Professional Documents
Culture Documents
البحث كاملا
البحث كاملا
1
الفصل التمهيدي :التعريف بالشاعر والديوان:
إن التطرق لحياة الشاعر ،وتتبع مراحل نشأته هو بحث في تاريخ األدب ،لكنه مؤثر بشكل
كبير على نتاجه األدبي ،فمن خالل تتبع نشأته ،والتعرف على بيئته ،واإلحاطة بمحيطه
نخلُص إلى تحليل نصوصه الشعرية ،بل ونعلل لكل ظاهرة في شعره ،لذا ،كان البد من
الوقوف على حياة محمود شريف لمعرفة مدى تأثير البيئة التي عاش فيها على شعره.
المبحث األول :حياة الشاعر محمود شريف.
المطلب األول :مولده ونشأته.
أوال :مولده وحياته االجتماعية:
الشاعر هو محمود شريف محمد نور ،شاعر تشادي الجنسية ،من قبيلة القرعان،
وينتمي إلى فرع الكريدا ،من بطن يوردا من عشيرة النجوم ،ووالدته فاطمة عبد الرحمن
عيسى ،وهي ابنة عم والده.
ولد محمود شريف يوم الخميس 71 1أبريل 7891م ،بمدينة جدة ،بالمملكة العربية
السعودية ،وله عشرة إخوة ،أربعة بنين ،وست بنات ،وهو الثالث في ترتيب إخوته.
ثانيا :نشأته:
نشأ محمود حيث ولد ،في مدينة جدة ،حيث عاش طفولته هناك ،وكان لألسرة دورها
الكبير في الدفع به في المسار األكاديمي ،وتنمية مواهبه ،ثم عادت األسرة إلى تشاد حيث
استقرت بالعاصمة أنجمينا.3
ثالثا :أخالقه:
1
بشارة ،يوسف عبدالرحمن ،االتجاهات الشعرية عند محمود شريف ،من خالل ديوانه "ظالل القوافي" ،بحث أعد لنيل درجة دبلوم الدراسات
المعمقة في األدب والنقد ،جامعة الملك فيصل ،كلية الدراسات العليا ،قسم اللغة العربية ،جمهورية تشاد/أنجمينا ،العام الجامعي 1121-1122م،
ص.1
2
سيرة ذاتية للشاعر بخط يده ص.2
3
المرجع السابق ،ص.2
2
محمود شريف شاب دمث األخالق ،طيب الطباع ،هادئ سكوت ال يتكلم فيما ال يعنيه،
يحترمه كل من حوله ،غزير العلم إن تحدث أقنع ،ملم باللغة والتاريخ ،يعتبر قدوة للكثير من
الشباب الناشئين المحيطين به.
-1مهاراته:
أ -البرمجيات:
ب -اللغات:
-الفرنسية :مبتدئ.
-اإلنجليزية :مبتدئ.
-التركية :مبتدئ.1
-2هواياته:
يهوى محمود شريف –إلى جانب القراءة والكتابة -لعب كرة القدم ومشاهدتها ،واللعب
باأللعاب اإللكترونية ،كما يحب رسم شخوص الرسوم المتحركة ,2والذي نبع حتما من
مشاهدته للرسوم المتحركة.
1
المرجع السابق نفسه ،ص.5
2
مراسلة إلكترونية مع الشاعر ،عبر تطبيق واتساب 11 ،أغسطس 1112م.
3
العملية. ِ
المطلب الثاني :حياته العلمية و َ
أوال :حياته ِ
العلمية:
-1تعليمه الديني:
بدأ محمود شريف تعليمه بالقرآن الكريم ،تعلم القرآن بحلقة أنس بن مالك بمدينة جدة
على يد المقرئ الشيخ محمد جمال وهو سوري الجنسية ،بمسجد أنس بن مالك رضي هللا
عنه ،وكان ذلك عام 2991م ،1وق أر عليه من سورة الفاتحة إلى سورة النمل ،وبعد السفر
إلى تشاد في أواخر 7889م أكمله على يد الشيخ سليمان محمد بن محمد بشارة في حارة
وجي بالعاصمة التشادية أنجمينا.2
ُق ّ
والتحق أيضا بدروس الشيخ يحيى خليل بمسجد معاذ بن جبل ،ودرس على الشيخ آدم
محمد علي في حلقته بمسجد أسامة بن زيد ،وواظب على درس الشيخ عبد هللا محمد زين
ثال ث سنوات ،كما درس على الدكتور شريف علي جبريل ،والشيخ عبد الرحمن بن يوس
الرحمة ،والشيخ صالح هارون أبكر ،وغيرهم من المشايخ ،وتنوعت الدروس بين العلوم
الشرعية ،ودورس اللغة العربية.3
-2تعليمه األكاديمي:
في عام 7881م التحق بالتعليم األكاديمي وبعد المعاينة ُ
س ّجل في الصف الثاني
االبتدائي ،لمعرفته المسبقة لقواعد القراءة والكتابة األولية.4
ولم يزل في هذه المدرسة حتى الصف الرابع االبتدائي ،وفي عام 2991م سافرت
العائلة إلى تشاد ،فلم يستقر به المقام حتى انتسب إلى المركز اإلسالمي الكويتي والذي ُ
غير
اسمه فيما بعد إلى المركز الكويتي ،وحينما تقدم للتسجيل قُ ِبل في الصف الثالث االبتدائي
رغم أنه يحمل شهادة الصف الرابع االبتدائي ،وزال عجبه حينما علم أن القسم االبتدائي
بالمركز الكويتي افتتح مؤخرا ،ولم تكتمل فصوله الستة بعد ،وواصل الدراسة النظامية في
1
االتجاهات الشعرية عند محمود شريف ،مرجع سبق ذكره ،ص.1
2
سيرة ذاتية للشاعر ،ص.2
3
المرجع السابق نفسه ،ص.1
4
االتجاهات الشعرية عند محمود شريف ،مرجع سبق ذكره ،ص.1
4
هذه المرحلة حتى نال شهادتها االبتدائية عام 1111م ،وتعد دفعته هي األولى للقسم
االبتدائي لهذه المرحلة ومن الطريف أنه درس الصف الخامس والسادس معا ً في عام واحد
يحضر هذا مرة وهذا مرة ،وبعد ذلك واصل دراسته بالقسم اإلعدادي بالمركز ،وامتحن
الشهادة اإلعدادية ،1وحصل على شهاداته على النحو التالي:
-الجامعية :جامعة الملك فيصل بتشاد ،كلية الشارقة للعلوم التربوية – قسم التاريخ
والجغرافيا ،عام 2009م.
-الماجستير :جامعة الملك فيصل بتشاد ،كلية الدراسات العليا – قسم التاريخ والحضارة عام
2011م.
-الدكتوراه :جامعة الزعيم األزهري – كلية التربية – قسم التاريخ ،الخرطوم /السودان عام
2171م.2
العملية:
ثانيا :حياته َ
عمل الشاعر خطيبا ً بمسجد أنس بن مالك بحي قوز التور منذ عام 1111م وحتى 1122م.
-وفي عام 1122م عمل معلما ً متعاونا ً بمدرسة زيد بن ثابت التابعة لجماعة أنصار السنة
المحمدية بتشاد بحي دقيل رياض 3حتى عام 2172م.4
1
المرجع السابق نفسه ،ص.2
2
سيرة ذاتية للشاعر ،مرجع سبق ذكره ،ص.1
3
االتجاهات الشعرية عند محمود شريف ،مرجع سبق ذكره ،ص.5
4
سيرة ذاتية للشاعر ،مرجع سبق ذكره ،ص.1
5
منذ 2121 -2171م) ،وتم تحويله عبر الوظيفة العامة إلى المعهد العالي بأبشة قسم
التاريخ 2122م.
-مدرس األدب والنصوص والعروض والتاريخ بثانوية المجد منذ 2171م حتى 2122م،
بسبب انتقاله للتدريس بأبشة.1 وتوق
للشاعر اهتمام كبير باألنشطة الثقافية ،حيث كان عضوا في العديد من المؤسسات الثقافية:
-مسئول أمانة الثقافة والتعليم بمنظمة النهضة الشبابية التشادية 2178 – 2172م.
-مسؤول أمانة التعليم بمنظمة النهضة الشبابية التشادية 2178م وحتى اليوم.
-مسؤول أمانة اإلعالم والثقافة بجمعية تطوير التعليم في تشاد عام 2172م.
-عضو المكتب التنفيذي لمجمع اللغة العربية بتشاد منذ تأسيسه حتى اآلن.
-رئيس اللجنة العلمية للملتقى الدولي للمنظمات الشبابية لدول وسط إفريقيا 2179م.
-عضو تأسيسي ورئيس صالون عيسى عبد هللا األدبي 2178 – 2172م.
1
المرجع السابق نفسه ،ص.2
6
-عضو اللجنة العلمية للمؤتمر الدولي األول لمجمع اللغة العربية بتشاد 2121م.
مشاركاته الثقافية:
-ملتقى النهضة األول ،تحت شعار " :تطوير أداء المؤسسات" .أنجمينا 2172م.
-الندوة الدولية التي نظمتها جامعة الملك فيصل بتشاد تحت عنوان " :األدب في إفريقيا
الماضي والحاضر والمستقبل" ،أنجمينا 2171م.
-الملتقى اإلعالمي األول ،نظمته رابطة الصحفيين التشاديين بالتعاون مع وكالة تيكا
التركية ،أنجمينا 2171م.
-المؤتمر الدولي الذي نظمته جامعة الملك فيصل بتشاد بالتعاون مع مركز األبحاث
للتاريخ والفنون والثقافة اإلسالمية بتركيا ( ،)IRCICAأنجمينا 2178م.
-المؤتمر الدولي األول لمجمع اللغة العربية بتشاد تحت عنوان " التعريب في تشاد:
الوسائل ـ اإلشكاالت ـ الحلول" ،أنجمينا 2121م.
-ورشة تدريبية نظمها المركز التشادي للتمكين المدني تحت عنوان " قواعد نمو المنظمات
والجمعيات المدنية" ،أنجمينا 2127م.
1
المرجع السابق نفسه ،ص .4 ،2
7
-الجوائز التي حصل عليها:
-حائز على الترتيب الثاني في المسابقة الشعرية بجامعة الملك فيصل بتشاد 2111م.
-حائز على جائزة ولقب شاعر الجامعة –جامعة الملك فيصل2171 -م.
-حائز على الترتيب الثالث في مسابقة اإلمام مهدي فضله (فرع الشعر) 2172م.1
-1الشعر:
يقول الشاعر عن نفسه" :تعود بداياتي الشعرية إلى العام الدراسي 2112 /2112م ،حيث
قررت اقتحام عوالم الشعر والكتابة الشعرية ،وكان للبيئة الثقافية 2التي هيأتها مدرسة المركز
اإلسالمي الكويتي في تلك الفترة دورها الكبير في التجرؤ على محاولة كتابة الشعر واالنتظام
في سلكها.
وكان اهتمامي بالشعر العربي الكالسيكي (العصر الجاهلي ،واألموي ،والعصر العباسي،
واألندلسي) ،ولم يكن لي اهتمام بالشعر الحداثي إال في فترة متأخرة ،وكان تأثري بالمتنبي
كشاعر ،وبالبعث واإلحياء كمدرسة يقودها البارودي وحافظ وشوقي ومن ساروا على
نهجهم فيما بعد ،وهذا ال يعني أني أهملت بقية رموز الشعر العربي المعاصر كالشاعر
البردوني ،ودرويش ،ونزار قباني ،والفيتوري ،وكان لبرنامج أمير الشعراء الذي يبث من
1
المرجع السابق نفسه ،ص.4
2
المطارحات الشعرية التي تحرص المدرسة على عقدها في كل مناسبة ثقافية آنذاك.
8
أبو ظبي أكبر األثر في االستمرار في هذا المجال ،وكان ومازال يمثل الوقود والمحفز
لمواصلة السير".1
ومع اإلمعان في دراسة األشعار عزم في يوم من األيام على كتابة الشعر ،وكان
ذلك عام 2112م ،وبالفعل خاض عدة تجارب شعرية كانت نهايتها الفشل ،إذ أنها لم
تكن ناضجة طبعاً ،وجاءت أبياتها كلها ضعيفة التراكيب ،قلقة القوافي ،ركيكة
األساليب ،نافرة الكلمات ،غير موزونة ،وكان شاعرنا الممثل المفضل لفصله ومجموعته
في كل المنافسات الشعرية بفضل ما يحفظه من أشعار وقصائد ،وكان النصر حليفه في
أغلب هذه المسابقات إن لم تكن كلها ،وبحكم هذه الظروف رأى ضرورة دراسة علم
العروض ،وفهم قوانينه ،وكيفية تطبيق بحوره ،وأخذ في قراءة كتب العروض والقوافي،
وأمضى فيها شهو اًر عدة ،وكانت النتيجة أن تمكن بما فهم من العروض ،قرض قصيدة
في رثاء الشهيد الفلسطيني /أحمد ياسين ،وهي على البحر الوافر -همزية القافية ،ومن
نعم هللا عليه ،أنه لم يدرس العروض على أحد ،ولم يتلقه عن معلم ،وإنما تعلمه بجهده
الشخصي .
-2النثر:
يقول محمود شريف" :يعتبر اهتمامي بالنثر الفني تاليا للشعر ،وكنت أق أر وأستمتع
أنواعها دون التفكير في الدخول في تجربة أو بالقصص القصيرة والروايات بمختل
محاولة ذلك ،فما زلت أرى أني أعطي في الشعر ما ال أستطيع في النثر ،ولكن لدي
بعض الموضوعات التي ال يمكن معالجتها شعريا لما تحتاجه من تفصيل وإسهاب،
ولعلي في قادم األعوام أعود إلى النثر عودة مضطر ثم أرجع إلى وكري الشعري
ثانية ،وال أنفصل عنه إال إذا كان ال يتسع لبعض القضايا التي أروم معالجتها.2
1
المرجع السابق نفسه ،ص.5
2
سيرة ذاتية للشاعر ،ص.5
9
كما للشاعر مقاالت أدبية في جريدة أنجمينا الجديدة ،وأخرى عبر صفحته على
منصة فيسبوك.
-3إنتاجه األدبي:
للشاعر أعمال أدبية شع ار ونثرا ،ما بين مخطوط ومطبوع:
-ترميم سيرة الشاعر إبراهيم الكانمي (مخطوط) ،هو كتاب سيرة ذاتية.
-عمود بجريدة أنجمينا الجديدة يحمل عنوان( :إضاءات تاريخية) ،عام 2121م ،يتحدث
فيه عن سيرة الشاعر إبراهيم الكانمي.2
ثانيا :بيئته:
عاش الشاعر سنوات طفولته األولى -الثلث األول من عمره حتى اآلن -في المملكة العربية
السعودية ،ونشأ في بيئة دينية محافظة ،حتى تعليمه بدأه بحفظ القرآن الكريم ،كما نشأ في
أسرة محافظة مهتمة بالتعليم على الصعيدين الديني واألكاديمي ،وحتى حين انتقال أسرته
إلى تشاد لم تختلف البيئة العلمية كثيرا ،حيث واصل االلتصاق بالبيئة الدينية ،واألكاديمية،
كما أنه التحق بأفضل المدارس آنذاك ،ونشأ محاطا بمشايخ الدين حتى اآلن ،وقد عمل
خطيبا ،ما يجعلنا نخلص إلى أن الشاعر نشأ في بيئة دينية محافظة.
أما عن محيطه الثقافي ،فكما أسلفنا الذكر كان مهتما جدا باألنشطة الثقافية ،ومشاركا
في الكثير منها منذ التحاقه بالمدرسة إلى حصوله على الدكتوراه ،أي طيلة مسيرته
الدراسية ،وحتى بعد أن عمل وصار معلما والتزم بوظيفة لم يبتعد عن األنشطة الثقافية ،كما
أنه قارئ نهم في الثقافة العامة ،والتاريخ ،واألدب واللغة ،وعلوم أخرى؛ ما ساهم في إثراء
ذهنه بالمعارف ،والمتصفح لشعر شريف يلتمس فيه تلك المعرفة فضال على المتمعن.
1
المرجع السابق نفسه ،ص.1
2
مراسلة إلكترونية عبر تطبيق واتساب مع الشاعر 11 ،سبتمبر 1112م.
10
ثالثا :عصره:
تتناول هذه الدراسة شخصية نعاصرها اآلن ،وبحسب قول األديب سامي كيالي:1
"حين نقول األدب المعاصر نريد أدب العصر الذي نعيش في خضمه ،ونحيا في
ظالله ،ونستمتع بروائعه ،ونرى أنفسنا في كلماته ،في شعره ،ونثره ،وفي قصصه
وحكاياته".2
تتكون مرحلة المعاصرة –في تشاد -أساسا من الشعراء الذين ولدوا أثناء الحرب
العالمية الثانية أو بعدها بقليل ،وبدأ نتاجهم في الظهور منذ أوائل الستينات وما بعدها،
كما يقول الدكتور عبدهللا حمدنا هللا.3
فهذه المرحلة وثيقة الصلة بمرحلة االنتباهة الثانية التي سبقتها إذ أن أثر تلك المرحلة
مازال باقياً ،وهو المعهد العلمي بأبشة ،كما أن تواريخ ميالد شعراء المرحلتين ال
يتفاوت كثيرا ً وإن اختلفت فيما بينها فهم في الجملة تواكبوا وتزاملوا في الدراسة ،وإن
سبق بعضهم بعضا ً بمسافات قصيرة ،وبذلك يمكن تقسيمهم إلى فئتين حسب ظهور
نتاجهم ،فبعضهم ظهر نتاجه منذ السبعينيات من القرن العشرين أمثال حسين إبراهيم
أبي الذهب وعباس محمد عبد الواحد ومحمد جرمة خاطر ،وعلي أحمد طه وعلي آدم
بحر ،وعيسى عبد هللا ،وبعضهم ولد بعد الستينيات وبدأ نتاجه منذ الثمانينات وما بعدها
أمثال محمد عمر الفال وعبد القادر محمد أبه ،وحسب هللا مهدي فضله ،وأحمد عبد
الرحمن إسماعيل وعبد الواحد حسن السنوسي وموسي حسن شاري وغيرهم.4
ولعل كلمة غيرهم التي أوردها الدكتور حامد هارون في كتابه :الشعر العربي المعاصر
في تشاد؛ تشمل الشاعر محمود شريف ،إذ تنطبق عليه مواصفات هذه الفئة األخيرة إال
أنه يصغرهم قليال في العمر ،كما أن نضجهم الشعري عاصر بداياته الشعرية.
وجميعهم ينقسمون من حيث قوة التأثير الفكري واألدبي ،إلى ثالث فئات ،تمثل الفئة
األولى مدرسة المحافظين ،وتمثل الفئة الثانية مدرسة المجددين ،وفئة ثالثة تمثل
الخضرمة بين المحافظة والتجديد.5
أما من حيث تقسيم مرحلة المعاصرة إلى فئتين ،فالبد أن محمود شريف ال ينفك عن
رواد الفئة الثانية ،كما أنه ال ينتمي إليها كليا ،هو ،والكثير من أقرانه الشعراء الشباب
1
سامي كيالي هو أديب سوري ،وباحث عربي ،رفد المكتبة العربية بعشرات الكتب ،ومئات المقاالت األدبية ،والثقافية ،والتاريخية /متصفح
ويكيبيديا.
2
كيالي ،سامي ،من األدب المعاصر ،مطابع الحديث2951 ،م ،حلب /شارع بارون ،ص.141
3
محمد ،حامد هارون ،الشعر العربي المعاصر في تشاد ،اتجاهاته الموضوعية والفنية ،دراسة – تحليل – نقد ،ط ،2الدار العالمية للنشر
والتوزيع1111 ،م ،ص.2
4
المرجع السابق نفسه ،ص.2
5
المرجع السابق نفسه ،ص.2
11
المزاحمون له في العمر والتجربة الشعرية ،والذين أطلق عليهم الدكتور حامد هارون
هامش اسم( :المبدعون).1
ونرى من خالل هذه التصنيفات أن مرحلة المعاصرة تنقسم إلى ثالثة أقسام :الفئة
األولى ،الفئة الثانية ،فئة المبدعين.
المبحث الثاني :التعريف بديوان وجوه ال تعكسها المرايا.
المطلب األول :تسميته:
ديوان وجوه ال تعكسها المرايا حمل عدة أسماء عندما كان مخطوطا ،ومر بعدة
أطوار وتقلبات حتى رسى الشاعر على شاطئ الطباعة ،فسماه بهذا االسم.
في أول جمع للقصائد قبل أكثر من خمسة عشر عاما حمل الديوان اسم مناهل الصفا ،ثم
تمت تسميته بظالل القوافي قبل عشر سنوات ،ثم حمل اسم كاهن الكلمات ،وأخيرا
خلص الشاعر إلى تسميته بوجوه ال تعكسها المرايا.2
الوجوه التي ال تعكسها المرايا بحسب ما يقوله الشاعر :هذا البلد الذي ال يستطيع أن
يظهر على شخصيته الحقيقية ،رغم ما تنطوي عليه من إمكانيات وقدرات ،وهذا الشعب
الذي لم يتمكن من أن ينعم بخيرات بلده والعيش منعما بها.3
يثب هذا القول لمن قرأ الديوان ،فكل قصائده مرتبطة بشكل أو بآخر بالوطن،
الوصف منها والرثاء والغزل ما عدا قصيدة واحدة ،فالشاعر عكس من خالل ديوانه
مالمح هذا الوطن فخرا ورثاء وغزال ووصفا ،ولفظ المرآة تكرر أربع مرات في أربع
قصائد ،ثالث منها متتالية ،وهذا إصرار خفي من الشاعر أن هذه القصائد إنما هي
انعكاس لوجوه ومالمح خفية ال تعكسها المرايا.
ومن يعرف محمود شريف عن قرب ،يرى أن هذه الوجوه كلها في داخله ،فهذا الكم
الهائل من الكلمات القوية التي تنبيك عن ابن الصحراء والليل ،والخائض غمار الحياة،
بل وابن البادية والطبيعة ،ال تتوافق وشخصية محمود الهادئة ،وكأنه حين يقف أمام
المرآة تعكس المرآة صورته الظاهرية فقط ،أما هذه القصائد فهي تعكس وجوها ال
تتبدى للرآئي ،وكأنك حين تسمع القصائد دون أن ترى محمود تتخيل شخصا حركيا،
وحين ترى الشاعر ترى شخصا وقورا هادئ الطبع.
1
مقابلة مع الدكتور حامد هارون محمد ،بمبنى كلية اللغة العربية /استراحة األساتذة ،بجامعة الملك فيصل ،الثالثاء 11يونيو 1112م ،الساعة
22:21صباحا.
2
لقاء مع الشاعر 12 ،أغسطس 1112م ،الساعة الخامسة مساء بمقر منظمة النهضة الشبابية التشادية.
3
رسالة نصية من الشاعر عبر تطبيق واتساب الجمعة 11سبتمبر 1112م ،الساعة 19:11صباحا.
12
إننا حينما ننظر بزاوية أخرى إلى مراحل تطور الديوان بالرجوع إلى المخطوطات
األولى منذ أقدم اسم حمله ،وأقدم قصيدة فيه والتي كانت في 1115م؛ أي بعد عام من
البداية الشعرية للشاعر نرى أن عقدين من الزمان يذكراننا بشعراء الحوليات ،فكأنما
الشاعر لم يكتب قصيدة حولية ،بل ديوانا كامال في عشرين سنة ،األمر الذي يتيح
للشاعر التنقية والتنقيح ،وإذا كان اسم الديوان لوحده قد تغير أربع مرات ،فما بالنا
بالقصائد ،والتي قد تخضع -مع كل مخطوط -للتنقيح هي األخرى.
وهذا األمر يتذبذب بين السلبي واإليجابي في دراسة شاعر معاصر ،ألن الشاعر
المعاصر -خاصة صغير السن -لم تكتمل لديه التجربة الشعرية بعد ،فهو على قيد الحياة
وقابل للتعديل مرة أخرى ،فما أدرانا لو قام الشاعر بتغيير جزء من هذا الديوان أو
حذف بعض من قصائده أو زيادتها الحقا كما حصل مع المخطوطات؟!
أما ما هو إيجابي في األمر هو أن أي دراسة للديوان في مرحلة تغييره تدفع الباحثين
الحقا لدراسة أسباب التغيير وتتبع مراحل التطور.
ومن هذا الباب يحث بعض النقاد ومتخصصي البحث العلمي إلى تناول الشخصيات
الراحلة ،أو مكتملة التجربة ،كي يتخلص البحث من الميوالت العاطفية ،والمصالح
الشخصية ،فربما قام باحث بتناول شخصية تملقا ولمصلحة ما ،وكم من باحث مسلط
على شخصية ما فقام بالقذع فيها دون وجه حق فقط ليغيض عدوه ،كما حصل بين العقاد
وأحمد شوقي ،وكل هذه الميوالت تنتفي عند رحيل الشخصية ،ويصبح الباحث بعدها
محايدا موضوعيا في بحثه.
المطلب الثاني :قصائده:
كان الديوان في نسخه المخطوطة يحتوي على عدد كبير من القصائد ،وآخر
مخطوطة له –كاهن الكلمات -قد احتوت على أربعين قصيدة إال أن الشاعر عندما قرر
طباعة الديوان اصطفى بعض القصائد لوجوه ال تعكسها المرايا ،واحتفظ بالبقية
إلصدارها في ديوان أو دواوين أخرى.1
هذه الطبعة صدرت عن)....
احتوى الديوان تسعة عشر قصيدة ،كلها عمودية ما عدا قصيدة واحدة ،وهي ليست
بقصائد طوال ،بل غلب على الديوان قصائد دون العشرين بيتا ،والجدول التالي يبين
عناوين هذه القصائد وبعض بياناتها من حيث عدد األبيات والكلمات ونوع القصيدة:
13
نوع القصيدة عدد الكلمات عدد األبيات عنوان القصيدة
14
عمودية 233 27 معلقة ثامنة
من خالل هذا الجدول وهذا اإلحصاء نقف على تقييم الديوان من حيث الحجم ،فهو ديوان
صغير الحجم ،وقصائده قليلة ،وكلماته قليلة أيضا مقارنة بكثير من الدواوين الشعرية
الوطنية والعربية األخرى ،فمن خالل عدد األبيات القليل نرى مدى قدرة الشاعر على
مناقشة قضية ما بقليل من األبيات ،وقدرته على تكييف الصور البالغة في اإليجاز
والشمول.
كما أننا نقف من خالل معرفة عدد كلمات كل قصيدة على ضيق وسعة قاموس
الشاعر ،والتعرف على الحالة النفسية للشاعر من خالل تكرراه لكلمات بعينها،
ومعرفة إذا ما كان تكراره للكلمات هو تكرار بسبب ضيق قاموسه اللغوي ،أم تكرار
بسبب تأثر ما ،أو نتيجة حالة نفسية معينة ،أو إصرار الشاعر على إيصال فكرته بهذا
التكرار ،فمن غير العادي مثال أن يكرر الشاعر ذكر كلمة معينة لخمس مرات خالل
قصيدة لم تصل للعشرين بيتا وببحر قصير.
لذا كان البد من اإلحاطة بكل هذه اإلحصاءات لمعرفة مدى تأثيرها في الفصول
القادمة.
المطلب الثالث :موضوعاته وأغراضه:
الغرض في الشعر هو الموضوع ،وقد اعتادت القصيدة العربية القديمة منذ العصر
الجاهلي على االنتقال بين الموضوعات المتعددة داخل القصيدة الواحدة فيما يشبه التقليد
األدبي الصارم ،حيث كانت القصيدة الجاهلية تبدأ بالوقوف على األطالل ،ثم تنتقل إلى
موضوعات أخرى هامشية مثل وصف الرحلة ،والصيد ،والنسيب ،قبل االنتقال للغرض
الرئيسي من القصيدة ،مما جعل أنصار التجديد الشعرى يتهمون القصيدة الكالسيكية
تمت عملية اإلحصاء من ديوان وجوه ال تعكسها المرايا ،محمود شريف ،دار موسو للطباعة والنشر ،مكتبة األسرة العربية ،الطبعة األولى،
1
1111م.
15
عموما بالتفتت ،وعدم الوحدة الموضوعية ،وإمكان التقديم والتأخير بين أبياتها دون
حدوث خلل في بنائها المتداعي وعلى الرغم من القبول النظري للرأي السابق ،فإن
مهارة الشاعر وموهبته الفنية المتميزة تضمن له السيطرة المحكمة على بنية القصيدة
المتعددة األغراض داخل نسق شعوري وفكري واحد.1
لعل أقدم من حاولوا تقسيم الشعر العربي جاهليا وغير جاهلي إلى موضوعات وألف
فيها ديوانا ً هو أبو تمام المتوفى حوالى سنة ۲۳۲للهجرة ،فقد نظمه في عشرة
موضوعات :هي الحماسة ،والمراثي ،واألدب ،والنسيب ،والهجاء ،واألضياف ومعهم
المديح ،والصفات ،والسير ،والنعاس ،وال ُملح ،ومذمة النساء.
وهى موضوعات يتداخل بعضها في بعض فالحديث عن األضياف إما أن يدخل في
المديح أو فى الحماسة والفخر ،والسير والنعاس يدخالن في الصفات ،كما تدخل مذمة
النساء في الهجاء ،أما ال ُملح فغير واضحة الداللة .ووزع قدامة في كتابه نقد الشعر هذا
الفن على ستة موضوعات :هي المديح والهجاء والنسيب والمراثي والوصف والتشبيب
وحاول أن يرد الشعر إلى بابين أو موضوعين هما :المدح والهجاء :فالنسيب مديح
وكذلك المراثي ،ومضى يعين المعاني التي يدور حولها المديح ،وهي فى رأيه الفضائل
النفسية .ويقول أبو هالل العسكري ( :وإنما كانت أقسام الشعر في الجاهلية خمسة :
المديح والهجاء والوصف والتشبيب والمراثي ،حتى زاد النابغة فيها قسما ً سادسا وهو:
االعتذار فأحسن فيه.2
لقد أسلفنا الذكر أن الديوان صغير الحجم ،قليل األبيات والكلمات ،وبالتالي فهو لم
يتناول كثيرا من الموضوعات ،بالرغم من أنه عالج كل ما تناوله ببالغة فائقة ،إال أن
القلة التي فيه تجعل موضوعاته أيضا قليلة ،وأغراضه أشد قلة ،فأغراض الديوان لم
تخرج عن ثالث :الوصف ،والرثاء ،والغزل ،ويكاد الوصف هو السمة الطاغية في
الديوان ،وليس بمبالغة إذا صنفنا الديوان كله بغرض واحد فقط وهو الوصف نظرا ألن
الرثاء جاء في قصيدة واحدة ،وكذلك الغزل.
وفي داخل القصائد نجد الكثير من األبيات التي تخرج عن اإلطار العام للقصيدة ،مثلما
كانت تتعدد األغراض في القصيدة القديمة ،فنجد عند محمود شريف فخرا ،وحماسة،
وعتابا ،ومدحا ،وشوقا وحنينا ،وسيأتي التفصيل عنها الحقا في فصل الموضوعات
واألغراض الشعرية.
1
بوابة الشروق ،منصة على شبكة اإلنترنت ،مقال كتب بواسطة :أحمد مجاهد ،منشور بتاريخ األحد 11يونيو 1:52 - 1119م ،منقول بتاريخ:
الجمعة 11سبتمبر1112م – 19:21م.
2
ضيف ،شوقي ،تاريخ األدب العربي /العصر الجاهلي ،د .الطبعة الثانية والعشرون ،دار المعارف1111 ،م ،جمهورية مصر العربية ،ص
.291-291
16
الفصل األول :الدراسة الموضوعية لديوان وجوه ال تعكسها المرايا
تمهيد
المبحث األول :األغراض
المطلب األول :الوصف.
المطلب الثاني :الرثاء.
المطلب الثالث :المدح.
المطلب الرابع :الفخر.
المطلب الخامس :الغزل.
17
الفصل األول :الدراسة الموضوعية لديوان وجوه ال تعكسها المرايا:
تمهيد:
قال الدكتور وهب أحمد رومية :1ال يخلو كتاب من نقدنا القديم ـ فيما أعرف ـ من التعرض
الصريح لفهوم "الغرض الـشـعـري" أو مـن اإلشـارة أو اإليماءة إلـيـه ،ويـتـفـق أولـئـك
النقاد على أن القصيدة العربية المركبة ـ بتعبير حازم القرطاجني ـ مكـونـة من مجموعة من
األغراض الشعـريـة المخـتـلـفـة كـاألطـالل والـغـزل ووصـف الصحراء ومشـهـد الـصـيـد
والـفـخـر والـهـجـاء والمـدح والحـكـمـة وسـواهـا.2
ب فَي ُْر َمى فِي ِهَ ،و ْال َج ْم ُع أ َ ْغ َراض .وغ ََر ُ
ضهُ َك َذا أَي ف الذِي يُ ْن َ
ص ُ ض لغة ُ :ه َو ْال َه َد ُ و ْالغ ََر ِ
ص َد َك.3ض َك ،أَي قَ ْغ َر ََحا َجتُهُ وبَ َغ ْيتُهَُ ،وفَ ِه ْمتُ َ
وفيما يخص التداخل بين مصطلح "الغرض" و"القصيدة" فإن مرده حسب قول ابن خلدون
عن الشاعر بأنه ":يستطرد للخروج من فن إلى فن ،ومن مقصود إلى مقصود"
ومصطلح "الغرض" الذي يعد األكثر شيوعا ،وإضافة إلى مصطلح "المقصود" الذي
استعمله ابن خلدون نجد مصطلحات مرادفة ،هي" :بيوت الشعر" " ،أركان الشعر"" ،فنون
الشعر" " ،ضروب أو أصناف الشعر"" ،معاني الشعر" " ،اتجاهات الشعر " " ،موضوع
الشعر" ،الرموز" ،وكلها تستعمل بدال من " أغراض الشعر".
إذن الغرض في الشعر هو الهدف الذي قيل من أجله ،وهو المتعارف عليه عادة باسم
"موضوع النص" أي الفكرة األساسية الكبرى التي اتخذها المبدع محتوى لرسالته.4
أما مصطلح "بيوت الشعر" فقد أورده ابن سالم في قوله :وقد قالوا إن بيوت الشعر أربعة:
فخر ومديح ونسيب وهجاء.5
ولم يقف ابن سالم عند تسمية ضروب الشعر فقط ،بل تعداها إلى ذكرها ،وحصرها في
أربعة أغراض.
1باحث وأكاديمي سوري ولد في الالذقية عام 2944م ،تخرج من جامعة دمشق ،حاز على شهادة الدّكتوراه في األدب القديم من ّ
كليّة اآلداب-
جامعة القاهرة عام 1977بمرتبة ال ّشرف األولى ،مع التّوصية بطباعة ال ّرسالة ،وتبادلها مع الجامعات ،رئيس قسم اللغة العربية بجامعة
صنعاء سابقاً .أستاذ األدب القديم بجامعة دمشق .عميد كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بجامعة دمشق -سابقاً .عضو في مجمع اللغة العربية بدمشق،
انظر متصفح ويكيبيديا الموسوعة الحرة.
2
رومية ،وهب أحمد ،شعرنا القديم والنقد الجديد تأليف ،عالم المعرفة ،سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون
واآلداب /الكويت ،صدرت السلسلة في يناير 2911م بإشراف أحمد مشاري العدواني 2912ـ 2991م ،العدد ،111ص.241
3
لسان العرب البن منظور ،مادة (غرض).
4
داوود ،محمد ،الغرض الشعري ،المصطلح والمفهوم عند القدماء والمحدثين ،مجلة دراسات ،العدد الخامس ،جامعة ابن خلدون/تيارات/
الجزائر1124 ،م ص.11
5
المرجع السابق ص .59
18
وقال بذلك أيضا ال َم ْر ُزباني في الموشح" :قيل للبطين :أكان ذو الرمة شاعرا متقدما؟ فقال
البطين :أجمع العلماء بالشعر على أن الشعر وضع على أربعة أركان؛ مدح رافع ،أو هجاء
واضع ،أو تشبيه مصيب ،أو فخر سامق.1
فالمرزباني يسمي األغراض الشعرية أركانا.
والمعاصرون من نقادنا يستعملون مصطلحات مختلفة للداللة على الغرض ،فمصطفى هدارة
سد فإنه يختار مصطلح "موضوع" بدال من يستعمل مصطلح "اتجاهات" ،أما نور الدين ال ّ
المصطلحات األخرى بما فيها الغرض ،وذلك لشعوره بعدم دقتها كمصطلحات نقدية قادرة
على تحديد الظاهرة الفنية بموضوعية بعيدا عن االرتجال والتسطح ،ومن هنا يضيف السد:
"نرى أن استخدام مصطلح موضوعات القصيدة العربية أكثر دقة ومواءمة في التعبير عما
نهدف إليه".2
األمر:
َ ضع
ض َع ،و َ
هذا بالنسبة للغرض ،أما الموضوع فهو في اللغة :اسم المفعول من َو َ
ضوعات و َمواضي ُع ،والموضوع :مادة بيني عليها الكاتب أوقَدّمه ُمفَصالً ،الجمعَ :م ْو ُ
الخطيب أو المحدث كالمه ،ومادة يبحث العلم عن عوارضها.3
يقول الديب حنا الفاخوي :4أما موضوعات األدب العربي ونزعاته فمن موحيات البيئة
ومعطيات األحوال ،وكانت موضوعات أدب الخالفة الراشدة خطبا ً ورسائال في أمور
الحرب والفتح واإلدارة وما إلى ذلك؛ فيما كانت موضوعات أدب الخالفة األموية
تنازعات سياسية وحزبية وتنافرات شعرية لقيام األحزاب والشيع ،وتناحر أهل الطمع
والطموح ،ولهذا راج الفخر والهجاء ،وتبسط الشعراء في بذيء القول وسافل الكالم.
وكانت موضوعات أدب الخالفة العباسية علما ً واجتماعا ً ومديحا ً وهجاء ولهوا ً وما إلى
ذلك ،النبساط رقعة الدولة ،وتوافر المال في الخزينة ،ورغبة الناس في سماع اإلطراء؛
ثم الندفاق السيول األعجمية على البالد العربية ،ولميل الناس إلى ترجمة كتب اليونان
والفرس والهنود وغيرهم في الفلسفة والعلم والحكمة والفنون.
رزوباني ،أبو عبيدة محمد بن عمران ،الموشح في مآخذ العماء على الشعراء ،عُنيت بنشره جمعية الكتب العربية ،يطلب من المطبعة السلفية 1ال َم ُ
ومكتباتها2242 ،هـ ،ص.211
2
الغرض الشعري ،المصطلح والمفهوم عند القدماء والمحدثين ،مرجع سبق ذكره ،ص .12
3
قاموس ومعجم المعاني على شبكة اإلنترنت ،مادة موضوع.https://www.almaany.com ،
4
حنا الفاخوري أديب ولغوي عربي ومؤرخ لبناني ولد األب حنا الفاخوري سنة 2924في زحلة ،كتـب أكثـر من مئـة كـتاب في اللغة واألصول
واإلنشاء واألدب والفلسفـة والدين ،واشتـهر في كتابه «تاريـخ األدب العربي» ،وضع سالسل مدرسية عديدة حول األدب واللغة ،كما حقق في
الكثير من مؤلفات التراث شارحا ً معلّقا ً .محاضر في جامعات أوروبية عدة وفي مؤسسات تونسية ومغربية .يحمل أوسمة مختلفة من وطنه لبنان
ومن إيران ومن البرازيل .متصفح ويكيبيديا الموسوعة الحرة.
19
وراحت الموضوعات في القرن التاسع عشر وما بعده تتسع آفاقا ً النفتاح أجواء المدنية،
وتشمل العلم واالجتماع وتحليل النفوس وما إلى ذلك.1
والمعادل الموضوعي :مصطلح مستمد من مقالة لـ ت .س إليوت T.S.Eliotبعنوان هاملت
ومشكالته Hamlet and his problemsصدرت عام 2929م ،ويعني ما يوظفه المبدع
من األحداث والموضوعات ،والوقائع ،والمواقف التي يمكن أن تبعث لدى القارئ االستجابة
العاطفية المالئمة التي يهدف إليها المؤلف دون أن يلجأ إلى تقرير مباشر لهذه األحاسيس.2
ومن هنا وهناك ،ومن أراء المتقدمين والمتأخرين ،يخلص البحث إلى أن كثيرا من
المصطلحات األدبية أو العلمية ،أو أية علوم أخرى؛ البد من أن تمر بمراحل نشأة ثم
تتطور ،وغالبا ما تنتقل من التعميم إلى التخصيص ،وال شك أن المصطلحات األدبية قد
مرت بالمراحل نفسها ،وقد رأينا فيما تقدم كيف تنقّل مصطلح الغرض الشعري بين عدة
أراء من األدباء ،وحمل اسما ال يتفق تماما كما أنه ال يختلف كثيرا عن اآلراء األخرى،
وأراني أميل (يميل البحث) (تميل الباحثة) إلى الرأي األخير رأي األديب حنا الفاخوري،
الذي نقل الموضوع من الدائرة الضيقة للمعنى من مدح وهجاء ونسيب إلى الموضوعات
االجتماعية والسياسية واالقتصادية؛ كي نتناول األغراض والموضوعات كال على حدة ،ما
يعني أننا نفصل بين األغراض والموضوعات ،فاألغراض هي الموضوعات القديمة للشعر
هي أبوابه الرئيسية من هجاء ومديح ونسيب وهجاء ووصف ،والموضوعات هي التوسع
لهذه العناوين الرئيسة من اجتماعيات وسياسة ووطنيات....إلخ ،فالغرض بحسب هذه
الدراسة هو الموضوع األساسي أو الرئيسي المرجو من القصيدة ،والموضوع هو ما تدور
حوله القصيدة ،إذا افترضنا لقصيدة ما المدح كغرض رئيسي ،فقد يكون موضوع القصيدة
سياسيا إذا مدح شخصية سياسية أو أشاد ببادرة سياسية معينة ،أو يكون اجتماعيا إذا أشادت
القصيدة بعادة اجتماعية معينة ،وربما تكون قصيدة مدحية في غرضها وتناولت أراء فلسفية
في موضوعها.
1
الفاخوري ،حنا ،الجامع في تاريخ األدب العربي األدب القديم ،مؤسسة خليفة للطباعة ،دار الجيل ،بيروت – لبنان ،ص .21-21
2
معجم مصطلحات األدب ،اإلشراف العام األستاذ فاروق شوشة والدكتور محمود علي مكي ،الجزء األول ،دار الجمهورية للصحافة ،مجمع اللغة
العربية /القاهرة 2411هـ 1111 -م ،ص.241
20
المبحث األول :األغراض:
سم أبو تمام (ت 121هـ) وهو أقدم من قسم الشعر حسب موضوعاته إلى عشرة ق ّ
موضوعات في ديوانه (الحماسة) وهي :الحماسة ،والمراثي ،واألدب ،والنسيب ،والهجاء،
واألضياف ومعهم المديح ،والصفات والسير ،والنعاس ،والملح ،ومذمة النساء.
ووزع قدامة بن جعفر (211 - 111هـ) في كتابه نقد الشعر هذا الفن على ستة موضوعات
وذلك في نعوته ألهم أغراض الشعراء ،وهي :المديح ،والهجاء والنسيب ،والمراثي،
والوصف ،والتشبيب.
كما حاول أن ير ّد الشعر كله إلى موضوعين أو بابين ،هما المديح والهجاء .فمن المديح
النسيب ،والمراثي ،واالفتخار ،والشكر ،واللطف .ومن الهجاء الذم والعتاب ،واالستبطاء،
والتأنيب.
أما أبو هالل العسكري ( ت 295هـ) فقد جعل أقسام الشعر خمسة ،حيث قال :وإنما كانت
أقسام الشعر في الجاهلية خمسة ،المديح ،والهجاء ،والوصف والتشبيب ،والمراثي ،حتى
زاد النابغة فيها قسما سادسا وهو االعتذار.
وقال الرماني علي بن عيسى :أكثر ما تجري عليه أغراض الشعر خمسة ،النسيب،
والمديح ،والهجاء ،والفخر ،والوصف.
وقال عبد الكريم النهشلي :يجمع أصناف الشعر أربعة ،المديح والهجاء والحكمة واللهو ،ثم
تتفرع من كل صنف من ذلك فنون ،فيكون من المديح ،المراثي ،واالفتخار ،والشكر،
ويكون من الهجاء الذم والعتاب واالستبطاء ،ومن الحكمة ،األمثال والتزهد والمواعظ،
ويكون من اللهو الغزل والطرد وصفة الخمر.1
فيكاد يجمع األدباء -باستثناء أبو تمام -على أن األغراض الرئيسية للشعر خمسة( :المدح،
الهجاء ،الفخر ،الوصف ،والغزل) ،وبقية التصنيفات إنما هي تتفرع من هذه األصول ،وهذا
ما ستعمل به هذه الدراسة.
.
1
الشعر العربي المعاصر في تشاد .اتجاهاته الموضوعية والفنية ،مرجع سبق ذكره ،ص .214
21
المطلب األول :الوصف:
الوصف :أحد العناصر الحيوية المهمة في الشعر ،وفي األجناس األدبية األخرى بشكل أقل،
ويقوم على استعمال األلفاظ واالستعارات والتشبيهات لتقويم وتصوير األشياء والناس
والسلوك والمشاهد ،ويعتمد نجاح األديب في الوصف على مدى قدرته على إحضار الشيء
في ذهن السامع كأنه يراه أو يشعر به ،وباب الوصف عند العرب أكبر فنون الشعر ،ذلك
ألنه يأتي في أكثر أغراض الشعر ممتزجا بها ،وق ّل أن نجد قصيدة بنيت على موضوع
الوصف وحده ،اللهم إال في الصغار.1
والوصف أشمل صفة تطلق على الشعر ،ويكاد الشعر كله يكون وصفا ،فالمدح وصف
لشعور اإلعجاب ،والهجاء وصف لشعور الكره ،والعتاب والشكوى والحنين ،كل هذه
األغراض والموضوعات إنما هي وصف لحالة الشاعر النفسية تجاه شيء ما.
كما يكاد ديوان محمود شريف يكون كله وصفا ،لما فيه من تصوير ،وما لصورته البيانية
من حبكة ،فهو إما أن يأخذك حيث أراد ،أو يحضره حيث أنت.
نجد تجلي الوصف حينما اعتمده في قصيدة( :اشتعاالت :رحلة إلى بورتسودان) ،حيث قام
بوصف المدينة السودانية (بورتسودان) ،وهي مدينة ساحلية تقع شمال شرق السودان على
الساحل الغربي للبحر األحمر ،وهي الميناء البحري الرئيسي في السودان ،تعرف
بورتسودان قبل قيام الحكم الثنائي ببناء ميناء بحري حديث فيها باسم مرسى الشيخ برغوت،
كان قرار اإلنجليز في بناء ميناء بحري جديد ليحل محل ميناء سواكن مرده رغبتهم في أن
يكون لهم ميناء تحت السيادة البريطانية المصرية المشتركة بدالً عن سواكن التي كانت
تخضع رسميا ً لحكم الخديوي وليس للحكم الثنائي ،إال أن السبب المباشر يكمن في عدم
صالحية ميناء سواكن الستقبال البوارج 2والسفن الحديثة بسبب الشعاب المرجانية الكثيرة
رسوها ،على خالف مرسى الشيخ برغوت الواقع على ِّ فيه والتي تعيق إبحار تلك السفن أو
خليج طبيعي ممتاز خال من تلك المعوقات وفي منتصف الساحل السوداني تقريبا ً .
3
وفي هذه القصيدة يأخذنا الشاعر إلى ساحل تلك المدينة مستهال:
َه َّدهُ األر ُ
ق أَعْيا النجم
ِ ُمسافِ ُر ق صبَا َحكَ ش َْم ُع اللّي ِل ُم ِ
حتر ُ َ أَ ْ
ش ِع ْل
قضفي ُخشوعا على ِمحرابها الشف ُ يُ ْ والشمس تسج ُد في األمواجِ ها َمتُها ُ
1
نصار ،نواف ،معجم المصطلحات األدبية عربي -إنجليزي ،دار المعتز للنشر والتوزيع ،عمان /األردن ،الطبعة األولى1119 ،م ،ص.212
2
البارجة أو الدارعة :هي سفينة حربية كبيرة مدرعة ببطارية رئيسية تتكون من َمدافع من عيار كبير .خالل أواخر القرن التاسع عشر وأوائل
القرن العشرين ،كانت البارجة أقوى نوع من السفن الحربية ،وكان األسطول المتمركز حول البارجة جز ًءا من السيادة البحرية لعدة عقود.
ويكيبيديا الموسوعة الحرة.
3
متصفح ويكيبيديا ،مقال :بورتسودان ،تاريخ النقل/11 :أبريل1114/م.
22
هنا يصور لنا الشاعر هذه المدينة من بعيد ويصف ساحلها الذي يعكس أشعة الشمس
ممتزجة بشفق الفجر ،حيث أنك لن ترى جمالها ليال ،لذلك أشعل صباحك حتى ترى هذه
اللوحة الفنية.
ويقول:
قالس ْفن ت َنطل ُ هذي ِباسمكَ تَ ُ
جوب (بَرغوت) في َمرساهُ أدعية ِلظ ِ ّل
ق نَ َز ُ إِجالله على ب
العُبا ِ َوفي الجبا ِل وقار من َمهابَتِه على
ق
تهتدي الطر ُ هذي سن
ل ِقبلة ال ُح ِ ق تائهة الطر ِ
ْ ال َجما ِل جميع عن
وبرغوت فقيه إسالمي يدعى :الشيخ برغوت (أو بارود) .والذي كان مدفونا ً في قبة
(ضريح) يزورها البحارة والصيادين ،وكان المكان كله معروفا أيضا لقرون طويلة باسم
مرسى الشيخ برغوت تبركا ً بهذا الرجل الصالح.1
وعن جمال المدينة يؤكد شريف اللقب الذي أُطلق عليها وهو :عروس البحر األحمر وثغر
السودان الباسم.
أما تلك السفن المذكورة فهي تاريخ هذه المدينة ،حيث يقول:
ق
ع ِب ُ َ على القرون ومازال ال َمدى ِمن خلفها يفتح التاريخ نافذة
غ ِرقوا َ غرقوا فيه وما ِ كأنهم محطمة وأساطير سفائِن
َ
قبعث به األ َ َل ُ ألن سيفي لم يُ ْ اوي" يُالئمني
س ْيفي "بِ َج ّ
أحتاج َ
والنافذة التي تُفتح على التاريخ هي وجود حطام سفن الحرب العالمية الثانية ،حيث يرقد
قبالة بورتسودان على بعد 11ميل حطام البارجة اإليطالية (أمبريا) التي غرقت أو أ ُغرقت
بأمر ربانها في عام 2941م ،كما تذهب بعض الروايات ،حتى ال تقع في يد البريطانيين
الذين كانوا يرابطون في بورتسودان إبان الحرب العالمية الثانية وكانت في طريقها من
إيطاليا إلى مستعمرتها إريتريا محملة بكميات كبيرة من سيارات الفيات وزجاجات النبيذ
والذخيرة .هذه األشياء كلها ال تزال على متنها ويمكن للغواص مشاهدتها على عمق 21
متر.2
فكأننا حينما نقرأ األبيات نرى صورة هذه السفينة بصورة مجهرية تحت المياه ،خاصة أن
كل ما في السفينة مايزال على متنها ،كأن الذين غرقوا مع هذه السفينة لم يغرقوا.
1
المرجع السابق نفسه.
2
المرجع السابق نفسه.
23
اوي" يُالئمني) ،بجاوي نسبة إلى البجة أو البجا أو البجاة ،اسم يطلق
س ْيفي "بِ َج ّ
(أحتاج َ
1
على الشعب الذي يسكن ما بين ساحل كسال والبحر األحمر ونهر النيل في السودان .
وقد امتازت هذه القبائل بالشجاعة ،وتتم تنشئة الصغار منذ نعومة أظافرهم على تعلم مهارة
مؤثرا ،وفي ذات الوقت كيف يصد
ً المبارزة ( الضرب والصرف) ،أي كيف يضرب ضربا ً
ضربات اآلخرين ،ويغرس في نفوسهم أهمية حمل هذه األسلحة والتحلي باليقظة والحذر في
كل األوقات وكل األماكن ،2و"السيف حاضر بقوة في المناسبات االجتماعية واالحتفاالت
القومية السودانية ،ويعطي أي مناسبة قيمة عالية ،وهو عنصر للتفاخر والتباهي خاصة عند
قبائل (البجا) ،حيث نجده مالزما للرجل بصورة بائنة في صلوات األعياد الدينية ،تشكل
لوحة جمالية ،ممزوجة بالقيم الدينية واالجتماعية".3
واشتهرت قبائل البجة بالسيوف ،اشتهرت كذلك باإلبل البجاوية ،قال الحريري:
4
ِبجا ِوي وراكب كقوله ْم
ِ الوا ِو بع َد مر
ض ُوتارة ت ُ ْ
وفي الوصف تناول الشاعر قصيدة واحدة بأربع مقاطع متفرقة داخل الديوان ،وهي
قصيدة (يوميات متكررة) ُمر ِقّما كل واحدة برقم حسب أولوية تسلسل ورودها ،وهذه
القصيدة تصف الحياة اليومية لشخص يعيش في هذه البالد ،ولذلك سماها بيوميات متكررة،
والمتمعن بهذه القصيدة قد ال يتفق تماما مع حكم أنها قصيدة واحدة ،وذلك لعدة أسباب منها:
-عدم تتابع مقاطع القصيدة ،وورود كل مقطع بعد عدة قصائد داخل الديوان.
-اختالف البحور ،فقد جاءت المقاطع األربعة من بحرين مختلفين.
اختلف روي القصيدة في كل مقطع ،وهو مقبول إذاَ -اختالف قوافي المقاطع ،حيث
كانت القصيدة متتابعة المقاطع ،أما مجيء كل مقطع بعد عدة قصائد أخرى أفقدها
الوحدة العضوية.
سلّم أنها واحدة،
رغم هذا االختالف؛ إال أن الوحدة الموضوعية للقصيدة تجعلنا نُ ِ
والعنوان الموحد ألربعة قصائد ال يمكن أن يكون سببه إفالس الشاعر من العناوين ،أما
علة تقطيعه للقصيدة ،ونثرها في أماكن مختلفة من الديوان ربما هو فن جديد يريد أن
يتبناه شريف.
1
المرجع السابق نفسه.
2
حامد إبراهيم ،مقال بعنوان :سالح البجاوي ..يعود إلى غمده ،منشور بصحيفة الراكوبة اإللكترونية ،بورتسودان ،بتاريخ 11يناير1121 ،م،
تم النقل بتاريخ( :األربعاء 21 ،أبريل 1114م).
3
مقال منشور بوكالة األنباء اإللكترونية / SUPTNIKعربي ،تحت عنوان :السيف في يد السوداني ..رمزية قومية وعالمة على الشجاعة وفخر
بالقبيلة ،نشر بتاريخ ( GMT 30.03.2019 21:55تم التحديث ،)GMT 12.01.2022 21:21 :تاريخ النقل( :األربعاء 21 .أبريل 1114م).
4
الحريري ،أبو القاسم بن علي ،ملحة اإلعراب ،مطبوعات أحمد محمد سعد الحبال وأوالده ،جدة /السعودية ،ص .22
24
لقد وصفت هذه القصيدة حال المواطن بدقة ،خاصة الموظف ،ففي المقطع األول
(يوميات متكررة ( ))1المتكون من خمسة مقاطع يقول الشاعر:
ِإيابا لي يُو ِق ُ
ظ الصب َح لع َّل السحابا أ ُهش النج َم أم أ َ َرعى
أ َ َجابَا فما الشروقَ يمنَحنِي
ِل ْ رحْ ِلي طلُول اللي ِل ُ وقفتُ على
الت َرابَا أطأ ُ أم ْ
األفق أ َ َمس أ ُبالي ال المشاه ُد ت
تشاب َه ِ
ال ِكتابَا َحوا ِدثنَا من يُ َؤ ُ
لف فسيح َك ْون سطور نح ُن في ُ
سرابَا ُخطاي ك ْي أص َل ال َّ أ ُحث صفو تركتُ الما َء خ ْلفي و ْهو
وبالضبط هذه هي اليوميات المتكررة للمواطن التشادي ،فهو يعيش على أمل الغد
األفضل لكن دون أن يحرك ساكنا ،كما أن يومياته متكررة المشاهد منذ طلوع الشمس
حتى غروبها ،ال يبالي إذا ارتقى فيها إلى أعلى المراتب ،أو كان في أدناها ،فاليوميات
متكررة برتابة ،وحينما قال الشاعر:
س َرابَا
ال َّ أ َ ِص َل َك ْي ُخ َ
طاي أ ُحث صفو و ْهو خ ْل ِفي الما َء تركتُ
صور تماما الموظف الحكومي الذي يترك كل أبواب الرزق الواسعة ،وينحشر في
زاوية الوظيفة العامة ،كمن يترك الماء الصافي ويلحق السراب.
وقصيدة (يوميات متكررة ( ))2أيضا تكونت من خمسة مقاطع ،وهي كذلك ال تختلف
عن سابقتها في تصوير حياة الكادحين اليومية:
صلَّى ُم َ بها النخي ِل وأقبيةَ ديرا البيداء مجاهل ت َ ِخ ْذتُ
ِط ْف َال ظ َّل يحْ بُو في ونَ ْخ ِلي باسقات نخل ألف
َ أمامي
ظ َّالَ ْ
عن ت َ ْك ِفي ِه النخ ُل ويَ ْنضُو اف نَ ْه ِري ثوبَهُ الشفّ َ ويخل ُع
قَتْ َال ُو ِه ْبتُ كف الحيا ِة ِّ ومن ظمئْتُ ماء ِ الغمام
ِ ِرئ َ ِة ومن
ت َ َجلَّى ص ِعقُوا عليه وما ُ و ُه ْم الجب ُل األشم بوادي ُموسى هوى
وهذه األبيات اختصار واضح لحياة المواطن البائس الذي تمتاز بالده بالثروات
والخيرات دون أن يكون له منها نصيب ،فهو يعيش في حياة تقشفية ،يسكن الصحراء،
مبان أفضل.
ٍ ويتخذ من أقبية 1النخيل مصلى ،رغم ما في بالده من إمكانات إليوائه في
(ومن رئة الغمام ظمئت ماء) ،كأنه يصور حالة البترول المتدفق في أرضه وعدم
حصوله على شيء منه ،كمن يعيش تحت الغمام وال يصيبه شيء من هطول األمطار،
فهو ضمآن رغم الغيث ،وميت رغم كل مؤهالت الحياة حوله.
25
وفي يوميات متكررة ( )3ذات الخمس مقاطع أيضا يتكرر الوصف ،وهو ال يختلف عما
سبقه:
بصحراء
ِ صحراء يدف ُع والتيهُ العمر دائرة ِ في فَلوا ِ
ت أجو ُل
الماء ِ طفَتْ في يديه أ َ ْعيُ ُن ان َ حتى الجفاف ينابيعي ليخنُقَها طال
"خنساء" ِ القصائ ُد فينا عين وذي صخر" فينا كل حادثة ُ " كأنما
لنجالء
ِ ال ت ُ ْن َمى طعانُك وال س ْي ِفكَ ال يُعزى لعنترة ِل َ فما
بسيناء
ِ صب ِْحك لم توقد ُ ونار
ُ لَ ْيلَ ِك لم تعبا بأ َ ْن ُج ِم ِه تركتَ
فالروتين هو هو ،والمشاهد ذاتها ،وال شيء متجدد ،فالزال الجفاف ،وال زال الكدح
والفقر كما هو ،وكأنه يقول فقدنا العيش الكريم كما فقدت الخنساء صخرا ،وهذا المواطن
المتكرر العادي ال سيفه كسيف عنترة فيتميز ،وال يطعن هذا السيف طعنات نجالء واسعة،
وال حتى ناره يوجد شيء يميزها كما تميزت نار موسى بسيناء.
ويستمر الشاعر في مقطعه األخير يوميات متكررة ( )4الذي يصل إلى سبعة أبيات
بوصف الحال ذاته ،إال أنه يتناول جانبا آخرا من حياة الشعب فيقول:
قلق
ِ على أ ْغشاه األمن
ِ َ
وموطن الخوف أ َ ْط ِويها بال َو َجل
ِ َ
مدائن
قد يحمل هذا القول معان كثيرة ،منها الهجرة ،فالمهاجر رغم ما في طريق الهجرة من
مخاطر إال أنه مطمئن البال مستعد للمجازفة من أجل لقمة العيش ،فيقطع الصحاري
والبحار دون خوف ،ولكنه قد يكون في غير مأمن وهو في عقر داره ،وال يأمن على نفسه
وال على دابته وهو يسير ليال في بلده من الحي المجاور حتى بيته مثال ،وهذه حقيقة محضة
صورها الشاعر بأبرع ما يكون من دقة الوصف.
يستمر هذا الكادح في العيش ،ويرسم حلما ال يبلغه ،ويتصور حياة ال يستطيع أن يصل
إليها ،وكل ذلك بسبب حظه العاثر في هذه الحياة ،هذا الحظ النائم الذي تدثر بثوب الليل
وأطال النوم ولم يستفق.
ثم يعاتب قائال:
والورق
ِ الظ ِ ّل بين ِب َر ِبّكَ ماذا الجذور وإن أ َ ْب َدتْ ُم َخا َ
ص َمة ُ هذي
26
ت قاسية معي فأنا ابنك ،ماذا بربك يمكن أن يكون بين
وكأنه يقول :يا أيتها األرض وإن كن ِ
ورقة على الفرع ،وظل في األرض يظهر نهارا ويختفي ليال؟ وكأنه يقول :ال تخاصميني
يا بالدي.
وال يفقد األمل من االستمرار في الحياة على أرضه التي بعثرت آماله:
ق ُم ْن َ
ط ِل ِ غير
َ نصيبا ستحث وأ َ ْ مبعثرة آماال أُ ُ
رتب أ َ ْبقَى
الفلق
ِ ويقرأ َ الصب ُح فيه آيةَ الطير نغ َمتُهُ
ِ يعو َد لهذا حنى
ولم يخرج محمود شريف من هذه اليوميات المتكررة ،ففي الصياغ ذاته قصيدة أخرى
في ختام الديوان تحمل عنوان( :معلقة ثامنة) يواصل فيها الحديث عن الكادحين ،ويصف
حالهم وتخبطهم في الحياة ،كأن ليس له قضية إال هذه الطبقة من المجتمع ،التي ينتمي إليها
جل الشعب التشادي ،المقيمون منهم والمهاجرون.
ما تعانيه طبقة الكادحين من شظف وسوء حال يجعل من يسمع شريف يصفهم يشفق عليهم
فهم من سوء حظهم:
صدى بعد ال ُ
طبو ِل شوا في ال َّ
وعا ُ أ َقاموا في الثرى قبل ال ُحقو ِل
الدخو ِل إلى سبي َل
َ ال ْ
ولكن دون قُ ْفلَ َرأ َ ْو باب الحقيق ِة
وقال:
َدلي ِل بال للصباح
ِ وساروا
ُ شوا ِظماء
ب َم ْ على أ َم ِل ال َّ
سرا ِ
كأنه هنا يصور حالة الهجرة التي اتجهت أفكار الناس إليها ،فبالكاد يوجد شاب ال يفكر
بالهجرة ،هذا البيت وصف حالة المهاجرين بدقة ،على أمل وهمي كالسراب رضوا بحياة
التقشف حتى يهاجروا ،ومعروف أنهم يسيرون بال هدى ،وبال دليل.
البَ ِخي ِل ِهب ِة عن الخبز
ِ بِعه ِد َ
طعام أ َ ْغوى إذا استغنوا
ْ ق ِد
تماما هذه هي حالة المهاجرين ،تغريهم اللقمة ،كيف ال؟! وسفرهم كله من أجل لقمة العيش.
عو ِل
الو ُ
ُ ت
بِعادا ِ أ َخذوا وق ْد يوما الشال ُل أ ْغوا ُه ُم وما
من المعلوم أن الشالل ينساب على المرتفعات من أعلى ألسفل ،أما هم فقد أخذوا بعادة
الوعول وهي صعود المرتفعات ،والتي قد تقارب فيها بعض المرتفعات الزاوية القائمة،
وهي أشق وأصعب ،فكأنهم يتعمدون أن يسلكوا من الطرق أوعرها.
ثم تتجلى دقة وصف حالة المهاجرين الذين يستوطنون بالد الغربة فيقول:
27
ال َمغو ِل في تَ َ
ش َّك َل َكبَ ْغداد ت قَاموا سحقوا على ال ُ
ط ُرقا ِ إذا ُ
وهذا من شدة االنتماء ،فربما استوطن بعض المهاجرين بالد الغربة فصاروا من الشعب،
وحصلوا على الجنسيات ،كالمغول الذين استوطنوا بغداد بعد غزوها ،فصاروا جزءا منها،
بل ودافعوا عنها ،وحاربوا في جيشها.
ويعطيهم الشاعر الحق في نحوهم هذا معلال بقوله:
الر ِحي ِلَّ إلى يَأ ْنَسون ت َراه ْم ِلهذا ُموحشة األوطا ُن هي
ُ
القفو ِلُ َخارطةَ منهُ َوأ َ ْلغَ ْوا ق إلى ال َمنَافِيسموا الطري َ وق ْد َر َ
وفي قصيدة (غائب آن له أن يعود) -وهي من ال ُح ّر -يصف محمود شريف الشعر العربي
التشادي ،كيف كان وإلى أي مآل آل ،وقد وصفه من خالل حديثه عن الشاعر التشادي
"إبراهيم الكانمي" ،فقال:
الشعر َ
طفال.. ُ الرم َل ك ْم قَ ْد َح َبا
ج ّ على َو َه ِ
ي..
يَ ِخف له الكا ِنم ّ
هوى ُم ْط ِربا في يديه..
غوص أَوائ ُل أ َ ِ
شعار ِه.. ُ تَ
28
والشاعر يلتمس آثار تلك القصائد وال يجدها ،لكنه موقن أنها فترة البد أن يكون الشعر قد
مر بها ،وعدم وصولها إلينا ليس دليال على عدم وجودها.
الحروف..
ْ أشُم على الرم ِل ِري َح
الو ُرو ْد ..
الدرب نحو ُ
َ وال أُب ِ
ْص ُر
فَال َد َ
ار أ ْبكي بِها..
أو ُ
طلُول ت ُ ْ
جيب..
شعري..
فيا ليت ِ
سلَ ْك؟؟
أي ِ تِيه َ
إِلى ّ
ثم يقول:
عري..
ش ِسناب ُل ِ
َ
َ
غدَتْ َيابسات..
وق ْد ك َُّن ُخ ْ
ضرا..
ْ
العزيز؟؟ فَه ْل هو تأوي ُل ُرؤيا
هل يا تُرى اضمحالل الشعر بعد ازدهاره كبقرات العزيز السمان التي يأكلهن العجاف،
وكذلك السنبالت الخضر واليابسات ،هل الشعر التشادي سيأتيه عام فيه يغاث الناس وفيه
يعصرون؟
وإذا تتبعنا القصيدة مقطعا مقطعا لن نمل من روعة وصف شريف لحالة الشعر التشادي،
فالقصيدة كلها وصف دقيق ممتع ،رغم مأساوية الحال .إنه يتأمل قائال:
أن يُبتعَ ْث..
لق ْد آن للميْت ْ
للنازحين الرجوعْ..
ِ لقد آن
فهذا أوانِي..
بماء الذَّ ْ
هب.. ِ ش ْع ِري
كتب َ
ِأل َ
العرب..
ْ علّقتْ فوقَ َب ْي ِ
ت ُمعلقة ُ
سوق ا ْلعُكا ْظ..
ِ عاريب
ُ يمي ُل إليها أ َ
29
َو َو ْف ُد األ َ ْ
دب..
ومن وصف حالة الشعر العربي التشادي ينتقل محمود شريف إلى وصف اللغة العربية في
تشاد في قصيدة (غربة قلم) ،وكما الشعر؛ ال تختلف حالة اللغة العربية كثيرا ،فقضيتها في
تشاد تتقلب مع الزمان من حال لحال ،قضية صراعها مع الفرنسية باعتبار البلد ثنائية اللغة،
ثم صراع العربية بين مثق فيها أنفسهم ،أو ربما يقصد حتى صراع الفصحى والعامية ،فمن
الملفت إجادة وصف الشاعر لهذا الوضع وصفا دقيقا ال يدع مجاال للسامع أن يذهب ذهنه
إلى منحى آخر ،فهو يحدثنا عن حالة اللغة العربية التي صارت غريبة أو مضطربة ،فقد
كانت ذات مجد تليد ،وتاريخ عظيم ،ولغة الحكم والسلطان:
ترجع ولم ت َ ُؤ ِ
ب؟ ْ ماذا أصابكَ لم القلم الممت ِ ّد ُ
غربتُهُ ِ يا غربةَ
إلى أن يقول:
س َحري أ َ ْلقى وال َ
طر ِبي واآلن ال َ س َحرا
أنغام ِه َ
ِ لحن َ
طربتُ على
ثم يستأنف حسرته على غربة اللغة العربية التي سماها مجازا بالقلم ،فيقول:
ب
س ِ الحرف من رحم ومن نَ َِ َوشائ ُج نساب وارت َفَعتْ
ُ طعتْ دونه األ َت َقَ َّ
ب ضيعةَ ْ
الدم ِع َمسفُوحا على العَت َ ِ يا َ دامعَهُ
ب الماضي َم ِ عت َ ِ
ذري على َيُ ِ
بطنُ ِ على ِعماد ولم يُم َد ْد على ُ نهض َكوا ِهلُهُ
ْ متى البنا ُء؟ ولم ت َ
ويختم قصيدته ببصيص أمل بعد أن تقطعت األسباب واألنساب بهذه اللغة بقوله:
ال يزال الوصف السمة السائدة بديوان وجوه ال تعكسها المرايا ،وال تزال القصائد الالحقة
فيه كثيرة ،ويتكرر وصفه لجوانب عدة من وطنه ،ففي قصيدة (أبجديات األرض) يتحدث
عن الجمجمة "توماي" التي زعم علماء اآلثار المضللون أنها جمجمة ألقدم تشادي وجد في
هذه البالد ،وأن أصله قرد ،وإليه ينسب التشاديون ،وزعموا أن هذه الجمجمة قديمة قدم
التاريخ ،فيسخر شريف من هذا ال ِقدم والذي يقاربه إلى األسطورة سندباد فيقول:
30
ُباب
وع ْ وشراع سندباد يكن ث َ َّم بها
ْ سندباد!! ل ْم
َ
الخراب
ْ لما قبْل وتعداها ِعمرانها َوطوى األيا َم في
هذه الجمجمة ال يُعرف لها أصل ،وال عرق ،وال نسب ،والكثير من التساؤالت تحوم حول
ناس آخرون ،وإذا كان في مجموعة بشرية فأين هي توماي هذا؟ من والديه؟ أال يوجد معه أ ُ ٌ
آثارهم؟ وعلى الرغم من أن هذه التساؤالت طالت "نبينا آدم" أيضا ،إال أن التساؤالت التي
طالت توماي قد جاوزتها ،وأرض ال ُجراب هي "منخفض ُجراب" الذي ُزعم وجود
الجمجمة فيه.
قصيدة ذكرى المحرقة
يخرج محمود شريف من الوطن الصغير "تشاد" إلى عالمه الكبير ،وهو العالم اإلسالمي،
فيصف حاله في قصيدتين( :بقية نصل) التي كانت األوضاع في فلسطين وسوريا دافعا له
لكتابتها ،وقصيدة (انعكاسات على مرآة الماضي) التي وصف فيها حالة العالم اإلسالمي
أجمع ،فيقول في (بقية نصل) متحدثا عن النصر الذي كان مالزما للعالم اإلسالمي:
قاطعُ ْه
يُ ِ وحينا ِحينا يُواصلُهُ ويُطا ِلعُ ْه ال َق َنا بيْن يُراقبُهُ
طالئعُ ْه ب
ق الغيا ِ ْ
أف ِ فتَمتد في صب ِْح ِهُ باشير
َ يُري ِه على َنأْي ت َ
َمطا ِلعُ ْه وتَبْلى أُخراهُ ت َ َج َّد ُد ِنصالُهُ َدبَّجتْهُ شَعر كأنكَ
مشيرا إلى تقلبات األوضاع السياسية في فلسطين وسوريا ،وذلك من خالل الصد والرد بين
حركات المقاومة والمحتلين في فلسطين ،والصد والرد بين الحزب الحاكم والمعارضين في
سوريا ،فمن يتابع األخبار يرى تباشير النصر مرة ،والهزيمة مرة أخرى ،كأن النصر لم
يثبت على حال ،فهو يتراءى حينا ،ويختفي حينا آخر.
إلى أن يقول:
ع ْه
ُمطا ِو ُ و َي ْعصي عاصي ِه
ِ ع
يُطاو ُ صروفُهُ
ُ للدهر كيف
ِ فَيا َ
ع َجبا
31
ويقول:
دامعُ ْه
َم ِ البالء
ِ َه ْو َل َ
اختزلتْ قد حر خ ِ ّد ِه
َجرى "بَ ْردَى" دمعا على ِ ّ
"بر دى" نهر بسوريا ،يقول الشاعر عن جريانها إنما هو دمع من شدة التحسر على ما مرت
ْ
به البالد من ويالت الحرب ،وهذه الدموع هي أبلغ وصف لما عانته سوريا وما تعانيه.
ع ْه
وشوار ُ
ِ حا ِل ِه عن تُحدثُنا ي ِ بُيُوتُهُ
الحزن الشج ّ
ِ يَكا ُد من
ع ْه على حلب والرو ُم فيها ت ُ ِ
صار ُ َ
سيف الدول ِة اليوم قائما
َ ولم أ َ َر
ليس النهر وحده من يبكي البالد ،بل الشوارع ،واألحياء ،والبيوت المتهدمة كلها تتحدث من
الفجائع والمأساة ،كأن حلب التي شهدت سيف الدولة الذي حارب فيها الروم ليست حلب
اليوم.
ومن هول مصيبة العالم اإلسالمي ،وعظم فاجعتها ،وهوانها على الناس ،وانكسار شوكتها:
وتُمانِعُ ْه أكفانُهُ عهُ تُ ِ
ناز ُ ضريح ِه
ِ الدين تحتَ
ِ َّ
كأن صال َح
للعودة مرة أخرى إلى الحياة ،ونصرة اإلسالم ،ورفع رايته التي سقطت ،وهذا كناية عن
الشهيد ،فالشهيد ال يموت.
ع ْه
صار ُ
نان َم ِ
الج ِ
ِ شَهيد على َمر َمى ير سيّد
غ ُس ِل ال َح ْو َر هل في ظ ِلّهَ َ
َ
أما شريف ،فال يفارقه األمل في وصف كل حال سيء في أن يتحسن ،ألنه يختم أغلب
تحسراته بآمال فيختتم قائال:
المعُ ْه
ِ ال ُم َّ
ؤز ِر للنصر
ِ إذا ارت َّد السيف نحو قِرا ِب ِه
ُ سيرتَد هذا
ْ
َمرابِعُ ْه و ِت ْلكَ َم ْغناهُ، فهاتِيكَ ضا إِهابة َ
غ ًّ ُهنا َرتَ َع التاري ُخ
ثم يستمرا ي اإلطار ذاته في قصيدة (انعكاسات على مرآة الماضي) في وصف ما آلت إليه
شوه معالمها من حروب ،ودمار ويقول:
األمة اإلسالمية من انكسار ،وخذالن ،وما ّ
َحما َها كفها ال َم ِ
احي إال َّ بقايا راحي ْ
بأف ِ الحزن ك ْم أو َدتْ
ِ مشاه ُد
احي
ص ِ ع ِهدت ُك يوما ذاتَ إِ ْف َ َ أ َ َما ُمعجمة واآلثار
ُ بالدار
ِ أ َ ُمر
احيحركتْ في ث َرى األ َ ْطال ِل أشبَ ِ ت َ َّ ب أندلس طرتْ في القل ِ وكلَّ َما خ َ
احي صبَ ِ
ظالم ِم ْ
اإل ِ ِ سبُ ِل
ُ و َ
ض َّل في ض ْعتُ في ال ِت ّي ِه ِنيرانِي و ُه َّن ُهدى أَ َ
32
ما نشاهده اليوم على شاشات األخبار من مآس ومجازر ،ومحارق ،كفيل بأن يمحو الفرحة
من النفس ،فقد أودت بأفراح الشاعر ومسراته ،حتى المعالم المعروفة صارت غريبة اليوم،
فيعاتبها بحزن :أما عهدتك يوما ذات إفصاحي ،وهذا الشطر مليء بالحزن واألسى.
هذه قصيدة واضحة المعاني ،وقريبة للذهن ،ال تحتاج إلى جهد لفهم مرادها ومقصودها،
فشريف لم يترك مجاال إلساءة الفهم من دقة الوصف.
يقول متحدثا بلسان العالم اإلسالمي:
ْباحي
ميناء ِإص ِ ِ النجوم إلى
ِ س ْف َن
ُ هذا اللي َل ُم ْمت َ ِطيا متى أ ُ ُ
جاوز
الراحِ
الحزن ال من سكر ِة َّ
ِ من َحيْر ِة ي مضطربا في ج ْنب َّ القلب
ُ ترنّح
ُمجْ تَاحِ َي ْغتالُ ِني في طري ِقي لي ُل الضوء أتبعُهُ ِ ورا َء طو وحين أخ ُ
سيَّاحُِ إعجاب
َ صورتُها
ُ تُ ُ
ثير أنقاض مملكة ُ سوى لم يَبْقَ مني
33
نَ ْكبُ ُر في ِه ُكلما فيه ونصغُ ُر العمر كالخي ِل يَ ْعث ُ ُر
ُ ت َ َر َّج ْل فهذا
سو َوت ُ ْب ِح ُر َهذي الس ْفنُ ت َ ْر ُ وخلفَكَ غير ساحل البحر في ِ
ِ َرمى بكَ مو ُ
ج
ثم يقول:
ط ُر ف أ َس ُ ق في رم ِل الصحا ِئ ِ ور َُفت ُ ِ ْ
صخ ِر اليراعِ َمنا ِبعا ت ُف ِ ّج ُر في
معبر
ُ ت ال ُمحا ِو ِلجف من تح َِّ إذا طرية َ
طريقا لآلتي ت ُه ّ
ي ِ ُء
نبر
َم ُ وكفكَ محراب فقلبُكَ سي َم ُخطة ويأ ْ ِوي إليكَ الضا ُد إن ِ
وضع "آدم عبدهللا" على عاتقه هم اللغة العربية ،وحاول أن يدعمها بصحيفته (أنجمينا
الجديدة) ،فقد كان يستقطب ال ُكتّاب من هنا وهناك ،وعمل بجهد وتعب متواصل دون كلل أو
ملل من أجل هذه الصحيفة ،وحرص بشكل كبير على تميزها وتفردها ،ف َه ُّم اللغة العربية
كان شغله الشاغل ،وقد ازدهرت الصحافة العربية في عهده أيما ازدهار ،حتى أن بعض
مثقفي العربية ينتظر صدور العدد الجديد بلهفة ،وقد كانت الجريدة تتناول مواضيع عدة في
كثير من المجاالت ،ما يجعلها جريدة ممتعة لكثير من الميول والمزاجيات ،ويصدق قول
ط ُر) ،كناية عن ازدهار الصحافة العربية عبر ف أَس ُ
ق في رم ِل الصحائِ ِ شريف فيه( :فَت ُ ِ
ور ُ
جريدته.
ال ُمت َ َك ِ ّ
س ُر َوج ُهها فيه تَ َ
ش َّك ُل ُهنا الضا ُد في َمرآتِ ِه ُ
صورة لها
من شدة تعصب "آدم عبدهللا" للغة الضاد تكاد حين تراه ال يتبادر لذهنك إال الضاد ،ونصرة
العربية ،والدفاع عنها ،حتى يكاد إذا نظر إلى المرآة ال يرى انعكاس صورته ،بل يرى
اللغة العربية متمثلة فيه ،فهو انعكاس لها وهي انعكاس له.
ص ُر
ليس يُ ْب َ
َ ب ما
وراء الغ ْي ِ
ِ يَرى من قلبُهُ النبو َء ِة ِبمشكا ِة يُشع
أما هذا البيت فيكاد يكون حقيقة ،ألن العم "آدم" كانت لديه فراسة حول األشخاص والواقع
المعاش ،فال يكاد يمر حدث ما ،أو واقعة تثير المجتمع ،إال وكان له تحليله ووجه نظره
وتعليله لألحداث ،وكأنه يتنبأ بمآالت ما حدث ،لقد كانت لديه دائما تحليالته السياسية
الخاصة ،ونظرته المجتمعية المستوعبة ،وثقافته الواسعة التي تجعله يعمل بمقولة :التاريخ
يعيد نفسه.
34
كما كان يتنبأ بال مواهب ،من جيد ورديء ،فعندما تمر عليه موهبة على العتبات األولى لسلم
الكتابة ،كان يت نبأ بقدرة صاحب الموهبة على االستمرار أو التوقف ،فكان يعبر أحيانا بقوله:
فالن سيصبح ذا شأن في المجال الفالني ،أو أن يقول :فالن ليس له من الكتابة نصيب.
صد ُُق تنبؤاته وكأنه يعلم شيئا من الغيب ،وما هي إال شدة الفراسة.
وكانت ت َ ْ
ومؤلم البيت الذي اختتم به شريف القصيدة ،كأنه يبين أن هذا الرجل لم يوقر كما يجب ،ولم
يحصل على مكانته المستحقة ،وكأن رحيله مبكر:
يَتَأ َ َّخ ُر أنهُ لو راحال ويا َمنازل سعَفَتْهُ
أ ْ لو قمرا فَيا
إنه يتحدث عن نشأة المنظمة التي كانت في زمن لم يولد بعد ،وربما يقصد به والدة منظمة
كهذه في زمن ال يولد فيه مثيالتها.
ُ
غصو َنا البقاء
ِ في ُجذور َخ َذلَتْ الجفاف وطا َل َما
ِ ْ
أورقتُ في عه ِد
1
الفيروزأبادي ،مجد الدين محمد بن يعقوب ،القاموس المحيط ،مادة (م ،د ،ح).
2
فارس ،خالد محمد ،معجم الفنون األدبية ،دار أسامة للنشر والتوزيع ،الطبعة األولى1121 ،م ،عمان /األردن ،الجزء الثاني ،ص.2211
3
نصار ،نواف ،معجم المصطلحات األدبية ،عربي – إنجليزي ،مرجع سبق ذكره( ،مصطلح "مدح").
35
وهنا يقصد اإلنجازات التي قامت بها المنظمة خالل أعوامها العشرين ،فهي رغم الحياة
ت لنفسها قوة ومكانة جعلتها ظال ظليال للكثير من الصعبة ،وقلة اإلمدادات والدعم ،أوج َد ْ
األنشطة الثقافية ،والمشاريع الخيرية ،ولها من اإلنجازات العظيمة الكثير.
وعُيونَا َجذوة المواق َد تُعطي وجمرة
ْ الرما ِد لي نهضة تحتَ
من اسمها نشأ حالها ،فاسمها منظمة النهضة ،وما تقوم به هو النهضة بعينها ،فقد حرصت
المنظمة على التطوير ،والنماء ،والدعم للمواهب واستقطابها ،فكل ما تقوم به هو في مجمله
نهضة.
سكونَا
ُ المدار
ِ مع أستطي ُع ال ألنني الهال ِل إلى انتميتُ إني
فالمدار الفلكي ثابت ،والهالل متحرك ،وما تقوم به المنظمة من إنجازات يجعل أعضاءها
في حركة دائمة كالهالل المتنقل في السماء طوال العام ،وليس كالمدار الساكن ،فهذا السكون
ال يليق بهم ،وال يشبههم أن يكونوا مكتوفي األيدي تجاه الوضع المجتمعي حولهم ،بل البد
أن تكون لهم بصمتهم في تحسين الواقع المعاش.
وقمة الفخر في هذه المثابرة تتمثل في قدرة المنظمة على العطاء ،واالستمرار فيه ،على
عكس المؤسسات المماثلة التي يسطع نجمها لسنة أو سنتين ثم يأفل وتمحى آثارها وتُنسى
أحيانا ،فالنهضة رغم كل الظروف المتماثلة في هذا النوع من المجاالت كسرت العادة،
وحافظت على استمرارية عطائها ،فقال شريف على لسانها متفاخرا:
الضعاف َم ِتينا
ِ صحوا ومن َدع َْوى ت ال َك َرى وخرجتُ من كل احتماال ِ
ُجفُونَا اهر َ
ين س ِ ال َّ لي َل ومنحتُ ِحين ليَ ْنبُتُوا
وسقَيْتُ يو َم الكاد َ
وهذا عزم من المنظمة على البقاء والثبات واالستمرار ،حتى إذا بقيت من الحياة بضعة
دقائق ستحرص على إعاقتها عن االنقضاء كي تكون كما ينبغي.
كما أن مشوار األلف ميل يبدأ بخطوة فمنظمة النهضة كذلك:
36
ِعش ِْرينَا ال َمدى في تَزر ُ
ع واليو َم البدء كانتْ شتلة من ُخطوة
ِ في
وقد كان شريف في المرحلة األخيرة من المسابقة ،وكان على وشك الفوز باللقب ،فارتجل
هذين البيتين من وحي اللحظة ،وقد كان شعور الفوز مسيطر عليه ،ألنه واثق من أنه صاغ
شعرا مطربا ليس به آمة ،أي ليس به عيبا ،وهو ما ظهر جليا في هذين البيتين ،حتى أنه
يزجر منافسيه بكل ثقة بقوله :أنكم وإن كنتم تمتطون أعدى الخيل وأقواها عليكم أن
تتراجعوا ،وال تتعبوا خيولكم ،فالنتيجة واضحة ،والفوز لي.
1
مختار الصحاح ،مرجع سبق ذكره ،مادة (ف ،خ ،ر).
2
نصار ،نواف ،معجم المصطلحات األدبية ،عربي – إنجليزي ،مرجع سبق ذكره( ،مصطلح "فخر").
37
ثم بنى باقي القصيدة بعد هذين البيتين ،مفتخرا بمقدرته الفذة على نظم الشعر ،و ُحق له أن
يتفاخر بذلك ،فقد حصد لقب شاعر الجامعة في تلك المسابقة.
استهل شريف القصيدة بحيازته للحرف فقال:
سش ََو ِار ُد اللّحْ ِن نَ ِاري بَ ْع ُد ِذي أ ُ ْن ِ أرضي بع ُد ذي يَبَ ِس
ِ فالحر ِ
ْ ب
سحائِ ُ
ض ْوء من القَ َب ِس قَ ْبض من الرم ِل أو َ شفَ ِتي
الحرف في َ
ِ ونار
ُ ص ْوتي
كأن َ َّ
وعلى الرغم من حيازته للحرف اليزال صوته كالشعراء التشاديين ،فصوتهم ما يزال غير
مسموع ،وشعرهم كأنه حفنة رمل من صحراء واسعة ،أو ضوء من بعيد ال يكاد يرى.
ثم يقول من شدة حبي للقصائد:
س ِس والنجْ ُم في األ ُ ْف ِ
ق ق ْد َملَّتْ ِم َن ا ْل َع َ ُم َر َّددَة قَوافي َها َملَ ْلتُ فما
أي مهما طال عهدي بالشعر لن أم ّل قوافيه ،لن أم ّل سماعه ،ولن أم ّل قوله وكتابته ،ربما
ق على عهد ت َ َم ُّل النجوم من عسعسة الليل ،وامتداد الظالم فتغادر في الصباح ،أما أنا با ٍ
الشعر غير منفكٍ عنه.
ثم يقول لقد:
ُم ْخت َ ِل ِ
س َخ ْط َو َخ ْطوتُ إليه وما أقالمي َوعاطفَتِي ِ للشعر
ِ أ َبَحْ تُ
سغير ذي َح َر ِ َ أ َ ْلقى لي القَ ْو َل َوحْ يا شيْطانُهُ و ْهو في ثَ ْو َب ْي َمالئكة َ
س الد ُر ِ ِل ْْل َ ْر ُ
س ِم َم ْرثِيَّتِي ودم ُع
ْ للطير ما لَ َحنَتْ ،للظ ْبي ِ ما َ
غ َز َلتْ ِ
أنا ال أتكلف الشعر ،بل يأتيني طواعية ،يكفي أن تلفت مشاعري قضية ما ،فينساب مني
الشعر دون تكلف ،وكأنه يقول أنه شاعر بديهة ،وليس شاعرا مصنوعا يتكلف شعره،
وينقحه كما يفعل أصحاب الحوليات ،يأتيني شيطان شعري كأنه َملَك يوحي إلي دون تكلف،
فسليقتي طبيعية كطبيعة الطير في شدوها ،وطبيعة التغزل بالظبي ،أما أنا أستطيع أن أكتب
مرثية لألطالل دون تكلف.
فهذه هي عالقتي بالشعر:
س األ ُ ُ
س ِ سو َخةَ
َمر ُ آمة بها ليستْ بالشعر أ َ ْلحانا ُم َ
ط َّربَة ِ ص ْغتُ
ُ قد
38
المطلب الخامس :الغزل.
ْ
واغتزلت ُه ،فهو غ َْزل ،بالفتح أي :مغزول .ونسوة ُ
غز ٌل ت القطن تغزله الغزل لغة :غزلَ ِ
كر ّكع ،وغوازل .وأغزل :أدار .ومغازلة النساء :محادثتهن .واالسم :الغَزَ لُ ،والتغزل: ُ
1
التكلف له .وغازل األربعين :دنا منها .
أما اصطالحا :الحديث عن جمال المرأة والتغني بمحاسنها ومفاتنها ،ويغلب على شعر
الغزل طابع الرقة والعذوبة.2
وردت قصيدة غزلية واحدة أيضا بديوان وجوه ال تعكسها المرايا ،وهي القصيدة التي اختتم
بها شريف ديوانه( :سيرة أخرى لشاعر الصحراء "عبدالواحد حسن السنوسي") ،ومن
عنوان القصيدة قد يتبادر للذهن أنها مرثية لشاعر الصحراء عبدالواحد حسن السنوسي،
ولكنها في الحقيقة هي قصيدة غزلية بحتة ،وقد اختار أن تكون قصيدته سيرة أخرى لعبد
الواحد ألن عبد الواحد كان أكثر من تغزل من الشعراء التشاديين في أوانه ،وها قد فارق
الحياة ،وها هي قصيدة شريف تكون بمثابة إحياء لغزليات عبدالواحد.
يعرف عن محمود شريف شدة التحفظ في هكذا أمور ،لذلك يمكننا أن نعتبره من شعراء ُ
التيار المحافظ ،فألفاظه مهذبة تمتاز بالتحفظ الشديد ،وربما يعود ذلك إلى نشأته الدينية،
لدرجة أنه يتحفظ حتى في صياغة عنوان القصيدة ،ويلبسها ثوب الرثاء ،فمن يقرأ اسم
عبدالواحد يتبادر لذهنه مباشرة أن شريف يرثيه ،وحتى في هذه القصيدة الغزلية التي من
المتوقع أن تحتوي على ألفاظ متحررة قليال ،نجد شريف يستخدم ألفاظا مهذبة جدا ،كشاعر
عذري يحب بعفة ،ولعل األمر عائد إلى نشأته الدينية المحافظة.
لكن كل ذلك التهذيب الذي يتبناه شريف ال يساوي شيئا أمام قدرته الفذة على التعبير،
فهو بقدرة سيطرته على حروفه يهز قلب السامع هزا ،واصفا الحب والعشق والهوى
بوصف ال يقل عن شعراء الغزل أنفسهم.
افتتح القصيدة بأقوى وصف لحالة اإلنسان حينما يجتاحه الحب ،فقال:
التَّوت ُ ُر من ك ّل ا ِت ّ َزانِي ليدخ َل يف ثَباتِي في الرياحِ وأ َ ْعبُ ُر أ ُ ِض ُ
ا ْل ُمد ََّو ُر ت
في ك ّل الجها ِ ل َي ْفتح ق دَورةَ ُحبّه ْم ستَ ْك َم َل العُشا ُ
وما ا ْ
ما أقواه من وصف لحالة المرء حينما يجتاحه الحب ،فأنا رغم ثباتي واتزاني وجالدتي
حينما وقعتُ في الحب توترت واضطربتُ وفقدت توازني ،فقد هزني العشق هزا حتى
1
القاموس المحيط ،مرجع سبق ذكره ،مادة (غ ،ز ،ل).
2
نصار ،نواف ،معجم المصطلحات األدبية ،عربي – إنجليزي ،مرجع سبق ذكره( ،مصطلح "غزل").
39
اختلطت علي الجهات األربعة ،كأنه يدور في دوامة ،يدور في دائرة العشق التي ال تحمل
زوايا ،وال جهات.
ثم يقول لمحبوبته:
الحب في الجرحِ يَ ْكبُ ُر
ّ نَخيال ،فه َذا ت أ َ ْرت َ ِقي
الجراحا ِ
ِ أَت َ ْيت ُ ِك َنبْتا في
ربما يقصد الشاعر هنا أن استعار الحب ال يكون في الوصول إلى المحبوبة ،بل يستعر في
عدم الحصول عليها ،يستعر الحب في البعد ،والمنع ،وذلك ما يولد الشوق ،فهذه جروح
المحبين التي تزيد قوة التعلق ،ومصداق ذلك أن شعراء الغزل الذين قالوا أجود قصائد
الغزل؛ كانت محبوباتهم في نأي عنهم ،فلو أنهم نالوهن بيسر وسهولة ما كانت تلك القصائد
قد خرجت من أعماقهم بهذه العاطفة الجياشة من الصدق في تصوير صدق المشاعر.
ال يختلف شريف عن غيره من شعراء الغزل في التفكر في محبوباتهم ،فها هو يتفكر فيها
في كل أحواله ،سلمه وحربه ،فيلمح لمعة ابتسامتها في لمعة التقاء السيوف والرماح عند
القتال ،وك ّل يومه ال يميز ليله من نهاره إال عبرها ،فال شروق لصباحي إال عندما يَ ْفتَ ُّر
ثغرها بابتسامة كأنها شمس طلعت ،وال أعرف أنني في الليل إال عندما أرى انسياب شعرها
الكثيف:
والرم ُح في الرمحِ يُ ْك َ
س ُر ْ إذا ا ْلتَقَيَا، والسيف ث َ ْغ َر َها
ِ السيف
ِ وأ َ ْلم ُح بين
ين َف ْرع ُِك 2يُ ْم ِط ُر
وال اللي ُل إال ِح َ حين ت َ ْفت َرَ 1و ْقتُهُ
َ وما الص ْب ُح إال
كما يعجز الشاعر عن وصف محبوبته ،وال يجد ما يشبهها به ،فكل حروف التشبيه على
رأسها الكاف ال تعينه على اختيار مثيل لها ليشبهها به ،وال يجد من المجازات ما يعينه ،فال
حمرة العناب تقارن بحمرة يديها المخضبتان بالحناء ،وال جيد دمية الخشب الممتد يقارب
جيدها ،وال حتى تشبه الغزال ،وال يوجد مثيل لضحكتها ،وال يشعر بمرور الوقت عندما
يلقاها ،فهو عاجز تماما عن وصفها:
ط ُر س ُ ت أَ ْ ْض ال َمجازا ِ وتقصر عن قب ِ ُ كَافُهُ شفَ ِة التّشبِي ِه يَ ْظ َمأ ُ
َ وفي
لف ال َبراقع ُج ْؤ َذ ُر وال ط َّل من َخ ِ دُمية الجي ُد عنَّاب ،وال ِ فَما الكَف ُ
س ُر يُفَ َّ ال ما ِلْلَوت َ ِار يُأ َ ّ ِو ُل ُم ْع َجم الطير
ِ ِل ِضحْ َكتِ َها من َم ْن ِ
طق
ض ُر فار ْقت َ َها و ْه َو أ َ ْخ َ
َ ض إن وي ْن َه ُ لقَا ِئ َها جف هُناكَ الوقتُ عن َد َي ّ
1
االفترار عن األسنان :اإلبانة عنها بتبسم حسن.
2
فرع المرأة :شعرها ،ويراد به الشعر الكثيف دون الخفيف.
40
سرف ت َ ْخ ُس ْو َ من َوادي ا ْلغَ َ
ضا َ إذا ك ْنتَ ْ أ َقُو ُل ِل َج ْمر في الضلوعِ ُم َؤ َّجج
ق في خ ِ ّد القَصي ِد وت َ ْق ُ
ط ُر ور ُست ُ ِ ع وإِنّما شب في عَينِي الدمو ُوت ُ ْع ُ
أشجار الغضا التي ال تغيب عن دواوين الشعر العربي ،والتي يستخدمها الشعراء في
معرض الحب واالشتياق ،والحنين إلى الديار ،يقول شريف للشوق عامة :حتى إذا كنت من
وادي الغضا فإنك ستخسر مقارنة بشوقي.
ثم يقول:
ين ِخ ْن َج ُر سا َل في َج ْن ِ
ب ال ُمحبِ َ إذا َ عها) ِخدا ُ (ولي شيمة ت َأ ْبَى عل َّ
ي
ْس يُ ْغفَ ُر
ق ما لي َ فَق ْد َي ُ
غفر العشا ُ غد َْرهاَ تَخو ُن ولكنّي أ ُ ُ
ساير
يقول بأنه يعرف حاالت العشاق والمحبين ،وتخون ولكن معنى الخيانة هنا يقصد به مثال
تعمدها في الغياب عنه أو نحوه ،وهو يعلم أنها تفعل ذلك قصدا ،ولكنه يساير هذه
التصرفات منها ،فقد يغفر العشاق لمحبوباتهم ما ال يغفرونه للناس اآلخرين.
ثم يتحدث عن العشاق ويذكر أحوالهم ،ويذكر ما يمرون به من تقلبات األحوال ،وكيف
يخرجون عن المألون ويخالفون الطبيعة ،فكل شيء يفعلونه ليس منطقيا أبدا ،وكل
تصرفاتهم غير متوقعة:
طروا وأم ُْ ماء
الظ ِ
ِ وق ْد ن َكثوا عه َد س ِه ْمسوا والغي ُم فوقَ ُرؤو ِ َي ِب ُ ِل ِم ْن
موطنا فتأ َّخ ُروا ْ وظنوا المنافِي بابيك عودة ش ِ خلف ال ّ َ علّقُوا ْ
لمن
ب وكبَّ ُروا ت اإليا ِ دون ميقا ِ َ أتوا
ْ ُر ُكو َ
ع ُه ْم أ ّجلُوا للقا ِد ِمي َن لمن ْ
َ
المنابع أ ْن ُه ُر
ِ ض َلكرتْ ف ْ وق ْد أ ْن َ حب ُم َؤ َّمل ٌّ ِّ
الشك بع َد هذا فما
وها هو يقول بأنه أيضا ليس له مثيل بين العاشقين ،وليست هي فقط المتفردة:
ِم ْز َه ُر ويَ ْب ِكي ِه نَاي لهُ يَئِن ْ
فلن ت َ ْكتُبُوا بعدِي تَباري َح شاعر
41
المبحث الثاني :الموضوعات:
لقد أسلفنا الذكر في مدخل هذا الفصل بالقول" :وأراني أميل إلى الرأي األخير رأي األديب
حنا الفاخوري ،الذي نقل الموضوع من الدائرة الضيقة للمعنى من مدح وهجاء ونسيب إلى
الموضوعات االجتماعية والسياسية واالقتصادية؛ كي نتناول األغراض والموضوعات كال
على حدة ،ما يعني أننا نفصل بين األغراض والموضوعات ،فاألغراض هي الموضوعات
القديمة للشعر من هجاء ومديح ونسيب وهجاء ووصف ،والموضوعات هي التوسع لهذه
العناوين الرئيسة من اجتماعيات وسياسة ووطنيات....إلخ ،فالغرض بحسب هذه الدراسة
هو الموضوع األساسي أو الرئيسي المرجو من القصيدة ،والموضوع هو ما تدور حوله
القصيدة"
وعلى هذا النحو نقسم الموضوعات التي تناولها محمود شريف في ديوانه (وجوه ال تعكسها
المرايا) على النحو التالي:
المطلب األول :الشكوى والحنين:
إنها ت عنى التوجع من شيء تنوء به النفس ،كالمرض ،والشيخوخة ،والموت ،والدهر،
والحرب ،والخيانة ،والغدر ،والظلم ،والكذب ،والفقر ،والديْن ،وغير ذلك من المظاهر
والحاالت التي قد تعرض للشخص ،فتكدر عليه صفو حياته ،ويشعر إزاءها بالهموم وشدة
اليأس ،ويقوم هذا التعريف على أسس شاكٍ ،ومشكو إليه ،وموضوع الشكوى ،ثم هدف
الشكوى وغايتها.
وتتجلى فيما يبثه صاحب الشكوى إلى اآلخرين من المعاناة ،وهي إلى هذا تعكس لنا خوف
الشاكي من اإلخفاق في تكوين عالقات متوازنة مع الواقع ،كما أنها تكون بسبب وجود خلل
ما في المجتمع ،وما قد يطرأ على العالقات اإلنسانية الرفيعة من االنحراف في بعض
األحيان ،وهي وليدة الحرمان ،والظلم االجتماعي ،والسياسي ،وانعدام حياة العدل،
والمساواة ،والشعور بالحيف وعدم الوفاء وهي بعد ذلك صرخة تعبير عن العواطف
المحرومة ومظهر لالضطراب النفسي ،والتشاؤم الذاتي ،هذا باإلضافة إلى أن للشكوى
رغبات غير معلنة تكمن في أنها قد تعمل على تجاوز الواقع السيء ،وإعالن رفضه
والتمرد عليه لتحقيق الذات ،والعدل ،والمساواة.1
1
الشهري ،ظفر عبدهللا علي ،الشكوى في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثالث الهجري ،رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في األدب العربي،
جامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية ،كلية اللغة العربية ،قسم الدراسات العليا ،فرع األدب ،العام الجامعي (2991-2919م) ،ص .4
42
يرتبط الحنين ارتباطا وثيقا بالشعراء ،فكل استذكار للماضي والتحسر عليه هو حنين ،أما
الشكوى فقد ارتبطت بالحنين ،فال تتم الشكوى إال من الماضي ووقائعه.
كما يعتبر موضوع الشكوى والحنين أحد المواضيع التي تتخلل القصائد الشعرية ،فقد تكون
قصيدة رثائية يشكو فيها الشاعر فقد المرثي ،وقد تكون غزلية يحن فيها الشاعر لمحبوبه
ويشكو بُعده.
لم تغب ظاهرة الشكوى عن شعر محمود شريف ،فقد وردت في مواضع عدة في قصائده
رغم اختالف أغراضها.
في قصيدة (برقيات شاعر مغمور) ،يقول:
أ َ ْن َدلُ ُ
س الدمع
ِ بَقايا ْ
من و ُمورق مازا َل في د َِمنا الخنسا ُء نائِحة
ذاكر
ٌ لقد كانت هذه القصيدة بمناسبة اليوم العالمي للشعر ،وهو يتحدث على لسان الشعراء
أننا مازلنا على العهد القديم مع الشعر ،فالخنساء الزالت في شعرنا ،ومازلنا نستذكر
األندلس ونبكيه بعد أن كان أكبر ازدهار حضاري للمسلمين ،فكأنه يحن إلى ذلك الماضي.
ثم قال:
س ْاأل ُ ُ
س ُ َخانَ ِ
ت ْ
لكن قف
س ِعنايةُ ال ّ سه ْم
حر ُ نا ُموا على ثق ِة ا ْلبُ ِ
نيان ت َ ُ
يحن الشاعر إلى حياة األطفال البريئة ،التي يبنون فيها بيوتا من الرمال ،ومنتهى غربتهم
وهو حد الحمى ،على عكس اليوم ،فالمرء يبتعد عن أهله بلدانا وقارت.
43
البِنَا وت َ ْط ِوي حالريا ُ فَتَأْتِي سوارنا أَ ْ ب
الت ْر ِ َم َن ونَ ْبنِي
الح َمىِ َح َّد نُ َجا ِو ُز فَل ْ
سنا َخ ْط ِونَا ُمنت َهى الح َمى
ِ َّ
وأن
ويحن الشاعر ألحاديث الطفولة ،وتساؤالت األطفال البريئة ،وقلوبهم الصافية النقية،
وقناعتهم بأبسط األشياء ،ومسابقاتهم وجريهم ،وقذفهم للحجارة بال هدف وال مرمى ،فقط
للتسلية:
ُهنا؟ و َماذا ْف؟
وكي َ ِلماذا؟ نثير السؤَا َل
ُ ك ِ ّل شَيء ف ِفي
صفَا؟ال َّ َ
وأين الوفا ُء؟ َ
فأين ي الطير صاف َوفِ ّ ِ ك َما وقلب
َر َمى ما فَ ِ
يض ِه ْ
من ونأ ُخذُ َ
بالعيش ما ق ْد أتا َح ِ ونَقنَ ُع
صى بال َح َ َهدف بال ونَ ْر ِمي َ
ن ْبت َ ِغي َ
غاية ال نُساب ُ
ق
ويختم متعلال بهذا التذكر أن ينسيه شيئا من ضيق الحال في هذه األيام:
ال ُمنَى لَ َ
وال ْش
العي َ أَضيقَ فَما لَحظة صبَا
ال ِ ّ أَ ُ
عيش لَع ِلّي
وفي (انعكاسات على مرآة الماضي) يشكو الشاعر على لسان العالم اإلسالمي ما آلت إليه
األمة فيقول:
ْواحي
بأد ِ ِظال ِلي ل ْم ت َ ْن َه ْ
ض إال وارفةِ الظال ِل ت َ َمدَّتْ و ْهي
ِ كل
احي
صبَ ِ
إِ ْ يناء
وم ِإلى ِم ِ س ْف َن الن ُج ِ
ُ جاوز هذا اللَّي َل ممت َ ِطياَمتى أ ُ ُ
44
المطلب الثاني :الفلسفة والحكمة
إن اإلنسان منذ أن أرسله هللا سبحانه وتعالى إلى هذه األرض ليكون خليفته بدأ يفكر في
حياته ،وما يجب عليه القيام به ،فيحصل من تجاربه العملية وتأمالته الكونية على أفكار
تخرج في شكل عظات مفيدة ،وأقوال قصيرة تحمل في طياتها معان كثيرة؛ يتعظ بها الناس
ويسيرون في هداها ،ثم تشتهر بينهم؛ فتكون مثالً سائرا ً بين أبناء المجتمع ،تتوارثها األجيال
جيالً بعد جيل ،وتتنقل بين المجتمعات من لغة إلى أخرى؛ ألن الهدف منها إنساني نبيل،
تد ّل ا إلنسان على طرق الخير والصالح في مسيرته الدنيوية ،وتحقق له السعادة والطمأنينة،
وتشجعه على المثابرة في العلم والعمل ،وقد كان للشعراء منذ العصر الجاهلي وإلى يومنا
هذا نصيب فيهم ،فكان كلما حدث أمر ،أو نزل بالقوم خطب جادت قريحة الشاعر بالحكم،
ولهج لسانه بالموعظ ة؛ فزانت أشعاره باألقوال البليغة ،والحكم العظيمة التي ما تزال
األلسنة بها ناطقة ،والناس من معينها شاربة ،والركبان بها سائرة ،يتداولها العلماء على مر
العصور واألزمان ،وتحتضنها بطون الكتب وثناياها ،ويستشهد بها الخطباء والوعاظ في
خطبهم وأحاديثهم .لهذا وغيره من األسباب زخر الشعر العربي بالحكم المستقاة من ظروف
حياة العربي وبيئته التي عاشها ،وتنقالته وأسفاره ،ومخالطته بالمجتمعات المجاورة له،
أضف إلى ذلك ما اطلع عليه الشاعر في بطون الكتب المترجمة الغنية باألمثال والحكم
واآلداب ،فاقتبس منها ،ونظم على منوالها األشعار.1
يقول بن القيم الجوزية :فالحكمة إذًا :فع ُل ما ينبغي ،على الوجه الذي ينبغي ،في الوقت الذي
ينبغي.2
ع ْم ٍر بأكمله.
الجميل في الحكمة اإليجاز واالختصار ،وأن عبارة قصيرة تختزل تجربة ُ
بقصيدة (عشرون سنبلة) ورد بيت فيه من الحكمة ما فيه ،وهو:
س ُجونَا
سافر ل ْم يَ َز ْل َم ْ ْ
من ل ْم يُ ْ ين لك ْي أ َرى
الزمن الج ِن ِ
ِ سافرتُ في
َ
كلمة السجن وحدها تكفي لوصف حالة من لم يسافر ،كأنه مكتوم الحرية ،مقيد باألصفاد،
ممنوع من مغادرة حجرة مغلقة ال يعلم ماذا يجري خارج جدرانها.
وذلك مصداق لقول الشافعي في حكمة األسفار:
فَ َوائِ ِد سافِر فَ ِفي ْاأل َ ْ
سفَ ِار َخ ْم ُ
س َو َ ب ا ْلعُلَى ان فِي َ
طلَ ِ تَغَ َّر ْب عَن ْاأل َ ْو َ
ط ِ
1
اج ِد
َم ِ َو ِع ْلم َ ،وآدَاب َ ،وصُحْ بَةُ ساب َم ِعيشَة ج ُه ْم َ ،وا ْك ِت ُ تَفَر ُ
1
DERŞEVİ , Muhammed Raşid, Arap Şiirinde Hikmet ve Felsefe, İhya Uluslararası İslâm Araştırmaları Dergisi
International Journal of Islamic Studies, Cilt / Volume: 10, Sayı / Issue: 1, S 112.
2
ابن القيم الجوزية ،أبو عبدهللا محمد بن أبي بكر بن أيوب ،مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ،دار الكتب العلمية،
بيروت/لبنان ،الطبعة األولى ،الجزء الثاني ،ص.499
45
وقال أيضا:
ب ان َوا ْغت َ ِر ِ ْاأل َ ْو َ
ط َ ِم ْن َرا َحة فَدِعِ ب ع ْقل َوذِى أ َ َد ِ َما فِي ا ْل ُمقَ ِام ِلذِي َ
ب
ص ِ ْش فِي النَّ َ ص ْب فَ ِإ َّن لَذِي َذ ا ْلعَي َِوا ْن َ فارقُهُ ع َّم ْن ت ُ ِ سافِر ت َ ِج ْد ِع َوضا َ َ
باب َو ِإ ْن َل ْم يَجْ ِر لَ ْم َي ِط ِ ط َ سا َح َ ِإ ْن َ س ُد ُه اء يُ ْف ِ
وف ا ْل َم ِ ِإ ِنّي َرأَيْتُ ُوقُ َ
ق ا ْلقَ ْو ِس لَ ْم يُصب س ْه ُم لَ ْوال فِ َرا ُوال َّ ستْض َما أَفَتَر َ ق ْاأل َ ْر ِ
س ُد لَ ْوال فِ َرا ُ َو ْاأل َ ْ
ب اس ِم ْن عُجْ م َو ِم ْن ع ََر ِ لَ َملَّ َها النَّ ُ س لَ ْو َوقَ َفتْ فِي ا ْلفُ ْل ِك دَائِ ِمة َوالش َّْم ُ
طب والعُو ُد فِي أ َ ْر ِض ِه نَ ْوع ِم َن ا ْل َح َ ب ُم ْلقَى فِي أ َ َما ِكنِ ِه والتبر كَالت َّ ْر ِ
ُ
َذاكَ ع ََّز كَالذَّ َهب َوإِ ْن تَغَ َّر َ َمطلبُهُ َ ْ َهذا ع ََّز َ فَ ِإ ْن تَغَ َّر َ
2
ب ب
باللَّقَ ِ
ب ِاإل ْنت َا ُ
ج اقت َ َر َن إِ َذا إال َّ األلقاب خالدة
ُ فّ َما األ َ ِ
سامي وال
والثانية قوله:
َذ ْك َوانِ َها نَ َمانِي فَقَ ْد إِ ِنّي وإِ ْن أ َ ْلبَ َ
ستْنِي العُجْ ُم ُحلَّت َ َها
1
ُم َ
ض ُر إِلى
1
الشافعي ،أبو عبدهللا محمد بن إدريس ،ديوان الشافعي ،الناشر :مكتبة الكليات األزهرية ،الطبعة الثانية2915 ،م .ص.14
2
المرجع السابق نفسه ،ص.54
3
عثمان ،أحمد أبو الفتح ،الشعر العربي في تشاد اتجاهاته وخصائصه الفنية في الفترة ما بين (1112-2151م) دراسة تحليلية وصفية ،بحث لنيل
الدكتوراه في األدب والنقد1125 ،م ،جامعة إفريقيا العالمية ،كلية اآلداب ،قسم اللغة العربية ،ص.21
46
واألخيرة:
2
َم ْه َما ت َ َج َّر َد ِم ْن أ َ ْخ َالقِ ِه السو ُد س ْؤ َد َدهُ
ُ ال ُحر يَنَا ُل لَ ْون ِب ُك ِ ّل
والقصة معروفة في كتب األدب التشادي ،وكل مضمون األبيات سواء الكانمي أو شريف
مفادها أن سواد الشيء من خارجه ال يعني بالضرورة أن داخله أسود.
وفي التعلل باألماني وطول األمل للصبر على منغصات الحياة يقول شريف في( :أحاديث
الطفولة):
ال ُمنَى لَ ْو َال العيش
َ أضيقَ فما لحْ ظة صبَا
ال ِ ّ أعيش
ُ لَع ِلّي
كما اشتملت قصيدة (بقية نصل) على حكمة معروفة لمثل متداول يضرب لالنتباه
واالحتراز من شيء حدث مرة وكانت عاقبته سليمة.
قال:
اجعُ ْه؟
ض َِم َ وت َ ْه َدا ت َ َراقِي ِه ت َ ِقر ناجيا
ِ أَفِي ك ِ ّل حين يَسل ُم المر ُء
واألبيات مشحونة باالستفهام االستنكاري ،فهو يخاطب المستعمر خطاب العارف ،يسأله
وهو يعلم أنه يعلم الجواب ،فيستهزئ به ويستخف بعقله الذي ال يستوعب من التجارب
1
المرجع السابق نفسه ،ص.9
2
المرجع السابق ،ص.21
47
السابقة ومن الماضي ،ثم يستفهم باستنكار حول الذين تمر عليهم السنوات وهم بعقول ال
تنموا وال تكبر ،فما جدوى العمر والسنوات تمر على المرء دون أن يتعلم ويستفيد منها.
وقال:
صغَ َ
ارا َ البَا ِغي علَى
َ َج َّرتْ فَ َك ْم َو ِخيم َم ْرتَعُهُ الظلم
ِ ع ْقبَى
و ُ
ومفاد القول أن الظلم ظلمات ،وال يهنأ الظالم ال في الدنيا وال في اآلخرة ،والظلم ال يزيد
الظالم إال خباال.
وقال:
وجارا أعتى من كل تؤدب َح ْرب للبَا ِغ َ
يين األيَّا َم أَرى
ارا
ع َأَ َ يأخذُ ما هر
ال َّد َ رأيتُ علَى الد ْن َيا فَ ِإ ِنّي َ سىوال تَأ ْ َ
َ
وكأنه يقول :الزمن كفيل بأن يري الباغين عاقبة أمرهم ،فال شك في أنهم سيرون عاقبة
سوء فعلهم ذات يوم مهما بلغوا من الطغيان والجبروت ،فلكل جواد كبوة.
ثم يقول لهم ال تتشبثوا بالدنيا بهذا القدر ،فالقوة التي تمتلكونها اآلن ستخسرونها يوما فإني
رأيت الدهر يأخذ ما أعار.
ولقد أصاب تماما ،فللعشاق قوانين لهم وحدهم ،وقد يغفرون ما ليس يغفر ،وحري بهذا
البيت أن يصير مثال متداوال لشدة ما أصاب الوصف.
المطلب الثالث :الوطنية:
الوطنية :مصطلح يؤدي معنى الشعور بحب الوطن والذي هو الدولة التي تعيش فيها،
وهي أصغر من القومية ،فالوطنية للعربي أن يحب قطره كسورية ،ولبنان ،ومصر.
والقومية هي أن يميل إلى األوطان العربية ووحدتها ،وإلى القومية العربية التي ينتمي إليها
من المحيط إل ى الخليج .وتشتمل على ما يبثه الشاعر من حب ،وشوق ،ودفاع عنه .
48
وشعراء عصر النهضة كتبوا في الوطنية كثيراً ،وأقبل الجمهور على ما يكتبون هم وما
يلقيه الخطباء ،أو يكتبه الكتاب نثرا ً وعدوا إنتاجهم غذاء للدفاع عن الوطن.1
إن الشعر العربي في تشاد مثله مثل الشعر العربي والذي تأثر به كثيرا ً من حيث تناول
الشعراء ألغراضه ومواضعه المختلفة منها الوطنية ،وال تكاد تخلو منها كل المراحل التي
بها الشعر العربي في تشاد بد ًءا من مرحلة البداية المتصلة والبداية المنقطعة مرورا ً
بالمرحلة التي تليها وهي مرحلة اليقظة واالزدهار.2
زخر ديوان (وجوه ال تعكسها المرايا) بهذه القضية – قضية الوطن -وكما كان الوصف
أكثر غرض تناوله شريف في الديوان تكرر األمر كذلك في موضوع الوطنية؛ كأنه ال تخلو
قصيدة من هذا الوطن ،وليس بالضرورة أن تكون الوطنية هي التغني بالوطن والدفاع عنه،
بل حتى تناول قضاياه المختلفة ينبيك عن اهتمام الشاعر بقضايا وطنه.
مهما اختلفت األغراض ،فطالما كان الموضوع داخل إطار الوطن فهو موضوع وطني،
لقد استكثر شريف من قضية الطبقة الكادحة ،وتناولها في أكثر من قصيدة من بداية الديوان
حتى نهايته.
وتنقسم القضايا الوطنية التي تناولها شريف على النحو التالي:
أوال :قضية الطبقة الكادحة:
ففي (برقيات شاعر مغمور) تعريض لهذه الطبقة على لسان الشعراء ،وكذلك يومياته
المتكررة بمقاطع القصيدة األربعة ،والمعلقة الثامنة ،كلها قصائد تتحدث عن الحياة
المجتمعية للمواطن التشادي من مهاجر ومقيم وتصف حاله.
ثانيا :قضية مؤسسات المجتمع المدني:
وكان ذلك عبر عشرينية النهضة ،فهي قصيدة تتحدث عن واقع مؤسسات المجتمع المدني،
من منظمات وجمعيات خيرية وثقافية ،فضال على مدح المنظمة وما تقوم به من جهود في
المجتمع التشادي.
ثالثا :قضية اللغة العربية:
تناول شريف قضية اللغة العربية وصراعها الوجودي ،وغربة حرفها بسبب الثنائية اللغوية
التي ال تنفك تخرج للسطح بين الفينة واألخرى ،ففي رثاء شريف آلدم عبدهللا في قصيدة (لم
1
التنوجي ،محمد ،المعجم المفصل في األدب ،دار الكتب العلمية ،بيروت/لبنان ،الطبعة الثانية 2999م ،الجزء األول ،ص.111
كندل ،ثريا تجاني ،الوطنية في الشعر العربي في تشاد عبد الواحد حسن السنوسي (نموذجاً) ،مجلة بحوث کلية اآلداب ،جامعة المنوفية ،المادة
2
49
يحن بعد) ،تناول قضية اللغة العربية ،ورثى عمودا من أعمدة الدفاع عن اللغة العربية وهو
العم آدم رحمه هللا ،وبيّن كيف كان حريصا على الرفع من شأنها عبر جريدته.
كما عادت القضية ذاتها في قصيدة (غربة قلم).
رابعا :قضية الشعر العربي التشادي:
فقد تناوله في قصيدة (غائب آن له أن يعود) ،من خالل شعر إبراهيم الكانمي سلط شريف
الضوء على المراحل التي مر بها الشعر العربي عبر فتراته المختلفة ،والكانمي نفسه تناوله
في قصيدة أخرى وهي( :عودة الكانمي) ،والتي كان قد نظمها بمناسبة تأسيس الرابطة
األدبية للجيل الجديد ،كما أنه افتخر بشعره في (أنا والشعر).
خامسا :قضية جمجمة توماي:
والتي تناولها عبر قصيدة (أبجديات األرض).
سادسا :قضية محرقة موسورو:
التي فصلها تفصيال بقصيدة (ذكرى المحرقة) ،فالقارئ لهذه القصيدة يتعرف على أحداث
هذه المحرقة عن كثب عبر شعر محمود شريف.
بعد كل هذا السرد ال يسعنا إال أن نقول أن هذا الديوان وطني بامتياز.
50