Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 5

‫“الجيل القَ ِلق” ‪ ...

‬كيف شوهته األجهزة اإللكترونية؟‬

‫الحاالت المستعصية في أميركا ارتفعت ‪ % 134‬منذ ‪2010‬‬

‫سيجد كثير من اآلباء واألمهات في كتاب جوناثان هايدت‪ ،‬أستاذ مقعد توماس كولي للقيادة األخالقية‬

‫في كلية ستيرن لألعمال بجامعة نيويورك‪ ،‬والمعنون «الجيل القلق‪ :‬كيف أطلق التحول في تشكيل‬

‫خبرات الطفولة وباء من األمراض العقلية» ‪ -‬دار «أين لين»‪ - 2024 ،‬ما يؤكد أش ّد مخاوفهم بشأن‬

‫التأثير السلبي لألجهزة اإللكترونية الحديثة‪ ،‬ال سيما الهواتف الذكيّة والكومبيوترات اللوحية‪ ،‬على‬

‫الصحة النفسية والحياة االجتماعيّة ألبنائهم وبناتهم‪.‬‬

‫يقدّم عالم النفس االجتماعي األميركي ومؤلف العديد من الكتب حول الصحة العقلية في الغرب‪ ،‬سلّة‬

‫تحول نوعي وبائي األبعاد في‬


‫من اإلحصائيات والدالئل الموثقة التي تتقاطع لإلشارة إلى تحقق ّ‬

‫زيادة معدالت القلق‪ ،‬واالكتئاب‪ ،‬والكسل‪ ،‬وفقدان االهتمام‪ ،‬وإيذاء النفس‪ ،‬وحاالت االنتحار لدى‬

‫المراهقين في العديد من بلدان العالم‪ ،‬مع تراجع ملموس في المهارات االجتماعيّة والقدرة على‬

‫التواصل المباشر مع اآلخرين‪ ،‬وذلك مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي (مطلع عام ‪.)2010‬‬

‫شاشات أكثر‪ ...‬لعب أقل‬

‫ويقول هايدت إن تلك اللحظة المفصليّة ارتبطت بانتشار الهواتف الذكيّة‪ ،‬وتوسع تعاطي األجيال الجديدة‬

‫مع مواقع التواصل االجتماعي على اإلنترنت‪ ،‬توازيا ً مع تراجع كميّة اللّعب الحر التي يتمتع بها‬

‫المراهقون بسبب اتجاه األهالي إلى تجنيب أبنائهم وبناتهم التجول بحرية خوفا ً من انتشار الجريمة‬

‫والمخدرات‪ ،‬وأن العالقات العائليّة ‪ -‬أقلّه من النماذج التي اطلع عليها في الغرب ‪ -‬اتسمت بتوترات‬

‫وخالفات تمحورت أساسا ً حول التكنولوجيا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أقداح ثقة زائدة احتستها‬
‫ٍ‬ ‫بحسب هايدت‪ ،‬فإن رواد صناعة التكنولوجيا الرقميّة الذين تجرعوا من ذات‬

‫النّخبة األميركيّة في أجواء انتهاء الحرب الباردة بانهيار االتحاد السوفياتي (‪ ،)1991‬انطلقوا‪ ،‬كأبطال‬

‫أو آلهة‪ ،‬بال روادع إال إرادتهم الذاتية‪ ،‬في التربح من التأسيس لما صار يُعرف بفضاء (اإلنترنت)‬

‫تواز مع التجربة البشرية‬


‫ٍ‬ ‫السيبيري‪ ،‬أي ذلك العالم االفتراضي الجديد‪ ،‬المتخم بالوعود واإلمكانات في‬

‫المادية التي لم تتغير كثيرا ً منذ انتشار التلفزيون في الخمسينات من القرن العشرين‪.‬‬

‫منتجات هذه المرحلة لم تغيّر من إحساس الراشدين بالعالم فحسب‪ ،‬وإنما أيضا ً مسّت األطفال‬

‫والمراهقين الذين يعيشون بحكم تطورهم البيولوجي مراحل من الهشاشة والسيولة العقليّة تجعلهم عجينة‬

‫طيعة في يد نوع من الرأسماليّة المنفلتة من كل عقال‪ :‬شركات مواقع التواصل االجتماعي التي يح ّملها‬

‫ي‪ ،‬مقابل منتجي ألعاب الفيديو الذين تولوا‪،‬‬


‫هايدت مسؤولية إفساد نفسيات المراهقات اإلناث بشكل أساس ّ‬

‫يدا ً بيد مع المواقع اإلباحيّة‪ ،‬تدمير الصحة العقليّة للمراهقين الذكور من خالل خوارزميات جبارة قادرة‬

‫على توريط الصغار في لجج من اإلدمان على المحتوى المتجدد لحظيا ً بال نهاية‪.‬‬

‫يقول هايدت الذي بدأ بتتبع اإلحصائيات حول الصحة العقلية للمراهقين األميركيين أثناء إعداد كتابه‬

‫السابق حول «الدّالل الذي يتلقاه العقل األميركي» بأن ثمة إشارات محدودة على حدوث تغير في‬

‫مستويات المعاناة النفسية لدى صغار السن مع بداية القرن الحادي والعشرين‪.‬‬

‫لكن العقد التالي‪ ،‬أي في السنوات ‪ ،2010 - 2000‬شهد صعودا ً متسارعا ً الستعمال األجهزة اإللكترونية‬

‫الشخصيّة مع توسع قاعدة مستعملي اإلنترنت‪ ،‬وظهور النماذج األولى من تطبيقات التواصل االجتماعي‬

‫(«فيسبوك» ‪ 2004‬و«تويتر» ‪ ،)2006‬ووصلت ذروتها في عام ‪ 2010‬مع انطالق الهواتف الذكية‬

‫المزودة بالكاميرات التي تسمح بالتقاط الصور الذاتية‪ ،‬وتاليا ً ابتالع العمالق «فيسبوك» لتطبيق‬

‫«إنستغرام»‪ ،‬الذي أصبح األكثر شعبية حينئذ بين المراهقين‪.‬‬

‫إدارة الصورة الشخصية‬

‫‪2‬‬
‫في هذه المرحلة غدا نجاح المراهقين في محيطهم االجتماعي مرتبطا ً أكثر ما يكون بقدرتهم على تقديم‬

‫ذواتهم لآلخرين من خالل منصات التواصل االفتراضي‪ ،‬والحصول على الرضا الذاتي عبر التقبّل‬

‫الفوري من هؤالء اآلخرين الغرباء من خالل «اإلعجابات»‪ ،‬حتى لم يعد مستغربا ً أن يفضّل‬
‫ّ‬ ‫والتعزيز‬

‫ي‪.‬‬
‫عديدون منهم الفناء الجسدي (االنتحار) على الفضيحة في الفضاء االفتراض ّ‬

‫يرى هايدت أن ذلك تسبب بإنفاق المراهقين سحابة نهاراتهم وخالصة وعيهم في إدارة معالم صورهم‬

‫الشخصية على المواقع االفتراضيّة‪ ،‬حتى إن ما يقرب من نصف المراهقين في الواليات المتحدة يظلّون‬

‫على اتصال شبه دائم باإلنترنت طوال ‪ 24‬ساعة في اليوم‪ ،‬مع إشارات حاسمة إلى أن قضاء أكثر من ‪5‬‬

‫ساعات يوميا ً على وسائل التواصل يؤدي إلى حالة االكتئاب السريري الحاد في ‪ 40‬في المائة من‬

‫الحاالت على األقل‪ ،‬ال سيّما بين الفتيات المراهقات‪.‬‬

‫لقد أغرق ذلك كله الجيل الجديد من مواليد ما بعد ‪ (1996‬أو ما يسميه الخبراء بالجيل )»‪ «Z‬في لجة‬

‫ساحقة من متاعب الصحة العقليّة‪ ،‬فارتفعت بينهم حاالت القلق المستعصية (نموذج الواليات المتحدة‬

‫حيث تتوفر اإلحصاءات)‪ ،‬بنسبة ‪ 134‬في المائة منذ عام ‪ ،2010‬وحاالت االكتئاب اإلكلينيكي بـ‪106‬‬

‫في المائة‪ ،‬وفقدان الشهية العصابي بـ‪ 100‬في المائة‪ ،‬وحاالت نقص االنتباه وفرط الحركة بـ‪ 72‬في‬

‫المائة‪ ،‬والشيزوفرانيا بـ‪ 67‬في المائة‪ ،‬واضطراب ثنائي القطبية بـ‪ 57‬في المائة‪ ،‬وإدمان المواد المخدرة‬

‫بـ‪ 33‬في المائة‪.‬‬

‫ويعتقد هايدت أن هذه الموجة وبائيّة الطابع وجدت لها أرضا ً خصبة في توجه اآلباء واألمهات‬

‫المعاصرين (في الغرب) إلى اإلفراط في اإلشراف على كل جانب من جوانب حياة أطفالهم خارج‬

‫الفضاء السيبيري‪ ،‬وتقليص فرص اللّعب الحر في العالم الواقعي أمامهم؛ ما يحرمهم من الخبرات‬

‫والمهارات التي يحتاجون إليها لتطوير قدر أكبر من المرونة والخبرات الالزمة لمستقبلهم‪ ،‬ويدفعهم‬

‫‪3‬‬
‫بالنتيجة إلى قضاء مزيد من الوقت أمام الشاشات (على تعدد أشكالها)‪ ،‬بدالً من اغتنام الفرص للتفاعل‬

‫مع أقرانهم وجها ً لوجه‪ ،‬وفي الوقت الفعلي‪.‬‬

‫حلول ألزمة «الجيل القلق»‬

‫هايدت‪ ،‬الذي يمتلك الشجاعة إلدانة خذالن اآلباء واألمهات للجيل الجديد وتركه فريسة لشركات‬

‫التكنولوجيا المتوحشة دون حماية تذكر‪ ،‬ينتهي‪ ،‬في «الجيل القلق» إلى تقديم قائمة من الحلول التي‬

‫يراها ممكنة للتعامل مع األزمة‪ ،‬لكنّه‪ ،‬وتماما ً كما يليق بكاتب أميركي من نخبة واشنطن‪ ،‬ال يقترب من‬

‫اقتراح تغييرات بنيوية تمس أسس المنظومة التي مكنّت لألزمة‪ ،‬ويكتفي بالدعوة إلى إجراءات‬

‫إصالحية‪ ،‬مثل السماح بمزيد من وقت التسكع واللعب الحر غير الخاضع لإلشراف المباشر‪ ،‬كي يتسنى‬

‫للمراهقين اكتساب المهارات االجتماعية األساسيّة وبناء ثقتهم الذاتية بأنفسهم للمضي نحو االستقالل‪،‬‬

‫ومنع حصول األطفال دون ‪ 14‬على الهواتف الذكيّة‪ ،‬والمراهقين دون ‪ 16‬عاما ً من التجوال في مواقع‬

‫التواصل االجتماعي على اإلنترنت‪.‬‬

‫وهو يرى ضرورة بناء تحالف مجتمع مدني فاعل بين كل من اآلباء‪ /‬األمهات ومدارس أنجالهم بحيث‬

‫يضغط كل من الطرفين على اآلخر لتبني سياسات تقلل من تعرض األطفال والمراهقين لجبروت‬

‫الشاشات شركات التكنولوجيا‪ ،‬بما في ذلك منع استخدام التليفونات الذكية والكومبيوترات اللوحية‬

‫الشخصيّة داخل حرم المدارس‪ ،‬وتوفير أماكن لتخزين ما قد يحملونها منها‪ ،‬وذلك لحماية وتعزيز فرص‬

‫التفاعل الشخصي بين التالميذ‪ ،‬والتّعلم من التجارب في إطار بيئة آمنة ليصبحوا راشدين أصحاء‪.‬‬

‫االستنتاجات في «الجيل القلق» يمكن نقدها دائما ً من زاوية تعقيد أمراض الصحة العقلية‪ ،‬وتعدد‬

‫العوامل التي قد تكون وراءها‪ ،‬ما قد يقلل من حجم مساهمة الهواتف الذكية تحديدا ً في إثارة المصاعب‬

‫النفسيّة لدى الجيل الجديد‪ .‬لكن المؤكد أن تلك الهواتف (والشاشات عموماً) على أهميتها الفائقة للحضارة‬

‫المعاصرة‪ ،‬لعبت دورا ً محوريا ً في تشويه النمو السيكولوجي لجيل كامل من المراهقين في القرن الحادي‬

‫‪4‬‬
‫والعشرين‪ ،‬وأن صرخة هايدت‪ ،‬الخجولة (لكن المدججة باإلحصائيات واألرقام) لترشيد استعمالها‪ ،‬يجب‬

‫أال يتالشى صداها سريعاً‪ ،‬وإال كنا شهودا ً على ت َْركنا الكوكب في عهدة جيل قلق‪ ،‬ومتأزم‪.‬‬

‫‪5‬‬

You might also like