Professional Documents
Culture Documents
Cours 4 L3 1
Cours 4 L3 1
سيجد كثير من اآلباء واألمهات في كتاب جوناثان هايدت ،أستاذ مقعد توماس كولي للقيادة األخالقية
في كلية ستيرن لألعمال بجامعة نيويورك ،والمعنون «الجيل القلق :كيف أطلق التحول في تشكيل
خبرات الطفولة وباء من األمراض العقلية» -دار «أين لين» - 2024 ،ما يؤكد أش ّد مخاوفهم بشأن
التأثير السلبي لألجهزة اإللكترونية الحديثة ،ال سيما الهواتف الذكيّة والكومبيوترات اللوحية ،على
يقدّم عالم النفس االجتماعي األميركي ومؤلف العديد من الكتب حول الصحة العقلية في الغرب ،سلّة
زيادة معدالت القلق ،واالكتئاب ،والكسل ،وفقدان االهتمام ،وإيذاء النفس ،وحاالت االنتحار لدى
المراهقين في العديد من بلدان العالم ،مع تراجع ملموس في المهارات االجتماعيّة والقدرة على
التواصل المباشر مع اآلخرين ،وذلك مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي (مطلع عام .)2010
ويقول هايدت إن تلك اللحظة المفصليّة ارتبطت بانتشار الهواتف الذكيّة ،وتوسع تعاطي األجيال الجديدة
مع مواقع التواصل االجتماعي على اإلنترنت ،توازيا ً مع تراجع كميّة اللّعب الحر التي يتمتع بها
المراهقون بسبب اتجاه األهالي إلى تجنيب أبنائهم وبناتهم التجول بحرية خوفا ً من انتشار الجريمة
والمخدرات ،وأن العالقات العائليّة -أقلّه من النماذج التي اطلع عليها في الغرب -اتسمت بتوترات
1
أقداح ثقة زائدة احتستها
ٍ بحسب هايدت ،فإن رواد صناعة التكنولوجيا الرقميّة الذين تجرعوا من ذات
النّخبة األميركيّة في أجواء انتهاء الحرب الباردة بانهيار االتحاد السوفياتي ( ،)1991انطلقوا ،كأبطال
أو آلهة ،بال روادع إال إرادتهم الذاتية ،في التربح من التأسيس لما صار يُعرف بفضاء (اإلنترنت)
المادية التي لم تتغير كثيرا ً منذ انتشار التلفزيون في الخمسينات من القرن العشرين.
منتجات هذه المرحلة لم تغيّر من إحساس الراشدين بالعالم فحسب ،وإنما أيضا ً مسّت األطفال
والمراهقين الذين يعيشون بحكم تطورهم البيولوجي مراحل من الهشاشة والسيولة العقليّة تجعلهم عجينة
طيعة في يد نوع من الرأسماليّة المنفلتة من كل عقال :شركات مواقع التواصل االجتماعي التي يح ّملها
يدا ً بيد مع المواقع اإلباحيّة ،تدمير الصحة العقليّة للمراهقين الذكور من خالل خوارزميات جبارة قادرة
على توريط الصغار في لجج من اإلدمان على المحتوى المتجدد لحظيا ً بال نهاية.
يقول هايدت الذي بدأ بتتبع اإلحصائيات حول الصحة العقلية للمراهقين األميركيين أثناء إعداد كتابه
السابق حول «الدّالل الذي يتلقاه العقل األميركي» بأن ثمة إشارات محدودة على حدوث تغير في
مستويات المعاناة النفسية لدى صغار السن مع بداية القرن الحادي والعشرين.
لكن العقد التالي ،أي في السنوات ،2010 - 2000شهد صعودا ً متسارعا ً الستعمال األجهزة اإللكترونية
الشخصيّة مع توسع قاعدة مستعملي اإلنترنت ،وظهور النماذج األولى من تطبيقات التواصل االجتماعي
المزودة بالكاميرات التي تسمح بالتقاط الصور الذاتية ،وتاليا ً ابتالع العمالق «فيسبوك» لتطبيق
2
في هذه المرحلة غدا نجاح المراهقين في محيطهم االجتماعي مرتبطا ً أكثر ما يكون بقدرتهم على تقديم
ذواتهم لآلخرين من خالل منصات التواصل االفتراضي ،والحصول على الرضا الذاتي عبر التقبّل
الفوري من هؤالء اآلخرين الغرباء من خالل «اإلعجابات» ،حتى لم يعد مستغربا ً أن يفضّل
ّ والتعزيز
ي.
عديدون منهم الفناء الجسدي (االنتحار) على الفضيحة في الفضاء االفتراض ّ
يرى هايدت أن ذلك تسبب بإنفاق المراهقين سحابة نهاراتهم وخالصة وعيهم في إدارة معالم صورهم
الشخصية على المواقع االفتراضيّة ،حتى إن ما يقرب من نصف المراهقين في الواليات المتحدة يظلّون
على اتصال شبه دائم باإلنترنت طوال 24ساعة في اليوم ،مع إشارات حاسمة إلى أن قضاء أكثر من 5
ساعات يوميا ً على وسائل التواصل يؤدي إلى حالة االكتئاب السريري الحاد في 40في المائة من
لقد أغرق ذلك كله الجيل الجديد من مواليد ما بعد (1996أو ما يسميه الخبراء بالجيل )» «Zفي لجة
ساحقة من متاعب الصحة العقليّة ،فارتفعت بينهم حاالت القلق المستعصية (نموذج الواليات المتحدة
حيث تتوفر اإلحصاءات) ،بنسبة 134في المائة منذ عام ،2010وحاالت االكتئاب اإلكلينيكي بـ106
في المائة ،وفقدان الشهية العصابي بـ 100في المائة ،وحاالت نقص االنتباه وفرط الحركة بـ 72في
المائة ،والشيزوفرانيا بـ 67في المائة ،واضطراب ثنائي القطبية بـ 57في المائة ،وإدمان المواد المخدرة
ويعتقد هايدت أن هذه الموجة وبائيّة الطابع وجدت لها أرضا ً خصبة في توجه اآلباء واألمهات
المعاصرين (في الغرب) إلى اإلفراط في اإلشراف على كل جانب من جوانب حياة أطفالهم خارج
الفضاء السيبيري ،وتقليص فرص اللّعب الحر في العالم الواقعي أمامهم؛ ما يحرمهم من الخبرات
والمهارات التي يحتاجون إليها لتطوير قدر أكبر من المرونة والخبرات الالزمة لمستقبلهم ،ويدفعهم
3
بالنتيجة إلى قضاء مزيد من الوقت أمام الشاشات (على تعدد أشكالها) ،بدالً من اغتنام الفرص للتفاعل
هايدت ،الذي يمتلك الشجاعة إلدانة خذالن اآلباء واألمهات للجيل الجديد وتركه فريسة لشركات
التكنولوجيا المتوحشة دون حماية تذكر ،ينتهي ،في «الجيل القلق» إلى تقديم قائمة من الحلول التي
يراها ممكنة للتعامل مع األزمة ،لكنّه ،وتماما ً كما يليق بكاتب أميركي من نخبة واشنطن ،ال يقترب من
اقتراح تغييرات بنيوية تمس أسس المنظومة التي مكنّت لألزمة ،ويكتفي بالدعوة إلى إجراءات
إصالحية ،مثل السماح بمزيد من وقت التسكع واللعب الحر غير الخاضع لإلشراف المباشر ،كي يتسنى
للمراهقين اكتساب المهارات االجتماعية األساسيّة وبناء ثقتهم الذاتية بأنفسهم للمضي نحو االستقالل،
ومنع حصول األطفال دون 14على الهواتف الذكيّة ،والمراهقين دون 16عاما ً من التجوال في مواقع
وهو يرى ضرورة بناء تحالف مجتمع مدني فاعل بين كل من اآلباء /األمهات ومدارس أنجالهم بحيث
يضغط كل من الطرفين على اآلخر لتبني سياسات تقلل من تعرض األطفال والمراهقين لجبروت
الشاشات شركات التكنولوجيا ،بما في ذلك منع استخدام التليفونات الذكية والكومبيوترات اللوحية
الشخصيّة داخل حرم المدارس ،وتوفير أماكن لتخزين ما قد يحملونها منها ،وذلك لحماية وتعزيز فرص
التفاعل الشخصي بين التالميذ ،والتّعلم من التجارب في إطار بيئة آمنة ليصبحوا راشدين أصحاء.
االستنتاجات في «الجيل القلق» يمكن نقدها دائما ً من زاوية تعقيد أمراض الصحة العقلية ،وتعدد
العوامل التي قد تكون وراءها ،ما قد يقلل من حجم مساهمة الهواتف الذكية تحديدا ً في إثارة المصاعب
النفسيّة لدى الجيل الجديد .لكن المؤكد أن تلك الهواتف (والشاشات عموماً) على أهميتها الفائقة للحضارة
المعاصرة ،لعبت دورا ً محوريا ً في تشويه النمو السيكولوجي لجيل كامل من المراهقين في القرن الحادي
4
والعشرين ،وأن صرخة هايدت ،الخجولة (لكن المدججة باإلحصائيات واألرقام) لترشيد استعمالها ،يجب
أال يتالشى صداها سريعاً ،وإال كنا شهودا ً على ت َْركنا الكوكب في عهدة جيل قلق ،ومتأزم.
5