Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 43

‫‪-226-‬‬

‫اليابان يف عصر أسر طوكوجاوا‬

‫في أواخر عصر أسرة أشيكاجا (‪1602-1336‬م)‪ ،‬كان النبيل اإلقطاعي‬


‫"الدايميو إياسو طوكوجاوا" ‪ To Kugawa‬تابعا لزعيم هذه األسرة‪ ،‬وهو الدايميو‬
‫هيديوشي (هيدي يوشي) ونائبا له في شرق اليابان‪ ،‬ويتخذ مركز قيادته في مدينة‬
‫"إيدو" الصغيرة (شرق اليابان)‪ ،‬والتي ستصبح مدينة طوكيو فيما بعد‪ .‬وفي عام‬
‫‪1600‬م ألحق طوكوجاوا هزيمة ساحقة بتحالف من الخصوم‪ .‬وبعدها بخمسة‬
‫عشر عاما تخلص‪ ،‬بالحيلة والقوة‪ ،‬من آخر ساللة هيديوشي‪ ،‬واستولى على‬
‫منطقة "أوساكا" في جنوب اليابان‪ .‬وبما أن تجارب أسالفه الفاشلة كانت تراوده‬
‫دائما‪ ،‬فقد لجأ إلى إقامة نظام سياسي قادر على البقاء‪ ،‬فأرسى قواعد نظام جديد‪.‬‬
‫كذلك أقام طوكوجاوا عاصمته في شرق اليابان بالقرب من قصره في إيدو‪ ،‬حيث‬
‫تحولت هذه العاصمة إلى حصن قوي تحيط به الخنادق الواسعة واألسوار العالية‬
‫السميكة(‪.)1‬‬
‫في هذا اإلطار تولى "إياسو طوكوجاوا" منصب النائب العسكري‬
‫لإلمبراطور‪ .‬وما لبث في عام ‪١٦٠٢‬م أن تقلد وظيفة "سيتاي شوجون" أي‬
‫"القائد العظيم قاهر البرابرة"‪ .‬وقد استمر هذا المنصب في عشيرة طوكوجاوا‬
‫مدة تزيد عن قرنين ونصف (حوالي ‪ ٢٦٥‬سنة) مارس خاللها الشوجونات‬
‫الس ْل َ‬
‫طة على اليابان بأسرها‪ ،‬على أساس األمر الواقع‪ ،‬وإن ظلت هذه األسرة‬
‫تحافظ على شكليات اللقب اإلمبراطوري‪ ،‬بما في ذلك استشارة اإلمبراطور‬
‫"الميكادو" في األمور المهمة‪ ،‬وتقديم تقرير له عنها‪ ،‬بينما كان الشوجون هو‬
‫الحاكم الفعلي للبالد وفي يده الس ْل َ‬
‫طة العسكرية‪ .‬وكان على نبالء اإلقطاع‬
‫(الدايميونات) أن يقسموا يمين الوالء لكل شوجن جديد(‪.)2‬‬

‫‪ 1‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.62 ،61 ،54 ،53‬‬


‫‪ 2‬علي محمد بركات‪ :‬مجع سابق‪ ،‬ص‪.29‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-227-‬‬

‫كانت شوجونية طوكوجاوا تمتلك الس ْل َ‬


‫طة‪ ،‬باإلضافة إلى مساحات واسعة من‬
‫األراضي‪ .‬ومن مظاهر ذلك أن أي نبيل إقطاعي من نبالء "الدايميونات" لم يكن‬
‫باستطاعته اإلتصال باإلمبراطور إال بعد أخذ اإلذن من الشوجون‪ ،‬وال أن يقيم‬
‫قصرا في عاصمته اإلقطاعية إال بعد أن يودع تصميم هذا القصر في ملف خاص‬
‫بالشوجونية‪ ،‬وال أن يغادر إقطاعيته أو يتزوج دون أخذ موافقة الشوجون‪ .‬وال أن‬
‫يسك نقودا‪ ،‬أو يبني سفينة‪ ،‬أو ينقل قواته إلى ما وراء نطاق معين‪ ،‬إال في أحوال‬
‫محددة يوافق عليها الشوجون‪ .‬بل لقد كان على كل دايميو (ديميون) أن يمضي‬
‫سبعة أشهر من كل عام في مدينة "إيدو" عاصمة أسرة طوكوجاوا‪ ،‬وكلما أرادوا‬
‫العودة إلى إقطاعياتهم‪ ،‬كان عليهم أن يتركوا زوجاتهم وأطفالهم في العاصمة‬
‫بصفة رهائن(‪.)1‬‬
‫ولم تكتف أسرة طوكوجاوا بكل الضوابط والقيود السابقة التي فرضتها على‬
‫الدايميونات حكام المقاطعات‪ ،‬فراحت تكلف من تلوح عليه عالمات الثراء منهم‬
‫بإقامة المشروعات اإلنشائية أو تعبيد الطرق‪ ،‬لتستنزف ما بقي في خزانته‪ ،‬وقد‬
‫تدفعه إلى اإلستدانة لتغطية نفقات تلك المشروعات‪ .‬كما كانت تؤلب الدايميونات‬
‫ضد بعضهم لتبدد قوى الطرفين‪ ،‬وبذلك تضمن بقاء الجميع في حظيرة‬
‫الطاعة(‪.)2‬‬
‫عمل طوكوجاوا منذ البداية على تنظيم الس ْل َ‬
‫طة بشكل مركزي‪ ،‬على أن تبقى‬
‫في أسرته من بعده‪ .‬في هذا اإلطار أعد العدة في عام ‪1605‬م لنقل لقب‬
‫"الشوجون" إلى أفضل أبنائه من بعده‪ .‬كذلك تم وضع اإلدارة المركزية تحت‬
‫سلطة مجلسين هما "مجلس الشيوخ" و"مجلس الكهول"‪ ،‬وكالهما كان يتكون‬
‫من الدايميونات‪ ،‬كما أوجد حكاما مدنيين لإلشراف على األمور المالية والدينية‪،‬‬

‫‪ 1‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.31‬‬


‫‪ 2‬رءوف عباس حامد‪ :‬المجتمع الياباني في عصر مايجي‪ ،‬مكتبة نهضة الشرق‬
‫(جامعة القاهرة)‪ ،‬القاهرة‪1996 ،‬م‪ ،‬ص‪.21‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-228-‬‬

‫وعلى المدن الرئيسية والقضاء‪ .‬وفي إطار األخذ بالفكر الكونفوشيوسي‪ ،‬تم تأكيد‬
‫عدة مبادئ أخالقية وإدارية واجتماعية وفكرية مثل النزاهة‪ ،‬والميل للخدمة‬
‫العامة‪ ،‬ومحبة المعرفة‪ .‬ومن تالقي المفاهيم الكونفوشيوسية مع القيم الحربية‬
‫التقليدية‪ ،‬ولد القانون غير المكتوب للساموراي (المحاربين) ‪ ،‬ويعرف بـ‬
‫"البوشيدو" أو "طريق الجندي"(‪.)1‬‬
‫وفي سبيل العمل على استمراره أيضا‪ ،‬اتجه نظام طوكوجاوا اإلقطاعي إلى‬
‫انتهاج سياسة قامت على تجميد بنيان المجتمع من خالل القيود والضوابط التي‬
‫فرضت على كل طبقة من طبقاته‪ ،‬فكان لكل منها زيها الخاص‪ ،‬وعاداتها وقيمها‬
‫السلوكية الخاصة بها‪ ،‬والتي تختلف كثيرا عن الطبقات األخرى‪ .‬وكان التمييز‬
‫واضحا بين فئة المحاربين (الساموراي) وبين طبقة العامة من الفالحين‪ .‬ومن ثم‬
‫أصبح المجتمع في ذلك العصر يشتمل على مجموعة من الفئات اإلجتماعية التي‬
‫يعلو بعضها تبعا لدرجة سموها أو تدنيها من الناحية اإلجتماعية‪.‬‬
‫وفي ظل حكم طوكوجاوا كانت تركيبة المجتمع تتكون وفقا للترتيب التالي‪:‬‬
‫أسرة طوكوجاوا ببيوتها الثالثة‪ ،‬وتأتي على قمة الهرم اإلجتماعي بما امتلكته من‬
‫سلطة وثروة‪ .‬ثم مجموعة الدايميونات (أي كبار السادة اإلقطاعيين)‪ .‬ثم يليهم فئة‬
‫المحاربين (الساموراي) الذين كانوا يشكلون جنود الجيش‪ ،‬ويشغلون وظائف‬
‫اإلدارة في المقاطعات‪ ،‬ويعيشون على مخصصات عينية من األرز يدفعها‬
‫الدايميونات لهم سنويا‪ .‬ثم الفالحين الذين كانوا يشكلون أكثر من ‪ %80‬من‬
‫السكان‪ ،‬ولم يكن من حقهم حمل السالح أو األلقاب العائلية‪ ،‬بل يرتبطون باألرض‬
‫وال يستطيعون العمل بغير مهنة الفالحة وفقا لشروط محددة‪ .‬ثم تأتي فئة‬
‫الحرفيين‪ ،‬ويليهم التجار‪ ،‬والذين قبعوا عند قاعدة الهرم اإلجتماعي‪ .‬وأخيرا كان‬
‫هناك "المنبوذون" أحط فئات المجتمع‪ ،‬وتكونوا من الجزارين والدباغين وصناع‬
‫السالل واألخفاف‪ .‬ولقد كانت الفئات األخيرة ال تحظى باعتراف الس ْل َ‬
‫طة‪ ،‬وال‬

‫‪ 1‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.67-64‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-229-‬‬

‫تنال منها سوى اإلحتقار واإلزدراء واإلمتهان‪ ،‬على أساس أنها كانت تعتبرهم‬
‫أدنى من البشر منزلة‪ ،‬ومن ثم ال تدرجهم ضمن طبقات المجتمع‪ .‬وعلى الرغم‬
‫من أن هذه التكوينة اإلجتماعية كانت متشابهة إلى حد كبير مع العصر السابق‬
‫على عصر طوكوجاوا‪ ،‬إال أنها سوف تشهد تغيرات واضحة‪ ،‬حيث ستلعب‬
‫الثروة دورا مهما في ذلك‪ ،‬وهو ما سيمهد ويساعد على التغيير في عهد ميجي(‪.)1‬‬
‫ولقد عملت أسرة طوكوجاوا ما في وسعها أيضا من أجل استمرار عزلة‬
‫اليابان‪ .‬وتأكيدا لذلك صدر قرار إمبراطوري في عام ‪1635‬م يحظر مجرد بناء‬
‫أية سفينة تكون لها القدرة على المالحة في أعالي البحار‪ .‬وفي عام ‪1636‬م صدر‬
‫قرار إمبراطوري آخر يحرم على كل ياباني مغادرة أرض اليابان‪ ،‬وبلغت العقوبة‬
‫على من يخالف ذلك حد اإلعدام‪ .‬كذلك تم إغالق حدود اليابان في وجه جميع‬
‫األجانب على مدار مئتي عام‪ ،‬ولم يستثن من ذلك سوى الهولنديين والصينيين‪.‬‬
‫كان ذلك يعود إلى الخوف من انتشار المسيحية‪ ،‬والذي يتصل بدوره باإلستقرار‬
‫السياسي في البالد‪ .‬فالبرتغاليون وصلوا إلى اليابان منذ عام ‪1542‬م بأسلحة أكثر‬
‫تطورا‪ ،‬ورحب نبالء (دايميونات) غرب اليابان بهم ألنهم كانوا يقاتلون من أجل‬
‫استقاللهم المحلي‪ ،‬بل إن أحدهم أرسل مبعوثا في عام ‪1551‬م إلى البرتغاليين‪،‬‬
‫وكان األمل يداعب بعض الرؤساء اإلقطاعيين الذين كانت سلطاتهم آخذة في‬
‫التدهور في هذه المناطق‪ ،‬ومن ثم لم يقدر لهم أن يلعبوا دورا في الصراع الناشب‬
‫في ذلك الوقت باليابان‪.‬‬
‫وعلى ذلك فإن سياسة الغزلة التي فرضها الشوجونات من أسرة طوكوجاوا‬
‫منذ عام ‪1637‬م بمنع جميع أنواع اإلتصال باألجانب‪ ،‬كان لها ما يبررها لسببين‪:‬‬
‫األول‪ :‬من أجل األمن الداخلي‪ ،‬واستمرار الشوجونية في الحكم وحماية نظامها‬
‫من ثورات النبالء األقوياء الذين قد يستعينوا بدول أجنبية بعقد محالفات معها‬
‫للوصول إلى الحكم أو لإلنفصال‪ ،‬أو على األقل للحصول على أسلحة متطورة‬

‫‪ 1‬رءوف عباس حامد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.33 ،28-17‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-230-‬‬

‫لمناوأة النظام‪ .‬ذلك أن طابع حكم الدايميونات اإلقطاعي والسلطات الواسعة التي‬
‫كان يتمتع بها بعض أمرائهم في غرب البالد جعل اليابان عرضة للتآمر‬
‫الخارجي‪ .‬كما كانت بعض العشائر أن تتحدى مجتمعة أسرة طوكوجاوا؛ مثل‬
‫أسرة "تشوشو" التي كانت تقبض على مقاليد األمور في ‪١٣‬مقاطعة من مقاطعات‬
‫اليابان (البالغة ‪ ،)65‬وأسرة "ساتسوما" التي كان لها السلطان في جزيرة كيوشو‪.‬‬
‫من هنا كان خوف حكومة الشوجن من احتماالت قيام اتصال بين هذه العشائر‬
‫المناوئة وبين القوى الغربية التي بدأت تصل هذه المناطق‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬الحيلولة دون اتصال األجانب بالشعب الياباني‪ .‬فقد اتضح أن اعتناق‬
‫المسيحية عن طريق المنصرين يخلق تعاطفا بين المسيحيين اليابانيين ومعلميهم‬
‫من األجانب‪ ،‬كما اتضح ذلك من العصيان الذي قام به المسيحيون اليابانيون سنة‬
‫‪1637‬م في "بشمبارا"‪ ،‬وتلقى العون من البرتغاليين‪ ،‬واستدعى القضاء عليه‬
‫تجهيز جيش ضخم من قبل الشوجن‪ .‬كان اليابانيون على علم تام بنشاط‬
‫البرتغاليين والهولنديين واإلسبان واإلنجليز بجزر المحيط الهادئ‪ ،‬وخاصة في‬
‫الفلبين وملقا وجاوا‪ .‬وقد زاد اهتمام الشوجن بمتابعة التحركات األوربية‪ ،‬بعد أن‬
‫سمعوا في عام ‪1622‬م عن خطة إسبانية لغزو اليابان‪ .‬وكانت إسبانيا تحتفظ بقوة‬
‫بحرية ضخمة في الفلبين‪ ،‬وكانت اليابان المنطقة الوحيدة التي تستطيع إسبانيا‬
‫مهاجمتها دون الصدام مع البرتغال‪ ،‬حسب التقسيم الذي أجراه البابا بين البرتغال‬
‫وإسبانيا‪ .‬كان رد الفعل ضد هذه األنباء قويا وحاسما‪ ،‬حيث أمرت حكومة الشوجن‬
‫بترحيل جميع اإلسبان من اليابان‪ ،‬ثم وضعت سياستها الخاصة بالقضاء على‬
‫المسيحية في اليابان موضع التنفيذ‪ ،‬وحرمان األجانب من كل فرصة تمكنهم من‬
‫الحصول على موطئ قدم في اليابان(‪.)1‬‬
‫غير أن سياسة شوجونية طوكوجاوا القائمة على العزلة لم تكن لتستمر‪ ،‬كما‬
‫لم تكن تعني أن جميع سبل اإلتصال بالغرب قد قطعت‪ .‬فمن ناحية لم يكن‬

‫‪ 1‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.31-29‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-231-‬‬

‫بمقدورها أن تصمد في وجه التطورات اإلقتصادية واإلجتماعية والثقافية‬


‫المتعاظمة‪ .‬ففي مجال التطورات اإلقتصادية واإلجتماعية أدت سياسة شوجونية‬
‫طوكوجاوا للحصول على قروض قسرية من التجار للتغلب على المصاعب‬
‫المالية والديون‪ ،‬إلى خلق فئة تجارية كبيرة على حساب الفالحين‪ .‬وسرعان ما‬
‫انتهز التجار ذلك الوضع لصالحهم‪ ،‬فأخذوا يعملون على شراء حق التبني في‬
‫عائالت الساموراي‪ ،‬أو تزويج بناتهم بأبناء هذه الفئة‪ .‬وما أن حل منتصف القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬حتى كان الفارق اإلجتماعي بين التجار والساموراي ال يكاد يكون‬
‫ملموسا‪.‬‬
‫أما في مجال التطورات الثقافية فعلى الرغم من العزلة الثقافية التي ضربتها‬
‫أسرة طوكوجاوا على اليابان‪ ،‬خاصة عندما أصدرت في عام ‪1660‬م حظرا على‬
‫استيراد أية كتب أجنبية يرد فيها أي ذكر للمسيحية من قريب أو بعيد‪ ...‬رغم ذلك‬
‫فإن هذا الحظر تم اختراقه عندما أعلن الشوجون "بوشيمون" (‪1744-1706‬م)‬
‫أن اليابان بحاجة ماسة إلى الكتب العلمية‪ ،‬ومن ثم أباح استيراد الكتب العلمية‪.‬‬
‫وفي عام ‪1741‬م صدرت األوامر إلى إثنين من العلماء اليابانيين بدراسة اللغة‬
‫الهولندية‪ .‬وبعدها تهافت رجال الساموراي على تعلمها بغية اإللمام بالفنون‬
‫والعلوم الغربية‪ ،‬مثل الطب والفلك والمساحة ونظم التسليح ورسم الخرائط‪ .‬وفي‬
‫عام ‪1803‬م تم إنشاء مكتب متخصص لترجمة الكتب العلمية الهولندية(‪.)1‬‬
‫من ناحية أخرى تم السماح للهولنديين بممارسة التجارة في "هيرادو"‪ ،‬حيث‬
‫أنشأوا لهم دارا تجارية هناك سنة ‪1611‬م‪ .‬كما كان البرتغاليون يباشرون التجارة‬
‫في "نجازاكي"‪ .‬وفي سنة ‪1613‬م وصلت إلى اليابان أول سفينة إنجليزية تحمل‬
‫رسالة من الملك جيمس األول إلى الشوجونات‪ ،‬ونتيجة لذلك أسست إنجلترا دارا‬
‫للتجارة‪ ،‬وعادت المنافسة بين الدول األوربية على الشوجونات بالنفع‪ .‬وكانت‬
‫السلعة التي يلحون في طلبها من الغرب هي المدافع‪ .‬وفي سنة ‪1638‬م أرسل‬

‫‪ 1‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.33 ،32‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-232-‬‬

‫الشوجونات في طلب لجنة خاصة لفحص طريقة عمل وأداء قطع المدفعية التي‬
‫أهدتها لهم شركة الهند الشرقية الهولندية‪ ،‬وتقديم تقرير عنها‪ .‬وفي سنة ‪1605‬م‬
‫حضر مدفعي هولندي وأقام لستة شهور في اليابان‪ .‬وهكذا استطاع اليابانيون‪،‬‬
‫حتى قبل أن تعيد اليابان فتح أبوابها للغرب‪ ،‬أن يتعلموا شيئا عن وسائل الدفاع‬
‫الحديثة‪ ،‬ومنها أدركت اليابان مدى ضعفها بالنسبة لألمم األوربية‪.‬‬
‫وقد ظلت هذه العزلة قائمة حتى وصلت سفن "القومودور بري" أمام سواحل‬
‫اليابان في عام ‪1853‬م‪ .‬والحقيقة أنه منذ بداية القرن التاسع عشر أخذ اتصال‬
‫اليابان بالعالم الخارجي يزداد‪ ،‬رغم كل المحاوالت التي بذلها الشوجونات‬
‫لمواصلة سياسة العزلة‪ .‬لقد كان الروس قد وصلوا إلى المحيط الهادئ في المناطق‬
‫الواقعة شماال‪ .‬كما استقرت سلطة اإلنجليز في بالد الهند‪ ،‬وأخذوا يظهرون قدرا‬
‫من القلق بسبب سياسة العزلة التي تنتهجها اليابان‪ .‬غير أن هذه العزلة كانت‬
‫مصحوبة بمتابعة األحداث من حول اليابان(‪.)1‬‬

‫‪ 1‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ .32 ،31‬ومصطلح "القومودور" يعني‬
‫"عميد بحري" أو "قائد مجموعة سفن"‪.‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-233-‬‬

‫نهاية ُعزلة اليابان‬

‫كانت روسيا وإنجلترا وهولندة والواليات المتحدة األمريكية قد بذلت بعض‬


‫الجهود للدخول في عالقات تجارية مع اليابان‪ ،‬لكن شوجونية طوكوجاوا قاومت‬
‫بنجاح كل تلك الجهود(‪ .)1‬على أن الواليات المتحدة األمريكية ستنجح في ذلك‪.‬‬
‫فقد أدى تمددها غربا ووصولها إلى كاليفورنيا‪ ،‬في حوالي عام ‪1844‬م‪ ،‬إلى‬
‫إدخالها لعالم النشاط اإلقتصادي والسياسي في المحيط الهادئ‪ .‬كذلك تغيرت‬
‫األوضاع بعد أن استغلت الواليات المتحدة األمريكية قوة البخار في تسيير‬
‫السفن(‪ ،)2‬ومن ثم ترددت عند ساسة الواليات المتحدة األمريكية الرغبة في تبادل‬
‫التجارة مع دول الشاطئ اآلخر في المحيط الهادئ‪ .‬وهكذا جاء في تقرير لجنة‬
‫الشئون البحرية بالكونجرس ما نصه‪" :‬إن ضم كاليفورنيا يتيح تسهيالت للتجارة‬
‫مع الصين ال يجوز إهمالها"‪ .‬وعند منتصف القرن التاسع عشر‪ ،‬رأت السلطات‬
‫األمريكية أنه قد آن األوان لفتح الباب قسرا بعد أن ظل مغلقا أمام الغربيين لفترة‬
‫طويلة(‪ .)3‬وهكذا قامت الواليات المتحدة األمريكية في اليابان بالدور الذي قامت‬
‫به إنجلترا في الصين‪.‬‬
‫أصبحت عزلة اليابان موضوعا يشغل بال دول الغرب البحرية بوجه عام‬
‫منذ أوائل القرن التاسع عشر‪ ،‬ثم الواليات المتحدة األمريكية بوجه خاص مع‬
‫منتصف القرن‪ .‬لقد كانت السفن األمريكية التي تنقل الفراء بين منطقة شمال‬

‫‪ 1‬للمزيد عن ذلك انظر‪ ،‬رءوف عباس حامد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.42-39‬‬


‫شيهارا تاكوجي‪ :‬النهوض باليابان ومسايرتها لطابع العصر من منظور‬ ‫‪2‬‬

‫العالقات الدولية‪ ،‬ص‪ ،78‬بحث في كتاب‪ :‬الثورة اإلصالحية في اليابان –ميجي‬


‫آيشن‪ ،‬إعداد‪ :‬ناجاي متشيو‪ ،‬ترجمة‪ :‬عادل معوض‪ ،‬الهيئة المصرية العامة‬
‫للكتاب‪ ،‬سلسلة األلف كتاب الثاني‪ ،‬عدد ‪ ،108‬القاهرة‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ 3‬بانيكار‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.213‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-234-‬‬

‫غرب المحيط الهادئ وبين الصين تمر متفادية خليج اليابان‪ ،‬رغم الحاجة إليه‪،‬‬
‫بسبب سوء معاملة البحارة اليابانيين لألجانب‪ .‬ومع استخدام السفن البخارية على‬
‫نطاق واسع منذ منتصف القرن التاسع عشر‪ ،‬تفاقمت المشكلة‪ ،‬مما جعل الحاجة‬
‫ماسة لوجود محطات للتزود بالفحم‪ .‬وعلى الرغم من تعديل اليابان لبعض نظامها‬
‫الصارم في مواجهة األجانب أثناء حرب األفيون‪ ،‬حيث جعلت من حق السفن‬
‫األجنبية التزود بالماء والزاد بدال من إطالق النار على السفن التي ترسو على‬
‫شواطئها دون إنذار مسبق‪ ،‬إال أن ذلك لم يكن كافيا لألمريكيين والغربيين‪.‬‬
‫وحقيقة األمر أن األمريكيين شرعوا منذ سنة ‪1815‬م في إجراء مباحثات‬
‫ترمي إلى فتح أبواب اليابان الموصدة‪ ،‬فبعثت بـ "الكومودور بيدل" إلى "خليج‬
‫إيدو" في سنة ‪1846‬م‪ ،‬لكن جهوده لم تسفر عن شئ ملموس‪ .‬على أن مطامع‬
‫رجال أعمال األمريكيين في التوسع التجاري بمنطقة المحيط الهادئ من ناحية‪،‬‬
‫ونظر الحكومة األمريكية العتبارات استراتيجية من ناحية ثانية‪ ،‬وأمل البعثات‬
‫التنصيرية من ناحية ثالثة في ممارسة مهامهم التنصيرية في اليابان‪ ...‬كل ذلك‬
‫حمل الحكومة األمريكية على اتخاذ إجراء حاسم في هذا السبيل(‪.)1‬‬
‫والواقع أن اليابان كانت‪ ،‬دون غيرها من دول الشرق األقصى‪ ،‬أعلم بنيات‬
‫الدول الغربية وأصح تقديرا لقواها‪ ،‬بسبب وجود عدد متزايد من المهتمين‬
‫بالمعارف الغربية‪ ،‬والذين كانوا يطبقون على مسائل الدفاع القومي تلك المعارف‬
‫التي حصلوا عليها‪ .‬إضافة إلى ذلك كانت هزيمة الصين في حربي األفيون حافزا‬
‫عظيما فتح أعينهم على ذلك الخطر الغربي الذي أدركوا أنه آت لهم في يوم من‬
‫األيام‪ ،‬ومن ثم قاموا ‪-‬في المدة التي أعقبت معاهدة نانكين ‪1842‬م‪ -‬بنشاط كبير‬
‫للغاية لتقوية دفاعات الجزر اليابانية وضمان استقاللها(‪.)2‬‬

‫‪ 1‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.34 ،33‬‬


‫‪ 2‬بانيكار‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.213‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-235-‬‬

‫وفي ‪ 8‬يولية ‪1853‬م تحقق ما توقعه اليابانيون‪ ،‬حيث وصل "القومودور‬


‫ماثيو بيري" ‪ Perry‬إلى "ميناء يوارجا" بخليج طوكيو‪ .‬على رأس أربع بوارج‬
‫حربية‪ ،‬وتجاهل األوامر اليابانية التي تحرم دخول الخليج‪ ،‬وألح على مقابلة‬
‫صاحب السيادة في اليابان(‪ .)1‬كان مع بري رسالة من الرئيس األمريكي الثالث‬
‫عشر "فليمور"(‪1853-50‬م) إلى الشوجون تتضمن المطالبة بامتيازات تجارية‪،‬‬
‫وإنشاء محطات لتزويد السفن األمريكية بالفحم‪ ،‬وحماية المواطنين األمريكيين‬
‫الذين تتعرض سفنهم للغرق(‪ .)2‬وعلى الرغم من الطابع الودي للرسالة‪ ،‬إال أنها‬
‫حملت في طياتها تهديدا مقنعا بأن "القومودور" سيعود في العام التالي مع قوة‬
‫أكبر‪ ،‬متوقعا أن يحصل على رد م ْرض‪.‬‬
‫وأمام إدراك مدى ضعفها مقارنة بالغرب‪ ،‬فان حكومة شوحونية طوكوجاوا‬
‫أخذت باقتراح أحد مستشاريها بعيدي النظر‪ ،‬وهو "لي كامون نوكامي"‪،‬‬
‫باإلذعان والموافقة على الطلب األمريكي‪ ،‬حتى تتمكن اليابان ‪-‬بتعلمها أسرار‬
‫الغرب‪ -‬من التصرف معهم على قدم المساواة‪ .‬وهكذا فعندما عاد "بري" في العام‬
‫التالي‪ ،‬حصل على الرد بالموافقة‪ ،‬وتم توقيع "معاهدة كاناجاوا" ‪ Kanagawa‬في‬
‫‪ 31‬مارس ‪1854‬م وبمقتضاها تم السماح بفتح مينائين أمام التجارة األمريكية‪،‬‬
‫كما تمت الموافقة المبدئية على قيام تمثيل قنصلي بين البلدين‪ .‬وقد سارعت‬
‫إنجلترا وروسيا وهولندة بتعقب خطوات الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬ووقعت‬
‫معاهدات مع اليابان‪ ،‬حصلت بمقتضاها على امتيازات مماثلة(‪.)3‬‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة (الشرق األقصى‪-‬اليابان)‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫ص‪.166‬‬
‫‪ 2‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.57‬‬
‫بانيكار‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ .214 ،213‬رءوف عباس حامد‪ :‬مرجع سابق‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص‪.43‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-236-‬‬

‫على أن هذه اإلتفاقية‪/‬اإلتفاقيات أضعفت مركز الشوجون‪ ،‬ألنها أدت إلى‬


‫مشكالت إقتصادية في البالد‪ ،‬كما أن معظم النبالء والساموراي عارضوا فتح‬
‫أبواب البالد لألجانب (خاصة في إقطاعيتي فوكوشيما وكاغوشيما)‪ ،‬بل‬
‫وعارضها بالط اإلمبراطور "كوميي" (‪1867-1846‬م)‪ .‬وفي ذلك الوقت‬
‫الحرج تم ‪-‬في سنة ‪1860‬م‪ -‬اغتيال الشوجون "إيي ناؤسوكي" الذي تمت‬
‫مفاوضات المعاهدات باسمه وسلطته‪ .‬وقبل التوصل إلى حل لتلك الورطة التي‬
‫سببتها وفاة الشوجون‪ ،‬وصل المبعوث األمريكي األول إلى اليابان "تاونسند‬
‫هاريس" وطالب بتوسيع المعاهدة التي تم عقدها مع "بيري"‪ .‬وأمام ضعف‬
‫الشجونية‪ ،‬فإنها وافقت على عقد معاهدة جديدة في نجازاكي‪ ،‬واحتوت على‬
‫شروط إنشاء تمثيل دبلوماسي‪ ،‬والتعهد بإسكان األمريكيين بميناءي المعاهدة‬
‫(ميناء شيمودا‪ ،‬وميناء هاكوداتي‪/‬هوكايدو)‪ ،‬وقبول مبدأ تقاضي األمريكيين أمام‬
‫محاكمهم الخاصة‪ .‬وهكذا تم لف السلسلة حول عنق اليابانيين‪ ،‬كما تم لفها من قبل‬
‫حول عنق الصينيين‪ .‬وبشكل سريع أيضا‪ ،‬وصل اإلنجليز والفرنسيين اليابان‬
‫وطالبوا بعقد معاهدات مماثلة(‪.)1‬‬
‫عند ذلك اتجهت العناصر اليابانية المحافظة وغيرهم ممن شهدوا استقالل‬
‫بالدهم يداس باألقدام‪ ...‬اتجهوا إلى العرش آملين منه أن يوقف الموافقة على هذه‬
‫المعاهدة‪ /‬المعاهدات المهيئة‪ .‬هنا وضعت الشوجونية في مركز حرج للغاية‪.‬‬
‫فالشعور ضد األجانب والشوجون كان يزداد شدة في العاصمة‪ ،‬واإلمبراطور‬
‫أظهر عنادا غير متوقع باإلمتناع عن الموافقة‪ ،‬وترددت في أرجاء البالد صيحة‬
‫"توقير العرش‪ ،‬وطرد األجنبي"‪ .‬ومع امتناع اإلمبراطور‪ ،‬صار مفهوما أن‬
‫األجانب لن يلبثوا حتى يطردوا من البالد خالل بضع سنين‪ ،‬وفي الفترة من‬
‫‪1857‬م وحتى ‪1863‬م كثر اإلعتداء على األجانب‪.‬‬

‫‪ 1‬بانيكار‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.215 ،214‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-237-‬‬

‫أمام ذلك أعلنت الشوجونية أن موعد األجانب من اليابان هو يوم ‪ 24‬يونية‬


‫‪1863‬م‪ .‬لكنها كانت بذلك قد وضعت نفسها في مأزق صعب‪ .‬فالدايميونات‬
‫باألقاليم أخذوا ذلك التاريخ مأخذ الجد‪ ،‬وشرعوا في مهاجمة السفن األجنبية‪ ،‬مما‬
‫جعل الشجونية تبذل ما في وسعها لتسكين ثائرة الممثلين األجانب(‪ .)1‬بيد أن‬
‫المسئولين آنذاك انقسموا إلى فريقين‪ :‬فريق يرى عدم صالحية استمرار سياسة‬
‫العزلة وإغالق أبواب البالد في وجه األجانب‪ ،‬وأن من الضروري إحداث تغيير‬
‫في سياسة اليابان‪ ،‬وفريق يرى عكس ذلك(‪ .)2‬ومن هنا بدأت البالد تدخل فترة‬
‫"حرب أهلية"‪.‬‬
‫وفي هذه الظروف استطاع رؤساء العشائر إقناع الشوجون األخير "كيكي"‬
‫(إينوموتو تاكيأكي) بإعادة الس ْل َ‬
‫طة لإلمبراطور‪ .‬وباسترداد اإلمبراطور "موتسو‬
‫هيتو" ‪ Moutso Hito‬لسلطته في سنة ‪1866‬م‪ ،‬انهار نظام الشوجون‪ ،‬وبدأت فترة‬
‫جديدة من تاريخ اليابان‪ ،‬وهي التي عرفت بـ "حقبة ميجي" أي "الحاكم‬
‫المستنير"‪.‬‬
‫والواقع أن نهاية غزلة اليابان وإحداث تغيير بهذا الشكل لم يكن عفويا‪ ،‬وإنما‬
‫جاء نتيجة لتراكمات نبتت جذورها في عصر اإلقطاع "عصر طوكوجاوا"‬

‫‪ 1‬في ذلك الوقت وقعت عدة اعتداءات على األجانب من بعض رجال الساموراي‪،‬‬
‫وتم إحراق المفوضية اإلنجليزية في سنة ‪1862‬م‪ .‬وفي العام التالي تم إحراق‬
‫المفوضية األمريكية‪ .‬كان رد الفعل الغربي عنيفا‪ .‬ففي أغسطس ‪1863‬م دخلت‬
‫وحدات إنجليزية إلى "خليج كاشوجيما"‪ ،‬وقصفت المدينة بالقنابل‪ ،‬ثم قام أسطول‬
‫متحالف في سبتمبر بقصف وتدمير "قالع شوشو" وإبادتها‪ ،‬األمر الذي ساعد‬
‫على إضعاف مركز حكومة الشوجن‪ .‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.59‬‬
‫‪ 2‬بانيكار‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.215‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-238-‬‬

‫وأخذت تنمو تدريجيا حتى جعلت نظام العزلة كله يهتز من أساسه‪ ،‬كما هيأت‬
‫الظروف لمرحلة جديدة‪ ،‬ووضعت اليابان على أبواب العصر الحديث(‪.)1‬‬
‫ففي مسعاهم لإلستقرار والعزلة‪ ،‬لم يتوصل حكام أسرة "الطوكوجاوا"‬
‫إلبطال تأثيرات قوى التغيير إبطاال تاما‪ ،‬وال إيقاف تيار التطور الطبيعي‪ .‬ومن‬
‫المؤكد أن تجميد المؤسسات السياسية في بلد من البالد هو أسهل من إيقاف اآلليات‬
‫التي تتحكم في حياته اإلقتصادية واإلجتماعية‪ ،‬وهذا ما حدث في اليابان التي أدت‬
‫الوحدة السياسية والسالم الداخلي التي شهدتهما في عصر طوكوجاوا إلى إيجاد‬
‫الفرصة لنمو سوق قومي في النهاية نتيجة تطور التجارة‪ ،‬رغم أنف النظام‬
‫الحاكم(‪.)2‬‬
‫لقد شهدت اليابان في عصر طوكوجاوا بعض التطور للرأسمالية التجارية‪.‬‬
‫وقد ارتبط هذا النمو بوجود ثالثة مراكز تجارية مهمة في كل من "أوساكا"‬
‫و"إيدو ‪/‬طوكيو" و"نجازاكي"‪ .‬كان ظهور هذه المراكز نتيجة لعوامل عديدة‪.‬‬
‫فأوساكا نشأ مركزها التجاري ألن حكومة طوكوجاوا لم ترغب في إقامة روابط‬
‫تجارية داخلية مباشرة بين اإلقطاعيات وبعضها البعض‪ ،‬ومن ثم عملت على أن‬
‫يكون لكل أمير من أمراء اإلقطاع (الدايميونات) مستودعا يبيع فيه منتجات‬
‫إقطاعيته‪ ،‬ويتعامل مع وسطاء التجارة في تلك المدينة‪ .‬أما مركز إيدو فنشأ‬
‫باعتبار المدينة عاصمة الشوجون آنذاك‪ ،‬والمركز اإلداري لليابان‪ .‬ومع زيادة‬
‫سكانها (كانوا حوالي مليوني نسمة عام ‪1850‬م) أصبحت مركزا مهما من مراكز‬
‫اإلستهالك والتبادل بين الشوجون والتجار والحرفيين‪ .‬أما نجازاكي فكانت الميناء‬
‫الوحيد الذي تتم فيه التجارة مع األجانب‪ ،‬باإلستيراد والتصدير‪ .‬ونتيجة لهذا‬
‫التطور التجاري ظهرت فئة من كبار التجار الذين يعملون في تجارة األرز والنقل‬
‫وتجارة العملة‪ ،‬بل وأصبحوا أكثر ثراء من رجال الدايميو الذين أخذوا في‬

‫‪ 1‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.76‬‬


‫‪ 2‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.73‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-239-‬‬

‫الحصول على قروض ضخمة من التجار‪ ،‬وفي ظل تردي األوضاع المالية‬


‫للعسكريين مقارنة بالتجار‪ ،‬تولدت لدى رجال الدايميو والساموراي مشاعر عدم‬
‫القناعة‪ ،‬خاصة بسبب السالم الذي ساد اليابان لفترة طويلة وجعلها في غير حاجة‬
‫لسيوفهم‪ ،‬ومن ثم بدأ بعضهم في تبنى أبناء التجار وإضفاء صفة النبالة عليهم في‬
‫مقابل الحصول على مبالغ نقدية‪ .‬بل وبدأ بعضهم ‪-‬أمام الثراء الواسع للتجار‪ -‬في‬
‫دخول ميدان التجارة أو مصاهرة التجار الموسرين(‪.)1‬‬
‫كذلك ساهم السالم واإلستقرار الذي تحقق خالل حكم طوكوجاوا في ترسيخ‬
‫قدم التجارة واإلقتصاد النقدي‪ ،‬رغم اقتصار التجارة على األسواق الداخلية‪ .‬ولعل‬
‫أبرز سمات ذلك المناخ تمثل في زيادة المساحة المزروعة زيادة ملحوظة خالل‬
‫الفترة الممتدة من (‪1730-1600‬م)‪ ،‬وزيادة تعداد السكان من حوالي ‪ 18‬مليون‬
‫(في الربع األخير من القرن السادس عشر) إلى حوالي ‪ 26‬مليون (مع مطلع‬
‫القرن الثامن عشر)‪ ،‬وهو ما ساعد على نمو الريف والحضر‪ .‬وهكذا ظهرت‬
‫بعض المدن الضخمة والمزدهرة تجاريا‪ ،‬كما أنشئت الفنادق والمتاجر لتلبية‬
‫حاجات الدايميو ورجالهم‪ ،‬وازدهرت صناعة النقل البحري لمد أسواق المدن‬
‫بالسلع‪ ،‬وظهرت البيوت التجارية(‪ ،)2‬بل وحدث توسع كبير في الزراعة عن‬
‫طريق زيادة المساحة المزروعة‪ ،‬أو بزيادة مشروعات الري بهدف توفير المياه‬
‫لزراعة األرز وإنتاج المحاصيل النقدية‪ .‬وفي هذا اإلطار أيضا بدأت الصناعات‪،‬‬
‫وخاصة الصناعات المحلية‪ ،‬تلعب دورا أكبر في اإلقتصاد الياباني‪ ،‬وأصبحت‬
‫منافسا ال يستهان به للزراعة‪ .‬ونتيجة لذلك أخذت السوق الوطنية تنشأ تدريجيا‬
‫على أنقاض اإلقتصاد التبادلي‪ ،‬ومن ثم زاد استخدام النقود بالتدريج‪.‬‬
‫وهكذا فإذا كانت العزلة التي فرضت على اليابان في بداية عصر طوكوجاوا‬
‫قد عاقت النمو الرأسمالي للبالد‪ ،‬فإنها لم تكن عزلة كاملة‪ ،‬على األقل في الميدان‬

‫‪ 1‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.35 ،34‬‬


‫‪ 2‬رءوف عباس حامد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.31-29‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-240-‬‬

‫اإلقتصادي‪ .‬لقد كان هناك نوعا من التعامل التجاري مع بعض الدول األوربية‪،‬‬
‫خاصة مع هولندة‪ .‬وعلى ذلك فإن عصر طوكوجاوا كان من الناحية الفعلية عصر‬
‫نمو وتطور في اإلقتصاد الياباني‪ ،‬حيث أصبح هذا اإلقتصاد في نهاية تلك الفترة‬
‫اقتصادا تجاريا يحمل بعض السمات الرأسمالية‪.‬‬
‫على كل فقد صاحب هذا التطور ظهور فئة جديدة من الرأسماليين التجاريين‬
‫والصناعيين تنافس بشكل قوي األرستقراطية العسكرية القديمة التي انقسمت‬
‫لقسمين‪ ،‬وذلك بعد أن استطاعت الطبقة الجديدة أن تستميل إلى جانبها صغار‬
‫اإلقطاعين‪ ،‬وأن تستخدمهم في نضالها ضد طبقة كبار اإلقطاعيين‪ ،‬وكان ذلك‬
‫الصراع بداية عصر جديد يختلف عن سابقه‪ .‬ولقد وضح ذلك التطور في ثورات‬
‫الفالحين التي زادت حدة وعنفا في أواخر عصر طوكوجاوا‪.‬‬
‫ولقد كانت هناك عدة عوامل ساعدت على قيام تلك الثورات‪ ،‬منها أن العبء‬
‫األكبر من الضرائب وقع على كاهل الفالحين الذين كانوا يقدمون األرز‬
‫(المحصول الرئيسي في البالد) إلى الحكام اإلقطاعيين الذين زادت مطالبهم‬
‫المالية من الفالحين في شكل ضرائب إضافية كانت تذهب بما بقي لديهم من‬
‫المحصول‪ .‬هنا لجأ بعض الفالحين إلى اإلستدانة بضمان أراضيهم التي سرعان‬
‫ما كانت تنتزع منهم لعجزهم عن السداد‪ .‬وبذلك وجد تجار المدن الطريق أمامهم‬
‫ممهدا الستثمار أموالهم في الريف‪ ،‬وأصبحت لهم مصالحهم الزراعية التي‬
‫جعلتهم طرفا في عملية اإلنتاج الزراعي في مواجهة األرستقراطية العسكرية‬
‫اإلقطاعية القديمة التي كانت األرض مصدر ثروتها وكيانها السياسي‪ .‬وباإلضافة‬
‫إلى الضرائب الفادحة‪ ،‬كانت اليابان تعاني في أواخر عصر طوكوجاوا من نقص‬
‫في المواد الغذائية بسبب الزيادة المستمرة في عدد السكان‪ ،‬وهجرة‬
‫الكثير من الفالحين إلى المدن أو عملهم في الصناعات الريفية التي نمت نموا‬
‫كبيرا في تلك الفترة‪ .‬أدى ذلك لنقص األيدي العاملة في الزراعة‪ ،‬مما ترتب عليه‬
‫نقص اإلنتاج الزراعي مع زيادة الطلب على المواد الغذائية‪ ،‬وخاصة األرز التي‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-241-‬‬

‫ارتفعت أسعاره بصورة مستمرة‪ .‬ولقد استفادت من ذلك طبقة التجار بقدر ما‬
‫خسر اإلقطاعيون والفالحون‪ ،‬وإن كان ذلك قد تم بدرجات متفاوتة(‪.)1‬‬
‫ويمكن أن نضيف إلى ما سبق ظهور المجاعات التي بدأت في الظهور بشكل‬
‫متزايد منذ القرن الثامن عشر(‪ )2‬ثم تفاقمت في سنوات ‪1840-1830‬م‪ ،‬وخاصة‬
‫في شمال اليابان ووسطها‪ ،‬بسبب سوء اإلدارة(‪.)3‬‬
‫ولم يكن أمام الفالحين للتعبير عن سخطهم من هذا النظام سوى الثورة‪ ،‬بعد‬
‫أن أصبحت تعتصرهم األزمات‪ .‬فقد ترتب على فشل الس ْل َ‬
‫طة في حل مشكالت‬
‫الفالحين قيام ثورة عارمة في ضواحي مدينة "أوساكا" سنة ‪1837‬م‪ ،‬وتزعمها‬
‫أحد رجال الساموراي‪ ،‬الذي دعا سكان المدن والريف إلى الثورة في وجه الحكام‬
‫القساة والتجار األثرياء الذين كونوا ثرواتهم على حساب الفقراء الجياع‪ .‬ومع أن‬

‫‪ 1‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.78 ،77‬‬


‫أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ .75‬هذا وإن أشار إلى أن الريف‬ ‫‪2‬‬

‫الياباني شهد‪ ،‬رغم ذلك‪ ،‬بعض التطورات اإليجابية الناجحة‪ ،‬وتمثلت في زيادة‬
‫الدخول المادية‪ ،‬والتخصص في الزراعات‪ ،‬وإجراء تعديالت في تقنيات‬
‫الزراعة‪ ،‬وحدوث نوع من التكامل في األنشطة الريفية وفي نشاط التجارة‪ ،‬وفي‬
‫حصول الفالحين على قدر أكبر من الحرية في تنظيم حياتهم القروية‪ ،‬وفي تطور‬
‫تعليمي وثقافي ملموس من خالل المدارس‪ ،‬حتى أنه مع نهاية حكم طوكوجاوا‬
‫كانت نسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة في اليابان تصل إلى حوالي ‪ %45‬بين‬
‫الرجال‪ ،‬وحوالي ‪ %15‬بين النساء‪ ،‬وهي نسب تتساوى والنسب الموجودة آنذاك‬
‫في بعض البالد األوربية‪ ،‬وبل وتتجاوز كثيرا النسب في البالد اآلسيوية األخرى‬
‫آنذاك‪.‬‬
‫ماريوس جاتسن‪ :‬الميجي آيشن وسياقها السياسي‪ ،‬ص‪ .12‬بحث في كتاب‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫الثورة اإلصالحية في اليابان‪.‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-242-‬‬

‫تلك الثورة تم سحقها في مهدها‪ ،‬إال أنها زادت الناس جرأة على النظام‪ ،‬وأخذت‬
‫ثورات الفالحين تظهر هنا وهناك(‪.)1‬‬
‫كانت هذه الثورة حلقة واحدة في سلسلة من الثورات التي قامت آنذاك‪ ،‬واتسع‬
‫نطاق تمرد الفالحين‪ ،‬وزادت أعمال الشغب بالمدن مع النمو المطرد لإلقتصاد‪،‬‬
‫وساعد على ذلك مد طرق المواصالت‪ ،‬وزيادة تأييد الناس لحركات التمرد التي‬
‫اعتبروا قادتها "شهداء" عند موتهم‪ .‬ورغم الثورات التي تفجرت في تلك الفترة‪،‬‬
‫إال أنها لم تقدم بدائل جوهرية من شأنها تغيير النظام اإلقتصادي واإلجتماعي‬
‫الذي أفرزها‪ ،‬واتخذت المنشورات واإللتماسات التي تقدم بها الثوار صورة‬
‫مطالب وطنية محدودة‪ .‬وهكذا تمثلت استجابة الحكومة لتلك القالقل والثورات في‬
‫شكل عدة إصالحات منها فرمانات تنهى عن اإلنغماس في الترف وتحظر الهجرة‬
‫من الريف إلى المدينة‪ ،‬كما ألغت تلك المراسيم نقابات التجار ومنحت المزارعين‬
‫اإلقطاعيين فسحة من الوقت حتى يتمكنوا من تحصيل قيمة الديون المستحقة لهم‬
‫من أتباعهم‪ ،‬وغير ذلك من األمور‪ ،‬وهو ما أدى لزيادة األزمة(‪.)2‬‬
‫انعكست هذه التطورات على الحياة الفكرية؛ فمع والدة اإلقتصاد التجاري‪،‬‬
‫خاصة في المدن‪ ،‬زاد التعطش إلى المعارف والتأمل الفكري‪ .‬ونتيجة لقيام بعض‬
‫اإلتصاالت مع الغربيين‪ ،‬ورفع الحظر عن استيراد الكتب األوربية في عام‬
‫‪1720‬م‪ ،‬باستثناء الكتب الدينية‪ ،‬كرس بعض اليابانيين جهودهم لدراسة العلوم‬
‫األوربية‪ ،‬فتعلموا الهولندية‪ .‬وبعد عدة عقود ألف هؤالء قاموسا هولنديا يابانيا‪،‬‬
‫وترجموا إلى اليابانية بحثا في علم التشريح‪ .‬وفي حوالي منتصف القرن التاسع‬
‫عشر غدا العديد من اليابانيين خبراء في العلوم الغربية المتخصصة كصناعة‬
‫السالح والسفن والتعدين والفلك والطب والخرائط‪ .‬وعلى الرغم من قلة عدد‬
‫هؤالء‪ ،‬إال أنهم شكلوا فريقا من التقنيين ممن كانت له قيمة كبرى‪ ،‬وكان‬

‫‪ 1‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.79 ،78‬‬


‫‪ 2‬ماريوس جانسن‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.13 ،12‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-243-‬‬

‫باستطاعته إع طاء دفعة جديدة لتطوير العلوم‪ .‬بيد أن األهم من ذلك أن هؤالء‬
‫الناس ساعدوا على يقظة الوعي القومي الياباني من خالل كتاباتهم السياسية‬
‫والتاريخية والدينية(‪.)1‬‬
‫في اإلطار السابق أخذ بعض المثقفين المنتمين للفئة العليا من األرستقراطية‬
‫العسكرية (الساموراي) يعيدون تفسير تعاليم كونفوشيوس على ضوء الظروف‬
‫الجديدة‪ ،‬فاعتبروا حكم أسرة طوكوجاوا اغتصابا لسلطة اإلمبراطور الشرعي‪،‬‬
‫ومن ثم ال يجب طاعته‪ .‬وقد ساعدت الظروف الدولية في اإلجهاز على ذلك‬
‫النظام اإلقطاعي‪ ،‬فلم يعد مجديا استمرار سياسة العزلة التي فرضها الحكام‬
‫اإلقطاعيون على اليابان خشية وقوعها فريسة لالستعمار الغربي‪ .‬وأمام اضطرار‬
‫الشوجون لفتح بعض الموانئ أمام السفن األجنبية‪ ،‬تدعمت التأثيرات الفكرية‬
‫الغربية التي وفدت إلى اليابان وأصبحت تجذب اهتمام بعض المثقفين(‪.)2‬‬
‫إن ما حدث لليابان كان يمثل تطورا ثوريا وعميقا‪ .‬ومن هنا تعددت المقوالت‬
‫في توصيفه‪ ،‬من حيث أسبابه البعيدة‪ .‬ويرى البعض أن اليابان كانت في منتصف‬
‫القرن التاسع عشر تكابد حالة من التبلبل العميق التي تتطلب ظهور نظام سياسي‬
‫جديد‪ ،‬إما ألن نظامها السياسي أصبح يحمل أثقال قرنين من التمسك بالقديم‬
‫واليقظة القومية‪ ،‬وإما بسبب نهضة اإلقتصاد التجاري‪ .‬ولكن ځكام عصر‬
‫طوكوجاوا طوروا عادات اإلستقرار بحيث أن اآللة السياسية واإلدارية القديمة‬
‫تابعت حركتها دون تغيير‪ .‬ثم جاء تدخل قوى خارجية‪ ،‬مثل األوربيين‬
‫واألمريكيين‪ ،‬ليساعد على حدوث التغيير(‪.)3‬‬
‫وعند البعض أن "اإلنقالب" الذي استعاد به اإلمبراطور سلطته كان من‬
‫اجتماع كلمة بعض الساموراي (الذين اختلفوا مع سلطة طوكوجاوا)‪ ،‬مع كلمة‬

‫‪ 1‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.80 ،79‬‬


‫‪ 2‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.79‬‬
‫‪ 3‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.85‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-244-‬‬

‫المثقفين المنتمين إلى الطبقة نفسها‪ ،‬وإلى صغار المحاربين وأثرياء التجار‬
‫وأعيان الريف‪ .‬لقد أيقن هؤالء أن اليابان في مواجهة أعبائها الجديدة تحتاج لقيام‬
‫دولة وطنية موحدة ذات سلطة مركزية قوية تضع حدا لفوضى الصراع بين‬
‫الحكام اإلقطاعيين‪ .‬وقد وجدت هذه العناصر في شخص اإلمبراطور‬
‫"موتسوهيتو" الرمز الذي يمكن أن تجتمع حوله البالد لما يمثله شخصه من قداسة‬
‫باعتباره "سليل لربة الشمس التي أورثته ملك بالد اليابان"‪ .‬ومن ثم فإن استخدام‬
‫اإلمبراطور كرمز لحركة سياسية سيضفي عليها الصبغة الشعبية(‪.)1‬‬
‫ويضيف البعض أن رياح التغيير التي هبت على المجتمع الياباني وعصفت‬
‫به في نهاية األمر تحركت من على األرض اليابانية ذاتها‪ ،‬حين أثارتها عوامل‬
‫التفسخ التي عاني منها المجتمع اإلقطاعي منذ القرن الثامن عشر‪ .‬ثم جاء الضغط‬
‫الغربي على الس ْل َ‬
‫طة اإلقطاعية إلنهاء العزلة السياسية التي فرضتها على البالد‪،‬‬
‫ومن بعده جاء اإلنفتاح على العالم الخارجي ليزيد من قوة اندفاع رياح التغيير‬
‫التي أصبحت بمثابة عاصفة هوجاء‪ ،‬فاقتلعت الس ْل َ‬
‫طة اإلقطاعية من جذورها‪،‬‬
‫وتركت التربة صالحة لقيام نظام جديد يختلف عن سابقه في سماته اإلقتصادية‬
‫واإلجتماعية والسياسية والفكرية‪.‬‬
‫وعلى أية حال فقد بدأ اإلنقالب بانتقال العاصمة من "كيوتو" في الجنوب‪،‬‬
‫إلى "إيدو" في وسط شرق البالد (والتي أصبحت تسمى بطوكيو –أي العاصمة‬
‫الشرقية‪ -‬منذ لك الوقت)‪ .‬واقترن هذا اإلنتقال بإقصاء آخر حكام طوكوجاوا من‬
‫الشوجون عن الس ْل َ‬
‫طة بقرار من اإلمبراطور‪ ،‬كما أنه اقترن بمجموعة من‬
‫اإلصالحات والتغييرات التي طالت األوضاع اإلقتصادية واإلجتماعية واإلدارية‬
‫والقانونية والتعليمية(‪ )2‬وغيرها من التغييرات والتطورات التي سنتابعها في‬
‫الصفحات التالية‪.‬‬

‫‪ 1‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.80 ،79‬‬


‫‪ 2‬رءوف عباس حامد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.54 ،51 ،50‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-245-‬‬

‫بناء الدول احلديثة يف اليابان‬


‫(عهد ميجي)‬
‫لم تعرف األحداث التي شهدها تاريخ اليابان خالفا كالخالف الذي وقع بين‬
‫المؤرخين اليابانيين وغيرهم عندما تعرضوا للتطورات الثورية التي مرت بها‬
‫البالد منذ أواخر سنتينيات القرن التاسع عشر(‪ .)1‬ذلك أن ما حدث في اليابان منذ‬
‫عهد ميجي (‪1912-1868‬م) وبعده‪ ،‬يمكن أن نطلق عليه عدة مسميَات‪ ،‬ومنها‬
‫أنه كان "ثورة"‪ .‬على أن هذه الثورة جاءت من أعلى وليس من أسفل‪ ،‬مثلما حدث‬
‫ويحدث أو سيحدث‪ ،‬في بالد أخرى كثيرة‪ .‬لقد استطاعت مجموعة من الرجال‬
‫الذين ينتمون إلى الشريحة الدنيا من األرستقراطية القديمة‪ ،‬وينهجون نهجا ثوريا‬
‫أصيال‪ ،‬تحقيق أمرين جديرين باإلنتباه‪ ،‬هما‪ :‬القضاء على الحكومة القديمة دون‬
‫إراقة دماء‪ ،‬والحلول محلها دون تدخل من الشعب‪ .‬وبما أن الثورة اليابانية أتت‬
‫من أعلى‪ ،‬فإنها حافظت على الناس وأرواحهم وأرزاقهم(‪.)2‬‬
‫ويمكن القول أن ما حدث كان يمثل "فترة البعث الياباني" مع أن موت ميجي‬
‫لم يكن يعني نهاية لهذه النهضة أو الثورة‪ ،‬حيث واصل من خلفوه النهج نفسه‪.‬‬
‫ولذلك ففي أقل من نصف قرن‪ ،‬أصبحت اليابان "قوة عظمى" على الساحة‬
‫الدولية‪ ،‬وشهدت تقدما سريعا‪ ،‬بل ومذهال وغير مسبوق في التاريخ البشري‪.‬‬
‫وعلى الرغم من ذلك ال يمكننا أن نغفل أن هذا البناء الحديث الشامخ كان في‬
‫البداية عرضة للتجربة والخطأ‪ ،‬نظرا ألن التحول كان سريعا وجذريا في آن‬
‫واحد(‪ ،)3‬ونظرا ألن الحكومة الجديدة واجهتها العديد من المشكالت‪ ،‬وكان يتعين‬

‫‪ 1‬إيجور اليتشيف‪ :‬الميجي آيشن‪ :‬ثورة بورجوازية لم تكتمل‪ ،‬ص‪ .57‬في كتاب‪:‬‬
‫الثورة اإلصالحية في اليابان‪.‬‬
‫‪ 2‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.92 ،91‬‬
‫‪ 3‬بانيكار‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ .220‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.66‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-246-‬‬

‫عليها إعادة بناء قوة اليابان‪ ،‬وإعادة الثقة إلى نفوس الناس وجعلهم ينظرون إليها‬
‫باعتبارها حكومة قومية صادقة‪ ،‬خاصة وأن النظام السابق كان قد وصل إلى‬
‫حالة من اإلفالس‪.‬‬
‫كان ع ْمر "موتسوهيتو" عندما استعاد سلطته اإلمبراطورية حوالي ‪ 15‬عاما‪،‬‬
‫لكنه كان ذكيا ونشيطا ومستنيرا‪ ،‬ومن هنا سمي بـ "الميجي" أي "المستنير"‪.‬‬
‫على أن ميجي لم يكن يملك من الخبرة السياسية ما يؤهله لتغيير النظام القائم‪ .‬أما‬
‫الس ْل َ‬
‫طة الحقيقية‪ ،‬في بداية عهده‪ ،‬فكانت في يد مجموعة صغيرة من نبالء البالط‪،‬‬
‫باإلضافة إلى حفنة من العسكريين (الساموراي) الذين ينتمون للمقاطعات التي‬
‫ساهمت في إسقاط النظام القديم وصناعة النظام الجديد‪ .‬وفي بداية األمر كان‬
‫خمسة من هؤالء يسيطرون على مقاليد األمور‪ ،‬وكانوا جميعا من غالة الوطنيين‬
‫الذين يعملون للمصلحة العامة بتفان بالغ وبعد نظر‪ ،‬رغم ما ارتكبه بعضهم من‬
‫أخطاء‪ .‬ولقد كانت قيادتهم جماعية‪ ،‬فلم يحدث أن انفرد أحدهم باتخاذ قرار‪.‬‬
‫كان على القيادة الجديدة أن تواجه المشكالت الملحة‪ ،‬وعلى رأسها‪ :‬إصالح‬
‫مالية البالد‪ ،‬ومقاومة الزحف الغربي(‪ .)1‬كذلك كان اإلتفاق تاما بين زعماء‬
‫النهضة على أن إقامة الدولة الحديثة في اليابان يتطلب قيام حكومة مركزية قوية‪،‬‬
‫يساندها اقتصاد موجه‪ ،‬وجيش قوي يضارع أقوى الجيوش األوربية وتستطيع به‬
‫اليابان أن تواجه التدخل األجنبي‪ ،‬باإلضافة إلى ضرورة إصالح النظام‬
‫التعليمي(‪.)2‬‬
‫وفي أبريل ‪1868‬م تم عقد اجتماع امبراطوري مهم ضم نبالء البالط ورجال‬
‫الدايميو والساموراي‪ ،‬وفيه أدى اإلمبراطور ميجي "يمين الوالء لميثاق األمة"‬

‫‪ 1‬رءوف عباس حامد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.55 ،54‬‬


‫‪ 2‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.81‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-247-‬‬

‫وأعلن "العهد اإلمبراطوري" الذي تمت صياغته بعبارات عامة تجنبت ببراعة‬
‫التحديد والتفصيل(‪ .)1‬ولقد تضمن العهد خمسة أمور رئيسية هي‪-:‬‬
‫األولى‪ :‬أن تتم دعوة "جمعية عامة" كبيرة العدد لالجتماع‪ ،‬وأن تتخذ كافة األمور‬
‫عن طريق المناقشة الجماهيرية العامة‪ .‬وهذه المادة لم تكن تعني خطوة نحو‬
‫الديمقراطية‪ ،‬بقدر ما كانت محاولة ذكية لحشد الدعم لنظام الحكم الجديد‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يكون للحكام والمحكومين الحق نفسه في إبداء الرأي‪ ،‬على أن تدار‬
‫الحكومة بقوة وحسم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أ ن عامة الشعب ال يقلون عن المسئولين المدنيين أو العسكريين‪ ،‬ومن ثم‬
‫يسمح لكل منهم بتحقيق أمانيه‪ ،‬وهو ما كان يعني رفع الحواجز اإلقطاعية‪ ،‬وفتح‬
‫كل المجاالت لمن يمتلكون الموهبة‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬يجب التخلي عن كافة التقاليد والعادات الغريبة التي كانت سائدة‪ ،‬على‬
‫أن يتم ذلك وفقا لمبادئ العدالة والمساواة حسب الفطرة‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬أنه سيجري العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم‪ ،‬بما يؤسس‬
‫الدولة اليابانية على أسس متينة‪ .‬وهذا يعني أن التحديث صار هدفا رسميا‬
‫ورئيسيا‪ ،‬ولكن في ظل الحكم اإلمبراطوري وإرث الماضي(‪.)2‬‬
‫وعلى كل فعلى إثر تنازل آخر شوجونات أسرة طوكوجاوا عن سلطته‬
‫وممتلكاته‪ ،‬تم البدء في إحداث مجموعة من التغييرات اإلدارية واإلقتصادية‬
‫واإلجتماعية والعسكرية والسياسية والتعليمية‪ ،‬والتي يمكن تناولها فيما يلي‪-:‬‬

‫‪ -1‬تغيري النظام اإلداري للدولة وإقامة ال ُسلْطَة املركزية‬


‫شهدت السنوات القالئل في عهد الحكومة الجديدة عدة تغييرات أساسية ومهمة‬
‫في البنيان اإلداري لليابان‪ ،‬وهي تغييرات كانت كبيرة األثر في تهيئة الدولة لتلقي‬
‫المزيد من قوة الدفع على أسس إدارية واضحة وسليمة‪ ،‬أي أنها هيأت األمة لكي‬

‫‪ 1‬ماريوس جانسن‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.27 ،23‬‬


‫‪ 2‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.63 ،61 ،60‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-248-‬‬

‫تكون على عتبة نهضة دون عوائق أو عراقيل‪ .‬وهكذا فبعد القضاء على مقاومة‬
‫بقايا القوات المؤيدة للنظام القديم‪ ،‬وخاصة في الشمال؛ اتخذت الحكومة عدة‬
‫خطوات لتحقيق التجانس بين اإلقطاعيات توطئة لتوحيد البالد‪ ،‬وأصدرت‬
‫األوامر لسادة اإلقطاعيات لتوحيد نظم اإلدارة‪ ،‬وفصل األمور الشخصية عن‬
‫األمورالعامة والميزانية"(‪.)1‬‬
‫ففي مطلع سنة ‪1868‬م تم تأسيس إدارة إقليمية تابعة لإلمبراطور‪ ،‬ثم استبدلت‬
‫في منتصف السنة نفسها بإدارة مركزية تضمنها دستور سنة ‪1868‬م‪ .‬وبمقتضى‬
‫ذلك أصبحت الس ْل َ‬
‫طة العليا في البالد في يد "مجلس الدولة" الذي انقسم بدوره إلى‬
‫ثالثة أقسام‪ :‬قسم تشريعي‪ ،‬وقسم تنفيذي‪ ،‬وقسم قضائي‪ .‬وبذلك تحقق‪ ،‬نظريا‪،‬‬
‫مبدأ الفصل بين السلطات على النمط الغربي‪ .‬ولقد شهد هذا النظام بعض‬
‫التعديالت في سنتي ‪1869‬م و‪1871‬م(‪.)2‬‬
‫إن الس ْل َ‬
‫طة المركزية كانت تتناقض مع نظام الحكم اإلقطاعي الذي ساد قبل‬
‫ذلك العصر‪ .‬وهكذا تمثلت أول الخطوات التي تمت لمركزة الحكم في إلغاء الحكم‬
‫الذاتي الذي ظلت تتمتع به العشائر‪ ،‬والذي كان أحد مظاهر تفتت الس ْل َ‬
‫طة في ظل‬
‫النظام اإلقطاعي‪ .‬لكن إلغاء النظام اإلقطاعي رسميا لم يكن يعني التخلص نهائيا‬
‫من بقايا العالقات اإلقطاعيات التي كانت قائمة في اليابان‪ .‬وفي هذا اإلطار يمكن‬
‫القول أن سنوات ‪1890-71‬م كانت بمثابة فترة سيطرت فيها العشائر التي قامت‬
‫بالثورة ضد حكم طوكوجاوا‪ ،‬وتركزت كل مقاليد الس ْل َ‬
‫طة في أيديها رغم تخفيها‬
‫وراء بعض مظاهر الالمركزية‪ ،‬كما أنها لم تعبأ كثيرا بمطالب الحرية التي راح‬
‫يطالب بها بعض المثقفين الذين تأثروا باألفكار األيديولوجية الغربية(‪.)3‬‬

‫‪ 1‬ماريوس جانسن‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.24‬‬


‫‪ 2‬رءوف عباس حامد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.59 ،58‬‬
‫‪ 3‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.82‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-249-‬‬

‫وفي هذا اإلطار أيضا جرى تقسيم المناصب الكبرى بين رجال البالط ورجال‬
‫الدايميو‪ ،‬في حين تم شغل الوظائف الصغرى ذات المسئولية التنفيذية من خالل‬
‫طائفة طموحة ومستنيرة من شباب الساموراي من ذوي الكفاءة والوالء للحضارة‬
‫الغربية(‪ .)1‬لكن توزيع هذه المناصب كان يتم وفق معايير جديدة تم وضعها‬
‫للوظائف اإلدارية‪ ،‬بما كفل أيضا الفرصة أمام الموظفين المحليين‪ ،‬والذين كانوا‬
‫من عامة الشعب‪ ،‬للترقي إلى الكوادر األعلى في النظام اإلداري(‪.)2‬‬
‫على أية حال فإن بعض األفراد من "أسرة فوجيوارا" القديمة‪ ،‬والذين تمتعوا‬
‫بمواهب عالية‪ ،‬التفوا حول اإلمبراطور الجديد‪ .‬ويذكر البعض أن متوسط أعمار‬
‫هؤالء الرجال في عام ‪1868‬م تراوحت بين ‪ 27‬و ‪ 41‬عاما‪ ،‬أي أن متوسط‬
‫أعمارهم كان منخفضا‪ ،‬بحيث لم يكن غريبا قابليتهم الفذة للتغيير‪ ،‬وتبنيهم له(‪.)3‬‬
‫وفي خريف سنة ‪1870‬م أصدرت الحكومة أوامرها بإجراء إصالحات في‬
‫إدارة اإلقطاعيات‪ ،‬وقامت بتصنيفها حسب حجمها‪ ،‬فكانت هناك اإلقطاعيات‬
‫الكبيرة والمتوسطة والصغيرة‪ .‬وفي سنة ‪1870‬م ألغت الحكومة نظام اإلقطاعيات‬
‫لتبدأ عملية إعادة توحيد البالد‪ ،‬وإعادة تقسيم المناطق‪ .‬وبعد أن كانت اليابان تضم‬
‫‪ 250‬إقطاعية‪ ،‬أصبحت تضم ‪ 50‬محافظة(‪ .)4‬وقد انقسمت كل محافظة لمجموعة‬
‫من األقاليم الكبرى التي كانت تنقسم بدورها إلى عدد من األقاليم الصغرى‪ ،‬وكان‬
‫يرأس كل وحدة من هذه الوحدات موظف تعينه الحكومة المركزية‪ .‬وفي سنة‬
‫‪1878‬م ألغي نظام األقاليم‪ ،‬وأصبحت المحافظات تنقسم إلى وحدات إدارية هي‬
‫المدن والقرى‪ ،‬فيدير كل مدينة أو قرية مجلس يمثل فيه سكانها ويرأسه موظف‬
‫يمثل الس ْل َ‬
‫طة المركزية‪ .‬وقد تفاوت عدد المحافظات بين الزيادة والنقصان حتى‬

‫‪ 1‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.63‬‬


‫‪ 2‬ماريوس جانسن‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.26 ،25‬‬
‫‪ 3‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.91‬‬
‫‪ 4‬ماريوس جانسن‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.24‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-250-‬‬

‫استقر في سنة ‪1888‬م عند ‪ 46‬محافظة‪ ،‬واحتفظت الجكومة المركزية لنفسها‬


‫بحق تعيين المحافظين(‪.)1‬‬
‫ومنذ سقوط حكم طوكوجاوا‪ ،‬تم تحديث اإلدارة الحكومية بشكل كامل على‬
‫النسق األوربي‪ .‬ففي بداية عام ‪1868‬م تم إنشاء سبع وزارات‪ .‬ولم ينته العام إال‬
‫وكان الوزراء يمارسون أعمالهم على النمط األوربي‪ .‬وعلى وجه اإلجمال‬
‫استفادت اليابان من الغرب في تطوير كل أجهزتها‪ ،‬في اإلدارة والصحة‬
‫والشرطة والقضاء‪ .‬وبذلك عممت اليابان أسباب النهضة في كل المجاالت‪،‬‬
‫وتفوقت في نظم اإلدارة الحديثة التي تقول بأن نظرية اإلدارة تتلخص في‬
‫الشمولية انطالقا من فكرة أن السلسلة تقاس بأضعف حلقاتها‪.‬‬
‫إن إقامة الس ْل َ‬
‫طة المركزية تستدعي الحديث عن دور الدولة‪ .‬وهنا نجد أن دور‬
‫الدولة كان أساسيا بالنسبة للمشروعات الحديثة‪ ،‬خاصة في السنوات العشر األولى‬
‫من حكم ميجي‪ .‬والمالحظ هنا أن الدولة لم تتدخل إال في مجاالت محددة تحديدا‬
‫واضحا‪ ،‬سواء في الناحية اإلقتصادية أو المالية‪ .‬ولقد كان هذا التدخل يتخذ أشكاال‬
‫مختلفة‪ ،‬منها رسم المالية العامة‪ ،‬وتشجيع المشروعات الكبرى ودعمها(‪ ،)2‬وهو‬
‫ما سنعود لتناوله‪.‬‬

‫‪ -2‬إلغاء إقطاعيات الدامييونات‬


‫كان إلغاء اإلقطاع من األمور المهمة في اليابان "الجديدة"‪ ،‬نظرا ألهميتها‬
‫اإلقتصادية والسياسية واإلجتماعية‪ ،‬واألسلوب الذي تمت به‪ .‬ففي مارس‬
‫‪1869‬م‪ ،‬وبعد عام واحد من وصولها إلى الس ْل َ‬
‫طة‪ ،‬شرعت النخبة الحاكمة الجديدة‬
‫في تحرير البالد دفعة واحدة من النظام اإلقطاعي‪ .‬ودون حنين ال فائدة منه للنظام‬
‫الذي ترعرعت في كنفه‪ ،‬والذي تدين إليه بمركزها المسيطر في المجتمع‪ ...‬إقتنع‬
‫دايميو مقاطعات ساتسوما وشوشو وتوزا وهيزن بإعادة إقطاعياتهم لإلمبراطور‪.‬‬

‫‪ 1‬رءوف عباس حامد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.61‬‬


‫‪ 2‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.73-71‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-251-‬‬

‫هنا شعرت العائالت األخرى بضرورة اإلقتداء بهم‪ .‬هكذا‪ ،‬وفي حركة واحدة‪،‬‬
‫تخلصت اليابان خالل بضعة أشهر من تجزئة إقطاعية دامت لقرون عديدة‪ .‬على‬
‫أن الدايميو السابقين استعادوا باليمين بعض ما أعطوه بالشمال‪ ،‬فبتعيينهم حكاما‬
‫على إقطاعياتهم القديمة‪ ،‬تلقوا على شكل أجور عشر اإليرادات التي تخلوا عنها‪.‬‬
‫على أنه بعد عامين اثنين‪ ،‬حدث إصالح آخر أكثر جذرية(‪.)1‬‬
‫فأمام عجز اإلمكانيات الموجودة لدى الحكومة المركزية الجديدة‪ ،‬والتي لم‬
‫يكن لديها من سوى تلك اإلمكانيات التي آلت إليها من حكومة طوكوجاوا‪ ،‬اتجهت‬
‫هذه الحكومة للسيطرة على كل أمالك الدايميونات‪ ،‬وذلك من أجل توفير القدرات‬
‫المادية الالزمة لنظام الحكام الجديد‪ .‬وفي هذا اإلطار صدرت األوامر إلى كل‬
‫رجال الدايميونات بتسليم سجالت األراضي التي في حوزتهم(‪ .)2‬وهكذا تم إلغاء‬
‫اإلقطاعيات بشكل نهائي‪ ،‬وتم تقسيم البالد إلى محافظات تابعة لطوكيو مباشرة‪.‬‬
‫وفي هذه المرة لم يعد الدايميونات يحتفظون بشئ من امتيازاتهم‪ ،‬بل عوضتهم‬
‫الحكومة ‪-‬هم وأتباعهم‪ -‬بمكافآت ضخمة حرصت على أن تقدمها في شكل‬
‫معاشات أو سندات حكومية لكي تضمن الطاعة المطلوبة للنظام من السادة‬
‫المخلوعين‪ .‬ولقد أصبح الدايميونات بعدها نموذجا للوالء والخضوع(‪.)3‬‬

‫‪ -3‬التغيريات اإلجتماعية‬
‫وجهت الحكومة جهودها للنواحي اإلجتماعية‪ ،‬فقضت –بالتدريج‪ -‬على‬
‫األعراف والقيود اإلجتماعية الطبقية التي كانت سائدة وخلفتها طبقة الشوجون‪.‬‬
‫وفي هذا السياق أصبحت حرية التنقل مكفولة للجميع‪ ،‬وأصبح لكل فرد الحرية‬
‫في اختيار المهنة التي يريدها‪ ،‬وأصبح الزراع أحرارا في زراعة المحاصيل التي‬
‫يريدونها‪ .‬وفقا لهذه التغييران‪ ،‬انقسم اليابانيون إلى عدة فئات‪" :‬فئة األشراف‪/‬‬

‫‪ 1‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.95 ،94‬‬


‫‪ 2‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.64‬‬
‫‪ 3‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.95 ،94‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-252-‬‬

‫الكازوكو" وكانوا يتألفون من حكام الدايميو ونبالء البالط والساموراي من الطبقة‬


‫األعلى "شيزوكو"‪ .‬ثم تليها طبقة تشمل "الساموراي" من الطبقة األدنى منهم‪،‬‬
‫مع غيرهم من عامة الشعب‪ ،‬وأطلق عليهم اسم "الهيمين"‪ .‬على أنه على الرغم‬
‫من أن هذه الفئات كانت متمايزة إجتماعيا‪ ،‬إال أنها كانت متساوية أمام القانون‪.‬‬
‫كما سمح للعامة باتخاذ ألقاب العائالت وارتداء المالبس الرسمية الخاصة‬
‫بالمناسبات وركوب الخيل في أسفارهم‪ ،‬وسمح بالتزاوج بين الطبقات العليا‬
‫والدنيا‪ ،‬وحظر على الساموراي قتل العامة(‪.)1‬‬
‫وعلى أية حال فعلى أثر التنمية اإلقتصادية التي شهدتها اليابان في النواحي‬
‫الصناعية والزراعية‪ ،‬شهد البناء اإلجتماعي تغييرات مهمة‪ .‬فقد ذابت الطبقة‬
‫اإلجتماعية القديمة‪ ،‬وتالشت طبقة المحاربين المحترفين‪ ،‬وانصهرت العشائر في‬
‫بوتقة الوحدة القومية‪ ،‬وتغير ميزان القوى بين الريف والمدينة‪ ،‬ونشأ تكوين طبقي‬
‫جديد أهم طبقاته الطبقة الرأسمالية وطبقة العامة(‪ .)2‬وهكذا ففي أقل من جيلين‬
‫فقط‪ ،‬اختفي الصدع القائم بين الساموراي وعامة الشعب اختفاء تاما‪ ،‬وبدا من‬
‫حاولوا استعادة ذكراه القديمة كأنهم يوقظون ذكرى بعيدة(‪.)3‬‬

‫‪ -4‬اإلصالحات التعليمية والفكرية‬


‫في إطار ما جاء في اإلعالن اإلمبراطوري لسنة ‪1868‬م من ضرورة‬
‫"السعي لجمع المعرفة من بين أمم العالم"‪ ،‬رأت الحكومة أن أساس الدولة الحديثة‬
‫يجب أن يقوم على أسس علمية وعلى أيدي شعب متعلم متنور‪ .‬فرفع مستوى‬
‫تعليم أبناء الشعب هو شرط الستمرار عملية التحديث‪ ،‬والجيش والبحرية‬
‫يحتاجان لرجال متعلمين قادرين على تعلم مبادئ تقنية الغرب‪ ،‬والصناعة بحاجة‬

‫‪ 1‬رءوف عباس حامد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.68‬‬


‫‪ 2‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.88‬‬
‫‪ 3‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.96‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-253-‬‬

‫كبيرة لليد العاملة المؤهلة(‪ .)1‬ولذلك تم في سنة ‪1871‬م إنشاء وزارة للمعارف‪،‬‬
‫تم تكليفها بوضع نظام للتعليم يحقق هذا الهدف‪.‬‬
‫بدأت الوزارة العمل بإنشاء مرحلة التعليم اإلبتدائي على غرار التعليم‬
‫الفرنسي‪ ،‬وكان كل طفل ملزما بقضاء ثالث سنوات على األقل فيها‪ .‬ولم تلبث‬
‫الوزارة أن أنشأت آالف المدارس اإلبتدائية والفنية العليا للطب والزراعة‬
‫والتجارة وصيد األسماك‪ ،‬باإلضافة لمدارس البحرية‪ .‬كذلك تم إنشاء عدة‬
‫جامعات‪ ،‬أولها جامعة طوكيو في سنة ‪1877‬م‪ ،‬ثم تلتها العديد من الجامعات‬
‫العامة والخاصة (مثل جامعة واسيدا‪ ،‬وجامعة كيوتو‪ ،‬وجامعة كييو)‪ ،‬حيث كان‬
‫نظام التعليم فيها في البداية خاضعا لمؤثرات أمريكية بالدرجة األولى‪ ،‬ثم‬
‫للمؤثرات األلمانية(‪ .)2‬ونتيجة لهذا التأثير مضت الحكومة في تأكيدها للجانب‬
‫النفعي والعملي للعلم والمعرفة‪ ،‬فلم تكن الجامعة تضم في البداية كليات العلوم‬
‫اإلنسانية‪ ،‬كاألداب والقانون‪ ،‬ولكنها ضمت كليات للهندسة والطب والزراعة(‪.)3‬‬
‫ولقد استمر النظام التعليمي آنذاك على الشكل الهرمي‪ ،‬حيث تتألف قاعدته‬
‫من ست سنوات من الدراسة اإلبتدائية اإلجبارية التي كان التعليم فيها باللغة‬
‫اليابانية(‪ ،)4‬تأتي بعدها مرحلة متوسطة من خمس سنوات‪ ،‬ويليها ثالث سنوات‬
‫من الدراسة الثانوية‪ .‬أما القمة فهي الدراسة الجامعية التي كانت تمتد لثالث‬

‫‪ 1‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.102 ،100‬‬


‫‪ 2‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.65‬‬
‫‪ 3‬ناجاي ميتشو‪ :‬التعليم في أوائل فترة حكم ميجي‪ ،‬في كتاب‪ :‬الثورة اإلصالحية‬
‫في اليابان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.174‬‬
‫‪ 4‬ركزت الحكومة اليابانية جهودها على بناء البنية األولى للمجتمع‪ ،‬والتي تتمثل‬
‫في الطفل‪ .‬ومن ثم اهتمت بالتعليم اإلبتدائي أكثر مما اهتمت بالتعليم العالي‪ ،‬وهذا‬
‫يختلف عن تجارب دول أخرى عديدة‪ .‬ناجاي ميتشو‪ :‬التعليم في أوائل فترة حكم‬
‫ميجي‪ ،‬في كتاب‪ :‬الثورة اإلصالحية في اليابان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.173‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-254-‬‬

‫سنوات‪ .‬وعلى أية حال‪ ،‬فمع مجئ القرن العشرين‪ ،‬كان كل أطفال اليابان قد تم‬
‫إلحاقهم بالمدارس‪ ،‬واقترب معدل من يعرفون القراءة والكتابة من هذه النسبة‪.‬‬
‫ولقد أشرفت الدولة على نظام التعليم‪ ،‬فوفرت له كل ما استطاعت من‬
‫مقومات‪ ،‬وحررته من الضغوط اإلجتماعية والدينية‪ ،‬وصبغته بدرجة من‬
‫العقالنية والدنيوية والعملية والنفعية بشكل فاق التعليم في الغرب‪ ،‬كما جعلته في‬
‫خدمتها وتلبية احتياجاتها في كل المجاالت‪.‬‬
‫وفي هذا اإلطار علينا أن نشير إلى اهتمام اليابان بدراسة التجارب الغربية‬
‫واإلستفادة منها (‪ .)1‬لقد كان العقدان األوالن من عهد ميجيبمثابة حقبة تقليد مكثف‬
‫عبر عن رغبة اليابانيين في أن يتمثلوا ‪-‬حتى األعماق‪ -‬عناصر الحضارة الغربية‬
‫التي اتخذوها نموذجا‪ .‬لكن التقليد المفرط تطور مع الوقت وارتدى صفة‬
‫المنهجية‪ ،‬فتم اختيار العلماء بعناية تبعا لتبحرهم في العلم وتخصصاتهم‪ .‬كما أن‬
‫اختيار البالد التي سوف يرسلون إليها خضع للعناية نفسها‪ .‬وقد حرص اليابانيون‬
‫على أال يستعيروا إال األفضل من كل بلد‪ .‬ومن هنا ذهبوا إلى إنجلترا لدراسة‬
‫المالحة‪ ،‬وإلى ألمانيا لدراسة الطب والفنون العسكرية‪ ،‬وإلى فرنسا لدراسة‬
‫اإلدارة المحلية والحقوق‪ ،‬وإلى الواليات المتحدة األمريكية لدراسة األساليب‬
‫التجارية‪ .‬وهكذا لم يكن العالم بالنسبة لهم إال مدرسة كبيرة‪ ،‬ولكنهم يحددون‬
‫بأنفسهم المنهج الذي يرغبون في دراسته‪ ،‬ويختارون أساتذتهم في حرية‪،‬‬
‫ويقررون بدقة كيفية استعمال معارفهم الجديدة‪.‬‬

‫يذكر أن الرياضيات كانت تدرس في ‪ 141‬مدرسة من مجموع مدارس‬ ‫‪1‬‬

‫المقاطعات البالغ عددها ‪ 240‬مدرسة خاضعة إلشراف الحكومة‪ ،‬كما أن‬


‫المعارف الغربية كانت تدرس في ‪ 77‬مدرسة‪ ،‬والطب في ‪ 68‬مدرسة‪ ،‬والفلك‬
‫في خمس مدارس‪ .‬لو وان هي‪ :‬المعارف الغربية والميجي آيشن‪ ،‬في كتاب‪:‬‬
‫الثورة اإلصالحية في اليابان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.183‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-255-‬‬

‫وفي هذا اإلطار أيضا فإنهم لم يترددوا في استقدام الخبراء األجانب ودفع‬
‫أعلى المرتبات لهم‪ ،‬رغم ظروفهم المادية الصعبة في البداية‪ .‬وبعد أن وضع‬
‫اليابانيون أنفسهم بترو وتصميم على طريق مدرسة الغرب‪ ،‬بدأوا في االبتكار‬
‫والتجديد(‪.)1‬‬
‫من ناحية أخرى أدت التطورات التي شهدتها اليابان‪ ،‬باإلضافة إلى اإلتصال‬
‫بالغرب (عن طريق البعثات أو باستقدام الخبراء)‪ ،‬إلى ظهور جيل جديد من‬
‫المثقفين والمفكرين اليابانيين الذين بدأوا ينظرون إلى العالم وبالدهم نظرة جديدة‪.‬‬
‫انعكس ذلك في ظهور العديد من المفكرين واألدباء والمؤرخين والصحفيين الذين‬
‫كتبوا في الكثير من األمور السياسية واإلقتصادية واإلجتماعية وغيرها من أمور‬
‫العصر ومشكالته‪ ،‬كما ترجموا العديد من الكتب واألفكار الغربية إلى اللغة‬
‫اليابانية‪ .‬ومن الصحف التي ظهرت في تلك الفترة صحف "آساهي" و"ينتشي"‬
‫و"يوموري" و"هوتشي"(‪.)2‬‬
‫ولعل من المفيد أن نشير إلى أمر مهم تحدث عنه "بانيكار"‪ ،‬وهو أن الكتاب‬
‫الغربيون ارتكبوا عدة أخطاء‪ ،‬خاصة في الفترة السابقة على سنة ‪1930‬م‪ ،‬منها‬
‫زعمهم بأن اليابان راعتها حضارة الغرب واعتقدت بتفوقها المعنوي‪ .‬وعنده أن‬
‫ذلك غير صحيح بالمرة‪ .‬ففي حين أن زعماء النهضة اليابانية اقتبسوا من الغرب‬
‫بجد وحمية شديدة جميع التنظيمات البحرية وغيرها‪ ،‬وأنشأوا دولة عصرية تماما‪،‬‬
‫فإنهم في الوقت نفسه كانوا يتخذون كل احتياط للتحقق من عدم تغلغل األفكار‬

‫‪ 1‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.101 ،100‬‬


‫‪ 2‬ناجاي ميتشو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ .177‬تاكيدا كيوكو‪ :‬ثورة الميجي التي لم تكتمل‬
‫والتاريخ الفكري‪ ،‬في كتاب‪ :‬الثورة اإلصالحية في اليابان‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬
‫ص‪ 190‬وغيرها‪.‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-256-‬‬

‫الغربية ببالدهم‪ ،‬ولتكوين نظرية لجنسهم‪ ،‬ولصياغة أيديولوجية سياسية وشعورا‬


‫خلقيا قوميا قائما على إنكار المبادئ السياسية في حياة الغرب(‪.)1‬‬

‫‪ - 5‬اإلصالحات العسكرية‬
‫عندما أصبح قادة اليابان الجدد في أعلى المناصب‪ ،‬ألزموا أنفسهم منذ البداية‬
‫بأن يزودوا البالد بدفاع أرضي وبحري ال يقل فاعلية عن دفاعات الغرب‪ .‬وال‬
‫يمكن لمثل هذا اإلهتمام أن يثير دهشتنا عندما يصدر عن رجال نشأوا منذ نعومة‬
‫أظفارهم على احترام التقاليد العسكرية وشعروا دائما بالمهانة من تفوق قوات‬
‫الغرب‪ .‬ويمكننا أن نفهم دون عناء أنهم كانوا مهووسون باإلستقالل العسكري‪.‬‬
‫ولعل الشعار الشعبي الذي رفع في اليابان آنذاك "بلد غني وجيش قوي" ليلخص‬
‫لنا كيف اهتم هؤالء بتقوية قواتهم العسكرية‪ ،‬جنبا إلى جنب مع إعادة صياغة‬
‫البني السياسية واإلقتصادية واإلجتماعية والثقافية للبالد"(‪.)2‬‬
‫لقد وجد رجال الحكومة الجدد أنهم ‪-‬وبعد إلغاء الطبقة العسكرية القديمة‬
‫المتمثلة في رجال الساموراي المحاربين‪ -‬أصبحوا في حاجة ماسة إلى إنشاء‬
‫قوات مسلحة عصرية تكون بديلة للقوات القديمة‪ ،‬وتستطيع التصدي للتدخل‬
‫األجنبي‪ .‬ولقد كان ذلك يحتاج إلى إجراء العديد من التغييرات الجذرية‪ ،‬سواء في‬
‫مركزية القيادة أو التجنيد والتدريب والتسليح‪.‬‬
‫في هذا اإلطار شهد الجيش الياباني مجموعة ضخمة من التغييرات‪ .‬كانت‬
‫أول خطوة في بناء الجيش الحديث تتمثل في إنشاء إدارة للشئون العسكرية‪ ،‬والتي‬
‫أصبحت مهمتها توحيد القوات المسلحة وإعادة تنظيم هياكلها وتدريبها وتوحيد‬

‫‪ 1‬بانيكار‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.219 ،218‬‬


‫‪ 2‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ .93‬هذا مع مالحظة أن الذين قادوا‬
‫التغيير كانوا في األساس من شباب الساموراي الذين ينتمون إلى عائالت مثل‬
‫ساتسوما وشوشو وتوسا‪.‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-257-‬‬

‫تسليحها(‪ .)1‬أما الخطوة التالية فكانت تتمثل في إدخال التجنيد اإلجباري سنة‬
‫‪1873‬م‪ ،‬وهو النظام الذي كان مقتبسا من النظام العسكري األلماني‪ ،‬وبمقتضاه‬
‫سار تکليف جميع الذكور من فوق سن العشرين بتأدية الخدمة العسكرية لمدة‬
‫ثالث سنوات (كانت السنوات الثالث هي مدة الخدمة الفعلية التي كان على كل‬
‫ياباني أن يقضيها تحت السالح‪ ،‬أما مدة الخدمة االرسمية فامتدت إلى ‪ 12‬سنة)‪.‬‬
‫وبمقتضى هذا النظام استطاعت اليابان (في سنة ‪1894‬م) أن تجند ‪ 73‬ألف جندي‬
‫يمكن زيادتهم عند الحرب إلى ‪ 200‬ألف‪ .‬وتمت اإلستعانة في تنظيم الجيش‬
‫باستقدام بعثة عسكرية فرنسية‪ ،‬ثم ما لبثوا أن استبدلوها بمستشارين عسكريين‬
‫ألمان‪ .‬وأنشئت بحرية صغيرة تحت رعاية عدد من الخبراء اإلنجليز(‪ .)2‬وفي سنة‬
‫‪1878‬م تشكلت أول هيئة لألركان العامة‪ .‬وفي سنة ‪1882‬م تم إنشاء أكاديمية‬
‫للعلوم العسكرية‪ .‬ولقد أخذت القوات المسلحة اليابانية تنمو بصورة مطردة‪،‬‬
‫وحدث الشئ نفسه بالنسبة للبحرية‪ ،‬فزادت من ‪ 17‬قطعة بحرية مجموع حمولتها‬
‫‪ 13‬ألف طن في سنة ‪1873‬م إلى ‪ 76‬قطعة بحرية مجموع حمولتها ‪ 250‬ألف‬
‫طن‪ ،‬باإلضافة إلى ‪ 76‬زورق طوربيد‪ ،‬وذلك في سنة ‪1903‬م‪ .‬ومع نهاية الحرب‬
‫العالمية األولى كانت اليابان الدولة البحرية الثالثة في العالم بعد الواليات المتحدة‬
‫األمريكية وإنجلترا‪ .‬وقد ساعد على فاعلية القوة البحرية اليابانية تركزها في‬
‫منطقة واحدة هي المحيط الهادئ وبحر الصين‪.‬‬
‫على أية حال أثمرت هذه الجهود‪ ،‬وظهرت كفاءة القوة العسكرية اليابانية في‬
‫ثالثة حروب متتالية هي‪ :‬الحرب الصينية اليابانية ‪1895-94‬م‪ ،‬والحرب اليابانية‬
‫الروسية ‪1905-1904‬م‪ ،‬والحرب العالمية األولى (‪.)3‬‬

‫‪ 1‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.85 ،84‬‬


‫‪ 2‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.72 ،65‬‬
‫‪ 3‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.85 ،84‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-258-‬‬

‫‪ -6‬التغيريات السياسية والربملانية واحلزبية‬

‫شهدت اليابان في عهد ميجي مجموعة من التطورات في المجاالت السياسية‬


‫والبرلمانية والحزبية‪ .‬ففي سنوات ‪1875-73‬م ظهرت بوادر إنشاء أحزاب‬
‫سياسية في اليابان‪ ،‬كما شهدت تلك الفترة حملة كبيرة ترمي إلنشاء هيئة نيابية‪،‬‬
‫وراجت أفكار بعض المفكرين السياسيين الغربيين‪ .‬وفي سنة ‪1878‬م أنشئت‬
‫جمعيات للتمثيل النيابي في كل مقاطعة‪ ،‬ومنحت هذه الجمعيات سلطات مالية‬
‫محدودة‪ .‬ولكن هذه الجمعيات لم يكتب لها أن تقوم بدورها المنشود‪ ،‬إذ إن البالد‬
‫سادتها موجة من الشغب السياسي الذي حال دون ازدهار هذه الجمعيات‪ .‬ومع أن‬
‫الحكومة تمكنت بسهولة من قمع هذا الشغب‪ ،‬فإنها ظلت مع ذلك في حاجة لقيام‬
‫بنيان سياسي واضح في اليابان‪ .‬لذلك تقدم عدد كبير من المفكرين السياسيين‬
‫اليابانيين في سنة ‪1881‬م بمقترحات إلنشاء نظام نيابي يماثل النظام المعمول به‬
‫في إنجلترا‪ ،‬وارتفعت الصيحات في البالد بأنه ال مناص من قيام برلمان لمنع‬
‫الفساد السياسي‪ .‬وفي أكتوبر ‪1881‬م تولی اإلمبراطور رئاسة اجتماع هام‬
‫حضره جميع أعضاء الحكومة‪ ،‬وأصدر وعده بإقامة برلمان في غضون عشرة‬
‫أعوام(‪.)1‬‬
‫على كل شهدت اليابان في الفترة األولى‪ ،‬وبالتحديد في عام ‪1881‬م‪ ،‬قيام‬
‫نظام تشريعي معتمد إلى حد كبير على تشريع نابليون‪ ،‬وكان بمثابة خطوة تقدمية‬
‫وجريئة مقارنة مع تشريعات العصر السابق‪ .‬لقد منح الناس حقوقهم المدنية‪،‬‬
‫فمنحت لهم حرية الكالم‪ ،‬وحرية الصحافة‪ ،‬وحرية اإلجتماع‪ ،‬وحرية العبادة‪،‬‬
‫وعدم الحق في انتهاك الرسائل والبيوت‪ ،‬والحصانة من إلقاء القبض على اإلنسان‬
‫أو عقابه إال بإجراء قانوني‪ ،‬وتحريم التعذيب‪ .‬كما تمت المساواة بين الناس أمام‬
‫القانون‪ ،‬وتم إصالح السجون‪ ،‬وتقرر إيداع األجور للمسجونين على عملهم‪،‬‬

‫‪ 1‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.65‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-259-‬‬

‫حتى إذا ما أطلق سراح أحدهم أعطي مبلغا من المال يبدأ به حياته الجديدة في‬
‫الزراعة أو التجارة(‪.)1‬‬
‫وفي عام ‪1889‬م تم إصدار الدستور‪ ،‬الذي مع أنه لم يتخذ من أي دستور‬
‫بعينه نموذجا له‪ ،‬إال أن تأثير إنجلترا وألمانيا كان ظاهرا في كثير من مواده‪ .‬كان‬
‫هناك اعتباران تسلطا على اإلمبراطور ومستشاريه‪ .‬أما اإلعتبار األول فتمثل في‬
‫اإلحتفاظ بسلطة العرش سليمة وغير منقوصة‪ ،‬وإقامة حكومة مركزية قوية‬
‫وقادرة على بناء دولة قوية دون معوقات كبيرة‪ .‬أما اإلعتبار الثاني فكان يتمثل‬
‫في إقناع العالم بأن على رأس اليابان حكومة عصرية متحررة ودستورية‪ ،‬وذلك‬
‫حتى يتسنى لليابان عقد معاهدات جيدة مع الدول الغربية (‪.)2‬‬
‫على أن هذا الدستور ساهم هو اآلخر في النهاية في قيام "الدولة الشمولية"‬
‫التي سيطرت عليها في النهاية مجموعة من العسكريين‪ .‬والحقيقة أن الهدف من‬
‫هذا الدستور لم يكن اإلعتراف بحقوق الشعب السياسية وممارستها عن طريق‬
‫المجالس النيابية‪ ،‬بقدر ما كان يهدف إلى تحقيق األهداف التي ذكرناها من قبل‪.‬‬
‫وهكذا فإذا كان هذا الدستور قد أخذ بمبدأ الفصل بين السلطات‪ ،‬إال أن هذا الفصل‬
‫كان صوريا‪ .‬فالبرلمان في تكوينه واختصاصاته كان قاصرا وعاجزا عن القيام‬
‫بالمهمة الموكولة إليه؛ أي التشريع والرقابة على أعمال الحكومة‪ .‬كما خضعت‬
‫الس ْل َ‬
‫طة القضائية للسلطة التنفيذية التي كانت تعَين القضاة‪ .‬وفي حين سيطرت‬
‫األرستقراطية على مجلس اللوردات (األشراف)‪ ،‬فإن المجلس النيابي لم يكن‬
‫يعبر في البداية عن أكثر من ‪ %1‬من مجموع الشعب‪ ،‬حيث اشترط أن يكون‬
‫الناخب ممن يملكون ويدفعون ضرائب مباشرة ال تقل عن ‪ 15‬ين في السنة (بلغ‬
‫عدد الناخبين في البداية حوالي ‪ 460‬ألف شخص‪ ،‬وارتفع عددهم بفعل حركات‬

‫ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة (الشرق األقصى‪-‬اليابان)‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫ص‪.171 ،170‬‬
‫‪ 2‬بانيكار‪ :‬مرجع سابق‪،‬ص ‪.223‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-260-‬‬

‫تحرر متتالية حتى بلغ ‪ 13‬مليون في سنة ‪1928‬م)‪ .‬كذلك أجاز الدستور للحكومة‬
‫العمل بميزانية العام السابق إذا اعترض البرلمان على الميزانية (‪.)1‬‬
‫وبشكل عام ركز دستور ‪1889‬م الس ْل َ‬
‫طة كلها في يد اإلمبراطور‪ ،‬الذي كان‬
‫أيضا على قمة البناء التشريعي‪ .‬فهو –أي اإلمبراطور‪ -‬كان من الناحية الدستورية‬
‫رئيس الدولة‪ ،‬وله الس ْل َ‬
‫طة التنفيذية عن طريق مجلس الوزراء‪ .‬بل إن الدستور ما‬
‫هو إال منحة منه‪ .‬وهو الذي يعين أعضاء الوزارة ومجلس البالط‪ ،‬والوزراء‬
‫مسئولون أمامه ال أمام القائد األعلى للجيش‪ ،‬وال يمكن تفويض هذه الس ْل َ‬
‫طة لغيره‪.‬‬
‫وهو المالك لألرض كلها‪ ،‬وهو الذي يكسب اإلمبراطورية وحدتها واستمرارها‬
‫وقوتها وسمعتها المستمدة من سمعة امبراطورها‪ .‬وإذا كان اإلمبراطور سمح‬
‫بوجود مجلسين نيابيين (مجلس األشراف ومجلس النواب)‪ ،‬فإن وجود المجلسين‬
‫أو فضهما كان مرتبطا بإرادته(‪.)2‬‬
‫على كل فإن قضية الديمقراطية –وبشكل عام‪ -‬لم تكن ذات أهمية حيوية في‬
‫سنة ‪1889‬م‪ ،‬بل إن أقوى الدول في أوربا آنذاك‪ ،‬وهي اإلمبراطورية األلمانية‪،‬‬
‫لم تدع أبدأ أن لها دستورا ديمقراطيا‪ ،‬بل كانت تقوم‪ ،‬وقبل كل شئ‪ ،‬على الحكم‬
‫اإلستبدادي‪ .‬واألمر نفسه كان يتكرر في روسيا والنمسا‪-‬المجر‪ ،‬بل إن حق‬
‫التصويت كان ال يزال مقيدا ببعض القيود في انجلترا نفسها‪ ،‬رغم أنها موطن‬
‫الديمقراطية الحرة(‪.)3‬‬
‫كما عرفت اليابان آنذاك نظام تأليف األحزاب السياسية‪ ،‬فتكون "حزب‬
‫األحرار" و"الحزب التقدمي" و"الحزب اإلمبراطوري"‪ .‬لكن هذه األحزاب‬

‫‪ 1‬علي بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.84 ،83‬‬


‫‪ 2‬ديورانت‪ :‬قصة الحضارة (الشرق األقصى‪-‬اليابان)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.170‬‬
‫‪ 3‬بانيكار‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.223‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-261-‬‬

‫كانت باكورة النظام الحزبي‪ ،‬ولم تكن أحزابا بالمعنى الصحيح‪ .‬وألنها أنشئت في‬
‫ظل اضطرابات داخلية‪ ،‬فإنها لم تتمكن من أداء الغرض الذي أنشئت من أجله(‪.)1‬‬
‫كما شهدت هذه الفترة سيطرة مجموعات العسكريين على الس ْل َ‬
‫طة‪ ،‬خاصة‬
‫الس ْل َ‬
‫طة التنفيذية‪ .‬فالبحرية والجيش والشرطة‪ ،‬سيطر عليها الساموراي بفضل‬
‫خبرتهم السياسية ومستوى ثقافتهم العالي(‪ .)2‬أما مجلس المخضرمين والبالط‪،‬‬
‫فكالهما كان يتكون من كبار رجال الجيش والبحرية‪ ،‬حيث تم اإلتفاق خالل‬
‫الثورة على أن شغل هذين المنصبين يكون من كبار القادة العاملين في الجيش‬
‫والبحرية‪ ،‬وكان ذلك يعني خضوع مجلس الوزراء لهيئة أركان حرب الجيش‬
‫التي كانت بدورها خاضعة لإلمبراطور شخصيا‪ .‬وكان يكفي انسحاب وزيري‬
‫الحربية والبحرية إلقالة أي حكومة‪ .‬وبات واضحا سيطرة العسكريين على الحكم‬
‫ابتداء من الحرب الصينية اليابانية ‪1894‬م‪ .‬ومن خالل ذلك استطاعت الحكومة‬
‫أن تتغلب على معارضة األحزاب‪ ،‬سواء عن طريق الوسائل الدستورية أو غير‬
‫الدستورية‪ ،‬أو عن طريق تكوين أحزاب موالية لها(‪ .)3‬وعلى كل فإن رجال حكم‬
‫ميجي عملوا على تعميق فكرة استبدادية الدولة‪ ،‬ألنهم كانوا يعتقدون أن استتباب‬
‫النظام وصرامته أمر الزم وأساسي لدفع عجلة التقدم اإلقتصادي والعسكري‪،‬‬
‫وهو أمر ربما بدا متناقضا مع تطور اليابان وتطلعاتها نحو الحضارة الغربية(‪.)4‬‬

‫‪ -7‬التنمية اإلقتصادية‬
‫ثمة سؤال يطرحه الكثير من الباحثين في هذا الموضوع‪ ،‬وهو‪ :‬لماذا‬
‫استطاعت اليابان النهوض بمؤسساتها وعرفت التصنيع في النصف الثاني من‬
‫القرن التاسع عشر‪ ،‬في الوقت الذي عجزت فيه الصين عن القيام بذلك؟‪ .‬وقد قدم‬

‫‪ 1‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.66 ،65‬‬


‫‪ 2‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.95‬‬
‫‪ 3‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.84 ،83‬‬
‫‪ 4‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.73‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-262-‬‬

‫لنا العلماء اليابانيين تفسيرين لهذه الظاهرة‪ .‬يقول التفسير األول أن اليابان كانت‬
‫قد توفرت لديها كثير من متطلبات التقدم في منتصف القرن التاسع عشر‪ .‬ويقول‬
‫التفسير الثاني بأن الصين كانت أكثر خضوعا للغرب من اليابان في الناحيتين‬
‫السياسية واإلقتصادية‪ .‬ومن ثم استطاعت اليابان تحقيق التنمية في ظل‬
‫اإلستقالل(‪ .)1‬والواقع أنه على الرغم من الخالف السابق‪ ،‬إال أنه يعكس حقيقة‬
‫أن التنمية اإلقتصادية كانت إحدى المظاهر الرئيسية األخرى للتغيير‪.‬‬
‫في البداية نشير إلى حقيقة أن اليابان في عهد ميجي انطلقت من منطلق‬
‫اإلعتراف القاطع بالتفوق العلمي والفني للغرب وحضارته‪ ،‬ومن أنه ال سبيل لها‬
‫سوى استيعاب التقدم الغربي ونقله لكي تتبوأ اليابان مكانتها في الشرق األقصى‬
‫أوال‪ ،‬ثم على المسرح العالمي ثانيا (‪ .)2‬على أن ثمة حقيقة أخرى مهمة يجب‬
‫اإلشارة إليها هنا‪ ،‬وهي أن الهدف األول من إعادة بناء اإلقتصاد الياباني وتنميته‬
‫على أسس حديثة كان من أجل تقوية الدولة ماديا‪ ،‬وليس لرفع مستوى معيشة‬
‫الفرد‪ .‬إضافة إلى ذلك فإن اإلهتمام بالزراعة كان يهدف إلى تحقيق هدف آخر‪،‬‬
‫وهو النهوض بالصناعة‪ .‬وقد حددت هذه األمور هدف نمط التنمية اإلقتصادية‪،‬‬
‫كما أوجدت اإلرتباط الوثيق بين التنمية اإلقتصادية وبين بناء القوات المسلحة‪.‬‬
‫ففي مجال الزراعة شهدت اليابان صدور "قانون اإلصالح الزراعي"‪ .‬وفي‬
‫عام ‪1872‬م صدر قانون يبيح التصرف في الملكية الزراعية‪ ،‬وصدر قانون آخر‬
‫اعترف بحق الملكية الفردية وحرية التملك‪ ،‬وإباحة تصدير الحاصالت الزراعية‪،‬‬
‫بما في ذلك األرز‪ .‬كذلك تم إدخال الميكنة الزراعية‪ ،‬وإن بشكل جزئي‪ ،‬وفق‬
‫أحدث الطرق األوربية واألمريكية‪ .‬بيد أن المشكلة األساسية التي واجهتها اليابان‬

‫شيهارا تاكوجي‪ :‬النهوض باليابان ومسايرتها لطابع العصر من منظور‬ ‫‪1‬‬

‫العالقات الدولية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ ،78‬بحث في كتاب‪ :‬الثورة اإلصالحية في‬
‫اليابان –ميجي آيشن‪.‬‬
‫‪ 2‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.71‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-263-‬‬

‫آنذاك كانت مشكلة التمويل‪ .‬ولما كانت فكرة القروض الخارجية مرفوضة حتى‬
‫ال تجر من ورائها التدخل األجنبي‪ ،‬بل وكان الغربيون ينظرون في شك إلى‬
‫"امبراطورية الشمس المشرقة" وال يقدمون القروض لها إال مقابل فوائد عالية‬
‫جدا(‪ ...)1‬فقد تم تعويض ذلك بفرض أعباء كبيرة على القطاع الزراعي لتمويل‬
‫المشروعات الصناعية‪ .‬وفي هذا اإلطار تم تحويل الضرائب إلى ضرائب نقدية‪،‬‬
‫ما زاد األعباء المالية على القطاع الزراعي‪ ،‬وخاصة صغار المزارعين‪ .‬وعلى‬
‫ذلك يتضح مرة أخرى أن التدابير التي اتخذتها حكومة اليابان في القطاع‬
‫الزراعي‪ ،‬كان الهدف األساسي منها توفير الموارد المالية الالزمة للصناعة‪.‬‬
‫ولعل هذا يفسر الثورات التي شهدها الريف في الفترة الواقعة بين سنوات ‪-73‬‬
‫‪1883‬م واعتماد األحزاب السياسية على الريف في معارضتها للحكومة(‪.)2‬‬
‫على أن البعض يضيف أن علينا أن نالحظ أيضا أن الحكومة كان عليها دينا‬
‫ضخما عجزت عن تسديده في البداية‪ ،‬كما كانت عليها مسئوليات ضخمة عليها‬
‫القيام بها‪ ،‬ومن ثم بحثت عن حلول‪ .‬ومن تلك الحلول أنها قامت في أول حكمها‬
‫بفرض قرض إجباري على أغنياء التجار‪ ،‬ثم قامت باستعادة أراضي الشوجونات‬
‫الواسعة(‪ .)3‬وفي عام ‪1873‬م قامت بإنشاء نظام ضريبي بالتوازي مع عملية‬
‫مسح عام لكل األراضي‪ ،‬ثم قامت بعملية تقييم لكافة األراضي وفرضت عليها‬
‫ضريبة سنوية بنسبة ‪ %3‬على قيمة األرض ال المحصول الناتج منها‪ .‬وقد حملت‬
‫عبء هذه الضريبة على المالك‪ .‬ومع ذلك بدت الموارد غير كافية‪ ،‬فعمدت‬
‫الحكومة إلى تمويل مشروعاتها ذات الطابع اإلجتماعي باستقطاع بعض المبالغ‬
‫من دخول طبقة الساموراي(‪.)4‬‬

‫‪ 1‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.96‬‬


‫‪ 2‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.86‬‬
‫‪ 3‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.93‬‬
‫‪ 4‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.74‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-264-‬‬

‫وفي كل األحوال فما حدث من اهتمام وتغييرات في الزراعة جعل فالح هذا‬
‫العصر وقد تحرر رغم فقره‪ ،‬وأصبح باستطاعته أن يملك جزءا –ولو متواضعا‪-‬‬
‫من األرض يدفع عليه ضريبة سنوية‪ ،‬ولم يكن من حق أحد من سادة اإلقطاع أن‬
‫يقف في سبيله لو أراد أن يترك الزراعة ليلتمس وسيلة رزقه في المدن(‪.)1‬‬
‫أما في مجال الصناعة‪ ،‬فالواقع أن اإلهتمام بها يسبق عهد ميجي‪ ،‬حيث سعى‬
‫بعض الدايميو لتطوير صناعاتهم‪ ،‬فاهتموا بمجال الصناعات العسكرية‪ ،‬وفتحوا‬
‫معامل للذخائر‪ ،‬وترسانات لإلنشاءات المالحية‪ ،‬ومغازل للقطن‪ .‬ومع الحكومة‬
‫الجديدة تمت متابعة المحاوالت السابقة والمتفرقة وتنظيمها وتوسيعها‪ ،‬ومن ثم‬
‫شهدت اليابان إقامة العديد من الصناعات الجديدة(‪.)2‬‬
‫وهنا يتحدث البعض عن أن تطوير الصناعة في اليابان اعتمد في السنوات‬
‫العشر األولى على تطوير الصناعات الصغيرة والتقليدية‪ .‬وعندما استقرت‬
‫الس ْل َ‬
‫طة في يد الحكومة الجديدة‪ ،‬اتجهت إلى الصناعات الثقيلة والمشروعات‬
‫الضخمة‪ .‬ولما كانت اليابان تهدف إلى بناء قوة عسكرية حديثة‪ ،‬أصبح من‬
‫الضروري التركيز على الصناعات اإلستراتيجية‪ .‬ولتحقيق ذلك استولت الحكومة‬
‫على مناجم الحديد وأفران صهره‪ ،‬وعلى مصانع األسلحة‪ ،‬وأحواض بناء السفن‪،‬‬
‫ثم قامت بتطوير هذه الصناعات وفقا ألحدث األساليب‪ .‬كما قامت بإنشاء مصانع‬
‫جديدة ونموذجية‪ .‬هكذا زاد اإلنتاج الصناعي زيادة واضحة‪ ،‬وخاصة في صناعة‬
‫السفن‪ ،‬وارتفعت حمولة األسطول التجاري الياباني من ‪ 143‬ألف طن في سنة‬
‫‪1980‬م إلى ‪ 1657‬ألف طن في سنة ‪1903‬م‪ .‬كذلك تضاعف إنتاج الفحم والحديد‬
‫والصلب ثالث مرات خالل الفترة من سنة ‪1904‬م وحتى سنة ‪1914‬م(‪.)3‬‬

‫‪ 1‬ديورانت‪ :‬قصة الحضارة (الشرق األقصى‪-‬اليابان)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.174‬‬


‫‪ 2‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.97‬‬
‫‪ 3‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.87 ،86‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-265-‬‬

‫وهنا علينا أن نشير إلى أن اليابان استعانت بالخبرات الغربية في تطوير‬


‫العديد من الصناعات‪ .‬فقد استعانت بالخبراء الفرنسيين واإليطاليين في تطوير‬
‫صناعة الحرير‪ .‬كما استقدمت عددا من الخبراء األلمان لتطوير الصناعات‬
‫المعدنية‪ ،‬هذا فضال عن خبراء الصناعات الذين استقدمتهم من هولندة وغيرها‪.‬‬
‫على أن اليابان وضعت لنفسها في هذه الفترة مخططا يتمثل في أن يكون استقدام‬
‫هؤالء الخبراء لفترة زمنية محدودة بقدر اإلمكان(‪.)1‬‬
‫ولقد كان التوسع في الصناعة اإلستراتيجية واإلستهالكية من شأنه أن‬
‫يستوعب األيدي العاملة المتزايدة والقادمة من الريف‪ ،‬أو تلك التي اتجهت للعمل‬
‫بعد تصفية طبقة العسكريين المحترفين من الساموراي‪ .‬كذلك أخذت الحكومة في‬
‫تشجيع رأس المال الخاص على العمل في الصناعة عن طريق تقديم القروض‬
‫والمعونة الفنية‪ .‬وعندما زاد وتطور رأس المال الخاص وأصبحت لديه خبرة فنية‬
‫وتجارية‪ ،‬نقلت إليه الحكومة المصانع الحكومية‪ ،‬األمر الذي أدى لنشأة طبقة‬
‫رأسمالية قوية في اليابان‪ ،‬وحدوث تغييرات جذرية في المجتمع‪ .‬لقد زاد رأس‬
‫المال الخاص المستثمر في الصناعة من ‪ 50‬مليون ين عام ‪1885‬م إلى ‪225‬‬
‫مليون عام ‪1890‬م‪ .‬كما زاد اإلنتاج في السلع اإلستهالكية‪ .‬فقبل سنة ‪1885‬م‬
‫كانت اليابان تستورد ‪ %90‬من احتياجاتها من المنسوجات القطنية‪ ،‬لكنها دخلت‬
‫مجال تصدير هذه السلع بداية من عام ‪1897‬م(‪.)2‬‬
‫كذلك تمكنت الحكومة اليابانية بين عامي ‪1872‬م و ‪1884‬م من بناء معظم‬
‫خطوط السكك الحديدية المنشودة‪ ،‬وأمكن لها عن طريق هذه الشبكة ربط كافة‬
‫المدن الكبرى ببعضها البعض‪ .‬ولم تقتصر هذه الجهود الجبارة على السكك‬
‫الحديدية‪ ،‬وإنما شملت كذلك الخدمات التلغرافية‪ .‬فما أن حل عام ‪1880‬م حتى‬
‫كانت كافة المدن المهمة قد ارتبطت ببعضها بخدمة تليفونية وتلغرافية كاملة‪.‬‬

‫‪ 1‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.71‬‬


‫‪ 2‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.87‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-266-‬‬

‫كذلك ظهرت بصمات الدولة الواضحة في إنشاء الترسانات البحرية وغيرها‪،‬‬


‫حيث كانت الدولة تمتلك خمس ترسانات بحرية كبرى‪ ،‬وعشرة مناجم‪ ،‬واثنين‬
‫وخمسين مصنعا‪ ،‬باإلضافة إلى قيام الحكومة بمشروعات الري وإدخال وسائل‬
‫التسميد الصناعي في الزراعة(‪.)1‬‬
‫وفي المجال اإلقتصادي أيضا أخذت اليابان في اإلعتماد على نظام نقدي جديد‬
‫وحدته األساسية هي الين‪ .‬كما ظهر تنظيم مصرفي‪/‬بنكي حديث بدءا من‬
‫العاصمة‪ ،‬ويقوم على السندات الحكومية التي أودعها الدايميونات القدماء‪ ،‬هذا‬
‫باإلضافة إلى التخلي ‪-‬منذ سنة ‪1873‬م‪ -‬عن نظام الضرائب العيني واستبداله‬
‫بالنظام النقدي‪ .‬ولقد استطاعت اليابان من خالل هذا النظام المالي الجديد التغلب‬
‫على مشكالت التضخم التي واجهتها من جراء زيادة أعباء الحكومة(‪.)2‬‬
‫وثمة حقيقة مهمة تتعلق بالتنمية في اليابان‪ ،‬وتتمثل في اعتماد التنمية على‬
‫التمويل الذاتي‪ .‬فقد اعتمدت الحكومة في عملية التمويل الصناعي على الضرائب‬
‫المباشرة وغير المباشرة‪ ،‬والقروض الداخلية‪ ،‬واإلدخار‪ .‬وقد رفضت الحكومة‬
‫اإلتجاه إلى القروض األجنبية كمصدر من مصادر التمويل في البداية‪ ،‬بسبب ما‬
‫تنطوي عليه من مخاطر التدخل األجنبي‪ .‬وهكذا لم تلجأ اليابان إلى القروض‬
‫األجنبية إال بعد أن استقر اإلقتصاد الياباني وأصبح قادرا على استيعاب هذه‬
‫القروض ودفع فوائدها‪ .‬ورغم ذلك كان اإلقتراض في حدود ضيقة في الفترة‬
‫الزمنية الواقعة بين عامي ‪1897‬م و‪1913‬م‪ ،‬وقصرت الحكومة القروض على‬
‫رأس المال الخاص حتى تتفادى المخاطرالسياسية التي تترتب على القروض(‪.)3‬‬
‫وفي هذا اإلطار يتحدث البعض عن أن الحكومة اليابانية لم تعقد إال ثالثة قروض‬
‫حكومية من أول عصر النهضة وحتى نهاية القرن التاسع عشر‪ .‬أما تسديد هذه‬

‫‪ 1‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.74‬‬


‫‪ 2‬أدوين أولدفاذر ريشاور‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.99-97‬‬
‫‪ 3‬علي محمد بركات‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.88 ،87‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-267-‬‬

‫القروض فكان يتم بسرعة واضحة‪ .‬ولعل اليابان كانت متأثرة في ذلك بما حدث‬
‫للصين –وغيرها‪ -‬حينما أغرقتها الدول الغربية عمدا بالقروض والديون‪ ،‬بما‬
‫انتقص من سيادتها وعرقل مسيرة تطورها(‪.)1‬‬
‫على أية حال فإن التجربة اإلقتصادية اليابانية هي تجربة غنية بالدروس التي‬
‫يمكن اإلستفادة منها في البالد التي تسعى اليوم للتقدم‪ .‬ولعل األرقام هي خير ما‬
‫نختتم به هذه القضية‪ .‬فقد شهدت التجارة تحسنا يقدر بنحو ‪ %200‬في الفترة بين‬
‫سنزات ‪ 1857‬و‪1865‬م‪ ،‬وبنحو ‪ %80‬في الفترة بين سنوات ‪1865‬م و‪1880‬م‪.‬‬
‫أما الدخل القومي لليابان فزاد بمعدل ‪ %56‬في الفترة بين ‪1845‬م و‪1880‬م(‪.)2‬‬
‫وقبل الحرب العالمية األولى كانت اليابان قد أصبحت منتجا مهما للصناعات‬
‫الثقيلة‪ ،‬وتضاعفت عمليات تشغيل المناجم‪ ،‬وتضاعفت التجارة الخارجية عشر‬
‫مرات في الفترة بين سنة ‪ 1881‬وسنة ‪1913‬م‪ .‬وفي سنة ‪1914‬م كان اإلنتاج‬
‫الياباني يتألف من العناصر التالية‪ %45 :‬للزراعة‪ ،‬و‪ %44.4‬للصناعات‬
‫التحويلية‪ ،‬و‪ 5.1‬للصناعات التعدينية‪ ،‬ومثلها للصيد البحري(‪.)3‬‬

‫العالقة بني الدولة والدين يف اليابان‬


‫كانت "الشنتوية" قد بدأت في اإلزدهار على حساب البوذية في اليابان في‬
‫عهد أسرة طوكوجاوا‪ .‬على أن ذلك كان وباال على شوجونية طوكوجاوا وعنصرا‬
‫من عناصر القضاء عليها في النهاية‪ ،‬إذ إن مذهب الشنتو كان يؤكد على الحق‬
‫اإللهي لإلمبراطور في حكم اليابان‪ ،‬مما كان يوفر السند الشرعي لإلطاحة بحكم‬
‫الشوجونية‪.‬‬

‫‪ 1‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.72‬‬


‫‪ 2‬نيشيكاوا شونساكو‪ ،‬سايتو أوسامو‪ :‬التاريخ اإلقتصادي أثناء فترة اإلستعادة‪ ،‬في‬
‫كتاب‪ :‬الثورة اإلصالحية في اليابان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.204‬‬
‫‪ 3‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.76 ،75‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬


‫‪-268-‬‬

‫وفي بداية حكم اإلمبراطور ميجي‪ ،‬رؤي أن يكون مذهب الشنتوية عقيدة‬
‫رسمية للدولة‪ ،‬وأن يتم فصله عن البوذية وفروعها‪ ،‬وأن ينسحب أعضاء أسرة‬
‫اإلمبراطور من الطوائف البوذية الموجودة داخل القصر اإلمبراطوري‪ .‬بل لقد‬
‫اعتدى العامة على بعض معابد البوذية‪.‬‬
‫على أنه‪ ،‬ومنذ سنة ‪1872‬م‪ ،‬تولد لدى اليابانيين اقتناع بتغلغل البوذية في‬
‫البالد‪ ،‬وتماشيها بالتوازي مع مذهب الشنتو‪ ،‬بل وامتزاج العقيدتين في عقلية‬
‫الرجل الياباني العادي‪ ،‬إلى الحد الذي ال يمكن فيه المساس بإحداهما دون‬
‫اإلضرار باألخرى‪ .‬ولذلك رأت الحكومة التخلي عن سياسة القمع التي كانت‬
‫تنتهجها شوجونية طوكوجاوا إزاء البوذية‪.‬‬
‫وإذا كان حكم اإلمبراطور قد بدأ أيضا بسياسة قمعية تجاه المسيحيين‪ ،‬فإنه لم‬
‫يمر وقت طويل‪ ،‬حتى عادت حكومته لمعاملتهم معاملة طيبة‪ ،‬حتى ال يضر ذلك‬
‫بالعالقات الخارجية لليابان مع الغرب‪ .‬وبشكل تدريجي تخلت الحكومة اليابانية‬
‫عن قمع الديانات األخرى‪ ،‬في سبيل تركيز جهودها نحو إنشاء نظام ديني رسمي‬
‫للدولة‪ .‬وحتى حلول سنة ‪1930‬م كانت الحكومة تتولى بنفسها أمور خمسين ألف‬
‫كاهن‪ ،‬وترعى شئون نحو مئة ألف معبد‪ .‬وقد عملت حكومة ميجي أيضا على‬
‫استخدام نظام التعليم الذي أنشأته حديثا‪ ،‬باإلضافة إلى استخدام سائر وسائل‬
‫الدعاية لنشر "العقائد الثالث للنظام الديني الجديد"‪ ،‬من أجل تعميق فكرة تقديس‬
‫اليابان‪ .‬ولقد كانت هذه المرتكزات العقائدية الثالثة هي‪-:‬‬
‫‪ -1‬أن اإلمبراطور إله مقدس‪ ،‬ألنه امتداد زمني ألجسام وأرواح اآللهة العظيمة‬
‫الماضية‪ ،‬وخاصة تلك التي تنتمي إلى روح الشمس‪.‬‬
‫‪ -2‬أن اليابان تحظى بالرعاية الخاصة من اآللهة‪ ،‬ولهذا فإن تربتها وأهلها‬
‫ومؤسساتها فريدة في نوعها‪ ،‬وتسمو على ما سواها‪.‬‬
‫‪ -3‬أن لليابان رسالة مقدسة‪ ،‬وهي "جمع العالم بأسره تحت سقف واحد"‪ ،‬وبذلك يتاح‬
‫لسائرالبشرية التمتع بحكم اإلمبراطور(‪.)1‬‬

‫‪ 1‬فوزي درويش‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.71 ،70‬‬

‫‪-‬الفصل الرابع‪ -‬التاريخ احلديث للياابن‬

You might also like