Professional Documents
Culture Documents
منهجية السؤال مع نموذج
منهجية السؤال مع نموذج
منهجية السؤال مع نموذج
عبد العزيز ايعيش /ثانوية سيدي داود /الثانية بكالوريا علوم رياضية وعلوم فيزيائية
اإلنسان كائن معرفي بامتياز ،إنه ال يقبل أن يعيش في هذا العالم كمعطى طبيعي مباشر ،بل يسعى إلى فهمه ومعرفة
قوانينه ،وتظل الغاية األساسية من كل فعل معرفي يقوم به اإلنسان ،هي الوصول إلى الحقيقة .فعندما نتأمل كل أشكال الفكر
والخطاب فإننا سنجد أن االنسان يفكر ،ويتكلم ويقرأ من أجل الحقيقة .فهي الغاية والمقصد والهدف .غير أن سؤال الحقيقة
يضعنا أمام مفارقة فلسفية ترتبط بعالقة الرأي بالحقيقة ،فإذا كانت الحقيقة تقوم على منهج يتجاوز اآلراء ،فان بعض حقائق
اليوم كانت عبارة عن اراء باألمس .فما الحقيقة؟ وما الرأي؟ وما طبيعة العالقة بينهما؟ هل الحقيقة تتعارض دائما مع الراي
أم أنه يمكن االنطالق من الرأي لتأسيس الحقيقة؟
يحمل السؤال مفهومين أساسيين هما الرأي والحقيقة .وهي مفاهيم تنتمي إلى الحقل الفلسفي المعرفي االبستمولوجي،
حيث يشير الرأي الى االعتقاد بصحة قول ما ،كما يطلق مصطلح الراي على مجموع المعارف المتداولة والمشتركة ،والتي
يسلم الناس بصوابها ألنها تتوافق مع الرغبة والحس المشترك ويقوم على االحتمال ،خالفا للحقيقة التي تشير حسب معجم
الالند ،إلى تلك القضية الصادقة واليقينية المبرهنة عليها ،فهي نقيض الكذب والظن والوهم .وقد جاء السؤال بصيغة هل
وهي أداة استفهام تفيد االختيار بين إمكانيتين أو أكثر .وقد وظفت في هذا السؤال ،للتفكير في طبيعة العالقة بين الراي
والحقيقة.
إن الحقيقة تتعارض مع الرأي ،إذ ال يمكن الوصول إلى الحقيقة كشيء ثابت وجوهري استنادا إلى اآلراء التي تتميز بالتنوع
والتعدد والتغير ،حيث يعتقد أغلب الناس أن ما يرونه حقيقي ،إال أن العلم في كل مرة يقلب أوهامنا ،ويكشف لنا أن أغلب ما
اعتقدناه حقيقي ليس سوى رأي ومعرفة ظنية ال ترقى الى مستوى اليقين.
إن انتشار الرأي ال يعني بالضرورة أنه حقيقي ،فالتاريخ كشف لنا عن اراء عمرت طويال وكانت عبارة عن أخطاء فادحة،
فإذا كانت الحقيقة تقوم على ضوابط منهجية منظمة وصارمة ،فإن الرأي مجرد معطى جاهز ،كما أن الرأي يتسم بالذاتية
ويرتبط بالمصلحة والمنفعة اليومية لإلنسان .خالفا للحقيقة والمعرفة العلمية التي تتسم بالموضوعية ،وقد عبر غاستون باشالر
عن ضرورة القطع مع الرأي بقوله " ال يمكن تأسيس أي شيء على الرأي ،بل ينبغي هدمه ،فالرأي أول عائق يجب تخطيه
"يعني أنه ال يمكن الثقة في اآلراء ألنها مصدر الوهم ،لذلك دعا ديكارت إلى مراجعة اآلراء السابقة واألحكام التي تلقيناها من
المجتمع من خالل الشك المنهجي ،ألن الحقيقة تقوم على البرهان ،فكما انه ال يمكن بناء منزل قوي على ركام منزل هش ،فال
يمكن بناء الحقيقة والمعرفة الصلبة اليقينية على اآلراء واالحكام المسبقة .ويمكن أن نستدل بمثال أسطورة الكهف التي تبين
ضرورة التحرر من اآلراء التي تلقاها اإلنسان منذ صغره ،فما الكهف إال المجتمع ،وما الظالل اال األوهام التي نشأت عن
التربية والتلقي ،وبالعودة الى الواقع اإلنساني نجد أن مواقع التواصل االجتماعي تعج بالعديد من اآلراء الشائعة التي يأخذها
عدد من الناس على أنها حقائق ،أما الباحث عن الحقيقة فيخضعها للنقد والتفكير والمساءلة.
تتطلب الحقيقة القطع مع اآلراء واعتماد منهج دقيق ،وهذا يضفي عليها قيمة معرفية ومنهجية منظمة ،مادامت تقوم على
أسس قوية ومتينة .لكن اال يساهم الراي في بناء الحقائق؟ الم تكن معظم حقائق اليوم مجرد اراء باألمس؟
إن الرأي ليس دائما متعارضا مع الحقيقة ،بل قد يشكل إحدى الطرق الموصلة إليها .فالمعرفة العلمية قبل أن تكون حقيقة،
كانت تقوم في البداية على الرأي واإلحتمال واالفتراض ،مما يفيد بأن الرأي يشكل مدخال لبلوغ اليقين والحقيقة .لقد لعب
الراي دورا أساسيا في تاريخ المعرفة ،فرأي كوبرنيك حول دوران األرض وجد معارضة قوية آنذاك ،لكن رأيه تحول إلى
حقيقة تجريبية فيما بعد ،وهذا ما أكده الفيلسوف اليبنتز ،الذي دافع عن الرأي كمصدر من مصادر الفهم واإلدراك .فبفضل
خاصيته االحتمالية يظل الرأي يقوم بدور أساسي في مجال المعرفة ويؤدي إلى توسيع دائرة العقل البشري ،وتطوير إمكانيات
البحث عن الحقيقة ،وهو األمر الذي يمكن القيام به في العلوم اإلنسانية ،بل حتى العلوم نفسها على أنها برهانية .كما أن الرأي
هو وسيلة المعرفة في العديد من القضايا التي لم يتم الحسم فيها .يل يمكن القول أن نفي دور الراي والغائه ،سينتج عنه حتما
الغاء الكثير من الحقائق التاريخية واإلنسانية .ويكشف لنا الواقع اإلنساني أن العقل والتجارب ليست المصدر الوحيد للمعرفة
أو الحقيقة ،بل للقلب وللمشاعر واالحاسيس واآلراء دور أساسي في هذه المعرفة .فقد يحدث مثال أن تشعر األم بانقباض
نفسي يوحي بأن ولدها أصابه مكروه معه ،فيكون هذا الشعور أو الرأي الذاتي صحيحا وصادقا.
يبدو من خالل التحليل والمناقشة أن عالقة الحقيقة بالرأي تتسم فلسفي وابستمولوجي معقد ومركب ،فإذا كان الراي مصدرا
للوهم والخطأ والظن من المنظور الفلسفي عند ديكارت ،وعائقا معرفيا من المنظور االبستمولوجي عند باشالر ،فإنه يظل احتماال
من احتماالت المعرفة والحقيقة ،كما أكد اليبنتز .غير أنه يمكن القول أن الرأي يساعد في معرفة الحقيقة اذا كان نابعا من التفكير
والنقد .وقد يشكل فرصة تدفع للبحث والتحقق باآلليات العلمية الدقيقة .لذلك ينبغي أن نميز بين رأي العلماء القائم على التفكير
والتأمل أوالتجربة ،وبين الرأي الشعبي أو االجتماعي القائم على الموروث والتقليد والتلقي .وحتى ال يقع اإلنسان ضحية وهم أو
خداع .يجب اخضاع الراي لمعايير تسمح له بالفحص والتمييز.