالي مليوني نسمة عام 1850م) أصبحت مركزا مهما من مراكز
اإلستهالك والتبادل بين الشوجون والتجار والحرفيين .أما نجازاكي فكانت الميناء
الوحيد الذي تتم فيه التجارة مع األجانب ،باإلستيراد والتصدير .ونتيجة لهذا
التطور التجاري ظهرت فئة من كبار التجار الذين يعملون في تجارة األرز والنقل
وتجارة العملة ،بل وأصبحوا أكثر ثراء من رجال الدايميو الذين أخذوا في
اإلقتصادي .لقد كان هناك نوعا من التعامل التجاري مع بعض الدول األوربية،
خاصة مع هولندة .وعلى ذلك فإن عصر طوكوجاوا كان من الناحية الفعلية عصر
نمو وتطور في اإلقتصاد الياباني ،حيث أصبح هذا اإلقتصاد في نهاية تلك الفترة
اقتصادا تجاريا يحمل بعض السمات الرأسمالية.
على كل فقد صاحب هذا التطور ظهور فئة جديدة من الرأسماليين التجاريين
والصناعيين تنافس بشكل قوي األرستقراطية العسكرية القديمة التي انقسمت
لقسمين ،وذلك بعد أن استطاعت الطبقة الجديدة أن تستميل إلى جانبها صغار
اإلقطاعين ،وأن تستخدمهم في نضالها ضد طبقة كبار اإلقطاعيين ،وكان ذلك
الصراع بداية عصر جديد يختلف عن سابقه .ولقد وضح ذلك التطور في ثورات
الفالحين التي زادت حدة وعنفا في أواخر عصر طوكوجاوا.
ولقد كانت هناك عدة عوامل ساعدت على قيام تلك الثورات ،منها أن العبء
األكبر من الضرائب وقع على كاهل الفالحين الذين كانوا يقدمون األرز
(المحصول الرئيسي في البالد) إلى الحكام اإلقطاعيين الذين زادت مطالبهم
المالية من الفالحين في شكل ضرائب إضافية كانت تذهب بما بقي لديهم من
المحصول .هنا لجأ بعض الفالحين إلى اإلستدانة بضمان أراضيهم التي سرعان
ما كانت تنتزع منهم لعجزهم عن السداد .وبذلك وجد تجار المدن الطريق أمامهم
ممهدا الستثمار أموالهم في الريف ،وأصبحت لهم مصالحهم الزراعية التي
جعلتهم طرفا في عملية اإلنتاج الزراعي في مواجهة األرستقراطية العسكرية
اإلقطاعية القديمة التي كانت األرض مصدر ثروتها وكيانها السياسي .وباإلضافة
إلى الضرائب الفادحة ،كانت اليابان تعاني في أواخر عصر طوكوجاوا من نقص
في المواد الغذائية بسبب الزيادة المستمرة في عدد السكان ،وهجرة
الكثير من الفالحين إلى المدن أو عملهم في الصناعات الريفية التي نمت نموا
كبيرا في تلك الفترة .أدى ذلك لنقص األيدي العاملة في الزراعة ،مما ترتب عليه
نقص اإلنتاج الزراعي مع زيادة الطلب على المواد الغذائية ،وخاصة األرز التي
ارتفعت أسعاره بصورة مستمرة .ولقد استفادت من ذلك طبقة التجار بقدر ما
خسر اإلقطاعيون والفالحون ،وإن كان ذلك قد تم بدرجات متفاوتة(.)1
ويمكن أن نضيف إلى ما سبق ظهور المجاعات التي بدأت في الظهور بشكل
متزايد منذ القرن الثامن عشر( )2ثم تفاقمت في سنوات 1840-1830م ،وخاصة
في شمال اليابان ووسطها ،بسبب سوء اإلدارة(.)3
ولم يكن أمام الفالحين للتعبير عن سخطهم من هذا النظام سوى الثورة ،بعد
أن أصبحت تعتصرهم األزمات .فقد ترتب على فشل الس ْل َ
طة في حل مشكالت
الفالحين قيام ثورة عارمة في ضواحي مدينة "أوساكا" سنة 1837م ،وتزعمها
أحد رجال الساموراي ،الذي دعا سكان المدن والريف إلى الثورة في وجه الحكام
القساة والتجار األثرياء الذين كونوا ثرواتهم على حساب الفقراء الجياع .ومع أن
الياباني شهد ،رغم ذلك ،بعض التطورات اإليجابية الناجحة ،وتمثلت في زيادة
الدخول المادية ،والتخصص في الزراعات ،وإجراء تعديالت في تقنيات
الزراعة ،وحدوث نوع من التكامل في األنشطة الريفية وفي نشاط التجارة ،وفي
حصول الفالحين على قدر أكبر من الحرية في تنظيم حياتهم القروية ،وفي تطور
تعليمي وثقافي ملموس من خالل المدارس ،حتى أنه مع نهاية حكم طوكوجاوا
كانت نسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة في اليابان تصل إلى حوالي %45بين
الرجال ،وحوالي %15بين النساء ،وهي نسب تتساوى والنسب الموجودة آنذاك
في بعض البالد األوربية ،وبل وتتجاوز كثيرا النسب في البالد اآلسيوية األخرى
آنذاك.
ماريوس جاتسن :الميجي آيشن وسياقها السياسي ،ص .12بحث في كتاب: 3
تلك الثورة تم سحقها في مهدها ،إال أنها زادت الناس جرأة على النظام ،وأخذت
ثورات الفالحين تظهر هنا وهناك(.)1
كانت هذه الثورة حلقة واحدة في سلسلة من الثورات التي قامت آنذاك ،واتسع
نطاق تمرد الفالحين ،وزادت أعمال الشغب بالمدن مع النمو المطرد لإلقتصاد،
وساعد على ذلك مد طرق المواصالت ،وزيادة تأييد الناس لحركات التمرد التي
اعتبروا قادتها "شهداء" عند موتهم .ورغم الثورات التي تفجرت في تلك الفترة،
إال أنها لم تقدم بدائل جوهرية من شأنها تغيير النظام اإلقتصادي واإلجتماعي
الذي أفرزها ،واتخذت المنشورات واإللتماسات التي تقدم بها الثوار صورة
مطالب وطنية محدودة .وهكذا تمثلت استجابة الحكومة لتلك القالقل والثورات في
شكل عدة إصالحات منها فرمانات تنهى عن اإلنغماس في الترف وتحظر الهجرة
من الريف إلى المدينة ،كما ألغت تلك المراسيم نقابات التجار ومنحت المزارعين
اإلقطاعيين فسحة من الوقت حتى يتمكنوا من تحصيل قيمة الديون المستحقة لهم
من أتباعهم ،وغير ذلك من األمور ،وهو ما أدى لزيادة األزمة(.)2
انعكست هذه التطورات على الحياة الفكرية؛ فمع والدة اإلقتصاد التجاري،
خاصة في المدن ،زاد التعطش إلى المعارف والتأمل الفكري .ونتيجة لقيام بعض
اإلتصاالت مع الغربيين ،ورفع الحظر عن استيراد الكتب األوربية في عام
1720م ،باستثناء الكتب الدينية ،كرس بعض اليابانيين جهودهم لدراسة العلوم
األوربية ،فتعلموا الهولندية .وبعد عدة عقود ألف هؤالء قاموسا هولنديا يابانيا،
وترجموا إلى اليابانية بحثا في علم التشريح .وفي حوالي منتصف القرن التاسع
عشر غدا العديد من اليابانيين خبراء في العلوم الغربية المتخصصة كصناعة
السالح والسفن والتعدين والفلك والطب والخرائط .وعلى الرغم من قلة عدد
هؤالء ،إال أنهم شكلوا فريقا من التقنيين ممن كانت له قيمة كبرى ،وكان
باستطاعته إع طاء دفعة جديدة لتطوير العلوم .بيد أن األهم من ذلك أن هؤالء
الناس ساعدوا على يقظة الوعي القومي الياباني من خالل كتاباتهم السياسية
والتاريخية والدينية(.)1
في اإلطار السابق أخذ بعض المثقفين المنتمين للفئة العليا من األرستقراطية
العسكرية (الساموراي) يعيدون تفسير تعاليم كونفوشيوس على ضوء الظروف
الجديدة ،فاعتبروا حكم أسرة طوكوجاوا اغتصابا لسلطة اإلمبراطور الشرعي،
ومن ثم ال يجب طاعته .وقد ساعدت الظروف الدولية في اإلجهاز على ذلك
النظام اإلقطاعي ،فلم يعد مجديا استمرار سياسة العزلة التي فرضها الحكام
اإلقطاعيون على اليابان خشية وقوعها فريسة لالستعمار الغربي .وأمام اضطرار
الشوجون لفتح بعض الموانئ أمام السفن األجنبية ،تدعمت التأثيرات الفكرية
الغربية التي وفدت إلى اليابان وأصبحت تجذب اهتمام بعض المثقفين(.)2
إن ما حدث لليابان كان يمثل تطورا ثوريا وعميقا .ومن هنا تعددت المقوالت
في توصيفه ،من حيث أسبابه البعيدة .ويرى البعض أن اليابان كانت في منتصف
القرن التاسع عشر تكابد حالة من التبلبل العميق التي تتطلب ظهور نظام سياسي
جديد ،إما ألن نظامها السياسي أصبح يحمل أثقال قرنين من التمسك بالقديم
واليقظة القومية ،وإما بسبب نهضة اإلقتصاد التجاري .ولكن ځكام عصر
طوكوجاوا طوروا عادات اإلستقرار بحيث أن اآللة السياسية واإلدارية القديمة
تابعت حركتها دون تغيير .ثم جاء تدخل قوى خارجية ،مثل األوربيين
واألمريكيين ،ليساعد على حدوث التغيير(.)3
وعند البعض أن "اإلنقالب" الذي استعاد به اإلمبراطور سلطته كان من
اجتماع كلمة بعض الساموراي (الذين اختلفوا مع سلطة طوكوجاوا) ،مع كلمة
المثقفين المنتمين إلى الطبقة نفسها ،وإلى صغار المحاربين وأثرياء التجار
وأعيان الريف .لقد أيقن هؤالء أن اليابان في مواجهة أعبائها الجديدة تحتاج لقيام
دولة وطنية موحدة ذات سلطة مركزية قوية تضع حدا لفوضى الصراع بين
الحكام اإلقطاعيين .وقد وجدت هذه العناصر في شخص اإلمبراطور
"موتسوهيتو" الرمز الذي يمكن أن تجتمع حوله البالد لما يمثله شخصه من قداسة
باعتباره "سليل لربة الشمس التي أورثته ملك بالد اليابان" .ومن ثم فإن استخدام
اإلمبراطور كرمز لحركة سياسية سيضفي عليها الصبغة الشعبية(.)1
ويضيف البعض أن رياح التغيير التي هبت على المجتمع الياباني وعصفت
به في نهاية األمر تحركت من على األرض اليابانية ذاتها ،حين أثارتها عوامل
التفسخ التي عاني منها المجتمع اإلقطاعي منذ القرن الثامن عشر .ثم جاء الضغط
الغربي على الس ْل َ
طة اإلقطاعية إلنهاء العزلة السياسية التي فرضتها على البالد،
ومن بعده جاء اإلنفتاح على العالم الخارجي ليزيد من قوة اندفاع رياح التغيير
التي أصبحت بمثابة عاصفة هوجاء ،فاقتلعت الس ْل َ
طة اإلقطاعية من جذورها،
وتركت التربة صالحة لقيام نظام جديد يختلف عن سابقه في سماته اإلقتصادية
واإلجتماعية والسياسية والفكرية.
وعلى أية حال فقد بدأ اإلنقالب بانتقال العاصمة من "كيوتو" في الجنوب،
إلى "إيدو" في وسط شرق البالد (والتي أصبحت تسمى بطوكيو –أي العاصمة
الشرقية -منذ لك الوقت) .واقترن هذا اإلنتقال بإقصاء آخر حكام طوكوجاوا من
الشوجون عن الس ْل َ
طة بقرار من اإلمبراطور ،كما أنه اقترن بمجموعة من
اإلصالحات والتغييرات التي طالت األوضاع اإلقتصادية واإلجتماعية واإلدارية
والقانونية والتعليمية( )2وغيرها من التغييرات والتطورات التي سنتابعها في
الصفحات التالية.
1إيجور اليتشيف :الميجي آيشن :ثورة بورجوازية لم تكتمل ،ص .57في كتاب:
الثورة اإلصالحية في اليابان.
2أدوين أولدفاذر ريشاور :مرجع سابق ،ص.92 ،91
3بانيكار :مرجع سابق ،ص .220فوزي درويش :مرجع سابق ،ص.66
عليها إعادة بناء قوة اليابان ،وإعادة الثقة إلى نفوس الناس وجعلهم ينظرون إليها
باعتبارها حكومة قومية صادقة ،خاصة وأن النظام السابق كان قد وصل إلى
حالة من اإلفالس.
كان ع ْمر "موتسوهيتو" عندما استعاد سلطته اإلمبراطورية حوالي 15عاما،
لكنه كان ذكيا ونشيطا ومستنيرا ،ومن هنا سمي بـ "الميجي" أي "المستنير".
على أن ميجي لم يكن يملك من الخبرة السياسية ما يؤهله لتغيير النظام القائم .أما
الس ْل َ
طة الحقيقية ،في بداية عهده ،فكانت في يد مجموعة صغيرة من نبالء البالط،
باإلضافة إلى حفنة من العسكريين (الساموراي) الذين ينتمون للمقاطعات التي
ساهمت في إسقاط النظام القديم وصناعة النظام الجديد .وفي بداية األمر كان
خمسة من هؤالء يسيطرون على مقاليد األمور ،وكانوا جميعا من غالة الوطنيين
الذين يعملون للمصلحة العامة بتفان بالغ وبعد نظر ،رغم ما ارتكبه بعضهم من
أخطاء .ولقد كانت قيادتهم جماعية ،فلم يحدث أن انفرد أحدهم باتخاذ قرار.
كان على القيادة الجديدة أن تواجه المشكالت الملحة ،وعلى رأسها :إصالح
مالية البالد ،ومقاومة الزحف الغربي( .)1كذلك كان اإلتفاق تاما بين زعماء
النهضة على أن إقامة الدولة الحديثة في اليابان يتطلب قيام حكومة مركزية قوية،
يساندها اقتصاد موجه ،وجيش قوي يضارع أقوى الجيوش األوربية وتستطيع به
اليابان أن تواجه التدخل األجنبي ،باإلضافة إلى ضرورة إصالح النظام
التعليمي(.)2
وفي أبريل 1868م تم عقد اجتماع امبراطوري مهم ضم نبالء البالط ورجال
الدايميو والساموراي ،وفيه أدى اإلمبراطور ميجي "يمين الوالء لميثاق األمة"
وأعلن "العهد اإلمبراطوري" الذي تمت صياغته بعبارات عامة تجنبت ببراعة
التحديد والتفصيل( .)1ولقد تضمن العهد خمسة أمور رئيسية هي-:
األولى :أن تتم دعوة "جمعية عامة" كبيرة العدد لالجتماع ،وأن تتخذ كافة األمور
عن طريق المناقشة الجماهيرية العامة .وهذه المادة لم تكن تعني خطوة نحو
الديمقراطية ،بقدر ما كانت محاولة ذكية لحشد الدعم لنظام الحكم الجديد.
الثانية :أن يكون للحكام والمحكومين الحق نفسه في إبداء الرأي ،على أن تدار
الحكومة بقوة وحسم.
الثالثة :أ ن عامة الشعب ال يقلون عن المسئولين المدنيين أو العسكريين ،ومن ثم
يسمح لكل منهم بتحقيق أمانيه ،وهو ما كان يعني رفع الحواجز اإلقطاعية ،وفتح
كل المجاالت لمن يمتلكون الموهبة.
الرابعة :يجب التخلي عن كافة التقاليد والعادات الغريبة التي كانت سائدة ،على
أن يتم ذلك وفقا لمبادئ العدالة والمساواة حسب الفطرة.
الخامسة :أنه سيجري العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم ،بما يؤسس
الدولة اليابانية على أسس متينة .وهذا يعني أن التحديث صار هدفا رسميا
ورئيسيا ،ولكن في ظل الحكم اإلمبراطوري وإرث الماضي(.)2
وعلى كل فعلى إثر تنازل آخر شوجونات أسرة طوكوجاوا عن سلطته
وممتلكاته ،تم البدء في إحداث مجموعة من التغييرات اإلدارية واإلقتصادية
واإلجتماعية والعسكرية والسياسية والتعليمية ،والتي يمكن تناولها فيما يلي-:
تكون على عتبة نهضة دون عوائق أو عراقيل .وهكذا فبعد القضاء على مقاومة
بقايا القوات المؤيدة للنظام القديم ،وخاصة في الشمال؛ اتخذت الحكومة عدة
خطوات لتحقيق التجانس بين اإلقطاعيات توطئة لتوحيد البالد ،وأصدرت
األوامر لسادة اإلقطاعيات لتوحيد نظم اإلدارة ،وفصل األمور الشخصية عن
األمورالعامة والميزانية"(.)1
ففي مطلع سنة 1868م تم تأسيس إدارة إقليمية تابعة لإلمبراطور ،ثم استبدلت
في منتصف السنة نفسها بإدارة مركزية تضمنها دستور سنة 1868م .وبمقتضى
ذلك أصبحت الس ْل َ
طة العليا في البالد في يد "مجلس الدولة" الذي انقسم بدوره إلى
ثالثة أقسام :قسم تشريعي ،وقسم تنفيذي ،وقسم قضائي .وبذلك تحقق ،نظريا،
مبدأ الفصل بين السلطات على النمط الغربي .ولقد شهد هذا النظام بعض
التعديالت في سنتي 1869م و1871م(.)2
إن الس ْل َ
طة المركزية كانت تتناقض مع نظام الحكم اإلقطاعي الذي ساد قبل
ذلك العصر .وهكذا تمثلت أول الخطوات التي تمت لمركزة الحكم في إلغاء الحكم
الذاتي الذي ظلت تتمتع به العشائر ،والذي كان أحد مظاهر تفتت الس ْل َ
طة في ظل
النظام اإلقطاعي .لكن إلغاء النظام اإلقطاعي رسميا لم يكن يعني التخلص نهائيا
من بقايا العالقات اإلقطاعيات التي كانت قائمة في اليابان .وفي هذا اإلطار يمكن
القول أن سنوات 1890-71م كانت بمثابة فترة سيطرت فيها العشائر التي قامت
بالثورة ضد حكم طوكوجاوا ،وتركزت كل مقاليد الس ْل َ
طة في أيديها رغم تخفيها
وراء بعض مظاهر الالمركزية ،كما أنها لم تعبأ كثيرا بمطالب الحرية التي راح
يطالب بها بعض المثقفين الذين تأثروا باألفكار األيديولوجية الغربية(.)3
وفي هذا اإلطار أيضا جرى تقسيم المناصب الكبرى بين رجال البالط ورجال
الدايميو ،في حين تم شغل الوظائف الصغرى ذات المسئولية التنفيذية من خالل
طائفة طموحة ومستنيرة من شباب الساموراي من ذوي الكفاءة والوالء للحضارة
الغربية( .)1لكن توزيع هذه المناصب كان يتم وفق معايير جديدة تم وضعها
للوظائف اإلدارية ،بما كفل أيضا الفرصة أمام الموظفين المحليين ،والذين كانوا
من عامة الشعب ،للترقي إلى الكوادر األعلى في النظام اإلداري(.)2
على أية حال فإن بعض األفراد من "أسرة فوجيوارا" القديمة ،والذين تمتعوا
بمواهب عالية ،التفوا حول اإلمبراطور الجديد .ويذكر البعض أن متوسط أعمار
هؤالء الرجال في عام 1868م تراوحت بين 27و 41عاما ،أي أن متوسط
أعمارهم كان منخفضا ،بحيث لم يكن غريبا قابليتهم الفذة للتغيير ،وتبنيهم له(.)3
وفي خريف سنة 1870م أصدرت الحكومة أوامرها بإجراء إصالحات في
إدارة اإلقطاعيات ،وقامت بتصنيفها حسب حجمها ،فكانت هناك اإلقطاعيات
الكبيرة والمتوسطة والصغيرة .وفي سنة 1870م ألغت الحكومة نظام اإلقطاعيات
لتبدأ عملية إعادة توحيد البالد ،وإعادة تقسيم المناطق .وبعد أن كانت اليابان تضم
250إقطاعية ،أصبحت تضم 50محافظة( .)4وقد انقسمت كل محافظة لمجموعة
من األقاليم الكبرى التي كانت تنقسم بدورها إلى عدد من األقاليم الصغرى ،وكان
يرأس كل وحدة من هذه الوحدات موظف تعينه الحكومة المركزية .وفي سنة
1878م ألغي نظام األقاليم ،وأصبحت المحافظات تنقسم إلى وحدات إدارية هي
المدن والقرى ،فيدير كل مدينة أو قرية مجلس يمثل فيه سكانها ويرأسه موظف
يمثل الس ْل َ
طة المركزية .وقد تفاوت عدد المحافظات بين الزيادة والنقصان حتى
هنا شعرت العائالت األخرى بضرورة اإلقتداء بهم .هكذا ،وفي حركة واحدة،
تخلصت اليابان خالل بضعة أشهر من تجزئة إقطاعية دامت لقرون عديدة .على
أن الدايميو السابقين استعادوا باليمين بعض ما أعطوه بالشمال ،فبتعيينهم حكاما
على إقطاعياتهم القديمة ،تلقوا على شكل أجور عشر اإليرادات التي تخلوا عنها.
على أنه بعد عامين اثنين ،حدث إصالح آخر أكثر جذرية(.)1
فأمام عجز اإلمكانيات الموجودة لدى الحكومة المركزية الجديدة ،والتي لم
يكن لديها من سوى تلك اإلمكانيات التي آلت إليها من حكومة طوكوجاوا ،اتجهت
هذه الحكومة للسيطرة على كل أمالك الدايميونات ،وذلك من أجل توفير القدرات
المادية الالزمة لنظام الحكام الجديد .وفي هذا اإلطار صدرت األوامر إلى كل
رجال الدايميونات بتسليم سجالت األراضي التي في حوزتهم( .)2وهكذا تم إلغاء
اإلقطاعيات بشكل نهائي ،وتم تقسيم البالد إلى محافظات تابعة لطوكيو مباشرة.
وفي هذه المرة لم يعد الدايميونات يحتفظون بشئ من امتيازاتهم ،بل عوضتهم
الحكومة -هم وأتباعهم -بمكافآت ضخمة حرصت على أن تقدمها في شكل
معاشات أو سندات حكومية لكي تضمن الطاعة المطلوبة للنظام من السادة
المخلوعين .ولقد أصبح الدايميونات بعدها نموذجا للوالء والخضوع(.)3
-3التغيريات اإلجتماعية
وجهت الحكومة جهودها للنواحي اإلجتماعية ،فقضت –بالتدريج -على
األعراف والقيود اإلجتماعية الطبقية التي كانت سائدة وخلفتها طبقة الشوجون.
وفي هذا السياق أصبحت حرية التنقل مكفولة للجميع ،وأصبح لكل فرد الحرية
في اختيار المهنة التي يريدها ،وأصبح الزراع أحرارا في زراعة المحاصيل التي
يريدونها .وفقا لهذه التغييران ،انقسم اليابانيون إلى عدة فئات" :فئة األشراف/
كبيرة لليد العاملة المؤهلة( .)1ولذلك تم في سنة 1871م إنشاء وزارة للمعارف،
تم تكليفها بوضع نظام للتعليم يحقق هذا الهدف.
بدأت الوزارة العمل بإنشاء مرحلة التعليم اإلبتدائي على غرار التعليم
الفرنسي ،وكان كل طفل ملزما بقضاء ثالث سنوات على األقل فيها .ولم تلبث
الوزارة أن أنشأت آالف المدارس اإلبتدائية والفنية العليا للطب والزراعة
والتجارة وصيد األسماك ،باإلضافة لمدارس البحرية .كذلك تم إنشاء عدة
جامعات ،أولها جامعة طوكيو في سنة 1877م ،ثم تلتها العديد من الجامعات
العامة والخاصة (مثل جامعة واسيدا ،وجامعة كيوتو ،وجامعة كييو) ،حيث كان
نظام التعليم فيها في البداية خاضعا لمؤثرات أمريكية بالدرجة األولى ،ثم
للمؤثرات األلمانية( .)2ونتيجة لهذا التأثير مضت الحكومة في تأكيدها للجانب
النفعي والعملي للعلم والمعرفة ،فلم تكن الجامعة تضم في البداية كليات العلوم
اإلنسانية ،كاألداب والقانون ،ولكنها ضمت كليات للهندسة والطب والزراعة(.)3
ولقد استمر النظام التعليمي آنذاك على الشكل الهرمي ،حيث تتألف قاعدته
من ست سنوات من الدراسة اإلبتدائية اإلجبارية التي كان التعليم فيها باللغة
اليابانية( ،)4تأتي بعدها مرحلة متوسطة من خمس سنوات ،ويليها ثالث سنوات
من الدراسة الثانوية .أما القمة فهي الدراسة الجامعية التي كانت تمتد لثالث
سنوات .وعلى أية حال ،فمع مجئ القرن العشرين ،كان كل أطفال اليابان قد تم
إلحاقهم بالمدارس ،واقترب معدل من يعرفون القراءة والكتابة من هذه النسبة.
ولقد أشرفت الدولة على نظام التعليم ،فوفرت له كل ما استطاعت من
مقومات ،وحررته من الضغوط اإلجتماعية والدينية ،وصبغته بدرجة من
العقالنية والدنيوية والعملية والنفعية بشكل فاق التعليم في الغرب ،كما جعلته في
خدمتها وتلبية احتياجاتها في كل المجاالت.
وفي هذا اإلطار علينا أن نشير إلى اهتمام اليابان بدراسة التجارب الغربية
واإلستفادة منها ( .)1لقد كان العقدان األوالن من عهد ميجيبمثابة حقبة تقليد مكثف
عبر عن رغبة اليابانيين في أن يتمثلوا -حتى األعماق -عناصر الحضارة الغربية
التي اتخذوها نموذجا .لكن التقليد المفرط تطور مع الوقت وارتدى صفة
المنهجية ،فتم اختيار العلماء بعناية تبعا لتبحرهم في العلم وتخصصاتهم .كما أن
اختيار البالد التي سوف يرسلون إليها خضع للعناية نفسها .وقد حرص اليابانيون
على أال يستعيروا إال األفضل من كل بلد .ومن هنا ذهبوا إلى إنجلترا لدراسة
المالحة ،وإلى ألمانيا لدراسة الطب والفنون العسكرية ،وإلى فرنسا لدراسة
اإلدارة المحلية والحقوق ،وإلى الواليات المتحدة األمريكية لدراسة األساليب
التجارية .وهكذا لم يكن العالم بالنسبة لهم إال مدرسة كبيرة ،ولكنهم يحددون
بأنفسهم المنهج الذي يرغبون في دراسته ،ويختارون أساتذتهم في حرية،
ويقررون بدقة كيفية استعمال معارفهم الجديدة.
وفي هذا اإلطار أيضا فإنهم لم يترددوا في استقدام الخبراء األجانب ودفع
أعلى المرتبات لهم ،رغم ظروفهم المادية الصعبة في البداية .وبعد أن وضع
اليابانيون أنفسهم بترو وتصميم على طريق مدرسة الغرب ،بدأوا في االبتكار
والتجديد(.)1
من ناحية أخرى أدت التطورات التي شهدتها اليابان ،باإلضافة إلى اإلتصال
بالغرب (عن طريق البعثات أو باستقدام الخبراء) ،إلى ظهور جيل جديد من
المثقفين والمفكرين اليابانيين الذين بدأوا ينظرون إلى العالم وبالدهم نظرة جديدة.
انعكس ذلك في ظهور العديد من المفكرين واألدباء والمؤرخين والصحفيين الذين
كتبوا في الكثير من األمور السياسية واإلقتصادية واإلجتماعية وغيرها من أمور
العصر ومشكالته ،كما ترجموا العديد من الكتب واألفكار الغربية إلى اللغة
اليابانية .ومن الصحف التي ظهرت في تلك الفترة صحف "آساهي" و"ينتشي"
و"يوموري" و"هوتشي"(.)2
ولعل من المفيد أن نشير إلى أمر مهم تحدث عنه "بانيكار" ،وهو أن الكتاب
الغربيون ارتكبوا عدة أخطاء ،خاصة في الفترة السابقة على سنة 1930م ،منها
زعمهم بأن اليابان راعتها حضارة الغرب واعتقدت بتفوقها المعنوي .وعنده أن
ذلك غير صحيح بالمرة .ففي حين أن زعماء النهضة اليابانية اقتبسوا من الغرب
بجد وحمية شديدة جميع التنظيمات البحرية وغيرها ،وأنشأوا دولة عصرية تماما،
فإنهم في الوقت نفسه كانوا يتخذون كل احتياط للتحقق من عدم تغلغل األفكار
- 5اإلصالحات العسكرية
عندما أصبح قادة اليابان الجدد في أعلى المناصب ،ألزموا أنفسهم منذ البداية
بأن يزودوا البالد بدفاع أرضي وبحري ال يقل فاعلية عن دفاعات الغرب .وال
يمكن لمثل هذا اإلهتمام أن يثير دهشتنا عندما يصدر عن رجال نشأوا منذ نعومة
أظفارهم على احترام التقاليد العسكرية وشعروا دائما بالمهانة من تفوق قوات
الغرب .ويمكننا أن نفهم دون عناء أنهم كانوا مهووسون باإلستقالل العسكري.
ولعل الشعار الشعبي الذي رفع في اليابان آنذاك "بلد غني وجيش قوي" ليلخص
لنا كيف اهتم هؤالء بتقوية قواتهم العسكرية ،جنبا إلى جنب مع إعادة صياغة
البني السياسية واإلقتصادية واإلجتماعية والثقافية للبالد"(.)2
لقد وجد رجال الحكومة الجدد أنهم -وبعد إلغاء الطبقة العسكرية القديمة
المتمثلة في رجال الساموراي المحاربين -أصبحوا في حاجة ماسة إلى إنشاء
قوات مسلحة عصرية تكون بديلة للقوات القديمة ،وتستطيع التصدي للتدخل
األجنبي .ولقد كان ذلك يحتاج إلى إجراء العديد من التغييرات الجذرية ،سواء في
مركزية القيادة أو التجنيد والتدريب والتسليح.
في هذا اإلطار شهد الجيش الياباني مجموعة ضخمة من التغييرات .كانت
أول خطوة في بناء الجيش الحديث تتمثل في إنشاء إدارة للشئون العسكرية ،والتي
أصبحت مهمتها توحيد القوات المسلحة وإعادة تنظيم هياكلها وتدريبها وتوحيد
تسليحها( .)1أما الخطوة التالية فكانت تتمثل في إدخال التجنيد اإلجباري سنة
1873م ،وهو النظام الذي كان مقتبسا من النظام العسكري األلماني ،وبمقتضاه
سار تکليف جميع الذكور من فوق سن العشرين بتأدية الخدمة العسكرية لمدة
ثالث سنوات (كانت السنوات الثالث هي مدة الخدمة الفعلية التي كان على كل
ياباني أن يقضيها تحت السالح ،أما مدة الخدمة االرسمية فامتدت إلى 12سنة).
وبمقتضى هذا النظام استطاعت اليابان (في سنة 1894م) أن تجند 73ألف جندي
يمكن زيادتهم عند الحرب إلى 200ألف .وتمت اإلستعانة في تنظيم الجيش
باستقدام بعثة عسكرية فرنسية ،ثم ما لبثوا أن استبدلوها بمستشارين عسكريين
ألمان .وأنشئت بحرية صغيرة تحت رعاية عدد من الخبراء اإلنجليز( .)2وفي سنة
1878م تشكلت أول هيئة لألركان العامة .وفي سنة 1882م تم إنشاء أكاديمية
للعلوم العسكرية .ولقد أخذت القوات المسلحة اليابانية تنمو بصورة مطردة،
وحدث الشئ نفسه بالنسبة للبحرية ،فزادت من 17قطعة بحرية مجموع حمولتها
13ألف طن في سنة 1873م إلى 76قطعة بحرية مجموع حمولتها 250ألف
طن ،باإلضافة إلى 76زورق طوربيد ،وذلك في سنة 1903م .ومع نهاية الحرب
العالمية األولى كانت اليابان الدولة البحرية الثالثة في العالم بعد الواليات المتحدة
األمريكية وإنجلترا .وقد ساعد على فاعلية القوة البحرية اليابانية تركزها في
منطقة واحدة هي المحيط الهادئ وبحر الصين.
على أية حال أثمرت هذه الجهود ،وظهرت كفاءة القوة العسكرية اليابانية في
ثالثة حروب متتالية هي :الحرب الصينية اليابانية 1895-94م ،والحرب اليابانية
الروسية 1905-1904م ،والحرب العالمية األولى (.)3
حتى إذا ما أطلق سراح أحدهم أعطي مبلغا من المال يبدأ به حياته الجديدة في
الزراعة أو التجارة(.)1
وفي عام 1889م تم إصدار الدستور ،الذي مع أنه لم يتخذ من أي دستور
بعينه نموذجا له ،إال أن تأثير إنجلترا وألمانيا كان ظاهرا في كثير من مواده .كان
هناك اعتباران تسلطا على اإلمبراطور ومستشاريه .أما اإلعتبار األول فتمثل في
اإلحتفاظ بسلطة العرش سليمة وغير منقوصة ،وإقامة حكومة مركزية قوية
وقادرة على بناء دولة قوية دون معوقات كبيرة .أما اإلعتبار الثاني فكان يتمثل
في إقناع العالم بأن على رأس اليابان حكومة عصرية متحررة ودستورية ،وذلك
حتى يتسنى لليابان عقد معاهدات جيدة مع الدول الغربية (.)2
على أن هذا الدستور ساهم هو اآلخر في النهاية في قيام "الدولة الشمولية"
التي سيطرت عليها في النهاية مجموعة من العسكريين .والحقيقة أن الهدف من
هذا الدستور لم يكن اإلعتراف بحقوق الشعب السياسية وممارستها عن طريق
المجالس النيابية ،بقدر ما كان يهدف إلى تحقيق األهداف التي ذكرناها من قبل.
وهكذا فإذا كان هذا الدستور قد أخذ بمبدأ الفصل بين السلطات ،إال أن هذا الفصل
كان صوريا .فالبرلمان في تكوينه واختصاصاته كان قاصرا وعاجزا عن القيام
بالمهمة الموكولة إليه؛ أي التشريع والرقابة على أعمال الحكومة .كما خضعت
الس ْل َ
طة القضائية للسلطة التنفيذية التي كانت تعَين القضاة .وفي حين سيطرت
األرستقراطية على مجلس اللوردات (األشراف) ،فإن المجلس النيابي لم يكن
يعبر في البداية عن أكثر من %1من مجموع الشعب ،حيث اشترط أن يكون
الناخب ممن يملكون ويدفعون ضرائب مباشرة ال تقل عن 15ين في السنة (بلغ
عدد الناخبين في البداية حوالي 460ألف شخص ،وارتفع عددهم بفعل حركات
ص.171 ،170
2بانيكار :مرجع سابق،ص .223
تحرر متتالية حتى بلغ 13مليون في سنة 1928م) .كذلك أجاز الدستور للحكومة
العمل بميزانية العام السابق إذا اعترض البرلمان على الميزانية (.)1
وبشكل عام ركز دستور 1889م الس ْل َ
طة كلها في يد اإلمبراطور ،الذي كان
أيضا على قمة البناء التشريعي .فهو –أي اإلمبراطور -كان من الناحية الدستورية
رئيس الدولة ،وله الس ْل َ
طة التنفيذية عن طريق مجلس الوزراء .بل إن الدستور ما
هو إال منحة منه .وهو الذي يعين أعضاء الوزارة ومجلس البالط ،والوزراء
مسئولون أمامه ال أمام القائد األعلى للجيش ،وال يمكن تفويض هذه الس ْل َ
طة لغيره.
وهو المالك لألرض كلها ،وهو الذي يكسب اإلمبراطورية وحدتها واستمرارها
وقوتها وسمعتها المستمدة من سمعة امبراطورها .وإذا كان اإلمبراطور سمح
بوجود مجلسين نيابيين (مجلس األشراف ومجلس النواب) ،فإن وجود المجلسين
أو فضهما كان مرتبطا بإرادته(.)2
على كل فإن قضية الديمقراطية –وبشكل عام -لم تكن ذات أهمية حيوية في
سنة 1889م ،بل إن أقوى الدول في أوربا آنذاك ،وهي اإلمبراطورية األلمانية،
لم تدع أبدأ أن لها دستورا ديمقراطيا ،بل كانت تقوم ،وقبل كل شئ ،على الحكم
اإلستبدادي .واألمر نفسه كان يتكرر في روسيا والنمسا-المجر ،بل إن حق
التصويت كان ال يزال مقيدا ببعض القيود في انجلترا نفسها ،رغم أنها موطن
الديمقراطية الحرة(.)3
كما عرفت اليابان آنذاك نظام تأليف األحزاب السياسية ،فتكون "حزب
األحرار" و"الحزب التقدمي" و"الحزب اإلمبراطوري" .لكن هذه األحزاب
كانت باكورة النظام الحزبي ،ولم تكن أحزابا بالمعنى الصحيح .وألنها أنشئت في
ظل اضطرابات داخلية ،فإنها لم تتمكن من أداء الغرض الذي أنشئت من أجله(.)1
كما شهدت هذه الفترة سيطرة مجموعات العسكريين على الس ْل َ
طة ،خاصة
الس ْل َ
طة التنفيذية .فالبحرية والجيش والشرطة ،سيطر عليها الساموراي بفضل
خبرتهم السياسية ومستوى ثقافتهم العالي( .)2أما مجلس المخضرمين والبالط،
فكالهما كان يتكون من كبار رجال الجيش والبحرية ،حيث تم اإلتفاق خالل
الثورة على أن شغل هذين المنصبين يكون من كبار القادة العاملين في الجيش
والبحرية ،وكان ذلك يعني خضوع مجلس الوزراء لهيئة أركان حرب الجيش
التي كانت بدورها خاضعة لإلمبراطور شخصيا .وكان يكفي انسحاب وزيري
الحربية والبحرية إلقالة أي حكومة .وبات واضحا سيطرة العسكريين على الحكم
ابتداء من الحرب الصينية اليابانية 1894م .ومن خالل ذلك استطاعت الحكومة
أن تتغلب على معارضة األحزاب ،سواء عن طريق الوسائل الدستورية أو غير
الدستورية ،أو عن طريق تكوين أحزاب موالية لها( .)3وعلى كل فإن رجال حكم
ميجي عملوا على تعميق فكرة استبدادية الدولة ،ألنهم كانوا يعتقدون أن استتباب
النظام وصرامته أمر الزم وأساسي لدفع عجلة التقدم اإلقتصادي والعسكري،
وهو أمر ربما بدا متناقضا مع تطور اليابان وتطلعاتها نحو الحضارة الغربية(.)4
-7التنمية اإلقتصادية
ثمة سؤال يطرحه الكثير من الباحثين في هذا الموضوع ،وهو :لماذا
استطاعت اليابان النهوض بمؤسساتها وعرفت التصنيع في النصف الثاني من
القرن التاسع عشر ،في الوقت الذي عجزت فيه الصين عن القيام بذلك؟ .وقد قدم
لنا العلماء اليابانيين تفسيرين لهذه الظاهرة .يقول التفسير األول أن اليابان كانت
قد توفرت لديها كثير من متطلبات التقدم في منتصف القرن التاسع عشر .ويقول
التفسير الثاني بأن الصين كانت أكثر خضوعا للغرب من اليابان في الناحيتين
السياسية واإلقتصادية .ومن ثم استطاعت اليابان تحقيق التنمية في ظل
اإلستقالل( .)1والواقع أنه على الرغم من الخالف السابق ،إال أنه يعكس حقيقة
أن التنمية اإلقتصادية كانت إحدى المظاهر الرئيسية األخرى للتغيير.
في البداية نشير إلى حقيقة أن اليابان في عهد ميجي انطلقت من منطلق
اإلعتراف القاطع بالتفوق العلمي والفني للغرب وحضارته ،ومن أنه ال سبيل لها
سوى استيعاب التقدم الغربي ونقله لكي تتبوأ اليابان مكانتها في الشرق األقصى
أوال ،ثم على المسرح العالمي ثانيا ( .)2على أن ثمة حقيقة أخرى مهمة يجب
اإلشارة إليها هنا ،وهي أن الهدف األول من إعادة بناء اإلقتصاد الياباني وتنميته
على أسس حديثة كان من أجل تقوية الدولة ماديا ،وليس لرفع مستوى معيشة
الفرد .إضافة إلى ذلك فإن اإلهتمام بالزراعة كان يهدف إلى تحقيق هدف آخر،
وهو النهوض بالصناعة .وقد حددت هذه األمور هدف نمط التنمية اإلقتصادية،
كما أوجدت اإلرتباط الوثيق بين التنمية اإلقتصادية وبين بناء القوات المسلحة.
ففي مجال الزراعة شهدت اليابان صدور "قانون اإلصالح الزراعي" .وفي
عام 1872م صدر قانون يبيح التصرف في الملكية الزراعية ،وصدر قانون آخر
اعترف بحق الملكية الفردية وحرية التملك ،وإباحة تصدير الحاصالت الزراعية،
بما في ذلك األرز .كذلك تم إدخال الميكنة الزراعية ،وإن بشكل جزئي ،وفق
أحدث الطرق األوربية واألمريكية .بيد أن المشكلة األساسية التي واجهتها اليابان
العالقات الدولية ،مرجع سابق ،ص ،78بحث في كتاب :الثورة اإلصالحية في
اليابان –ميجي آيشن.
2فوزي درويش :مرجع سابق ،ص.71
آنذاك كانت مشكلة التمويل .ولما كانت فكرة القروض الخارجية مرفوضة حتى
ال تجر من ورائها التدخل األجنبي ،بل وكان الغربيون ينظرون في شك إلى
"امبراطورية الشمس المشرقة" وال يقدمون القروض لها إال مقابل فوائد عالية
جدا( ...)1فقد تم تعويض ذلك بفرض أعباء كبيرة على القطاع الزراعي لتمويل
المشروعات الصناعية .وفي هذا اإلطار تم تحويل الضرائب إلى ضرائب نقدية،
ما زاد األعباء المالية على القطاع الزراعي ،وخاصة صغار المزارعين .وعلى
ذلك يتضح مرة أخرى أن التدابير التي اتخذتها حكومة اليابان في القطاع
الزراعي ،كان الهدف األساسي منها توفير الموارد المالية الالزمة للصناعة.
ولعل هذا يفسر الثورات التي شهدها الريف في الفترة الواقعة بين سنوات -73
1883م واعتماد األحزاب السياسية على الريف في معارضتها للحكومة(.)2
على أن البعض يضيف أن علينا أن نالحظ أيضا أن الحكومة كان عليها دينا
ضخما عجزت عن تسديده في البداية ،كما كانت عليها مسئوليات ضخمة عليها
القيام بها ،ومن ثم بحثت عن حلول .ومن تلك الحلول أنها قامت في أول حكمها
بفرض قرض إجباري على أغنياء التجار ،ثم قامت باستعادة أراضي الشوجونات
الواسعة( .)3وفي عام 1873م قامت بإنشاء نظام ضريبي بالتوازي مع عملية
مسح عام لكل األراضي ،ثم قامت بعملية تقييم لكافة األراضي وفرضت عليها
ضريبة سنوية بنسبة %3على قيمة األرض ال المحصول الناتج منها .وقد حملت
عبء هذه الضريبة على المالك .ومع ذلك بدت الموارد غير كافية ،فعمدت
الحكومة إلى تمويل مشروعاتها ذات الطابع اإلجتماعي باستقطاع بعض المبالغ
من دخول طبقة الساموراي(.)4
وفي كل األحوال فما حدث من اهتمام وتغييرات في الزراعة جعل فالح هذا
العصر وقد تحرر رغم فقره ،وأصبح باستطاعته أن يملك جزءا –ولو متواضعا-
من األرض يدفع عليه ضريبة سنوية ،ولم يكن من حق أحد من سادة اإلقطاع أن
يقف في سبيله لو أراد أن يترك الزراعة ليلتمس وسيلة رزقه في المدن(.)1
أما في مجال الصناعة ،فالواقع أن اإلهتمام بها يسبق عهد ميجي ،حيث سعى
بعض الدايميو لتطوير صناعاتهم ،فاهتموا بمجال الصناعات العسكرية ،وفتحوا
معامل للذخائر ،وترسانات لإلنشاءات المالحية ،ومغازل للقطن .ومع الحكومة
الجديدة تمت متابعة المحاوالت السابقة والمتفرقة وتنظيمها وتوسيعها ،ومن ثم
شهدت اليابان إقامة العديد من الصناعات الجديدة(.)2
وهنا يتحدث البعض عن أن تطوير الصناعة في اليابان اعتمد في السنوات
العشر األولى على تطوير الصناعات الصغيرة والتقليدية .وعندما استقرت
الس ْل َ
طة في يد الحكومة الجديدة ،اتجهت إلى الصناعات الثقيلة والمشروعات
الضخمة .ولما كانت اليابان تهدف إلى بناء قوة عسكرية حديثة ،أصبح من
الضروري التركيز على الصناعات اإلستراتيجية .ولتحقيق ذلك استولت الحكومة
على مناجم الحديد وأفران صهره ،وعلى مصانع األسلحة ،وأحواض بناء السفن،
ثم قامت بتطوير هذه الصناعات وفقا ألحدث األساليب .كما قامت بإنشاء مصانع
جديدة ونموذجية .هكذا زاد اإلنتاج الصناعي زيادة واضحة ،وخاصة في صناعة
السفن ،وارتفعت حمولة األسطول التجاري الياباني من 143ألف طن في سنة
1980م إلى 1657ألف طن في سنة 1903م .كذلك تضاعف إنتاج الفحم والحديد
والصلب ثالث مرات خالل الفترة من سنة 1904م وحتى سنة 1914م(.)3
القروض فكان يتم بسرعة واضحة .ولعل اليابان كانت متأثرة في ذلك بما حدث
للصين –وغيرها -حينما أغرقتها الدول الغربية عمدا بالقروض والديون ،بما
انتقص من سيادتها وعرقل مسيرة تطورها(.)1
على أية حال فإن التجربة اإلقتصادية اليابانية هي تجربة غنية بالدروس التي
يمكن اإلستفادة منها في البالد التي تسعى اليوم للتقدم .ولعل األرقام هي خير ما
نختتم به هذه القضية .فقد شهدت التجارة تحسنا يقدر بنحو %200في الفترة بين
سنزات 1857و1865م ،وبنحو %80في الفترة بين سنوات 1865م و1880م.
أما الدخل القومي لليابان فزاد بمعدل %56في الفترة بين 1845م و1880م(.)2
وقبل الحرب العالمية األولى كانت اليابان قد أصبحت منتجا مهما للصناعات
الثقيلة ،وتضاعفت عمليات تشغيل المناجم ،وتضاعفت التجارة الخارجية عشر
مرات في الفترة بين سنة 1881وسنة 1913م .وفي سنة 1914م كان اإلنتاج
الياباني يتألف من العناصر التالية %45 :للزراعة ،و %44.4للصناعات
التحويلية ،و 5.1للصناعات التعدينية ،ومثلها للصيد البحري(.)3
وفي بداية حكم اإلمبراطور ميجي ،رؤي أن يكون مذهب الشنتوية عقيدة
رسمية للدولة ،وأن يتم فصله عن البوذية وفروعها ،وأن ينسحب أعضاء أسرة
اإلمبراطور من الطوائف البوذية الموجودة داخل القصر اإلمبراطوري .بل لقد
اعتدى العامة على بعض معابد البوذية.
على أنه ،ومنذ سنة 1872م ،تولد لدى اليابانيين اقتناع بتغلغل البوذية في
البالد ،وتماشيها بالتوازي مع مذهب الشنتو ،بل وامتزاج العقيدتين في عقلية
الرجل الياباني العادي ،إلى الحد الذي ال يمكن فيه المساس بإحداهما دون
اإلضرار باألخرى .ولذلك رأت الحكومة التخلي عن سياسة القمع التي كانت
تنتهجها شوجونية طوكوجاوا إزاء البوذية.
وإذا كان حكم اإلمبراطور قد بدأ أيضا بسياسة قمعية تجاه المسيحيين ،فإنه لم
يمر وقت طويل ،حتى عادت حكومته لمعاملتهم معاملة طيبة ،حتى ال يضر ذلك
بالعالقات الخارجية لليابان مع الغرب .وبشكل تدريجي تخلت الحكومة اليابانية
عن قمع الديانات األخرى ،في سبيل تركيز جهودها نحو إنشاء نظام ديني رسمي
للدولة .وحتى حلول سنة 1930م كانت الحكومة تتولى بنفسها أمور خمسين ألف
كاهن ،وترعى شئون نحو مئة ألف معبد .وقد عملت حكومة ميجي أيضا على
استخدام نظام التعليم الذي أنشأته حديثا ،باإلضافة إلى استخدام سائر وسائل
الدعاية لنشر "العقائد الثالث للنظام الديني الجديد" ،من أجل تعميق فكرة تقديس
اليابان .ولقد كانت هذه المرتكزات العقائدية الثالثة هي-:
-1أن اإلمبراطور إله مقدس ،ألنه امتداد زمني ألجسام وأرواح اآللهة العظيمة
الماضية ،وخاصة تلك التي تنتمي إلى روح الشمس.
-2أن اليابان تحظى بالرعاية الخاصة من اآللهة ،ولهذا فإن تربتها وأهلها
ومؤسساتها فريدة في نوعها ،وتسمو على ما سواها.
-3أن لليابان رسالة مقدسة ،وهي "جمع العالم بأسره تحت سقف واحد" ،وبذلك يتاح
لسائرالبشرية التمتع بحكم اإلمبراطور(.)1