Professional Documents
Culture Documents
عيوب الارادة مقدمة
عيوب الارادة مقدمة
تعد نظرية العقد من أهم النظريات التي استقطبت انتباه الفقهاء ماضيا وحاضرا وذلك بسبب أهميتها من
الناحيتين العلمية والعملية معا ،فالفرد الواحد منا قد ال يضطر إلى التحمل بااللتزامات غير العقدية إذا
احتاط من الوقوع في الخطأ أو امتنع عن االلتزام بمحض إرادته المجردة إال أنه بالمقابل فإنه لن
يستطيع االمتناع عن التعاقد مطلقا وذلك الرتباط مصالحه اليومية بمؤسسة العقد حتى ولو كان موضوع
هذه المصالح عقدا بسيطا كشراء صحيفة أو اقتناء بعض اللوازم الضرورية للعيش.
من هنا يتبين لنا أن العقد هو المصدر الجوهري لاللتزام ،لذلك فإن الفقهاء قد خصصوا له جزء هاما من
أبحاثهم مما جعل البعض يضفي عليه صبغة شخصية ،في حين ال يرى البعض اآلخر في العقد إال جانبه
الموضوعي أو المادي ،وقد كان لهذا االختالف في المنظور دور حاسم في دفع التشريعات المدنية إلى
التأثر بهذا التيار أو ذاك ،وبالرغم من أن واضعي قانون االلتزامات والعقود قد تأثروا بالنزعة الشخصية
في االلتزام بصورة عامة إال أن ذلك لم يمنعهم من اإلقتداء بآراء المذهب المادي ولو كان ذلك في
حدود ضيقة جدا.
لقد أفرزت المتغيرات االقتصادية واالجتماعية التي شهدها العالم خصوصا مطلع القرن العشرين ما
اصطلح عليه البعض “أزمة العقد” والتي من بين مظاهرها أن الغلو في اعتماد سلطان اإلرادة أدى في
الغالب إلى انعدام التوازن بين األداءات التي يتحملها أطراف العقد خصوصا عندما يتبين أن إرادة أحدهم
لم تكن حرة أثناء التعاقد ،أو أن ارتضاء شروط العقد كان تحت ضغط اقتصادي أو ضرورة واقعية
ملحقة حتمت على العاقد الضعيف اإلذعان لشروط المتعاقد القوي ،وذلك أيا كانت الوسيلة المستعملة
لبلوغ هذا الهدف[.]3
إن سالمة الرضى تقتضي أن يصدر عن إرادة متنورة بشكل كاف ،األمر الذي ال يتحقق إذا كان رضى
أحد العاقدين معيبا بغلط سواء أكان تلقائيا ،أو كان مدبرا أي ناتجا عن وسائل احتيالية مكونة للتدليس،
ويلزم أيضا أن يكون هذا الرضا حرا غير منتزع بإكراه ]4[.وقد تناول المشرع المغربي كل هذا ضمن
الفصل 39من ق.ل.ع الذي نص على ما يلي“ :يكون قابال لإلبطال الرضى الصادر عن غلط ،أو
الناتج عن تدليس ،أو المنتج بإكراه”]5[.
ولإلشارة فقد وسع المشرع دائرة الحماية التقليدية للتراضي عندما خول القاضي سلطة إبطال العقد
نظرا لوجود أحد العاقدين لحظة التعاقد في حالة مرض أو إحدى الحاالت األخرى المشابهة (الفصل
54ق.ل.ع).
ويالحظ أن تنظيم عيوب الرضا في القانون المغربي يسعى إلى التوفيق بين اعتبارين متعارضين:
االعتبار األول :حماية مبدأ سلطان اإلرادة وتكريس األسس التقليدية للتعاقد التي تقتضي أن يكون
العقد ثمرة لنقاش حر ناتج عن إرادة متنورة ومتحررة على نحو يخولها القدرة على االلتزام بصورة
صحيحة .ويلحق بهذا االعتبار اتجاه النظرية التقليدية نحو تخليق المجال التعاقدي .فبعض عيوب
التراضي تكون مدبرة وتشكل بالنسبة للمتسبب فيها تصرفات غير مشروعة ومعاقب عليها .فالعقد
المبرم تحت تأثير تدليس أو إكراه يكون قابال لإلبطال ليس فقط لوجود نيل من رضا العاقد الضحية،
بل أيضا ألن الطرف اآلخر اقترف خطئا يستدعي تعرضه لعقاب مدني ـ عالوة على العقاب الزجري
الذي ينص عليه التشريع الجنائي يتمثل خصوصا في حرمانه من االستفادة من نتائج الرابطة العقدية
التي استهدفها.
االعتبار الثاني :هو المحافظة على مبدأ استقرار التعامل وضمان سالمة المبادالت وحماية الغير
المتعامل بحسن نية ،وهذه كلها دواعي تفرض عدم المبالغة في إهدار العقود لمجرد أن التراضي جاء
مشوبا بأحد العيوب ،بل تعليق ذلك على تحقق شروط معينة[.]6
فبهدف التوفيق بين هاذين االعتبارين المتعارضين عمل المشرع على تنظيم عيوب الرضا التي تشمل
الغلط ،التدليس ،اإلكراه ،الغبن ،وحالة المرض والحاالت األخرى المشابهة فهي جميعا تفسد التراضي
في العقود وذلك عند تحقق شروط معينة نص عليها القانون.
إن تدخل السلطات في العقود ال يستهدف عرقلة وتعطيل المبادالت االقتصادية ذات األساس التعاقدي،
بل تسعى إلى جعلها مطابقة لنظرتها وتوجهاتها ولبلوغ هذا الهدف ظهر عدد كبير من القواعد القانونية
اآلمرة التي تهدف إلى تحقيق مصلحة عامة اقتصادية واجتماعية ،وذلك عن طريق تنظيم كثير من العقود
أو مراقبتها أو منعها أو فرضها.
وفي ظل التحوالت االقتصادية واالجتماعية والتدخل المتزايد للسلطة في تنظيم العقود وكذا تغيير مفهوم
المتعاقد إلى مفهوم المستهلك ،نتساءل:
هل نستشف أن المشرع يريد أن يكرس مبدأ سلطان اإلرادة بدون غرض أم لحماية االستقرار التعاقدي
وتخليق اإلرادة؟ ثم هل يمكن الحديث عن النظرية التقليدية لعيوب الرضا في ظل وجود أنواع جديدة من
العقود وكذا توجهات حديثة للعقود؟
وما مدى ثبات النظرية التقليدية لعيوب الرضى في مواجهة العقود ذات الطابع االفتراضي؟
لمعالجة هذا اإلشكال سأحاول اعتماد المنهج التحليلي وذلك انطالقا من التقسيم التالي:
الغلط :يعرفه الفقه بأنه وهم يتولد لدى أحد المتعاقدين ويصور له الواقع على غير ما هو
عليه فيدفعه للتعاقد.
فمعنى الغلط إذن هو إقدام الشخص على التعاقد تحت تأثير تصور خاطئ للواقع حصل له من تلقاء
نفسه ،من تم فهو يؤدي إلى عدم تطابق إرادة العاقد المعلنة مع إرادته الحقيقية]14[.
وتختلف صور الغلط من حيث آثاره إلى ثالث:
الغلط المانع :وهو الغلط الذي ينعدم معه الرضى وبالتالي ال ينعقد العقد معه.
الغلط المسبب لإلبطال :وهو الغلط الذي ال يعدم اإلرادة بل يعيبها فقط ويكون سببا من أسباب إبطال
العقد.
الغلط غير المنتج :وهو الغلط الذي ال يهدم وال يعيبها بحيث يبقى العقد صحيحا.
كما تختلف صور الغلط المذكورة في قانون االلتزامات والعقود:
الغلط في القانون :ونص على هذه الحالة الفصل 40من ق.ل.ع .بقوله“ :الغلط في القانون يخول إبطال
االلتزام:
-1إذا كان هو السبب الوحيد أو األساسي
-2إذا أمكن العذر عنه.
ويستفاد من هذا النص أن المشرع قد خول طلب إبطال العقد للطرف الذي وقع في غلط وطبق القانون
بطريقة غير صحيحة.
ولكي يقرر القاضي إبطال العقد في هذه الحالة اشترط القانون الشروط اآلتية:
الشرط األول :يجب أن يكون الغلط في القانون هو السبب الوحيد أو على األقل هو السبب األساسي الذي
دفع للتعاقد ،ومعنى هذا أن المتعاقد لو تبين له هذا الغلط لما لجأ إلى التعاقد.
الشرط الثاني :يجب أن يكون الغلط مما يمكن العذر عنه كأن يكون الشخص الواقع في الغلط أميا
عجوزا أما إذا كان مثقفا أو رجل القانون فال يعتد من هذا الغلط.
الشرط الثالث :يجب أال يوجد نص قانوني يحول دون اإلبطال.
الغلط في الشيء :ينص الفصل 4من ق.ل.ع .أنه “يخول الغلط اإلبطال إذا وقع في ذات الشيء أو في
نوعه أو في صفة فيه كانت هي السبب الدافع إلى الرضا”.
الغلط في الشخص :لقد نص على هذه الحالة الفصل 32من ق.ل.ع بقوله ”:الغلط الواقع على شخص
أحد المتعاقدين أو على صفته ال يخول الفسخ ،إال إذا كان هذا الشخص أو هذه الصفة أحد األسباب
الدافعة إلى صدور الرضى من المتعاقد”.
الغلط في الحساب :لقد نصت المادة 43من ق.ل.ع على مايلي“ :مجرد غلطات الحساب ال تكون سببا
للفسخ وإنما يجب تصحيحها” فالغلط في الحساب ال يكون سببا إلبطال العقد ألنه مجرد غلط مادي شكلي
ال يعيب اإلرادة وإنما يجب تصحيحه.
الغلط الواقع من الوسيط :لقد نص على هذه الحالة الفصل 45من ق.ل.ع .بقوله ” :إذا وقع الغلط من
الوسيط الذي استخدم أحد المتعاقدين ،كان لهذا المتعاقد أن يطلب فسخ اإللتزام…”
فمن خالل هذه المادة يتضح أنه إذا تم العرض عن طريق وسيط ووقع هذا الوسيط في غلط انصب على
شيء محل التعاقد أو على شخص المتعاقد اآلخر ،فإنه من حق المتعاقد الذي استخدم الوسيط أن يطلب
إبطال القعد في األحوال التي يجوز فيها استخدام اإلبطال.
وبالتسليم بقابلية العقد لإلبطال نظرا لوجود غلط يؤدي إلى ظلم يلحق العاقد األخر الذي لم يتسبب فيه ولم
يعلم به ،من تم فالمحافظة على مصالح ضحية الغلط يكون على حساب مصالح الطرف اآلخر الذي ظل
أجنبيا عن الغلط الحاصل.
وبالنسبة للغلط في القانون فإنه ال يمكن استبعاد إمكانية العقد للغلط في القانون لما في ذلك من تعارض
مع مبدأ “عدم جواز اإلعتذار بجهل القانون ” ألن المقصود من هذا المبدأ أنه ال يستطيع أي أحد التهرب
من تطبيق القانون عليه بحجة جهله وهذا المفهوم الذي يفضي في أبعاده إلى غلط بخصوص محل التعاقد
ومن تم فهو يستهدف حماية سالمة الرضى ال التهرب من تطبيق القانون أو استبعاده[.