Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 3

‫‪:‬مقدمة وطرح المشكلة‬

‫لطالما اقتصرت المعرفة البشرية على العلم الى جانب الفلسفة‪ ،‬ويتجلى ذلك بشكل رئيسي في العوم التجريبية‬
‫التي تهدف الى دراسة الظواهر الطبيعية الموفق منهج تجريبي استقرائي الستنباط القوانين واإلجابة عن مختلف‬
‫التساؤالت‪ .‬تعتبر الفيزياء من اهم العلوم التجريبية و أقدمها انفصاال عن الفلسفة‪ .‬حيث كان لها الفضل الكبير في هيكلة‬
‫مختلف العلوم مثل الفلك والكيمياء‪ .‬ونظرا للدور المحوري الذي لعبته الفيزياء منذ مئات السنين الذي اخذ يتطور شيئا‬
‫فشيئا مع تطور الوسائل والبحوث‪ .‬اختلف المفكرون حول قيمة الحقيقة العلمية‪ ،‬فمنهم من يرى أنها نتائج العلم ثابتة يقينية‬
‫بينما يرى اخرون انها متغيرة نسبية‪ .‬فأي الرأيين على صواب؟ بتعبير اصح‪ ،‬هل يخضع عالمنا الحسي الى مبدأ الحتمية‬
‫بشكل مطلق ام أنه عشوائي ال ينقاد للحتمية باي شكل من االشكال؟‬

‫‪:‬محاولة حل المشكل‬

‫‪:‬الموقف األول‬
‫يرى انصار هذا الموقف بزعامة مدرسة الفيزياء الكالسيكية و على رأسهم إسحاق نيوتن‪ .‬غوبلو وهنري‬
‫بوانكاريه أن مبدأ الحتمية يحكم العالم بشكل جذري‪ .‬و أن نفس األسباب و الشروط االبتدائية تؤدي قطعا الي نفس النتائج‪.‬‬
‫أي ان نتائج العلم تحافظ على حصانتها و دقتها مهما تغير الزمن و مهما تبدل السياق‪ .‬من ابرز الحجج التي اعتمدوا‬
‫‪:‬عليها ما يلي‬
‫أوال‪ ,‬أن الحتمية ضرورية لسيرورة الكون بشكل منظم‪ .‬و ال بد عليها ان تقوم حتى يتسنى لإلنسان ان يصل الى نتائج‬
‫علمية قيمة‪ .‬و إال صار كل ما نعرفه عن العالم خاطئا و مشكوكا فيه‪ .‬و هو ما نالحظ خالفه‪ .‬أي ان ما وصلنا اليه اليوم‬
‫من قوانين علمية فيزيائية منذ األزل يظل مستعمال في كل المجاالت دون أن يوقعنا في أي أخطاء‪ .‬و كون الحتمية مبدأ‬
‫مطلقا يسمح لنا ان نواصل توظيف المنهج التجريبي في كل الفروع المعرفية لإلجابة عن تساؤالتنا حول الظواهر الفلكية‬
‫و الكيميائية‪ .‬أي اننا مجبرون على التعامل مع الكون على انه يرشدنا الى نفس النتائج طالما ننطلق من نفس المقدمات‪.‬‬
‫"حيث يقول البالس ‪" :‬علينا ان نتعامل مع وضع الكون الراهن على انه نتاج حالة سابقة و سبب حالة الحقة‬
‫إ ضافة الى ذلك‪ .‬يعتبر العديد من المفكرين أن وجود كوننا هذا يستلزم وجود نظام مطلق يحكمه‪ .‬و أنه ال وجود للعشوائية‬
‫و الشك بين طياته‪ .‬أي ان الكون محكم الخلق و متناسق بشكل مطلق‪ .‬فلو نظرنا الى حركة الكواكب لوجدناها تسري في‬
‫مدارات إهليلجيه منتظمة وفق سرعات متغيرة بانتظام متناسبة طردا مع بعدها عن الشمس‪ .‬و االمر نفسه ينطبق على‬
‫حركة األقمار االصطناعية حول كوكب األرض على الرغم من االختالف الشاسع بين اوزانها و اشكالها و حجومها‪ .‬و‬
‫لو نظرنا الى المستوى الذري لالحظنا ان االلكترونات تدور حول النواة بنفس الشكل الذي تدور به الكواكب‪ ,‬محترمة‬
‫بذلك سرعة معينة و وقتا محددا لتكمل دورة واحدة‪ .‬و اثباتا لهذا النسق الموحد الذي يطغى على عالمنا يقول غوبلو‪ ":‬إن‬
‫"الكون متسق تحدث ظواهره في نظام ثابت‬
‫إلى جانب هذا‪ .‬يؤمن معظم العلماء بحصانة الفيزياء الكالسيكية الناشئة على يد الغرانج و نيوتن التي هيكلت عالمنا و‬
‫أسندت جل القواعد التي نستعملها اليوم لدراسة حركة االجسام و من ابرزها مبدأ العطالة الذي يؤكد ان االجسام ال تتوقف‬
‫عن حركتها اال بتدخل قوى خارجية‪ .‬و مبدا األفعال المتبادلة الذي يشير الى عالقة االجسام ببعضها ميكانيكيا‪ .‬و الجلي‬
‫أن هذه القوانين ال زالت تستعمل حتى يومنا هذا سعيا لحساب ازمنة حركات الكواكب و المذنبات‪ ,‬إيجاد معادالت‬
‫لمساراتها و حتى التنبؤ بسرعاتها و كتلتها‪ .‬و بالتالي ليس هناك مي ينفي دقة الفيزياء الكالسيكية و مطلقيتها العلمية التي‬
‫بنيت بناءا قائما على مبدا الحتمية حيث يقول كانط نيابة عن جيل من العلماء "ان اوثق ما نعرفه عن العالم نعرفه عن‬
‫‪.‬العالم هندسة اقليدس و ميكانيك نيوتن" إذ ال يجوز الشك فيما هو وثيق‬
‫أخيرا‪ ,‬ما يدركه كثير من العلماء أن أبرز معايير العلم هو اللغة الرياضية الرمزية‪ .‬أي ان العلم ال يقوم اال اذا تحدث بلغة‬
‫األرقام و القوانين الرياضية‪ .‬و باعتبار العلوم مبنية على ما هو دقيق و يقيني بقدر الرياضيات‪ ,‬يسهل عندئذ التسليم‬
‫بصحة و حصانة العلوم‪ .‬لذلك يصح لنتائجها ان نقوم مقام المسلمات و البديهيات لحتميتها التي تحقق انسجاما بين‬
‫"المقدمات و الخالصات‪ .‬لهذا يقول بوانكاريه أن "العلم حتمي و ذلك بالبداهة‬
‫‪:‬النقد‬
‫صحيح ما قدمه انصار الفيزياء الكالسيكية‪ .‬ال يمكن انكار دقة نتائج العلم التي مكنتنا من قطع شوط معرفي طويل‬
‫حيث سمح انا يفهم عالمنا و تحقيق تطور تكنولوجي ال يستهان به‪ .‬غير انهم تناسوا الظواهر التي تحدث على المستوى‬
‫الميكرو فيزيائي التي أحدثت ثورة في ما يخص الحتمية باعتبارها تخضع للعشوائية و االحتماالت و ال يمكن تطبيق‬
‫فيزياء نيوتن باي شكل من االشكال المتناهية في الصغر‪ .‬زد على ذلك حقيقة ان العلم ال يقوم على البداهة الرياضية و‬
‫حسب بل يقوم أيضا على معيار التجربة التي من شانها ان تعطل االنسجام بين المقدمات و النتائج و هذا ما يجعل من‬
‫‪.‬الحتمية مبدأ نسبيا الى حد ما‬

‫‪:‬الموقف الثاني‬
‫يرى اتباع االطروحة المخالفة برئاسة مدرسة الفيزياء المعاصرة يتزعمهم فيرنر هايزنبرغ‪ ,‬ديراك و ادنغتون‬
‫أن مبدأ الحتمية ليس اال مبدأ نسبيا ال يحكم العالم و أن نفس األسباب ال تؤدي بالضرورة لنفس النتائج‪ .‬أي ان نتائج العلم‬
‫‪:‬تظل تقريبية و عرضة للتغير مع مرور الزمن‪ .‬من اهم ما ارتكز عليه المعاصرون ‪,‬ما يلي‬
‫أوال‪ ,‬العالم الميكرو فيزيائي الالمتناهي في الصغر‪ .‬الذي أدت ظواهره الى ثورة شاملة في مجال الفيزياء و الكيمياء‪ .‬ذلك‬
‫ألن مكوناته الدقيقة تتصرف بشكل حر غير مقيد باي قوانين كالسيكية‪ .‬فمثال من الواضح ان دراسة حركة االلكترون‬
‫مستحيلة عمليا‪ .‬فهو يمتاز بسلوكيات غير مسبوقة مثل التشابك الكمي الذي يجعل حركته متعلقة بحركة الكترونات أخرى‬
‫مستقلة عنه‪ ,‬التنقل اآلني الذي يسمح له باالنتقال من موضع آلخر في لحظة آنية غير كافية نظريا‪ .‬إلى جانب هذا فإن‬
‫التنبؤ بسرعة االلكترون و موضعه في نفس الوقت امر غير ممكن وهذا ما اثبتته نظرية عدم اليقين لهايزنبرغ الذي أكد‬
‫""ان الضبط الحتمي الذي تؤكد عليه السببية ال يصح في الفيزياء الذرية‬
‫ثانيا‪ .‬إن ما نعرفه عن عالمنا ال يصح إال باعتباره تقريبيا فقط‪ .‬أي انه ال مجال لليقين القطعي فيما يخص العلم و نتائجه‪.‬‬
‫مثال‪ .‬ان طول اليوم ال يساوي ‪ 24‬ساعة بالضبط‪ ,‬بل يقل عن ذلك ب بضعة دقائق و لهذا نلجأ إلى حذف يوم من شهر‬
‫فبراير كل سنة‪ .‬و لكن هذا الحذف ال يعوض الع اال بشكل تقريبي فقط‪ .‬فلو واصلنا على هذا منوال لبضعة مئات السنين‬
‫فسيقع تقويمنا في تأخر و هذا ما تهمله معظم الحسابات العلمية‪ .‬إضافة الى هذا فإن الدراسات الذرية لموت االشعاع و‬
‫التي تستعمل في تحديد عمر االجسام في علم التاريخ ليس في وسعها اعطاءنا العمر الحقيقي إال في مجال تقريبي مما‬
‫يصعب علينا معرفة العمر الفعل‪ .‬زد على ذلك قانون الغازات المثالية الذي يرفق بكل حجم معين من غاز في حرارة ما‬
‫ضغطا محددا‪ ,‬و هو قانون ال ينطبق إال على فئة محددة من الغازات و ال يصح استعماله في األوساط عالية الحرارة الن‬
‫الجزيئات تتحرك بسرعة كبيرة و بالتالي تقع حساباتنا ضحية لعدم الدقة و التقريب وقوعا ال مفر منه‪ .‬حيث يقول كميني‬
‫""إن ما نطلق عنه اسم القوانين العلمية هو صحيح تقريبيا فقط‬

‫ثالثا‪ ،‬يؤكد العديد من فالسفة ان منهج االستقراء غير مبرر‪ .‬و انه على الرغم من إمكانية االستنتاج و تعدية الجزء إلى الكل‪ ،‬فإن‬
‫العكس غير صحيح أي ال يجوز تعدية الحكم المدروس على الجزء أن يصح على الكل‪ .‬وهذا ما يفرض علينا ان نعتبر كل ما نعرفه‬
‫من العلم محض احتمال غير مؤكد‪ .‬فمثال إن دراسة الطقس و المناخ و محاولة التنبؤ ال تقوم إال وفق افتراضات و احتماالت كأقصى‬
‫تقدير وحتى لو شاهدنا الغيوم و الرياح اليوم متموضعة بنفس موضعها و بنفس سرعتها التي كانت عليها االمس‪ .‬ال يمكن الجزم أن‬
‫الطقس سيؤول غدا إلى نفس ما آل اليه اليوم‪ .‬و هذا دليل على نسبية مبدأ الحتمية و إفالت ظواهر عديدة من قبضتها‪ .‬والواضح أن‬
‫مبدأ االحتمال و العشوائية ليس حكرا على الفيزياء فقط بل يطغى على البيولوجيا و الكيمياء و حتى الفلك‪ .‬و تأكيدا على هذا يصرح‬
‫"هيوم "أن شروق الشمس اليوم ال يعني شروقها غدا‬

‫أخيرا‪ ,‬يمكن القول أن الحتمية يستحيل أن تكون مبدأ مطلقا نظرا لطباعنا البشري الساذج و المتسرع الذي يميل الى االفتراض انه‬
‫هناك قوانين تحكم كل ظاهرة حتى لو لم نكن ملمين بتلك الظاهرة‪ .‬أي اننا نؤمن بالحتمية أكثر مما نثبتها و هذا قد يؤدي الى وصولنا‬
‫لنتائج خاطئة و استباقية‪ .‬على سبيل المثال‪ ,‬افترض كل العلماء أن الكواكب كلها تخضع لنفس القانون الذي يصف حركتها و هو‬
‫قانون الجذب العام الخاص بنيوتن‪ .‬و على الرغم من صحة القانون في العديد من كواكب مجموعتنا الشمسية إال ان حصانته اندثرت‬
‫و تالشت عند تطبيقه على كوكب عطارد‪ .‬ذلك ألن إيماننا بالحتمية جعلنا نهمل سرعة الكوكب الزائدة التي تجعل من مساره الفلكي‬
‫استثناءا على القاعدة العامة‪ ,‬مما يثبت أن الكون ال يجري في نظام متسق كليا بل يميل إلى العشوائية و عنصر المفاجأة في العديد من‬
‫أنساقه‪ .‬و في هذا الخصوص نقتبس أدنغتون الذي قال "االيمان بوجود عالقة دقيقة صارمة في الطبيعة هو نتيجة الطابع الساذج‬
‫"الذي تتصف به معرفتنا للكون‬
‫‪:‬النقد‬

‫ال شك أن ما اوجدته الفيزياء المعاصرة من حجج كان منطقيا و مقنعا‪ .‬و ال ننكر العشوائية التي تظهر في العالم الذري و تجعل من‬
‫الحتمية مبدأ غير مطلق‪ .‬إال انهم اهملوا ما وصل اليه الفيزيائيون الكالسيكيون من قوانين صارمة ال تزال مستعملة حتى يومنا على‬
‫الرغم من كونها تقريبية‪ .‬كما انهم اهملوا ضعف الوسائل التجريبية التي من شانها ان تصعب علينا رؤية الجسيمات الدقيقة و‬
‫‪.‬مالحظتها بشكل مفصل حيث ان مبدأ الشك لهايزنبرغ يمكن ان يتم دحضه في المستقبل أذا ما تطورت الوسائل و التقنيات‬

‫‪:‬التركيب‬

‫في سبيل تهذيب هذا الجدال‪ ,‬يتعين علينا ان نقر بأن الفيزياء المعاصرة ال تهدم الفيزياء الكالسيكية بل تبني عليها و‬
‫تضفي عليها مجموعة من المعارف الجديدة‪ .‬فمثال يمكن القول ان العالم الميكرو فيزيائي ينفرد بالعشوائية و عدم اليقين‬
‫بينما العالم الماكرو فيزيائي الذي نعايشه يمتاز بالحتمية و الثبات‪ .‬إضافة إلى هذا يمكن اعتبار مبدأ الحتمية مبدا صحيحا‬
‫‪.‬لكن وفق تقريبات و احتماالت ال مفر منها نظرا للنقص الملحوظ في األجهزة و الوسائل التي نعتمد عليها اليوم‬
‫أخيرا‪ ,‬إن خضوع الكون لمبدأ الحتمية من عدمه ال يعني بالضرورة أن نتائج العلم مشكوك فيها و ان قيمة الحقيقة العلمية‬
‫مشوبة‪ ,‬بل هو دعوة للعلماء على تقبل الظواهر الكونية بما تحمله من غموض و عشوائية مع تجنب الثقة المفرطة التي‬
‫‪.‬تحصر فكرنا في احكام مسبقة و كنتيجة تؤدي بنا لأليمان و التصديق بما ال أساس له من الصحة‬

‫‪:‬خاتمة و حل المشكلة‬
‫ختاما‪ .‬نستنتج أن موضوع الحتمية و نتائج العلم لم يكم واضحا في حد ذاته بل غلب عليه الطابع الجدلي‪ .‬غير أن مقاربة‬
‫السؤال الذي اثار هذا االختالف بشيء من التحليل و التفصيل جعلنا ندرك أن الحتمية ليست بالضرورة مطلقة في كل‬
‫المجاالت خصوصا الذرية المجهرية‪ .‬و في نفس الوقت أن التقريب و نقص دقة نتائج العلوم التي وصل اليها الجنس‬
‫البشري على مر العصور ليس معيارا كافيا للحكم على يقينها‪ .‬ذلك ألن العالم أو ما يلجأ اليه من وسائل هو المسؤول عن‬
‫‪.‬بعض األخطاء و ال يستلزم بالضرورة أن نتائج العلم متغيرة لوحدها‬

You might also like