Les Cahiers Du Prisonnier

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 148

‫المنـدوبيـــة العـامـــة إلدارة السجـــون وإعـــادة اإلدمـــاج‬

‫د فا ت��ر ا ل�س��جني‬
‫مجلـة مغربيـة دورية • العدد األول • مارس ‪2018‬‬

‫د فا ت��ر ا ل�س��جني‬
‫مجلــة مغربيــة دوريــة • العــدد األول • مــارس ‪2018‬‬

‫‪1‬‬
‫‪revue couv def v4.indd 1‬‬
‫‪Les Cahiers des prisonniers‬‬
‫‪Magazine périodique marocain‬‬
‫‪Premier numéro • Mars 2018‬‬

‫‪19/09/2018 17:45‬‬
‫اململكة املغربية‬
‫رئي�س احلكومة‬
‫املندوبية العامة لإدارة ال�سجون و�إعادة الإدماج‬

‫دفاتر ال�سجني‬
‫مجلــــة مغربيــــة دوريـــــة‬
‫العدد األول • مــارس ‪2018‬‬
‫دفاتر ال�سجني‬
‫مجلــــة مغربيــــة دوريـــــة‬

‫إدارة المجلة‬
‫املدير العام‪ :‬محمد صالح التامك‬
‫مدير النرش‪ :‬املصطفى الرزرازي‬
‫رئيس التحرير‪ :‬حسن حمينة‬

‫اللجنة العلمية‬
‫حامد قسال‬ ‫إدريس اليزمي‬
‫خديجة املروازي‬ ‫احمد العبادي‬
‫صالح الوديع‬ ‫نور الدين مؤدب‬
‫عبد القادر الشاوي‬ ‫ادريس واعويشة‬
‫فريد العرسي‬ ‫جامل الدين الناجي‬
‫حسن رشيق‬ ‫املصطفى الرزرازي‬
‫فريدة زمرد‬ ‫نزار املساري‬
‫الحبيب بلكوش‬ ‫مصطفى السحيمي‬

‫صورة الغالف إبداع لسجني تم اختيارها بناء عىل مسابقة تم تنظيمها يف هذا الشأن‪.‬‬ ‫ون‬
‫الجس‬
‫ة‬

‫و‬

‫دار‬
‫إع‬
‫لوحات الفن التشكييل املتضمنة مبنت املجلة من إبداعات السجناء‪.‬‬
‫ادة‬

‫ة إل‬
‫ة ال ع ا م‬
‫اإلدماج‬

‫نرش هذا املؤلَّف مببادرة من املندوبية العامة إلدارة السجون وإعادة اإلدماج ‪ -‬الرباط‪.‬‬ ‫املندوبيـ‬

‫اآلراء واألفكار املعرب عنها يف هاته املجلة تلزم أصحابها وال تعرب عن الرأي الرسمي للمندوبية‬ ‫‪D -G‬‬
‫‪-A- P- R‬‬
‫العامة إلدارة السجون و إعادة اإلدماج‪.‬‬
‫إدارة النرش والتحرير‬
‫املندوبية العامة إلدارة السجون وإعادة اإلدماج‬
‫شارع العرعار‪ ،‬حي الرياض‪ ،‬الرباط‬
‫‪www.cahiers.ma‬‬
‫‪e-mail : cahiersdesprisonniers@gmail.com‬‬

‫رقم اإليداع القانوين ‪2017PE0044 :‬‬


‫‪2550-5297‬‬ ‫رددك ‪ :‬‬
‫دفاتر ال�سجني‬
‫مجلــــة مغربيــــة دوريـــــة‬
6
‫فهرس املواد‬
‫افتتاحية العدد األول من مجلة دفاتر السجني‪9 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫بعد الجابري‪ ...‬هل مازال نقد العقل العريب ممكنا ؟‪ ،‬عبد الله لعبادي ‪12 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫تأمالت يف عالقة اإلسالم بالحداثة عند محمد عبده‪ ،‬مربك البقايل ‪22 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫قراءة يف مسار نضاالت ومطالب النساء ‪ :‬من مدونة األحوال الشخصية إىل مدونة األرسة‪ ،‬عبد الله لعبادي ‪26 . . . . . .‬‬
‫تأمالت حول الجرمية والعقاب يف الترشيع املغريب يف سياق ورش إصالح السياسة الجنائية‪ ،‬سعيد الوردي ‪50 . . . . . . .‬‬
‫ظاهرة حالة العود داخل السجون‪ ،‬الزرورة الركرايك ‪54 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫«ظاهرة العود»‪ :‬توصيف واقرتاح بدائل مواجهته‪ ،‬جليل جواد ‪58 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫دور املِؤسسة السجنية يف إعادة اإلدماج‪ :‬السجن املحيل مبراكش (بوملهارز) منوذجا‪ ،‬بلحسيني يوسف ‪64 . . . . . . . . . .‬‬
‫املندوبية العامة إلدارة السجون وإعادة اإلدماج‪ :‬رصد للمنجز والتطلعات‪ ،‬العبايس عبد الرحيم ‪72 . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫اإلرهاب وتوظيفه الخاطئ ملفهوم الجهاد‪ ،‬زين العابدين املسكيني ‪74 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫اخرتاق الفكر املتطرف والجرمية املنظمة يف عامل السجون‪ :‬تجربة من الواقع‪ ،‬هشام الربجة ‪80 . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫عقد األمان و حكم التأشرية يف الرشع اإلسالمي‪ ،‬طه البلغيتي ‪88 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫ورزازات‪ ،‬هوليود إفريقيا‪ :‬عمق التاريخ وغنى الذاكرة‪ ،‬احمد احمتاي ‪92 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫املسافة مع اإلخفاق والفشل مدخل للنجاح‪ ،‬ايت حمو طارق‪96 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫أحالم شائكة‪ ،‬املصطفى املاليك ‪98 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫قطار منتصف الليل‪ ،‬عبد الحق يامني ‪110 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫فتنة‪ ،‬ماليك برادة عبد الواحد‪116 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫التمسك بالعهود القاتلة‪ ،‬يوسف الكزويل ‪117 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫ملة األحباب‪ ،‬الحري أحمد ‪118 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫وشام القلوب‪ ،‬الحالوي هشام‪119 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫ولد البارح‪ ،‬حميد فوزي ‪120 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫لعنة األمل‪ ،‬عبد الكريم املحمدي ‪121 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫لحظة حداد‪ :‬إهداء إىل روح والدي‪ ،‬عبد العايل الغمري ‪122 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫شمعة يف العتمة‪ ،‬يوسف الكزويل ‪124 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫خيبة وأمل‪ ،‬راكب منري ‪125 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫خايف حقي فالحياة ليفوت‪ ،‬الحالوي هشام ‪126 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫‪129 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . Mea Culpa, Mohamed Medhouss‬‬
‫‪130 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . Laissez vos rêves devenir réalité, A.A‬‬
‫‪132 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .Poème, Kwandhio Joviale‬‬
‫‪133 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . Oraison, Mohamed Medhouss‬‬
‫‪135 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . Des espoirs, Mohamed Medhouss‬‬
‫‪140 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . Billet pour l’au-delà, Akram Atifi‬‬
‫‪142 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . Je pardonne, Mohamed Medhouss‬‬
8
‫افتتاحية العدد الأول من جملة دفاتر ال�سجني‬

‫رغبــة منهــا يف تكريــس الفعــل الثقــايف والفكــري باملؤسســات الســجنية‪ ،‬تعمــد اليــوم املندوبيــة‬
‫العامــة إلدارة الســجون وإعــادة اإلدمــاج إىل نــر العــدد األول مــن مجلــة «دفاتــر الســجني»‬
‫كخطــوة جديــدة لتيســر قنــوات التواصــل بــن نــزالء املؤسســات الســجنية واملجتمــع‪ ،‬وذلــك لفتــح‬
‫آفــاق لألدبــاء والباحثــن واملبدعــن الســجناء للتعبــر عــن مكنوناتهــم والتعريــف بانتاجاتهــم التــي‬
‫تتســم بكثــر مــن اإلبداعيــة والرصانــة العلميــة‪.‬‬
‫وقــد حرصــت الهيئــة املرشفــة عــى مجلــة «دفاتــر الســجني» عــى أن تتســع صفحــات املجلــة‬
‫ملختلــف رضوب املعرفــة والثقافــة بحيــث تشــمل التاريــخ والعلــوم السياســية والقانونيــة‬
‫واالجتامعيــة والرشعيــة‪ ،‬إضافــة إىل الدراســات األدبيــة واألعــال اإلبداعيــة مــن قصــة قصــرة‬
‫وروايــة وشــعر‪.‬‬
‫وقــد اختــارت دفاتــر الســجني‪ ،‬أن تكــون فضــاء حرصيــا لكتابــات وإبداعــات نــزالء املؤسســات‬
‫الســجنية‪ ،‬تكرميــا لهــم عــى جهودهــم و تشــجيعا لهــم مــن أجــل إبــراز إســهاماتهم الفكريــة‬
‫واإلبداعيــة‪.‬‬
‫وتجــدر اإلشــارة إىل أن املجلــة حريصــة عــى العمــل بشــكل مســتقل تحــت إدارة تحريــر وهيئــة‬
‫علميــة خبــرة مشــهود لهــا بالكفــاءة‪ ،‬تتكــون مــن مثقفني مــن مشــارب معرفيــة مختلفــة وجامعيني‬
‫وخـراء ومبدعــن‪.‬‬
‫وأملنــا كبــر يف أن يحظــى هــذا العــدد بقبــول القـراء وأن ترقــى محتوياتــه إىل تطلعاتهــم يف أعدادنــا‬
‫القادمة‪.‬‬

‫‪9‬‬ ‫املدير العام للمجلة‬


‫د‪ .‬محمد صالح التامك‬
‫املندوب العام الدارة السجون وإعادة االدماج‬
10
11
‫بعد اجلابري‪...‬‬
‫هل مازال نقــد العقل العربي ممكنا ؟‬
‫عبد الله لعبادي‬

‫الجابري‪،‬‬ ‫مل مير محمد عابد الجابري ‪ 2010 - 1936‬يف‬


‫سرية فيلسوف فرس القرآن الكريم‬ ‫حياتنا مرور الكرام كام يقال عن الذين عربوا‬
‫دون أن يكون لهم أثر‪ ،‬بل إن الرجل كان استثناء‬
‫مل يولد الجابري يف الحوارض العريقة للمغرب‪ ،‬بل‬ ‫يف الثقافة والفكر العربيني‪ .‬بل إنه حرك مجموعة‬
‫انتمى إىل تخومه وحدوده الرشقية‪ ،‬حامال معه‬ ‫من الربك اآلسنة يف هذا الفكر ويف هذه الثقافة‪.‬‬
‫حلم منطقة مهمشة ومتأبطا جديتها وإرصارها‬ ‫وأعاد التفكري يف الرتاث ليس من زاوية من يعمل‬
‫الذي ال يستسلم أمام العواصف والتحديات‪.‬‬ ‫عىل تكريسه أو البقاء عىل مسلامته‪ ،‬ولكنه نظر‬
‫أىت من بعيد حيث الزمن البطيء يتعايش مع‬ ‫فيام كنا نعتربه إىل وقت قريب بديهيا وسائدا‪.‬‬
‫قساوة الطبيعة‪ ،‬وحيث إنسانية راقية السلوك‬
‫واملعاملة تقدر املحيط األرسي وتجعله من‬ ‫وكان من الطبيعي‪ ،‬أن يتعرض مرشوع كبري كهذا‬
‫أولويات الوجود‪.‬‬ ‫ملا تعرض له من نقد‪ ،‬ألن األعامل التأسيسية هي‬
‫دامئا معرضة للنقد أو حتى للرفض‪ .‬وكام انتقد‬
‫وسرتافقه سامت هذا املحيط يف كل مراحل‬ ‫مرشوع الجابري يف نقد العقل العريب وقوبل‬
‫حياته‪ ،‬لتتجىل يف صالبة املواقف والرصامة يف‬ ‫بكثري من الجدل الذي وصل حد العنف يف بعض‬
‫االختيارات املنهجية‪ ،‬ودفئ إنساين ال يلمسه إال‬ ‫األحيان‪ ،‬فقد أثار مرشوع الجابري يف قراءة‬
‫من عايشه‪ .‬ينضاف إىل كل هذا سمة الحسم يف‬ ‫القرآن‪ ،‬وفق منهجية إعادة ترتيب آيات القرآن‬
‫القرارات وعزوفه عن كل ما يخدش الصورة التي‬ ‫حسب أسباب النزول‪ ،‬بكثري من ردود األفعال‬
‫حرص عىل رسمها لنفسه ولو كانت أمامه جوائز‬ ‫بلغت حد تكفريه و اعتباره تطاول عىل املقدس‪.‬‬
‫مغرية أو مناصب يلهث وراءها املهرولون‪.‬‬
‫لكن الجابري مل يكن هو العقل العريب‪ ،‬وال هو‬
‫مل متنعه حزبيته من التنظري ملا يتجاوز الحزب‪،‬‬ ‫قراءة القرآن‪ ،‬أو تفسريه حسب ما نزلت به آياته‪،‬‬
‫ومل تقف مسؤولياته الحزبية دون جهره مبواقف‬ ‫بل هو مفكر متعدد املشارب‪ ،‬خاض يف كل القضايا‬
‫مل ترض الكثريين‪ ،‬وحني طفح الكيل‪ ،‬استقال‬ ‫وكتب يف أكرث من مجال يف التعليم‪ ،‬السياسة‪ ،‬يف‬ ‫‪12‬‬
‫وعاد إىل محرابه الفكري ليبدع إنتاجا راقيا‪،‬‬ ‫فكر النهضة‪ ،‬يف الحداثة‪ ،‬يف الفقه‪ ،‬ويف التاريخ‬
‫وليؤرخ للمواقف ويخوض يف قضايا مل يستطع‬ ‫الوطني‪ ،‬ويف حرب الخليج ولو كان حيا لكان له‬
‫آخرون الخوض فيها‪ .‬ففي تاريخنا الحديث‬ ‫رأيه حينها فيام يسمى ب «الربيع العريب»‪.‬‬
‫اهتاممه‪ ،‬فكلام فتحت كتابا من كتبه وجدت‬ ‫هيمن وهم التخصص وتم احتكار املعارف‬
‫إجابة عن سؤال أو قضية ذات راهنية وذات‬ ‫وتأميم القطاعات‪ ،‬لكن الجابري كان استثناء‪،‬‬
‫بعد استرشايف‪ ،‬فقد كتب يف الفكر السيايس‪،‬‬ ‫ألنه فهم «نحن والرتاث»‪ ،‬وفكك «بنية العقل‬
‫ويف قضايا الفلسفة‪ ،‬واإلعالم‪ ،‬واللغة‪ ،‬والدين‪،‬‬ ‫العريب» ببيانه وعرفانه وبرهانه‪.‬‬
‫والرتبية‪ ،‬والهوية‪ ،‬والرتاث‪ .‬وأرشف عىل مشاريع‬
‫غاص الجابري يف مرتكزات العقل السيايس‪،‬‬
‫يف التحقيق‪ ،‬وانتهى إىل تفسري القرآن الكريم‪،‬‬
‫وأسس نظريته حول العصبية والدولة اليشء‬
‫ليكون أسلوبه األخري هو ذاته أسلوبه األول‬
‫الذي سمح له امتالك القدرة عىل إعادة النظر‬
‫الذي بدأه ب «نحن والرتاث» و«العصبية‬
‫فيام اعتربه اآلخرون أمرا بديهيا‪ .‬وألنه شب‬
‫والدولة»‪ .‬لذلك كان درسه بليغا فقد استعان‬
‫عىل شفافية طبيعة متينة فكيك التي أغناها‬
‫بآليات إجرائية متنوعة تناقض ابستمولوجيا‬
‫بتكوين معريف عميق‪ ،‬وألنه خرب مهنة التعليم‪،‬‬
‫االختزال والتبسيط والسكونية واملطلقات‬ ‫وخصوصيات اإلعالم‪ ،‬ومرتكزات العمل الحزيب‬
‫والعجز عن تتبع وفهم وتفسري الوجه الجديد‬ ‫وخباياه‪ ،‬فإنه كتب يف قضاياها بجرأة وعمق‬
‫للكون والبرشية‪.‬‬ ‫كبريين‪ .‬فلم يخف قناعاته التي بناها مع‬
‫إنه الفكر املركب القائم عىل املقاربة النسقية‬ ‫الوطنيني من املهدي بن بركة‪ ،‬إىل عبد الرحيم‬
‫املقتنعة باختالف البنيات وتفاعلها‪ ،‬وبتعقد‬ ‫بوعبيد‪ ،‬لذلك كان حادا يف انتقاد ما اعتربه‬
‫الظواهر وتشبعها وبتجاوز اليقينيات‪ ،‬وبرضورة‬ ‫انحرافا عام بناه املؤسسون فلم يهادن أو يناور‬
‫تغيري األسئلة وتغيري أدوات التحليل لتغيري‬ ‫سواء يف موقفه من مرجعية (العدالة االجتامعية‬
‫النتائج‪.‬‬ ‫)أو من سياسات قطاعية أو من قضايا كربى مثل‬
‫مآل التناوب التوافقي أو االنتقال الدميقراطي أو‬
‫يف مرشوعه األخري حول القرآن الكريم‪ ،‬يحدثنا‬ ‫رضورات الكتلة التاريخية يف محطات بعينها‪ ،‬كام‬
‫الجابري عن هذا االنشغال املنهجي‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫أن متابعته ملجريات الحياة اليومية‪ ،‬مل متنعه من‬
‫نجد أنفسنا اليوم مطالبني بتجديد طرح كثري من‬ ‫اإلرصار عىل دقة التصورات والتشبث مبنهجية‬
‫األسئلة التي طرحت سابقا وفسح املجال ألخرى‬ ‫التأمل التي سمحت له بتخليص الفلسفة مام‬
‫قد تطرحها اهتاممات عرصنا الفكرية واملنهجية‪،‬‬ ‫طالها من أحكام جائرة‪ .‬وألنه مل يكن ضيق األفق‬
‫ذلك ألنه بغري تجديد التفكري يف األسئلة القدمية‬ ‫أو منغلقا يف برج عاجي فإنه انخرط يف قضايا‬
‫وطرح أخرى جديدة لن يتأىت لنا االرتفاع مبستوى‬ ‫املجتمع‪ ،‬وزاوج بني «فكر ونقد» ليجعلها منربا‬
‫فهمنا للظاهرة القرآنية إىل الدرجة التي تجعلنا‬ ‫للطامحني يف تعميم املعرفة الراقية واملنهجية‬
‫معارصين لها وتجعلها معارصة لنا‪.‬‬ ‫العقالنية والرؤية املتبرصة‪ .‬وألنه مل يكن قطريا‬
‫ضيقا فإنه تجاوز جغرافيا الخرائط ولعنة‬
‫‪13‬‬ ‫ولعل املعارصة هنا هي تجسيد ملقولة الجابري‬
‫التقسيم بفتح حوار املرشق واملغرب‪ ،‬مؤكدا أن‬
‫«إما أن نكون كائنات تراثية أو كائنات لها تراث»‪،‬‬
‫التشابه ال يعني التامثل وال يلغي االختالف‪.‬‬
‫لذلك تكلم عن دواعي تفسري القرآن الحكيم‬
‫فربطها بسياقني ‪ :‬األول‪ ،‬مرتبط مبسار مرشوعه‬ ‫جعل الجابري قضايا الشأن العام يف صلب‬
‫بالتنظري ويعفي نفسه من االختبار املجتمعي‬ ‫الفكري الذي لواله ما امتلك الحدة املعرفية التي‬
‫والسيايس‪ .‬إذ نعتقد أن التحوالت الكربى التي‬ ‫تؤهله للكتابة عن القرآن الكريم وتفسريه‪.‬‬
‫تعرفها البرشية اليوم‪ ،‬تؤكد وجهة تصوراته التي‬
‫كانت تبجل العقالنية وتنترص للدميقراطية وما‬ ‫أما الثاين‪ ،‬فريتبط مبارشة بأحداث معارصة كان لها‬
‫تستلزمه من مفاهيم وآليات‪ ،‬جوهرها هي‬ ‫اكرب األثر عىل التحوالت التي عرفها العامل العريب‬
‫توجهه إىل إعادة طرح األسئلة وقراءة الرتاث‬ ‫واإلسالمي سواء يف تعامله مع مكوناته الداخلية‬
‫قراءة استعادة غري استنساخية‪ ،‬واالبتعاد عن‬ ‫آو عالقته بالغرب‪ ،‬حيث يؤكد أن اهتاممه‬
‫الرتويج للمفاهيم والعمل عىل الفعل فيها‪.‬‬ ‫مبوضوع إعادة فهم القرآن يعود إىل السبعينات‬
‫من القرن املايض‪ ،‬عندما ساد يف الساحة الفكرية‬
‫النظم املعرفية وعرص التدوين الجديد‬ ‫نقاش حول الصحوة اإلسالمية وبروز تيار فكري‬
‫يعتمد اإلسالم مرجعية‪ .‬ويوظف حقال دالليا‬
‫يف دراسته اإلبستمولوجية عن الثقافة العربية‪،‬‬ ‫يكفر الناس‪ ،‬ويفرس النصوص بسهولة‪ ،‬ويبيح‬
‫يخلص الجابري إىل وجود ثالثة أنظمة معرفية‪،‬‬ ‫االستشهاد بآيات قرآنية‪ ،‬ويعترب توظيفها يف هذا‬
‫حيث تتوزع مجمل التيارات الفكرية يف مختلف‬ ‫السياق أو ذاك الحقا لإلفراد والجامعات بغض‬
‫الفروع املعرفية عىل تبايناتها املتعددة‪ .‬وهو حني‬ ‫النظر عن استيعابها لرشوط التأويل والتفسري‬
‫يعرف مفهوم النظام املعريف‪ ،‬فإنه يشري إىل أن جملة‬ ‫والفتوى‪ .‬فلام وقعت أحداث الحادي عرش‬
‫من املفاهيم والتصورات تشكل للفكر العريب بنيته‬ ‫من سبتمر ‪ ،2001‬كانت املحرك األقوى إلنجازه‬
‫الالشعورية‪ ,‬وال ينكر الجابري مديونيته للفيلسوف‬ ‫ملرشوع تفسري القرآن الحكيم باعتامد أسباب‬
‫الفرنيس ميشيل فوكو‪ ،‬فالنظام املعريف مبثابة ما‬ ‫النزول مدخال لذلك‪ .‬لقد أدرك الجابري من خالل‬
‫يسميه فوكو باإلستيمية‪ .‬لكن قد ال يخفى أن مثة‬ ‫تجربته مع القرآن أن هذا األخري واحد من الكتب‬
‫فروقا وتباينات بني التوظيفني‪ ،‬إذ فيام يجعل فوكو‬ ‫الساموية التي ال ميكن أن تقرأ كام يقرأ اإلنسان‬
‫من االستيمية خيطا ناظام يلم شتات التمظهرات‬ ‫جريدة أو قصة‪ ،‬وأنه كتاب تاريخي‪ ،‬وللتعامل‬
‫الثقافية املختلفة يف حقبة ما‪ ،‬نرى الجابري يتحدث‬ ‫معه كان ال بد من فكر تاريخي متتبع لتطور‬
‫عن أنظمة معرفية ثالثة متزامنة هي ‪ :‬النظام‬ ‫الثقافة العربية‪ ،‬وخصوصا للجانب الكالمي منها‬
‫املعريف البياين‪ ،‬والنظام املعريف العرفاين‪ ،‬ثم النظام‬ ‫والفقهي أيضا‪ ،‬مؤكدا أن آخر فصل من فصول‬
‫املعريف الربهاين‪.‬‬ ‫أصول الفقه هو ذلك املتعلق بالفتوى والرشوط‬
‫إال أن الجابري‪ ،‬يبتعد نوعا من االبتعاد عن‬ ‫التي وضعت إلصدار ها‪ .‬وبسبب هذه القناعات‬
‫فوكو حني يعترب النظام املعريف بنية الشعورية‪،‬‬ ‫استشعر الجابري خطورة أن الناس يتعاملون مع‬
‫بينام يرى بعض الباحثني النقاد أن فوكو مل يرش‬ ‫القرآن بسهولة غريبة عندما يفتون‪ .‬فقرر أن‬
‫قطعا إىل البنية الالشعورية‪ ،‬والحق أن الذي‬ ‫يوضح أن األمر ليس بتلك السهولة وأن التعامل‬ ‫‪14‬‬
‫وظف هذا املفهوم أي البنية الالشعورية هو‬ ‫مع القرآن له رشوط‪ ،‬كام أن فهمه يتطلب عدة‬
‫االنرتوبولوجي الفرنيس كلود ليفي سرتاوس‬ ‫وسائل منهجية و معرفية‪ .‬مل يكن فكر الجابري‬
‫‪.Claude Levy Strauss‬‬ ‫من نوع التحليل البارد والخافت الذي يكتفي‬
‫يف الوعي الجمعي اإلسالمي‪ ،‬كام يفيد االسم‬ ‫وهنا تطالعنا مفارقة أخرى سقط فيها ناقد‬
‫ذاته ذو الحمولة القدحية‪ .‬ومن هنا فتغري‬ ‫العقل العريب‪« ،‬فليفي سرتاوس» مييز فعال بني‬
‫النظرة والرؤية إىل املرحلة الجاهلية فرضته‬ ‫فعل واع وفعل ال واع‪ ،‬لكن توظيف الجابري‬
‫عوامل مرتبطة بتطور املجتمع اإلسالمي‪ ،‬الذي‬ ‫يختلف بعيدا جدا عن متييز سرتاوس‪ .‬إذ حدد‬
‫واجه بعد الفتوحات واحتكاكه بهويات جديدة‪،‬‬ ‫األخري هذا التمييز عندما كان بصدد تحديد‬
‫تحديات فرضت عليه إعادة النظر يف تلك الرؤية‬ ‫الفروق بني عمل املؤرخ واألنرتوبولوجي‪ .‬فإذا‬
‫التي أحدثها اإلسالم عن العرص الجاهيل‪.‬‬ ‫كان املؤرخ يدرس املجتمعات ذات التقاليد‬
‫الكتابية باالعتامد عىل الوثائق املكتوبة‪ ،‬نجد‬
‫بعد عرص التدوين سيظل الزمن الثقايف العريب‬
‫األنرتوبولوجي حني يدرس املجتمعات البدائية‬
‫راكدا‪ ،‬حيث ستعيد هذه النظم املعرفية اجرتار‬
‫التي ال تاريخ لها‪ ،‬حيث يحاول جرب هذا النقص‬
‫نفسها‪ ،‬و هو ما يحيلنا عىل رؤية الجابري لتاريخ‬
‫من خالل دراسة البنية الالشعورية الناوية وراء‬
‫الثقافة العربية‪ .‬إن الزمن الثقايف العريب حسب‬
‫تقاليدها وعاداتها وطقوسها الجامعية باعتبار أن‬
‫ناقد العقل العريب مل يعرف تطورا حقيقيا‪ ،‬و هو‬
‫الفرد يف املجتمعات البدائية يتبع هذه الطقوس‬
‫ما دفع الجابري‪ ،‬إىل شن حملة ضد التصنيف‬
‫عىل نحو الشعوري‪.‬‬
‫الثقايف تبعا للدول املتعاقبة‪ ،‬أو حتى تبعا‬
‫للتصنيف الزمني الذي يعرب عن مركزية أوروبية‪،‬‬ ‫بينام يذهب الجابري‪ ،‬إىل أن هذه البنية‬
‫مبا يفيد تحقيب التاريخ إىل قديم ووسيط‬ ‫الالشعورية تشكلت يف عرص التدوين الذي دشن‬
‫وحديث معارص‪ .‬وأمام غياب تطور يف الثقافة‬ ‫زهاء ‪ 143‬هـ ‪ .‬ويستدل الجابري عىل نص أورداه‬
‫العربية يحيل عىل إلغاء الالحق للسابق‪ ،‬يورد‬ ‫كل من اإلمامني الذهبي والسيوطي‪ ،‬حيث‬
‫الجابري‪ ،‬مفاهيم من علم النفس يستعني بها‬ ‫التدوين إسم يطلق عىل العرص الذي انطلق‬
‫من أجل تقريب رؤيته لتحديد طبيعة التاريخ‬ ‫فيه جمع العلوم وتدوينها‪ ،‬و عىل اعتبار أن‬
‫الثقايف‪ ،‬كام الشأن بالنسبة ملفهوم زمن الالشعور‬ ‫كل جمع أو تدوين‪ ،‬بل كل كتابة واعية بذاتها‬
‫املتداخل‪ .‬عندما يعرف الجابري‪ ،‬الثقافة إذن‬ ‫وليست مجرد تلفظ هذياين‪ ،‬يستبطن منهجا‬
‫يقول إنها ليست سوى ما تبقى عندما ننىس كل‬ ‫يؤسس للعقل نفسه‪ .‬والحال أن يكون عرص‬
‫يشء‪ ،‬ومن تم فإن العقل العريب هو ما خلفته‬ ‫التدوين يف منتصف القرن الثاين الهجري‪ ،‬هو‬
‫وتخلفه الثقافة العربية يف اإلنسان العريب بعد‬ ‫ما دفع ناقد العقل العريب إىل العودة إىل العرص‬
‫أن ينىس ما تعلمه يف هذه الثقافة‪ .‬ويستعري‬ ‫الجاهيل‪ ،‬ومناقشة دوره يف تكوين العقل العريب‪،‬‬
‫الجابري‪ ،‬من ثراتنا اإلسالمي القديم كذلك‬ ‫إذ إغفاله سيكون ثغرة كبرية قد تسقط رصح‬
‫مفاهيم لوصف طبيعة الحركة التي ميزت‬ ‫مرشوعه بأكمله‪ .‬مل يهمل عابد الجابري‪ ،‬العرص‬
‫‪15‬‬ ‫الثقافة العربية أنها حركة اعتامد‪ ،‬وتجدر اإلشارة‬ ‫الجاهيل‪ ،‬بل يشري إىل أن هذا العرصالجاهيل تم‬
‫إىل أن هذا املفهوم من ابتكار املتكلم املعتزيل‬ ‫استحضاره‪ ،‬لحضوره الوظيفي يف عرص التدوين‬
‫ابراهيم النظام‪ ،‬ويفيد من حيث مضمونه تلك‬ ‫نفسه خدمة ألغراض إيديولوجية‪ ،‬بعد أن كان‬
‫الحركة املتوترة املتكررة بشكل آيل‪ ،‬والتي تبتعد‬ ‫إىل عهد قريب يحيل عىل فرتة زمنية منبوذة‬
‫املسألة االوىل‬ ‫عن نقطة االنطالق لكنها ال تفتأ تعود إليها من‬
‫«العقل العريب» إخفاق التسمية‬ ‫هنا فهي بشكل من اإلشكال نقلة‪ ،‬إال أنها عموما‬
‫ثابتة تعيد نفسها باستمرار‪ ،‬يقول الجابري يف‬
‫أسس الجابري‪ ،‬الحقل النظري ألبحاثه عىل ما‬ ‫شبه يقني ‪« :‬أكاد أقرر أن الحركة يف الثقافة‬
‫أسامه ب «العقل العريب»‪ ،‬وهو مكون حديث‬ ‫العربية كانت وما تزال حركة اعتامد ال حركة‬
‫لكنه استخدمه كمكون قروسطي‪ ،‬انطالقا من‬ ‫نقلة‪ ،‬وبالتايل فزمانها مدة بعدها السكون ال‬
‫فرضية أن كل الفكر اإلسالمي كتب باللغة‬ ‫الحركة وهذا عىل الرغم من جميع التحركات‬
‫العربية وهذا أمر غري صحيح‪ .‬إذ هناك الكثري‬ ‫واالهتزازات التي عرفتها»‪.‬‬
‫من صفحات الفكر اإلسالمي‪ ،‬مكتوبة بلغات‬
‫شعوبها اإلسالمية‪ ،‬وغري العربية (فارسية‪،‬‬ ‫لكن كيف ميكن تجاوز هذه النظم املعرفية‬
‫أوردية‪ ،‬تركية‪ ،‬كردية)‪ .‬هذا باإلضافة إىل أن‬ ‫املتخشبة التي يرى الجابري أن زمن الحداثة قد‬
‫اغلب من كتب هذا الفكر‪ ،‬ونظم هذا العقل‪،‬‬ ‫تجاوزها ؟ إنه يقرتح ورشا إصالحيا آخر ‪ :‬تدشني‬
‫منذ بداياته هم من غري العرب‪ ،‬بل كان جلهم‬ ‫عرص تدوين جديد لكن هذه املرة لتدوين علوم‬
‫ينحدر من هذه الشعوب التي ذكرنا لغاتها‪ .‬أما‬ ‫العرص وتطعيم العقل العريب بها‪ ،‬متاما كام‬
‫حجة أن العربية جسدت الوعاء الذي كتب فيه‬ ‫قادت الدولة العربية يف املايض عرص التدوين‪.‬‬
‫هؤالء‪ ،‬فهي تبدو حجة ضعيفة ألن بنية اللغة‬ ‫إن املسكوت عنه هنا هو أن الجابري من غري‬
‫ال تتطابق كليا مع بنية العقل‪ ،‬ولذلك ال يجوز‬ ‫شك يُحمل للسياسة مسؤولية هذا التلكؤ يف‬
‫اعتبار كل مفكر مسلم كتب بالعربية مؤسسا‬ ‫إحداث قطيعة مع التقليد‪.‬‬
‫لـلعقل العريب‪ .‬بل الصواب من وجهة نظرنا هو‬
‫أن الجميع ساهموا يف تأسيس «عقل إسالمي»‬
‫عرثات الجابري‬
‫خصوصا أن اللغة العربية مل يتكلمها أكرث من‬ ‫لقد أطل املفكر املغريب محمد عابد الجابري‪،‬‬
‫‪ %25‬من املسلمني‪ .‬ولعل ما يؤكد هذا القول‪،‬‬ ‫عىل العرب وتراثهم إطاللة جديدة وغري‬
‫هو أن الجابري نفسه حني قسم العقل العريب‬ ‫مسبوقة‪ ،‬أحدثت يف حينها جدال واسعا يف‬
‫إىل ثالثة عقول ‪ :‬الربهاين‪ ،‬البياين‪ ،‬العرفاين‪( ،‬وهو‬ ‫األوساط الفكرية والفلسفية العربية املتنورة‬
‫تقسيم أوحى له به القشريي)‪ ،‬فإنه يرشح لنا‬ ‫واملحافظة عىل حد سواء‪ .‬وكان الجابري‪ ،‬مبا ميتاز‬
‫فيام بعد يف أطروحاته أن العقل الربهاين هو‬ ‫به من أسلوب سلس يف طرح أمور معقدة‪ ،‬قد‬
‫عقل غريب إغريقي األصل‪ ،‬بينام العقل العرفاين‬ ‫سارع يف تسهيل تداول أعامله وانتشارها‪ ،‬وهي‬
‫هو عقل رشقي األصل متتد جذوره إىل فارس‪،‬‬ ‫ميزة فريدة امتاز بها الرجل‪ .‬غري أن ما يعنينا‬
‫والهند‪ ،‬وبابل‪ ،‬ومرص‪ ،‬الفرعونية‪ .‬وال يبقى‬ ‫هنا هو أن الجابري‪ ،‬حقق يف مسريته الفكرية‬
‫سوى العقل البياين الذي هو عقل عريب‪ ،‬وهو‬ ‫والفلسفية كثري من النجاحات‪ ،‬لكن هناك أيضا‬ ‫‪16‬‬
‫ما يعني أن املكون العريب‪ ،‬ال ميثل سوى ثلث‬ ‫إخفاقات شابت أطروحاته الفكرية والفلسفية‪.‬‬
‫«العقل العريب» باعرتاف الجابري نفسه‪ ،‬بينام‬
‫الثلثني اآلخرين هام من أصول رشقية وغربية‪.‬‬
‫يعتقد انه عندما يقرتح هذا فان العقل العرفاين‬ ‫هذا وحده يكفي أن نثبت به عدم دقة مصطلح‬
‫سيزول ببساطة؟ ناقش األمر معه باستفاضة‬ ‫العقل العريب الذي استخدمه الجابري ليصف‬
‫واسعة جورج طرابييش يف كتابه «نقد العقل‬ ‫به العقل اإلسالمي القروسطي‪ ،‬عالوة عىل أن‬
‫العريب» «العقل املستقيل يف اإلسالم» وعارضه‬ ‫املفهوم هو مصطلح حديث ميكن أن نستعمله‬
‫بوضوح شديد‪.‬‬ ‫لوصف مكون حديث تبلور منذ نهاية القرن‬
‫التاسع عرش ‪ ،19‬خالل الحقبة التي عرفت‬
‫املسألة الثالثة‬ ‫بالنهضة العربية وما بعدها يف ديناميكية قد‬
‫تضخيم الدور االرسطي الرشدي‬ ‫تشري إىل استمرارية التكوين‪.‬‬

‫لعله من الغلو التعويل عىل العقل الربهاين‬ ‫املسألة الثانية‬


‫والتلويح بالدور املضخم املهول البن رشد‪،‬‬ ‫تسفيه وبرت العقل العرفاين‬
‫باعتباره سليل العقل األرسطي بشكل خاص‪،‬‬
‫وسبب نهضة الغرب بعد أن قرؤوه واطلعوا‬ ‫ال بد من اإلقرار بأن كل الشعوب‪ ،‬تحمل يف‬
‫عليه‪ ،‬فقد تم تداول هذا القول كثريا بني ضفتي‬ ‫تراثها وتكوينها عقال عرفانيا تستعمله يف التعبري‬
‫تاريخ الغرب اإلغريقية \ الرومانية والحديثة‪،‬‬ ‫عن التشوقات الغامضة للعوامل الخفية والروحية‬
‫وتم الرتويج له بشكل مبالغ فيه‪ ،‬مع العلم أن‬ ‫والشعرية‪ .‬املكون العرفاين حارض حتى يف العقل‬
‫الحضارة الغربية قامت بالدرجة األساس عىل‬ ‫الغريب الذي يعتمد بقوة عىل العلم‪ ،‬الذي كان‬
‫رصح العلم (الذي مل يذكره الجابري مطلقا)‪،‬‬ ‫أساسا لزحزحة الفكر الغيبي منذ بداية عرص‬
‫وليس عىل أساس الفكر الربهاين األرسطي‬ ‫النهضة بواسطة ما عرف بالحركات الهرمسية‬
‫الرشدي‪.‬‬ ‫الجديدة‪ ،‬وليفسح املجال للعلم يك يهيمن‪.‬‬
‫هل من املمكن برت وإزالة العقل العرفاين من‬
‫إذ مل تكن الرشدية بالنسبة ألوروبا الحديثة أكرث‬ ‫مكونات العقل العريب اإلسالمي بعملية جراحية‬
‫من تيار من بني عرشات التيارات غريها‪ ،‬فقد‬ ‫كالتي اقرتحها الجابري؟ أال يعد ذلك مبثابة إعالن‬
‫هضمتها وأدمجتها ضمن ديناميكية عربت عن‬ ‫الجنون يف هذا العقل أو قتله؟ ألننا إذا أزحنا‬
‫نفسها يف الديكارتية التي هي البداية الصحيحة‬ ‫عنه مكونا رئيسيا يفرتض ترشيده وتوجيهه‬
‫للفلسفة األوروبية الحديثة‪ .‬ثم إن النهضة الكربى‬ ‫وليس برته‪ ،‬سندخل هذا يف مغامرة ال يعرف أحد‬
‫للغرب مل تقم عىل رصح فكر ا بن رشد‪ ،‬كام‬ ‫إىل أين يتنتهي بنا‪ ،‬وهذا العقل يرقد يف طبقات‬
‫يتوهم البعض‪ ،‬بل عىل أساس «االرغانون الجدد»‬ ‫الشعورنا الجمعي نحن كعرب وكمسلمني‪.‬‬
‫لفرانسيس بيكونب ومنهج االستقراء الذين‬ ‫خصوصا أن تربته هي تربة الحضارات القدمية‬
‫‪17‬‬ ‫عارض بهام «االرغانون القديم» ومنهج االستنباط‬ ‫التي يفتخر بها تاريخ البرشية كله من «سومر»‬
‫ألرسطو و تابعه ابن رشد‪ ،‬مام يضعنا هذا األمر‬ ‫وحتى «حرات»‪ .‬كان من املفروض عىل الجابري‪،‬‬
‫يف حرية حني نتساءل عن الدور السلبي الستمرار‬ ‫أن يقيم صيغة توازن محسوبة بني املكونات‬
‫أرسطو ومنهجه يف الغرب‪.‬‬ ‫الثالثة للعقل العريب بدل التلويح بالبرت‪.‬ثم هل‬
‫يف الحاجة إىل عابد الجابري‬ ‫املسألة الرابعة ‪ :‬الفكر املؤدلج للجابري‬
‫عندما أقدم محمد البوعزيزي‪ ،‬املواطن التونيس‬ ‫ما أود إثارته هنا هو أن الجابري‪ ،‬بقصد أو بدون‬
‫البسيط والعاملي فيام بعد عىل إرضام النار يف‬ ‫قصد كان مؤدلجا حني نزه «العقل العريب»‬
‫جسمه النحيف يوم الجمعة ‪ ،17\12\2010‬أمام‬ ‫تحديدا‪ .‬إذ قدم العقل البياين وكأنه عقل خالص‬
‫والية سيدي بوزيد احتجاجا عىل ما لحقه من‬ ‫عميق‪ ،‬ال بد من حقنه مبكون العقل الربهاين ليك‬
‫ظلم‪ ،‬مل يكن يعلم أنه سيجر العامل العريب ككل‬ ‫يزهو ويأخذ مكانته يف العرص الحديث‪ ،‬بينام‬
‫إىل حراك ما تزال تداعياته يف التوالد والتناسل‬ ‫نيس الجابري أن هذا العقل البياين‪ ،‬هو الذي‬
‫حتى اآلن‪ .‬فقد تفجر هذا «الحراك» يف غفلة‬ ‫طرد العقل الربهاين‪ ،‬وحاربه وسفهه ومل يقبل‬
‫عن األحزاب‪ ،‬والنقابات‪ ،‬واملهرولني وراء الكرايس‬ ‫به‪ ،‬و الشواهد كثرية عىل هذا‪ ،‬تبدأ من محاربة‬
‫واملناصب‪ ،‬بينام يظل السؤال العالق‪ :‬أين هم‬ ‫املعتزلة وتنتهي بحرق كتب ابن رشد… فكيف‬
‫املثقفون العرب؟ فقد بدت الحاجة داخل هذا‬ ‫ميكن تصالح البيان مع الربهان‪ ،‬بينام الحرب‬
‫السياق ماسة للمفكرين والباحثني‪.‬‬ ‫الذي شنها البيان عىل الربهان يف تراثنا يف تاريخنا‬
‫وبالنظر إىل ما ترتب عن الحراك من متزيق‬ ‫ال حدود لها؟‬
‫ملفهوم «الهوية الوطنية اإلدماجية»‪ ،‬وبالنظر‬ ‫ولعل من مظاهر ضعف ما نادت به أطروحات‬
‫إىل تنامي دعاوي الطائفية واملذهبية والقبلية‬ ‫الجابري أيضا‪ ،‬هو هذا الرتدي الذي نعيشه اليوم‬
‫واالنفصالية‪ ...‬يف السياسة كام يف الثقافة‬ ‫يف وطننا العريب ‪ /‬معقل العقل العريب‪ ،‬خاصة يف‬
‫واالجتامع‪ ،‬فقد بدت الحاجة ماسة إىل مفكر‬
‫مرحلة «الربيع العريب» وما بعده‪ .‬حيث اتضح‬
‫عريب من املغرب األقىص‪ ،‬كام يصنف نفسه يف‬
‫لنا جميعا أن انفجار العقل البياين العريب اكتسح‬
‫كتابه ‪« :‬إشكاليات الفكر العريب املعارص» لكن‬
‫بخرابه كل يشء ودمر كل ما حاولنا أن نبنيه يف‬
‫عىل أساس خلفية «عروبية قومية»‪ ،‬رصفة‬
‫مراحل سابقة‪.‬‬
‫ورصيحة ونقصد هنا محلل بنيات «العقل‬
‫العريب» املفكر عابد الجابري‪ ،‬الذي دشن مبفرده‬ ‫فالحرب التي شنها البيان تحت ستار الدين‬
‫عهدا قرآنيا جديدا نتيجة مفاهيم متكن من‬ ‫واألصولية‪ ،‬استهدفت الربهان والعرفان معا‪.‬‬
‫تأصيلها وتثبيتها يف الفكر العريب املعارص‪ .‬وتهمنا‬ ‫وأصبحنا اليوم نتوسل العامل كله للقضاء عىل‬
‫هنا كثريا أطروحة حول «الكتلة التاريخية»‬ ‫هذه النزعة املدمرة‪.‬‬
‫تبعا للمفهوم الذي أخذه عن الفيلسوف‬
‫االيطايل انطونيو غرامىش‪ ،‬والذي استخدمه عىل‬ ‫لقد بالغ الجابري‪ ،‬يف الرتويج لحلم الزواج بني‬
‫املستويني العريب والقطري‪ .‬إذ تجمع هذه الكتلة‬ ‫البيان‪ ،‬والعرفان‪ ،‬وتبعه يف طل كثري من القراء‬
‫وفق ما قاله الجابري‪ ،‬يف مقال له عن «الكتلة‬ ‫و املثقفني‪ ،‬وإن كان هذا كله ال ينتقص من‬ ‫‪18‬‬
‫التاريخية» فئات عريضة من املجتمع حول‬ ‫الجابري‪ ،‬بل إن لكل جواد كبوة‪ .‬ورغم كل هذا‬
‫أهداف واضحة تتعلق أوال ‪ :‬بالتحرر من هيمنة‬ ‫وأمام الوضع الراهن لألمة العربية‪ ،‬هل مازلنا يف‬
‫االستعامر واالمربيالية السياسية واالقتصادية‬ ‫حاجة إىل محمد عابد الجابري؟‬
‫‪ 22‬من عام ‪ .2003‬والالفث أن هذه األطروحة‬ ‫والفكرية‪ .‬وثانيا‪ :‬بإقامة عالقات اجتامعية‬
‫مل تسلم يف إطار النقد البناء واإليجايب من بعض‬ ‫متوازنة يحكمها إىل درجة كبرية التوزيع العادل‬
‫التعديل‪ ،‬أو باألدق التخصيص بالنظر إىل طابعها‬ ‫للرثوة يف إطار مجهود متواصل لإلنتاج‪ .‬ومبا أن‬
‫العام‪ .‬ويف هذا الصدد ميكن أن نحيل إىل مفهوم‬ ‫مشكلة التنمية مرتبطة يف الوطن العريب بقضية‬
‫الكتلة التاريخية الدميقراطية‪ ،‬أو مفهوم الكتلة‪،‬‬ ‫الوحدة‪ ،‬فإن هذه الكتلة التاريخية يجب أن‬
‫التاريخية عىل قاعدة الدميقراطية‪ ،‬الذي يشري‬ ‫تأخذ بعدا قوميا يف جميع تنظرياتها وبرامجها‬
‫إىل مجال أضيق من مجال «الكتلة التاريخية»‬ ‫ونضاالتها‪ .‬فقد بدت الحاجة إىل هذه األطروحة‬
‫لدى غراميش‪ ،‬ومحمد الجابري‪ ،‬وخري الدين‬ ‫حتى قبل تفجر الحراك العريب‪ ،‬خصوصا يف‬
‫حسيب‪ ،‬وعىل نحو ما متت مناقشة ذلك يف‬ ‫تلك البلدان التي تعاين عدم استقرار مذهبي‪،‬‬
‫الكتاب الجامعي «نحو كتلة تاريخية دميقراطية‬ ‫وعقائدي‪ ،‬فقد قام عبد الله الجناحي‪ ،‬مثال يف‬
‫يف البلدان العربية» (‪ ،)2011‬املكرس لحالة‬ ‫كتابه «الكتلة التاريخية من غراميش إىل الجابري‬
‫اليمن‪ ،‬والسودان‪ ،‬وتونس‪ ،‬ثم بصفة عامة لباقي‬ ‫ومالءمتها للبحرين» (‪ ،)2004‬ثم يف كتاب آخر‬
‫البلدان العربية األخرى‪ .‬وكان املنطلق لهذا‬ ‫«طبائع االستهالك ‪ -‬قراءة يف أمراض الحالة‬
‫النقاش هو التفكري يف الفرضية التي تقول أن‬ ‫البحرينية» لصاحبه الناقد البحريني ناذر كاظم‬
‫«الطريق السلمي واملجرب تاريخيا ألحداث‬ ‫(‪ .)2007‬حيث حاوال معا يف إمكانيات التفكري‬
‫انتقال دميقراطي‪ ،‬ال تكون إال عرب بناء كتلة‬ ‫يف الواقع العريب رغم تفاوتاته من داخل نفس‬
‫تاريخية دميقراطية»‪ .‬فإدارة الرصاع السيايس‬ ‫اإلطار الفكري الذي قدمه الجابري‪ ،‬حول العقل‬
‫يف أفق العمل املشرتك يجب أن ال تخلط بني‬ ‫التوافقي بصفة عامة‪ ،‬بطريقة جديرة فكريا‬
‫الحدود‪ ،‬والوقائع‪ ،‬واملصالح‪ ،‬وبني النصوص‪،‬‬ ‫بتسييج األصوليات اإليديولوجية املتصادمة‬
‫واألفراد‪ ،‬والفرتات‪ .‬ومن تم فإن معظم التيارات‬ ‫والهويات الثقافية املتقاتلة عىل صعيد املعرفة‬
‫السياسية الرئيسية‪ ،‬من قومية وإسالمية‪،‬‬ ‫والوجود معا‪ .‬وجديرة إيديولوجيا أيضا‬
‫ويسارية‪ ،‬وليربالية‪ ،‬ال تنبني‪.‬‬ ‫بالرتسيم الخرائطي للمداخل األساسية لنوع من‬
‫القاعدة املشرتكة التي تدمج التيارات السياسية‬
‫ولذلك فإن الجابري‪ ،‬حني يطالب التيارات بأن‬ ‫اإليديولوجية األساسية عىل أساس من التكامل‬
‫«تتآخى هكذا بدون مالمح إيديولوجية‪ ،‬أو عىل‬ ‫الدميقراطي والعقالنية‪ .‬لقد ظل الجابري‪ ،‬يدافع‬
‫األقل تأجيل الرصاع االيديولوجي إىل حني»‪،‬‬ ‫عن أطروحة «الكتلة التاريخية» منذ سنة‬
‫فكأنه يطالب العنارص التي تتكون منها الكتلة‬ ‫‪ 1982‬وعىل وجه التحديد منذ الحوار الذي‬
‫التاريخية بأن تضع إيديولوجيتها عىل الرف‬ ‫أجرته معه مجلة «املستقبل العريب» (عدد ‪45‬‬
‫إىل حني‪ ،‬وكأن هذه الكتلة التاريخية ليست‬ ‫نوفمرب ‪ 1982‬ببريوت)‪ .‬ونجد للجابري‪ ،‬متهيدا‬
‫‪19‬‬ ‫إيديولوجية‪ ،‬أو إيديولوجيا الحد األدىن‪ .‬وقد رد‬ ‫لهذه األطروحة قبل ذاك‪ ،‬يف الفصل األخري من‬
‫عليه مصطفى جاسم الدرويب‪ ،‬يف مقال تحت‬ ‫كتابه «الخطاب العريب املعارص» (‪ ،)1980‬ثم‬
‫عنوان «الكتلة التاريخية مصطلح غائم»‪ ،‬لكن‬ ‫عاد إىل تطويرها و تفصيلها يف عدد من املقاالت‬
‫هذا الرد يظل محدودا‪ ،‬خاصة و أن الجابري‬ ‫جمعها يف كتابه الشهري مواقف يف العدد رقم‬
20
‫العراق‪ ،‬عىل سبيل املثال التي تعيش بدورها‬ ‫كان يعي بأن «الكتلة التاريخية ليست حال‬
‫تداعيات الحراك الثوري العريب‪ ،‬وتفتيت الهوية‬ ‫أبدا بل مرحلة مؤقتة فقط»‪ .‬فقد تم اعتامد‬
‫الوطنية‪ ،‬بدت الحاجة يف سياق العودة إىل الذات‬ ‫األطروحة عىل نطاق واسع يف سياق البحث عن‬
‫ومحاولة ترميم الهوية من خالل أعامل املؤرخ‬ ‫األجوبة لإلشكاالت التي تفرضها تحديات الحراك‬
‫وعامل االجتامع العراقي عيل الوردي (‪-1913‬‬ ‫العريب‪ .‬ويف هذا اإلطار قرأنا ككل عن «الربيع‬
‫‪ )1995‬الذي وصف باملثقف الكبري‪ ،‬والرائد‪،‬‬ ‫العريب» ودرس املفكر العريب عابد الجابري‪،‬‬
‫واملثري للجدل‪ .‬كام بدت الحاجة ماسة إىل املؤرخ‬ ‫والكتلة التاريخية‪ ،‬والربيع العريب‪ ،‬والكتلة‬
‫واملفكر املغريب عبد الله العروي‪ ،‬وحتى إن‬ ‫التاريخية‪ ،‬والحراك الشعبي العريب‪ ،‬والكتلة‬
‫كان هذا األخري نأى بنفسه عن الحديث عن‬ ‫التاريخية‪ ،‬ملواجهة مخاطر الداخل والخارج‪،‬‬
‫الحراك‪ ،‬رمبا لدواعي االحرتاز من التاريخ اآلين‪،‬‬ ‫والكتلة التاريخية‪ ،‬وسؤال املرحلة‪ ،‬وأهمية‬
‫فإن بعض كتبه تصلح لتحليل وضع الحراك‪ .‬وكام‬ ‫الكتلة التاريخية‪ ،‬لنجاح االنتقال من االستبداد‬
‫قال املفكر عبد السالم بنعبد العايل‪ ،‬يف مقال‬ ‫إىل الدميقراطية‪ ،‬ومن ديكتاتورية الربولتارية‪،‬‬
‫له بعنوان «الحنني إىل املثقف الهادئ» (خصصه‬ ‫إىل ديكتاتورية الكتلة التاريخية‪ ،‬وال مخرج من‬
‫عن الجابري)‪« ،‬أن املفكر العريب مل يتمكن ال‬ ‫االنهيار التاريخي‪ ،‬والحرب األهلية‪ ،‬والتصلب‬
‫من متلك تراثه وال من متلك الحداثة نفسها‪،‬‬ ‫الهويايت‪ ،‬والقبضة الطائفية إال بالكتلة التاريخية‪.‬‬
‫هاهنا رمبا كانت هناك رضورة لعودة الجابري‬ ‫كام قرأنا عن الكتلة يف سياق بلدان الحراك‪.‬‬
‫كمثقف هادئ وإمنا كطرف سيايس يف نقاش ال‬ ‫لكن هل تحقق حلم الجابري يف تدشني الكتلة‬
‫يزال رضوريا ومفتوحا»‪.‬‬ ‫التاريخية عىل أرض تونس مثال؟ و هل الكتلة‬
‫التاريخية يف تونس مرشوع ممكن التحقق‪ ،‬أم‬
‫هي مجرد أحالم يقظة؟‪.‬‬
‫إذا كانت الحاجة إىل الجابري‪ ،‬يف حالة العامل‬
‫العريب ككل قد تحددت من خالل مفهوم واحد‬
‫مركزي هو مفهوم الكتلة التاريخية‪ ،‬فإنه يف حال‬

‫‪21‬‬
‫تأمالت في عالقة‬
‫اإلسالم باحلداثة عند محمد عبده‬
‫مربك البقايل‬

‫حديثة‪ ،‬استمدتها من األنظمة القانونية للبلدان‬ ‫كرث الحديث يف السنني األخرية عن عالقة اإلسالم‬
‫الغربية شكالً ومضموناً‪ .‬وذلك بالنظر إىل املراحل‬ ‫بالحداثة واملدنية‪ ،‬أو مبا أنتجته الحضارة اإلنسانية‬
‫املتقدمة التي قطعتها هذه البلدان‪ ،‬وإىل التجارب‬ ‫يف القرون األخرية‪ .‬و اتخذت هذه املناقشات أشكاال‬
‫املهمة التي مرت بها‪.‬‬ ‫متعددة‪ ،‬سواء من خالل مقارنته باألديان األخرى‪،‬‬
‫أومن خالل تأويل نصوصه ومالمئتها مع العرص‪،‬‬
‫وهكذا وضعت البلدان اإلسالمية‪ ،‬دساتري عىل‬ ‫بالدعوة إىل االجتهاد والخلق واإلبداع‪ .‬بيد أن‬
‫الطريقة الغربية تتناول تحديد نظم حكمها‪ ،‬وتقسيم‬ ‫الخوض يف هذه العالقة ليس بجديد عىل الثقافة‬
‫االختصاص فيام بني السلط‪ ،‬كام تتضمن املبادئ‬ ‫العربية اإلسالمية‪ ،‬بل سبق أن طرحت عىل مدى‬
‫العامة التي تتبعها هذه الدول يف سياستها االقتصادية‪،‬‬ ‫التاريخ العريب اإلسالمي‪ ،‬إما يف شكل جدال فكري‪،‬‬
‫واالجتامعية‪ ،‬وغريها من املجاالت األخرى‪.‬‬ ‫أو مجايل‪ ،‬بني مسلمني وغري مسلمني دفاعا عن‬
‫وعىل مستوى القوانني الخاصة‪ ،‬فقد تم تبني قوانني‬ ‫اإلسالم كدين وثقافة وحضارة‪ ،‬أو يف شكل جدال بني‬
‫مدنية‪ ،‬وجنائية‪ ،‬وتجارية‪ ،‬استمدتها هي األخرى‬ ‫املسلمني أنفسهم وبني من يحاول أن يفصل اإلسالم‬
‫من القوانني الغربية‪.‬‬ ‫عن الحضارات األخرى‪ .‬باعتبار اآلخر وحضارته ال‬
‫ميكن أن يقوما إال بتدنيس الدين اإلسالمي وتقويض‬
‫كام تم وضع صيغ خاصة باألحوال الشخصية‪ ،‬أدخلت‬ ‫دعامئه‪ .‬أو بني من يحاول أن يجعل من اإلسالم ديناً‬
‫تعديالت مهمة عىل قواعد الفقه اإلسالمي‪ ،‬بشكل‬ ‫وثقافة وحضارة جزءا من الحضارة اإلنسانية فاعالً‬
‫متفاوت من دولة إىل أخرى‪ ،‬وتم إتباع النصوص‬ ‫أو منفعالً‪ ،‬م َؤثّرا ً أو متأثرا ً‪ .‬و يدعو أصحاب املوقف‬
‫الغربية فيام يخص شكل وتنظيم النصوص‪.‬فاتصف‬ ‫األخري املسلمني إىل رضورة االنخراط فيها كمساهمني‬
‫اإلسالم بالسامحة‪ ،‬لكن أغلبنا ال ينتبه إىل أن الحضارة‬ ‫ومنتجني‪ ،‬باالعتامد عىل العقل والعقالنية‪ ،‬والتشبع‬
‫التي أثر فيها وتأثر بها مل تكن متسامحة دوماً‪ ،‬فقد‬ ‫بفكر التسامح واالختالف وحق اآلخر يف الوجود‪.‬‬
‫اتسمت بعض فرتات تاريخها باالنغالق والعنف‬
‫لقد عملت كثري من البلدان اإلسالمية بعد حصولها‬
‫والتعصب والقتل‪ ،‬كام متيزت بعض فرتاتها األخرى‬
‫عىل االستقالل‪ ،‬عىل بناء دعائم دولة عرصية لتخرج‬
‫بالتسامح واالنفتاح‪ .‬وهكذا‪ ،‬فقد عرف تاريخ هذه‬
‫نفسها من الوضعية املرتدية التي كانت تعيشها عىل‬
‫الحضارة متعصبني ومتسامحني‪ ،‬حيث استند كل‬ ‫جميع األصعدة‪.‬‬ ‫‪22‬‬
‫فريق يف تربير موقفه إىل فهم وتأويل خاص للقرآن‬
‫والحديث النبوي‪ .‬وإىل يومنا هذا‪ ،‬ما تزال كل جامعة‬ ‫ولتحقيق ذلك ابتُكرت عدة تقنيات شملت ميادين‬
‫تعمل عىل تحفيظ اآليات القرآنية ألبنائها دون أي‬ ‫شتى‪ ،‬كام اعتمدت عىل قواعد وضعية علامنية‬
‫وكذلك الشأن فيام يخص عالقة اإلسالم بالتسامح‪،‬‬ ‫تفسري منطقي‪ ،‬وتنويري‪ ،‬ومقاصدي‪ ،‬معارص‪ ،‬ودون‬
‫أو بفصل السلطتني الدينية والسياسية‪ ،‬أو مبوقف‬ ‫التمييز بني محكم‪ ،‬ومتشابه‪ ،‬وناسخ‪ ،‬ومنسوخ‪ ،‬أو‬
‫اإلسالم من العقل واستعامالته يف األمور الدينية‬ ‫بني عام‪ ،‬وخاص‪ ،‬ومطلق‪ ،‬ومقيد‪ ،‬ودون الحديث‬
‫والدنيوية‪.‬‬ ‫عن اختالف الفرق يف تحديد اآليات املتشابهات‪ .‬إذ‬
‫ال نجد املتشابه عند املعتزلة هو نفسه عند الشيعة‪،‬‬
‫اإلسالم والدولة املدنية‬ ‫وال عند الخوارج‪ .‬فكل فرقة تصنف اآليات التي‬
‫تتعارض مع مذهبها ضمن املتشابه‪ ،‬بينام تجعل‬
‫رد محمد عبده‪ ،‬عىل الذين يدعون أن الديانة‬ ‫كل جامعة صغارها يحفظون األحاديث النبوية‬
‫اإلسالمية متسامحة‪ ،‬وتشكل عائقا للخروج‬ ‫دون التمييز بني الصحيح‪ ،‬والحسن‪ ،‬والقريب من‬
‫من وضعية الجمود والتخلف بسبب تداخل‬ ‫الحسن‪ ،‬والضعيف‪ ،‬واملوضوع‪.‬‬
‫السلطتني الدينية واملدنية‪ .‬إذ يعود محمد‬
‫عبده‪ ،‬إىل تذكري هؤالء بأصول الديانة اإلسالمية‪،‬‬ ‫وعن مواقف مختلف الفرق من هذه التصنيفات‬
‫واألوصاف‪ ،‬تجد كيف أن ما تراه فرقة معينة‬
‫ومبا تحتويه من تشجيع عىل استعامل العقل‪،‬‬
‫حديثا صحيحا قد تكذبه فرقة أخرى ألنه يتعارض‬
‫ومبا تدعوا إليه من تسامح‪.‬‬ ‫مع رأيها‪ .‬إذ نجد أحاديث كثرية يعتربها الشيعة‬
‫فاإلسالم حسب محمد عبده‪ ،‬دعوتان‪:‬‬ ‫صحيحة‪ ،‬لكنها عند السنة تعترب من املوضوعات‪.‬‬
‫• دعوة بوجود الله‪ ،‬وتوحيده ويعتمد فيها عىل‬ ‫ال ينظر إىل النص الديني اليوم إال من الجوانب‬
‫العقل‪،‬‬ ‫الفقهية‪ ،‬أي من جوانب العبادة وأحكام الرشع‪.‬‬
‫• دعوة إىل التصديق برسالة محمد‪ ،‬ويعتمد‬ ‫أما أبعاده األخرى فهي مطموسة‪ .‬حيث تم‬
‫فيها عىل القرآن الذي هو معجزة اإلسالم‬ ‫تحويل اإلسالم إىل مجموعة طقوس دينية‪ ،‬بدال‬
‫وخارق العادة فيه‪.‬‬ ‫أن يفتح أفقا للتفكري والتساؤل‪ ،‬أفقا للعالقة‬
‫بينه وبني املعرفة‪ ،‬وال يعني هذا السري عىل نهج‬
‫وتقتيض الحاجة اليوم التمييز بني اتجاهني أساسني‬ ‫بعض الذين يسيئون للنص القرآين بقولهم‪ :‬إن‬
‫يف مجال الدراسات حول تاريخ املجتمع اإلسالمي‬
‫كل يشء موجود يف النص القرآين‪.‬‬
‫‪:‬اتجاه مييز ما يف اآليات القرآنية واألحاديث النبوية‬
‫من احرتام لإلنسان ولحريته ولقيمته‪ ،‬وآخر يدرس‬ ‫من هنا ارتأينا أن نقف عند أحد املفكرين العرب‪،‬‬
‫السياق التاريخي مربزا املامرسات املخالفة للقرآن‬ ‫الذي ساهم بفكره األخالقي إىل جانب جيل من‬
‫والحديث النبوي‪.‬‬ ‫املفكرين األخريني أواخر القرن ‪ ،19‬يف تجديد‬
‫الثقافة العربية وبناء مرشوع نهضتها‪ ،‬إنه الشيخ‬
‫إال أنه من الجيل أن االتجاه األول‪ ،‬هو األكرث انتشا ًرا‬
‫محمد عبده‪.‬‬
‫ورواجاً من الثاين‪ ،‬لكونه يقدم لنا التاريخ اإلسالمي‬
‫‪23‬‬ ‫صفحة بيضاء مرشقة تبعث عىل الفخر واالعتزاز‪،‬‬ ‫ما يعنينا من محمد عبده‪ ،‬ليس ما قاله يف هذه‬
‫لكن دون أن يكشف عن تناقضات الواقع ومؤامراته‬ ‫املسألة أو تلك‪ ،‬بل منطلقاته النظرية والفكرية‬
‫ولحظات ضعفه‪ ...‬بل غالبا ما يوهم أصحاب هذا‬ ‫وباألصح مرجعياته النظرية عند حديثه عن عالقة‬
‫االتجاه القائم عىل الخطابة‪ :‬بسطاء الناس‪ ،‬بأنه هو‬ ‫اإلسالم باملدنية أو بالحداثة بشكل عام‪.‬‬
‫اإلسالمية‪ ،‬مثاال جوهريا ثابتا يف النصوص‪ ،‬بل إنه‬ ‫الواقع ذاته‪ ،‬لكن أن ميتلكوا الجرأة عىل املساءلة‬
‫مامرسة تاريخية سمتها األساسية الخربة اإلنسانية‪.‬‬ ‫والنقد‪.‬‬
‫فاتسم هذا التاريخ باالختالف والتقلب عرب الزمان‬
‫أما االتجاه الثاين‪ ،‬فإنه يعمل جاهدا إىل نزع الصورة‬
‫واملكان‪ ،‬حيث ازدهرت مدن وتراجعت أخرى يف‬
‫املثالية للتاريخ اإلسالمي‪ ،‬فيدرس ما حدث يف‬
‫حقب زمنية متعددة‪ .‬ووفقا لهذا التطور فإنه ال‬
‫التاريخ من وقائع‪ ،‬مربزا األسباب والعوامل التي‬
‫ميكن إصدار حكم ثابت ومطلق عىل كل تاريخ‬
‫جعلت الناس يختلفون يف تفسري النصوص‪ ،‬وما نتج‬
‫املجتمعات اإلسالمية‪.‬‬
‫عن ذلك من اقتتال أو تسامح‪.‬‬
‫لقد توصل دارسو ثقافة اإلنسان إىل أنه كلام‬
‫«رد الشيخ محمد عبده بخصوص حامية الدعوة‬
‫ازدهرت الظروف املعيشية وعم االستقرار السيايس‪،‬‬
‫ملنع الفتنة‪».‬‬
‫كان اإلنسان أكرث انفتاحا عىل اآلخر وأكرث إنتاجا‪،‬‬
‫بينام كلام ساد الفقر وعدم االستقرار السيايس‪ ،‬كان‬ ‫ويف رد محمد عبده‪ ،‬عىل الذين يرون يف الدين‬
‫اإلنسان أكرث تعقبا وانغالقا‪ ،‬وأقل إنتاجا‪.‬‬ ‫اإلسالمي ديناً جهادياً‪ ،‬يرشع للقتال‪ ،‬أو يتميز‬
‫بطبيعة روح الشدة عىل من يخالفه‪ ،‬بخالف الدين‬
‫وهكذا ال يكون اإلنسان املسلم الذي يعيش يف‬ ‫املسيحي الذي هو دين مساملة ومهادنة‪،‬ينفي‬
‫وسط فقري غري متعلم متسامحاً ومنفتحاً عىل اآلخر‪،‬‬ ‫محمد عبده تهمة أن تكون الشدة و الدعوة للقتل‬
‫ألنه يحمل معه يف فهمه للنص الديني‪ ،‬أثار خربته‬ ‫من طبيعة اإلسالم‪ ،‬مستندا بقيم اإلسالم يف العقود‬
‫وظروفه الحياتية‪.‬‬ ‫املسامحة‪ ،‬وإىل دعوته إىل العفو واألمر باملعروف‪:‬‬
‫«خذ العفو وأمر باملعروف وأعرض عن الجاهلني»‬
‫رد عن الشيخ محمد عبده يف مودة‬ ‫سورة األعراف اآلية ‪ ،199‬ثم برشحه لرشوط القتال‬
‫املخالفني يف العقيدة‬ ‫لرد اعتداء املعتدين عىل الحق وأهله‪ ....‬ويخلص‬
‫محمد عبده‪ ،‬إىل التأكيد عىل أن ذلك مل يكن إلكراه‬
‫يف تناوله لقضية مودة املخالفني يف العقيدة‪ ،‬يعطي‬ ‫الناس عىل الدين‪ ،‬وال لالنتقام من مخالفيه‪ .‬ولهذا‬
‫محمد عبده‪ ،‬أمثلة من مسألة الزواج كدليل عىل‬ ‫ففي نظر محمد عبده‪ ،‬فإن ما قد تسمعه عن‬
‫دعوة اإلسالم ملودة املخالفني يف العقيدة‪ ،‬حيث إن‬ ‫تاريخ الفتوحات اإلسالمية‪ ،‬هو نفسه ما تسمعه عن‬
‫اإلسالم أباح للمسلم أن يتزوج من الكتابية‪ ،‬نرصانية‪،‬‬ ‫الحروب املسيحية‪ ،‬عندما اقتدر أصحاب الرشيعة‬
‫كانت أم يهودية‪ ،‬مع البقاء عىل عقيدتها والقيام‬ ‫املساملة أي الديانة املسيحية‪ ،‬عىل محاربة غريهم‬
‫بفروض عبادتها‪ ،‬ويعود هذا الشكل من التسامح‬ ‫من قبل الشيوخ والنساء‪.‬‬
‫يف نظر محمد عبده القلوب عىل الشعور بأن الدين‬
‫معاملة بني العبد وربه‪ ،‬وعىل أن العقيدة طور من‬ ‫هكذا ت ُؤثر الظروف التاريخية يف فهم الدين كام أن‬
‫أطوار القلوب يجب أن يكون أمرها بني عالم الغيوب‪،‬‬ ‫الدين ذاته يؤثر فيها‪ .‬وبالتايل ال ميكن فهم التاريخ‬
‫فهو الذي يحاسب عليها أما املخلوق فال تطول يده‬ ‫باالقتصار عىل النصوص الدينية‪ ،‬كام أنه ال ميكن‬
‫إليها‪.‬‬ ‫فهم الدين باالقتصار عىل التاريخ وحده‪ .‬فدراسة‬ ‫‪24‬‬
‫الدين اإلسالمي‪ ،‬من خالل التاريخ فقط تشويه‪ ،‬كام‬
‫يف باب الجمع بني مصالح الدنيا واآلخرة‪ :‬أعطى‬ ‫أن دراسة التاريخ من خالل النص الديني تقود إىل‬
‫محمد عبده‪ ،‬أمثلة عديدة يبني فيها الجمع بني‬ ‫تبجيله وتقديسه وتبعا لذلك‪ ،‬فليس تاريخ الحضارة‬
‫ورمبا وجب التنبيه هنا إىل رضورة التمييز بني‬ ‫مصالح الدنيا واآلخرة‪ ،‬نورد من بينها ثالثا‪ .‬األول‬
‫الرشيعة‪ ،‬والفقه املوروث‪.‬‬ ‫يتعلق بقيمة الحياة يف اإلسالم‪،‬حيث أن أوامر‬
‫الحنفية السمحة إن كانت تختطف العبد إىل ربه‪،‬‬
‫فالرشيعة القرآنية التي أشار إليها املوىل سبحانه‬ ‫ومتلئ قلبه من رهبه‪ ،‬وتفعم أمله من رغبه‪ ،‬فهي‬
‫باسم الرشيعة اإللهية‪ ،‬تتحجىل يف قوله سبحانه ‪:‬‬ ‫مع ذلك ال تأخذه عن كسبه‪ ،‬وال تحرمه من التمتع‬
‫«ثم جعلناك عىل رشيعة من األمر فاتبعها» سورة‬ ‫به‪ ،‬وال توجب عليه تقشف الزهادة‪ ،‬وال تجشمه يف‬
‫الجاثية اآلية ‪ ،18‬إذ ال فقه للناس وال موقف منها‬ ‫ترك اللذات ما فوق العادة‪.‬‬
‫إال القبول واإلميان بها بحكم الخلق‪ .‬وال معنى‬
‫الدعاء أن الله تكفل ومل يوكل بها أحد من الناس‬ ‫أما املثال الثاين فيتعلق بالصوم‪ ،‬إذ يقول محمد عبده‬
‫وال الرسل أنفسهم «قل لست عليكم بوكيل» سورة‬ ‫بأن بالرغم من فرض الصوم عىل املؤمنني‪ ،‬لكن إذا‬
‫األنعام اآلية ‪« ،66‬و ما أنا عليكم بوكيل»‪ ،‬سورة‬ ‫خيش منه املرض أو زيادته أو زادت املشقة فيه جاز‬
‫يونس اآلية ‪« ، 108‬وما أرسلناك عليهم وكيال» سورة‬ ‫تركه‪ ،‬بل قد يجب تركه إذا غلب عىل الظن الرضر فيه‪.‬‬
‫اإلرساء اآلية ‪ .54‬إذ ال بد من اإلشارة إىل أن الذين‬
‫ال مييزون بني رشيعة الله وفقه الناس من علامء‬ ‫أما املثال الثالث فيتعلق بالنهي عن الغلو يف الدين‪:‬‬
‫ومحدثني‪ ،‬فإنهم يتجنون عليها حني يساوونها مع‬ ‫يقول محمد عبده‪ ،‬وخيش عىل املؤمن أن يغلو يف‬
‫أفعال الخلق‪ ،‬واجتهاداتهم‪.‬‬ ‫طلب اآلخرة فيهلك دنياه وينىس نفسه منها فذكرنا‬
‫مبا قصه علينا أن اآلخرة ميكن نيلها مع التمتع بنعم‬
‫إن العلم ليس من الصفات املؤثرة‪ ،‬بل هو صفة‬ ‫الله علينا يف الدنيا‪.‬‬
‫كشف‪ ،‬ولهذا وجب تعلقه بواجب وجائز‪،‬‬
‫و مستحيل ‪.‬‬ ‫ويورد محمد عبده‪ ،‬يف هذا الشأن آية قرآنية «وابتغ‬
‫فيام أتاك الله الدار اآلخرة وال تنس نصيبك من‬
‫فأما العقل املوروث فهو أصل اإلحباط‪ ،‬ألن كل من‬ ‫الدنيا وأحسن كام أحسن الله إليك وال تبغ الفساد‬
‫يتعامل مع الرتاث مبنطق القدامى ومفاهيمهم‪،‬‬ ‫يف األرض إن الله ال يحب املفسدين»‪ .‬سورة القصص‬
‫فإنه قد خرج عن زمانه إىل زمان آخر‪ .‬وكام يدعو‬ ‫اآلية ‪.77‬‬
‫عبد الله العروي إىل االنرصاف عن االشتغال بالرتاث‬
‫السلبي‪ ،‬وعن التمني الرتايث‪ .‬وجب إخضاعه للنظر‬ ‫إذا كان اإلسالم جد متسامح مع الديانات الساموية‬
‫العلمي املوضوعي وفق رؤية أكادميية رصفة‪ ،‬وإن‬ ‫األخرى‪ ،‬ويكفل ألهل الكتاب خضوعهم لقواعد‬
‫كان يذكرنا بأنه ال ينكر‪ « :‬التقليد بوصفه حدثا‪ ،‬فأنا‬ ‫أحوالهم الشخصية‪ ،‬فإنه حسب الفقهاء املسلمني ال‬
‫أدرسه كظاهرة‪ ،‬ولكني أنكره كقيمة»‪.‬‬ ‫يقبل أبدا خضوع طرف مسلم لقانون غري إسالمي‬
‫يف الروابط املختلفة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫قراءة يف م�سار ن�ضاالت ومطالب الن�ساء‬
‫«من مدونة الأحوال ال�شخ�صية �إلى مدونة الأ�رسة»‬
‫عبد الله لعبادي‬

‫الكوطا‪ ،‬أن دينامكية التغيري ما تزال يف بدايتها‪،‬‬ ‫شهد وضع املرأة يف املغرب‪ ،‬منذ االستقالل‬
‫بحيث مل تخلق لنفسها بعد معايري ثابتة‪ ،‬وبأن‬ ‫مظاهر تحول رسيعة تجلت يف اتساع رقعة‬
‫تحقيق املساواة بني الجنسني‪ ،‬أو حتى التقليل‬ ‫التمدن واستفادة النساء املتزايدة من الرتبية‬
‫من التمييز ضد النساء‪ ،‬يف املجال السيايس‪،‬‬ ‫والتعليم‪ ،‬ثم دخولهن سوق العمل بكثافة‪ .‬لكن‬
‫مسألة مركبة تتداخل يف تحديدها عوامل كثرية‬ ‫هذه التحوالت مل متس املستوى السيايس للنساء‪،‬‬
‫ال تتوقف عند إصدار قرارات حكومية‪ ،‬بقدر ما‬ ‫حيث ظلت نسبة متثيلهن يف جل الهيئات‬
‫تتوقف عىل تبني كل الفاعلني السياسيني من‬ ‫املنتخبة ضعيفة‪ ،‬وبذلك ظلت الهوة كبرية بني‬
‫الرجال والنساء ملنظور جديد للسياسة يتجاوز‬ ‫حضورهن املتزايد يف املجال العمومي‪ ،‬ونسبة‬
‫التمثالت السلبية‪.‬‬ ‫غيابهن عن مراكز القرار السيايس‪.‬‬
‫هنا يطرح دور األحزاب السياسية‪ ،‬يف النهوض‬ ‫فقد ظلت األحزاب السياسية هيئات رجالية‪،‬‬
‫بفكرة املساواة وإىل أي حد استطاعت الدفع‬ ‫وكان يجب انتظار مطلع األلفية الثالثة حتى‬
‫بهذا املطلب؟ وهل املرأة مجرد سجل تجاري‬ ‫تفتح أجهزتها العليا ألول مرة يف وجه النساء‪،‬‬
‫تتقدم به األحزاب يف إطار حمالتها وخطاباتها‪،‬‬ ‫حينام عقدت أغلب مؤمتراتها الوطنية‪ ،‬وعملت‬
‫حسب املرجعية اإليديولوجية لكل واحد منها ؟‬ ‫مببدأ الكوطا الذي منح النساء ما بني ‪%10‬‬
‫و‪ %20‬من املقاعد يف األجهزة املسرية لها وطنيا‬
‫وسنحاول هنا تناول رؤية الفاعل الحزيب‪،‬‬ ‫ومحليا‪.‬‬
‫مبختلف مشاربه حول موضوع مدونة األرسة‪،‬‬
‫لرنى أسباب النزول‪ ،‬ثم لنتتبع كيف انتقلنا من‬ ‫إضافة إىل هذه الوقائع‪ ،‬سيعيش املغرب حدثا‬
‫مدونة األحوال الشخصية‪ ،‬إىل مدونة األرسة‪،‬‬ ‫استثنائيا مع االنتخابات الترشيعية لسنة ‪.2002‬‬
‫مع ما رافق هذه النقلة من حموالت فكرية‬ ‫حيث تبنت الحكومة قرارا منح ‪ 10%‬من املقاعد‬
‫وسياسية؟ وإىل أي حد كانت األحزاب واملنظامت‬ ‫الربملانية للنساء متكنت مبوجبها ‪ 35‬امرأة من‬
‫التابعة لها يف مستوى الحدث؟‬ ‫دخول الربملان‪ .‬إال أن االنتخابات الجامعية لسنة‬
‫‪ ،2003‬عرفت يف املقابل تراجعا عن هذا القرار‪.‬‬ ‫‪26‬‬
‫ففي أقل من سنة ستعود النساء إىل التمثيلية‬
‫الباهتة التي كن عليها ما قبل والتي ال تتعدى‬
‫نسبة ‪ .0.5%‬ويفيد هذا الرتاجع الرسيع عن مبدأ‬
‫وكانت البداية‪...‬‬
‫رصيح عىل أنه‪« :‬كل ما مل يشمله هذا القانون‬ ‫شكل تغيري مضامني بعض األحكام املتعلقة‬
‫يرجع فيه إىل الراجح أو املشهور أو ما جرى به‬ ‫باألحوال الشخصية‪ ،‬مطلب بعض زعامء الحركة‬
‫العمل من مذهب اإلمام مالك»‪ .‬واعترب وضع‬ ‫الوطنية‪ ،‬قبل وضع املدونة سنة ‪ .1957‬لقد‬
‫املدونة مرشوعا التقى عنده طرفان رئيسيان‬ ‫خصص عالل الفايس‪ ،‬فصوال من كتابه «النقد‬
‫وهام‪ :‬إمارة املؤمنني‪ ،‬كسلطة دينية وفعاليات‬ ‫الذايت» للحديث عن األوضاع املزرية للمرأة‬
‫الحركة الوطنية‪ ،‬بتشكيالتها املختلفة‪ .‬و شارك‬ ‫املغربية‪ ،‬يف أربعينيات القرن املايض‪ ،‬ودعا‬
‫إىل جانب عالل الفايس‪ ،‬مجموعة من العلامء‬ ‫إىل رضورة تغيري أوضاع كل من املرأة والرجل‬
‫والفقهاء الدين أنهوا عملهم بعد خمسة أشهر‪،‬‬ ‫وبالتايل أوضاع األرسة من خالل املطالبة مبنع‬
‫من تكليفهم‪ ،‬ويف ‪ 6‬دجنرب من نفس السنة‪،‬‬ ‫تعدد الزوجات‪،‬و وضع الطالق بيد القضاء‪،‬‬
‫أصبحت املدونة جاهزة للتطبيق مبقتىض ظهري‬ ‫إضافة إىل قضايا أخرى مثل تعليم املرأة‪،‬‬
‫‪ ،343 1 57‬حيث تضمنت ‪ 297‬فصال‪ .‬وكانت‬ ‫والدفاع عن حقوقها املدنية‪ ،‬كحق األمومة‪،‬‬
‫أكرب مفاجأة هي أن املدونة مل تتضمن الكثري من‬ ‫والسكن‪ ،‬والصحة‪ ،‬واملعرفة‪ ،‬و الحمل‪ ،‬و الراحة‪،‬‬
‫املطالب واألفكار التي طالب بها رئيس اللجنة‪،‬‬ ‫واالستشفاء‪ ،‬واألمان يف سن الشيخوخة‪ .‬كام دعا‬
‫نفسه‪ ،‬مثل املطالبة مبنع تعدد الزوجات‪،‬‬ ‫إىل الحد من الكثري من مظاهر الفساد والتخلف‪.‬‬
‫والتخلص من النظرة القارصة للمرأة‪ ،‬وجعل‬ ‫يف ‪ 19‬غشت ‪ ،1957‬تكونت اللجنة امللكية األوىل‪،‬‬
‫الطالق بيد القضاء‪.‬‬ ‫التي كلفت بإعداد مدونة تنظم املجال األرسي‬
‫باملغرب‪ ،‬شهورا قليلة بعد االستقالل‪ ،‬باعتبارها‬
‫مل تعرف املدونة أي تغيري يؤثر عىل مضمونها‬
‫خطوة مهمة يف بناء الدولة املغربية الناشئة‪.‬‬
‫منذ وضعت‪ ،‬إىل غاية أول تعديل سنة ‪،1993‬‬
‫وقد تشكلت هذه اللجنة تحت إرشاف عالل‬
‫إذا ما استثنينا مبادرة وزير العدل التي تقدم‬
‫الفايس‪ ،‬الزعيم السابق لحزب االستقالل‪،‬حيث‬
‫بها سنة ‪ ،1965‬من أجل تعديل بعض البنود‬
‫أسندت هذه املهمة إىل رجل وطني يجمع بني‬
‫بعد فشل لجنة كونت من رجال القضاء‪ ،‬لنفس‬
‫مواصفات الزعيم السيايس‪ ،‬واملنظر االجتامعي‪،‬‬
‫الغاية لكنها مل تستطع القيام بذلك‪ .‬مل يطبق‬
‫وهو اختيار ال يخلو من داللة‪.‬‬
‫املرشوع الذي كونته وزارة العدل‪ ،‬يف نفس‬
‫السنة بسبب الظروف السياسية العصيبة التي‬ ‫فقد جاء هذا التعيني يف صريورة اجتامعية‪،‬‬
‫عاشها املغرب‪ ،‬وحالة االستثناء التي أعلنت‬ ‫وسياسية وإكراهات ملء الفراغ القانوين يف‬
‫يف نفس السنة وانتهت يف ‪ ،1970‬وهي نفس‬ ‫مجال األحوال الشخصية‪ ،‬ليكون بذلك واحدا‬
‫الفرتة التي جمع فيها امللك جميع االختصاصات‪،‬‬ ‫من القوانني التي حظيت باألولوية مبارشة‬
‫‪27‬‬ ‫بعد أزمات متتالية متظهرت يف اشتداد الرصاع‬ ‫بعد االستقالل‪ ،‬كخطوة يف اتجاه التخلص من‬
‫السيايس‪ .‬وقدمت خالل هذه املرحلة عدة‬ ‫قوانني املستعمر‪ .‬مل يكن هذا القانون شامال‬
‫مشاريع للتعديل‪ ،‬منها مرشوع ‪ ،1961‬ومرشوع‬ ‫لجميع املقتضيات املنظمة للعالقات الزوجية‬
‫‪ ،1979‬ثم مرشوع ‪ ،1981‬قدمت جميعها مببادرة‬ ‫بشكل دقيق‪ ،‬لذلك نص الفصل ‪ 82‬بشكل‬
‫نفس املطالب طالبت بها باقي أحزاب اليسار‪.‬‬ ‫من وزارة العدل‪ ،‬لكن مل يقبل أي منها بسبب‬
‫وباملوازاة مع ذلك‪ ،‬ظهرت عدة دراسات وأبحاث‬ ‫االنتقادات الشديدة التي كانت توجه لها كل‬
‫متعلقة باملدونة‪ ،‬محاولة توضيح مصادر الخلل‬ ‫مرة إىل أن جاء تغيري سنة ‪ ،1993‬لكن كيف تم‬
‫فيها‪ ،‬سواء يف عالقاتها مع الواقع‪ ،‬أو بالدستور‪ ،‬أو‬ ‫هذا التغيري‪ ،‬وما هو حجمه‪ ،‬ومن كان وراءه؟‬
‫باملواثيق والعهود الدولية‪ .‬واستند أصحاب هذا‬
‫التوجه عىل رضورة مالمئة أحكام األرسة‪ ،‬مع فلسفة‬ ‫كانت أحزاب اليسار‪ ،‬قد بدأت تطالب بتغيري‬
‫حقوق اإلنسان‪ ،‬وحقوق املرأة‪ ،‬كام هي واردة يف‬ ‫مدونة األحوال الشخصية‪ ،‬منذ بداية السبعينات‪.‬‬
‫االتفاقيات الدولية‪ ،‬خاصة تلك التي صادق عليها‬ ‫واستنكر القطاع النسايئ االتحادي الوضعية‬
‫املغرب‪ .‬ويف هذا اإلطار دعت جمعية نسائية إىل‬ ‫الدونية التي كانت توجد عليها املرأة املغربية‪،‬‬
‫القيام بحملة وطنية من أجل التحسيس واملطالبة‬ ‫يف تلك الفرتة‪ ،‬مطالبا مبنع تعدد الزوجات‪ ،‬وجعل‬
‫بتغيري مدونة األحوال الشخصية‪.‬‬ ‫الطالق بيد القضاء‪ ،‬ومنح املرأة كافة الحقوق‪،‬‬

‫أ‪ .‬حملة املليون توقيع والبحث عن السند الشعبي‬


‫صفحات جرائدها (أسبوعية الراية وهي حال‬ ‫راهن اتحاد العامل منذ تأسيسه عىل تغيري مدونة‬
‫لسان حركة اإلصالح والتجديد أعداد ‪20-19-18‬‬ ‫األحوال الشخصية‪ ،‬واعتربها أوىل األولويات يف‬
‫من سنة ‪ ،)1992‬مام اضطر اتحاد العمل النسايئ‪،‬‬ ‫امللف املطلبي النسايئ مبناسبة االحتفال باليوم‬
‫إىل حذف املطلب األخري‪ .‬هذا املوقف عرب عن‬ ‫العاملي للمرأة سنة ‪ ،1992‬وأعلن عن انطالق حملته‬
‫سوء تقدير نساء االتحاد‪ ،‬لحجم الصعوبات التي‬ ‫التحسيسية بهدف جمع مليون توقيع‪ ،‬وأطلق نداء‬
‫يطرحها املساس بقضايا تتمتع بقدسية دينية الزال‬ ‫وجهه لكافة أفراد الشعب‪ ،‬من أجل تزكية موقفه‬
‫مجتمعنا التقليدي املحافظ غري مؤهل ملناقشتها‪.‬‬ ‫من تغيري مدونة األحوال الشخصية‪ ،‬ومساندة‬
‫حملته‪ .‬وسجل التعارض الواضح بني محتواها‬
‫إضافة إىل هذا املوقف كرر اتحاد العمل النسايئ‪،‬‬ ‫القائم عىل النظرة الدونية للمرأة‪ ،‬والدستور الذي‬
‫نفس الخطأ الذي وقع فيه لحظة التأسيس‪ ،‬حني‬ ‫يقر مببدأ املساواة‪ ،‬بني الرجل واملرأة‪ ،‬كام انتقد‬
‫انفرد بقرار وضع العريضة دون أن ينسق مع‬ ‫بشدة ما يسببه هذا التناقض من أزمات ومشاكل‬
‫باقي األطراف املعنية باملوضوع‪ ،‬وهكذا مل تتمكن‬ ‫اجتامعية‪ ،‬مؤكدا أن بناء عالقات دميقراطية داخل‬
‫املبادرة من جمع مليون توقيع لتفعيل الشعار‬ ‫األرسة واملجتمع هو السند الحقيقي لبناء دميقراطية‬
‫املركزي الذي رفعه اتحاد العمل النسايئ املتعلق‬ ‫حقيقية‪ ،‬وهو أمر ال يتحقق إال بتغيري كافة البنود‬
‫بالجامهريية‪ ،‬والعمل املشرتك بني كل األطراف‬ ‫املجحفة يف حق املرأة‪.‬‬
‫املعنية من قطاعات وجمعيات نسائية‪ .‬وحكم‬
‫مرة أخرى عىل هذه الحملة التحسيسية بالتعرث‪.‬‬ ‫رأت التيارات اإلسالمية يف مطالب اتحاد العمل‬ ‫‪28‬‬
‫النسايئ‪ ،‬مخالفة واضحة ملبادئ الرشيعة‬
‫لقد اتخذ االتحاد مجموعة من التدابري من أجل‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬ومساسا بتواثبها‪ .‬وكتعبري عن‬
‫إنجاح حملة املليون توقيع أهمها‪:‬‬ ‫احتجاجها ورفضها شنت حملة مضادة عىل‬
‫تم اإلعالن عن هذه العريضة خالل ندوة صحفية عقدها املكتب التنفيذي للجمعية‪ ،‬بحضور‬
‫الصحافة الوطنية والدولية‪ ،‬كام قدم مضمونها واملبادئ املطلوب احرتامها يف أي إصالح مرتقب‬
‫أهمها ‪:‬‬
‫• اعتبار األرسة مؤسسة مبنية عىل أساس التكافل بني الزوجني عىل قدم املساواة‪،‬‬
‫• اعتبار املرأة كالرجل تكتمل أهليتها مبجرد بلوغها سن الرشد‪،‬‬
‫• إعطاؤها الحق يف الزواج دون الحاجة إىل ويل منذ بلوغها سن الرشد‪،‬‬
‫• التنصيص عىل نفس الحقوق والواجبات بالنسبة لكال الزوجني‪،‬‬
‫• وضع الطالق بيد القضاء والتنصيص عىل حق الرجل واملرأة يف تقديم طلب الطالق إىل‬
‫القضاء‪،‬‬
‫• منع تعدد الزوجات‪،‬‬
‫• إعطاء املرأة حق الوالية عىل أبناءها مثل الرجل‪،‬‬
‫• اعتبار العمل والتعليم حقان ثابتان للمرأة ال يحق للزوج سلبهام منها‪،‬‬
‫إضافة إىل هذه املطالب تضمنت العريضة بندا متعلقا بإقرار املساواة بني الجنسني يف اإلرث‬
‫(نص العريضة يف جريدة ‪ 8‬مارس عدد ‪ 58‬يونيو ‪.)1992‬‬

‫الحقوقية‪ ،‬لكن حضور عدد من بعض الباحثني‬ ‫على امل�ستوى الإعالمي‬


‫والباحثات الذين لهم اهتامم باملوضوع‪ ،‬أعطى‬
‫شكل لجانا للدعم يف مختلف املدن املغربية‬
‫دعام لهذه املبادرة‪ ،‬حيث انتهت أعامل املناظرة‬
‫إلنجاح الحملة من خالل تنظيم سلسة من‬
‫بتأسيس «مجلس التنسيق الوطني من أجل تغيري‬
‫الندوات والتجمعات واللقاءات يف مختلف‬
‫مدونة األحوال الشخصية والدفاع عن حقوق‬
‫املناطق بهدف التعريف مبضامني العريضة‬
‫املرأة»‪ ،‬ضم مختلف التنظيامت النسائية والهيئات‬
‫ودعوة الفاعلني للتوقيع عليها‪ .‬فكانت املناظرة‬
‫النقابية‪ ،‬والحقوقية‪ .‬واعتربت األطراف املكونة أن‬
‫الوطنية بالرباط ‪ 19-18‬أبريل ‪ ،1992‬أهم هذه‬
‫تأسيس املجلس يعد حدثا تاريخيا بارزا‪ ،‬إذ ألول‬
‫األنشطة‪ ،‬حرضتها مجموعة من الجمعيات‬
‫مرة تتمكن الهيئات النسائية‪ ،‬من التجمع يف إطار‬
‫النسائية‪ ،‬منها من كانت بصدد تأسيس إطاراتها‬
‫مهيكل من أجل الدفاع عن املسألة النسائية‪،‬‬
‫ومنها من كانت يف بداية طريقها‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫وأكدت مختلف أطراف املجلس‪ ،‬عن التناقض‬
‫الصارخ املوجود بني بنود املدونة‪ ،‬وروح الرشيعة‬ ‫أما عن األحزاب السياسية‪ ،‬فقد حرضت عن ممثلة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وبني التطور الحاصل يف وضعية املرأة‬ ‫االتحاد االشرتايك‪ ،‬ومل تحرض أية ممثلة عن حزب‬
‫عىل صعيد التعليم والشغل‪.‬‬ ‫االستقالل‪ ،‬كام حرضت ممثالت عن الجمعيات‬
‫وصولها سن الرشد‪ ،‬ووضع الطالق بيد القضاء‪،‬‬ ‫على م�ستوى الهيئات ال�سيا�سية‬
‫تبدو وكأنها تسحب من الرجل بعض الصالحيات‬
‫التي تعود عىل االنفراد بها كحق ال ميكن انتزاعه‬ ‫وجه اتحاد العمل النسايئ‪ ،‬رسالة نداء إىل لجنة‬
‫منه‪( ،‬كحق التطليق‪ ،‬وتعدد الزوجات‪ ،‬كانت‬ ‫التنسيق بني األحزاب الوطنية مبناسبة تنظيمها‬
‫تعطيه سندا قانونيا لتدعيم سلطته واعتبارها‬ ‫لليوم الدرايس حول اإلصالحات السياسية‪ ،‬وذلك‬
‫حقا ال منازع فيه)‪ .‬لقد نجحت الحملة يف فتح‬ ‫بهدف التأكيد عىل رضورة إدراج حقوق املرأة‪،‬‬
‫نقاش مع رجال ونساء املجتمع‪ ،‬من مختلف‬ ‫ضمن الربنامج اإلصالحي لألحزاب‪ ،‬وعىل رأسها‬
‫الرشائح االجتامعية أدى إىل خلق دينامية‬ ‫إصالح مدونة األحوال الشخصية‪ ،‬كام وجه رسالة‬
‫اجتامعية تجلت عرب مظهرين متناقضني‪:‬‬ ‫مفتوحة إىل رئيس مجلس النواب‪ ،‬ومختلف‬
‫الفرق الربملانية‪ ،‬يدعوهم فيها إىل املصادقة‬
‫املظهر الأول ‪:‬‬ ‫عىل املطالب املذكورة يف أقرب الفرص من أجل‬
‫النهوض بأوضاع النساء‪.‬‬
‫تجىل يف املواقف التي اتخذتها األطراف املؤيدة‪،‬‬
‫كجمع التوقيعات واألنشطة الدعائية والحوار‬ ‫على امل�ستوى امليداين‬
‫املفتوح مع مختلف مكونات املجتمع‪ ،‬خاصة أن‬
‫كل توقيع كان البد أن يكون مسبوقا بنقاش حول‬ ‫كانت حملة «املليون توقيع» بالشكل الذي دعا‬
‫مضمون املدونة والعريضة‪ .‬إال أن كل نقاش مل‬ ‫إليها اتحاد العمل النسايئ فرصة لفتح الحوار‬
‫يكن يؤدي بالرضورة إىل التوقيع عىل العريضة‬ ‫وخلق التواصل بني مختلف فئات املجتمع‬
‫مام يعني أن عدد املساهمني يف النقاش فاق‬ ‫أفرادا وجامعات حول مضمون املدونة‪ ،‬ومكامن‬
‫عدد املوقعني عىل العريضة‪.‬‬ ‫النقص فيها والبنود التي أصبحت متجاوزة بحكم‬
‫الواقع‪ .‬وتم رشح مضمون العريضة لكسب دعم‬
‫املظهر الثاين ‪:‬‬ ‫املواطنني والحصول عىل مليون توقيع كسند‬
‫شعبي لتغيريها‪ .‬وتعددت أشكال التواصل حيث‬
‫تجىل يف الحملة املضادة التي قام بها التيار‬
‫استغلت جميع الفضاءات من شارع ‪ /‬مدرسة‬
‫اإلسالمي املعارض‪ ،‬للعريضة بكافة مضامينها‬
‫‪ /‬جامعات‪ ،‬مع الرتكيز عىل املثقفني واملتعلمني‪.‬‬
‫سواء عىل املستوى امليداين من خالل خلق رأي‬
‫كانت الحملة مناسبة أيضا لفتح حوار اجتامعي‪،‬‬
‫عام مضاد‪ ،‬أو عىل املستوى اإلعالمي من خالل‬
‫حول قضايا ذات طبيعة دينية‪ ،‬واجتامعية‬
‫ما كان ينرش من فتاوى وخطب تكفر عضوات‬
‫وثقافية‪ ،‬خاصة أن البنود التي طالب االتحاد‬
‫الجمعية وتتهمها بالزندقة‪.‬‬
‫بتغيريها واملقرتحات التي أىت بها بنفس األسس‬
‫واملالحظ أن االتحاد اتخذ مبادرة وضع العريضة‬ ‫الجوهرية التي تقوم عليها العالقات بني األزواج‬
‫ورشع يف خوض الحملة التحسيسية الدعائية‬ ‫يف مجتمع تقليدي محافظ‪ ،‬الزالت نسبة األمية‬ ‫‪30‬‬
‫لجمع املليون توقيع مبفرده‪ ،‬ليتم الحقا توجيه‬ ‫فيه مرتفعة‪ .‬فقد كانت مطالب استبدال مبدأ‬
‫النداءات إىل مختلف األطراف لالنخراط معه‬ ‫الطاعة بالتكافل واملساواة‪ ،‬ومنح املرأة حق‬
‫قصد إنجاح الحملة‪ .‬فقد وجهت انتقادات حادة‬ ‫األهلية االجتامعية‪ ،‬اعتبارها كائنا مسئوال مبجرد‬
‫األطراف املعنية‪ ،‬بينام قام عمليا بتجاهل القوى‬ ‫التحاد العمل النسايئ‪ ،‬من طرف القطاعات‬
‫السياسية التي كان لها سبق تاريخي يف معالجة‬ ‫النسائية األخرى املنتمية لألحزاب‪ ،‬والتي كان‬
‫هذا املوضوع‪ .‬وركز املنتقدون عىل حساسية‬ ‫اتحاد العمل النسايئ‪ ،‬يراهن عىل مساندتها‬
‫املطالبة بتغيري قانون ميس كافة أفراد املجتمع‬ ‫كاالتحاد االشرتايك للقوات الشعبية‪ ،‬والتقدم‬
‫املغريب‪ ،‬وال يعني جمعية نسائية واحدة‪ .‬بل هو‬ ‫واالشرتاكية‪ ،‬وحزب االستقالل‪ .‬فقد عربت‬
‫مسألة ينبغي أن تحظى مبوافقة جميع الهيئات‬ ‫هذه الفعاليات جميعها أن االنفراد باملبادرة‬
‫السياسية والجمعوية‪ ،‬وهذا ما مل يحرتمه‬ ‫موقف يتعارض كليا مع الشعار الذي رفعه‬
‫االتحاد‪ ،‬األمر الذي أدى إىل تأرجح ردود األفعال‬ ‫االتحاد الداعي إىل بناء حركة نسائية جامهريية‬
‫حول العريضة بني معارضني ومساندين‪.‬‬ ‫دميقراطية ومستقلة‪ ،‬تساهم يف بناءها كل‬

‫ب‪ :‬معارضة التيار اإلسالم وتكفري املؤيدين‬


‫حد التناقض لكنه تناقض ال ميس جوهر هذه‬ ‫حني نتكلم عن الدين اإلسالمي‪ ،‬هنا ليس‬
‫املامرسات من خصوصياته‪ ،‬القدرة عىل التكيف‬ ‫املقصود هو العقيدة أو اإلميان أو العالقة‬
‫مع القيم والنظم االجتامعية الجديدة لهذا‬ ‫الوجدانية لإلنسان مع ما يعتربه مقدسا ومطلقا‪،‬‬
‫يتسم باملرونة والتسامح‪.‬‬ ‫وإمنا الدين كثقافة امتزجت فيها مبادئ الرشيعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬واملواقف الفقهية‪ ،‬باملعتقدات‬
‫‪ .2‬الدين الرسمي ‪:‬‬ ‫الشعبية‪ ،‬والعادات والتقاليد‪ ،‬فالدين هو‬
‫يف معظم البلدان اإلسالمية‪ ،‬يعلن بشكل‬ ‫«التجيل العميل النسبي لهاته العالقة يف صور‬
‫رسمي أن اإلسالم هو دين الدولة‪ ،‬لذلك توجد‬ ‫مختلفة من الوعي واملامرسة االجتامعية»‪.‬‬
‫مؤسسات دينية لرعايته‪ ،‬تختلف تسمياتها من‬
‫ميكن التمييز بني ثالثة أمناط من املامرسات‬
‫دولة ألخرى‪ .‬ويف املغرب نجد وزارة األوقاف‬
‫والشؤون اإلسالمية‪ ،‬رابطة علامء املغرب‪ ،‬دار‬ ‫الدينية وهي‪ :‬الدين الشعبي‪ ،‬والدين الرسمي‪،‬‬
‫الحديث الحسنية‪ ،‬بينام يف مرص‪ ،‬مثال نجد دار‬ ‫والدين السيايس‪.‬‬
‫اإلفتاء‪ ،‬واألزهر وغري ذلك من ملؤسسات‪.‬‬
‫‪.1‬الدين الشعبي ‪:‬‬
‫وفضال عن املضامني الدينية املسطرة يف الربامج‬ ‫هو خالصة تراث تاريخي حضاري تختلف‬
‫التعليمية‪ ،‬ويف وسائل اإلعالم‪ ،‬السمعي والبرصي‪،‬‬
‫مظاهره من مرحلة تاريخية ألخرى‪ ،‬و يتجىل يف‬
‫هناك طرق االحتفال باألعياد الدينية‪ ،‬وبعض‬
‫السلوكات الدينية اليومية املتمثلة يف الطقوس‪،‬‬
‫الطقوس والشعائر كإحياء املواسم الشعبية‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫والقيم‪ ،‬واملفاهيم‪ ،‬املتداخلة التي تتجىل يف‬
‫حيث تعمل كل هذه املؤسسات تحت توجيه‬
‫األخالق‪ ،‬والعادات‪ ،‬والتقاليد‪ ،‬وطرق االحتفال‪،‬‬
‫الدولة عىل رعايتها‪.‬‬
‫باملناسبات الدينية‪ .‬تختلف هذه املامرسات‬
‫من فئة اجتامعية إىل أخرى ميكن أن تصل‬
32
‫مراجعة كل القوانني وموافقتها مع الرشيعة‬ ‫‪ .3‬الدين السيايس ‪:‬‬
‫اإلسالمية لتصلح أحوال األمة‪ .‬وإلنجاح حملتها‬ ‫نجده خارج املؤسسات الدينية الرسمية‪ ،‬ممثال‬
‫املضادة دعت الحركة كافة الجمعيات والهيئات‬ ‫يف الحركات األصولية‪ ،‬والجامعات الدينية غري‬
‫اإلسالمية‪ ،‬إىل القيام بواجبها يف الدفاع عن‬ ‫الرسمية‪ ،‬وأحيانا يف األحزاب السياسية اإلسالمية‪.‬‬
‫الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬وخصوصا ما تبقى منها يف‬ ‫وتكون هذه القوى معارضة للدين الرسمي‪،‬‬
‫مدونة األحوال الشخصية‪ ،‬مل تقف املعارضة‬ ‫والنظام السيايس‪ ،‬وباقي القوى السياسية‬
‫عند هذا الحد بل ذهبت حد التفكري والتهديد‪.‬‬
‫األخرى‪ ،‬مربرة وجودها يف أغلب األحوال‪،‬‬
‫يف هذا اإلطار‪ ،‬أصدر محمد الحبيب التجكاين‪،‬‬
‫يف رغبتها يف أن تكون بديال للنظام الرسمي‬
‫فتوى يف حق من يطالب بإلغاء أحكام الرشيعة‬
‫الذي يكون يف نظرها طاغيا أو فاسدا أو تابعا‬
‫القطعية يف كونها ردة عن اإلسالم‪( ،‬و الردة‬
‫للغرب‪ .‬و تفرس هذه التيارات الدينية معظم‬
‫هي جرمية تعاقب باإلعدام بعد االستتابة ثالثة‬
‫األزمات االجتامعية بإرجاعها لعدم تطبيق الدين‬
‫أيام)‪ .‬بينام كانت املطالبة مبنع التعدد وتحقيق‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وللتبعية‪ ،‬للنموذج الغريب‪ .‬أما عىل‬
‫املساواة بني الرجل واملرأة يف اإلرث‪ ،‬قد وضعت‬
‫الناشطات يف موقع املرتدات عن اإلسالم‪.‬‬ ‫مستوى الحلول املقرتحة التي تقرتحها‪ ،‬فتنطلق‬
‫من منطلق واحد هو رضورة الرجوع إىل األصول‬
‫مل يتأخر رد فعل العلامء‪ ،‬فقد اعتربوا أن هذه‬ ‫بنوع من املرونة عند البعض‪ ،‬وبنوع من التشدد‬
‫الحملة أشد خطرا عىل الشعب املغريب من الظهري‬ ‫الذي قد يصل حد التعصب عند البعض اآلخر‪.‬‬
‫الرببري‪ ،‬ذلك أن هذا الظهري كان يهدف إلخراج‬
‫نصف سكان املغرب من حكم الرشيعة اإلسالمية‪.‬‬ ‫وواجهت حملة املليون توقيع‪ ،‬معارضة شديدة‬
‫أما دعاة حملة تغيري املدونة فإن هدفهم هو‬ ‫باسم الدين اإلسالمي السيايس‪ ،‬شارك فيها‬
‫إخراج الشعب كله من حكم الرشيعة‪ .‬يف نفس‬ ‫طرفان أساسيان وهام‪ :‬حركة التجديد واإلصالح‪،‬‬
‫الوقت رفع فريق من العلامء مذكرة إىل الوزير‬ ‫كجامعة دينية معارضة وفريق من العلامء‬
‫األول ورئيس مجلس النواب أكدوا فيها أن من‬ ‫والفقهاء‪ ،‬كممثلني ملؤسسات دينية رسمية‪ .‬بينام‬
‫يرفض حكام رشعيا ثابتا بنص القرآن أو السنة‬ ‫وظف الطرفان الوسائل التحريضية واإلعالمية‬
‫هو مرتد تطبق عليه أحكام الردة‪ ،‬كام اعتربوا‬ ‫لتعبئة الشعب املغريب‪ ،‬من أجل رفض العريضة‬
‫أن الحملة ستحدث الفتنة داخل املجتمع‪،‬‬ ‫وعدم التوقيع عليها‪ ،‬وبذلك يكون الطرف‬
‫لهذا طالبوا بإيقاف نشاطها وإجراء تحقيق مع‬ ‫الثالث املمثل للدين الشعبي‪ ،‬قد أقحم بدوره‬
‫املسؤوالت عنها واتخاذ اإلجراءات القانونية‬ ‫يف الحملة املضادة‪.‬‬
‫الالزمة إلرجاع األمور إىل نصابها‪.‬‬
‫وجه املكتب التنفيذي لحركة التجديد واإلصالح‬
‫‪33‬‬ ‫يف هذه املرحلة كانت حركة التجديد واإلصالح‪،‬‬ ‫بيانا دعا فيه املسلمني إىل استنكار العريضة‬
‫هيئة غري معرتف بها قانونيا‪ ،‬تبحث عن موقع‬ ‫وعدم التوقيع عليها‪ ،‬وطالب من السادة‬
‫يف الخريطة السياسية‪ ،‬وبحكم توجهها اإلسالمي‪،‬‬ ‫العلامء‪ ،‬أن يبينوا حكم الرشع يف مضمونها‪.‬‬
‫استغلت الحدث وجعلت منه فرصة للتعريف‬ ‫واعترب أن مراجعة املدونة يجب أن تتم يف إطار‬
‫لكن يف بعض الحاالت يحدث توافق ومهادنة‬ ‫بنفسها وإثارة الرأي العام حولها‪ ،‬وإشعار‬
‫بينهام‪ ،‬كام حدث أثناء معارضة مرشوع تغيري‬ ‫الدولة بثقلها السيايس‪ ،‬الذي ميكن أن تلعبه يف‬
‫املدونة‪ ،‬حيث أن معارضة العلامء والفقهاء‪ ،‬هي‬ ‫املستقبل‪ ،‬مستغلة استعداد الفئات املحافظة‬
‫تعبري ضمني عن موقف الدين الرسمي‪ ،‬الذي‬ ‫والتقليدية التي يسهل إقناعها باسم الدين‬
‫جاء متوافقا ردة فعل دعاة اإلسالم السيايس‪.‬‬ ‫وتوظيفها يف حملتها ضد جمعية نسائية‪ ،‬كام‬
‫وهو نفس املوقف الذي سوف يعرفه مرشوع‬ ‫نجحت الحركة يف تضليل الرأي العام‪ ،‬وتحويل‬
‫خطة إدماج املرأة يف التنمية‪ ،‬حيث حولت هذه‬ ‫قضية اجتامعية من حجم تغيري املدونة‪ ،‬والدفاع‬
‫عن املرأة‪ ،‬وحقوقها‪ ،‬إىل موضوع للسخرية‪.‬‬
‫الردود حملة املليون توقيع إىل حدث ذي أبعاد‬
‫اجتامعية وسياسية ودينية‪ ،‬أفقدها تدريجيا‬ ‫غالبا ما يكون الدين السيايس‪ ،‬معارضا للدين‬
‫طابعها املطلبي النسايئ‪.‬‬ ‫الرسمي‪ ،‬نظرا الختالف املنطلقات واألهداف‪،‬‬

‫ت‪ :‬ردود أفعال األطراف املساندة للتغيري‬


‫مدونة األحوال الشخصية‪ ،‬كقانون وضعي ال‬ ‫يف مقابل التيار اإلسالمي املعارض‪ ،‬أعلنت أطراف‬
‫يشكل جرمية بل وسيلة حضارية لبناء دولة‬ ‫أخرى عن مساندتها املبدئية لتغيري املدونة‪ ،‬رغم‬
‫الحق والقانون‪.‬‬ ‫تحفظها عن فكرة جمع مليون توقيع‪ ،‬و عن‬
‫الفرتة الزمنية التي متت فيها الحملة‪.‬‬
‫أما أحزاب الكتلة (خاصة االتحاد االشرتايك‪،‬‬
‫والتقدم واالشرتاكية) كأحزاب تدعو يف أدبياتها‬ ‫فقد اعتربت املنظامت الحقوقية هذه الهجامت‪،‬‬
‫إىل رضورة تغيري وضع املرأة‪ ،‬وتحقيق املساواة‬ ‫مسا بحرية التعبري التي هي حق من حقوق‬
‫بني الجنسني‪ ،‬فالتزمت الصمت والحياد منذ‬ ‫اإلنسان اإلسالمية‪ ،‬كام أن املطالبة‪ ،‬بتغيري بنود‬
‫انطالق الحملة متجاهلة مواقف قطاعاتها‬ ‫املدونة هي من اجتهاد فقهاء يف مرحلة تاريخية‬
‫النسائية‪ ،‬التي سبق وطالبت بتغيري املدونة‪،‬‬ ‫معينة‪ ،‬بعيدة عن أن تكون مرضة ال باإلسالم وال‬
‫وركزت عىل نفس البنود املتعلقة بالزواج‪،‬‬ ‫باملسلمني‪ .‬و اعتربت الجمعية املغربية لحقوق‬
‫والوالية‪ ،‬والطالق‪ ،‬وتعدد الزوجات‪ .‬كام‬ ‫اإلنسان‪ ،‬أن حرية التعبري‪ ،‬حق يضمنه الدستور‪،‬‬
‫تجاهلت انخراط نسائها يف مجلس التنسيق‪ .‬و‬ ‫وأن فتوى التجكاين‪ ،‬املنشورة تعد تطاوال عىل‬
‫مل تكن هذه أول مرة يتخذ فيها هذان الحزبان‬ ‫القانون وعىل اختصاص القضاء‪ ،‬والربملان‪،‬‬
‫املوقف مثل هذا‪ .‬إذ مل ت ُِبد أطر حزب االتحاد‬ ‫وتحريضا عىل القتل ومخالفة ملا ورد يف الدستور‬
‫االشرتايك‪ ،‬أو مثقفو التقدم واالشرتاكية حامسا‬ ‫املغريب‪ ،‬من حرية الرأي‪ ،‬ولجميع املواثيق‬
‫كبريا يف الرد عىل االنتقادات ذات الطابع الديني‪،‬‬ ‫الدولية‪ ،‬التي صادق عليها املغرب‪ ،‬والداعية إىل‬ ‫‪34‬‬
‫«فالتزم الحزبان الصمت كعادتهام‪ ،‬كلام تعلق‬ ‫املساواة بني الجنسني‪ ،‬لهذا طالبت باالحتكام‬
‫األمر مبناقشة أمور لها عالقة بالرشيعة والدين‪،‬‬ ‫الدميقراطي‪ .‬كام أصدر املكتب الوطني للمنظمة‬
‫(امللكية‪ ،‬واإلسالم السيايس باملغرب‪ ،‬الطوزي‬ ‫املغربية لحقوق اإلنسان‪ ،‬بيانا أكد فيه أن تعديل‬
‫الفعاليــات املنتميــة إىل اليســار‪ ،‬كأطــراف ال‬ ‫محمد ترجمه محمد حامتي‪/‬وخالد الشكراوي‪.‬‬
‫تســر عــى نفــس الخــط الســيايس ألحــزاب‬ ‫نرش الفنك الدار البيضاء ‪.)1999‬‬
‫الكتلــة الوطنيــة‪ .‬أمــا هــذه األخــرة فقــد‬
‫سيؤثر موقف هذين الحزبني‪ ،‬بشكل واضح عىل‬
‫طلبــت مــن نســائها االنســحاب مــن التنســيق‬ ‫قطاعاتهام النسائية مام سيدفعها إىل االنسحاب‬
‫وضغطــت عــى منظمــة العمــل الدميقراطــي‬ ‫من مجلس التنسيق‪ ،‬بينام ستستمر لجنة‬
‫الشــعبي لتطلــب مــن اتحــاد العمــل الرتاجــع‬ ‫التنسيق‪ ،‬عىل مستوى األحزاب‪ ،‬األربعة يف إطار‬
‫عــن العريضــة‪ ،‬مــا يعكــس الخلفيــة التقليديــة‬ ‫الكتلة الدميقراطية‪ .‬لكن إىل أي حد ميكن اعتبار‬
‫املحافظــة ألحــزاب الكتلــة مبــا فيهــا أحــزاب‬ ‫املوقف املحايد لألحزاب السياسية‪ ،‬سببا حاسام‬
‫اليســار التــي تتبنــى الفكــر االشـرايك‪ ،‬وعجزهــا‬ ‫يف حدوث هذا االنسحاب؟ ثم ما هو موقف‬
‫عــن اتخــاذ مواقــف واضحــة مــن العالقــة بــن‬ ‫القطاعات النسائية من هذه املبادرة؟‬
‫الســلطة الدينيــة والســلطة السياســية‪.‬‬
‫كان العمل يف مجال التنسيق أول تجربة خاضتها‬
‫إذا كانت املطالبة بتغيري قانون االنتخابات قد‬ ‫الحركة النسائية املغربية‪ .‬حيث عرفت تعرثات‬
‫وحد مواقف أحزاب الكتلة‪ ،‬فإن املطالبة بتغيري‬ ‫كثرية وأبانت أن تجربتها يف مجال التنسيق‬
‫مدونة األحوال الشخصية‪ ،‬قد قسمها وجعل‬ ‫وقدرتها عىل تدبري الخالفات محدودة‪ .‬غري إن‬
‫مواقفها متأرجحة بني الرفض والحياد‪ .‬مام يبني‬ ‫دخول بعض القطاعات والجمعيات النسائية‪،‬‬
‫أن املسألة النسائية ما تزال بعيدة عن أن تحتل‬ ‫ملجلس التنسيق مل ينسها ما اعتربته خطأ فادحا‬
‫املوقع الذي تستحقه يف برامج األحزاب‪ ،‬بحجة‬ ‫يف حق الحركة النسائية‪ ،‬واملقصود بذلك انفراد‬
‫أولوية السيايس عىل النسايئ‪.‬‬ ‫اتحاد العمل النسايئ‪ ،‬باتخاذ قرار الحملة لوحده‬
‫وفرضه منطق الزعامة‪.‬‬
‫أمام انسحاب القطاعات النسائية‪ ،‬من التنسيق‬
‫إىل جانب هذه العوامل‪ ،‬كانت هناك صعوبات‬
‫وتخليها عن دعم الخطة وموقف الصمت الذي‬
‫يثريها النقاش يف قضايا مرتبطة بالدين واملوروث‬
‫اتخذته أحزاب الكتلة واملعارضة‪ ،‬والهجوم‬ ‫الثقايف‪ ،‬والتي مل يكن أي طرف مهيأ‪.‬‬
‫الشديد من طرف التيار اإلسالمي‪ ،‬وجد اتحاد‬
‫العمل النسايئ‪ ،‬نفسه وحيدا يف مرشوع مجتمعي‬ ‫فكيف سيكون رد اتحاد العمل النسايئ عىل‬
‫أكرب من حجمه بكثري‪ ،‬مام يتطلب تضافر جهود‬ ‫انسحاب نساء األحزاب الوطنية‪ ،‬وكيف سيواجه‬
‫جميع املكونات السياسية والفكرية والدينية‪،‬‬ ‫معارضة التيار اإلسالمي؟‬
‫مام اضطره إىل تليني مواقفه والرتكيز عىل مبدأ‬ ‫تجاهل االتحاد‪ ،‬انســحاب نســاء أحـزاب الكتلة‪،‬‬
‫‪35‬‬
‫املساواة املنصوص عليها يف الدستور‪ ،‬وعىل‬ ‫ويف املقابــل شــجع أطرافــا أخــرى عــى الدخــول‬
‫مبادئ الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬كموقف للحركة‬ ‫يف التنســيق مثــل لجنــة املــرأة العاملــة‪ ،‬التابعــة‬
‫النسائية‪ ،‬من عدم رفضها لإلسالم‪ ،‬غري املتعارض‬ ‫لالتحــاد املغــريب للشــغل‪ ،‬وممثــات عــن حــزب‬
‫مع مبدأ املساواة يف اإلسالم‪.‬‬ ‫الطليعــة الدميقراطــي االشــرايك‪ ،‬وعــددا مــن‬
‫ث‪ :‬إمارة املؤمنني وفك النزاع‬
‫التحكيم من طرف املؤسسة امللكية‪ .‬مل تتفق‬ ‫مبا أن املؤسسة امللكية‪ ،‬كانت طرفا حاسام يف‬
‫مختلف مكونات مجلس التنسيق عىل كيفية‬ ‫وضع مرشوع املدونة‪ ،‬فال ميكن أن يتم تغيريها‬
‫التعامل مع مضمون الخطاب املليك‪ ،‬كام مل‬ ‫بدون تدخلها من جديد‪ ،‬نظرا إىل السلطة‬
‫تتمكن من صياغة وثيقة مشرتكة تحدد املطالب‬ ‫السياسية والدينية التي يخولها الدستور للملك‪.‬‬
‫واملقرتحات النسائية‪ .‬ومام زاد األمر تعقيدا‪،‬‬ ‫ومتاشيا مع املوقف الذي اتخذته املؤسسات‬
‫نجد مضمون الخطاب الذي ألقاه امللك يوم ‪8‬‬ ‫الدينية‪ ،‬أمام هذه األحداث‪ ،‬دعا امللك الحسن‬
‫شتنرب ‪ ،1992‬مبارشة بعد ظهور نتائج االنتخابات‬ ‫الثاين‪ ،‬وألول مرة‪ ،‬الجمعيات النسائية إىل‬
‫املحلية‪ ،‬حيث أعلن عىل االتصاالت التي متت مع‬ ‫توجيه مالحظاتها إىل شخصه مبارشة بصفته‬
‫أمري املؤمنني‪ .‬حيث يقول يف خطاب ‪ 20‬غشت‬
‫جميع الهيآت املمثلة للمرأة املغربية واختياره‬
‫‪ :1992‬أسمع أنكن تشتكني من املدونة أو‬
‫للمخاطبات واللجنة الفقهية القانونية التي‬
‫تطبيق املدونة‪ ،‬فاعلمي ابنتي العزيزة‪ ،‬املرأة‬
‫ستكون املحاور املبارش للسيدات الاليت وقع‬ ‫املغربية أن املدونة هي قبل كل يشء يف عنقي‬
‫عليهن االختيار‪ .‬حيث تشكلت اللجنة من بعض‬ ‫وأنا املتحمل مسؤولية املدونة أو عدم تطبيق‬
‫الفقهاء‪ ،‬والعلامء‪ ،‬املتخصصني ترأسها السيد‬ ‫املدونة‪ .‬فارجعي األمر يل‪ ،‬هناك فعال ثغرات أو‬
‫عبد الهادي بوطالب‪ ،‬املعروف بتفتحه وبعمق‬ ‫تطبيق غري صالح وهناك حيف وظلم ال ميكن أن‬
‫معارفه الدينية والقانونية‪ ،‬أما املخاطبات فقد تم‬ ‫يحل هذا املشكل إال عبد ربه ألنه أمري املؤمنني»‪.‬‬
‫اختيارهن من نساء القطاعات النسائية لألحزاب‬ ‫ميكن قراءة مضمون الخطاب املليك من زاوية‬
‫السياسية‪ .‬يف حني مل تستدع الجمعيات مبا فيها‬ ‫احتدام الرصاع داخل املجتمع املغريب‪ ،‬بشأن‬
‫تلك التي كانت وراء حملة املليون توقيع‪.‬‬ ‫تغيري املدونة‪ ،‬و بداية الـتأثري عىل التوجه نحو‬

‫ج‪ :‬فشل أول مجلس تنسيق نسايئ‬


‫إعالن عن فشل مرشوع العريضة بشكل رسمي‪.‬‬ ‫بعد انسحاب نساء األحزاب‪ ،‬الفاعلة من املجلس‬
‫إذ بالرغم من عدم متكن حملة املليون توقيع‬ ‫والتحاق أطراف مختلفة املشارب غري قادرة عىل‬
‫من تحقيق األهداف التي وضعت من أجلها ويف‬ ‫توحيد الرأي حول طرق العمل والتفاعل مع‬
‫مقدمتها تغيري مدونة األحوال الشخصية‪ ،‬وفق‬ ‫الخطب امللكية‪ ،‬واستبعاد الجمعيات النسائية‬
‫منظور حديث يضمن املساواة بني الجنسني‪،‬‬ ‫كطرف مخاطب‪ ،‬بدا واضحا ارتباك عمل‬
‫ورغم عدم متكنها من بناء حركة نسائية‬ ‫مجلس التنسيق‪ ،‬وعدم متكن أطرافه من توحيد‬
‫مغربية موحدة‪ ،‬وفشل أول محاولة تنسيقية‬ ‫مواقفهم وتصوراتهم وحسن تدبري خالفاتهم‪.‬‬
‫بني مكوناتها‪ ،‬إال أن هذه الحملة ساهمت يف‬ ‫مام أدى إىل فشله وعدم استمراره‪ ،‬األمر الذي‬ ‫‪36‬‬
‫فتح نقاش يف األوساط السياسية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬يف‬ ‫اضطرت معه جمعية اتحاد العمل النسايئ‪ ،‬إىل‬
‫صفوف الرجال‪ ،‬والنساء‪ ،‬حول قضايا املرأة ويف‬ ‫تقديم مقرتحاتها للجنة املعنية بشكل منفرد‬
‫مقدمتها األحوال الشخصية‪.‬‬ ‫كباقي الجمعيات األخرى‪ .‬وكان ذلك مبثابة‬
‫ح‪ :‬تعديالت ليست يف مستوى تطلعات الحركة النسائية‬
‫النفقة‪ ،‬إضافة إىل إحداث مؤسسة جديدة تحت‬ ‫استمر عمل اللجنة‪ ،‬إىل حدود فاتح ماي ‪،1993‬‬
‫اسم مجلس العائلة‪ .‬و ارتكز التعديل عىل أساس‬ ‫حيث تم استقبال النساء مرة أخرى لتقديم نتائج‬
‫التفريق بني األحكام الثابتة واملتغرية يف الرشيعة‬ ‫العمل التي ميكن القول أنها مل تكن يف مستوى‬
‫اإلسالمية‪ ،‬لذلك مل يأت التعديل مبا يخالف‬ ‫تطلعاتهن‪ .‬فقد تم تغيري بعض البنود املتعلقة‬
‫األحكام القطعية يف الدين‪.‬‬ ‫بالوالية‪،‬و تعدد الزوجات‪،‬و الطالق‪،‬و الحضانة‪،‬و‬

‫خ‪ :‬ردود أفعال القطاعات النسائية من التعديالت‬


‫العمل من أجل تغيري املدونة‪ .‬كام انتقدت‬ ‫مل يخرج إتحاد العمل النسايئ‪ ،‬صاحب املبادرة‪،‬‬
‫االنفراد بالقرارات و املبادرات الشخصية يف‬ ‫عن صمته إال بعد مثانية أشهر من إعطاء النتائج‪.‬‬
‫إشارة إىل حملة املليون توقيع‪ ،‬واعتربتها تساهم‬ ‫وقد كان هذا التأخر تعبريا واضحا عن االستياء‬
‫يف تشتيت الحركة النسائية‪ ،‬ومتنعها من استثامر‬ ‫الذي شعر به‪ .‬وخالل البيان الصادر عن الندوة‬
‫طاقاتها وتنويع مكوناتها بشكل إيجايب‪ .‬ومن‬ ‫الصحفية التي نضمها يوم ‪ 7‬دجنرب ‪ ،1993‬وضح‬
‫نتائج ذلك هو عدم تقديم مرشوع مشرتك‪ ،‬لذلك‬ ‫االتحاد‪ ،‬موقفه وعرب فيه عن عدم رضاه عن‬
‫دعت الجمعية إىل أن تحقيق املكاسب متوقف‬ ‫النتائج التي جاء بها التعديل الذي مل ميس جوهر‬
‫عىل تجنب هذه السلبيات وتوحيد الجهود‬ ‫املدونة‪ ،‬وأبقى عىل الالمساواة بني الجنسني‬
‫واتخاذ القرارات بشكل جامعي‪« .‬فاملبادرات‬ ‫كمبدأ ال تظهر معه أهمية البنود األخرى التي تم‬
‫املنشئة ولغري متفق عليها تؤدي إىل ضعف‬ ‫تعديلها‪ .‬و اعترب االتحاد ملف املدونة مفتوحا‪،‬‬
‫ومحدودية التأثري» (من بيان صدر عن الجبهة‬ ‫بينام ستستمر الجمعية يف نشاطها وتحركها حول‬
‫الدميوقراطية لنساء املغرب‪ .)1993 ،‬كام أكدت‬ ‫هذا املوضوع إىل أن تتحقق األهداف‪ .‬بينام‬
‫الجمعية بدورها عىل أن التعديالت ليست يف‬ ‫اعتربت أوساط هذه الجمعية املكسب األسايس‬
‫مستوى الطموحات‪.‬‬ ‫الذي تم تحقيقه هو إزالة طابع القداسة عن‬
‫نص قانوين مل يعرف أي تعديل منذ ‪.1957‬‬
‫القطاع النسايئ لحزب االتحاد االشرتايك‪ ،‬انتقد‬
‫بدوره الكيفية التي متت بها املبادرة من طرف‬ ‫من جهتها‪ ،‬اعتربت منظمة املرأة االستقاللية‪ ،‬أنه‬
‫نساء منظمة العمل الدميقراطي معربا عن عدم‬ ‫ال داعي للرشوع يف املطالبة بتغيري بنود املدونة‪،‬‬
‫رضاه عن التعديالت التي أدخلت عىل املدونة‪،‬‬ ‫ودعت إىل عقد ندوة وطنية‪ ،‬يشارك فيها العلامء‪،‬‬
‫والتي مل تأت بجديد وأكد عىل رضورة مواصلة‬ ‫ورجال القانون‪ ،‬واملسئولون يف األحزاب السياسية‪،‬‬
‫العمل من أجل إصالح أكرث جذرية‪.‬‬ ‫واملنظامت النسائية‪ ،‬ملناقشة املوضوع‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫هكذا شكلت حملة املليون توقيع حدثا بارزا يف‬ ‫و بالنسبة للجمعية الدميقراطية لنساء املغرب‪،‬‬
‫تاريخ الحركة النسائية املغربية‪ ،‬ومختلف الهيئات‬ ‫فقد عربت عن ارتياحها لكون أعىل سلطة يف‬
‫السياسية‪ .‬فقد أثارت نقاشا مجتمعيا‪ ،‬شارك فيه‬ ‫البالد‪ ،‬اهتمت باملوضوع وأكدت عىل رضورة‬
‫اتحاد العمل النسايئ‪ ،‬صاحب املبادرة الذي مل‬ ‫كل من يعترب أن بناء املجتمع الدميقراطي‪ ،‬ال‬
‫يتعامل مع تغيري املدونة كمطلب نسايئ فحسب‪.‬‬ ‫ميكن أن يتم دون املرأة التي تتمتع بحقوقها‬
‫االجتامعية واالقتصادية والسياسية‪.‬‬
‫اتخذت أحزاب الكتلة‪ ،‬موقف الحياد السلبي من‬
‫املرشوع وكان الصمت مؤرشا قويا عىل كون املسألة‬ ‫من جهة أخرى‪ ،‬فقد خلق املرشع بدوره دينامية‬
‫النسائية ال تشكل انشغاال فعليا ضمن تصورها‬ ‫وسط كل فئات املجتمع‪ ،‬وفتح لها املجال‬
‫املجتمعي رغم أنها كانت يف مرحلة التأسيس‬ ‫للتعامل مع موضوع ظل مسكوتا عنه لعقود‪.‬‬
‫ملنظور جديد للمامرسة السياسية بتشكيلها للكتلة‬ ‫وقد تجاذب هذا الحدث موقفان متباينان‪:‬‬
‫الدميقراطية‪ ،‬كإطار تنسيقي يحمل مرشوعا سياسيا‬ ‫موقف يرغب يف تحديث املجتمع وخلق‬
‫ومجتمعيا متقاربا يف تصوراته وأهدافه‪.‬‬ ‫عالقات جديدة بني الجنسني أساسها املساواة‬
‫وضامن حقوق الطرفني‪ ،‬وموقف محافظ يرفض‬
‫ومل تتمكن القطاعات النسائية لألحزاب من‬ ‫تغيري البنيات االجتامعية القامئة عىل التقسيم‬
‫إنجاح أول مرشوع نسايئ مشرتك وذلك لسبنب‪:‬‬ ‫التقليدي لألدوار بني الجنسني‪ ،‬ويريد إبقاء‬
‫انفراد قطاع منظمة العمل‪ ،‬بقرار تأسيس تنظيم‬ ‫السلطة يف يد الرجل وحده‪ .‬إال أن هذه املبادرة‬
‫جامهريي مستقل‪ ،‬ودعوته بعد ذلك باقي‬ ‫جاءت يف ظرف كانت فيه تجربة الجمعيات‬
‫األطراف لدعم مرشوعه يبني عدم استعداده‬ ‫النسائية محدودة يف الزمان واملكان‪ ،‬فلم يتمكن‬
‫للمامرسة الدميقراطية ومراهنته عىل االعتبارات‬ ‫مجلس التنسيق الذي ضم عددا من الهيئات من‬
‫السياسية رغم إدعائه خدمة القضية النسائية‬ ‫إنجاحها بالشكل املطلوب‪ ،‬ليستمر اتحاد العمل‬
‫بالدرجة األوىل‪.‬‬ ‫النسايئ‪ ،‬صاحب املبادرة يف تأطري الحمالت‬
‫التأسيسية‪ ،‬ورشح مضامني العريضة‪ ،‬وتوضيح‬
‫عدم قدرة هذه القطاعات النسائية‪ ،‬عىل صياغة‬ ‫مرشوعية املقرتحات الواردة فيها‪ ،‬بهدف خلق‬
‫مرشوعها مبقاربة نسائية وبطرق دميقراطية ألنها‬ ‫تجاوب املواطنني معها والتوقيع عليها‪.‬‬
‫تفتقد الستقاللية القرار وال تشكل قوة ضاغطة‬
‫داخل أحزابها‪ ،‬لذلك مل تكن قادرة عىل اتخاذ‬ ‫واملالحظ أنه رغم االستجابة املبدئية ملختلف‬
‫قرارات يف مصلحة النساء والدفاع عن مرشوع‬ ‫الفعاليات مع املبادرة‪ ،‬إال أنها بقيت متحفظة‬
‫مثل تغيري املدونة‪.‬‬ ‫بشأن طريقة العمل التي بدا اتحاد العمل‪ ،‬آخذا‬
‫بزمامها‪ .‬هذا الواقع منع عددا من الجمعيات‬
‫منذ هذه الهزة الفكرية واالجتامعية والثقافية‬ ‫التي تنتمي عضواتها إىل األحزاب السياسية‪،‬‬
‫والحقوقية مرت هيآت كثرية تحت الجسور‬ ‫وكذلك القطاعات النسائية إىل املشاركة يف‬
‫وظل تغيري مدونة األحوال الشخصية‪ ،‬مطلبا‬ ‫الحملة‪ ،‬خوفا من استغاللها سياسيا من طرف‬
‫قامئا ما فتئت العديد من الهيئات تطالب به‪.‬‬ ‫نساء منظمة اتحاد العمل‪ ،‬خاصة وأن املغرب‬ ‫‪38‬‬
‫فام هي أسباب نزول املدونة الجديدة؟ وما هي‬ ‫كان عىل أبواب االنتخابات‪ ،‬مبعنى أن االعتبارات‬
‫املراحل التي اجتازتها‪ ،‬وإىل أي حد تضافر العامل‬ ‫والحسابات السياسية كانت حارضة يف التعامل‬
‫السيايس مع الحقوقي يف التغيري املرتقب؟‬ ‫مع الحدث بالنسبة لكل األطراف‪ ،‬مبا يف ذلك‬
‫مرشوع خطة إدماج املرأة يف التنمية‬
‫‪ .2003‬فقد تم تقديم هذا املرشوع يوم ‪19‬‬ ‫لقد اعترب مرشوع الخطة «إدماج املرأة يف‬
‫مارس ‪ ،1999‬يف حفل عام ترأسه الكثري من‬ ‫التنمية» استجابة شاملة لتغيري أوضاع املرأة عىل‬
‫الشخصيات السياسية املهتمة باملوضوع‪( .‬حيث‬ ‫كافة املستويات‪ .‬مرشوع وضعته «كتابة الدولة‬
‫ترأست الحفل األمرية فاطمة الزهراء‪ ،‬رئيسة‬ ‫املكلفة بالرعاية االجتامعية واألرسة والطفولة»‪،‬‬
‫االتحاد الوطني النسايئ املغريب‪ ،‬و حرضه الوزير‬ ‫كوزارة أنشئت ألول مرة مع حكومة التناوب‬
‫األول‪ ،‬وكاتب الدولة يف الرعاية االجتامعية‬ ‫الدميقراطي‪ ،‬سنة بعد تعيينها وذلك بتنسيق مع‬
‫واألرسة‪ ،‬وعدد آخر من الوزراء)‪ .‬تشكلت بعد‬ ‫بعض الجمعيات النسائية‪ ،‬وممثيل القطاعات‬
‫ذلك لجنة وزارية دامئة‪ ،‬برئاسة الوزير األول‪،‬‬ ‫الحكومية‪ ،‬وممثالت عن الحركة النسائية‬
‫للنظر يف كيفية تفعيل مختلف التدابري الواردة يف‬ ‫والحقوقية والتنموية‪ ،‬وكذلك بإرشاك عدد من‬
‫الخطة‪ ،‬لكنها مل تعقد أكرث من اجتامعني‪ ،‬ليدخل‬ ‫الباحثني والباحثات واملهتامت باملوضوع‪.‬‬
‫مرشوع الخطة يف مرحلة صعبة بدأت بالورقة‬
‫التي قدمها وزير األوقاف‪ ،‬باسم لجنة العلامء‪،‬‬ ‫تضمنت الخطة تشخيصا ألوضاع املرأة يف‬
‫وهي لجنة تابعة لوزارته‪ ،‬تضمنت ردا يعرب‬ ‫مختلف املجاالت االقتصادية‪ ،‬واالجتامعية‪،‬‬
‫عن رفض املرشوع‪ ،‬خاصة فيام يتعلق بالتدابري‬ ‫والقانونية‪ ،‬والصحية‪ ،‬كام شملت معطيات‬
‫املتعلقة مبدونة األحوال الشخصية‪ ،‬كتدابري تثري‬ ‫وإحصائيات خاصة بكل مجال عىل حدة‪ .‬ثم‬
‫مرة أخرى تحفظات وانتقادات سيتم الرتكيز‬ ‫حددت املجاالت املستعجلة التي ينبغي التدخل‬
‫عليها من طرف املعارضني لهذا املرشوع‪ ،‬فامذا‬ ‫بصددها‪ ،‬وتتمثل يف النقط التالية‪:‬‬
‫تضمنت هذه التدابري؟‬
‫• التعليم ومحو األمية والرتبية غري النظامية‪،‬‬
‫تضم النقط التسع األحكام الخاصة بالعالقات‬ ‫• الصحة اإلنجابية‪،‬‬
‫الزوجية كام أوردها املرشوع‪ ،‬وقد أثارت حفيظة‬ ‫• اإلدماج يف الحياة االقتصادية وسوق الشغل‪،‬‬
‫وغضب لجنة العلامء‪ ،‬وفعاليات سياسية‪ ،‬ودينية‪،‬‬ ‫ومحاربة الفقر‪،‬‬
‫وأخرى مستقلة‪ ،‬وقد اتسعت رقعة املعارضة حتى‬ ‫• التمكني القانوين والسيايس واملؤسسايت‪.‬‬
‫شملت الشارع املغريب‪ ،‬الذي أصبح ينسج قصصا‬
‫وحكايات حول ما ستفعله الخطة باملجتمع‬ ‫وحدد املرشوع ‪ 193‬تدبريا من أجل التدخل‬
‫املغريب‪ .‬مرة أخرى سيحدث مطلب تغيري الوضع‬ ‫يف مختلف املجاالت‪ ،‬يتوخى كل واحد منها‬
‫القانوين واالجتامعي للمرأة‪ ،‬ه ّزة اجتامعية‪،‬‬ ‫تحقيق هدف معني وتصب كلها يف تحقيق‬
‫وإعالمية‪ ،‬سينقسم عىل إثرها املجتمع املغريب‪،‬‬ ‫الهدف العام‪ ،‬املتمثل يف إدماج املرأة يف التنمية‪،‬‬
‫‪39‬‬ ‫إىل قسمني‪ :‬قسم مؤيد وقسم معارض‪ .‬األول له‬ ‫ومتكينها من االستفادة من مشاركتها يف هذه‬
‫استعداد لالعرتاف باملرأة‪ ،‬ككيان مستقل ومواطن‬ ‫التنمية‪ .‬وحدد املرشوع كذلك مدة زمنية إلنجاز‬
‫كامل األهلية‪ ،‬والثاين راغب يف إبقائها كإنسان من‬ ‫التدابري ذات الطابع االستعجايل من سنة ‪1999‬‬
‫الدرجة الثانية‪ ،‬وكائن قارص مدى الحياة‪.‬‬ ‫إىل سنة ‪ ،2000‬والتدابري األولية من ‪ 1999‬إىل‬
‫يتلخص مقرتح تعديل املدونة يف ‪ 9‬بنود‪ ،‬وهي ال تختلف عن تلك التي تطالب بها الجمعيات‬
‫والقطاعات النسائية والتي سبق وتضمنتها عريضة املليون توقيع وهي‪:‬‬
‫‪ .1‬رفع سن الزواج إىل ‪ 18‬سن‪،‬ة‬
‫‪ .2‬جعل حكم الوصاية يف الزواج ثانويا بالنسبة للفتيات الراشدات‪،‬‬
‫‪ .3‬حذف التطليق وإقرار الطالق القضايئ‪،‬‬
‫‪ .4‬حذف تعدد الزوجات واقرتاح حاالت استثنائية حسب تقدير القايض ومبوافقة الزوجة األوىل‪،‬‬
‫‪ .5‬توحيد سن الحضانة بغض النظر عن جنس الطفل يف ‪ 15‬سنة‪،‬‬
‫‪ .6‬إلغاء كون زواج األم املطلقة سببا يف سقوط حق الحضانة‪،‬‬
‫‪ .7‬توسيع مفهوم النفقة ليشمل بيت الزوجية كمكون أسايس‪،‬‬
‫‪ .8‬إخضاع حق الترصف يف أمالك القارص للقايض سواء كان املمثل الرشعي هو األب أو األم‪،‬‬
‫‪ .9‬إقرار نصف املمتلكات املكتسبة خالل فرتة الزواج للمرأة املطلقة‪.‬‬

‫أما املؤسسات غري الرسمية فتمثلت يف حزب‬ ‫لقد وجد املجتمع املغريب‪ ،‬نفسه أمام االنقسامات‬
‫العدالة والتنمية‪ ،‬وحركة التوحيد واإلصالح‪،‬‬ ‫والرصاعات والتحوالت التي عاشها يف بداية‬
‫إضافة إىل شخصيات مستقلة‪ .‬فام هي مربرات‬ ‫التسعينيات‪ ،‬بأساليب دعائية جديدة وتحت‬
‫كل طرف لرفض الخطة يف جانبها املتعلق‬ ‫مربرات وحجج أبدع يف نسجها العقل السيايس‬
‫باألحكام الشخصية؟‬ ‫واملخيال الشعبي عىل حد سواء‪ .‬فمن هي‬
‫لقد عربت كل هيئة عن معارضتها ورفضها‬ ‫أطراف الخالف هذه املرة ؟ وما هي األساليب‬
‫القاطع للخطة بأشكال متعددة‪ ،‬كالحمالت‬ ‫التي استعملها كل طرف لتدبري هذا الخالف؟‬
‫الدعائية والتحريضية وإصدار البيانات‪.‬‬ ‫وما هو موقف الحكومة من هذا الخالف؟‬

‫• و اعرتضت اللجنة العلمية التابعة لوزارة‬ ‫تعدد األطراف املعارضة‬


‫األوقاف‪ ،‬عىل كل التعديالت واعتربتها تقويضا‬ ‫كانت املعارضة يف تجربة املليون توقيع ممثلة‬
‫للشخصية املغربية اإلسالمية‪ ،‬ونسفا ملرجعياتها‬ ‫يف إحدى الجامعات اإلسالمية‪ ،‬وبعض العلامء‪،‬‬
‫الدينية من خالل‪« :‬نقل أحكام األرسة من وضعها‬ ‫والفقهاء‪ .‬أما مع تجربة الخطة فقد تعددت‬
‫األصيل الذي يعكس ذاتنا وهويتنا وأصالتنا إىل‬ ‫الجهات املعارضة‪ ،‬بحيث متثلت يف مؤسسات‬
‫وضع تخريبي»‪.‬‬ ‫‪40‬‬
‫رسمية كوزارة األوقاف‪ ،‬واللجنة العلمية‬
‫كام وجهت رابطة علامء املغرب اتهامات‬ ‫التابعة لها‪ ،‬وجمعية خريجي دار الحديث‬
‫للحكومة املغربية‪ ،‬واعتربتها تهدد انتامء املغرب‬ ‫الحسنية‪ ،‬ورابطة علامء املغرب‪ ،‬وأمئة املساجد‪،‬‬
‫وكوســيلة للتصعيــد مل يكتــف حــزب العدالــة‬ ‫للرشيعة اإلسالمية‪ ،‬وقد جاء يف بيان أصدرته‬
‫والتنميــة‪ ،‬بإطــاره الحــزيب والدعــوي (حركــة‬ ‫بتاريخ ‪ 30‬يونيو ‪ 1999‬بجريدة أصداء ص ‪11‬‬
‫اإلصــاح والتوحيــد كحليــف اســراتيجي)‪،‬‬ ‫ما ييل‪« :‬إن علامء اململكة ينددون مبا تضمنته‬
‫بــل عمــا معــا عــى خلــق هيئــة جديــدة‬ ‫بنود الخطة املقرتحة وديباجتها من استخفاف‬
‫تشــكلت يف نونــر ‪ 1999‬تحــت إســم «الهيــأة‬ ‫بالترشيع اإلسالمي‪ ،‬وتهديد الستمرارية اإلسالم‬
‫الوطنيــة لحاميــة األرسة املغربيــة»‪ ،‬انتخبــت‬ ‫التي تضمنته تلك البنود املناهضة ألصول‬
‫مكتبــا وطنيــا يتكــون مــن ‪ 60‬عضــوا‪ ،‬ومكتبــا‬ ‫األحكام اإلسالمية كتابا وسنة»‪.‬‬
‫تنفيذيــا يتكــون مــن ‪ 15‬عضــوا‪ .‬تواجــدت‬
‫بهــا شــخصيات مســتقلة‪ ،‬وأخــرى منتميــة‬ ‫• مل يختلــف موقــف جمعيــة خريجــي دار‬
‫كالحبيــب الفرقــاين‪ ،‬عضــو املكتــب الســيايس‬ ‫الحديــث‪ ،‬عــن ســابقاتها‪ .‬إذ أصــدرت بيانــا‬
‫لإلتحــاد االش ـرايك‪ ،‬ومحمــد بلبشــر الحســني‪،‬‬ ‫جــاء فيــه‪« :‬إن املحتــوى الفقهــي للخطــة ومــا‬
‫مــن حــزب االســتقالل‪ ،‬إضافــة إىل فعاليــات‬ ‫تضمنــه مــن دعــوى رصيحــة لتغيــر األحــكام‬
‫سياســية مــن العدالــة والتنميــة‪ ،‬والحركــة‬ ‫الرشعيــة رغــم أنــف النصــوص القطعيــة‬
‫الوطنيــة الشــعبية‪ .‬و أصــدرت الهيــأة بيانــا‬ ‫واالســتعداء عليهــا باملنظــات النســائية‬
‫أعلنــت فيــه رفضهــا ومناهضتهــا لــكل الخطــط‬ ‫والهيئــات الدوليــة والدعــوة إىل اتخــاذ القوانــن‬
‫والربامــج التــي تتجــاوز الترشيــع اإلســامي‬ ‫التــي صاغتهــا الثقافــة العلامنيــة رشيعــة‬
‫ومقتضياتــه األخالقيــة والترشيعيــة‪ ،‬والتــي‬ ‫منهجــاً‪ ،‬وذلــك كجعــل الطــاق بيــد القضــاء‬
‫تســتهدف اإلرضار بــاألرسة‪ ،‬وأن أيــة إصالحــات‬ ‫وقــد وضعــه الــرع بيــد الــزوج ومنــع تعــدد‬
‫ألوضــاع األرسة البــد أن تكــون يف إطــار الديــن‬ ‫الزوجــات الــذي أباحــه اإلســام ومل يفرضــه‪،‬‬
‫اإلســامي‪ ،‬متجنبــة التقليــد والتبعيــة‪.‬‬ ‫كإلغــاء الواليــة يف النــكاح وكانــت محــل‬
‫اجتــاع املجتهديــن عــر العصــور‪ ،‬كاقتســام‬
‫لقد اتفقت كل األطراف املناهضة للخطة عىل‬ ‫مــا امتلكــه الــزوج أثنــاء رسيــان الحيــاة‬
‫كون املقرتحات الواردة يف هذا املرشوع متس‬ ‫الزوجيــة عنــد انتهــاء هــذه العالقــة‪ ،‬ســوية‬
‫بالرشيعة اإلسالمية‪ ،‬وتعمل عىل تغليط الرأي‬ ‫بينــه وبــن مطلقتــه وفيــه مــا فيــه مــن إباحــة‬
‫العام‪ ،‬وتضليله‪ ،‬لتمرير أهداف أملتها جهات‬ ‫أكل أمــوال النــاس بالباطــل وهــو محــرم رشع ـاً‬
‫خارجية‪ ،‬تريد تخريب ما تبقى للمجتمع املغريب‪،‬‬ ‫وعق ـاً‪ ،‬وقــس عــل ذلــك مــن األمثلــة الــواردة‬
‫من اإلسالم أي األرسة‪ ،‬واتهمت املنادين بها‬ ‫يف املــروع‪ ،‬فكلهــا مخالفــة للــرع مناقضــة‬
‫بالعلامنية‪ ،‬واإللحاد‪ ،‬وخدمة العوملة‪ ،‬والثقافة‬ ‫ألحكامــه مــردود عــى أصحابهــا» (جريــدة‬
‫الغربية‪ ،‬وإتباع توصيات البنك العاملي‪ ،‬وصندوق‬ ‫التجديــد عــدد نونــر ‪.)1999‬‬
‫النقد الدويل‪ ،‬معتربين أن التنمية الحقيقية ال متر‬
‫‪41‬‬ ‫عرب املس بالثوابت وإمنا بتغيري الواقع‪.‬‬ ‫• أمــا حــزب العدالــة والتنميــة‪ ،‬وحــزب‬
‫التوحيــد واإلصــاح‪ ،‬فقــد ردا ببيــان مشــرك‬
‫لقــد تجنــد التيــار اإلســامي‪ ،‬بــكل مكوناتــه‬ ‫طالبــا فيــه بإلغــاء الخطــة الوطنيــة وتكفــر‬
‫واملتعاطفــن معــه لتعبئــة الشــارع املغــريب‪،‬‬ ‫مراميهــا ووقــف أي إجـراء يرمــي إىل اعتامدهــا‪،‬‬
42
‫وعربت جل هذه األطراف عىل رأسها األحزاب‬ ‫عــر تقديــم املقرتحــات الــواردة يف الخطــة‬
‫والقطاعات النسائية عىل مساندتها للخطة‬ ‫إمــا بتأويلهــا بشــكل خاطــئ أو بتشــويهها عــن‬
‫وهي‪ :‬االتحاد االشرتايك‪ ،‬التقدم واالشرتاكية‪،‬‬ ‫مراميهــا الحقيقيــة أو بتقدميهــا معزولــة عــن‬
‫منظمة العمل‪ ،‬الحزب االشرتايك الدميقراطي‪،‬‬ ‫بعضهــا البعــض حتــى يســهل تأويلهــا بشــكل‬
‫جبهة القوى‪ ،‬حزب الطليعة االشرتاكية‪ ،‬ومكونات‬ ‫يتناســب مــع املرامــي التــي يســعى إليهــا‪ .‬وقــد‬
‫اليسار الجديد‪ ،‬التي كانت يف طور التأسيس أو‬ ‫ورد يف بياناتهــم مــا يوضــح ذلــك كتفســر‬
‫تشتغل بكيفية محدودة‪.‬‬ ‫املمتلــكات املحصلــة أثنــاء الــزواج واعتــروه‬
‫ســطوا وأكل أمــوال النــاس بالباطــل‪ ،‬واعتبــار‬
‫لقد كان الدعم الذي لقيته الخطة من طرف‬
‫وضــع الطــاق يف يــد القضــاء كتطــاول عــى‬
‫عدد كبري من الجمعيات‪ ،‬مبختلف توجهاتها‬
‫حــق الــزوج يف التطليــق‪ ،‬متجاهلــن وضــع آالف‬
‫ومجاالت عملها‪ ،‬يظم رجاال ونساء عىل حد سواء‬
‫النســاء اللــوايت أصبحــن عرضــة للشــارع مــع‬
‫ومكونات املجتمع املدين‪ ،‬ملفتا للنظر ومعربا‬
‫أطفالهــن بعــد الطــاق‪ ،‬وعــدد مــن املشــاكل‬
‫عن ظهور تيار حدايث يف املجتمع املغريب‪ ،‬أبان‬
‫واآلفــات االجتامعيــة الناتجــة عــن تجاهــل‬
‫عن استعداده للتفاعل مع التحوالت االجتامعية‪،‬‬
‫حقــوق املــرأة والطفــل‪ ،‬كــا أن إبطــال الواليــة‬
‫والثقافية‪ ،‬التي من املمكن أن تؤسس لثقافة‬
‫بالدعــوى إىل أنهــا دعــوى بالفســاد واالنحــال‪.‬‬
‫املساواة داخل املجتمع‪ ،‬لهذا تكتل مؤيدو‬
‫الخطة يف تجمعني بارزين هام ‪:‬‬ ‫مرة أخرى ستستغل املسألة النسائية العتبارات‬
‫سياسية‪ ،‬مع التذكري بأن معارضة عضو من‬
‫األول عبارة عن «شبكة دعم الخطة» تأسست يف‬
‫يوليوز ‪ ،1999‬وضمت ‪ 200‬جمعية‪ ،‬إىل جانب‬ ‫املكتب السيايس‪ ،‬لحزب يرتأس الحكومة‪ ،‬التي‬
‫شخصيات وفعاليات نسائية‪ ،‬وحقوقية‪ ،‬وهيئات‬ ‫وضعت املرشوع له كانت أكرث من داللة‪ ،‬تنم‬
‫املجتمع‪ ،‬املدين‪ ،‬العاملة يف مجاالت متعددة‬ ‫عىل أن املوروث الثقايف والحمولة الدينية لقضايا‬
‫كالتنمية‪ ،‬والثقافة‪ ،‬واإلعاقة‪ ،‬ومحاربة الرشوة‪،‬‬ ‫تهم املرأة تكون أحيانا أقوى من أي اعتبار آخر‪.‬‬
‫والعنف‪ ،‬ومحو األمية‪ ،‬وحتى فعاليات فنية‪،‬‬ ‫وهكذا ميكن القول بأن الحملة املضادة لتغيري‬
‫ورياضية‪ ،‬متواجدة عىل امتداد الوطن‪ ،‬اتفقت‬ ‫األحكام الخاصة باألرسة مل تختلف عن تلك التي‬
‫جميعها عىل هدف واحد هو مساندة الخطة‬ ‫القتها معارضة حملة املليون توقيع‪.‬‬
‫إضافــة إىل بعــض القطاعــات النســائية لألحزاب‬ ‫تعدد وتنوع األطراف املؤيدة للخطة‬
‫السياســية‪ ،‬كاالتحــاد االشـرايك‪ ،‬و حــزب التقــدم‬
‫باملقابل عرفت الخطة دعام من طرف األحزاب‬
‫واالشـراكية‪ ،‬و منظمــة العمــل‪ ،‬لكــن يف غيــاب‬
‫الدميقراطية املحسوبة عىل اليسار بكل تلويناتها‪،‬‬
‫لحــزب االســتقالل‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫والجمعيات النسائية‪ ،‬والحقوقية‪ ،‬والثقافية‪،‬‬
‫أمــا الثــاين فقــد تأســس يف نفــس الفــرة و هــو‬ ‫والهيئات النقابية‪ ،‬والقطاعات النسائية لألحزاب‬
‫«الجبهــة مــن أجــل حقــوق املــرأة»‪ ،‬وضــم ‪34‬‬ ‫السياسية‪ ،‬وكذلك بعض املثقفني‪ ،‬والفنانني‪،‬‬
‫جمعيــة وهيــأة تســعى إىل خلــق تكتــل قــوي‬ ‫والحقوقيني‪ ،‬والفاعلني املستقلني‪.‬‬
‫النســاء فحســب‪ ،‬بــل هــي مســألة متــس كافــة‬ ‫لتنظيــات وفعاليــات املجتمــع املــدين لتوفــر‬
‫األطـراف يف املجتمــع برمتــه‪ ،‬وأن القضــاء عــى‬ ‫الدعــم الــكايف لتنفيــذ الخطــة‪.‬‬
‫مظاهــر الحيــف هــي مســؤولية الجميــع‪.‬‬
‫تشكلت األوىل يف الرباط‪ ،‬والثانية يف البيضاء‪.‬‬
‫تزامن اعتالء امللك محمد السادس‪ ،‬العرش املليك‬ ‫اشتغلت كل واحدة بشكل مستقل لكن مع‬
‫صيف ‪ ،1999‬مع بداية الجدل حول الخطة‪،‬‬ ‫تطور األحداث وتصاعد وثرية الرصاع بني‬
‫ولذلك نجد كيف أنه خالل أول خطاب للملك‬ ‫املعارضني واملؤيدين دخلت الهيئات يف التنسيق‬
‫مبناسبة ثورة امللك والشعب‪ ،‬تطرق إىل املوضوع‬ ‫بينها وقد اتفقت األطراف املشكلة لكل من‬
‫مشريا إىل أنه ال ميكن «تصور بلوغ رقي املجتمع‬ ‫الشبكة والجبهة عىل أن موجبات تغيري املدونة‬
‫وازدهاره والنساء الاليت يشكلن زهاء نصفه‬ ‫ووضع خطة مامثلة تعود باألساس إىل‪:‬‬
‫تهدر مصالحهن يف غري مراعاة ملا منحه لهن‬ ‫‪ -‬الوضعيــة املأســاوية ملئــات اآلالف مــن النســاء‬
‫الدين الحنيف من حقوقهن بها شقائق الرجال‬ ‫املطلقــات‪ :‬بكيفيــة المســئولة وبــدون أيــة‬
‫تتناسب ورسالتهن السامية إنصافا لهن مام قد‬ ‫ضامنــات تكفــل حاميــة حقوقهــن وحقــوق‬
‫يتعرضن له من حيف أو عنف مع أنهن بلغن‬ ‫أبنائهــن‪،‬‬
‫مستوى نافست به الذكور سواء يف ميادين العلم‬
‫‪ -‬تعــرض ع ـرات اآلالف مــن النســاء للعنــف‬
‫أو العمل» (من خطاب العرش لعام ‪.)1999‬‬
‫بــكل أشــكاله واملعامــات الســيئة وغــر ذلــك‬
‫ولتأكيد توجهه الجديد قام امللك بتعيني عدد‬
‫مــن رضوب اإلجحــاف واضطـرار البعــض منهــن‬
‫من النساء يف مناصب عليا‪.‬‬
‫إىل رشاء خالصهــن مبــا يســمى طــاق الخلــع‪،‬‬
‫وعــرت جــل األحــزاب املكونــة للحكومــة‬ ‫‪ -‬يف حــاالت كثــرة مــن الطــاق يســطو الــزوج‬
‫وخاصــة أح ـزاب‪ ،‬الكتلــة عــن موقفهــا املبــديئ‬ ‫عــى كل املمتلــكات مبــا فيهــا تلك التي تســاهم‬
‫يف مســاندة املطالــب النســائية ورضورة النهوض‬ ‫الزوجــة يف اكتســابها مبدخولهــا الخــاص‪،‬‬
‫بأوضــاع املــرأة يف كافــة املجــاالت‪ ،‬مــن خــال‬
‫البيانــات الصــادرة عــن مكاتبهــا السياســية أو‬ ‫‪ -‬املامرســات التعســفية الناتجــة عــن تعــدد‬
‫لجنهــا املركزيــة وافتتاحيــات جرائدهــا اليوميــة‪.‬‬ ‫الزوجــات يف األوســاط املســتضعفة‪.‬‬

‫وظــل موقــف الحكومــة‪ ،‬مــن تفعيــل الخطــة‬ ‫لــكل هــذا جــاءت الخطــة مبقتضيــات يف إطــار‬
‫يشــوبه الغمــوض والــردد إىل أن تقــدم الوزيــر‬ ‫ق ـراءة مســتنرية لتعاليــم اإلســام (مــن البيــان‬
‫األول بترصيــح أمــام الربملــان يــوم ‪ 13‬ينايــر‬ ‫الصــادر عــن اللجنــة التحضرييــة لتأســيس‬
‫شــبكة دعــم الخطــة الوطنيــة)‪ .‬مجلــة جميعــا‬
‫‪ ،2000‬ذكــر فيــه اســتعداد الحكومــة لرفــع‬ ‫‪44‬‬
‫مــن أجــل املســاواة‪ ،‬ص ‪ ،7-6‬ســنة ‪.2001‬‬
‫املوضــوع إىل التحكيــم امللــي معلنــا بوضــوح‬
‫عــدم اســتعداد الحكومــة الخــوض يف قضيــة‬ ‫كان مــن أهــداف الهيئــة إخبــار الــرأي العــام‪،‬‬
‫أثــارت خالفــا واســعا داخــل املجتمــع املغــريب‪.‬‬ ‫وصنــاع الق ـرار‪ ،‬بــأن املســألة النســائية ال تهــم‬
‫رغــم بعــض املحــاوالت لتهدئــة األوضــاع‪،‬‬ ‫ففــي الوقــت الــذي ترفــض فيــه أحــزاب‬
‫اعتمــدت وثــرة الخــاف‪ ،‬والجــدال‪ ،‬وتعــددت‬ ‫الحكومــة مســاندة مــروع طــرح باســمها‬
‫التحالفــات‪ ،‬وإصــدار البيانــات‪ ،‬وتنظيــم‬ ‫وحــل النــزاع بــن أطــراف الخــاف‪ ،‬نالحــظ‬
‫التجمعــات‪ ،‬والنــدوات‪ ،‬مــن األط ـراف املؤيــدة‬ ‫أن قطاعاتهــا النســائية كانــت متواجــدة يف‬
‫واملعارضــة عــى حــد الســواء‪ ،‬احتــد الخــاف‬ ‫شــبكة دعــم الخطــة ومــرة عــى الدفــاع‬
‫وتتالــت األفعــال وردود األفعــال‪ ،‬تجــى هــذا‬ ‫عنهــا‪ .‬مبعنــى أنــه بــدل أن نجــد الحــزب يدافــع‬
‫األمــر يف تنظيــم مســرتني مطلبيتــن يف نفــس‬ ‫رجالــه ونســاؤه عــن موقــف واحــد مــن تغيــر‬
‫اليــوم األحــد ‪ 12‬مــارس ‪ ،2000‬ويف نفــس‬ ‫أحــكام األرسة كقضيــة يف قلــب التحــوالت‬
‫التوقيــت نظمــت مســرة الربــاط‪ ،‬بدعــوة‬ ‫االجتامعيــة‪،‬أن كيــف رصاعــات اندلعــت داخــل‬
‫مــن اللجنــة الوطنيــة إلعــداد املســرة العامليــة‬ ‫األحــزاب نفســها بــن قــوى حداثيــة وقــوى‬
‫الخاصــة مبحاربــة الفقــر والعنــف ضــد النســاء‪،‬‬ ‫محافظــة مــن جهــة‪ ،‬و مــن جهــة أخــرى‬
‫والتــي كانــت مربمجــة منــذ فــرة ال تقــل عــن‬ ‫رصاعــات بــن الرجــال والنســاء تجــى فيهــا‬
‫ســنة يف إطــار عاملــي‪ ،‬لكــن التيــارات اإلســامية‬ ‫بوضــوح مــؤرش االختــاف عــى مســتوى النــوع‪.‬‬
‫اعتربتهــا مســرة ملســاندة الخطــة‪ ،‬فقــررت‬
‫عاشت الحركة النسائية املغربية تجربة حملة‬
‫بدورهــا تنظيــم مســرة مناهضــة بالبيضــاء‪.‬‬
‫«املليون توقيع» عىل وقع أداء ميلء بالتناقضات‪،‬‬
‫حرضمســرة الربــاط ممثلــون عــن الصــف‬ ‫إذ يف الوقت الذي رفضت األحزاب الوطنية‪،‬‬
‫الوطنــي الدميقراطــي مبــا يف ذلــك عــدد وزراء‬ ‫استمرار تواجد نساءها يف مجلس التنسيق من‬
‫ومســؤولني حزبيــن‪ ،‬إضافــة إىل ممثــي فصائــل‬ ‫أجل تغيري املدونة سنة ‪ ،1992‬كانت مساندة‬
‫اليســار مبختلــف مكوناتــه نســا ًء ورجــاالً‪،‬‬ ‫األحزاب للمسألة النسائية ومطالبتها ظاهرة‬
‫وعــدد مــن املثقفــن والفنانــن واملســتقلني‬ ‫يف بعض املناسبات برضورة تغيري أوضاع‬
‫والفاعلــن يف املجتمــع املــدين‪ .‬بينــا تصــدرت‬ ‫املرأة‪ ،‬مام يعني أن املسألة النسائية مل تصبح‬
‫مســرة البيضــاء عنــارص قياديــة مــن مختلــف‬ ‫بعد مدمجة يف إسرتاتيجية األحزاب‪ .‬فكلام‬
‫التنظيــات اإلســامية مبــا فيهــا جامعــة العــدل‬ ‫طرحت املسألة للتفكري والتأمل‪ ،‬و يف حاجة‬
‫واإلحســان التــي ظلــت آلخــر لحظــة تلتــزم‬ ‫إىل قرارات مبنية عىل مواقف نظرية واضحة‪،‬‬
‫الحيــاد ثــم ممثلــون عــن أحــزاب الوفــاق‪:‬‬ ‫تجد القيادات الحزبية تتذرع باعتبارات سياسية‬
‫وهــي أحـزاب ذات توجــه ليـرايل مل يســبق لهــا‬ ‫تبعد األطروحات النسائية عن جوهرها‪ ،‬فتقف‬
‫أن أبانــت عــن أي اهتــام باملســألة النســائية‪،‬‬ ‫هي ونخبها النسائية يف مفرتق الطرق‪،‬و يتخذان‬
‫وال بالدفــاع عــن العقيــدة‪ ،‬كــا تحالفــت‬ ‫مواقف متباعدة إن مل نقل متناقضة‪ ،‬تعكس‬
‫‪45‬‬ ‫هاتــه األحـزاب مــع التيــار اإلســامي‪ ،‬إلضعــاف‬ ‫عدم مساهمة النساء يف اتخاذ القرارات حتى‬
‫حكومــة التنــاوب‪ ،‬التــي يرتأســها ألول مــرة‬ ‫ملا يتعلق األمر بقضايا نسائية مصريية‪ .‬فهن ال‬
‫حــزب كان يف املعارضــة‪ .‬و كان ذبــك مناســبة‬ ‫يشكلن بعد قوة ضاغطة وقطاعاتهن تنظيامت‬
‫أيضــا إلظهــار قــوة التيــار الــذي ظــل يُعتقــد‬ ‫بدون سلطات تقريرية‪.‬‬
‫مضامينها قريبة جدا مام ورد يف الخطة‪ ،‬نذكر‬ ‫أنــه ال يتمتــع بــأي قــوة سياســية يف املغــرب‪.‬‬
‫منها عىل سبيل الذكر‪:‬‬
‫املســرتان الوطنيتــان ‪ :‬أشــد حلقــات الخــاف‬
‫• األرسة قامئــة عــى أســاس املســاواة بــن الــزوج‬ ‫بــن الطرفــن‪.‬‬
‫والزوجة‪،‬‬
‫• الطالق بيد القضاء‪،‬‬ ‫شــكلت املســرتان حدثــا بــارزا أثــار اهتــام‬
‫• اقتســام املمتلــكات املحصلــة أثنــاء فــرة‬ ‫الــرأي العــام الوطنــي و الــدويل‪ .‬و مثــا حدثــا‬
‫الــزواج‪،‬‬ ‫مميــزا يف تاريــخ املغــرب املعــارص‪ ،‬بحيــث مل‬
‫• إلغاء الوالية يف الزواج‪.‬‬ ‫يعــش املجتمــع املغــريب والطبقــة السياســية‬
‫حدثــا مشــابها‪ :‬مســرتان شــعبيتان يف نفــس‬
‫لكــن وجــب القــول أيضــا بــأن تنظيــم مســرتني‬
‫اليــوم ونفــس التوقيــت‪ ،‬مبشــاركة عــدد هائــل‬
‫حاشــدتني يف نفــس الوقــت‪ ،‬رغــم تعارضهــا‬
‫مــن املواطنــات واملواطنــن‪ ،‬و بوجــود تياريــن‬
‫يف التصــورات واألهــداف‪ ،‬هــو مــؤرش عــى أن‬
‫سياســيني متعارضــن لــكل منهــا تصــوره‬
‫املغــرب‪ ،‬أصبــح يتوفــر عــى هامــش متميزمــن‬
‫الخــاص عــن قضيــة واحــدة وهــي تغيــر‬
‫حريــة التعبــر‪ ،‬مــا ي ـزال مفقــودا يف كثــر مــن‬
‫األحــكام املتعلقــة بتحديــد األدوار االجتامعيــة‬
‫البلــدان العربيــة‪ ،‬واإلســامية‪ ،‬ذات الظــروف‬
‫بــن الرجــل واملــرأة‪ ,‬إنــه فعــا حــدث ســيايس‬
‫التاريخيــة املشــابهة‪.‬‬
‫متميــز‪ ،‬يعكــس عمــق التحــوالت التــي يعيشــها‬
‫موقف القطاعات النسائية من قرارات أحزابها‬ ‫املجتمــع املغــريب‪ ،‬والتــي أفــرزت اتجاهــات‬
‫أدت هــذه املســتجدات إىل تغــرات مســت‬ ‫متباينــة ومتعارضــة يف املنطلقــات والتوجهــات‪.‬‬
‫طرفــن أساســيني‪ ،‬الحكومــة‪ ،‬والحركة النســائية‪.‬‬ ‫و مــن بــن القضايــا التــي أثــارت جــدال واســعا‬
‫كان هــو عــدد املشــاركني يف املســرتني‪ ،‬بحيــث‬
‫متثــل املســتجد األول يف التعديــل الحكومــي‪،‬‬ ‫تضاربــت اآلراء وأعطيــت تقديــرات متباينــة‬
‫الــذي تغــرت مبوجبــه بعــض الــوزارات وعــى‬ ‫تراوحــت بــن نصــف مليــون ومليونــن‪.‬‬
‫رأســها كتابــة الدولــة املكلفــة بامللــف‪ .‬مــا‬
‫أعطــى االنطبــاع بــأن األمــر يتعلــق بوجــود‬ ‫وبينام كانت مسرية الرباط‪ ،‬مسرية نسائية‪،‬‬
‫حالــة مــن التنافــر و التناقــض وعــدم انســجام‬ ‫ذات مرشوع محدد ومطالب نابعة من اإلميان‬
‫مواقفهــا مــن الخطــة‪.‬‬ ‫باملساواة بني الجنسني‪ ،‬حيث ركزت مطالبها‬
‫عىل رضورة احرتام الحكومة‪ ،‬اللتزاماتها والقيام‬
‫بينــا متثــل املســتجد الثــاين يف الحركــة‬ ‫بالدور الذي ينتظره منها مؤيدوها‪ .‬كانت مسرية‬
‫النســائية‪ ،‬ويف مقدمتهــا القطاعــات النســائية‬ ‫البيضاء‪ ،‬قد جاءت كرد فعل‪ ،‬الغاية منه إضعاف‬
‫لألحـزاب‪ ،‬والتــي وجــدت نفســها مــرة أخــرى يف‬ ‫حكومة التناوب‪ ،‬وإبراز قوة التيار املحافظ‪،‬‬ ‫‪46‬‬
‫تناقــض صــارخ بــن مطالبهــا النســائية‪ ،‬وتخــي‬ ‫الذي يعتمد أسلوب حشد الطاقات عرب التعبئة‪.‬‬
‫أحزابهــا عنهــا‪ ،‬مل تصمــد أمــام تســارع األحــداث‬ ‫وسيظهر ذلك جليا من خالل موقف هذا التيار‬
‫وتداخلهــا‪ ،‬ومل تتمكــن مــن الحفــاظ عــى‬ ‫بعد التعديالت األخرية للمدونة‪ ،‬والتي جاءت‬
‫الشــعبي‪ ،‬وقطــاع االتحــاد االشــرايك‪ ،‬وبشــكل‬ ‫إطاراتهــا التنظيميــة‪ ،‬ووحــدة صفهــا‪ ،‬فانتهــت‬
‫غــر واضــح نســاء التقــدم واالشــراكية‪ .‬أمــا‬ ‫إىل بلــورة مواقــف متعــددة ومختلفــة حســب‬
‫حــزب االســتقالل‪ ،‬فحــاول التــزام الحيــاد رغــم‬ ‫االنتــاءات السياســية لــكل جهــة‪ .‬إذ مل يعــد‬
‫أنــه عــرف تاريخيــا مبواقفــه االيجابيــة مــن قضايا‬ ‫املشــكل األســايس هــو عــدم وفــاء الحكومــة‬
‫املــرأة‪ .‬لهــذا تكــون داخــل حــزب االســتقالل‬ ‫بالتزاماتهــا‪ ،‬بــل أصبــح هــو كيــف يحتــل كل‬
‫اتجاهــان متعارضــان أحدهــا اعتــر أن النصوص‬ ‫طــرف موقعــا ضمــن الوضعيــة الجديــدة‪.‬‬
‫املســتمدة مــن القــرآن ال ميكــن مراجعتهــا‪،‬‬ ‫بحيــث اتخــذت عالقــة الحركــة النســائية‪،‬‬
‫واألخــر ارتــأى رضورة فتــح حــوار وبــاب االجتهاد‬ ‫بالحكومــة‪ ،‬منــذ وضــع الخطــة ســنة ‪ ،1999‬إىل‬
‫ملواكبــة التطــور الحاصــل يف املجتمــع‪،‬‬ ‫مــارس ‪ 2001‬ثالثــة مواقــف وهــي ‪:‬‬
‫• املوقــف الثــاين‪ :‬دعــا إىل االســتمرار يف الضغــط‬ ‫أ‪ :‬مــارس ‪ :1999‬وضعــت الحكومــة مبشــاركة‬
‫مــن اجــل تحقيــق مطلــب تغيــر املدونــة‪،‬‬ ‫مختلــف مكونــات الحركــة النســائية مــروع‬
‫واالســتمرار يف مطالبــة الحكومــة‪ ،‬وميثــل هــذه‬ ‫الخطــة فاعتـرا طرفــن حليفــن يف الدفــاع عنهــا‪،‬‬
‫االتجــاه الجمعيــات املســتقلة أو ذات التوجــه‬ ‫ب‪ :‬مــارس ‪ :2000‬بــدأت الحكومــة ترتاجــع عــن‬
‫اليســاري‪.‬‬ ‫موقفهــا املســاند ومتيــل إىل التحكيــم امللــي‬
‫كان هذا االختالف يف املواقف سببا يف وقوع‬ ‫للحســم يف تضــارب الشــارع املغــريب من مســألة‬
‫تصدعات ومتزقات يف صفوف الحركة النسائية‪،‬‬ ‫الخطــة‪ ،‬يف حــن بــدأت الحــركات النســائية‬
‫أدت عمليا إىل التوقف النهايئ للشبكة كتنسيق‬ ‫تتخــوف مــن تراجــع الحكومــة عــن مســاندة‬
‫جمعوي واسع يضم اكرب عدد من الجمعيات‬ ‫الخطــة وبــدأت تطالبهــا بالوفــاء بالتزاماتهــا‪،‬‬
‫النسائية‪ ،‬والهيئات الحقوقية‪ .‬مل تكن القطاعات‬ ‫ت‪ :‬مارس ‪ : 2001‬تخلت الحكومة نهائيا عن‬
‫طرفا منعزال عن هذه التطورات ومل تشتغل‬ ‫الخطة ولجأت إىل التحكيم املليك‪ ،‬واستقبل امللك‬
‫لوحدها‪ ،‬فهي من جهة ملتزمة مع الشبكة‬ ‫وفدا عن بعض املنظامت النسائية كإشارة عىل‬
‫كتنسيق جمعوي مدين يساند الخطة‪ ،‬من جهة‬ ‫إحالة املوضوع عليه وبعدها‪ ،‬عني لجنة للسهر‬
‫أخرى تنظيامت تابعة لألحزاب وال تعمل يف‬ ‫عىل تغيري املدونة‪ ،‬وأمام هاته املستجدات أصبح‬
‫نهاية األمر إال بقراراتها مام أخضعها لالكراهات‬ ‫للحركة النسائية موقفان‪:‬‬
‫والحسابات السياسية‪.‬‬
‫• املوقــف األول‪ :‬ارتــأى رضورة إيقــاف أي تحــرك‬
‫لكــن مــا الــذي ميكــن اســتخالصه مــن هــذه‬ ‫يف انتظــار مــا سيســفر عنــه التحكيــم امللــي‪ ،‬مــع‬
‫املحطــة الهامــة يف تاريــخ الحركــة النســائية‬ ‫الوقــوف عمليــا يف صــف الحكومــة‪ ،‬واملطالبــة‬
‫‪47‬‬ ‫املغربيــة؟ وهــل حصــل تغيــر يف عالقــة‬ ‫بالتحكيــم امللــي‪ .‬يشــمل هــذا املوقــف‬
‫القطاعــات النســائية بأحزابهــا مــن جهــة؟ ثــم‬ ‫القطاعــات النســائية التــي ذكرناهــا ســابقا‬
‫يف عمليــة التنســيق مــع الجمعيــات النســائية‬ ‫وخاصــة قطــاع منظمــة العمــل والــذي أصبــح‬
‫مــن جهــة ثانيــة؟‬ ‫الحقــا قطــاع الحــزب االشــرايك الدميقراطــي‬
‫بظهــور مدونــة األرسة‪ ،‬مبنظــور حديــث مبنــي‬ ‫يتضــح أن األحــزاب الوطنيــة‪ ،‬ال تتوفــر عــى‬
‫عــى عالقــة املســاواة بــن الرجــل‪ ،‬واملــرأة‬ ‫مــروع مجتمعــي متكامــل تقــدم بواســطته‬
‫وتجــاوز املفاهيــم التــي متــس بكرامــة املــرأة‬ ‫تصورهــا لكافــة القضايــا االجتامعيــة‪ ،‬والثقافية‪،‬‬
‫وأهليتهــا وجعــل مســؤولية األرسة تحــت‬ ‫واالقتصاديــة‪ ،‬والسياســية‪ ،‬بــل نالحــظ أن‬
‫رعايــة الزوجيــن‪ .‬لكــن نفــرض أن مدونــة‬ ‫اهتاممهــا انصــب طيلــة املراحــل الســابقة عــى‬
‫األرسة‪ ،‬رغــم اإلجــاع الــذي حققتــه مــن‬ ‫القضايــا السياســية بالدرجــة األوىل‪ ،‬وخاصــة‬
‫طــرف كل القــوى السياســية الحيــة ورغــم‬ ‫تلــك املرتبطــة بالتســيري الســيايس‪ ،‬واملشــاركة يف‬
‫دفاعهــا الضمنــي عــن البعــد الحــدايث يف بنــاء‬ ‫االنتخابــات‪ ،‬والحكومــة‪ ،‬أمــا املســالة النســائية‬
‫العالقــات بــن الجنســيني‪ ،‬ســتبقى منعزلــة إذا‬ ‫فتــأيت يف آخــر جــدول أعاملهــا وتعتربهــا قضيــة‬
‫مل ترافقهــا تغيـرات يف باقــي القوانــن املتعلقــة‬ ‫قابلــة باســتمرار للتأجيــل‪.‬‬
‫بالشــأن الســيايس‪ ،‬وإقرارهــا مببــدأ التمييــز‬
‫االيجــايب لصالــح النســاء‪ ،‬ويف مقدمتهــا القوانــن‬ ‫وقــد انعكــس ذلــك عــى قطاعاتهــا النســائية‪،‬‬
‫الداخليــة لألحــزاب وقانــون االنتخابــات‪.‬‬ ‫التــي بــدت تتأرجــح بدورهــا يف تحديــد مواقــف‬
‫واضحــة فتضطــر يف نهايــة األمــر إىل العمــل مبــا‬
‫يتــاءم مــع التوجهــات الرســمية لألحـزاب‪ ،‬وقــد‬
‫تجــى ذلــك بشــكل واضــح يف كيفيــة دفاعهــا‬
‫عــن مــروع الخطــة‪ .‬بحيــث انطلقــت بحــاس‬
‫املراجع‬ ‫كبــر ودخلــت يف عمليــة التنســيق مــع مختلــف‬
‫املكونــات املدافعــة عنــه‪ ،‬وصمــدت لفــرة يف‬
‫‪ .1‬أسبوعية الراية حال لسان حركة اإلصالح والتجديد أعداد‬
‫‪ 18-19-20‬من سنة ‪1992‬‬ ‫مواجهــة الخالفــات‪ ،‬ومــا ترتــب عنهــا مــن تخــي‬
‫‪ .2‬امللكية واإلسالم السيايس باملغرب‪ :‬الطوزي محمد‪ ،‬ترجمة‪:‬‬ ‫الحكومــة عــن مــروع الخطــة لكنهــا انتهــت يف‬
‫محمد حامتي وخالد شكراوي‪ ،‬نرش الفنك البيضاء ‪1992‬‬ ‫األخــر إىل توقيــف التنســيق والدخــول يف حالــة‬
‫‪ .3‬بيان صادر عن الجمعية نهاية ‪1993‬‬ ‫االنتظــار خاصــة مــع اقـراب موعــد االنتخابــات‬
‫‪ .4‬جريدة التجديد عدد نونرب ‪1999‬‬ ‫الترشيعيــة‪ ،‬وطــرح مبــادرة الالئحــة الوطنيــة‬
‫‪ .5‬من البيان الصادر عن اللجنة التحضريية لتأسيس دعم‬ ‫التــي ستســمح لثالثــن‪ )30( ،‬امــرأة ولــوج‬
‫الخطة الوطنية ذ مجلة جميعا من اجل املساواة ص ‪6-7‬‬ ‫قبــة الربملــان‪ .‬أمــا حــزب العدالــة والتنميــة‬
‫سنة ‪2001‬‬
‫‪،‬وتنظيامتــه النســائية‪ ،‬فقــد وظــف كافــة‬
‫األســاليب ملعارضــة مــروع الخطــة‪ ،‬والوقــوف‬
‫ضــد مؤيديهــا مترضعــا بالحجــج الدينيــة‪.‬‬

‫‪48‬‬
49
‫تأمالت حول اجلرمية والعقاب في التشريع‬
‫املغربي في سياق ورش إصالح السياسة اجلنائية‬

‫سعيد الوردي‬

‫ووقائيــة‪ ،‬و كــذا اتخــاذ تعديــات هيكليــة‬ ‫شــهد املغــرب خــال العقديــن األخرييــن‬
‫وتصحيحيــة يف مواردهــا البرشيــة‪ ،‬وبنياتهــا‬ ‫تحــوالت سياســية‪ ،‬واجتامعيــة‪ ،‬واقتصاديــة‪،‬‬
‫التحتيــة‪ ،‬متاشــيا مــع روح دســتور ‪،2011‬‬ ‫كبــرة‪ .‬جســدتها جملــة اإلصالحاتــال جذريــة‬
‫وإعــاال ملقاربــة اإلدمــاج التــي تتعاطــى معهــا‬ ‫والهيكليــة التــي شــملت جــل القطاعــات التــي‬
‫املندوبيــة‪ ،‬بــكل حــزم ومســؤولية‪.‬‬ ‫تتصــل مبــارشة باملواطــن‪.‬‬
‫وخرجــت الهيــأة العليــا إلصــاح منظومــة‬ ‫ويعتــر ورش إصــاح العدالــة‪ ،‬مــن أهــم هــذه‬
‫العدالــة‪ ،‬بقــرار تعديــل القانــون الجنــايئ‪،‬‬ ‫اإلصالحــات حيــث افتتــح العمــل به بعد إنشــاء‬
‫واملســطرة الجنائيــة‪ ،‬كــا تــم وضــع مســودة‬ ‫هيــأة تتألــف من مختلــف الفاعلــن الحقوقيني‪،‬‬
‫لــكل منهــا‪ .‬وتضمنــت مســودة القانــون‬ ‫والقضائيــن‪ ،‬ووضعــت برامــج وتدابــر تحيــط‬
‫الجنــايئ‪ ،‬الجديــد تعديــا مهــا يتعلــق بحــق‬ ‫بــكل جوانــب القصــور التــي تعــري منظومــة‬
‫اإلنســان يف الحيــاة وهــو مــن أســمى الحقــوق‬ ‫العدالــة يف املغــرب‪.‬‬
‫التــي يتمتــع بهــا اإلنســان‪.‬‬
‫واختتــم هــذا الــورش مبجموعــة مــن اإلجـراءات‬
‫ومتيــزت النقاشــات بتجادبــات حــادة حــول إلغاء‬ ‫املعدلــة واملكملــة للمســاطر القانونيــة‪.‬‬
‫عقوبــة اإلعــدام‪ ،‬وهــو االتجــاه الــذي يتبنــاه‬ ‫وتعــززت البنيــات القضائيــة بإنشــاء قضــاء‬
‫عــدد كبــر مــن الحقوقيــن‪ .‬بينــا يذهــب فريــق‬ ‫القــرب مــن أجــل تخفيــف العــبء عــى‬
‫آخــر إىل حــد التمســك بهــا وتطبيقهــا‪ ،‬انطــاق‬ ‫املتقاضــن‪ ،‬كــا تــم تعديــل مجموعــة مــن‬
‫مــن مبــدأ رد اعتبــار الضحيــة‪ ،‬وإعــاال ملبــدأ‬ ‫القواعــد األساســية والتنظيميــة الخاصــة ببعــض‬
‫القصــاص مــن الجــاين‪.‬‬ ‫املهــن املســاعدة للقضــاء‪ ،‬كالعــدول‪ ،‬والرتاجــم‪،‬‬
‫والخــراء‪.‬‬
‫كــا تضمنــت مســودة القانــون الجنــايئ‪،‬‬
‫مقتضيــات جديــدة تتعلــق بالعقوبــات‬ ‫ومل يســتنث قطــاع الســجون‪ ،‬مــن هــذا الــورش‬ ‫‪50‬‬
‫البديلــة‪ ،‬التــي مــن شــأنها تخفيــف االكتظــاظ‬ ‫الكبــر‪ ،‬حيــث بــارشت املندوبيــة العامــة إلدارة‬
‫داخــل املؤسســات الســجنية‪ .‬واســتثامر الطاقــة‬ ‫الســجون وإعــادة اإلدمــاج‪ ،‬يف اآلونــة األخــرة‬
‫البرشيــة يف املنفعــة العامــة‪.‬‬ ‫عــدة إصالحــات‪ ،‬شــملت تدابــر زجريــة‬
‫فطــوىب ملؤســي هــذه املبــادرة الفكريــة التــي‬ ‫فالتطــور الــذي يعرفــه املغــرب‪ ،‬يف شــتى‬
‫فتحــت أمــام الســجني‪ ،‬فضــاء يســتطيع مــن‬ ‫املجــاالت‪ ،‬يجعــل مــن هــذا الــورش مرشوعــا‬
‫خاللــه التعبــر عــن رأيــه وإســاع صوتــه‪.‬‬ ‫مفتوحــا ومســتمرا‪ ،‬ال ينبغــي أن يتوقــف عنــد‬
‫آمــاد وحــدود معينــة‪ ،‬ألن اإلصــاح ال يرتبــط‬
‫وتعتــر مجلــة «دفاتــر الســجني»‪ ،‬خطــوة مبدعة‬ ‫بحكومــة معينــة‪ ،‬أو واليــة برملانيــة معينــة أو‬
‫وســباقة‪ ،‬تــزيك مبــدأ التواصــل الثقــايف بــن‬ ‫حــزب معــن‪.‬‬
‫مختلــف رشائــح املجتمــع تكريســا للمســاواة‬
‫بــن الســجناء‪ ،‬ونظرائهــم خــارج األســوار‪.‬‬ ‫لذلــك ارتأينــا أن نناقــش إشــكالية املالمئــة بــن‬
‫الفعــل والج ـزاء يف الترشيــع الجنــايئ املغريب‪،‬ملــا‬
‫وبالعــودة إىل اإلشــكالية التــي تعتــزم معالجتهــا‬ ‫لــه مــن أثــار قــد تكــون قــد تنعكــس ســلبيا عىل‬
‫يف هــذه املقالــة‪ ،‬يبــدو أن بعــض النصــوص‬ ‫الوجــه املــرق للشــأن الحقوقــي يف املغــرب‪.‬‬
‫القانونيــة‪ ،‬تحتــاج إىل مزيــد مــن التجويــد‬
‫لتتمكــن مــن احتــواء القضايا املســتحدثة يف عاملنا‬ ‫هــذا عــاوة عــى دوره يف تنامــي حــاالت العــود‪،‬‬
‫الجديــد‪ ،‬بــدل االنشــغال برصيــد مــن القواعــد‬ ‫وتكريــس ظاهــرة االكتظــاظ داخــل الســجون‪،‬‬
‫الفضفاضــة والتــي تكتــي يف كل قضيــة تلوينــة‬ ‫حيــث نلمــس فجــوة ســحيقة بــن الجرميــة‬
‫مختلفــة‪ ،‬مــا يجعــل مقــررات القضــاء تولــد يف‬ ‫والعقــاب‪ ،‬تجعــل هــذا األخــر غــر قادر عــى رأب‬
‫صــورة معيبــة‪ .‬وهــذا يشء طبيعــي ألن تأســيس‬ ‫الصــدع وترميــم الــرخ الــذي تحدثــه الجرميــة‪.‬‬
‫القناعــة يف قضيــة مــا يحتــاج مــن القــايض الكثــر‬
‫إننــا نعــي مــدى صعوبــة الخــوض يف هــذا‬
‫مــن التمحيــص‪ ،‬والتدقيــق‪ ،‬وإعــال الحــدس‬
‫النقــاش‪ ،‬لكــن واجــب املواطنــة يحتــم علينــا‬
‫القضــايئ أثنــاء االطــاع عــى محــارض الرشطــة‪،‬‬
‫االنخــراط يف هــذا النقــاش‪ ،‬واملشــاركة برأينــا‬
‫واعتبــار النزعــة الذاتيــة والشــخصانية التــي قــد‬
‫يف كل القضايــا واإلشــكاالت التــي قــد تعيــق‬
‫تطبــع بعضهــا‪ ،‬عــاوة عــى مــا يثــار حــول بعــض‬
‫مســرة التقــدم يف بالدنــا‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫القضايــا مــن بهرجــة إعالميــة هدفهــا تحقيــق‬
‫أكــر عــدد مــن املبيعــات وضــان االنتشــار‬ ‫إذ دعــا دســتور ‪ ،2011‬برصاحــة إىل رضورة‬
‫الواســع للوســيط اإلعالمــي‪ ،‬وبالتــايل التأثــر عــى‬ ‫إرشاك املواطنــن واألخــذ بآرائهــم حتــى يف‬
‫الــرأي العــام وتأليبــه‪.‬‬ ‫القضايــا السياســية الكــرى‪.‬‬
‫واســتغالل الطاقــات واملؤهــات الدفينــة فيــه‪.‬‬ ‫قد يكون من غري الناجح أن يكتيس الحكم‬
‫ألنــه الرافعــة الحقيقيــة التــي يقــوم عليهــا بنيان‬ ‫طابع العقاب فقط‪ ،‬دون مراعاة مصالح الضحايا‬
‫الدولــة املرصــوص‪ .‬فبــدل الــزج بســواعد األمــة‬ ‫واستقرارهم االجتامعي‪ ،‬إذ ماذا تستفيد الزوجة‬
‫خلــف القضبــان‪ ،‬يقتيض الحــال تفعيــل إجراءات‬ ‫من سجن الزوج املهمل ألرسته واملمسك عن‬
‫وتدابــر تجــري بالنفــع عــى هــذا البلــد‪.‬‬ ‫اإلنفاق‪ .‬فالسجن يف هذه الحالة ال يزيد وضع‬
‫الزوجة واألبناء إال متزقا واضطرابا‪.‬‬
‫وقــد يصــدق القول عــى نفس حــاالت املتابعني‬
‫بتهــم جرائــم النصــب‪ ،‬وإصــدار شــيك بــدون‬ ‫وملواكبــة للمكتســبات التــي حققهــا املغــرب‪،‬‬
‫رصيــد‪ ،‬وخيانــة األمانــة‪ .‬فتحريــك الدعــوى‬ ‫يف مجــال النهــوض بحقــوق املــرأة واألبنــاء‪،‬‬
‫العموميــة يف هــذه امللفــات تنتهــي بإيــداع‬ ‫لــزم عــى املــرع تجديــد ترســانة القواعــد‬
‫الجــاين الســجن‪ ،‬الــيء الــذي يــؤدي أحيانــا‬ ‫القانونيــة املتعلقــة بهــذا البــاب‪.‬‬
‫كثــرة إىل ضيــاع الحقــوق املاليــة للضحايــا‪ ,‬رمبــا‬
‫كان مــن األرشــد‪ ،‬أن تأمــر املحكمــة مببــارشة‬ ‫فلرمبــا كان مــن األوىل أن يُحيــل القضــاء مثــل‬
‫التقييــدات االحتياطيــة والتحفظيــة عــى أمــاك‬ ‫هــذه امللفــات عــى خليــة اجتامعيــة لدراســتها‪،‬‬
‫الجــاين‪ ،‬وأمــاك زوجاتــه‪ ،‬وفروعــه وأصولــه‪.‬‬ ‫والوقــوف عنــد األســباب الواقعيــة التــي جعلــت‬
‫الــزوج ال يفــي بواجباتــه األرسيــة‪ ،‬بــدل اختصــار‬
‫إذا كان الشيك ورقة تجارية تسهل تحريك عجلة‬ ‫معالجــة املشــكالت ذات األثــر االجتامعــي عــى‬
‫االقتصاد‪ ،‬وتيسري املعامالت التجارية‪ ،‬إال أنها‬ ‫الجوانــب املتعلقــة بالزجــر والعقــاب‪.‬‬
‫تجر خلفها أحيانا مجموعة من التحفظات التي‬
‫تنعكس سلبا عىل الثقة بني التجار‪.‬‬ ‫ففــي مثــل هــذه القضايــا‪ ،‬ال تكتمــل األركان‬
‫الثالثــة للجرميــة وذلــك بغيــاب الركــن املعنــوي‪.‬‬
‫وقــد بــرزت يف اآلونــة األخــرة ظاهــرة‬
‫املوثقــن‪ ،‬الذيــن يختلســون ودائــع املتعاقديــن‬ ‫لذلــك ينبغــي التحقــق مــن وجــود القصــد‬
‫ويســتولون عــى مبالــغ خياليــة‪ ،‬تقودهــم‬ ‫الجنــايئ لــدى الــزوج‪ ،‬أي امتناعــه عنــوة عــن‬
‫يف النهايــة إىل الســجن‪ ،‬تاركــن الضحايــا يف‬ ‫اإلنفــاق‪ ،‬رغــم توفــره عــى مداخــل ماديــة‬
‫دوامــة البحــث عــن الســبل املعقــدة الســرجاع‬ ‫كافيــة‪ .‬ففــي حالــة حســن نيــة الــزوج العاطــل‪،‬‬
‫حقوقهــم املاليــة‪.‬‬ ‫يحــال امللف عــى إحــدى املؤسســات العمومية‪،‬‬
‫املعنيــة بتدبــر قضايــا الشــغل واإلنعــاش لتوفــر‬
‫كــا ينبغــي أن يفتــح املــرع نقاشــا واســعا‬ ‫مصــدر رزق لــرب هــذه األرسة حســب مؤهالتــه‬
‫حــول الجرائــم التــي تســبب اإلثــراء غــر‬ ‫وقدرتــه البدنيــة والعلميــة‪ .‬والحرفيــة‪ .‬وبالتــايل‬
‫املــروع‪ ،‬وإفقــار أرس بســيطة كاد تحلــم‬ ‫نضمــن لهــؤالء األبنــاء والزوجــة دخــا قــارا‬
‫بامتــاك مســكن آمــن‪.‬‬ ‫يغنيهــم عــن الســجن وتبعاتــه‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫فكــم مــن موثــق قــى عقوبتــه الســجنية‪ ،‬وعاد‬ ‫فاإليــداع يف الســجون‪ ،‬ليــس حــا للمشــكلة‪،‬‬
‫إىل حياتــه العاديــة ليــارس نشــاطا اقتصاديــا‬ ‫إذ الحــل يكمــن يف اســتثامر العنــر البــري‪،‬‬
‫إن مؤسسة القضاء باملغرب‪ ،‬تزخر برجال أكفاء‪،‬‬ ‫يــدر عليــه عوائــد ماليــة مهمــة‪ ،‬بينــا يبقــى‬
‫خلفوا وراءهم اجتهادات تشكل اليوم مصدرا غنيا‬ ‫الضحايــا يجــرون ذيــول الخيبــة مــن مؤسســة‬
‫من مصادر الترشيع الجنايئ‪ ،‬وسن ًدا متي ًنا يؤيد‬ ‫إىل أخــرى‪ ،‬ومــن مصلحــة إىل أخــرى الســرجاع‬
‫كفاءة القضاة ومهاراتهم القانونية والقضائية‪ .‬وقد‬ ‫حقوقهــم‪.‬‬
‫تعززت استقاللية هذا الجهاز يف اآلونة األخرية‪،‬‬
‫بإنهاء تبعية النيابة العامة لوزير العدل‪ ،‬وإلحاقها‬ ‫لــذا أصبــح لزامــا عىل املــرع إرشاك مؤسســات‬
‫بالوكيل العام ملحكمة النقض‪ .‬وبهذه الخطوة‬ ‫ائتامنيــة‪ ،‬تدخــل عــى خــط املعامــات املاليــة‬
‫اكتملت استقاللية القضاء‪ ،‬وتعزز مبدأ فصل‬ ‫كيفــا كان نوعهــا‪ ،‬ضامنــا لحقــوق املتعاقديــن‬
‫السلطات طبقا ملضامني الدستور‪.‬‬ ‫والتجــار‪.‬‬

‫وألن لــكل يشء إذا مــا تــم نقصــان‪ .‬ارتأينــا‬ ‫فمعضلــة الترشيــع يف بلدنــا‪ ،‬تكمــن يف النزاعات‬
‫أن نســيل املــداد ونعــر عــن رأينــا يف هــذا‬ ‫بــن الفاعلــن السياســيني‪ ،‬والتجاذبــات القطبيــة‬
‫املوضــوع‪ ،‬ويبقــى كل ذلــك مجــرد رأي متواضع‬ ‫والثنائيــة بــن أطيــاف سياســية مختلفــة‪ ،‬اليشء‬
‫أردنــا مــن خاللــه اإلســهام يف هــذه البوابــة‬ ‫الــذي يشــل حركيــة الترشيــع داخــل قبتــي‬
‫اإلعالميــة التــي فتحــت يف وجهنــا كســجناء‪.‬‬ ‫الربملــان‪ .‬ويجمــد مقرتحــات القوانــن‪ ،‬دون‬
‫مراعــاة مصلحــة املواطــن‪ ،‬الــذي خــول لهــؤالء‬
‫فحق عىل املغاربة اليوم أن يفتخروا مبلكهم‪،‬‬ ‫حــق متثيلــه مــن أجــل تحســن ظــروف عيشــه‪.‬‬
‫موالنا محمد السادس نرصه الله‪ .‬وأن يقدروا‬ ‫وليــس مــن أجــل الدفــاع عــن مصالحهــم‬
‫جنان األمن التي يعيشون فيها ويرعونها حق‬ ‫الشــخصية والحزبيــة‪ ،‬مــا يــؤدي إىل شــخصانية‬
‫رعايتها‪ ،‬ألن نعمة األمن منحة مثينة ينبغي‬ ‫العمــل الســيايس‪ ،‬ة تعطيــل الــدور االف ـرايض‬
‫تقديرها حق قدرها‪ .‬وكام يقول الشاعر حافظ‬ ‫للمؤسســة الترشيعيــة‪.‬‬
‫إبراهيم‪:‬‬
‫فــإذا كان لنــا اليــوم أن نفخــر بنزاهــة القضــاء‬
‫نعمة األمن وما أدراك ما‬ ‫وحياديتــه‪ ،‬و الــذي أضحــى مرجعــا ومثــاال‬
‫نعمة األمن إذا الخطب اكفهر‪.‬‬ ‫يحتــذى يف مجــال النهــوض بحقــوق اإلنســان‪،‬‬
‫إال أن الفــراغ الترشيعــي الــذي يعيشــه بلدنــا‬
‫يف شــتى املجــاالت يضعــف وثــرة اإلصالحــات‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫ظاهرة حالة العود داخل ال�سجون‬

‫الزرورة الركرايك‬

‫الســنوات األخــرة‪ ،‬بعــد انتهــاء مــدة العقوبــة‬ ‫تعريــف الظاهــرة‪ :‬تعتــر حــاالت العــود يف‬
‫الســجنية‪ ،‬يعــودون يف ظــرف ســتة أشــهر‪.‬‬ ‫صفــوف الســجناء داخــل ســجون اململكــة‬
‫والخطــر يف األمــر هــو أن أعامرهــم تـراوح مــا‬ ‫املغربيــة مــن اآلفــات الخطــرة التــي تعرفهــا‬
‫بــن ‪ 19‬و‪ 35‬ســنة‪ ،‬و يعــود أغلبهــم إىل الســجن‬ ‫مختلــف الســجون ببالدنــا‪ ،‬ولحــد اآلن هنــاك‬
‫مرتــن خــال ثــاث ســنوات‪ .‬إذ رغــم الجهــود‬ ‫حمــات وجهــود مــن أجــل الحــد مــن هــذه‬
‫التــي تبــدل داخــل الســجون مــن طــرف‬ ‫الظاهــرة مــن طــرف الجهــات املســؤولة ســواء‬
‫املســئولني مــن أجــل التخفيــض مــن هــذه‬ ‫مــن طــرف الحكومــة أو املجتمــع املــدين وإدارة‬
‫الحــاالت‪ ،‬إال أنهــا يف تزايــد‪ .‬و لعــل مــن بــن‬ ‫الســجون‪ .‬واملالحــظ يف الســنوات األخــرة‪ ،‬أن‬
‫األســباب التــي أراهــا رئيســية هــي االختــاط‬ ‫جــل وســائل اإلعــام الوطنيــة‪ ،‬ســواء الســمعية‬
‫وســط الســجن بــن النــزالء‪ ،‬بحيــث يتــم وضــع‬ ‫منهــا أو البرصيــة والصحافــة املكتوبــة والعديــد‬
‫ســجناء جــدد يدخلــون ألول مــرة مــع ســجناء‬ ‫مــن الربامــج الحواريــة واملقــاالت‪ ،‬حــول هــذه‬
‫لهــم تجربــة يف عــامل الجرميــة‪ ،‬ســواء تعلــق‬ ‫اآلفــة الخطــرة‪ ،‬التــي يذهــب ضحيتهــا اآلالف‬
‫األمــر الرسقــة أو تجــارة املخــدرات‪ ،‬فيؤثــرون‬ ‫مــن الشــباب تتحــدث عــن املوضــوع لكــن دون‬
‫عــى تفكريهــم‪ ،‬ويعرفونهــم مبياديــن وأنــواع‬ ‫حلــول ملموســة ملعالجــة الظاهــرة‪.‬‬
‫الجرائــم‪ ،‬وهــو مــا يــرح لنــا ملــاذا نجــد نســبة‬
‫ومــن خــال معاينتــي عــن قــرب للعديــد مــن‬
‫النــزالء الجــدد املســجونني عــى خلفيــة جرائــم‬
‫هــذه الحــاالت داخــل الســجون‪ ،‬أعتقــد أن‬
‫مرتبطــة بتجــارة املخــدرات‪ ،‬تغطــي أكــر مــن‬
‫هنــاك العديــد مــن العوامــل واألســباب املبارشة‬
‫‪% 70‬مــن حــاالت العــود‪ ،‬حيــث يلتقــون خــارج‬
‫وغــر مبــارشة وراء تفاقــم هــذه الظاهــرة يف‬
‫أســوار الســجن ويطبقــون مــا أتفــق عليــه‬
‫الســجون‪ ،‬بحيــث نالحــظ يف اآلونــة األخــرة‬
‫داخــل الســجن يف ظــرف وجيــز‪.‬‬
‫االرتفاعــات املهولــة لهــذه الحالــة داخــل‬ ‫‪54‬‬
‫ومــن أبــرز األســباب يف تفــي هــذه الظاهــرة‬ ‫الســجن واألرقــام القياســية يف نســبة حــاالت‬
‫أيضــا‪ ،‬ركــون الســجناء إىل الخمــول داخــل‬ ‫العــود عــى ســبيل املثــال متثــل ‪ %60‬مــن‬
‫الســجن‪ ،‬وهــذا راجــع إىل كــرة الراحــة داخــل‬ ‫الســجناء الحديثــي العهــد مبغــادرة الســجون يف‬
‫والجهــات املســئولة الحــرص عــى دراســة‬ ‫الســجن‪ ،‬و عــدم إلزاميــة العمــل أو الـــتأهيل‬
‫الظاهــرة دراســة ميدانيــة دقيقــة‪ ،‬تســاعد‬ ‫املهنــي و االجتامعــي‪ ،‬مــا يســبب إىل تنميــة‬
‫عــى ترشــيد و ترسيــع تفعيــل مقرتحــات‬ ‫عــدم القــدرة عــى البحــث عــن عمــل خــارج‬
‫العقوبــات البديلــة يف املحاكــم الوطنيــة عــوض‬ ‫الســجن واالشــتغال بعيــدا عــن طريــق‬
‫أن يتــم إدخــال مراهقــن بتهــم ال تصــل مــدة‬ ‫االنحــراف بــدل العــودة إىل الســجن‪ ،‬مــا‬
‫الحكــم فيهــا إىل ســتة أشــهر إىل الســجن‪ ،‬و‬ ‫يعنــي غيــاب البدائــل ‪.‬‬
‫بــدل أن يتــم ردع الســلوك املنحــرف لــدى‬
‫هــذه الرشيحــة‪ ،‬يتــم تنميــة ســلوكهم و‬ ‫وإىل جانــب هــذا‪ ،‬هنــاك بــكل تأكيــد عوامــل‬
‫ميولهــم اإلجراميــة واإلنحرافيــة‪ ،‬و تطبيعهــم‬ ‫أخــرى اجتامعيــة واقتصاديــة تســاهم يف منــو‬
‫عــى املنــاخ الســجني‪ ،‬مــا يســهل ســقوطهم‬ ‫هــذه اآلفــة‪.‬‬
‫يف مطــب العــودة الرسيعــة إىل الســجن‪ .‬كــا‬ ‫ومــن أجــل الحــد مــن هــذه الظاهــرة أو عــى‬
‫ميكــن إلدارة الســجن أن تعــزز هــذا العمــل‬ ‫األقــل خفــض مســتويات تناميهــا‪ ،‬ينبغــي‬
‫الوقــايئ مــن خــال توفــر ورشــات لتحفيــز‬ ‫تضافــر جهــود الجميــع ســواء تعلــق األمــر‬
‫وإبـراز مواهــب النــزالء‪ .‬وحثهــم عىل االشــتغال‬ ‫بالهيئــات الحكوميــة أو بفعاليــات املجتمــع‬
‫اإلجبــاري داخــل الســجن‪ ،‬خاصــة بــن فئــة‬ ‫أو بــأرس الســجناء‪،‬واالنخراط مــن أجــل إيجــاد‬
‫حــاالت العــود‪ ،‬أو املهدديــن بهــا‪ ،‬مــا يســاعد‬ ‫الحلــول‪ ،‬و يف مقدمتهــا تأمــن املتابعــة عــن‬
‫الســجني عــى العمــل ويســهل عليــه االندمــاج‬ ‫قــرب للظاهــرة وتوعيــة الســجناء وتحسيســهم‬
‫يف املجتمــع خــارج أســوار الســجن عــوض تركــه‬ ‫بخطــورة هــذه اآلفــة التــي تــؤدي إىل ضيــاع‬
‫عرضــة للتطبــع و االســتكانة للفضــاء الســجني‬ ‫ســنني مــن العمــر خلــف القضبــان بــدون‬
‫طيلــة مــدة عقوبتــه‪.‬‬ ‫نتيجــة‪ .‬و نظــرا لألهميــة لتــي تحظــى بهــا‬
‫‪55‬‬ ‫عائــات الســجناء‪ ،‬فــإن مســاهمتهم يف دعــم‬
‫ومتابعــة أبناءهــم داخــل وخــارج الســجن‬
‫حاســمة ال محالــة‪.‬و مــن أجــل إنجــاح خطــط‬
‫مكافحــة هــذه الظاهــرة‪ ،‬وجــب عــى الدولــة‬
56
57
‫«ظاهرة العود»‬
‫توصيف واقتراح بدائل مواجهته‬
‫جليل جواد‬

‫املــوارد الكافيــة إلمــداده بحياتــه العمليــة‪ .‬غــر‬ ‫يشــكل العــود الرتــكاب الجرميــة ظاهــرة‬
‫أن اإلنســان ضيعهــا بكفرانــه بالنعمــة اإللهيــة‪،‬‬ ‫مقلقــة‪ ،‬حيــث نســبة اإلجــرام بعــد قضــاء‬
‫و بإهاملــه اســتثامر الطبيعــة االســتثامر‬ ‫العقوبــة الســالبة للحريــة مرتفعــة جــدا‪،‬‬
‫اإليجــايب و املتــوازن‪ .‬فحــن ينعــدم الظلــم مــن‬ ‫وهــو مــا يعكــس إىل حــد كبــر فشــل العقوبــة‬
‫العالقــات االجتامعيــة‪ ،‬وحــن تجنــد الطاقــات‬ ‫الســالبة للحريــة يف التأهيــل وإعــادة الرتبيــة‬
‫اإلنســانية لالســتفادة مــن الطبيعة واســتثامرها‪،‬‬ ‫والحــد مــن الجنــوح واإلج ـرام‪ .‬إذ املالحــظ أن‬
‫تــزول جــل املشــاكل الحقيقيــة عــى الصعيــد‬ ‫عــددا مــن الســجناء الســابقني يعتقلــون مــن‬
‫االقتصــادي‪ .‬خاصــة‪.‬‬ ‫جديــد ســاعات‪ ،‬أو أيــام قليلــة‪ ،‬بعــد اإلف ـراج‬
‫عنهــم‪ ،‬مــا يدفــع الباحثــن إىل التســاؤل عــن‬
‫نهج سياسة التعايش ليعيش البعض مع البعض‬
‫مــدى نجاعــة العقوبــات الســالبة للحريــة‪،‬‬
‫اآلخر‪ ،‬وتحقيق عيش متبادل قائم عىل املساملة‬
‫الســيام القصــرة املــدى منهــا‪ ،‬يف الحــد مــن‬
‫واملهادنة التي تعزى إىل عدة عوامل منها‪:‬‬
‫ظاهــرة اإلجــرام‪ .‬فــا الجرميــة تقلصــت وال‬
‫إذا مــا انطلقنــا مــن اإلســام كديــن للفطــرة و‬ ‫العقوبــة اســتطاعت الحــد مــن ظاهــرة اإلجرام‪.‬‬
‫الوســطية‪ ،‬واالعتــدال‪ ،‬واليــر‪ ،‬تصديقــا لقولــه‬
‫تعــاىل ‪ « :‬يريــد اللــه بكــم اليــر وال يريــد بكــم‬ ‫بــل مــا حــدث هــو العكــس‪ ،‬إذ نالحــظ أنــه‬
‫العــر»‪ .‬ســورة البقــرة اآليــة ‪.84‬‬ ‫كلــا تصاعــد معــدل اإلجــراء‪ ،‬كذلــك تــم‬
‫ارتفــاع عــدد القوانــن العقابيــة‪.‬‬
‫فالدين يحث عىل السلوك الحميد‪ ،‬إذ ال ضيق‬
‫فيه‪ ،‬وال تعصب‪ ،‬وال غلو‪ ،‬وال تطرف‪ ،‬وال عنف‪،‬‬ ‫ومن أهم طرق مواجهة حاالت العود‪ ،‬نذكر ‪:‬‬
‫وال إرهاب‪ ،‬سواء مع الذات أو مع األخر‪.‬‬ ‫تأطري و مأسسة قنوات التواصل مع النزالء‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫و لذا كان نرش العلم والتوعية والتحيل بالتقوى‪،‬‬ ‫بالرجــوع إىل القــرآن الكريــم‪ ،‬نجــد كيــف أن‬
‫كلها صفات تكفل استقرار الفرد‪ ،‬واملجتمع‪،‬‬ ‫اللــه تعــاىل حشــد لإلنســان يف هــذا الكــون‬
‫وتضمن الثقة بني األفراد والجامعات‪.‬‬ ‫الفســيح كل مصالحــه ومنافعــه ووفــر لــه‬
‫التأمــن عــى البطالــة جزئيــة كانــت أو كاملــة‬ ‫تنمية االعتزاز واالفتخار بالوطنية وتاريخ األمة‪.‬‬
‫لصالــح العامــل وتعويضــه عنهــا‪.‬‬
‫رعايــة الطفولــة واالهتــام بهــا‪ :‬لكــون‬
‫تأمــن الحــق يف الشــغل وااللتــزام بإدمــاج‬ ‫األطفــال هــم رجــال املســتقبل‪ ،‬وألن كل مــا‬
‫العــال وتوفــر الحاميــة االجتامعيــة‪ ،‬والحــد‬ ‫يقــوم بــه الفــرد مــن ســلوك مخالــف يف شــبابه‬
‫األدىن لألجــور‪ ،‬والتعويضــات العائليــة‪ ،‬و ضــان‬ ‫أو كهولتــه‪ ،‬نجــد أســبابه بالعــودة إىل املراحــل‬
‫املعايــر املنظمــة لعــدد ســاعات العمــل‪ ،‬ومــدة‬ ‫املبكــرة لحيــاة الفــرد‪.‬‬
‫العقــد واالتفاقيــات الجامعيــة‪.‬‬
‫اإلعتــاد عــى الــدور الــذي ميكــن أن تقــوم بــه‬
‫فتــح أوراش التكويــن املهنــي تجنبــا للبطالــة‬ ‫مؤسســات املجتمــع املــدين‪ .‬و ال نقصــد هنــا‬
‫التــي ت َولدهــا التطــورات الحديثــة التــي تعــزز‬ ‫باملجتمــع املــدين الجمعيــات األهليــة أو غــر‬
‫مــن االعتــاد عــى اآللــة والتكنولوجيــا‪.‬‬ ‫الحكوميــة فقــط‪ ،‬بــل إن املفهــوم أوســع مــن‬
‫الوقايــة والعــاج مــن األمـراض النفســية التــي‬ ‫ذلــك بكثــر‪ ،‬إذ يشــمل كل التنظيــات الدينيــة‬
‫تصيــب معظــم الســجناء داخــل املؤسســات‬ ‫والحــركات االجتامعيــة‪ ،‬فضــا عــن قوتهــا‬
‫الســجنية‪ .‬حيــث أن نســبة االكتئــاب تشــكل‬ ‫االقرتاحيــة‪.‬‬
‫أعــى نســبة بــن زوار العيــادات النفســية‬
‫وميكــن لفعاليــات املجتمــع املــدين أن تلعــب‬
‫يف املستشــفيات واملصحــات النفســية بعــد‬
‫أدوارا رائــدة خاصــة يف الشــق املتعلــق‬
‫اإلفــراج عنهــم‬
‫بالتعريــف بأصــول الدميقراطيــة‪ ،‬ومبادئهــا‪،‬‬
‫محاربة الفقر‬ ‫والدفــاع عــن مصالــح املواطــن‪ ،‬وحقــوق‬
‫اإلنســان‪ ،‬يف الشــغل‪ ،‬والتعليــم‪ ،‬والســكن‬
‫محاربة الرشوة واستغالل النفوذ‬
‫والتطبيــب‪ ،‬وكذلــك فيــا يتعلــق بالتمييــز‬
‫تأهيل السجناء عىل احرتام النظم والقوانني‪،‬‬ ‫العرقــي‪ ،‬وحقــوق األقليــات‪ ،‬ووضــع املــرأة‬
‫واملعايري القيمة‪ ،‬واالجتامعية والقانونية الضامنة‬ ‫وحاميــة املســتهلك‪ ،‬والتصــدي للفســاد‪ ،‬وغــر‬
‫لالستقرار االجتامعي وحامية األمن العام‪.‬‬ ‫ذلــك مــن القضايــا‪.‬‬
‫وكل ما يتعلق بالنظام العام‪.‬‬ ‫محاربــة اإلدمــان عــى املخــدرات بــكل‬
‫أنواعهــا‪ ،‬وذلــك بإجــراء االختبــارات املناعيــة‬
‫مؤسسة محمد السادس إلعادة إدماج السجناء‬
‫تجربة منوذجية وفريدة من نوعها إقليميا وعربيا‪.‬‬ ‫كإجــراء روتينــي‪.‬‬

‫‪59‬‬ ‫تعــد مؤسســة محمــد الســادس إلعــادة إدمــاج‬ ‫توفــر الشــغل‪ ،‬لكل مــن يعيــش وضعيــة‬
‫الســجناء‪ ،‬التــي رأت النــور بتاريــخ ‪ 15‬ينايــر‬ ‫الحاجــة و العــوز‪ ،‬حيــث يتــم مســاعدته‬
‫‪ ،2002‬تجربــة منوذجيــة وفريــدة مــن نوعهــا‬ ‫وبالتــايل إدماجــه يف املجتمــع ليســاهم يف‬
‫عــى املســتوى اإلقليمــي والعريب‪،‬وذلــك يف‬ ‫املنفعــة العامــة‪.‬‬
‫أنفســهم وأرسهــم واملجتمــع‪ ،‬وتصــون كرامتهــم‬ ‫مجــال إعــادة اإلدمــاج‪ ،‬إذ رغــم مــرور ‪12‬‬
‫انســجاما مــع الغايــات التــي ابتغاهــا املــروع‪.‬‬ ‫ســنة عــى إنشــائها‪ ،‬فهــي ال ت ـزال تعتربالهيئــة‬
‫الوحيــدة باملنطقــة العربيــة التــي تشــتغل‬
‫وبالفعــل بــدأت مثــار هــذه املؤسســة تــؤيت‬ ‫عــى موضــوع إعــادة إدمــاج الســجناء بشــكل‬
‫أكلهــا‪ ،‬خاصــة يف مياديــن الرتبيــة والتكويــن‬ ‫مســتقل و شــمويل‪ .‬وقــد دفــع هــذا التميــز‬
‫املهنــي والصحــة واألنشــطة الثقافيــة‬ ‫املنظمــة الدوليــة لإلصــاح الجنــايئ للســعي إىل‬
‫والرياضيــة‪ ،‬وذلــك مــن خــال اعتــاد برامــج‬ ‫تعميــم هــذا النمــوذج ونقلــه إىل بلــدان عربيــة‬
‫هادفــة لفائــدة نــزالء ونزيــات املؤسســات‬ ‫أخــرى‪ ،‬بالنظــر ملــا ملســألة الرعايــة الالحقــة‬
‫الســجنية‪ ،‬لتشــمل عــى الخصــوص مجــاالت‬ ‫إلعــادة اإلدمــاج مــن أثــر ايجــايب‪ ،‬حيــث تؤمــن‬
‫التنشــيط السوســيو ثقــايف والريــايض ومحاربــة‬ ‫اســتمرارية لربامــج إعــادة التأهيــل التــي يتــم‬
‫األميــة وتوســيع دائــرة التعليــم األســايس وبنــاء‬ ‫تنفيذهــا داخــل املؤسســات اإلصالحيــة‪.‬‬
‫وتهيئــة سلســلة مراكــز التكويــن املهنــي‪ ،‬إىل‬
‫جانــب مصالــح التهيــئ وإعــادة اإلدمــاج التــي‬ ‫وظلــت هــذه املؤسســة االجتامعيــة‪ ،‬منســجمة‬
‫تــرف عــى تفعيــل هــذه الربامــج مــن أجــل‬ ‫متــام اإلنســجام مــع التوجهــات الــواردة يف‬
‫تأهيــل ومصاحبــة النــزالء‪.‬‬ ‫الخطــاب امللــي الســامي‪ ،‬مبناســبة افتتــاح‬
‫الســنة القضائيــة يــوم ‪ 29‬ينايــر ‪ ،2003‬والــذي‬
‫وتويل املؤسسة اهتامما خاصا لألنشطة الدينية‬ ‫قــال فيــه جاللــة امللــك «إن مــا توليــه مــن‬
‫والرتفيهية والرتبوية إلبراز وصقل العديد من‬ ‫رعايــة شــاملة للبعــد االجتامعــي يف مجــال‬
‫املواهب التي يحملها نزالء السجون‪ ،‬والتي‬ ‫العدالــة ال يســتكمل إال مبــا توفــره مــن الكرامــة‬
‫يؤكدون من خاللها أنه مبقدورهم اإلنصهار‬ ‫اإلنســانية للمواطنني الســجناء التــي ال تجردهم‬
‫مجددا يف نسيج املجتمع ولتفعيل برامجها‬ ‫منهــا األحــكام القضائيــة الســالبة للحريــة‪ ،‬ويتم‬
‫وإسرتاتيجيتها‪ ،‬تتوفر املؤسسة عىل ‪ 51‬مركزا‬ ‫هــذا الحــرص امللــي بقضايــا إصــاح العدالــة‬
‫للتكوين املهني‪ ،‬توفر للنزالء ‪ 59‬تخصصا‪ ،‬بلغ‬ ‫الجنائيــة‪ ،‬وبالســجون عــى وجــه التحديــد عــى‬
‫عدد املستفيدين من خدماتها ما يفوق ‪ 27‬ألف‬ ‫حــرص إنســاين عــال واحــرام لقيــم العدالــة‬
‫مستفيد‪ ،‬يف مجاالت الفالحة والصناعة التقليدية‬ ‫وحقــوق اإلنســان‪ ،‬ووعــي بــرورة تعزيــز‬
‫وتخصصات أخرى‪ .‬كام بلغ عدد حاميل املشاريع‬ ‫النهــج اإلصالحــي يف التفاهــم مــع األشــخاص‬
‫مبراكز الرعاية الالحقة للمؤسسة سنة ‪ 2013‬نحو‬ ‫املحكومــن»‪.‬‬
‫‪ 1374‬شخصا يف مجال األنشطة املدرة للدخل‪،‬‬
‫وما يفوق ‪ 9000‬مستفيد من دروس محو األمية‬ ‫وتجســيدا لهــذا الحــرص امللــي‪ ،‬دأبــت‬
‫والرتبية غري النظامية والتعليم األويل واإلعدادي‬ ‫املؤسســة منــذ إحداثهــا عــى صــون مبادئهــا‬
‫‪ ،‬وما يفوق ‪ 1700‬شخصا تابعوا تعليمهم العايل‪،‬‬ ‫وإحــداث مشــاريع رائــدة تــروم متكــن نــزالء‬ ‫‪60‬‬
‫وما يفوق ‪ 60‬شخصا حاميل مشاريع صغرى‬ ‫املؤسســات الســجنية‪ ،‬ومراكــز حاميــة الطفولــة‪،‬‬
‫ومتوسطة‪ ،‬هذه الجهود كلها مكنت من إعادة‬ ‫مــن إمضــاء عقوباتهــم يف ظــل ظــروف محرتمــة‬
‫إدماج العديد من نزالء املؤسسات السجنية يف‬ ‫تضاعــف إحساســهم باملســؤولية اتجــاه‬
‫وعليه فإن اإلرادة السياسية املؤطرة لهذا الورش‬ ‫النسيج االجتامعي واالقتصادي بعد قضائهم‬
‫اإلصالحي تجلت بشكل واضح يف ‪:‬‬ ‫مدة العقوبة‪.‬‬
‫• ترسيخ دولة الحق والقانون‪،‬‬ ‫إن االهتــام البالــغ الــذي يوليــه جاللــة امللــك‬
‫• إنشاء املجلس الوطني لحقوق اإلنسان‪،‬‬ ‫محمــد الســادس نــره اللــه لضــان وحاميــة‬
‫• إنشاء املرصد الوطني لحقوق الطفل‪،‬‬ ‫كرامــة الســجني يكتــي داللــة قصــوى تلــوح‬
‫بجــاء يف حــرص جاللتــه عــى أن يطلــق إســمه‬
‫• إحداث هيأة اإلنصاف واملصالحة‪،‬‬ ‫الجليــل عــى هــذه املؤسســة ويــرأس فعليــا‬
‫• إطالق املبادرة الوطنية للتنمية البرشية‪،‬‬ ‫مجلســها اإلداري‪ .‬كــا أن لهــا قــوة اقرتاحيــة‬
‫• إنشاء ديوان املظامل وهي مؤسسة الوسيط حاليا‪،‬‬ ‫وتســاهم يف أنســنة ظــروف اإلقامــة‪.‬‬
‫• دسرتة حقوق السجني باملؤسسات السجنية‬ ‫اإلرادة امللكيــة‪ :‬حيــث تكــررت الزيــارات‬
‫ضمن الفصلني ‪ 20‬و ‪ 23‬من دستور فاتح يوليوز‬ ‫امللكيــة ملختلــف الســجون املغربيــة لتفقــد‬
‫‪.2011‬‬ ‫أحــوال النــزالء مــن طــرف جاللــة امللــك محمــد‬
‫• إحداث إدارة السجون والتي كانت إىل غاية‬ ‫الســادس نــره اللــه‪ ،‬كــا خــص جاللتــه‬
‫‪ 2008‬تحت وصاية وزارة العدل‪ ،‬حيث أصبحت‬ ‫أوضــاع النــزالء و املؤسســات الســجنية بجــزء‬
‫اآلن املندوبية العامة إلدارة السجون وإعادة‬ ‫هــام مــن خطابــه التاريخــي خــال افتتــاح‬
‫اإلدماج وتتمتع باستقاللها املايل‪ ،‬وبخطة عمل‬ ‫الســنة القضائيــة لســنة ‪ ، 2003‬تلتــه خطابــات‬
‫مستقلة‪ ،‬قادرة عىل تدبري هذه الرشيحة من‬ ‫أخــرى دعــا فيهــا جاللتــه إىل سياســة القــرب‬
‫املجتمع وفق معايري متخصصة‪ ،‬ومتوازنة بني‬ ‫وتكافــؤ الفــرص والحكامــة الجيــدة‪.‬‬
‫الدور الجزايئ التأديبي‪ ،‬ودور إعادة اإلدماج‪.‬‬
‫فلسفة إعادة اإلدماج السوسيو مهني وتشتمل‬
‫• انخراط املغرب يف عدة اتفاقيات ومعاهدات‬ ‫عىل التعليامت املولوية التي‪:‬‬
‫دولية منها ‪:‬‬
‫‪ .1‬اتفاقية القضاء عىل جميع أشكال التمييز‪،‬‬ ‫• تويل رعاية شاملة للبعد االجتامعي يف‬
‫مجال العدالة والحفاظ عىل الكرامة اإلنسانية‬
‫‪ .2‬اتفاقية القضاء عىل التعذيب‪،‬‬
‫للمواطنني السجناء‪.‬‬
‫‪ .3‬اتفاقية جنيف بشان معاملة أرسى الحرب‪.‬‬
‫• وتدعو إىل اإلصالح املتقدم لقانون السجون‬
‫• تطوير الرتسانة القانونية للملكة‪ ،‬و ذلك من‬ ‫واإلرساع ببناء مركبات سجنية عرصية مدنية‬
‫خالل‪:‬‬ ‫وفالحية واإلعتناء بالظروف املادية واملعنوية‬
‫‪61‬‬
‫‪ .1‬إقرار دستور سنة ‪،2011‬‬ ‫للسجناء‪.‬‬
‫‪ .2‬إحداث قانون ‪ 23|98‬إلدارة السجون وإعادة‬ ‫• تحرص عىل تطوير البدائل القضائية كالوساطة‬
‫اإلدماج‪،‬‬ ‫والتحكيم والصلح واألخذ بالعقوبات البديلة‪.‬‬
‫• املرحلــة الثانيــة‪ :‬بعــد اإلفــراج‪ :‬وتكمــن يف‬ ‫‪ .3‬عقــد رشاكات واتفاقيــات بــن املندوبيــة‬
‫رضورة تتبــع ومصاحبــة املفــرج عنهــم عــن‬ ‫العامــة إلدارة الســجون وإعــادة اإلدمــاج‪،‬‬
‫طريــق الرعايــة الالحقــة والتــي يتــم خلقهــا‬ ‫ووزارات أخــرى كــوزارة األوقــاف والشــؤون‬
‫جهويــا‪،‬‬ ‫اإلســامية‪ ،‬ووزارة الرتبيــة الوطنيــة والتكويــن‬
‫املهنــي‪ ،‬ووزارة الصحــة‪ ،‬وكــذا وزارة الثقافــة‪.‬‬
‫هــذا وتســعى املندوبيــة العامة إلدارة الســجون‬
‫وإعــادة اإلدمــاج‪ ،‬باســتمرار إىل توســيع مهامهــا‪،‬‬ ‫• اإلرادة عىل إرشاك املجتمع املدين‪.‬‬
‫حيــث عملــت عــى اســتغنائها عــن مصلحــة‬
‫التهيــئ إلعــادة اإلدمــاج‪ ،‬وتعويضهــا مبصلحــة‬ ‫• إعــداد برنامــج متعــدد األبعــاد يتجــى يف‬
‫املصاحبــة والرعايــة االجتامعيــة والتــي تعمــل‬ ‫مرحلتــن‪:‬‬
‫خــارج املؤسســة ‪:‬‬ ‫املرحلة األوىل‪ :‬تتعلق مبصلحة التهيئ إلعادة اإلدماج‬
‫( يحب التأكد من هذه املعلومة)‬ ‫‪Service de préparation à la réinsertion‬‬
‫‪SOPR - Service d’orientation de‬‬
‫‪préparation à la réinsertion.‬‬ ‫وتعمل هذه املصلحة داخل املؤسسة‪ ،‬وقد‬
‫حققت نتائج مشجعة فيام يخص اإلدماج يف‬
‫وينحرص دورها فيام ييل‪:‬‬ ‫النسيجني االجتامعي واالقتصادي‪ ،‬خاصة خالل‬
‫‪ .1‬االستقبال‪،‬‬ ‫الفرتة الالحقة عىل اإلفراج‪ ،‬وهو ما يفرس الرتاجع‬
‫‪ .2‬بناء عالقة الثقة‪،‬‬ ‫امللحوظ يف حاالت العود‪.‬‬
‫‪ .3‬تثمني فرتة االعتقال‪.‬‬
‫ثــم الربنامــج املندمــج ‪ :‬ويتجــى يف التداريــب‬
‫لصقــل املهــارات والتشــغيل داخــل املقــاوالت‪،‬‬
‫وإنشــاء أنشــطة مــدرة للدخــل يســتفيد منهــا‬
‫أيضــا أبنــاء وأُرس النــزالء‪ ،‬حيــث بلــغ عــدد‬
‫مراكــز الرعايــة الالحقــة ‪ 8‬مركــز إىل غايــة ‪31‬‬
‫ديســمرب ‪.2015‬‬

‫‪62‬‬
63
‫دور املِ�ؤ�س�سة ال�سجنية يف �إعادة الإدماج‬
‫ال�سجن املحلي مبراك�ش (بوملهارز) منوذجا‬
‫بلحسيني يوسف‬

‫العامل والثورة الصناعية‪ .‬ويصف لنا هذا الفيلم‬ ‫إن الصورة التي يحملها اإلنسان العادي حول‬
‫رشوط العيش داخل السجون إىل غاية القرن‬ ‫السجن وحول دوره الحديث املتمثل يف إعادة‬
‫‪ ،19‬و التي كانت قاسية ومزرية‪ .‬إذ السجن هو‬ ‫اإلدماج‪ ،‬هي صورة داكنة وغري واضحة املعامل‪.‬‬
‫عبارة عن جزيرة تعبريا عن عزل هذا الفضاء‬ ‫إذ ظل عامل السجن عاملا مغلقا ومجهوال‬
‫وإبعاده عن املجتمع‪.‬‬ ‫يكتنفه الغموض‪ ،‬إال أن التطورات التكنولوجيا‬
‫التي ابتكرها العامل املعارص واملتمثلة يف ظهور‬
‫وأخريا‪ ،‬نستدل بفيلم ‪La Grande Evasion‬‬ ‫الصورة كبعد جديد وأداة للتعبري‪ ،‬دفع الباحثني‬
‫ملمثله ‪ ،Steve McQueen‬وهو عمل سيناميئ‬ ‫والدارسني إىل إعادة قراءة هذا العامل املبهم‬
‫يصور نوعا جديدا من السجون خالل الحرب‬ ‫والكشف عليه‪.‬‬
‫العاملية األوىل والثانية‪ ،‬حيث ظلت أساليب‬
‫التعذيب الجامعي تخيم عىل السجون‪ ،‬مام دفع‬ ‫و قد لعبت الشاشات السينامئية والتلفزيونية‬
‫إىل النفور الجامعي والتحريض عىل الهروب‬ ‫دورا هاما يف التعريف بالسجن وبتطور مفهومه‬
‫الجامعي‪.‬‬ ‫ودوره عرب التاريخ‪ ,‬و ونظرا لغياب املراجع وعدم‬
‫توافرها‪ ،‬فقد حاولت اختيار أرشطة سينامئية‬
‫وإذا كان لنا من أن نستنج مع مضمون هذه‬ ‫إلعطاء نبذة عن تطور السجون عرب التاريخ‪:‬‬
‫األعامل السينامئية‪ ،‬فيمكن مالحظة بالنظر إىل‬ ‫فيلم ‪ Spartacus‬ملمثله ‪،Kirk Douglas‬‬
‫اختالف الحقب التي تعرضها هذه األفالم‪ ،‬إىل أن‬ ‫والذي ترجع أحداثه إىل عهد اإلمرباطورية‬
‫السجن عرف تطورا يف مفهومه ودوره ارتباطا‬ ‫الرومانية حيث كان السجناء يستخدمون‬
‫بتطور املجتمعات البرشية‪ .‬غري أن واقع السجون‬ ‫كجيوش‪ ،‬بينام كانت السجون أشبه ما تكون‬
‫ظل مزريا إىل غاية بداية القرن العرشين‪.‬‬ ‫بالثكنات العسكرية‪ ،‬تتحول من حني آلخر إىل‬
‫فقد اقترص السجن عىل حبس األشخاص وراء‬ ‫حلبات رصاع‪ ،‬حيث يتحول السجني إىل موضوع‬
‫القضبان‪،‬كام يوضح ذلك بإسهاب ميشيل فوكو‬ ‫للفرجة واملراهنة يف إطار نظام اجتامعي‬
‫يف كتابه املراقبة و العقاب‪.‬‬ ‫إقطاعي‪ ،‬يعترب السجني عبدا‪ .‬ثم هناك فيلم‬ ‫‪64‬‬
‫‪ Papillon‬ملمثله ‪ .Dustin Hoffman‬وهي‬
‫لكن ماهي العوامل واآلليات التي ميكن‬ ‫قصة تروي أحداث حقيقية وقعت خالل القرن‬
‫للمؤسسة السجنية تفعيلها‪ ،‬لإلنجاز دورها‬ ‫‪ ،18‬حيث كانت بداية الحركة االستعامرية عرب‬
‫بالنزيل وذلك بإصالح سلوكه‪ ،‬وإعادة تربيته‪،‬‬ ‫الجديد املتعلق بإعادة إدماج السجناء؟ وهل‬
‫سواء تعلق األمر بالرتبية النفسية‪ ،‬أو التعليمية‬ ‫فعال ميكن للمؤسسة السجنية أن تلعب لوحدها‬
‫والتكوينية أو حقه يف العمل‪ ،‬مام يجعله يكتيس‬ ‫هذا الدور املرتبط بإعادة إدماج السجناء؟‬
‫إمكانيات تجعله قادرا عىل املساهمة يف الحياة‬
‫إن االهتامم مبوضوع دور املِؤسسة السجنية يف‬
‫االقتصادية‪ ،‬والولوج إىل عامل الشغل بعد اإلفراج‪،‬‬
‫إعادة إدماج السجناء‪ ،‬يرجع أساسا إىل مجموعة‬
‫ومواجهة البطالة والجهل والفقر‪.‬‬
‫من األسباب واملعطيات تجمع بني ما هو منهجي‬
‫‪ .5‬اختيار دراسة حالة السجن املحيل مبراكش‬ ‫وما هو موضوعي‪ ،‬وما هو ذايت‪.‬‬
‫‮«بوملهارز» الرتباطه بفضاء جغرايف‪ ،‬وجهوي‬
‫‪ .1‬األهمية التي أصبح يكتسيها السجن كمرفق‬
‫متميز داخل املغرب‪.‬‬
‫عمومي‪ ،‬وكمؤسسة تقوم بإصالح النزالء‪،‬‬
‫تكوينهم‪ ،‬وتعليمهم وتأهيلهم وإعادة إدماجهم ‪ .6‬ثم ولعل اإلعتبار الذايت الهتاممي بهذا‬
‫املوضوع ينم عن كوين نزيال من نزالء املؤسسة‬ ‫داخل املجتمع بعد اإلفراج‪.‬‬
‫السجنية‪.‬‬
‫‪ .2‬الرغبة األكيدة للمجتمع الدويل يف النهوض‬
‫بوضعية السجناء‪ ،‬وتحسني رشوط سجنهم‪ ،‬إن دراسة هذا املوضوع انطالقا من هذه‬
‫وأنسنة الفضاء السجني‪ ،‬بارتباط املرجعيات اإلشكالية املرتبطة باألدوار الجديدة للمؤسسة‬
‫الدولية لحقوق اإلنسان كمؤمتر جنيف لسنة السجنية‪ ،‬يفرض طرح األسئلة التالية‪:‬‬
‫‪ ،1948‬وكذا باملرجعيات القانونية الوطنية للدول‪.‬‬
‫• ماهو دور املؤسسة السجنية يف إعادة إدماج‬
‫‪ .3‬الرغبة الحقيقية للمجتمع املغريب يف االنخراط السجناء؟ وماهي مرافقها؟ وماهي اإلمكانيات‬
‫يف هذه الدينامية واملتمثلة أساسا يف املبادرة املادية والبرشية؟‬
‫السياسية لتأهيل فضاء السجون تفعيال للخطاب • ماهي األسس والعوامل املتحكمة يف عملية‬
‫املليك مبناسبة حلول السنة القضائية بتاريخ اإلدماج؟ وماهي حدود عملية اإلدماج؟‬
‫‪ ....« :2003/01/21‬مبوازاة مع اإلصالح املتقدم‬
‫والذي ميثل قانون السجون وبرنامج العمل لإلجابة عىل هذه األسئلة‪ ،‬سنحاول عرض‬
‫الطموح‪ ...‬الذي تسهر عىل أن تنهض به مؤسسة التطور التاريخي والوظيفي للمؤسسة السجنية‬
‫محمد السادس إلعادة إدماج نزالء املؤسسات بوملهارز‪ ،‬ثم االنتقال إىل تحليل طبيعة الساكنة‬
‫السجنية‪ ،‬فقد أصدرنا تعليامتنا قصد االعتناء السجنية لهذه املؤسسة‪ ،‬سواء تعلق األمر‬
‫بعددهم‪ ،‬وأصلهم الجغرايف‪ ،‬واألحكام الصادرة‬ ‫بالظروف املادية واملعنوية للسجناء‮»‪.‬‬
‫ضدهم‪ ،‬ثم مستواهم الدرايس ومستوى‬
‫‪65‬‬ ‫‪ .4‬وهي دعوة تستنهض املجتمع حول املقاربة عائالتهم االجتامعي‪.‬‬
‫والوسائل الالزمة تعبئتها يف تأهيل وإعادة‬
‫اإلدماج‪ .‬مبا يجعل املؤسسة السجنية مرفقا لنعــود بعــد ذلــك إىل تقييــم برامــج تكويــن‬
‫عموميا يكتيس أدوارا جديدة تتمثل يف االعتناء وتأهيــل نــزالء املؤسســة الســجنية‪ ،‬ســواء تعلــق‬
‫وقد ركزنا من الناحية املنهجية يف إنجاز هذا‬ ‫األمــر بالتمــدرس ومحــو األميــة‪ ،‬أو بالتكويــن‬
‫البحث عىل اختيار عينة من الساكنة السجنية‪،‬‬ ‫املهنــي‪ ،‬والتوعيــة الصحيــة والدينيــة‪ ،‬الرتبيــة‬
‫إذ تم اختيار ‪ 120‬نزيال بطريقة عشوائية‪ .‬ونظرا‬
‫لنذرة اإلحصائيات واملعطيات الرسمية‪ ،‬فقد تم‬ ‫البدنيــة‪ ،‬إضافــة إىل كافــة األنشــطة الثقافيــة‬
‫اعتامد إحصائيات االستامرات بالدرجة األوىل‪.‬‬ ‫والرتفيهيــة األخــرى‪.‬‬

‫دراسة حالة السجن املحيل بوملهارز‪:‬‬


‫األوريب ‪ ،Majorelle‬عىل مقربة من املستشفيات‬ ‫السجن املحيل بوملهارز قطب جهوي‪ :‬تاريخه‪،‬‬
‫والكليات‪ ،‬مام يجعله يلعب دورا أساسيا داخل‬ ‫إمكانياته البرشية‪ ،‬مرافقه‬
‫املنطقة‪.‬‬ ‫يعد السجن املحيل بوملهارز مبراكش واحدا من‬
‫النظام اإلداري للمؤسسة السجنية بوملهارز‬ ‫أحد أقدم املؤسسات السجنية باملغرب وبالجهة‪،‬‬
‫تم بناؤه من طرف االستعامر الفرنيس‪.‬‬
‫تخضع املؤسسة لهيكل تنظيمي كالتايل‪:‬‬
‫ويف غياب توثيق عن أسباب تسميته ب‬
‫مدير املؤسسة‪ :‬يعد املنسق واملنظم واملراقب‬
‫«بوملهارز»‪ ،‬إال أن ما توافر لدينا من روايات‬
‫لجميع املصالح املوجودة داخل املؤسسة‬
‫شفهية‪ ،‬تروي بأن املكان الذي بني فيه السجن‪،‬‬
‫نائب املدير‪ :‬يتوفر بدوره عىل نواب‬ ‫كان مجاال لصنع املهاريز الخشبية التي كانت‬
‫تصنع من جذوع أشجار النخيل‪ ،‬بينام تذهب‬
‫مصلحة الضبط القضايئ‪ :‬مهمة هذه املصلحة‬ ‫روايات أخرى إىل أن التسمية ترتبط بآلة نسيج‬
‫السهر عىل تنفيذ قرارات املحاكم‪ ،‬وتهتم‬
‫الزرايب‪ ،‬وهي آلة ضخمة كانت توجد بسجن‬
‫بالوضعية الجنائية للمعتقلني‪.‬‬
‫النساء خالل املرحلة االستعامرية‪ ،‬والتي كانت‬
‫مصلحة املقتصدية‪ :‬تهتم بتدبري األموال‬ ‫تصنع من قضبان حديدية‪ .‬وترجع التسمية يف‬
‫والحسابات سواء تعلق األمر بحاجيات املعتقل‬ ‫منطوق روايات شفهية أخرى إىل أن التسمية‬
‫من املأكل واملرشب أو الصيانة والتجهيز‪.‬‬ ‫ترتبط بشكل القيود التي كان يكبل بها السجناء‪.‬‬
‫مصلحة الشؤون االجتامعية والرتبية‪ :‬من مهامها‬ ‫كان تسيري هذه املؤسسة خالل العهد االستعامري‬
‫السهر عىل تكوين وتعليم النزالء واالعتناء‬ ‫يعهد إىل األمن العمومي‪،‬ثم شهد السجن عام‬
‫بطلباتهم‪ ،‬وهي املصلحة التي تتوفر عىل‬ ‫‪ 1956‬مرحلة انتقالية‪ ،‬كان التسيري يعود خاللها‬
‫اإلحصائيات التي تهم عدد النزالء ونوع تعليمهم‬ ‫إىل اإلدارة املركزية‪.‬‬
‫وكذا األنشطة الثقافية والرتبوية‪...‬‬ ‫‪66‬‬
‫يظهر من خالل الخريطة الحرضية ملراكش‬
‫مصلحة عامة‪ :‬وهي املسئولة عن الحراسة واملراقبة‬ ‫جليز ‪ 50000/1‬أن املؤسسة تقع شامل غرب‬
‫والتفتيش والحفاظ عىل األمن داخل املعقل‪.‬‬ ‫املدينة العتيقة خارج األسوار عىل هامش الحي‬
67
‫مختلفــة‪ ،‬بينــا تنظــم حمــات تحسيســية‬ ‫ال نتوفــر عــى عــدد دقيــق ملوظفــي املؤسســة‬
‫خــال املناســبات العامليــة ( اليــوم العاملــي ضــد‬ ‫الســجنية‪ ،‬إال أن العالقــة العدديــة بــن‬
‫التدخــن‪ ،‬اليــوم العاملــي ضــد الســيدا‪ ،)...‬إال‬ ‫املوظفــن وعــدد النــزالء مــن شــأنه أن يعطينــا‬
‫أنهــا تبقــى عمليــات محــدودة كــا وكيفــا‪.‬‬ ‫فكــرة عــن مــدى كفايــة اإلمكانيــات البرشيــة‬
‫إلدارة املؤسســة يف توجيــه و تأهيــل النــزالء‪.‬‬
‫وعمومــا‪ ،‬تشــكو املؤسســة مــن محدوديــة‬ ‫و بالنظــر أيضــا إىل طبيعــة تكويــن املوظفــن‬
‫اإلمكانيــات البرشيــة مقارنــة بالعــدد الكبــر‬ ‫التــي يغيــب عنهــا التكويــن البيداغوجــي‬
‫للســجناء‪ ،‬مــا يجعــل التكويــن والتعليــم‬ ‫والنفــي‪ ،‬بــل يقتــر التكويــن عــى الجوانــب‬
‫والتوجيــه محــدودا‪.‬‬ ‫املتعلقــة باألمــن والســامة داخــل املؤسســة‬
‫إىل جانــب هــذا‪ ،‬تتوفــر املؤسســة عــى مدرســة‬ ‫بالدرجــة األوىل‪ .‬كــا هــو الحــال بالنســبة لحــي‬
‫ومجــال للتكويــن الحــريف مثــل صناعــة الجلــد‬ ‫االبتدائيــة‪ ،‬و الــذي يتوفــر عــى ‪ 400‬نزيــل‬
‫التقليــدي و الخياطــة‪ ,‬إضافة إىل توفر املؤسســة‬ ‫يراقبــه موظفــان أي ‪ 200‬نزيــل لــكل موظــف‪،‬‬
‫عــى ملعــب للرياضــة وقاعــة الســينام‪.‬‬ ‫وبالتــايل فــإن إمكانيــة التوجيــه والتأهيــل تبــدو‬
‫محــدودة‪ ،‬بــل وغــر ممكنــة يف بعــض الحــاالت‪.‬‬
‫إن القيمــة التاريخيــة للمؤسســة الســجنية‬
‫بوملهــارز‪ ،‬تجعــل منهــا فشــاء يحتــاج رعايــة‬ ‫عــى مســتوى الرعايــة الصحيــة‪ ،‬تتوفــر‬
‫خاصــة يف الشــق املتعلــق بصيانتهــا‪ ،‬مــع العمل‬ ‫املؤسســة عــى مصلحــة طبيــة يديرهــا طبيبــان‬
‫عــى تطويرإمكانيتهــا اإليوائيــة الضعيفــة‬ ‫للطــب العــام وطــب األســنان‪ ،‬وثــاث ممرضني‪.‬‬
‫مقارنــة بعــدد النــزالء‪.‬‬ ‫و حســب اإلحصائيــات املتوافــرة‪ ،‬فإنــه يتوافــد‬
‫عــى هــذه املصلحــة حــوايل ‪ 40‬حالــة يف اليــوم‬
‫الواحــد‪ ،‬إضافــة إىل اســتقبال مــرىض الســجون‬

‫الساكنة السجنية بسجن بوملهارز‬


‫شهر مارس ‪ 1450 ،2006‬معتقال موزعني عىل‬ ‫إن اإلحصائيات التي تقدمها النرشة اإلحصائية‬
‫سبعة أحياء‪ .‬و بالنظر إىل عينة البحث التي‬ ‫ملديرية السجون واملتعلقة بعدد النزالء‪ ،‬ال‬
‫اعتمدنا عليها‪ ،‬و هي ساكنة حي االبتدائية‪ ،‬فإن‬ ‫تعطينا يف الواقع سوى فكرة محدودة عن‬
‫مساحة الغرف تناهز مساحتها ‪ 60‬مرت مربع‪،‬‬ ‫الساكنة السجنية‪ ،‬ذلك أن الحركة اليومية‬
‫يخصص منها ‪ 4‬أمتار للمراحيض‪ ،‬ليبقى حوايل‬ ‫املتمثلة يف أعداد الوافدين‪ ،‬و املفرج عنهم‪،‬و‬
‫‪ 56‬مرتا مربعا‪ ،‬أي ما يعادل متوسط ‪ 1.7‬مرت‬ ‫املرحلني إىل سجون أخرى‪ ،‬يجعل عدد النزالء يف‬
‫مربع لكل نزيل‪ ،‬باعتبار عدد النزالء البالغ ‪32‬‬ ‫حركية مستمرة‪ .‬إذ تستقبل املؤسسة السجنية‬ ‫‪68‬‬
‫معتقال‪ .‬و يثري هذا من جديد الجدل القائم حول‬ ‫‪ 416‬نزيال كمعدل يف الشهر الواحد أي ما‬
‫ظاهرة االكتظاظ‪ ،‬بالنظر إىل املعايري الدولية التي‬ ‫يناهز ‪13‬نزيل يف اليوم‪ ،‬وهو عدد يفوق الطاقة‬
‫تنص عىل تخصيص ‪ 6‬أمتار مربعة لكل معتقل‪.‬‬ ‫اإليوائية للمؤسسة‪ .‬فقد بلغ عدد النزالء خالل‬
‫بالنظــر إىل طبيعــة التهــم واألحــكام الصــادرة‬ ‫وترى الكاتبة الفرنسية ‪ Isabelle Mansuy‬يف‬
‫ضدهــم‪ ،‬فتتميــز هــي األخــرى بالتنــوع‪،‬‬ ‫مقال لها حول حامية قانون السجناء بفرنسا‬
‫لتشــمل تهــم جرائــم املخــدرات (حــوايل نصــف‬ ‫وأملانيا‮‪ ،‬إىل أنه إذا كان عدد املعتقلني هو ‪ 3‬يف‬
‫نــزالء املؤسســة)‪ ،‬تليهــا جرائــم الــرب والجــرح‬ ‫‪ 9‬مرت مربع مبعنى ‪ 3‬أمتار مربعة للشخص‪ ،‬فإن‬
‫والرسقــة واالغتصــاب ( حــوايل ‪ 30‬يف املائــة)‪،‬‬ ‫ذلك يؤثر سلبيا عىل الدور التأهييل للمؤسسة‬
‫وحــوايل الخمــس مــن املحكومــن مــن أجــل‬ ‫السجنية‪ ،‬وهو نفس االنشغال الوطني الذي‬
‫تهــم أخــرى كالقتــل‪ ،‬و جرائــم األمــوال‪ ،‬و‬ ‫كان قد عرب عنه وزير العدل‪ ،‬الذي دعا وكالء‬
‫الفســاد‪ ،‬و الســكر‪ ..‬هــذا باإلضافــة إىل أنــواع‬ ‫امللك إىل العمل باملقتضيات الجديدة باملسطرة‬
‫جديــدة مــن التهــم مل تكــن معروفــة مــن قبــل‬ ‫الجنائية املتمثلة يف الصلح والكفالة (جريدة‬
‫كاإلرهــاب‪ ،‬الهجــرة الرسيــة ( وجــب التأكــد‬ ‫األحداث عدد ‪ 2442‬بتاريخ ‪.)2005/10/5‬‬
‫مــن هــذه املعلومــة)‪.‬‬
‫بالنظــر إىل مــؤرش الســن‪ ،‬يتضــح مــن خــال‬
‫وعموما‪ ،‬فإن أغلب هذه الجرائم تحركها دوافع‬ ‫االســتامرات أن متوســط ســن الســاكنة السجنية‬
‫فردية تنبني عىل الحاجة والرغبة يف تحسني‬ ‫لبوملهــارز ال يتعــدى ‪ 27‬ســنة (‪ ،)72%‬وبالتــايل‬
‫األوضاع املادية املزرية‪ ،‬إضافة إىل ارتفاع نسبة‬ ‫فــإن هــذه الســاكنة هــي شــابة قابلــة للتكويــن‬
‫البطالة داخل األرس وانتشار الجهل‪ .‬وتعد أغلب‬ ‫والتأهيــل‪ ،‬لتســاهم يف الحيــاة االقتصاديــة‬
‫هذه الجرائم من صنف الجرائم الصغرى‪ ،‬إذ مل‬ ‫واالجتامعيــة بعــد اإلف ـراج‪.‬‬
‫ترقى إىل مستوى الجرمية املنظمة‪ ،‬وهو ما أكده‬
‫السيد وزير العدل خالل يوم درايس نظم بالرباط‬ ‫أمــا عــى مســتوى االنتــاء الجغ ـرايف للســاكنة‬
‫قال فيه بأن القضايا التي تسبب االكتظاظ يف‬ ‫الســجنية‪ ،‬فيتضــح مــن خــال االســتامرات أن‬
‫السجون‪ ،‬هي من القضايا الصغرى‮ (جريدة‬ ‫حــوايل ‪ %65‬مــن الســاكنة الســجنية تنحــدر‬
‫األحداث عدد ‪ 2442‬بتاريخ ‪ 2005/01/5‬ص ‪.)4‬‬ ‫مــن مدينــة مراكــش‪ ،‬مقابــل ‪ %28‬تنتمــي إىل‬
‫مــدن صغــرى تحيــط مبدينــة مراكــش‪ .‬بينــا‬
‫بالعودة إىل متغري األحكام الصادرة ضد النزالء‪،‬‬ ‫ينحــدر مــن هــذه الرشيحــة حــوايل ‪ %50‬مــن‬
‫نجد أن العقوبات تختلف حسب نوع الجرمية‪،‬‬ ‫مــدن أخــرى كالبيضــاء‪،‬و أكاديــر‪ ،‬والعيــون‪.‬‬
‫إذ يصل متوسطها من سنتني إىل سنتني ونصف‬ ‫أضــف إىل هــذا وجــود عــدد هــام مــن النــزالء‬
‫يف بعض التهم كاملخدرات‪ ،‬وهي مدة تسمح‬ ‫األجانــب أيضــا‪.‬‬
‫للنزيل لالنخراط يف برنامج التكوين والتعليم‬
‫والتأهيل واالستفادة من الحرف التي تساعده‬ ‫وعــى مســتوى االنتــاء املحــي واللغــوي و‬
‫‪69‬‬ ‫عىل االنخراط يف عامل الشغل بعد اإلفراج‪ .‬ويرى‬ ‫الثقــايف‪ ،‬فيتميــز أيضــا بالتنــوع‪ ،‬حيــث تتكــون‬
‫الكاتب الفرنيس ‪Philippe Lambert‬‮«أن طول‬ ‫الســاكنة الســجنية مــن فئــات مــن أصــل‬
‫مدة الحبس ليس لها معنى بل هو تهديم بطيء‬ ‫أمازيغــي‪ ،‬و صحــراوي وعــريب‪ ،‬وبــن فئــات‬
‫للفرد‮»‪.‬‬ ‫مســلمة وأخــرى مســيحية‪.‬‬
‫بالنسبة لإلمكانيات املادية واملستوى التعليمي‬
‫‪38‬‬ ‫محو األمية ‪:‬‬ ‫للنزالء وألرسهم فييتضح من خالل االستامرات‬
‫‪25‬‬ ‫التعليم األسايس ‪:‬‬ ‫امليدانية أن معدل عدد أفراد األرسة هو ‪ 8‬أفراد‪.‬‬
‫‪3‬‬ ‫التعليم الثانوي ‪:‬‬ ‫كام أن األب يف غالب األحيان يعمل يف قطاعات‬
‫‪13‬‬ ‫التعليم الجامعي ‪:‬‬ ‫غري مهيكلة‪ ،‬أما األم فتكون يف غالب األحيان‬
‫بدون عمل أو تعمل بشكل موسمي‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫التكوين املهني ‪:‬‬
‫‪104‬‬ ‫املجموع ‪:‬‬ ‫فبالنسبة لجل النزالء املنتمني ملدينة مراكش‪،‬‬
‫فهم يقطنون بأحياء هامشية‪ ،‬و ينحدرون من‬
‫و هو ما يعني أن نسبة املستفيدين تشكل ‪%‬‬ ‫أرس ذات دخل محدود (حي املالح‪ ،‬ملحاميد‪،‬‬
‫‪ 7‬من مجموع الساكنة السجنية بوملهارز‪ ،‬وهي‬ ‫دوار العسكر‪ .)...‬عىل مستوى املستوى الدرايس‪،‬‬
‫نسبة تظل ضعيفة‪.‬‬ ‫تظهر االستامرات أن نسبة كبرية من النزالء ال‬
‫يتعدى مستواهم االبتدايئ‪ ،‬سواء نتيجة ضعف‬
‫تتكون مدرسة املؤسسة من حجرتني وخزانة‪،‬‬
‫اإلمكانيات املادية‪ ،‬والنتشار ظاهرة تفكك‬
‫يقوم بتدبري شؤونها مرشف اجتامعي ونائبه‬
‫الوسط األرسي نتيجة الطالق‪ ،‬أو وفاة أحد‬
‫باإلضافة إىل معلمني‪ ،‬يقوم هؤالء بدور أسايس‬
‫يف تلقني النزالء املسجلني الكتابة والقراءة وذلك‬ ‫األبوين‪ .‬كام أن أولياء أمورهم تفضل توجيه‬
‫يف إطار محاربة األمية والتعليم االبتدايئ‪.‬‬ ‫أبنائها نحو اكتساب مهارات حرفية أو للعمل يف‬
‫سن مبكر ملساعدة األرسة ماديا‪.‬‬
‫أما بالنسبة للتكوين املهني‪ ،‬فيتضمن شعبة‬
‫صناعة الجلد عىل الطريقة التقليدية‪ ،‬ملدة‬ ‫كيــف يتــم تكويــن وتأهيــل املعتقــل داخــل‬
‫سنتني‪ ،‬يلقن فيها املتدرب وفق برنامج تكويني‬ ‫املؤسســة؟ وماهــي نســبة نجاحهــم؟‬
‫نظري وتطبيقي‪ ،‬تقنيات الدباغة والتجفيف‬ ‫تعتمد املؤسسة السجنية عىل عدد من الخطوات‬
‫والفصالة لصنع البوفات أو البالغي وغريها‪.‬‬ ‫والربامج الـتأهيلية للنزالء نذكر منها‪:‬‬
‫وتتوفر املؤسسة أيضا عىل ملعبني رياضيني‪،‬‬ ‫املدرسة‪ :‬و تعترب مركز العملية التـأهيلية يف‬
‫تنظم فيها مقابالت رياضية‪ ،‬تشجيعا للنزالء عىل‬ ‫شقها املتعلق بتأمني التعليم للسجناء‪ ،‬ومحو‬
‫الرتبية البدنية‪.‬‬ ‫األمية‪ .‬فحسب البند ‪ 60‬و ‪ 62‬من مرشد السجني‬
‫وتقوم املؤسسة السجنية بوملهارز بتنظيم‬ ‫لسنة ‪ ،2004‬ميكن للمعتقل اإلستفادة من‬
‫مجموعة من األنشطة الثقافية والدينية‪ ،‬ملا‬ ‫دورات محو األمية وبرامج التكوين املهني وإمتام‬
‫للوازع الديني من دور يف تكوين وتقويم‬ ‫التعليم االبتدايئ والثانوي أو الجامعي‪ .‬ومن‬ ‫‪70‬‬
‫السلوك‪ ،‬إذ تقام صالة الجمعة داخل السجن‬ ‫خالل االستامرات التي قمنا بإنجازها داخل عينة‬
‫بتنسيق مع املجالس العلمية للمدينة‪ ،‬حيث‬ ‫من ساكنة سجن بوملهارز‪ ،‬يصل عدد املسجلني‬
‫يستفيد النزالء من االستامع للخطب التي تدعو‬ ‫يف الربامج الرتبوية إىل ‪ 104‬نزيال تتوزع كالتايل‪:‬‬
‫مراجع‪:‬‬ ‫للتحيل مببادئ الدين اإلسالمي وتعاليمه‪ ،‬وقيم‬
‫‪ .1‬برامج تلفزيونية بالقناة الثانية ‮« مختفون‮» حلقة شهر‬
‫املواطنة الصالحة‪ .‬كام يتوصل النزالء بالجرائد‬
‫فرباير ‪ 2006‬عنوان الحلقة ‮«األقراص املهلوسة‮»‬ ‫ويتابعون األخبار عن طريق جهازي التلفزة‬
‫‪ .2‬جريدة األحداث املغربية عدد ‪ 1743‬بتاريخ ‪14/11/2005‬‬ ‫والراديو‪ ،‬وهو ما يجعلهم يف تواصل دائم مع‬
‫‪ .3‬إحصائيات االستامرة كمعطيات ميدانية‬ ‫العامل الخارجي‪.‬‬
‫‪ .4‬مرشد السجني ‪ 2004‬وزارة العدل مديرية إدارة السجون‬
‫وإعادة اإلدماج‬ ‫إن النتائج التي تم تجميعها واستخالصها من‬
‫‪ .5‬الخريطة الحرضية مراكش جليز مقياس ‪50000/1‬‬ ‫خالل االستامرات‪ ،‬تؤكد أن ظاهرة العود تشكل‬
‫‪ .6‬الخطاب املليك السامي املؤرخ ب ‪ 29 /01 /2003‬مبناسبة‬ ‫نسبة كبرية‪ ،‬إذ ال تتعدى بضعة شهور ليعود‬
‫حلول السنة القضائية‪.‬‬ ‫عدد من النزالء من جديد إىل السجن‪.‬‬
‫‪Références‬‬
‫بالنظر إىل تعقيد عمليتي إعادة تأهيل النزالء‬
‫‪1. Films : Spartacus, avec Kirk Douglas,‬‬
‫‪Papillon, avec Steve McQueen et Dustin‬‬ ‫واإلدماج‪ ،‬يبقى اإلقرار بأن فهم شخصية النزالء‬
‫‪Hoffman, La grande évasion, avec Steve‬‬ ‫ومعرفة واقعهم االقتصادي واالجتامعي‪ ،‬وكذا‬
‫‪McQueen‬‬
‫‪2. Bernheim Jean-Claude, L’univers carcéral,‬‬ ‫مستواهم الدرايس لتصنيفهم وتحديد برامج‬
‫‪Relations, Dossier : La prison au banc des‬‬ ‫موجهة ونوعية إلدماجهم‪ ،‬أمرا أساسيا‪ .‬لكن‬
‫‪accusés, juin 2004, n°693, Centre Justice et Foi‬‬
‫?‪3. Kuhn André, Détenus - Combien? Pourquoi‬‬
‫األمر ال يقترص عىل ذلك ما مل يتم دعم القدرة‬
‫‪Que faire?, Ed. Haupt 2000, 258 p.‬‬ ‫اللوجيستيكية والبرشية للمؤسسة السجنية‪.‬‬
‫‪4. Rapport fait au nom de la commission‬‬
‫‪d’enquête sur la situation dans les prisons‬‬ ‫فإذا كانت عملية اإلدماج داخل املؤسسة‪،‬‬
‫‪françaises, 28 juin 2000, www.assemblee-‬‬
‫‪nationale.fr‬‬ ‫تصطدم مبجموعة من املشاكل كاالكتظاظ وهي‬
‫‪5. Foucault Michel, Surveiller et punir -‬‬ ‫ظاهرة تشهدها مجمل السجون‪ ،‬فإن ارتفاع‬
‫‪Naissance de la prison, Gallimart, 1975, 318 p.‬‬
‫‪6. www.hpnhaiti.com (Haiti Press Network),‬‬
‫نسبة األمية والجهل وغياب الرغبة يف التعليم‬
‫‪Isabelle Mansuy , Philippe Lambert‬‬ ‫والتكوين‪ ،‬وضعف اإلمكانيات املادية لجل نزالء‬
‫‪7. www.service-public.ma‬‬
‫املؤسسة السجنية وضعف اإلمكانيات املادية‬
‫والبرشية والتجهيزات باملؤسسة التي تعد بناية‬
‫عتيقة تعمق من الهوة القامئة بني النظرية‬
‫والتطبيق‪.‬‬
‫أمــا بخصــوص عمليــة اإلدمــاج الفعــي للنــزالء‬
‫‪71‬‬ ‫بعــد اإلفــراج‪ ،‬فيبقــى رهينــا مبــدة وجــود‬
‫جاهزيــة إلدماجهــم ضمــن املخططــات‬
‫الجامعيــة الرتابيــة‪ ،‬والــذي يفــرض وضــع‬
‫سياســات عموميــة جهويــة تهتــم بالنــزالء‪.‬‬
‫املندوبية العامة لإدارة ال�سجون و�إعادة الإدماج‬
‫ر�صد للمنجز والتطلعات‬
‫العبايس‬ ‪‭‬عبد‬ ‪‭‬الرحيم‬‬‬‬‬

‫طــرق تدبــر وتنظيــم حقــوق الســجناء وآليــات‬ ‫منــذ إصــدار الظهــر ‪25‬غشــت ‪ 1999‬بتنفيــذ‬
‫الرقابــة‪.‬‬ ‫القانــون‪ 23/98‬املتعلــق بتنظيــم وتســيري‬
‫املؤسســات الســجنية‪ ،‬وكــذا املرســوم التطبيقــي‬
‫وبالرغــم مــن كل املجهــودات املبذولــة مــن‬
‫للقانــون املذكــور‪ ،‬بتاريــخ ‪ 3‬نونــر ‪،2000‬‬
‫طــرف املندوبيــة العامــة إلدارة الســجون‪ ،‬إال‬
‫واللذيــن تضمنــا مجموعــة مــن املقتضيــات‬
‫أن السياســة العقابيــة واالرتفــاع املهــول لعــدد‬
‫جــاءت حســب تقريــر املجلــس الوطنــي‬
‫ســاكنة ســجون اململكــة باملقارنــة بــدول العــامل‪،‬‬
‫لحقــوق اإلنســان الصــادر حــول األوضــاع يف‬
‫جعلتهــم عرضــة النتقــادات ذريعــة فظهــرت‬
‫الســجون خــال شــهر أكتوبــر مــن ســنة ‪،2012‬‬
‫عــدة أصــوات تنــادي بــاإلرساع إىل إيجــاد حلول‬
‫مالمئــة ألغلبيــة القواعــد النموذجيــة الدنيــا‬
‫رسيعــة وجذريــة‪.‬‬
‫ملعاملــة الســجناء‪ ،‬واملبــادئ األخــرى ذات‬
‫مــع ذلــك‪ ،‬أبــت املندوبيــة الوصيــة‪ ،‬إال أن متيض‬ ‫الصلــة‪ .‬هــذه اإلشــادة جــاءت عــى غ ـرار مــا‬
‫قدمــا يف سياســتها اإلدماجيــة مــن خــال بــذل‬ ‫أقــره املجلــس االستشــاري لحقــوق اإلنســان‬
‫الكثــر مــن الجهــد لخلــق فضــاءات داخــل‬ ‫يف تقريــره الصــادر بأبريــل ‪ ،2004‬وذلــك عــى‬
‫املؤسســات الســجنية للرفــع مــن جــودة التعليم‬ ‫خلفيــة الزيــارات امليدانيــة الخاصــة باألوضــاع‬
‫والتكويــن املهنــي بتعــاون مــع مؤسســة محمــد‬ ‫يف الســجون‪.‬‬
‫الســادس إلعــادة إدمــاج الســجناء‪.‬‬
‫فلــم تعــد تقتــر املؤسســة الســجنية عــى‬
‫كــا أنهــا حرصــت عــى تنظيــم العديــد مــن‬ ‫تنفيــذ العقــاب‪ ،‬وســلب حريــة املحكــوم عليهم‪.‬‬
‫التظاهــرات واملســابقات الثقافيــة والفنيــة و‬ ‫بــل أصبحــت تهــدف إىل تأهيلهــم لإلدمــاج‬
‫الرياضيــة بــن مختلــف الســجون‪.‬‬ ‫يف حيــاة بعيــدة عــن كل العلــل االجتامعيــة‬
‫واالنحرافــات‪.‬‬
‫ويف مبــادرة اعتــرت األوىل مــن نوعهــا عــى‬
‫الصعيــد اإلفريقــي والعــريب‪ ،‬نظمــت املندوبيــة‬ ‫وتجــدر اإلشــارة إىل أنــه يف ظــل القانــون‬ ‫‪72‬‬
‫العامــة إلدارة الســجون طــوال ثالثــة أيــام ‪-8-7‬‬ ‫‪ ،23/98‬ومرســومه التطبيقــي تــم تحديــد‬
‫‪ 9‬شــتنرب مــن عــام ‪ 2016‬الجامعــة الصيفيــة‬ ‫أدوار اإلدارة املكلفــة بــاإلرشاف عــى الســجون‬
‫لنــزالء املؤسســات الســجنية‪ ،‬مبركــز اإلصــاح‬ ‫وعالقتهــا بالســجناء ومــن ناحيــة ثانيــة حــددت‬
‫ذلــك الربهنــة عــى أن املؤسســة الســجنية‬ ‫والتهذيــب بســا أماطــت الحجــاب مــن خاللهــا‬
‫ببالدنــا أصبحــت قــادرة إىل حــد مــا عــى توفــر‬ ‫عــى نخبــة مــن الســجناء الذيــن أثبتــوا تفوقهم‬
‫الظــروف املســاعدة عــى تكويــن الســجناء‬ ‫يف مختلــف أســاك التعليــم العــايل وكذا شــعب‬
‫الذيــن يرغبــون يف بلــوغ مختلــف مســتويات‬ ‫التكويــن املهنــي‪ .‬برمجــت خاللهــا محــارضات‬
‫التعليــم‪.‬‬ ‫وورشــات وبعــض األنشــطة الثقافيــة تحــت‬
‫شــعار «املواطنــة مدخــل اإلدمــاج»‪ ،‬وتوالــت‬
‫عــى الرغــم مــن أن أغلــب الســجناء املحكومني‬ ‫الطبعــات لتشــمل محــاور مختلفــة مبــدن‬
‫مبــدد طويلــة أثبتــوا أنهــم قادريــن عــى‬ ‫مختلفــة كالبيضــاء وفــاس و مراكــش‪.‬‬
‫التفــوق‪ ،‬حيــث أن أغلبهــم مــن الحاصلــن‬
‫عــى شــواهد جامعيــة (الباكالوريــا‪ ،‬إجــازة‪،‬‬ ‫و إذا كان مثــل هــذا اللقــاء التواصيل والتحاوري‬
‫ماســر) مبي ـزات جــد مرشفــة‪ .‬فإنهــم أصبحــوا‬ ‫كان باألمــس القريــب غــر ممكــن‪ ،‬فــإن هــذه‬
‫يف انتظــار مواعيــد انعقــاد الجامعــة الســجنية‪،‬‬ ‫املبــادرة لقيــت استحســانا كبـرا مــن طــرف كل‬
‫الــركاء املتدخلــن يف انجــاز هــذه الجامعــة‪.‬‬
‫ملــا لهــا مــن داللــة مزدوجــة عندهــم‪ ،‬إذ هــي‬
‫حيــث شــارك يف الــدورة األوىل للجامعــة‪ ،‬كل‬
‫قنــاة للتواصــل مــع العــامل الخارجــي‪ ،‬ثــم فرصــة‬
‫مــن جامعــة الحســن الثــاين بالربــاط‪ ،‬املجلــس‬
‫للتعبــر عــن نديتهــم و قــدرة عــى اإلبــداع و‬
‫الوطنــي لحقــوق اإلنســان ومؤسســة محمــد‬
‫اإلنتــاج الفكــري واألديب‪.‬‬ ‫الســادس إلعــادة إدمــاج الســجناء‪ ،‬وكــذا أكــر‬
‫ومتثــل هــذه املبــادرة أســمى مظهــر مــن‬ ‫مــن مئــة ســجني متفــوق‪ .‬وشــهدت التظاهــرة‬
‫مظاهــر اإلدمــاج الــذي ميكــن أن تطمــح إليــه‬ ‫تغطيــة إعالميــة مهمــة‪ ،‬وحضــور ممثــي‬
‫اإلدارة الوصيــة واملجتمــع الــذي بــدوره يعتــر‬ ‫العديــد مــن املنظــات والجمعيــات الحقوقيــة‬
‫الســجن فضــاء خاصــا بالعقــاب أكــر مــن كونــه‬ ‫الوطنيــة والدوليــة‪.‬‬
‫مؤسســة للتكويــن واإلدمــاج‪.‬‬ ‫وكانــت الجامعــة فرصــة الحتفــاء املندوبيــة‬
‫‪73‬‬
‫العامــة إلدارة الســجون بالنتائــج واملســتوى‬
‫العــايل الــذي أبــان عليــه النــزالء املشــاركني‬
‫املتابعــن لدراســتهم الجامعيــة‪ ،‬ثــم مــن خــال‬
‫الإرهاب وتوظيفه اخلاطئ ملفهوم اجلهاد‬

‫زين العابدين املسكيني‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫الحكم بالظاهر ورد املستور إىل الله تعاىل‪ .‬فتم‬ ‫ابتليــت األمــة اإلســامية بعــد وفــاة النبــي صىل‬
‫العدول عن اإلسالم الصايف الذي جاء به النبي‬ ‫اللــه عليــه و ســلم بعــدة فــن يف قــرون وصفت‬
‫صىل الله عليه و سلم ودعى إليه بالحكمة‬ ‫بالذهبيــة وظهــرت الطائفيــة والتحزبــات‬
‫واملوعظة الحسنة وجش نبض الكون إىل إسالمات‬ ‫البدعيــة التــي أعطــت البــوادر األوليــة للتفــرق‪،‬‬
‫الطوائف التي الزلنا نجر ويالتها إىل اليوم‪ .‬وقد‬ ‫وبــدأ اســتعامل الديــن آليــة جاريــة لحســم‬
‫تكرست بشكل أقوى يف ظل ضعف مجموعة‬ ‫الخالفــات السياســية واملذهبيــة للوصــول إىل‬
‫من الدول التي مل تستطع أن تقدم النموذج‬ ‫بعــض املصالــح الضيقــة التــي تســيج مخطــط‬
‫الذي يحتذى به يف الجانب الروحي واالجتامعي‬ ‫كل فرقــة عــى حــدة‪ .‬فأصبــح الــوالء للجامعــة‬
‫واالقتصادي‪ ....‬تاركة املجال أمام التيارات‬ ‫والطائفــة وليــس لألمــة‪ ،‬فــكان أول اســتدراج‬
‫اإلرهابية التي استثمرت يف تنمية إيديولوجيتها‪،‬‬ ‫تحالفــت فيــه الغوغائيــة مــن النــاس مــع‬
‫لتصبح فيام بعد رقام مهام يف معادلة الرصاع‬ ‫جنــود الــر مــن الذيــن يقفــون أمــام كل‬
‫حول النفوذ بني القوى العظمى‪ .‬ومع ذلك وجد‬ ‫إصــاح أو دعــوة إىل الخــر‪ ،‬فابتــدأ االبتعــاد‬
‫الكل نفسه مضطرا إليجاد عالج شامل ملعضلة‬ ‫رويــدا رويــدا مــن منهــج يدعــوا إىل الوحــدة‬
‫اإلرهاب الذي يغذيه الغلو والتطرف‪ ،‬غري أن‬ ‫والرحمــة والتســامح وكل املبــادئ الســامية‬
‫األمر ليس هينا باعتبار أنها ظاهرة تحتاج إىل‬ ‫التــي جــاءت بهــا الرســالة الخالــدة‪ ،‬إىل منهــج‬
‫مجموعة من القراءات واملقاربات لفهم تفاصيلها‬ ‫يدعــوا إىل الفرقــة واإلعجــاب بالــرأي والتعصــب‬
‫بحكم أنها متغرية ال تخضع لقانون الثبات‪ .‬ال‬ ‫والخــاف املذمــوم يف مجموعــة مــن القضايــا‬
‫التــي تفــرق بــن أبنــاء امللــة الواحــدة بســبب‬
‫سيام إذا ما تتبعنا مشاريع اإلرهاب نجدها تؤطر‬
‫إدخــال مــا ليــس مــن الديــن يف الديــن‪.‬‬
‫مبسالك ضعيفة تنتج أحكاما غري محسومة سواء‬
‫عىل مستوى الفهم أو عىل مستوى التنزيل‪.‬‬ ‫وأصبح األفراد بدل أن يسألوا إن مل يعلموا وأن‬
‫و لهذا نجد املشهد تعمه االضطرابات واالدعاءات‪،‬‬ ‫يرجحوا مسائل األحكام إىل أهل العلم من ذوي‬ ‫‪74‬‬
‫التي تروج عىل أساس أنها الحق الذي ال مراء‬ ‫االختصاص وأال ينازعوا األمر أهله‪ ،‬بدأوا يحددون‬
‫فيه‪ ،‬من قبل دعاة اإلرهاب عهدتهم يف ذلك ما‬ ‫معايري الوالء والرباء بطرق غريبة وإخراج الناس‬
‫تفرق عند الطوائف من غلو وتحريف وبعض‬ ‫من امللة والتفتيش يف عقائدهم مجانبني مبدأ‬
‫اإلرهــاب كظاهــرة ذات أبعــاد متعــددة بلغــت‬ ‫التفسريات التي تجد لها أكرث من مخالف قد‬
‫أقــى درجــات التعقيــد مــن حيــث فهــم‬ ‫كتبت يف سياقها املقيد‪ .‬ومام ال يدع مجاال للشك‬
‫االيديولوجيــة التــي تتحكــم فيهــا يف الزمــان‬ ‫والريب هو أن اإلسالم بطبيعته ال يقبل أي نوع‬
‫واملــكان‪ .‬إذ غالبــا مــا يكــون العنــف والشــدة‬ ‫من أنواع التشدد والتنطع‪ ،‬ألن التشدد و الغلو‬
‫هــا املوحــدان لــكل أصنــاف اإلرهــاب‬ ‫بطبيعته املرضية ال يؤدي إال إىل الفساد واملنكر‪.‬‬
‫واإلرهابيــن‪ ،‬لكــن ال ينبغــي أن نتعســف‬ ‫ولنا يف رشع الله ما يدمغ كل األباطيل ويشفي‬
‫بخصــوص إلصــاق هــذه الصفــة بأبنــاء ديانــة‬ ‫الغليل من خالل مقاصده وضوابطه التي تقيد‬
‫معينــة أو مذهــب معــن‪ ،‬باعتبــار أن اإلرهــاب‬ ‫املكلف وتلجمه بلجام األمر الواضح والنهي‬
‫عابــر ونافــذ عــى كل االتجاهــات وامللــل‬ ‫الرصيح ديانة وقضاء‪ .‬وال عربة لبعض التوظيفات‬
‫والنحــل‪ ،‬ويأخــذ أشــكاال وألوانــا حســب مــا‬ ‫والتأويالت الفاسدة التي تصل إىل حد التكفري‬
‫يقتضيــه الحــال‪ ،‬ألن مــن أعظــم املغالطــات‬ ‫والتفجري والتمرد عىل املجتمع والخروج عىل‬
‫التــي ميكــن أن يتبناهــا البعــض هــي الخلــط‬ ‫األنظمة التي ال تساهم إال يف التطاحن والتآكل‬
‫بــن اإلرهــاب الــذي يأخــذ شــكال شــاذا‬ ‫بدل ما ينبغي من التناصح والتكامل‪ .‬وهو‬
‫ومتشــددا وبــن اإلســام الــذي يقــف موقفــا‬ ‫األمر الذي يجعلنا نقف وقفة تأمل فيام يقع‬
‫صارمــا وحاســا اتجــاه الغلــو والتطــرف‪ ،‬فهــا‬ ‫اآلن من إرهاب وخراب باسم العقيدة والدين‪،‬‬
‫إذن عــى طــريف نقيــض وال ميكــن أن يكونــا‬ ‫واستعاملهام لتربير كل الفساد والدمار املادي‬
‫واملعنوي الذي مل يبق خفيا مبا خلفه من ضحايا‬
‫نظـراء بــأي شــكل مــن األشــكال‪ .‬فاإلســام نــور‬
‫أبرياء وزرع سياسة األمن‪.‬‬
‫اللــه الــذي يســموا بفطــرة اإلنســان وأخالقــه‬
‫كمعطــى اســتحقاقي لالســتخالف يف األرض‬ ‫وسأتطرق يف هذا البحث لبعض الجوانب التي‬
‫وعامرتهــا بشــكل يــريض اللــه تعــاىل ويحقــق‬ ‫يرتكز عليها اإلرهاب‪ ،‬مستعينا بتجربتي الخاصة‬
‫مقصــوده يف الخلــق والتكليــف‪.‬‬ ‫السابقة واحتكايك بفكر السلفية الجهادية‪.‬‬

‫اإلرهاب وتوظيفه الخاطئ ملفهوم الجهاد‪:‬‬


‫مفاهيم الدولة اإلسالمية‪ ،‬و الحاكمية و التكفري‬ ‫هناك عدة مواضيع وخلفيات إيديولوجية قد‬
‫ثم الجهاد‪ .‬و إذا ما نظرنا إىل مفهوم الجهاد‬ ‫طفحت عىل السطح وهي من تؤطر العمل‬
‫نجد أن أصحاب الفكر املتطرف‪ ،‬يرون يف الجهاد‬ ‫اإلرهايب الحامل ملفاهيم ومصطلحات ذات‬
‫رضورة حتمية لنرصة أطروحاتهم وتوجههم‬ ‫غطاء رشعي‪ ،‬يعطى لها بعدا تأويليا يخرجها‬
‫اإلرهايب املدعوم بشتى التنظريات املنزوعة من‬ ‫من استعاملها الحقيقي إىل استعامل ال ينسجم‬
‫‪75‬‬ ‫سياقها وال تحقق املناطات الخاصة‪ ،‬بحيث‬ ‫مع روح ومقاصد الرشع وال ينسجم مع‬
‫يراها العاقل قد انتهت صالحيتها منذ زمن‬ ‫الواقع املتغري‪ ،‬مام يخلق تشوهات وأعطاب‬
‫بعيد ومل تؤت أكلها ومل تحقق أهدافها التي ما‬ ‫عىل مستوى التنظري والتنزيل‪ .‬ولعل أول هذه‬
‫باتت تنادي بها إحياء للفريضة الغائبة لرتجمة‬ ‫املواضيع التي تتصدر الفكر اإلرهايب اليوم هي‬
‫يتقدمهــا جهــاد النفــس‪ ،‬يقــول النبــي صــى‬ ‫الرشيعة يف الواقع اإلسالمي املعارص وبناء‬
‫اللــه عليــه و ســلم‪ « :‬املجاهــد مــن جاهــد‬ ‫الدولة املزعومة وما ذلك إال هذيان يخرجهم‬
‫نفســه يف طاعــة اللــه»‪ ،1‬وقــال عبــد اللــه بــن‬ ‫عن صواب العقل‪ ،‬ويسقطهم يف أوهام يستحيل‬
‫املبــارك هــو‪ « :‬مجاهــدة النفــس والهــوى»‬ ‫تحقيقها يف ظل التخبط املنهجي والفكري‬
‫وقــد ذهــب ابــن القيــم الجوزيــة إىل تقديــم‬ ‫الذي ال ينضبظ مبقاصد الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬وال‬
‫جهــاد النفــس عــى جهــاد العــدو وجعــل‬ ‫يستجيب ملعطيات الوقت الراهن‪ .‬عالوة عىل‬
‫األول أصــا للثــاين إذ قــال‪ « :‬فــإن مل يجاهــد‬ ‫الرضر و األذى الذي يلحقه فعل مامرسة العنف‬
‫نفســه أوال لتفعــل مــا أمــرت بــه وتــرك مــا‬ ‫باسم الدين عىل الناس‪ ،‬وما يفتحه اإلرهاب يف‬
‫نهيــت عنــه ويحاربهــا يف اللــه مل ميكنــه جهــاد‬ ‫كل الجبهات من فوىض غري مقدور عليها‪ ،‬ملا‬
‫عــدوه يف الخــارج»‪ ،2‬وباعتبــار هــذه املعــاين‬ ‫يتسم به مثل هذه األفعال من التكلف والتعنت‬
‫الجليلــة وغريهــا تعطــي للجهــاد يف كل أحوالــه‬ ‫واملغامرة واملقامرة باألبدان واألعراض واألموال‪.‬‬
‫الصفــة الحميــدة التــي بهــا صــاح املســلمني يف‬ ‫حيث زادهم أو مربرهم الوحيد هو اعتامد‬
‫عقائدهــم وأخالقهــم وجميــع شــؤونهم الدينية‬ ‫نظرية املؤامرة عىل أن العامل يتآمر عىل اإلسالم‬
‫والدنيويــة وتربيتهــم العلميــة والعمليــة‪.‬‬ ‫ويريد هدم معامله وإخراج أهله من معتقدهم‬
‫وعليــه يتأســس الجهــاد يف معنــاه الدفاعــي‬ ‫اإلسالمي‪ .‬بناء متنطع يسهل عىل ذوي القلوب‬
‫الــذي يخضــع مثلــه مثــل باقــي األحــكام‬ ‫املريضة إعالن القتال ضد الجميع‪ ،‬باعتبار أن‬
‫الرشعيــة إىل الضوابــط والــروط منهــا القــدرة‬ ‫الكل متواطئ ومتحالف مع الغرب «الكافر»‪.‬‬
‫واالســتطاعة وليــس ذلــك لألف ـراد بــل يرجــع‬
‫ويعتــر دعــاة اإلرهــاب أنفســهم البديــل الــذي‬
‫األمــر إىل أويل األمــر بشــورة الجامعــة مــن‬
‫يدافــع عــن األمــة بعــد تخــي الــكل عــن‬
‫أهــل الحــل والعقــد‪ ،‬بينــا القتــال فهــو غــر‬
‫اســرجاع املجــد والعــزة مــن جديــد مــن خــال‬
‫محمــود يف جميــع أحوالــه‪ ،‬و لهــذا ســمى‬
‫فريضــة الجهــاد املحــددة بشــكل حــري يف‬
‫اللــه الحــرب بــن املؤمنــن قتــاال ومل يصفهــا‬
‫القتــال أي املواجهــة بالــدم دون االلتفــات‬
‫بالجهــاد يف قولــه تعــاىل‪َ « :‬وإِن طَائِ َف َتــانِ‬
‫إىل الوســائل الســلمية مثــل‪ :‬الجهــاد بالكتابــة‬
‫ِمــ َن الْ ُم ْؤ ِم ِنــ َن ا ْق َت َتلُــوا َفأَ ْصلِ ُحــوا َب ْي َن ُه َ‬
‫ــا»‪.3‬‬
‫والخطابــة والرتبيــة الفكريــة واألخالقيــة‬
‫غــر أن الجامعــات املنحرفــة تســتغل األجــر‬
‫واالهتــام بالــرأس املــال البــري الــذي ينهــض‬
‫األخــروي‪ ،‬والذنــب غــر املغتفــر‪ ،‬والخــذالن‬
‫بالتنميــة االجتامعيــة واالقتصاديــة ويضمــن‬
‫لتضخــم توصيفهــا للواقــع‪ ،‬و مــن تــم رضورة‬
‫التــداول الحضــاري بــن األمــم‪.‬‬
‫االســتجابة لنــداء االقتتــال‪ .‬فتســعى إىل إدخــال‬
‫الســذج مــن شــباب اإلســام يف حــرب بالوكالــة‬ ‫ويعــود تحجيــم مفهــوم الجهــاد وجعلــه‬
‫و تورطهــم يف مشــاريع تخريبيــة شــاملة تحــت‬ ‫مرادفــا للقتــال دون غــره‪ ،‬إىل الجهــل‬ ‫‪76‬‬
‫مصــوغ الجهــاد‪ ،‬بعــد أن يتــم إفراغــه مــن‬ ‫بالرشيعــة وعــدم قراءتهــا يف ذلــك النســق‬
‫كافــة املعــاين األخالقيــة والرشعيــة والسياســية‬ ‫الــذي يفــر بعضــه بعضــا‪ .‬ولعــل املتدبــر‬
‫الســامية التــي تحفــظ مســاره كجهــد مثمــر‪،‬‬ ‫لكتــاب اللــه ســيجد معــاين كثــرة للجهــاد‬
‫املســلمني بــه كقولــه تعــاىل‪َ « :‬وإِن َج َن ُحــوا‬ ‫وتحولــه إىل مــرادف ألعــال عنــف وجرائــم‬
‫ـح لَ َهــا َوتَـ َوك َّْل َعـ َـى اللَّـ ِه ۚ إِنَّــهُ ُهـ َو‬ ‫لِ َّ‬
‫لسـل ِْم فَا ْج َنـ ْ‬ ‫ضــد اإلنســانية وعبثيــة تــر أكــر مــا تنفــع‪.‬‬
‫ـم» ‪ ،‬وكان قــد نــزل قبــل ذلــك‬ ‫‪5‬‬
‫يع الْ َعلِيـ ُ‬ ‫الس ـ ِم ُ‬
‫َّ‬ ‫والناظــر بعــن البصــرة يف ســرة املصطفــى‬
‫ــن الَّ ِذيــ َن‬
‫ُــم اللَّــهُ َع ِ‬ ‫قولــه تعــاىل‪« :‬إِنَّ َــا يَ ْن َهاك ُ‬ ‫عليــه الصــاة و الســام يعــي جيــدا أن جهــاده‬
‫يــن َوأَ ْخ َر ُجوكُــم ِّمــن ِد َيا ِرك ْ‬
‫ُــم‬ ‫ُــم ِف الدِّ ِ‬ ‫َقاتَلُوك ْ‬ ‫صــى اللــه عليــه و ســلم كان دفاعيــا‪ ،‬و مقرتنــا‬
‫ــم»‪.6‬‬ ‫ُــم أَن تَ َولَّ ْو ُه ْ‬
‫ــى إِ ْخ َراجِ ك ْ‬ ‫َوظَا َهــ ُروا َع َ ٰ‬ ‫بالــرورة‪ .‬والدليــل عــى ذلــك‪ ،‬نجــد أن‬
‫فالعلــة إذن‪ ،‬ظاهــرة يف كــون أن الجهــاد يف‬ ‫غزاوتــه صــى اللــه عليــه وســلم‪ ،‬كانــت كلهــا‬
‫اإلســام يقــرن بحصــول العــدوان أو الظلــم‬ ‫مــن أجــل الدفــع‪ .‬والوقائــع يف هــذا املوضــوع‬
‫أو إخ ـراج املســلمني مــن ديارهــم‪ ،‬وليــس مــا‬ ‫مبســوطة يف كتــب الســرة وغريهــا‪ ،‬وقــد بــن‬
‫ذهــب إليــه فهــم البعــض‪ ،‬الذيــن اعتــروا‬ ‫ابــن القيــم رحمــه اللــه طريقــة تعامــل النبــي‬
‫العلــة يف القتــال الكفــر لذاتــه‪ ،‬وهــذا القــول‬ ‫صــى اللــه عليــه و ســلم مــع املخالفــن فقــال‪:‬‬
‫عــاري مــن الصحــة ومخالــف ملنهــج التحقيــق‪،‬‬ ‫« كان رســول اللــه صــى اللــه عليــه و ســلم‬
‫ألن ابــن تيميــة رحمــه اللــه قــال‪ « :‬فمــن مل‬ ‫يقاتــل مــن يحاربــه ويقاتلــه‪ ،‬وأمــا مــن ســامله‬
‫مينــع املســلمني مــن إقامــة ديــن اللــه مل تكــن‬ ‫وهادئــه فلــم يقاتلــه‪ ،‬مــادام مقيــا عــى‬
‫هدنتــه ومل ينقــض عهــده‪ ،‬بــل أمــره اللــه تعــاىل‬
‫مــرة كفــره إال عــى نفســه»‪ ،7‬ويقــول اإلمــام‬
‫أن يفــي لهــم بعهدهــم مــا اســتقاموا لــه كــا‬
‫الحجــوي الفــايس‪ « :‬فالرشيعــة كلهــا تحــى‬
‫َاس ـ َت ِقي ُموا‬ ‫قــال تعــاىل‪َ « :‬فـ َـا ْاس ـ َتقَا ُموا لَكُـ ْ‬
‫ـم ف ْ‬
‫عــى الســلم الصحيــح املبنــي عــى إقامــة‬
‫ـب الْ ُم َّت ِق ـ َن» ســورة التوبــة‬ ‫ـم ۚ إِنَّ اللَّــهَ يُ ِحـ ُّ‬
‫لَ ُهـ ْ‬
‫العــدل ورشف األمــة‪ ،‬وتــأىب الحــرب إال لــرورة‬
‫اآليــة ‪.7‬‬
‫إيجــاد الســلم بــه»‪.8‬‬
‫وملــا قــدم صــى اللــه عليــه و ســلم املدينــة‬
‫فاألصــل إذن هــو الســلم‪ ،‬وأمــا القتــال فــا هــو‬ ‫صالــح اليهــود وأقرهــم عــى دينهــم فلــا‬
‫إال نــوع مــن أنــواع الجهــاد الوقــايئ الــذي يدافع‬ ‫حاربــوه ونقضــوا عهــده وبــدؤوه بالقتــال‬
‫عــن ديــار املســلمني‪ ،‬ومل يكــن أبــدا جهــادا‬ ‫قاتلهــم‪ ،‬وكذلــك ملــا هــادن قريشــا عــر ســنني‬
‫ابتدائيــا هجوميــا وهــو مــا تؤيــده أغلبيــة‬ ‫مل يبدأهــم بقتــا حتــى بــدؤوا هــم بقتالــه‬
‫األدلــة‪ .‬وقــد أكــد الدكتــور محمــد النــارصي‬ ‫ونقضــوا عهــده فعنــد ذلــك غزاهــم يف ديارهــم‬
‫عــى هــذا الســياق بقولــه‪ « :‬املســلم ال يخــوض‬ ‫وكانــوا هــم يغزونــه قبــل ذلــك كــا قصــدوه‬
‫حربــا إال إذا بــدأه عــدوه بــاألذى والــرر»‬ ‫يــوم أحــد ويــوم الخنــدق ويــوم بــدر أيضــا هــم‬
‫وقــد اســتدل عــى قولــه بــكالم اللــه تعــاىل‪:‬‬ ‫جــاؤوا لقتالــه ولــو انرصفــوا عنــه مل يقاتلهــم»‪،4‬‬
‫‪77‬‬ ‫ــم ظُلِ ُمــوا ۚ َوإِنَّ‬ ‫«أُ ِذنَ لِلَّ ِذيــ َن ُيقَاتَلُــونَ ِبأَنَّ ُه ْ‬ ‫واملفهــوم الــذي يستشــف مــن ســرته هــو أن‬
‫ـم لَ َق ِديـ ٌر الَّ ِذيـ َن أُ ْخ ِر ُجــوا ِمــن‬ ‫َص ِهـ ْ‬
‫ـى ن ْ ِ‬ ‫اللَّــهَ َعـ َ ٰ‬ ‫اإلســام يفضــل الصلــح والســام عــى الحــرب‬
‫ـر َحـ ٍّـق إِ َّل أَن يَقُولُــوا َربُّ َنــا اللَّــهُ »‬‫ِديَا ِر ِهــم ِب َغـ ْ ِ‬ ‫متــى جنــح الطــرف اآلخــر إليــه‪ ،‬وهــذا املبــدأ‬
‫[ســورة الحــج اآليتــان ‪. ]40-39‬‬
‫‪9‬‬
‫نزلــت بــه مجموعــة مــن اآليــات لتأطــر‬
‫أمــا مــا أثــر حــول النســخ‪ ،‬فــا ميكــن التســليم‬ ‫أمــا أصحــاب القــول بــأن الجهــاد ينحــر يف‬
‫بــه النتفــاء التعــارض‪ ،‬باعتبــاره مــن األمــور‬ ‫القتــال الهجومــي‪ ،‬فهــو ادعــاء للنســخ الــذي‬
‫املســتبعدة يف كالم الشــارع‪ ،‬وبالتــايل نخلــص إىل‬ ‫صــاروا إليــه قبــل الجمــع بــن األدلــة إن ســلمنا‬
‫أن القتــال رشع لرفــع الظلــم ودفــع العــدوان‬ ‫لهــم باملعارضــة ومــن جهــة أخــرى‪ :‬اعتمــدوا‬
‫وإنقــاذ املســتضعفني‪ ،‬ونــر الســلم والســام‪،‬‬ ‫عــى الحديــث الــذي أخرجــه اإلمــام أحمــد يف‬
‫وال عالقــة لــه بالقتــال االبتــدايئ الــذي يقــوض‬ ‫مســنده‪ « :‬بعثــت بــن يــدي الســاعة بالســيف»‬
‫مبــادئ اإلســام الســمحة‪.‬‬ ‫ومــا قــام بــه النبــي صــى اللــه عليــه وســلم‬
‫يف فتــح مكــة وغــزوة تبــوك واعتبــار أن آيــة‬
‫وتبقى فرضية القتال محتملة كوسيلة مقيدة‬ ‫الســيف التــي يقــول فيهــا ربنــا جــل وعــا‪:‬‬
‫بأحكام رشعية و أخالقية‪ ،‬حاملة لعدة معاين‬
‫انسـلَخَ ْالَشْ ـ ُه ُر الْ ُحـ ُر ُم فَا ْق ُتلُــوا الْ ُم ْ ِ‬
‫ش ِكـ َن‬ ‫« َفـإِ َذا َ‬
‫إنسانية وأخالقية وتربوية يدعوا إليها النبي‬ ‫َح ْي ُ‬
‫ــم‬
‫صو ُه ْ‬ ‫ــم َوا ْح ُ ُ‬ ‫ــم َو ُخ ُذو ُه ْ‬ ‫ــث َو َجدتُّ ُو ُه ْ‬
‫صىل الله عليه و سلم قبل الرشوع يف الحرب‪،‬‬ ‫ــم ك َُّل َم ْر َصــ ٍد»‪ ،10‬قــد نســخت‬ ‫َوا ْق ُعــدُ وا لَ ُه ْ‬
‫قواعد تحرتم من جهة التزامات الدول و الجامعة‬ ‫آيــات القتــال الدفاعــي وكل اآليــات الداعيــة إىل‬
‫واألشخاص‪ ،‬مبا يشمل العهود واالتفاقيات‪،‬‬ ‫الســلم وعــدم املواجهــة واإلحســان واألخــاق‬
‫ومصالح األمة‪ ،‬ثم تتقيد بقيم حامية األطفال‬ ‫والصفــح‪ ....‬وهــذا املســلك يوحــي بفتــح كل‬
‫والنساء والشيوخ والجامد والنبات‪ ،‬محققة‬ ‫الجبهــات القتاليــة مــع الجميــع دون مهادنــة‬
‫بذلك أنبل رسالة كونية جاء بها اإلسالم‪ ،‬وهي‬ ‫أو مســاملة‪ ،‬وال يأخــذ بعــن االعتبــار الحــاالت‬
‫سعادة اإلنسان‪.‬‬ ‫االســتثنائية املذكــورة يف القــرآن واملتعلقــة‬
‫‪ -1‬أخرجه الرتميذي وقال حديث حسن صحيح ‪.1621‬‬
‫باملعاهديــن واملســتقيمني والتائبــن ودافعــي‬
‫‪ - 2‬زاد املعاد ج ‪ 3‬ص ‪.6‬‬ ‫الجزيــة وقــدرة املســلمني عــى القتــال‪ ،‬باعتبــار‬
‫‪ - 3‬سورة الحجرات اآلية ‪.9‬‬ ‫أن األمــة قــد متــر بحالــة االســتضعاف ال ميكــن‬
‫‪ - 4‬ابن القيم الجوزية هداية الحيارى من اليهود والنصارى ج ‪.12/1‬‬ ‫معــه اإلقــدام عــى القتــال إن أمكــن اللجــوء‬
‫‪ - 5‬األنفال اآلية ‪.61‬‬ ‫إىل وســائل أخــرى كالصلــح والهدنــة والعهــد‬
‫‪ - 6‬املمتحنة اآلية ‪.9‬‬
‫‪ - 7‬السياسة الرشعية يف إصالح الراعي والرعية ص ‪.104-103‬‬
‫واألمــان‪ ....‬حينئــذ يصبــح الذهــاب يف اتجــاه‬
‫‪ - 8‬الفكر السامي يف تاريخ الفقه اإلسالمي ص ‪.121‬‬ ‫األخــذ بآيــة الســيف عــى أنــه دليــل عــى قتــال‬
‫‪ - 9‬سلسلة اإلسالم والسياق املعارص ص ‪( 12‬الرابطة املحمدية للعلامء)‬ ‫الكفــار‪ ،‬هــو حالــة واضحــة للتهــور وإدخــال‬
‫‪ - 10‬سورة التوبة اآلية ‪5‬‬ ‫املســلمني إىل مصــر مجهــول‪.‬‬

‫‪78‬‬
79
‫اخرتاق الفكر املتطرف واجلرمية املنظمة‬
‫يف عامل ال�سجون ‪ -‬جتربة من الواقع‬

‫هشام الربجة بن محمد التهامي بن محمد السنويس‬

‫التوغل‪ :‬اخرتاق الفكر املتطرف والجرمية املنظمة لعامل السجون‬


‫تربوية‪ ،‬تبرص الناس جاملية الرشيعة التي هي‬ ‫أمال يف تظافر الجهود لحامية السجناء نزالء‬
‫عدل كلها ورحمة كلها لقوله تعاىل «وأبرصهم‬ ‫املؤسسات السجنية من االخرتاقات الفكرية‬
‫فسوف يبرصون» سورة الصافات اآلية ‪.175‬‬ ‫املتشددة والتطرف العنيف‪ ،‬وأمام انتشار‬
‫الجرمية الفردية واملنظمة العابرة للحدود‪ ،‬ال‬
‫فــا بــد مــن إحيــاء ســنة التدافــع بــن النــاس‬
‫بد من التصدي بكل الوسائل الناجحة لتحصني‬
‫للقضــاء عــى الجهــاالت التــي مــا فتئــت تهلــك‬
‫النزالء من هذه املخاطر ومحارصة هذه األفكار‬
‫الحــرث والنســل واألخــر اليابــس‪ ،‬وهــذا مــن‬
‫أوجــب الواجبــات عــى كل قــادر مســؤول‬ ‫الهدامة‪ .‬واجتثاثها يف نواتها واستئصالها من‬
‫بالحكمــة واملوعظــة الحســنة‪ ،‬إلصــاح هــذه‬ ‫األذهان قبل تحولها إىل سلوكات منحرفة‪،‬‬
‫اللحمــة مــن األمــة حتــى تكتمــل وحدتهــا‬ ‫أقوال منكرة أو أفعال إجرامية كارثية‪ .‬وإدراكا‬
‫وســعادتها امتثــاال لقولــه تعــاىل « وان هــذه‬ ‫ملا للثقافة من أهمية يف حياة النفوس وصقلها‬
‫أمتكــم أمــة واحــدة وأنــا ربكــم فاعبــدون»‪.‬‬ ‫وتخليقها وتهذيبها‪ ،‬إذ ال حياة لنفس جاهلة إال‬
‫وهــذه الوحــدة والســعادة والحيــاة الطيبــة‪ ،‬ال‬ ‫بقدر إقبالها عىل املعارف والعلوم‪ ،‬ووعيها التام‬
‫تكــون إال بالتثقيــف ونــر الوعــي والعلــوم‪،‬‬ ‫بالواجبات والحقوق‪ ،‬وتحملها املسؤولية كاملة‬
‫كــا دلــت عــى ذلــك اآليــة الكرميــة يف قولــه‬ ‫تجاه الذات واملجتمع‪ ،‬وإميانها الراسخ بقيم‬
‫تعــاىل «أفمــن كان ميتــا فأحيينــاه وجعلنــا‬ ‫املواطنة وقبول االختالف والتعايش السلمي‪،‬‬
‫لــه نــورا ميــي بــه بــن النــاس كمــن مثلــه يف‬ ‫واالنفتاح عىل النوع البرشي باختالف ألوانه‬
‫الظلــات ليــس بخــارج منهــا»‪ .‬وأســوة واقتــداء‬ ‫وأجناسه وأطيافه وألسنه وأديانه‪ ،‬والحث عىل‬
‫مبــن ســار عــى درب اإلصــاح واهتــداء بأنجــم‬ ‫العمل بتفان يف سبيل تحصني هذه الرشيحة‬
‫ســاء املغــرب مــن األرشاف املخلصــن لهــذا‬ ‫من األخطار املحدقة بها والحفاظ عليها كرثوة‬
‫البلد األمني‪ ،‬الذين تفانوا يف خدمته بصدق‬ ‫برشية هامة‪ ،‬ولزوم استثامرها خدمة لإلنسانية‬
‫وأمانة‪ .‬أحاول من خالل ما راكمت من خربات‬ ‫جمعاء‪ ،‬إذ ال فرق بني تحريرها من االسرتقاق‬ ‫‪80‬‬
‫زمان انصهاري يف الجامعات اإلسالمية داخل‬ ‫واالستبعاد‪ ،‬وبني ظلم الجهل وظلامته وذلك‬
‫املغرب وخارجه مرورا بسنوات االعتقال تقاسم‬ ‫مبا ميليه علينا جميعا الضمري اإلنساين والديني‬
‫رؤيتي الخاصة يف اإلصالح مع كل َخ ِّيٍ يحرص‬ ‫والوطني‪ ،‬مبقاربة فكرية‪ ،‬تنويرية وسياسة‬
‫الفكر اإلجرامي يف املحيط السجني‪ .‬ثم من خالل‬ ‫عىل سالمة وكرامة اإلنسانية وسعادتها للتحذير‬
‫عرض الجهود املبذولة للتصدي لهذه الظاهرة‪،‬‬ ‫من مخاطر االخرتاق الفكري املتطرف والجرمية‬
‫ضمن مرشوع إصالحي وتأهييل واسع‪.‬‬ ‫املنظمة استعدادا لتحصني السجناء والقضاء عىل‬

‫أساليب االستقطاب املمنهجة عند دعاة التطرف واإلرهاب والجرمية املنظمة‬


‫ومن األهداف املقصودة واألحالم املنشودة‪:‬‬ ‫أساليب االستقطاب عند دعاة التطرف واإلرهاب‬
‫استقطاب أبناء الطبقة البورجوازية واملتوسطة‬ ‫يف سباق مع الزمان‪ ،‬تسعى الجامعات املتطرفة‬
‫لتكثري السواد من أطباء ومحامني وأساتذة‬ ‫جاهدة إىل اخرتاق السجون بشكل ممنهج‪،‬‬
‫وأصحاب املشاريع الكربى والجنود السابقني‬ ‫ووفق أساليب تتميز بالدقة والرسية‪ ،‬تحت ما‬
‫وضباط الرشطة والرياضيني واملهربني‬ ‫يعرف بغطاء التقية‪ ،‬لكف بأس ورش املخالفني‬
‫والبارونات‪ ،‬باإلضافة إىل الطلبة والسجناء‬ ‫لها عقديا وخذلهم والعمل عىل كسب تعاطف‬
‫األجانب كالفرنسيني واألتراك واألملان وغريهم‪.‬‬ ‫املوظفني واملراقبني لتمويه تحركاتهم ومترير‬
‫ومن املعلوم أن هذا الدور الهام ال يوكل إال‬ ‫مخططاتهم الرسية وتجمعاتهم التي توزع فيها‬
‫ملن يليق بهذه املهمة التجنيدية الصعبة‪ ،‬وأن‬ ‫األدوار كذئاب برشية منفردة لتسهيل عملية‬
‫تتوفر فيه الرشوط املطلوبة كالتحصيل العلمي‬ ‫االستقطاب‪ .‬ومن مخططاتهم الخطرية التي‬
‫واملستوى املعريف واللغوي وإتقان لسان الحال‬ ‫ال سلطان عليها إال سلطان القانون توغلهم‬
‫واملقال عند الهدف الذي يسمى يف مصطلحاتهم‬ ‫يف السجناء بشكل لصيق ومطرد ومشاركتهم‬
‫وإيديولوجياتهم التخريبية بالصيد الثمني مثل‬ ‫الظروف املادية واملعنوية كتقديم املساعدات يف‬
‫من عاش يف ديار املهجر‪ ،‬وله إملام بطبائع‬ ‫شكل هدايا دون معرفة مصادرها‪ ،‬وبحجة سنة‬
‫هذه الفئات وعاداتها وأعرافها‪ ،‬دون تفويت‬ ‫التعارف يتم ربط األرس والعوائل بعضها ببعض‬
‫الفرص إلبراز السياسات العاملية واالستشهاد‬ ‫عن طريق الهاتف الثابت والنقال وتنظيم تبادل‬
‫بالقضية الفلسطينية والواقع املرير لألمة يف‬ ‫الزيارات التي تكون من حسناتها املصاهرة‬
‫الصومال والعراق وأفغانستان وبورما وميامنار‬ ‫وتوطيد العالقات إلكامل عملية االستقطاب‬
‫ومجازرها‪ .‬بينام يستهل استقطاب أبناء‬ ‫يف الداخل والخارج‪ ،‬من خالل إحكام السيطرة‬
‫الطبقة الكادحة لضعفهم املادي وهشاشتهم‬ ‫عىل العقول الضعيفة‪ .‬تبقى هذه العملية‬
‫االجتامعية وعاطفتهم الجياشة‪ ،‬باإلضافة إىل‬ ‫املركبة املشفرة سارية املفعول دون انقطاع ال‬
‫املستوى التعليمي املتدين أو املنعدم‪ .‬كل هذه‬ ‫ينتبه لها إال الخرباء املهرة بامليدان ومع استفاء‬
‫االخرتاقات ترسي تحت سحر الكالم املعسول‬ ‫الرشوط وتنوع العوامل وتوفرها والتي هي‬
‫وضبابية الوهم والرساب‪ ،‬ورفع أبهى الشعارات‬ ‫ركائز االستقطاب والتحريض عىل العنف‪ .‬تبقى‬
‫‪81‬‬ ‫السجون بؤر يغيل فيها اإلجرام توشك أن تقذف‬
‫والصور الرباقة باسم الدين واإلسالم ووحدة األمة‬
‫ووجوب الجهاد لنرصتها‪ ،‬حتى أصبح يف أدهان‬ ‫حممها عند اإلفراج‪.‬‬
‫الكثريين أنه ركن اإلسالم السادس وأنه غاية‬
‫أساليب االستقطاب عند دعاة الجرمية املنظمة‬ ‫وليس وسيلة‪ .‬وهذا العمر هو الضالل البعيد‪،‬‬
‫ال يجد السجناء بُ ًدا أمام رصامة القانون وعدم‬ ‫فأجريت انهار من الدماء املعصومة ألجل‬
‫تسهيل املساطر اإلدارية اعتبارا لالستثناءات‬ ‫الخالفة املزعومة وأطلق الحبل عىل الغارب دون‬
‫العرفية والخصوصية املغربية من االرمتاء يف‬ ‫قيد أو رشط وتنايس أصحاب الفرق الضالة أن‬
‫أحضان دعاة الجرمية املنظمة العابرة للحدود‪.‬‬ ‫الجهاد له رشوط واجب تحقيقها‪ ،‬وموانع الزم‬
‫ويتمظهر هذا يف تطور الجرمية واستمرار تناميها‬ ‫انتقاءها‪ ،‬وأحوال ومآالت ال بد من مراعاتها‪،‬‬
‫برسعة خيالية‪ ،‬فكل ما وجد سبب وجد املسبب‬ ‫ومصالح ومفاسد ال بد من تقييمها‪ ،‬وإن كان درأ‬
‫له‪ .‬فالحرمان والنوم يف الشوارع واألكل من‬ ‫املفسدة أوىل من جلب املنفعة واملصلحة‪ ،‬كام‬
‫املزابل والجهل والتهميش واالستغالل الجنيس‬ ‫أنه أمر يعود إىل أولياء األمور وأهل االختصاص‬
‫وعدم اإلحساس باألمن واألمان وعدم اتضاح‬ ‫بسهامهم التي ال تخطئ التأويالت الفاسدة التي‬
‫الرؤيا وخارطة املستقبل‪ ،‬باإلضافة إىل التفكك‬ ‫تستعمل الوالء والرباء‪ ،‬كآلية لالستهواء ضعاف‬
‫األرسي وغياب حاضنة املجتمع املدين أو ندرتها‪،‬‬ ‫التفكري واستباحة دماء األمة وأعراضها وأموالها‬
‫كل هذه العوامل واألسباب تعد مرتعاً يتغذى‬ ‫عىل أعناق النصوص‪ ،‬وبرتها عن سياقها وإعالن‬
‫ويتقوى منه شبح اإلجرام والتطرف والعنف‬ ‫العداوة عىل املخالفني ونبذهم والتضييق‬
‫عليهم‪ ،‬واضطرارهم إىل أضيق الطريق عمدا إىل‬
‫والكراهية‪ ،‬ناهيك عن حاالت العود التي تسفر‬
‫إسقاطهم يف الشباك وانطالء الحبل عىل الضحايا‬
‫بجالء عن رقي يف سلم اإلجرام وتشعب فيه‬
‫األبرياء لكرثة الشبوهات وتحريم الشهوات‪،‬‬
‫من تبادل األفكار اإلجرامية إىل الجرمية الفردية‬
‫بصيحات مضلة ليصبحوا بني عشية وضحاها‬
‫والجرمية املنظمة إىل شبكات اإلجرام العابرة‬
‫مجندين يف صفوفهم أو مكرثين لسوادهم‪،‬‬
‫للحدود‪ ،‬ومن املغرر بهم إىل رؤساء العصابات‬
‫وإن يقولوا تسمع لقولهم‪ .‬قال الله تعاىل‪« :‬وإذا‬
‫والبارونات وأباطرة اإلجرام األشد بأسا يف الفساد‬
‫رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع‬
‫واإلفساد‪ ،‬فكل الدراسات أثبتت أن اإلجرام‬
‫لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل‬
‫يف تنسيق وتطوير مستمر بتحالفات جديدة‬
‫صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله‪.‬‬
‫وإسرتاتيجية متقدمة‪ ،‬مام يجعل آلة االستقطاب‬
‫مغرية لهؤالء األغرار والجهلة ليصبحوا فريسة‬ ‫ودون هذه املخاطر والعقبات يبقى أمامنا‬
‫سهلة املنال تسقط يف شباك املحرتفني يف اإلجرام‬ ‫اقتحام عقبة أخرى ال تقل خطورة عن سابقاتها‬
‫بتنويههم يف زيف األحالم وغسل أدمغتهم‬ ‫يتحتم علينا دق ناقوس الخطر بشأنها لتحذير‬
‫بسحر األوهام وركوبهم بحر التمني الذي ال‬ ‫كل من له غرية وحمية عىل اإلنسانية وسالمتها‬
‫ساحل له‪ ٬‬مراكبه زخرف القول غرورا ووعود‬ ‫وسعادتها‪ ،‬و دعوته إىل بذل الجهود من أجل‬
‫مكذوبة‪ ،‬سيارات فاخرة وأموال طائلة وبنات‬ ‫قطع دابر اإلجرام بكل الوسائل الدينية والقانونية‬ ‫‪82‬‬
‫شقراوات والهجرة لتنفيذ عملية السطو عىل‬ ‫والطبية والقضاء عىل العنف كظاهرة استفحلت‬
‫األبناك والعملة الصعبة وتنايس أيام الفقر الذي‬ ‫يف األمة عامة ويف السجون خاصة وهو ما سيتم‬
‫أنهك العائلة ورشدها كعمل الشيطان باإلنسان‪،‬‬ ‫إبراز معامله الحقا ضمن هذا املقال‪.‬‬
‫ال حد ألبعاده اإلجرامية‪ ،‬بينام يأيت دق ناقوس‬ ‫قد لعب الشيطان باألحالم‪ .‬ومن األهداف التي‬
‫الخطر يف السجون متأخرا أمام العجز الذي يشل‬ ‫تفتح شهية االستقطاب لدى هؤالء املجرمون‬
‫حركة الغيورين عىل اإلنسانية خاصة عندما يتم‬ ‫سامرسة تجار البرش‪ :‬الرياضيون‪ ،‬واملوظفون‬
‫عن طريق التتبع والرصد أن هناك طفولة تغتال‬ ‫من الرشطة والجيش والجامرك والربملانيون‬
‫براءتها وتلغى وتباد كرامتها‪ ،‬بتخطيط جهنمي‬ ‫واألجانب وسكان املناطق الحدودية والجبلية‬
‫محكم لشبكات اإلجرام داخل السجون‪ ،‬وتستغل‬ ‫التي اشتهرت بزراعة القنب الهندي والتي‬
‫أصبحت بدورها مالذا آمنا للمجرمني واملتابعني‬
‫هذه الرباءة لرتويج املخدرات يف املدارس كام يف‬
‫قضائيا واملبحوث عنهم‪ ،‬دون إغفال استقطابهم‬
‫الثانويات والجامعات‪ ،‬فإن ما ال تحصيه األعداد‬ ‫لألطفال من كال الجنسني والوجوه الحسان من‬
‫من أرسار اإلجرام خارج األسوار هو ما خفي‬ ‫الشبان واملردان الستغاللهم جنسيا وتوطيد‬
‫عن عيون املسؤولني‪ ،‬وحتى ال نَ ْب َخ َس الناس‬ ‫عالقتهم مع السجناء‪ ،‬ورشاء ذممهم واخرتاق‬
‫أشياءهم وأولياء األمور مجهودهم‪ .‬فإن النتائج‬ ‫عوائلهم لتبييض األموال ومخاذلة أخواتهم تحت‬
‫املرجوة من هذه املجهودات التي تكد ألجلها‬ ‫الوعود الكاذبة بالزواج‪ ،‬وإسقاطهم تحت طائلة‬
‫الدولة ليل نهار تبقى بعيدة املنال‪.‬‬ ‫التهديد تم الخضوع ألوامرهم خضوعا مطلقا‬

‫الجهود املبذولة ملحاربة الفكر املتطرف والجرمية املنظمة‬


‫مستويات وأبعاد متعددة األسس واألساليب‪،‬‬ ‫الجهود املبذولة ملحاربة الفكر املتطرف‬
‫لرفع عامد هذا الرصح اإلصالحي داخل السجون‪.‬‬ ‫عملت الدولة وما تزال عىل رفع رصح اإلصالح‬
‫كام رشعت املندوبية العامة إلدارة السجون‬ ‫وإنجاحه داخل السجون ممثلة يف املندوبية‬
‫وإعادة اإلدماج إىل تفعيل نظام التصنيف‬ ‫العامة إلدارة السجون وإعادة اإلدماج انطالقا‬
‫والفصل بني املحكوم عليهم واالحتياطيني وفصل‬ ‫من حل مشكل االكتظاظ داخل السجون ببناء‬
‫املحكوم عليهم يف قضايا اإلرهاب عن سجناء‬ ‫سجون جديدة‪ ،‬ومبواصفات عاملية وإغالق‬
‫الحق العام وكذا األحداث عن الكبار‪.‬‬ ‫السجون القدمية وتهيئ البيئة املناسبة للنزالء‬
‫ومن أبرز الخطوات التي قامت بها املندوبية‬ ‫وتحسني ظروف االستقبال واإليداع مبا يحفظ‬
‫رفع املستوى املعييش بخصخصة التغذية‬ ‫سالمتهم وكرامتهم‪ ،‬ومبا يضمنه القانون من حق‬
‫لتحسني الجودة وضامن الغداء الكامل للسجناء‬ ‫يف الحياة والتعليم والرتفيه والصحة والتغذية‬
‫حفاظا عىل صحتهم وأمنهم وملحاربة الفراغ‬ ‫والتواصل مع العائلة عن طريق الهاتف وتنظيم‬
‫القاتل لدى السجناء وملئه‪ ،‬تم تنظيم ورشات‬ ‫الزيارات العائلية وفقا للقانون املنظم للسجون‪،‬‬
‫‪83‬‬ ‫فنية وثقافية ورياضية باإلضافة إىل دروس‬ ‫كل هذه املجهوذات اإلنسانية لتسهيل عملية‬
‫محو األمية والتكوين والتأهيل املهني ومتابعة‬ ‫اإلصالح والتكوين والتأهيل والتحصني من‬
‫الدراسة يف جميع مراحل وفصول الدراسة من‬ ‫الفكر املتطرف واخرتاقاته املمنهجة ومحاربته‬
‫اإلعدادي إىل املاسرت‪.‬‬ ‫ومحارصته مبقاربة شمولية استباقية ذات‬
‫والتعايــش وهــذه كلهــا مــن شــعب اإلميــان‬ ‫فعىل املستوى األمني‪ :‬أخذت املندوبية العامة‬
‫التــي أعالهــا ال إلــه إال اللــه وأدناهــا إماطــة‬ ‫إلدارة السجون وإعادة اإلدماج عىل عاتقها‬
‫األذى عــن الطريــق‪ ،‬فــإن املذهــب املالــي‬ ‫ضامن سالمة السجناء بأن ال يتعرضوا ألي ابتزاز‬
‫الغنــي بال ـراث اإلنســاين والعقيــدة األشــعرية‬ ‫أو اعتداء جسدي أو لفظي‪ ،‬مع اإللتزام بحفظ‬
‫التــي تراعــي كل مقاصــد الرشيعــة‪ ،‬وتشــتمل‬ ‫كرامتهم وحرية اعتقادهم وتوفري البيئة‪ ،‬لذلك‬
‫عــى حفــظ الكليــات الخمــس مــع مســامحتها‬ ‫دون تنايس الدور اإلنساين النبيل الذي تقوم‬
‫واعتدالهــا والتصــوف الســني املحمــود الــذي‬ ‫به الرعاية الالحقة ومؤسسة محمد السادس‬
‫يدعــوا اىل الصــر عــى مخالطــة النــاس والصــر‬ ‫إلعادة إدماج السجناء يف املصاحبة واملرافقة‬
‫عــى أداهــم ونــر املحبــة وبســط ظاللهــا‬ ‫والتوجيه بعد اإلفراج‪ ،‬وهذه املقاربة تبقى يف‬
‫عــى مخلوقــات العــامل‪ ،‬كــا ورد يف الحديــث‬ ‫قمة اإلنسانية واملعاملة بالحسنى تلبية لدعوة‬
‫الرشيــف‪ :‬يف كل كبــد رطــب صدقــة والكلمــة‬ ‫أمري املؤمنني جاللة امللك محمد السادس حفظه‬
‫الطيبــة صدقــة وإماطــة األذى عــن الطريــق‬ ‫الله وأيده ألنسنة السجون وتحسني أوضاع‬
‫صدقــة‪ .‬فعنــد ذكــر محاربــة الغلــو والتطــرف‬ ‫السجناء‪ ،‬وهي دعوة تؤكد مرة أخرى عىل أن‬
‫ولحــد الســاعة فالرابطــة املحمديــة للعلــاء‬ ‫الرحمة والرأفة إرث من مرياث النبوة وكالهام‬
‫اليــد األطــول يف تحصــن الســجناء مــن هــذه‬ ‫من صفات الله تعاىل ملن أراد أن يتخلق بهام‬
‫اآلفــة‪ ،‬وبــدل قصــارى الجهــد يف إصــاح‬ ‫وان السجناء هم مواطنون كاميل املواطنة ال‬
‫الســجناء وإقنــاع املتطرفــن لتغــر أفكارهــم‬ ‫تنتقص مواطنتهم بالعقوبات السجنية السالبة‬
‫املغلوطــة والخاطئــة وإبدالهــا بالفكــر النقــي‬ ‫للحرية‪ ،‬فرج الله عن الجميع‪.‬‬
‫املتفتــح الصحيــح الصــواب املحجــة البيضــاء‬
‫أمــا عــى املســتوى الدينــي‪ :‬مل تتــواىن املندوبيــة‬
‫وهــي عقيــدة أيب الحســن األشــعري ريض اللــه‬
‫العامــة يف فتــح أبــواب الســجون للمجلــس‬
‫عنــه ومذهــب الســادة املالكيــة وعــى رأســهم‬
‫العلمــي بكافــة جهاتــه وكذلــك الرابطــة‬
‫اإلمــام مالــك ريض اللــه عنــه‪.‬‬
‫املحمديــة للعلــاء قصــد وعــظ وإرشــاد‬
‫عــى املســتوى االقتصــادي‪ :‬مل يبخــل اتحــاد‬ ‫الســجناء وكشــف اللبــس ورفــع التأويــل‬
‫مقــاوالت املغــرب بتقاســم خرباتــه مــع الســجناء‬ ‫الفاســد للنصــوص الدينيــة‪ ،‬وكــذا ســوء الفهــم‬
‫لبنــاء دواتهم وتجديد الثقة يف أنفســهم وتكوينهم‬ ‫عــن اللــه وعــن النبــي محمــد صــى اللــه عليــه‬
‫وتحسيســهم باملســؤولية تجــاه الفشــل واإلفــاس‬ ‫وســلم مــن خــال القــرآن الكريــم والســنة‬
‫الناتــج عــن ســوء الفهــم والتــرف املــؤدى إىل‬ ‫النبويــة الرشيفــة‪ ،‬والتحســيس مبخاطــر الغلــو‬
‫األوضــاع املزريــة‪ ،‬وتقوميهــم وتطويرهــم والنهوض‬ ‫املــؤدي إىل اإلرهــاب والتخريــب وقطــع‬
‫بهــم يف ســوق الشــغل بعــد اإلفـراج ومســاعدتهم‬ ‫األرحــام ومعيشــة الضنــك وإرهــاق الدمــاء‬ ‫‪84‬‬
‫بالنصــح والتأطــر والتوجيــه إلنشــاء مقــاوالت‬ ‫املعصومــة والربيئــة‪ ،‬وهــذا إجــرام حــرام يف‬
‫صغــرى وكــرى وبالتــايل اندماجهــم يف املجتمــع‬ ‫كل األديــان وامللــل‪ ،‬فــا جــاء اإلســام إال ألجــل‬
‫بصــورة إجابيــة كفاعلــن أصحــاب كفــاءات‬ ‫التعــارف والتآلــف وااليخــاء والتســامح واملحبــة‬
‫العنيف بأسلوب حضاري وعلمي متطور عن‬ ‫وخــرات تســتمر طاقتهــا لصالــح هــذه األمــة‬
‫طريق الحوار واالستامع وتفكيك الرتكيبة‬ ‫الخــرة امتثــاال لقولــه تعــاىل‪« :‬ولتكــن منكــم أمــة‬
‫اإلجرامية ومناقشة املفاهيم واملواضيع للوقوف‬ ‫يدعــون إىل الخــر ويأمــرون باملعــروف وينهــون‬
‫عىل مكامن الخطأ ونسق القطب الذي تدور‬ ‫عــن املنكــر أوالئــك هــم املفلحــون»‪.‬‬
‫عليه رحى العنف‪ .‬فمن خالل تركيز أبحاثه‬
‫عىل املستوى الحقوقي‪ :‬نجد املجلس الوطني‬
‫عىل الوالء والرباء والجهاد والحاكمية و التمكني‪،‬‬
‫لحقوق اإلنسان حارضا بسبقه يف هذا الورش‬
‫استطاع املرصد أن يؤسس يف صمت لخطاطة‬
‫اإلصالحي يف حمالت التحسيس والنهوض‬
‫منهجية فاعلة قادرة عىل محارصة العوامل‬
‫بحقوق اإلنسان داخل فضاء السجن‪ ،‬أمال يف‬
‫املعرفية و النفسية املؤسسة أو املنمية للشخصية‬
‫جعله فضاء مفتوحا أكرث يف وجه املجتمع املدين‬
‫اإلجرامية‪.‬‬ ‫بكافة جمعياته العمومية وهيئاته‪ ،‬وإرصار هذا‬
‫الجهود املبذولة ملحاربة الجرمية املنظمة‬ ‫املجلس وحرصه عىل ترسيخ قيم ومبادئ حقوق‬
‫اإلنسان ونرشه للسلم والسالم ونبذ العنف بكل‬
‫تواجــه املندوبيــة العامــة إلدارة الســجون‬
‫أشكاله‪ ،‬ومحاربة التمييز العنرصي مهام تعددت‬
‫وإعــادة اإلدمــاج صعوبــات وإكراهــات عــدة‬
‫أسبابه وأسسه املذهبية والعرقية واللغوية‪،‬‬
‫للحــد مــن تنامــي الجرميــة الفرديــة أو املنظمــة‬
‫وإسهام املجلس الوطني لحقوق اإلنسان يف‬
‫لضعــف اإلمكانيــات وقلــة التحفيـزات‪ ،‬باعتبــار‬
‫تغري العقليات الظالمية واألفكار املتحجرة‬
‫الســجن بــؤرة تجتمــع فيهــا جميــع أصنــاف‬
‫وامليتة‪ ،‬مام يعطي انطباعا إيجابيا لدى السجناء‬
‫الجرائــم مــن حيــث املتابعــات القضائيــة‬ ‫وإيقاض الشعور بالندم واحرتام الذات واألخر‪٬‬‬
‫والتهــم املنســوبة‪ ،‬أو التــي أُثبتــت يف حــق‬ ‫ويبعث الحنني ونبذ الغلو والتطرف والجرمية‪،‬‬
‫أصحابهــا كــا تكتســب فيــه الخــرة يف اإلجـرام‪.‬‬ ‫ويلعب املرصد املغريب ملحاربة التطرف والعنف‬
‫مل تقــف املندوبيــة العامــة مكتوفــة األيــد‬ ‫دورا هاما ال يقل أهمية عن املجهودات واألدوار‬
‫أمــام تنامــي معــدل الجرميــة وتطويرهــا فقــد‬ ‫االيجابية األخرى التي تبذلها الهيئات واملجالس‬
‫ســارعت إىل بنــاء ســجون جديــدة للحــد مــن‬ ‫التي توفرت اإلرادة الصادقة عند أصحابها من‬
‫االكتظــاظ وإعــادة التأطــر للموظفــن ليكونــوا‬ ‫موظفني وأمناء عامون ومدراء ورؤساء من‬
‫يف املســتوى املطلــوب وإعــداد وحــدات‬ ‫األرشاف كجنود الخفاء يف هذا القطر املبارك‪.‬‬
‫لتطبيــق برامجهــا اإلصالحيــة الهادفــة إىل‬
‫التكويــن والتأهيــل‪ .‬فمــن بــن هــذه الوحــدات‪:‬‬ ‫املرصد املغريب ملحاربة التطرف والعنف‬
‫• وحدة االستقبال والتصنيف‬ ‫الوســيلة الفعالــة واملهمــة اإلنســانية الصعبــة‬
‫• وحدة التأهيل اإلجتامعي والنفيس‬ ‫الجتثــاث العنــف واإلجــرام بطريقــة علميــة‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫• وحدة التعليم والتهذيب واالتصال الخارجي‬ ‫فقد ركز املركز أعامله عىل استعامل املقاربة‬
‫• ووحــدة التشــغيل واإلعــداد املهنــي‪ ،‬وحــدة‬ ‫النفسية كمنهجية ناجحة يف تفكيك وتحليل‬
‫الرعاية الالحقة‪.‬‬ ‫الجرمية بكل أبعادها‪ ،‬ومعالجة أسباب التطرف‬
‫كل هــذه الجهــود املبذولــة أساســية‪ ،‬لكنهــا‬ ‫فــكان مــن حســنات هــذه الربامــج اإلصالحيــة‬
‫تبقــى محــدودة مقارنــة بحجــم خطــر اإلخـراق‬ ‫القضــاء عــى تهريــب املخــدرات واملمنوعــات‪،‬‬
‫الــذي يحتــاج إىل اخـراق مضــاد لتحصــن هــذه‬ ‫وتفعيــل نظــام التصنيــف الــذي ســاهم بشــكل‬
‫الفئــات مبقاربــة فكريــة رصينــة‪ ،‬وتســهيل‬ ‫كبــر يف الحــد مــن االعتــداءات الجنســية‬
‫املســاطر القانونيــة‪ ،‬والترسيــع مبــروع‬ ‫والجســدية والقضــاء عــى كافــة أنــواع التمييــز‪،‬‬
‫التثقيــف بالنظــر وتطويــر إنزالــه‪ ،‬والعمــل‬ ‫وتأثيــت الفضــاء الســجني بكامــرات املراقبــة‬
‫عــى النهــوض بإنســانية الســجناء وإيقاظهــم‬ ‫ملنــع الخروقــات القانونيــة واألخالقيــة‪ ،‬وتحســن‬
‫مــن الغفلــة وإشــعارهم بالنــدم لتحسيســهم‬ ‫ظــروف العــاج وتســهيلها‪ ،‬وبنــاء املالعــب يف‬
‫باملســئولية وإحيــاء الــروح الوطنيــة فيهــم‪،‬‬ ‫املحيــط الســجني والتكثيــف مــن األنشــطة‬
‫لتلبيــة نــداء الوطــن الــذي هــو مأمننــا‬ ‫الرياضيــة ملحاربــة آفــة التدخــن‪ ،‬والتشــبع‬
‫جميعــا والتصــدي لألخطــار املحدقــة بــه‪،‬‬ ‫بالــروح الرياضيــة ملــا لهــا مــن أثــر يف تهذيــب‬
‫وتربــص الطامعــن والحســاد وتوظيــف الفكــر‬ ‫النفــوس‪ ،‬وتنظيــم أعــراس فنيــة وثقافيــة‬
‫املقاصــدي الــذي يراعــي الكليــات الخمــس‬ ‫وورشــات مهنيــة وفتــح املكتبــات أمــام الســجناء‬
‫والرضوريــات والحاجيــات واملصالــح واملفاســد‪،‬‬ ‫للمطالعــة ومحاربــة الفـراغ القاتــل الــذي ينتــج‬
‫وإبصــار الســجناء بنــور الوحــي الــذي يهــدي‬ ‫اإلجــرام واألفــكار الســلبية‪ ،‬وتفعيــل برنامــج‬
‫للتــي هــي أحســن ويهــدي للتــي هــي أقــوم‪،‬‬ ‫التثقيــف بالنظــر بســجناء مؤهلــن ومكونــن‪،‬‬
‫ويبــر املؤمنــن‪ .‬وإرشاكهــم يف اإلصــاح وعــدم‬ ‫والزيــادة يف أجــور املوظفــن وتحفيزهــم للقيــام‬
‫تهميشــهم ورد االعتبــار لهــم وإدماحهــم‬ ‫بواجبهــم اإلنســاين و املهنــي والوطنــي‪.‬‬
‫والتخفيــف مــن كافــة املعانــاة وأشــكال‬
‫الحرمــان‪ ،‬مبقاربــة تربويــة أكــر منهــا أمنيــة‬ ‫خامتة‪:‬‬
‫وعــى كافــة املســتويات لقولــه صــى اللــه‬
‫مــن خــال متابعتــي ومعاينتــي للواقــع املعــاش‬
‫عليــه وســلم «مثــل املؤمــن للمؤمــن كالبنيــان»‪.‬‬
‫داخــل أســوار الســجن‪ ،‬وإن كنــت ال أملــك‬
‫الفصاحــة‪ ،‬فحتــا أملــك قــول الرصاحــة بــأن‬

‫‪86‬‬
87
‫عقد األمان‬
‫و حكم التأشيرة في الشرع اإلسالمي‬
‫طه البلغيتي‬
‫قال تعاىل‪« :‬‮واوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤوال‮»‬
‫سورة اإلرساء اآلية ‪43‬‬
‫و قال عز و جل‪ « :‬وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم عىل سواء‪ ،‬إن الله اليحب الخائنني‮»‬
‫سورة األنفال اآلية ‪85‬‬

‫لفظــي عــى عقــد األمــان‪ .‬و ذلــك بدليــل أن‬ ‫هــل تعتــر التأشــرة ‪ « /‬الفيــزة » عقــد أمــان‬
‫صاحــب التأشــرة مينــح كامــل ومطلــق األمــان‬ ‫بــن الدولــة املانحــة وبــن الشــخص الحاصــل‬
‫والحاميــة مــن قبــل الدولــة املانحــة للتأشــرة‪،‬‬ ‫عليهــا‪ .‬إذا دخــل تلــك الدولــة؟ مســألة زلــت‬
‫ملجــرد كونــه يحمــل اإلذن الــذي هــو مبثابــة‬ ‫فيهــا أقــدام بفتــاوى جانبهــا الصــواب‪ .‬لــذا‬
‫عقــد أمــان بالدخــول‪ ،‬بخــاف لــو أنــه جاءهــم‬ ‫ســنحاول ضمــن هــذا املقــال الحديــث عــن‬
‫بغريهــا‪ ،‬فإنــه يحــى بــيء مــا حــي بــه يف‬ ‫هــذه املســألة باقتضــاب و يف حــدود مــا توافــر‬
‫املســألة األوىل‪.‬‬ ‫لنــا مــن مراجــع‪.‬‬
‫يف صحة عقد األمان ورشوطه‪:‬‬ ‫يف تعريف عقد األمان ‪:‬‬
‫يصــح عقــد األمــان عــن كل مســلم‪ ،‬يشــرط‬ ‫األمان لغة‪ :‬ضد الخوف‬
‫فيــه أن يكــون‪:‬‬ ‫واألمــان اصطالحــا‪ :‬هــو عبــارة عــن تأمــن غــر‬
‫عاقال و بالغا‪ ،‬فال يصح من املجنون والطفل‬ ‫املســلم عــى مالــه ودمــه مــدة محــدودة‪.‬‬
‫و أن يكــون مختــارا‪ ،‬إذ ال يصــح عــن املكــره‪ ،‬وال‬ ‫وعقــد األمــان يحصــل بصورتــن‪ ،‬تتمثــان يف‬
‫الســكران وال املغمــى عليه‪.‬‬ ‫التعبــر اللفظــي أو املكتــوب‪.‬‬
‫و كذلــك يصــح عــن املــرأة‪ ،‬لقولــه صــى اللــه‬ ‫كــا يكــون عــى شــكل عقــد ضمنــي عــريف‬
‫عليــه وســلم‪ « :‬قــد أجرنــا مــن أجــرت يــا أم‬ ‫متعــارف عليــه بــن النــاس عــى أنــه عقــد‬
‫هانــئ‮»‪.‬‬ ‫أمــان‪ ،‬وهــذه الصــورة هــي التــي تدخــل تحتهــا‬
‫قــال ابــن عبــد الــر يف االســتذكار ج ‪ 14‬ص ‪87‬‬ ‫« الفيــزة أو التأشــرة »‪.‬‬ ‫‪88‬‬
‫«أمــان الرفيــع والوضيــع جائــز عنــد جامعــة‬ ‫و الواقــع أن التأشــرة هــي يف حقيقتهــا عقــد‬
‫العلــاء»‪ ،‬و كــذا‪« :‬أمــان العبــد واملــرأة عنــد‬ ‫أمــان متبــادل بــن الطرفــن‪ ،‬بــن املانح للتأشــرة‬
‫الجمهــور جائــز»‪.‬‬ ‫وبــن طالبهــا‪ ،‬وإن مل يحصــل بينهــا تقريــر‬
‫عمــر ريض اللــه عنــه مشــهورة فيهــذا البــاب‪.‬‬ ‫و يظهرمــن كالم ابــن عبــد الــر أن األمــان يجــوز‬
‫عنــد الجمهــور مــن العبــد كذلــك‪ ،‬ولعلهــم‬
‫وعــى ضــوء هــذا كلــه‪ ،‬البــد مــن االعــراف‬ ‫اســتدلوا بقولــه صــى اللــه عليــه وســلم‪:‬‮«ذمــة‬
‫واإلقــرار بــأن تأشــرة الدخــول التــي يحصــل‬ ‫املســلمني واحــدة يســعى بهــا أدناه ـم‮»‪.‬‬
‫عليهــا الزائــر أو الوافــد هــي مبثابــة عقــد‬
‫عــريف‪ ،‬ويف كثــر مــن األحيــان ترقــى إىل درجــة‬ ‫ويكــون األمــان عامــا مــن اإلمــام لجميــع غــر‬
‫العقــد اللفظــي بــن الجهــة املانحــة للتأشــرة‬ ‫املســلمني‪ ،‬أو مــن الــوايل ألهــل بلــدة‪.‬‬
‫واملمنوحــة لــه بحســب صيغــة الطلــب أو‬ ‫كــا قــد يكــون خاصــا مــن أحــد الرعايــا‬
‫العقــد الــذي يتــم عليــه التوقيــع مــن الطرفــن‪،‬‬ ‫املســلمني لواحــد أو جامعــة مــن غري املســلمني‪.‬‬
‫وبالتــايل البــد مــن الوفــاء وااللتـزام مبــا يقتضيــه‬
‫هــذا العقــد مــن مراعــاة واحــرام لعهــود‬ ‫ويقــع األمــان بــكل مــا يــدل عليــه مــن قــول‬
‫وحرمــات مــن دخــل البــاد مبثــل هــذا العقــد‪.‬‬ ‫مثــل «أنــت آمــن» أو «أجرتــك» أو «ال بــأس‬
‫عليــك» أو أيــه «إشــارة مفهومــة» أو مــا دل‬
‫فتأشــرة الدخــول املتعــارف عليهــا بــن جميــع‬ ‫عليــه العــرف بــأن فيــه أمــان أو شــبهة أمــان‪.‬‬
‫الشــعوب‪ ،‬هــي مبثابــة صيغــة تنظيميــة تنظــم‬
‫عمليــة الدخــول والخــروج وتحــدد الحقــوق‬ ‫مــن املعلــوم‪ ،‬أن ديننــا يقــر بــأن أيــة عبــارة‬
‫والواجبــات عــى الزائــر أو الوافــد والبلــد‬ ‫ترحيــب يقولهــا املســلم لغــر املســلم كأن‬
‫يقــول لــه مــن قبيــل مرحبــا‪،‬أو ال عليــك‪ ،‬أو‬
‫املضيــف‪ ،‬وهــي متثــل جميــع شــعوب األرض‪،‬‬
‫أهــا وســهال‪،‬أو أنــت يف دارك وبلــدك الثــاين‪،‬‬
‫تــم إن الزائــر أو الوافــد إذ يحصــل عــى تأشــرة‬
‫وغريهــا مــن العبــارات الرتحيبيــة الشــائعة‪ ،‬فهي‬
‫الدخــول لبلــد التأشــرة‪ ،‬فهــو يكــون يف اعتقــاد‬
‫مبثابــة عقــد أمــان وتأمــن لفظــي لــه‪ ،‬يجــب‬
‫تــام انــه يف أمــان واســتئامن ال يجــوز أن يعتــدي‬
‫الوفــاء وعــدم الغــدر بــه‪ .‬و املتعــارف أن الوافــد‬
‫عليــه احــد مــن البلــد املضيــف‪ ،‬العتقــاده أن‬ ‫أو الزائــر أو الســائح يحصــل عــى عــرات‬
‫تأشــرة الدخــول هــي عبــارة عــن عقــد أمــان‪.‬‬ ‫العبــارات هــذه مــن املســلمني ابتــدا ًء مــن رشكة‬
‫و العــرة كــا تقــدم فيــا يعتقــده املؤمــن انــه‬ ‫الطـران التابعــة للبلــد املضيــف‪ ،‬مــرورا باملطار‪،‬‬
‫أمــان وليــس املؤمــن‪ ،‬فقــد نــص أهــل العلــم‬ ‫إىل ترحيــب النــاس بــه يف الشــوارع واملطاعــم‬
‫عــى أن املســلم لو أشــار لغــر املســلم املحارب‪،‬‬ ‫والفنــادق‪ .‬هــذا إذا مل يكــن يف األصــل متعاقــدا‬
‫تعــال أريــد أن أقتلــك‪ ،‬فرمــى املحــارب ســاحه‬ ‫مــع بعــض الــركات للعمــل أو املؤسســات أو‬
‫عــى األرض‪ ،‬وجــاءه مســاملا ظانــا أنــه قــال لــه‬ ‫املعاهــد الخاصــة لبعــض املســلمني‪ .‬مــا يجعــل‬
‫هــذا الرتحيــب كلــه يغلــظ العهــود واألمــان‬
‫‪89‬‬
‫تعــال فأنــت آمــن‪ ،‬قــال أهــل العلــم‪ :‬يجــب‬
‫ويزيدهــا متانــة وصالبــة‪.‬‬
‫عــى املســلم حينئــذ أن يؤمنــه أو يــرده إىل‬
‫مأمنــه الــذي جــاء منــه قبــل أن ميســه بأيــة‬ ‫و يعقــد األمــان عــى مــا يعتقــده املســتأمن‬
‫ســوء تحرجــا مــن الوقــوع يف الغــدر‪.‬‬ ‫أمنــا ال عــى مــا يعتقــده املؤمــن‪ .‬و لعــل قصــة‬
‫ومســاكنهم والتجــوال يف البــاد بحريــة‪ .‬إذ كل‬ ‫تــم إن أحدنــا إذا دخــل بالدهــم بتأشــرة‪ ،‬فإننــا‬
‫هــذا هــو منهــم مبثابــة أمــان الزائــر‪.‬‬ ‫نـراه يطالبهــم مبــا يســتحقه مــن أمــن وحاميــة‬
‫وخدمــات‪ ،‬يلزمهــم بهــا مبجــرد حصولــه عــى‬
‫ولنــرب مثــاال مبســطا عــى هــذه املســألة يك‬ ‫التأشــرة‪ ،‬بينــا لــو دخــل أحدهــم بالدنــا‬
‫تتضــح الصــورة بالنســبة للذي يقول أن التأشــرة‬ ‫بتأشــرة دخــول‪ ،‬تــرى البعــض يهــون مــن شــأنه‬
‫ليســت عقــد أمــان‪ ،‬ألنهــا مجــرد إذن بدخــول‬ ‫وشــأن الغــدر بــه‪ ،‬يف خــرق فاحــش للتعهــد‪ ،‬و‬
‫البــاد وليــس فيهــا ضــان بعــدم االعتــداء عــى‬ ‫مخــا بقاعــدة املعاملــة باملثــل‪.‬‬
‫دمــاء أو أمــوال املضيــف‪ .‬و نســأله‪ :‬إذا دعــاك‬
‫احــد مــن إحــدى الــدول األجنبيــة‪ ،‬أن تدخــل‬ ‫وكذلــك األمــر ينطبــق عــى مــن دخــل بالدهــم‪،‬‬
‫بيتــه‪ ،‬هــل يجــوز قتلــه وأنــت يف بيتــه بعدمــا‬ ‫فــا يحــل لــه أن يؤذيهــم بــأي حــال مــن‬
‫أذن لــك بالدخــول؟ بالتأكيــد ســتكون اإلجابــة‬ ‫األحــوال‪ ،‬ألنــه دخــل البــاد بعقــد أمــان‪ ،‬فيجب‬
‫ب‮«ال‮»‪ .‬إذ اعتــرت أنــك مســتأمن مــن جانبــه‪،‬‬ ‫عليــه الوفــاء بــه‪ ،‬فــكل مــا قلنــاه بالنســبة لهــم‬
‫وبالتــايل هــو مســتأمن مــن جانبــك ملجــرد إذنــه‬ ‫إذا دخلــوا بالدنــا نقولــه ملــن دخــل بالدهــم‪.‬‬
‫لــك بالدخــول‪ ،‬رغــم انــه مل يكتــب لــك نصــا‬
‫فكــا أننــا مطالبــون بحاميتهــم يف بلداننــا‪،‬‬
‫رصيحــا بأنــه أمنــك يف مالــك ودمــك‪ .‬و عليــه‪،‬‬
‫فإننــا كذلــك مطالبــون بعــدم االعتــداء عليهــم‬
‫فــإن نفــس األمــر ينطبــق عــى التأشــرة‪ ،‬إذ‬
‫وغدرهــم يف بالدهــم‪ ،‬قــال الشــافعي رحمــة‬
‫يجــب عليــك قبــول بنــود العقــد ومقتضياتــه‪،‬‬
‫اللــه عليــه ‪« :‬فــإن أمنــوه أو بعضهــم وأدخلــوه‬
‫وتؤمنهــم طــوال فــرة تواجــدك يف بالدهــم‪.‬‬
‫يف بالدهــم مبعــروف عندهــم‪ ،‬يف أمانهــم إيــاه‬
‫لقــد بــن رســول اللــه صــى اللــه عليــه وســلم‬ ‫وهــم قــادرون عليــه‪ ،‬فــإن لزمــه لهــم أن يكونوا‬
‫الوعيــد ملــن يخفــر األمــان‪ ،‬فقــال‪ « :‬إن الغــادر‬ ‫منــه امنــن‪ ،‬وإن مل يقــل ذلـك‮»‪ .‬فلنتأمــل جيــدا‬
‫لــواء يــوم القيامــة‪ ،‬فيقــال هــذه غــدرة فــان‬ ‫هــذا الــكالم وبالخصــوص قولــه رحمــة اللــه‬
‫بــن فــان»‪ .‬متفــق عليــه و كــذا قولــه صــى‬ ‫تعــاىل «وإن مل يقــل ذلــك»‪.‬‬
‫اللــه عليــه وســلم‪:‬‮«لــكل غــادر لــواء يــوم‬
‫يــروى عــن الشــافعي رحمــة اللــه عليــه انــه‬
‫القيامــة يعــرف بـه‮» متفــق عليــه‪ .‬وقولــه صــى‬
‫قــال ‪« :‬ولكنــه ليــس لــه أن يغتالهــم يف أموالهــم‬
‫اللــه عليــه وســلم‪:‬‮ «مــن أمــن رجــا عــى دمــه‬
‫وأنفســهم‪ ،‬فإنــه مــاذا أمنــوه فهــم يف أمــان‬
‫فقتلــه‪ ،‬فأنــا بــرئ مــن القاتــل وإن كان املقتــول‬
‫منــه‪ ،‬وال نعــرف شــيئا يــروى خــاف هــذا»‪.‬‬
‫كافـرا»‪ ،‬إىل غــر ذلــك مــن أدى لوعيــد الــواردة‬
‫يف هــذا البــاب وهــي كثــرة جــدا‪.‬‬ ‫لكــن قــد يســأل ســائل عــن وجــه األمــان الــذي‬
‫أعطــوه إيــاه؟‬
‫أمــا بالنســبة ملــا يســمى باإلنــذار العــام الصــادر‬ ‫‪90‬‬
‫عــن بعــض الجامعــات املتطرفــة‪ ،‬والتــي تدعــي‬ ‫نقــول هــذا ظاهــر جــدا يف مجــرد الســاح لــه‬
‫انــه يكفــي لنقــض العهــد واألمــان‪ ،‬فيقولــون‬ ‫بدخــول البــاد دخــوال طبيعيــا آمنــا واالنتفــاع‬
‫أنهــم أصــدروا هــذا اإلنــذار العــام لــكل مــن‬ ‫بخدماتهــم ومؤسســاتهم والنــزول يف فنادقهــم‬
‫فليــس مــن مقاصــد الــرع‪ ،‬و ال مــن العــدل‬ ‫دخــل بــاد املســلمني مــن غــر املســلمني‪،‬‬
‫احتــكار تأمــن اآلخريــن ألنفســهم دون غريهــم‬ ‫وبالتــايل فهــم يف ب ـراء ويف حــل مــن أي أمــان‬
‫مــن املســلمني‪ ،‬فاملســلمون ســواء يف ذلــك‪.‬‬ ‫يعقــد لهــم مــن طــرف املســلمني‪.‬‬
‫ويســتخلص مــا ســبق‪ ،‬أن التأشــرة هــي إذن‬ ‫فــإن هــذا الــكالم مخالــف لقولــه صــى اللــه‬
‫بدخــول البــاد‪ ،‬مقــرون باح ـرام مــا للشــخص‬ ‫عليــه وســلم‪ :‬‮« يســعى بذمتهــم أدناهــم‬
‫املــأذون لــه بالدخــول وفــق نظــام الدولــة‬ ‫ويجــر عليهــم أقصاه ـم‮»‪ ،‬و كــذا قولــه صــى‬
‫املانحــة للتأشــرة‪ ،‬وكذلــك وجــب عىل الشــخص‬ ‫اللــه عليــه وســلم‪:‬‮« ذمــة املســلمني واحــدة‪،‬‬
‫املــأذون احــرام دمــاء وأمــوال الدولــة التــي‬ ‫يســعى بهــا أدناهــم فمــن أحقــر مســلام فعليــه‬
‫أذنــت لــه بالدخــول‪.‬‬ ‫لعنــة اللــه واملالئكــة والنــاس أجمعـن‮»‪ .‬ويقبــل‬
‫مــن رصف وال عــدل‪ .‬وهــذا فيهــن مــن يحقــر‬
‫فــا يجــوز ألحــد كائنــا مــن كان أن يــؤدي‬ ‫وينتقــض ذمــة وأمــان مســلم واحــد‪ ،‬فكيــف‬
‫املؤمنــن الذيــن دخلــوا البــاد بعقــد األمــان‬ ‫مبــن ينقــض مبــن ينقــض أمــان وذمــة ماليــن‬
‫وهــو التأشــرة‪ ،‬مثــل التفجــرات اإلرهابيــة‬ ‫مــن املســلمني؟‬
‫التــي اســتهدفت مقهــى أركانــة مبراكــش‪،‬‬
‫وراح ضحيتهــا عــدد مــن الضحايــا املســلمني‬ ‫لكــن مــن أعطــى لهــؤالء هــذا الحــق‪ ،‬أي حــق‬
‫واملســتأمنني‪.‬‬ ‫نقــض وإلغــاء أمــان ماليــن مــن املســلمني‪.‬‬
‫عــاوة عــى أن العمــل بهــذا القــول املنحــرف‬
‫وكذلــك ال يجــوز ألي كان مــن كان‪ ،‬أن ينقــض‬ ‫يــؤدي إىل مقتلــة عظيمــة بــن املســلمني‪.‬‬
‫عقــد أمــان التأشــرة‪ ،‬و يــؤدي البلــد الــذي‬
‫اســتقبله و اســتأمنه‪ ،‬كــا حــدث يف باريــس‬ ‫إذ نجــد كيــف أن هــذه الجامعــات متباينــة‬
‫مــن تفجــرات إرهابيــة أزهقــت عــى إثرهــا‬ ‫ومنقســمة ومتغايــرة فيــا بينهــا‪ .‬وتخضــع‬
‫أرواح عــرات األبريــاء مــن كل الديانــات‬ ‫كل منهــا لقيــادة أم ـراء مختلفــن ومتغايريــن‬
‫والجنســيات ظلــا وعدوانــا‪.‬‬ ‫ومتفرقــن ورمبــا متخاصمــن‪ .‬ونتيجــة هــذا‬
‫تتبايــن الجامعــات كذلــك فيمــن يــرون تأمينــه‬
‫ممــن ال يــرون تأمينــه وإجارتــه‪ .‬فمــن تؤمنــه‬
‫جامعــة قــد ال تــرىض عنــه جامعــة أخــرى‪.‬‬
‫ويف املقابــل مــن حــق املؤمــن أن يحمــي‬
‫مؤمنــه ممــن يطلــب قتلــه أو االعتــداء عليــه‪،‬‬
‫ومــن هنــا يحصــل االقتتــال حتــى يف مــا بــن‬
‫‪91‬‬ ‫الجامعــات‪.‬‬
‫ورزازات‪ ،‬هوليود �إفريقيا‬
‫عمق التاريخ وغنى الذاكرة‬
‫احمد احمتاي‬

‫طويــل موغــل يف القــدم صنعتــه الحضــارات‬ ‫التعريف الجغرايف ورزازات‬


‫واألمــم‪ .‬و لــذا تــم تصنيــف ورزازات تراثــا‬
‫عامليــا مــن قبــل منظمــة األمــم املتحــدة للرتبية‬ ‫تقــع مدينــة ورزازات يف الجنــوب الرشقــي‬
‫والعلــوم الثقافيــة اليونيســكو‪ .‬أمــا عــن ســكان‬ ‫للمملكــة‪ ،‬وهــي ثــاين أكــر إقليــم بعــد زاكــورة‪،‬‬
‫ورزازات فهــم مزيــج مــن األع ـراق واألجنــاس‪،‬‬ ‫تحدهــا شــاال مدينــة تنغــر‪ ،‬وغربــا مدينــة‬
‫واألصــول املختلفــة‪ :‬أمازيــغ‪ ،‬و عــرب وأفارقــة‪.‬‬ ‫زاكــورة‪ ،‬وجنوبــا مدينــة تازناخــت‪ ،‬ورشقــا‬
‫و ألن املنطقــة تحتــل موقعــا اسـراتيجيا وصلــة‬ ‫سلســلة جبــال االطلــس الكبــر‪ ،‬وهــي منطقــة‬
‫وصــل بــن الشــال والجنــوب‪ ،‬فــإن موقعهــا‬ ‫تابعــة إداريــا لجهــة درعــة تافياللــت‪ .‬أمــا‬
‫املتميــز ومناخهــا الجميــل جعــل منهــا منطقــة‬ ‫تســمية املدينــة‪ ،‬فهــي مســتوحاة مــن االســم‬
‫خاصــة‪ ،‬اســتطاعت أن تجلــب أنظــار وعنايــة‬ ‫األمازيغــي «وار» مبعنــى بــدون و «الــزازات»‬
‫الســاطني والتجــار والعلــاء عــر العصــور لهــا‬ ‫تعنــي الضجيــج‪ ،‬مــا يحيلنــا إىل معنــى فضــاء‬
‫وللجهــة املحيطــة بهــا‪ .‬فجلــب إليهــا العــزة‬ ‫واحــد «بــدون ضجيــج»‪.‬‬
‫والعظمــة واإلجــال حينــا‪ ،‬بينــا أغرقهــا ذلــك‬ ‫ليســت هــذه مــر الفراعنــة وال أمريــكا بلــد‬
‫يف يــم مــن الويــات واملشــاكل حينــا أخــر‪ .‬وقــد‬ ‫العــم ســام‪ ،‬و ال حتــى التبــت موطــن الداليلــا‬
‫ســاهم كل ذلــك يف رســم كتاب هوليــود إفريقيا‬ ‫‪ ،‬وال ســيبرييا تلــك الصحــراء الجليديــة وال‬
‫والــرق األوســط‪ ،‬كتــاب مــيء بأحــداث‬ ‫النيبــال‪ .‬بــل إنهــا فضــاء تتجمــع فيهــا جامليــات‬
‫وحكايــات طمــس أغلبهــا وطمــر‪ ،‬ومل يصلنــا إال‬ ‫كل هــذه البقــاع‪ ،‬موجــودة يف الجنــوب الرشقي‬
‫القليــل مــن املخطوطــات واملآثــر التــي توثــق‬ ‫للمغــرب‪ ،‬إنهــا هوليــود إفريقيــا والــرق‬
‫وتــؤرخ لعمــق هــذا الفضــاء‪ ،‬وتعطــي املــكان‬ ‫األوســط‪ ،‬مدينــة القصبــات‪ ،‬مدينــة األلــف‬
‫نكهــة خاصــة جمعــت بــن الحديــث والقديــم‬ ‫ميــل‪ ،‬مدينــة ورزازات‪.‬‬
‫لتفــوح منهــا رائحــة اللــوز الشــهية ممزوجــة‬
‫بالعطــور املصنعــة التقليديــة‪.‬‬ ‫ورزازات‪ ...‬مدينة ساحرة‬ ‫‪92‬‬

‫يف واحــة ورزازات‪ ،‬ميثــل ســد املنصــور الذهبــي‬ ‫مدينــة ســاحرة جميلــة تجــذب الــزوار بعبــق‬
‫وشــموخ جبــال األطلــس حاجــزا دون تــرب‬ ‫تاريخهــا الــذي يفــوح مــن كل األركان‪ ،‬تاريــخ‬
‫قــر أيــت بــن حــدو و هــو ‪ :‬قــر عاملــي‬ ‫الكتــل الهوائيــة نحوها‪،‬لكــن مل تقطــع املدينــة‬
‫يتموقــع عــى ضفــاف واد أونيلــة‪ ،‬كان عبــارة‬ ‫صلتهــا مبحيطهــا الطبيعــي و الثقــايف‪.‬‬
‫عــن باحــة اس ـراحة خاصــة بالتجــار القادمــن‬
‫كانــت ورزازات تابعــة إداريــا ملدينــة مراكــش‪،‬‬
‫مــن إفريقيــا يف اتجــاه «تلــوت» التــي كانــت‬
‫حيــث تــم تأسســيها ســنة ‪ 1928‬عــن طريــق‬
‫آنــذاك تحــت والء الخليفــة يوســف بــن‬ ‫التهامــي الــكالوي‪ ،‬الــذي فــرض ســيادته عــى‬
‫تاشــفني‪ ،‬إنــه ابــن حــدو ومــن هنــا جــاءت‬ ‫املدينــة بــدءا مــن قصبــة تلــوت‪ ،‬مــرورا بقــر‬
‫تســمية القــر‪ .‬وقــد أعلــن ســنة ‪ 1960‬عنــه‬ ‫أيــت بــن حــدو‪ ،‬وصــوال إىل قصبــة تاوريــرت‪،‬‬
‫عاملــي مــن طــرف اليونيســكو‪ .‬ويتــم حراســتها‬ ‫لتتحــول إىل مجــرد ثكنــة عســكرية اتخذهــا‬
‫اآلن مــن قبــل أحــد أحفــاد بــن حــدو‪.‬‬ ‫االســتعامر الغاشــم لفــرض ســيادته‪ ،‬وذاق‬
‫وتزخــر املدينــة بوجــود قصبــات أخــرى مــن‬ ‫ســكان مدينــة ورزازات معيشــة ضنــكا حيــث‬
‫بينهــا‪ :‬قصبــة تيغولتــوت‪ ،‬قصبــة توريــرت‪،‬‬ ‫ســلبت منهــم حرياتهــم ومزروعاتهــم‪.‬‬
‫قصبــة امــر ديــل بســكورة‪ ،‬قصبــة ســيدي‬ ‫أمــا عــن أقــدم تجمــع ســكاين يف املدينــة فهــو‬
‫فــاح‪ ،‬قصبــة أيــت عــي بتكــرت‪ .‬جميــع هــذه‬ ‫«تغرمــت نقــان» املتواجــد وســط املدينــة‬
‫القصبــات عبــارة عــن حصــن متــن البنيــان‪.‬‬ ‫وبالضبــط «حــي تصومعيــت»‪.‬‬

‫العادات والتقاليد‬ ‫قصبات وقصور‬


‫مــن أهــم العــادات والتقاليــد التــي تزخــر بهــا‬ ‫تزخــر مدينــة ورزازات بعــدة قصبــات وقصــور‬
‫هوليــود إفريقيــا أن ســكانها‪ ،‬اللــون الفنــي‬ ‫مــن بينهــا‪:‬‬
‫أحــواش الــذي يتكــون مــن خليــط بــن الرجــال‬
‫قصبــة تلــوت‪ :‬وهــي أقــدم قصبــة يف مدينــة‬
‫والنســاء‪ ،‬يكونــون خاللــه حلقــة جميلــة تحيــل‬ ‫ورزازات‪ ،‬توجــد قــرب املدينــة عــى بعــد ‪80‬‬
‫عــى تاريــخ ورزازات عــى مــر العصــور يبتــدئ‬ ‫كيلومــرا عــى الطريــق الرابطــة بــن «واد‬
‫أحــواش «امــدور» يجســده أوال الرجــال بإصدار‬ ‫املالــح» و «مراكــش»‪.‬‬
‫أصــوات عبــارة عــن آهــات تليهــا «أرسس»‪،‬‬
‫ثــم تبــدأن النســاء بدخــول الحلقــة‪ ،‬ليتوســط‬ ‫قصبــة متداحــت‪ :‬أو «تــم الضغــط» أو «مركــز‬
‫الرجــال الحلقــة جالســن‪ ،‬بالعــزف بواســطة‬ ‫القــوة»‪ ،‬أسســت مــن طــرف أمغــار عــي‬
‫البناديــر والطبــول فتتجانــس األصــوات لتشــكل‬ ‫ابــن القايــدة «حليمــة» والــذي تــم اغتيالــه‬
‫إيقاعــا فلكلوريــا يعــرف بتاريــخ ورزازات‪.‬‬ ‫مــن قبــل التهامــي الــكالوي بعــد أن نجــح يف‬
‫‪93‬‬ ‫تكويــن حلــف بــن «متداخــت» و «أفليــت» و‬
‫وتعــرف زرزازات مهرجانــات كثــرة‪ ،‬منهــا‪:‬‬ ‫«أمــرزكان» يف منطقــة تدعــى «قــدم الجبل» أو‬
‫مهرجــان قلعــة مكونــة «الــورد»‪ ،‬يتــم االحتفــال‬ ‫«أدار نولغــم» وتقــع هــذه القصبــة يف الطريــق‬
‫بــه كل عــام‪ ،‬عنــد بدايــة شــهر مــاي‪.‬‬ ‫الرابطــة بــن «واد املالــح» و «تلــوت»‪.‬‬
‫إكراهات تعاين منها املنطقة‬ ‫األفالم املصورة يف املدينة‬
‫لكــن أمــام هــذا الغنــى الطبيعــي‪ ،‬يعــاين ســكان‬ ‫شــهدت ورزازات تصويــر أفــام عامليــة مــن‬
‫ورزازات مــن إكراهــات عــدة مــن بينهــا االفتقار‬ ‫قبيــل «كهيدكــو»‪« ،‬الفاطوريــة»‪« ،‬شــهرزاد»‪،‬‬
‫لفــرص الشــغل رغــم املشــاريع املتعــددة‪ .‬و‬ ‫«شــهراباد»‪« ،‬كومبتــا»‪« ،‬ســندريال»‪« ،‬عــي‬
‫تظــل ورزازات حلقــة مفقــودة ضمــن مسلســل‬ ‫بابــا و‪ 40‬لــص»‪« ،‬الرســالة»‪ ،‬و«بريـزان بريــك»‪،‬‬
‫تاريــخ درعــة الطويــل املمتــد عــر مراحــل‬ ‫وغريهــا مــن االعــال العامليــة الكبــرة‪.‬‬
‫طويلــة مــن التاريــخ‪ ،‬ورزازات التــي يطالهــا‬
‫النســيان‪ ،‬تســتغيث اليــوم وتخــى الــزوال‬ ‫املوارد التي تزخر بها املنطقة‬
‫واالندثــار‪.‬‬ ‫تتوفــر هــذه املدينــة عــى مــوارد مــن بينهــا‬
‫املراجع‪:‬‬ ‫املناجــم‪ ،‬حيــث تزخــر ب ‪ :‬مناجــم مــن قبيــل‪:‬‬
‫• منجم بوتازوت بقرية افليت‬
‫‪ .1‬كتــاب الرحلــة الورزازيــة الكــرى‪ :‬املهــدي‬
‫الصالحــي‬ ‫• منجم بوازر بتازناخت‬
‫‪ .2‬كتــاب الرحلــة الدرعاويــة الكــرى‪ :‬املهــدي‬ ‫• منجم اميض بتنغري‬
‫الصالحــي‬ ‫• مرشوع الطاقة الشمسية بقرية غسات‬
‫‪ .3‬رحلة االلف ميل‪ :‬حسن بوفوس‬
‫أضــف إىل كل هــذا‪ ،‬الفالحــة البوريــة التــي‬
‫‪ .4‬الروايــة الشــفوية‪ :‬ابرشــيح محمــد ذ مبــارك‬
‫يعتمــد عليهــا الســكان لســد الحاجيــات‬
‫الجيــايل‪ -‬محمــد بــاري ذ امزيــل عبــد الرحامن‬
‫املعيشــية التــي تلعــب دورا مهــا يف الســر‬
‫قدمــا باملنطقــة إىل األمــام‪.‬‬
‫ال تقتــر املنطقــة عــى ثرواتهــا و مآثرهــا‪ ،‬بــل‬
‫يجســد فضائهــا مكانــا لعشــاق املغامــرات و‬
‫ســباق الســيارات‪ ،‬و موطنــا لجلــب الباحثــن‬
‫عــن مناظــر طبيعيــة مل تغــر مالمحهــا يــد‬
‫اإلنســان‪.‬‬

‫‪94‬‬
95
‫امل�سافة مع الإخفاق والف�شل‬
‫مدخل للنجاح‬
‫ايت حمو طارق‬

‫إننــا يف املغــرب أو العــامل العــريب عمومــا ننظــر للفشــل نظــرة مليئــة بالشــعور بالذنــب والنــدم‬
‫واألىس‪ ،‬إىل درجــة القلــق‪ .‬بحيــث تعــوق حامســنا وجرأتنــا عــى النهــوض مــن جديــد‪ .‬أن تخفــق يف‬
‫نســيجنا االجتامعــي معنــاه أنــك فاشــل‪.‬‬
‫لدينا هذا امليل الفظيع إىل شخصنة إخفاقاتنا وإضفاء طابع جوهري عليها‪ .‬إننا نخلط حينئذ‪ ،‬بني‬
‫فشل مرشوعنا وفشل شخصنا‪ .‬أن نغري نظرتنا إىل الفشل معناه أن ننظر إليه بوصفه تجربة‪ .‬نعم‬
‫للنجاح مثن‪ ،‬فقد يسجننا يف مسار أو اتجاه ال يالمئنا‪ .‬لكن يجب تغيري نظرتنا إىل الفشل‪ .‬الن النظرة‬
‫التي لدينا عنه‪ ،‬مقلقة ومؤملة‪.‬‬
‫و عــى عكــس الغــرب‪ ،‬حيــث أثــار مفكــروه موضــوع الفشــل مــن زاويــة إيجابيــة‪ ،‬تتأســس عــى‬
‫قاعــدة أن يف كل فشــل يشء مــن النجــاح‪ .‬إذ يجــب أن ننظــر للفشــل بوصفــه تجربــة واقعيــة‪ .‬يجب‬
‫التعايــش معهــا ومواجهتهــا‪ ،‬وعــى أن الفشــل هــو أســاس النجــاح نتيجــة لــدروس مســتخلصة مــن‬
‫اإلخفاقــات الســابقة‪.‬‬
‫إذا كان الشعور بالفشل مؤمل جدا‪ ،‬يف بعض األحيان‪ ،‬فإنه يجب النظر إليه كدليل يوجهنا نحو ماهو‬
‫أسايس بالنسبة إلينا‪ .‬إذا عانيت كثريا من الفشل حتى لو كان بسيطا يف الواقع‪ ،‬فألن يف األمر شيئا مهام‬
‫بالنسبة إليك‪ ٬‬وأن عليك أن تتوقف للتساؤل عن هذا اليشء املهم واألسايس‪ .‬فلذلك ميكن أن يكون‬
‫أحد رشوط نجاحنا الوجودي‪ ،‬إذ كانت إخفاقاتنا تساعدنا عىل امليض قدما‪.‬‬
‫فهل نعترب أن هناك مرونة يف الفشل؟‬
‫نعــم‪ ،‬لكــن وجــب التنبيــه إىل الحمولــة الدالليــة للمفاهيــم‪ ،‬فاملرونــة تعنــي يف األصــل قــدرة‬
‫معــدن مــا عــى اســرجاع شــكله األصــي بعــد صدمــة معينــة‪ .‬ولــذا كان ممكنــا تحويــل الفشــل‬
‫الخــاص إىل فرصــة للتقــدم‪ ،‬وتحويلــه إىل حــظ‪ ،‬واالشــتغال عليــه لتصنــع منــه شــيئا مــا‪ .‬لكــن‬
‫أن ينبغــي أن يقــرن طــل ذلــك مــع الحاجــة إىل عــدم إنــكار الفشــل ألنــه رس النجــاح‪ ،‬فالطفــل‬
‫الصغــر يخفــق‪ ،‬مبعــدل ألــف مــرة‪ ،‬قبــل أن ينجــح يف املــي عــى قدميــه‪ .‬وهــو ينجــح ألن نظــرة‬ ‫‪96‬‬
‫الراشــدين إلخفاقاتــه األوىل هــي نظــرة متقلبــة وأحيانــا متقبلــة ومتســامحة وإيجابيــة وهــذا هــو‬
‫الــرط األكــر إشــكالية‪ ،‬يف فضــاء اجتامعــي ال نراكــم فيــه مــا يكفــي مــن ثقافــة االعـراف بالخطــأ‪،‬‬
‫وتشــجيع املخطــئ عــى بلــورة هــذا اإلخفــاق نحــو قــوة إيجابيــة تحقــق النجــاح‪.‬‬
97
‫�أحالم �شائكة‬

‫املصطفى املاليك‬

‫كان الرتدد سيد املوقف يف البداية رغم محاوالت‬ ‫مقدمة‬


‫عدة‪ ،‬لكنني اخرتت يف األخري الطريق الثاين ألن‬
‫األحداث موجودة واملالبسات مدونة يف مفكريت‬ ‫إن األحداث التي يختلقها الخيال و ال يتصورها‬
‫وما كان عيل إال أن أقربها من القارئ يف قالب‬ ‫الواقع‪ ،‬لتعرب عنها األلسن وتخربنا بها األحالم‪،‬‬
‫وأسلوب واضح أمام متلق لرمبا يكون من بينهم‬ ‫هي يف الحقيقة جزء يسري من واقع حياتنا‪.‬‬
‫من يشاركني نفس التجربة‪ .‬وقد تغدو رواية مع‬ ‫فمهام حلقت أخيلتنا وتنوعت إلهاماتنا وتفننت‬
‫مروري عىل مزيد من صفحات املايض‪.‬‬ ‫عقولنا يف التصوير‪ ،‬فإن غرائب الدهر تجدها‬
‫أكرب وعجائبها ال تحىص‪.‬‬
‫وقفة تأمل‬
‫ومنــذ أن وطــأت قدمــاي هــذا املــكان وجــدت‬
‫وقفــت أتأمــل وجهــي يف مــرآة حــاق الحــي‬ ‫يف تــرددي عــى مكتبــة املؤسســة‪ .‬ويف الق ـراءة‬
‫الجديــد بالســجن‪ ،‬فرأيــت يف نفيس رجــا هرما‪،‬‬ ‫درعــا للقضــاء عــى امللــل الــذي لصــق يب كظــل‬
‫شــقت الســنوات أوديــة يف وجهــه اململــوء‬ ‫يف كل أمكنــة وأزمنتــي املســلوبة للحريــة‪.‬‬
‫بالشــيب‪ ،‬وقاربــت الشــمس عــى الغــروب‬
‫يف عينيــه‪ ،‬تخيــم ظاللهــا عــى إطــار العــن يف‬ ‫ومبجــرد مــا أن تــم اإلعــان عــن املشــاركة يف‬
‫ســواد يشــبه ســواد الليــل الــذي مل أعــد أفارقــه‪،‬‬ ‫مســابقة القصــة مــن طــرف املندوبيــة العامــة‬
‫فتجــدين يف ســهر إجبــاري ألن النــوم جافاين منذ‬ ‫إلدارة الســجون‪ ،‬قــررت خــوض املغامــرة‬
‫أن أصبحــت أصاحــب اليــأس والقلــق مــن قادم‬ ‫واكتشــاف ذايت يف الكتابــة مــع أن مســاري‬
‫الســنني‪ .‬كلــا حاولــت أن أغفــو تقــوم اآلهــات‬ ‫التعليمــي كان يف مجملــه علميــا وبالضبــط‬
‫يف نفــي فتقــض مضجعــي‪ ،‬كل مــا أملكــه هــو‬ ‫يف تخصــص الرياضيــات‪ ،‬فكــرت يف أي الطــرق‬
‫مــا تبقــى مــن العمــر بعدمــا انتهــت ســنوات‬ ‫التــي سأســلكها لولــوج هــذا العــامل الغريــب‬
‫مــن العمــل الــذؤوب ليــا ونهــارا‪.‬‬ ‫عــن تخصــي‪ .‬هــل أفتعــل الوقائــع وفــق‬ ‫‪98‬‬
‫كــم كانــت قصــرة تلــك األيــام‪ ،‬أســمع لحــد‬ ‫خيــال اختــار لــه الزمــان واملــكان أم أرسد مــا‬
‫اآلن أبــواق الصبــاح التــي افتقدتهــا قبــل‬ ‫عايشــته مــن أحــداث وأرســم املالبســات التــي‬
‫ســجني‪ ،‬اآلن مل يعــد يف حيــايت ســوى أربعــة‬ ‫أحاطــت بهــا خواتــم نهايتهــا؟‬
‫وأغرمت باالزدهار الذي تحققه‪ ،‬ثم يأيت الجزء‬ ‫جــدران برفقــة مجموعــة مــن الســجناء كل‬
‫املشوق عندما تنهار‪ ،‬كنت أجد الدروس ممتعة‬ ‫حســب مخالفتــه أو جرميتــه‪ ،‬رتبــت يف ذهنــي‬
‫مثل أرقام اليانصيب متاما‪ ،‬متهيد ثم بلورة لقصة‬ ‫هــذه الســنوات الســابقة مــن األقــرب إىل‬
‫املستقبل‪ ،‬أحداث مرتابطة ويف األخري تنتهي‬ ‫األبعــد‪ ،‬الصــور أوال ثــم الشــواهد‪ .‬أقــوم يف‬
‫لتبدأ قصة أخرى‪ .‬تفوقت فقررت أن أستمر يف‬ ‫مخيلتــي بنفــض الغبــار عنهــا لتجيبنــي عندمــا‬
‫هذا الطريق وهو كذلك لن ينتهي عند محطة‬ ‫أحدثهــا‪ .‬أتســاءل أحيانــا ملــاذا ال توجــد الصــور‬
‫الوقوف‪.‬‬ ‫معــي بــن الجــدران‪ ،‬فتضحــك عــي الشــواهد‬
‫لتذكــرين أنــه ممنــوع إدخــال الصــور إىل هــذا‬
‫توجهــت للكليــة والشــعبة طبعــا العلــوم‬ ‫املــكان‪ ،‬خصوصــا وإنهــا تحــوي خيــال زوجتــي‬
‫الرياضيــة‪ ،‬ولألســف مــع أول درس اكتشــفت أن‬ ‫يف أبهــى حللهــا‪ ،‬فاضحــك معهــا وأقــول لنفــي‬
‫الكليــة مــا تـزال يف مرحلــة مــا قبــل التاريخ‪ ،‬ومل‬ ‫مــاذا عســاي أفعــل ألقــدم ألوالدي وزوجتــي مــا‬
‫أكــن املصــدوم الوحيــد‪ ،‬بــل كثــرون مثــي‪ ،‬مل‬ ‫يحتاجونــه؟ فقــط االنتظــار أيــام متــي‪ ،‬شــهور‬
‫اســتطع االندمــاج مــع كثلــة امللــل التــي تشــكل‬ ‫تسرتســل وســنوات متــر كالــرق‪.‬‬
‫املــواد املدروســة‪ ،‬وكان ال بــد مــن خطــوة ثانيــة‬
‫ووجدتهــا تضييــع للوقــت‪ ،‬واملكافــأة أنهــا خطة‬ ‫كام أننا يف النهاية سواء‪ ،‬تأرسنا الوحدة يف انتظار‬
‫ناجحــة‪ ،‬لقــد أفلحــت وحصلــت عــى الشــهادة‪،‬‬ ‫رحمة يوم القيامة‪ ،‬أبحث عن نظاريت يف بعض‬
‫ويف نفــس الوقــت اســتمتعت كثـرا‪ ،‬خرجــت يف‬ ‫األحيان ألن عيناي ال تساعداين عىل املطالعة‪.‬‬
‫رحــات‪ ،‬لعبــت وضحكــت ومــا حصــل أننــي‬ ‫وأبتسم حني أتذكر أنني مل أكن يوما من محبي‬
‫حققــت نجاحــا‪ ،‬لكــن الشــهادة ال مــكان لهــا‬ ‫الركض وراء الثقافة فأعود إىل حيايت‪ ،‬إىل جدراين‬
‫يف ســوق الشــغل‪ ،‬تقدمــت بطلبــات متابعــة‬ ‫األربعة‪ ،‬أمرر يداي املرتجفتان عىل كل لحظة‬
‫الدراســة باملهجــر لكــن معارضــة العائلــة كانــت‬ ‫مرت يف حيايت ألجدها هنا عىل هذه الرفوف‪،‬‬
‫شــديدة وقاســية‪ ،‬بحكــم اختــاف التقاليــد‬ ‫لحظات الركض وراء الدراسة للحصول عىل‬
‫والثقافــات مــع أصالتنــا وموروثاتنــا‪ ،‬جلــت‬ ‫الشواهد والدبلومات ولحظات الجري وراء‬
‫عــى كل املؤسســات وال مجيــب‪ ،‬ومل أتفاجــأ‬ ‫الرفاهية التي كنت أوفرها لزوجتي وأوالدي‬
‫هــذه املــرة والجيــد يف األمــر أين مل أتعــب‬ ‫دون توفري أي يشء للقادم من األيام‪ ،‬لحظات‬
‫نفــي‪ ،‬بــل قضيــت أوقاتــا ممتعــة‪ ،‬وحصلــت‬ ‫كانت مليئة بالعراقيل أمام املتمنيات وكأنها‬
‫عــى شــهادة ال نفــع منهــا‪ ،‬كلــا ذهبــت يف‬ ‫أحالم شائكة‪.‬‬
‫رحلــة البحــث عــن عمــل أجــد طابــورا طويــا‪،‬‬
‫الدراسة والبحث عن العمل‬
‫الــكل ينتظــر دوره‪ ،‬لــن أكــون ســوى رقــم يف‬
‫‪99‬‬ ‫السلســلة‪ ،‬أحيانــا أصــل إىل املكتــب املجــاور‬ ‫أحببت الحساب وعلوم الرياضيات منذ‬
‫وأحيانــا أخــرى أمــل وأعــود أدراجــي وضــاع‬ ‫طفولتي‪ ،‬ويف املدرسة تعلقت مبادة روادها‬
‫كل يشء وراح معــه األمــل‪ .‬جلســت يف بيتنــا‬ ‫بيطاكور‪ ،‬طاليس‪ ،‬باسكال‪ ،...‬لقد كانت املفضلة‬
‫معــززا مكرمــا يف انتظــار األمــل املشــئوم‪ ،‬ال بــد‬ ‫لدي‪ ،‬أبهرت بكيفية تكوين رشكة استثامرية‬
‫الحديدية محدثا ثقبا مل أكن أعرف معناه قبل‬ ‫أنــه قــد أضــاع شــواهدي التــي بعثتهــا لــكل‬
‫توظيفي‪ ،‬وأرجعها يل ثم قال بالفرنسية‪..‬سفر‬ ‫املؤسســات‪ ،‬فعــدت إىل الطابــور والتقيــت‬
‫سعيد‪ .‬أجبته بالشكر بعد معرفة رصيف قطاري‬ ‫الكثــر مــن حملــة الشــواهد نتحــدث ونضحــك‬
‫وقلت يف نفيس‪ « :‬تكفينا ثقوب الذاكرة‪ ،‬حرمتنا‬ ‫تــم يذهــب كل إىل بيتــه ونجرســويا خيبــة تجــر‬
‫من فصول طفولة منسية»‪.‬‬ ‫عنــا مــا يف كأس مــن األمل‪.‬‬
‫الكل هنا ينتظر القطار ويختلس النظرات تلو‬ ‫ويف إحدى املرات التي أعود فيها خايل الوفاض‪،‬‬
‫األخرى إىل الساعات اليدوية الن ساعة املحطة‬ ‫وجدت املفاجأة‪ ،‬لقد تم أخريا استدعايئ الجتياز‬
‫مل تعد عقاربها ترتل لحن الزمن‪..‬ربطات عنق‬ ‫مباراة للعمل‪ ،‬إذا البد أن أفرح لكنني لست أبدا‬
‫هنا وهناك‪ ...‬عيون مقنعة بنظارات سوداء‪...‬‬ ‫كام أرغب‪ .‬حان الوقت ألضع حدا للوقوف يف‬
‫وجوه مختفية وراء الجرائد‪ ..‬ولغط تؤتثه‬ ‫طابور االنتظار‪ .‬ترى من سيأخذ مكاين؟ ال يهم‪،‬‬
‫حوارات جانبية بني أناس مل يلتقوا قط‪...‬‬ ‫وقبل االلتحاق بالعمل قمت بآخر زيارة ودعت‬
‫فيها الرفاق الذين هنئوين عىل الوظيفة التي‬
‫صوت رجاىل خشن يخرس الجميع عرب مكرب‬ ‫حصلت عليها‪ ،‬غادرتهم وأنا أضحك ألن رفاقا يل‬
‫الصوت‪..‬معلنا تأخر القطار لبضع دقائق مع‬ ‫يف الثانوية حصلوا عىل نفس الوظيفة وبدون‬
‫االعتذار والتفهم…‬ ‫الشهادة التي تعبت من أجلها‪.‬‬
‫أمهلتني الدقائق إشباع شغفي إلعادة اكتشاف‬
‫األشخاص واألشياء‪ ..‬الحقائب املجرورة واملحمولة‬
‫يف القطار ألجل استالم العمل‬
‫عىل األكتاف‪ ...‬وسلة املهمالت‪ ...‬والحديقة التي‬ ‫مل أنم تلك الليلة‪ ،‬وأفقت عىل صوت أمي وهي‬
‫فقدت الكثري من نظارتها…‬ ‫تسخن حليب وقهوة وتكوي بذلتي مل أنتظر‬
‫صوت املنبه‪ ،‬أعدمت زغرودته قبل أن يطربني‬
‫ملحت الساعة الحائطية املعطلة‪ ....‬وأشفقت‬
‫مبوسيقى مل أعد أحبها‪.‬‬
‫عىل السلة التي مل تكل يوما من ابتالع الفراغ‪،‬‬
‫أعواد الثقاب املنتحرة‪ ،‬أعقاب السجائر املغتالة‪،‬‬ ‫جففــت وجهــي مــن وضــويئ الصباحــي‪،‬‬
‫العلكة املستنفذة حالوتها‪ ،‬الجرائد البائتة‬ ‫والتهمــت خبــز أمــي املدهــون بالزبــدة‬
‫وكؤوس القهوة البالستيكية…‬ ‫وتجرعــت فنجــان القهوة‪...‬ســأحن إىل خبــز‬
‫أمــي وقهــوة أمــي‪ ..‬همهمــت بهــذا املقطــع‬
‫فاجأين زعيق القطار يف هرولته نحو الرباط وفيه‬
‫املوســيقي ملارســيل خليفــة… قبلــت جبــن‬
‫احتوتني املقصورة األوىل من الدرجة االقتصادية‬
‫أمــي ويــد أيب‪ ،‬وهرولــت خارجــا ويف مســامعي‬
‫من القطار‪ .‬وضعت الحقيبة عىل الرف‪ ،‬فابتلعني‬
‫حرشجــة صوتهــا وهــا يلــوكان األدعيــة‪.‬‬
‫الكريس الخشبي‪ .‬شاركني املقصورة نساء من‬ ‫‪100‬‬
‫الزمن املقهور وعجوز ببذلة تقليدية وفتاة بدت‬ ‫تأبطت الحقيبة وخرجت متوجها إىل محطة‬
‫يل طالبة حقوق من خالل الكتاب الذي كانت‬ ‫القطار اختلست التذكرة بعد أن أنسبت يف‬
‫تتفحصه‪.‬‬ ‫طابور االنتظار‪...‬حفر حارس الباب تذكريت بآلته‬
‫وجهتي فكان جوايب االستدعاء الذي بحوزيت‪،‬‬ ‫أخرجت من جيوب الحقيبة كتابا أمألُ به وقتي‬
‫بعدما سمح يل بالدخول مشريا يل باستعامل‬ ‫واستغني به عن حوارات جانبية مل أعتدها‬
‫الدرج إىل الطابق الثالث رغم وجود عدة مصاعد‬ ‫قط‪ ،‬وقلت لن أقرأ اليوم‪ ..‬فتحت كتاب ذاكريت‬
‫كهربائية شاغرة‪.‬‬ ‫وأدخلت الكتاب يف الحقيبة‪ ...‬ملحت وجهي‬
‫يف مرآة املقصورة‪ ،‬وتأكدت أن ترسيحة شعري‬
‫توجهت إىل مكتب التوظيف املعلوم بكل رسعة‪.‬‬ ‫ومالمح وجهي مل تتبذل‪...‬‬
‫كان منصبي سيتبخر إن وصلت متأخرا‪ ،‬غري أين‬
‫وجدت أمام املكان طابورا جديدا من املرشحني‬ ‫استسلمت لنافذة اإلغاثة‪ ..‬فأغاثني بالصور‬
‫والحاملني الستدعاءات فردية‪.‬‬ ‫واملشاهدة بغل وحامر وإنسان مبحراث‬
‫خشبي وآخر مبحراث حديدي‪ ...‬صبية يلعبون‬
‫داخل املكتب‪ ،‬استقبلتني موظفة‪ ،‬بدت يل‬ ‫يف الخواء‪ ...‬يلوحون للقطار وبعضهم يرشقه‬
‫من أول وهلة سكرترية نظرا لخلو مكتبها من‬ ‫بالحجارة‪ ..‬أرض جرداء تنتظر الغيث‪ ...‬قطيع‬
‫امللفات التي اعتدت رؤيتها يف مكاتب اإلدارات‬ ‫املوايش يحرسه كلب وصبي بعصا‪...‬‬
‫التي كنت أزورها من قبل‪ ،‬فوق مكتبها مخدع‬
‫هاتفي وملف مكون من الئحة املرشحني للعمل‪.‬‬ ‫استيقظت من غفويت ووجدت نفيس يف محطة‬
‫أرشت هذه املوظفة بحركة من قلمها عىل‬ ‫الرباط اكدال‪ ..‬وانفجر القطار بركانا من برش‬
‫اسمي املدون بالالئحة ووجهتني صوب قاعة‬ ‫وحقائب‪ ..‬وأحالم وهواجس‪..‬وخوف وفرح‪.‬‬
‫االجتامعات املقابلة ملكتب املدير املكون كله‬ ‫توجهت إىل شباك اإلرشادات ألسال عن إدارة‬
‫من زجاج‪.‬‬ ‫املكتب الوطني للسكك الحديدية فأجابني‬
‫دخل املدير‪ ،‬ابتسمت له املوظفة وفتحت باب‬ ‫املوظف بإشارة من أصبعه دون أن يعريين إي‬
‫املكتب‪ ،‬لكن قبل ولوجه إىل مكتبه‪ ،‬أخد نظرة‬ ‫انتباه‪ « :‬بجانب املحطة إىل اليسار»‪.‬‬
‫خاطفة نحو القاعة دون أن يكلف نفسه عناء‬ ‫خطوت إىل الناحية املشار إليها من طرف‬
‫إلقاء التحية والسالم إىل الجمع املصطف عىل‬ ‫املوظف املكلف باإلرشادات‪....‬وكيل أسئلة‬
‫الكرايس‪ .‬كان الصمت مطبقا إال من وشوشات‬ ‫عن ماهية العمل الذي سأشغله واملهمة التي‬
‫املوظفة يف أذنيه‪ .‬اسرتاح عىل كرسيه وبدأ يعزف‬ ‫سأتحمل مسؤوليتها داخل عامرة املكتب‪ ،‬هاته‬
‫بأصابع كفه السمني عىل لوح أزرار عىل ميينه‪.‬‬ ‫العامرة التي بدت يل من أول وهلة كفندق‬
‫خمسة نجوم رغم أنني مررت بها سابقا عدة‬
‫أتته املوظفة السكرترية بقهوته الصباحية‬
‫مرات دون معرفة النشاط املزاول داخلها‪.‬‬
‫وباملجالت امللونة‪ .‬تصفح أغلفة املجالت‪،‬‬
‫‪101‬‬ ‫وارتشف من فنجان قهوته السوداء‪ ،‬والتصقت‬ ‫عند الباب استوقفني الحارس‪ ،‬كان يرتدي بذلته‬
‫عيناه بساقي الفتاة الحسناء البيضاويتني بياض‬ ‫الزرقاء وعىل األكتاف بضعة نجوم‪ ،‬بدا يل من‬
‫الحليب‪ .‬أغلقت الحسناء الباب وافرتشت كرسيا‬ ‫أول وهلة كأنه عسكري ثكنة ال ينقص لزومه‬
‫متحركا‪.‬‬ ‫بهذا املكان سوى رشاش أوتوماتييك‪ ،‬سألني عن‬
‫الرحلة إىل املنفى‬ ‫تجرع املدير قهوته جرعة واحدة‪ ،‬وخط عىل‬
‫ورقة سلمها للكاتبة‪ ،‬وغادر تاركا أسئلة كثرية يف‬
‫مل أكن اعرف اليشء الكثري عن املنطقة‪ ،‬كل ما‬ ‫أدهان الحضور‪ ،‬بعدها دعتنا الحسناء للحاق بها‬
‫عرفته من الذين سألتهم عن املكان أنه يقع‬ ‫عرب ممر طويل‪ ..‬كانت تسري كعارضات األزياء‪.‬‬
‫هناك يف أقىص الرشق دونه مسرية ليلة كاملة يف‬
‫القطار من العاصمة حتى تاوريرت ومنها عيل أن‬ ‫بباب املكتب يافطة معلقة تحمل صفة رئيس‬
‫أستقيل سيارة أجرة‪ ،‬عرفت بعدها أن السيارات‬ ‫قسم املوظفني وجدت شخصا بدا يل أن الزمن‬
‫املستعملة لهذا الغرض تسمى املقاتالت ألنها‬ ‫عايت عليه‪ ،‬ناولته السكرترية الورقة املؤرش عليها‬
‫بدون مأذونية للنقل و ال أوراق ثبوتية‪.‬‬ ‫من طرف املدير‪ ،‬تفحصها وأعطى أوامره لنلتحق‬
‫مبركز التكوين املجاور للعامرة ابتداء من يوم غد‬
‫ركبت القطار من جديد‪ ،‬ولكن هذه املرة‬
‫دون أن نستدرك مآلنا بعدها‪.‬‬
‫احتوتني مقصورة من الدرجة الثانية بفعل‬
‫امتاليك بطاقة مجانية تخول يل ذلك‪ ،‬وتجنبني‬ ‫مبركز التكوين بدأت الدراسة من جديد‪ ٬‬لكن‬
‫كذلك طابور االنتظار أمام شبابيك املحطات‬ ‫مع دروس مل نفهمها منذ البداية‪ .‬ليس ألن املركز‬
‫وحفر آالت حراس األبواب ومراقبي القطارات‪.‬‬ ‫يوجد يف مرحلة ما قبل التاريخ‪ ،‬ولكن ألننا نحن‬
‫ال أنكر أنني اندهشت للحجم الذي أخده‬ ‫الذين مل ندخل التاريخ أصال‪ ،‬ومل أكن املصدوم‬
‫الحدث‪ ،‬باعتبار أنني امتطيت نفس القطار‬ ‫وحدي بل كلنا يف املركز‪ ،‬وضغطت عىل نفيس‬
‫الذي اقلني إىل العامرة‪ ،‬مصدر أدهشني من‬ ‫ويف األخري كنت من الناجحني ولكن بدون‬
‫كوين رأيت أن األمر أصبح يدخل ضمن املعتاد‪.‬‬ ‫شهادة‪ ،‬عىل األقل سأمتكن من العمل ليس من‬
‫ومل أقدر أن تدخل تلك الرحلة التاريخ بنحو من‬ ‫طينة ما كنت أصبو إليه ومع ذلك استمتعت‬
‫اإلحياء‪.‬‬ ‫كثريا‪ ،‬ألين حصلت عىل متأخرات األجرة مع أنني‬
‫كنت أدرس‪ ،‬وفوق كل هذا أجازى عن العمل‬
‫كنت متعودا عىل الرحلة املكوكية بالقطار‬ ‫ملدة شهر أنستني مشقة الدراسة وجعلتني‬
‫بطبيعة متابعة تكويني بالرباط وسكناي بالدار‬ ‫أتنفس من جديد‪.‬‬
‫البيضاء‪ ،‬ومن بني ذلك أنني يف نهاية اليوم أو‬
‫بداية املساء عىل األصح‪ ،‬عندما استقل القطار‪،‬‬ ‫عند انتهاء اإلجازة‪ ،‬التحقت من جديد بالعمل‬
‫أكون يف غاية التعب واإلنهاك‪ ،‬لذلك ما أكاد‬ ‫بالعامرة كام كنت أحلم‪ ،‬لكن كانت املفاجأة‬
‫اجلس عىل املقعد الوثري والذي مل أغريه إال نادرا‪،‬‬ ‫أعظم وأنا أضحك عىل نفيس‪،‬لقد استقبلت‬
‫وعند الرضورة حتى أستسلم للنومة‪.‬‬ ‫بتعيني مل يكن بالحسبان‪ ،‬لقد تم توظيفي رئيس‬
‫أمن القطارات مبحطة العقرب‪ ،‬مكان مل يكن‬
‫الجديد يف رحلتي هذه املرة‪ ،‬هو أنها كانت‬ ‫معروفا لدي يف خريطة اململكة ولكن وضعته‬ ‫‪102‬‬
‫باتجاه الرشق‪ ،‬املسافة طويلة غري مألوفة لدي‪،‬‬ ‫بخريطة القطار يف مخيلتي ألول وهلة‪.‬‬
‫تكتسح الليل كله‪ ،‬مام كان يعني بالنسبة يل تهيأ‬
‫مسبقا لرحلة نوم وارتخاء طويلة‪.‬‬
‫معه سوى عينيها وبجانبها رجل معمم ذو‬ ‫كنا يف املقصورة بعدد معقول‪ ،‬تتناهى بعض‬
‫شارب يظهر أنه زوجها‪ .‬كانت تتقيأ يف حقيبة‬ ‫األحاديث إىل سمعي يف اإلغامض وشبهه‪ ،‬والنوم‬
‫جلدية والرجل يتأفف ويشتم واملسكينة متعبة‬ ‫ومثله‪ ،‬ال تخرج عن املعتاد‪ ،‬خالية من األهمية‪.‬‬
‫ال ترد عىل كالمه‪ .‬بدأ الغثيان تجشؤا ثم غرغرة‬
‫بدأنا نتعارف أثناء ذلك‪.....‬لكن نظري كان‬
‫مسموعة تنبعث من األحشاء‪ ،‬وحني انتصفت‬
‫منجدبا نحو كاتبة ضبط محكمة‪ ،‬واحدة تبدو‬
‫تلك املنعرجات‪ ،‬انطلقت املرأة تقذف بحمولة‬
‫يف منتصف العقد الثالث متيل إىل االمتالء‪ ،‬كانت‬
‫معدتها‪ .‬اعترصين بدوري الغثيان ومتنيت أن‬
‫األكرث ثرثرة‪ ،‬ملحتها أول ركبت القطار‪ ،‬تتفقد‬
‫تنتهي الرحلة برسعة محاوال االسرتخاء واالستناد‬
‫زينتها باستمرار‪ .‬تتجىل تعاريج الحناء عىل‬
‫عىل الكريس املتململ‪ ،‬ثم خفت املنعرجات‬
‫ظاهر كفيها وأصابعها‪ ،‬تضاحك وتوسع انرشاح‬
‫فكفت السيارة عن الرتنح ثم انسابت منحدرة يف‬
‫حالها عىل كل نحو‪....‬‬
‫طريق مستوية تخرتق األشجار الكثيفة؟ وماهي‬
‫إال لحظات حتى بدت لوحة وعليها اسم املحطة‬ ‫ظل القطار يقتفي مسلكه الحديدي بني الواحات‬
‫املقصودة‪.‬‬ ‫واملنحدرات والسهول املنبسطة طوال الليل‪،‬‬
‫وهديره املزلزل الرتيب‪ ،‬بغلف العوامل الغامضة‬
‫توقفت السيارة‪ .‬وما إن وضعت رجالي عىل‬
‫التي ترتاقص يف خيايل‪ ،‬ويحدث يف حوايس ما‬
‫األرض حتى انطلقت املقاتلة برسعة مذهلة مل‬
‫يشبه الخدر الذي يحفر الحلم ألوتاد األفاق‬
‫يرتك يل وقت إلغالق بابها‪ ،‬بل أغلق لوحده بفعل‬
‫البعيدة املجللة بالصمت والرتقيب املشوب‬
‫رسعة االنطالق‪ ،‬مثرية غبارا حجبها بالكامل عن‬
‫بالكثري من اآلمال وغري قليل من الحرسة‪.‬‬
‫برصي أصبحت بعدها ال أتذكر الطريق الذي‬
‫رمى يب إىل هذا املكان‪ ،‬كل ما هو متأكد منه‬ ‫العربات املضيئة مترق من الظلمة املتوجة‬
‫جيدا أنه ربا يل ببرصي من بعيد‪ ،‬وهفا إليه قلبي‬ ‫املرتامية‪ ،‬ويف ناظري ترتاقص‪ ،‬عىل إيقاع هدير‬
‫يف غموض‪ ،‬رمبا مل أكن وحيدا يف هذا الشعور‪،‬‬ ‫القطار املدوي وهو يلهم طريقه املعدين‪،‬‬
‫بل ان كثريا من املستخدمني غريي مروا من هنا‬ ‫الذكريات واألحالم والخواطر‪.‬‬
‫وعانوا منه كثريا‪ ،‬بعدها توالت عيل األسئلة‪.‬‬
‫يف الصباح الباكر‪ ،‬بلغ القطار محطة تاوريرت‪،‬‬
‫أين أنا؟ وما هذا املكان؟ وكيف وصلت إليه‪،‬‬ ‫ركبت مقاتلة توجهت يب إىل املكان املقصود‪.‬‬
‫وليست يل به سابق معرفة؟ ترى هل تتوفر لدي‬ ‫رغم التعب كنت أتأمل الطريق الضيقة املليئة‬
‫القدرة عىل اختيار الرتاجع أو إكامل ما بدأت؟‬ ‫باملنعرجات بينام السيارة متيل ذات اليمني‬
‫هل التفت مجرد التفات ألتأكد عىل األقل إن‬ ‫وذات الشامل حتى كان يخالني أنها ستنقلب يف‬
‫كانت أرسيت كلها تتبعني أم أين وحدي بدون‬ ‫تلك املهاوي السحيقة التي كانت تجعلني أحس‬
‫‪103‬‬ ‫أنيس؟‬ ‫بالدوار وأنا أتشبت بالكرايس املتهالكة‪.‬‬
‫شعور غامض ميلؤين ويرص يل أين وحيد‪ ،‬ال أدري‬ ‫كانت تجلس بالكرايس الخلفية امرأة ملففة‬
‫كيف رميت بنفيس أو رمت يب األقدار إىل هذا‬ ‫يف رداء أبيض وعىل وجهها لثام أسود ال يظهر‬
104
‫القطــارات‪ -‬ســلم عــي كأن يل بــه ســابق معرفــة‪،‬‬ ‫املكان‪ .‬وتساءلت مرارا بيني وبني نفيس إن كان‬
‫رمبــا عــرف املغــزى مــن حضــوري للمــكان‬ ‫ركبني الجنون أم ال زلت أتوفر عىل قوة التمييز‪.‬‬
‫ألن املحطــة ال تعــرف حركــة للمســافرين وال‬
‫وجــود لزمــن توقــف قطــارات املســافرين بهــذه‬ ‫وكلام مرت يب برهة تكاثف الغموض‪ ،‬وقد يكون‬
‫املحطــة حســب الربنامــج املســطر مســبقا‪ .‬مــن‬ ‫املكان‪ ،‬مبا يبعث عن رهبة يف زائر‪ ،‬وما يثري من‬
‫دون أن أســأله هــرع إىل حقيبتــي يجمعهــا وهــو‬ ‫خوف وبرودة وارتجاف‪ ،‬قبوا من أجنحة أرواح‬
‫يــردد الرتحيــب ثــم ســار يب إىل داخــل البنايــة‬ ‫األبالسة‪ ،‬عميقا مظلام يف أسفل سافل األرض‪....‬‬
‫صــوب مكتــب رئيــس املحطــة‪.‬‬ ‫وكنت عىل يقني بأين قطعت طريقا طويال قبل‬
‫أن أصل هذه البقعة التي توجد يف أقىص املغرب‬
‫دخلــت إىل املكتــب وجدت الرئيــس يف انتظاري‬ ‫الرشقي الخالية من املساكن والدواوير‪ ،‬وكأين يف‬
‫ومافتــئ أن قــام مــن مقعــده وصافحنــي‬ ‫جزيرة ميتة معزولة‪.‬‬
‫بحـرارة‪ ،‬أجبتــه بالشــكر ويف نفــي حرقــة مــن‬
‫هــول املــكان‪ ،‬الحــظ التأفــف يف نـرات كالمــي‬ ‫يف املنفى‬
‫حينــا كان يسرتســل يف أســئلته يل‪ ،‬رمبــا الحــظ‬
‫بعــد ترجــي عــى بعــد أمتــار‪ ،‬وصلــت إىل‬
‫التعــب البــادي عــى وجهــي مــن مشــقة‬
‫مدينــة املحطــة‪ ،‬املتأمــل ملعامرهــا يحــار يف‬
‫الســفر وقلــة النــوم‪ ،‬فقــام ودعــاين إىل غرفتــي‬
‫تعريفهــا‪ .‬هــي بنايــة جــاءت إىل الحضــارة‬
‫املخصصــة يل متمنيــا يل مقامــا ســعيدا ومانحــا‬
‫ووقفــت ببابهــا محتشــمة ولرمبــا قريــة عــى‬
‫يل مــدة يومــن للراحــة‪.‬‬
‫أســوارها حطــت خامرهــا مــن كــرة خجلهــا‪...‬‬
‫كانــت الغرفــة جــد متواضعــة‪ ،‬أشــد ما اســرعى‬ ‫بقايــا رمــل إىل جوانبهــا‪ ....‬هنــاك‪ ،‬وســور كالــح‬
‫انتباهــي وأضحكنــي هــو ذلــك املكيــف الــذي‬ ‫اللــون مــل مــن ترديــد شــهادته عــى التاريــخ‪،‬‬
‫وضــع يف مــكان التدفئــة املقفولــة بعــد أن أزيل‬ ‫ومــن عــرض صــور قبحــه وبشــاعته أمــام‬
‫نصفهــا باملنشــار‪ ،‬فكنــت أرى نصــف إطــار‬ ‫الســياح‪.‬‬
‫نافــذة بزجاجهــا وتنتهــي مبكيــف يف النصــف‬
‫وصلــت ورأيس الــذي أحمــل بــن كتفــي‬
‫املتبقــي رغــم عــدم صالحيتــه‪ .‬لقــد تألفــت‬
‫املرتخيتــن ال يريــد أن يأخــذ وضعــا مســتقيام‪،‬‬
‫النافــذة مــع املكيــف الــذي يرافقهــا يف كل أيــام‬
‫أتنبــأ بتعبــه‪ ،‬أحــس باإلرهــاق‪ ،‬أحــس بــأن‬
‫الســنة بــاردة كانــت أم ســاخنة‪ .‬هــذه األلفــة‬
‫جســمي فقــد مــدة الصالحيــة منــذ أن وطــأت‬
‫كان يغــار منهــا رسيــر يقابلهــا‪ ،‬جلســت عليــه‬
‫قدمــاي هــذا املــكان‪ .‬حينــا وجــدت نفــي‬
‫وبــدأت أتكلــم مــع نفــي مســتحرضا بعضــا‬
‫أمــام بــاب املحطــة أحسســت بكــره كبــر للعــامل‬
‫مــن املــايض وشــيئا مــن دروس أيب واملدرســة‪.‬‬
‫‪105‬‬ ‫وكرهــت مصــري وكرهــت نفــي وأشــفقت‬
‫مل أكــن أدرك معنــى أن يؤمــن اإلنســان بالقــدر‬ ‫عليهــا أو بالــكاد أصبحــت غــر صالــح لصنــع‬
‫خــره ورشه هكــذا تعلمنــا يف الطفولــة ويف‬ ‫أي يشء‪ ،‬تقــدم منــي شــخص كهــل تبــن يل مــن‬
‫املدرســة‪ ،‬لكننــي اآلن أنفــذ فهــم قصــده يف‬ ‫مظهــره وبذلتــه أنــه مســاعد رئيــس األمــن أمــن‬
‫نظــرة مســبقة عنهــا قــد تكــون خاطئــة‪ ،‬لكــن‬ ‫وقــت متأخــر نســبيا يف حيــايت عندمــا تذكــرت‬
‫الــذي ال ميكــن أن أعرفــه مبــرور الوقــت هــو‬ ‫اللحظــة التــي كنــت فيهــا وحيــدا أمــام بطاقــة‬
‫ذاك املفتــش‪ ،‬فكلــا أحلــل أقوالهــم عنــه أنــه ال‬ ‫التعيينــات التــي تقبــل مبوجبهــا العمــل يف أي‬
‫يــأيت إال نــادرا لهــذا كان الحديــث عنــه يهمنــي‬ ‫منطقــة مــن مناطــق البلــد كيفــا كان الطقــس‬
‫كثــر‪،‬ا ألنــه هــو مــن بيــده مفاتيــح الرتخيــص‬ ‫والتضاريــس والنــاس‪.‬‬
‫ملنحــي صفــة رئيــس أمــن القطــارات باملحطــة‬
‫عــى إثــر امتحــان شــفهي بعــد اجتيــازي‬ ‫عرفــت أن هنــاك مــن يختــار لنفســه و بإرادتــه‬
‫التمريــن صحبــة رئيــس املحطــة‪.‬‬ ‫القــدر الــذي يريــد أن يســلكه‪ ،‬أن يعيــش يف‬
‫وســطه‪ ،‬أن يــرىض بــه‪ ،‬أن يقبــل بــه مــع ســبق‬
‫قضيــت ثالثــة أســابيع مــن التمريــن‪ ،‬وكنــت‬ ‫اإلرصار والرتصــد‪.‬‬
‫عــى موعــد مــع املفتــش اإلقليمــي مبدينــة‬
‫وجــدة الجتيــاز االمتحــان الشــفوي‪ .‬فكــرت‬ ‫عندمــا كنــت طالبــا كانــوا يقولــون إن الحاصــل‬
‫بســذاجة يف أن أســتغل أول لقــاء باملفتــش‬ ‫عــى الشــهادة هــو ذلــك الشــخص الــذي‬
‫ألرشح لــه رفــي لهــذا العمــل يف هــذه املحطــة‬ ‫ميتلــك رأيــا محــد ًدا عــن نفســه وعــن املجتمــع‬
‫يف حالــة مــا وجــد إمكانيــايت ومؤهــايت مهــزوزة‬ ‫والعــامل‪ ،‬ممتلــكا ألدوات إنتــاج املعرفــة والقيــم‬
‫إال أننــي عدلــت عــن املوضوع‪،‬كنــت قــد‬ ‫عــى ترويجهــا‪ ،‬إنهــا ذات تعــي مــا تفعــل‪،‬‬
‫رتبــت ســابقا ألمــر رســويب يف االمتحــان حتــى‬ ‫بــكل بســاطة شــخص ميلــك مرشوعــا يدافــع‬
‫أمتكــن مــن تغيــر املــكان‪ .‬لقــد قــررت يف األخري‬ ‫عنــه‪ ،‬لكــن عندمــا تكــون رافضــا وجــود ذاتــك‬
‫الدخــول يف هــذه املغامــرة يف انتظــار فرصــة‬ ‫فيزيولوجيــا يف أرض قاحلــة ملــدة مجهولــة‪،‬يف‬
‫أخــرى‪ .‬متكنــت مــن إبهــار املفتــش بإمكانيــايت‬ ‫منطقــة مــا عــى الخريطــة يســتحيل مامرســة‬
‫ومؤهــايت املعرفيــة التــي اكتســبتها برسعــة‬ ‫األفــكار‪ ،‬تكــون رؤيتــك التــي تحــدد نفســك‬
‫خــال فــرة التمريــن الوجيــزة وكان مــن‬ ‫هــي اليــأس‪ ،‬وعــن املجتمــع الالمبــاالة‪ ،‬وعــن‬
‫نصيبــي أن أعــن مســئوال باملحطــة كرئيــس‬ ‫العــامل التفاهــة‪ ،‬متســك أدوات شــفهية إلنتــاج‬
‫لهــا بعدمــا خطــر ببــايل مــن كالم املفتــش أن‬ ‫قيــم اإلنتظــار وانتقــاد الــذات وإخضاعهــا‬
‫الرئيــس الحــايل مقبــل عــى التقاعــد‪ ،‬هــذا‬ ‫للســكون‪ ،‬تعــي شــيئا واحــدا يعطيــك الشــعور‬
‫التقاعــد الــذي بــدأت مــن لحظتهــا أعــاين يف‬ ‫بالوجــود يف انتظــار انتقــال قــد يتأخــر ولرمبــا‬
‫كيفيــة الحصــول عليــه قبــل أن أبــدأ‪ ،‬فــكان‬ ‫يســتحيل تحقيقــه‪.‬‬
‫الســؤال هو‪:‬مــن أيــن أبــدأ؟ واملــكان شــبه خــال‬
‫مــع مــرور األيــام بــدأت تتناثــر األســئلة‬
‫تجوبــه املقاتــات‪.‬‬
‫مــن حــويل بخصــوص البلــدة‪ ،‬املســتخدمني‬
‫وقعــت عــى محــر تعيينــي رئيســا ملحطــة‬ ‫واملفتــش‪ .‬مثــي كمــن اشــرى منــزال جديــدا‬ ‫‪106‬‬
‫العقــرب يف مطبــوع أحرضتــه الســكرترية‪ ،‬هــذه‬ ‫ويســأل عــن الجـران‪ ،‬مل تكــن األجوبــة تهمنــي‬
‫األخــرة ظلــت مطرقــة ال مباليــة وصامتــة وهي‬ ‫يف يشء ألنهــا نســبية و مبــا أننــي سأكتشــفها‬
‫تضــع أمامــه األوراق للتأشــر عليهــا فيــا كان‬ ‫بنفــي مــع مــرور الوقــت فــا داعــي لتكويــن‬
‫تعرف أن النوم خطأ مهني جسيم يؤثر عىل أمن‬ ‫املفتــش يختلــس نظ ـرات إىل جســدها اللــدن‪٬‬‬
‫وسري القطارات؟ كان ردي باإليجاب ويف نفس‬ ‫املرمــي املضخــم بالعطــر واملحشــو يف مالبســها‬
‫الوقت أبعدت عني تهمة النوم ومل أكن حينها‬ ‫الضيقــة‪.‬‬
‫يف حالة تفكري‪ ...‬فقاطعني يف كالمي وبدأ يوجه‬
‫يل عتابات مسرتسلة بحجة أن رئيس األمن يجب‬ ‫ودعــت املفتــش والتحقــت باملركــز الجديــد‪،‬‬
‫أن يكون أكرث يقظة‪ ،‬رفعت رأيس‪ ،‬إلتفتت ميينا‬ ‫تســلمت مهامــه مــن الرئيــس املتقاعــد‪ ،‬كانــت‬
‫وشامال لعيل أجد أداة أغلق بها فاه هذا الثخني‬ ‫املهمــة جــد مملــة ال عالقــة مبــا درســت يف‬
‫وأسكته‪ ،‬ملحت الدوالب وتذكرت القارورة‪ ،‬كنت‬ ‫املدرســة والكليــة بنشــاطها‪ ،‬كل مــا هنالــك‬
‫ورفاقي يف العمل نسجن أي عقرب نصطادها‪،‬‬ ‫مــن أنشــطة هــو تدبــر مــرور عــر قطــارات‬
‫كنا نتباهى ونتزايد يف آخر النهار عن من‬ ‫نصفهــا للمســافرين بــدون توقــف طيلــة اليــوم‬
‫يجمع أكرث بحكم كرثتها نظرا الرتفاع سخونة‬ ‫بنهــاره وليلــه‪ .‬كنــت أجلــس بعــد انتهــايئ مــن‬
‫املكان والحرارة املفرطة‪ ،‬كنا نكرس امللل وال‬ ‫العمــل يف غرفتــي‪ ،‬تــدور عينــاي يف كل أرجــاء‬
‫أكرث‪ .‬فتحت الدوالب‪ ،‬تناولت القارورة‪ ،‬فتحتها‬ ‫املــكان‪ .‬تتجــول وتتجــول ومتســح كل الفضــاء‬
‫ورميت محتواها فوق أرجل املفتش موجها له‬ ‫الــذي بداخلهــا‪ ،‬فتمــل وتبحــث عــن موقــع‬
‫تساؤيل‪ :‬كيف ألي شخص أن ينام وسط مكان‬ ‫آخــر مل تصلــه‪ ،‬فتســتقر عــى ســواد قهــوة متــأ‬
‫مملوء بالعقارب؟ وما هي إال لحظات حتى‬ ‫الــكأس‪ ،‬فــا ي ـراءى بــن ثقوبهــا ســوى خــوف‬
‫هرول املفتش إىل سيارته موليا وجهته عائدا من‬ ‫رهيــب مــن كل يشء وقلــق دائــم عــى حيــاة‬
‫حيث أىت‪ ،‬ناسيا املهمة التي حرض من أجلها‪.‬‬ ‫مل تبــدأ بعــد‪ .‬خائــف أنــا مــن أن أدخــل هــذه‬
‫الدوامــة انتظــار االنتقــال‪ -‬وعندمــا يــأيت يبلــغ‬
‫تكلمــت مــع نفــي وقلــت‪ :‬أرفــض أن متتحنــي‬ ‫شــيب رأيس منــى مبلغــه‪ ،‬يذكــرين بانــرام‬
‫الحيــاة بدعــوى أخــذ التجربــة‪ ،‬أتجاهلهــا لــي‬ ‫عمــر بأكملــه وســط دوامــة االنتظــار‪ ،‬فأقــي‬
‫تــأيت عنــدي ومتتحننــي‪ ،‬ال أريــد الجلــوس عــى‬ ‫مــا تبقــى مــن ذلــك العمــر يف الحــرة فأمــوت‬
‫طاولتهــا لــي تعطينــي تلــك النقطــة التــي‬ ‫أســفا‪ ،‬مــن خــويف أن يشــيب شــعري وأخلــد يف‬
‫كنــت أحصــل عليهــا يف الرياضيــات وتذكــرين‬ ‫اإلنتظــار‪ ،‬انتظــار يشء مــا وأفكــر كاآلخريــن‪،‬‬
‫بالطفــل الــذي كنتــه‪ .‬مل أكــن أعــرف الســبب‬ ‫وأشــتغل باملحطــة مختفيــا داخــل نفــي وأنــا‬
‫الــذي يجعــل النــاس يســألون عــن نقطــة‬ ‫أتفــرج عــى الحيــاة وهــي متــر بجانبــي‪.‬‬
‫مــادة الرياضيــات‪ ،‬كانــوا يربطــون ربطــا‬
‫أوتوماتيكيــا بــن نقطــة هــذه املــادة ومســتوى‬ ‫تذكرت أنه يف أحد األيام الحارة‪ ،‬وصل املفتش‬
‫الــذكاء‪ ،‬أن تكــون نقطــك جيــدة يف الرياضيــات‬ ‫عىل حني غفلة دون أن يحس به أحد فوجدين‬
‫معنــاه التمتــع بالــذكاء عــى املــدى القريــب‬ ‫مطأطئا رأيس فوق املكتب وباغتني يف أول‬
‫‪107‬‬ ‫وباملســتقبل الزاهــر عــى املــدى البعيــد‪.‬‬ ‫مقابلة عمل بعتاب موجها يل مخالفة النوم‪،‬‬
‫رفعت رأيس كأن شيئا زلزل كياين وأن أحدا‬
‫يف هــذا املــكان‪ ،‬النقطــة التــي تعطيــك قــوت‬ ‫أقلق راحتي وأيقضني من أحالمي‪ ،‬لكن بعد‬
‫يومــك هــو الوقــت الــذي يجــب أن تضبــط‬ ‫رؤية هذا األخري مل أستطع النطق‪ ،‬فزاد قائال‪ :‬أال‬
‫عــى إثرهــا أننــي بطــل حــرر املغــرب الرشقــي‬ ‫فيــه كلــب املحطــة وتربطــه يف مكانــه قبــل‬
‫مــن بطــش املســتعمر‪ ،‬أتذكــر يــوم طلبتنــي‬ ‫أن يبتلــع رغيــف الخبــز الــذي يرســل عــر‬
‫عــر الهاتــف مخــرة إيــاي برغبــة املفتــش يف‬ ‫القطــار مــن إحــدى املحطتــن املجاورتــن‬
‫مقابلتــي ورؤيتــي يف صبــاح الغــد‪ ،‬معــرة يل‬ ‫يرميــه ســائقه بينــا القطــار مسرتســل يف‬
‫عــن رغبتهــا يف رشب قهــوة بصحبتــي يف املســاء‪،‬‬ ‫رسعتــه دون توقــف‪ .‬كانــت هــذه هــي النقطــة‬
‫توقعــت األســوأ ويف نفــس الوقــت تلهفــت‬ ‫األكــر ســوادا يف هــذا املنفــى‪ ،‬يبقــى فيهــا‬
‫لهاتــه الفرصــة‪ ،‬فرصــة مقابلــة ســكرترية يف‬ ‫الخبــز العملــة األكــر طلبــا الســتحالة تخزينــه‪،‬‬
‫غايــة الجــال يف عزلــة عــن جــو العمــل‪.‬‬ ‫إذ أتبضــع كباقــي املســتخدمني كل مســتلزمايت‬
‫مــن مدينــة تاوريــرت مــرة كل أســبوع‪ ،‬هــذه‬
‫أجبــت عــن استفســار كتــايب يف مكتــب املفتــش‬ ‫املدينــة تبقــى املــاذ الوحيــد الستنشــاق هــواء‬
‫يف موضــوع اإلهانــة التــي تعــرض لهــا مــن‬ ‫الحريــة واالنتعــاش بحــام ســاخن بعــد إفـراغ‬
‫طــريف ألنهــا أصبحــت حديــث األلســن‪ ،‬خرجــت‬ ‫كل املكبوتــات‪.‬‬
‫مغتاظــا حانقــا رسعــان مــا تحــول ذلــك إىل‬
‫ابتهــاج‪ ،‬مل أكــن أتصــور حــن مجيئــي إىل وجــدة‬ ‫لســت أدري كيــف انتــرت واقعــة املفتــش‬
‫أول مــرة وبذهــايب إىل مكتــب املفتــش الجتيــاز‬ ‫مــع العقــارب برسعــة الــرق يف جميــع‬
‫االمتحــان رؤيــة الســكرترية املــاك بعينيهــا‬ ‫املحطــات التابعــة لنفــوذ املفتشــية‪ ،‬رمبــا‬
‫الواســعتني الجميلتــن ووجههــا الصبــوح أنهــا‬ ‫تســللت إىل قطــار دون أداء تذكــرة الســفر‪،‬‬
‫ســتعرب ســطور حيــايت يومــا مــن األيــام‪ ،‬كانــت‬ ‫رســائل تلفونيــة وصلتنــي مــن جميــع الزمــاء‬
‫نــزوة تــراود خيــايل مــن بعيــد منــذ رأيتهــا‬ ‫باملنطقــة التابعــة للمفتــش تؤكــد صداقتهــم‬
‫متباهيــة وباطنــي متحــر فأعلــن عقــي عــن‬ ‫وامتنانهــم‪ ....‬وتشــيد ببطولتــي أمــام شــخص‬
‫مقاومتهــا‪.‬‬ ‫كان يهبــه الجميــع بفعــل غطرســته‪ ،‬بعضهــم‬
‫كان يدعــوين للزيــارة ودامئــا أجيــب معـرا عــن‬
‫رغبتــي الصادقــة يف تنفيذهــا واعتــذر عــن ذلك‬
‫يف الحــال‪ .‬هاتــه الواقعــة جعلــت الســكرترية‬
‫بنفســها تهاتفنــي ومتجــد عمليتــي‪ ،‬اعتقــدت‬

‫‪108‬‬
109
‫قطار منت�صف الليل‬

‫عبد الحق يامني‬


‫كان يدرس بها توجد يف املدينة بعيدة عن دوار‬ ‫رغم التفوق يف الدراسة‪ ،‬ورغم الصعاب التي‬
‫الفاطمي بحوايل سبع كيلومرتات‪.‬‬ ‫واجهته يف طلب العلم لكن الظروف كانت‬
‫أقوى منه‪ ،‬وبعد تفكري طويل قرر الفاطمي أن‬
‫دوار والد لحسن‪ ،‬تعيش فيه أرسة الفاطمي مبعية‬ ‫يوقف مشوار التعليم فتبخرت كل األحالم التي‬
‫حوايل عرش أرس أخرى أحوالها ال تقل عن أحوال‬ ‫كانت أمله الوحيد ألجل تغري أحواله وأحوال‬
‫أرسته‪ .‬فكان الفاطمي يتذكر كيف كان يعيش‬ ‫أرسته‪ ،‬فرغم تلك اإلكراهات التي كان يعرف أنها‬
‫بداية يومه وهو يستيقظ كل الصباح حوايل الفجر‪.‬‬ ‫ستقف يف وجهه سدا منيعا‪ ،‬لكن الفاطمي أىب‬
‫يستفيد من نسيم الصباح الباكر وهو يشاهد بزوغ‬ ‫أن يكرس كل الحواجز لتحقيق مبتغاه‪.‬‬
‫النهار والفالحون يتوجهون إىل حقولهم ونساءهم‬ ‫غالبا ما تجري الرياح مبا التشتهي السفن‪ ،‬كلام‬
‫يخرجن بهامئهم ليك ترعى‪ ،‬حركة اعتيادية كل‬ ‫فكر يف الذهاب بعيدا بتخيالته عن التعليم الثانوي‬
‫صباح ومعها تنتظر الدواجن من الدجاج والديك‬ ‫والدخول يف مجال التعليم العايل‪ ،‬لكنه كان يفكر‬
‫الرومي والبط أن يجود عليها مالكها ببعض الحبوب‬ ‫يف إخوانه وأخواته الصغار ووالدته الكبرية يف‬
‫كوجبة فطور‪ ،‬ثم يأخذ برصك بعض العجول‬ ‫السن ووالده املريض الذي كان يعترب هو املمول‬
‫الصغرية وهي تحوم حول أمها ليك تستفيد هي‬ ‫الوحيد لهذه األرسة‪ ،‬لكن املرض أنخر قواه وأصبح‬
‫األخرى من بعض الحليب من ثديها‪ ،‬العصافري هي‬ ‫عاجزا عن الذهاب إىل الحقل ومزاولة األشغال‬
‫األخرى تزقزق فرحة بيوم جديد وهي تبحث عن‬ ‫الفالحية التي كانت تعود عىل األرسة بدراهم‬
‫رزقها من األكل‪ ،‬باإلضافة إىل رائحة البهائم هناك‬ ‫معدودة تسد رمق هذه األرسة‪ .‬وكان الفاطمي‬
‫رائحة أخرى تصلك رغام عنك يف الصباح الباكر‬ ‫يعي جيدا املستوى الذي تعيشه هذه العائلة‪،‬‬
‫وهي رائحة األغنام التي تنبعث من الحظرية‪ ،‬ويف‬ ‫الفقر يالحقهم من جميع الجوانب وكيف له أن‬
‫جهة أخرى تجد بعض الدواب مسمرة يف مكانها‬ ‫ينىس أن متطلباته يف طلب العلم هي جد مكلفة‪،‬‬
‫تنتظر دورها من الحصول عىل بعض األثقال أو‬ ‫وخالل مشواره اإلعدادي كانت أخواته (عزيزة‬
‫جلب املاء أو تعد كوسيلة للنقل سواء إىل مكان‬ ‫وكلثوم) هن اللوايت يذهنب يف الصباح الباكر رغم‬
‫بعيدا أو إىل السوق‪.‬‬ ‫صغر سنهن يشتغلن يف الحقول وعند الجريان‪،‬‬
‫ألجل العودة يف املساء ببعض الدراهم التي‬ ‫‪110‬‬
‫هذه الحركة الفوضوية الجميلة تدل عىل أنك‬ ‫يأخذ منها الفاطمي حقه قصد التوجه كل صباح‬
‫تعيش يف جو البادية‪ ،‬وخاصة حني يلمح نظرك‬ ‫هو اآلخر إىل املدرسة ثم إىل اإلعدادية‪ ،‬حيث‬
‫دخانا يخرج من مكان أُع َد لتجهيز الخبز ويقال‬ ‫يتوجب ذلك مصاريف التنقل ألن اإلعدادية التي‬
‫مناقشته مع أي أحد‪ ،‬لكن رغم إرصار الوالد عىل‬ ‫له الفرنب أو اينورب فهو يعد خبزا بلديا ال‬
‫معرفة سبب انقطاع الفاطمي‪ ،‬مل يكشف عنه‪.‬‬ ‫مثيل له وتتلذذه مع كأس من الشاي والزبدة‬
‫البلدية يف الصباح الباكر ليحمل بعدها الفاطمي‬
‫يوما بعد يوم‪ ،‬وأسبوعا بعد أسبوع‪ ،‬وشهرا بعد‬ ‫محفظته ويتوجه إىل الشانطي أي عىل الطريق‬
‫شهر‪ ،‬بدأت الحياة عادية بالنسبة للفاطمي الذي‬ ‫الرئيسية لعله يجد وسيلة نقل تقله إىل املدينة‪،‬‬
‫اتخذ قراره وتحمل مسؤوليته‪ ،‬لكن يف لحظة‬ ‫هذا األمر غالبا ما يتطلب وقتا طويال‪ ،‬وتكون‬
‫واحدة سوف يتغري كل يشء‪ ،‬كان الفاطمي يف‬ ‫العودة بنفس الطريقة إىل الدوار يف املساء‪.‬‬
‫حقله عندما جاء شيخ القبيلة إىل براكة الفاطمي‬
‫يسأل عنه وهو يحمل يف يده ظرفا وتساءل وسائل‬ ‫يعود الفاطمي منهكا إىل سكناه يف املساء‪ ،‬وبعد‬
‫ووالده امليت الذي كان يجلس أمام البيت عن‬ ‫أن يغتسل وينظف أطرافه يتوجه إىل محل‬
‫سبب مجيء الشيخ يف طلب الفاطمي ألنه غالبا‬ ‫تجتمع فيه األرسة‪ ،‬ويركن بجانب والدته ألجل‬
‫ما يكون هناك أمرا قد حصل إذا حرض الشيخ‬ ‫أخذ قسط من الراحة‪ ،‬ويف تلك اللحظات يستمع‬
‫شخصيا ذهبت أخت الفاطمي لتخربه بأن شيخ‬ ‫إىل والدته التي تنقل له ما جرى يف الدوار خالل‬
‫القبيلة يناديه‪ ،‬حرض الفاطمي برسعة وهو يريد‬ ‫غيابه‪ ،‬ثم يأيت الوالد وتجتمع األرسة لتناول ما‬
‫معرفة السبب الذي جاء من أجله يس بوشعيب‪،‬‬ ‫تيرس‪ .‬هكذا يذهب الفاطمي إىل غرفته ألجل‬
‫شيخ القبيلة يسأل عنه‪ ،‬وبعد التحية ألح هذا‬ ‫ترتيب أوراقه وإعادة ذكريات ذلك اليوم الذي‬
‫األخري يف معرفة السبب الحقيقي الذي جعل‬ ‫قضاه يف املدينة بني زمالئه يف الدراسة أو بني‬
‫الفاطمي ينقطع عن الدراسة‪ ،‬وكان الجواب‬ ‫أصدقائه‪ ،‬وكانت تلك الغرفة التي يسرتيح بها‬
‫هو ألسباب خاصة ثم أعطاه الظرف وأخربه بأن‬ ‫جدرانها كلها شاهدة عىل أحالمه التي يرغب يف‬
‫رجال الدولة هم من سلموا للشيخ ذلك الظرف‬ ‫تحقيقها يوما ما‪.‬‬
‫وطلب منه أن يفتحه فورا لنقل الجواب إىل‬
‫السيد القائد الذي يرشف عىل املنطقة‪.‬‬ ‫الذكريات املزعومة التي ستتبخر عندما سيقرر‬
‫الفاطمي اإلنقطاع عن الدراسة مجربا ومكرها‬
‫عندما فتح الفاطمي الظرف تسمر يف مكانه‬ ‫وهو يشاهد عالمات وكدمات التعب التي تركتها‬
‫وعجز لسانه عن الكالم وتشتت أفكاره يف تلك‬ ‫األيام والسنني عىل وجه الشيخ الذي أصبح‬
‫اللحظة‪ ،‬كام تشوقت أرسة الفاطمي والشيخ‬ ‫يصارع املرض‪ ،‬فكلام ذهب به حلم من األحالم‬
‫يف معرفة مضمونه‪ ،‬وبعد جهد جهيد استطاع‬ ‫إال ويعود الفاطمي إىل تلك التجاعيد التي رسمت‬
‫الفاطمي أن يخربهم بأن الظرف يحمل خربا‬ ‫عىل وجه والده وهي شاهدة عىل حياة الرجل‬
‫غري سار بالنسبة له وهو أنه متت املناداة عليه‬ ‫املسكني الهرم الذي يأكل القوت وينتظر املوت‪،‬‬
‫ألجل القيام بالخدمة اإلجبارية يف الجيش‪ .‬حاول‬ ‫كل يوم تراود الفاطمي هذه األحالم حتى جاء‬
‫‪111‬‬ ‫الفاطمي رشح األمر لوالديه بطريقة سلسة وقال‬ ‫يوم الحسم‪ ،‬عندما قرر اإلنقطاع عن الدراسة‬
‫لهم أنني سوف لن أذهب للعسكر وليكن ما‬ ‫وكان يوما مشئوما بالنسبة إليه‪ ،‬هذا القرار نزل‬
‫يكون‪ ،‬لكن الشيخ أجابه عىل أن األمر واجب‪ ،‬وما‬ ‫بردا وسالما عىل أرسة الفاطمي الذين تساءلوا‬
‫عليه إال أن يتقبل األمر‪ ،‬وهذه الخدمة اإلجبارية‬ ‫كثريا عن السبب وراء هذا‪ .‬والفاطمي ال يريد‬
112
‫أن ينىس وثائقه الشخصية‪ ،‬فبدأ ينظر إىل بيته‬ ‫ما هي إال فرتة محددة وسوف يعود إىل أهله‬
‫الذي كانت تجمعه معه ذكريات والحرسة تأخذه‬ ‫ويف حالة امتناعه سوف يتدخل رجال الدرك‬
‫عىل املغادرة‪ ،‬ثم سمع الباب يطرق فإذا بوالدته‬ ‫ويعتقلونه عىل سبيل ذلك‪ .‬واملطلوب إذن هو‬
‫تطلب اإلذن بالدخول حاملة معها ميكة كبرية‬ ‫تلبية األمر وااللتحاق برسية الدرك املليك فورا‪.‬‬
‫سوداء اللون بها بعض األكل ويشء من الحلويات‬
‫الخرب جعل األرسة تجلس يف املساء بعد وجبة‬
‫التي كانت قد هيأتها يف غفلة من الفاطمي‪،‬‬
‫العشاء لتدارس مسالة التجنيد اإلجباري ويف األخري‬
‫فأمرته بحملها معه ثم أخرجت مبلغا من املال‬
‫تقبلوا الواقع ومل ينم تلك الليلة كل من والدي‬
‫ومدته إىل الفاطمي لكنه رفض بشدة هذا املبلغ‪،‬‬
‫الفاطمي وال هو شخصيا‪ ،‬حيث كانت تراوده‬
‫واحتضن والدته‪ ،‬وبدأت الدموع تنهمر من عينه‬
‫العديد من األسئلة التي مل يجد لها جوابا‪ ،‬مل يزر‬
‫وقبل رأسها ويدها‪ ،‬تم توجه إىل والده ذلك‬
‫النوم جفنيه ويف الصباح الباكر استيقظ الفاطمي‬
‫الشيخ املسكني الذي عرب عن رفضه لهذه الخدمة‬
‫والعادة التحق بالشانطي ألجل انتظار وسيلة نقل‬
‫اإلجبارية بانحناء رأسه‪ ،‬فلام قبل الفاطمي رأسه‬
‫إىل القرية حيث يوجد مقر الدرك املليك‪ ،‬هناك‬
‫قال له والده الله يريض عليك اولدي‪ ،‬رد بالك‬
‫استطاع الفاطمي الحصول عىل تلك األسئلة التي‬
‫نحن يف انتظار عودتك‪ .‬وأخفى الشيخ دموعه‬
‫كانت تشغل باله طيلة الليل‪ .‬وأخربه قائد الرسية‬
‫وعندما خرج الفاطمي سقطت دمعتني من عينيه‬
‫الدركية عىل أن السبب الذي جعله أن يكون‬
‫حزنا عىل فراق ابنه ملدة معينة‪ ،‬سلم الفاطمي‬
‫مطلوبا للقيام بها بالتجنيد اإلجباري هو انقطاعه‬
‫عىل أخواته بعدما وجه لهم بعض النصائح‬
‫عن الدراسة‪ .‬استفسارات عديدة مل تشف غليل‬
‫وعالمة الحزن كانت بادية عىل الفتيات‪ ،‬أما‬
‫الفاطمي وما عليه سوى تلبية األمر أو باألحرى‬
‫والدته فرافقته شيئا ما بعيدا عىل البيت وقالت‬
‫تنفيذ األوامر فال مفر من التجنيد اإلجباري‪ ،‬دوامة‬
‫له‪ » :‬ال تقلق سوف تكون بخري ونحن بانتظارك‪،‬‬
‫من األسئلة بدأت تشغل بال الفاطمي حول‬
‫فعد لنا بالسالمة»‪ ،‬ثم سلمته تلك امليكة‪ .‬وغادر‬
‫املكان الذي سوف يؤدي به هذه الخدمة‪ ،‬وكيف‬
‫الفاطمي بخطى ثقيلة وكلام ابتعد إال ويلتفت‬
‫سيتعامل مع األشخاص الذين سوف يعارشهم‬
‫فيجد والدته الزالت يف مكانها تُلوح بيدها‪،‬بكت‬
‫وأسئلة أخرى مل يحن وقت اإلجابة عنها‪.‬‬
‫أم الفاطمي وهي تشاهد ابنها يغادر الدوار ويف‬
‫مخيلتها أن ابنها سوف يذهب إىل الحرب‪ ،‬هذا ما‬ ‫عاد الفاطمي إىل الدوار وأخرب أرسته عىل أن عملية‬
‫كان يدور يف مخيلة األرسة‪.‬‬ ‫التجنيد اإلجباري ال مفر منها‪ ،‬وبدأت األرسة‬
‫تتساءل هي األخرى عن املدة التي سيقضيها‬
‫وصل الفاطمي إىل املدينة باكرا‪ ،‬وتوجه إىل القطار‬
‫وعىل املكان املخصص لها باإلضافة إىل الوقت‬
‫الذي سيقله إىل مدينة مراكش التي وصل إليها يف‬
‫الذي سيغادر فيه الدوار للقيام بهذه الخدمة‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫وقت متأخر من الليل‪ ،‬إذ مل يجد سوى التوجه‬
‫إىل ساحة جامع الفنا‪ ،‬حيث أخذ وجبة عشاء‬ ‫يف اليوم املحدد قام الفاطمي مبكرا‪ ،‬استعدادا‬
‫هناك تم سأل عن نزل قريب ألجل قضاء السبت‬ ‫للسفر فرتب حقيبته ووضع فيها ما سيحتاج إليه‬
‫واألحد هناك حتى يوم االثنني حتى يتسنى له‬ ‫خالل املدة التي سيقضيها بعيدا عن أرسته دون‬
‫هنا الشكل يأخذ منحى آخر‪ ،‬أي كيف ميكن إىل‬ ‫اإللتحاق بقشلة بنكرير‪ ،‬فدله أحد األشخاص عىل‬
‫حميدة االعتناء بصديقته وأخذها إىل الطبيب‬ ‫واحد البنسيون‪ ،‬فحجز به غرفة ليومني وتشاء‬
‫وإذا استدعى األمر ستكون هناك تحاليل وما‬ ‫الصدف أن يلتقي ببعض األشخاص الذين رافقهم‬
‫شابه ذلك‪ ،‬يعني األمر سيأخذ وقتا طويال ومن‬ ‫يف القطار‪ ،‬هم بدورهم جاؤوا ألجل قضاء الخدمة‬
‫الواجب عىل احميدة العودة فورا إىل القشلة‬ ‫اإلجبارية‪ ،‬وكان يصاحبهم شخص آخر يقيض هو‬
‫حتى ال يفطن به املسؤولني وهنا أخربه احد‬ ‫اآلخر تلك الخدمة اإلجبارية‪ .‬ويف نفس الفندق‬
‫األصدقاء عىل أنهم هيئوا الفاطمي ليك يقوم‬ ‫توطدت معرفة الفاطمي بهؤالء األشخاص الذين‬
‫بهذا العمل ألن لديه بعض األوراق التي تسمح‬ ‫قرروا عقد ليلة ماجنة يتخللها األكل والرشاب‬
‫له بالدخول اىل القشلة دون االنتباه إليه‪ ،‬مع‬ ‫وما ألذ من الخمر والحشيش‪ ،‬لكن الفاطمي كان‬
‫العلم أنه من األشخاص الذين متت املناداة عليهم‬ ‫بعيدا كل البعد عن ذلك‪ ،‬السهرة انتهت ببعض‬
‫ألجل قضاء الخدمة اإلجبارية‪ ،‬وهنا فكر احميدة‬ ‫املشاكل التي تم تجاوزها ويف الغد خرج الجميع‬
‫يف األمر واستسلم لهذه الحيلة حتى يتمكن من‬ ‫يف نزهة مبدينة مراكش طبعا‪ ،‬رافقهم الفاطمي‬
‫مساعدة صديقته ولو أليام قليلة‪ .‬وهنا قدم‬ ‫وجابوا العديد من األماكن‪ ،‬حيث قضوا لحظات‬
‫احميدةب جميع الرشوحات للفاطمي حول‬ ‫حميمية جميلة رافقتهام خاللها فتاة كانت عىل‬
‫مكان إقامته وحول بعض أصدقائه داخل القشلة‬ ‫عالقة بأحدهم وكانت جد مريضة ومل يقدر‬
‫الذين سوف يسهلون عليه أداء هذه املهمة‬ ‫صديقها تركها يف الحالة التي كانت عليها‪ ،‬وكان‬
‫لوقت قصري وأخربه عىل أنه اتصل بأصدقائه‬ ‫مجربا عىل ذلك ليعود إىل القشلة فرتك صديقته‬
‫داخل القشلة واخربهم عن التفاصيل الخاصة‬ ‫رفقة باقي الشلة‪ ،‬لكن حالة الفتاة زادت حدة‬
‫بهذه املهمة التي يجب أن تنجح‪ ،‬لكن الفاطمي‬ ‫وطالبت برؤية صديقها آلخر مرة‪ ،‬لكن صديقها‬
‫كان يتهرب من هذه العملية ألنها أوال مخاطرة‬ ‫التحق بالقشلة وال ميكنه العودة إىل صديقته‬
‫وثانيا هي مخالفة للقانون لكن الضغط عليه من‬ ‫وال إىل أصدقائه‪ ،‬هنا تأزم الوضع وقرر األصدقاء‬
‫طرف باقي األصدقاء الذين استسهلوا خطورة‬ ‫أن يصغي أحد ألجل إعادة صديقهم لصديقته‬
‫هذه العملية‪ ،‬ويف األخري استسلم الفاطمي وقرر‬ ‫ولو لفرتة قصرية‪ .‬اتفق األصدقاء عىل أن يقوم‬
‫مرة أخرى خوض غامر هذه املغامرة ألجل إثبات‬ ‫الفاطمي بهذا الدور أي يتقمص اسم حميدة نظرا‬
‫معنى الصداقة والرجولة‪ ،‬وكان هذا القرار هو‬ ‫للشبه بينهام فقام بحلق شعره‪ ،‬ومتت املناداة‬
‫الثاين الذي اتخذه الفاطمي بعد القرار األول‬ ‫عىل احميدة وإخباره بان صديقته مريضة جدا‪،‬‬
‫الخاص باإلنقطاع عن الدراسة‪.‬‬ ‫فام كان عليه سوى مغادرة القشلة خلسة والتحق‬
‫بأصدقائه وصديقته حتى يتمكن من عالجها‬
‫يف اليوم الثاين الذي سوف يتوجه فيه الفاطمي‬ ‫عودة احميدة كانت مبثابة لقاح لصديقته التي‬
‫إىل قشلة بنكرير‪ ،‬اجتمع األصدقاء وحاولوا‬ ‫كانت تعاين من املرض ووعدها عىل انه سوف‬ ‫‪114‬‬
‫طأمنته بأن األمر سهل للغاية وعىل أنه سوف‬ ‫يأخدها إىل الطبيب‪ ،‬وكانت الصديقة تعرف‬
‫يجد يف الباب بعض أصدقاء احميدة الذين سوف‬ ‫مرضها لكنها كانت تخفيه عن احميدة هذه املرة‬
‫يسهلون له القيام بهذه املخاطرة‪ ،‬فعال أمام‬ ‫اشتد بها األمل وحاولت مصارحته باألمر‪.‬‬
‫انقطع التواصل بني ا‪.‬ع وبني زمالئه وبني الفاطمي‬ ‫باب القشلة وجد الفاطمي كل من املدعوين‬
‫وارتاب يف أمره بعد هذا االنقطاع الذي دام مدة‬ ‫املسطاش وعنرتة والحسني البناي والسعداوي‪،‬‬
‫ليست بالهينة وحتى عائلة الفاطمي التي كانت‬ ‫الذين سوف يساعدونه يف املهمة‪.‬‬
‫تنتظر أخباره كانت تعيش عىل أمل العودة إلبنها‬
‫كل يشء مر عىل أحسن ما يرام واتصل األصدقاء‬
‫ولكن مل تتوصل بخرب يفرحها أو يطمئنها عنه‪.‬‬
‫باحميدة وأخربوه بأن األمر يسري كام يود‬
‫احميدة العرسي راودته بعض الشكوك يف هذا‬ ‫ويرغب‪ ،‬رغم الصعوبات استطاع الفاطمي ان‬
‫األمر خصوصا بعدما انقطعت أخبار أصدقائه‪،‬‬ ‫يتأقلم مع الجو داخل القشلة ويقوم بالواجب‬
‫فقرر العودة إىل القشلة دون ان يخرب أحد‬ ‫رغم العديد من األخطاء التي كان يقوم بها خالل‬
‫حتى ال ينكشف أمره‪ ،‬وملا ولج إىل هذه األخرية‬ ‫هذه املهمة هو ا‪.‬ع وليس الفاطمي برحال فكان‬
‫واستطاع أن ال يلفت األنظار عنه فام كان منه‬ ‫يتعطل يف اإلجابة عىل إسمه عند املناداة عليه‪.‬‬
‫إال أن يلتحق بالدورتوار ألجل معرفة مكان‬
‫وجود أصدقائه وهنا كانت املفاجئة تم إخباره‬ ‫وجاءت لحظة الحسم عندما وقع ما مل يكن يف‬
‫عىل أن الخلية التي يسأل عنها قد ذهبت يف‬ ‫الحسبان‪ ،‬بعد مرور ثالثة أيام‪ ،‬اعطيت األوامر‬
‫مناورة تدريبية بالصحراء املغربية‪ .‬وهنا بدت‬ ‫ملجموعة من الخاليا ألجل القيام مبناورات تدريبية‬
‫الدهشة عىل ا‪.‬ع وأصبح يرضب األخامس‬ ‫يف املنطقة الصحراوية وكان من بني هذه الخاليا‪،‬‬
‫باألسداس والحرية أخذت منه ما أخذت فام‬ ‫الخلية التي يوجد بها ا‪.‬ع والذي عوضه الفاطمي‬
‫العمل؟ هل سيخرب رؤساءه؟ هل سيصمت؟ ماذا‬ ‫برحال وعندما متت املناداة عىل هذه الخلية‬
‫سيفعل؟‪،‬عاد أدراجه إىل صديقته وأخربها باألمر‪.‬‬ ‫اختلط الحابل بالنابل عىل الفاطمي وعىل األصدقاء‬
‫الذين ساعدوه يف تلك املهمة لصالح احميدة وبقوا‬
‫بعد مرور حوايل ستون يوما عادت الخلية إىل‬ ‫يف حرية ال يعرفون ماذا سيفعلون‪ ،‬هل سيخربون‬
‫قشلة بن كرير لكن بدون الفاطمي برحال‬ ‫الرؤساء باألمر؟ أم يرضبوها بصقلة أي يلتزمون‬
‫بعدما تويف إثر أزمة قلبية خالل املناورة‪ .‬الخرب‬ ‫الصمت لكن بعض املسئولني عىل خليتهم أجربوهم‬
‫حمله األصدقاء إىل ا‪.‬ع الذي جن جنونه عىل‬ ‫عىل ارتداء مالبسهم وحمل أسلحتهم واملستلزمات‬
‫إثر سامع ذلك الخرب‪ ،‬فقرر إخبار رؤساءه باألمر‬ ‫الخاصة بهذه املناورة برسعة ألن الوقت قد حان‬
‫وتم اعتقاله فورا فيام تقدم الجميع إىل املحكمة‬ ‫والطائرة الحربية يف انتظار الجميع‪ .‬الفاطمي‬
‫العسكرية رفقة الرؤساء الذين مل يالحظوا وجود‬ ‫املسكني الذي بدأ يف حرية مل يعرف ماذا سيقدم أو‬
‫الفاطمي مكان احميدة‪.‬‬ ‫سيؤخر مبا أنه جديد يف هذه القشلة وجد صعوبة‬
‫الخرب املفجع حمله كذلك بعض الضباط‬ ‫كبرية يف ترتيب مالبسه ومسح حذائه وربط‬
‫العسكريون إىل والده وأخوات الفاطمي وكانت‬ ‫الكرافطة‪ .‬وهنا دخل يف دوامة والرؤساء يرصخون‬
‫‪115‬‬ ‫الصدمة قوية عليهم…‬ ‫لإلرساع‪ .‬يف األخري تقدم جميع من يف الخلية ومتت‬
‫وستكون أنت عزيزي القارئ من سيحلل النهاية‪.‬‬ ‫املناداة عىل كل واحد باسمه حتى الفاطمي بدل‬
‫احميدة وركب الجميع الطائرة والكل يفكر يف‬
‫هذه املناورة التي كانت مفاجئة‪.‬‬
‫فتنة‬

‫فتنــــــة والله حتــــــى فتنــــــة‬ ‫فتنــــة آش هــــاذ الفتنــــة‬

‫يعلـم الله وحـدو فيـن غادييـن حنـا‬ ‫يــالعبـاد آش هــاذ املحنـــة‬

‫ماتهدينـــــــــــــــا‬ ‫ماهدينــــــــــــــا‬ ‫ماه ّنينــــــــا ماتهنينــــــــا‬

‫ماجنينــــــــا غيـــــــــر الغبينــــــــة‬ ‫ماصـــــــلينا مازكّينــــــــا‬

‫شــــحال كـــــاع تعيــــش شـــحال‬ ‫كلشــي بغـــا يــدير املــال‬

‫والزاد ضيـــــــــــــاق الحــــــــــــــال‬ ‫واش نتـــا مرتــــاح البـــال‬

‫والله وخا إيكون عندك من الصحة قنطار‬ ‫إيـه ال تجـري بالليـل والنهـار‬

‫راه رزق العبــــاد راه بيــــد القهــــار‬ ‫غري متشّ ـا وارتـاح يا إنـسـان‬

‫‪116‬‬
‫ماليك برادة عبد الواحد‬
‫التم�سك بالعهود القاتلة‬

‫فالعهود هي التي قادتني لإلفراط عىل نفيس‬


‫وتكبيلها بالقيود‬
‫هذا ما ولد يف جويف نواة ملتهبة التهمت كل‬
‫الجميل واملميز يف الوجود‬
‫قلبي انفطر كقلب أم فقدت رضيعها‬
‫وهي تنظر إليه يف سكون وخمود‬
‫انكرس فؤادي إىل قطع كريستالية مرت أمام مخيلتي‬
‫كوميض متوهج بالخوف والجمود‬
‫فبدا كبدي ينصهر ويذوب ويذرف دمعا كنهر الدانوب‬
‫يشق خدا كاملحراث لألرض الولود‬
‫مسجون يف دوامة فراغ داخيل دامس يف أفق لعقود‬
‫عقود‬
‫ويف النهاية ألقتني كام يلقى زبد البحر‬
‫بعد العاصفة جثة كالجلمود‬
‫هذا جزاء من يريد أن يتمسك بجربوت العهود‬
‫‪117‬‬
‫يوسف الكزويل‬
‫ملة الأحباب‬
‫الم‪ ...‬ميم‬
‫ما أحالها ملة لحباب‬
‫من زينها محبة بني االصحاب‬
‫الرجا يدوم النعمة والخري‬
‫والرجوع لطريق الصواب‬
‫محنة الدنيا واآلخرة أخرو تواب‬
‫الصديق يف الضيق‬
‫ما تعرف بحقو حتى تشد الطريق‬
‫لعدو البس لباس العتيق‬
‫يك الكفن‬
‫صدرو منفوخ بكرثة الضيق‬
‫هدا هبيل وبخيل ما يعرف بني الرش والخري‬
‫كل واحد فيهم جاري جراه فالطريق‬
‫مول كرثة القيل والقال‬
‫مدير ورفيق‬
‫رافق مول الحكمة‬
‫والدميم الديرو صديق‬
‫تقف وتعلم من باب العلم ومن الحكمة تفهم‬
‫بقليل من الزعامة والفهامة‬
‫تصري سيد الرجال عندك الشان والهمة‬
‫مول الخري مول املكان بالحكمة وتلم االحباب‬
‫‪118‬‬
‫الحري أحمد‬
‫نثول لثامي بحجاب العفة‬
‫ساكن داري‬
‫متنيت خريي يحرق ذنويب امللوثة‬
‫بالدم الساري فعروقي‬
‫يعافني جاري ونترصف بقل من خالص الكاري‬
‫روحي بارية من الطعنة الرشيرة قصادي‬
‫سبابها الثقة واملحبة فصحايب‬
‫موسد أفكاري ووعاطيها لبكا والنديب‬
‫نتحرس عىل جراحي‬
‫من قلة الفهامة والكالم الخاوي‬
‫ترسعت وحكمت حكامي‬
‫قبل من نىس خاطري ونساوي اوثاري‬
‫عازف سرية دايت بخيوط الدم والدموع املشموث‬
‫نايس ميزان القوايف‬
‫نرتقى بطل الندى‬
‫البس حيك اشعاري‬
‫نقلب عىل نجوم السام فخلويت يل مواعداين بالرحمة‬
‫انربى من البال‬
‫و�شام القلوب‬

‫يل فاحالم نعايس‬


‫شال شقى‬ ‫شال كالم‬
‫آه آه يا ناري‬ ‫شال عذاب‬
‫من نار جهنم يل تحرق رموش القاري‬
‫الروح تسارى وتساري‬
‫طامعة فلخالص طامعة فاملوت‬
‫من يل جرايل وصار يب‬
‫رشعات الحرام بحجة قلة النفع وماطاري‬
‫واخا عقيل طاير لسام بعيدة‬
‫قلبي تابت فمكانو عابد الباري‬
‫نخدم وندمر‬
‫نقرا كتاب فكل ليلة من اليايل‬
‫بيه نستافد نوعي‬
‫نثقف ويكون ضد األمية سالحي‬
‫مستور عن العني‬
‫مبعد عن البىل ليطالني‬
‫هارب من خيايل‬
‫محزم بكفوف رىض الوالدين حامياين‬
‫عاطيها لنديب وخايف من طعنة الغريب يل راصداين‬
‫‪119‬‬ ‫موكل امري ملول الحكمة هو مول امللك وانا غري كاري‬
‫املحبة ما يحجبها زور واخا الضحكة الصفرا قاصداين‬
‫لوين مكشوف‬ ‫عقيل مخطوف‬
‫الحالوي هشام‬
‫ولد البارح‬
‫ولد البارح كرب اليوم‬
‫وىل خبري يف السموم‬
‫يف البلية حصل عىل دبلوم‬
‫تسولو يكول كنيس بها الهموم‬
‫تنصحو مايقبل النصيحة‬
‫غادي برجليه للجايحة‬
‫مامقدرش قيمة الصحيحة‬
‫تابع نزواتو القبيحة‬
‫قرانو مارسو رياضات‬
‫وأسامؤهم يف العامل تعرفات‬
‫تألقو وحققوا إنجازات‬
‫ما يعرفو سهري والبليات‬
‫وهو يتعلق فني يتفلق‬
‫ويقتل نفسو عرق بعرق‬
‫ماحن يف ذاتو ما شفق‬
‫يا ريب تعفو عليه وترفق‬
‫البلية قضات عليه‬
‫وهو اليل فيه مامهنيه‬
‫يجوع يف كرشو والسم يرشيه‬
‫هاذ البلية للقرب غتديه‬
‫مادا منهم الصحة خانتهم‬
‫حتى عائلتهم همالتهم‬
‫عايشني معذبني يف حياتهم‬
‫ويتسناوا حتى يوصل وقتهم‬
‫وهو يف صحتو كامل مكمول‬
‫اعطاه ريب عرض وطول‬
‫يجري يصول ويجول‬
‫تبع البلية راه عىل صحتو مسؤول‬
‫هذا ميساج للشباب‬
‫راه ريب كال يف لكتاب‬ ‫‪120‬‬
‫التلقوا بأنفسكم للعذاب‬
‫راه عىل الصحة غتحاسبوا حساب‬
‫حميد فوزي‬
‫لعنة الأمل‬
‫وساديت مملوءة بأكياس من األمل‬
‫رسير زنزانتي يتلذذ من شهقايت‬
‫اجري وراء موعدي‪ ،‬فتباعدت عني كرسب الحامم‬
‫جروح تضمدها ضحكات تخفي نفقا مسدودا‬
‫جوانب جدران زنزانتي يلفها خز أخرض متوضع‬
‫يأكل منه النغف‬
‫سنوات االعتقال ستندم عام فعلت يب‬
‫يشتد أملي‪ ،‬كالرمح املنغرز يف قلب سامء زرقاء‬
‫مددت يدي ألطعن القمر‪ ،‬ألنه ال ينصفني‬
‫مغمض العني أخطو‬
‫مجرور يف أوحال أتلفت ماض أسود‬
‫كلمتني ضفادع الليل يف مزرعة األشباح‬
‫كيف أرمي الحجر يف بحرية ألزعج سكونها ؟‬
‫يجري الندى عىل القضبان يرسم سبال من عل إىل أسفل‬
‫أيها الفجر‪ ،‬لعل األيام ترقد يف برئ األرسار‬
‫أيها النهار إذا غضب الغامم‪ ،‬فهو مخمور من أوجاع العواصف‬
‫يا حلم املساء‪ ،‬إن األمل باق يف الفقار املظلم‪ ،‬وتنفرج‬

‫‪121‬‬ ‫غصة مجروحة باألمل األليم‪.‬‬

‫عبد الكريم املحمدي‬


‫حلظة حداد‪:‬‬
‫�إهداء �إلى روح والدي‬
‫أيب رحلت عنا ألن الله ابتالك‬
‫رحلت عنا صورة لكن يف قلوبنا هواك‬
‫تعبت عنا صغارا وكربنا واشقيناك‬
‫وحكم املوت بالفراق ومل يسمح برضاك‬
‫ياليثك تعود يوما بابتسامتك وعيناك‬
‫فلم يبقى يف قلبي إال محبتك وذكراك‬
‫احبك يف مامتك واحبك يف محياك‬
‫رحلت يف عيد املؤمنني ألن الله حباك‬
‫لو كان املوت يقاتل لقاتلته ورصت فداك‬
‫لكن وجه الله الدائم والباقي إىل الهالك‬
‫لست ادري ابرش أنت أم من السامء مالك‬
‫فياليتني ابتليت مكانك وأنت الله شافاك‬
‫لو كان الرجوع باملال والله الشرتيناك‬
‫لو كان النزع من تحت الرثى نزعناك‬
‫سأطلب الله يوم القيامة لقياك‬
‫واراك يف املنام ويكرث دوما هواك‬
‫قاومت الداء أيب لكنه فتاك‬
‫وكان الرجوع إىل الله آخر مثواك‬
‫جمعة الرحيل يا أيب الله قد أهداك‬
‫ومن عذاب القرب والنار ال شك نجاك‬
‫ال خوف يا أيب ففي الجنة سكناك‬
‫ورحلت يف يوم عظيم والله‪......‬‬
‫فرحمة واسعة عليك وعىل موتاك‬
‫فطوىب لك يا أيب بالفردوس وطوىب ملن رباك‬ ‫‪122‬‬
‫فولدك عبد العايل مستحيل أن ينساك‬
‫فولدك عبد العايل مستحيل أن ينساك‬
‫عبد العايل العمري‬
123
‫‪23‬‬ ‫�شمعة يف العتمة‬
‫أقول لك يا من جنت يف العتمة‬
‫أضنت شمعة قلبي‬
‫بعد أن حسبت‬
‫إن الحب قد ضاع يف زمن العوملة‬
‫ولو كنت أعلم الغيب‬
‫أبدا ما أعطيت‬
‫قبلك رشايينا من قلبي لنساء جهلة‬
‫يا نجمة أضنت عتمتي‬
‫ال تحسبي كالمي لغوا أو حشوا أو زيادة من كالم‬
‫فأوتار قلبي بحبك الصايف تزعزعت‬
‫وخطوات حيايت بصدقك ترعرعت‬
‫وغدا حلم لقياك من جديد أنبل األحالم‬
‫فسحقا لهذا األرس والقيود‬
‫فال أثرت يف القوانني والبنود‬
‫فوحده قانون حبك أحياين كمولود‬
‫فانتظريني كام انتظرتك طويال‬
‫امرأة تنسيني األحزان وما فات‬
‫وتحول كوابييس حلام جميال‬
‫وتشعرين أن زمن املكر والخداع قد مات‬ ‫‪124‬‬

‫يوسف الكزويل‬
‫خيبة و�أمل‬
‫غرارة ياليام‬
‫عيشتيني يف أحالم‬
‫لقيتها رساب وأوهام‬
‫بعدما كان يل اسم محرتم‬
‫وليث عبارة عن أرقام‬
‫كنت نصول ونجول بحال نحلة يف جنان‬
‫وال الساروت يتسد عليا‬
‫وتسلبات الحرية‬
‫درتها بايديا‬
‫واللوم عليا‬
‫لكن األمل يف الله املنام‬
‫يفاجي هاد األحزان‬
‫وتكون درس وعربة لإلنسان‬
‫السجن مايش نهاية العامل‬
‫بل محطة للمراجعة باش تزيد لقدام‬
‫وحياتك تدير ليها ميزان‬
‫حروفو لعقل والخري واإلحسان‬
‫وتعرف أن الحرية ما ليها مثان‬
‫ماتباع ما ترشى بكنوز العامل‬
‫‪125‬‬
‫وخود لعربة يا بني ادم‬

‫راكب منري‬
‫خايف حقي فاحلياة ليفوت‬
‫باغي نلبس كفن الشوف يتبا فعلتي من الشوف‬
‫هاز لوحة افعايل حد الشوف‬
‫مضوي بشمع امللهوف املفوف‬
‫حافر قربي بفاس النحاس يل ما يرىش ما يتقاس‬
‫حافر بني خرس وتراب القبور‬
‫قدامي طرقان عسرية‬
‫نسقي األرض بدموع الندامة‬
‫متحمل قساوة الظروف‬
‫تايه كنجدب كيف الكبش املدبوح‬
‫مرمي فمطمورة الصفيح‬
‫نافخ صدري بكرثة الهموم‬
‫شايك حايل ملول الحكمة‬
‫مجرد من حقي ولبايس‬
‫ما نقول راين مرخوف‬
‫عقيل مخطوف فزمان مطبوخ‬
‫ملبس لقلوب لباس لخديعة‬
‫الحق الحق‬
‫ياأهيل طاير فسام بعيدة‬
‫محرف السلهام والتسبيح‬
‫مزور وشام القلوب بالخديعة‬
‫نبوس الكتاف والريوس‬
‫وتزيد تظالم يف واد الغامم والجريحة‬
‫نرعي كسيبتي فجنارج الظالم‬
‫تايه نقلب عىل كسايت‬
‫بني الزور والحقيقة‬
‫نحاور دايت‬
‫راخي ودين لدقات قلبي الرسيعة‬
‫نادم وطامع فالتوبة‬
‫مليت من الزواق والنفاق‬
‫فهاذ الحياة لقبيحة‬
‫آه آه يا قلبي آه يا قلبي‬
‫تسبح للخالق بآهات وأنفاس عسرية‬ ‫‪126‬‬
‫راوي حكايتي‬
‫لناس كثرية‬
‫مدونها بعنوان الصرب فديوان الحياة القصرية‬
‫الحالوي هشام‬
127
128
Mea culpa

En bon marin, je sais qu’une voix


Forte et assurée, suffit à se faire entendre,
Qu’une imagination peut être aventureuse
Sans être délirante ; et que toute lâcheté,
Tout abandon vous condamne
A faire un trou dans l’eau.
En bon capitaine, je sais que le vent
Fait taire ceux qui pleurnichent sur eux-mêmes.
Et que les tempêtes finissent
Par mater les fortes têtes.
En bon écrivain, je sais que le génie
Ne se confond pas avec les artifices du style,
Et que nos imprécations ne sont rien
Face aux éléments qui se déchaînent.

Mohamed Medhouss

129
Laissez vos rêves devenir réalité

Je voudrais être une étoile pour voyager dans le ciel

Je voudrais être un avion pour voir tout le monde

Je voudrais être un bateau pour naviguer dans la mer

Je voudrais être une abeille pour produire du miel

Je voudrais être un médecin pour soigner les malades

Je voudrais être une maman pour avoir des enfants

Je voudrais être un écrivain pour écrire des romans

Je voudrais être une institutrice pour enseigner aux élèves

Je voudrais être un clown pour faire rire les enfants

Je voudrais être un juge pour appliquer la loi

Je voudrais être un arrosoir pour arroser les fleurs

A. A.

130
131
Ecoute mes dires, tends l’oreille à toutes mes paroles
J’ouvre la bouche et ma langue articule des mots
Sur ma maison
Ma famille
Et mon pays
La rectitude de mon cœur parlera
Mes lèvres exprimeront la Vérité
Si tu peux, réponds-moi
Vois pour moi
Je suis ton égale
Nous deux nous sommes pétris de l’argile
C’est l’esprit de mon corps qui m’anime
Me donne le souffle
Pour te dire
Je t’aime.
*************
Comment te dire ce que je ressens
De ton âme coule une larve qui
Traduit mon silence
Que ma vie soit une fleur,
Un parfum que je t’offre
Donne moi la forme qui te plaît
Je serai toujours souriant
Tu m’as offert l’amour
La paix et le bonheur
Tes mots me chuchotent
Toujours chaque nuit
Je t’aime. 132
Les yeux fermés tu me manques.

Kwandhio Joviale
Oraison

Quand il voyait que sa tribu était maltraitée, mon arrière grand


père allait dans la forêt, allumait un feu sacré et faisait une prière
spéciale, demandant à Dieu de protéger les siens.
Et Dieu envoya un miracle.
Plut tard, son fils et non moins disciple, érudit et ermite, se rendit
au même endroit dans la forêt et disait en marchant sur les pas de
son maître : « Maître de l’univers, je ne sais pas comment allumer
le feu sacré, mais je sais encore l’oraison spéciale. Ecoutez moi, s’il
vous plaît ! ».
Et le miracle se produisit.
Une génération passa et un de ses descendants qui n’est autre
que mon père, quand il se trouvait dans une crise ou assistait sans
défense à une persécution contre les siens, allait dans la forêt et
disait : «Je ne sais pas allumer le feu sacré, et je ne connais pas
la prière spéciale, mais je me souviens de l’endroit. Aidez-nous
Seigneur ! ».
Et le Seigneur venait à son secours.
Cinquante ans plus tard, dans mon fauteuil roulant, je m’adressais
à Dieu : « Je ne sais pas allumer le feu sacré, je ne connais par la
prière, et je ne trouve même pas l’endroit dans la forêt. Tout ce que
je peux faire, c’est raconter cette histoire, en espérant que Dieu
m’écoute. »
Mes enfants n’ont jamais vu cette forêt, n’ont jamais su comment
rallumer le feu sacré, ni pour quelle raison il a été allumé ; mais je
133 n’ai jamais cessé de leur raconter cette histoire, même si le monde
qui m’entoure feint de n’avoir pas entendu.

Mohamed Medhouss
L’aigle a toujours vu cette lueur, elle S’il est un mot qui résume, plus que
l’obsédait, l’accompagnait dans ses tout autre, l’être humain, c’est l’espoir.
délires.
Toutes les civilisations sont d’accord
Parfois, en pleine solitude, il se dit pour dire que l’espoir fait vivre.
qu’à travers les ombres peut surgir la
lumière. Etait-il désespéré ou plein Faux ! L’espoir fait mieux : il fait
d’espoir ? Il ne sait pas, les deux sans sur vivre.
doute. Son désespoir était à la mesure
de son espérance, il ne le contredisait L’aigle avait besoin d’une présence,
pas. Au contraire, ils se protégeaient d’un serrement de main, d’un mot,
l’un l’autre. d’une prière... afin d’être témoin du
courage avec lequel il fera face au pire.
L’extrême désespoir découvre en lui
quelque chose qui, inlassablement, Alors, levant les yeux au ciel, il respira
relance sa force ; quant à son espérance, longuement l’air de la nuit. Tout
elle était sans limite. là-haut, innombrables, les étoiles
scintillaient dans le firmament.
De quoi se protégeait-il exactement ?
Pénétré de son insignifiance sur terre
De la folie. et de son insondable solitude, il ne put
cependant s’empêcher de leur adresser,
Peut-être du néant.
du bout des lèvres, une brève et ardente
Il était au bord de cette simplicité qui prière.
nous supprime.
134
Mais il a toujours eu la tête solide.

Il n’a jamais renoncé à se battre, surtout


contre le désespoir.
Des espoirs
Mohamed Medhouss

Depuis qu’on lit Lafontaine, on peut-être un petit aigle qui, en


cherche à comprendre ce qu’il nous grandissant deviendra un grand aigle
dit des hommes, comme si les animaux comme lui-même, explorant à partir
n’étaient que des marques ou des de son aire de nouveaux mondes, de
prête-noms. nouvelles idées, de nouvelles formes de
vie.
« Je pense, donc je suis», disait
Descartes, ce qui n’impliquait C’est ce faible espoir qui empêche
nullement, lui répond Lafontaine, l’aigle triste et solitaire de dévorer les
que les animaux ne pensent pas, ou du poussins.
moins qu’ils ne soient commandés par
un autre agent que le corps, qu’il faut Mais ces derniers ne se rendent même
se garder de nommer si on ne sait pas pas compte que c’est un aigle qui les
de quoi il est fait. élève. Ils ne remarquent même pas qu’il
vit sur une aiguille de rocher, au-dessus
Savez-vous ce que ressent un aigle qui a des vallées brumeuses et sombres. Ils
couvé des œufs de poule ? se contentent de manger ce qu’il leur
apporte au nid. Ils se réchauffent et se
Tout d’abord, il pense qu’il va faire
mettent à l’abri sous ses ailes chaudes
éclore de petits aigles qu’il élèvera
quand sévissent l’orage et la tempête,
et dont il fera de grands aigles. Mais
qu’il brave sans la moindre protection.
les petits aigles se révèlent bientôt
des poussins. L’aigle, désespéré, veut L’aigle solitaire n’a jamais abandonné
néanmoins en faire des aigles, mais il cet espoir, et il continue de couver de
ne voit autour de lui que des poules petits poussins.
qui caquettent. Alors, il a beaucoup de
135 Il y a toujours une petite bougie qui reste
peine à réprimer son désir de dévorer
tous ces poussins, toutes ces poules, ce allumée quelque part dans une cave,
qui le retient, c’est le faible espoir que dans un tunnel, dans une vieille maison
parmi tous ces poussins se trouvera laissée à la poussière et à l’humidité.
136
pièce voisine, les femmes quant à elles A la vue de Madame la voisine, qui
ne disaient plus un mot. Alors que tout mesurait bien son mètre quatre-vingt,
le monde se plaît à croire qu’elles sont le visage rouge de colère et les poings
plus enclines aux babillages, il leur était serrés, l’assemblée de l’horreur se tut
impossible de ne pas partager la peine d’un trait. L’heure a sonnée, vous avez
de la veuve. Mais au-delà, de par les des comptes à rendre messieurs, tel
cloisons et les murs, l’essentiel du débat l’ange de la mort, Madame la voisine
leur parvenait. Des larmes, nombreuses allait mettre tout le monde d’accord.
d’entre elles passèrent à la stupéfaction.
L’épouse endeuillée, quant à elle, était «Alors ces doctes messieurs ayant
sous le choc. Elle qui, en réalité avait assouvi leur faim cherchent le mot de
pensé effacer la majorité des dettes, se la fin, sans même un centime de respect
débarrasser de ces encombrants petits pour le défunt. Eh bien écoutez-moi
carnets en mémoire de son défunt bien, pittoresque attroupement de coqs
mari qu’elle aimait et croyait être aimé et de bovins ! Hassan, notre regretté
par ceux-là même qu’elle avait invité. épicier était bien en chemin pour la
Elle était pâle telle la lune et respirait mosquée. Tandis que moi, à son épicerie
avec difficulté tandis que les autres je me rendais afin de régler une partie
femmes, gênées, se coloraient une à
de ma dette. Le vent a emporté un billet
une d’un rouge écarlate de la tête au
qui ne tenait plus en place dans mon
pieds. L’une d’entre elles, parmi les
porte-monnaie et notre bon Hassan
plus âgées, marmonna une formule de
me fit signe de la main pour que je n’ai
malédiction sur les langues de vipère et
alla réconforter la veuve sans un mot, pas à traverser. Alors si coupable vous
la prenant dans ses bras généreux. La cherchez, c’est moi ou le vent que vous
veuve y déversa un torrent de larmes, devriez incriminer. Car en réalité, ce
hoquetant sa tristesse tel un déluge de bon épicier n’a voulu, par son geste, que
désolation et d’effroi. me rendre service, comme il l’a toujours
fait avec sa communauté. Et enfin, la
C’est à ce moment que Madame la véritable question que vous devriez vous
voisine, celle-là même qui assista au poser c’est ... après que la voiture soit
dernier souffle du mari - épicier - martyr passée et ait fait trépasser notre épicier,
- calomnié, entra en scène. qui donc d’entre vous en a profité pour
subtiliser le fameux billet ? ».
« Trop c’est trop ! » dit-elle tout
137 haut. Relevant les pans de sa djellaba
sombre, elle se précipita vers le salon de
l’inquisition, déterminée à mettre un
point final à cette abomination.
Son épouse quant à elle fut moins tradition. Mais pourquoi notre épicier,
économe. Ainsi, après la mise en terre, paix à son âme de martyr de la profession
elle invita la moitié du quartier à la des commerces alimentaires en semi-
veillée, convoquant la troupe intégrale gros qu’on aimait bien avec tous ses
des « foqahas » à coup de billets verts, petits carnets, s’était-il jeté sur ce billet
bleus au besoin. Il fallait que les gens bleu ? Pourquoi tant de précipitation ?
pleurent le grand Hassan, généreux mari N’en avait-il pas des matelas stockés
et épicier martyr de la cause alimentaire chez lui ? Pourquoi tout perdre pour
en semi-gros. Les voisins, leurs voisins celui-ci ? Un seul billet, lui qui en avait
et leurs cousins au Xème degré furent côtoyés tant dans sa carrière ? Des verts,
donc invités ou s’invitèrent pour des rouges, des bleus et sans compter
l’occasion. On pouvait généreusement toutes ces pièces ! Et il a fallu que notre
s’épancher en larmes, particulièrement cher épicier que nous aimions tant (et
si l’on possédait un carnet de crédit ses petits carnets aussi) meurt par ...
bien garni. Avec de la chance, la veuve avidité ?! Soif incontrôlable de l’argent ?
serait plus encline à accorder un délai si C’était vraiment une fin digne de ces
on montrait une tristesse assez salée. fichues séries B qu’ils passent pendant
le mois de ramadan sur les chaînes
Après une épuisante récitation publiques.
du Qoran, la troupe des foqahas
commença à s’impatienter ; le repas, Naturellement portées par le flot des
colossal assortiment de cholestérol et mots, deux équipes se distinguaient dans
de protéines animales de toutes sortes le lot. Ainsi, certains argumentaient
fut enfin servi. Et comme typiquement sur sa destination finale en mettant en
dans ce genre de « sacrée soirée », avant que son intention était pieuse à la
lorsque le ventre se rempli, la tête se base : se rendre à la mosquée. D’autres,
vide. Les langues se font plus légères et ultra-pointilleux, prétendaient que
les gens, rouges d’avoir trop mangé et sa marche lumineuse vers la maison
bu du gaz à effet de serre en bouteille, d’Allah avait été obscurcie par son
commencent à parler de ce qui ne geste ; tendant la main vers le billet,
les regarde pas. Après quelques hors- il avait scellé à jamais son destin à
d’œuvre croustillants sur la fille du l’éternelle damnation. Selon ces doctes
« moqadem » qui se serait entichée de salon, c’est son dernier geste qui
d’un touriste belge, on passa allègrement était le plus déterminant, peu importe
à l’apéritif avec les pronostics de survie les protestations des opposants dans
du nouveau salon de coiffure. Mais cette morbide course aux supputations. 138
pourquoi tourner autour du pot alors Lorsqu’un groupe évoquait la
qu’on a déjà dévalisé la laiterie ? Le plat miséricorde d’Allah, l’autre rappelait
de résistance fut introduit sans pieuse qu’Allah était dur en punition. Dans la
d’œil à son apprenti boulet, ce dernier commençait à briser cette harmonie
s’essayait à la calculatrice : rassurant. quasi-sacrée, la maison risquait la ruine
tôt ou tard.
Hassan sortit de l’épicerie, une brise
légère soufflait sur son visage encore Mais pour l’instant, 1e visage encore
humide et il sourit. Malgré qu’il moite jusqu’aux oreilles, Hassan n’y
était midi passé, un léger brouillard pensait pas. Il traversait la rue poussé
enveloppait l’atmosphère et le soleil était par un vent béni qui rafraîchissait son
pâle, ses rayons diffus blanchissaient esprit. Poussé par le vent également,
le ciel, lui donnant une teinte ivoire un billet bleu vint délicatement se
réconfortante. poser devant lui. Il se pencha afin de le
ramasser.
Il s’engagea sur le trottoir le cœur moins
lourd, souriant. Avant de traverser la rue Ce geste fut son dernier. Le dos courbé,
qui le séparait de la mosquée, il aperçut prenant appui sur sa jambe, il tendit le
Madame sa voisine, bonne cliente qui bras en direction de ce petit bout de
comme de nombreuses bonnes clientes papier qui avait tant de valeur, la tête
avait un petit carnet à son nom, entassé baissée. C’est également la tête baissée
parmi une armée d’autres, juste à côté que s’engagea dans la rue le chauffeur
du « tiroir-caisse ». Un carnet de d’un énorme 4x4 acheté à crédit. Plus
crédit qui avait tendance à s’alourdir tard, il expliquera à la police que son
ces derniers temps. Hassan n’arrivait téléphone était malencontreusement
cependant pas à dire non. Il savait tombé sous le siège passager, la fameuse
qu’en refusant de tendre la main aux place du mort. Ainsi Hassan trouva la
habitants du quartier, il ne pourrait sienne. Sa dernière heure avait sonnée
plus se regarder dans une glace. N’était- à cause d’un smartphone bon marché
ce pas grâce à eux après tout qu’il avait qui s’était mis à sonner au mauvais
prospéré ? De plus, en règle générale, moment, au mauvais endroit.
toutes les dettes finissaient par se régler,
et celles qui étaient trop poussiéreuses, Transporté en urgence, le corps de
Hassan les faisait passer par la case Hassan ne resta pas longtemps à
« Zakat » et le client endetté était l’hôpital, son compte était déjà réglé,
non seulement soulagé mais aussi de toute évidence. Seule la sacro-sainte
reconnaissant pour l’éternité. Alors signature du médecin en chef attestant
au final, les petits carnets ça n’était pas de son macabre état fut nécessaire.
réellement un souci pour Hassan. Aucun examen approfondi, aucun
139 sérum, aucune transfusion ; Hassan,
Non, tant que les comptes étaient bien humble dans sa vie se montra plus
ficelés, la mécanique bien huilée, tout qu’économe pour sa mort. Un simple
roulait. Par contre, si son apprenti certificat de décès suffit.
Billet pour l’au-delà
Akram Atifi

Hassan en était là, à recompter jusqu’au glorieux de Hocine, héroïquement


moindre centime l’argent dans le tiroir extirpé de son village poussiéreux par
en bois usé qui faisait office de caisse. sa tante.
Hocine, son jeune apprenti, avait une
nouvelle fois fait preuve de légèreté, C’est plongé dans ces pensées que vint
comme il l’avouait lui-même, dans victorieusement l’appel à la prière ;
les comptes. Rendre la monnaie juste Hassan pouvait souffler et s’en remettre
n’était tout de même pas si compliqué à son Seigneur.
mais de toute évidence, Hocine s’en « Bon, écoute Hocine, tu arrêtes le
tirait comme un pied. Hassan l’aurait calcul mental, fait plaisir à ton patron,
allègrement congédié depuis des lunes sers-toi de la calculatrice ! ». I1 arrêta
mais les liens de parenté avaient plus un instant son regard sur les gros yeux
de valeur que quelques dirhams en de mammifère marin du neveu de sa
moins. C’est ce que lui avait rétorqué femme afin de s’assurer que l’adolescent
son épouse, dont Hocine était le neveu. avait bien compris. Rien. Bon, tant
C’est elle-même qui lui avait collé le pis. Hassan n’allait pas pour autant
fardeau à l’épicerie, mais étant donné abandonner ses bonnes habitudes ; prier
sa « faible constitution », elle avait à la mosquée avait une importance vitale
formellement interdit à son mari de pour sa santé... mentale. Il se rendit d’un
lui faire porter des charges lourdes ou pas décidé dans les petites commodités
de l’assigner au rangement. Hors de aménagées dans le fond de son épicerie.
question. Il fallait que Hocine apprenne Il fit ses ablutions avec soin, c’était sa
à gérer une épicerie. En d’autres termes, première étape vers le succès. En sortant 140
qu’il prenne la place du patron : la caisse. du réduit, il prononça son attestation
Toutes les protestations de Hassan de foi comme le veut la tradition et son
avaient été vaines devant l’avenir cœur déjà s’apaisa. Un dernier coup
141
Je pardonne
Les larmes que l’on m’a fait versé
Les douleurs et les déceptions
Les trahisons et les mensonges
Les calomnies et les intrigues
La haine et la persécution
Les coups qui m’ont blessé
Les rêves détruits
Les espérances mortes
Le désamour et la jalousie
L’indifférence et la mauvaise volonté
L’injustice au nom de la justice
La colère et le mauvais traitement
La négligence et l’oubli
Le monde avec tout son mal
Je pardonne.
Je pardonne tout et à tous
Que les infortunes du passé ne soient
Plus un poids dans mon cœur
A la place du chagrin et du ressentiment
Je mets la compréhension et l’intelligence
A la place de la révolte
Je mets la musique qui sort de mon violon
A la place de la douleur je mets l’oubli
A la place de la vengeance je mets l’indulgence
Je serai naturellement capable d’aimer
Au dessus de tout désamour
De donner même dépossédé de tout
De travailler joyeusement même
Au milieu de tous les obstacles
De tendre la main malgré la plus
Complète solitude et l’abandon
De sécher les larmes malgré mon chagrin
De croire même si l’on ne croit pas en moi 142
Et je dis avec toute l’autorité qui vient d’en haut
« qu’il en soit ainsi. Il en sera ainsi ».

Mohamed Medhouss
Les cahiers des prisonniers
Revue marocaine périodique

Direction de la revue :
Directeur général : Mohamed Saleh Tamek
Directeur éditorial : El Mustapha Rezrazi
Rédacteur en chef : Hassan Hmina

Comité scientifique :
Driss El Yazami Hammad Kassal
Ahmed Abbadi Khadija Marouazi
Nourredine Mouaddib Salah El-Ouadie
Driss Ouaouicha Abdelkader Chaoui
Jamal Eddine Naji Farid El Asri
El Mustapha Rezrazi Hassan Rachik
Nizar Messari Farida Zomorod
Mustapha Shimi Habib Belkouch

‫الجس‬
Les photos de couverture sont l’œuvre de détenus choisies sur la base d’un concours
‫ون‬ ‫ة‬
organisé dans ce cadre.
‫و‬

‫دار‬
‫إع‬
‫ادة‬

‫ة إل‬

Les tableaux artistiques présentés sont des œuvres de détenus.


‫ة ال ع ا م‬
‫اإلدماج‬

Les opinions et les idées exprimées ne concernent que leurs auteurs et ne présente
‫املندوبيـ‬

pas l’opinion officielle de la Délégation Générale à l’Administration Pénitentiaire et


D -G
à la Réinsertion.
-A- P- R
Cette revue est publiée à l’initiative de la Délégation Générale à l’Administration
Pénitentiaire et à la Réinsertion.

Rédaction et édition :
Délégation Générale à l’Administration Pénitentiaire et à la Réinsertion
Avenue Aarar, Hay Riad, Rabat
www.cahiers.ma
e-mail: cahiersdesprisonniers@gmail.com

Dépôt légal : 2017PE0044


ISSN : 2550-5297
Royaume du Maroc
Le Chef de Gouvernement
Délégation Générale à l’Administration Pénitentiaire et à la Réinsertion

Les Cahiers des prisonniers


Magazine périodique marocain
Premier numéro • Mars 2018
‫المنـدوبيـــة العـامـــة إلدارة السجـــون وإعـــادة اإلدمـــاج‬

‫د فا ت��ر ا ل�س��جني‬
‫مجلـة مغربيـة دورية • العدد األول • مارس ‪2018‬‬

‫د فا ت��ر ا ل�س��جني‬
‫مجلــة مغربيــة دوريــة • العــدد األول • مــارس ‪2018‬‬

‫‪1‬‬
‫‪revue couv def v4.indd 1‬‬
‫‪Les Cahiers des prisonniers‬‬
‫‪Magazine périodique marocain‬‬
‫‪Premier numéro • Mars 2018‬‬

‫‪19/09/2018 17:45‬‬

You might also like